سبع شرائط في شعري 9أغسطس1990 ،
ّ سخيا ،ألبستين دون يف صبيحة اخلميس اثلاين للغزو ،أطعمتين أيم فطورا أن ترد ىلع أسئليت عن املاكن اذلي سنذهب إيله ،ثم فتحت علبة رشائط الشعر اليت أهدتها يل وسن ذات يوم .اكنت وسن تتوق إىل طفلة ،فاكنت َ تهبط عليها حاالت نادرة من اللطافة فتهديين بعض األشياء .ق َدري سعيد؟ مرزوقة؟ أجل ،لكن قولوا ما شاء اهلل ،فـ«العني حق»! وسن ،رسمد ،اذلباب؛ «جناح داء وجناح دواء». ْ مجعت شعري فتحت أيم العلبة ،واكن فيها سبعة رشائط بلون قوس قزح. وربطته إىل أىلع رأيس ،ثم وضعت الرشائط لكها واحدة تلو األخرى! تربمتُ «ال ،ماما! هكذا لن يكون شعري ىلع 'املوضة' ،ضيع واحدة فقطّ ». بشدة. أردت أن أزيلها ،فقد اكن منظري يثري السخرية .جتاهلتين أيم ثم أخذت ّ أيم تضفر شعري ،تضفره بصمت وبعنف! الزتمت السكوت ،أنا اليت أرفض أن يُفرض انلظام ىلع شعري اثلائر .ذاك احلزم اذلي اكن يقطر من ّ يدي ىلع رأيس أسكتتين .اكن يمكنين أن أعرتض وأطلب منها أن تتعلم كيف تعمل
] [ 228
ضفرية فرنسية قبل أن تتجرأ ىلع شعري ،لكن رؤييت لوجهها املكفهر عرب املرآة عقص لساين. حني انتهت قالت يل: ّهيا ،ارتدي حذاءك برسعة. ملحت يف الصالة حقيبة سفر صغرية جدا ،ومكتزنة حىت اتلخمة .وجبانبها َم ْط َرة ماء كبرية وكيس فيه بعض األطعمة .ذهبت وارتديت حذايئ الوردي، فهو يالئم ثيايب .لوال قوس قزح الساكن فوق قمة رأيس تلبخرتت مثل األمريات.
ّ لك توقيف عن قضم ال ،ال .ارتدي حذاء الرياضة األسود .وكم مرة قلت ِأظافرك؟!
كنت سأجادهلا لوال أين رأيت شيئا لم أفهمه يف وجهها ،فارتديت احلذاء املبغوض دون مراء .يا للكآبة ،ماذا حيق يل أن أختار إذا ُحرمت من اختيار ترسحية شعري اليت أصافح بها وجوه انلاس ،أو حذايئ اذلي به أجته َ ٌ وأميش؟ أعبودية من قمة رأيس إىل أمخص قديم؟ كيف سأواجه املجتمع؟ كيف سأواجه تعليقات الفتيات السمجة حول ذويق الرديء؟ فركت عيين وتثاءبت ونسيت األمر حينما أدركت أين لم أنل كفاييت من انلوم. إذا سألك أحد عن وجهتنا ،إياك أن تقويل سوى إننا ذاهبون إىل السعوديةلزيارة أقاربنا هناك ّ يويم اخلميس واجلمعة وسنعود السبت. ّ قالت يل أيم هذا حبزم يقرتب من اتلهديد .لم يكن مع لك شخص منا إال ُ حقيبة واحدة ،يك ال تثار الشبهات يف حال أوقفنا ،بل يظهر األمر ىلع أنه زيارة اعئلية فقط .يف علبة املحارم الورقية املكنوزة يف احلقيبة ّ خبأت أيم ُح ّ ليها اذلهبية بعناية بني الوريقات اخلفيفة .آه من الشدائد ،آه منها حني
] [ 229
جتعل املرء يترصف كما اللصوص واملهربني. حقا! دلينا أقارب يف السعودية؟ هل دليهم أطفال؟ املفروض. من عمري؟ إن شاء اهلل. اعصمة السعودية الرياض ،أليس كذلك؟ شاطرة.ردت ّ يلع ردا آيلا مزنوع الروح.
كنت أعرف عواصم معظم ادلول العربية من اللعب ُ بـطيقة الوطن العريب
ىلع احلاسوب اليت أخربتكم عنها.
َ فتطوان مرص يمن إىل بالد العرب أوطاين من الشام ِ ِ بلغدان *** ومن جند إىل ٍ كدت أترنم بابليت ىلع نغمة ُ ابلطيقة ،لكن لم يرق يل األمر هذه املرة ،ولم أعرف وقتها لِم. فأخذت أنشد:
«اهجم ،اهجم ،ال تلني. حنن معك ،معك أمجعني. حطم األرشار ،ساند األحرار. جونگر ،جونگر .ابلطل اجلبار». غريت رأيي ،ال أريد أن أتزوج رايم حينما أكرب ،سأتزوج جونگر!
] [ 230
"فال حد يباعدنا * وال دين يفرّ قنا لسان العرب يجمعنا * وعدنان بغسان ِ ٍ
لنا مدنية سلفت * سنحييها وإن ُدثرت
والجان" ولو في وجهنا وقفت* دهاة اإلنس ِ الشاعر فخري البارودي ّ يحلق على مستوى الدين أو حتى فوقه؟ هل كانت القومية العربية شيئا عبود الذي سمّ ى ابنه محمدا: يبدو أنها كانت كذلك .ألم يقل الشاعر مارون ّ ً ً ُامّ ه ما َ ول ْ مسيحيا ولكن عربي مسلما * أو دت ُه
تكتب المستشرقة األلمانية سيگرد هونكه كتابها الشهير «شمس هللا تسطع على الغرب» ،فنترجمه إلى «شمس العرب تسطع على الغرب»! وتداعت القومية العربية من تلقاء نفسها دون الحاجة لتدخل «دهاة اإلنس والجان» .كان التحليق فوق مستوى الدين سببا في تفتت جناحيها. الطموح الزائد مَ ْه َلكة! الفراشة الجريئة ،الفراشة ُ الشجاعة إلى حد التهور ،الفراشة التي وقعت في غرام النور فأرادت أن تتماهى معه وأن تكو َنه .لقد حرقت جناحيها بجرعة نورية زائدة .قالت العرب «أجهل من فراشة» ،أسعدهم هللا ،أفال قالوا «أجرأ من فراشة»؟ ُّ يرج المنابر ،فتفيض إيهِ ناصر ،حينما كان يخطب ناصر ،ويهتف ناصر ،كان المحاجر ،وتصرخ الحناجر .فراشتك الصنديدة يا ناصر قضت ،احترقت، انتحرت! مذكرات بابا جاسم 12 ،يونيو 1993
] [ 231
َ «سبريبن» (أو «سوبر بان» كما جاء عيم عبد اللطيف يسوق سيارة من نوع كنا نسميها) .ما لونها؟ «أدعم» طبعا! كنت أتمىن أن يكون عيم اغزي هو نكد من أوهل؛ رشائط رديئة، من سيصحبنا يف الرحلة ،لكن يبدو أنه نهار ِ واحلذاء اذلي أكره ،وعيم عبد اللطيف!
سيارة الضاحية إذا ترجمناها ،لكن الكل كان اسمها «سبيربَن» « »Suburbanأو ّ يسميها «سوبر بان» .بل أن هناك من قال لي أن اسمها الصحيح هو «سوپر ڤان» وحوّ رناه إلى «سوبر بان» ،وتبين خطأ كليهما. تحوير وتغيير أسماء السيارات سمة كويتية وال فخر ،فسيارة «رولس رويس» صارت «رز ريز» ،و«ڤولكس ڤاگن» صارت «فولوكس» ،و«بيوويك» صارت «بويك» ،و«شيڤروليه» صارت «شفر» ،و«پورشه» صارت «بورش»، و«ناينتي أيت» صارت «نايتي أيت». لكن لهذه التحويرات طعم جميل ،كنا نحب أن نحور ونغير كي تكون لما ننطق خصوصية ،أما اآلن فصرنا نتنافس في نطق األسماء كنطق قومها لها ،بل أشد تنطعا. من مذكرات بابا جاسم 19 ،يوليو1994 ،
اكن دلى عيم عبد اللطيف الكثري من األطفال؛ ثالثة صبيان من زوجته ّ األوىل ،ومن اثلانية اثنان من الصبيان وصبية .اكن يفكر يف اثلاثلة قائال أن الرشع حلل هل أربع زوجات .يقول هذا وهو ال يصيل! ذلا –ىلع ما يبدو -لم يكن دليه يشء من احلنان يلقدمه يل أو ملشاري أو مويض .اكن حياول أن يكون لطيفا ،لكن اغبلا ما يفلت لسانه زاجرا إيانا ،ولسان حاهل يلهج
] [ 232
بالشعار« :اتلعنيف تهذيب وإصالح»! عيم اغزي خمتلف عنه تماما .يلتهما تبادال األسماء! أخذت الشمس باتلوهج أكرث وأكرث .اكن أبناء عيم عبد اللطيف اخلمسة مكدسني يف املقاعد االحتياطية يف اخللف أو ىلع أرضية اجلزء اخلليف من السيارة كما لو اكنوا أمتعة مشحونة .يف حني جلست زوجته اثلانية جبانيب أنا وأيم ،وجلست األوىل يف األمام .لم تكن الصحبة ممتعة ،فأبناء عيم حزبان متشاكسان واغبلا ما تقوم بينهما حرب شطون بتحريض غري ظاهر من وادلتيهما .ذلا كنت أجتنب اللعب معهم مجيعا ،فلعيب مع طرف يعين حماباة هل ،ومعاداة للطرف اآلخر .رغم ذلك ،كنا يومها نتبادل انلظرات ونبتسم بلعضنا بني الفينة واألخرى ونود لو نلعب ولو قليال .لكن لكما أحدثنا صوتا ،اكن زجر عيم عبد اللطيف نلا باملرصاد .اكن عيم يقول دائما «األبناء عزوة» ،وكنت -لسنوات طوال -أظن أن معىن عزوة يه أن األبناء ّ يتلقون «العزاء» حني يموت الشخص ،ومن هنا جاءت لكمة «عزوة»! يعب السجائر ّ اكن عيم ّ عبا ويمأل اجلو بدخان حيرق العيون والصدور، فتعاتبه أيم: -أبا سالم ،السيارة مليئة باألطفال!
ّ يا أم معن ،ال أستطيع أن أركز يف القيادة دون أن أدخن .السجارة تدوزنمزايج. ُ اتلدخني أفيون الفقراء .أما اكن األجدر بعيم أن يتوىف ال أيب ،خاصة وأن ّ عيم دليه «عزوة»؟ ّ الربي الربيء يف رأيس .طال أزيز تمطى هذا التساؤل السيارة ىلع اإلسفلت الساخن ،وفجأة احنرف عيم بها جتاه الرمال .شهقت ملء ّ رئيت ،ونادت أيم يف املوجودين:
] [ 233
داعء السفر يا مجاعة. أيم ،لم نأخذه يف املدرسة بعد.لقنتين أيم ادلاعء .ماذا يعين «مقرنني»؟ وماذا يعين «وعثاء»؟ أردت أن أسأل. ال ،بل الصمت أفضل .هذه الوجوه الوامجة لن ّ تتقبل أمواج الفضول اليت تعرتيين. ماما ،ألم يقل لك اهلل يف االستخارة أال نسافر؟ صليت االستخارة مرة أخرى.تقفز ريشيم فجأة إىل فوهة تركزيي .آه يا ريشيم ،خترجني بسهولة عرب طريق السفر االعتيادي يف ثالث يوم للغزو ،وحنن –أبناء األرضّ - نفر عرب صليت االستخارة حىت تصيل الصحراء خوفا من األرس أو املوت؟ ال بد أنك ِ ّ إىل هذا القرار املوفق. طفقت الشمس تسفعنا وتصفعنا بأشعتها .أليس قوس قزح يف شعري؟ أال يفرتض أن يسقط املطر وتغيب الشمس؟ هيا أيتها الشمس غييب ،غييب ،هيا ّ افرنقيع ويلهطل املطر ،هيا ارحيل .لكن هيهات ،فقد كنا يف آب اللهاب. تذكرت المزيد مما دار أمس في ديوانية فيصل البارحة. كنت أظن أن «شهر ثمانية» كما نسميه ليس له إال اسمين هما «آب»
ُ السرياني و«أغسطس» الالتيني .تفاجأت بأن الجزائريين يسمونه «أوت»
نقال عن الفرنسية ،والمغربيون يسمونه ُ «غ ْشت» ،أما الليبيون فيسمونه «هانبيال». ما أحرّ هذا الشهر ،وما أكثر أسماءه! من مذكرات بابا جاسم 13 ،مايو1977 ،
] [ 234
اكن املشهد ممال؛ ال يشء سوى الكثبان .الكثري من الرمال انلاتئة يف ماكن قاحل ال ينبت اليفء فيه .أحبث عن خنلة مشاكسة تنبت يف صلعة كثيب ما ،فال أجد .كنت أرى الكثبان ّ املجانة تنظر إيل بأنفة .حيق هلا ذلك ،فلك تموج فيها ال يشبه اآلخر. بالفرادة والندرة تكون األشياء عزيزة وباهظة الثمن .ماذا يميز الصناعة أن أشباهها تندر؟ اليدوية ،أو المالبس الحصرية ( )Haute Coutureسوى ّ االختالف مَ رْ بَح. كلما كثر الشيء -مهما كان فاخر الجمال -زهدت فيه النفس .ولهذا تقوم بعض الدول بمهرجانات إلتالف جزء من محاصيل الطماطم والبرتقال كي بئس التفكير ،أما كان خيرا لهم ال يزيد عرضه في السوق وينخفض سعرهَ . لو تبرعوا به لبعض الدول الساغبة؟ من مذكرات بابا جاسم 18 ،مايو1992 ،
ترتجرج بنا «السوبر بان» كرتجرج سفينة قبيل هالكها يف إعصار .اكنت تنئ ّ املتسجر ،ومن سجائر من احلمولة البرشية ،ومن الفرار من الرمل الزئبيق عيم ،من «دوار الصحراء»! ما اكنت سيارة لرتى شيئا مثل هذا وال يف أسوأ كوابيسها ،فالواقع كثريا ما يكون أصعب وأكرث إفزااع من الكوابيس. هزة عسرية ،وخرت واقفة ماكنها .أخذ عيم ّ اهزتت بنا السيارة ّ يزمر بنغمة
غريبة بشلك متواصل (ملن ّ يزمر يف هذه الصحراء الشاسعة؟! أم تراه يعرب عن غضبه بطريقة ّ فنية موسيقية؟) ،ثم خرج ليستطلع األمر .فتحت انلافذة وسأتله:
] [ 235
عيم ،ماتت السيارة؟ خيالوه! السيارات ال تموت ،هذا اسمه «بنچر».كنت أظن أن «بنچر» أو «بنشر» كلمة هندية .فاجأني منهل اليوم بقوله أنها كلمة إنكليزية ( )Punctureمعناها ثقب .وتحولت داللة الكلمة لدينا من الثقب الذي يطال اإلطار لتشمل أي عطل يصيب السيارة. من مذكرات بابا جاسم 10 ،يوليو1988 ،
«اجلميع إىل خارج السيارةّ ، هيا برسعة ».صاح عيم عبد اللطيف فينا، ّ ويزمر من بعيد بلقية السيارات اليت اكنت تسري خلفنا يك ثم أخذ يؤرش تتوقف .يف احلقيقة ،لم أحلظ ذلك من قبل وكنت أظن أننا خرجنا وحدنا. ّ لكن اخلروج ّ ّ تم ىلع شلك قافلة تتقدمها سيارة أحد اخلرباء يف الطرق الصحراوية ،تليها سيارة عيم عبد اللطيف ،وخلفنا أربع أو مخس سيارات نلتق أثناء الرحلة .اكنت السيارات حريصة فيها بقية أفراد األرسة ،هلذا لم ِ ىلع ترك مسافة مناسبة بني بعضها ،مسافة تكفيها للهروب يف حال طرأ
خطر ،وتكفيها يك ترى بعضها ابلعض فال تضل الطريق. نزنلا ،وأخذت أتأمل رمل الصحراء .اكن غريبا ،خلته أن يكون جبمال الرمل اذلهيب اذلي يف الساعة الرملية اليت دلي ،خلته جبمال الرمل يف مسلسل «مغامرات السندباد» ،خلته مجيال ّ وطيعا مثل الصلصال يمكنين
أن أبين به قصورا ،لكنه لم يكن أيا من ذلك .اكن وفريا ،وقاحال ،وينظر ّ إيل
كما لو اكن يريد أن يقول يل شيئا ما!
] [ 236
توقفت السيارات بعيدا نسبيا عن سيارتنا ،وجاء بعض الرجال إيلنا مشيا ومنهم عيم اغزي .وافرحتاه! عيم اغزي هنا؟ ملاذا لم نذهب بسيارته إذا؟ ّ طفقت أقفز ّ بيدي ،وأخذت أقفز وأدور حول نفيس فرحا ،ثم وألوح هل نسيت لك يشء حني رأيت حيايل «يربواع» ،وهو نوع من الفرئان الربية .رأيته يقفز مثيل ىلع الرمل احلايف ،فأخذت أحبث عن طريقة أكرس بها رهبة اللقاء األول .رششت عليه حفنة من الرمل فوىل صاغرا ،داغرا .ال ،ال .لم أقصد إيذاءه ،كنت أحاول عقد حديث مشرتك معه عن طريق العنرص املشرتك بيننا؛ الرمل .لكن اعزتين احليل ،وهذه هو حال املحاورات واملفاوضات اليت تمل اللغة املشرتكة ،لكن ال حتسن استعماهلا ،فيفشل احلوار ،ويترضر الضعفاء ،وينتيه األمر بمعادلة ِصفرية.
أرسعت وأخذت كيس «بفك» من السيارة ،وبدأت أفتش عن الريبوع ً اعتذارا عن سلويك الفظ ،فابتعدت قليال عن اجلمع .وجدت يك أطعمه
الريبوع اذلي اكن يرمقين بنظرات غريبة ،ثم اختذ سبيله يف الرمال سرَ َ با، َ فتبعته .فجأة ،تراءى أمايم «بيت ش َعر» جتتمع فيه بعض النسوة خيضضن َ ّ «د َّر َ ارتد ّ اعة» إيل طريف حىت وجدتين ألبس اللنب وينسجن «السدو» .وما أن و«خبنقا» .اعجلين «كندري» حيمل املاء ىلع منكبيه ،وسألين إذا ما كنت عطىش .كنت كذلك ،لكن هول املفاجأة أنساين لك يشء .هناك يشء يسحبين ،خروف أقرن يمضغ طرف دراعيت ويبتسم! جاء «الشاوي»
(((7
َ :73بيت شعر :خيمة .سدو :نسيج صويف تقليدي .د ّراعة :ثوب نسايئ شائع يف اخلليج، ُ وأصلها فصيح :د َّراعة .ابلخنق :غطاء رأس اكنت تلبسه الفتيات الصغريات .الكندري: بائع املياه .الشاوي :الرايع.
] [ 237
ونهره ،واغدر مع قطيعه باجتاه صبية يتهازجون ويتباهجون: ْ َ «ك جا شاوينا *** شاوي املطبة ْ ّْ ّ طبة» صيح ىلع أمه *** ييب هل ر ثم رأيت عبد اهلل يدفع عربته وحوهل ملسون ونعمان وعبلة وقرقور وكعيك والضفدع اكمل .آه ،نعمان ،صدييق العزيز السمني .رأيتين يف «شارع عرشين» ،يف شارع افتح يا سمسم اذلي لكما هل وطل ىلع الشاشة انبطحنا ىلع جنوبنا وسندنا خدودنا ىلع أيدينا وامجني. رسى من بعيد صوت يرتنم .اتلفتت إيله ،وإذا بها سفينة كبرية ،تمخر عباب الرمل ،وهناك انلوخذة يف املقدمة يتبسم يل هو اآلخر ّ ويلوحَّ . انل َّهام وينشد
«هولو يا مليه ،هولو يا مليه» .ثمة غيص معلق حببل طويل وقد ّ زم منخريه ِ َ بالفطام ،وربط رجله حبجر ثقيل ينبش يف حبات الرمل وينتىق احلبات
الالمعة والكبريةِّ . السيب يكاد يسحب احلبل ويصيح ّ يف: ّ مضت أربعة شهور ،والقفال اقرتب .إنا راحلون من هنا ولن نرجع قبلشهورّ ، (((7 هيا تعايل معنا برسعة! تعايل يا لولو ،وشاهدي اللولو اذلي مجعنا. وتعاىل الصوت: «توب توب يا حبر ،توب توب يا حبر. أربعة واخلامس شهر ،جيبهم يا حبر. ما ختاف من اهلل يا حبر؟»
ال ،لن أقول { ...سآوي إىل جبل يعصمين ،}...ألين اآلن عرفت ماهية الكزن! :74انلهام :مطرب السفينة .الغيصّ : الغواص .الفطام :مشبك إلغالق األنف أثناء الغوص .السيب :املوكول بسحب احلبل اذلي يتدىل منه ّ الغواص.
] [ 238
الرمل ،الرمل! إنه رمل سحري ،رمل ثمني ،رمل الوطن .أردت أن أثلمه ،أن جييب ّ ّ حببات اللؤلؤ. أحتضنه .جثوت ىلع ركبيت أمجع بعضا منه ألمأل وفجأة اعد الريبوع يتقافز وكأنه غفر يل وصار مستعدا يللعب ميع .تراءت يل يف األفق خنلة خرضاء كبرية جدا ،بل عمالقة .أردت أن أتوجه حنوها، ّ لكن بدأت أشعر بوهن يرسي يف جسدي ،وأخذت عيناي تتغبشان من فرط قسوة الشمس. ذهبت بعيدا هكذا؟! ال توسيخ ثيابك بالرمل ،تعايل هنا خيال ،ملاذاِ برسعة!
ُ فعاجلت أيم بصوت مرهق: أيم انظري هناك إىل انلخلة اخلرضاء .اهلل! ما أكربها! يا إليه! دبابة! يا مجاعة ،يوجد دبابة هنالك!استنفر الكبار وماج بعضهم يف بعض يقولون: «إنها ال تتحرك ،يف الغالب خايلة ،ال ختافوا». «ال أعتقد أنهم سيكونون رأونا فاملسافة بعيدة». «من العبقري اذلي قال أن هذه الطريق آمنة؟» ُ َ «من خاف سلم ،قد يكون قربها دبابات أخر!»
واكن قرارهم انلهايئ أن ال وقت إلصالح السيارة .اكن علينا أن ّ نتوزع ىلع
السيارات ابلاقية وننىس أمر السيارة املتعطلة .عدونا أمتارا حتت الشمس ّ قديم .أظن أن هذا اجلاسئة ،وال أزال حىت ايلوم أحس حبرارة األرض يف عقايب ىلع ريش الريبوع بالرمل الساخن ،إنها «احلوبة» ّ مرة أخرى .أعتذر
] [ 239
إيلك أيها الاكئن الضعيف ،أعتذر. وحدث ما كنت أتمىن ،ركبت وأيم يف سيارة عيم اغزي .ألم أقل لكم أن َ ق َدري سعيد؟ قولوا ما شاء اهلل مرة أخرى ،فـ«العني حق»! بالاكد استطاعت أيم اجللوس بني النسوة املوجودات ،وأجلستين يف حضنها .كنت طويلة وسمينة ،ومحلتين أيم { ...وهنًا ىلع وهن .}...وكأن األلم اذلي سببته هلا يوم
ودلتين لم يكفين وجئت اآلن أؤودها بوزين .أال يكفيين أنين ّ قطعت
روحها إىل شظايا إىل أن وضعتين؟ أال يكفيين أنين اضطررت األطباء إىل ْ َبقر بطنها يلخرجوين؟ ملاذا يلطفون األمر ويسمونه الوالدة القيرصية؟ اسمه َْ ابلقرية»! كيف زادتين حقن ادلكتور تيسري احلقييق جيب أن يكون «الوالدة ُ ُ ُ والغرز أيم إال حتنانا وحبا؟ يف واملباضع، احلقن، حقدا عليه ،يف حني لم تزد األمر رس إليه ،ال يمكن ألي مصنع برشي أن يُبدعه .يه الرابطة الوحيدة اليت ال ترجو جزاء وال شكورا ،يه احلب الوحيد غري املرشوط. أيم،
قبعت يف جوفك ،ولم تطابليين ال بأجر أو إجيار .احتللت حريتكّ ، وكبلت راحتك ،واستعمرت حياتك ووقتك تسعة أشهر وما بعدها .ال أعرف أيضا ً كيف لم يدرجوا اسيم يف منهج االجتماعيات واحدة من القوى االستعمارية الغشوم. أيم، أمومتك وظيفة بدوام اكمل ،ال إجازات فيه ،وال استئذانات ،وال حىت تقاعد طيب .وظيفتك يا أيم عظيمة ،حىت أنهم لم يستطيعوا أن جيدوا هلا ماكنا يف جدول املرتبات ،أو يمنحوها» بدل خطر» أو «بدل مهنة شاقة». ال أعرف كيف سقط لك هذا من حسابات اإلكتواريني ،ال أعرف كيف
] [ 240
سقطت األمهات من انلاتج القويم اإلمجايل.
***** «لقد زاد الوزن ىلع السيارة ،سأضطر للقيادة برسعة كبرية ئلال تنغرس يف الرمال ،تمسكن جيدا ».قال عيم اغزي بيشء من الرصامة .جلسيت غري مرحية ورأيس يناهز سقف السيارة .اهلواء ثقيل ،ورئتاي تطلبان هواء طازجا ،هواء مؤكسجا .لكين مع عيم اغزي ،ومن يهمه لك هذا وهو بني األحباء؟ انطلق عيم برسعة جنونية وكنت فرحة جدا ،فالوضع يشبه «سيارات اتلصادم» يف املاليه حني تعرتينا نشوة الرسعة .أخذت أهز سايق ً َْ بهجة ،وأقول يف نفيس «نهار ُم َسنفر»! إىل أن ارتطم رأيس بالسقف نتيجة حركة السيارة العنيفة ىلع األرض غري املستوية ،فأطلقت رصخة مدوية. «اسكيت!» صاح عيم اغزي غضبًا من اليت قطعت عليه تركزيه .ما رأيته اغضبا قبل ايلوم .قال «اسكيت» ثم اغدر .اكنت آخر لكمة وجهها يل ،ثم استشهد بعد أقل من شهر من آخر لقاء نلا .يلتك تشبعين نهرا وزجرا ولكن تعود يا ّ عماه « .اسكيت» صارت لكمة مجيلة أحب أن أفتعل اجللبة أحيانا ألسمعها وأقارنها بتلك اليت قاهلا عيم اغزي .قبيحة العيشة بعدك وماحلة! املوت صعب علينا ال عليك .فأنت حني رحلت ،صعدت هنالك إىل حيث األرواح اخلرضاء .أنت هناك تنتظرنا ،وتصلك بعض أخبارنا .أما حنن فرنزح يف جهلنا ونظن أن املوت شاشة سوداء تمنعنا من اتلاليق ولو بعد حني.
جيد الرتاب نلفسه مسارب خفية ،فيُ ّ هرب ذراته إىل داخل السيارة .طعمه
] [ 241
القرسي ،وراحئته القرسية ،لكها تقرقش يف مججميت حىت اآلن .أخذ جهاز اتلكييف يتهافت من ازدحام األنفاس وانلفوس .ثم أخذت السيارة تنئ مثل قرينتها ال لفرط ما ىلع متنها من وزن ،بل من قلوبنا اثلقيلة ،وأنفاسنا املثقلة ،وزفراتنا األملية .انلفوس اثلىلك ثقيلة ،ال حتاولوا وزنها ئلال تصعقوا. أخذت أتسىل باالبتسام وحماولة اتلدلل ىلع املرأة اليت جتلس جبانب أيم. لم أكن أعرف من يه ،بادتلين يف ابلداية بعض االبتسامات ،ثم جتاهلتين ّ ويممت وجهها جتاه زجاج انلافذة .ليس ىلع املحزون حرج .ألم أقل لكم
ّ أن انلفوس اثلىلك ثقيلة؟ ثقيلة ومثقلة وال تقوى ىلع يشء ،ثقيلة كعباءة صوفية هطل عليها املطر فزادها ثقال ىلع ثقل .بدأت أشعر بأن رويح
تؤملين ،رويح مرضوضة ،رويح أضحت زرقاء مشوبة بابلنفسيج .كدمايت حتتاج إىل ّ كمادة رمحانية مستعجلة .أخذت أزفر مثل الكبار وأقول «يا رب». ما أجمل الكربة حين تكون سببا في القربى. من مذكرات بابا جاسم ،27 ،مارس1989 ،
حان وقت صالة الظهر ،وال جمال للتوقف خوفا من أن تعلق السيارة يف حبر الرمال .أخذت النسوة يلملمن شيئا من الرتاب املتسلل يلتيممن به ،ثم صلني جالسات دون أن يعرفن اجتاه القبلة حىت .فعلت مثلهن. َْ اخلوف ُمتكأ ِكئ ىلع صدورنا .ذاب ما دلينا من ثلج ،واصطىل املاء حىت صار يظ ِمئ بدال من أن يروي .بدأت العصافري تغرد وتزقزق وتغين وترصخ ثم
أخذت تنعق! عصافري بطوننا أخذت تنشد النشيد الوطين جلمهورية اجلوع. أخذنا نأكل من بعض املؤن اجلافة اليت محلناها ،خزب ،بسكويت« ،بفك»
] [ 242