رات راهبُ ُ ُمذكَّ ُُ
تأليف طالل عبد الجبار جاسم العزاوي
األردن ـ ـ ـ ـ ـ 2018 الطبعة الثانية منقحة
1
اسم الكتاب :مذكرات راهب المؤلف
:طالل عبد الجبار جاسم العزاوي
تاريخ الطبع 2018 : مكان الطبع :المملكة االردنية الهاشمية /عمان مطبعة :أرض ما بين النهرين ( – 0787865533 ) 0795470309 E- mail : Abuahmad27@yahoo.com رقم االيداع لدى دائرة المكتبة الوطنية ( ) 2018 / 4 / 2028 الناشر :مكتبة انتيكا – مساحة ثقافية ( يعقوب البهبهاني ) عمان – شارع الملك الحسين بن طالل – السلط سابقا
2
توطئة الكتاب جاءني ساعي البريد بمظروف مسجل ،معنون باسمي ،فوقعت في دفتر الرسائل وتسلمت ذلك الظرف الضخم ،وفضضته ،فبرز لي جلد مصفـر ضم بين دفتيه مجموعة من كغـالف كتاب قديم ،وقد َّ القصاصات الورقية السمراء عدا الورقة االولى فقد كانت ناصعة البياض جديدة ،مما يدل على انها كتبت حديثا فقرأتها بسرعة ..جاء فيها : حضرة األديب الفاضل ( طالل العزاوي ) المحترم تحية قديسة ،وابتهاالت دينية أرفعها من أجلك .. اما بعد ..هذه مجموعة يوميات كتبها رجل حكيم عاش في كنيستنا بضعة أشهر ،ما عرفت له أهالً وال أقارب ،بل جاءنا من فلسطين ومكث عندنا قرابة سنتين ورحل عنا عائداً الى بالده ،عيناه حادتان كعيني نسر ال تصمد أمام نظراتهما العيون ،ووجهه مشرق بلحية فضية المعة ..يعتمر الحرير األزرق 3
فوق رأسه كانه شيخ من شيوخ العرب ،قليل الكالم واذا تكلم جاءت كلماته عذبة ساحرة كانه يتكلم بلغة القديسين ..كله حركة حتى يخال ـ ـ ـ ـ من يراه ـ ـ ـ ـ انه يرى شاباً نشطاً يعذب نفسه عمالً ال شيخاً بعمر السبعين . قلما رأيته يبتسم وكثي ار ما لمحته خفية يبكي تخضل لحيته البيضاء ،بسيط بصمت ودموعه ّ كبساطة الرعيان ،وديع كوداعة الحمالن ،يدخل القلوب منذ الوهلة االولى ،تراه أيام األحاد يستودعه القداس ،ويحتلق االطفال اآلباء أطفالهم ليحضروا ّ
حوله في الحديقة فيعلمهم دون أن يشعروا فكأنه يلعب القداس يخرج اآلباء ويستمعون له بخشوع معهم ،وبعد ّ كأنهم أمام بحر ال يعرف له ساحل.
وحينما كانت بغداد تقصف بصواريخ ايرانية اثناء الحرب العراقية مع ايران شدته رغبة الخروج من العراق ،والعودة الى فلسطين ..وكم حاولنا ثنيه عن عزيمته دون جدوى . 4
وقد دون فى هذه اليوميات انفعاالته النفسية وآراءه الفكرية في الحياة والمجتمع واألدب والفن ،وضمنها الحوادث المهمة التي شاهدها خالل اقامته فى كنف الكنيسة . ولكنه ما أن سرد قصة حياته على الورق أخي ًار وسلمني هذه الوريقات حتى ودعنا ـ ـ ـ ـ أنا وعروسي ـ ـ ـ ـ بصمت ،وانطلق متجهاً الى محطة (العالوي) ليركب باصاً تتجه الى األردن ومنها الى فلسطين .
كان ذلك فى ليلة زواجي ،اذ ما ان بعث هللا لي شريكة الحياة حتى برحنا ذلك االنسان الذي وجدت عنده العطف االبوي اذ طالما افتقدته . وهكذا عاشت مذكراته عدة شهور بحوزتي ،أعود لها بين حين وآخر عندما أحس بحاجة الى سلوى تسليني ومتعة تمتع فكري ،وأكثرما كنت أتمثل باقواله عندما أُلقي مواعظي وخطبي في قاعة الكنيسة ،فارى المستمعين يخشعون لكل كلمة أرددها من كلماته ، وسجلت كل ما كتبه على جدران قلبي ،وقلت مع 5
نفسي أن أبعث هذه الوريقات اليك فعسى أن تخرج أفكاره بجسد أجمل ،وحلة أبهى ،فانها ـ ـ ـ ـ في نظري ـ ـ ـ ـ نعم الشراب الفكري إن أرتوى منه الناس . وأخي اًر تقبل شكري وإبتهاالتي ودمت لصديقك القديم األب شاول كنيسة االرمن ـ ـ ـ ساحة الطيران بغداد ـ ـ ـ العراق
6
البــدايــة جئت من فلسطين الذبيحة أبحث عن أرض وعن سماء ،بعد أن عصر الزمن من عمري السبعين سنة ،وكانت حياتي كأنها مد عظيم أعقبه جزر فظيع ، شقاء أبدياً . فتبدلت السعادة الحلوة ً خلت ما حدث لي من فعل القدر ،وظننته مرة من عملي ومرة أخرى من فعل المجتمع البشري . هيهات أن نرتشف العسل طيلة العمر وال نشتاق الى طعم العلقم ،وأن لم نشتق اليه فسيأتي عنوة أوعلى غفلة منا ويمأل أفواهنا الى حد التخمة ،أنذاك نفقه الحياة . ولكني اآلن في عيد ميالدي السبعين ،حيث ال شموع أمامي ألطفئها بل الشموع في قلبي متألقة ال تنطفىء ،تضيء ذكرياتي وتسعدني ،ألني أخي اًر قد تخلصت من الناس ورددت هبــاتهم واسترجعت حريتي،
7
وهكذا تخلص المجتمع مني مادياً وفقدني معنوياً كما أعتقد . تسير روحي مثلما الريح تركب عربة إن أفكاري ّ
السحب وتلهب بسوطها أظهر الغيوم
فتركض ،
وتسوقها في طريق السماء لتسبق الزمان وتتحرر من المكان النها ترى الفضاء واسعاً وتخال أنها ستصل حدوده ،وتعرق الغيوم وتلهث الريح وينهكهما الطواف، ويتحطمان سوية ،وتتناثر أشالؤهما قطرات مطر قبل أن يبلغا النهاية ،ألن ال نهاية هناك سوى الصيرورة تعانق العدم . وهكذا بقيت مع االرض التي تدور ،أدور معها .. حيث جئت الى بغداد مدينة الحرية بعد أكثر من ثالثين سنة مرت على حرق الصهاينة لداري وبداخله عائلتي ،وسرقوا بستان أجدادي ،وخالل تلك الفترة كنت أهيم في كهوف األردن الجبلية . وتهت في مدينة بغداد ليس لي هدف سوى أن ُ
أتمتع بالحرية التي طالما بحثت عنها منذ أن استولى 8
الصهاينة على مدينتي بيسان مدينة العرب الكنعانيين ..ولكن كيف لكليوبت ار أن تحتفظ بهدية انطونيوس . . فما أسرع ما باعتها لهيرودس . .لقد بيعت المدينة .. فيا لعار المزاد . يوم طيف صحوت على زقزقة العصافير ،وكانت نجمة الصباح تجر أذيال العرس الى مخدعها خلف االفق . كانت هواجس االحالم ما زالت تضمخ عيوني وتعطر أنفاسي فاحاول أن أعيشها مع نصفي الثاني ، فمددت يدي الى جانبي ألتحسس زوجتي أما تزال راقدة أم أنها إستيقظت ،فحطت يدي على حشائش ندية جفلت ،فقد كنت أتوقع جسدها الطري الدافىء رطبة ، ُ
،وانزالت آخر أطياف االحالم من عيني وخيالي
اصطدمت بالواقع ،بوجهه الصفيق الغولي . و ُ لست على فراش الزوجية الوثير بل أجل فانا اآلن ُ
خفت من هذا الواقع على ثيل احدى الحدائق العامة ُ ، 9
استرسلت أطبقت جفوني ثانية ،و ُ ألني أعرفه م اًر ،و ُ
ـدت بذكرياتي الى في أحالمي الملونة العذبة ..وع ُ الماضي المضبب ،وتصورت سابق عهدي بزوجتي
الحبيبة يوم كانت تستيقظ على تسلل يدي نحوها مع انطالقة أول شعاع من الفجر االشهب . وتشرق من وجهها ابتسامة وردية ساحرة تنطلق منها طيور الحب لتغيب فى أحداقي،
وما أن تشرب قهوة
الصباح حتى تقهقه بخفة وحالوة وتجذب رأسي برفق لتقرب شفتي من شفتيها ونرتوي من معين الحب وسلسبيل الهوى . هكذا بقيت مع نشـوة تلك القبلة حتى رشت وفتحت أجفاني فاذا أنا ألثم حشائش علي الشمس نورها َّ ُ
الحديقة وأرتشف من طّلها ،فكأن قلبي وضع في
مجمرة نار فاحترق رماداً . نهضت ألهيم على وجهي في هذه الدنيا ،فأنا أعلم أن ال مفر من واقعها المرير ،تملكني الضياع اذ
10
أعرف الناس وال أحد منهم يعرفني لقد أنكروني فأنكرتهم ،آه من الوحدانية . وراحت االطياف تسبح في بحيرة قلبي وتتراشق ويقبل األلم السعادة ، بالعواطف فيشبك الحنان الحقد ّ ، ذبت فى عالم وتتعانق األنانية مع االنسانية ،آنذاك ُ
االمواج العاتية مسحو اًر بالوان الشروق ،ولكن االعداء استغلوا تهويمتي وبرقعوا الشمس . عت الموت في بعد أن هرب الفجر من فمي ،زر ُ
دمي ،وطارت االحقاد في سماء نفسي ،وراحت تقتات الخير والسالم وتقرع طبول الموت ..فيكشر البشر كالذئاب يتلمضون ألسنتهم لشرب الدم ..ألف درايكوال عاد بعباءة سوداء ..الخنافس أضحت أغواال ..وصارت االشواك تحارب االشجار ،والمكر يقارع الخير ..والمجانين يتسنمون دفة الحكم يسبحون الله الحرب لكي َّ يمن عليهم بادوات االبادة . وطني العربي أينما أتنقل في أرجائك أجد األعداء يحيطون بك ،يا لعظمتلك . 11
يوم عسلي ما أجمل السعادة في يوم عرسها ،ولكنها شع وانطفأ ولم تبق سوى كوميض سحري خالب َّ أردت أن الصور قد علقت على جدران الفكر ،فكلما ُ
أهرب من واقعي الكالح أدخل الى متحف ذكرياتي أمر بالصور مرور فاتجول فيه مسبل االجفان ُّ السائحين وأقف متأمالً الفلم الذي صورته ذاكرتي ، تظهر فيه زوجتي واطفالي ،فاشهق مع كل صورة اتخيلها وانصهر مع طيوفهم ..فها هو دارنا في بيسان وخلفه بستاننا المطل على نهر الغور ،وكيف ركضنا في الصباح الى البستان وضمنا الفردوس وحدنا ال من رقيب سوى هللا والشمس واالشجار والطيور وكانت االشجار حبلى بالثمار ..فقطفنا كفايتنا ،وافترشنا قرب غدير مكركر يصب بوادي النهر بعد ان ينحدر كشالل ..وتنشغل ابنتاي باللعب مع الفراشات القزحية الهائمة ..وألهو مع زوجتي أذبح لها الزهور وأطيب بها خديها ألحمر به شفتيها ،ثم أعصر في . .وأنحر لها الجنبد ّ فمها رحيق الفاكهة فتأبى اال أن تزقني منه ثغ اًر بثغر 12
..وكم سبحت عيناي في عينيها ،وكم صرنا كاالطفال ولعبنا مثل أطفالنا بحصا النهر ،وشعرنا أن المالئكة ترفرف فوقنا ،وأن النسائم العطرة ما هي إال طيوبهم تضوعنا فكأن جنة هللا قد تجسدت لحظتئذ . . وكأن األيام اجتمعت آنذاك ..وشعور في داخلي يقول :تمتع بهذا اليوم الجنائني وامأل منه عيونك وعواطفك فستأتي أيام الجفاف والم اررة عجلة ،فالكل باطل وحلم قصير ..كنت ال أدع هنيهة تمر إال وأطبعها في ذاكرتي بأحلى أبعادها ..آه ايها القلب ال تخفق وال تسيلى أيتها الدموع ..وال تلطمي أيتها الروح ..كفى ..كفى . سأصنع من الكون األحدب قارورة أمألها خم اًر وشع اًر وأزين فيها أفراحي وأتراحي ،فإن غضب األحدب أسكرته من خمرتي وإن فرح األحدب مدحته بقصيدتي ،وستبكي الحياة فى مخدع عرسي وتصرخ :أين عفتي ؟ فأجيبها بوابل المكر والخداع :أليس الرجال قوامين على النساء ..وتبكي فأغتسل بشالل دموعها حتى إذا جفت مآقيها وسال ثغرها شهداً محلباً 13
أمطرتها بوابل الحب والقبل فتزداد تبسم ًا في وجهي وأظل أرتوي من معين شفتيها حتى إذا أتخم أُطّلقها فتهيم في الطرقات من جديد لتعشق شاباً آخر شريداً. طلقت الحياة أم هي فيا ترى هل أنا الذي ُ
إنفصلت عني وتركتني ،أم إن بني البشر فرقوا بيننا لست أدري ! . ُ .. يوم غريب أرسلت الشمس خيوطاً من ذهب وأغرقت تدب االرض بنورها البرتقالي ،وبدأت األحياء البشرية ُّ على االرض لغاية في نفسها ،حثتني رغبتي فسرت فمشيت فى وتجنبت مسير السابلة قاطعاً شارع الرشيد ُ ُ
جادة السيارات هرباً من التزاحم بالمناكب ،كان المارة يرمقونني ،قسم بازدراء كأني كلب أجرب وقسم آخر برثاء ألني ال أملك مالبس كمالبسهم الجديدة المنتفخة جيوبها نقوداً ..وليتهم علموا أن هللا ال ينظر الى االشكال إن قبحت أو جملت إنما يبصر القلوب
14
الطاهرة ..وخير الناس من ملك نفسه والحمد هلل فانا ال املك سواها . كنت أوزع االبتسامات بوجوه العابسين والمستخفين والمزدرين وفي قلبي مناحة ،ألنني أشعر بصغر نفسي أمامهم ،وأحس بسهام عيونهم تدينني ألني لم أستطع أن أحافظ على أرضي .
أكثرت من المسير حتى ضحكت الشمس مني ُ
نلت وبكت فوق رأسي ،ونستني عند المغيب ،وبذلك ُ
رياضة روحية تسمى لدى الهندوس بتهذيب الروح ،
ولكن كيف للجسد أن يصمد حتى النهاية ،وهو الذي يخذل الروح في آخر المطاف أن األلم في الحياة يتسلسل وفق منهاج الطبيعة الشريرة فمن يكن أقوى ينج ،ومن يكن متضعضع الكيان إرادة وأصفى نفساً ُ
ضعيف النفس يسقط فى الهاوية وأنا بال كيان ،وواهن
النفس .يقول غوركمان (أن إنحطاط العقل بالوراثة) أما أنا فانحطاط عقلي سيكون من جراء الحزن وااللم.
15
ورحت تعلل بقول المتنبى ففيه وصف حقيقي لما أنا ُ
فيه :
أهـل وال وطن بم التعلل ال ٌ كأس وال سكن وال نديــم وال ٌ ٌ أريــد من زمني ذا أن يبلغني ما ليس يبلغـه من نفسه الزمن ال تلق دهـرك اال غير مكترث ا
ما دام يصحب فيه روحك البدن لكن كيف ال اكترث وكل شيء يباع في أسواق
النخاسة حتى العيون ،عين الميت بالف وعين الحي بمليون ،فيأتي إبن يبيع عين أبيه ويأتي أب يبيع عين إبنه ،المال وحده زينة الحياة الدنيا ،المال وحده كون كبير ،وتخزن حتى الدماء ،وتجمع ليعيش عليها االغنياء لقاء حفنة من تراب تدفن عيون الرغاب . . المجد للمال على االرض والموت للضعفاء .
16
يوم صحراوي أن طعامي في أكثر االحيان بعض حبات من العنب اليابس يقول الرواة أن حبة زبيب أطعمت أربعين إنساناً ،أما في جوفي فكل حبة تغذي أآلف الخاليا الجسدية ،ولكني في هذا اليوم لم أجد تلك الزبيبة لتطعمني ،بل أعطاني واحد من الناس رغيف خبز وقال لي :أيها الشيخ إق أر سورة الفاتحة عند كل لقمة على روح .. وقاطعته مداعباً : _ وهل يحتاج ميتكم الى هذه الفاتحة !! نظر الى بدهشة ولم يجد جواباً وسار في طريقه ورحت من رحت أقطع الرغيف فتاتات صغيرة .. ُ
الصباح حتى المساء كل ساعة أحصيها في ظل
الشمس الممتد أأكل فتاتة منها وأمضغها جيداً وعند كل مضغة أردد ( الحمد هلل رب العالمين ) على الميت
17
المجهول عسى أن تنفع وتكون وسيطة لدى الرب لعتق تلك الروح ان كانت في الجنة او النار . أنا جائع واالرض جائعة ،حياتنا تعايشية ، االرض تهبني الطعام من جسدها ،وأنا أهبها الغذاء غداً بكل جسمي بعد أن أمر بتنور الحياة كما مرت حبات الحنطة بلهب التنور وأمست صالحة لألكل ، األرض وحش كبير يفد البشر الى جوفه رغماً عنهم بعد ان يصلوا الحد الذي ال يتمكنوا فيه ان يستدينوا من االرض ويماطلوها ،وهذه هي نهاية دفع الديون ألمنا االرض المتوحشة . فجأة أشرقت في فكري قصيدة ابن سينا الفيلسوف التي مطلعها : االرفع هبطت اليك من المحلل ِ وتمنع ورقاء ذات تعزز ِ أتعرف عليها من قبل فقد وتذكرت روحي اذ لم َّ ُ
كانت هادئة وديعة صغيرة في عين ذاتها يعطى لها 18
القليل فتقنع عن طيبة قلب وعن رضى خاطر ،فما أن يحادثها أحد حتى تنصت له بكل جوارحها ..فتتألم أللمه ،وتفرح لفرحه ،وتنساب مع أهواء االخرين ال ٍ وغال في كما تريد أهواؤها وكانت تضحي بكل عزيز سبيل الوطن حتى لتكاد تحسبها مثاال للتضحية ونكران الذات ولكن كيف للدهر أن يترك مثل هذه المتفانية في جنة النعيم في نعيم الحب البريء والسعادة القلبية والراحة الفكرية ،فقد دارت عجلة الزمن باقصى سرعتها او باالحرى كرت االيام بدون حسبان ،وكانت في غفلة عن أمور الوقت وما وراؤه من طموح الشباب ورغبة الرجولة وأحالم الكبر. حتى هبت عاصفة هوجاء على المدينة بحيث شردت سكانها من دورهم ومآويهم ،فهربت تلك العذراء مع الهاربين وهي تنطلق الول مرة من بوتقتها رغم ًا عنها . تخبطت العذراء فى تلك االونة محاولة أن تتكيف كما يتطلب الموقف ،عجزت ،تعبت ،لهثت ،ألنها 19
غير قادرة على الخطب الجسيم ..فمن تكيف في بيئة وأقتلع منها ونقل الى بيئة أخرى يصعب عليه التكيف بها من جديد . حاولت هي أن تهرب من الصحراء المحرقة التي أحست فجأة أنها مرمية فيها قس اًر ولكن أين المهرب ؟ َّ وأينما شطرت وجهها ترى الصحراء تكبر وتمتد ، وراحت االتربة والرمال تتراكم عليها حينئذ رضخت لألمر الواقع بعد أن تبرقعت بالسواد ..وسايرت الركب الشاق طريقه في الصحراء . بدأ العطش يأخذ مأخذه ،عطشت ،تقلت ، وانتظرت قليالً من الغيث لتروي ظمأها ولكن دون ترجت األصدقاء واألقارب فلم جدوى من االنتظار ّ ، يمدوا لها يد العون ،والتفتت صوب المجتمع فرأته يكرع كؤوس السعادة بعد أن يراوغ ويخادع ويسلب وينهب نصيبها ونصيب أمثالها . آنذاك تعلمت كيف تتحايل كي تكسب حصتها الرواء غليلها ( ولكن الصحراء تطول وتتسع ) هكذا 20
حادثت العذراء ضميرها (فكيف لها ان تبقى بهذا االطار هذا الضيق بهذه االنانية التي تقمصت بها رغماً عنها ،وهي التي فطرت على حب الخير للجميع ،وترعرعت في جنان العمل من أجل االخرين ،فكيف لها أن تعمل مرغمة من أجل ذاتها وارواء شهواتها ، من أجل أن تنال أكثر من غيرها ،وأن تسلب حقوقها من االفواه الشرهة بالقوة والمكر) . طاش تفكيرها وكادت أن تذرف الدموع سخية حارة لعلها تخفف مما تكابده ،ولكن الدمع انحبس في ٍ بصمت وسحت الدماء من قلبها بدل مآقيها فبكت الدموع ،وحاولت أن تغسل االدران العالقة بها ولكن دون جدوى . أين أنت يا طريق العودة ،بعد أن تاهت عذرائي « تلك هي نفسي » في صحراء المشردين المحرقة من سيعيدها الى الجنة ..جنة بيسان ..من ياترى .
21
يوم مالئكي أحببت االطفال ألني أبصر فيهم البراءة كأنهم عصافير صغيرة داخل الغابة ،وأرى الوداعة تطل منهم كأنها زهرة بيضاء تداعبها النسائم ،أحببتهم ألني أشاهد في عين ذاتي المالئكة قد تقمصت هيئة فكنت أرنو إليهم من بعيد أو قريب ،فأفرح االطفال ، ُ مع فرحهم وأحزن لحزنهم وأدنو من الحمائم البشرية
فأمسد شعرها الناعم بيدي فاحس بنعومة أمواج البحر ،وحين كنت أتمشى في حديقة «األمة» اذا بطفل يترك يد والدته فجأة ويركض نحوي ويتعلق بلحيتي البيضاء وضحكت من عمله ولو إنه آلمني بعض الشيء ولكني فرحت به وبتعلقه ولكن هذا العمل أغضب والدته وجاءت توبخه وتعنفه وهو يقول لها «انه بابا نوئيل » ولكن مع االسف الشديد لم أكنه ألنني ال أملك أية هدية أقدمها له ،يومها عرفت أن االطفال يتذوقون الجمال أكثر من الكبار فهم ما زالوا على براءة الطبيعة وهذا ما حداني أن أكون دوما 22
نظيف الجسد والمالبس ألني أغتسل في المساجد أو الكنائس أو الشواطىء أو تحت شالل الشمس . وما الدنيا اال أن يعيش المرء مع االطفال ويكون
ساه ٍ كطفل ٍ اله كمالك فى السماء ولكن تباً للمقدور الذي سلب مني أطفالي وجعلني أنظر الى باقي األطفال بقلب مكسور وطرف محسور . عندما هطل الليل ولّفع المدينة بالظالم ،إستيقظ ورحت في غفوة سحرية تتراءى فيها حنيني للمجهول ُ
االطياف والمالئكة وانجذل قلبي لحظة صياح الديكة
..وخفقت اآلمال في نفسي لحظتئذ تلتقي االفكار تتعانق الهواجس بيني وبين من أحبهم أجل فالموعد المحدود قد أزف . ها أنا ال أنال سوى الذكرى السارية والخيال العابر ولكن بهما سلوتي وسعادتي اذ أين من أحبهم وهم بعيدون ،بيني وبينهم جسم وأرض ..فيا ترى متى سألتقي بهم .
23
أخذت أكتب : و ُ أحبتي سنلتقي عندما يحتدم الصراع بين قلبي وقلوبكم فيغرس الشوك مخالبه بخدود الصبير ،وتطل أنياب الذئاب لتطحن عظام الحجر ..فتصرخ قلوبكم على وقع سياط األلم ..وترقص نفوسكم طرباً ونشوة ألن عالم االفاق الملونة قد فتح صدره وضمنا بعنف .. وطارت عواطفنا فى سمائه . عندئذ سأصيح بقوة ..ولكن فمي بال لسان فيخرج كعواء ذئب فى ليلة كبر فيها القمر ..تسمعه زوجتي وتسقط تحت جسري بال وعي جثة باردة يتفصد منها الثلج فتهطل أمطاري الدافئة وتغرقها في بحر بال ساحل وتقهقه بكبرياء االنوثة وتمزق ثيابي الرقيقة باظافرها المدببة ..عندئذ تعود سفني الى مرافئها .. فتثور كالبحر وتمزق أشرعتي ..ولكن سفني لدى المرفأ بأمان قد عادت بحمولة السندباد من حرير وآللىء . .فترتد أمواجها كسلى تنتظر متى ُّ يحن السندباد للرحيل ولكن سفني لن تقلع مرة أخرى فالبحار 24
أمست صحارى ..فكيف لسفن ان تسير وسطها بال موج بال ريح بال هدف . يوم عذب سبحت في نهر دجلة ، في هذا اليوم الصيفي ُ
غصت الى األعماق ،وسبرت أغوار الالكيان ، ُ
وشعرت أني أندمج في ذات كثيفة ولطيفة ،وخرجت
بعدها فرشقتني الشمس النارية بسهامها المتوهجة ، ثم نمت وعند االصيل توسدت حشائش الحديقة العامة َّ الليل الطويل بعد أن تعبت عيناي من رصد النجوم بت ما أكلت ال أشهى وال أطيب فهي والقمر ،ما شر ُ كل أنواع االطعمة على مائدة العشاء الرباني ،قد
نزلت من الرب ألجلي أنا المصلوب على االرض المسمر بعظام بناتي في قلبي وصدري . صرت أحلم بأحالم الجنة العذبة ومالئكتها الفضية فداخلني إحساس غريب كأن أكثر روحي هناك وتمنيت أن تذهب كلها الى الجنة ..ولكني أخاف ُ
السأم .
25
كان هللا يحفني وعلى وجهه اشراقة نورانية لم أره حقيقة ولكنه خيل لي في عقلي الباطن فى أعماق بحيرة الجمجمة . آه رباه ،أحن اليك كحنيني الى الجنة ،أحن اليك كلما ضمني سأم واعترتني ضجة األلم ،فما حبي لك اال معرفتي ببعض صفاتك ،وما شوقي اليك اال أملي في السكينة تحت ظاللك الوارفة ،فقد أتعبتـني أمل وبت ال أستعذب أيامها ،حتى كدت أن َّ الحياة ُ نفسي إن لن َّ تملني هي وتهرب . ولكن أين المهرب وسيف الحياة مسلط بوجهي أينما يممته ؟ حنانيك يا بح اًر بال الوان فالعاصفة في جناني تجتاح أبعادي ،تغمرني تطمرني ،تعصرني كخرقة بالية كسمكة صغيرة ضائعة وسط المحيط . ايه يا بنات اللسان ما أنت اال كيان محدود فكيف ُعبر بك عن أعمق أعماق مشاعري حيث أجراس األلم أ ّ 26
تدق بشدة في أغوار قلبي وما يزال الرنين ما زالت ّ
المدوي يضعضع كياني يرجني ،يقتلني ..آه يا للهول . هدأ االعصار في قلبي بعد ذلك وتالشت ألحان السماء وطارت في الصباح الباكر قوافل النوارس متجهة صوب البحار الزرق لالوقيانوس العظيم .. تحمل رحيق أفكاري فوق أجنحتها البيضاء ..وعندما تستحم فى المياه تتناثر االفكار وتغور في المياه فتسرع صوبها االسماك تخالها طعاما من نثار مائدة الرب .. فتلتهم منها الصغيرة والكبيرة وما تشبع ألن كل ما تأكله رغوة من رغاوي الفكر ..طعماً بال سنارة ، وتهجم النوارس زاعقة وتلتقط من المياه كل سمكة مغرورة مخدوعة .
27
يوم مشرق التقيت في الصباح بصديق قديم ما أن أبصرني حتى طار فرحاً وراح يستفسر عن أحوالي وأنا أجيبه باقتضاب ،فما أن علم إني وحيد في بغداد حتى رجاني أن التحق بالكنيسة التي يشرف على خدمتها .. كان صديق طفولتي ،عرفته منذ أن كنا معاً في مدرسة بيسان ،كان متعمقاً بأمور الدين ويقوم بمراسيم الديانة على خير وجه ،أما أنا فكنت أفكر وأخال نفسي تتصل مع الفكر االعظم ،أما هو فكان يعذب جسده لكي يفكر ويقتل قلبه لكي يحب الرب . وعدني بأنهم سيوفرون لي المأكل والمشرب والملبس والمنام على شرط أن انظف الكنيسة كل يوم خاصة يوم األحد قبل مجيء المصلين وبعد خروجهم فرفضت وبعد مداوالت وجد لي عمالً مع رغبتي وهو ، ُ أن أخدم حديقة الكنيسة ،أجملها نظافة وتنسيقاً .
كنت أبحث عن بعض السلوى والمهرب لنفسي الضالة فجاءني العمل ساعياً على قدميه يقدم لي هذا 28
المجال الذي هو باب خالص كعين االبرة حين تكون مم اًر لجمل . إشترطت بدوري عليه بأن يتركني افقت بعد أن ُ و ُ
ح اًر وشأني في طريقة عبادتي وسلوكي الديني وال يقيدني بطقوس عبادتهم . رضى بذلك الشرط ورحب بي أحسن ترحيب ،ثم إتجهنا صوب الكنيسة ..وكانت قابعة فى الجهة الشرقية من بغداد ..بيضاء ،ضخمة البنيان ،ذات قبب عالية ونواقيس كبيرة . استرسلت في العمل بعد خمول أكثر من ثالثين سنة ،وعاد عملي مع الشمس الطائرة حتى سقوطها مساء . خلف االفق ً كانت الشمس قبل ذلك في نظري شمس الخمول والكسل والالهدف . ما يزال لي قلب يخفق فسوف أوقفه سرعة ،وما ال ،وما فتأت يزال لي جسم قوي فلسوف أشنقه عم ً 29
روحي الكسولة تعيش في سراب الجنون فألطلقها الى الحياة العقالنية. بقيت أشكوك همومي كأنك لك هللا يا قلبي فكم مرة ُ
إله ٍ ثان يجلس فى كرسي الجسد وبيده مطرقة الحكم ، فاذا علت ضوضاء الحنين واختلطت اسواق الماضى بالحاضر ،راح يطرق على منضدة الحب بمطرقته ، فيعم السكون األربد ،ويبدأ في اصدار الحكم ،ما أحلى كلماتك أيها الحاكم ،بل ما أعذبها وأرقها وأنغمها ،فقد بثت الطمأنينة في كيان محكمة الجسم ..فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته ،والبريء متهم حتى تثبت براءته ..وأنا متهم وبريء في ٍ آن واحد . ويبقى قلبي يفتتح الجلسة تلو الجلسة دون قرار حكم.
30
يوم فجائي تديت مسوح الرهبان ،وكانت أجمل من إر ُ
مالبسي بعض الشيء ،وبقيت أغطي رأسي بـ(عمرة ) زرقاء كلون السماء المليئة بالغيوم . صرت أعمل في الجنينة بصمت ،أقلم ما طال ُ
ونفر ،وأفتح السواقي ،وأبث المياه لتروي االرض ، وتنتعش النباتات الوادعة ،كانت كل شجرة في الحديقة تذكرني ببستاني في بيسان ،فها هي شجرة الزيتون التى كانت تعطينا ثمرها بوفرة ،وكيف كنا نجمعه وتجتمع كل العائلة من أجل تجريحه زيتونة زيتونة لكي ونغير الماء كل يوم. ننقعه في الماء حتى يرمي م اررته ّ وها هي أشجار البرتقال ،تسكر االنفاس بأريجها ، وأشجار التفاح بعطرها وظلها ..ولكن أين كل ذلك وقد استولى عليه الصهاينة وصاروا َّيدعون أنهم زرعوه ويصدرونه للخارج باسمهم ..وبينما أنا أفتح السواقي لفت نظري أحد القساوسة يرمقني خلسة بين حين وآخر عبر زجاج أحد شبابيك الكنيسة وال أدري ما 31
الذي كان يفكر فيه ،فهو يمعن النظر في الرفش الذي تحركه يدي على بشرة الحديقة . كنت أحفر في منطقة قد أعاقت جريان وحينما ُ
شعرت بيد تمتد وتجذبنى الماء الى باقي السواقي ، ُ أدرت أرسي ألرى ،فاذا بنفس بشدة الى الوراء ،و ُ القسيس المتلصص قبل قليل وهو يقول لي :
ـ ـ ـ لماذا تشوه حديقة الرب وتحفر هنا وهناك بال ٍ ترو وتنظيم ؟ . فقلت له بهدوء : ـ ـ ـ إذا لم يعجبك عملي ،فاتركني وشأني وسوف أدع لك حديقة الرب كما هي يأكل شرها خيرها . وكادت أن تنشب مشادة بيننا لوال قدوم صديقي الشماس الذي أنهى حديثنا غير الودي بسرعة ،وطلب من أخيه في الديانة أن يتركني ح اًر ،وذهب كاظماً في نفسه أم اًر خفياً .
32
وآصلت عملي بهدوء وبعد برهة اصطدم الرفش فحفرت حوله حتى ظهر للعيان بشيء صلب ، ُ
صندوق حديد صغير ،ولم أأبه به ،ولكن تذكرت ممانعة القس لي من الحفر هنا ،فدفعني حب االستطالع الى فتحه بسرعة ،فقد كان بال قفل ،وما أيت في جوفه رزمة من أن رفعت الغطاء حتى ر ُ
االوراق والصور وانبعث منها عطر هندي ضوع الجو
تبكت وأغلقته بسرعة ألسلمه الى إدارة الكنيسة .. ،ار ُ
وأنتشلني من قلقي مقدم القس الطويل االشقر الذي
منعني عن الحفر قبل برهة كان قادماً كالطلقة ،وحمل الصندوق من أمامي وانطلق مبتعداً وهو يردد : ـ ـ ـ ـ تباً للشيطان أال نجد مخبأً نحفظ فيه ودائعنا عن المتطفلين . وتوارى عن انظاري وتركني كالمشدوه ،وبعدها واصلت فالحتي واالفكار تمر بي مسرعة كأسراب السنونو السوداء .
33
وهاجت بي العواطف وخالجني شعور من ارتكب جريمة بحق انسان فما أنا والصندوق ،وفتحه ،ولكن هي المفاجآت تريد أن تعكر صفوي المتبقي وصفو غيري ،آه منها فقد قلبت حياتي رأساً على عقب وضعضعت كياني وقلقلت عقلي ودفنت آمالي ووارت مستقبلي اللحود فما الذي تخبئه بعدئذ في طيات ثوانيها ودقائقها ؟ ! . ودي يوم ّ عندما رشقت الشمس سهامها على االشجار والمباني ،وألهبت صليب قبة الكنيسة ،فأشرق قم ًار خرجت من غرفتي القابعة خلف البناء الضخم فضياً ، ُ
ـ ـ ـ كالمعتاد ـ ـ ـ الى الحديقة الخلفية ال تمم ما بدأت به
قضيت ليلة مؤرقة تلبدت فيها نفسي أمس ،بعد أن ُ
بأضغاث الذكريات المؤلمة التي وخزت فؤادي كاالشواك ،ولكني نمت بعدها دامي القلب ،مكدود الجسم ،فانا اآلن أعمل وأشعر بقوتي تستيقظ من
34
جديد بعد تلك السبات التي مرت فى سماء دنياي كالسحاب . شعرت بالقس ومررت أمام باب القاعة الكبيرة ُ ُ
االشقر خلفي ،وكان قد أتم صالته وبرح القاعة لتوه عت أعتذر منه وعندما تجاوزني بادرته بالسالم ،وأسر ُ
وطلبت منه أن يسامحني لعدم علمي لسوء تصرفي ، ُ
بما سيحدث من جراء الحفر فرد علي وهو يبتسم
وعيناه تلمعان : ـ ـ ـ ـ انك لم تخطىء يا سيدي الراهب ،بل أنا المخطىء فقد ظننت إن االمانة تحفظها االرض ،ولم أخل إنها لن تقدر ،فال مندوحة ،سأحملها أنا االنسان ،فان ضعفي هو القوة ،وان عقلي هو الشيطان ،فال قمت به ،وأرجو أن تغفر لي تحزن من أجل خطأ أنا ُ بدورك لما سببته لك من عذاب نفسي .
وسرت بخطوات وئيدة الى وتركني واجماً وذهب ، ُ
حديقتي عفواً الى سيدتي الحديقة حيث أقوم على خدمتها . 35
ما أبعد الفرق بين السيد والمسود ،ولكن هذا الفرق كل لآلخر . والبعد يضمحالن عند السعادة التي يوفرها ّ ولكني أحول االرض جنة وهمية ،جنة زائلة ، وكل شيء فيها أما سيكون وقوداً لنار الشمس أو حطباً لنار االنسان ..فما أشبهها باحتراقي التدريجي .. فالقلب قد إحترق مبك اًر ،وإحترقت االحشاء بعده وأخي اًر التدرج انسجام البداية تدرج و ُّ سيحترق الجسد ..الكل ُّ مع النهاية . نهرب من النار وتلحقنا النار منذ الوالدة حتى الممات فالحب نار وفقدانه نيران ..وااللم نار والذكريات نيران والحرمان نار والعيش نيران ، والشيخوخة نار والموت نيران .ـ ـ ـ ـ الهي أين الجنة ؟ حنانيك يالطيف اللهيب يجتاح أبعادي ..أرني الجنة ، خفف هذه النيران ..أرسل زوابعك وامطارك وأرو وحل هذا السباخ من فيض حالوتك .فان الجفاف ّ .. نيتشة قد مات ..وااليمان بك ما مات .
36
يوم نسوي ناداني منذ اليوم االول بالراهب معظم الرهبان والقساوسة والراهبات حتى حارس البوابة ..وكانوا كلهم يوزعون االبتسامات عدا حارس البوابة ..فقد كانت ال تحط على فمه فراشة االبتسامة ،وحين أحييه ال يجيب اال بكلمة (أهال) المقتضبة . وفي وقت غذاء الظهيرة يجلس قبالتي على المائدة في مطعم الدير المالصق للكنيسة وال يتكلم بشيء بعد أن نكون قد أخذنا أطباقاً فى صو ٍ ان مستطيلة ،كنت ال استسيغ تكرار العملية ثالث مرات في اليوم بل أتناول من الطعام وجبة واحدة أتقوت عليها طيلة يومي ،مما جعل راعية
المطعم أن
علي لم تشكوني لصديقي الشماس ،ورغم الحاحه َّ
أجديه نفعاً ،وخالني زاهداً في الطعام وما درى أن العرب قالت ( :بيت الداء المعدة) ومنذ وقت بعيد وأنا أتناول وجبة واحدة في اليوم ،وصار شعاري صحة البدن بوجبة واحدة . 37
َّ أدهشني عمل الراهبات فقد َّ يعملن بطاقة هائلة كن اذ يقمن بكل شيء ،نظافة الكنيسة والدير ،وتنظيف مالبس القساوسة والرهبان ،واعداد الطعام للجميع ، فهذه اعمال قد فطرت عليها المرأة وال أعلم هل إن الرجل استساغ أن يترك لها كل هذه االعمال وركن للدعة . وفي الريف تقوم المرأة أيضاً بكل شيء في الدار والمزرعة وليس على الرجل سوى ان يعقد صفقات البيع والشراء ويركن في أحد المقاهي يتسلى مع رفاقه ،وليس هذا فقط بل صارت المرأة تشارك الرجل أعماله فى المدينة ..حتى أضحى الرجل يختص بالجندية تقريباً ،وأنا ال أشك إنها ستتسلم أدوات العسكرية منه في يوم من االيام ،فهي طاقة كبيرة متواصلة فى ديمومة الحياة والحفاظ عليها. وألح على ذهني سؤال ،لماذا يترهب االنسان ؟ في حين انه يعمل كل شيء خدمة لالخرين ..فالراهبة تخدم ،والراهب يخدم ،تذكرت قول السيد المسيح : 38
(أنهم في القيامة ال يزوجون وال يتزوجون بل يكونون كمالئكة هللا في السماء) . فقلت مع نفسي لعلهم ارادوا ان يبقوا في الدنيا مالئكة لكي يكونوا فى اآلخرة مالئكة ،ولكن هذا قتل للجنس البشري فلو صار كل أهل االرض رهباناً لما دب على االرض انسان بعد حين . َّ تقاطرت االسئلة تلو االسئلة حتى تحولت الى خاليا أكول فحينما تأكل االفكار العقل ،تبقى الجمجمة بال معنى ويبحث الجسم عمن يقـوده فال يجد سوى أجسام بال رؤوس ..االيادي تعطي الطعام " للفم ،والرقبة توصله الى المعدة ويسير الجسم بهذا الغذاء، وتكثر االجسام ،يبنون ينجبون ،يموتون بال عين ترى وال أذن تسمع وال عقل يفكر ..وتكبر المدينة إنها ستكون مدينة بال رؤوس .
39
يوم عاطفي إنبثقت أول زهرة من أزهار االرجوان ،فشعت خالل االوراق الخضراء بريقاً لم أعهده من قبل ،جعل عالمي كله مهرجاناً أحمر ،وجذبني جمالها فرحت أطيل النظر في محياها ،رقتها ،قطرات الندى المتزحلقة على خدودها الشفافة ،كأن في أعماق حمرتها عالماً من البهجة ،دنيا تحلق في سمائها انواع الطيور الملونة . إن كان العالم الذي يحيطني بهيجاً فهذا دليل على تدق في قلبي وأُحاول أن أتناسى ، أن طبول الحزن ُّ ولكن هيهات فالواقع كالح مغبر كوجه الحرب اللعينة . عند العصر رنمت الراهبات مقاطع من نشيد االنشاد ال أدرى لماذا لم أستسغها فقد كانت غزلية تتشبب بالمرأة بجسمها لفارع ،بجسدها البض كعنقود عنب ،يشتهيه رجل الصحراء ،وأنا فى خريف العمر ومحال ان تطربني كلمات الشباب والنزق ،وهيهات ان تأز عاطفتي عقلي وتجعله يفكر بالجنس اآلخر ، 40
فلقد سكنت الرياح ،وانطفأت النار ،وتالشت الغيوم الممطرة ،وهرمت االشجار فلن تلد ثما اًر أبداً أبداً . نسيت أن سليمان الحكيم ال يقصد المرأة بل فلسطين الحبيبة ..فلسطين العرب التي حرض بكلمـاتـه الصهاينة على اغتصابها منا ..فويل للصهاينة من أهل كنعان . واذا بي أرى عبر زهرة االرجوان وجه زوجتي البريء محترقاً صارخاً مستغيثاً ..فويل للصهاينة المجرمين مما اقترفوه بحقها وعصف غضبي يكيل اللعنات على تجار الحروب سراق الشعوب واالوطان الذين بثوا علينا الجرذان لتقرض من أراضينا وتحيلها ٍ مآس ..الويل لكم يا جرذان من غضب االحفاد ومن جحافل خيول العرب . ولم تهدأ نفسي اال بمقدم قس لطيف نحيف القسمات يتميز بعينين واسعتين ثاقبتي
البصر ،
عرفني بنفسه وكان إسمه كلبرت وله هواية علمية وهي البحث عن سر وردة االفيون فقد جلبوا له بذورها ، 41
وطلب مني أن أزرعها له ليرى كيف يتحول تويجها الى جوزة وعند تجريحها يسيل منها سائل مستحلب يحول عقل االنسان الى شيطان ،فلذلك يريد ان يختبر هذا المستحلب ويحوله الى سائل رحماني يشفي مرضى الصداع النصفي فلم أستطع أن أقتل األمل الذي يراوده ..وفضلت أن ال أخبره أن هذه الزهرة ليس موطنها العراق بلد الخير والمحبة بل موطنها بالد االعداء الذين ال يعرفون غير الشر. لذلك أخذت الحبوب منه وزرعتها فى مكان خاص معين ،شكرني وذهب . يوم عميق تكونت صداقة بيني وبين القس الفارع االشقر، وعرفت اسمه فقد نادوه بـ (األب شاول) وكان هادىء الطبع يحب السكينة والهدوء ،وتغرورق عيناه بالدموع كلما أنصت الى نوح الحمام المطوق .
42
كان األب شاول يتمشى في الحديقة الخلفية وقت االصيل بعد أن شعر بتحسنها وجمال ثيلها ،وكان في حديثه معي يعتذر عن تصرفه االول حول الصندوق اء على حسن بما يسعه االعتذار ،وراح يبدي لي اطر ً تنظيمي للحديقة بحيث تحولت الى وسيلة الغراء العباد كي يسبحوا للواحد االحد ..فكنت أرد عليه بتواضع ، راح يحدثني عن الحياة وما تحويه من أحداث تافهة وعجيبة ،مسيرة ومؤلمة .وكنت أرد عليه بجمل موجزة بحيث عجب من ذكائي وسرعة بديهتي وتعابيري ،فاحسسنا بتقارب آرائنا ،وتحاببت قلوبنا وتلفعت بغطاء الصداقة . قبل أن يبرح المكان ليذهب الى المكتبة قال لي : ـ ـ ـ ـ إني أشعر بأن حادثة الصندوق ما تزال فى مخيلتك كشيء غريب وتريد أن تفهم كنهه وتفك سره فسوف أطلعك عليه عن قريب. تركني جالساً تحت شجرة الزيتون المظللة أقارن بين وجودي واالشجار ،فابسط شجرة تقدم ثمارها 43
بصمت ،وأنا مثلها اآلن أقدم قلبي لآلخرين بصمت ، وفي الليل سمعت القس شاول يردد قصيدة باللغة االنكليزية : ــــــــ سأصنع من جسمي سفينة البحار ومن ثيابي أشرعة تسير في االعصار أشق بها أمواج الحياة العاتية فان تأرجحت سفينتي رميت ما بها الى العباب تمزقت مع الضباب اشرعتي وإن ْ سلخت جلدي كشراع المتباري أرفعه فوق الصواري طفحت سفينتي موجا الى حد الغرق وإن ْ أحمل جسم البحر من دون قلق وإن ينوء مركبي من ذلك الحمل المقيت 44
أدفنه فى القاع ...لعل أمره يشاع لدى القراصنة . أي شعر هذا وأي شاعر هذا إنه حقاً يحمل صليبه ! ؟ يوم الهب عند أول شعاع من أشعة الفجر الذهبي بدأت نواقيس الكنيسة تدق دقاتها المهيبة برنين مموسق عذب بحيث جعلتني أشعر بأن المالئكة تسبح للعقل االعظم وتهلهل لقوته وعظمته . خرجت من غرفتي ألشاهد طيور النور البيضاء ُ
وهي تحط على قبة الظالم وتطرد الظل الثقيل ، وصار الشفق الشرقي جم اًر من لهيب قرمزي . وإنطلقت أنواع الطيور تجوب السماء وتشارك بعزف سمفونية الصباح .. أي يوم مشرق كوجه حسناء دامية الخدود ،وأي نسيم عذب كانفاس الزهور لطافة . 45
هذا اليوم هو راحة المسيحيين وفيه راحتي أو باالحرى حرية نفسي من نفسي . تجولت في الحديقة األمامية أتطلع الى االزهار المتفتحة وأُراقب الوافدين الى الكنيسة وهم يدخلون من ونساء واطفاالً ..مرتدين أجمل البوابة الرئيسة رجاالً ً المالبس ،يدلفون الى قاعة الكنيسة وكانوا بين الحين والحين يحيونني فأرفع يدي محيياً وأطلق لساني مصبح ًا ،دقت أجراس قلبي الول مرة بعد مضي نصف قرن ،فقد رأيت من هفت لها نفسي أيام الشباب تسير أمام أوالدها الكبار متأبطة ذراع زوجها البدين ،وكأني أبصرها ما فتأت على سالف عهدي بها من شباب وحيوية وإنوثة ،رمقتني بنظرة ال أعلم هل عرفتني أم ال ،لكنها تبسمت في وجهي وهي تواصل سيرها بتغنج محتشم . عجبت من نفسي ومن قلبي ،كيف سولت لهما ذاتهما أن يعاودا حنين الصبا وهما بهذا الكبر والشيخوخة ،فتركت الكنيسة هارباً من خيال الماضي 46
السحيق ومن قلبي المتهور ،لئال أدنس الحب االعظم انطلقت خارج المدينة ،الحب الزوجي المقدس ،و ُ متجهاً الى قناة الجيش وأنا أردد مع نفسي :
( سأصلبك يا قلب على جذع حبيب واحد ،وكفى ، فطالما صلبتك على األغصان ،فما أعذب مسامير الحب ،ساغرز الكثير منها فيك ،ألربطك في الشجرة ،وتنمو أنت وهي معاً ،وتروي دماؤك جذور الحبيب ،فالمرأة خلقت لك لتبثها الكثير من العطف والحنان.. وأنت قد فاض بك هذان ،واستقطرت وسكبت وغرقت وأغرقت ..واذا إستخف بك الناس فأحمل صليبك وارحل بعيداً عن األنظار ،ليقال بعد ذلك إنك مجنون فما أحلى الجنون بمن تحب حتى وان لم يكن على قيد الحياة ) . أطفأت الجذوة المتبقية عدت في المساء بعد أن ُ ُ
تحت الرماد ،وأطلقت قلبي مرفرفاً بين أرض وسماء فوق الضفاف الواسعة الخضراء لمنبسطة كبساط
47
مطرز ،حيث أحسست إني ذرة متناهية فى الصغر في كيان الكون . يوم أبيض منذ الصباح حتى المساء ويدي في الحديقة تشذب وتسقي وترتب وتنقل النباتات من مكان الى آخر وتقتلع االدغال الضارة فقد آليت على نفسي أن أقتل هذا الجسد عمالً ،وحين خارت قواي إغتسلت وصعدت الى برج الناقوس حيث أستمع الى صوت ُ
الحمام وهو يستكين الى أعشاشه وما دريت إني ساطل
على حديقة الراهبات ،فال ادري هل الحمام انقلب الى فتيات يلبسن المسوح االبيض أم أني أرى حقيقة منظ اًر تخشع له القلوب ،فكأنهن مصابيح بيضاء تتحرك وتغني بتراتيل ربانية . وكأن الزمان توقف ونبضات قلبي توقفت حتى عيني توقفت أهدابهما عن الرمش ،فالمنظر قلما يرى ويتكرر ،طيور تتحرك برقصة لم يرقصها بشر اال فى الف ليلة وليلة وأصوات سحرية تفتت قلب الحجر . 48
هلوليا للجمال ..فهو غابة سحرية يحط في أعشاشها النظر ،فيلقى السكينة المعطرة ،واالحالم الهانئة ،والوداعة الطفولية ،والبراءة الشاعرية ،فيخال أن الجنة ملموسة لديه وإن ما ال يعرفه بدأ يفهمه ، ويرسم صوره ،ويشيد هيكله واعمدته في قلبه حيث الدنيا تتسع وتترامى في أُفق الخيال ،أنذاك يذوب في الجمال ويذوب الجمال في نفسه ..وبينما أنا في هذه التهويمة سمعت كالما حفظته بسرعة يقول : تغنجي تغنجي هوادج النساء ثم أرقصي كرقصة الحمام عالم ذا الشقاء يا قلبي عالم 49
سماء ..يا سماء القبة الزرقاء للعطور واألرض لألجسام ما ِ أنت يا حديقة الطيور يا موطن االحالم في أواخر الدهور لئالىء الليل قواف مجاهل الفكر سور أين العبور أين العبور والجسر هاوية الحطام . نمت قرب شباك غرفتي هانئاً . وبعد أن دونت هذا ُ
50
يوم معقوف جاءني األب شاول يستفسرني عن عدم وجودي يوم األحد الماضي في الكنيسة ويبدي لي كيف أفتقدني ذلك اليوم بعد أن يأس من العثور علي . وأخبرته عن ذهابي خارج المدينة واستمتاعي بأُمنا الطبيعة بل منحة السماء ألهل األرض كما قال هوميروس . طفق يحدثني عن خطبته التي القاها وكانت حول آآلم السيد المسيح ونهايته المفجعة على الصليب . فرددت عليه قائال : ـ ـ ـ ان المسيح تألم ألم ًا جسدي ًا ،وانتهت أآلمه بعد فترة وجيزة من الزمن ،حيث حلقت روحه الى الالكيان ،فأين منه الذي علكه األلم نفسياً ،ومضغه الحزن عقلياً ،عندما فجعه بأعز ما يحب وأغلى ما يملك .. وما انفك بعين اآلالم والتعاسة كل يوم ،ألن كل ما
51
يربطه مع الحياة قد انقطع ،وصار قلبه وكبده يتآكالن ٍ بمنته وال الذاكرة تموت . كل لحظة ذكرى ..فال هو
دهش من قولي ،ونظر في وجهي بامعان كمن يحاول أن يسبر أغوار نفسي ويكشف براقع قلبي . وقال بتلهف : ـ ـ ـ من يكون هذا بحق المسيح ؟ ـ ـ ـ إنه ماثل أمامك يا صديقي ،كثمرة تعطب جوفها وأمست خاوية على عرشها فعند أول لمسة أو هزة ستتحطم الى أشالء مبعثرة ،ولكن كيف للزمن أن يرحم ويعجل بانامله ليخلع ما تبقى ويواريه العدم االسمر ،حيث ال أضواء ساطعة وال رياح راكضة وال أرض مغتصبة . وتركني األب شاول بعد أن دمدم بكالم لم أسمعه فناجيت نفسي قائال لها : جيداً .. ُ
52
( أصبري أيتها الروح لجسمك المصلوب على الصليب المعقوف ..فقد ُكتب عليك أن تتعذبي في الدنيا لكي تذوقي طعم الحرية شهداً في اآلخرة ) . ورحت أدون : ُ ( سأركب عربة الغرام وألهب ظهر قلبي بالسياط لكي تركض بخيولها في ساحة الحبيب ،فان وجدت كثي اًر من العربات تتسابق في هذه الساحة ،أجعل السوط يلهب ظهر قلبي أكثر واقسو عليه لينهب الساحة نهب ًا شقت بسهام االعداء فسوف أصدها بصدري ،وأن ُر ُ بكل جرأة وأتركها تغور في جسمي ليقطر قلبي دماً أكثر وأكثر ،ويطير بالعربة ويسبق باقي العربات ، عند ذاك أصل الى من أُحبها دامي الجسد منهوك القوى ،وأفوز بقلبها ،وتبدأ بيديها الرقيقتين تزيل السهام وتضمد الجراح بالحب والحنان ) .
53
يوم ملون تكاثرت في هذا اليوم أعداد الزهور المتفتحة حتى ليكاد الناظر أن ال يرفع بصره عنها لحظة ،الن العيون قلما ترى مثل هذه االوراد الجميلة الزاهية بكل االلوان وشتى االحجام واالشكال واستذكرت قول الشاعر : تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشية من عرار ولكن فرحتي بورودي هذه ستكون مثل فرحتي ببناتي التي لم تدم طويالً ،وما أن أتممت هذا الخاطر حتى أبصرت حارس البوابة يجني من الزهور األجمل ُ واألبهى واألشد عط اًر واألكثر جاذبية دون حياء من أحد أو رأفة بالجمال ..وحين أبصرني لم يأبه بي فكأنه يمتلك تلك الزهور وهو أحق بذبحها من غيره . دمعت عيناي فاخفيت دمعي باطراقة الى االرض ،وانتشلني من ضعف عاطفتي صوت ٍ فالتفت اليه قس ُ 54
فت يعرفني بنفسه ،عر ُ بعد أن كفكفت أدمعي ،وراح ّ
إن إسمه (أدور) وعرض علي لوحة رسمها لتوه لتلك
الزهور المنتشرة المشرقة . غصصت بالكالم ولم أستطع أن أُعبر له عن شيء ،فانا أرى االنسان يسعى الى الخلود بشتى الطرق وما الرسم اال دليل على ذلك . الح علي فقلت له : طلب رأيي في الصورة و َّ ـ ـ ـ يا بني ان لك براعة في تقليد الطبيعية مما يدل على دقـة مالحظتك وجمال ذوقك ورشاقة فرشاتك بوضع االلوان ،ولكن البشر ال يهتمون لما يرونه اعتيادياً بل يميلون الى اللوحة المعبرة عن موقف انساني شامل وتسلب مشاعرهم الكامنة فتدهشهم وتعريهم على حقيقتهم دون ان يشعروا بذلك اذ لو شعروا لصلبوك . ـ ـ ـ ـ يا سيدي ان لك رأياً غريباً هال أفصحت لي عن طريقة أنتهجها في الرسم .
55
ـ ـ ـ ـ أسلك كل طرق الرسامين قبل أن تحدد طريقتك .. خذ مواقف غويا ،ودقة ديالكروا ،ورموز بيكاسو ، وتخطيطات دافنشي ،ومزج االلوان عند فان كوخ ، وتكوينات سلفادور دالي ،والبراءة عند سيزان وماتيس كل هؤالء اجعلهم وسيلة الى التكامل الذاتي لكي تتجاوز به مرحالتهم الفنية وتتسم أنت بطابع خاص ، الن البشر يميلون الى ما يشدهم نحو أعماقهم وحلمهم وآمالهم أكثر ما يميلون الى واقعهم القاحل ..بل خذ واقعهم وارحل به عبر السماء . وشكرني وترك لي الصورة هدية ،حملتها الى غرفتي معت اًز بها ،فهي خير وسيلة لشد الروح عبر نافذة تطل أبداً على مهديها . يوم قاتم أتى صديقي الشماس وأنا منشغل فى الحديقة الخلفية وطلب منى أن أتهيىء للذهاب معهم الى قصر السيدة ( ماري ) حيث دعت الجميع لتناول الغداء ، فاعتذرت منه لعدم رغبتي في تلبية الدعوة ،فلي ُ 56
وطلبت منه أن يعتذر لي ،فتركني على مشاغلي ، ُ
أمل االعتذار .
كنت أعرف صاحبة الدعوة فهي نفس المرأة التي ُ
داعبت قلبي في االيام الخوالي ولم أقترن بها الن هللا بعث لي إمرأة أجمل وأطهر وأطيب ولكن كيف للقدر أن يدع االحياء سعداء بعد هبات هللا ،وهو المشهور بفضاعة مقالبه ،لم لم يدعني هانىء القلب والخاطر بزوجتي وبناتي حتى قصم ظهري وقطع نياط قلبي ، فواحسرتاه لفقدهم ،ويا لتعاستي من بعدهم . طفقت أبكي بصمت وبال دموع حتى شعرت أن ُ
فؤادي يتفطر ويتمزق ،وأن نفسي تدلهم ويضيق بها جسمي ،وكأن الدنيا حلم مزعج مظلم ،آنذاك هرب الفجر من عيوني وزرعت الظالم فى دمي فلم تـنبت أشجاره وحلقت اآلالم في سماء نفسي وراحت تقتات الخير والسالم وترقص على دقات طبول الموت معلنة الحداد على االحياء واالموات وعلي أنا الميت الحي .
57
وبينما أنا كذلك اذا بيد تربت على كتفي وبصوت االب شاول يقول هون عليك أيها الشيخ واال ينفجر فؤادك من األلم ! وقلت والعبرة تخنقني : فعت رأسي نحوه ُ ور ُ يا ليته ينفجر وأنتهي ..اتركني أرجوك فلي معنفسي سجال دموي . وعاودت قرع طبول الحرب مع روحي ،عندما تهرب االفراح من جزيرة قلبي ويخيم الظالم في أرجاء فؤادي وتهجم الغيوم السوداء وتلبد الشغاف وترعد ألما وتبرق حسرة ،وتطير الش اررات لتحرق السويداء ، آنذاك أصيح في أعماق نفسي ( الهي يا ُمنزل َّ المن والسلوى رحمتك ..ما هذا األلم الذي يجتاحني ،ما كل االحياء ُخلقوا مثلي ، هذه التعاسة التى تذيبني ،أ ّ
عالم تعصر فؤادي بقوة وأنا أعرفك رؤوفاً رحيم ًا ،
عالم تطرق قلبي بمطارقك القاسية وال تمسده بيدك الحنون ،عالم تقلب لي الحب وهماً والحبيب خياالً ، 58
عالم الورود تصير أسوداً مفترسة ..إلهي رفقاً رفق ًا وألف ألف ٍ رفق ). يوم فقاعي الحياة رتابة دهرية تعطي بلمح البصر وتسلب برمشة عين ،فقبل أيام خلت كانت زهرة االرجوان بين الورود يانعة مغناجاً ،أما اليوم فقد خنقها العدم ويبست وذرتها الرياح ،فيا لعاقبة االنبثاق والتنفس .. اصلت عملي بدون رغبة ،وجاء صديقي الشماس مع و ُ
القس كلبرت واخبراني أن السيدة ماري افتقدتـني طوال الوقت الذي مكثوه في قصرها ،وكانت ما تفتأ تسألهما عني وتوصيهما خي اًر بي ،وقد اخبرتهما إنها من نفس حارتي في بيسان . فاجبتهما بقولي : ـ ـ ـ ـ عندما يفقد االنسان العالم يبدأ بعض الناس بتقديس ذكراه ،وحين كان بينهم وقريباً منهم لم يعيروه صديقي إنها ال تذكرني بل تحاول أن أدنى أهمية ،يا َّ 59
تخدع نفسها لتتخيل إنها باقية على شبابها فهي قد قاربت دخول العدم ،وأنا قد ودعت الدنيا منحد ًار لت أنزل ،وهي تخاف أن بسرعة الى بحر الفناء وما ز ُ
يمحى من ذاكرتها شريط الصبا الملون المعطر ،أما فقدت ذكريات الشباب الى األبد ولم تبق سوى أنا فقد ُ ذكرى آآلم الرجولة والشيخوخة .
دهشا من كالمي ،وال أدري هل فقها ما أرمي اليه أم ال ،لكن الشماس التفت الى كلبرت قائال له : ـ ـ ـ ـ أي شيخ قاس شيخنا ..ليحمه الرب من نفسه . كأن خنج ًار غرز في صفحة قلبي فأدماه ،وليتـني كنت بال لسان لما دخلت غابة الكالم صارخاً معب اًر عن همومي فتسمعني الوحوش الكاسرة وتهجم علي وتقطعني بأنياب اللفظ وبمخالب الحروف ،فتباً لك يا فم بما تجلبه من مصائب جارحة .
60
بقي كلبرت واقفاً بعد أن انصرف االب شاول ينظر الي بعين ثاقبة كأنه يريد أن يخترق أعماقي ويكشف سريرتي ثم بادرني قائالً: ـ ـ ـ سيدي الشيخ هل نبتت الحبوب ؟ كنت قد نسيتها حقا ،فاجبته : ـ ـ ـ هيا بنا ننظرها . تمعن في التربة لم يبصر شيئاً ،لكني أبصرت إرتفاع التربة في بعض االماكن فقلت له : ستنبت عن قريب فأصبر أكثر . ـ ـ ـ ـ أظن إنها ُ وبعد أن تركني قلت في نفسي لتكن تجربة له تعلمه الصبر في معرفة الحقيقة المؤلمة ..خلعت قلبي وزرعته على الصخر وأنا أدري إنه لن يخضوضر لذا سازرع الصخر في قلبي الى األبد . باضافري ساحرث مزرعتي وسأشتل فيها بقايا حبي وأُسقيها بالدموع ،فان نبتت االشجار بال ثمر أمسك 61
فأسي وأنهال على جذوعها قطعاً ،وأنهش جذورها نهشاً ،ثم أبث النار لتقضم مزرعة حب غير مثمر وتحيله الى رماد . يوم زنجي تحت زنود الليل احتضنت طاولتي السوداء ، ومسكت محراث الورق الزرع بمداده لغز الكلمات ، وكان المصباح يطرد بنوره أشباح الظالم فيأتلق الورق فوق الطاولة كأسنان الزنجي . يرسو عند مسامعي نغم الكون المدوي بخفوت ،وال يقطعه سوى وقع خطوات القسيسين في الممر . كم عسيرة هي االفكار الجديدة ،فاليوم الذي مررت به لم يكن جديداً تحت الشمس ،فليس فى فكري سوى أصداء الماضي ومن يحب أن يؤلم نفسه بنفسه فليستخرج الصفحات الحزينة ويقرأها ..فكل ذكرى أستذكرها مسمار قديم يدق في شغاف قلبي ،فكم أنت
62
لذيذة يا مسامير الذكريات حينما تغرزين في تابوت الدماء ،فأنت تسلية حياتي الضائعة . طرقني منظر شتوي ،حيث كنت في عش الزوجية الذهبي أجلس قرب المدفأة على كرسي وثير ،وكانت زوجتي تربض على بساط الغرفة بقربي واضعة رأسها ـ ـ ذا الشعر االسيل ـ ـ ـ على حجري وكان يتموج أبنوساً يميل الى البنفسجي ،وكانت لذتي الوحيدة هي النظر الى محاسن وجهها المتورد وسط هذا البحر من السواد الذي تخضبه ألسنة النيران بأشعتها ،فتتسلل أصابعي مبحرة في طياته الناعمة . آه كأن تنفسها أحس به اآلن ،فيا للمنظر ،لو أعدته في مخيلتي م ار اًر لما مللت ..وما السعادة اال كطيور فى غابة السالم تتـنقل من غصن الى غصن ، كل ما يغريها من ثمر يكون داني القطوف ،وكل ما يرويها يكون سهل المنهل ،فتستظل تحت االوراق الطرية ،ال عمل يتعبها غير أن تزق الحب زقاً ، ويداعب الحبيب الحبيبة . 63
ليتك يا سعادة قلبي بقيت ترفرفين علينا ،وليت مقص الزمن تكسر قبل قصك . لم استطع النوم فخرجت الى الحديقة الخلفية السترق السمع لموسيقى الليل الكونية ..صرير عشرات الصراصير يقطعه نقيق ضفدع ،حفيف سعفات النخيل يتخلله نباح كلب من بعيد يعقبه هدير شاحنة ..وخلف كل هذه االصوات هناك صوت هرموني كوني هائل ،حقا انها لسمفونية بعيدة االغوار. طرق سمعي صوت أحد القساوسة وهو يحاول أن ينظم بعض بيات الشعر ويتوقف عند المقطع ويعيده بصوت حزين ..اقتربت من مكانه فوجدته جالساً على المصطبة الخشبية ينظر الى أشعة القمر الزورقي . حييته ،كأن تحيتي تيار كهربي مسه ،فإرتجف جافالً من صوتي ورد علي تحيتي بحروف متقطعة ، فإعتذرت منه لقطعي سلسلة مشاعره ،لكنه إبتسم ُ برضى بعد أن سيطر على إرتباكه وقال :
64
ـ ـ ـ أبداً ..أنا أنظم قصيدة وقد عصت علي االلفاظ الدقيقة فلعلك ترشدني اليها فقد اخبرني أخوتي عن درجتك العلمية واألدبية ،والحق أنا أريد أن أكلمك منذ فترة . حدجته بنظرة فاحصة ،فقد كان شاباً خجوالً ، باسم الوجه بعينين حزينتين تتكسر نظراتهما كلما التقتا بعيني ..قلت في نفسي حقاً إنه يحمل صفات الشاعر عت وقلت له : أسر ُ ـ ـ ـ ـ تفضل ستجد عندي ما يسرك . قال :منذ سنوات وأنا أنظم الشعر ،وقد قلدت الشعراء االقدمين ،لكني كرهت قيود القافية ،وملت الى الشعر الحر ،فتأثرت بالرواد العرب علماً إني أحسن الفرنسية وأتذوق شعر رامبو وفيرلين ،وقد نظمت قصائد كثيرة وارسلتها الى الصحف والمجالت وما علمت إني أرميها فى ٍ نهر ج ٍار ..وال أعرف سبباً لرفضهم قصائدي ؟!
65
ـ ـ ـ أسمعني شيئاً ؟ عرفت راح يق أر لي بعضاً مما يحفظه من نظمه ، ُ
،أن له أذناً موسيقية ويتحسس النغم بدقة وعذوبة وهذه أولى عالمات الشاعرية. كما أعجبني إستخدامه لاللفاظ بشكل جديد يوحي ٍ بمعان مجنحة تسلب الخيال بسرعة ،وتأخذه الى عوالم غريبة ساحرة وهذه ثاني الشاعرية ،وطابع الحزن غالب على شعره فقلت له : ـ ـ ـ أني أجد الشاعرية مكتملة عندك فهال أسمعتني قصيدة نظمتها بعد تجربة عنيفة هزت قلبك وأحاسيسك وتجدها أقرب الى مشاعرك. وراح ينشدني شع اًر كشعر أودونيس حفظت منه هذا المقطع : لغتي خشب ولست كاألشجار لكنني من مدن غريبة أتيتكم
66
عبرت في عيونكم مفاوز القصدير والنساء أبحرت من بحاري البعيدة المسار وجئت حيث خطت العرافة الضريرة وبعد ما َّ علقت في مدينتي أعوامي العشرين في مشنقة تستقبل الجفاف والزوار أتيت يا ملهمتي ألنني مسافر بضاعتي االحزان أعرضها أبيعها بحزني الغريب أصرها في جزر غريبة عليك ففي غد وها هنا اذ تنضج االثمار وتسأل الطيور عن أغصانها و ِ أنت في عينيك عن جزيرتي ملهمتي ال تتعبي السؤال
67
إنني ولدت مثل طائر ومت كالنهار . قلت له عندما إنتهى :أخرج من معطف أودونيس ُ
..أترك الفاظه وعباراته فشاعريتك قوية وجارفة ، ابحث لها عن عبارات والفاظ جديدة لم تخطر ببال أي شاعر ..وسيكون النجاح حليفك . وبقيت شكرني بألم ..وودعني على ليلة هانئة .. ُ
أحاسب نفسي وأنتظر نجمة الصباح لعلها تخفف من صراع أفكاري . يوم موحش سوف تهاجر أسراب الطيور من الجزيرة الخضراء ،ويعم السكون فؤاد الجزيرة ،ال نغمة طائر وال خفقة جناح ،وتبكي الغدران وتنتحب الشالالت ، اذ ال بلبل يشرب من منابعها ومعينها وال عصفور يكركر مع قطرات مائها ،نافضاً ريشه بسعادة ،كما تلطم األشجار خدودها أسفاً وحسرة ،اذ ال حمامة تعشعش فى وكناتها ،وال ببغاء تتأرجح بأغصانها ، 68
وال هزار يغرد بين زهورها ،عندها تهجم االشباح تبث الرعب في نفس الجزيرة ،فتتأوه الجزيرة وحشة والماً ، وال تجد منجاة من وحدتها الكأداء فتغطس الى قاع البحر لألبد وتبقى فى سباتها حيث ترقص فوقها األمواج والتيارات . فما أن أنهيت تأمالتي بجزيرة حياتي حتى إقترب األب شاول وحياني واطمأن على أحوالي ثم أردف
قائالً ٍ بجد :
ـ ـ ـ ـ سيدي الراهب أننا قد وضعنا أنفسنا لخدمة الرب ، وخدمته ال تتم اال بعد خدمة المجتمع معنوياً ومادي ًا وبما أني أراك ضعيف النفس متألم الذات ،فهل تسمح لي أن أبث فيك روح السعادة ؟ ـ ـ ـ ـ وما هي السعادة في نظرك ؟ ـ ـ ـ ـ هي راحة البال ،وطمأنينة النفس . ـ ـ ـ ـ وما هي وسائل الراحة ؟! ـ ـ ـ ـ أن يقنع بما وهبه هللا . 69
ـ ـ ـ ـ اذا كانت الراحة أن يرضى بما يعطيه هللا ،فان هللا أخذ مني كل شيء ،فمن أين ستأتيني راحة النفس ،والسعادة إستردها هللا مني ورزقني بدلها الشقاء األبدي . ختم الصمت افواهنا لهنيهة ثم بادرني األب شاول متسائالً : ـ ـ ـ ـ ولكن أال تخبرني ما الذي جرده منك الرب ؟ ــــ
لقد أخذ مني بناتي وزوجتي وداري ومزرعتي
ووطني ولفظني من هذه الحياة لفظ النواة . ـ ـ ـ ـ أظن أن الحياة قد ساوت بيننا ! ـ ـ ـ ـ ـ كال فأنت إنتهجت هذا الطريق وفق ظروفك ،أو رغبتك ،أما أنا فقد اعتدت على أن أبني مستقبلي وأمهد الطريق لبناتي وأسعد زوجتي وأخدم وطني ،فاذا كل شيء يتهدم في طرفة عين بعد اتمام البناء ، وأمست األهداف سراباً ،فكيف سنتعادل أنت رجل ترتفع أما أنا فرجل يهبط الى األغوار المظلمة . 70
فرد األب شاول وعلى سيمائه ذهول التفكير العميق : ـ ـ ـ ـ ألم تعلم أن الرجل ال يكون عظيماً إال أن يقاسي ألماً عظيماً . ـ ـ ـ ـ يالها من كلمات خادعة وإن تحققت فان العظمة ستأتي على الهامش بعد أن يكون المرء قد واراه التراب. ـ ـ ـ ـ ولكن الذكرى الطيبة هي المجد والخلود وهذا ما يسعى اليه االنسان . ـ ـ ـ ـ أجل ..ولكن أظنك أردت أن تقول ( ال يكون االنسان عظيماً إال أن يبني بنياناً عظيماً ويقاسي من ورائه الماً عظيماً ) ..أما أنا يا صديقي فقد بنيت كل شيء البنيان وقاسيت األلم وعند الكمال إنهار ُّ وذهبت ُّ مسيت وحيداً تائهاً كل آمالي أدراج الرياح ،وأ ُ ليس لبقائي معنى ،بل لموتي ألف معنى في نفسي ، وحين أرحل عن الحياة لن أجد دمعة تسكب فوق 71
قبري ،الن أعز ما الى روحي وقلبي سبقوني وبكيت عليهم . ــــ
ولكننا خدم الرب سنبكي عليك ونذكرك دائماً
ونصلي من أجلك ،داعين هللا لك بالغفرآن . ـ ـ ـ ـ الغفرآن !! وهل قمت بذنب أستحق عليه الغفرآن ؟ أنا انسان ال أحتاج الغفران قط ،فأنا ال أطمع في دنيا أو في آخرة ..أطلبوا الغفرآن للذين سرقوا الدنيا ويريدون أن يسرقوا اآلخرة . ـ ـ ـ ـ لقد أعييتني ..إذن ليبق الحمل تائهاً عن القطيع . يوم مموسق جاءني منذ الفجر ـ ـ ـ ـ وعيناي لم تغتسل بالنور ـ ـ ـ ـ األب شاول وهو يحمل نفس الصندوق الحديد .. ووضعه على المنضدة بالقرب من سريري وقال : طلع عليها ـ ـ ـ ـ يا أبتي خذ هذه االمانة فى عهدتك ،ا ّ لترى إننا متساويان ..ثم خرج دون أن أبدي له ممانعتي ،وكيف أُظهر رفضي وأنا أشعر بأني وحدي 72
الضائع في الحياة ،واآلن أريد أن أعرف هل حقاً يوجد انسان مثلي ويساويني . رحت أرمق الصن ــدوق الحديد ،الذي كان من طراز القرن الثامن عشر .حيث اكتظ بالزخارف الخارجية ،واثر التراب والصدأ ما برحا ظاهرين على أضالعه ..فبدأ الفضول يحز في نفسي ح از ،ولكني كنت عازماً اليوم على نقل بقايا االحراش النباتية الى خارج الكنيسة ،لذلك قررت أن أطالع على محتوياته غداً ،حيث يصادف يوم استراحتي المقررة . هببت حملت الصندوق وأخفيته في درج الخزانة ،ثم ُ
للعمل لكي تذيب طاقة الشمس سالسل الخمول .
بينما أنا مشغول بجمع االحراش ،بعد أن أقلعها مع جذورها لمحت الحارس جالساً أمام باب غرفته الصغيرة المالصقة للبوابة كأنه يحرس سجناً ال بيتاً للرب . ال أدري لماذا شعرت أن حارس باب الجنة سيكون من الشياطين وليس من المالئكة وراجعت نفسي 73
متسائالً :لماذا ؟ ..أ لقسوة مالمحه أم لصرامته وخشونة الفاظه ،فتذكرت حينما قدمت الى الكنيسة مع صديقي الشماس حيث فتح الحارس لنا الباب وراح يطيل بي النظر ويتفرس في مالمحي كما يفعل رجال الحدود . في هذا اليوم كان الوقت قبل الظهيرة ومعظم القساوسة يدرسون فى المدرسة المحاذية للكنيسة ، وعلى غير عادة الحارس كانت بوابة الكنيسة مفتوحة على مصراعيها ،دخلت مجموعة من االطفال الصغار ٍ بضحك وزعيق راكضة ،وكان يداعب أحدهم اآلخر لطيف ،فزجرهم الحارس مانعاً تقدمهم الى الداخل بصوت ٍ عال خشن .
فتجمع االطفال بعضهم الى بعض مثل الكتاكيت حيت الحارس واتفقت الخائفة ،وظهرت بعدهم راهبة ّ
معه بكالم لم أسمعه وأسرعت راكضة الى السيارة التي
ظهرت واقفة في الشارع عبر البوابة .
74
ناداني الحارس بقوله :أيها الراهب هال رعيت هؤالء األطفال لحين أُنادي على القس يوسف . أومأت له برأسي بالقبول وناديتهم أن هلموا الى افتراش حشائش الحديقة تحت سيدة األشجار الوارفة الظالل ..ركض االطفال وال أدري كيف تراءى لي بناتي وهن يركضن نحوي ،دمعت عيوني فرحاً اذ أن أصواتهن هي هي لم تتغير ووجوههن هي هي لم تتبدل . أية زنابق بيضاء َّ حلت في الحديقة ..سألوني أسئلة طفولية أجبت عنها برقة ولكنها أخرجتـني من خيالي وبرهنت لي أن االطفال ال يعرفوني قطعاً . جاء القس يوسف مســرعـاً ،وذهب الحارس الى مكانه قرب البوابة ،حياني القس باضطراب وهو ينظر الى االطفال العشر ،ويردد مع نفسه : ـ ـ ـ ـ ماذا أعلمهم بحق المسيح ؟ . بدون شعور قلت له :الموسيقى ! 75
تعجب من جوابى وتهللت أساريره وقال : ـ ـ ـ ـ ـ كيف ذلك يا أبتي ؟ ،فقد طلبوا مني أن أُعلمهم كل يوم ساعة واحدة وأنا ال عهد لي بتدريس الصغار ..اذ بماذا ابدأ وكيف أنتهي أجبته : ـــــ
إستخدم شعر االطفال الغنائي فهو خير وسيلة
لتقوية حافظتهم وكلما لحنته بالحان عذبة كلما رققت مشاعرهم . فسأل بتلهف كغريق وجد قارب النجاة : ـ ـ ـ ـ وأي الشعراء تفضل شعره لهؤالء االطفال ؟ أجبته بسرعة : ـ ـ ـ ـ ـ سليمان العيسى في «غنوا يا أطفال» ولكن على شرط أن يكون درس الموسيقى والنشيد ليوم واحد في األسبوع . ـ ـ ـ ـ ـ وماذا فى بقية أيام األسبوع ،وهي ساعة واحدة في كل يوم . 76
ـ ـ ـ ـ ـ أعرف أنها ساعة واحدة ،ألن الطفل يضجر من نمط واحد ،فعليك التنويع ،اليوم تُحّفظ االطفال لحناً وفي الغد تعلمهم الرسم الحر ، مقطعاً غنائي ًا ُم ّ وفي اليوم الثالث تعلمهم الزراعة ،وأنا مستعد أن أُحدد
لكل منهم مت اًر مربعاً خاصاً به لزراعته في الحديقة الخلفية ،واليوم الرابع تعلمهم عمل االشكال الطينية واليوم الخامس الرياضة الحرة ،وفي اليوم السادس المطالعة المصورة ،فابتسم بفرح شديد وقال وكله ثقة بنفسه: ـ ـ ـ ـ إذن ستعينني على ذلك يا أبتي الراهب ؟. ـ ـ ـ ـ ـ على الرحب والسعة . فأخذهم وإتجه بهم الى البوابة الخاصة بمدرسة الكنيسة . أخرجت كثابين األدغال ورميتها في وبعد أن ُ
موضع النفايات خارج الكنيسة ..قضيت بعد الظهر معظم وقتي في حمام الكنيسة وكنت ُّ التذ كاالطفال 77
فتأت أنصت بالماء حينما أسكبه فوق جسمي ..وما ُ
لموسيقى المياه المنسكبة على رأسي المتزحلقة على جســدي والمصطدمة بأرضية الحمام ،فكأن روحي تسيل مع كل قطرة فترقص ،وعقلي يذوب مع كل نغمة فيطرب ،وما الموسيقى اال هالهل الجمادات معبرة عن سرها فكيف للسمع أن يفقه وهو مسحور
بالصوت ؟ . يوم صوفي خرجت من الكنيسة بعد أن ارتديت مالبسي القديمة ،وإتجهت الى مقبرة من مقابر المسلمين الن ظاهرة الموت تبرز بها أكثر من بقية المقابر ،فالقبور تالل على حجم االنسان الراقد تحت ترابها ،فما أن توغلت الى وسطها مبتعداً عن ضوضاء شارفتها حتى ُ
جلست ، المدينة ،وهناك تحت نخلة حولها فسيلتين ُ
وراحت نظراتي تمسح القبور المتراصة ثم ترتد ساقطة على النخلة وفسائلها ..فاذا باآلالم تتقاطر في قلبي ،
ودخلت في غفوة فكرية أبعدتني انكفأت على وجهي ، ُ و ُ 78
عن ضوء الوجود الى ظالم سرمدي ،ال أعلم هل كنت أتمتم أم أصلي ،لكني شعرت بحواسي أجمع تندمج بظل كثيف لطيف ،فبدأت أنتحب كطفل وحيد في غرفة مظلمة ،وأنكشف لي الالوجود تدريجياً ، كأن مرآة صافية زالت عنها الغشاوة ،صرت أشاهد وجوه بناتي واحدة تلو اآلخرى ،وجوه مشدوهة تصرخ مستنجدة ،ثم ظهر وجه زوجتي واسعاً قد شبت به النار وبجسم مشوه مقطع ،وهي تزعق كالمجنونة وقد وعفرت وجهي بكاء ، جحظت عيناها ،فازددت ُ ً بالتراب ،وكأن غاشية الظالم قد رقدت فوقي فلم أهدأ أيت قبساً من النور إنسكب في نفسي ، إال بعد أن ر ُ وطافت روحي في كيانه واستكانت .
لم أنتشل من الالشعور اال على يدين غليظتين أفقت وطالعني وجه تمسكان بي وتجلساني ،حينئذ ُ
غريب لرجل بدين بمالبس متهرئة قذرة ،فما أن لمح
ونفضت وجهي حتى إسترسل في القهقهة ،فنهضت ُ
ومسحت ووجهي بعمرة رأسي ،ثم قلت له مالبسي ، ُ وأنا أغادر المكان :
79
ـ ـ ـ ـ ـ سمن جسمك للديدان ! . توقف عن الضحك وقال : ـ ـ ـ ـ ـ أعذرني ما ضحكت عليك ،ولكني لمحت وجهك وهو معفر بالتراب فخلتك شبحاً من أشباح المقبرة . ـ ـ ـ ـ ـ وهل االشباح مضحكة ؟ ـ ـ ـ ـ ـ بالنسبة لي مضحكة فأنا ما رأيت شيئاً غريباً اال وضحكت وكما تعلم الضحك خير من الخوف .. ُ ولكني أظنك لم تعلم شفتيك الضحك .
ـ ـ ـ ـ ـ أنك على حق فهو ترابط طبيعي بين السمن والضحك والضعف والحزن . ـ ـ ـ ـ ـ لكن اال تخبرني ما سبب حزنك وبكائك ؟ . ـ ـ ـ ـ ـ أنا لست حزيناً انما أبكي رهبة من عظمة ربي . ـ ـ ـ ـ ـ إذن أنت من المتصوفة ؟ ! . تركته ولم أجبـه بشيء وال أعلم لماذا فسرت له حزني بهذه الصورة ربما هرباً من تدفق االسئلة ،وأنا 80
ٍ مستعد لالجابة ،أو ربما جاء الكالم على طرف غير لساني وأطلقه من دون ٍ ترو فأندم على ذلك ،ورحت حادث عقلي : ـ ـ ـ ـ أنك كائن غريب االطوار في هذه االرض ،تشعر بالوحدة وسط هذا الكون ،تبحث عن ذاتك في اقطار السماوات وفي أعماق البحار والغابات والصحارى والوديان وحين يحل بك التعب تتقوقع باحثاً عن ذاتك داخل نفسك ،ويتفصد من جسمك العرق دون جدوى فتركض شرقاً وغرباً مخترعاً شتى الوسائل الموصلة
الى أي ٍ بعد تريد ،متطلعاً تارة فى وجود اآلخرين من بني جنسك ،وتارة أخرى متمعناً في وجه الطبيعة ، يأسرك الجمال في لحظته ،وتأسرك الهموم في لحظات كثيرة ،وتشعر بالدوار ،بالضحالة ،فتصرخ ملء فمك في فضاء نفسك :من أنت ؟ ولم جئت ؟ ومن أين والجل ماذا ؟ وعالم تعاني ما تعاني ؟ ولم هذا الضياع ؟ وهل من نتيجة لبحثك وأللمك ؟ .
81
يوم مكنوز أخرجت اليوم أخرجت صندوق الحديد وفتحته و ُ
لت مجموعة األوراق منه رزمة األوراق والصور ،وعز ُ أخذت أطالع األخيرة ،وكانت عن مجموعة الصور و ُ
تتسلسل من منظر طفل صغير مع والدته حتى نموه
الى شاب يافع وكانت كل صورة قد دون خلفها اسم شاول مع والدته بمواقف شتى ومناسبات محددة بالزمان والمكان ،وكانت األم في كل صورة مبتسمة تحتضن وليدها فى صغره وتطوقه بحنان في فتوته ، كانت امرأة ضعيفة البنية ،دقيقة القسمات ،رشيقة القوام ،تتكلف السعادة تكلفاً على ما يبدو ،فمن قسمات وجهها الشاحب وجسمها الناحل قد هدتها االيام ،واتعبتها السنون . أما شاول وهو طفل فقد كان جميل المالمح ،حلو الهندام إبن عز وأُبهة ،وكان في جميع ادوار حياته حتى دور الشباب حيوياً نشطاً معتدل سمنة الجسم .
82
انتقلت الى فما أن إنتهيت من الصور حتى ُ
الرسائل وكانت كلها بقلم األب شاول إال ورقة واحدة كانت محررة من والدته وهي ـ ـ ـ على ما أظن ـ ـ ـ وصيتها األخيرة ..اذ تقول فيها (ويبدو إنها على وشك الرحيل) : شاول ولدي الحبيب أنت نوري على االرض أتبـارك به ..وأنت أملي الــذي سيبقى محط أنظار روحي ،أنظر لعينيك العميقتين فأحس بالهناء من بعد العناء ،وأرنو الى ضحكتك الفجرية المشعة أنجماً فأشعر أن الدنيا تبتسم عن مهرجان ٍ عذب .
قاسيت ـ ـ ـ من أجـل أن أهـز بك االيام ـ ـ ـ أي شاول لقـد ُ
شتى المصاعب ،وكانت هي لذتي في الحياة ،فكم كنت سميري في وحدتي الربداء ،وكم كنت مؤنسي في وحشتي الكأداء ،أبكي فتمسح بقبالتك دموعي ، عاصرنا الفقر سوية ،وذقنا الليالي الباردة تحت سقف
83
واحد ،ولم يدفئني سوى شخصك المرح ،ولم تغنني سوى روحك الذهبية . أواه شاول لقد كنت أتمنى أن أشاهد شريكة حياتك في المستقبل ،وأحضر زفافك لكي أراك تختال كطاووس ،فأفتخر بك بين النساء ،وأحس أن حياتي لم تكن عبثاً ،فتمأل الدنيا عيني بمنظرك ،ولكن القدر يأبى أن أسعد بذلك ،فان خفقات قلبي بدأت تقل ، وأني أنتظر الراحة األبدية بين خيوط الفجر ،والدنيا أمست تظ ُّلم في بصري كلما أضفت كلمة الى وصيتي ،وأخذت روحي تنهصر بشدة ،اذ أين القصور واألموال التي تتمناها كل أم البنها ،فانا ال أملك سوى أن أوصي بحبي لك الى األبد ،ودعائي في سبيل أن تسعـد مدى العمر سأمأل به السماوات واالرض .شاول ابني ..قلبي ..الوداع..أمك الحنون. إنتقلت الى رسـائـل شاول وكانت قطرات مائية قد فمضيت ألتهم سطورها بنظري التهام ًا، أسالت حروفها، ُ
فما ذقت طعماً للغة مثل لغة الشعور باأللم والعواطف 84
الحزينة ،فقد إنبرى يبكي ويستبكي حروفه ،فشعرت أحسست بأفكاره تـنوح شوقاً ،فما بكلماته تلطم حزناً ،و ُ فت انساناً له مثل هذا القلب الرقيق ،وهذه النفس عر ُ
المحترقة ،يبث مشاعره تجاه أمه كطفل رضيع يولول لفقدان والدته الحنون ،وكحبيب يناجي حبيبته وهى مسجاة بين يديه جثة هامدة . كانت أمــه هي دنياه ،وحين رحلت طفق يندب ُّ ويشن حملة على الزمن الذي قصم حظه البائس ، ظهره حين سلب منه أعز ما في وجوده ،ويتوعد بالويل لأليام التي أشقته ،فكانت ثورة مكبوتة في نفسه ال يطلق حممها اال بكتاباته وال يلطف من هيجانها اال بمناجاته ألمه الرؤوم . وما هذه القطرات التى أسالت الحروف اال دموعه المنثالة فاختلطت دموعي مع دموعه ،فقد فتحت كلماته أبواب الحزن من جديد ..ورحت أتأمل أفكاري ( ما الدنيا إال كنز عظيم في أعماق البحر ال يصله اال من جازف وتعب ،حتى اذا ما امتلكه وحاول 85
الخروج امتدت أذرع اخطبوط وقيدت جسمه ،فال هو قادر على الخالص والنجاة ،وال هو يستطيع أن يدفع الكنز ثمناً لحياته كتعويض ) . أن الركض وراء األمل حلو ،وعدم تحقيقه أحلى ، ونيله وتحقيقه األحلى ،وأن الذي بال أمل تعيس ، والذي أمامه األمل وال يسعى صوبه أتعس ،والذي حقق األمل وفجأة يتبخر ويتالشى من أمامه األتعس واألب شاول على األرجح بال أمل فلذلك ظن أننا نتساوى بالشقاء ،ولكن محال أن يعادل الربيع الخريف وأن يعادل النهر الصحراء . يوم قيثاري التقيت باألب شاول في حديقة الكنيسة ،وكانت نظاراته المتسائلة تبحث في وجهي عن تأثير محتويات الصندوق ،لكني لذت بالصمت لفترة من الوقت ثم قلت له :
86
ـ ـ ـ ـ آه ..أيها األب شاول ،ما خلتك طفالً كبي اًر ولكن تشبثك بأمك أثبت لي ذلك ،فيا لقلبك الصغير الذي زعزعته فاجعة الحياة الطبيعية ،أن تعلقك بوالدتك أمر طبيعي ال مفر منه ،ولكن تعظيم هذا األمر ما هو إال دليل على ضعفك أمام الحياة والموت ،فيا لوهن عزيمتك ! . فأجاب األب شاول وهو مطرق الى االرض : ـ ـ ـ ـ ـ أنا لست ضعيفاً يا سيدي ،بل إني مفجوع بفقدان الكائن الوحيد الذي تربطني واياه أواصر المحبة والعطف والحنان ،فحينما خلفتني وحيداً في بحر الحياة المصطخب ،غرقت في مستنقع الوجود لعفن وشعرت بألم يقطع نياط قلبي ،فأمسيت قيثارة بال الحان ،آدم بال جنة ،فكيف ال أحن الى ذلك الفؤاد الواسع والعين الساهرة ،والثغر المشرق ،والنفس الحنون ،واليد الشفوق . قال ذلك بحسرة مرة كأنها تخرج من قلب كسير مقطوع االوردة ،وبعد أن استرجع عبرته أردف : 87
ـ ـ ـ ـ فكيف تريدني أن ال أقدس ذكراها ،فأنا في قلبها لت أحس بها نفسي ،أواه ونفسها ما ز ُ وهي في قلبي ُ ، فلن أجد بديلها ما حييت ،كان أملي أن أُسعدها ولكن المرض الذي سرقها مني حطم حلمي الوحيد ،فال يوجد طموح بعدها ،فانا كطير كسير الجناحين ، وشعور في أعماقي يقول :إنني نكرة فى هذه الحياة ، اال أخبرني أيها الراهب هل تعادلنا في هذه الدنيا القاسية ؟ . نظرت اليه بامعان وتبسمت ،وقلت : ـ ـ ـ ـ أنا أرثي لحالك ،فأنك اآلن انسان يعيش بال أمل ، حادثة بسيطة رجتك رجاً ،وهي من الحتميات التي تمر على كل انسان ،فكيف ألعظم حادثة بالنسبة لرب أسرة وعمل ،وأقول لك إن فكرة االمومة قد قيدتك منذ الطفولة لحد اآلن ،ولك السماح في فترة الطفولة الن األم مكملة لشخصية الطفل ،أما في فترة الرجولة فلن أستمحيك عذ اًر لتفكيرك بأنك مازلت بحاجة الى أُم مع العلم إنها لو كانت على قيد الحياة الجبرتك على 88
أن تجد شخصاً آخر تشاطره حياتك ،وذلك مما أرادته في وصيتها ،أما بالنسبة الى حوادث الدهر فما ساوت بيننا والحمد هلل ،فأنت كنهر جمد ماؤه فال هو راجع الى منبعه وال هو سائر صوب مصبه ،أما أنا فانسان وصل الى جنة الخلد بعد جهود جبارة ومعاناة قاسية ، وحين دخلها سقط في جحيم النيران واحترق قلباً ونفساً ،وبقي جسداً معذباً ،فأنت حتماً ستطلع عليك الشمس من جديد وتذيب الجليد فيجري نهرك ثانية ،أما أنا فاحمل جمر جهنم فوق ظهري ،وهيهات أن أعود من حيث جئت فما بقي بيني واللحد اال أيام معدودات . دهش األب شاول من حديثي وسألني وكله حسرة : ـ ـ ـ ـ بروح القدس اال تخبرني بفحوى حكايتك ؟ ـ ـ ـ ـ سوف أخبرك في الوقت المناسب ،فقصتي تحتاج الى وقت لكي أسردها لك .
89
انشغلت بالحديقة ،وفي تلك ودعني وذهب ،و ُ
اللحظة جاء صديقي الشماس وهو يقول واالبتسامة تضىء محياه : ـ ـ ـ ـ ـ لقد جمع الرب النفوس فى النهاية بعد أن فرقها الشيطان بالبداية ! ثم سلم علي وواصل طريقه . جعلتني كلماته أنجذل وأتعمق في معانيها فقد كانت كمزنة هطلت فوق صحراء عطشى . يوم مقدس ألول مرة أدخل قاعة الكنيسة منذ قدومي اليها لحد اآلن ،كان الوقت فج اًر والشموع ماتزال موقدة ذؤاباتها تضيء ارجاء القاعة بنور ساحر ،وروائح عطرة تضوع المكان ،ولمحت صليباً كبي اًر موضوعاً في أعالي واجهة الجدار األمامي ،وقد تجسد سيدنا المسيح مصلوباً عليه ،فأمعنت النظر فيه وأنا أقترب منه ،فرأيت أجفانه مسبلة ،كأنه غارق فى سبات عميق ،وثم هالة خلف رأسه ,كانت تشع ببريق 90
ساطع ،وكأن وجهه قرص الشمس عند فجرها ،وكأن إكليل الشوك الذي يطوق هامته تاج يذكره بآآلم الحياة ،وما هذه اآلالم سوى الوسيلة التي تمزج روحه بالذات األلهية . خشعت روحي لهذا المشهد الجليل ،وجلست على ركبتي ،وأنا أردد ( بسم هللا الرحمن الرحيم ) وشعوري بأني أحمل الصليب على كتفي مثلما حمله سيدي طع وكل قطعة منه قد المسيح ..وألن قلبي قد ق ّ سمرت على صليب ،ولذا أخال مصيبتي أفضع من مصيبة صلب سيدنا المسيح ،فهو قد تخلص من آآلمه بين ليلة وضحاها ..أما أنا فما زال الحزن يقطعني بسكينة صدئة ،وما برحت روحي تتأرجح بين الحياة والموت كطير يرافس بعد حزة في رقبته لم تكتمل ..كم أحتاج الى طلقة الرحمة لتريحني من هذا العذاب . بقيت أقارن بيني وبين الروح القدسية . وحادثت نفسي قائالً : 91
( ان أعمال سيدي المسيح قد بقيت من بعده ، وتداول البشر شريعته جيال بعد جيل ،أما أنا فان جميع أعمالي وأتعابي أمست وقبض الريح ،وليتني لم أر الشمس ) طفقت عيناي تترقرقان بالدموع ،وراحت غاشية تغشي نظري ،وحدقت صوب الصليب وسمرت مقلتاي هنالك في النور الفضي ،واذا بسيدي المسيح يفتح عينيه ويرنو صوبي ويبتسم لي ،وبعدها انحدر من أعالي الصليب الى االرض برشاقة النسيم ،وسار نحوي بتؤدة ،فإرتعشت من هول المشهد ،وأكثرت عيناي من ذرف أنهار الدموع ،وحين قاربني شعرت أني قد جمدت في مكاني ،وقد رفع أذيال مئزره االبيض بيده اليمنى ومسح دموعي المنهمرة وأنا في وجوم تام والدهشة قد نزعت روحي من جسدي ،أنظر الى محياه المشرق فتزداد لهفتي اليه شوقاً وانبها اًر وهيبة ورهبة ..ثم ازدادت ابتسامته سح اًر ،فشعرت أن أبواب السماء والجنان قد فتحت في وجهي .
92
ورحت في نحيب أجش لم أفق انكفأت قرب قدميه ُ ُ
منه اال على أشعة الشمس وهي تتسرب من الشبابيك الكبيرة وتنير القاعة . رفعت رأسي ألنظر فاذا سيدي المسيح ما يزال وتلفت حولي على الصليب غارقاً فى سباته العميقة ، ُ
فاذا جمع من القساوسة على جانبي وخلفي يصلون بخشوع ومن بينهم الشماس واألب شاول ،برحت القاعة على عجل قبل ان ينهوا صالتهم وفي سريرتي إحساس قوي عميق ،بأني لم أخلق عبثاً ،وثمة حكمة في خلقي لم أفهمها ،لكن سيدي المسيح يفهمها جيدًا ،وقد عبر لي عنها بابتسامة وطمأنني بمسح أدمعي . أن وجودي ليكن تافهاً في نظري لكنه ـ ـ ـ ـ كما أشعر ـ ـ ـ ـ مهم في عين هللا . أيتها األيام ولولي تحت أسترة المستقبل والطمي خدودك أيتها الليالي أسفاً وحسرة ،وأمض أيتها النفس باحداق تخرق الحجب ،وفتشي عن أيدي الزمن الذي استباح حرمات نجومك ولم يبق شيئا للخلود بعد أن 93
غربل في عاصفة الفناء أعز ما تهوين ،وانسج أيها اللسان القصائد مواويل للموت ،واثمل أيها العقل المختل بخمرة موسيقى االكوان ..ألن طيور قلبي في السماء تطير بوحي افكاري ،وزهور محبتي تعرق خجالً من شهوتي ،وتبقى االطياف تسبح في بحيرة قلبي تتراشق بالعواطف ،فيلثم الحنان الحقد ،ويقبل ذبت في إرادة الال إرادة . االلم السعادة ،آنذاك ُ يوم رباني اليوم وأنا أعمل وأفكر شغلتني أفكار عديدة ، فكرت باألحياء كافة التي تعيش معظم حياتها فى صمت ،وتـنقل صغارها من مكان الى آخر بصمت ، وتعمل ليل نهار من أجل نيل قوتها بال وهن وبهدوء حتى أنها تتوالد وتتكاثر وتموت بصمت ،عكس االنسان الذي يعيش حياته بصخب منذ والدته حتى مماته ،حمدت هللا على أنه دفعني الى بقعة هادئة تدب بعض الشيء ،ألن خارج الكنيسة الناس ُّ والغوغاء تـنحت كيانهم الى أن تالشيهم وهم ال 94
يشعرون ،غوغاء مرة من أجل المال الوسيلة التي انقلبت هدفاً وأخرى من أجل السعادة الكلمة الساحرة التي يسعى اليها االنسان منذ أن وجد على االرض ، لكن محال أن يجدها اال بعد الموت ،ومرة أخرى من أجل اللذة الجسدية التي ال تـنتهي اال في جوف القبر، وأخي اًر من أجل الطموح الزائف والمجد السرابي . استرسلت بعملي في الحديقة الخلفية بجد ونشاط ألن عملي ليس من أجل المال وال من أجل المجد إنما هو من أجل باطل األباطيل . جاءني القس يوسف مع مجموعة االطفال ،وطلب مني ما وعدته بتدريب االطفال على الزراعة ،أخذتهم الى ركن من أركان الحديقة وكنت قد قسمت المساحة الى عشرة اقسام متساوية وحددتها باللوائح المقرنصة ، وكان القس يوسف قد صنع لكل منهم علماً جميالً بلون مختلف عن اآلخر وكتب إسم الطفل بلون آخر ، وغرز كل طفل علمه بقطعة أرضه الزراعية ،وذهبت جلبت لهم مجارف خشبية صنعتها لهم الى غرفتي ُ 95
خصيصاً مع بعض الحبوب المنوعة وسلمتها الى القس يوسف ليوزعها عليهم واخبرته أن يعلمهم كيف يقلبون التربة أوال ثم ينثرون الحبوب بعمق إصبع . كان يوماً مشهوداً فقد رحت أعلم قسم ًا من االطفال والقسم اآلخر يعلمهم القس يوسف ...وبعد أن إنتهينا سقينا األرض ،وفرح األطفال بذلك كثي اًر ، اغتبطت بمنظرهم وهم يعملون ..حتى انتهت ساعتهم و ُ
وذهبوا .
وعند الظهيرة برحت الكنيسة ،وتوجهت صوب جامع من جوامع المسلمين وهنالك دلفت وكان المؤذن يردد كلمة (هللا اكبر) من أعالي المنارة ،فأحسست لصدى صوته عظمة رفعت روحي وحلقت بها في فصليت صالة الجمعة مع أجواء السماء االزوردية ، ُ
جمع غفير ،مروضاً جسمي برياضة ربانية .
وحينماعدت الى الكنيسة صادفني صديقي الشماس فبادرني سائال :
96
ـ ـ ـ ـ أين كنت يا صديقي ؟ فاجبته بأني كنت في مسجد المسلمين أصلي . فقال لي وعليه امارات الدهشة : ـ ـ ـ ـ ولكنك لن تكون ذا دين معين ،وهذا لن يرضي الرب ! ـ ـ ـ ـ ـ سوف يرضيه ألن إيماني به في أعماقي ،وما الدين سوى وسيلة ليه ،والتتنوع الوسائل فالهدف واحد أحد ..فال تتعجب فالفلسطيني أيوب زمانه ..سكت ، وافترقنا كل الى غايته . وشعرت براحة عظيمة حينما استلقيت على ثيل الحديقة الخلفية ناظ اًر الى السماء مفك اًر باهلل بذاته السرمدية التي ال تدركها اال النفس السامية الكاملة ، أما الحواس فال تتمكن أن تحيط بهذه الذات العظيمة اال اذا وصلت لكمالها ونضوجها ،حينما تصير بسيطة كل البساطة ،وديعة كل الوداعة ،صغيرة فى عين ذاتها كل الصغر ،هادئة لدى الخطوب واآلالم 97
بهدوء مثالي ،وسمحاء مترفعة فى كافة الملمات والمغريات . واذا بداخلي يثور تفكير آخر كأنه شخص آخر يحاورني قائال : يلم بذات هللا ـ ـ ـ ـ يالك من ضعيف ،كيف تريد أن َّ انسان كما تصفه وهو أقرب الى الحيوانات االليفة الوادعة منه الى االنسان الذي اعطاه هللا العقل لكي يفكر مثله ويبدع مثله . ـ ـ ـ ـ ولكن هنالك ش اًر يجب تجنبه واتباع الرب الذي كله خير . كل شر تظنه أنما هو مكمل للخير ـ ـ ـ ـ ما أدراك أن َّ الذي ينقصك . تعب عقلي وغفوت .
98
يوم طفيلي كنت أمد أغصان العنب فوق المشبكات بينما ُ
فوجئت بتوافد الناس ودخولهم الى قاعة الكنيسة القمرية ُ
،مع العلم لم يكن اليوم من أيام اآلحاد ،وهم يرمون علي التحية و ُّ أرد عليهم واحداً واحداً رأيت األب شاول يخرج من غرفته مرتدياً مسوح القساوسة ويسير متوجه ًا سألت أحد القساوسة عما الى البوابة الخلفية للقاعة ُ
يحدث اليوم فأجابني اجتماع خاص مع مسيحيي
المنطقة . قررت مع نفسي أن أتطفل على المجتمعين ، الرى ما فحوى االجتماع هذا وما جدواه . ران صمت جليدي على الجميع بعد أن جلسوا بخشوع ،وجلس خلف الطاولة المقابلة الشماس وعدد من القساوسة ،رتل الشماس ترتيلة االجتماع ثم أردف قائال :
99
ـ ـ ـ ـ يا حضرات األخوة الحضور ،دعوناكم لالجتماع ٍ حل لقضية أختنا جانيت ،هذه الفتاة (يشير من أجل ّ
لفتاة تجلس وحيدة في الطرف األمامي ) ابنة يعقوب السكرآن حيث تمادى والدها في شرب الخمر كل يوم وصار ال يميز بين الحالل والحرام فحاول االعتداء على عفاف ابنته الوحيدة عدة مرات في منتصف الليل ،وقد حاولنا أن نزوجه بعد وفاة زوجته انقاذاً لسمعته وحال لمشكلته ولكن جميع عوانس الجالية رفضنه الدمانه على الخمرة بشكل مقرف . وكم بعثناه الى مستشفى معالجة االدمان وكان كل مرة ،لذا جمعناكم من أجل تزويج ابنته يهرب منها َّ هذه وانقاذها من والدها الذي باع نفسه لشيطان الخمور ،فطالما جعلها تفر هاربة منه في ظالم الليل ملتجئة للجيران ،وكلكم يعرف هذه الفتاة الطاهرة االذيال العصامية النفس ،فمن لديه ابن يراه أهالً لها ويستطيع أن يتأهل بها فليبادر بطلب يدها وسيكون عمله هذا مخلداً في تاريخ الكنيسة ،فمن منكم من يسارع الى هذا العمل الجليل ؟ 100
ورفع أحدهم يده قائال : ـ ـ ـ ـ ـ أنا أطلب يدها البني ( آ ار ) وها هو معي ..يعمل بيديه ويكسب رزقه بعرق جبينه ويستطيع اعالتها معنا ،ولعل هللا يرزقه أكثر على حظها . ينهض شاب في مقتبل العمر قائالً : ـ ـ ـ ـ ـ أنا أطيع أوامر أبي وأوافق على طلبه . فدعا الشماس (آرا) و(جانيت) وأوقفهما أمامه ووضع رباطاً على يديهما المتصافحتين وق أر عليهما ترتيلة الرباط المقدس ،وباركهما على أن يتم زواجهما يوم االحد القادم بحضور جميع الناس . بعد ذلك خرج الجميع وآ ار متأبطاً يد جانيت ..كم كانت فرحتي هذا الصباح وأنا أشم رائحة قلب العنب خرجت من قاعة وهو يتبرعم ليظلل العرائش ،ولكني ُ الكنيسة وكلي كراهية لروح العنب وما تسببه من تحطيم
للشرائع .
101
يوم مفزع أيقظتني ـ ـ ـ ـ عند انبالج الصبح ـ ـ ـ ـ طرقات مسرعة على زجاج نافذتي ،ففتحت عيني ألرى من الطارق ، فاذا باألب شاول يطرق وقد إشرأب برأسه من شباكي المفتوح ناظ اًر الى وجهي بامعان شديد ،نهضت فزعاً وفتحت له الباب بعد أن حياني وطمأنني بأن االمر ليس له أهمية ،وقال بعد أن دلف الى الغرفة : ـ ـ ـ ـ لنجلس يا سيدي الراهب لكي أروى لك حلماً حلمته قبل قليل وهو يخصك . جلسنا على حافة السرير ،واستطرد يقول : ـ ـ ـ ـ قبل أن يداعب سلطان االحالم أجفاني صليت ثم طلبت من الرب أن أرى في شريط أحالمي الحوادث التي مرت عليك وزعزعت حياتك ،وما أن صرعني الوسن حتى بدأت تراودني االحالم ،فشاهدت فيما يراه النائم أن فيضاناً كبي اًر قد عم البالد ،وأبصرتك كأنك النبي نوح تصنع سفينة فارهة لكي تقلك أنت وأطفالك 102
وزوجتك لتنجو من هول الفيضان وقد أتممت صنع الفلك ،وحملت فيه عيالك ،وطلبت منك أن تحملني معك ولكنك أبيت بحجة أن الرب ال يرضى ،فركبت على حين غفلة منك ،وارتفعت المياه ،وحملت ال : االمواج سيفنتك ،وكنت تخاطب هللا قائ ً ( رب أني سأنقذ خلقك من الفيضان ،فمجدني وأنصرني ) وحين بلعت االرض عصير السماء وظهرت اليابسة من جديد وحطت السفينة ونزلت أنت وبناتك وزوجتك ، ومضيت تصلي وتبتهل الى هللا وتقول : ( ها أنا أيها الرب المقدس قد أبقيت ذرية أبينا آدم ، فباركني ..فباركني ). وما أن انتهيت من كالمك حتى أصاب أفراد عائلتك مرض قاتل ،وراحوا يولولون ويئنون حتى لفظوا أرواحهم واحداً بعد اآلخر ،ولم يبق اال أنا وأنت ، لكنك لم تبصرني ألنني بقيت منزوياً عن أنظارك ،ال 103
أدري هل رهبة منك أم احتراماً لرفضك أياي في بادىء األمر ،فما أن عرفت أنت بمـوت كل أهلك حتى طفقت تـنتف شعــر رأسك ثم تذره للرياح وتخاطب السماء بغيظ قائالً : ( رباه ماذا جنيت لكي تسلب مني أعز ما لروحي ؟ ) فاذا بصوت سماوي يجيبك قائالً : ـ ـ ـ ـ أتظن أيها االنسان الصغير أن عملك هذا عظيم ويجب أن يباركك عليه الرب ،ألم تعلم أن هلل قدرة على أي شيء غير موجود أن يقول له كن فيكون موجوداً ،أوتخال أنك ذو فضل على ابقاء نسل آدم ، ألم تعلم أن الفيضان لم يقض على االحياء كافة الن أحياء في جوف الماء وال حياة لها اال فيه ،وان هللا قادر على ان يطورها الى مخلوقات
برية ،فما
الحاجة ألهلك ،أما أنت فاستعد لمالقاة نهايتك فقد دنت . وأجبت أنت مخاطباً السماء ببكاء جزع قائالً : 104
(واتعباه أيتها االرادة العجيبة أال الحقيني باهلي سريعاً فلم يبق من روحي اال النفس االخير) . فرد عليك الصوت مرة أخرى : ـــ
ليس هنا بل سر بعيداً وقدم روحك من أجل
اآلخرين . ورحت تعدو وتعدو مبتعداً ،وحاولت أن أصرخ خلفلك مناديك للعودة ولكن دون جدوى فقد انعقد لساني ،وبح صوتي ،واستيقظت قبل قليل وجئت راكضاً الى غرفتك لكي أطمئن عليك فقد راودتني ظنون كثيرة . عجبت مما رواه األب شاول عن حلمه فقد كان يقارب قصتي من حيث المضمون ويشابهها من حيث الشكل ،ولكن ما معنى أن نهايتي تتم بعيداً ومن أجل اآلخرين ؟ . وبعد أن خيمت علينا السكينة ووجم أحدنا في وجه اآلخر وقد شردت افكارنا تكلمت فقلت له :
105
ـ ـ ـ ـ أنا أحس أن الهاتف محق فى تعيين نهايتي ، وأخالها قد أوشكت أن تقترب ،فاتركني أيها الصديق العزيز أفكر فيما رويت ،وساخبرك بحكايتي التي تتلهف لسماعها عن قريب ،فما سرد الذكرى المؤلمة بهينة علي اآلن . اظلمت الدنيا في عيني واختفى كل ما هو جميل ، وبان شبح الموت في كل ما أبصر وما أفكر وما أحس حتى الشمس أمسى شعاعها أسود قاتماً ،وأن الطبيعة الملونة صارت موشحة بالسواد الحالك ،والسماء أبصرتها أغوا اًر من العدم ،حقاً أنه يوم صبغته أفكار عقلي بلون القار . تمضي أزمنتي سارية في مهب الريح ،تقتات لحمي وتقضم عظامي ،أتمسك في قشة ،أحس أني أطير مع طيوري الصغار وكل العيون شاخصة نحوي ،تبحث عن سري ،تبحث عن أمري ،تبحث عن مصيري ،كل قطرات العمر تنساب فى محيط الزمن ، فال موج وال تأريخ وال إسطـورة ،تحقق ذاتي المقهورة ، 106
كل الليالي السود تخنق أغنيتي ،وكل صور الماضي تتساقط في جمجمتي ،تتوقف نبضات القلم من دهش ،وأحس الروح تنساب في أقبية العدم ،ال صمتي عبر الهم عن معاناتي يغني ،وال صوتي يسعف ،لن ُي ّ
،فأنا بالهم أعرف . يوم بخيل
مأل الدمع عيني وجرى ،ال أدري هل فرحاً ألني ذاهب الى بناتي وزوجتي عن قريب ،أم ألماً ألني سوف أموت وأنا ال أعرف ما خفايا الموت ،هل أنها عملية موت الروح والجسد ،أم هدأة الجسم االبدية وانطالقة الروح الى المجهول ،واألمر سيان فأنا سأتحرر عن ارادتي ألدلف ارادة العقل األعظم ، والمهم أن تجربة الموت عملية البد من دخولها بالنسبة للشيوخ أمثالي بصرف النظر عن النتائج ألننا مللنا الحياة الى أقصى حد . كان القساوسة يمرون من أمامي ويسلمون علي حيث كنت جالساً تحت شجرة التين ،وكنت في تفكير 107
عميق ال يسعني أن أرد عليهم سوى بنظرة وابتسامة صغيرة مصطنعة . رنوت الى أعالي الشجرة حيث بدأت كواكب التين منتفخة كنهود العذارى ،المعة في أشعة الشمس كالدرر ،وانبرت نفسي تحدث التين قائلة : ـ ـ ـ ـ أيها التين ،أيها المقدس لدى الرب أنت والزيتون ، لقد سقيتك من معين الحياة حتى ارتويت وتغذيت قتلت الطحالب لكي ال تسرق غذاءك .. ونموت ،وكم ُ
وها أنا أتمنى أن تهبني بعضاً مما وهبتك ،وتسمح لي أن أقطف تينة من بينك ؟ . نقلت بصري مفتشاً ,ولمحت أنضج تينة قد انفلقت
قليال وسال الشهد المحلب يقطر من ثغرها ،وكانت فهممت أن أنهض وأرتقي معترشة غصناً عالياً ، ُ
لقطفها ،فاذا ببلبل يحط على ذلك الغصن وينقر تلك
التينة بمنقاره الدقيق وينهشها نهشاً حتى أتى على وبقيت أنظر معظمها ،وقد كان شديد الجوع كما يبدو، ُ
اليه بغبطة بالغة ،وقبل أن يبرح الغصن ،غرد 108
أغرودة النصر ،خلتها مزمو اًر من مزامير داود مسبحاً للرب ..ثم سكت وطار محلقاً فى الفضاء . ولم أتمن بعدها أية تينة ألنني فهمت ما كل ما نتعب فيه نجني ثمره . جاء بعد قليل جمع من القساوسة وأخذوا يجنون من أردت أن أقطف لهم التين كل ما أيديهم تقربه وتصله ،و ُ
بنفسي ،ولكنهم عارضوا ذلك بحجة أني شيخ متعب
والراحة لي أفضل ..وشعرت في قلبي ألماً وغبطة في آن واحد ،ألني عرفت أيضاً أن هذه الحياة تأبى أن أجني منها ثمار أتعابي ،حتى وأن كان الجني لغيري ،وهذا ما جعلني أستخف من نظام الحياة ،وأعمل بال عقل وال قلب كآلة ال غير . وتذكرت حينما كنت فى سوق من أسواق انكلت ار ُ
أيت يهودياً يبيع البرتقال وينادي أنه برتقال ور ُ
«اسرائيل» فكأنه طعنني في قلبي ألنني أشاهد البرتقال الذي زرعه أبي العربي في فلسطين يجنيه الصهاينة
109
َّ ويدعون أنهم زرعوه ،فيا ألتعابنا المسروقة والتي جنى ثمرها أعداؤنا . أثبت وتذكرت كيف سخر الناس مني حينما رحت ُ ُ ُ
لهم زيف دعاء هذا اليهودي الذي سرق أرضنا .
أه لماذا أفتح باب كهف مشاعري الدفينة ،لماذا ال أوهم أحساسي بأن ال وجود لوجود ،ولكن هيهات فان حزة السكين ما زالت تخنقني ،وأرافس كطائر ذبيح . أأهرب من ظلي ،أأهرب من قلبي ،أأشرد من مشاعري ،ربما يستطيع االنسان أن يهرب من أرضه ومن سمائه ولكنه لن يستطيع أن يهرب من نفسه . وفجأة شعرت بباب كهف أعماقي يسقط ،فاذا بدوامة سوداء تلفني وتصرعني فأتدحرج في أعماقها ، واذا بي وجهاً لوجه مع ما كنت أخافه وأهرب منه ،أنه شبح االنتقام الذي يطاردني ،وطالما ابتعدت عنه مهروالً الى حد األفق .
110
ماذا يريد مني ..أنه يسحبني ويدفعني . .لكي أذهب وأرجع كرامتي ..كرامة كل الفلسطينيين . يوم بطولي صوتت صافرة االنذار ،فجمدت الدماء في الشرايين ،واختبأت الطيور في أوكارها ،ومنها من فزع شارداً تتالطم أجنحته في الفضاء ،وران سكون سريع ،فال أصوات لحركة سير السيارات وال أصوات زقزقة عصافير توجه معظم القساوسة الى قاعة الكنيسة للصالة ،أما أنا فأسرعت مرتقياً الساللم المؤدية الى برج النواقيس . من الشرفة المطلة على المدينة رأيت الناس فوق سطوح المنازل يراقبون السماء ..ولعلع الرصاص بقوة ..واذا بسهام نارية تخترق جوف السماء ..مما أجبرت الطائرات على عدم الدنو من أهدافها ،واذا بصواريخ فضية يخرج منها ذنب دخان أبيض تالحق الطائرات وكل صاروخ يدخل طائرة يفجرها ،وراح الشعب يحسبها واحدة ،اثنتين ،خمس ..عجبت من 111
الشعب العراقي البطل ،وعظم في عيني وأعاد لي الثقة بنفسي وبشعبي العربي . كنا في أرضنا الحبيبة ـ ـ ـ من طائرة واحدة مهاجمة ـ ـ ـ نختبىء في كل االماكن الحصينة ان وجدت ،أما ما أراه فهو مذهل ولم يحدث قطعاً ال في زمان وال في مكان ،الشعب قاطبة ـ ـ ـ ـ من صغار وكبار ـ ـ ـ ـ شيوخاً ورجاالً ونساء ،اعتلوا أعالي المنازل لكي ينظروا الى مشاهد تفجير الطائرات االيرانية المغيرة على بغداد . عديدة الطائرات التي تساقطت ..أنها خسارة كبيرة اليران ،فقد جاءت باسطولها الجوي على مدينة وادعة تظن أنها ستسيطر بقوتها الجوية من هجمة مكثفة ، ولكنها مادرت أن بغداد ستكون مقبرة لطائراتها .. الناس يهتفون ويصفقون فرحاً بعد كل طائرة تنفجر في سماء بغداد ،كأنهم ينظرون الى لعبة كرة القدم ال الى معركة حربية ..اذ ربما شظايا االنفجار تودي بحياتهم ،ولكنهم ال يبالون وال يخشون .
112
ما أشجعهم ،لم أكن أخال حينما ارتقيت الساللم أني سارى الناس مثلي ال يبالون بحياتهم ..أنا من يأسي وهم من ايمانهم . ما رأيته أدهشني فعالً ،وأعاد لي الثقة بشعبي العربي ،وااليمان بارادة الشعوب التي تصنع مصيرها ..واال اردة عندما تبعث ستبعث األمة من جديد . أي صيادين أرى ،وأية نسور تصاد ،وأية دقة تصويب ،وما أجله من مشهد ،ما رأيت مثله من قبل اال في األلعاب النارية أيام االعياد واالحتفاالت حينما تنطلق الصعادات الى السماء وتنفلق عن منظر زخرفي يبعث الفرح في النفس ،أما هذا المنظر فهو يبعث الفرح والرعب في آن واحد ،فما ألذ الرعب والفرح ،ألن امتزاجهما هو البطولة ،فما أسماها من لحظة حاسمة ،حيث يتعانق االنسان مع مصيره فأما أن يزول وأما أن يكون ..أنها حق ًا ارادة االنسان العراقي الجديد .
113
يوم مادي جاءنا نبأ رجل يحتضر ،وهو ممن كنزوا من كنوز االرض القناطير المقنطرة ،فاسرع القساوسة الى قصر ذلك الرجل ،وحضروا وفاته وصلوا على جثمانه ،ثم نقلوه الى قاعة الكنيسة واقاموا له قداساً فخماً مشحون ًا بالعطور والزهور واالناشيد الحزائنية والتراتيل الدينية والموسيقى الجنائزية ،حتى نقلوه الى مثواه األخير بافخر سيارة موتى مخصصة لذلك ،وقد نالت الكنيسة من خيرات الرجل الكثير مما جعل القساوسة يتخاصمون حولها ،وراحوا يتهامسون على تقسيمها بينهم لوال وقوف الشماس واألب شاول لهم بالمرصاد ، حيث وضعا كل شيء في خزينة الكنيسة . و مما َّ حز في نفسي ما عملوه حين مات رجل آخر في نفس اليوم ،وهو ال يملك من المال سوى أطماره البالية ،فتماطلوا فى دفنه ،وترك القساوسة األب شارل يقوم بتلك المراسيم وحده ،وكانت حجتهم أنهم متعبون من القداس السابق . 114
لتختلف مظاهر التشييع فالتراب واحد ،والحساب واحد ،ولن تنفع األغاريد والطبول . ومما أثار موجـدتي مدن القبور عند المسيحيين والمسلمين ،حيث أمست تتسع وتمتد ،حتى أنها ستشغل في المستقبل أرضاً أكثر من االرض التي يسكنها االحياء ،وما أكثر الموسرين المبالغين الذين يجعلون من أضرحة موتاهم عمارات فخمة وقصو ًار فارهة ..ليقدسوها في المستقبل ويمسون لها عابدين من حيث ال يشعرون . كم بدأت أحن الى عادات الهندوس الذين يفضلون حرق الجسد ورمي رماده في النهر المقدس اذ أنه لن يشغل مساحة من االرض ،ولن يكون له مكان ثابت كي يزار ويقدس بل رماد الجسم يشغل الماء والسماء واألرض واألحياء ،ونحس به قريباً منا ،وبعيداً عنا في ٍ آن واحد .
115
أال ليتقدس احتفال الهندوس ،فهو يساوي بين
الفقير والغني على ٍ حد سواء ،والمراسيم واحدة والمكان واحد والالمكان واحد أيضاً .
أال لتحزني يا أرض والتطمي يا سماء والتصرخي يا شريعة هللا ،كم من أناس يعيشون على موت اآلخرين . يوم حالجي هرب إسبوعان من محيط الزمن األحدب ،وأنا على المنوال ذاته ،أحمل بقايا ثياب األشجار المتساقطة من أكتاف التوت والعنب ،ألرميها في توابيت النفايات يفر مسرعاً . ،ألن الخريف جاء مهروالً ،ويريد أن َّ بدأت بجز حشائش الحديقتين وهذا الصباح ُ
األمامية والخلفية بآلة الجز ،حتى تساوت بصورة مستوية ،وأضحت كبساط سندسي يفترش األرض .
116
حقاً أنها آلة عادلة فقد ساوت بين الحشائش في الطول واالكتفاء بكمية الغذاء ،وجعلت الكل في عدالة النمو والبقاء والحياة . وحينما أوت األطيار في قصورها ،وعال نعيق الغربان ،طفقت سمفونية الحشرات تعزف الحانها النشاز ،وبين الصرصرة والدردرة صارت األشجار كأشباح تتكلم بعد الغسق . لت أن أتوسد األرض ،وأبقى طوال الليل راقداً فض ُ ّ
هنا مفترشاً هذه الحشائش الندية الغضة الطرية ،التي تعبق برائحة زكية . وبعد أن إستلقيت ُخيل لي أن هذه األشباح تلتف
حولي ثم تحملني وتصلبني على جذع الشجرة ،ثم وقدمي ,وكأن صوت القص يدي أتت الغربان تقطع َّ َّ هو صوت الحشرات ،وسالت دمائي الى األرض ، الي بعيون المعة ، واحتشد الناس أمامي يتطلعون َّ صرخت من شدة األلم قائالً : ُ
117
ـ ـ ـ ـ لماذا تصلبوني ؟ لماذا ؟ . جاءني صوت كحفيف الرياح : ـ ـ ـ ـ ألنك تتصبر مع هللا وتدعي بأن ألملك أكثر من ألم المسيح فنل جزاء الحالج . انتبهت من هذا التخيل ..وكانت عيناي فائضتين ُ
بالدموع وتواردت الى ذهني هذه القصيدة : وخيم الظالم أغرق في اآلالم يا أيها الحالج أنك أني أحس بالعذاب يا أيها المسيح الدم في الكون يصيح : الرمل يخنق الجمال 118
والقافلة تتيه والرجال تدفنهم غبراء فتزأر الرياح الدم قد ساح وتخرق الخناجر العظام أوردتي تسيح فيغرق الزحام وتعصف الريح أيا مسيح يسقط فوق االرض كفاي كورقتين في الرياح كنجمتين في الصباح أحس لذة االله ُّ 119
هب العجاج قائال : َّ الموت يا حالج تخصف تحتي قدماي وترسم الدماء هللا يا هللا والفقراء قد سمعوا النداء فاحتلقوا بالذكر والمواء أيا خراف الموت منكم يخاف .
120
يوم مجرم أيا يومي ما أنت يا يومي ،أغنوة نظمتها ورنمتها فسحرتني أم دمية كونتها فاستعبدتني ،أضحكة ضحكتها أم عبرة أرسلتها ،أسعادة أستعذبتها أم ألم قاسيته ،قد خلتلك حلماً وردياً فاذا أنت واقع كالح يطعنني بخنجره الصدىء . تباً لك يا يومي الممل ،فما عملي في ساعاتك اال لكي أنسى دقائقك وثوانيك السامة ،فكم أمقتك يا يومي الكريه ،وكم أتمنى أن تكون شيئاً ال بداية لك وال أحس بك ،أعصر عمرك نهاية ،تحس بي أكثر مما ُّ أسرع مما تعصر عمري . آه ما أكثر ما أريد ،أريد أن أتخلص منك في القريب العاجل ،لقد مقتك أعمق مما مقتني ،وكل شيء وصل حده انقلب ضده ،فأنا قد إجتزت حدودك فلماذا ال تنقلب وتتغير الى يوم آخر ليس فيه سماء وال أرض ،وليس فيه شمس وال قمر ،ال وال نجوم عالية بل نجوم قريبة تكونني وتحفني في آن واحد ،أتنفس 121
في وأنا فيها ،نجوم ال نهاية من نورها ،وأحس بأنها َّ لها وال بداية . أواه منك يا نبع السنين ،يا نبع النيران والحمم ، كنت أظن أن العزلة عن العالم طريق يوصلني الى باب الهرب من وجهك البشع ،لكن طال الطريق وتمدد الزمان ولم أصل ،ولم أهتد . خلت أن العمل سلوى تشغلني في بوتقتها عن فخفقت ألنه كان بلوى التفكير بظلك الكثيف الثقيل ، ُ ولم أدر .
وأخي اًر عرفتك حق المعرفة ،فأنت مخلوق ال ترى والناس يدعونك الزمان ،والدهر ،والوقت ،والليل والنهار ،لذا أنت جبار موهوب ،ولو تجسدت لكنت لفعلت بك مثلما قال المتنبي : طوع البنان ،بل ُ الي شخصا ولو برز الزمان َّ لخضب شعر مفرقه حسامي
122
لذا سوف أغيرك بارادتي ،أنا االنسان ساتمرد عليك مثلما تمرد سيزيف على صخرته ،سأبدلك بنفسي ولن أخضع لك أكثر مثلما خضع لك الزهاد والمتصوفة ،لقد تعلمت من شعب العراق الدرس يجب أن أكــون ،يجب أن أثبت كينونتي ،يجب أن أقطع أيادي االخطبوط الذي شردني وخنق أهلي وشعبي الفلسطيني ..فأن أياديه تمتد على وطني العربي .. فويل له من الفأس العربية . وبعد ذلك ليس مهم ًا أن أنتظر يومي أم ينتظرني ، أن أحبه أم أبغضه ،المهم سيكون اليوم الذي يحلو بعيني . حنانيك يارب خذ بيدي الى باب الخالص من يومي المجرم .
123
يوم مرتجف دنا مني األب شاول عند الظهيرة ،وراح يهمس في ذهني : علي من جديد فهل ـ ـ ـ ـ ـ يا أبتي أن الشمس أشرقت َّ أدخل في التجربة ؟ . ولم أفقه كالمه بادىء األمر ،فقلت له : ـ ـ ـ ـ ـ أفصح عما ترمي اليه ،فأنا لم أفهم مقصدك ؟! فاجاب بح اررة : ـ ـ ـ ـ ـ ألم تقل لي بأن الشمس سوف تشرق في قلبي من جديد ! وتذيب نهر العواطف المنجمد ؟ ! . ـ ـ ـ ـ أوه لقد نسيت ،باهلل أخبرني ما الذي جرى ؟ ـ ـ ـ ـ ـ أن التجربة قد فتحت أبوابها في وجهي ،وأنا اآلن بين أن أجتاز عتبتها وأدلف في جوفها أو أتراجع الى الوراء مخافة الخطيئة التي أتوسل الى الرب في كل مرة أن يبعدني عنها ،فماذا أفعل ؟ . 124
قلت وأنا أبتسم له بإخالص : ُ ـ ـ ـ ـ أن التجارب محك االنسان ،وأنا أخالف سيدنا المسيح في دعائي (ربنا أدخلنا في التجربة) حتى وصلت الى مكانة مرموقة ،وقبل المصيبة الكبرى ُ
التي حلت بعائلتي تركت ذلك ومضيت أردد ما قاله يسوع (ربنا ال تدخلنا فى التجربة). وذا به يضعني في تجربة بشعة مخيفة هزت كياني وحطمتني تحطيماً كصخرة هشة انقضت عليها صاعقة ففتتّها ،فما عليك اال أن تقول فى صالتك (ربنا أدخلنا في التجربة األحلى واألجمل واألكثر لذة) وسترى النتائج الجميلة بعون هللا . ـ ـ ـ ـ لكن هذه التجربة ستجعلني أقع في حب فتاة تجيئني أيام الغفران وتعترف لي عن خطاياها ..وبما أني لم أجد لها خطيئة ،وأن ما تخاله خطيئة هو كبت وحرمان عاطفي ..أعاني أنا منه مثلما هي تعاني .
125
ـ ـ ـ ـ ذاك ما كنت اتوقعه فكالكما محروم من اآلخر ، أال نعم التجربة . ـ ـ ـ ـ ـ ولكني كما تعلم قد وضعت نفسي في خدمة الرب والكنيسة من أجل إصالح المجتمع . ـ ـ ـ ـ أن كل شخص من لمجتمع يحاول أن يصلح غيره وكم باألحرى أن يصلح نفسه ويكتمل أمام هللا ،وأرجو المعذرة فأن نبي المسلمين يقول (الزواج نصف الدين) معنى ذلك أصالح المجتمع ال يتم بيد انسان ناقص الدين ..أما الكنيسة فما أجبرت أحدًا في يوم من االيام على التقوقع في هيكلها ومحرابها لتكون له قب اًر بل بنيت للعبادة ونشر الخير على المجتمع . صمت األب شاول كأنــه غرق فى تفكير عميق ، ورحت أنقل طرفي بين تركني دون أن ينبس بكلمة ، ُ
األزهار ،فأراها زاهية نضرة مبتسمة الحياة ..عندها
شعرت أن الكآبة بدأت تنقشع غيومها عن سماء روحي ُ واذا بسلطان القلوب يهدر في نفسىي قائالً:
126
ـ ـ ـ ـ إيه أيها الحب المقدس ،يا من ملكت الكيان في أقل سويعات العشق ،يا من جعلت الطيور تصدح بنشيدك الساحري ،يا من إنتشت الطبيعة بظاللك الملونة ،وأصبحت الورود محمرة الخدود ،خجلة منك أيها الحب . االفراح واالهازيج ،والموسيقى واالغاريد ،والقصائد ينم عما بجوفك من واالناشيد جميعها غالف شفاف ُّ سعادة متنوعة ،فاالضواء تنير ما بداخل القصور والمنازل ،أما أنت فتنير النفوس المظلمة بشعاع من العاطفة ،فتجذل المحزون ،وتقهقر المتكبر ،وتمسك بالوديعين فتطرحهم صرعى . أيها الحب لوالك ،لوال وجودك لما خلق هللا االناث والذكور ،لما ظلوا عبيدك المطيعين ،فكما إستعبدت األحياء البهيمة إستعبدت االنسان العاقل ،فما أحلى عبوديتك فبها السالم والوئام . أن قطرة الندى مهما كانت بعيدة عن البحر فهي حتما اليه سوف تعود إن عاجالً أو آجالً . 127
فمهما تبتعدي يا عواطف القلوب فأنك في بحر الحب ستصبي . يوم جماهيري في الصباح سمعت ضجيجاً مدوياً ،عواصف من الهتافات مبعثها ساحة الطيران وحديقة األمة ، فتراكض القساوسة يتطلعون من االبواب والنوافذ ، تقيت الساللم لكني لم أفقه شيئاً مما يدور خارجاً ،فار ُ
اطللت المؤدية الى قبة أجراس الكنيسة ،ومن الشرفة ُ
على ساحة الطيران ..فاذا البشر قد تقاطروا كالسيل
العرمرم ،فال أرى سوى رؤوس كأنها أمواج بحر ثائر، تحمل نعوشاً أربعة كأنها زوارق تشق عباب الموج البشري . تهادى الى سمعي صوت أحد القساوسة وهو يخاطب قساً آخر قائالً : ـ ـ ـ ـ ـ أنهم يشيعون الشهداء .
128
رجني في الحال ، كأني ُ مسست بتيار كهربي ّ
دهشت لجالل هذا التشييع وروعة هذا الموكب ، ُ
وأصابتني قشعريرة فاألصوات تضج علو السماء وترعد
المدينة بكاملها ..حقاً أن الشهداء يذكون روح الشعب ،بل أنا أشعر أن الشهيد هو الذي يقود هذه الجموع في هذه اللحظة ،فما رأيت ـ ـ ـ منذ أن أحتل الصهاينة أرضنا ـ ـ ـ ـ جموعاً مثل هذه الجموع ،تحمل روح اإلرادة الفوالذية والعزيمة الحديدية ،إختنق قلبي وهبطت من عيني شالالت الـدمـوع ،ملتهبة حارقة ،فما زال للبطولة رجال وللخلود شعب ،ومازال العرب موجودين يقدمون دماءهم قرباناً للوطن الحبيب . أنت عمالق أيها الشعب العراقي ،فلم أكن أتصور أن لي أمالً باسترجاع وطني المغتصب ،واالنتقام من الكالب التي قتلت أهلي واستحلت أرضي وسمائي ومياهي حتى أبصرت جموعك الهادرة ،جماهيرك المحتشدة ،فآمنت بقوتك وارادتك يا عمالق شعبي والثأر قريب ال محال .
129
لقد كنت قبل اآلن بال عقل وال هدف ،وال أجد مبر اًر للبحث عن ذاتي في ذاتي ،اذ أنا تائه واألرض تضيق بي ،ونفسي يضعف ،آمالي تقتل آمالي ، وبحثي في مستقبلي جامد كجمود الصمت ،الدنيا تتحرك من حولي وأنا واقف أتفرج على مسرحها بألم ، اذ ليس لي دور فيها وال مكان ..ضائع ضياع التفاهة ال بعيداً ال يقترب ،وليس لي صبر على ،أترقب أم ً ذلك ،اذ ال يوجد منفذ أنّفس به عما يجيش ويصطرع في داخلي ..االبواب فى وجهي مغلقة ،واذا استدرت فالحيطان تأكلني ،والزمان يعذبني ويسخر مني ال أدري أين أمضي وال أدري ممن أهرب وال أدري لماذا أتعذب بقية عمري . لكن اليوم أشرق األمل في نفسي ،وصرت أعرف أن ال فرق بين من يضحي من أجل عائلته أو من أجل وطنه ،ربما من اجل الوطن التضحية أعظم والشهادة أروع لذا قررت أن أواجه عدو شعبي ..فأما أن أكون وأما أن ال أكون ،فالعراق بعث العزيمة في 130
نفسي من جديد ،وعرفت أن النصر يأتي من همم الرجال ،وإيمانهم بقضيتهم . يوم جذل تمنيت أن أرى األب شاول هذا اليوم فقد أضحيت ُ
متفرغاً من عملي ،لكن مع األسف واالسف ال ينفع ، فقد كان هذا اليوم بالنسبة له أرهق األيام ،فهو يوم للبشر أكثر مما هو للرب ،اذ ينشر فيه شذى انسانيته ،ويبث فيه أمواج ابتساماته لتتكسر على شواطىء الوجوه ،ويعصر رحيق فكره ليروي صحارى العقول ، ويفتت جبال الجهل . في الصباح عليه أن يبارك الوافدين والمغادرين بعد أن يعظهم النه اللولب الذي تعتمد عليه الكنيسة أيام االحاد خاصة . أزمعت أن أنطلق الى البرية فالشوق الى رحابها قد َّبرحني ،والحنين الى هوائها الطلق قد َّ شفني ،وحب طبيعتها العذراء قد ملك كياني ،وفضلت أن أتوجهه 131
شطر وادي دجلة حيث تحف روح هللا فوق مياهه ، كانت سماء بغداد قد استضافت قطعان السحب .. وبمقدمها قدمت النوارس العبة في سماء دجلة ، وكأنها ثلوج تطفو فوق مياه جارية ،او كأنها رأس سهم يمرق في الفضاء ،القائد فى األمام والبقية تـنتظم خلفه ،هندسة رائعة . ما أن وصلت الى أردان المياه المعسولة حتى خطف فوق رأسي نورس صغير ،وزعق بشـدة أجفلتـني بعض الشيء وأضحكتـني بعد ذلك ،ثم توجه الى منتصف مياه الضفتين ونزل على صفحة المياه الملساء والتقط سمكة وعاد بها بين منقاريه الجميلين، وحط عند الشاطىء بالقرب من موقعي ،وراح يرمقني بارتباك ،وفجأة تجمهرت النوارس عليه ليسرقوا غنيمته مزق الهدوء الرطب .. ،وكانت أصواتها زعيقاً حلواً ّ فأية موسيقى وأي غناء وأي منظر . وما أن توسدت األرض وأسندت ظهري لشجرة تقبع قرب الجرف حتى عاد ذلك النورس من جديد مارقاً من 132
الي ، فوق رأسي رواحاً ومجيئاً كأنه يشعر بشيء يشده َّ مما جعلني أخال أن روح احدى بناتي قد عادت بتجسيد ٍ ثان وتقمصت جسم هذا الطائر المائي كي تلطف المياه ما كابدته من حريق النيران ،ولكن العودة والتقمص مجرد شعور فكري جميل إن صح ،وأكثر الطيور تعاني من ضعفها أمام الطبيعة المتوحشة . كنت أحمل رغيفاً من الخبز القتاته متى ما طلب جسمي الديمومة ،ولكني قطعت الرغيف فتاتات وطفقت انثرهاعلى وجه الماء ،فهجمت االسماك تلتهم ما أرميه ،وأسرعت النوارس بدورها تصطاد السمك المخدوع ،وكان مشهداً حزنت له وفرحت في وقت واحد ،فيا لتعاسة الصراع من أجل البقاء . مساء ، عدت الى حضيرتي تجممت بعد أن إس ُ ُ ً والنوارس غادرت الشاطىء بدورها متجهة صوب البراري مبتعدة عن المدينة وعند دخولي الكنيسة التقيت األب شاول فحياني وحييته ،وبعد محاورة اعتيادية أخبرني أنه القى موعظة بعنوان : 133
( ربنا أما تبالي ) فذكرني الموضوع بذكريات دفينة حين كنت معلماً في مدرسة بيسان أدرس الوعظ الديني فطلبت من الطلبة ان يكتبوا تحت نفس العنوان أمانيهم وأمالهم وما يكابدونه من مشاق الحياة ويختموا الموضوع ( بربنا أما تبالي ) . وعند إنتهاء الطلبة من الكتابة ،بدأت أدقق أوراقهم وعجبت من ورقة ورقة ،فلفتت إنتباهي إحدى األوراق ُ
كاتبها فقد غير الكلمة تبالي ،والتي معناها تهتم ،
واسترسل يكتبها « ،تبلى » وقال في النهاية ( ربنا أما تبلى فقد بليت ) وكانت عباراته تقطر الماً وتـنزف تعاسة ،وجحوده على الحياة وتبرمه من المعيشة ال يوصفان ..وكلمة يبلى قاصدها بالمعنى القاموسي : ر َّث وته أر من القدم ..وكان الوحيد الذي لم تـنفعه كلماتي ونصائحي ،ألن جرحه أعمق من أن تداويه أدوية الكالم . لكني كتبت على ورقته هذه العبارة التي أذكرها :
134
ـ ـ ـ ـ أنك حينما تموت ستـنظر روحك من عليائها الى هذه االحياء التي تحيا فوق الكرة األرضية ،فترثي في ذاتك حياتهم القاسية ،وتتمنى أن يجدوا طريقاً يجعل معيشتهم كمعيشة اإلله ،وتتحسر لو أنك تعود اليهم لتفهمهم معنى الوجود َّ ، وتدلهم على خير السبل لجعل حياتهم سعادة وهناء . يوم عاشق نشرت الشمس شعرها الذهبي على األفق الممتد فوق رؤوس االشجار ،كانت روحي تتأرجح بين الظالم والنور ،آه بدأت شيخوختي تحن الى السكون والظالم وتتكاسل عن حيوية الشمس ،لقد آن األوان ألرمي آخر طاقتي من أجل عمل عظيم ينفع شعبي ..وأظن العودة الى أرض اآلالم أرض الجلجلة هي خير مكان ألنهاء وجودي ،سافكر بوسيلة للذهاب الى هناك من جديد . برحت غرفتي وعقلي يرغم جسمي ارغاماً ،ألن ما أعمله تافه وقبض الريح ..اذ لم يكن عملي اليوم سوى 135
فتح الحنفية ليتدفق الماء هارباً من االنبوب ويروي األرض ويتغلغل في الطبيعة التي هو روحها وهي جسده . بينما أنا أقوم بالسقي ،لفتت أنظاري ظالل تتحرك وراء األشجار ،وإسترعت إنتباهي همسات إنثوية رقيقة تميزت عن صوت آخر لصفائها ،وكان الصوتين خلف شجرة الرمان التي تألقت خضرتها وتدلى ثمرها . وقدرت أن موقفهما فى هذا المكان ال َّبد أن يكون من أجل غاية ،فاغراني شيطان الفضول ،وإقتربت من الشجرة من حيث ال يبصراني ،وطرق سمعي صوت األب شاول وهو يقول : ـ ـ ـ ـ قلت لك أن حبنا ليس خطيئة ،وأنها سنة الرب والبشر من أقاصي األرض الى أدانيها يعشقون ويحبون ثم يتزوجون وينجبون ،وأن حبنا قد جبله الرب وساقته األقدار الى قلوبنا ،وليس هو من صنعنا بل هو من صنع موجه أرواحنا ووقلوبنا . 136
ال : أجابه صوت إنثوي دافىء النغمة قائ ً ـ ـ ـ ـ لكن شعو اًر يخالجني بأني أدخل تجربة من تجارب الشيطان ،تجربة أخالها أم ًار فظيعاً وأحس من جرائها بأني عارية بين الناس . فرد عليها األب شاول : يمر ـ ـ ـ ـ ـ أنك تهولين األمر في مخيلتك ،ألن الحب ُّ عليك الول مرة فى حياتك لذا تخالينه تجربة صعبة مخيفة . ـ ـ ـ ـ ـ ولكن ماذا سيقول القساوسة أو الناس علينا ؟ حتى الكنيسة ستغضب علينا ! . ـ ـ ـ ـ إن كانت الكنيسة ترضى على المجتمع أوتغضب منه فاألحرى بها أن تغلق أبوابها ألنها لم تقم من أجل ذلك بل أنها دار عبادة المجتمع لتعظيم الرب ،وأن زواجنا هو مجاراة للعرف السائد ولسنة الحياة ،فمالنا والقساوسة والناس ،نحن نرضي الرب بعملنا وليذهب الى الجحيم كل من يعارض مشيئة الرب . 137
لحظتـئذ اقتحمت موقعهما وبرزت أمامهما ،فجفلت الفتاة لظهوري المفاجىء ،لكني بددت تأثير المفاجأة وقلت بسرعة لهما : ُ ـ ـ ـ ـ أنا أول الموافقين وأول المباركين وأرجو المعذرة لتطفلي . إبتسم األب شاول ،وران صمت غريب ،بدده األب شاول مقدماً الفتاة لي ،ومقدمني للفتاة ،وعرفت اسمها (كلودا) وهي فتاة هادئة خجول ..طويلة القوام ،ذات وجه أبيض مشرق دقيق التقاسيم عدا عينيها الزرقاوتين الكبيرتين ،فتكاد الحالوة والنور أن يسح ار الناظر اليها ..وكنت قد رأيتها سابقاً بكياستها ورصانتها حينما كانت تمر مع عائلتها مجتازة الحديقة قلت حتى فتسبقهم بالتحية علي ،وما أن سمعت ما ُ أطرقت الى االرض بحياء وأسبلت أجفانها الطويلة .
أضفت الى قولي لهما : و ُ
138
ـ ـ ـ ـ يا أبنائي أن الحياة قد فتحت ذراعيها لكما لتحتضنكما أيها المتقوقعين تحت جسديكما ،ولتريكما معالمها ،فاسرعا اليها قبل أن يعتريكما الندم مدى العمر ،والت ساعة مندم . إستأذنت الفتاة وغادرت المكان متذرعة بذهابها الى ونظرت لألب شاول وشاهدت شروده مكتبة الكنيسة ، ُ
فقلت له : وقرأت أفكاره ُ
ـ ـ ـ ـ أيها األب الشجاع لم ال تسرع في الزواج بعد أن علمت بحبها لك في أشده وحبك لها في اقواه . ـ ـ ـ ـ ـ هذا ما نرمي اليه قبل قليل ،ولكننا ال نعرف كيف نبدأ فهي خائفة . ـ ـ ـ ـ ـ لم ال تذهب الى صديقك المطران وتخبره األمر الواقع بصراحة ،فهو انسان طيب متحرر الفكر ، فسيبذل قصارى جهده في سبيل تحقيق ما تصبو اليه . ـ ـ ـ ـ ـ سأجازف يا سيدي الراهب فهو الحل الوحيد .
139
تركني ورأيته يتوجه صوب مكتب المطران ويدلف فيه ،وتمضي مدة ويخرج ليعود بالفتاة كلودا الى المكتب ،وراحت االنفعاالت تصطرع في داخلي ،وأنا أدعو مخلص ًا أن يساعدهما هللا ويمهد لهما طريق الزواج والسعادة . وحين خرجا كانت تنطلق من وجهيهما فراشات البشارة واشراقة الفرح . وبعد أن َّ ودع األب شاول الفتاة كلودا التي غادرت الكنيسة ..جاءني وهو يحمد هللا ،ثم طبع قبلة على جبيني وهو يقول : ـ ـ ـ ـ أنك قديس ،أنت النور الذي هداني الى نور هللا ، ولن أنسى لك ذلك . ثم ذهب وأنا أستغفر الجليل والدموع تترقرق في عيني من كثرة الفرح بسعادتهما المرتقبة .
140
يوم ذهبي ما أسرع إنسكاب األفراح في النفس البشرية حتى ليكاد المرء أن يحلق بأجنحة طير للوصول الى غايته ،فعندما إستيقظت عذراء السماء ،برح األب شاول الكنيسة متوجهاً صوب عائلة خطيبته (كلودا) للحصول على الوثائق الرسمية لعقد القرآن ،ذهب عاجالً وجاء بعد ساعة ،وقدم األوراق لمقر األبرشية ،وطلب مني أن أشهد عرسهما الذهبي عصر هذا اليوم . ولجت القاعة وقد سبقني الجميع باشعال شموع ُ
الفرح ،وإنتظرنا حتى حضر الكاهن ومعه مطران األبرشية ،وتقدم األب شاول مع الفتاة وبجانبهما والد الفتاة وأمها ووقف الجميع أمام الكاهن الذي وضع رباطاً على يديهما المتصافحتين وباركهما بالصليب ، وبعد أن أعلن وكيال الخطيبين رضاهما التام بحضورنا ،تال الكاهن صالة البركة على الخاتمين ،ووطلب من العريس والعروس أن ُيلبس كل منهما اآلخر خاتم الزواج ،وباركهما بالدعاء .
141
خرج العروسان ونهالت عليهما حبات الرز والورود من قبل الحاضرين ،وركبا السيارة الى الشقة التي أعدها األب شاول ،وهكذا عدت الى صديقتي الحديقة ساعدت في إتحاد وأنا أحس بسعادة تغمرني ألني ُ روحين لطيفين إكتمال أمام هللا .
حقاً أن الهوى خميرة كروم معتقة يثمل بها المحبون كلما مألوا قلوبهم بها ،فتـنفتح لهم أبواب الخلود عن جنائن الفيروز ولحظة القوس قزح ، فيهيمون في سحب اللذة . الحب كالنبات ينمو ويترعرع تحت أشعة الشمس وال يعيش في الظالم ،وإن عاش في الظالم فقد لونه ومات تدريجي ًا ،وشمس المجتمع المتحجر تحرق هذا الحب بلهيب تخاله مبيداً له ،وهو مغذ جيد للحب ، مثلما النار الممتدة على القصب تزيد من إنتشار القصب من جديد . يا شمس المجتمع أشرقي وافضحي غرام المحبين ، فأن شعاعك الذهبي خيوط تلف قلوب المحبين 142
كالشرنقة ،وعند االكتمال تتمزق وتتقطع هذه الخيوط وتنطلق فراشة الرباط المقدس زاهية بألوانها ،ساحرة برفيفها ،وأن فراشة الزواج ال تطير إال بجناحين كبيرين هما المحب والمحبوب ..ولتتقدس شمس المجتمع إذن .
يوم القرار أمست سيدتي الحديقة مكتفية ال تحتاج بعد اآلن الى أية مساعدة ،فبعض أشجارها قد تعرت من ثيابها وراحت تستحم عند كل زخة مطر ،وبعضها االخر َّ َّ بت ما طال ،فال مت وشذ ُ يغتسل ليجلو ثيابه ،وقد قل ُ
عمل لي بعد اآلن ،ألن السماء بدأت تخدم االرض ،
يا لهول الملل الذي دب في نفسي ،وراح الضجر يعصف في كياني ،ففكرت أن أودع الكنيسة فلم يعد لي عمل بها ،فما وجودي طيلة هذه المدة بين أحضانها اال لمراجعة النفس وانتظار المقدور .وبما أن الوطن العربي صار مهدداً كله فال وقت للتفكير 143
بخصوصيتي بعد اليوم وقضيتي صارت قضية كل العرب لذا قررت أن أعود الى أرضي . وقررت أيضاً أن أكتب قصتي في أواخر المذكرات في نفس الوقت الذي غادرنا به األب شاول ،ألنني أزمعت أن أسلم هذ المذكرات ـ ـ ـ ـ قبل أن أغادر الكنيسة ـ ـ ـ ـ الى األب شاول حين يع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـود الى الكنيسة بعد ان ينتهي من عقد االكليل فهو أحق بها ،وفيها سيعرف حكاية حياتي التي طالما اشتاق لسماعها ،وبذلك سيعرف مشاعري نحوه ،ويتذكرني كلما يق أر هذه علي ،وأنا المذكرات ،وربما لن تسيل من عينيه دمعة َّ ال أريد ذلك منه ،ولكني على يقين أن خفقة من خفقات قلبه ستنهصر شوقاً وحنيناً حينما يتذكرني . ما وداعي للكنيسة اال وداعي للحياة التي مللتها أخي اًر الى الحد الذي ساحمل روحي على كفي وأرميها بوجوه قتلة أهلي وشعبي كما االطفال حينما يرمونهم بالحجارة .
144
وليعلموا أن سلبهم ألرضي ستكون مقبرتهم فيها ،وإن أخفقت فاألجيال القادمة ستنجح في إستردادها بعون أنا ُ هللا .
145
ق ـص ــةُح ـيــات ــي
ُ
ُ
ليكن لك قلب حتى تق أر هذا القلب
146
مرحلة الطفولة تمخض رحم الطبيعة ،وتهادت دقات نواقيس الكنيسة ،واختلطت مع آذان المؤذنين عند أول خيط من شعاع الفجر إعالناً عن إنتصار الحياة على الموت وبقاء ديمومتها األبدية . كانت والدتي ـ ـ ـ كما أخبرني جدي ـ ـ ـ ـ في اليوم الذي ظهر فيه مذنب إقترب من األرض وأفزع العالم وكل المخلوقات عام ،1910وجاءت والدتي من أبوين فلسطينيين عربيين في مدينة بيسان الواقعة على الغور. عرفت أن ألم المخاض ما هو اال تنفيذ حك ٍم على ما جنته المرأة من لذة . هاجر والدي الى أمريكا بعد أن أغروه اليهود بذلك ،وأودع والدتي لدى أهلها في قرية (االشرفية) وهي حامل بي ،وانقطعت أخباره عنا ،مما أدى الى مرض
147
والدتي واصابتها بالذبحة الصدرية ،وودعت الحياة ، وأنا في الخامسة من عمري . عرفت توها أن الموت هو تحرر الروح من الجسد . كان ذلك في شتاء بارد كثير الثلج والضباب ،حتى أني مازلت أذكر ذلك الضباب المعتم ووجه والدتي يخرج من خالله كلما أشاهد مثله في الواقع وفي االحالم ،أتألم ألن الدهر طعنني منذ صباي ،منذ أن وعت عيناي الدنيا ،وشعرت أني صرت عارياً ال أجد فقدت والدتي ،وكنت أفكر أنها الدفء والحنان منذ أن ُ هربت مني وتركتـني وحيداً في هذه الدنيا .
أحسست أن السماء إختفت زرقتها وخيم الظالم في كل مكان ،وال أرى سوى الليل والكآبة والدموع ، والضياع ،فأية طفولة طفولتي . علمت أن لي جدا قالوا عنه أنه رجل دين يعيش في ُ
مدينة بيسان حيث تقع على بضعة أميال بالشمال الشرقي لقريتي ..وسوف أكون بعهدته عن قريب كما 148
فضت ذلك ولكن زوجة خالي أخبرني خالي ..ر ُ
افقت على الذهاب . أصرت ولم أكن أودها ..فو ُ
تعلمت أن قرابة األب أقوى خيمة من قرابة األم ُ
وهي البديل الحقيقي للحنين الى الرحم العائلي ..كانت الطرق انذاك غير صالحة للتـنقل ،فبقيت في بيت خالي يواسيني ولكن كيف يكون للمواساة فائدة وأنا كلي احساس بالضياع . مرت أيام اإلنتظار كدهر ثقيل على صدري حتى ذاب الثلج وأصبحت الطرق صالحة للتـنقل ،فحملني خالي على حمار مع بعض أمتعتي وراح يقود الحمار في طرق وعرة متسعة حيناً وضيقة أحياناً ،وتعلو وتهبط بين أرض خضراء حيناً وحمراء أكثر االحيان. خرجنا عند الفجر ووصلنا مدينة بيسان ظه اًر ،بعد أن أنجزنا عملية تعذيب ذلك الحيوان الذي ال يمت لمشاكلنا بأدنى صلة ولكننا استضعفناه فعذبناه .
149
وما أن سألنا أول شخص صادفناه حتى قادنا الى ال وقو اًر مهاب ًا جميل الطلعة بيت جدي ،رأيناه رج ً نورانيها ،وما أن أبصرنا ندلف بيته حتى قام لنا هاش ًا باشاً ،وراح يوسعني ضماً ولثماً بعد أن لمح في تقاسيمي صورة أبي ،وحملني بين يديه كأني سعفة صغيرة يلوح بها في الفضاء قال : ـ ـ ـ ـ أنا أنتظر قدومك منذ أن سمعت بوفاة والدتك ، ألعن اليوم الذي أنجبت فيه إبناً ُ هللا يرحمها ،لكني ُ عاقاً كأبيك .
بعد يومين أنست به ،وتركني خالي ـ ـ ـوالدموع تقطر من عينيه ـ ـ ـ في عهدة جدي ورحل بكيت خلفه دون شعور . كنت كمطر نزل على أرض قاحلة فاحياها ،اذ ُ
بعد أيام قالئل عم الخير بيت جدي الشيخ ( الحاج
كما ينادونه اكر ٍ اما لمنزلته الدينية) فقد انهالت عليه العطايا والهدايا أكثر من أية سنة مرت ،وعرفت أن هذه السنة كانت تعبر عن قوة االنسان في إستخراج 150
كنوز االرض وتسخير الطبيعة لصالحه ،وما تغيرت السنة مرة اال لضعف قابلية االنسان . كان جدي يقول لي دائما وعلى وجهه اشراقة ابتسامة عريضة : ـ ـ ـ ـ لقد اكتمل حظي بمقدمك يا ابني . وكنت ال أفقه معنى الحظ آنذاك ولم أسأل عن فحواه ،وما أخاله اال شيئاً جميالً مفيداً ،وهذا ما أدخل في قلبي البهجة والسرور ،فأضحك وأطبع قبلة على يده . وخالل أيام قالئل زالت أحزاني وكآبتي بعض الشيء ،حتى أني لم أشعر بانتقالي الى بيت ال أعرفه بل الى منزلي وأهلي ،ووجدت تعويضاً عن حنان أمي وكنت لدى رجل يحبني كابنه بل أكثر من نفسه ، ُ سعيداً كل السعادة بعائلتي الجديدة اذ لم يكن مع جدي
سوى زوجته لثانية العقيم ألن جدتي األولى تركت له أبي وعمتي التي هاجرت مع زوجها أيضا ،بقيت 151
طوال المدة أنادي زوجة جدي بـ (ستي) ولم أستطع أن أناديها بجدتي أبداً ،فتباً لي ما أبخلني بالقاب التكريم آنذاك . الزمت جدي في ذهابه وايابه ،يتجه الى البستان صباحاً ويمر بالسوق في العاشرة ويجلس عند بعض أصدقائه ويعود الى الدار ظه اًر أحمل معه أكياس الطعام ،وتكون ستي قد أعدت مائدة الغذاء ،ويجلسني بجانبه يقدم لي ما لذ وطاب ،ومثل ذلك في العشاء . عرفت أن الطعام الذي تقدمه لنا األرض هو بداية المنفعة المتبادلة بين األرض واالنسان ..وسوف يصل الجسم الحد الذي تسترد األرض منه ما قدمته له . تعلمت من أصــدقاء جدي الشيء الكثير حينما ُ
يتـنادرون ويتفكهون بشتى األحاديث ويتسامرون ليالً في دار جدي وأنا أستمع مرة اليهم ومرة أشاركهم في إستمعت أحاديثهم ويشجعوني على سرد الحكايات التي ُ
لها ويستعذبون طريقتي بعرضها ،وينتبهون الى أشياء لم يذكروها . 152
فعال كان ديوان جدي مدرسة حرة متنوعة مشوقة . مرحلة اليفاعة دخلت مدرسة الديار فى بيسان وما شعرت بانتهاء سني الدراسة ،مع العلم أني كنت أحبذ العزلة فال أشارك األطفال لعبهم ومرحهم ،وأجلس عند جذع شجرة التفاح وقت الفسح الزمنية ،فقد كان عقلي أكبر شعرت بالسعادة اال مع الكبار حيث من لعبهم ،وما ُ أحس بمتعة بالغة فى كالمهم .
كان الشتاء في بيسان طويالً ممالً وكنت أمقته إذ أنه يقلل من حركتنا وحيويتنا ويمنعنا من النزهة ،وهو قارس جداً ،ونبقى خاملين مختبئين في عقور دورنا خاصة اذا تعطلت الدراسة ،وضباب الوادي يمأل الغور وحينما أحاول النظر خالل النوافذ فال أستطيع الرؤيا ألن بخار أنفاسنا قد ضبب الزجاج . كان جدي يجلسني في غرفته ذات المكتبة الضخمة أيام البرد ،خاصة عندما تكون السماء ممطرة ،او 153
تـ ُّ نث وف اًر ،ونتمتع بالموقد ودفئه وتوهج ناره والجمر المتأللىء بألوان ساحرة ،كانت النيران تسلب تفكيري وتجعلني متأمالً روعتها وأشكالها الخيالية ،وكنت أطعمها كلما خفتت من خشب التوت الذي جمعناه وقت الخريف ،وحيناً آخر كنت أنشغل برسم الحرف العربي ،ويعينني على ذلك جدي أكثر من معلم المدرسة ،وفي أحيان أخرى يناولني الكتب المبسطة المعاني ويعلمني قراءة الجمل واألسطر وكتابتها أضحيت ال صحائف صحائف دون أن أم َّل حتى ُ يجاريني أحد في القراءة واالمالء كل المراحل الدراسية.
طوال هذه الفترة االبتدائية كانت تتوارد في ذهني أسئلة جديدة ،فمنها ما أجد له جواباً في بعض الكتب والباقي يبقى دفيناً في أعماقي لمدة حتى اذا لم أطق الكتمان أنشد الجواب من جدي وأنتهز الفرص السانحة لذلك وأسأله : ـ ـ ـ ـ جدى لماذا خلقنا ؟ ويرفع جدي حاجبيه دهشاً ثم يقول : 154
ـ ـ ـ ـ لقد بدأت النبتة تنضج ،ولكن يا إبني لماذا تشغل عقلك بهذه األفكار التي لم تغير من أمر وجودنا شيئاً ،أن عرفت الجواب أولم تعرف ؟ . ـ ـ ـ ـ ولكن يا جدي أنها تشغل تفكيري . ـ ـ ـ ـ ـ حسناً خلقنا من أجل ان نشعر بالحياة الدائمة . ـ ـ ـ ـ وهل هنالك حياة غير دائمة ؟ . ـ ـ ـ ـ يا إبنى توجد حياة زائلة وهي االرض بما عليها نحن بل ما فى الكون من قمر وشمس ونجوم ،اما الحياة الدائمة فهي عند هللا الخالد وهي ال تزول . هكذا تستمر أسئلتي عن هللا والمالئكة واالنبياء والجن والروح والجنة والنار والحساب والعقاب والحالل والحرام حتى ينام جدي وأبقى مستيقظاً مفك اًر الى أن يتعب عقلي وأغرق في سبات عميق ،وعندما كنت أستيقظ فى الصباح الباكر أتطلع الى منظر الجبال المحيطة بالمدينة من الجهة الغربية وخاصة أيام الربيع حيث تكتسي بحلة زاهية فكأنها سجاد مطرز بالوان 155
فاتـنة ،وأنظر الى امتداد السفح المنحدر نحو الغور الساحر بخضرته فأرى مدينتي وسط جنة من جنان هللا وما أيام الدراسة في الديار اال أيام الغبطة والسعادة واالمان . مرحلة الفتوة تمر أيام الحالوة مسرعة كأنها تأبى أن تسعد األحياء فترة أطول ،قد مرت متعة النظر الى جمال الطبيعة الخالبة كلمح البصر ،مثلما الورود ما أن تبرز مفاتنها وتعبق بأريجها حتى تتالشى ،مثلها كانت مرحلة الثانوية فقد أنهيتها ابان الحرب العالمية األولى . كنت منشغالً بحبيبة القلب االولى (ماري) التي ُ
كانت تحب أن تتمتع بالحياة الى أقصى حد ،لذا لم تصبر وتـنتظرني لحين تخرجي ،وأردتها أن تستمع لكلماتي في التضحية والوفاء ولكن دون جدوى ،بل
156
مدت يدها الى أول فارس يملك المال والرجولة وسلمت نفسها له وهي تقول لي : ـ ـ ـ ـ طريقك ما يزال طويالً وحبنا سيموت على قارعته قبل أن نصل ،ليودع أحدنا اآلخر كأصدقاء تربطنا ذكرى جميلة . ولم تعلم أنها طعنت قلبي آنذاك وعلمتـني درساً مؤلماً زعزع ثقتي بالمرأة وصار في يقيني أن ال إخالص لها ،وأن المال هو التفاحة السحرية التي تجذبها ،وعند ذلك وضعت قلبي مع آماله في قنينة زجاجية وأغلقتها ثم رميتها في بحر المتاهات . كان صديق جدي عبد القادر القسام ،وحين كان يجول في المدن الفلسطينية ويذكي نار الثورة ضد حل ضيفاً في بيت جدي ،واستمعت له االنكليز َّ ، وهو يقول مؤكداً : ( ان الثقافة والعلم ألجيالنا ضرورية لكي يطردوا بها الغزاة ) .
157
وعند استشهاد القسام في غابات ( يعبد ) ،تألم مرة بالنسبة له جدي وحزن حزناً شديداً ،وكانت خيبة َّ وودع الحياة بعدها ،وتعلمت منها أن النكسة ما أن تحل ضيفة على أحد اال وتنادي على بقية صويحباتها فيقدمن مسرعات ،وقد إنفطر فؤادي ثانية بوفاة جدي اذ لم يتحمل قلبه الحكم االنكليزي واستشهاد صديقه البطل القسام . شعرت أن خيمتي التي أستظل تحتها طارت مع ُ
الريح واألدهى من ذلك بدأ الصهاينة يطردوننا من تلت مدينتنا بالقوة وقد هددت بالقتل عدة مرات وليتني ُق ُ ُ
وجدت جا اًر لنا مقتوالً عند الصباح وتاله حينذاك ،فقد ُ
آخر ،لذا أصرت (ستي) أن نرحل مع الراحلين ونترك
أرضنا وبيتنا وبستاننا ،أي نترك فلسطين ونلتجىء الى سورية وهي تقول لي : ـ ـ ـ ـ أنت اذا ذهبت ستعود ألن االرض باقية وستعود بهمتك وهمة الرجال الباقين .
158
رفضت أن نترك االرض كما فعلت آالف لكنني ُ
العوائل من مسلمين ومسيحيين ،واشتغلت بشهادة الثانوية معلم ًا فى المدرسة التي خرجتـني ،ورحت أعيل ستي حتى وافاها األجل قبل زواجي ..ويومها شعرت بالوحدة والوحشة من جديد . كنت أكتب للمجالت والصحف افكاري الثورية فقد خططت لمشروع وحدة األقطار العربية ،كما خططت لمشروع ارواء الجزيرة العربية من مياه خليج العقبة ، وخططت لمشروع منع الهجرة من فلسطين ،ولم يتحقق من هذه المشاريع شيء ،فاتجهت الى األدب اكتب الى مجلة المقتطف اللبنانية ومجلة الهالل المصرية ومجلة مرحلة المعلم الجديد العراقية ومجلة المجمع العلمي في دمشق . قد حمدت هللا على أن (ماري) لم تبق في محطة انتظاري ،ألن الحياة أصعب مما كنت أتصورها ، فالمعيشة أرض متعبة الحرث ،والبناء يحتاج من طابوق الجهد الكثير ،وتكوين عائلة في هذه المرحلة 159
القاسية كمن يريد أن يزرع بستاناً وسط الصحراء ، والمال ال يتكون اال بالجمع بين الزمن والجهد والحرمان . وفكرت أن أهاجر باحثاً عن أبي لوال اشراقة نجمة في ليل حياتي ،أبقتـني لمصيري ومصير عائلتي . مرحلة الرجولة هاج بحر المتاهات وعاد ال يطيق حمل زجاجة قد سجن في جوفها قلب انسان حتى صار غير قادر على االحتفاظ بها سالمة فوق رفوف أمواجه ،وعند أول موجة عاتية رمى الزجاجة على صخور الواقع فتحطمت وخرج قلبي للحياة من جديد وعشق (نادين) أول فتاة رأى في عينيها بحيرة المجد ،وفى قلبها ورد الهناء ،وفي رقتها جميع احالم الحنان مجسدة ،فمال نحو ظلها ومدت له الظل وارفاً بكل كيانها وعواطفها حتى غرق بسحرها .
160
طلبت يدها ،وكانت عائلتها من نفس مدينتي ووالدها كان صديقاً لجدي ،فما أسرع ما تم زواجي فقد ضمنا الفردوس المنشود ،حتى أني لم أكن أتصور بأن الحب بعد الزواج أعنف وأقوى من الحب قبل الزواج ،وشاء هللا ان يرزقني من زوجتي فتاتين ،هما حسناء وخولة ،ملئا الدار نو ار واشرقت الدنيا بجمالهن ،وكنت ال أصدق هذه السعادة التي بعثت في قلبي عشت مثله . مهرجاناً لم يسبق وأن ُ راحت الحياة تبتسم في وجهي ولم أخل أنها ستقطب وجهها في يوم من األيام ،وتشيح بوجهها عني نهائيا ،ولم أتوقع ذلك وال حتى أتخيله أبداً . أحسست بألم في قلبي وأنا في البستان أساعد العاملين في تقليم االشجار ،فتغاضيت عنه ،وكثي اًر ما أصابني دوار بعد ذلك ،ولكني كنت أمثل دور المتعب فال أجعل أحداً يشعر بما أعاني ،ومضى عمري يركض في شارع الزمن وأنا أستخدم العقاقير
161
الطبية لعلي أشفى ولكن دون جدوى فقد استفحل المرض الى درجة سقوطي على األرض دون وعي . وحينما صارت حسناء بعمر االربع سنوات وخولة بعمر الثالث سنوات ،كانت سعادتي ال توصف خاصة حينما يحوطانني ليالً ألستمع لهما واحدة واحدة يتسائالن في أمور شتى ،أحس أني في أوج مجــدي ، ولكن ّأنى للسعادة أن تدوم فقد قرر االطباء أن أسافر
الى انكلت ار لعمل عملية «القسطرة» فشراييني ما عادت تحتمل االدوية ،ومثل هذه العملية ال تنجح عندهم لعدم وجود اآلالت الطبية الحديثة لديهم ،ونجاحها
مضمون هناك مائة بالمائة . كم ثمينة هي الحياة حينما يكون االنسان فيها سعيداً بل ومهماً لدى أهله ،فبدونه ال حياة لهم ،لذا أسرعت بجمع المال الكافي لرحلتي وعمليتي بتشجيع من زوجتي ،وحزمت أمتعتي وودعت روحي وقلبي وعمري وعقلي وسعادتي ولم أدر أني أودع عائلتي الوداع األخير والى األبد ،فقد كنت أعتقد أن ما أتركه 162
ساجده سالم ًا حين عودتي ،ولم أتصور مطلق ًا أن الصهاينة سيرسلون غراب (ادغار االن بو) ليحط على بيتي . سرقتني الطائرة من مطار بيروت الى لندن هبطت في مطار هيثرو ومنه بمحض أرادتي ، ُ
توجهت مباشرة الى مستشفى جيمس بناء على موعد
اتفقنا عليه بالمراسلة وبقيت فيه أشه اًر بين المماطلة والعالج والمراقبة السريرية ،وصرفت الكثير من المال ،وكانت رواتبي التي تصرفها لي المدرسة هي االمداد الوحيد الذي أبقاني فى دولة قانونها النقود ،ولقد ندمت كثي ار على تركي ألهلي محاوالً التشبث بالحياة هي بيد هللا ،
ولكن ما يسمى بالقدر أظنه هو الذي حاك
مصيري وفق منهاجه المأساوي . كانت رسائل زوجتي وبناتي هي سلوتي الوحيدة في بالد الغربة ،حيث أعيش مع كلماتهم كأنهم حولي فعالً يحدثوني وأستمع لهم بكل جوارحي فافرح لفرحهم
163
،اذ كل ما كتبوه لي بهجة وحنيناً ما بعده من بهجه وحنين . وحين أوشكت فترة االستشفاء على االكتمال النهائي وصلتني أخبار النكبة على مدينتي بيسان ،وهجوم الصهاينة القتلة على البيوت لطرد المسلمين منها ، والذين يرفضون يحرقون دورهم ليالً وهم نيام ،وكانت داري مالسقة لجارين مسيحيين . انقطعت الرسائل عني وتكتمت الصحف عما يحدث في بيسان ،شعرت بأن أوتا ًار في قلبي قطعت ،وحدث إنهيار فظيع في داخلي ،وخشى األطباء ان تذهب أتعابهم هباء بعد أن عرفوا ما أفكر به ، ونصحوني أن أسرع بالرحيل الى أهلي . كانت األخبار تتضارب بعدد المهجرين من كل المدن والقرى الفلسطينية ،واعالن دولة الكيان االسرائيلي ،فازدادت لهفتي لرؤية عائلتي ،ولم أكن أملك ماالً كافياً لرحلة العودة فاستعنت بالكنيسة وقدموا لي الدعم الكافي اليصالي الى بيروت ،ومنها ركبت 164
الى مدينة القدس ،ولم أجد أحداً يأخذني الى مدينتي بيسان ،فاستعنت بخيالة الثوار بعد أن علموا اسم جدي ،وأنا بين يأس وأمل وقلبي يضطرب خوفاً من عدم وجود أهلي في دارنا ،ورحت القي سيال من االستفسارات على الرجال الذين تطوعوا اليصالي، ولكنهم الذوا بالصمت المطبق ،وهزوا رؤوسهم بعدم المعرفة ،وأوصلوني الى مخيمات خارج بيسان وتركوني هناك ،ورحت ابحث عن من يعرفني وأعرفه لكن دون جدوى فكلهم مصدومون ويئنون ألماً من الفاجعة التي نكبوا فيها ،فقررت التسلل ليالً الى المدينة ،ونفذت ذلك بعد أن زحفت مئات االمتار بين االحراش وما أن أصبح الصباح حتى كنت قرب الحي الذي فيه بيتي . كانت صدمة لي ما بعـادهـا من صدمة حينما لم أجد داري وال دور جيراني ،بل وجدت أرضاً عليها ركام أسود قد أكلته النار ،وكانت رائحة االقمشة المحروقة ممتزجة برائحة عفونة غريبة انتشرت في الحي المحروق . 165
يا لهوله من خراب ،تمنيت حينها أن تـنشق األرض تحت قدمي وتطحن عظامي فى جوفها وتكتم أنفاسي ،ركضت كالمجذوب الى بيت شقيق زوجتي حينا ..وأنا أركض باقصى سرعتي وكان قريباً من َّ جاءتـني صلية رصاص لم تصبني تمنيت بعدها لو مت بها ،فهي لم تصرعني حق ًا ولكني مت بعدها عدة ميتات . وحين وصلت الدار قفزت بكل ثقلي على الباب وكسرتها ودخلت ،عنوة ،وحين صرت داخالً رأيت كل من في البيت ينظرون الي والشهقة عقدت أفواههم من هول المفاجأة ،وعندما عرفني شقيق زوجتي ،رمى نفسه علي وهو يبكي بشدة أثارت أعصابي ،وصرخت به بعد أن أمسكته من زنديه وهززته بقوة : ـ ـ ـ ـ ـ قل لي بربك ما حدث ،أين زوجتي ،أين بناتي أكاد أجن ؟ أنطق ..تكلم ؟ . فردت علي أصوات نسائية :
166
ـ ـ ـ ـ ـ حرقهم المجرمون . ـ ـ ـ ـ ـ ـ لقد احترقوا وهم نيام . ـ ـ ـ ـ ـ سقطوا شهداء . ـ ـ ـ ـ أخذهم هللا الى جنته . ـ ـ ـ ـ ـ هللا سينتقم من القتلة . كأن جبالً ينهار وكل كلمة صخرة تسقط على رأسي فيرتج ،وجدحت نار كبرق ضربني مثل نصل السيف في رأسي ،ودارت بي األرض السماء ،
أحسست بجسمي يهوي الى و ٍاد عميق مظلم . و ُ
ثالثون سنة وأنا الميت الحي ،ال أعي شيئاً من عشت في بيت أهل زوجتي ،وكيف تركتهم الدنيا كيف ُ نمت .. وهمت على وجهي في البراري والمدن ..أين ُ ُ
لبست ..الحر ..البرد ..األيام .. أكلت ..ماذا ُ ماذا ُ السنين ..كلها ما شعرت بها قط .
167
رجعت الى عالم الذاكرة عندما وجدت نفسي راقدا على سرير في مستشفى أردني ،وحين سألت عن حالتي أخبروني قائلين : ـ ـ ـ ـ ـ احمد هللا أنك لم تمت ،فالسيارة التي دهستك أحدثت بك بعض الرضوض فقط . فسألت : بدأ شريط ذاكرتي يعود في ذهني من جديد ُ ـ ـ ـ ـ ـ أين أنا وفي أية سنة نحن ؟ أخبروني بأني في االردن وأنها سنة ، 1978 عندها عرفت أني كنت بال عقل و ٍاع طيلة ثالثين سنة ..وراحت االحداث تتوالى على فكري وأبكي مع كل ذكرى أتذكرها : ـــــ
كم أنت قاسية يا حافظة القيادة يا جمجمتي ! ،
لماذا أخرجت قنابل الذكريات المفجعة ورحت تنسفين بها أحاسيسي نسفاً ..أما يكفي بأني الميت الحي ؟ . أبصرت انساناً ـ ـ ـ لم أره وحينما نظرت في المرآة ُ
جفلت منه فقد بان ذا شعر من قبل مطلقاً ـ ـ ـ هرماً ، ُ 168
طويل مغبر ،ولحية بيضاء مصفرة ،وبشرة مجعدة ذابلة ،وعينين جاحظتين ،وعظام تكاد أن تخترق الجلد المخضن ،هل هذا أنا محال ،كم من السنين مرت علي ،أكنت من أصحاب الكهف والرقيم ،أم تلفت حولي لعلي انني العازر عدت الى الحياة ..و ُ
أجد صاحب هذه الصورة الجنونية ،فلم أجد أحداً ، أنكرت أن تكون هذه صورتي ولكن الواقع جعلني و ُ
أصدقها .
كم ينخدع االنسان بعقله ،ويضيع في صحراء بال ساحل ،وينقاد لتصورات ليس لها لدى طيور الحواس اي مقياس ،عندها عرفت أن العقل يحب الحياة ويتشبث بها ،وأن النفس تكره الحياة وتحاول التخلص من سيطرتها كلما أحست بالذل ،والسبب واضح ، فان وكل ٍ فالعقل ٍ فان يحب الحياة ،والنفس خالدة وكل خالد يكره الحياة الزائفة . بعدها عرفت أحداث نكبة 1948من الناس وعرفت أن أهلي وضعوا في قائمة الشهداء ،ولكني ، 169
حقدت على الصهاينة ومن زودهم بسالح الفتك ،ولم ُ أستطع أن أحتمل بقائي قريباً منهم واتجهت صوب
العراق الى بغداد ،مبتعداً عن اماكن الذل والهوان ، عن قلب المأساة الدامي . التشرد أهون من الموت ..فلو كان القرب منهم وبقيت ،لكنه ال يجدي أبداً .. النقذت عائلتي يجدي ُ ُ
فهذا زمن القوة والسالح ونحن الفلسطينيون عراة نصنع من جلودنا خيماً كل يوم ،ومن أوالدنا طعاماً كل يوم ،فما جدوى السكن في مخيمات بالصحراء ،وأرضنا ودورنا وحقولنا وبساتيننا أمامنا تسكنها جرذان أوربا . الخاتمة لم تمض بضعة أيام وأنا في بغداد حتى التحقت بها وما بقيت فيها اال اصطادتـني الكنيسة ،و ُ عاماً ونصف العام ،فقد تعلمت أن الحياة اذا لم تقتلها
بالعمل قتلتك ..فما الفرق فأنا مقتول وسوف أموت من أجل الدخول في عالم اآلخرة ،وما عودتي الى بيسان اال ألدفن هناك ..أودعك يا شاول بدمعة فرح 170
فقد بقيت عندي هذه الدمعة الوحيدة وهي آخر ما تبقى في قدح أحداقي ،وأتمنى بكل جوارحي لك ولزوجتك أحلى السعادة ،وسادعو لكما في فراديس السماء لكى ترفرف عليكما مالئكة الحب الخالد وطيور الهناء . . الوداع . اخوك الراهب
171
المحتوى ت
العناوين
ت
رقم
العناوين
الصفحة
رقم الصفحة
1
توطئة
3
25يوم مكنوز
82
2
البداية
7
26يوم قيثاري
86
3
يوم طيف
9
27
يوم مقدس
90
4يوم عسلي
12
28يوم رباني
5يوم غريب
14
29
17
30يوم مفزع
102
7يوم مالئكي
22
31يوم بخيل
107
8يوم عــذب
25
32يوم بطولي
111
9يوم مشرق
28
33
يوم مادي
114
10يوم فجائي
31
34
يوم حالجي
116
ودي 11يوم ّ
34
35
يوم مجرم
121
37
36
يوم مرتجف
124
6
12
يوم صحراوي
يوم نسوي
172
يوم طفيلي
95 99
13يوم عاطفي
40
37يوم جماهيري
128
14يوم عميق
42
38
يوم جــذ ل
131
15يوم الهب
45
39يوم عاشق
135
16
يوم أبيض
48
40يوم ذهبي
141
17
يوم معقوف
51
41
يوم القرار
143
18يوم ملون
54
42قصة حياتي
146
19يوم قاتم
56
43مرحلة الطفولة
147
59
44مرحلة اليفاعة
153
21يوم زنجي
62
45
مرحلة الفتوة
156
22يوم موحش
68
46مرحلة الرجولة
20
يوم فقاعي
160
23يوم مموسق
72
47
الخاتمة
170
يوم صوفي
78
48
المحتوى
172
24
173
اصدارات الكاتب – 1عاشق الشمس ( مجموعة قصص قصيرة ) بغداد – 1964 – 2ما قاله آدم عند الشجرة ( مذكرات راهب ) بغداد 1986 - – 3رسالة لالنسان عبر الزمان البحرين – 2011 – 4أصوات الرحيم في القرآن الكريم االردن – عمان – 2016 – 5مذكرات راهب ( طبعة ثانية منقحة ) االردن – عمان 2018 - – 6مصباح الذكريات ( تحت الطبع ) – 7ديوان العزاوي ( تحت الطبع ) 174
175