داء الفصام بين الوطني والديني

Page 1

‫‪1‬‬

‫داء الفصام بين الوطني والديني‬

‫د‪ .‬نضال عبد القادر الصالح‬


‫‪2‬‬

‫فهرست‬ ‫‪ -1‬مقدمة‬

‫‪ -2‬الفصل األول ‪ :‬بني إسرائيل في التوراة‬ ‫‪ -1‬ما هي التوراة‬

‫‪ -2‬إبراهيم وساللته والوعد اإللهي المزعوم‪.‬‬ ‫‪ -3‬موسى‪ :‬تجديد الوعد بعد غضب الرب‬

‫‪ -4‬الممالك األسطورية لبني إسرائيل في التوراة‬ ‫‪ -3‬الفصل الثاني ‪:‬‬

‫‪ -5‬السبي وفلسفته في التوراة‬ ‫اليهود واليهودية‬

‫‪ -1‬من هم يهود اليوم‬

‫‪ -2‬اليهودية بين الدين والسياسة‬ ‫‪ -3‬المسيحية الصهيونية‬

‫‪ -4‬الفصل الثالث ‪ :‬اإلسرائيليون بين األسطورة و التاريخ‬

‫‪ -1‬التوراة‪ :‬الخيال األدبي في خدمة الالهوت ‪.‬‬

‫‪ -2‬إبراهيم ونسله ‪ :‬حقيقة تاريخية أم أسطورة؟‬ ‫‪ -3‬موسى‪ :‬وصمت الوثائق المصرية‪.‬‬

‫‪ -4‬ملوك وممالك بني إسرائيل‪ :‬بين الحقيقة والخيال ‪.‬‬ ‫‪ -5‬ما هي حقيقة السبي والمنفى؟‬

‫‪ -5‬الفصل الرابع ‪ :‬اإلسرائيليون في االسالم ‪ :‬بين النص اإللهي والبشري‪.‬‬ ‫‪ -1‬التوراة في اإلسالم ‪ :‬كتاب مقدس أم محرف ؟‬

‫‪ -2‬النبي إبراهيم ونسله‪ :‬بين الخطاب اإللهي والبشري ‪.‬‬ ‫‪ -3‬النبي موسى‪ :‬بين الخطاب اإللهي والبشري‪.‬‬

‫‪ -4‬ملوك وممالك بني إسرائيل‪ :‬ما صمت عنه النص اإللهي‪.‬‬ ‫‪ -6‬خالصة القول‪:‬‬

‫داء االنفصام بين الديني والوطني‬


‫‪3‬‬

‫مقدمة‬ ‫ما دفعني لكتابة هذا البحث‪ ،‬هو ما حدث لي في نهاية عام ‪ 2001‬أثر الهجوم على نيويورك‬

‫وواشنطن‪ ،‬حيث دعاني صديق لي يعمل في دار اإلذاعة السلوفاكية للمشاركة في ندوة عن‬

‫القضية الفلسطينية وعالقتها بما حدث في الواليات المتحدة‪ .‬تحدث أحد المشاركين في الندوة‬ ‫وكان من أصول يهودية عن الحق التاريخي لليهود في فلسطين معتمدا على نصوص التوراة‬

‫في العهد القديم ‪ .‬ثم تحدثت بدوري من جملة ما تحدثت‪ ،‬كرد على االدعاء الباطل بهذا الحق‬

‫عن أمرين أساسيين وهما‪:‬‬

‫أوال أنه لم يعد بعد االن مجاال للشك في أن التوراة لم تعد كتابا مقدسا كلماتها نزلت من عند‬

‫الخالق على لسان كاتبيها و إنما هي كتاب أساطير وحكايات انتحلها كاتبوها من أدب الشعوب‬

‫التي سكنت فلسطين والبالد المجاورة‪ ،‬من أجل خدمة أهدافهم الدينية‪.‬‬

‫ثانيا أن التوراة لم تعد باعتراف أشهر المؤرخين المعاصرين مصد ار تاريخيا يعتمد عليه في‬

‫كتابة تاريخ فلسطين ومنطقة الشرق األدنى‪ ،‬ألن علم التاريخ الحديث قد برهن على بطالن‬

‫معظم روايات التوراة‪ .‬وأهم ما في األمر أن علم التاريخ الحديث قد برهن بما ال يدع مجاال‬

‫للشك أن ممالك إسرائيل التي تتبجح بها التوراة مثل مملكة شاول و داود ومن بعده سليمان‬

‫ما هي إال من صنع خيال كتبة التوراة‪ ،‬وأن علم الحفريات الحديث أثبت أنه لم يكن هناك‬

‫مملكة موحدة في فلسطين تحت أي اسم كان سواء كانت تحت اسم مملكة داود أو سليمان أو‬

‫أي اسم آخر‪ ،‬كما أن علم التاريخ الحديث أبطل كل ما قالته التوراة عن احتالل اإلسرائيليين‬

‫لفلسطين واقامتهم دولة على كامل ترابها‪ .‬إضافة إلى ذلك فأن الوثائق التاريخية المصرية‬ ‫واآلشورية والبابلية التي تتحدث باسهاب عن تاريخ المنطقة ال تذكر شيئا ولو من باب‬

‫التلميح عن مملكة داود أو سليمان أو أي مملكة إسرائيلية أخرى في فلسطين أو في المنطقة‬ ‫بأسرها ‪ ،‬كما لم يرد في هذه الوثائق على االطالق أي ذكر لملك أو نبي أو قائد اسمه شاول‬

‫أو داود أو سليمان ‪ .‬كل ذلك و غيره كثير يدفعنا لرفض مقولة الحق التاريخي لليهود في‬

‫فلسطين وحق العودة لليهود للوطن الموعود‪ ،‬واعتبار هذه المطالب تغطية لمطامع الصهيونية‬

‫االستعمارية واالستيطانية‪.‬‬

‫لم يستطع أحد من المشتركين في الندوة أن يدحض تلك األدلة و بائت كل محاوالت المحاور‬

‫اليهودي للوي الحقائق التاريخية بالفشل‪ .‬ولكنني فوجئت بقيام أحد األخوة العرب المسلمين‬


‫‪4‬‬

‫من بين الحضور و بأسلوب خطابي أخذ يفند قولي ويتهمني بالخروج عن الدين‬

‫االسالمي‪،‬وبأن قولي عن عدم وجود دولة إسرائيل في فلسطين ومن أن مملكة داود و مملكة‬

‫سليمان العظيمتين هما من نسج أفكار كتبة التوراة‪ ،‬قول يدحضه كتابنا المقدس القرآن‬

‫وتعاليم الدين الحنيف وأخذ يمطرني أمام الحاضرين تارة بالعربية وتارة بالسلوفاكية بسيل من‬

‫اآليات القرآنية واألحاديث الشريفة وبأقوال السلف والخلف الصالحين ليثبت زيف كل ما‬

‫طرحت‪ ،‬كما راح يسرد تاريخ الشعب االسرائيلي منذ خروجه من مصر على يد النبي موسى‬

‫ومن ثم تيهه في صحراء سيناء حتى دخوله فلسطين واقامته مملكة األنبياء داود وسليمان‪،‬‬ ‫كما لم يترك وصفا عن العظمة والحكمة و السمو إال ذكرها في وصف سليمان و مملكته ‪.‬‬

‫ولم تنفع كل محاوالتي التلميحية والصريحة في إسكات الخطيب المنفعل وايقاف سيل‬

‫االتهامات المنصب على رأسي كما لم ينفع رجائي له بتأجيل الحوار في هذا الموضوع الشائك‬ ‫إلى وقت آخر ومكان آخر‪ ،‬وأننا هنا نبحث في قضية وطنية مصيرية وال نشكك بتعاليم ديننا‬

‫ال من قريب وال من بعيد ‪.‬‬

‫كان الحديث يدور بيننا وكنت أرقب عن كثب ابتسامة االنتصار التي أخذت ترتسم على وجه‬

‫المحاور اليهودي كما الحظت أن بقية المحاورين والحضور الذين كانوا قد وقفوا في صفي‬

‫أخذوا باالنتقال تدريجيا إلى الجهة األخرى وانتهت الندوة وخرج اليهودي وعالمات النصر على‬ ‫وجهه وعالمات الخيبة على وجهي‪ ،‬وذلك على يد أحد أفراد شعبي و ملتي ‪.‬‬

‫ولقد تكرر األمر بعد عدة أشهر حين صدر لي كتاب باللغة التشيكية عن قضية الصراع العربي‬ ‫اإلسرائيلي ‪.‬فبعد الحادي عشر من سبتمبر المشهور وتصعيد االعتداءات االسرائيلية على‬

‫شعبنا في فلسطين‪ ،‬والهجوم االعالمي األمريكي المنظم على شعبنا وقلب الحقائق واعتبار‬

‫نضال شعبنا الفلسطيني إرهابا‪ ،‬واعطاء العدو الصهيوني شرعية قتل شعبنا باسم مقاومة‬

‫االرهاب ‪ ،‬أخذ اإلعالم التشيكي والسلوفاكي ينحى منحى زميله األمريكي ‪ ،‬ويصعد الهجوم على‬

‫العرب وخاصة على ما وصفوه " اإلرهابيين الفلسطينيين" وذلك إرضاء ألمريكا واسرائيل‪ .‬ولقد‬ ‫كانت حجة المسؤولين والصحفيين تقول‪ " :‬نريد أن ندخل السوق األوروبية المشتركة‪،‬‬

‫والطريق اليه يأتي من خالل بوابة حلف الناتو‪ ،‬ودخول حلف الناتو يتطلب الحصول على‬

‫الضوء األخضر من الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬وارضاء إسرائيل هو إرضاء ألمريكا" ‪.‬‬ ‫حسب هذه المعادلة انضم االعالم في كل من التشيك والسوفاك إلى جوقة المطبلين‬

‫والمدافعين عن إسرائيل والمعادين للمصالح العربية‪ .‬وباتوا يصفون مقاومة شعبنا باإلرهاب‬

‫وقتل اإلسرائيليين ألبناء شعبنا‪ ،‬دفاعا عن النفس ضد اإلرهاب‪.‬‬


‫‪5‬‬

‫رأيت من واجبي من موقعي المتواضع ‪ ،‬أن أكتب كتابا عن القضية الفلسطينية‪ .‬ويتكون‬

‫الكتاب من ثالث فصول أساسية‪ ،‬األول يتكلم عن أكذوبة الحق التاريخي لليهود في فلسطين‪،‬‬ ‫والثاني عن الديانة اليهودية األرثودوكسية التي يعتمد عليها ويستمد منها كل من الفكر‬

‫الصهيوني والسياسة االسرائيلية العنصرية‪ ،‬والثالث عن القضية الفلسطينية ‪ ،‬منذ وعد بلفور‬

‫مرو ار بعام ‪ 1948‬واقامة دولة إسرائيل‪ ،‬إلى االنتفاضة األخيرة‪ ،‬انتفاضة القدس والمذابح التي‬ ‫يرتكبها الكيان االسرائيلي ضد شعبنا األعزل‪ .‬لقد اطلع على الكتاب قبل نشره مجموعة من‬

‫الكتاب والصحفيين والسياسيين واألكاديميين التشيك والسلوفاك ورحبوا به وأثنوا على‬

‫المعلومات الموثقة فيه‪ .‬ولقد واجهت الصعاب في نشره وامتنع كثير من دور النشر عن نشره‪،‬‬ ‫تحت ضغوط جهات مختلفة‪،‬بعضها من مؤيدي إسرائيل والبعض اآلخر من منطلق عدم‬

‫إغضاب إسرائيل ألن إغضابها إغضاب ألمريكا‪ ،‬هذا رغم تقديرهم وحسن تقيمهم لمحتويات‬

‫الكتاب‪ .‬على كل حال و بعد جهد مضني‪ ،‬وجدت من كان لديه الجرأة واالستعداد للمغامرة‪،‬‬

‫فطبع الكتاب ونشر في نهاية شهر مارس للعام الحالي ‪ ، 2002‬وبيعت نسخه األلفين خالل‬

‫شهر ونيف ‪ ،‬وستقوم دار النشر بطبع نسخة ثانية منه ‪.‬‬

‫المحزن أن النقد الالذع وجه إلى الكتاب والى شخصي من قبل أبناء شعبي وديني‪ ،‬أما اليهود‬

‫وأصدقاءهم فقد حاولوا منع نشر الكتاب بالضغط على المكاتب ومحالت بيع الكتب لعدم وضعه‬ ‫في محالتها‪.‬كانت انتقادات األخوة تصب في نفس القالب الذي تحدث عنه األخ السابق‬ ‫الذكر‪ ،‬والتي تقول أنني بكتابتي أن ممالك وملوك بني إسرائيل هي من صنع خيال كتبة‬

‫التوراة‪ ،‬أتنكر لإلسالم وتعاليمه ‪ ،‬مع أنني لم أذكر في كتابي المذكور أي شيء يتعلق‬

‫باإلسالم والمسلمين‪.‬‬

‫لقد ترعرعنا منذ صغرنا على كم هائل من األساطير اإلسرائيلية التي تمجد شعب اهلل المختار‬ ‫وتصف بني إسرائيل كخير أهل زمانهم وتمجد بعظمة ملوكهم وانتصاراتهم على أجدادنا‬

‫الفلسطينيين والكنعانيين‪ .‬يهود اليوم يبنون بناءا على هذه األساطير حقا تاريخيا في وطننا‪،‬‬

‫ونحن نلوك مقولتهم‪ ،‬و نعطيها قدسية هم في أمس الحاجة إليها‪ .‬أال يعتبر ذلك داء انفصام‬

‫الشخصية‪ ،‬شخصية الوطني الذي يرفض ادعاء يهود اليوم بالحق التاريخي وشخصية الديني‬

‫الذي يشرب منذ صغره من ينابيع التراث سيال من األساطير اإلسرائيلية ‪.‬‬

‫ألسنا نحن بذلك في ورطة حقيقية وصراع مع الذات ‪ ،‬وكيف نوفق ما بين االثنين؟‬


‫‪6‬‬

‫الفصل األول‬

‫‪ - 1‬ما هي التوراة؟‬

‫بني إسرائيل في التوراة‬

‫تدعي الصهيونية بالحق المقدس لجميع يهود العالم ‪ ،‬باعتبارهم األحفاد األنقياء لقبيلة‬

‫بني إسرائيل المنحدرة من يعقوب بن إسحق بن إبراهيم ‪،‬بالعودة إلى" أرض األجداد"‪ ،‬فلسطين‬

‫وتملكها واقامة الدولة اليهودية الخالصة والنقية في أرض الميعاد‪ ،‬األرض التي وعدهم بها‬

‫اإلله التوراتي ‪.‬‬

‫يعتمد الصهاينة في ادعاءاتهم بشكل خاص على التوراة الكتاب المقدس لليهود والذي أصبح‬

‫فيما بعد كتابا مقدسا للمسيحيين‪،‬باعتباره‪،‬حسب معتقدهم أنه إلى جانب كونه كتابا مقدسا كل‬

‫ما بين صفحاته كالم اهلل وهو بذلك حقائق مقدسة ال يجوز الشك في صحتها‪ ،‬فأنه إلى‬

‫جانب ذلك كتاب تاريخ لمنطقة الشرق األدنى و خاصة تاريخ اإلسرائيليين فيها‪.‬‬

‫رغم أن التوراة قد أصبحت في متناول الكثيرين‪ ،‬ولقد كتب عنها عدة مؤلفات أجنبية وعربية‬

‫تناولتها من جوانب مختلفة‪ ،‬فال بد لنا هنا أن نتحدث عن محتوياتها باختصار ونركز على‬

‫المواضيع التي تهم بحثنا والتي تتعلق بالتناقض بين الوطني والديني‪.‬‬

‫التوراة تعني كتاب العهد القديم و هو مجموعة أسفار أو كتب يصل عددها إلى تسع‬

‫وثالثين سفرا( الكتاب المقدس‪ ،‬دار الكتاب المقدس في العالم العربي‪ ، ) 1983 ،‬ويطلق في‬

‫الوقت الحاضر مجا از عليها التوراة‪ ،‬مع أن التوراة تعني باألساس القسم األول من العهد‬ ‫القديم والذي يحتوي على كتب موسى الخمسة األولى أو البنتاتيك ‪ .‬و هي ‪:‬‬

‫‪ -1‬سفر التكوين‪ :‬ويحكي قصة خلق السماوات واألرض وما عليها‪ ،‬من آدم ونسله‪،‬‬

‫وتتابع إلى أن ينتهي الحديث بيعقوب المدعو إسرائيل وأبناءه اإلثنى عشر والذين‬

‫يكونون ما يعرف بأسباط بني إسرائيل أو فروع بني إسرائيل اإلثنى عشر‪ .‬ينهي هذا‬

‫الكتاب حديثه برحيل أبناء يعقوب إلى مصر واقامتهم فيها في كنف أخيهم يوسف‬ ‫الذي بلغ في مصر مرك از مرموقا‪ .‬ثم يصمت هذا السفر عن الكالم وتصمت معه‬

‫التوراة عن الحديث عن فترة جاوزت أربع مائة سنة‪.‬‬

‫‪ -2‬سفر الخروج ‪ :‬يركز على األيام األخيرة إلقامة بني إسرائيل في مصر وخروجهم منها‬ ‫بقيادة موسى إلى سيناء ‪ ،‬بعد أن سدد بقوة اإلله يهوه ضربات مدمرة لمصر وشعب‬


‫‪7‬‬

‫مصر‪ ،‬ويركز على تجديد الوعد اإللهي لبني إسرائيل واتفاقه معهم في سيناء وبموجب‬

‫هذا االتفاق يؤكد على منحه األراضي المقدسة خالصة لهم ‪.‬‬

‫‪ -3‬التثنية ‪ :‬يحدثنا هذا السفر عن أحكام الشريعة اليهودية‪ ،‬التي من المفروض أنها‬ ‫نزلت على موسى‪ ،‬وتعني بأمور الحرب والسلم والمعامالت والعقوبات‪.‬‬

‫‪ -4‬الالويون ‪ :‬نسبة إلى سبط ليفي‪ ،‬وهم سبط موسى ومنهم اختار اهلل‪،‬حسب قول‬ ‫التوراة‪ ،‬أنبياء بني إسرائيل‪.‬‬

‫‪ -5‬العدد ‪ :‬ويحكي عن أعداد مختلفة‪ ،‬تتعلق بقبيلة بني إسرائيل‪ ،‬مثل عدد الجنود‬ ‫واألموال وغيره‪.‬‬

‫القسم الثاني ‪ :‬ويتحدث عن تاريخ بني إسرائيل التوراتي منذ دخولهم إلى فلسطين‪ ،‬ويحتوي‬

‫على اثنى عشر كتابا‪ .‬وهي‪:‬‬

‫سفر يشوع‪ :‬الذي قاد بني إسرائيل التوراتيين ‪،‬بعد موت موسى وعمل ذبحا بكل ما هو حي في‬

‫فلسطين‪ .‬و سفر القضاة‪ :‬ويتحدث عن القضاة‪،‬الذين تولوا شؤون بني إسرائيل إلى أن صار‬

‫لهم ملكا‪ .‬و سفر راعوث‪ :‬جدة الملك داود‪ .‬و سفرين‪ ،‬صموائيل األول والثاني‪ :‬كتابان يتحدثان‬

‫عن آخر قضاة بني إسرائيل‪ .‬و سفر أعمال الملوك ‪ :‬ويحكي عن تاريخ ملوك بني إسرائيل‪.‬‬

‫وسفر أخبار األيام األول و الثاني‪ :‬كتابان يتحدثان عن نسب بني إسرائيل من آدم إلى يعقوب‬

‫‪ ،‬وهو تكرار لما ورد في سفر التكوين‪ .‬وسفر عز ار وهو نبي من أنبياء بني إسرائيل وينسب‬

‫إليه رئاسة المنفيين الذين عادوا من األسر البابلي المزعوم ‪ ،‬ومحاولة تجديد ديانة يهوه‪.‬‬

‫وسفر نحميا ‪ :‬وهو من رجال بني إسرائيل و رفيق عزرا‪ .‬وسفر إستير ‪ :‬ويحكي عن قصة‬

‫إسرائيلية جميلة اسمها إستير ‪ ،‬تزوجت ملك الفرس ‪ ،‬ومن موقعها هذا قضت على هامان‬

‫الذي عادى اإلسرائيليين وكرههم ‪ ،‬وذبحت بمساعدة أبناء جلدتها جماعة هامان وقضت عليهم‬ ‫‪ ،‬ويحتفل يهود اليوم بذكرى هذه المذبحة في مارس من كل سنة‪.‬‬

‫القسم الثالث ‪ :‬ويعرف بكتب األناشيد ويتكون من خمسة أسفار هي ‪ :‬أيوب والمزامير وسفر‬

‫أمثال سليمان وسفر الجامعة ونشيد اإلنشاد‪ .‬واألسفار األربعة األخيرة تنسب إلى سليمان‪.‬‬

‫القسم الرابع ‪ :‬ويحتوي عل سبعة وعشرين سف ار تتحدث عن أنبياء بني إسرائيل بعد موسى‪،‬‬ ‫وهي‪ :‬إشعيا‪ ،‬إرميا ‪ ،‬مراثي إرميا ‪ ،‬حزقيال ‪ ،‬دانيال‪ ،‬هوشع ‪ ،‬يوئيل ‪ ،‬عاموس ‪ ،‬عوبيديا‪،‬‬ ‫يونس‪،‬ميخا ‪ ،‬ناحوم ‪ ،‬حبقوق ‪ ،‬صفتيا‪ ،‬حجي ‪ ،‬زكريا‪ ،‬مالخي‪.‬‬

‫لم يحظ كتاب من البحث والتنقيب والتدقيق كما حظيت التوراة ‪ ،‬الكتاب المقدس لليهود‬

‫والنصارى ‪ .‬و لقد انقسم باحثوا التوراة إلى عدة مجموعات يمكن أن نقسمها بشكل مبسط‬

‫إلى ثالث مجموعات‪:‬‬


‫‪8‬‬

‫األولى‪ :‬تعتبر التوراة كتابا مقدسا كل ما بين صفحاته حقائق إلهية مقدسة‪ ،‬وعملت حسب‬

‫ذلك كل ما في وسعها على تأويل حقائق التاريخ تأويال يالئم ما ورد في التوراة أي سعت‬ ‫إلٌسقاط الوقائع التاريخية على النص التوراتي ‪.‬‬

‫المجموعة الثانية‪ :‬رفضت اعتبار التوراة مصد ار لتاريخ المنطقة واعتبرته كتاب أدب اقتبس‬

‫جامعوه وناقلوه أساطير و حكايات قديمة من أساطير وحكايات األمم األخرى واستخدموها‬

‫لخدمة معتقداتهم الدينية‪،‬وبذلك ال يمكن بأي حال اعتبار التوراة مرجعا تاريخيا وانما منتجا‬

‫أدبيا ذو هدف الهوتي‪.‬‬

‫المجموعة الثالثة‪ :‬سلكت طريقا توفيقيا واعتبرت التوراة إلى جانب كونها كتاب دين‪،‬فأنها‬

‫رغم أنها مغلفة بكثير من األساطير والقصص الخيالية فإنها كذلك تحتوي على كثير من‬

‫الحقائق التاريخية‪ ،‬وأخذ هذا الفريق على عاتقه محاولة البحث عن حقائق تاريخية من بين‬ ‫الكم الهائل من كل تلك األساطير و الحكايات‪ .‬وانتهى هذا الفريق في النهاية مثله مثل‬

‫الفريق األول إلى محاولة قسرية لتأويل المكتشفات الحفرية في فلسطين والمناطق المجاورة‬ ‫لتالئم النص التوراتي‪.‬‬

‫ومن النتائج التي خرجت بها مدارس نقد التوراة أن نسبة الكتب الخمسة األولى لموسى و أنه‬

‫صاحبها أو كاتبها بوحي من اهلل‪،‬قد أصبحت نسبة باطلة تماما وال ظل لها من حقيقة‪(،‬‬

‫كريفيلوف ‪ :‬التوراة في عيون العلم ‪،‬ص‪ ، 41:‬ترجمه من الروسية إلى السلوفاكية يوراي‬ ‫زيمان ‪ ،‬طبع ونشر برافدا‪ -‬براتسالفا عام ‪.) 1986‬‬

‫ولقد أبدت الكنيسة الكاثوليكية تفهما لذلك و سجلت اعترافها بذلك في مقدمة الطبعة‬

‫الكاثوليكية للكتاب المقدس الصادرة في عام ‪ 1960‬حيث تقول ‪:‬‬

‫"ما من عالم كاثوليكي في عصرنا يعتقد أن موسى ذاته قد كتب كل التوراة منذ قصة‬

‫الخليقة‪ ،‬أو اشرف على وضع النص ‪ ،‬ألن النص قد كتبه عديدون بعده ‪ ،‬لكن يجب القول أن‬ ‫ازديادا تدريجيا قد حدث ‪ ،‬و سببته مناسبات العصور التالية االجتماعية و الدينية" ( عن‬

‫الكتاب المقدس‪ ،‬باللغة التشيكية‪ ،‬مجهول الناشر)‬

‫و يرجح علماء نقد التوراة أن العهد القديم والذي يتألف من مجموعة أسفار ويحوي على‬

‫سبعة وعشرين كتابا قد تم تأليف معظمها إبان النصف األخير من القرن التاسع قبل الميالد‬

‫بينما يعود بعضها إلى أوائل القرن التاسع قبل الميالد ‪ ،‬و يمكن نسبة بقيتها إلى القرن‬

‫الرابع قبل الميالد ‪ ،‬وحتى القرن الثاني قبل الميالد ‪ .‬و هكذا تشكل العهد القديم على مدى‬

‫مئات السنين ولقد تعرض خاللها للتحرير واعادة التحرير واإلضافات والتغيرات والتحويرات‬

‫عدة مرات من محررين أغلبهم مجهول ‪ (.‬كريلوف نفس المصدر ) ‪ .‬ويعتقد بعض المؤرخين‬


‫‪9‬‬

‫أن العهد القديم كتب في العهد الفارسي وليس قبل ذلك وأن لغة التوراة لغة حديثة ولم تكن‬ ‫من اللغات المتداولة في فلسطين قبل هذا العهد ‪ (.‬توماس ل‪ .‬تومسون ‪ :‬التاريخ القديم‬

‫للشعب اإلسرائيلي ‪ ،‬ترجمة صالح علي سوداح ‪ ،‬إصدار بيسان للنشر – بيروت عام ‪1995‬‬

‫ص‪) 288:‬‬

‫و معظم ترجمات العهد القديم تمت عن النص العبري المعروف بالنص المازوري المدون‬

‫في القرن العاشر الميالدي عن مجموعة نسخ مجهولة اآلن ومجهول تاريخها ‪ ،‬ويعتقد أنها‬

‫قد فقدت تماما‪ .‬واقدم نسخة مازورية تعود إلى عام ‪ 895‬ميالدية وقد تم الكشف عنها في‬

‫كنيسة المعبد اليهودي في القاهرة ‪ .‬و هناك نص آخر يسمى السبعيني أو اإلسكندري‬

‫‪،‬المدون باللغة اليونانية القديمة ‪ ،‬و قد تمت كتابته عام ‪ 283‬قبل الميالد و يقال أنه كتب‬

‫على يد اثنين و سبعين فقيها يهوديا من أجل يهود الشتات الذين لم يتقنوا العبرية‪ .‬و تزيد‬ ‫النسخة السبعينية عن المازورية بأربعة عشر كتابا‪ .‬ولقد تخال اليهود عنه ومن بعدهم‬

‫تخلت الكنيسة الكاثوليكية عن النص السبعيني بعد القرن العاشر الميالدي ‪ ،‬حيث أصبح‬ ‫النص المازوري هو النص المعتمد للعهد القديم ‪ ( .‬الكتاب المقدس ‪ ،‬طبعة ترنافا –‬

‫الجمهورية السلوفاكية عام ‪ 1998‬ص ‪)21 :‬‬


‫‪10‬‬

‫‪ -2‬إبراهيم وساللته‪ ،‬والوعد اإللهي المزعوم‬ ‫تعد شخصية إبراهيم من أهم الشخصيات التي تتحدث عنها التوراة‪ .‬فمن صلبه كما تحدثنا‬ ‫التوراة ‪ ،‬نشأت مجموعة من القبائل التي تكونت منها شعوبا وأمما سكنت منطقة الشرق‬

‫األوسط ‪ ،‬من ضمنهم الشعب العب ارني أو اإلسرائيلي ‪ .‬و يعتبره اإلسرائيليون األب األول‬

‫لقبيلتهم و هو أب لسلسلة طويلة من الشخصيات التوراتية‪ ،‬اسحق و يعقوب و يوسف و‬ ‫موسى و داود و سليمان و جميعهم ‪ ،‬كما تقول التوراة‪،‬من بني إسرائيل ‪.‬‬

‫يعتقد التوراتيون أن إبراهيم يعود بموطنه إلى مدينة ( أور الكلدانية ) التي تقع حسب رأيهم‬

‫على شاطئ نهر الفرات ‪ ،‬وأنه قد هاجر من موطنه في العراق القديم ‪ ،‬على رأس قبيلته قاصدا‬

‫أرض كنعان المفترض أنها أرض فلسطين الحالية ‪ .‬تقول التوراة‪:‬‬

‫" وأخذ تارح إبرام ابنه ‪ ،‬ولوط ا ابن هاران ابن ابنه ‪ ،‬وساراي كنته ‪ ،‬امرأة إبرام ابنه ‪،‬‬

‫فخرجوا معا من أور الكلدانية ( حسب الكتاب المقدس‪ ،‬باللغة السلوفاكية طبعة ترنافا) ليذهبوا‬

‫إلى أرض كنعان‪ ،‬فأتوا إلى حاران وأقاموا هناك ومات تارح هناك ‪ ".‬تكوين ‪33 – 31 : 11‬‬ ‫‪ .‬وأنه في أرض كنعان التقى بربه المدعو في التوراة باسم ( أيل ) وأن هذا الرب أقطع‬

‫إبراهيم ونسله من بعده أرض كنعان خالصة لهم ‪ "،‬وقال الرب إلبرام ‪ :‬ارفع عينيك وانظر إلى‬

‫الموضع الذي أنت فيه ‪ ،‬شماال وجنوبا وشرقا وغربا ‪ ،‬ألن جميع األرض التي أنت ترى ‪ ،‬لك‬

‫أعطيها ولنسلك إلى األبد ‪ (".‬سفر التكوين ‪ . )14،15 :13‬و في نص آخر تقول ‪" :‬وأعطي‬

‫لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكا أبديا وأكون إلههم ‪( ".‬سفر‬

‫التكوين ‪ .) 8:16‬ويعتمد يهود اليوم في ادعاءهم بالحق التاريخي في فلسطين على هذا‬

‫النص التوراتي وهو ما يسمونه العهد اإللهي القديم ‪،‬عهد اهلل إلبراهيم ونسله بإعطائهم أرض‬

‫كنعان وهي فلسطين اليوم ‪.‬‬

‫ومن الواضح من نصوص التوراة أن فلسطين التي جاء إليها إبراهيم و عائلته هي أرض‬

‫كنعانية وأنه جاء غريبا عنها حيث تصفها التوراة إلبراهيم (بأرض غربتك ) ‪.‬‬

‫يحدثنا التوراتيون حسب قراءتهم للتوراة أن الركب اإلبراهيمي المهاجر بعد أن خرج من أور‬

‫الواقعة حسب رأيهم ‪ ،‬على الشاطئ الجنوبي لنهر الفرات قاصدا أرض كنعان الفلسطينية‪،‬والتي‬ ‫تقع إلى الغرب من أور‪ ،‬تحول من دون سبب واضح شماال متجها إلى حران والتي جرى‬

‫تحديدها في أقصى الشمال ‪ ،‬داخل الحدود األرمينية التركية‪ .‬ولقد استغرقت رحلة إبراهيم هذه‬

‫من وقت خروجه من أور إلى أن وصل أرض كنعان خمسة عشر عاما‪ ,‬مع أن الرحلة من‬


‫‪11‬‬

‫أور ‪ -‬التي حددها التوراتيون في أرض العراق القديم ‪-‬‬

‫إلى ارض كنعان ما كانت‬

‫لتستغرق أكثر من أسبوع واحد على ظهور الحيوانات ‪،‬و بناءا على ذلك تم تحديد ما بين‬

‫النهرين‪ -‬أرض العراق القديم – كموطن أصلي للقبيلة اإلبراهيمية‪.‬‬

‫الباحث المصري الدكتور سيد القمني يعارض هذا الرأي ويشرح في كتابه النبي إبراهيم‬

‫والتاريخ المجهول) سينا للنشر ‪ ،‬القاهرة ‪ )1990‬وبناءا على قراءة تحليلية للنص التوراتي‬

‫‪ ،‬بأن الموطن األصلي للعائلة اإلبراهيمية حسب نصوص التوراة‪ ،‬هو المنطقة التركية االرمينية‬

‫القديمة خارج الحدود الشمالية للعراق القديم ‪،‬وأن تحديد أور الكلدانية كموطن إلبراهيم جاء‬

‫من شارحي التوراة‪.‬‬

‫التوراة تروي أن إبراهيم في طريقه إلى كنعان توجه نحو حاران والتي تقع إلى أقصى الشمال‬ ‫وبعيدة بعدا شاسعا عن موقع أور المزعوم ؟ ورغم أن التوراة قد ذكرت ( أور ) كمنطلق‬

‫لهجرة إبراهيم ‪ ،‬إال أنها لم تعد تذكرها وأخذت تؤكد األصل الحاراني‪ ،‬فتقول ‪ " :‬فأتوا حاران‬

‫وأقاموا هناك … ومات تارح في حاران ‪ ،‬وقال الرب إلبرام ‪ ،‬أذهب من أرضك وعشيرتك ومن‬ ‫بيت أبيك ‪ ،‬إلى األرض التي أريك …‪..‬فأخذ إبرام ساراي امرأته ‪ ،‬ولوطا ابن أخيه وكل‬

‫مقتنياتهما التي اقتنيا ‪ ،‬والنفوس التي امتلكا في حاران ‪ ،‬وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان ‪" .‬‬ ‫وفي موضع آخر تحدثنا التوراة‪ ،‬أن إبراهيم بعد استقراره في ارض كنعان طلب من رئيس‬

‫عبيده أن يأتيه بزوجة لولده إسحق‪ ،‬من بين أهل وطنه وعشيرته‪ ،‬فما كان من العبد إال أن‬

‫ذهب إلى مدينة ( أرام النهرين ) مدينة ( ناحور ) جد إبرام ليحضر زوجة البن إبرام اسحق‬

‫‪ " ،‬وشاخ إبرام وتقدم في األيام …‪ ..‬وقال إبرام لعبده كبير بيته ‪ … :‬ضع يدك تحت فخذي‬

‫‪ ،‬فاستحلفك بالرب إله السماء واله األرض ‪ ،‬أال تأخذ زوجة البني من بنات الكنعانين‪ ،‬الذين‬

‫أنا ساكن بينهم ‪ ،‬بل إلى أرضي و عشيرتي تذهب‪ ،‬وتأخذ زوجة البني إسحق‪ ".‬تكوين ‪: 24‬‬

‫‪ " 4-1‬وذهب العبد إلى أرام النهرين‪ ،‬إلى مدينة ناحور‪ ".‬تكوين ‪10 : 24‬‬

‫ولقد سار إسحق على طريقة أبيه فأمر ابنه يعقوب أن ال يتزوج من بنات كنعان وأن يأتي‬

‫لنفسه بزوجة من بالد األجداد ‪ .‬فتقول ‪ ":‬أن إسحق دعا يعقوب ابنه وباركه وأوصاه‪ ،‬وقال له‬ ‫‪ :‬ال تأخذ زوجة من بنات الكنعانيين‪ ،‬قم واذهب إلى ( فدان أرام ) ‪ ..‬وخذ لنفسك زوجة من‬

‫هناك …‪ .‬فخرج يعقوب وذهب إلى حران ‪ ".‬تكوين ‪ 10 ، 7، 1،2 : 27‬ولم تذكر التوراة‬ ‫مدينة أور و ال أي منطقة على الشاطئ الجنوبي لنهر الفرات أو في العراق القديم‬

‫كموطن لألجداد ‪ ،‬وانما ذكرت (حاران) و (فدان أرام ) و (أرام النهرين ) وكلها مناطق تقع‬ ‫شمال العراق وخارج حدود العراق القديم وداخل المنطقة التركية األرمينية القديمة ‪.‬‬


‫‪12‬‬

‫وهكذا نجد أن التوراة تقول أن إب ارهيم وعشيرته قد جاءوا من موطنهم أور التي حددها‬

‫التوراتيون بأور الكلدانية في بالد العراق القديم‪ ،‬وتعود في نصوص أخرى لتشير بشكل أو‬

‫بآخر‪ ،‬إلى أن موطن إبرام و عشيرته‪ ،‬ليس العراق القديم ‪ ،‬و إنما المنطقة الواقعة في أرمينيا‬

‫التركية‪ .‬فهل هو خطأ من شارحي التوراة باعتقادهم أن أور التوراتية تعني المدينة المعروفة‬ ‫بهذا االسم في العراق القديم ‪ ،‬أم أن ذلك يعود لتخبط جامعي التوراة أ نفسهم والذين نقلوا‬

‫النصوص التوراتية عن نصوص ذات مصادر مختلفة‪ ،‬كتبها في األصل وأعاد كتابتها عدد ال‬

‫يحصى من الكتبة ‪.‬‬

‫في الحقيقة رغم الرأي السائد لباحثي التوراة بأن وادي الرافدين هو الموطن األصلي للعائلة‬ ‫اإلبراهيمية فلقد ورد في نسخة قديمة للتوراة السامرية بأن موطن العائلة اإلبراهيمية هو‬

‫بياض خراسان حيث تقول " ومات هرن بحضرة ترح ابنه بأرض مولده في بياض خراسان" (‬

‫الترجمة الكاملة للتوراة السامرية‪ ،‬ترجمها الكاهن أبو الحسن اسحق الصوري القاطن في‬

‫عكا‪ .‬النسخة بخط الناسخ أبو البركات و مصدقة من قبل الكاهن عبد المعين صدقة السامري‬

‫في نابلس بتاريخ ‪ ، 1978/2/1‬ص‪. ) 14:‬‬

‫وتكرر التوراة القول في سفر التكوين أن إبراهيم جد يعقوب ومن ثم يعقوب و عائلته قد‬

‫رحلوا " إلى أرض غربتهم" إلى " أرض كنعان" و " أرض الفلسطينيين " التي كان يسكنها "‬

‫الكنعانيون" و " الفلسطينيون "‪ .‬ورغم أنها تذكر أن الرب قد أهدى هذه األرض إلبراهيم‬

‫وألحفاده‪ ،‬إال أنها تعيد وتكرر القول بأنه جاء غريبا وبقي غريبا وسيبقى نسله غريبا في أرض‬

‫غريبة ليست له‪،‬يقطنها الكنعانيون وشعوب أخرى ‪ .‬فنجد إبراهيم يخاطب الفلسطينيين‪ " ،‬أنا‬ ‫غريب ونزيل عندكم" ‪ ،‬كما نجد الرب يؤكد له بأنه سيبقى هو ونسله غرباء في هذه األرض‬

‫التي ليست لهم ‪ "،‬إعلم يقينا أن نسلك سيكون غريبا في ارض ليست لهم " هكذا يخاطب‬ ‫الرب إبراهيم في اإلصحاح تكوين‪14/15‬‬

‫تحدثنا التوراة كيف رحل إبراهيم وزوجته سارة إلى مصر وكيف أنه طلب منها أن تنكر أنها‬

‫زوجته‪ "،‬ليكون له خي ار بسببها " وفعال حملت إلى بيت فرعون‪ " ،‬فصنع إلى إبراهيم خير‬

‫بسببها‪،‬وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد واماء" ‪ ،‬وال تحدثنا التوراة كيف استطاع إبراهيم‬

‫مقابلة فرعون واالتصال به‪ .‬الم فرعون إبراهيم على فعلته عندما اكتشف األمر فوبخه قائال‬

‫‪ ":‬لماذا قلت هي أختي حتى أخذتها لتكون لي زوجتي‪ ،‬واآلن هو ذا امرأتك ‪ ،‬خذها واذهب "‬

‫تكوين ‪ . 19/12‬و لقد غادر إبراهيم بعدها مصر وقد أصبح بسبب فعلته الشنعاء غنيا ذو مال‬ ‫ومتاع وماشية‪ .‬ولقد كرر إبراهيم فعلته في فلسطين مع الملك الفلسطيني إيمالك في مدينة‬ ‫جرار حيث أنكر أن سارة زوجته و ادعى أنها أخته‪ .‬ولقد المه إيمالك أشد اللوم على فعلته‬


‫‪13‬‬

‫الشائنة قائال‪ " :‬ماذا فعلت بنا وبماذا أخطأنا إليك حتى جلبت علي وعلى مملكتي خطية‬

‫عظيمة‪ .‬أعماال ال تعمل عملت بي ‪ ".‬تكوين ‪11- 1 /20‬‬

‫وال تنسى التوراة أن تخبرنا أن اسحق سار في خطى أبيه إبراهيم وكذب إلى إيمالك ملك‬

‫الفلسطينيين و أنكر زوجته وقدمها للملك مدعيا أنها أخته ولقد وبخه الملك إيمالك عندما‬

‫اكتشف األمر قائال ‪ " :‬ما هذا الذي صنعت بنا‪ ،‬لوال قليل لضجع أحد الشعب مع امرأتك‬ ‫فجلبت علينا ذنبا" تكوين ‪7/26‬‬

‫قراءة النصوص التوراتية تكشف لنا عن حقيقة‪ ،‬إن رموز بني إسرائيل والشخصيات‬

‫الرئيسية في الرواية التوراتية تسلك مخالفة لكل األصول األخالقية حتى تلك المتبعة في ذلك‬

‫الزمان‪ ،‬واننا إذا تتبعنا سير حياة رموز بني إسرائيل في التوراة‪ ،‬لنجد تصرفها مخالف للسلوك‬ ‫األخالقي المعترف به‪ .‬فإلى جانب ما مر معنا عن إبراهيم و إسحق اللذان قودا على‬

‫زوجتيهما‪ ،‬فأن التوراة تخبرنا كذلك أن لوط ابن أخ إبراهيم قد زنى بابنتيه بعد أن أسكرتاه‬ ‫وحملتا منه ( تكوين‪ ) 38-36 /19 :‬وأن يعقوب قد استولى بالغش والخداع على أولوية‬

‫اإلرث من أخيه ( تكوين ‪ )27 :‬وأبناء يعقوب تآمروا لقتل أخيهم يوسف فرموه في البئر‪ ،‬ثم‬ ‫باعوه لتجار مارين‪( .‬تكوين‪ ) 37:‬ويهوذا زنا في زوجة ابنه (تكوين ‪،) 38:‬و موسى بدأ‬

‫حياته بجريمة قتل تعصبا لبني جنسه‪،‬وداود استغل حكمه بالقضاء على نسل سلفه شاؤل‪،‬‬

‫فعمد إلى تسليم أوالد شاؤل وأوالد ابنته إلى خصومهم فقتلوهم ( صموئيل‪،) 10-1/ 21: 2‬‬

‫ورغم الزوجات و الجواري الذين حفل بهن قصره لم يتورع عن اغتصاب امرأة حثية كانت‬

‫زوجة واحد من قادته ومن رجاله المخلصين‪ ،‬ثم دبر لزوجها مكيدة في الحرب أودت بحياته ‪.‬‬

‫ولقد أنجبت منه المرأة الحثية ابنه سليمان‪ ،‬ولقد سامحه الرب طبعا ‪ .‬وابن داود المدعو أمون‬

‫زنا بأخته غير الشقيقة تامار‪،‬فقام أخوها الشقيق باالنتقام فقتل أخيه أمون وقطعه إربا (‬

‫صموئيل‪ ) 13: 2‬وسليمان تآمر على أخيه أدونيا وقتله من أجل االستيالء على الملك (‬ ‫ملوك ‪ ) 24-1: 1‬وغير ذلك كثير ال مجال لذكره هنا ‪.‬‬

‫إن قارئ التوراة ليأخذ انطباعا بأن الكذب والغش والخداع والفاحشة أمر مقبول ومبارك عليه‬ ‫من قبل كتبة التوراة‪ ،‬بل إننا لنجد أن نتيجة الكذب والخداع كانت دائما التكريم المادي‬

‫والمعنوي من قبل كتبة التوراة و ربهم ‪ .‬ومن يستطيع قراءة ما بين السطور يستطيع أن يصل‬ ‫إلى حقيقة أن المصريين والفلسطينيين كانوا أكثر حرصا على األخالق من بني إسرائيل حيث‬

‫في جميع الحاالت كان الفرعون المصري والملك الفلسطيني يوجهان اللوم إلبراهيم ‪،‬ومن بعده‬

‫اسحق على فعلهم الشنيع بالقول‪ ":‬حيث كنت ستجلب العار علينا" ‪.‬‬


‫‪14‬‬

‫في الحقيقة أن التوراة ذاتها تبطل االدعاء الصهيوني بالنقاء العرقي واألخالقي لبني‬

‫إسرائيل‪،‬وبأنهم قد حافظوا على نقاء النسل اليعقوبي منذ آالف السنين في أصالبهم الطاهرة‬

‫إلى يومنا هذا‪ .‬فإننا حين نتابع قراءة أسفار التوراة لنجد عشرات األمثلة على الدنو األخالقي‬

‫للقبيلة اإلسرائيلية المزعومة وتسيب نساءها و رجالها واختالطهم الجنسي الغير محدود مع‬

‫شعوب المنطقة ‪.‬فنجد مثال النبي ( إرميا) في سفر إرميا ينوح على تفشي الزنا بين النساء‬

‫اإلسرائيليات ‪ " :‬هل رأيت ما فعلت العاصية إسرائيل‪ ،‬انطلقت إلى كل جبل عال والى كل شجرة‬

‫خضراء وزنت هناك ……لم تخف الخائنة يهودا أختها ‪ ،‬بل مضت وزنت هي أيضا" إرميا‪3 /‬‬

‫" و صهلوا كل واحد على امرأة صاحبه" إرميا‪ 5 /‬بل إن الرب يهوه أخذ ينادي نساء شعبه ‪،‬‬

‫" ارفع ذيلك على وجهك فيرى خزيك ‪ ،‬و فسقك و صهيلك و رذالة زناك على اآلكام ‪ ،‬في‬ ‫الحقل رأيت مكر هاتك ‪ ".‬إرميا ‪ 13‬و ها هو رب التوراة ينادي مملكة يهوذا ‪ " :‬زنيت على‬

‫اسمك و سكبت زناك على كل عابر ‪ .. ،‬و صنعت لنفسك مرتفعات موشاة و زنيت عليها …‬

‫و صنعت لنفسك صور ذكور وزنيت بها …… و فرجت رجليك لكل عابر ‪ ،‬وأكثر زناك ‪،‬‬

‫وزنيت مع جيرانك بني مصر الغالظ اللحم الذين منيهم كمني الحمير‪ ،‬وزدت في زناك‬

‫إلغاظتي…… وأسلمتك لمرام مبغضاتك بنات الفلسطينيين ‪ ،‬الالئى يخجلن من طريقك الرذيلة‬ ‫‪ .‬وزنيت مع بني آشور إذ كنت لم تشبعي فزنيت بهم ولم تشبعي ‪ .‬وكثرت زناك في أرض‬

‫كنعان إلى أرض الكلدانيين وبهذا أيضا لم تشبعي ‪ .‬ما امرض قلبك يقول الرب إذ فعلت كل‬ ‫هذا كما فعلت امرأة زانية ساقطة ‪ .‬أعطيت كل محبيك هداياك و رشيتهم ليأتوك من كل‬

‫جانب للزنا بك ‪ ،‬و صار فيك عكس عادة النساء في زناك ‪ ،‬إذ لم يزن ورائك ‪ ،‬بل أنت تعطين‬

‫أجرة ‪ ،‬وال أجرة تعطى لك ‪ ".‬حزقيال ‪16 /‬‬

‫التوراة ذاتها كما رأينا تعترف باختالط دم الشعب اإلسرائيلي المزعوم‪ ،‬بغيره من ساكني‬

‫فلسطين والشعوب والمجاورة‪ ،‬وقراءة متفحصة لنسب أشهر رجال بني إسرائيل وملوكهم نجد‬

‫أن موسى مثال أمه ميتانية وليست إسرائيلية وداود مؤسس الدولة التوراتية القديمة فانه حفيد‬ ‫لراعوث المؤابية و سليمان أشهر ملوكهم التوراتيين فإن أمه حيثية‪ ،‬و بناءا على ذلك ‪،‬فإن‬ ‫أشهر ملوكهم ليسوا نقيي العرق ألن أمهاتهم لم يكن إسرائيليات بل من شعوب أخرى‬ ‫سكنت المنطقة في ذلك الزمان‪.‬‬

‫تتابع التوراة و تحدثنا كيف أن يعقوب بن اسحق بن إبراهيم استولى من أخيه على مباركة‬

‫أبيه بأولوية اإلرث بالكذب والخداع‪ .‬تكوين‪ 27 /‬وكعادتهم بارك كتبة التوراة ذلك واعتبروه‬

‫شيئا طبيعيا ‪ "،‬لقد جاء أخوك بمكر و أخذ بركتك " هكذا قال اسحق ألبنه المخدوع عيسو‬ ‫وانتهى األمر ‪ ،‬فالمكر والخديعة قد انتصرت كعادة كتبة التوراة‪.‬‬


‫‪15‬‬

‫يعقوب يصبح اسمه إسرائيل بعد أن يتصارع مع الرب اإلله في صورة إنسان وينتصر عليه‪،‬‬

‫فيقول اإلله ليعقوب " أطلقن ألنه طلع الفجر ‪ ،‬فقال يعقوب ‪ :‬ال أطلقك حتى تباركني فقال له‬

‫ما اسمك ؟ قال‪ :‬يعقوب‪ .‬فقال ‪ :‬ال يدعى اسمك في ما بعد يعقوب بل إسرائيل ألنك جاهدت‬

‫مع اهلل واإل نسان وانتصرت ‪ " .‬قال يعقوب إني نظرت اهلل وجها لوجه و نجيت نفسي ‪ .‬تكوين‬

‫‪. 30-22/ 22 :‬‬

‫ال حاجة بنا للتعليق على هذه الرواية األسطورية ‪،‬فلقد اعتدنا من كتبة التوراة على مثل تلك‬

‫الروايات ‪ .‬ولكن من المهم أن نذكر هنا أن كلمة إسرائيل مركبة من( إسرا) ‪ ،‬ومن كلمة (أيل)‬

‫‪ ،‬و( أيل ) كان إله السماء و رئيس مجمع اآللهة في المنطقة ولقد اقتبسه اإلسرائيليون‬

‫عنهم و عبدوه إلى أن بدلوه باإلله يهوه‪ .‬و من اسم اإلله " إيل" ‪ ،‬اشتقت أسماء مثل جبرائيل‬ ‫وعزرائيل وميكائيل واسماعيل وغيرها‪ .‬ولقد نقلت التوراة كثي ار من العبادات والتراتيل والصلوات‬

‫والعادات الكنعانية والمصرية و شعوب ما بين النهرين‪ ،‬ونسبتها إلى اإلسرائيليين‪ (.‬فراس‬

‫السواح‪ :‬مغامرة العقل األولى‪ :‬دار عالء الدين‪-‬دمشق‪ 1993 ،‬ص‪ ، 150-129 :‬وديع‬ ‫بشور‪ :‬الميثولوجيا السورية‪،‬طبعة ثانية ‪ 1989‬دار الفكر بيروت ‪ ،‬ص‪) 126-117:‬‬

‫ثم تتابع التوراة حديثها عن أبناء يعقوب وغيرتهم من أخيهم يوسف وحقدهم وكراهيتهم له‬

‫ألنه كان مفضال عند أبيهم ‪ ،‬و قرارهم بالتخلص منه بقتله والقاءه في البئر‪ ،‬ولكنهم عدلوا‬

‫عن ذلك و باعوه إلى تجار مارين بعشرين من الفضة‪ ،‬مدعين ألبيهم أن وحشا قد افترسه‪.‬‬

‫ولقد حمله التجار معهم إلى مصر وباعوه هناك لرجل مصري ‪ ،‬خصي فرعون ‪ ،‬رئيس الشرط‬

‫‪ .‬تكوين ‪. 27 /‬‬

‫وفي حديث أسطوري واسع الخيال تتابع التوراة قصة الصبي األخاذ في جماله يوسف ‪،‬‬

‫وكيف أثبت مهارة فائقة‪ ،‬أوصلته إلى كرسي الوزارة ‪ ،‬ليصبح الرجل الثاني في مصر بعد‬

‫فرعون‪ ،‬بعد أن أنقذ مصر من القحط ‪ ،‬وكيف أرسل يوسف إلى أبيه وأخوته لينعموا بخير‬

‫مصر‪ .‬تكوين‪ . 41 /‬و قام يوسف بشراء أرض مصر لفرعون ‪،‬ألن الجوع اشتد عليهم‪،‬‬

‫فصارت األرض لفرعون ‪ ،‬أما الشعب فنقلهم إلى المدن من أقصى مصر إلى أقصاها ‪ .‬فقال‬ ‫يوسف للشعب ‪ :‬إني اشتريتكم و أرضكم لفرعون ‪ .‬تكوين ‪. 48 /‬‬

‫تنقلب األمور على اإلسرائيليين ويسخط الفرعون التالي عليهم ‪ ،‬وال تفسر لنا التوراة السبب‬ ‫الذي أثار هذا السخط ‪ ،‬و ترتب عليه تسخيرهم في األعمال الشاقة في مصر ‪ ،‬و معيشتهم‬

‫في عبودية مريرة‪ ،‬لعدة قرون عقابا لهم على أمر ال توضحه التوراة‪ ،‬وهنا تصمت التوراة عن‬

‫الحديث عن فترة طويلة من الزمن‪ "،‬وأما إقامة بني إسرائيل التي أقاموها في مصر فكانت أربع‬ ‫مئة وثالثين سنة"( خروج ‪ ) 40/12‬لتعود إلينا للحديث عن أحداث وقعت بعد مئات من‬


‫‪16‬‬

‫السنين بعد فترة يوسف‪ ،‬ولتؤكد تأكيدا اعتباطيا وقسريا على استمرارية تاريخ القبيلة‬

‫اإلسرائيلية وارتباطها العرقي بالنبي موسى ومن خرج معه من مصر‪ .‬ولتأكد لنا ان إله بني‬ ‫إسرائيل الذي أصبح يسمى يهوه‪ ،‬قد تذكر فجأة شعبه المحبوب وتذكر ميثاقه مع إبراهيم‬

‫واسحق ويعقوب فقرر تخليصهم من نير القهر المصري‪ (.‬خروج ‪ ) 25/2‬إذن عندما صمتت‬

‫التوراة لمدة أربعمائة عام عن الحديث عن إقامة بني إسرائيل في مصر‪ ،‬كان إله بني إسرائيل‬ ‫قد صمت عنهم أيضا ونسيهم طوال هذه المدة الطويلة‪.‬‬


‫‪17‬‬

‫‪ - 3‬موسى‪ :‬تجديد الوعد بعد غضب الرب‬

‫في قصة أسطورية تحدثنا التوراة عن قصة الطفل اإلسرائيلي موسى الذي ألقته أمه في‬

‫سبط على شاطئ النيل فوجدته ابنة فرعون التي نزلت إلى النهر لتغتسل‪ ،‬فعرفت حاال‪ ،‬وال‬

‫ندري كيف‪ ،‬أنه من أوالد العبرانيين‪ ،‬ورغما عن كراهية المصريين لبني إسرائيل أو ما تدعوهم‬

‫التوراة العبرانيين‪ ،‬والجو المعادي لهم في مصر فإن ابنة فرعون تبنت الطفل اإلسرائيلي وربته‬ ‫في القصر الملكي ‪ .‬ولكن الطفل يكبر فيقتل مصريا تعصبا لبني جنسه‪ ،‬فتطارده العدالة و‬

‫تطلبه للقصاص فيهرب إلى مديان بسيناء حيث يلتقي بالرب يهوه‪ ،‬ثم يعود إلى مصر بأمر‬

‫من يهوه ليقود خروج اإلسرائيليين من مصر ‪ .‬فلقد سمع الرب يهوه أنين شعبه المحبوب ورأى‬ ‫مذلته في مصر‪ ،‬فتذكر ميثاقه مع إبراهيم واسحق ويعقوب‪ ،‬فقرر إنقاذهم من أيدي المصريين‬

‫وارسالهم إلى" أرض تفيض لبنا وعسال ‪ ،‬إلى مكان الكنعانيين والحثيين واألموريين والفريزيين‬

‫واليبوسيين" ( خروج ‪. ) 9 / 3‬‬

‫لم يكف سحر موسى وال عصاه التي انقلبت إلى أفعى أن تقنع فرعون باالستجابة لمطلب‬ ‫موسى بإطالق اإلسرائيليين من أرضه‪ ،‬فقرر موسى قبل خروجه من مصر ‪،‬وبمباركة رب‬

‫إسرائيل يهوه وبمساعدته‪ ،‬االنتقام من مصر وشعب مصر فصب جام غضبه عليهما وأعمل‬

‫فيهما قتال وابادة‪ ،‬فيضرب موسى بالقوة الممنوحة له من يهوه بعصاه نهر النيل فتتحول‬

‫مياه النيل إلى دماء ويموت جميع السمك في النهر‪ ،‬وكان الدم في كل أرض مصر حتى في‬

‫األخشاب واألحجار (خروج ‪ . ) 17/ 7 :‬ويضرب موسى بعصاه ضربة ثانية ‪ ،‬فتمتلئ مصر‬

‫كلها بالضفادع( خروج ‪ ) 26 /7‬وبالضربة الثالثة يحول غبار مصر إلى بعوض ‪ ( ،‬خروج‬ ‫‪ ) 12 /7‬وبالضربة الرابعة تمتلئ سماء مصر بالذباب السام ‪ ،‬وتمتلئ بيوت المصريين‬

‫وأرضهم ذبابا ( خروج‪ ) 16/7 :‬ويضرب موسى ضربته الخامسة فيحل بمصر وجميع‬

‫المصريين مرض الطاعون وتنفق جميع مواشي مصر‪ .‬أما مواشي بني إسرائيل فلم يمت منها‬

‫واحدا ( خروج ‪ ، ) 5 /9 :‬أما الضربة السادسة فتصيب جميع المصريين و مواشيهم‬

‫بالدمامل وال ندري من أين جاءت المواشي وقت نفقت جميعها بالضربة السابقة ؟! ( خروج‪:‬‬

‫‪ ) 12 /9‬والضربة السابعة تنزل على مصر و جميع المصريين و مواشيهم البرد والصقيع‬ ‫فيموتون ‪" ،‬وضرب البرد في كل أرض مصر جميع ما في الحقل من الناس و البهائم ‪ ،‬و‬

‫ضرب البرد جميع عشب الحقل و كسر جميع شجر الحقل"‪ ،‬طبعا إال األرض التي كان يقيم‬

‫فيها بنو إسرائيل فلم يصبها ولم يصبهم وال مواشيهم أي أذى ( خروج ‪ .) 20 /9 :‬لم يكتف‬


‫‪18‬‬

‫موسى وربه بذلك فتالحقت الضربات وجلبت الضربة الثامنة لمصر وللمصريين الجراد‪،‬‬

‫فصعد الجراد أرض مصر و حل في جميع تخوم مصر حتى اظلمت األرض‪ ،‬وقد أكل الجراد كل‬ ‫شيء حتى لم يبق في مصر شيء أخضر (خروج ‪ ،) 15/10 :‬و أحلت الضربة التاسعة‬

‫على كل مصر الظالم الدامس ولم يبصر أحد أخاه ولكن جميع بني إسرائيل ككل مرة‪ ،‬لم‬

‫يصبهم أي أذى و كان لهم نور في مساكنهم ( خروج ‪ .) 22، 21 / 10 :‬و كأن كل ذلك لم‬ ‫يكف فجاءت الضربة العاشرة لتميت كل بكر في أرض مصر حيث يهبط الرب يهوه بنفسه‬

‫لتحقيق الضربة القاضية لقتل األطفال المصريين ‪ ".‬وقال موسى ‪ :‬هكذا يقول الرب ‪ :‬إني في‬ ‫منتصف الليل أخرج في منتصف مصر‪ ،‬فيموت كل بكر في أرض مصر‪ ،‬من بكر الفرعون‬

‫الجالس على كرسيه ‪ ،‬إلى بكر الجارية الجالسة على الرحى ‪ ،‬وكل بكر بهيمة و يكون صراخ‬

‫عظيم في كل أرض مصر ‪ ".‬خروج ‪ " . 11 /‬وفي تلك الليلة ‪ ،‬كان صراخ عظيم في مصر‬ ‫‪ ،‬ألنه لم يكن بيت ليس فيه ميت " خروج ‪ . 12 /‬وطبعا لم تنس التوراة أن تذكرنا بأن‬

‫شعب اهلل المختار كمثله في كل مرة لم يصب بأي أذى‪.‬‬

‫وتحدثنا التو ارة عن قيام فرعون وجيوشه بمطاردة الفارين‪ (،‬وفي نصوص أخرى تقول‬

‫مطرودين‪ .‬خروج ‪ ،) 39/12‬الذين خرجوا بعد أن سلبوا بامر الرب أواني وحلى وأمتعة شعب‬

‫مصر‪(،‬خروج ‪ ) 22/3‬حيث أدركوهم عند البحر‪ .‬وهنا تحدث المعجزة الكبرى ‪ ،‬حيث ‪:‬‬

‫" مد موسى يده على ا لبحر‪ ،‬فأجرى الرب البحر بريح شرقية شديدة كل الليل‪ ،‬وجعل البحر‬ ‫يابسا وانشق الماء ‪ ،‬فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة والماء سو ار لهم عن‬

‫يمينهم وعن يسارهم ‪ ،‬و تبعهم المصريون و دخلوا ورائهم … فمد موسى يده على البحر ‪،‬‬ ‫فرجع البحر عند إقبال الصبح إلى حاله الدائمة … فدفع الرب المصريين وسط البحر ‪" .‬‬

‫خروج ‪ 14 /‬وهكذا يغرق فرعون و جيشه و ينقذ الرب يهوه شعبه المحبوب ‪،‬‬

‫" فخلص الرب في ذلك اليوم إسراءيل من يد المصريين ونظر إسرائيل المصريين أمواتاعلى‬

‫شاطئ البحر‪ ،‬ورأى إسرائيل الفعل العظيم الذي صنعه الرب بالمصريين‪ ،‬فخاف الشعب الرب‬ ‫وآمنوا بالرب وعبده موسى‪ (".‬خروج‪) 30: 14 :‬‬

‫وفي الحقيقة فإن قارئ التوراة ليتعجب كيف استطاع فرعون أن يجمع جيشا من المصريين بعد‬

‫كل ما فعله موسى التوراتي وربه في الشعب المصري من قتل وابادة‪ .‬ففي كل ضربة تحدثنا‬ ‫التوراة عن الدمار والخراب واإلبادة التي حلت بالشعب المصري حتى أن القارئ يصل إلى‬

‫قناعة جازمة بأنه بعد كل تلك الضربات لم يبق في مصر مصريا واحدا على قيد الحياة وقد‬

‫تحولت مصر إلى أرض قفراء عفراء خالية من كل حياة‪ .‬ولكن كتبة التوراة في خيالهم الواسع‬

‫ال يهتمون لمنطق األشياء وانما يكتبون ما يروه مناسبا لدعم فكرهم وعقيدتهم ‪.‬‬


‫‪19‬‬

‫يحاول كتبة التوراة هنا إقناعنا باستمرارية التاريخ اإلسرائيلي وربط نسب الموسويين‬

‫الخارجين من مصر بشجرة نسب يعقوب واسحاق وابراهيم ‪ .‬كما يحاولون إقناعنا أن يهوه ما‬ ‫هو إال نفس اإلله الذي ظهر إلبراهيم واسحق ويعقوب باسم "إيل" ‪ ،‬وهو االن يظهر باسم‬

‫جديد وبحلة جديدة ليجدد العهد القديم إلبراهيم ونسله بأرض الميعاد‪ ،‬فلسطين‪ .‬وليؤكد على‬ ‫أنه لم ينس شعبه المختار الذي كان دائما وسيبقى في حماية الرب يهوه ورحمته مهما فعل‬

‫من موبقات ‪( .‬خروج ‪ .) 5-2 / 6‬وفي سيناء تعقد اتفاقية بين يهوه وبين بني إسرائيل‬ ‫يمنحهم مقابل االخالص له أرض اللبن والعسل فلسطين خالصة لهم ‪.‬‬

‫تشرح التوراة في إسهاب مسرحية اللقاء بين موسى والرب يهوه حيث ناداه من الجبل‪:‬‬

‫" هكذا تقول لبيت يعقوب وتخبر بني إسرائيل ‪ ،‬أنتم رأيتم ما صنعت بالمصريين ‪ ،‬وأنا حملتكم‬

‫على أجنحة النسور وجئت بكم إلي‪ ،‬فاآلن سمعتم صوتي وحفظتم عهدي تكونون لي خاصة‬

‫من بين جميع الشعوب‪ ،‬فإن لي كل األرض ‪ ،‬وأنتم تكونون لي مملكة كهنة‪،‬و أمة مقدسة‪(.‬‬

‫خروج ‪ )6 / 19‬ثم نزل الرب على جبل سيناء إلى رأس الجبل ودعى موسى إليه وكلمه قائال‪:‬‬

‫" أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية‪ .‬ال يكن لك آلهة أخرى‬

‫أمامي‪ ،‬ال تصنع لك تمثاال منحوتا وال صورة ما مما في السماء أو فوق األرض ‪ ،‬ال تسجد‬ ‫لهن وال تعبدهن‪ ،‬ألني أنا الرب إلهك ‪ ،‬إله غيور أفتقد ذنوب اآلباء في األبناء في الجيل‬

‫الثالث والرابع من مبغضي‪ "...‬ويملي الرب على موسى وصاياه وشرائعه ويقول لموسى‪" :‬‬

‫إصعد إلى الجبل وكن هناك فأعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم(‬

‫أي بني إسرائيل)" ويطلب الرب أن يصنعوا تابوتا من خشب السنط مغطى بالذهب الخالص‬ ‫من الداخل والخارج ‪ " ،‬وتضع في التابوت الشهادة التي أعطيك" (خروج ‪ .) 25-19 :‬كما‬

‫طلب الرب يهوه من موسى أن يطلب من بني إسرائيل أن يقدسوا السبت ‪ ":‬كل من صنع‬

‫عمال في يوم السبت يقتل قتال"( خروج ‪.) 18 -12/ 21‬‬

‫بني إسرائيل كعادتهم عملوا الشر في عين الرب‪ ،‬فصنعوا عجال مسبوكا وسجدوا له وذبحوا له‪،‬‬

‫فأثاروا غضب ا لرب فقرر إفناءهم ولكن موسى طلب من الرب أن يعفو عنهم ‪ ،‬فندم الرب‬ ‫على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه‪ (.‬خروج ‪) 14-7 /31‬‬

‫تحددثنا التوراة كيف أن موسى قاد االسرائيليين حسب أوامر يهوه إلى حدود أرض كنعان‪،‬‬

‫ووفقا لتعاليم الرب يهوه يرسل قائدا من كل قبيلة من القبائل االسرائيلية االثنى عشر‬

‫كجواسيس الستطالع المنطقة والعودة إليه بأخبارها‪ .‬يندهش الجواسيس من ما وجدوه‬

‫ويعودون إلى موسى والرعب في قلوبهم قائلين‪ " :‬األرض التي مررنا فيها لتجسسها هي‬

‫أرض تأكل أهلها‪ ،‬وجميع الشعب الذي رأيناهم فيها أناس طوال القامات‪ ،‬وشاهدنا من هناك‬


‫‪20‬‬

‫الجبابرة‪ ،‬جبابرة بني عناق‪ ،‬فصرنا في نظرنا أناس صغ ار كالجراد‪ ،‬وكذلك في نظرهم‪ ( ".‬العدد ‪:‬‬

‫‪ ) 33-32 :13‬ولقد جلب الجواسيس معهم عينة ‪،‬ليؤكدوا صدق قولهم‪ ،‬عنقودا من العنب‬

‫يحتاج لرجلين لحمله‪ ،‬كما أكد الجواسيس أن البقر والنحل أيضا عمالقة ‪ ،‬ألن أنهار الوادي‬

‫كانت تفيض باللبن والعسل‪ (.‬العدد ‪) 23-23 : 13 :‬‬

‫يرتاع بني إسرائيل من أخبار الجواسيس ويرفضون دخول أرض كنعان رغم تأكيد الرب يهوه‬

‫لموسى" إني أضربهم بالوباء وأفنيهم وأجعلك أنت أمة أعظم وأقوى منهم" ( العدد‪) 12/ 14 :‬‬

‫‪ ،‬فيغضب الرب على بني إسرائيل لعصيانهم ويحكم عليهم بالتيه أربعين عاما في صحراء‬

‫سيناء‪.‬‬


‫‪21‬‬

‫‪ -4‬الممالك األسطورية لبني إسرائيل في التوراة‬ ‫بعد تيه دام أربعين عاما في صحراء سيناء تحدثنا التوراة عن غزو اإلسرائيليين‬

‫لفلسطين بقيادة يشوع ‪ .‬كما تحدثنا بفخر واعتزاز كيف طبق خليفة موسى سياسة تنقية‬

‫العرق و حرب اإلبادة كتلك التي قام بها اإلسرائيليون بقيادة موسى ضد بني مدين‪ .‬وكما‬ ‫فعل موسى واإلسرائيليون بأهل مدين ‪ ،‬حيث قتلوا كل ذكر‪ ..‬وسبوا نساء مدين وأطفالهم‬

‫وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم ‪ ،‬وأخذوا كل الغنيمة وكل النهب من الناس والبهائم وبأوامر‬ ‫صريحة من موسى وبمباركة الرب يهوه ‪،‬حيث قال موسى لقومه‪ :‬فاآلن اقتلوا كل ذكر من‬

‫األطفال وكل امرأة عرفت رجال بمضاجعة ذكر اقتلوها ‪ ".‬عدد ‪ " 18-7 / 31‬قام خليفته‬ ‫يشوع بعملية اإلبادة الجماعية لسكان فلسطين‪ .‬تحدثنا التوراة باعتزاز كيف استولى يشوع‬

‫على مدينة أريحا وقام بقتل كل من فيها من بشر و دابة ‪،‬وذلك بمباركة الرب يهوه وارشاداته‬ ‫‪ "،‬وحرموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد‬

‫السيف " يشوع ‪ . 21 / 6 :‬و تابع يشوع عملية اإلبادة والقتل الجماعي مع بقية المدن‪.‬‬

‫قال الرب ليشوع ‪ " :‬قم واصعد إلى عاي‪ ،‬فتفعل بعاي وملكها كما فعلت بأريحا وملكها‪ ،‬غير‬

‫أن غنيمتها و بهائمها تنهبونها لنفوسكم … وضربوهم حتى لم يبق منهم شارد وال منفلت "‬ ‫يشوع ‪ . 8 :‬و تتابع التوراة مسيرة القتل والنهب ‪ " ،‬ذلك اليوم ‪ ،‬استولى يشوع على مقيدة‬

‫وفعل بملك مقيدة كما فعل بملك أريحا ‪ .‬ثم اجتاز يشوع من مقيدة وكل إسرائيل معه إلى بتة‪،‬‬

‫فدفعها الرب هي أيضا بيد إسرائيل مع ملكها ‪ ،‬فضربها بحد السيف ‪ ،‬وكل نفس بها ولم يبق‬

‫بها شاردا … ثم اجتاز يشوع وكل إسرائيل معه إلى لخيش … فضربها بحد السيف وكل نفس‬ ‫بها… ثم اجتاز يشوع وكل إسرائيل معه من لخيش إلى عجلون‪ ،‬فنزلوا عليها وحاربوها‬

‫‪،‬وأخذوها في ذلك اليوم و ضربوها بحد السيف‪ ،‬وحرم كل نفس بها في ذلك اليوم‪ ،‬حسب كل‬ ‫ما فعل بلخيش‪ .‬ثم صعد يشوع و جميع إسرائيل معه من عجلون إلى حبرون و‬

‫حاربوها‪،‬وأخذوها وضربوها بحد السيف مع ملكها‪،‬و كل مدنها‪،‬وكل نفس بها ‪ .‬لم يبق شاردا‬ ‫حسب كل ما فعل بعجلون فحرمها وكل نفس بها ‪".‬يشوع ‪.36 - 34 / 10‬‬

‫إننا هنا ونحن نطالع هذه الصورة البشعة لإلبادة البشرية و القتل الجماعي للنساء واألطفال و‬

‫الشيوخ وحرق المدن ونهب الممتلكات ‪ ،‬ليصيبنا العجب كيف يمكن للرب اإلله أن يبارك مثل‬

‫هذه األفعال الدموية ويضفي عليها صفة القدسية ‪ ،‬خاصة وأن القائمين بها هم قوم لم يكونوا‬

‫أبدا مخلصين لهذا الرب ‪ .‬فها هو ميخا يصرخ ويقولها بوضوح ‪ ":‬إصغوا إلي يا رؤساء بيت‬

‫يعقوب ‪ ،‬أنتم يا من تكرهون الخير و تحبون الشر‪ ..‬والذين تبنون صهيون بالدم ‪ ،‬والقدس‬


‫‪22‬‬

‫بالجريمة‪ .‬إن أرض صهيون ستفلح كحقل ‪ ،‬وتصبح القدس قطعا من الخراب ‪ ،‬وجبل المعبد‬

‫مق ار عاليا للوثنية‪ ".‬ميخا ‪12-1 / 3 :‬‬

‫أم أن األمر هو عبارة عن تزييف وأوهام حاقدة لكتبة التوراة ‪ ،‬الذين عودونا على مثل ذلك‬

‫وأضافوا عليه صفة القدسية من إله اختلقوه وسخروه لمباركة أفعالهم والعفو عنهم و عن‬ ‫ذنوبهم باعتبارهم االبن المدلل وشعبه المختار !‬

‫وفي الحقيقة أنه رغم ما عملته المسيحية‪ ،‬من خالل تبنيها لكتاب العهد القديم ‪ ،‬على تحسين‬

‫صورة اإلله التوراتي في العهد القديم‪ ،‬فإن هذا اإلله يفقد البعد اإلنساني و الرحماني على كل‬

‫صعيد‪ ،‬بل هو إله ظالمي متعسف وباطش ككل اآللهة لدى الشعوب البدائية البدوية الرعوية‬ ‫الغير متحضرة‪ .‬فهو ضد المعرفة حيث يمنع آدم وحواء من األكل من شجرة معرفة الخير‬

‫والشر(تكوين‪ ) 3،‬وهو يحابي هابيل راعي الغنم ضد أخيه قابيل المزارع ‪ ،‬وهو موقف غير‬

‫مفهوم إال من إله بدو رعاة‪ ،‬يكرهون الزراعة والمزارعين‪ ( ،‬تكوين‪ ) 4،‬و بذلك دفع إلى قتل‬ ‫األخ أخيه ‪،‬ثم هو يكره أن يكون الناس متفاهمين متحابين متحدين‪ ،‬فعمل على تشتيت‬

‫شملهم وبلبلتهم بأن جعلهم مجموعات متنافرة ال يفهم بعضهم بعضا‪ .‬قال الرب ‪ :‬هو ذا‬

‫شعب واحد و لسان واحد ‪ .....‬هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى ال يسمع بعضهم لسان‬

‫بعض‪(.‬تكوين‪ ) 11،‬وينتقم من اآلباء في أبنائهم ممن ال ذنب لهم‪ ،‬وفي أبناء األبناء حتى‬

‫الجيل الرابع‪( ،‬خروج ‪ ، ) 2‬ويحرض و يدفع لقتل الواحد أخاه وصاحبه وقريبه‪ (،‬خروج ‪32‬‬

‫) إلى آخره من ما تمتلئ به التوراة من أخبار المذابح واإلبادة لألطفال والنساء والشيوخ‬

‫بمباركته و تحريض منه ‪ .‬وهو أقرب ما يكون بش ار منه إلها ‪ ،‬فهو يمشي في الجنة ويبحث‬

‫عن آدم فال يراه‪( ،‬تكوين‪ ) 3‬ويتصارع مع يعقوب كما يتصارع البشر(تكوين‪) 30-22: 32،‬‬ ‫وهو يتحدث مع موسى وزوجته وابنه حيث أراد أن يقتل صفوة ألنها رفضت ختان ابنها‪،‬‬

‫فأسرعت صفورة زوجة موسى وأمسكت بحجر صوان و ختنت ابنها ثم مست رجلي يهوة" أي‬

‫أعضاءه التناسلية"( خروج ‪) 26-24 :4،‬‬

‫يقول مارك توين في وصفه لشخصية هذا الرب بأن كل أعمال هذا اإلله الموصوفة في العهد‬

‫القديم لتدل على عدم عقالنيته وقسوته وأنانيته وعشقه لالنتقام ‪ (.‬مارك توين‪ :‬من كتابه عن‬ ‫األديان اقتبسه كريكلوف في كتابه التوراة في عيون العلم‬

‫ص‪ . 76 :‬ذك سابقا)‬

‫بعد كل هذا القتل وهذه اإلبادة فان المرء يأخذ انطباعا بأن الشعب الكنعاني في فلسطين قد‬

‫ابيد إبادة تامة ولم يعد له وجود‪ ،‬ولكننا نفاجأ بأنه بعد موت يشوع لم تستطع القبائل‬

‫اإلسرائيلية أن تجد بديال له لقيادتها في حربها ضد الكنعانيين وغيرهم من شعوب المنطقة‪ ،‬و‬


‫‪23‬‬

‫تحدثنا التوراة أن رباط الوحدة بين القبائل اإلسرائيلية في عهد ما تسميه عهد القضاة قد‬

‫تفكك و سيطرت عليهم الخالفات‪ .‬ونتيجة لذلك فقد تشتت بنو إسرائيل وعاشوا في بحر‬

‫السكان األصليين‪ ،‬الكنعانيين والفلسطينيين وغيرهم ‪ ،‬الذين كانوا أكثر حضارة ورقي منهم‬

‫فتأثروا بهم وعبدوا آلهتهم‪ . .‬ولقد استعبدتهم تلك الشعوب وأذلتهم ‪ ،‬وتعتبر التوراة ذلك‬

‫امتحانا من الرب لتركهم عبادته وعبادة آلهة غيره من آلهة شعوب المنطقة‪ ،‬و كان الرب في‬ ‫كل مرة يندم على قسوته عليهم فيعفو عنهم ويرسل لهم من يحررهم بأمره‪ .‬و لكن لم يكن‬

‫اإلسرائيليون ليتعظوا من ذلك االمتحان فيعودوا للكفر بربهم واله أجدادهم ويعودوا لعبادة غيره‬ ‫من آلهة شعوب المنطقة فيعود الرب ليغضب عليهم و هكذا تتكرر هذه العملية مرات عديدة‪.‬‬ ‫" وفعل بنوا إسرائيل الشر في عين الرب وعبدوا البعليم و تركوا الرب إله آبائهم ‪..‬وساروا‬

‫خلف آلهة أخرى من آله الشعوب الذين حولهم و سجدوا لها وأغاظوا الرب‪ .‬تركوا الرب‬

‫وعبدوا البعل وعشتاروت فحمي غضب الرب على إسرائيل فدفعهم بأيدي ناهبين نهبوهم‬

‫وباعهم بأيدي أعدائهم حولهم ولم يقدروا بعد على الوقوف أمام أعدائهم ‪ .‬فضاق بهم األمر‬

‫جدا ‪ .‬وأقام الرب قضاة فخلصوهم من يد ناهبيهم ‪ ...‬ألن الرب ندم من أجل أنينهم ‪...‬‬

‫ولقضاتهم أيضا لم يسمعوا بل زنوا أمام آلهة أخرى وسجدوا لها‪...‬‬

‫( قضاة‪) -20—12/2‬‬

‫وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عين الرب ورجعوا يفسدون أكثر من آبائهم فامتحنهم‬

‫الرب بشعوب المنطقة التي عادت إلذاللهم والقسوة عليهم " فسكن بنو إسرائيل في وسط‬

‫الكنعانيين و الحثيين و األموريين و الفرزيين و الحوريين و اليبوسيين ‪ .‬واتخذوا بناتهم‬ ‫ألنفسهم نساء وأعطوا بناتهم لبنيهم وعبدوا‬

‫آلهتهم ‪ ( " .‬قضاة ‪ ) 10-5 /3 :‬وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب طالبين الخالص فأسرع الرب‬

‫لتخليص شعبه المحبب والمختار فخلصهم ‪ .‬ولكن كالعادة عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في‬

‫عين الرب فغضب الرب فشدد عليهم عجلون ملك مؤاب الذي ضرب بني إسرائيل وأذلهم ‪.‬‬ ‫ولكن قلب الرب رق لحالهم فبعث لهم إهود لكي يخلصهم ففعل بأمر الرب‪.‬‬

‫( قضاة ‪ .) 3:‬وبعد موت إهود عاد بنو إسرائيل من جديد يعملون الشر في عين الرب‬

‫فباعهم الرب بيد يابين ملك كنعان فأذلهم عشرون سنة‪ .‬وصرخ بنوا إسرائيل طالبين العون‬

‫والرحمة من ربهم ففعل‪ ( .‬قضاة ‪ ) 5 :‬و لكنهم أعادوا الكرة وعملوا الشر في عين الرب‬

‫فامتحنهم هذه المرة على يد شعب مدين‪ .‬فذل شعب إسرائيل من قبل المدينيين‪ ،‬فصرخ بنو‬

‫إسرائيل إلى الرب فأنقذهم على يد جدعون‪ " . .‬وقال جدعون هلل‪ :‬إن كنت تخلص بيدي‬

‫إسرائيل كما تكلمت فها أنا واضع جزة الصوف في البيدر فإن كان ط ٌل على الجزة وحدها و‬ ‫جفاف على األرض كلها علمت أنك تخلص بيدي إسرائيل كما تكلمت‪ .‬وكان كذلك " ‪ .‬فما كان‬


‫‪24‬‬

‫من اهلل إال أن يعمل كما طلب جدعون على إثبات حسن نيته مع شعب إسرائيل ‪ ".‬و نفذ الرب‬

‫وعده وخلص بني إسرائيل على يد جدعون‪ ( .‬قضاة ‪ ) 6 :‬وكما تعودنا من بني إسرائيل فقد‬

‫عادوا بعد موت جدعون ورجعوا يعملون الشر في وجه الرب وزنوا وراء اإلله بعليم ولم يذكروا‬ ‫الرب إلههم ولم يعملوا معروفا مع بيت جدعون نظير كل الخير الذي عمل مع إسرائيل‪( .‬‬

‫قضاة ‪ ) 8 :‬وتتكرر فصول التمثيلية فيمتحن الرب بني إسرائيل مرة أخرى بيد الفلسطينيين و‬ ‫بيد بني عمون الذين أذلوهم ثماني عشرة سنة حتى عال صراخهم ‪ .‬ويعيد الرب إذاللهم بيد‬

‫الفلسطينيين أربعين سنة تأديبا لهم على أفعالهم ‪ (.‬قضاة ‪ . )1 3، 10 ، 9:‬وهكذا فإن قارئ‬ ‫التوراة ليأخذ انطباعا أن الرب لم يكن لديه من شاغل إ ال بني إسرائيل و مشاكل بني إسرائيل‬

‫‪ ،‬ومهما فعل بنو إسرائيل فإن الرب في نهاية المطاف هو ربهم والههم وحدهم ولذلك يعفو‬ ‫عنهم ويغفر لهم و يمد لهم يد العون ليساعدهم وينقذهم ‪.‬‬

‫تحدثنا التوراة كيف أن آخر كبار القضاة صموئيل قد شاخ فطلب اإلسرائيليون منه أن يعين‬

‫لهم ملكا أسوة بالممالك الكنعانية والفلسطينية فعين لهم شاول ملكا عليهم ‪ .‬وتعتبر التوراة‬

‫الملك شاؤل بطل تحرير بني إسرائيل من نير أعدائهم ‪.‬‬

‫" واخذ شاول الملك على إسرائيل وضرب جميع أعدائه حواليه ‪ ،‬موآب وبني عمون وأدوم و‬

‫ملوك صوبة والفلسطينيين وحيث توجه غلب‪ .‬وفعل ببأس وضرب عماليق وأنقذ إسرائيل من يد‬ ‫ناهبيه‪ " .‬صموئيل األول‪. 49-48 /14 :‬‬

‫كان على الملك الرضوخ ألوامر الرب يهوه وتعاليمه المنطوقة بلسان الكهنة‪ ،‬ولكن شاول‬

‫أهمل أوامر الرب وعمل ما رآه مناسبا‪ ،‬فغضب عليه الرب وندم على تنصيبه ملكا فطلب من‬

‫كبير الكهنة صموئيل أن يعزله‪ " .‬وكان كالم الرب إلى صموئيل قائال ‪ :‬ندمت على أني جعلت‬ ‫شاول ملكا ألنه رجع من ورائي ولم يقم كالمي" صم ‪. 12 / 15 : 1‬‬

‫وهنا تبرز على مسرح التوراة شخصية داود ‪،‬الذي يقتل جالوت ملك العمالقة بمعالقه والذي‬

‫يباركه الرب على يد الكاهن صموئيل ولكن سرا‪ .‬ويقوم صراع خفي بين شاول وبين داود ويعزم‬ ‫شاول على قتل داود والتخلص منه فيهرب داود ويكون عصابة من قطاع الطرق تعمل على‬ ‫قتل الناس ونهبها‪ " .‬فاجتمع إليه كل رجل متضايق وكل من كان عليه دين وكل رجل مر‬

‫النفس فكان عليهم رئيسا وكان معه نحو أربع مائة رجل‪ ".‬صم ‪ . 2/22 :1‬وعندما ضاقت‬ ‫الدنيا بداود انضم إلى الفلسطينيين‪ ،‬أعداء بني إسرائيل‪ ،‬فرحبوا به‪.‬‬

‫خرج شاول مع ‪ 3000‬رجل منتخبين من جميع إسرائيل وذهب يطلب داود ورجاله على صخور‬

‫الوعول‪ ،‬وكان هناك كهف‪ ،‬فدخل شاول إليه كي يستريح وكان داود ورجاله في مغابن الكهف‪.‬‬

‫وعندما غفت عيون شاول خرج داود وقطع طرف جبة شاول سرا‪ ،‬ولكنه ندم على ذلك وقال‬


‫‪25‬‬

‫لرجاله ‪ ":‬حاشا لي من قبل الرب أن أفعل هذا األمر بسيدي‪ ،‬بمسيح الرب ‪ ،‬فأمد له يدي ألنه‬ ‫مسيح الرب هو" ونادى داود على شاول ودعاه " بأبي" وأخبره أنه لن يقم بإيذائه ألنه مسيح‬

‫الرب ‪ ،‬وأن الرب سيقضي بينهما‪ ( .‬صمويل األول‪) 24 :‬‬

‫وتحدثنا التوراة كيف أن الرب لغضبه على الملك العاق شاول أوقعه بيد أعدائه الفلسطينيين‬ ‫فهزموه في موقعة دموية قتل فيها أبنائه الثالثة وجرح شاول في المعركة فوقع على سيفه‬

‫وانتحر‪ ،‬بعد أن استمر في الحكم حسب قول التوراة حوالي خمسة عشر سنة‪.‬‬

‫ُثم تقلد الحكم الملك داود خلفا لشاول و تسهب التوراة في وصف المعارك التي خاضها‬

‫واالنتصارات التي حققها على شعوب المنطقة حتى تمكن من إخضاع أكثر المدن الفلستينية و‬ ‫دويالت وممالك أدوم و مؤاب و عمون ومملكة صوبا األرامية‪ .‬وقد استولى كذلك على مدينة‬

‫أورشليم بعد أن انتصر على سكانها األصليين اليبوسيين واتخذ منها عاصمة لملكه وبنا فيها‬ ‫قص ار ملكيا وأقام فيها معبدا للرب يهوه ألن الرب تعب وطلب من داود أن يبني له بيتا‪ " .‬قال‬

‫الرب ‪ " :‬أنت تبني لي بيتا لسكناي ‪ ،‬ألني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت بني إسرائيل من‬

‫مصر إلى هذا اليوم" صم ‪ . 7 / 7 :2‬وقد استمر حكم داود حسب رواية التوراة زهاء أربعين‬

‫سنة بين عام ‪ 1010‬و ‪ 971‬ق‪.‬م ‪.‬‬

‫داود كان محبوبا من يهوه ولكنه لم يكن سوي الخلق فها هي التوراة تحدثنا كيف تمشى على‬

‫سطح بيته فرأى امرأة تستحم ‪ ،‬فلما سأل من تكون‪،‬علم أنها زوجة وصيفه الحتي أريا‪.‬‬

‫فأرسل داود رسال ليحضروها له ففعلوا فأخذها واضجع معها وهي مطهرة من طمثها فحبلت‬

‫منه‪ .‬وعندما علم داود بحبلها أرسل زوجها أوريا وبيده مكتوب إلى يواب قائده يقول فيه "‬

‫اجعلوا أريا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت" صم ‪. 15/11: 2‬‬

‫وهكذا فعلوا كما أمرهم داود وقتل أوريا الحتي بمكيدة دبرها له سيده داود لكي يستولي على‬

‫زوجته بعد أن زنى فيها فحبلت ‪ .‬فلما سمعت زوجته بموت بعلها ندبته ولما مضت المناحة‬ ‫ضمها داود إلى بيته وصارت له امرأة وولدت له أبناء منهم سليمان‪ .‬وأما األمر الذي فعله‬

‫داود فقبح في عيني الرب ولكن الرب عاد وسامحه وعفى عنه‪.‬‬

‫ويظهر أن عملية االغتصاب متأصلة في الشعب اإلسرائيلي التوراتي وخاصة في بيت داود‪،‬‬

‫حيث تحدثنا التوراة أن أمنون ولد داود أحب ثامار أخته من أبيه وأخت أخيه أبشالوم فاحتال‬

‫عليها وتمكن منها وقهرها واضجع معها‪ ( .‬صم ‪ ). 15-5 / 13 : 2‬فغضب لهذا أخاها‬

‫أبشالوم وقرر قتل أخيه أمنون فحاك له مع بعض من أصدقائه مؤامرة فقتلوه وقطعوه إربا‪( .‬‬

‫صم ‪ ) 30 -28 / 13 : 2‬ودب العداء والبغضاء بين أبشالوم وأبيه الملك داود فقام أبشالوم‬ ‫على أبيه ينازعه الملك والتف حوله عامة الناس واشتد القتال بينهما وكاد أبشالوم أن‬


‫‪26‬‬

‫يقوض ملك داود‪ .‬يهرب داود من أمام جيش ابنه الذي يطارده ويصعد إلى جبل الزيتون باكيا‬

‫مغطيا رأسه ويمشي حافيا وجميع الشعب الذين معه غطوا رؤوسهم وكانوا يصعدون وهم‬

‫يبكون‪ ،‬ولم يبق أمام داود إال الصالة والتعبد والدعوى إلى الرب يهوه‪ ،‬الذي يستجيب له في‬ ‫النهاية‪ ،‬فيهزم أبشالوم ويقتل ويعلق على شجرة ‪ .‬يمتطي داود حماره وينزل إلى أرشليم‬

‫ليعود ملكا على مملكة يهوه‪ .‬ولكنه مع ذلك ينزعج لموت ابنه ويبكيه‪ " ،‬فانزعج الملك وكان‬ ‫يبكي ويقول هكذا وهو يتمشى يا ابني يا ابني أبشالوم يا ليتني مت عوضا عنك ‪ ( " .‬صم‬

‫‪) 22 / 18 :2‬‬

‫بعد موت داود تربع العرش ابنه سليمان ولكن ليس بدون معارضات ومؤامرات حيث تحدثنا‬

‫التوراة كيف تنازع أبناء داود على خالفته حتى قبل وفاته‪ .‬وانتهى الصراع بين األخوين‬

‫سليمان و أدونيا حيث كانت الغلبة لسليمان‪.‬‬

‫يتبجح كتبة التوراة ويبالغوا أشد المبالغة في وصف عظمة مملكة سليمان و ملكها‪ " .‬وكان‬

‫سليمان متسلطا على جميع الممالك من النهر إلى أرض فلسطين والى تخوم مصر‪ ...‬وكان‬ ‫طعام سليمان لليوم الواحد ثالثين كر سميد و ستين كر دقيق وعشرة ثيران مسمنة وعشرين‬

‫ثو ار من المراعي و مئة خروف ما عدا األيائل والظباء واليحامير و األوز المسمن‪.......‬‬ ‫وكان لسليمان أربعون ألف مذود لخيل مركباته واثنا عشر ألف فارس‪ ....‬وفاقت حكمة‬

‫سليمان حكمة جميع بني المشرق وكل حكمة مصر وكان أحكم من جميع الناس‪ ....‬وكان‬

‫صيته في جميع األمم حواليه" ( ملوك ‪ .) 35-21 / 4 :‬وتحدثنا التوراة كيف صاهر سليمان‬ ‫فرعون ملك مصر وأخذ بنت فرعون وأتى بها إلى مدينة داود‪.. .‬وفاقت حكمة سليمان حكمة‬

‫جميع بني المشرق وكل حكمة مصر‪ ،‬وكان أحكم من جميع الناس ‪ ....‬وكان صيته في جميع‬

‫األمم حواليه ‪ ....‬وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان ‪ ،‬من جميع ملوك‬

‫األرض الذين سمعوا بحكمته‪ ( .‬ملوك ‪)24- 1 / 3‬‬

‫و يسرح كتبة التوراة في الخيال فيصبح سليمان على أيديهم وبأقالمهم أحد أشهر ملوك‬

‫األرض ‪،‬سيدا على مملكة عظمى تغنت بها األساطير ‪ ،‬فتسلط على الوحوش والهوام والجن‬

‫والعفاريت ‪،‬وأصبحت مملكة إسرائيل في زمانه أغنى الدول حتى كانت الفضة في الشوارع مثل‬

‫التراب‪ ..‬وكانت له سبع مائة من النساء السيدات وثالث مئة من السراري ‪( .‬ملوك ‪14/ 10‬‬ ‫– ‪ 29‬و ملوك ‪ . )11‬ولكن سليمان كغيره من ملوك وأنبياء بني إسرائيل رجع وعمل الشر‬ ‫في عين الرب يهوه حيث جرى وراء آلهة أخرى ولم يكن قلبه كامال مع الرب ‪ ...‬فذهب‬

‫سليمان وراء عشتروت إلهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين‪ .‬وعمل سليمان الشر في‬


‫‪27‬‬

‫عين الرب ولم يتبع الرب تماما‪ ....‬فغضب الرب على سليمان ألن قلبه مال عن الرب إله‬

‫إسرائيل‪ (.‬ملوك ‪) 11 :‬‬

‫في الحقيقة أن التوراة نفسها تعطينا عدد من األمثلة عن عدم إخالص بني إسرائيل لإلله‬

‫واحد سواء يهوه أم غيره‪ ،‬وأن عبادة يهوه قد ارتفع شأنها في وقت متأخر‪ .‬فلقد عبدوا‬

‫مجموعة آلهة تذكرها التوراة باسم " إلوهيم " وهي جمع إله‪ .‬كما عبدوا كما مر سابقا رئيس‬

‫مجمع اآللهة "إيل" ‪ ،‬وعبدوا كذلك ربات الخصب الرافدية والكنعانية مثل عشتروت وعشتار‬

‫وعناة‪ .‬وعبدوا أيضا اإلله بعل ‪ ،‬فالملك سليمان نفسه " ذهب وراء عشتروت إلهة‬

‫الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين"‪ " .‬ولقد بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس المؤابيين‬

‫على الجبل تجاه أرشليم ولملكوم رجس بن عمون " ( ملوك أول ‪. )8 -1 / 11‬‬

‫كما نجد في العهد القديم نصوصا تدل على عبادة بني إسرائيل ألشكال مختلفة من الحيوانات‬

‫مثل العجل‪ " ،‬قال هارون ‪ :‬انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نساءكم وبنيكم وبناتكم وائتوني‬ ‫بها ‪ ...‬فأخذ ذلك من أيديهم وصوره باإلزميل وصنعه عجال مسبوكا ‪ ،‬فقال ‪ :‬هذه آلهتك يا‬

‫إسرائيل التي أخرجتك من مصر‪( .‬خروج ‪) 4-1 / 32‬‬

‫مات سليمان بعد أن حكم بناءا على ما تقوله التوراة أربعين سنة وملك رحبعام ابنه عوضا‬

‫عنه‪.‬‬

‫تتابع التوراة حديثها وتحدثنا كيف تنافس األخوان رحبعام و يربعام على الملك الذي انتهى‬

‫بانقسام المملكة إلى مملكتين متنافستين متعاديتين‪ ،‬مملكة يهودا وعاصمتها القدس ومملكة‬

‫إسرائيل وعاصمتها شكيم ‪.‬‬


‫‪28‬‬

‫‪ - 5‬السبي وفلسفته في التوراة‪:‬‬ ‫تحدثنا التوراة كيف كان ملوك إسرائيل ويهودا تباعا يفعلون الشر في وجه الرب يهوه وكيف‬

‫عبدوا آلهة شعوب المنطقة األخرى كبعل وغيره‪ ،‬و بسبب آثامهم تلك قرر الرب أن يمتحنهم‬ ‫على أيدي الشعوب المجاورة‪ " .‬و في السنة الرابعة للملك حزقيا ملك يهودا وهي السنة‬

‫السابعة لهوشع ملك إسرائيل صعد شلمناسر ملك أشور على السامرة وحاصرها وأخذوها في‬

‫نهاية ثالث سنين‪ ...‬وسبي ملك إسرائيل إلى أشور ‪ ...‬ألنهم لم يسمعوا لصوت الرب ‪ ".‬ملوك‬

‫‪ " . 12-9/ 18‬وفي السنة الرابعة عشرة للملك حزقيا صعد سنحاريب ملك أشور على جميع‬

‫مدن يهوذا الحصينة وأخذها" ولكن في النهاية قبل ملك أشور من حزقيا الجزية ‪ .‬ملوك ‪18‬‬

‫‪. 16 – 13/‬‬

‫تتابع الملوك على مملكة يهوذا وكان جللهم إن ليس كلهم يعملون الشر في وجه الرب‬

‫ويعبدون آلهة غير اله آبائهم يهوه مما أغضب الرب وقرر االنتقام منهم على يد البابليين‪" ،‬‬

‫هاأنذا جالب ش ار على أورشليم و يهودا حتى أن كل من يسمع به تطن أذناه" ملوك ‪21‬‬

‫‪ . 12/‬وهكذا حدث " وفي السنة التاسعة من ملك صدقيا في الشهر العاشر في عاشر الشهر‬ ‫جاء نبوخذ نصر ملك بابل هو وكل جيشه على أورشليم ‪ ....‬فأخذوا الملك صدقيا وأصعدوه‬ ‫إلى ملك بابل ‪ ...‬وقتلوا بني صدقيا أمام عينيه وقلعوا عيني صدقيا وقيدوه بسلسلتين من‬

‫نحاس و جاءوا به إلى بابل ‪ ....‬وأحرق البابليون بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت أورشليم‬

‫وكل بيوت العظماء و هدموا جميع أسوار أورشليم وبقية الشعب الذين بقوا في المدينة وبقية‬ ‫الجمهور سبوهم إلى بابل ‪ ..‬ولم يبق إال مساكين األرض كرامين وفالحين‪ ".‬ملوك ‪. 21‬‬

‫ما حل بأهل و ملوك إسرائيل و يهودا من القهر والسبي والذل حسب قول التوراة ما هو إال‬

‫قصاص من الرب يهوه على فعلهم الشر في عين الرب وترك عبادته وعبادة آلهة شعوب‬ ‫المنطقة على الخصوص آلهة الكنعانيين وعلى رأسهم بعل‪ .‬وتصف التوراة شعب إسرائيل‬

‫ويهودا وملوكهم بأرذل الصفات والنعوت‪ ،‬فهم دائما يعملون الشر في عين الرب ويعبدون‬

‫آلهة غير إله اآلباء ‪ ،‬وهم كذلك شعب " متمرد أوالد كذبة" (إشعيا ‪ ) 30‬و " أوالد المعصية‬

‫ونسل الكذب" ( إشعيا ‪ ) 27‬كما يصف إسرائيل بالزانية العاصية و يهودا بالخائنة التي زنت‬

‫مع الحجر ومع الشجر‪ ... .‬وصهلوا كل واحد على امرأة صاحبه" (إرميا‪ 3‬و ‪ 4‬و ‪ ) 5‬وحتى‬

‫حكماءهم لم يسلموا من الشتيمة" كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا ‪ ،‬حقا إنه إلى‬

‫الكذب حولها قلم الكتبة الكاذب ‪ .‬خزي الحكماء ارتاعوا وأخذوا ‪ ،‬ها قد رفضوا كلمة الرب فأي‬

‫حكمة لهم‪ ( ".‬إرميا ‪.) 8‬‬


‫‪29‬‬

‫كان كالم الرب إلرميا واضحا في وصف خطاياهم وتبرير عقابهم " هذا الشعب الشرير ‪....‬‬

‫ألجل عظمة إثمك هتك ذيالك وانكشف عنفا عقباك ‪ ...‬فأنا أيضا أرفع ذيليك على وجهك‬

‫فيرى خزيك ‪ ،‬فسقك و صهيلك ورذالة زناك على اآلكام ‪ ،‬في الحقل رأيت مكرهاتك ‪.... .‬‬

‫اآلن يذكر إثمهم و يعاقب خطاياهم ‪ ...‬فأنا مصدر عليكم ش ار و قاصد عليكم قصدا ‪( " .‬‬

‫إرميا ‪ 13‬و ‪) 14‬ولعل أفضل ما يمثل غضب الرب على شعبه المدلل ما ورد في إصحاح‬

‫ميخا الثالث حيث يقول الرب على لسان ميخا ‪ " :‬اسمعوا هذا يا رؤساء بيت يعقوب وقضاة‬ ‫بيت إسرائيل الذين يكرهون الحق ويعوجون كل مستقيم ‪ .‬الذين يبنون صهيون بالدماء و‬

‫أورشليم بالظلم ‪ .‬رؤساؤها يقضون بالرشوة و كهنتها يعملون باألجرة وأنبياؤها يعرفون بالفضة‬ ‫وهم يتوكلون على الرب قائلين‪ ،‬أليس الرب في وسطنا‪ ،‬ال يأتي علينا شر ‪ .‬لذلك بسببكم‬

‫تفلح صهيون كحقل و تصير أرشليم خرابا وجبل البيت شوامخ وعر"‪ ،‬و لكن رب إسرائيل في‬

‫نهاية المطاف يرق قلبه لشعبه المدلل ويعطف عليه ويسامحه و يأخذه تحت رعايته ويرسل له‬

‫من يخلصه من أسره ويعيده إلى الفردوس الموعود‪ .‬هكذا يقول الرب " ال تخف ألني معك ‪....‬‬

‫ألني أنا الرب الممسك بيمينك القائل لكي ال تخف أنا أعينك" ( إشعيا ‪) 41‬‬

‫أما المسيح المخلص الذي أرسله الرب لخالص بني إسرائيل فما هو إال ملك فارس قورش ‪،‬‬ ‫" هكذا يقول الرب لمسيحه قورش الذي أمسكت بيمينه ألدوس أمامه أمما و أحقاء ملوك‬

‫أحل ألفتح أمامه المصراعين واألبواب ال تغلق" ( إشعيا ‪ ) 45‬وهكذا كان " ففي السنة األولى‬

‫لقورش ملك فارس عند تمام كالم الرب بفم إرميا نبه الرب روح قورش ملك فارس فأطلق نداءا‬ ‫في كل مملكة و بالكتابة أيضا قائال هكذا قال قورش ملك فارس ‪ ،‬جميع ممالك األرض دفعها‬ ‫لي الرب إله السماء وهو أوصاني أن أبني له بيتا في أورشليم التي في يهوذا‪ ... .‬والملك‬

‫قورش أخرج آنية بيت الرب التي أخرجها نبوخذ نصر من أورشليم " ( عز ار ‪.) 1‬‬

‫إذن السبي في رأي كتبة التوراة كان عقابا لبني إسرائيل على فعلهم الشر في عين الرب‬

‫يهوه‪ ،‬والعودة والخالص على يد المسيح الملك الفارسي قورش ‪ ،‬كان ثوابا ألولئك الذين‬

‫عادوا إلى ربهم يهوه‪،‬مطهرين في عذاب النفي‪..‬‬


‫‪30‬‬

‫الفصل الثاني‬ ‫اليهود واليهودية‬ ‫‪ - 1‬من هم يهود اليوم‬ ‫تقوم األيديولوجية الصهيونية على مقولة بأن اليهود في جميع أنحاء العالم هم قومية واحدة‬ ‫ذات أصول عرقية واحدة تعود إلى إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ‪.‬‬

‫وهذا يعني أن اليهودية قومية كغيرها من القوميات األخرى المعروفة في هذا العالم بغض‬

‫النظر عن الدين أو العقيدة ‪ ،‬بمعنى أن اليهودي الصيني و الروسي و اليمني واليهودي‬ ‫الفالشا األفريقي وغيرهم ينتمون جميعا لقومية واحدة وأصول عرقية واحدة‪ ،‬رغم الفروق‬

‫العرقية والحضارية العميقة بينهم ‪ ،‬وهو ما يناقض الحقيقة و الواقع ‪ .‬والسؤال الذي يطرح‬

‫نفسه هنا نتيجة للمنطلق الصهيوني هذا هو‪ ،‬هل يحق لهذا اليهودي أن يغير دينه و‬

‫معتقداته بدون أن تنسلخ عنه صفة اليهودية؟ هل يحق لليهودي‪،‬أن يكون مسلما أو مسيحيا‬

‫أو بوذيا ويبقى بنفس الوقت يهوديا مادامت اليهودية عرقا و قومية ؟ نحن جميعا نعرف بأن‬

‫العربي أو غيره قد يكون مسلما أو مسيحيا أو يهوديا أو بوذيا بدون أن تسقط عنه صفته‬

‫القومية‪ .‬فالعربي المسيحي مثله مثل العربي المسلم ينتمي إلى قومية واحدة واختالف الدين‬

‫أو العقيدة ال تسقط عن أحد منهم انتمائهم لقوميتهم العربية‪ ،‬ولكن ليس اليهودي‪ ،‬ألن‬

‫اليهودية دين وعقيدة و االنتماء إليها هو انتماء ديني وتغير ذلك يسقط عنة صفة اليهودية‬ ‫واالنتماء إليها ‪.‬‬

‫تحاول الصهيونية إقناع العالم بالنقاء العرقي اليهودي و بأن يهود عصرنا أجمع هم أحفاد‬

‫اإلسرائيليين أبناء يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الذين أقاموا ‪ ،‬حسب رواية التوراة ‪،‬في فترة‬ ‫تاريخية معينة في منطقة الشرق األوسط و الذين" بنو ألنفسهم تاريخا وكيانا أسطوريا‬

‫مبنيا على الهرطقة األسطورية وتزيف الوقائع التاريخية لشعوب تلك المنطقة‪ ،‬كالسومريين‬

‫والبابليين في ما بين الرافدين و الفراعنة في مصر و الكنعانيين في سوريا و فلسطين‪ ،‬الذين‬

‫عرفوا جميعا بالرقي والحضارة‪ ،‬ونسبة كل ذلك زو ار للقبيلة اإلسرائيلية ‪(.‬زنون‬

‫كوسيدوفسكي‪ :‬ماذا تحدث األنبياء‪،‬ص‪ ، 7.‬ترجمه من البولونية إلى اللغة السلوفاكية‬ ‫يوسف ماروشياك‪ ،‬طبع ونشر بيريسكوب‪ -‬براتسالفا عام ‪.) 1989‬‬

‫أن مقولة نقاء النسل اإلسرائيلي الذي ظل حسب الفكر الصهيوني محتفظا بالبذرة االسرائيلية‬

‫مئات من السنين إلى يومنا هذا ال يقبلها العقل السليم ‪ ،‬حتى ورغم محاوالت دعم هذا القول‬


‫‪31‬‬

‫بأن اليهود حافظوا على هذا النقاء بالعيش في غيتو منعزل و بعدم اختالطهم بالمجتمعات‬

‫التي عاشوا في ظلها‪ .‬التوراة ذاتها‪ ،‬وهو المرجع الرئيسي لليهود‪ ،‬تقع كعادتها في تناقض‬ ‫نصوصها وتقول عكس ذلك وبأن االسرائيليين منذ ظهورهم على المسرح التوراتي تزاوجوا‬

‫وتناكحوا مع كل شعوب المنطقة التي تواجدوا بينها سواء في فلسطين أم في مصر‪ " ،‬فسكن‬

‫بنو إسرائيل في وسط الكنعانيين والحثيين واألموريين والفريزيين والحوريين واليبوسيين واتخذوا‬

‫بناتهم ألنفسهم نساء وأعطوا بناتهم لبنيهم وعبدوا آلهتهم " ( قضاة‪.) 10 – 5 /3 :‬‬

‫يقول طوماس طومسن األستاذ في كلية الالهوت في جامعة كوبنهاجن‪،‬إن التصورات المشتقة‬

‫أدبيا وتراثيا لليهودية المبكرة افترقت عن أي واقع تاريخي معروف ‪ .‬وبالرغم من أن االسم‬

‫يهوذا هو مصطلح جغرافي يرد ذكره في نصوص العهد األشوري‪ ،‬ويشير إلى المرتفعات الواقعة‬

‫جنوب القدس‪ ،‬فإن هذا االسم في العهد الفارسي هو اسم سياسي‪ ،‬إنه اسم المقاطعة‬

‫الفارسية‪ .‬إن االسم الذي يطلقه األشوريون على المرتفعات الجنوبية(ياءوداا) واالسم‬

‫المبراطوري الفارسي (يهد) لم يكونا انعكاسا لشعب أكثر مما كان أي من االسماء األخرى‬

‫المستخدمة ألجل أقاليم االمبراطورية‪ (.‬توماس تومسن‪ :‬الماضي الخرافي‪ -،‬التوراة والتاريخ‬ ‫ترجمة عدنان حسن‪ ،‬صدر عن دار قدمس ‪،‬دمشق‪ ،‬عام ‪ : 2001‬ص‪) 395:‬‬

‫في نصوص جزيرة الفيلة‪ ،‬يبدوا أن االسم (يهد) قد استعمل ألجل مجموعة معرفة من الناس‬ ‫الذين يطلقون عليهم (يهود)‪ ،‬لكنه ال يفهم بمعنى جغرافي‪ ،‬بل في سياق االندماج الديني‬

‫لبعض الناس في هذه المستعمرة العسكرية في مصر‪ .‬ويمكن اعتبار كلمة (يهوديم) بمثابة‪،‬‬

‫محدد هوية ذاتي مرتكز إلى العالقة الدينية باإلله يهوه‪ .‬هؤالء اليهود ليسوا قاطني يهوذا‪ ،‬وال‬ ‫من المحتمل أن يكونوا قد جاءوا أصال من يهوذا‪ .‬إنهم أعضاء رابطة دينية من أولئك الذين‬ ‫تتمحور حياتهم حول يهوه‪ .‬إن االنتشار الجغرافي للشعب المشار إليه يهوديم كبير للغاية‬

‫حيث أنه سيكون من الطيش االفتراض بأن هذا االسم يدل على مكان أصلهم‪ ،‬وال ينبغي علينا‬ ‫االستمرار في اعتبار هذا المصطلح (إثنوغرافيا) دون دليل‪ .‬في العهد الحاخامي ( التلمودي)‬

‫في القرن الثاني ميالدي‪ ،‬يكون مصطلح (يهوديم) وصفيا بشكل ديني على نحو واضح‪ ،‬وليس‬

‫أثنيا وال جغرافيا‪ ( .‬طومسن ‪ :‬الماضي الخرافي‪،‬نفس المصدر ص‪) 396:‬‬

‫كان مصطلح " اليهودي " قبل ظهور الصهيونية الهوية الخاصة لمعتنقي الديانة اليهودية‪،‬‬

‫وهذه الهوية كانت دينية بالدرجة األولى ‪ .‬ولكن قواعد وشروط هذه الديانة حكمت على اليهود‬ ‫سلوكا معينا في مختلف حياتهم اليومية االجتماعية والشخصية وفي عالقاتهم مع الغير‬

‫جعلتهم يعيشون في غيتو منغلق منفصل عن المجتمعات غير اليهودية وأعطتهم هوية‬

‫خاصة بهم ‪ .‬اليهود ذاتهم على لسان حاخاماتهم وصفوا ذاتهم بأنهم أمة دينية‪ ،‬أمة التوراة‪،‬‬


‫‪32‬‬

‫وبدون التوراة ال يوجد أمة يهودية ‪،‬ولم يشددوا على األصول العرقية‪ ( .‬باول جونسون‪ :‬تاريخ‬

‫األمة اليهودية‪ ، 1987 ،‬ترجمه إلى اللغة التشيكية في ار و يان المبير وصدر عن روزملوفي‬

‫عام ‪) 1995‬‬

‫الديانة اليهودية تقوم على معتقد أن اهلل(يهوه) عقد مع إسرائيل في صحراء سيناء اتفاقية‬ ‫جدد بموجبها وعده لهم بمنحهم فلسطين وطنا خالصا لهم ‪ .‬بنود هذه االتفاقية منقورة في‬

‫التوراة التي سلمها اهلل إلى موسى في صحراء سيناء ومن بعده استلمها يشوع وورثها بنو‬

‫إسرائيل جيال بعد جيل إلى يومنا هذا‪ .‬قام الحاخامات اليهود بشرح وتفنيد وتصنيف التوراة في‬ ‫تراث شفوي جمع في نهاية األمر في مؤلف يدعى‪:‬‬ ‫" التلمود" ‪.‬‬

‫ينقسم التلمود إلى قسمين أساسيين هما‪ :‬األول هو " الميشناه" والثاني " الجمارا" ‪ .‬المشناه‬

‫هي مجموعة قوانين تقع في ستة مجلدات و ‪ 531‬فصال و كل مجلد منها يتحدث عن مواضيع‬ ‫معينة مكتوبة بالعبرية و يعتقد أنها حررت في فلسطين حوالي العام ‪ 200‬ميالدي‪ ،‬أما الجمارة‬

‫وهي أوسع من المشناه بكثير ‪ ،‬فهي تناقش وتشرح المشناه وتدور حولها‪ ،‬وهناك مجموعتان‬

‫من الجمارة‪ ،‬واحدة ألفت في بالد ما بين النهرين ( بابل) حولي ‪ 500 – 200‬ميالدي وكتب‬ ‫معظمها باللغة اآلرامية‪ ،‬والثانية ألفت في فلسطين في زمن يعتقد أنه مالزم لكتابة الجمارة‬

‫البابلية‪ .‬تعتمد اليهودية على ما يسمى التلمود البابلي وهو يحتوي على كل من المشناة‬ ‫والجمارة البابلية كمصدر رسمي للتشريع و يحتوي التلمود بمجمله على مجموعتين من‬

‫المواضيع األولى هي القوانين والشرائع التي على اليهودي أن يتبعها في مختلف أوجه حياته‬

‫وتسمى" الهاالخاة" أي الطريق والقسم الثاني يحتوي على قصص وحكايات وفكاهات يدعى "‬

‫المدراش " أو " األغادا "‪ ،‬وليس لهذا القسم قيمة شرعية‪ .‬الهاالخاة صارمة في أوامرها‬

‫ونواهيها ومحرماتها ‪ ،‬فخالفا للمسيحية مثال التي تحتوي على عشرة أوامر ونواهي مثل ال‬

‫تسرق وال تقتل إلخ فإن اليهودية تحتوي على ‪ 613‬من األوامر والنواهي التي تدعا ميتسفا‬ ‫وجمعها متسفات ‪ ( .‬رفائيل كوهن‪ :‬التلمود ‪ :‬نشر عام ‪، 1990‬ترجمه من الفرنسية إلى‬

‫السلوفاكية إفا بيوفارس‪ ،‬طبع ونشر برعاية السفارة الفرنسية في سلوفاكيا عام ‪.) 2000‬‬ ‫من المعروف أن يهود اليوم سواء في داخل إسرائيل أو خارجها ينقسمون إلى طائفتين‪:‬‬

‫أوالهما الطائفة األشكنازية وتتألف من يهود أوروبا وخاصة شرقها وقسم كبير من يهود‬ ‫أمريكا وتمثل هذه الطائفة قمة الهرم في الحركة الصهيونية وفي المؤسسة الحاكمة في‬

‫إسرائيل على مختلف مستوياتها‪ .‬والطائفة الثانية تدعى" السفراديم" وتتألف من اليهود‬


‫‪33‬‬

‫الشرقيين وخاصة اليهود العرب ويهود العالم االسالمي‪ .‬وتنظر الطائفة األولى إلى الثانية‬ ‫بعين االحتقار واالستعالء والغطرسة العنصرية‪.‬‬

‫الكاتب البريطاني الجنسية أرثر كويستلر‪ ،‬الذي ولد عام ‪ 1905‬في بودابشت‪ -‬المجر‪ ،‬أثبت‬

‫في كتابه الذي صدر عام ‪ 1976‬بعنوان القبيلة الثالثة عشر‪ (،‬ترجمة وعرض وتلخيص ‪:‬‬

‫إبراهيم زكي خورشيد‪ ،‬دار المعارف القاهرة ‪ ) 1979 ،‬أن معظم اليهود األشكناز وخاصة‬ ‫يهود أوروبا الشرقية ‪،‬هم من أحفاد الخزر ‪.‬‬

‫الخزر شعب من أصول تركية عاش في القرون الوسطى واعتنق حوالي عام ‪ 740‬م الديانة‬

‫اليهودية‪ .‬وسبب تحول شعب الخزر إلى اليهودية غير معروف لحد االن ‪ ،‬ويعتقد أن هذا‬ ‫الشعب الذي وقع بين قوتين عظيمتين هما االمبراطورية البيزنطية المسيحية من جهة‬

‫والخالفة االسالمية من جهة أخرى قرر اعتناق ديانة ثالثة هي اليهودية‪ ،‬وأن ملك الخزر‬

‫وحاشيته اعتنقوا الديانة اليهودية تحديا لضغوط المسيحيين في بيزنطة وضغوط المسلمين من‬

‫الشرق ‪ .‬تختلف المصادر في تعليل األسباب ولكن حقيقة اعتناق الخزر لليهودية هي فوق‬

‫الشك‪ . .‬ولقد ذكر المؤرخون العرب دولة الخزر اليهودية في كتبهم‪ ،‬فنجد ذكر لهم في كتاب‬

‫الفهرس البن النديم ‪ ،‬كما ذكرهم المسعودي والدمشقي والبكري وغيرهم واجتمعوا على أن‬

‫الخزر اعتنقوا الديانة اليهودية وكانوا يستعملون حروف الهجاء العبرية‪.‬‬

‫ولعل أهم الوثائق التي تتحدث في هذا األمر هي ما سمي باسم " الرسائل الخزرية"( القبيلة‬

‫الثالثة عشر ‪ :‬سبق ذكره ‪ ،‬ص‪ ) 41 – 36 :‬و هي رسائل تبودلت بالعبرية بين اليهودي‬

‫حسداي بن شربوط ‪ ،‬كبير الوزراء لخليفة قرطبة عبد الرحمن الثالث ‪ ،‬والملك يوسف ملك‬ ‫دولة الخزر‪ .‬أما حسداي هذا فلقد ولد في قرطبة عام ‪ 910‬م ألسرة يهودية‪ .‬أتقن ممارسة‬ ‫الطب وصناعة العقاقير فاتخذه الخليفة طبيبا لبالطه ‪ ،‬ثم أصبح مسؤوال عن تنظيم أموال‬

‫الدولة‪ ،‬و بعد ذلك أقامه الخليفة وزي ار لخارجيته وخاصة في المعامالت الدبلوماسية المعقدة‬ ‫مع بيزنطة‪ .‬ويروى أن حسداي نفسه سمع أول ما سمع بوجود مملكة يهودية مستقلة من‬

‫بعض التجار القادمين من خراسان في بالد فارس‪ ،‬فأرسل لملك الخزر يوسف رسالة تتضمن‬

‫حديثا عن ازدهار إسبانيا في عهد العرب ‪ ،‬وكيف أن اليهود عاشوا في كنفها في رخاء وعز لم‬ ‫يعهدوا لهما مثيال من قبل‪ ،‬ثم يتحدث كيف عرف بوجود دولة الخزر اليهودية ويسأل عن‬

‫أصول شعب الخزر اليهودي وان كانوا من نسل سام ومن المهاجرين من فلسطين‪.‬‬

‫رد الملك يوسف على حسداي في رسالة مطولة هي مزيج من الواقع والخيال يشرح فيها كيف‬

‫ت ارءى له في منامه ملك نصحه باعتناق اليهودية‪ .‬ويتحدث في رسالته أن أصل اليهود الخزر‬ ‫يرجع إلى يافت وليس إلى سام بن نوح‪ ،‬كما تفاخر بعظمة مملكته والمعارك التي قام بها‪.‬‬


‫‪34‬‬

‫يعتقد المؤرخون أن دخول الخزر في الديانة اليهودية لم يأت بين يوم وليلة ولكن جاء على‬

‫مراحل‪،‬وذلك بتأثير اليهود الذين هربوا أو جرى ترحيلهم من العاصمة البيونطية بسبب وطأة‬ ‫الحكم البيزنطي واالضطهاد الديني في عهد األباطرة يوستنيانوس األول وهرقل وليو الثالث‬

‫وليو الرابع ورومانوس‪ .‬لقد فر اليهود من بيزنطة إلى بالد الخزر‪ ،‬لكونها كانت معروفة بسعة‬

‫األفق ولم تعرف االضطهاد الديني ‪.‬‬

‫ومن المصادر األخرى التي تتحدث عن اليهود الخزر ‪ ،‬ما يسمى بوثيقة كمبرج ألنها‬

‫محفوظة في مكتبة هذه الجامعة‪ .‬لقد كشف عن هذه الوثيقة مع وثائق أخرى في أواخر القرن‬

‫التاسع عشر في كنيس اليهود بالقاهرة‪ .‬ورغم أن حالة الوثيقة سيئة وأولها مفقود وآخرها‬

‫مفقود ‪ ،‬إال أننا تستطيع أن نفهم من الرسالة أن كاتبها يهودي خزري يتحدث عن بالد الخزر‬

‫ببالدنا ويشير إلى الملك بموالي ‪ ،‬ويعتقد أن كاتبها من رجال البالط أيام الملك يوسف‪.‬‬ ‫يبين كويستلر أنه بعد تدمير امبراطورية الخزر في القرن الثالث عشر ميالدي على يد‬

‫المغول ‪ ،‬هجر اليهود الخزر إلى أقطار أوروبا الشرقية وخاصة روسيا و بولندة ‪ ،‬حيث نجد‬ ‫في مطالع العصر الحديث أعظم تجمعات لليهود‪ ،‬وبهذا فإن فريقا ال يستهان به من اليهود‬

‫الشرقيين‪ ،‬وربما معظمهم وكذلك من اليهود في العالم وخاصة الواليات المتحدة حيث هاجر‬

‫اليهود الشرقيين إليها خاصة بعد الحرب العالمية الثانية‪ ،‬هم من أصول خزرية وليست‬ ‫سامية‪.‬‬

‫الدكتور ألفرد لينتال من الشخصيات المعروفة في األوساط السياسية األمريكية والعالمية‪،‬‬ ‫فرغم أنه يهودي إال أنه من المناضلين المعروفين ضد الصهيونية و معتقداتها النظرية‬

‫ومسلكها العملي‪ .‬لينتال في كتابه "الصهيونية‪ :‬ترجمة تشيكية صدرت عن دار أربيس في براغ‬

‫عام ‪ 1989‬ص‪) 284:‬يقول ‪ :‬أن ما أثبته كويستلر في كتابه عن اليهود الخزر واألصول‬

‫الخزرية لليهود الشرق أروبيين‪ ،‬ليس بشيء جديد على االطالق‪ .‬إن حقيقة األصول الخزرية‬ ‫لألكثرية اليهودية في العالم كانت معروفة منذ زمن طويل ‪ .‬ولكن كويستلر من سماهم‬

‫القبيلة الثالثة عشرة‪.‬‬

‫لينتال في كتابه( أي ثمن إسرائيل؟‬

‫‪ ) what price Yzrael‬الذي صدر عام ‪1954‬‬

‫أي ثالثة وعشرون عاما قبل صدور كتاب كويستلر‪ ،‬يتحدث عن األصول الخزرية ليهود شرق‬

‫وغرب أوروبا‪ .‬المؤلف تحدث عن اعتناق الخزر للديانة اليهودية وكيف رحل اليهود الخزر بعد‬ ‫تدمير بلدهم إلى أوروبا الشرقية ومنها إلى سائر أوروبا‪ ،‬و ذكر كذلك كيف أن الصهيونية‬ ‫عملت كل ما في وسعها الخفاء هذه الحقيقة ألنها تشكل خط ار حقيقيا على مطالبها بعودة‬

‫الشعب اليهودي إلى فلسطين‪.‬‬


‫‪35‬‬

‫يؤكد لينتال أنه ال يوجد عالقة أونتروبولوجية( عرقية) بين زعماء الصهيونية ومعظم يهود‬

‫العالم وبين فلسطين‪ .‬فلسطين التي يدعي الصهاينة أنها وطنهم ويرغبون العودة إليها لم‬ ‫تكن وطنا لهم وال ألجدادهم وال يوجد لهم أي عالقة عرقية بها‪ ( .‬نفس المصدر)‬

‫من الطبيعي أن ما قاله كويستلر و لينتال وغيرهم لم يعجب الصهاينة أبدا‪ ،‬ألنهم أظهروا‬

‫للعالم ما لم يرغب الصهاينة في أن يظهر‪ .‬ما قاله لينتال وكويستلر ينهي أسطورة الشعب‬

‫اليهودي الواحد ‪،‬و يقوض مطالب الصهيونية المزعومة بعودة الشعب اليهودي إلى وطنه األم‬

‫فلسطين‪ .‬كما أن ذلك يعني أن معظم اليهود الذين نجوا من النازية األلمانية ليسوا من أصول‬

‫سامية بل من أصول خزرية‪ .‬وهذا يعرض شعار‬

‫" معاداة السامية" الذي استعمله الصهاينة كمظلة لهم ولمطالبهم للخطر‪ ،‬وأين سيكون‬

‫الصهاينة والصهيونية بدون مظلة " معاداة السامية" ؟ لذلك قام الصهاينة وأصدقائهم في‬

‫أمريكا والغرب‪ ،‬بحملة شعواء ضد كويستلر وكتابه وضد لينتال وأفكاره واتهموهم بمعاداة‬ ‫السامية مع أن لينتال نفسه يهوديا‪.‬‬

‫الحقيقة أن ادعاء الصهاينة بأن الشعب اليهودي في جميع أنحاء العالم ذوي أصول واحدة‬

‫تعود إلى فلسطين‪ ،‬وأن اليهود في العالم من أصول أجدادهم الذين رحلوا من فلسطين بعد هدم‬

‫الهيكل في القدس على يد الرومان‪ ،‬تدحضها حقائق تاريخية كثيرة‪ ،‬التي تؤكد على أن‬

‫تجمعات اليهود خارج فلسطين قد تكونت قبل مائتى عام من هدم الهيكل في فلسطين وذلك‬

‫بسبب اعتناق كثير من الناس من جنسيات مختلفة للديانة اليهودية و أن اليهود ذوي األصول‬

‫العبرانية أو االسرائيلية‪ ،‬شكلوا جزءا بسيطا من أولئك اليهود الذين كانوا ذوي أصول عائدة إلى‬ ‫شعوب أخرى مختلفة‪ ،‬والذين لم يكن لهم عالقة أثنيه على االطالق باألصول العبرية‬

‫واالسرائيلية‪ (.‬دي السي أوليري‪ :‬جزيرة العرب قبل البعثة‪ ،‬ترجمة وتعليق موسى علي‬

‫الغول‪،‬منشورات وزارة الثقافة األردنية‪ ،‬طبعة‪ 1‬عام ‪ ،1990‬ص ‪.) 188 :‬‬

‫لقد اعتنق الديانة اليهودية شعوب مختلفة وأفراد من شعوب مختلفة‪ ،‬مثل الشعب العربي في‬

‫اليمن‪ ،‬وبعض العرب في نجد والحجاز‪ ،‬كما اعتنق اليهودية كثير من اليونان والبلغار والمجر‬

‫‪ .‬كما انتشرت الديانة اليهودية في مختلف أركان االمبراطورية الرومانية حتى وصلت فرنسا‬ ‫واسبانيا‪ ،‬ولقد نقل التجار اليهود عقيدتهم إلى الهند والصين ‪ .‬ويظهر أن اليهودية أيضا‬ ‫تأثرت ببعض األفكار البوذية الهندية والكونفوشية الصينية التي كانت قد ظهرت في عهد‬

‫ظهور اليهودية وتأثر بها اليونان ونقلوها إلى شعوب الشرق األدنى كما تأثرت اليهودية‬

‫بالديانة الزرادشية الفارسية التي احتكوا بها احتكاكا مباشرا‪ ( .‬بيرنارد لويس ‪ :‬الشرق األدنى ‪:‬‬


‫‪36‬‬

‫‪ 2000‬عام من التاريخ منذ نشوء المسيحية‪ ،‬نشر عام ‪ ، 1995‬ترجمه إلى التشيكية‪ :‬سوسانا‬ ‫راوسوف ‪ ،‬نشر‪ :‬ليدوفي نوفيني ‪ ،‬براغ عام ‪. ) 2000‬‬

‫لقد أكد المؤرخ العربي ياقوت الحموي أن يهود بنو قريظة وبني النضير هم من القبائل العربية‬ ‫في الجزيرة واعتنقوا الديانة اليهودية‪ ( .‬ياقوت الحموي ‪ :‬معجم البلدان‪ ،‬ج الرابع ‪ ،‬ص ‪:‬‬

‫‪ 385‬و ‪ ) 460‬ويؤكد هذا القول اليعقوبي في تاريخه ويقول أن القبائل اليهودية في المدينة‬

‫من العرب من قبيلة جذام ‪،‬و يقول ولفنسون وهو يهودي في‬

‫" تاريخ اليهود في بالد العرب " نقال عن غراتز أنه هناك شهادات من يهود مدينة دمشق‬

‫وحلب في القرن الثالث بعد الميالد ينكرون فيها رحيل يهود من فلسطين إلى الجزيرة العربية‪،‬‬

‫أي أن التجمعات اليهودية في الجزيرة العربية لم تكن من يهود فلسطين‪ (.‬موسى على الغول‬

‫من تعليقه في هوامش كتاب دي السي اوليري‪ ،‬سبق ‪ ،‬ص‪ ) 190 :‬هذا مما يؤكد قول ياقوت‬ ‫واليعقوبي وغيرهم أن يهود الجزيرة هم عرب اعتنقوا الديانة اليهودية ولم يكونوا من أصول‬

‫إسرائيلية وال فلسطينية ‪.‬‬

‫لقد انتشرت اليهودية في بقاع مختلفة من جزيرة العرب ووصلت جنوب الجزيرة حيث كانت‬ ‫قبائل عربية بكاملها تتحول إلى اليهودية‪ .‬وكان من أهم الذين دخلوا هذه الديانة "ذو نواس"‬ ‫وهو من العائلة اليمنية المالكة وكان يسمى "زرعة" ويلقب بذي النواس أي ذي الشعر‬

‫الجعدي‪ ،‬ولقد أصبح ملكا على اليمن وحمير وأعلن اعتناقه لليهودية وسمى نفسه يوسف‬

‫وفرض على عرب اليمن اعتناق اليهودية‪ ،‬واليه يعزى قتل وحرق نصارى نجران ‪ ،‬حيث خيرهم‬ ‫بين اعتناق اليهودية أو القتل فرفضوا اعتناق اليهودية فحفر لهم أخدودا وحرق من حرق‬

‫بالنار وقتل من قتل بالسيف‪ .‬ولقد شكى من نجى منهم فعل ذي النواس إلى قيصر الروم‬

‫النصراني فطلب هذا من حليفه ملك الحبشة الذي كان أيضا نصرانيا أن يقوم بعقاب ذي‬

‫النواس واليهود على فعلتهم فسير لهم حملته المعروفة بقيادة رجل اسمه أرياط وكان في جنده‬

‫أبرهة الحبشي الذي عرف فيما بعد" باألشرم"‪ .‬فركب أرياط البحر حتى نزل بساحل اليمن‬

‫وسار إليه ذو النواس في حمير ومن أطاعه من قبائل اليمن ‪ ،‬فلما التقوا انهزم ذو النواس‬

‫وأصحابه ‪ .‬فلما رأى ذو النواس ما نزل به وبقومه وجه فرسه إلى البحر ثم ضربه فخاض به‬

‫وغرق وكان آخر العهد به‪ ( .‬تهذيب سيرة ابن هشام لعبد السالم هارون ‪ ،‬المجمع العلمي‬

‫العربي االسالمي‪ ،‬ص‪) 27 :‬‬


‫‪37‬‬

‫‪ -2‬اليهودية بين الدين والسياسة‬ ‫الدكتور ميلوش مندل‪ ،‬مستشرق تشيكي يعمل في معهد االستشراق التابع ألكاديمية العلوم‬

‫التشيكية ويدرس كذلك في كلية الفلسفة التابعة لجامعة مساريك في برنو‪ ،‬الجمهورية‬

‫التشيكية‪ .‬يتقن كال من اللغتين العربية والعبرية و له عدة مؤلفات عن الصراع العربي‬ ‫االسرائيلي ‪ ،‬و كذلك عن اإلسالم والتيارات االسالمية‪.‬‬

‫في كتابه الذي صدر مؤخ ار بعنوان " الدين في الصراع على فلسطين‪ :‬الصادر باللغة التشيكية‬

‫عن مؤسسة أتلنتس‪ ،‬برنو ‪ ،‬عام ‪ " 2000‬يعتقد أنه ال يمكن فهم الصراع بين اليهود والعرب‬ ‫على فلسطين ‪ ،‬بدون فهم األركان األساسية التي تقوم عليها كل من الديانات الثالثة‬

‫المسيحية و االسالمية و اليهودية وخاصة الديانتين األخيرتين‪ .‬يقول أن الناس خارج العالم‬

‫االسالمي عندهم صورة عن الديانة االسالمية ‪ ،‬قد تكون في بعض األحيان إيجابية وفي‬

‫أحيان أخرى سلبية‪ .‬ولكن األمر بالنسبة للديانة اليهودية أكثر تعقيدا‪ ،‬ففي كثير من األحيان‬ ‫ينظر إلى هذه الديانة بعيون رومانسية‪،‬روحانية و أي محاولة لدراسة اليهودية دراسة‬

‫متكاملة‪ ،‬كانت تواجه سواء في داخل إسرائيل أو بين يهود " الشتات " ‪ ،‬بعقبة ما تمنعها من‬

‫الحكم حكما صحيحا‪ ،‬خاصة في ما يخص كافة وجوه النظام الديني التي تتعلق بالصراع في‬

‫الشرق األوسط ‪.‬‬

‫تقوم اليهودية على ميثولوجيا بأن اإلله يهوه قد عقد اتفاقية بينه وبين بني إسرائيل ‪ ،‬وحسب‬

‫هذه االتفاقية فإن يهوه اختار هم من بين البشر كحملة عبادته وحده من دون غيره مقابل أن‬ ‫يمنحهم األرض المقدسة فلسطين كوطن خالص لهم ‪ .‬جرى االتفاق األول بين إله إسرائيل‬

‫وبين إبراهيم الذي يعتبره اليهود جدهم األول‪ ،‬حيث تعهد الرب بمنح إبراهيم ونسله من بعده(‬

‫تعني بني إسرائيل فقط) أرض كنعان وهي أرض فلسطين‪ .‬وبعد انقطاع وغياب طويل‪ ،‬عاد‬

‫الرب وقرر تجديد االتفاق بينه وبين بني إسرائيل‪ ،‬فأرسل لهم موسى إلخراجهم من مصر حيث‬ ‫عاشوا لعدة قرون في ذل واضطهاد‪ ،‬وفي سيناء جدد عهده لهم واتفاقيته التي عقدها مع‬ ‫جدهم إبراهيم والتي بموجبها وعد أن يمنحهم أرض اللبن والعسل فلسطين خالصة لهم من‬

‫دون غيرهم ‪ .‬وحتى يلتئم التسلسل التاريخي‪ ،‬صور كتبة التوراة اإلله يهوه بأنه امتداد لإلله‬

‫إيل اله إبراهيم رغم ظهوره باسم جديد وبعد انقطاع دام مئات السنوات‪ ،‬كما صوروا موسى‬

‫والموسويين بأنهم امتداد إلبراهيم واسحق ويعقوب‪.‬‬


‫‪38‬‬

‫االتفاقية تطلب من شعب اهلل المختار‪ ،‬مقابل الوعد اإللهي بمنحهم األرض المقدسة‪،‬‬

‫االخالص لعبادة يهوه وحده من دون اآللهة و التزامهم بالدستور الذي وضعه لهم في التوراة‪.‬‬ ‫بنود هذا الدستور وقوانينه ‪،‬وبإلهام من اهلل‪ ،‬شرحها وفندها ورتبها‪ ،‬مجموعة من الحاخامات‬

‫في مؤلف دعي الهاالخاه( أي الطريق)‪ ،‬وتحتوي الهاالخاه على كل ما يجب أن يفعله ويقوم‬ ‫به اليهودي في مختلف الوجوه الحياتية‪.‬‬

‫قضيتان أساسيتان بقيتا على مر العصور عنص ار أساسيا في العقيدة اليهودية‪ ،‬وعمل‬

‫الحاخامات اليهود كل ما في وسعهم أن تظال حيتين في الوعي اليهودي‪:‬‬

‫األولى " أنهم شعب اهلل المختار" والثانية اإليمان بما يسمى" األرض الموعودة إسرائيل( في‬

‫فلسطين)‪ "،‬أريتس إسرائيل"‬

‫القضية األولى أخذت مع تطور الزمن أشكاال مختلفة في العقيدة اليهودية‪ .‬بعض التيارات‬

‫اليهودية وخاصة المحدثين منهم ‪ ،‬اعتبروا أن اهلل اختارهم ليكونوا حملة عقيدته‪ ،‬و أنهم رسل‬ ‫لتحقيق مشيئة اهلل بتهيئة الظروف لعودة المسيح المنقذ ‪ .‬وبعض التيارات األخرى وخاصة‬

‫التيارات األصولية‪ ،‬اعتبرت أن اختيارهم من قبل اهلل كان ألنهم األفضل من بين كل شعوب‬

‫األرض‪ ،‬وأن اهلل بعثهم للناس كنور مضيء للشعوب األخرى‪ ،‬ولقد بلغ تأويل األصوليين اليهود‬

‫لهذا االختيار حدا تجاوز حدود العنصرية والشوفينية‪.‬‬

‫القضية الثانية‪ ،‬جرى غرسها في الوعي اليهودي على مر العصور باعتبارها جزءا ال يتج أز من‬ ‫االتفاقية مع اهلل‪ ،‬حيث صور لليهودي بأنه بدون أرض إسرائيل الموعودة ال يمكن تحقيق‬

‫وتطبيق االتفاقية مع اهلل وأن عودة اليهود لألرض المقدسة أمر إلهي من أجل التهيئة لظهور‬

‫المسيح المنقذ الذي سيقيم مملكة اهلل على األرض التي سيعمها السالم ‪ .‬و بناءا على ذلك‪،‬‬

‫حاول الحاخامات كل ما في وسعهم لزرع االعتقاد بأن وجود اليهود في " الشتات" هو وجود‬

‫مؤقت وأنهم الجئون في بلدان غريبة‪ ،‬ولذلك اختاروا اال نغالق على النفس والعيش في غيتو‬

‫مغلق في انتظار العودة إلى أرض الميعاد ‪.‬‬

‫يقول لندل أن رياح الليبرالية التي هبت على أوروبا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر‬

‫أصابت اليهود في أوروبا فبدأت حركة التجديد في العقيدة اليهودية والتي دعيت "هاسكاال" ‪.‬‬

‫ولكن التجديد لم يصب لب وأصول العقيدة اليهودية وانما أصاب األدوات الخطابية لهذه العقيدة‬ ‫مثل السماح باستعمال لغة أخرى غير العبرية والسماح بسماع الموسيقى وغيره‪ .‬ومع كل ذلك‬ ‫وبتأثير التجديد فلقد اختارت مجموعات من يهود ألمانيا وأوروبا الغربية في نهاية القرن‬

‫التاسع عشر وبداية القرن العشرين االنخراط والذوبان في مجتمعاتها‪ ،‬فانضمت إلى األحزاب‬

‫السياسية المختلفة من اشتراكية وشيوعية ولبرالية وغيرها وانخرطت في مؤسسات المجتمعات‬


‫‪39‬‬

‫التي تعيش فيها‪ .‬رياح التجديد هذه بأشكالها المختلفة أصابت مجموعات من يهود أوروبا‬

‫الغربية ولكنها لم تصل إلى يهود أوروبا الشرقية وال لليهود الشرقيين في البالد االسالمية ‪.‬‬

‫رياح التجديد جابهت مقاومة عنيفة من اليهودية الكالسيكية واألرتودوكسية واألصولية بشكل‬

‫عام ‪ .‬ولقد عزز موقف األصوليين عامالن أساسيان‪:‬‬

‫األول هو انتشار أشكال مختلفة من العداء للسامية في أوروبا‪ .‬ويقول لندل أن " خطاب‬

‫التيارات المعادية للسامية كان في نهاية المطاف مطابقا لكل من الخطاب اليهودي األصولي‬ ‫وخطاب الحركة الصهيونية‪ ،‬فكالهما كان ينبع من المقولة ذاتها وهي أن اليهود غرباء في‬

‫المجتمعات األوروبية وغير قادرين على التأقلم والعيش فيها وعليهم أن يرحلوا" ( نفس‬

‫المصدر ‪ ،‬ص ‪ ) 20‬لذلك كانت نداءات التيارات المعادية للسامية تصب في نهر الفكر‬

‫اليهودي األصولي والفكر الصهيوني‪ ،‬ولقد قامت األخيرة بتشجيع ذكي لمعاداة السامية ألن‬ ‫األفكار المعادية للسامية كانت من غير أن تدري تدعم دعما قويا فكر ومخطط الصهيونية‬

‫العالمية وساعدت في تحقيق حلم الصهيونية بإقامة الدولة اليهودية في فلسطين ‪.‬‬

‫العامل الثاني ‪،‬هو ظهور النازية وطرحها لما يسمى " بالحل النهائي" للمسألة اليهودية" وما‬ ‫نتج عن ذلك من تصفيات جسدية لكثير من اليهود في معسكرات االعتقال النازية‪ .‬ولكن‬

‫ورغم النتائج السلبية التي أصابت اليهود في الهولوكوست بخسارة عدد كبير منهم ‪،‬إال أن‬

‫الهلوكوست لعب دو ار مهما في التحام اليهود في العالم حول الفكر اليهودي األصولي من‬

‫جهة ودعم المشروع الصهيوني في فلسطين من جهة أخرى ‪ .‬لقد استغلت الصهيونية هذا‬

‫الحدث أكبر استغالل وكان ال بد من تضخيم الحدث إلى أعظم حد وزيادة عدد القتلى إلى أكبر‬ ‫عدد وذلك من أجل كسب اليهود المترددين ودر عطف العالم الغربي المسيحي الذي زرع في‬ ‫وعيه وبشكل منظم الشعور بوخز الضمير لموقفه الغير مبالي والمتفرج‪ ،‬كما صورته له‬

‫الصهيونية‪ ،‬من الهولوكوست‪.‬‬

‫على الرغم من أن الحركة الصهيونية بحد ذاتها لم تكن حركة دينية‪ ،‬إال أنها استغلت الدين‬ ‫والفكر الديني اليهودي القائم على الوعد اإللهي ليس إلقامة الدولة اليهودية في فلسطين‬

‫فحسب ولكن كذلك من أجل تبرير احتالل بقية أرض فلسطين وترحيل الفلسطينيين منها‬

‫باعتبارها جزءا ال يتج أز من أرض إسرائيل الموعودة من قبل الرب ‪.‬‬

‫في األعوام األولى لقيام الدولة اليهودية عام ‪ 1948‬لعبت األصولية اليهودية دو ار هامشيا في‬ ‫إدارة الحكم في إسرائيل‪ ،‬وكان تأثيرها تأثي ار غير مباشر في المجتمع االسرائيلي‪ ،‬فلقد بقي‬

‫الحكم في أيدي اليسار االسرائيلي العلماني الممثل بحزب العمال‪ .‬وكانت اليهودية األصولية‬

‫تركز على مطلب تهويد القوانين وخاصة في ما يتعلق بالعالقات االجتماعية من زواج وطالق‬


‫‪40‬‬

‫وارث وغيره‪ ،‬وكان همها الدعوة إلى العودة إلى القيم اليهودية األصولية التي تدعو لها‬

‫الهاالخاه‪.‬‬

‫نتائج االنتخابات البرلمانية االسرائيلية عام ‪ 1977‬أحدثت انعطافا مهما في المسرح السياسي‬

‫االسرائيلي‪ ،‬فلقد فاز في االنتخابات االئتالف اليميني االسرائيلي الليكود‪ ،‬ولقد قوبل هذا الفوز‬

‫بالبرود من قبل أصدقاء اسرائيل في أوروبا الغربية والشرقية‪ ،‬فلقد كان على رأس هذا االئتالف‬

‫شخصيات ذات تاريخ إرهابي‪ ،‬مثل بيغن وشامير المسؤوالن عن عدد من المذابح ضد القوات‬ ‫البريطانية وضد العرب الفلسطينيين أهل البالد األصليين‪ .‬لقد اعتقد المراقبون أن نتيجة‬

‫االنتخابات هذه ما هي إال حدث عارض في المسرح السياسي االسرائيلي‪ ،‬ولكن األيام أثبتت‬

‫أن القضية تختلف تماما وأن هناك تحركا مستم ار في المجتمع االسرائيلي باتجاه اليمين‬

‫الصهيوني وباتجاه الديني األصولي المتطرف‪ .‬لقد أثبتت المراقبة الدقيقة للمجتمع االسرائيلي‬

‫أن هناك رغبة عارمة وخاصة لدى طبقة الشباب االسرائيلي بإعادة هودنة نظام الحكم‬ ‫والمجتمع في إسرائيل والعودة به إلى األصول التي قامت عليها اليهودية والمنقورة في‬

‫الهاالخاه ‪ .‬أشخاص أمثال شامير وبيغن وغيرهم‪ ،‬أصبحت تعتبر في المجتمع االسرائيلي‬

‫كأبطال وليس إرهابيين‪.‬‬

‫يقول لندل أنه كما في داخل إسرائيل كذلك خارجها ظهر عامل جديد أخذ باالنتشار بين‬

‫صفوف اليهود وهو " األصولية الدينية اليهودية السياسية" ‪ ،‬واتجه هذا التيار تدريجيا نحو‬

‫التطرف والراديكالية‪.‬‬

‫يعطي لندل مثال‪ ،‬حزب المفدال الديني الذي كان منذ قيام إسرائيل حليفا لحزب العمل واشترك‬

‫معه في تأليف عدد من الحكومات االسرائيلية‪.‬‬

‫لقد نشأ حزب المفدال من الحزب اليهودي المدعو " مزراحي" ومعناه المركز الروحي أو‬

‫الديني‪ ،‬ولقد كان من أوائل األحزاب اليهودية الدينية التي قامت بين المهاجرين اليهود في‬ ‫فلسطين قبل قيام إسرائيل‪ .‬ولقد قام هذا الحزب على نواة حركة من اليهود األوروبيين‬

‫الشرقيين كانت تدعى " محبي صهيون" ‪ .‬كان هدف مزراحي هو حث يهود العالم على الهجرة‬

‫إلى فلسطين وتكوين أغلبية يهودية فيها‪ .‬في عام ‪ 1902‬تحولت هذه الحركة إلى حزب‬

‫وانضمت إلى الحركة الصهيونية العالمية‪ .‬ومن الغريب أن هذا الحزب كان من أول من وافق‬

‫على اقتراح وايزمن بإقامة دولة إسرائيل في أوغنده في أفريقيا على شرط أن تقوم الحركة‬

‫الصهيونية بتغليف هذا االقتراح بغطاء ديني يهودي‪ .‬في عام ‪ ، 1922‬أسس هذا الحزب‬ ‫نقابات خاصة للعمال اليهود في فلسطين المتعاطفين مع سياساته بمعزل عن نقابات‬

‫الهستدروت مع أن التعاون بين النقابتين ظل قائما خاصة في مجال التأمين الصحي‬


‫‪41‬‬

‫واالجتماعي‪ .‬ولكن مع األيام انفصل التنظيم النقابي لحزب المزراحي عن الحزب األم وكون‬

‫حزبا مستقال له‪ .‬وبعد قيام دولة إسرائيل بثالث سنين اتحد الحزبان من جديد وكونا حزبا واحدا‬

‫هو حزب المفدال القومي الديني‪.‬‬

‫تحالف حزب المفدال الديني القومي منذ قيامه مع حزب العمال اليساري ودخل معه في‬

‫ائتالف حكومي‪ .‬ولكن في عام ‪ 1977‬وصل إلى قيادة الحزب مجموعة من الشباب المتطرفة‬

‫والتي لم تجد في خطاب الحزب وتحالفه مع حزب العمل تلبية لخطابها الديني المتطرف ولذلك‬

‫ركضت إلى أحضان الحزب اليميني الليكود ودخلت معه في ائتالف حكومي‪ ،‬ألنها وجدت أن‬ ‫برنامجه يلبي تطلعاتها السياسية والدينية المتطرفة‪ .‬ولقد تطور الوضع في الحزب وصل‬

‫درجة أن كثي ار من شباب قاعدته ترك صفوف الحزب وانضم إلى حركات دينية سياسية‬

‫متطرفة مثل غوش إمونيم وتيخيا و موراشا وكاخ وغيرها والتي أخذت تنتشر خاصة بين يهو‬ ‫د المستوطنات والتي تعتبر نفسها جنود اهلل من أجل تحقيق وصيته المنقورة في الهاالخاه‬

‫وعلى رأسها استيطان كافة األراضي الفلسطينية وطرد أهلها منها‪ .‬أضعف هذا التسرب حزب‬ ‫المفدال فبدال من إثني عشر عضوا في الكنيست التي حصل عليها في انتخابات ‪، 1977‬‬

‫حصل في النصف الثاني من الثمانينيات على عضو واحد هو يوسف بيغ العضو المخضرم في‬

‫المفدال‪.‬‬

‫يقول لندل أنه إلى جانب الفكر الديني األصولي فإن عامال آخر يجمع هذه التنظيمات‬

‫األصولية المتطرفة وهو أن قادتها و قاعتها تتكون من اليهود األشكيناز ‪ ،‬أي من اليهود‬

‫القادمين من أوروبا‪،‬و خاصة وسط أوروبا وشرقها ومن يهود الواليات المتحدة األمريكية‪.‬‬ ‫ومن المعروف أن يهود إسرائيل ينتمون إلى مجموعتين أساسيتين‪ ،‬فإلى جانب اليهود‬

‫األشكناز هناك اليهود القادمون من البلدان العربية والشرقية والذين يدعون السفراديم ‪.‬‬

‫احتجاجا على سياسة التعالي والعنصرية لليهود األشكناز قامت حركة من داخل المفدال‬

‫تطالب بالمساواة بين اليهود األشكناز واليهود الملونين وكونت حزبا خاصا بها هو حزب "‬ ‫تامي"‪ .‬استطاع هذا الحزب أن يحوز على تأييد عدد كبير من اليهود الشرقيين وخاصة‬

‫القادمين من مراكش وتونس ‪ ،‬كما استطاع أن يستقطب بعض التنظيمات الراديكالية لليهود‬

‫الشرقيين مثل تنظيم " النمور السود" ( سميت باسم منظمة للسود في أمريكا) و تنظيم"إسرائيل‬ ‫شيلي" ‪ .‬ولقد انتقد الحزب سياسة التعليم االسرائيلية التي ال تأخذ في الحسبان األصول‬

‫الثقافية لليهود الشرقيين ‪،‬كما انتقد السياسة العنصرية في المجتمع االسرائيلي والتي تتمثل في‬

‫األفالم االسرائيلية حيث تظهر اليهودي األشكنازي كبطل مثل جيمس بوند أما اليهودي الشرقي‬ ‫فيظهر في دور اللص أو المتسكع العاطل عن العمل‪ .‬لقد أثار الحزب و ناطقه الرسمي‬


‫‪42‬‬

‫أهارون أبو هاتزي ار وهو من أصول مراكشية‪ ،‬حفيظة مختلف األوساط اليهودية األشكنازية‬

‫في إسرائيل‪ ،‬فألول مرة يظهر حزب من هذا النوع يتهم المجتمع االسرائيلي بالعنصرية بناءا‬

‫على حقائق اجتماعية وتجارب فعلية‪ ،‬وبذلك يهدم أسطورة المجتمع الديموقراطي اليهودي‬

‫الموحد في إسرائيل‪.‬‬

‫في عام ‪ 1983‬وبعد اتهامات متعددة للناطق الرسمي للحزب بأنه اثناء رئاسته لمجلس مدينة‬

‫رام اهلل‪ ،‬تصرف بالخزينة العامة تصرفا شخصيا حكم عليه بالسجن عدة أشهر ‪ .‬محاكمة‬ ‫الناطق الرسمي للحزب كانت سببا في تصادمات عنصرية‪ ،‬أشار فيها مؤيدي الحزب من‬

‫اليهود الشرقيين أن أهارون لم يفعل شيئا جديدا وأن ما قام به يقوم به جميع المسؤولين في‬

‫اإلدارة المدنية وبشكل علني‪ ،‬ولكن ذلك لم يمنع من أن ما حدث كان ضربة قوية لحزب " تامي‬

‫" وأثر تأثي ار سلبيا على مستقبله السياسي‪.‬‬

‫لم يكن المزراحي الحزب الديني الوحيد الذي قام بين يهود فلسطين ‪ ،‬فمن األحزاب الدينية‬

‫اليهودية التي قامت في فلسطين االنتداب هو حزب " أجودا" والذي يعني عصبة إسرائيل‪.‬‬

‫تأسس هذا الحزب في البداية في عام ‪ 1912‬في ألمانيا ولقد انتشر تأثيره إلى يهود المجر‬ ‫وبولونيا والبلقان‪ .‬لم ينضم هذا الحزب إلى الحركة الصهيونية ولم يوافق على سياساتها‬

‫باعتبار أن بعث الشعب اليهودي وخالصه سيتم فقط بعد ظهور المسيح المنتظر‪ .‬وكما فعل‬

‫حزب المزراحي كون هذا الحزب لنفسه نقابات خاصة به من العمال اليهود المتعاطفين مع‬

‫سياسته‪ .‬ولكن هذه النقابات خالفا للحزب أبدت تفهما لسياسات الحركة الصهيونية وتعاملت‬

‫معها‪ .‬بعد قيام دولة إسرائيل انضم الحزب إلى " بناة إسرائيل " واعترف بالجنسية االسرائيلية‬

‫ودخل معترك الحياة السياسية في إسرائيل وشارك في االنتخابات العامة فيها‪ .‬ويركز هذا‬

‫الحزب على تهويد المجتمع االسرائيلي حسب الشريعة اليهودية المنقورة في الهاالخاة‪.‬‬

‫في منتصف الثمانينات أضعف الحزب انفصال مجموعة من اليهود الشرقيين السفراديم‬

‫بقيادة الحاخام " أوفاديا يوسف" ذو األصول العراقية وتشكيلهم حزبا خاصا بهم باسم حزب "‬

‫شاس " ( حماة التوراة السفراديم)‪ .‬ولنفس األسباب التي خرج بسببها حزب تامي من حضن‬

‫المفدال‪ ،‬كذلك خرج حزب " شاس" من حضن حزب " أجودا" ‪ .‬لقد أخذ حزب " شاس" على‬ ‫قيادة حزب "أجودا" بأنها أداة سياسية وروحية في يد األشكناز وبأن أعضاء الحزب من‬

‫السفراديم قد شعروا أنهم يشكلون بالنسبة للحزب مادة انتخابية فقط ال غير ‪ ،‬ولقد استقطب‬ ‫الحزب مجموعة كبيرة من أعضاء حزب أجودا ذوي األصول اآلسيوية واألفريقية كما استقطب‬

‫عددا كبي ار من مؤيدي حزب تامي الذين شعروا بخيبة أمل بعد محاكمة الناطق الرسمي للحزب‬

‫أهارون‪.‬‬


‫‪43‬‬

‫في الحقيقة لم يكن حزب شاس منذ مولده حزبا سفراديميا خالصا‪ ،‬فلقد انضم إلى المجموعة‬ ‫السفراديمية مجموعة أخرى من األشكناز الذين خرجوا من حزب أجودا بقيادة الحاخام "‬

‫أ‪.‬ميناخيم شاخ " ذو األصول اللتفانية‪ ،‬احتجاجا على سياسة الحزب الغير واضحة‪ .‬وهكذا‬

‫كان داخل حزب شاس تياران أحدهما سفراديمي بقيادة أوفادية يوسف واآلخر أشكنازي بقيادة‬

‫شاخ ‪.‬‬

‫في بداية األمر كان الطرفان متفاهمان ولكن سياسة أوفايدة الداعية للسالم مع العرب أقلقت‬

‫كل من األوساط اليمينية والدينية المتطرفة وأظهرت الخالفات مع التيار األشكنازي في الحزب‬

‫بقيادة شاخ‪ .‬أعلن أوفايدة أنه من أجل السالم وحرصا على أرواح اليهود التي هي أغلى من‬

‫األرض‪ ،‬على إسرائيل أن تتنازل عن األراضي المحتلة وعقد سالم مع الدول العربية‪ .‬وفي عام‬

‫‪ 1990‬زار مصر واجتمع مع الرئيس مبارك ومع ممثلين عن الديانتين االسالمية والمسيحية‪.‬‬

‫وفي داخل إسرائيل سعى لحجب الثقة عن الحكومة االسرائيلية اليمينية واعالن انتخابات مبكرة‬ ‫ألنه كان يأمل بفوز حزب رابين وبيريز‪ ،‬حزب العمل االسرائيلي‪ .‬سياسة أوفيدة هذه لقيت‬

‫رفضا من الجناح األشكنازي بقيادة شاخ الذي شكل تنظيما خاصا لالشكيناز في داخل الحزب‬

‫باسم " ديغل ها‪ -‬تورا" أي حماة التوراة‪،‬و رفض شاخ االشتراك في دعوة أوفايدة لحجب الثقة‬ ‫عن الحكومة اليمينية‪ ،‬بل واستطاع التأثير على حزب شاس ودفعه لالشتراك في حكومة‬

‫الليكود اليمينية بقيادة شامير‪ ،‬ولكنه في عام ‪ 1992‬لم يفلح في منع الحزب من دخول‬

‫الحكومة االئتالفية العمالية برئاسة رابين واستطاع إقناع الجناح األشكنازي في الحزب بعدم‬

‫االشتراك في هذه الحكومة ‪ ،‬وفي النهاية المطاف انفصل هذا الجناح عن حزب شاس وشكل‬ ‫حزبا مستقال متعاطفا مع السياسة المتطرفة لليمين الصهيوني و الديني القومي‪.‬‬

‫تستمد الحركات اليهودية الدينية القومية المتطرفة وبما فيهم المفدال أفكارها من طروحات‬

‫الحاخام أبرهام كوك ( ‪ )1935-1865‬الذي ولد في" لتفيا" ورحل عام ‪ 1904‬إلى فلسطين‬

‫وأصبح الحاخام األول لليهود األشكناز‪ ،‬وابنه تسفي يهودا كوك ‪ ،‬الذي مشى في خطى والده‬

‫وحمل أفكاره‪ .‬أهم أفكار كوك األب هي ‪ ،‬عودة اليهود من المهجر إلى أرض الميعاد تطبيقا‬ ‫لرغبة اهلل ورفض أفكار بعض الحركات الدينية اليهودية التي رفضت السياسة الصهيونية‬

‫بحجة أن عصر عودة المسيح المنتظر لم يبدأ بعد‪ ،‬وأعلن أن عصر عودة المسيح قد بدأ فعال‬ ‫‪،‬و أن الصهيونية ما هي إال األداة التي بعثها اهلل من أجل تحقيق الوعد اإللهي‪ ،‬وأن اهلل‬

‫سيرسم الشكل النهائي للمجتمع اليهودي في إسرائيل بعد قيام الدولة اليهودية وسيأخذ بيد‬

‫اليهود ويساعدهم في تطبيق االتفاقية حسب تعاليم التوراة‪ .‬أفكار كوك أصبحت مصد ار‬

‫لإللهام لكل من المفدال والحركات الدينية المتطرفة ‪ .‬أما كوك االبن فرغم أنه لم يكن في‬


‫‪44‬‬

‫ثقافة أبيه ولم يكن عالما بأصول شريعة الهاالخاة وبقي فترة طويلة لم يلعب فيها دو ار مهما‬

‫في الحركة الدينية القومية واألصولية‪ ،‬إال أنه أصبح في ما بعد كأبيه ملهما للحركات الدينية‬

‫المتطرفة‪.‬‬

‫تنطلق أفكار كوك االبن من شعارين اثنين بناهما على فكر والده‪ ،‬وهما أن انتصار إسرائيل‬

‫في حرب عام ‪ 1967‬حدث بمشيئة وارادة اهلل الذي أراد أن يعيد أرض إسرائيل ألصحابها‬

‫اليهود ‪ ،‬والتي أخذها من أجدادهم لعدم تمسكهم باالتفاقية مع اهلل وبشريعة الرب في التوراة‪.‬‬

‫ولقد كان الصهاينة العلمانيون أداة في هذه الحرب بدون علمهم من أجل تحقيق إرادة اهلل‪،‬‬ ‫وهي إشارة من اهلل على أن عصر المسيح المنتظر وخالص الشعب اليهودي قد بدأ ‪ ،‬كما‬

‫أعلن أن إعادة أي جزء من األرض إلى الفلسطينيين يعتبر خيانة هلل ومخالفة لالتفاقية معه‪.‬‬

‫أكد كوك االبن على النوعية المتفوقة لليهود والثقافة اليهودية ورفض كل ما هو ليس يهوديا‬

‫سواء من الناحية العرقية أو في ما يتعلق بالدين والثقافة‪ ،‬كما اعتبر أن اليهود واليهودية‬ ‫ستشكل الظروف الحضارية التي على العالم أجمع أن يسير في كنفها‪ .‬لقد أول النصوص‬

‫التوراتية حتى تنطبق على الواقع الحالي وأصدر الفتاوى التي تقارن عرب فلسطين بشعوب‬

‫التوراة مثل أهل مدين أو العمالقة ‪ ،‬الذين وصى رب التوراة بابادتهم حسب النص " ولن تبقي‬ ‫حيا أي شيء يتنفس" ‪ ،‬وأوجد بذلك تبري ار لطرد العرب من البالد أو حتى إبادتهم ‪.‬‬

‫من منطلق هذا الفهم نشر االرهابي شامير مقاال باللغة االنجليزية حتى يقرأه أكبر عدد من‬

‫الناس في العالم‪ ،‬وقد أعيد نشره بالعبرية في جريدة هامشمار االسرائيلية الصادرة بتاريخ ‪24‬‬

‫‪ ، 1987 . 12.‬يقول فيه‪:‬‬

‫" تعالوا ننظر إلى معتقداتنا حيث ال ديننا اليهودي وال تراثنا يمنع استعمال الوسائل االرهابية‬

‫في حربنا ضد األعداء‪ ،‬لذلك فليس هناك أي سبب يدعونا لوخز الضمير‪ ،‬في الوقت الذي‬

‫يدعونا الكتاب المقدس " اقتلوا الجميع وال تبقوا على أي شيء يتنفس" وبناءا على توجيه‬ ‫الكتاب المقدس‪ ،‬نحن نقاتل ضد أعداءنا الشريرين‪".‬‬

‫بناءا على أفكار كوك األب ومن بعده االبن أخذت الحركات الدينية المتطرفة تنظر إلى‬

‫الصهيونية على أنها اليد التي بعثها اهلل من أجل تحقيق الوعد اإللهي بإقامة الدولة اليهودية‬ ‫و تعلن أن حرب عام ‪ 1967‬وانتصار إسرائيل فيها‪ ،‬هو إشارة من اهلل على أن عصر عودة‬ ‫المسيح المنتظر قد بدأ‪ ،‬كما أعلنت هذا العام ‪،‬العام األول من تاريخ خالص الشعب‬

‫االسرائيلي‪ ،‬ووضعت نصب أعينها االسراع في استيطان كامل تراب فلسطين وتهويدها‬

‫واعالنها أرض إسرائيل "اريتس إسرائيل"‪ ،‬وقامت على أثرها حركات استيطانية متعددة لقيت من‬ ‫قبل حكام إسرائيل تفهما ودعما كامال‪.‬‬


‫‪45‬‬

‫تتفق الحركات الدينية المتطرفة مع اليمين السياسي االسرائيلي بأن أرض فلسطين‪،‬‬

‫" اريتس إسرائيل" هي أرض يهودية غير قابلة للنقاش وأنه يجب االسراع في استيطان‬

‫أراضيها وتطبيق سياسة األمر الواقع عليها‪ ،‬كما تتفق على أن القدس هي عاصمة إسرائيل‬

‫األبدية ومن الواجب الديني والقومي إعادة بناء الهيكل في أرض الحرم الشريف و كال من‬

‫الطرفين ال يخفي رغبته في إزالة هذا الصرح االسالمي بحجة أن الهيكل موجود تحته‪ .‬ويدور‬ ‫النقاش بين صفوف مختلف التيارات حول حدود أرض إسرائيل‪ ،‬التي يحددها جناح من اليمين‬ ‫االسرائيلي بأرض فلسطين التي كانت تحت االنتداب البريطاني أما الجناح اليميني المتطرف‬

‫إلى جانب الحركات الدينية المتطرفة فتعتبر أرض إسرائيل هي األرض الواقعة بين الفرات‬ ‫والنيل‪ ،‬وفي أسوء األحوال وبسبب الظروف الدولية الحالية المعقدة يمكن االقتناع مؤقتا‬

‫بسوريا ولبنان واألردن إلى جانب أرض فلسطين الحالية ‪ .‬كما يجري النقاش حول مصير‬

‫العرب الفلسطينيين ‪ ،‬سكان البالد األصليين؟ البعض يقول أنه يجب على الحكومة االسرائيلية‬

‫أن تقوم بترحيل الفلسطينيين إلى خارج أرض إسرائيل والى البلدان المجاورة‪ ،‬وان لم تسمح‬

‫الظروف على الحكومة والحركات الدينية القومية المتطرفة أن تقوم بكل االجراءات التعسفية‬ ‫الممكنة كي تضيق الخناق على حياة الفلسطينيين وتجعل من إقامتهم مستحيلة و بذلك‬

‫تجبرهم على الرحيل‪ .‬البعض اآلخر يقول أنه ال مانع من بقاء الفلسطينيين في أرض إسرائيل‬

‫بشرط أن يعترفوا ويقبلوا بحقيقة أن هذه األرض يهودية و هي ملك خالص لليهود‪ ،‬وأن يجري‬ ‫تهويد كافة القوانين وكافة الجوانب الحياتية في إسرائيل حسب الشريعة اليهودية المنقورة في‬

‫الهاالخاه‪.‬‬

‫الحركة الصهيونية ذاتها لم تكن حركة دينية مع أنها استغلت الدين واألحزاب الدينية‬

‫في تحقيق هدفها بإقامة دولة إسرائيل على التراب الفلسطيني‪ ،‬ولم تكن الحركة الصهيونية‬

‫موحدة في اتجاهاتها وكانت تحتوي على عدة أجنحة يمكن تقسيمها إلى ثالث تيا ارت رئيسية ‪.‬‬

‫التيار األول هو التيار اليساري بمختلف اتجاهاته ثم التيار اليميني بمختلف اتجاهاته أيضا من‬ ‫اليمين الوسط إلى اليمين الرجعي المتطرف‪ ،‬وبينهما الصهاينة العموميون والذين أسسوا في‬

‫عام ‪ 1935‬حركة بهذا االسم ‪ ،‬ولكنهم عادوا وانقسموا في عام ‪ 1935‬إلى مجموعتين ‪ ،‬واحدة‬ ‫بزعامة وايزمان ولقد تعاون هذا الفريق مع التيار اليساري وكان يعول في سياسته إلى اتباع‬

‫الواقعية‪ .‬والمجموعة الثانية كانت تتعاطف مع التيار اليميني وتؤيد سياسته ‪ .‬لعب الصهاينة‬ ‫دور‬ ‫العموميون دو ار مهما في تعبئة اليهود في العالم لدعم المخطط الصهيوني كما لعبوا ا‬

‫مهما في كسب الدول الغربية للمشروع الصهيوني‪ ،‬ولكن لم يلعب هذا التيار دو ار أساسيا بين‬


‫‪46‬‬

‫اليهود في فلسطين االنتداب‪ ،‬ولقد ظل التناحر بين اتجاهاته المختلفة مستم ار إلى أن‬ ‫توحدت كافة التيارات‪ ،‬عام ‪، 1961‬في حزب واحد ‪،‬هو الحزب اللبرالي‪.‬‬

‫أحد أهم رموز وقادة التيار اليميني في الحركة الصهيونية كان فالدمير جابوتوتسكي الذي‬ ‫ولد عام ‪ 1880‬في مدينة أوديسا في اكرانيا‪ .‬كان جابوتتسكي شخصية متضاربة فبالنسبة‬

‫للبعض كان فوضويا متطرفا وللبعض اآلخر فاشيا‪ .‬انضم إلى الحركة الصهيونية وهو شاب‬ ‫وبالرغم من رأي اآلخرين فيه كان واضحا في آراءه ال يساوم عليها‪ .‬كان يطالب بأوسع ما‬

‫يمكن الحصول عليه من األرض العربية القامة "أريتس إسرائيل" وكان يعي تماما أن السعي‬

‫خلف هذا الهدف يعني الصدام المسلح مع العرب ‪ ،‬ولذلك كان يحث على التهيئة العسكرية‬

‫لمقابلة المقاومة العربية المنتظرة‪.‬‬

‫عندما أعلن بلفور وعده " بوطن قومي لليهود " أعلن جابوتتسكي في المؤتمر السادس عشر‬

‫للصهيونية العالمية الذي عقد عام ‪ 1929‬في زيوريخ‪ "،‬أن الوطن القومي لليهود يعني‬

‫بالنسبة لليهود شيئا واحدا فقط ‪،‬وهو إقامة الدولة اليهودية المستقلة في فلسطين على‬

‫أكبر مساحة ممكنة من األرض بأكثرية يهودية غالبة ‪ ،‬كما لليهود ولهم فقط‪ ،‬الحق في حكم‬ ‫البالد وتحديد سياستها ووضع قوانينها ‪ ،‬وعلى المواطنين العرب إما قبول هذا الواقع أو‬

‫الرحيل‪ ،‬كما دعى إلى فتح كل الحدود على مصراعيها من أجل هجرة اليهود إلى فلسطين‬

‫وقام عام ‪ 1920‬بتشكيل ميليشيات يهودية مسلحة في فلسطين من أجل مواجهة المقاومة‬

‫العربية‪ .‬وفي عام ‪ 1940‬خرجت مجموعة جابوتتسكي من المنظمة الصهيونية العالمية وبعد‬ ‫عامين شكلت منظمة صهيونية مستقلة باسم المنظمة الصهيونية الجديدة‪.‬‬

‫في عام ‪ 1931‬شكل التيار اليميني المتطرف في فلسطين تنظيما مستقال عن الحركة‬

‫الصهيونية باسم إرغون‪ ،‬كمنظمة قومية مسلحة ‪،‬رفضت أخذ األوامر من الوكالة اليهودية‬ ‫لشؤون فلسطين‪ ،‬و في عام ‪ 1940‬انشق عن هذه المنظمة مجموعة دعت نفسها‬

‫" المقاتلون من أجل حرية إسرائيل والمعروفة باسم شتيرن حسب اسم قائدها أبراهام‬

‫شتيرن‪ .‬بعد قيام دولة إسرائيل عام ‪ 1948‬التفت المنظمات اليمينية حول حزب يميني جديد‬ ‫تحت اسم الحرية " حيروت " بقيادة زعيم منظمة إرغون ‪ ،‬ميناحيم بيغن وصاحب نظرية" آن‬

‫األوان الطالق النار وليس الكالم " ‪ .‬قام حزب حيروت بإعطاء الفكر الصهيوني السياسي‬

‫غطاءا من األصولية الدينية اليهودية‪ ،‬التي تنطلق من تعاليم التوراة‪ ،‬ورغم أنه لم يكن مهتما‬ ‫بتطبيق شريعة الهاالخاة على المجتمع االسرائيلي إال أنه جعل التوراة والهاالخاة مرجعية من‬

‫أجل تحقيق أهدافه السياسية‪ .‬أعلن الحزب بصراحة على ألسنة زعمائه‪ ،‬أن حدود إسرائيل‬

‫التي قامت عليها الدولة االسرائيلية عام ‪ ، 1948‬ليست حدود إسرائيل النهائية وانما حدود‬


‫‪47‬‬

‫مؤقتة وأن حدود إسرائيل هي من الفرات إلى النيل‪ ،‬وفي أسوأ الظروف فعلى األقل كال ضفتي‬

‫نهر األردن ومرتفعات الجوالن في سورية و كامل سيناء وكامل مدينة القدس العاصمة‬

‫األبدية السرائيل‪.‬‬

‫يقول لندل أنه بتأسيس حزب حيروت اقترب اليمين الصهيوني أكثر فأكثر نحو التيار‬

‫األصولي الديني المتطرف‪ ،‬و وجد في المنظمات اليهودية القومية المتطرفة حليفا وسندا‪،‬‬

‫يمكن أن يسند إليها األعمال الغير نظيفة في تحقيق الهدف المشترك ‪ ،‬وهو االستيالء على‬

‫األرض العربية واستيطانها وتهويدها وخلق ما يسمى في قاموس كل من التيارين اليميني‬

‫الصهيوني والديني القومي سياسة " األمر الواقع" ‪ .‬لقد لعب أريل شارون الذي كان في‬

‫أواخر السبعينيات وزي ار للزراعة دو ار مهما في تطبيق ودعم هذه السياسة بربط المستوطنات‬

‫اليهودية في غزة والضفة الغربية بالبنية التحتية لدولة إسرائيل‪.‬‬

‫يقول لندل أنه مع مرور األيام أخذت الفروقات بين اليمين الصهيوني وبين القومية الدينية‬ ‫المتطرفة تضيق إلى درجة أصبح تحديد هذه الفروق بينهما بالنسبة للمراقب أم ار في غاية‬

‫الصعوبة‪ .‬كما أصبح من الصعب اليوم تحديد من يتبع من في موزايكا التنظيمات االسرائيلية‬

‫لكثرة االنتقال والتحرك بين أعضاء التنظيمات إلى جانب تغير التحالفات المستمر بينها‪ .‬و قد‬ ‫يالحظ المراقب نقاشات حادة واتهامات متبادلة على صفحات الجرائد بين كافة رموز الحركات‬ ‫اليمينية والدينية المتطرفة ولكن في نهاية المطاف فإنهم في الكنيست يقفون في معظم‬

‫الحاالت كجبهة واحدة‪.‬‬

‫أم ار واحدا مهما يالحظه المراقب هو استمرار ضعف تأثير الصهيونية العلمانية المتمثلة في‬

‫حزب العمل في الوسط اليهودي وزيادة االنعطاف وخاصة عند الشباب نحو اليمين‬

‫الصهيوني و نحو الديني القومي المتطرف‪ .‬لقد أصبح المثل األعلى لكثير من الشباب‬

‫االسرائيلي صورة اليهودي الملتحي وفي يده الرشاش يسير متحديا أمام الموطنين العرب ‪.‬‬ ‫وأصبح مطلب هودنة الدولة والعودة إلى أصول الشريعة اليهودية يتصاعد‪.‬‬

‫المباحثات بين حكومة اليمين االسرائيلية برئاسة مناحيم بيغن وبين مصر عام ‪1979‬‬

‫والتي أدت إلى توقيع اتفاقية كامب ديفيد والتنازل عن سيناء أحدثت هزة في التحالف اليميني‬ ‫الليكودي واليميني القومي المتطرف‪ .‬على أثر هذا الحدث اجتمعت مجموعة من الرموز‬

‫الرافضة لسياسة الليكود الجديدة من داخل الليكود ومن خارجه وشكلت حزبا راديكاليا جديدا‬ ‫باسم " تيخيا" وتعني" البعث "‪ ،‬وكان هدف هذا التنظيم الجديد هو الوقوف في وجه أي‬

‫مفاوضات سلمية مع العرب والكشف عن سياسة الخيانة التي اتبعتها حكومة بيغن بتنازلها‬

‫عن االرض اليهودية للعرب‪ .‬لقد أصبح أبطال األمس من بيغن وشركاه خونة في عيون اليمين‬


‫‪48‬‬

‫المتطرف والديني القومي المتطرف‪ .‬من بين زعماء هذا الحزب الذين برزوا على المسرح‬

‫السياسي وجذبوا انتباه المجتمع االسرائيلي بتصريحاتهم وآرائهم الواضحة هم الجنرال رفائيل‬

‫ايتان ‪،‬رئيس األركان السابق للجيش االسرائيلي والذي أسس حزبا خاصا به باسم "كوميت "‬

‫وانضم الحقا مع حزبه إلى "تيخيا" وكذلك الجنرال جوفال نيمان و العضو السابق في المنظمة‬

‫االرهابية شتيرن و غيوال كوهين المنحدرة من أصل يمني‪ .‬لقد أعلن الثالثة بشكل واضح‬

‫وصريح أن اتفاقية السالم مع مصر هي خيانة لليهودية ألنها تنازلت عن قطعة من األرض‬

‫االسرائيلية الموعودة من اهلل‪ ،‬وبصقة في وجه األسس التي تقوم عليها الرسالة اليهودية‬

‫للعالم أجمع ‪ ،‬كما أعلنوا ‪ " :‬أن أرض إسرائيل هي أرضنا نحن اليهود ‪ ،‬وأن العرب في هذه‬

‫األرض ضيوف ليس إال‪ ،‬واذا أرادوا العيش بيننا فإننا نسمح لهم بذلك على شرط أن تكون‬ ‫حقوقهم ذات صفة فردية"‪ ،‬كما أكدوا أنه ال يحق للعرب في أرض اليهود أن يدعوا هذه‬

‫األرض وطنا وال أن يدعوا أنفسهم شعبا‪.‬‬

‫دعى حزب " تيخيا " جميع األحزاب والمنظمات اليهودية في إسرائيل أن تفيق قبل أن يفوت‬

‫األوان وأن تترك خالفاتها جانبا وأن تقف ضد أي اتفاق سالم مع العرب والتنازل لهم عن أي‬ ‫قطعة من أرض إسرائيل‪ ،‬كما دعا إلى وحدة كل القوى المعارضة للسالم مع العرب‪ .‬وأيد هذا‬

‫النداء الحاخام العجوز تسفي يهودا كوك وعدد من حاخامات المركز الحاخامي‪ .‬هذا الخطاب‬

‫تسبب في تسرب العضوية من كل من حزب حيروت اليميني ومن االئتالف اليميني في الليكود‬ ‫في اتجاه "تيخيا" و المنظمات الدينية المتطرفة التي أخذت تتكاثر تباعا‪ .‬فإلى جانب حزب"‬

‫كاخ" الذي تأسس عام ‪ 1971‬على يد ماير كاهان‪ ،‬و غوش أمونيم( عصبة المخلصين) الذي‬ ‫تشكل من مجموعة من شباب المفدال ‪،‬برز إلى الوجود حزب " موروشا" وتعني ( اإلرث)‬

‫الذي تأسس عام ‪ 1981‬بزعامة العضو السابق في المفدال الحاخام خايم دروكمان‪ ،‬وحزب‬ ‫مولديت ( الوطن ) الذي تأسس عام ‪ 1988‬على يد ضابط الجيش االسرائيلي ريخيم زيفي‬

‫الذي قاد الدعوة لترحيل المواطنين العرب من فلسطين‪ ،‬وغيرها من التنظيمات ‪ .‬ورغم الخالفات‬ ‫التي تظهر بين هذه التنظيمات والمجادالت السياسية بين زعماءها‪ ،‬إال أنها في نهاية المطاف‬

‫سواء خارج الكنيست أو داخله تقف كجبهة واحدة ضد أي اتفاق سالم مع العرب ينتج عنه‬

‫التنازل عن شبر واحد من أرض "اريتس إسرائيل" أو يمس بوحدة أراضيه أو من وحدة أراضي‬ ‫القدس" العاصمة األبدية لدولة اليهود" ‪ ،‬كما تقوم بمراقبة دقيقة لتحركات الليكود وحكومته‬

‫لمنعه من الرضوخ للواليات المتحدة األمريكية أو غيرها من الدول و منعه من التنازل أو‬ ‫المساس بما تسميه الثوابت اليهودية‪ .‬كما تدعم بكل الوسائل‪ ،‬سياسة استيطان األراضي‬

‫المحتلة وتهويدها‪ .‬ويرجع الفضل األول لحزب " تيخيا" وبناءا على اقتراحه‪،‬في إعالن مدينة‬


‫‪49‬‬

‫القدس عام ‪ 1980‬عاصمة موحدة أبدية لدولة إسرائيل و بعد عام من هذا االعالن نجح في‬ ‫أن يحصل على الموافقة على االقتراح الذي قدمه بضم الجوالن إلى دولة إسرائيل‪ .‬باختصار‬

‫شديد يالحظ المراقب أن تحركا ملحوظا يجري في المجتمع االسرائيلي نحو اليمين المتطرف‬

‫ونحو الديني األصولي المتطرف وخاصة لدى الجيل الصاعد كما يالحظ رغبة لدى الشباب‬

‫الجديد في تهويد كافة األوجه االجتماعية والسياسية في إسرائيل‪ ،‬وعلى الجانب االخر ضعف‬ ‫تأثير الصهيونية العلمانية المتمثلة في حزب العمل االسرائيلي‪ ( .‬المصدر األساسي لهذا‬

‫الفصل هو كتاب لندل المذكور سابقا)‬


‫‪50‬‬

‫‪ –3‬المسيحية الصهيونية‬ ‫العهد القديم ‪ ،‬ليس كتابا مقدسا لليهود فقط وانما هو يشكل مع العهد الجديد الكتاب المقدس‬ ‫للمسيحيين بكافة اتجاهاتهم وكنائسهم ‪ .‬من المعروف أن قراءة أي نص ديني يخضع آلليات‬

‫عديدة أهما المجال المعرفي الذي يحدد طرائق التفسير ومن ثم األفق المعرفي والثقافي‬

‫والسياسي للقارئ أو المفسر‪ ،‬وبما أن المجال المعرفي والثقافي والسياسي يختلف من قارئ‬

‫إلى آخر فكان ال بد من تعدد التفسيرات والتأويالت للنص الديني‪ ،‬أي نص ديني‪ .‬والتوراة‬

‫بشقيها هو نص ديني بالنسبة للمؤمنين المسيحيين ولذلك تعددت قراءاته وتأويالته مما نتج‬

‫عن ذلك تعدد في االتجاهات والتيارات والكنائس المسيحية‪.‬‬

‫تعتبر الكنائس المسيحية بما فيها األرتودوكسية الشرقية والكاثوليكية وحتى البروتستانتية‬

‫بشكل عام‪ ،‬أن رسالة المسيح جاءت استم ار ار للرسالة اليهودية وأن عهد المسيح هو عهد "‬ ‫إسرائيل الجديدة"‪ ،‬وال تعطي لليهودية أو بني إسرائيل أي دور في القصد اإللهي لمستقبل‬

‫البشرية‪.‬‬

‫من بين صفوف الكنيسة البروتستنتية نشأت أصوات تصر على حرفية قراءة النص التوراتي‬

‫وخاصة الفصل العشرين من سفر "رؤيا يوحنا الالهوتي" وتعتبر أن جزءا ال يتج أز من االيمان‬

‫المسيحي ‪،‬هو اإليمان بالمسيح المنتظر أو الظهور الثاني للمسيح المخلص للبشرية الذي‬

‫سينقذ العالم من أعداء المسيح ويشيد مملكة اهلل على األرض وعاصمتها الروحية القدس‪،‬‬

‫و عند ذلك يعم السالم على األرض ‪،‬حتى نهاية الزمن‪.‬‬

‫يعتقد هؤالء أن اهلل اختار اليهود لهذه المهمة عندما وقع معهم في سيناء االتفاقية اإللهية‪،‬‬

‫وأنه من واجب كل مسيحي أن يساعد ويعجل في عودة زمن المسيح المنتظر بمساعدة اليهود‬ ‫في العودة إلى األرض المقدسة ‪.‬ولقد اعتاد الباحثون على تسمية هذه الجماعات بالمسيحية‬

‫الصهيونية‪.‬‬

‫ظهرت المسيحية الصهيونية كتيار واضح الفكر بين البروتستانت في القرن السادس عشر‬

‫في أوروبا وخاصة في هولندا ومن ثم في القرن السابع عشر في انجلت ار ‪ .‬في عام ‪ 1587‬تم‬

‫حرق الداعية فرنسيس كيت ألنه أعلن أنه وجد في التوراة إثباتات تدل على أن اهلل قد كتب‬

‫لليهود العودة إلى األرض المقدسة وأنه على المسيحيين مساعدتهم في ذلك ‪ .‬في عام ‪1607‬‬ ‫أصدر توماس برجتمان في سويس ار كتابا بعنوان‬


‫‪51‬‬

‫" الظهور الثاني" شرح فيه أن اهلل قد عقد مع بني إسرائيل اتفاقية وأنه ال يمكن التملص أو‬

‫الهرب من هذه االتفاقية‪،‬و أن اهلل اختبر بني إسرائيل في عدة محن وفي النهاية وبناءا على‬ ‫مشيئة اهلل فإن اليهود سيعودون إلى األرض المقدسة من أجل التحضير لعودة المسيح‬

‫المنتظر وانشاء مملكة اهلل على األرض حيث سيعم السالم على البشرية‪ .‬بنفس االتجاه كانت‬

‫كتابات إسحق دي ال بيري ( ‪ ) 1676-1594‬الذي حذر المسيحيين من محاولة إجبار اليهود‬

‫التحول إلى المسيحية‪ ،‬ألن اليهود وليس غيرهم من سيحمل رسالة اهلل ومشيئته وعلى‬ ‫المسيحيين مساعدتهم في ذلك ‪.‬‬

‫في القرن الثامن عشر كان الفكر المسيحي الصهيوني جزءا من "حركة التغيير" المسيحية‪،‬‬

‫ولقد اشترك في دعم هذا الفكر كل من رجال الدين ورجال السياسة‪ .‬قسيس مدينة بريستول‬ ‫االنجليزية توماس نيوتون أعلن أنه على المسيحية أن تعيد تقيمها لليهود وأن تنظر لهم "‬

‫كشعب اتفاقية اهلل" الذي اختارهم من بين كل الشعوب لتحقيق مشيئته‪ .‬وكان لتعاليمه تأثي ار‬

‫ملحوظا في األوساط البروتستانتية كما تأثرت به بعض األوساط في الثورة الفرنسية و في‬

‫موجة التنوير زمن نابليون‪.‬‬

‫خالل القرن التاسع عشر أخذت األفكار المسيحية الصهيونية تتالقى مع رؤى كثير من رجال‬ ‫الدين اليهود مثل هيرش و ألكاالي ممثلي فترة ما قبل الصهيونية السياسية والذين هيئوا‬

‫التربة الصالحة لظهورها‪ .‬ولقد لعب كثير من الشخصيات السياسية المسيحية دو ار في تهيئة‬ ‫هذه التربة‪ .‬مثال تشارلز هينري تشيرشل الذي عمل دبلوماسيا في السفارة البريطانية في‬

‫دمشق كتب رسالة إلى المحسن اليهودي موسيس مونتيفيور يقول فيها" أن أمر عودة اليهود‬

‫إلى األرض المقدسة سيكون سهال جدا إذا قرر اليهود أخذ األمر بايديهم باإلضافة إلى‬

‫الدعم والعون الذي ستقدمه لهم الدول األوروبية الكبرى " ( لندل‪ :‬سبق ذكره‪ ،‬ص ‪. ) 204‬‬

‫ومن شخصيات ذاك الوقت المعروفة التي لعبت دو ار مهما في بلورة المسيحية الصهيونية هو‬

‫وليام هيتشلير ( ‪ ) 1931-1845‬الذي كان قسيسا في السفارة البريطانية في فينا وكان على‬

‫صلة وثيقة مع يهود االمبراطورية النمساوية ومع مؤسس الحركة الصهيونية هيرتسل‪ .‬لقد‬

‫قضى هيتشلر ثالثين عاما من عمرة في تهيئة الظروف الفكرية والسياسية من أجل تحقيق‬

‫الحلم الصهيوني بعودة اليهود إلى فلسطين واقامة الدولة اليهودية فيها‪ .‬لقد أعلن أن أسعد‬

‫أيام حياته هو يوم دعي لالشتراك في المؤتمر الصهيوني األول الذي عقد في بازل‪-‬سويس ار‬

‫عام ‪ 1897‬وال يعتبر س ار أن المسيحية الصهيونية األنجلوسكسونية قد ساعدت مساعدة كبيرة‬ ‫في تهيئة الظروف لقبول وعد بلفور المشهور عام ‪.1917‬‬


‫‪52‬‬

‫لم تكن المسيحية الصهيونية تيا ار طاغيا في المسيحية وال حتى في الكنيسة البروتستنتية‪.‬‬

‫األحداث التي جرت في ألمانيا أثر استالم النازية للسلطة وطرحها لسياسة " الحل النهائي "‬

‫للمسألة اليهودية وما تبع ذلك من اضطهاد لليهود أعطى دفعة قوية لهذا التيار في العالم‬

‫الغربي واألمريكي‪ .‬وبعد قيام دولة إسرائيل هجر إليها عدد كبير من القساوسة والنشطاء من‬ ‫أجل دعم بناء إسرائيل والعمل على جذب حب ودعم العالم المسيحي للدولة اليهودية‪ .‬و كما‬ ‫رأت المنظمات اليهودية المتطرفة في انتصار إسرائيل عام ‪ 1976‬على أنه إشارة إلهية ببدء‬

‫عصر المسيح المنقذ كذلك رأت المسيحية الصهيونية في هذا االنتصار إشارة من اهلل لكل‬

‫المسيحيين المخلصين أن يدعموا اليهود ويساعدوهم في مهمتهم من أجل استقبال المسيح‬

‫المخلص الذي سيبني مملكة اهلل على األرض ويخلص البشرية‪.‬‬

‫من أهم الرموز التي لعبت دو ار رئيسيا في هذا النشاط هو القسيس الهولندي وليم فان دير‬

‫هوفن والذي كان معروفا منذ منتصف السبعينيات في األوساط االسرائيلية والبروتستنتية‬

‫األصولية‪ .‬تقوم أفكار فان هوفن على قاعدة أن اهلل اختار اليهود من أجل حمل رسالته‬

‫والتحضير لعودة المنقذ المسيح المنتظر‪ ،‬من أجل قيام مملكة اهلل على األرض وحتى يعم‬

‫السالم على العالم ‪ ،‬ولذلك فعلى المسيحيين أن يقوموا بواجبهم في مساعدة اليهود في العودة‬ ‫إلى األراضي المقدسة من أجل تحقيق رسالة اهلل‪ .‬لقد أخذ فان هوفن على اليهود العلمانيين‬

‫‪،‬مثل حزب العمل االسرائيلي‪ ،‬بأنهم ال يعوا تماما الرسالة اإللهية التي فوضهم اهلل بتحقيقها‪،‬‬

‫كما انتقد بشدة الحكومات االسرائيلية التي عقدت اتفاقات سالم مع العرب وتنازلت بذلك عن‬ ‫جزء من األرض التي وهبها اهلل لهم ‪ .‬كما انتقد اتفاقات" أسلو" ودعا الحكومات االسرائيلية‬

‫لسماع صوت الرب وليس صوت رئيس الواليات المتحدة األمريكية وكان يعلن أنه على اليهود‬

‫أن يعوا أنهم ليسوا ككل الشعوب التي تأخذ الق اررات المصيرية بناءا على الظروف الواقعية‪،‬‬

‫اليهود هم شعب اهلل المختار ولهم رسالة إلهية وبناءا على ذلك يجب أن يتصرفوا ‪ ،‬وكان يعلن‬ ‫في خطبه أمام المسؤولين االسرائيليين " نحن أكثر صهيونية منكم‪. ".‬‬

‫لقد اعتبر فان هوفن العرب كفره‪ ،‬ألنهم يقفون ضد الرغبة اإللهية‪ ،‬ويعلن ‪ :‬إذا كان العرب ال‬

‫يفهمون طبيعة اهلل ورسالته المقدسة التي وكلها لليهود فال مكان لهم في فلسطين ويجب‬ ‫طردهم منها"‪ .‬لقد توجه إلى العرب المسيحيين ودعاهم األخوة في الدين ورجاهم أن يعوا‬

‫معنى الرسالة اإللهية التي يقوم بها اليهود وأن يدعموهم في تحقيق رسالتهم بكل الوسائل‪.‬‬

‫فان هوفن يحقد حقدا عميقا على االسالم والمسلمين وال يعترف باالسالم دينا سماويا‪ ،‬ويعلن‬

‫أن اهلل هو رب العرب فقط الذين عبدوه قبل االسالم وأن اهلل الحقيقي هو رب إسرائيل‪،‬كما أنه‬

‫ال عالقة أبدا بين المسلمين وبين التراث االبراهيمي أو النبي إبراهيم وانما يحاول المسلمون‬


‫‪53‬‬

‫أن يتطفلوا على إبراهيم والتراث اإلبراهيمي‪ .‬ودعى إلى إزالة االسالم ألنه عقبة في طريق عودة‬ ‫المسيح المنتظر‪ ،‬وهو يعتقد أن إله إسرائيل سيقوم ‪،‬قبل أن يبعث المسيح المخلص‪،‬بتحطيم‬

‫أركان االسالم وازالته من الوجود‪.‬‬

‫عندما اشتعلت حرب الخليج كان يدعو و يصلي أن تكون هذه نهاية االسالم والمسلمين‬

‫وكتب في منشوراته أن صدام حسين مرسل من الشيطان وأن المسلمين هم أعداء المسيح‬ ‫وهدفهم منع عودته‪ ،‬وال يمكنهم فهم الرسالة الربانية المقدسة التي فوض اهلل اليهود بها‪.‬‬

‫كما دعى إلى إزالة الحرم الشريف وكل المعالم االسالمية من القدس وبناء الهيكل الثالث ‪.‬‬

‫لقد حز في نفس فان هوفن وتحدث بمرارة عن موقف اليهود من المسيح عيسى بن مريم‬

‫وعدم اعترافهم به كمسيح منتظر‪ ،‬واعتبر أن ظهور المسيح األول أنقذ اليهود وأنه سيعود‬

‫إلنقاذهم من جديد وانقاذ المسيحيين والعالم أجمع‪ .‬اعتبر اليهودية كأداة لحفظ اليهود ولكنه لم‬ ‫يقبل اليهودية كعقيدة وانتقص من نظام حاخاماتها‪ ،‬ودعمه للقضية اليهودية وعودة اليهود‬

‫إلى فلسطين‪ ،‬وموقفه المساند السرائيل بال حدود في صراعها مع العرب ينبع فقط من اإليمان‬ ‫بالرسالة اإللهية لليهود في التحضير الستقبال المسيح المنقذ المنتظر‪.‬‬

‫لقد وجه فان هوفن انتقادات الذعة لحكومة الواليات المتحدة األمريكية ألنها تضغط على‬ ‫إسرائيل من أجل التنازل عن بعض أراضيها للعرب ‪ ،‬كما انتقد بشدة عدم دعمها الكافي‬

‫إلسرائيل سواء المادي أو السياسي أو العسكري ووعد بتعويض إسرائيل كل ذلك من قبل‬

‫أصدقاءها في العالم ‪.‬‬

‫سميت المجموعة القريبة من فان دير هوفن والمتأثرة بأفكاره بمجموعة" فرع شجرة اللوز" (‬ ‫ألموند تري برانش) ومع األسف كان من نشطاء هذا التجمع عدد من مسيحيي عرب‬

‫فلسطين‪،‬و لقد قامت الجماعة بكل الوسائل المتاحة بالدعوة إلى األفكار المسيحية الصهيونية‬

‫والتي ترتكز كما مر معنا على أفكار فان هوفن بدعم اليهود في العودة إلى صهيون‬

‫ومساعدتهم في تحقيق الرسالة اإللهية بالتحضير للمسيح المنقذ المرتقب‪ .‬قام نشطاءها‬

‫بكتابة المنشورات وطبعها وتوزيعها واقامة المحاضرات وعرض األفالم التي تدعم هذا التوجه‬

‫كما قامت بجمع التبرعات من أجل مساعدة اليهود في العودة إلى األرض المقدسة " أرض‬

‫صهيون "‪.‬‬

‫عندما أعلنت إسرائيل سنة ‪ 1980‬ضم القدس الشرقية واعتبار القدس بكاملها الشرقي‬

‫والغربي عاصمة أبدية إلسرائيل رأت المسيحية الصهيونية في ذلك فرصة لتطوير نشاطها‬

‫فقامت وبناءا على أفكار فان هوفن وتحت قيادته بتشكيل " السفارة المسيحية العالمية" ‪ .‬لقت‬ ‫القت هذه السفارة ترحيبا ودعما من كل فروع وتيارات المسيحية الصهيونية‪ ،‬وفي عام‬


‫‪54‬‬

‫‪ 1985‬وبمناسبة الذكرى الثمانية والثمانين لتأسيس المنظمة الصهيونية العالمية وبدعم‬

‫وتمويل من هذه السفارة عقد في بازل في سويس ار مؤتم ار صهيونيا تكلم فيه المؤتمرون من‬

‫جملة ما تكلموا عن ذنوب المسيحية والمسيحيين عبر التاريخ ضد اليهود "شعب اهلل المختار"‬ ‫وكيف أنه آن األوان للتكفير عن هذه الذنوب بقيام المسيحيين بواجبهم الديني بدعم عودة‬

‫اليهود إلى صهيون ومساعدتهم في تحقيق مشيئة اهلل بإقامة مملكة اهلل على األرض ‪ .‬منذ‬

‫تأسيس هذه السفارة وقف على رأسها إلى جانب فان هوفن مجموعة من المسيحيين الصهاينة‬ ‫من نشطاء الكنيسة البروتستنتية من مختلف بالد العالم ‪ ،‬ورغم عدم ظهور فان هوفن في‬

‫المقدمة واعطاء االنطباع بأنه ليس إال ناطق متواضع باسم السفارة‪ ،‬إال أنه ال أحد يشك‬

‫بأنه هو الزعيم الروحي والفكري للسفارة‪ .‬يقف إلى جانب فان هوف عدد من الشخصيات منها‬

‫يوهان موكهوف و األمريكي تيم كينج و الفنلندية الدكتورة‬

‫" أوال يرفيليهت" والتي كانت عضوا في البرلمان الفنلندي والمعروفة بميولها الرومانسية نحو‬

‫إسرائيل‪ ،‬وتقوم بإلقاء المحاضرات التي تنتقد فيها موقف الكنيسة المائع من الصراع العربي‬ ‫االسرائيلي‪ ،‬وتدعو العالم المسيحي لدعم اليهود واسرائيل دعما صريحا بدون حدود‪ ،‬وكذلك‬

‫األمريكي دفيد بارسون ‪،‬الذي تخرج عام ‪ 1986‬من كلية الحقوق في جامعة ويك فوريست‬ ‫وعمل عدة سنوات كمستشار ألعضاء الكونغرس األمريكي المؤيدين السرائيل‪ ،‬ومن خالل‬

‫وظيفته هذه صاغ عدد من الوثائق القانونية التي تدعم السياسة الخارجية المؤيدة السرائيل‪،‬‬

‫وهناك كذلك القسيس مالكوم هيدنج من جنوب أفريقيا ‪،‬وغيرهم‪.‬‬

‫أحد أهم األهداف التي وضعتها السفارة نصب عينيها هو لفت أنظار كل المسيحيين‬

‫" المخلصين" لالهتمام بإسرائيل ودعم المصالح االسرائيلية فقامت من أجل هذا الهدف بفتح‬ ‫فروع في مختلف أنحاء العالم واستطاعت أن تنشئ فروعا لها في كل من الواليات المتحدة‬

‫األمريكية و في معظم بلدان أوروبا الغربية مثل فنلندا‪ ،‬الدانمرك‪، ،‬النرويج‪ ،‬السويد‪ ،‬هولندا ‪،‬‬

‫سويسرا‪ ،‬ألمانيا‪ ،‬وانجلترا‪ ،‬كما التفتت إلى أوروبا الشرقية فأنشأت فروعا في روسيا وفي‬

‫الجمهورية التشيكية‪ ،‬كما استطاعت أن تخترق بلدان أمريكا الالتينية الكاثوليكية‪ ،‬وتقوم‬

‫بطبع ونشر منشورات وصحف بلغات كل تلك البالد تشرح فيه أفكارها وأفكار زعيمها فان‬

‫هوفين‪ ،‬وتدعو إلى تشجيع هجرة اليهود إلى إسرائيل كما تدعوا إلى دعم المصالح االسرائيلية‬ ‫بكل الوسائل المتاحة‪ .‬كما تقوم بتنظيم الرحالت إلى إسرائيل حيث يحدد للزوار األماكن‬

‫التوراتية التي يجب زيارتها وخاصة تلك التي ترتبط حسب رأيهم بتاريخ إسرائيل في فلسطين‪،‬‬

‫كما يقوم نشطاء السفارة بعقد لقاءات ومحاضرات ودروس للزوار من أجل تنويرهم بأهداف‬

‫وأفكار السفارة وتهيئتهم لكي يكونوا دعاة نشيطين في بالدهم للقضية االسرائيلية‪ .‬إلى جانب‬


‫‪55‬‬

‫كل ذلك تقوم بجمع التبرعات من كل أنحاء العالم من أجل دعم القضية اليهودية والمصالح‬

‫االسرائيلية‪.‬‬

‫لقد اختارت السفارة عيد ( تابيرناكوله) (سوكوت) التوراتي ليكون عيدها الرسمي‪ ،‬ومنذ عام‬

‫‪ 1979‬يعقد هذا العيد في سبتمبر من كل عام في مدينة القدس ويأتي إليه آالف من أعضاء‬ ‫وأصدقاء السفارة من كل أنحاء العالم ويدعى إليه القيادات الدينية والسياسية ورجال االعالم‬

‫االسرائيليين‪ ،‬ومن الرجاالت االسرائيلية المعروفة التي احتضنت هذا العيد رئيس بلدية القدس‬ ‫السابق تيدي كوليك ‪ .‬تقام في هذا العيد المهرجانات الخطابية حيث يشرح فان هوفن أفكاره‬

‫‪،‬ودعوته لجميع اليهود في العالم أن يعوا رسالتهم اإللهية ويسارعوا في العودة إلى األراضي‬

‫المقدسة‪ .‬كما ترتب السفارة للزوار لقاءات وزيارات لألماكن " التوراتية" وتطعمهم ‪،‬خاصة الجدد‬ ‫منهم‪ ،‬بأفكار المسيحية الصهيونية ليكونوا دعاة لها في بالدهم ‪،‬و في نهاية العيد تجري‬

‫مظاهرة من الزوار وغيرهم في شوارع القدس ‪،‬تنتهي في "حمام السلطان" الذي بني زمن‬

‫العثمانيين كخزان ضخم للمياه والذي أعيد بناءه ليكون مسرحا مفتوحا‪ .‬يحمل المتظاهرون‬

‫اثنى عشر علما لتدل على أسباط اليهود اإلثنى عشر‪ ،‬وترفع الالفتات المكتوب عليها بكل من‬

‫الالتينية والعبرية " المسيح المنتظر" ‪.‬‬

‫في نهاية عام ‪ 1985‬حدث تململ في صفوف أعضاء السفارة في القدس‪ ،‬فرغم تمام االتفاق‬ ‫على مبدأ دعم القضايا االسرائيلية ومساعدة اليهود في العودة إلى األراضي المقدسة‪ ،‬إال أن‬ ‫فريق من أعضاء السفارة شعر أن فان هوفن بتأويالته الدينية يلغي الشخصية المستقلة‬

‫للمسيحية ويحولها إلى ظل من ظالل اليهودية والصهيونية وتابعا لها وبذلك ينفر كثي ار من‬

‫المسيحيين المخلصين الراغبين في دعم القضية االسرائيلية‪ ،‬ولذلك رأى هذا الفريق أن خير‬ ‫وسيلة لمتابعة عملهم هو العودة إلى بالدهم والتركيز من هناك على األعمال الخيرية‬

‫والدعائية إلسرائيل و كسب الدعم لقضاياها‪ ،‬وبقي مخلصا لفان هوفن وأفكاره في السفارة في‬

‫القدس مجموعة من المتطرفين من هولندا وجنوب أفريقيا والواليات المتحدة األمريكية الذين‬ ‫وجدوا في الجناح اليميني لتجمع الليكود وفي التنظيمات الدينية المتطرفة خير حليف‪ .‬ومما‬

‫يثير الجدل في صفوف المراقبين أنه في خالل هذه األزمة وعلى أثرها استطاعت السفارة أن‬

‫تكسب أعدادا كبيرة من الشباب البروتستانت في العالم الذين لم يعيروا من قبل قضية‬ ‫الصراع العربي االسرائيلي أي اهتمام ‪.‬‬

‫منذ نهاية الثمانينات ركز فان هوفن كل طاقته من أجل كسب التحالف مع األصوليين‬

‫المسيحيين في الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬وقام من أجل هذا الهدف برحالت منظمة إلى‬

‫معظم مدن أمريكا دعى فيها إلى دعم المسيحيين للقضية اليهودية وحاول في محاضراته‬


‫‪56‬‬

‫ولقاءاته أن ال يتطرق إلى تأويالته التي قد تثير حفيظة المسيحيين ولقد لقي تعاونا كبي ار من‬ ‫قبل حاخام مدينة شيكاغو " يخيل إكشتاين " والذي شغل منصب رئيس الجمعية المسيحية‬

‫اليهودية " هولي الند" ‪ .‬رأى إكشتاين في فان هوفن حليفا قويا ومفيدا لدعم القضية‬

‫االسرائيلية فرافقه في رحالته في مدن الواليات المتحدة األمريكية ورتب له اللقاءات مع‬

‫مختلف الشخصيات والجمعيات األمريكية‪.‬‬

‫فوجئ فان هوفن أنه يوجد في أمريكا عشرات الجمعيات المشابهة والتي تقوم على دعم‬

‫المصالح االسرائيلية والتي استعدت للتعاون معه في سبيل الهدف المشترك ولكن رفضت‬

‫االنضمام تحت لواءه‪ .‬لقد توجت السفارة بزعامة فان هوفن نشاطها عام ‪ 1992‬بعقد مؤتمر‬ ‫لدعم إسرائيل حضره إلى جانب السفير االسرائيلي‪ ،‬شخصيات أمريكية معروفة بدعمها‬

‫السرائيل كرموز منظمة " سيباك " المعروفة بدعم المصالح االسرائيلية وأحد أهم أعضاء‬ ‫اللوبي االسرائيلي السيناتور "جيسي هيلمس" والقسيس‬

‫" خريسويل" المعروف بصداقته وعالقاته باليمين المتطرف في الجنوب األمريكي ‪ ،‬ولقد انتهى‬

‫المؤتمر بمسيرة كبيرة في شوارع واشنطن‪ ،‬ولقد جرى تغطية المؤتمر والمسيرة من قبل كبريات‬

‫الدوائر االعالمية المقروءة والمرئية‪.‬‬

‫مع كل ما قام به فان هوفن في الواليات المتحدة فأنه وصل إلى نتيجة مفادها أن منظمته‬

‫في الواليات المتحدة ليست إال واحدة من عشرات المنظمات البروتستانتية التي تؤمن باليهود‬

‫كشعب اهلل المختار و وبدوره في حمل مشيئة اهلل بعودة المسيح المنتظر و تعمل على تأييد‬

‫وحماية المصالح االسرائيلية و الضغط على صانعي القرار في أمريكا من أجل توجيه السياسة‬

‫االمريكية في مصلحة إسرائيل‪ ،‬وأنه رغم الهدف المشترك مع منظمته إال أن هذه المنظمات‬

‫ترفض االنضواء تحت مظلته‪.‬‬

‫سفارة فان هوفن ليست أيضا المنظمة الوحيدة التي تحمل أفكار المسيحية الصهيونية في‬

‫أوروبا‪ ،‬فهناك منظمات عديدة تختلف أحجامها وتأثيرها منتشرة في مختلف الدول األوروبية‪،‬‬ ‫نذكر منها منظمة القسيس ألف إكمان رئيس الكنيسة السويدية التي تدعى "صوت الحياة" ‪.‬‬

‫تصدر هذه الكنيسة نشرة باسم " شعب المستقبل " تشرح فيها أفكار إكمان القريبة من أفكار‬

‫فان هوفن ومختصر فكره أن اهلل أراد أن يخلص العالم ولهذا الهدف اختار شعب اهلل المختار "‬

‫شعب إسرائيل" المتمثلين في يهود اليوم ‪ .‬لقد عقد اهلل مع هذا الشعب اتفاقية بموجبها منحهم‬

‫األراضي المقدسة خالصة لهم ‪ .‬ولكن الشعب االسرائيلي أذنب فغضب منه الرب ثم عفى عنه‬

‫وأعاد اتفاقيته معه في سيناء وجدد وعده بمنحهم األراضي المقدسة‪ .‬اليهود في رأي إكمان هم‬

‫شعب االتفاقية ‪ ،‬ولقد اختارهم اهلل من بين الشعوب من أجل إنقاذ البشرية من جديد وهم قبلوا‬


‫‪57‬‬

‫هذا الواجب‪ .‬لم تفهم الكنائس المسيحية ‪،‬حسب ما يقول إكمان‪ ،‬طبيعة الدور المقدس الذي‬

‫سيلعبه اليهود فوقفت عثرة في طريقهم واآلن على المسيحيين أن يفيقوا من غفوتهم ويخرجوا‬ ‫من الوضع المشوش الذي يعيشون فيه ويقدموا العون لليهود ويسهلوا عودتهم إلى األرض‬

‫المقدسة من أجل تحقيق مشيئة اهلل‪ .‬يصف إيكمان اليهود بأنهم " شعب المستقبل" الذي‬

‫سينقذ االنسانية‪ .‬كذلك إيكمان يرفض االسالم كدين سماوي ويؤكد أن النبي محمد رفع من‬ ‫شأن اإلله البدوي "اهلل" ليجعله في مصاف اآللهة‪ ،‬ويرفض أن يكون "اهلل" هو إله إبراهيم‬

‫وأنبياء التوراة كما يدعي االسالم‪ .‬يقول أن االسالم يخلوا من الرحمة والعفو وهو دين العنف‬ ‫والعدوان والكراهية‪ ،‬ويرفض ان يكون الصراع العربي االسرائيلي صراعا عرقيا بين العرب‬

‫واليهود وانما هو صراع روحي ديني بين شعب اهلل المختار ذو الرسالة الربانية وبين اعداء‬

‫اهلل والمسيح‪ .‬كما يطالب بهدم المسجد األقصى وكل المعالم االسالمية في القدس وبناء‬

‫الهيكل الثالث‪ ،‬ويقول إذا كان العرب مؤمنين باهلل الواحد األوحد فعليهم أن ال يقفوا في طريق‬ ‫شعب المستقبل‪ ،‬شعب اهلل المختار ورسالته المقدسة‪.‬‬

‫( مصادر هذا الفصل‪ -1 :‬لندل‪ :‬الدين في الصراع على فلسطين‪،‬سبق ذكره‪ -2.‬منشورات‬

‫السفارة المسيحية العالمية(صوت من القدس) باللغة التشيكية‪ -3.‬سبرافوداي‪ :‬مجلة غير‬ ‫دورية تصدرها جمعية المسيحيين واليهود في براغ ‪،‬الجمهورية التشيكية‪ ،‬أعداد عام (‬

‫‪ -4 . ) 2002-2001‬إدوارد بروسير‪ :‬الدين من الشاطئ المعاكس‪ ،‬صدر باللغة السلوفاكية‬

‫عن دار إيكو‪ ،‬براتسالفا‪ ،‬عام ‪ -5 . 2002‬منشورات كنيسة الحياة الجديدة السويدية بعنوان "‬ ‫اليهود شعب المستقبل" والصادرة باللغة التشيكية عن دار " بوستيال " في برنو‪.‬‬


‫‪58‬‬

‫الفصل الثالث‬ ‫اإلسرائيليون بين األسطورة و التاريخ‬ ‫‪ - 1‬التوراة ‪ :‬الخيال األدبي في خدمة الالهوت‬ ‫جان بوتيرو كان طالبا من طلبة المدرسة األكرليركية والتحق بالكنيسة الدومينيكانية‬

‫وأصبح راهبا من رهبانها إلى أن طرد من صفوفها آلرائه الجريئة وأصبح بعد ذلك عالما من‬

‫علماء اآلشوريات المعتبرين‪ .‬يقول في كتابه ( بابل والكتاب المقدس ‪ ،‬حوارات مع هيلين‬

‫مونساكريه ‪،‬ترجمة روز مخلوف ‪ ،‬دار كنعان دمشق ‪ ) 2000‬أنه في نهاية عام ‪ ،1872‬في‬

‫لندن‪ ،‬أمام جمعية علم آثار الكتاب المقدس ‪ ،‬عرض شخص يدعى ج‪ .‬سميث وهو من أوائل‬ ‫محللي رموز النصوص المسمارية‪ ،‬بأنه بين الرقيمات التي أحضرت من نينوى إلى لندن‪،‬‬

‫اكتشف رواية للطوفان تغطي على نحو تام بما فيه الكفاية‪ ،‬حتى في التفاصيل ‪ ،‬رواية‬

‫الطوفان الواردة في الكتاب المقدس‪ .‬ومنذ تلك اللحظة‪ ،‬أصبح واضحا أن الكتاب المقدس‬

‫باقتباسه أي شيء كان من أدب سبقه ‪ ،‬لم يعد ذلك الكتاب الفريد و الفوق طبيعي‪ ،‬لم يعد‬

‫إذن أقدم الكتب جميعا‪ ،‬الذي كتب من عند اهلل شخصيا ‪ ،‬أو بإمالء أو إلهام منه كما كنا نراه‬ ‫دوما‪ ،‬تبين أنه في الواقع مغمور ضمن تيار هائل من الفكر و األدب االنسانيين ‪ .‬لم يعد‬

‫يمكن إذا قراءته كما في السابق على أنه منزل مباشرة من عند اهلل شخصيا‪ ،‬لقد تحول قبل‬

‫كل شيء إلى كتاب كتبه بشر‪( .‬ص ‪ .) 236 :‬ويتابع أنه بعد تقدم علم األشوريات واكتشاف‬ ‫نصوص جديدة‪ ،‬لم تعد حكاية الطوفان وحدها هي التي تكشف النقاب عن تبعية الكتاب‬

‫المقدس‪ ،‬بل إن الحكيم الخارق بأكملها هي النموذج الذي اقتدت به اإلصحاحات األولى في‬ ‫سفر التكوين‪ .‬كما أننا نستطيع القول أن لدى مؤلف سفر أيوب مصادر رافدية‪ .‬ورغم جهلنا‬

‫عن الطريقة التي وصلت بها الروايات الرافدية إلى مؤلفي اإلصحاحات ‪ ،‬إال " أن التماثل‬

‫األساسي للكتاب المقدس وتبعيته أمران ال يناقشان" ( ص ‪ . ) 340-339‬ومن الواضح أن‬ ‫كتبة التوراة لم ينقلوا إلى لغتهم النصوص البابلية كليا ‪ ،‬بل " فهموها وأعادوا صياغتها‬

‫لتكييفها مع منظومتهم الدينية الخاصة" ( نفس المصدر)‬

‫لقد كانت التوراة قبل االكتشافات األثرية األخيرة في منطقة الشرق الوسط كالعراق وسوريا و‬

‫فلسطين و مصر‪،‬المصدر األساسي الذي يرجع إليه الباحثون في تدوين تاريخ المنطقة القديم‬ ‫‪ .‬ولقد بقيت على هذا النحو قرونا عديدة حتى كشفت لنا الحفريات عن الوثائق المكتوبة‬


‫‪59‬‬

‫التي خلفها لنا األقدمون الذين سبقوا عهد التوراة‪ -‬وهم السومريون والبابليون والكنعانيون و‬

‫الفينيقيون والمصريون وغيرهم ‪،‬عن كثير من الحقائق و األمور الغامضة ‪ .‬ولقد أصبح‬

‫واضحا اآلن إن كتبة التوراة قد جمعوا خليطا من القصص و األساطير التي اخترعوها أو‬

‫نقلوها عن تاريخ و أساطير شعوب المنطقة باعتبارها حقائق تاريخية نسبوها ألنفسهم لدعم‬

‫مذهبهم الديني و اختالق تاريخ يرفع من شأن القبيلة اإلسرائيلية‪ ،‬ويخدم أهدافهم الدينية ‪( .‬‬

‫كريفيلوف ‪ :‬التوراة في عيون العلم ‪ ،‬نفس المصدر ) ‪.‬‬

‫كما توصل الخبراء إلى أن الكثير مما ورد في التوراة من قصص وأساطير و شرائع يرجع‬

‫إلى أصول قديمة سومرية و بابلية و آشورية و كنعانية و مصرية ولقد اقتبس الكهنة اليهود‬ ‫كل ما ارتأوه مالئما لهم و حذفوا بال هوادة كل ما لم يلق بهم ‪ .‬كما توصل الخبراء أيضا إلى‬

‫أن أكثر التراتيل و التسابيح الدينية التي وردت في التوراة مقتبسة من الكنعانيين والمصريين‬

‫وشعوب ما بين النهرين‪ ،‬وأن الشرائع الواردة في التوراة كان يمارسها الكنعانيون والبابليون‬

‫والمصريون من قبل وقد اقتبسها اليهود منهم ومارسوها ثم أدخلوها في كتابهم المقدس ‪ .‬حتى‬ ‫آلهة التوراة أيل ومن ثم يهوه كانت معروفة ومعبودة قديما من قبل شعوب المنطقة ولقد‬

‫اقتبسها اإلسرائيليون عنهم و نسبوها لهم ‪( .‬زنون كوسيدوفسكي ‪ :‬نفس المصدر‪،‬ص‪) 17:‬‬ ‫لم يعد الكتاب المقدس إذن مقدسا و منزال من عند اهلل‪ ،‬وانما هو من نتاج البشر فقط‬

‫ال غير‪ ،‬فهل يمكننا اعتباره كتاب تاريخ واعتبار الوقائع المذكورة فيه تاريخية يمكن‬

‫الرجوع إليها كمصدر لكتابة تاريخ فلسطين والشرق األدنى ؟‬

‫توماس ل‪ .‬طومسون ‪ ،‬أمريكي الجنسية‪ ،‬أستاذ في علم اآلثار ومختص في الدراسات‬

‫التوراتية‪ .‬درس في عدة جامعات أمريكية عالية المستوى منها فرع مدينة ميلوكي من جامعة‬

‫ويسكنسن‪ ،‬ولقد فقد وظيفته بضغط من األوساط اليهودية التي انزعجت من آراءه الجريئة‪،‬‬

‫لدرجة أنه اضطر في فترة من الفترات للعمل في طالء البيوت ‪،‬وهو حاليا أستاذ محاضر في‬ ‫كلية الالهوت بجامعة كوبنهاجن‪.‬‬

‫يجيب توماس طومسون على السؤال المطروح بالنفي و بأن التوراة‪،‬و بناءا على الوثائق‬

‫والحفريات المكتشفة في المنطقة في ا ألعوام الثالثين األخيرة‪ ،‬هي كتاب أدب وليس كتاب‬ ‫تاريخ ‪ ،‬و أن القصص التي وردت في التوراة مثل قصة الخلق واألسفار الخمسة األولى‬

‫وروايات الملوك كالملك سليمان وغيره تعتبر قصصا إنشائية وليست تاريخا‪ ،‬ولم تترك لنا‬

‫المصادر والوثائق التاريخية للمنطقة أي ذكر للشخصيات اإلسرائيلية في التوراة‪ ... .‬ويؤكد‬ ‫أيضا أن تصور نظرة توراتية للتاريخ في كل مروية توراتية على حدة يعطيها مغزى ما ‪،‬‬

‫سخيف بامتياز‪ .‬و باالضافة لذلك ‪ ،‬أي سؤال عن مغزى هذه المرويات في مجال إعادة بناء‬


‫‪60‬‬

‫تاريخ شعب إسرائيل ‪ ،‬يجب أن يعني بتحوالت هذه المرويات ‪ ،‬ويجب أن ال يكتفي بأي بينة ال‬

‫تأخذ هذه التحوالت باالعتبار جديا‪ ،‬ألنه ال يبقى وال توكيد تأريخي واحد ذي قيمة في المرويات‬ ‫‪ ،‬مترابطا منطقيا أو ذا معنى في النصوص الموجودة‪ ( .‬من كتابه‪ :‬التاريخ القديم للشعب‬ ‫اإلسرائيلي ‪ :‬ترجمة صالح علي سوداح ‪ ،‬بيسان للنشر والتوزيع‪،‬بيروت عام ‪، 1995‬ص‪:‬‬

‫‪ 266، 262‬و ‪) . 254‬‬

‫يؤكد طومسون من جديد على رؤيته هذه في كتابه الجديد( الماضي الخرافي‪ :‬التوراة والتاريخ‪،‬‬

‫ترجمة عدنان حسن ‪ ،‬راجعه زياد منى‪ ،‬نشر ‪ :‬قدمس للنشر والتوزيع‪ ،‬دمشق ‪ ،‬ط‪) 2001 ،1‬‬

‫ويقول أن االعتياد الطويل لعلماء اآلثار والمؤرخين والباحثين التوراتيين( مالحظة‪ :‬يستعمل‬

‫المترجم كلمة " كتاب " والكتابيين بدال من التوراة والتوراتيين) على النظر إلى التوراة على‬

‫أنها كتاب تاريخ‪ ،‬وفهمه في الوقت نفسه ‪ ،‬تراثا فكريا ثريا من الناحية الدينية وأساسيا لكل‬

‫من اليهودية والمسيحية ‪ ،‬قد منح وجهة النظر هذه سلطة تتجاوز المعقول‪ ،" .‬ويتابع " أن "‬

‫الكتاب" أي التوراة‪ ،‬يصنع تاريخا رديئا ‪ ،‬فما نعرفه حول هذا التاريخ وما يمكننا إعادة بنائه‬ ‫من األدلة األثرية يظهر تاريخا لسورية الجنوبية مختلفا جدا عن القصص" التوراتية"‪ .‬إن‬

‫قصص الكتاب "التوراة" وأناشيده ال تخبرنا عن ما حدث في فلسطين في أي عهد‪ ،‬بل تخبرنا‬

‫كيف كان الناس في هذه المنطقة يفكرون ويكتبون‪ ....‬ويؤكد طومسن بأن "الكتاب" أي‬

‫"التوراة " ليس تاريخا على االطالق ‪ ،‬إنه مليء باألمثولة وقصة العبرة‪ ،‬إنه الهوت‪... .‬يمكننا‬

‫أن نقول اآلن بثقة كبيرة أن " الكتاب " ليس تاريخا لماضي أحد ‪ ،‬إن قصة إسراءيل المختار‬

‫والمنبوذ التي يقدمها ‪ ،‬هي مجاز فلسفي للجنس البشري الذي ضل طريقه‪(.‬ص‪) 37– 27:‬‬

‫يعتقد طومسن أنه قد جرى خطأ فاحش في قراءة وفهم التوراة‪ ،‬وأن الكيفية التي يرتبط بها "‬

‫الكتاب المقدس" بالتاريخ قد تم فهمها فهما مغلوطا إلى حد كبير‪ .‬وألننا كنا نق أر "الكتاب‬

‫المقدس" ضمن سياق مغلوط بالتأكيد‪ ،‬وألننا أسأنا فهم التوراة بسبب ذلك ‪ ،‬فإننا أحوج إلى‬

‫البحث عن سياق أكثر مالئمة‪ ،‬وصار من الضروري مراجعة كبرى لكل فروع فهمنا فيما يتعلق‬ ‫بتاريخ الشرق األدنى القديم‪( .. .‬نفس المصدر )‪،‬‬

‫إن سعي كثير من الباحثين والمؤرخين إلى توحيد نتائج األثريات الفلسطينية والبحث التوراتي‬

‫ودراسات الشرق األدنى القديم في توليفة شاملة قد دحض من حيث المبدأ والتفصيل‪ .‬فحكايات‬ ‫" التوراة" تشبه كثي ار كتابات قديمة أخرى قامت بجمعها التراثات القصصية للعالم القديم ‪ :‬من‬

‫مصر ومن بالد النهرين وفينيقيا‪ ،‬سواء كنا نتحدث عن هيرودوت اإلغريقي في القرن السادس‬ ‫قبل الميالد ‪ ،‬أم الكاتب اليهودي يوسفوس الذي جاء بعده بأكثر من ستة قرون‪ ،‬أو مؤلفي‬

‫الحكايات التوراتية ‪ ،‬من سفر التكوين إلى سفر الملوك الثاني‪،‬وسفر األخبار إلى عز ار ونحميا‪،‬‬


‫‪61‬‬

‫أو سفر المكابين األول و الثاني‪،‬من القصص القديمة والحكايات األسطورية ال تمدنا باألدلة‬ ‫على التاريخ‪ ،‬كما اعتقدت األثريات "التوراتية" طويال وأملت في إثباته ‪ ...‬هذه النصوص‬

‫مفيدة تاريخيا بسبب ما تتضمنه عن حاضر "المؤلف" وعن المعرفة المتاحة له و لمعاصريه‬

‫وليس بسبب مزاعم مؤلفها حول أي ماض متخيل‪...‬واذا كنا نحصل على كم متراكم من‬

‫القصص من أعمال كالتي كتبها يوسفوس ومن التأريخات التراثية الواردة في " التوراة"‪ ،‬فإن‬ ‫من الخطأ أن نعتقد أن بمقدورنا أن نستخدم نصا واحدا إلثبات ما يقوله نص آخر حول‬

‫الماضي‪ .‬فالمعلومات التاريخية األكثر أهمية التي يمكن أن نتوصل إلى معرفتها من هذه‬

‫التأريخيات القديمة ليس لها سوى عالقة ضئيلة جدا بنوعية تاريخها‪ ،‬وال عالقة لها تقريبا‬ ‫بما يقال حول الماضي‪ ( .‬طومسن‪ :‬الماضي الخرافي‪ ،‬سبق ‪ ،‬ص‪) 54 ، 48، 47 :‬‬

‫يؤكد طومسن كذلك أنه حتى في حاالت العثور على النقوش القديمة‪ ،‬التي تشير إلى شخصية‬

‫أو أخرى أو حكاية أو أخرى والتي ال يمكننا أن نعرفها بغير ذلك إال من التوراة‪ ،‬فإن إثبات‬

‫الحكاية التوراتية الذي يسمح لنا بقراءتها كما لو كان تاريخا ‪ ،‬يبقى محيرا‪ .‬والسبب في أن‬

‫هذه النصوص القديمة تبدو دائما قاصرة عن إعطائنا الدليل الذي يلزمنا هو أن طريقتنا في‬

‫فهم الماضي ال يشاركنا فيها مؤلفوا هذه النصوص أو نصوص أخرى قديمة‪،‬ويعطينا طومسون‬ ‫في عدة أمثلة‪ ،‬الدليل على أن التوراه قد جمعت وأعادت استخدام حكايات قديمة جدا من‬

‫الماضي‪ ،‬ويؤكد أنه‪ ،‬حتى الدليل من نصوص خارج التوراة‪ ،‬الذي يثبت أن بعض الحكايات‬ ‫التوراتية مستمدة من مصادر قديمة جدا ال يثبت تاريخية هذه القصص‪ ،‬بل على العكس‬

‫تماما‪ ،‬إنه يثبت تقديم التوراة لها بوصفها حكايات تخيلية عن الماضي‪ (.‬الماضي الخرافي‪:‬‬

‫ص‪) 60، 54 :‬‬

‫يقدم طومسون لنا قراءة جديدة لنصوص التوراة ال مجال هنا لعرضها بالتفصيل ولكننا سنحاول‬

‫باختصار شديد عرض األسس التي تقوم عليها هذه القراءة لألهمية‪ .‬تقوم هذه القراءة على أن‬ ‫ناقلي و جامعي التراث التوراتي قد استعملوا الخيال القصصي من أجل التعبير عن الصراع‬

‫الدائم بين الخير والشر والخالص‪ ،‬وعماد ذلك كله الصراع بين اإلنسان و الرب يهوة‪ ،‬حيث أن‬

‫الخير والشر هو ما يراه يهوه خي ار وما يراه ش ار والخالص هو في اإلخالص للرب يهوه‪،‬‬

‫وطاعته‪ .‬الخطأ والصواب‪ ،‬والخير والشر‪ ،‬ال يخضعان لمنطق وفهم اإلنسان وانما إلرادة الرب‪،‬‬

‫فهو وحده يحدد الخطأ والصواب والخير والشر وخالص اإلنسان‪ ،‬هو في طاعة الرب وإلخالص‬

‫له‪.‬‬

‫يحدثنا طومسن كيف أن النصوص التوراتية تتحدث عن حكايات "إسرائيل" بما لها من دالالت‬ ‫كونية وأبدية بوصف" إسرائيل" ممثال لإلنسانية والمولود البكر ليهوه‪ .‬تتمحور الحبكة‬


‫‪62‬‬

‫القصصية على صراع اإلرادتين المتنافستين للرب والبشر‪ ،‬الذي يتكرر من أول " التوراة" إلى‬

‫آخرها‪ ،‬واختيار إسرائيل من قبل يهوه كمولوده البكر‪ ،‬والذي يليه ندم يهوه على خياره‪ ،‬لخيانة‬ ‫إسرائيل له ورفضه إياه‪ ،‬وهذا ما خلق مصي ار يعرف بالغضب اإللهي‪ .‬فالقضية المهيمنة هي‬ ‫قضية الغرور والمصير‪ ،‬والنزاع والصراع‪ .‬إنها أكثر من قصة وعد مؤجل‪ ،‬تلك الحكاية‬

‫التسلسلية التي تميز أصول إسرائيل منذ إبراهيم فصاعدا‪ ،‬تتسم في الجوهر بقصة إطاحة‪،‬‬

‫فالماضي هو مشهد اإلخفاق الذي يتعين التغلب عليه عن طريق "إسرائيل جديد"‪ ،‬سيتبع في‬

‫النهاية ما شاء له الرب يهوه‪.‬‬

‫لقد لعب إسرائيل باألحرى دو ار ضمن قصة خلقية‪ ،‬فالدور الذي لعبه‪ ،‬هو بالنيابة عن كل‬

‫البشرية‪ .‬وتصارع إسرائيل مع الرب هو المصير الذي عرف قبل ذلك في قصص سفر التكوين‬

‫(‪) 11-1‬بوصفه قدر كل إنسان‪ ،‬فإن التصارع مع الرب يعني أنك إنسان‪ ،‬إنه قدر الجميع‪.‬‬

‫ويمكن القول أنه ال األرض ‪،‬وال المملكة‪ ،‬ال السامرة وال أورشليم‪ ،‬بل الناموس‪ ،‬توراة الرب ‪،‬‬

‫هو الميراث الحقيقي‪ .‬ناقلو وجامعوا هذا التراث يعتبرون أنفسهم بمثابة الناجين والباقين‬

‫العائدين من المنفى بوصفهم ينتمون إلى‬

‫" إسرائيل الجديدة"‪ ،‬طريق التوراة بعد أن تطهروا في عذاب المنفى‪ .‬كما أن موضوعة عبور‬

‫المياه التي تتكرر في قصص يعقوب وموسى ويشوع‪ ،‬كانت كلها تشترك بالهدف المجازي‬

‫المشترك لتجاوز الماضي وخلق بداية جديدة في " إسرائيل جديده" مطيعة للرب يهوه‪.‬‬

‫يؤكد طومسن أنه‪ ،‬ليست تلك القصص ذات القطبية والنزاع في تراثات األصل التوراتية حول‬

‫إسرائيل القديمة قصصا تعكس النزاعات اإلقليمية واألثنية في الماضي‪ ،‬إنها محض شروحات‬

‫لما يعتبره التراث نزاعا متعاليا بين الخير والشر‪ .‬إن قصة التوراة‪ ،‬قصة النزاع والحرب‪ ،‬من‬

‫موسى إلى يشوع وتدمير أورشليم ‪ ،‬هي حدوثات متكررة للصراع بين إرادة الرب وغرور البشر‪.‬‬

‫إن إسرائيل التوراتية ( في رأي طومسن) ‪ ،‬كعنصر من عناصر التراث والقصة‪ ،‬مثل إسرائيل‬

‫قصص التذمر والفقر‪ ،‬أو شعب قصص سفر الملوك الثاني الذين هم كافرون مثلما أن ملوك‬

‫ها كافرون ‪ ،‬أو إسرائيل الضائعة‪ ،‬التي هي موضوعة خطبة نبوية في سفري إشعيا وعاموس‬

‫‪ ،‬إنما هي اختالق الهوتي وأدبي‪ .‬هذه اإلسرائيل هي ما يدعوها طومسن‪( ،‬إسرائيل القديمة)‪.‬‬

‫إنها تقدم بوصفها النقيض القطبي ل( إسرائيل جديدة) الهوتية وأدبية بالقدر نفسه‪ ،‬الذي هو ‪،‬‬

‫على سبيل المثال ‪ ،‬الصوت الضمني لسفر األخبار الثاني‪ ،‬وسفر المزامير وميثاق دمشق‬ ‫واألناجيل‪.‬‬


‫‪63‬‬

‫يؤكد طومسن أن التوراة ليست كتاب تاريخ‪ ،‬وال يمكن العثور عليه ضمن تاريخ فلسطين‪،‬‬

‫فاألصول التوراتية تنتمي إلى العالمين الفكري واألدبي وليس إلى عالم األحداث‪ ،‬سياسية كانت‬

‫أو اجتماعية‪،‬و يمكن وصف " التوراة" بأنها أدب للخالص أو أدب خالصي‪ ( .‬نفس المصدر)‬ ‫التوراة إذن ليست كتابا منزال من عند اهلل ‪ ،‬وانما كتاب كتبه بشر ‪ .‬هذا من جهة ومن جهة‬

‫أخرى فالتوراة ليست بأي حال من األحوال كتاب تاريخ وال يمكن اعتبارها مصد ار موثوقا لكتابة‬ ‫تاريخ فلسطين ومنطقة الشرق األدنى‪ ،‬وكل ما كتب لحد اآلن عن تاريخ المنطقة ‪ ،‬مستمدا‬

‫من روايات التوراة‪ ،‬مشكوك في صحته وعلى المؤرخين إعادة كتابة تاريخ المنطقة بناءا على‬

‫الحفريات والوثائق التاريخية التي اكتشفت في المنطقة‪.‬‬


‫‪64‬‬

‫‪ – 2‬ابراهيم ونسله ‪:‬حقيقة تاريخية أم أسطورة؟‬

‫لقد كتب المؤرخون الغربيون والعرب تاريخ إبراهيم وساللته معتمدين على رواية التوراة عنهم‬

‫‪ .‬ولم يرد اسم ابراهيم وأسماء ساللته وتاريخهم في أي وثيقة يمكن اعتمادها كمصدر تاريخي‪،‬‬

‫والمصدر الوحيد الذي لدينا والذي يتحدث عن تاريخ إبراهيم وسال لته في الزمان والمكان هو‬

‫التوراة التي ثبت عدم مصداقيتها‪.‬‬

‫ولقد ورد ذكر إبراهيم وساللته في القرآن الكريم ‪ ،‬ولكن القرآن لم يضع قصصهم في إطار‬

‫تاريخي ولم يحدد الزما ن والمكان إال في إطار ما يخدم القصة والعبرة المقصودة منها‪.‬‬

‫التوراة كما مر معنا تذكر مدينة" أور" كمسقط رأس إبراهيم ‪ ،‬ولقد اعتبر التوراتيون أور هذه‬

‫في أرض العراق القديم ‪ ،‬وبناءا على ذلك غرس في الوعي التاريخي أن مسقط رأس إبراهيم‬ ‫هو أرض العراق القديم‪ .‬ولكن التوراة كما مر معنا أيضا تذكر كل من آرام نهاريم وحران‬

‫كمسقط رأس عازر والد إبراهيم وعائلته مما دعا بعض الباحثين للتأكيد على أن مسقط رأس‬ ‫إبراهيم وقبيلته هو منطقة حران اآلرامية الواقعة في األراضي التركية األرمنية‪.‬‬

‫لقد اتفق مؤرخوا التراث االسالمي مع المؤرخين التوراتيين في كون العراق القديم موطن النبي‬

‫إبراهيم األول ‪ ،‬ولقد ورد في قول الثعلبي النيسبوري( قصص األنبياء‪ ،‬أو عرائس المجالس‪،‬‬

‫المكتبة الثقافية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ص‪ ") 72 :‬أن العلماء اختلفوا في الموضع الذي ولد فيه‪ ،‬فقال‬

‫بعضهم ‪ :‬كان مولده بالسوس من أرض األهواز‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬كان مولده ببابل من أرض‬

‫السواد بناحية يقال لها كوثا‪،‬وقال بعضهم‪ :‬كان مولده بالوركاء في حدود كسكر‪ ،‬وقال بعضهم‪:‬‬ ‫كان مولده بحران لكن أبوه نقله إلى بابل‪ ،‬وقال عامة أهل السلف من أهل العلم ‪ :‬ولد إبراهيم‬ ‫عليه السالم زمن نمرود بن كنعان" ولم يرد اسم نمرود بن كنعان هذا في أي وثيقة تاريخية‬

‫في المنطقة‪ ،‬ولقد بحثت عن هذا االسم في كتب تاريخ ما بين النهرين فلم أجد هذا االسم أو‬

‫شبيها له بين ملوك ما بين النهرين الذين حكموا هذه البالد في أي مرحلة من مراحل التاريخ ‪.‬‬

‫( ليو أوبنهيم‪ :‬ما بين النهرين القديم"انشنت ميزوبوتاميا" صورة حضارة بائدة‪ ،‬صدر عن‬

‫جامعة شيكاغوا عام ‪ ، 1977‬الترجمة التشيكية ‪،‬عام ‪ . 2001‬يانا بيتريتشكوفا‪ :‬آشور (‬

‫أسيريا) منذ الدولة المدينة‪ ،‬صدر عن األكديمية التشيكية‪،‬براغ ‪ . 2001 ،‬يوسف كليما‪ :‬سكان‬

‫ما بين النهرين‪ ،‬أوبزر‪،‬براتسالفا‪،‬سلوفاكيا‪.) 1988،‬‬

‫أما ابن كثير( البداية والنهاية‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت ط‪، 1988 ،4‬ج‪، 1‬ص‪) 132 :‬‬

‫فيقول أن أرض إبراهيم عليه السالم التي ولد فيها هي أرض الكلدانيين‪ ،‬يعنون أرض بابل ‪،‬‬


‫‪65‬‬

‫وهذا هو الصحيح المشهور‪ ،‬عند أهل السيرة والتاريخ"‪ .‬ويقول‪ :‬في نفس المصدر ‪" :‬أن تارخ‬

‫انطلق بابنه إبراهيم وزوجته ساره وابن أخيه لوط ابن هاران‪ ،‬فخرج من أرض الكلدانيين إلى‬ ‫أرض الكنعانيين‪ ،‬فنزلوا حاران‪ ،‬فمات تارخ وله مئتان وخمسون سنة‪ ،‬وهذا يدل على أنه لم‬ ‫يولد بحاران وانما مولده بأرض الكلدانيين"‪.‬‬

‫واذا كان كتبة التوراة قد استغلوا األسطورة في سبيل خدمة هدفهم الديني ‪ ،‬فإن كتبة التراث‬

‫اإلسالمي ومؤرخوه تجاوزوا ذلك وسرحوا في الخيال العجيب الغريب‪.‬‬

‫يقول مؤرخوا التراث اإلسالمي أن نمرود هذا كان حاكما طاغيا غالى في طغيانه ‪ ،‬وأخذ يجبر‬

‫الناس على عبادته‪ ،‬وذات يوم ذهب إليه كبير كهانه وعرافيه وأخبره أنه قد آن أوان ميالد‬

‫شخص جليل‪ ،‬وأنه على يد هذا الشخص سينتهي شأن نمرود ‪ .‬فما كان من هذا الملك‬

‫الطاغي إال أن أمر بتقتيل جميع الذكور الذين ولدوا في هذا العام‪ (.‬أال يذكرنا هذا بقصة‬

‫موسى و عيسى وغيرهم )‪ .‬ولما أتى أم إبراهيم المخاض توجهت إلى مغارة في الجبل‪ ،‬حيث‬

‫وضعت وليدها هناك ‪ ،‬وتركته تحت رحمة األقدار وعادت إلى القرية‪ .‬وبعد ثالثة أيام عادت‬

‫لترى وليدها في المغارة حيث تركته‪ ،‬وهناك وجدت الوحوش والطيور حاشدة عند باب المغارة‪،‬‬ ‫فخافت أن يكون قد أصاب ابنها سوءا ‪ ،‬فدخلت المغارة‪ ،‬فألفته سليما معافا‪ ،‬يجلس على‬

‫فراش من سندس‪ .‬ولقد الحظت أنه يمص أصابعه وأن لبنا يخرج من إصبع وعسال من إصبع‬

‫آخر‪ ،‬وماء من الثالث‪ .‬وكان اليوم يمر على إبراهيم عليه السالم كالشهر ‪،‬والشهر كالسنة‪.‬‬

‫فلم يمكث إبراهيم في المغارة إال خمسة عشر يوما ‪ ،‬حتى جاء إلى أبيه آزر ليخبره أنه ابنه‪(.‬‬

‫محمد حسن عبد الحميد‪ :‬أبو األنبياء‪،‬إبراهيم الخليل‪ ،‬تقديم حسين محمد مخلوف‪ ،‬مفتي الديار‬

‫اإلسالمية سابقا‪ ،‬دار سعد القاهرة‪ ،‬ط‪ ،1‬ص‪ ، 18 :‬و الثعلبي النيسبوري‪ :‬عرائس المجالس‪،‬‬

‫نفس المصدر‪،‬ص‪) 76 :‬‬

‫يصل خيال كتبة التراث الذروة‪ ،‬في وصف النهاية التي لقيها الملك الطاغي نمرود‪ ،‬حيث أرسل‬

‫اهلل على قومه ذبابا من البعوض ‪ ،‬بحيث لم يروا عين الشمس‪ ،‬وسلطها اهلل عليهم فأكلت‬

‫لحومهم ودماءهم وتركتهم عظاما بالية‪ ،‬ودخلت واحدة منها في منخر الملك ‪ ،‬فمكثت أربعمائة‬ ‫سنة‪ ،‬عذبه اهلل بها ‪ ،‬فكان رأسه يضرب بالمرازب هذه المدة كلها حتى أهلكه اهلل عز وجل‪(.‬‬

‫ابن كثير‪ :‬البداية والنهاية‪،‬نفس المصدر‪ ،‬ج‪ ، 1‬ص‪) 141 :‬‬

‫إبراهيم كما ورد في التوراة ‪ ،‬هو أب لسلسلة من األنبياء والرسل‪ ،‬إسحق ويعقوب واسماعيل‬ ‫ويوسف ‪ .‬ولقد حاولت التوراة أن تقنعنا بأن سلسلة األنبياء استمرت في ساللة موسى التي‬

‫تمر بيشوع وداود وسليمان‪ ،‬وأكد على ذلك كثير من كتبة التراث اإلسالمي‪.‬‬


‫‪66‬‬

‫لقد اضطر الباحثون لالعتراف بأنه لم يعثر حتى اآلن على دليل آثاري واحد ‪ ،‬في وادي‬

‫الرافدين أو في غيرها من المناطق المجاورة سواء كان كتابة أو نقشا أو نصا تقبل – حتى –‬

‫التأويل ‪ ،‬يمكن أن يشير من قريب أو بعيد إلى وجود النبي إبراهيم وعشيرته في بالد الرافدين‬

‫أو في المناطق المجاورة وخروجه منها إلى فلسطين‪،‬وأقامته وأهله فيها ‪،‬على كثرة ما اكتشف‬ ‫فيها من تفاصيل ووثائق ‪ (.‬زنون كوسيدوفسكي‪،‬ما قاله األنبياء‪ ،‬سبق ‪ ،‬ص‪) 56-47 :‬‬ ‫لقد حاول الباحث في علم اآلثار االنجليزي الجنسية ليونارد وولي البحث في مدينة أور‬

‫العراقية عن أي أثر يدل أو يشير إلى وجود إبراهيم فلم يفلح‪Biblical ( .‬‬ ‫‪Archeologist1978, N4, s,144‬‬

‫) ‪ .‬ولم ينجح الباحثون كذلك في اكتشاف أي أثر‬

‫إلبراهيم وقبيلته في " ألبي" حيث وجد عدة آالف من اللوحات والتي حدد تاريخها من ‪– 2600‬‬

‫‪ 2300‬قبل الميالد‪ .‬تحكي هذه اللوحات عن أعمال الحكام وعن النشاط الديني‪ ،‬إلى جانب‬ ‫تسجيل لألعمال التجارية و الصناعية‪( .‬نفس المصدر‪ ،‬ص‪. ) 151 :‬‬

‫يقول جان بوتيرو (بابل والكتاب المقدس‪ ،‬سبق ‪ ،‬ص‪ ) 226 :‬أن جميع القصص التي تسبق‬

‫أصول إسرائيل في شخص إبراهيم ‪ ،‬هي جزء من مثيولوجيا‪ ،‬مثلما تبين ذلك جيدا مواز ياتها‬

‫الرافدية‪ .‬ويقول‪ :‬هناك كل احتماالت العالم أن يكون وجود إبراهيم واألنبياء الذين خلفوه‬

‫صحيحا‪ .‬ولكن هناك أيضا كل احتماالت العالم أن كل ما يروى لنا عنهم ‪ ،‬عدا األسماء‬

‫والمعطيات العامة مبلل بالفلكلور والخرافة إلى درجة يصعب معها استخالص شيء متماسك‬ ‫منها على صعيد التاريخ‪ .‬المستحيل‪ ،‬ال يمكن من الوقوف على شيء‪ ،‬فما نفع القيام‬

‫بالفرضيات والشكوك والنتائج التقريبية‪ (.‬نفس المصدر) ‪ .‬ويقول في مكان آخر أن التاريخ ال‬ ‫يكتب بدون وثائق وحقائق تاريخية على األرض‪... ،‬والمؤرخ ال يتدخل في المعتقدات‪ :‬يكتفي‬

‫بإنشاء المعطيات الحقيقية والقابلة للمعرفة‪،‬التي تقوم عليها المعتقدات‪ ،‬وذلك بالوسائل‬

‫نفسها التي يستخدمها قاضي تحقيق‪ ،‬وللغاية نفسها التي يرمي إليها‪ ،‬وباعتبار أن اإليمان‬

‫وسرعة التصديق كثي ار ما يترافقان‪ ،‬فإنه يحدث أن ينفض المؤرخ عرضا‪ ،‬عن المعطيات التي‬

‫يقوم عليها اإليمان ‪ :‬أن يشترك به‪ ،‬يتجاهله‪،‬أو يحاربه‪ ،‬فإنه ال يفعل ذلك قط بصفته مؤرخا‪.‬‬

‫المؤرخ يزود الجميع بالمجمل المساحي للماضي الحقيقي‪ ،‬وكل إنسان من بعده ‪ ،‬يتملى في‬

‫هذا الماضي مثلما يريد‪ (.‬نفس المصدر‪،‬ص‪) 225 :‬‬

‫لقد وصل بعض الباحثين في األعوام األخيرة‪ ،‬إلى قناعة بأن شخصية إبراهيم شخصية‬

‫أسطورية وغير تاريخية وأن حكايات التوراة تقدم أصوال أسطورية لألمم باعتبار إبراهيم أبا‬

‫لهم حسب بلدانهم ولغاتهم‪ ،‬وليست تلك األنساب والقصص كتابة تاريخ ‪ .‬كما أن جميع‬

‫قصص البطارقة في التوراة ‪ ،‬مجرد قصص خرافية ال ظل لها من الحقيقة ‪،‬وان إسرائيل قصة‬


‫‪67‬‬

‫يعقوب الذي تصارع مع الرب والذي كان األب الثني عشر ولدا‪ ،‬أصبحوا جميعا بدورهم آباء‬

‫قبائل إسرائيل األثني عشرة‪ ،‬إنما هي شخصية من وحي الخيال‪ ،‬قائمة على الوجود المزعوم‬ ‫إلسرائيل بأسباطها األثني عشر‪ ،‬وقليل من الباحثين يشكون اليوم في ذلك‪..‬‬

‫(طومسن‪:‬الماضي الخرافي‪،‬سبق ‪،‬ص‪) 95،147 :‬‬


‫‪68‬‬

‫‪- 3‬‬

‫موسى ‪ :‬و صمت الوثائق المصرية‪.‬‬

‫يعد موسى أيضا‪ ،‬من الشخصيات التي حيرت المؤرخين واختلفوا في كل ما يتعلق به‪ ،‬في‬

‫أصله وموطنه‪ ،‬وحياته ومماته وتعاليمه‪ ،‬وخروجه من مصر ومن هم الذين خرجوا معه‪ ،‬ألن‬

‫المصدر الوحيد الذي يتحدث عن تاريخ موسى ‪ ،‬هو التوراة‪.‬‬

‫القرآن الكريم يحدثنا أيضا عن موسى‪ ،‬النبي الذي عاش في القصر الفرعوني والذي كان‬

‫يدعو إلى عبادة اهلل الواحد ‪ ،‬خالق السماوات واألرض‪ .‬ولكن القرآن الكريم ال يحدثنا عن‬

‫أصوله العرقية‪ ،‬وال نعرف من اآليات القرآنية من هو أبوه ومن هي أمه‪ ،‬ولكننا نعرف أنه كان‬

‫له أخا اسمه هارون‪ .‬وال نعرف من اآليات القرآنية من هو الفرعون الذي حكم مصر في زمانه‬ ‫وفي أي وقت حكم ‪ .‬كما ال نعرف من اآليات من هم الذين خرجوا معه‪ ،‬وهل خرج معه بنو‬

‫إسرائيل وحدهم أم خرج معه جماعات أخرى‪ ،‬وكم عدد الذين خرجوا معه‪ .‬كما ال تحدثنا اآليات‬

‫القرآنية عن موت موسى وكيف مات وأين دفن‪.‬‬

‫يقول لويستر ‪ .‬ر ( األسطورة والتاريخ في كتاب الخروج ‪ :‬نشر في " رلجن= الدين" عام‬

‫‪ 1979‬رقم ‪ 6‬ص‪ " )167 :‬أن قصص كتاب الخروج هي في الحقيقة حكايات أسطورية‬

‫محولة إلى تاريخ ‪ ،‬فمن وجهة نظر علم التاريخ الحديث فان هذه الوقائع لم تحدث في التاريخ‬

‫أبدا‪”.‬‬

‫التاريخ كعلم بحفائره و آثاره الشاهدة يعرف تاريخ مصر جيدا‪ ،‬وقد انتهى إلى ترتيب‬

‫تاريخها الزمني عبر أسرات ودول من( مينا) موحد القطرين مرو ار ببناة األهرام حتى‬

‫الشناشقة والبطالمة‪ .‬فأرض مصر تفيض بالحفائر واآلثار والوثائق والمعلومات‪.‬‬

‫لقد ترك لنا المصريون القدماء مئات األلواح والرسومات والوثائق التي تتحدث بالتفصيل عن‬

‫تاريخ مصر وملوكها وعالقاتها الخارجية وحروبها مع الدول المجاورة‪ .‬فاللوحة التي وجدت في‬ ‫معبد سيتي األول و رمسيس الثاني تحدثنا بلغة هيروغالفية واضحة عن أسماء ‪ 76‬ملكا‬

‫مصريا والتي تبدأ بالفرعون (مينا) و تنتهي بالفرعون رمسيس األول‪ .‬أما اللوحة الثانية‪،‬‬

‫من أيام رمسيس الثاني فإنها تحتوي على ‪ 48‬اسما لفراعنة مصرين ‪ .‬هذا إلى جانب عدد‬ ‫كبير من لفائف البردى المتعددة الحجم والتي تحتوي على سجل بأسماء الملوك خاصة‬

‫لفائف تورين الذي تحتوي على أسماء خمسين ملكا مصريا من األسرة األولى إلى األسرة‬

‫الثانية عشرة‪ .‬إلى جانب ذلك فلقد وجد العديد من الوثائق التي تتحدث عن مدد محددة من‬


‫‪69‬‬

‫تاريخ مصر‪ ،‬وتتألف من نقوش على المباني والمعابد والمسالت المصرية القديمة وعلى‬

‫األعمدة التذكارية والحاجات الشخصية وعلى الصخور وخاصة في البلدان التي غزاها‬

‫المصريون و احتلوها وأيضا على شواهد قبور القادة والنبالء ‪ ،‬كثير منها يحتوي على‬

‫معلومات مفصلة لدرجة أنها تحتوي إلى جانب أسماء الملوك المحبوبين و كذلك أسماء‬ ‫كالبهم ‪ ( .‬فويتيخ زامورسكي‪ :‬آلهة و ملوك مصر القديمة ‪،‬نشره باللغة السلوفاكية‬

‫بيرفيكت‪ -‬براتسالفا عام ‪ ، 2000‬ص‪) 18-1 :‬‬

‫مصر تعج كذلك بالوثائق المكتوبة والتي تمكننا من فهم فنون مصر القديمة‪ ،‬مثل التماثيل و‬

‫الرسوم والنقوش والمسالت ‪،‬و من بين أقدمها نصوص " أهرام ملوك الدولة القديمة" ‪ .‬و‬

‫من الدولة الوسيطة نجد نصوص توابيت ما بين الطريقين من المقبرة التي تقع بجانب بيرشي‬

‫غير بعيدة عن إشمونة‪ ،‬أما من الدولة الحديثة فلقد عثر على نصوص تحتوي على معلومات‬ ‫تفصيلية عن مختلف جوانب الحياة المصرية في تلك الفترة‪ ،‬كثير منها وجد في مقابر‬

‫عاصمة الدولة الحديثة " واسط "‪ ،‬و من بين الوثائق المهمة و ذات القيمة التاريخية والفنية‬

‫" كتاب األموات " الذي يحتوي على مجموعة من النصوص تشرح تصور المصريين القدماء‬ ‫عن الحياة والموت و مملكة العالم السفلي‪ (.‬زامورسكي ‪ :‬سبق )‪.‬‬

‫إلى جانب كل ذلك فإن مصر تعج بمئات الوثائق التي تحتوي على نصوص أدبية وفنية‬

‫وعلمية وتعليمية ‪ ،‬تتحدث عن علم الحساب والطب والفلك و التجارة واالقتصاد واالدارة وأخبار‬

‫الحروب والفتوحات والقادة العسكريين والمفتشين والمحاكم مما ساعد علم التاريخ الحديث‬ ‫على رسم صورة دقيقة لتاريخ مصر القديم‪ ( ..‬نفس المصدر) ‪ .‬كل ذلك دفع بالباحث‬

‫زامورسكي للقول بأننا اليوم نملك صورة واضحة لتاريخ مصر القديم أوضح وأدق بكثير من‬

‫الصورة التي لدينا عن تاريخ ممالك أوروبية مثل المملكة المورافية الكبيرة" في القرن التاسع‬

‫الميالدي" ‪ ( .‬نفس المصدر)‬

‫التاريخ كعلم بحفائره و آثاره الشاهدة يعرف تاريخ مصر جيدا‪ ،‬وقد انتهى إلى ترتيب تاريخها‬ ‫الزمني عبر أسرات ودول من( مينا) موحد القطرين مرو ار ببناة األهرام حتى الشناشقة‬ ‫والبطالمة‪ .‬فأرض مصر تفيض بالحفائر واآلثار والوثائق والمعلومات‪.‬‬

‫لقد ترك لنا المصريون القدماء مئات األلواح والرسومات والوثائق التي تتحدث بالتفصيل عن‬

‫تاريخ مصر وملوكها وعالقاتها الخارجية وحروبها مع الدول المجاورة‪ .‬فاللوحة التي وجدت في‬ ‫معبد سيتي األول و رمسيس الثاني تحدثنا بلغة هيروغالفية واضحة عن أسماء ‪ 76‬ملكا‬

‫مصريا والتي تبدأ بالفرعون (مينا) و تنتهي بالفرعون رمسيس األول‪ .‬أما اللوحة الثانية‪،‬‬

‫من أيام رمسيس الثاني فإنها تحتوي على ‪ 48‬اسما لفراعنة مصرين ‪ .‬هذا إلى جانب عدد‬


‫‪70‬‬

‫كبير من لفائف البردى المتعددة الحجم والتي تحتوي على سجل بأسماء الملوك خاصة‬

‫لفائف تورين الذي تحتوي على أسماء خمسين ملكا مصريا من األسرة األولى إلى األسرة‬

‫الثانية عشرة‪ .‬إلى جانب ذلك فلقد وجد العديد من الوثائق التي تتحدث عن مدد محددة من‬ ‫تاريخ مصر‪ ،‬وتتألف من نقوش على المباني والمعابد والمسالت المصرية القديمة وعلى‬

‫األعمدة التذكارية والحاجات الشخصية وعلى الصخور وخاصة في البلدان التي غزاها‬

‫المصريون و احتلوها وأيضا على شواهد قبور القادة والنبالء ‪ ،‬كثير منها يحتوي على‬

‫معلومات مفصلة لدرجة أنها تحتوي إلى جانب أسماء الملوك المحبوبين و كذلك أسماء‬ ‫كالبهم ‪ ( .‬فويتيخ زامورسكي‪ :‬آلهة و ملوك مصر القديمة ‪،‬نشره باللغة السلوفاكية‬

‫بيرفيكت‪ -‬براتسالفا عام ‪ ، 2000‬ص‪) 18-1 :‬‬

‫مصر تعج كذلك بالوثائق المكتوبة والتي تمكننا من فهم فنون مصر القديمة‪ ،‬مثل التماثيل و‬

‫الرسوم والنقوش والمسالت ‪،‬و من بين أقدمها نصوص " أهرام ملوك الدولة القديمة" ‪ .‬و‬

‫من الدولة الوسيطة نجد نصوص توابيت ما بين الطريقين من المقبرة التي تقع بجانب بيرشي‬

‫غير بعيدة عن إشمونة‪ ،‬أما من الدولة الحديثة فلقد عثر على نصوص تحتوي على معلومات‬

‫تفصيلية عن مختلف جوانب الحياة المصرية في تلك الفترة‪ ،‬كثير منها وجد في مقابر‬

‫عاصمة الدولة الحديثة " واسط "‪ ،‬و من بين الوثائق المهمة و ذات القيمة التاريخية والفنية‬

‫" كتاب األموات " الذي يحتوي على مجموعة من النصوص تشرح تصور المصريين القدماء‬

‫عن الحياة والموت و مملكة العالم السفلي‪ (.‬زامورسكي ‪ :‬سبق )‪.‬‬

‫إلى جانب كل ذلك فإن مصر تعج بمئات الوثائق التي تحتوي على نصوص أدبية وفنية‬

‫وعلمية وتعليمية ‪ ،‬تتحدث عن علم الحساب والطب والفلك و التجارة واالقتصاد واالدارة وأخبار‬

‫الحروب والفتوحات والقادة العسكريين والمفتشين والمحاكم مما ساعد علم التاريخ الحديث‬ ‫على رسم صورة دقيقة لتاريخ مصر القديم‪ ( ..‬نفس المصدر) ‪ .‬كل ذلك دفع بالباحث‬

‫زامورسكي للقول بأننا اليوم نملك صورة واضحة لتاريخ مصر القديم أوضح وأدق بكثير من‬

‫الصورة التي لدينا عن تاريخ ممالك أوروبية مثل المملكة المورافية الكبيرة" في القرن التاسع‬

‫الميالدي" ‪ ( .‬نفس المصدر)‬

‫كما أنه ال يوجد أي ذكر ال من قريب أو من بعيد لموت كل بكر في مصر و لصراخ عظيم‬

‫في كل مصر ألنه" لم يكن بيت ليس فيه ميت" كما تحدثنا التوراة ‪ ،‬كما ال نجد أي ذكر أو‬

‫أي رمز يشير إلى تحول مياه النيل في مصر إلى دماء‪ ،‬كما ورد في التوراة‪ ،‬كما ال يوجد‬ ‫أي ذكر لقوم عاشوا في مصر يدعون بني إسرائيل وال يوجد لهؤالء أي أثر تاريخي في‬ ‫وثائق مصر هذه‪ .‬كل ما يوجد هو لوحة واحدة منقور فيها جملة يتيمة تذكر مجموعة‬


‫‪71‬‬

‫صغيرة في فلسطين اسمها إسرائيل‪ ،‬وهي اللوحة المدعوة "لوحة إسرائيل" والموجودة في‬

‫المتحف المصري تحت رقم ‪ (، 34025‬نفس المصدر‪ ،‬ص‪ ) 241 :‬وتتحدث عن المعارك‬ ‫التي خاضها الفرعون ميرنفتاح ‪ ،‬و الدويالت التي سيطر عليها في فلسطين‪ ،‬وفي هذه‬

‫اللوحة نجد جملة" أما إسرائيل فلقد محيت بذرتها إلى األبد" ‪ .‬هذه الجملة اليتيمة دعت‬

‫إلى تسمية اللوحة باللوحة االسرائيلية ودفعت الباحثين على التفكير والتأويل والبحث عبثا‬

‫عن تاريخ إسرائيل األسطوري المزعوم في فلسطين‪.‬‬

‫يقول توماس طومسن في ذلك أنه‪ ":‬بالطبع كان ثمة إسرائيل ما‪ ،‬فاالسم نفسه يستخدم‬

‫قبل اآلن في نهاية العصر البرونزي المتأخر على نصب تذكاري مصري‬

‫( يعني لوحة إسرائيل المذكورة أعاله) لإلشارة إلى شعب كنعان الذي قاتلته حملة الفرعون‬ ‫مرنفتاح العسكرية إلى فلسطين‪ .‬ولكنها ليست "إسرائيل" التي يتداولها الكتاب(التوراة)‬

‫‪...‬ويقول أنه من الغريب أن يتعامل هذا القدر الكبير من التوراة مع تراثات األصل‪ ،‬لشعب‬

‫لم يوجد أبدا في حد ذاته إن أرض ولغة هذه األمة المجازية‪،‬تاريخ هذا الشعب المتخيل ال‬ ‫يعطينا قصة إسرائيل حول ماضيها أو أي قصة أصل تؤكد الهوية الذاتية إلسرائيل أو‬

‫فهمها الذاتي القومي‪ .‬لقد منح التراث التوراتي هوية ليس إلسرائيل بل لليهودية‪ ،‬ليس‬

‫بوصفها أمة من األميين(جويم) بل بوصفها شعب الرب ‪ :‬إسرائيل المولودة من جديد في‬

‫حياة التقوى‪ (.‬الماضي الخرافي‪ ،‬سبق‪ ،‬ص‪)88- 87 :‬‬

‫السؤال المطروح اآلن كيف يمكن أن تمر مثل هذه الحوادث و هذه الشخصيات البالغة األهمية‬ ‫من دون أي ذكر لها في الوثائق المصرية؟ هل من المعقول أن تمر تلك الحوادث وتلك‬

‫الشخصيات من دون ذكر لها في هذه الوثائق التي شرحت كل شاردة وواردة من جميع جوانب‬ ‫الحياة المصرية‪ ،‬لو أن هذه الحوادث كانت قد حدثت فعال كما تحدثنا عنها التوراة ولو أن‬

‫هذه الشخصيات كانت فعال تاريخية و ليست مختلقة أو أسطورية؟ أليس لنا حق بهذا السؤال‬ ‫؟ وهل يمكن أن نصدق قول التوراتيين بأن صمت الوثائق المصرية عن ذكر أي شيء يتعلق‬ ‫بإسرائيل هو متعمد من كتبة تاريخ مصر( زاماروفسكي ‪ :‬المصدر السابق) ‪ ،‬وهل يمكن أن‬

‫يكون الصمت كامال وتاما وأن ال تفلت كلمة من هنا ولمحة من هناك‪ ،‬قابلة حتى للتأويل؟ أم‬

‫أن الوضع كما يراة توماس طومسون حين يقول‪ " :‬أن الثقة السابقة في وجهة النظر القائلة‬

‫بأن " الكتاب" ( أي التوراة) هو وثيقة تاريخية هي في طور اإلنهيار‪ .‬فقد تم التعبير عن الشك‬

‫الواسع االنتشار ليس فقط حول تاريخية آباء سفر التكوين‪ ،‬بل تاريخية القصص حول موسى‬

‫ويشوع والقضاة أيضا‪.‬‬

‫( الماضي الخرافي‪،‬سبق‪ ،‬ص‪) 34-33:‬‬


‫‪72‬‬

‫لقد حظيت شخصية موسى اهتماما بالغا من قبل الباحثين والمنقبين والمؤرخين قلما نالته‬

‫شخصية أخرى في التاريخ ‪ ،‬و لقد حاول الباحثون التنقيب عن أصله وميالده ونشأته ومماته‬ ‫وتعاليمه و زمن خروجه من مصر و من هم الذين خرجوا معه إلى سيناء ‪،‬وعددهم وقصة‬

‫عبوره البحر الخ ‪ .‬لقد بقيت كثير من األسئلة المطروحة بدون جواب شافي حتى اعتبره‬

‫بعض الباحثين شخصية أسطورية‪ ،‬بل وأكثر الشخصيات ميثولوجية على االطالق ( زنون‬ ‫كوسيدوفسكي‪ :‬ما قاله األنبياء‪ ،‬ذكر سابقا ‪ ،‬ص‪.) 103– 100 :‬‬

‫ال يحتاج قارئ التوراة إلى كثير من الذكاء حتى يصل إلى نتيجة بأن قول التوراة بأن "‬

‫اإلسرائيليين في مصر قد أصبحوا أكثر وأعظم من المصريين " خروج ‪ 22 – 15/1‬و ‪2‬م‬

‫‪ 9-1‬قول يجافي العقل والمنطق إذ من غير المعقول أن يعيش سبعين إسرائيليا دخلوا مصر‬

‫مع يوسف التوراتي‪ ،‬لمدة أربعة أجيال فقط فيصبحوا أكثر وأعظم من المصريين ‪ .‬كما أن‬

‫عدد اإلسرائيليين المذكور في التوراة والتي تقول أنهم خرجوا مع موسى من مصر ‪ ،‬أيضا‬ ‫يجافي العقل والمنطق ‪ ،‬حيث تقول التوراة أنه قد ارتحل مع موسى نحو ستمائة ألف ماش‬

‫من الرجال عدا األوالد " خروج ‪ 37/12‬واذا حسبنا النساء واألطفال فإن عدد الذين خرجوا مع‬

‫موسى يزيد على المليون‪ ،‬وهو عدد غير منطقي‪ ،‬فمن غير المعقول أن سبعين شخصا دخلوا‬ ‫مع يوسف خالل أربعة قرون وثلث القرن أن ينجبوا هذا العدد الهائل‪ ،‬كما ليس من المعقول‬

‫أن يخرج هذا العدد الهائل دفعة واحدة مع مواشيهم وأمتعتهم ‪( .‬كريفيلوف ‪ ،‬سبق ص‪141 :‬‬

‫)‬

‫كما اعتبر كثير من الباحثين أن قصة إلقاء موسى الطفل باليم يحمله التيار إلى بيت فرعون‬

‫أو إلقائه على شاطئ النهر ما هي إال قصة أسطورية كانت معروفة في ذلك الزمان و كانت‬ ‫تروى عن شخصيات أخرى ألقيت ووجدت بنفس الوسيلة مثل سرجون البابلي ‪ ( .‬زنون‬

‫كوسيدوفسكي‪ :‬ماذا قاله األنبياء‪ ،‬نفس المصدر ‪ ،‬ص‪) 102 :‬‬

‫ومن أهم القضايا التي أثارت جدال بين الباحثين هي عالقة عقيدة التوحيد الموسوية بعقيدة‬

‫إخناتون التوحيدية ‪ ،‬فقلما نجد باحثا تناول بدراسته النبي موسى إال وذكر الفرعون إخناتون‬ ‫فرعون التوحيد ‪ .‬ولقد قام كثير من الباحثين بدراسة العالقة بين العقيدة األ تونية التي نادى‬ ‫بها الفرعون إخناتون في مصر وبين عقيدة التوحيد الموسوية ‪ .‬ولقد ربط الباحثون بين‬

‫العقيدتين بناء على شواهد عدة منها تلك التي قدمها ديورانت والتي قدمها بريستد ‪،‬عن‬

‫التشابه الدقيق بين أناشيد إخناتون لربه الواحد وبين المزامير واألمثال في التوراة ‪ .‬ولقد عقد‬

‫كل من هنري برستد و آرثر ويجال مقارنة بين صلوات إخناتون وأحد المزامير العبرية فاتفقت‬

‫المعاني بينها اتفاقا يبعد عن أن يكون نتيجة لتوارد الخواطر (راجع ‪ ،‬أ‪ .‬ويجال‪ :‬حياة و زمن‬


‫‪73‬‬

‫أخناتون فرعون مصر‪ ،‬لندن‪ ،‬طبعة ‪ 2‬عام ‪ 1934‬ص‪ ، ، 136-134 :‬بريستد ‪ :‬فجر‬

‫الضمير ‪ ،‬ترجمة سليم حسن ‪ ،‬مكتبة مصر‪-‬القاهرة‪)،‬‬

‫لم يكن التشابه بين عقيدة أتون اإلخناتونية وعقيدة موسى التوحيدية هو السبب الوحيد الذي‬ ‫دفع الباحثين لدراسة العالقة بين إخناتون وموسى ولكن هناك أسباب عدة دفعت إلى ذلك ‪،‬‬

‫منها‪ ،‬الصمت التام للوثائق التاريخية المصرية عن ذكر موسى وعقيدته وحياته ومماته‪ ،‬إلى‬

‫جانب بعض التشابه في حياة موسى كما ورد في التوراة وبين حياة إخناتون‪ ،‬حيث كالهما‬ ‫أقام عند أقاربه في مدين في صحراء سيناء فترة من الزمن إلى جانب زواجهما من أجنبية‬

‫يعتقد أنه في كال الحالتين ميتانية وأنه لحد اآلن ال يعرف كيف مات إخناتون وأين دفن ولم‬

‫يستطع علماء اآلثار العثور على قبره إلى جانب أسباب أخرى متعددة‪.‬‬

‫وفق الحسابات التاريخية التي أجمع عليها أهل علم المصريات ‪ ،‬يفترض أن يكون إخناتون‬

‫قد ولد حوالي عام ‪ 1400‬قبل الميالد ‪ ،‬في مدينة طيبة عاصمة مصر اإلمبراطورية في أقصى‬

‫جنوب البالد ‪ .‬كان أبوه أمنحتب الثالث الذي حكم حوالي ‪ 1379-1417‬قبل الميالد ‪ ،‬وهو‬ ‫الفرعون المشهور برخاء عصره ‪ ،‬حيث تدفقت خيرات البالد المفتوحة على عاصمة‬

‫اإلمبراطورية ‪ ،‬فكان قمة عصر الرخاء في تاريخ العالم القديم ‪ .‬وأمه ( تي ) كانت أجنبية ولم‬

‫تكن مصرية ولقد تزوجها أمنحتب الثالث وعينها ملكة ولقد لعبت دو ار مهما في األحداث التي‬

‫جرت في عهد ولدها أمنحتب الرابع ‪ /‬إخناتون ‪ .‬ولقد كانت أم أمنحتب الثالث أيضا أجنبية ‪،‬‬

‫ولقد تزوج إخناتون بدوره امرأة غير مصرية هي نفرتيتي‪ ( .‬زاماروفسكي ‪ :‬سبق ‪ ،‬ص‪-20 :‬‬

‫‪) 30‬‬

‫لقد تم إرسال إخناتون وهو طفل صغير إلى سيناء للعيش عند أخواله ولقد اختلف المؤرخون‬ ‫في سبب ذلك ‪ ،‬ولقد عاد بعد موت أبيه ليحكم سبعة عشرة سنة وكان عمره ال يزيد على‬ ‫ستة عشرة سنة ‪ ،‬ولقد عاونته أمه في السنوات األولى من حكمه ‪ .‬وقد بدأ حكمه مثل‬

‫أسالفه من ملوك مصر بعبادة اإلله أمون إله الدولة في ذلك العصر ‪ ،‬ثم أعلن لنفسه إلها‬

‫جديدا باسم ( أتون) واختار قرص الشمس ذي األيدي البشرية واألذرع الرفيعة ‪ ،‬ليكون رم از‬

‫لإلله أتون ‪ ،‬ثم غير اسمه من أمنحتب الرابع إلى إخناتون ‪ .‬ويبدو أن إخناتون وجد نفسه في‬ ‫طيبة محاط بمناخ معاد من كهنة وأتباع اإلله أمون ‪ ،‬فأخذ ق ار ار ببناء عاصمة جديدة تحمل‬

‫اسم ( أخت أتون ) في موقع تل العمارنه‪ ،‬انتقل إليها مع حاشيته وأتباعه المخلصين الذين‬

‫اختارهم من الفئات االجتماعية المضطهدة ‪.‬‬

‫لقد اعتبر إخناتون اإلله أتون الذي ليس له صورة أو تمثال ‪ ،‬إلها أوحد واحد لكل البشر ‪،‬‬

‫يطلب كل المساحة لنفسه و يستبعد كل اآللهة ‪ .‬ولقد تركز االضطهاد الشديد على أمون‬


‫‪74‬‬

‫وعائلته ليس فقط في المعابد ‪ ،‬بل حتى في حجرات المدافن الخاصة‪ ،‬كما أجبر كل من يحمل‬

‫اسما يحتوي أمون على تغيره ‪ .‬ولقد كانت أياما عصيبة على كهنة أمون وعموم الشعب‬

‫المصري‪ ،‬الذي يبدو أن عقيدة إخناتون الجديدة لم تتغلغل في صفوفه‪ .‬ففراعنة تل العمارنة‬ ‫تزوجوا أجنبيات ‪ ،‬فزوجة إخناتون و أمه و جدته غير مصريات ‪.‬‬

‫و ها هو إخناتون ينفي أمون وبطانته وقوانينه المقدسة ويضطهد كل من آمن به أو تسمى‬

‫باسمه ‪ .‬ولذلك عمل كهنة أمون والمصريون عموما كل ما في وسعهم لعزل الفرعون بكل ما‬

‫له من قدسية ‪ ،‬وتم نفيه بعد حكم دام سبعة عشرة سنة إلى منطقة منعزلة رآها البعض عند‬

‫قلعة شور ‪ /‬سيلة في سيناء وحددها البعض اآلخر إلى القصر الفرعوني الصيفي في مدينة‬

‫حواريس القديمة على الدلتا الشرقية مع سيناء حيث كان يعيش بقايا الهكسوس األسرى ‪.‬‬ ‫وبعد هذا اختفى إخناتون من التاريخ ولم يكن من المقدور تحديد طبيعة النهاية التي لقيها‬

‫‪،‬كما لم يعثر لحد اآلن على جثته وال على قبره ويؤكد الباحثون أنه لم يقبر في المقبرة التي‬

‫نقرها ألفراد أسرته في التالل الحجرية الواقعة إلى الشرق من مدينة تل العمارنة‪ ،‬بل إن بعضا‬

‫من أتباعه ظلوا يذكرون تاريخ كتاباتهم وينسبونها إلى عصره كأنه ال يزال على العرش‪( .‬‬

‫زاموروفسكي ‪ :‬نفس المصدر‪ .‬كريستيان جاك ‪ :‬مصر الفراعنة العظام ‪ ،‬صدر عام ‪، 1981‬‬

‫ترجمه إلى التشيكية فالديمير تشادسكي‪ ، 2002 ،‬فصل أخناتون‪ ،‬ص‪. )234 -211 :‬‬

‫يظهر أن صمت الوثائق التاريخية عن ذكر موسى وقصته الواردة في التوراة‪ ،‬هذا باالضافة‬

‫إلى التشابه الملحوظ بين عقيدته وحتى حياته الموصوفة في التوراة و بين عقيدة إخناتون‬

‫وحياته دفع ببعض الباحثين لالعتقاد بأن موسى واخناتون هما شخصية واحدةومن هؤالء‬

‫الباحث المعروف السيد قمني‪.‬‬

‫يؤكد الدكتور سيد القمني االفتراض القائل بأن الفرعون إخناتون هو ذاته موسى النبي‬

‫الوارد في التوراة‪ ،‬وهو قائد الخروج من مصر ‪ ،‬ولقد خرج معه أتباعه من المصريين وبقايا‬

‫الهكسوس ‪،‬كما خرج معهم لفيف من اإلسرائيليين‪ ،‬وبذل أقصى جهده في كتابه‪ :‬النبي موسى‬ ‫وآخر أيام تل العمارنة(‪،‬المركز المصري لبحوث الحضارة‪،‬ط ‪ ) 1999، 1‬لعرض األسباب التي‬

‫دفعته إلى هذا االعتقاد‪ .‬فإلى جانب التشابه بين عقيدة كل منهما كما مر معنا إلى حد رفض‬

‫الباحثون فيه توارد الخواطر بينهما‪ ،‬فإن القمني يعتقد أن العدد المذكور في التوراة عن‬

‫اإلسرائيليين الذين خرجوا من مصر مع موسى ‪ ،‬ال يمكن أن يكون معقوال ومقبوال إال إذا كان‬ ‫الخارجون في جلهم مصريون من أتباع إخناتون وخرج معهم بقايا األسرى الهكسوس و‬

‫اإلسرائيليين ‪ ،‬كما أن قول التوراة بأن االسرائيليين خرجوا من مصر بكمية كبيرة من الذهب‬

‫والفضة‪ ،‬حيث تقول" تطلب كل امرأة من جارتها ( المصرية) ومن نزيلة بيتها أمتعة فضة و‬


‫‪75‬‬

‫أمتعة ذهبا وتضعونها على بنيكم و بناتكم فتسلبون المصريين " خروج ‪ . 22 – 19 / 3‬ال‬ ‫ترميز لخروج ملك معزول ومطرود هو إخناتون بأمتعته‬ ‫ا‬ ‫يمكن أن يقبله عاقل‪ ،‬إال إذا كان‬

‫الفضية والذهبية وبقايا حاشيته المخلصة لتعاليمه ومن لف لفهم باإلضافة لبقايا الهكسوس‬

‫الذين خرجوا معه؟ ويذكر القمني أيضا لوحة من األلواح التي وجدت في أوغاريت في سوريا و‬ ‫تحير الباحثون في تفسيرها‪ ،‬وهي رسم لملك بلباس مصري‪ ،‬ويضع على رأسه غطاء رأس‬

‫عال وبارز جدا وهو لباس تميز به فراعنة تل العمارنة‪ ،‬يتعبد أمام اإلله ‪ ،‬ويتلقى هذا الملك‬

‫ألواحا من اإلله‪ ،‬ويمسك بذات اليد عصا رأسها رأس حية ‪ .‬وهي لوحة حسب رأي الباحث‬

‫الدكتور القمني تمزج بين موسى الذي تلقى األلواح وبين فرعون مصري تشير الدالئل على‬

‫أنه إخناتون‪ ،‬هذا إلى جانب أسباب أخرى ال مجال لذكرها هنا‪.‬‬

‫ولقد اختلف الباحثون في أصول موسى ورفض بعضهم إصرار التوراة على أنه من بني‬

‫إسرائيل واعتبروه مصري األصل والثقافة والنشأة‪.‬‬

‫توماس طومسون( الماضي الخرافي‪ :‬سبق‪ ،‬ص‪ )240– 233:‬يرفض الفكرة التي ظلت سائدة‬ ‫بين الباحثين والمؤرخين لمدة طويلة والقائلة بأن جماعات من البدو اآلسيويين والذين عرفوا‬ ‫فيما بعد بالهكسوس قد دخلوا مصر من فلسطين واحتلوا وسيطروا على دلتا مصر وأقاموا‬

‫هناك حكما دام عدة مئات من السنين‪ ،‬حتى طردوا من مصر على يد أحمس مؤسس الساللة‬

‫الثامنة عشرة‪ .‬يعزي طومسن سيطرة هذه الفكرة على المؤرخين الحديثين إلى يوسفوس‬

‫"المؤرخ " اليهودي للعهد الروماني‪ ،‬والذي يصفه بأنه ال يعرف شيئا عن التاريخ‪ .‬يدعي‬

‫يوسفوس أن مصدر روايته عن الهكسوس هو مؤرخ مصري أقدم منه اسمه "مانتيو"‪ ،‬ووفقا‬

‫لروايته يعرف الهكسوس بوصفهم حكاما أجانب في مصر ألكثر من ‪ 500‬سنة‪ ،‬ولقد كان‬

‫حكمهم نتيجة غزو غامض من الشرق لم يلق مقاومة ويشار إليهم بوصفهم "ملوك رعاة"‪.‬‬

‫ويربط مانتيو الذي استشهد به يوسفوس‪ ،‬الهكسوس بالجد األعلى يوسف المذكور في سفر‬

‫التكوين وبإسرائيلي سفر الخروج‪.‬‬

‫يقول طومسون أنه لدينا نصوص قديمة تشير إلى سيطرة طيبة على الدلتا بوصفها غزوا‬

‫آسيويا وحكما أجنبيا‪ ،‬انتهى بالطرد‪ ،‬وتعزى أقدم هذه النصوص إلى الفرعون كاموس الذي‬

‫حكم وادي النيل األوسط من طيبة قبل بدء الساللة الثامنة عشرة‪ .‬لقد حارب كاموس لتوحيد‬

‫مصر بعد سنوات من النزاع بين مناطق مصر الثالث‪ :‬الدلتا في الشمال والنوبة في الجنوب ‪،‬‬

‫وطيبة في النيل األوسط‪ ،‬التي تعتبر اسم نعت لمصر من قبل كتاب النصوص المذكورة‪ .‬هذه‬

‫النصب التذكارية‪،‬تصف بدء الحرب ضد آسيوي الدلتا من وجهة نظر طيبة‪ .‬يطلق على حكام‬

‫الدلتا اسم ( الهكسوس) والذي تمت ترجمته بمعنى (األمراء األجانب)‪ .‬ويؤكد كاموس أنهم قد‬


‫‪76‬‬

‫أطاحوا بالساللة الحاكمة في طيبة وحكموا مصر بشكل غير شرعي‪،‬وكان الواجب يملي عليه‬

‫أن يصد هؤالء (األجانب) عن التراب المصري‪ .‬فهزموا أخي ار وطردوا من الوطن المصري على‬

‫يد أحمس األول مؤسس الساللة الثامنة عشرة‪.‬‬

‫تظهر النقوش المصرية أن فراعنة الدلتا في أفاريس كانوا يسمون هكسوس وكانوا يشار إليهم‬

‫بشكل متكرر بكلمة "عمو" والتي تترجم بشكل نظامي ودقيق بمعنى‬

‫( آسيويين)‪.‬كانت النصوص المصرية تشير عادة إلى الساميين عموما بوصفهم آسيويين‪ .‬إن‬

‫آسية من وجهة نظر الكثيرين في مصر الوسطى‪ ،‬كانت تبدأ في هوليوبوليس‪ ،‬وقد استخدم‬

‫هذا المصطلح (عمو) منذ عصر المملكة القديمة لإلشارة إلى الرعاة في الدلتا‪ ،‬باإلضافة إلى‬ ‫السكان األصليين لصحراء مصر الشرقية‪ .‬كانوا آسيويين ببساطة ألنهم جاءوا من الدلتا أو‬

‫عاشوا فيها‪.‬واسم (مصري) ليس بالتحديد اسم علم في العالم القديم‪ ،‬وال يشير مصطلح (نوبي)‬ ‫أو آسيوي إلى أي نوع من األثنوية ولكن يشير إلى أناس يعيشون ضمن مناطقها الجغرافية‬

‫المتميزة الثالث‪.‬‬

‫اإلشارات المصرية القديمة إلى الهكسوس ‪،‬في رأي طومسن‪ ،‬التي تبدأ قبل ذلك لدى الساللة‬

‫الحاكمة السابعة عشرة‪ ،‬تشير إلى الحكام الذين كانوا سكانا أصليين للدلتا‪ ،‬وهم لم يأتوا من‬

‫فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر‪ ،‬وفلسطين لم تغز مصر أبدا‪ .‬وكان ما سمي" طرد‬

‫الهكسوس" إعادة تأكيد سياسية للحماية الطيبية التقليدية على حكام الدلتا‪.‬‬

‫يوسفوس‪،‬حسب رأي طومسن‪ ،‬يقدم هذا الصراع اإلقليمي والحرب األهلية‪،‬في منتصف األلف‬

‫الثاني ألجل السيطرة على الدلتا بوصفه طردا للهكسوس األجانب من مصر‪ ،‬ويصف "مانتيو‬

‫يوسفوس" خروجا هائال للهكسوس اآلسيويين من الدلتا المصرية إلى فلسطين وباستشهاده به‬ ‫يفسر األخير االستيطان األصلي ليهوذا‪ ،‬وتأسيس أورشليم‪.‬‬

‫يقول طومسن‪ :‬أنه في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين حاول كثير من المؤرخين‬

‫وباحثي التوراة أن يوفقوا بين هذه الروايات‪ ،‬كما حاول يوسفوس أن يفعل‪ ،‬وذلك بربطها‬

‫بقصص التوراة عن اآلباء األولين وخروج اإلسرائيليين من مصر‪ ،‬وتقبل الجميع‪ ،‬إال عددا‬ ‫قليال من الباحثين المعاصرين‪،‬االستنتاج القائل بشكل اعتباطى أن الهكسوس كانوا أصال‬

‫فلسطينيين غزوا مصر‪ ،‬حتى أن بعضا منهم جادل بأن الجدين األولين يوسف ويعقوب كانا‬ ‫ملكين من الهكسوس‪ .‬وبالرغم من ال أحد يحذوا حذو يوسفوس في مساعيه لربط طرد‬

‫(الهكسوس) بتأسيس يهوذا أو أورشليم ‪ ،‬فقد حاول كثيرون ربط هذه التخيالت بشكل وثيق‬

‫بقضية موسى في سفر الخروج‪.‬‬


‫‪77‬‬

‫تطلب مسألة الهكسوس في فلسطين حسب رأي طومسن‪ (،‬نفس المصدر‪:‬ص‪ )243-242:‬أن‬

‫يكون لدينا بعض الفهم لمجتمع فلسطين في ذلك الوقت‪ :‬سكانها‪،‬نقلها‪،‬ومواصالتها‪ ،‬وخصوصا‬

‫بناها السياسية‪ .‬ونحن ال نعرف شيئا من عهد الهكسوس يوحي بأنه وجدت هناك سلطة‬

‫مركزية على أرض فلسطين بمقدورها أن تطلق جيشا ناجحا ضد مصر‪ .‬كانت مناطق فلسطين‬

‫االقتصادية والثقافية المتميزة عاجزة عن خلق نظام عسكري كبير بما يكفي ومدرب جيدا بشكل‬ ‫كاف ويجزل له العطاء للسيطرة على فلسطين‪ .‬ففلسطين في هذه الفترة المبكرة لم يكن لديها‬

‫مدن‪ ،‬باستثناء حاصور الواقعة في أقصى الشمال‪ .‬كانت لديها فقط القرى و البلدات الصغيرة‪،‬‬

‫فعدد سكان أكبر بلدة لم يكن يبلغ سوى بضعة آالف في أحسن األحوال‪.‬إن الكالم عن منظومة‬ ‫تشبك بلدات فلسطين في بنية متماسكة سياسية وتعاونية ومتعاونة‪ ،‬هو كالم مشوه بشكل‬

‫واضح‪ ،‬والكالم على بنى دولة بين هذه البلدات يخلط فلسطين العصر البرونزي بإيطاليا عصر‬

‫النهضة‪ .‬مهما كان الشيء الذي رغب يويفس في البرهنة عليه ‪ ،‬فإن هذه الصورة للهكسوس‬ ‫ترسم فلسطين نقيضا لها‪ (.‬طومسن ‪ :‬الماضي الخرافي‪،‬نفس المصدر)‬

‫في الحقيقة أن قارئ التوراة يكتشف أن التوراة ذاتها تقع في شراك التناقض بين نصوصها‬

‫حيث تعتبر أن موسى من بيت الوي و في نفس الوقت ال تعتبر هذا السبط إسرائيليا وال تعده‬ ‫من صفوف االسرائيليين فنجدها تقول‪:‬‬

‫" وذهب رجل من بيت الوي واخذ بنت الوي فحبلت المرأة وولدت ابنا ( الذي هو موسى )‬

‫الخ النص " خروج ‪ . 22– 15 / 1‬وفي نصوص أخرى تقول أن سبط الوي ليس من‬ ‫اإلسرائيليين‪،‬‬

‫" أما سبط الوي فال تحسبه وال تعده من بني إسرائيل " عدد ‪ 49/ 1‬وفي نص آخر " ال‬

‫يكون لكهنة الالويين – كل سبط الالوي – قسم وال نصيب مع إسرائيل ‪ ".‬تثنية ‪2 ،1 / 18‬‬

‫وكذلك في نصوص تثنية ‪ 12 / 12‬و ‪. 19‬‬

‫لقد حاولت التوراة جهدها ‪،‬رغم تخبطها الواضح ‪ ،‬إقناعنا أن موسى والذين خرجوا معه من‬

‫مصر هم من نسل االسرائيليين الذين خرجوا من صلب يعقوب واسحاق ولكنها لم تستطع أن‬ ‫تفسر صمتها المطبق عن حقبة تزيد عن أربع مائة عام منذ زمن يوسف إلى زمن موسى‪،‬‬

‫وجاءت بعد هذا الصمت الغير مبرر لتقنعنا باالرتباط العضوي بين موسى وجماعته و بين‬

‫بني إسرائيل‪،‬وهو قول ال ينسجم مع المنطق وال يتقبله العقل‪ ،‬وهذه الثغرة بين العهدين‪ :‬عهد‬ ‫إبراهيم ونسله وعهد موسى والموسويين‪ ،‬لم يستطع كتبة التوراة سدها أو تبريرها‪.‬‬

‫في الحقيقة أن كل ما طرح حول شخصية موسى وعقيدته والذين خرجوا معه‪ ،‬سواء اعتباره‬

‫مصريا أم أنه نفس الفرعون إخناتون بعينه وسواء خرج معه بني إسرائيل أو مصريون‪ ،‬كل‬


‫‪78‬‬

‫ذلك ليس إال فرضيات وتكهنات واستنتاجات وتأويالت للنص التوراتي‪ ،‬وتبقى الحقيقة التي‬

‫ستظل كالسيف فوق رأس الباحثين والمؤرخين هي أن التاريخ المصري القديم بكل وثائقه‬

‫المختلفة صمت صمتا كامال ومطبقا عن أي ذكر لموسى وكل ما يتعلق به‪،‬كما صمت صمتا‬

‫مطبقا عن ذكر يوسف وأهل يوسف ونسل يوسف وكل ما يتعلق به وسيظل هذا الصمت هو‬

‫الحقيقة المعروفة بالنسبة لقصة موسى التوراتية‪ ،‬وكل ما عداه هو تأويالت وفرضيات‬

‫واستنتاجات‪.‬‬


‫‪79‬‬

‫‪ -4‬ملوك و ممالك بني إسرائيل بين الحقيقة والخيال‬ ‫تعتبر القصة التوراتية لعبور اإلسرائيليين إلى فلسطين واقامتهم فيها وبناء هم مملكة‬

‫إسرائيلية أسطورية موحدة على جميع التراب الفلسطيني من أهم الركائز التي يقيم عليها‬

‫الصهاينة دعوتهم "بالعودة إلى أرض األجداد وأرض الميعاد" ‪ ،‬ولذلك فهم وأصدقائهم في‬

‫العالم يحاولون كل جهدهم بالبحث عن أي أثر يمكنهم تحريفه وتأويله واسقاط النص التوراتي‬ ‫عليه إلثبات صحة الرواية التوراتية عن تاريخهم األسطوري في فلسطين‪ .‬لكن ورغم كل‬

‫المحاوالت فإن الحقائق األثرية التاريخية و على الخصوص المكتشفات األثرية لألعوام‬ ‫الثالثين األخيرة حولت كل محاوالتهم إلى وهم وسراب‪..‬‬

‫في رسالته للدكتوراه يجمع ألبير دو بوري و ويناقش أبحاث أكبر المؤرخين والمفسرين‬

‫المعاصرين وبشكل خاص ‪ :‬ألبرت آلت و مارتن نوث و فون راد واألب ر‪.‬دو فو ‪ .‬يقول ‪ :‬يقدم‬ ‫لنا الرواة التوراتيون ‪ ،‬تاريخ أصول إسرائيل ‪ ،‬كما لو أنه كان سلسلة من العهود المحددة‪،‬‬

‫وهكذا فإن كل الذكريات والحكايات واألساطير والقصص أو القصائد التي وصلت إليهم عن‬

‫دخل في إطار أجيال وأزمنة محددة ‪ .‬وعلى ما يتفق عليه أكثر‬ ‫طريق الروايات الشفهية‪ ،‬ت َ‬ ‫المفسرين المعاصرين ‪ ،‬فإن هذه الصورة ملفقة إلى حد بعيد ‪ (.‬عن كتاب روجيه جارودي ‪:‬‬

‫األساطير التي تقوم عليها السياسة االسرائيلية‪ ،‬ترجمة ‪ ،‬ا‪.‬جمالي و س ‪ .‬جهيم‪ 1966 ،‬ص‪:‬‬ ‫‪) 39‬‬

‫وقامت السيدة فرانسواز سميث عميدة كلية الالهوت البروستانتية بتلخيص أعمال التفسير‬

‫المعاصر‪ ،‬وفقا لنظريات ألبرت دو بوري وكتبت تقول ‪ " :‬إن البحث التاريخي قد رد إلى مجرد‬

‫الوهم ‪ ،‬تلك التصورات التقليدية عن الخروج من مصر ‪ ،‬وغزو كنعان ‪ ،‬والوحدة القومية‬

‫اإلسرائيلية قبل المنفى ‪ ،‬والحدود الدقيقة ‪ .‬إن الوصف التاريخي التوراتي ال يعلمنا عن ما‬

‫يرويه شيئا ‪ ،‬ولكنه يعلمنا أشياء وأشياء عن الذين صنعوه‪ ( ".‬عن جارودي‪ ،‬سبق ‪ ،‬ص‪:‬‬

‫‪) 40‬‬

‫لم يجد الباحثون أي ذكر في وثائق المنطقة لقائد اسمه يشوع دخل على رأس بني إسرائيل‬

‫إلى فلسطين ودمر مدنها وقتل نساءها وأباد نسلها وزرعها‪ .‬ولقد اعتبر المؤرخون شخصية‬ ‫يشوع من الشخصيات التوراتية األسطورية الغير تاريخية( زنون كوسيدوفسكي‪ :‬ما قالته‬

‫األنبياء‪ ،‬سبق ذكره)‪ ،‬ولم يستطع التوراتيون حتى إثبات حقيقة الغزو البدوي اإلسرائيلي إلى‬

‫فلسطين‪ ،‬ولم يوجد في أثار المنطقة أي أثر على مثل هذا االكتساح والتهديم واالبادة ‪(.‬‬


‫‪80‬‬

‫بريتشارد ‪.‬ي ‪ .‬ب ‪ :‬تاريخ جيبون في ضوء الحفريات ‪ ،‬أكسفورد ‪. 1959 ،‬عن توماس ل‬

‫تومسون ‪:‬التاريخ القديم‪ :‬نفس المرجع)‬

‫تشهد الحفريات وتبرهن على أن إسرائيليي تلك األيام ‪ ،‬الذين وصلوا حسب قول التوراة في‬

‫نهاية القرن الثالث عشر ق ‪ .‬م ‪ ،‬لم يستطيعوا االستيالء على مدينة أريحا لسبب بسيط وهو‬

‫أنها لم تكن عندئذ مسكونة ‪ ،‬وكانت المدينة منذ أواسط العصر البرونزي قد هدمت حوالي العام‬

‫‪ 1550‬ق‪.‬م ‪،‬ثم أهملت بعد ذلك ‪.‬وفي القرن الرابع عشر ‪ ،‬سكنت سكنا بسيطا ‪ ،‬وقد وجدوا‬

‫أواني من الفخار من ذلك العصر ‪ ،‬في قبور تعود إلى العهد البرونزي األوسط ‪ ،‬وأعيد‬

‫جرة صغيرة تعود إلى منتصف القرن الرابع عشر ق‪.‬م‪ ،‬وما من شيء‬ ‫استعمالها ‪.‬كما وجد ّ‬ ‫يمكن أن يرد إلى القرن الثالث عشر ق‪.‬م ‪ ،‬و ليس هناك من أثر لحصون وجدت في العصر‬

‫البرونزي الحديث ‪ .‬لقد كانت النتيجة التي انتهى إليها الباحثون هي أنه من المستحيل أن‬

‫نجمع بين تخريب أريحا وبين دخول اإلسرائيليين في القرن الثالث عشر ق‪.‬م ‪ ( .‬د‪ .‬دينتون‬

‫‪:‬دراسات عن الكتاب المقدس‪ ،‬اكسفورد‪ " , 1967 ،‬تل السلطان و حبرون في العهد القديم"‬ ‫في و‪.‬ت‪.‬س‪ .‬عدد ‪ 14‬عام ‪.) 1965‬‬

‫واألمر كذلك بالنسبة لالستيالء على ما سمته التوراة مدينة عاي وغيرها‪ .‬لقد أظهر علم‬

‫اآلثار أن ذلك ليس صحيحا ‪ ،‬فلقد نقب في المكان بعثتان مختلفتان وكانت النتائج متطابقة‪.‬‬

‫فمدينة تل‪-‬إت تعود إلى العصر البرونزي القديم وهي مدينة كبيرة كانت قد هدمت خالل العهد‬

‫البرونزي الثالث نحو عام ‪ 2400‬ق‪.‬م ‪ ،‬وبقيت غير مسكونة حتى بعد العام ‪ 1200‬ق‪.‬م ‪،‬‬

‫حيث قام على جزء من أنقاضها قرية صغيرة فقيرة غير محصنة ‪ .‬وهذه لم تعش إال في بداية‬

‫القرن العاشر ق‪.‬م ‪،‬على أبعد تقدير‪ .‬وعند قدوم اإلسرائيليين المزعوم‪ ،‬لم يكن هناك من مدينة‬

‫اسمها عاي أو آي ‪ ،‬ولم يكن هناك ملك لهذه المدينة ‪ .‬كان هناك خرائب تعود إلى العام‬ ‫‪ 1200‬ق‪ .‬م ‪ (.‬كريفيلوف‪ :‬سبق ‪،‬ص‪)147:‬‬

‫رغم الهوس الحفائري لحكام إسرائيل الحالية‪ ،‬ورغم الجهود المضنية لعلماء آثارها المحليين‬

‫واألصدقاء األوروبيين واألمريكان ‪ ،‬نجد األرض ضنينة جدا بأي معلومات ذات شأن عن‬

‫إسرائيليي التوراة في فلسطين ‪.‬‬

‫التاريخ كعلم بوثائقه المتنوعة في مصر و بين الرافدين و في فلسطين والشرق األدنى ال‬

‫يعرف عظيما باسم ( شاؤول ) وحد القبائل االسرائيلية و أقام إلسرائيل مملكة في فلسطين ‪.‬‬ ‫وهذا العلم ال يعرف شيئا عن محارب أو ملك أو نبي باسم ( داود ) أقام إلسرائيل مملكة‬

‫عظيمة أو حتى صغيرة‪ ،‬ولم ترد في وثائق هذا العلم على كثرتها في المنطقة أي إشارة لملك‬

‫حكيم حاز شهرة فلكية باسم ( سليمان ) كان من أشهر ملوك العالم ‪ ،‬وكان الملوك يأتونه‬


‫‪81‬‬

‫من جميع أرجاء األرض وال عن مملكة أسطورية عظمى في المنطقة باسم دولة أو مملكة‬

‫سليمان التي بلغت مساحة أراضيها حسب الرواية التوراتية من الشام إلى مصر واالردن ‪.‬‬ ‫تاريخ فلسطين و "إسرائيل" في رأي طومسون يمثل عنص ار هاما في تراثنا التاريخي‬

‫والثقافي‪،‬والتطورات السياسية الجارية توحي بأن فهم هذا التاريخ يبقى هاما جدا ‪ ،‬ال لأل وساط‬

‫األكاديمية فحسب‪ ،‬وبل للمجتمع كله‪ .‬كان تاريخ فلسطين واسرائيل برأيه منذ عشرين عاما‬ ‫جزءا من الدراسات التوراتية‪ ،‬وحتى أواسط السبعينيات كانت كل التواريخ الحديثة إلسرائيل‬

‫وفلسطين‪ ،‬قد تطورت على أساس ثالثة أنواع مختلفة من المصادر أو التوفيق فيما بينها ‪:‬‬

‫المرويات التوراتية و نصوص الشرق األدنى القديم و المواد الثقافية التي كشفت عنها أعمال‬

‫التنقيب األركيولوجي ‪ .‬وتركز التأويل التاريخي النقدي على تحديد التاريخية‪ ،‬وخاصة مدى‬

‫توكيد أو توسيع أو تعديل أو مناقضة المعلومات غير التوراتية لتاريخ إسرائيل كما عرضته‬

‫المرويات التوراتية‪ .‬الوصف التاريخي تطور عبر التوفيق المتوالي زمنيا بين المصادر الثالثة‪،‬‬ ‫وفي معظم الكتيبات الحديثة التي تقدم مدخال إلى الدراسات التوراتية ‪ ،‬سواء كانت محافظة أو‬ ‫لبرالية تعتبر المهمة األولى لألركيولوجيا الفلسطينية هي إيضاح النص التوراتي‪ ،‬والنظر إلى‬

‫تاريخ إسرائيل باعتباره مشتقا من التوفيق بين الدراسات التوراتية واألركيولوجيا‪.‬‬

‫و يتابع طومسون نقده للمنهج التوفيقي لدراسة تاريخ فلسطين فيقول‪ " :‬حتى عندما ننادي‬

‫بتاريخ إلسرائيل مستقل عن التوراة ‪ ،‬ناد ار ما نتجاوز المراجعات التصحيحية للتاريخ التوراتي‬

‫واعادة بنائه‪.......‬المولود الذي أتينا به في الثمانيات مسخ‪ ،‬إذ لم يعد تاريخا توراتيا وأصبح‬

‫بدرجة أقل تاريخا إلسرائيل‪ ( ".‬التاريخ القديم للشعب االسرائيلي ‪ ،‬سبق ‪ ،‬ص‪) 278 - 375 :‬‬

‫ما نحتاجه الجتياز هذه األزمة برأي طومسون هو تاريخ موثوق قابل للتصحيح والتوسع‬

‫باالستقال ل عن التاريخ التوراتي‪ " ،‬نحن نحاول دمج ما نفهمه عن الجغرافيا واألنتربولوجيا‬

‫والسوسيولوجيا واألركيولوجيا واللغويات التاريخية و األشوريات والمصريات بأوسع صورها‪،‬‬

‫ولكن مناهج كل حقل من هذه الحقول‪،‬مثل بياناتها‪ ،‬مختلفة جدا ‪ ،‬وال يقدم أي منها بمفرده‬

‫بينات تاريخية عن أصول إسرائيل‪ ،‬ولقد بدأ منذ الثمانينيات تقدم حقيقي في هذا المجال‪(.‬‬

‫نفس المصدر‪ ،‬ص‪.) 279 -278 :‬‬

‫يؤكد طومسون أن البيانات المستخلصة من األركيولوجيا تقدم أدلة واضحة ضد وجود أي بنى‬ ‫سياسية غير إقليمية في مرتفعات فلسطين وبذلك ترفض وجود أي دولة قومية إسرائيلية في‬

‫فلسطين‪(.‬نفس المصدر‪ ،‬ص‪ . ) 211 :‬و يؤكد ذلك أخبار حمالت الملك المصري شيشنق‬ ‫على فلسطين في أواخر القرن التاسع ق‪.‬م حيث لم يرد أي ذكر فيها ليهوذا وال أورشليم‬ ‫(القدس) أو أي عاصمة أخرى محتملة في المرتفعات الوسطى تستدعي اهتمام شيشنق‪.‬‬


‫‪82‬‬

‫وكانت التوراة قد ذكرت في نصوصها أن الفرعون شيشنق قد قام بحملة على دولة يهودا‬ ‫في فلسطين حيث أخذ خزائن بيت الرب ‪ ،‬وخزائن الملك ‪ ،‬وأخذ كل شيء‪ .‬سفر الملوك ‪1‬‬

‫‪ . 14/‬وهو ذات الفرعون الذي قالت التوراة‪ ،‬أنه كان صهر الملك سليمان‪ ،‬وأن سليمان طلب‬ ‫منه مساعدته لالستيالء على مدينة جازر الفلسطينية الساحلية ‪ ،‬فأرسل إليه شيشنق بضعة‬

‫كتائب مصرية احتلتها له و قدمتها له هدية ‪ .‬ولكن تاريخ الفرعون شيشنق المكتوب يذكر‬

‫أخبار الحملة التي قام بها على فلسطين ‪ ،‬ويذكر جدول بالمدن التي هاجمها ‪ ،‬ولكن دون أن‬

‫يذكر كلمة إسرائيل إطالقا وال يذكر كذلك كلمة يهوذا وال حتى أورشليم ‪ ( .‬طومسون ‪ :‬التاريخ‬

‫القديم‪ ،‬نفس المصدر‪) .‬‬

‫يقول طومسون أنه بالنسبة إلى البعض فقد كان ثمة دافع إلى االعتقاد بأن قصص الملكية‬

‫المتحدة هي قصص تاريخية‪ .‬لقد كان الكمال والتماسك الزمين رغم كل شيء‪ .‬لقد وجدت‬

‫دولتا يهوذا واسرائيل بالتأكيد في فلسطين القديمة‪ ،‬وكانت قصة التوراة عن شاول وداود‬ ‫وسليمان ضرورية ألصلهم ‪ .‬لقد استخدم هذا النوع من الجدال فيما يتعلق بالشخصيات‬

‫التوراتية ‪ ،‬ليس فقط حول داود بل حول موسى وحول آدم وحواء‪ ،‬ويمكن للمرء أن يجادل‬

‫دائما بأنهم لو لم يوجدوا لكان علينا أن نبتدعهم‪ .‬لو لم يكن ثمة ملكية متحدة‪ ،‬لما كان من‬

‫الممكن أن توجد إسرائيل كما تفهمها التوراة‪ .‬إن فكرة تاريخ إسرائيل بحد ذاتها تفرض مسبقا‬ ‫وجود الملكية المتحدة‪ ،‬ولكن هذا معناه أيضا أنه إذا لم يكن ثمة ملكية متحدة‪ ،‬فإنه يتعين‬

‫على فهمنا للتوراة أن يتغير‪(.‬الماضي الخرافي‪،‬سبق ‪،‬ص‪) 326 :‬‬

‫يتابع طومسن قوله بأن السؤال المطروح اليوم هو ما إذا كان " الكتاب"( التوراة) بقصصه‬

‫يتحدث حول ماضي بالمرة‪ ،‬والنقطة التي تعين فهمها هي أن قصص التوراة حول شاول وداود‬

‫وسليمان ليست تاريخ بالمرة‪،‬وأن التعامل معها كما لو كانت تاريخا يعني سوء فهمها‪ (.‬نفس‬

‫المصدرً ص‪) 327:‬‬

‫يقدم لنا طومسن عرضا مفصال لجغرافية فلسطين منذ العهد البرونزي المبكر إلى العصر‬

‫الحديدي ويحدثنا عن تأثير البيئة وخاصة تأثير كمية هطول األمطار وتوزيعها وتأثير سنين‬

‫الجفاف وخاصة الجفاف المقيني الكبير في نهاية القرن الثالث عشر قبل الميالد‪ ،‬على توزيع‬

‫السكان وتجمعاتهم وتنظيم اقتصادهم وعلى الوضع السياسي في فلسطين‪.‬‬

‫فلسطين اإلقليم ككل إنما يتمركز على الشريط الساحلي المتوسطي الشرقي‪.‬تحدها المنطقة‬

‫المناخية المتوسطية الخصيبة للمشرق الجنوبي على جانبي فالق األردن‪ .‬وهي تضم‬

‫المرتفعات التي تقطعها الوديان المنخفضة القيعان‪ .‬وتضم أيضا مساحات كبيرة من األرض‬

‫السهبية(البادية) التي تكون في الجنوب والشرق خصوصا‪ ،‬حيث تتصل المنطقة بصحراء شبه‬


‫‪83‬‬

‫الجزيرة العربية وصحراء سيناء‪ .‬ثمة تجانس قليل في المنطقة ككل‪ .‬جغرافيا من األفضل‬

‫اعتبارها بمثابة الحافة الجنوبية لسورية‪ .‬من أسماءها الكثيرة في السجالت القديمة(رطنو)‬ ‫العليا و(كناخي) (كنعان)اللذين يردان في النصوص المصرية‪ .‬لقد عرفت المنطقة باسم‬

‫فلسطين منذ العهد األشوري‪ .‬الكاتب اإلغريقي هيروديت نفسه استعمل هذا االسم‪ ،‬واستعمل‬

‫بشكل شائع في أثناء العهد الروماني‪.‬في األزمنة الحديثة استعمل هذا االسم طوال فترة‬

‫االنتداب البريطاني‪( .‬طومسن‪ :‬الماضي الخرافي‪،‬ص‪) 367 :‬‬

‫ثمة تنوع واسع في كل من التضاريس والبيئة في ريف وتالل فلسطين‪ :‬الجليل األعلى‪ ،‬الجليل‬

‫األسفل‪،‬سلسلة الكرمل‪ ،‬تالل السامرة‪ ،‬مرتفع أورشليم‪ ،‬المنخفض الساحلي‪ ،‬مرتفعات‬

‫يهوذا‪،‬والنجد عبر األردني‪ .‬هذه االختالفات في الجغرافية تجد لها أصداء في االقتصاد والتاريخ‬

‫المختلفين‪ .‬من كل ذلك يصل طومسن إلى نتيجة في غاية األهمية وهي أنه ال يوجد متسع‬ ‫لملكية متحدة تاريخية أو لملوك ك أولئك الذين جرى تقديمهم في القصص التوراتية لشاؤل‬

‫وداود وسليمان‪ .‬و أن الحقبة المبكرة التي تؤطر فيها التراثات حكاياتها‪ ،‬هي عالم خيالي من‬

‫زمن غابر لم يوجد على هذا النحو أبدا‪.‬‬

‫في العالم الحقيقي لم يوجد سوى عشرية قليلة من الدساكر والقرى المبعثرة الصغيرة جدا‬

‫كانت تعيل كل المرتفعات في يهوذا‪ .‬كانوا معا بالكاد يعدون ألفي شخص‪ ،‬فالخشب والرعي‬

‫واألراضي والبادية كانت كلها إمكانات هامشية‪ .‬لم يكن من الممكن أن توجد مملكة ألي شاول‬ ‫أو ألي داود ليكون ملكا عليها‪ ،‬ببساطة ألنه لم يكن ثمة ما يكفي من الناس‪ .‬دولة يهوذا لم‬

‫تكن فقط غير موجودة بعد ‪ ،‬بل إننا ال نملك أي دليل على وجود أي قوة سياسية في أي مكان‬

‫في فلسطين كانت كبيرة بما يكفي ‪ ،‬أو متطورة بما يكفي ألن تكون قادرة على توحيد‬

‫االقتصادات واألقاليم العديدة لهذه البالد ‪ .‬في هذا الوقت كانت فلسطين أقل توحدا بكثير مما‬

‫كانت عليه ألكثر من ألف عام ‪ ،‬وبالكاد يمكن الحديث تاريخيا عن أورشليم القرن العاشر‬

‫تاريخيا‪ .‬فلو وجدت إطالقا وسنوات من التنقيب لم تعثر على أي أثر لبلدة من القرن‬

‫العاشر‪،‬لكانت ما تزال تبعد قرونا عن امتالك المقدرة على تحدي أي من (العشريات) أو أكثر‪،‬‬ ‫من بلدات فلسطين القوية المتمتعة بالحكم الذاتي‪ ،‬مثل لخيش في التالل االسفحية الجنوبية‪.‬‬

‫لقد كانت أورشليم بلدة صغيرة هيمنت على وادي أيالون على مدى معظم العصر البرونزي‪،‬‬

‫وعالقتها بيهوذا كانت هامشية‪ .‬في البداية اتخذت شكل مدينة قادرة على أن تعتبر عاصمة‬

‫دولة‪ ،‬في وقت ما من القرن السابع قبل الميالد‪ ،‬واكتسبت ذلك الوضع بعد سقوط لخيش على‬

‫يد األشوريين‪ .‬تمكنت من توسيع مصالحها المالية إلى المرتفعات الجنوبية والهيمنة على‬

‫معظم يهوذا ‪ ،‬عندما اضطلعت بدور دولة أشورية قابعة على حافة االمبراطورية‪ .‬وكان من‬


‫‪84‬‬

‫الصعب أن يزود هذا الدور أرشليم بوضع يتصف بأي شيء يمكن وصفه بالهيمنة على‬

‫فلسطين‪ .‬بلدات مثل شكيم وحاصور كانتا قادرتين على إقامة مراكز سيطرة ‪،‬في تالل فلسطين‪.‬‬ ‫فالهيمنة كانت تعود بشكل طبيعي إلى بلدات األغوار والسهول الساحلية مثل‪ :‬غزة‪ ،‬وعسقالن‪،‬‬

‫ويافا‪،‬وعكا ‪ ،‬ومجدو‪،‬وتعنك‪ ،‬وبيت شان و بئرالسبع وأريحا وغيرها‪ .‬أورشليم كانت عاجزة عن‬

‫الحفاظ على دورها الموسع الذي ازداد سكانها فيه إلى حوالي (‪ ) 25000‬نسمة ألكثر من‬

‫نصف قرن‪ .‬في أوائل القرن السادس كانت المدينة قد فقدت حكمها الذاتي ‪ ،‬فتم ترحيل ملكها‬ ‫وأعاد البابليون هيكلة سكانها‪ (.‬طومسن‪ :‬التاريخ الخرافي‪ ،‬نفس المصدر‪،‬ص‪) 329-328 :‬‬

‫يعطينا طومسن عدد من األمثلة على محاولة المؤرخين التوراتيين إسقاط النص التوراتي على‬

‫المكتشفات األثرية وفبركة نتائج تتالئم مع الحدث التوراتي من أجل إثبات قسري لوجود‬

‫المملكة المتحدة لشاول وداود وسليمان‪ ،‬ويقو ل أنه" لم يكن هدف بعض الحجج حتى أن‬

‫تكون معقولة ظاهرا‪ ،‬فغالبا ما اعتبر الباحثون التوراتيون ربط "التوراة" باإليمان الديني يعطي‬

‫المسوغ ألكثر الفرضيات جوفائية‪ .‬منذ سنين قليلة فقط ‪ ،‬فإن مؤلف بعض أقدم حكايات أسفار‬ ‫موسى الخمسة‪ ،‬كاتب اختلقه القرن التاسع عشر‪ ،‬وهو معروف للباحثين بحرف(ي) (اختصا ار‬

‫لإلسم يهوي‪ ،‬ونسبة لإلله يهوه) قد حددت هويته بكونه امرأة من عائلة داود المباشرة‪ .‬إن‬

‫جدة هذا التوكيد كانت كافية لكسب استحسان الكثير من الصحف الشعبية‪.‬حتى أن بعض‬

‫الباحثين قبل هذه القصة الخيالية بناء على الميزات المحضة للخطابة الجميلة والقوية التي‬

‫صيغت بها"( نفس المصدر‪،‬ص‪.) 321:‬‬

‫مع تراكم المزيد من المعلومات‪ ،‬بدأ المؤرخون تخفيض مملكة شاول و داود وسليمان إلى‬

‫مرتبة (مشيخة قبلية) ‪،‬فباحث مثل ( ه‪.‬ج‪ .‬ويلز) مثال‪ ،‬اعتبر إن الوصف الذي تردده التوراة‬

‫عن اتساع وعظمة مملكة سليمان‪ ،‬يعده أكثر الباحثين من قبيل المبالغات التي عودتنا عليها‬

‫التوراة‪ .‬والحقيقة برأيه أن مملكة سليمان التي تبجحت التوراة بعظمتها كانت أشبه بمحمية‬

‫مصرية مرابطة على حدود مصر ‪ (.‬ويلز ‪ :‬مختصر عن تاريخ العالم ‪،‬باللغة االنجليزية وبدون‬

‫تاريخ ‪،‬ص‪.) 93 :‬‬

‫ظهرت مملكة إسرائيل التاريخية إلى حيز الوجود وتعززت عن طريق نشوء صناعة الزيتون‬

‫التي أقيمت مع نظام المصاطب المطور حديثا‪ ،‬والموسع في أثناء القرن التاسع قبل الميالد‪.‬‬

‫هذه الدولة الصغيرة كانت شبيهة بدول فلسطين األخرى مثل عمون ‪،‬مؤاب‪،‬وادوم‪ ،‬وكانت‬

‫منظمة حول المستوطنات في الريف التاللي الواقع ما بين أورشليم ووادي سهل يزرعيل‪ ،‬من‬

‫الخط الفاصل إلى المنحدرات الغربية‪ .‬وكانت األصول المباشرة لهذا التجمع السكاني تكمن في‬

‫استيطان الجزء المرحل من السكان الذين هجروا األغوار في أعقاب الجفاف المقيني‪.‬‬


‫‪85‬‬

‫عندما تعافت فلسطين من الجفاف المذكور‪ ،‬قادت األغوار إحياء اقتصاد فلسطين واعادة‬

‫نشوئه بمساعدة إحياء التجارة الدولية‪ ،‬وعندما ازدادت هذه التجارة في خالل القرن العاشر‬

‫وخاصة مع مصر‪ ،‬دخلت بلدات أغوار فلسطين‪،‬دورة جديدة من التوسع واالزدهار‪ ،‬قدر فيها‬

‫لتلك التي استفادت بناها السياسية والتجارية إلى أقصى درجة من وجود مصر أن تتقدم‬ ‫غيرها‪ ،‬مثل بيت شان ومجدو في سهل يزرعيل ‪،‬دور وأشدود وعسقالن وغزة في السهل‬

‫الساحلي‪ ،‬جازر ولخيش في المنخفض الساحلي‪ .‬ومع إحياء صناعة السفن من قبل بلدات‬

‫الشمال الفينيقية بدأت فلسطين تزدهر كما لم يسبق لها ذلك أبدا‪ (.‬طومسن‪ ،‬الماضي الخرافي‪،‬‬ ‫‪،‬سبق‪،‬ص‪.) 271 -270 :‬‬

‫يحدثنا طومسن أنه عندما نحاول فهم تطور الدولة الصغيرة في التالل الوسطى من فلسطين‬

‫التي أصبحت تعرف بإسرائيل‪ ،‬من الضروري االنتباه إلى االتكال المتبادل الفريد القتصادات‬

‫المناطق الثالث التي كانت تشكل كتلة أراضي هذه التالل‪ .‬ذلك االقتصاد لم يكن اقتصاد بقاء‬

‫لمزارعين مستقلين‪ ،‬بل كان ينطوي باألحرى على نظام معقد من القرى والدساكر المترابطة‪ .‬لقد‬ ‫كانت معتمدة اعتمادا كليا على التجارة والمقايضة مع بعضها ألجل البقاء‪( .‬نفس المصدر)‬

‫استجاب سكان الريف التاللي األوسط للسوق المتنامية‪ ،‬فأزالوا الحراج وأدخلوا نظام المصاطب‬ ‫التي زرعوا فيها الزيتون ‪ ،‬وبذلك حولوا التالل المركزية إلى أغنى منطقة منتجة للزيتون في‬ ‫فلسطين‪ .‬ومع فتح التجارة الدولية كان التسويق يتطلب إدارة و مركزة خالل وقت قصير ‪،‬‬

‫وتتالت األشكال األخرى من الدوءلة‪ ،‬بما في ذلك الملكية الساللية‪ ،‬المشابهة لتلك التي‬

‫وجدت قبل ذلك في شكيم وفي بلدات األغوار‪ .‬إن اشتراك المصالح لمعظم مزارعي المرتفعات‬

‫الوسطى دفع إلى إنشاء إدارة مركزية لحماية مصالحهم المشتركة‪ .‬أما األشكال األخرى من‬

‫الدولة بما في ذلك الملكية الساللية الشبيهة بتلك الملكيات الموجودة في فينيقية‪ ،‬فقد جاءت‬ ‫بعد ذلك‪ ،،‬ومن أقدم سجالتنا التي تشير إلى هذه الدولة الصغيرة‪ ،‬كانت أولى العائالت التي‬

‫حكمت المرتفعات تحمل اسم ( بيت عمري)‪ .‬ولقد رسم اعتماد هذه الدولة على التجارة الدولية‬

‫وخاصة اآلشورية المصرية مصيرها بوصفها تابعة إلمبراطورية وأقحمها في المخاطرة بدعم‬

‫األقوى‪ ،‬وان األدوار السياسية والعسكرية لالستقالل لم تكن من بين الخيارات المتاحة لها‪.‬‬

‫فهذه لم تكن دولة سيادة بل كانت بيوتات حماية ذات توابع محليين‪ ،‬كانت مبنية كأهرامات من‬

‫االلتزامات والتعاقدات الشخصية المستقلة إلى حد كبير مقابل الحماية والدعم‪( .‬طومسن‪:‬‬ ‫الماضي الخرافي‪ ،‬نفس المصدر)‬


‫‪86‬‬

‫كان لألجزاء األخرى من المرتفعات الفلسطينية تاريخ مختلف جدا‪ .‬ففي أثناء الجفاف وبعد‬ ‫انحساره كانت خبرات وأساليب حياة الجماعات السكانية لهذه المناطق تختلف باختالف‬

‫المناطق نفسها‪.‬‬

‫كانت تالل يهوذا التي تمتد إلى الجنوب من بيت لحم إلى الخليل ‪ ،‬خالية تقريبا‪،‬في أثناء فترة‬ ‫العصر الحديدي من المستوطنات‪ ،‬وفي البادية الجنوبية ‪ ،‬ال يبدأ استصالح األراضي‬

‫واالستيطان الجديد باالتساع حتى القرن العاشر قبل الميالد‪ .‬ففي أثناء الجفاف المقيني هيمن‬

‫على مرتفعات يهوذا البدو الرعاة طوال فترة الجفاف ‪ ،‬ولم يكن ثمة سكان مقيمون للحديث‬

‫عنهم ما عدا سكان عشرية أو أكثر من الدساكر المبعثرة‪.‬‬

‫وعندما تنامت التجارة الدولية ‪ ،‬شجع الطلب على الخشب وزيت الزيتون بناء المصطبات في‬

‫مرتفعات يهوذا‪ .‬كان من الصعب قبل منتصف القرن التاسع أن يصبح من المحتمل أن تبدأ‬

‫البلدات حول مرتفعات يهوذا هناك بتشجيع‪ ،‬ومن ثم إجبار ‪ ،‬بدو المنطقة على االستقرار ‪.‬‬ ‫إن الدوافع االقتصادية‪ ،‬إلقامة كروم الزيتون قد وسعت استخدام المصاطب في كل أنحاء‬

‫التالل الجنوبية‪ .‬ولخيش هي األكثر احتماال في كونها قد أنشأت نظاما من المخافر األمنية في‬ ‫المرتفعات والنقب الشمالي والتي بنيت بشكل مفترض كجزء من السعي إلجبار البدو على‬

‫االستيطان في القرى‪ .‬في نهاية القرن التاسع قبل الميالد كانت مرتفعات يهوذا قد أصبحت‬

‫منتجا كبي ار للزيتون بأسواقها الرئيسية في الخليل ولخيش‪ .‬فالمنطقة بوصفها زارعة للزيتون‬ ‫وفي الوقت نفسه‪ ،‬منطقة واقعة على طرف البادية‪ ،‬أوجدت خليطا سكانيا من مزارعي‬

‫المصاطب ورعاة القرى‪.‬‬

‫في حين أن التالل الوسطى شمال أورشليم تضم مستوطنة تعود في تاريخها إلى أكثر من‬

‫ثالثة قرون قبل أن تنتظم المنطقة في شكل الدولة‪ ،‬يظل من المستحيل كتابة تاريخ أورشليم‬

‫في أثناء هذه الفترة‪ .‬وبالرغم من أن رسائل تل عمارنة المصرية ‪ ،‬التي تقدم لنا مراسالت بين‬

‫أمراء وملوك فلسطين الصغار وبين الفرعون المصري في أواخر القرن الرابع عشر وأوائل‬

‫القرن الثالث عشر قبل الميالد تخبرنا الكثير حول بلدة باسم أورشليم وحول حاميها وملكها‬

‫(عبدي حفا) فإننا ال نعرف شيئا عن هذه البلدة من اآلثار يات‪ ،‬ونحن غير متأكدين من‬

‫المكان التي تقع فيه‪ .‬إن بلدة أورشليم في العصر الحديدي على جبل أوفل التي تم التنقيب‬

‫عنها من قبل" كنيون" قبل الحرب العربية االسرائيلية عام ‪ 1967‬لم تقدم أية بقايا ذات أهمية‬ ‫من العصر البرونزي المتأخر‪.‬‬

‫ال خيار لدينا ‪ ،‬يقول طومسن‪ ،‬سوى أن نبدأ تاريخ أورشليم بالعهد الحديدي الثاني‪ .‬فهذا‬

‫تاريخ بلدة سوق ريفية صغيرة عند رأس وادي أيالون‪ .‬وما من مسوغ لتغيير هذا الوصف‪،‬‬


‫‪87‬‬

‫حتى بعد سقوط بلدة لخيش في عام ( ‪ 701‬ق‪.‬م)‪ .‬من ذاك الوقت تمتد سلطة أورشليم‬

‫ونفوذها باتجاه الجنوب فوق مرتفعات يهوذا‪ .‬في منتصف القرن السابع قبل الميالد‪،‬توسعت‬

‫البلدة بشكل كبير فبلغ عدد سكانها (‪) 25000‬نسمة‪ .‬في البداية إذا اتخذت طابع البلدة‬

‫الصغيرة‪ ،‬القادرة على أن تكون العاصمة الجبلية للدولة التابعة لإلمبراطورية اآلشورية التي‬

‫تدعى يهوذا‪ (.‬نفس المصدر)‬

‫يؤكد طومسن كذلك على استقالل أصول دولتي إسرائيل و يهودا في القرن السابع ومن غير‬

‫المحتمل أن تكون لهما قاعدة أثنيه مشتركة أكثر مما ألي دولتين متجاورتين في المشرق‬

‫الجنوبي‪ .‬كما يؤكد تنوع سكان فلسطين خالل النصف األول من األلف األول ق‪.‬م ‪ ،‬حيث‬ ‫تعززه البيانات اللغوية المتوفرة‪ ،‬واذا كان سكان فلسطين ‪ ،‬خالل العصر الحديدي األول و‬

‫بداية العصر الحديدي الثاني خليطا ‪ ،‬فهم في الحقبة اآلشورية التالية أقل وحدة‪ .‬ليس هناك‬

‫تواصل ال في السكان وال في اإليديولوجيا بين دولة السامرة التاريخية واسرائيل المرويات‬

‫التوراتية‪ .‬في المرويات التوراتية ‪ ،‬السامرة إسرائيل زائفة‪ ( .‬طومسن‪ ،‬التاريخ القديم‪ ،‬سبق‬

‫ص‪) 286-285 :‬‬

‫لما كانت السياسة في فلسطين متمركزة إقليميا‪ ،‬فقد اتبع نشوء دياناتها وآلهتها نمطا يعكس‬ ‫حياة الناس‪ .‬كانت رؤية العالم الدينية في فلسطين تشاطر الكثير من منظوري بالد ما بين‬

‫النهرين ومصر‪ .‬منذ العصر البرونزي كان إيل أبا اآللهة وخالق السماء واألرض ‪ ،‬مع رفيقته‬

‫عشيرة أو عشتارت (ملكة السماء)‪ ،‬رب األرباب ورئيس مجمع اآللهة في كل من الحكاية‬

‫الشعبية واألغنية‪ .‬كان بعل ( الرب –السيد) منفذه الرئيسي‪ .‬وبعل غالبا ما كان مترافقا باإللهة‬ ‫األنثى العامة نسبيا عشيرة‪ ،‬التي وصفت بأنها أم كل شيء حي‪ ،‬وأعطيت دو ار في الخصوبة‬

‫والحداد‪.‬‬

‫لم تكن معظم مناطق فلسطين ‪ ،‬المتكاملة جغرافيا وسياسيا‪ ،‬تمتلك في المعتاد سوى إله‬

‫أساسي ومميز واحد‪ ،‬باإلضافة إلى إيل‪ .‬نجد بعل في فينيقية ‪ ،‬والجليل ومرتفعات إسرائيل‪،‬‬

‫وفي إسرائيل يجد المرء أيضا يهوه‪ .‬وفي السهل الساحلي الجنوبي ‪ ،‬كان (دجن) اإلله الحامي‬

‫األكثر تميزا‪ .‬وبالرغم من أن بعل ويهوه هما اسمان يستعمالن بشكل متكرر في العهد‬

‫الفارسي‪ ،‬يجد المرء مؤشرات على عبادة آلهة مصرية أصال في الساحل وفي المنخفض‬

‫الساحلي‪ :‬اإلله حاثور واله الشمس أمون‪ .‬لقد استخدم كل من يهوه وبعل في يهوذا‪ ،‬مع أن‬ ‫بعل كان هو السائد‪ .‬في أدوم يدعى يهوه الحامي (قوس) ويهوه أيضا‪.‬أما في مؤاب وعمون‬

‫فكانت عبادة (مولوخ) و(كموش) نموذجية‪ .‬كان باإلمكان تمييز هؤالء األرباب‪ ،‬وكانوا متميزين‬

‫كل عن اآلخر باختالف الدول التي كانوا يقومون بوظيفتهم كحماة لها‪ .‬ويمكن اعتبار ذلك‬


‫‪88‬‬

‫تظاهرة مختلفة في كل منطقة لإلالهي‪ .‬فالبشر المختلفون كانوا يعرفون الرب بأسماء مختلفة‪.‬‬

‫( طومسن‪ :‬الماضي المجهول ‪،‬ص‪) 280-279 :‬‬

‫إن تسييس الجغرافيا والتاريخ الجلي اليوم ‪،‬عندما تملي األهداف السياسية المختلفة مفاهيم‬

‫محددة جدا للماضي‪ ،‬يمكن أن يساعدنا على أن نكون حساسين للطبيعة النسبية للتواريخ التي‬

‫نبتدعها‪ ،‬فال تاريخ إسرائيل وال تاريخ يهوذا الذ ي يكتبه المؤرخون اليوم هو أو ينبغي أن‬

‫يكون تاريخ التوراة‪ .‬وال تاريخ إسرائيل هو تاريخ منطقة سورية الجنوبية ذاتها الذي يدعى (‬ ‫رص يسرءل‪ /‬أرض إسرائيل) في عدد كبير جدا من نصوص التوراة‪ .‬إن تاريخ إسرائيل ليس‬

‫سوى جزء محدود جدا من تاريخ المنطقة األكبر‪ .‬إنه يشمل منطقة المرتفعات الوسطى شمال‬

‫القدس وجنوب وادي سهل يزرعيل ‪ ،‬خالل القرنين التاسع والثامن قبل الميالد‪ .‬لم يكتب أحد‬

‫حتى حينه تاريخ هذه( اإلسرائيل) ألجل العهود الالحقة لالستيالء اآلشوري على المنطقة‪ .‬هذا‬ ‫التاريخ مختلف عن التواريخ العديدة ذات الصلة‪ ،‬ولكن ال داعي للقول أنها تواريخ منفصلة‬

‫ومتميزة ليهوذا ويزرعيل وجلعاد والجليل والنقب والمنخفض الساحلي ووادي األردن وفينيقية‬

‫وفلسطية وعمون ومؤاب وأدوم وغيره كثير‪ .‬معظم هذه التواريخ لم يبدأ بكتابته إال في اآلونة‬

‫األخيرة‪ .‬كل هذه التواريخ قد كان بشر بها طوال التاريخ التخيلي إلسرائيل الالهوت‪ (.‬نفس‬

‫المصدر)‬

‫واذا أردنا أن نلخص ما مر معنا فإننا نستطيع أن نقول على لسان طومسن‪ " :‬بأن آباء سفر‬ ‫التكوين لم يكونوا تاريخيين‪ .‬فالجزم بأن ( إسرائيل) كان قبل دخول فلسطين شعبا‪ ،‬سواء في‬

‫هذه القصص أم في قصص يشوع‪ ،‬ليس له أساس تاريخي ‪ .‬فال وجود لحملة عسكرية ضخمة‬ ‫من (اإلسرائيليين) البدو الغزاة‪،‬غزت فلسطين أبدا‪ .‬لم يكن أي سكان ( كنعانيين) متميزين أثنيا‬ ‫أزاحهم (اإلسرائيليون) ‪ .‬لم يوجد عهد القضاة في التاريخ‪ .‬لم يكن ثمة امبراطورية حكمت‬

‫(ملكية متحدة) من أرشليم ‪ .‬لم تكن أبدا أي أمة (إسرائيلية) متجانسة إثنيا على اإلطالق‪.‬لم‬ ‫يوجد أي رباط أثنى أو سياسي أو تاريخي بين الدولة التي كانت تدعى إسرائيل أو (بيت‬

‫عمري) وبلدة أورشليم وبين دولة يهوذا‪ .‬في التاريخ لم تشترك ال أورشليم وال يهوذا بهوية‬ ‫واحدة مع إسرائيل قبل حكم الحسمونيين في العهد الهيليني‪.‬‬

‫" إن إسرائيل التاريخية الوحيدة‪ ،‬التي يمكن الحديث عنها ‪ ،‬هي شعب دولة المرتفعات الصغيرة‬

‫التي فقدت حكمها الذاتي السياسي في الربع األخير من القرن الثامن‪ ،‬والتي تجاهلها‬

‫المؤرخون ودارسوا التوراة‪ ...‬إلى أفراد هذا الشعب يشار في قصص سفر عز ار (‪ )4‬بوصفهم‬

‫أعداء بنيامين ويهوذا‪ ...‬في القصة ينبذهم يهود عز ار ‪ ،‬ويمنحهم المؤرخون هوية (سامريين)‬ ‫الطائفية‪ .‬إسرائيل هذه ليست التي هي اهتم بها الباحثون التوراتيون الذين يكتبون ( تواريخ‬


‫‪89‬‬

‫إسرائيل) وهي ليست إسرائيل التي نجدها في الحكايات التوراتية‪ (.‬طومسن‪ :‬الماضي الخرافي ‪،‬‬

‫نفس المصدر‪ ،‬ص‪) 306 :‬‬


‫‪90‬‬

‫‪ -5‬ما هي حقيقة السبي والمنفى؟‬ ‫يلعب السبي كما مر معنا‪ ،‬ذلك الحدث من الماضي الذي اقتلعت فيه إسرائيل من موطنها ‪،‬‬ ‫أوال من قبل اآلشوريين وثم من قبل البابليين‪،‬دو ار مركزيا في تشكيل تراث التوراة‪ .‬فالنفي‬

‫يعتبره كتبة التراث التوراتي عقابا على فعل الشر في عين الرب وهو الوسيلة التي يمكن بها‬

‫الذين ينتمون إلى طريق التوراة أن يعتبروا أنفسهم منقذين بعد أن مروا باآلالم التطهيرية في‬ ‫المنفى‪.‬‬

‫أن سياسة التهجير ونقل السكان واعادة التسكين‪ ،‬كانت معروفة في ذلك الوقت مارسها كل‬

‫من اآلشوريون والمصريون والبابليون‪ .‬ورغم االقرار بمحدودية وعدم اكتمال النصوص‬

‫اآلشورية المتعلقة بالتهجير ‪ ،‬فقد بقي ما يزيد على مائة وخمسين هجرة وهي كافية الظهار‬

‫أن الحد األدنى لعدد سكان الشرق األوسط الذين تأثروا بسياسة التهجير كانوا بمئات اآلالف‬ ‫‪ ،‬ويحتمل أن يكون المجموع قد بلغ المليون‪ .‬و يؤكد طومسن بأنه "مهما كان الشعب الذي‬

‫نقل أو أعيد إلى فلسطين فهم بالتأكيد لم يكونوا إسرائيليين" ‪ (.‬طومسن‪ ،‬التاريخ القديم ‪،‬ص‪:‬‬ ‫‪) 289-288‬‬

‫لم تهجر النخبة فحسب ‪ ،‬بل والحرفيين وعمال السخرة والنساء للنخاسة والرجال للتجنيد في‬

‫الجيش و بالفعل نقلت قرى بكاملها إلى مناطق نائية في االمبراطورية وجرى توطين غيرهم من‬

‫كافة أنحاء االمبراطورية‪ .‬سياسات التهجير واعادة التوطين كانت متعددة األغراض ‪ :‬العقاب ‪،‬‬ ‫المكافأة‪ ،‬تنفيذ مشروعات البناء ‪ ،‬تطوير احتكارات اقتصادية في الحرف والتجارة و تدمير‬

‫التركيبة االجتماعية في المناطق المفتوحة الحباط الثورات المضادة وايجاد مجموعات وكيانات‬ ‫تابعة ومخلصة لالمبراطورية‪ .‬عندما دمرت السامرة ‪ ،‬أعيد توطين معظم سكانها في أشور و‬ ‫ميديا و شمال سوريا وبابل و عيالم والعربة‪ .‬كما جلب مجموعات أخرى من الناس إلى‬

‫السامرة من عيالم وسوريا وشبه الجزيرة العربية‪ ،‬وتم توطينهم في المرتفعات وفي بعض أغنى‬

‫وديان السامرة‪.‬‬

‫في نهاية القرن السادس ق‪.‬م ‪ ،‬لم تعد القدس و يهوذا الحقبة األشورية موجودتين‪ ،‬كما‬

‫حصل بالضبط للسامرة في القرن الثامن ‪ .‬و إعادة التوطين لم تصب الناس فقط بل جرى‬

‫أيضا إعادة توطين االلهة القديمة إلى مواطنها‪ .‬ولقد واصل البابليون والفرس هذه السياسات‬

‫على نطاق واسع‪ ( .‬طومسن التاريخ القديم ‪،‬نفس المصدر‪) ،‬‬


‫‪91‬‬

‫كان الترحيل الواسع النطاق الوسيلة المفضلة لقمع التمرد في األراضي المحتلة ‪ ،‬كما كان من‬

‫الممكن تسخير الجماعات المقتلعة لغايات مفيدة‪ ،‬وبإعادة توطينهم في مدن االمبراطورية‬

‫الكبيرة‪ ،‬أو في قرى وبلدات األراضي األجنبية‪ ،‬كان من الممكن كسب والءهم للدولة لكونهم‬ ‫ممتنين ألجل الحرية والمساواة في بيوتهم الجديدة‪ ،‬كانوا يخدمون بمثابة قوة مكافئة ألي‬ ‫معارضة محلية يمكن أن تواجهها الدولة في مدنها الكبيرة ‪ .‬كان كسب الدعم والقبول‬

‫الطوعيين من طرف المرحلين مفضال بكثير على أي استخدام مكلف للجيوش لفرض اإلذعان‬

‫بالقوة‪ .‬كان الوضع يتطلب تفسي ار مقنعا ولقد كشفت النصوص القديمة على أن الترحيل لم يكن‬ ‫يقدم على أنه عقاب‪ ،‬بقدر ما هو فعل يقدم لمصلحة الناس‪ .‬فهو يعزز مصالحهم ويحميها‪،‬‬

‫إنه ينقذهم من حكامهم السابقين‪ ،‬الذين قمعوهم واستبعدوهم‪ .‬تقدم بعض النصوص القديمة‬

‫الملك األشوري بوصفه منقذ الشعب‪ ،‬الذي أعادهم وآلهتهم إلى األوطان التي تم نفيهم منها‬ ‫بعد تحريرهم من العبودية المفروضة عليهم من قبل حكامهم السابقين‪ .‬هنا كانت الشعوب‬

‫المقتلعة تشجع على التفكير بنفسها بلغة االسترجاع بدال من لغة الترحيل التأديبي‪ .‬كما أنقذوا‬

‫من النفي بإرادة الملك ‪ ،‬أصبحوا عائدين إلى أوطانهم بإرادته‪ ،‬وأعيد لم شملهم مع آلهتهم‬ ‫المفقودة والمنسية‪ .‬كان المهجرون يستلمون أرضا وازدها ار مجددا من اآلشوريين عند‬

‫االستيطان‪،‬وكانوا يمنحون الدعم والحماية ضد السكان األصليين‪ .‬لقد وظف كل من البابليين‬

‫والفارسيين‪،‬بوصفهم خلفاء للآلشوريين أكثر من ما هم خالقون لالمبراطورية‪،‬مثل هذه الدعاوة‬

‫بين الشعوب الرعايا‪ .‬كان بإمكانهم بإحتمال قبول أكثر بكثير‪،‬أن يزعموا القيام بدور المحررين‪.‬‬

‫كان الهدف النهائي هو إزالة الفوارق اإلقليمية والقومية وخلق مواطني امبراطورية موالية‬

‫للحكومة‪( .‬طومسن‪ :‬الماضي الخرافي‪ ،‬ص‪.)، 310-306 :‬‬

‫يقدم لنا طومسن عدد من األمثلة على تبرير سياسة الترحيل التي كانت متبعة من قبل‬

‫االمبراطوريات‪ ،‬نذكر واحد منها‪.‬‬

‫لقد قرر الملك البابلي (نبونيد) أن يعيد بناء مدينة حران اآلشورية القديمة وأن يقيم هناك‬ ‫هيكل لإللهة ( سين) بوصفه دين دولة امبراطوري‪ ،‬فجلب شعوبا مختلفة كثيرة‪ ،‬من بابل‬

‫وسورية ومصر وأعاد بناء حران‪ ،‬وتكلم على مشروعه بوصفه استعادة وطن إلى مواطنين‬

‫أعيدوا من النفي‪ .‬لقد جدد تراثاتهم المنسية وأعاد كل آلهتهم القدماء إلى بيوتهم ‪ ،‬واإلله‬

‫(سين) ‪ ،‬اإلله الجديد‪،‬يعلن أنه اإلله القديم الحقيقي واألصلي للمدينة‪ .‬هذه الخطوة األخيرة تم‬

‫تسهيلها بمماهاة هذا الرب التقليدي للمنطقة مع إله السماوات‪ .‬هذا الوصف لإلمبراطور بأنه‬ ‫"معيد" اآللهة والسكان المحليين‪ ،‬يوجد في كل النصوص البابلية المتعلقة بالتهجير‪ .‬وبخالف‬

‫ذلك تلقي هذه النصوص اللوم على اآلشوريين أو الحلفاء البرابرة‪ ،‬لتدمير مذاهب ومعابد‬


‫‪92‬‬

‫الشعوب الخاضعة‪ .‬والبابليون يحتلون المركز األعلى بوصفهم محرري الشعوب المقهورة‪،‬‬ ‫يتصرفون حسب تعاليم اإلله مردوك ‪ ،‬يعيدون المدن إلى سكانها ‪ ،‬ويعيدون اآللهه‬

‫المهجورة‪،‬وبناء المعابد لها ويكرسون المهجرين خدما فيها ( طومسن‪ :‬التاريخ القديم‪ ،‬نفس‬

‫المصدر‪ ،‬ص‪)288 :‬‬

‫الدافع االيديولوجي في سياسة التهجير واعادة التوطين أتقنه الفرس جيدا‪ .‬لقد عرضوا أنفسهم‬ ‫بصفتهم محررين شعوب المنطقة من نير اآلشوريين والبابليين والذين وصفوهم برابرة‬

‫مضطهدين للشعوب ‪.‬‬

‫أسطوانة قورش الذي تصفه التوراة بالمسيح المحرر‪ ،‬تزعم أن الملك البابلي السابق قد دمر‬ ‫وحدة الدين‪،‬وبدل اآللهة الروحية السماوية الحقيقية بمجرد تماثيل من طين ‪ .‬وتتهم الملك‬

‫البابلي بأنه استعبد شعبه‪،‬والمدن في زمنه كانت خرائب والحقول مهجورة واآللهة غاضبة ألنها‬

‫أبعدت قص ار من موطنها‪،‬حتى الصلوات كانت كلها خاطئة‪ .‬ولقد كان االله مردوك رحيما‬

‫فدعا قورش إلقامة العدل بين كل الشعوب ‪ .....‬وجهد قورش في إعادة الشعوب و اآللهة إلى‬

‫مواطنها‪ .‬نقل السكان واآللهة ‪ ،‬تحت عنوان‬

‫" اإلعادة " تعتبره هذه النصوص المهمة األولى لقورش واإلمبراطورية ‪ .‬سياسة أدبية واصلها‬

‫من بعد قورش كل من أحشويرش و داريوس الثاني‪ (.‬طومسن‪ :‬التاريخ القديم‪ ،‬ص‪-288 :‬‬

‫‪) 289‬‬

‫التوراة تعتبر قورش المسيح المخلص وبطل " العودة" حيث أعاد المهجرين و ربهم إلى‬

‫فلسطين وكله بأمر الرب يهوه‪ .‬وهي بالتحليل األخير ال تفعل شيئا أكثر من تعريف االله‬

‫الروحي السماوي لإلمبراطورية الفارسية باسم اإلله المحلي والمهمل لمدة طويلة يهوه‪ .‬و‬

‫ضمن هذا المحيط الثقافي ‪ ،‬تصور التوراة ( اشعيا ‪ ) 48 – 40‬قورش بوصفه‬

‫" معيد " شعب إسرائيل الذي جرى سبيه منذ قرون على يد اآلشوريين والبابليين و‬

‫" معيد " اإليمان السلفي بإله حقيقي واحد هو يهوه‪ .‬من الواضح بالطبع – يقول طومسن‪:‬‬

‫أننا ال نتعامل مع إعادة منفيين إلى وطنهم ‪ ،‬أكثر من تعاملنا مع إعادة ديانة قديمة منسية أو‬

‫إعادة بناء معبد‪.‬‬

‫النصوص( التوراتية) تعكس نقل وايجاد شعب جديد و ديانة جديدة ‪ ،‬تعبي ار عن تصور اإلدارة‬

‫للمقدس ‪ ،‬مقترنا باسم مقدس شائع في ماضي القسم األكبر من المنطقة‪ .‬هذا يمكن اعتباره‬ ‫خلقا لمجتمع جديد متمركز حول معبد جديد‪ ،‬ويديره المسؤول الفارسي‪ ،‬الذي وحد نفسه مع‬

‫هذه الشعوب ‪ .‬ويؤكد المؤلف أنه مهما كان الشعب الذي نقل أو أعيد إلى فلسطين‪ ،‬فهم‬

‫بالتأكيد لم يكونوا إسرائيليين‪ .‬ورغم ذلك أصبح الفرس يعتبرونهم وكذلك المرويات التوراتية‬


‫‪93‬‬

‫الناشئة‪ ،‬سكان إسرائيل المفقودة منذ زمن‪ ،‬عائدين إلى " أرض إسرائيل "من منفى مرير بعد‬

‫أن خلصهم سيدهم ومنقذهم قورش‪ .‬بمساعدة الفرس أعيدت ديانة يهوه القديمة ‪ ،‬وهو االن‬ ‫يتصور على أنه أيلوهي شامايم ‪ ،‬الذي لم يكن رئيس لمجمع مقدس ‪ ،‬بل جوهر القداسة‬

‫ذاتها‪ -‬في كل أرجاء االمبراطورية‪ -‬وقد أصبح اسمه في فلسطين يهوه‪(.‬طومسن‪ :‬التاريخ‬

‫القديم ‪ ،‬ص‪.)289 :‬‬

‫" المنفى البابلي " ‪ -‬كما يحدثنا تومسون‪ -‬يلعب دو ار رئيسيا في تشكيل المرويات التوراتية‪،‬‬

‫ال كنقطة تاريخية في الزمن الذي فيه وجهت المروية نحو خاتمتها في سفر الملوك ‪ 2‬وال حتى‬

‫الفترة الماضية التي انطلقت منها البدايات ‪ .‬هو باألحرى يلعب دور الخلفية التأويلية للمرويات‬ ‫وهدفها الرامي إلى الوعي الذاتي لشعوب يهوه كبقية مخلصة‪ .‬صدمة " المنفى" الجذرية‬

‫استخدمت كمقولة أدبية حصلت عبرها المرويات المشكلة حديثا و جامعوها على هوية "‬

‫إسرائيل"‪ .‬ويؤكد المؤلف أن الحقيقة األدبية واللغوية للمرويات التوراتية هي أنها فلكلورية في‬ ‫جوهرها‪ .‬وأن بني إسرائيل ‪ :‬باعتبارهم أثنية وشعب مرتبط باالتحاد والروابط العائلية واألصل‬

‫المشترك يملك ماضيا مشتركا و متجها نحو هدف مستقبلي ديني مشترك ‪،‬ليس انعكاسا ألي‬

‫واقع سياسي‪ ،‬اجتماعي في دولة إسرائيل تاريخية في الحقبة اآلشورية ‪ ،‬وليس انعكاسا‬

‫حقيقيا لحقبة ما بعد الدولة الفارسية‪ .‬فاألحرى هو أن أصوله ومعناه تكمن في تطور المرويات‬ ‫والمفاهيم الدينية الطوباوية التي خلفتها المرويات ‪ ،‬وليس ضمن عالم واقعي من الماضي‪.‬‬

‫ويؤكد المؤلف أن " إسرائيل" ليس إال مولودا الهوتيا جديدا ناشئا عن المرويات التوراتية ذاتها‬

‫‪ ( .‬التاريخ القديم ‪،‬ص‪) 293-291 :‬‬

‫مع مجاز النفي في التوراة‪ ،‬لم تكن المشكلة هي عدم وجود دليل يبين ما إذا كان وضع‬

‫تاريخي ما قد وجد في الحقيقة‪ .‬إن نصوص السبي وحدها واإلجراءات السياسية‬

‫واالمبراطورية الشاملة للنقل السكاني التي جرت على مدى أكثر من ألف سنة تقدم أكثر من‬ ‫خلفية كافية‪ ،‬يمكن مجاز النفي األدبي للتوراة‪ ،‬أن يجد له صدى لدى جمهوره‪ .‬المسألة‪،‬‬

‫ليست ما إذا كان ثمة نفي تاريخي‪ ،‬وال في أنه وجد إلى حد أن قصص التوراة حول النفي‬

‫قابلة أو ليست قابلة للتصديق‪ ،‬فلقد كان ثمة نفي ‪ .‬والقصص التوراتية عن النفي تعكس‬

‫السياسات االمبراطورية منذ العهد اآلشوري إلى العهد الروماني‪.‬‬

‫تبرز المشاكل التاريخية ‪،‬برأي طومسن‪ ،‬مع مسألة االستمرار‪ :‬استمرار الناس‪ ،‬ثقافتهم‬

‫وتراثهم‪ .‬ويتسائل‪ :‬هل عواطف النفي المثارة في المشاعر الضمنية ألولئك الذين اقتلعوا ورحلوا‬ ‫هي مغايرة أم مشابهة لتلك التصورات الضمنية للناس من جيل آخر‪ ،‬أو حتى بعدئذ بقرون؟‬

‫وهل كان الناس الذين رحلهم شلمنصر من السامرة ليسكنوا في خلخ في بالد ما بين النهرين‬


‫‪94‬‬

‫الشمالية‪،‬هم عائدين إلى بيوتهم؟ أم أنهم أيضا عاشوا في المنفى‪ ،‬ربما لكي يعودوا إلى‬

‫أورشليم تحت حكم أرتكسركسس؟ أم هل كان الناس الذين جلبهم شلمنصر إلى السامرة من‬

‫بلدة حماة السورية يعتبرون أنفسهم مجبرين على العيش في المنفى‪ ،‬مع آخرين قد (عادوا)؟‬ ‫وكيف كان أهل السامرة يرون أنفسهم بعدئذ بثالثمائة عام؟ ومنفيوا يهوذا تحت حكم‬

‫سنحريب‪ ،‬هل عادوا؟ أم هل عاد أحد منهم؟ وألئك الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أنهم عادوا‬ ‫‪،‬والذين تمجد تراثاتهم في القصة بعدئذ بخمسمئة عام‪ ،‬هل كانوا في الحقيقة قد جلبوا إلى‬

‫يهوذا من قبل سنحريب؟ أم إلى أورشليم من قبل نبوخذ نصر‪ ،‬بدال من قورش أو داريوس أو‬

‫االسكندر الالحقين لهما؟ وكيف أمكن لمؤلفي سفر إسدراس األول أو سفر إشعيا الثاني أن‬

‫يعرفوا؟ ويتسائل أيضا لماذا ليس لدينا أية حكاية حول السبي في التوراة؟ لدينا قصص السبي‬

‫وقصص العودة من السبي‪ ،‬ولكن تاريخ السبي هو تاريخ مكتوب على صفحات بيضاء‪ .‬لماذا‬

‫هذه الفترة الوحيدة التي ال تقبل الجدل من تاريخ التوراة هي الفترة التي ال تبدي التوراة أي‬

‫اهتمام في أن تصنع جزءا من حكايتها؟ إن ما نعرفه من التوراة عن الترحيل والنفي والعودة‪،‬‬ ‫ما هو إال أمثلة على كيف يلعب األدب بالمجازات التي خلقتها الخبرة لنا‪ ( .‬الماضي‬

‫الخرافي‪،‬ص‪) 346-343 :‬‬

‫يقول طومسن أنه ال تتوافر لدينا أي صلة مثبتة تبين أي من الترحيالت المعروفة وأي عودة‬

‫مقابلة لها‪ .‬على نحو مماثل ليس لدينا مسوغ لالفتراض بأن الترحيالت من السامرة وأورشليم‬

‫كانت بالكاد شاملة‪ .‬إن الموضوع األدبي للترحيل الشامل مغرق في المبالغة‪ ،‬معبر عن‬

‫شمولية الكارثة‪ .‬ولدينا أيضا كثير من المسوغات لالعتقاد بأن مثل هذه المناقالت غالبا ما‬

‫كانت متعددة األطراف‪ ،‬وينطوي على عدة اتجاهات مختلفة ألجل سكان بلدة وترحيل جماعات‬ ‫سكانية من مناطق عدة‪ .‬في حالة السامرة في عام ‪ 722‬ق‪.‬م لدينا سجل آشوري يشير إلى‬

‫عدة شعوب متميزة تم نقلها إلى السامرة‪ ،‬ويظهر التمثيل اآلشوري لسقوط لخيش وسببها عام‬ ‫‪ 701‬ق‪.‬م‪ .‬إن هذه البلدة لم تكن سوى جزء من إعادة التوطين واسعة النطاق‪ .‬وتوحي‬

‫المسوحات األثرية ليهوذا القرن السادس قبل الميالد ‪،‬وتقديرات سكان أورشليم في القرن‬

‫الخامس ق‪.‬م أن األخيرة لم تفقد كل سكانها في ترحيالت أوائل القرن السادس‪ ،‬وغالبا ما‬ ‫كان االستمرار االجتماعي األساسي يوحي به تاريخ االستيطان وعدم وجود انقطاع أو تغير‬

‫كبير في الثقافة المادية‪ .‬فالثقافة المادية المحلية استمرت في الهيمنة بعد حدوث مثل هذه‬

‫االنقطاعات‪ .‬في الوقت نفسه ثبت وجود التمزق والتحول الجذري في تالل يهوذا في نهاية‬

‫القرن الثامن وفي الجليل وفي بداية العهد الفارسي‪( .‬نفس المصدر‪ ،‬ص‪) 340-383:‬‬


‫‪95‬‬

‫على صعيد األفراد ومجتمعات البلدات المحلية‪،‬فإن نزعة التغيير على مدى قرون من الثقافات‬ ‫االقليمية المتأصلة محليا إلى مجتمع امبراطوري هي نزعة غامرة‪ .‬فأولئك الذين تم نقلهم إلى‬ ‫فلسطين كانوا جزءا من عملية متكررة من االندماج مع المنطقة المضيفة‪ .‬عندما اندمجوا‬

‫صاروا يتماهون بتلك الجماعة‪ .‬في بعض األحيان كما في السامرة‪ ،‬كان هذا التماهي من خالل‬

‫اعتبار أنفسهم شعبا عاش على الدوام في المنطقة‪ .‬وفي أحيان ‪ ،‬كما في الجماعات التي‬ ‫انتقلت بأعداد كبيرة إلى بابل ‪ ،‬أو الذين احتفظوا بدور مقاوم للسكان المحليين‪ ،‬كما في‬

‫المستعمرات العسكرية للجنود الساميين الغربيين التي أقيمت في مصر‪ ،‬اتخذت الهوية شكل‬ ‫فهمهم لذاتهم على أنهم يعيشون في الشتات بعيدا عن وطنهم‪ .‬في بعض األحيان وكما في‬

‫أورشليم ‪ ،‬جاءت الهوية من خالل اعتبار معظم السكان أنفسهم منفيين عادوا إلى وطنهم‬ ‫األصلي‪ .‬وفي أحيان أخرى تم اختالق هويات جديدة تماما‪ ( .‬نفس المصدر)‬

‫يبين طومسن أنه في كل ترحيل واعادة توطين‪ ،‬كانت إعادة بناء البنى التحتية للمجتمع‬

‫تنطوي على مشاكل اندماج الالجئين والمرحلين في المجتمع القائم قبل ذلك‪ ،،‬الذي لم يكن‬

‫مستعدا للترحيب بهم‪ ،‬ولقد تنج عن ذلك آثار كبرى طويلة األمد منها‪:‬‬

‫أوال‪ :‬أن اللغة اآلرامية أصبحت اللغة العالمية الرسمية لإلمبراطوريات اآلشورية والبابلية‬

‫والفارسية‪ ،‬وربما كانت اللغة الوحيدة التي أمكن بها للجماعات المختلفة جدا من الناحية‬

‫اللغوية أن تتواصل مع بعضها البعض ومع الموظفين الرسميين اإلمبراطوريين‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬كانت عملية توحيد شعب فلسطين‪ ،‬وخصوصا مقاطعة (يهد) الفارسية في جنوب‬

‫فلسطين‪ ،‬من خالل تطوير تراثات أصل مشتركة ناجحة إلى حد أنه في نهاية القرن الثالث أو‬

‫القرن الثاني قبل الميالد ‪ ،‬شجع الناس في المقاطعة‪ ،‬بغض النظر عن أصولهم التاريخية‪،‬‬ ‫على قبول التراث السلفي للعودة كيهود من بابل باعتباره تراثهم الخاص‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬أن بعض النزاعات بين القادمين وبين األكثر محلية لم تحل‪ .‬ولقد قاوم التراث المستقل‬

‫والمتميز للسامرة االندماج في محدد الهوية عبر (اليهودية)‪ .‬ففي حين قبلت أرشليم أسفار‬ ‫موسى الخمسة العائدة للسامرة‪ ،‬و تراثات قصصية كثيرة أخرى‪ ،‬حافظت كل جماعة على‬ ‫مركزها العبادي ‪ .‬وعندما أنشئت التراثات التوراتية المختلفة في أثناء العهدين المكابي‬

‫والروماني‪ ،‬تبنت معظم الجماعات األخرى القابلة للتماهي إقليميا داخل فلسطين‪ ،‬وفي الشتات‬ ‫شكال أو آخر من التوراة باعتبارها تراثها الخاص‪ .‬ولقد ادت االختالفات العقيدية للجماعات‬

‫المختلفة‪ ،‬المعرفة إقليميا في بعض األحيان‪ ،‬إلى مزاعم تنافسية ومتضاربة من قبل جماعات‬ ‫كثيرة في كل من فلسطين والشتات بأنها الوريثة الشرعية الوحيدة(إلسرائيل) الالهوتية(‬


‫‪96‬‬

‫اليهودية)‪ .‬تلك النزاعات أكدت الطبيعة الطائفية لمعظم الجماعات التي كانت تدعي أن هذا‬

‫التراث هو ملك لها‪ (.‬نفس المصدر)‬


‫‪97‬‬

‫الفصل الرابع‬ ‫اإلسرائيليون في اإلسالم‬ ‫‪ - 1‬التوراة في االسالم ‪ :‬كتاب مقدس أم محرف ؟‬ ‫تحتل اإلسرائيليات قسما كبي ار من التراث اإلسالمي ولقد دخلت في معظم التفاسير القرآنية و‬

‫كثير من األحاديث النبوية و تأثر المفسرون والشارحون بها‪ ،‬سواء تأثي ار مباش ار عن طريق‬

‫التوراة أو عن طريق اليهود الذين دخلوا االسالم فأدخلوا في التراث االسالمي كثي ار من‬

‫االسرائيليات ‪.‬‬

‫لقد وردت االسرائيليات في كتابنا المقدس في عش ار ت اآليات القرآنية‪ ،‬فالتوراة ذكرت في‬

‫القرآن الكريم ‪ 18‬مرة و إسرائيل ‪ 43‬مرة و إبراهيم ‪ 69‬مرة واسماعيل ‪ 12‬مرة و اسحق‬

‫‪ 17‬مرة و يعقوب ‪ 16‬مرة و يوسف ‪ 27‬مرة وموسى ‪ 136‬مرة وداود ‪ 16‬مرة و سليمان‬

‫‪ 17‬مرة واليهود ‪ 25‬مرة ( هادوا‪ ، 10 :‬هودا‪ ، 6 :‬اليهود ‪ ، 8:‬يهوديا ‪ :‬مرة) ‪ .‬ولكن اآليات‬ ‫التي تتحدث عنهم أضعاف ذلك حيث تشير إلى كل هؤالء بالضمير الظاهر والمستتر‪.‬‬

‫وردت كلمة التوراة في القرآن الكريم في كل من سورة آل عمران والمائدة واألعراف و‬

‫والتوبة والفتح والصف والجمعة‪.‬‬

‫ ‪ " ،‬اهلل ال إله إال هو الحي القدوم* نزل عليك ( أي يا محمد صلعم‪ ،‬حسب تفسير‬‫القرطبي وابن كثير والجاللين ) الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة‬

‫واالنجيل" (عمران ‪) 3‬‬ ‫‪-‬‬

‫" ويعلمه ( أي المسيح‪ ،‬حسب تفسير ابن كثير والقرطبي والجاللين) الكتاب‬

‫والحكمة والتوراة واالنجيل" ( عمران ‪" ) 48‬‬

‫ " ومصدقا لما بين يدي ( أي المسيح‪ ،‬حسب تفسير القرطبي وابن كثير والجاللين )‬‫من التوراة ‪ ( ".....‬عمران ‪) 50‬‬

‫‪-‬‬

‫" يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة و اإلنجيل إال من بعده ‪"..‬‬

‫‪-‬‬

‫" كل الطعام حل لبني إسرائيل إال ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة‬

‫( عمران ‪) 65‬‬

‫قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقون" ( عمران ‪) 93‬‬


‫‪98‬‬

‫‪-‬‬

‫" وكيف يحكمونك ( أي محمد صلعم‪ ،‬حسب تفسير القرطبي وابن كثير والجاللين )‬

‫‪-‬‬

‫" إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا‬

‫وعندهم التوراة فيها حكم اهلل ‪"....‬‬

‫( المائدة ‪) 43‬‬

‫والربانيون واالحبار بما أستحفظوا من كتاب اهلل ‪ (....‬المائدة ‪) 44‬‬

‫‪ " -‬و كتبنا عليهم ( أي اليهود) فيها ( أي التوراة) أن النفس بالنفس والعين بالعين‬

‫واألنف باألنف واألذن باألذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة‬

‫له ومن لم يحكم بما أنزل اهلل فأولئك هم الظالمون " ( المائدة ‪) 45‬‬

‫ " وقفينا على إثرهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه اإلنجيل‬‫فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة هدى وموعظة للمتقين " ( المائدة‬

‫‪) 46‬‬ ‫‪-‬‬

‫" ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا ‪ ".......‬ولم أنهم أقاموا التوراة واإلنجيل وما‬

‫أنزل إليهم من ربهم ‪ ( "...‬المائدة ‪) 66‬‬

‫ " قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة وإلنجيل وما أنزل عليكم من‬‫ربكم ‪ ( "....‬المائدة ‪) 68‬‬

‫‪-‬‬

‫" إذ قال اهلل لعيسى ابن مريم أذكر نعمتي عليك ‪ ......‬واذ علمتك الكتاب والحكمة‬

‫‪-‬‬

‫" الذين يتبعون الرسول النبي األمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة واإلنجيل‬

‫‪-‬‬

‫" إن اهلل اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل‬

‫واإلنجيل ‪ ( "....‬المائدة ‪) 110‬‬

‫يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ‪ ( "......‬األعراف ‪) 157‬‬

‫اهلل فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة واإلنجيل والقرآن ‪ ( "...‬التوبة ‪) 111‬‬

‫‪ " -‬محمد رسول اهلل والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا‬

‫يبتغون فضل من اهلل ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في‬

‫التوراة ومثلهم في اإلنجيل ‪ ( "......‬الفتح ‪) 29‬‬ ‫‪-‬‬

‫" واذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول اهلل إليكم مصدقا لما بين يدي‬

‫من التوراة و مبش ار برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " ( الصف ‪) 6‬‬

‫‪ " -‬مثل الذين حملوا التوراة ولم يحملوها ‪ ( "....‬الجمعة ‪) 5‬‬

‫من هذه اآليات نفهم ‪:‬‬


‫‪99‬‬

‫‪ -1‬أن التوراة منزلة من عند اهلل‪.‬‬

‫‪ -2‬و هي ليست بالكتاب وال الحكمة وال اإلنجيل وال القرآن بسبب ورود واو العطف‬ ‫بينها ‪.‬‬

‫‪ -3‬فيها هدى و نور ‪.‬‬

‫‪ -4‬أنها نزلت من بعد إبراهيم وليس قبله ‪.‬‬

‫‪ -5‬أن على اليهود أن يعملوا ويحكموا بينهم بما ورد في التوراة ‪ ،‬ففيها حكم اهلل‪،‬‬ ‫تماما كما على أهل اإلنجيل أن يتبعوا أحكام اإلنجيل‪.‬‬

‫‪ -6‬أن على أهل الكتاب أن يقيموا التوراة واإلنجيل وما أنزل من ربهم ‪.‬‬

‫‪ -7‬ال تذكر هذه اآليات أي شيء عن نزول التوراة على النبي موسى‪ ،‬و لقد جاءت‬

‫التوراة في تلك اآليات القرآنية مقرونة بالمسيح عيسى ابن مريم ولم تأت مقرونة‬ ‫بالنبي موسى إذ ال يوجد فيها أي ذكر لرباط أو عالقة بين التوراة وبين النبي‬

‫موسى ‪،‬و برغم إجماع كتب التفاسير وكتب التراث على أن التوراة قد نزلت على‬

‫موسى ‪ ،‬فإنني راجعت جميع اآليات القرآنية فلم أجد آية واحدة تصرح بأن التوراة قد‬

‫نزلت عليه ‪ ،‬فإن سهوت أو أخطأت فاصلحوا خطئي ودلوني على اآلية القرآنية التي‬

‫تصرح بذلك ‪ ،‬واعذروني‪.‬‬

‫واذا راجعنا اآليات القرآنية التي تتحدث عن موسى فإننا ال نجد أي ذكر بأن التوراة نزلت أو‬

‫أنزلت على موسى‪ ،‬وانما نجدها تذكر الكتاب ‪،‬ولم تبين أن الكتاب هو التوراة‪.‬‬

‫البقرة‪ " 53 :‬وآتينا موسى الكتاب والفرقان"‬ ‫البقرة‪" 87 :‬ولقد آتينا موسى الكتاب"‬

‫األنعام ‪ " 91 :‬من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى"‬ ‫األنعام ‪ "154 :‬ثم آتينا موسى الكتاب "‬ ‫هود ‪ " 17:‬كتاب موسى"‬

‫هود ‪ " 110 :‬ولقد آتينا موسى الكتاب"‬

‫اإلسراء ‪ " 2 :‬وآتينا موسى الكتاب "‬

‫األنبياء ‪ " 48 :‬ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان"‬

‫وتتكرر " ولقد آتينا موسى الكتاب " في كل من اآليات ‪ :‬الفرقان ‪ 35‬والقصص ‪ 43‬والسجدة‬

‫‪ 43‬وفصلت ‪ ، 45‬وورد في سورة األحقاف لآلية ‪ " 12‬كتاب موسى" ‪ ،‬فلماذا لم تذكر اآليات‬

‫القرآنية أي ذكر لنزول التوراة على موسى؟؟‬


‫‪100‬‬

‫في الحقيقة وقف المفسرون موقف المحتار من التوراة‪ ،‬بين هل هي محرفة ومتى حرفت ‪،‬‬

‫قبل البعثة النبوية أم بعدها ‪ ،‬وان كان قد حرف كل ما فيها أم جزءا منها؟‬

‫اعتبر المفسرون أن تحريف اليهود للتوراة ثابت من قول االيات ‪:‬‬

‫اآلية ‪ 46‬من سورة النساء‪ " :‬من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه‪".‬‬

‫اآلية ‪ 13‬من سورة المائدة ‪ " :‬يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به‪".‬‬ ‫اآلية ‪ 41‬من سورة المائدة‪ ":‬يحرفون الكلم من بعض مواضعه"‬

‫ففي تفسير اآلية األولى يقول القرطبي في تفسيره أن اليهود يحرفون في كلم النبي أو ما‬

‫عندهم من التوراة وليس يحرفون جميع الكالم‪ .‬وفي تفسير الجاللين أن اليهود يحرفون الذي‬ ‫أنزل اهلل في التوراة من نعت محمد‪ ،‬ويؤكد الزمخشري في الكشاف بأن المعني هو اليهود‬

‫الذين بدلوا الكلم في التوراه بوضع كلم آخر مكانه مثل تحريفهم " أسمر ربعة" عن موضعه في‬

‫التوراة بوضعهم " آدم طوال" مكانه ونحو تحريفهم الرجم بوضعهم الحد بدله ‪ .‬أم اآلية‬

‫الثانيةففسرها القرطبي أن اليهود غيروا صفة النبي(ص) في التوراة وآية الرجم‪ ،‬ويؤكد ذلك‬ ‫تفسير الجاللين من أن اليهود يحرفون الكلم في التوراةمن نعت محمد (ص) وغيره‪ ،‬ويقول‬

‫الزمخشري في الكشاف أن اليهود يحرفون الكلم في التوراة مما تركوا نصيبا جزيال وقسطا‬

‫وافيا مما ذكروا به من التوراة‪ ،‬ويتابع حرفوا التوراة وزالت أشياء منهاعن حفظهم ‪ .‬أما اآلية‬

‫الثالثة فيقول ابن كثير في تفسيره أن الصحيح أنها نزلت في اليهود من الذين زنيا وكانوا قد‬

‫بدلوا كتاب اهلل الذي بايديهم من األمر برجم من أحصن منهم فحرفوه وأصلحوا فيما بينهم‬

‫على الجلد مائة جلدةوالحميم والركاب على حمارين مقلوبين‪ ،‬ثم قالوا فيما بينهم تعالوا نتحاكم‬

‫إلى محمد فإذا حكم بالجلد والتحميم فخذوه عنه وان حكم بالرجم فال تأخذوه‪ .‬ولقد أكد ذلك‬

‫القرطبي في تفسيره وكذلك تفسير الجاللين حيث يقول يحرفون الكلم الذي في التوراة كآية‬

‫الرجم‪ ،‬ويؤكد الزمخشري في الكشاف أنها نزلت في اليهود الذين زنا منهما اثنان فغيروا الرجم‬ ‫بالحد‪ ،‬وكلها دالئل على أن اليهود قد حرفوا التوراة التي بين أيديهم ‪.‬‬

‫في تفسير اآلية ‪ 23‬من سورة عمران" ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى‬

‫كتاب اهلل ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون" اختلف المفسرون في " الكتاب "‬

‫الذي عنت اآلية في قولها " يدعون إلى كتاب اهلل" ‪ ،‬قال بعضهم هي التوراة والبعض اآلخر‬

‫هو القرآن‪ .‬ففي تفسير الطبري أن اهلل دعى اليهود إلى الرضى بما في التوراة إذ كانت أحكام‬

‫اهلل فيها قبل أن نسخ ما نسخ ‪ .‬نفهم من ذلك أن التوراة في ذلك الزمان حسب ما يقول‬

‫الطبري لم يصبها التحريف‪ ،‬إذ كيف تصفها اآليات بكتاب اهلل و تدعوا اليهود أن يرضوا بها‬

‫ويحتكموا إلى ما ورد فيها مع العلم بأنها محرفه‪ .‬وجاء في سبب نزول اآلية أن النبي( ص)‬


‫‪101‬‬

‫دخل على جماعة من اليهود فسألوه‪ :‬على أي دين أنت يا محمد فقال‪ :‬على ملة إبراهيم ‪،‬‬ ‫فقالوا إن إبراهيم كان يهوديا فقال (ص) هلم إلى التوراة فهي بيننا وبينكم‪ ،‬فرفضوا فنزلت‬

‫اآلية‪ ،‬وفي قول آخر أن (ص) قال هلموا إلى التوراة ففيها صفتي‪ ،‬وق أر الجمهور " ليحكم "‪.‬‬

‫وقيل أيضا أنها نزلت في الذين زنيا من خيبر وحكم الرسول عليهما بالرجم وأنكر اليهود ذلك‬ ‫‪ (.‬تفسير القرطبي ) وفي تفسير الجاللين أن اآلية نزلت في اليهود‪ ،‬زنى منهما اثنان‬

‫فتحاكموا إلى النبي‪ ،‬فحكم عليهما رسول اهلل بالرجم فأبوا فجيء بالتوراة فوجد فيها ‪،‬فرجما‬

‫فغضبوا‪ .‬وفي تفسير الغرناطي( المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ألبي محمد عبد‬

‫الحق بن عطية الغرناطي‪ ،‬تحقيق أحمد صالح المالح ‪،‬لجنة القرآن والسنة في وزارة األوقاف‪،‬‬

‫مصر) يقول أن قتادة وابن جرير قالوا أن اآلية في " يدعون إلى كتاب اهلل" عنت القرآن ‪،‬‬

‫كان الرسول (ص) يدعوهم إليه فكانوا يعرضون‪،‬أما الطبري فرجح أنها تعني التوراة وقال مكي‬

‫أن الكتاب هنا يعني التوراة‪.‬‬

‫وكل هذا يدل على أن التوراة حسب قول كتبة التراث االسالمي كانت في ذلك الزمان غير‬

‫محرفة وعلى المسلمين اعتبارها كتاب اهلل والعمل بها إال ما نسخته منها اآليات القرآنية واال‬

‫كيف يدعو رسول اهلل اليهود لالحتكام إلى نصوصها‪ .‬وفي تفسير القرطبي عن عمر أنه قال‬

‫لكعب‪ :‬إن كنت تعلم أنها التوراة التي أنزلها اهلل على موسى بن عمران فاقرأها‪ .‬ويقول القرطبي‬

‫في تفسيره أن الرسول علية السالم كان عالما بما لم يغير منها ولذلك دعاهم إليها والى الحكم‬

‫بها‪.‬‬

‫في تفسير السورة ‪ 85‬من سورة البقرة قالوا أن المقصود بالكتاب في قول اآلية‪:‬‬

‫" أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إال خزي في الحياة‬

‫الدنيا ويوم القيامةيردون إلى أشد العذاب وما اهلل بغافل عما تعملون" هو التوراة‪ .‬يقول ابن‬

‫كثير في تفسيره أن اآلية نزلت في يهود يثرب حيث تقاتلوا فيما بينهم في قتال األوس والخزرج‬

‫‪ ،‬وكان اليهود فريقين األول بني قيقناع وهم حلفاء الخزرج والنضير وقريظة وهم حلفاء‬

‫األوس‪ .‬ولقد تقاتلوا وسفكوا دماء بعض تحالفا مع المشركين وبين أيديهم التوراة يعرفون فيها‬ ‫ما لهم وما عليهم بعكس األوس والخزرج الذين كانوا من المشركين‪ ،‬ال يفقهون الحالل الحرام‬

‫وال يعرفون بعثا وال قيامةوال الجنة والنار‪ .‬وكان اليهود إذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم‬

‫حسب تعاليم التوراة‪ "،‬إنك ال تجد مملوكا من بني إسرائيل إال اشتريته وأعتقته" فعاتبهم اهلل في‬

‫اآلية تفدون أسراكم حسب تعاليم التوراة وتسفكون دماء بعض وبين أيديكم التوراة وفي حكم‬

‫التوراةأن ال يقتل وال يخرج من داره وال يظاهر عليه إال من يشرك باهلل ويعبد األوثان من دون‬ ‫ابتغاء عرض الدنيا ‪ ،‬ويقول ابن كثير أن اهلل في قول اآلية فما جزاء من يفعل ذلك منكم‬


‫‪102‬‬

‫‪...‬الخ يعني أي جزاء مخالفتهم شرع اهلل وأوامره وجزاء مخالفتهم كتاب اهلل ( أي التوراة)‬

‫الذي بأيديهم ‪ .‬أال يدل هذا على أن كتبة التراث اعتبروا التوراة التي بأيدي اليهود في ذلك‬

‫الزمان كتاب اهلل وأنه غير محرف‪.‬‬

‫وفي تفسير اآلية ‪ 68‬من سورة المائدة " قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا‬

‫التوراة واالنجيل وما أنزل عليكم من ربكم ‪ ..‬إلى آخر اآلية" يقول القرطبي في تفسيره عن ابن‬

‫عباس أن جماعة من اليهود جاؤا إلى النبي (ص) فقالوا" ألست تقر أن التوراة حق من عند‬

‫اهلل ؟ قال ‪ :‬بلى‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنا نؤمن بها وال نؤمن بما عداها‪ ،‬فنزلت اآلية‪ ،‬أي لستم على شيء‬

‫من الدين حتى تعلموا بما في الكتابين من اإليمان بمحمد والعمل بما يوجب ذلك منهما‪ ،‬وقال‬

‫أبو علي ‪ :‬ويجوز أن يكون ذلك قبل النسخ لهما‪ .‬وفي تفسير ابن كثير عن مجاهد أنه قال ‪:‬‬

‫"وما أنزل عليكم من ربكم يعني القرآن العظيم‪.‬‬

‫وهكذ نجد أنه رغم وجود دالئل بين يدي كتبة التراث على أن اليهود قد حرفوا التوراة إال أنهم‬ ‫عادوا واعتبروا التوراة التي بين يهود ذلك الزمان كتاب اهلل‪ ،‬فيه أحكام اهلل ويظهر أن ذلك‬

‫دفعهم إلى االعتماد على نصوص التوراة وعلى أحبار اليهود في تفسير اآليات القرآنية وخاصة‬ ‫في ما يتعلق ببني إسرائيل حيث كانت التوراة الكتاب الوحيد الذي بين أيديهم والذي يتحدث‬

‫بالتفصيل عن ما اعتبروه تاريخا لبني إسرائيل‪.‬‬


‫‪103‬‬

‫‪ -2‬النبي إبراهيم ونسله‪ :‬بين النص اإللهي والبشري‬

‫إبراهيم شخصية مهمة في االسالم ‪ ،‬ولقد وردت كلمة إبراهيم في القرآن تسعة وستون مرة‬

‫ولكن اآليات القرآنية التي تتحدث عن إبراهيم أضعاف هذا العدد ويوجد في القرآن سورة باسمه‬

‫تحدثنا اآليات القرآنية أن إبراهيم ولد ألب اسمه عازر‪ ،‬وال تحدثنا أين ولد وال عن مكان والدته‬

‫و موطنه وال الزمن الذي ولد فيه‪ ،‬ولقد وهبه اهلل على الكبر ولدان هم إسماعيل واسحاق وال‬ ‫تذكر اآليات اسماء زوجات إبراهيم وال أسماء أمهات أبنائه ‪.‬‬

‫كان عازر والد إبراهيم مثله مثل قومه من عبدة األصنام‪ ،‬و لقد حاول إبراهيم أن يهدي والده‬

‫إلى ترك عبادة األصنام " واذ قال إبراهيم ألبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك من‬

‫الخاسرين" ( األنعام ‪ ) 74‬ولكن آزر لم يقبل بنصيحة ابنه وقال له " أراغب أنت عن آلهتي‬

‫يا إبراهيم ألن لم تنته ألرجمنك واهجرني مليا" ( مريم ‪ .) 46‬فلما رأى إبراهيم أن والده مصر‬

‫على عبادة األصنام تب أر منه‪ (.‬مريم ‪) 49‬‬

‫تحدثنا اآليات القرآنية أن إبراهيم لما رأى إصرار قومه على عبادة األصنام قرر أن يحطم هذه‬ ‫األصنام ففعل " فجعلهم جذاذا إال كبي ار لهم لعلهم إليه يرجعون‪ ( ".‬األنبياء ‪ ) 51‬فلما رأى‬

‫القوم آلهتهم محطمة تسائلوا "من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين‪ ( :‬األنبياء ‪ ) 59‬و شكوا‬

‫في أن يكون ذلك من فعل إبراهيم فسألوه " َءأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله‬ ‫كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون * ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤالء‬ ‫ينطقون* قال أفتعبدون من دون اهلل ما ال ينفعكم شيئا وال يضركم " ( األنبياء ‪. ) 66 -63‬‬

‫قرر القوم بعد ذلك االنتقام من إبراهيم على فعلته فأرادوا حرقه‪ " ،‬قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم‬ ‫إن كنتم فاعلين" ولكن اهلل سبحانه جعل النار بردا وسالما على إبراهيم فنجاه من فعلة‬ ‫قومه‪ (.‬األنبياء ‪) 69-68‬‬

‫ال تحدثنا اآليات القرآنية شيئا عن زيارة إبراهيم لمصر وال تذكر شيئا عن قصة كذبه بادعائه‬

‫أن زوجته هي أخته وال عن محاولة تزويجها من ملك مصر ولكن اآليات القرآنية تحدثنا عن‬ ‫محاجة جرت بين ملك ال تذكر اسمه وال موطن ملكه وبين إبراهيم في ربه‪،‬‬

‫" الم تر الذي حاج إبراهيم في ربه أن أتاه الملك إذ قال ربي يحي و يميت قال أنا أحي‬

‫وأميت " ( البقرة ‪ ) 258‬ورد إبراهيم المفحم بقوله‪" :‬أن اهلل ياتي بالشمس من المشرق فأت‬ ‫بها من المغرب فبهت الذي كفر واهلل ال يهدي القوم الظالمين" (البقرة ‪) 258‬‬


‫‪104‬‬

‫القرآن الكريم كذلك يذكر قصة إبراهيم و الحلم الذي رآه في نومه بأنه يؤمر بذبح ولده‬

‫ولكنه ال يذكر اسم االبن وأي من أبناء إبراهيم هو ‪ .‬امتثل إبراهيم لهذا األمر وأراد ذبح ابنه‬ ‫كما أمر‪ ،‬ولكن اهلل حينما رأى قوة إيمان إبراهيم فدى االبن بذبح عظيم ذبحه إبراهيم فداء‬ ‫البنه‪ .‬ثم صار ذبح الضحايا أم ار متبعا يساهم فيه المسلمون كل عام ‪.‬‬

‫تحدثنا اآليات القرآنية أن إبراهيم ورغم أنه نبي صادق اإليمان بربه الذي خلق كل شيء والذي‬ ‫يحي ويميت ‪ ،‬إال أنه طلب من اهلل سبحانه أن يعطيه برهانا‪ " .‬إذ قال إبراهيم رب أرني كيف‬

‫تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك‬

‫ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن ياتينك سعيا واعلم أن اهلل عزيز حكيم" ( البقرة‬ ‫‪) 260‬‬

‫تركز اآليات القرآنية على أن إبراهيم هو أول المسلمين وأنه لم يكن يهوديا وال نصرانيا وانما‬ ‫مسلما حنيفا وأنه هو الذي سمى المسلمين بهذا االسم ‪ ,‬وأن ملة إبراهيم هي الصراط‬

‫المستقيم و طريق المسلمين‪ ،‬و أساسها اإليمان باهلل وما أنزل على محمد وما أنزل على‬

‫إبراهيم واسماعيل و إسحق و يعقوب وما أوحى اهلل به لموسى وعيسى‪ ،‬ال نفرق بين أحد‬

‫منهم ونحن هلل مسلمون‪ ،‬و أن إبراهيم ‪ ،‬بمساعدة ابنه إسماعيل‪ ،‬بنى بيت اهلل ليحج إليه‬

‫عباد اهلل ( الحج ‪ ، 78‬األنعام ‪ ، 161‬عمران ‪ ، 84‬النساء ‪ ، 163‬الشورى ‪ ، 13‬بقرة‬ ‫‪.) 127 - 125‬‬

‫القرآن الكريم كما مر ال يتحدث عن إبراهيم كشخصية تاريخية في الزمان والمكان‪،‬‬

‫و ال نعني بذلك القول أن إبراهيم لم يكن موجودا يوما ما كشخصية تاريخية‪ (،‬واهلل أعلم)‬

‫ولكننا نقول أن القرآن لم يحددها تاريخيا في الزمان والمكان‪ .‬واذا قرأنا قصة إبراهيم في القرآن‬ ‫بمعزل تام عن التوراة والتفسيرات التوراتية ‪ ،‬فإننا لن نعرف الزمان الذي عاش فيه إبراهيم وال‬

‫المكان الذي قدم منه‪ .‬فالقرآن ال يذكر موطن إبراهيم وال أين ولد ومتى ‪ ،‬ولن تجد في القرآن‬

‫مدينة باسم أور وال موطنا باسم بالد الرافدين أو فلسطين أو كنعان أو حتى الشام ‪ .‬وال يذكر‬ ‫القرآن حتى أسماء زوجات إبراهيم وموطنهن وأصلهن‪ ،‬ولن تستطع أن تجد في القرآن أسماء‬ ‫مثل سارة أو هاجر أو رفقه ‪ ،‬وال يذكر كذلك اسم الملك الذي حاجه إبراهيم وال موطن هذا‬

‫الملك و مملكته وزمنه ولن تجد في القرآن ملكا اسمه نمرود‪ ،‬كما ال يذكر شيئا عن رحلة‬

‫إبراهيم إلى مصر وال يذكر من هو المقصود باالبن الذبيح والمفدى وأي من أبناء إبراهيم هو ‪.‬‬ ‫كما ال يحدثنا القرآن عن تفاصيل حياة إسحاق و يعقوب وال نعلم من القرآن إن كان ليعقوب‬

‫أخوة وما هي أسماءهم ولن نجد في القرآن اسماء مثل عيسو أخ ليعقوب أو راحيل زوجة‬


‫‪105‬‬

‫ليعقوب ‪ .‬كل ما نعلمه من اآليات القرآنية أن إسحاق و يعقوب ‪ ،‬أنبياء ساروا في طريق أبيهم‬

‫إبراهيم وعبدوا إلهه‪ .‬وتأتي أسمائهم في القرآن عادة مقرونة بإبراهيم ‪.‬‬

‫القرآن الكريم يتحدث عن إبراهيم كرمز ديني لرفض عبادة األصنام التي ال تفيد وال تضر و‬

‫دعوته لعبادة اهلل الواحد األحد ‪،‬الذي يحي و يميت وهو على كل شيء قدير وعدم االشراك‬

‫مع اهلل شيئا‪ .‬القرآن يتحدث عن إبراهيم كرمز لإلنسان الذي تب أر حتى من أبيه وقومه عندما‬

‫رآهم يتمادون في غيهم ويصرون على عبادة أصنام لم تستطع حتى أن تدافع عن نفسها حين‬ ‫حطمها إبراهيم ‪ ،‬وعن رمز النسان وقف يدافع عن عقيدته التوحيدية بالحجة والمنطق حتى‬ ‫أمام ملك ظالم متعجرف‪ ،‬ولم ترهبه سلطة الملك وبطشه‪ .‬القرآن يحدثنا عن رمز لطاعة‬

‫المؤمن بربهواالستعداد لذبح ابنه تحقيقا لإل رادة اإلالهية‪ ،‬كما يحدثنا عن نسخ عادة أهل ذلك‬ ‫الزمان التي كانت تدعوا لذبح األبناء كضحية لآللهة و استبدالها بذبح الضحايا الحيوانية‪.‬‬

‫اآليات تحدثنا عن الحج لبيت اهلل كرمز لتوحيد األمة حول عبادتها التوحيدية‪ ،‬عبادة الخالق‬

‫الواحد الذي يحي ويميت وهو على كل شيء قدير‪ ،‬في كل ما تتطلب هذه العبادة من ذكر هلل‬

‫وشكره على نعمه‪ .‬عن رمز لالنسان ‪،‬حتى ولو كان نبيا‪،‬بكل قوته وضعفه بإيمانه وشكه‬ ‫بصدقه وكذبه بأخطائه و توبته‪.‬‬

‫التراث االسالمي لم يكتف بذلك وراح يلهث خلف كتبة التوراة و الرواة اليهود في البحث عن‬

‫إبراهيم تاريخي في الزمان والمكان ولكن بدون تاريخ و قواعد تاريخية ‪ ،‬وراح يسبح في‬

‫المتخيل اإلسرائيلي ويستنبط منه كل ما يمكن‪ ،‬ليخلق لنا شخصية أسطورية توراتية بجلباب‬

‫إسالمي‪.‬‬

‫إبراهيم حسب كتبة التراث اإلسالمي ‪ ،‬ولد في فدان آرام في بابل زمن الملك نمرود بن كنعان‬

‫بن كوش‪ .‬وكان اسم أبيه آزر وبما أن التوراة تقول أن أبا إبراهيم اسمه تارح ‪،‬راح بعضهم‬ ‫يقول أن آزر هو االسم العلم لوالد إبراهيم أما تارح فهو اسم العائلة‪.‬‬

‫كان الملك نمرود بن كنعان‪ ،‬حسب ما يحدثنا به التراث االسالمي‪ ،‬قابضا على زمام الملك في‬ ‫بابل و حاكما بأمره مستبدا برأيه وأقام نفسه إلها ‪ ،‬ودعا الناس إلى عبادته‪ .‬وذات يوم ذهب‬

‫إليه كبير الكهنة وأخبره أنه قد آن أوان ميالد شخص جليل‪ ،‬وأنه على يد هذا الشخص‬

‫سيينتهي شأن الملك نمرود‪ .‬فما كان من الملك إال أن أمر بتقتيل جميع الذكور الذين ولدوا‬ ‫في البالد في ذلك العام‪ (.‬تماما كما تحدثنا قصص موسى وعيسى وغيرها)‪.‬‬

‫لما أتى أم إبرهيم المخاض خافت على ابنها فتوجهت إلى مغارة في الجبل حيث وضعت‬

‫وليدها فيها‪ ،‬وتركته هناك وعادت إلى قريتها‪ .‬وعندما عادت لتعوده بعد ثالث أيام وجدت‬

‫الوحوش و الطيور الكاسرة أمام المغارة‪ ،‬فخافت أن يكون قد مس ابنهاسوء‪ ،‬ولكنها عندما‬


‫‪106‬‬

‫دخلت المغارة رأته سليما آمنا يجلس على فراش من سندس‪ .‬ولقد الحظت أنه يمص أصابعه‬ ‫وأن لبنا يخرج من أصبع وعسال من أصبع آخر وماء من الثالث ‪ .‬وكان اليوم يمر على‬

‫إبراهيم كالشهر والشهر كالسنة‪ ،‬فلم يمكث إبراهيم في المغارة إال خمسة عشر يوما‪ ،‬حتى جاء‬

‫إلى أبيه عازر وأخبره أنه ولده‪ .‬ولم يمض إبراهيم إال قليال مترددا بين عبادة قومه‪ ،‬حتى‬

‫انتهى إلى الوحدانية وبدأ يسخر من قومه وأربابهم‪ (.‬محمد حسني عبد الحميد ‪ :‬أبو األنبياء‬

‫إبراهيم الخليل ‪ ،‬سبق‪،‬ص‪ ،18 :‬و الثعلبي النيسبوري ‪ ،‬عرائس المجالس ‪ ،‬سبق‪ ،‬ص‪) 76 :‬‬ ‫سمع الملك نمرود بإبراهيم فدعاه إليه‪ ،‬فلما مثل بين يديه قال له‪ :‬ما هذه الفتنة التي‬

‫ايقظتها ‪ ،‬وما هو هذا اإلله الذي تدعو إليه؟ هل تعرف ربا غيري والها يستحق العبادة غيري؟‬ ‫فأجابه إبراهيم‪ :‬ربي يحي و يميت وهو وحده الذي يمنح الحياة ويسلبها‪ .‬ولكن نمرود قال ‪:‬‬

‫أنا أحي من أشاء بالعفو عنه وأنا كذلك أميت من أشاء وأقضي عليه بحكمي‪ .‬فأجابه إب ارهيم‬

‫‪ :‬إن اهلل سخر الشمس فيأتي بها من الشرق فإن كنت تدعي القدرة فغير هذا النظام وأت‬

‫الشمس من المغرب ‪ .‬فبهت نمرود وبدت جهالته فصار إبراهيم أبغض الناس إليه ولم يؤذه إال‬

‫أنه أوجس خيفة منه ‪.‬‬

‫لم يكن آزر‪ ،‬والد إبراهيم‪ ،‬يعبد األصنام فقط بل كان ينحتها ويبيعها‪ ،‬حيث كان الناس في‬

‫ذلك الزمان يشترونها أو يصنعوها ويجعلوها آلهة وأربابا من دون اهلل الذي خلقهم ‪ .‬ولقد بذل‬

‫إبراهيم كل جهده القناع والده و قومه الكف عن عبادة األصنام ولكنهم رفضوا فقرر أن يلقنهم‬

‫درسا لعلهم يتعظون‪ ،‬فاستغل ذهاب القوم إلى االحتفال بعيدهم السنوي دلف إلى أصنامهم‬

‫فوجد باحة تكتظ بالتماثيل واألصنام ورأى الطعام متراكما تحت أقدامها فخاطبها متهكما بها‬

‫محتق ار لشأنها ثم تناول فأسا وهوى عليها ‪ ،‬يكسرها ويحطم حجارتها وسيرها حطاما ‪ ،‬إال‬

‫كبيرهم فأنه أبقى عليه ‪ ،‬ليرجعوا إليه ‪ .‬رجع القوم من عيدهم ‪ ،‬و أروا ما حل بآلهتهم‬

‫فتساءلوا عن من صنع ذلك فقال قائل منهم إنه إبراهيم فهو الذي يعيب على آلهتنا ويزدريها‬

‫و يحثنا على تركها ‪ .‬فلما أحضروا إبراهيم سألوه فقال فعلها هذا الصنم كبيرهم فاسالوه‪،‬‬

‫فأدركتهم الحيرة لمعرفتهم بأن األصنام ال تضر وال تنفع وال ترد سؤاال ‪ ،‬فكيف يسألوها؟ فأخذ‬

‫إبراهيم يبكتهم على جهلهم ويسخر منهم ومن آلهتهم فعمدوا االنتقام منه باإلحراق‪ ،‬فمكثوا‬

‫مدة يجمعون الحطب وأشعلوا النار فيها ثم ألقوا إبراهيم في النار المستعرة ‪ .‬إال أن النار كانت‬ ‫بردا وسالما على إبراهيم ولم تحرق منه إال وثاقه‪ ،‬فصار ح ار طليقا‪ ،‬فعجبوا لحاله وانصرفوا‬

‫عنه ناقمين‪ .‬ويحدثنا الثعلبي( نفس المصدر) " فلما أرادوا إلقاءه في النار‪ ،‬أتاه ملك المياه‬

‫فقال‪ :‬إن أردت إخماد النار فإن خزائن المياه واألمطار بيدي‪ ،‬وأتاه خازن الريح فقال له‪ :‬إن‬

‫شئت طيرت النار في الهواء ‪ ،‬فقال إبراهيم عليه السالم ‪ :‬ال حاجة لي بكم‪ .‬وتسرح كتب‬


‫‪107‬‬

‫التراث في وصف تفاصيل هذه اللحظة الدرامية فمنهم من قال أن جبريل كن يمسح العرق عن‬ ‫جبين إبراهيم ومنهم من قال كان معه أيضا ملك الظل‪ .‬و يروي ابن كثير( البداية والنهاية‪،‬‬

‫سبق‪ ،‬ج‪ ، 1‬ص‪ ) 139 ، :‬عن مسلم أن إبراهيم لما ألقي في النار‪ ،‬جعلت كل الدواب تطفئ‬ ‫النار عنه إال الوزغ‪ ،‬فإنه كان ينفخها عليه‪ ،‬لذلك أمر النبي محمد (ص) بقتل األوزاغ‪.‬‬

‫تحدثنا كتب التراث كيف أن الملك نمرود وقومه لم يتعظوا ‪ ،‬وظلوا على غيهم وكفرهم ‪ ،‬فقرر‬

‫اهلل االنتقام منهم فأرسل عليهم ذبابا من البعوض‪ ،‬بحيث لم يروا عين الشمس‪ ،‬وسلطها اهلل‬

‫عليهم فأكلت لحومهم ودمائهم وتركتهم عظاما بالية‪ .‬ودخلت واحدة منها في منخر الملك‬

‫نمرود ‪ ،‬فمكثت في منخره أربعمائة سنه‪ ،‬عذبه اهلل بها‪ ،‬فكان رأسه يضرب بالمرازب حتى‬

‫أهلكه اهلل عز وجل‪ (.‬ابن كثير‪ ،‬سبق‪ ،‬ص‪) 141 :‬‬

‫ضاق إبراهيم في العيش مع قومه الكفرة فارتأى الهجرة عنهم وفر من بينهم حتى حط رحاله‬ ‫في فلسطين‪ .‬ألقى إبراهيم بادئ ذي بدء في حران ونزل بين ظهراني أهل هذه البالد‪ ،‬ولكنه‬

‫سرعان ما تبين له ضاللهم ‪ ،‬إذ تبين له أنهم يعبدون الكواكب من دون اهلل فأراد أن ينبههم‬

‫على خطئهم و يهديهم إلى عبادة اهلل ولكنه لم يفلح فقرر تركهم والرحيل عن بالدهم فرحل‬

‫إلى بالد الشام ‪ .‬ولما عم القحط في بالد الشام وضاقت سبل العيش فيها رحل إبراهيم إلى‬ ‫مصر تصحبه زوجته سارة‪ ،‬وهبط أرضها حين كان القابض على زمامها أحد ملوك العرب‬

‫العماليق‪ ،‬الذين استبدوا بالملك فترة من الدهر‪.‬‬

‫كانت سارة زوجة إبراهيم كما تحدثنا كتب التراث ذات جمال باهر‪ .‬فوشى بها أحد بطانة السوء‬ ‫إلى الملك وأغراه بجمالها وحبب إليه االستحواذ عليها‪ ،‬فدعا إبراهيم إليه و سأله عن صلة‬

‫القرابة التي تربطه بسارة فخاف إن أخبره أنها زوجته أن يبيت الشر له ‪ ،‬فقال له ‪ :‬إنها أختي‪.‬‬

‫فأمر الملك أن يذهبوا بها إلى قصره ويسوقها إلى مخدعه‪ .‬زينها خدمة القصر بفاخر الثياب و‬ ‫ثمين الحلى وأدخلوها على الملك‪ .‬فرأى في وجهها حزن وأسى ‪ ،‬فحاول أن يخفف من حزنها‬

‫‪ ،‬ويؤنس وحشتها فأجفلت‪ ،‬فتركها وأوى إلى فراشه ‪ ،‬وغط في النوم ‪ .‬رأى الملك في نومه‬ ‫مناما استبان بها حقيقة سارة وابراهيم وأن إبراهيم بعلها وليس أخيها ‪ ،‬فأطلق سراحها ‪،‬‬ ‫ووهبها جارية اسمها هاجر خادمة لها ‪ ،‬وأعادها إلى زوجها‪.‬‬

‫أقام إبراهيم في مصر ما شاء اهلل أن يقيم ‪ ،‬لكن قوم مصر نقموا عليه لما حصل عليه من‬ ‫مال وجاه فجفوه‪ ،‬فأزمع على تركهم والرحيل عنهم و توجه إلى فلسطين‪.‬‬

‫هاجر إبراهيم إلى فلسطين ‪ ،‬ومعه زوجه سارة‪ ،‬و خادمتها هاجر ‪ ،‬و استاقوا معهم أنعامهم‪،‬‬ ‫واحتملوا ما يملكون من مال جزيل‪.‬‬


‫‪108‬‬

‫كانت سارة عقيمة ال تلد‪ ،‬ولقد بلغت من الكبر عتيا‪ ،‬فأشارت على زوجها أن يدخل بخادمتها‬ ‫المصرية هاجر فانصاع لرأيها‪ .‬حملت هاجر من إبراهيم و أنجبت غالما سماه إسماعيل‪،‬‬

‫فندمت سارة على فعلتها ودبت الغيرة إلى قلبها‪ ،‬فطلبت من إبراهيم إقصاء هاجر و طفلها عن‬

‫دارها‪ ،‬فأذعن إلرادتها‪ ،‬وكان اهلل أوحى إليه أن يطيع أمرها‪ ،‬حسب ما ورد في كتب التراث‪.‬‬ ‫ركب إبراهيم دابته واصطحب الغالم وأمه و سار ترشده إرادة اهلل و عنايته‪ ،‬حتى وقف عند‬

‫مكان البيت‪ ،‬فأنزل هاجر و ابنها‪ ،‬وتركهما في تلك البقعة الجرداء وهما ضعيفان ال يملكان‬

‫سوى مزود به قليل من الطعام وسقاء فيه شيء من الماء‪ .‬و يصف لنا كتبة التراث صورة‬ ‫مأساوية للمرأة المسكينة التي أخذت تستعطف إبراهيم و تسترحمه و تسيل بين يديه الدموع‬

‫الغزيرة‪ ،‬ولكنه لم يستمع إلى قولها ‪ ،‬ولم تلن قناته لرجائها‪ ،‬وتركهما وحيدين في تلك البقعة‬ ‫النائية‪ ،‬فاستسلمت ألمر اهلل و رحمته‪.‬‬

‫في الحقيقة لم يوضح لنا كتبة التراث كيف استطاع إبراهيم قطع هذه المسافة الطويلة من‬

‫فلسطين إلى أرض الحجاز وهل كان قد انتقل سابقا إليها وهل كان في ذلك الوقت يقيم فيها‪،‬‬

‫الصورة هنا مشوشة وغير واضحة‪ .‬على كل حال راحت هاجر تبحث عن الماء والغذاء حتى‬

‫قرعت صفاة الصفا‪ ،‬ثم عادت فزعة مذعورة وسعت نحو سراب حسبته ماء عند المروة‪ ،‬حتى‬

‫إذا جاءته لم تجد شيئا‪ ،‬ثم كرت راجعة إلى هدفها األول ورجعت إلى الثاني‪ ,‬و هكذا سعت‬

‫سعي المجهود سبعة أشواط ‪ ،‬وهو أصل السعي الذي يقوم به الحجيج ‪.‬‬

‫أخذ الطفل إسماعيل يتلوى جوعا وعطشا وأمه تنظر إليه وال حول لها وال قوة‪ ،‬ونظرت إليه‬ ‫بعيون ملؤها اللوعة وهو يضرب برجليه األرض من شدة العطش فإذا الماء قد انبجس من‬

‫تحت قدميه ‪،‬وسال بين رجليه‪ .‬تأكدت هاجر بأن رحمة اهلل تحوطها فشربت حتى ارتوت و‬

‫أسقت ابنها‪ .‬هذه العين هي زمزم وال تزال قائمة يزدحم حولها الحجيج علهم يفوزون بقطرة‬

‫أو شربة منها‪.‬‬

‫ولما نبع الماء اجتذب الطير إليه فحامت حوليه و حلقت فوقه‪ ،‬وكان قوم من جرهم يسيرون‬

‫قرب هذا المكان فرأوا الطير فتأكدوا من وجود ماء في المكان فذهبوا إليه وشربوا منه واتخذه‬

‫بعضهم موطنا لهم فأنست هاجر بهم وعاشت في جوارهم ‪ .‬وشب إسماعيل واختلط بقوم جرهم‬

‫و أخذ العربية عنهم‪ ،‬ثم تزوج منهم ‪.‬‬

‫و تحدثنا كتب التراث أن إبراهيم لم يكن لينسى فلذة كبده فكان يزوره ليطمئن عليه‪ ،‬مما يدل‬

‫على أن إبراهيم كان يعيش قريبا من موقع ابنه‪ .‬و في ليلة رأى إبراهيم في نومه أنه يذبح‬

‫ولده‪ ،‬ففهم أن اهلل يأمره بذلك ‪ .‬فعرض على ولده ذلك فبادر الغالم بالطاعة‪ .‬ولما هم أن‬


‫‪109‬‬

‫يذبح ولده ‪ ،‬فدى اهلل إسماعيل بذبح عظيم ‪ ،‬ثم صار ذبح الضحايا أم ار متبعا عند العرب ومن‬

‫بعدهم المسلمون ‪ ،‬ذكرى لذبح إسماعيل ‪.‬‬

‫أمر اهلل إبراهيم ببناء الكعبة فمضى إلى أرض الحجاز وجد في البحث عن ابنه (؟) فلما وجده‬ ‫أخبره أن اهلل أمره ببناء بيت اهلل في هذا المكان وأشار إلى أكمة مرتفعة وما حولها‪ .‬كان‬

‫إسماعيل يأتي بالحجارة وابراهيم يبني ‪ ،‬ويعتقد كتبة التراث أن قوة خفية كانت تساعدهما ألن‬ ‫إبراهيم كان قد بلغ من الكبر عتيا ولم يكن ليستطيع وحده القيام بذلك العمل الشاق ‪ .‬و لما‬

‫ارتفع البناء و قصرت يد إبراهيم أن تنال أعلى البناء طلب من إسماعيل أن يأتيه بحجر يقف‬

‫عليه‪ ،‬فذهب إسماعيل يبحث حتى وجد الحجر األسود فقدمه إلى أبيه‪ ،‬و هكذا تم بناء البيت‬

‫الذي جعله اهلل مثابة للناس يحجون إليه كل عام في شهر الحج‪.‬‬

‫القرآن الكريم ال يحدثنا شيئا عن تفاصيل حياة إسحاق ويعقوب ‪ ،‬أما التراث االسالمي فيحكي‬

‫لنا كيف تقدم يعقوب إلى أبيه إسحاق‪ -‬وكان شيخا قد ضعف بصره‪ -‬و أخذ يشكو إليه أخيه‬ ‫عيصو وحسده له ألن أباه قد باركه من دون أخيه وكيف راح يهدده ويتوعده حتى تقطعت‬

‫حبال األخوة بينهما‪ .‬فأجابه إسحق بأنه يخاف عليه من بطش أخيه واالنتقام منه وأنه يرى أن‬

‫أفضل وسيلة لدرء ذلك هي أن يرحل يعقوب إلى فدان آرام ( يؤكد كتبة التراث أنها تقع في‬

‫أرض العراق) حيث خاله البان بن بتويل ويتزوج من إحدى بناته‪ , .‬وهكذا فعل فرحل إلى‬

‫موطن خاله وفي طريقه جلس خلف صخرة ليستريح فأدركته سنة فنام فرأى في نومه رؤيا بأن‬

‫اهلل سيؤتيه عيشا رضيا ويمنحه نسال طيبا مباركا‪ ،‬يورثهم األرض(؟؟؟ أليس هذا قول يفرح‬

‫الصهاينة؟؟ ) وعندما وصل أرض خاله أقام عنده ما طاب له أن يقيم و تزوج من بنت خاله‬ ‫رحيل و لكنه اضطر أن يتزوج أختها األكبر ليا أيضا‪ ،‬ألن العادة كانت أن ال تتزوج الصغرى‬ ‫قبل الكبرى‪ .‬و في يوم عرسهما وهب البان لكل من ابنتيه أمة تقوم على خدمتها ولكنهما‬

‫آثرن أن يهدياها ليعقوب زوجهن‪ .‬ومن راحيل وليا وهاتين األمتين رزق يعقوب اثنى عشر‬

‫ابنا‪ ،‬هم األسباط االثنى عشر لبني إسرائيل ‪ .‬وال ينس كتبة التراث أن يسموا لنا هؤالء األبناء‬ ‫وهم حسب ما ورد في البداية والنهاية‪ :‬رأوبين و شمعون و الوي و يهوذا و يساكر و‬

‫زوبولون من ليا‪ .‬و يوسف و بنيامين من ارحيل ‪ .‬ودان ونفتالي من بلهة من بلهة جارية‬

‫راحيل ‪ .‬و جاد وأشير من زلفة جارية ليا و قد ولدوا جميعا في فدان آرآم إال بنيامين فلقد ولد‬

‫في كنعان‪ .‬وليس خافيا على أحد أن هذه المعلومات كغيرها تورتية المصدر يهودية التأليف‬

‫‪ .‬ماتت راحيل حسب ما تقوله كتب التراث وتركت يوسف إذ ذاك غالما يافعا وأخاه بنيامين في‬

‫الثامنة عشر من عمره‪ ،‬ولهذا آثرهما يعقوب بالحب وخصهما بفضل وحنان‪.‬‬


‫‪110‬‬

‫يحدثنا القرآن الكريم أن قصة يوسف هي من ضمن القصص القرآنية التي يقصها على‬

‫الرسول الكريم محمد كعبرة لمن يعتبر‪ " .‬نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك‬

‫هذا القرآن وان كنت من قبله لمن الغافلين"(يوسف ‪ " )3‬لقد كان في يوسف وأخوته آيات‬

‫للسائلين " ( يوسف ‪.) 7‬‬

‫قصة يوسف تبدأ ب" إذ قال يوسف ألبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر‬

‫رأيتهم لي ساجدين" ( يوسف ‪ )4‬و وفي تفسير ابن كثير أن الشمس والقمر عبارة عن أبيه‬

‫وأمه و أن االحدى عشر كوكبا هم أخوته‪ .‬وعن أهل السلف عن حديث لرسول اهلل أن رسول‬

‫اهلل سمى هذه الكواكب وهي جريان والطارق والديال و ذو الكنفان وقابس و ذناب و عموذان‬ ‫والفيلق والمصبح والضروح ذو الفرع والضياء والنور‪ .‬ويضيف البيضاوي في تفسيره أن‬

‫الشمس والقمر نزلتا من السماء إلى األرض وسجدن ليوسف(كذا؟)‪ .‬أما البغوي في تفسيره‬

‫فيقول عن بعض أهل السلف أن النجوم أخوته والشمس أبوه والقمر أمه وعن ابن جريح أن‬ ‫القمر أبوه ألنه مذكر والشمس أمه ألنها مؤنثة‪،‬وقيل بل خالته ألن أمه كانت قد ماتت ‪.‬‬

‫خاف يعقوب من حسد أبناءه على أخيهم يوسف‪ ،‬فقال البنه‪ ":‬يا بني ال تقصص رؤياك على‬

‫اخوتك فيكيدوا لك إن الشيطان لالنسان عدو مبين" ( يوسف ‪ .) 5‬ولكن أخوته شعروا‬

‫بتفضيل يعقوب ليوسف وأخيه عليهم فتآمروا للتخلص من يوسف‪ "،‬إذ قالوا ليوسف و اخوه‬

‫أحب ألبينا منا و نحن عصبة إن أبانا لفي ضالل مبين * اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يحل‬ ‫لكم وجه أبيكم و تكونوا من بعده قوما صالحين" ( يوسف ‪.) 8‬‬

‫أقنع أخوة يوسف أباهم يعقوب أن يرسل يوسف معهم في رحلة لهم فوافق بعد إلحاح منهم و‬

‫طمأنتهم له بأنهم لن يسمحوا بأن يمس يوسف سوءا ‪ .‬وعندما هموا بقتله‪ " ،‬قال قائل منهم‬

‫ال تقتلوا يوسف والقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين" ( يوسف ‪() 10‬‬ ‫كتب التفسير تقول أن المقصود بالقائل هو يهوذا)‪ .‬فوافقوا و ألقوه في الجب وعادوا بقميصه‬

‫ألبيهم يبكون و " قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما‬

‫أنت بمؤمن لنا وان كنا صادقين" "( يوسف ‪ ) 17‬ولكن يعقوب عرف أن أبناءه يكذبون‪ "،‬قال‬ ‫بل سولت لكم أنفسكم أم ار فصبر جميل واهلل المستعان على ما تصفون"( يوسف ‪) 18‬‬

‫تخبرنا اآليات أن سيارة جاءت إلى الجب طلبا للماء" فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى‬

‫هذا غالم وأسروه بضعة واهلل عليم بما يعملون * و شروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا في‬

‫من الزاهدين" ( يوسف ‪ .) 12-11‬واختلف المفسرون في الجهة التي باعته فبعضهم قال‬

‫الضمير في شروه يعود على السيارة واآلخر قال يعود على اخوته ولكن في هذه الحالة ال نفهم‬

‫كيف ألقوه في الجب ثم باعوه‪ .‬في تفسير الجاللين نجد أن أخوته ألقوه في الجب فسقط في‬


‫‪111‬‬

‫الماء ولكنه آوى إلى صخرة فنادوه فأجابهم يظن رحمتهم ‪ ،‬فأرادوا رضخه بصخرة فمنعهم‬

‫يهوذا‪ ،‬وجاءت سيارة مسافرون من مدين إلى مصر فنزلوا قريبا من الجب ‪ ،‬فأرسلوا واردهم‬

‫الذي يرد الماء‪ ،‬فأرسل دلوه فعلق به يوسف ‪ ،‬فعلم األخوة به فأتوه وقالوا هذا عبدنا وسكت‬

‫يوسف خوفا من أن يقتلوه‪ ،‬فباعوه‪ .‬ومن الواضح أنها محاولة السقاط النص التوراتي على‬ ‫التفسير القرآني‪ .‬كما اختلف المفسرون بقيمة الثمن البخس الذي بيع به يوسف فمن قائل‬

‫بأنه بيع بعشرين درهما وآخر بثالثين وآخرين بأربعين‪ .‬و اآليات القرآنية ال تقول من هم‬

‫السيارة ومن أين جاءوا‪ ،‬ولكن كتب التراث تحدد موطنهم ومسارهم وتختلف في ذلك‪ ،‬ففي‬

‫تفسير القرطبي نجد أنهم كانواسيارة من الشام إلى مصر فأخطئوا الطريق وهاموا حتى نزلوا‬

‫قريبا من الجب وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران و مياهه مالحة فعذبت حين ألقي فيها‬ ‫يوسف‪ .‬وأن " واردهم " هو مالك بن وعر من العرب العاربة‪(.‬؟؟) وفي تفسير الجاللين كما‬

‫مر‪ ،‬كانوا سيارة من مدين إلى مصر‪.‬‬

‫تتابع اآليات القرآنية وتقول أن الذي اشتراه رجل من مصر‪ "،‬وقال الذي اشتراه من مصر‬

‫المرأته‪ ،‬اكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا‪( " ...‬يوسف ‪ ) 21‬ولم تذكر اآليات من‬ ‫يكن هو ذلك الرجل وما هي وظيفته ومركزه وانما تلقبه بالعزيز‪ .‬أما كتب التراث فتختلف في‬

‫ماهية ذلك الرجل‪ ،‬بعضهم قال ما قالته التوراة بأنه كان رئيس شرطة مصر واسمه طوطيفار‪.‬‬

‫ابن كثير في تفسيره يقول أن بعض أهل السلف قالوا بأن العزيز كان لقبه أما اسمه فهو‬

‫أطفير بن روجيب‪ ،‬و كان على خزائن مصر في زمن الملك الريان بن الوليد وهو من العماليق‬ ‫وأن اسم امرأته راعيل بنت رعابيل ويقول البعض بل كان اسمها زليخا‪ .‬البعض اآلخر يقول‬

‫بأنه كان وزير مصر األكبر وكان اسمه مالك بن دعر بن عنقا بن مديان بن إبراهيم ‪ .‬في‬

‫تفسير القرطبي‪ ،‬وعن بعض أهل السلف أن الذي اشترى يوسف هو ملك مصر نفسه و كان‬

‫لقبه العزيز واسمه قطفير أو إطفير‪.‬‬

‫نفهم من اآليات القرآنية أن امرأة العزيز قٌد أعجبت بيوسف وأحبته فراودته عن نفسه ولكن‬

‫يوسف رفضها رغم إلحاحها و إغراءها‪ ،‬وهم بالفرار منها فما كان منها إال أن شدته من‬ ‫قميصه فمزقته‪ ،‬وما انتهى إلى الباب حتى رأى العزيز واقفا ونظراته على قميص يوسف‬

‫الممزق‪ .‬فما كان من امرأة العزيز إال أن تتهم يوسف باالعتداء عليها‪ ،‬ولكن أحد أقربائها‬

‫شهد فقال ‪ :‬إن كان قميصه مزق من األمام فصدقت وهو من الكاذبين وان كان قميصه مزق‬ ‫من الخلف فكذبت وهو من الصادقين‪ .‬فلما تأكدوا أن قميصه مزق من الخلف عرف العزيز‬

‫الحقيقة وقال إن كيد النساء عظيم‪ ( .‬يوسف ‪) 28 -22‬‬


‫‪112‬‬

‫اآليات القرآنية تقول " وشهد شاهد من أهلها" ولكن كتب التراث سرحت في الخيال واختلفت‬

‫كعادتها فيمن يكون هذا الشاهد ‪ .‬في تفسير القرطبي نجد أن هناك أربع أقاويل في هذا األمر‬

‫األول أن الشاهد كان طفال صغي ار في المهد تكلم بقدرة اهلل عز وجل ودعموا قولهم بحديث‬

‫للرسول الكريم ‪ .‬القول الثاني أن الشاهد كان صبيا في المهد يتكلم وهو ابن خالها‪ .‬والثالث‬ ‫أن الشاهد خلق من خلق اهلل تعالى ليس باالنس وال بالجن‪ .‬والرابع أنه رجل حكيم ذو عقل‬

‫وكان مستشا ار للوزير العزيز‪.‬‬

‫نعلم من اآليات القرآنية أن يوسف كان جميل الصورة وأنه حين شاعت قصة يوسف وامرأة‬

‫العزيز المتها صاحباتها على فعلها وهي ذات الحسب والمقام ‪ ،‬فدعتهن إلى بيتها لرؤيته‬

‫فصعقن بجماله حتى أنهن وهن ينظرن إليه جرحن أياديهن بالسكاكين وقلن حاشا هلل ما هذا‬

‫بشر إن هذا إال مالك كريم ‪ (.‬يوسف ‪ . ) 32-30‬طبعا لم تكتف كتب التراث بوصف يوسف‬

‫بالجميل وانما راحت تتبارى بوصف هذا الجمال كأنما جمال يوسف هو قصد اآليات القرآنية‬

‫وليس العبر األخالقية التي تركز عليها وتدعو لها‪ .‬ففي تفسير ابن كثير أن بعض أهل السلف‬ ‫قال أن الرسول محمد صلعم مر بيوسف في السماء الثالثة فقال‪ :‬فإذا هو قد أعطي شطر‬

‫الحسن‪ .‬البعض اآلخر قال أن وجه يوسف كان مثل البرق وكان إذا أتته المرأة لحاجة غطى‬

‫وجهه مخافة أن تفتن به‪ .‬بعض اهل السلف قال أن يوسف أعطي وأمه ثلث الحسن والناس‬

‫الثلثين‪ ،‬والبعض اآلخر قال بل أعطي وامه الثلثين والناس الثلث‪ ،‬وذهب بعضهم إلى أن اهلل‬ ‫قسم الحسن إلى قسمين فاعطى يوسف وأمه نصف الحسن والنصف اآلخر بين سائر‬

‫الخلق‪(.‬؟؟)‬

‫يظهر من اآليات الكريمة أن يوسف وقع في مكيدة من امرأة العزيز دخل بسببها السجن ولقد‬ ‫فضل السجن على الرضوخ لكيدها وكيد صديقاتها‪ .‬و لقد دخل فيمن دخل معه فتيان يظهر‬

‫أنه كان لهما عالقة بالقصر‪ .‬وكان يوسف يدعوهما لعبادة اهلل الواحد وكان يؤول لهما‬

‫أحالمهما التي كانت تؤرقهما ‪ ،‬و يظهر أن أحد منهما قد أطلق سراحه وعاد للعمل في‬

‫القصر‪ .‬وفي يوم أصبح الملك على رؤيا أفزعته فدعا إليه حكماء دولته وقص عليهم الرؤيا ‪"،‬‬ ‫قال الملك إني أرى سبع بقرات سمان ‪ ،‬يأكلهن سبع جعاف وسبع سنبالت خضر وأخر‬

‫يابسات يا أيها المأل أفتوني في رؤيتي إن كنتم للرؤيا تعبرون* قالوا أضغاث أحالم وما نحن‬ ‫بتأويل األحالم بعالمين‪ ( " .‬يوسف ‪ 43‬و ‪ . )44‬قال الفتى الذي نجا من السجن وقد تذكر‬ ‫يوسف‪ ،‬بأن في السجن فتى قادر على تأويل هذا الحلم فبعثوا له وجلبوه‪ .‬و عندما علم‬

‫يوسف بتفاصيل رؤيا الملك فسرها لهم قائال‪ :‬إنكم تستقبلون سبع سنوات لينة رخاء ‪،‬‬

‫تزدهر فيها حقولكم ‪ ،‬وتزكو غال تكم ‪ ،‬ويطيب لكم العيش‪ .‬ثم تأتي في أعقابها سبع شداد فال‬


‫‪113‬‬

‫تجدون ما تحصدون وال حصيدا يخزن‪ ،‬ثم بعد ذلك تصالحكم األيام ويظلكم عام خصيب تجود‬

‫عليكم فيه األرض‪ ،‬وتابع يوسف قائال‪ :‬فما حصدتم في سنيكم الرخاء فاخزنوه مصونا في‬

‫سنبلة ‪ ،‬إال ما تحتاجون إليه فيما يقيم أودكم ‪،‬لينفعكم في السنين السبع العجاف ‪ (.‬يوسف‬

‫‪) 49– 47‬‬

‫اهتم الملك بأمر يوسف واراد أن يتأكد من قضية النساء اللواتي كدن له فبعث يطلبهن‬

‫فاعترفن بالحقيقة وبأنهن اتهمن يوسف زو ار وبهتانا‪ ،‬فعفى الملك عنه واكرمه‪ " .‬قال الملك‬ ‫آتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين* قال اجعلني على‬

‫خزائن األرض إني حفيظ عليم * وكذلك مكنا ليوسف في األرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب‬

‫برحمتنا من نشاء وال نضيع أجر المحسنين" ( يوسف ‪) 56 – 54‬‬

‫كتبة التراث اختلفوا في معنى اآلية " مكنا ليوسف في األرض يتبوأ منها حيث يشاء"‪ .‬ابن كثير‬ ‫في تفسيره يقول عن بعض أهل السلف أن المقصود هو مصر ‪ ،‬يتبوأ منها حيث يشاء‪ ،‬وعن‬

‫آخرين أنهم قالوا‪ :‬يتصرف فيها حيث يشاء والبعض اآلخر قال ‪ :‬يتخذ منها منزال حيث يشاء‪.‬‬

‫في تفسير القرطبي عن الطبري أن ملك مصر في ذلك الزمان الوليد بن الريان استخلف يوسف‬ ‫على عمل إطفير بعد ان عزله وأن الملك أسلم على يد يوسف ‪ .‬وعن ابن عباس أن الملك‬

‫الوليد ملكه بعد سنة ونصف ‪ ،‬ولما مات إطفير زوجه الملك أرملة اطفير راعيل وولدت له‬ ‫ولدين‪ .‬و قال بعض أهل السلف أن يوسف دخل بها فوجدها عذراء وأنها ولدت له ولدين‬

‫إفرائيم و منشا‪ .‬وأن يوسف دعا أهل مصر لالسالم حتى آمنوا به‪ .‬وتحدثنا كتب التراث كيف‬ ‫أضحى يوسف بين عشية وضحاها وزي ار مطلق اليد نافذ السلطان ‪ ،‬ولقد رأى المصريون في‬ ‫زمنه رخاء العيش وعمت عليهم الخيرات ‪ ،‬ولقد سطع اسم يوسف في جميع مصر وامتد إلى‬

‫األصقاع‪ ،‬وشاع بين الناس أن بمصر وزي ار حكيما قضى على الجوع وأقام العدل بين الناس‪.‬‬ ‫نفهم من اآليات القرآنية أن أخوة يوسف دخلوا عليه‪ ،‬وال تبين اآليات سبب دخولهم وال كيف‬

‫دخلوا‪ ،‬وال من أين جاءوا ‪،‬و أنه بعد أن جهزهم بجهازهم طلب منهم إحضار أخيهم من أبيهم‬ ‫إليه‪ " .‬دخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون * ولما جهزهم بجهازهم قال أتوني بأخ لكم من‬ ‫أبيكم ‪ *.......‬فإن لم تأتوني به فال كيل لكم عندي وال تقربون " ( يوسف ‪. ) 60-58‬‬

‫تقول كتب التراث أن سبب مجيئهم إلى مصر ودخولهم على يوسف هو أن القحط في ذلك‬

‫العام عم مصر وامتد إلى البلدان المجاورة منها بالد كنعان حيث كان يقيم يعقوب واوالده ‪.‬‬ ‫ولقد قال يعقوب ألبنائه ‪ :‬يا بني إن الجدب قد عمنا والقحط يكاد يأتي علينا و قيل أن في‬

‫مصر رجل كريم حملت إلينا الركبان أخباره وتناقل الناس أحاديثه‪ ،‬فشدوا ركائبكم واقصدوا هذا‬

‫العزيز ‪ ،‬ولكن اتركوا عندي أخاكم بنيامين ‪ ،‬أتعزى ببقائه عن فراقكم‪ .‬وهكذا شدوا الرحال إلى‬


‫‪114‬‬

‫مصر وقصدوا قصر يوسف واستأذنوا الحاجب الدخول عليه‪ ،‬فأذن لهم يوسف بالدخول‪،‬‬

‫فدخلوا عليه ولقد عرفهم وهم لم يعرفوه‪،‬و أنه بعد أن أوفى لهم كيلهم ‪ ،‬طلب منهم إحضار‬

‫أخيهم من أبيهم ‪ .‬وفي تفسير القرطبي نجد أن األخوة جاءوا بأحد عشر جمال وكانوا عشرة‬

‫فسألهم يوسف عن الجمل الزائد فقالوا هذا الجمل ألخينا تركناه عند أبينا‪ ،‬فقال لهم أحضروه‬

‫إلي إن كنتم صادقين‪ ،‬فرحلوا إلحضاره وتركوا عنده أخاهم شمعون رهينة حتى يعودون بأخيهم‬

‫‪.‬‬

‫اآليات تحدثنا أن يوسف طلب من فتيانه أن يعيدوا بضاعة أخوته إلى رحالهم حتى يتذكروا‬

‫وعدهم له ويعودوا بأخيهم‪ " .‬اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم‬

‫لعلهم يرجعون " ( يوسف ‪ ) 63‬فرحل األخوة عن مصر وساروا إلى أبيهم ‪ ،‬وأخبروه بكل ما‬ ‫جرى معهم مع يوسف ‪ ،‬وطلبوا منه أن يبعث أخاهم معهم حتى يحصلوا على الكيل وهو ما‬

‫أشرطه عليهم يوسف‪ " .‬فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فارسل معانا أخانا‬ ‫نكتل وأنا معه لحافظون " ( يوسف ‪.) 63‬‬

‫رفض يعقوب سفر أخيهم معهم وذكرى ما فعلوه بأخيهم يوسف ما زالت عالقة في ذهنه و‬

‫قال لهم " هل أمنكم عليه إال كما أمنتكم على أخيه من قبل ‪("...‬يوسف ‪ . ) 64‬استمر الجدال‬ ‫بين يعقوب وأبنائه وفي نهاية األمر سمح لهم بالسفر مع أخيهم بعد أن بينوا له كيف أن‬

‫بضاعتهم التي سافروا بها قد ردت إليهم‪ ،‬وأن شرط حصولهم على الكيل هو إحضار أخيهم ‪،‬‬ ‫وبعد أن قدموا المواثيق على أن يحافظوا على أخيهم و يعيدونه إلى أبيهم بسالم ‪ ،‬و طلب‬ ‫منهم أن ال يدخلوا من باب واحد بل من أبواب متفرقة‪ ( .‬يوسف ‪ . ) 66‬ولقد اختلف‬

‫المفسرون في شرح هذا الطلب وأسبابه‪ .‬ففي تفسير ابن كثير عن بعض أهل السلف أن‬

‫يعقوب خاف عليهم ان تصيبهم عيون الناس ألنهم كانوا ذو جمال وهيئة حسنة وان العين‬

‫إذا أصابت فارسا تنزل به عن فرسه‪ .‬ويؤكد القرطبي هذا التفسير ويقول عن بعض أهل‬

‫السلف أنه كان لمصر أربعة أبواب ‪ ،‬وأن العين حق إذا أصابت أحدهم ادخلته القبر‪ .‬وفي قول‬

‫آخر ‪ ،‬حتىال يرى الملك عددهم وقوتهم فيبطش بهم خوفا أو حذرا‪ .‬وعن آخرين أنهم قالوا أن‬ ‫يعقوب علم انهم سيلقون أخاهم في أحد تلك األبواب ولذلك طلب منهم الدخول من أبواب‬

‫متفرقة‪.‬‬

‫فعل األخوة ما أمرهم به ابوهم و دخلوا على يوسف ‪ "،‬ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه‬

‫قال إني أنا أخوك فال تبتئس بما كانوا يعملون* فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل‬

‫أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون" ( يوسف ‪ .) 70-69‬يقول ابن كثير في تفسيره‬

‫أن يوسف بعد أن أطلع أخاه على حقيقة شخصه تواطأ معه على أن يبقيه عنده‪ .‬أما القرطبي‬


‫‪115‬‬

‫فيقول عن بعض اهل السلف أن بنيامين طلب من أخيه أن ال يرده إليهم فقال له قد علمت‬

‫اغتمام يعقوب بي فيزداد غمه ولكن بنيامين رفض الخروج ‪ ،‬فقال يوسف ال يمكن حبسك إال‬ ‫بعد أن أنسبك إلى ما يجمل بك ‪ ،‬فقال بنيامين ال أبالي‪ ،‬وهكذا دس يوسف الصاع في رحل‬

‫أخيه بنيامين‪ ،‬إما بنفسه أو أمر بعض خواصه بذلك ‪ .‬وهكذا بهذه الحيلة استطاع أن يبقي‬

‫أخاه عنده ولم تنفع توسالت أخوته بأن له ابا شيخا سيحزن عليه‪ " ,‬قالوا يا أيها العزيز إن‬ ‫له ابا شيخا كبي ار فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين* قال معاذ اهلل أن نأخذ إال ما‬

‫وجدنا متاعنا عنده إنا إذن لظالمون " ( ‪ . ) 79-78‬فلما يئسوا من إقناع يوسف انفردوا‬

‫يتناجون فيما بينهم ‪ ،‬فقال كبيرهم وهو حسب ابن كثير روبير وقيل أنه يهوذا بأنه لن يبرح‬

‫البلد حتى يأذن والده يعقوب بذلك‪ ،.‬وذكرهم بتفريطهم بيوسف وميثاقهم ألبيهم بأن يعيدوا‬

‫أخاهم سالما‪ .‬وهكذا عادوا إلى أبيهم بدون أخيهم وأخبروه أن أخاهم سرق فحبس بسبب ذلك‬ ‫‪ ،‬وأنهم يقولون الحق ‪ ،‬ولكن يعقوب لم يصدق قولهم ‪ ،‬قال بل سولت لكم أنفسكم أم ار فصبر‬ ‫جميل عسى اهلل أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم * وتولى عنهم وقال يا أسفي‬

‫على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم‪ ( ".‬يوسف ‪) 84-83‬‬

‫حاول األخوة أن يخففوا من حزن أبيهم ‪ ،‬وقالوا له" تاهلل تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا‬

‫أو تكون من الهالكين* قال إنما أشكو بثي و حزني إلى اهلل وأعلم من اهلل ما ال تعلمون‪( ".‬‬

‫يوسف ‪ .) 86-85‬وطلب منهم أن يعودوا للبحث عن يوسف وأخيه وأن ال ييئسوا من روح اهلل‬ ‫‪ ،‬وال ييئس من روح اهلل إال القوم الكافرون‪ .‬وهكذا فعلوا كما أمرهم يعقوب‪ ،‬فرحلوا إلى مصر‬ ‫ووقفوا بين يدي يوسف يرجونه ويستعطفونه‪ ،‬ويشكون له ما أصابهم وأبيهم من الضر‪ .‬واذ‬

‫كانت اآليات القرآنية الكريمة قد وصلت بقصة يوسف ما تطمح إليه من العبر‪ ،‬أعلن يوسف‬

‫الخوته عن نفسه‪ ،‬بعد أن ذكرهم بفعلتهم الشنيعة به وبما كادوا له وألخيه‪ ،‬وحاولوا تبرير‬

‫فعلتهم بأن أباهم كان يفضله عليهم فقال لهم ‪ :‬ال تثريب عليكم يغفر اهلل لكم وهو أرحم‬

‫الراحمين‪ .‬ثم أعطاهم قميصه وطلب منهم أن يأخذوه ألبيه حتى يعلم أنه حي‪،‬كما طلب منهم‬

‫الحضور جميعا إلى مصر وهكذا كان‪ " .‬فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا‬

‫مصر إن شاء اهلل آمنين* ورفع أبويه على العرش وخروا إليه سجدا وقال يا أبت هذا تأويل‬

‫رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو‬

‫من بعد أن نزع الشيطان بيني وبين أخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم *‬

‫ولي في‬ ‫رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل األحاديث فاطر السماوات واألرض أنت ً‬ ‫الدنيا واآلخرة توفني مسلما و ألحقني بالصالحين‪ ( ".‬يوسف ‪) 101 -99‬‬


‫‪116‬‬

‫اتفق معظم المفسرين في تفسير العرش بأنه السرير واختلفوا في ما تعني" وخروا إليه سجدا"‬

‫‪ ،‬البعض قال أن الضمير هنا يعود على اهلل سبحانه ألنه ال يجوز السجود لغير اهلل عز وجل‬ ‫‪ .‬ولكن معظم المفسرين قالوا أن الضمير يعود على يوسف ولكن اختلفوا في معنى السجود‬ ‫ففي تفسير القرطبي أنها كانت عادة أهل ذلك الزمان أن يسجد الوضيع للشريف والصغير‬ ‫للكبير‪ ،‬أما ابن كثير فيقول أنه سمح بها في ملة يوسف ويعقوب وأبطلت في ملتنا‪ ،‬ملة‬

‫اإلسالم ‪ ،‬و اختلف كتبة التراث في عمر يوسف وعمره يوم أن ألقي في الجب وفي المدة التي‬

‫قضاها في مصر‪ .‬وقيل كان بين رؤيا يوسف وتأويلها عشرون سنة وقال آخرون ثالثون سنة‬

‫وغيرهم خمسة وثالثون و أربعون وخمسون وستون وبلغ البعض أن المدة هي ثمانون سنة‪.‬‬

‫وفي كتب التراث نجد أنه ولد ليوسف من امرأة العزيز إفراثيم و منشا ورحمة امرأة أيوب‪ .‬وقيل‬

‫أن يعقوب بقي عند يوسف ثماني عشرة سنة وقال آخرون بل بقي عنده بعضا وأربعون سنة‪.‬‬

‫قصة يوسف كما بينت لنا اآليات القرآنية هي من القصص القرآنية التي يتلوها اهلل على نبيه‬

‫وما جرى فيها بين يوسف و اخوته آيات وعبر للسائلين‪ .‬لم تضع اآليات القرآنية القصة في‬ ‫سياق تاريخي بالزمان والمكان واألسماء‪ ،‬إال ما يلزم لسياق القصة و محاولة كتبة التراث‬

‫بوضعها في التاريخ المحدد بالزمان والمكان وباألسماء ال يزيد وال ينقص من قيمة القصة وال‬ ‫من قيمة العبر التي تقصدها وانما يضعها في تصارع مع التاريخ وتقلباته وهو ما لم يكن من‬ ‫ضمن قصد اآليات ‪ .‬أنا كمسلم ال يهمني إن كانت القصة قد وقعت في زمن الملك فالن أو‬

‫غيره‪ .‬كما ال يهمني إن كان عزيز مصر رئيس الشرط أو مسؤول خزينة المملكة أو الملك‬

‫ذاته‪ .‬كما ال يهمني أبدا إن كان يوسف قد نال ثلث الجمال والحسن أو ربعه أو نصفه‪ ،‬فإن‬

‫كل ذلك ال يزيد من قيمة القصة وانما يخرج القصة من سياقها و عن قصدها وهو العبرة لمن‬

‫يعتبر‪.‬‬

‫قصة يوسف مليئة بالعبر منها أنه ال يجوز ألب أن يفضل بعض أبنائه على البعض اآلخر ‪،‬‬

‫فذلك يخلق بين األخوة الحسد والبغضاء كما رأينا في حالة يوسف وأخوته‪ .‬كما تؤكد لنا اآليات‬ ‫أن الحق سيظهر و يبتان مهما طال الزمان وأن على اإلنسان أن ال يقنط من رحمة اهلل مهما‬

‫جار عليه الزمان‪ .‬و أن على اإلنسان أن يتحلى باألخالق مهما كانت المغريات ‪ .‬كما تؤكد لنا‬ ‫أنه مهما كانت ذنوب اإلنسان فإن اهلل غفور رحيم يغفر لعباده الذين أذنبوا إذا رجعوا عن‬ ‫ذنوبهم وطلبوا من اهلل المغفرة والرحمة‪ ،‬و أن من يتق ويصبر فإن اهلل ال يضيع أجر‬

‫المحسنين‪.‬‬


‫‪117‬‬

‫‪ -3‬النبي موسى بين النص اإللهي والبشري‬ ‫يعد النبي موسى واحد من أهم الشخصيات التي وردت في القرآن الكريم ‪ ،‬فهو نبي مبجل من‬ ‫قبل األديان الثالث ‪ ،‬اليهودية والمسيحية واالسالم‪ ،‬ويعتبر كذلك مؤسس الديانة التي تسمى‬

‫اليوم اليهودية‪ .‬ولقد كانت شخصية موسى وما تزال هدفا لتنقيب وتحليل الباحثين في العالم‬ ‫و حاول الباحثون االجابة على أسئلة مختلفة تتعلق بهذه الشخصية مثل ميالده وأصوله‬

‫العرقية وان كان مصريا أم إسرائيليا و زمنه و عالقته بالفراعنة وفي زمن أي منهم ظهر‬

‫ومركزه في الدولة المصرية وعالقة تعاليمه بتعاليم الفرعون إخناتون‪ ،‬ثم قصة خروجه من‬ ‫مصر ومن هم الذين خرجوا معه ومعجزة عبوره وجماعته البحر‪ ،‬وأي بحر هو ‪ ،‬و ظروف‬ ‫مماته وأين دفن‪ .‬وما زال كثير من هذه األسئلة لحد االن بدون إجابة مقنعة‪.‬‬

‫ورد اسم موسى في القرآن الكريم مائة وستة وثالثون مرة‪ ،‬و لكن اآليات التي تتحدث عنه‬

‫أضعاف هذا العدد‪ .‬و إذا حاولنا قراءة اآليات القرآنية بمعزل تام عن التوراة والمفسرين‬

‫التوراتيين‪ ،‬فإننا نجد أن اآليات التذكر اسم أم موسى و أبيه كما ال تذكر في أي زمن ولد‬

‫وما اسم الفرعون الذي تتحدث عنه اآليات‪ ،‬و من هم أهل موسى وقبيلته‪ ،‬و إنما تخبرنا فقط‬

‫أنه كان له أخا اسمه هارون و أن اهلل أوحى إلى أمه أن تضعه في التابوت وتلقيه في اليم‪،‬‬ ‫وأن اليم سيلقيه بالساحل فيلقه عدو هلل وعدو ه‪ .‬وال توضح اآليات من الذي وجده بالضبط‬ ‫ولكننا نفهم أنه من آل فرعون و أن امرأة فرعون طلبت االبقاء عليه لعله ينفعهم أو يتخذوه‬

‫ولدا‪ .‬ونفهم من اآليات أن الطفل رفض حليب المرضعات فقالت أخته لمن وجده وكانت قد‬


‫‪118‬‬

‫تبعته من دون أن يشعروا‪ :‬إنني سأدلكم على امرأة تكفله وترضعه‪ ،‬فدلتهم على أمه‪ ،‬وهكذا‬

‫عاد موسى إلى حضنها وهم ال يعلمون‪ " .‬إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى * أن اقذفيه في‬

‫التابوت فاقذفيه في اليم فيلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني‬

‫ولتصنع على عيني* إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي‬

‫تقر عينها وال تحزن ‪ ("...‬طه ‪ " . )40 -38‬وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت‬

‫عليه فألقيه في اليم وال تخافي وال تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين* فالتقطه آل‬ ‫فرعون ليكون لهم عدوا و حزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين* و قالت امرأة‬

‫فرعون قرت عين لي ولك ال تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم ال يشعرون * وأصبح‬

‫فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لوال أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين* وقالت‬

‫ألخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم ال يشعرون *وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل‬

‫أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون * فرددناه إلى أمه كي تقر عينها وال تحزن‬ ‫ولتعلم أن وعد اهلل حق ولكن أكثرهم ال يعلمون " ( القصص ‪.) 13-7‬‬

‫ال تشرح اآليات القرآنية إن كان موسى‪ ،‬بعد فطامه‪ ،‬قد شب وترعرع في داخل قصر فرعون‬

‫أم في مكان آخر ولكنها تخبرنا أنه عندما بلغ أشده واستوى آتاه اهلل حكما وعلما‪ " ،‬ولما بلغ‬

‫أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين "( القصص ‪ .) 14‬كما تحدثنا اآليات‬

‫عن حادثة قتله أحد أعدائه‪ ،‬ونفهم من سياق اآليات أنه من آل فرعون‪ ،‬استغاثة لرجل من‬

‫شيعته‪ " .‬ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد رجلين يقتتالن هذا من شيعته وهذا‬ ‫من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا‬

‫من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين‪( ".‬القصص‪ . ) 1 5 :‬ونفهم من قواميس اللغة العربية‬ ‫أن كلمة شيعته تعني أتباعه وأنصاره‪ ،‬وال تدل على األهل والعشيرة‪ ،‬وليس بالضرورة أن يكون‬

‫من بني إسرائيل‪.‬‬

‫ال نجد في القرآن آيات تدل صراحة على أن موسى ينحدر من أصل إسرائيلي‪ .‬وعندما نمعن‬

‫النظر في اآليات القرآنية بمعزل عن التوراة والتفسير التوراتي الذي عشش في الوعي‬

‫االسالمي فإننا نفهم أن بني إسرائيل قد انضموا إليه وأصبحوا من ضمن شيعته وخرجوا معه‬

‫من مصر‪ ،‬ولكن ال نجد ما يشير إلى أن موسى ينحدر من أصول إسرائيلية‪ .‬وفي اآلية ‪48‬‬

‫من سورة األنعام " ووهبنا له ( أي إبراهيم) إسحاق ويعقوب كال هدينا ونوحا هدينا من قبل و‬

‫من ذريته داود وسليمان وأيوب و يوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين‪ ".‬ما يعني‬

‫أن موسى ليس من ذرية يعقوب ولكنه من ذرية نوح ‪ .‬حيث أن اآلية لم تقل من ذريتهما أي‬

‫إسحق ويعقوب وال من ذريتهم حتى تجمع إسحاق ويعقوب ‪ ،‬ولكن" من ذريته" وقد أجمع‬


‫‪119‬‬

‫المفسرون على أن الهاء في‪ -‬ومن ذريته‪ -‬تعود على نوح ‪ ،‬وهذا بالضرورة يعني أنه ليس‬ ‫من نسل إسرائيل وال ينتمي إلى القبيلة اإلسرائيلية‪.‬‬

‫وهناك آيات كثيرة تتحدث عن قوم موسى مثل" واذ قال موسى لقومه* واذ استسقى موسى‬

‫لقومه * واذ قال موسى لقومه ( بقرة ‪ " ، ) 67 ،60 ،54 :‬واذ قال موسى لقومه" ( المائدة‬ ‫‪ " ، ) 20‬قال موسى لقومه * وقال موسى ألخيه اخلفني في قومي * واتخذ قوم موسى من‬

‫بعده * ولما رجع موسى إلى قومه * ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون *" (‬

‫األعراف ‪ ) 159 ، 155 ،150 ، 148 ، 142 ، 128‬وغيرها كثير وعندما بحثنا في قواميس‬ ‫اللغة العربية وجدنا أن كلمة قوم تعني‪ :‬جماعة من الناس تجمعهم جامعة يقومون لها ‪ ،‬وال‬ ‫تعني بالضرورة جماعة عرقية‪ ،‬وال تعني بالضرورة بني إسرائيل كما غرز كتبة التراث في‬

‫وعينا‪.‬‬

‫كتب التراث تبني قصة ميالد موسى وترعرعه حسب حديث التوراة والمفسرين اليهود أو‬

‫ذوي األصول اليهودية ‪ ،‬فنراها تصر على أن موسى ينتمي إلى القبيلة اإلسرائيلية و تقول‬

‫أن أم موسى هي يوكابد ( قصص القرآن) وقال القرطبي في تفسيره‪ ،‬عن الثعلبي‪ ،‬أن‬

‫اسمها لوحا بنت هائد بن الوي بن يعقوب ‪.‬‬

‫وكان على مصر فرعون طغى وتكبر وعلى في األرض و " جعل أهلها شيعا يستضعف‬ ‫طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحي نساءهم " ويجمع المفسرون وكتبة التراث أن هذا‬

‫القول يعني بني إسرائيل ويضيف ابن كثير في تفسيره " وكانوا في ذلك الزمان خيار أهل‬

‫زمانهم" ولقد سلط عليهم الملك الجبار يستعملهم في أخس األعمال ويقتل أبناءهم‬

‫ويستحي نساءهم ‪ ،‬إذ تقدم الكاهن من فرعون وقال له ‪ :‬يولد مولود في بني إسرائيل‬

‫يذهب ملكك على يده‪ .‬أما ابن كثير فيقول وكان القبط ويعني بهم أهل مصر قد تلقوا هذا‬

‫على يد بني إسرائيل‪ .‬وأما القرطبي فيقول في تفسيره وكانت الكهنة قد أخبرت الملك بذلك‬

‫‪ ،‬أو قال المنجمون أو رأى رؤيا‪.‬‬

‫تحدثنا كتب التراث كيف أن أم موسى يوكابد أو في قول آخر لوحا كانت جالسة في بيتها‬

‫وقد جاءها المخاض فدعت قابلة لتساعدها في الوالدة‪ ،‬فلما وقع موسى على األرض‬

‫اضطربت نفسها ولكنها حرصت على حياته وجهدت في إخفاء الخبر عن فرعون عدو‬ ‫األطفال‪ .‬واستمر ثالثة من الشهور كذلك ‪ ،‬حتى إذا نشر فرعون عيونه في المدينة‬

‫يتفحصون األطفال‪ ،‬ألهم اهلل أم موسى أن تهيئ له صندوقا تضعه فيه ‪ ،‬ثم تلقي به في‬

‫النيل وترسل على الشاطئ أخته تقص أثره‪.‬‬


‫‪120‬‬

‫حين وجد الصندوق وفيه الطفل حمل إلى فرعون ‪ ،‬فلم تكد تنظره امرأة فرعون حتى ألقى‬ ‫اهلل محبته في قلبها‪ ،‬فطلبت إلى زوجها أن يكون ابنا له ولها‪ .‬وسيقت إليه المراضع‬

‫ولكنه عافها جميعا فانبرى الوزير هامان‪ ،‬عندما رأى أخت موسى تراقب الطفل وقال ‪ :‬إن‬

‫هذه الفتاة تعرفه‪ .‬ولما سئلت الفتاة قالت ‪ :‬إنما أردت أن أكون للملك من الناصحين وقالت‬

‫لهم ‪ :‬إني أدلكم على من يكفله‪ ،‬فدلتهم على امه‪ ،‬فاستأنس بها الوليد ‪ ،‬والتقم ثديها من‬ ‫دون النساء‪ .‬وال نعرف هنا كيف استطاعت هذه الفتاة أن تدخل قصر الملك وتتحدث معه‬

‫أو مع وزيره هامان ‪ ،‬إال إذا كانت نفسها من سكان القصر‪.‬‬

‫ابن كثير في تفسيره يقول أنهم أخذوا الطفل إلى بيت أمه وعندما رضع منها ‪،‬سمعت‬

‫الملكة بالبشير فاستدعتها وطلبت منها أن تبقى عندها في القصر ولكن أم موسى رفضت‬

‫وقالت ‪ :‬إن لي بعال وأوالدا وال أقدر على المقام عندك ‪ ،‬ولكن إن أحببت أرضعه في بيتي‪،‬‬

‫فوافقت الملكة وأجرت على أم موسى النفقة و الكساء واالحسان‪ .‬وال نفهم هنا كم كان‬

‫عدد أوالد أم موسى الذي يتحدث عنهم ابن كثير‪ ،‬وال كم كانت أعمارهم ‪ .‬كما ال نعرف‬

‫هل شب موسى‪ ،‬بعد فطامه ‪،‬وترعرع في بيت أمه أم في قصر فرعون‪ ،‬ونرجح من ما ورد‬ ‫في اآلية " الم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين" أنه شب وترعرع في قصر‬

‫الفرعون ‪ .‬واختلف المفسرون في عمر موسى حين " بلغ أشده واستوى"‪ ،‬ففي تفسير‬

‫القرطبي يقول عن بعض أهل السلف أن األشد أقصاه أربع وثالثون سنة وعن ابن عباس‬

‫أنه قال بلغ األربعين سنة ‪.‬و كان لموسى تسعة من بني إسرائيل يسمعون له ويقتدون به‪.‬‬

‫ويغوص كتبة التراث في عالم التفاصيل الخيالي ويحملون اآليات الكريمة ما ليس فيها وال‬ ‫هو ضروري لسياق اآليات و مضمونها ‪،‬فيقولون أن الرجل الذي من شيعته والذي‬

‫استغاث بموسى على الذي من عدوه ‪ ،‬كان خبا از لفرعون وأنه أراد أن يسخر االسرائيلي‪-‬‬ ‫وفي قول آخر العبراني ‪ ،‬حيث تعتبر كتب التراث العبراني واالسرائيلي شيئا واحدا‪ -‬في‬

‫جمع الحطب لمطبخ فرعون فأبى عليه‪ .‬وأن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى‬

‫وحذر موسى بأن المأل يأتمرون ليقتلوه هو ‪ ،‬حسب ما ورد في تفسير القرطبي عن بعض‬

‫أهل السلف‪،‬حزقيل بن صبو ار مؤمن آل فرعون ‪ ،‬وكان ابن عم فرعون و قيل بل هو‬

‫طالوت وعن آخرين أنهم قالوا بل هو شمعون مؤمن آل فرعون وقيل أن فرعون أمر بقتل‬ ‫موسى فسبق ذلك الرجل بالخبر‪.‬‬

‫تحدثنا اآليات الكريمة أن موسى عندما سمع أن المأل يأتمرن ليقتلوه ‪ ،‬خاف على نفسه‬ ‫وتوجه نحو مدين‪ ،‬وال تحدثنا اآليات أين هي مدين ومن هم ساكنوها‪.‬‬


‫‪121‬‬

‫أما كتب التراث فتحدثنا أن موسى توجه إلى مدين لصلة القرابة بينه وبين أهل مدين‪،‬‬

‫فموسى من ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ومدين من ولد إبراهيم ‪ .‬ويقول كتبة‬

‫التراث‪ ،‬أن مدين اسم البلد وقيل اسم القبيلة بسبب أنهم من أبناء مدين ابن إبراهيم ‪.‬‬ ‫وكان أهل مدين قوما عربا يسكنون مدينتهم مدين القريبة من أرض معان من أطراف‬

‫الشام ‪ .‬وتحدد التوراة الموقع الجغرافي لمدين بالشاطئ الشرقي لخليج العقبة‪ ،‬وأنهم أحفاد‬

‫إبراهيم من زوجته كيتوري ‪ .‬ويحدد بعض المؤرخين( فيليب حتي ‪ :‬تاريخ العرب ‪ ،‬دار‬

‫الكشاف بيروت ‪ 1965 ،‬ص‪ /51 :‬ج‪ )1‬الموقع الجغرافي لمدين بأنها تضم جنوبي‬ ‫سيناء واألرض الواقعة إلى الشرق منها‪.‬‬

‫سار موسى إلى مدين وقطع مسافة تزيد على ‪ 450‬كم ‪ ،‬ولقد جاع حتى لصقت بطنه‬ ‫بظهره وأكل العشب حتى أصبح لونه شديد الخضرة‪ ،‬ولم يصل مدين إال وسقط باطن‬

‫قدميه‪ .‬كما تحدثنا كتب التراث أنه تاه في الطريق وكان ال يعرفها فظهر له ملك راكبا‬ ‫فرسا ومعه عنزة‪ ،‬فقال لموسى اتبعني فتبعه فهداه إلى الطريق ‪ (.‬تفسير القرطبي)‬

‫تتابع اآليات القرآنية سردها لقصة موسى فتخبرنا أن موسى ورد ماء مدين فوجد جمع من‬

‫الناس يسقون ومن دونهم امرأتين تذودان أغنامهما حتى ال تختلط بأغنام غيرهما‪ ،‬فتقدم‬

‫وسألهما ما خطبهما‪ ،‬فأخبرتاه بأنهما تأبيان مزاحمة الرجال وتنتظران حتى ينصرف الرعاء‪،‬‬ ‫ألن أباهما شيخ كبير‪ .‬هب موسى لمساعدتهما فسقى أغنامهما وتولى إلى الظل‪ .‬وتتابع‬

‫اآليات القصة فنفهم أن الفتاتان عندما أخبرتا أبيهما بما حدث لهما بعث إحدى بناته في‬

‫طلبه‪ ،‬فتبع موسى الفتاة إلى بيت أبيها فنزل رحبا عندهم ‪ ،‬وقص على الشيخ قصته مع‬

‫بني فرعون فطمأنه الشيخ ‪ ،‬وقال " ال تخف نجوت من القوم الظالمين" ( القصص‪. ) 25:‬‬

‫ولقد عرض الشيخ على موسى أن يقيم عندهم ويزوجه إحدى بناته على أن يعمل عنده‬

‫ثمانية أعوام ‪ ،‬وان رغب أن يزيد سنتين من عنده كان به واال يكفي ثمانية‪ .‬وهكذا كان‬ ‫حتى قضى موسى األجل ‪،‬حسب اتفاقه مع الشيخ‪ ،‬فسار بأهله يقصد وطنه مصر‪.‬‬

‫كتبة التراث كما اعتدنا أخذت تغوص في التفاصيل فحددت شخصية الشيخ وذلك حسب‬

‫قول بعض أهل السلف ومنهم الحسن البصري ومالك بن أنس ( تفسير ابن كثير) بأنه‬

‫النبي شعيب ويرى آخرون بأنه شعيب آخر وليس بالنبي‪ ،‬وقال آخرون بأنه ابن أخي‬ ‫شعيب‪ ،‬وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب وذهب بعضهم يقول بقول التوراة بأن اسمه‬

‫ثيرون وهو ابن أخي شعيب ‪ .‬كما اختلف المفسرون في اسمي ابنتيه فقال البعض هما‬

‫صفوريا وليا‪،‬وقال البعض اآلخر صفوريا و شرفاز كما اختلفوا في المدة التي قضاها عند‬

‫الشيخ فأكثرهم قال عشرة سنين ألن موسى نبي والنبي يقضي األكمل من األجلين و حدث‬


‫‪122‬‬

‫البعض مثل الطبري عن بعض أهل السلف بأن موسى قضى عشرة ثم عشرة أي عشرين‬

‫عاما ‪.‬‬

‫تتابع اآليات فتخبرنا أن موسى سار بأهله متجها إلى وطنه مصر‪ ،‬فأبصر من الجهة التي‬

‫تلي الطور نا ار فحط رحاله وقال ألهله ‪ :‬امكثوا إني آنست نا ار ‪ ،‬لعلي آتيكم منها بخبر أو‬

‫جمرة من النار لعلكم تصطلون‪ .‬فلما أتاها نودي " أن يا موسى إني أنا اهلل رب العالمين" ‪.‬‬ ‫وهناك سمع نداء ربه " وما تلك بيمينك يا موسى ؟" فأجاب ‪ " :‬هي عصاي أتوكأ عليها‬

‫وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى ‪ ".‬أمر تعالى موسى أن يلقي عصاه فألقاها‬

‫‪ ،‬فإذا هي كالحية تهتز كأنها جان‪ ،‬فولى مدب ار فسمع نداء العلي العظيم ‪ " :‬ال تخف إني‬

‫ال يخاف لدي المرسلين" وكانت هذه بداية نبوة موسى ورسالته إلى فرعون و أعوانه‪.‬‬

‫سمع موسى نداء ربه ولكنه خاف على نفسه من بطش فرعون فنادى ربه ‪ " :‬رب إني‬

‫قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون * وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي‬

‫ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون" ( قصص‪ )33،34:‬يقول القرطبي في تفسيره أن‬

‫هارون كان أكثر لحما من موسى وأتم طوال وأبيض جسما وأفصح لسانا‪ .‬ومات قبل موسى‬ ‫بثالث سنين‪ ،‬وكان في جبهة هارون شامة وعلى أرنبة موسى شامة وعلى طرف لسانه‬

‫شامة لم تكن على أحد قبله وال على أحد بعده وقيل أنها كانت سبب العقدة التي في‬

‫لسانه‪ .‬أما ابن كثير في تفسيره فيقول أن موسى عليه السالم كان في لسانه لغثة بسبب‬

‫ما كان تناول تلك الجمرة حين خير بينها وبين التمرة أو الدرة فأخذ الجمرة فوضعها على‬

‫لسانه فحصل فيه شدة في التعبير‪.‬‬

‫ال تدلنا اآليات أين كان هارون ولكن كتب التراث تقول أنه كان في مصر وأوحى اهلل له أن‬ ‫يذهب إلى حيث يقيم أخوه موسى‪ ،‬فلبا هارون داعي الحق ‪ ،‬وسار فقابل أخاه بجانب‬

‫الطور األيمن‪.‬‬

‫ذهب موسى وأخوه إلى فرعون وجرت بينهم مجادلة وحوار وعتاب‪ ،‬وكان الحوار يتركز‬

‫حول من هو اهلل ‪ ،‬حيث كان فرعون يصر على أنه هو اإلله وليس هناك إله غيره وكان‬ ‫موسى يحاول إقناع فرعون بحقيقة اإلله‪ ،‬وبأنه مرسل من قبل رب العالمين ‪:‬‬

‫" هو ربي وربكم ورب آبائكم األولين‪ ،‬رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون"‬ ‫‪ .‬فيثور فرعون مهددا ‪ " :‬لئن اتخذت الها غيري ألجعلنك من المسجونين" ‪ .‬فأجاب‬

‫موسى ‪ " :‬أولو جئتك بشيء مبين" ‪ ،‬فقال فرعون ‪ :‬إذن فأت بها إن كنت من الصادقين"‬

‫‪،‬فأظهر موسى بينته " فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء‬

‫للناظرين" ‪ .‬فلما رأى فرعون ذلك قال لقومه‪ :‬يا قوم هذان ساحران يريدان أن يخرجاكم‬


‫‪123‬‬

‫من أرضكم بسحرهما ‪ ،‬فما ترون ؟ فقال أنصاره وحواشيه ‪ :‬احبسهما وابعث رجالك في‬

‫المدن يأتوك بكل ساحر عظيم ‪.‬‬

‫جد فرعون في جمع السحرة فجاءه جمع منهم من كل مكان‪ ،‬وعندما اجتمعوا قالوا‬

‫لموسى ‪ :‬إما أن تلق واما أن نكون أول الملقين‪ ،‬قال لهم ألقوا‪ ،‬فلما ألقوا سحروا أعين‬

‫الناس ‪ ،‬فلقد جاءوا بسحر عظيم ‪ .‬فاوحى اهلل إلى موسى أن يلق عصاه‪ ،‬فإذا هي تلقف‬

‫وتلتهم كل ما ألقاه السحرة‪ ،‬فعلم السحرة أن ذلك من عند اهلل فقالوا ‪ :‬آمنا برب العالمين ‪،‬‬ ‫رب موسى وهارون‪ ،‬إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر واهلل‬

‫خير وأبقى‪.‬‬

‫يقول ابن كثير في تفسيره أن عصى موسى انقلبت إلى حية عظيمة فارغة فاهها متجهة‬

‫نحو فرعون‪ ،‬فلما رآها فرعون قادمة نحوه اقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يبعدها‬

‫عنه فأبعدها ‪ .‬وعن قتادة أنها كانت أفعى ضخمة بضخامة مدينة‪ .‬وعن آخرين أنها كانت‬

‫من الثعبان الذكر فاتحة فاهها واضعة لحيها األسفل في األرض وآلخر على سور القمر‪،‬‬ ‫وعن ابن عباس أن الحية سببت يومها في موت خمسة وعشرين ألف رجل قتل بعضهم‬

‫بعضا‪.‬‬

‫من الواضح أن قصة النبي موسى في القرآن الكريم كبقية القصص القرآنية‪،‬جاءت للنبي‬ ‫الكريم محمد للعبرة والموعظة من جهة و لدعم النبي في صبره على كفار قومه‪ ".‬تلك‬

‫القرى نقص عليك من أنباءها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا‬

‫من قبل كذلك يطبع اهلل على قبول الكافرين" ( األعراف ‪) 101‬‬

‫من الواضح كذلك أن البينات المذكورة كانت خطابا لمجتمع ذلك الزمان و للمستوى‬

‫الفكري لذلك العصر‪،‬حيث انتشر السحر والسحرة وكان للسحرة شأن كبير‪ .‬و اليوم ال‬ ‫يحتاج الناس لعصى موسى التي تنقلب إلى أفعى لكي تكون لهم حجة على وجود و‬

‫عظمة الخالق ‪،‬فلقد أظهر لنا العلم الحديث آالف البينات على ذلك ‪ ،‬و يكفي اإلنسان‬

‫اليوم النظر إلى نفسه ودقة صنعة وتنظيم أعضاءه ورقي جهازه حتى يصل إلى قناعة‬ ‫تامة بأن خالقه فوق كل الصفات ‪ .‬إن عالما واحدا بالطب أو الفلك أو في أي مجال‬

‫ليعطيك آالف البينات على وجود الخالق وعظمته أكثر من كل سحرة األرض‪.‬‬

‫يقوم سحرة اليوم بما يبهر األنظار ويخطف القلوب و الساحر المعروف دفيد كوبرفيلد‬

‫أخفى طائرة و قطار من أمام آالف المشاهدين بل وأخفى تمثال الحرية في نيويورك ‪،،‬‬

‫ولكن الجميع يعرف ورغم ذكاء وفطنة الساحر أن ليس ذلك إال خداع نظر ‪.‬‬


‫‪124‬‬

‫لقد وصلت نفسي إلى قمة اإليمان بعظمة الخالق عندما كنت أعمل في معهد التجارب‬

‫للغدد الهرمونية و بهرت بالتنظيم الدقيق لعمل الهرمونات وخاصة تلك التي تعمل في المخ‬ ‫والجهاز العصبي وكيف أن كل منها مسؤول و بدقة بالغة عن عواطفنا وشعورنا‬

‫واحساسنا‪ .‬في الجهاز العصبي‪ ،‬جيش من المراسلين يتحركون في جسم الكائن الحي‬ ‫وينقلون بدقة المعلومات واإلشارات حسب خطط غاية في الدقة والتنظيم و الحسابات‬

‫االقتصادية‪ ،‬وأي خلل في هذا التنظيم يسبب للجسم االضطراب والمرض‪ .‬و يتحرك جيش‬ ‫الهرمونات والمراسلين في الجسم بنظام اقتصاد العرض والطلب ‪ ،‬فإذا زاد العرض عن‬

‫الطلب قل االنتاج أو توقف‪ .‬إن خلية صغيرة ال تراها إال بواسطة المجهر قد تكون مسؤولة‬

‫عن جوعك و عطشك‪ ،‬أو حزنك وفرحك ‪،‬أو غضبك وحلمك ‪ ،‬كل ذلك وغيره كثير جدا‪،‬‬ ‫بينات اليوم والعصر على عظمة الخالق وسموه‪.‬‬

‫أصر فرعون على عناده وظاهره المأل من قومه فقالوا‪ :‬أتذر موسى وقومه ليفسدوا في‬

‫األرض و يذرك وآلهتك ‪ ،‬فتغالى في بطشه وقال‪ :‬إنا سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم‪،‬‬ ‫ثم راح ينزل بهم صنوف العذاب والهوان فشكوا إلى موسى‪ ،‬فقال لهم ‪ :‬استعينوا باهلل‬

‫واصبروا إن األرض اهلل يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين‪.‬‬

‫استمر موسى في دعوته ‪ ،‬يدعو فرعون وحاشيته إلى اإليمان بربه ‪ ،‬خالق األرض‬

‫والسماوات‪-‬واختلف السلف في المدة التي قضها موسى في دعوته في مصر فمنهم من‬ ‫قال عشرة سنين ومنهم من قال ضعف ذلك ‪ ،‬وورد في تفسير القرطبي أربعين عاما ‪-‬‬

‫ولكنه لم يجد آذانا صاغية من فرعون ومأله‪ ،‬فأخذهم اهلل بنقص في األموال ‪ ،‬وأرسل‬

‫عليهم ‪ "،‬الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصالت ‪ ،‬واستكبروا وكانوا قوما‬

‫مجرمين"‪ ( .‬األعراف ‪) 133‬‬

‫ال تفصل اآلية نوع و كمية الجراد والقمل والضفادع والدم الذي أرسله اهلل على فرعون‬

‫ومأله‪ ،‬وما أحدثته بهم‪ ،‬وهل كان على كل مصر أم على فرعون وحاشيته ‪ .‬أما‬

‫المفسرون فشطحوا في وصف النوع والكم والنتائج‪ .‬فابن كثير في تفسيره بأن النبي (ص)‬

‫وصف الجراد بأنه جند اهلل األعظم‪ .‬وعن بعض أهل السلف أن الجراد الذي أرسل إلى‬

‫فرعون ‪،‬كانت تأكل مسامير أبوابهم وتدع الخشب‪ ،‬وعن األوزاعي أنه قال‪ :‬خرجت إلى‬

‫الصحراء فإذا أنا برجل من جراد في السماء‪ ،‬فإذا برجل راكب على جرادة منها وهو شاك‬

‫في الحديد‪ ،‬وكلما قال بيده هكذا‪ ،‬مال الجراد مع يده‪ .‬وعن شريح القاضي أنه قال عندما‬

‫سئل عن الجراد‪ :‬قبح اهلل فيها خلقة سبعة جبابرة‪ ،‬رأسها رأس فرس وعنقها عنق ثور‬


‫‪125‬‬

‫وصدرها صدر أسد وجناحها جناح نسر ورجالها رجل جمل وذنبها ذنب حية وبطنها بطن‬

‫عقرب ‪ .‬وعن بعض أهل السلف أن السمك إذا باض على ساحل البحر ونضب الماء عنه‬ ‫وبدا للشمس ‪ ،‬يفقس كله جرادا طيارا‪.‬‬

‫أما القمل فيذكر ابن كثير عن ابن عباس أنه السوس الذي يخرج من الحنطة‪ ،‬وكان‬

‫الرجل من آل فرعون يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلم يرد منها إال ثالثة‪ .‬أما الضفادع‬ ‫فكان الرجل منهم يجلس إلى ذقنه في الضفادع ‪ ،‬واذا تكلم يثب الضفدع إلى فيه‪ .‬أما‬

‫القرطبي في تفسيره فيضيف أن الجراد أكل مزروعات القبط وثمارهم – ويعني بالقبط أهل‬

‫مصر‪ ،‬مع أن اآليات تعود على فرعون وحاشيته ‪ -‬حتى أنها كانت تأكل السقوف‬

‫واألبواب فتنهدم ديارهم ‪ ،‬ولم ينس أن يذكرنا بأن دور بني إسرائيل لم يدخل لها شيء‪،‬‬

‫ولم يصب بني إسرائيل بأي أذى‪ ،‬تماما كما ورد في التوراة‪.‬‬

‫أما الدم فحسب تفسير بن كثير ‪ ،‬ما استقوا من آبار واألنهار وما كان في أوعيتهم‬

‫وجدوه دما عبيطا‪ .‬ويقول القرطبي دام الدم في أوعيتهم وآبارهم و أنهرهم سبعة أيام وعن‬ ‫بعض أهل السلف أربعين يوما‪.‬‬

‫اختلفت كتب التراث في من كان يعبد فرعون فبعضهم قال كان يعبد األصنام وأنه كان يعبد‬ ‫ويعبد ‪ ،‬وقال البعض كان يعبد البقرة‪ ،‬على أي حال طلب فرعون من موسى أن يطلب من‬ ‫ربه أن يرفع عنهم الرجس قائال‪ :‬لئن كشفت عنا الرجس لنؤمن لك ولنرسلن معك بني‬

‫إسرائيل‪ .‬فلما كشف اهلل عنهم الرجس إلى أجل هم بلغوه‪ ،‬إذا هم ينكثون الوعد والعهد‪.‬‬

‫فانتقم اهلل منهم بأن أغرقهم في البحر ألنهم كذبوا بآيات اهلل‪،‬وكانوا عنها غافلين‪ .‬وتتم‬

‫اآليات هذا الفصل بقولها " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق األرض و‬

‫مغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمات ربك الحسنى على بني إسرائيل ودمرنا ما كان يصنع‬

‫فرعون وقومه وما كانوا يعرشون " ( األعراف ‪) 137‬‬

‫تعتبر المفسرون بال منازع بأن المعنيين في هذه اآلية هم بني إس ارئيل‪ ،‬واختلفوا فقط في‬ ‫تحديد مشارق األرض ومغاربها التي أورثها اهلل لهم ‪،‬ففي تفسير ابن كثير ورد أن ذلك‬

‫يعني بالد الشام وفي القرطبي أن البعض قال أرض القبط والبعض اآلخر أرض مصر‬

‫والشام ومشارقها ومغاربها وقيل بل أرض كل األرض وعن آخرين أراد بذلك جميع األرض‬

‫ألن بني إسرائيل‪ ،‬داود وسليمان ملكا األرض كلها‪.‬‬

‫تسرح كتب التفسير والتراث في الخيال التوراتي وتحدثنا كيف خرج موسى من مصر‬

‫وخرج معه ستمائة ألف وعشرين مقاتل‪ ،‬ال يعدون ابن العشرين وال ابن الستين‬


‫‪126‬‬

‫( تفسير البغوي) وكانوا يوم دخلوا مصر مع يعقوب اثنين وسبعين إنسانا بين رجل وامرأة‪.‬‬

‫وقبل أن يخرجوا ‪ ،‬أخرج اهلل تعالى كل ولد زنا في القبط من بني إسرائيل ‪ ،‬وكل ولد زنا في‬

‫بني إسرائيل من القبط إلى القبط ‪ ،‬حتى رجع كل إلى أبيه‪ ،‬وألقى اهلل الموت على القبط ‪،‬‬ ‫فمات كل بكر لهم واشتغلوا بدفنهم حتى طلعت الشمس‪ ،‬وذلك مما سنح الفرصة لموسى‬

‫للخروج من مصر‪ .‬قال شيوخ بني إسرائيل لموسى أن يوسف قد وصى على فراش موته‬ ‫بأن تخرج جثته من مصر‪ ،‬فراح موسى يسأل عن مكان قبر موسى ولكنه لم يصل إلى‬

‫جواب‪ .‬تقدمت منه امرأة عجوز وقالت له ‪ :‬سأدلك على قبره إن وعدتني أن تخرجني معك‬

‫من مصر وأن تدخلني معك الجنة‪ ،‬ثم أخبرته أن قبر يوسف في جوف الماء في النيل‪،‬‬ ‫فطلب من اهلل أن يؤخر طلوع الفجر فلبى اهلل طلبه وأخرج جثة يوسف التي كانت في‬ ‫تابوت من مرمر وحمله حتى دفن في الشام ‪ ( .‬تفسير البغوي)‬

‫ولقد شطح المفسرون كما رأينا حتى فاقوا في بعض األحيان كتبة التوراة‪ .‬ففي تفسير‬

‫اآلية ‪ 160‬من سورة األعراف (ومثيلتها اآلية ‪ 60‬من سورة البقرة) والتي تقول ‪:‬‬

‫وقطعناهم اثنتى عشرة اسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب‬

‫بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتى عشر عينا ‪ ...‬الى آخر اآلية‪ .‬قالوا كان حج ار معينا‬

‫مربعا على قدر رأس الرجل وقيل على قدر رأس الثور‪ ،‬وكان موسى يضعه في مخالته‬

‫وقيل كان يحمله ثورا‪ ،‬فإذا احتاجوا إلى الماء وضعه وضربه بعصاه ‪ ،‬وقيل عن عطاء أنه‬

‫كان للحجر أربعة وجوه لكل وجه ثالثة أعين لكل سبط عين‪ ،‬وقيل كان من الرخام وعن‬

‫آخرين أنه كان من الكذان‪ .‬وعن سعد بن جبير أن موسى وضع ثوبه على الحجر ليغتسل‬ ‫ففر الحجر بثوبه( تفسير البغوي) ‪ ،‬وعن عطاء أنه عندما كان موسى يضرب الحجر ‪،‬‬

‫يظهر على موضع الضربة مثل ثدي المرأة تنفجر منها األنهار‪ .‬وورد في تفسير‬

‫البيضاوي أن الحجر أهبطه آدم من الجنة وكان عند النبي شعيب فأعطاه لموسى مع‬

‫العصى ‪ ،‬وكانت عصى موسى من آس الجنة ولها شعبتان تتقدان ‪ .‬كما فسروا " ورفعنا‬ ‫فوقكم الطور" ( البقرة ‪ ) 63‬أن بني إسرائيل استثقلوا شرائع التوراة بما فيها من أوامر‬

‫ونواهي فأمر اهلل جبال من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتى قام على رؤوسهم ‪ ،‬وقيل‬

‫أمر جبريل فقلع الطور ورفعه فوق رؤوسهم‪ ،‬وقال لهم إن لم تقبلوا التوراة أرسلت هذا‬

‫الجبل عليكم ‪ ،‬وعن عطاء عن ابن عباس أن اهلل رفع فوق رؤوسهم الطور وبعث نا ار من‬

‫قبل وجوههم وأتاهم البحر المالح من خلفهم ‪ .‬وفي تفسير اآلية ‪ 79‬من سورة البقرة "فويل‬

‫للذين يكتبون الكتاب بأيديهم " عن سعيد الخدري أن النبي (ص) قال أن "ويل" هو واد‬


‫‪127‬‬

‫في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا حتى يصل قعره والصعود جبل من نار يتصعد في‬

‫سبعين خريفا ثم يهوي ثانية‪.‬‬

‫لن ندخل في تفاصيل خروج موسى وقومه ومعه بني إسرائيل من مصر وكيف قطعوا البحر‬ ‫وغرق فرعون وجيشه الذي كان يالحقهم ‪ ،‬ولن ندخل في تفاصيل إقامتهم و تيههم في‬

‫صحراء سينا‪ ،‬وتكرار ارتدادهم عن عبادة اهلل وعودتهم لعبادة العجل وآلهة أخرى‪ .‬ولن‬

‫ندخل في تفاصيل قصة البقرة وقصة موسى مع من سماه كتبة التراث الخضر‪ ،‬كما لن‬

‫ندخل في خالف أهل السلف فيما كان اهلل سبحانه قد كلم موسى بمعنى التكليم المباشر أم‬

‫بواسطة اإليحاء فقط كما قال المعتزلة ‪ ،‬مع أنه لنا رأي متواضع في هذا الموضوع‪ ،‬ولربما‬ ‫ال يضر هنا أن أذكر أنني سمعت قبل أشهر محاضرة لعالم فلكي مشهور قال فيها من‬

‫جملة ما قال‪ :‬أن السماء تحتوي على ماليين المجرات والشموس والكواكب ‪ ،‬ونحن كبشر‬

‫في جزء صغير جدا من هذا الكون في كرتنا األرضية محاصرون بأكوان ال حصر لها وما‬

‫نعتقده فراغا ليس في حقيقته فراغا ‪،‬و لقد أثبت العلم أن مجرتنا المعروفة ب( درب اللبانة‬

‫) – و هي واحدة من ماليين المجرات في الكون‪ -‬تحتوي على أكثر من أربعمائة مليار‬

‫نجم من كل األنواع تتحرك في تناسق معقد ومنظم ‪ ،‬ومن كل هذه النجوم ال يعرف سكان‬ ‫كرتنا األرضية حتى اآلن سوى نجم واحد‪ .‬إننا على األرض بالنسبة للكون كغبرة في‬

‫المكان ولحظة في الزمان‪ ،‬فهل خالق هذا الكون العظيم الرائع يكلم أحدا بلغة البشر‪ ،‬أنا‬

‫أشك في ذلك حتى ولو كان النبي موسى ‪.‬‬

‫على أي حال ليس هذا موضوعنا هنا وانما نحاول أن نسلط الضوء على وقوع كتبة التراث‬ ‫والمفسرين في مصيدة التفسير التوراتي لآليات القرآنية التي تخص بني إسرائيل‪ ،‬واعطاء‬ ‫بني إسرائيل بذلك قدسية الحق التاريخي في وطننا العربي عامة وفلسطين خاصة‪ ،‬إلى‬

‫جانب زرع هذا الفكر في الوعي اإلسالمي مما يخلق داء االنفصام بين ما هو ديني وما‬

‫هو وطني‪.‬‬

‫يكفي أن نق أر كتب التفسير وكتب التراث حتى نجد أمثلة ال حصر لها على أن بني إسرائيل‬ ‫كانوا أسياد زمانهم وأن اهلل أورثهم األرض المقدسة ومصر والشام بل في قول البعض‪،‬‬

‫كما مر معنا ‪،‬األرض جميعها‪ .‬وفي كتاب ككتاب (قصص القرآن لجاد المولى) ‪ -‬والذي‬ ‫يطبع بآالف النسخ وتحكى قصصه ألطفالنا وتدرس في مدارسنا‪ -‬لنجده يقول ‪ :‬واتماما‬

‫لنعمة اهلل على بني إسرائيل ‪ ،‬ورغبة منه سبحانه في االحسان إليهم ‪ ،‬أوحى إلى موسى‬

‫أن يقودهم إلى األرض المقدسة من بالد الشام ‪ ،‬وهي األرض الذي وعد اهلل إب ارهيم أن‬ ‫يجعلها ملكا للصالحين من ذريته‪ ،‬والصالحون من ذريته في رأي كتبة التراث هم طبعا‬


‫‪128‬‬

‫بني إسرائيل‪ ،‬أبناء األنبياء يعقوب و داود وسليمان‪ .‬ونجد مثل هذا في كافة كتب التراث‬

‫ولنق أر ما ورد في الكشاف للزمخشري في تفسير اآلية ‪ 12‬من سورة المائدة واسقاط‬

‫التفسير التوراتي عليها ‪ " :‬لما استقر بنوا إسرائيل في مصربعد هالك فرعون أمرهم اهلل‬

‫بالمسير إلى أريحا أرض الشام وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة وقال لهم ‪ ":‬إني كتبتها‬

‫لكم دا ار ق ار ار ‪ ،‬فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها‪ ،‬واني ناصركم "‪ ،‬وأمر موسى عليه السالم‬ ‫بأن يأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيال على قومه بالوفاء بما أمروا به توثقة عليهم‪،‬‬

‫فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بني إسرائيل‪ ،‬إلخ‪ .‬وينقل المفسرون الجدد هذا التفسير‬ ‫بحرفيته( راجع تفسير اآلية المذكورة في صفوة التفاسير لمحمد علي الصابوني ‪ ،‬دار‬

‫القرآن الكريم ‪،‬بيروت) أليس هذا دمغة تصديق الدعاءات التوراة ودعاتها في هذا اليوم‬

‫‪.‬‬


‫‪129‬‬

‫‪ –4‬ملوك و ممالك بني إسرائيل‪ :‬بين النص اإللهي والبشري‬ ‫ال يوجد في اآليات القرآنية أي ذكر ليشوع بن نون الذي ورد ذكره في التوراة كقائد لبني‬ ‫إسرائيل بعد موت موسى‪ ،‬والذي قاد اإلسرائيليين حسب الرواية التوراتية في اكتساحهم‬ ‫فلسطين وتدمير مدنها وقتل أبناءها‪ ،‬كما ال يوجد في القرآن الكريم أي خبر عن هذا‬

‫االكتساح‪.‬‬

‫من اآليات القرآنية ( البقرة ‪ ،) 251-246‬نفهم أن المأل من بني إسرائيل ‪ ،‬من بعد موسى‬ ‫طالبوا نبيهم ‪ ،‬أن يبعث لهم ملكا يقاتلون تحت امرته في سبيل اهلل‪ .‬ولم تحدد اآليات اسم‬

‫النبي ولكن كتبة التراث و المفسرين كعادتهم وتحت تأثير التوراة راحوا يختلقون لهذا النبي‬

‫اسما‪ ،‬ففي تفسير ابن كثير عن قتادة أنه يشوع بن نون‪ ،‬وعن بن جرير أنه ابن افرايم بن‬

‫يوسف بن يعقوب‪ ،‬وقال بعضهم هو شمعون و عن البعض اآلخر هو شمويل عليه السالم ‪،‬‬ ‫ويحكى أن النبوة كانت في بيت الوي من بني إسرائيل ولقد انقطعت النبوة فلم يبق من بني‬

‫الوي إال امرأة فحبسوها واحتفظوا بها في بيت حتى ترزق لهم نبيا ‪ ،‬ودعت المرأة ربها وأطالت‬

‫الدعاء حتى يرزقها بنبي فاستجاب اهلل لها ورزقها غالم فسمته شمويل أي سمع اهلل دعائي ‪،‬‬ ‫وقال البعض بل سمته شمعون ‪ ،‬فلما بلغ سن األنبياء أوحى اهلل له وأمره بالدعوة له‪ ،‬فدعى‬

‫بني إسرائيل فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكا يقاتلون في سبيل اهلل تحت امرته‪ .‬وفي تفسير‬

‫القرطبي أن النبي اسمه شمويل بن بال بن علقمة ويسمى ابن العجوز ألن أمه حين وضعته‬ ‫كانت عجو از و قيل ان اسمه شمعون‪ ،‬وفي بعض كتب التراث أن اسم النبي هو صمويل‪.‬‬ ‫نفهم من اآليات القرآنية أن النبي قال لهم أن اهلل بعث لهم ملكا اسمه طالوت‪ ،‬ولكنهم‬

‫اعترضوا على طالوت ألنه لم يكن ذي مال وسعة ‪ ،‬فرد عليهم النبي أن اهلل اصطفاه عليكم ‪،‬‬

‫وزاده بسطة في العلم والجسم ‪ ،‬وأن اهلل يؤتي ملكه من يشاء‪ .‬وطبعا لم يمر طالوت هذا بدون‬

‫تفنيد وتحليل من المفسرين فقال البعض انه كان سقاء وقال آخرون بل دباغا و قيل مكاريا‪،‬‬

‫و قيل أنه كان من سبط بنيامين وليس من سبط النبوة وال من سبط الملك ‪ ،‬وكانت النبوة في‬ ‫سبط الوي والملك في سبط يهوذا‪ .‬قال وهب بن منبه‪ :‬قال اهلل تعالى لشمويل ‪ :‬أنظر إلى‬

‫القرن الذي فيه الدهن في بيتك ‪ ،‬فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن ‪ ،‬فهو ملك‬

‫بني إسرائيل ‪ ،‬فادهن رأسه منه و ملكه عليهم‪ (.‬تفسير القرطبي)‪ .‬وفي تفسير البغوي أن‬ ‫اسم طالوت في العبرية شاول بن قيس من أوالد بنيامين بن يعقوب وسمي طالوت لطوله‪.‬‬


‫‪130‬‬

‫تقول اآليات أن نبيهم قال لهم أن آية ملكه عليكم‪ ،‬أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم‬

‫وبقية مما ترك آل موسى وهارون‪ ،‬تحمله المالئكة وان في ذلك آلية لكم إن كنتم مؤمنين‪ ،‬ولم‬ ‫تفصل اآليات ما هو هذا التابوت وما هي محتوياته‪ ،‬بل قالت فيه بقية مما ترك آل موسى‬

‫وهارون ‪ .‬التابوت في لغة العرب هو الصندوق الذي يحرز فيه المتاع‪ ،‬وقيل‪ :‬لم تختلف لغة‬

‫قريش واألنصار في شيء من القرآن إال في التابوت‪ ،‬فلغة قريش بالتاء و لغة األنصار‬

‫بالهاء‪.‬‬

‫اختلف المفسرون في معنى السكينة‪ ،‬ففي تفسير بن كثير أن بعضهم قال‪ :‬هي وقار وجاللة‬ ‫وأضاف آخرون ورحمة‪ .‬وعن الحسن البصري أن السكينة طست من ذهب كانت تغسل فيه‬

‫قلوب األنبياء‪ .‬وعن أبي األحوص عن علي أن السكينة لها وجه كوجه االنسان ثم هي روح‬

‫هفافة‪ .‬وعن خالد بن عرعرة ‪ ،‬هي ريح خجول لها رأسان وقال مجاهد ولها جناحان وذنب‪.‬‬

‫وعن محمد بن اسحاق عن وهب بن منبه ‪ ،‬أن السكينة رأس هرة ميتة إذا صرخت في التابوت‬

‫بصراخ هر‪ ،‬أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح ‪ .‬و قيل هي روح من اهلل كانت تأتيهم إذا اختلفوا في‬

‫شيء أخبرتهم به‪ .‬وعن بقية مما ترك موسى وهارون قيل عصى موسى‪ ،‬وزاد بعضهم وبعض‬ ‫األلواح وزاد اآلخر والتوراة‪ ،‬وزاد آخرون والمن و ثياب موسى وهارون وزاد البعض والنعالن‪.‬‬ ‫وعن ابن عباس أن المالئكة جاءت تحمل التابوت بين السماء وألرض فوضعته أمام طالوت‬

‫والناس ينظرون‪ .‬و قال بعض أهل السلف جاءت المالئكة تسوقه على عجلة على بقرة وفي‬

‫رواية أخرى على بقرتين‪ .‬و قيل أن التابوت كان في أريحا عند الكفرة‪ ،‬فأصاب أهلها مرض في‬ ‫رقابهم فأمرتهم جارية من سبي بني إسرائيل أن يردوه إلى أهله بني إسرائيل حتى يخلصوا من‬

‫هذا الداء‪ ،‬فحملوه على بقرتين إلى بني إسرائيل‪ .‬أما القرطبي فيقول أن التابوت كان عند آدم‬ ‫عليه السالم ثم وصل إلى يعقوب عليه السالم فكان في بني إسرائيل يغلبون به من قاتلهم ‪.‬‬ ‫وورد في تفسير البغوي أن التابوت كان من عود الشمشاذ‪ ،‬نحوا من ثالثة أذرع في ذراعين‬

‫كان عند آدم إلى أن مات ثم توارثه أوالد آدم إلى أن بلغ إبراهيم وورثه عنه بني إسرائيل إلى‬ ‫أن وصل إلى موسى وكان يضع فيه التوراة وبقية من مالبسه وبعد موته ورثه أنبياء بني‬ ‫إسرائيل‪ .‬وقيل أن التابوت عندما وقع في أيدي الكفار وضعوه في كنيسة لهم فيها أصنام‬

‫وكانت األصنام تصبح منكوسة ‪ ،‬وقيل وضعوه تحت صنمهم الكبير فأصبحوا واذا به فوق‬ ‫الصنم الكبير‪ ،‬وقيل أيضا في جملة ما قيل أنهم وضعوه في مخرأة قوم فكان يصيبهم‬

‫الباسور‪ .‬وقيل كذلك أن المالئكة أعادت التابوت وأنهم أروا التابوت في الهواء حتى نزل‬

‫بينهم‪.‬‬


‫‪131‬‬

‫في الحقيقة أن كتبة التراث االسالمي يصرون على استمرارية شجرة النسب االسرائيلي من‬

‫إبراهيم إلى موسى إلى ما يسمى ملوك بني إسرائيل وهو ما فتئت التوراة تزرعه في العقل‬ ‫االنساني وجاء التراث االسالمي ليسهل لها المهمة ويصدق بختمه على مقولتها تلك ‪.‬‬

‫نفهم من اآليات أن بني إسرائيل وجلوا من مقابلة جالوت وجنوده وأن بعض منهم ممن ظنوا‬

‫أنهم سيلقون اهلل قالوا لهم مشجعين " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اهلل واهلل مع‬

‫الصابرين‪ ".‬و تخبرنا اآليات أنهم حين قابلوا جالوت وجنده دعوا اهلل أن يلهمهم الصبر ويثبت‬

‫أقدامهم ‪ .‬وهنا يبرز داود ويقتل جالوت وينتصر بني إسرائيل على جيش عدوهم ‪.‬‬

‫ال تحدثنا اآليات الكريمة من هو جالوت هذا ومن يكونوا جنده‪ ،‬ومن أي أصول عرقية هم‪،‬‬

‫كما ال تحدثنا أين كان القتال وأين كانت الموقعة‪ ،‬كما ال تحدثنا كيف قتل داود جالوت هذا‬

‫وبأي وسيلة‪ .‬وبما أن التوراة كانت أداة التفسير عند أهل السلف ومن تبعوهم‪،‬إلى جانب تأثير‬

‫اليهود الذين دخلوا في االسالم أو ادعوا ذلك ‪ ،‬راح المفسرون يشطحون في شرح من هو‬ ‫جالوت هذا‪ .‬يقول الزمخشري في تفسيره أن جالوت جبار من العمالقة من أوالد عمليق بن‬

‫عاد‪ ،‬وكانت بيضته فيها ثالثمائة رطل‪ .‬أما القرطبي فيقول ‪ :‬وكان جالوت أمير العمالقة وظله‬

‫ميل‪ ،‬وكان من أشد الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده‪ .‬وقيل أنه في تلك الواقعة كان‬

‫في ثالث مائة ألف فارس ‪ .‬ويتفق المفسرون أن داود قتل جالوت بمعالق كان في يده ‪ ،‬رماه‬ ‫به فأصابه فقتله‪ ،‬ولقد ورد في تفسير البغوي عن أهل التفسير أن الحجر الذي ضرب به داود‬

‫كان حجر موسى ولقد كلم داود وقال له أنا حجر موسى الذي قتل به كذا فاحملني ‪ ،‬أنا‬

‫سالحك الذي ستقتل به جالوت ‪ ،‬فحمله داود ووضعه في مخالته ‪ .‬و يصف القرطبي داود‬

‫بأنه كان قصي ار مسقاما مصفا ار أصغر أزرق‪ ،‬وهو داود بن إيشي ‪ ،‬ويقال هو داود بن زكريا‬

‫بن رشوي ‪ ،‬وكان من سبط يهوذا بن يعقوب وكان من أهل بيت المقدس وقيل أن مسقط رأسه‬ ‫بيت لحم ‪،‬وكان راعيا للغنم وهو أصغر أخوته‪ .‬وقيل أن طالوت وعد داود إن هو قتل جالوت‬ ‫سيزوجه ابنته ويشاطره نعمته ويشاركه في أمره‪ .‬وأهم ما تحدثنا اآليات القرآنية به عن داود‬

‫هو ‪:‬‬

‫ أنه من ذرية نوح حيث تقول اآلية ‪ 84‬من سورة األنعام " ووهبنا له ( أي إبراهيم )‬‫إسحق ويعقوب كال هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته ( أي من ذرية نوح كما‬

‫أجمع المفسرون) داود وسليمان‪."...‬‬

‫ أن اهلل سبحانه آتى داود النبوة والحكمة وعلمه مما يشاء‪ ( "....‬البقرة ‪) 250‬‬‫‪-‬‬

‫وأتاه الزبور‪ " ،‬وآتيناه زبورا" (النساء ‪ ، 128‬األنعام ‪، ) 55‬‬


‫‪132‬‬

‫‪-‬‬

‫وسخر اهلل مع داود الجبال والطير" وسخرنا مع داود الجبال والطير وكنا فاعلين" (‬

‫‪-‬‬

‫وآتاه اهلل علما‪ " ،‬ولقد آتينا داود وسليمان علما" ( النمل ‪) 15‬‬

‫األنبياء ‪) 79‬‬

‫ " ولقد آتينا داود منا فضال يا جبال أوبي معه والطير وألنا معه الحديد " ( سبأ ‪) 10‬‬‫ وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء" (‬‫النمل ‪) 16‬‬

‫‪ " -‬أذكر عبدنا داود ذا األيد إنه أواب " ( ص ‪) 17‬‬

‫ " يا داود إنا جعلناك خليفة في األرض فاحكم بين الناس بالحق ولى تتبع الهوى" (‬‫ص ‪)26‬‬

‫ال تحدثنا اآليات القرآنية شيئا عن الزبور الذي أرسل إلى داود وما هي محتوياته ‪ ،‬كما ال‬ ‫تحدثنا اآليات شيئا عن مولد داود وترعرعه وتفاصيل حياته وكيف استلم الملك ‪ ،‬وعن‬

‫عالقته بطالوت وان كان تزوج إحدى بناته أم ال‪ ،‬كما ال تحدثنا اآليات عن طريقة‬

‫استالمه الملك ‪ ،‬وما هو هذا الملك ‪ ،‬وهل هو ملك مملكة بمعناها التاريخي والجغرافي‪،‬‬ ‫وأين تقع هذه المملكة وأين حدودها وتاريخ إقامتها ومدتها‪ .‬ال تحدثنا اآليات شيئا عن‬

‫داود ومملكته في إطار التاريخ والجغرافيا‪.‬‬

‫الذي حدثنا عن ذلك وعن كل التفاصيل الممكنة هم كتبة التراث االسالمي ومفسري‬

‫اآليات القرآنية معتمدين على الروايات التوراتية‪ ،‬والرواة اليهود‪.‬‬

‫تحدثنا كتب التراث أن طالوت كان رجال بادنا فارعا وافي التقاطيع شديد األسر‪ .‬وفيما هو‬

‫في الحقل مع أبيه ضلت منهما األتن ‪ ،‬فخرج مع غالمه ينشدانها في شعاب الوادي حتى‬

‫وصال إلى أرض صوف ‪ ،‬موطن صمويل أو شمويل وهو نبي يأتيه الوحي وتاتيه المالئكة‪.‬‬ ‫طلع عليهما شمويل يفوح منه أرج النبوة وتحدث معالمه عن نبي كريم ورسول أمين‪ .‬سأل‬

‫طالوت النبي شمويل عن أتنه التي ضلت فأخبره أنها في طريقها إلى أبيه وأنه يدعوه إلى‬

‫أمر أخطر ‪ ،‬وهو أن اهلل اختاره على بني إسرائيل ملكا‪ .‬لم يلق تعين طالوت ملكا قبوال من‬ ‫بني إسرائيل ‪ ،‬فهو قليل المال سيئ الحال‪ ،‬ولكن شمويل أخبرهم أنها مشيئة اهلل‪.‬‬

‫اضطلع طالوت بالملك وأحسن قيادة جنوده والتقى وجيشه مع جيش أعداء بني العمالقة‬

‫بقيادة جالوت أمير العمالقة‪ .‬وكان في جيش طالوت ثمانين ألف من بني إسرائيل‪ .‬جاء‬

‫طالوت بجيشه إلى نهر بين األردن وفلسطين يعتقد أنه نهر الشريعة‪ ،‬فطلب منهم أن ال‬

‫يشربوا من النهر إال قليال ومن يشرب فال يصحبه ‪ ،‬وعن ابن عباس أنه قال‪ :‬من اغترف‬ ‫منه بيده روي ومن شرب منه لم يرو ‪ ،‬وقيل كان الجيش ثمانين ألفا شرب منهم ستة‬


‫‪133‬‬

‫وسبعون ألفا‪ ،‬فتبقى معه أربعة آالف ‪ .‬فلما جاوز طالوت النهر هو والذين آمنوا معه قالوا‬

‫له ال طاقة بنا على جالوت وجنده‪ ،‬فشجعهم علماءهم العالمون منهم بأن وعد اهلل حق‪،‬‬ ‫وأن فئة صغيرة بأذن اهلل تغلب الفئة الكبيرة‪.‬‬

‫فلما التقى الجمعان برز جالوت يدعو للمبارزة وكان جالوت ضخما خياله عدة أميال وكان‬

‫من أشد الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده‪ ،‬فخاف جند طالوت بطشه وتقاعسوا عن‬

‫مالقاته‪ .‬وكان في بيت لحم – وقيل في بيت المقدس – رجل تقدمت به السنون اسمه‬

‫أيشي وقيل اسمه زكريا بن رشوى ‪ ،‬وكان من سبط يهوذا بن يعقوب‪ ،‬ولما دقت طبول‬

‫الحرب واستنفر طالوت بني إسرائيل للقتال‪ ،‬انتخب ذلك الرجل ثالثة من كبار أبناءه‬

‫وأرسلهم للمشاركة في القتال‪ ،‬وطلب من أصغرهم واسمه داود أن يحمل الطعام إلى أخوته‪.‬‬

‫سار داود مع أخوته ‪ ،‬وما وصل إلى ساحة القتال حتى وجد رجال عمالقا طاغية يتحدى ‪،‬‬ ‫والرجال من بني إسرائيل تخشاه متراجعين‪.‬‬

‫خف داود إلى طالوت وطلب إليه أن يأذن له في منازلة جالوت ‪ ،‬وأخذ يعدد لطالوت‬

‫تجاربه في القتال قائال‪ :‬وقع ذئب في غنمي فضربته ثم قطعت رأسه عن جسمه‪ ،‬ودخل‬

‫أسد في غنمي فضربته ثم أخذت بلحييه فشققتهما‪ ،‬أفترى هذا أشد من األسد؟ وكان عند‬

‫طالوت درع ال تستوي إال على من يقتل جالوت ‪ ،‬فالقاها على داود فاستوت‪ ،‬فسمح له‬

‫بالخروج لقتال جالوت ووعده إن هو قتله أن يزوجه بنته ويشاركه في أمره‪ .‬قيل وكان‬

‫داود من رامي القالع فأخذ مخالته فتقلدها وأخذ مقالعه وخرج لمالقاة جالوت وكان‬

‫شاك في سالحه وعلى رأسه بيضة فيها ثالثمائة رطل‪ .‬أخذ داود ثالثة من الحجارة وكان‬

‫يسمي على كل حجر باسم إله إبراهيم إسحاق وباسم إله يعقوب وقيل أن الحجارة التأمت‬

‫فأصبحت حج ار واحدا‪ ،‬فوضعه في مقالعه وسمى اهلل ورماه فأصاب به رأس جالوت فقتله‬ ‫‪ ،‬وحز رأسه وجعله في مخالته‪ .‬و قيل أنه أصاب البيضة التي على رأسه ‪ ،‬وقيل بل‬

‫أصاب من البيضة موضع أنفه وفي قول آخر بل أصابه في عينه‪ ،‬وأن الحجر خرج من‬ ‫قفاه‪ .‬وقيل أيضا أن الحجر تفتت حتى أصاب كل جند جالوت ‪ .‬وهجم جند طالوت على‬

‫أعدائهم وعملوا بهم قتال ونصرهم اهلل على العمالقة وفي قول آخر الفلسطينيين‪.‬‬

‫تحدثنا كتب التراث أن طالوت وفى بوعده فزوج ابنته مكيال لداود ‪ ،‬وأحله بين نفسه‬

‫وقلبه وأضحى موضع نصحه‪ .‬ولكن األيام مرت والقلوب تغيرت و رأى طالوت حب بني‬

‫إسرائيل لداود واجاللهم له ‪ ،‬فخشي على ملكه من نفوذه فقرر التخلص منه‪ .‬فلما علم‬

‫داود باألمر هرب حتى انتهى إلى مفازة آوى إليها ‪ ،‬فعلم بمكانه مريدوه من بني إسرائيل ‪،‬‬ ‫فهرعوا إليه جماعات ‪ ،‬وانثالوا عليه زرافات‪ .‬أما طالوت فقد ضعف أمره في قومه ‪،‬وكثر‬


‫‪134‬‬

‫الخارجون عليه والهاربون من جنده‪ .‬وفي مسرحية درامية يخرج داود من مفازته ويزور‬

‫تحت جنح الظالم معسكر طالوت ويختطف منه رمحه وهو نائم ‪ .‬ولما نهض طالوت من‬

‫نومه أخذ يتفقد رمحه ‪ ،‬ويبحث عمن أخذه‪ ،‬وبينما هو حائر وافاه رسول من داود يخبره‪:‬‬

‫هذا رمحك ‪ ،‬وقد مكن اهلل لداود من رأسك ولكنه كان أعز نفسا وأكرم قلبا‪ .‬ونالت كلمات‬

‫رسول داود من نفس طالوت ‪ ،‬وخرج نادما باكيا يحرقه الندم ‪ ،‬وهام على وجهه ينشد من‬

‫اهلل التوبة ‪ ،‬حتى وافته المنية‪ .‬أما بنو إس ارئيل فقد هرعوا جميعا إلى داود مبايعيه ملكا‬ ‫عليهم ‪ ،‬فأتاه اهلل النبوة والملك والحكمة‪.‬‬

‫تقول كتب التفسير أن الزبور هو كتاب داود وكان به مائة وخمسين سورة ليس فيه حكم‬

‫وال حالل وال حرام ‪ ،‬وانما فيه حكم ومواعظ ‪ .‬وكان داود حسن الصوت إذا أخذ في قراءة‬

‫الزبور اجتمع إليه اإلنس والجن والطير والوحش ‪،‬ويزيد ابن كثير في تفسيره أن داود كان‬ ‫إذا ترنم بالزبور وقفت الطيور في الهواء فتجاوبه‪ ،‬وترد عليه الجبال تأويبا‪ ،‬وفي تفسير‬

‫القرطبي‪ ،‬كان الماء الجاري يقف عن الجري حين يسمع صوته‪ .‬وكان داود متواضعا يأكل‬ ‫من عمل يده‪ ،‬وقيل أنه كان يصنع الدروع‪ (،‬حسب قول اآلية‪ :‬وألنا له الحديد* واآلية‬ ‫التي تقول ‪ :‬وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم) وعن بعضهم أنه كان يتقن صناعة‬

‫الكيمياء‪ .‬وكان ذا قوة في العبادة يصوم يوما ويفطر يومان وكان يصلي نصف الليل ‪،‬‬

‫وكان قويا في الدعاء إلى اهلل‪ .‬وورد في تفسير القرطبي عن ابن عباس أن اهلل أعطى‬

‫داود سلسلة موصولة بالمجرة والفلك ورأسها عند صومعة داود ‪ ،‬فكان ال يحدث في‬

‫الهواء حدث إال صلصلت السلسلة فيعلم داود بما حدث ‪ ،‬وال يمسها ذو عاهة إال برئ ‪،‬‬

‫وكانت عالمة دخول قومه في الدين أن يمسوها بأيديهم ثم يمسحون أكفهم على صدورهم‬

‫‪ ،‬وكانوا يتحاكمون إليها بعد داود إلى أن رفعت‪ .‬وعن ابن عباس أيضا أن داود كان أشد‬ ‫ملوك األرض سلطانا‪ .‬كان يحرس محرابه كل ليلة نيف وثالثون ألف رجل‪ ،‬وقيل أربعون‬

‫ألف مدججون بالسالح ‪.‬‬

‫تحكي لنا كتب التراث عن قصة فتنة داود التوراتية بزوجة أحد جنده المقربين‪ ،‬و تغير‬

‫في بعض وقائع القصة التوراتية‪،‬لتالئم شخصية داود النبي االسالمية‪ -‬حيث أن رواية‬

‫التوراة ال تليق بنبي مرسل‪ -‬بأن جعلت المرأة المقصودة خطيبة وليست زوجة الجندي‬

‫كما ورد في التوراة‪ .‬وأن الجندي ذهب إلى الحرب طوعا قربانا لوجه الوطن و لم يبعث إلى‬

‫الموت من قبل داود ‪ ،‬لتخلوا له زوجة المغدور به بعد أن اغتصبها عنوة حسب الرواية‬

‫التوراتية‪ .‬تتابع كتب التراث القصة وتخبرنا أنه وفي غيبة الخطيب الطويلة‪ ،‬تعلقت أنظار‬


‫‪135‬‬

‫داود بهذه الفتاة ورغب أن تكون زوجته فذهب إلى أهلها يطلب منهم القربى ‪ ،‬وطبعا ‪،‬من‬ ‫هؤالء حتى يردوا يد نبي اهلل الكريم؟‬

‫وورد في تفسير بن كثير عن أبي هريرة قصة غريبة عجيبة‪ ،‬وهي أن داود عليه‬

‫السالم كان فيه غيرة شديدة ‪ ،‬فكان إذا خرج أغلقت األبواب‪ ،‬فلم يدخل على أهله أحد حتى‬ ‫يعود‪ .‬قال فخرج ذات يوم فأغلقت األبواب ‪ ،‬فأقبلت امرأة تطلع إلى الدار فإذا رجل قائم‬

‫وسط الدار ‪ ،‬فقالت كيف دخل البيت والدار مغلقة ؟ واهلل لتفضحن بداود ‪ .‬فجاء داود‬

‫فوجد الرجل فقال له من أنت ؟ قال أنا الذي ال يهاب الملوك وال يمتنع من الحجاب ‪ .‬فقال‬

‫داود ‪ :‬إذن أنت واهلل ملك الموت‪ ،‬مرحبا بأمر اهلل فتزمل داود مكانه حتى قبضت نفسه‪،‬‬

‫حتى فرغ من شأنه‪ ،‬وطلعت عليه الشمس‪ .‬فقال سليمان عليه السالم للطير أظلي داود‬ ‫فظللت عليه الطير حتى أظلمت عليه األرض‪ ،‬فقال لها سليمان اقبضي جناحا جناحا‪،‬‬

‫ففعلت ‪.‬‬

‫خلف سليمان داود في النبوة والملك‪، ،‬ولقد ورد اسم سليمان في القرآن الكريم سبعة‬

‫عشر مرة‪ ،‬ولكن اآليات التي تروي قصة سليمان أضعاف ذلك‪ . .‬وأهم ما تحدثنا به اآليات‬ ‫القرآنية عن قصة سليمان‪:‬‬

‫‪ -‬أن اهلل سبحانه وهب لداود سليمان‪ "،‬ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب * إذ‬

‫عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد" (ص ‪. )31 - 30‬ولكن ال تحدثنا اآليات إن‬

‫كان لداود أوالد أخر غير سليمان وما هو عددهم وترتيبهم ‪.‬‬

‫ وأن سليمان ورث داود ‪" ،‬ورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير‬‫وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين‪ (،‬النمل ‪) 16‬‬

‫ وأنه كان لسليمان جنود من اإلنس والجن والطير‪" ،‬وحشر لسليمن جنوده من الجن‬‫واالنس والطير فهم يوزعون" ( النمل ‪. ) 17‬‬

‫ وكان سليمان يتقن منطق الحيوانات والطيور‪ ،‬والنمل "حتى إذا أتوا على واد النمل‬‫قالت نملة يا أيها النمل أدخلوا مساكنكم ال يحطمنكم سليمان وجنوده مهم ال‬

‫يشعرون‪ .‬فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي‬

‫وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وادخلني برحمتك في عبادك الصالحين‪ (".‬النمل‬

‫‪) 18‬‬

‫ كما نفهم أن اهلل طوع الريح بأمر سليمان كما طوع له بعض من الجن تعمل بين‬‫يديه‪،‬وتصنع له المحاريب والتماثيل " ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر‬

‫وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن‬


‫‪136‬‬

‫أمرنا نذقه من عذاب السعير‪ * .‬يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان‬

‫كالجواب وقدور راسيات ‪ (" ..‬سبأ ‪.)13- 12‬‬

‫ وأن سليمان تفقد الطير فلم يجد الهدهد بينها‪ ،‬فغضب عليه وتوعده ‪ ،‬فلما عاد الهدهد‬‫قال له‪ :‬أحطت بما لم تحط به و جئتك من سبأ بنبأ يقين‪ .‬إني وجدت امرأة تملكهم‬

‫وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ‪ ،‬وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون‬

‫اهلل وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم ال يهتدون‪ ،‬فقال له‬

‫سليمان‪ :‬سننظر في أمرك أصدقت أم كنت من الكاذبين‪ ،‬اذهب بكتابي هذا فالقه‬

‫إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون‪ .‬ففعل الهدهد كما أمره سليمان‪ ،‬فقالت الملكة‬

‫لحاشيتها حين وصلتها الرسالة‪ :‬يا أيها المأل إني ألقي إلي كتاب كريم‪،‬إنه من سليمان‬

‫وانه باسم اهلل الرحمن الرحيم ‪ ،‬وطلبت منهم أن يفتوها في أمرها‪،‬فقالوا لها نحن ذو‬

‫بأس وقوة ولكن األمر يعود إليك فانظري ما تأمرينا به‪ .‬قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية‬

‫أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة‪ ،‬واني بمرسلة لسليمان هدية وسنرى بم يرجع‬

‫المرسلون ‪.‬فلما جاءوا بالهدايا إلى سليمان قال لهم ‪ :‬أتمدونن بمال فما أتان اهلل‬ ‫خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون‪ .‬طلب سليمان من الرسل أن يعودوا ‪،‬‬

‫وهددهم بأنه سيأتينهم بجنود ال قبل لهم وأنه سيخرجهم منها أذلة وهم صاغرون‪.‬‬

‫ثم سأل أفراد حاشيته ‪ :‬أيكم يأتيني بعرش ملكة سبأ قبل أن يأتيني أهلها مسلمين؟‬

‫فأجابه عفريت من الجن ‪ :‬أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ‪ .‬قال الذي عنده علم‬

‫من الكتاب أنا أحضر لك العرش قبل أن يرتد طرفك وهكذا حدث ‪ .‬فلما رأى سليمان‬

‫العرش مستق ار عنده‪ ،‬قال هذا من فضل ربي ليبلوني ء أشكر أم أكفر ومن شكر فإنما‬ ‫يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم ‪ .‬عندما وصلت الرسالة إلى ملكة سبأ‬

‫قررت السفر إلى سليمان‪ .‬فلما وصلت دهشت لوجود عرشها عند سليمان وقد تركته‬

‫في بلدها‪ .‬ثم أن سليمان كان قد أمر ببناء صرح من زجاج أبيض ‪ ،‬فدعى الملكة إليه‬

‫فحسبته لجة ماء فكشفت عن ساقيها حتى ال تبتل ‪ ،‬ولكنها دهشت عندما اكتشفت‬

‫أنه صرح ممرد من قوارير‪ ،‬فقالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان هلل رب‬

‫العالمين‪( .‬سورة النمل )‬

‫ وأن اهلل سخر لسليمن الشياطين ‪ " ،‬ومن يغوصون له ويعملون عمال دون ذلك وكنا‬‫لهم حافظون‪ ( ".‬األنبياء ‪) 82‬‬

‫‪ -‬و أن اليهود الذين كفروا برسالة الرسول الكريم محمد والذين قالوا أن سليمان كان‬

‫ساح ار ‪،‬اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين‬


‫‪137‬‬

‫كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان‬ ‫من أحد حتى يقوال إنما نحن فتنة فال تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء‬

‫وزوجه وما هم بضارين به من أحد إال بإذن اهلل ويتعلمون ما يضرهم وال ينفعهم ولقد‬ ‫علموا لمن اشتراه ما له في اآلخرة من خالق( البقرة ‪) 103‬‬

‫نحن أمام قصة من قصص القرآن والتي تحتوي على كثير من العبر ‪ ،‬وتتحدث عن نبي وملك‬

‫اسمه سليمان بن داود ‪ .‬وكما لم تحدد اآليات الموقع التاريخي والجغرافي لمملكة داود ‪ ،‬كذلك‬

‫لم تفعل بما يخص سليمان و مملكته‪ ،‬وجاءت القصة خارجة عن أطر الحدود الجغرافية والزمن‬

‫التاريخي‪.‬‬

‫الحقيقة أن موقف كتبة التراث والمفسرين األوائل كان صعبا للغاية‪ ،‬فهم كانوا أمام وقائع‬

‫جديدة عليهم ‪ ،‬فهناك نبي يرث النبوة والملك عن أبيه و ألنبياء كما كان معروفا لديهم‪ ،‬ال‬ ‫يرثون وال يورثون‪ ،‬يفهم منطق الطير والحيوانات وهو أمر خارج عن نطاق المعروف و‬

‫المعقول‪ ،‬يقوم على خدمته الجن والشياطين ‪،‬وهو خارج عن نطاق الفهم‪ ،‬يساعدونه في بناء‬ ‫التماثيل والمحاريب وغيرها‪ ،‬وبناء التماثيل محرم كما كان معروفا لديهم ‪ ،‬وغيره كثير ‪.‬‬

‫بالنسبة لوراثة سليمان لداود‪ ،‬قال المفسرون أن المقصود هنا هو وراثة النبوة والملك وليس‬

‫المال‪ ،‬إذ لو كان كذلك ‪ ،‬لم يخص سليمان وحده من دون سائر أوالد داود ولقسم بين جميع‬ ‫األوالد ‪ ،‬وكان لداود حسب تفسير ابن كثير مائة امرأة‪ ،‬وورد في تفسير القرطبي أنه كان له‬

‫تسعة عشر ولدا ‪ ،‬واألنبياء ال يرثون وال يورثون المال ‪،‬أما النبوة والملك فيجوز‪ .‬أما بالنسبة‬

‫لمعرفة سليمان بمنطق الحيوانات والطيور ‪ ،‬قال بعضهم أن الطيور والحيوانات كانت في ذلك‬ ‫الزمان تتكلم بلغة البشر ‪ ،‬ولكن األكثرية تنكر هذا القول‪ ،‬و تقول أن اهلل سبحانه وهب‬

‫سليمان هذه المقدرة ‪ ،‬وهذا شيء لم يعطه اهلل سبحانه ألحد من البشر غير سليمان‪،‬وال ندري‬

‫إن كانت لغة الطيور والحيوانات واحده أم أن لكل نوع وصنف لغة خاصة وكان سليمان يعرفها‬

‫جميعها‪ ،‬وال ندري بأي لغة كان سليمان يكلمها‪ .‬وكان سليمان إذا سار تتبعه األنس والجن‬ ‫وهم بعدهم في المنزلة والطير فوق رأسه يوزعون كل حسب صنفه ومرتبته‪ .‬وورد في تفسير‬

‫القرطبي عن مقاتل أن سليمان كان أعظم ملكا من داود وأقضى منه وكان داود أكثر تعبدا‪،‬‬ ‫وعن آخرين أنه لم يبلغ أحد من األنبياء ما بلغ ملك سليمان وأتاه ما لم يؤت أحد من‬

‫العالمين‪ .‬وعن مقاتل أن سليمان كان جالسا ذات يوم فمر به طائر يطوف ‪ ،‬فقال لجلسائه‬

‫أتدرون ما يقول هذا الطائر ؟ إنها قالت لي السالم عليك أيها الملك المسلط والنبي لبني‬

‫إسرائيل‪ ،‬أعطاك اهلل الكرامة وأظهرك على عدوك ‪ ،‬إني منطلق إلى فراخي وسأعود لك ثانية‪،‬‬ ‫ثم رجع ‪ ،‬فقال إنه يقول ‪ :‬السالم عليك أيها الملك المتسلط أتأذن لي كيما أكتسب على‬


‫‪138‬‬

‫فراخي حتى يشبعوا ثم آتيك فافعل بي ما تشاء‪ ،‬وأذن له فانطلق‪ .‬وهناك عشرات األمثلة‬

‫المماثلة ‪ ،‬يوردها كتبة التراث والمفسرون عن أحاديث سليمان مع الطيور والحيوانات ال‬

‫مجال لذكرها هنا‪ .‬وتبارى كتبة التراث والرواة والمفسرون في وصف عظمة مملكة سليمان وفي‬

‫عدد جنوده‪ .‬ولقد ورد في تفسير الطبري أن معسكر جند سليمان كان مائة فرسخ في مائة‪:‬‬

‫خمسة وعشرون لإلنس وخمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للطير وخمسة وعشرون‬

‫للوحش‪ ،‬وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثالثمائة منكوحة وسبعمائة سرية‪.‬‬

‫وعن ابن عطية أنه قال ‪ :‬اختلف الناس في معسكر سليمان وعدد جنده اختالفا شديدا ولكن‬

‫الصحيح أن ملكه كان عظيما ملك األرض وانقادت له المعمورة كلها( كذا؟)‪ .‬وقال قتادة ‪ :‬كان‬ ‫لكل صنف وزعة في رتبتهم و مواضعهم من الكرسي ومن األرض إذا مشوا فيها‪ .‬وقيل أن‬

‫الشياطين نسجت له بساطا فرسخا في فرسخ ذهبا في إبريس ‪ ،‬وكان يوضع له كرسي من‬

‫ذهب وحوله ثالثة آالف كرسي من ذهب وفضة فيقعد األنبياء على كراسي الذهب والعلماء‬ ‫على كراسي الفضة‪.‬‬

‫اختلف الرواة والمفسرون في موضع الوادي الذي مر به سليمان وسمع فيه حديث النمل‪ .‬قال‬ ‫بعضهم أنه وادي السدير من أودية الطائف ‪ ،‬وقال البعض اآلخر أنه واد في أرض الشام ‪.‬‬

‫وورد في تفسير بن كثير عن قتادة عن حسن أن اسم النملة التي حذرت النمل حتى ال‬

‫يحطمها سليمان وجنوده هو" حرس" وأنها من قبيلة يقال لها بني الشيطان وأنها كانت عرجاء‬

‫وكانت بقدر الذئب ولقد ورد هذا القول في كثير من كتب التراث ولكن بعضهم قال أن اسم‬

‫النملة هو طاخية والبعض اآلخر حرميا‪ ،‬وأن سليمان سمع صوتها من ثالثة أميال‪.‬‬

‫احتار الرواة والمفسرون كذلك في ماهية الصافنات الجياد‪ .‬ورد في تفسير ابن كثير عن‬

‫مجاهد أنها الجياد التي تقف على ثالث وطرف حافر الرابعة والجياد السراع ‪ .‬وعن ابراهيم‬

‫التيمي أنه قال‪ :‬كانت عشرين فرسا ذات أجنحة‪ ،‬كذا رواه ابن جرير‪ ،‬وقيل بل كانت عشرين‬

‫ألف فرس فعقرها سليمان فعوضه اهلل عنها‪ .‬و في قول أن رسول اهلل محمد(ص) عندما سمع‬ ‫ما قيل بأن سليمان كان له خيل كانت لها أجنحة‪ ،‬ضحك حتى بانت نواجذه‪ ،‬وهو ما يدل‬

‫على سخريته لهذا القول‪ .‬وورد في تفسير القرطبي أن الصافنات هي الجياد الطويلة العنق‪،‬‬ ‫وعن الكلبي أنه قال ‪ :‬غ از سليمان دمشق و نصيبين فأصاب منهم ألف فرس‪ ،‬وقال مقاتل ‪:‬‬

‫ورثها سليمان عن أبيه وكان أبوه أصابها من العمالقة‪ ،‬وقال بلغني أنها خيل خرجت من‬

‫البحر وكانت لها أجنحة‪،‬وزاد الضحاك على ذلك بأنه أخرجت لسليمان من البحر وكانت‬

‫منقوشة ولها أجنحة‪ .‬أما ابن زيد فقال ‪ :‬أخرجها الشيطان لسليمن من البحر وكان لها‬

‫أجنحة‪.‬‬


‫‪139‬‬

‫وفي تفسير اآلية " ولسليمن الريح غدوها شهر ورواحها شهر" ورد في تفسير ابن كثير عن‬

‫حسن البصري أنه قال ‪ :‬كان سليمان يغدو على بساطه من دمشق فينزل بإصطخر يتغدى بها‬

‫ويذهب رائحا فيبيت في كابل‪ ،‬وبين دمشق واصطخر شهر كامل للمسرع وبين اصطخر و كابل‬ ‫شهر كامل للمسرع ‪ .‬ولقد ورد نفس الحديث في تفسير القرطبي و لكن اختلف في طول‬

‫المسيرة بين دمشق واصطخر وبين تلك وكابل فقال شهران بدل الشهر الواحد‪ ،‬وفي تفسير‬

‫البغوي عن أهل السلف أن سليمان كان يتغدى بالري ويتعشى بسمرقند‪.‬‬

‫في وصف الجن ورد في تفسير ابن كثير حديث لرسول اهلل عن أبي ثعلبة الخشني أنه قال ‪:‬‬

‫أن الجن على ثالثة أصناف ‪ ،‬الصنف األول لهم أجنحة يطيرون في الهواء والصنف الثاني‬

‫حيات و كالب وصنف يحلون ويظعنون‪ .‬وفي قول عن بعض أهل السلف أن الجن ثالثة‬

‫أصناف ‪ ،‬صنف له الثواب وعليه العقاب وصنف طيارون فيما بين السماء واألرض وصنف‬

‫حيات وكالب‪ .‬وفي قول آخر أن الجن ثالثة أصناف صنف يظلهم اهلل بظل عرشه يوم القيامة‪،‬‬ ‫وصنف كاألنعام ‪،‬بل هم أضل سبيال وصنف في صور الناس على قلوب الشياطين‪ .‬وفي قول‬

‫عن الحسن أنه قال ‪ :‬الجن ولد إبليس واإلنس ولد آدم ‪ ،‬ومن هؤالء مؤمنون ومن هؤالء‬

‫مؤمنون‪ .‬وفي تفسير القرطبي عن ابن عباس أنه قال ‪ :‬كان سليمان إذا جلس نصبت حواليه‬

‫أربعمائة ألف كرسي ‪ ،‬ثم جلس رؤساء اإلنس مما يليه‪ ،‬وجلس سفلة اإلنس مما يليهم ‪،‬‬

‫وجلس رؤساء الجن مما يليهم ثم جلس سفلة الجن مما يليهم‪ ،‬وموكل بكل كرسي طائر لعمل‬

‫قد عرفه‪ ،‬ثم تقلهم الريح ‪ ،‬والطير تظللهم من الشمس‪ ،‬فيغدو من بيت المقدس إلى إصطخر ‪،‬‬ ‫فيبيت ببيت المقدس‪ .‬وعن ابن زيد أنه قال ‪ :‬كان مستقر سليمان في مدينة تؤمر‪ ،‬وكان أمر‬

‫الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام األبيض‬ ‫واألصفر ‪ .‬وقيل عن ابن عباس كان سليمان يجلس على سريره ثم توضع كراسي حوله‬

‫فيجلس عليها االنس ثم الجن ثم الشياطين ‪ ،‬ثم تأتي الريح فترفعهم ثم تظللهم الطير ثم‬

‫يغدون قدر ما يشتهي الراكب أن ينزل شه ار ورواحها شه ار ‪.‬‬

‫اختلف المفسرون أيضا في ماهية المحاريب التي بناها الجن لسليمن‪ ،‬ففي تفسير ابن كثير‬ ‫أنها البناء الحسن وهي أشرف شيء في المسكن‪ ،‬وعن مجاهد أنه قال هي بنيان دون‬

‫القصور أما الضحاك فقال هي المساجد ‪ ،‬وقال قتادة هي القصور والمساجد‪ .‬وفي تفسير‬ ‫القرطبي أن سليمان أمر أن يعمل حول كرسيه ألف محراب فيها ألف رجل عليهم المسوح‬

‫يخرجون إلى اهلل دائبا و هو على الكرسي في موكبه والمحاريب حوله ‪ ،‬ويقول لجنوده إذا‬

‫ركب ‪ :‬سبحوا اهلل إلى ذلك العلم فإذا بلغوه قال‪ :‬هللوه إلى ذلك العلم ‪ ،‬فإذا بلغوه قال‪ :‬كبروه‬

‫إلى ذلك العلم ‪ .‬وفي كتاب قصص القرآن لمحمد جاد المولى( مر ذكره‪ ،‬ص‪ ) 168:‬وهو‬


‫‪140‬‬

‫كتاب موجه إلى األجيال الصاعدة من المسلمين أن سليمان بنى الهيكل في بيت المقدس ‪،‬‬

‫تسهيال ألسباب العبادة ‪ ،‬فنشط حتى أقامه عالي األركان‪،‬شامخ البنيان‪ .‬ونحن نزيد على هذا‬

‫القول" يا فرحة يهود هذا الزمان" ‪ .‬ويؤكد هذا القول البغوي في تفسيره ويقول أنه تم بناء‬

‫المحاريب في بيت المقدس‬

‫أما صنع التماثيل فلقد وجد المفسرون له مخرجا بأن التصوير كان مباحا في ذلك الزمان‬ ‫ونسخ بشرع الرسول محمد (ص)‪ .‬و قيل أن تلك التماثيل كانت صور األنبياء والعلماء ‪،‬‬

‫وكانت تصور في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة واجتهادا‪ .‬وقيل أيضا أن هذه التماثيل‬

‫كانت رجال اتخذهم من نحاس وسأل ربه أن ينفخ فيها الروح ليقاتلوا في سبيل اهلل وال يحيك‬ ‫فيهم السالح وقيل أن إسفنديار كان منهم‪ .‬وروي أن الجن عمل لسليمان أسدين في أسفل‬

‫كرسيه ونسرين فوقه ‪ ،‬فإذا أراد أن يصعد بسط له األسدان ذراعيهما واذا قعد أطلق النسران له‬

‫جناحيهما‪.‬‬

‫قصة سليمان وملكة سبأ أخذت في التراث االسالمي حي از كبي ار وتبارى الرواة في إعادة حبك‬

‫القصة وتأطيرها جغرافيا وتاريخيا‪ .‬تحدثنا كتب التراث أن الهدهد كان مهندسا يدل سليمان على‬

‫الماء في تخوم األرض‪ ،‬وحين يدلهم عليه يأمر سليمان الجان فيحفروا حتى يستنبط الماء‪،‬‬ ‫وكانت الجان تسلخ وجه األرض كما تسلخ الشاه ‪ .‬وقيل أن اسم هدهد سليمان" عنبر"‬

‫واختلف المفسرون في طريقة تعذيب سليمان للهدهد ‪ ،‬فقيل أن تعذيبه بأن ينتف ريشه وقال‬

‫آخرون جناحاه‪ ،‬وقيل كذلك ‪ ،‬أن تعذيبه بأن يجعله مع أضداده حيث أضيق السجون معاشرة‬

‫األضداد‪،‬وقال آخرون تعذيبه بوضعه في القفص‪ ،‬وآخرون بأن يجعله للشمس بعد نتفه‬

‫وآخرون بهجره وبإبعاده عن خدمة سليمان‪.‬‬

‫تحدثنا كتب التراث عن ملكة سبأ فتفيض في الحديث ‪،‬ولقد اختلفوا في تحديد نسبها‪ .‬وورد في‬

‫تفسير ابن كثير عن حسن البصري أنها بلقيس بنت شراحيل ‪ ،‬وعن قتادة أن أمها كانت جنية‬ ‫وكان مؤخر قدميها مثل حافر الدابة‪ .‬وعن زهير بن محمد أنها بلقيس بنت شراحيل بن مالك‬ ‫بن الريان وأمها فارغة الجنية‪ .‬وقال ابن جريج هي بلقيس بنت ذي شرخ وأمها بلتعة‪،‬وقال‬

‫آخرون أن اسمها الحقيقي هو بلقمة‪ ،‬وأنها ابنة أنيشرح بن الحرث بن قيس بن صيفي بن‬

‫سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان‪ .‬وقال آخرون بل هي بلقمة ابنةالهدهاد بن تبع بن‬

‫األذعار بن تبع ذي المنار بن الرائش‪ ،‬وهكذا‪ .‬وذكر عدد غير قليل من المؤرخين العرب أن‬ ‫أمها كانت ابنة ملك الجن‪ ،‬ودعموا هذا القول بأحاديث عن الرسول الكريم‪ .‬وفي كتيب "‬

‫قصص من القرآن الكريم في أسلوب عصري (؟) مشوق" تأليف محمد كامل حسن المحامي ‪،‬‬ ‫منشورات المكتب العالمي‪،‬بيروت ‪ ،‬بدون تاريخ" ورد روايات طريفة عن زواج والد بلقيس‬


‫‪141‬‬

‫بالجنية‪،‬منها ‪ :‬أن والد بلقيس كان مولعا بالصيد ‪ ،‬وكانت الجن في بعض األحيان تتخذ‬

‫أشكال الظباء‪ ،‬فكان والد بلقيس إذ اصطاد ظبية ورأى الدموع في عينيها‪ ،‬عرف أنها من الجن‬ ‫فيطلق سراحها‪ .‬ولقد سر ملك الجن بذلك فزوجه ابنته‪ .‬وفي رواية أخر أنه خرج للصيد فرأى‬

‫حيتين تقتتالن ‪ ،‬وكانت احداهما بيضاء واألخرى سوداء فقتل السوداء ‪ ،‬وفي المساء جاءه‬

‫شاب وسيم أخبره أنه الحية البيضاء التي أنقذها وأن الحية السوداء كانت شيطانا أسودا‪،‬‬ ‫فعرف والد بلقيس من الجن ‪ ،‬وكان ما كان حتى زوجه الجن أجمل بناتهم‪.‬‬

‫وعن ابن عباس أنه قال ‪ :‬كان معها مائة ألف قيل تحت كل قيل مائة ألف مقاتل ‪ .‬ويحدثنا‬

‫الرواة عن قتادة أنه قال ‪ :‬كان أولو مشورتها ثالث مائة واثني عشر رجل كل منهم على عشرة‬ ‫آالف رجل وكانت بأرض مأرب على ثالثة أميال من صنعاء ‪ .‬ويصف الرواة عرشها بأنه كان‬ ‫عظيما هائال مزخرف بالذهب وأنواع الجواهر ‪ ،‬وورد في تفسير بن كثير عن زهير بن محمد‬

‫أن عرشها كان من ذهب وصفحاته مرصعة بالياقوت والزبرجد طوله ثمانون ذراعا وعرضه‬

‫أربعون ذراعا‪،‬وقيل أنه كان يخدمها ستمائة امرأة‪ ،‬وكانت تسكن في قصر عظيم مشيد رفيع‬

‫البناء وكان في ثالث مائة وستون طاقة من مشرقه ومثلها من مغربه‪ ،‬تدخل الشمس إليه من‬ ‫طاقة وتخرج من مقابلتها‪ ،‬فيسجدون لها ليال و نهارا‪ .‬واختلف الرواة في كتاب سليمان الذي‬

‫أرسله إلى بلقيس وقال بعض المؤرخين ‪ :‬كان بطاقة صغيرة وأنه منذ ذلك الوقت اتخذ الناس‬

‫عادة إرسال البطاقات الصغيرة في المناسبات الخاصة‪ .‬كما اختلف المفسرون في الهدية التي‬ ‫أرسلتها الملكة إلى سليمان‪ ،‬فقيل أرسلت له هدية عظيمة من ذهب وجواهر وآللئ ‪ ،‬وقال‬

‫بعضهم بل أرسلت له لبنة من ذهب ‪ ،‬ويقول ابن كثير في تفسيره‪ ،‬والصحيح أنها أرسلت إليه‬ ‫آنية من ذهب ‪ .‬وعن مجاهد وسعيد بن جبير أنها أرسلت له جواري في زي الغلمان وغلمان‬ ‫في زي الجواري‪ ،‬فقالت إن عرف هؤالء من هؤالء فهو نبي‪ ،‬قالوا فأمرهم سليمان بأن‬

‫يتوضئوا‪ ،‬فجعلت الجارية تفرغ على يدها من الماء وجعل الغالم يغترف فميزهم‪ .‬وقيل بل جعل‬

‫الجارية تغسل باطن يدها قبل ظاهرها والغالم بالعكس ‪ .‬وقيل أرسلت له بقدح ليمأله ماء رواء‬ ‫ال من السماء وال من األرض فأجرى الخيل حتى عرقت فمأله من ذلك ‪ ،‬وغير ذلك ومن‬

‫أمثاله كثير في كتب التراث االسالمي ‪.‬‬

‫تتابع كتب التراث حديثها عن قصة سليمان و ملكة سبأ فتقول أنه عندما طلب سليمان من‬

‫حاشيته أن يأتوه بعرش ملكة سبأ ‪،‬قال عفريت من الجن‪ ،‬أي مارد من الجن واسمه كوزن ‪،‬‬

‫أنا آتيك به قبل أن تقوم من مجلسك ‪ .‬وورد في تفسير القرطبي أن " عفريت " قرأت‬

‫"عفرية"‪ ،‬وقيل هكذا قرأها أبو بكر الصديق ومعناها الداهية أو شديد الخبث ‪ ،‬والعفريت من‬

‫الشياطين القوي المارد ‪ ،‬وكان اسم عفريت سليمان " كودن " وقيل بل " ذكوان " وعن شعيب‬


‫‪142‬‬

‫الجبائي أن اسمه " دعوان " وروي عن ابن عباس أن اسمه " صخر الجني "‪ .‬عندها قال‬

‫الذي عنده علم من الكتاب وهو حسب قول ابن عباس ‪ ،‬آصف‪ ،‬كاتب سليمان ‪،‬وقيل هو‬

‫آصف بن برخياء وكان صديقا يعلم االسم األعظم ‪ ،‬وقيل أنه ابن خالة سليمان‪ ،‬وعن قتادة‬ ‫أنه قال ‪ :‬كان من بني إسرائيل‪ ،‬وقال البعض بل اسمه بليخا وآخرون أن اسمه ذو النور ‪،‬‬

‫وزعم آخرون أنه الخضر‪ ،‬وآخرون أنه ملك بيده كتاب المقادير‪ ،‬وزعم آخرون أن اسمه‬

‫أسطوم وكان عابدا من بني إسرائيل ولقد صلى ركعتين وقال لسليمان ما قال ‪.‬‬

‫يصر معظم كتبة التراث والرواة أن سليمان كان في بيت المقدس وعرش ملكة سبأ في اليمن‪،‬‬

‫وقيل عن بعضهم أن سليمان كان على بعد فرسخ من ملكة سبأ حين طلب إحضار عرشها‪.‬‬

‫شطح الرواة في علم الخيال حين شرحوا كيف وصل عرش ملكة سبأ إلى سليمان‪ ،‬فقيل أن‬

‫العرش غاص في األرض ثم نبع بين يدي سليمان‪ ،‬وكان الذي جاء به من عباد البحر‪ .‬وقيل‬ ‫بل جيء به في الهواء‪ ،‬وورد في تفسير القرطبي عن مجاهد أنه كان بين سليمان والعرش‬

‫كما بين الكوفة والحيرة‪ ،‬وقال مالك كان العرش في اليمن وسليمان في الشام ‪ ،‬وقيل انخرق‬ ‫بعرش بلقيس مكانه الذي هو فيه ونبع أمام سليمان‪ ،‬وعن عبداهلل بن شداد أنه قال‪ :‬وظهر‬

‫العرش من نفق تحت األرض ‪.‬‬

‫يجمع المفسرون وكتبة التراث أن رجل ملكة سبأ كانت كرجل الحمار‪ ،‬وعندما جاءته سأل ‪:‬‬

‫كيف لي أن أرى قدميها من دون أن أطلب منها كشفها‪ ،‬فقال ‪ :‬أنا أجعل من هذا القصر ماء‬

‫وأجعل فوق الماء زجاجا ‪ ،‬تظن أنه ماء فترفع ثوبها فتكشف عن قدميها‪ .‬وورد في تفسير ابن‬

‫كثير أن سليمان أمر الشياطين فبنوا لها قص ار عظيما من قوارير أي من زجاج وأجرى تحته‬

‫الماء واختلفوا في السبب الذي دعى سليمان لذلك ‪ .‬قيل أنه عزم على أن يتزوجها وأراد أن‬ ‫يتأكد من صحة ما يقال عن قدميها وكان في ساقيها هلب عظيم ومؤخر أقدامها كمؤخر‬

‫الدابة‪ .‬فلما دخلت وكشفت عن ساقيها رأى أحسن الناس ساقا وأحسنهن قدما ولكن رأى على‬ ‫رجليها شعرا‪ ،‬فأحب أن يذهب ذلك ‪ ،‬فقيل له أن يحلقه بالموسى ولكنها رفضت فطلب من‬ ‫الجن أن يصنعوا شيئا غير الموسى فصنعوا له النورة وكان أول من اتخذت له النورة‪.‬‬

‫اختلف المفسرون والمؤرخون في كون سليمان قد تزوج من الملكة بلقيس أم أنه لم يتزوجها‪.‬‬

‫قال البعض أن سليمان أحبها وتزوجها ‪ ،‬ثم أقرها على مملكة اليمن وردها إليها‪ .‬وقال آخرون‬

‫أنه أرجعها إلى مملكتها في اليمن‪ ،‬وكان يزورها مرة كل شهر‪ ،‬ويقيم عندها ثالثة أيام‬

‫بلياليها‪ ،‬مستعمال بساط الريح في السفر إليها‪ .‬ويؤكد المؤرخون أنه كان لسليمان مئات‬

‫النساء غيرها ‪ ،‬ووصل الرقم عند البعض ‪ ،‬ألف امرأة‪ ،‬وقالوا كذلك أنه أمر الجن أن يبنوا لها‬ ‫ثالثة قصور عظيمة ‪ :‬أحدها في " غمدان" والثاني في " صالحين" والثالث في " بيتون "‪.‬‬


‫‪143‬‬

‫ويقول بعض المؤرخين أن بلقيس أقامت عند سليمان في بيت المقدس " ؟ " و كان يصحبها‬ ‫في رحلة ترفيهية على بساط الريح إلى الشام‪ ،‬وأنه مرضت بالشام وتوفيت فيها ‪ ،‬وقالوا أن‬

‫سليمان دفنها في " تدمر" وأخفى قبرها عن الناس ‪.‬‬

‫وقف المفسرون حيارى أمام تفسير اآلية ‪ 102‬من سورة البقرة والتي تقول " واتبعوا ما تتلوا‬

‫الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما‬ ‫أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ‪ ... .‬إلى آخر اآلية‪.‬‬

‫ورد في تفسير ابن كثير عن ابن عباس أنه قال ‪ :‬حين ذهب ملك سليمان ارتد بعض االنس‬

‫والجن واتبعوا الشهوات فلما أرجع اهلل إلى سليمان ملكه وقام الناس على الدين كما كان وان‬

‫سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه وبعد أن توفي سليمان ظهر االنس والجن على‬

‫الكتب وقالوا هذا كتاب من اهلل نزل على سليمان فأخفاه عنا فأخذوا به فجعلوا به دينا‪ .‬وقيل‬

‫عن ابن عباس أيضا أن آصف كاتب سليمان الذي كان يعلم االسم األعظم ‪ ،‬كان يكتب كل‬

‫شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه ‪ ،‬فلما مات سليمان أخرجته الشياطين‪ ،‬فكتبوا بين كل‬

‫سطرين سح ار وكف ار وقالوا هذا الذي كان سليمان يعمل بها ‪ .‬وعن ابن عباس أيضا أن‬

‫سليمان‪ ،‬كان إذا أراد أن يدخل الخالء أو يأتي شيئا من نسائه أعطى الجرادة ‪،‬وهي امرأته‪،‬‬

‫خاتمه‪ ،‬فلما أراد اهلل سبحانه أن يبتلي سليمان بالذي ابتاله به أعطى الجرادة خاتمه فجاء‬

‫الشيطان في صورة سليمان فقال لها ‪ :‬هاتي خاتمي فأخذه ولبسه فلما لبسه دانت له‬

‫الشياطين واالنس والجن‪ .‬قال ‪ :‬فجاء سليمان فقال لها هاتي خاتمي فقالت ‪ :‬كذبت لست‬

‫بسليمان فعرف أنه ابتالء من اهلل ابتلي به‪ .‬قال ‪ :‬فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك األيام‬

‫كتبا فيها سحر و كفر فدفنوها تحت كرسي سليمان يغلب الناس بهذه الكتب‪ ،‬قال ‪ :‬فبرئ‬

‫الناس من سليمان وكفروه حتى بعث اهلل محمدا (ص) ‪ .‬وقيل أن الشياطين على عهد سليمان‬

‫كانت تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع فيستمعون من المالئكة ما يكون في األرض‬

‫من موت أو غيب أو أمر فيأتون الكهنة فيخبرونهم فيحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا‬

‫فلما أمنتهم الكهنة كذبوا لهم وأدخلوا فيه فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة فاكتتب الناس ذلك‬

‫الحديث في الكتب وفشا ذلك في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب ‪ ،‬فبعث سليمان في الناس‬

‫فجعلها في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه ولم يكن أحد يستطيع أن يدنو من الكرسي إال‬

‫احترق ‪ ،‬وقال ال أسمع أحدا يقول إن الشياطين تعلم الغيب إال ضربت عنقه‪ .‬فلما مات‬

‫سليمان وذهب العلماء الذين كانوا على علم بأمر سليمان وخلف من بعد ذلك خلف تمثل‬

‫الشيطان في صورة إنسان‪ ،‬ثم أتى نف ار من بني إسرائيل فقال ‪ :‬هل أدلكم على كنز ال تاكلونه‬

‫أبدا‪ ،‬قالوا نعم فقال لهم احفروا تحت هذا الكرسي فذهب معهم وأراهم المكان‪ ،‬فحفروا فوجدوا‬


‫‪144‬‬

‫الكتب‪ ،‬فلما أخرجوها قال لهم الشيطان ‪ :‬إن سليمان إنما كان يضبط االنس والجن والطير‬

‫بهذا السحر ‪ ،‬ثم طار وذهب وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا‪ ،‬واتخذت بني إسرائيل تلك‬

‫الكتب إلى أن بعث اهلل محمدا(ص) ‪ ،‬فخاصموه بها‪ .‬وعن مجاهد أنه قال ‪ :‬كانت الشياطين‬

‫تستمع إلى الوحي فما سمعوا من كلمة زادوا عليها مائتين مثلها فأرسل سليمان في طلبها ‪،‬‬

‫فلما مات سليمان وجدته الشياطين وعلمته للناس وهو السحر ‪ .‬وعن سعيد بن جبير أن‬

‫سليمان كان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته فلم‬

‫يقدر الشياطين أن يصلوا إليه فدنت إلى اإلنس فقالوا لهم أتدرون ما العلم الذي كان به يسخر‬

‫سليمان الجن والشياطين والرياح وغير ذلك ؟ قالوا إنه في بيت خزانته وتحت كرسيه فاستثار‬

‫به اإلنس واستخرجوه وعملوا به فقال أهل الحجاز كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر ‪ ،‬فانزل‬

‫اهلل آياته‪ .‬وقيل أن الشياطين جمعت كل ذلك في كتاب وختموه بخاتم على نقش خاتم سليمان‬ ‫وكتبوا في عنوانه‪ :‬هذا ما كتب آصف بن برخيا صديق الملك سليمان بن داود من ذخائر‬

‫كنوز العلم ثم دفنته بقايا من بني إسرائيل فتعلموه وعملوا به وعلموه الناس حتى جاءت البعثة‬

‫المحمدية‪ .‬وهناك قصص ال حصر لها في هذا الموضوع تمأل كتب التراث والتفسير ‪ ،‬ال مجال‬

‫لذكرها هنا‪.‬‬

‫اختلف المفسرون في من هما هاروت وماروت وهل هما ملكان أم من الشياطين‪ .‬قيل أن‬

‫بعض الناس أشاعوا بأن السحر كان يوحى إلى سليمان عن طريق الملكين جبريل ومكائيل‬ ‫فجاءت اآليات لترد هذا القول‪ .‬وقيل عن بعض أهل السلف أن هاروت وماروت هما ملكان‬

‫أنزلهما اهلل إلى األرض وأذن لهما في تعليم السحر اختبا ار لعباده وامتحانا لهم بعد أن بين لهم‬

‫أن ذلك مما ينهي عنه على ألسنة الرسل‪ .‬وقال آخرون أن هاروت وماروت من الجن وأيد هذا‬

‫القول ابن حزم كما ورد في تفسير ابن كثير‪ .‬وروي عن ابن أبي حزم باسناده عن الضحاك‬ ‫أنه كان يقرأها " وما أنزل على الملكين" بكسر االم ويقول هما علجان من أهل بابل ووجه‬

‫أصحاب هذا القول اإلنزال بمعنى الخلق ال بمعنى الوحي‪ .‬وحكى القرطبي عن ابن عباس‬

‫والحسن البصري وآخرين أنهم قرؤوا كذلك بكسر االم وقال ابن أبزي هما داود وسليمان ‪،‬‬

‫وقال القرطبي تكون ما نافية أيضا‪ .‬وروي عن البعض أنه قال ال أبالي أي ذلك كان إني آمنت‬

‫به وذهب كثير من السلف أن هاروت وماروت كانا ملكين من السماء وأن اهلل أنزلهما إلى‬

‫األرض فكان من أمرهما ما كان‪ .‬ولقد روى اإلمام أحمد في سند ه حديثا غريبا عن عبد اهلل‬ ‫بن عمر أنه سمع محمد رسول اهلل (ص) يقول ‪ :‬أن آدم عليه السالم لما أهبطه سبحانه‬

‫إلى األرض قالت المالئكة ‪:‬‬


‫‪145‬‬

‫" أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ‪ ،‬قال ‪ :‬إني‬

‫أعلم ما ال تعلمون ‪ ،‬قالوا ربنا نحن أطوع لك من بني آدم ‪ ،‬قال اهلل تعالى للمالئكة هلموا‬

‫ملكين من المالئكة نهبطهما إلى األرض فننظر كيف يعمالن قالوا ربنا هاروت وماروت فاهبطا‬

‫إلى األرض ومثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر فجاءتهما فسأالها نفسها فقالت ‪ :‬ال‬

‫واهلل حتى تتكلما بهذه الكلمة من االشراك ‪ ،‬فقاال‪ :‬ال واهلل ال نشرك باهلل شيئا فذهبت عنهما‬

‫ثم رجعت بصبي تحمله فسأالها نفسها فقالت ‪ :‬ال واهلل حتى تقتال هذا الصبي فقاال‪ :‬ال واهلل ال‬

‫نقتله أبدا‪ ،‬فذهبت ثم رجعت بكأس من الخمر تحمله فسأالها نفسها فقالت ‪ :‬ال واهلل حتى‬

‫تشربا هذا الخمر فشربا فسك ار فوقعا عليها وقتال الصبي فلما أفاقا قالت المرأة واهلل ما تركتما‬

‫شيئا أبيتماه علي إال فعلتماه حين سكرتما فخي ار بين عذاب الدنيا وعذاب اآلخرة فاختا ار عذاب‬

‫الدنيا‪ .‬وروي عن بعض أهل السلف عن علي بن أبي طالب أنه قال ‪ :‬كانت الزهرة( كوكب‬

‫الزهرة) امرأة جميلة من أهل فارس وأنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت فراوداها عن‬

‫نفسها فأبت إال أن يعلماها الكالم الذي إذا تكلم به أحد يعرج إلى السماء فعلماها فتكلمت به‬

‫فعرجت إلى السماء ومسخها اهلل كوكبا‪ .‬وهناك أحاديث كثيرة تروى عن الرسول الكريم يلعن‬ ‫فيها الزهرة فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت ‪.‬‬

‫التراث االسالمي وضع قصص االنبياء القرآنية في إطار الجغرافيا والتاريخ مسقطا القصص‬

‫والروايات التوراتية وحديث الرواة اليهود على اآليات القرآنية‪ ،‬فخرج لنا منتج هو مزيج من‬

‫التراث االسالمي واإلسرائيلي ‪ .‬لقد امتأل التراث االسالمي باإلسرائيليات حتى بات يصنع لبني‬ ‫إسرائيل تاريخا لم يكن لهم على االطالق وأصبح داعما الدعائهم بتاريخ أسطوري في‬

‫فلسطين واألرض العربية و الذي بنوا عليه حقهم التاريخي المزور والمزعوم في أرضنا‪.‬‬

‫في تفسير اآلية اآلية ‪ 19‬من سورة يونس والتي تقول "ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق‬ ‫ورزقناهم من الطيبات " نجد كتبة التراث االسالمي يضيفون ما لم تحمله اآليات القرآنية‬

‫فيقولون كما ورد في تفسير ابن كثير مثال ‪ :‬قيل هو بالد مصر والشام مما يلي بيت المقدس‬

‫ونواحيه‪ ،‬فإن اهلل تعالى لما أهلك فرعون وجنوده استقرت الدولة الموسوية على بالد مصر‬ ‫بكاملها‪ .‬ويقول في غير موضع ‪ :‬ولقد استمروا مع موسى عليه السالم طالبين إلى بالد‬

‫المقدس وهي بالد الخليل إبراهيم ‪ ،‬وكان فيها قوم من العمالقة فنكل بنوا إسرائيل عن قتالهم ‪،‬‬

‫فشردهم اهلل في التيه أربعين سنة ومات فيه موسى وهارون‪ ،‬وخرجوا بعدها مع يوشع بن نون‬ ‫ففتح اهلل عليهم بيت المقدس واستقرت أيديهم عليها إلى أن أخذها منهم بختنص حينا من‬

‫الدهر ثم عادت إليهم ‪ .‬وورد في تفسير القرطبي في تفسير اآلية المذكورة أن ذلك يعني مصر‬

‫وقيل األردن وفلسطين وعن الضحاك أنه قال هي مصر والشام ‪ .‬كما ورد في تفسير اآلية‬


‫‪146‬‬

‫‪ 104‬من سورة اإلسراء والتي تقول " وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا في األرض" أن ذلك‬

‫يعني أرض الشام ومصر ‪ .‬ولقد بحثت في القرآن الكريم فلم أجد أي ذكر لشخص اسمه يوشع‬

‫بن نون قاد بني إسرائيل إلى بالد الشام وفلسطين‪ ،‬كما لم أجد في القرآن أي ذكر لدخول بني‬

‫إسرائيل فلسطين واحتاللهم القدس أو الشام أو أي بلد آخر في بالد الشام ‪.‬‬

‫لقد بنى التراث االسالمي لبني إسرائيل مملكة اسطورية امتدت من بالد العراق مرو ار ببالد‬

‫الشام و فلسطين إلى أرض مصر ‪ .‬بل وصل القول ببعض كتبة التراث كما مر معنا بأن بني‬

‫إس ارئيل سادوا وحكموا األرض جميعها‪ .‬إلى جانب كل ذلك وضع التراث االسالمي ختمه على‬ ‫أهم ادعاءات يهود اليوم بالتأكيد على استمرارية شجرة النسب االسرائيلي من إبراهيم مرو ار‬

‫بموسى إلى داود وسليمان‪،‬و على إقامة هيكلهم المدعو هيكل سليمان في القدس ‪ ،‬بل وذهب‬

‫البعض كما ذكرنا سابقا إلى وضع بصمته على تأكيد الوعد اإللهي إلبراهيم وأبنائه وأحفاده من‬ ‫بني إسرائيل بأرض فلسطين وبالد الشام ‪ .‬لقد اختلط على المسلمين منطوق التراث االسالمي‬

‫بالمنطوق القرآني‪ ،‬وحل الفكر الديني واإلرث التراثي محل الفكر القرآني واستمد منه قدسيته‬

‫فسقطنا في عقدة االنفصام بين الوطني المصيري وبين ما اعتبرناه من أصول الدين‪ .‬إنه داء‬ ‫خبيث في حاجة إلى عملية جراحية سريعة وجذرية لنفض ما علق بالوعي االسالمي خالل‬

‫مئات من السنين‪.‬‬


‫‪147‬‬

‫مراجع فصل‪ :‬االسرائيليون في االسالم‪ ،‬هي ‪:‬‬ ‫تفسير القرطبي‪،‬تفسير ابن كثير ‪ ،‬تفسير الجال لين‪ (.‬على قرص من إنتاج صخر‪ ،‬تفسير‬

‫البغوي ‪ ،‬تفسير البيضاوي‪ ،‬تفسير فتح القدير للشويكاني( مسجلة على قرص) الكشاف‬

‫للزمخشري‪ :‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪، 1،1995‬ترتيب محمد عبد السالم‬

‫شاهين‪،‬وبحواشيه أربع كتب ‪ .‬تفسير الطبري ‪ :‬جامع البيان عن تأويل القرآن‪ ،‬ألبي جعفر‬

‫محمد بن جرير الطبري‪،‬تحقيق محمود واحمد أبناء محمد محمد شاكر ‪ ،‬ط‪ ، 2‬دار المعارف ‪،‬‬

‫مصر ‪ . 1971‬سيرة ابن هشام ‪ :‬دار إحياء التراث العربي ‪،‬بيروت‪ ،‬تهذيب عبد السالم‬ ‫هارون‪ .‬تاريخ الرسل والملوك ‪ ،‬محمد بن جرير الطبري دار المعارف القاهرة ‪ .‬السيرة‬

‫الحلبية‪ :‬علي بن برهان الحلبي‪،‬دار المعارف بيروت ‪ .‬البداية والنهاية البن كثير‪ :‬دار الكتب‬

‫العلمية بيروت‪،‬ط‪ . 1988 ، 4‬أبو اسحق الثعلبي النيسابوري‪ :‬قصص األنبياء ‪،‬عرائس‬

‫المجالس‪،‬المكتبة الثقافية‪،‬بيروت ‪ .‬محمد حسني عبد الحميد‪ :‬أبو األنبياء إبرهيم الخليل‪،‬تقديم‬

‫مفتي الديار المصرية السابق‪ ،‬حسين محمد مخلوف‪ ،‬دار سعد‪ ،‬القاهرة‪،‬ط‪ . 1‬قصص األنبياء‬

‫لمحمد أحمد جاداهلل مجهول الناشر والتاريخ‪ .‬أسباب النزول‪ :‬أبي الحسن علي بن أحمد‬

‫الواحدي النيسبوري‪،‬المكتبة الثقافية بيروت‪ ،‬مجهول التاريخ ‪ .‬االتقان في علوم القرآن‪،‬جالل‬

‫الدين السيوطي وبهامشه إعجاز القرآن ألبي بكر الباقالني‪ ،‬المكتبة الثقافية بيروت‪). 1973 ،‬‬


‫‪148‬‬

‫‪-6‬‬

‫خالصة القول‬

‫داء االنفصام ‪ :‬بين الوطني و الديني‬ ‫في عام ‪ 1999‬طلع علينا الدكتور سيد القمني بكتاب من أربع أجزاء تحت عنوان " النبي‬

‫موسى وآخر أيام تل العمارنة" وهو كتاب جاد يتحدث عن جزء هام من التاريخ المصري القديم‬ ‫و يشرح في الكتاب رأيه في كثير من األمور التي تتعلق بهذا التاريخ ‪ .‬أهم موضوع يطرحه‬

‫ويبذل الجهد لتقديم البراهين والبينات القناعنا به هو موضوع عالقة الفرعون إخناتون والنبي‬

‫موسى‪.‬‬

‫بذل الدكتور القمني عبر مئات الصفحات أقصى ما يستطيع ولم يبخل علينا جهدا ليقنعنا بأن‬

‫النبي موسى و الفرعون إخناتون هما شخصية واحدة‪ ،‬إخناتون هو النبي موسى والنبي‬

‫موسى هو إخناتون ‪ .‬لقد كانت العالقة بين النبي موسى والفرعون إخناتون أو بين التعاليم‬

‫الموسوية وتلك االخناتونية موضوعا للبحث منذ أعوام وجاء الدكتور القمني ليؤكد أن موسى‬

‫واخناتون هما شخصية واحدة ‪.‬‬

‫الدكتور القمني يعي تماما ماذا يعني ذلك ‪ ،‬والدكتور القمني يعي أيضا في أي مجتمع يعيش‬

‫وما هي مساحة الديموقراطية و حرية الرأي في هذا المجتمع ولذلك نجده يقول في مقدمة‬

‫كتابه (ص‪ " : ) 15:‬ما يجب هنا التوكيد عليه واعالنه واضحا أنه رغم وجود بعض أوجه‬

‫الشبه في تفاصيل قصة موسى بين التوراة والقرآن‪ ،‬فإن أوجه الخالف بدورها كبيرة‪ ،‬سواء في‬

‫الرؤية العامة لمفهوم األلوهية أو النبوة ‪ ،‬مع خالفات أساسية حول بعض التفاصيل والدقائق‪.‬‬ ‫وهو ما يجعل من موسى التوراتي شخصا آخر يختلف اختالفا بينا وحادا عن موسى القرآني‪،‬‬ ‫ومن هنا نقول بل ونعلن أن بحثنا هذا يتناول شخص موسى كما ورد بالتوراة وبقية العهد‬

‫القديم فقط ‪ ،‬وال عالقة لبحثنا بشخص النبي الجليل موسى الكليم عليه أفضل الصلوات وأزكى‬

‫السالم ‪ ،‬ال من بعيد وال من قريب ‪ ،‬واذا وجد القارئ متناثرات نادرة عن النبي موسى ‪ :‬كما هو‬ ‫في االسالم ‪ ،‬فإن ذلك جاء على سبيل االستضاءة ليس إال‪ ،‬وال يعني أننا نتحدث عن موسى‬

‫كما هو في االسالم ‪.‬‬

‫الحقيقة هي أن الدكتور القمني وضعني كقارئ في مأزق ال أعرف الخروج منه‪،‬فأنا أفهم كل‬ ‫الفهم أن شخصية ( البروفايل) النبي موسى القرآنية تختلف عن تلك التوراتية‪ .‬الحقيقة أن‬

‫شخصية األنبياء من إبراهيم إلى داود وسليمان تختلف في القرآن عنها في التوراة‪ ،‬ولكن إذا‬


‫‪149‬‬

‫كان موسى ‪،‬كإنسان من لحم ودم‪ ،‬هو الفرعون أخناتون نفسه‪ ،‬أال يعني ذلك ‪ -‬بغض النظر‬ ‫عن الفرق بين تفاصيل شخصيته المرسومة في القرآن الكريم وفي التوراة‪ -‬بأن موسى‬

‫القرآني هو أيضا الفرعون أخناتون ‪ ،‬هل قال الدكتور القمني ما قال تقية و تجنبا لنهش‬

‫أولئك الذين نصبوا أنفسهم الناطقين الرسميين باسم مقدسنا وأعطوا ألنفسهم وألنفسهم فقط‬

‫الحق في الحديث في أمور الدين؟ واذا كان الجواب نفيا فهل هناك شخصان مختلفان‪ ،‬وأعني‬ ‫شخصان من لحم ودم ‪،‬باسم النبي موسى واحد قرآني واآلخر توراتي ؟‬

‫السؤال الذي يراودني هو ماذا يضير مقدسنا لو كان النبي موسى هو فعال الفرعون إخناتون؟‬ ‫القرآن الكريم لم يحدد أهل وقوم النبي موسى وال من هو أبوه وال من هي أمه ولم يؤكد لنا‬

‫أنه إسرائيلي أو عبري‪ ،‬ولو كان كل ذلك مهما لسياق القصة لذكرها‪.‬‬

‫لقد أعطانا القرآن الكريم عن موسى المعلومات التي رآها ضرورية لسياق القصة وأهدافها‬

‫وعبرها ولو رأى أن الحديث عن أصول موسى العرقية ضروري لذلك لذكره‪.‬ما نعرفه عن موسى‬ ‫هو أنه شب في قصر فرعون وأنه كان موحدا مؤمنا باهلل ‪ ،‬منحه اهلل حكمة ونبوة وقارع‬

‫فرعون وتحداه مدافعا عن وحدانيته وايمانه باهلل الواحد األحد‪ ،‬وأنه عندما خرج من مصر خرج‬

‫معه بني إسرائيل الذين كانوا لسبب ال نعرفه مضطهدين في مصر‪ ،‬وأن بني إسرائيل رغم‬

‫مساعدته وانقاذه لهم خذلوه عدة مرات وعادوا لعبادة االصنام ‪.‬‬

‫لقد اعتبر كثير من المؤرخين والباحثين‪ ،‬ومنهم عرب مسلمون ال يشك في إسالمهم‪،‬أن موسى‬ ‫كان مصريا‪ ،‬جنسا ومنشأ وثقافة‪ ،‬وان اختلفوا في الوظيفة التي كان يقوم بها في مصر ‪.‬‬

‫بعضهم قال أنه كان كاهنا وآخرون أنه كان أمي ار ‪ ،‬وقال البعض أنه كان ضابطا في جيش‬

‫فرعون‪ ،‬وأنه‪ ،‬في أي موقع كان‪ ،‬تأثر بتعاليم سيده الفرعون إخناتون‪ ،‬وجاء القمني ليضيف‬

‫بأن موسى لم يكن مصريا فقط ‪ ،‬تأثر بتعاليم إخناتون‪ ،‬وانما كان هو إخناتون نفسه‪ .‬ولكن‬

‫لم يجب أحد من هؤالء الباحثين عن سؤال مهم ‪ :‬لماذا صمتت الوثائق المصرية على كثرتها‬ ‫وكثرة المعلومات التفصيلية فيها‪ ،‬صمتا تاما ومطبقا‪،‬عن أي ذكر لموسى في وثائقها ولو‬

‫تلميحا أو إيحاءا؟ كما صمتت صمتا تاما عن أي ذكر ليوسف وأهله في مصر‪.‬‬

‫ال تحدثنا اآليات القرآنية كيف مات موسى وأين دفن‪ ،‬كما ال يوجد ذكر ألي رجل اسمه يشوع‬

‫بن نون‪ ،‬خلف موسى في قيادة اإلسرائيليين و قادهم في حملة على فلسطين فهدم مدنها و‬

‫واستباحها وقتل أهلها وأباد زرعها‪ .‬كما ال تحدثنا اآليات القرآنية عن مكان وحدود مملكة داود‬

‫وسليمان وأين قامت ‪.‬‬

‫الذي وضع موسى في إطار العائلة والقبلية وأصر على أنه إسرائيلي أو عبري هم كتبة‬

‫ورواة التراث االسالمي متأثرين بالموروث التوراتي وبالرواة اليهود وفي بعض األحيان‬


‫‪150‬‬

‫معتمدين على أحاديث نسبت إلى رسولنا الكريم مشكوك في نسبتها إليه‪ .‬وكتبة التراث هم‬

‫الذين تحدثوا عن ما يسمى يشوع وعن احتالل اإلسرائيليين لفلسطين تحت قيادته‪ ،‬تماما كما‬ ‫ورد في التوراة‪ .‬هم الذين جعلوا من داود و سليمان ملوكا على مملكة أسطورية‪،‬وصلت‬

‫حدودها الشام مرو ار بالعراق وكامل فلسطين‪ .‬كتبة التراث االسالمي هم الذين جعلوا من بني‬

‫إسرائيل خير زمانهم ‪.‬‬

‫نحن أمام معضلتين متال زمتين ومتداخلتين‪،‬أحدهما علمية والثانية وطنية وكالهما تحتاجان إلى‬ ‫تنشيط كل الوسائل العصرية المتاحة لدينا لحلهما‪ .‬ففي عقر دارنا يقبع عدو شرس ال‬

‫أخالقي‪،‬يعشش في مخيلته أساطير أعطى لنفسه على أساسها حق تاريخي مزيف المتالك‬

‫جميع األرض العربية‪ ،‬بصفتها أرض الميعاد وأرض األجداد ‪.‬‬

‫مصدر هذه األساطير كتاب" مقدس" أثبت علم التاريخ الحديث‪ ،‬عن زيف محتوياته وأنه غير‬

‫منزل من السماء وانما كتبه بشر على األرض زيفوا فيه وقائع التاريخ تزيفا رهيبا ليكون في‬

‫خدمة عقيدة لهم‪،‬عنصرية شوفينية تقوم على رفض اآلخر‪ ،‬وليصنعوا تاريخا لمن لم يكن لهم‬

‫تاريخ‪..‬‬

‫يقول توماس تومسون‪ " :‬إن كثي ار من الحكاية والشعر التوراتيين يضع امتالك األرض واألمة‬

‫بين موضوعاته األكثر مركزية‪ .‬ثمة القليل جدا من األحياء اليوم الذين ليست لديهم فكرة حية‬

‫عن مدى أهمية هذين العنصرين من التوراة بالنسبة إلى السالم والحرب في فلسطين واسرائيل‬ ‫منذ نهاية الحرب العالمية األولى ‪ ،‬عندما تحول السجال إلى تساؤالت بخصوص ‪ :‬لمن أعطى‬ ‫يهوه هذه األرض أوال‪ ،‬أو كيف يمكن استخدام قصص "التوراة" لتسويغ الق اررات والسياسات‬

‫التي هي عندما تقع في التاريخ وليس في القصة‪،‬تعد جرائم بحق االنسانية‪ ، "....‬ويتابع " أنه‬ ‫ثمة أفكار قليلة مسؤولة عن جرائم أكثر من هذا المفهوم الديني الحصري لألثنية‪ .‬ال يمكنني‬

‫أن أتخيل فك ار واحدا اختلقه البشر أكثر دموية من الناحية التاريخية من هذا المجاز الموجه‬ ‫عائليا ألمة مع إلهها‪ ( ".‬الماضي الخرافي‪ :‬نفس المصدر‪ ،‬ص‪) 28:‬‬

‫ثم جاء تراثنا االسالمي ليضع ختمه على هذه األساطير ويعطيها إطا ار تاريخيا‪ ،‬وصفة قدسية‬

‫ليست له‪ ،‬وليحدثنا عن بني إسرائيل الذين كانوا أسياد زمانهم والذين حكموا األرض‬

‫كلها‪،‬وليزرع في مخيلتنا‪،‬ومخيلة أطفالنا أسطورة شعب اهلل المختار‪ ،‬وأسطورة ممالكه وملوكه‬

‫الذين امتد ملكهم من العراق مرو ار بالشام وفلسطين إلى أرض الحجاز واليمن‪ .‬ثم نقوم بتالوة‬ ‫القصص اإلسرائيلية على أطفالنا ونربيهم على بطوالت شمشون اليهودي الذي قهر‬

‫الفلسطينيين وبطوالت داود اإلسرائيلي الذي قتل جالوت الفلسطيني‪ ،‬ونحدثهم عن مذابح‬

‫أجدادنا اهل فلسطين على يد من سميناه النبي يشوع بن نون والذي بنينا له ضريحا نزوره‬


‫‪151‬‬

‫تعظيما له على مذابحه االسطورية ألجدادنا األوائل وهدمه وحرقه قرى فلسطين ومدنها‪،‬و‬

‫مثلها كثير‪ ،‬حيث يقف تراثنا دائما في صف بني إسرائيل الذين يصفهم ب " المؤمنين األتقياء"‬

‫ضد جميع أجدادنا األوائل الذين سكنوا هذه المنطقة من العراق إلى مصر والذين يصفهم تراثنا‬ ‫ب" الكفرة الزناديق" ويحلل قتلهم وطردهم على أيدي المؤمنين األبرار زينة خلق زمانهم بني‬ ‫إسرائيل‪ .‬و في الوقت الذي تثير فينا نجمة داود القشعريرة لما تمثله من قتل شعبنا وسلب‬

‫أرضنا‪ ،‬نتحدث بفخر عن داود اإلسرائيلي‪ ،‬الذي قهر الفلسطينيين وعن دولته االسرائيلية التي‬ ‫أقامها في فلسطين ووسعت المنطقة كلها وذاع صيتها في العالم‪ ،‬وفي الوقت الذي يعلن فيه‬

‫الصهاينة أن يشوع هو مثلهم األعلى في التعامل مع الفلسطينيين‪ ،‬وتحليل إبادتهم‪ ،‬نحدث‬

‫أطفالنا عن النبي يشوع المزعوم ونأخذهم لزيارة ضريحه تكريما له‪ ،‬وبذلك نزرع في نفوس‬ ‫أطفالنا وشبابنا داء االنفصام بين الديني والوطني‪ ،‬بين األسطورة والتاريخ ‪.‬‬

‫لم تدخل اإلسرائيليات في كتب التراث والتفسير فقط ‪،‬ولكنها دخلت كذلك في كتابات‬

‫المؤرخين العرب المعاصرين وفي كتب القصص الموجهة لألطفال و للجيل العربي الصاعد كما‬

‫دخلت في حكاياتنا وقصصنا وأفالمنا وأحاديث سمرنا‪.‬‬

‫عندما نق أر مثال كتاب جاد اسمه العرب واليهود في التاريخ للمرحوم للدكتور أحمد سوسة فإننا‬ ‫نجد مثال تحت عنوان " أريحا" في الصفحة( ‪ ) 767‬ما يلي‪ :‬مدينة كنعانية قديمة يعدها‬

‫الخبراء أقدم مدن العالم ‪ .‬ويتابع وكانت أريحا أول مدينة حاصرها الموسويون بزعامة يشوع‬ ‫وافتتحوها عنوة بعد عبورهم نهر األردن ثم أحرقت بكل ما فيها ما عدا آنية الذهب والفضة‬

‫والنحاس والحديد التي نقلت إلى خزائن الرب‪ ،‬وقد أعيد بناء المدينة في عهد آخاب بن عمري‪،‬‬

‫ويضيف الكاتب بين قوسين‪ (،‬ملك إسرائيل بعد االنقسام )‪ .‬وتحت عنوان ايلة في الصفحة‬

‫‪ 774‬نجد ‪ :‬ميناء في رأس خليج العقبة بناه األدوميون ‪ ،‬ويتابع وقعت في أيدي الموسويين‬

‫في زمن الملك داود ( ‪ 910-1004‬ق‪.‬م)‪ ،‬استرجعها األدوميون في زمن يهورام ملك يهوذا (‬

‫‪ 841 -848‬قم) ثم أخذها منهم عزيا ملك يهوذا ‪ 715-735(0‬ق‪.‬م)‪ .‬ونجد تحت عنوان‬ ‫بيت شان ( بيسان ) ص ‪ : 781‬مدينة كنعانية تعرف اليوم باسم بيسان وقد سماها النبي‬

‫هوشع " بيت أون " أي مدينة األصنام ‪ .‬وغيره كثير ال مجال لذكره هنا ‪ .‬ومن الواضح أن كل‬ ‫هذه المعلومات‪ ،‬كما نجد في مرجع المصادر التي أوردها المؤلف مستقاة من التوراة‪.‬‬ ‫ويصف كتاب معد لألطفال والجيل الناشئ( من سلسلة قصص من القرآن في أسلوب‬

‫عصري‪،‬تأليف محمد كامل حسن المحامي‪ ،‬منشورات المكتب العالمي للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت)‬

‫مملكة سليمان بقوله‪ ":‬والمعروف أن ملك النبي سليمان كان متسعا وكان ينتقل من قطر إلى‬

‫آخر في مملكته الواسعة على بساط الريح ويؤكد على أن مقره األساسي كان بيت المقدس‬


‫‪152‬‬

‫وكان يطير على بساط الريح من بيت المقدس إلى الشام واليمن في رحالت ترفيهية في ربوع‬ ‫مملكته"‪ .‬ولم نورد كتاب سوسة وكتيب محمد كامل حسن إال لنضرب مثال على دخول‬

‫االسرائيليات في كتب التاريخ العربي الحديثة وفي الكتب التوجيهية والتثقيفية ألطفالنا وشبابنا‪،‬‬ ‫مع أن األمثلة كثيرة جدا وال مجال لحصرها‪ ،‬فيكفي أن نستمع إلى المحطات العربية المسموعة‬

‫والمرئية‪ ،‬وأن نستمع إلى خطب المساجد لنكتشف القدر الهائل من اإلسرائيليات التي تزرع في‬

‫مخيلتنا وفكرنا صباحا مساءا‪.‬‬

‫المصدر الوحيد الذي يؤرخن عظمة بني إسرائيل وعظمة ممالك بني إسرائيل وملوكها هو‬

‫التوراة‪ .‬وعلم التاريخ الحديث بوثائقه وحفرياته ونصوصه أثبت كما مر معنا أن هذه األحداث‬ ‫ملفقة من كتبة التوراة وأنه أصبح من الواضح لعلماء التاريخ الحديث أنه ال يمكن األخذ‬

‫بالتوراة كمصدر موثوق به لكتابة تاريخ فلسطين والمنطقة وأنه ال يمكن اعتبار التوراة مصد ار‬

‫تاريخيا‪.‬‬

‫الحقائق التاريخية تقول أنه ال مكان في تاريخ فلسطين القديم لدولة موحدة على ترابها تحت‬

‫أي اسم كان سواء تحت اسم مملكة شاول أم داود أم سليمان‪ ،‬وأن هذه الممالك أسطورية من‬

‫صنع الخيال‪ ،‬وأن هذا الخيال األدبي أستغل من قبل كتبة التوراة من أجل إيصال هدفهم‬

‫الالهوتي‪ .‬فلماذا يصر كتابنا و مؤرخوننا على البحث عن تاريخ بلدنا بين دفتي التوراة‪ .‬قد‬ ‫نفهم الدافع الذي دفع رواة وكتبة التراث إلى االستعانة بالتوراة واليهود في تفسير اآليات‬

‫القرآنية ‪ ،‬فلقد كانت أطرهم المعرفية محدودة جدا‪ ،‬وفجأة وجدوا أنفسهم أمام حديث عجزوا عن‬ ‫فهمه وان كان بلغتهم فاستعانوا باليهود والتوراة لتفسيره‪ ،‬فما حجة كتبة ومؤرخي أهل عصرنا‬ ‫من العرب والمسلمين‪ ،‬وعلم التاريخ الحديث يقف بجانبهم ويرفض طروحات أعدائهم المبنية‬

‫على األسطورة والذين أقاموا لهم بناءا على هذه األسطورة حقا مقدسا في وطننا؟‬

‫أنا أعي تماما أن البحث في هذه المواضيع سيثير حفيظة سالطين ودكتاتوريات الخطاب‬

‫الديني الذين نصبوا أنفسهم المتحدثين الرسميين باسم المقدس‪ ،‬وسيعتبرون مجرد الحديث‬

‫في هذا الموضوع خارج على الدين كما رسموه وأقاموا له الحدود‪ ،‬ولكن يا سادة حقائق العلم‬ ‫ال ترحم ‪ ،‬ونحن في ورطة‪ ،‬وأمام معضلة يجب أن نجد لها حال يقبله العلم والعقل‪.‬‬

‫عندما سألت أحد الشيوخ عن رأيه في هذا الموضوع نهرني وقال لي أن ال أتدخل في ماال‬

‫يعنيني‪ ،‬وكأنما األمر يعنيه هو فقط ومن نصبوا أنفسهم الناطقين الرسميين باسم المقدس‪.‬‬

‫وعندما أخبرته أن اهلل سبحانه خلق لي العقل حتى أفكر به‪ ،‬قال ‪ :‬نحن ال نمنعك من التفكير‬

‫ولكن ال تجهر برأيك وابقه لنفسك ‪ .‬ولكن كيف يمكن الصمت عن أمر يتعلق بمقدسنا‬

‫وبمستقبل وطننا وأمتنا‪ ،‬والتفسير التراثي للنصوص المقدسة التي تتعلق ببني إسرائيل يحدث‬


‫‪153‬‬

‫تناقضا شديدا في فكر المسلم لدرجة مرض " الشيزوفرينيا" أو مرض االنفصام‪ ،‬كنتيجة‬

‫للتضارب بين الوطني والديني و بين الحقائق التاريخية وبين معتقد مبني على تفسيرات‬

‫توراتية‪.‬‬

‫خطابنا الديني المعاصر‪ ،‬يسمح لك بأن تعطي رأيك علنا بالدين المسيحي وأن تقول ما يحلو‬ ‫لك في التوراة واالنجيل كأن تقول أن التوراة مزورة كتبها بشر زوروا في نصوصها تاريخ‬

‫المنطقة ‪ .‬يسمح لك أن تقف على منصة المسجد وتعلن‪" :‬ربي اكسر شوكة النصارى وشتت‬ ‫شملهم " بحرية تامة من دون خوف من العقاب‪ ،‬أما إن أعطيت رأيك مثال بتفسير سورة "‬

‫الفيل " حسب معطيات عالمنا الفكري المعاصر وأدواته الجديدة‪،‬وكان رأيك مخالفا لرأي الخطاب‬ ‫الديني الرسمي‪ ،‬فإنك ستتهم فو ار بالكفر واإللحاد والزندقة‪ ،‬وتجبر زوجتك على الطالق منك‬

‫وتعرض نفسك ألقصى العقوبات وحتى القتل‪.‬‬

‫النصوص الدينية بحاجة ألن تق أر في سياقاتها التاريخية‪ ،‬وأحد أهم مظاهر السياقات‬

‫التاريخية هو العالم الفكري الذي خاطبته ونشأت فيه ‪ ،‬والمظاهر األخرى تتعلق بالعالم الفكري‬ ‫الذي تق أر فيه هذه النصوص‪ .‬ال يمكن فهم النص القرآني بمعزل عن فهم الواقع الفكري‬

‫واالجتماعي والسياسي الذي خاطبته هذه النصوص ‪ ،‬هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن قراءة‬

‫النص القرآني تختلف باختالف الواقع الفكري للقارئ واألدوات الفكرية المتاحة في زمن قراءته‪.‬‬ ‫إن قراءة النص القرآني في العالم الفكري للقرن السابع الميالدي‪ ،‬يجب أن تختلف عنه في‬

‫العالم الفكري للقرن العاشر الميالدي‪ ،‬ويجب أن تختلف اختالفا شاسعا عن قراءتنا له في‬

‫عالمنا الفكري المعاصر‪.‬‬

‫ال يكفي اليوم أن نقول بظاهر النص المقدس ‪ ،‬ويجب أن ال يبرر خوفنا على قدسية وصفاء‬

‫هذا النص أن يدفعنا بالقبول قس ار بظاهر النص‪ ،‬أو بقبول تفسير وشروحات السلف‬

‫للنص‪،‬فنضعه في إطار متحجر ضيق ونعرضه إلى التعارض مع المعلومات العلمية المتجددة‬

‫على الدوام ‪ .‬إن التعارض الظاهر بين النص القرآني وبين الحقائق العلمية العصرية‪ ،‬ليس‬

‫ذنب النص القرآني وانما ذنب قراءتنا الخاطئة له‪ ،‬ويجب إعادة قراءته على ضوء عالمنا‬

‫الفكري المعاصر‪ ،‬وأدواته الجديدة‪ .‬وعلى ذوي االختصاص الخروج من سياسة النعامة‬

‫واالعتراف بأننا نواجه مشكلة في حاجة إلى حل‪ ،‬وعدم طمسها بغبار التكفير والتهجير والتنفير‬ ‫‪ .‬على ذوي االختصاص شحذ كل األدوات العلمية واللغوية واالجتماعية والدينية المعاصرة من‬ ‫أجل قراءة جديدة للنص القرآني تنفض عنه غبار الكم الهائل من اإلسرائيليات‪ ،‬وتعيد إليه‬

‫صفاءه و رونقه ‪.‬‬


‫‪154‬‬

‫في الحقيقة أن منهج التفكير الذي يترك مساحة كبيرة جدا للجانب الديني عند الحديث عن‬

‫الوطن والوطنية ليس حك ار على المسلمين والخطاب االسالمي‪ ،‬وانما طال كذلك قطاعا من‬ ‫األخوة المسيحيين األصوليين العرب الذين تأثروا كذلك بنصوص العهد القديم باعتبارها‬

‫نصوصا إلهية مقدسة‪ ،‬واعتبارها جزءا من الكتاب المقدس للمسيحيين في العالم بمختلف‬

‫كنائسهم ‪ .‬لقد طغى عند هؤالء في كثير من المواقف‪ ،‬الديني على الوطني مما أحدث خلال‬

‫دائما في الرؤية أدى إلى مواقف غير وطنية ومضرة ضر ار شديدا بالوطن ووحدته وأعطى‬

‫ألعدائه الفرصة الستغاللها في تحقيق مطامعه في وطننا‪ .‬ورغم رفضنا ألدوات الخطاب‬

‫الديني االسالمي في التعامل مع المواطنين العرب المسيحيين‪ ،‬الذين نعتبرهم جزءا ال يتج أز من‬

‫هذا الوطن بغض النظر عن نسبتهم العددية فيه‪،‬ونرفض اعتبارهم أهل ذمة كما يدعوهم رموز‬

‫الخطاب االسالمي‪ ،‬أي في ذمة المسلمين وحتى وصل الحد عند بعض رموز الخطاب الديني‬

‫االسالمي بأن يعلنوا بأن على المسيحيين دفع الجزية باعتبارهم أهل ذمة في البالد االسالمية‪.‬‬ ‫فإننا في نفس الوقت نرفض اعتبار بعض المسيحيين العرب‪ ،‬للمسيحية‪ ،‬هوية وطنية لهم‬

‫تعلو على الهوية الوطنية والقومية‪ .‬ولقد مر معنا كيف أن عددا من المسيحيين الفلسطينيين‬ ‫اشتركوا كأعضاء نشيطين في السفارة العالمية المسيحية التي شكلها المسيحيون الصهاينة‬ ‫برئاسة فان هوفن‪ ،‬والتي تدعو إلى هجرة اليهود إلى فلسطين وتعمل على دعم المطامع‬

‫االسرائيلية في فلسطين من منطلق اإليمان بدور اليهود المقدس في التحضير لقدوم المسيح‬

‫المنتظر‪ ،‬و إلى جانب هؤالء فإننا نلتقي في أوروبا وكندا وأمريكا بجمعيات مسيحية لبنانية‬

‫ومصرية تعتبر الهوية المسيحية هويتها الوطنية وتطالب بموطنة هذه الهوية‪ ،‬وان كان رفاقهم‬ ‫في الوطن األم يهمسون بتلك األفكار باستحياء أو بشكل غير مباشر وفي بعض األحيان كرد‬

‫انفعالي على الخطاب االسالمي األصولي الذي يدعو إلى أمة االسالم ‪ ،‬فإن هذه الجمعيات‬

‫تعلنها بصراحة وبصوت عال ال يترك ألحد المجال في الشك في نواياهم ‪ .‬وعلى سبيل المثال‬

‫وصلني بالبريد االلكتروني من صديق لي يقيم في كندا منشور لجماعة من المسيحيين األقباط‬

‫في كندا تعتبر مصر أرضا قبطية محتلة من قبل العرب المسلمين‪،‬و تطالب بتحريرها‪ ،‬كما‬

‫تطالب دول الغرب بمساعدة األقباط المصريين الذين يرزحون تحت االحتالل العربي المسلم‬ ‫في نضالهم التحرري ويطالبون هذه الدول بمقاطعة مصر سياسيا واقتصاديا‪.‬‬

‫لن أدخل هنا في بحث العالقة المسيحية المسلمة في مصر ولبنان وغيرها من الدول العربية‪،‬‬

‫فأنا أعترف أنني ال أملك األدوات لمثل هذا البحث وانما كل ما أردت أن أقوله أن منهج التفكير‬ ‫الذي يسيطر فيه الديني على مساحة ضخمة عند الحديث عن الوطني مما يوقع في داء‬

‫االنفصام بين الوطني والديني ويؤدي إلى خلل دائم في الرؤيا‪ ،‬ليس حك ار على المسلمين وانما‬


‫‪155‬‬

‫هو منهج قطاع ال بأس به من المسيحيين العرب‪ ،‬وخاصة في مصر ولبنان‪ .‬فإذا كان‬

‫لإلسرائيليات حيز كبير في التراث االسالمي‪ ،‬فإنها تستولي على أكبر مساحة من الكتاب‬

‫المقدس المسيحي‪ .‬وعلى المسيحيين العرب أن يعوا حقيقة أن نصوص التوراة أو العهد‬

‫القديم ال تتحدث عن حقائق تاريخية في المنطقة وانما عن خيال مختلق من أجل هدف‬

‫الهوتي‪ ،‬وأن ال يقعوا في شرك أن اإليمان المسيحي يعني بالضرورة اإليمان بتاريخية‬

‫نصوص التوراة‪ .‬كما عليهم أن ال يقعوا في شرك األفكار الصهيونية‪ ،‬سواء اليهودية أو‬

‫المسيحية‪،‬التي تعطي لليهود رسالة إلهية خاصة من أجل عودة مسيح مزعوم ‪ .‬هذه األفكار‬ ‫تعني شيئا واحدا هو اغتصاب األرض العربية وطرد أهلها العرب منها باختالف عقيدتهم‬

‫الدينية‪.‬‬

‫ومن ناحية أخرى لماذا يصر بعض المؤرخين والباحثين العرب في الرد على االدعاءات‬

‫الصهيونية على اعتبار أن كل الشعوب التي سكنت هذه المنطقة كانوا عربا‪ ،‬فالكنعانيون‬

‫عرب والعماليق عرب والهكسوس عرب والنبي إبراهيم وساللته عرب ‪ ،‬فهل يفيد ذلك قضيتنا‬

‫المصيرية وصراعنا مع المطامع الصهيونية‪ .‬برأيي المتواضع نحن أحفاد وورثة كل الشعوب‬

‫التي سكنت هذه المنطقة من الكنعانيين واليبوسيين والمصرين القدماء واآلشوريين والبابليين‬ ‫والحثيين والحوريين و اليونان و الرومان وغيرهم من الشعوب والقبائل التي احتلت هذه‬

‫المنطقة وسكنت فيها‪ ،‬بما فيها الشعوب والقبائل العربية‪،‬والتي اختلطت ببعضها فتزاوجت من‬

‫بعضها وتأقلمت مع بعضها في بوتقة المنطقة األم فتمخضت عن الشعب العربي الحالي سواء‬ ‫الفلسطيني أو غيره من شعوب هذه المنطقة‪ .‬نحن أمة عربية إسالمية بالثقافة واللغة وال‬

‫يضيرنا أنه يجري في عروقنا دماء كل تلك الشعوب التي سكنت هذه المنطقة‪ .‬نحن األحفاد‬

‫الشرعيون لكل تلك الشعوب‪،‬التي تمخضت وخلفتنا‪ ،‬ونحن عرب بلغتنا وثقافتنا وتاريخنا‬

‫المشترك ‪ ،‬وأبناء كل الحضارات التي مرت في المنطقة وورثتها الشرعيون و الوحيدون‪.‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.