طلال العزاوي مذكرات راهب

Page 1


‫رات راهبُ ُ‬ ‫ُمذكَّ ُ​ُ‬

‫تأليف‬ ‫طالل عبد الجبار جاسم العزاوي‬

‫األردن ـ ـ ـ ـ ـ ‪2018‬‬ ‫الطبعة الثانية منقحة‬

‫‪1‬‬


‫اسم الكتاب ‪ :‬مذكرات راهب‬ ‫المؤلف‬

‫‪ :‬طالل عبد الجبار جاسم العزاوي‬

‫تاريخ الطبع ‪2018 :‬‬ ‫مكان الطبع ‪ :‬المملكة االردنية الهاشمية ‪ /‬عمان‬ ‫مطبعة ‪ :‬أرض ما بين النهرين ( ‪– 0787865533‬‬ ‫‪) 0795470309‬‬ ‫‪E- mail : Abuahmad27@yahoo.com‬‬ ‫رقم االيداع لدى دائرة المكتبة الوطنية‬ ‫( ‪) 2018 / 4 / 2028‬‬ ‫الناشر ‪ :‬مكتبة انتيكا – مساحة ثقافية ( يعقوب البهبهاني )‬ ‫عمان – شارع الملك الحسين بن طالل – السلط سابقا‬

‫‪2‬‬


‫توطئة الكتاب‬ ‫جاءني ساعي البريد بمظروف مسجل ‪ ،‬معنون‬ ‫باسمي ‪ ،‬فوقعت في دفتر الرسائل وتسلمت ذلك‬ ‫الظرف الضخم ‪ ،‬وفضضته‪ ،‬فبرز لي جلد مصفـر‬ ‫ضم بين دفتيه مجموعة من‬ ‫كغـالف كتاب قديم ‪ ،‬وقد َّ‬ ‫القصاصات الورقية السمراء عدا الورقة االولى فقد‬ ‫كانت ناصعة البياض جديدة ‪ ،‬مما يدل على انها‬ ‫كتبت حديثا فقرأتها بسرعة ‪ ..‬جاء فيها ‪:‬‬ ‫حضرة األديب الفاضل ( طالل العزاوي ) المحترم‬ ‫تحية قديسة ‪ ،‬وابتهاالت دينية أرفعها من أجلك ‪..‬‬ ‫اما بعد ‪ ..‬هذه مجموعة يوميات كتبها رجل حكيم‬ ‫عاش في كنيستنا بضعة أشهر‪ ،‬ما عرفت له أهالً وال‬ ‫أقارب ‪ ،‬بل جاءنا من فلسطين ومكث عندنا قرابة‬ ‫سنتين ورحل عنا عائداً الى بالده ‪ ،‬عيناه حادتان‬ ‫كعيني نسر ال تصمد أمام نظراتهما العيون ‪ ،‬ووجهه‬ ‫مشرق بلحية فضية المعة ‪ ..‬يعتمر الحرير األزرق‬ ‫‪3‬‬


‫فوق رأسه كانه شيخ من شيوخ العرب ‪ ،‬قليل الكالم‬ ‫واذا تكلم جاءت كلماته عذبة ساحرة كانه يتكلم بلغة‬ ‫القديسين ‪ ..‬كله حركة حتى يخال ـ ـ ـ ـ من يراه ـ ـ ـ ـ انه‬ ‫يرى شاباً نشطاً يعذب نفسه عمالً ال شيخاً بعمر‬ ‫السبعين ‪.‬‬ ‫قلما رأيته يبتسم وكثي ار ما لمحته خفية يبكي‬ ‫تخضل لحيته البيضاء ‪ ،‬بسيط‬ ‫بصمت ودموعه‬ ‫ّ‬ ‫كبساطة الرعيان ‪ ،‬وديع كوداعة الحمالن ‪ ،‬يدخل‬ ‫القلوب منذ الوهلة االولى ‪ ،‬تراه أيام األحاد يستودعه‬ ‫القداس ‪ ،‬ويحتلق االطفال‬ ‫اآلباء أطفالهم ليحضروا ّ‬

‫حوله في الحديقة فيعلمهم دون أن يشعروا فكأنه يلعب‬ ‫القداس يخرج اآلباء ويستمعون له بخشوع‬ ‫معهم ‪ ،‬وبعد ّ‬ ‫كأنهم أمام بحر ال يعرف له ساحل‪.‬‬

‫وحينما كانت بغداد تقصف بصواريخ ايرانية اثناء‬ ‫الحرب العراقية مع ايران شدته رغبة الخروج من العراق‬ ‫‪ ،‬والعودة الى فلسطين ‪ ..‬وكم حاولنا ثنيه عن عزيمته‬ ‫دون جدوى ‪.‬‬ ‫‪4‬‬


‫وقد دون فى هذه اليوميات انفعاالته النفسية وآراءه‬ ‫الفكرية في الحياة والمجتمع واألدب والفن ‪ ،‬وضمنها‬ ‫الحوادث المهمة التي شاهدها خالل اقامته فى كنف‬ ‫الكنيسة ‪.‬‬ ‫ولكنه ما أن سرد قصة حياته على الورق أخي ًار‬ ‫وسلمني هذه الوريقات حتى ودعنا ـ ـ ـ ـ أنا وعروسي ـ ـ ـ ـ‬ ‫بصمت ‪ ،‬وانطلق متجهاً الى محطة (العالوي) ليركب‬ ‫باصاً تتجه الى األردن ومنها الى فلسطين ‪.‬‬

‫كان ذلك فى ليلة زواجي ‪ ،‬اذ ما ان بعث هللا لي‬ ‫شريكة الحياة حتى برحنا ذلك االنسان الذي وجدت‬ ‫عنده العطف االبوي اذ طالما افتقدته ‪.‬‬ ‫وهكذا عاشت مذكراته عدة شهور بحوزتي ‪ ،‬أعود‬ ‫لها بين حين وآخر عندما أحس بحاجة الى سلوى‬ ‫تسليني ومتعة تمتع فكري ‪ ،‬وأكثرما كنت أتمثل باقواله‬ ‫عندما أُلقي مواعظي وخطبي في قاعة الكنيسة ‪ ،‬فارى‬ ‫المستمعين يخشعون لكل كلمة أرددها من كلماته ‪،‬‬ ‫وسجلت كل ما كتبه على جدران قلبي ‪ ،‬وقلت مع‬ ‫‪5‬‬


‫نفسي أن أبعث هذه الوريقات اليك فعسى أن تخرج‬ ‫أفكاره بجسد أجمل ‪ ،‬وحلة أبهى ‪ ،‬فانها ـ ـ ـ ـ في نظري‬ ‫ـ ـ ـ ـ نعم الشراب الفكري إن أرتوى منه الناس ‪.‬‬ ‫وأخي اًر تقبل شكري وإبتهاالتي‬ ‫ودمت لصديقك القديم‬ ‫األب شاول‬ ‫كنيسة االرمن ـ ـ ـ ساحة الطيران‬ ‫بغداد ـ ـ ـ العراق‬

‫‪6‬‬


‫البــدايــة‬ ‫جئت من فلسطين الذبيحة أبحث عن أرض وعن‬ ‫سماء ‪ ،‬بعد أن عصر الزمن من عمري السبعين سنة‬ ‫‪ ،‬وكانت حياتي كأنها مد عظيم أعقبه جزر فظيع ‪،‬‬ ‫شقاء أبدياً ‪.‬‬ ‫فتبدلت السعادة الحلوة ً‬ ‫خلت ما حدث لي من فعل القدر‪ ،‬وظننته مرة من‬ ‫عملي ومرة أخرى من فعل المجتمع البشري ‪.‬‬ ‫هيهات أن نرتشف العسل طيلة العمر وال نشتاق‬ ‫الى طعم العلقم ‪ ،‬وأن لم نشتق اليه فسيأتي عنوة‬ ‫أوعلى غفلة منا ويمأل أفواهنا الى حد التخمة ‪ ،‬أنذاك‬ ‫نفقه الحياة ‪.‬‬ ‫ولكني اآلن في عيد ميالدي السبعين ‪ ،‬حيث ال‬ ‫شموع أمامي ألطفئها بل الشموع في قلبي متألقة ال‬ ‫تنطفىء ‪ ،‬تضيء ذكرياتي وتسعدني ‪ ،‬ألني أخي اًر قد‬ ‫تخلصت من الناس ورددت هبــاتهم واسترجعت حريتي‪،‬‬

‫‪7‬‬


‫وهكذا تخلص المجتمع مني مادياً وفقدني معنوياً كما‬ ‫أعتقد ‪.‬‬ ‫تسير روحي مثلما الريح تركب عربة‬ ‫إن أفكاري ّ‬

‫السحب وتلهب بسوطها أظهر الغيوم‬

‫فتركض ‪،‬‬

‫وتسوقها في طريق السماء لتسبق الزمان وتتحرر من‬ ‫المكان النها ترى الفضاء واسعاً وتخال أنها ستصل‬ ‫حدوده ‪ ،‬وتعرق الغيوم وتلهث الريح وينهكهما الطواف‪،‬‬ ‫ويتحطمان سوية ‪ ،‬وتتناثر أشالؤهما قطرات مطر قبل‬ ‫أن يبلغا النهاية ‪ ،‬ألن ال نهاية هناك سوى الصيرورة‬ ‫تعانق العدم ‪.‬‬ ‫وهكذا بقيت مع االرض التي تدور ‪ ،‬أدور معها ‪..‬‬ ‫حيث جئت الى بغداد مدينة الحرية بعد أكثر من‬ ‫ثالثين سنة مرت على حرق الصهاينة لداري وبداخله‬ ‫عائلتي ‪ ،‬وسرقوا بستان أجدادي ‪ ،‬وخالل تلك الفترة‬ ‫كنت أهيم في كهوف األردن الجبلية ‪.‬‬ ‫وتهت في مدينة بغداد ليس لي هدف سوى أن‬ ‫ُ‬

‫أتمتع بالحرية التي طالما بحثت عنها منذ أن استولى‬ ‫‪8‬‬


‫الصهاينة على مدينتي بيسان مدينة العرب الكنعانيين‬ ‫‪ ..‬ولكن كيف لكليوبت ار أن تحتفظ بهدية انطونيوس ‪. .‬‬ ‫فما أسرع ما باعتها لهيرودس ‪ . .‬لقد بيعت المدينة ‪..‬‬ ‫فيا لعار المزاد ‪.‬‬ ‫يوم طيف‬ ‫صحوت على زقزقة العصافير‪ ،‬وكانت نجمة‬ ‫الصباح تجر أذيال العرس الى مخدعها خلف االفق ‪.‬‬ ‫كانت هواجس االحالم ما زالت تضمخ عيوني‬ ‫وتعطر أنفاسي فاحاول أن أعيشها مع نصفي الثاني ‪،‬‬ ‫فمددت يدي الى جانبي ألتحسس زوجتي أما تزال راقدة‬ ‫أم أنها إستيقظت ‪ ،‬فحطت يدي على حشائش ندية‬ ‫جفلت ‪ ،‬فقد كنت أتوقع جسدها الطري الدافىء‬ ‫رطبة ‪،‬‬ ‫ُ‬

‫‪ ،‬وانزالت آخر أطياف االحالم من عيني وخيالي‬

‫اصطدمت بالواقع ‪ ،‬بوجهه الصفيق الغولي ‪.‬‬ ‫و‬ ‫ُ‬ ‫لست على فراش الزوجية الوثير بل‬ ‫أجل فانا اآلن ُ‬

‫خفت من هذا الواقع‬ ‫على ثيل احدى الحدائق العامة ‪ُ ،‬‬ ‫‪9‬‬


‫استرسلت‬ ‫أطبقت جفوني ثانية ‪ ،‬و‬ ‫ُ‬ ‫ألني أعرفه م اًر ‪ ،‬و ُ‬

‫ـدت بذكرياتي الى‬ ‫في أحالمي الملونة العذبة ‪ ..‬وع ُ‬ ‫الماضي المضبب ‪ ،‬وتصورت سابق عهدي بزوجتي‬

‫الحبيبة يوم كانت تستيقظ على تسلل يدي نحوها مع‬ ‫انطالقة أول شعاع من الفجر االشهب ‪.‬‬ ‫وتشرق من وجهها ابتسامة وردية ساحرة تنطلق منها‬ ‫طيور الحب لتغيب فى أحداقي‪،‬‬

‫وما أن تشرب قهوة‬

‫الصباح حتى تقهقه بخفة وحالوة وتجذب رأسي برفق‬ ‫لتقرب شفتي من شفتيها ونرتوي من معين الحب‬ ‫وسلسبيل الهوى ‪.‬‬ ‫هكذا بقيت مع نشـوة تلك القبلة حتى رشت‬ ‫وفتحت أجفاني فاذا أنا ألثم حشائش‬ ‫علي‬ ‫الشمس نورها َّ‬ ‫ُ‬

‫الحديقة وأرتشف من طّلها ‪ ،‬فكأن قلبي وضع في‬

‫مجمرة نار فاحترق رماداً ‪.‬‬ ‫نهضت ألهيم على وجهي في هذه الدنيا ‪ ،‬فأنا‬ ‫أعلم أن ال مفر من واقعها المرير ‪ ،‬تملكني الضياع اذ‬

‫‪10‬‬


‫أعرف الناس وال أحد منهم يعرفني لقد أنكروني‬ ‫فأنكرتهم ‪ ،‬آه من الوحدانية ‪.‬‬ ‫وراحت االطياف تسبح في بحيرة قلبي وتتراشق‬ ‫ويقبل األلم السعادة ‪،‬‬ ‫بالعواطف فيشبك الحنان الحقد ‪ّ ،‬‬ ‫ذبت فى عالم‬ ‫وتتعانق األنانية مع االنسانية ‪ ،‬آنذاك ُ‬

‫االمواج العاتية مسحو اًر بالوان الشروق ‪ ،‬ولكن االعداء‬ ‫استغلوا تهويمتي وبرقعوا الشمس ‪.‬‬ ‫عت الموت في‬ ‫بعد أن هرب الفجر من فمي ‪ ،‬زر ُ‬

‫دمي ‪ ،‬وطارت االحقاد في سماء نفسي ‪ ،‬وراحت‬ ‫تقتات الخير والسالم وتقرع طبول الموت ‪ ..‬فيكشر‬ ‫البشر كالذئاب يتلمضون ألسنتهم لشرب الدم ‪ ..‬ألف‬ ‫درايكوال عاد بعباءة سوداء ‪ ..‬الخنافس أضحت أغواال‬ ‫‪ ..‬وصارت االشواك تحارب االشجار ‪ ،‬والمكر يقارع‬ ‫الخير‪ ..‬والمجانين يتسنمون دفة الحكم يسبحون الله‬ ‫الحرب لكي َّ‬ ‫يمن عليهم بادوات االبادة ‪.‬‬ ‫وطني العربي أينما أتنقل في أرجائك أجد األعداء‬ ‫يحيطون بك ‪ ،‬يا لعظمتلك ‪.‬‬ ‫‪11‬‬


‫يوم عسلي‬ ‫ما أجمل السعادة في يوم عرسها ‪ ،‬ولكنها‬ ‫شع وانطفأ ولم تبق سوى‬ ‫كوميض سحري خالب َّ‬ ‫أردت أن‬ ‫الصور قد علقت على جدران الفكر ‪ ،‬فكلما‬ ‫ُ‬

‫أهرب من واقعي الكالح أدخل الى متحف ذكرياتي‬ ‫أمر بالصور مرور‬ ‫فاتجول فيه مسبل االجفان ُّ‬ ‫السائحين وأقف متأمالً الفلم الذي صورته ذاكرتي ‪،‬‬ ‫تظهر فيه زوجتي واطفالي ‪ ،‬فاشهق مع كل صورة‬ ‫اتخيلها وانصهر مع طيوفهم ‪ ..‬فها هو دارنا في بيسان‬ ‫وخلفه بستاننا المطل على نهر الغور ‪ ،‬وكيف ركضنا‬ ‫في الصباح الى البستان وضمنا الفردوس وحدنا ال من‬ ‫رقيب سوى هللا والشمس واالشجار والطيور وكانت‬ ‫االشجار حبلى بالثمار‪ ..‬فقطفنا كفايتنا ‪ ،‬وافترشنا قرب‬ ‫غدير مكركر يصب بوادي النهر بعد ان ينحدر كشالل‬ ‫‪ ..‬وتنشغل ابنتاي باللعب مع الفراشات القزحية الهائمة‬ ‫‪ ..‬وألهو مع زوجتي أذبح لها الزهور وأطيب بها خديها‬ ‫ألحمر به شفتيها ‪ ،‬ثم أعصر في‬ ‫‪ . .‬وأنحر لها الجنبد‬ ‫ّ‬ ‫فمها رحيق الفاكهة فتأبى اال أن تزقني منه ثغ اًر بثغر‬ ‫‪12‬‬


‫‪ ..‬وكم سبحت عيناي في عينيها ‪ ،‬وكم صرنا‬ ‫كاالطفال ولعبنا مثل أطفالنا بحصا النهر ‪ ،‬وشعرنا أن‬ ‫المالئكة ترفرف فوقنا ‪ ،‬وأن النسائم العطرة ما هي إال‬ ‫طيوبهم تضوعنا فكأن جنة هللا قد تجسدت لحظتئذ ‪. .‬‬ ‫وكأن األيام اجتمعت آنذاك ‪ ..‬وشعور في داخلي يقول‬ ‫‪ :‬تمتع بهذا اليوم الجنائني وامأل منه عيونك وعواطفك‬ ‫فستأتي أيام الجفاف والم اررة عجلة ‪ ،‬فالكل باطل وحلم‬ ‫قصير ‪ ..‬كنت ال أدع هنيهة تمر إال وأطبعها في‬ ‫ذاكرتي بأحلى أبعادها ‪ ..‬آه ايها القلب ال تخفق وال‬ ‫تسيلى أيتها الدموع ‪ ..‬وال تلطمي أيتها الروح ‪ ..‬كفى‬ ‫‪ ..‬كفى ‪.‬‬ ‫سأصنع من الكون األحدب قارورة أمألها خم اًر‬ ‫وشع اًر وأزين فيها أفراحي وأتراحي ‪ ،‬فإن غضب‬ ‫األحدب أسكرته من خمرتي وإن فرح األحدب مدحته‬ ‫بقصيدتي ‪ ،‬وستبكي الحياة فى مخدع عرسي وتصرخ‬ ‫‪ :‬أين عفتي ؟ فأجيبها بوابل المكر والخداع ‪ :‬أليس‬ ‫الرجال قوامين على النساء ‪ ..‬وتبكي فأغتسل بشالل‬ ‫دموعها حتى إذا جفت مآقيها وسال ثغرها شهداً محلباً‬ ‫‪13‬‬


‫أمطرتها بوابل الحب والقبل فتزداد تبسم ًا في وجهي‬ ‫وأظل أرتوي من معين شفتيها حتى إذا أتخم أُطّلقها‬ ‫فتهيم في الطرقات من جديد لتعشق شاباً آخر شريداً‪.‬‬ ‫طلقت الحياة أم هي‬ ‫فيا ترى هل أنا الذي‬ ‫ُ‬

‫إنفصلت عني وتركتني ‪ ،‬أم إن بني البشر فرقوا بيننا‬ ‫لست أدري ! ‪.‬‬ ‫‪ُ ..‬‬ ‫يوم غريب‬ ‫أرسلت الشمس خيوطاً من ذهب وأغرقت‬ ‫تدب‬ ‫االرض بنورها البرتقالي ‪ ،‬وبدأت األحياء البشرية ُّ‬ ‫على االرض لغاية في نفسها ‪ ،‬حثتني رغبتي فسرت‬ ‫فمشيت فى‬ ‫وتجنبت مسير السابلة‬ ‫قاطعاً شارع الرشيد‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫جادة السيارات هرباً من التزاحم بالمناكب ‪ ،‬كان المارة‬ ‫يرمقونني ‪ ،‬قسم بازدراء كأني كلب أجرب وقسم آخر‬ ‫برثاء ألني ال أملك مالبس كمالبسهم الجديدة المنتفخة‬ ‫جيوبها نقوداً ‪ ..‬وليتهم علموا أن هللا ال ينظر الى‬ ‫االشكال إن قبحت أو جملت إنما يبصر القلوب‬

‫‪14‬‬


‫الطاهرة ‪ ..‬وخير الناس من ملك نفسه والحمد هلل فانا‬ ‫ال املك سواها ‪.‬‬ ‫كنت أوزع االبتسامات بوجوه العابسين والمستخفين‬ ‫والمزدرين وفي قلبي مناحة ‪ ،‬ألنني أشعر بصغر‬ ‫نفسي أمامهم ‪ ،‬وأحس بسهام عيونهم تدينني ألني لم أستطع‬ ‫أن أحافظ على أرضي ‪.‬‬

‫أكثرت من المسير حتى ضحكت الشمس مني‬ ‫ُ‬

‫نلت‬ ‫وبكت فوق رأسي ‪ ،‬ونستني عند المغيب ‪ ،‬وبذلك ُ‬

‫رياضة روحية تسمى لدى الهندوس بتهذيب الروح ‪،‬‬

‫ولكن كيف للجسد أن يصمد حتى النهاية ‪ ،‬وهو الذي‬ ‫يخذل الروح في آخر المطاف أن األلم في الحياة‬ ‫يتسلسل وفق منهاج الطبيعة الشريرة فمن يكن أقوى‬ ‫ينج ‪ ،‬ومن يكن متضعضع الكيان‬ ‫إرادة وأصفى نفساً ُ‬

‫ضعيف النفس يسقط فى الهاوية وأنا بال كيان ‪ ،‬وواهن‬

‫النفس‪ .‬يقول غوركمان (أن إنحطاط العقل بالوراثة) أما‬ ‫أنا فانحطاط عقلي سيكون من جراء الحزن وااللم‪.‬‬

‫‪15‬‬


‫ورحت تعلل بقول المتنبى ففيه وصف حقيقي لما أنا‬ ‫ُ‬

‫فيه ‪:‬‬

‫أهـل وال وطن‬ ‫بم التعلل ال ٌ‬ ‫كأس وال سكن‬ ‫وال‬ ‫نديــم وال ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫أريــد من زمني ذا أن يبلغني‬ ‫ما ليس يبلغـه من نفسه الزمن‬ ‫ال تلق دهـرك اال غير مكترث‬ ‫ا‬

‫ما دام يصحب فيه روحك البدن‬ ‫لكن كيف ال اكترث وكل شيء يباع في أسواق‬

‫النخاسة حتى العيون ‪ ،‬عين الميت بالف وعين الحي‬ ‫بمليون ‪ ،‬فيأتي إبن يبيع عين أبيه ويأتي أب يبيع عين‬ ‫إبنه ‪ ،‬المال وحده زينة الحياة الدنيا ‪ ،‬المال وحده كون‬ ‫كبير ‪ ،‬وتخزن حتى الدماء ‪ ،‬وتجمع ليعيش عليها‬ ‫االغنياء لقاء حفنة من تراب تدفن عيون الرغاب ‪. .‬‬ ‫المجد للمال على االرض والموت للضعفاء ‪.‬‬

‫‪16‬‬


‫يوم صحراوي‬ ‫أن طعامي في أكثر االحيان بعض حبات من‬ ‫العنب اليابس يقول الرواة أن حبة زبيب أطعمت أربعين‬ ‫إنساناً ‪ ،‬أما في جوفي فكل حبة تغذي أآلف الخاليا‬ ‫الجسدية ‪ ،‬ولكني في هذا اليوم لم أجد تلك الزبيبة‬ ‫لتطعمني ‪ ،‬بل أعطاني واحد من الناس رغيف خبز‬ ‫وقال لي ‪ :‬أيها الشيخ إق أر سورة الفاتحة عند كل لقمة‬ ‫على روح ‪..‬‬ ‫وقاطعته مداعباً ‪:‬‬ ‫_ وهل يحتاج ميتكم الى هذه الفاتحة !!‬ ‫نظر الى بدهشة ولم يجد جواباً وسار في طريقه‬ ‫ورحت من‬ ‫رحت أقطع الرغيف فتاتات صغيرة ‪..‬‬ ‫ُ‬

‫الصباح حتى المساء كل ساعة أحصيها في ظل‬

‫الشمس الممتد أأكل فتاتة منها وأمضغها جيداً وعند كل‬ ‫مضغة أردد ( الحمد هلل رب العالمين ) على الميت‬

‫‪17‬‬


‫المجهول عسى أن تنفع وتكون وسيطة لدى الرب لعتق‬ ‫تلك الروح ان كانت في الجنة او النار ‪.‬‬ ‫أنا جائع واالرض جائعة ‪ ،‬حياتنا تعايشية ‪،‬‬ ‫االرض تهبني الطعام من جسدها ‪ ،‬وأنا أهبها الغذاء‬ ‫غداً بكل جسمي بعد أن أمر بتنور الحياة كما مرت‬ ‫حبات الحنطة بلهب التنور وأمست صالحة لألكل ‪،‬‬ ‫األرض وحش كبير يفد البشر الى جوفه رغماً عنهم‬ ‫بعد ان يصلوا الحد الذي ال يتمكنوا فيه ان يستدينوا من‬ ‫االرض ويماطلوها ‪ ،‬وهذه هي نهاية دفع الديون ألمنا‬ ‫االرض المتوحشة ‪.‬‬ ‫فجأة أشرقت في فكري قصيدة ابن سينا‬ ‫الفيلسوف التي مطلعها ‪:‬‬ ‫االرفع‬ ‫هبطت اليك من المحلل‬ ‫ِ‬ ‫وتمنع‬ ‫ورقاء ذات تعزز‬ ‫ِ‬ ‫أتعرف عليها من قبل فقد‬ ‫وتذكرت روحي اذ لم َّ‬ ‫ُ‬

‫كانت هادئة وديعة صغيرة في عين ذاتها يعطى لها‬ ‫‪18‬‬


‫القليل فتقنع عن طيبة قلب وعن رضى خاطر ‪ ،‬فما‬ ‫أن يحادثها أحد حتى تنصت له بكل جوارحها ‪ ..‬فتتألم‬ ‫أللمه ‪ ،‬وتفرح لفرحه ‪ ،‬وتنساب مع أهواء االخرين ال‬ ‫ٍ‬ ‫وغال في‬ ‫كما تريد أهواؤها وكانت تضحي بكل عزيز‬ ‫سبيل الوطن حتى لتكاد تحسبها مثاال للتضحية ونكران‬ ‫الذات ولكن كيف للدهر أن يترك مثل هذه المتفانية في‬ ‫جنة النعيم في نعيم الحب البريء والسعادة القلبية‬ ‫والراحة الفكرية ‪ ،‬فقد دارت عجلة الزمن باقصى‬ ‫سرعتها او باالحرى كرت االيام بدون حسبان ‪ ،‬وكانت‬ ‫في غفلة عن أمور الوقت وما وراؤه من طموح الشباب‬ ‫ورغبة الرجولة وأحالم الكبر‪.‬‬ ‫حتى هبت عاصفة هوجاء على المدينة بحيث‬ ‫شردت سكانها من دورهم ومآويهم ‪ ،‬فهربت تلك العذراء‬ ‫مع الهاربين وهي تنطلق الول مرة من بوتقتها رغم ًا‬ ‫عنها ‪.‬‬ ‫تخبطت العذراء فى تلك االونة محاولة أن تتكيف‬ ‫كما يتطلب الموقف ‪ ،‬عجزت ‪ ،‬تعبت ‪ ،‬لهثت ‪ ،‬ألنها‬ ‫‪19‬‬


‫غير قادرة على الخطب الجسيم ‪ ..‬فمن تكيف في بيئة‬ ‫وأقتلع منها ونقل الى بيئة أخرى يصعب عليه التكيف‬ ‫بها من جديد ‪.‬‬ ‫حاولت هي أن تهرب من الصحراء المحرقة التي‬ ‫أحست فجأة أنها مرمية فيها قس اًر ولكن أين المهرب ؟‬ ‫َّ‬ ‫وأينما شطرت وجهها ترى الصحراء تكبر وتمتد ‪،‬‬ ‫وراحت االتربة والرمال تتراكم عليها حينئذ رضخت‬ ‫لألمر الواقع بعد أن تبرقعت بالسواد‪ ..‬وسايرت الركب‬ ‫الشاق طريقه في الصحراء ‪.‬‬ ‫بدأ العطش يأخذ مأخذه ‪ ،‬عطشت ‪ ،‬تقلت ‪،‬‬ ‫وانتظرت قليالً من الغيث لتروي ظمأها ولكن دون‬ ‫ترجت األصدقاء واألقارب فلم‬ ‫جدوى من االنتظار ‪ّ ،‬‬ ‫يمدوا لها يد العون ‪ ،‬والتفتت صوب المجتمع فرأته‬ ‫يكرع كؤوس السعادة بعد أن يراوغ ويخادع ويسلب‬ ‫وينهب نصيبها ونصيب أمثالها ‪.‬‬ ‫آنذاك تعلمت كيف تتحايل كي تكسب حصتها‬ ‫الرواء غليلها ( ولكن الصحراء تطول وتتسع ) هكذا‬ ‫‪20‬‬


‫حادثت العذراء ضميرها (فكيف لها ان تبقى بهذا‬ ‫االطار هذا الضيق بهذه االنانية التي تقمصت بها‬ ‫رغماً عنها ‪ ،‬وهي التي فطرت على حب الخير للجميع‬ ‫‪ ،‬وترعرعت في جنان العمل من أجل االخرين ‪ ،‬فكيف‬ ‫لها أن تعمل مرغمة من أجل ذاتها وارواء شهواتها ‪،‬‬ ‫من أجل أن تنال أكثر من غيرها ‪ ،‬وأن تسلب حقوقها‬ ‫من االفواه الشرهة بالقوة والمكر) ‪.‬‬ ‫طاش تفكيرها وكادت أن تذرف الدموع سخية‬ ‫حارة لعلها تخفف مما تكابده ‪ ،‬ولكن الدمع انحبس في‬ ‫ٍ‬ ‫بصمت وسحت الدماء من قلبها بدل‬ ‫مآقيها فبكت‬ ‫الدموع ‪ ،‬وحاولت أن تغسل االدران العالقة بها ولكن‬ ‫دون جدوى ‪.‬‬ ‫أين أنت يا طريق العودة ‪ ،‬بعد أن تاهت عذرائي‬ ‫« تلك هي نفسي » في صحراء المشردين المحرقة من‬ ‫سيعيدها الى الجنة‪ ..‬جنة بيسان‪ ..‬من ياترى ‪.‬‬

‫‪21‬‬


‫يوم مالئكي‬ ‫أحببت االطفال ألني أبصر فيهم البراءة‬ ‫كأنهم عصافير صغيرة داخل الغابة ‪ ،‬وأرى الوداعة‬ ‫تطل منهم كأنها زهرة بيضاء تداعبها النسائم ‪ ،‬أحببتهم‬ ‫ألني أشاهد في عين ذاتي المالئكة قد تقمصت هيئة‬ ‫فكنت أرنو إليهم من بعيد أو قريب ‪ ،‬فأفرح‬ ‫االطفال ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مع فرحهم وأحزن لحزنهم وأدنو من الحمائم البشرية‬

‫فأمسد شعرها الناعم بيدي فاحس بنعومة أمواج البحر‬ ‫‪ ،‬وحين كنت أتمشى في حديقة «األمة» اذا بطفل‬ ‫يترك يد والدته فجأة ويركض نحوي ويتعلق بلحيتي‬ ‫البيضاء وضحكت من عمله ولو إنه آلمني بعض‬ ‫الشيء ولكني فرحت به وبتعلقه ولكن هذا العمل‬ ‫أغضب والدته وجاءت توبخه وتعنفه وهو يقول لها‬ ‫«انه بابا نوئيل » ولكن مع االسف الشديد لم أكنه‬ ‫ألنني ال أملك أية هدية أقدمها له ‪ ،‬يومها عرفت أن‬ ‫االطفال يتذوقون الجمال أكثر من الكبار فهم ما زالوا‬ ‫على براءة الطبيعة وهذا ما حداني أن أكون دوما‬ ‫‪22‬‬


‫نظيف الجسد والمالبس ألني أغتسل في المساجد أو‬ ‫الكنائس أو الشواطىء أو تحت شالل الشمس ‪.‬‬ ‫وما الدنيا اال أن يعيش المرء مع االطفال ويكون‬

‫ساه ٍ‬ ‫كطفل ٍ‬ ‫اله كمالك فى السماء ولكن تباً للمقدور‬ ‫الذي سلب مني أطفالي وجعلني أنظر الى باقي‬ ‫األطفال بقلب مكسور وطرف محسور ‪.‬‬ ‫عندما هطل الليل ولّفع المدينة بالظالم ‪ ،‬إستيقظ‬ ‫ورحت في غفوة سحرية تتراءى فيها‬ ‫حنيني للمجهول‬ ‫ُ‬

‫االطياف والمالئكة وانجذل قلبي لحظة صياح الديكة‬

‫‪ ..‬وخفقت اآلمال في نفسي لحظتئذ تلتقي االفكار‬ ‫تتعانق الهواجس بيني وبين من أحبهم أجل فالموعد‬ ‫المحدود قد أزف ‪.‬‬ ‫ها أنا ال أنال سوى الذكرى السارية والخيال العابر‬ ‫ولكن بهما سلوتي وسعادتي اذ أين من أحبهم وهم‬ ‫بعيدون ‪ ،‬بيني وبينهم جسم وأرض ‪ ..‬فيا ترى متى‬ ‫سألتقي بهم ‪.‬‬

‫‪23‬‬


‫أخذت أكتب ‪:‬‬ ‫و ُ‬ ‫أحبتي سنلتقي عندما يحتدم الصراع بين قلبي‬ ‫وقلوبكم فيغرس الشوك مخالبه بخدود الصبير ‪ ،‬وتطل‬ ‫أنياب الذئاب لتطحن عظام الحجر‪ ..‬فتصرخ قلوبكم‬ ‫على وقع سياط األلم ‪ ..‬وترقص نفوسكم طرباً ونشوة‬ ‫ألن عالم االفاق الملونة قد فتح صدره وضمنا بعنف ‪..‬‬ ‫وطارت عواطفنا فى سمائه ‪.‬‬ ‫عندئذ سأصيح بقوة ‪ ..‬ولكن فمي بال لسان‬ ‫فيخرج كعواء ذئب فى ليلة كبر فيها القمر ‪ ..‬تسمعه‬ ‫زوجتي وتسقط تحت جسري بال وعي جثة باردة يتفصد‬ ‫منها الثلج فتهطل أمطاري الدافئة وتغرقها في بحر بال‬ ‫ساحل وتقهقه بكبرياء االنوثة وتمزق ثيابي الرقيقة‬ ‫باظافرها المدببة ‪ ..‬عندئذ تعود سفني الى مرافئها ‪..‬‬ ‫فتثور كالبحر وتمزق أشرعتي ‪ ..‬ولكن سفني لدى‬ ‫المرفأ بأمان قد عادت بحمولة السندباد من حرير‬ ‫وآللىء ‪ . .‬فترتد أمواجها كسلى تنتظر متى ُّ‬ ‫يحن‬ ‫السندباد للرحيل ولكن سفني لن تقلع مرة أخرى فالبحار‬ ‫‪24‬‬


‫أمست صحارى ‪ ..‬فكيف لسفن ان تسير وسطها بال‬ ‫موج بال ريح بال هدف ‪.‬‬ ‫يوم عذب‬ ‫سبحت في نهر دجلة ‪،‬‬ ‫في هذا اليوم الصيفي‬ ‫ُ‬

‫غصت الى األعماق ‪ ،‬وسبرت أغوار الالكيان ‪،‬‬ ‫ُ‬

‫وشعرت أني أندمج في ذات كثيفة ولطيفة ‪ ،‬وخرجت‬

‫بعدها فرشقتني الشمس النارية بسهامها المتوهجة ‪،‬‬ ‫ثم نمت‬ ‫وعند االصيل توسدت حشائش الحديقة العامة َّ‬ ‫الليل الطويل بعد أن تعبت عيناي من رصد النجوم‬ ‫بت ما أكلت ال أشهى وال أطيب فهي‬ ‫والقمر ‪ ،‬ما شر ُ‬ ‫كل أنواع االطعمة على مائدة العشاء الرباني ‪ ،‬قد‬

‫نزلت من الرب ألجلي أنا المصلوب على االرض‬ ‫المسمر بعظام بناتي في قلبي وصدري ‪.‬‬ ‫صرت أحلم بأحالم الجنة العذبة ومالئكتها‬ ‫الفضية فداخلني إحساس غريب كأن أكثر روحي هناك‬ ‫وتمنيت أن تذهب كلها الى الجنة ‪ ..‬ولكني أخاف‬ ‫ُ‬

‫السأم ‪.‬‬

‫‪25‬‬


‫كان هللا يحفني وعلى وجهه اشراقة نورانية لم أره‬ ‫حقيقة ولكنه خيل لي في عقلي الباطن فى أعماق‬ ‫بحيرة الجمجمة ‪.‬‬ ‫آه رباه ‪ ،‬أحن اليك كحنيني الى الجنة ‪ ،‬أحن‬ ‫اليك كلما ضمني سأم واعترتني ضجة األلم ‪ ،‬فما حبي‬ ‫لك اال معرفتي ببعض صفاتك ‪ ،‬وما شوقي اليك اال‬ ‫أملي في السكينة تحت ظاللك الوارفة ‪ ،‬فقد أتعبتـني‬ ‫أمل‬ ‫وبت ال أستعذب أيامها ‪ ،‬حتى كدت أن َّ‬ ‫الحياة ُ‬ ‫نفسي إن لن َّ‬ ‫تملني هي وتهرب ‪.‬‬ ‫ولكن أين المهرب وسيف الحياة مسلط بوجهي‬ ‫أينما يممته ؟‬ ‫حنانيك يا بح اًر بال الوان فالعاصفة في جناني تجتاح‬ ‫أبعادي ‪ ،‬تغمرني تطمرني ‪ ،‬تعصرني كخرقة بالية‬ ‫كسمكة صغيرة ضائعة وسط المحيط ‪.‬‬ ‫ايه يا بنات اللسان ما أنت اال كيان محدود فكيف‬ ‫ُعبر بك عن أعمق أعماق مشاعري حيث أجراس األلم‬ ‫أ ّ‬ ‫‪26‬‬


‫تدق بشدة في أغوار قلبي وما يزال الرنين‬ ‫ما زالت ّ‬

‫المدوي يضعضع كياني يرجني ‪ ،‬يقتلني ‪ ..‬آه يا للهول‬ ‫‪.‬‬ ‫هدأ االعصار في قلبي بعد ذلك وتالشت ألحان‬ ‫السماء وطارت في الصباح الباكر قوافل النوارس‬ ‫متجهة صوب البحار الزرق لالوقيانوس العظيم ‪..‬‬ ‫تحمل رحيق أفكاري فوق أجنحتها البيضاء ‪ ..‬وعندما‬ ‫تستحم فى المياه تتناثر االفكار وتغور في المياه فتسرع‬ ‫صوبها االسماك تخالها طعاما من نثار مائدة الرب ‪..‬‬ ‫فتلتهم منها الصغيرة والكبيرة وما تشبع ألن كل ما‬ ‫تأكله رغوة من رغاوي الفكر‪ ..‬طعماً بال سنارة ‪،‬‬ ‫وتهجم النوارس زاعقة وتلتقط من المياه كل سمكة‬ ‫مغرورة مخدوعة ‪.‬‬

‫‪27‬‬


‫يوم مشرق‬ ‫التقيت في الصباح بصديق قديم ما أن‬ ‫أبصرني حتى طار فرحاً وراح يستفسر عن أحوالي وأنا‬ ‫أجيبه باقتضاب ‪ ،‬فما أن علم إني وحيد في بغداد حتى‬ ‫رجاني أن التحق بالكنيسة التي يشرف على خدمتها ‪..‬‬ ‫كان صديق طفولتي ‪ ،‬عرفته منذ أن كنا معاً في‬ ‫مدرسة بيسان ‪ ،‬كان متعمقاً بأمور الدين ويقوم بمراسيم‬ ‫الديانة على خير وجه ‪ ،‬أما أنا فكنت أفكر وأخال‬ ‫نفسي تتصل مع الفكر االعظم ‪ ،‬أما هو فكان يعذب‬ ‫جسده لكي يفكر ويقتل قلبه لكي يحب الرب ‪.‬‬ ‫وعدني بأنهم سيوفرون لي المأكل والمشرب‬ ‫والملبس والمنام على شرط أن انظف الكنيسة كل يوم‬ ‫خاصة يوم األحد قبل مجيء المصلين وبعد خروجهم‬ ‫فرفضت وبعد مداوالت وجد لي عمالً مع رغبتي وهو‬ ‫‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أن أخدم حديقة الكنيسة ‪ ،‬أجملها نظافة وتنسيقاً ‪.‬‬

‫كنت أبحث عن بعض السلوى والمهرب لنفسي‬ ‫الضالة فجاءني العمل ساعياً على قدميه يقدم لي هذا‬ ‫‪28‬‬


‫المجال الذي هو باب خالص كعين االبرة حين تكون‬ ‫مم اًر لجمل ‪.‬‬ ‫إشترطت بدوري عليه بأن يتركني‬ ‫افقت بعد أن‬ ‫ُ‬ ‫و ُ‬

‫ح اًر وشأني في طريقة عبادتي وسلوكي الديني وال‬ ‫يقيدني بطقوس عبادتهم ‪.‬‬ ‫رضى بذلك الشرط ورحب بي أحسن ترحيب ‪ ،‬ثم‬ ‫إتجهنا صوب الكنيسة ‪ ..‬وكانت قابعة فى الجهة‬ ‫الشرقية من بغداد ‪ ..‬بيضاء ‪ ،‬ضخمة البنيان ‪ ،‬ذات‬ ‫قبب عالية ونواقيس كبيرة ‪.‬‬ ‫استرسلت في العمل بعد خمول أكثر من ثالثين‬ ‫سنة ‪ ،‬وعاد عملي مع الشمس الطائرة حتى سقوطها‬ ‫مساء ‪.‬‬ ‫خلف االفق‬ ‫ً‬ ‫كانت الشمس قبل ذلك في نظري شمس الخمول‬ ‫والكسل والالهدف ‪.‬‬ ‫ما يزال لي قلب يخفق فسوف أوقفه سرعة ‪ ،‬وما‬ ‫ال ‪ ،‬وما فتأت‬ ‫يزال لي جسم قوي فلسوف أشنقه عم ً‬ ‫‪29‬‬


‫روحي الكسولة تعيش في سراب الجنون فألطلقها الى‬ ‫الحياة العقالنية‪.‬‬ ‫بقيت أشكوك همومي كأنك‬ ‫لك هللا يا قلبي فكم مرة ُ‬

‫إله ٍ‬ ‫ثان يجلس فى كرسي الجسد وبيده مطرقة الحكم ‪،‬‬ ‫فاذا علت ضوضاء الحنين واختلطت اسواق الماضى‬ ‫بالحاضر‪ ،‬راح يطرق على منضدة الحب بمطرقته ‪،‬‬ ‫فيعم السكون األربد ‪ ،‬ويبدأ في اصدار الحكم‪ ،‬ما‬ ‫أحلى كلماتك أيها الحاكم ‪ ،‬بل ما أعذبها وأرقها‬ ‫وأنغمها ‪ ،‬فقد بثت الطمأنينة في كيان محكمة الجسم‬ ‫‪ ..‬فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته ‪ ،‬والبريء متهم‬ ‫حتى تثبت براءته‪ ..‬وأنا متهم وبريء في ٍ‬ ‫آن واحد ‪.‬‬ ‫ويبقى قلبي يفتتح الجلسة تلو الجلسة دون قرار حكم‪.‬‬

‫‪30‬‬


‫يوم فجائي‬ ‫تديت مسوح الرهبان ‪ ،‬وكانت أجمل من‬ ‫إر ُ‬

‫مالبسي بعض الشيء ‪ ،‬وبقيت أغطي رأسي بـ(عمرة )‬ ‫زرقاء كلون السماء المليئة بالغيوم ‪.‬‬ ‫صرت أعمل في الجنينة بصمت ‪ ،‬أقلم ما طال‬ ‫ُ‬

‫ونفر ‪ ،‬وأفتح السواقي ‪ ،‬وأبث المياه لتروي االرض ‪،‬‬ ‫وتنتعش النباتات الوادعة ‪ ،‬كانت كل شجرة في الحديقة‬ ‫تذكرني ببستاني في بيسان ‪ ،‬فها هي شجرة الزيتون‬ ‫التى كانت تعطينا ثمرها بوفرة ‪ ،‬وكيف كنا نجمعه‬ ‫وتجتمع كل العائلة من أجل تجريحه زيتونة زيتونة لكي‬ ‫ونغير الماء كل يوم‪.‬‬ ‫ننقعه في الماء حتى يرمي م اررته ّ‬ ‫وها هي أشجار البرتقال ‪ ،‬تسكر االنفاس بأريجها ‪،‬‬ ‫وأشجار التفاح بعطرها وظلها‪ ..‬ولكن أين كل ذلك وقد‬ ‫استولى عليه الصهاينة وصاروا َّيدعون أنهم زرعوه‬ ‫ويصدرونه للخارج باسمهم ‪ ..‬وبينما أنا أفتح السواقي‬ ‫لفت نظري أحد القساوسة يرمقني خلسة بين حين‬ ‫وآخر عبر زجاج أحد شبابيك الكنيسة وال أدري ما‬ ‫‪31‬‬


‫الذي كان يفكر فيه ‪ ،‬فهو يمعن النظر في الرفش الذي‬ ‫تحركه يدي على بشرة الحديقة ‪.‬‬ ‫كنت أحفر في منطقة قد أعاقت جريان‬ ‫وحينما ُ‬

‫شعرت بيد تمتد وتجذبنى‬ ‫الماء الى باقي السواقي ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أدرت أرسي ألرى ‪ ،‬فاذا بنفس‬ ‫بشدة الى الوراء ‪ ،‬و ُ‬ ‫القسيس المتلصص قبل قليل وهو يقول لي ‪:‬‬

‫ـ ـ ـ لماذا تشوه حديقة الرب وتحفر هنا وهناك بال ٍ‬ ‫ترو‬ ‫وتنظيم ؟ ‪.‬‬ ‫فقلت له بهدوء ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ إذا لم يعجبك عملي ‪ ،‬فاتركني وشأني وسوف أدع‬ ‫لك حديقة الرب كما هي يأكل شرها خيرها ‪.‬‬ ‫وكادت أن تنشب مشادة بيننا لوال قدوم صديقي‬ ‫الشماس الذي أنهى حديثنا غير الودي بسرعة ‪ ،‬وطلب‬ ‫من أخيه في الديانة أن يتركني ح اًر ‪ ،‬وذهب كاظماً في‬ ‫نفسه أم اًر خفياً ‪.‬‬

‫‪32‬‬


‫وآصلت عملي بهدوء وبعد برهة اصطدم الرفش‬ ‫فحفرت حوله حتى ظهر للعيان‬ ‫بشيء صلب ‪،‬‬ ‫ُ‬

‫صندوق حديد صغير ‪ ،‬ولم أأبه به ‪ ،‬ولكن تذكرت‬ ‫ممانعة القس لي من الحفر هنا ‪ ،‬فدفعني حب‬ ‫االستطالع الى فتحه بسرعة ‪ ،‬فقد كان بال قفل ‪ ،‬وما‬ ‫أيت في جوفه رزمة من‬ ‫أن رفعت الغطاء حتى ر ُ‬

‫االوراق والصور وانبعث منها عطر هندي ضوع الجو‬

‫تبكت وأغلقته بسرعة ألسلمه الى إدارة الكنيسة ‪..‬‬ ‫‪ ،‬ار ُ‬

‫وأنتشلني من قلقي مقدم القس الطويل االشقر الذي‬

‫منعني عن الحفر قبل برهة كان قادماً كالطلقة ‪ ،‬وحمل‬ ‫الصندوق من أمامي وانطلق مبتعداً وهو يردد ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ تباً للشيطان أال نجد مخبأً نحفظ فيه ودائعنا عن‬ ‫المتطفلين ‪.‬‬ ‫وتوارى عن انظاري وتركني كالمشدوه ‪ ،‬وبعدها‬ ‫واصلت فالحتي واالفكار تمر بي مسرعة كأسراب‬ ‫السنونو السوداء ‪.‬‬

‫‪33‬‬


‫وهاجت بي العواطف وخالجني شعور من ارتكب‬ ‫جريمة بحق انسان فما أنا والصندوق ‪ ،‬وفتحه ‪ ،‬ولكن‬ ‫هي المفاجآت تريد أن تعكر صفوي المتبقي وصفو‬ ‫غيري ‪ ،‬آه منها فقد قلبت حياتي رأساً على عقب‬ ‫وضعضعت كياني وقلقلت عقلي ودفنت آمالي ووارت‬ ‫مستقبلي اللحود فما الذي تخبئه بعدئذ في طيات‬ ‫ثوانيها ودقائقها ؟ ! ‪.‬‬ ‫ودي‬ ‫يوم ّ‬ ‫عندما رشقت الشمس سهامها على االشجار‬ ‫والمباني ‪ ،‬وألهبت صليب قبة الكنيسة‪ ،‬فأشرق قم ًار‬ ‫خرجت من غرفتي القابعة خلف البناء الضخم‬ ‫فضياً ‪،‬‬ ‫ُ‬

‫ـ ـ ـ كالمعتاد ـ ـ ـ الى الحديقة الخلفية ال تمم ما بدأت به‬

‫قضيت ليلة مؤرقة تلبدت فيها نفسي‬ ‫أمس ‪ ،‬بعد أن‬ ‫ُ‬

‫بأضغاث الذكريات المؤلمة التي وخزت فؤادي‬ ‫كاالشواك ‪ ،‬ولكني نمت بعدها دامي القلب ‪ ،‬مكدود‬ ‫الجسم ‪ ،‬فانا اآلن أعمل وأشعر بقوتي تستيقظ من‬

‫‪34‬‬


‫جديد بعد تلك السبات التي مرت فى سماء دنياي‬ ‫كالسحاب ‪.‬‬ ‫شعرت بالقس‬ ‫ومررت أمام باب القاعة الكبيرة‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫االشقر خلفي ‪ ،‬وكان قد أتم صالته وبرح القاعة لتوه‬ ‫عت أعتذر منه‬ ‫وعندما تجاوزني بادرته بالسالم ‪ ،‬وأسر ُ‬

‫وطلبت منه أن يسامحني لعدم علمي‬ ‫لسوء تصرفي ‪،‬‬ ‫ُ‬

‫بما سيحدث من جراء الحفر فرد علي وهو يبتسم‬

‫وعيناه تلمعان ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ انك لم تخطىء يا سيدي الراهب ‪ ،‬بل أنا‬ ‫المخطىء فقد ظننت إن االمانة تحفظها االرض ‪ ،‬ولم‬ ‫أخل إنها لن تقدر ‪ ،‬فال مندوحة ‪ ،‬سأحملها أنا االنسان‬ ‫‪ ،‬فان ضعفي هو القوة ‪ ،‬وان عقلي هو الشيطان ‪ ،‬فال‬ ‫قمت به ‪ ،‬وأرجو أن تغفر لي‬ ‫تحزن من أجل خطأ أنا ُ‬ ‫بدورك لما سببته لك من عذاب نفسي ‪.‬‬

‫وسرت بخطوات وئيدة الى‬ ‫وتركني واجماً وذهب ‪،‬‬ ‫ُ‬

‫حديقتي عفواً الى سيدتي الحديقة حيث أقوم على‬ ‫خدمتها ‪.‬‬ ‫‪35‬‬


‫ما أبعد الفرق بين السيد والمسود ‪ ،‬ولكن هذا الفرق‬ ‫كل لآلخر ‪.‬‬ ‫والبعد يضمحالن عند السعادة التي يوفرها ّ‬ ‫ولكني أحول االرض جنة وهمية ‪ ،‬جنة زائلة ‪،‬‬ ‫وكل شيء فيها أما سيكون وقوداً لنار الشمس أو حطباً‬ ‫لنار االنسان ‪ ..‬فما أشبهها باحتراقي التدريجي ‪..‬‬ ‫فالقلب قد إحترق مبك اًر ‪ ،‬وإحترقت االحشاء بعده وأخي اًر‬ ‫التدرج انسجام البداية‬ ‫تدرج و ُّ‬ ‫سيحترق الجسد ‪ ..‬الكل ُّ‬ ‫مع النهاية ‪.‬‬ ‫نهرب من النار وتلحقنا النار منذ الوالدة حتى‬ ‫الممات فالحب نار وفقدانه نيران ‪ ..‬وااللم نار‬ ‫والذكريات نيران والحرمان نار والعيش نيران ‪،‬‬ ‫والشيخوخة نار والموت نيران ‪ .‬ـ ـ ـ ـ الهي أين الجنة ؟‬ ‫حنانيك يالطيف اللهيب يجتاح أبعادي ‪ ..‬أرني الجنة ‪،‬‬ ‫خفف هذه النيران ‪ ..‬أرسل زوابعك وامطارك وأرو‬ ‫وحل هذا السباخ من فيض حالوتك‪ .‬فان‬ ‫الجفاف ‪ّ ..‬‬ ‫نيتشة قد مات ‪ ..‬وااليمان بك ما مات ‪.‬‬

‫‪36‬‬


‫يوم نسوي‬ ‫ناداني منذ اليوم االول بالراهب معظم الرهبان‬ ‫والقساوسة والراهبات حتى حارس البوابة ‪ ..‬وكانوا كلهم‬ ‫يوزعون االبتسامات عدا حارس البوابة ‪ ..‬فقد كانت ال‬ ‫تحط على فمه فراشة االبتسامة ‪ ،‬وحين أحييه ال يجيب‬ ‫اال بكلمة (أهال) المقتضبة ‪.‬‬ ‫وفي وقت غذاء الظهيرة يجلس قبالتي على‬ ‫المائدة في مطعم الدير المالصق للكنيسة وال يتكلم‬ ‫بشيء بعد أن نكون قد أخذنا أطباقاً فى صو ٍ‬ ‫ان‬ ‫مستطيلة ‪ ،‬كنت ال استسيغ تكرار العملية ثالث مرات‬ ‫في اليوم بل أتناول من الطعام وجبة واحدة أتقوت‬ ‫عليها طيلة يومي ‪ ،‬مما جعل راعية‬

‫المطعم أن‬

‫علي لم‬ ‫تشكوني لصديقي الشماس ‪ ،‬ورغم الحاحه‬ ‫َّ‬

‫أجديه نفعاً ‪ ،‬وخالني زاهداً في الطعام وما درى أن‬ ‫العرب قالت ‪( :‬بيت الداء المعدة) ومنذ وقت بعيد وأنا‬ ‫أتناول وجبة واحدة في اليوم ‪ ،‬وصار شعاري صحة‬ ‫البدن بوجبة واحدة ‪.‬‬ ‫‪37‬‬


‫َّ‬ ‫أدهشني عمل الراهبات فقد َّ‬ ‫يعملن بطاقة هائلة‬ ‫كن‬ ‫اذ يقمن بكل شيء ‪ ،‬نظافة الكنيسة والدير ‪ ،‬وتنظيف‬ ‫مالبس القساوسة والرهبان ‪ ،‬واعداد الطعام للجميع ‪،‬‬ ‫فهذه اعمال قد فطرت عليها المرأة وال أعلم هل إن‬ ‫الرجل استساغ أن يترك لها كل هذه االعمال وركن‬ ‫للدعة ‪.‬‬ ‫وفي الريف تقوم المرأة أيضاً بكل شيء في الدار‬ ‫والمزرعة وليس على الرجل سوى ان يعقد صفقات‬ ‫البيع والشراء ويركن في أحد المقاهي يتسلى مع رفاقه‬ ‫‪ ،‬وليس هذا فقط بل صارت المرأة تشارك الرجل أعماله‬ ‫فى المدينة ‪ ..‬حتى أضحى الرجل يختص بالجندية‬ ‫تقريباً ‪ ،‬وأنا ال أشك إنها ستتسلم أدوات العسكرية منه‬ ‫في يوم من االيام ‪ ،‬فهي طاقة كبيرة متواصلة فى‬ ‫ديمومة الحياة والحفاظ عليها‪.‬‬ ‫وألح على ذهني سؤال ‪ ،‬لماذا يترهب االنسان ؟‬ ‫في حين انه يعمل كل شيء خدمة لالخرين ‪ ..‬فالراهبة‬ ‫تخدم ‪ ،‬والراهب يخدم ‪ ،‬تذكرت قول السيد المسيح ‪:‬‬ ‫‪38‬‬


‫(أنهم في القيامة ال يزوجون وال يتزوجون بل يكونون‬ ‫كمالئكة هللا في السماء) ‪.‬‬ ‫فقلت مع نفسي لعلهم ارادوا ان يبقوا في الدنيا‬ ‫مالئكة لكي يكونوا فى اآلخرة مالئكة ‪ ،‬ولكن هذا قتل‬ ‫للجنس البشري فلو صار كل أهل االرض رهباناً لما‬ ‫دب على االرض انسان بعد حين ‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫تقاطرت االسئلة تلو االسئلة حتى تحولت الى‬ ‫خاليا أكول فحينما تأكل االفكار العقل ‪ ،‬تبقى‬ ‫الجمجمة بال معنى ويبحث الجسم عمن يقـوده فال يجد‬ ‫سوى أجسام بال رؤوس ‪ ..‬االيادي تعطي الطعام " للفم‬ ‫‪ ،‬والرقبة توصله الى المعدة ويسير الجسم بهذا الغذاء‪،‬‬ ‫وتكثر االجسام ‪ ،‬يبنون ينجبون ‪ ،‬يموتون بال عين ترى‬ ‫وال أذن تسمع وال عقل يفكر ‪ ..‬وتكبر المدينة إنها‬ ‫ستكون مدينة بال رؤوس ‪.‬‬

‫‪39‬‬


‫يوم عاطفي‬ ‫إنبثقت أول زهرة من أزهار االرجوان ‪ ،‬فشعت‬ ‫خالل االوراق الخضراء بريقاً لم أعهده من قبل ‪ ،‬جعل‬ ‫عالمي كله مهرجاناً أحمر‪ ،‬وجذبني جمالها فرحت‬ ‫أطيل النظر في محياها ‪ ،‬رقتها ‪ ،‬قطرات الندى‬ ‫المتزحلقة على خدودها الشفافة ‪ ،‬كأن في أعماق‬ ‫حمرتها عالماً من البهجة ‪ ،‬دنيا تحلق في سمائها انواع‬ ‫الطيور الملونة ‪.‬‬ ‫إن كان العالم الذي يحيطني بهيجاً فهذا دليل على‬ ‫تدق في قلبي وأُحاول أن أتناسى ‪،‬‬ ‫أن طبول الحزن ُّ‬ ‫ولكن هيهات فالواقع كالح مغبر كوجه الحرب اللعينة ‪.‬‬ ‫عند العصر رنمت الراهبات مقاطع من نشيد‬ ‫االنشاد ال أدرى لماذا لم أستسغها فقد كانت غزلية‬ ‫تتشبب بالمرأة بجسمها لفارع ‪ ،‬بجسدها البض كعنقود‬ ‫عنب ‪ ،‬يشتهيه رجل الصحراء ‪ ،‬وأنا فى خريف العمر‬ ‫ومحال ان تطربني كلمات الشباب والنزق ‪ ،‬وهيهات‬ ‫ان تأز عاطفتي عقلي وتجعله يفكر بالجنس اآلخر ‪،‬‬ ‫‪40‬‬


‫فلقد سكنت الرياح ‪ ،‬وانطفأت النار‪ ،‬وتالشت الغيوم‬ ‫الممطرة ‪ ،‬وهرمت االشجار فلن تلد ثما اًر أبداً أبداً ‪.‬‬ ‫نسيت أن سليمان الحكيم ال يقصد المرأة بل‬ ‫فلسطين الحبيبة ‪ ..‬فلسطين العرب التي حرض‬ ‫بكلمـاتـه الصهاينة على اغتصابها منا ‪ ..‬فويل‬ ‫للصهاينة من أهل كنعان ‪.‬‬ ‫واذا بي أرى عبر زهرة االرجوان وجه زوجتي‬ ‫البريء محترقاً صارخاً مستغيثاً ‪ ..‬فويل للصهاينة‬ ‫المجرمين مما اقترفوه بحقها وعصف غضبي يكيل‬ ‫اللعنات على تجار الحروب سراق الشعوب واالوطان‬ ‫الذين بثوا علينا الجرذان لتقرض من أراضينا وتحيلها‬ ‫ٍ‬ ‫مآس ‪ ..‬الويل لكم يا جرذان من غضب االحفاد ومن‬ ‫جحافل خيول العرب ‪.‬‬ ‫ولم تهدأ نفسي اال بمقدم قس لطيف نحيف‬ ‫القسمات يتميز بعينين واسعتين ثاقبتي‬

‫البصر ‪،‬‬

‫عرفني بنفسه وكان إسمه كلبرت وله هواية علمية وهي‬ ‫البحث عن سر وردة االفيون فقد جلبوا له بذورها ‪،‬‬ ‫‪41‬‬


‫وطلب مني أن أزرعها له ليرى كيف يتحول تويجها‬ ‫الى جوزة وعند تجريحها يسيل منها سائل مستحلب‬ ‫يحول عقل االنسان الى شيطان ‪ ،‬فلذلك يريد ان يختبر‬ ‫هذا المستحلب ويحوله الى سائل رحماني يشفي‬ ‫مرضى الصداع النصفي فلم أستطع أن أقتل األمل‬ ‫الذي يراوده ‪ ..‬وفضلت أن ال أخبره أن هذه الزهرة ليس‬ ‫موطنها العراق بلد الخير والمحبة بل موطنها بالد‬ ‫االعداء الذين ال يعرفون غير الشر‪.‬‬ ‫لذلك أخذت الحبوب منه وزرعتها فى مكان خاص‬ ‫معين ‪ ،‬شكرني وذهب ‪.‬‬ ‫يوم عميق‬ ‫تكونت صداقة بيني وبين القس الفارع االشقر‪،‬‬ ‫وعرفت اسمه فقد نادوه بـ (األب شاول) وكان هادىء‬ ‫الطبع يحب السكينة والهدوء‪ ،‬وتغرورق عيناه بالدموع‬ ‫كلما أنصت الى نوح الحمام المطوق ‪.‬‬

‫‪42‬‬


‫كان األب شاول يتمشى في الحديقة الخلفية وقت‬ ‫االصيل بعد أن شعر بتحسنها وجمال ثيلها ‪ ،‬وكان في‬ ‫حديثه معي يعتذر عن تصرفه االول حول الصندوق‬ ‫اء على حسن‬ ‫بما يسعه االعتذار ‪ ،‬وراح يبدي لي اطر ً‬ ‫تنظيمي للحديقة بحيث تحولت الى وسيلة الغراء العباد‬ ‫كي يسبحوا للواحد االحد ‪ ..‬فكنت أرد عليه بتواضع ‪،‬‬ ‫راح يحدثني عن الحياة وما تحويه من أحداث تافهة‬ ‫وعجيبة ‪ ،‬مسيرة ومؤلمة ‪ .‬وكنت أرد عليه بجمل‬ ‫موجزة بحيث عجب من ذكائي وسرعة بديهتي‬ ‫وتعابيري ‪ ،‬فاحسسنا بتقارب آرائنا ‪ ،‬وتحاببت قلوبنا‬ ‫وتلفعت بغطاء الصداقة ‪.‬‬ ‫قبل أن يبرح المكان ليذهب الى المكتبة قال لي ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ إني أشعر بأن حادثة الصندوق ما تزال فى‬ ‫مخيلتك كشيء غريب وتريد أن تفهم كنهه وتفك سره‬ ‫فسوف أطلعك عليه عن قريب‪.‬‬ ‫تركني جالساً تحت شجرة الزيتون المظللة أقارن‬ ‫بين وجودي واالشجار‪ ،‬فابسط شجرة تقدم ثمارها‬ ‫‪43‬‬


‫بصمت ‪ ،‬وأنا مثلها اآلن أقدم قلبي لآلخرين بصمت ‪،‬‬ ‫وفي الليل سمعت القس شاول يردد قصيدة باللغة‬ ‫االنكليزية ‪:‬‬ ‫ــــــــ سأصنع من جسمي سفينة البحار‬ ‫ومن ثيابي أشرعة تسير في االعصار‬ ‫أشق بها أمواج الحياة العاتية‬ ‫فان تأرجحت سفينتي‬ ‫رميت ما بها الى العباب‬ ‫تمزقت مع الضباب اشرعتي‬ ‫وإن‬ ‫ْ‬ ‫سلخت جلدي كشراع المتباري‬ ‫أرفعه فوق الصواري‬ ‫طفحت سفينتي موجا الى حد الغرق‬ ‫وإن‬ ‫ْ‬ ‫أحمل جسم البحر من دون قلق‬ ‫وإن ينوء مركبي من ذلك الحمل المقيت‬ ‫‪44‬‬


‫أدفنه فى القاع ‪ ...‬لعل أمره يشاع‬ ‫لدى القراصنة ‪.‬‬ ‫أي شعر هذا وأي شاعر هذا إنه حقاً يحمل صليبه ! ؟‬ ‫يوم الهب‬ ‫عند أول شعاع من أشعة الفجر الذهبي بدأت‬ ‫نواقيس الكنيسة تدق دقاتها المهيبة برنين مموسق‬ ‫عذب بحيث جعلتني أشعر بأن المالئكة تسبح للعقل‬ ‫االعظم وتهلهل لقوته وعظمته ‪.‬‬ ‫خرجت من غرفتي ألشاهد طيور النور البيضاء‬ ‫ُ‬

‫وهي تحط على قبة الظالم وتطرد الظل الثقيل ‪،‬‬ ‫وصار الشفق الشرقي جم اًر من لهيب قرمزي ‪.‬‬ ‫وإنطلقت أنواع الطيور تجوب السماء وتشارك بعزف‬ ‫سمفونية الصباح ‪..‬‬ ‫أي يوم مشرق كوجه حسناء دامية الخدود ‪ ،‬وأي نسيم‬ ‫عذب كانفاس الزهور لطافة ‪.‬‬ ‫‪45‬‬


‫هذا اليوم هو راحة المسيحيين وفيه راحتي أو‬ ‫باالحرى حرية نفسي من نفسي ‪.‬‬ ‫تجولت في الحديقة األمامية أتطلع الى االزهار‬ ‫المتفتحة وأُراقب الوافدين الى الكنيسة وهم يدخلون من‬ ‫ونساء واطفاالً ‪ ..‬مرتدين أجمل‬ ‫البوابة الرئيسة رجاالً‬ ‫ً‬ ‫المالبس ‪ ،‬يدلفون الى قاعة الكنيسة وكانوا بين الحين‬ ‫والحين يحيونني فأرفع يدي محيياً وأطلق لساني‬ ‫مصبح ًا‪ ،‬دقت أجراس قلبي الول مرة بعد مضي نصف‬ ‫قرن ‪ ،‬فقد رأيت من هفت لها نفسي أيام الشباب تسير‬ ‫أمام أوالدها الكبار متأبطة ذراع زوجها البدين ‪ ،‬وكأني‬ ‫أبصرها ما فتأت على سالف عهدي بها من شباب‬ ‫وحيوية وإنوثة ‪ ،‬رمقتني بنظرة ال أعلم هل عرفتني أم‬ ‫ال ‪ ،‬لكنها تبسمت في وجهي وهي تواصل سيرها بتغنج‬ ‫محتشم ‪.‬‬ ‫عجبت من نفسي ومن قلبي ‪ ،‬كيف سولت لهما‬ ‫ذاتهما أن يعاودا حنين الصبا وهما بهذا الكبر‬ ‫والشيخوخة ‪ ،‬فتركت الكنيسة هارباً من خيال الماضي‬ ‫‪46‬‬


‫السحيق ومن قلبي المتهور‪ ،‬لئال أدنس الحب االعظم‬ ‫انطلقت خارج المدينة‬ ‫‪ ،‬الحب الزوجي المقدس ‪ ،‬و‬ ‫ُ‬ ‫متجهاً الى قناة الجيش وأنا أردد مع نفسي ‪:‬‬

‫( سأصلبك يا قلب على جذع حبيب واحد ‪ ،‬وكفى ‪،‬‬ ‫فطالما صلبتك على األغصان ‪ ،‬فما أعذب مسامير‬ ‫الحب ‪ ،‬ساغرز الكثير منها فيك ‪ ،‬ألربطك في الشجرة‬ ‫‪ ،‬وتنمو أنت وهي معاً ‪ ،‬وتروي دماؤك جذور الحبيب‬ ‫‪ ،‬فالمرأة خلقت لك لتبثها الكثير من العطف والحنان‪..‬‬ ‫وأنت قد فاض بك هذان ‪ ،‬واستقطرت وسكبت وغرقت‬ ‫وأغرقت ‪ ..‬واذا إستخف بك الناس فأحمل صليبك‬ ‫وارحل بعيداً عن األنظار ‪ ،‬ليقال بعد ذلك إنك مجنون‬ ‫فما أحلى الجنون بمن تحب حتى وان لم يكن على قيد‬ ‫الحياة ) ‪.‬‬ ‫أطفأت الجذوة المتبقية‬ ‫عدت في المساء بعد أن‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫تحت الرماد ‪ ،‬وأطلقت قلبي مرفرفاً بين أرض وسماء‬ ‫فوق الضفاف الواسعة الخضراء لمنبسطة كبساط‬

‫‪47‬‬


‫مطرز‪ ،‬حيث أحسست إني ذرة متناهية فى الصغر في‬ ‫كيان الكون ‪.‬‬ ‫يوم أبيض‬ ‫منذ الصباح حتى المساء ويدي في الحديقة‬ ‫تشذب وتسقي وترتب وتنقل النباتات من مكان الى‬ ‫آخر وتقتلع االدغال الضارة فقد آليت على نفسي أن‬ ‫أقتل هذا الجسد عمالً ‪ ،‬وحين خارت قواي إغتسلت‬ ‫وصعدت الى برج الناقوس حيث أستمع الى صوت‬ ‫ُ‬

‫الحمام وهو يستكين الى أعشاشه وما دريت إني ساطل‬

‫على حديقة الراهبات ‪ ،‬فال ادري هل الحمام انقلب الى‬ ‫فتيات يلبسن المسوح االبيض أم أني أرى حقيقة منظ اًر‬ ‫تخشع له القلوب ‪ ،‬فكأنهن مصابيح بيضاء تتحرك‬ ‫وتغني بتراتيل ربانية ‪.‬‬ ‫وكأن الزمان توقف ونبضات قلبي توقفت حتى‬ ‫عيني توقفت أهدابهما عن الرمش ‪ ،‬فالمنظر قلما يرى‬ ‫ويتكرر ‪ ،‬طيور تتحرك برقصة لم يرقصها بشر اال فى‬ ‫الف ليلة وليلة وأصوات سحرية تفتت قلب الحجر ‪.‬‬ ‫‪48‬‬


‫هلوليا للجمال ‪ ..‬فهو غابة سحرية يحط في‬ ‫أعشاشها النظر ‪ ،‬فيلقى السكينة المعطرة ‪ ،‬واالحالم‬ ‫الهانئة ‪ ،‬والوداعة الطفولية ‪ ،‬والبراءة الشاعرية ‪ ،‬فيخال‬ ‫أن الجنة ملموسة لديه وإن ما ال يعرفه بدأ يفهمه ‪،‬‬ ‫ويرسم صوره ‪ ،‬ويشيد هيكله واعمدته في قلبه حيث‬ ‫الدنيا تتسع وتترامى في أُفق الخيال ‪ ،‬أنذاك يذوب في‬ ‫الجمال ويذوب الجمال في نفسه‪ ..‬وبينما أنا في هذه‬ ‫التهويمة سمعت كالما حفظته بسرعة يقول ‪:‬‬ ‫تغنجي‬ ‫تغنجي‬ ‫هوادج النساء‬ ‫ثم أرقصي‬ ‫كرقصة الحمام‬ ‫عالم ذا الشقاء‬ ‫يا قلبي عالم‬ ‫‪49‬‬


‫سماء ‪ ..‬يا سماء‬ ‫القبة الزرقاء للعطور‬ ‫واألرض لألجسام‬ ‫ما ِ‬ ‫أنت يا حديقة الطيور‬ ‫يا موطن االحالم في أواخر الدهور‬ ‫لئالىء الليل قواف‬ ‫مجاهل الفكر سور‬ ‫أين العبور‬ ‫أين العبور‬ ‫والجسر هاوية الحطام ‪.‬‬ ‫نمت قرب شباك غرفتي هانئاً ‪.‬‬ ‫وبعد أن دونت هذا ُ‬

‫‪50‬‬


‫يوم معقوف‬ ‫جاءني األب شاول يستفسرني عن عدم وجودي‬ ‫يوم األحد الماضي في الكنيسة ويبدي لي كيف‬ ‫أفتقدني ذلك اليوم بعد أن يأس من العثور علي ‪.‬‬ ‫وأخبرته عن ذهابي خارج المدينة واستمتاعي بأُمنا‬ ‫الطبيعة بل منحة السماء ألهل األرض كما قال‬ ‫هوميروس ‪.‬‬ ‫طفق يحدثني عن خطبته التي القاها وكانت حول‬ ‫آآلم السيد المسيح ونهايته المفجعة على الصليب ‪.‬‬ ‫فرددت عليه قائال ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ان المسيح تألم ألم ًا جسدي ًا ‪ ،‬وانتهت أآلمه بعد‬ ‫فترة وجيزة من الزمن ‪ ،‬حيث حلقت روحه الى الالكيان‬ ‫‪ ،‬فأين منه الذي علكه األلم نفسياً ‪ ،‬ومضغه الحزن‬ ‫عقلياً ‪ ،‬عندما فجعه بأعز ما يحب وأغلى ما يملك ‪..‬‬ ‫وما انفك بعين اآلالم والتعاسة كل يوم ‪ ،‬ألن كل ما‬

‫‪51‬‬


‫يربطه مع الحياة قد انقطع ‪ ،‬وصار قلبه وكبده يتآكالن‬ ‫ٍ‬ ‫بمنته وال الذاكرة تموت ‪.‬‬ ‫كل لحظة ذكرى ‪ ..‬فال هو‬

‫دهش من قولي ‪ ،‬ونظر في وجهي بامعان كمن‬ ‫يحاول أن يسبر أغوار نفسي ويكشف براقع قلبي ‪.‬‬ ‫وقال بتلهف ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ من يكون هذا بحق المسيح ؟‬ ‫ـ ـ ـ إنه ماثل أمامك يا صديقي ‪ ،‬كثمرة تعطب جوفها‬ ‫وأمست خاوية على عرشها فعند أول لمسة أو هزة‬ ‫ستتحطم الى أشالء مبعثرة ‪ ،‬ولكن كيف للزمن أن‬ ‫يرحم ويعجل بانامله ليخلع ما تبقى ويواريه العدم‬ ‫االسمر ‪ ،‬حيث ال أضواء ساطعة وال رياح راكضة وال‬ ‫أرض مغتصبة ‪.‬‬ ‫وتركني األب شاول بعد أن دمدم بكالم لم أسمعه‬ ‫فناجيت نفسي قائال لها ‪:‬‬ ‫جيداً ‪..‬‬ ‫ُ‬

‫‪52‬‬


‫( أصبري أيتها الروح لجسمك المصلوب على‬ ‫الصليب المعقوف ‪ ..‬فقد ُكتب عليك أن تتعذبي في‬ ‫الدنيا لكي تذوقي طعم الحرية شهداً في اآلخرة ) ‪.‬‬ ‫ورحت أدون ‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫( سأركب عربة الغرام وألهب ظهر قلبي بالسياط لكي‬ ‫تركض بخيولها في ساحة الحبيب ‪ ،‬فان وجدت كثي اًر‬ ‫من العربات تتسابق في هذه الساحة ‪ ،‬أجعل السوط‬ ‫يلهب ظهر قلبي أكثر واقسو عليه لينهب الساحة نهب ًا‬ ‫شقت بسهام االعداء فسوف أصدها بصدري‬ ‫‪ ،‬وأن ُر ُ‬ ‫بكل جرأة وأتركها تغور في جسمي ليقطر قلبي دماً‬ ‫أكثر وأكثر ‪ ،‬ويطير بالعربة ويسبق باقي العربات ‪،‬‬ ‫عند ذاك أصل الى من أُحبها دامي الجسد منهوك‬ ‫القوى ‪ ،‬وأفوز بقلبها ‪ ،‬وتبدأ بيديها الرقيقتين تزيل‬ ‫السهام وتضمد الجراح بالحب والحنان ) ‪.‬‬

‫‪53‬‬


‫يوم ملون‬ ‫تكاثرت في هذا اليوم أعداد الزهور المتفتحة حتى‬ ‫ليكاد الناظر أن ال يرفع بصره عنها لحظة ‪ ،‬الن‬ ‫العيون قلما ترى مثل هذه االوراد الجميلة الزاهية بكل‬ ‫االلوان وشتى االحجام واالشكال واستذكرت قول‬ ‫الشاعر ‪:‬‬ ‫تمتع من شميم عرار نجد‬ ‫فما بعد العشية من عرار‬ ‫ولكن فرحتي بورودي هذه ستكون مثل فرحتي ببناتي‬ ‫التي لم تدم طويالً ‪ ،‬وما أن أتممت هذا الخاطر حتى‬ ‫أبصرت حارس البوابة يجني من الزهور األجمل‬ ‫ُ‬ ‫واألبهى واألشد عط اًر واألكثر جاذبية دون حياء من‬ ‫أحد أو رأفة بالجمال ‪ ..‬وحين أبصرني لم يأبه بي‬ ‫فكأنه يمتلك تلك الزهور وهو أحق بذبحها من غيره ‪.‬‬ ‫دمعت عيناي فاخفيت دمعي باطراقة الى االرض‬ ‫‪ ،‬وانتشلني من ضعف عاطفتي صوت ٍ‬ ‫فالتفت اليه‬ ‫قس‬ ‫ُ‬ ‫‪54‬‬


‫فت‬ ‫يعرفني بنفسه ‪ ،‬عر ُ‬ ‫بعد أن كفكفت أدمعي ‪ ،‬وراح ّ‬

‫إن إسمه (أدور) وعرض علي لوحة رسمها لتوه لتلك‬

‫الزهور المنتشرة المشرقة ‪.‬‬ ‫غصصت بالكالم ولم أستطع أن أُعبر له عن شيء‬ ‫‪ ،‬فانا أرى االنسان يسعى الى الخلود بشتى الطرق وما‬ ‫الرسم اال دليل على ذلك ‪.‬‬ ‫الح علي فقلت له ‪:‬‬ ‫طلب رأيي في الصورة و َّ‬ ‫ـ ـ ـ يا بني ان لك براعة في تقليد الطبيعية مما يدل‬ ‫على دقـة مالحظتك وجمال ذوقك ورشاقة فرشاتك‬ ‫بوضع االلوان ‪ ،‬ولكن البشر ال يهتمون لما يرونه‬ ‫اعتيادياً بل يميلون الى اللوحة المعبرة عن موقف‬ ‫انساني شامل وتسلب مشاعرهم الكامنة فتدهشهم‬ ‫وتعريهم على حقيقتهم دون ان يشعروا بذلك اذ لو‬ ‫شعروا لصلبوك ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ يا سيدي ان لك رأياً غريباً هال أفصحت لي عن‬ ‫طريقة أنتهجها في الرسم ‪.‬‬

‫‪55‬‬


‫ـ ـ ـ ـ أسلك كل طرق الرسامين قبل أن تحدد طريقتك ‪..‬‬ ‫خذ مواقف غويا ‪ ،‬ودقة ديالكروا ‪ ،‬ورموز بيكاسو ‪،‬‬ ‫وتخطيطات دافنشي ‪ ،‬ومزج االلوان عند فان كوخ ‪،‬‬ ‫وتكوينات سلفادور دالي ‪ ،‬والبراءة عند سيزان وماتيس‬ ‫كل هؤالء اجعلهم وسيلة الى التكامل الذاتي لكي‬ ‫تتجاوز به مرحالتهم الفنية وتتسم أنت بطابع خاص ‪،‬‬ ‫الن البشر يميلون الى ما يشدهم نحو أعماقهم وحلمهم‬ ‫وآمالهم أكثر ما يميلون الى واقعهم القاحل ‪ ..‬بل خذ‬ ‫واقعهم وارحل به عبر السماء ‪.‬‬ ‫وشكرني وترك لي الصورة هدية ‪ ،‬حملتها الى‬ ‫غرفتي معت اًز بها ‪ ،‬فهي خير وسيلة لشد الروح عبر‬ ‫نافذة تطل أبداً على مهديها ‪.‬‬ ‫يوم قاتم‬ ‫أتى صديقي الشماس وأنا منشغل فى الحديقة‬ ‫الخلفية وطلب منى أن أتهيىء للذهاب معهم الى قصر‬ ‫السيدة ( ماري ) حيث دعت الجميع لتناول الغداء ‪،‬‬ ‫فاعتذرت منه لعدم رغبتي في تلبية الدعوة ‪ ،‬فلي‬ ‫ُ‬ ‫‪56‬‬


‫وطلبت منه أن يعتذر لي ‪ ،‬فتركني على‬ ‫مشاغلي ‪،‬‬ ‫ُ‬

‫أمل االعتذار ‪.‬‬

‫كنت أعرف صاحبة الدعوة فهي نفس المرأة التي‬ ‫ُ‬

‫داعبت قلبي في االيام الخوالي ولم أقترن بها الن هللا‬ ‫بعث لي إمرأة أجمل وأطهر وأطيب ولكن كيف للقدر‬ ‫أن يدع االحياء سعداء بعد هبات هللا ‪ ،‬وهو المشهور‬ ‫بفضاعة مقالبه ‪ ،‬لم لم يدعني هانىء القلب والخاطر‬ ‫بزوجتي وبناتي حتى قصم ظهري وقطع نياط قلبي ‪،‬‬ ‫فواحسرتاه لفقدهم ‪ ،‬ويا لتعاستي من بعدهم ‪.‬‬ ‫طفقت أبكي بصمت وبال دموع حتى شعرت أن‬ ‫ُ‬

‫فؤادي يتفطر ويتمزق ‪ ،‬وأن نفسي تدلهم ويضيق بها‬ ‫جسمي ‪ ،‬وكأن الدنيا حلم مزعج مظلم ‪ ،‬آنذاك هرب‬ ‫الفجر من عيوني وزرعت الظالم فى دمي فلم تـنبت‬ ‫أشجاره وحلقت اآلالم في سماء نفسي وراحت تقتات‬ ‫الخير والسالم وترقص على دقات طبول الموت معلنة‬ ‫الحداد على االحياء واالموات وعلي أنا الميت الحي ‪.‬‬

‫‪57‬‬


‫وبينما أنا كذلك اذا بيد تربت على كتفي وبصوت‬ ‫االب شاول يقول هون عليك أيها الشيخ واال ينفجر‬ ‫فؤادك من األلم !‬ ‫وقلت والعبرة تخنقني ‪:‬‬ ‫فعت رأسي نحوه ُ‬ ‫ور ُ‬ ‫ يا ليته ينفجر وأنتهي ‪..‬اتركني أرجوك فلي مع‬‫نفسي سجال دموي ‪.‬‬ ‫وعاودت قرع طبول الحرب مع روحي ‪ ،‬عندما‬ ‫تهرب االفراح من جزيرة قلبي ويخيم الظالم في أرجاء‬ ‫فؤادي وتهجم الغيوم السوداء وتلبد الشغاف وترعد ألما‬ ‫وتبرق حسرة ‪ ،‬وتطير الش اررات لتحرق السويداء ‪،‬‬ ‫آنذاك أصيح في أعماق نفسي ( الهي يا ُمنزل َّ‬ ‫المن‬ ‫والسلوى رحمتك ‪ ..‬ما هذا األلم الذي يجتاحني ‪ ،‬ما‬ ‫كل االحياء ُخلقوا مثلي ‪،‬‬ ‫هذه التعاسة التى تذيبني ‪ ،‬أ ّ‬

‫عالم تعصر فؤادي بقوة وأنا أعرفك رؤوفاً رحيم ًا ‪،‬‬

‫عالم تطرق قلبي بمطارقك القاسية وال تمسده بيدك‬ ‫الحنون ‪ ،‬عالم تقلب لي الحب وهماً والحبيب خياالً ‪،‬‬ ‫‪58‬‬


‫عالم الورود تصير أسوداً مفترسة ‪ ..‬إلهي رفقاً رفق ًا‬ ‫وألف ألف ٍ‬ ‫رفق )‪.‬‬ ‫يوم فقاعي‬ ‫الحياة رتابة دهرية تعطي بلمح البصر وتسلب‬ ‫برمشة عين ‪ ،‬فقبل أيام خلت كانت زهرة االرجوان بين‬ ‫الورود يانعة مغناجاً ‪ ،‬أما اليوم فقد خنقها العدم‬ ‫ويبست وذرتها الرياح‪ ،‬فيا لعاقبة االنبثاق والتنفس ‪..‬‬ ‫اصلت عملي بدون رغبة ‪ ،‬وجاء صديقي الشماس مع‬ ‫و ُ‬

‫القس كلبرت واخبراني أن السيدة ماري افتقدتـني طوال‬ ‫الوقت الذي مكثوه في قصرها ‪ ،‬وكانت ما تفتأ تسألهما‬ ‫عني وتوصيهما خي اًر بي‪ ،‬وقد اخبرتهما إنها من نفس‬ ‫حارتي في بيسان ‪.‬‬ ‫فاجبتهما بقولي ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ عندما يفقد االنسان العالم يبدأ بعض الناس‬ ‫بتقديس ذكراه ‪ ،‬وحين كان بينهم وقريباً منهم لم يعيروه‬ ‫صديقي إنها ال تذكرني بل تحاول أن‬ ‫أدنى أهمية ‪ ،‬يا‬ ‫َّ‬ ‫‪59‬‬


‫تخدع نفسها لتتخيل إنها باقية على شبابها فهي قد‬ ‫قاربت دخول العدم ‪ ،‬وأنا قد ودعت الدنيا منحد ًار‬ ‫لت أنزل ‪ ،‬وهي تخاف أن‬ ‫بسرعة الى بحر الفناء وما ز ُ‬

‫يمحى من ذاكرتها شريط الصبا الملون المعطر ‪ ،‬أما‬ ‫فقدت ذكريات الشباب الى األبد ولم تبق سوى‬ ‫أنا فقد‬ ‫ُ‬ ‫ذكرى آآلم الرجولة والشيخوخة ‪.‬‬

‫دهشا من كالمي ‪ ،‬وال أدري هل فقها ما أرمي اليه‬ ‫أم ال ‪ ،‬لكن الشماس التفت الى كلبرت قائال له ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ أي شيخ قاس شيخنا ‪ ..‬ليحمه الرب من نفسه ‪.‬‬ ‫كأن خنج ًار غرز في صفحة قلبي فأدماه ‪ ،‬وليتـني‬ ‫كنت بال لسان لما دخلت غابة الكالم صارخاً معب اًر‬ ‫عن همومي فتسمعني الوحوش الكاسرة وتهجم علي‬ ‫وتقطعني بأنياب اللفظ وبمخالب الحروف ‪ ،‬فتباً لك يا‬ ‫فم بما تجلبه من مصائب جارحة ‪.‬‬

‫‪60‬‬


‫بقي كلبرت واقفاً بعد أن انصرف االب شاول ينظر‬ ‫الي بعين ثاقبة كأنه يريد أن يخترق أعماقي ويكشف‬ ‫سريرتي ثم بادرني قائالً‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ سيدي الشيخ هل نبتت الحبوب ؟‬ ‫كنت قد نسيتها حقا ‪ ،‬فاجبته ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ هيا بنا ننظرها ‪.‬‬ ‫تمعن في التربة لم يبصر شيئاً ‪ ،‬لكني أبصرت‬ ‫إرتفاع التربة في بعض االماكن فقلت له ‪:‬‬ ‫ستنبت عن قريب فأصبر أكثر ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ أظن إنها‬ ‫ُ‬ ‫وبعد أن تركني قلت في نفسي لتكن تجربة له تعلمه‬ ‫الصبر في معرفة الحقيقة المؤلمة ‪ ..‬خلعت قلبي‬ ‫وزرعته على الصخر وأنا أدري إنه لن يخضوضر لذا‬ ‫سازرع الصخر في قلبي الى األبد ‪.‬‬ ‫باضافري ساحرث مزرعتي وسأشتل فيها بقايا حبي‬ ‫وأُسقيها بالدموع ‪ ،‬فان نبتت االشجار بال ثمر أمسك‬ ‫‪61‬‬


‫فأسي وأنهال على جذوعها قطعاً ‪ ،‬وأنهش جذورها‬ ‫نهشاً ‪ ،‬ثم أبث النار لتقضم مزرعة حب غير مثمر‬ ‫وتحيله الى رماد ‪.‬‬ ‫يوم زنجي‬ ‫تحت زنود الليل احتضنت طاولتي السوداء ‪،‬‬ ‫ومسكت محراث الورق الزرع بمداده لغز الكلمات ‪،‬‬ ‫وكان المصباح يطرد بنوره أشباح الظالم فيأتلق الورق‬ ‫فوق الطاولة كأسنان الزنجي ‪.‬‬ ‫يرسو عند مسامعي نغم الكون المدوي بخفوت ‪ ،‬وال‬ ‫يقطعه سوى وقع خطوات القسيسين في الممر ‪.‬‬ ‫كم عسيرة هي االفكار الجديدة ‪ ،‬فاليوم الذي مررت‬ ‫به لم يكن جديداً تحت الشمس ‪ ،‬فليس فى فكري سوى‬ ‫أصداء الماضي ومن يحب أن يؤلم نفسه بنفسه‬ ‫فليستخرج الصفحات الحزينة ويقرأها ‪ ..‬فكل ذكرى‬ ‫أستذكرها مسمار قديم يدق في شغاف قلبي ‪ ،‬فكم أنت‬

‫‪62‬‬


‫لذيذة يا مسامير الذكريات حينما تغرزين في تابوت‬ ‫الدماء ‪ ،‬فأنت تسلية حياتي الضائعة ‪.‬‬ ‫طرقني منظر شتوي ‪ ،‬حيث كنت في عش الزوجية‬ ‫الذهبي أجلس قرب المدفأة على كرسي وثير ‪ ،‬وكانت‬ ‫زوجتي تربض على بساط الغرفة بقربي واضعة رأسها‬ ‫ـ ـ ذا الشعر االسيل ـ ـ ـ على حجري وكان يتموج أبنوساً‬ ‫يميل الى البنفسجي ‪ ،‬وكانت لذتي الوحيدة هي النظر‬ ‫الى محاسن وجهها المتورد وسط هذا البحر من السواد‬ ‫الذي تخضبه ألسنة النيران بأشعتها ‪ ،‬فتتسلل أصابعي‬ ‫مبحرة في طياته الناعمة ‪.‬‬ ‫آه كأن تنفسها أحس به اآلن ‪ ،‬فيا للمنظر ‪ ،‬لو‬ ‫أعدته في مخيلتي م ار اًر لما مللت ‪ ..‬وما السعادة اال‬ ‫كطيور فى غابة السالم تتـنقل من غصن الى غصن ‪،‬‬ ‫كل ما يغريها من ثمر يكون داني القطوف ‪ ،‬وكل ما‬ ‫يرويها يكون سهل المنهل ‪ ،‬فتستظل تحت االوراق‬ ‫الطرية ‪ ،‬ال عمل يتعبها غير أن تزق الحب زقاً ‪،‬‬ ‫ويداعب الحبيب الحبيبة ‪.‬‬ ‫‪63‬‬


‫ليتك يا سعادة قلبي بقيت ترفرفين علينا ‪ ،‬وليت‬ ‫مقص الزمن تكسر قبل قصك ‪.‬‬ ‫لم استطع النوم فخرجت الى الحديقة الخلفية‬ ‫السترق السمع لموسيقى الليل الكونية ‪ ..‬صرير‬ ‫عشرات الصراصير يقطعه نقيق ضفدع ‪ ،‬حفيف‬ ‫سعفات النخيل يتخلله نباح كلب من بعيد يعقبه هدير‬ ‫شاحنة ‪ ..‬وخلف كل هذه االصوات هناك صوت‬ ‫هرموني كوني هائل‪ ،‬حقا انها لسمفونية بعيدة االغوار‪.‬‬ ‫طرق سمعي صوت أحد القساوسة وهو يحاول أن‬ ‫ينظم بعض بيات الشعر ويتوقف عند المقطع ويعيده‬ ‫بصوت حزين ‪ ..‬اقتربت من مكانه فوجدته جالساً على‬ ‫المصطبة الخشبية ينظر الى أشعة القمر الزورقي ‪.‬‬ ‫حييته ‪ ،‬كأن تحيتي تيار كهربي مسه ‪ ،‬فإرتجف‬ ‫جافالً من صوتي ورد علي تحيتي بحروف متقطعة ‪،‬‬ ‫فإعتذرت منه لقطعي سلسلة مشاعره ‪ ،‬لكنه إبتسم‬ ‫ُ‬ ‫برضى بعد أن سيطر على إرتباكه وقال ‪:‬‬

‫‪64‬‬


‫ـ ـ ـ أبداً ‪ ..‬أنا أنظم قصيدة وقد عصت علي االلفاظ‬ ‫الدقيقة فلعلك ترشدني اليها فقد اخبرني أخوتي عن‬ ‫درجتك العلمية واألدبية ‪ ،‬والحق أنا أريد أن أكلمك منذ‬ ‫فترة ‪.‬‬ ‫حدجته بنظرة فاحصة ‪ ،‬فقد كان شاباً خجوالً ‪،‬‬ ‫باسم الوجه بعينين حزينتين تتكسر نظراتهما كلما التقتا‬ ‫بعيني ‪ ..‬قلت في نفسي حقاً إنه يحمل صفات الشاعر‬ ‫عت وقلت له ‪:‬‬ ‫أسر ُ‬ ‫ـ ـ ـ ـ تفضل ستجد عندي ما يسرك ‪.‬‬ ‫قال ‪ :‬منذ سنوات وأنا أنظم الشعر ‪ ،‬وقد قلدت‬ ‫الشعراء االقدمين ‪ ،‬لكني كرهت قيود القافية ‪ ،‬وملت‬ ‫الى الشعر الحر ‪ ،‬فتأثرت بالرواد العرب علماً إني‬ ‫أحسن الفرنسية وأتذوق شعر رامبو وفيرلين ‪ ،‬وقد‬ ‫نظمت قصائد كثيرة وارسلتها الى الصحف والمجالت‬ ‫وما علمت إني أرميها فى ٍ‬ ‫نهر ج ٍار ‪ ..‬وال أعرف سبباً‬ ‫لرفضهم قصائدي ؟!‬

‫‪65‬‬


‫ـ ـ ـ أسمعني شيئاً ؟‬ ‫عرفت‬ ‫راح يق أر لي بعضاً مما يحفظه من نظمه ‪،‬‬ ‫ُ‬

‫‪ ،‬أن له أذناً موسيقية ويتحسس النغم بدقة وعذوبة وهذه‬ ‫أولى عالمات الشاعرية‪.‬‬ ‫كما أعجبني إستخدامه لاللفاظ بشكل جديد يوحي‬ ‫ٍ‬ ‫بمعان مجنحة تسلب الخيال بسرعة ‪ ،‬وتأخذه الى‬ ‫عوالم غريبة ساحرة وهذه ثاني الشاعرية ‪ ،‬وطابع‬ ‫الحزن غالب على شعره فقلت له ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ أني أجد الشاعرية مكتملة عندك فهال أسمعتني‬ ‫قصيدة نظمتها بعد تجربة عنيفة هزت قلبك وأحاسيسك‬ ‫وتجدها أقرب الى مشاعرك‪.‬‬ ‫وراح ينشدني شع اًر كشعر أودونيس حفظت منه‬ ‫هذا المقطع ‪:‬‬ ‫لغتي خشب ولست كاألشجار‬ ‫لكنني من مدن غريبة أتيتكم‬

‫‪66‬‬


‫عبرت في عيونكم مفاوز القصدير والنساء‬ ‫أبحرت من بحاري البعيدة المسار‬ ‫وجئت حيث خطت العرافة الضريرة‬ ‫وبعد ما َّ‬ ‫علقت في مدينتي أعوامي العشرين‬ ‫في مشنقة‬ ‫تستقبل الجفاف والزوار‬ ‫أتيت يا ملهمتي ألنني مسافر بضاعتي االحزان‬ ‫أعرضها أبيعها بحزني الغريب‬ ‫أصرها في جزر غريبة عليك‬ ‫ففي غد وها هنا اذ تنضج االثمار‬ ‫وتسأل الطيور عن أغصانها‬ ‫و ِ‬ ‫أنت في عينيك عن جزيرتي‬ ‫ملهمتي ال تتعبي السؤال‬

‫‪67‬‬


‫إنني ولدت مثل طائر ومت كالنهار ‪.‬‬ ‫قلت له عندما إنتهى ‪ :‬أخرج من معطف أودونيس‬ ‫ُ‬

‫‪ ..‬أترك الفاظه وعباراته فشاعريتك قوية وجارفة ‪،‬‬ ‫ابحث لها عن عبارات والفاظ جديدة لم تخطر ببال أي‬ ‫شاعر ‪ ..‬وسيكون النجاح حليفك ‪.‬‬ ‫وبقيت‬ ‫شكرني بألم ‪ ..‬وودعني على ليلة هانئة ‪..‬‬ ‫ُ‬

‫أحاسب نفسي وأنتظر نجمة الصباح لعلها تخفف من‬ ‫صراع أفكاري ‪.‬‬ ‫يوم موحش‬ ‫سوف تهاجر أسراب الطيور من الجزيرة‬ ‫الخضراء ‪ ،‬ويعم السكون فؤاد الجزيرة ‪ ،‬ال نغمة طائر‬ ‫وال خفقة جناح ‪ ،‬وتبكي الغدران وتنتحب الشالالت ‪،‬‬ ‫اذ ال بلبل يشرب من منابعها ومعينها وال عصفور‬ ‫يكركر مع قطرات مائها ‪ ،‬نافضاً ريشه بسعادة ‪ ،‬كما‬ ‫تلطم األشجار خدودها أسفاً وحسرة ‪ ،‬اذ ال حمامة‬ ‫تعشعش فى وكناتها ‪ ،‬وال ببغاء تتأرجح بأغصانها ‪،‬‬ ‫‪68‬‬


‫وال هزار يغرد بين زهورها ‪ ،‬عندها تهجم االشباح تبث‬ ‫الرعب في نفس الجزيرة ‪ ،‬فتتأوه الجزيرة وحشة والماً ‪،‬‬ ‫وال تجد منجاة من وحدتها الكأداء فتغطس الى قاع‬ ‫البحر لألبد وتبقى فى سباتها حيث ترقص فوقها‬ ‫األمواج والتيارات ‪.‬‬ ‫فما أن أنهيت تأمالتي بجزيرة حياتي حتى إقترب‬ ‫األب شاول وحياني واطمأن على أحوالي ثم أردف‬

‫قائالً ٍ‬ ‫بجد ‪:‬‬

‫ـ ـ ـ ـ سيدي الراهب أننا قد وضعنا أنفسنا لخدمة الرب ‪،‬‬ ‫وخدمته ال تتم اال بعد خدمة المجتمع معنوياً ومادي ًا‬ ‫وبما أني أراك ضعيف النفس متألم الذات ‪ ،‬فهل تسمح‬ ‫لي أن أبث فيك روح السعادة ؟‬ ‫ـ ـ ـ ـ وما هي السعادة في نظرك ؟‬ ‫ـ ـ ـ ـ هي راحة البال ‪ ،‬وطمأنينة النفس ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ وما هي وسائل الراحة ؟!‬ ‫ـ ـ ـ ـ أن يقنع بما وهبه هللا ‪.‬‬ ‫‪69‬‬


‫ـ ـ ـ ـ اذا كانت الراحة أن يرضى بما يعطيه هللا ‪ ،‬فان‬ ‫هللا أخذ مني كل شيء ‪ ،‬فمن أين ستأتيني راحة النفس‬ ‫‪ ،‬والسعادة إستردها هللا مني ورزقني بدلها الشقاء‬ ‫األبدي ‪.‬‬ ‫ختم الصمت افواهنا لهنيهة ثم بادرني األب شاول‬ ‫متسائالً ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ولكن أال تخبرني ما الذي جرده منك الرب ؟‬ ‫ــــ‬

‫لقد أخذ مني بناتي وزوجتي وداري ومزرعتي‬

‫ووطني ولفظني من هذه الحياة لفظ النواة ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ أظن أن الحياة قد ساوت بيننا !‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ كال فأنت إنتهجت هذا الطريق وفق ظروفك ‪ ،‬أو‬ ‫رغبتك ‪ ،‬أما أنا فقد اعتدت على أن أبني مستقبلي‬ ‫وأمهد الطريق لبناتي وأسعد زوجتي وأخدم وطني ‪ ،‬فاذا‬ ‫كل شيء يتهدم في طرفة عين بعد اتمام البناء ‪،‬‬ ‫وأمست األهداف سراباً ‪ ،‬فكيف سنتعادل أنت رجل‬ ‫ترتفع أما أنا فرجل يهبط الى األغوار المظلمة ‪.‬‬ ‫‪70‬‬


‫فرد األب شاول وعلى سيمائه ذهول التفكير‬ ‫العميق ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ألم تعلم أن الرجل ال يكون عظيماً إال أن يقاسي‬ ‫ألماً عظيماً ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ يالها من كلمات خادعة وإن تحققت فان العظمة‬ ‫ستأتي على الهامش بعد أن يكون المرء قد واراه‬ ‫التراب‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ولكن الذكرى الطيبة هي المجد والخلود وهذا ما‬ ‫يسعى اليه االنسان ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ أجل ‪ ..‬ولكن أظنك أردت أن تقول ( ال يكون‬ ‫االنسان عظيماً إال أن يبني بنياناً عظيماً ويقاسي من‬ ‫ورائه الماً عظيماً ) ‪ ..‬أما أنا يا صديقي فقد بنيت‬ ‫كل شيء‬ ‫البنيان وقاسيت األلم وعند الكمال إنهار ُّ‬ ‫وذهبت ُّ‬ ‫مسيت وحيداً تائهاً‬ ‫كل آمالي أدراج الرياح ‪ ،‬وأ ُ‬ ‫ليس لبقائي معنى ‪ ،‬بل لموتي ألف معنى في نفسي ‪،‬‬ ‫وحين أرحل عن الحياة لن أجد دمعة تسكب فوق‬ ‫‪71‬‬


‫قبري‪ ،‬الن أعز ما الى روحي وقلبي سبقوني وبكيت‬ ‫عليهم ‪.‬‬ ‫ــــ‬

‫ولكننا خدم الرب سنبكي عليك ونذكرك دائماً‬

‫ونصلي من أجلك ‪ ،‬داعين هللا لك بالغفرآن ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ الغفرآن !! وهل قمت بذنب أستحق عليه الغفرآن ؟‬ ‫أنا انسان ال أحتاج الغفران قط ‪ ،‬فأنا ال أطمع في دنيا‬ ‫أو في آخرة ‪ ..‬أطلبوا الغفرآن للذين سرقوا الدنيا‬ ‫ويريدون أن يسرقوا اآلخرة ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ لقد أعييتني ‪ ..‬إذن ليبق الحمل تائهاً عن القطيع ‪.‬‬ ‫يوم مموسق‬ ‫جاءني منذ الفجر ـ ـ ـ ـ وعيناي لم تغتسل بالنور ـ ـ ـ ـ‬ ‫األب شاول وهو يحمل نفس الصندوق الحديد ‪..‬‬ ‫ووضعه على المنضدة بالقرب من سريري وقال ‪:‬‬ ‫طلع عليها‬ ‫ـ ـ ـ ـ يا أبتي خذ هذه االمانة فى عهدتك ‪ ،‬ا ّ‬ ‫لترى إننا متساويان ‪ ..‬ثم خرج دون أن أبدي له‬ ‫ممانعتي ‪ ،‬وكيف أُظهر رفضي وأنا أشعر بأني وحدي‬ ‫‪72‬‬


‫الضائع في الحياة ‪ ،‬واآلن أريد أن أعرف هل حقاً‬ ‫يوجد انسان مثلي ويساويني ‪.‬‬ ‫رحت أرمق الصن ــدوق الحديد ‪ ،‬الذي كان من‬ ‫طراز القرن الثامن عشر‪ .‬حيث اكتظ بالزخارف‬ ‫الخارجية ‪ ،‬واثر التراب والصدأ ما برحا ظاهرين على‬ ‫أضالعه ‪ ..‬فبدأ الفضول يحز في نفسي ح از ‪ ،‬ولكني‬ ‫كنت عازماً اليوم على نقل بقايا االحراش النباتية الى‬ ‫خارج الكنيسة ‪ ،‬لذلك قررت أن أطالع على محتوياته‬ ‫غداً ‪ ،‬حيث يصادف يوم استراحتي المقررة ‪.‬‬ ‫هببت‬ ‫حملت الصندوق وأخفيته في درج الخزانة‪ ،‬ثم‬ ‫ُ‬

‫للعمل لكي تذيب طاقة الشمس سالسل الخمول ‪.‬‬

‫بينما أنا مشغول بجمع االحراش ‪ ،‬بعد أن أقلعها مع‬ ‫جذورها لمحت الحارس جالساً أمام باب غرفته الصغيرة‬ ‫المالصقة للبوابة كأنه يحرس سجناً ال بيتاً للرب ‪.‬‬ ‫ال أدري لماذا شعرت أن حارس باب الجنة سيكون‬ ‫من الشياطين وليس من المالئكة وراجعت نفسي‬ ‫‪73‬‬


‫متسائالً ‪ :‬لماذا ؟ ‪ ..‬أ لقسوة مالمحه أم لصرامته‬ ‫وخشونة الفاظه ‪ ،‬فتذكرت حينما قدمت الى الكنيسة مع‬ ‫صديقي الشماس حيث فتح الحارس لنا الباب وراح‬ ‫يطيل بي النظر ويتفرس في مالمحي كما يفعل رجال‬ ‫الحدود ‪.‬‬ ‫في هذا اليوم كان الوقت قبل الظهيرة ومعظم‬ ‫القساوسة يدرسون فى المدرسة المحاذية للكنيسة ‪،‬‬ ‫وعلى غير عادة الحارس كانت بوابة الكنيسة مفتوحة‬ ‫على مصراعيها ‪ ،‬دخلت مجموعة من االطفال الصغار‬ ‫ٍ‬ ‫بضحك وزعيق‬ ‫راكضة ‪ ،‬وكان يداعب أحدهم اآلخر‬ ‫لطيف ‪ ،‬فزجرهم الحارس مانعاً تقدمهم الى الداخل‬ ‫بصوت ٍ‬ ‫عال خشن ‪.‬‬

‫فتجمع االطفال بعضهم الى بعض مثل الكتاكيت‬ ‫حيت الحارس واتفقت‬ ‫الخائفة ‪ ،‬وظهرت بعدهم راهبة ّ‬

‫معه بكالم لم أسمعه وأسرعت راكضة الى السيارة التي‬

‫ظهرت واقفة في الشارع عبر البوابة ‪.‬‬

‫‪74‬‬


‫ناداني الحارس بقوله ‪ :‬أيها الراهب هال رعيت‬ ‫هؤالء األطفال لحين أُنادي على القس يوسف ‪.‬‬ ‫أومأت له برأسي بالقبول وناديتهم أن هلموا الى‬ ‫افتراش حشائش الحديقة تحت سيدة األشجار الوارفة‬ ‫الظالل ‪ ..‬ركض االطفال وال أدري كيف تراءى لي‬ ‫بناتي وهن يركضن نحوي ‪ ،‬دمعت عيوني فرحاً اذ أن‬ ‫أصواتهن هي هي لم تتغير ووجوههن هي هي لم‬ ‫تتبدل ‪.‬‬ ‫أية زنابق بيضاء َّ‬ ‫حلت في الحديقة ‪ ..‬سألوني أسئلة‬ ‫طفولية أجبت عنها برقة ولكنها أخرجتـني من خيالي‬ ‫وبرهنت لي أن االطفال ال يعرفوني قطعاً ‪.‬‬ ‫جاء القس يوسف مســرعـاً ‪ ،‬وذهب الحارس الى‬ ‫مكانه قرب البوابة ‪ ،‬حياني القس باضطراب وهو ينظر‬ ‫الى االطفال العشر ‪ ،‬ويردد مع نفسه ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ماذا أعلمهم بحق المسيح ؟ ‪.‬‬ ‫بدون شعور قلت له ‪ :‬الموسيقى !‬ ‫‪75‬‬


‫تعجب من جوابى وتهللت أساريره وقال ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ كيف ذلك يا أبتي ؟ ‪ ،‬فقد طلبوا مني أن أُعلمهم‬ ‫كل يوم ساعة واحدة وأنا ال عهد لي بتدريس الصغار‬ ‫‪ ..‬اذ بماذا ابدأ وكيف أنتهي أجبته ‪:‬‬ ‫ـــــ‬

‫إستخدم شعر االطفال الغنائي فهو خير وسيلة‬

‫لتقوية حافظتهم وكلما لحنته بالحان عذبة كلما رققت‬ ‫مشاعرهم ‪.‬‬ ‫فسأل بتلهف كغريق وجد قارب النجاة ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ وأي الشعراء تفضل شعره لهؤالء االطفال ؟‬ ‫أجبته بسرعة ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ سليمان العيسى في «غنوا يا أطفال» ولكن على‬ ‫شرط أن يكون درس الموسيقى والنشيد ليوم واحد في‬ ‫األسبوع ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ وماذا فى بقية أيام األسبوع ‪ ،‬وهي ساعة واحدة‬ ‫في كل يوم ‪.‬‬ ‫‪76‬‬


‫ـ ـ ـ ـ ـ أعرف أنها ساعة واحدة ‪ ،‬ألن الطفل يضجر من‬ ‫نمط واحد ‪ ،‬فعليك التنويع ‪ ،‬اليوم تُحّفظ االطفال‬ ‫لحناً وفي الغد تعلمهم الرسم الحر ‪،‬‬ ‫مقطعاً غنائي ًا ُم ّ‬ ‫وفي اليوم الثالث تعلمهم الزراعة ‪ ،‬وأنا مستعد أن أُحدد‬

‫لكل منهم مت اًر مربعاً خاصاً به لزراعته في الحديقة‬ ‫الخلفية ‪ ،‬واليوم الرابع تعلمهم عمل االشكال الطينية‬ ‫واليوم الخامس الرياضة الحرة ‪ ،‬وفي اليوم السادس‬ ‫المطالعة المصورة ‪ ،‬فابتسم بفرح شديد وقال وكله ثقة‬ ‫بنفسه‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ إذن ستعينني على ذلك يا أبتي الراهب ؟‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ على الرحب والسعة ‪.‬‬ ‫فأخذهم وإتجه بهم الى البوابة الخاصة بمدرسة‬ ‫الكنيسة ‪.‬‬ ‫أخرجت كثابين األدغال ورميتها في‬ ‫وبعد أن‬ ‫ُ‬

‫موضع النفايات خارج الكنيسة ‪ ..‬قضيت بعد الظهر‬ ‫معظم وقتي في حمام الكنيسة وكنت ُّ‬ ‫التذ كاالطفال‬ ‫‪77‬‬


‫فتأت أنصت‬ ‫بالماء حينما أسكبه فوق جسمي ‪ ..‬وما ُ‬

‫لموسيقى المياه المنسكبة على رأسي المتزحلقة على‬ ‫جســدي والمصطدمة بأرضية الحمام ‪ ،‬فكأن روحي‬ ‫تسيل مع كل قطرة فترقص ‪ ،‬وعقلي يذوب مع كل‬ ‫نغمة فيطرب ‪ ،‬وما الموسيقى اال هالهل الجمادات‬ ‫معبرة عن سرها فكيف للسمع أن يفقه وهو مسحور‬

‫بالصوت ؟ ‪.‬‬ ‫يوم صوفي‬ ‫خرجت من الكنيسة بعد أن ارتديت مالبسي‬ ‫القديمة ‪ ،‬وإتجهت الى مقبرة من مقابر المسلمين الن‬ ‫ظاهرة الموت تبرز بها أكثر من بقية المقابر ‪ ،‬فالقبور‬ ‫تالل على حجم االنسان الراقد تحت ترابها ‪ ،‬فما أن‬ ‫توغلت الى وسطها مبتعداً عن ضوضاء‬ ‫شارفتها حتى‬ ‫ُ‬

‫جلست ‪،‬‬ ‫المدينة ‪ ،‬وهناك تحت نخلة حولها فسيلتين‬ ‫ُ‬

‫وراحت نظراتي تمسح القبور المتراصة ثم ترتد ساقطة‬ ‫على النخلة وفسائلها ‪ ..‬فاذا باآلالم تتقاطر في قلبي ‪،‬‬

‫ودخلت في غفوة فكرية أبعدتني‬ ‫انكفأت على وجهي ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫و ُ‬ ‫‪78‬‬


‫عن ضوء الوجود الى ظالم سرمدي ‪ ،‬ال أعلم هل‬ ‫كنت أتمتم أم أصلي ‪ ،‬لكني شعرت بحواسي أجمع‬ ‫تندمج بظل كثيف لطيف ‪ ،‬فبدأت أنتحب كطفل وحيد‬ ‫في غرفة مظلمة ‪ ،‬وأنكشف لي الالوجود تدريجياً ‪،‬‬ ‫كأن مرآة صافية زالت عنها الغشاوة‪ ،‬صرت أشاهد‬ ‫وجوه بناتي واحدة تلو اآلخرى ‪ ،‬وجوه مشدوهة تصرخ‬ ‫مستنجدة ‪ ،‬ثم ظهر وجه زوجتي واسعاً قد شبت به‬ ‫النار وبجسم مشوه مقطع ‪ ،‬وهي تزعق كالمجنونة وقد‬ ‫وعفرت وجهي‬ ‫بكاء ‪،‬‬ ‫جحظت عيناها ‪ ،‬فازددت‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫بالتراب ‪ ،‬وكأن غاشية الظالم قد رقدت فوقي فلم أهدأ‬ ‫أيت قبساً من النور إنسكب في نفسي ‪،‬‬ ‫إال بعد أن ر ُ‬ ‫وطافت روحي في كيانه واستكانت ‪.‬‬

‫لم أنتشل من الالشعور اال على يدين غليظتين‬ ‫أفقت وطالعني وجه‬ ‫تمسكان بي وتجلساني ‪ ،‬حينئذ ُ‬

‫غريب لرجل بدين بمالبس متهرئة قذرة ‪ ،‬فما أن لمح‬

‫ونفضت‬ ‫وجهي حتى إسترسل في القهقهة ‪ ،‬فنهضت‬ ‫ُ‬

‫ومسحت ووجهي بعمرة رأسي ‪ ،‬ثم قلت له‬ ‫مالبسي ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وأنا أغادر المكان ‪:‬‬

‫‪79‬‬


‫ـ ـ ـ ـ ـ سمن جسمك للديدان ! ‪.‬‬ ‫توقف عن الضحك وقال ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ أعذرني ما ضحكت عليك ‪ ،‬ولكني لمحت وجهك‬ ‫وهو معفر بالتراب فخلتك شبحاً من أشباح المقبرة ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ وهل االشباح مضحكة ؟‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ بالنسبة لي مضحكة فأنا ما رأيت شيئاً غريباً اال‬ ‫وضحكت وكما تعلم الضحك خير من الخوف ‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ولكني أظنك لم تعلم شفتيك الضحك ‪.‬‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ أنك على حق فهو ترابط طبيعي بين السمن‬ ‫والضحك والضعف والحزن ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ لكن اال تخبرني ما سبب حزنك وبكائك ؟ ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ أنا لست حزيناً انما أبكي رهبة من عظمة ربي ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ إذن أنت من المتصوفة ؟ ! ‪.‬‬ ‫تركته ولم أجبـه بشيء وال أعلم لماذا فسرت له‬ ‫حزني بهذه الصورة ربما هرباً من تدفق االسئلة ‪ ،‬وأنا‬ ‫‪80‬‬


‫ٍ‬ ‫مستعد لالجابة ‪ ،‬أو ربما جاء الكالم على طرف‬ ‫غير‬ ‫لساني وأطلقه من دون ٍ‬ ‫ترو فأندم على ذلك ‪ ،‬ورحت‬ ‫حادث عقلي ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ أنك كائن غريب االطوار في هذه االرض ‪ ،‬تشعر‬ ‫بالوحدة وسط هذا الكون ‪ ،‬تبحث عن ذاتك في اقطار‬ ‫السماوات وفي أعماق البحار والغابات والصحارى‬ ‫والوديان وحين يحل بك التعب تتقوقع باحثاً عن ذاتك‬ ‫داخل نفسك ‪ ،‬ويتفصد من جسمك العرق دون جدوى‬ ‫فتركض شرقاً وغرباً مخترعاً شتى الوسائل الموصلة‬

‫الى أي ٍ‬ ‫بعد تريد ‪ ،‬متطلعاً تارة فى وجود اآلخرين من‬ ‫بني جنسك ‪ ،‬وتارة أخرى متمعناً في وجه الطبيعة ‪،‬‬ ‫يأسرك الجمال في لحظته ‪ ،‬وتأسرك الهموم في‬ ‫لحظات كثيرة ‪ ،‬وتشعر بالدوار ‪ ،‬بالضحالة ‪ ،‬فتصرخ‬ ‫ملء فمك في فضاء نفسك ‪ :‬من أنت ؟ ولم جئت ؟‬ ‫ومن أين والجل ماذا ؟ وعالم تعاني ما تعاني ؟ ولم‬ ‫هذا الضياع ؟ وهل من نتيجة لبحثك وأللمك ؟ ‪.‬‬

‫‪81‬‬


‫يوم مكنوز‬ ‫أخرجت‬ ‫اليوم أخرجت صندوق الحديد وفتحته و‬ ‫ُ‬

‫لت مجموعة األوراق‬ ‫منه رزمة األوراق والصور ‪ ،‬وعز ُ‬ ‫أخذت أطالع األخيرة ‪ ،‬وكانت‬ ‫عن مجموعة الصور و ُ‬

‫تتسلسل من منظر طفل صغير مع والدته حتى نموه‬

‫الى شاب يافع وكانت كل صورة قد دون خلفها اسم‬ ‫شاول مع والدته بمواقف شتى ومناسبات محددة‬ ‫بالزمان والمكان ‪ ،‬وكانت األم في كل صورة مبتسمة‬ ‫تحتضن وليدها فى صغره وتطوقه بحنان في فتوته ‪،‬‬ ‫كانت امرأة ضعيفة البنية ‪ ،‬دقيقة القسمات ‪ ،‬رشيقة‬ ‫القوام ‪ ،‬تتكلف السعادة تكلفاً على ما يبدو ‪ ،‬فمن‬ ‫قسمات وجهها الشاحب وجسمها الناحل قد هدتها االيام‬ ‫‪ ،‬واتعبتها السنون ‪.‬‬ ‫أما شاول وهو طفل فقد كان جميل المالمح ‪ ،‬حلو‬ ‫الهندام إبن عز وأُبهة ‪ ،‬وكان في جميع ادوار حياته‬ ‫حتى دور الشباب حيوياً نشطاً معتدل سمنة الجسم ‪.‬‬

‫‪82‬‬


‫انتقلت الى‬ ‫فما أن إنتهيت من الصور حتى‬ ‫ُ‬

‫الرسائل وكانت كلها بقلم األب شاول إال ورقة واحدة‬ ‫كانت محررة من والدته وهي ـ ـ ـ على ما أظن ـ ـ ـ‬ ‫وصيتها األخيرة ‪ ..‬اذ تقول فيها (ويبدو إنها على وشك‬ ‫الرحيل) ‪:‬‬ ‫شاول ولدي الحبيب‬ ‫أنت نوري على االرض أتبـارك به ‪ ..‬وأنت أملي‬ ‫الــذي سيبقى محط أنظار روحي ‪ ،‬أنظر لعينيك‬ ‫العميقتين فأحس بالهناء من بعد العناء ‪ ،‬وأرنو الى‬ ‫ضحكتك الفجرية المشعة أنجماً فأشعر أن الدنيا تبتسم‬ ‫عن مهرجان ٍ‬ ‫عذب ‪.‬‬

‫قاسيت ـ ـ ـ من أجـل أن أهـز بك االيام ـ ـ ـ‬ ‫أي شاول لقـد‬ ‫ُ‬

‫شتى المصاعب ‪ ،‬وكانت هي لذتي في الحياة ‪ ،‬فكم‬ ‫كنت سميري في وحدتي الربداء ‪ ،‬وكم كنت مؤنسي‬ ‫في وحشتي الكأداء ‪ ،‬أبكي فتمسح بقبالتك دموعي ‪،‬‬ ‫عاصرنا الفقر سوية ‪ ،‬وذقنا الليالي الباردة تحت سقف‬

‫‪83‬‬


‫واحد ‪ ،‬ولم يدفئني سوى شخصك المرح ‪ ،‬ولم تغنني‬ ‫سوى روحك الذهبية ‪.‬‬ ‫أواه شاول لقد كنت أتمنى أن أشاهد شريكة حياتك‬ ‫في المستقبل ‪ ،‬وأحضر زفافك لكي أراك تختال‬ ‫كطاووس ‪ ،‬فأفتخر بك بين النساء ‪ ،‬وأحس أن حياتي‬ ‫لم تكن عبثاً ‪ ،‬فتمأل الدنيا عيني بمنظرك ‪ ،‬ولكن القدر‬ ‫يأبى أن أسعد بذلك ‪ ،‬فان خفقات قلبي بدأت تقل ‪،‬‬ ‫وأني أنتظر الراحة األبدية بين خيوط الفجر ‪ ،‬والدنيا‬ ‫أمست تظ ُّلم في بصري كلما أضفت كلمة الى‬ ‫وصيتي‪ ،‬وأخذت روحي تنهصر بشدة ‪ ،‬اذ أين‬ ‫القصور واألموال التي تتمناها كل أم البنها ‪ ،‬فانا ال‬ ‫أملك سوى أن أوصي بحبي لك الى األبد ‪ ،‬ودعائي‬ ‫في سبيل أن تسعـد مدى العمر سأمأل به السماوات‬ ‫واالرض ‪ .‬شاول ابني‪ ..‬قلبي ‪ ..‬الوداع‪..‬أمك الحنون‪.‬‬ ‫إنتقلت الى رسـائـل شاول وكانت قطرات مائية قد‬ ‫فمضيت ألتهم سطورها بنظري التهام ًا‪،‬‬ ‫أسالت حروفها‪،‬‬ ‫ُ‬

‫فما ذقت طعماً للغة مثل لغة الشعور باأللم والعواطف‬ ‫‪84‬‬


‫الحزينة ‪ ،‬فقد إنبرى يبكي ويستبكي حروفه ‪ ،‬فشعرت‬ ‫أحسست بأفكاره تـنوح شوقاً ‪ ،‬فما‬ ‫بكلماته تلطم حزناً ‪ ،‬و‬ ‫ُ‬ ‫فت انساناً له مثل هذا القلب الرقيق ‪ ،‬وهذه النفس‬ ‫عر ُ‬

‫المحترقة ‪ ،‬يبث مشاعره تجاه أمه كطفل رضيع يولول‬ ‫لفقدان والدته الحنون ‪ ،‬وكحبيب يناجي حبيبته وهى‬ ‫مسجاة بين يديه جثة هامدة ‪.‬‬ ‫كانت أمــه هي دنياه ‪ ،‬وحين رحلت طفق يندب‬ ‫ُّ‬ ‫ويشن حملة على الزمن الذي قصم‬ ‫حظه البائس ‪،‬‬ ‫ظهره حين سلب منه أعز ما في وجوده ‪ ،‬ويتوعد‬ ‫بالويل لأليام التي أشقته ‪ ،‬فكانت ثورة مكبوتة في نفسه‬ ‫ال يطلق حممها اال بكتاباته وال يلطف من هيجانها اال‬ ‫بمناجاته ألمه الرؤوم ‪.‬‬ ‫وما هذه القطرات التى أسالت الحروف اال دموعه‬ ‫المنثالة فاختلطت دموعي مع دموعه ‪ ،‬فقد فتحت‬ ‫كلماته أبواب الحزن من جديد ‪ ..‬ورحت أتأمل أفكاري‬ ‫( ما الدنيا إال كنز عظيم في أعماق البحر ال يصله‬ ‫اال من جازف وتعب ‪ ،‬حتى اذا ما امتلكه وحاول‬ ‫‪85‬‬


‫الخروج امتدت أذرع اخطبوط وقيدت جسمه ‪ ،‬فال هو‬ ‫قادر على الخالص والنجاة ‪ ،‬وال هو يستطيع أن يدفع‬ ‫الكنز ثمناً لحياته كتعويض ) ‪.‬‬ ‫أن الركض وراء األمل حلو ‪ ،‬وعدم تحقيقه أحلى ‪،‬‬ ‫ونيله وتحقيقه األحلى ‪ ،‬وأن الذي بال أمل تعيس ‪،‬‬ ‫والذي أمامه األمل وال يسعى صوبه أتعس ‪ ،‬والذي‬ ‫حقق األمل وفجأة يتبخر ويتالشى من أمامه األتعس‬ ‫واألب شاول على األرجح بال أمل فلذلك ظن أننا‬ ‫نتساوى بالشقاء ‪ ،‬ولكن محال أن يعادل الربيع الخريف‬ ‫وأن يعادل النهر الصحراء ‪.‬‬ ‫يوم قيثاري‬ ‫التقيت باألب شاول في حديقة الكنيسة ‪ ،‬وكانت‬ ‫نظاراته المتسائلة تبحث في وجهي عن تأثير محتويات‬ ‫الصندوق ‪ ،‬لكني لذت بالصمت لفترة من الوقت ثم‬ ‫قلت له ‪:‬‬

‫‪86‬‬


‫ـ ـ ـ ـ آه ‪ ..‬أيها األب شاول ‪ ،‬ما خلتك طفالً كبي اًر ولكن‬ ‫تشبثك بأمك أثبت لي ذلك ‪ ،‬فيا لقلبك الصغير الذي‬ ‫زعزعته فاجعة الحياة الطبيعية ‪ ،‬أن تعلقك بوالدتك أمر‬ ‫طبيعي ال مفر منه ‪ ،‬ولكن تعظيم هذا األمر ما هو إال‬ ‫دليل على ضعفك أمام الحياة والموت ‪ ،‬فيا لوهن‬ ‫عزيمتك ! ‪.‬‬ ‫فأجاب األب شاول وهو مطرق الى االرض ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ أنا لست ضعيفاً يا سيدي ‪ ،‬بل إني مفجوع بفقدان‬ ‫الكائن الوحيد الذي تربطني واياه أواصر المحبة‬ ‫والعطف والحنان ‪ ،‬فحينما خلفتني وحيداً في بحر‬ ‫الحياة المصطخب ‪ ،‬غرقت في مستنقع الوجود لعفن‬ ‫وشعرت بألم يقطع نياط قلبي ‪ ،‬فأمسيت قيثارة بال‬ ‫الحان ‪ ،‬آدم بال جنة ‪ ،‬فكيف ال أحن الى ذلك الفؤاد‬ ‫الواسع والعين الساهرة ‪ ،‬والثغر المشرق ‪ ،‬والنفس‬ ‫الحنون ‪ ،‬واليد الشفوق ‪.‬‬ ‫قال ذلك بحسرة مرة كأنها تخرج من قلب كسير‬ ‫مقطوع االوردة ‪ ،‬وبعد أن استرجع عبرته أردف ‪:‬‬ ‫‪87‬‬


‫ـ ـ ـ ـ فكيف تريدني أن ال أقدس ذكراها ‪ ،‬فأنا في قلبها‬ ‫لت أحس بها نفسي ‪ ،‬أواه‬ ‫ونفسها ما ز ُ‬ ‫وهي في قلبي ‪ُ ،‬‬ ‫فلن أجد بديلها ما حييت ‪ ،‬كان أملي أن أُسعدها ولكن‬ ‫المرض الذي سرقها مني حطم حلمي الوحيد ‪ ،‬فال‬ ‫يوجد طموح بعدها ‪ ،‬فانا كطير كسير الجناحين ‪،‬‬ ‫وشعور في أعماقي يقول ‪ :‬إنني نكرة فى هذه الحياة ‪،‬‬ ‫اال أخبرني أيها الراهب هل تعادلنا في هذه الدنيا‬ ‫القاسية ؟ ‪.‬‬ ‫نظرت اليه بامعان وتبسمت ‪ ،‬وقلت ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ أنا أرثي لحالك ‪ ،‬فأنك اآلن انسان يعيش بال أمل ‪،‬‬ ‫حادثة بسيطة رجتك رجاً ‪ ،‬وهي من الحتميات التي‬ ‫تمر على كل انسان ‪ ،‬فكيف ألعظم حادثة بالنسبة‬ ‫لرب أسرة وعمل ‪ ،‬وأقول لك إن فكرة االمومة قد قيدتك‬ ‫منذ الطفولة لحد اآلن ‪ ،‬ولك السماح في فترة الطفولة‬ ‫الن األم مكملة لشخصية الطفل ‪ ،‬أما في فترة الرجولة‬ ‫فلن أستمحيك عذ اًر لتفكيرك بأنك مازلت بحاجة الى أُم‬ ‫مع العلم إنها لو كانت على قيد الحياة الجبرتك على‬ ‫‪88‬‬


‫أن تجد شخصاً آخر تشاطره حياتك ‪ ،‬وذلك مما أرادته‬ ‫في وصيتها ‪ ،‬أما بالنسبة الى حوادث الدهر فما ساوت‬ ‫بيننا والحمد هلل ‪ ،‬فأنت كنهر جمد ماؤه فال هو راجع‬ ‫الى منبعه وال هو سائر صوب مصبه ‪ ،‬أما أنا فانسان‬ ‫وصل الى جنة الخلد بعد جهود جبارة ومعاناة قاسية ‪،‬‬ ‫وحين دخلها سقط في جحيم النيران واحترق قلباً ونفساً‬ ‫‪ ،‬وبقي جسداً معذباً ‪ ،‬فأنت حتماً ستطلع عليك الشمس‬ ‫من جديد وتذيب الجليد فيجري نهرك ثانية ‪ ،‬أما أنا‬ ‫فاحمل جمر جهنم فوق ظهري ‪ ،‬وهيهات أن أعود من‬ ‫حيث جئت فما بقي بيني واللحد اال أيام معدودات ‪.‬‬ ‫دهش األب شاول من حديثي وسألني وكله حسرة ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ بروح القدس اال تخبرني بفحوى حكايتك ؟‬ ‫ـ ـ ـ ـ سوف أخبرك في الوقت المناسب ‪ ،‬فقصتي تحتاج‬ ‫الى وقت لكي أسردها لك ‪.‬‬

‫‪89‬‬


‫انشغلت بالحديقة ‪ ،‬وفي تلك‬ ‫ودعني وذهب ‪ ،‬و‬ ‫ُ‬

‫اللحظة جاء صديقي الشماس وهو يقول واالبتسامة‬ ‫تضىء محياه ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ لقد جمع الرب النفوس فى النهاية بعد أن فرقها‬ ‫الشيطان بالبداية ! ثم سلم علي وواصل طريقه ‪.‬‬ ‫جعلتني كلماته أنجذل وأتعمق في معانيها فقد‬ ‫كانت كمزنة هطلت فوق صحراء عطشى ‪.‬‬ ‫يوم مقدس‬ ‫ألول مرة أدخل قاعة الكنيسة منذ قدومي اليها لحد‬ ‫اآلن ‪ ،‬كان الوقت فج اًر والشموع ماتزال موقدة ذؤاباتها‬ ‫تضيء ارجاء القاعة بنور ساحر ‪ ،‬وروائح عطرة‬ ‫تضوع المكان ‪ ،‬ولمحت صليباً كبي اًر موضوعاً في‬ ‫أعالي واجهة الجدار األمامي ‪ ،‬وقد تجسد سيدنا‬ ‫المسيح مصلوباً عليه ‪ ،‬فأمعنت النظر فيه وأنا أقترب‬ ‫منه ‪ ،‬فرأيت أجفانه مسبلة ‪ ،‬كأنه غارق فى سبات‬ ‫عميق ‪ ،‬وثم هالة خلف رأسه ‪ ,‬كانت تشع ببريق‬ ‫‪90‬‬


‫ساطع ‪ ،‬وكأن وجهه قرص الشمس عند فجرها‪ ،‬وكأن‬ ‫إكليل الشوك الذي يطوق هامته تاج يذكره بآآلم الحياة‬ ‫‪ ،‬وما هذه اآلالم سوى الوسيلة التي تمزج روحه بالذات‬ ‫األلهية ‪.‬‬ ‫خشعت روحي لهذا المشهد الجليل ‪ ،‬وجلست على‬ ‫ركبتي ‪ ،‬وأنا أردد ( بسم هللا الرحمن الرحيم ) وشعوري‬ ‫بأني أحمل الصليب على كتفي مثلما حمله سيدي‬ ‫طع وكل قطعة منه قد‬ ‫المسيح ‪ ..‬وألن قلبي قد ق ّ‬ ‫سمرت على صليب ‪ ،‬ولذا أخال مصيبتي أفضع من‬ ‫مصيبة صلب سيدنا المسيح ‪ ،‬فهو قد تخلص من‬ ‫آآلمه بين ليلة وضحاها ‪ ..‬أما أنا فما زال الحزن‬ ‫يقطعني بسكينة صدئة ‪ ،‬وما برحت روحي تتأرجح بين‬ ‫الحياة والموت كطير يرافس بعد حزة في رقبته لم‬ ‫تكتمل ‪ ..‬كم أحتاج الى طلقة الرحمة لتريحني من هذا‬ ‫العذاب ‪.‬‬ ‫بقيت أقارن بيني وبين الروح القدسية ‪.‬‬ ‫وحادثت نفسي قائالً ‪:‬‬ ‫‪91‬‬


‫( ان أعمال سيدي المسيح قد بقيت من بعده ‪،‬‬ ‫وتداول البشر شريعته جيال بعد جيل‪ ،‬أما أنا فان جميع‬ ‫أعمالي وأتعابي أمست وقبض الريح ‪ ،‬وليتني لم أر‬ ‫الشمس )‬ ‫طفقت عيناي تترقرقان بالدموع ‪ ،‬وراحت غاشية‬ ‫تغشي نظري ‪ ،‬وحدقت صوب الصليب وسمرت‬ ‫مقلتاي هنالك في النور الفضي ‪ ،‬واذا بسيدي المسيح‬ ‫يفتح عينيه ويرنو صوبي ويبتسم لي ‪ ،‬وبعدها انحدر‬ ‫من أعالي الصليب الى االرض برشاقة النسيم ‪ ،‬وسار‬ ‫نحوي بتؤدة ‪ ،‬فإرتعشت من هول المشهد ‪ ،‬وأكثرت‬ ‫عيناي من ذرف أنهار الدموع ‪ ،‬وحين قاربني شعرت‬ ‫أني قد جمدت في مكاني ‪ ،‬وقد رفع أذيال مئزره‬ ‫االبيض بيده اليمنى ومسح دموعي المنهمرة وأنا في‬ ‫وجوم تام والدهشة قد نزعت روحي من جسدي ‪ ،‬أنظر‬ ‫الى محياه المشرق فتزداد لهفتي اليه شوقاً وانبها اًر‬ ‫وهيبة ورهبة ‪ ..‬ثم ازدادت ابتسامته سح اًر ‪ ،‬فشعرت أن‬ ‫أبواب السماء والجنان قد فتحت في وجهي ‪.‬‬

‫‪92‬‬


‫ورحت في نحيب أجش لم أفق‬ ‫انكفأت قرب قدميه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫منه اال على أشعة الشمس وهي تتسرب من الشبابيك‬ ‫الكبيرة وتنير القاعة ‪.‬‬ ‫رفعت رأسي ألنظر فاذا سيدي المسيح ما يزال‬ ‫وتلفت حولي‬ ‫على الصليب غارقاً فى سباته العميقة ‪،‬‬ ‫ُ‬

‫فاذا جمع من القساوسة على جانبي وخلفي يصلون‬ ‫بخشوع ومن بينهم الشماس واألب شاول ‪ ،‬برحت‬ ‫القاعة على عجل قبل ان ينهوا صالتهم وفي سريرتي‬ ‫إحساس قوي عميق ‪ ،‬بأني لم أخلق عبثاً ‪ ،‬وثمة حكمة‬ ‫في خلقي لم أفهمها ‪ ،‬لكن سيدي المسيح يفهمها جيدًا‬ ‫‪ ،‬وقد عبر لي عنها بابتسامة وطمأنني بمسح أدمعي ‪.‬‬ ‫أن وجودي ليكن تافهاً في نظري لكنه ـ ـ ـ ـ كما أشعر ـ ـ ـ ـ‬ ‫مهم في عين هللا ‪.‬‬ ‫أيتها األيام ولولي تحت أسترة المستقبل والطمي‬ ‫خدودك أيتها الليالي أسفاً وحسرة ‪ ،‬وأمض أيتها النفس‬ ‫باحداق تخرق الحجب ‪ ،‬وفتشي عن أيدي الزمن الذي‬ ‫استباح حرمات نجومك ولم يبق شيئا للخلود بعد أن‬ ‫‪93‬‬


‫غربل في عاصفة الفناء أعز ما تهوين ‪ ،‬وانسج أيها‬ ‫اللسان القصائد مواويل للموت ‪ ،‬واثمل أيها العقل‬ ‫المختل بخمرة موسيقى االكوان ‪ ..‬ألن طيور قلبي في‬ ‫السماء تطير بوحي افكاري‪ ،‬وزهور محبتي تعرق‬ ‫خجالً من شهوتي ‪ ،‬وتبقى االطياف تسبح في بحيرة‬ ‫قلبي تتراشق بالعواطف ‪ ،‬فيلثم الحنان الحقد ‪ ،‬ويقبل‬ ‫ذبت في إرادة الال إرادة ‪.‬‬ ‫االلم السعادة ‪ ،‬آنذاك ُ‬ ‫يوم رباني‬ ‫اليوم وأنا أعمل وأفكر شغلتني أفكار عديدة ‪،‬‬ ‫فكرت باألحياء كافة التي تعيش معظم حياتها فى‬ ‫صمت ‪ ،‬وتـنقل صغارها من مكان الى آخر بصمت ‪،‬‬ ‫وتعمل ليل نهار من أجل نيل قوتها بال وهن وبهدوء‬ ‫حتى أنها تتوالد وتتكاثر وتموت بصمت ‪ ،‬عكس‬ ‫االنسان الذي يعيش حياته بصخب منذ والدته حتى‬ ‫مماته ‪ ،‬حمدت هللا على أنه دفعني الى بقعة هادئة‬ ‫تدب‬ ‫بعض الشيء ‪ ،‬ألن خارج الكنيسة الناس‬ ‫ُّ‬ ‫والغوغاء تـنحت كيانهم الى أن تالشيهم وهم ال‬ ‫‪94‬‬


‫يشعرون ‪ ،‬غوغاء مرة من أجل المال الوسيلة التي‬ ‫انقلبت هدفاً وأخرى من أجل السعادة الكلمة الساحرة‬ ‫التي يسعى اليها االنسان منذ أن وجد على االرض ‪،‬‬ ‫لكن محال أن يجدها اال بعد الموت ‪ ،‬ومرة أخرى من‬ ‫أجل اللذة الجسدية التي ال تـنتهي اال في جوف القبر‪،‬‬ ‫وأخي اًر من أجل الطموح الزائف والمجد السرابي ‪.‬‬ ‫استرسلت بعملي في الحديقة الخلفية بجد ونشاط‬ ‫ألن عملي ليس من أجل المال وال من أجل المجد‬ ‫إنما هو من أجل باطل األباطيل ‪.‬‬ ‫جاءني القس يوسف مع مجموعة االطفال ‪ ،‬وطلب‬ ‫مني ما وعدته بتدريب االطفال على الزراعة ‪ ،‬أخذتهم‬ ‫الى ركن من أركان الحديقة وكنت قد قسمت المساحة‬ ‫الى عشرة اقسام متساوية وحددتها باللوائح المقرنصة ‪،‬‬ ‫وكان القس يوسف قد صنع لكل منهم علماً جميالً‬ ‫بلون مختلف عن اآلخر وكتب إسم الطفل بلون آخر ‪،‬‬ ‫وغرز كل طفل علمه بقطعة أرضه الزراعية ‪ ،‬وذهبت‬ ‫جلبت لهم مجارف خشبية صنعتها لهم‬ ‫الى غرفتي‬ ‫ُ‬ ‫‪95‬‬


‫خصيصاً مع بعض الحبوب المنوعة وسلمتها الى‬ ‫القس يوسف ليوزعها عليهم واخبرته أن يعلمهم كيف‬ ‫يقلبون التربة أوال ثم ينثرون الحبوب بعمق إصبع ‪.‬‬ ‫كان يوماً مشهوداً فقد رحت أعلم قسم ًا من‬ ‫االطفال والقسم اآلخر يعلمهم القس يوسف‪ ...‬وبعد أن‬ ‫إنتهينا سقينا األرض ‪ ،‬وفرح األطفال بذلك كثي اًر ‪،‬‬ ‫اغتبطت بمنظرهم وهم يعملون ‪ ..‬حتى انتهت ساعتهم‬ ‫و‬ ‫ُ‬

‫وذهبوا ‪.‬‬

‫وعند الظهيرة برحت الكنيسة ‪ ،‬وتوجهت صوب‬ ‫جامع من جوامع المسلمين وهنالك دلفت وكان المؤذن‬ ‫يردد كلمة (هللا اكبر) من أعالي المنارة ‪ ،‬فأحسست‬ ‫لصدى صوته عظمة رفعت روحي وحلقت بها في‬ ‫فصليت صالة الجمعة مع‬ ‫أجواء السماء االزوردية ‪،‬‬ ‫ُ‬

‫جمع غفير‪ ،‬مروضاً جسمي برياضة ربانية ‪.‬‬

‫وحينماعدت الى الكنيسة صادفني صديقي الشماس‬ ‫فبادرني سائال ‪:‬‬

‫‪96‬‬


‫ـ ـ ـ ـ أين كنت يا صديقي ؟ فاجبته بأني كنت في مسجد‬ ‫المسلمين أصلي ‪.‬‬ ‫فقال لي وعليه امارات الدهشة ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ولكنك لن تكون ذا دين معين ‪ ،‬وهذا لن يرضي‬ ‫الرب !‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ سوف يرضيه ألن إيماني به في أعماقي ‪ ،‬وما‬ ‫الدين سوى وسيلة ليه ‪ ،‬والتتنوع الوسائل فالهدف واحد‬ ‫أحد ‪ ..‬فال تتعجب فالفلسطيني أيوب زمانه ‪ ..‬سكت ‪،‬‬ ‫وافترقنا كل الى غايته ‪.‬‬ ‫وشعرت براحة عظيمة حينما استلقيت على ثيل‬ ‫الحديقة الخلفية ناظ اًر الى السماء مفك اًر باهلل بذاته‬ ‫السرمدية التي ال تدركها اال النفس السامية الكاملة ‪،‬‬ ‫أما الحواس فال تتمكن أن تحيط بهذه الذات العظيمة‬ ‫اال اذا وصلت لكمالها ونضوجها ‪ ،‬حينما تصير‬ ‫بسيطة كل البساطة ‪ ،‬وديعة كل الوداعة ‪ ،‬صغيرة فى‬ ‫عين ذاتها كل الصغر‪ ،‬هادئة لدى الخطوب واآلالم‬ ‫‪97‬‬


‫بهدوء مثالي ‪ ،‬وسمحاء مترفعة فى كافة الملمات‬ ‫والمغريات ‪.‬‬ ‫واذا بداخلي يثور تفكير آخر كأنه شخص آخر‬ ‫يحاورني قائال ‪:‬‬ ‫يلم بذات هللا‬ ‫ـ ـ ـ ـ يالك من ضعيف ‪ ،‬كيف تريد أن َّ‬ ‫انسان كما تصفه وهو أقرب الى الحيوانات االليفة‬ ‫الوادعة منه الى االنسان الذي اعطاه هللا العقل لكي‬ ‫يفكر مثله ويبدع مثله ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ولكن هنالك ش اًر يجب تجنبه واتباع الرب الذي كله‬ ‫خير ‪.‬‬ ‫كل شر تظنه أنما هو مكمل للخير‬ ‫ـ ـ ـ ـ ما أدراك أن َّ‬ ‫الذي ينقصك ‪.‬‬ ‫تعب عقلي وغفوت ‪.‬‬

‫‪98‬‬


‫يوم طفيلي‬ ‫كنت أمد أغصان العنب فوق المشبكات‬ ‫بينما‬ ‫ُ‬

‫فوجئت بتوافد الناس ودخولهم الى قاعة الكنيسة‬ ‫القمرية‬ ‫ُ‬

‫‪ ،‬مع العلم لم يكن اليوم من أيام اآلحاد ‪ ،‬وهم يرمون‬ ‫علي التحية و ُّ‬ ‫أرد عليهم واحداً واحداً رأيت األب شاول‬ ‫يخرج من غرفته مرتدياً مسوح القساوسة ويسير متوجه ًا‬ ‫سألت أحد القساوسة عما‬ ‫الى البوابة الخلفية للقاعة‬ ‫ُ‬

‫يحدث اليوم فأجابني اجتماع خاص مع مسيحيي‬

‫المنطقة ‪.‬‬ ‫قررت مع نفسي أن أتطفل على المجتمعين ‪،‬‬ ‫الرى ما فحوى االجتماع هذا وما جدواه ‪.‬‬ ‫ران صمت جليدي على الجميع بعد أن جلسوا‬ ‫بخشوع ‪ ،‬وجلس خلف الطاولة المقابلة الشماس وعدد‬ ‫من القساوسة ‪ ،‬رتل الشماس ترتيلة االجتماع ثم أردف‬ ‫قائال ‪:‬‬

‫‪99‬‬


‫ـ ـ ـ ـ يا حضرات األخوة الحضور ‪ ،‬دعوناكم لالجتماع‬ ‫ٍ‬ ‫حل لقضية أختنا جانيت ‪ ،‬هذه الفتاة (يشير‬ ‫من أجل ّ‬

‫لفتاة تجلس وحيدة في الطرف األمامي ) ابنة يعقوب‬ ‫السكرآن حيث تمادى والدها في شرب الخمر كل يوم‬ ‫وصار ال يميز بين الحالل والحرام فحاول االعتداء‬ ‫على عفاف ابنته الوحيدة عدة مرات في منتصف الليل‬ ‫‪ ،‬وقد حاولنا أن نزوجه بعد وفاة زوجته انقاذاً لسمعته‬ ‫وحال لمشكلته ولكن جميع عوانس الجالية رفضنه‬ ‫الدمانه على الخمرة بشكل مقرف ‪.‬‬ ‫وكم بعثناه الى مستشفى معالجة االدمان وكان‬ ‫كل مرة ‪ ،‬لذا جمعناكم من أجل تزويج ابنته‬ ‫يهرب منها َّ‬ ‫هذه وانقاذها من والدها الذي باع نفسه لشيطان‬ ‫الخمور ‪ ،‬فطالما جعلها تفر هاربة منه في ظالم الليل‬ ‫ملتجئة للجيران ‪ ،‬وكلكم يعرف هذه الفتاة الطاهرة‬ ‫االذيال العصامية النفس ‪ ،‬فمن لديه ابن يراه أهالً لها‬ ‫ويستطيع أن يتأهل بها فليبادر بطلب يدها وسيكون‬ ‫عمله هذا مخلداً في تاريخ الكنيسة‪ ،‬فمن منكم من‬ ‫يسارع الى هذا العمل الجليل ؟‬ ‫‪100‬‬


‫ورفع أحدهم يده قائال ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ أنا أطلب يدها البني ( آ ار ) وها هو معي ‪ ..‬يعمل‬ ‫بيديه ويكسب رزقه بعرق جبينه ويستطيع اعالتها معنا‬ ‫‪ ،‬ولعل هللا يرزقه أكثر على حظها ‪.‬‬ ‫ينهض شاب في مقتبل العمر قائالً ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ أنا أطيع أوامر أبي وأوافق على طلبه ‪.‬‬ ‫فدعا الشماس (آرا) و(جانيت) وأوقفهما أمامه‬ ‫ووضع رباطاً على يديهما المتصافحتين وق أر عليهما‬ ‫ترتيلة الرباط المقدس ‪ ،‬وباركهما على أن يتم زواجهما‬ ‫يوم االحد القادم بحضور جميع الناس ‪.‬‬ ‫بعد ذلك خرج الجميع وآ ار متأبطاً يد جانيت ‪ ..‬كم‬ ‫كانت فرحتي هذا الصباح وأنا أشم رائحة قلب العنب‬ ‫خرجت من قاعة‬ ‫وهو يتبرعم ليظلل العرائش ‪ ،‬ولكني‬ ‫ُ‬ ‫الكنيسة وكلي كراهية لروح العنب وما تسببه من تحطيم‬

‫للشرائع ‪.‬‬

‫‪101‬‬


‫يوم مفزع‬ ‫أيقظتني ـ ـ ـ ـ عند انبالج الصبح ـ ـ ـ ـ طرقات مسرعة‬ ‫على زجاج نافذتي ‪ ،‬ففتحت عيني ألرى من الطارق ‪،‬‬ ‫فاذا باألب شاول يطرق وقد إشرأب برأسه من شباكي‬ ‫المفتوح ناظ اًر الى وجهي بامعان شديد‪ ،‬نهضت فزعاً‬ ‫وفتحت له الباب بعد أن حياني وطمأنني بأن االمر‬ ‫ليس له أهمية ‪ ،‬وقال بعد أن دلف الى الغرفة ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ لنجلس يا سيدي الراهب لكي أروى لك حلماً حلمته‬ ‫قبل قليل وهو يخصك ‪.‬‬ ‫جلسنا على حافة السرير‪ ،‬واستطرد يقول ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ قبل أن يداعب سلطان االحالم أجفاني صليت ثم‬ ‫طلبت من الرب أن أرى في شريط أحالمي الحوادث‬ ‫التي مرت عليك وزعزعت حياتك ‪ ،‬وما أن صرعني‬ ‫الوسن حتى بدأت تراودني االحالم ‪ ،‬فشاهدت فيما يراه‬ ‫النائم أن فيضاناً كبي اًر قد عم البالد ‪ ،‬وأبصرتك كأنك‬ ‫النبي نوح تصنع سفينة فارهة لكي تقلك أنت وأطفالك‬ ‫‪102‬‬


‫وزوجتك لتنجو من هول الفيضان وقد أتممت صنع‬ ‫الفلك ‪ ،‬وحملت فيه عيالك ‪ ،‬وطلبت منك أن تحملني‬ ‫معك ولكنك أبيت بحجة أن الرب ال يرضى ‪ ،‬فركبت‬ ‫على حين غفلة منك ‪ ،‬وارتفعت المياه ‪ ،‬وحملت‬ ‫ال ‪:‬‬ ‫االمواج سيفنتك ‪ ،‬وكنت تخاطب هللا قائ ً‬ ‫( رب أني سأنقذ خلقك من الفيضان ‪ ،‬فمجدني‬ ‫وأنصرني )‬ ‫وحين بلعت االرض عصير السماء وظهرت اليابسة‬ ‫من جديد وحطت السفينة ونزلت أنت وبناتك وزوجتك ‪،‬‬ ‫ومضيت تصلي وتبتهل الى هللا وتقول ‪:‬‬ ‫( ها أنا أيها الرب المقدس قد أبقيت ذرية أبينا آدم ‪،‬‬ ‫فباركني ‪ ..‬فباركني )‪.‬‬ ‫وما أن انتهيت من كالمك حتى أصاب أفراد عائلتك‬ ‫مرض قاتل ‪ ،‬وراحوا يولولون ويئنون حتى لفظوا‬ ‫أرواحهم واحداً بعد اآلخر ‪ ،‬ولم يبق اال أنا وأنت ‪،‬‬ ‫لكنك لم تبصرني ألنني بقيت منزوياً عن أنظارك ‪ ،‬ال‬ ‫‪103‬‬


‫أدري هل رهبة منك أم احتراماً لرفضك أياي في بادىء‬ ‫األمر‪ ،‬فما أن عرفت أنت بمـوت كل أهلك حتى طفقت‬ ‫تـنتف شعــر رأسك ثم تذره للرياح وتخاطب السماء‬ ‫بغيظ قائالً ‪:‬‬ ‫( رباه ماذا جنيت لكي تسلب مني أعز ما لروحي ؟ )‬ ‫فاذا بصوت سماوي يجيبك قائالً ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ أتظن أيها االنسان الصغير أن عملك هذا عظيم‬ ‫ويجب أن يباركك عليه الرب ‪ ،‬ألم تعلم أن هلل قدرة‬ ‫على أي شيء غير موجود أن يقول له كن فيكون‬ ‫موجوداً ‪ ،‬أوتخال أنك ذو فضل على ابقاء نسل آدم ‪،‬‬ ‫ألم تعلم أن الفيضان لم يقض على االحياء كافة الن‬ ‫أحياء في جوف الماء وال حياة لها اال فيه ‪ ،‬وان هللا‬ ‫قادر على ان يطورها الى مخلوقات‬

‫برية ‪ ،‬فما‬

‫الحاجة ألهلك ‪ ،‬أما أنت فاستعد لمالقاة نهايتك فقد‬ ‫دنت ‪.‬‬ ‫وأجبت أنت مخاطباً السماء ببكاء جزع قائالً ‪:‬‬ ‫‪104‬‬


‫(واتعباه أيتها االرادة العجيبة أال الحقيني باهلي سريعاً‬ ‫فلم يبق من روحي اال النفس االخير) ‪.‬‬ ‫فرد عليك الصوت مرة أخرى ‪:‬‬ ‫ـــ‬

‫ليس هنا بل سر بعيداً وقدم روحك من أجل‬

‫اآلخرين ‪.‬‬ ‫ورحت تعدو وتعدو مبتعداً ‪ ،‬وحاولت أن أصرخ‬ ‫خلفلك مناديك للعودة ولكن دون جدوى فقد انعقد لساني‬ ‫‪ ،‬وبح صوتي ‪ ،‬واستيقظت قبل قليل وجئت راكضاً الى‬ ‫غرفتك لكي أطمئن عليك فقد راودتني ظنون كثيرة ‪.‬‬ ‫عجبت مما رواه األب شاول عن حلمه فقد كان‬ ‫يقارب قصتي من حيث المضمون ويشابهها من حيث‬ ‫الشكل ‪ ،‬ولكن ما معنى أن نهايتي تتم بعيداً ومن أجل‬ ‫اآلخرين ؟ ‪.‬‬ ‫وبعد أن خيمت علينا السكينة ووجم أحدنا في وجه‬ ‫اآلخر وقد شردت افكارنا تكلمت فقلت له ‪:‬‬

‫‪105‬‬


‫ـ ـ ـ ـ أنا أحس أن الهاتف محق فى تعيين نهايتي ‪،‬‬ ‫وأخالها قد أوشكت أن تقترب ‪ ،‬فاتركني أيها الصديق‬ ‫العزيز أفكر فيما رويت ‪ ،‬وساخبرك بحكايتي التي‬ ‫تتلهف لسماعها عن قريب ‪ ،‬فما سرد الذكرى المؤلمة‬ ‫بهينة علي اآلن ‪.‬‬ ‫اظلمت الدنيا في عيني واختفى كل ما هو جميل ‪،‬‬ ‫وبان شبح الموت في كل ما أبصر وما أفكر وما أحس‬ ‫حتى الشمس أمسى شعاعها أسود قاتماً ‪ ،‬وأن الطبيعة‬ ‫الملونة صارت موشحة بالسواد الحالك ‪ ،‬والسماء‬ ‫أبصرتها أغوا اًر من العدم ‪ ،‬حقاً أنه يوم صبغته أفكار‬ ‫عقلي بلون القار ‪.‬‬ ‫تمضي أزمنتي سارية في مهب الريح ‪ ،‬تقتات‬ ‫لحمي وتقضم عظامي ‪ ،‬أتمسك في قشة ‪ ،‬أحس أني‬ ‫أطير مع طيوري الصغار وكل العيون شاخصة نحوي‬ ‫‪ ،‬تبحث عن سري ‪ ،‬تبحث عن أمري ‪ ،‬تبحث عن‬ ‫مصيري ‪ ،‬كل قطرات العمر تنساب فى محيط الزمن ‪،‬‬ ‫فال موج وال تأريخ وال إسطـورة ‪ ،‬تحقق ذاتي المقهورة ‪،‬‬ ‫‪106‬‬


‫كل الليالي السود تخنق أغنيتي ‪ ،‬وكل صور الماضي‬ ‫تتساقط في جمجمتي ‪ ،‬تتوقف نبضات القلم من دهش‬ ‫‪ ،‬وأحس الروح تنساب في أقبية العدم ‪ ،‬ال صمتي‬ ‫عبر الهم عن معاناتي‬ ‫يغني ‪ ،‬وال صوتي يسعف ‪ ،‬لن ُي ّ‬

‫‪ ،‬فأنا بالهم أعرف ‪.‬‬ ‫يوم بخيل‬

‫مأل الدمع عيني وجرى ‪ ،‬ال أدري هل فرحاً ألني‬ ‫ذاهب الى بناتي وزوجتي عن قريب ‪ ،‬أم ألماً ألني‬ ‫سوف أموت وأنا ال أعرف ما خفايا الموت ‪ ،‬هل أنها‬ ‫عملية موت الروح والجسد ‪ ،‬أم هدأة الجسم االبدية‬ ‫وانطالقة الروح الى المجهول ‪ ،‬واألمر سيان فأنا‬ ‫سأتحرر عن ارادتي ألدلف ارادة العقل األعظم ‪،‬‬ ‫والمهم أن تجربة الموت عملية البد من دخولها بالنسبة‬ ‫للشيوخ أمثالي بصرف النظر عن النتائج ألننا مللنا‬ ‫الحياة الى أقصى حد ‪.‬‬ ‫كان القساوسة يمرون من أمامي ويسلمون علي‬ ‫حيث كنت جالساً تحت شجرة التين‪ ،‬وكنت في تفكير‬ ‫‪107‬‬


‫عميق ال يسعني أن أرد عليهم سوى بنظرة وابتسامة‬ ‫صغيرة مصطنعة ‪.‬‬ ‫رنوت الى أعالي الشجرة حيث بدأت كواكب التين‬ ‫منتفخة كنهود العذارى ‪ ،‬المعة في أشعة الشمس‬ ‫كالدرر‪ ،‬وانبرت نفسي تحدث التين قائلة ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ أيها التين ‪ ،‬أيها المقدس لدى الرب أنت والزيتون ‪،‬‬ ‫لقد سقيتك من معين الحياة حتى ارتويت وتغذيت‬ ‫قتلت الطحالب لكي ال تسرق غذاءك ‪..‬‬ ‫ونموت ‪ ،‬وكم ُ‬

‫وها أنا أتمنى أن تهبني بعضاً مما وهبتك‪ ،‬وتسمح لي‬ ‫أن أقطف تينة من بينك ؟ ‪.‬‬ ‫نقلت بصري مفتشاً ‪ ,‬ولمحت أنضج تينة قد انفلقت‬

‫قليال وسال الشهد المحلب يقطر من ثغرها ‪ ،‬وكانت‬ ‫فهممت أن أنهض وأرتقي‬ ‫معترشة غصناً عالياً ‪،‬‬ ‫ُ‬

‫لقطفها ‪ ،‬فاذا ببلبل يحط على ذلك الغصن وينقر تلك‬

‫التينة بمنقاره الدقيق وينهشها نهشاً حتى أتى على‬ ‫وبقيت أنظر‬ ‫معظمها ‪ ،‬وقد كان شديد الجوع كما يبدو‪،‬‬ ‫ُ‬

‫اليه بغبطة بالغة ‪ ،‬وقبل أن يبرح الغصن ‪ ،‬غرد‬ ‫‪108‬‬


‫أغرودة النصر ‪ ،‬خلتها مزمو اًر من مزامير داود مسبحاً‬ ‫للرب ‪ ..‬ثم سكت وطار محلقاً فى الفضاء ‪.‬‬ ‫ولم أتمن بعدها أية تينة ألنني فهمت ما كل ما‬ ‫نتعب فيه نجني ثمره ‪.‬‬ ‫جاء بعد قليل جمع من القساوسة وأخذوا يجنون من‬ ‫أردت أن أقطف لهم‬ ‫التين كل ما أيديهم تقربه وتصله‪ ،‬و ُ‬

‫بنفسي ‪ ،‬ولكنهم عارضوا ذلك بحجة أني شيخ متعب‬

‫والراحة لي أفضل ‪ ..‬وشعرت في قلبي ألماً وغبطة في‬ ‫آن واحد ‪ ،‬ألني عرفت أيضاً أن هذه الحياة تأبى أن‬ ‫أجني منها ثمار أتعابي ‪ ،‬حتى وأن كان الجني لغيري‬ ‫‪ ،‬وهذا ما جعلني أستخف من نظام الحياة ‪ ،‬وأعمل بال‬ ‫عقل وال قلب كآلة ال غير ‪.‬‬ ‫وتذكرت حينما كنت فى سوق من أسواق انكلت ار‬ ‫ُ‬

‫أيت يهودياً يبيع البرتقال وينادي أنه برتقال‬ ‫ور ُ‬

‫«اسرائيل» فكأنه طعنني في قلبي ألنني أشاهد البرتقال‬ ‫الذي زرعه أبي العربي في فلسطين يجنيه الصهاينة‬

‫‪109‬‬


‫َّ‬ ‫ويدعون أنهم زرعوه ‪ ،‬فيا ألتعابنا المسروقة والتي جنى‬ ‫ثمرها أعداؤنا ‪.‬‬ ‫أثبت‬ ‫وتذكرت كيف سخر الناس مني حينما‬ ‫رحت ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫لهم زيف دعاء هذا اليهودي الذي سرق أرضنا ‪.‬‬

‫أه لماذا أفتح باب كهف مشاعري الدفينة ‪ ،‬لماذا ال‬ ‫أوهم أحساسي بأن ال وجود لوجود ‪ ،‬ولكن هيهات فان‬ ‫حزة السكين ما زالت تخنقني ‪ ،‬وأرافس كطائر ذبيح ‪.‬‬ ‫أأهرب من ظلي ‪ ،‬أأهرب من قلبي ‪ ،‬أأشرد من‬ ‫مشاعري ‪ ،‬ربما يستطيع االنسان أن يهرب من أرضه‬ ‫ومن سمائه ولكنه لن يستطيع أن يهرب من نفسه ‪.‬‬ ‫وفجأة شعرت بباب كهف أعماقي يسقط ‪ ،‬فاذا‬ ‫بدوامة سوداء تلفني وتصرعني فأتدحرج في أعماقها ‪،‬‬ ‫واذا بي وجهاً لوجه مع ما كنت أخافه وأهرب منه ‪ ،‬أنه‬ ‫شبح االنتقام الذي يطاردني ‪ ،‬وطالما ابتعدت عنه‬ ‫مهروالً الى حد األفق ‪.‬‬

‫‪110‬‬


‫ماذا يريد مني ‪ ..‬أنه يسحبني ويدفعني ‪ . .‬لكي‬ ‫أذهب وأرجع كرامتي ‪ ..‬كرامة كل الفلسطينيين ‪.‬‬ ‫يوم بطولي‬ ‫صوتت صافرة االنذار‪ ،‬فجمدت الدماء في‬ ‫الشرايين ‪ ،‬واختبأت الطيور في أوكارها‪ ،‬ومنها من فزع‬ ‫شارداً تتالطم أجنحته في الفضاء ‪ ،‬وران سكون سريع‬ ‫‪ ،‬فال أصوات لحركة سير السيارات وال أصوات زقزقة‬ ‫عصافير توجه معظم القساوسة الى قاعة الكنيسة‬ ‫للصالة ‪ ،‬أما أنا فأسرعت مرتقياً الساللم المؤدية الى‬ ‫برج النواقيس ‪.‬‬ ‫من الشرفة المطلة على المدينة رأيت الناس فوق‬ ‫سطوح المنازل يراقبون السماء ‪ ..‬ولعلع الرصاص بقوة‬ ‫‪ ..‬واذا بسهام نارية تخترق جوف السماء ‪ ..‬مما‬ ‫أجبرت الطائرات على عدم الدنو من أهدافها ‪ ،‬واذا‬ ‫بصواريخ فضية يخرج منها ذنب دخان أبيض تالحق‬ ‫الطائرات وكل صاروخ يدخل طائرة يفجرها ‪ ،‬وراح‬ ‫الشعب يحسبها واحدة ‪ ،‬اثنتين ‪ ،‬خمس ‪ ..‬عجبت من‬ ‫‪111‬‬


‫الشعب العراقي البطل ‪ ،‬وعظم في عيني وأعاد لي‬ ‫الثقة بنفسي وبشعبي العربي ‪.‬‬ ‫كنا في أرضنا الحبيبة ـ ـ ـ من طائرة واحدة مهاجمة‬ ‫ـ ـ ـ نختبىء في كل االماكن الحصينة ان وجدت ‪ ،‬أما‬ ‫ما أراه فهو مذهل ولم يحدث قطعاً ال في زمان وال في‬ ‫مكان‪ ،‬الشعب قاطبة ـ ـ ـ ـ من صغار وكبار ـ ـ ـ ـ شيوخاً‬ ‫ورجاالً ونساء ‪ ،‬اعتلوا أعالي المنازل لكي ينظروا الى‬ ‫مشاهد تفجير الطائرات االيرانية المغيرة على بغداد ‪.‬‬ ‫عديدة الطائرات التي تساقطت ‪ ..‬أنها خسارة كبيرة‬ ‫اليران ‪ ،‬فقد جاءت باسطولها الجوي على مدينة وادعة‬ ‫تظن أنها ستسيطر بقوتها الجوية من هجمة مكثفة ‪،‬‬ ‫ولكنها مادرت أن بغداد ستكون مقبرة لطائراتها ‪..‬‬ ‫الناس يهتفون ويصفقون فرحاً بعد كل طائرة تنفجر في‬ ‫سماء بغداد ‪ ،‬كأنهم ينظرون الى لعبة كرة القدم ال الى‬ ‫معركة حربية ‪ ..‬اذ ربما شظايا االنفجار تودي بحياتهم‬ ‫‪ ،‬ولكنهم ال يبالون وال يخشون ‪.‬‬

‫‪112‬‬


‫ما أشجعهم ‪ ،‬لم أكن أخال حينما ارتقيت الساللم‬ ‫أني سارى الناس مثلي ال يبالون بحياتهم ‪ ..‬أنا من‬ ‫يأسي وهم من ايمانهم ‪.‬‬ ‫ما رأيته أدهشني فعالً ‪ ،‬وأعاد لي الثقة بشعبي‬ ‫العربي ‪ ،‬وااليمان بارادة الشعوب التي تصنع مصيرها‬ ‫‪ ..‬واال اردة عندما تبعث ستبعث األمة من جديد ‪.‬‬ ‫أي صيادين أرى ‪ ،‬وأية نسور تصاد ‪ ،‬وأية دقة‬ ‫تصويب ‪ ،‬وما أجله من مشهد ‪ ،‬ما رأيت مثله من قبل‬ ‫اال في األلعاب النارية أيام االعياد واالحتفاالت حينما‬ ‫تنطلق الصعادات الى السماء وتنفلق عن منظر‬ ‫زخرفي يبعث الفرح في النفس ‪ ،‬أما هذا المنظر فهو‬ ‫يبعث الفرح والرعب في آن واحد ‪ ،‬فما ألذ الرعب‬ ‫والفرح ‪ ،‬ألن امتزاجهما هو البطولة ‪ ،‬فما أسماها من‬ ‫لحظة حاسمة ‪ ،‬حيث يتعانق االنسان مع مصيره فأما‬ ‫أن يزول وأما أن يكون ‪ ..‬أنها حق ًا ارادة االنسان‬ ‫العراقي الجديد ‪.‬‬

‫‪113‬‬


‫يوم مادي‬ ‫جاءنا نبأ رجل يحتضر ‪ ،‬وهو ممن كنزوا من كنوز‬ ‫االرض القناطير المقنطرة ‪ ،‬فاسرع القساوسة الى قصر‬ ‫ذلك الرجل ‪ ،‬وحضروا وفاته وصلوا على جثمانه ‪ ،‬ثم‬ ‫نقلوه الى قاعة الكنيسة واقاموا له قداساً فخماً مشحون ًا‬ ‫بالعطور والزهور واالناشيد الحزائنية والتراتيل الدينية‬ ‫والموسيقى الجنائزية ‪ ،‬حتى نقلوه الى مثواه األخير‬ ‫بافخر سيارة موتى مخصصة لذلك ‪ ،‬وقد نالت الكنيسة‬ ‫من خيرات الرجل الكثير مما جعل القساوسة‬ ‫يتخاصمون حولها ‪ ،‬وراحوا يتهامسون على تقسيمها‬ ‫بينهم لوال وقوف الشماس واألب شاول لهم بالمرصاد ‪،‬‬ ‫حيث وضعا كل شيء في خزينة الكنيسة ‪.‬‬ ‫و مما َّ‬ ‫حز في نفسي ما عملوه حين مات رجل آخر‬ ‫في نفس اليوم ‪ ،‬وهو ال يملك من المال سوى أطماره‬ ‫البالية ‪ ،‬فتماطلوا فى دفنه ‪ ،‬وترك القساوسة األب‬ ‫شارل يقوم بتلك المراسيم وحده ‪ ،‬وكانت حجتهم أنهم‬ ‫متعبون من القداس السابق ‪.‬‬ ‫‪114‬‬


‫لتختلف مظاهر التشييع فالتراب واحد ‪ ،‬والحساب‬ ‫واحد ‪ ،‬ولن تنفع األغاريد والطبول ‪.‬‬ ‫ومما أثار موجـدتي مدن القبور عند المسيحيين‬ ‫والمسلمين ‪ ،‬حيث أمست تتسع وتمتد‪ ،‬حتى أنها‬ ‫ستشغل في المستقبل أرضاً أكثر من االرض التي‬ ‫يسكنها االحياء ‪ ،‬وما أكثر الموسرين المبالغين الذين‬ ‫يجعلون من أضرحة موتاهم عمارات فخمة وقصو ًار‬ ‫فارهة ‪ ..‬ليقدسوها في المستقبل ويمسون لها عابدين‬ ‫من حيث ال يشعرون ‪.‬‬ ‫كم بدأت أحن الى عادات الهندوس الذين يفضلون‬ ‫حرق الجسد ورمي رماده في النهر المقدس اذ أنه لن‬ ‫يشغل مساحة من االرض ‪ ،‬ولن يكون له مكان ثابت‬ ‫كي يزار ويقدس بل رماد الجسم يشغل الماء والسماء‬ ‫واألرض واألحياء ‪ ،‬ونحس به قريباً منا ‪ ،‬وبعيداً عنا‬ ‫في ٍ‬ ‫آن واحد ‪.‬‬

‫‪115‬‬


‫أال ليتقدس احتفال الهندوس ‪ ،‬فهو يساوي بين‬

‫الفقير والغني على ٍ‬ ‫حد سواء ‪ ،‬والمراسيم واحدة والمكان‬ ‫واحد والالمكان واحد أيضاً ‪.‬‬

‫أال لتحزني يا أرض والتطمي يا سماء والتصرخي يا‬ ‫شريعة هللا ‪ ،‬كم من أناس يعيشون على موت اآلخرين‬ ‫‪.‬‬ ‫يوم حالجي‬ ‫هرب إسبوعان من محيط الزمن األحدب ‪ ،‬وأنا على‬ ‫المنوال ذاته ‪ ،‬أحمل بقايا ثياب األشجار المتساقطة‬ ‫من أكتاف التوت والعنب ‪ ،‬ألرميها في توابيت النفايات‬ ‫يفر مسرعاً ‪.‬‬ ‫‪ ،‬ألن الخريف جاء مهروالً ‪ ،‬ويريد أن َّ‬ ‫بدأت بجز حشائش الحديقتين‬ ‫وهذا الصباح‬ ‫ُ‬

‫األمامية والخلفية بآلة الجز ‪ ،‬حتى تساوت بصورة‬ ‫مستوية ‪ ،‬وأضحت كبساط سندسي يفترش األرض ‪.‬‬

‫‪116‬‬


‫حقاً أنها آلة عادلة فقد ساوت بين الحشائش في‬ ‫الطول واالكتفاء بكمية الغذاء ‪ ،‬وجعلت الكل في عدالة‬ ‫النمو والبقاء والحياة ‪.‬‬ ‫وحينما أوت األطيار في قصورها ‪ ،‬وعال نعيق‬ ‫الغربان ‪ ،‬طفقت سمفونية الحشرات تعزف الحانها‬ ‫النشاز ‪ ،‬وبين الصرصرة والدردرة صارت األشجار‬ ‫كأشباح تتكلم بعد الغسق ‪.‬‬ ‫لت أن أتوسد األرض ‪ ،‬وأبقى طوال الليل راقداً‬ ‫فض ُ‬ ‫ّ‬

‫هنا مفترشاً هذه الحشائش الندية الغضة الطرية ‪ ،‬التي‬ ‫تعبق برائحة زكية ‪.‬‬ ‫وبعد أن إستلقيت ُخيل لي أن هذه األشباح تلتف‬

‫حولي ثم تحملني وتصلبني على جذع الشجرة ‪ ،‬ثم‬ ‫وقدمي ‪ ,‬وكأن صوت القص‬ ‫يدي‬ ‫أتت الغربان تقطع َّ‬ ‫َّ‬ ‫هو صوت الحشرات ‪ ،‬وسالت دمائي الى األرض ‪،‬‬ ‫الي بعيون المعة ‪،‬‬ ‫واحتشد الناس أمامي يتطلعون َّ‬ ‫صرخت من شدة األلم قائالً ‪:‬‬ ‫ُ‬

‫‪117‬‬


‫ـ ـ ـ ـ لماذا تصلبوني ؟ لماذا ؟ ‪.‬‬ ‫جاءني صوت كحفيف الرياح ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ألنك تتصبر مع هللا وتدعي بأن ألملك أكثر من‬ ‫ألم المسيح فنل جزاء الحالج ‪.‬‬ ‫انتبهت من هذا التخيل ‪ ..‬وكانت عيناي فائضتين‬ ‫ُ‬

‫بالدموع وتواردت الى ذهني هذه القصيدة ‪:‬‬ ‫وخيم الظالم‬ ‫أغرق في اآلالم‬ ‫يا أيها الحالج‬ ‫أنك أني‬ ‫أحس بالعذاب‬ ‫يا أيها المسيح‬ ‫الدم في الكون يصيح ‪:‬‬ ‫الرمل يخنق الجمال‬ ‫‪118‬‬


‫والقافلة تتيه والرجال‬ ‫تدفنهم غبراء‬ ‫فتزأر الرياح‬ ‫الدم قد ساح‬ ‫وتخرق الخناجر العظام‬ ‫أوردتي تسيح‬ ‫فيغرق الزحام‬ ‫وتعصف الريح‬ ‫أيا مسيح‬ ‫يسقط فوق االرض كفاي‬ ‫كورقتين في الرياح‬ ‫كنجمتين في الصباح‬ ‫أحس لذة االله‬ ‫ُّ‬ ‫‪119‬‬


‫هب العجاج قائال ‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫الموت يا حالج‬ ‫تخصف تحتي قدماي‬ ‫وترسم الدماء‬ ‫هللا يا هللا‬ ‫والفقراء‬ ‫قد سمعوا النداء‬ ‫فاحتلقوا بالذكر والمواء‬ ‫أيا خراف‬ ‫الموت منكم يخاف ‪.‬‬

‫‪120‬‬


‫يوم مجرم‬ ‫أيا يومي ما أنت يا يومي ‪ ،‬أغنوة نظمتها ورنمتها‬ ‫فسحرتني أم دمية كونتها فاستعبدتني ‪ ،‬أضحكة‬ ‫ضحكتها أم عبرة أرسلتها ‪ ،‬أسعادة أستعذبتها أم ألم‬ ‫قاسيته ‪ ،‬قد خلتلك حلماً وردياً فاذا أنت واقع كالح‬ ‫يطعنني بخنجره الصدىء ‪.‬‬ ‫تباً لك يا يومي الممل ‪ ،‬فما عملي في ساعاتك اال‬ ‫لكي أنسى دقائقك وثوانيك السامة ‪ ،‬فكم أمقتك يا يومي‬ ‫الكريه ‪ ،‬وكم أتمنى أن تكون شيئاً ال بداية لك وال‬ ‫أحس بك ‪ ،‬أعصر عمرك‬ ‫نهاية ‪ ،‬تحس بي أكثر مما ُّ‬ ‫أسرع مما تعصر عمري ‪.‬‬ ‫آه ما أكثر ما أريد ‪ ،‬أريد أن أتخلص منك في‬ ‫القريب العاجل ‪ ،‬لقد مقتك أعمق مما مقتني ‪ ،‬وكل‬ ‫شيء وصل حده انقلب ضده ‪ ،‬فأنا قد إجتزت حدودك‬ ‫فلماذا ال تنقلب وتتغير الى يوم آخر ليس فيه سماء وال‬ ‫أرض ‪ ،‬وليس فيه شمس وال قمر ‪ ،‬ال وال نجوم عالية‬ ‫بل نجوم قريبة تكونني وتحفني في آن واحد ‪ ،‬أتنفس‬ ‫‪121‬‬


‫في وأنا فيها ‪ ،‬نجوم ال نهاية‬ ‫من نورها ‪ ،‬وأحس بأنها َّ‬ ‫لها وال بداية ‪.‬‬ ‫أواه منك يا نبع السنين ‪ ،‬يا نبع النيران والحمم ‪،‬‬ ‫كنت أظن أن العزلة عن العالم طريق يوصلني الى‬ ‫باب الهرب من وجهك البشع ‪ ،‬لكن طال الطريق‬ ‫وتمدد الزمان ولم أصل ‪ ،‬ولم أهتد ‪.‬‬ ‫خلت أن العمل سلوى تشغلني في بوتقتها عن‬ ‫فخفقت ألنه كان بلوى‬ ‫التفكير بظلك الكثيف الثقيل ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ولم أدر ‪.‬‬

‫وأخي اًر عرفتك حق المعرفة ‪ ،‬فأنت مخلوق ال ترى‬ ‫والناس يدعونك الزمان ‪ ،‬والدهر‪ ،‬والوقت ‪ ،‬والليل‬ ‫والنهار ‪ ،‬لذا أنت جبار موهوب ‪ ،‬ولو تجسدت لكنت‬ ‫لفعلت بك مثلما قال المتنبي ‪:‬‬ ‫طوع البنان ‪ ،‬بل‬ ‫ُ‬ ‫الي شخصا‬ ‫ولو برز الزمان َّ‬ ‫لخضب شعر مفرقه حسامي‬

‫‪122‬‬


‫لذا سوف أغيرك بارادتي ‪ ،‬أنا االنسان ساتمرد‬ ‫عليك مثلما تمرد سيزيف على صخرته ‪ ،‬سأبدلك‬ ‫بنفسي ولن أخضع لك أكثر مثلما خضع لك الزهاد‬ ‫والمتصوفة ‪ ،‬لقد تعلمت من شعب العراق الدرس يجب‬ ‫أن أكــون ‪ ،‬يجب أن أثبت كينونتي ‪ ،‬يجب أن أقطع‬ ‫أيادي االخطبوط الذي شردني وخنق أهلي وشعبي‬ ‫الفلسطيني ‪ ..‬فأن أياديه تمتد على وطني العربي ‪..‬‬ ‫فويل له من الفأس العربية ‪.‬‬ ‫وبعد ذلك ليس مهم ًا أن أنتظر يومي أم ينتظرني ‪،‬‬ ‫أن أحبه أم أبغضه ‪ ،‬المهم سيكون اليوم الذي يحلو‬ ‫بعيني ‪.‬‬ ‫حنانيك يارب خذ بيدي الى باب الخالص من يومي‬ ‫المجرم ‪.‬‬

‫‪123‬‬


‫يوم مرتجف‬ ‫دنا مني األب شاول عند الظهيرة ‪ ،‬وراح يهمس‬ ‫في ذهني ‪:‬‬ ‫علي من جديد فهل‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ يا أبتي أن الشمس أشرقت َّ‬ ‫أدخل في التجربة ؟ ‪.‬‬ ‫ولم أفقه كالمه بادىء األمر ‪ ،‬فقلت له ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ أفصح عما ترمي اليه ‪ ،‬فأنا لم أفهم مقصدك ؟!‬ ‫فاجاب بح اررة ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ ألم تقل لي بأن الشمس سوف تشرق في قلبي من‬ ‫جديد ! وتذيب نهر العواطف المنجمد ؟ ! ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ أوه لقد نسيت ‪ ،‬باهلل أخبرني ما الذي جرى ؟‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ أن التجربة قد فتحت أبوابها في وجهي ‪ ،‬وأنا اآلن‬ ‫بين أن أجتاز عتبتها وأدلف في جوفها أو أتراجع الى‬ ‫الوراء مخافة الخطيئة التي أتوسل الى الرب في كل‬ ‫مرة أن يبعدني عنها ‪ ،‬فماذا أفعل ؟ ‪.‬‬ ‫‪124‬‬


‫قلت وأنا أبتسم له بإخالص ‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ـ ـ ـ ـ أن التجارب محك االنسان ‪ ،‬وأنا أخالف سيدنا‬ ‫المسيح في دعائي (ربنا أدخلنا في التجربة) حتى‬ ‫وصلت الى مكانة مرموقة ‪ ،‬وقبل المصيبة الكبرى‬ ‫ُ‬

‫التي حلت بعائلتي تركت ذلك ومضيت أردد ما قاله‬ ‫يسوع (ربنا ال تدخلنا فى التجربة)‪.‬‬ ‫وذا به يضعني في تجربة بشعة مخيفة هزت‬ ‫كياني وحطمتني تحطيماً كصخرة هشة انقضت عليها‬ ‫صاعقة ففتتّها ‪ ،‬فما عليك اال أن تقول فى صالتك‬ ‫(ربنا أدخلنا في التجربة األحلى واألجمل واألكثر لذة)‬ ‫وسترى النتائج الجميلة بعون هللا ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ لكن هذه التجربة ستجعلني أقع في حب فتاة‬ ‫تجيئني أيام الغفران وتعترف لي عن خطاياها ‪ ..‬وبما‬ ‫أني لم أجد لها خطيئة ‪ ،‬وأن ما تخاله خطيئة هو كبت‬ ‫وحرمان عاطفي ‪ ..‬أعاني أنا منه مثلما هي تعاني ‪.‬‬

‫‪125‬‬


‫ـ ـ ـ ـ ذاك ما كنت اتوقعه فكالكما محروم من اآلخر ‪،‬‬ ‫أال نعم التجربة ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ ولكني كما تعلم قد وضعت نفسي في خدمة الرب‬ ‫والكنيسة من أجل إصالح المجتمع ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ أن كل شخص من لمجتمع يحاول أن يصلح غيره‬ ‫وكم باألحرى أن يصلح نفسه ويكتمل أمام هللا ‪ ،‬وأرجو‬ ‫المعذرة فأن نبي المسلمين يقول (الزواج نصف الدين)‬ ‫معنى ذلك أصالح المجتمع ال يتم بيد انسان ناقص‬ ‫الدين ‪ ..‬أما الكنيسة فما أجبرت أحدًا في يوم من‬ ‫االيام على التقوقع في هيكلها ومحرابها لتكون له قب اًر‬ ‫بل بنيت للعبادة ونشر الخير على المجتمع ‪.‬‬ ‫صمت األب شاول كأنــه غرق فى تفكير عميق ‪،‬‬ ‫ورحت أنقل طرفي بين‬ ‫تركني دون أن ينبس بكلمة ‪،‬‬ ‫ُ‬

‫األزهار ‪ ،‬فأراها زاهية نضرة مبتسمة الحياة ‪ ..‬عندها‬

‫شعرت أن الكآبة بدأت تنقشع غيومها عن سماء روحي‬ ‫ُ‬ ‫واذا بسلطان القلوب يهدر في نفسىي قائالً‪:‬‬

‫‪126‬‬


‫ـ ـ ـ ـ إيه أيها الحب المقدس ‪ ،‬يا من ملكت الكيان في‬ ‫أقل سويعات العشق ‪ ،‬يا من جعلت الطيور تصدح‬ ‫بنشيدك الساحري ‪ ،‬يا من إنتشت الطبيعة بظاللك‬ ‫الملونة ‪ ،‬وأصبحت الورود محمرة الخدود ‪ ،‬خجلة منك‬ ‫أيها الحب ‪.‬‬ ‫االفراح واالهازيج ‪ ،‬والموسيقى واالغاريد ‪ ،‬والقصائد‬ ‫ينم عما بجوفك من‬ ‫واالناشيد جميعها غالف شفاف ُّ‬ ‫سعادة متنوعة ‪ ،‬فاالضواء تنير ما بداخل القصور‬ ‫والمنازل ‪ ،‬أما أنت فتنير النفوس المظلمة بشعاع من‬ ‫العاطفة ‪ ،‬فتجذل المحزون ‪ ،‬وتقهقر المتكبر‪ ،‬وتمسك‬ ‫بالوديعين فتطرحهم صرعى ‪.‬‬ ‫أيها الحب لوالك ‪ ،‬لوال وجودك لما خلق هللا االناث‬ ‫والذكور ‪ ،‬لما ظلوا عبيدك المطيعين ‪ ،‬فكما إستعبدت‬ ‫األحياء البهيمة إستعبدت االنسان العاقل ‪ ،‬فما أحلى‬ ‫عبوديتك فبها السالم والوئام ‪.‬‬ ‫أن قطرة الندى مهما كانت بعيدة عن البحر فهي‬ ‫حتما اليه سوف تعود إن عاجالً أو آجالً ‪.‬‬ ‫‪127‬‬


‫فمهما تبتعدي يا عواطف القلوب فأنك في بحر‬ ‫الحب ستصبي ‪.‬‬ ‫يوم جماهيري‬ ‫في الصباح سمعت ضجيجاً مدوياً ‪ ،‬عواصف‬ ‫من الهتافات مبعثها ساحة الطيران وحديقة األمة ‪،‬‬ ‫فتراكض القساوسة يتطلعون من االبواب والنوافذ ‪،‬‬ ‫تقيت الساللم‬ ‫لكني لم أفقه شيئاً مما يدور خارجاً ‪ ،‬فار ُ‬

‫اطللت‬ ‫المؤدية الى قبة أجراس الكنيسة ‪ ،‬ومن الشرفة‬ ‫ُ‬

‫على ساحة الطيران ‪ ..‬فاذا البشر قد تقاطروا كالسيل‬

‫العرمرم ‪ ،‬فال أرى سوى رؤوس كأنها أمواج بحر ثائر‪،‬‬ ‫تحمل نعوشاً أربعة كأنها زوارق تشق عباب الموج‬ ‫البشري ‪.‬‬ ‫تهادى الى سمعي صوت أحد القساوسة وهو‬ ‫يخاطب قساً آخر قائالً ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ أنهم يشيعون الشهداء ‪.‬‬

‫‪128‬‬


‫رجني في الحال ‪،‬‬ ‫كأني‬ ‫ُ‬ ‫مسست بتيار كهربي ّ‬

‫دهشت لجالل هذا التشييع وروعة هذا الموكب ‪،‬‬ ‫ُ‬

‫وأصابتني قشعريرة فاألصوات تضج علو السماء وترعد‬

‫المدينة بكاملها ‪ ..‬حقاً أن الشهداء يذكون روح الشعب‬ ‫‪ ،‬بل أنا أشعر أن الشهيد هو الذي يقود هذه الجموع‬ ‫في هذه اللحظة ‪ ،‬فما رأيت ـ ـ ـ منذ أن أحتل الصهاينة‬ ‫أرضنا ـ ـ ـ ـ جموعاً مثل هذه الجموع ‪ ،‬تحمل روح اإلرادة‬ ‫الفوالذية والعزيمة الحديدية ‪ ،‬إختنق قلبي وهبطت من‬ ‫عيني شالالت الـدمـوع ‪ ،‬ملتهبة حارقة ‪ ،‬فما زال‬ ‫للبطولة رجال وللخلود شعب ‪ ،‬ومازال العرب موجودين‬ ‫يقدمون دماءهم قرباناً للوطن الحبيب ‪.‬‬ ‫أنت عمالق أيها الشعب العراقي ‪ ،‬فلم أكن أتصور‬ ‫أن لي أمالً باسترجاع وطني المغتصب ‪ ،‬واالنتقام من‬ ‫الكالب التي قتلت أهلي واستحلت أرضي وسمائي‬ ‫ومياهي حتى أبصرت جموعك الهادرة ‪ ،‬جماهيرك‬ ‫المحتشدة ‪ ،‬فآمنت بقوتك وارادتك يا عمالق شعبي‬ ‫والثأر قريب ال محال ‪.‬‬

‫‪129‬‬


‫لقد كنت قبل اآلن بال عقل وال هدف ‪ ،‬وال أجد‬ ‫مبر اًر للبحث عن ذاتي في ذاتي ‪ ،‬اذ أنا تائه واألرض‬ ‫تضيق بي ‪ ،‬ونفسي يضعف ‪ ،‬آمالي تقتل آمالي ‪،‬‬ ‫وبحثي في مستقبلي جامد كجمود الصمت ‪ ،‬الدنيا‬ ‫تتحرك من حولي وأنا واقف أتفرج على مسرحها بألم ‪،‬‬ ‫اذ ليس لي دور فيها وال مكان ‪ ..‬ضائع ضياع التفاهة‬ ‫ال بعيداً ال يقترب ‪ ،‬وليس لي صبر على‬ ‫‪ ،‬أترقب أم ً‬ ‫ذلك ‪ ،‬اذ ال يوجد منفذ أنّفس به عما يجيش ويصطرع‬ ‫في داخلي ‪ ..‬االبواب فى وجهي مغلقة ‪ ،‬واذا استدرت‬ ‫فالحيطان تأكلني ‪ ،‬والزمان يعذبني ويسخر مني ال‬ ‫أدري أين أمضي وال أدري ممن أهرب وال أدري لماذا‬ ‫أتعذب بقية عمري ‪.‬‬ ‫لكن اليوم أشرق األمل في نفسي ‪ ،‬وصرت أعرف‬ ‫أن ال فرق بين من يضحي من أجل عائلته أو من‬ ‫أجل وطنه ‪ ،‬ربما من اجل الوطن التضحية أعظم‬ ‫والشهادة أروع لذا قررت أن أواجه عدو شعبي ‪ ..‬فأما‬ ‫أن أكون وأما أن ال أكون ‪ ،‬فالعراق بعث العزيمة في‬ ‫‪130‬‬


‫نفسي من جديد ‪ ،‬وعرفت أن النصر يأتي من همم‬ ‫الرجال ‪ ،‬وإيمانهم بقضيتهم ‪.‬‬ ‫يوم جذل‬ ‫تمنيت أن أرى األب شاول هذا اليوم فقد أضحيت‬ ‫ُ‬

‫متفرغاً من عملي ‪ ،‬لكن مع األسف واالسف ال ينفع ‪،‬‬ ‫فقد كان هذا اليوم بالنسبة له أرهق األيام ‪ ،‬فهو يوم‬ ‫للبشر أكثر مما هو للرب ‪ ،‬اذ ينشر فيه شذى انسانيته‬ ‫‪ ،‬ويبث فيه أمواج ابتساماته لتتكسر على شواطىء‬ ‫الوجوه ‪ ،‬ويعصر رحيق فكره ليروي صحارى العقول ‪،‬‬ ‫ويفتت جبال الجهل ‪.‬‬ ‫في الصباح عليه أن يبارك الوافدين والمغادرين بعد‬ ‫أن يعظهم النه اللولب الذي تعتمد عليه الكنيسة أيام‬ ‫االحاد خاصة ‪.‬‬ ‫أزمعت أن أنطلق الى البرية فالشوق الى رحابها قد‬ ‫َّبرحني ‪ ،‬والحنين الى هوائها الطلق قد َّ‬ ‫شفني ‪ ،‬وحب‬ ‫طبيعتها العذراء قد ملك كياني ‪ ،‬وفضلت أن أتوجهه‬ ‫‪131‬‬


‫شطر وادي دجلة حيث تحف روح هللا فوق مياهه ‪،‬‬ ‫كانت سماء بغداد قد استضافت قطعان السحب ‪..‬‬ ‫وبمقدمها قدمت النوارس العبة في سماء دجلة ‪،‬‬ ‫وكأنها ثلوج تطفو فوق مياه جارية‪ ،‬او كأنها رأس سهم‬ ‫يمرق في الفضاء ‪ ،‬القائد فى األمام والبقية تـنتظم خلفه‬ ‫‪ ،‬هندسة رائعة ‪.‬‬ ‫ما أن وصلت الى أردان المياه المعسولة حتى‬ ‫خطف فوق رأسي نورس صغير‪ ،‬وزعق بشـدة أجفلتـني‬ ‫بعض الشيء وأضحكتـني بعد ذلك ‪ ،‬ثم توجه الى‬ ‫منتصف مياه الضفتين ونزل على صفحة المياه‬ ‫الملساء والتقط سمكة وعاد بها بين منقاريه الجميلين‪،‬‬ ‫وحط عند الشاطىء بالقرب من موقعي ‪ ،‬وراح يرمقني‬ ‫بارتباك ‪ ،‬وفجأة تجمهرت النوارس عليه ليسرقوا غنيمته‬ ‫مزق الهدوء الرطب ‪..‬‬ ‫‪ ،‬وكانت أصواتها زعيقاً حلواً ّ‬ ‫فأية موسيقى وأي غناء وأي منظر ‪.‬‬ ‫وما أن توسدت األرض وأسندت ظهري لشجرة تقبع‬ ‫قرب الجرف حتى عاد ذلك النورس من جديد مارقاً من‬ ‫‪132‬‬


‫الي ‪،‬‬ ‫فوق رأسي رواحاً ومجيئاً كأنه يشعر بشيء يشده َّ‬ ‫مما جعلني أخال أن روح احدى بناتي قد عادت‬ ‫بتجسيد ٍ‬ ‫ثان وتقمصت جسم هذا الطائر المائي كي‬ ‫تلطف المياه ما كابدته من حريق النيران ‪ ،‬ولكن العودة‬ ‫والتقمص مجرد شعور فكري جميل إن صح ‪ ،‬وأكثر‬ ‫الطيور تعاني من ضعفها أمام الطبيعة المتوحشة ‪.‬‬ ‫كنت أحمل رغيفاً من الخبز القتاته متى ما طلب‬ ‫جسمي الديمومة ‪ ،‬ولكني قطعت الرغيف فتاتات‬ ‫وطفقت انثرهاعلى وجه الماء ‪ ،‬فهجمت االسماك تلتهم‬ ‫ما أرميه ‪ ،‬وأسرعت النوارس بدورها تصطاد السمك‬ ‫المخدوع ‪ ،‬وكان مشهداً حزنت له وفرحت في وقت‬ ‫واحد ‪ ،‬فيا لتعاسة الصراع من أجل البقاء ‪.‬‬ ‫مساء ‪،‬‬ ‫عدت الى حضيرتي‬ ‫تجممت‬ ‫بعد أن إس‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫والنوارس غادرت الشاطىء بدورها متجهة صوب‬ ‫البراري مبتعدة عن المدينة وعند دخولي الكنيسة التقيت‬ ‫األب شاول فحياني وحييته ‪ ،‬وبعد محاورة اعتيادية‬ ‫أخبرني أنه القى موعظة بعنوان ‪:‬‬ ‫‪133‬‬


‫( ربنا أما تبالي ) فذكرني الموضوع بذكريات دفينة‬ ‫حين كنت معلماً في مدرسة بيسان أدرس الوعظ الديني‬ ‫فطلبت من الطلبة ان يكتبوا تحت نفس العنوان أمانيهم‬ ‫وأمالهم وما يكابدونه من مشاق الحياة ويختموا‬ ‫الموضوع ( بربنا أما تبالي ) ‪.‬‬ ‫وعند إنتهاء الطلبة من الكتابة ‪ ،‬بدأت أدقق أوراقهم‬ ‫وعجبت من‬ ‫ورقة ورقة ‪ ،‬فلفتت إنتباهي إحدى األوراق‬ ‫ُ‬

‫كاتبها فقد غير الكلمة تبالي ‪ ،‬والتي معناها تهتم ‪،‬‬

‫واسترسل يكتبها‪ « ،‬تبلى » وقال في النهاية ( ربنا أما‬ ‫تبلى فقد بليت ) وكانت عباراته تقطر الماً وتـنزف‬ ‫تعاسة ‪ ،‬وجحوده على الحياة وتبرمه من المعيشة ال‬ ‫يوصفان ‪ ..‬وكلمة يبلى قاصدها بالمعنى القاموسي ‪:‬‬ ‫ر َّث وته أر من القدم ‪ ..‬وكان الوحيد الذي لم تـنفعه‬ ‫كلماتي ونصائحي ‪ ،‬ألن جرحه أعمق من أن تداويه‬ ‫أدوية الكالم ‪.‬‬ ‫لكني كتبت على ورقته هذه العبارة التي أذكرها ‪:‬‬

‫‪134‬‬


‫ـ ـ ـ ـ أنك حينما تموت ستـنظر روحك من عليائها الى‬ ‫هذه االحياء التي تحيا فوق الكرة األرضية ‪ ،‬فترثي في‬ ‫ذاتك حياتهم القاسية ‪ ،‬وتتمنى أن يجدوا طريقاً يجعل‬ ‫معيشتهم كمعيشة اإلله ‪ ،‬وتتحسر لو أنك تعود اليهم‬ ‫لتفهمهم معنى الوجود ‪َّ ،‬‬ ‫وتدلهم على خير السبل لجعل‬ ‫حياتهم سعادة وهناء ‪.‬‬ ‫يوم عاشق‬ ‫نشرت الشمس شعرها الذهبي على األفق الممتد‬ ‫فوق رؤوس االشجار‪ ،‬كانت روحي تتأرجح بين الظالم‬ ‫والنور‪ ،‬آه بدأت شيخوختي تحن الى السكون والظالم‬ ‫وتتكاسل عن حيوية الشمس ‪ ،‬لقد آن األوان ألرمي‬ ‫آخر طاقتي من أجل عمل عظيم ينفع شعبي‪ ..‬وأظن‬ ‫العودة الى أرض اآلالم أرض الجلجلة هي خير مكان‬ ‫ألنهاء وجودي ‪ ،‬سافكر بوسيلة للذهاب الى هناك من‬ ‫جديد ‪.‬‬ ‫برحت غرفتي وعقلي يرغم جسمي ارغاماً ‪ ،‬ألن ما‬ ‫أعمله تافه وقبض الريح ‪ ..‬اذ لم يكن عملي اليوم سوى‬ ‫‪135‬‬


‫فتح الحنفية ليتدفق الماء هارباً من االنبوب ويروي‬ ‫األرض ويتغلغل في الطبيعة التي هو روحها وهي‬ ‫جسده ‪.‬‬ ‫بينما أنا أقوم بالسقي ‪ ،‬لفتت أنظاري ظالل‬ ‫تتحرك وراء األشجار‪ ،‬وإسترعت إنتباهي همسات‬ ‫إنثوية رقيقة تميزت عن صوت آخر لصفائها ‪ ،‬وكان‬ ‫الصوتين خلف شجرة الرمان التي تألقت خضرتها‬ ‫وتدلى ثمرها ‪.‬‬ ‫وقدرت أن موقفهما فى هذا المكان ال َّبد أن يكون‬ ‫من أجل غاية ‪ ،‬فاغراني شيطان الفضول ‪ ،‬وإقتربت‬ ‫من الشجرة من حيث ال يبصراني ‪ ،‬وطرق سمعي‬ ‫صوت األب شاول وهو يقول ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ قلت لك أن حبنا ليس خطيئة ‪ ،‬وأنها سنة الرب‬ ‫والبشر من أقاصي األرض الى أدانيها يعشقون‬ ‫ويحبون ثم يتزوجون وينجبون ‪ ،‬وأن حبنا قد جبله‬ ‫الرب وساقته األقدار الى قلوبنا ‪ ،‬وليس هو من صنعنا‬ ‫بل هو من صنع موجه أرواحنا ووقلوبنا ‪.‬‬ ‫‪136‬‬


‫ال ‪:‬‬ ‫أجابه صوت إنثوي دافىء النغمة قائ ً‬ ‫ـ ـ ـ ـ لكن شعو اًر يخالجني بأني أدخل تجربة من‬ ‫تجارب الشيطان ‪ ،‬تجربة أخالها أم ًار فظيعاً وأحس من‬ ‫جرائها بأني عارية بين الناس ‪.‬‬ ‫فرد عليها األب شاول ‪:‬‬ ‫يمر‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ أنك تهولين األمر في مخيلتك ‪ ،‬ألن الحب ُّ‬ ‫عليك الول مرة فى حياتك لذا تخالينه تجربة صعبة‬ ‫مخيفة ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ ولكن ماذا سيقول القساوسة أو الناس علينا ؟ حتى‬ ‫الكنيسة ستغضب علينا ! ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ إن كانت الكنيسة ترضى على المجتمع أوتغضب‬ ‫منه فاألحرى بها أن تغلق أبوابها ألنها لم تقم من أجل‬ ‫ذلك بل أنها دار عبادة المجتمع لتعظيم الرب ‪ ،‬وأن‬ ‫زواجنا هو مجاراة للعرف السائد ولسنة الحياة ‪ ،‬فمالنا‬ ‫والقساوسة والناس ‪ ،‬نحن نرضي الرب بعملنا وليذهب‬ ‫الى الجحيم كل من يعارض مشيئة الرب ‪.‬‬ ‫‪137‬‬


‫لحظتـئذ اقتحمت موقعهما وبرزت أمامهما ‪ ،‬فجفلت‬ ‫الفتاة لظهوري المفاجىء ‪ ،‬لكني بددت تأثير المفاجأة‬ ‫وقلت بسرعة لهما ‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ـ ـ ـ ـ أنا أول الموافقين وأول المباركين وأرجو المعذرة‬ ‫لتطفلي ‪.‬‬ ‫إبتسم األب شاول ‪ ،‬وران صمت غريب ‪ ،‬بدده‬ ‫األب شاول مقدماً الفتاة لي ‪ ،‬ومقدمني للفتاة ‪ ،‬وعرفت‬ ‫اسمها (كلودا) وهي فتاة هادئة خجول ‪ ..‬طويلة القوام‬ ‫‪ ،‬ذات وجه أبيض مشرق دقيق التقاسيم عدا عينيها‬ ‫الزرقاوتين الكبيرتين ‪ ،‬فتكاد الحالوة والنور أن يسح ار‬ ‫الناظر اليها ‪ ..‬وكنت قد رأيتها سابقاً بكياستها‬ ‫ورصانتها حينما كانت تمر مع عائلتها مجتازة الحديقة‬ ‫قلت حتى‬ ‫فتسبقهم بالتحية علي ‪ ،‬وما أن سمعت ما ُ‬ ‫أطرقت الى االرض بحياء وأسبلت أجفانها الطويلة ‪.‬‬

‫أضفت الى قولي لهما ‪:‬‬ ‫و ُ‬

‫‪138‬‬


‫ـ ـ ـ ـ يا أبنائي أن الحياة قد فتحت ذراعيها لكما‬ ‫لتحتضنكما أيها المتقوقعين تحت جسديكما ‪ ،‬ولتريكما‬ ‫معالمها ‪ ،‬فاسرعا اليها قبل أن يعتريكما الندم مدى‬ ‫العمر‪ ،‬والت ساعة مندم ‪.‬‬ ‫إستأذنت الفتاة وغادرت المكان متذرعة بذهابها الى‬ ‫ونظرت لألب شاول وشاهدت شروده‬ ‫مكتبة الكنيسة ‪،‬‬ ‫ُ‬

‫فقلت له ‪:‬‬ ‫وقرأت أفكاره ُ‬

‫ـ ـ ـ ـ أيها األب الشجاع لم ال تسرع في الزواج بعد أن‬ ‫علمت بحبها لك في أشده وحبك لها في اقواه ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ هذا ما نرمي اليه قبل قليل ‪ ،‬ولكننا ال نعرف‬ ‫كيف نبدأ فهي خائفة ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ لم ال تذهب الى صديقك المطران وتخبره األمر‬ ‫الواقع بصراحة‪ ،‬فهو انسان طيب متحرر الفكر ‪،‬‬ ‫فسيبذل قصارى جهده في سبيل تحقيق ما تصبو اليه ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ سأجازف يا سيدي الراهب فهو الحل الوحيد ‪.‬‬

‫‪139‬‬


‫تركني ورأيته يتوجه صوب مكتب المطران ويدلف‬ ‫فيه ‪ ،‬وتمضي مدة ويخرج ليعود بالفتاة كلودا الى‬ ‫المكتب ‪ ،‬وراحت االنفعاالت تصطرع في داخلي ‪ ،‬وأنا‬ ‫أدعو مخلص ًا أن يساعدهما هللا ويمهد لهما طريق‬ ‫الزواج والسعادة ‪.‬‬ ‫وحين خرجا كانت تنطلق من وجهيهما فراشات‬ ‫البشارة واشراقة الفرح ‪.‬‬ ‫وبعد أن َّ‬ ‫ودع األب شاول الفتاة كلودا التي‬ ‫غادرت الكنيسة ‪ ..‬جاءني وهو يحمد هللا ‪ ،‬ثم طبع‬ ‫قبلة على جبيني وهو يقول ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ أنك قديس ‪ ،‬أنت النور الذي هداني الى نور هللا ‪،‬‬ ‫ولن أنسى لك ذلك ‪.‬‬ ‫ثم ذهب وأنا أستغفر الجليل والدموع تترقرق في‬ ‫عيني من كثرة الفرح بسعادتهما المرتقبة ‪.‬‬

‫‪140‬‬


‫يوم ذهبي‬ ‫ما أسرع إنسكاب األفراح في النفس البشرية حتى‬ ‫ليكاد المرء أن يحلق بأجنحة طير للوصول الى غايته‬ ‫‪ ،‬فعندما إستيقظت عذراء السماء ‪ ،‬برح األب شاول‬ ‫الكنيسة متوجهاً صوب عائلة خطيبته (كلودا) للحصول‬ ‫على الوثائق الرسمية لعقد القرآن ‪ ،‬ذهب عاجالً وجاء‬ ‫بعد ساعة ‪ ،‬وقدم األوراق لمقر األبرشية ‪ ،‬وطلب مني‬ ‫أن أشهد عرسهما الذهبي عصر هذا اليوم ‪.‬‬ ‫ولجت القاعة وقد سبقني الجميع باشعال شموع‬ ‫ُ‬

‫الفرح ‪ ،‬وإنتظرنا حتى حضر الكاهن ومعه مطران‬ ‫األبرشية ‪ ،‬وتقدم األب شاول مع الفتاة وبجانبهما والد‬ ‫الفتاة وأمها ووقف الجميع أمام الكاهن الذي وضع‬ ‫رباطاً على يديهما المتصافحتين وباركهما بالصليب ‪،‬‬ ‫وبعد أن أعلن وكيال الخطيبين رضاهما التام بحضورنا‬ ‫‪ ،‬تال الكاهن صالة البركة على الخاتمين ‪ ،‬ووطلب‬ ‫من العريس والعروس أن ُيلبس كل منهما اآلخر خاتم‬ ‫الزواج ‪ ،‬وباركهما بالدعاء ‪.‬‬

‫‪141‬‬


‫خرج العروسان ونهالت عليهما حبات الرز والورود‬ ‫من قبل الحاضرين ‪ ،‬وركبا السيارة الى الشقة التي‬ ‫أعدها األب شاول ‪ ،‬وهكذا عدت الى صديقتي الحديقة‬ ‫ساعدت في إتحاد‬ ‫وأنا أحس بسعادة تغمرني ألني‬ ‫ُ‬ ‫روحين لطيفين إكتمال أمام هللا ‪.‬‬

‫حقاً أن الهوى خميرة كروم معتقة يثمل بها‬ ‫المحبون كلما مألوا قلوبهم بها ‪ ،‬فتـنفتح لهم أبواب‬ ‫الخلود عن جنائن الفيروز ولحظة القوس قزح ‪،‬‬ ‫فيهيمون في سحب اللذة ‪.‬‬ ‫الحب كالنبات ينمو ويترعرع تحت أشعة الشمس‬ ‫وال يعيش في الظالم ‪ ،‬وإن عاش في الظالم فقد لونه‬ ‫ومات تدريجي ًا ‪ ،‬وشمس المجتمع المتحجر تحرق هذا‬ ‫الحب بلهيب تخاله مبيداً له ‪ ،‬وهو مغذ جيد للحب ‪،‬‬ ‫مثلما النار الممتدة على القصب تزيد من إنتشار‬ ‫القصب من جديد ‪.‬‬ ‫يا شمس المجتمع أشرقي وافضحي غرام المحبين ‪،‬‬ ‫فأن شعاعك الذهبي خيوط تلف قلوب المحبين‬ ‫‪142‬‬


‫كالشرنقة ‪ ،‬وعند االكتمال تتمزق وتتقطع هذه الخيوط‬ ‫وتنطلق فراشة الرباط المقدس زاهية بألوانها ‪ ،‬ساحرة‬ ‫برفيفها ‪ ،‬وأن فراشة الزواج ال تطير إال بجناحين‬ ‫كبيرين هما المحب والمحبوب ‪ ..‬ولتتقدس شمس‬ ‫المجتمع إذن ‪.‬‬

‫يوم القرار‬ ‫أمست سيدتي الحديقة مكتفية ال تحتاج بعد اآلن‬ ‫الى أية مساعدة ‪ ،‬فبعض أشجارها قد تعرت من ثيابها‬ ‫وراحت تستحم عند كل زخة مطر‪ ،‬وبعضها االخر‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫بت ما طال ‪ ،‬فال‬ ‫مت وشذ ُ‬ ‫يغتسل ليجلو ثيابه ‪ ،‬وقد قل ُ‬

‫عمل لي بعد اآلن ‪ ،‬ألن السماء بدأت تخدم االرض ‪،‬‬

‫يا لهول الملل الذي دب في نفسي ‪ ،‬وراح الضجر‬ ‫يعصف في كياني ‪ ،‬ففكرت أن أودع الكنيسة فلم يعد‬ ‫لي عمل بها ‪ ،‬فما وجودي طيلة هذه المدة بين‬ ‫أحضانها اال لمراجعة النفس وانتظار المقدور‪ .‬وبما أن‬ ‫الوطن العربي صار مهدداً كله فال وقت للتفكير‬ ‫‪143‬‬


‫بخصوصيتي بعد اليوم وقضيتي صارت قضية كل‬ ‫العرب لذا قررت أن أعود الى أرضي ‪.‬‬ ‫وقررت أيضاً أن أكتب قصتي في أواخر المذكرات‬ ‫في نفس الوقت الذي غادرنا به األب شاول ‪ ،‬ألنني‬ ‫أزمعت أن أسلم هذ المذكرات ـ ـ ـ ـ قبل أن أغادر الكنيسة‬ ‫ـ ـ ـ ـ الى األب شاول حين يع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـود الى الكنيسة بعد ان‬ ‫ينتهي من عقد االكليل فهو أحق بها ‪ ،‬وفيها سيعرف‬ ‫حكاية حياتي التي طالما اشتاق لسماعها ‪ ،‬وبذلك‬ ‫سيعرف مشاعري نحوه ‪ ،‬ويتذكرني كلما يق أر هذه‬ ‫علي ‪ ،‬وأنا‬ ‫المذكرات ‪ ،‬وربما لن تسيل من عينيه دمعة َّ‬ ‫ال أريد ذلك منه ‪ ،‬ولكني على يقين أن خفقة من‬ ‫خفقات قلبه ستنهصر شوقاً وحنيناً حينما يتذكرني ‪.‬‬ ‫ما وداعي للكنيسة اال وداعي للحياة التي مللتها‬ ‫أخي اًر الى الحد الذي ساحمل روحي على كفي وأرميها‬ ‫بوجوه قتلة أهلي وشعبي كما االطفال حينما يرمونهم‬ ‫بالحجارة ‪.‬‬

‫‪144‬‬


‫وليعلموا أن سلبهم ألرضي ستكون مقبرتهم فيها‪ ،‬وإن‬ ‫أخفقت فاألجيال القادمة ستنجح في إستردادها بعون‬ ‫أنا‬ ‫ُ‬ ‫هللا ‪.‬‬

‫‪145‬‬


‫ق ـص ــةُح ـيــات ــي‬

‫ُ‬

‫ُ‬

‫ليكن لك قلب حتى تق أر هذا القلب‬

‫‪146‬‬


‫مرحلة الطفولة‬ ‫تمخض رحم الطبيعة ‪ ،‬وتهادت دقات نواقيس‬ ‫الكنيسة ‪ ،‬واختلطت مع آذان المؤذنين عند أول خيط‬ ‫من شعاع الفجر إعالناً عن إنتصار الحياة على‬ ‫الموت وبقاء ديمومتها األبدية ‪.‬‬ ‫كانت والدتي ـ ـ ـ كما أخبرني جدي ـ ـ ـ ـ في اليوم‬ ‫الذي ظهر فيه مذنب إقترب من األرض وأفزع العالم‬ ‫وكل المخلوقات عام ‪ ،1910‬وجاءت والدتي من أبوين‬ ‫فلسطينيين عربيين في مدينة بيسان الواقعة على‬ ‫الغور‪.‬‬ ‫عرفت أن ألم المخاض ما هو اال تنفيذ حك ٍم على‬ ‫ما جنته المرأة من لذة ‪.‬‬ ‫هاجر والدي الى أمريكا بعد أن أغروه اليهود بذلك‬ ‫‪ ،‬وأودع والدتي لدى أهلها في قرية (االشرفية) وهي‬ ‫حامل بي ‪ ،‬وانقطعت أخباره عنا ‪ ،‬مما أدى الى مرض‬

‫‪147‬‬


‫والدتي واصابتها بالذبحة الصدرية ‪ ،‬وودعت الحياة ‪،‬‬ ‫وأنا في الخامسة من عمري ‪.‬‬ ‫عرفت توها أن الموت هو تحرر الروح من الجسد ‪.‬‬ ‫كان ذلك في شتاء بارد كثير الثلج والضباب ‪ ،‬حتى‬ ‫أني مازلت أذكر ذلك الضباب المعتم ووجه والدتي‬ ‫يخرج من خالله كلما أشاهد مثله في الواقع وفي‬ ‫االحالم ‪ ،‬أتألم ألن الدهر طعنني منذ صباي ‪ ،‬منذ أن‬ ‫وعت عيناي الدنيا ‪ ،‬وشعرت أني صرت عارياً ال أجد‬ ‫فقدت والدتي ‪ ،‬وكنت أفكر أنها‬ ‫الدفء والحنان منذ أن ُ‬ ‫هربت مني وتركتـني وحيداً في هذه الدنيا ‪.‬‬

‫أحسست أن السماء إختفت زرقتها وخيم الظالم في‬ ‫كل مكان ‪ ،‬وال أرى سوى الليل والكآبة والدموع ‪،‬‬ ‫والضياع ‪ ،‬فأية طفولة طفولتي ‪.‬‬ ‫علمت أن لي جدا قالوا عنه أنه رجل دين يعيش في‬ ‫ُ‬

‫مدينة بيسان حيث تقع على بضعة أميال بالشمال‬ ‫الشرقي لقريتي ‪ ..‬وسوف أكون بعهدته عن قريب كما‬ ‫‪148‬‬


‫فضت ذلك ولكن زوجة خالي‬ ‫أخبرني خالي ‪ ..‬ر ُ‬

‫افقت على الذهاب ‪.‬‬ ‫أصرت ولم أكن أودها ‪ ..‬فو ُ‬

‫تعلمت أن قرابة األب أقوى خيمة من قرابة األم‬ ‫ُ‬

‫وهي البديل الحقيقي للحنين الى الرحم العائلي ‪ ..‬كانت‬ ‫الطرق انذاك غير صالحة للتـنقل ‪ ،‬فبقيت في بيت‬ ‫خالي يواسيني ولكن كيف يكون للمواساة فائدة وأنا كلي‬ ‫احساس بالضياع ‪.‬‬ ‫مرت أيام اإلنتظار كدهر ثقيل على صدري حتى‬ ‫ذاب الثلج وأصبحت الطرق صالحة للتـنقل ‪ ،‬فحملني‬ ‫خالي على حمار مع بعض أمتعتي وراح يقود الحمار‬ ‫في طرق وعرة متسعة حيناً وضيقة أحياناً ‪ ،‬وتعلو‬ ‫وتهبط بين أرض خضراء حيناً وحمراء أكثر االحيان‪.‬‬ ‫خرجنا عند الفجر ووصلنا مدينة بيسان ظه اًر ‪ ،‬بعد‬ ‫أن أنجزنا عملية تعذيب ذلك الحيوان الذي ال يمت‬ ‫لمشاكلنا بأدنى صلة ولكننا استضعفناه فعذبناه ‪.‬‬

‫‪149‬‬


‫وما أن سألنا أول شخص صادفناه حتى قادنا الى‬ ‫ال وقو اًر مهاب ًا جميل الطلعة‬ ‫بيت جدي ‪ ،‬رأيناه رج ً‬ ‫نورانيها ‪ ،‬وما أن أبصرنا ندلف بيته حتى قام لنا هاش ًا‬ ‫باشاً ‪ ،‬وراح يوسعني ضماً ولثماً بعد أن لمح في‬ ‫تقاسيمي صورة أبي ‪ ،‬وحملني بين يديه كأني سعفة‬ ‫صغيرة يلوح بها في الفضاء قال ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ أنا أنتظر قدومك منذ أن سمعت بوفاة والدتك ‪،‬‬ ‫ألعن اليوم الذي‬ ‫أنجبت فيه إبناً‬ ‫ُ‬ ‫هللا يرحمها ‪ ،‬لكني ُ‬ ‫عاقاً كأبيك ‪.‬‬

‫بعد يومين أنست به ‪ ،‬وتركني خالي ـ ـ ـوالدموع‬ ‫تقطر من عينيه ـ ـ ـ في عهدة جدي ورحل بكيت خلفه‬ ‫دون شعور ‪.‬‬ ‫كنت كمطر نزل على أرض قاحلة فاحياها ‪ ،‬اذ‬ ‫ُ‬

‫بعد أيام قالئل عم الخير بيت جدي الشيخ ( الحاج‬

‫كما ينادونه اكر ٍ‬ ‫اما لمنزلته الدينية) فقد انهالت عليه‬ ‫العطايا والهدايا أكثر من أية سنة مرت ‪ ،‬وعرفت أن‬ ‫هذه السنة كانت تعبر عن قوة االنسان في إستخراج‬ ‫‪150‬‬


‫كنوز االرض وتسخير الطبيعة لصالحه ‪ ،‬وما تغيرت‬ ‫السنة مرة اال لضعف قابلية االنسان ‪.‬‬ ‫كان جدي يقول لي دائما وعلى وجهه اشراقة‬ ‫ابتسامة عريضة ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ لقد اكتمل حظي بمقدمك يا ابني ‪.‬‬ ‫وكنت ال أفقه معنى الحظ آنذاك ولم أسأل عن‬ ‫فحواه ‪ ،‬وما أخاله اال شيئاً جميالً مفيداً ‪ ،‬وهذا ما‬ ‫أدخل في قلبي البهجة والسرور‪ ،‬فأضحك وأطبع قبلة‬ ‫على يده ‪.‬‬ ‫وخالل أيام قالئل زالت أحزاني وكآبتي بعض‬ ‫الشيء ‪ ،‬حتى أني لم أشعر بانتقالي الى بيت ال أعرفه‬ ‫بل الى منزلي وأهلي ‪ ،‬ووجدت تعويضاً عن حنان أمي‬ ‫وكنت‬ ‫لدى رجل يحبني كابنه بل أكثر من نفسه ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫سعيداً كل السعادة بعائلتي الجديدة اذ لم يكن مع جدي‬

‫سوى زوجته لثانية العقيم ألن جدتي األولى تركت له‬ ‫أبي وعمتي التي هاجرت مع زوجها أيضا ‪ ،‬بقيت‬ ‫‪151‬‬


‫طوال المدة أنادي زوجة جدي بـ (ستي) ولم أستطع أن‬ ‫أناديها بجدتي أبداً ‪ ،‬فتباً لي ما أبخلني بالقاب التكريم‬ ‫آنذاك ‪.‬‬ ‫الزمت جدي في ذهابه وايابه ‪ ،‬يتجه الى البستان‬ ‫صباحاً ويمر بالسوق في العاشرة ويجلس عند بعض‬ ‫أصدقائه ويعود الى الدار ظه اًر أحمل معه أكياس‬ ‫الطعام ‪ ،‬وتكون ستي قد أعدت مائدة الغذاء‪ ،‬ويجلسني‬ ‫بجانبه يقدم لي ما لذ وطاب ‪ ،‬ومثل ذلك في العشاء ‪.‬‬ ‫عرفت أن الطعام الذي تقدمه لنا األرض هو بداية‬ ‫المنفعة المتبادلة بين األرض واالنسان ‪ ..‬وسوف يصل‬ ‫الجسم الحد الذي تسترد األرض منه ما قدمته له ‪.‬‬ ‫تعلمت من أصــدقاء جدي الشيء الكثير حينما‬ ‫ُ‬

‫يتـنادرون ويتفكهون بشتى األحاديث ويتسامرون ليالً‬ ‫في دار جدي وأنا أستمع مرة اليهم ومرة أشاركهم في‬ ‫إستمعت‬ ‫أحاديثهم ويشجعوني على سرد الحكايات التي‬ ‫ُ‬

‫لها ويستعذبون طريقتي بعرضها ‪ ،‬وينتبهون الى أشياء‬ ‫لم يذكروها ‪.‬‬ ‫‪152‬‬


‫فعال كان ديوان جدي مدرسة حرة متنوعة مشوقة ‪.‬‬ ‫مرحلة اليفاعة‬ ‫دخلت مدرسة الديار فى بيسان وما شعرت‬ ‫بانتهاء سني الدراسة‪ ،‬مع العلم أني كنت أحبذ العزلة‬ ‫فال أشارك األطفال لعبهم ومرحهم ‪ ،‬وأجلس عند جذع‬ ‫شجرة التفاح وقت الفسح الزمنية ‪ ،‬فقد كان عقلي أكبر‬ ‫شعرت بالسعادة اال مع الكبار حيث‬ ‫من لعبهم ‪ ،‬وما‬ ‫ُ‬ ‫أحس بمتعة بالغة فى كالمهم ‪.‬‬

‫كان الشتاء في بيسان طويالً ممالً وكنت أمقته إذ‬ ‫أنه يقلل من حركتنا وحيويتنا ويمنعنا من النزهة ‪ ،‬وهو‬ ‫قارس جداً ‪ ،‬ونبقى خاملين مختبئين في عقور دورنا‬ ‫خاصة اذا تعطلت الدراسة ‪ ،‬وضباب الوادي يمأل‬ ‫الغور وحينما أحاول النظر خالل النوافذ فال أستطيع‬ ‫الرؤيا ألن بخار أنفاسنا قد ضبب الزجاج ‪.‬‬ ‫كان جدي يجلسني في غرفته ذات المكتبة الضخمة‬ ‫أيام البرد ‪ ،‬خاصة عندما تكون السماء ممطرة ‪ ،‬او‬ ‫‪153‬‬


‫تـ ُّ‬ ‫نث وف اًر ‪ ،‬ونتمتع بالموقد ودفئه وتوهج ناره والجمر‬ ‫المتأللىء بألوان ساحرة ‪ ،‬كانت النيران تسلب تفكيري‬ ‫وتجعلني متأمالً روعتها وأشكالها الخيالية ‪ ،‬وكنت‬ ‫أطعمها كلما خفتت من خشب التوت الذي جمعناه‬ ‫وقت الخريف ‪ ،‬وحيناً آخر كنت أنشغل برسم الحرف‬ ‫العربي ‪ ،‬ويعينني على ذلك جدي أكثر من معلم‬ ‫المدرسة ‪ ،‬وفي أحيان أخرى يناولني الكتب المبسطة‬ ‫المعاني ويعلمني قراءة الجمل واألسطر وكتابتها‬ ‫أضحيت ال‬ ‫صحائف صحائف دون أن أم َّل حتى‬ ‫ُ‬ ‫يجاريني أحد في القراءة واالمالء كل المراحل الدراسية‪.‬‬

‫طوال هذه الفترة االبتدائية كانت تتوارد في ذهني‬ ‫أسئلة جديدة ‪ ،‬فمنها ما أجد له جواباً في بعض الكتب‬ ‫والباقي يبقى دفيناً في أعماقي لمدة حتى اذا لم أطق‬ ‫الكتمان أنشد الجواب من جدي وأنتهز الفرص السانحة‬ ‫لذلك وأسأله ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ جدى لماذا خلقنا ؟‬ ‫ويرفع جدي حاجبيه دهشاً ثم يقول ‪:‬‬ ‫‪154‬‬


‫ـ ـ ـ ـ لقد بدأت النبتة تنضج ‪ ،‬ولكن يا إبني لماذا‬ ‫تشغل عقلك بهذه األفكار التي لم تغير من أمر وجودنا‬ ‫شيئاً ‪ ،‬أن عرفت الجواب أولم تعرف ؟ ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ولكن يا جدي أنها تشغل تفكيري ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ حسناً خلقنا من أجل ان نشعر بالحياة الدائمة ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ وهل هنالك حياة غير دائمة ؟ ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ يا إبنى توجد حياة زائلة وهي االرض بما عليها‬ ‫نحن بل ما فى الكون من قمر وشمس ونجوم ‪ ،‬اما‬ ‫الحياة الدائمة فهي عند هللا الخالد وهي ال تزول ‪.‬‬ ‫هكذا تستمر أسئلتي عن هللا والمالئكة واالنبياء‬ ‫والجن والروح والجنة والنار والحساب والعقاب والحالل‬ ‫والحرام حتى ينام جدي وأبقى مستيقظاً مفك اًر الى أن‬ ‫يتعب عقلي وأغرق في سبات عميق ‪ ،‬وعندما كنت‬ ‫أستيقظ فى الصباح الباكر أتطلع الى منظر الجبال‬ ‫المحيطة بالمدينة من الجهة الغربية وخاصة أيام الربيع‬ ‫حيث تكتسي بحلة زاهية فكأنها سجاد مطرز بالوان‬ ‫‪155‬‬


‫فاتـنة ‪ ،‬وأنظر الى امتداد السفح المنحدر نحو الغور‬ ‫الساحر بخضرته فأرى مدينتي وسط جنة من جنان هللا‬ ‫وما أيام الدراسة في الديار اال أيام الغبطة والسعادة‬ ‫واالمان ‪.‬‬ ‫مرحلة الفتوة‬ ‫تمر أيام الحالوة مسرعة كأنها تأبى أن تسعد‬ ‫األحياء فترة أطول ‪ ،‬قد مرت متعة النظر الى جمال‬ ‫الطبيعة الخالبة كلمح البصر‪ ،‬مثلما الورود ما أن‬ ‫تبرز مفاتنها وتعبق بأريجها حتى تتالشى ‪ ،‬مثلها‬ ‫كانت مرحلة الثانوية فقد أنهيتها ابان الحرب العالمية‬ ‫األولى ‪.‬‬ ‫كنت منشغالً بحبيبة القلب االولى (ماري) التي‬ ‫ُ‬

‫كانت تحب أن تتمتع بالحياة الى أقصى حد ‪ ،‬لذا لم‬ ‫تصبر وتـنتظرني لحين تخرجي‪ ،‬وأردتها أن تستمع‬ ‫لكلماتي في التضحية والوفاء ولكن دون جدوى ‪ ،‬بل‬

‫‪156‬‬


‫مدت يدها الى أول فارس يملك المال والرجولة وسلمت‬ ‫نفسها له وهي تقول لي ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ طريقك ما يزال طويالً وحبنا سيموت على قارعته‬ ‫قبل أن نصل ‪ ،‬ليودع أحدنا اآلخر كأصدقاء تربطنا‬ ‫ذكرى جميلة ‪.‬‬ ‫ولم تعلم أنها طعنت قلبي آنذاك وعلمتـني درساً‬ ‫مؤلماً زعزع ثقتي بالمرأة وصار في يقيني أن ال‬ ‫إخالص لها ‪ ،‬وأن المال هو التفاحة السحرية التي‬ ‫تجذبها ‪ ،‬وعند ذلك وضعت قلبي مع آماله في قنينة‬ ‫زجاجية وأغلقتها ثم رميتها في بحر المتاهات ‪.‬‬ ‫كان صديق جدي عبد القادر القسام ‪ ،‬وحين كان‬ ‫يجول في المدن الفلسطينية ويذكي نار الثورة ضد‬ ‫حل ضيفاً في بيت جدي ‪ ،‬واستمعت له‬ ‫االنكليز ‪َّ ،‬‬ ‫وهو يقول مؤكداً ‪:‬‬ ‫( ان الثقافة والعلم ألجيالنا ضرورية لكي يطردوا بها‬ ‫الغزاة ) ‪.‬‬

‫‪157‬‬


‫وعند استشهاد القسام في غابات ( يعبد ) ‪ ،‬تألم‬ ‫مرة بالنسبة له‬ ‫جدي وحزن حزناً شديداً ‪ ،‬وكانت خيبة َّ‬ ‫وودع الحياة بعدها ‪ ،‬وتعلمت منها أن النكسة ما أن‬ ‫تحل ضيفة على أحد اال وتنادي على بقية صويحباتها‬ ‫فيقدمن مسرعات ‪ ،‬وقد إنفطر فؤادي ثانية بوفاة جدي‬ ‫اذ لم يتحمل قلبه الحكم االنكليزي واستشهاد صديقه‬ ‫البطل القسام ‪.‬‬ ‫شعرت أن خيمتي التي أستظل تحتها طارت مع‬ ‫ُ‬

‫الريح واألدهى من ذلك بدأ الصهاينة يطردوننا من‬ ‫تلت‬ ‫مدينتنا بالقوة وقد‬ ‫هددت بالقتل عدة مرات وليتني ُق ُ‬ ‫ُ‬

‫وجدت جا اًر لنا مقتوالً عند الصباح وتاله‬ ‫حينذاك ‪ ،‬فقد‬ ‫ُ‬

‫آخر‪ ،‬لذا أصرت (ستي) أن نرحل مع الراحلين ونترك‬

‫أرضنا وبيتنا وبستاننا ‪ ،‬أي نترك فلسطين ونلتجىء‬ ‫الى سورية وهي تقول لي ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ أنت اذا ذهبت ستعود ألن االرض باقية وستعود‬ ‫بهمتك وهمة الرجال الباقين ‪.‬‬

‫‪158‬‬


‫رفضت أن نترك االرض كما فعلت آالف‬ ‫لكنني‬ ‫ُ‬

‫العوائل من مسلمين ومسيحيين ‪ ،‬واشتغلت بشهادة‬ ‫الثانوية معلم ًا فى المدرسة التي خرجتـني ‪ ،‬ورحت‬ ‫أعيل ستي حتى وافاها األجل قبل زواجي ‪ ..‬ويومها‬ ‫شعرت بالوحدة والوحشة من جديد ‪.‬‬ ‫كنت أكتب للمجالت والصحف افكاري الثورية فقد‬ ‫خططت لمشروع وحدة األقطار العربية ‪ ،‬كما خططت‬ ‫لمشروع ارواء الجزيرة العربية من مياه خليج العقبة ‪،‬‬ ‫وخططت لمشروع منع الهجرة من فلسطين ‪ ،‬ولم‬ ‫يتحقق من هذه المشاريع شيء ‪ ،‬فاتجهت الى األدب‬ ‫اكتب الى مجلة المقتطف اللبنانية ومجلة الهالل‬ ‫المصرية ومجلة مرحلة المعلم الجديد العراقية ومجلة‬ ‫المجمع العلمي في دمشق ‪.‬‬ ‫قد حمدت هللا على أن (ماري) لم تبق في محطة‬ ‫انتظاري ‪ ،‬ألن الحياة أصعب مما كنت أتصورها ‪،‬‬ ‫فالمعيشة أرض متعبة الحرث ‪ ،‬والبناء يحتاج من‬ ‫طابوق الجهد الكثير‪ ،‬وتكوين عائلة في هذه المرحلة‬ ‫‪159‬‬


‫القاسية كمن يريد أن يزرع بستاناً وسط الصحراء ‪،‬‬ ‫والمال ال يتكون اال بالجمع بين الزمن والجهد‬ ‫والحرمان ‪.‬‬ ‫وفكرت أن أهاجر باحثاً عن أبي لوال اشراقة نجمة‬ ‫في ليل حياتي‪ ،‬أبقتـني لمصيري ومصير عائلتي ‪.‬‬ ‫مرحلة الرجولة‬ ‫هاج بحر المتاهات وعاد ال يطيق حمل زجاجة‬ ‫قد سجن في جوفها قلب انسان حتى صار غير قادر‬ ‫على االحتفاظ بها سالمة فوق رفوف أمواجه ‪ ،‬وعند‬ ‫أول موجة عاتية رمى الزجاجة على صخور الواقع‬ ‫فتحطمت وخرج قلبي للحياة من جديد وعشق (نادين)‬ ‫أول فتاة رأى في عينيها بحيرة المجد ‪ ،‬وفى قلبها ورد‬ ‫الهناء ‪ ،‬وفي رقتها جميع احالم الحنان مجسدة ‪ ،‬فمال‬ ‫نحو ظلها ومدت له الظل وارفاً بكل كيانها وعواطفها‬ ‫حتى غرق بسحرها ‪.‬‬

‫‪160‬‬


‫طلبت يدها ‪ ،‬وكانت عائلتها من نفس مدينتي‬ ‫ووالدها كان صديقاً لجدي ‪ ،‬فما أسرع ما تم زواجي‬ ‫فقد ضمنا الفردوس المنشود‪ ،‬حتى أني لم أكن أتصور‬ ‫بأن الحب بعد الزواج أعنف وأقوى من الحب قبل‬ ‫الزواج ‪ ،‬وشاء هللا ان يرزقني من زوجتي فتاتين ‪ ،‬هما‬ ‫حسناء وخولة ‪ ،‬ملئا الدار نو ار واشرقت الدنيا بجمالهن‬ ‫‪ ،‬وكنت ال أصدق هذه السعادة التي بعثت في قلبي‬ ‫عشت مثله ‪.‬‬ ‫مهرجاناً لم يسبق وأن‬ ‫ُ‬ ‫راحت الحياة تبتسم في وجهي ولم أخل أنها ستقطب‬ ‫وجهها في يوم من األيام ‪ ،‬وتشيح بوجهها عني نهائيا‬ ‫‪ ،‬ولم أتوقع ذلك وال حتى أتخيله أبداً ‪.‬‬ ‫أحسست بألم في قلبي وأنا في البستان أساعد‬ ‫العاملين في تقليم االشجار‪ ،‬فتغاضيت عنه ‪ ،‬وكثي اًر ما‬ ‫أصابني دوار بعد ذلك ‪ ،‬ولكني كنت أمثل دور‬ ‫المتعب فال أجعل أحداً يشعر بما أعاني ‪ ،‬ومضى‬ ‫عمري يركض في شارع الزمن وأنا أستخدم العقاقير‬

‫‪161‬‬


‫الطبية لعلي أشفى ولكن دون جدوى فقد استفحل‬ ‫المرض الى درجة سقوطي على األرض دون وعي ‪.‬‬ ‫وحينما صارت حسناء بعمر االربع سنوات وخولة‬ ‫بعمر الثالث سنوات ‪ ،‬كانت سعادتي ال توصف‬ ‫خاصة حينما يحوطانني ليالً ألستمع لهما واحدة واحدة‬ ‫يتسائالن في أمور شتى ‪ ،‬أحس أني في أوج مجــدي ‪،‬‬ ‫ولكن ّأنى للسعادة أن تدوم فقد قرر االطباء أن أسافر‬

‫الى انكلت ار لعمل عملية «القسطرة» فشراييني ما عادت‬ ‫تحتمل االدوية ‪ ،‬ومثل هذه العملية ال تنجح عندهم‬ ‫لعدم وجود اآلالت الطبية الحديثة لديهم ‪ ،‬ونجاحها‬

‫مضمون هناك مائة بالمائة ‪.‬‬ ‫كم ثمينة هي الحياة حينما يكون االنسان فيها‬ ‫سعيداً بل ومهماً لدى أهله ‪ ،‬فبدونه ال حياة لهم ‪ ،‬لذا‬ ‫أسرعت بجمع المال الكافي لرحلتي وعمليتي بتشجيع‬ ‫من زوجتي ‪ ،‬وحزمت أمتعتي وودعت روحي وقلبي‬ ‫وعمري وعقلي وسعادتي ولم أدر أني أودع عائلتي‬ ‫الوداع األخير والى األبد ‪ ،‬فقد كنت أعتقد أن ما أتركه‬ ‫‪162‬‬


‫ساجده سالم ًا حين عودتي ‪ ،‬ولم أتصور مطلق ًا أن‬ ‫الصهاينة سيرسلون غراب (ادغار االن بو) ليحط على‬ ‫بيتي ‪.‬‬ ‫سرقتني الطائرة من مطار بيروت الى لندن‬ ‫هبطت في مطار هيثرو ومنه‬ ‫بمحض أرادتي ‪،‬‬ ‫ُ‬

‫توجهت مباشرة الى مستشفى جيمس بناء على موعد‬

‫اتفقنا عليه بالمراسلة وبقيت فيه أشه اًر بين المماطلة‬ ‫والعالج والمراقبة السريرية ‪ ،‬وصرفت الكثير من المال‬ ‫‪ ،‬وكانت رواتبي التي تصرفها لي المدرسة هي االمداد‬ ‫الوحيد الذي أبقاني فى دولة قانونها النقود ‪ ،‬ولقد ندمت‬ ‫كثي ار على تركي ألهلي محاوالً التشبث بالحياة هي بيد‬ ‫هللا ‪،‬‬

‫ولكن ما يسمى بالقدر أظنه هو الذي حاك‬

‫مصيري وفق منهاجه المأساوي ‪.‬‬ ‫كانت رسائل زوجتي وبناتي هي سلوتي الوحيدة‬ ‫في بالد الغربة ‪ ،‬حيث أعيش مع كلماتهم كأنهم حولي‬ ‫فعالً يحدثوني وأستمع لهم بكل جوارحي فافرح لفرحهم‬

‫‪163‬‬


‫‪ ،‬اذ كل ما كتبوه لي بهجة وحنيناً ما بعده من بهجه‬ ‫وحنين ‪.‬‬ ‫وحين أوشكت فترة االستشفاء على االكتمال النهائي‬ ‫وصلتني أخبار النكبة على مدينتي بيسان ‪ ،‬وهجوم‬ ‫الصهاينة القتلة على البيوت لطرد المسلمين منها ‪،‬‬ ‫والذين يرفضون يحرقون دورهم ليالً وهم نيام ‪ ،‬وكانت‬ ‫داري مالسقة لجارين مسيحيين ‪.‬‬ ‫انقطعت الرسائل عني وتكتمت الصحف عما‬ ‫يحدث في بيسان ‪ ،‬شعرت بأن أوتا ًار في قلبي قطعت‬ ‫‪ ،‬وحدث إنهيار فظيع في داخلي ‪ ،‬وخشى األطباء ان‬ ‫تذهب أتعابهم هباء بعد أن عرفوا ما أفكر به ‪،‬‬ ‫ونصحوني أن أسرع بالرحيل الى أهلي ‪.‬‬ ‫كانت األخبار تتضارب بعدد المهجرين من كل‬ ‫المدن والقرى الفلسطينية ‪ ،‬واعالن دولة الكيان‬ ‫االسرائيلي ‪ ،‬فازدادت لهفتي لرؤية عائلتي ‪ ،‬ولم أكن‬ ‫أملك ماالً كافياً لرحلة العودة فاستعنت بالكنيسة وقدموا‬ ‫لي الدعم الكافي اليصالي الى بيروت ‪ ،‬ومنها ركبت‬ ‫‪164‬‬


‫الى مدينة القدس ‪ ،‬ولم أجد أحداً يأخذني الى مدينتي‬ ‫بيسان ‪ ،‬فاستعنت بخيالة الثوار بعد أن علموا اسم‬ ‫جدي ‪ ،‬وأنا بين يأس وأمل وقلبي يضطرب خوفاً من‬ ‫عدم وجود أهلي في دارنا ‪ ،‬ورحت القي سيال من‬ ‫االستفسارات على الرجال الذين تطوعوا اليصالي‪،‬‬ ‫ولكنهم الذوا بالصمت المطبق ‪ ،‬وهزوا رؤوسهم بعدم‬ ‫المعرفة ‪ ،‬وأوصلوني الى مخيمات خارج بيسان‬ ‫وتركوني هناك ‪ ،‬ورحت ابحث عن من يعرفني وأعرفه‬ ‫لكن دون جدوى فكلهم مصدومون ويئنون ألماً من‬ ‫الفاجعة التي نكبوا فيها ‪ ،‬فقررت التسلل ليالً الى‬ ‫المدينة ‪ ،‬ونفذت ذلك بعد أن زحفت مئات االمتار بين‬ ‫االحراش وما أن أصبح الصباح حتى كنت قرب الحي‬ ‫الذي فيه بيتي ‪.‬‬ ‫كانت صدمة لي ما بعـادهـا من صدمة حينما لم‬ ‫أجد داري وال دور جيراني ‪ ،‬بل وجدت أرضاً عليها‬ ‫ركام أسود قد أكلته النار‪ ،‬وكانت رائحة االقمشة‬ ‫المحروقة ممتزجة برائحة عفونة غريبة انتشرت في‬ ‫الحي المحروق ‪.‬‬ ‫‪165‬‬


‫يا لهوله من خراب ‪ ،‬تمنيت حينها أن تـنشق‬ ‫األرض تحت قدمي وتطحن عظامي فى جوفها وتكتم‬ ‫أنفاسي ‪ ،‬ركضت كالمجذوب الى بيت شقيق زوجتي‬ ‫حينا‪ ..‬وأنا أركض باقصى سرعتي‬ ‫وكان قريباً من َّ‬ ‫جاءتـني صلية رصاص لم تصبني تمنيت بعدها لو‬ ‫مت بها‪ ،‬فهي لم تصرعني حق ًا ولكني مت بعدها عدة‬ ‫ميتات ‪.‬‬ ‫وحين وصلت الدار قفزت بكل ثقلي على الباب‬ ‫وكسرتها ودخلت‪ ،‬عنوة ‪ ،‬وحين صرت داخالً رأيت كل‬ ‫من في البيت ينظرون الي والشهقة عقدت أفواههم من‬ ‫هول المفاجأة ‪ ،‬وعندما عرفني شقيق زوجتي ‪ ،‬رمى‬ ‫نفسه علي وهو يبكي بشدة أثارت أعصابي ‪ ،‬وصرخت‬ ‫به بعد أن أمسكته من زنديه وهززته بقوة ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ قل لي بربك ما حدث ‪ ،‬أين زوجتي ‪ ،‬أين بناتي‬ ‫أكاد أجن ؟ أنطق ‪ ..‬تكلم ؟ ‪.‬‬ ‫فردت علي أصوات نسائية ‪:‬‬

‫‪166‬‬


‫ـ ـ ـ ـ ـ حرقهم المجرمون ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ لقد احترقوا وهم نيام ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ سقطوا شهداء ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ أخذهم هللا الى جنته ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ هللا سينتقم من القتلة ‪.‬‬ ‫كأن جبالً ينهار وكل كلمة صخرة تسقط على‬ ‫رأسي فيرتج ‪ ،‬وجدحت نار كبرق ضربني مثل نصل‬ ‫السيف في رأسي ‪ ،‬ودارت بي األرض السماء ‪،‬‬

‫أحسست بجسمي يهوي الى و ٍاد عميق مظلم ‪.‬‬ ‫و‬ ‫ُ‬

‫ثالثون سنة وأنا الميت الحي ‪ ،‬ال أعي شيئاً من‬ ‫عشت في بيت أهل زوجتي ‪ ،‬وكيف تركتهم‬ ‫الدنيا كيف‬ ‫ُ‬ ‫نمت ‪..‬‬ ‫وهمت على وجهي في البراري والمدن ‪ ..‬أين ُ‬ ‫ُ‬

‫لبست ‪ ..‬الحر ‪ ..‬البرد ‪ ..‬األيام ‪..‬‬ ‫أكلت ‪ ..‬ماذا‬ ‫ُ‬ ‫ماذا ُ‬ ‫السنين ‪ ..‬كلها ما شعرت بها قط ‪.‬‬

‫‪167‬‬


‫رجعت الى عالم الذاكرة عندما وجدت نفسي راقدا على‬ ‫سرير في مستشفى أردني ‪ ،‬وحين سألت عن حالتي‬ ‫أخبروني قائلين ‪:‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ احمد هللا أنك لم تمت ‪ ،‬فالسيارة التي دهستك‬ ‫أحدثت بك بعض الرضوض فقط ‪.‬‬ ‫فسألت ‪:‬‬ ‫بدأ شريط ذاكرتي يعود في ذهني من جديد‬ ‫ُ‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ أين أنا وفي أية سنة نحن ؟‬ ‫أخبروني بأني في االردن وأنها سنة ‪، 1978‬‬ ‫عندها عرفت أني كنت بال عقل و ٍاع طيلة ثالثين سنة‬ ‫‪ ..‬وراحت االحداث تتوالى على فكري وأبكي مع كل‬ ‫ذكرى أتذكرها ‪:‬‬ ‫ـــــ‬

‫كم أنت قاسية يا حافظة القيادة يا جمجمتي ! ‪،‬‬

‫لماذا أخرجت قنابل الذكريات المفجعة ورحت تنسفين‬ ‫بها أحاسيسي نسفاً ‪ ..‬أما يكفي بأني الميت الحي ؟ ‪.‬‬ ‫أبصرت انساناً ـ ـ ـ لم أره‬ ‫وحينما نظرت في المرآة‬ ‫ُ‬

‫جفلت منه فقد بان ذا شعر‬ ‫من قبل مطلقاً ـ ـ ـ هرماً ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫‪168‬‬


‫طويل مغبر ‪ ،‬ولحية بيضاء مصفرة ‪ ،‬وبشرة مجعدة‬ ‫ذابلة ‪ ،‬وعينين جاحظتين ‪ ،‬وعظام تكاد أن تخترق‬ ‫الجلد المخضن ‪ ،‬هل هذا أنا محال ‪ ،‬كم من السنين‬ ‫مرت علي ‪ ،‬أكنت من أصحاب الكهف والرقيم ‪ ،‬أم‬ ‫تلفت حولي لعلي‬ ‫انني العازر عدت الى الحياة ‪ ..‬و ُ‬

‫أجد صاحب هذه الصورة الجنونية ‪ ،‬فلم أجد أحداً ‪،‬‬ ‫أنكرت أن تكون هذه صورتي ولكن الواقع جعلني‬ ‫و ُ‬

‫أصدقها ‪.‬‬

‫كم ينخدع االنسان بعقله ‪ ،‬ويضيع في صحراء بال‬ ‫ساحل ‪ ،‬وينقاد لتصورات ليس لها لدى طيور الحواس‬ ‫اي مقياس ‪ ،‬عندها عرفت أن العقل يحب الحياة‬ ‫ويتشبث بها ‪ ،‬وأن النفس تكره الحياة وتحاول التخلص‬ ‫من سيطرتها كلما أحست بالذل ‪ ،‬والسبب واضح ‪،‬‬ ‫فان وكل ٍ‬ ‫فالعقل ٍ‬ ‫فان يحب الحياة ‪ ،‬والنفس خالدة وكل‬ ‫خالد يكره الحياة الزائفة ‪.‬‬ ‫بعدها عرفت أحداث نكبة ‪ 1948‬من الناس‬ ‫وعرفت أن أهلي وضعوا في قائمة الشهداء ‪ ،‬ولكني ‪،‬‬ ‫‪169‬‬


‫حقدت على الصهاينة ومن زودهم بسالح الفتك ‪ ،‬ولم‬ ‫ُ‬ ‫أستطع أن أحتمل بقائي قريباً منهم واتجهت صوب‬

‫العراق الى بغداد ‪ ،‬مبتعداً عن اماكن الذل والهوان ‪،‬‬ ‫عن قلب المأساة الدامي ‪.‬‬ ‫التشرد أهون من الموت ‪ ..‬فلو كان القرب منهم‬ ‫وبقيت ‪ ،‬لكنه ال يجدي أبداً ‪..‬‬ ‫النقذت عائلتي‬ ‫يجدي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫فهذا زمن القوة والسالح ونحن الفلسطينيون عراة نصنع‬ ‫من جلودنا خيماً كل يوم ‪ ،‬ومن أوالدنا طعاماً كل يوم‬ ‫‪ ،‬فما جدوى السكن في مخيمات بالصحراء ‪ ،‬وأرضنا‬ ‫ودورنا وحقولنا وبساتيننا أمامنا تسكنها جرذان أوربا ‪.‬‬ ‫الخاتمة‬ ‫لم تمض بضعة أيام وأنا في بغداد حتى‬ ‫التحقت بها وما بقيت فيها اال‬ ‫اصطادتـني الكنيسة ‪ ،‬و‬ ‫ُ‬ ‫عاماً ونصف العام ‪ ،‬فقد تعلمت أن الحياة اذا لم تقتلها‬

‫بالعمل قتلتك ‪ ..‬فما الفرق فأنا مقتول وسوف أموت‬ ‫من أجل الدخول في عالم اآلخرة ‪ ،‬وما عودتي الى‬ ‫بيسان اال ألدفن هناك ‪ ..‬أودعك يا شاول بدمعة فرح‬ ‫‪170‬‬


‫فقد بقيت عندي هذه الدمعة الوحيدة وهي آخر ما تبقى‬ ‫في قدح أحداقي ‪ ،‬وأتمنى بكل جوارحي لك ولزوجتك‬ ‫أحلى السعادة ‪ ،‬وسادعو لكما في فراديس السماء لكى‬ ‫ترفرف عليكما مالئكة الحب الخالد وطيور الهناء ‪. .‬‬ ‫الوداع ‪.‬‬ ‫اخوك الراهب‬

‫‪171‬‬


‫المحتوى‬ ‫ت‬

‫العناوين‬

‫ت‬

‫رقم‬

‫العناوين‬

‫الصفحة‬

‫رقم‬ ‫الصفحة‬

‫‪1‬‬

‫توطئة‬

‫‪3‬‬

‫‪ 25‬يوم مكنوز‬

‫‪82‬‬

‫‪2‬‬

‫البداية‬

‫‪7‬‬

‫‪ 26‬يوم قيثاري‬

‫‪86‬‬

‫‪3‬‬

‫يوم طيف‬

‫‪9‬‬

‫‪27‬‬

‫يوم مقدس‬

‫‪90‬‬

‫‪ 4‬يوم عسلي‬

‫‪12‬‬

‫‪ 28‬يوم رباني‬

‫‪ 5‬يوم غريب‬

‫‪14‬‬

‫‪29‬‬

‫‪17‬‬

‫‪ 30‬يوم مفزع‬

‫‪102‬‬

‫‪ 7‬يوم مالئكي‬

‫‪22‬‬

‫‪ 31‬يوم بخيل‬

‫‪107‬‬

‫‪ 8‬يوم عــذب‬

‫‪25‬‬

‫‪ 32‬يوم بطولي‬

‫‪111‬‬

‫‪ 9‬يوم مشرق‬

‫‪28‬‬

‫‪33‬‬

‫يوم مادي‬

‫‪114‬‬

‫‪ 10‬يوم فجائي‬

‫‪31‬‬

‫‪34‬‬

‫يوم حالجي‬

‫‪116‬‬

‫ودي‬ ‫‪ 11‬يوم ّ‬

‫‪34‬‬

‫‪35‬‬

‫يوم مجرم‬

‫‪121‬‬

‫‪37‬‬

‫‪36‬‬

‫يوم مرتجف‬

‫‪124‬‬

‫‪6‬‬

‫‪12‬‬

‫يوم صحراوي‬

‫يوم نسوي‬

‫‪172‬‬

‫يوم طفيلي‬

‫‪95‬‬ ‫‪99‬‬


‫‪ 13‬يوم عاطفي‬

‫‪40‬‬

‫‪ 37‬يوم جماهيري‬

‫‪128‬‬

‫‪ 14‬يوم عميق‬

‫‪42‬‬

‫‪38‬‬

‫يوم جــذ ل‬

‫‪131‬‬

‫‪ 15‬يوم الهب‬

‫‪45‬‬

‫‪ 39‬يوم عاشق‬

‫‪135‬‬

‫‪16‬‬

‫يوم أبيض‬

‫‪48‬‬

‫‪ 40‬يوم ذهبي‬

‫‪141‬‬

‫‪17‬‬

‫يوم معقوف‬

‫‪51‬‬

‫‪41‬‬

‫يوم القرار‬

‫‪143‬‬

‫‪ 18‬يوم ملون‬

‫‪54‬‬

‫‪ 42‬قصة حياتي‬

‫‪146‬‬

‫‪ 19‬يوم قاتم‬

‫‪56‬‬

‫‪ 43‬مرحلة الطفولة‬

‫‪147‬‬

‫‪59‬‬

‫‪ 44‬مرحلة اليفاعة‬

‫‪153‬‬

‫‪ 21‬يوم زنجي‬

‫‪62‬‬

‫‪45‬‬

‫مرحلة الفتوة‬

‫‪156‬‬

‫‪ 22‬يوم موحش‬

‫‪68‬‬

‫‪ 46‬مرحلة الرجولة‬

‫‪20‬‬

‫يوم فقاعي‬

‫‪160‬‬

‫‪ 23‬يوم مموسق‬

‫‪72‬‬

‫‪47‬‬

‫الخاتمة‬

‫‪170‬‬

‫يوم صوفي‬

‫‪78‬‬

‫‪48‬‬

‫المحتوى‬

‫‪172‬‬

‫‪24‬‬

‫‪173‬‬


‫اصدارات الكاتب‬ ‫‪ – 1‬عاشق الشمس ( مجموعة قصص قصيرة )‬ ‫بغداد – ‪1964‬‬ ‫‪ – 2‬ما قاله آدم عند الشجرة ( مذكرات راهب )‬ ‫بغداد ‪1986 -‬‬ ‫‪ – 3‬رسالة لالنسان عبر الزمان‬ ‫البحرين – ‪2011‬‬ ‫‪ – 4‬أصوات الرحيم في القرآن الكريم‬ ‫االردن – عمان – ‪2016‬‬ ‫‪ – 5‬مذكرات راهب ( طبعة ثانية منقحة )‬ ‫االردن – عمان ‪2018 -‬‬ ‫‪ – 6‬مصباح الذكريات ( تحت الطبع )‬ ‫‪ – 7‬ديوان العزاوي ( تحت الطبع )‬ ‫‪174‬‬


175


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.