1
داء الفصام بين الوطني والديني
د .نضال عبد القادر الصالح
2
فهرست -1مقدمة
-2الفصل األول :بني إسرائيل في التوراة -1ما هي التوراة
-2إبراهيم وساللته والوعد اإللهي المزعوم. -3موسى :تجديد الوعد بعد غضب الرب
-4الممالك األسطورية لبني إسرائيل في التوراة -3الفصل الثاني :
-5السبي وفلسفته في التوراة اليهود واليهودية
-1من هم يهود اليوم
-2اليهودية بين الدين والسياسة -3المسيحية الصهيونية
-4الفصل الثالث :اإلسرائيليون بين األسطورة و التاريخ
-1التوراة :الخيال األدبي في خدمة الالهوت .
-2إبراهيم ونسله :حقيقة تاريخية أم أسطورة؟ -3موسى :وصمت الوثائق المصرية.
-4ملوك وممالك بني إسرائيل :بين الحقيقة والخيال . -5ما هي حقيقة السبي والمنفى؟
-5الفصل الرابع :اإلسرائيليون في االسالم :بين النص اإللهي والبشري. -1التوراة في اإلسالم :كتاب مقدس أم محرف ؟
-2النبي إبراهيم ونسله :بين الخطاب اإللهي والبشري . -3النبي موسى :بين الخطاب اإللهي والبشري.
-4ملوك وممالك بني إسرائيل :ما صمت عنه النص اإللهي. -6خالصة القول:
داء االنفصام بين الديني والوطني
3
مقدمة ما دفعني لكتابة هذا البحث ،هو ما حدث لي في نهاية عام 2001أثر الهجوم على نيويورك
وواشنطن ،حيث دعاني صديق لي يعمل في دار اإلذاعة السلوفاكية للمشاركة في ندوة عن
القضية الفلسطينية وعالقتها بما حدث في الواليات المتحدة .تحدث أحد المشاركين في الندوة وكان من أصول يهودية عن الحق التاريخي لليهود في فلسطين معتمدا على نصوص التوراة
في العهد القديم .ثم تحدثت بدوري من جملة ما تحدثت ،كرد على االدعاء الباطل بهذا الحق
عن أمرين أساسيين وهما:
أوال أنه لم يعد بعد االن مجاال للشك في أن التوراة لم تعد كتابا مقدسا كلماتها نزلت من عند
الخالق على لسان كاتبيها و إنما هي كتاب أساطير وحكايات انتحلها كاتبوها من أدب الشعوب
التي سكنت فلسطين والبالد المجاورة ،من أجل خدمة أهدافهم الدينية.
ثانيا أن التوراة لم تعد باعتراف أشهر المؤرخين المعاصرين مصد ار تاريخيا يعتمد عليه في
كتابة تاريخ فلسطين ومنطقة الشرق األدنى ،ألن علم التاريخ الحديث قد برهن على بطالن
معظم روايات التوراة .وأهم ما في األمر أن علم التاريخ الحديث قد برهن بما ال يدع مجاال
للشك أن ممالك إسرائيل التي تتبجح بها التوراة مثل مملكة شاول و داود ومن بعده سليمان
ما هي إال من صنع خيال كتبة التوراة ،وأن علم الحفريات الحديث أثبت أنه لم يكن هناك
مملكة موحدة في فلسطين تحت أي اسم كان سواء كانت تحت اسم مملكة داود أو سليمان أو
أي اسم آخر ،كما أن علم التاريخ الحديث أبطل كل ما قالته التوراة عن احتالل اإلسرائيليين
لفلسطين واقامتهم دولة على كامل ترابها .إضافة إلى ذلك فأن الوثائق التاريخية المصرية واآلشورية والبابلية التي تتحدث باسهاب عن تاريخ المنطقة ال تذكر شيئا ولو من باب
التلميح عن مملكة داود أو سليمان أو أي مملكة إسرائيلية أخرى في فلسطين أو في المنطقة بأسرها ،كما لم يرد في هذه الوثائق على االطالق أي ذكر لملك أو نبي أو قائد اسمه شاول
أو داود أو سليمان .كل ذلك و غيره كثير يدفعنا لرفض مقولة الحق التاريخي لليهود في
فلسطين وحق العودة لليهود للوطن الموعود ،واعتبار هذه المطالب تغطية لمطامع الصهيونية
االستعمارية واالستيطانية.
لم يستطع أحد من المشتركين في الندوة أن يدحض تلك األدلة و بائت كل محاوالت المحاور
اليهودي للوي الحقائق التاريخية بالفشل .ولكنني فوجئت بقيام أحد األخوة العرب المسلمين
4
من بين الحضور و بأسلوب خطابي أخذ يفند قولي ويتهمني بالخروج عن الدين
االسالمي،وبأن قولي عن عدم وجود دولة إسرائيل في فلسطين ومن أن مملكة داود و مملكة
سليمان العظيمتين هما من نسج أفكار كتبة التوراة ،قول يدحضه كتابنا المقدس القرآن
وتعاليم الدين الحنيف وأخذ يمطرني أمام الحاضرين تارة بالعربية وتارة بالسلوفاكية بسيل من
اآليات القرآنية واألحاديث الشريفة وبأقوال السلف والخلف الصالحين ليثبت زيف كل ما
طرحت ،كما راح يسرد تاريخ الشعب االسرائيلي منذ خروجه من مصر على يد النبي موسى
ومن ثم تيهه في صحراء سيناء حتى دخوله فلسطين واقامته مملكة األنبياء داود وسليمان، كما لم يترك وصفا عن العظمة والحكمة و السمو إال ذكرها في وصف سليمان و مملكته .
ولم تنفع كل محاوالتي التلميحية والصريحة في إسكات الخطيب المنفعل وايقاف سيل
االتهامات المنصب على رأسي كما لم ينفع رجائي له بتأجيل الحوار في هذا الموضوع الشائك إلى وقت آخر ومكان آخر ،وأننا هنا نبحث في قضية وطنية مصيرية وال نشكك بتعاليم ديننا
ال من قريب وال من بعيد .
كان الحديث يدور بيننا وكنت أرقب عن كثب ابتسامة االنتصار التي أخذت ترتسم على وجه
المحاور اليهودي كما الحظت أن بقية المحاورين والحضور الذين كانوا قد وقفوا في صفي
أخذوا باالنتقال تدريجيا إلى الجهة األخرى وانتهت الندوة وخرج اليهودي وعالمات النصر على وجهه وعالمات الخيبة على وجهي ،وذلك على يد أحد أفراد شعبي و ملتي .
ولقد تكرر األمر بعد عدة أشهر حين صدر لي كتاب باللغة التشيكية عن قضية الصراع العربي اإلسرائيلي .فبعد الحادي عشر من سبتمبر المشهور وتصعيد االعتداءات االسرائيلية على
شعبنا في فلسطين ،والهجوم االعالمي األمريكي المنظم على شعبنا وقلب الحقائق واعتبار
نضال شعبنا الفلسطيني إرهابا ،واعطاء العدو الصهيوني شرعية قتل شعبنا باسم مقاومة
االرهاب ،أخذ اإلعالم التشيكي والسلوفاكي ينحى منحى زميله األمريكي ،ويصعد الهجوم على
العرب وخاصة على ما وصفوه " اإلرهابيين الفلسطينيين" وذلك إرضاء ألمريكا واسرائيل .ولقد كانت حجة المسؤولين والصحفيين تقول " :نريد أن ندخل السوق األوروبية المشتركة،
والطريق اليه يأتي من خالل بوابة حلف الناتو ،ودخول حلف الناتو يتطلب الحصول على
الضوء األخضر من الواليات المتحدة األمريكية ،وارضاء إسرائيل هو إرضاء ألمريكا" . حسب هذه المعادلة انضم االعالم في كل من التشيك والسوفاك إلى جوقة المطبلين
والمدافعين عن إسرائيل والمعادين للمصالح العربية .وباتوا يصفون مقاومة شعبنا باإلرهاب
وقتل اإلسرائيليين ألبناء شعبنا ،دفاعا عن النفس ضد اإلرهاب.
5
رأيت من واجبي من موقعي المتواضع ،أن أكتب كتابا عن القضية الفلسطينية .ويتكون
الكتاب من ثالث فصول أساسية ،األول يتكلم عن أكذوبة الحق التاريخي لليهود في فلسطين، والثاني عن الديانة اليهودية األرثودوكسية التي يعتمد عليها ويستمد منها كل من الفكر
الصهيوني والسياسة االسرائيلية العنصرية ،والثالث عن القضية الفلسطينية ،منذ وعد بلفور
مرو ار بعام 1948واقامة دولة إسرائيل ،إلى االنتفاضة األخيرة ،انتفاضة القدس والمذابح التي يرتكبها الكيان االسرائيلي ضد شعبنا األعزل .لقد اطلع على الكتاب قبل نشره مجموعة من
الكتاب والصحفيين والسياسيين واألكاديميين التشيك والسلوفاك ورحبوا به وأثنوا على
المعلومات الموثقة فيه .ولقد واجهت الصعاب في نشره وامتنع كثير من دور النشر عن نشره، تحت ضغوط جهات مختلفة،بعضها من مؤيدي إسرائيل والبعض اآلخر من منطلق عدم
إغضاب إسرائيل ألن إغضابها إغضاب ألمريكا ،هذا رغم تقديرهم وحسن تقيمهم لمحتويات
الكتاب .على كل حال و بعد جهد مضني ،وجدت من كان لديه الجرأة واالستعداد للمغامرة،
فطبع الكتاب ونشر في نهاية شهر مارس للعام الحالي ، 2002وبيعت نسخه األلفين خالل
شهر ونيف ،وستقوم دار النشر بطبع نسخة ثانية منه .
المحزن أن النقد الالذع وجه إلى الكتاب والى شخصي من قبل أبناء شعبي وديني ،أما اليهود
وأصدقاءهم فقد حاولوا منع نشر الكتاب بالضغط على المكاتب ومحالت بيع الكتب لعدم وضعه في محالتها.كانت انتقادات األخوة تصب في نفس القالب الذي تحدث عنه األخ السابق الذكر ،والتي تقول أنني بكتابتي أن ممالك وملوك بني إسرائيل هي من صنع خيال كتبة
التوراة ،أتنكر لإلسالم وتعاليمه ،مع أنني لم أذكر في كتابي المذكور أي شيء يتعلق
باإلسالم والمسلمين.
لقد ترعرعنا منذ صغرنا على كم هائل من األساطير اإلسرائيلية التي تمجد شعب اهلل المختار وتصف بني إسرائيل كخير أهل زمانهم وتمجد بعظمة ملوكهم وانتصاراتهم على أجدادنا
الفلسطينيين والكنعانيين .يهود اليوم يبنون بناءا على هذه األساطير حقا تاريخيا في وطننا،
ونحن نلوك مقولتهم ،و نعطيها قدسية هم في أمس الحاجة إليها .أال يعتبر ذلك داء انفصام
الشخصية ،شخصية الوطني الذي يرفض ادعاء يهود اليوم بالحق التاريخي وشخصية الديني
الذي يشرب منذ صغره من ينابيع التراث سيال من األساطير اإلسرائيلية .
ألسنا نحن بذلك في ورطة حقيقية وصراع مع الذات ،وكيف نوفق ما بين االثنين؟
6
الفصل األول
- 1ما هي التوراة؟
بني إسرائيل في التوراة
تدعي الصهيونية بالحق المقدس لجميع يهود العالم ،باعتبارهم األحفاد األنقياء لقبيلة
بني إسرائيل المنحدرة من يعقوب بن إسحق بن إبراهيم ،بالعودة إلى" أرض األجداد" ،فلسطين
وتملكها واقامة الدولة اليهودية الخالصة والنقية في أرض الميعاد ،األرض التي وعدهم بها
اإلله التوراتي .
يعتمد الصهاينة في ادعاءاتهم بشكل خاص على التوراة الكتاب المقدس لليهود والذي أصبح
فيما بعد كتابا مقدسا للمسيحيين،باعتباره،حسب معتقدهم أنه إلى جانب كونه كتابا مقدسا كل
ما بين صفحاته كالم اهلل وهو بذلك حقائق مقدسة ال يجوز الشك في صحتها ،فأنه إلى
جانب ذلك كتاب تاريخ لمنطقة الشرق األدنى و خاصة تاريخ اإلسرائيليين فيها.
رغم أن التوراة قد أصبحت في متناول الكثيرين ،ولقد كتب عنها عدة مؤلفات أجنبية وعربية
تناولتها من جوانب مختلفة ،فال بد لنا هنا أن نتحدث عن محتوياتها باختصار ونركز على
المواضيع التي تهم بحثنا والتي تتعلق بالتناقض بين الوطني والديني.
التوراة تعني كتاب العهد القديم و هو مجموعة أسفار أو كتب يصل عددها إلى تسع
وثالثين سفرا( الكتاب المقدس ،دار الكتاب المقدس في العالم العربي ، ) 1983 ،ويطلق في
الوقت الحاضر مجا از عليها التوراة ،مع أن التوراة تعني باألساس القسم األول من العهد القديم والذي يحتوي على كتب موسى الخمسة األولى أو البنتاتيك .و هي :
-1سفر التكوين :ويحكي قصة خلق السماوات واألرض وما عليها ،من آدم ونسله،
وتتابع إلى أن ينتهي الحديث بيعقوب المدعو إسرائيل وأبناءه اإلثنى عشر والذين
يكونون ما يعرف بأسباط بني إسرائيل أو فروع بني إسرائيل اإلثنى عشر .ينهي هذا
الكتاب حديثه برحيل أبناء يعقوب إلى مصر واقامتهم فيها في كنف أخيهم يوسف الذي بلغ في مصر مرك از مرموقا .ثم يصمت هذا السفر عن الكالم وتصمت معه
التوراة عن الحديث عن فترة جاوزت أربع مائة سنة.
-2سفر الخروج :يركز على األيام األخيرة إلقامة بني إسرائيل في مصر وخروجهم منها بقيادة موسى إلى سيناء ،بعد أن سدد بقوة اإلله يهوه ضربات مدمرة لمصر وشعب
7
مصر ،ويركز على تجديد الوعد اإللهي لبني إسرائيل واتفاقه معهم في سيناء وبموجب
هذا االتفاق يؤكد على منحه األراضي المقدسة خالصة لهم .
-3التثنية :يحدثنا هذا السفر عن أحكام الشريعة اليهودية ،التي من المفروض أنها نزلت على موسى ،وتعني بأمور الحرب والسلم والمعامالت والعقوبات.
-4الالويون :نسبة إلى سبط ليفي ،وهم سبط موسى ومنهم اختار اهلل،حسب قول التوراة ،أنبياء بني إسرائيل.
-5العدد :ويحكي عن أعداد مختلفة ،تتعلق بقبيلة بني إسرائيل ،مثل عدد الجنود واألموال وغيره.
القسم الثاني :ويتحدث عن تاريخ بني إسرائيل التوراتي منذ دخولهم إلى فلسطين ،ويحتوي
على اثنى عشر كتابا .وهي:
سفر يشوع :الذي قاد بني إسرائيل التوراتيين ،بعد موت موسى وعمل ذبحا بكل ما هو حي في
فلسطين .و سفر القضاة :ويتحدث عن القضاة،الذين تولوا شؤون بني إسرائيل إلى أن صار
لهم ملكا .و سفر راعوث :جدة الملك داود .و سفرين ،صموائيل األول والثاني :كتابان يتحدثان
عن آخر قضاة بني إسرائيل .و سفر أعمال الملوك :ويحكي عن تاريخ ملوك بني إسرائيل.
وسفر أخبار األيام األول و الثاني :كتابان يتحدثان عن نسب بني إسرائيل من آدم إلى يعقوب
،وهو تكرار لما ورد في سفر التكوين .وسفر عز ار وهو نبي من أنبياء بني إسرائيل وينسب
إليه رئاسة المنفيين الذين عادوا من األسر البابلي المزعوم ،ومحاولة تجديد ديانة يهوه.
وسفر نحميا :وهو من رجال بني إسرائيل و رفيق عزرا .وسفر إستير :ويحكي عن قصة
إسرائيلية جميلة اسمها إستير ،تزوجت ملك الفرس ،ومن موقعها هذا قضت على هامان
الذي عادى اإلسرائيليين وكرههم ،وذبحت بمساعدة أبناء جلدتها جماعة هامان وقضت عليهم ،ويحتفل يهود اليوم بذكرى هذه المذبحة في مارس من كل سنة.
القسم الثالث :ويعرف بكتب األناشيد ويتكون من خمسة أسفار هي :أيوب والمزامير وسفر
أمثال سليمان وسفر الجامعة ونشيد اإلنشاد .واألسفار األربعة األخيرة تنسب إلى سليمان.
القسم الرابع :ويحتوي عل سبعة وعشرين سف ار تتحدث عن أنبياء بني إسرائيل بعد موسى، وهي :إشعيا ،إرميا ،مراثي إرميا ،حزقيال ،دانيال ،هوشع ،يوئيل ،عاموس ،عوبيديا، يونس،ميخا ،ناحوم ،حبقوق ،صفتيا ،حجي ،زكريا ،مالخي.
لم يحظ كتاب من البحث والتنقيب والتدقيق كما حظيت التوراة ،الكتاب المقدس لليهود
والنصارى .و لقد انقسم باحثوا التوراة إلى عدة مجموعات يمكن أن نقسمها بشكل مبسط
إلى ثالث مجموعات:
8
األولى :تعتبر التوراة كتابا مقدسا كل ما بين صفحاته حقائق إلهية مقدسة ،وعملت حسب
ذلك كل ما في وسعها على تأويل حقائق التاريخ تأويال يالئم ما ورد في التوراة أي سعت إلٌسقاط الوقائع التاريخية على النص التوراتي .
المجموعة الثانية :رفضت اعتبار التوراة مصد ار لتاريخ المنطقة واعتبرته كتاب أدب اقتبس
جامعوه وناقلوه أساطير و حكايات قديمة من أساطير وحكايات األمم األخرى واستخدموها
لخدمة معتقداتهم الدينية،وبذلك ال يمكن بأي حال اعتبار التوراة مرجعا تاريخيا وانما منتجا
أدبيا ذو هدف الهوتي.
المجموعة الثالثة :سلكت طريقا توفيقيا واعتبرت التوراة إلى جانب كونها كتاب دين،فأنها
رغم أنها مغلفة بكثير من األساطير والقصص الخيالية فإنها كذلك تحتوي على كثير من
الحقائق التاريخية ،وأخذ هذا الفريق على عاتقه محاولة البحث عن حقائق تاريخية من بين الكم الهائل من كل تلك األساطير و الحكايات .وانتهى هذا الفريق في النهاية مثله مثل
الفريق األول إلى محاولة قسرية لتأويل المكتشفات الحفرية في فلسطين والمناطق المجاورة لتالئم النص التوراتي.
ومن النتائج التي خرجت بها مدارس نقد التوراة أن نسبة الكتب الخمسة األولى لموسى و أنه
صاحبها أو كاتبها بوحي من اهلل،قد أصبحت نسبة باطلة تماما وال ظل لها من حقيقة(،
كريفيلوف :التوراة في عيون العلم ،ص ، 41:ترجمه من الروسية إلى السلوفاكية يوراي زيمان ،طبع ونشر برافدا -براتسالفا عام .) 1986
ولقد أبدت الكنيسة الكاثوليكية تفهما لذلك و سجلت اعترافها بذلك في مقدمة الطبعة
الكاثوليكية للكتاب المقدس الصادرة في عام 1960حيث تقول :
"ما من عالم كاثوليكي في عصرنا يعتقد أن موسى ذاته قد كتب كل التوراة منذ قصة
الخليقة ،أو اشرف على وضع النص ،ألن النص قد كتبه عديدون بعده ،لكن يجب القول أن ازديادا تدريجيا قد حدث ،و سببته مناسبات العصور التالية االجتماعية و الدينية" ( عن
الكتاب المقدس ،باللغة التشيكية ،مجهول الناشر)
و يرجح علماء نقد التوراة أن العهد القديم والذي يتألف من مجموعة أسفار ويحوي على
سبعة وعشرين كتابا قد تم تأليف معظمها إبان النصف األخير من القرن التاسع قبل الميالد
بينما يعود بعضها إلى أوائل القرن التاسع قبل الميالد ،و يمكن نسبة بقيتها إلى القرن
الرابع قبل الميالد ،وحتى القرن الثاني قبل الميالد .و هكذا تشكل العهد القديم على مدى
مئات السنين ولقد تعرض خاللها للتحرير واعادة التحرير واإلضافات والتغيرات والتحويرات
عدة مرات من محررين أغلبهم مجهول (.كريلوف نفس المصدر ) .ويعتقد بعض المؤرخين
9
أن العهد القديم كتب في العهد الفارسي وليس قبل ذلك وأن لغة التوراة لغة حديثة ولم تكن من اللغات المتداولة في فلسطين قبل هذا العهد (.توماس ل .تومسون :التاريخ القديم
للشعب اإلسرائيلي ،ترجمة صالح علي سوداح ،إصدار بيسان للنشر – بيروت عام 1995
ص) 288:
و معظم ترجمات العهد القديم تمت عن النص العبري المعروف بالنص المازوري المدون
في القرن العاشر الميالدي عن مجموعة نسخ مجهولة اآلن ومجهول تاريخها ،ويعتقد أنها
قد فقدت تماما .واقدم نسخة مازورية تعود إلى عام 895ميالدية وقد تم الكشف عنها في
كنيسة المعبد اليهودي في القاهرة .و هناك نص آخر يسمى السبعيني أو اإلسكندري
،المدون باللغة اليونانية القديمة ،و قد تمت كتابته عام 283قبل الميالد و يقال أنه كتب
على يد اثنين و سبعين فقيها يهوديا من أجل يهود الشتات الذين لم يتقنوا العبرية .و تزيد النسخة السبعينية عن المازورية بأربعة عشر كتابا .ولقد تخال اليهود عنه ومن بعدهم
تخلت الكنيسة الكاثوليكية عن النص السبعيني بعد القرن العاشر الميالدي ،حيث أصبح النص المازوري هو النص المعتمد للعهد القديم ( .الكتاب المقدس ،طبعة ترنافا –
الجمهورية السلوفاكية عام 1998ص )21 :
10
-2إبراهيم وساللته ،والوعد اإللهي المزعوم تعد شخصية إبراهيم من أهم الشخصيات التي تتحدث عنها التوراة .فمن صلبه كما تحدثنا التوراة ،نشأت مجموعة من القبائل التي تكونت منها شعوبا وأمما سكنت منطقة الشرق
األوسط ،من ضمنهم الشعب العب ارني أو اإلسرائيلي .و يعتبره اإلسرائيليون األب األول
لقبيلتهم و هو أب لسلسلة طويلة من الشخصيات التوراتية ،اسحق و يعقوب و يوسف و موسى و داود و سليمان و جميعهم ،كما تقول التوراة،من بني إسرائيل .
يعتقد التوراتيون أن إبراهيم يعود بموطنه إلى مدينة ( أور الكلدانية ) التي تقع حسب رأيهم
على شاطئ نهر الفرات ،وأنه قد هاجر من موطنه في العراق القديم ،على رأس قبيلته قاصدا
أرض كنعان المفترض أنها أرض فلسطين الحالية .تقول التوراة:
" وأخذ تارح إبرام ابنه ،ولوط ا ابن هاران ابن ابنه ،وساراي كنته ،امرأة إبرام ابنه ،
فخرجوا معا من أور الكلدانية ( حسب الكتاب المقدس ،باللغة السلوفاكية طبعة ترنافا) ليذهبوا
إلى أرض كنعان ،فأتوا إلى حاران وأقاموا هناك ومات تارح هناك ".تكوين 33 – 31 : 11 .وأنه في أرض كنعان التقى بربه المدعو في التوراة باسم ( أيل ) وأن هذا الرب أقطع
إبراهيم ونسله من بعده أرض كنعان خالصة لهم "،وقال الرب إلبرام :ارفع عينيك وانظر إلى
الموضع الذي أنت فيه ،شماال وجنوبا وشرقا وغربا ،ألن جميع األرض التي أنت ترى ،لك
أعطيها ولنسلك إلى األبد (".سفر التكوين . )14،15 :13و في نص آخر تقول " :وأعطي
لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكا أبديا وأكون إلههم ( ".سفر
التكوين .) 8:16ويعتمد يهود اليوم في ادعاءهم بالحق التاريخي في فلسطين على هذا
النص التوراتي وهو ما يسمونه العهد اإللهي القديم ،عهد اهلل إلبراهيم ونسله بإعطائهم أرض
كنعان وهي فلسطين اليوم .
ومن الواضح من نصوص التوراة أن فلسطين التي جاء إليها إبراهيم و عائلته هي أرض
كنعانية وأنه جاء غريبا عنها حيث تصفها التوراة إلبراهيم (بأرض غربتك ) .
يحدثنا التوراتيون حسب قراءتهم للتوراة أن الركب اإلبراهيمي المهاجر بعد أن خرج من أور
الواقعة حسب رأيهم ،على الشاطئ الجنوبي لنهر الفرات قاصدا أرض كنعان الفلسطينية،والتي تقع إلى الغرب من أور ،تحول من دون سبب واضح شماال متجها إلى حران والتي جرى
تحديدها في أقصى الشمال ،داخل الحدود األرمينية التركية .ولقد استغرقت رحلة إبراهيم هذه
من وقت خروجه من أور إلى أن وصل أرض كنعان خمسة عشر عاما ,مع أن الرحلة من
11
أور -التي حددها التوراتيون في أرض العراق القديم -
إلى ارض كنعان ما كانت
لتستغرق أكثر من أسبوع واحد على ظهور الحيوانات ،و بناءا على ذلك تم تحديد ما بين
النهرين -أرض العراق القديم – كموطن أصلي للقبيلة اإلبراهيمية.
الباحث المصري الدكتور سيد القمني يعارض هذا الرأي ويشرح في كتابه النبي إبراهيم
والتاريخ المجهول) سينا للنشر ،القاهرة )1990وبناءا على قراءة تحليلية للنص التوراتي
،بأن الموطن األصلي للعائلة اإلبراهيمية حسب نصوص التوراة ،هو المنطقة التركية االرمينية
القديمة خارج الحدود الشمالية للعراق القديم ،وأن تحديد أور الكلدانية كموطن إلبراهيم جاء
من شارحي التوراة.
التوراة تروي أن إبراهيم في طريقه إلى كنعان توجه نحو حاران والتي تقع إلى أقصى الشمال وبعيدة بعدا شاسعا عن موقع أور المزعوم ؟ ورغم أن التوراة قد ذكرت ( أور ) كمنطلق
لهجرة إبراهيم ،إال أنها لم تعد تذكرها وأخذت تؤكد األصل الحاراني ،فتقول " :فأتوا حاران
وأقاموا هناك … ومات تارح في حاران ،وقال الرب إلبرام ،أذهب من أرضك وعشيرتك ومن بيت أبيك ،إلى األرض التي أريك …..فأخذ إبرام ساراي امرأته ،ولوطا ابن أخيه وكل
مقتنياتهما التي اقتنيا ،والنفوس التي امتلكا في حاران ،وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان " . وفي موضع آخر تحدثنا التوراة ،أن إبراهيم بعد استقراره في ارض كنعان طلب من رئيس
عبيده أن يأتيه بزوجة لولده إسحق ،من بين أهل وطنه وعشيرته ،فما كان من العبد إال أن
ذهب إلى مدينة ( أرام النهرين ) مدينة ( ناحور ) جد إبرام ليحضر زوجة البن إبرام اسحق
" ،وشاخ إبرام وتقدم في األيام … ..وقال إبرام لعبده كبير بيته … :ضع يدك تحت فخذي
،فاستحلفك بالرب إله السماء واله األرض ،أال تأخذ زوجة البني من بنات الكنعانين ،الذين
أنا ساكن بينهم ،بل إلى أرضي و عشيرتي تذهب ،وتأخذ زوجة البني إسحق ".تكوين : 24
" 4-1وذهب العبد إلى أرام النهرين ،إلى مدينة ناحور ".تكوين 10 : 24
ولقد سار إسحق على طريقة أبيه فأمر ابنه يعقوب أن ال يتزوج من بنات كنعان وأن يأتي
لنفسه بزوجة من بالد األجداد .فتقول ":أن إسحق دعا يعقوب ابنه وباركه وأوصاه ،وقال له :ال تأخذ زوجة من بنات الكنعانيين ،قم واذهب إلى ( فدان أرام ) ..وخذ لنفسك زوجة من
هناك … .فخرج يعقوب وذهب إلى حران ".تكوين 10 ، 7، 1،2 : 27ولم تذكر التوراة مدينة أور و ال أي منطقة على الشاطئ الجنوبي لنهر الفرات أو في العراق القديم
كموطن لألجداد ،وانما ذكرت (حاران) و (فدان أرام ) و (أرام النهرين ) وكلها مناطق تقع شمال العراق وخارج حدود العراق القديم وداخل المنطقة التركية األرمينية القديمة .
12
وهكذا نجد أن التوراة تقول أن إب ارهيم وعشيرته قد جاءوا من موطنهم أور التي حددها
التوراتيون بأور الكلدانية في بالد العراق القديم ،وتعود في نصوص أخرى لتشير بشكل أو
بآخر ،إلى أن موطن إبرام و عشيرته ،ليس العراق القديم ،و إنما المنطقة الواقعة في أرمينيا
التركية .فهل هو خطأ من شارحي التوراة باعتقادهم أن أور التوراتية تعني المدينة المعروفة بهذا االسم في العراق القديم ،أم أن ذلك يعود لتخبط جامعي التوراة أ نفسهم والذين نقلوا
النصوص التوراتية عن نصوص ذات مصادر مختلفة ،كتبها في األصل وأعاد كتابتها عدد ال
يحصى من الكتبة .
في الحقيقة رغم الرأي السائد لباحثي التوراة بأن وادي الرافدين هو الموطن األصلي للعائلة اإلبراهيمية فلقد ورد في نسخة قديمة للتوراة السامرية بأن موطن العائلة اإلبراهيمية هو
بياض خراسان حيث تقول " ومات هرن بحضرة ترح ابنه بأرض مولده في بياض خراسان" (
الترجمة الكاملة للتوراة السامرية ،ترجمها الكاهن أبو الحسن اسحق الصوري القاطن في
عكا .النسخة بخط الناسخ أبو البركات و مصدقة من قبل الكاهن عبد المعين صدقة السامري
في نابلس بتاريخ ، 1978/2/1ص. ) 14:
وتكرر التوراة القول في سفر التكوين أن إبراهيم جد يعقوب ومن ثم يعقوب و عائلته قد
رحلوا " إلى أرض غربتهم" إلى " أرض كنعان" و " أرض الفلسطينيين " التي كان يسكنها "
الكنعانيون" و " الفلسطينيون " .ورغم أنها تذكر أن الرب قد أهدى هذه األرض إلبراهيم
وألحفاده ،إال أنها تعيد وتكرر القول بأنه جاء غريبا وبقي غريبا وسيبقى نسله غريبا في أرض
غريبة ليست له،يقطنها الكنعانيون وشعوب أخرى .فنجد إبراهيم يخاطب الفلسطينيين " ،أنا غريب ونزيل عندكم" ،كما نجد الرب يؤكد له بأنه سيبقى هو ونسله غرباء في هذه األرض
التي ليست لهم "،إعلم يقينا أن نسلك سيكون غريبا في ارض ليست لهم " هكذا يخاطب الرب إبراهيم في اإلصحاح تكوين14/15
تحدثنا التوراة كيف رحل إبراهيم وزوجته سارة إلى مصر وكيف أنه طلب منها أن تنكر أنها
زوجته "،ليكون له خي ار بسببها " وفعال حملت إلى بيت فرعون " ،فصنع إلى إبراهيم خير
بسببها،وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد واماء" ،وال تحدثنا التوراة كيف استطاع إبراهيم
مقابلة فرعون واالتصال به .الم فرعون إبراهيم على فعلته عندما اكتشف األمر فوبخه قائال
":لماذا قلت هي أختي حتى أخذتها لتكون لي زوجتي ،واآلن هو ذا امرأتك ،خذها واذهب "
تكوين . 19/12و لقد غادر إبراهيم بعدها مصر وقد أصبح بسبب فعلته الشنعاء غنيا ذو مال ومتاع وماشية .ولقد كرر إبراهيم فعلته في فلسطين مع الملك الفلسطيني إيمالك في مدينة جرار حيث أنكر أن سارة زوجته و ادعى أنها أخته .ولقد المه إيمالك أشد اللوم على فعلته
13
الشائنة قائال " :ماذا فعلت بنا وبماذا أخطأنا إليك حتى جلبت علي وعلى مملكتي خطية
عظيمة .أعماال ال تعمل عملت بي ".تكوين 11- 1 /20
وال تنسى التوراة أن تخبرنا أن اسحق سار في خطى أبيه إبراهيم وكذب إلى إيمالك ملك
الفلسطينيين و أنكر زوجته وقدمها للملك مدعيا أنها أخته ولقد وبخه الملك إيمالك عندما
اكتشف األمر قائال " :ما هذا الذي صنعت بنا ،لوال قليل لضجع أحد الشعب مع امرأتك فجلبت علينا ذنبا" تكوين 7/26
قراءة النصوص التوراتية تكشف لنا عن حقيقة ،إن رموز بني إسرائيل والشخصيات
الرئيسية في الرواية التوراتية تسلك مخالفة لكل األصول األخالقية حتى تلك المتبعة في ذلك
الزمان ،واننا إذا تتبعنا سير حياة رموز بني إسرائيل في التوراة ،لنجد تصرفها مخالف للسلوك األخالقي المعترف به .فإلى جانب ما مر معنا عن إبراهيم و إسحق اللذان قودا على
زوجتيهما ،فأن التوراة تخبرنا كذلك أن لوط ابن أخ إبراهيم قد زنى بابنتيه بعد أن أسكرتاه وحملتا منه ( تكوين ) 38-36 /19 :وأن يعقوب قد استولى بالغش والخداع على أولوية
اإلرث من أخيه ( تكوين )27 :وأبناء يعقوب تآمروا لقتل أخيهم يوسف فرموه في البئر ،ثم باعوه لتجار مارين( .تكوين ) 37:ويهوذا زنا في زوجة ابنه (تكوين ،) 38:و موسى بدأ
حياته بجريمة قتل تعصبا لبني جنسه،وداود استغل حكمه بالقضاء على نسل سلفه شاؤل،
فعمد إلى تسليم أوالد شاؤل وأوالد ابنته إلى خصومهم فقتلوهم ( صموئيل،) 10-1/ 21: 2
ورغم الزوجات و الجواري الذين حفل بهن قصره لم يتورع عن اغتصاب امرأة حثية كانت
زوجة واحد من قادته ومن رجاله المخلصين ،ثم دبر لزوجها مكيدة في الحرب أودت بحياته .
ولقد أنجبت منه المرأة الحثية ابنه سليمان ،ولقد سامحه الرب طبعا .وابن داود المدعو أمون
زنا بأخته غير الشقيقة تامار،فقام أخوها الشقيق باالنتقام فقتل أخيه أمون وقطعه إربا (
صموئيل ) 13: 2وسليمان تآمر على أخيه أدونيا وقتله من أجل االستيالء على الملك ( ملوك ) 24-1: 1وغير ذلك كثير ال مجال لذكره هنا .
إن قارئ التوراة ليأخذ انطباعا بأن الكذب والغش والخداع والفاحشة أمر مقبول ومبارك عليه من قبل كتبة التوراة ،بل إننا لنجد أن نتيجة الكذب والخداع كانت دائما التكريم المادي
والمعنوي من قبل كتبة التوراة و ربهم .ومن يستطيع قراءة ما بين السطور يستطيع أن يصل إلى حقيقة أن المصريين والفلسطينيين كانوا أكثر حرصا على األخالق من بني إسرائيل حيث
في جميع الحاالت كان الفرعون المصري والملك الفلسطيني يوجهان اللوم إلبراهيم ،ومن بعده
اسحق على فعلهم الشنيع بالقول ":حيث كنت ستجلب العار علينا" .
14
في الحقيقة أن التوراة ذاتها تبطل االدعاء الصهيوني بالنقاء العرقي واألخالقي لبني
إسرائيل،وبأنهم قد حافظوا على نقاء النسل اليعقوبي منذ آالف السنين في أصالبهم الطاهرة
إلى يومنا هذا .فإننا حين نتابع قراءة أسفار التوراة لنجد عشرات األمثلة على الدنو األخالقي
للقبيلة اإلسرائيلية المزعومة وتسيب نساءها و رجالها واختالطهم الجنسي الغير محدود مع
شعوب المنطقة .فنجد مثال النبي ( إرميا) في سفر إرميا ينوح على تفشي الزنا بين النساء
اإلسرائيليات " :هل رأيت ما فعلت العاصية إسرائيل ،انطلقت إلى كل جبل عال والى كل شجرة
خضراء وزنت هناك ……لم تخف الخائنة يهودا أختها ،بل مضت وزنت هي أيضا" إرميا3 /
" و صهلوا كل واحد على امرأة صاحبه" إرميا 5 /بل إن الرب يهوه أخذ ينادي نساء شعبه ،
" ارفع ذيلك على وجهك فيرى خزيك ،و فسقك و صهيلك و رذالة زناك على اآلكام ،في الحقل رأيت مكر هاتك ".إرميا 13و ها هو رب التوراة ينادي مملكة يهوذا " :زنيت على
اسمك و سكبت زناك على كل عابر .. ،و صنعت لنفسك مرتفعات موشاة و زنيت عليها …
و صنعت لنفسك صور ذكور وزنيت بها …… و فرجت رجليك لكل عابر ،وأكثر زناك ،
وزنيت مع جيرانك بني مصر الغالظ اللحم الذين منيهم كمني الحمير ،وزدت في زناك
إلغاظتي…… وأسلمتك لمرام مبغضاتك بنات الفلسطينيين ،الالئى يخجلن من طريقك الرذيلة .وزنيت مع بني آشور إذ كنت لم تشبعي فزنيت بهم ولم تشبعي .وكثرت زناك في أرض
كنعان إلى أرض الكلدانيين وبهذا أيضا لم تشبعي .ما امرض قلبك يقول الرب إذ فعلت كل هذا كما فعلت امرأة زانية ساقطة .أعطيت كل محبيك هداياك و رشيتهم ليأتوك من كل
جانب للزنا بك ،و صار فيك عكس عادة النساء في زناك ،إذ لم يزن ورائك ،بل أنت تعطين
أجرة ،وال أجرة تعطى لك ".حزقيال 16 /
التوراة ذاتها كما رأينا تعترف باختالط دم الشعب اإلسرائيلي المزعوم ،بغيره من ساكني
فلسطين والشعوب والمجاورة ،وقراءة متفحصة لنسب أشهر رجال بني إسرائيل وملوكهم نجد
أن موسى مثال أمه ميتانية وليست إسرائيلية وداود مؤسس الدولة التوراتية القديمة فانه حفيد لراعوث المؤابية و سليمان أشهر ملوكهم التوراتيين فإن أمه حيثية ،و بناءا على ذلك ،فإن أشهر ملوكهم ليسوا نقيي العرق ألن أمهاتهم لم يكن إسرائيليات بل من شعوب أخرى سكنت المنطقة في ذلك الزمان.
تتابع التوراة و تحدثنا كيف أن يعقوب بن اسحق بن إبراهيم استولى من أخيه على مباركة
أبيه بأولوية اإلرث بالكذب والخداع .تكوين 27 /وكعادتهم بارك كتبة التوراة ذلك واعتبروه
شيئا طبيعيا "،لقد جاء أخوك بمكر و أخذ بركتك " هكذا قال اسحق ألبنه المخدوع عيسو وانتهى األمر ،فالمكر والخديعة قد انتصرت كعادة كتبة التوراة.
15
يعقوب يصبح اسمه إسرائيل بعد أن يتصارع مع الرب اإلله في صورة إنسان وينتصر عليه،
فيقول اإلله ليعقوب " أطلقن ألنه طلع الفجر ،فقال يعقوب :ال أطلقك حتى تباركني فقال له
ما اسمك ؟ قال :يعقوب .فقال :ال يدعى اسمك في ما بعد يعقوب بل إسرائيل ألنك جاهدت
مع اهلل واإل نسان وانتصرت " .قال يعقوب إني نظرت اهلل وجها لوجه و نجيت نفسي .تكوين
. 30-22/ 22 :
ال حاجة بنا للتعليق على هذه الرواية األسطورية ،فلقد اعتدنا من كتبة التوراة على مثل تلك
الروايات .ولكن من المهم أن نذكر هنا أن كلمة إسرائيل مركبة من( إسرا) ،ومن كلمة (أيل)
،و( أيل ) كان إله السماء و رئيس مجمع اآللهة في المنطقة ولقد اقتبسه اإلسرائيليون
عنهم و عبدوه إلى أن بدلوه باإلله يهوه .و من اسم اإلله " إيل" ،اشتقت أسماء مثل جبرائيل وعزرائيل وميكائيل واسماعيل وغيرها .ولقد نقلت التوراة كثي ار من العبادات والتراتيل والصلوات
والعادات الكنعانية والمصرية و شعوب ما بين النهرين ،ونسبتها إلى اإلسرائيليين (.فراس
السواح :مغامرة العقل األولى :دار عالء الدين-دمشق 1993 ،ص ، 150-129 :وديع بشور :الميثولوجيا السورية،طبعة ثانية 1989دار الفكر بيروت ،ص) 126-117:
ثم تتابع التوراة حديثها عن أبناء يعقوب وغيرتهم من أخيهم يوسف وحقدهم وكراهيتهم له
ألنه كان مفضال عند أبيهم ،و قرارهم بالتخلص منه بقتله والقاءه في البئر ،ولكنهم عدلوا
عن ذلك و باعوه إلى تجار مارين بعشرين من الفضة ،مدعين ألبيهم أن وحشا قد افترسه.
ولقد حمله التجار معهم إلى مصر وباعوه هناك لرجل مصري ،خصي فرعون ،رئيس الشرط
.تكوين . 27 /
وفي حديث أسطوري واسع الخيال تتابع التوراة قصة الصبي األخاذ في جماله يوسف ،
وكيف أثبت مهارة فائقة ،أوصلته إلى كرسي الوزارة ،ليصبح الرجل الثاني في مصر بعد
فرعون ،بعد أن أنقذ مصر من القحط ،وكيف أرسل يوسف إلى أبيه وأخوته لينعموا بخير
مصر .تكوين . 41 /و قام يوسف بشراء أرض مصر لفرعون ،ألن الجوع اشتد عليهم،
فصارت األرض لفرعون ،أما الشعب فنقلهم إلى المدن من أقصى مصر إلى أقصاها .فقال يوسف للشعب :إني اشتريتكم و أرضكم لفرعون .تكوين . 48 /
تنقلب األمور على اإلسرائيليين ويسخط الفرعون التالي عليهم ،وال تفسر لنا التوراة السبب الذي أثار هذا السخط ،و ترتب عليه تسخيرهم في األعمال الشاقة في مصر ،و معيشتهم
في عبودية مريرة ،لعدة قرون عقابا لهم على أمر ال توضحه التوراة ،وهنا تصمت التوراة عن
الحديث عن فترة طويلة من الزمن "،وأما إقامة بني إسرائيل التي أقاموها في مصر فكانت أربع مئة وثالثين سنة"( خروج ) 40/12لتعود إلينا للحديث عن أحداث وقعت بعد مئات من
16
السنين بعد فترة يوسف ،ولتؤكد تأكيدا اعتباطيا وقسريا على استمرارية تاريخ القبيلة
اإلسرائيلية وارتباطها العرقي بالنبي موسى ومن خرج معه من مصر .ولتأكد لنا ان إله بني إسرائيل الذي أصبح يسمى يهوه ،قد تذكر فجأة شعبه المحبوب وتذكر ميثاقه مع إبراهيم
واسحق ويعقوب فقرر تخليصهم من نير القهر المصري (.خروج ) 25/2إذن عندما صمتت
التوراة لمدة أربعمائة عام عن الحديث عن إقامة بني إسرائيل في مصر ،كان إله بني إسرائيل قد صمت عنهم أيضا ونسيهم طوال هذه المدة الطويلة.
17
- 3موسى :تجديد الوعد بعد غضب الرب
في قصة أسطورية تحدثنا التوراة عن قصة الطفل اإلسرائيلي موسى الذي ألقته أمه في
سبط على شاطئ النيل فوجدته ابنة فرعون التي نزلت إلى النهر لتغتسل ،فعرفت حاال ،وال
ندري كيف ،أنه من أوالد العبرانيين ،ورغما عن كراهية المصريين لبني إسرائيل أو ما تدعوهم
التوراة العبرانيين ،والجو المعادي لهم في مصر فإن ابنة فرعون تبنت الطفل اإلسرائيلي وربته في القصر الملكي .ولكن الطفل يكبر فيقتل مصريا تعصبا لبني جنسه ،فتطارده العدالة و
تطلبه للقصاص فيهرب إلى مديان بسيناء حيث يلتقي بالرب يهوه ،ثم يعود إلى مصر بأمر
من يهوه ليقود خروج اإلسرائيليين من مصر .فلقد سمع الرب يهوه أنين شعبه المحبوب ورأى مذلته في مصر ،فتذكر ميثاقه مع إبراهيم واسحق ويعقوب ،فقرر إنقاذهم من أيدي المصريين
وارسالهم إلى" أرض تفيض لبنا وعسال ،إلى مكان الكنعانيين والحثيين واألموريين والفريزيين
واليبوسيين" ( خروج . ) 9 / 3
لم يكف سحر موسى وال عصاه التي انقلبت إلى أفعى أن تقنع فرعون باالستجابة لمطلب موسى بإطالق اإلسرائيليين من أرضه ،فقرر موسى قبل خروجه من مصر ،وبمباركة رب
إسرائيل يهوه وبمساعدته ،االنتقام من مصر وشعب مصر فصب جام غضبه عليهما وأعمل
فيهما قتال وابادة ،فيضرب موسى بالقوة الممنوحة له من يهوه بعصاه نهر النيل فتتحول
مياه النيل إلى دماء ويموت جميع السمك في النهر ،وكان الدم في كل أرض مصر حتى في
األخشاب واألحجار (خروج . ) 17/ 7 :ويضرب موسى بعصاه ضربة ثانية ،فتمتلئ مصر
كلها بالضفادع( خروج ) 26 /7وبالضربة الثالثة يحول غبار مصر إلى بعوض ( ،خروج ) 12 /7وبالضربة الرابعة تمتلئ سماء مصر بالذباب السام ،وتمتلئ بيوت المصريين
وأرضهم ذبابا ( خروج ) 16/7 :ويضرب موسى ضربته الخامسة فيحل بمصر وجميع
المصريين مرض الطاعون وتنفق جميع مواشي مصر .أما مواشي بني إسرائيل فلم يمت منها
واحدا ( خروج ، ) 5 /9 :أما الضربة السادسة فتصيب جميع المصريين و مواشيهم
بالدمامل وال ندري من أين جاءت المواشي وقت نفقت جميعها بالضربة السابقة ؟! ( خروج:
) 12 /9والضربة السابعة تنزل على مصر و جميع المصريين و مواشيهم البرد والصقيع فيموتون " ،وضرب البرد في كل أرض مصر جميع ما في الحقل من الناس و البهائم ،و
ضرب البرد جميع عشب الحقل و كسر جميع شجر الحقل" ،طبعا إال األرض التي كان يقيم
فيها بنو إسرائيل فلم يصبها ولم يصبهم وال مواشيهم أي أذى ( خروج .) 20 /9 :لم يكتف
18
موسى وربه بذلك فتالحقت الضربات وجلبت الضربة الثامنة لمصر وللمصريين الجراد،
فصعد الجراد أرض مصر و حل في جميع تخوم مصر حتى اظلمت األرض ،وقد أكل الجراد كل شيء حتى لم يبق في مصر شيء أخضر (خروج ،) 15/10 :و أحلت الضربة التاسعة
على كل مصر الظالم الدامس ولم يبصر أحد أخاه ولكن جميع بني إسرائيل ككل مرة ،لم
يصبهم أي أذى و كان لهم نور في مساكنهم ( خروج .) 22، 21 / 10 :و كأن كل ذلك لم يكف فجاءت الضربة العاشرة لتميت كل بكر في أرض مصر حيث يهبط الرب يهوه بنفسه
لتحقيق الضربة القاضية لقتل األطفال المصريين ".وقال موسى :هكذا يقول الرب :إني في منتصف الليل أخرج في منتصف مصر ،فيموت كل بكر في أرض مصر ،من بكر الفرعون
الجالس على كرسيه ،إلى بكر الجارية الجالسة على الرحى ،وكل بكر بهيمة و يكون صراخ
عظيم في كل أرض مصر ".خروج " . 11 /وفي تلك الليلة ،كان صراخ عظيم في مصر ،ألنه لم يكن بيت ليس فيه ميت " خروج . 12 /وطبعا لم تنس التوراة أن تذكرنا بأن
شعب اهلل المختار كمثله في كل مرة لم يصب بأي أذى.
وتحدثنا التو ارة عن قيام فرعون وجيوشه بمطاردة الفارين (،وفي نصوص أخرى تقول
مطرودين .خروج ،) 39/12الذين خرجوا بعد أن سلبوا بامر الرب أواني وحلى وأمتعة شعب
مصر(،خروج ) 22/3حيث أدركوهم عند البحر .وهنا تحدث المعجزة الكبرى ،حيث :
" مد موسى يده على ا لبحر ،فأجرى الرب البحر بريح شرقية شديدة كل الليل ،وجعل البحر يابسا وانشق الماء ،فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة والماء سو ار لهم عن
يمينهم وعن يسارهم ،و تبعهم المصريون و دخلوا ورائهم … فمد موسى يده على البحر ، فرجع البحر عند إقبال الصبح إلى حاله الدائمة … فدفع الرب المصريين وسط البحر " .
خروج 14 /وهكذا يغرق فرعون و جيشه و ينقذ الرب يهوه شعبه المحبوب ،
" فخلص الرب في ذلك اليوم إسراءيل من يد المصريين ونظر إسرائيل المصريين أمواتاعلى
شاطئ البحر ،ورأى إسرائيل الفعل العظيم الذي صنعه الرب بالمصريين ،فخاف الشعب الرب وآمنوا بالرب وعبده موسى (".خروج) 30: 14 :
وفي الحقيقة فإن قارئ التوراة ليتعجب كيف استطاع فرعون أن يجمع جيشا من المصريين بعد
كل ما فعله موسى التوراتي وربه في الشعب المصري من قتل وابادة .ففي كل ضربة تحدثنا التوراة عن الدمار والخراب واإلبادة التي حلت بالشعب المصري حتى أن القارئ يصل إلى
قناعة جازمة بأنه بعد كل تلك الضربات لم يبق في مصر مصريا واحدا على قيد الحياة وقد
تحولت مصر إلى أرض قفراء عفراء خالية من كل حياة .ولكن كتبة التوراة في خيالهم الواسع
ال يهتمون لمنطق األشياء وانما يكتبون ما يروه مناسبا لدعم فكرهم وعقيدتهم .
19
يحاول كتبة التوراة هنا إقناعنا باستمرارية التاريخ اإلسرائيلي وربط نسب الموسويين
الخارجين من مصر بشجرة نسب يعقوب واسحاق وابراهيم .كما يحاولون إقناعنا أن يهوه ما هو إال نفس اإلله الذي ظهر إلبراهيم واسحق ويعقوب باسم "إيل" ،وهو االن يظهر باسم
جديد وبحلة جديدة ليجدد العهد القديم إلبراهيم ونسله بأرض الميعاد ،فلسطين .وليؤكد على أنه لم ينس شعبه المختار الذي كان دائما وسيبقى في حماية الرب يهوه ورحمته مهما فعل
من موبقات ( .خروج .) 5-2 / 6وفي سيناء تعقد اتفاقية بين يهوه وبين بني إسرائيل يمنحهم مقابل االخالص له أرض اللبن والعسل فلسطين خالصة لهم .
تشرح التوراة في إسهاب مسرحية اللقاء بين موسى والرب يهوه حيث ناداه من الجبل:
" هكذا تقول لبيت يعقوب وتخبر بني إسرائيل ،أنتم رأيتم ما صنعت بالمصريين ،وأنا حملتكم
على أجنحة النسور وجئت بكم إلي ،فاآلن سمعتم صوتي وحفظتم عهدي تكونون لي خاصة
من بين جميع الشعوب ،فإن لي كل األرض ،وأنتم تكونون لي مملكة كهنة،و أمة مقدسة(.
خروج )6 / 19ثم نزل الرب على جبل سيناء إلى رأس الجبل ودعى موسى إليه وكلمه قائال:
" أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية .ال يكن لك آلهة أخرى
أمامي ،ال تصنع لك تمثاال منحوتا وال صورة ما مما في السماء أو فوق األرض ،ال تسجد لهن وال تعبدهن ،ألني أنا الرب إلهك ،إله غيور أفتقد ذنوب اآلباء في األبناء في الجيل
الثالث والرابع من مبغضي "...ويملي الرب على موسى وصاياه وشرائعه ويقول لموسى" :
إصعد إلى الجبل وكن هناك فأعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم(
أي بني إسرائيل)" ويطلب الرب أن يصنعوا تابوتا من خشب السنط مغطى بالذهب الخالص من الداخل والخارج " ،وتضع في التابوت الشهادة التي أعطيك" (خروج .) 25-19 :كما
طلب الرب يهوه من موسى أن يطلب من بني إسرائيل أن يقدسوا السبت ":كل من صنع
عمال في يوم السبت يقتل قتال"( خروج .) 18 -12/ 21
بني إسرائيل كعادتهم عملوا الشر في عين الرب ،فصنعوا عجال مسبوكا وسجدوا له وذبحوا له،
فأثاروا غضب ا لرب فقرر إفناءهم ولكن موسى طلب من الرب أن يعفو عنهم ،فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه (.خروج ) 14-7 /31
تحددثنا التوراة كيف أن موسى قاد االسرائيليين حسب أوامر يهوه إلى حدود أرض كنعان،
ووفقا لتعاليم الرب يهوه يرسل قائدا من كل قبيلة من القبائل االسرائيلية االثنى عشر
كجواسيس الستطالع المنطقة والعودة إليه بأخبارها .يندهش الجواسيس من ما وجدوه
ويعودون إلى موسى والرعب في قلوبهم قائلين " :األرض التي مررنا فيها لتجسسها هي
أرض تأكل أهلها ،وجميع الشعب الذي رأيناهم فيها أناس طوال القامات ،وشاهدنا من هناك
20
الجبابرة ،جبابرة بني عناق ،فصرنا في نظرنا أناس صغ ار كالجراد ،وكذلك في نظرهم ( ".العدد :
) 33-32 :13ولقد جلب الجواسيس معهم عينة ،ليؤكدوا صدق قولهم ،عنقودا من العنب
يحتاج لرجلين لحمله ،كما أكد الجواسيس أن البقر والنحل أيضا عمالقة ،ألن أنهار الوادي
كانت تفيض باللبن والعسل (.العدد ) 23-23 : 13 :
يرتاع بني إسرائيل من أخبار الجواسيس ويرفضون دخول أرض كنعان رغم تأكيد الرب يهوه
لموسى" إني أضربهم بالوباء وأفنيهم وأجعلك أنت أمة أعظم وأقوى منهم" ( العدد) 12/ 14 :
،فيغضب الرب على بني إسرائيل لعصيانهم ويحكم عليهم بالتيه أربعين عاما في صحراء
سيناء.
21
-4الممالك األسطورية لبني إسرائيل في التوراة بعد تيه دام أربعين عاما في صحراء سيناء تحدثنا التوراة عن غزو اإلسرائيليين
لفلسطين بقيادة يشوع .كما تحدثنا بفخر واعتزاز كيف طبق خليفة موسى سياسة تنقية
العرق و حرب اإلبادة كتلك التي قام بها اإلسرائيليون بقيادة موسى ضد بني مدين .وكما فعل موسى واإلسرائيليون بأهل مدين ،حيث قتلوا كل ذكر ..وسبوا نساء مدين وأطفالهم
وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم ،وأخذوا كل الغنيمة وكل النهب من الناس والبهائم وبأوامر صريحة من موسى وبمباركة الرب يهوه ،حيث قال موسى لقومه :فاآلن اقتلوا كل ذكر من
األطفال وكل امرأة عرفت رجال بمضاجعة ذكر اقتلوها ".عدد " 18-7 / 31قام خليفته يشوع بعملية اإلبادة الجماعية لسكان فلسطين .تحدثنا التوراة باعتزاز كيف استولى يشوع
على مدينة أريحا وقام بقتل كل من فيها من بشر و دابة ،وذلك بمباركة الرب يهوه وارشاداته "،وحرموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد
السيف " يشوع . 21 / 6 :و تابع يشوع عملية اإلبادة والقتل الجماعي مع بقية المدن.
قال الرب ليشوع " :قم واصعد إلى عاي ،فتفعل بعاي وملكها كما فعلت بأريحا وملكها ،غير
أن غنيمتها و بهائمها تنهبونها لنفوسكم … وضربوهم حتى لم يبق منهم شارد وال منفلت " يشوع . 8 :و تتابع التوراة مسيرة القتل والنهب " ،ذلك اليوم ،استولى يشوع على مقيدة
وفعل بملك مقيدة كما فعل بملك أريحا .ثم اجتاز يشوع من مقيدة وكل إسرائيل معه إلى بتة،
فدفعها الرب هي أيضا بيد إسرائيل مع ملكها ،فضربها بحد السيف ،وكل نفس بها ولم يبق
بها شاردا … ثم اجتاز يشوع وكل إسرائيل معه إلى لخيش … فضربها بحد السيف وكل نفس بها… ثم اجتاز يشوع وكل إسرائيل معه من لخيش إلى عجلون ،فنزلوا عليها وحاربوها
،وأخذوها في ذلك اليوم و ضربوها بحد السيف ،وحرم كل نفس بها في ذلك اليوم ،حسب كل ما فعل بلخيش .ثم صعد يشوع و جميع إسرائيل معه من عجلون إلى حبرون و
حاربوها،وأخذوها وضربوها بحد السيف مع ملكها،و كل مدنها،وكل نفس بها .لم يبق شاردا حسب كل ما فعل بعجلون فحرمها وكل نفس بها ".يشوع .36 - 34 / 10
إننا هنا ونحن نطالع هذه الصورة البشعة لإلبادة البشرية و القتل الجماعي للنساء واألطفال و
الشيوخ وحرق المدن ونهب الممتلكات ،ليصيبنا العجب كيف يمكن للرب اإلله أن يبارك مثل
هذه األفعال الدموية ويضفي عليها صفة القدسية ،خاصة وأن القائمين بها هم قوم لم يكونوا
أبدا مخلصين لهذا الرب .فها هو ميخا يصرخ ويقولها بوضوح ":إصغوا إلي يا رؤساء بيت
يعقوب ،أنتم يا من تكرهون الخير و تحبون الشر ..والذين تبنون صهيون بالدم ،والقدس
22
بالجريمة .إن أرض صهيون ستفلح كحقل ،وتصبح القدس قطعا من الخراب ،وجبل المعبد
مق ار عاليا للوثنية ".ميخا 12-1 / 3 :
أم أن األمر هو عبارة عن تزييف وأوهام حاقدة لكتبة التوراة ،الذين عودونا على مثل ذلك
وأضافوا عليه صفة القدسية من إله اختلقوه وسخروه لمباركة أفعالهم والعفو عنهم و عن ذنوبهم باعتبارهم االبن المدلل وشعبه المختار !
وفي الحقيقة أنه رغم ما عملته المسيحية ،من خالل تبنيها لكتاب العهد القديم ،على تحسين
صورة اإلله التوراتي في العهد القديم ،فإن هذا اإلله يفقد البعد اإلنساني و الرحماني على كل
صعيد ،بل هو إله ظالمي متعسف وباطش ككل اآللهة لدى الشعوب البدائية البدوية الرعوية الغير متحضرة .فهو ضد المعرفة حيث يمنع آدم وحواء من األكل من شجرة معرفة الخير
والشر(تكوين ) 3،وهو يحابي هابيل راعي الغنم ضد أخيه قابيل المزارع ،وهو موقف غير
مفهوم إال من إله بدو رعاة ،يكرهون الزراعة والمزارعين ( ،تكوين ) 4،و بذلك دفع إلى قتل األخ أخيه ،ثم هو يكره أن يكون الناس متفاهمين متحابين متحدين ،فعمل على تشتيت
شملهم وبلبلتهم بأن جعلهم مجموعات متنافرة ال يفهم بعضهم بعضا .قال الرب :هو ذا
شعب واحد و لسان واحد .....هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى ال يسمع بعضهم لسان
بعض(.تكوين ) 11،وينتقم من اآلباء في أبنائهم ممن ال ذنب لهم ،وفي أبناء األبناء حتى
الجيل الرابع( ،خروج ، ) 2ويحرض و يدفع لقتل الواحد أخاه وصاحبه وقريبه (،خروج 32
) إلى آخره من ما تمتلئ به التوراة من أخبار المذابح واإلبادة لألطفال والنساء والشيوخ
بمباركته و تحريض منه .وهو أقرب ما يكون بش ار منه إلها ،فهو يمشي في الجنة ويبحث
عن آدم فال يراه( ،تكوين ) 3ويتصارع مع يعقوب كما يتصارع البشر(تكوين) 30-22: 32، وهو يتحدث مع موسى وزوجته وابنه حيث أراد أن يقتل صفوة ألنها رفضت ختان ابنها،
فأسرعت صفورة زوجة موسى وأمسكت بحجر صوان و ختنت ابنها ثم مست رجلي يهوة" أي
أعضاءه التناسلية"( خروج ) 26-24 :4،
يقول مارك توين في وصفه لشخصية هذا الرب بأن كل أعمال هذا اإلله الموصوفة في العهد
القديم لتدل على عدم عقالنيته وقسوته وأنانيته وعشقه لالنتقام (.مارك توين :من كتابه عن األديان اقتبسه كريكلوف في كتابه التوراة في عيون العلم
ص . 76 :ذك سابقا)
بعد كل هذا القتل وهذه اإلبادة فان المرء يأخذ انطباعا بأن الشعب الكنعاني في فلسطين قد
ابيد إبادة تامة ولم يعد له وجود ،ولكننا نفاجأ بأنه بعد موت يشوع لم تستطع القبائل
اإلسرائيلية أن تجد بديال له لقيادتها في حربها ضد الكنعانيين وغيرهم من شعوب المنطقة ،و
23
تحدثنا التوراة أن رباط الوحدة بين القبائل اإلسرائيلية في عهد ما تسميه عهد القضاة قد
تفكك و سيطرت عليهم الخالفات .ونتيجة لذلك فقد تشتت بنو إسرائيل وعاشوا في بحر
السكان األصليين ،الكنعانيين والفلسطينيين وغيرهم ،الذين كانوا أكثر حضارة ورقي منهم
فتأثروا بهم وعبدوا آلهتهم . .ولقد استعبدتهم تلك الشعوب وأذلتهم ،وتعتبر التوراة ذلك
امتحانا من الرب لتركهم عبادته وعبادة آلهة غيره من آلهة شعوب المنطقة ،و كان الرب في كل مرة يندم على قسوته عليهم فيعفو عنهم ويرسل لهم من يحررهم بأمره .و لكن لم يكن
اإلسرائيليون ليتعظوا من ذلك االمتحان فيعودوا للكفر بربهم واله أجدادهم ويعودوا لعبادة غيره من آلهة شعوب المنطقة فيعود الرب ليغضب عليهم و هكذا تتكرر هذه العملية مرات عديدة. " وفعل بنوا إسرائيل الشر في عين الرب وعبدوا البعليم و تركوا الرب إله آبائهم ..وساروا
خلف آلهة أخرى من آله الشعوب الذين حولهم و سجدوا لها وأغاظوا الرب .تركوا الرب
وعبدوا البعل وعشتاروت فحمي غضب الرب على إسرائيل فدفعهم بأيدي ناهبين نهبوهم
وباعهم بأيدي أعدائهم حولهم ولم يقدروا بعد على الوقوف أمام أعدائهم .فضاق بهم األمر
جدا .وأقام الرب قضاة فخلصوهم من يد ناهبيهم ...ألن الرب ندم من أجل أنينهم ...
ولقضاتهم أيضا لم يسمعوا بل زنوا أمام آلهة أخرى وسجدوا لها...
( قضاة) -20—12/2
وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عين الرب ورجعوا يفسدون أكثر من آبائهم فامتحنهم
الرب بشعوب المنطقة التي عادت إلذاللهم والقسوة عليهم " فسكن بنو إسرائيل في وسط
الكنعانيين و الحثيين و األموريين و الفرزيين و الحوريين و اليبوسيين .واتخذوا بناتهم ألنفسهم نساء وأعطوا بناتهم لبنيهم وعبدوا
آلهتهم ( " .قضاة ) 10-5 /3 :وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب طالبين الخالص فأسرع الرب
لتخليص شعبه المحبب والمختار فخلصهم .ولكن كالعادة عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في
عين الرب فغضب الرب فشدد عليهم عجلون ملك مؤاب الذي ضرب بني إسرائيل وأذلهم . ولكن قلب الرب رق لحالهم فبعث لهم إهود لكي يخلصهم ففعل بأمر الرب.
( قضاة .) 3:وبعد موت إهود عاد بنو إسرائيل من جديد يعملون الشر في عين الرب
فباعهم الرب بيد يابين ملك كنعان فأذلهم عشرون سنة .وصرخ بنوا إسرائيل طالبين العون
والرحمة من ربهم ففعل ( .قضاة ) 5 :و لكنهم أعادوا الكرة وعملوا الشر في عين الرب
فامتحنهم هذه المرة على يد شعب مدين .فذل شعب إسرائيل من قبل المدينيين ،فصرخ بنو
إسرائيل إلى الرب فأنقذهم على يد جدعون " . .وقال جدعون هلل :إن كنت تخلص بيدي
إسرائيل كما تكلمت فها أنا واضع جزة الصوف في البيدر فإن كان ط ٌل على الجزة وحدها و جفاف على األرض كلها علمت أنك تخلص بيدي إسرائيل كما تكلمت .وكان كذلك " .فما كان
24
من اهلل إال أن يعمل كما طلب جدعون على إثبات حسن نيته مع شعب إسرائيل ".و نفذ الرب
وعده وخلص بني إسرائيل على يد جدعون ( .قضاة ) 6 :وكما تعودنا من بني إسرائيل فقد
عادوا بعد موت جدعون ورجعوا يعملون الشر في وجه الرب وزنوا وراء اإلله بعليم ولم يذكروا الرب إلههم ولم يعملوا معروفا مع بيت جدعون نظير كل الخير الذي عمل مع إسرائيل( .
قضاة ) 8 :وتتكرر فصول التمثيلية فيمتحن الرب بني إسرائيل مرة أخرى بيد الفلسطينيين و بيد بني عمون الذين أذلوهم ثماني عشرة سنة حتى عال صراخهم .ويعيد الرب إذاللهم بيد
الفلسطينيين أربعين سنة تأديبا لهم على أفعالهم (.قضاة . )1 3، 10 ، 9:وهكذا فإن قارئ التوراة ليأخذ انطباعا أن الرب لم يكن لديه من شاغل إ ال بني إسرائيل و مشاكل بني إسرائيل
،ومهما فعل بنو إسرائيل فإن الرب في نهاية المطاف هو ربهم والههم وحدهم ولذلك يعفو عنهم ويغفر لهم و يمد لهم يد العون ليساعدهم وينقذهم .
تحدثنا التوراة كيف أن آخر كبار القضاة صموئيل قد شاخ فطلب اإلسرائيليون منه أن يعين
لهم ملكا أسوة بالممالك الكنعانية والفلسطينية فعين لهم شاول ملكا عليهم .وتعتبر التوراة
الملك شاؤل بطل تحرير بني إسرائيل من نير أعدائهم .
" واخذ شاول الملك على إسرائيل وضرب جميع أعدائه حواليه ،موآب وبني عمون وأدوم و
ملوك صوبة والفلسطينيين وحيث توجه غلب .وفعل ببأس وضرب عماليق وأنقذ إسرائيل من يد ناهبيه " .صموئيل األول. 49-48 /14 :
كان على الملك الرضوخ ألوامر الرب يهوه وتعاليمه المنطوقة بلسان الكهنة ،ولكن شاول
أهمل أوامر الرب وعمل ما رآه مناسبا ،فغضب عليه الرب وندم على تنصيبه ملكا فطلب من
كبير الكهنة صموئيل أن يعزله " .وكان كالم الرب إلى صموئيل قائال :ندمت على أني جعلت شاول ملكا ألنه رجع من ورائي ولم يقم كالمي" صم . 12 / 15 : 1
وهنا تبرز على مسرح التوراة شخصية داود ،الذي يقتل جالوت ملك العمالقة بمعالقه والذي
يباركه الرب على يد الكاهن صموئيل ولكن سرا .ويقوم صراع خفي بين شاول وبين داود ويعزم شاول على قتل داود والتخلص منه فيهرب داود ويكون عصابة من قطاع الطرق تعمل على قتل الناس ونهبها " .فاجتمع إليه كل رجل متضايق وكل من كان عليه دين وكل رجل مر
النفس فكان عليهم رئيسا وكان معه نحو أربع مائة رجل ".صم . 2/22 :1وعندما ضاقت الدنيا بداود انضم إلى الفلسطينيين ،أعداء بني إسرائيل ،فرحبوا به.
خرج شاول مع 3000رجل منتخبين من جميع إسرائيل وذهب يطلب داود ورجاله على صخور
الوعول ،وكان هناك كهف ،فدخل شاول إليه كي يستريح وكان داود ورجاله في مغابن الكهف.
وعندما غفت عيون شاول خرج داود وقطع طرف جبة شاول سرا ،ولكنه ندم على ذلك وقال
25
لرجاله ":حاشا لي من قبل الرب أن أفعل هذا األمر بسيدي ،بمسيح الرب ،فأمد له يدي ألنه مسيح الرب هو" ونادى داود على شاول ودعاه " بأبي" وأخبره أنه لن يقم بإيذائه ألنه مسيح
الرب ،وأن الرب سيقضي بينهما ( .صمويل األول) 24 :
وتحدثنا التوراة كيف أن الرب لغضبه على الملك العاق شاول أوقعه بيد أعدائه الفلسطينيين فهزموه في موقعة دموية قتل فيها أبنائه الثالثة وجرح شاول في المعركة فوقع على سيفه
وانتحر ،بعد أن استمر في الحكم حسب قول التوراة حوالي خمسة عشر سنة.
ُثم تقلد الحكم الملك داود خلفا لشاول و تسهب التوراة في وصف المعارك التي خاضها
واالنتصارات التي حققها على شعوب المنطقة حتى تمكن من إخضاع أكثر المدن الفلستينية و دويالت وممالك أدوم و مؤاب و عمون ومملكة صوبا األرامية .وقد استولى كذلك على مدينة
أورشليم بعد أن انتصر على سكانها األصليين اليبوسيين واتخذ منها عاصمة لملكه وبنا فيها قص ار ملكيا وأقام فيها معبدا للرب يهوه ألن الرب تعب وطلب من داود أن يبني له بيتا " .قال
الرب " :أنت تبني لي بيتا لسكناي ،ألني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت بني إسرائيل من
مصر إلى هذا اليوم" صم . 7 / 7 :2وقد استمر حكم داود حسب رواية التوراة زهاء أربعين
سنة بين عام 1010و 971ق.م .
داود كان محبوبا من يهوه ولكنه لم يكن سوي الخلق فها هي التوراة تحدثنا كيف تمشى على
سطح بيته فرأى امرأة تستحم ،فلما سأل من تكون،علم أنها زوجة وصيفه الحتي أريا.
فأرسل داود رسال ليحضروها له ففعلوا فأخذها واضجع معها وهي مطهرة من طمثها فحبلت
منه .وعندما علم داود بحبلها أرسل زوجها أوريا وبيده مكتوب إلى يواب قائده يقول فيه "
اجعلوا أريا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت" صم . 15/11: 2
وهكذا فعلوا كما أمرهم داود وقتل أوريا الحتي بمكيدة دبرها له سيده داود لكي يستولي على
زوجته بعد أن زنى فيها فحبلت .فلما سمعت زوجته بموت بعلها ندبته ولما مضت المناحة ضمها داود إلى بيته وصارت له امرأة وولدت له أبناء منهم سليمان .وأما األمر الذي فعله
داود فقبح في عيني الرب ولكن الرب عاد وسامحه وعفى عنه.
ويظهر أن عملية االغتصاب متأصلة في الشعب اإلسرائيلي التوراتي وخاصة في بيت داود،
حيث تحدثنا التوراة أن أمنون ولد داود أحب ثامار أخته من أبيه وأخت أخيه أبشالوم فاحتال
عليها وتمكن منها وقهرها واضجع معها ( .صم ). 15-5 / 13 : 2فغضب لهذا أخاها
أبشالوم وقرر قتل أخيه أمنون فحاك له مع بعض من أصدقائه مؤامرة فقتلوه وقطعوه إربا( .
صم ) 30 -28 / 13 : 2ودب العداء والبغضاء بين أبشالوم وأبيه الملك داود فقام أبشالوم على أبيه ينازعه الملك والتف حوله عامة الناس واشتد القتال بينهما وكاد أبشالوم أن
26
يقوض ملك داود .يهرب داود من أمام جيش ابنه الذي يطارده ويصعد إلى جبل الزيتون باكيا
مغطيا رأسه ويمشي حافيا وجميع الشعب الذين معه غطوا رؤوسهم وكانوا يصعدون وهم
يبكون ،ولم يبق أمام داود إال الصالة والتعبد والدعوى إلى الرب يهوه ،الذي يستجيب له في النهاية ،فيهزم أبشالوم ويقتل ويعلق على شجرة .يمتطي داود حماره وينزل إلى أرشليم
ليعود ملكا على مملكة يهوه .ولكنه مع ذلك ينزعج لموت ابنه ويبكيه " ،فانزعج الملك وكان يبكي ويقول هكذا وهو يتمشى يا ابني يا ابني أبشالوم يا ليتني مت عوضا عنك ( " .صم
) 22 / 18 :2
بعد موت داود تربع العرش ابنه سليمان ولكن ليس بدون معارضات ومؤامرات حيث تحدثنا
التوراة كيف تنازع أبناء داود على خالفته حتى قبل وفاته .وانتهى الصراع بين األخوين
سليمان و أدونيا حيث كانت الغلبة لسليمان.
يتبجح كتبة التوراة ويبالغوا أشد المبالغة في وصف عظمة مملكة سليمان و ملكها " .وكان
سليمان متسلطا على جميع الممالك من النهر إلى أرض فلسطين والى تخوم مصر ...وكان طعام سليمان لليوم الواحد ثالثين كر سميد و ستين كر دقيق وعشرة ثيران مسمنة وعشرين
ثو ار من المراعي و مئة خروف ما عدا األيائل والظباء واليحامير و األوز المسمن....... وكان لسليمان أربعون ألف مذود لخيل مركباته واثنا عشر ألف فارس ....وفاقت حكمة
سليمان حكمة جميع بني المشرق وكل حكمة مصر وكان أحكم من جميع الناس ....وكان
صيته في جميع األمم حواليه" ( ملوك .) 35-21 / 4 :وتحدثنا التوراة كيف صاهر سليمان فرعون ملك مصر وأخذ بنت فرعون وأتى بها إلى مدينة داود.. .وفاقت حكمة سليمان حكمة
جميع بني المشرق وكل حكمة مصر ،وكان أحكم من جميع الناس ....وكان صيته في جميع
األمم حواليه ....وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان ،من جميع ملوك
األرض الذين سمعوا بحكمته ( .ملوك )24- 1 / 3
و يسرح كتبة التوراة في الخيال فيصبح سليمان على أيديهم وبأقالمهم أحد أشهر ملوك
األرض ،سيدا على مملكة عظمى تغنت بها األساطير ،فتسلط على الوحوش والهوام والجن
والعفاريت ،وأصبحت مملكة إسرائيل في زمانه أغنى الدول حتى كانت الفضة في الشوارع مثل
التراب ..وكانت له سبع مائة من النساء السيدات وثالث مئة من السراري ( .ملوك 14/ 10 – 29و ملوك . )11ولكن سليمان كغيره من ملوك وأنبياء بني إسرائيل رجع وعمل الشر في عين الرب يهوه حيث جرى وراء آلهة أخرى ولم يكن قلبه كامال مع الرب ...فذهب
سليمان وراء عشتروت إلهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين .وعمل سليمان الشر في
27
عين الرب ولم يتبع الرب تماما ....فغضب الرب على سليمان ألن قلبه مال عن الرب إله
إسرائيل (.ملوك ) 11 :
في الحقيقة أن التوراة نفسها تعطينا عدد من األمثلة عن عدم إخالص بني إسرائيل لإلله
واحد سواء يهوه أم غيره ،وأن عبادة يهوه قد ارتفع شأنها في وقت متأخر .فلقد عبدوا
مجموعة آلهة تذكرها التوراة باسم " إلوهيم " وهي جمع إله .كما عبدوا كما مر سابقا رئيس
مجمع اآللهة "إيل" ،وعبدوا كذلك ربات الخصب الرافدية والكنعانية مثل عشتروت وعشتار
وعناة .وعبدوا أيضا اإلله بعل ،فالملك سليمان نفسه " ذهب وراء عشتروت إلهة
الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين" " .ولقد بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس المؤابيين
على الجبل تجاه أرشليم ولملكوم رجس بن عمون " ( ملوك أول . )8 -1 / 11
كما نجد في العهد القديم نصوصا تدل على عبادة بني إسرائيل ألشكال مختلفة من الحيوانات
مثل العجل " ،قال هارون :انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نساءكم وبنيكم وبناتكم وائتوني بها ...فأخذ ذلك من أيديهم وصوره باإلزميل وصنعه عجال مسبوكا ،فقال :هذه آلهتك يا
إسرائيل التي أخرجتك من مصر( .خروج ) 4-1 / 32
مات سليمان بعد أن حكم بناءا على ما تقوله التوراة أربعين سنة وملك رحبعام ابنه عوضا
عنه.
تتابع التوراة حديثها وتحدثنا كيف تنافس األخوان رحبعام و يربعام على الملك الذي انتهى
بانقسام المملكة إلى مملكتين متنافستين متعاديتين ،مملكة يهودا وعاصمتها القدس ومملكة
إسرائيل وعاصمتها شكيم .
28
- 5السبي وفلسفته في التوراة: تحدثنا التوراة كيف كان ملوك إسرائيل ويهودا تباعا يفعلون الشر في وجه الرب يهوه وكيف
عبدوا آلهة شعوب المنطقة األخرى كبعل وغيره ،و بسبب آثامهم تلك قرر الرب أن يمتحنهم على أيدي الشعوب المجاورة " .و في السنة الرابعة للملك حزقيا ملك يهودا وهي السنة
السابعة لهوشع ملك إسرائيل صعد شلمناسر ملك أشور على السامرة وحاصرها وأخذوها في
نهاية ثالث سنين ...وسبي ملك إسرائيل إلى أشور ...ألنهم لم يسمعوا لصوت الرب ".ملوك
" . 12-9/ 18وفي السنة الرابعة عشرة للملك حزقيا صعد سنحاريب ملك أشور على جميع
مدن يهوذا الحصينة وأخذها" ولكن في النهاية قبل ملك أشور من حزقيا الجزية .ملوك 18
. 16 – 13/
تتابع الملوك على مملكة يهوذا وكان جللهم إن ليس كلهم يعملون الشر في وجه الرب
ويعبدون آلهة غير اله آبائهم يهوه مما أغضب الرب وقرر االنتقام منهم على يد البابليين" ،
هاأنذا جالب ش ار على أورشليم و يهودا حتى أن كل من يسمع به تطن أذناه" ملوك 21
. 12/وهكذا حدث " وفي السنة التاسعة من ملك صدقيا في الشهر العاشر في عاشر الشهر جاء نبوخذ نصر ملك بابل هو وكل جيشه على أورشليم ....فأخذوا الملك صدقيا وأصعدوه إلى ملك بابل ...وقتلوا بني صدقيا أمام عينيه وقلعوا عيني صدقيا وقيدوه بسلسلتين من
نحاس و جاءوا به إلى بابل ....وأحرق البابليون بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت أورشليم
وكل بيوت العظماء و هدموا جميع أسوار أورشليم وبقية الشعب الذين بقوا في المدينة وبقية الجمهور سبوهم إلى بابل ..ولم يبق إال مساكين األرض كرامين وفالحين ".ملوك . 21
ما حل بأهل و ملوك إسرائيل و يهودا من القهر والسبي والذل حسب قول التوراة ما هو إال
قصاص من الرب يهوه على فعلهم الشر في عين الرب وترك عبادته وعبادة آلهة شعوب المنطقة على الخصوص آلهة الكنعانيين وعلى رأسهم بعل .وتصف التوراة شعب إسرائيل
ويهودا وملوكهم بأرذل الصفات والنعوت ،فهم دائما يعملون الشر في عين الرب ويعبدون
آلهة غير إله اآلباء ،وهم كذلك شعب " متمرد أوالد كذبة" (إشعيا ) 30و " أوالد المعصية
ونسل الكذب" ( إشعيا ) 27كما يصف إسرائيل بالزانية العاصية و يهودا بالخائنة التي زنت
مع الحجر ومع الشجر ... .وصهلوا كل واحد على امرأة صاحبه" (إرميا 3و 4و ) 5وحتى
حكماءهم لم يسلموا من الشتيمة" كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا ،حقا إنه إلى
الكذب حولها قلم الكتبة الكاذب .خزي الحكماء ارتاعوا وأخذوا ،ها قد رفضوا كلمة الرب فأي
حكمة لهم ( ".إرميا .) 8
29
كان كالم الرب إلرميا واضحا في وصف خطاياهم وتبرير عقابهم " هذا الشعب الشرير ....
ألجل عظمة إثمك هتك ذيالك وانكشف عنفا عقباك ...فأنا أيضا أرفع ذيليك على وجهك
فيرى خزيك ،فسقك و صهيلك ورذالة زناك على اآلكام ،في الحقل رأيت مكرهاتك .... .
اآلن يذكر إثمهم و يعاقب خطاياهم ...فأنا مصدر عليكم ش ار و قاصد عليكم قصدا ( " .
إرميا 13و ) 14ولعل أفضل ما يمثل غضب الرب على شعبه المدلل ما ورد في إصحاح
ميخا الثالث حيث يقول الرب على لسان ميخا " :اسمعوا هذا يا رؤساء بيت يعقوب وقضاة بيت إسرائيل الذين يكرهون الحق ويعوجون كل مستقيم .الذين يبنون صهيون بالدماء و
أورشليم بالظلم .رؤساؤها يقضون بالرشوة و كهنتها يعملون باألجرة وأنبياؤها يعرفون بالفضة وهم يتوكلون على الرب قائلين ،أليس الرب في وسطنا ،ال يأتي علينا شر .لذلك بسببكم
تفلح صهيون كحقل و تصير أرشليم خرابا وجبل البيت شوامخ وعر" ،و لكن رب إسرائيل في
نهاية المطاف يرق قلبه لشعبه المدلل ويعطف عليه ويسامحه و يأخذه تحت رعايته ويرسل له
من يخلصه من أسره ويعيده إلى الفردوس الموعود .هكذا يقول الرب " ال تخف ألني معك ....
ألني أنا الرب الممسك بيمينك القائل لكي ال تخف أنا أعينك" ( إشعيا ) 41
أما المسيح المخلص الذي أرسله الرب لخالص بني إسرائيل فما هو إال ملك فارس قورش ، " هكذا يقول الرب لمسيحه قورش الذي أمسكت بيمينه ألدوس أمامه أمما و أحقاء ملوك
أحل ألفتح أمامه المصراعين واألبواب ال تغلق" ( إشعيا ) 45وهكذا كان " ففي السنة األولى
لقورش ملك فارس عند تمام كالم الرب بفم إرميا نبه الرب روح قورش ملك فارس فأطلق نداءا في كل مملكة و بالكتابة أيضا قائال هكذا قال قورش ملك فارس ،جميع ممالك األرض دفعها لي الرب إله السماء وهو أوصاني أن أبني له بيتا في أورشليم التي في يهوذا ... .والملك
قورش أخرج آنية بيت الرب التي أخرجها نبوخذ نصر من أورشليم " ( عز ار .) 1
إذن السبي في رأي كتبة التوراة كان عقابا لبني إسرائيل على فعلهم الشر في عين الرب
يهوه ،والعودة والخالص على يد المسيح الملك الفارسي قورش ،كان ثوابا ألولئك الذين
عادوا إلى ربهم يهوه،مطهرين في عذاب النفي..
30
الفصل الثاني اليهود واليهودية - 1من هم يهود اليوم تقوم األيديولوجية الصهيونية على مقولة بأن اليهود في جميع أنحاء العالم هم قومية واحدة ذات أصول عرقية واحدة تعود إلى إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم .
وهذا يعني أن اليهودية قومية كغيرها من القوميات األخرى المعروفة في هذا العالم بغض
النظر عن الدين أو العقيدة ،بمعنى أن اليهودي الصيني و الروسي و اليمني واليهودي الفالشا األفريقي وغيرهم ينتمون جميعا لقومية واحدة وأصول عرقية واحدة ،رغم الفروق
العرقية والحضارية العميقة بينهم ،وهو ما يناقض الحقيقة و الواقع .والسؤال الذي يطرح
نفسه هنا نتيجة للمنطلق الصهيوني هذا هو ،هل يحق لهذا اليهودي أن يغير دينه و
معتقداته بدون أن تنسلخ عنه صفة اليهودية؟ هل يحق لليهودي،أن يكون مسلما أو مسيحيا
أو بوذيا ويبقى بنفس الوقت يهوديا مادامت اليهودية عرقا و قومية ؟ نحن جميعا نعرف بأن
العربي أو غيره قد يكون مسلما أو مسيحيا أو يهوديا أو بوذيا بدون أن تسقط عنه صفته
القومية .فالعربي المسيحي مثله مثل العربي المسلم ينتمي إلى قومية واحدة واختالف الدين
أو العقيدة ال تسقط عن أحد منهم انتمائهم لقوميتهم العربية ،ولكن ليس اليهودي ،ألن
اليهودية دين وعقيدة و االنتماء إليها هو انتماء ديني وتغير ذلك يسقط عنة صفة اليهودية واالنتماء إليها .
تحاول الصهيونية إقناع العالم بالنقاء العرقي اليهودي و بأن يهود عصرنا أجمع هم أحفاد
اإلسرائيليين أبناء يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الذين أقاموا ،حسب رواية التوراة ،في فترة تاريخية معينة في منطقة الشرق األوسط و الذين" بنو ألنفسهم تاريخا وكيانا أسطوريا
مبنيا على الهرطقة األسطورية وتزيف الوقائع التاريخية لشعوب تلك المنطقة ،كالسومريين
والبابليين في ما بين الرافدين و الفراعنة في مصر و الكنعانيين في سوريا و فلسطين ،الذين
عرفوا جميعا بالرقي والحضارة ،ونسبة كل ذلك زو ار للقبيلة اإلسرائيلية (.زنون
كوسيدوفسكي :ماذا تحدث األنبياء،ص ، 7.ترجمه من البولونية إلى اللغة السلوفاكية يوسف ماروشياك ،طبع ونشر بيريسكوب -براتسالفا عام .) 1989
أن مقولة نقاء النسل اإلسرائيلي الذي ظل حسب الفكر الصهيوني محتفظا بالبذرة االسرائيلية
مئات من السنين إلى يومنا هذا ال يقبلها العقل السليم ،حتى ورغم محاوالت دعم هذا القول
31
بأن اليهود حافظوا على هذا النقاء بالعيش في غيتو منعزل و بعدم اختالطهم بالمجتمعات
التي عاشوا في ظلها .التوراة ذاتها ،وهو المرجع الرئيسي لليهود ،تقع كعادتها في تناقض نصوصها وتقول عكس ذلك وبأن االسرائيليين منذ ظهورهم على المسرح التوراتي تزاوجوا
وتناكحوا مع كل شعوب المنطقة التي تواجدوا بينها سواء في فلسطين أم في مصر " ،فسكن
بنو إسرائيل في وسط الكنعانيين والحثيين واألموريين والفريزيين والحوريين واليبوسيين واتخذوا
بناتهم ألنفسهم نساء وأعطوا بناتهم لبنيهم وعبدوا آلهتهم " ( قضاة.) 10 – 5 /3 :
يقول طوماس طومسن األستاذ في كلية الالهوت في جامعة كوبنهاجن،إن التصورات المشتقة
أدبيا وتراثيا لليهودية المبكرة افترقت عن أي واقع تاريخي معروف .وبالرغم من أن االسم
يهوذا هو مصطلح جغرافي يرد ذكره في نصوص العهد األشوري ،ويشير إلى المرتفعات الواقعة
جنوب القدس ،فإن هذا االسم في العهد الفارسي هو اسم سياسي ،إنه اسم المقاطعة
الفارسية .إن االسم الذي يطلقه األشوريون على المرتفعات الجنوبية(ياءوداا) واالسم
المبراطوري الفارسي (يهد) لم يكونا انعكاسا لشعب أكثر مما كان أي من االسماء األخرى
المستخدمة ألجل أقاليم االمبراطورية (.توماس تومسن :الماضي الخرافي -،التوراة والتاريخ ترجمة عدنان حسن ،صدر عن دار قدمس ،دمشق ،عام : 2001ص) 395:
في نصوص جزيرة الفيلة ،يبدوا أن االسم (يهد) قد استعمل ألجل مجموعة معرفة من الناس الذين يطلقون عليهم (يهود) ،لكنه ال يفهم بمعنى جغرافي ،بل في سياق االندماج الديني
لبعض الناس في هذه المستعمرة العسكرية في مصر .ويمكن اعتبار كلمة (يهوديم) بمثابة،
محدد هوية ذاتي مرتكز إلى العالقة الدينية باإلله يهوه .هؤالء اليهود ليسوا قاطني يهوذا ،وال من المحتمل أن يكونوا قد جاءوا أصال من يهوذا .إنهم أعضاء رابطة دينية من أولئك الذين تتمحور حياتهم حول يهوه .إن االنتشار الجغرافي للشعب المشار إليه يهوديم كبير للغاية
حيث أنه سيكون من الطيش االفتراض بأن هذا االسم يدل على مكان أصلهم ،وال ينبغي علينا االستمرار في اعتبار هذا المصطلح (إثنوغرافيا) دون دليل .في العهد الحاخامي ( التلمودي)
في القرن الثاني ميالدي ،يكون مصطلح (يهوديم) وصفيا بشكل ديني على نحو واضح ،وليس
أثنيا وال جغرافيا ( .طومسن :الماضي الخرافي،نفس المصدر ص) 396:
كان مصطلح " اليهودي " قبل ظهور الصهيونية الهوية الخاصة لمعتنقي الديانة اليهودية،
وهذه الهوية كانت دينية بالدرجة األولى .ولكن قواعد وشروط هذه الديانة حكمت على اليهود سلوكا معينا في مختلف حياتهم اليومية االجتماعية والشخصية وفي عالقاتهم مع الغير
جعلتهم يعيشون في غيتو منغلق منفصل عن المجتمعات غير اليهودية وأعطتهم هوية
خاصة بهم .اليهود ذاتهم على لسان حاخاماتهم وصفوا ذاتهم بأنهم أمة دينية ،أمة التوراة،
32
وبدون التوراة ال يوجد أمة يهودية ،ولم يشددوا على األصول العرقية ( .باول جونسون :تاريخ
األمة اليهودية ، 1987 ،ترجمه إلى اللغة التشيكية في ار و يان المبير وصدر عن روزملوفي
عام ) 1995
الديانة اليهودية تقوم على معتقد أن اهلل(يهوه) عقد مع إسرائيل في صحراء سيناء اتفاقية جدد بموجبها وعده لهم بمنحهم فلسطين وطنا خالصا لهم .بنود هذه االتفاقية منقورة في
التوراة التي سلمها اهلل إلى موسى في صحراء سيناء ومن بعده استلمها يشوع وورثها بنو
إسرائيل جيال بعد جيل إلى يومنا هذا .قام الحاخامات اليهود بشرح وتفنيد وتصنيف التوراة في تراث شفوي جمع في نهاية األمر في مؤلف يدعى: " التلمود" .
ينقسم التلمود إلى قسمين أساسيين هما :األول هو " الميشناه" والثاني " الجمارا" .المشناه
هي مجموعة قوانين تقع في ستة مجلدات و 531فصال و كل مجلد منها يتحدث عن مواضيع معينة مكتوبة بالعبرية و يعتقد أنها حررت في فلسطين حوالي العام 200ميالدي ،أما الجمارة
وهي أوسع من المشناه بكثير ،فهي تناقش وتشرح المشناه وتدور حولها ،وهناك مجموعتان
من الجمارة ،واحدة ألفت في بالد ما بين النهرين ( بابل) حولي 500 – 200ميالدي وكتب معظمها باللغة اآلرامية ،والثانية ألفت في فلسطين في زمن يعتقد أنه مالزم لكتابة الجمارة
البابلية .تعتمد اليهودية على ما يسمى التلمود البابلي وهو يحتوي على كل من المشناة والجمارة البابلية كمصدر رسمي للتشريع و يحتوي التلمود بمجمله على مجموعتين من
المواضيع األولى هي القوانين والشرائع التي على اليهودي أن يتبعها في مختلف أوجه حياته
وتسمى" الهاالخاة" أي الطريق والقسم الثاني يحتوي على قصص وحكايات وفكاهات يدعى "
المدراش " أو " األغادا " ،وليس لهذا القسم قيمة شرعية .الهاالخاة صارمة في أوامرها
ونواهيها ومحرماتها ،فخالفا للمسيحية مثال التي تحتوي على عشرة أوامر ونواهي مثل ال
تسرق وال تقتل إلخ فإن اليهودية تحتوي على 613من األوامر والنواهي التي تدعا ميتسفا وجمعها متسفات ( .رفائيل كوهن :التلمود :نشر عام ، 1990ترجمه من الفرنسية إلى
السلوفاكية إفا بيوفارس ،طبع ونشر برعاية السفارة الفرنسية في سلوفاكيا عام .) 2000 من المعروف أن يهود اليوم سواء في داخل إسرائيل أو خارجها ينقسمون إلى طائفتين:
أوالهما الطائفة األشكنازية وتتألف من يهود أوروبا وخاصة شرقها وقسم كبير من يهود أمريكا وتمثل هذه الطائفة قمة الهرم في الحركة الصهيونية وفي المؤسسة الحاكمة في
إسرائيل على مختلف مستوياتها .والطائفة الثانية تدعى" السفراديم" وتتألف من اليهود
33
الشرقيين وخاصة اليهود العرب ويهود العالم االسالمي .وتنظر الطائفة األولى إلى الثانية بعين االحتقار واالستعالء والغطرسة العنصرية.
الكاتب البريطاني الجنسية أرثر كويستلر ،الذي ولد عام 1905في بودابشت -المجر ،أثبت
في كتابه الذي صدر عام 1976بعنوان القبيلة الثالثة عشر (،ترجمة وعرض وتلخيص :
إبراهيم زكي خورشيد ،دار المعارف القاهرة ) 1979 ،أن معظم اليهود األشكناز وخاصة يهود أوروبا الشرقية ،هم من أحفاد الخزر .
الخزر شعب من أصول تركية عاش في القرون الوسطى واعتنق حوالي عام 740م الديانة
اليهودية .وسبب تحول شعب الخزر إلى اليهودية غير معروف لحد االن ،ويعتقد أن هذا الشعب الذي وقع بين قوتين عظيمتين هما االمبراطورية البيزنطية المسيحية من جهة
والخالفة االسالمية من جهة أخرى قرر اعتناق ديانة ثالثة هي اليهودية ،وأن ملك الخزر
وحاشيته اعتنقوا الديانة اليهودية تحديا لضغوط المسيحيين في بيزنطة وضغوط المسلمين من
الشرق .تختلف المصادر في تعليل األسباب ولكن حقيقة اعتناق الخزر لليهودية هي فوق
الشك . .ولقد ذكر المؤرخون العرب دولة الخزر اليهودية في كتبهم ،فنجد ذكر لهم في كتاب
الفهرس البن النديم ،كما ذكرهم المسعودي والدمشقي والبكري وغيرهم واجتمعوا على أن
الخزر اعتنقوا الديانة اليهودية وكانوا يستعملون حروف الهجاء العبرية.
ولعل أهم الوثائق التي تتحدث في هذا األمر هي ما سمي باسم " الرسائل الخزرية"( القبيلة
الثالثة عشر :سبق ذكره ،ص ) 41 – 36 :و هي رسائل تبودلت بالعبرية بين اليهودي
حسداي بن شربوط ،كبير الوزراء لخليفة قرطبة عبد الرحمن الثالث ،والملك يوسف ملك دولة الخزر .أما حسداي هذا فلقد ولد في قرطبة عام 910م ألسرة يهودية .أتقن ممارسة الطب وصناعة العقاقير فاتخذه الخليفة طبيبا لبالطه ،ثم أصبح مسؤوال عن تنظيم أموال
الدولة ،و بعد ذلك أقامه الخليفة وزي ار لخارجيته وخاصة في المعامالت الدبلوماسية المعقدة مع بيزنطة .ويروى أن حسداي نفسه سمع أول ما سمع بوجود مملكة يهودية مستقلة من
بعض التجار القادمين من خراسان في بالد فارس ،فأرسل لملك الخزر يوسف رسالة تتضمن
حديثا عن ازدهار إسبانيا في عهد العرب ،وكيف أن اليهود عاشوا في كنفها في رخاء وعز لم يعهدوا لهما مثيال من قبل ،ثم يتحدث كيف عرف بوجود دولة الخزر اليهودية ويسأل عن
أصول شعب الخزر اليهودي وان كانوا من نسل سام ومن المهاجرين من فلسطين.
رد الملك يوسف على حسداي في رسالة مطولة هي مزيج من الواقع والخيال يشرح فيها كيف
ت ارءى له في منامه ملك نصحه باعتناق اليهودية .ويتحدث في رسالته أن أصل اليهود الخزر يرجع إلى يافت وليس إلى سام بن نوح ،كما تفاخر بعظمة مملكته والمعارك التي قام بها.
34
يعتقد المؤرخون أن دخول الخزر في الديانة اليهودية لم يأت بين يوم وليلة ولكن جاء على
مراحل،وذلك بتأثير اليهود الذين هربوا أو جرى ترحيلهم من العاصمة البيونطية بسبب وطأة الحكم البيزنطي واالضطهاد الديني في عهد األباطرة يوستنيانوس األول وهرقل وليو الثالث
وليو الرابع ورومانوس .لقد فر اليهود من بيزنطة إلى بالد الخزر ،لكونها كانت معروفة بسعة
األفق ولم تعرف االضطهاد الديني .
ومن المصادر األخرى التي تتحدث عن اليهود الخزر ،ما يسمى بوثيقة كمبرج ألنها
محفوظة في مكتبة هذه الجامعة .لقد كشف عن هذه الوثيقة مع وثائق أخرى في أواخر القرن
التاسع عشر في كنيس اليهود بالقاهرة .ورغم أن حالة الوثيقة سيئة وأولها مفقود وآخرها
مفقود ،إال أننا تستطيع أن نفهم من الرسالة أن كاتبها يهودي خزري يتحدث عن بالد الخزر
ببالدنا ويشير إلى الملك بموالي ،ويعتقد أن كاتبها من رجال البالط أيام الملك يوسف. يبين كويستلر أنه بعد تدمير امبراطورية الخزر في القرن الثالث عشر ميالدي على يد
المغول ،هجر اليهود الخزر إلى أقطار أوروبا الشرقية وخاصة روسيا و بولندة ،حيث نجد في مطالع العصر الحديث أعظم تجمعات لليهود ،وبهذا فإن فريقا ال يستهان به من اليهود
الشرقيين ،وربما معظمهم وكذلك من اليهود في العالم وخاصة الواليات المتحدة حيث هاجر
اليهود الشرقيين إليها خاصة بعد الحرب العالمية الثانية ،هم من أصول خزرية وليست سامية.
الدكتور ألفرد لينتال من الشخصيات المعروفة في األوساط السياسية األمريكية والعالمية، فرغم أنه يهودي إال أنه من المناضلين المعروفين ضد الصهيونية و معتقداتها النظرية
ومسلكها العملي .لينتال في كتابه "الصهيونية :ترجمة تشيكية صدرت عن دار أربيس في براغ
عام 1989ص) 284:يقول :أن ما أثبته كويستلر في كتابه عن اليهود الخزر واألصول
الخزرية لليهود الشرق أروبيين ،ليس بشيء جديد على االطالق .إن حقيقة األصول الخزرية لألكثرية اليهودية في العالم كانت معروفة منذ زمن طويل .ولكن كويستلر من سماهم
القبيلة الثالثة عشرة.
لينتال في كتابه( أي ثمن إسرائيل؟
) what price Yzraelالذي صدر عام 1954
أي ثالثة وعشرون عاما قبل صدور كتاب كويستلر ،يتحدث عن األصول الخزرية ليهود شرق
وغرب أوروبا .المؤلف تحدث عن اعتناق الخزر للديانة اليهودية وكيف رحل اليهود الخزر بعد تدمير بلدهم إلى أوروبا الشرقية ومنها إلى سائر أوروبا ،و ذكر كذلك كيف أن الصهيونية عملت كل ما في وسعها الخفاء هذه الحقيقة ألنها تشكل خط ار حقيقيا على مطالبها بعودة
الشعب اليهودي إلى فلسطين.
35
يؤكد لينتال أنه ال يوجد عالقة أونتروبولوجية( عرقية) بين زعماء الصهيونية ومعظم يهود
العالم وبين فلسطين .فلسطين التي يدعي الصهاينة أنها وطنهم ويرغبون العودة إليها لم تكن وطنا لهم وال ألجدادهم وال يوجد لهم أي عالقة عرقية بها ( .نفس المصدر)
من الطبيعي أن ما قاله كويستلر و لينتال وغيرهم لم يعجب الصهاينة أبدا ،ألنهم أظهروا
للعالم ما لم يرغب الصهاينة في أن يظهر .ما قاله لينتال وكويستلر ينهي أسطورة الشعب
اليهودي الواحد ،و يقوض مطالب الصهيونية المزعومة بعودة الشعب اليهودي إلى وطنه األم
فلسطين .كما أن ذلك يعني أن معظم اليهود الذين نجوا من النازية األلمانية ليسوا من أصول
سامية بل من أصول خزرية .وهذا يعرض شعار
" معاداة السامية" الذي استعمله الصهاينة كمظلة لهم ولمطالبهم للخطر ،وأين سيكون
الصهاينة والصهيونية بدون مظلة " معاداة السامية" ؟ لذلك قام الصهاينة وأصدقائهم في
أمريكا والغرب ،بحملة شعواء ضد كويستلر وكتابه وضد لينتال وأفكاره واتهموهم بمعاداة السامية مع أن لينتال نفسه يهوديا.
الحقيقة أن ادعاء الصهاينة بأن الشعب اليهودي في جميع أنحاء العالم ذوي أصول واحدة
تعود إلى فلسطين ،وأن اليهود في العالم من أصول أجدادهم الذين رحلوا من فلسطين بعد هدم
الهيكل في القدس على يد الرومان ،تدحضها حقائق تاريخية كثيرة ،التي تؤكد على أن
تجمعات اليهود خارج فلسطين قد تكونت قبل مائتى عام من هدم الهيكل في فلسطين وذلك
بسبب اعتناق كثير من الناس من جنسيات مختلفة للديانة اليهودية و أن اليهود ذوي األصول
العبرانية أو االسرائيلية ،شكلوا جزءا بسيطا من أولئك اليهود الذين كانوا ذوي أصول عائدة إلى شعوب أخرى مختلفة ،والذين لم يكن لهم عالقة أثنيه على االطالق باألصول العبرية
واالسرائيلية (.دي السي أوليري :جزيرة العرب قبل البعثة ،ترجمة وتعليق موسى علي
الغول،منشورات وزارة الثقافة األردنية ،طبعة 1عام ،1990ص .) 188 :
لقد اعتنق الديانة اليهودية شعوب مختلفة وأفراد من شعوب مختلفة ،مثل الشعب العربي في
اليمن ،وبعض العرب في نجد والحجاز ،كما اعتنق اليهودية كثير من اليونان والبلغار والمجر
.كما انتشرت الديانة اليهودية في مختلف أركان االمبراطورية الرومانية حتى وصلت فرنسا واسبانيا ،ولقد نقل التجار اليهود عقيدتهم إلى الهند والصين .ويظهر أن اليهودية أيضا تأثرت ببعض األفكار البوذية الهندية والكونفوشية الصينية التي كانت قد ظهرت في عهد
ظهور اليهودية وتأثر بها اليونان ونقلوها إلى شعوب الشرق األدنى كما تأثرت اليهودية
بالديانة الزرادشية الفارسية التي احتكوا بها احتكاكا مباشرا ( .بيرنارد لويس :الشرق األدنى :
36
2000عام من التاريخ منذ نشوء المسيحية ،نشر عام ، 1995ترجمه إلى التشيكية :سوسانا راوسوف ،نشر :ليدوفي نوفيني ،براغ عام . ) 2000
لقد أكد المؤرخ العربي ياقوت الحموي أن يهود بنو قريظة وبني النضير هم من القبائل العربية في الجزيرة واعتنقوا الديانة اليهودية ( .ياقوت الحموي :معجم البلدان ،ج الرابع ،ص :
385و ) 460ويؤكد هذا القول اليعقوبي في تاريخه ويقول أن القبائل اليهودية في المدينة
من العرب من قبيلة جذام ،و يقول ولفنسون وهو يهودي في
" تاريخ اليهود في بالد العرب " نقال عن غراتز أنه هناك شهادات من يهود مدينة دمشق
وحلب في القرن الثالث بعد الميالد ينكرون فيها رحيل يهود من فلسطين إلى الجزيرة العربية،
أي أن التجمعات اليهودية في الجزيرة العربية لم تكن من يهود فلسطين (.موسى على الغول
من تعليقه في هوامش كتاب دي السي اوليري ،سبق ،ص ) 190 :هذا مما يؤكد قول ياقوت واليعقوبي وغيرهم أن يهود الجزيرة هم عرب اعتنقوا الديانة اليهودية ولم يكونوا من أصول
إسرائيلية وال فلسطينية .
لقد انتشرت اليهودية في بقاع مختلفة من جزيرة العرب ووصلت جنوب الجزيرة حيث كانت قبائل عربية بكاملها تتحول إلى اليهودية .وكان من أهم الذين دخلوا هذه الديانة "ذو نواس" وهو من العائلة اليمنية المالكة وكان يسمى "زرعة" ويلقب بذي النواس أي ذي الشعر
الجعدي ،ولقد أصبح ملكا على اليمن وحمير وأعلن اعتناقه لليهودية وسمى نفسه يوسف
وفرض على عرب اليمن اعتناق اليهودية ،واليه يعزى قتل وحرق نصارى نجران ،حيث خيرهم بين اعتناق اليهودية أو القتل فرفضوا اعتناق اليهودية فحفر لهم أخدودا وحرق من حرق
بالنار وقتل من قتل بالسيف .ولقد شكى من نجى منهم فعل ذي النواس إلى قيصر الروم
النصراني فطلب هذا من حليفه ملك الحبشة الذي كان أيضا نصرانيا أن يقوم بعقاب ذي
النواس واليهود على فعلتهم فسير لهم حملته المعروفة بقيادة رجل اسمه أرياط وكان في جنده
أبرهة الحبشي الذي عرف فيما بعد" باألشرم" .فركب أرياط البحر حتى نزل بساحل اليمن
وسار إليه ذو النواس في حمير ومن أطاعه من قبائل اليمن ،فلما التقوا انهزم ذو النواس
وأصحابه .فلما رأى ذو النواس ما نزل به وبقومه وجه فرسه إلى البحر ثم ضربه فخاض به
وغرق وكان آخر العهد به ( .تهذيب سيرة ابن هشام لعبد السالم هارون ،المجمع العلمي
العربي االسالمي ،ص) 27 :
37
-2اليهودية بين الدين والسياسة الدكتور ميلوش مندل ،مستشرق تشيكي يعمل في معهد االستشراق التابع ألكاديمية العلوم
التشيكية ويدرس كذلك في كلية الفلسفة التابعة لجامعة مساريك في برنو ،الجمهورية
التشيكية .يتقن كال من اللغتين العربية والعبرية و له عدة مؤلفات عن الصراع العربي االسرائيلي ،و كذلك عن اإلسالم والتيارات االسالمية.
في كتابه الذي صدر مؤخ ار بعنوان " الدين في الصراع على فلسطين :الصادر باللغة التشيكية
عن مؤسسة أتلنتس ،برنو ،عام " 2000يعتقد أنه ال يمكن فهم الصراع بين اليهود والعرب على فلسطين ،بدون فهم األركان األساسية التي تقوم عليها كل من الديانات الثالثة
المسيحية و االسالمية و اليهودية وخاصة الديانتين األخيرتين .يقول أن الناس خارج العالم
االسالمي عندهم صورة عن الديانة االسالمية ،قد تكون في بعض األحيان إيجابية وفي
أحيان أخرى سلبية .ولكن األمر بالنسبة للديانة اليهودية أكثر تعقيدا ،ففي كثير من األحيان ينظر إلى هذه الديانة بعيون رومانسية،روحانية و أي محاولة لدراسة اليهودية دراسة
متكاملة ،كانت تواجه سواء في داخل إسرائيل أو بين يهود " الشتات " ،بعقبة ما تمنعها من
الحكم حكما صحيحا ،خاصة في ما يخص كافة وجوه النظام الديني التي تتعلق بالصراع في
الشرق األوسط .
تقوم اليهودية على ميثولوجيا بأن اإلله يهوه قد عقد اتفاقية بينه وبين بني إسرائيل ،وحسب
هذه االتفاقية فإن يهوه اختار هم من بين البشر كحملة عبادته وحده من دون غيره مقابل أن يمنحهم األرض المقدسة فلسطين كوطن خالص لهم .جرى االتفاق األول بين إله إسرائيل
وبين إبراهيم الذي يعتبره اليهود جدهم األول ،حيث تعهد الرب بمنح إبراهيم ونسله من بعده(
تعني بني إسرائيل فقط) أرض كنعان وهي أرض فلسطين .وبعد انقطاع وغياب طويل ،عاد
الرب وقرر تجديد االتفاق بينه وبين بني إسرائيل ،فأرسل لهم موسى إلخراجهم من مصر حيث عاشوا لعدة قرون في ذل واضطهاد ،وفي سيناء جدد عهده لهم واتفاقيته التي عقدها مع جدهم إبراهيم والتي بموجبها وعد أن يمنحهم أرض اللبن والعسل فلسطين خالصة لهم من
دون غيرهم .وحتى يلتئم التسلسل التاريخي ،صور كتبة التوراة اإلله يهوه بأنه امتداد لإلله
إيل اله إبراهيم رغم ظهوره باسم جديد وبعد انقطاع دام مئات السنوات ،كما صوروا موسى
والموسويين بأنهم امتداد إلبراهيم واسحق ويعقوب.
38
االتفاقية تطلب من شعب اهلل المختار ،مقابل الوعد اإللهي بمنحهم األرض المقدسة،
االخالص لعبادة يهوه وحده من دون اآللهة و التزامهم بالدستور الذي وضعه لهم في التوراة. بنود هذا الدستور وقوانينه ،وبإلهام من اهلل ،شرحها وفندها ورتبها ،مجموعة من الحاخامات
في مؤلف دعي الهاالخاه( أي الطريق) ،وتحتوي الهاالخاه على كل ما يجب أن يفعله ويقوم به اليهودي في مختلف الوجوه الحياتية.
قضيتان أساسيتان بقيتا على مر العصور عنص ار أساسيا في العقيدة اليهودية ،وعمل
الحاخامات اليهود كل ما في وسعهم أن تظال حيتين في الوعي اليهودي:
األولى " أنهم شعب اهلل المختار" والثانية اإليمان بما يسمى" األرض الموعودة إسرائيل( في
فلسطين) "،أريتس إسرائيل"
القضية األولى أخذت مع تطور الزمن أشكاال مختلفة في العقيدة اليهودية .بعض التيارات
اليهودية وخاصة المحدثين منهم ،اعتبروا أن اهلل اختارهم ليكونوا حملة عقيدته ،و أنهم رسل لتحقيق مشيئة اهلل بتهيئة الظروف لعودة المسيح المنقذ .وبعض التيارات األخرى وخاصة
التيارات األصولية ،اعتبرت أن اختيارهم من قبل اهلل كان ألنهم األفضل من بين كل شعوب
األرض ،وأن اهلل بعثهم للناس كنور مضيء للشعوب األخرى ،ولقد بلغ تأويل األصوليين اليهود
لهذا االختيار حدا تجاوز حدود العنصرية والشوفينية.
القضية الثانية ،جرى غرسها في الوعي اليهودي على مر العصور باعتبارها جزءا ال يتج أز من االتفاقية مع اهلل ،حيث صور لليهودي بأنه بدون أرض إسرائيل الموعودة ال يمكن تحقيق
وتطبيق االتفاقية مع اهلل وأن عودة اليهود لألرض المقدسة أمر إلهي من أجل التهيئة لظهور
المسيح المنقذ الذي سيقيم مملكة اهلل على األرض التي سيعمها السالم .و بناءا على ذلك،
حاول الحاخامات كل ما في وسعهم لزرع االعتقاد بأن وجود اليهود في " الشتات" هو وجود
مؤقت وأنهم الجئون في بلدان غريبة ،ولذلك اختاروا اال نغالق على النفس والعيش في غيتو
مغلق في انتظار العودة إلى أرض الميعاد .
يقول لندل أن رياح الليبرالية التي هبت على أوروبا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر
أصابت اليهود في أوروبا فبدأت حركة التجديد في العقيدة اليهودية والتي دعيت "هاسكاال" .
ولكن التجديد لم يصب لب وأصول العقيدة اليهودية وانما أصاب األدوات الخطابية لهذه العقيدة مثل السماح باستعمال لغة أخرى غير العبرية والسماح بسماع الموسيقى وغيره .ومع كل ذلك وبتأثير التجديد فلقد اختارت مجموعات من يهود ألمانيا وأوروبا الغربية في نهاية القرن
التاسع عشر وبداية القرن العشرين االنخراط والذوبان في مجتمعاتها ،فانضمت إلى األحزاب
السياسية المختلفة من اشتراكية وشيوعية ولبرالية وغيرها وانخرطت في مؤسسات المجتمعات
39
التي تعيش فيها .رياح التجديد هذه بأشكالها المختلفة أصابت مجموعات من يهود أوروبا
الغربية ولكنها لم تصل إلى يهود أوروبا الشرقية وال لليهود الشرقيين في البالد االسالمية .
رياح التجديد جابهت مقاومة عنيفة من اليهودية الكالسيكية واألرتودوكسية واألصولية بشكل
عام .ولقد عزز موقف األصوليين عامالن أساسيان:
األول هو انتشار أشكال مختلفة من العداء للسامية في أوروبا .ويقول لندل أن " خطاب
التيارات المعادية للسامية كان في نهاية المطاف مطابقا لكل من الخطاب اليهودي األصولي وخطاب الحركة الصهيونية ،فكالهما كان ينبع من المقولة ذاتها وهي أن اليهود غرباء في
المجتمعات األوروبية وغير قادرين على التأقلم والعيش فيها وعليهم أن يرحلوا" ( نفس
المصدر ،ص ) 20لذلك كانت نداءات التيارات المعادية للسامية تصب في نهر الفكر
اليهودي األصولي والفكر الصهيوني ،ولقد قامت األخيرة بتشجيع ذكي لمعاداة السامية ألن األفكار المعادية للسامية كانت من غير أن تدري تدعم دعما قويا فكر ومخطط الصهيونية
العالمية وساعدت في تحقيق حلم الصهيونية بإقامة الدولة اليهودية في فلسطين .
العامل الثاني ،هو ظهور النازية وطرحها لما يسمى " بالحل النهائي" للمسألة اليهودية" وما نتج عن ذلك من تصفيات جسدية لكثير من اليهود في معسكرات االعتقال النازية .ولكن
ورغم النتائج السلبية التي أصابت اليهود في الهولوكوست بخسارة عدد كبير منهم ،إال أن
الهلوكوست لعب دو ار مهما في التحام اليهود في العالم حول الفكر اليهودي األصولي من
جهة ودعم المشروع الصهيوني في فلسطين من جهة أخرى .لقد استغلت الصهيونية هذا
الحدث أكبر استغالل وكان ال بد من تضخيم الحدث إلى أعظم حد وزيادة عدد القتلى إلى أكبر عدد وذلك من أجل كسب اليهود المترددين ودر عطف العالم الغربي المسيحي الذي زرع في وعيه وبشكل منظم الشعور بوخز الضمير لموقفه الغير مبالي والمتفرج ،كما صورته له
الصهيونية ،من الهولوكوست.
على الرغم من أن الحركة الصهيونية بحد ذاتها لم تكن حركة دينية ،إال أنها استغلت الدين والفكر الديني اليهودي القائم على الوعد اإللهي ليس إلقامة الدولة اليهودية في فلسطين
فحسب ولكن كذلك من أجل تبرير احتالل بقية أرض فلسطين وترحيل الفلسطينيين منها
باعتبارها جزءا ال يتج أز من أرض إسرائيل الموعودة من قبل الرب .
في األعوام األولى لقيام الدولة اليهودية عام 1948لعبت األصولية اليهودية دو ار هامشيا في إدارة الحكم في إسرائيل ،وكان تأثيرها تأثي ار غير مباشر في المجتمع االسرائيلي ،فلقد بقي
الحكم في أيدي اليسار االسرائيلي العلماني الممثل بحزب العمال .وكانت اليهودية األصولية
تركز على مطلب تهويد القوانين وخاصة في ما يتعلق بالعالقات االجتماعية من زواج وطالق
40
وارث وغيره ،وكان همها الدعوة إلى العودة إلى القيم اليهودية األصولية التي تدعو لها
الهاالخاه.
نتائج االنتخابات البرلمانية االسرائيلية عام 1977أحدثت انعطافا مهما في المسرح السياسي
االسرائيلي ،فلقد فاز في االنتخابات االئتالف اليميني االسرائيلي الليكود ،ولقد قوبل هذا الفوز
بالبرود من قبل أصدقاء اسرائيل في أوروبا الغربية والشرقية ،فلقد كان على رأس هذا االئتالف
شخصيات ذات تاريخ إرهابي ،مثل بيغن وشامير المسؤوالن عن عدد من المذابح ضد القوات البريطانية وضد العرب الفلسطينيين أهل البالد األصليين .لقد اعتقد المراقبون أن نتيجة
االنتخابات هذه ما هي إال حدث عارض في المسرح السياسي االسرائيلي ،ولكن األيام أثبتت
أن القضية تختلف تماما وأن هناك تحركا مستم ار في المجتمع االسرائيلي باتجاه اليمين
الصهيوني وباتجاه الديني األصولي المتطرف .لقد أثبتت المراقبة الدقيقة للمجتمع االسرائيلي
أن هناك رغبة عارمة وخاصة لدى طبقة الشباب االسرائيلي بإعادة هودنة نظام الحكم والمجتمع في إسرائيل والعودة به إلى األصول التي قامت عليها اليهودية والمنقورة في
الهاالخاه .أشخاص أمثال شامير وبيغن وغيرهم ،أصبحت تعتبر في المجتمع االسرائيلي
كأبطال وليس إرهابيين.
يقول لندل أنه كما في داخل إسرائيل كذلك خارجها ظهر عامل جديد أخذ باالنتشار بين
صفوف اليهود وهو " األصولية الدينية اليهودية السياسية" ،واتجه هذا التيار تدريجيا نحو
التطرف والراديكالية.
يعطي لندل مثال ،حزب المفدال الديني الذي كان منذ قيام إسرائيل حليفا لحزب العمل واشترك
معه في تأليف عدد من الحكومات االسرائيلية.
لقد نشأ حزب المفدال من الحزب اليهودي المدعو " مزراحي" ومعناه المركز الروحي أو
الديني ،ولقد كان من أوائل األحزاب اليهودية الدينية التي قامت بين المهاجرين اليهود في فلسطين قبل قيام إسرائيل .ولقد قام هذا الحزب على نواة حركة من اليهود األوروبيين
الشرقيين كانت تدعى " محبي صهيون" .كان هدف مزراحي هو حث يهود العالم على الهجرة
إلى فلسطين وتكوين أغلبية يهودية فيها .في عام 1902تحولت هذه الحركة إلى حزب
وانضمت إلى الحركة الصهيونية العالمية .ومن الغريب أن هذا الحزب كان من أول من وافق
على اقتراح وايزمن بإقامة دولة إسرائيل في أوغنده في أفريقيا على شرط أن تقوم الحركة
الصهيونية بتغليف هذا االقتراح بغطاء ديني يهودي .في عام ، 1922أسس هذا الحزب نقابات خاصة للعمال اليهود في فلسطين المتعاطفين مع سياساته بمعزل عن نقابات
الهستدروت مع أن التعاون بين النقابتين ظل قائما خاصة في مجال التأمين الصحي
41
واالجتماعي .ولكن مع األيام انفصل التنظيم النقابي لحزب المزراحي عن الحزب األم وكون
حزبا مستقال له .وبعد قيام دولة إسرائيل بثالث سنين اتحد الحزبان من جديد وكونا حزبا واحدا
هو حزب المفدال القومي الديني.
تحالف حزب المفدال الديني القومي منذ قيامه مع حزب العمال اليساري ودخل معه في
ائتالف حكومي .ولكن في عام 1977وصل إلى قيادة الحزب مجموعة من الشباب المتطرفة
والتي لم تجد في خطاب الحزب وتحالفه مع حزب العمل تلبية لخطابها الديني المتطرف ولذلك
ركضت إلى أحضان الحزب اليميني الليكود ودخلت معه في ائتالف حكومي ،ألنها وجدت أن برنامجه يلبي تطلعاتها السياسية والدينية المتطرفة .ولقد تطور الوضع في الحزب وصل
درجة أن كثي ار من شباب قاعدته ترك صفوف الحزب وانضم إلى حركات دينية سياسية
متطرفة مثل غوش إمونيم وتيخيا و موراشا وكاخ وغيرها والتي أخذت تنتشر خاصة بين يهو د المستوطنات والتي تعتبر نفسها جنود اهلل من أجل تحقيق وصيته المنقورة في الهاالخاه
وعلى رأسها استيطان كافة األراضي الفلسطينية وطرد أهلها منها .أضعف هذا التسرب حزب المفدال فبدال من إثني عشر عضوا في الكنيست التي حصل عليها في انتخابات ، 1977
حصل في النصف الثاني من الثمانينيات على عضو واحد هو يوسف بيغ العضو المخضرم في
المفدال.
يقول لندل أنه إلى جانب الفكر الديني األصولي فإن عامال آخر يجمع هذه التنظيمات
األصولية المتطرفة وهو أن قادتها و قاعتها تتكون من اليهود األشكيناز ،أي من اليهود
القادمين من أوروبا،و خاصة وسط أوروبا وشرقها ومن يهود الواليات المتحدة األمريكية. ومن المعروف أن يهود إسرائيل ينتمون إلى مجموعتين أساسيتين ،فإلى جانب اليهود
األشكناز هناك اليهود القادمون من البلدان العربية والشرقية والذين يدعون السفراديم .
احتجاجا على سياسة التعالي والعنصرية لليهود األشكناز قامت حركة من داخل المفدال
تطالب بالمساواة بين اليهود األشكناز واليهود الملونين وكونت حزبا خاصا بها هو حزب " تامي" .استطاع هذا الحزب أن يحوز على تأييد عدد كبير من اليهود الشرقيين وخاصة
القادمين من مراكش وتونس ،كما استطاع أن يستقطب بعض التنظيمات الراديكالية لليهود
الشرقيين مثل تنظيم " النمور السود" ( سميت باسم منظمة للسود في أمريكا) و تنظيم"إسرائيل شيلي" .ولقد انتقد الحزب سياسة التعليم االسرائيلية التي ال تأخذ في الحسبان األصول
الثقافية لليهود الشرقيين ،كما انتقد السياسة العنصرية في المجتمع االسرائيلي والتي تتمثل في
األفالم االسرائيلية حيث تظهر اليهودي األشكنازي كبطل مثل جيمس بوند أما اليهودي الشرقي فيظهر في دور اللص أو المتسكع العاطل عن العمل .لقد أثار الحزب و ناطقه الرسمي
42
أهارون أبو هاتزي ار وهو من أصول مراكشية ،حفيظة مختلف األوساط اليهودية األشكنازية
في إسرائيل ،فألول مرة يظهر حزب من هذا النوع يتهم المجتمع االسرائيلي بالعنصرية بناءا
على حقائق اجتماعية وتجارب فعلية ،وبذلك يهدم أسطورة المجتمع الديموقراطي اليهودي
الموحد في إسرائيل.
في عام 1983وبعد اتهامات متعددة للناطق الرسمي للحزب بأنه اثناء رئاسته لمجلس مدينة
رام اهلل ،تصرف بالخزينة العامة تصرفا شخصيا حكم عليه بالسجن عدة أشهر .محاكمة الناطق الرسمي للحزب كانت سببا في تصادمات عنصرية ،أشار فيها مؤيدي الحزب من
اليهود الشرقيين أن أهارون لم يفعل شيئا جديدا وأن ما قام به يقوم به جميع المسؤولين في
اإلدارة المدنية وبشكل علني ،ولكن ذلك لم يمنع من أن ما حدث كان ضربة قوية لحزب " تامي
" وأثر تأثي ار سلبيا على مستقبله السياسي.
لم يكن المزراحي الحزب الديني الوحيد الذي قام بين يهود فلسطين ،فمن األحزاب الدينية
اليهودية التي قامت في فلسطين االنتداب هو حزب " أجودا" والذي يعني عصبة إسرائيل.
تأسس هذا الحزب في البداية في عام 1912في ألمانيا ولقد انتشر تأثيره إلى يهود المجر وبولونيا والبلقان .لم ينضم هذا الحزب إلى الحركة الصهيونية ولم يوافق على سياساتها
باعتبار أن بعث الشعب اليهودي وخالصه سيتم فقط بعد ظهور المسيح المنتظر .وكما فعل
حزب المزراحي كون هذا الحزب لنفسه نقابات خاصة به من العمال اليهود المتعاطفين مع
سياسته .ولكن هذه النقابات خالفا للحزب أبدت تفهما لسياسات الحركة الصهيونية وتعاملت
معها .بعد قيام دولة إسرائيل انضم الحزب إلى " بناة إسرائيل " واعترف بالجنسية االسرائيلية
ودخل معترك الحياة السياسية في إسرائيل وشارك في االنتخابات العامة فيها .ويركز هذا
الحزب على تهويد المجتمع االسرائيلي حسب الشريعة اليهودية المنقورة في الهاالخاة.
في منتصف الثمانينات أضعف الحزب انفصال مجموعة من اليهود الشرقيين السفراديم
بقيادة الحاخام " أوفاديا يوسف" ذو األصول العراقية وتشكيلهم حزبا خاصا بهم باسم حزب "
شاس " ( حماة التوراة السفراديم) .ولنفس األسباب التي خرج بسببها حزب تامي من حضن
المفدال ،كذلك خرج حزب " شاس" من حضن حزب " أجودا" .لقد أخذ حزب " شاس" على قيادة حزب "أجودا" بأنها أداة سياسية وروحية في يد األشكناز وبأن أعضاء الحزب من
السفراديم قد شعروا أنهم يشكلون بالنسبة للحزب مادة انتخابية فقط ال غير ،ولقد استقطب الحزب مجموعة كبيرة من أعضاء حزب أجودا ذوي األصول اآلسيوية واألفريقية كما استقطب
عددا كبي ار من مؤيدي حزب تامي الذين شعروا بخيبة أمل بعد محاكمة الناطق الرسمي للحزب
أهارون.
43
في الحقيقة لم يكن حزب شاس منذ مولده حزبا سفراديميا خالصا ،فلقد انضم إلى المجموعة السفراديمية مجموعة أخرى من األشكناز الذين خرجوا من حزب أجودا بقيادة الحاخام "
أ.ميناخيم شاخ " ذو األصول اللتفانية ،احتجاجا على سياسة الحزب الغير واضحة .وهكذا
كان داخل حزب شاس تياران أحدهما سفراديمي بقيادة أوفادية يوسف واآلخر أشكنازي بقيادة
شاخ .
في بداية األمر كان الطرفان متفاهمان ولكن سياسة أوفايدة الداعية للسالم مع العرب أقلقت
كل من األوساط اليمينية والدينية المتطرفة وأظهرت الخالفات مع التيار األشكنازي في الحزب
بقيادة شاخ .أعلن أوفايدة أنه من أجل السالم وحرصا على أرواح اليهود التي هي أغلى من
األرض ،على إسرائيل أن تتنازل عن األراضي المحتلة وعقد سالم مع الدول العربية .وفي عام
1990زار مصر واجتمع مع الرئيس مبارك ومع ممثلين عن الديانتين االسالمية والمسيحية.
وفي داخل إسرائيل سعى لحجب الثقة عن الحكومة االسرائيلية اليمينية واعالن انتخابات مبكرة ألنه كان يأمل بفوز حزب رابين وبيريز ،حزب العمل االسرائيلي .سياسة أوفيدة هذه لقيت
رفضا من الجناح األشكنازي بقيادة شاخ الذي شكل تنظيما خاصا لالشكيناز في داخل الحزب
باسم " ديغل ها -تورا" أي حماة التوراة،و رفض شاخ االشتراك في دعوة أوفايدة لحجب الثقة عن الحكومة اليمينية ،بل واستطاع التأثير على حزب شاس ودفعه لالشتراك في حكومة
الليكود اليمينية بقيادة شامير ،ولكنه في عام 1992لم يفلح في منع الحزب من دخول
الحكومة االئتالفية العمالية برئاسة رابين واستطاع إقناع الجناح األشكنازي في الحزب بعدم
االشتراك في هذه الحكومة ،وفي النهاية المطاف انفصل هذا الجناح عن حزب شاس وشكل حزبا مستقال متعاطفا مع السياسة المتطرفة لليمين الصهيوني و الديني القومي.
تستمد الحركات اليهودية الدينية القومية المتطرفة وبما فيهم المفدال أفكارها من طروحات
الحاخام أبرهام كوك ( )1935-1865الذي ولد في" لتفيا" ورحل عام 1904إلى فلسطين
وأصبح الحاخام األول لليهود األشكناز ،وابنه تسفي يهودا كوك ،الذي مشى في خطى والده
وحمل أفكاره .أهم أفكار كوك األب هي ،عودة اليهود من المهجر إلى أرض الميعاد تطبيقا لرغبة اهلل ورفض أفكار بعض الحركات الدينية اليهودية التي رفضت السياسة الصهيونية
بحجة أن عصر عودة المسيح المنتظر لم يبدأ بعد ،وأعلن أن عصر عودة المسيح قد بدأ فعال ،و أن الصهيونية ما هي إال األداة التي بعثها اهلل من أجل تحقيق الوعد اإللهي ،وأن اهلل
سيرسم الشكل النهائي للمجتمع اليهودي في إسرائيل بعد قيام الدولة اليهودية وسيأخذ بيد
اليهود ويساعدهم في تطبيق االتفاقية حسب تعاليم التوراة .أفكار كوك أصبحت مصد ار
لإللهام لكل من المفدال والحركات الدينية المتطرفة .أما كوك االبن فرغم أنه لم يكن في
44
ثقافة أبيه ولم يكن عالما بأصول شريعة الهاالخاة وبقي فترة طويلة لم يلعب فيها دو ار مهما
في الحركة الدينية القومية واألصولية ،إال أنه أصبح في ما بعد كأبيه ملهما للحركات الدينية
المتطرفة.
تنطلق أفكار كوك االبن من شعارين اثنين بناهما على فكر والده ،وهما أن انتصار إسرائيل
في حرب عام 1967حدث بمشيئة وارادة اهلل الذي أراد أن يعيد أرض إسرائيل ألصحابها
اليهود ،والتي أخذها من أجدادهم لعدم تمسكهم باالتفاقية مع اهلل وبشريعة الرب في التوراة.
ولقد كان الصهاينة العلمانيون أداة في هذه الحرب بدون علمهم من أجل تحقيق إرادة اهلل، وهي إشارة من اهلل على أن عصر المسيح المنتظر وخالص الشعب اليهودي قد بدأ ،كما
أعلن أن إعادة أي جزء من األرض إلى الفلسطينيين يعتبر خيانة هلل ومخالفة لالتفاقية معه.
أكد كوك االبن على النوعية المتفوقة لليهود والثقافة اليهودية ورفض كل ما هو ليس يهوديا
سواء من الناحية العرقية أو في ما يتعلق بالدين والثقافة ،كما اعتبر أن اليهود واليهودية ستشكل الظروف الحضارية التي على العالم أجمع أن يسير في كنفها .لقد أول النصوص
التوراتية حتى تنطبق على الواقع الحالي وأصدر الفتاوى التي تقارن عرب فلسطين بشعوب
التوراة مثل أهل مدين أو العمالقة ،الذين وصى رب التوراة بابادتهم حسب النص " ولن تبقي حيا أي شيء يتنفس" ،وأوجد بذلك تبري ار لطرد العرب من البالد أو حتى إبادتهم .
من منطلق هذا الفهم نشر االرهابي شامير مقاال باللغة االنجليزية حتى يقرأه أكبر عدد من
الناس في العالم ،وقد أعيد نشره بالعبرية في جريدة هامشمار االسرائيلية الصادرة بتاريخ 24
، 1987 . 12.يقول فيه:
" تعالوا ننظر إلى معتقداتنا حيث ال ديننا اليهودي وال تراثنا يمنع استعمال الوسائل االرهابية
في حربنا ضد األعداء ،لذلك فليس هناك أي سبب يدعونا لوخز الضمير ،في الوقت الذي
يدعونا الكتاب المقدس " اقتلوا الجميع وال تبقوا على أي شيء يتنفس" وبناءا على توجيه الكتاب المقدس ،نحن نقاتل ضد أعداءنا الشريرين".
بناءا على أفكار كوك األب ومن بعده االبن أخذت الحركات الدينية المتطرفة تنظر إلى
الصهيونية على أنها اليد التي بعثها اهلل من أجل تحقيق الوعد اإللهي بإقامة الدولة اليهودية و تعلن أن حرب عام 1967وانتصار إسرائيل فيها ،هو إشارة من اهلل على أن عصر عودة المسيح المنتظر قد بدأ ،كما أعلنت هذا العام ،العام األول من تاريخ خالص الشعب
االسرائيلي ،ووضعت نصب أعينها االسراع في استيطان كامل تراب فلسطين وتهويدها
واعالنها أرض إسرائيل "اريتس إسرائيل" ،وقامت على أثرها حركات استيطانية متعددة لقيت من قبل حكام إسرائيل تفهما ودعما كامال.
45
تتفق الحركات الدينية المتطرفة مع اليمين السياسي االسرائيلي بأن أرض فلسطين،
" اريتس إسرائيل" هي أرض يهودية غير قابلة للنقاش وأنه يجب االسراع في استيطان
أراضيها وتطبيق سياسة األمر الواقع عليها ،كما تتفق على أن القدس هي عاصمة إسرائيل
األبدية ومن الواجب الديني والقومي إعادة بناء الهيكل في أرض الحرم الشريف و كال من
الطرفين ال يخفي رغبته في إزالة هذا الصرح االسالمي بحجة أن الهيكل موجود تحته .ويدور النقاش بين صفوف مختلف التيارات حول حدود أرض إسرائيل ،التي يحددها جناح من اليمين االسرائيلي بأرض فلسطين التي كانت تحت االنتداب البريطاني أما الجناح اليميني المتطرف
إلى جانب الحركات الدينية المتطرفة فتعتبر أرض إسرائيل هي األرض الواقعة بين الفرات والنيل ،وفي أسوء األحوال وبسبب الظروف الدولية الحالية المعقدة يمكن االقتناع مؤقتا
بسوريا ولبنان واألردن إلى جانب أرض فلسطين الحالية .كما يجري النقاش حول مصير
العرب الفلسطينيين ،سكان البالد األصليين؟ البعض يقول أنه يجب على الحكومة االسرائيلية
أن تقوم بترحيل الفلسطينيين إلى خارج أرض إسرائيل والى البلدان المجاورة ،وان لم تسمح
الظروف على الحكومة والحركات الدينية القومية المتطرفة أن تقوم بكل االجراءات التعسفية الممكنة كي تضيق الخناق على حياة الفلسطينيين وتجعل من إقامتهم مستحيلة و بذلك
تجبرهم على الرحيل .البعض اآلخر يقول أنه ال مانع من بقاء الفلسطينيين في أرض إسرائيل
بشرط أن يعترفوا ويقبلوا بحقيقة أن هذه األرض يهودية و هي ملك خالص لليهود ،وأن يجري تهويد كافة القوانين وكافة الجوانب الحياتية في إسرائيل حسب الشريعة اليهودية المنقورة في
الهاالخاه.
الحركة الصهيونية ذاتها لم تكن حركة دينية مع أنها استغلت الدين واألحزاب الدينية
في تحقيق هدفها بإقامة دولة إسرائيل على التراب الفلسطيني ،ولم تكن الحركة الصهيونية
موحدة في اتجاهاتها وكانت تحتوي على عدة أجنحة يمكن تقسيمها إلى ثالث تيا ارت رئيسية .
التيار األول هو التيار اليساري بمختلف اتجاهاته ثم التيار اليميني بمختلف اتجاهاته أيضا من اليمين الوسط إلى اليمين الرجعي المتطرف ،وبينهما الصهاينة العموميون والذين أسسوا في
عام 1935حركة بهذا االسم ،ولكنهم عادوا وانقسموا في عام 1935إلى مجموعتين ،واحدة بزعامة وايزمان ولقد تعاون هذا الفريق مع التيار اليساري وكان يعول في سياسته إلى اتباع
الواقعية .والمجموعة الثانية كانت تتعاطف مع التيار اليميني وتؤيد سياسته .لعب الصهاينة دور العموميون دو ار مهما في تعبئة اليهود في العالم لدعم المخطط الصهيوني كما لعبوا ا
مهما في كسب الدول الغربية للمشروع الصهيوني ،ولكن لم يلعب هذا التيار دو ار أساسيا بين
46
اليهود في فلسطين االنتداب ،ولقد ظل التناحر بين اتجاهاته المختلفة مستم ار إلى أن توحدت كافة التيارات ،عام ، 1961في حزب واحد ،هو الحزب اللبرالي.
أحد أهم رموز وقادة التيار اليميني في الحركة الصهيونية كان فالدمير جابوتوتسكي الذي ولد عام 1880في مدينة أوديسا في اكرانيا .كان جابوتتسكي شخصية متضاربة فبالنسبة
للبعض كان فوضويا متطرفا وللبعض اآلخر فاشيا .انضم إلى الحركة الصهيونية وهو شاب وبالرغم من رأي اآلخرين فيه كان واضحا في آراءه ال يساوم عليها .كان يطالب بأوسع ما
يمكن الحصول عليه من األرض العربية القامة "أريتس إسرائيل" وكان يعي تماما أن السعي
خلف هذا الهدف يعني الصدام المسلح مع العرب ،ولذلك كان يحث على التهيئة العسكرية
لمقابلة المقاومة العربية المنتظرة.
عندما أعلن بلفور وعده " بوطن قومي لليهود " أعلن جابوتتسكي في المؤتمر السادس عشر
للصهيونية العالمية الذي عقد عام 1929في زيوريخ "،أن الوطن القومي لليهود يعني
بالنسبة لليهود شيئا واحدا فقط ،وهو إقامة الدولة اليهودية المستقلة في فلسطين على
أكبر مساحة ممكنة من األرض بأكثرية يهودية غالبة ،كما لليهود ولهم فقط ،الحق في حكم البالد وتحديد سياستها ووضع قوانينها ،وعلى المواطنين العرب إما قبول هذا الواقع أو
الرحيل ،كما دعى إلى فتح كل الحدود على مصراعيها من أجل هجرة اليهود إلى فلسطين
وقام عام 1920بتشكيل ميليشيات يهودية مسلحة في فلسطين من أجل مواجهة المقاومة
العربية .وفي عام 1940خرجت مجموعة جابوتتسكي من المنظمة الصهيونية العالمية وبعد عامين شكلت منظمة صهيونية مستقلة باسم المنظمة الصهيونية الجديدة.
في عام 1931شكل التيار اليميني المتطرف في فلسطين تنظيما مستقال عن الحركة
الصهيونية باسم إرغون ،كمنظمة قومية مسلحة ،رفضت أخذ األوامر من الوكالة اليهودية لشؤون فلسطين ،و في عام 1940انشق عن هذه المنظمة مجموعة دعت نفسها
" المقاتلون من أجل حرية إسرائيل والمعروفة باسم شتيرن حسب اسم قائدها أبراهام
شتيرن .بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948التفت المنظمات اليمينية حول حزب يميني جديد تحت اسم الحرية " حيروت " بقيادة زعيم منظمة إرغون ،ميناحيم بيغن وصاحب نظرية" آن
األوان الطالق النار وليس الكالم " .قام حزب حيروت بإعطاء الفكر الصهيوني السياسي
غطاءا من األصولية الدينية اليهودية ،التي تنطلق من تعاليم التوراة ،ورغم أنه لم يكن مهتما بتطبيق شريعة الهاالخاة على المجتمع االسرائيلي إال أنه جعل التوراة والهاالخاة مرجعية من
أجل تحقيق أهدافه السياسية .أعلن الحزب بصراحة على ألسنة زعمائه ،أن حدود إسرائيل
التي قامت عليها الدولة االسرائيلية عام ، 1948ليست حدود إسرائيل النهائية وانما حدود
47
مؤقتة وأن حدود إسرائيل هي من الفرات إلى النيل ،وفي أسوأ الظروف فعلى األقل كال ضفتي
نهر األردن ومرتفعات الجوالن في سورية و كامل سيناء وكامل مدينة القدس العاصمة
األبدية السرائيل.
يقول لندل أنه بتأسيس حزب حيروت اقترب اليمين الصهيوني أكثر فأكثر نحو التيار
األصولي الديني المتطرف ،و وجد في المنظمات اليهودية القومية المتطرفة حليفا وسندا،
يمكن أن يسند إليها األعمال الغير نظيفة في تحقيق الهدف المشترك ،وهو االستيالء على
األرض العربية واستيطانها وتهويدها وخلق ما يسمى في قاموس كل من التيارين اليميني
الصهيوني والديني القومي سياسة " األمر الواقع" .لقد لعب أريل شارون الذي كان في
أواخر السبعينيات وزي ار للزراعة دو ار مهما في تطبيق ودعم هذه السياسة بربط المستوطنات
اليهودية في غزة والضفة الغربية بالبنية التحتية لدولة إسرائيل.
يقول لندل أنه مع مرور األيام أخذت الفروقات بين اليمين الصهيوني وبين القومية الدينية المتطرفة تضيق إلى درجة أصبح تحديد هذه الفروق بينهما بالنسبة للمراقب أم ار في غاية
الصعوبة .كما أصبح من الصعب اليوم تحديد من يتبع من في موزايكا التنظيمات االسرائيلية
لكثرة االنتقال والتحرك بين أعضاء التنظيمات إلى جانب تغير التحالفات المستمر بينها .و قد يالحظ المراقب نقاشات حادة واتهامات متبادلة على صفحات الجرائد بين كافة رموز الحركات اليمينية والدينية المتطرفة ولكن في نهاية المطاف فإنهم في الكنيست يقفون في معظم
الحاالت كجبهة واحدة.
أم ار واحدا مهما يالحظه المراقب هو استمرار ضعف تأثير الصهيونية العلمانية المتمثلة في
حزب العمل في الوسط اليهودي وزيادة االنعطاف وخاصة عند الشباب نحو اليمين
الصهيوني و نحو الديني القومي المتطرف .لقد أصبح المثل األعلى لكثير من الشباب
االسرائيلي صورة اليهودي الملتحي وفي يده الرشاش يسير متحديا أمام الموطنين العرب . وأصبح مطلب هودنة الدولة والعودة إلى أصول الشريعة اليهودية يتصاعد.
المباحثات بين حكومة اليمين االسرائيلية برئاسة مناحيم بيغن وبين مصر عام 1979
والتي أدت إلى توقيع اتفاقية كامب ديفيد والتنازل عن سيناء أحدثت هزة في التحالف اليميني الليكودي واليميني القومي المتطرف .على أثر هذا الحدث اجتمعت مجموعة من الرموز
الرافضة لسياسة الليكود الجديدة من داخل الليكود ومن خارجه وشكلت حزبا راديكاليا جديدا باسم " تيخيا" وتعني" البعث " ،وكان هدف هذا التنظيم الجديد هو الوقوف في وجه أي
مفاوضات سلمية مع العرب والكشف عن سياسة الخيانة التي اتبعتها حكومة بيغن بتنازلها
عن االرض اليهودية للعرب .لقد أصبح أبطال األمس من بيغن وشركاه خونة في عيون اليمين
48
المتطرف والديني القومي المتطرف .من بين زعماء هذا الحزب الذين برزوا على المسرح
السياسي وجذبوا انتباه المجتمع االسرائيلي بتصريحاتهم وآرائهم الواضحة هم الجنرال رفائيل
ايتان ،رئيس األركان السابق للجيش االسرائيلي والذي أسس حزبا خاصا به باسم "كوميت "
وانضم الحقا مع حزبه إلى "تيخيا" وكذلك الجنرال جوفال نيمان و العضو السابق في المنظمة
االرهابية شتيرن و غيوال كوهين المنحدرة من أصل يمني .لقد أعلن الثالثة بشكل واضح
وصريح أن اتفاقية السالم مع مصر هي خيانة لليهودية ألنها تنازلت عن قطعة من األرض
االسرائيلية الموعودة من اهلل ،وبصقة في وجه األسس التي تقوم عليها الرسالة اليهودية
للعالم أجمع ،كما أعلنوا " :أن أرض إسرائيل هي أرضنا نحن اليهود ،وأن العرب في هذه
األرض ضيوف ليس إال ،واذا أرادوا العيش بيننا فإننا نسمح لهم بذلك على شرط أن تكون حقوقهم ذات صفة فردية" ،كما أكدوا أنه ال يحق للعرب في أرض اليهود أن يدعوا هذه
األرض وطنا وال أن يدعوا أنفسهم شعبا.
دعى حزب " تيخيا " جميع األحزاب والمنظمات اليهودية في إسرائيل أن تفيق قبل أن يفوت
األوان وأن تترك خالفاتها جانبا وأن تقف ضد أي اتفاق سالم مع العرب والتنازل لهم عن أي قطعة من أرض إسرائيل ،كما دعا إلى وحدة كل القوى المعارضة للسالم مع العرب .وأيد هذا
النداء الحاخام العجوز تسفي يهودا كوك وعدد من حاخامات المركز الحاخامي .هذا الخطاب
تسبب في تسرب العضوية من كل من حزب حيروت اليميني ومن االئتالف اليميني في الليكود في اتجاه "تيخيا" و المنظمات الدينية المتطرفة التي أخذت تتكاثر تباعا .فإلى جانب حزب"
كاخ" الذي تأسس عام 1971على يد ماير كاهان ،و غوش أمونيم( عصبة المخلصين) الذي تشكل من مجموعة من شباب المفدال ،برز إلى الوجود حزب " موروشا" وتعني ( اإلرث)
الذي تأسس عام 1981بزعامة العضو السابق في المفدال الحاخام خايم دروكمان ،وحزب مولديت ( الوطن ) الذي تأسس عام 1988على يد ضابط الجيش االسرائيلي ريخيم زيفي
الذي قاد الدعوة لترحيل المواطنين العرب من فلسطين ،وغيرها من التنظيمات .ورغم الخالفات التي تظهر بين هذه التنظيمات والمجادالت السياسية بين زعماءها ،إال أنها في نهاية المطاف
سواء خارج الكنيست أو داخله تقف كجبهة واحدة ضد أي اتفاق سالم مع العرب ينتج عنه
التنازل عن شبر واحد من أرض "اريتس إسرائيل" أو يمس بوحدة أراضيه أو من وحدة أراضي القدس" العاصمة األبدية لدولة اليهود" ،كما تقوم بمراقبة دقيقة لتحركات الليكود وحكومته
لمنعه من الرضوخ للواليات المتحدة األمريكية أو غيرها من الدول و منعه من التنازل أو المساس بما تسميه الثوابت اليهودية .كما تدعم بكل الوسائل ،سياسة استيطان األراضي
المحتلة وتهويدها .ويرجع الفضل األول لحزب " تيخيا" وبناءا على اقتراحه،في إعالن مدينة
49
القدس عام 1980عاصمة موحدة أبدية لدولة إسرائيل و بعد عام من هذا االعالن نجح في أن يحصل على الموافقة على االقتراح الذي قدمه بضم الجوالن إلى دولة إسرائيل .باختصار
شديد يالحظ المراقب أن تحركا ملحوظا يجري في المجتمع االسرائيلي نحو اليمين المتطرف
ونحو الديني األصولي المتطرف وخاصة لدى الجيل الصاعد كما يالحظ رغبة لدى الشباب
الجديد في تهويد كافة األوجه االجتماعية والسياسية في إسرائيل ،وعلى الجانب االخر ضعف تأثير الصهيونية العلمانية المتمثلة في حزب العمل االسرائيلي ( .المصدر األساسي لهذا
الفصل هو كتاب لندل المذكور سابقا)
50
–3المسيحية الصهيونية العهد القديم ،ليس كتابا مقدسا لليهود فقط وانما هو يشكل مع العهد الجديد الكتاب المقدس للمسيحيين بكافة اتجاهاتهم وكنائسهم .من المعروف أن قراءة أي نص ديني يخضع آلليات
عديدة أهما المجال المعرفي الذي يحدد طرائق التفسير ومن ثم األفق المعرفي والثقافي
والسياسي للقارئ أو المفسر ،وبما أن المجال المعرفي والثقافي والسياسي يختلف من قارئ
إلى آخر فكان ال بد من تعدد التفسيرات والتأويالت للنص الديني ،أي نص ديني .والتوراة
بشقيها هو نص ديني بالنسبة للمؤمنين المسيحيين ولذلك تعددت قراءاته وتأويالته مما نتج
عن ذلك تعدد في االتجاهات والتيارات والكنائس المسيحية.
تعتبر الكنائس المسيحية بما فيها األرتودوكسية الشرقية والكاثوليكية وحتى البروتستانتية
بشكل عام ،أن رسالة المسيح جاءت استم ار ار للرسالة اليهودية وأن عهد المسيح هو عهد " إسرائيل الجديدة" ،وال تعطي لليهودية أو بني إسرائيل أي دور في القصد اإللهي لمستقبل
البشرية.
من بين صفوف الكنيسة البروتستنتية نشأت أصوات تصر على حرفية قراءة النص التوراتي
وخاصة الفصل العشرين من سفر "رؤيا يوحنا الالهوتي" وتعتبر أن جزءا ال يتج أز من االيمان
المسيحي ،هو اإليمان بالمسيح المنتظر أو الظهور الثاني للمسيح المخلص للبشرية الذي
سينقذ العالم من أعداء المسيح ويشيد مملكة اهلل على األرض وعاصمتها الروحية القدس،
و عند ذلك يعم السالم على األرض ،حتى نهاية الزمن.
يعتقد هؤالء أن اهلل اختار اليهود لهذه المهمة عندما وقع معهم في سيناء االتفاقية اإللهية،
وأنه من واجب كل مسيحي أن يساعد ويعجل في عودة زمن المسيح المنتظر بمساعدة اليهود في العودة إلى األرض المقدسة .ولقد اعتاد الباحثون على تسمية هذه الجماعات بالمسيحية
الصهيونية.
ظهرت المسيحية الصهيونية كتيار واضح الفكر بين البروتستانت في القرن السادس عشر
في أوروبا وخاصة في هولندا ومن ثم في القرن السابع عشر في انجلت ار .في عام 1587تم
حرق الداعية فرنسيس كيت ألنه أعلن أنه وجد في التوراة إثباتات تدل على أن اهلل قد كتب
لليهود العودة إلى األرض المقدسة وأنه على المسيحيين مساعدتهم في ذلك .في عام 1607 أصدر توماس برجتمان في سويس ار كتابا بعنوان
51
" الظهور الثاني" شرح فيه أن اهلل قد عقد مع بني إسرائيل اتفاقية وأنه ال يمكن التملص أو
الهرب من هذه االتفاقية،و أن اهلل اختبر بني إسرائيل في عدة محن وفي النهاية وبناءا على مشيئة اهلل فإن اليهود سيعودون إلى األرض المقدسة من أجل التحضير لعودة المسيح
المنتظر وانشاء مملكة اهلل على األرض حيث سيعم السالم على البشرية .بنفس االتجاه كانت
كتابات إسحق دي ال بيري ( ) 1676-1594الذي حذر المسيحيين من محاولة إجبار اليهود
التحول إلى المسيحية ،ألن اليهود وليس غيرهم من سيحمل رسالة اهلل ومشيئته وعلى المسيحيين مساعدتهم في ذلك .
في القرن الثامن عشر كان الفكر المسيحي الصهيوني جزءا من "حركة التغيير" المسيحية،
ولقد اشترك في دعم هذا الفكر كل من رجال الدين ورجال السياسة .قسيس مدينة بريستول االنجليزية توماس نيوتون أعلن أنه على المسيحية أن تعيد تقيمها لليهود وأن تنظر لهم "
كشعب اتفاقية اهلل" الذي اختارهم من بين كل الشعوب لتحقيق مشيئته .وكان لتعاليمه تأثي ار
ملحوظا في األوساط البروتستانتية كما تأثرت به بعض األوساط في الثورة الفرنسية و في
موجة التنوير زمن نابليون.
خالل القرن التاسع عشر أخذت األفكار المسيحية الصهيونية تتالقى مع رؤى كثير من رجال الدين اليهود مثل هيرش و ألكاالي ممثلي فترة ما قبل الصهيونية السياسية والذين هيئوا
التربة الصالحة لظهورها .ولقد لعب كثير من الشخصيات السياسية المسيحية دو ار في تهيئة هذه التربة .مثال تشارلز هينري تشيرشل الذي عمل دبلوماسيا في السفارة البريطانية في
دمشق كتب رسالة إلى المحسن اليهودي موسيس مونتيفيور يقول فيها" أن أمر عودة اليهود
إلى األرض المقدسة سيكون سهال جدا إذا قرر اليهود أخذ األمر بايديهم باإلضافة إلى
الدعم والعون الذي ستقدمه لهم الدول األوروبية الكبرى " ( لندل :سبق ذكره ،ص . ) 204
ومن شخصيات ذاك الوقت المعروفة التي لعبت دو ار مهما في بلورة المسيحية الصهيونية هو
وليام هيتشلير ( ) 1931-1845الذي كان قسيسا في السفارة البريطانية في فينا وكان على
صلة وثيقة مع يهود االمبراطورية النمساوية ومع مؤسس الحركة الصهيونية هيرتسل .لقد
قضى هيتشلر ثالثين عاما من عمرة في تهيئة الظروف الفكرية والسياسية من أجل تحقيق
الحلم الصهيوني بعودة اليهود إلى فلسطين واقامة الدولة اليهودية فيها .لقد أعلن أن أسعد
أيام حياته هو يوم دعي لالشتراك في المؤتمر الصهيوني األول الذي عقد في بازل-سويس ار
عام 1897وال يعتبر س ار أن المسيحية الصهيونية األنجلوسكسونية قد ساعدت مساعدة كبيرة في تهيئة الظروف لقبول وعد بلفور المشهور عام .1917
52
لم تكن المسيحية الصهيونية تيا ار طاغيا في المسيحية وال حتى في الكنيسة البروتستنتية.
األحداث التي جرت في ألمانيا أثر استالم النازية للسلطة وطرحها لسياسة " الحل النهائي "
للمسألة اليهودية وما تبع ذلك من اضطهاد لليهود أعطى دفعة قوية لهذا التيار في العالم
الغربي واألمريكي .وبعد قيام دولة إسرائيل هجر إليها عدد كبير من القساوسة والنشطاء من أجل دعم بناء إسرائيل والعمل على جذب حب ودعم العالم المسيحي للدولة اليهودية .و كما رأت المنظمات اليهودية المتطرفة في انتصار إسرائيل عام 1976على أنه إشارة إلهية ببدء
عصر المسيح المنقذ كذلك رأت المسيحية الصهيونية في هذا االنتصار إشارة من اهلل لكل
المسيحيين المخلصين أن يدعموا اليهود ويساعدوهم في مهمتهم من أجل استقبال المسيح
المخلص الذي سيبني مملكة اهلل على األرض ويخلص البشرية.
من أهم الرموز التي لعبت دو ار رئيسيا في هذا النشاط هو القسيس الهولندي وليم فان دير
هوفن والذي كان معروفا منذ منتصف السبعينيات في األوساط االسرائيلية والبروتستنتية
األصولية .تقوم أفكار فان هوفن على قاعدة أن اهلل اختار اليهود من أجل حمل رسالته
والتحضير لعودة المنقذ المسيح المنتظر ،من أجل قيام مملكة اهلل على األرض وحتى يعم
السالم على العالم ،ولذلك فعلى المسيحيين أن يقوموا بواجبهم في مساعدة اليهود في العودة إلى األراضي المقدسة من أجل تحقيق رسالة اهلل .لقد أخذ فان هوفن على اليهود العلمانيين
،مثل حزب العمل االسرائيلي ،بأنهم ال يعوا تماما الرسالة اإللهية التي فوضهم اهلل بتحقيقها،
كما انتقد بشدة الحكومات االسرائيلية التي عقدت اتفاقات سالم مع العرب وتنازلت بذلك عن جزء من األرض التي وهبها اهلل لهم .كما انتقد اتفاقات" أسلو" ودعا الحكومات االسرائيلية
لسماع صوت الرب وليس صوت رئيس الواليات المتحدة األمريكية وكان يعلن أنه على اليهود
أن يعوا أنهم ليسوا ككل الشعوب التي تأخذ الق اررات المصيرية بناءا على الظروف الواقعية،
اليهود هم شعب اهلل المختار ولهم رسالة إلهية وبناءا على ذلك يجب أن يتصرفوا ،وكان يعلن في خطبه أمام المسؤولين االسرائيليين " نحن أكثر صهيونية منكم. ".
لقد اعتبر فان هوفن العرب كفره ،ألنهم يقفون ضد الرغبة اإللهية ،ويعلن :إذا كان العرب ال
يفهمون طبيعة اهلل ورسالته المقدسة التي وكلها لليهود فال مكان لهم في فلسطين ويجب طردهم منها" .لقد توجه إلى العرب المسيحيين ودعاهم األخوة في الدين ورجاهم أن يعوا
معنى الرسالة اإللهية التي يقوم بها اليهود وأن يدعموهم في تحقيق رسالتهم بكل الوسائل.
فان هوفن يحقد حقدا عميقا على االسالم والمسلمين وال يعترف باالسالم دينا سماويا ،ويعلن
أن اهلل هو رب العرب فقط الذين عبدوه قبل االسالم وأن اهلل الحقيقي هو رب إسرائيل،كما أنه
ال عالقة أبدا بين المسلمين وبين التراث االبراهيمي أو النبي إبراهيم وانما يحاول المسلمون
53
أن يتطفلوا على إبراهيم والتراث اإلبراهيمي .ودعى إلى إزالة االسالم ألنه عقبة في طريق عودة المسيح المنتظر ،وهو يعتقد أن إله إسرائيل سيقوم ،قبل أن يبعث المسيح المخلص،بتحطيم
أركان االسالم وازالته من الوجود.
عندما اشتعلت حرب الخليج كان يدعو و يصلي أن تكون هذه نهاية االسالم والمسلمين
وكتب في منشوراته أن صدام حسين مرسل من الشيطان وأن المسلمين هم أعداء المسيح وهدفهم منع عودته ،وال يمكنهم فهم الرسالة الربانية المقدسة التي فوض اهلل اليهود بها.
كما دعى إلى إزالة الحرم الشريف وكل المعالم االسالمية من القدس وبناء الهيكل الثالث .
لقد حز في نفس فان هوفن وتحدث بمرارة عن موقف اليهود من المسيح عيسى بن مريم
وعدم اعترافهم به كمسيح منتظر ،واعتبر أن ظهور المسيح األول أنقذ اليهود وأنه سيعود
إلنقاذهم من جديد وانقاذ المسيحيين والعالم أجمع .اعتبر اليهودية كأداة لحفظ اليهود ولكنه لم يقبل اليهودية كعقيدة وانتقص من نظام حاخاماتها ،ودعمه للقضية اليهودية وعودة اليهود
إلى فلسطين ،وموقفه المساند السرائيل بال حدود في صراعها مع العرب ينبع فقط من اإليمان بالرسالة اإللهية لليهود في التحضير الستقبال المسيح المنقذ المنتظر.
لقد وجه فان هوفن انتقادات الذعة لحكومة الواليات المتحدة األمريكية ألنها تضغط على إسرائيل من أجل التنازل عن بعض أراضيها للعرب ،كما انتقد بشدة عدم دعمها الكافي
إلسرائيل سواء المادي أو السياسي أو العسكري ووعد بتعويض إسرائيل كل ذلك من قبل
أصدقاءها في العالم .
سميت المجموعة القريبة من فان دير هوفن والمتأثرة بأفكاره بمجموعة" فرع شجرة اللوز" ( ألموند تري برانش) ومع األسف كان من نشطاء هذا التجمع عدد من مسيحيي عرب
فلسطين،و لقد قامت الجماعة بكل الوسائل المتاحة بالدعوة إلى األفكار المسيحية الصهيونية
والتي ترتكز كما مر معنا على أفكار فان هوفن بدعم اليهود في العودة إلى صهيون
ومساعدتهم في تحقيق الرسالة اإللهية بالتحضير للمسيح المنقذ المرتقب .قام نشطاءها
بكتابة المنشورات وطبعها وتوزيعها واقامة المحاضرات وعرض األفالم التي تدعم هذا التوجه
كما قامت بجمع التبرعات من أجل مساعدة اليهود في العودة إلى األرض المقدسة " أرض
صهيون ".
عندما أعلنت إسرائيل سنة 1980ضم القدس الشرقية واعتبار القدس بكاملها الشرقي
والغربي عاصمة أبدية إلسرائيل رأت المسيحية الصهيونية في ذلك فرصة لتطوير نشاطها
فقامت وبناءا على أفكار فان هوفن وتحت قيادته بتشكيل " السفارة المسيحية العالمية" .لقت القت هذه السفارة ترحيبا ودعما من كل فروع وتيارات المسيحية الصهيونية ،وفي عام
54
1985وبمناسبة الذكرى الثمانية والثمانين لتأسيس المنظمة الصهيونية العالمية وبدعم
وتمويل من هذه السفارة عقد في بازل في سويس ار مؤتم ار صهيونيا تكلم فيه المؤتمرون من
جملة ما تكلموا عن ذنوب المسيحية والمسيحيين عبر التاريخ ضد اليهود "شعب اهلل المختار" وكيف أنه آن األوان للتكفير عن هذه الذنوب بقيام المسيحيين بواجبهم الديني بدعم عودة
اليهود إلى صهيون ومساعدتهم في تحقيق مشيئة اهلل بإقامة مملكة اهلل على األرض .منذ
تأسيس هذه السفارة وقف على رأسها إلى جانب فان هوفن مجموعة من المسيحيين الصهاينة من نشطاء الكنيسة البروتستنتية من مختلف بالد العالم ،ورغم عدم ظهور فان هوفن في
المقدمة واعطاء االنطباع بأنه ليس إال ناطق متواضع باسم السفارة ،إال أنه ال أحد يشك
بأنه هو الزعيم الروحي والفكري للسفارة .يقف إلى جانب فان هوف عدد من الشخصيات منها
يوهان موكهوف و األمريكي تيم كينج و الفنلندية الدكتورة
" أوال يرفيليهت" والتي كانت عضوا في البرلمان الفنلندي والمعروفة بميولها الرومانسية نحو
إسرائيل ،وتقوم بإلقاء المحاضرات التي تنتقد فيها موقف الكنيسة المائع من الصراع العربي االسرائيلي ،وتدعو العالم المسيحي لدعم اليهود واسرائيل دعما صريحا بدون حدود ،وكذلك
األمريكي دفيد بارسون ،الذي تخرج عام 1986من كلية الحقوق في جامعة ويك فوريست وعمل عدة سنوات كمستشار ألعضاء الكونغرس األمريكي المؤيدين السرائيل ،ومن خالل
وظيفته هذه صاغ عدد من الوثائق القانونية التي تدعم السياسة الخارجية المؤيدة السرائيل،
وهناك كذلك القسيس مالكوم هيدنج من جنوب أفريقيا ،وغيرهم.
أحد أهم األهداف التي وضعتها السفارة نصب عينيها هو لفت أنظار كل المسيحيين
" المخلصين" لالهتمام بإسرائيل ودعم المصالح االسرائيلية فقامت من أجل هذا الهدف بفتح فروع في مختلف أنحاء العالم واستطاعت أن تنشئ فروعا لها في كل من الواليات المتحدة
األمريكية و في معظم بلدان أوروبا الغربية مثل فنلندا ،الدانمرك، ،النرويج ،السويد ،هولندا ،
سويسرا ،ألمانيا ،وانجلترا ،كما التفتت إلى أوروبا الشرقية فأنشأت فروعا في روسيا وفي
الجمهورية التشيكية ،كما استطاعت أن تخترق بلدان أمريكا الالتينية الكاثوليكية ،وتقوم
بطبع ونشر منشورات وصحف بلغات كل تلك البالد تشرح فيه أفكارها وأفكار زعيمها فان
هوفين ،وتدعو إلى تشجيع هجرة اليهود إلى إسرائيل كما تدعوا إلى دعم المصالح االسرائيلية بكل الوسائل المتاحة .كما تقوم بتنظيم الرحالت إلى إسرائيل حيث يحدد للزوار األماكن
التوراتية التي يجب زيارتها وخاصة تلك التي ترتبط حسب رأيهم بتاريخ إسرائيل في فلسطين،
كما يقوم نشطاء السفارة بعقد لقاءات ومحاضرات ودروس للزوار من أجل تنويرهم بأهداف
وأفكار السفارة وتهيئتهم لكي يكونوا دعاة نشيطين في بالدهم للقضية االسرائيلية .إلى جانب
55
كل ذلك تقوم بجمع التبرعات من كل أنحاء العالم من أجل دعم القضية اليهودية والمصالح
االسرائيلية.
لقد اختارت السفارة عيد ( تابيرناكوله) (سوكوت) التوراتي ليكون عيدها الرسمي ،ومنذ عام
1979يعقد هذا العيد في سبتمبر من كل عام في مدينة القدس ويأتي إليه آالف من أعضاء وأصدقاء السفارة من كل أنحاء العالم ويدعى إليه القيادات الدينية والسياسية ورجال االعالم
االسرائيليين ،ومن الرجاالت االسرائيلية المعروفة التي احتضنت هذا العيد رئيس بلدية القدس السابق تيدي كوليك .تقام في هذا العيد المهرجانات الخطابية حيث يشرح فان هوفن أفكاره
،ودعوته لجميع اليهود في العالم أن يعوا رسالتهم اإللهية ويسارعوا في العودة إلى األراضي
المقدسة .كما ترتب السفارة للزوار لقاءات وزيارات لألماكن " التوراتية" وتطعمهم ،خاصة الجدد منهم ،بأفكار المسيحية الصهيونية ليكونوا دعاة لها في بالدهم ،و في نهاية العيد تجري
مظاهرة من الزوار وغيرهم في شوارع القدس ،تنتهي في "حمام السلطان" الذي بني زمن
العثمانيين كخزان ضخم للمياه والذي أعيد بناءه ليكون مسرحا مفتوحا .يحمل المتظاهرون
اثنى عشر علما لتدل على أسباط اليهود اإلثنى عشر ،وترفع الالفتات المكتوب عليها بكل من
الالتينية والعبرية " المسيح المنتظر" .
في نهاية عام 1985حدث تململ في صفوف أعضاء السفارة في القدس ،فرغم تمام االتفاق على مبدأ دعم القضايا االسرائيلية ومساعدة اليهود في العودة إلى األراضي المقدسة ،إال أن فريق من أعضاء السفارة شعر أن فان هوفن بتأويالته الدينية يلغي الشخصية المستقلة
للمسيحية ويحولها إلى ظل من ظالل اليهودية والصهيونية وتابعا لها وبذلك ينفر كثي ار من
المسيحيين المخلصين الراغبين في دعم القضية االسرائيلية ،ولذلك رأى هذا الفريق أن خير وسيلة لمتابعة عملهم هو العودة إلى بالدهم والتركيز من هناك على األعمال الخيرية
والدعائية إلسرائيل و كسب الدعم لقضاياها ،وبقي مخلصا لفان هوفن وأفكاره في السفارة في
القدس مجموعة من المتطرفين من هولندا وجنوب أفريقيا والواليات المتحدة األمريكية الذين وجدوا في الجناح اليميني لتجمع الليكود وفي التنظيمات الدينية المتطرفة خير حليف .ومما
يثير الجدل في صفوف المراقبين أنه في خالل هذه األزمة وعلى أثرها استطاعت السفارة أن
تكسب أعدادا كبيرة من الشباب البروتستانت في العالم الذين لم يعيروا من قبل قضية الصراع العربي االسرائيلي أي اهتمام .
منذ نهاية الثمانينات ركز فان هوفن كل طاقته من أجل كسب التحالف مع األصوليين
المسيحيين في الواليات المتحدة األمريكية ،وقام من أجل هذا الهدف برحالت منظمة إلى
معظم مدن أمريكا دعى فيها إلى دعم المسيحيين للقضية اليهودية وحاول في محاضراته
56
ولقاءاته أن ال يتطرق إلى تأويالته التي قد تثير حفيظة المسيحيين ولقد لقي تعاونا كبي ار من قبل حاخام مدينة شيكاغو " يخيل إكشتاين " والذي شغل منصب رئيس الجمعية المسيحية
اليهودية " هولي الند" .رأى إكشتاين في فان هوفن حليفا قويا ومفيدا لدعم القضية
االسرائيلية فرافقه في رحالته في مدن الواليات المتحدة األمريكية ورتب له اللقاءات مع
مختلف الشخصيات والجمعيات األمريكية.
فوجئ فان هوفن أنه يوجد في أمريكا عشرات الجمعيات المشابهة والتي تقوم على دعم
المصالح االسرائيلية والتي استعدت للتعاون معه في سبيل الهدف المشترك ولكن رفضت
االنضمام تحت لواءه .لقد توجت السفارة بزعامة فان هوفن نشاطها عام 1992بعقد مؤتمر لدعم إسرائيل حضره إلى جانب السفير االسرائيلي ،شخصيات أمريكية معروفة بدعمها
السرائيل كرموز منظمة " سيباك " المعروفة بدعم المصالح االسرائيلية وأحد أهم أعضاء اللوبي االسرائيلي السيناتور "جيسي هيلمس" والقسيس
" خريسويل" المعروف بصداقته وعالقاته باليمين المتطرف في الجنوب األمريكي ،ولقد انتهى
المؤتمر بمسيرة كبيرة في شوارع واشنطن ،ولقد جرى تغطية المؤتمر والمسيرة من قبل كبريات
الدوائر االعالمية المقروءة والمرئية.
مع كل ما قام به فان هوفن في الواليات المتحدة فأنه وصل إلى نتيجة مفادها أن منظمته
في الواليات المتحدة ليست إال واحدة من عشرات المنظمات البروتستانتية التي تؤمن باليهود
كشعب اهلل المختار و وبدوره في حمل مشيئة اهلل بعودة المسيح المنتظر و تعمل على تأييد
وحماية المصالح االسرائيلية و الضغط على صانعي القرار في أمريكا من أجل توجيه السياسة
االمريكية في مصلحة إسرائيل ،وأنه رغم الهدف المشترك مع منظمته إال أن هذه المنظمات
ترفض االنضواء تحت مظلته.
سفارة فان هوفن ليست أيضا المنظمة الوحيدة التي تحمل أفكار المسيحية الصهيونية في
أوروبا ،فهناك منظمات عديدة تختلف أحجامها وتأثيرها منتشرة في مختلف الدول األوروبية، نذكر منها منظمة القسيس ألف إكمان رئيس الكنيسة السويدية التي تدعى "صوت الحياة" .
تصدر هذه الكنيسة نشرة باسم " شعب المستقبل " تشرح فيها أفكار إكمان القريبة من أفكار
فان هوفن ومختصر فكره أن اهلل أراد أن يخلص العالم ولهذا الهدف اختار شعب اهلل المختار "
شعب إسرائيل" المتمثلين في يهود اليوم .لقد عقد اهلل مع هذا الشعب اتفاقية بموجبها منحهم
األراضي المقدسة خالصة لهم .ولكن الشعب االسرائيلي أذنب فغضب منه الرب ثم عفى عنه
وأعاد اتفاقيته معه في سيناء وجدد وعده بمنحهم األراضي المقدسة .اليهود في رأي إكمان هم
شعب االتفاقية ،ولقد اختارهم اهلل من بين الشعوب من أجل إنقاذ البشرية من جديد وهم قبلوا
57
هذا الواجب .لم تفهم الكنائس المسيحية ،حسب ما يقول إكمان ،طبيعة الدور المقدس الذي
سيلعبه اليهود فوقفت عثرة في طريقهم واآلن على المسيحيين أن يفيقوا من غفوتهم ويخرجوا من الوضع المشوش الذي يعيشون فيه ويقدموا العون لليهود ويسهلوا عودتهم إلى األرض
المقدسة من أجل تحقيق مشيئة اهلل .يصف إيكمان اليهود بأنهم " شعب المستقبل" الذي
سينقذ االنسانية .كذلك إيكمان يرفض االسالم كدين سماوي ويؤكد أن النبي محمد رفع من شأن اإلله البدوي "اهلل" ليجعله في مصاف اآللهة ،ويرفض أن يكون "اهلل" هو إله إبراهيم
وأنبياء التوراة كما يدعي االسالم .يقول أن االسالم يخلوا من الرحمة والعفو وهو دين العنف والعدوان والكراهية ،ويرفض ان يكون الصراع العربي االسرائيلي صراعا عرقيا بين العرب
واليهود وانما هو صراع روحي ديني بين شعب اهلل المختار ذو الرسالة الربانية وبين اعداء
اهلل والمسيح .كما يطالب بهدم المسجد األقصى وكل المعالم االسالمية في القدس وبناء
الهيكل الثالث ،ويقول إذا كان العرب مؤمنين باهلل الواحد األوحد فعليهم أن ال يقفوا في طريق شعب المستقبل ،شعب اهلل المختار ورسالته المقدسة.
( مصادر هذا الفصل -1 :لندل :الدين في الصراع على فلسطين،سبق ذكره -2.منشورات
السفارة المسيحية العالمية(صوت من القدس) باللغة التشيكية -3.سبرافوداي :مجلة غير دورية تصدرها جمعية المسيحيين واليهود في براغ ،الجمهورية التشيكية ،أعداد عام (
-4 . ) 2002-2001إدوارد بروسير :الدين من الشاطئ المعاكس ،صدر باللغة السلوفاكية
عن دار إيكو ،براتسالفا ،عام -5 . 2002منشورات كنيسة الحياة الجديدة السويدية بعنوان " اليهود شعب المستقبل" والصادرة باللغة التشيكية عن دار " بوستيال " في برنو.
58
الفصل الثالث اإلسرائيليون بين األسطورة و التاريخ - 1التوراة :الخيال األدبي في خدمة الالهوت جان بوتيرو كان طالبا من طلبة المدرسة األكرليركية والتحق بالكنيسة الدومينيكانية
وأصبح راهبا من رهبانها إلى أن طرد من صفوفها آلرائه الجريئة وأصبح بعد ذلك عالما من
علماء اآلشوريات المعتبرين .يقول في كتابه ( بابل والكتاب المقدس ،حوارات مع هيلين
مونساكريه ،ترجمة روز مخلوف ،دار كنعان دمشق ) 2000أنه في نهاية عام ،1872في
لندن ،أمام جمعية علم آثار الكتاب المقدس ،عرض شخص يدعى ج .سميث وهو من أوائل محللي رموز النصوص المسمارية ،بأنه بين الرقيمات التي أحضرت من نينوى إلى لندن،
اكتشف رواية للطوفان تغطي على نحو تام بما فيه الكفاية ،حتى في التفاصيل ،رواية
الطوفان الواردة في الكتاب المقدس .ومنذ تلك اللحظة ،أصبح واضحا أن الكتاب المقدس
باقتباسه أي شيء كان من أدب سبقه ،لم يعد ذلك الكتاب الفريد و الفوق طبيعي ،لم يعد
إذن أقدم الكتب جميعا ،الذي كتب من عند اهلل شخصيا ،أو بإمالء أو إلهام منه كما كنا نراه دوما ،تبين أنه في الواقع مغمور ضمن تيار هائل من الفكر و األدب االنسانيين .لم يعد
يمكن إذا قراءته كما في السابق على أنه منزل مباشرة من عند اهلل شخصيا ،لقد تحول قبل
كل شيء إلى كتاب كتبه بشر( .ص .) 236 :ويتابع أنه بعد تقدم علم األشوريات واكتشاف نصوص جديدة ،لم تعد حكاية الطوفان وحدها هي التي تكشف النقاب عن تبعية الكتاب
المقدس ،بل إن الحكيم الخارق بأكملها هي النموذج الذي اقتدت به اإلصحاحات األولى في سفر التكوين .كما أننا نستطيع القول أن لدى مؤلف سفر أيوب مصادر رافدية .ورغم جهلنا
عن الطريقة التي وصلت بها الروايات الرافدية إلى مؤلفي اإلصحاحات ،إال " أن التماثل
األساسي للكتاب المقدس وتبعيته أمران ال يناقشان" ( ص . ) 340-339ومن الواضح أن كتبة التوراة لم ينقلوا إلى لغتهم النصوص البابلية كليا ،بل " فهموها وأعادوا صياغتها
لتكييفها مع منظومتهم الدينية الخاصة" ( نفس المصدر)
لقد كانت التوراة قبل االكتشافات األثرية األخيرة في منطقة الشرق الوسط كالعراق وسوريا و
فلسطين و مصر،المصدر األساسي الذي يرجع إليه الباحثون في تدوين تاريخ المنطقة القديم .ولقد بقيت على هذا النحو قرونا عديدة حتى كشفت لنا الحفريات عن الوثائق المكتوبة
59
التي خلفها لنا األقدمون الذين سبقوا عهد التوراة -وهم السومريون والبابليون والكنعانيون و
الفينيقيون والمصريون وغيرهم ،عن كثير من الحقائق و األمور الغامضة .ولقد أصبح
واضحا اآلن إن كتبة التوراة قد جمعوا خليطا من القصص و األساطير التي اخترعوها أو
نقلوها عن تاريخ و أساطير شعوب المنطقة باعتبارها حقائق تاريخية نسبوها ألنفسهم لدعم
مذهبهم الديني و اختالق تاريخ يرفع من شأن القبيلة اإلسرائيلية ،ويخدم أهدافهم الدينية ( .
كريفيلوف :التوراة في عيون العلم ،نفس المصدر ) .
كما توصل الخبراء إلى أن الكثير مما ورد في التوراة من قصص وأساطير و شرائع يرجع
إلى أصول قديمة سومرية و بابلية و آشورية و كنعانية و مصرية ولقد اقتبس الكهنة اليهود كل ما ارتأوه مالئما لهم و حذفوا بال هوادة كل ما لم يلق بهم .كما توصل الخبراء أيضا إلى
أن أكثر التراتيل و التسابيح الدينية التي وردت في التوراة مقتبسة من الكنعانيين والمصريين
وشعوب ما بين النهرين ،وأن الشرائع الواردة في التوراة كان يمارسها الكنعانيون والبابليون
والمصريون من قبل وقد اقتبسها اليهود منهم ومارسوها ثم أدخلوها في كتابهم المقدس .حتى آلهة التوراة أيل ومن ثم يهوه كانت معروفة ومعبودة قديما من قبل شعوب المنطقة ولقد
اقتبسها اإلسرائيليون عنهم و نسبوها لهم ( .زنون كوسيدوفسكي :نفس المصدر،ص) 17: لم يعد الكتاب المقدس إذن مقدسا و منزال من عند اهلل ،وانما هو من نتاج البشر فقط
ال غير ،فهل يمكننا اعتباره كتاب تاريخ واعتبار الوقائع المذكورة فيه تاريخية يمكن
الرجوع إليها كمصدر لكتابة تاريخ فلسطين والشرق األدنى ؟
توماس ل .طومسون ،أمريكي الجنسية ،أستاذ في علم اآلثار ومختص في الدراسات
التوراتية .درس في عدة جامعات أمريكية عالية المستوى منها فرع مدينة ميلوكي من جامعة
ويسكنسن ،ولقد فقد وظيفته بضغط من األوساط اليهودية التي انزعجت من آراءه الجريئة،
لدرجة أنه اضطر في فترة من الفترات للعمل في طالء البيوت ،وهو حاليا أستاذ محاضر في كلية الالهوت بجامعة كوبنهاجن.
يجيب توماس طومسون على السؤال المطروح بالنفي و بأن التوراة،و بناءا على الوثائق
والحفريات المكتشفة في المنطقة في ا ألعوام الثالثين األخيرة ،هي كتاب أدب وليس كتاب تاريخ ،و أن القصص التي وردت في التوراة مثل قصة الخلق واألسفار الخمسة األولى
وروايات الملوك كالملك سليمان وغيره تعتبر قصصا إنشائية وليست تاريخا ،ولم تترك لنا
المصادر والوثائق التاريخية للمنطقة أي ذكر للشخصيات اإلسرائيلية في التوراة ... .ويؤكد أيضا أن تصور نظرة توراتية للتاريخ في كل مروية توراتية على حدة يعطيها مغزى ما ،
سخيف بامتياز .و باالضافة لذلك ،أي سؤال عن مغزى هذه المرويات في مجال إعادة بناء
60
تاريخ شعب إسرائيل ،يجب أن يعني بتحوالت هذه المرويات ،ويجب أن ال يكتفي بأي بينة ال
تأخذ هذه التحوالت باالعتبار جديا ،ألنه ال يبقى وال توكيد تأريخي واحد ذي قيمة في المرويات ،مترابطا منطقيا أو ذا معنى في النصوص الموجودة ( .من كتابه :التاريخ القديم للشعب اإلسرائيلي :ترجمة صالح علي سوداح ،بيسان للنشر والتوزيع،بيروت عام ، 1995ص:
266، 262و ) . 254
يؤكد طومسون من جديد على رؤيته هذه في كتابه الجديد( الماضي الخرافي :التوراة والتاريخ،
ترجمة عدنان حسن ،راجعه زياد منى ،نشر :قدمس للنشر والتوزيع ،دمشق ،ط) 2001 ،1
ويقول أن االعتياد الطويل لعلماء اآلثار والمؤرخين والباحثين التوراتيين( مالحظة :يستعمل
المترجم كلمة " كتاب " والكتابيين بدال من التوراة والتوراتيين) على النظر إلى التوراة على
أنها كتاب تاريخ ،وفهمه في الوقت نفسه ،تراثا فكريا ثريا من الناحية الدينية وأساسيا لكل
من اليهودية والمسيحية ،قد منح وجهة النظر هذه سلطة تتجاوز المعقول ،" .ويتابع " أن "
الكتاب" أي التوراة ،يصنع تاريخا رديئا ،فما نعرفه حول هذا التاريخ وما يمكننا إعادة بنائه من األدلة األثرية يظهر تاريخا لسورية الجنوبية مختلفا جدا عن القصص" التوراتية" .إن
قصص الكتاب "التوراة" وأناشيده ال تخبرنا عن ما حدث في فلسطين في أي عهد ،بل تخبرنا
كيف كان الناس في هذه المنطقة يفكرون ويكتبون ....ويؤكد طومسن بأن "الكتاب" أي
"التوراة " ليس تاريخا على االطالق ،إنه مليء باألمثولة وقصة العبرة ،إنه الهوت... .يمكننا
أن نقول اآلن بثقة كبيرة أن " الكتاب " ليس تاريخا لماضي أحد ،إن قصة إسراءيل المختار
والمنبوذ التي يقدمها ،هي مجاز فلسفي للجنس البشري الذي ضل طريقه(.ص) 37– 27:
يعتقد طومسن أنه قد جرى خطأ فاحش في قراءة وفهم التوراة ،وأن الكيفية التي يرتبط بها "
الكتاب المقدس" بالتاريخ قد تم فهمها فهما مغلوطا إلى حد كبير .وألننا كنا نق أر "الكتاب
المقدس" ضمن سياق مغلوط بالتأكيد ،وألننا أسأنا فهم التوراة بسبب ذلك ،فإننا أحوج إلى
البحث عن سياق أكثر مالئمة ،وصار من الضروري مراجعة كبرى لكل فروع فهمنا فيما يتعلق بتاريخ الشرق األدنى القديم( .. .نفس المصدر )،
إن سعي كثير من الباحثين والمؤرخين إلى توحيد نتائج األثريات الفلسطينية والبحث التوراتي
ودراسات الشرق األدنى القديم في توليفة شاملة قد دحض من حيث المبدأ والتفصيل .فحكايات " التوراة" تشبه كثي ار كتابات قديمة أخرى قامت بجمعها التراثات القصصية للعالم القديم :من
مصر ومن بالد النهرين وفينيقيا ،سواء كنا نتحدث عن هيرودوت اإلغريقي في القرن السادس قبل الميالد ،أم الكاتب اليهودي يوسفوس الذي جاء بعده بأكثر من ستة قرون ،أو مؤلفي
الحكايات التوراتية ،من سفر التكوين إلى سفر الملوك الثاني،وسفر األخبار إلى عز ار ونحميا،
61
أو سفر المكابين األول و الثاني،من القصص القديمة والحكايات األسطورية ال تمدنا باألدلة على التاريخ ،كما اعتقدت األثريات "التوراتية" طويال وأملت في إثباته ...هذه النصوص
مفيدة تاريخيا بسبب ما تتضمنه عن حاضر "المؤلف" وعن المعرفة المتاحة له و لمعاصريه
وليس بسبب مزاعم مؤلفها حول أي ماض متخيل...واذا كنا نحصل على كم متراكم من
القصص من أعمال كالتي كتبها يوسفوس ومن التأريخات التراثية الواردة في " التوراة" ،فإن من الخطأ أن نعتقد أن بمقدورنا أن نستخدم نصا واحدا إلثبات ما يقوله نص آخر حول
الماضي .فالمعلومات التاريخية األكثر أهمية التي يمكن أن نتوصل إلى معرفتها من هذه
التأريخيات القديمة ليس لها سوى عالقة ضئيلة جدا بنوعية تاريخها ،وال عالقة لها تقريبا بما يقال حول الماضي ( .طومسن :الماضي الخرافي ،سبق ،ص) 54 ، 48، 47 :
يؤكد طومسن كذلك أنه حتى في حاالت العثور على النقوش القديمة ،التي تشير إلى شخصية
أو أخرى أو حكاية أو أخرى والتي ال يمكننا أن نعرفها بغير ذلك إال من التوراة ،فإن إثبات
الحكاية التوراتية الذي يسمح لنا بقراءتها كما لو كان تاريخا ،يبقى محيرا .والسبب في أن
هذه النصوص القديمة تبدو دائما قاصرة عن إعطائنا الدليل الذي يلزمنا هو أن طريقتنا في
فهم الماضي ال يشاركنا فيها مؤلفوا هذه النصوص أو نصوص أخرى قديمة،ويعطينا طومسون في عدة أمثلة ،الدليل على أن التوراه قد جمعت وأعادت استخدام حكايات قديمة جدا من
الماضي ،ويؤكد أنه ،حتى الدليل من نصوص خارج التوراة ،الذي يثبت أن بعض الحكايات التوراتية مستمدة من مصادر قديمة جدا ال يثبت تاريخية هذه القصص ،بل على العكس
تماما ،إنه يثبت تقديم التوراة لها بوصفها حكايات تخيلية عن الماضي (.الماضي الخرافي:
ص) 60، 54 :
يقدم طومسون لنا قراءة جديدة لنصوص التوراة ال مجال هنا لعرضها بالتفصيل ولكننا سنحاول
باختصار شديد عرض األسس التي تقوم عليها هذه القراءة لألهمية .تقوم هذه القراءة على أن ناقلي و جامعي التراث التوراتي قد استعملوا الخيال القصصي من أجل التعبير عن الصراع
الدائم بين الخير والشر والخالص ،وعماد ذلك كله الصراع بين اإلنسان و الرب يهوة ،حيث أن
الخير والشر هو ما يراه يهوه خي ار وما يراه ش ار والخالص هو في اإلخالص للرب يهوه،
وطاعته .الخطأ والصواب ،والخير والشر ،ال يخضعان لمنطق وفهم اإلنسان وانما إلرادة الرب،
فهو وحده يحدد الخطأ والصواب والخير والشر وخالص اإلنسان ،هو في طاعة الرب وإلخالص
له.
يحدثنا طومسن كيف أن النصوص التوراتية تتحدث عن حكايات "إسرائيل" بما لها من دالالت كونية وأبدية بوصف" إسرائيل" ممثال لإلنسانية والمولود البكر ليهوه .تتمحور الحبكة
62
القصصية على صراع اإلرادتين المتنافستين للرب والبشر ،الذي يتكرر من أول " التوراة" إلى
آخرها ،واختيار إسرائيل من قبل يهوه كمولوده البكر ،والذي يليه ندم يهوه على خياره ،لخيانة إسرائيل له ورفضه إياه ،وهذا ما خلق مصي ار يعرف بالغضب اإللهي .فالقضية المهيمنة هي قضية الغرور والمصير ،والنزاع والصراع .إنها أكثر من قصة وعد مؤجل ،تلك الحكاية
التسلسلية التي تميز أصول إسرائيل منذ إبراهيم فصاعدا ،تتسم في الجوهر بقصة إطاحة،
فالماضي هو مشهد اإلخفاق الذي يتعين التغلب عليه عن طريق "إسرائيل جديد" ،سيتبع في
النهاية ما شاء له الرب يهوه.
لقد لعب إسرائيل باألحرى دو ار ضمن قصة خلقية ،فالدور الذي لعبه ،هو بالنيابة عن كل
البشرية .وتصارع إسرائيل مع الرب هو المصير الذي عرف قبل ذلك في قصص سفر التكوين
() 11-1بوصفه قدر كل إنسان ،فإن التصارع مع الرب يعني أنك إنسان ،إنه قدر الجميع.
ويمكن القول أنه ال األرض ،وال المملكة ،ال السامرة وال أورشليم ،بل الناموس ،توراة الرب ،
هو الميراث الحقيقي .ناقلو وجامعوا هذا التراث يعتبرون أنفسهم بمثابة الناجين والباقين
العائدين من المنفى بوصفهم ينتمون إلى
" إسرائيل الجديدة" ،طريق التوراة بعد أن تطهروا في عذاب المنفى .كما أن موضوعة عبور
المياه التي تتكرر في قصص يعقوب وموسى ويشوع ،كانت كلها تشترك بالهدف المجازي
المشترك لتجاوز الماضي وخلق بداية جديدة في " إسرائيل جديده" مطيعة للرب يهوه.
يؤكد طومسن أنه ،ليست تلك القصص ذات القطبية والنزاع في تراثات األصل التوراتية حول
إسرائيل القديمة قصصا تعكس النزاعات اإلقليمية واألثنية في الماضي ،إنها محض شروحات
لما يعتبره التراث نزاعا متعاليا بين الخير والشر .إن قصة التوراة ،قصة النزاع والحرب ،من
موسى إلى يشوع وتدمير أورشليم ،هي حدوثات متكررة للصراع بين إرادة الرب وغرور البشر.
إن إسرائيل التوراتية ( في رأي طومسن) ،كعنصر من عناصر التراث والقصة ،مثل إسرائيل
قصص التذمر والفقر ،أو شعب قصص سفر الملوك الثاني الذين هم كافرون مثلما أن ملوك
ها كافرون ،أو إسرائيل الضائعة ،التي هي موضوعة خطبة نبوية في سفري إشعيا وعاموس
،إنما هي اختالق الهوتي وأدبي .هذه اإلسرائيل هي ما يدعوها طومسن( ،إسرائيل القديمة).
إنها تقدم بوصفها النقيض القطبي ل( إسرائيل جديدة) الهوتية وأدبية بالقدر نفسه ،الذي هو ،
على سبيل المثال ،الصوت الضمني لسفر األخبار الثاني ،وسفر المزامير وميثاق دمشق واألناجيل.
63
يؤكد طومسن أن التوراة ليست كتاب تاريخ ،وال يمكن العثور عليه ضمن تاريخ فلسطين،
فاألصول التوراتية تنتمي إلى العالمين الفكري واألدبي وليس إلى عالم األحداث ،سياسية كانت
أو اجتماعية،و يمكن وصف " التوراة" بأنها أدب للخالص أو أدب خالصي ( .نفس المصدر) التوراة إذن ليست كتابا منزال من عند اهلل ،وانما كتاب كتبه بشر .هذا من جهة ومن جهة
أخرى فالتوراة ليست بأي حال من األحوال كتاب تاريخ وال يمكن اعتبارها مصد ار موثوقا لكتابة تاريخ فلسطين ومنطقة الشرق األدنى ،وكل ما كتب لحد اآلن عن تاريخ المنطقة ،مستمدا
من روايات التوراة ،مشكوك في صحته وعلى المؤرخين إعادة كتابة تاريخ المنطقة بناءا على
الحفريات والوثائق التاريخية التي اكتشفت في المنطقة.
64
– 2ابراهيم ونسله :حقيقة تاريخية أم أسطورة؟
لقد كتب المؤرخون الغربيون والعرب تاريخ إبراهيم وساللته معتمدين على رواية التوراة عنهم
.ولم يرد اسم ابراهيم وأسماء ساللته وتاريخهم في أي وثيقة يمكن اعتمادها كمصدر تاريخي،
والمصدر الوحيد الذي لدينا والذي يتحدث عن تاريخ إبراهيم وسال لته في الزمان والمكان هو
التوراة التي ثبت عدم مصداقيتها.
ولقد ورد ذكر إبراهيم وساللته في القرآن الكريم ،ولكن القرآن لم يضع قصصهم في إطار
تاريخي ولم يحدد الزما ن والمكان إال في إطار ما يخدم القصة والعبرة المقصودة منها.
التوراة كما مر معنا تذكر مدينة" أور" كمسقط رأس إبراهيم ،ولقد اعتبر التوراتيون أور هذه
في أرض العراق القديم ،وبناءا على ذلك غرس في الوعي التاريخي أن مسقط رأس إبراهيم هو أرض العراق القديم .ولكن التوراة كما مر معنا أيضا تذكر كل من آرام نهاريم وحران
كمسقط رأس عازر والد إبراهيم وعائلته مما دعا بعض الباحثين للتأكيد على أن مسقط رأس إبراهيم وقبيلته هو منطقة حران اآلرامية الواقعة في األراضي التركية األرمنية.
لقد اتفق مؤرخوا التراث االسالمي مع المؤرخين التوراتيين في كون العراق القديم موطن النبي
إبراهيم األول ،ولقد ورد في قول الثعلبي النيسبوري( قصص األنبياء ،أو عرائس المجالس،
المكتبة الثقافية ،بيروت ،ص ") 72 :أن العلماء اختلفوا في الموضع الذي ولد فيه ،فقال
بعضهم :كان مولده بالسوس من أرض األهواز ،وقال بعضهم :كان مولده ببابل من أرض
السواد بناحية يقال لها كوثا،وقال بعضهم :كان مولده بالوركاء في حدود كسكر ،وقال بعضهم: كان مولده بحران لكن أبوه نقله إلى بابل ،وقال عامة أهل السلف من أهل العلم :ولد إبراهيم عليه السالم زمن نمرود بن كنعان" ولم يرد اسم نمرود بن كنعان هذا في أي وثيقة تاريخية
في المنطقة ،ولقد بحثت عن هذا االسم في كتب تاريخ ما بين النهرين فلم أجد هذا االسم أو
شبيها له بين ملوك ما بين النهرين الذين حكموا هذه البالد في أي مرحلة من مراحل التاريخ .
( ليو أوبنهيم :ما بين النهرين القديم"انشنت ميزوبوتاميا" صورة حضارة بائدة ،صدر عن
جامعة شيكاغوا عام ، 1977الترجمة التشيكية ،عام . 2001يانا بيتريتشكوفا :آشور (
أسيريا) منذ الدولة المدينة ،صدر عن األكديمية التشيكية،براغ . 2001 ،يوسف كليما :سكان
ما بين النهرين ،أوبزر،براتسالفا،سلوفاكيا.) 1988،
أما ابن كثير( البداية والنهاية ،دار الكتب العلمية ،بيروت ط، 1988 ،4ج، 1ص) 132 :
فيقول أن أرض إبراهيم عليه السالم التي ولد فيها هي أرض الكلدانيين ،يعنون أرض بابل ،
65
وهذا هو الصحيح المشهور ،عند أهل السيرة والتاريخ" .ويقول :في نفس المصدر " :أن تارخ
انطلق بابنه إبراهيم وزوجته ساره وابن أخيه لوط ابن هاران ،فخرج من أرض الكلدانيين إلى أرض الكنعانيين ،فنزلوا حاران ،فمات تارخ وله مئتان وخمسون سنة ،وهذا يدل على أنه لم يولد بحاران وانما مولده بأرض الكلدانيين".
واذا كان كتبة التوراة قد استغلوا األسطورة في سبيل خدمة هدفهم الديني ،فإن كتبة التراث
اإلسالمي ومؤرخوه تجاوزوا ذلك وسرحوا في الخيال العجيب الغريب.
يقول مؤرخوا التراث اإلسالمي أن نمرود هذا كان حاكما طاغيا غالى في طغيانه ،وأخذ يجبر
الناس على عبادته ،وذات يوم ذهب إليه كبير كهانه وعرافيه وأخبره أنه قد آن أوان ميالد
شخص جليل ،وأنه على يد هذا الشخص سينتهي شأن نمرود .فما كان من هذا الملك
الطاغي إال أن أمر بتقتيل جميع الذكور الذين ولدوا في هذا العام (.أال يذكرنا هذا بقصة
موسى و عيسى وغيرهم ) .ولما أتى أم إبراهيم المخاض توجهت إلى مغارة في الجبل ،حيث
وضعت وليدها هناك ،وتركته تحت رحمة األقدار وعادت إلى القرية .وبعد ثالثة أيام عادت
لترى وليدها في المغارة حيث تركته ،وهناك وجدت الوحوش والطيور حاشدة عند باب المغارة، فخافت أن يكون قد أصاب ابنها سوءا ،فدخلت المغارة ،فألفته سليما معافا ،يجلس على
فراش من سندس .ولقد الحظت أنه يمص أصابعه وأن لبنا يخرج من إصبع وعسال من إصبع
آخر ،وماء من الثالث .وكان اليوم يمر على إبراهيم عليه السالم كالشهر ،والشهر كالسنة.
فلم يمكث إبراهيم في المغارة إال خمسة عشر يوما ،حتى جاء إلى أبيه آزر ليخبره أنه ابنه(.
محمد حسن عبد الحميد :أبو األنبياء،إبراهيم الخليل ،تقديم حسين محمد مخلوف ،مفتي الديار
اإلسالمية سابقا ،دار سعد القاهرة ،ط ،1ص ، 18 :و الثعلبي النيسبوري :عرائس المجالس،
نفس المصدر،ص) 76 :
يصل خيال كتبة التراث الذروة ،في وصف النهاية التي لقيها الملك الطاغي نمرود ،حيث أرسل
اهلل على قومه ذبابا من البعوض ،بحيث لم يروا عين الشمس ،وسلطها اهلل عليهم فأكلت
لحومهم ودماءهم وتركتهم عظاما بالية ،ودخلت واحدة منها في منخر الملك ،فمكثت أربعمائة سنة ،عذبه اهلل بها ،فكان رأسه يضرب بالمرازب هذه المدة كلها حتى أهلكه اهلل عز وجل(.
ابن كثير :البداية والنهاية،نفس المصدر ،ج ، 1ص) 141 :
إبراهيم كما ورد في التوراة ،هو أب لسلسلة من األنبياء والرسل ،إسحق ويعقوب واسماعيل ويوسف .ولقد حاولت التوراة أن تقنعنا بأن سلسلة األنبياء استمرت في ساللة موسى التي
تمر بيشوع وداود وسليمان ،وأكد على ذلك كثير من كتبة التراث اإلسالمي.
66
لقد اضطر الباحثون لالعتراف بأنه لم يعثر حتى اآلن على دليل آثاري واحد ،في وادي
الرافدين أو في غيرها من المناطق المجاورة سواء كان كتابة أو نقشا أو نصا تقبل – حتى –
التأويل ،يمكن أن يشير من قريب أو بعيد إلى وجود النبي إبراهيم وعشيرته في بالد الرافدين
أو في المناطق المجاورة وخروجه منها إلى فلسطين،وأقامته وأهله فيها ،على كثرة ما اكتشف فيها من تفاصيل ووثائق (.زنون كوسيدوفسكي،ما قاله األنبياء ،سبق ،ص) 56-47 : لقد حاول الباحث في علم اآلثار االنجليزي الجنسية ليونارد وولي البحث في مدينة أور
العراقية عن أي أثر يدل أو يشير إلى وجود إبراهيم فلم يفلحBiblical ( . Archeologist1978, N4, s,144
) .ولم ينجح الباحثون كذلك في اكتشاف أي أثر
إلبراهيم وقبيلته في " ألبي" حيث وجد عدة آالف من اللوحات والتي حدد تاريخها من – 2600
2300قبل الميالد .تحكي هذه اللوحات عن أعمال الحكام وعن النشاط الديني ،إلى جانب تسجيل لألعمال التجارية و الصناعية( .نفس المصدر ،ص. ) 151 :
يقول جان بوتيرو (بابل والكتاب المقدس ،سبق ،ص ) 226 :أن جميع القصص التي تسبق
أصول إسرائيل في شخص إبراهيم ،هي جزء من مثيولوجيا ،مثلما تبين ذلك جيدا مواز ياتها
الرافدية .ويقول :هناك كل احتماالت العالم أن يكون وجود إبراهيم واألنبياء الذين خلفوه
صحيحا .ولكن هناك أيضا كل احتماالت العالم أن كل ما يروى لنا عنهم ،عدا األسماء
والمعطيات العامة مبلل بالفلكلور والخرافة إلى درجة يصعب معها استخالص شيء متماسك منها على صعيد التاريخ .المستحيل ،ال يمكن من الوقوف على شيء ،فما نفع القيام
بالفرضيات والشكوك والنتائج التقريبية (.نفس المصدر) .ويقول في مكان آخر أن التاريخ ال يكتب بدون وثائق وحقائق تاريخية على األرض... ،والمؤرخ ال يتدخل في المعتقدات :يكتفي
بإنشاء المعطيات الحقيقية والقابلة للمعرفة،التي تقوم عليها المعتقدات ،وذلك بالوسائل
نفسها التي يستخدمها قاضي تحقيق ،وللغاية نفسها التي يرمي إليها ،وباعتبار أن اإليمان
وسرعة التصديق كثي ار ما يترافقان ،فإنه يحدث أن ينفض المؤرخ عرضا ،عن المعطيات التي
يقوم عليها اإليمان :أن يشترك به ،يتجاهله،أو يحاربه ،فإنه ال يفعل ذلك قط بصفته مؤرخا.
المؤرخ يزود الجميع بالمجمل المساحي للماضي الحقيقي ،وكل إنسان من بعده ،يتملى في
هذا الماضي مثلما يريد (.نفس المصدر،ص) 225 :
لقد وصل بعض الباحثين في األعوام األخيرة ،إلى قناعة بأن شخصية إبراهيم شخصية
أسطورية وغير تاريخية وأن حكايات التوراة تقدم أصوال أسطورية لألمم باعتبار إبراهيم أبا
لهم حسب بلدانهم ولغاتهم ،وليست تلك األنساب والقصص كتابة تاريخ .كما أن جميع
قصص البطارقة في التوراة ،مجرد قصص خرافية ال ظل لها من الحقيقة ،وان إسرائيل قصة
67
يعقوب الذي تصارع مع الرب والذي كان األب الثني عشر ولدا ،أصبحوا جميعا بدورهم آباء
قبائل إسرائيل األثني عشرة ،إنما هي شخصية من وحي الخيال ،قائمة على الوجود المزعوم إلسرائيل بأسباطها األثني عشر ،وقليل من الباحثين يشكون اليوم في ذلك..
(طومسن:الماضي الخرافي،سبق ،ص) 95،147 :
68
- 3
موسى :و صمت الوثائق المصرية.
يعد موسى أيضا ،من الشخصيات التي حيرت المؤرخين واختلفوا في كل ما يتعلق به ،في
أصله وموطنه ،وحياته ومماته وتعاليمه ،وخروجه من مصر ومن هم الذين خرجوا معه ،ألن
المصدر الوحيد الذي يتحدث عن تاريخ موسى ،هو التوراة.
القرآن الكريم يحدثنا أيضا عن موسى ،النبي الذي عاش في القصر الفرعوني والذي كان
يدعو إلى عبادة اهلل الواحد ،خالق السماوات واألرض .ولكن القرآن الكريم ال يحدثنا عن
أصوله العرقية ،وال نعرف من اآليات القرآنية من هو أبوه ومن هي أمه ،ولكننا نعرف أنه كان
له أخا اسمه هارون .وال نعرف من اآليات القرآنية من هو الفرعون الذي حكم مصر في زمانه وفي أي وقت حكم .كما ال نعرف من اآليات من هم الذين خرجوا معه ،وهل خرج معه بنو
إسرائيل وحدهم أم خرج معه جماعات أخرى ،وكم عدد الذين خرجوا معه .كما ال تحدثنا اآليات
القرآنية عن موت موسى وكيف مات وأين دفن.
يقول لويستر .ر ( األسطورة والتاريخ في كتاب الخروج :نشر في " رلجن= الدين" عام
1979رقم 6ص " )167 :أن قصص كتاب الخروج هي في الحقيقة حكايات أسطورية
محولة إلى تاريخ ،فمن وجهة نظر علم التاريخ الحديث فان هذه الوقائع لم تحدث في التاريخ
أبدا”.
التاريخ كعلم بحفائره و آثاره الشاهدة يعرف تاريخ مصر جيدا ،وقد انتهى إلى ترتيب
تاريخها الزمني عبر أسرات ودول من( مينا) موحد القطرين مرو ار ببناة األهرام حتى
الشناشقة والبطالمة .فأرض مصر تفيض بالحفائر واآلثار والوثائق والمعلومات.
لقد ترك لنا المصريون القدماء مئات األلواح والرسومات والوثائق التي تتحدث بالتفصيل عن
تاريخ مصر وملوكها وعالقاتها الخارجية وحروبها مع الدول المجاورة .فاللوحة التي وجدت في معبد سيتي األول و رمسيس الثاني تحدثنا بلغة هيروغالفية واضحة عن أسماء 76ملكا
مصريا والتي تبدأ بالفرعون (مينا) و تنتهي بالفرعون رمسيس األول .أما اللوحة الثانية،
من أيام رمسيس الثاني فإنها تحتوي على 48اسما لفراعنة مصرين .هذا إلى جانب عدد كبير من لفائف البردى المتعددة الحجم والتي تحتوي على سجل بأسماء الملوك خاصة
لفائف تورين الذي تحتوي على أسماء خمسين ملكا مصريا من األسرة األولى إلى األسرة
الثانية عشرة .إلى جانب ذلك فلقد وجد العديد من الوثائق التي تتحدث عن مدد محددة من
69
تاريخ مصر ،وتتألف من نقوش على المباني والمعابد والمسالت المصرية القديمة وعلى
األعمدة التذكارية والحاجات الشخصية وعلى الصخور وخاصة في البلدان التي غزاها
المصريون و احتلوها وأيضا على شواهد قبور القادة والنبالء ،كثير منها يحتوي على
معلومات مفصلة لدرجة أنها تحتوي إلى جانب أسماء الملوك المحبوبين و كذلك أسماء كالبهم ( .فويتيخ زامورسكي :آلهة و ملوك مصر القديمة ،نشره باللغة السلوفاكية
بيرفيكت -براتسالفا عام ، 2000ص) 18-1 :
مصر تعج كذلك بالوثائق المكتوبة والتي تمكننا من فهم فنون مصر القديمة ،مثل التماثيل و
الرسوم والنقوش والمسالت ،و من بين أقدمها نصوص " أهرام ملوك الدولة القديمة" .و
من الدولة الوسيطة نجد نصوص توابيت ما بين الطريقين من المقبرة التي تقع بجانب بيرشي
غير بعيدة عن إشمونة ،أما من الدولة الحديثة فلقد عثر على نصوص تحتوي على معلومات تفصيلية عن مختلف جوانب الحياة المصرية في تلك الفترة ،كثير منها وجد في مقابر
عاصمة الدولة الحديثة " واسط " ،و من بين الوثائق المهمة و ذات القيمة التاريخية والفنية
" كتاب األموات " الذي يحتوي على مجموعة من النصوص تشرح تصور المصريين القدماء عن الحياة والموت و مملكة العالم السفلي (.زامورسكي :سبق ).
إلى جانب كل ذلك فإن مصر تعج بمئات الوثائق التي تحتوي على نصوص أدبية وفنية
وعلمية وتعليمية ،تتحدث عن علم الحساب والطب والفلك و التجارة واالقتصاد واالدارة وأخبار
الحروب والفتوحات والقادة العسكريين والمفتشين والمحاكم مما ساعد علم التاريخ الحديث على رسم صورة دقيقة لتاريخ مصر القديم ( ..نفس المصدر) .كل ذلك دفع بالباحث
زامورسكي للقول بأننا اليوم نملك صورة واضحة لتاريخ مصر القديم أوضح وأدق بكثير من
الصورة التي لدينا عن تاريخ ممالك أوروبية مثل المملكة المورافية الكبيرة" في القرن التاسع
الميالدي" ( .نفس المصدر)
التاريخ كعلم بحفائره و آثاره الشاهدة يعرف تاريخ مصر جيدا ،وقد انتهى إلى ترتيب تاريخها الزمني عبر أسرات ودول من( مينا) موحد القطرين مرو ار ببناة األهرام حتى الشناشقة والبطالمة .فأرض مصر تفيض بالحفائر واآلثار والوثائق والمعلومات.
لقد ترك لنا المصريون القدماء مئات األلواح والرسومات والوثائق التي تتحدث بالتفصيل عن
تاريخ مصر وملوكها وعالقاتها الخارجية وحروبها مع الدول المجاورة .فاللوحة التي وجدت في معبد سيتي األول و رمسيس الثاني تحدثنا بلغة هيروغالفية واضحة عن أسماء 76ملكا
مصريا والتي تبدأ بالفرعون (مينا) و تنتهي بالفرعون رمسيس األول .أما اللوحة الثانية،
من أيام رمسيس الثاني فإنها تحتوي على 48اسما لفراعنة مصرين .هذا إلى جانب عدد
70
كبير من لفائف البردى المتعددة الحجم والتي تحتوي على سجل بأسماء الملوك خاصة
لفائف تورين الذي تحتوي على أسماء خمسين ملكا مصريا من األسرة األولى إلى األسرة
الثانية عشرة .إلى جانب ذلك فلقد وجد العديد من الوثائق التي تتحدث عن مدد محددة من تاريخ مصر ،وتتألف من نقوش على المباني والمعابد والمسالت المصرية القديمة وعلى
األعمدة التذكارية والحاجات الشخصية وعلى الصخور وخاصة في البلدان التي غزاها
المصريون و احتلوها وأيضا على شواهد قبور القادة والنبالء ،كثير منها يحتوي على
معلومات مفصلة لدرجة أنها تحتوي إلى جانب أسماء الملوك المحبوبين و كذلك أسماء كالبهم ( .فويتيخ زامورسكي :آلهة و ملوك مصر القديمة ،نشره باللغة السلوفاكية
بيرفيكت -براتسالفا عام ، 2000ص) 18-1 :
مصر تعج كذلك بالوثائق المكتوبة والتي تمكننا من فهم فنون مصر القديمة ،مثل التماثيل و
الرسوم والنقوش والمسالت ،و من بين أقدمها نصوص " أهرام ملوك الدولة القديمة" .و
من الدولة الوسيطة نجد نصوص توابيت ما بين الطريقين من المقبرة التي تقع بجانب بيرشي
غير بعيدة عن إشمونة ،أما من الدولة الحديثة فلقد عثر على نصوص تحتوي على معلومات
تفصيلية عن مختلف جوانب الحياة المصرية في تلك الفترة ،كثير منها وجد في مقابر
عاصمة الدولة الحديثة " واسط " ،و من بين الوثائق المهمة و ذات القيمة التاريخية والفنية
" كتاب األموات " الذي يحتوي على مجموعة من النصوص تشرح تصور المصريين القدماء
عن الحياة والموت و مملكة العالم السفلي (.زامورسكي :سبق ).
إلى جانب كل ذلك فإن مصر تعج بمئات الوثائق التي تحتوي على نصوص أدبية وفنية
وعلمية وتعليمية ،تتحدث عن علم الحساب والطب والفلك و التجارة واالقتصاد واالدارة وأخبار
الحروب والفتوحات والقادة العسكريين والمفتشين والمحاكم مما ساعد علم التاريخ الحديث على رسم صورة دقيقة لتاريخ مصر القديم ( ..نفس المصدر) .كل ذلك دفع بالباحث
زامورسكي للقول بأننا اليوم نملك صورة واضحة لتاريخ مصر القديم أوضح وأدق بكثير من
الصورة التي لدينا عن تاريخ ممالك أوروبية مثل المملكة المورافية الكبيرة" في القرن التاسع
الميالدي" ( .نفس المصدر)
كما أنه ال يوجد أي ذكر ال من قريب أو من بعيد لموت كل بكر في مصر و لصراخ عظيم
في كل مصر ألنه" لم يكن بيت ليس فيه ميت" كما تحدثنا التوراة ،كما ال نجد أي ذكر أو
أي رمز يشير إلى تحول مياه النيل في مصر إلى دماء ،كما ورد في التوراة ،كما ال يوجد أي ذكر لقوم عاشوا في مصر يدعون بني إسرائيل وال يوجد لهؤالء أي أثر تاريخي في وثائق مصر هذه .كل ما يوجد هو لوحة واحدة منقور فيها جملة يتيمة تذكر مجموعة
71
صغيرة في فلسطين اسمها إسرائيل ،وهي اللوحة المدعوة "لوحة إسرائيل" والموجودة في
المتحف المصري تحت رقم (، 34025نفس المصدر ،ص ) 241 :وتتحدث عن المعارك التي خاضها الفرعون ميرنفتاح ،و الدويالت التي سيطر عليها في فلسطين ،وفي هذه
اللوحة نجد جملة" أما إسرائيل فلقد محيت بذرتها إلى األبد" .هذه الجملة اليتيمة دعت
إلى تسمية اللوحة باللوحة االسرائيلية ودفعت الباحثين على التفكير والتأويل والبحث عبثا
عن تاريخ إسرائيل األسطوري المزعوم في فلسطين.
يقول توماس طومسن في ذلك أنه ":بالطبع كان ثمة إسرائيل ما ،فاالسم نفسه يستخدم
قبل اآلن في نهاية العصر البرونزي المتأخر على نصب تذكاري مصري
( يعني لوحة إسرائيل المذكورة أعاله) لإلشارة إلى شعب كنعان الذي قاتلته حملة الفرعون مرنفتاح العسكرية إلى فلسطين .ولكنها ليست "إسرائيل" التي يتداولها الكتاب(التوراة)
...ويقول أنه من الغريب أن يتعامل هذا القدر الكبير من التوراة مع تراثات األصل ،لشعب
لم يوجد أبدا في حد ذاته إن أرض ولغة هذه األمة المجازية،تاريخ هذا الشعب المتخيل ال يعطينا قصة إسرائيل حول ماضيها أو أي قصة أصل تؤكد الهوية الذاتية إلسرائيل أو
فهمها الذاتي القومي .لقد منح التراث التوراتي هوية ليس إلسرائيل بل لليهودية ،ليس
بوصفها أمة من األميين(جويم) بل بوصفها شعب الرب :إسرائيل المولودة من جديد في
حياة التقوى (.الماضي الخرافي ،سبق ،ص)88- 87 :
السؤال المطروح اآلن كيف يمكن أن تمر مثل هذه الحوادث و هذه الشخصيات البالغة األهمية من دون أي ذكر لها في الوثائق المصرية؟ هل من المعقول أن تمر تلك الحوادث وتلك
الشخصيات من دون ذكر لها في هذه الوثائق التي شرحت كل شاردة وواردة من جميع جوانب الحياة المصرية ،لو أن هذه الحوادث كانت قد حدثت فعال كما تحدثنا عنها التوراة ولو أن
هذه الشخصيات كانت فعال تاريخية و ليست مختلقة أو أسطورية؟ أليس لنا حق بهذا السؤال ؟ وهل يمكن أن نصدق قول التوراتيين بأن صمت الوثائق المصرية عن ذكر أي شيء يتعلق بإسرائيل هو متعمد من كتبة تاريخ مصر( زاماروفسكي :المصدر السابق) ،وهل يمكن أن
يكون الصمت كامال وتاما وأن ال تفلت كلمة من هنا ولمحة من هناك ،قابلة حتى للتأويل؟ أم
أن الوضع كما يراة توماس طومسون حين يقول " :أن الثقة السابقة في وجهة النظر القائلة
بأن " الكتاب" ( أي التوراة) هو وثيقة تاريخية هي في طور اإلنهيار .فقد تم التعبير عن الشك
الواسع االنتشار ليس فقط حول تاريخية آباء سفر التكوين ،بل تاريخية القصص حول موسى
ويشوع والقضاة أيضا.
( الماضي الخرافي،سبق ،ص) 34-33:
72
لقد حظيت شخصية موسى اهتماما بالغا من قبل الباحثين والمنقبين والمؤرخين قلما نالته
شخصية أخرى في التاريخ ،و لقد حاول الباحثون التنقيب عن أصله وميالده ونشأته ومماته وتعاليمه و زمن خروجه من مصر و من هم الذين خرجوا معه إلى سيناء ،وعددهم وقصة
عبوره البحر الخ .لقد بقيت كثير من األسئلة المطروحة بدون جواب شافي حتى اعتبره
بعض الباحثين شخصية أسطورية ،بل وأكثر الشخصيات ميثولوجية على االطالق ( زنون كوسيدوفسكي :ما قاله األنبياء ،ذكر سابقا ،ص.) 103– 100 :
ال يحتاج قارئ التوراة إلى كثير من الذكاء حتى يصل إلى نتيجة بأن قول التوراة بأن "
اإلسرائيليين في مصر قد أصبحوا أكثر وأعظم من المصريين " خروج 22 – 15/1و 2م
9-1قول يجافي العقل والمنطق إذ من غير المعقول أن يعيش سبعين إسرائيليا دخلوا مصر
مع يوسف التوراتي ،لمدة أربعة أجيال فقط فيصبحوا أكثر وأعظم من المصريين .كما أن
عدد اإلسرائيليين المذكور في التوراة والتي تقول أنهم خرجوا مع موسى من مصر ،أيضا يجافي العقل والمنطق ،حيث تقول التوراة أنه قد ارتحل مع موسى نحو ستمائة ألف ماش
من الرجال عدا األوالد " خروج 37/12واذا حسبنا النساء واألطفال فإن عدد الذين خرجوا مع
موسى يزيد على المليون ،وهو عدد غير منطقي ،فمن غير المعقول أن سبعين شخصا دخلوا مع يوسف خالل أربعة قرون وثلث القرن أن ينجبوا هذا العدد الهائل ،كما ليس من المعقول
أن يخرج هذا العدد الهائل دفعة واحدة مع مواشيهم وأمتعتهم ( .كريفيلوف ،سبق ص141 :
)
كما اعتبر كثير من الباحثين أن قصة إلقاء موسى الطفل باليم يحمله التيار إلى بيت فرعون
أو إلقائه على شاطئ النهر ما هي إال قصة أسطورية كانت معروفة في ذلك الزمان و كانت تروى عن شخصيات أخرى ألقيت ووجدت بنفس الوسيلة مثل سرجون البابلي ( .زنون
كوسيدوفسكي :ماذا قاله األنبياء ،نفس المصدر ،ص) 102 :
ومن أهم القضايا التي أثارت جدال بين الباحثين هي عالقة عقيدة التوحيد الموسوية بعقيدة
إخناتون التوحيدية ،فقلما نجد باحثا تناول بدراسته النبي موسى إال وذكر الفرعون إخناتون فرعون التوحيد .ولقد قام كثير من الباحثين بدراسة العالقة بين العقيدة األ تونية التي نادى بها الفرعون إخناتون في مصر وبين عقيدة التوحيد الموسوية .ولقد ربط الباحثون بين
العقيدتين بناء على شواهد عدة منها تلك التي قدمها ديورانت والتي قدمها بريستد ،عن
التشابه الدقيق بين أناشيد إخناتون لربه الواحد وبين المزامير واألمثال في التوراة .ولقد عقد
كل من هنري برستد و آرثر ويجال مقارنة بين صلوات إخناتون وأحد المزامير العبرية فاتفقت
المعاني بينها اتفاقا يبعد عن أن يكون نتيجة لتوارد الخواطر (راجع ،أ .ويجال :حياة و زمن
73
أخناتون فرعون مصر ،لندن ،طبعة 2عام 1934ص ، ، 136-134 :بريستد :فجر
الضمير ،ترجمة سليم حسن ،مكتبة مصر-القاهرة)،
لم يكن التشابه بين عقيدة أتون اإلخناتونية وعقيدة موسى التوحيدية هو السبب الوحيد الذي دفع الباحثين لدراسة العالقة بين إخناتون وموسى ولكن هناك أسباب عدة دفعت إلى ذلك ،
منها ،الصمت التام للوثائق التاريخية المصرية عن ذكر موسى وعقيدته وحياته ومماته ،إلى
جانب بعض التشابه في حياة موسى كما ورد في التوراة وبين حياة إخناتون ،حيث كالهما أقام عند أقاربه في مدين في صحراء سيناء فترة من الزمن إلى جانب زواجهما من أجنبية
يعتقد أنه في كال الحالتين ميتانية وأنه لحد اآلن ال يعرف كيف مات إخناتون وأين دفن ولم
يستطع علماء اآلثار العثور على قبره إلى جانب أسباب أخرى متعددة.
وفق الحسابات التاريخية التي أجمع عليها أهل علم المصريات ،يفترض أن يكون إخناتون
قد ولد حوالي عام 1400قبل الميالد ،في مدينة طيبة عاصمة مصر اإلمبراطورية في أقصى
جنوب البالد .كان أبوه أمنحتب الثالث الذي حكم حوالي 1379-1417قبل الميالد ،وهو الفرعون المشهور برخاء عصره ،حيث تدفقت خيرات البالد المفتوحة على عاصمة
اإلمبراطورية ،فكان قمة عصر الرخاء في تاريخ العالم القديم .وأمه ( تي ) كانت أجنبية ولم
تكن مصرية ولقد تزوجها أمنحتب الثالث وعينها ملكة ولقد لعبت دو ار مهما في األحداث التي
جرت في عهد ولدها أمنحتب الرابع /إخناتون .ولقد كانت أم أمنحتب الثالث أيضا أجنبية ،
ولقد تزوج إخناتون بدوره امرأة غير مصرية هي نفرتيتي ( .زاماروفسكي :سبق ،ص-20 :
) 30
لقد تم إرسال إخناتون وهو طفل صغير إلى سيناء للعيش عند أخواله ولقد اختلف المؤرخون في سبب ذلك ،ولقد عاد بعد موت أبيه ليحكم سبعة عشرة سنة وكان عمره ال يزيد على ستة عشرة سنة ،ولقد عاونته أمه في السنوات األولى من حكمه .وقد بدأ حكمه مثل
أسالفه من ملوك مصر بعبادة اإلله أمون إله الدولة في ذلك العصر ،ثم أعلن لنفسه إلها
جديدا باسم ( أتون) واختار قرص الشمس ذي األيدي البشرية واألذرع الرفيعة ،ليكون رم از
لإلله أتون ،ثم غير اسمه من أمنحتب الرابع إلى إخناتون .ويبدو أن إخناتون وجد نفسه في طيبة محاط بمناخ معاد من كهنة وأتباع اإلله أمون ،فأخذ ق ار ار ببناء عاصمة جديدة تحمل
اسم ( أخت أتون ) في موقع تل العمارنه ،انتقل إليها مع حاشيته وأتباعه المخلصين الذين
اختارهم من الفئات االجتماعية المضطهدة .
لقد اعتبر إخناتون اإلله أتون الذي ليس له صورة أو تمثال ،إلها أوحد واحد لكل البشر ،
يطلب كل المساحة لنفسه و يستبعد كل اآللهة .ولقد تركز االضطهاد الشديد على أمون
74
وعائلته ليس فقط في المعابد ،بل حتى في حجرات المدافن الخاصة ،كما أجبر كل من يحمل
اسما يحتوي أمون على تغيره .ولقد كانت أياما عصيبة على كهنة أمون وعموم الشعب
المصري ،الذي يبدو أن عقيدة إخناتون الجديدة لم تتغلغل في صفوفه .ففراعنة تل العمارنة تزوجوا أجنبيات ،فزوجة إخناتون و أمه و جدته غير مصريات .
و ها هو إخناتون ينفي أمون وبطانته وقوانينه المقدسة ويضطهد كل من آمن به أو تسمى
باسمه .ولذلك عمل كهنة أمون والمصريون عموما كل ما في وسعهم لعزل الفرعون بكل ما
له من قدسية ،وتم نفيه بعد حكم دام سبعة عشرة سنة إلى منطقة منعزلة رآها البعض عند
قلعة شور /سيلة في سيناء وحددها البعض اآلخر إلى القصر الفرعوني الصيفي في مدينة
حواريس القديمة على الدلتا الشرقية مع سيناء حيث كان يعيش بقايا الهكسوس األسرى . وبعد هذا اختفى إخناتون من التاريخ ولم يكن من المقدور تحديد طبيعة النهاية التي لقيها
،كما لم يعثر لحد اآلن على جثته وال على قبره ويؤكد الباحثون أنه لم يقبر في المقبرة التي
نقرها ألفراد أسرته في التالل الحجرية الواقعة إلى الشرق من مدينة تل العمارنة ،بل إن بعضا
من أتباعه ظلوا يذكرون تاريخ كتاباتهم وينسبونها إلى عصره كأنه ال يزال على العرش( .
زاموروفسكي :نفس المصدر .كريستيان جاك :مصر الفراعنة العظام ،صدر عام ، 1981
ترجمه إلى التشيكية فالديمير تشادسكي ، 2002 ،فصل أخناتون ،ص. )234 -211 :
يظهر أن صمت الوثائق التاريخية عن ذكر موسى وقصته الواردة في التوراة ،هذا باالضافة
إلى التشابه الملحوظ بين عقيدته وحتى حياته الموصوفة في التوراة و بين عقيدة إخناتون
وحياته دفع ببعض الباحثين لالعتقاد بأن موسى واخناتون هما شخصية واحدةومن هؤالء
الباحث المعروف السيد قمني.
يؤكد الدكتور سيد القمني االفتراض القائل بأن الفرعون إخناتون هو ذاته موسى النبي
الوارد في التوراة ،وهو قائد الخروج من مصر ،ولقد خرج معه أتباعه من المصريين وبقايا
الهكسوس ،كما خرج معهم لفيف من اإلسرائيليين ،وبذل أقصى جهده في كتابه :النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة(،المركز المصري لبحوث الحضارة،ط ) 1999، 1لعرض األسباب التي
دفعته إلى هذا االعتقاد .فإلى جانب التشابه بين عقيدة كل منهما كما مر معنا إلى حد رفض
الباحثون فيه توارد الخواطر بينهما ،فإن القمني يعتقد أن العدد المذكور في التوراة عن
اإلسرائيليين الذين خرجوا من مصر مع موسى ،ال يمكن أن يكون معقوال ومقبوال إال إذا كان الخارجون في جلهم مصريون من أتباع إخناتون وخرج معهم بقايا األسرى الهكسوس و
اإلسرائيليين ،كما أن قول التوراة بأن االسرائيليين خرجوا من مصر بكمية كبيرة من الذهب
والفضة ،حيث تقول" تطلب كل امرأة من جارتها ( المصرية) ومن نزيلة بيتها أمتعة فضة و
75
أمتعة ذهبا وتضعونها على بنيكم و بناتكم فتسلبون المصريين " خروج . 22 – 19 / 3ال ترميز لخروج ملك معزول ومطرود هو إخناتون بأمتعته ا يمكن أن يقبله عاقل ،إال إذا كان
الفضية والذهبية وبقايا حاشيته المخلصة لتعاليمه ومن لف لفهم باإلضافة لبقايا الهكسوس
الذين خرجوا معه؟ ويذكر القمني أيضا لوحة من األلواح التي وجدت في أوغاريت في سوريا و تحير الباحثون في تفسيرها ،وهي رسم لملك بلباس مصري ،ويضع على رأسه غطاء رأس
عال وبارز جدا وهو لباس تميز به فراعنة تل العمارنة ،يتعبد أمام اإلله ،ويتلقى هذا الملك
ألواحا من اإلله ،ويمسك بذات اليد عصا رأسها رأس حية .وهي لوحة حسب رأي الباحث
الدكتور القمني تمزج بين موسى الذي تلقى األلواح وبين فرعون مصري تشير الدالئل على
أنه إخناتون ،هذا إلى جانب أسباب أخرى ال مجال لذكرها هنا.
ولقد اختلف الباحثون في أصول موسى ورفض بعضهم إصرار التوراة على أنه من بني
إسرائيل واعتبروه مصري األصل والثقافة والنشأة.
توماس طومسون( الماضي الخرافي :سبق ،ص )240– 233:يرفض الفكرة التي ظلت سائدة بين الباحثين والمؤرخين لمدة طويلة والقائلة بأن جماعات من البدو اآلسيويين والذين عرفوا فيما بعد بالهكسوس قد دخلوا مصر من فلسطين واحتلوا وسيطروا على دلتا مصر وأقاموا
هناك حكما دام عدة مئات من السنين ،حتى طردوا من مصر على يد أحمس مؤسس الساللة
الثامنة عشرة .يعزي طومسن سيطرة هذه الفكرة على المؤرخين الحديثين إلى يوسفوس
"المؤرخ " اليهودي للعهد الروماني ،والذي يصفه بأنه ال يعرف شيئا عن التاريخ .يدعي
يوسفوس أن مصدر روايته عن الهكسوس هو مؤرخ مصري أقدم منه اسمه "مانتيو" ،ووفقا
لروايته يعرف الهكسوس بوصفهم حكاما أجانب في مصر ألكثر من 500سنة ،ولقد كان
حكمهم نتيجة غزو غامض من الشرق لم يلق مقاومة ويشار إليهم بوصفهم "ملوك رعاة".
ويربط مانتيو الذي استشهد به يوسفوس ،الهكسوس بالجد األعلى يوسف المذكور في سفر
التكوين وبإسرائيلي سفر الخروج.
يقول طومسون أنه لدينا نصوص قديمة تشير إلى سيطرة طيبة على الدلتا بوصفها غزوا
آسيويا وحكما أجنبيا ،انتهى بالطرد ،وتعزى أقدم هذه النصوص إلى الفرعون كاموس الذي
حكم وادي النيل األوسط من طيبة قبل بدء الساللة الثامنة عشرة .لقد حارب كاموس لتوحيد
مصر بعد سنوات من النزاع بين مناطق مصر الثالث :الدلتا في الشمال والنوبة في الجنوب ،
وطيبة في النيل األوسط ،التي تعتبر اسم نعت لمصر من قبل كتاب النصوص المذكورة .هذه
النصب التذكارية،تصف بدء الحرب ضد آسيوي الدلتا من وجهة نظر طيبة .يطلق على حكام
الدلتا اسم ( الهكسوس) والذي تمت ترجمته بمعنى (األمراء األجانب) .ويؤكد كاموس أنهم قد
76
أطاحوا بالساللة الحاكمة في طيبة وحكموا مصر بشكل غير شرعي،وكان الواجب يملي عليه
أن يصد هؤالء (األجانب) عن التراب المصري .فهزموا أخي ار وطردوا من الوطن المصري على
يد أحمس األول مؤسس الساللة الثامنة عشرة.
تظهر النقوش المصرية أن فراعنة الدلتا في أفاريس كانوا يسمون هكسوس وكانوا يشار إليهم
بشكل متكرر بكلمة "عمو" والتي تترجم بشكل نظامي ودقيق بمعنى
( آسيويين).كانت النصوص المصرية تشير عادة إلى الساميين عموما بوصفهم آسيويين .إن
آسية من وجهة نظر الكثيرين في مصر الوسطى ،كانت تبدأ في هوليوبوليس ،وقد استخدم
هذا المصطلح (عمو) منذ عصر المملكة القديمة لإلشارة إلى الرعاة في الدلتا ،باإلضافة إلى السكان األصليين لصحراء مصر الشرقية .كانوا آسيويين ببساطة ألنهم جاءوا من الدلتا أو
عاشوا فيها.واسم (مصري) ليس بالتحديد اسم علم في العالم القديم ،وال يشير مصطلح (نوبي) أو آسيوي إلى أي نوع من األثنوية ولكن يشير إلى أناس يعيشون ضمن مناطقها الجغرافية
المتميزة الثالث.
اإلشارات المصرية القديمة إلى الهكسوس ،في رأي طومسن ،التي تبدأ قبل ذلك لدى الساللة
الحاكمة السابعة عشرة ،تشير إلى الحكام الذين كانوا سكانا أصليين للدلتا ،وهم لم يأتوا من
فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر ،وفلسطين لم تغز مصر أبدا .وكان ما سمي" طرد
الهكسوس" إعادة تأكيد سياسية للحماية الطيبية التقليدية على حكام الدلتا.
يوسفوس،حسب رأي طومسن ،يقدم هذا الصراع اإلقليمي والحرب األهلية،في منتصف األلف
الثاني ألجل السيطرة على الدلتا بوصفه طردا للهكسوس األجانب من مصر ،ويصف "مانتيو
يوسفوس" خروجا هائال للهكسوس اآلسيويين من الدلتا المصرية إلى فلسطين وباستشهاده به يفسر األخير االستيطان األصلي ليهوذا ،وتأسيس أورشليم.
يقول طومسن :أنه في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين حاول كثير من المؤرخين
وباحثي التوراة أن يوفقوا بين هذه الروايات ،كما حاول يوسفوس أن يفعل ،وذلك بربطها
بقصص التوراة عن اآلباء األولين وخروج اإلسرائيليين من مصر ،وتقبل الجميع ،إال عددا قليال من الباحثين المعاصرين،االستنتاج القائل بشكل اعتباطى أن الهكسوس كانوا أصال
فلسطينيين غزوا مصر ،حتى أن بعضا منهم جادل بأن الجدين األولين يوسف ويعقوب كانا ملكين من الهكسوس .وبالرغم من ال أحد يحذوا حذو يوسفوس في مساعيه لربط طرد
(الهكسوس) بتأسيس يهوذا أو أورشليم ،فقد حاول كثيرون ربط هذه التخيالت بشكل وثيق
بقضية موسى في سفر الخروج.
77
تطلب مسألة الهكسوس في فلسطين حسب رأي طومسن (،نفس المصدر:ص )243-242:أن
يكون لدينا بعض الفهم لمجتمع فلسطين في ذلك الوقت :سكانها،نقلها،ومواصالتها ،وخصوصا
بناها السياسية .ونحن ال نعرف شيئا من عهد الهكسوس يوحي بأنه وجدت هناك سلطة
مركزية على أرض فلسطين بمقدورها أن تطلق جيشا ناجحا ضد مصر .كانت مناطق فلسطين
االقتصادية والثقافية المتميزة عاجزة عن خلق نظام عسكري كبير بما يكفي ومدرب جيدا بشكل كاف ويجزل له العطاء للسيطرة على فلسطين .ففلسطين في هذه الفترة المبكرة لم يكن لديها
مدن ،باستثناء حاصور الواقعة في أقصى الشمال .كانت لديها فقط القرى و البلدات الصغيرة،
فعدد سكان أكبر بلدة لم يكن يبلغ سوى بضعة آالف في أحسن األحوال.إن الكالم عن منظومة تشبك بلدات فلسطين في بنية متماسكة سياسية وتعاونية ومتعاونة ،هو كالم مشوه بشكل
واضح ،والكالم على بنى دولة بين هذه البلدات يخلط فلسطين العصر البرونزي بإيطاليا عصر
النهضة .مهما كان الشيء الذي رغب يويفس في البرهنة عليه ،فإن هذه الصورة للهكسوس ترسم فلسطين نقيضا لها (.طومسن :الماضي الخرافي،نفس المصدر)
في الحقيقة أن قارئ التوراة يكتشف أن التوراة ذاتها تقع في شراك التناقض بين نصوصها
حيث تعتبر أن موسى من بيت الوي و في نفس الوقت ال تعتبر هذا السبط إسرائيليا وال تعده من صفوف االسرائيليين فنجدها تقول:
" وذهب رجل من بيت الوي واخذ بنت الوي فحبلت المرأة وولدت ابنا ( الذي هو موسى )
الخ النص " خروج . 22– 15 / 1وفي نصوص أخرى تقول أن سبط الوي ليس من اإلسرائيليين،
" أما سبط الوي فال تحسبه وال تعده من بني إسرائيل " عدد 49/ 1وفي نص آخر " ال
يكون لكهنة الالويين – كل سبط الالوي – قسم وال نصيب مع إسرائيل ".تثنية 2 ،1 / 18
وكذلك في نصوص تثنية 12 / 12و . 19
لقد حاولت التوراة جهدها ،رغم تخبطها الواضح ،إقناعنا أن موسى والذين خرجوا معه من
مصر هم من نسل االسرائيليين الذين خرجوا من صلب يعقوب واسحاق ولكنها لم تستطع أن تفسر صمتها المطبق عن حقبة تزيد عن أربع مائة عام منذ زمن يوسف إلى زمن موسى،
وجاءت بعد هذا الصمت الغير مبرر لتقنعنا باالرتباط العضوي بين موسى وجماعته و بين
بني إسرائيل،وهو قول ال ينسجم مع المنطق وال يتقبله العقل ،وهذه الثغرة بين العهدين :عهد إبراهيم ونسله وعهد موسى والموسويين ،لم يستطع كتبة التوراة سدها أو تبريرها.
في الحقيقة أن كل ما طرح حول شخصية موسى وعقيدته والذين خرجوا معه ،سواء اعتباره
مصريا أم أنه نفس الفرعون إخناتون بعينه وسواء خرج معه بني إسرائيل أو مصريون ،كل
78
ذلك ليس إال فرضيات وتكهنات واستنتاجات وتأويالت للنص التوراتي ،وتبقى الحقيقة التي
ستظل كالسيف فوق رأس الباحثين والمؤرخين هي أن التاريخ المصري القديم بكل وثائقه
المختلفة صمت صمتا كامال ومطبقا عن أي ذكر لموسى وكل ما يتعلق به،كما صمت صمتا
مطبقا عن ذكر يوسف وأهل يوسف ونسل يوسف وكل ما يتعلق به وسيظل هذا الصمت هو
الحقيقة المعروفة بالنسبة لقصة موسى التوراتية ،وكل ما عداه هو تأويالت وفرضيات
واستنتاجات.
79
-4ملوك و ممالك بني إسرائيل بين الحقيقة والخيال تعتبر القصة التوراتية لعبور اإلسرائيليين إلى فلسطين واقامتهم فيها وبناء هم مملكة
إسرائيلية أسطورية موحدة على جميع التراب الفلسطيني من أهم الركائز التي يقيم عليها
الصهاينة دعوتهم "بالعودة إلى أرض األجداد وأرض الميعاد" ،ولذلك فهم وأصدقائهم في
العالم يحاولون كل جهدهم بالبحث عن أي أثر يمكنهم تحريفه وتأويله واسقاط النص التوراتي عليه إلثبات صحة الرواية التوراتية عن تاريخهم األسطوري في فلسطين .لكن ورغم كل
المحاوالت فإن الحقائق األثرية التاريخية و على الخصوص المكتشفات األثرية لألعوام الثالثين األخيرة حولت كل محاوالتهم إلى وهم وسراب..
في رسالته للدكتوراه يجمع ألبير دو بوري و ويناقش أبحاث أكبر المؤرخين والمفسرين
المعاصرين وبشكل خاص :ألبرت آلت و مارتن نوث و فون راد واألب ر.دو فو .يقول :يقدم لنا الرواة التوراتيون ،تاريخ أصول إسرائيل ،كما لو أنه كان سلسلة من العهود المحددة،
وهكذا فإن كل الذكريات والحكايات واألساطير والقصص أو القصائد التي وصلت إليهم عن
دخل في إطار أجيال وأزمنة محددة .وعلى ما يتفق عليه أكثر طريق الروايات الشفهية ،ت َ المفسرين المعاصرين ،فإن هذه الصورة ملفقة إلى حد بعيد (.عن كتاب روجيه جارودي :
األساطير التي تقوم عليها السياسة االسرائيلية ،ترجمة ،ا.جمالي و س .جهيم 1966 ،ص: ) 39
وقامت السيدة فرانسواز سميث عميدة كلية الالهوت البروستانتية بتلخيص أعمال التفسير
المعاصر ،وفقا لنظريات ألبرت دو بوري وكتبت تقول " :إن البحث التاريخي قد رد إلى مجرد
الوهم ،تلك التصورات التقليدية عن الخروج من مصر ،وغزو كنعان ،والوحدة القومية
اإلسرائيلية قبل المنفى ،والحدود الدقيقة .إن الوصف التاريخي التوراتي ال يعلمنا عن ما
يرويه شيئا ،ولكنه يعلمنا أشياء وأشياء عن الذين صنعوه ( ".عن جارودي ،سبق ،ص:
) 40
لم يجد الباحثون أي ذكر في وثائق المنطقة لقائد اسمه يشوع دخل على رأس بني إسرائيل
إلى فلسطين ودمر مدنها وقتل نساءها وأباد نسلها وزرعها .ولقد اعتبر المؤرخون شخصية يشوع من الشخصيات التوراتية األسطورية الغير تاريخية( زنون كوسيدوفسكي :ما قالته
األنبياء ،سبق ذكره) ،ولم يستطع التوراتيون حتى إثبات حقيقة الغزو البدوي اإلسرائيلي إلى
فلسطين ،ولم يوجد في أثار المنطقة أي أثر على مثل هذا االكتساح والتهديم واالبادة (.
80
بريتشارد .ي .ب :تاريخ جيبون في ضوء الحفريات ،أكسفورد . 1959 ،عن توماس ل
تومسون :التاريخ القديم :نفس المرجع)
تشهد الحفريات وتبرهن على أن إسرائيليي تلك األيام ،الذين وصلوا حسب قول التوراة في
نهاية القرن الثالث عشر ق .م ،لم يستطيعوا االستيالء على مدينة أريحا لسبب بسيط وهو
أنها لم تكن عندئذ مسكونة ،وكانت المدينة منذ أواسط العصر البرونزي قد هدمت حوالي العام
1550ق.م ،ثم أهملت بعد ذلك .وفي القرن الرابع عشر ،سكنت سكنا بسيطا ،وقد وجدوا
أواني من الفخار من ذلك العصر ،في قبور تعود إلى العهد البرونزي األوسط ،وأعيد
جرة صغيرة تعود إلى منتصف القرن الرابع عشر ق.م ،وما من شيء استعمالها .كما وجد ّ يمكن أن يرد إلى القرن الثالث عشر ق.م ،و ليس هناك من أثر لحصون وجدت في العصر
البرونزي الحديث .لقد كانت النتيجة التي انتهى إليها الباحثون هي أنه من المستحيل أن
نجمع بين تخريب أريحا وبين دخول اإلسرائيليين في القرن الثالث عشر ق.م ( .د .دينتون
:دراسات عن الكتاب المقدس ،اكسفورد " , 1967 ،تل السلطان و حبرون في العهد القديم" في و.ت.س .عدد 14عام .) 1965
واألمر كذلك بالنسبة لالستيالء على ما سمته التوراة مدينة عاي وغيرها .لقد أظهر علم
اآلثار أن ذلك ليس صحيحا ،فلقد نقب في المكان بعثتان مختلفتان وكانت النتائج متطابقة.
فمدينة تل-إت تعود إلى العصر البرونزي القديم وهي مدينة كبيرة كانت قد هدمت خالل العهد
البرونزي الثالث نحو عام 2400ق.م ،وبقيت غير مسكونة حتى بعد العام 1200ق.م ،
حيث قام على جزء من أنقاضها قرية صغيرة فقيرة غير محصنة .وهذه لم تعش إال في بداية
القرن العاشر ق.م ،على أبعد تقدير .وعند قدوم اإلسرائيليين المزعوم ،لم يكن هناك من مدينة
اسمها عاي أو آي ،ولم يكن هناك ملك لهذه المدينة .كان هناك خرائب تعود إلى العام 1200ق .م (.كريفيلوف :سبق ،ص)147:
رغم الهوس الحفائري لحكام إسرائيل الحالية ،ورغم الجهود المضنية لعلماء آثارها المحليين
واألصدقاء األوروبيين واألمريكان ،نجد األرض ضنينة جدا بأي معلومات ذات شأن عن
إسرائيليي التوراة في فلسطين .
التاريخ كعلم بوثائقه المتنوعة في مصر و بين الرافدين و في فلسطين والشرق األدنى ال
يعرف عظيما باسم ( شاؤول ) وحد القبائل االسرائيلية و أقام إلسرائيل مملكة في فلسطين . وهذا العلم ال يعرف شيئا عن محارب أو ملك أو نبي باسم ( داود ) أقام إلسرائيل مملكة
عظيمة أو حتى صغيرة ،ولم ترد في وثائق هذا العلم على كثرتها في المنطقة أي إشارة لملك
حكيم حاز شهرة فلكية باسم ( سليمان ) كان من أشهر ملوك العالم ،وكان الملوك يأتونه
81
من جميع أرجاء األرض وال عن مملكة أسطورية عظمى في المنطقة باسم دولة أو مملكة
سليمان التي بلغت مساحة أراضيها حسب الرواية التوراتية من الشام إلى مصر واالردن . تاريخ فلسطين و "إسرائيل" في رأي طومسون يمثل عنص ار هاما في تراثنا التاريخي
والثقافي،والتطورات السياسية الجارية توحي بأن فهم هذا التاريخ يبقى هاما جدا ،ال لأل وساط
األكاديمية فحسب ،وبل للمجتمع كله .كان تاريخ فلسطين واسرائيل برأيه منذ عشرين عاما جزءا من الدراسات التوراتية ،وحتى أواسط السبعينيات كانت كل التواريخ الحديثة إلسرائيل
وفلسطين ،قد تطورت على أساس ثالثة أنواع مختلفة من المصادر أو التوفيق فيما بينها :
المرويات التوراتية و نصوص الشرق األدنى القديم و المواد الثقافية التي كشفت عنها أعمال
التنقيب األركيولوجي .وتركز التأويل التاريخي النقدي على تحديد التاريخية ،وخاصة مدى
توكيد أو توسيع أو تعديل أو مناقضة المعلومات غير التوراتية لتاريخ إسرائيل كما عرضته
المرويات التوراتية .الوصف التاريخي تطور عبر التوفيق المتوالي زمنيا بين المصادر الثالثة، وفي معظم الكتيبات الحديثة التي تقدم مدخال إلى الدراسات التوراتية ،سواء كانت محافظة أو لبرالية تعتبر المهمة األولى لألركيولوجيا الفلسطينية هي إيضاح النص التوراتي ،والنظر إلى
تاريخ إسرائيل باعتباره مشتقا من التوفيق بين الدراسات التوراتية واألركيولوجيا.
و يتابع طومسون نقده للمنهج التوفيقي لدراسة تاريخ فلسطين فيقول " :حتى عندما ننادي
بتاريخ إلسرائيل مستقل عن التوراة ،ناد ار ما نتجاوز المراجعات التصحيحية للتاريخ التوراتي
واعادة بنائه.......المولود الذي أتينا به في الثمانيات مسخ ،إذ لم يعد تاريخا توراتيا وأصبح
بدرجة أقل تاريخا إلسرائيل ( ".التاريخ القديم للشعب االسرائيلي ،سبق ،ص) 278 - 375 :
ما نحتاجه الجتياز هذه األزمة برأي طومسون هو تاريخ موثوق قابل للتصحيح والتوسع
باالستقال ل عن التاريخ التوراتي " ،نحن نحاول دمج ما نفهمه عن الجغرافيا واألنتربولوجيا
والسوسيولوجيا واألركيولوجيا واللغويات التاريخية و األشوريات والمصريات بأوسع صورها،
ولكن مناهج كل حقل من هذه الحقول،مثل بياناتها ،مختلفة جدا ،وال يقدم أي منها بمفرده
بينات تاريخية عن أصول إسرائيل ،ولقد بدأ منذ الثمانينيات تقدم حقيقي في هذا المجال(.
نفس المصدر ،ص.) 279 -278 :
يؤكد طومسون أن البيانات المستخلصة من األركيولوجيا تقدم أدلة واضحة ضد وجود أي بنى سياسية غير إقليمية في مرتفعات فلسطين وبذلك ترفض وجود أي دولة قومية إسرائيلية في
فلسطين(.نفس المصدر ،ص . ) 211 :و يؤكد ذلك أخبار حمالت الملك المصري شيشنق على فلسطين في أواخر القرن التاسع ق.م حيث لم يرد أي ذكر فيها ليهوذا وال أورشليم (القدس) أو أي عاصمة أخرى محتملة في المرتفعات الوسطى تستدعي اهتمام شيشنق.
82
وكانت التوراة قد ذكرت في نصوصها أن الفرعون شيشنق قد قام بحملة على دولة يهودا في فلسطين حيث أخذ خزائن بيت الرب ،وخزائن الملك ،وأخذ كل شيء .سفر الملوك 1
. 14/وهو ذات الفرعون الذي قالت التوراة ،أنه كان صهر الملك سليمان ،وأن سليمان طلب منه مساعدته لالستيالء على مدينة جازر الفلسطينية الساحلية ،فأرسل إليه شيشنق بضعة
كتائب مصرية احتلتها له و قدمتها له هدية .ولكن تاريخ الفرعون شيشنق المكتوب يذكر
أخبار الحملة التي قام بها على فلسطين ،ويذكر جدول بالمدن التي هاجمها ،ولكن دون أن
يذكر كلمة إسرائيل إطالقا وال يذكر كذلك كلمة يهوذا وال حتى أورشليم ( .طومسون :التاريخ
القديم ،نفس المصدر) .
يقول طومسون أنه بالنسبة إلى البعض فقد كان ثمة دافع إلى االعتقاد بأن قصص الملكية
المتحدة هي قصص تاريخية .لقد كان الكمال والتماسك الزمين رغم كل شيء .لقد وجدت
دولتا يهوذا واسرائيل بالتأكيد في فلسطين القديمة ،وكانت قصة التوراة عن شاول وداود وسليمان ضرورية ألصلهم .لقد استخدم هذا النوع من الجدال فيما يتعلق بالشخصيات
التوراتية ،ليس فقط حول داود بل حول موسى وحول آدم وحواء ،ويمكن للمرء أن يجادل
دائما بأنهم لو لم يوجدوا لكان علينا أن نبتدعهم .لو لم يكن ثمة ملكية متحدة ،لما كان من
الممكن أن توجد إسرائيل كما تفهمها التوراة .إن فكرة تاريخ إسرائيل بحد ذاتها تفرض مسبقا وجود الملكية المتحدة ،ولكن هذا معناه أيضا أنه إذا لم يكن ثمة ملكية متحدة ،فإنه يتعين
على فهمنا للتوراة أن يتغير(.الماضي الخرافي،سبق ،ص) 326 :
يتابع طومسن قوله بأن السؤال المطروح اليوم هو ما إذا كان " الكتاب"( التوراة) بقصصه
يتحدث حول ماضي بالمرة ،والنقطة التي تعين فهمها هي أن قصص التوراة حول شاول وداود
وسليمان ليست تاريخ بالمرة،وأن التعامل معها كما لو كانت تاريخا يعني سوء فهمها (.نفس
المصدرً ص) 327:
يقدم لنا طومسن عرضا مفصال لجغرافية فلسطين منذ العهد البرونزي المبكر إلى العصر
الحديدي ويحدثنا عن تأثير البيئة وخاصة تأثير كمية هطول األمطار وتوزيعها وتأثير سنين
الجفاف وخاصة الجفاف المقيني الكبير في نهاية القرن الثالث عشر قبل الميالد ،على توزيع
السكان وتجمعاتهم وتنظيم اقتصادهم وعلى الوضع السياسي في فلسطين.
فلسطين اإلقليم ككل إنما يتمركز على الشريط الساحلي المتوسطي الشرقي.تحدها المنطقة
المناخية المتوسطية الخصيبة للمشرق الجنوبي على جانبي فالق األردن .وهي تضم
المرتفعات التي تقطعها الوديان المنخفضة القيعان .وتضم أيضا مساحات كبيرة من األرض
السهبية(البادية) التي تكون في الجنوب والشرق خصوصا ،حيث تتصل المنطقة بصحراء شبه
83
الجزيرة العربية وصحراء سيناء .ثمة تجانس قليل في المنطقة ككل .جغرافيا من األفضل
اعتبارها بمثابة الحافة الجنوبية لسورية .من أسماءها الكثيرة في السجالت القديمة(رطنو) العليا و(كناخي) (كنعان)اللذين يردان في النصوص المصرية .لقد عرفت المنطقة باسم
فلسطين منذ العهد األشوري .الكاتب اإلغريقي هيروديت نفسه استعمل هذا االسم ،واستعمل
بشكل شائع في أثناء العهد الروماني.في األزمنة الحديثة استعمل هذا االسم طوال فترة
االنتداب البريطاني( .طومسن :الماضي الخرافي،ص) 367 :
ثمة تنوع واسع في كل من التضاريس والبيئة في ريف وتالل فلسطين :الجليل األعلى ،الجليل
األسفل،سلسلة الكرمل ،تالل السامرة ،مرتفع أورشليم ،المنخفض الساحلي ،مرتفعات
يهوذا،والنجد عبر األردني .هذه االختالفات في الجغرافية تجد لها أصداء في االقتصاد والتاريخ
المختلفين .من كل ذلك يصل طومسن إلى نتيجة في غاية األهمية وهي أنه ال يوجد متسع لملكية متحدة تاريخية أو لملوك ك أولئك الذين جرى تقديمهم في القصص التوراتية لشاؤل
وداود وسليمان .و أن الحقبة المبكرة التي تؤطر فيها التراثات حكاياتها ،هي عالم خيالي من
زمن غابر لم يوجد على هذا النحو أبدا.
في العالم الحقيقي لم يوجد سوى عشرية قليلة من الدساكر والقرى المبعثرة الصغيرة جدا
كانت تعيل كل المرتفعات في يهوذا .كانوا معا بالكاد يعدون ألفي شخص ،فالخشب والرعي
واألراضي والبادية كانت كلها إمكانات هامشية .لم يكن من الممكن أن توجد مملكة ألي شاول أو ألي داود ليكون ملكا عليها ،ببساطة ألنه لم يكن ثمة ما يكفي من الناس .دولة يهوذا لم
تكن فقط غير موجودة بعد ،بل إننا ال نملك أي دليل على وجود أي قوة سياسية في أي مكان
في فلسطين كانت كبيرة بما يكفي ،أو متطورة بما يكفي ألن تكون قادرة على توحيد
االقتصادات واألقاليم العديدة لهذه البالد .في هذا الوقت كانت فلسطين أقل توحدا بكثير مما
كانت عليه ألكثر من ألف عام ،وبالكاد يمكن الحديث تاريخيا عن أورشليم القرن العاشر
تاريخيا .فلو وجدت إطالقا وسنوات من التنقيب لم تعثر على أي أثر لبلدة من القرن
العاشر،لكانت ما تزال تبعد قرونا عن امتالك المقدرة على تحدي أي من (العشريات) أو أكثر، من بلدات فلسطين القوية المتمتعة بالحكم الذاتي ،مثل لخيش في التالل االسفحية الجنوبية.
لقد كانت أورشليم بلدة صغيرة هيمنت على وادي أيالون على مدى معظم العصر البرونزي،
وعالقتها بيهوذا كانت هامشية .في البداية اتخذت شكل مدينة قادرة على أن تعتبر عاصمة
دولة ،في وقت ما من القرن السابع قبل الميالد ،واكتسبت ذلك الوضع بعد سقوط لخيش على
يد األشوريين .تمكنت من توسيع مصالحها المالية إلى المرتفعات الجنوبية والهيمنة على
معظم يهوذا ،عندما اضطلعت بدور دولة أشورية قابعة على حافة االمبراطورية .وكان من
84
الصعب أن يزود هذا الدور أرشليم بوضع يتصف بأي شيء يمكن وصفه بالهيمنة على
فلسطين .بلدات مثل شكيم وحاصور كانتا قادرتين على إقامة مراكز سيطرة ،في تالل فلسطين. فالهيمنة كانت تعود بشكل طبيعي إلى بلدات األغوار والسهول الساحلية مثل :غزة ،وعسقالن،
ويافا،وعكا ،ومجدو،وتعنك ،وبيت شان و بئرالسبع وأريحا وغيرها .أورشليم كانت عاجزة عن
الحفاظ على دورها الموسع الذي ازداد سكانها فيه إلى حوالي ( ) 25000نسمة ألكثر من
نصف قرن .في أوائل القرن السادس كانت المدينة قد فقدت حكمها الذاتي ،فتم ترحيل ملكها وأعاد البابليون هيكلة سكانها (.طومسن :التاريخ الخرافي ،نفس المصدر،ص) 329-328 :
يعطينا طومسن عدد من األمثلة على محاولة المؤرخين التوراتيين إسقاط النص التوراتي على
المكتشفات األثرية وفبركة نتائج تتالئم مع الحدث التوراتي من أجل إثبات قسري لوجود
المملكة المتحدة لشاول وداود وسليمان ،ويقو ل أنه" لم يكن هدف بعض الحجج حتى أن
تكون معقولة ظاهرا ،فغالبا ما اعتبر الباحثون التوراتيون ربط "التوراة" باإليمان الديني يعطي
المسوغ ألكثر الفرضيات جوفائية .منذ سنين قليلة فقط ،فإن مؤلف بعض أقدم حكايات أسفار موسى الخمسة ،كاتب اختلقه القرن التاسع عشر ،وهو معروف للباحثين بحرف(ي) (اختصا ار
لإلسم يهوي ،ونسبة لإلله يهوه) قد حددت هويته بكونه امرأة من عائلة داود المباشرة .إن
جدة هذا التوكيد كانت كافية لكسب استحسان الكثير من الصحف الشعبية.حتى أن بعض
الباحثين قبل هذه القصة الخيالية بناء على الميزات المحضة للخطابة الجميلة والقوية التي
صيغت بها"( نفس المصدر،ص.) 321:
مع تراكم المزيد من المعلومات ،بدأ المؤرخون تخفيض مملكة شاول و داود وسليمان إلى
مرتبة (مشيخة قبلية) ،فباحث مثل ( ه.ج .ويلز) مثال ،اعتبر إن الوصف الذي تردده التوراة
عن اتساع وعظمة مملكة سليمان ،يعده أكثر الباحثين من قبيل المبالغات التي عودتنا عليها
التوراة .والحقيقة برأيه أن مملكة سليمان التي تبجحت التوراة بعظمتها كانت أشبه بمحمية
مصرية مرابطة على حدود مصر (.ويلز :مختصر عن تاريخ العالم ،باللغة االنجليزية وبدون
تاريخ ،ص.) 93 :
ظهرت مملكة إسرائيل التاريخية إلى حيز الوجود وتعززت عن طريق نشوء صناعة الزيتون
التي أقيمت مع نظام المصاطب المطور حديثا ،والموسع في أثناء القرن التاسع قبل الميالد.
هذه الدولة الصغيرة كانت شبيهة بدول فلسطين األخرى مثل عمون ،مؤاب،وادوم ،وكانت
منظمة حول المستوطنات في الريف التاللي الواقع ما بين أورشليم ووادي سهل يزرعيل ،من
الخط الفاصل إلى المنحدرات الغربية .وكانت األصول المباشرة لهذا التجمع السكاني تكمن في
استيطان الجزء المرحل من السكان الذين هجروا األغوار في أعقاب الجفاف المقيني.
85
عندما تعافت فلسطين من الجفاف المذكور ،قادت األغوار إحياء اقتصاد فلسطين واعادة
نشوئه بمساعدة إحياء التجارة الدولية ،وعندما ازدادت هذه التجارة في خالل القرن العاشر
وخاصة مع مصر ،دخلت بلدات أغوار فلسطين،دورة جديدة من التوسع واالزدهار ،قدر فيها
لتلك التي استفادت بناها السياسية والتجارية إلى أقصى درجة من وجود مصر أن تتقدم غيرها ،مثل بيت شان ومجدو في سهل يزرعيل ،دور وأشدود وعسقالن وغزة في السهل
الساحلي ،جازر ولخيش في المنخفض الساحلي .ومع إحياء صناعة السفن من قبل بلدات
الشمال الفينيقية بدأت فلسطين تزدهر كما لم يسبق لها ذلك أبدا (.طومسن ،الماضي الخرافي، ،سبق،ص.) 271 -270 :
يحدثنا طومسن أنه عندما نحاول فهم تطور الدولة الصغيرة في التالل الوسطى من فلسطين
التي أصبحت تعرف بإسرائيل ،من الضروري االنتباه إلى االتكال المتبادل الفريد القتصادات
المناطق الثالث التي كانت تشكل كتلة أراضي هذه التالل .ذلك االقتصاد لم يكن اقتصاد بقاء
لمزارعين مستقلين ،بل كان ينطوي باألحرى على نظام معقد من القرى والدساكر المترابطة .لقد كانت معتمدة اعتمادا كليا على التجارة والمقايضة مع بعضها ألجل البقاء( .نفس المصدر)
استجاب سكان الريف التاللي األوسط للسوق المتنامية ،فأزالوا الحراج وأدخلوا نظام المصاطب التي زرعوا فيها الزيتون ،وبذلك حولوا التالل المركزية إلى أغنى منطقة منتجة للزيتون في فلسطين .ومع فتح التجارة الدولية كان التسويق يتطلب إدارة و مركزة خالل وقت قصير ،
وتتالت األشكال األخرى من الدوءلة ،بما في ذلك الملكية الساللية ،المشابهة لتلك التي
وجدت قبل ذلك في شكيم وفي بلدات األغوار .إن اشتراك المصالح لمعظم مزارعي المرتفعات
الوسطى دفع إلى إنشاء إدارة مركزية لحماية مصالحهم المشتركة .أما األشكال األخرى من
الدولة بما في ذلك الملكية الساللية الشبيهة بتلك الملكيات الموجودة في فينيقية ،فقد جاءت بعد ذلك ،،ومن أقدم سجالتنا التي تشير إلى هذه الدولة الصغيرة ،كانت أولى العائالت التي
حكمت المرتفعات تحمل اسم ( بيت عمري) .ولقد رسم اعتماد هذه الدولة على التجارة الدولية
وخاصة اآلشورية المصرية مصيرها بوصفها تابعة إلمبراطورية وأقحمها في المخاطرة بدعم
األقوى ،وان األدوار السياسية والعسكرية لالستقالل لم تكن من بين الخيارات المتاحة لها.
فهذه لم تكن دولة سيادة بل كانت بيوتات حماية ذات توابع محليين ،كانت مبنية كأهرامات من
االلتزامات والتعاقدات الشخصية المستقلة إلى حد كبير مقابل الحماية والدعم( .طومسن: الماضي الخرافي ،نفس المصدر)
86
كان لألجزاء األخرى من المرتفعات الفلسطينية تاريخ مختلف جدا .ففي أثناء الجفاف وبعد انحساره كانت خبرات وأساليب حياة الجماعات السكانية لهذه المناطق تختلف باختالف
المناطق نفسها.
كانت تالل يهوذا التي تمتد إلى الجنوب من بيت لحم إلى الخليل ،خالية تقريبا،في أثناء فترة العصر الحديدي من المستوطنات ،وفي البادية الجنوبية ،ال يبدأ استصالح األراضي
واالستيطان الجديد باالتساع حتى القرن العاشر قبل الميالد .ففي أثناء الجفاف المقيني هيمن
على مرتفعات يهوذا البدو الرعاة طوال فترة الجفاف ،ولم يكن ثمة سكان مقيمون للحديث
عنهم ما عدا سكان عشرية أو أكثر من الدساكر المبعثرة.
وعندما تنامت التجارة الدولية ،شجع الطلب على الخشب وزيت الزيتون بناء المصطبات في
مرتفعات يهوذا .كان من الصعب قبل منتصف القرن التاسع أن يصبح من المحتمل أن تبدأ
البلدات حول مرتفعات يهوذا هناك بتشجيع ،ومن ثم إجبار ،بدو المنطقة على االستقرار . إن الدوافع االقتصادية ،إلقامة كروم الزيتون قد وسعت استخدام المصاطب في كل أنحاء
التالل الجنوبية .ولخيش هي األكثر احتماال في كونها قد أنشأت نظاما من المخافر األمنية في المرتفعات والنقب الشمالي والتي بنيت بشكل مفترض كجزء من السعي إلجبار البدو على
االستيطان في القرى .في نهاية القرن التاسع قبل الميالد كانت مرتفعات يهوذا قد أصبحت
منتجا كبي ار للزيتون بأسواقها الرئيسية في الخليل ولخيش .فالمنطقة بوصفها زارعة للزيتون وفي الوقت نفسه ،منطقة واقعة على طرف البادية ،أوجدت خليطا سكانيا من مزارعي
المصاطب ورعاة القرى.
في حين أن التالل الوسطى شمال أورشليم تضم مستوطنة تعود في تاريخها إلى أكثر من
ثالثة قرون قبل أن تنتظم المنطقة في شكل الدولة ،يظل من المستحيل كتابة تاريخ أورشليم
في أثناء هذه الفترة .وبالرغم من أن رسائل تل عمارنة المصرية ،التي تقدم لنا مراسالت بين
أمراء وملوك فلسطين الصغار وبين الفرعون المصري في أواخر القرن الرابع عشر وأوائل
القرن الثالث عشر قبل الميالد تخبرنا الكثير حول بلدة باسم أورشليم وحول حاميها وملكها
(عبدي حفا) فإننا ال نعرف شيئا عن هذه البلدة من اآلثار يات ،ونحن غير متأكدين من
المكان التي تقع فيه .إن بلدة أورشليم في العصر الحديدي على جبل أوفل التي تم التنقيب
عنها من قبل" كنيون" قبل الحرب العربية االسرائيلية عام 1967لم تقدم أية بقايا ذات أهمية من العصر البرونزي المتأخر.
ال خيار لدينا ،يقول طومسن ،سوى أن نبدأ تاريخ أورشليم بالعهد الحديدي الثاني .فهذا
تاريخ بلدة سوق ريفية صغيرة عند رأس وادي أيالون .وما من مسوغ لتغيير هذا الوصف،
87
حتى بعد سقوط بلدة لخيش في عام ( 701ق.م) .من ذاك الوقت تمتد سلطة أورشليم
ونفوذها باتجاه الجنوب فوق مرتفعات يهوذا .في منتصف القرن السابع قبل الميالد،توسعت
البلدة بشكل كبير فبلغ عدد سكانها () 25000نسمة .في البداية إذا اتخذت طابع البلدة
الصغيرة ،القادرة على أن تكون العاصمة الجبلية للدولة التابعة لإلمبراطورية اآلشورية التي
تدعى يهوذا (.نفس المصدر)
يؤكد طومسن كذلك على استقالل أصول دولتي إسرائيل و يهودا في القرن السابع ومن غير
المحتمل أن تكون لهما قاعدة أثنيه مشتركة أكثر مما ألي دولتين متجاورتين في المشرق
الجنوبي .كما يؤكد تنوع سكان فلسطين خالل النصف األول من األلف األول ق.م ،حيث تعززه البيانات اللغوية المتوفرة ،واذا كان سكان فلسطين ،خالل العصر الحديدي األول و
بداية العصر الحديدي الثاني خليطا ،فهم في الحقبة اآلشورية التالية أقل وحدة .ليس هناك
تواصل ال في السكان وال في اإليديولوجيا بين دولة السامرة التاريخية واسرائيل المرويات
التوراتية .في المرويات التوراتية ،السامرة إسرائيل زائفة ( .طومسن ،التاريخ القديم ،سبق
ص) 286-285 :
لما كانت السياسة في فلسطين متمركزة إقليميا ،فقد اتبع نشوء دياناتها وآلهتها نمطا يعكس حياة الناس .كانت رؤية العالم الدينية في فلسطين تشاطر الكثير من منظوري بالد ما بين
النهرين ومصر .منذ العصر البرونزي كان إيل أبا اآللهة وخالق السماء واألرض ،مع رفيقته
عشيرة أو عشتارت (ملكة السماء) ،رب األرباب ورئيس مجمع اآللهة في كل من الحكاية
الشعبية واألغنية .كان بعل ( الرب –السيد) منفذه الرئيسي .وبعل غالبا ما كان مترافقا باإللهة األنثى العامة نسبيا عشيرة ،التي وصفت بأنها أم كل شيء حي ،وأعطيت دو ار في الخصوبة
والحداد.
لم تكن معظم مناطق فلسطين ،المتكاملة جغرافيا وسياسيا ،تمتلك في المعتاد سوى إله
أساسي ومميز واحد ،باإلضافة إلى إيل .نجد بعل في فينيقية ،والجليل ومرتفعات إسرائيل،
وفي إسرائيل يجد المرء أيضا يهوه .وفي السهل الساحلي الجنوبي ،كان (دجن) اإلله الحامي
األكثر تميزا .وبالرغم من أن بعل ويهوه هما اسمان يستعمالن بشكل متكرر في العهد
الفارسي ،يجد المرء مؤشرات على عبادة آلهة مصرية أصال في الساحل وفي المنخفض
الساحلي :اإلله حاثور واله الشمس أمون .لقد استخدم كل من يهوه وبعل في يهوذا ،مع أن بعل كان هو السائد .في أدوم يدعى يهوه الحامي (قوس) ويهوه أيضا.أما في مؤاب وعمون
فكانت عبادة (مولوخ) و(كموش) نموذجية .كان باإلمكان تمييز هؤالء األرباب ،وكانوا متميزين
كل عن اآلخر باختالف الدول التي كانوا يقومون بوظيفتهم كحماة لها .ويمكن اعتبار ذلك
88
تظاهرة مختلفة في كل منطقة لإلالهي .فالبشر المختلفون كانوا يعرفون الرب بأسماء مختلفة.
( طومسن :الماضي المجهول ،ص) 280-279 :
إن تسييس الجغرافيا والتاريخ الجلي اليوم ،عندما تملي األهداف السياسية المختلفة مفاهيم
محددة جدا للماضي ،يمكن أن يساعدنا على أن نكون حساسين للطبيعة النسبية للتواريخ التي
نبتدعها ،فال تاريخ إسرائيل وال تاريخ يهوذا الذ ي يكتبه المؤرخون اليوم هو أو ينبغي أن
يكون تاريخ التوراة .وال تاريخ إسرائيل هو تاريخ منطقة سورية الجنوبية ذاتها الذي يدعى ( رص يسرءل /أرض إسرائيل) في عدد كبير جدا من نصوص التوراة .إن تاريخ إسرائيل ليس
سوى جزء محدود جدا من تاريخ المنطقة األكبر .إنه يشمل منطقة المرتفعات الوسطى شمال
القدس وجنوب وادي سهل يزرعيل ،خالل القرنين التاسع والثامن قبل الميالد .لم يكتب أحد
حتى حينه تاريخ هذه( اإلسرائيل) ألجل العهود الالحقة لالستيالء اآلشوري على المنطقة .هذا التاريخ مختلف عن التواريخ العديدة ذات الصلة ،ولكن ال داعي للقول أنها تواريخ منفصلة
ومتميزة ليهوذا ويزرعيل وجلعاد والجليل والنقب والمنخفض الساحلي ووادي األردن وفينيقية
وفلسطية وعمون ومؤاب وأدوم وغيره كثير .معظم هذه التواريخ لم يبدأ بكتابته إال في اآلونة
األخيرة .كل هذه التواريخ قد كان بشر بها طوال التاريخ التخيلي إلسرائيل الالهوت (.نفس
المصدر)
واذا أردنا أن نلخص ما مر معنا فإننا نستطيع أن نقول على لسان طومسن " :بأن آباء سفر التكوين لم يكونوا تاريخيين .فالجزم بأن ( إسرائيل) كان قبل دخول فلسطين شعبا ،سواء في
هذه القصص أم في قصص يشوع ،ليس له أساس تاريخي .فال وجود لحملة عسكرية ضخمة من (اإلسرائيليين) البدو الغزاة،غزت فلسطين أبدا .لم يكن أي سكان ( كنعانيين) متميزين أثنيا أزاحهم (اإلسرائيليون) .لم يوجد عهد القضاة في التاريخ .لم يكن ثمة امبراطورية حكمت
(ملكية متحدة) من أرشليم .لم تكن أبدا أي أمة (إسرائيلية) متجانسة إثنيا على اإلطالق.لم يوجد أي رباط أثنى أو سياسي أو تاريخي بين الدولة التي كانت تدعى إسرائيل أو (بيت
عمري) وبلدة أورشليم وبين دولة يهوذا .في التاريخ لم تشترك ال أورشليم وال يهوذا بهوية واحدة مع إسرائيل قبل حكم الحسمونيين في العهد الهيليني.
" إن إسرائيل التاريخية الوحيدة ،التي يمكن الحديث عنها ،هي شعب دولة المرتفعات الصغيرة
التي فقدت حكمها الذاتي السياسي في الربع األخير من القرن الثامن ،والتي تجاهلها
المؤرخون ودارسوا التوراة ...إلى أفراد هذا الشعب يشار في قصص سفر عز ار ( )4بوصفهم
أعداء بنيامين ويهوذا ...في القصة ينبذهم يهود عز ار ،ويمنحهم المؤرخون هوية (سامريين) الطائفية .إسرائيل هذه ليست التي هي اهتم بها الباحثون التوراتيون الذين يكتبون ( تواريخ
89
إسرائيل) وهي ليست إسرائيل التي نجدها في الحكايات التوراتية (.طومسن :الماضي الخرافي ،
نفس المصدر ،ص) 306 :
90
-5ما هي حقيقة السبي والمنفى؟ يلعب السبي كما مر معنا ،ذلك الحدث من الماضي الذي اقتلعت فيه إسرائيل من موطنها ، أوال من قبل اآلشوريين وثم من قبل البابليين،دو ار مركزيا في تشكيل تراث التوراة .فالنفي
يعتبره كتبة التراث التوراتي عقابا على فعل الشر في عين الرب وهو الوسيلة التي يمكن بها
الذين ينتمون إلى طريق التوراة أن يعتبروا أنفسهم منقذين بعد أن مروا باآلالم التطهيرية في المنفى.
أن سياسة التهجير ونقل السكان واعادة التسكين ،كانت معروفة في ذلك الوقت مارسها كل
من اآلشوريون والمصريون والبابليون .ورغم االقرار بمحدودية وعدم اكتمال النصوص
اآلشورية المتعلقة بالتهجير ،فقد بقي ما يزيد على مائة وخمسين هجرة وهي كافية الظهار
أن الحد األدنى لعدد سكان الشرق األوسط الذين تأثروا بسياسة التهجير كانوا بمئات اآلالف ،ويحتمل أن يكون المجموع قد بلغ المليون .و يؤكد طومسن بأنه "مهما كان الشعب الذي
نقل أو أعيد إلى فلسطين فهم بالتأكيد لم يكونوا إسرائيليين" (.طومسن ،التاريخ القديم ،ص: ) 289-288
لم تهجر النخبة فحسب ،بل والحرفيين وعمال السخرة والنساء للنخاسة والرجال للتجنيد في
الجيش و بالفعل نقلت قرى بكاملها إلى مناطق نائية في االمبراطورية وجرى توطين غيرهم من
كافة أنحاء االمبراطورية .سياسات التهجير واعادة التوطين كانت متعددة األغراض :العقاب ، المكافأة ،تنفيذ مشروعات البناء ،تطوير احتكارات اقتصادية في الحرف والتجارة و تدمير
التركيبة االجتماعية في المناطق المفتوحة الحباط الثورات المضادة وايجاد مجموعات وكيانات تابعة ومخلصة لالمبراطورية .عندما دمرت السامرة ،أعيد توطين معظم سكانها في أشور و ميديا و شمال سوريا وبابل و عيالم والعربة .كما جلب مجموعات أخرى من الناس إلى
السامرة من عيالم وسوريا وشبه الجزيرة العربية ،وتم توطينهم في المرتفعات وفي بعض أغنى
وديان السامرة.
في نهاية القرن السادس ق.م ،لم تعد القدس و يهوذا الحقبة األشورية موجودتين ،كما
حصل بالضبط للسامرة في القرن الثامن .و إعادة التوطين لم تصب الناس فقط بل جرى
أيضا إعادة توطين االلهة القديمة إلى مواطنها .ولقد واصل البابليون والفرس هذه السياسات
على نطاق واسع ( .طومسن التاريخ القديم ،نفس المصدر) ،
91
كان الترحيل الواسع النطاق الوسيلة المفضلة لقمع التمرد في األراضي المحتلة ،كما كان من
الممكن تسخير الجماعات المقتلعة لغايات مفيدة ،وبإعادة توطينهم في مدن االمبراطورية
الكبيرة ،أو في قرى وبلدات األراضي األجنبية ،كان من الممكن كسب والءهم للدولة لكونهم ممتنين ألجل الحرية والمساواة في بيوتهم الجديدة ،كانوا يخدمون بمثابة قوة مكافئة ألي معارضة محلية يمكن أن تواجهها الدولة في مدنها الكبيرة .كان كسب الدعم والقبول
الطوعيين من طرف المرحلين مفضال بكثير على أي استخدام مكلف للجيوش لفرض اإلذعان
بالقوة .كان الوضع يتطلب تفسي ار مقنعا ولقد كشفت النصوص القديمة على أن الترحيل لم يكن يقدم على أنه عقاب ،بقدر ما هو فعل يقدم لمصلحة الناس .فهو يعزز مصالحهم ويحميها،
إنه ينقذهم من حكامهم السابقين ،الذين قمعوهم واستبعدوهم .تقدم بعض النصوص القديمة
الملك األشوري بوصفه منقذ الشعب ،الذي أعادهم وآلهتهم إلى األوطان التي تم نفيهم منها بعد تحريرهم من العبودية المفروضة عليهم من قبل حكامهم السابقين .هنا كانت الشعوب
المقتلعة تشجع على التفكير بنفسها بلغة االسترجاع بدال من لغة الترحيل التأديبي .كما أنقذوا
من النفي بإرادة الملك ،أصبحوا عائدين إلى أوطانهم بإرادته ،وأعيد لم شملهم مع آلهتهم المفقودة والمنسية .كان المهجرون يستلمون أرضا وازدها ار مجددا من اآلشوريين عند
االستيطان،وكانوا يمنحون الدعم والحماية ضد السكان األصليين .لقد وظف كل من البابليين
والفارسيين،بوصفهم خلفاء للآلشوريين أكثر من ما هم خالقون لالمبراطورية،مثل هذه الدعاوة
بين الشعوب الرعايا .كان بإمكانهم بإحتمال قبول أكثر بكثير،أن يزعموا القيام بدور المحررين.
كان الهدف النهائي هو إزالة الفوارق اإلقليمية والقومية وخلق مواطني امبراطورية موالية
للحكومة( .طومسن :الماضي الخرافي ،ص.)، 310-306 :
يقدم لنا طومسن عدد من األمثلة على تبرير سياسة الترحيل التي كانت متبعة من قبل
االمبراطوريات ،نذكر واحد منها.
لقد قرر الملك البابلي (نبونيد) أن يعيد بناء مدينة حران اآلشورية القديمة وأن يقيم هناك هيكل لإللهة ( سين) بوصفه دين دولة امبراطوري ،فجلب شعوبا مختلفة كثيرة ،من بابل
وسورية ومصر وأعاد بناء حران ،وتكلم على مشروعه بوصفه استعادة وطن إلى مواطنين
أعيدوا من النفي .لقد جدد تراثاتهم المنسية وأعاد كل آلهتهم القدماء إلى بيوتهم ،واإلله
(سين) ،اإلله الجديد،يعلن أنه اإلله القديم الحقيقي واألصلي للمدينة .هذه الخطوة األخيرة تم
تسهيلها بمماهاة هذا الرب التقليدي للمنطقة مع إله السماوات .هذا الوصف لإلمبراطور بأنه "معيد" اآللهة والسكان المحليين ،يوجد في كل النصوص البابلية المتعلقة بالتهجير .وبخالف
ذلك تلقي هذه النصوص اللوم على اآلشوريين أو الحلفاء البرابرة ،لتدمير مذاهب ومعابد
92
الشعوب الخاضعة .والبابليون يحتلون المركز األعلى بوصفهم محرري الشعوب المقهورة، يتصرفون حسب تعاليم اإلله مردوك ،يعيدون المدن إلى سكانها ،ويعيدون اآللهه
المهجورة،وبناء المعابد لها ويكرسون المهجرين خدما فيها ( طومسن :التاريخ القديم ،نفس
المصدر ،ص)288 :
الدافع االيديولوجي في سياسة التهجير واعادة التوطين أتقنه الفرس جيدا .لقد عرضوا أنفسهم بصفتهم محررين شعوب المنطقة من نير اآلشوريين والبابليين والذين وصفوهم برابرة
مضطهدين للشعوب .
أسطوانة قورش الذي تصفه التوراة بالمسيح المحرر ،تزعم أن الملك البابلي السابق قد دمر وحدة الدين،وبدل اآللهة الروحية السماوية الحقيقية بمجرد تماثيل من طين .وتتهم الملك
البابلي بأنه استعبد شعبه،والمدن في زمنه كانت خرائب والحقول مهجورة واآللهة غاضبة ألنها
أبعدت قص ار من موطنها،حتى الصلوات كانت كلها خاطئة .ولقد كان االله مردوك رحيما
فدعا قورش إلقامة العدل بين كل الشعوب .....وجهد قورش في إعادة الشعوب و اآللهة إلى
مواطنها .نقل السكان واآللهة ،تحت عنوان
" اإلعادة " تعتبره هذه النصوص المهمة األولى لقورش واإلمبراطورية .سياسة أدبية واصلها
من بعد قورش كل من أحشويرش و داريوس الثاني (.طومسن :التاريخ القديم ،ص-288 :
) 289
التوراة تعتبر قورش المسيح المخلص وبطل " العودة" حيث أعاد المهجرين و ربهم إلى
فلسطين وكله بأمر الرب يهوه .وهي بالتحليل األخير ال تفعل شيئا أكثر من تعريف االله
الروحي السماوي لإلمبراطورية الفارسية باسم اإلله المحلي والمهمل لمدة طويلة يهوه .و
ضمن هذا المحيط الثقافي ،تصور التوراة ( اشعيا ) 48 – 40قورش بوصفه
" معيد " شعب إسرائيل الذي جرى سبيه منذ قرون على يد اآلشوريين والبابليين و
" معيد " اإليمان السلفي بإله حقيقي واحد هو يهوه .من الواضح بالطبع – يقول طومسن:
أننا ال نتعامل مع إعادة منفيين إلى وطنهم ،أكثر من تعاملنا مع إعادة ديانة قديمة منسية أو
إعادة بناء معبد.
النصوص( التوراتية) تعكس نقل وايجاد شعب جديد و ديانة جديدة ،تعبي ار عن تصور اإلدارة
للمقدس ،مقترنا باسم مقدس شائع في ماضي القسم األكبر من المنطقة .هذا يمكن اعتباره خلقا لمجتمع جديد متمركز حول معبد جديد ،ويديره المسؤول الفارسي ،الذي وحد نفسه مع
هذه الشعوب .ويؤكد المؤلف أنه مهما كان الشعب الذي نقل أو أعيد إلى فلسطين ،فهم
بالتأكيد لم يكونوا إسرائيليين .ورغم ذلك أصبح الفرس يعتبرونهم وكذلك المرويات التوراتية
93
الناشئة ،سكان إسرائيل المفقودة منذ زمن ،عائدين إلى " أرض إسرائيل "من منفى مرير بعد
أن خلصهم سيدهم ومنقذهم قورش .بمساعدة الفرس أعيدت ديانة يهوه القديمة ،وهو االن يتصور على أنه أيلوهي شامايم ،الذي لم يكن رئيس لمجمع مقدس ،بل جوهر القداسة
ذاتها -في كل أرجاء االمبراطورية -وقد أصبح اسمه في فلسطين يهوه(.طومسن :التاريخ
القديم ،ص.)289 :
" المنفى البابلي " -كما يحدثنا تومسون -يلعب دو ار رئيسيا في تشكيل المرويات التوراتية،
ال كنقطة تاريخية في الزمن الذي فيه وجهت المروية نحو خاتمتها في سفر الملوك 2وال حتى
الفترة الماضية التي انطلقت منها البدايات .هو باألحرى يلعب دور الخلفية التأويلية للمرويات وهدفها الرامي إلى الوعي الذاتي لشعوب يهوه كبقية مخلصة .صدمة " المنفى" الجذرية
استخدمت كمقولة أدبية حصلت عبرها المرويات المشكلة حديثا و جامعوها على هوية "
إسرائيل" .ويؤكد المؤلف أن الحقيقة األدبية واللغوية للمرويات التوراتية هي أنها فلكلورية في جوهرها .وأن بني إسرائيل :باعتبارهم أثنية وشعب مرتبط باالتحاد والروابط العائلية واألصل
المشترك يملك ماضيا مشتركا و متجها نحو هدف مستقبلي ديني مشترك ،ليس انعكاسا ألي
واقع سياسي ،اجتماعي في دولة إسرائيل تاريخية في الحقبة اآلشورية ،وليس انعكاسا
حقيقيا لحقبة ما بعد الدولة الفارسية .فاألحرى هو أن أصوله ومعناه تكمن في تطور المرويات والمفاهيم الدينية الطوباوية التي خلفتها المرويات ،وليس ضمن عالم واقعي من الماضي.
ويؤكد المؤلف أن " إسرائيل" ليس إال مولودا الهوتيا جديدا ناشئا عن المرويات التوراتية ذاتها
( .التاريخ القديم ،ص) 293-291 :
مع مجاز النفي في التوراة ،لم تكن المشكلة هي عدم وجود دليل يبين ما إذا كان وضع
تاريخي ما قد وجد في الحقيقة .إن نصوص السبي وحدها واإلجراءات السياسية
واالمبراطورية الشاملة للنقل السكاني التي جرت على مدى أكثر من ألف سنة تقدم أكثر من خلفية كافية ،يمكن مجاز النفي األدبي للتوراة ،أن يجد له صدى لدى جمهوره .المسألة،
ليست ما إذا كان ثمة نفي تاريخي ،وال في أنه وجد إلى حد أن قصص التوراة حول النفي
قابلة أو ليست قابلة للتصديق ،فلقد كان ثمة نفي .والقصص التوراتية عن النفي تعكس
السياسات االمبراطورية منذ العهد اآلشوري إلى العهد الروماني.
تبرز المشاكل التاريخية ،برأي طومسن ،مع مسألة االستمرار :استمرار الناس ،ثقافتهم
وتراثهم .ويتسائل :هل عواطف النفي المثارة في المشاعر الضمنية ألولئك الذين اقتلعوا ورحلوا هي مغايرة أم مشابهة لتلك التصورات الضمنية للناس من جيل آخر ،أو حتى بعدئذ بقرون؟
وهل كان الناس الذين رحلهم شلمنصر من السامرة ليسكنوا في خلخ في بالد ما بين النهرين
94
الشمالية،هم عائدين إلى بيوتهم؟ أم أنهم أيضا عاشوا في المنفى ،ربما لكي يعودوا إلى
أورشليم تحت حكم أرتكسركسس؟ أم هل كان الناس الذين جلبهم شلمنصر إلى السامرة من
بلدة حماة السورية يعتبرون أنفسهم مجبرين على العيش في المنفى ،مع آخرين قد (عادوا)؟ وكيف كان أهل السامرة يرون أنفسهم بعدئذ بثالثمائة عام؟ ومنفيوا يهوذا تحت حكم
سنحريب ،هل عادوا؟ أم هل عاد أحد منهم؟ وألئك الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أنهم عادوا ،والذين تمجد تراثاتهم في القصة بعدئذ بخمسمئة عام ،هل كانوا في الحقيقة قد جلبوا إلى
يهوذا من قبل سنحريب؟ أم إلى أورشليم من قبل نبوخذ نصر ،بدال من قورش أو داريوس أو
االسكندر الالحقين لهما؟ وكيف أمكن لمؤلفي سفر إسدراس األول أو سفر إشعيا الثاني أن
يعرفوا؟ ويتسائل أيضا لماذا ليس لدينا أية حكاية حول السبي في التوراة؟ لدينا قصص السبي
وقصص العودة من السبي ،ولكن تاريخ السبي هو تاريخ مكتوب على صفحات بيضاء .لماذا
هذه الفترة الوحيدة التي ال تقبل الجدل من تاريخ التوراة هي الفترة التي ال تبدي التوراة أي
اهتمام في أن تصنع جزءا من حكايتها؟ إن ما نعرفه من التوراة عن الترحيل والنفي والعودة، ما هو إال أمثلة على كيف يلعب األدب بالمجازات التي خلقتها الخبرة لنا ( .الماضي
الخرافي،ص) 346-343 :
يقول طومسن أنه ال تتوافر لدينا أي صلة مثبتة تبين أي من الترحيالت المعروفة وأي عودة
مقابلة لها .على نحو مماثل ليس لدينا مسوغ لالفتراض بأن الترحيالت من السامرة وأورشليم
كانت بالكاد شاملة .إن الموضوع األدبي للترحيل الشامل مغرق في المبالغة ،معبر عن
شمولية الكارثة .ولدينا أيضا كثير من المسوغات لالعتقاد بأن مثل هذه المناقالت غالبا ما
كانت متعددة األطراف ،وينطوي على عدة اتجاهات مختلفة ألجل سكان بلدة وترحيل جماعات سكانية من مناطق عدة .في حالة السامرة في عام 722ق.م لدينا سجل آشوري يشير إلى
عدة شعوب متميزة تم نقلها إلى السامرة ،ويظهر التمثيل اآلشوري لسقوط لخيش وسببها عام 701ق.م .إن هذه البلدة لم تكن سوى جزء من إعادة التوطين واسعة النطاق .وتوحي
المسوحات األثرية ليهوذا القرن السادس قبل الميالد ،وتقديرات سكان أورشليم في القرن
الخامس ق.م أن األخيرة لم تفقد كل سكانها في ترحيالت أوائل القرن السادس ،وغالبا ما كان االستمرار االجتماعي األساسي يوحي به تاريخ االستيطان وعدم وجود انقطاع أو تغير
كبير في الثقافة المادية .فالثقافة المادية المحلية استمرت في الهيمنة بعد حدوث مثل هذه
االنقطاعات .في الوقت نفسه ثبت وجود التمزق والتحول الجذري في تالل يهوذا في نهاية
القرن الثامن وفي الجليل وفي بداية العهد الفارسي( .نفس المصدر ،ص) 340-383:
95
على صعيد األفراد ومجتمعات البلدات المحلية،فإن نزعة التغيير على مدى قرون من الثقافات االقليمية المتأصلة محليا إلى مجتمع امبراطوري هي نزعة غامرة .فأولئك الذين تم نقلهم إلى فلسطين كانوا جزءا من عملية متكررة من االندماج مع المنطقة المضيفة .عندما اندمجوا
صاروا يتماهون بتلك الجماعة .في بعض األحيان كما في السامرة ،كان هذا التماهي من خالل
اعتبار أنفسهم شعبا عاش على الدوام في المنطقة .وفي أحيان ،كما في الجماعات التي انتقلت بأعداد كبيرة إلى بابل ،أو الذين احتفظوا بدور مقاوم للسكان المحليين ،كما في
المستعمرات العسكرية للجنود الساميين الغربيين التي أقيمت في مصر ،اتخذت الهوية شكل فهمهم لذاتهم على أنهم يعيشون في الشتات بعيدا عن وطنهم .في بعض األحيان وكما في
أورشليم ،جاءت الهوية من خالل اعتبار معظم السكان أنفسهم منفيين عادوا إلى وطنهم األصلي .وفي أحيان أخرى تم اختالق هويات جديدة تماما ( .نفس المصدر)
يبين طومسن أنه في كل ترحيل واعادة توطين ،كانت إعادة بناء البنى التحتية للمجتمع
تنطوي على مشاكل اندماج الالجئين والمرحلين في المجتمع القائم قبل ذلك ،،الذي لم يكن
مستعدا للترحيب بهم ،ولقد تنج عن ذلك آثار كبرى طويلة األمد منها:
أوال :أن اللغة اآلرامية أصبحت اللغة العالمية الرسمية لإلمبراطوريات اآلشورية والبابلية
والفارسية ،وربما كانت اللغة الوحيدة التي أمكن بها للجماعات المختلفة جدا من الناحية
اللغوية أن تتواصل مع بعضها البعض ومع الموظفين الرسميين اإلمبراطوريين.
ثانيا :كانت عملية توحيد شعب فلسطين ،وخصوصا مقاطعة (يهد) الفارسية في جنوب
فلسطين ،من خالل تطوير تراثات أصل مشتركة ناجحة إلى حد أنه في نهاية القرن الثالث أو
القرن الثاني قبل الميالد ،شجع الناس في المقاطعة ،بغض النظر عن أصولهم التاريخية، على قبول التراث السلفي للعودة كيهود من بابل باعتباره تراثهم الخاص.
ثالثا :أن بعض النزاعات بين القادمين وبين األكثر محلية لم تحل .ولقد قاوم التراث المستقل
والمتميز للسامرة االندماج في محدد الهوية عبر (اليهودية) .ففي حين قبلت أرشليم أسفار موسى الخمسة العائدة للسامرة ،و تراثات قصصية كثيرة أخرى ،حافظت كل جماعة على مركزها العبادي .وعندما أنشئت التراثات التوراتية المختلفة في أثناء العهدين المكابي
والروماني ،تبنت معظم الجماعات األخرى القابلة للتماهي إقليميا داخل فلسطين ،وفي الشتات شكال أو آخر من التوراة باعتبارها تراثها الخاص .ولقد ادت االختالفات العقيدية للجماعات
المختلفة ،المعرفة إقليميا في بعض األحيان ،إلى مزاعم تنافسية ومتضاربة من قبل جماعات كثيرة في كل من فلسطين والشتات بأنها الوريثة الشرعية الوحيدة(إلسرائيل) الالهوتية(
96
اليهودية) .تلك النزاعات أكدت الطبيعة الطائفية لمعظم الجماعات التي كانت تدعي أن هذا
التراث هو ملك لها (.نفس المصدر)
97
الفصل الرابع اإلسرائيليون في اإلسالم - 1التوراة في االسالم :كتاب مقدس أم محرف ؟ تحتل اإلسرائيليات قسما كبي ار من التراث اإلسالمي ولقد دخلت في معظم التفاسير القرآنية و
كثير من األحاديث النبوية و تأثر المفسرون والشارحون بها ،سواء تأثي ار مباش ار عن طريق
التوراة أو عن طريق اليهود الذين دخلوا االسالم فأدخلوا في التراث االسالمي كثي ار من
االسرائيليات .
لقد وردت االسرائيليات في كتابنا المقدس في عش ار ت اآليات القرآنية ،فالتوراة ذكرت في
القرآن الكريم 18مرة و إسرائيل 43مرة و إبراهيم 69مرة واسماعيل 12مرة و اسحق
17مرة و يعقوب 16مرة و يوسف 27مرة وموسى 136مرة وداود 16مرة و سليمان
17مرة واليهود 25مرة ( هادوا ، 10 :هودا ، 6 :اليهود ، 8:يهوديا :مرة) .ولكن اآليات التي تتحدث عنهم أضعاف ذلك حيث تشير إلى كل هؤالء بالضمير الظاهر والمستتر.
وردت كلمة التوراة في القرآن الكريم في كل من سورة آل عمران والمائدة واألعراف و
والتوبة والفتح والصف والجمعة.
" ،اهلل ال إله إال هو الحي القدوم* نزل عليك ( أي يا محمد صلعم ،حسب تفسيرالقرطبي وابن كثير والجاللين ) الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة
واالنجيل" (عمران ) 3 -
" ويعلمه ( أي المسيح ،حسب تفسير ابن كثير والقرطبي والجاللين) الكتاب
والحكمة والتوراة واالنجيل" ( عمران " ) 48
" ومصدقا لما بين يدي ( أي المسيح ،حسب تفسير القرطبي وابن كثير والجاللين )من التوراة ( ".....عمران ) 50
-
" يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة و اإلنجيل إال من بعده "..
-
" كل الطعام حل لبني إسرائيل إال ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة
( عمران ) 65
قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقون" ( عمران ) 93
98
-
" وكيف يحكمونك ( أي محمد صلعم ،حسب تفسير القرطبي وابن كثير والجاللين )
-
" إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا
وعندهم التوراة فيها حكم اهلل "....
( المائدة ) 43
والربانيون واالحبار بما أستحفظوا من كتاب اهلل (....المائدة ) 44
" -و كتبنا عليهم ( أي اليهود) فيها ( أي التوراة) أن النفس بالنفس والعين بالعين
واألنف باألنف واألذن باألذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة
له ومن لم يحكم بما أنزل اهلل فأولئك هم الظالمون " ( المائدة ) 45
" وقفينا على إثرهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه اإلنجيلفيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة هدى وموعظة للمتقين " ( المائدة
) 46 -
" ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا ".......ولم أنهم أقاموا التوراة واإلنجيل وما
أنزل إليهم من ربهم ( "...المائدة ) 66
" قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة وإلنجيل وما أنزل عليكم منربكم ( "....المائدة ) 68
-
" إذ قال اهلل لعيسى ابن مريم أذكر نعمتي عليك ......واذ علمتك الكتاب والحكمة
-
" الذين يتبعون الرسول النبي األمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة واإلنجيل
-
" إن اهلل اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل
واإلنجيل ( "....المائدة ) 110
يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ( "......األعراف ) 157
اهلل فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة واإلنجيل والقرآن ( "...التوبة ) 111
" -محمد رسول اهلل والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا
يبتغون فضل من اهلل ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في
التوراة ومثلهم في اإلنجيل ( "......الفتح ) 29 -
" واذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول اهلل إليكم مصدقا لما بين يدي
من التوراة و مبش ار برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " ( الصف ) 6
" -مثل الذين حملوا التوراة ولم يحملوها ( "....الجمعة ) 5
من هذه اآليات نفهم :
99
-1أن التوراة منزلة من عند اهلل.
-2و هي ليست بالكتاب وال الحكمة وال اإلنجيل وال القرآن بسبب ورود واو العطف بينها .
-3فيها هدى و نور .
-4أنها نزلت من بعد إبراهيم وليس قبله .
-5أن على اليهود أن يعملوا ويحكموا بينهم بما ورد في التوراة ،ففيها حكم اهلل، تماما كما على أهل اإلنجيل أن يتبعوا أحكام اإلنجيل.
-6أن على أهل الكتاب أن يقيموا التوراة واإلنجيل وما أنزل من ربهم .
-7ال تذكر هذه اآليات أي شيء عن نزول التوراة على النبي موسى ،و لقد جاءت
التوراة في تلك اآليات القرآنية مقرونة بالمسيح عيسى ابن مريم ولم تأت مقرونة بالنبي موسى إذ ال يوجد فيها أي ذكر لرباط أو عالقة بين التوراة وبين النبي
موسى ،و برغم إجماع كتب التفاسير وكتب التراث على أن التوراة قد نزلت على
موسى ،فإنني راجعت جميع اآليات القرآنية فلم أجد آية واحدة تصرح بأن التوراة قد
نزلت عليه ،فإن سهوت أو أخطأت فاصلحوا خطئي ودلوني على اآلية القرآنية التي
تصرح بذلك ،واعذروني.
واذا راجعنا اآليات القرآنية التي تتحدث عن موسى فإننا ال نجد أي ذكر بأن التوراة نزلت أو
أنزلت على موسى ،وانما نجدها تذكر الكتاب ،ولم تبين أن الكتاب هو التوراة.
البقرة " 53 :وآتينا موسى الكتاب والفرقان" البقرة" 87 :ولقد آتينا موسى الكتاب"
األنعام " 91 :من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى" األنعام "154 :ثم آتينا موسى الكتاب " هود " 17:كتاب موسى"
هود " 110 :ولقد آتينا موسى الكتاب"
اإلسراء " 2 :وآتينا موسى الكتاب "
األنبياء " 48 :ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان"
وتتكرر " ولقد آتينا موسى الكتاب " في كل من اآليات :الفرقان 35والقصص 43والسجدة
43وفصلت ، 45وورد في سورة األحقاف لآلية " 12كتاب موسى" ،فلماذا لم تذكر اآليات
القرآنية أي ذكر لنزول التوراة على موسى؟؟
100
في الحقيقة وقف المفسرون موقف المحتار من التوراة ،بين هل هي محرفة ومتى حرفت ،
قبل البعثة النبوية أم بعدها ،وان كان قد حرف كل ما فيها أم جزءا منها؟
اعتبر المفسرون أن تحريف اليهود للتوراة ثابت من قول االيات :
اآلية 46من سورة النساء " :من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه".
اآلية 13من سورة المائدة " :يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به". اآلية 41من سورة المائدة ":يحرفون الكلم من بعض مواضعه"
ففي تفسير اآلية األولى يقول القرطبي في تفسيره أن اليهود يحرفون في كلم النبي أو ما
عندهم من التوراة وليس يحرفون جميع الكالم .وفي تفسير الجاللين أن اليهود يحرفون الذي أنزل اهلل في التوراة من نعت محمد ،ويؤكد الزمخشري في الكشاف بأن المعني هو اليهود
الذين بدلوا الكلم في التوراه بوضع كلم آخر مكانه مثل تحريفهم " أسمر ربعة" عن موضعه في
التوراة بوضعهم " آدم طوال" مكانه ونحو تحريفهم الرجم بوضعهم الحد بدله .أم اآلية
الثانيةففسرها القرطبي أن اليهود غيروا صفة النبي(ص) في التوراة وآية الرجم ،ويؤكد ذلك تفسير الجاللين من أن اليهود يحرفون الكلم في التوراةمن نعت محمد (ص) وغيره ،ويقول
الزمخشري في الكشاف أن اليهود يحرفون الكلم في التوراة مما تركوا نصيبا جزيال وقسطا
وافيا مما ذكروا به من التوراة ،ويتابع حرفوا التوراة وزالت أشياء منهاعن حفظهم .أما اآلية
الثالثة فيقول ابن كثير في تفسيره أن الصحيح أنها نزلت في اليهود من الذين زنيا وكانوا قد
بدلوا كتاب اهلل الذي بايديهم من األمر برجم من أحصن منهم فحرفوه وأصلحوا فيما بينهم
على الجلد مائة جلدةوالحميم والركاب على حمارين مقلوبين ،ثم قالوا فيما بينهم تعالوا نتحاكم
إلى محمد فإذا حكم بالجلد والتحميم فخذوه عنه وان حكم بالرجم فال تأخذوه .ولقد أكد ذلك
القرطبي في تفسيره وكذلك تفسير الجاللين حيث يقول يحرفون الكلم الذي في التوراة كآية
الرجم ،ويؤكد الزمخشري في الكشاف أنها نزلت في اليهود الذين زنا منهما اثنان فغيروا الرجم بالحد ،وكلها دالئل على أن اليهود قد حرفوا التوراة التي بين أيديهم .
في تفسير اآلية 23من سورة عمران" ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى
كتاب اهلل ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون" اختلف المفسرون في " الكتاب "
الذي عنت اآلية في قولها " يدعون إلى كتاب اهلل" ،قال بعضهم هي التوراة والبعض اآلخر
هو القرآن .ففي تفسير الطبري أن اهلل دعى اليهود إلى الرضى بما في التوراة إذ كانت أحكام
اهلل فيها قبل أن نسخ ما نسخ .نفهم من ذلك أن التوراة في ذلك الزمان حسب ما يقول
الطبري لم يصبها التحريف ،إذ كيف تصفها اآليات بكتاب اهلل و تدعوا اليهود أن يرضوا بها
ويحتكموا إلى ما ورد فيها مع العلم بأنها محرفه .وجاء في سبب نزول اآلية أن النبي( ص)
101
دخل على جماعة من اليهود فسألوه :على أي دين أنت يا محمد فقال :على ملة إبراهيم ، فقالوا إن إبراهيم كان يهوديا فقال (ص) هلم إلى التوراة فهي بيننا وبينكم ،فرفضوا فنزلت
اآلية ،وفي قول آخر أن (ص) قال هلموا إلى التوراة ففيها صفتي ،وق أر الجمهور " ليحكم ".
وقيل أيضا أنها نزلت في الذين زنيا من خيبر وحكم الرسول عليهما بالرجم وأنكر اليهود ذلك (.تفسير القرطبي ) وفي تفسير الجاللين أن اآلية نزلت في اليهود ،زنى منهما اثنان
فتحاكموا إلى النبي ،فحكم عليهما رسول اهلل بالرجم فأبوا فجيء بالتوراة فوجد فيها ،فرجما
فغضبوا .وفي تفسير الغرناطي( المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ألبي محمد عبد
الحق بن عطية الغرناطي ،تحقيق أحمد صالح المالح ،لجنة القرآن والسنة في وزارة األوقاف،
مصر) يقول أن قتادة وابن جرير قالوا أن اآلية في " يدعون إلى كتاب اهلل" عنت القرآن ،
كان الرسول (ص) يدعوهم إليه فكانوا يعرضون،أما الطبري فرجح أنها تعني التوراة وقال مكي
أن الكتاب هنا يعني التوراة.
وكل هذا يدل على أن التوراة حسب قول كتبة التراث االسالمي كانت في ذلك الزمان غير
محرفة وعلى المسلمين اعتبارها كتاب اهلل والعمل بها إال ما نسخته منها اآليات القرآنية واال
كيف يدعو رسول اهلل اليهود لالحتكام إلى نصوصها .وفي تفسير القرطبي عن عمر أنه قال
لكعب :إن كنت تعلم أنها التوراة التي أنزلها اهلل على موسى بن عمران فاقرأها .ويقول القرطبي
في تفسيره أن الرسول علية السالم كان عالما بما لم يغير منها ولذلك دعاهم إليها والى الحكم
بها.
في تفسير السورة 85من سورة البقرة قالوا أن المقصود بالكتاب في قول اآلية:
" أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إال خزي في الحياة
الدنيا ويوم القيامةيردون إلى أشد العذاب وما اهلل بغافل عما تعملون" هو التوراة .يقول ابن
كثير في تفسيره أن اآلية نزلت في يهود يثرب حيث تقاتلوا فيما بينهم في قتال األوس والخزرج
،وكان اليهود فريقين األول بني قيقناع وهم حلفاء الخزرج والنضير وقريظة وهم حلفاء
األوس .ولقد تقاتلوا وسفكوا دماء بعض تحالفا مع المشركين وبين أيديهم التوراة يعرفون فيها ما لهم وما عليهم بعكس األوس والخزرج الذين كانوا من المشركين ،ال يفقهون الحالل الحرام
وال يعرفون بعثا وال قيامةوال الجنة والنار .وكان اليهود إذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم
حسب تعاليم التوراة "،إنك ال تجد مملوكا من بني إسرائيل إال اشتريته وأعتقته" فعاتبهم اهلل في
اآلية تفدون أسراكم حسب تعاليم التوراة وتسفكون دماء بعض وبين أيديكم التوراة وفي حكم
التوراةأن ال يقتل وال يخرج من داره وال يظاهر عليه إال من يشرك باهلل ويعبد األوثان من دون ابتغاء عرض الدنيا ،ويقول ابن كثير أن اهلل في قول اآلية فما جزاء من يفعل ذلك منكم
102
...الخ يعني أي جزاء مخالفتهم شرع اهلل وأوامره وجزاء مخالفتهم كتاب اهلل ( أي التوراة)
الذي بأيديهم .أال يدل هذا على أن كتبة التراث اعتبروا التوراة التي بأيدي اليهود في ذلك
الزمان كتاب اهلل وأنه غير محرف.
وفي تفسير اآلية 68من سورة المائدة " قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا
التوراة واالنجيل وما أنزل عليكم من ربكم ..إلى آخر اآلية" يقول القرطبي في تفسيره عن ابن
عباس أن جماعة من اليهود جاؤا إلى النبي (ص) فقالوا" ألست تقر أن التوراة حق من عند
اهلل ؟ قال :بلى ،فقالوا :إنا نؤمن بها وال نؤمن بما عداها ،فنزلت اآلية ،أي لستم على شيء
من الدين حتى تعلموا بما في الكتابين من اإليمان بمحمد والعمل بما يوجب ذلك منهما ،وقال
أبو علي :ويجوز أن يكون ذلك قبل النسخ لهما .وفي تفسير ابن كثير عن مجاهد أنه قال :
"وما أنزل عليكم من ربكم يعني القرآن العظيم.
وهكذ نجد أنه رغم وجود دالئل بين يدي كتبة التراث على أن اليهود قد حرفوا التوراة إال أنهم عادوا واعتبروا التوراة التي بين يهود ذلك الزمان كتاب اهلل ،فيه أحكام اهلل ويظهر أن ذلك
دفعهم إلى االعتماد على نصوص التوراة وعلى أحبار اليهود في تفسير اآليات القرآنية وخاصة في ما يتعلق ببني إسرائيل حيث كانت التوراة الكتاب الوحيد الذي بين أيديهم والذي يتحدث
بالتفصيل عن ما اعتبروه تاريخا لبني إسرائيل.
103
-2النبي إبراهيم ونسله :بين النص اإللهي والبشري
إبراهيم شخصية مهمة في االسالم ،ولقد وردت كلمة إبراهيم في القرآن تسعة وستون مرة
ولكن اآليات القرآنية التي تتحدث عن إبراهيم أضعاف هذا العدد ويوجد في القرآن سورة باسمه
تحدثنا اآليات القرآنية أن إبراهيم ولد ألب اسمه عازر ،وال تحدثنا أين ولد وال عن مكان والدته
و موطنه وال الزمن الذي ولد فيه ،ولقد وهبه اهلل على الكبر ولدان هم إسماعيل واسحاق وال تذكر اآليات اسماء زوجات إبراهيم وال أسماء أمهات أبنائه .
كان عازر والد إبراهيم مثله مثل قومه من عبدة األصنام ،و لقد حاول إبراهيم أن يهدي والده
إلى ترك عبادة األصنام " واذ قال إبراهيم ألبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك من
الخاسرين" ( األنعام ) 74ولكن آزر لم يقبل بنصيحة ابنه وقال له " أراغب أنت عن آلهتي
يا إبراهيم ألن لم تنته ألرجمنك واهجرني مليا" ( مريم .) 46فلما رأى إبراهيم أن والده مصر
على عبادة األصنام تب أر منه (.مريم ) 49
تحدثنا اآليات القرآنية أن إبراهيم لما رأى إصرار قومه على عبادة األصنام قرر أن يحطم هذه األصنام ففعل " فجعلهم جذاذا إال كبي ار لهم لعلهم إليه يرجعون ( ".األنبياء ) 51فلما رأى
القوم آلهتهم محطمة تسائلوا "من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين ( :األنبياء ) 59و شكوا
في أن يكون ذلك من فعل إبراهيم فسألوه " َءأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون * ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤالء ينطقون* قال أفتعبدون من دون اهلل ما ال ينفعكم شيئا وال يضركم " ( األنبياء . ) 66 -63
قرر القوم بعد ذلك االنتقام من إبراهيم على فعلته فأرادوا حرقه " ،قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين" ولكن اهلل سبحانه جعل النار بردا وسالما على إبراهيم فنجاه من فعلة قومه (.األنبياء ) 69-68
ال تحدثنا اآليات القرآنية شيئا عن زيارة إبراهيم لمصر وال تذكر شيئا عن قصة كذبه بادعائه
أن زوجته هي أخته وال عن محاولة تزويجها من ملك مصر ولكن اآليات القرآنية تحدثنا عن محاجة جرت بين ملك ال تذكر اسمه وال موطن ملكه وبين إبراهيم في ربه،
" الم تر الذي حاج إبراهيم في ربه أن أتاه الملك إذ قال ربي يحي و يميت قال أنا أحي
وأميت " ( البقرة ) 258ورد إبراهيم المفحم بقوله" :أن اهلل ياتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر واهلل ال يهدي القوم الظالمين" (البقرة ) 258
104
القرآن الكريم كذلك يذكر قصة إبراهيم و الحلم الذي رآه في نومه بأنه يؤمر بذبح ولده
ولكنه ال يذكر اسم االبن وأي من أبناء إبراهيم هو .امتثل إبراهيم لهذا األمر وأراد ذبح ابنه كما أمر ،ولكن اهلل حينما رأى قوة إيمان إبراهيم فدى االبن بذبح عظيم ذبحه إبراهيم فداء البنه .ثم صار ذبح الضحايا أم ار متبعا يساهم فيه المسلمون كل عام .
تحدثنا اآليات القرآنية أن إبراهيم ورغم أنه نبي صادق اإليمان بربه الذي خلق كل شيء والذي يحي ويميت ،إال أنه طلب من اهلل سبحانه أن يعطيه برهانا " .إذ قال إبراهيم رب أرني كيف
تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك
ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن ياتينك سعيا واعلم أن اهلل عزيز حكيم" ( البقرة ) 260
تركز اآليات القرآنية على أن إبراهيم هو أول المسلمين وأنه لم يكن يهوديا وال نصرانيا وانما مسلما حنيفا وأنه هو الذي سمى المسلمين بهذا االسم ,وأن ملة إبراهيم هي الصراط
المستقيم و طريق المسلمين ،و أساسها اإليمان باهلل وما أنزل على محمد وما أنزل على
إبراهيم واسماعيل و إسحق و يعقوب وما أوحى اهلل به لموسى وعيسى ،ال نفرق بين أحد
منهم ونحن هلل مسلمون ،و أن إبراهيم ،بمساعدة ابنه إسماعيل ،بنى بيت اهلل ليحج إليه
عباد اهلل ( الحج ، 78األنعام ، 161عمران ، 84النساء ، 163الشورى ، 13بقرة .) 127 - 125
القرآن الكريم كما مر ال يتحدث عن إبراهيم كشخصية تاريخية في الزمان والمكان،
و ال نعني بذلك القول أن إبراهيم لم يكن موجودا يوما ما كشخصية تاريخية (،واهلل أعلم)
ولكننا نقول أن القرآن لم يحددها تاريخيا في الزمان والمكان .واذا قرأنا قصة إبراهيم في القرآن بمعزل تام عن التوراة والتفسيرات التوراتية ،فإننا لن نعرف الزمان الذي عاش فيه إبراهيم وال
المكان الذي قدم منه .فالقرآن ال يذكر موطن إبراهيم وال أين ولد ومتى ،ولن تجد في القرآن
مدينة باسم أور وال موطنا باسم بالد الرافدين أو فلسطين أو كنعان أو حتى الشام .وال يذكر القرآن حتى أسماء زوجات إبراهيم وموطنهن وأصلهن ،ولن تستطع أن تجد في القرآن أسماء مثل سارة أو هاجر أو رفقه ،وال يذكر كذلك اسم الملك الذي حاجه إبراهيم وال موطن هذا
الملك و مملكته وزمنه ولن تجد في القرآن ملكا اسمه نمرود ،كما ال يذكر شيئا عن رحلة
إبراهيم إلى مصر وال يذكر من هو المقصود باالبن الذبيح والمفدى وأي من أبناء إبراهيم هو . كما ال يحدثنا القرآن عن تفاصيل حياة إسحاق و يعقوب وال نعلم من القرآن إن كان ليعقوب
أخوة وما هي أسماءهم ولن نجد في القرآن اسماء مثل عيسو أخ ليعقوب أو راحيل زوجة
105
ليعقوب .كل ما نعلمه من اآليات القرآنية أن إسحاق و يعقوب ،أنبياء ساروا في طريق أبيهم
إبراهيم وعبدوا إلهه .وتأتي أسمائهم في القرآن عادة مقرونة بإبراهيم .
القرآن الكريم يتحدث عن إبراهيم كرمز ديني لرفض عبادة األصنام التي ال تفيد وال تضر و
دعوته لعبادة اهلل الواحد األحد ،الذي يحي و يميت وهو على كل شيء قدير وعدم االشراك
مع اهلل شيئا .القرآن يتحدث عن إبراهيم كرمز لإلنسان الذي تب أر حتى من أبيه وقومه عندما
رآهم يتمادون في غيهم ويصرون على عبادة أصنام لم تستطع حتى أن تدافع عن نفسها حين حطمها إبراهيم ،وعن رمز النسان وقف يدافع عن عقيدته التوحيدية بالحجة والمنطق حتى أمام ملك ظالم متعجرف ،ولم ترهبه سلطة الملك وبطشه .القرآن يحدثنا عن رمز لطاعة
المؤمن بربهواالستعداد لذبح ابنه تحقيقا لإل رادة اإلالهية ،كما يحدثنا عن نسخ عادة أهل ذلك الزمان التي كانت تدعوا لذبح األبناء كضحية لآللهة و استبدالها بذبح الضحايا الحيوانية.
اآليات تحدثنا عن الحج لبيت اهلل كرمز لتوحيد األمة حول عبادتها التوحيدية ،عبادة الخالق
الواحد الذي يحي ويميت وهو على كل شيء قدير ،في كل ما تتطلب هذه العبادة من ذكر هلل
وشكره على نعمه .عن رمز لالنسان ،حتى ولو كان نبيا،بكل قوته وضعفه بإيمانه وشكه بصدقه وكذبه بأخطائه و توبته.
التراث االسالمي لم يكتف بذلك وراح يلهث خلف كتبة التوراة و الرواة اليهود في البحث عن
إبراهيم تاريخي في الزمان والمكان ولكن بدون تاريخ و قواعد تاريخية ،وراح يسبح في
المتخيل اإلسرائيلي ويستنبط منه كل ما يمكن ،ليخلق لنا شخصية أسطورية توراتية بجلباب
إسالمي.
إبراهيم حسب كتبة التراث اإلسالمي ،ولد في فدان آرام في بابل زمن الملك نمرود بن كنعان
بن كوش .وكان اسم أبيه آزر وبما أن التوراة تقول أن أبا إبراهيم اسمه تارح ،راح بعضهم يقول أن آزر هو االسم العلم لوالد إبراهيم أما تارح فهو اسم العائلة.
كان الملك نمرود بن كنعان ،حسب ما يحدثنا به التراث االسالمي ،قابضا على زمام الملك في بابل و حاكما بأمره مستبدا برأيه وأقام نفسه إلها ،ودعا الناس إلى عبادته .وذات يوم ذهب
إليه كبير الكهنة وأخبره أنه قد آن أوان ميالد شخص جليل ،وأنه على يد هذا الشخص
سيينتهي شأن الملك نمرود .فما كان من الملك إال أن أمر بتقتيل جميع الذكور الذين ولدوا في البالد في ذلك العام (.تماما كما تحدثنا قصص موسى وعيسى وغيرها).
لما أتى أم إبرهيم المخاض خافت على ابنها فتوجهت إلى مغارة في الجبل حيث وضعت
وليدها فيها ،وتركته هناك وعادت إلى قريتها .وعندما عادت لتعوده بعد ثالث أيام وجدت
الوحوش و الطيور الكاسرة أمام المغارة ،فخافت أن يكون قد مس ابنهاسوء ،ولكنها عندما
106
دخلت المغارة رأته سليما آمنا يجلس على فراش من سندس .ولقد الحظت أنه يمص أصابعه وأن لبنا يخرج من أصبع وعسال من أصبع آخر وماء من الثالث .وكان اليوم يمر على
إبراهيم كالشهر والشهر كالسنة ،فلم يمكث إبراهيم في المغارة إال خمسة عشر يوما ،حتى جاء
إلى أبيه عازر وأخبره أنه ولده .ولم يمض إبراهيم إال قليال مترددا بين عبادة قومه ،حتى
انتهى إلى الوحدانية وبدأ يسخر من قومه وأربابهم (.محمد حسني عبد الحميد :أبو األنبياء
إبراهيم الخليل ،سبق،ص ،18 :و الثعلبي النيسبوري ،عرائس المجالس ،سبق ،ص) 76 : سمع الملك نمرود بإبراهيم فدعاه إليه ،فلما مثل بين يديه قال له :ما هذه الفتنة التي
ايقظتها ،وما هو هذا اإلله الذي تدعو إليه؟ هل تعرف ربا غيري والها يستحق العبادة غيري؟ فأجابه إبراهيم :ربي يحي و يميت وهو وحده الذي يمنح الحياة ويسلبها .ولكن نمرود قال :
أنا أحي من أشاء بالعفو عنه وأنا كذلك أميت من أشاء وأقضي عليه بحكمي .فأجابه إب ارهيم
:إن اهلل سخر الشمس فيأتي بها من الشرق فإن كنت تدعي القدرة فغير هذا النظام وأت
الشمس من المغرب .فبهت نمرود وبدت جهالته فصار إبراهيم أبغض الناس إليه ولم يؤذه إال
أنه أوجس خيفة منه .
لم يكن آزر ،والد إبراهيم ،يعبد األصنام فقط بل كان ينحتها ويبيعها ،حيث كان الناس في
ذلك الزمان يشترونها أو يصنعوها ويجعلوها آلهة وأربابا من دون اهلل الذي خلقهم .ولقد بذل
إبراهيم كل جهده القناع والده و قومه الكف عن عبادة األصنام ولكنهم رفضوا فقرر أن يلقنهم
درسا لعلهم يتعظون ،فاستغل ذهاب القوم إلى االحتفال بعيدهم السنوي دلف إلى أصنامهم
فوجد باحة تكتظ بالتماثيل واألصنام ورأى الطعام متراكما تحت أقدامها فخاطبها متهكما بها
محتق ار لشأنها ثم تناول فأسا وهوى عليها ،يكسرها ويحطم حجارتها وسيرها حطاما ،إال
كبيرهم فأنه أبقى عليه ،ليرجعوا إليه .رجع القوم من عيدهم ،و أروا ما حل بآلهتهم
فتساءلوا عن من صنع ذلك فقال قائل منهم إنه إبراهيم فهو الذي يعيب على آلهتنا ويزدريها
و يحثنا على تركها .فلما أحضروا إبراهيم سألوه فقال فعلها هذا الصنم كبيرهم فاسالوه،
فأدركتهم الحيرة لمعرفتهم بأن األصنام ال تضر وال تنفع وال ترد سؤاال ،فكيف يسألوها؟ فأخذ
إبراهيم يبكتهم على جهلهم ويسخر منهم ومن آلهتهم فعمدوا االنتقام منه باإلحراق ،فمكثوا
مدة يجمعون الحطب وأشعلوا النار فيها ثم ألقوا إبراهيم في النار المستعرة .إال أن النار كانت بردا وسالما على إبراهيم ولم تحرق منه إال وثاقه ،فصار ح ار طليقا ،فعجبوا لحاله وانصرفوا
عنه ناقمين .ويحدثنا الثعلبي( نفس المصدر) " فلما أرادوا إلقاءه في النار ،أتاه ملك المياه
فقال :إن أردت إخماد النار فإن خزائن المياه واألمطار بيدي ،وأتاه خازن الريح فقال له :إن
شئت طيرت النار في الهواء ،فقال إبراهيم عليه السالم :ال حاجة لي بكم .وتسرح كتب
107
التراث في وصف تفاصيل هذه اللحظة الدرامية فمنهم من قال أن جبريل كن يمسح العرق عن جبين إبراهيم ومنهم من قال كان معه أيضا ملك الظل .و يروي ابن كثير( البداية والنهاية،
سبق ،ج ، 1ص ) 139 ، :عن مسلم أن إبراهيم لما ألقي في النار ،جعلت كل الدواب تطفئ النار عنه إال الوزغ ،فإنه كان ينفخها عليه ،لذلك أمر النبي محمد (ص) بقتل األوزاغ.
تحدثنا كتب التراث كيف أن الملك نمرود وقومه لم يتعظوا ،وظلوا على غيهم وكفرهم ،فقرر
اهلل االنتقام منهم فأرسل عليهم ذبابا من البعوض ،بحيث لم يروا عين الشمس ،وسلطها اهلل
عليهم فأكلت لحومهم ودمائهم وتركتهم عظاما بالية .ودخلت واحدة منها في منخر الملك
نمرود ،فمكثت في منخره أربعمائة سنه ،عذبه اهلل بها ،فكان رأسه يضرب بالمرازب حتى
أهلكه اهلل عز وجل (.ابن كثير ،سبق ،ص) 141 :
ضاق إبراهيم في العيش مع قومه الكفرة فارتأى الهجرة عنهم وفر من بينهم حتى حط رحاله في فلسطين .ألقى إبراهيم بادئ ذي بدء في حران ونزل بين ظهراني أهل هذه البالد ،ولكنه
سرعان ما تبين له ضاللهم ،إذ تبين له أنهم يعبدون الكواكب من دون اهلل فأراد أن ينبههم
على خطئهم و يهديهم إلى عبادة اهلل ولكنه لم يفلح فقرر تركهم والرحيل عن بالدهم فرحل
إلى بالد الشام .ولما عم القحط في بالد الشام وضاقت سبل العيش فيها رحل إبراهيم إلى مصر تصحبه زوجته سارة ،وهبط أرضها حين كان القابض على زمامها أحد ملوك العرب
العماليق ،الذين استبدوا بالملك فترة من الدهر.
كانت سارة زوجة إبراهيم كما تحدثنا كتب التراث ذات جمال باهر .فوشى بها أحد بطانة السوء إلى الملك وأغراه بجمالها وحبب إليه االستحواذ عليها ،فدعا إبراهيم إليه و سأله عن صلة
القرابة التي تربطه بسارة فخاف إن أخبره أنها زوجته أن يبيت الشر له ،فقال له :إنها أختي.
فأمر الملك أن يذهبوا بها إلى قصره ويسوقها إلى مخدعه .زينها خدمة القصر بفاخر الثياب و ثمين الحلى وأدخلوها على الملك .فرأى في وجهها حزن وأسى ،فحاول أن يخفف من حزنها
،ويؤنس وحشتها فأجفلت ،فتركها وأوى إلى فراشه ،وغط في النوم .رأى الملك في نومه مناما استبان بها حقيقة سارة وابراهيم وأن إبراهيم بعلها وليس أخيها ،فأطلق سراحها ، ووهبها جارية اسمها هاجر خادمة لها ،وأعادها إلى زوجها.
أقام إبراهيم في مصر ما شاء اهلل أن يقيم ،لكن قوم مصر نقموا عليه لما حصل عليه من مال وجاه فجفوه ،فأزمع على تركهم والرحيل عنهم و توجه إلى فلسطين.
هاجر إبراهيم إلى فلسطين ،ومعه زوجه سارة ،و خادمتها هاجر ،و استاقوا معهم أنعامهم، واحتملوا ما يملكون من مال جزيل.
108
كانت سارة عقيمة ال تلد ،ولقد بلغت من الكبر عتيا ،فأشارت على زوجها أن يدخل بخادمتها المصرية هاجر فانصاع لرأيها .حملت هاجر من إبراهيم و أنجبت غالما سماه إسماعيل،
فندمت سارة على فعلتها ودبت الغيرة إلى قلبها ،فطلبت من إبراهيم إقصاء هاجر و طفلها عن
دارها ،فأذعن إلرادتها ،وكان اهلل أوحى إليه أن يطيع أمرها ،حسب ما ورد في كتب التراث. ركب إبراهيم دابته واصطحب الغالم وأمه و سار ترشده إرادة اهلل و عنايته ،حتى وقف عند
مكان البيت ،فأنزل هاجر و ابنها ،وتركهما في تلك البقعة الجرداء وهما ضعيفان ال يملكان
سوى مزود به قليل من الطعام وسقاء فيه شيء من الماء .و يصف لنا كتبة التراث صورة مأساوية للمرأة المسكينة التي أخذت تستعطف إبراهيم و تسترحمه و تسيل بين يديه الدموع
الغزيرة ،ولكنه لم يستمع إلى قولها ،ولم تلن قناته لرجائها ،وتركهما وحيدين في تلك البقعة النائية ،فاستسلمت ألمر اهلل و رحمته.
في الحقيقة لم يوضح لنا كتبة التراث كيف استطاع إبراهيم قطع هذه المسافة الطويلة من
فلسطين إلى أرض الحجاز وهل كان قد انتقل سابقا إليها وهل كان في ذلك الوقت يقيم فيها،
الصورة هنا مشوشة وغير واضحة .على كل حال راحت هاجر تبحث عن الماء والغذاء حتى
قرعت صفاة الصفا ،ثم عادت فزعة مذعورة وسعت نحو سراب حسبته ماء عند المروة ،حتى
إذا جاءته لم تجد شيئا ،ثم كرت راجعة إلى هدفها األول ورجعت إلى الثاني ,و هكذا سعت
سعي المجهود سبعة أشواط ،وهو أصل السعي الذي يقوم به الحجيج .
أخذ الطفل إسماعيل يتلوى جوعا وعطشا وأمه تنظر إليه وال حول لها وال قوة ،ونظرت إليه بعيون ملؤها اللوعة وهو يضرب برجليه األرض من شدة العطش فإذا الماء قد انبجس من
تحت قدميه ،وسال بين رجليه .تأكدت هاجر بأن رحمة اهلل تحوطها فشربت حتى ارتوت و
أسقت ابنها .هذه العين هي زمزم وال تزال قائمة يزدحم حولها الحجيج علهم يفوزون بقطرة
أو شربة منها.
ولما نبع الماء اجتذب الطير إليه فحامت حوليه و حلقت فوقه ،وكان قوم من جرهم يسيرون
قرب هذا المكان فرأوا الطير فتأكدوا من وجود ماء في المكان فذهبوا إليه وشربوا منه واتخذه
بعضهم موطنا لهم فأنست هاجر بهم وعاشت في جوارهم .وشب إسماعيل واختلط بقوم جرهم
و أخذ العربية عنهم ،ثم تزوج منهم .
و تحدثنا كتب التراث أن إبراهيم لم يكن لينسى فلذة كبده فكان يزوره ليطمئن عليه ،مما يدل
على أن إبراهيم كان يعيش قريبا من موقع ابنه .و في ليلة رأى إبراهيم في نومه أنه يذبح
ولده ،ففهم أن اهلل يأمره بذلك .فعرض على ولده ذلك فبادر الغالم بالطاعة .ولما هم أن
109
يذبح ولده ،فدى اهلل إسماعيل بذبح عظيم ،ثم صار ذبح الضحايا أم ار متبعا عند العرب ومن
بعدهم المسلمون ،ذكرى لذبح إسماعيل .
أمر اهلل إبراهيم ببناء الكعبة فمضى إلى أرض الحجاز وجد في البحث عن ابنه (؟) فلما وجده أخبره أن اهلل أمره ببناء بيت اهلل في هذا المكان وأشار إلى أكمة مرتفعة وما حولها .كان
إسماعيل يأتي بالحجارة وابراهيم يبني ،ويعتقد كتبة التراث أن قوة خفية كانت تساعدهما ألن إبراهيم كان قد بلغ من الكبر عتيا ولم يكن ليستطيع وحده القيام بذلك العمل الشاق .و لما
ارتفع البناء و قصرت يد إبراهيم أن تنال أعلى البناء طلب من إسماعيل أن يأتيه بحجر يقف
عليه ،فذهب إسماعيل يبحث حتى وجد الحجر األسود فقدمه إلى أبيه ،و هكذا تم بناء البيت
الذي جعله اهلل مثابة للناس يحجون إليه كل عام في شهر الحج.
القرآن الكريم ال يحدثنا شيئا عن تفاصيل حياة إسحاق ويعقوب ،أما التراث االسالمي فيحكي
لنا كيف تقدم يعقوب إلى أبيه إسحاق -وكان شيخا قد ضعف بصره -و أخذ يشكو إليه أخيه عيصو وحسده له ألن أباه قد باركه من دون أخيه وكيف راح يهدده ويتوعده حتى تقطعت
حبال األخوة بينهما .فأجابه إسحق بأنه يخاف عليه من بطش أخيه واالنتقام منه وأنه يرى أن
أفضل وسيلة لدرء ذلك هي أن يرحل يعقوب إلى فدان آرام ( يؤكد كتبة التراث أنها تقع في
أرض العراق) حيث خاله البان بن بتويل ويتزوج من إحدى بناته , .وهكذا فعل فرحل إلى
موطن خاله وفي طريقه جلس خلف صخرة ليستريح فأدركته سنة فنام فرأى في نومه رؤيا بأن
اهلل سيؤتيه عيشا رضيا ويمنحه نسال طيبا مباركا ،يورثهم األرض(؟؟؟ أليس هذا قول يفرح
الصهاينة؟؟ ) وعندما وصل أرض خاله أقام عنده ما طاب له أن يقيم و تزوج من بنت خاله رحيل و لكنه اضطر أن يتزوج أختها األكبر ليا أيضا ،ألن العادة كانت أن ال تتزوج الصغرى قبل الكبرى .و في يوم عرسهما وهب البان لكل من ابنتيه أمة تقوم على خدمتها ولكنهما
آثرن أن يهدياها ليعقوب زوجهن .ومن راحيل وليا وهاتين األمتين رزق يعقوب اثنى عشر
ابنا ،هم األسباط االثنى عشر لبني إسرائيل .وال ينس كتبة التراث أن يسموا لنا هؤالء األبناء وهم حسب ما ورد في البداية والنهاية :رأوبين و شمعون و الوي و يهوذا و يساكر و
زوبولون من ليا .و يوسف و بنيامين من ارحيل .ودان ونفتالي من بلهة من بلهة جارية
راحيل .و جاد وأشير من زلفة جارية ليا و قد ولدوا جميعا في فدان آرآم إال بنيامين فلقد ولد
في كنعان .وليس خافيا على أحد أن هذه المعلومات كغيرها تورتية المصدر يهودية التأليف
.ماتت راحيل حسب ما تقوله كتب التراث وتركت يوسف إذ ذاك غالما يافعا وأخاه بنيامين في
الثامنة عشر من عمره ،ولهذا آثرهما يعقوب بالحب وخصهما بفضل وحنان.
110
يحدثنا القرآن الكريم أن قصة يوسف هي من ضمن القصص القرآنية التي يقصها على
الرسول الكريم محمد كعبرة لمن يعتبر " .نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك
هذا القرآن وان كنت من قبله لمن الغافلين"(يوسف " )3لقد كان في يوسف وأخوته آيات
للسائلين " ( يوسف .) 7
قصة يوسف تبدأ ب" إذ قال يوسف ألبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر
رأيتهم لي ساجدين" ( يوسف )4و وفي تفسير ابن كثير أن الشمس والقمر عبارة عن أبيه
وأمه و أن االحدى عشر كوكبا هم أخوته .وعن أهل السلف عن حديث لرسول اهلل أن رسول
اهلل سمى هذه الكواكب وهي جريان والطارق والديال و ذو الكنفان وقابس و ذناب و عموذان والفيلق والمصبح والضروح ذو الفرع والضياء والنور .ويضيف البيضاوي في تفسيره أن
الشمس والقمر نزلتا من السماء إلى األرض وسجدن ليوسف(كذا؟) .أما البغوي في تفسيره
فيقول عن بعض أهل السلف أن النجوم أخوته والشمس أبوه والقمر أمه وعن ابن جريح أن القمر أبوه ألنه مذكر والشمس أمه ألنها مؤنثة،وقيل بل خالته ألن أمه كانت قد ماتت .
خاف يعقوب من حسد أبناءه على أخيهم يوسف ،فقال البنه ":يا بني ال تقصص رؤياك على
اخوتك فيكيدوا لك إن الشيطان لالنسان عدو مبين" ( يوسف .) 5ولكن أخوته شعروا
بتفضيل يعقوب ليوسف وأخيه عليهم فتآمروا للتخلص من يوسف "،إذ قالوا ليوسف و اخوه
أحب ألبينا منا و نحن عصبة إن أبانا لفي ضالل مبين * اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يحل لكم وجه أبيكم و تكونوا من بعده قوما صالحين" ( يوسف .) 8
أقنع أخوة يوسف أباهم يعقوب أن يرسل يوسف معهم في رحلة لهم فوافق بعد إلحاح منهم و
طمأنتهم له بأنهم لن يسمحوا بأن يمس يوسف سوءا .وعندما هموا بقتله " ،قال قائل منهم
ال تقتلوا يوسف والقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين" ( يوسف () 10 كتب التفسير تقول أن المقصود بالقائل هو يهوذا) .فوافقوا و ألقوه في الجب وعادوا بقميصه
ألبيهم يبكون و " قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما
أنت بمؤمن لنا وان كنا صادقين" "( يوسف ) 17ولكن يعقوب عرف أن أبناءه يكذبون "،قال بل سولت لكم أنفسكم أم ار فصبر جميل واهلل المستعان على ما تصفون"( يوسف ) 18
تخبرنا اآليات أن سيارة جاءت إلى الجب طلبا للماء" فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى
هذا غالم وأسروه بضعة واهلل عليم بما يعملون * و شروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا في
من الزاهدين" ( يوسف .) 12-11واختلف المفسرون في الجهة التي باعته فبعضهم قال
الضمير في شروه يعود على السيارة واآلخر قال يعود على اخوته ولكن في هذه الحالة ال نفهم
كيف ألقوه في الجب ثم باعوه .في تفسير الجاللين نجد أن أخوته ألقوه في الجب فسقط في
111
الماء ولكنه آوى إلى صخرة فنادوه فأجابهم يظن رحمتهم ،فأرادوا رضخه بصخرة فمنعهم
يهوذا ،وجاءت سيارة مسافرون من مدين إلى مصر فنزلوا قريبا من الجب ،فأرسلوا واردهم
الذي يرد الماء ،فأرسل دلوه فعلق به يوسف ،فعلم األخوة به فأتوه وقالوا هذا عبدنا وسكت
يوسف خوفا من أن يقتلوه ،فباعوه .ومن الواضح أنها محاولة السقاط النص التوراتي على التفسير القرآني .كما اختلف المفسرون بقيمة الثمن البخس الذي بيع به يوسف فمن قائل
بأنه بيع بعشرين درهما وآخر بثالثين وآخرين بأربعين .و اآليات القرآنية ال تقول من هم
السيارة ومن أين جاءوا ،ولكن كتب التراث تحدد موطنهم ومسارهم وتختلف في ذلك ،ففي
تفسير القرطبي نجد أنهم كانواسيارة من الشام إلى مصر فأخطئوا الطريق وهاموا حتى نزلوا
قريبا من الجب وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران و مياهه مالحة فعذبت حين ألقي فيها يوسف .وأن " واردهم " هو مالك بن وعر من العرب العاربة(.؟؟) وفي تفسير الجاللين كما
مر ،كانوا سيارة من مدين إلى مصر.
تتابع اآليات القرآنية وتقول أن الذي اشتراه رجل من مصر "،وقال الذي اشتراه من مصر
المرأته ،اكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا( " ...يوسف ) 21ولم تذكر اآليات من يكن هو ذلك الرجل وما هي وظيفته ومركزه وانما تلقبه بالعزيز .أما كتب التراث فتختلف في
ماهية ذلك الرجل ،بعضهم قال ما قالته التوراة بأنه كان رئيس شرطة مصر واسمه طوطيفار.
ابن كثير في تفسيره يقول أن بعض أهل السلف قالوا بأن العزيز كان لقبه أما اسمه فهو
أطفير بن روجيب ،و كان على خزائن مصر في زمن الملك الريان بن الوليد وهو من العماليق وأن اسم امرأته راعيل بنت رعابيل ويقول البعض بل كان اسمها زليخا .البعض اآلخر يقول
بأنه كان وزير مصر األكبر وكان اسمه مالك بن دعر بن عنقا بن مديان بن إبراهيم .في
تفسير القرطبي ،وعن بعض أهل السلف أن الذي اشترى يوسف هو ملك مصر نفسه و كان
لقبه العزيز واسمه قطفير أو إطفير.
نفهم من اآليات القرآنية أن امرأة العزيز قٌد أعجبت بيوسف وأحبته فراودته عن نفسه ولكن
يوسف رفضها رغم إلحاحها و إغراءها ،وهم بالفرار منها فما كان منها إال أن شدته من قميصه فمزقته ،وما انتهى إلى الباب حتى رأى العزيز واقفا ونظراته على قميص يوسف
الممزق .فما كان من امرأة العزيز إال أن تتهم يوسف باالعتداء عليها ،ولكن أحد أقربائها
شهد فقال :إن كان قميصه مزق من األمام فصدقت وهو من الكاذبين وان كان قميصه مزق من الخلف فكذبت وهو من الصادقين .فلما تأكدوا أن قميصه مزق من الخلف عرف العزيز
الحقيقة وقال إن كيد النساء عظيم ( .يوسف ) 28 -22
112
اآليات القرآنية تقول " وشهد شاهد من أهلها" ولكن كتب التراث سرحت في الخيال واختلفت
كعادتها فيمن يكون هذا الشاهد .في تفسير القرطبي نجد أن هناك أربع أقاويل في هذا األمر
األول أن الشاهد كان طفال صغي ار في المهد تكلم بقدرة اهلل عز وجل ودعموا قولهم بحديث
للرسول الكريم .القول الثاني أن الشاهد كان صبيا في المهد يتكلم وهو ابن خالها .والثالث أن الشاهد خلق من خلق اهلل تعالى ليس باالنس وال بالجن .والرابع أنه رجل حكيم ذو عقل
وكان مستشا ار للوزير العزيز.
نعلم من اآليات القرآنية أن يوسف كان جميل الصورة وأنه حين شاعت قصة يوسف وامرأة
العزيز المتها صاحباتها على فعلها وهي ذات الحسب والمقام ،فدعتهن إلى بيتها لرؤيته
فصعقن بجماله حتى أنهن وهن ينظرن إليه جرحن أياديهن بالسكاكين وقلن حاشا هلل ما هذا
بشر إن هذا إال مالك كريم (.يوسف . ) 32-30طبعا لم تكتف كتب التراث بوصف يوسف
بالجميل وانما راحت تتبارى بوصف هذا الجمال كأنما جمال يوسف هو قصد اآليات القرآنية
وليس العبر األخالقية التي تركز عليها وتدعو لها .ففي تفسير ابن كثير أن بعض أهل السلف قال أن الرسول محمد صلعم مر بيوسف في السماء الثالثة فقال :فإذا هو قد أعطي شطر
الحسن .البعض اآلخر قال أن وجه يوسف كان مثل البرق وكان إذا أتته المرأة لحاجة غطى
وجهه مخافة أن تفتن به .بعض اهل السلف قال أن يوسف أعطي وأمه ثلث الحسن والناس
الثلثين ،والبعض اآلخر قال بل أعطي وامه الثلثين والناس الثلث ،وذهب بعضهم إلى أن اهلل قسم الحسن إلى قسمين فاعطى يوسف وأمه نصف الحسن والنصف اآلخر بين سائر
الخلق(.؟؟)
يظهر من اآليات الكريمة أن يوسف وقع في مكيدة من امرأة العزيز دخل بسببها السجن ولقد فضل السجن على الرضوخ لكيدها وكيد صديقاتها .و لقد دخل فيمن دخل معه فتيان يظهر
أنه كان لهما عالقة بالقصر .وكان يوسف يدعوهما لعبادة اهلل الواحد وكان يؤول لهما
أحالمهما التي كانت تؤرقهما ،و يظهر أن أحد منهما قد أطلق سراحه وعاد للعمل في
القصر .وفي يوم أصبح الملك على رؤيا أفزعته فدعا إليه حكماء دولته وقص عليهم الرؤيا "، قال الملك إني أرى سبع بقرات سمان ،يأكلهن سبع جعاف وسبع سنبالت خضر وأخر
يابسات يا أيها المأل أفتوني في رؤيتي إن كنتم للرؤيا تعبرون* قالوا أضغاث أحالم وما نحن بتأويل األحالم بعالمين ( " .يوسف 43و . )44قال الفتى الذي نجا من السجن وقد تذكر يوسف ،بأن في السجن فتى قادر على تأويل هذا الحلم فبعثوا له وجلبوه .و عندما علم
يوسف بتفاصيل رؤيا الملك فسرها لهم قائال :إنكم تستقبلون سبع سنوات لينة رخاء ،
تزدهر فيها حقولكم ،وتزكو غال تكم ،ويطيب لكم العيش .ثم تأتي في أعقابها سبع شداد فال
113
تجدون ما تحصدون وال حصيدا يخزن ،ثم بعد ذلك تصالحكم األيام ويظلكم عام خصيب تجود
عليكم فيه األرض ،وتابع يوسف قائال :فما حصدتم في سنيكم الرخاء فاخزنوه مصونا في
سنبلة ،إال ما تحتاجون إليه فيما يقيم أودكم ،لينفعكم في السنين السبع العجاف (.يوسف
) 49– 47
اهتم الملك بأمر يوسف واراد أن يتأكد من قضية النساء اللواتي كدن له فبعث يطلبهن
فاعترفن بالحقيقة وبأنهن اتهمن يوسف زو ار وبهتانا ،فعفى الملك عنه واكرمه " .قال الملك آتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين* قال اجعلني على
خزائن األرض إني حفيظ عليم * وكذلك مكنا ليوسف في األرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب
برحمتنا من نشاء وال نضيع أجر المحسنين" ( يوسف ) 56 – 54
كتبة التراث اختلفوا في معنى اآلية " مكنا ليوسف في األرض يتبوأ منها حيث يشاء" .ابن كثير في تفسيره يقول عن بعض أهل السلف أن المقصود هو مصر ،يتبوأ منها حيث يشاء ،وعن
آخرين أنهم قالوا :يتصرف فيها حيث يشاء والبعض اآلخر قال :يتخذ منها منزال حيث يشاء.
في تفسير القرطبي عن الطبري أن ملك مصر في ذلك الزمان الوليد بن الريان استخلف يوسف على عمل إطفير بعد ان عزله وأن الملك أسلم على يد يوسف .وعن ابن عباس أن الملك
الوليد ملكه بعد سنة ونصف ،ولما مات إطفير زوجه الملك أرملة اطفير راعيل وولدت له ولدين .و قال بعض أهل السلف أن يوسف دخل بها فوجدها عذراء وأنها ولدت له ولدين
إفرائيم و منشا .وأن يوسف دعا أهل مصر لالسالم حتى آمنوا به .وتحدثنا كتب التراث كيف أضحى يوسف بين عشية وضحاها وزي ار مطلق اليد نافذ السلطان ،ولقد رأى المصريون في زمنه رخاء العيش وعمت عليهم الخيرات ،ولقد سطع اسم يوسف في جميع مصر وامتد إلى
األصقاع ،وشاع بين الناس أن بمصر وزي ار حكيما قضى على الجوع وأقام العدل بين الناس. نفهم من اآليات القرآنية أن أخوة يوسف دخلوا عليه ،وال تبين اآليات سبب دخولهم وال كيف
دخلوا ،وال من أين جاءوا ،و أنه بعد أن جهزهم بجهازهم طلب منهم إحضار أخيهم من أبيهم إليه " .دخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون * ولما جهزهم بجهازهم قال أتوني بأخ لكم من أبيكم *.......فإن لم تأتوني به فال كيل لكم عندي وال تقربون " ( يوسف . ) 60-58
تقول كتب التراث أن سبب مجيئهم إلى مصر ودخولهم على يوسف هو أن القحط في ذلك
العام عم مصر وامتد إلى البلدان المجاورة منها بالد كنعان حيث كان يقيم يعقوب واوالده . ولقد قال يعقوب ألبنائه :يا بني إن الجدب قد عمنا والقحط يكاد يأتي علينا و قيل أن في
مصر رجل كريم حملت إلينا الركبان أخباره وتناقل الناس أحاديثه ،فشدوا ركائبكم واقصدوا هذا
العزيز ،ولكن اتركوا عندي أخاكم بنيامين ،أتعزى ببقائه عن فراقكم .وهكذا شدوا الرحال إلى
114
مصر وقصدوا قصر يوسف واستأذنوا الحاجب الدخول عليه ،فأذن لهم يوسف بالدخول،
فدخلوا عليه ولقد عرفهم وهم لم يعرفوه،و أنه بعد أن أوفى لهم كيلهم ،طلب منهم إحضار
أخيهم من أبيهم .وفي تفسير القرطبي نجد أن األخوة جاءوا بأحد عشر جمال وكانوا عشرة
فسألهم يوسف عن الجمل الزائد فقالوا هذا الجمل ألخينا تركناه عند أبينا ،فقال لهم أحضروه
إلي إن كنتم صادقين ،فرحلوا إلحضاره وتركوا عنده أخاهم شمعون رهينة حتى يعودون بأخيهم
.
اآليات تحدثنا أن يوسف طلب من فتيانه أن يعيدوا بضاعة أخوته إلى رحالهم حتى يتذكروا
وعدهم له ويعودوا بأخيهم " .اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم
لعلهم يرجعون " ( يوسف ) 63فرحل األخوة عن مصر وساروا إلى أبيهم ،وأخبروه بكل ما جرى معهم مع يوسف ،وطلبوا منه أن يبعث أخاهم معهم حتى يحصلوا على الكيل وهو ما
أشرطه عليهم يوسف " .فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فارسل معانا أخانا نكتل وأنا معه لحافظون " ( يوسف .) 63
رفض يعقوب سفر أخيهم معهم وذكرى ما فعلوه بأخيهم يوسف ما زالت عالقة في ذهنه و
قال لهم " هل أمنكم عليه إال كما أمنتكم على أخيه من قبل ("...يوسف . ) 64استمر الجدال بين يعقوب وأبنائه وفي نهاية األمر سمح لهم بالسفر مع أخيهم بعد أن بينوا له كيف أن
بضاعتهم التي سافروا بها قد ردت إليهم ،وأن شرط حصولهم على الكيل هو إحضار أخيهم ، وبعد أن قدموا المواثيق على أن يحافظوا على أخيهم و يعيدونه إلى أبيهم بسالم ،و طلب منهم أن ال يدخلوا من باب واحد بل من أبواب متفرقة ( .يوسف . ) 66ولقد اختلف
المفسرون في شرح هذا الطلب وأسبابه .ففي تفسير ابن كثير عن بعض أهل السلف أن
يعقوب خاف عليهم ان تصيبهم عيون الناس ألنهم كانوا ذو جمال وهيئة حسنة وان العين
إذا أصابت فارسا تنزل به عن فرسه .ويؤكد القرطبي هذا التفسير ويقول عن بعض أهل
السلف أنه كان لمصر أربعة أبواب ،وأن العين حق إذا أصابت أحدهم ادخلته القبر .وفي قول
آخر ،حتىال يرى الملك عددهم وقوتهم فيبطش بهم خوفا أو حذرا .وعن آخرين أنهم قالوا أن يعقوب علم انهم سيلقون أخاهم في أحد تلك األبواب ولذلك طلب منهم الدخول من أبواب
متفرقة.
فعل األخوة ما أمرهم به ابوهم و دخلوا على يوسف "،ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه
قال إني أنا أخوك فال تبتئس بما كانوا يعملون* فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل
أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون" ( يوسف .) 70-69يقول ابن كثير في تفسيره
أن يوسف بعد أن أطلع أخاه على حقيقة شخصه تواطأ معه على أن يبقيه عنده .أما القرطبي
115
فيقول عن بعض اهل السلف أن بنيامين طلب من أخيه أن ال يرده إليهم فقال له قد علمت
اغتمام يعقوب بي فيزداد غمه ولكن بنيامين رفض الخروج ،فقال يوسف ال يمكن حبسك إال بعد أن أنسبك إلى ما يجمل بك ،فقال بنيامين ال أبالي ،وهكذا دس يوسف الصاع في رحل
أخيه بنيامين ،إما بنفسه أو أمر بعض خواصه بذلك .وهكذا بهذه الحيلة استطاع أن يبقي
أخاه عنده ولم تنفع توسالت أخوته بأن له ابا شيخا سيحزن عليه " ,قالوا يا أيها العزيز إن له ابا شيخا كبي ار فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين* قال معاذ اهلل أن نأخذ إال ما
وجدنا متاعنا عنده إنا إذن لظالمون " ( . ) 79-78فلما يئسوا من إقناع يوسف انفردوا
يتناجون فيما بينهم ،فقال كبيرهم وهو حسب ابن كثير روبير وقيل أنه يهوذا بأنه لن يبرح
البلد حتى يأذن والده يعقوب بذلك ،.وذكرهم بتفريطهم بيوسف وميثاقهم ألبيهم بأن يعيدوا
أخاهم سالما .وهكذا عادوا إلى أبيهم بدون أخيهم وأخبروه أن أخاهم سرق فحبس بسبب ذلك ،وأنهم يقولون الحق ،ولكن يعقوب لم يصدق قولهم ،قال بل سولت لكم أنفسكم أم ار فصبر جميل عسى اهلل أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم * وتولى عنهم وقال يا أسفي
على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ( ".يوسف ) 84-83
حاول األخوة أن يخففوا من حزن أبيهم ،وقالوا له" تاهلل تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا
أو تكون من الهالكين* قال إنما أشكو بثي و حزني إلى اهلل وأعلم من اهلل ما ال تعلمون( ".
يوسف .) 86-85وطلب منهم أن يعودوا للبحث عن يوسف وأخيه وأن ال ييئسوا من روح اهلل ،وال ييئس من روح اهلل إال القوم الكافرون .وهكذا فعلوا كما أمرهم يعقوب ،فرحلوا إلى مصر ووقفوا بين يدي يوسف يرجونه ويستعطفونه ،ويشكون له ما أصابهم وأبيهم من الضر .واذ
كانت اآليات القرآنية الكريمة قد وصلت بقصة يوسف ما تطمح إليه من العبر ،أعلن يوسف
الخوته عن نفسه ،بعد أن ذكرهم بفعلتهم الشنيعة به وبما كادوا له وألخيه ،وحاولوا تبرير
فعلتهم بأن أباهم كان يفضله عليهم فقال لهم :ال تثريب عليكم يغفر اهلل لكم وهو أرحم
الراحمين .ثم أعطاهم قميصه وطلب منهم أن يأخذوه ألبيه حتى يعلم أنه حي،كما طلب منهم
الحضور جميعا إلى مصر وهكذا كان " .فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا
مصر إن شاء اهلل آمنين* ورفع أبويه على العرش وخروا إليه سجدا وقال يا أبت هذا تأويل
رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو
من بعد أن نزع الشيطان بيني وبين أخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم *
ولي في رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل األحاديث فاطر السماوات واألرض أنت ً الدنيا واآلخرة توفني مسلما و ألحقني بالصالحين ( ".يوسف ) 101 -99
116
اتفق معظم المفسرين في تفسير العرش بأنه السرير واختلفوا في ما تعني" وخروا إليه سجدا"
،البعض قال أن الضمير هنا يعود على اهلل سبحانه ألنه ال يجوز السجود لغير اهلل عز وجل .ولكن معظم المفسرين قالوا أن الضمير يعود على يوسف ولكن اختلفوا في معنى السجود ففي تفسير القرطبي أنها كانت عادة أهل ذلك الزمان أن يسجد الوضيع للشريف والصغير للكبير ،أما ابن كثير فيقول أنه سمح بها في ملة يوسف ويعقوب وأبطلت في ملتنا ،ملة
اإلسالم ،و اختلف كتبة التراث في عمر يوسف وعمره يوم أن ألقي في الجب وفي المدة التي
قضاها في مصر .وقيل كان بين رؤيا يوسف وتأويلها عشرون سنة وقال آخرون ثالثون سنة
وغيرهم خمسة وثالثون و أربعون وخمسون وستون وبلغ البعض أن المدة هي ثمانون سنة.
وفي كتب التراث نجد أنه ولد ليوسف من امرأة العزيز إفراثيم و منشا ورحمة امرأة أيوب .وقيل
أن يعقوب بقي عند يوسف ثماني عشرة سنة وقال آخرون بل بقي عنده بعضا وأربعون سنة.
قصة يوسف كما بينت لنا اآليات القرآنية هي من القصص القرآنية التي يتلوها اهلل على نبيه
وما جرى فيها بين يوسف و اخوته آيات وعبر للسائلين .لم تضع اآليات القرآنية القصة في سياق تاريخي بالزمان والمكان واألسماء ،إال ما يلزم لسياق القصة و محاولة كتبة التراث
بوضعها في التاريخ المحدد بالزمان والمكان وباألسماء ال يزيد وال ينقص من قيمة القصة وال من قيمة العبر التي تقصدها وانما يضعها في تصارع مع التاريخ وتقلباته وهو ما لم يكن من ضمن قصد اآليات .أنا كمسلم ال يهمني إن كانت القصة قد وقعت في زمن الملك فالن أو
غيره .كما ال يهمني إن كان عزيز مصر رئيس الشرط أو مسؤول خزينة المملكة أو الملك
ذاته .كما ال يهمني أبدا إن كان يوسف قد نال ثلث الجمال والحسن أو ربعه أو نصفه ،فإن
كل ذلك ال يزيد من قيمة القصة وانما يخرج القصة من سياقها و عن قصدها وهو العبرة لمن
يعتبر.
قصة يوسف مليئة بالعبر منها أنه ال يجوز ألب أن يفضل بعض أبنائه على البعض اآلخر ،
فذلك يخلق بين األخوة الحسد والبغضاء كما رأينا في حالة يوسف وأخوته .كما تؤكد لنا اآليات أن الحق سيظهر و يبتان مهما طال الزمان وأن على اإلنسان أن ال يقنط من رحمة اهلل مهما
جار عليه الزمان .و أن على اإلنسان أن يتحلى باألخالق مهما كانت المغريات .كما تؤكد لنا أنه مهما كانت ذنوب اإلنسان فإن اهلل غفور رحيم يغفر لعباده الذين أذنبوا إذا رجعوا عن ذنوبهم وطلبوا من اهلل المغفرة والرحمة ،و أن من يتق ويصبر فإن اهلل ال يضيع أجر
المحسنين.
117
-3النبي موسى بين النص اإللهي والبشري يعد النبي موسى واحد من أهم الشخصيات التي وردت في القرآن الكريم ،فهو نبي مبجل من قبل األديان الثالث ،اليهودية والمسيحية واالسالم ،ويعتبر كذلك مؤسس الديانة التي تسمى
اليوم اليهودية .ولقد كانت شخصية موسى وما تزال هدفا لتنقيب وتحليل الباحثين في العالم و حاول الباحثون االجابة على أسئلة مختلفة تتعلق بهذه الشخصية مثل ميالده وأصوله
العرقية وان كان مصريا أم إسرائيليا و زمنه و عالقته بالفراعنة وفي زمن أي منهم ظهر
ومركزه في الدولة المصرية وعالقة تعاليمه بتعاليم الفرعون إخناتون ،ثم قصة خروجه من مصر ومن هم الذين خرجوا معه ومعجزة عبوره وجماعته البحر ،وأي بحر هو ،و ظروف مماته وأين دفن .وما زال كثير من هذه األسئلة لحد االن بدون إجابة مقنعة.
ورد اسم موسى في القرآن الكريم مائة وستة وثالثون مرة ،و لكن اآليات التي تتحدث عنه
أضعاف هذا العدد .و إذا حاولنا قراءة اآليات القرآنية بمعزل تام عن التوراة والمفسرين
التوراتيين ،فإننا نجد أن اآليات التذكر اسم أم موسى و أبيه كما ال تذكر في أي زمن ولد
وما اسم الفرعون الذي تتحدث عنه اآليات ،و من هم أهل موسى وقبيلته ،و إنما تخبرنا فقط
أنه كان له أخا اسمه هارون و أن اهلل أوحى إلى أمه أن تضعه في التابوت وتلقيه في اليم، وأن اليم سيلقيه بالساحل فيلقه عدو هلل وعدو ه .وال توضح اآليات من الذي وجده بالضبط ولكننا نفهم أنه من آل فرعون و أن امرأة فرعون طلبت االبقاء عليه لعله ينفعهم أو يتخذوه
ولدا .ونفهم من اآليات أن الطفل رفض حليب المرضعات فقالت أخته لمن وجده وكانت قد
118
تبعته من دون أن يشعروا :إنني سأدلكم على امرأة تكفله وترضعه ،فدلتهم على أمه ،وهكذا
عاد موسى إلى حضنها وهم ال يعلمون " .إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى * أن اقذفيه في
التابوت فاقذفيه في اليم فيلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني
ولتصنع على عيني* إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي
تقر عينها وال تحزن ("...طه " . )40 -38وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت
عليه فألقيه في اليم وال تخافي وال تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين* فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا و حزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين* و قالت امرأة
فرعون قرت عين لي ولك ال تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم ال يشعرون * وأصبح
فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لوال أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين* وقالت
ألخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم ال يشعرون *وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل
أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون * فرددناه إلى أمه كي تقر عينها وال تحزن ولتعلم أن وعد اهلل حق ولكن أكثرهم ال يعلمون " ( القصص .) 13-7
ال تشرح اآليات القرآنية إن كان موسى ،بعد فطامه ،قد شب وترعرع في داخل قصر فرعون
أم في مكان آخر ولكنها تخبرنا أنه عندما بلغ أشده واستوى آتاه اهلل حكما وعلما " ،ولما بلغ
أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين "( القصص .) 14كما تحدثنا اآليات
عن حادثة قتله أحد أعدائه ،ونفهم من سياق اآليات أنه من آل فرعون ،استغاثة لرجل من
شيعته " .ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد رجلين يقتتالن هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا
من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين( ".القصص . ) 1 5 :ونفهم من قواميس اللغة العربية أن كلمة شيعته تعني أتباعه وأنصاره ،وال تدل على األهل والعشيرة ،وليس بالضرورة أن يكون
من بني إسرائيل.
ال نجد في القرآن آيات تدل صراحة على أن موسى ينحدر من أصل إسرائيلي .وعندما نمعن
النظر في اآليات القرآنية بمعزل عن التوراة والتفسير التوراتي الذي عشش في الوعي
االسالمي فإننا نفهم أن بني إسرائيل قد انضموا إليه وأصبحوا من ضمن شيعته وخرجوا معه
من مصر ،ولكن ال نجد ما يشير إلى أن موسى ينحدر من أصول إسرائيلية .وفي اآلية 48
من سورة األنعام " ووهبنا له ( أي إبراهيم) إسحاق ويعقوب كال هدينا ونوحا هدينا من قبل و
من ذريته داود وسليمان وأيوب و يوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين ".ما يعني
أن موسى ليس من ذرية يعقوب ولكنه من ذرية نوح .حيث أن اآلية لم تقل من ذريتهما أي
إسحق ويعقوب وال من ذريتهم حتى تجمع إسحاق ويعقوب ،ولكن" من ذريته" وقد أجمع
119
المفسرون على أن الهاء في -ومن ذريته -تعود على نوح ،وهذا بالضرورة يعني أنه ليس من نسل إسرائيل وال ينتمي إلى القبيلة اإلسرائيلية.
وهناك آيات كثيرة تتحدث عن قوم موسى مثل" واذ قال موسى لقومه* واذ استسقى موسى
لقومه * واذ قال موسى لقومه ( بقرة " ، ) 67 ،60 ،54 :واذ قال موسى لقومه" ( المائدة " ، ) 20قال موسى لقومه * وقال موسى ألخيه اخلفني في قومي * واتخذ قوم موسى من
بعده * ولما رجع موسى إلى قومه * ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون *" (
األعراف ) 159 ، 155 ،150 ، 148 ، 142 ، 128وغيرها كثير وعندما بحثنا في قواميس اللغة العربية وجدنا أن كلمة قوم تعني :جماعة من الناس تجمعهم جامعة يقومون لها ،وال تعني بالضرورة جماعة عرقية ،وال تعني بالضرورة بني إسرائيل كما غرز كتبة التراث في
وعينا.
كتب التراث تبني قصة ميالد موسى وترعرعه حسب حديث التوراة والمفسرين اليهود أو
ذوي األصول اليهودية ،فنراها تصر على أن موسى ينتمي إلى القبيلة اإلسرائيلية و تقول
أن أم موسى هي يوكابد ( قصص القرآن) وقال القرطبي في تفسيره ،عن الثعلبي ،أن
اسمها لوحا بنت هائد بن الوي بن يعقوب .
وكان على مصر فرعون طغى وتكبر وعلى في األرض و " جعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحي نساءهم " ويجمع المفسرون وكتبة التراث أن هذا
القول يعني بني إسرائيل ويضيف ابن كثير في تفسيره " وكانوا في ذلك الزمان خيار أهل
زمانهم" ولقد سلط عليهم الملك الجبار يستعملهم في أخس األعمال ويقتل أبناءهم
ويستحي نساءهم ،إذ تقدم الكاهن من فرعون وقال له :يولد مولود في بني إسرائيل
يذهب ملكك على يده .أما ابن كثير فيقول وكان القبط ويعني بهم أهل مصر قد تلقوا هذا
على يد بني إسرائيل .وأما القرطبي فيقول في تفسيره وكانت الكهنة قد أخبرت الملك بذلك
،أو قال المنجمون أو رأى رؤيا.
تحدثنا كتب التراث كيف أن أم موسى يوكابد أو في قول آخر لوحا كانت جالسة في بيتها
وقد جاءها المخاض فدعت قابلة لتساعدها في الوالدة ،فلما وقع موسى على األرض
اضطربت نفسها ولكنها حرصت على حياته وجهدت في إخفاء الخبر عن فرعون عدو األطفال .واستمر ثالثة من الشهور كذلك ،حتى إذا نشر فرعون عيونه في المدينة
يتفحصون األطفال ،ألهم اهلل أم موسى أن تهيئ له صندوقا تضعه فيه ،ثم تلقي به في
النيل وترسل على الشاطئ أخته تقص أثره.
120
حين وجد الصندوق وفيه الطفل حمل إلى فرعون ،فلم تكد تنظره امرأة فرعون حتى ألقى اهلل محبته في قلبها ،فطلبت إلى زوجها أن يكون ابنا له ولها .وسيقت إليه المراضع
ولكنه عافها جميعا فانبرى الوزير هامان ،عندما رأى أخت موسى تراقب الطفل وقال :إن
هذه الفتاة تعرفه .ولما سئلت الفتاة قالت :إنما أردت أن أكون للملك من الناصحين وقالت
لهم :إني أدلكم على من يكفله ،فدلتهم على امه ،فاستأنس بها الوليد ،والتقم ثديها من دون النساء .وال نعرف هنا كيف استطاعت هذه الفتاة أن تدخل قصر الملك وتتحدث معه
أو مع وزيره هامان ،إال إذا كانت نفسها من سكان القصر.
ابن كثير في تفسيره يقول أنهم أخذوا الطفل إلى بيت أمه وعندما رضع منها ،سمعت
الملكة بالبشير فاستدعتها وطلبت منها أن تبقى عندها في القصر ولكن أم موسى رفضت
وقالت :إن لي بعال وأوالدا وال أقدر على المقام عندك ،ولكن إن أحببت أرضعه في بيتي،
فوافقت الملكة وأجرت على أم موسى النفقة و الكساء واالحسان .وال نفهم هنا كم كان
عدد أوالد أم موسى الذي يتحدث عنهم ابن كثير ،وال كم كانت أعمارهم .كما ال نعرف
هل شب موسى ،بعد فطامه ،وترعرع في بيت أمه أم في قصر فرعون ،ونرجح من ما ورد في اآلية " الم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين" أنه شب وترعرع في قصر
الفرعون .واختلف المفسرون في عمر موسى حين " بلغ أشده واستوى" ،ففي تفسير
القرطبي يقول عن بعض أهل السلف أن األشد أقصاه أربع وثالثون سنة وعن ابن عباس
أنه قال بلغ األربعين سنة .و كان لموسى تسعة من بني إسرائيل يسمعون له ويقتدون به.
ويغوص كتبة التراث في عالم التفاصيل الخيالي ويحملون اآليات الكريمة ما ليس فيها وال هو ضروري لسياق اآليات و مضمونها ،فيقولون أن الرجل الذي من شيعته والذي
استغاث بموسى على الذي من عدوه ،كان خبا از لفرعون وأنه أراد أن يسخر االسرائيلي- وفي قول آخر العبراني ،حيث تعتبر كتب التراث العبراني واالسرائيلي شيئا واحدا -في
جمع الحطب لمطبخ فرعون فأبى عليه .وأن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى
وحذر موسى بأن المأل يأتمرون ليقتلوه هو ،حسب ما ورد في تفسير القرطبي عن بعض
أهل السلف،حزقيل بن صبو ار مؤمن آل فرعون ،وكان ابن عم فرعون و قيل بل هو
طالوت وعن آخرين أنهم قالوا بل هو شمعون مؤمن آل فرعون وقيل أن فرعون أمر بقتل موسى فسبق ذلك الرجل بالخبر.
تحدثنا اآليات الكريمة أن موسى عندما سمع أن المأل يأتمرن ليقتلوه ،خاف على نفسه وتوجه نحو مدين ،وال تحدثنا اآليات أين هي مدين ومن هم ساكنوها.
121
أما كتب التراث فتحدثنا أن موسى توجه إلى مدين لصلة القرابة بينه وبين أهل مدين،
فموسى من ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ومدين من ولد إبراهيم .ويقول كتبة
التراث ،أن مدين اسم البلد وقيل اسم القبيلة بسبب أنهم من أبناء مدين ابن إبراهيم . وكان أهل مدين قوما عربا يسكنون مدينتهم مدين القريبة من أرض معان من أطراف
الشام .وتحدد التوراة الموقع الجغرافي لمدين بالشاطئ الشرقي لخليج العقبة ،وأنهم أحفاد
إبراهيم من زوجته كيتوري .ويحدد بعض المؤرخين( فيليب حتي :تاريخ العرب ،دار
الكشاف بيروت 1965 ،ص /51 :ج )1الموقع الجغرافي لمدين بأنها تضم جنوبي سيناء واألرض الواقعة إلى الشرق منها.
سار موسى إلى مدين وقطع مسافة تزيد على 450كم ،ولقد جاع حتى لصقت بطنه بظهره وأكل العشب حتى أصبح لونه شديد الخضرة ،ولم يصل مدين إال وسقط باطن
قدميه .كما تحدثنا كتب التراث أنه تاه في الطريق وكان ال يعرفها فظهر له ملك راكبا فرسا ومعه عنزة ،فقال لموسى اتبعني فتبعه فهداه إلى الطريق (.تفسير القرطبي)
تتابع اآليات القرآنية سردها لقصة موسى فتخبرنا أن موسى ورد ماء مدين فوجد جمع من
الناس يسقون ومن دونهم امرأتين تذودان أغنامهما حتى ال تختلط بأغنام غيرهما ،فتقدم
وسألهما ما خطبهما ،فأخبرتاه بأنهما تأبيان مزاحمة الرجال وتنتظران حتى ينصرف الرعاء، ألن أباهما شيخ كبير .هب موسى لمساعدتهما فسقى أغنامهما وتولى إلى الظل .وتتابع
اآليات القصة فنفهم أن الفتاتان عندما أخبرتا أبيهما بما حدث لهما بعث إحدى بناته في
طلبه ،فتبع موسى الفتاة إلى بيت أبيها فنزل رحبا عندهم ،وقص على الشيخ قصته مع
بني فرعون فطمأنه الشيخ ،وقال " ال تخف نجوت من القوم الظالمين" ( القصص. ) 25:
ولقد عرض الشيخ على موسى أن يقيم عندهم ويزوجه إحدى بناته على أن يعمل عنده
ثمانية أعوام ،وان رغب أن يزيد سنتين من عنده كان به واال يكفي ثمانية .وهكذا كان حتى قضى موسى األجل ،حسب اتفاقه مع الشيخ ،فسار بأهله يقصد وطنه مصر.
كتبة التراث كما اعتدنا أخذت تغوص في التفاصيل فحددت شخصية الشيخ وذلك حسب
قول بعض أهل السلف ومنهم الحسن البصري ومالك بن أنس ( تفسير ابن كثير) بأنه
النبي شعيب ويرى آخرون بأنه شعيب آخر وليس بالنبي ،وقال آخرون بأنه ابن أخي شعيب ،وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب وذهب بعضهم يقول بقول التوراة بأن اسمه
ثيرون وهو ابن أخي شعيب .كما اختلف المفسرون في اسمي ابنتيه فقال البعض هما
صفوريا وليا،وقال البعض اآلخر صفوريا و شرفاز كما اختلفوا في المدة التي قضاها عند
الشيخ فأكثرهم قال عشرة سنين ألن موسى نبي والنبي يقضي األكمل من األجلين و حدث
122
البعض مثل الطبري عن بعض أهل السلف بأن موسى قضى عشرة ثم عشرة أي عشرين
عاما .
تتابع اآليات فتخبرنا أن موسى سار بأهله متجها إلى وطنه مصر ،فأبصر من الجهة التي
تلي الطور نا ار فحط رحاله وقال ألهله :امكثوا إني آنست نا ار ،لعلي آتيكم منها بخبر أو
جمرة من النار لعلكم تصطلون .فلما أتاها نودي " أن يا موسى إني أنا اهلل رب العالمين" . وهناك سمع نداء ربه " وما تلك بيمينك يا موسى ؟" فأجاب " :هي عصاي أتوكأ عليها
وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى ".أمر تعالى موسى أن يلقي عصاه فألقاها
،فإذا هي كالحية تهتز كأنها جان ،فولى مدب ار فسمع نداء العلي العظيم " :ال تخف إني
ال يخاف لدي المرسلين" وكانت هذه بداية نبوة موسى ورسالته إلى فرعون و أعوانه.
سمع موسى نداء ربه ولكنه خاف على نفسه من بطش فرعون فنادى ربه " :رب إني
قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون * وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي
ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون" ( قصص )33،34:يقول القرطبي في تفسيره أن
هارون كان أكثر لحما من موسى وأتم طوال وأبيض جسما وأفصح لسانا .ومات قبل موسى بثالث سنين ،وكان في جبهة هارون شامة وعلى أرنبة موسى شامة وعلى طرف لسانه
شامة لم تكن على أحد قبله وال على أحد بعده وقيل أنها كانت سبب العقدة التي في
لسانه .أما ابن كثير في تفسيره فيقول أن موسى عليه السالم كان في لسانه لغثة بسبب
ما كان تناول تلك الجمرة حين خير بينها وبين التمرة أو الدرة فأخذ الجمرة فوضعها على
لسانه فحصل فيه شدة في التعبير.
ال تدلنا اآليات أين كان هارون ولكن كتب التراث تقول أنه كان في مصر وأوحى اهلل له أن يذهب إلى حيث يقيم أخوه موسى ،فلبا هارون داعي الحق ،وسار فقابل أخاه بجانب
الطور األيمن.
ذهب موسى وأخوه إلى فرعون وجرت بينهم مجادلة وحوار وعتاب ،وكان الحوار يتركز
حول من هو اهلل ،حيث كان فرعون يصر على أنه هو اإلله وليس هناك إله غيره وكان موسى يحاول إقناع فرعون بحقيقة اإلله ،وبأنه مرسل من قبل رب العالمين :
" هو ربي وربكم ورب آبائكم األولين ،رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون" .فيثور فرعون مهددا " :لئن اتخذت الها غيري ألجعلنك من المسجونين" .فأجاب
موسى " :أولو جئتك بشيء مبين" ،فقال فرعون :إذن فأت بها إن كنت من الصادقين"
،فأظهر موسى بينته " فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء
للناظرين" .فلما رأى فرعون ذلك قال لقومه :يا قوم هذان ساحران يريدان أن يخرجاكم
123
من أرضكم بسحرهما ،فما ترون ؟ فقال أنصاره وحواشيه :احبسهما وابعث رجالك في
المدن يأتوك بكل ساحر عظيم .
جد فرعون في جمع السحرة فجاءه جمع منهم من كل مكان ،وعندما اجتمعوا قالوا
لموسى :إما أن تلق واما أن نكون أول الملقين ،قال لهم ألقوا ،فلما ألقوا سحروا أعين
الناس ،فلقد جاءوا بسحر عظيم .فاوحى اهلل إلى موسى أن يلق عصاه ،فإذا هي تلقف
وتلتهم كل ما ألقاه السحرة ،فعلم السحرة أن ذلك من عند اهلل فقالوا :آمنا برب العالمين ، رب موسى وهارون ،إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر واهلل
خير وأبقى.
يقول ابن كثير في تفسيره أن عصى موسى انقلبت إلى حية عظيمة فارغة فاهها متجهة
نحو فرعون ،فلما رآها فرعون قادمة نحوه اقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يبعدها
عنه فأبعدها .وعن قتادة أنها كانت أفعى ضخمة بضخامة مدينة .وعن آخرين أنها كانت
من الثعبان الذكر فاتحة فاهها واضعة لحيها األسفل في األرض وآلخر على سور القمر، وعن ابن عباس أن الحية سببت يومها في موت خمسة وعشرين ألف رجل قتل بعضهم
بعضا.
من الواضح أن قصة النبي موسى في القرآن الكريم كبقية القصص القرآنية،جاءت للنبي الكريم محمد للعبرة والموعظة من جهة و لدعم النبي في صبره على كفار قومه ".تلك
القرى نقص عليك من أنباءها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا
من قبل كذلك يطبع اهلل على قبول الكافرين" ( األعراف ) 101
من الواضح كذلك أن البينات المذكورة كانت خطابا لمجتمع ذلك الزمان و للمستوى
الفكري لذلك العصر،حيث انتشر السحر والسحرة وكان للسحرة شأن كبير .و اليوم ال يحتاج الناس لعصى موسى التي تنقلب إلى أفعى لكي تكون لهم حجة على وجود و
عظمة الخالق ،فلقد أظهر لنا العلم الحديث آالف البينات على ذلك ،و يكفي اإلنسان
اليوم النظر إلى نفسه ودقة صنعة وتنظيم أعضاءه ورقي جهازه حتى يصل إلى قناعة تامة بأن خالقه فوق كل الصفات .إن عالما واحدا بالطب أو الفلك أو في أي مجال
ليعطيك آالف البينات على وجود الخالق وعظمته أكثر من كل سحرة األرض.
يقوم سحرة اليوم بما يبهر األنظار ويخطف القلوب و الساحر المعروف دفيد كوبرفيلد
أخفى طائرة و قطار من أمام آالف المشاهدين بل وأخفى تمثال الحرية في نيويورك ،،
ولكن الجميع يعرف ورغم ذكاء وفطنة الساحر أن ليس ذلك إال خداع نظر .
124
لقد وصلت نفسي إلى قمة اإليمان بعظمة الخالق عندما كنت أعمل في معهد التجارب
للغدد الهرمونية و بهرت بالتنظيم الدقيق لعمل الهرمونات وخاصة تلك التي تعمل في المخ والجهاز العصبي وكيف أن كل منها مسؤول و بدقة بالغة عن عواطفنا وشعورنا
واحساسنا .في الجهاز العصبي ،جيش من المراسلين يتحركون في جسم الكائن الحي وينقلون بدقة المعلومات واإلشارات حسب خطط غاية في الدقة والتنظيم و الحسابات
االقتصادية ،وأي خلل في هذا التنظيم يسبب للجسم االضطراب والمرض .و يتحرك جيش الهرمونات والمراسلين في الجسم بنظام اقتصاد العرض والطلب ،فإذا زاد العرض عن
الطلب قل االنتاج أو توقف .إن خلية صغيرة ال تراها إال بواسطة المجهر قد تكون مسؤولة
عن جوعك و عطشك ،أو حزنك وفرحك ،أو غضبك وحلمك ،كل ذلك وغيره كثير جدا، بينات اليوم والعصر على عظمة الخالق وسموه.
أصر فرعون على عناده وظاهره المأل من قومه فقالوا :أتذر موسى وقومه ليفسدوا في
األرض و يذرك وآلهتك ،فتغالى في بطشه وقال :إنا سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم، ثم راح ينزل بهم صنوف العذاب والهوان فشكوا إلى موسى ،فقال لهم :استعينوا باهلل
واصبروا إن األرض اهلل يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
استمر موسى في دعوته ،يدعو فرعون وحاشيته إلى اإليمان بربه ،خالق األرض
والسماوات-واختلف السلف في المدة التي قضها موسى في دعوته في مصر فمنهم من قال عشرة سنين ومنهم من قال ضعف ذلك ،وورد في تفسير القرطبي أربعين عاما -
ولكنه لم يجد آذانا صاغية من فرعون ومأله ،فأخذهم اهلل بنقص في األموال ،وأرسل
عليهم "،الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصالت ،واستكبروا وكانوا قوما
مجرمين" ( .األعراف ) 133
ال تفصل اآلية نوع و كمية الجراد والقمل والضفادع والدم الذي أرسله اهلل على فرعون
ومأله ،وما أحدثته بهم ،وهل كان على كل مصر أم على فرعون وحاشيته .أما
المفسرون فشطحوا في وصف النوع والكم والنتائج .فابن كثير في تفسيره بأن النبي (ص)
وصف الجراد بأنه جند اهلل األعظم .وعن بعض أهل السلف أن الجراد الذي أرسل إلى
فرعون ،كانت تأكل مسامير أبوابهم وتدع الخشب ،وعن األوزاعي أنه قال :خرجت إلى
الصحراء فإذا أنا برجل من جراد في السماء ،فإذا برجل راكب على جرادة منها وهو شاك
في الحديد ،وكلما قال بيده هكذا ،مال الجراد مع يده .وعن شريح القاضي أنه قال عندما
سئل عن الجراد :قبح اهلل فيها خلقة سبعة جبابرة ،رأسها رأس فرس وعنقها عنق ثور
125
وصدرها صدر أسد وجناحها جناح نسر ورجالها رجل جمل وذنبها ذنب حية وبطنها بطن
عقرب .وعن بعض أهل السلف أن السمك إذا باض على ساحل البحر ونضب الماء عنه وبدا للشمس ،يفقس كله جرادا طيارا.
أما القمل فيذكر ابن كثير عن ابن عباس أنه السوس الذي يخرج من الحنطة ،وكان
الرجل من آل فرعون يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلم يرد منها إال ثالثة .أما الضفادع فكان الرجل منهم يجلس إلى ذقنه في الضفادع ،واذا تكلم يثب الضفدع إلى فيه .أما
القرطبي في تفسيره فيضيف أن الجراد أكل مزروعات القبط وثمارهم – ويعني بالقبط أهل
مصر ،مع أن اآليات تعود على فرعون وحاشيته -حتى أنها كانت تأكل السقوف
واألبواب فتنهدم ديارهم ،ولم ينس أن يذكرنا بأن دور بني إسرائيل لم يدخل لها شيء،
ولم يصب بني إسرائيل بأي أذى ،تماما كما ورد في التوراة.
أما الدم فحسب تفسير بن كثير ،ما استقوا من آبار واألنهار وما كان في أوعيتهم
وجدوه دما عبيطا .ويقول القرطبي دام الدم في أوعيتهم وآبارهم و أنهرهم سبعة أيام وعن بعض أهل السلف أربعين يوما.
اختلفت كتب التراث في من كان يعبد فرعون فبعضهم قال كان يعبد األصنام وأنه كان يعبد ويعبد ،وقال البعض كان يعبد البقرة ،على أي حال طلب فرعون من موسى أن يطلب من ربه أن يرفع عنهم الرجس قائال :لئن كشفت عنا الرجس لنؤمن لك ولنرسلن معك بني
إسرائيل .فلما كشف اهلل عنهم الرجس إلى أجل هم بلغوه ،إذا هم ينكثون الوعد والعهد.
فانتقم اهلل منهم بأن أغرقهم في البحر ألنهم كذبوا بآيات اهلل،وكانوا عنها غافلين .وتتم
اآليات هذا الفصل بقولها " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق األرض و
مغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمات ربك الحسنى على بني إسرائيل ودمرنا ما كان يصنع
فرعون وقومه وما كانوا يعرشون " ( األعراف ) 137
تعتبر المفسرون بال منازع بأن المعنيين في هذه اآلية هم بني إس ارئيل ،واختلفوا فقط في تحديد مشارق األرض ومغاربها التي أورثها اهلل لهم ،ففي تفسير ابن كثير ورد أن ذلك
يعني بالد الشام وفي القرطبي أن البعض قال أرض القبط والبعض اآلخر أرض مصر
والشام ومشارقها ومغاربها وقيل بل أرض كل األرض وعن آخرين أراد بذلك جميع األرض
ألن بني إسرائيل ،داود وسليمان ملكا األرض كلها.
تسرح كتب التفسير والتراث في الخيال التوراتي وتحدثنا كيف خرج موسى من مصر
وخرج معه ستمائة ألف وعشرين مقاتل ،ال يعدون ابن العشرين وال ابن الستين
126
( تفسير البغوي) وكانوا يوم دخلوا مصر مع يعقوب اثنين وسبعين إنسانا بين رجل وامرأة.
وقبل أن يخرجوا ،أخرج اهلل تعالى كل ولد زنا في القبط من بني إسرائيل ،وكل ولد زنا في
بني إسرائيل من القبط إلى القبط ،حتى رجع كل إلى أبيه ،وألقى اهلل الموت على القبط ، فمات كل بكر لهم واشتغلوا بدفنهم حتى طلعت الشمس ،وذلك مما سنح الفرصة لموسى
للخروج من مصر .قال شيوخ بني إسرائيل لموسى أن يوسف قد وصى على فراش موته بأن تخرج جثته من مصر ،فراح موسى يسأل عن مكان قبر موسى ولكنه لم يصل إلى
جواب .تقدمت منه امرأة عجوز وقالت له :سأدلك على قبره إن وعدتني أن تخرجني معك
من مصر وأن تدخلني معك الجنة ،ثم أخبرته أن قبر يوسف في جوف الماء في النيل، فطلب من اهلل أن يؤخر طلوع الفجر فلبى اهلل طلبه وأخرج جثة يوسف التي كانت في تابوت من مرمر وحمله حتى دفن في الشام ( .تفسير البغوي)
ولقد شطح المفسرون كما رأينا حتى فاقوا في بعض األحيان كتبة التوراة .ففي تفسير
اآلية 160من سورة األعراف (ومثيلتها اآلية 60من سورة البقرة) والتي تقول :
وقطعناهم اثنتى عشرة اسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب
بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتى عشر عينا ...الى آخر اآلية .قالوا كان حج ار معينا
مربعا على قدر رأس الرجل وقيل على قدر رأس الثور ،وكان موسى يضعه في مخالته
وقيل كان يحمله ثورا ،فإذا احتاجوا إلى الماء وضعه وضربه بعصاه ،وقيل عن عطاء أنه
كان للحجر أربعة وجوه لكل وجه ثالثة أعين لكل سبط عين ،وقيل كان من الرخام وعن
آخرين أنه كان من الكذان .وعن سعد بن جبير أن موسى وضع ثوبه على الحجر ليغتسل ففر الحجر بثوبه( تفسير البغوي) ،وعن عطاء أنه عندما كان موسى يضرب الحجر ،
يظهر على موضع الضربة مثل ثدي المرأة تنفجر منها األنهار .وورد في تفسير
البيضاوي أن الحجر أهبطه آدم من الجنة وكان عند النبي شعيب فأعطاه لموسى مع
العصى ،وكانت عصى موسى من آس الجنة ولها شعبتان تتقدان .كما فسروا " ورفعنا فوقكم الطور" ( البقرة ) 63أن بني إسرائيل استثقلوا شرائع التوراة بما فيها من أوامر
ونواهي فأمر اهلل جبال من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتى قام على رؤوسهم ،وقيل
أمر جبريل فقلع الطور ورفعه فوق رؤوسهم ،وقال لهم إن لم تقبلوا التوراة أرسلت هذا
الجبل عليكم ،وعن عطاء عن ابن عباس أن اهلل رفع فوق رؤوسهم الطور وبعث نا ار من
قبل وجوههم وأتاهم البحر المالح من خلفهم .وفي تفسير اآلية 79من سورة البقرة "فويل
للذين يكتبون الكتاب بأيديهم " عن سعيد الخدري أن النبي (ص) قال أن "ويل" هو واد
127
في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا حتى يصل قعره والصعود جبل من نار يتصعد في
سبعين خريفا ثم يهوي ثانية.
لن ندخل في تفاصيل خروج موسى وقومه ومعه بني إسرائيل من مصر وكيف قطعوا البحر وغرق فرعون وجيشه الذي كان يالحقهم ،ولن ندخل في تفاصيل إقامتهم و تيههم في
صحراء سينا ،وتكرار ارتدادهم عن عبادة اهلل وعودتهم لعبادة العجل وآلهة أخرى .ولن
ندخل في تفاصيل قصة البقرة وقصة موسى مع من سماه كتبة التراث الخضر ،كما لن
ندخل في خالف أهل السلف فيما كان اهلل سبحانه قد كلم موسى بمعنى التكليم المباشر أم
بواسطة اإليحاء فقط كما قال المعتزلة ،مع أنه لنا رأي متواضع في هذا الموضوع ،ولربما ال يضر هنا أن أذكر أنني سمعت قبل أشهر محاضرة لعالم فلكي مشهور قال فيها من
جملة ما قال :أن السماء تحتوي على ماليين المجرات والشموس والكواكب ،ونحن كبشر
في جزء صغير جدا من هذا الكون في كرتنا األرضية محاصرون بأكوان ال حصر لها وما
نعتقده فراغا ليس في حقيقته فراغا ،و لقد أثبت العلم أن مجرتنا المعروفة ب( درب اللبانة
) – و هي واحدة من ماليين المجرات في الكون -تحتوي على أكثر من أربعمائة مليار
نجم من كل األنواع تتحرك في تناسق معقد ومنظم ،ومن كل هذه النجوم ال يعرف سكان كرتنا األرضية حتى اآلن سوى نجم واحد .إننا على األرض بالنسبة للكون كغبرة في
المكان ولحظة في الزمان ،فهل خالق هذا الكون العظيم الرائع يكلم أحدا بلغة البشر ،أنا
أشك في ذلك حتى ولو كان النبي موسى .
على أي حال ليس هذا موضوعنا هنا وانما نحاول أن نسلط الضوء على وقوع كتبة التراث والمفسرين في مصيدة التفسير التوراتي لآليات القرآنية التي تخص بني إسرائيل ،واعطاء بني إسرائيل بذلك قدسية الحق التاريخي في وطننا العربي عامة وفلسطين خاصة ،إلى
جانب زرع هذا الفكر في الوعي اإلسالمي مما يخلق داء االنفصام بين ما هو ديني وما
هو وطني.
يكفي أن نق أر كتب التفسير وكتب التراث حتى نجد أمثلة ال حصر لها على أن بني إسرائيل كانوا أسياد زمانهم وأن اهلل أورثهم األرض المقدسة ومصر والشام بل في قول البعض،
كما مر معنا ،األرض جميعها .وفي كتاب ككتاب (قصص القرآن لجاد المولى) -والذي يطبع بآالف النسخ وتحكى قصصه ألطفالنا وتدرس في مدارسنا -لنجده يقول :واتماما
لنعمة اهلل على بني إسرائيل ،ورغبة منه سبحانه في االحسان إليهم ،أوحى إلى موسى
أن يقودهم إلى األرض المقدسة من بالد الشام ،وهي األرض الذي وعد اهلل إب ارهيم أن يجعلها ملكا للصالحين من ذريته ،والصالحون من ذريته في رأي كتبة التراث هم طبعا
128
بني إسرائيل ،أبناء األنبياء يعقوب و داود وسليمان .ونجد مثل هذا في كافة كتب التراث
ولنق أر ما ورد في الكشاف للزمخشري في تفسير اآلية 12من سورة المائدة واسقاط
التفسير التوراتي عليها " :لما استقر بنوا إسرائيل في مصربعد هالك فرعون أمرهم اهلل
بالمسير إلى أريحا أرض الشام وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة وقال لهم ":إني كتبتها
لكم دا ار ق ار ار ،فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها ،واني ناصركم " ،وأمر موسى عليه السالم بأن يأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيال على قومه بالوفاء بما أمروا به توثقة عليهم،
فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بني إسرائيل ،إلخ .وينقل المفسرون الجدد هذا التفسير بحرفيته( راجع تفسير اآلية المذكورة في صفوة التفاسير لمحمد علي الصابوني ،دار
القرآن الكريم ،بيروت) أليس هذا دمغة تصديق الدعاءات التوراة ودعاتها في هذا اليوم
.
129
–4ملوك و ممالك بني إسرائيل :بين النص اإللهي والبشري ال يوجد في اآليات القرآنية أي ذكر ليشوع بن نون الذي ورد ذكره في التوراة كقائد لبني إسرائيل بعد موت موسى ،والذي قاد اإلسرائيليين حسب الرواية التوراتية في اكتساحهم فلسطين وتدمير مدنها وقتل أبناءها ،كما ال يوجد في القرآن الكريم أي خبر عن هذا
االكتساح.
من اآليات القرآنية ( البقرة ،) 251-246نفهم أن المأل من بني إسرائيل ،من بعد موسى طالبوا نبيهم ،أن يبعث لهم ملكا يقاتلون تحت امرته في سبيل اهلل .ولم تحدد اآليات اسم
النبي ولكن كتبة التراث و المفسرين كعادتهم وتحت تأثير التوراة راحوا يختلقون لهذا النبي
اسما ،ففي تفسير ابن كثير عن قتادة أنه يشوع بن نون ،وعن بن جرير أنه ابن افرايم بن
يوسف بن يعقوب ،وقال بعضهم هو شمعون و عن البعض اآلخر هو شمويل عليه السالم ، ويحكى أن النبوة كانت في بيت الوي من بني إسرائيل ولقد انقطعت النبوة فلم يبق من بني
الوي إال امرأة فحبسوها واحتفظوا بها في بيت حتى ترزق لهم نبيا ،ودعت المرأة ربها وأطالت
الدعاء حتى يرزقها بنبي فاستجاب اهلل لها ورزقها غالم فسمته شمويل أي سمع اهلل دعائي ، وقال البعض بل سمته شمعون ،فلما بلغ سن األنبياء أوحى اهلل له وأمره بالدعوة له ،فدعى
بني إسرائيل فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكا يقاتلون في سبيل اهلل تحت امرته .وفي تفسير
القرطبي أن النبي اسمه شمويل بن بال بن علقمة ويسمى ابن العجوز ألن أمه حين وضعته كانت عجو از و قيل ان اسمه شمعون ،وفي بعض كتب التراث أن اسم النبي هو صمويل. نفهم من اآليات القرآنية أن النبي قال لهم أن اهلل بعث لهم ملكا اسمه طالوت ،ولكنهم
اعترضوا على طالوت ألنه لم يكن ذي مال وسعة ،فرد عليهم النبي أن اهلل اصطفاه عليكم ،
وزاده بسطة في العلم والجسم ،وأن اهلل يؤتي ملكه من يشاء .وطبعا لم يمر طالوت هذا بدون
تفنيد وتحليل من المفسرين فقال البعض انه كان سقاء وقال آخرون بل دباغا و قيل مكاريا،
و قيل أنه كان من سبط بنيامين وليس من سبط النبوة وال من سبط الملك ،وكانت النبوة في سبط الوي والملك في سبط يهوذا .قال وهب بن منبه :قال اهلل تعالى لشمويل :أنظر إلى
القرن الذي فيه الدهن في بيتك ،فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن ،فهو ملك
بني إسرائيل ،فادهن رأسه منه و ملكه عليهم (.تفسير القرطبي) .وفي تفسير البغوي أن اسم طالوت في العبرية شاول بن قيس من أوالد بنيامين بن يعقوب وسمي طالوت لطوله.
130
تقول اآليات أن نبيهم قال لهم أن آية ملكه عليكم ،أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم
وبقية مما ترك آل موسى وهارون ،تحمله المالئكة وان في ذلك آلية لكم إن كنتم مؤمنين ،ولم تفصل اآليات ما هو هذا التابوت وما هي محتوياته ،بل قالت فيه بقية مما ترك آل موسى
وهارون .التابوت في لغة العرب هو الصندوق الذي يحرز فيه المتاع ،وقيل :لم تختلف لغة
قريش واألنصار في شيء من القرآن إال في التابوت ،فلغة قريش بالتاء و لغة األنصار
بالهاء.
اختلف المفسرون في معنى السكينة ،ففي تفسير بن كثير أن بعضهم قال :هي وقار وجاللة وأضاف آخرون ورحمة .وعن الحسن البصري أن السكينة طست من ذهب كانت تغسل فيه
قلوب األنبياء .وعن أبي األحوص عن علي أن السكينة لها وجه كوجه االنسان ثم هي روح
هفافة .وعن خالد بن عرعرة ،هي ريح خجول لها رأسان وقال مجاهد ولها جناحان وذنب.
وعن محمد بن اسحاق عن وهب بن منبه ،أن السكينة رأس هرة ميتة إذا صرخت في التابوت
بصراخ هر ،أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح .و قيل هي روح من اهلل كانت تأتيهم إذا اختلفوا في
شيء أخبرتهم به .وعن بقية مما ترك موسى وهارون قيل عصى موسى ،وزاد بعضهم وبعض األلواح وزاد اآلخر والتوراة ،وزاد آخرون والمن و ثياب موسى وهارون وزاد البعض والنعالن. وعن ابن عباس أن المالئكة جاءت تحمل التابوت بين السماء وألرض فوضعته أمام طالوت
والناس ينظرون .و قال بعض أهل السلف جاءت المالئكة تسوقه على عجلة على بقرة وفي
رواية أخرى على بقرتين .و قيل أن التابوت كان في أريحا عند الكفرة ،فأصاب أهلها مرض في رقابهم فأمرتهم جارية من سبي بني إسرائيل أن يردوه إلى أهله بني إسرائيل حتى يخلصوا من
هذا الداء ،فحملوه على بقرتين إلى بني إسرائيل .أما القرطبي فيقول أن التابوت كان عند آدم عليه السالم ثم وصل إلى يعقوب عليه السالم فكان في بني إسرائيل يغلبون به من قاتلهم . وورد في تفسير البغوي أن التابوت كان من عود الشمشاذ ،نحوا من ثالثة أذرع في ذراعين
كان عند آدم إلى أن مات ثم توارثه أوالد آدم إلى أن بلغ إبراهيم وورثه عنه بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى وكان يضع فيه التوراة وبقية من مالبسه وبعد موته ورثه أنبياء بني إسرائيل .وقيل أن التابوت عندما وقع في أيدي الكفار وضعوه في كنيسة لهم فيها أصنام
وكانت األصنام تصبح منكوسة ،وقيل وضعوه تحت صنمهم الكبير فأصبحوا واذا به فوق الصنم الكبير ،وقيل أيضا في جملة ما قيل أنهم وضعوه في مخرأة قوم فكان يصيبهم
الباسور .وقيل كذلك أن المالئكة أعادت التابوت وأنهم أروا التابوت في الهواء حتى نزل
بينهم.
131
في الحقيقة أن كتبة التراث االسالمي يصرون على استمرارية شجرة النسب االسرائيلي من
إبراهيم إلى موسى إلى ما يسمى ملوك بني إسرائيل وهو ما فتئت التوراة تزرعه في العقل االنساني وجاء التراث االسالمي ليسهل لها المهمة ويصدق بختمه على مقولتها تلك .
نفهم من اآليات أن بني إسرائيل وجلوا من مقابلة جالوت وجنوده وأن بعض منهم ممن ظنوا
أنهم سيلقون اهلل قالوا لهم مشجعين " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اهلل واهلل مع
الصابرين ".و تخبرنا اآليات أنهم حين قابلوا جالوت وجنده دعوا اهلل أن يلهمهم الصبر ويثبت
أقدامهم .وهنا يبرز داود ويقتل جالوت وينتصر بني إسرائيل على جيش عدوهم .
ال تحدثنا اآليات الكريمة من هو جالوت هذا ومن يكونوا جنده ،ومن أي أصول عرقية هم،
كما ال تحدثنا أين كان القتال وأين كانت الموقعة ،كما ال تحدثنا كيف قتل داود جالوت هذا
وبأي وسيلة .وبما أن التوراة كانت أداة التفسير عند أهل السلف ومن تبعوهم،إلى جانب تأثير
اليهود الذين دخلوا في االسالم أو ادعوا ذلك ،راح المفسرون يشطحون في شرح من هو جالوت هذا .يقول الزمخشري في تفسيره أن جالوت جبار من العمالقة من أوالد عمليق بن
عاد ،وكانت بيضته فيها ثالثمائة رطل .أما القرطبي فيقول :وكان جالوت أمير العمالقة وظله
ميل ،وكان من أشد الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده .وقيل أنه في تلك الواقعة كان
في ثالث مائة ألف فارس .ويتفق المفسرون أن داود قتل جالوت بمعالق كان في يده ،رماه به فأصابه فقتله ،ولقد ورد في تفسير البغوي عن أهل التفسير أن الحجر الذي ضرب به داود
كان حجر موسى ولقد كلم داود وقال له أنا حجر موسى الذي قتل به كذا فاحملني ،أنا
سالحك الذي ستقتل به جالوت ،فحمله داود ووضعه في مخالته .و يصف القرطبي داود
بأنه كان قصي ار مسقاما مصفا ار أصغر أزرق ،وهو داود بن إيشي ،ويقال هو داود بن زكريا
بن رشوي ،وكان من سبط يهوذا بن يعقوب وكان من أهل بيت المقدس وقيل أن مسقط رأسه بيت لحم ،وكان راعيا للغنم وهو أصغر أخوته .وقيل أن طالوت وعد داود إن هو قتل جالوت سيزوجه ابنته ويشاطره نعمته ويشاركه في أمره .وأهم ما تحدثنا اآليات القرآنية به عن داود
هو :
أنه من ذرية نوح حيث تقول اآلية 84من سورة األنعام " ووهبنا له ( أي إبراهيم )إسحق ويعقوب كال هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته ( أي من ذرية نوح كما
أجمع المفسرون) داود وسليمان."...
أن اهلل سبحانه آتى داود النبوة والحكمة وعلمه مما يشاء ( "....البقرة ) 250-
وأتاه الزبور " ،وآتيناه زبورا" (النساء ، 128األنعام ، ) 55
132
-
وسخر اهلل مع داود الجبال والطير" وسخرنا مع داود الجبال والطير وكنا فاعلين" (
-
وآتاه اهلل علما " ،ولقد آتينا داود وسليمان علما" ( النمل ) 15
األنبياء ) 79
" ولقد آتينا داود منا فضال يا جبال أوبي معه والطير وألنا معه الحديد " ( سبأ ) 10 وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء" (النمل ) 16
" -أذكر عبدنا داود ذا األيد إنه أواب " ( ص ) 17
" يا داود إنا جعلناك خليفة في األرض فاحكم بين الناس بالحق ولى تتبع الهوى" (ص )26
ال تحدثنا اآليات القرآنية شيئا عن الزبور الذي أرسل إلى داود وما هي محتوياته ،كما ال تحدثنا اآليات شيئا عن مولد داود وترعرعه وتفاصيل حياته وكيف استلم الملك ،وعن
عالقته بطالوت وان كان تزوج إحدى بناته أم ال ،كما ال تحدثنا اآليات عن طريقة
استالمه الملك ،وما هو هذا الملك ،وهل هو ملك مملكة بمعناها التاريخي والجغرافي، وأين تقع هذه المملكة وأين حدودها وتاريخ إقامتها ومدتها .ال تحدثنا اآليات شيئا عن
داود ومملكته في إطار التاريخ والجغرافيا.
الذي حدثنا عن ذلك وعن كل التفاصيل الممكنة هم كتبة التراث االسالمي ومفسري
اآليات القرآنية معتمدين على الروايات التوراتية ،والرواة اليهود.
تحدثنا كتب التراث أن طالوت كان رجال بادنا فارعا وافي التقاطيع شديد األسر .وفيما هو
في الحقل مع أبيه ضلت منهما األتن ،فخرج مع غالمه ينشدانها في شعاب الوادي حتى
وصال إلى أرض صوف ،موطن صمويل أو شمويل وهو نبي يأتيه الوحي وتاتيه المالئكة. طلع عليهما شمويل يفوح منه أرج النبوة وتحدث معالمه عن نبي كريم ورسول أمين .سأل
طالوت النبي شمويل عن أتنه التي ضلت فأخبره أنها في طريقها إلى أبيه وأنه يدعوه إلى
أمر أخطر ،وهو أن اهلل اختاره على بني إسرائيل ملكا .لم يلق تعين طالوت ملكا قبوال من بني إسرائيل ،فهو قليل المال سيئ الحال ،ولكن شمويل أخبرهم أنها مشيئة اهلل.
اضطلع طالوت بالملك وأحسن قيادة جنوده والتقى وجيشه مع جيش أعداء بني العمالقة
بقيادة جالوت أمير العمالقة .وكان في جيش طالوت ثمانين ألف من بني إسرائيل .جاء
طالوت بجيشه إلى نهر بين األردن وفلسطين يعتقد أنه نهر الشريعة ،فطلب منهم أن ال
يشربوا من النهر إال قليال ومن يشرب فال يصحبه ،وعن ابن عباس أنه قال :من اغترف منه بيده روي ومن شرب منه لم يرو ،وقيل كان الجيش ثمانين ألفا شرب منهم ستة
133
وسبعون ألفا ،فتبقى معه أربعة آالف .فلما جاوز طالوت النهر هو والذين آمنوا معه قالوا
له ال طاقة بنا على جالوت وجنده ،فشجعهم علماءهم العالمون منهم بأن وعد اهلل حق، وأن فئة صغيرة بأذن اهلل تغلب الفئة الكبيرة.
فلما التقى الجمعان برز جالوت يدعو للمبارزة وكان جالوت ضخما خياله عدة أميال وكان
من أشد الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده ،فخاف جند طالوت بطشه وتقاعسوا عن
مالقاته .وكان في بيت لحم – وقيل في بيت المقدس – رجل تقدمت به السنون اسمه
أيشي وقيل اسمه زكريا بن رشوى ،وكان من سبط يهوذا بن يعقوب ،ولما دقت طبول
الحرب واستنفر طالوت بني إسرائيل للقتال ،انتخب ذلك الرجل ثالثة من كبار أبناءه
وأرسلهم للمشاركة في القتال ،وطلب من أصغرهم واسمه داود أن يحمل الطعام إلى أخوته.
سار داود مع أخوته ،وما وصل إلى ساحة القتال حتى وجد رجال عمالقا طاغية يتحدى ، والرجال من بني إسرائيل تخشاه متراجعين.
خف داود إلى طالوت وطلب إليه أن يأذن له في منازلة جالوت ،وأخذ يعدد لطالوت
تجاربه في القتال قائال :وقع ذئب في غنمي فضربته ثم قطعت رأسه عن جسمه ،ودخل
أسد في غنمي فضربته ثم أخذت بلحييه فشققتهما ،أفترى هذا أشد من األسد؟ وكان عند
طالوت درع ال تستوي إال على من يقتل جالوت ،فالقاها على داود فاستوت ،فسمح له
بالخروج لقتال جالوت ووعده إن هو قتله أن يزوجه بنته ويشاركه في أمره .قيل وكان
داود من رامي القالع فأخذ مخالته فتقلدها وأخذ مقالعه وخرج لمالقاة جالوت وكان
شاك في سالحه وعلى رأسه بيضة فيها ثالثمائة رطل .أخذ داود ثالثة من الحجارة وكان
يسمي على كل حجر باسم إله إبراهيم إسحاق وباسم إله يعقوب وقيل أن الحجارة التأمت
فأصبحت حج ار واحدا ،فوضعه في مقالعه وسمى اهلل ورماه فأصاب به رأس جالوت فقتله ،وحز رأسه وجعله في مخالته .و قيل أنه أصاب البيضة التي على رأسه ،وقيل بل
أصاب من البيضة موضع أنفه وفي قول آخر بل أصابه في عينه ،وأن الحجر خرج من قفاه .وقيل أيضا أن الحجر تفتت حتى أصاب كل جند جالوت .وهجم جند طالوت على
أعدائهم وعملوا بهم قتال ونصرهم اهلل على العمالقة وفي قول آخر الفلسطينيين.
تحدثنا كتب التراث أن طالوت وفى بوعده فزوج ابنته مكيال لداود ،وأحله بين نفسه
وقلبه وأضحى موضع نصحه .ولكن األيام مرت والقلوب تغيرت و رأى طالوت حب بني
إسرائيل لداود واجاللهم له ،فخشي على ملكه من نفوذه فقرر التخلص منه .فلما علم
داود باألمر هرب حتى انتهى إلى مفازة آوى إليها ،فعلم بمكانه مريدوه من بني إسرائيل ، فهرعوا إليه جماعات ،وانثالوا عليه زرافات .أما طالوت فقد ضعف أمره في قومه ،وكثر
134
الخارجون عليه والهاربون من جنده .وفي مسرحية درامية يخرج داود من مفازته ويزور
تحت جنح الظالم معسكر طالوت ويختطف منه رمحه وهو نائم .ولما نهض طالوت من
نومه أخذ يتفقد رمحه ،ويبحث عمن أخذه ،وبينما هو حائر وافاه رسول من داود يخبره:
هذا رمحك ،وقد مكن اهلل لداود من رأسك ولكنه كان أعز نفسا وأكرم قلبا .ونالت كلمات
رسول داود من نفس طالوت ،وخرج نادما باكيا يحرقه الندم ،وهام على وجهه ينشد من
اهلل التوبة ،حتى وافته المنية .أما بنو إس ارئيل فقد هرعوا جميعا إلى داود مبايعيه ملكا عليهم ،فأتاه اهلل النبوة والملك والحكمة.
تقول كتب التفسير أن الزبور هو كتاب داود وكان به مائة وخمسين سورة ليس فيه حكم
وال حالل وال حرام ،وانما فيه حكم ومواعظ .وكان داود حسن الصوت إذا أخذ في قراءة
الزبور اجتمع إليه اإلنس والجن والطير والوحش ،ويزيد ابن كثير في تفسيره أن داود كان إذا ترنم بالزبور وقفت الطيور في الهواء فتجاوبه ،وترد عليه الجبال تأويبا ،وفي تفسير
القرطبي ،كان الماء الجاري يقف عن الجري حين يسمع صوته .وكان داود متواضعا يأكل من عمل يده ،وقيل أنه كان يصنع الدروع (،حسب قول اآلية :وألنا له الحديد* واآلية التي تقول :وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم) وعن بعضهم أنه كان يتقن صناعة
الكيمياء .وكان ذا قوة في العبادة يصوم يوما ويفطر يومان وكان يصلي نصف الليل ،
وكان قويا في الدعاء إلى اهلل .وورد في تفسير القرطبي عن ابن عباس أن اهلل أعطى
داود سلسلة موصولة بالمجرة والفلك ورأسها عند صومعة داود ،فكان ال يحدث في
الهواء حدث إال صلصلت السلسلة فيعلم داود بما حدث ،وال يمسها ذو عاهة إال برئ ،
وكانت عالمة دخول قومه في الدين أن يمسوها بأيديهم ثم يمسحون أكفهم على صدورهم
،وكانوا يتحاكمون إليها بعد داود إلى أن رفعت .وعن ابن عباس أيضا أن داود كان أشد ملوك األرض سلطانا .كان يحرس محرابه كل ليلة نيف وثالثون ألف رجل ،وقيل أربعون
ألف مدججون بالسالح .
تحكي لنا كتب التراث عن قصة فتنة داود التوراتية بزوجة أحد جنده المقربين ،و تغير
في بعض وقائع القصة التوراتية،لتالئم شخصية داود النبي االسالمية -حيث أن رواية
التوراة ال تليق بنبي مرسل -بأن جعلت المرأة المقصودة خطيبة وليست زوجة الجندي
كما ورد في التوراة .وأن الجندي ذهب إلى الحرب طوعا قربانا لوجه الوطن و لم يبعث إلى
الموت من قبل داود ،لتخلوا له زوجة المغدور به بعد أن اغتصبها عنوة حسب الرواية
التوراتية .تتابع كتب التراث القصة وتخبرنا أنه وفي غيبة الخطيب الطويلة ،تعلقت أنظار
135
داود بهذه الفتاة ورغب أن تكون زوجته فذهب إلى أهلها يطلب منهم القربى ،وطبعا ،من هؤالء حتى يردوا يد نبي اهلل الكريم؟
وورد في تفسير بن كثير عن أبي هريرة قصة غريبة عجيبة ،وهي أن داود عليه
السالم كان فيه غيرة شديدة ،فكان إذا خرج أغلقت األبواب ،فلم يدخل على أهله أحد حتى يعود .قال فخرج ذات يوم فأغلقت األبواب ،فأقبلت امرأة تطلع إلى الدار فإذا رجل قائم
وسط الدار ،فقالت كيف دخل البيت والدار مغلقة ؟ واهلل لتفضحن بداود .فجاء داود
فوجد الرجل فقال له من أنت ؟ قال أنا الذي ال يهاب الملوك وال يمتنع من الحجاب .فقال
داود :إذن أنت واهلل ملك الموت ،مرحبا بأمر اهلل فتزمل داود مكانه حتى قبضت نفسه،
حتى فرغ من شأنه ،وطلعت عليه الشمس .فقال سليمان عليه السالم للطير أظلي داود فظللت عليه الطير حتى أظلمت عليه األرض ،فقال لها سليمان اقبضي جناحا جناحا،
ففعلت .
خلف سليمان داود في النبوة والملك، ،ولقد ورد اسم سليمان في القرآن الكريم سبعة
عشر مرة ،ولكن اآليات التي تروي قصة سليمان أضعاف ذلك . .وأهم ما تحدثنا به اآليات القرآنية عن قصة سليمان:
-أن اهلل سبحانه وهب لداود سليمان "،ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب * إذ
عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد" (ص . )31 - 30ولكن ال تحدثنا اآليات إن
كان لداود أوالد أخر غير سليمان وما هو عددهم وترتيبهم .
وأن سليمان ورث داود " ،ورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطيروأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين (،النمل ) 16
وأنه كان لسليمان جنود من اإلنس والجن والطير" ،وحشر لسليمن جنوده من الجنواالنس والطير فهم يوزعون" ( النمل . ) 17
وكان سليمان يتقن منطق الحيوانات والطيور ،والنمل "حتى إذا أتوا على واد النملقالت نملة يا أيها النمل أدخلوا مساكنكم ال يحطمنكم سليمان وجنوده مهم ال
يشعرون .فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي
وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وادخلني برحمتك في عبادك الصالحين (".النمل
) 18
كما نفهم أن اهلل طوع الريح بأمر سليمان كما طوع له بعض من الجن تعمل بينيديه،وتصنع له المحاريب والتماثيل " ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر
وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن
136
أمرنا نذقه من عذاب السعير * .يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان
كالجواب وقدور راسيات (" ..سبأ .)13- 12
وأن سليمان تفقد الطير فلم يجد الهدهد بينها ،فغضب عليه وتوعده ،فلما عاد الهدهدقال له :أحطت بما لم تحط به و جئتك من سبأ بنبأ يقين .إني وجدت امرأة تملكهم
وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ،وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون
اهلل وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم ال يهتدون ،فقال له
سليمان :سننظر في أمرك أصدقت أم كنت من الكاذبين ،اذهب بكتابي هذا فالقه
إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون .ففعل الهدهد كما أمره سليمان ،فقالت الملكة
لحاشيتها حين وصلتها الرسالة :يا أيها المأل إني ألقي إلي كتاب كريم،إنه من سليمان
وانه باسم اهلل الرحمن الرحيم ،وطلبت منهم أن يفتوها في أمرها،فقالوا لها نحن ذو
بأس وقوة ولكن األمر يعود إليك فانظري ما تأمرينا به .قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية
أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ،واني بمرسلة لسليمان هدية وسنرى بم يرجع
المرسلون .فلما جاءوا بالهدايا إلى سليمان قال لهم :أتمدونن بمال فما أتان اهلل خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون .طلب سليمان من الرسل أن يعودوا ،
وهددهم بأنه سيأتينهم بجنود ال قبل لهم وأنه سيخرجهم منها أذلة وهم صاغرون.
ثم سأل أفراد حاشيته :أيكم يأتيني بعرش ملكة سبأ قبل أن يأتيني أهلها مسلمين؟
فأجابه عفريت من الجن :أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك .قال الذي عنده علم
من الكتاب أنا أحضر لك العرش قبل أن يرتد طرفك وهكذا حدث .فلما رأى سليمان
العرش مستق ار عنده ،قال هذا من فضل ربي ليبلوني ء أشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم .عندما وصلت الرسالة إلى ملكة سبأ
قررت السفر إلى سليمان .فلما وصلت دهشت لوجود عرشها عند سليمان وقد تركته
في بلدها .ثم أن سليمان كان قد أمر ببناء صرح من زجاج أبيض ،فدعى الملكة إليه
فحسبته لجة ماء فكشفت عن ساقيها حتى ال تبتل ،ولكنها دهشت عندما اكتشفت
أنه صرح ممرد من قوارير ،فقالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان هلل رب
العالمين( .سورة النمل )
وأن اهلل سخر لسليمن الشياطين " ،ومن يغوصون له ويعملون عمال دون ذلك وكنالهم حافظون ( ".األنبياء ) 82
-و أن اليهود الذين كفروا برسالة الرسول الكريم محمد والذين قالوا أن سليمان كان
ساح ار ،اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين
137
كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقوال إنما نحن فتنة فال تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء
وزوجه وما هم بضارين به من أحد إال بإذن اهلل ويتعلمون ما يضرهم وال ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في اآلخرة من خالق( البقرة ) 103
نحن أمام قصة من قصص القرآن والتي تحتوي على كثير من العبر ،وتتحدث عن نبي وملك
اسمه سليمان بن داود .وكما لم تحدد اآليات الموقع التاريخي والجغرافي لمملكة داود ،كذلك
لم تفعل بما يخص سليمان و مملكته ،وجاءت القصة خارجة عن أطر الحدود الجغرافية والزمن
التاريخي.
الحقيقة أن موقف كتبة التراث والمفسرين األوائل كان صعبا للغاية ،فهم كانوا أمام وقائع
جديدة عليهم ،فهناك نبي يرث النبوة والملك عن أبيه و ألنبياء كما كان معروفا لديهم ،ال يرثون وال يورثون ،يفهم منطق الطير والحيوانات وهو أمر خارج عن نطاق المعروف و
المعقول ،يقوم على خدمته الجن والشياطين ،وهو خارج عن نطاق الفهم ،يساعدونه في بناء التماثيل والمحاريب وغيرها ،وبناء التماثيل محرم كما كان معروفا لديهم ،وغيره كثير .
بالنسبة لوراثة سليمان لداود ،قال المفسرون أن المقصود هنا هو وراثة النبوة والملك وليس
المال ،إذ لو كان كذلك ،لم يخص سليمان وحده من دون سائر أوالد داود ولقسم بين جميع األوالد ،وكان لداود حسب تفسير ابن كثير مائة امرأة ،وورد في تفسير القرطبي أنه كان له
تسعة عشر ولدا ،واألنبياء ال يرثون وال يورثون المال ،أما النبوة والملك فيجوز .أما بالنسبة
لمعرفة سليمان بمنطق الحيوانات والطيور ،قال بعضهم أن الطيور والحيوانات كانت في ذلك الزمان تتكلم بلغة البشر ،ولكن األكثرية تنكر هذا القول ،و تقول أن اهلل سبحانه وهب
سليمان هذه المقدرة ،وهذا شيء لم يعطه اهلل سبحانه ألحد من البشر غير سليمان،وال ندري
إن كانت لغة الطيور والحيوانات واحده أم أن لكل نوع وصنف لغة خاصة وكان سليمان يعرفها
جميعها ،وال ندري بأي لغة كان سليمان يكلمها .وكان سليمان إذا سار تتبعه األنس والجن وهم بعدهم في المنزلة والطير فوق رأسه يوزعون كل حسب صنفه ومرتبته .وورد في تفسير
القرطبي عن مقاتل أن سليمان كان أعظم ملكا من داود وأقضى منه وكان داود أكثر تعبدا، وعن آخرين أنه لم يبلغ أحد من األنبياء ما بلغ ملك سليمان وأتاه ما لم يؤت أحد من
العالمين .وعن مقاتل أن سليمان كان جالسا ذات يوم فمر به طائر يطوف ،فقال لجلسائه
أتدرون ما يقول هذا الطائر ؟ إنها قالت لي السالم عليك أيها الملك المسلط والنبي لبني
إسرائيل ،أعطاك اهلل الكرامة وأظهرك على عدوك ،إني منطلق إلى فراخي وسأعود لك ثانية، ثم رجع ،فقال إنه يقول :السالم عليك أيها الملك المتسلط أتأذن لي كيما أكتسب على
138
فراخي حتى يشبعوا ثم آتيك فافعل بي ما تشاء ،وأذن له فانطلق .وهناك عشرات األمثلة
المماثلة ،يوردها كتبة التراث والمفسرون عن أحاديث سليمان مع الطيور والحيوانات ال
مجال لذكرها هنا .وتبارى كتبة التراث والرواة والمفسرون في وصف عظمة مملكة سليمان وفي
عدد جنوده .ولقد ورد في تفسير الطبري أن معسكر جند سليمان كان مائة فرسخ في مائة:
خمسة وعشرون لإلنس وخمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للطير وخمسة وعشرون
للوحش ،وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثالثمائة منكوحة وسبعمائة سرية.
وعن ابن عطية أنه قال :اختلف الناس في معسكر سليمان وعدد جنده اختالفا شديدا ولكن
الصحيح أن ملكه كان عظيما ملك األرض وانقادت له المعمورة كلها( كذا؟) .وقال قتادة :كان لكل صنف وزعة في رتبتهم و مواضعهم من الكرسي ومن األرض إذا مشوا فيها .وقيل أن
الشياطين نسجت له بساطا فرسخا في فرسخ ذهبا في إبريس ،وكان يوضع له كرسي من
ذهب وحوله ثالثة آالف كرسي من ذهب وفضة فيقعد األنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة.
اختلف الرواة والمفسرون في موضع الوادي الذي مر به سليمان وسمع فيه حديث النمل .قال بعضهم أنه وادي السدير من أودية الطائف ،وقال البعض اآلخر أنه واد في أرض الشام .
وورد في تفسير بن كثير عن قتادة عن حسن أن اسم النملة التي حذرت النمل حتى ال
يحطمها سليمان وجنوده هو" حرس" وأنها من قبيلة يقال لها بني الشيطان وأنها كانت عرجاء
وكانت بقدر الذئب ولقد ورد هذا القول في كثير من كتب التراث ولكن بعضهم قال أن اسم
النملة هو طاخية والبعض اآلخر حرميا ،وأن سليمان سمع صوتها من ثالثة أميال.
احتار الرواة والمفسرون كذلك في ماهية الصافنات الجياد .ورد في تفسير ابن كثير عن
مجاهد أنها الجياد التي تقف على ثالث وطرف حافر الرابعة والجياد السراع .وعن ابراهيم
التيمي أنه قال :كانت عشرين فرسا ذات أجنحة ،كذا رواه ابن جرير ،وقيل بل كانت عشرين
ألف فرس فعقرها سليمان فعوضه اهلل عنها .و في قول أن رسول اهلل محمد(ص) عندما سمع ما قيل بأن سليمان كان له خيل كانت لها أجنحة ،ضحك حتى بانت نواجذه ،وهو ما يدل
على سخريته لهذا القول .وورد في تفسير القرطبي أن الصافنات هي الجياد الطويلة العنق، وعن الكلبي أنه قال :غ از سليمان دمشق و نصيبين فأصاب منهم ألف فرس ،وقال مقاتل :
ورثها سليمان عن أبيه وكان أبوه أصابها من العمالقة ،وقال بلغني أنها خيل خرجت من
البحر وكانت لها أجنحة،وزاد الضحاك على ذلك بأنه أخرجت لسليمان من البحر وكانت
منقوشة ولها أجنحة .أما ابن زيد فقال :أخرجها الشيطان لسليمن من البحر وكان لها
أجنحة.
139
وفي تفسير اآلية " ولسليمن الريح غدوها شهر ورواحها شهر" ورد في تفسير ابن كثير عن
حسن البصري أنه قال :كان سليمان يغدو على بساطه من دمشق فينزل بإصطخر يتغدى بها
ويذهب رائحا فيبيت في كابل ،وبين دمشق واصطخر شهر كامل للمسرع وبين اصطخر و كابل شهر كامل للمسرع .ولقد ورد نفس الحديث في تفسير القرطبي و لكن اختلف في طول
المسيرة بين دمشق واصطخر وبين تلك وكابل فقال شهران بدل الشهر الواحد ،وفي تفسير
البغوي عن أهل السلف أن سليمان كان يتغدى بالري ويتعشى بسمرقند.
في وصف الجن ورد في تفسير ابن كثير حديث لرسول اهلل عن أبي ثعلبة الخشني أنه قال :
أن الجن على ثالثة أصناف ،الصنف األول لهم أجنحة يطيرون في الهواء والصنف الثاني
حيات و كالب وصنف يحلون ويظعنون .وفي قول عن بعض أهل السلف أن الجن ثالثة
أصناف ،صنف له الثواب وعليه العقاب وصنف طيارون فيما بين السماء واألرض وصنف
حيات وكالب .وفي قول آخر أن الجن ثالثة أصناف صنف يظلهم اهلل بظل عرشه يوم القيامة، وصنف كاألنعام ،بل هم أضل سبيال وصنف في صور الناس على قلوب الشياطين .وفي قول
عن الحسن أنه قال :الجن ولد إبليس واإلنس ولد آدم ،ومن هؤالء مؤمنون ومن هؤالء
مؤمنون .وفي تفسير القرطبي عن ابن عباس أنه قال :كان سليمان إذا جلس نصبت حواليه
أربعمائة ألف كرسي ،ثم جلس رؤساء اإلنس مما يليه ،وجلس سفلة اإلنس مما يليهم ،
وجلس رؤساء الجن مما يليهم ثم جلس سفلة الجن مما يليهم ،وموكل بكل كرسي طائر لعمل
قد عرفه ،ثم تقلهم الريح ،والطير تظللهم من الشمس ،فيغدو من بيت المقدس إلى إصطخر ، فيبيت ببيت المقدس .وعن ابن زيد أنه قال :كان مستقر سليمان في مدينة تؤمر ،وكان أمر
الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام األبيض واألصفر .وقيل عن ابن عباس كان سليمان يجلس على سريره ثم توضع كراسي حوله
فيجلس عليها االنس ثم الجن ثم الشياطين ،ثم تأتي الريح فترفعهم ثم تظللهم الطير ثم
يغدون قدر ما يشتهي الراكب أن ينزل شه ار ورواحها شه ار .
اختلف المفسرون أيضا في ماهية المحاريب التي بناها الجن لسليمن ،ففي تفسير ابن كثير أنها البناء الحسن وهي أشرف شيء في المسكن ،وعن مجاهد أنه قال هي بنيان دون
القصور أما الضحاك فقال هي المساجد ،وقال قتادة هي القصور والمساجد .وفي تفسير القرطبي أن سليمان أمر أن يعمل حول كرسيه ألف محراب فيها ألف رجل عليهم المسوح
يخرجون إلى اهلل دائبا و هو على الكرسي في موكبه والمحاريب حوله ،ويقول لجنوده إذا
ركب :سبحوا اهلل إلى ذلك العلم فإذا بلغوه قال :هللوه إلى ذلك العلم ،فإذا بلغوه قال :كبروه
إلى ذلك العلم .وفي كتاب قصص القرآن لمحمد جاد المولى( مر ذكره ،ص ) 168:وهو
140
كتاب موجه إلى األجيال الصاعدة من المسلمين أن سليمان بنى الهيكل في بيت المقدس ،
تسهيال ألسباب العبادة ،فنشط حتى أقامه عالي األركان،شامخ البنيان .ونحن نزيد على هذا
القول" يا فرحة يهود هذا الزمان" .ويؤكد هذا القول البغوي في تفسيره ويقول أنه تم بناء
المحاريب في بيت المقدس
أما صنع التماثيل فلقد وجد المفسرون له مخرجا بأن التصوير كان مباحا في ذلك الزمان ونسخ بشرع الرسول محمد (ص) .و قيل أن تلك التماثيل كانت صور األنبياء والعلماء ،
وكانت تصور في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة واجتهادا .وقيل أيضا أن هذه التماثيل
كانت رجال اتخذهم من نحاس وسأل ربه أن ينفخ فيها الروح ليقاتلوا في سبيل اهلل وال يحيك فيهم السالح وقيل أن إسفنديار كان منهم .وروي أن الجن عمل لسليمان أسدين في أسفل
كرسيه ونسرين فوقه ،فإذا أراد أن يصعد بسط له األسدان ذراعيهما واذا قعد أطلق النسران له
جناحيهما.
قصة سليمان وملكة سبأ أخذت في التراث االسالمي حي از كبي ار وتبارى الرواة في إعادة حبك
القصة وتأطيرها جغرافيا وتاريخيا .تحدثنا كتب التراث أن الهدهد كان مهندسا يدل سليمان على
الماء في تخوم األرض ،وحين يدلهم عليه يأمر سليمان الجان فيحفروا حتى يستنبط الماء، وكانت الجان تسلخ وجه األرض كما تسلخ الشاه .وقيل أن اسم هدهد سليمان" عنبر"
واختلف المفسرون في طريقة تعذيب سليمان للهدهد ،فقيل أن تعذيبه بأن ينتف ريشه وقال
آخرون جناحاه ،وقيل كذلك ،أن تعذيبه بأن يجعله مع أضداده حيث أضيق السجون معاشرة
األضداد،وقال آخرون تعذيبه بوضعه في القفص ،وآخرون بأن يجعله للشمس بعد نتفه
وآخرون بهجره وبإبعاده عن خدمة سليمان.
تحدثنا كتب التراث عن ملكة سبأ فتفيض في الحديث ،ولقد اختلفوا في تحديد نسبها .وورد في
تفسير ابن كثير عن حسن البصري أنها بلقيس بنت شراحيل ،وعن قتادة أن أمها كانت جنية وكان مؤخر قدميها مثل حافر الدابة .وعن زهير بن محمد أنها بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان وأمها فارغة الجنية .وقال ابن جريج هي بلقيس بنت ذي شرخ وأمها بلتعة،وقال
آخرون أن اسمها الحقيقي هو بلقمة ،وأنها ابنة أنيشرح بن الحرث بن قيس بن صيفي بن
سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان .وقال آخرون بل هي بلقمة ابنةالهدهاد بن تبع بن
األذعار بن تبع ذي المنار بن الرائش ،وهكذا .وذكر عدد غير قليل من المؤرخين العرب أن أمها كانت ابنة ملك الجن ،ودعموا هذا القول بأحاديث عن الرسول الكريم .وفي كتيب "
قصص من القرآن الكريم في أسلوب عصري (؟) مشوق" تأليف محمد كامل حسن المحامي ، منشورات المكتب العالمي،بيروت ،بدون تاريخ" ورد روايات طريفة عن زواج والد بلقيس
141
بالجنية،منها :أن والد بلقيس كان مولعا بالصيد ،وكانت الجن في بعض األحيان تتخذ
أشكال الظباء ،فكان والد بلقيس إذ اصطاد ظبية ورأى الدموع في عينيها ،عرف أنها من الجن فيطلق سراحها .ولقد سر ملك الجن بذلك فزوجه ابنته .وفي رواية أخر أنه خرج للصيد فرأى
حيتين تقتتالن ،وكانت احداهما بيضاء واألخرى سوداء فقتل السوداء ،وفي المساء جاءه
شاب وسيم أخبره أنه الحية البيضاء التي أنقذها وأن الحية السوداء كانت شيطانا أسودا، فعرف والد بلقيس من الجن ،وكان ما كان حتى زوجه الجن أجمل بناتهم.
وعن ابن عباس أنه قال :كان معها مائة ألف قيل تحت كل قيل مائة ألف مقاتل .ويحدثنا
الرواة عن قتادة أنه قال :كان أولو مشورتها ثالث مائة واثني عشر رجل كل منهم على عشرة آالف رجل وكانت بأرض مأرب على ثالثة أميال من صنعاء .ويصف الرواة عرشها بأنه كان عظيما هائال مزخرف بالذهب وأنواع الجواهر ،وورد في تفسير بن كثير عن زهير بن محمد
أن عرشها كان من ذهب وصفحاته مرصعة بالياقوت والزبرجد طوله ثمانون ذراعا وعرضه
أربعون ذراعا،وقيل أنه كان يخدمها ستمائة امرأة ،وكانت تسكن في قصر عظيم مشيد رفيع
البناء وكان في ثالث مائة وستون طاقة من مشرقه ومثلها من مغربه ،تدخل الشمس إليه من طاقة وتخرج من مقابلتها ،فيسجدون لها ليال و نهارا .واختلف الرواة في كتاب سليمان الذي
أرسله إلى بلقيس وقال بعض المؤرخين :كان بطاقة صغيرة وأنه منذ ذلك الوقت اتخذ الناس
عادة إرسال البطاقات الصغيرة في المناسبات الخاصة .كما اختلف المفسرون في الهدية التي أرسلتها الملكة إلى سليمان ،فقيل أرسلت له هدية عظيمة من ذهب وجواهر وآللئ ،وقال
بعضهم بل أرسلت له لبنة من ذهب ،ويقول ابن كثير في تفسيره ،والصحيح أنها أرسلت إليه آنية من ذهب .وعن مجاهد وسعيد بن جبير أنها أرسلت له جواري في زي الغلمان وغلمان في زي الجواري ،فقالت إن عرف هؤالء من هؤالء فهو نبي ،قالوا فأمرهم سليمان بأن
يتوضئوا ،فجعلت الجارية تفرغ على يدها من الماء وجعل الغالم يغترف فميزهم .وقيل بل جعل
الجارية تغسل باطن يدها قبل ظاهرها والغالم بالعكس .وقيل أرسلت له بقدح ليمأله ماء رواء ال من السماء وال من األرض فأجرى الخيل حتى عرقت فمأله من ذلك ،وغير ذلك ومن
أمثاله كثير في كتب التراث االسالمي .
تتابع كتب التراث حديثها عن قصة سليمان و ملكة سبأ فتقول أنه عندما طلب سليمان من
حاشيته أن يأتوه بعرش ملكة سبأ ،قال عفريت من الجن ،أي مارد من الجن واسمه كوزن ،
أنا آتيك به قبل أن تقوم من مجلسك .وورد في تفسير القرطبي أن " عفريت " قرأت
"عفرية" ،وقيل هكذا قرأها أبو بكر الصديق ومعناها الداهية أو شديد الخبث ،والعفريت من
الشياطين القوي المارد ،وكان اسم عفريت سليمان " كودن " وقيل بل " ذكوان " وعن شعيب
142
الجبائي أن اسمه " دعوان " وروي عن ابن عباس أن اسمه " صخر الجني " .عندها قال
الذي عنده علم من الكتاب وهو حسب قول ابن عباس ،آصف ،كاتب سليمان ،وقيل هو
آصف بن برخياء وكان صديقا يعلم االسم األعظم ،وقيل أنه ابن خالة سليمان ،وعن قتادة أنه قال :كان من بني إسرائيل ،وقال البعض بل اسمه بليخا وآخرون أن اسمه ذو النور ،
وزعم آخرون أنه الخضر ،وآخرون أنه ملك بيده كتاب المقادير ،وزعم آخرون أن اسمه
أسطوم وكان عابدا من بني إسرائيل ولقد صلى ركعتين وقال لسليمان ما قال .
يصر معظم كتبة التراث والرواة أن سليمان كان في بيت المقدس وعرش ملكة سبأ في اليمن،
وقيل عن بعضهم أن سليمان كان على بعد فرسخ من ملكة سبأ حين طلب إحضار عرشها.
شطح الرواة في علم الخيال حين شرحوا كيف وصل عرش ملكة سبأ إلى سليمان ،فقيل أن
العرش غاص في األرض ثم نبع بين يدي سليمان ،وكان الذي جاء به من عباد البحر .وقيل بل جيء به في الهواء ،وورد في تفسير القرطبي عن مجاهد أنه كان بين سليمان والعرش
كما بين الكوفة والحيرة ،وقال مالك كان العرش في اليمن وسليمان في الشام ،وقيل انخرق بعرش بلقيس مكانه الذي هو فيه ونبع أمام سليمان ،وعن عبداهلل بن شداد أنه قال :وظهر
العرش من نفق تحت األرض .
يجمع المفسرون وكتبة التراث أن رجل ملكة سبأ كانت كرجل الحمار ،وعندما جاءته سأل :
كيف لي أن أرى قدميها من دون أن أطلب منها كشفها ،فقال :أنا أجعل من هذا القصر ماء
وأجعل فوق الماء زجاجا ،تظن أنه ماء فترفع ثوبها فتكشف عن قدميها .وورد في تفسير ابن
كثير أن سليمان أمر الشياطين فبنوا لها قص ار عظيما من قوارير أي من زجاج وأجرى تحته
الماء واختلفوا في السبب الذي دعى سليمان لذلك .قيل أنه عزم على أن يتزوجها وأراد أن يتأكد من صحة ما يقال عن قدميها وكان في ساقيها هلب عظيم ومؤخر أقدامها كمؤخر
الدابة .فلما دخلت وكشفت عن ساقيها رأى أحسن الناس ساقا وأحسنهن قدما ولكن رأى على رجليها شعرا ،فأحب أن يذهب ذلك ،فقيل له أن يحلقه بالموسى ولكنها رفضت فطلب من الجن أن يصنعوا شيئا غير الموسى فصنعوا له النورة وكان أول من اتخذت له النورة.
اختلف المفسرون والمؤرخون في كون سليمان قد تزوج من الملكة بلقيس أم أنه لم يتزوجها.
قال البعض أن سليمان أحبها وتزوجها ،ثم أقرها على مملكة اليمن وردها إليها .وقال آخرون
أنه أرجعها إلى مملكتها في اليمن ،وكان يزورها مرة كل شهر ،ويقيم عندها ثالثة أيام
بلياليها ،مستعمال بساط الريح في السفر إليها .ويؤكد المؤرخون أنه كان لسليمان مئات
النساء غيرها ،ووصل الرقم عند البعض ،ألف امرأة ،وقالوا كذلك أنه أمر الجن أن يبنوا لها ثالثة قصور عظيمة :أحدها في " غمدان" والثاني في " صالحين" والثالث في " بيتون ".
143
ويقول بعض المؤرخين أن بلقيس أقامت عند سليمان في بيت المقدس " ؟ " و كان يصحبها في رحلة ترفيهية على بساط الريح إلى الشام ،وأنه مرضت بالشام وتوفيت فيها ،وقالوا أن
سليمان دفنها في " تدمر" وأخفى قبرها عن الناس .
وقف المفسرون حيارى أمام تفسير اآلية 102من سورة البقرة والتي تقول " واتبعوا ما تتلوا
الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ... .إلى آخر اآلية.
ورد في تفسير ابن كثير عن ابن عباس أنه قال :حين ذهب ملك سليمان ارتد بعض االنس
والجن واتبعوا الشهوات فلما أرجع اهلل إلى سليمان ملكه وقام الناس على الدين كما كان وان
سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه وبعد أن توفي سليمان ظهر االنس والجن على
الكتب وقالوا هذا كتاب من اهلل نزل على سليمان فأخفاه عنا فأخذوا به فجعلوا به دينا .وقيل
عن ابن عباس أيضا أن آصف كاتب سليمان الذي كان يعلم االسم األعظم ،كان يكتب كل
شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه ،فلما مات سليمان أخرجته الشياطين ،فكتبوا بين كل
سطرين سح ار وكف ار وقالوا هذا الذي كان سليمان يعمل بها .وعن ابن عباس أيضا أن
سليمان ،كان إذا أراد أن يدخل الخالء أو يأتي شيئا من نسائه أعطى الجرادة ،وهي امرأته،
خاتمه ،فلما أراد اهلل سبحانه أن يبتلي سليمان بالذي ابتاله به أعطى الجرادة خاتمه فجاء
الشيطان في صورة سليمان فقال لها :هاتي خاتمي فأخذه ولبسه فلما لبسه دانت له
الشياطين واالنس والجن .قال :فجاء سليمان فقال لها هاتي خاتمي فقالت :كذبت لست
بسليمان فعرف أنه ابتالء من اهلل ابتلي به .قال :فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك األيام
كتبا فيها سحر و كفر فدفنوها تحت كرسي سليمان يغلب الناس بهذه الكتب ،قال :فبرئ
الناس من سليمان وكفروه حتى بعث اهلل محمدا (ص) .وقيل أن الشياطين على عهد سليمان
كانت تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع فيستمعون من المالئكة ما يكون في األرض
من موت أو غيب أو أمر فيأتون الكهنة فيخبرونهم فيحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا
فلما أمنتهم الكهنة كذبوا لهم وأدخلوا فيه فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة فاكتتب الناس ذلك
الحديث في الكتب وفشا ذلك في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب ،فبعث سليمان في الناس
فجعلها في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه ولم يكن أحد يستطيع أن يدنو من الكرسي إال
احترق ،وقال ال أسمع أحدا يقول إن الشياطين تعلم الغيب إال ضربت عنقه .فلما مات
سليمان وذهب العلماء الذين كانوا على علم بأمر سليمان وخلف من بعد ذلك خلف تمثل
الشيطان في صورة إنسان ،ثم أتى نف ار من بني إسرائيل فقال :هل أدلكم على كنز ال تاكلونه
أبدا ،قالوا نعم فقال لهم احفروا تحت هذا الكرسي فذهب معهم وأراهم المكان ،فحفروا فوجدوا
144
الكتب ،فلما أخرجوها قال لهم الشيطان :إن سليمان إنما كان يضبط االنس والجن والطير
بهذا السحر ،ثم طار وذهب وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا ،واتخذت بني إسرائيل تلك
الكتب إلى أن بعث اهلل محمدا(ص) ،فخاصموه بها .وعن مجاهد أنه قال :كانت الشياطين
تستمع إلى الوحي فما سمعوا من كلمة زادوا عليها مائتين مثلها فأرسل سليمان في طلبها ،
فلما مات سليمان وجدته الشياطين وعلمته للناس وهو السحر .وعن سعيد بن جبير أن
سليمان كان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته فلم
يقدر الشياطين أن يصلوا إليه فدنت إلى اإلنس فقالوا لهم أتدرون ما العلم الذي كان به يسخر
سليمان الجن والشياطين والرياح وغير ذلك ؟ قالوا إنه في بيت خزانته وتحت كرسيه فاستثار
به اإلنس واستخرجوه وعملوا به فقال أهل الحجاز كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر ،فانزل
اهلل آياته .وقيل أن الشياطين جمعت كل ذلك في كتاب وختموه بخاتم على نقش خاتم سليمان وكتبوا في عنوانه :هذا ما كتب آصف بن برخيا صديق الملك سليمان بن داود من ذخائر
كنوز العلم ثم دفنته بقايا من بني إسرائيل فتعلموه وعملوا به وعلموه الناس حتى جاءت البعثة
المحمدية .وهناك قصص ال حصر لها في هذا الموضوع تمأل كتب التراث والتفسير ،ال مجال
لذكرها هنا.
اختلف المفسرون في من هما هاروت وماروت وهل هما ملكان أم من الشياطين .قيل أن
بعض الناس أشاعوا بأن السحر كان يوحى إلى سليمان عن طريق الملكين جبريل ومكائيل فجاءت اآليات لترد هذا القول .وقيل عن بعض أهل السلف أن هاروت وماروت هما ملكان
أنزلهما اهلل إلى األرض وأذن لهما في تعليم السحر اختبا ار لعباده وامتحانا لهم بعد أن بين لهم
أن ذلك مما ينهي عنه على ألسنة الرسل .وقال آخرون أن هاروت وماروت من الجن وأيد هذا
القول ابن حزم كما ورد في تفسير ابن كثير .وروي عن ابن أبي حزم باسناده عن الضحاك أنه كان يقرأها " وما أنزل على الملكين" بكسر االم ويقول هما علجان من أهل بابل ووجه
أصحاب هذا القول اإلنزال بمعنى الخلق ال بمعنى الوحي .وحكى القرطبي عن ابن عباس
والحسن البصري وآخرين أنهم قرؤوا كذلك بكسر االم وقال ابن أبزي هما داود وسليمان ،
وقال القرطبي تكون ما نافية أيضا .وروي عن البعض أنه قال ال أبالي أي ذلك كان إني آمنت
به وذهب كثير من السلف أن هاروت وماروت كانا ملكين من السماء وأن اهلل أنزلهما إلى
األرض فكان من أمرهما ما كان .ولقد روى اإلمام أحمد في سند ه حديثا غريبا عن عبد اهلل بن عمر أنه سمع محمد رسول اهلل (ص) يقول :أن آدم عليه السالم لما أهبطه سبحانه
إلى األرض قالت المالئكة :
145
" أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ،قال :إني
أعلم ما ال تعلمون ،قالوا ربنا نحن أطوع لك من بني آدم ،قال اهلل تعالى للمالئكة هلموا
ملكين من المالئكة نهبطهما إلى األرض فننظر كيف يعمالن قالوا ربنا هاروت وماروت فاهبطا
إلى األرض ومثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر فجاءتهما فسأالها نفسها فقالت :ال
واهلل حتى تتكلما بهذه الكلمة من االشراك ،فقاال :ال واهلل ال نشرك باهلل شيئا فذهبت عنهما
ثم رجعت بصبي تحمله فسأالها نفسها فقالت :ال واهلل حتى تقتال هذا الصبي فقاال :ال واهلل ال
نقتله أبدا ،فذهبت ثم رجعت بكأس من الخمر تحمله فسأالها نفسها فقالت :ال واهلل حتى
تشربا هذا الخمر فشربا فسك ار فوقعا عليها وقتال الصبي فلما أفاقا قالت المرأة واهلل ما تركتما
شيئا أبيتماه علي إال فعلتماه حين سكرتما فخي ار بين عذاب الدنيا وعذاب اآلخرة فاختا ار عذاب
الدنيا .وروي عن بعض أهل السلف عن علي بن أبي طالب أنه قال :كانت الزهرة( كوكب
الزهرة) امرأة جميلة من أهل فارس وأنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت فراوداها عن
نفسها فأبت إال أن يعلماها الكالم الذي إذا تكلم به أحد يعرج إلى السماء فعلماها فتكلمت به
فعرجت إلى السماء ومسخها اهلل كوكبا .وهناك أحاديث كثيرة تروى عن الرسول الكريم يلعن فيها الزهرة فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت .
التراث االسالمي وضع قصص االنبياء القرآنية في إطار الجغرافيا والتاريخ مسقطا القصص
والروايات التوراتية وحديث الرواة اليهود على اآليات القرآنية ،فخرج لنا منتج هو مزيج من
التراث االسالمي واإلسرائيلي .لقد امتأل التراث االسالمي باإلسرائيليات حتى بات يصنع لبني إسرائيل تاريخا لم يكن لهم على االطالق وأصبح داعما الدعائهم بتاريخ أسطوري في
فلسطين واألرض العربية و الذي بنوا عليه حقهم التاريخي المزور والمزعوم في أرضنا.
في تفسير اآلية اآلية 19من سورة يونس والتي تقول "ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات " نجد كتبة التراث االسالمي يضيفون ما لم تحمله اآليات القرآنية
فيقولون كما ورد في تفسير ابن كثير مثال :قيل هو بالد مصر والشام مما يلي بيت المقدس
ونواحيه ،فإن اهلل تعالى لما أهلك فرعون وجنوده استقرت الدولة الموسوية على بالد مصر بكاملها .ويقول في غير موضع :ولقد استمروا مع موسى عليه السالم طالبين إلى بالد
المقدس وهي بالد الخليل إبراهيم ،وكان فيها قوم من العمالقة فنكل بنوا إسرائيل عن قتالهم ،
فشردهم اهلل في التيه أربعين سنة ومات فيه موسى وهارون ،وخرجوا بعدها مع يوشع بن نون ففتح اهلل عليهم بيت المقدس واستقرت أيديهم عليها إلى أن أخذها منهم بختنص حينا من
الدهر ثم عادت إليهم .وورد في تفسير القرطبي في تفسير اآلية المذكورة أن ذلك يعني مصر
وقيل األردن وفلسطين وعن الضحاك أنه قال هي مصر والشام .كما ورد في تفسير اآلية
146
104من سورة اإلسراء والتي تقول " وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا في األرض" أن ذلك
يعني أرض الشام ومصر .ولقد بحثت في القرآن الكريم فلم أجد أي ذكر لشخص اسمه يوشع
بن نون قاد بني إسرائيل إلى بالد الشام وفلسطين ،كما لم أجد في القرآن أي ذكر لدخول بني
إسرائيل فلسطين واحتاللهم القدس أو الشام أو أي بلد آخر في بالد الشام .
لقد بنى التراث االسالمي لبني إسرائيل مملكة اسطورية امتدت من بالد العراق مرو ار ببالد
الشام و فلسطين إلى أرض مصر .بل وصل القول ببعض كتبة التراث كما مر معنا بأن بني
إس ارئيل سادوا وحكموا األرض جميعها .إلى جانب كل ذلك وضع التراث االسالمي ختمه على أهم ادعاءات يهود اليوم بالتأكيد على استمرارية شجرة النسب االسرائيلي من إبراهيم مرو ار
بموسى إلى داود وسليمان،و على إقامة هيكلهم المدعو هيكل سليمان في القدس ،بل وذهب
البعض كما ذكرنا سابقا إلى وضع بصمته على تأكيد الوعد اإللهي إلبراهيم وأبنائه وأحفاده من بني إسرائيل بأرض فلسطين وبالد الشام .لقد اختلط على المسلمين منطوق التراث االسالمي
بالمنطوق القرآني ،وحل الفكر الديني واإلرث التراثي محل الفكر القرآني واستمد منه قدسيته
فسقطنا في عقدة االنفصام بين الوطني المصيري وبين ما اعتبرناه من أصول الدين .إنه داء خبيث في حاجة إلى عملية جراحية سريعة وجذرية لنفض ما علق بالوعي االسالمي خالل
مئات من السنين.
147
مراجع فصل :االسرائيليون في االسالم ،هي : تفسير القرطبي،تفسير ابن كثير ،تفسير الجال لين (.على قرص من إنتاج صخر ،تفسير
البغوي ،تفسير البيضاوي ،تفسير فتح القدير للشويكاني( مسجلة على قرص) الكشاف
للزمخشري :دار الكتب العلمية ،بيروت ،ط، 1،1995ترتيب محمد عبد السالم
شاهين،وبحواشيه أربع كتب .تفسير الطبري :جامع البيان عن تأويل القرآن ،ألبي جعفر
محمد بن جرير الطبري،تحقيق محمود واحمد أبناء محمد محمد شاكر ،ط ، 2دار المعارف ،
مصر . 1971سيرة ابن هشام :دار إحياء التراث العربي ،بيروت ،تهذيب عبد السالم هارون .تاريخ الرسل والملوك ،محمد بن جرير الطبري دار المعارف القاهرة .السيرة
الحلبية :علي بن برهان الحلبي،دار المعارف بيروت .البداية والنهاية البن كثير :دار الكتب
العلمية بيروت،ط . 1988 ، 4أبو اسحق الثعلبي النيسابوري :قصص األنبياء ،عرائس
المجالس،المكتبة الثقافية،بيروت .محمد حسني عبد الحميد :أبو األنبياء إبرهيم الخليل،تقديم
مفتي الديار المصرية السابق ،حسين محمد مخلوف ،دار سعد ،القاهرة،ط . 1قصص األنبياء
لمحمد أحمد جاداهلل مجهول الناشر والتاريخ .أسباب النزول :أبي الحسن علي بن أحمد
الواحدي النيسبوري،المكتبة الثقافية بيروت ،مجهول التاريخ .االتقان في علوم القرآن،جالل
الدين السيوطي وبهامشه إعجاز القرآن ألبي بكر الباقالني ،المكتبة الثقافية بيروت). 1973 ،
148
-6
خالصة القول
داء االنفصام :بين الوطني و الديني في عام 1999طلع علينا الدكتور سيد القمني بكتاب من أربع أجزاء تحت عنوان " النبي
موسى وآخر أيام تل العمارنة" وهو كتاب جاد يتحدث عن جزء هام من التاريخ المصري القديم و يشرح في الكتاب رأيه في كثير من األمور التي تتعلق بهذا التاريخ .أهم موضوع يطرحه
ويبذل الجهد لتقديم البراهين والبينات القناعنا به هو موضوع عالقة الفرعون إخناتون والنبي
موسى.
بذل الدكتور القمني عبر مئات الصفحات أقصى ما يستطيع ولم يبخل علينا جهدا ليقنعنا بأن
النبي موسى و الفرعون إخناتون هما شخصية واحدة ،إخناتون هو النبي موسى والنبي
موسى هو إخناتون .لقد كانت العالقة بين النبي موسى والفرعون إخناتون أو بين التعاليم
الموسوية وتلك االخناتونية موضوعا للبحث منذ أعوام وجاء الدكتور القمني ليؤكد أن موسى
واخناتون هما شخصية واحدة .
الدكتور القمني يعي تماما ماذا يعني ذلك ،والدكتور القمني يعي أيضا في أي مجتمع يعيش
وما هي مساحة الديموقراطية و حرية الرأي في هذا المجتمع ولذلك نجده يقول في مقدمة
كتابه (ص " : ) 15:ما يجب هنا التوكيد عليه واعالنه واضحا أنه رغم وجود بعض أوجه
الشبه في تفاصيل قصة موسى بين التوراة والقرآن ،فإن أوجه الخالف بدورها كبيرة ،سواء في
الرؤية العامة لمفهوم األلوهية أو النبوة ،مع خالفات أساسية حول بعض التفاصيل والدقائق. وهو ما يجعل من موسى التوراتي شخصا آخر يختلف اختالفا بينا وحادا عن موسى القرآني، ومن هنا نقول بل ونعلن أن بحثنا هذا يتناول شخص موسى كما ورد بالتوراة وبقية العهد
القديم فقط ،وال عالقة لبحثنا بشخص النبي الجليل موسى الكليم عليه أفضل الصلوات وأزكى
السالم ،ال من بعيد وال من قريب ،واذا وجد القارئ متناثرات نادرة عن النبي موسى :كما هو في االسالم ،فإن ذلك جاء على سبيل االستضاءة ليس إال ،وال يعني أننا نتحدث عن موسى
كما هو في االسالم .
الحقيقة هي أن الدكتور القمني وضعني كقارئ في مأزق ال أعرف الخروج منه،فأنا أفهم كل الفهم أن شخصية ( البروفايل) النبي موسى القرآنية تختلف عن تلك التوراتية .الحقيقة أن
شخصية األنبياء من إبراهيم إلى داود وسليمان تختلف في القرآن عنها في التوراة ،ولكن إذا
149
كان موسى ،كإنسان من لحم ودم ،هو الفرعون أخناتون نفسه ،أال يعني ذلك -بغض النظر عن الفرق بين تفاصيل شخصيته المرسومة في القرآن الكريم وفي التوراة -بأن موسى
القرآني هو أيضا الفرعون أخناتون ،هل قال الدكتور القمني ما قال تقية و تجنبا لنهش
أولئك الذين نصبوا أنفسهم الناطقين الرسميين باسم مقدسنا وأعطوا ألنفسهم وألنفسهم فقط
الحق في الحديث في أمور الدين؟ واذا كان الجواب نفيا فهل هناك شخصان مختلفان ،وأعني شخصان من لحم ودم ،باسم النبي موسى واحد قرآني واآلخر توراتي ؟
السؤال الذي يراودني هو ماذا يضير مقدسنا لو كان النبي موسى هو فعال الفرعون إخناتون؟ القرآن الكريم لم يحدد أهل وقوم النبي موسى وال من هو أبوه وال من هي أمه ولم يؤكد لنا
أنه إسرائيلي أو عبري ،ولو كان كل ذلك مهما لسياق القصة لذكرها.
لقد أعطانا القرآن الكريم عن موسى المعلومات التي رآها ضرورية لسياق القصة وأهدافها
وعبرها ولو رأى أن الحديث عن أصول موسى العرقية ضروري لذلك لذكره.ما نعرفه عن موسى هو أنه شب في قصر فرعون وأنه كان موحدا مؤمنا باهلل ،منحه اهلل حكمة ونبوة وقارع
فرعون وتحداه مدافعا عن وحدانيته وايمانه باهلل الواحد األحد ،وأنه عندما خرج من مصر خرج
معه بني إسرائيل الذين كانوا لسبب ال نعرفه مضطهدين في مصر ،وأن بني إسرائيل رغم
مساعدته وانقاذه لهم خذلوه عدة مرات وعادوا لعبادة االصنام .
لقد اعتبر كثير من المؤرخين والباحثين ،ومنهم عرب مسلمون ال يشك في إسالمهم،أن موسى كان مصريا ،جنسا ومنشأ وثقافة ،وان اختلفوا في الوظيفة التي كان يقوم بها في مصر .
بعضهم قال أنه كان كاهنا وآخرون أنه كان أمي ار ،وقال البعض أنه كان ضابطا في جيش
فرعون ،وأنه ،في أي موقع كان ،تأثر بتعاليم سيده الفرعون إخناتون ،وجاء القمني ليضيف
بأن موسى لم يكن مصريا فقط ،تأثر بتعاليم إخناتون ،وانما كان هو إخناتون نفسه .ولكن
لم يجب أحد من هؤالء الباحثين عن سؤال مهم :لماذا صمتت الوثائق المصرية على كثرتها وكثرة المعلومات التفصيلية فيها ،صمتا تاما ومطبقا،عن أي ذكر لموسى في وثائقها ولو
تلميحا أو إيحاءا؟ كما صمتت صمتا تاما عن أي ذكر ليوسف وأهله في مصر.
ال تحدثنا اآليات القرآنية كيف مات موسى وأين دفن ،كما ال يوجد ذكر ألي رجل اسمه يشوع
بن نون ،خلف موسى في قيادة اإلسرائيليين و قادهم في حملة على فلسطين فهدم مدنها و
واستباحها وقتل أهلها وأباد زرعها .كما ال تحدثنا اآليات القرآنية عن مكان وحدود مملكة داود
وسليمان وأين قامت .
الذي وضع موسى في إطار العائلة والقبلية وأصر على أنه إسرائيلي أو عبري هم كتبة
ورواة التراث االسالمي متأثرين بالموروث التوراتي وبالرواة اليهود وفي بعض األحيان
150
معتمدين على أحاديث نسبت إلى رسولنا الكريم مشكوك في نسبتها إليه .وكتبة التراث هم
الذين تحدثوا عن ما يسمى يشوع وعن احتالل اإلسرائيليين لفلسطين تحت قيادته ،تماما كما ورد في التوراة .هم الذين جعلوا من داود و سليمان ملوكا على مملكة أسطورية،وصلت
حدودها الشام مرو ار بالعراق وكامل فلسطين .كتبة التراث االسالمي هم الذين جعلوا من بني
إسرائيل خير زمانهم .
نحن أمام معضلتين متال زمتين ومتداخلتين،أحدهما علمية والثانية وطنية وكالهما تحتاجان إلى تنشيط كل الوسائل العصرية المتاحة لدينا لحلهما .ففي عقر دارنا يقبع عدو شرس ال
أخالقي،يعشش في مخيلته أساطير أعطى لنفسه على أساسها حق تاريخي مزيف المتالك
جميع األرض العربية ،بصفتها أرض الميعاد وأرض األجداد .
مصدر هذه األساطير كتاب" مقدس" أثبت علم التاريخ الحديث ،عن زيف محتوياته وأنه غير
منزل من السماء وانما كتبه بشر على األرض زيفوا فيه وقائع التاريخ تزيفا رهيبا ليكون في
خدمة عقيدة لهم،عنصرية شوفينية تقوم على رفض اآلخر ،وليصنعوا تاريخا لمن لم يكن لهم
تاريخ..
يقول توماس تومسون " :إن كثي ار من الحكاية والشعر التوراتيين يضع امتالك األرض واألمة
بين موضوعاته األكثر مركزية .ثمة القليل جدا من األحياء اليوم الذين ليست لديهم فكرة حية
عن مدى أهمية هذين العنصرين من التوراة بالنسبة إلى السالم والحرب في فلسطين واسرائيل منذ نهاية الحرب العالمية األولى ،عندما تحول السجال إلى تساؤالت بخصوص :لمن أعطى يهوه هذه األرض أوال ،أو كيف يمكن استخدام قصص "التوراة" لتسويغ الق اررات والسياسات
التي هي عندما تقع في التاريخ وليس في القصة،تعد جرائم بحق االنسانية ، "....ويتابع " أنه ثمة أفكار قليلة مسؤولة عن جرائم أكثر من هذا المفهوم الديني الحصري لألثنية .ال يمكنني
أن أتخيل فك ار واحدا اختلقه البشر أكثر دموية من الناحية التاريخية من هذا المجاز الموجه عائليا ألمة مع إلهها ( ".الماضي الخرافي :نفس المصدر ،ص) 28:
ثم جاء تراثنا االسالمي ليضع ختمه على هذه األساطير ويعطيها إطا ار تاريخيا ،وصفة قدسية
ليست له ،وليحدثنا عن بني إسرائيل الذين كانوا أسياد زمانهم والذين حكموا األرض
كلها،وليزرع في مخيلتنا،ومخيلة أطفالنا أسطورة شعب اهلل المختار ،وأسطورة ممالكه وملوكه
الذين امتد ملكهم من العراق مرو ار بالشام وفلسطين إلى أرض الحجاز واليمن .ثم نقوم بتالوة القصص اإلسرائيلية على أطفالنا ونربيهم على بطوالت شمشون اليهودي الذي قهر
الفلسطينيين وبطوالت داود اإلسرائيلي الذي قتل جالوت الفلسطيني ،ونحدثهم عن مذابح
أجدادنا اهل فلسطين على يد من سميناه النبي يشوع بن نون والذي بنينا له ضريحا نزوره
151
تعظيما له على مذابحه االسطورية ألجدادنا األوائل وهدمه وحرقه قرى فلسطين ومدنها،و
مثلها كثير ،حيث يقف تراثنا دائما في صف بني إسرائيل الذين يصفهم ب " المؤمنين األتقياء"
ضد جميع أجدادنا األوائل الذين سكنوا هذه المنطقة من العراق إلى مصر والذين يصفهم تراثنا ب" الكفرة الزناديق" ويحلل قتلهم وطردهم على أيدي المؤمنين األبرار زينة خلق زمانهم بني إسرائيل .و في الوقت الذي تثير فينا نجمة داود القشعريرة لما تمثله من قتل شعبنا وسلب
أرضنا ،نتحدث بفخر عن داود اإلسرائيلي ،الذي قهر الفلسطينيين وعن دولته االسرائيلية التي أقامها في فلسطين ووسعت المنطقة كلها وذاع صيتها في العالم ،وفي الوقت الذي يعلن فيه
الصهاينة أن يشوع هو مثلهم األعلى في التعامل مع الفلسطينيين ،وتحليل إبادتهم ،نحدث
أطفالنا عن النبي يشوع المزعوم ونأخذهم لزيارة ضريحه تكريما له ،وبذلك نزرع في نفوس أطفالنا وشبابنا داء االنفصام بين الديني والوطني ،بين األسطورة والتاريخ .
لم تدخل اإلسرائيليات في كتب التراث والتفسير فقط ،ولكنها دخلت كذلك في كتابات
المؤرخين العرب المعاصرين وفي كتب القصص الموجهة لألطفال و للجيل العربي الصاعد كما
دخلت في حكاياتنا وقصصنا وأفالمنا وأحاديث سمرنا.
عندما نق أر مثال كتاب جاد اسمه العرب واليهود في التاريخ للمرحوم للدكتور أحمد سوسة فإننا نجد مثال تحت عنوان " أريحا" في الصفحة( ) 767ما يلي :مدينة كنعانية قديمة يعدها
الخبراء أقدم مدن العالم .ويتابع وكانت أريحا أول مدينة حاصرها الموسويون بزعامة يشوع وافتتحوها عنوة بعد عبورهم نهر األردن ثم أحرقت بكل ما فيها ما عدا آنية الذهب والفضة
والنحاس والحديد التي نقلت إلى خزائن الرب ،وقد أعيد بناء المدينة في عهد آخاب بن عمري،
ويضيف الكاتب بين قوسين (،ملك إسرائيل بعد االنقسام ) .وتحت عنوان ايلة في الصفحة
774نجد :ميناء في رأس خليج العقبة بناه األدوميون ،ويتابع وقعت في أيدي الموسويين
في زمن الملك داود ( 910-1004ق.م) ،استرجعها األدوميون في زمن يهورام ملك يهوذا (
841 -848قم) ثم أخذها منهم عزيا ملك يهوذا 715-735(0ق.م) .ونجد تحت عنوان بيت شان ( بيسان ) ص : 781مدينة كنعانية تعرف اليوم باسم بيسان وقد سماها النبي
هوشع " بيت أون " أي مدينة األصنام .وغيره كثير ال مجال لذكره هنا .ومن الواضح أن كل هذه المعلومات ،كما نجد في مرجع المصادر التي أوردها المؤلف مستقاة من التوراة. ويصف كتاب معد لألطفال والجيل الناشئ( من سلسلة قصص من القرآن في أسلوب
عصري،تأليف محمد كامل حسن المحامي ،منشورات المكتب العالمي للطباعة والنشر ،بيروت)
مملكة سليمان بقوله ":والمعروف أن ملك النبي سليمان كان متسعا وكان ينتقل من قطر إلى
آخر في مملكته الواسعة على بساط الريح ويؤكد على أن مقره األساسي كان بيت المقدس
152
وكان يطير على بساط الريح من بيت المقدس إلى الشام واليمن في رحالت ترفيهية في ربوع مملكته" .ولم نورد كتاب سوسة وكتيب محمد كامل حسن إال لنضرب مثال على دخول
االسرائيليات في كتب التاريخ العربي الحديثة وفي الكتب التوجيهية والتثقيفية ألطفالنا وشبابنا، مع أن األمثلة كثيرة جدا وال مجال لحصرها ،فيكفي أن نستمع إلى المحطات العربية المسموعة
والمرئية ،وأن نستمع إلى خطب المساجد لنكتشف القدر الهائل من اإلسرائيليات التي تزرع في
مخيلتنا وفكرنا صباحا مساءا.
المصدر الوحيد الذي يؤرخن عظمة بني إسرائيل وعظمة ممالك بني إسرائيل وملوكها هو
التوراة .وعلم التاريخ الحديث بوثائقه وحفرياته ونصوصه أثبت كما مر معنا أن هذه األحداث ملفقة من كتبة التوراة وأنه أصبح من الواضح لعلماء التاريخ الحديث أنه ال يمكن األخذ
بالتوراة كمصدر موثوق به لكتابة تاريخ فلسطين والمنطقة وأنه ال يمكن اعتبار التوراة مصد ار
تاريخيا.
الحقائق التاريخية تقول أنه ال مكان في تاريخ فلسطين القديم لدولة موحدة على ترابها تحت
أي اسم كان سواء تحت اسم مملكة شاول أم داود أم سليمان ،وأن هذه الممالك أسطورية من
صنع الخيال ،وأن هذا الخيال األدبي أستغل من قبل كتبة التوراة من أجل إيصال هدفهم
الالهوتي .فلماذا يصر كتابنا و مؤرخوننا على البحث عن تاريخ بلدنا بين دفتي التوراة .قد نفهم الدافع الذي دفع رواة وكتبة التراث إلى االستعانة بالتوراة واليهود في تفسير اآليات
القرآنية ،فلقد كانت أطرهم المعرفية محدودة جدا ،وفجأة وجدوا أنفسهم أمام حديث عجزوا عن فهمه وان كان بلغتهم فاستعانوا باليهود والتوراة لتفسيره ،فما حجة كتبة ومؤرخي أهل عصرنا من العرب والمسلمين ،وعلم التاريخ الحديث يقف بجانبهم ويرفض طروحات أعدائهم المبنية
على األسطورة والذين أقاموا لهم بناءا على هذه األسطورة حقا مقدسا في وطننا؟
أنا أعي تماما أن البحث في هذه المواضيع سيثير حفيظة سالطين ودكتاتوريات الخطاب
الديني الذين نصبوا أنفسهم المتحدثين الرسميين باسم المقدس ،وسيعتبرون مجرد الحديث
في هذا الموضوع خارج على الدين كما رسموه وأقاموا له الحدود ،ولكن يا سادة حقائق العلم ال ترحم ،ونحن في ورطة ،وأمام معضلة يجب أن نجد لها حال يقبله العلم والعقل.
عندما سألت أحد الشيوخ عن رأيه في هذا الموضوع نهرني وقال لي أن ال أتدخل في ماال
يعنيني ،وكأنما األمر يعنيه هو فقط ومن نصبوا أنفسهم الناطقين الرسميين باسم المقدس.
وعندما أخبرته أن اهلل سبحانه خلق لي العقل حتى أفكر به ،قال :نحن ال نمنعك من التفكير
ولكن ال تجهر برأيك وابقه لنفسك .ولكن كيف يمكن الصمت عن أمر يتعلق بمقدسنا
وبمستقبل وطننا وأمتنا ،والتفسير التراثي للنصوص المقدسة التي تتعلق ببني إسرائيل يحدث
153
تناقضا شديدا في فكر المسلم لدرجة مرض " الشيزوفرينيا" أو مرض االنفصام ،كنتيجة
للتضارب بين الوطني والديني و بين الحقائق التاريخية وبين معتقد مبني على تفسيرات
توراتية.
خطابنا الديني المعاصر ،يسمح لك بأن تعطي رأيك علنا بالدين المسيحي وأن تقول ما يحلو لك في التوراة واالنجيل كأن تقول أن التوراة مزورة كتبها بشر زوروا في نصوصها تاريخ
المنطقة .يسمح لك أن تقف على منصة المسجد وتعلن" :ربي اكسر شوكة النصارى وشتت شملهم " بحرية تامة من دون خوف من العقاب ،أما إن أعطيت رأيك مثال بتفسير سورة "
الفيل " حسب معطيات عالمنا الفكري المعاصر وأدواته الجديدة،وكان رأيك مخالفا لرأي الخطاب الديني الرسمي ،فإنك ستتهم فو ار بالكفر واإللحاد والزندقة ،وتجبر زوجتك على الطالق منك
وتعرض نفسك ألقصى العقوبات وحتى القتل.
النصوص الدينية بحاجة ألن تق أر في سياقاتها التاريخية ،وأحد أهم مظاهر السياقات
التاريخية هو العالم الفكري الذي خاطبته ونشأت فيه ،والمظاهر األخرى تتعلق بالعالم الفكري الذي تق أر فيه هذه النصوص .ال يمكن فهم النص القرآني بمعزل عن فهم الواقع الفكري
واالجتماعي والسياسي الذي خاطبته هذه النصوص ،هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن قراءة
النص القرآني تختلف باختالف الواقع الفكري للقارئ واألدوات الفكرية المتاحة في زمن قراءته. إن قراءة النص القرآني في العالم الفكري للقرن السابع الميالدي ،يجب أن تختلف عنه في
العالم الفكري للقرن العاشر الميالدي ،ويجب أن تختلف اختالفا شاسعا عن قراءتنا له في
عالمنا الفكري المعاصر.
ال يكفي اليوم أن نقول بظاهر النص المقدس ،ويجب أن ال يبرر خوفنا على قدسية وصفاء
هذا النص أن يدفعنا بالقبول قس ار بظاهر النص ،أو بقبول تفسير وشروحات السلف
للنص،فنضعه في إطار متحجر ضيق ونعرضه إلى التعارض مع المعلومات العلمية المتجددة
على الدوام .إن التعارض الظاهر بين النص القرآني وبين الحقائق العلمية العصرية ،ليس
ذنب النص القرآني وانما ذنب قراءتنا الخاطئة له ،ويجب إعادة قراءته على ضوء عالمنا
الفكري المعاصر ،وأدواته الجديدة .وعلى ذوي االختصاص الخروج من سياسة النعامة
واالعتراف بأننا نواجه مشكلة في حاجة إلى حل ،وعدم طمسها بغبار التكفير والتهجير والتنفير .على ذوي االختصاص شحذ كل األدوات العلمية واللغوية واالجتماعية والدينية المعاصرة من أجل قراءة جديدة للنص القرآني تنفض عنه غبار الكم الهائل من اإلسرائيليات ،وتعيد إليه
صفاءه و رونقه .
154
في الحقيقة أن منهج التفكير الذي يترك مساحة كبيرة جدا للجانب الديني عند الحديث عن
الوطن والوطنية ليس حك ار على المسلمين والخطاب االسالمي ،وانما طال كذلك قطاعا من األخوة المسيحيين األصوليين العرب الذين تأثروا كذلك بنصوص العهد القديم باعتبارها
نصوصا إلهية مقدسة ،واعتبارها جزءا من الكتاب المقدس للمسيحيين في العالم بمختلف
كنائسهم .لقد طغى عند هؤالء في كثير من المواقف ،الديني على الوطني مما أحدث خلال
دائما في الرؤية أدى إلى مواقف غير وطنية ومضرة ضر ار شديدا بالوطن ووحدته وأعطى
ألعدائه الفرصة الستغاللها في تحقيق مطامعه في وطننا .ورغم رفضنا ألدوات الخطاب
الديني االسالمي في التعامل مع المواطنين العرب المسيحيين ،الذين نعتبرهم جزءا ال يتج أز من
هذا الوطن بغض النظر عن نسبتهم العددية فيه،ونرفض اعتبارهم أهل ذمة كما يدعوهم رموز
الخطاب االسالمي ،أي في ذمة المسلمين وحتى وصل الحد عند بعض رموز الخطاب الديني
االسالمي بأن يعلنوا بأن على المسيحيين دفع الجزية باعتبارهم أهل ذمة في البالد االسالمية. فإننا في نفس الوقت نرفض اعتبار بعض المسيحيين العرب ،للمسيحية ،هوية وطنية لهم
تعلو على الهوية الوطنية والقومية .ولقد مر معنا كيف أن عددا من المسيحيين الفلسطينيين اشتركوا كأعضاء نشيطين في السفارة العالمية المسيحية التي شكلها المسيحيون الصهاينة برئاسة فان هوفن ،والتي تدعو إلى هجرة اليهود إلى فلسطين وتعمل على دعم المطامع
االسرائيلية في فلسطين من منطلق اإليمان بدور اليهود المقدس في التحضير لقدوم المسيح
المنتظر ،و إلى جانب هؤالء فإننا نلتقي في أوروبا وكندا وأمريكا بجمعيات مسيحية لبنانية
ومصرية تعتبر الهوية المسيحية هويتها الوطنية وتطالب بموطنة هذه الهوية ،وان كان رفاقهم في الوطن األم يهمسون بتلك األفكار باستحياء أو بشكل غير مباشر وفي بعض األحيان كرد
انفعالي على الخطاب االسالمي األصولي الذي يدعو إلى أمة االسالم ،فإن هذه الجمعيات
تعلنها بصراحة وبصوت عال ال يترك ألحد المجال في الشك في نواياهم .وعلى سبيل المثال
وصلني بالبريد االلكتروني من صديق لي يقيم في كندا منشور لجماعة من المسيحيين األقباط
في كندا تعتبر مصر أرضا قبطية محتلة من قبل العرب المسلمين،و تطالب بتحريرها ،كما
تطالب دول الغرب بمساعدة األقباط المصريين الذين يرزحون تحت االحتالل العربي المسلم في نضالهم التحرري ويطالبون هذه الدول بمقاطعة مصر سياسيا واقتصاديا.
لن أدخل هنا في بحث العالقة المسيحية المسلمة في مصر ولبنان وغيرها من الدول العربية،
فأنا أعترف أنني ال أملك األدوات لمثل هذا البحث وانما كل ما أردت أن أقوله أن منهج التفكير الذي يسيطر فيه الديني على مساحة ضخمة عند الحديث عن الوطني مما يوقع في داء
االنفصام بين الوطني والديني ويؤدي إلى خلل دائم في الرؤيا ،ليس حك ار على المسلمين وانما
155
هو منهج قطاع ال بأس به من المسيحيين العرب ،وخاصة في مصر ولبنان .فإذا كان
لإلسرائيليات حيز كبير في التراث االسالمي ،فإنها تستولي على أكبر مساحة من الكتاب
المقدس المسيحي .وعلى المسيحيين العرب أن يعوا حقيقة أن نصوص التوراة أو العهد
القديم ال تتحدث عن حقائق تاريخية في المنطقة وانما عن خيال مختلق من أجل هدف
الهوتي ،وأن ال يقعوا في شرك أن اإليمان المسيحي يعني بالضرورة اإليمان بتاريخية
نصوص التوراة .كما عليهم أن ال يقعوا في شرك األفكار الصهيونية ،سواء اليهودية أو
المسيحية،التي تعطي لليهود رسالة إلهية خاصة من أجل عودة مسيح مزعوم .هذه األفكار تعني شيئا واحدا هو اغتصاب األرض العربية وطرد أهلها العرب منها باختالف عقيدتهم
الدينية.
ومن ناحية أخرى لماذا يصر بعض المؤرخين والباحثين العرب في الرد على االدعاءات
الصهيونية على اعتبار أن كل الشعوب التي سكنت هذه المنطقة كانوا عربا ،فالكنعانيون
عرب والعماليق عرب والهكسوس عرب والنبي إبراهيم وساللته عرب ،فهل يفيد ذلك قضيتنا
المصيرية وصراعنا مع المطامع الصهيونية .برأيي المتواضع نحن أحفاد وورثة كل الشعوب
التي سكنت هذه المنطقة من الكنعانيين واليبوسيين والمصرين القدماء واآلشوريين والبابليين والحثيين والحوريين و اليونان و الرومان وغيرهم من الشعوب والقبائل التي احتلت هذه
المنطقة وسكنت فيها ،بما فيها الشعوب والقبائل العربية،والتي اختلطت ببعضها فتزاوجت من
بعضها وتأقلمت مع بعضها في بوتقة المنطقة األم فتمخضت عن الشعب العربي الحالي سواء الفلسطيني أو غيره من شعوب هذه المنطقة .نحن أمة عربية إسالمية بالثقافة واللغة وال
يضيرنا أنه يجري في عروقنا دماء كل تلك الشعوب التي سكنت هذه المنطقة .نحن األحفاد
الشرعيون لكل تلك الشعوب،التي تمخضت وخلفتنا ،ونحن عرب بلغتنا وثقافتنا وتاريخنا
المشترك ،وأبناء كل الحضارات التي مرت في المنطقة وورثتها الشرعيون و الوحيدون.