The olive trees in palestine are still standing

Page 1

‫‪1‬‬

‫أشجار الزيتون ال تزال في فلسطين واقفة‬

‫حكايات من فلسطين أو من وحيها‬

‫د‪ .‬نضال عبدالقادر الصالح‬


‫‪2‬‬

‫مقدمة‬ ‫فلسطين عنوان لحكاية الحكايات‪ ،‬حكايتها طويلة متشعبة ليس لها نهاية‪ .‬كل شيء‬ ‫في فلسطين له حكاية‪ ،‬كل حجر فيها له حكاية وكل شجرة فيها لها حكاية وكل شارع‬ ‫وزقاق وبيت له حكاية‪ .‬شجرة الزيتون بحد ذاتها سجل تاريخ من الحكايات‪ ،‬فعلى‬ ‫جذوعها سجل تاريخ هذا البلد وأسماء كل الذين اغتصبوها ثم رحلوا وبقيت هي‬ ‫شامخة متعالية‪ ،‬وفي جذورها سجل كل من الذ إليها وذاب في ترابها فاحتضنته‬ ‫ومنحته إسمها‪ .‬في أوراقها الدائمة الخضرة دليل على دوامية وجودها وفي ثمارها‬ ‫عصير دموع أهلها التي ذرفتها على مر السنين‪.‬‬ ‫ولدت عام ‪ 1936‬في مدينة نابلس في فلسطين‪ ،‬وكان ذلك في أوج الثورة‬ ‫الفلسطينية ضد اإلستعمار البريطاني وضد الهجرة اليهودية إلى فلسطين ووالدتي‬ ‫لها حكاية‪.‬‬ ‫تدور بين األهل رواية‪ ،‬أن قتاال ضاريا دار في شوارع نابلس‪،‬يوم والدتي‪ ،‬بين‬ ‫الثوار والمحتلين البريطانيين‪ ،‬من ما منع الداية من الحضور إلى بيتنا‪ ،‬فما كان من‬ ‫والدي إال أن حمل والدتي وذهب بها إلى المستشفى القريب حيث جرت عملية‬ ‫والدتي‪ .‬تقول الرواية أيضا أن رصاصة دخلت إلى الغرفة التي كنت راقدا فيها‬ ‫واستقرت في سريري‪ ،‬ولقد حفظ والدي الرصاصة وقد كتب عليها إسمي وتاريخ‬ ‫ميالدي‪ .‬قرر والدي تسميتي نضال ألنني‪ ،‬حسب قوله‪ ،‬ولدت في يوم من أيام نضال‬ ‫الشعب الفلسطيني في سبيل استقالله وحريته‪.‬‬ ‫حسب ما أذكر لم ألق في طفولتي وحتى في شبابي المبكر أي شخص يحمل هذا‬ ‫اإلسم ولم أجد لحد االن حامال لهذا اإلسم يكبرني عمرا‪ .‬بقي هذا اإلسم نادرا لسنين‬ ‫طويلة ومن ثم بدأ بالظهور كإسم مذكر ومؤنث‪ ،‬ولكنني لم ألق‪ ،‬إلى وقت قريب‪ ،‬أي‬ ‫شخص‪ ،‬رجال كان أو إمرأة‪ ،‬يحمل اسم نضال عبدالقادر الصالح‪ ،‬غيري‪.‬‬ ‫قبل عدة أعوام وصلتني رسالة على عنوان بيتي في سلوفاكيا معنونة باسم الدكتور‬ ‫نضال عبدالقادر الصالح وهو اسمي الكامل‪ .‬عندما نظرت إلى المرسل وجدته يحمل‬ ‫نفس اإلسم نضال عبدالقادر الصالح‪ ،‬فاعتقدت أن خطأ ما قد حصل‪ .‬ولكنني عندما‬ ‫فتحت الرسالة وأخذت أقرأ محتوياتها دهشت من أن المرسل يحمل فعال نفس اإلسم‪.‬‬ ‫تبدأ الرسالة بعد السالم بالقول‪ ":‬إنني أسارع فأفجؤك قائال أن مرسل هذا الخطاب‬ ‫إليك هو أنا " نضال عبدالقادر الصالح" والذي بوغت‪ ،‬نعم بوغت ‪ ،‬حين وقعت‬ ‫عيناي في إحدى الصحف اللبنانية على مراجعة كتاب بعنوان " هموم مسلم"‬ ‫بتوقيع الدكتور نضال عبدالقادر الصالح ولقد استعرت هذه المباغته حين تأكد لي ‪،‬‬ ‫وأنا أرى الكتاب‪ ،‬أن المسالة ليست خطيئة مطبعية ‪ ،‬أو تزويرا أريد من خالله نسبة‬ ‫كتاب ليس من صنيعي إلي‪ .‬وكان أن سارعت إلى السيد بشير الداعوق ‪ ،‬في دار‬


‫‪3‬‬

‫الطليعة التي نشرت الكتاب‪ ،‬أستفسره عن الموضوع‪ ،‬فتفضل بإعالمي بأن نضال‬ ‫عبدالقادر الصالح اآلخر‪ ،‬الذي هو أنت ‪ ،‬حقيقة‪ ،‬ثم تفضل بتزويدي بعنوانك في‬ ‫سلوفاكيا‪ ،‬فسارعت إلى كتابة هذا الخطاب إليك"‪.‬‬ ‫تحدث نضال عبدالقادر الصالح اآلخر في رسالته عن نفسه وعن إختصاصاته‬ ‫ومجال عمله‪ ،‬فهو سوري من مواليد مدينة حلب سنة ‪ ،1957‬يحمل"وقتها"‬ ‫شهادة الماجستير في النقد األدبي الحديث وكان يعد أطروحة لنيل شهادة الدكتوراة‬ ‫في النقد األدبي الحديث بعنوان " النزوع األسطوري في الرواية العربية‬ ‫المعاصرة"‪ .‬كما عرفت من الرسالة أن لسميي عدة مؤلفات في األدب والنقد‪.‬‬ ‫في الحقيقة أنني بدوري بوغت‪ ،‬فإسم نضال الصالح اسما نادرا‪ ،‬أما أن يكون اإلسم‬ ‫مطابقا إلسمي بالكامل فإن المباغتة أدهشتني ‪.‬ومنذ ذلك اليوم وأنا أتابع المسيرة‬ ‫األدبية والنقدية لنضال عبدالقادر الصالح اآلخر ‪ ،‬ولقد سررت بنجاحاته األكاديمية‪،‬‬ ‫فلقد حصل على شهادة الكتوراة بامتياز وأصبح نائبا لعميد كلية اآلداب والعلوم‬ ‫اإلنسانية الثانية في جامعة حلب للشؤون العلمية وعضوا في عدة جمعيات‬ ‫ومؤسسات تهتم باألدب والنقد‪ .‬كما صدرت له عدة مؤلفات في األدب والقصة والنقد‬ ‫األدبي ‪.‬‬ ‫الحكايات الموجودة في هذا الكتاب هي حكايات حقيقية عن شخوص حقيقية عاشت‬ ‫أو ال تزال تعيش في وطنها فلسطين أو في الهجرة خارجها ‪ .‬كما يوجد بعض‬ ‫القصص التي ليس لها عالقة ماشرة بفلسطين ولكنني درجتها في هذا الكتاب ألنها‬ ‫قصص إنسانية عان أصحابها ومعاناتهم ذكرتني بمعاناة شعبنا الفلسطيني‪.‬‬ ‫لم أحاول في هذه الحكايات أن أعير جل اهتمامي للحبكة القصصية وال إلى اللغة‬ ‫األدبية المعقدة‪ .‬لقد بذلت جهدي فقط في الحفاظ على الحدث ووضعه في إطار مبسط‬ ‫يسهل على القارئ العادي فهمه وتقبله فلم يكن هدفي مخاطبة األدباء والنقاد وإنما‬ ‫مخاطبة القراء العاديين‪ .‬إنني أحاول أن أظهر للقارئ بأن فلسطين ليست حماس‬ ‫وفتح ورجال السلطة فقط ‪ ،‬وإنما هي هؤالء الماليين من البسطاء الذين يفيقون في‬ ‫الصباح وفي رأسهم هموم‪ ،‬وهي كيف يجدون لقمة العيش ألطفالهم وأهلهم وكيف‬ ‫يصلون إلى عيادة الطبيب لمعاجة مرضهم او مرض احباءهم‪ ،‬وكيف عليهم تخطي‬ ‫الحواجز اإلسرائيلية‪ ،‬وكيف الوصول ألرضهم وبساتينهم لزرعها أو قطاف ثمارها‬ ‫أو حصد مزروعاتها دون أن تواجههم إعتداءات المستوطنين المتعطشين لدماءهم‪.‬‬ ‫هؤالء هم المقاومون الحقيقيون والذين يدفعون من دمهم ثمن صمودهم‬ ‫ومقاومتهم‪ .‬هم في الغالب ال يعون خبايا السياسات العربية والعالمية وسياسات‬ ‫المصالح المتبادلة والدهاليز واألروقة المحلية والعالمية‪ .‬هم يعرفون أن فلسطين‬ ‫وطنهم وال يملكون وطنا آخرا غيره وإن عاشوا خارجه وأن عليهم الصمود‬ ‫والمقاومة من أجل حمايته وحماية أطفالهم وأهلهم ومن أجل لقمة عيشهم‪ .‬هذه‬ ‫أمثلة بسيطة من حكاياهم في هذا الصراع اليومي‪ .‬حكايا ال تتحدث عنها محطات‬ ‫التلفزة وال الصحف اليومية ألنها حكايا ال تهم اإلعالم وال القائمين عليه‪.‬‬


‫‪4‬‬

‫‪.1‬‬

‫أشجار الزيتون ستظل في فلسطين واقفة‬

‫أبو خضر تجاوز الثمانين عاما‪ ،‬محني الظهر يتعكز على عصى صنعها من شجر‬ ‫الزيتون‪ ،‬محنية مثل ظهره‪ .‬تنظر إليهما فترى أثر السنين على وجوههما ورغم‬ ‫اإلنحناء الظاهر تشعر بالكبرياء الذي يفيض من داخلهما‪.‬‬ ‫شجر الزيتون في بالدنا فلسطين‪ ،‬كتاب تاريخ‪ ،‬على صفحات جذوعه سطر التاريخ‬ ‫أيام هذا البلد الممزوجة باأللم واألمل والدموع واإلنتصارات والهزائم و يحمل في‬ ‫مرارة ثماره طعم المرارة التي تركتها أقدام كل الغزاة الذين داسوا على هذه األرض‬ ‫ورحلوا بعد أن عاثوا فيها فسادا‪ ،‬وبقيت شجرة الزيتون واقفة‪ ،‬جذورها التي شربت‬ ‫من دماء أبناءها حتى ارتوت‪ ،‬عميقة في األرض كشعبها الفلسطيني‪.‬‬ ‫أبو خضر من القالئل الذين بقوا على قيد الحياة الذي يعرف بالدقة ما تركه لنا والدنا‬ ‫رحمه هللا من شجر الزيتون‪ .‬كان والدي يعشق شجر الزيتون وكلما آلت له الفرصة‬ ‫كان يشتري منها ما تيسر‪ .‬عندما كنت صغيرا كان يأخذني معه لنطل على الزيتون‬ ‫ولقد اعتاد أثناء تجواله بين أشجار الزيتون أن يترك لبس المدينة وأن يلبس القنباز‬ ‫الفلسطيني مع السروال األبيض الطويل ويشبك طرف القنباز في حزام الوسط‬ ‫لتسهيل عملية المشي بين الحبايل‪ .‬كان يعرف كل شجرة وهي بالمئات‪ ،‬وكان‬ ‫يتحدث مع شجرة الزيتون كأنها رفيقة العمر‪ ،‬يقص بعض جذوعها الناشفة ويمسح‬ ‫عنها ما علق من طين وأوساخ‪ .‬كنت أسأل والدي كيف تعرف أن هذه لنا وهذه‬ ‫لغيرنا‪ ،‬إنها بالنسبة لي متشابهة؟ كان ينظر إلي ويقول أعرفها كما أعرف أبنائي يا‬ ‫بني‪.‬‬ ‫أبو خضر اعتاد أن يسرح مع والدي ليطل على أشجار الزيتون ورغم كبره وسوء‬ ‫صحته يعرف كل شجرة ومن من اشتراها والدي‪ .‬كنت أتعجب حين يقول لي هذه‬ ‫ليست لكم‪ ،‬هذه للحاجة وسيلة أما هذه وهذه وهذه فهي لكم اشتراها والدكم من‬ ‫يونس أما هذه وهذه فهي لكم فك والدكم رهنيتها من صالح العبد وكانت ملك‬ ‫سليمان الحاج وهكذا‪ .‬ولذلك اعتدت حين أزور قريتنا أن أسرح معه ليدلني على‬ ‫أشجار الزيتون التي تركها لنا والدنا‪.‬‬ ‫في آخر زيارة لي لفلسطين دعيت من قبل قريب لي‪ ،‬مدير مدرسة قريتنا‪ ،‬على‬ ‫الغداء‪ .‬قررت أن أستغل الفرصة فاسرح مع أبي خضر لزيارة زيتوننا لعلني أتعلم‬ ‫منه شيءا جديدا‪ .‬حين وصلت القرية ذهبت لزيارته في سقيفته المصنوعة من‬ ‫الطين والقش والتي تتكون من غرفة واحدة مرتفعة يقال لها علية ومن جابية لحفظ‬ ‫القمح أو الطحين ومن مسطبة يضع فيها بعض المونة‪.‬‬ ‫وجدته جالسا على عتبة السقيفة في مالبسه الداخليه التي تتكون من سروال طويل‬ ‫و من قميص قطني بأكمام طويلة‪ .‬قام حين رآني وعانقني ودعاني إلى السقيفة‬


‫‪5‬‬

‫فطلبت منه أن نجلس خارج السقيفة فأحضر لي تنكة زيت فارغة قلبها ووضع‬ ‫عليها قطعة قماش ودعاني للجلوس‪ .‬صرخ على ابنته الوحيدة العانس أن تغلي لنا‬ ‫كاسة من الزعتر فركضت لتلبية الطلب‪ .‬طلبت منه أن يلبس ويسرح معي لنطل على‬ ‫زيتوننا‪ .‬صرخ على ابنته قائال‪ :‬نشف القمباز يابا؟ علمت أن إبنته غسلت القمباز‬ ‫الوحيد الذي يملكه وهو ينتظر أن ينشف‪ .‬بعد أن شربنا الزعتر أحضرت ابنته‬ ‫القمباز الذي لم ينشف تماما وكان فيه ثقبين بحجم القرش الفلسطيني‪ .‬قلت له‪:‬‬ ‫يلزمك قمباز جديد يا أبو الخضر‪ .‬فأجاب‪ :‬ماشي حالو يا ابن عمي‪ ،‬هو أنا رايح‬ ‫أقابل السلطان عبد الحميد‪.‬‬ ‫لبس أبو خضر القنباز الذي لم ينشف تماما معلقا بأنه سينشف في الهواء الطلق‬ ‫ووضع قدميه في حذاء اختفى لونه وتغير شكله حتى بات كما يقول أهل بلدنا‬ ‫"شحاطة أو حفاية" بثقبين لتهوية القدمين كما علق عليهما أبو الخضر‪ .‬ذهبنا إلى‬ ‫منطقة يقال لها قربوصة تكثر فيها ‪،‬إلى جانب أشجار الزيتون‪ ،‬أشجار التين والعنب‬ ‫وهي محاذية ألراضي قرية يقال لها قريوت‪ .‬وعلى رأس الجبل الذي يطل على‬ ‫قربوصة وقرية جالود حط بعض اليهود المتدينين وأقاموا لهم فيه مستوطنة‬ ‫يرهبون من خاللها ‪،‬وتحت أنظار الجيش اإلسرائيلي وبحمايته‪ ،‬أهالي المنطقة‬ ‫ويمنعونهم من الوصول إلى حقولهم وأشجارهم‪ .‬لقد ترك لنا والدي في تلك المنطقة‬ ‫بستانا يحتوي على مجموعة من أشجار الزيتون وإلى جانبها بعض من أشجار‬ ‫التين والخوخ نشفت من اإلهمال وعدم الخدمة‪.‬‬ ‫أخرجت من جيبي قلما وبحثت عن ورقة لكتابة بعض الملحوظات عن حدود البستان‬ ‫وعدد أشجار الزيتون فيه فلم أجد فسألت أبا الخضر إن كان يحمل ورقة فأخرج‬ ‫مجموعة من جيبه ووضعها في يدي‪ .‬كانت جميعها وصفات طبية لم تصرف فسألته‬ ‫عنها‪ .‬عرفت منه أن طبيب الصحة ياتي مرة كل شهر فيذهب إليه وهذا بدوره يكتب‬ ‫له عالجا ال يستطيع أبو الخضر شراءه ألنه ال يملك ماال‪ .‬نظرت إليه وسألته ما هو‬ ‫مصدر رزقه فقال‪ :‬مستورة والحمد هلل‪ .‬قلت له‪ :‬حدثني عن أمالكك! فقال‪ :‬أملك‬ ‫أرضا أزرعها قمحا تعطينا مونة العام من الطحين وأملك خمس شجرات زيتون‬ ‫تعطينا مونة العام من الزيت والزيتون وأضاف‪ :‬قلت لك مستورة والحمد هلل‪ .‬نظرت‬ ‫إليه وقلت‪ :‬أعذرني على وقاحتي وأريد أن أسألك متى أكلت لحمة آخر مرة؟ صمت‬ ‫لحظة ثم قال‪ :‬ال أتذكر ولكن أعتقد أنه منذ عامين ثم أضاف ولليش هي اللحمة؟‬ ‫جلسنا على أحجار الحبلة التي تحيط بالبستان وصمتنا كل مع أفكاره‪ .‬ثم خاطبته‬ ‫قائال‪ :‬أريد منك يا أبا الخضر خدمة أرجو أن تلبيها لي فقال‪ :‬أطلب رقبتي اعطيك‬ ‫إياها! قلت‪ :‬ال أريد رقبتك ودعها على كتفيك ولكنني أريد منك أن تأتي معي لطعام‬ ‫الغداء عند إبن عمنا مدير المدرسة‪ .‬فنظر إلي بتعجب وقال بحدة‪ :‬أتقبلها لي أن‬ ‫أذهب بدون دعوة؟ وأضاف بأنه لم يتلق أي دعوة فكيف يذهب‪ .‬قلت له‪ :‬أنا أدعوك‬ ‫وأنا أمون عليك وعليه‪ .‬فنظر إلي بشموخ وبقليل من الغضب وقال ‪ :‬له له ما كنت‬ ‫أتصور أنك ترضاها لي‪ ،‬أن أذهب إلى الغداء بدون دعوة‪.‬‬


‫‪6‬‬

‫بائت كل محاوالتي إلقناعه بالفشل‪ .‬أخرجت من جيبي خمسمائة دينار وضعتها في‬ ‫يده فقفز كأنما لسعته أفعى وصاح‪" :‬له له شو هاظ‪ ،‬يا مصيبتي‪ ،‬مقابل إيش هذي‬ ‫المصاري‪ ،‬له له‪ ،‬يا ريتني مت وال شفت ها الشوفه"‪ .‬حاولت معه كل الطرق‬ ‫الممكنة وحلفته بالنبي محمد وببقية األنبياء ولكنه رفضها وأخذ يردد " مستورة يا‬ ‫ابن عمي مستورة والحمد هلل"‪ .‬وأخيرا قلت له‪ :‬هل تسمح لي بأن أرسل لك األدوية‬ ‫المكتوبة في الوصفات؟" صمت وأجاب باإليجاب‪.‬‬ ‫رجعنا إلى القرية ونحن في حالة صمت تام حتى وصلنا إلى منزل مدير المدرسة‪.‬‬ ‫ودعني ورحل وانتظرت أراقبه وهو يغادر وبدأ ظهره المنحني يختف مع صوت‬ ‫دقات عصاه المحنية والمصنوعة من شجر الزيتون الفلسطيني‪ .‬كان يسير بشموخ‬ ‫وعصاه تدق على األرض كما يدق الطارق على باب بيته‪ ،‬ينتظر من أهل بيته أن‬ ‫سيمعوه فيفتحوا له باب البيت ليدخل ويستريح‪ .‬لعله كان يدق على باب األجداد‬ ‫الذين دفنوا في هذه األرض لكي يخبرهم أنه قادم إليهم وليطمئنهم " أننا ما زلنا هنا‬ ‫وأن شجر الزيتون في بلدنا ال يزال واقفا"‬


‫‪7‬‬

‫‪.2‬‬

‫عندما يصبح غصن الزيتون رمزا للمقاومة‬

‫تقع قرية جالود على رأس جبل عال تكثر فيه الرياح ويطل على سهل يمتد حتى‬ ‫غور األردن‪ .‬يقال أن المرأة التي تخبز خبزها في الطابون وتخرج به إلى بيتها‬ ‫عليها أن تشده إلى صدرها بقوة حتى ال تطيره الرياح القوية‪ .‬ال يتجاوز عدد سكان‬ ‫جالود الخمسمائة نفر وأكثرهم من أصول عائلة واحدة ترجع جذورها وجذور‬ ‫عائلتنا في قرية تلفيت وقرى أخرى في مشاريق نابلس إلى أصول واحدة‪ .‬ومن‬ ‫المالحظ في قرية جالود كثرة ذوي العيون الزرق وهي ظاهرة غير غريبة في‬ ‫فلسطين وفي بالد الشام عامة‪ ،‬ففي أحضان هذه المنطقة إنصهرت شعوب مختلفة‬ ‫كثيرة مثل الكنعانيين والرومان واليونان وغيرها وانتجت شعبنا الفلسطيني‬ ‫اإلستثنائي والفريد ومثيله من أبناء سوريا الكبرى‪.‬‬ ‫كان قريبنا أبو فوزي زعيم قرية جالود ومن رجال المنطقة البارزين‪ ،‬ولقد كان من‬ ‫أحد قادة ثورة عام ‪ 36‬ضد اإلنجليز في منطقة مشاريق نابلس‪ ،‬ولقد سجنه اإلنجليز‬ ‫وحكموا عليه باإلعدام وكاد أن يعدم لوال تدخل مسؤول بريطاني كان أبو فوزي قد‬ ‫أنقذ حياته حين أراد بعض الثوار قتله‪ ،‬فجرى تبديل الحكم عليه بالسجن‪ .‬إشتهر أبو‬ ‫فوزي بالكرم الذي كان يصفه البعض بالكرم المجنون‪ .‬كانت مائدته مشهورة‬ ‫بالغنى‪ ،‬يأكل منها الضيوف وما تبقى يطعم الكثير من أهل القرية‪ .‬ولقد عرف عنه‬ ‫القول أن غنى المائدة يدل على مكانة الضيف وقيمته عنده‪.‬‬ ‫أنجب أبو فوزي ثمان بنات وكان في كل مرة ينتظرالولد الذي سيرث اسمه ولقد‬ ‫جاء هذا الوريث في حمل أم فوزي التاسع ولكنه لسبب غير معروف ولد بعطب‬ ‫وثقب في القلب‪ .‬وبسبب مرضه القلبي هذا كان حتى تجاوز السبع سنوات من عمره‬ ‫عاجزا عن المشي والكالم وكان أزرق اللون ضارب إلى السواد من سوء التهوية‬ ‫التنفسية‪ .‬لقد وصل األطباء إلى نتيجة بأن فوزي سيموت حتما إذا لم تجرى له‬ ‫عملية على يد أحد إخصائيي القلب المعروفين في العالم‪ .‬وهكذا كان وبعد مشاورات‬ ‫طبية ومراسالت شارك فيها بعض أطباء القلب في عمان والقدس قرر أبو فوزي أن‬ ‫يسافر إلى لندن مع إبنه إلجراء العملية الجراحية المطلوبة على يد طبيب قلب‬ ‫مشهور‪.‬‬ ‫سافر أبو فوزي إلى لندن حامال ولده الوحيد بين ذراعية‪ ،‬موصوال بجهاز أكسجين‬ ‫للتنفس اإلصطناعي وكان أبو فوزي يتمتم الدعاء تلو الدعاء كي ينقذ الباري ولده‬ ‫ويعيده إلى أمه سالما‪ .‬وبعد عدة عمليات جراحية خطرة وإقامة نقاهة دامت عدة‬ ‫أشهر‪ ،‬رجع الفتى مع والده إلى الوطن ونزل من الطائرة ماشيا على أقدامه‪ ،‬أبيض‬ ‫اللون أحمر الخدين وعلى وجهه ابتسامة رأيتها على وجهه للمرة األولى منذ‬ ‫والدته‪ .‬ولقد فوجئنا حين سمعناه يتكلم ألول مرة وكانت كلماته خليط من العربية‬ ‫وبعض الكلمات اإلنجليزية التي التقطها من الممرضات في المستشفى‪ .‬ولقد راح‬ ‫يروي لنا قصصا غريبة عن المستشفى وممرضاته ونزالئه وعن الشاي مع الملك(‬ ‫الحليب) الذي اعتاد شربه في المستشفى‪ .‬وأكثر أحاديثه كانت عن صديقه المغني‬


‫‪8‬‬

‫المعروف "فريد األطرش "الذي كان نزيل نفس المستشفى حيث أجريت له هو‬ ‫اآلخر وعلى يد نفس الجراح عملية جراحية لقلبه‪.‬‬ ‫بعد أن عاد فوزي من إقامته العالجية في لندن معافا صحيح البدن‪ ،‬قام والده بهذه‬ ‫المناسبة بزرع قطعة أرض في وادي جالود زيتونا خصصها ألحفاد المستقبل من‬ ‫ابنه فوزي‪ .‬لقد عمل بالمثل المعروف " زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون"‪ .‬كان‬ ‫مجموع ما زرع في تلك القطعة ثالث مئة شجرة من أفضل أنواع الزيتون‪ ،‬أوالها‬ ‫رعايته الخاصة وكان يسميها أحفادي ويعاملها ويرعاها كأنها أحفاده‪ .‬نمت األشجار‬ ‫مع نمو فوزي وكبرت وقوي عودها كما كبر فوزي وقوي عوده‪ .‬وبعد سنين أثمرت‬ ‫زيتونا وزيتا كما أثمر فوزي وأنجب أوالدا وبناتا‪ .‬كانت السعادة تغمر العائلة وكان‬ ‫منظر بستان الزيتون وأبو فوزي وفوزي منحنين على أشجاره يعالجونها واألحفاد‬ ‫يتراكضون بينها كأنما هم يتناغمون مع أصدقاء لهم في مثل عمرهم‪ ،‬يسر البال‬ ‫والخاطر‪.‬‬ ‫جاء اإلحتالل اإلسرائيلي وجاء معه المستوطنون ذوي اللحى الشقراء المجعدة‬ ‫والطواقي الصغيرة الملصقة على الرأس وأقامو على قمة الجبل المقابل لجالود‬ ‫حافلتين تحولت بعد أيام إلى بيتين ومن ثم تكاثرت كالسرطان حتى تحولت إلى‬ ‫مستوطنة كبيرة‪ ،‬استولت على األرض والماء والهواء‪ .‬امتدت المستوطنة وتوسعت‬ ‫حتى حاذت بستان زيتون أبي فوزي يفصلها عنه سياج سلكي ضخم و طريق ترابي‪.‬‬ ‫في صباح أحد األيام قامت قرية جالود على منظر مرعب‪ .‬لقد قام المستوطنون‬ ‫الصهاينة بقطع جميع أشجار الزيتون في بستان أبي فوزي وكان منظر األشجار‬ ‫مقطوعة وملقية على أرض البستان كمنظر مذبحة للهنود الحمر في األفالم‬ ‫األمريكية الرديئة‪ .‬لقد رأيت المنظر بنفسي حيث صدف أنني كنت في فلسطين حين‬ ‫وصلني خبر المذبحة‪ .‬لقد كان أبشع ما في الصورة هو منظر أؤلئك القتلة واقفين‬ ‫غير مبالين واإلبتسامة الكريهة بطبوعة على وجوههم البشعة تدل على الكراهية‬ ‫التي يحملونها في قلوبهم السوداء تجاه هذه األرض الطيبة وهواءها وشجرها‬ ‫وأهلها وكأنما كتب على وجوههم القبيحة " جئنا نعوث في أرضكم فسادا‪".‬‬ ‫لقد سارع الجيش اإلسرائيلي لحماية القتلة ووقف الجنود سدا بين المستوطنين‬ ‫وبين أهل القرية الذين وقفوا مصعوقين مبهورين بمنظر األشجار المقطوعة‬ ‫والملقية على األرض‪ ،‬وكاد الجنود أن يلقوا القبض على فوزي الذي كان يبكي من‬ ‫القهر والعجز‪ .‬رأيته جالسا على األرض وهو يبكي ولم أجد أي فائدة من مواساته‬ ‫فالكلمات ليس لها معنى في مثل هذه المواقف‪ .‬كان الجنود يصرخون عليه وعلى‬ ‫أهل القرية‪ ،‬يأمرونهم بالتفرق والذهاب إلى بيوتهم بحجة أنهم يخلون باألمن‪.‬‬ ‫علمت من الحاضرين أن أبا فوزي قد أصيب بالجلطة ولقد أخذته سيارة اإلسعاف‬ ‫إلى المستشفى في نابلس وهو يردد " لقد قتلوا أحفادي‪ ،‬لقد قتل األوغاد أحفادي"‬ ‫وكانت بداية النهاية بالنسبة له فلم يشف من وقع المصيبة أبدا وتوفاه هللا بعد مدة‪.‬‬


‫‪9‬‬

‫أشار بعض األقارب من عرب ‪ 48‬على فوزي أن يقيم على المستوطنة دعوة‬ ‫قضائية في المحاكم اإلسرائيلية وأقاموا له لهذا الغرض محاميا من عندهم‪ .‬رفعت‬ ‫الدعوى وتاه فوزي‪ ،‬في البداية برفقة محامية وبعد أشهر لوحده بعد أن تعب‬ ‫محاميه‪ ،‬في أروقة المحاكم اإلسرائيلية باحثا عن العدالة اليهودية حيث القاضي هو‬ ‫الجالد والشرطي هوالقاتل والحاكم هواللص ‪.‬حتى السلطة الفلسطينية لم تمد له يد‬ ‫المساعدة أو لم يكن في يدها حيلة‪.‬‬ ‫بعد سنوات عدت لزيارة الوطن وقررت كالعادة في كل زيارة أن أزور فوزي حتى‬ ‫أستعلم منه عن تطورات قضيته ‪ .‬ركبت السيارة القديمة التي استعرتها من إبن‬ ‫أختي في نابلس وتحركت نحو جالود وهي تبعد عن قريتنا عدة كيلومترات‪ .‬وقفت‬ ‫في قريتنا وأخذت معي صديقا وقريبا لي‪ .‬عندما وصلنا إلى مفترق الطرق الذي‬ ‫يتفرع عنه طريقان واحدة إلى جالود واألخرى إلى قريوت‪ ،‬طلب صديقي مني‬ ‫الوقوف ومن ثم أشار علي بالنزول من السيارة والمشي على األقدام قائال‪"،‬سنجد‬ ‫فوزي في البستان‪".‬‬ ‫عندما وصلنا البستان وجدنا فوزي بالكوفية الفلسطينية المربوطة حول راسه واقفا‬ ‫ويديه قابضتان على فأس يحفر بمساعدة بعض أهل القرية جورا يزرعون فيها‬ ‫أشتاال من الزيتون‪ .‬عندما طرحنا عليهم السالم‪ ،‬رمى فوزي ما بيده ونزع عن‬ ‫رأسه الحطة ومسح بها العرق المتصبب من جبينه وتوجه إلينا راكضا واإلبتسامة‬ ‫تغطي وجهه‪ .‬تعانقنا ونظرت إليه وكأنني أرى أمامي والده رحمه هللا‪ .‬فرش حطته‬ ‫على األرض ودعاني للجلوس وقال ضاحكا‪ " :‬حتى ال توسخ بنطلونك يا مدني"‪.‬‬ ‫سألته متعجبا‪ " :‬هل تزرع البستان من جديد؟ ولم أنتظر إجابته فأضفت‪:‬‬ ‫سيقطعونها لك من جديد يا رجل"‪ .‬نظر إلي بتحدي وقال إن قطعوها سأزرعها من‬ ‫جديد‪ .‬ثم نظر إلى المستوطنه وصاح بأعلى صوته‪ :‬إقطعوها يا أوالد الكلب‬ ‫وسأزرعها من جديد"‪.‬‬ ‫كان الصمت والسكون يعم المستوطنة كأنما كانت فارغة من السكان وكان بين‬ ‫الحين واالخر يسمع أصوات خافتة بعيدة‪ .‬قال فوزي‪ :‬هم يعيشون هنا ولكنهم‬ ‫يعملون في إسرائيل‪ ،‬إننا نسمع أصواتهم في المساء وفي الليل فقط‪ .‬رآني أهز‬ ‫راسي عجبا وأنا أنظر إلى أشتال الزيتون فقال لي بجدية ‪ " :‬يا إبن عمي‪ ،‬راح يجي‬ ‫يوم ينقلعوا فيه من أرضنا ويرحلوا عن بلدنا مثل ما إنقلع غيرهم وسيبقى‬ ‫الزيتون‪".‬‬ ‫بعد أن شربنا الشاي بالنعناع المغلي على نار من حطب الزيتون وبعد أن وعدته بأن‬ ‫أحضر في اليوم التالي للغداء عنده تركناه وغدرنا راجعين‪ .‬تركت صديقي في قريتنا‬ ‫واتجهت نحو نابلس وال تزال كلمات فوزي ترن في أذني " ‪:‬سينقلعون يوما من‬ ‫أرضنا وسيغادرون بلدنا كما فعل غيرهم من الغزاة وسيبقى الزيتون"‪ .‬في تلك‬ ‫اللحظة عرفت أن غصن الزيتون ال يدل في بالدنا على السالم فقط وإنما على‬ ‫التحدي والمقاومة‪.‬‬


‫‪10‬‬

‫‪.3‬‬

‫مدينتي وأم سائد‬

‫مدينتي نابلس تتمتع بنكهة خاصة ولها خصوصيتها ولقد أطلق عليها عالم‬ ‫اآلثارارنست رايتس عاصمة فلسطين غير المتوجة ويطلق عليها أهل فلسطين جبل‬ ‫النار لدورها في ثورات الفلسطينيين المتتابعة ضد اإلستعمار والصهيونية‪.‬‬ ‫النابلسيون لهم أيضا نكهتهم الخاصة‪ ،‬لهجتهم التي تمط كجبنة الكنافة النابلسية‪،‬‬ ‫عاداتهم وتقاليدهم وحشريتهم التي تظهر لبعض من ال يعرفهم أنها نوع من الوقاحة‬ ‫وما هي بذلك‪ ،‬حرصهم على الجار وعلى إبن البلد وتكاتفهم مع بعضهم البعض‪ .‬ال‬ ‫يوجد في نابلس أسرار والنابلسيون يحبون القيل والقال بدون ضغينة أو حسد‪ .‬ال‬ ‫تستطيع أن تختبئ من عيونهم وأسئلتهم الفضولية‪ -‬مين األخ؟ وابن مين إنت؟‬ ‫ووين بشتغل؟ وقديش راتبك؟ وشو بقربلك فالن؟ وسيل من األسئلة التي في بعض‬ ‫األحيان تتجاوز المعقول‪.‬‬ ‫بعد اإلحتالل الصهيوني سقطت عني المواطنة في بلدي كما سقطت عن االالف‬ ‫المؤلفة من أبناء شعبي‪ .‬هكذا قرر الفاشيون الجدد ووافقتهم دول الغرب "‬ ‫الديموقراطية" وصمتت الدول التي تسمى عربية‪ ،‬فلم يكن لديها‪ ،‬كما هو حالها‬ ‫اليوم‪ ،‬ما تقول‪.‬‬ ‫لذا كانت الزيارة لنابلس تكلفني كثيرا من الجهد والعناء‪ ،‬حيث كان علي أن أقدم‬ ‫طلبا للسفارة اإلسرائيلية في فينا وكنت أنتظر الحصول على اإلذن عدة اشهر وفي‬ ‫كثير من الحاالت كانت ترفض بدون شرح األسباب‪ .‬في حاالت أخرى كان األهل في‬ ‫نابلس يقومون بالسعي للحصول على إذن زيارة يخولني بزيارة بلدي وموطني‪ .‬أما‬ ‫بعد حصولي على الجنسية السلوفاكية فأصبحت األمور أكثر سهولة وأكثر غرابة‬ ‫وغير معقولية فلقد انفتحت أمامي إمكانية زيارة بلدي كسائح أجنبي لعدم لزوم الفيز‬ ‫لألوروبيين‪.‬‬ ‫منزلنا يقع في الجهة الشرقية من نابلس ويطل في الجهة المقابلة على العمارة أو‬ ‫الدبوية كما كان يقال لها‪ ،‬وهي مركز محافظة نابلس‪ ،‬بناها األتراك وأعاد بناءها‬ ‫اإلنجليز ومن ثم السلطة األردنية وهدمها أو هدم قسما كبيرا منها اليهود‬ ‫اإلسرائيليون‪.‬‬ ‫منزلنا يتكون من طابقين وله حديقة جميلة مملوءة بأشجار الليمون والبرتقال‬ ‫والمندرينا والبوملي‪ .‬ولقد اعتدت أن أجلس مع والدتي كل صباح في شرفة المنزل‬ ‫حيث نحتسي القهوة بالهال ورائحة الحمضيات تفوح في أرجاء الحديقة وجزء من‬ ‫البيت وتختلط مع رائحة القهوة والهال‪ .‬وكثيرا ما كان ينضم إلينا الجيران وتمتلئ‬ ‫الشرفة بالضيوف واألصدقاء واألحباء‪ .‬ال يمكنك أن تشعر بالوحدة في نابلس‪ ،‬لن‬ ‫يسمحوا لك بذلك‪.‬‬


‫‪11‬‬

‫المشي في شوارع وأزقة البلدة القديمة متعة ما بعدها متعة‪ .‬فمن هنا مر الرومان‬ ‫واليونان واألتراك واإلنجليز واإلسرائيليون الصهاينة‪ ،‬وكل منهم هدم منها ما هدم‬ ‫وخرب ما خرب‪ ،‬ولكنها بقيت صامدة‪ ،‬شامخة تحكي عن تاريخ كل الذين مروا‬ ‫وذهبوا وما عادوا وبقيت هي‪.‬‬ ‫كان مشواري المعتاد إلى البلدة القديمة بمثابة حج أقوم به كل يوم‪ .‬كنت أخرج من‬ ‫بيتنا وأتوجه مشيا على األقدام إلى البلدة القديمة‪ ،‬وكان المشوار الذي من‬ ‫المفروض أن يأخذ أربعين دقيقة يستمر عدة ساعات‪ ،‬حيث كان علي أن أقف في‬ ‫عدة محطات ال بد منها لشرب القهوة هنا والشاي بالنعناع هناك واليانسون في محل‬ ‫آخر‪ .‬أول محطاتي عادة ما تكون قهوة باب البوابة الشرقية‪ ،‬حيث يجلس القادمون‬ ‫من قرى شرقي نابلس وحيث أجد في كل مرة بعضا من األقارب أو األصدقاء‪ .‬باب‬ ‫البوابة الشرقية الذي لم يعد موجودا بالفعل يعم بمحالت السمانة وبائعي الخضار‪.‬‬ ‫وكنت أشرب القهوة على صوت بائعي الخضار الذين يروجون لبضاعتهم‪ -‬أحمر‬ ‫وزي العسل يا بطيخ‪ ،‬أصبع الست يا خيار‪ ،‬ريحاني يا موز‪ ،‬وبين الفينة واألخرى‬ ‫كنت أسمع صبي القهوة يطلب القهوة للضيوف بصوت عالي وبشعرية عفوية‪-‬‬ ‫واحد حلوي لألفندي اللي جوي‪ ،‬تالته سادة للساده واثنين سكر قليل للشب القصير‬ ‫وصاحبه الطويل‪ ،‬وهكذا‪.‬‬ ‫بعد اإلنتهاء من شرب القهوة واإلعتذار عن قبول عشرات الدعوات لطعام الغداء‪،‬‬ ‫كنت أقوم وأخترق جموع الناس المكتظة لقضاء حاجاتها المختلفة وأتجه نحو البلدة‬ ‫القديمة‪ .‬الطريق يخترق السوق المكتظ مرورا إلى الجامع الكبير أو الجامع‬ ‫الصالحي نسبة إلى صالح الدين األيوبي الذي أعيد بناءه في زمنه‪ .‬الجامع الكبير‬ ‫بفصل الطريق إلى طريقين‪ ،‬واحد يتجه إلى ساحة المنارة وجامع النصر واآلخر إلى‬ ‫خان التجار ومن ثم إلى سوق البصل وسوق الحدادين‪.‬‬ ‫كنت أسلك طريق خان التجار مرورا بسوق الذهب وأخرج من هناك متجها نحو‬ ‫صيدلية عدي هاشم‪ ،‬صديقي الذي درس الصيدلة في فينا وكان يزورني في‬ ‫براتسالفا وكنت أزوره في فينا‪ .‬وال أبالغ إن قلت أنني كنت خالل هذا الطريق‬ ‫القصير اقف عشرات المرات لمصافحة وعناق المعارف واألقارب ولقبول دعواتهم‬ ‫إلحتساء القهوة أو الشاي أو اليانسون أو الكازوزة‪.‬‬ ‫صيدلية عدي هاشم تقع مقابل حلويات العكر المشهورة بصنع الكنافة النابلسية‪،‬‬ ‫وكنا نجلس أمام الصيدلية نراقب الناس وهم يدخلون محل الحلويات ويأكلون‬ ‫الكنافة الساخنة‪ ،‬وكان عدي يغريني بقوله‪ :‬شو رايك يا ابو داوود في كنافة سخنة‬ ‫من الصدر؟ كنت في بعض الحالت أقبل العرض المغري وفي أخرى أرفضة معتذرا‬ ‫بأنني مدعو على الغذاء عند أختي أم سائد وكان يرد على اعتذاري‪ ":‬طبعا يا خيي‪،‬‬ ‫ما منقدر نتعدى على أم سائد‪".‬‬


‫‪12‬‬

‫أختي أم سائد‪ ،‬شادن الصالح‪ ،‬زوجة الدكتور جمال أبو حجلة‪ ،‬طبيب األنف‬ ‫والحنجرة‪ ،‬يعرفها النابلسيون جيدا‪ .‬وحين كنت اسير معها في شوارع نابلس‪ ،‬كانت‬ ‫تتلقى التحيات من كل حوب وصوب‪ .‬كانت في غاية الطيبة وكان لسانها الذعا ال‬ ‫تستحي أن توجهه لمن يستحق‪ .‬وكان الجميع يتلقى نقدها بكل حب ورضى قائلين‪":‬‬ ‫بتؤمرينا يا أم سائد وإنت على راسنا من فوق"‪ .‬وكانت تضحك ضحكتها المشهورة‬ ‫وتجيب " هللا يرضا عليكم‪ ،‬إنتو أخوتي وأوالدي‪".‬‬ ‫أم سائد كانت إلى جانب فضائلها األخرى طباخة ماهرة وكانت تعرف أنني أحب كبة‬ ‫الرز المطبوخة باللبن‪ .‬وكبة الرز لمن ال يعرفها‪ ،‬هي معجون من الرز المطحون‬ ‫باللحمة المطحونة‪ ،‬تصنع على شكل طابات وتحشى باللحم المفروم والبصل‬ ‫والصنوبر وتطبخ باللبن‪ .‬تعلمتها من والدتي وأدخلت عليها تحسينات سرية أعطتها‬ ‫نكهة رائعة الطعم‪.‬‬ ‫كنت أدخل إلى بيت أختي ورائحة الكبة وغيرها من المشهيات تفوح في جميع‬ ‫أرجاء البيت‪ ،‬وكنت أتلصص إلى المطبخ علني أستطيع سرقة ولو كبة واحدة من‬ ‫الطنجرة النحاسية‪ .‬ولكن أم سائد كانت لي دوما بالمرصاد وكانت تسرع وتطردني‬ ‫من المطبخ بحنو قائلة‪ :‬روح روح يا أخي‪ ،‬الغداء جاهز‪ ،‬ثم تصرخ على ابنها سائد‬ ‫أن يحضر الطاولة وينادي على جدته‪ ،‬والدتي‪ ،‬التي دخلت تأخذ "غطسة نومه"‪.‬‬ ‫وكان سائد يرد عليها‪" :‬بتؤمري يا أحلى أم سائد في الدنيا‪".‬‬ ‫سائد يعمل مدرسا في جامعة النجاح‪ ،‬ويحمل في كبدة رصاصة هدية من الفاشيين‬ ‫الجدد اإلسرائيليين‪ .‬لقد أطلق عليه الجيش اإلسرائيلي النار وكان ال يزال طالبا في‬ ‫المدرسة‪ .‬ولقد استطاع أن يصل إلى المستشفى في الوقت المناسب‪ ،‬وبقدرة قادر‬ ‫استطاع األطباء إنقاذ حياته ولكنهم لم يستطيعوا إخراج الرصاصة من كبده‪ ،‬بقيت‬ ‫ذكرى على همجية العدو اإلسرائيلي وإجرامه‪.‬‬ ‫يقول أهل نابلس أنه لكل أكلة مصران وأن في البطن خلوى ال يملؤها إال الحلوى‪.‬‬ ‫واعتاد كثيرون من أهل نابلس أكل الكنافة قبل الغداء وبعده‪ .‬والكنافة حاضرة بعد‬ ‫كل حفلة غداء وال يعتبر الغداء كامال إذا لم تكن آخرته كنافة‪ .‬وكان ابو سائد خبيرا‬ ‫في طلب الكنافة‪ ،‬وكان يقول للكنفنجي‪ " :‬نضال جاي من أوروبة وال تفضحنا‬ ‫معاه‪ ".‬بعد الغداء وأكل الكنافة كنا نستلقي لمدة ساعة أو نصف الساعة والتي‬ ‫بدونها لم نكن نقدر على السهر والسمر‪.‬‬ ‫في المساء كان يأتينا األصدقاء واألقارب للسالم على الضيف القادم من أوروبا‬ ‫ولطالما كان على رأس الحضور الصديق الدكتور فرحان أبو الليل‪ ،‬المسيحي الذي‬ ‫يحفظ القرآن والذي كان يردد القول بأن القرآن ليس كتاب المسلمين وحدهم‪ ،‬وأنه‬ ‫كتاب كل العرب وأصل من أصول التراث العربي‪ .‬قضى جزءا ال باس به من حياته‬ ‫في السجن ‪،‬سجنته السلطات األردنية ومن بعدها سجنته الصهيونية اإلسرائيلية‬ ‫وبنفس التهمة ولقد قضى في السجن عدة سنوات‪ .‬وقلما كان المجلس يخلو من‬


‫‪13‬‬

‫الصديق المناضل بسام الشكعه الذي فجر الموساد رجليه وأقعده على كرسي متحرك‬ ‫ولكنه لم يستطع أن يقعده عن اإلستمرار في النضال من أجل حرية بلده‪.‬‬ ‫لم تكن تخلوا األمسية من أحاديث السياسة وأحاديث المجتمع‪ ،‬من تزوج ومن ولد‬ ‫له طفل ومن مات ومن استشهد‪ .‬فرغم اإلحتالل كان الناس يعملون ويتزوجون‬ ‫ويخلفون ويتزاورون ويتسامرون‪ .‬الحياة يجب أن تستمر مع كل القهر والحصار‬ ‫والعنف‪ .‬السهرات واللقاءات في بيت أم سائد كانت ندوات ثقافية بامتياز‪ ،‬حيث‬ ‫تلتقي هناك كل اآلراء واإلتجاهات السياسية وحيث كانت تدور النقاشات الهادئه‬ ‫واإليجابية‪.‬‬ ‫بتاريخ ‪ 11‬تشرين األول‪/‬أكتوبر عام ‪ 2002‬كانت أختي أم سائد جالسة في شرفة‬ ‫منزلها مع زوجها وإبنها سائد‪ .‬كانت تطرز ثوبا فلسطينيا لعروسة ابنها سائد وكان‬ ‫زوجها يحتسي الشاي وأبنها سائد يهم للصالة‪ .‬وقفت سيارة عسكرية إسرائيلية‬ ‫أمام المنزل ونزل منها جنديان‪ ،‬صوبا بنادقهما الرشاشة صوب أختي والعائلة‬ ‫وأطلقا النار بكثافة‪ .‬أصابت تسع رصاصات أم سائد فسالت دماءها على الثوب وبقي‬ ‫شاهدا على همجية وإجرام النازيين الجدد‪ .‬أصيب ابنها سائد برصاصة في الرقبة‬ ‫وزوجها برصاصة في الرأس ونجيا من الموت بأعجوبة‪ .‬هرع سائد إلى أمه وظن‬ ‫أنه أغمي عليها هلعا من المفاجأة وخوفا عليه‪ .‬ضمها إلى صدره وأخذ يطمئنها بأنه‬ ‫بخير وأن إصابته طفيفة‪ .‬ظن أن الدماء التي غطت جسدها هي دماء جرحه‪ ،‬ثم ال‬ ‫حظ أن الدماء تدفق من عدة ثقوب في صدرها فأخذ يصيح" قتلتمو أمي يا‬ ‫مجرمين‪ ".‬نظرت أم سائد إلى ولدها‪ ،‬ابتسمت له ثم فارقت الحياة‪.‬‬ ‫كانت أم سائد في الستين من العمر‪ ،‬أم لثالث فتيان وفتاة وجدة لعدد من األحفاد‪ .‬لم‬ ‫تحمل السالح في حياتها‪ ،‬كانت فلسطينية تعشق فلسطين كآالف الفلسطينيات مثلها‬ ‫تحاول مساعدة شعبها بدعم صموده ومساعدة عائالت االشهداء واألسرى‪ .‬لم تكن‬ ‫تسيرفي مظاهرة في شوارع المدينة تلقي الحجارة على الجنود اإلسرائليين‪ ،‬كانت‬ ‫جالسة مع عائلتها في شرفة منزلها التي تبعد عن الشارع عشرات األمتار‪ .‬كانت‬ ‫تطرز ثوبا لعروسة إبنها فقتلها النازيون الجدد وبقيت دماءها تغطي ثوب العروس‬ ‫كشاهد على اإلجرام الصهيوني‪.‬‬ ‫دفنت أختي أم سائد في قبر يبعد بعض األمتار عن قبر إبنة خالتها الشهيدة شادية‬ ‫أبو غزاله ويحيط بها قبور كثير من الشهداء منهم مجموعة من طالب إبنها سائد‬ ‫الذين وهم في طريقهم إلى الجامعة إنتهوا على يد العدو الصهيوني في مقبرة‬ ‫الشهداء‪ .‬رحلت أم سائد ومن يومها ما عدت أجد للكبة رائحة وال طعم‪.‬‬


‫‪14‬‬

‫‪ .4‬عندما يطفئوا شمعة نضيء غيرها‬ ‫نزلنا من السيارة ودخلنا العمارة ذات األربع طوابق حيث يسكن مضيفنا وقريبنا‪.‬‬ ‫نظرت إلى أسماء سكان العمارة المنقورة على لوحة ملصقة في مدخل العمارة‬ ‫فاكتشفت أن مضيفنا يسكن في الطابق الرابع وتأكدت من أنه ال يوجد في العمارة أي‬ ‫مصعد وعلينا الصعود مشيا على األقدام‪ .‬نظرت إلى والدتي التي كانت تصحبني في‬ ‫الزيارة وقلت‪ " :‬يسكن في الطابق الرابع وال يوجد مصعد‪ ".‬نظرت والدتي إلي‬ ‫وقالت‪ " :‬أنت تمزح"‪ ،‬ولكنها عندما نظرت إلى تعابير وجهي اكتشفت أنني أقول‬ ‫الحقيقة وأنه عليها‪ ،‬أم الثمانين عاما‪ ،‬أن تصعد الدرج مشيا على األقدام إلى الطابق‬ ‫الرابع‪ .‬أدارت وجهها واتجهت نحو باب الخروج قائلة‪ ":‬لن أصعد أربع طوابق‬ ‫مشيا على األقدام من أجل غذاء‪ ،‬أنا راجعة لبيتي"‪.‬‬ ‫بدأت عملية اإلقناع والتي لم تكن سهلة وكنت اعرف أن صعود أربع طوابق بالنسبة‬ ‫لوالدتي أمر في غاية الصعوبة‪ .‬ولكنني لم أكن أستطيع أن أتركها تعود للبيت‬ ‫لوحدها‪ ،‬ولم يكن باإلمكان أن تكون الدعوة بدونها‪ .‬أخيرا وبعد جدال طويل‬ ‫استعملت فيه كل الحيل الممكنة‪ ،‬اقتنعت أم نضال بأنه ال مفر لها من صعود الطوابق‬ ‫األربعة مشيا على األقدام‪ .‬بدأنا الصعود ببطئ وعلى مهل‪ ،‬وكنا نقف لإلستراحة‬ ‫كلما صعدنا عدد من الدرجات‪ ،‬وكنت أسمع كلمات الشتيمة الموجهة إلى عائلة‬ ‫والدي والتي طالت األجداد وأجداد األجداد‪ ،‬تنطلق من فم والدتي المتعبة والغاضبة‬ ‫وكنت بالكاد أخفي ابتسامتي وأحاول أن أراضيها بتشجيعي لها بأنها ما زالت صبية‬ ‫يحسدها الشابات والشبان‪ .‬كانت تقف وهي تلهث وتلعن أجدادي وتقول‪" :‬أنت ملك‬ ‫الدهلزة‪ ".‬والحقيقة أن صعود أربع طوابق مشيا على األقدام لم يكن سهال حتى‬ ‫بالنسبة لي‪.‬‬ ‫وأخيرا وصلنا البيت ووقفنا أمام الباب منقطعي األنفاس وانتظرنا عدة دقائق حتى‬ ‫نلتقط أنفاسنا ثم طرقت الباب‪ .‬فتح لنا مضيفنا الباب ودعانا للدخول مرحبا بنا‬ ‫واعتذر عن عدم وجود مصعد في العمارة‪ .‬دخلت البيت خلف والدتي فقابلتني في‬ ‫صدر مدخل البيت صورة كبيرة لطفل في الخامسة من عمره ولقد لف حول رقبته‬ ‫الشال الفلسطيني المنقط باألسود والبيض وقد غطت وجهه ابتسامة عريضة تشع‬ ‫منها براءة الطفولة رافعا يده اليمنى عالمة على النصر‪ ،‬ولقد كتب تحت الصورة‬ ‫كلمات "الشهيد ضياء محمد"‪ .‬سألت مضيفي عن صاحب الصورة فصمت برهة ثم‬ ‫قال‪" :‬هذا إبني الشهيد ضياء"‪.‬‬ ‫إحدى مساوئ الغربة أنها تقطع بينك وبين التواصل مع تفاصيل الحياة اليومية‬ ‫لألهل واألصدقاء في الوطن‪ .‬هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الموت اإلستشهادي‬ ‫أصبح في فلسطين خبرا عاديا تذكره األخبار كحدث عابر اعتادت الناس على‬ ‫سماعه‪ .‬ورغما عن ذلك فلقد شعرت بألم وخزة الضمير لكوني ال أعلم شيئا عن‬


‫‪15‬‬

‫ضياء إبن قريبي وصديقي وال عن استشهاده وتفاصيل إستشهاده وهو ذو الخمس‬ ‫أعوام‪ ،‬لذى وجهت سؤالي إلى مضيفنا والد ضياء أستفسر منه عن التفاصيل‪ .‬نظر‬ ‫إلي وابتسم ثم قال سنتحدث في الموضوع بعد الغذاء‪.‬‬ ‫بعد اإلنتهاء من كلمات الترحيب المعروفة في المجتمعات الفلسطينية و التي يكررها‬ ‫المضيف ‪،‬حسب العادة والتقاليد‪ ،‬مرات عديدة مثل "يا أهال‪ ،‬نورتوا البيت" ويجيب‬ ‫الضيوف على كل واحدة "أهال بالمهللي‪ ،‬البيت منور بأصحابه"‪ ،‬ثم السؤال‬ ‫المتبادل عن الصحة والعافية وكيف صحة األوالد وإلى آخره من كلمات الترحيب‬ ‫والرد عليها‪ ،‬دعاتا مضيفنا إلى طاولة الغداء التي كانت غنية بالمأكوالت الفلسطينية‬ ‫الشهية‪ .‬جلسنا وبدأنا في تناول الطعام والمضيف يحثنا على األكل ويضيف الكالم‬ ‫المعهود‪" :‬صحتين وعافية‪ ،‬ما في شي من قيمتكم‪".‬‬ ‫لم أستطع طوال الوقت أن أمحي من مخيلتي صورة ضياء وحول عنقه الشال‬ ‫الفلسطيني وتلك اإلبتسامة البريئة التي تغطي وجهه الطفولي‪ ،‬كما لم أستطع أن‬ ‫أنزع من مخيلتي تلك الجملة التي كتبت تحت الصورة‪ ":‬الشهيد ضياء محمد"‬ ‫وكان السؤال يطرق أبواب مخيلتي‪ ،‬ما الذي حصل وأي يد تستطيع أن تقتل طفال‬ ‫بهذا العمر وبهذه البراءة؟‬ ‫بعد أن انتهينا من الغذاء ووزعت علينا القهوة والحلويات النابلسية لم أعد أحتمل‬ ‫اإلنتظار فتوجهت إلى مضيفنا متوسال إليه أن يحدثني عن ما حدث‪ .‬نظر مضيفنا‬ ‫إلي ثم أخذ نفسا عميقا وقال‪ :‬خرج أخي في أيار عام ‪ 1985‬من األسر في السجون‬ ‫اإلسرائيلية في عملية تبادل أسرى بين الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين‪-‬القيادة‬ ‫العامة و العدو الصهيوني‪ .‬ولقد تم اإلفراج في تلك العملية عن ‪ 1150‬اسير‬ ‫فلسطيني وعربي من ذوي األحكام العالية‪ .‬لقد كان ذلك عرسا فلسطينيا بامتياز‬ ‫خرج فيه أهل نابلس عن بكرة أبيهم إلستقبال أسراهم المحررين‪.‬‬ ‫صمت مضيفنا عدة دقائق وبدى شارد الذهن كأنه يستجمع صور األحداث التي مرت‬ ‫ثم تابع‪ ،‬أقمت بمناسبة خروج أخي من األسر حفلة غذاء على شرفه دعوت إليها‬ ‫مجموعة من أصدقاءه‪ .‬بعد الغداء خرجنا نودع الضيوف ووقفنا كالعادة أمام البيت‬ ‫نتابع بعض األحاديث التي كانت دائرة بيننا‪ .‬على بعد مئات من األمتار وقفت دبابة‬ ‫إسرائيلية كان طاقمها يراقبنا وكنا نحاول أن نتغاضاها فلقد اعتدنا في تلك األيام‬ ‫على وجودهم حولنا في كل مكان‪ .‬قررنا أن نتجاهلهم وأن نسرع في عملية الوداع‬ ‫وان يعود كل منا بأسرع وقت إلى بيته‪ .‬حملت ابني ضياء على يدي وضممته إلى‬ ‫صدري وكان أخي يقف إلى جانبي متقدما عني بعض الخطوات وكان يعانق‬ ‫أصدقاءه مودعا‪ .‬سمعت صوت الرصاصة التي انطلقت من المدفع الرشاش‬ ‫المنصوب على الدبابة اإلسرائيلية‪ .‬لم أكن أعي أن الرصاصة كانت موجة نحونا‬ ‫حتى شعرت بالم حاد في جنبي وبالدماء تسيل من بين يدي‪ .‬نظرت إلى يدي فإذا هي‬ ‫مخضبة بالدماء الممزوجة ببقايا الطعام التي خرجت من أمعاء إبني ضياء وغطت‬


‫‪16‬‬

‫يدي التي كانت تحتضنه‪ .‬كانت أمعائه بارزة وممزقة وكانت بقايا الطعام الممزوجة‬ ‫بدمائة تندفق منها وتسيل على يدي ومالبسي ومن ثم على األرض‪" .‬‬ ‫لم يستطع مضيفنا متابعة الحديث وبدا التأثر واضحا على وجهه وضاقت أنفاسه‬ ‫وانفجر في البكاء مغطيا وجهه بكفتي يديه‪ .‬عم الوجوم على الحاضرين وبكت‬ ‫زوجته ثم خرجت من الغرفة وهي تشهق ولحقتها والدتي وبعض القريبات ليخففن‬ ‫عنها ويواسينها‪ .‬شعرت باألسف لكوني سببت في فتح جرح لهم كان أو كاد أن‬ ‫يلتئم‪ ،‬وشعرت بالغضب على همجية وعدم إنسانية العدو الصهيوني الذي ال يتورع‬ ‫عن قتل طفل فلسطيني بهذه البرودة‪ ،‬كما شعرت باإلحباط الداخلي لعدم فهم العالم‬ ‫الخارجي لطبيعة هذا العدو الذي ال يملك أي شرط من شروط اإلنسانية‪ ،‬عدو‬ ‫متوحش فقد كل مظاهر اإلنسانية‪.‬‬ ‫بعد أن هدأت النفوس قليال لم استطع أن أمنع نفسي من سؤال مضيفي رأيه في‬ ‫الهدف المقصود من الرصاصة‪ ،‬فهل كانت موجهة إلى إبنه ضياء‪ ،‬إليه هو أم إلى‬ ‫أخيه األسير المحرر ؟ نظر إلي وقال‪ " :‬كلنا كنا الهدف‪ .‬فبقتلهم إبني أرادوا أن‬ ‫يقتلوني وبذلك ينتقموا من أخي‪.‬‬ ‫بعد دقائق من الصمت سمعت بكاء طفل صغير‪ ،‬فقام مضيفنا وخرج من غرفة‬ ‫الضيوف وبعد دقائق عاد وعلى يديه مولود صغير ‪ .‬نظر إلي وقال ‪ :‬يا ابن عمي‬ ‫اسمح لي أن أقدم لك ابني ضياء ‪ ،‬ثم وضعه بين يدي‪ .‬نظرت إلى الطفل الذي ابتسم‬ ‫إلي ابتسامة العارف أنه في أيدي أمينه‪ .‬نظرت إلى والده مستفسرا فقال لي‪ :‬هذا‬ ‫ضياء الجديد‪ ،‬لقد ظنوا أنهم بإطفائهم شمعة ضياء سيعم الظالم علينا وسنتوه في‬ ‫النفق المظلم وال نعرف طريقنا أو نرجع عنه‪ ،‬ولكنهم حين يطفؤون شمعة نشعل‬ ‫اخرى‪ ،‬قتلوا ضياءا وها هو يولد ضياء جديد يأخذ مكانه‪ ،‬ونحن وهم والزمن‬ ‫طويل"‪.‬‬ ‫وقفت والدمع ينهمر من عيني ووضعت ضياء الجديد بين يدي والده وقلت‪ :‬حافظ‬ ‫عليه يا ابن عمي حافظ عليه"‪ .‬أخذه وضمه إلى صدره وخرج به من غرفة‬ ‫الضيوف‪ .‬مسحت دموعي بكفة يدي وجلست وكان نداء في داخلي يهتف بأعلى‬ ‫صوته‪ :‬ال تخف فشعبنا باق وهم سيرحلون‪ ،‬فمهما أطفأوا من شموع‪ ،‬سنشعل‬ ‫غيرها‪".‬‬


‫‪17‬‬

‫‪.5‬‬

‫يوم عادي من يوميات فلسطيني‬

‫أوقفت السيارة أمام بيت العزاء ونزلت منها مع قريبي مدير مدرسة قريتنا‪.‬‬ ‫استقبلنا عدد من أهل القرية وعلى رأسهم عم الشهيد وبعض من أهله‪ .‬بعد السالم‬ ‫والعناق وكلمات العزاء دخلنا إلى البيت حيث جلس على صف من الكراسي‬ ‫مجموعة من أهل الشهيد وفي منتصفهم والده‪ .‬سلمت عليهم فردا فردا وعانقت والد‬ ‫الشهيد وتمنيت له الصبر على فقدان ابنه‪ ،‬فلم يكن لدي ما اضيفه‪.‬‬ ‫ماذا تقول ألب قتل المستوطنون اليهود ابنه الوحيد ألنه تجرأ ودخل بستانا قريبا من‬ ‫مستوطنتهم‪ ،‬يملكه والده أبا عن جد‪ .‬قتلوه وجروا جثته أمام أعين مزارعي أهل‬ ‫القرية المجاورة ورموها على الطريق العام كما ترمي كيسا من القمامة؟ ماذا تقول‬ ‫ألب سلب المستوطنون اليهود أرضه وقتلوا ابنه الوحيد في وسط النهار وأمام أعين‬ ‫الناس وليس لديه مرجعية يشكو لها فالقاتل والقاضي ورجل األمن ينتمون إلى‬ ‫المرجعية ذاتها؟‬ ‫ساد الغرفة جو من الصمت يشقه نحيب الوالد و صوت المروحيات الثالث المحيطة‬ ‫بجثة الشهيد الشاب الملفوفة بالكفن األبيض والمستلقية على فراش فرش على‬ ‫أرض الغرفة استعدادا للصالة عليه ودفنه في مقبرة القرية‪ .‬يخيل للناظر أنه في‬ ‫قيلولة سيقوم منها ليطرح علينا السالم ويوقظ والده من كابوس حلم ويقول له" أنا‬ ‫هنا يا والدي‪ ،‬مازلت حيا"‪ .‬لقد قتله حملة التلمود من قبل أن ينهي تعليمه ويتزوج‬ ‫ويخلف األوالد والبنات‪ .‬لم يكن هناك حاجة للكالم فصمت الحاضرون كل مع أفكاره‬ ‫ومع أسئلته يبحثون لها عن أجوبة مقنعة‪ ،‬فهم أناس بسطاء طيبون ال يعرفون‬ ‫خبايا صالونات السياسة العربية والعالمية وأسئلتهم بسيطة‪ ،‬لماذا؟ وإلى متى؟ وما‬ ‫العمل؟ أسئلة تحيرهم وال يجدون لها عند رجال سياسة الصالونات والبدالت األنيقة‬ ‫جوابا‪.‬‬ ‫خرجنا جميعا من بيت العزاء وتوجهنا نحو مسجد القرية حيث جرت الصالة على‬ ‫الشهيد ثم توجهنا إلى مقبرة القرية حيث جرى دفنه في قبر تم إعداده إلحتضان جثة‬ ‫الفتى الشهيد‪ ،‬وبذلك أسدل الستار عن فصل من ملحمة ذات فصول ال تعد وال‬ ‫تحصى وانتهت قصة شاب فلسطيني خرج من بيته ورغب في زيارة بستان لهم‬ ‫فانتهت زيارته بدفنه في قبر في مقبرة القرية‪ ،‬ولكن لم يسدل الستار عن التراجيديا‬ ‫الفلسطينية المحزنة وبقي الممثلون على المسرح ينتظرون أدوارهم‪ ،‬فالقبور في‬ ‫حاجة لمن يسكنها‪.‬‬ ‫اعتذرت ألهل الشهيد ورجال القرية عن دعوتهم لتناول الغذاء وركبت سيارتي‬ ‫المستأجرة وتحركت نحو نابلس‪ .‬قبل أن أتحرك جاءني فتى من أهل القرية ورجاني‬ ‫أن أصحبه معي إلى نابلس حيث يدرس فوافقت‪ .‬كان فتى قليل الكالم علمت منه أنه‬ ‫صديق وقريب الشهيد وأنه يدرس في مدينة نابلس وأنه يركب باص القرية صباحا‬


‫‪18‬‬

‫باكرا ويعود من نابلس إلى القرية بنفس الباص في المساء وأنه لم يذهب اليوم إلى‬ ‫المدرسة كي يحضر جنازة صديقه وقريبه وأنه ذاهب ليقضي الليلة عند أصدقاءه‬ ‫في نابلس‪ .‬احترمت صمت الفتى وتفهمت عدم رغبته في الكالم وتركته مع أفكاره‬ ‫كما شطحت مع نفسي ومع أفكاري وأسئلتي المحيرة والتي أبحث لها‪ ،‬بدون طائل‪،‬‬ ‫عن جواب‪.‬‬ ‫الطريق بين قريتنا والطريق العامة المؤدية إلى نابلس_ رام هللا‪ ،‬ضيق وكثير الحفر‬ ‫من عدم الصيانة وعلى السائق أن يكون حذرا وخاصة عند اإللتقاء بالسيارات‬ ‫القادمة في الطريق المعاكس‪ .‬قبل أن أصل إال مفترق الطرق المؤدي إلى نابلس‬ ‫بحوالي خمسين مترا الحظت سيارة عسكرية إسرائيلية مصفحة تقف على جانب‬ ‫الطريق وعلى بعد أمتار منها إشارة "قف" موضوعة على طرف الطريق‪ .‬لم يكن‬ ‫على الطريق أي حاجز أو أي مانع من موانع المرور المعتادة كالمشط المسنن‪.‬‬ ‫أوقفت السيارة على بعد أمتار من اإلشارة ثم أوقفت محركها وانتظرت‪ .‬لم يعيرني‬ ‫الجنود اإلسرائيليون أي اهتمام واستمروا في حديث بينهم كما لو كنت وسيارتي‬ ‫طيفين غير مرئيين‪ .‬إنتظرت ونظرت نحوهم لكي أتأكد من أنهم يروني فتأكدت‬ ‫ولكنهم لم يعيرونني أي اهتمام‪ .‬وبما أنني أعيش في أوروبا وال أعرف خبايا‬ ‫وتفاصيل الحياة اليومية للفلسطيني العادي‪ ،‬قررت التحرك‪ .‬عندما شغلت المحرك‬ ‫سمعت صوت الفتى بجانبي يصيح " ال يا مجنون" واختلط صوته بأصوات صراخ‬ ‫الجنود اإلسرائليين بأسلحتهم المشهرة في وجهي‪ .‬عرفت في تلك اللحظة أنني لست‬ ‫في أوروبا وإنما في فلسطين المحتلة من قبل عدو مجنون ال يرحم وأن أي عمل‬ ‫غير عقالني سيتسبب في قتلي وقتل الفتى‪ .‬أخرجت جواز السفر السلوفاكي األحمر‬ ‫وصرخت في وجههم باللغة اإلنجليزية أنني سائح أوروبي‪.‬‬ ‫أخذ أحد الجنود جواز السفر وتحت غطاء األسلحة الرشاشة الموجهة إلى رؤوسنا‬ ‫أخذ في تصفح الجواز ثم بدأ جدال غير عقالني وغير منطقي معه وكان ملخصه أنه‬ ‫كان من واجبي الوقوف إلى أن أستلم إشارة واضحة من الجنود بالتحرك‪ .‬لم يكن‬ ‫هناك مجال الستعمال المنطق فالمنطق الوحيد الذي كان يحكم اللحظة هو سلطة‬ ‫السالح ومشروعية القتل بدون محاسبة‪ .‬أعاد لي الجندي جواز السفر وأمرني‬ ‫بالتحرك‪.‬‬ ‫تحركت بالسيارة إلى الطريق العام وتوجهت نحو نابلس ولقد غمرني شعور غامر‬ ‫بأنني ومرافقي الفتى كنا قاب قوسين أو أدنى من الموت‪ .‬كانت هناك مفارقة غريبة‬ ‫أن جواز السفر األوروبي‪ ،‬البالد التي شاركت في صنع مأسآة شعبي‪ ،‬هو الذي أنقذ‬ ‫حياتنا‪ .‬وألن رفيقي الفتى يعيش في فلسطين المحتلة وليس مثلي في أوروبا‪ ،‬وألنه‬ ‫يعيش خفايا وتفاصيل الحياة اليومية فيها‪ ،‬وألنه يعرف عبثية الموت في كل لحظة‬ ‫من لحظات حياتها‪ ،‬ولقد ترك خلفه دليال راسخا على ذلك‪ ،‬جثة قريبه وصديقه الذي‬ ‫سقط مقتوال على يد المستوطنين اليهود ‪ ،‬فإنه كان يعي أن الموت على يد الجنود‬ ‫اإلسرائيليين يمكن أن يحدث ألي فلسطيني وألتفه األسباب‪ ،‬لهذا فقد بال الشعوريا‬


‫‪19‬‬

‫على نفسه حين شعر بيد الموت اإلسرائيلي تقترب منه ساعية لسلبه حياته التي لم‬ ‫يعشها بعد‪.‬‬ ‫لم أستطع طوال الطريق تهدئته ولم تنفع اعتذاراتي له عن تطييب خاطره فلقد طغى‬ ‫عليه مزيج من الخوف والحيرة والخجل وكان يتحسس بنطلونه المبلول ويلومني"‬ ‫بدك تقتلنا‪ ،‬شو إنت مجنون‪ ،‬شوف شو عملت فيي‪ ،‬خليتني أبول على حالي‪ ،‬يا‬ ‫فضيحتي"‪.‬‬ ‫عندما وصلنا إلى قرية حوارة وهي قرية قريبة من نابلس يمر منها الطريق العام‬ ‫واجهنا حاجز للجنود اإلسرائليين ولقد وقف أمامه صف طويل من سيارات‬ ‫الفلسطينيين في انتظار دورهم للتفتيش‪ .‬نظر الفتى إلي وقال محذرا‪ ":‬بتعمل شو‬ ‫بقولولك عليه‪ ،‬وقف! بتوقف ولو طول اليوم ولما يقولولك إمش! بتمشي وخلي‬ ‫هاليوم يمشي على خير‪ ".‬وعدته بذلك وبأنني لن أضع أنفسنا في أي موضع يهدد‬ ‫فيه حياتنا أو يسبب لنا األذى‪.‬‬ ‫عندما وصل دورنا بعد ساعات من اإلنتظار‪ ،‬طلب جندي إسرائيلي هوياتنا فقدمت له‬ ‫جواز السفر األوروبي وقدم الفتى هويته‪ .‬تصفح الجندي جواز سفري ثم صاح على‬ ‫زميل له بالعبرية ولم أفهم إال كلمة تشيكوسلوفاكيا‪ .‬جاء الجندي الثاني وأخذ جواز‬ ‫السفر وتصفحه بدوره ثم نظر إلي وقال بلغة تشيكية سليمة إن كنت أتكلم التشيكية‪،‬‬ ‫فأجبته باإليجاب‪ .‬علمت منه أنه جاء من بلد اسمها أولومتس في تشيكيا وأن أهله‬ ‫رحلوا إلى "إسرائيل" قبيل سقوط النظام اإلشتراكي عام ‪ .1998‬سألني من أين أنا‬ ‫وأين أعيش‪ ،‬فأجبته من نابلس وأعيش في براتسالفا في سلوفاكيا‪.‬‬ ‫كانت لحظة مفارقة غريبة‪ ،‬أنا الفلسطيني إبن فلسطين أعيش في بالده بينما هو‬ ‫التشيكي يعيش في بلدي ويحمل بندقية تخوله إيقافي وتفتيشي‪ .‬كان ال بد أن تثير‬ ‫هذه المفارقة الغريبة جداال بيننا حول من له األحقية في فلسطين‪ ،‬أنا الفسطيني‬ ‫الذي ولد في فلسطين وعاش أجداده فيها أبا عن جد منذ مئات السنين أم هو ابن‬ ‫أولومتس‪ ،‬التشيكي وأمثاله من المهاجرين اليهود الذين جاؤوا غرباء من مختلف‬ ‫بقاع األرض ليستوطنوها؟ أنا الفلسطيني الذي يسمح لي بزيارة بلدي فقط كسائح‬ ‫أوروبي أم هو الذي جاء غريبا إليها فأصبح مواطنا يحمل السالح يخوله قتل أهلها‬ ‫وسلب أرضها ؟ تطور الجدال واحتد حتى نسيت أنني أقف أمام جندي مسلح يملك‬ ‫اإلذن بقتلي بدون مسائلة أو سؤال‪ .‬قلت له‪ " :‬اسمي نضال بن عبالقادر بن صالح‬ ‫بن بخيت وتابعت أعدد أسماء أجدادي إلى أن وصلت الجد العاشر وأضفت‪ ":‬كلهم‬ ‫ولدوا في فلسطين وماتوا ودفنوا في أرضها‪ ،‬لم يأت أحد منهم من سلوفاكيا وال من‬ ‫التشيك وال من روسيا أو بولونيا أو رومانيا مثلكم‪ ،‬فكيف يكون لكم أنتم الغرباء‬ ‫الحق فيها وال يكون لي؟‬


‫‪20‬‬

‫التف حولنا مجموعة من الجنود وكانوا يستمعون إلى جدالنا وهم مستمتعين بعبثية‬ ‫الجدال ويظهر أنهم كانوا يفهمون حديثنا فالجندي األول كان بولنديا وال أدري ما‬ ‫هي أصول الجنود اآلخرين‪ .‬فجأة ظهر ضابط إسرائيلي وصاح بالجندي ان ينهي‬ ‫الجدال‪ .‬أخذ جوازي السفر‪ ،‬تصفحه وأعاده إلي وقال بعربية مكسرة‪ ":‬روح بيتك‬ ‫في سلوفاكيا‪ ،‬هذه بلدنا‪ ،‬هللا أعطانا إياها وانتوا ما إلكم هون مكان‪ ،‬ياهلل إمشي" ثم‬ ‫ضرب بيده على سقف السيارة وغادر ‪.‬‬ ‫شغلت محرك السيارة وتابعت طريقي إلى نابلس والحظت أن رفيقي الفتى يهز رأسه‬ ‫شماال ويمينا ثم قال‪ " :‬شو هاللغة اللي كنتو ترطنو فيها؟ قلت له بأنها‬ ‫اللغةالتشيكية فسالني‪ " :‬وعليش كل هالحكي؟ قلت له عن األحقية في فلسطين‪ ،‬لنا‬ ‫أم لهم؟ قال‪ :‬هو هذه بدها حكي؟ الحق معانا والسالح معهم‪ ،‬شو في حكي غير‬ ‫هيك؟" قلت له معك حق وتابعنا الطريق صامتين‪.‬‬ ‫عندما دخلنا مدينة نابلس ومررنا بجانب معسكر الالجئين في بالطة طلب مني أن‬ ‫أوقف السيارة فاصدقاءه يسكنون في المعسكر‪ .‬طلبت منه أن آخذه إلى بيتنا حتى‬ ‫يغير مالبسه فرفض‪.‬عرضت عليه جريدة لكي يغطي بها بقعة البول على بنطلونه‬ ‫فرفض‪ .‬نزل من السيارة ثم أغلق بابها واتكأ على نافذة السيارة وقال‪ " :‬شكرا على‬ ‫التوصيلة وال تخاف‪ ،‬مافي إشي أستحي منه‪ .‬خللي زعماءنا يستحوا ويغطوا على‬ ‫عوراتهم‪ .‬كلها نتفت بول بتنشف وبتروح‪ ،‬بس هم وسخهم ما بنضفو كل صابون‬ ‫نابلس وال إشي بغطي على عوراتهم‪ ".‬ثم أدار ظهره لي وتركني وظللت أراقبه‬ ‫حتى اختفى عن نظري ولكن لم يختف عن فكري وذاكرتي‪.‬‬


‫‪21‬‬

‫‪.6‬‬

‫عقال الباشا‬

‫مدير مدرسة قريتنا يملك دارا في مطلع القرية يحيط بها حديقة كبيرة مليئة‬ ‫باألشجار المثمرة‪ .‬تتوسط حديقة المنزل شجرة توت ضخمة‪ ،‬يستقبل صاحب البيت‬ ‫تحتها في الصيف زواره ومحبيه من أهل القرية‪ ،‬يتسامرون وهم يشربون الشاي‬ ‫بالنعناع أو اليانسون والزعتر‪.‬‬ ‫كان في قريتنا قبل اإلحتالل اإلسرائيلي‪ ،‬كما كان في معظم قرى فلسطين‪ ،‬مضافات‬ ‫حيث يلتقي فيها رجال القرية في كل مساء‪ ،‬يشربون القهوة المرة مع الهال أو‬ ‫الشاي مع النعناع ويتسامرون إلى ساعة متأخرة من الليل‪ .‬المضافة عادة تحتوي‬ ‫على عدد من الفرشات واللحف والمخدات إلى جانب القهوة والشاي والسكر‬ ‫إلستعمال الضيوف المارين بالقرية‪ .‬ولقد جرت العادة في قرانا أن الضيف الغريب‬ ‫له حق الضيافة لمدة ثالث أيام دون أن يسأله أحد عن وجهته وغرضه وسبب‬ ‫زيارته‪.‬‬ ‫إعتاد أهل القرية عندما يأتيها ضيف طارئ أن يقوموا بالمشاركة في إطعامه‬ ‫وضيافته‪ .‬كما أعتادوا في رمضان أن يفطروا معا‪ ،‬كل يخرج ما عنده من األكل‬ ‫وحسب طاقته( ولذلك دعوه خروجا) ويأكلونه معا غنيهم وفقيرهم‪ .‬كان في قريتنا‬ ‫مضافتين‪" ،‬المضافة التحتى" وهي بجانب مسجد القرية وكان يجلس ويسمر فيها‬ ‫الرجال من أهل القرية‪ ،‬خاصة بعد صالة العشاء‪ ،‬و"المضافة الفوقى" التي إعتاد‬ ‫على الجلوس والسمر فيها بعض رجال "الحارة الفوقى"‪.‬‬ ‫في الصيف كانت ساحة المسجد تتحول إلى مضافة يجلس الرجال فيها على الحصير‬ ‫المفروش تحت شجرة التوت الضخمة التي نمت في وسطها منذ العهد التركي‪ .‬أما‬ ‫في الشتاء فكانوا يجلسون في داخل المضافة حول موقد من النار المشتعلة من‬ ‫حطب الزيتون الذي يعطي المضافة جوا سحريا معبق برائحة حطب الزيتون‬ ‫المشتعل‪ .‬كان يجري تحميص حب القهوة مع حب الهال يوميا على نار الحطب‬ ‫الهادئة ثم يقوم صانع القهوة بدق القهوة والهال معا في مهباش خشبي مزخرف‬ ‫تصدر عنه أثناء عملية الدق والطرق إيقاعات جميلة يتفنن صانع القهوة في‬ ‫إخراجها‪.‬‬ ‫كان في انتظاري إلى جانب المضيف أو المعزب حسب ما يقال له في منطقتنا بعض‬ ‫من الضيوف من أهل قريتنا‪ .‬قام الجميع للقائي وعانقوني مقبلين وجنتي حسب‬ ‫العادة في فلسطين‪ .‬لم أكن أستلطف عادة التقبيل هذه‪ ،‬ولكن ما كان باليد حيلة‪،‬‬ ‫وعلى قدر المحبة يكون عدد القبل وشدتها التي تكون في كثير من األحيان أشبه‬ ‫بعملية الشفط المؤذية‪.‬‬


‫‪22‬‬

‫كان من بين الحضور رجل اسمه حامد ولكن ندر أن يناديه أحد بهذا اإلسم ولقد‬ ‫عرفه الناس بلقب الباشا وهو لقب لقبه إياه والدي ألنه كان يمشي مشية الباشوات‪.‬‬ ‫إعتاد الباشا حامد على لبس البنطلون المصنوع من قماش الكاكي وكان يضع على‬ ‫رأسه الحطة الفلسطينية البيضاء وفوقها عقال مبروم أسود ويرد طرف الحطة فوق‬ ‫العقال المحني على الرأس قليال‪ ،‬فينحسر جزء من شعر رأسه بطريقة يقول لها‬ ‫الفالحون في بالدنا عنقرة‪.‬‬ ‫ويحكى أن سويديا مسؤوال في وكالة الغوث زار قريتنا وأعجبته شخصية الباشا‬ ‫فسأله من أي جامعة تخرجت يا باشا؟ فرد عليه الباشا بكل جدية‪" :‬لقد تخرجت من‬ ‫جامعة دومة"‪ .‬فهز المسؤول رأسة داللة المعرفة وقال‪ :‬هم‪ ،‬عظيم‪ ،‬عظيم‪ ،‬ولم‬ ‫يعرف أن دومة قرية صغيرة تقع على جبل مطل على غور األردن وفيها مدرسة‬ ‫إبتدائية فقط‪.‬‬ ‫للباشا بستان فيه بعض شجرات من الزيتون والتين والعنب وشجرة من الخوخ‬ ‫المطعم‪ .‬يقع البستان في منطقة إسمها قربوصة‪ ،‬على سفح جبل تطل من على قمته‬ ‫قرية قريوت المجاورة‪ .‬ولقد وضع المستوطنون اليهود أيديهم على قسم كبير من‬ ‫أراضي قرية قريوت وأقاموا فيها مستوطنة كبيرة واستولوا كذلك على منابع المياه‬ ‫في المنطقة ومنعوا أهل القرى من حفر أي بئر فيها‪ .‬ولقد اعتاد أهل القرى‬ ‫المجاورة" سرقة" الماء من أنابيب المياه الممدودة للمستوطنة ليال وفي الخفاء‬ ‫وذلك بقص األنابيب وسحب مياه المستوطنة‪ ،‬ولطالما أطلق المستوطنون النار‬ ‫عليهم مما أدى إلى جرح البعض أو قتل البعض اآلخر‪.‬‬ ‫اعتاد الباشا أن يذهب يوميا لزيارة أمالكه" ليطمئن عليها ‪.‬وكان يقول‪ " :‬أنا رايح‬ ‫أطل على أمالكي وأشوف شو عملوا فيها هالقوادين اليهود"‪ ،‬ألنه كان من عادة‬ ‫المستوطنين أن يقطعوا األشجار ويخربوا الثمار‪ .‬كان الباشا يسرح إلى بستانه‬ ‫وعصاه تحت إبطه كالباشوات أو الجنراالت‪ .‬وكان حريصا جدا على وضعية العقال‬ ‫والحطة على رأسه‪ ،‬فأهل قرانا يعتبرون العقال رمزا للشرف وإسقاطه عن الرأس‬ ‫تعتبر إهانة كبيرة‪ .‬كان الباشا يأخذ معه في رحلته صرة من القماش فيها رغيف‬ ‫خبز طابون وحبات زيتون رصيع ملفوفة بورق جريدة قديمة‪ .‬إعتاد الباشا أن يقوم‬ ‫بزيارة كل شجرة في البستان وأن يالمسها ويالطفها ويصلح ما عطب منها وبعد أن‬ ‫ينهي عمله يجلس ليستريح تحت شجرة الزيتون الكبيرة‪ ،‬يفتح صرته الملفوفة‬ ‫ويضعها على األرض ويتناول طعامه مع حبات من التين الديفور أو العنب‪ ،‬ثم يضح‬ ‫رأسه فوق حذاءه ويأخذ قيلولة يصفها بأنا أفضل من النوم في قصر السلطان‬ ‫العثماني‪.‬‬ ‫في أحد األيام أفاقته من قيلولته ركالت أحذية عسكرية وصرخات بالعبرية والعربية‬ ‫المكسرة‪ .‬كانت مجموعة من المستوطنين ترعب فالحي المنطقة وتخرب‬ ‫مزروعاتهم وتقطع أشجارهم‪ .‬ضربوه بايديهم وبأرجلهم وبعصي غليظة كانوا‬ ‫يحملونها معهم ثم جروه من رجليه إلى الطريق العام ورموه هناك ورحلوا‪ .‬ركض‬


‫‪23‬‬

‫بعض المزارعين إليه وحاولوا مساعدته على الوقوف‪ .‬وقف مترنحا والدماء تسيل‬ ‫من شفتيه وجبينه ومن جروح مختلفة في جسمه‪ .‬صاح الباشا‪ " :‬أين عقالي؟ أين‬ ‫عقالي؟ أسقط القوادون عقالي وأخذ الجميع يبحثون عن عقال الباشا حتى وجدوه‪.‬‬ ‫وضع الحطة الممزقة على راسه ووضع فوقها العقال ولم يكن مهتما ألي جرح أو‬ ‫ألم في جسده وظل يكرر‪ " :‬لقد أسقط العرصات عقالي‪".‬‬ ‫بعد أن شربنا الشاي بالنعناع دار الحديث بين الجالسين عن مختلف األمور‬ ‫واألوضاع في فلسطين واإلحتالل وما شابه إلى أن تطرقوا لقصص الباشا مع‬ ‫المستوطنين‪ .‬قلت للباشا‪ " :‬أخبرني يا باشا هل ذهبت بعد الحادثة تلك مع‬ ‫المستوطنين إلى البستان؟" قال‪ :‬طبعا‪ .‬وأضاف مدير المدرسة قائال‪ :‬كل مرة بوكل‬ ‫قتلة وتاني يوم بروح‪ ".‬نظرت إلى الباشا مستفسرا فقال‪ " :‬بوكل قتلة بس بعد‬ ‫هديك المرة ما بوقعوا عقالي‪".‬‬ ‫علمت منه أنه بعد صدامه األول مع المستوطنين صار عندما يذهب للبستان يقوم‬ ‫بلف الحطة على رأسه فوق العقال ويربطها بشدة فال يسقط العقال عن راسه عندما‬ ‫يتعرض له المستوطنون‪ .‬قلت له ومتى آخر مرة ذهبت إلى هناك‪ .‬فرد عنه احد‬ ‫الحضور قائال‪ :‬مبارح كان هناك وضربوه‪ ،‬مش شايف كيف شالطيفه ورمانه مثل‬ ‫حبة البندورة البلدية‪ .‬فقال الباشا‪ :‬ورمانه معلش‪ ،‬بس مقدروش يوقعوا عقالي‪.‬‬ ‫بعد فترة قام الباشا ليودعنا‪ ،‬سألته إلى أين؟ فقال إلى البستان‪ ،‬قلت له سيضربوك‬ ‫أو يقتلوك فضحك وعلق أحد الحضور قائال‪ :‬إتعود وتمسح‪ .‬لف الباشا حطته فوق‬ ‫راسه وربطها ربطا محكما حول العقال‪ ،‬وضع عصاه تحت إبطه و تركنا وذهب‬ ‫وبقيت أراقبه حتى تحول إلى فراشة صغيرة في فضاء فلسطين‪.‬‬


‫‪24‬‬

‫‪.7‬‬

‫الحذاء‬

‫كان عواء الكالب يشق السكون المخيم على القرية‪ .‬كما كانت أصوات األوالد‬ ‫يلعبون على بيادر القرية تسمع بين الحين والحين تمتزج بنداء بعض أمهاتهم‬ ‫عليهم كأنها جزء من سيمفونية‪ ،‬يناغمها صوت بقرة الحاجة وسيلة الذي تحسبه‬ ‫صوت مغنية أوبرا تتناغم مع ألحان المجموعة السمفونية القروية‪.‬‬ ‫للقرية رائحة خاصة‪ ،‬مزيج من رائحة الطوابين ودخانها ورائحة خبزها الطازج‬ ‫المخبوز في الطابون على حبات الحصى الساخنة‪ ،‬ورائحة السماد المصنوع من‬ ‫روث البقر والماعز‪ .‬رائحة القرية في الصيف تختلف عنها في الشتاء ويقول‬ ‫القرويون أن لكل قرية رائحة خاصة يفرق القرويون بينها‪.‬‬ ‫" يا محمود‪ ،‬ولك يا محمود‪ ،‬وبينك يا مقصوف الرقبة؟"‪ ،‬نادت أم محمود على‬ ‫إبنها الذي كان غافال ومنصرفا في اللعب‪ .‬نادى أحد األوالد على محمود صائحا ‪" :‬‬ ‫محمود أمك بتنادي عليك‪ ".‬ذهب محمود راكضا إلى البيت وهو يصيح‪ " :‬ياما أنا‬ ‫جاي‪ ،‬هاظا هو أنا جاي‪ ،‬شو بدك قرقعتي الدنيا بالصياح علي؟"‬ ‫"تعال خود غدا ألبوك‪ ،‬إلو من الصبح على لحم بطنه‪ ".‬ردت أم محمود و جلبت‬ ‫قطعة قماش بيضاء وضعت عليها رغيفي خبز طابون وبعض حبات من الزيتون‬ ‫الرصيع وقطعة جبنه بيضاء وبيضتين مسلوقتين وربطت قطعة القماش كصرة‬ ‫وضعتها في كيس من القماش مع إبريق من الشاي وأعطتها إلبنها محمود قائلة‪" :‬‬ ‫بتروح دوغري عند أبوك‪ ،‬مش تشنطط هيك وهيك‪ ،‬أنا بعرفك‪ ".‬أجابها محمود‪" :‬‬ ‫ال ياما‪ ،‬وهللا العظيم ألروح بسرعة أوصل األكل ألبويي‪ ".‬ثم أضاف‪ ":‬ياما باهلل‬ ‫عليك ما عندك تعريفة تعطيني‪ ،‬جاي عبالي الحلقوم‪ ".‬ردت أم محمود بعنف‪":‬‬ ‫حلقوم يسد زورك‪ ،‬منين يا حصرتي‪ ،‬روح عاد‪ ،‬إنقلع من وجهي‪".‬‬ ‫محمود لم ينقلع بل نزع حذاءه ووضعه بين يدي والدته وقال‪ " :‬شوفي ياما‬ ‫كندرتي‪ ،‬مهرية واصابع إجريي طالعين برة‪ .‬إشترولي كندرة جديدة‪".‬‬ ‫أخذت أم محمود الحذاء وأحضرت قطعة من الكرتون أدخلتها في فردي الحذاء‬ ‫وضغطت عليها حتى سدت الثقب الكبير وأعادت الحذاء إلى إبنها قائلة‪ " :‬خود‬ ‫إلبس‪ ،‬مشي حالك لحتى هللا يفرجها‪".‬‬ ‫لبس محمود الحذاء وخرج من البيت وفي يده الكيس ‪ .‬مر من أمام دكان الحاج‬ ‫يونس ووقف عنده يفكر‪ " :‬آخ يا ربي جاي على بالي الحلقوم‪ ،‬بفوت وببدل‬ ‫البيضتين بشوية حلقوم‪ ".‬لم يطل التفكير كثيرا ودخل الدكان‪.‬‬ ‫دكان الحاج يونس فيها رفين من الخشب عليهما بعض علب السجائر وعلب‬ ‫الكبريت وعلبة كبيرة من الشاي وبعض قطع الصابون البلدي المصنوع من زيت‬ ‫الزيتون‪ ،‬وفي أرض الدكان كيس من السكر أبو خط أحمر‪ .‬أما على الطاولة فكان‬ ‫هناك صندوق من الملبس وآخر من العلكة أو الليدن وعلبة كبيرة من الحلقوم أو‬ ‫كما يقول لها اهلنا في فلسطين الراحة‪.‬‬


‫‪25‬‬

‫وجد محمود الحاج يونس كالعادة يصلي فانتظرهه حتى ينهي صالته‪ .‬ألحاج يونس‬ ‫يكثر من الصالة وعندما كان يسأله القرويون‪ ،‬شو بتصلي يا حاج‪ ،‬ال هو وقت ظهر‬ ‫وال عصر وال مغرب‪ ،‬كان يرد عليهم‪ ،‬بسدد ديوني لرب العالمين‪.‬‬ ‫أنهى الحاج صالته‪ ،‬طوى السجادة وهو يتمتم بعض التسابيح ثم سأل محمود‪ ":‬شو‬ ‫اللي بدك إياه يا محمود؟" أخرج محمود البيضتين ووضعهما على الطاولة قائال‪":‬‬ ‫بدي في هذول البيضتين تعطيني حلقوم‪ ".‬أخذ الحاج البيضتين‪ ،‬فحصهما ثم قال‪" :‬‬ ‫هذول مسلوقات‪ .‬كنو هذا غدا ابوك يا ملعون الوالدين‪ ".‬نفى محمود ذلك بشدة‬ ‫وحلف مليون يمين بأن والدته أعطته البيضات من أجل أن يشتري حلقوم‪ .‬وضع‬ ‫الحاج البيضتين في درج الطاولة وتناول قطعتين من الحلقوم‪ ،‬لفهما في ورقة‬ ‫جريدة قديمة وأعطاها لمحمود‪.‬‬ ‫ما أن خرج محمود من الدكان حتى بلع قطعتي الحلقوم ولحس ورقة الجريدة حتى‬ ‫إزرق لسانه من حروف الطباعة على الجريدة ثم مص أطراف اصابعه وتابع السير‪.‬‬ ‫خرج من الطريق المعبدة إلى الطريق الترابية وتوجه نحو حقل والده‪ .‬ما أن إقترب‬ ‫من الحقل حتى سمع صوت والده وهو يحرث أرضه ويصيح على حماره‪ ":‬حا‪،‬‬ ‫إتحرك يا ملعون الوالدين‪ ،‬تحرك يا حمار‪ ،‬حا!"‬ ‫طرح محمود على والده السالم وقال‪ ":‬جبتلك يا با الغدا‪".‬‬ ‫وقف أبو محمود عن الحراثة‪ ،‬نزع الحطة عن رأسه ومسح العرق عن وجهه‬ ‫وقال‪ ":‬جيت بوقتك‪ ،‬انا ميت من الجوع‪ ".‬حل عقدة الصرة وبسط قطعة القماش‬ ‫على األرض وتمعن في محتوياتها وقال‪ ":‬ولك وين البيضات‪ ،‬أكلتها يا عرص؟"‬ ‫حلف محمود مليون يمين بأنه لم يأكلها ولكنه بعد مراوغة إعترف بأنه إشترى بها‬ ‫حلقوم من دكان الحاج يونس‪.‬‬ ‫قام ابو محمود وحمل عصى وهجم ينوي ضرب ولده بها إال ان محمود قفز وهرب‬ ‫بعيدا عن متناول يد أبيه‪ .‬عاد أبو محمود للجلوس بعد أن هدأ قليال ثم قال‪ ":‬إنشا‬ ‫هللا سم الهاري اللي يهري بطنك‪ ،‬ولك إنت متشبعش حلقوم؟" رد محمود" " بحبو‬ ‫يا با‪ ،‬بموت فيه‪ ".‬ثم إقترب من أبيه رويدا رويدا وجلس بجانبه بعد أن تاكد أنه لم‬ ‫يعد غاضبا منه‪ .‬إنتظر حتى أتم والده طعامه وأخذ في شرب الشاي فنزع حذائه‬ ‫وعرضه على والده قائال‪ " :‬يابا شوف كندرتي مهرية وأصابعي خارجين منها‪ .‬أمي‬ ‫حطت لي فيها كرتونه بس في الطريق تمزعت ‪ .‬بدي تشتري لي كندرة جديدة‪".‬‬ ‫صمت والده وقال له‪ ":‬إنشاء هللا‪ ،‬على العيد بروح على المدينة وبشتري لك‬ ‫كندرة‪".‬‬ ‫ظل محمود يسال عن العيد ومتى سيأتي وفي كل يوم يعد األيام الباقية لقدوم العيد‪.‬‬ ‫أخيرا جاء العيد وجاء معه الحذاء الجديد‪ ،‬لونه بني المع‪ ،‬ال تزال رائحة الجلد‬ ‫والدباغة تفوح منه‪ .‬كان محمود يلبس الحذاء في البيت وحتى أنه نام به في فراشه‬ ‫عدة ليالي حتى منعته والدته‪ .‬كان كلما تغبر الحذاء يمسحه بكم قميصة وعندما‬ ‫يمشي على الطريق الترابية كان ينزع الحذاء ويضعه تحت إبطيه ويمشي حافي‬ ‫القدمين‪.‬‬ ‫كان يوما شديد الحرارة وكان محمود كعادته يحمل صرة الغداء ألبيه وتحت أبطه‬ ‫الحذاء الجديد‪ .‬كان مسرورا مبتهجا يغني وهو يمشي أغنية شعبية معروفة "على‬


‫‪26‬‬

‫دلعونا‪ ،‬على دلعونا" عندما تفاجأ بمجموعة من المستوطنين اليهود واقفة في وسط‬ ‫الطريق‪ .‬لم يعرهم إهتماما وتابع السير إلى أن وصلهم فأوقفوه‪ .‬شده أحدهم من‬ ‫شعر رأسه‪ ،‬إنتزع الصرة من يده وفتحها وألقى بمحتوياتها على األرض وداسها‬ ‫بقدميه‪ .‬أخذ مستوطن آخر الحذاء من تحت إبط محمود‪ ،‬قلبه في يده ثم وضعه في‬ ‫حقيبة عسكرية معه وصفع محمود صفعة قوية أوقعته األرض‪ ،‬ثم رحلوا‪.‬‬ ‫نهض محمود ولحقهم وهو يصيح‪ ":‬هاتو كندرتي يا أوالد الكلب!"‪.‬ضربوه‬ ‫وأوقعوه أرضا‪ .‬تكرر المشهد عدة مرات‪ ،‬وفي كل مرة كان ينهض ويلحقهم‬ ‫صارخا‪ ":‬هاتو كندرتي يا أوالد الكلب‪ ".‬ثم يضربوه ويسقطوه أرضا‪ .‬في المرة‬ ‫األخيرة ضربوه ضربا مبرحا حتى سقط على األرض وعجز عن النهوض وقد غطت‬ ‫وجهه الدماء التي سالت من جروح مختلفة في رأسه ووجهه‪ .‬رحلوا وتركوه ملقى‬ ‫على األرض‪ .‬أخذ يبكي وينوح‪ ":‬آخ يا با يا حبيبي‪ ،‬اخدوا كندرتي الجديدة‪ ".‬دوى‬ ‫صوته في الوادي ورجع صداه إليه حتى ظن أن أحدا غريبا يخاطبه‪ .‬ثم تغلب على‬ ‫نفسه و قام وتابع سيره إلى حقل والده وهو يتمتم‪ " :‬معلش يا والد الكلب وهللا‬ ‫لفرجيكم واأليام جايه‪".‬‬


‫‪27‬‬

‫‪.8‬‬

‫طوشة الموارس‬

‫حمدان يماك مارسا من األرض‪ ،‬والذي ال يعرف معنى المارس نقول له بأن المارس‬ ‫هو قطعة من األرض يحدها قطعة أخرى لمالك آخر‪ .‬مارس حمدان تحده من الجهة‬ ‫الجنوبية حبلة تطل على الطريق العام ومن الجهة الشمالية مارس ألخيه ورثه عن‬ ‫عمته‪ .‬يقسم المارسين خط حراثة عرضه عدة سنتمترات وفي وسطه بين كل بضعة‬ ‫أمتار حجر‪ .‬العمة تركت المارس الثاني لألخ صدقي مقابل خدماته أثناء مرضها‬ ‫وعجزها قبل مماتها‪ .‬حمدان لم يرض بهذا ألنه على حسب قوله كان يبعث إلى‬ ‫عمته نقودا حين كان يعمل في الكويت وبذا يكون قد ساهم في مساعدة العمة‬ ‫وإعالتها ويحق له نصف المارس الذي تركته العمة ألخيه‪ .‬لم يعترف أحد بهذا‬ ‫اإلدعاء ألنه لم يملك ما يثبت ذلك وحتى وإن أثبت فإن العمة تركت ورقة بخط يدها‬ ‫وبشهادة شاهدين أنها تورث المارس لصدقي مقابل خدماته لها‪.‬‬ ‫ظل هذا المارس مصدر خالف بين األخوين إنتقل إلى الزوجات واألوالد‪ .‬وحسب‬ ‫المصادر المطلعة في القرية أن إبن حمدان هو الذي أشعل الشرارة األولى في فتيل‬ ‫طوشة الموارس‪ ،‬حيث أنه أثناء حراثة مارسهم تعدى بمحراثه على مارس عمه‬ ‫بعدد من السنتمترات مما أثار غضب العم فصفعه‪ .‬يقول الراوي‪ :‬ظربه تشف جابه‬ ‫على طوله على األرض‪".‬‬ ‫على أثر ذلك تدخل األب حمدان وقامت الطوشة بين األخوين التي إشترك فيها‬ ‫إضافة إلى األخوين‪ ،‬زوجاتهما وأوالدهما وبناتهما‪ .‬إستعملت فيها كل أنواع األدوات‬ ‫القتالية المتوفرة من هراوات وعصي ومطارق وحجارة وأحذية وحفايات إلى جانب‬ ‫األيدي المسلحة باألضافر الحادة‪ .‬كانت الضربات المتبادلة تتخللها الشتائم وحلف‬ ‫الطالق‪ " :‬علي الطالق من مرتي ثالثة باته إني ألدفنك في هذا المارس‪ ".‬هكذا هدد‬ ‫األخ أخيه ورد عليه اآلخر بأنه سيدفنه وجميع عائلته‪ ".‬تمزقت في حمى الطوشة‬ ‫حطط األخوه وسقطت العقل على األرض وديست باألقدام وخرمشت زوجة األخ وجه‬ ‫سلفتها ومزقتا الطرح عن رؤوسهما‪ .‬أما األوالد والبنات فلم يكونوا أقل ضراوة‬ ‫وسالت الدماء من الرؤوس وعرجت إبنة األخ نتيجة ركلة برجل إبنة عمها‪.‬‬ ‫تدخل العقالء من أهل القرية وركضوا إلى أرض المعركة من أجل فض اإلرتباط بين‬ ‫المتقاتلين وبعد جهد‪ ،‬لم يسلموا هم أنفسهم من ركلة أو من كف طائر أو خرمشة‬ ‫إحدى الزوجات‪ ،‬تمكنوا من وقف القتال وفض إرتباط المتقاتلين عن بعضهم البعض‬ ‫وأخذوا على الجميع تعهد بأن ال يقربوا األرض لمدة أسبوع حتى تهدأ القلوب‬ ‫والنفوس ويتمكن العقالء من إيجاد حل مالئم لهذا الصراع الدامي بين األخوين‪.‬‬ ‫أصبحت الطوشة تعرف بطوشة الموارس وكان األطفال يغنوا أغنية فلسطينية‬ ‫معروفة تقول‪ :‬آه يا بو الموارس‪ ،‬قسم البيدر موارس‪ ،‬قسمو وما أعطاني مارس‪".‬‬ ‫وأصبحت الطوشة خبرا على كل لسان يتندر بها الصغير والكبير‪ .‬كان العقالء‬ ‫يترحمون على والد األخوين الذي كان رجال بمعنى الكلمة‪ ،‬شهما كريم النفس وكان‬ ‫تعليق العقالء بأن المرحوم يتقلب في قبره بسبب أفعال أبناءه‪.‬‬


‫‪28‬‬

‫في صباح أحد األيام بعد مرور أقل من أسبوع على الطوشة جاءت األخبار أن‬ ‫تحركات مريبة تجري في منطقة موارس األخوين‪ .‬خرج األخوان مدججان‬ ‫بالهراوات تلحقهما زوجاتهما وأوالدهما وتوجه الجميح بروح قتالية عالية نحو‬ ‫الموارس وكل مجموعة تظن أن المجموعة األخرى إعتدت على مارس األخرى‪.‬‬ ‫لحق المجموعتين مجموعة من الشباب واألوالد وحتى األطفال ظنا من الجميع أنهم‬ ‫على وشك مشاهدة معركة جديدة بين األخوين وما كانوا ليفوتوها‪.‬‬ ‫المنظر الذي قابل الجميع عندما وصلوا الموارس صعقهم حتى أنهم تخدروا في‬ ‫موقعهم ولم ينبثوا بأي كلمة كأنما القط قد أكل ألسنتهم‪ .‬على الطريق العام وتحت‬ ‫حبلة الموارس وقفت سيارة عسكية إسرائيلية ووقف أمامها عدد من الجنود‬ ‫اإلسرائيليين مدججين بالسالح‪ .‬على أرض الموارس أقام مجموعة من المستوطنين‬ ‫اليهود عربتي سكن متحركتين وبنوا حول األرض المحيطة بكاملها سياج سلكي‬ ‫ضخم وسميك‪ .‬عندما تقدم الجمع من الموقع هدد الجنود اإلسرائيليون الجمع‬ ‫بإطالق النار عليهم إن هم إقتربوا من الموقع‪ .‬عندما سأل أستاذ في مدرسة القرية‬ ‫أحد الضباط عن معنى ذلك أجابه‪ " :‬هذه منطقة عسكرية محظورة ومصادرة‪".‬‬ ‫وقف األخوان بصمت والتقت أعينهما فطأطأ كل منهما رأسه وسقطت الهراوات من‬ ‫أيديهما‪ .‬أخذت الزوجتان تبكيان وعانقت السلفة سلفتها ووقف األوالد صامتين ولقد‬ ‫سقطت العصي من أيديهم‪ .‬جاء أحد الخبثاء إلى األخوين وقال‪ ":‬ها إنبسطو؟ راحت‬ ‫أرضكم ومظلش إشي تتقاتلوا عليه‪".‬‬


‫‪29‬‬

‫‪.9‬‬

‫دفاعا عن الحائط‬

‫منذ صغري ولي عالقة خاصة حميمية مع الحائط‪ .‬كنت في طفولتي أحبو إلى أن‬ ‫أصل الحائط فأجلس طويال متكأ عليه‪ .‬عندما كبرت كنت أصر على أن يكون سريري‬ ‫محاذيا للحائط وفي المدرسة الداخلية كنت دوما أختار السرير المحاذي للحائط‬ ‫وكذلك في الفنادق أو في أي مكان أنام فيه حتى في السجن كنت أضع برشي بجانب‬ ‫الحائط‪ .‬كان الحائط وما يزال يشعرني باألمان‪.‬‬ ‫في العام الثامن واألربعين‪ ،‬حين بدأت هجرة الشعب الفلسطيني‪ ،‬الذي طرد من‬ ‫أرضه على يد عصابات القتلة اليهود‪ ،‬لجأت إلينا في نابلس جدتي من أمي‬ ‫وعائلتها‪ .‬كانت جدتي وعائلتها تسكن مدينة الرملة‪ ،‬ولقد طردت من بيتها على يد‬ ‫جنود الهغانا‪ ،‬وخرجت بما عليها من المالبس‪ ،‬قاطعة المسافة من الرملة إلى نابلس‬ ‫مشيا على األقدام‪ .‬كانت عائلة جدتي تضم باإلضافة إلى جدتي خالتين وخالين ولقد‬ ‫إنضم إليهما بعد يوم خالي الكبير وزوجته وبناته األربع وأوالده الثالثة‪ ،‬فاصبح‬ ‫عددنا يفوق طاقة بيتنا‪ .‬لذلك‪ ،‬قرر والدي أن نترك البيت لجدتي وعائلتها وأن نرحل‬ ‫إلى بيتنا في القرية‪ ،‬وهكذا كان‪.‬‬ ‫بيتنا في القرية قديم جدا ويتكون من طابقين‪ ،‬العلوي ويحتوي على أربع غرف‬ ‫كبيرة تحيط بساحة نصفها مكشوف والنصف اآلخر مسقوف‪ ،‬هذا إلى جانب المطبخ‬ ‫وبيت الخالء‪ .‬أما الطابق السفلي فيتكون من دارين مستقلتين أحداهما كانت تستعمل‬ ‫لخزن الحبوب والزيت والزيتون وإليواء الماشية والثانية لنوم الضيوف‪ .‬كان يسكن‬ ‫في هذا البيت الكبير‪ ،‬الذي عرف سلسلة من أجدادي‪ ،‬عمي وزوجته‪ ،‬ولم يكن لهما‬ ‫أوالد أو بنات‪ ،‬فلقد كانت زوجته عاقر‪ .‬قرر عمي أن يترك لنا الطابق العلوي ونزح‬ ‫هو وزوجته إلى الطابق السفلي‪.‬‬ ‫لم يمض يوم على وجودنا في القرية إال ونحن نواجه بنزوح جديد‪ .‬لجأ إلينا أقارب‬ ‫لنا من قرية عمواس‪ ،‬التي هدمها اليهود وأزالوا معالمها تماما‪ .‬كانوا ثالث عائالت‬ ‫برجالهم ونسائهم وأطفالهم باإلضافة إلى ماشيتهم‪ .‬كان ال بد من القيام بترتيبات‬ ‫صارمة و مالئمة إلقامة هذا الجيش العرمرم‪.‬‬ ‫إجتمع الرجال حول والدي وتباحثوا وتشاوروا وخرجوا بقرارات ترتيبة وهي أن‬ ‫والدي ووالدتي وطفليهما سيقيمون في غرفة وسيقيم الرجال العمواسيون في‬ ‫الغرفه الثانية ونساءهم وأطفالهن في الغرفةالثالثة‪ ،‬أما الغرفة الرابعة فتحول إلى‬ ‫مطبخ ومجلس للنساء‪ ،‬يجلسن فيه النساء ويتسامرن من جهة ومن جهة أخرى‬ ‫يشرفن على تحضير الطعام لجميع أفراد العائالت األربعة‪ .‬ولقد جهزت الساحة‬ ‫المسقوفة لتكون مجلسا للرجال يتناولون في طعامهم ويتسامرون في المساء‬ ‫عندما يرجعون من مضافة القرية‪.‬‬ ‫كان لغرفة نوم الرجال علية صغيرة مرتفعة عن أرض الغرفة بنحو متر ومساحتها‬ ‫مترين في متر‪ ،‬ولقد تقرر أن تكون مكانا لنومنا نحن األوالد‪ ،‬وكان عددنا ستة‪،‬‬ ‫تتراوح أعمارنا بين الست سنوات والعشر سنوات‪ .‬كانت العلية محاطة من جهتين‬ ‫بحاجز خشبي ولها نافذة تطل على ساحة البيت‪ .‬لم يكن للعلية إال حائط واحد‪.‬‬


‫‪30‬‬

‫لم يعرف اهل القرى في تلك األيام األسرة‪ ،‬كانوا ينامون على فرش محشوة بالقطن‬ ‫أو صوف الغنم‪ ،‬تفرش في الليل وقت النوم‪ ،‬و يعاد ترتيبها في الصباح‪ ،‬حيث تطوى‬ ‫و توضع فوق بعضها البعض في ركن من أركان الغرفة‪ .‬كان بيتنا في القرية مليئ‬ ‫باألفرشة والمخدات والغطي تحسبا ألي ضيافة طارئة‪.‬‬ ‫في المساء وزعوا علينا نحن األوالد أفرشة صغيرة وبعض األغطية‪ ،‬ذهبنا بها إلى‬ ‫العلية‪ .‬أعلنت لألوالد و بدون مقدمات أنني سأضع فرشتي بجانب الحائط ولم ألق‬ ‫معارضة من أحد إال من ولد من العمواسيين يكبرني بعام أو عامين‪ .‬كان أكبر مني‬ ‫سنا وحجما ووجدها مناسبة لكي يفرض نفسه ويعلن تفوقه‪.‬‬ ‫ما كنت ألسمح بذلك‪ ،‬فالحائط لي ولن أتنازل عنه ألحد حتى لو كان ضيفا عندنا‪ .‬كان‬ ‫هذا الضيف‪ ،‬بالنسبة لي‪ ،‬وفي تلك اللحظة‪ ،‬غريبا‪ ،‬معتديا على حق من حقوقي‪،‬‬ ‫وكان علي أن أدافع عن هذا الحق‪ .‬لقد كان عليه‪ ،‬إن إستطاع‪ ،‬أن ينتزع هذا الحق‬ ‫بالقوة ولم يكن هناك مجال لغير ذلك‪.‬‬ ‫أغلقنا باب الغرفة ووزعنا بقية األوالد بين الباب والنافذة لمراقبة تحركات أفراد‬ ‫العائلة وإخطارنا في الوقت المناسب‪ ،‬ريثما نسوي الخالف بيننا ‪ .‬بدأ العمواسي بأن‬ ‫دفعني دفعة قوية كادت ترميني أرضا‪ ،‬فعرفت حينها أن األمر قد تخطى الجدل‬ ‫العقالني وحل محله جدل القوة‪ .‬تعاركنا وتضاربنا بدون اإللتفات إلى أي معيار من‬ ‫معايير الكياسة والضيافة ‪ .‬كانت معركة مفتوحة على كل اإلحتماالت ويسمح فيها‬ ‫إستعمال كل الوسائل‪ ،‬ما عدا الصراخ‪ ،‬حتى ال نلفت إنتباه بقية أفراد العائلة‪ .‬سال‬ ‫الدم من فم غريمي وشعرت بطعم ملوحة دمي في فمي‪ .‬توالت اللكمات والركالت‬ ‫والخرمشات المتبادلة‪ ،‬حتى األسنان إستعملت في هذا العراك وكان العض المتبادل‬ ‫أحد الوسائل القتالية المؤثرة‪ .‬تدحرجنا على األرض وتبادلنا المواقف والمواقع‬ ‫ومرت لحظات كنا فيه في شبه عناق‪ .‬وقف بقية األوالد صامتين‪ ،‬يشاهدون المعركة‬ ‫بوجل وترقب في نفس الوقت الذي كانوا يقومون فيه بمراقبة الباب والنافذة خوفا‬ ‫من أي طارئ‪ .‬نحن لم نكتف بأخذ وعد منهم بأن ال يخبروا األهل أو يقوموا‬ ‫بإخطارهم بما يجري‪ ،‬بل زدنا على ذلك بتهديدهم بالضرب المبرح إن قاموا بذلك‪.‬‬ ‫لم أدري كم طال زمن القتال وخيل إلي أنه أبدي و شعرت أن ضرباتنا المتبادلة بدأت‬ ‫تضعف وأخذت تخطئ هدفها‪ .‬لقد بدأت أشعر أنه لن تطول المدة حتى ينهي أحدنا‬ ‫القتال مستسلما وكنت أقول لنفسي بأنني لن أكون البادئ في اإلستسالم ولكنني‬ ‫بدأت أشك في إمكانية صمودي إلى ماال نهاية‪ .‬إستولت علي لحظات وهن تسائلت‬ ‫فيها إن كان الحائط يستحق كل هذا العناء والجهد واأللم‪ .‬ولكنني كنت أرد على هذا‬ ‫التسائل بأنني سأدافع عن حائطي إلى النهاية‪.‬‬ ‫فجأة وقف العمواسي عن القتال‪ ،‬رفع يدية وقال وهو يلهث ويلحس دمه السائل من‬ ‫فمه بلسانه‪ " :‬طيب طيب‪ ،‬الحيط إلك‪ ".‬ثم أدار ظهره وفرش فرشته تحت النافذة‪.‬‬ ‫فرشت بدوري فرشتي بجانب الحائط واستلقيت على فراشي وأدرت وجهي للحائط‬ ‫والدماء تسيل من فمي وأنفي‪ .‬مسحت دمي بإصبعي وكتبت بدمي على الحائط‬ ‫إسمي‪ ،‬وبكيت بصمت‪.‬‬


‫‪31‬‬

‫‪.10‬‬

‫الشهيد جحش عبد المجيد‬

‫مد الحاج سليمان يده إلى جيب قمبازه وسحب الساعة المعلقة بطرف الجيب‬ ‫بواسطة سلسلة رفيعة من المعدن ‪ ،‬فتح غطاء الساعة وقرأ الوقت ثم أغلقها‬ ‫وأعادها إلى جيبه‪ .‬صعد درجات مئذنة المسجد‪ ،‬وقف على عتبة ألمئذنة‪ ،‬غطى أذنه‬ ‫بيده ونادى بأعلى صوته‪ ":‬هللا أكبر‪ ،‬هللا أكبر‪ ،‬حي على الصالة‪ "..‬داعيا أهل‬ ‫القرية إلى صالة الفجر‪ .‬ما أن انهى اآلذان حتى سمع صوت ديك الحاجة وسيلة‬ ‫يصيح ‪ ،‬كأنما هو اآلخر يؤذن لصالة الفجر‪ ،‬أو يدعو الناس إلى القيام إلى أعمالهم‪.‬‬ ‫تبسم الحاج سليمان وقال‪ :‬تأخرت يا ديك وسيلة‪ ،‬يظهر أنك هرمت مثل صاحبتك‪ ،‬ثم‬ ‫سارع إلى المسجد لكي يؤم بالمصلين‪.‬‬ ‫هزت زوجة عبد المجيد زوجها وهي تناديه‪ :‬قم يا عبدالمجيد‪ ،‬لقد أذن الفجر‪ ،‬قم يا‬ ‫إبن عمي توضأ لكي نصلي الفجر معا‪ .‬تململ عبدالمجيد في فراشه وتثاءب وتمطى‬ ‫ثم جلس وهو يحك رأسه ويفرك جسده بيديه‪ ،‬كأنما يريد أن يبعث في عروقه‬ ‫الدماء‪ .‬قام من فراشه وذهب إلى بيت الخالء لقضاء الحاجة‪ ،‬ثم رجع بعد وهلة‬ ‫فوجد زوجته قد أحضرت له قطعة من الصابون النابلسي المصنوع من زيت‬ ‫الزيتون وإبريق من الماء‪ .‬قرفص بجانب عتبة البيت ومد يديه بقطعة الصابون‪،‬‬ ‫فصبت زوجته الماء عليها‪ ،‬ففركها بكلتا يديه حتى امتألت يديه برغوة الصابون‬ ‫فغطى بها وجهه ودعكه حتى كاد يدميه ثم مأل يديه بالماء وغسل الصابون عن‬ ‫وجهه وأخذ يتوضأ‪ .‬بعد أن أنهى وضوءه أخذ من زوجته منديال نشف به وجهه‬ ‫ويديه ثم قام بدوره ليصب الماء على يدي زوجته كي تتوضأ هي األخرى‪ ،‬ثم قاما‬ ‫إلى الصالة‪ ،‬يؤم بها وهي واقفة خلفه‪.‬‬ ‫يعد أن إنتهيا من صالتهما و دعا كل منهما هللا أن يتقبل صالة اآلخر‪ ،‬قال عبدالمجيد‬ ‫لزوجته‪ :‬أحضري لنا لقمة نأكلها بينما أعلف الجحش وأحلسه وأعد أدوات الحراثة‪،‬‬ ‫فلقد وعدت األستاذ أمين بأن أحرث له البستان الغربي‪ .‬صاحت زوجته بهلع‪ :‬يا‬ ‫مصيبتي ‪،‬البستان الغربي‪ ،‬قرب أوالد الحرام المستوطنين اليهود ؟ ألم يجد غيرك‬ ‫لهذه المهمة‪ ،‬هؤالء أشرار وعدوانيون وأنت تعرف ماذا فعلوا الشهر الماضي‬ ‫بتيسير بن الحاج سليمان‪ ،‬لوال سترة ربنا لمات مقتوال ‪ .‬رد زوجها قائال‪ :‬يا إمرأة‪،‬‬ ‫صلي على النبي‪ ،‬واللي كاتبو ربك بصير‪ ،‬ولقد وعدت األستاذ أمين ولن أخلف‬ ‫وعدي‪ ،‬كما أنه يحسن إكرامي ونحن في أمس الحاجة للنقود‪.‬‬ ‫دخل عبدالمجيد الزريبة‪ ،‬وتوجه نحو حماره‪ ،‬فرتب على رأسه بحنو ووضع أمامه‬ ‫كمية من القش وطشت من الماء‪ .‬أخذ قطعة من القماش وبللها بالماء ومسح بها‬ ‫وجه الحمار ورقبته وأخذ يحدثه كأنما يحدث صديقا‪ " :‬سنذهب يا صديقي اليوم في‬ ‫مهمة صعبة‪ ،‬سنحرث بستان األستاذ أمين الغربي ‪ ،‬والبستان يا صديقي‪ ،‬يقع قرب‬ ‫مستوطنة اليهود‪ ،‬وهذول يا خوي شرانية ووالد كلب وعليك أن تساعدني وتسمع‬


‫‪32‬‬

‫كالمي وهللا يستر ‪ ".‬دلى الحمار شفته السفلى وكشف عن أسنانه ونهق نهقة‬ ‫قصيرة كأنما أراد أن يطمئن صاحبه بأن كل شيء سيكون على ما يرام‪ .‬وضع عبد‬ ‫المجيد الحلس على ظهر الحمار وشده وأحسن ربطه ‪ ،‬ثم عاد إلى البيت وجلس مع‬ ‫زوجته على أرض المصطبة ليأكال فطورا نادرا ما يتغير و يتكون من خبز الطابون‬ ‫وصحن من زيت الزيتون وقليل من الزعتر وبعض حبات من الزيتون وكأس من‬ ‫الشاي المغلي مع ورق النعناع الطازج‪.‬‬ ‫خرج عبدالمجيد وهو يسوق حماره المثقل بالمحراث والفأس وأدوات أخرى الزمة‬ ‫للحراثة‪ .‬كان الناس قد بدؤوا يخرجون من بيوتهم لتصريف أعمالهم وكان يسمع‬ ‫بين الحين واآلخر‪ ،‬كلمات التحية المتبادلة بين أهل القرية‪ ،‬وكان القرويون‬ ‫يطرحون على بعضهم البعض أسئلة مقتضبة مثل السؤال عن وجهة المسؤول أو‬ ‫عن صحته وصحة عائلته والتمنيات المتبادلة بالخير واألمان‪.‬‬ ‫لم يجد عبدا لمجيد تفهما من أبناء قريته ممن عرفوا بوجهته‪ ،‬فخبرتهم طويلة‬ ‫وقاسية مع ساكني المستوطنة اليهودية في الجهة الغربية من القرية‪ .‬فقلما تجد‬ ‫شخصا لم يعتدى عليه بالضرب المبرح وسرقة ممتلكاته‪ ،‬وكثيرا ما أطلق‬ ‫المستوطنون على أبناء القرية والقرى المجاورة النار ولقد أصيب عدد منهم‬ ‫إصابات بالغة وقتل أكثر من رجل حين تجرأ أحدهم على اإلقتراب من أرضه لفلحها‬ ‫وزرعها‪ ،‬ولقد هجر الكثيرون أراضيهم خوفا على حياتهم‪ ،‬ولم يكن هناك أي جهة‬ ‫يستطيع الفلسطيني اللجوء إليها والشكوى لديها‪ ،‬وكان الجيش اإلسرائيلي دائم‬ ‫الدعم للمستوطنين ومستهترا بشكوى الفالحين الفلسطينيين‪ .‬ولكن عبدالمجيد قد‬ ‫وعد األستاذ أمين القيام بهذه المهمة وهو لن يخلف وعده‪ ،‬ولطالما ساعد األستاذ‬ ‫أمين عبدالمجيد وعائلته في وقت الحاجة‪.‬‬ ‫خرج عبد المجيد وحماره من الطريق العام وسلك الطريق الفرعي الوعر المؤدي‬ ‫إلى لبستان المنشود والذي يقع في أسفل الوادي الغربي‪ .‬دخل البستان ووقف‬ ‫لحظات يتنصت ويستطلع المكان‪ .‬كان الهدوء يعم الوادي ولم يكن يسمع إال صدى‬ ‫أصوات بعض الفالحين ‪ ،‬الذين كانوا يحرثون أراضيهم في الجبل المقابل وصراخ‬ ‫بعض األطفال في المستوطنة ونداء بعض نساء المستوطنة بالعبرية ‪.‬‬ ‫شمر عن ذراعيه ورفع طرفي قمبازه وشبكها بحزامه‪ ،‬ثم ربط المحراث بالنير‬ ‫المثبت على رقبة الخمار‪ .‬قرأ البسملة وبصق على كفية وبدأ بالحراثة‪ .‬لم يحرث‬ ‫أكثر من عدة أمتار عندما سمع أزيز رصاصة تمر من فوق رأسه‪ ،‬فرمى نفسه على‬ ‫األرض وتسمر مكانه كاتما أنفاسه ‪ .‬سمع بعض الشتائم بالعبرية والعربية المكسرة‬ ‫ولكنه لم ير مصدرها‪ .‬زحف على بطنه وفك المحراث من على الحمار وألقاه أرضا‬ ‫وسحب الحمار إلى خلف السور المحيط بالبستان واختبأ خلفه‪ .‬مرت الدقائق التي‬ ‫بدت وكأنها ساعات طوال ولقد طغى الهدوء على الوادي حتى أصوات الحراثين في‬ ‫الجبل المقابل ماعادت تسمع‪ ،‬وكان يسمع بين الحين واآلخر طلقات نارية‪ ،‬كان‬ ‫رصاصها يرتطم بالصخور القريبة من عبد المجيد وحماره‪.‬‬


‫‪33‬‬

‫إقتنع عبد المجيد بأنه ال مجال إال للهرب والنجاة بحياته وحياة حماره‪ .‬زحف على‬ ‫ركبتيه وربط الحمار بحبل وجره خلفه وهو يزحف أمامه‪ .‬ولكن الحمار تسمر في‬ ‫مكانه ورفض أن يتحرك ولو خطوة واحدة‪ .‬باءت كل محاوالت عبدالمجيد بتحريك‬ ‫الحمار بالفشل‪ ،‬فاعتلى ظهر الحمار واستلقى علي ظهره ضاما رقبته إليه بشدة‬ ‫ولكزه برجله لكزة قوية‪ ،‬قفز الحمار على أثرها قفزة مفاجئة كادت أن توقع‬ ‫عبدالمجيد من على ظهره‪ ،‬وراح يركض صاعدا الطريق الوعرة بين الصخور‬ ‫وعبدالمجيد يشجعه ويحثه على السرعة ‪ .‬كان الرصاص يالحقهم ويسمع أزيزه‬ ‫وارتطامه بالصخور المحيطة بهم ‪ .‬كان عبد المجيد‪،‬طوال الوقت‪ ،‬يتمتم بآيات‬ ‫قرآنية‪ ،‬داعيا هللا أن يخلصه من هذه المصيبة‪.‬‬ ‫وصال أخيرا إلى الطريق العام الذي يقع على مشارف القرية وابتعدا عن الخطر‪،‬‬ ‫فانتصب عبدالمجيد جالسا ودقات قلبه تدق في أذنيه كالطبول‪ .‬فجأة شعر بالدم يسيل‬ ‫من ساقه اليسرى وأصبح قمبازه ينضح بالدماء‪ ،‬فصاح‪ ":‬آخ يا إلهي لقد أصابني‬ ‫أوالد الكلب"‪.‬‬ ‫دخل عبد المجيد القرية‪ ،‬راكبا حماره والدماء تسيل من ساقه‪ .‬رآه بعض األوالد‬ ‫والحظوا قمبازة ينضح بالدماء فأخذوا يتراكضون وهم يصيحون‪" :‬يا أهل البلد‪،‬‬ ‫عبدالمجيد تصاوب‪ ،‬طخوه اليهود"‪ .‬ذهب بعضهم ليحضر الحاج سليمان‪ ،‬فلقد كان‬ ‫إمام المسجد وطبيب القرية وقاضيها‪ .‬تجمع الناس حول عبد المجيد وحماره‬ ‫ورافقوه إلى بيته‪ ،‬كل يسأل عن الذي جرى‪ .‬وصلوا البيت فالقتهم زوجته بالعويل‬ ‫والصراخ‪ ،‬فلقد وصلها الخبر قبل أن يصل زوجها‪ .‬ساعد الرجال عبدالمجيد بإنزاله‬ ‫عن الحمار وإدخاله إلى البيت وهم يحاولون طمأنة زوجته بأن اإلصابة في ساقه‬ ‫وأنها ليست خطيرة‪.‬‬ ‫دخل الحاج سليمان وفتح الرجال له الطريق وعرضوا مساعدتهم ولكن الحاج‬ ‫سليمان طلب منهم اإلبتعاد وإفساح المجال له ليقوم بعمله‪ .‬نزع القمباز عن عبد‬ ‫المجيد وفحص ساقه فلم يجد فيها أي جرح‪ .‬فحص كافة أجزاء جسمه فلم يجد أي‬ ‫جرح في أي جزء من جسد عبدالمجيد‪ ،‬فقال‪ :‬جسمك سليم وال يوجد فيه أي جرح‬ ‫فمن أين هذا الدم‪ .‬نظر الجميع إلى الحمار فإذا هو مستلق على األرض والدماء‬ ‫تنزف من جرح كبير في صدره‪ .‬تمتم الجميع بصوت واحد‪" :‬هظا الحمار‬ ‫المصاوب‪ ،‬مش عبدالمجيد‪".‬‬ ‫قرفص الحاج سليمان بجانب الحمار‪ ،‬الذي فقد كثيرا من الدماء وراح يشخر والزبد‬ ‫يخرج من فمه‪ .‬فحص الجرح ثم نظر إلى عبدالمجيد وقال بحزن‪" :‬جحشك راح‬ ‫يموت‪ ،‬نزف منه دم كثير وما في فائدة"‪ .‬عم الصمت المكان وراحت عيون الجميع‬ ‫تراقب الحمار المسكين وهو ينتفض ويلفظ أنفاسه األخيرة ‪ .‬صاحت زوجة‬ ‫عبدالمجيد حزنا على الحمار قائلة ‪" :‬شو بدنا نعمل بدون الحمار ؟"‪ ،‬فلقد كان‬ ‫سندهم في قوتهم ومعيشتهم‪.‬‬


‫‪34‬‬

‫جلس عبد المجيد على األرض ورأسه مدفون بين يديه صامتا يهزه الحزن على‬ ‫حماره‪ ،‬رفيق العمر‪ .‬صاح أحد األوالد‪ ":‬جحشك راح شهيد يا عبد المجيد‪ ،‬هذا أول‬ ‫حمار شهيد في قريتنا"‪ .‬بعضهم هز رأسه بالموافقة وبعضهم مستنكرا والبعض‬ ‫اآلخر ضاحكا‪.‬‬ ‫قام الرجال بمساعدة عبد المجيد بحفر قبر ليدفنوا فيه الحمار‪ ،‬فما كان عبدالمجيد‬ ‫ليسمح بأن يلقى حماره فطيسة وفريسة للوحوش ‪ .‬دفنوا الحمار في القبر وغطوه‬ ‫بالتراب‪ .‬قام أحد شباب القرية بإحضار حجر كبير‪ ،‬كتب عليه بالحبر األسود وبخط‬ ‫عريض‪ " :‬الشهيد‪ ،‬جحش عبد المجيد‪ ".‬ووضعه كشاهد على القبر‪ .‬إعترض‬ ‫البعض ولكنهم لم يقوموا بإزالة الشاهد‪ ،‬ويحكى أن الشاهد بقي على رأس قبر‬ ‫جحش عبدالمجيد إلى يومنا هذا‪.‬‬


‫‪35‬‬

‫‪.11‬‬

‫أم الشهداء‬

‫جارتنا الحاجة أم عصام شديدة اإليمان باهلل وإيمانها ال يتحمل أي أسئلة عقالنية‬ ‫لماذا وكيف‪ ،‬هي تؤمن إيمانا وصف بأنه إيمان العجائز‪ .‬كل شيئ في قاموسها‬ ‫اإليماني راجع إلى هللا‪ .‬الفقر والغنى من عند هللا والخير والشر من عنده‪ .‬كل شيئ‬ ‫منه وإليه وإلى حكمته‪ .‬المصائب حكمة منه وامتحان لصبر المؤمنين وإيمانهم‬ ‫وعلى قدر صبرهم وإيمانهم تنتظرهم المكافأة في عالم الخلد‪ .‬إذا حدث زلزال في بلد‬ ‫من بالد المسلمين فإنه إمتحان لصير المؤمنين وإذا حدث في بالد الغير فهو عقاب‬ ‫من هللا على كفرهم‪ .‬على جميع األسئلة الصعبة تجيب هذه حكمته وهو أدرى‬ ‫وأعلم‪ .‬لقد سمعتها تقول وهي تدفن زوجها " هللا أعطى وهللا أخذ وهذه حكمته‪".‬‬ ‫حتى اإلحتالل اليهودي لفلسطين هو إمتحان للمسلمين وعندما كانت صديقتها أم‬ ‫محمود تماحكها وتقول‪ " :‬يا خيتي شو ما في غيرنا يمتحنو‪ ،‬وهللا بكفي عاد‪ ،‬خلص‬ ‫يمتحن غيرنا" كانت أم عصام تتعوذ باهلل من الشيطان الرجيم وتقول‪" :‬هللا‬ ‫يسامحك يا أم محمود‪ ،‬كفرتي‪ ،‬وهللا لصليلك ركعتين خلي هللا يسامحك"‪".‬‬ ‫جارتنا أم عصام قضت معظم أوقات حياتها بين المطبخ والسجادة‪ ،‬عندما ال تكون‬ ‫في المطبخ تحضر الطعام ألوالدها األربعة تجدها ساجدة على السجادة تصلي رافعة‬ ‫يديها بالدعاء "يا رب إرحمنا واعفو عنا‪ ،‬إنك السميع المجيب‪ ،‬يا رب افتح على‬ ‫والدي وارضى عنهم وسهل طريقهم‪ ".‬كانت تطلب الرحمة لكل الناس وتدعو لهم‬ ‫بحسن الختام في الجنة‪ .‬كانت فقط تدعوا على اليهود" إقطع شملهم يا رب بجاه‬ ‫محمد نبيك"‬ ‫عندما سقط ابنها األول برصاص اإلحتالل اإلسرائيلي غطته بعد غسله بالعلم‬ ‫الفلسطيني وقبلته وزغرتت ألنه سقط شهيدا‪" .‬باركو لي وال تعزوني‪ ،‬إبني راح‬ ‫شهيد"‪.‬منذ ذلك اليوم ما عاد إسمها أم عصام ولكن "أم الشهيد"‪ .‬عندما سقط ابنها‬ ‫الثاني قالت‪ :‬هللا أعطى وهللا أخذ وفداك يا وطن وأصبح إسمها "أم الشهداء" وبدأ‬ ‫ظهرها باإلنحناء واعتكفت في البيت تصلي وتتعبد‪ .‬عندما سقط ابنها الثالث قالت ‪:‬‬ ‫"حكمتك يا رب" وصارت منذ ذلك اليوم تردد‪ " :‬أحمدك يا رب وال أشكرك‪".‬‬ ‫وعندما كانت الجارات تلمنها على هذا القول كانت تقول‪ " :‬هللا عز وجل يقول في‬ ‫كتابه " إن شكرتمونني ألزيدنكم" وأنا أخاف إن شكرته أن يزيدني و يأخذ إبني‬ ‫الرابع‪ ،‬ولذا أحمده وال أشكره"‬ ‫عندما أحضروا إبنها الرابع واألخير محموال على أكتاف الشباب‪ ،‬مضرجا بدماءه‬ ‫التي أسالتها رصاصات العدو اإلسرائيلي صمتت والدموع تسيل على خدها ثم أخذت‬ ‫تتمتم‪ " :‬حمدتك يا ربي وما شكرتك‪ ،‬ومع هذا زدتني ‪.‬هذه حكمتك يا رب فامنحني‬ ‫الصبر على مصيبتي‪!".‬‬


‫‪36‬‬

‫لم تستطع أم عصام الصبر على مصيبتها ولم تستطع أن تفهم الحكمة من موت إبنها‬ ‫الرابع واألخير فطلبت من هللا أن يأخذها ويريحها من عذابها فلبى هللا طلبها ولحقت‬ ‫بأبناءها‪.‬‬


‫‪37‬‬

‫‪.12‬‬

‫بدمها أمحي عاري‬

‫سحب خنجره الحاد والمعكوف‪ ،‬مسكها من شعرها وشده إلى الوراء كما تشد‬ ‫الذبيحة ونظر إلى عينيها الباكيتين وقال‪ " :‬الزم أذبحك يا خيتي‪ ،‬الزم أمحي‬ ‫عاري"‪ .‬نظرت إليه والدموع تتدفق من عينيها وتسيل على خديها وقالت‪ ":‬أنا‬ ‫طنيبة عليك يا خيي‪ ،‬أنا أختك حبيبتك ولو يا خوي إرحمني‪ .‬هو رايح يجي يخطبني‬ ‫منك ويتجوزني على سنة هللا ورسول‪ .‬أنا دخيلك يا خيي‪".‬‬ ‫نظر إليها ولقد بدأت الدموع تتجمع في مقلتيه وقال‪ " :‬بعد إيش‪ ،‬بعد إيش‪ ،‬بعد‬ ‫الفضيحة والعار؟ أنا الزم أذبحك حتى أمحي عاري" وشد رأسها إلى الوراء حتى‬ ‫بانت رقبتها‪ .‬نظرت إليه بتوسل وقالت وقد تحجرشت الكلمات في حنجرتها‪ ":‬يا‬ ‫خوي أعطيني الخنجر أنا بقتل حالي‪ ،‬إنت وراك زوجة وأوالد معتازينلك ال تعملها‪،‬‬ ‫أنا بقتل حالي‪ ،‬وهللا العظيم أنا بقتل حالي وقدامك‪ ،‬بس أعطيني الخنجر!" نظر إليها‬ ‫وقال‪ " :‬تقتلي حالك مابفيد وما بمحي العار‪ ،‬الزم أذبحك بإيدي حتى أمحي عاري‪".‬‬ ‫وضع الخنجر على رقبتها وذبحها كما تذبح الشاه‪ ،‬من الوريد للوريد واختلطت‬ ‫دموعها بدموعه وبدماءها التي سالت على مالبسه وعلى أرض الغرفة‪ .‬ضمها إلى‬ ‫صدره وهو يصيح‪ ":‬آخ يا أختي يا حبيبتي‪ ،‬شو اللي عملتي فينا؟"‪ .‬ظل يحضنها‬ ‫إلى صدره حتى لفثت أنفاسها األخيرة‪ .‬وضعها على السرير‪ ،‬قبل وجنتيها وخرج‬ ‫والخنجر بيده ودماء أخته تنقط منه على األرض وتختفي في ترابها‪.‬صاح بأعلى‬ ‫صوته‪ ":‬أنا قتلت أختي‪ ،‬أنا محيت عاري‪".‬‬ ‫جلست مع والدي والمحامي في غرفة صديقهما المدعي العام لمدينتنا‪ .‬كان الوجوم‬ ‫يخيم على الغرفة ودخان السجاير يضيق علي أنفاسي ويجعل هواء الغرفة سميكا ال‬ ‫يكاد ينظر من خالله‪ .‬قال والدي للمدعي العام ‪ :‬يجب علينا أن نساعده‪ ،‬فليس‬ ‫لزوجته وأوالده غيره‪ ،‬إبحثوا لكم عن طريقة‪ ".‬نظر المدعي العام إلى والدي وقال‪:‬‬ ‫الطريقة موجودة‪ ،‬إقنعه بأن يصرح بأنه قتل أخته "فورة دم" بدون سبق عزم‬ ‫وإصرار‪ ،‬وسأطلب تخفيف الحكم عنه إلى أقصى درجة‪ ،‬وبعد مدة قصيرة سيشمله‬ ‫العفو وسيخرج من السجن‪ ".‬نظرت إليه بتعحب وقلت له وما المشكلة؟ نظر‬ ‫المحامي إلي وقال‪" :‬المشكلة هي أنه يرفض ذلك‪ .‬حاولوا أنت ووالدك أن تقنعوه!"‬ ‫أحضروه إلى الغرفة‪ ،‬عانقني وعانق والدي وسأل عن صحته ثم جلس صامتا بعد‬ ‫أن طلب سيجارة‪،‬أشعلها و أخذ منها نفسا عميقا وتنهد‪ .‬أخذ والدي يقرأ عليه آيات‬ ‫قرآنية وأحاديث نبوية ويذكره بأن له زوجة وأوالد هم في أمس الحاجة إليه‪ " .‬ولك‬ ‫يا إبني‪ ،‬بس قول إنك قتلتها في فورة دم ولحظة غضب وأنك لم تكن تعزم على قتلها‬ ‫وأنك نادم على فعلتك! وإال فستحكم مؤبد أو إعدام‪ ".‬نظر إلى والدي وقال له‪ ":‬إنت‬ ‫سيدي وتاج راسي بس اللي بتطلبوا مني مش مسح عار‪ .‬أنا قتلتها عن سبق عزم‬ ‫وإصرار حتى أمحي عاري‪ ".‬طفى السيجارة وقام ثم قال‪ " :‬خلليهم ياخدوني على‬ ‫السجن‪ ".‬خرج من الغرفة واختفى عن أعيني ولم أره بعد ذالك أبدا‪ .‬آه أيها الشرف‬ ‫كم سالت دماء بسببك‪.‬‬


‫‪38‬‬

‫‪.13‬‬

‫قسوة البرد ونار القهر‬

‫صعد الحاج محفوظ درجات سلم باص القرية وطرح السالم على الموجودين وهو‬ ‫ينفخ في يديه ويفرك أصابعه ليبث فيها الدفئ‪ .‬قال موجها الحديث إلى الحاضرين‪":‬‬ ‫وهللا يا جماعة‪ ،‬الدنيا بردها بقص المسمار وشاعر إنه أصابعي بدها تسقط‬ ‫وعظامي تتفتت‪ ".‬رد عليه مدرس في مدرسة القرية‪ ":‬هذه هي األربعينية يا حاج‬ ‫محفوظ‪ ،‬برد األربعينية معروف‪ ".‬رد الحاج محفوظ وهو يمر بين ركاب الباص‬ ‫الجالسين يبحث عن مقعد فارغ‪ ":‬ال أربعينية وال خمسينية‪ ،‬بردها اليوم بقص قص‬ ‫وبجمد الدم في العروق‪ ،‬وهللا يا أستاذ شفايفي تشققت وصارت متل حب التين‬ ‫الخرطماني ‪ ".‬رد أحد الركاب قائال‪ ":‬بقولوا أنه باصات المدينة فيها تدفئة مش‬ ‫مثل باصات القرى‪ ".‬ضحك صالح وهو شاب في مقتبل العمر يدرس في المدينة‬ ‫وقال مستهزئا‪ ":‬بتقولو تدفئة‪ ،‬وفي الباصات‪ ،‬أنا مش فاهم كيف‪ ،‬يعني بولعوا فيها‬ ‫حطب يا حاج؟"‪ .‬نظر الحاج محفوظ إليه بإستغراب وقال‪ ":‬بتستهزي فينا يا‬ ‫ملعون؟ ولك‪ ،‬لساتها البيضة ما إنقشرتش عنك وصرت بتتهزأ على الكبار اللي قد‬ ‫أبوك؟" قاطعه مدرس المدرسة قائال‪ ":‬بسيطة يا حاج‪ ،‬سامحه‪ ،‬الجهل عدو‬ ‫صاحبه‪ ".‬ثم دار وجهه نحو الشاب وقال‪ ":‬التدفئة يا إبني من محرك السيارة‪".‬‬ ‫وقف الحاج محفوظ بجانب مقعد يجلس عليه الحاج عبداللة ولقد غطى معطفه معظم‬ ‫مساحة المقعد‪ ،‬وقال‪ ":‬مرحبا يا حاج‪ ،‬لملم معطفك‪ ،‬تراه حاجز المقعد كله‪ ".‬سحب‬ ‫الحاج عبدهللا معطفه المحشو بصوف الخاروف وقال‪":‬أقعد يا حاج‪ ،‬عندك وساع‬ ‫بسع جمل‪ ،‬أقعد يا هال فيك‪ ".‬رد الحاج محفوظ وهو يجلس إلى جانب الحاج عبدهللا‬ ‫قائال‪ :‬وهال فيك إنت الثاني‪ ،‬وهللا ما في حدا مثلك‪ ،‬الخاروف اللي حاطو على كتافك‬ ‫بخلي جسمك مثل النار‪ ".‬ثم جلس ووضع في حجره كيسا من قماش الكتان فيه‬ ‫بعض المشتريات‪ .‬سأله الحاج عبدهللا‪ ":‬شو شتريت من المدينة يا حاج؟ فأجابه‬ ‫الحاج محفوظ‪":‬شوية حلقوم و شوية تفاح لألوالد‪ ،‬أوالدي وأمهم بحبو التفاح‪،‬‬ ‫وإنت شو شتريت؟" رد الحاج عبداللة‪ ":‬قطعة قماش لبنتي‪ ،‬ناوية تخيط فستان‪".‬‬ ‫علق الحاج محفوظ‪ " :‬إنشاء هللا ألف مبروك وعقبال عرسها على إبن الحالل‪" ".‬‬ ‫من فمك إلى باب السماء‪ "،‬رد الحاج عبدهللا وتابع‪ "،‬وهللا يا حاج أنا قلقان على‬ ‫بنتي‪ ،‬خايف تصير عنساء قبل ما يجيها عريس‪ ،‬األحوال واقفة والشباب بخافوا‬ ‫يتقدموا للزواج‪ ،‬ومنين يا حصرتي بدو الواحد منهم يفتح بيت‪ ،‬ال في شغل وال‬ ‫األرض بتعطي‪ .‬هذول اليهود أخذوا أرضنا وخربوا زرعنا والشباب قاعدة من دون‬ ‫شغل‪ ".‬رد عليه الحاج محفوظ متعاطفا‪ ":‬ربك بحلها يا حاج وآخرتها بتفرج‪".‬‬ ‫صاح سائق الباص بصوت عال‪ ":‬نمشي يا ناس والال ضل في حدا ما أجاش؟ رد‬ ‫الجميع بصوت واحد‪ ":‬ناقصنا الحاج أبو مصطفى‪ ".‬واضاف الحاج محفوظ‪ ":‬أنا‬ ‫شوفتو قبل دقيقتين باكل كنافه عند الكنفنجي‪ ".‬لم يتم جملته إال والحاج أبو‬ ‫مصطفى يظهر في باب الباص وما زال يمصمص لسانه ويلعق أسنانه ليمتص منها‬ ‫مخلفات الكنافة‪ .‬خرجت أصوات مختلفة تسأله‪ ":‬كيف كانت الكنافة يا حاج‪،‬‬ ‫طيبة؟" فأجاب‪ " :‬وهللا يا جماعة طيبة وبتدفي الجسم في ها البرد‪ ".‬ردت أصوات‬


‫‪39‬‬

‫مختلفة من الجالسين موافقة الحاج أبو مصطفى أن الكنافة طيبة وأنها تزيد حرارة‬ ‫الجسم‪.‬‬ ‫أغلق سائق الباص الباب وشغل محرك السيارة الذي بدأ يهتز ويزمجر كأنما هو‬ ‫يحتج على إيقاظه من النوم‪ ،‬ثم قام السائق بتحريك قضيب السرعات الذي أخذ‬ ‫يزعق كزعيق الغراب وتحرك الباص العجوز يشق شوارع المدينة متجها إلى القرية‬ ‫التي تبعد عن المدينة ما يقارب الثالثين كيلومترا‪.‬‬ ‫ما أن بعد الباص عن المدينة عدة كيلومترات حتى وقف خلف صف طويل من‬ ‫السيارات لم يستطع السائق رؤية بدايته‪ .‬تعوذ باهلل من الشيطان الرجيم وقال‬ ‫بصوت عال‪ " :‬يا رب إستر‪ ".‬تسائل الجميع ما الذي حدث‪ ،‬فأجاب السائق‪ ":‬شو‬ ‫بدو يكون يعني‪ ،‬أكيد حاجز تفتيش إسرائيلي‪ ".‬ثم إتجه إلى ركاب الباص قائال‪ ":‬يا‬ ‫جماعة‪ ،‬خليها تمشي على خير‪ .‬إذا في حدا معه شيئ ممنوع‪ ،‬يتخلص منه‪ ،‬وما حدا‬ ‫منكم يستفز ملعونين الوالدين‪ ،‬هادول يا جماعة مش بشر‪ ،‬خللينا نروح عند أهالينا‬ ‫بخير وسالمة‪ ،‬شو بقولولكم إعملو‪".‬‬ ‫عم الصمت ركاب الباص وذهب كل منهم يجول مع أفكاره‪ .‬قطع الصمت صوت الحج‬ ‫أبو مصطفى قائال‪ " :‬متى بدو ربنا يخلصنا منهم؟" رد أستاذ المدرسة قائال‪":‬‬ ‫آخرتهم بدهم ينقلعو من بلدنا‪ ،‬إنقلع غيرهم كثير قبلهم‪ ".‬بلهجة ساخرة علق الطالب‬ ‫صالح قائال‪ " :‬وهللا يا جماعة‪ ،‬هادول ما بنقلعو إال إذا إحنا قلعناهم‪ ،‬واللي أخذوه‬ ‫بالقوة ما برجع إال بالقوة‪ ".‬رد مدرس المدرسة قائال‪ ":‬ما إحنا عارفين يا فصيح‪،‬‬ ‫هو إنت جبت شيء جديد‪ ،‬لكن يا إبني منين إنجيب القوة‪ ،‬ال عندنا صواريخ وال‬ ‫دبابات وال طيارات‪ ،‬والجيوش العربية بس لإلستعراضات والحكام العرب خونه‪،‬‬ ‫منين يا حصرتي نجيب القوة؟ ولكن الفتى لم يقتنع بحديث األستاذ وأظهر عدم‬ ‫إقتناعه بهمهمة غير مفهومة ثم صمت‪.‬‬ ‫كان الباص يتحرك مثل السلحفاة‪ .‬كان صف السيارات الذي أمامه يتحرك عدة أمتار‬ ‫ثم يقف وكان السائق يشغل محرك السيارة ويلحق بالصف ثم يقف ويطفئ المحرك‬ ‫توفيرا للوقود‪ .‬بدأت عالمة التعب على الباص القديم وبدا مثل عجوز ينهكه السير‬ ‫ثم يتوقف لكي يأخذ نفسا ويتابع السير لخطوات أخرى‪ .‬مرت الدقائق بطيئة ومملة‬ ‫ومتعبة‪ ،‬وكان الركاب يرجفون من البرد القارس و يتمتمون ببعض اآليات القرآنية‬ ‫لعلها تحميهم وتيسر حالهم وتبث فيهم الدفئ‪.‬‬ ‫قرب الباص من حاجز التفتيش اإلسرائيلي‪ .‬وقفت دبابتان إسرائيليتان مسلحتان‬ ‫براشاشات منصوبة على برج الدبابة حيث يقف خلف كل منهما جندي إسرائيلي ال‬ ‫يظهر منه إال رأسه المغطى بالخوذة الحربية‪ .‬مد الجنود اإلسرائيليون على عرض‬ ‫الطريق مشط فوالذي مدبب الرؤوس‪ ،‬كان يفتح ويغلق حسب أوامر الضابط الواقف‬ ‫خلف جنوده يراقب عملية تفتيش السيارات العربية‪.‬‬ ‫جاء دور الباص ولكن السائق الخبير بمثل هذه الحواجز ظل جالسا خلف مقود‬ ‫الباص الذي صمت محركه‪ .‬السائق يعرف خطر تشغيل محرك السيارة بدون إشارة‬ ‫من الجندي اإلسرائيلي‪ ،‬فكم من الفلسطينيين قتلوا على يد الجنود الصهاينة ألنهم‬ ‫شغلوا محرك سيارتهم أو حركوها بدون إذن واضح من الجندي اإلسرائيلي‪ .‬ظل‬ ‫السائق يراقب الجنود اإلسرائيليين وينتظر‪ .‬وقف الجنود يتسامرون ويضحكون غير‬


‫‪40‬‬

‫معيرين أي إنتباه للباص الذي ينتظر وال لركابه‪ .‬مرت الدقائق بطيئة‪ ،‬ثقيلة ولقد عم‬ ‫الصمت ركاب الباص الذين جلسوا بدورهم ينتظرون اإلشارة‪.‬‬ ‫جاءت اإلشارة وتحرك الباص إلى أن وصل عالمة قف التي نصبت بضع أمتار أمام‬ ‫المشط الحديدي ووقف‪ .‬أطفأ السائق محرك السيارة وفتح الباب وانتظر‪ .‬صعد جندي‬ ‫إلى الباص وصاح بصوت عال وبعربية مكسرة‪ ":‬كلوا بنزل‪ ،‬بتاخذ كله شنطة‬ ‫معك‪ ".‬فهم الركاب‪ ،‬فلم تكن تلك المرة األولى التي يقفون فيها أمام حاجز تفتيش‬ ‫إسرائيلي‪ ،‬لقد أصبحت الحواجز جزءا من حياتهم اليومية‪.‬‬ ‫نزل الركاب من الباص وفي أيديهم ممتلكاتهم ووقفوا في صف طويل واضعين‬ ‫أغراضهم على األرض أمام أقدامهم‪ .‬بدأت عملية التفتيش وكان الجنود‬ ‫اإلسرائيليون كعادتهم يستعملون أقدامهم أكثر من إستعمالهم أيديهم وإذا إضطروا‬ ‫إلستعمال أيديهم يستعملوا عصى خشبية لتقوم مقام األصابع‪ ،‬فالعرب قوم نجسون‬ ‫كما يقول لهم حاخاماتهم وعلى اليهودي أن ال يلمس العربي أو أغراضه إال في‬ ‫حاجة الضرورة القصوى‪ .‬بدأت مشتريات الركاب تتنافر من األكياس التي ديست‬ ‫بالبساطير العسكرية‪ ،‬ووقف الركاب ينظرون إلى مشترياتهم وهداياهم ألبنائهم‬ ‫وبناتهم في القرية تختلط بالتراب وتداس بأقدام الجنود‪ .‬لم يكن مصير قطعة القماش‬ ‫التي إشتراها الحاج عبدهللا إلبنته مختلفا عن مصير باقي أغراض الركاب‪ .‬فكر‬ ‫الحاج عبدهللا واأللم يعصر قلبه‪ ":‬معلش‪ ،‬بنتي بتغسلها وبترجع جديدة‪ .‬أما الحاج‬ ‫محفوظ فلم يستطع أن يكتم غيظه عندما رأى تفاحاته تختلط بالحلقوم الذي عجن‬ ‫بتراب األرض فصاح في وجه الجندي‪ " :‬ليش فعصتهم يا إبن الكلب؟" ولم يتم‬ ‫جملته إال والهراوة الخشبية تنهال عليه فتسقطه أرضا فوق تفاحاته التي إلتصقت‬ ‫مع الحلقوم بقنبازه الفلسطيني‪ .‬ظلت الهراوات تنهال على جميع أطراف جسمه‬ ‫تساعدها ركالت البوسطار العسكري وهو يصر على أسنانه ساجدا على األرض‬ ‫كأنما في سجدة صالة‪ .‬سقط عقاله وحطته من على رأسه ووقعا بجانبه فوق بقية‬ ‫التفاحات وبدأ الدم يسيل من رأسه وأنفه وسال على قنبازه الفلسطيني وعلى‬ ‫األرض واختلط بترابها الذي طالما تمرغ بالدم‪.‬‬ ‫فجأه وقفت الضربات وشعر بأيدي تساعده على الوقوف وتجره جرا إلى الباص ثم‬ ‫تجلسه في مقعده بجانب الحاج عبدهللا الذي كان يمسك بقطعة القماش الوسخة‬ ‫ويبكي بصمت‪.‬‬ ‫شغل سائق الباص محرك السيارة الذي زمجر واهتز كأنما هو غاضب على ماشهد‬ ‫وتحرك الباص بعد أن أعطى الجنود اإلسرائيلون إشارة السماح وابتعد ببطئ عن‬ ‫الحاجز اإلسرائيلي‪.‬‬ ‫خيم الصمت فوق رؤوس الركاب وتاه كل مع أفكاره وتزاحمت األسئلة في العقول‬ ‫حتى أتعبتها‪ .‬فجأة شق الصمت صوت الطالب صالح وقال سائال الحاج محفوظ‪":‬‬ ‫بعدك بردان يا حاج محفوظ؟" أدار الحاج محفوظ رأسه نحوه وقال بصوت عال‪":‬‬ ‫ال‪ ،‬أنا مش بردان‪ ،‬النار بتلهلب جواي وبتحرقني‪ ،‬نار القهر يا إبني شديدة مثل نار‬ ‫جهنم بتاكل األخضر واليابس‪ ".‬صمت قليال ثم صاح‪ ":‬وينكم من ناري يا والد‬ ‫الكلب‪ ،‬وينكم من ناري‪".‬‬


‫‪41‬‬

‫‪.14‬‬

‫فلسطيني في حضن األمن العربي‬

‫ال أذكر لذلك اليوم إسما ولكنني أرجح أنه كان في نهاية شهر فبراير أو بداية شهر‬ ‫مارس لعام ‪ . 1959‬كنت واقفا أعطي درسا لطالب مدرسة كويتية حين ظهر في‬ ‫باب الصف بواب المدرسة وأخذ يلوح لي أنه يريد أن يتحدث معي وشعرت من‬ ‫حركات يدية أن األمر ملح و جاد‪ .‬إعتذرت من الطالب وذهبت إلى البواب أسأله ما‬ ‫األمر‪ .‬أخبرني أن الشرطة الكويتية تبحث عني‪ ،‬تريد إلقاء القبض علي‪ ،‬ولقد جاء‬ ‫ليحذرني‪ .‬كان البواب عراقي األصل وكان عنده شعور خاص نحو فلسطين و‬ ‫الفلسطينيين‪ .‬قال‪ ":‬أهرب يا أستاذ‪ ،‬أنت ال تعرف سجونهم‪ ،‬من يدخلها لن يخرج‬ ‫منها‪ .‬أهرب إلى العراق ومنها يمكنك السفر إلى األردن‪ ".‬أشار علي أن أذهب إلى‬ ‫الساحة الخلفية للمدرسة وأن أقفز فوق الحائط وأهرب‪.‬‬ ‫كان الخبر مفاجئا لي واحترت في أمري ولم أكن في وضع يسمح لي التفكير باتزان‪.‬‬ ‫خرجت من الصف وركضت إلى الساحة الخلفية للمدرسة‪ ،‬تسلقت السور وقفزت‬ ‫إلى الشارع الخلفي‪.‬‬ ‫سرت في شوارع مدينة الكويت ولم أعرف ماذا أعمل وأين أذهب‪ .‬إلتقيت ببعض‬ ‫المعارف فأداروا وجوههم عني وأنكروني‪ .‬وقفت عند خياط فلسطيني كنت قد‬ ‫أعطيته قطعة قماش ليفصل لي بدلة‪ .‬دخلت المحل‪ ،‬طرحت عليه السالم وسألته عن‬ ‫البدلة ومتى سينتهي من تفصيلها‪ .‬كانت العصبية ظاهرة على وجهه وأظهر لي‬ ‫بشكل واضح أنه لم يكن مسرورا بزيارتي‪ .‬أعلمني أن كثيرا من اصدقائي قد ألقي‬ ‫القبض عليهم وحتى أؤلئك الذين حاولوا الهروب إلى العراق ألقي القبض عليهم‬ ‫وهم في سجن مديرية شرطة دبي‪ .‬وضع بين يدي قطعة القماش وطلب مني أن‬ ‫أغادر المحل ولم ينس أن يخبرني أن عنده عائلة وال يوجد له أي مكان يلجأ إليه إن‬ ‫طرد من الكويت‪ .‬أعدت له قطعة القماش وقلت له أن يهديها لمن يريد أو أن يفصل‬ ‫منها لنفسه بدلة وتركت محله وغادرت مسرعا‪.‬‬ ‫وقفت في منتصف الشارع محتارا ال أدري ما أفعل وأخذت أسأل نفسي لماذا تسعى‬ ‫الشرطة الكويتية للقبض علي‪ ،‬فأنا ال أشكل أي خطورة على الكويت‪ .‬كان الكويت‬ ‫في تلك األيام محمية بريطانية وكنا نأخذ الفيزا للكويت من السفارات البريطانية‪ .‬لم‬ ‫يكن في الكويت أي أحزاب حتى نتهم بعضويتها ولم نكن منظمين في جمعية سرية‬ ‫تريد الشر للكويت أو تسعى لقلب نظام الحكم فيها‪ .‬إذن‪ ،‬سألت نفسي ‪ ،‬ما السبب‬ ‫الذي يدعوهم لمالحقتي ومالحقة أصدقائي للقبض علينا‪ .‬كنا فلسطينيين وطنيين‬ ‫محسوبون على اليسار‪ ،‬ولكن لم يكن لنا أي نشاط سياسي في الكويت‪ .‬كانت القضية‬ ‫الفلسطينية تؤرقنا وكنا نتحدث عن مستقبلها وتطوراتها ولكن لم تكن بعد قد وجدت‬ ‫منظمة فتح أو أي منظمة أخرى حتى نتهم بعضويتها‪ .‬كان لنا أصدقاء عراقيون‬ ‫يساريون وكنا نلتقي معهم بين الحين واآلخر‪ ،‬نتسامر ونتحدث عن أحوال العراق‬ ‫وتطورات الوضع السياسي فيه‪ .‬إعتدنا حين تسنح الفرصة لنا أن نذهب معهم‬ ‫لزيارة منطقة إسمها "عشيرج" يسكنها عمال جلهم عراقيون‪ ،‬نشرب عندهم‬ ‫الشاي العراقي المخمر‪ ،‬ونستمع إلى أحاديثهم وقصصهم و إلى أغانيهم العراقية‬


‫‪42‬‬

‫الحزينة ‪ .‬كانوا ببساطتهم يدعمون عبدالكريم قاسم وثورته وكانوا يغنون ‪ ":‬إتقدم‬ ‫يا المهداوي إتقدم‪ ،‬عشيرج قطعة من السوفيت"‪ ،‬ولقد كانت محاكمة مخلفات الحكم‬ ‫البائد برئاسة المهداوي على قدم وساق‪" .‬كانوا بسطاء وكانت تلك طريقتهم للتعبير‬ ‫عن موقفهم الداعم لقاسم وثورته‪.‬‬ ‫بعد تفكير طويل وجدت أنه ال طائل من هربي و قررت تسليم نفسي للشرطة‪.‬‬ ‫توجهت نحو المديرية العامة للشرطة الكويتية و سألت عن المسؤول ورقم غرفته‬ ‫ثم توجهت نحوها‪ ،‬طرقت الباب وبدون أن أسمع اإلذن بالدخول دخلت‪ .‬كان يجلس‬ ‫خلف الطاولة الخشبية الفخمة ضابط يضع على كتفيه عدد من النجوم ال أذكر عددها‬ ‫وال رتبتها‪ .‬جلست على كرسي من دون أن يسمح لي أحد بالجلوس‪ .‬كان الضابط‬ ‫مشغوال بالحديث مع مواطن كويتي يلبس دشداشة بيضاء كلح لونها‪ ،‬يضع رجال‬ ‫على رجل فبانت ساقه من تحت الدشداشة وكأنها جذع شجرة محروق نشف من‬ ‫طول اإلهمال‪ .‬كان يلعب بأصابع رجلية ويفركها بأصابع يدية ولقد كانت رائحة‬ ‫رجلية مزيج من روائح العرق والفطريات الممزوجة بوسخ الغبار و الرمال‪ .‬كان‬ ‫كلما فرك ما بين أصابع رجليه يضع أصابع يديه أمام أنفه ويستنشق عبق رائحتها‬ ‫كما يستنشق المدمن مسحوق الكوكايين‪ ،‬ومن ثم يمد يده إلى كاسة من الشاي‬ ‫موضوعة على الطاولة التي أمامه ويشرب منها ثم يعود ويضعها على الطاولة‬ ‫ويرجع إلى فرك أصابع رجليه‪.‬‬ ‫جلست أنظر إلى الضابط وضيفه وخيل إلي انني ألبس طاقية إخفاء وأنني كنت غير‬ ‫مرئي‪ ،‬فلم يلتفت أحد منهما إلي ولم يعيراني إهتمامهما‪.‬‬ ‫ال أذكر كم مر من الوقت على جلوسي عندما عم الصمت فجأة على الغرفة وانتبه‬ ‫اإلثنان لوجودي‪ .‬نظر الضابط إلي متفحصا ثم سألني ماذا أريد‪ .‬أجبته بأنني ال أريد‬ ‫شيئا وجئت أسألهم ماذا يريدون هم مني‪ .‬نظر إلي بإستغراب كأنني تحدثت إليه بلغة‬ ‫غير مفهومة فأضفت بأنني سمعت أن الشرطة تبحث عني وجئت أستفسر عن‬ ‫السبب‪ .‬سألني عن إسمي فأجبته‪ .‬نظر إلى ورقة أمامه وقام عن كرسيه كأنما لسعه‬ ‫ثعبان وضرب بيده بعصبية على جرس أمامه‪ .‬دخل شرطي‪ ،‬ألقى التحية العسكرية‬ ‫وقال‪ ":‬أمرك سيدي؟ قال له سيده‪ " :‬خذ هذا وضعه مع جماعته!" كنت بالنسبة‬ ‫إليه "هذا" الغير معروف كنهه وال طبيعته‪ ،‬أراد التخلص مني بأسرع وقت ‪ .‬حاول‬ ‫الشرطي أن يضع األصفاد في يدي فاحتججت بأنني جئتهم بنفسي وال مكان لي وال‬ ‫رغبة للهرب‪ ،‬فطلب منه الضابط أن ال يفعل‪ .‬قبض الشرطي على ذراعي وساقني‬ ‫إلى غرفة وقف أمامها شرطي آخر وقال لزميله" ذبه مع جماعته!"‪ .‬فتح الشرطي‬ ‫الباب ودفعني إلى داخل الغرفة وأغلق الباب خلفي‪.‬‬ ‫كانت الغرفة بدون أثاث وكانت مكتظة برجال من مختلف األعمار يجلسون على‬ ‫األرض‪ .‬كانوا أصدقاء لي‪،،‬فلسطينيون من مختلف العالم العربي‪ ،‬مثقفون من‬ ‫مختلف المهن‪ ،‬جميعهم ما عدا كاتب هذه السطور وصديق آخر‪ ،‬متزوجون ولهم‬ ‫عائالتهم التي ال تعلم عنهم شيئا‪ .‬قاموا واستقبلوني وتبادلنا األسئلة واألجوبة‪ ،‬أين‬ ‫إعتقلوك وكيف ولماذا وماذا سيفعلوا بنا وإلى آخره من األسئلة التي كانت تحيرنا‪.‬‬ ‫في المساء وضعونا في سيارة شرطة مخصصة للسجناء وتحركت السيارة بنا إلى‬ ‫المجهول واألسئلة تدق جدار رؤوسنا‪ ،‬إلى أين وما الذي سيفعلوه بنا‪ .‬وصلنا إلى‬


‫‪43‬‬

‫سجن مهجور تابع لمركز شرطة خارج مدينة الكويت‪ .‬أنزلونا من السيارة وأدخلونا‬ ‫إلى باحة السجن وأغلقوا باب الساحة علينا‪.‬‬ ‫كان سجنا مهجورا‪ ،‬يتكون من عدد من الغرف وساحة مكشوفة يحيط بها سياج من‬ ‫السلك الشائك‪ .‬كانت الغرف مسكونة بكل أنواع الحشرات مثل العنكبوت وبعض‬ ‫أنواع الحرادين والحرباوات والصراصير وغيرها‪ .‬لم يرحب بنا سكان الغرف وأبدوا‬ ‫لنا بشكل ال مجال للشك فيه بأنهم سيقومون بكل ما في إستطاعتهم لتنغيص عيشتنا‬ ‫إن نحن تجرأنا أن نعتدي على غرفهم ونقيم فيها‪ .‬كانت رائحة الغرف مزيج من‬ ‫روائح العفن والبول‪ ،‬مطعمة بروائح كريهة صعب علينا تحديدها‪ .‬كان الجو فيها‬ ‫حارا ملتهبا و خانقا‪ .‬لذا قررنا النوم في الساحة التي كانت أقل خطرا من الغرف وإن‬ ‫كثر فيها النمل والصراصير‪ .‬إستلقينا بمالبسنا واضعين أحذيتنا كمخدات تحت‬ ‫رؤوسنا وحاولنا النوم ولكن كان النوم في تلك اللحظات منيعا علينا‪.‬‬ ‫لم نستطع النوم فلقد كانت األسئلة تحيرنا‪ ،‬ماذا فعلنا لنستاهل هذه المعاملة؟ كان‬ ‫بيننا مدرسون صرفوا حياتهم في تدريس الطلبة الكويتيين وكان بيننا موظفون من‬ ‫مختلف المهن‪ ،‬خدموا هذه البلد بإخالص ولم يقم أي منهم بتهديد أمنه بأي صورة‬ ‫كانت‪ .‬كانوا فلسطينيين‪ ،‬هجر كثير منهم من بلده على أيدي الصهاينة وبدعم من‬ ‫بريطانيا حامية الكويت في ذلك الوقت‪.‬‬ ‫كان بيننا شاعر فلسطيني إسمه عبدارحيم عمر‪ ،‬كان خفيف الظل صاحب نكتة‪.‬‬ ‫إستمعنا إليه يقص علينا قصصا من بلدته جيوس وألقى علينا الشعر الغزلي‬ ‫والهزلي ليخفف عنا كربنا‪ ،‬ثم أخذ في الغناء وغنينا معه أغنية فلسطينية شعبية"‬ ‫سلم سلم يا مسافر عال األحباب وعال األوطان" ورأيت الدموع تنهمر من أعين‬ ‫الرجال حنينا لألهل و للوطن وأسى ومرارة على معاملة أخوة لهم‪ ،‬كان من‬ ‫المفروض أن يكونوا دعما وسندا‪.‬‬ ‫كان شرطة المخفر يستمعون إلينا من بعيد فلقد حذروهم من اإلقتراب منا ولقد‬ ‫إستقبلونا حين وصلنا السجن بإشمئزاز وصاحوا‪ " :‬جابوا الشيوعيين‪ ".‬قال‬ ‫أحدهم‪ :‬هاذول بعرفوش هللا‪ ،‬وبتشاركوا بنسوانهم‪ ،‬ما حد يقرب منهم‪ ".‬ولكن‬ ‫عندما بدأنا الغناء خرجوا من المركز ووقفوا خلف الشريط السلكي المحيط بساحة‬ ‫السجن وأخذوا يستمعون إلينا ولقد رأيتهم والدموع تسيل على خدودهم تأثرا‪ .‬لقد‬ ‫كان معظمهم غرباء‪ ،‬منهم العراقي ومنهم اليمني ومنهم من قبائل البدو‪ .‬كانوا‬ ‫جميعا بعيدين عن أهلهم وأحبائهم ولقد أثارت أغانينا فيهم الحنين ألهلهم وديارهم‪.‬‬ ‫مرت األيام ونحن على هذه الحالة‪ ،‬في النهار تحرقنا الشمس‪ ،‬ولم نكن بقادرين‬ ‫على اللوذ إلى الغرف‪ ،‬فلقد كانت‪ ،‬باإلضافة إلى الحشرات والزواحف‪ ،‬حارة مثل‬ ‫الفرن وخانقة تكتم األنفاس‪ .‬أما في الليل فكنا بين فكي الرطوبة وبين لسعة البرد‬ ‫الصحراوي‪ .‬لم يعد لمالبسنا لون وأصبحت رائحتها مثل رائحة أجسادنا نتنة‬ ‫واتحدت رائحتنا برائحة المكان ولم نعد نعرف إن كانت الرائحة الكريهة هي رائحة‬ ‫المكان أم رائحتنا‪ .‬أصبنا جميعا باإلسهال نتيجة لشرب المياه الغير صحية ذات‬ ‫الرائحة النتنة واللون األحمر من صداء المواسير‪ .‬كان من حسن حظنا أنه لم يكن‬ ‫متوفر لدينا أو لنا أي نوع من المرايا وإال لكنا إرتعبنا من بشاعة منظرنا‪ .‬ومن‬


‫‪44‬‬

‫حسن حظنا أيضا أن زيارتنا كانت ممنوعة‪ ،‬فلم نكن نرغب أن يرانا أهلنا وأصدقاءنا‬ ‫بهذه الصورة‪.‬‬ ‫ال أدري كم يوم بقينا على هذه الحالة عندما زارنا ضابط كويتي‪ .‬كان الزمن يمر‬ ‫ببطئ شديد وكنا نشعر أننا بقينا في ذلك المكان الدهر بطوله‪ .‬أخبرنا الضابط أن‬ ‫السلطات الكويتية قررت ترحيلنا‪ ،‬كل إلى بلد إقامته وأن الئحة بأسمائنا أرسلت إلى‬ ‫كافة المخابرات العربية كي تحطات منا‪ .‬قالها بتكهم و بسرور كأنما الخبر أفرحه ثم‬ ‫أضاف أن ترحيلنا سيجري بعد أيام قليلة‪ ،‬نظر إلينا بتشفي كأنما كنا قتلة والده‬ ‫وأهله و أدار ظهره لنا وغادر المكان بسرعة هاربا من خطر عدوانا‪.‬‬ ‫بعد يومين من زيارة الضابط جائت سيارة نقل المساجين لتنقلنا إلى المطار‪ .‬تحركت‬ ‫بنا متجهة نحو مطار الكويت حيث عزلونا عن بقية المسافرين لمدة ساعتين‬ ‫وقسمونا حسب بلد اإلقامة وكان معظمنا متجها إلى األردن‪ .‬أخذونا إلى الطائرة التي‬ ‫كانت تنتظر على أرض المطار‪ ،‬أدخلونا إليها وأجلسونا في مؤخرة الطائرة وبقي‬ ‫بعض الشرطة في حراستنا إلى أن أعلن القبطان عن قرب موعد اإلقالع فغادروها‬ ‫وأغلق باب الطائرة خلفهم‪ .‬تحركت الطائرة وبدأت تعلو في الجو مغادرة أجواء‬ ‫الكويت‪ ،‬نظرت من النافذة إلى الكويت التي أخذت تصغر شيئا فشيئا حتى إختفت عن‬ ‫ناظري وكانت تلك آخر مرة يقع نظري فيها على أرض الكويت‪.‬‬ ‫لقد مر على ترحيل مجموعتنا من الكويت عشرات السنين‪ ،‬بعضهم رحل عنا إلى‬ ‫األبد وبعضهم شاخ وعجز‪ ،‬والبعض اآلخر تدين فأطال لحيته وأخذ يقضي وقته في‬ ‫التعبد والبعض اآلخر‪ ،‬مثلي‪ ،‬هاجر ويعيش في الغربة‪ ،‬ولكن أسماءهم وإلى وقت‬ ‫قريب كانت ما زالت موجودة على مطارات بعض الدول العربية وحدودها‪ ،‬بما فيها‬ ‫الكويت‪ ،‬كأشخاص غير مرغوب بهم‪ .‬لم تنجح تجربة الوحدة بين البلدان العربية‪،‬‬ ‫أما وحدة مخابراتها فهي مثالية‪.‬‬


‫‪45‬‬

‫‪.15‬‬

‫الفلسطينية التائهة‬

‫رن جرس الهاتف فاستيقذت مذعورا‪ .‬نظرت إلى الساعة فوجدتها لم تتجاوز الرابعة‬ ‫صباحا‪ .‬أنا أكره رنين الهاتف في الصباح الباكر‪ ،‬إنه في العادة يحمل أخبارا سيئة‪.‬‬ ‫رفعت سماعة الهاتف وقلت نعم‪ .‬جاءني صدى صوت نسائي ليقول‪ " :‬أنا الممرضة‬ ‫بيجي‪ ،‬أنا آسفة إلزعاجك في مثل هذا الوقت ولكنني في حاجة لمساعدتك‪".‬‬ ‫بيجي ممرضة معروفة‪ ،‬تعمل في قسم األطفال التابع لمستشفى السرطان وقد ألفت‬ ‫كتابا بعنوان " أطفال قلبي" حكت فيه عن قصص مجموعة من األطفال الذين دخلوا‬ ‫المستشفى لعالجهم من مرض السرطان وماتوا بين يديها وهم يعتقدون أن المالئكة‬ ‫ستأخذهم إلى مكان جميل كله فرح ولعب أطفال‪ .‬كانت قصص محزنة ومؤثرة جدا‬ ‫ولقد لقي الكتاب رواجا كبيرا مما دفع محطات التلفزيون للتسابق على إجراء الحوار‬ ‫معها كما تقدمت مجموعات متعددة من الشركات بالتبرع بأموال أو شراء بعض‬ ‫المعدات للمستشفى وخاصة لقسم األطفال‪.‬‬ ‫عرفت من الممرضة بيجي أن السلطات قد أحضرت إلى القسم إمرأة عربية مع‬ ‫طفلها وجدوها تائهة على الحدود السلوفاكية المجرية‪ .‬بعثوها للفحص الطبي‬ ‫كالعادة بالنسبة للمهاجرين فوجدوا أن طفلها يشكو من سرطان الدم فحولوها‬ ‫وطفلها إلى مستشفى السرطان‪ .‬أضافت الممرضة بيجي أن المرأة عربية وال تتكلم‬ ‫أي لغة غير العربية ولم يستطيعوا التفاهم معها‪ .‬أضافت" أنا ال أعرف من العرب‬ ‫غيرك وأريدك أن تساعدني في التفاهم مع المرأة"‪ .‬وعدتها بالمجيء باسرع وقت‪.‬‬ ‫لبست مالبسي بسرعة وخرجت من البيت‪ ،‬ركبت سيارتي وتوجهت إلى مستشفى‬ ‫السرطان‪.‬‬ ‫مرض السرطان له هيبته بغض النظر عن حقيقة يجهلها كثير من الناس أن أمراض‬ ‫القلب والشرايين أكثر فتكا بعدة مرات من مرض السرطان‪ .‬زيارة قسم األطفال في‬ ‫المستشفى يتطلب عزيمة وقوة إرادة‪ ،‬فمنظر األطفال الصغار‪ ،‬حليقي الرأس‬ ‫منهكين من الكيماوي ومن سريان المرض في خاليا جسمهم يدفع الدموع إلى‬ ‫العيون‪ .‬لم أستطع في كل زيارة أقوم بها إلى هذا القسم أن أمنع نفسي من البكاء‬ ‫وكنت أهرب إلى الحمام وأبكي هناك خوفا أن يراني األطفال‪.‬‬ ‫دخلت القسم وكان األطفال ما زالوا نياما‪ .‬توجهت إلى مكتب الممرضة بيجي‬ ‫وقرعت الباب‪ .‬إستقبلتني بابتسامة قلقة ومسكتني من يدي وأخذتني إلى إحدى‬ ‫الغرف‪ .‬كان هناك طفال صغيرا مستلقيا على السرير وبجانب السرير جلست إمرأة‬ ‫على أرض الغرفة صعب علي تقدير عمرها ففي تضاريس وجهها مرسوم كل الوجع‬ ‫والهم اإلنساني ‪.‬‬ ‫عرفت منها أنها فلسطينية من سكان العراق ولقد ترك زوجها العراق منذ فترة‬ ‫وذهب يبحث عن العمل في ألمانيا‪ .‬بعث لها أن تلحقه ولقد بعث لها عنوان بعض‬ ‫األشخاص الذين سيسهلون مهمة سفرها‪ .‬باعت كل ما تملك‪ ،‬ومع أن زوجها كان قد‬ ‫دفع للوسطاء المبلغ المتفق عليه إال أنها إضطرت إلى أن تدفع في العراق مبلغا‬ ‫إضافيا‪.‬‬


‫‪46‬‬

‫جاءت مع طفلها مع مجموعة من العراقيين الباحثين عن لقمة العيش في الدول‬ ‫أألوروبية ولقد تبادلهم الوسطاء في الطريق حتى وصلت إلى مكان قالوا لها وألفراد‬ ‫المجموعة هذه هي ألمانيا وتركوهم على الحدود السلوفاكية بدون جواز سفر و كل‬ ‫إلى مصيرة‪ .‬تاهت وهي تجوب الطرقات وبيدها ورقة مكتوب عليها عنوان زوجها‬ ‫في ألمانيا‪ .‬كانت توقف الناس وتقول لهم الكلمة السحرية "ألمانيا‪ ،‬ألمانيا" حتى‬ ‫أوقفتها الشرطة التي بدورها نقلتها وطفلها إلى معسكر المهاجرين الدولي حيث‬ ‫اكتشفوا أن إبنها مريض بسرطان الدم‪.‬‬ ‫حاولت أن أشرح لها بأنها في سلوفاكيا وأن ألمانيا بعيدة وأن طفلها مريض‬ ‫بسرطان الدم وأنه في حاجة ماسة إلى العالج‪ .‬كانت الدولة مستعدة لعالجه على‬ ‫حسابها الخاص وكان على والدته أن تقيم في المعسكر حتى يتقرر مصيرهما‪ .‬لكنها‬ ‫رفضت ترك طفلها وأصرت على البقاء رفقته‪ ،‬ولقد واجه المستشفى بسب ذلك‬ ‫مشكلة في غاية التعقيد‪ ،‬وكان السؤال المطروح أمامهم‪ ،‬ما العمل مع هذه األم التي‬ ‫ترفض ترك إبنها؟ المستشفى ال يستطيع توفير اإلقامة لها في غرفه أو أي مكان‬ ‫آخر‪ .‬عرضت عليها أن تاتي وتقيم عندنا فرفضت‪ .‬في النهاية وافقت الممرضة‬ ‫بيجي على إبقاءها بالسر بجانب طفلها في المستشفى على أن تخفيها أمام أعين‬ ‫المسؤولين في النهار‪.‬‬ ‫تركتهم وذهبت إلى البيت وفي عقلي دوامة من األفكار واألسئلة‪ ،‬ما الذي حدث لهذا‬ ‫الشعب وكيف وصلت به األمور إلى هذا الحد؟ وما الطينة التي صنع منها أؤلئك‬ ‫الوسطاء الذين فقدوا إنسانيتهم واستغلوا مأساة هذا الشعب وأخذوا في المتاجرة‬ ‫بآالمة؟‬ ‫كانت الساعة قد قاربت منتصف الليل عندما رن جرس الهاتف‪ .‬كانت الممرضة‬ ‫بيجي من جديد وكانت منفعلة‪ ،‬صاحت" لقد أخذت إبنها وهربت"‪ .‬قلت لها كيف‬ ‫وإلى أين؟ قالت " غافلتنا وأخذت طفلها وهربت وال ندري أين ذهبت‪".‬‬ ‫بحثوا عنها فلم يجدوها‪ .‬بعضهم قال أنها كانت تجوب شوارع المدينة وفي يدها‬ ‫ورقة وتسأل المارة" ألمانيا ألمانيا ؟‬


‫‪47‬‬

‫‪.16‬‬

‫فلسطينية بين براثن ذئاب بلحية ومسبحة‬

‫كنت في مكتبي أتحدث مع صديق لي عبر الهاتف عندما لمحتهما واقفين أمامي‪.‬‬ ‫إمرأة محجبة‪ ،‬تلبس رداءا يغطي كافة جسدها‪ ،‬ما عدا الوجه واليدين‪ ،‬ورجل يلبس‬ ‫بدلة وعلى رأسه حطة بيضاء وعقال أسود ‪ .‬وقفا أمامي كتلميذين واقفين أمام مدير‬ ‫المدرسة في إنتظار قراره بعقابهما على أمر إقترفاه‪ .‬إعتذرت من صديقي وأغلقت‬ ‫الهاتف ثم نظرت إليهما متسائال‪ .‬كان منظرهما خارج عن إطار المألوف في بلد‬ ‫أوربي مثل سلوفاكيا وحتى في مكتبي‪.‬‬ ‫تكلم الرجل قائال‪ :‬نحن نبحث عن الدكتور نضال‪ ".‬أجبته‪ ":‬إنكم تنظرون إليه" ثم‬ ‫دعوتهم للجلوس وعرضت عليهم القهوة أو الشاي فطلبا ماءا‪ .‬أحضرت لهما‬ ‫زجاجة ماء وكاستين وجلست خلف مكتبي انتظر منهما تفسيرا‪ .‬قال الرجل‪ ":‬جئنا‬ ‫نبحث عن إبنتنا فلقد كتبت لنا أنها تعمل لديك‪ ".‬غصت لحظة في بحر أفكاري أبحث‬ ‫عن كلمات مالئمة كي أجيبهما على سؤالهما المحرج ‪ .‬إبنتهما لها قصة محزنة‬ ‫وقصتها واحدة من قصص كثيرة مماثلة عايشتها في أوروبا‪.‬‬ ‫في ذات يوم دخلت مكتبي فتاة محجبة وقالت لي انها فتاة عربية تدرس الطب‬ ‫وتبحث عن عمل يساعدها مدخوله في مصاريفها الدراسية والمعيشية‪ .‬ثم تابعت‪":‬‬ ‫أنت تعرف خالي وهو‪ ،‬على ما أظن‪ ،‬صديقك‪ ،‬ثم سمته لي‪ ".‬أجبتها بأنه فعال‬ ‫صديقي وتربطني به صلة قرابة ولكنني لم أعرف أن له أخت أو بنت اخت‪ ".‬فردت‬ ‫قائلة‪ ":‬لقد عشنا طويال في الكويت ولعل ذلك هو السبب في عدم معرفتك بنا‪".‬‬ ‫أخبرتني بأنها تتقن اإلنجليزية والسلوفاكية ويمكنها العمل في الترجمة في أي مجال‬ ‫يتطلب ذلك‪.‬‬ ‫لم يكن في مكتبي مكان ألي موظف‪ ،‬فمكتبي صغير يحتوي على طاولة وهاتف‬ ‫وفاكس وبعض المقاعد‪ .‬أخذتها إلى صديق لي‪ ،‬مكتبه يجاور مكتبي‪ ،‬وقدمت الفتاة‬ ‫على إنها إبنة أخت صديقي وقريبي وسألته العون في إيجاد عمل مناسب لها‪ .‬أجاب‬ ‫بأن جارنا المصري‪ ،‬الذي يملك مكتبا تجاريا في نفس الطابق‪ ،‬ال يتقن السلوفاكية‬ ‫وهو في حاجة لمترجمة‪ .‬وهكذا كان وعملت الفتاة عند صاحبنا المصري‪ .‬كان رجال‬ ‫عجوزا يساعد أبناءه‪ ،‬الذين كانوا يتاجرون في مصر بالخضروات‪ ،‬في إيجاد سوق‬ ‫لبضائعهم في سلوفاكيا‪ .‬عملت الفتاة عنده وكانت بين الحين واالخر تتوقف في‬ ‫مكتبي ‪ ،‬تلقي علي التحية وأسالها عن حالها وعن أهلها فتجيبني ثم تغادر إلى‬ ‫عملها‪.‬‬ ‫بعد مرور شهر او إثنين جاءتنا فرحة‪ ،‬توزع علينا الحلوى وتلقي علينا مفاجأة‬ ‫بانها قد تزوجت‪ .‬علمنا منها أنها إلتقت شابا مصريا يعمل مديرا في مطعم للبيتسا‬ ‫في مدينة فينا النمساوية‪ ،‬أحبته وأحبها وتزوجا على الطريقة اإلسالمية( على سنة‬ ‫هللا ورسوله) في أحد المساجد في فينا‪ .‬مدحت الزوج ووصفته بانه متدين يخاف هللا‬


‫‪48‬‬

‫وأنه سمح لها بتكملة دراستها‪ .‬لم يكن أمامنا إال أن نبارك لها وندعو لها ولزوجها‬ ‫بالتوفيق‪.‬‬ ‫بعد فترة قصيرة على زواجها سافرت إلى األردن والتقيت بخالها‪ .‬أخبرته عن إبنة‬ ‫أخته وقصتها معنا‪ .‬ضحك صديقي وقال‪ " :‬يا صديقي العزيز‪ ،‬ال يوجد لي أخت حتى‬ ‫يكون لي إبنة أخت‪ ".‬وعندما أخبرته عن إسمها وإسم عائلتها‪ ،‬صرح لي بأنه ال‬ ‫يعرفهم البتة‪".‬‬ ‫رجعت إلى سلوفاكيا وإلى مكتبي وجاء صديقي لكي يرحب بي‪ .‬بعد أن تبادلنا‬ ‫التحيات المعتادة‪ ،‬أخبرته بأن الفتاة قد كذبت علي وأن صديقي ليس له أخوات وال‬ ‫بنات أخوات وليس له أدنى معرفة بها أو بأهلها‪ .‬فجأة‪ ،‬تحول لون وجه صديقي إلى‬ ‫اإلصفرار كأنما إنسحب الدم من وجهه وأصبح لونه مثل الليمونة‪ .‬ظننت أنه مريض‬ ‫فسألته ما به‪ .‬نظر إلي وقال‪ :‬أنا في مشكلة وأخذ يقص علي ما حدث‪.‬‬ ‫جاءت الفتاة إلى صديقي أثناء غيابي وطلبت منه سلفة عشرة آالف دوالر‪ .‬أخبرته‬ ‫بأن زوجها يريد أن يشتري مطعم البيتسا الذي يعمل فيه وينقصه عشرة آالف‬ ‫دوالر‪ .‬طمأنته بأنه سيعيد المبلغ بعد أن يصله النقود التي أرسلها أهله إليه وأن‬ ‫المدة لن تطول أكثر من شهر واحد‪ ،‬وهو يخشى إن لم يشتر المطعم اآلن فسيشتريه‬ ‫موظف آخر يطمع به‪ .‬ولم تنس أن تخبره أن خالها صديقي وقريبي وهي من عائلة‬ ‫محترمة و معروفة في الوطن‪.‬‬ ‫لم يكن مع صديقي هذا المبلغ‪ ،‬وتحت ضغط بكاءها ونواحها بأنها فرصة العمر لها‬ ‫ولزوجها‪ ،‬وبناء على تشديدها على صلة القرابة التي تربطها بي‪ ،‬أخذها إلى مكتب‬ ‫صرافة يقدم السلف بنسبة فائض عالية وقام بكفالتها بالمبلغ ولمدة شهر‪ .‬عندما‬ ‫أخبرني إسم المكتب الذي إستلفت منه المبلغ شعرت بألم في أمعائي وأصابني‬ ‫الغشيان وصحت به‪ " :‬هل أنت مجنون؟ هؤالء مافيا و إذا لم يدفع المبلغ في وقته‪،‬‬ ‫وهو يستحق بعد أيام قليلة‪ ،‬فإنهم سيقتلوك ويقتلونها ‪ ".‬لم يجد ما يقوله‪ ،‬لقد‬ ‫إستطاعت بمراوغتها ودموعها أن تؤثر على قراره‪.‬‬ ‫كان علي قبل كل شيء أن أحمي صديقي من أي مسائلة فذهبت إلى صاحب مكتب‬ ‫الصرافة الذي إستدانا منه المبلغ‪ ،‬وهو ألباني مسلم‪ ،‬وكان مدينا لي ببعض الخدمات‬ ‫الهامة‪ .‬شرحت له تفاصيل القصة ووعدته بمساعدته في الحصول على المبلغ‬ ‫وطلبت منه وعدا أن يرفع يده عن صديقي‪ ،‬ففعل‪ .‬كانت كلمته‪،‬رغما عن طبيعة‬ ‫عمله‪ ،‬ذات وزن و ثقة‪ .‬ضحك وقال لي‪ ":‬ال تخف نحن نعرف كيف نستعيد حقنا‪".‬‬ ‫قلت له أعرف ذلك حق المعرفة‪ ،‬وتركته بعد أن وعدته بزيارة ودية‪.‬‬ ‫أخذنا الفتاة وذهبنا وصديقي إلى فينا نبحث عن زوجها‪ .‬موظفوا المطعم الذي يعمل‬ ‫فيه أخبرونا باننا سنجده في مسجد يصلي فيه ويشترك في حلقات دينية يدرس فيها‬ ‫أحد الشيوخ أسرار الدين وخباياه‪ .‬عندما سألت صاحب المطعم إن كان ينوي فعال‬ ‫بيع مطعمه أجابني بالنفي القاطع‪.‬‬ ‫ذهبنا إلى المسجد‪ ،‬وهو حسب ما أخبرتنا الفتاة‪ ،‬نفس المسجد الذي عقد قرانها فيه‬ ‫على زوجها‪ .‬أجلسنا الفتاة في مقهى بجانب المسجد ودخلنا إلحضار الزوج‪ .‬كان‬ ‫شابا ملتحيا وفي يده مسبحة كباقي المجموعة التي كانت حوله‪ .‬خرج معنا بدون أي‬ ‫معارضة ودخلنا المقهى وأجلسناه إلى جانب زوجته‪ .‬رفض أن يصافحها بحجة انه‬


‫‪49‬‬

‫ال يصافح النساء‪ .‬إعترضت بقولي‪ ":‬ولكنها زوجتك يا رجل‪ ،‬فكيف ال تصافحها ؟"‬ ‫فاجأنا بقوله أنها ليست زوجته وليس له أي عالقة بها أو معها وطلب إظهار أي‬ ‫وثيقة تثبت هذا الزواج‪ .‬قامت مجادلة بينهما لم أكن أرغب في سماعها‪ ،‬فسألته عن‬ ‫النقود ومتى سيقوم بسدادها‪ .‬أنكر أن يكون قد إستلف منها أو من غيرها أي مبلغ‪.‬‬ ‫ال حظنا إلتفاف مجموعة كبيرة من ذوي اللحى‪ ،‬من الذين كانوا في المسجد وقت‬ ‫خروجنا معه‪ ،‬حولنا‪ .‬لقد حجزوا جميع المقاعد التي كانت محيطة بنا في المقهى ولم‬ ‫يكن منظرا مريحا على اإلطالق‪ .‬كانت نظراتهم تهديدية تتطاير منها عالمات‬ ‫العدوانية والعدائية‪ .‬وجدت أنه ال فائدة من وجودنا‪ ،‬فهناك من يكذب علينا ولم أكن‬ ‫راغبا في إثارة مجموعة الدبابير التي كانت تحيط بنا‪ .‬أشرت على صديقي بأن أفضل‬ ‫طريقة للخروج من هذا المأزق المشبع بالخداع والكذب هي أن نسرع بالرحيل‪.‬‬ ‫خرجنا وصديقي من المقهى دون أن نودعهم وبقيت الفتاة جالسة‪ ،‬منشغلة في جدال‬ ‫حاد مع زوجها‪ ،‬وال ندري ما الذي دار بينهما ومن كان يخدع من أم أن كالهما قاما‬ ‫بخداعنا؟ لم اكن أرغب في اإلنتظار ومعرفة الجواب‪ .‬إختفت الفتاة بعدها ولم تعد ال‬ ‫إلى الجامعة وال إلى السكن الجامعي ولم تسدد أجرة سكنها لعدة أشهر‪ .‬سمعت أنها‬ ‫تبيع جسدها على ناصية أحد شوارع فينا‪.‬‬ ‫بناءا على طلب من إدارة المسكن الجامعي‪ ،‬دخلنا غرفتها في المسكن وشهدنا على‬ ‫إستالم مسؤولة المسكن لمالبسها وأغراضها التي تخصها والتي وضعت في علب‬ ‫كرتونية وجرى حجزها في مخزن المسكن‪ .‬وجدنا بين أغراضها مجموعة من‬ ‫الرسائل من زوجها أو ما أدعته أن يكون‪ ،‬وكانت رسائل مليئة بوصف عالقاتهم‬ ‫الجنسية وما سيفعلونه في السرير عند لقاءهما القادم‪ .‬كانت رسائل مخجلة يصعب‬ ‫قراءتها‪.‬‬ ‫نظرت إلى الوالدين وقلت لهما‪" :‬إبنتكما رحلت منذ مدة‪ ،‬تركت الجامعة وهي تعيش‬ ‫في فينا وأنا أنصحكما بأن تعودا إلى الوطن وتنسياها‪ ".‬لكنهما أصرا على مقابلتها‬ ‫فاعطيتهما عنوان صديق لي في فينا سيساعدهما على إيجاها‪ .‬أخذا الورقة وخرجا‬ ‫من مكتبي محنيي الظهر‪ ،‬يحمالن على كتفيهما ثقل مصيبة لم يكونا في ذلك الوقت‬ ‫قادرين على إستيعاب أبعادها‪.‬‬ ‫أخبرني صديقي بعد فترة أنهما قابال إبنتهما ولكنها رفضت اإلستماع إليهما والعودة‬ ‫إلى الوطن وقالت لهما‪ " :‬إنسو إبنتكما فلقد ماتت‪".‬ثم أدارت ظهرها ورحلت بعيدا‪.‬‬ ‫تركاها على ناصية الشارع وعادا متوجهين إلى المطار‪ .‬كانت األم تبكي بحرقة‬ ‫وكان األب صامتا‪ .‬نزع عن رأسه حطته وعقاله ولفهما حول رقبته ومشى مكسورا‬ ‫محطما ولم أسمع عنهما أو عن إبنتهما بعد ذلك‪.‬‬


‫‪50‬‬

‫‪ .17‬عشاء ديمقراطي‬ ‫وضع يديه على ركبتيه وجلس يمسح عرقه عن جبينه كأنه تلميذ في حضرة مديره‪.‬‬ ‫كان يضم يديه ويفردهما بعصبية وهو يردد ‪ :‬ال تجبرني على أن أحلف بالطالق‪،‬‬ ‫ستتعشى عندنا مساء الجمعة وال أقبل أي عذر‪.‬‬ ‫نظرت إليه طويال واحترت في ما أقول‪ .‬كيف اقنع هذا الصديق الجالس أمامي بأن‬ ‫العشاء يضرني وإنني ال آكل طعاما بعد الخامسة مساءا إال بعض الفواكه والخضار‪،‬‬ ‫وأن العشاء الذي يصر صديقي على دعوتي إليه سيسبب لي مشاكل صحية ال تعد‬ ‫وال تحصى‪ ،‬خاصة وأنني في ذلك اليوم مدعو عند صديق على غداء دسم‪ .‬لقد جف‬ ‫حلقي ونشفت شفتاي من ترديد ذلك له وهو يعود ليحلف األيمان ويصر على هذه‬ ‫الدعوة بإصرار عجيب‪ .‬ما السر في كون الطعام يكون في بالدنا أحد أهم المكونات‬ ‫للعالقات االجتماعية ؟ ما السر في أن الصداقة والمحبة في بالدنا تتمحور حول‬ ‫الطعام المقدم ونوعه وكميته وشكله ‪ .‬شعبنا مضياف كريم وهذا ال نقاش فيه ولكن‬ ‫لماذا اإلصرار على دعوة الضيف إلى مائدة تضره وليس له رغبة فيها‪ ،‬فهل هي‬ ‫إرضاء للضيف أم للمضيف؟‬ ‫طال الصمت بيننا وما عدت أسمع إال أمواج أنفاسه التي أخذت في التسارع متلهفة‬ ‫لجوابي‪ .‬لقد شعرت بمزيج من الحيرة واألسى والغضب الدفين لوجودي في هذا‬ ‫الموقف ألمحرج‪ ،‬وبدأ عقلي يحلل بسرعة فائقة النتائج المترتبة على أي إجابة‬ ‫أقولها‪.‬‬ ‫قبضت على يد صديقي بشدة وقلت له ‪ :‬يشرفني يا صديقي أن آت إلى بيتك وأن آكل‬ ‫من طعامك‪ ،‬ورغم معرفتي أن األكل المتأخر ليال يضرني‪ ،‬إال أنني إكراما لك سأقبل‬ ‫دعوتك ولي رجاء عندك أن يقدم الطعام مبكرا‪ .‬ثم تابعت القول ‪ :‬وأظن أنه من باب‬ ‫العبث أن أتقدم إليك برجاء‪ ،‬أن يكون الطعام بسيطا‪،‬خفيفا على المعدة‪ ،‬فمعرفتي بك‬ ‫وبزوجتك تؤكد لي بأن هذا الرجاء لن ينفذ‪.‬‬ ‫رأيت البهجة تعم وجه صديقي والتي عبر عنها بعناقي طويال كأننا نلتقي بعد غياب‬ ‫طويل‪ .‬دار الجدال بيننا حول الوقت ولقد حاولت أن آخذ وعدا من صديقي بأن يكون‬ ‫مبكرا قدر اإلمكان ‪ .‬وأخيرا إنتهى اإلتفاق بيننا‪ ،‬بعد جدال الممكن وغير الممكن ‪ ،‬أن‬ ‫يكون العشاء بعد صالة المغرب مباشرة‪ .‬فاألوقات في بالدنا مربوطة بأوقات‬ ‫الصالة‪.‬‬ ‫في مساء اليوم المعهود وفي الوقت المتفق عليه طرقت باب صديقي وأنا أتحسس‬ ‫جيوبي التي امتألت بمختلف األدوية التي جلبتها معي‪ .‬حبوب ضد الحموضة‬ ‫وحبوب لتسهيل الهضم إلى جانب حبوب لمنع النفخة وحبوب أخرى حيطة ألي حالة‬ ‫طارئة‪ .‬قابلني المضيف بالعناق والترحاب وقادني إلى قاعة الضيوف‪ .‬فوجئت بأن‬ ‫القاعة مليئة بالضيوف من الجنسين ‪ ،‬بعضهم من أصدقائي وأقاربي وبعضهم‬ ‫غريب عني ولكنه يمت لبعض أقربائي وأصدقائي بصلة النسب‪.‬‬ ‫صافحت الجميع فردا فردا فردا‪ ،‬بعض النساء رفضن مصافحتي ووضعن أيديهن‬ ‫خلف ظهورهن‪ ،‬فأصبت بالحرج واحترت ألي منهن أقدم يدي‪ ،‬وتنفست الصعداء‬


‫‪51‬‬

‫عندما انتهيت من واجب المصافحة وجلست في المقعد الذي قدم لي‪ .‬دارت األسئلة‬ ‫حول الحال واألحوال والعائلة وما غير ذلك‪ .‬سألتني إحداهن أين زوجتي‪ ,‬فعم‬ ‫الصمت المكان ووشوشتها امرأة تجلس بجانبها بأنني أرمل‪ ،‬توفيت زوجتي منذ‬ ‫أعوام‪ .‬سألتني نفس السيدة لماذا لم أتزوج لحد اآلن‪ ،‬ودار الحديث حول ضرورة‬ ‫تزويجي‪ ،‬وبدأ الحاضرون يدلون دلوهم في موضوع زواجي ويطرحون أسماء‬ ‫الزوجات المناسبة لي‪ .‬لم يسألني أحد عن رأيي وإن كنت أرغب في الزواج أصال‪،‬‬ ‫بقيت صامتا أستمع للتمثيلية التي أقوم بدور البطل فيها ولكنني خارج مسرحها‪.‬‬ ‫وأخذت أراقب الساعة وأتساءل متى سندعى إلى العشاء الموعود‪.‬‬ ‫قام الرجال فجأة وتوجهوا نحو باب الخروج ولم أفهم ما يجري فسألت مضيفي‬ ‫فأجابني بأنهم ذاهبون إلى المسجد لصالة العشاء‪ .‬وعندما سألته لماذا ال يصلون في‬ ‫البيت أخبرني أن الصالة في المسجد أكثر ثوابا‪ ،‬واعتذر مني بأن األمر لن يطول‬ ‫وأنهم سيقدمون العشاء بعد عودة الرجال من المسجد مباشرة‪ .‬وعندما سألته عن‬ ‫وعده بأن يكون العشاء مبكرا إحمر وجهه وقال بأن الصالة أهم من وعده لي‬ ‫وطلب مني أن أقوم معهم للصالة فأخبرته بأنني مسافر ولي حق الجمع فهز رأسه‬ ‫ولحق مسرعا ببقية الرجال وتركني وحيدا مع إبن له‪ ،‬فلقد خرجت النساء إلى غرفة‬ ‫ثانية للصالة‪.‬‬ ‫عاد الرجال بعد وقت خلته دهرا ودعينا لطاولة العشاء ولقد أصبح الوقت بالنسبة‬ ‫لي متأخرا بكل المعايير‪ .‬قمنا ولقد قررت في نفسي أن ال آكل إال قليل من الخضار‪،‬‬ ‫ولكنني ما أن جلست إلى طاولة الطعام حتى رأيت األيدي تمتد إلى صحني وتمأله‬ ‫بالطعام‪ ،‬وعندما أظهرت إعتراضي بدأت األيمان تنصب على رأسي ‪ :‬باهلل عليك‬ ‫كل‪ ،‬أال يعجبك الطعام ؟ خذ هذه الكوساية من يدي‪ ،‬خذ هذه الكبة وضعها في فمك‪،‬‬ ‫إفتح فمك هذه قطعة لحم موزة من فخد الخاروف وهكذا انطلقت األيمان المختلفة‬ ‫من الشفاة وامتأل صحني بالطعام حتى بدأ يتساقط منه‪ .‬خلت نفسي طفال صغيرا‬ ‫يطعمه والديه‪ .‬وما أن قمنا عن الطاولة حتى شعرت أن معدتي ستنفجر وأخذ كرشي‬ ‫الذي انتفخ مثل قربة يضغط على أنفاسي‪.‬‬ ‫وأخيرا عدنا إلى أماكننا وكانت كلمات الشكر تنطلق من األفواه يرد عليها المضيف‬ ‫بكلمات‪ :‬صحة وعافية‪ .‬ثم وزعت القهوة العربية المطعمة بالهال وأخذت أرتشف‬ ‫القهوة بتلذذ‪ .‬عم الصمت القاعة إال من صوت رشفات القهوة من شفاه الضيوف‬ ‫وإعادة ملئ الفناجين من دلة ذات فم ضيق معقوف يدور بها مضيفنا على ضيوفه‪.‬‬ ‫شق الصمت صوت أحد الضيوف قائال ‪ ":‬هل رأيتم ما يفعله الرافضة أعداء اإلسالم‬ ‫وكيف يشتمون السيدة عائشة أشرف سيدات الخلق ‪ ،‬زوجة رسول هللا صلى هللا‬ ‫عليه وسلم؟ قالت سيدة بعد أن وضعت فنجان القهوة الفارغ على الطاولة التي‬ ‫أمامها ‪ ":‬شاهدوا برامجهم التلفزيونية فكلها حقد على اإلسالم والسنة وعلى‬ ‫صحابة الرسول رضوان هللا عليهم جميعا‪ ".‬قال أحد الجالسين ‪ " :‬حزب هللا يرفع‬ ‫شعار فلسطين كتقية وكل هدفه فتح األبواب إليران الشيعية حتى تحتل أرضنا وتنشر‬ ‫أفكار الرافضة ويسقط دين الحق‪ ،‬دين أهل السنة والجماعة‪".‬‬ ‫بقي الحديث يدور حول الشيعة وموقفهم العدائي من السنة وحقدهم على السيدة‬ ‫عائشة وعلى صحابة النبي األتقياء األوفياء المعصومين عن الخطأ‪ ..‬بقيت صامتا‬


‫‪52‬‬

‫أستمع وكان كل من الموجودين يدلي بدلوه في بئر الخطر الشيعي على أمة محمد‪.‬‬ ‫إنتظرت أن ينتهي الحديث ويتحول إلى الخطر اإلسرائيلي المحدق بمجموع األمة‬ ‫والويالت التي يذوقها أهلنا في فلسطين على أيدي قوى اإلحتالل‪ ،‬ولكن أنتظاري‬ ‫كان عبثا‪ .‬فجأة الحظ بعضهم صمتي فسألني عن رأيي‪ .‬فكرت وترددت طويال قبل أن‬ ‫أنطق بأي كلمة‪ ،‬ولكن العيون المسلطة علي والوجوه المنتظرة جوابي دفعني‬ ‫للحديث فقلت ‪:‬إنني أرى في حديثكم هذا زرعا للفتنة نحن في غنى عنها وخاصة في‬ ‫ظروف الهجمة الصهيونية واإلمبريالية على بالدنا‪ .‬ثم أن المرجعية الشيعية‬ ‫إستنكرت التهجم على السيدة عائشة وعلى صحابة النبي‪ ،‬وهذا هو فصل المقال وال‬ ‫ضرورة إلعادة وتكرار قول فرد هنا وآخر هناك‪،‬كما أن هذا الموضوع ينتمي إلى‬ ‫الماضي ونحن علينا أن ننظر إلى الحاضر والمستقبل والمشاكل المعقدة التي‬ ‫تواجهنا‪ ،‬وآخر ما نرجوه هو نشوب فتنة بين السنة والشيعة‪ .‬قاطعني أحدهم‬ ‫صائحا ‪ " :‬ال تصدقهم! تصريح مرجعيتهم هو تقية وهم يقولون ماال يضمرون‪.‬‬ ‫تابعت كالمي دون أن أعير أي إهتمام لموضوع التقية وقلت‪ :‬عند أهل السنة‬ ‫مجموعات تكفيرية إرهابية وهي أكثر خطرا علينا جميعا من أي خطر شيعي‬ ‫محتمل‪.‬‬ ‫إنطلقت القنابل الكالمية من مدافع الشفاة الملحمية وتوجهت كالصواريخ تجاهي‬ ‫واللهب الحارق يخرج منها‪ .‬راحت عيناي تمعن النظر في تلك الشفاة المرتجفة‬ ‫كرشاش حربي سريع الطلقات وقطرات اللعاب تمتزج مع الكلمات المنطلقة‬ ‫كالرصاص حاملة كل الحقد اإلنساني‪ .‬إستطعت أن ألتقط من بينها كلمات مثل كفر‬ ‫وحرام وردة وعقاب وال نسمح وغير مقبول‪ .‬حاولت أن أرد وأشرح رأيي وموقفي‬ ‫ولكن األلسنة الحادة كالسيف قطعت جملي كما يقطع السيف لحم عدو في يد محارب‬ ‫حاقد‪ .‬لم استطع أن أقول‪ ،‬مهما حاولت‪ ،‬جملة واحدة مفيدة‪ ،‬فآثرت الصمت‪ .‬تابعت‬ ‫صمتي ولم يعد للقهوة مذاق وال رائحة‪ ،‬وال أدري كم إستمر الهجوم وكم من التهم‬ ‫والشتائم سقطت على رأسي‪ .‬كانت العيون تحدق في وجهي والشرر يتطاير منها‬ ‫وكانت الشفاه تصب حماها علي فحدقت في وجوههم‪ ،‬لم يكن هؤالء أهلي وال‬ ‫أقاربي وال أصدقائي الذين إشتقت إليهم بعد غربة‪ .‬كانوا غرباء وكنت بينهم أشد‬ ‫إغترابا من غربتي خارج وطني‪ .‬قبض الحزن على قلبي حتى كاد يدميه وغلى الدم‬ ‫في عروقي ولكنني بقيت صامتا ‪.‬‬ ‫بعد فترة عم الصمت القاعة ورأيت عيون الموجودين تتحاشاني‪ .‬أخذت أحدق في‬ ‫الوجوه متحديا‪ .‬بعد فترة من الصمت طالت حتى أصبح الوضع محرجا قال أحدهم‬ ‫بصوت عال‪ ،‬كأنما حديثه موجه نحوي مع أنه لم يكن ينظر إلي‪ " :‬هل رأيتم أوروبا‬ ‫التي تدعي الديموقراطية والحرية وترفع شعار حقوق اإلنسان؟ إنها تعتدي على‬ ‫حقوق المرأة المسلمة وتمنع النقاب‪ ".‬خرجت التمتمات من أفواه الحضور موافقة‬ ‫على قول صاحبنا وأضاف البعض جمال مثل‪ " :‬إنهم يكرهون اإلسالم والمسلمين‪،‬‬ ‫يدعون الديموقراطية ويعتدون على حرية المسلمين وحقوقهم‪ ،‬يجب أن ال نسمح‬ ‫باإلعتداء على حرية المرأة المسلمة ومنعها من لبس لباسها الشرعي بما فيه‬ ‫النقاب‪.‬‬


‫‪53‬‬

‫إستمعت طويال لحديثهم يشكون من تعسف الديموقراطية الغربية وإعتداءها على‬ ‫حقوق المسلمين وخاصة حق المرأة المسلمة بلبس النقاب وتغطية جسمها ووجهها‬ ‫ويديها حتى تصبح إمرأة "إنكوغنيتو" مجهولة الجنس والهوية وال تعرف إن كانت‬ ‫من جنس البشر أم من كوكب آخر‪ ،‬وإن كانت رجال أو إمرأة‪ .‬شعرت بعمق التناقض‬ ‫في تفكير أمة محمد وتجذر داء الفصام في العقل المسلم‪.‬‬ ‫قمت وتسللت من القاعة إلى الحديقة ومنها إلى الشارع ولم يكتشف أحد خروجي‬ ‫وال شعر بغيابي‪ .‬تنفست الهواء الطلق المنعش ونظرت إلى السماء‪ .‬بحثت عن‬ ‫القمر فلم أجده‪ ،‬مع أنه من المفروض أن تكون ليلة قمرية‪ .‬لعله إختفى خجال من ما‬ ‫سمع‪ .‬كان الصمت والظالم مخيم على المدينة يشقهما بين الحين واآلخر صوت‬ ‫ونور مصابيح السيارت المارة على الطريق العام‪ .‬تمنيت لو أن لي جنحان فأطير بها‬ ‫بعيدا‪ .‬لم يكن لدي جنحان فوضعت يدي في جيوبي ومشيت مغادرا‪.‬‬


‫‪54‬‬

‫‪.18‬‬

‫عبدالرحيم عمر‪ :‬الشاعر‪ ،‬الصديق واإلنسان‬

‫إلتقيت به عام ‪ 1956‬في الكويت حيث عملنا معا كمدرسين في مدرسة كويتية ال‬ ‫أذكر إسمها‪ ،‬ونمت بيننا صداقة متينة‪ ،‬رغم فرق السن‪ ،‬فأنا ولدت عام ‪ 1936‬وهو‬ ‫عام ‪ .1929‬كنت شابا حديث التخرج من دار المعلمين في عمان وكان هو متزوجا‬ ‫ورب عائلة‪ .‬بقينا معا في الكويت إلى أن ألقت السلطات الكويتية القبض علينا‬ ‫وقامت بسجننا ومن ثم ترحيلنا إلى األردن في عام ‪.1959‬‬ ‫كان عبدالرحيم عمر‪ ،‬أبو جمال‪ ،‬واسع الثقافة‪ ،‬خفيف الروح وصاحب نكته‪ ،‬دمث‬ ‫األخالق ولكنه سليط اللسان ال يتورع عن إستععماله ضد من يستحقونه‪ ،‬شعرا أو‬ ‫نثرا‪ .‬لقد أوقعه لسانه أكثر من مرة في مشاكل كادت في مرة من المرات أن تودي‬ ‫به إلى السجن‪ .‬فلقد كتب مسرحية إذاعية لإلذاعة األردنية‪ ،‬ولكن المدير العام‬ ‫للتلفزيون واإلذاعة قام بإجراء تعديالت عليها وأذاعها ناسبا العمل لنفسه‪ ،‬مما أثار‬ ‫غضب أبي جمال‪ .‬أرسل أبو جمال برقية الذعة إلى مدير اإلذاعة والتلفزيون يصفه‬ ‫فيها بأقسى األلفاظ وفي مطلعها على ما أذكر‪ ":‬في زمنك كثر الفساد وعمت‬ ‫المحسوبية وهبطت الثقافة وإنحط األدب" وأرسل صورا عن البرقية لكل من رئيس‬ ‫الوزراء وكان وقتها السيد مضر بدران وإلى وزير الداخلية وكان وقتها السيد‬ ‫سليمان عرار‪ ،‬وكان عرار صديقا لعبد الرحيم عمر‪ .‬أخطأ عامل البرقيات وأرسل‬ ‫ثالث برقيات‪ ،‬كل واحدة بنفس المضمون موجهة ومعنونة إلى المرسل إليه بدال من‬ ‫أن تكون صورة عن البرقية المرسلة إلى مدير اإلذاعة والتلفزيون‪ .‬وصلت البرقية‬ ‫لكل من رئيس الوزراء ووزير الداخلية كأنما هما المقصودان بما جاء بها من شتم‬ ‫قاس‪ .‬لقد فهم وزير الداخلية أن خطأ ما قد وقع‪ ،‬ألنه كان صديقا لعبدالرحيم عمر‬ ‫ولم يكن عبدالرحيم ليرسل مثل هذه البرقية له‪ .‬لكن رئيس الوزراء كان أقل تفهما و‬ ‫إستشاط غضبا عندما إستلم البرقية‪ ،‬وأمر بإلقاء القبض على عبدالرحيم وسجنه‪.‬‬ ‫إتصل وزير الداخلية بأبي جمال وطلب منه أن يختفي إلى أن تهدأ خواطر السيد‬ ‫رئيس الوزراء ويقبل بأنه لم يكن مقصودا بمحتويات البرقية وأن خطأ قد حصل من‬ ‫قبل عامل البرقيات‪ ،‬وهكذا كان‪ ،‬وظل أبو جمال مختفيا في بيت صديق له إلى أن‬ ‫إتصل به وزير الداخلية وأخبره بزوال الخطر‪ .‬ولقد قال أبو جمال قصيدة في عرار‬ ‫يعرب فيها عن شوقه إليه بعد مماته وفيها يقول‪:‬‬ ‫يا عرار‬ ‫خجال جئت‪ ،‬يدي فارغة‪ ،‬شيحان هذا العام ما إخضر‬ ‫وال أخصب في حوران قمح‬ ‫خجال جئت وماء الوجه فوق الوجه طفح‬ ‫وأناديك فتنفيني الليالي العربية‬ ‫رغم أني‬ ‫رغم أني عربي الوجه واآلمال واألحوال قح‬


‫‪55‬‬

‫ولد عبد الرحيم محمد عمر في فلسطين‪ ،‬في بلدة جيّوس الواقعة إلى الجنوب من‬ ‫طولكرم في ‪ ، 14/ 8/ 1929‬ودرس في مدرستها االبتدائية‪ .‬وفي العام ‪ 1940‬انتقل‬ ‫إلى قلقيلية‪ ،‬ثم إلى مدرسة طولكرم الثانوية حيث أنهى في العام ‪ 1948‬شهادة‬ ‫"االجتياز إلى التعليم العالي"‪ .‬عمل بعد تخ ّرجه معلّما في مدرسة القرية‪ ،‬ثم ذهب‬ ‫في مطلع العام ‪ 1952‬ليعمل معلّما في مدارس الكويت‪ ،‬فأمضى فيها سبع سنوات‪،‬‬ ‫عاد بعدها إلى األردن‪ ،‬بعد ترحيله من الكويت‪ ،‬ليعمل في ميدان اإلعالم‪ .‬فعمل في‬ ‫اإلذاعة منذ العام ‪ ،1959‬وأصبح في العام ‪ 1964‬رئيسا للقسم الثقافي فيها‪ ،‬ثم عين‬ ‫رئيسا لتحرير مجلّة "أفكار" بين العامين‪ ، 1966-1967‬ثم عاد إلى اإلذاعة ليتولّى‬ ‫منصب مساعد المدير‪ ،‬ثم أصبح مديرا لها في العام ‪ .1970‬تولى إدارة دائرة الثقافة‬ ‫والفنون التابعة لوزارة اإلعالم األردنية في العام ‪ ،1971‬وأسهم في تأسيس رابطة‬ ‫الكتّاب األردنيّين في العام ‪ ،1974‬وانتخب رئيسا للرابطة أكثر من دورة‪ .‬شارك في‬ ‫كثي ٍر من الفعاليات الثقافية األردنية والعربية‪ ،‬وكان رئيسا للجنة الشعر في مهرجان‬ ‫جرش لسنوات عدة‪ ،‬وعضوا في اللجنة التأسيسية لمركز دراسات الحريّة‬ ‫والديمقراطية‪ .‬كتب المقالة الصحفية في الصحف والمجالّت األردنية‪ ،‬وكان من بين‬ ‫الفريق الذي أسهم في تأسيس صحيفة "الرأي" األردنية ‪.‬وكانت له زاوية فيها‬ ‫تحت عنوان "أقول كلمة"‪ .‬نال وسام االستقالل من الدرجة األولى‪ ،‬وجائزة الدولة‬ ‫التقديرية لآلداب‪ ،‬وجائزة عرار للشعر‪ .‬له عدد من الدواوين الشعرية كما له عدد‬ ‫المسرحيات الشعرية‪ ،‬بعضها مطبوع‪ ،‬وبعضها اآلخر عرض على خشبة‬ ‫من‬ ‫ّ‬ ‫المسرح‪ ،‬ومنها ما هو مخطوط‪.‬‬ ‫كان عبدالرحيم عمر كريم النفس مضيافا وكانت عائلته إلى جانب ذلك كبيره ولذلك‬ ‫كانت مصاريفه أكبر من مدخوله مما جعله في ضائقة مالية مزمنة‪ ،‬وكثرت ديونه‬ ‫وكثر دائنوه‪ .‬وأذكر أن أحد الدائنين جاء في غيابه إلى منزله يطالبه بالدين وكان‬ ‫لحوحا‪ ،‬فجا‪ ،‬فما كان من أم جمال إال أن أعطته السجادة الوحيدة الموجودة في‬ ‫البيت‪ ،‬كدفعة من أصل الدين‪ .‬ولقد قال شاعرنا في ذلك قصيدة جميلة وحزينة ولقد‬ ‫بحثت عنها في مجموعاته الشعرية التي في حوزتي فلم أجدها‪.‬‬ ‫كان يحب العراق وكان يؤمن أن أمن الوطن العربي من أمن العراق وقال في العراق‬ ‫قصيدة طويلة منها‪:‬‬ ‫كيف األحبة في بغداد يا ولدي‬ ‫ظلوا على العهد؟ أم حادوا ولم نحد‬ ‫وكيف حال نخيل الكرخ شامخة‬ ‫أعذاقه كشموخ الشمس في األبد‬ ‫وعن عيون المها ماذا تحدثني‬


‫‪56‬‬

‫سحر الرصافة أصماني ولم يقد‬ ‫بغداد! جئتك خجالنا ولو عذرت‬ ‫نوازع القلب لم أرحل ولم أفد‬ ‫رويت جرحك من عيني ولو نزفت‬ ‫مني الوريد أيا بغداد ام أزد‬ ‫وأنت ما صاح منا قط ملتهف‬ ‫إال بذلت القنا والهام بذل ندي‬ ‫لقد كان عبدالرحيم عمر صديقا لي ولوالدي وكان والدي كلما مر على عمان يمر‬ ‫على عبدالرحيم‪ ،‬يتحدثان لساعات في مختلف األمور ومنها الشعر واألدب‪ .‬وعندما‬ ‫توفي والدي كان أبو جمال على فراش المرض فاتصل بي يسألني عن مكان بيت‬ ‫العزاء فرجوته أن ال يحضر وأن هاتفه وكلماته الجميلة المعزية عبر الهاتف تكفيه‬ ‫عن المجيئ‪ ،‬ولكنه طلب من أحد األصدقاء أن يحضره بسيارته إلى بيت العزاء‬ ‫وكان العزاء في الطابق األول‪ ،‬فعجز أبو جمال أن يصعد الدرج‪ ،‬فنزلت إليه وعاتبته‬ ‫على مجيئه‪ ،‬وهو مريض و راكض في الفراش‪ ،‬ولكنه قال‪ ":‬يا صديقي‪ ،‬هذا عزاء‬ ‫والدنا جميعا ‪ ،‬ومن واجبي القيام بذلك"‪ .‬ودعته وكانت تلك آخر مرة ألتقيي به فيها‬ ‫‪ .‬توفي بعدها بوقت قصير في لندن بتاريخ ‪. 1993/9/12‬‬ ‫كان عبدالرحيم عمر شاعرا يجمع بين ريادة الحداثة الشعرية وبين تمكنه من عمود‬ ‫القصيدة وكالسيكيتها معا‪ .‬كان تقدمي التفكير وطني الموقف وكان محسوبا على‬ ‫جبهة اليسار في الوطن العربي‪ .‬إنه ليؤسفني أن أبو جمال لم يأخذ حقه وما يستحقه‬ ‫في النقد واالحتفاء به ال في حياته وال بعد مماته مع أنه خلف إرثا ثقافيا ومنجزا‬ ‫إبداعيا في الشعر والمسرح والحياة االجتماعية حيث كان صحفيا بارزا وصاحب‬ ‫فكر مميز ‪ .‬ومن قصائده الجميلة التي رغبت مشاركتها مع القراء قصيدة بعنوان‪:‬‬ ‫"أغنية إلى الفرصة الضائعة"‪ ،‬يقول فيها‪:‬‬ ‫ت َ‬ ‫الخطَر‬ ‫مدلج تحت ِظالل الريح والشو ِك ورايا ِ‬ ‫سحاب ال ّر ْمل والتي ِه يغنِّي للمطر‬ ‫راحل تحتَ َ‬ ‫باط ٌل ك ُّل الذي في كفِّ ِه‬ ‫والطريق الوعر يَهوي ثم يَهوي في جنون الم ْن َحدَر‬ ‫ستقَر؟‬ ‫ما الذي خبّأه الدرب وأيْنَ الم ْ‬ ‫كان حلمي أن أزيح ال َغ َّم إذ يطفو على وج ِه الغمام ْة‬ ‫ش َر على وجه الصحارى‬ ‫وأرى الب ْ‬


‫‪57‬‬

‫كان حلمي أن أرى الدف َء عال َم ْه‬ ‫فوق أحزان أحبّائي الحيارى‬ ‫وهز ْمنا‪ ،‬وافترقنا‪ ،‬وارتحلنا‬ ‫ساء األسر واألسرى نذرت الشِّع َر‬ ‫ولعينيك م َ‬ ‫ِ‬ ‫ش َها َم ْة‬ ‫ت ال َّ‬ ‫والحزنَ وشارا ِ‬ ‫سال َم ْه‬ ‫يوم فارقتك كان الشعر والحب ال َ‬ ‫والذي كان وال أدري لِ َم ْه‬ ‫َ‬ ‫أنني أسلمت أمري وتع َّرفت على ط ْعم الندام ْه‬ ‫كان قلبي نازفا تهمي على الدرب دماؤ ْه‬ ‫كان قلبي لم يَ َزل في غابة الزيتون يشويه َرجاؤ ْه‬ ‫نخش المال َم ْه‬ ‫سرابا قد لحقناه ولم‬ ‫َ‬ ‫وتذ ّكرت َ‬ ‫الح في آفاقنا ذات صباح وتوارى‬ ‫فانتشينا وتبعناه سكارى‬ ‫تفضحنا الشمس ونبكي ُّ‬ ‫الذ َّل في وجه النَّعا َم ْه‬ ‫قبل أن‬ ‫َ‬ ‫صة والقلب الذي كنّا تمنّينا اصطحاب ْه‬ ‫راحت الفر َ‬ ‫عا َد لكنْ بَ ْع َد أنْ أ ْرهق في ليل السآم ْه‬ ‫َوفجعنا وبكينا‬ ‫لم يكن في العين خفق القلب أو خوف النعام ْه‬ ‫كان فيها ذلك الشيء الذي نخفيه حينا‬ ‫ثم ال يَنفَكُّ يبدو‬ ‫حينما نغفو ويدعونا إلى ليل الكآب ْه‬ ‫يا أحبّائي وأهلي‬ ‫ارفعوا أصواتكم دونَ مهاب ْه‬ ‫سمراء أشواقا صليب ْه‬ ‫لم تزل تربتها ال َّ‬ ‫وأنا أحلم بالوصل ودون الدار يا ليلى الحبيبهّ‬ ‫يسقط الكفُّ ‪ ،‬وجرح الكفِّ ‪ ،‬والقلب الطعينْ‬ ‫لم يَ َزل يَنزف نارا في خيام النازحينْ‬ ‫وعلى جفنيك َعلّقت مصيري‬ ‫وعلى الزيتون والليمون علّقت أناشيدي وشعري‬ ‫ت صغاري‬ ‫وابتهاال ِ‬ ‫ويضيع الح ْلم‬ ‫عدت يا جرحي جريحا َم َّرة أخرى وما في جعبتي غير‬ ‫جراحي‬ ‫المسجى‬ ‫فارس الثأر‬ ‫سا ِء أبكي‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫عدت يا للخيبة الخر َ‬ ‫وعلى وجهك أبصرت سياطَ الذ ّل والغزو··· فشدّي‬ ‫احملينا واصبري للغزو والسو ِط َو َعدّي‬ ‫صوتَ فما بَ َّر‬ ‫س ِم َع المعتصم ال َّ‬ ‫َ‬ ‫بو ْع ِد‬ ‫و َما أوفى َ‬


‫‪58‬‬

‫رحمك هللا يا أبا جمال وال أدري هل أبكيك أم أبكي وطنا ضاع وآخر يهمل شعراءه‬ ‫وأدباءه ويتركهم عرضة للضائقة المالية ولتسلط الدائنين‪.‬‬


‫‪59‬‬

‫‪.19‬‬

‫مستشفى األمراض العقلية وعالم المجانين‬

‫فتح عينيه كالعادة على صوت الممرضة وهي تضع تحت إبطه ميزان الحرارة‪ .‬هي‬ ‫تعرف أن حرارته غير مرتفعة ولكنه روتين المستشفى اليومي‪ ،‬على جميع المرضى‬ ‫أن يقيسوا درجة حرارتهم صباح كل يوم‪ .‬ضغط على ميزان الحرارة تحت إبطه‬ ‫ونظر إلى الممرضة التي إبتسمت في وجهه وقالت‪ " :‬اليوم يومك‪ ،‬سنخلي سبيلك‬ ‫وتذهب إلى البيت‪ ،‬أكيد أنت مسرور للتخلص منا والعودة للبيت‪ ".‬نظر إليها وهز‬ ‫رأسه وقال‪ " :‬ال‪ ،‬أنا غير مسرور‪ ،‬ولو عاد األمر لي لبقيت‪ ،‬لكن وما العمل‪".‬‬ ‫بعد أن غادرت الممرضة الغرفة‪ ،‬سحب ميزان الحرارة من تحت إبطه ووضعه على‬ ‫الطاولة الصغيرة بجانب السرير ثم قام من سريره‪ ،‬دخل الحمام واغتسل وعاد إلى‬ ‫سريره من جديد ينتظر اإلفطار ومن ثم زيارة األطباء‪.‬‬ ‫دخل األطباء وعلى رأسهم صديقه‪ ،‬مدير القسم والطبيب المسؤول عنه‪ .‬شرح مدير‬ ‫القسم لمجموعة األطباء حالة المريض قائال‪ " :‬مريضنا تعرفوه‪،‬هو من أصل‬ ‫فلسطيني ووطنه األم كما تعلمون محتل وهو ال يستطيع أن يزور أهله وأقاربة في‬ ‫فلسطين بسبب اإلحتالل ولعل الوضع المتأزم في وطنه األم قد أثر على نفسيته ولقد‬ ‫جاءنا قبل ستة أشهر بأعراض واضحة للبسيخوزا ولقد وصفنا له عدة أدوية‪،‬‬ ‫تجاوب المريض مع العالج بشكل جيد ولم يعد لديه أي من ظواهر المرض‪ ،‬لذا‬ ‫قررنا إخالء سبيلة لتكملة العالج في البيت‪ ".‬ثم توجه بالحديث إلى المريض قائال‪:‬‬ ‫"مر عندي الساعة الحادية عشرة إلى المكتب‪ ،‬سأعطيك التقرير الطبي وبعض‬ ‫الوصفات لما تحتاجه من األدوية‪ ،‬ويمكنك بعدها ترك المستشفى والذهاب إلى‬ ‫البيت!"‬ ‫كانت الساعة قد دقت الثانية عشرة ظهرا عندما ترك مكتب الطبيب مسلحا بالتقرير‬ ‫الطبي الذي يشرح حالته منذ دخوله المستشفى والعالجات التي أعطيت له وتجاوبه‬ ‫مع العالج‪ ،‬باإلضافة إلى نصائح للمريض بأن يتجنب الصدمات العاطفية والنفسية‬ ‫وأن يستعمل أدويته بإنتظام وعليه مراجعة الطبيب المسؤول بعد شهر من خروجه‬ ‫من المستشفى‪ .‬وقفت الممرضات ومجموعة من المرضى يودعونه‪ ،‬عانقوه وتمنوا‬ ‫له الصحة والعافية وهدوء البال‪ .‬بعض المرضى بكى لفراقه‪ ،‬فلقد كان يحدثهم عن‬ ‫فلسطين والقدس وبيت لحم وكانوا يصغون إليه بشغف‪ ،‬ولم يخجل هو اآلخر من‬ ‫دموعه المنهمرة على وجنتيه‪ ،‬فلقد خيل إليه أنه يترك أهله وأصدقاءه‪.‬‬ ‫مستشفى األمراض العقلية يتكون من قصر قديم كان ملكا ألحد البارونات‬ ‫النمساويين‪ ،‬يقع على طرف العاصمة و يحيط به حديقة جميلة تكثر فيها األشجار‬ ‫والزهور ويتخللها طرق ضيقة من اإلسمنت‪ ،‬ويحيط بالحديقة سور له بوابة‬ ‫عريضة في مدخلها غرفة الحارس‪ .‬عرض صاحبنا على الحارس أوراق الخروج‬ ‫وودعه هذا بالتمنيات له بالصحة وفتح له البوابة وأغلقها خلفه‪.‬‬


‫‪60‬‬

‫مشى صاحبنا وفي يده حقيبة صغيرة فيها بعض المالبس وأدوات الحالقة وتوجه‬ ‫نحو محطة الباص المتوجه إلى قريته‪ ،‬فهو يسكن في قرية تبعد عن العاصمة‬ ‫حوالي خمسة عشر كيلومترا‪ .‬لم يأت أحد ليأخذه فزوجته تركته وراحت تعيش مع‬ ‫شاب أصغر منها عمرا وأكثر من زوجها ماال وجاها وأخذت معها طفلهم الوحيد‪.‬‬ ‫وقف ينتظر الحافلة مع مجموعة من المسافرين الذين أخذوا يرمقونه بنظراتهم‬ ‫المتفحصة‪ ،‬فلقد كانت مالمحة ولون بشرته تدل على أنه غريب‪ ،‬ثم أداروا له‬ ‫ظهورهم‪ .‬تأخرت الحافلة ألكثر من نصف ساعة‪ ،‬ووصلت مليئة بالركاب نصفهم‬ ‫واقفين‪ .‬فتح باب الحافلة واندفع الواقفون على المحطة إلى بابها وحشروا أنفسهم‬ ‫حشرا لدرجة أن السائق لم يتمكن من إغالق باب الحافلة ‪ .‬حاول صاحبنا الدخول‬ ‫ولكنه لم يستطع‪ ،‬مع كل المحاوالت‪ ،‬أن يجد لنفسه مكانا يحشر جسده المنهك فيه‪،‬‬ ‫فظل واقفا على المحطة يراقب الحافلة وهي تغادر وتتركه وحيدا وتبتعد‪.‬‬ ‫كان عليه أن ينتظر الحافلة التالية ولكنه كان منهكا ولم يعرف متى ستأتي وإن كان‬ ‫سيجد له فيها مكانا‪ ،‬فقرر أن يوقف سيارة أجرة لتقله إلى بيته‪ .‬مرت سيارات‬ ‫األجرة ولوح لها لكي تقف ولكنها كانت محجوزة ومليئة بالركاب أو كانت تتجاهله‬ ‫لمالمحة التي تدل على أنه غريب‪ .‬بعد مدة من اإلنتظار تخيل أنها دهرا إستطاع أن‬ ‫يوقف سيارة أجرة‪ ،‬دخلها وجلس في المقعد الخلفي ثم أعطى السائق العنوان‪.‬‬ ‫إندفعت السيارة بسرعة وقادها سائقها كأنه في سباق مونتيكارلو‪ ،‬وكان السائق‬ ‫ينظر بين الفينة واألخرى إلى صاحبنا من خالل المرآة العاكسة وأخيرا سأله‪ ":‬أرى‬ ‫أنك تحمل حقيبة‪ ،‬هل أنت مسافر أم قادم من سفر؟" أجابه صاحبنا‪ ":‬قادم من سفر‪.‬‬ ‫سأله السائق من أين؟ فرد عليه صاحبنا من العالم اآلخر‪ .‬هز السائق رأسه ونظر‬ ‫في المرآة نظرة متفحصة إنعطفت السيارة أثناءها عن مسارها وكادت أن تصدم‬ ‫عجوزا واقفا على الرصيف‪ ،‬وسأله أين يكون هذا العالم اآلخر‪ .‬رد عليه صاحبنا‬ ‫بحدة‪ ":‬أرجوك‪ ،‬أنا متعب وأريد أن أذهب إلى بيتي وليس لدي أي رغبة في‬ ‫الحديث‪ .‬أنظر إلى الطريق أمامك حتى ال تقتل أحدا أو تقتلنا وأرجو أن توصلني إلى‬ ‫بيتي بسالم‪ ".‬ولكن عينا السائق لم تترك المرآة و تابع في أسئلته ولكنه لم ينتظر‬ ‫عليها جوابا فلقد كان يجيب عليها بنفسه‪ .‬قال‪ :‬شكلك و لهجتك يدالن على أنك‬ ‫غريب فمن أين أنت؟ ثم تابع‪ ،‬ال تقل لي وأنا سأحزر‪ ،‬أظن أنك من إيران‪ ،‬أو من‬ ‫العراق أو من مصر‪.‬‬ ‫شعر صاحبنا أنه يختنق وبدأت كلمات السائق ترن في عقله مثل أزيز الدبابير وفكر‬ ‫أنه إذا لم يجد طريقة ليصمت بها السائق فإنه سيرمي بنفسه من السيارة‪ .‬ولكن‬ ‫لحسن الحظ وصل بيته قبل أن يقوم بأي عمل قد يندم عليه‪ .‬دفع األجرة للسائق‬ ‫وخرج من السيارة مسرعا مغلقا باب السيارة خلفه بعنف‪ ،‬ولم يأبه لشتائم السائق‬ ‫وإشارته البذيئة بإصبع يده األوسط‪ .‬ركض مسرعا إلى بيته غير ملتفت خلفه أو‬ ‫حواليه ‪.‬‬


‫‪61‬‬

‫فتح باب البيت ودخل‪ ،‬فصدمته رائحة العفونة المعشقة بالغبار الكثيف‪ .‬فتح النوافذ‬ ‫ولكنها لم تستطع تهوية البيت من العفن والغبار اللذان باتا جزءا من البيت‪ .‬جلس‬ ‫في مقعده الجلدي وأغمض عينيه وتاه مع أفكاره‪ .‬ماذا سيفعل وكيف سيقضي أيامه‬ ‫وهو في إجازة مرضية؟ أسئلة لم يستطع اإلجابة عليها‪ .‬بعد فترة شعر بالجوع‬ ‫فتذكر أنه ال يوجد في البيت شيء يؤكل‪ ،‬فقرر أن يذهب إلى الحانوت ليشتري بعض‬ ‫الخبز والجبن وغيرها من المأكوالت‪.‬‬ ‫خرج من البيت وذهب مشيا على األقدام إلى أقرب حانوت‪ ،‬أخذ عربة ووضع فيها‬ ‫ما يحتاجه من الخبز والجبن والخضروات والفواكه وتوجه نحو المحاسبة‪ .‬وقف في‬ ‫الصف حتى جاء دوره‪ ،‬وضع المشتريات أمام المرأة الجالسة خلف آلة الحاسبة‬ ‫وبدأت هذه بعملية الحساب ثم أخبرته بالمبلغ اإلجمالي المطلوب دفعه‪ .‬أعطاها كرت‬ ‫البنك‪ ،‬فلم يكن يملك ما يكفي من النقد‪ ،‬أدخلته في اآللة التي أمامها ثم طلبت منه أن‬ ‫يضع رقمه السري ففعل‪ .‬إنتظرت الموظفة لحظات ثم نظرت إليه وقالت"" كرتك‬ ‫إنتهت مدته‪ ".‬أجابها بتعجب‪ ":‬كيف هذا‪ ،‬أنظري إلى تاريخ الكرت إنه صالح لمدة‬ ‫عام على األقل‪ ".‬سحبت الكرت ونظرت إليه ثم قالت‪ " :‬جرب مرة أخرى‪ ،‬ربما‬ ‫أخطأت الرقم السري‪ ".‬جرب مرة ثانية وثالثة وكان الجواب في كل مرة‪ "،‬انتهت‬ ‫صالحية الكرت‪ ".‬نظرت الموظفة إليه وقالت بحدة‪ " :‬أنا آسفة‪ ،‬إن لم يكن معك‬ ‫نقدي فال أستطيع أن أعطيك المشتريات"‪ ،‬وأرجعت له الكرت‪.‬‬ ‫ترك المشتريات وخرج من الحانوت ثم وقف حائرا‪ .‬الكرت لسبب من األسباب‬ ‫منتهي الصالحية ولم يكن في حوزته أي نقود والبنك بعيد في المدينة‪ ،‬وعليه أن‬ ‫يذهب إليه بالباص أو بالسيارة‪ ،‬وال يدري إن كانت سيارته صالحة أم ال‪ ،‬فلقد تركها‬ ‫واقفة في الساحة أمام البيت منذ ستة أشهر‪ .‬صحيح أنه إحتاط وفك البطارية ولكنه‬ ‫ال يعرف ما ينتظره فستة أشهر مدة طويلة‪.‬‬ ‫توجه نحو سيارته‪ ،‬فتح غطاء الموتور وشبك البطارية ثم جلس خلف المقود‬ ‫وأشعل الموتور‪ .‬اهتزت السيارة قليال ثم إشتغل الموتور‪ .‬صاح صيحة فرح‪ ،‬حرك‬ ‫قضيب السرعات وضغط بقدمه على دعاسة البنزين‪ .‬تحركت السيارة محدثة صوتا‬ ‫غريبا مزعجا‪ ،‬فأوقف السيارة ونزل منها ليكتشف سبب هذا الصوت الغريب‪.‬‬ ‫خرجت من فمه صرخة وشعر بتدفق الدم في عروقه وبدقات قلبه تتسارع‪ ،‬كانت‬ ‫عجالت السيارة األربع مثقوبة بفعل سكين أو أداة حادة‪ .‬لم تكن هذه هي المرة‬ ‫األولى التي يقوم بها بعضهم بتخريب سيارته ولقد قام األوالد في إحدى الليالي طلي‬ ‫سيارته بالبراز ولقد كتبوا عليها‪ :‬عد إلى لدك فهذه ليست بلدك‪ .‬وقف ينظر إلى هذه‬ ‫المذبحة مندهشا غاضبا تنطلق من فمه الشتائم الموجهة إلى هذا العالم المجنون‪ .‬لم‬ ‫يكن أمامه من وسيلة للذهاب إلى البنك إال حافلة البلدة فتوجه نحو الموقف وانتظر‬ ‫قدوم الحافلة ‪.‬‬ ‫وصل البنك وكان الوقت قد داهمه وقربت ساعة اإلغالق‪ .‬وقف أمام المصرف اآللي‬ ‫التابع للبنك وقرر أن يجرب حظه‪ .‬أدخل الكرت فطلبت منه اآللة رقمه السري‬ ‫فوضعه‪ .‬بعد لحظات من اإلنتظار رجع الكرت وقرأ على شاشة االلة‪ :‬الكرت منتهي‬ ‫الصالحية‪ .‬نظر إلى تاريخ صالحية الكرت وتفحصه من جديد‪ ،‬ال يوجد مجال للشك‬


‫‪62‬‬

‫بانه صالح ألكثر من عام‪ .‬أدخله مرة ثانية وكتب رقمه السري بتمعن وتأني‪ ،‬ظنا‬ ‫منه أنه أخطأ في كتابته ولكن اآللة إبتلعت الكرت كما يبتلع سمك القرش األسماك‬ ‫الصغيرة‪ ،‬وظهر على شاشة اآللة‪" :‬الكرت مصادر"‪ .‬ضرب اآللة بيده ثم ركلها‬ ‫بقدمه وصاح‪ ":‬إرجعي كرتي يا بنت الكلب‪ ".‬ولكن اآللة لم تحفل به وال بشتائمه‬ ‫وظل الكرت في بطنها‪.‬‬ ‫دخل البنك وتوجه نحو نافذة اإلستقبال والمعلومات ووقف أمام الموظفة الجالسة‬ ‫خلف النافذة‪ ،‬وأمامها مجلة نسائية تتصفحها‪ ،‬وشرح لها مشكلته مع الكرت‪ .‬قالت‬ ‫بدون أن ترفع رأسها عن المجلة‪ ":‬إذهب إلى النافذة رقم ستة" وتابعت تصفح‬ ‫المجلة‪ .‬توجه نحو النافذة ذات الرقم ستة فوجد صفا طويال فوقف في الصف ينتظر‬ ‫دوره‪ .‬كانت حركة الصف بطيئة كالسلحفاة ومر وقت طويل إلى حين وصوله إلى‬ ‫النافذة‪ .‬في اللحظة التي أراد فيها صاحبنا أن يشرح للموظف مشكلته مع الكرت‪،‬‬ ‫أغلق الموظف النافذة واضعا لوحة " مغلق" وقال له‪ " :‬إنتهى وقتي‪ ،‬إذهب إلى‬ ‫النافذة رقم أربعة‪ ".‬حاول صاحبنا أن يحتج ولكنه لم يجد أمامه في النافذة غير‬ ‫الفراغ‪ ،‬فلقد ترك الموظف النافذة مغلقة وأدار ظهره ورحل‪.‬‬ ‫وقف في الصف أمام النافذة رقم أربعة ينتظر دوره‪ .‬بعد فترة وجد نفسه أمام النافذة‬ ‫تحملق فيه عينا الموظف‪ .‬شرح له مشكلته مع الكرت‪ ،‬سأله الموظف عن اإلسم‬ ‫ورقم الحساب فأخبره وانتظر‪ .‬جاءه الجواب‪ ":‬الكرت ألغي لعدم إستعماله ألكثر من‬ ‫ستة أشهر‪ .‬شرح له أنه كان في المستشفى ولكن الموظف لم يبد تفهما وقال‪:‬‬ ‫يمكنك المطالبة بكرت جديد‪ .‬إذهب إلى نافذة المعلومات‪ ،‬خذ األوراق المطلوبة‪،‬‬ ‫إمألها وعد إلي‪ ".‬عمل كما أشار عليه الموظف وعاد إلى النافذة رقم أربعة فوجدها‬ ‫مغلقة‪ .‬نظر حوله فوجد أن النوافذ قد أغلقت وأخذ الموظفون يحضرون أنفسهم‬ ‫للمغادرة‪ .‬سأل أحد حراس البنك كيف يمكنه أن يحصل من حسابه على بعض النقود‬ ‫فأجابه الحارس‪ :‬يمكنك إستعمال المصرف اآللي خارج البنك! صرخ بأعلى صوته‪:‬‬ ‫ولكنهم أوقفوا كرتي فماذا أعمل؟ قال الحارس‪ " :‬سيدي عليك مغادرة البنك ويمكنك‬ ‫الحضور صباحا‪".‬‬ ‫خرج من البنك وجلس على حافة الرصيف‪ .‬كان القهر يغلي في دمائه وشعر‬ ‫بدموعه تسيل على خده‪ .‬القهر يالحقه ويالحق أهله وشعبه أينما ذهبوا‪ .‬بحث في‬ ‫جيوبه لعله يجد ما يكفي لشراء تذكرة عودة إلى قريته فلم يجد‪ .‬تسائل‪ " :‬نقودي‬ ‫في البنك‪ ،‬والبنك يبعد عني مترين‪ ،‬وال يوجد معي ثمن تذكرة الباص‪ ،‬فاي عالم‬ ‫مجنون هذا؟‬ ‫ذهب إلى المحطة لعله يلتقي ببعض معارفه من القرية فيقرضوه ثمن التذكرة‪ .‬قابل‬ ‫أحدهم وسأله أن يقرضه ثمن التذكرة‪ ،‬فأدار الرجل وجهه وصعد إلى الباص ولم‬ ‫يجبه‪ .‬وقف صاحبنا حائرا محتارا‪ .‬تكلم مع سائق الباص فأجابه هذا أنه بدون تذكرة‬ ‫لن يسمح له بركوب الباص‪ .‬وجد أنه ال يوجد أمامه إال المشي‪ ،‬فمشى خمسة عشر‬


‫‪63‬‬

‫كيلومترا حتى وصل قريته‪ .‬دخل البيت منهكا يسبح في عرقه‪ ،‬جائعا عطشا وحيدا‬ ‫وبدون نقود‪ .‬فتح حنفية المغسلة ليشرب فسال منها ماء أحمر كريه الطعم‬ ‫والرائحة‪ ،‬من طيلة عدم اإلستعمال‪.‬‬ ‫جلس في مقعده الجلدي‪ ،‬إتصل بزوجته ليسألها عن إبنهما فأغلقت الهاتف في‬ ‫وجهه مرتين‪ .‬أعاد الهاتف إلى موضعه وتمتم‪ ":‬قحبة‪ ،‬مجنونة"‪ .‬فتح التلفزيون‬ ‫لعله يشاهد برنامجا يشغله عن وضعه المحرج‪ .‬ظهر المذيع في بدلته األنيقة وشعره‬ ‫الالمع من كثرة الزيوت قائال‪ " :‬إنفجرت سيارة مفخخة في بغداد فقتلت خمسين‬ ‫جلهم من النساء واألطفال"‪ ،‬وظهرت صور الجثث الممزقة في الشارع تهز البدن‬ ‫والنفس والروح‪ .‬غير المحطة فظهرت مذيعة مطلية بالبودرة وأحمر الشفاه‬ ‫والخدود وبانت كأنها عاهرة من شارع العاهرات الليلي‪ ،‬أعلنت‪ ":‬أطلقت قوات‬ ‫التحالف عدة صواريخ على قرية في أفغانستان فقتلت مجموعة من النساء‬ ‫واألطفال‪ ...‬وابتسمت المذيعة كأنما أذاعت خبرا سارا ومضحكا‪ .‬غير المحطة‪،‬‬ ‫ظهرت مذيعة شبيهة بزميلتها ولكنها كانت أكثر تبرجا وكان ثدياها بارزان يكادان‬ ‫أن يقفزا من فتحة الفستان وأعلنت أن القوات اإلسرائيلية قد قتلت بعض اإلرهابيين‬ ‫الفلسطينيين في غزة ونابلس وجنين‪ ،‬وأضافت أن ساركوزي أعلن أن إلسرائيل‬ ‫الحق في الدفاع عن نفسها‪ ،‬سانده في ذلك معظم الزعماء األوروبيين‪ .‬أما أوباما‬ ‫فأعلن أن الواليات المتحدة تتكفل بالدفاع عن أمن إسرائيل المهددة من جيرانها‪.‬‬ ‫قام صاحبنا وهو يشتم‪ " :‬عالم مجانين" وأخذ يقلب في المحطات بحثا عن محطة‬ ‫األفالم فوجدها‪ .‬كان الفلم عن مصاصي الدماء وشاهد كيف يغرس مصاص الدماء‬ ‫أنيابه في رقبة إمرأة شابه وكيف يمتص دمها ثم يظهر للمشاهدين أسنانه التي‬ ‫تقطر بالدماء‪.‬‬ ‫ركل صاحبنا شاشة التلفزيون بقدمه وهو يصيح" عالم مجانين‪ ،‬عالم مجانين‪ ،‬يلعن‬ ‫أبوكم يا والد الكلب‪ ،‬كلكم مجانين‪ ".‬وتابع في ركل التلفزيون حتى حطمه بالكامل‬ ‫وأخذ يحطم ما تقع يده عليه‪ ،‬حطم صورة زوجته‪ ،‬حطم صورته وحطم الصورة‬ ‫األثرية التي ورثها عن أهله في فلسطين‪ .‬رفع سماعة الهاتف واتصل بصديقه‬ ‫الدكتور وقال بهستيريا‪ " :‬تعال خذني‪ ،‬أعدني إلى المستشفى‪ ،‬ال أستطيع أن أتحمل‬ ‫هذا العالم المجنون‪ ،‬أرجوك‪ ،‬أرجوك!" حاول الدكتور بكل الطرق أن يهدئ من‬ ‫حالته ولكنهه كان يكرر ‪ " :‬أرجوك‪ ،‬تعال وأعدني إلى المستشفى‪ ،‬فلقد كنت هناك‬ ‫مرتاحا‪ ".‬وأخذ يبكي حتى وعده الدكتور بالحضور مع سيارة إسعاف إلعادته إلى‬ ‫المستشفى‪".‬‬ ‫جلس في سيارة اإلسعاف بعد أن أعطاه الطبيب حقنة مهدئ وألقى برأسه إلى‬ ‫الوراء على مسند المقعد وأغمض عينيه وبدت إبتسامة الرضى تظهر على وجهه‪".‬‬ ‫أنا عائد إلى بيت السكون والراحة‪ ،‬وداعا يا عالم المجانين‪".‬‬


‫‪64‬‬

‫‪.20‬‬

‫العبرة في الموقف وليس في المولد‬

‫أريك سيدالتشيك ليس عربيا وليس له أي جذور عربية‪ ،‬قحطانية أو عدنانية‪ ،‬سواء‬ ‫من ناحية األم أو األب‪ .‬لم يقع في حب فتاة عربية ولم يعشق األكل العربي‪ ،‬وهو قبل‬ ‫أن نلتق لم يلتق بعربي قط‪ .‬سمع عن العرب في بداية حياته من اإلعالم الغربي فنفر‬ ‫منهم ولم يهتم لدراسة أخبارهم‪ .‬كان العرب بالنسبة إليه خارج نطاق اهتماماته‪.‬‬ ‫ولكنه سمع عن فلسطين والفلسطينيين وما يفعله اليهود بهم وكيف أن اليهود قد‬ ‫سلبوا أرضهم وطردوهم من ديارهم واضطهدوهم وقتلوا أبناءهم وهدموا بيوتهم‪،‬‬ ‫فأثار الحدث اهتمامه وفضولة‪ ،‬فقرأ كل ما يمكن أن تقع عليه يديه من الكتب‬ ‫والمقاالت باللغة التشيكية واإلنجليزية‪ ،‬فأصبح مدافعا عن القضية الفلسطينية‬ ‫ومعاديا للصهيونية‪ .‬أخذ يكتب المقاالت ويترجم ما يكتب في الغرب عن القضية‬ ‫الفلسطينية و ينشرها في مواقع على اإلنترنت‪ ،‬بل أنشأ موقعا خاصا بالقضية‬ ‫الفلسطينية والصهيونية وأخذ يضع على الموقع كل ما يمكنه الحصول عليه من‬ ‫معلومات عن القضية الفلسطينية والحركة الصهيونية‪ ،‬وكان شعار الموقع‪ :‬قاطعوا‬ ‫البضائع اإلسرائيلية!‬ ‫عندما سمع بقضية محاكمتي بسبب كتابي الذي صدر بالتشيكية "صرخة‬ ‫فلسطينية" جاء لزيارتي في بيتي في سلوفاكيا وعبر عن دعمه وعرض نفسه ألي‬ ‫مساعدة ممكنة فتوطدت العالقة بيننا رغم فارق السن‪ ،‬فلقد كان في ذاك الوقت طالبا‬ ‫يدرس التشيكية واإلنجليزية‪ .‬عندما طلبت منه ترجمة بعض الكتب والمطبوعات عن‬ ‫القضية الفلسطينية من اللغة اإلنجليزية إلى التشيكية وافق ولكن رفض أن يستلم أي‬ ‫مبلغ مقابل أتعابه‪ ،‬قال‪ :‬هذا من أجل القضية‪.‬‬ ‫أريك قصير القامة‪ ،‬صغير الحجم‪ ،‬قليل الوزن‪ ،‬وإذا أمعنت النظر فيه فلن يثير لديك‬ ‫أي انطباع بأنه يمكن أن يشكل خطرا على أحد‪ .‬ولكن الجالية اليهودية في‬ ‫الجمهورية التشيكية رأت غير ذلك‪ .‬فلقد لفت نشاطه انتباه ممثليها فهددوه‪ ،‬فأهمل‬ ‫تهديدهم‪ ،‬ولكنهم استطاعوا أن يضغطوا على المسؤولين إليقاف موقعه األلكتروني‬ ‫فأوقفوه ‪ .‬أوقفوا الموقع ولكنهم لم يستطيعوا إيقاف أريك‪ .‬فقامت الشرطة التشيكية‬ ‫بمساعدة فرقة الملثمين باقتحام بيت والديه في قريتهم في مورافيا‪ .‬عبثوا في البيت‬ ‫فسادا واستولوا على جميع ما يخصه‪ ،‬من كتب وأوراق وأشرطة والحاسوب‬ ‫المنزلي والمحمول‪ .‬وأمام أهل القرية والصحفيين كبلوه واعتقلوه وأخذوه إلى‬ ‫السجن في براغ‪ .‬نشروا بين الصحفيين أنهم اكتشفوا خلية نازية يقودها أريك‪.‬‬ ‫أرادوا تلطيخ سمعته والتشكيك في مصداقيته‪ .‬بقي في السجن ثالثة أشهر وهي‬ ‫أطول مدة يسمح بها القانون لإلعتقال بدون محاكمة ويجري تطبيقها في الحاالت‬ ‫القصوى عندما يشكل المعتقل خطرا على المجتمع‪.‬‬ ‫لم يجدوا أي دليل يمكنهم بواسطته جلبه للمحاكمة فأطلقوا سراحة‪ .‬السجن والدعاية‬ ‫اإلعالمية القذرة لم توقفه‪ ،‬فاستمر في نشاطه وزادت حدته‪ .‬ترجم عدة كتيبات عن‬


‫‪65‬‬

‫القضية الفلسطينية منها كتاب ليفيا ركاح " اإلرهاب اإلسرائيلي المقدس" وكتاب‬ ‫تيه التاريخ اليهودي إلسرائيل شاهاك وغيرها‪.‬‬ ‫قدم طلبا لبلدية براغ بالسماح له بإقامة مظاهرة ضد اشتراك الجمهورية التشيكية‬ ‫في الحرب على العراق‪ .‬رفض المسؤولون طلبه بحجة أن القانون يحدد أن السماح‬ ‫إلقامة أي مظاهرة يعطى فقط للمؤسسات والجمعيات واألحزاب وليس لألفراد‪ .‬قام‬ ‫بمساعدة محامية صديقة بتشكيل جمعية مع حفنة من أصدقاءه ومؤيديه التشيك‬ ‫وسجلها في وزارة الداخلية ثم عاد وقدم طلبا إلقامة المظاهرة باسم الجمعية فرفض‬ ‫طلبه من جديد وبحجة أخرى‪ .‬رفع دعوى قضائية ضد البلدية فكسبها وعين يوم‬ ‫‪ 10.11.2007‬لقيام المظاهره‪.‬‬ ‫قبل قيام المظاهرة بعدة أيام حضر إلى براغ الناطق الرسمي باسم الجاليات اليهودية‬ ‫في أوروبا وزار رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وشخصيات سياسية أخرى‬ ‫محتجا أن المظاهرة موجهة ضد اليهود ألنها ستقام في ذكرى الليلة الكرستالية‬ ‫والتي يعتبرها اليهود ليلة مشؤومة قام الغستابو االنازي فيها بقمع اليهود وجرهم‬ ‫إلى المعتقالت‪.‬‬ ‫وقف رئيس الجمهورية وأعلن أنه لن سيمح للنازيين الجدد باإلستيالء على‬ ‫العاصمة التشيكية وطلب منع المظاهرة‪ .‬قام رئيس الوزراء بالمثل وطلب من كل‬ ‫الديموقراطيين حماية براغ من النازيين الجدد‪ .‬الممثلون والممثالت‪ ،‬المغنون‬ ‫والمغنيات وحتى عاهرات براغ‪ ،‬خرجوا جميعا دفاعا عن براغ ضد النازيين الجدد‪.‬‬ ‫نزلت الدبابات إلى الشوارع مسلحة بخراطيم المياة‪ ،‬احتلت قوى الملثمين شوارع‬ ‫براغ‪ .‬طائرات الهليكوبتر حللقت في سماء براغ لحمايتها من النازيين الجدد‪.‬‬ ‫التلفزيون واإلذاعة والصحف كانت في المقدمة وحتى بعض العرب الديموقراطيين‬ ‫اشتركوا في الحملة‪ ،‬ومنعت المظاهرة وانتصرت الديموقراطية ونجت عاصمة‬ ‫التشيك‪ .‬أما المواطنون العاديون والبسطاء فلقد استغربوا مما يجري وأخذوا بطرح‬ ‫األسئلة‪.‬‬ ‫كان ال بد من تأديب هذا الشاب الذي تجرأ على تخطي المحظورات وأصبح من‬ ‫المفروض أن يجري عقابه عبرة لغيره‪ .‬توجيه النقد إلسرائيل واليهود في أوروبا‬ ‫الديموقراطية أصبح من المحرمات التي يعاقب عليها القانون‪ .‬تهمة العداء للسامية‬ ‫والتشكيك بالهولوكوست أصبحت سيفا مسلطا على الرقاب ليرهب العباد‪ .‬وبناء على‬ ‫ذلك أقام المدعي العام التشيكي ضده دعوة قضائية بتهمة نشر الكراهية ضد اليهود‪،‬‬ ‫ونشر العداء للسامية والتشكيك بالهولوكوست‪ ،‬وجميعها تهم تعاقب عليها جميع‬ ‫القوانين األوروبية ‪.‬قدموه للقضاء ولم يكن لديهم أي دليل على هذه التهم سوى‬ ‫ثالث مقاالت نشرت على اإلنترنت تحت اسم مستعار‪.‬أنكر أنه كتبها ولكن الخبير‬ ‫الذي أحضرته الشرطة قال للمحكمة أن أسلوب المقاالت الثالث يشبه أسلوب أريك‬ ‫في الكتابة‪ ،‬مع أن أحد المقاالت هو ترجمة عن مقال نشر في أحدى الصحف‬


‫‪66‬‬

‫البريطانية ‪.‬وبناءا على تقرير الخبير‪ ،‬وفقط بناء على ذلك‪ ،‬حكمت المحكمة على‬ ‫أريك بالسجن الفعلي ثالث سنين‪.‬‬ ‫خرج أريك من المحكمة وقد وضع حول رقبته الحطة الفلسطينية المنقطة وهو رافع‬ ‫إصبعية بعالمة النصر‪ .‬وقف أمام المحكمة مجموعة من "الديموقراطيين" من‬ ‫صحفيين وممثلين ومغنين وسياسيين وحتى بعض عاهرات براغ وهم يحملون ال‬ ‫فتات كتب عليها " فالتسقط النازية الجديدة"" وأخرى " لن نستسلم للنازية‬ ‫الجديدة"‪ .‬وقف معهم بعض العرب وهم يحملون الفتة مماثلة‪ .‬نظر أريك إليهم ثم‬ ‫إلي وعالمة األلم واإلستغراب على وجهه‪ .‬ضغطت على يده وقلت ال تعرهم أي انتباه‬ ‫يا صديقي‪ ،‬هؤالء نزعوا رداء العروبة منذ زمن طويل‪.‬‬


‫‪67‬‬

‫‪.21‬‬

‫فتوى اإلنقاذ‬

‫بمحض الصدفة كتب لي أن أشارك السكن‪ ،‬في المدرسة الداخلية لدراسة اللغة‬ ‫التشيكية ‪ ،‬شابا سودانيا إسمه مبارك‪ .‬كانت المدرسة في مدينة ماريانسكي‪ ،‬وهي‬ ‫منتجع جميل على الحدود األلمانية‪ ،‬يأتيه الناس للعالج من كل أنحاء تشيكوسلوفاكيا‬ ‫‪ .‬لقد اشتهرت المدينة إلى جانب مياهها وطينها العالجي بوجود مدرسة للفنادق‬ ‫وأخرى للممرضات ‪ ،‬مما كان سببا في كثرة الفتيات الشابات فيها ‪.‬‬ ‫لم أكن قبلها قد قابلت سودانيا وكانت معلوماتي عن السودان قليلة ‪ .‬كان المصدر‬ ‫األساسي لتصدير صورة الشخصية السودانية إلى العالم العربي هي األفالم المصرية‬ ‫و لم تعط األفالم المصرية األخوة السودانيين حقهم ‪ ،‬فلقد كان السوداني في األفالم‬ ‫المصرية بواب عمارة ‪ ،‬خفيف الظل‪ ،‬يتكلم العربية المكسرة ‪.‬‬ ‫لقد محت صورة رفيقي في السكن ومنذ اللحظة األولى الصورة التقليدية التي‬ ‫ألصقتها األفالم المصرية في ذهني‪ .‬فلقد كان مبارك طويل القامة‪،‬عريض المنكبين‪،‬‬ ‫حنطي اللون‪ ،‬جميل الوجه‪ ،‬مجعد الشعر‪ ،‬في غاية الثقافة واألدب‪ ،‬ولقد كان متدينا‬ ‫ال يقطع فرضا‪ .‬منذ اللحظة األولى ربطتنا عالقة من الود والصداقة وكنا نقضي‬ ‫أمسياتنا في الحديث عن فلسطين وعن السودان‪ .‬ولم أكن قبل لقاءه أعرف الكثير‬ ‫عن السودان بل كانت معلوماتي عن جنوب السودان شبه معدومة‪.‬‬ ‫كان مبارك محط أنظار الفتيات وكن يالحقنه أينما ظهر‪ ،‬ولم يكن في البدء يهتم بهن‬ ‫خوفا من أن يرتكب إثما‪ ،‬كما كان يقول لي ‪ .‬وكنت عكسه تماما‪ ،‬حيث كنت أعشق‬ ‫الفتيات الجميالت وأحب مجلسهن و مالطفتهن ولم أكن أعتبر ذلك إثما وإنما هدية‬ ‫ربانية‪ .‬كان مبارك‪ ،‬حين تنضم إلينا مجموعة من الفتيات‪ ،‬يفر هاربا تاركا شخصي‬ ‫المسكين في حضرة عنقود من الفتيات الجميالت وكن يتعجبن من سلوكه حتى أن‬ ‫بعضهن ظنن أنه مثليا‪.‬‬ ‫في مساء أحد األيام عاد مبارك إلى الغرفة مهموما ‪ .‬طرح السالم علي ولكنه على‬ ‫غير عادته نزع مالبسه على عجل ودخل الحمام ليغتسل ولقد مكث في الحمام وقت‬ ‫طويال‪ .‬خرج من الحمام البسا الجالبية السودانية ذات الجيبين ‪ ،‬واحد في الخلف‬ ‫واآلخر في األمام‪ ،‬ثم فرش سجادة الصالة وراح يصلي ولقد أطال صالته إلى درجة‬ ‫غير عادية‪ ،‬ثم جلس يتمتم الدعاء وطلب المغفرة‪ .‬جلس بعدها مطأطئ الرأس‬ ‫صامتا وطال صمته وبقيت أنظر إلية أنتظر تفسيرا ولم أكن أرغب في قطع صمته‬ ‫وتأمله‪.‬‬ ‫قام مبارك‪ ،‬طوى السجادة ووضعها في الخزانة وجلس على طرف سريره ‪ .‬نظرت‬ ‫إليه وقلت ‪ :‬مالك يا رجل ‪ ،‬ماذا حدث‪ ،‬لعله خيرا ؟ رد علي بعد فترة بصوت خافت‬ ‫قائال ‪ :‬لقد ارتكبت إثما كبيرا وأرجو من هللا أن يسامحني‪ .‬قلت‪ :‬وأي إثم هذا ؟ نظر‬ ‫إلي وقال ‪ :‬لقد قبلتني فتاة ‪ .‬ضحكت وتنهدت قائال ‪ :‬بسيطة ‪ ،‬لقد أخفتني يا رجل ‪،‬‬ ‫وهل كانت الفتاة جميلة ؟؟ قال معاتبا‪ ،‬أنت تأخذ األمر بغير جدية‪ ،‬فقاطعته قائال‬ ‫محاوال التخفيف عنه‪ :‬ال ذنب عليك ‪ ،‬فهي التي قبلتك ولست أنت من قبلها ‪ .‬قال ‪:‬‬ ‫يا زول‪ ،‬ولكن القبلة أعجبتني ‪.‬‬


‫‪68‬‬

‫تكرر المشهد عدة مرات‪ ،‬طالت القبل وزاد عليها بعض من الضم واللمس وشعور‬ ‫بالشهوة وزاد معها الشعور بالذنب‪ ،‬كما طالت مدة االغتسال ومدة الصالة وكثرة‬ ‫الدعاوي ‪ ،‬حتى خلت أن مبارك مصاب بالهلوسة‪ ،‬فلقد قل نومه وإذا نام كثر‬ ‫صراخه أثناء نومه وباتت حالته تسوء وال تدعو إلى االطمئنان‪ .‬لقد تصارعت في‬ ‫داخله ثقافتان واحدة مدعومة بالتراث الديني العميق واألخرى مدعومة بالمشهيات‬ ‫والمقبالت والرغبة المكتومة العارمة‪.‬‬ ‫كتب مبارك عدد من الرسائل إلى شيوخ دين في السودان‪ ،‬يعرف البعض منهم‬ ‫والبعض اآلخر سمع بهم وانتظر األجوبة وانتظرت معه ألنني تأثرت بمشكلته‬ ‫وأحزنني حاله‪ .‬بعد مدة طويلة بدأت تأتي إليه أألجوبة‪ ،‬بعضها زاد من حيرته‬ ‫والبعض اآلخر زاد من همه وعذابه ‪ .‬مجمل ما كتبه الشيوخ يتلخص في جملة‬ ‫واحدة ‪ :‬عليك بتجنب المغريات والكثرة من الصالة‪.‬‬ ‫لم تحل أجوبة المشايخ مشكلة مبارك وإنما عقدتها ‪ .‬كانت المغريات قوية ‪ ،‬ولم‬ ‫تنفعه كثرة الصالة في ردها ومقاومتها‪ .‬بقي الحال على ما هو عليه حتى وصلت‬ ‫رسالة من أحد ألشيوخ كانت بلسما على قلب مبارك‪ .‬لقد أخبره الشيخ الفاضل أنه‬ ‫في أرض كفر وهي أرض حرب وهو كجندي مسلم في أرض حرب يجوز له نكاح‬ ‫نساءهم والتمتع بهن ‪.‬‬ ‫منذ وصول تلك الرسالة‪ ،‬تغيرت حال مبارك‪ ،‬فلقد أخذ يعود في المساء مبتسما فرحا‬ ‫‪ ،‬ومع أنه بقي مواظبا على الصالة‪ ،‬إال أنه لم يعد يطيلها كما كان يفعل قبل وصول‬ ‫فتوى اإلنقاذ‪ ،‬ولم أسمع منه بعدها دعاءا لطلب المغفرة‪.‬‬


‫‪69‬‬

‫‪.22‬‬

‫الحائرة‬

‫جاءت تطلب مساعدتي فوعدتها بها إن استطعت‪ .‬جلست أمامي منحنية الظهر‬ ‫رأسها مائل على كتفها كأنها ما عادت قادرة على حمله‪ ،‬ضامة أيديها إلى ركبها‬ ‫الملتصقتين ثم قالت‪ " :‬تزوجت شابا عربيا مسلما"‪ ،‬سمته لي ثم تابعت حديثها‪"،‬‬ ‫رفض أن نتزوج زواجا رسميا حسب قوانين بلدنا ألنها كافرة فتزوجنا زواجا‬ ‫إسالميا عند شيخ في فينا‪ ،‬فغضب أهلي مني وقاطعوني‪ .‬طلب مني لبس الحجاب‬ ‫فلبسته فقاطعني كثير من معارفي وصديقاتي‪".‬‬ ‫توقفت قليال عن الحديث وبقيت صامتا أنتظر المزيد‪ ،‬تنهدت وتابعت‪ " :‬رزقنا‬ ‫بطفلة‪ ،‬عمرها االن أربع سنوات وهي ذكية تحب الرسم‪ .‬إبنتي تستعمل يدها‬ ‫اليسرى‪ ،‬تأكل وترسم بها ولكن زوجي إعتبر هذا خارجا عن الشرع فحاول إجبارها‬ ‫على استعمال يدها اليمنى ففشل‪ .‬أخذناها للطبيب فأخبرنا بأن هذا امر طبيعي يعتمد‬ ‫على نمو ونشاط شق المخ اليميني أو اليساري‪".‬‬ ‫صمتت لفترة ونظرت إلي باستحياء وتابعت‪ ":‬زوجي لم يقتنع وتابع في محاوالته‬ ‫إجبارها على استعمال يدها اليمنى بدال من اليسرى وأخذ يقسو عليها حتى أنه‬ ‫ضربها على يدها اليسرى بالمسطرة حتى أدمى يدها‪ .‬لم أستطع أن أتحمل معاناة‬ ‫صغيرتي فشكوته إلى الشرطة‪".‬‬ ‫طأطأت رأسها ودفنته بين كفيها وأخذت تنتحب فجلبت لها كوبا من الماء‪ ،‬شربت‬ ‫منه قليال ثم تابعت بكالم متقطع بين الشهقة والشهقة‪ ":‬طلقني بال رجعة وطردني‬ ‫من البيت مع إبنتي فلجأت إلى صديقة لي وبقيت عندها مع صغيرتي التي كانت‬ ‫مندهشة ومحتارة وغير قادرة على فهم ما يجري حولها‪".‬‬ ‫بقيت صامتا وحائرا ومترقبا أن تطلب مني مساعدتها للعودة إلى زوجها ولكنها‬ ‫فاجأتني حين قالت‪ " :‬لقد جاءني قبل أيام يريد عودتي مع الطفلة إليه‪".‬‬ ‫سررت من سماع الخبر وقلت لنفسي ال حاجة إلى مساعدتي فالمشكلة قد حلت من‬ ‫نفسها ولكنها فاجأتني للمرة الثانية حين تابعت القول‪ ":‬يريدني أن أرجع إليه ولكنه‬ ‫يقول أنه حسب الشرع اإلسالمي وكوني مطلقة ال أحل له وال يستطيع أن يتزوجني‬ ‫من جديد حتى أتزوج غيره ويطلقني الغير بعد مدة قصيرة‪ ،‬ولقد اتفق مع صديق له‬ ‫على تفاصيل عملية الزواج والطالق‪".‬‬ ‫نظرت إلي وقالت‪ " :‬ولكنني ال أريد أن أتزوج غيره ولو لثوان وليس أليام وماذا لو‬ ‫طلب هذا الزوج أن يدخل بي وقد أخبرني بعضهم أنه من حقه‪ .‬وماذا لو رفض‬ ‫تطليقي بعد الزواج ؟!"‬ ‫قلت لها وماذا تطلبين مني‪ ،‬وكيف يمكنني أن أساعدك؟ قالت‪ ":‬لقد قرأت كتابك عن‬ ‫اإلسالم والمسيحية وهو يدل على معرفتك بتفاصيل الشريعة والدين ولقد سأت عنك‬ ‫فقالوا لي أنك الوحيد الذي تستطيع مساعدتي وإخراجي من هذا المأزق‪".‬‬ ‫نظرت إليها وأخذت في التفكير في ما يسعني أن أقول لها ثم قلت‪ ":‬يا بنيتي‪ ،‬أنا‬ ‫أعرف زوجك ولقد سمعت عن قصتك وإن لم أعرف التفاصيل‪ .‬زوجك وأنا من‬ ‫مدرستين مختلفتين جدا ومفهومنا لإلسالم والشريعة يختلف إختالف الليل والنهار‪،‬‬


‫‪70‬‬

‫وحسب معرفتي به ومعرفته بي فإنه سيرفض اإلستماع إلي والتدخل بينكما‪ .‬أنا جد‬ ‫آسف‪ ،‬فأنت تطلبين مني المستحيل‪".‬‬ ‫سالت الدموع من عينيها ونظرت إلي متوسلة وسألتني" ماذا أعمل‪ ،‬أشر علي باهلل‬ ‫عليك‪ ،‬إنصحني!" قلت لها‪ ":‬أتركيه وعودي وابنتك إلى أهلك‪ ،‬هذي هي نصيحتي‬ ‫الوحيدة‪ .‬ومن يدريك إن أنت وافقت أن يعود لتطليقك مرة أخرى وهل ستعيدين‬ ‫القصة من جديد؟"‬ ‫ال أدري إن كنت قد أقنعتها‪ ،‬فلقد أخذت تضرب على صدرها وتقول‪ ":‬يا إلهي ماذا‬ ‫أفعل‪ ،‬أنا حائرة‪ ".‬ثم قامت ومدت يدها لي بخجل وقالت لي ضاحكة‪ " :‬إنه يمنعني‬ ‫من مصافحة الرجال‪ ".‬فضغطت على يدها وقلت لها‪" :‬أنا جد آسف على عدم‬ ‫إستطاعتي مساعدتك‪ ".‬ثم ودعتها إلى باب البيت وخرجت‪.‬‬ ‫خرجت إلى شرفة البيت أودعها بعيوني وراقبتها وهي متجهة إلى محطة الباص‬ ‫وقد غاص رأسها بين كتفيها المنحنيتين والحظت إهتزازهما من فعل البكاء‪ .‬شعرت‬ ‫بإنقباض وألم في أحشائي وانتابتني القشعريرة التي لم تكن من البرد‪ .‬دخلت‬ ‫وأغلقت الباب خلفي ثم أخذت في لكم الحائط الذي أمامي حتى أدميت يدي‪.‬‬


‫‪71‬‬

‫‪.23‬‬

‫رسالة شوق إلى أمي‬

‫صباح الخير يا أمي‪ ،‬صباح الخير يا حاجة‪،‬‬ ‫باألمس حللت عقدة البقجة وفتحتها أبحث فيها عن الذكريات‪ ،‬فوجدت نفسي طفال‬ ‫صغيرا جالسا على عتبة شرفة بيتنا وأنت تجلسين بجانبي‪ ،‬وتحكين لي حكاية " يا‬ ‫حاجة ويا باجة ويا قرصا من العجة" وتكركريني وأنا أضحك ضحكة السرور‬ ‫الطفولي والبهجة‪ ،‬وسمعت صوت والدي وهو يغني في الحمام فترتج لصوته‬ ‫الجدران ويجاريه في الغناء بعض من األهل والجيران‪.‬‬ ‫باألمس يا أمي فتحت صندوق األحالم‪ ،‬أبحث فيه عن أخبار سالف األيام‪ ،‬فوجدت‬ ‫نفسي طفال صغيرا في سريري وأنت ترشين الغفا في عيوني وتذبحين لي زوجا من‬ ‫الحمام وتقولين " يا حمامة ال تخافيش‪ ،‬أنا بكذب على عيون إبني حتى تنام"‪.‬‬ ‫وأغمض العينين وأحلم بسروال جديد وحذاء وحزام‪ ،‬وحصان له جناحان‪ ،‬يحملني‬ ‫بعيدا إلى عالم يعمه الحب والسالم واألمان‪.‬‬ ‫ومرت األيام يا أمي ورحلت أبحث عن حلمي في العالم األشقر‪ ،‬حامال في حقائبي‬ ‫ذكريات الشاي بالنعناع والخبز المغمس بالزيت والزعتر‪ ،‬ورائحة الليمون‬ ‫والياسمين والعنبر‪ ،‬وصوت األذان في الصباح ينادي " هللا أكبر"‪ .‬أخذت معي‬ ‫صورا لك ولوالدي وأخوتي وأخواتي ومفاتيح البيت الثالثة للبيت والحديقة والمعبر‪.‬‬ ‫ومرت األيام يا أمي وكبرت‪ ،‬حتى صرت شيخا هرما أشيب الشعر‪ ،‬مثقال بالهموم‬ ‫محني الظهر‪ ،‬أبحث عن حلم سرق مني في غفوة ظهر‪ .‬بحثت عنه فما وجدته‪،‬‬ ‫فسمعت صوتك ينادي ‪ ":‬عد يا بني‪ ،‬فلقد هدني الشوق إليك وما عدت بقادرة على‬ ‫مر الفراق "‪.‬‬ ‫بحثت عن الطريق إليك فلم أجده‪ ،‬بحثت عن جسر للعودة أو ممر أو معبر‪ ،‬فوجدتها‬ ‫مغلقة في وجهي‪ ،‬مهجورة حتى ضاع فيها األثر‪ ،‬فترقرق الدمع في عيوني حزنا‬ ‫وبقيت عالقا على عتبات الحلم ال أدري أين المفر‪ ،‬وصرخت عاليا آه يا أمي! آه يا‬ ‫أحبابي‪ ،‬لماذا تركتموني وما عاد أحد منكم يطرق بابي أو يبعث لي أي خبر‪.‬‬ ‫رأيت من خلف الدموع أبنائي شامخين مثل جذوع الشجر‪ ،‬تظللني أوراقها‪ ،‬ومن‬ ‫بينها يشع على روحي نور القمر‪ ،‬وسمعت أحفادي ينادونني ‪ ":‬فق من حلمك يا‬ ‫جدنا فنحن هنا‪ ،‬نحضنك برموش عيوننا "‪.‬‬ ‫أفقت من حلمي وأغلقت صندوق األحالم ووقفت أرقب رذاذ المطر وهو يسقط على‬ ‫األرض لتنبت األزهار من أجل ربيع منتظر‪.‬‬


‫‪72‬‬

‫‪.24‬‬

‫قصتي مع الخنزير‬

‫حملني القطار السريع شاقا غابات مورافيا‪ ،‬متوجها إلى مدينة صديقي المورافي‬ ‫الذي دعاني لزيارته في بلدته وقضاء عطلة أعياد الميالد مع أهلة‪ ،‬فلقد كنت جديدا‬ ‫في البلد وعز على صديقي المورافي أن اقضي أعياد الميالد وحيدا بعيدا عن وطني‬ ‫وأهلي وأصدقائي‪.‬‬ ‫جلست بجانب النافذه أراقب أشجار الغابات الخضراء وهي واقفة على جانبي سكة‬ ‫الحديد مثقلة بالثلوج فبدت كعجوز أشيب الرأس محني الظهر من ثقل حمل السنين‪.‬‬ ‫كان دخان القطار البخاري يخرج مرتفعا من مدخنة القطار ثم يهبط ناشرا ذرات‬ ‫الفحم السوداء المحترقة على وجه الثلج فيسلبه بعض من بياضه الناصع ويحيل‬ ‫لونه مرقطا كجلد كالب الدالماتيانز‪.‬‬ ‫إختلطت أصوات صفارة القطار مع صوت محركه ودواليبة الحديدية التي كانت‬ ‫تطرق قضيب سكة الحديد فتخرج ألحانا لسيمفونية جنائزية تهز أوتار األعصاب‪.‬‬ ‫كنت متشوقا لزيارة أهل صديقي ومتوجسا بنفس الوقت ألنها المرة األولى التي‬ ‫أزور فيها عائلة في قرية من قرى تشيكوسلوفاكيا ولم أكن أدر ما ينتظرني ولم‬ ‫أعرف حتى ما ساتوقعه من هذه الزيارة وكيف سينظر أهل صديقي إلي‪.‬‬ ‫أعلنت إذاعة القطار عن قرب موعد وصول القطار إلى المحطة حيث كان من‬ ‫المفروض أن ينتظرني فيها صديقي‪ .‬وضعت طاقيتي الروسية المصنوعة من فرو‬ ‫الخاروف على رأسي وحملت حقيبتي الصغيرة وتوجهت نحو باب الخروج في نفس‬ ‫اللحظة التي وقف فيها القطار على رصيف المحطة‪ .‬فتحت الباب ونزلت منه فلفحني‬ ‫الهواء الصقيعي وشعرت بالقشعريرة تخر في عظامي‪ ،‬ورغم أنني كنت أرتدي‬ ‫معطفا شتويا طويال إال انني شعرت كأنني أسير عاريا بدون اي مالبس‪ .‬كان البرد‬ ‫شديدا وشعرت بالصقيع يغطي زجاج نظاراتي حتى لم أعد أر شيئا من خاللها‬ ‫ووقفت كاألعمى ال أعلم وجهتي‪ .‬فجأة سمعت صوت صديقي يرحب بي ويصافح‬ ‫يدي التي تخدرت من شدة البرد‪ .‬نزعت نظاراتي ومسحتها بطرف منديل صوف‬ ‫إلتفحت به ثم وضعتها على عيني من جديد فوجدت نفسي واقفا أمام صديقي الذي‬ ‫اخذ يرحب بي‪ .‬أجابته شفتاي وهما ترتجفان واستطاعتا‪ ،‬بعد جهد‪ ،‬النطق ببعض‬ ‫الكلمات التي تدل على شكري له‪.‬‬ ‫خرجنا من المحطة ووقفنا على رصيف الشارع حين أدار وجهه إلي وفاجأني أنه‬ ‫يعيش في قرية تبعد كيلومترا واحدا عن حدود المدينة وأضاف أنه بإمكاننا إنتظار‬ ‫الحافلة ولكنه ينصح بالذهاب مشيا على األقدام ألن الحافلة ستأتي بعد ساعة‬ ‫والمسافة قصيرة ويمكننا قطعها بسهولة على األقدام‪ .‬خجلت من رفض العرض‬ ‫ووافقت عليه مضيفا أنني ارحب بالمشي ولقد ندمت على قبولي هذا حالما نطقت‬ ‫به‪ .‬كانت األرصفة مغطاة بالجليد وكنت أشعر بقدماي تغوص في طبقات الثلج‬ ‫الكثيفة وأشعر بصعوبة رفع قدمي لتلحق باألخرى ولقد أخذ الثلج يدخل في داخل‬


‫‪73‬‬

‫حذائي الذي لم يكن مهيئا لمثل هذه المهمة‪ .‬كانت الخطوات بالنسبة لي حمال ثقيال‬ ‫تنهك أقدامي وكانت دموعي تسيل من عيوني فتتجمد على سطح زجاج نظاراتي‬ ‫وكانت أنفاسي تخرج من أنفي ممزوجة بمخاطي وتتجمد على شواربي فأخرجت‬ ‫منديلي ومسحت به أنفي ووجهي فاختلطت الدموع بالمخاط وتجمدت على وجه‬ ‫المنديل الذي أخذ في التيبس فأصبح مثل ورق الكرتون‪ .‬كان صديقي ينظر إلي‬ ‫ويعلق بفرح أنني أصبحت أشبه شخصية العيد ميكوالش( شخصية تشبة بابانويل)‬ ‫وكان طوال الطريق يحدثني عن قريتهم التي تقع في منطقة مرتفعة من مورافا‬ ‫وشديدة البرودة‪ ،‬وكنت صامتا أهز رأسي بين الحينة واألخرى وألعن أجدادي ألنني‬ ‫قبلت عرض السير على األقدام‪.‬‬ ‫وصلنا بيتهم فخرجت والدة صديقي ووالده إلستقبالي ودخلنا رأسا إلى المطبخ حيث‬ ‫كان الحطب مشتعال تحت الفرن وكانت رائحة الطعام الدافئة تدخل خياشيمي فتدب‬ ‫بي الدفئ‪ .‬نزعوا عني معطفي الذي تيبس من الثلج والصقيع وطلبوا مني الجلوس‬ ‫على مقعد قريب من الفرن خلف طاولة مهيئة بالصحون والمعالق والسكاكين‬ ‫والفناجين‪ .‬أحضر والد صديقي زجاجة فيها سائل صافي كالماء‪ ،‬وضعها على‬ ‫الطاولة وقال‪ :‬إسمع يا بني‪ ،‬أوال نرحب بك في بيتنا وثانيا لقد أخبرنا إبننا بانك‬ ‫مسلم ال تأكل لحم الخنزير ولذلك زوجتي حضرت لنا وزا وبطا مشويا وفي ليلة العيد‬ ‫سنأكل السمك وأرجو أن يكون مسموحا أكله في ديانتكم‪ .‬أخبرني كذلك أنه قد منع‬ ‫عنكم شرب الكحول ولكن لو نبيكم محمد عاش هنا في جبالنا في مثل هذا البرد فأنا‬ ‫متأكد أنه لن يمنعه‪ .‬يا بني أنا أنظر إليك فأجد مومياء مجمدة إختفى الدم منها ولذلك‬ ‫أنصحك بشرب كأس من هذا الشراب حتى يعود الدم إلى وجهك وليغفر لك هللا‬ ‫ولنا‪".‬‬ ‫قدم لي كأسا من هذا المشروب الصافي اللون كما مأل لنفسه ولزوجته وإبنه ورفع‬ ‫الكأس قائال‪" :‬في صحتك" وقذف محتوى الكأس في داخله وفعلت مثله‪ .‬مرت النار‬ ‫ملتهبة في حنجرتي ثم نزلت إلى أمعائي وشعرت كأن يدا خفية أشعلت فرنا في‬ ‫داخلي فأخذ دمي في الغليان وتدفق إلى رأسي ووجهي‪ .‬نظر الجميع إلي وقالوا‪" :‬‬ ‫ها قد عاد لون وجهك إليك‪".‬‬ ‫بعد الغداء الدسم شعرت بالرغبة في الخروج إلى بيت الخالء( الحمام) ولقد فوجئت‬ ‫أن بيت الخالء في بيت صديقي هو فعال في الخالء ويبعد عن البيت عدة أمتار‪ .‬أشار‬ ‫صديقي إلى بيت خشبي في طرف حديقة البيت وتركني وذهب‪ .‬يتكون البيت الخشبي‬ ‫من حظيرة للخنازير وغرفة مليئة بالقش وأخرى صغيرة‪ ،‬تقوم مقام الحمام أو بيت‬ ‫الخالء‪ ،‬فيها لوح عريض من الخشب في وسطه فتحة مدورة للجلوس عليها والقيام‬ ‫بالالزم‪ .‬ال يوجد لبيت الخالء هذا باب وال مجاري وال مياه ولكن له نافذة صغيرة‬ ‫تطل على الحديقة‪ .‬ال حظت على طرف اللوح الخشبي وجود قطع من الجرائد‬ ‫مقصوصة لتقوم مقام ورق الحمام‪ .‬كان البرد شديدا ومجرد التفكير بالجلوس عاريا‬ ‫على هذا اللوح أصابني بالقشعريرة ولكن لم يكن أمامي أي خيار آخر‪ .‬أنزلت‬ ‫سروالي وجلست فشعرت بلسعة البرد تضرب مؤخرتي وتخرج من رأسي حتى خيل‬ ‫إلي أن شعر رأسي قد وقف‪ .‬في تلك اللحظة إكتشفت أن في الحظيرة خنزيرا ضخما‬


‫‪74‬‬

‫كان نائما ولقد أزعجه حضوري فقام يتفحص ذلك الغريب الذي تجرأ على إزعاجه‪.‬‬ ‫قام ودفع باب الحظيرة الذي إنفتح بسهولة تحت ضغط تلك الجثة الضخمة وتقدم‬ ‫نحوي‪.‬‬ ‫لم أكن ‪،‬قبل ذلك التاريخ‪ ،‬قد تعرفت عليه وال خاطبته وال خاطبني‪ ،‬ولم يقدمه لي‬ ‫صديق في مناسبة ما ولم نجتمع سويا في مجلس مشترك ولم ألمح طلعته البهية ال‬ ‫من قريب وال من بعيد ‪ .‬كان بالنسبة لي مخلوقا مجهول الهوية خارج نطاق‬ ‫إهتماماتي‪ .‬لم أهتم في البحث عن أخباره أو دراسة أحواله المعيشية أو حياته‬ ‫السلوكية‪ .‬كل ما عرفته عنه منذ كنت صغيرا أنه مخلوق قذر‪ ،‬يعيش على‬ ‫القاذورات‪ ،‬ولقد حرم أكل لحمه على أمة محمد‪ ،‬وعندما كبرت وهويت المطالعة‬ ‫وجدت أنه محرم كذلك على اليهود وأنه كان محرما في بالد العراق القديمة‪.‬‬ ‫بدأت خياشيمه العريضة تنفتح وتنغلق وفي كل حالة كان يخرج نوعا من الشخير‬ ‫ذو الرائحة الكريهة‪ .‬تقدم مني ودس رأسه بين رجلي وبدأت خياشيمه تشتم‬ ‫وتتفحص مناطق حساسة من جسدي‪ .‬حاولت أن أدفعه بعيدا ولكنه كان ثقيال جدا‬ ‫املس الجسد يصعب حراكه‪ .‬حاولت معه لغة اإلشارة بأن يبتعد عني ولكنه رفض‬ ‫بعناد وازداد عدوانية‪ .‬رفض رفضا باتا قبول الحوار العقالني بأي لغة كانت وشعرت‬ ‫بأن بعض أعضاء جسمي الحساسة قد أصبحت في خطر فما كان مني إال أن شددت‬ ‫قبضتي ولكمته لكمة عنيفة على خياشيمه فصاح مصدرا صوتا مزعجا كصوت فتح‬ ‫باب حديد أثقله الصدأ‪،‬وهرب إلى حظيرته وراح ينظر إلي بغضب وحقد ظهرا في‬ ‫حدقات عيونه‪ .‬لبست واسرعت في الهرب إلى داخل البيت متظاهرا ألهله بأن شيئا‬ ‫لم يكن‪.‬‬ ‫أهل مورافيا مشهورون بشرب البيرة كأوالد عمومتهم التشيك‪ ،‬وفي كل قرية هناك‬ ‫" هوسبودا" يلتقي فيها في المساء رجال القرية وفي بعض األحيان بعض نساء‬ ‫القرية‪ ،‬يحتسون البيرة ويتسامرون ويدخنون‪ .‬كان من واجبي الغير قابل ألي‬ ‫إعتراض مرافقة صديقي ووالده إلى الهوسبودا‪ .‬كان والد صديقي متشوقا لتعريف‬ ‫أصدقاءه بالعربي الذي جاء ليزورهم ولقد إنتشر خبر زيارتي في القرية ودارت‬ ‫األحاديث حول كوني أمير وإبن وزير ومن غيره من األقاويل‪ .‬كانت الهوسبودا‬ ‫مليئة بأهل القرية ولقد جاؤوا ليتفحصوا هذا الغريب القادم من بالد الجمال والف‬ ‫ليلة وليلة‪.‬‬ ‫عندما دخلنا المكان المكتظ والغارق في دخان السجائر تحولت العيون نحونا مومئة‬ ‫بالتحية‪ .‬جلسنا‪ ،‬ثالثتنا‪ ،‬حول طاولة سرعان ما توسعت حتى أصبحت طاولة مكونة‬ ‫من عدد من الطاوالت يجلس حولها عشرات الرجال‪ .‬المورافيون كرماء وأكثر ما‬ ‫يظهر كرمهم بدعوة الضيف لشرب البيرة على حسابهم وهكذا إمتألت الطاولة‬ ‫أمامي بعشرات الكؤوس من البيرة وكان كل منهم يحثني على الشرب وهو ما لم‬ ‫أكن قادر عليه وال إعتدته‪ .‬شعرت أنني في مازق وشعر صديقي بمأزقي فأخذنا‬ ‫نسكب‪ ،‬وبشكل خفي‪ ،‬محتويات الكؤوس على أرض المكان تحت الطاولة حتى‬ ‫أصبح تحتنا بركة صغيرة من شراب البيرا‪ .‬كان بعض محتويات الكؤوس يصل إلى‬


‫‪75‬‬

‫سروالي فتبلل وشعرت كأنما بولت على نفسي‪ .‬فقط إكتظاظ المكان وغرقه في غيوم‬ ‫من دخان السجاير منع عني الفضيحة‪.‬‬ ‫شعر صديقي بالحرج الذي أنا فيه فلكز والده وأخبره أنه علينا المغادرة‪ .‬حاولت‬ ‫المجموعة الملتفة حول طاولتنا بكل الوسائل إبقاءنا لمدة أطول فلقد كان الجميع‬ ‫متشوقون لمعرفة المزيد عن اخبار العالم العربي وكل ما يتعلق بشؤون حياته ولكن‬ ‫إصرار صديقي أنهى المجادلة وغادرنا‪ .‬لبست بسرعة معطفي حتى يغطي البقعة‬ ‫الكبيرة التي علقت بسروالي وخرجنا إلى الليل البارد متجهين إلى بيت صديقي حيث‬ ‫كانت والدته تنتظرنا بسفرة عشاء شهية‪.‬‬ ‫بعد أن إنتهينا من العشاء وتسامرنا وتحدثنا في مواضيع مختلفة كان جلها يدور‬ ‫حول العالم العربي وطريقة معيشة الناس وخاصة زواج األربعة عند المسلمين‬ ‫ووضع المراة بشكل عام‪ ،‬إفترقنا كل إلى مهجعه‪ .‬لم يكن في البيت أي نوع من‬ ‫التدفئة المركزية وكان مطبخ البيت المكان الوحيد الذي يجري تدفئته بنار الحطب‬ ‫المشتعل في الفرن ذو اإلستعماالت المتنوعة‪ .‬كانت غرف النوم باردة جدا ولكن‬ ‫ألحفتهم دافئة محشية بريش الوز‪ .‬ولقد إعتاد الجميع على النوم ورؤوسهم مغطاة‬ ‫بطاقية دافئة‪ .‬كان الهواء يخرج من األنف والفم مشكال غيمة بخارية‪.‬‬ ‫دخلت السرير المعد لي وإندسست تحت اللحاف المحشو بريش الوز وحاولت النوم‪.‬‬ ‫شعرت بحاجة ملحة للذهاب إلى الحمام ولكن مجرد التفكير في الخروج إلى خارج‬ ‫البيت في ذلك البرد القارص جعلني أتردد‪ .‬ولكنني لم أستطع مقاومة الطبيعة‬ ‫والحاجة إلى الخروج فغادرت فراشي والتحفت بمعطفي ولبست حذائي وخرجت‪.‬‬ ‫درجة الحرارة في الليل أبرد بعدة درجات منها في النهار والثلج من شدة البرد‬ ‫يتحول إلى صقيع‪ ،‬أملس السطح‪ ،‬يلمع مثل المرآة ولزج مثل الصابون‪.‬‬ ‫ما أن وضعت قدمي على الصقيع حتى تعثرت وانزلقت تلحقها القدم الثانية‪ .‬وقعت‬ ‫على مؤخرتي وانزلقت عدة أمتار على مؤخرتي حتى وصلت البيت الخشبي فركلته‬ ‫بقدمي فانفتح بابه وبقيت مستلقيا على ظهري‪ ،‬ساقاي في الحظيرة وجسمي ملقى‬ ‫خارجها‪ .‬شعرت بآالم في ظهري وتوجست خيفة من أن يكون شيء في جسدي قد‬ ‫كسر‪ .‬حاولت الجلوس ولكنني لم أستطع فلقد سمرني منظر الخنزير الضخم يرقض‬ ‫على ساقي وينظر إلي بتكهم ‪ .‬أقسم أنني رأيت إبتسامة فرح وتشفي على شفتيه‬ ‫البشعتين كأنما يحذرني بأنه قد حان وقت اإلنتقام‪ .‬أخذ يمد خياشيمه المفتوحة‬ ‫كبالوعة المجاري ويشخر شخيرا مزعجا ويسعل في وجهي كسعال عجوز مدمن‬ ‫على التدخين في صباح يوم بارد‪ .‬حاولت أن أبعده عني ولكنني لم أستطع زحزحته‬ ‫ولو سنتمترا واحدا‪ .‬تذكرت أمي وأهلي وبعض أصدقائي في بلدي وصحت‪ :‬تعالوا‬ ‫وانظروا ما يجري إلبنكم‪".‬‬ ‫فجأة فتح باب البيت وظهر صديقي الذي لم يصدق ما ترياه عيناه‪ ،‬وعندما أمعن‬ ‫النظر إنفجر ضاحكا وقال‪ :‬خسارة أنه ال يوجد لدي كاميرا لكي أصوركما‪ ،‬إنه منظر‬ ‫رائع‪ ".‬صحت به أن ينكف عن الضحك وينقذني من هذا الوحش‪ .‬إلتقط صديقي‬ ‫عصا وضرب الخنزير على فخذتية فهرب إلى الحظيرة راكضا‪.‬‬ ‫أقسمت أنني لن أدخل الحمام طوال إقامتي عندهم وهذا ما حدث‪.‬‬


‫‪76‬‬

‫بعد أن إنتهت زيارتي ألهل صديقي غادرت بيتهم وكان الخنزير واقفا في باب‬ ‫الحظيرة يراقبني ولعله كان متأسفا لمغادرتي‪ ،‬فلقد ظهر على تعابير وجهه أنه كان‬ ‫يخبئ لي بعضا من أالعيبه اإلنتقامية ولقد خاب ظنه لعدم مقدرته على تحقيقها‪.‬‬ ‫غادرت بعيدا وكنت ألتفت بين الحين واآلخر فأراه ال زال في مكانه يراقبني حتى‬ ‫إختفيت عن أنظاره ‪.‬‬


‫‪77‬‬

‫‪ .25‬حديث ليلي مع ممرضتي‬ ‫دخلت الممرضة إلى غرفتي بعد منتصف الليل فوجدتني جالس في سريري أحدق في‬ ‫الحائط الذي أمامي كأنني أستقريه األخبار‪ .‬قالت ‪ :‬أعاجز عن النوم؟ قلت لها‪:‬‬ ‫داعبت الوسن وداعبني ولكن النوم طار من عيوني وعجزت عن اللحاق بي‪ .‬قالت‪:‬‬ ‫هل أعطيك حبة منوم؟ قلت لها بأنني أكره أن يسيطر على حواس نفسي أي شيء‬ ‫خارج عن نفسي‪.‬‬ ‫سحبت كرسيا وجلست عليه بجانب سريري‪ ،‬ثم أخذت يدي وقاست نبضات قلبي‬ ‫وسألتني‪ :‬أبك أوجاع أم أن األفكار ال تزال تتعبك‪ .‬أجبتها بأن الواقع لم يتغير‪،‬‬ ‫ففلسطين ال زالت محتلة والعراق كذلك والوضع المأساوي يعم العالم العربي‪ ،‬ولذلك‬ ‫فلم تتغير األلفكار والمتاعبها‪ .‬طلبت مني أن أفتح فمي ونظرت في حلقي وفي‬ ‫عيوني ثم قالت‪ :‬عندكم متاعبكم وعندنا متاعبنا‪ .‬قلت لها‪ :‬عن أي متاعب تتحدثين‪،‬‬ ‫لقد حصلتم على ما كنتم تتمنوه‪ ،‬أسقطتم النظام الشيوعي الدكتاتوري وأقمتم بدال‬ ‫عنه الديموقراطية والحرية‪.‬‬ ‫حدقت في وجهي وقالت وقد بدت على مالمحها مالمح الجد وسألتني‪ :‬هل فعال‬ ‫تصدق ما تقول؟ ولم تترك لي المجال لكي أجيبها وتابعت تقول‪ :‬أنظر إلي كمثل‪،‬‬ ‫ومثلي اآلالف المؤلفة‪ ،‬أنا أعمل إلى الساعة السادسة صباحا‪ .‬أترك العمل وأذهب‬ ‫إلى البيت لكي أحضر لزوجي وألوالدي الفطور وبعض الطعام ليأخذوه معهم‪ .‬ثم‬ ‫أحضر الفطور لوالدة زوجي التي تعيش معنا وهي مقعدة‪ ،‬أطعمها وأغسلها وأغير‬ ‫لها مالبسها وأرتب لها سريرها ثم أذهب إلى المطبخ إلعداد الغداء لألوالد وأقوم‬ ‫بترتيب المنزل ثم أدخل سريري لكي أنام بضعة ساعات تقطها مطالب حماتي‬ ‫المتكررة‪ .‬في العهد اإلشتراكي الذي تدعوه بالدكتاتوري‪ ،‬كان أوالدي يتغدون في‬ ‫مطعم المدرسة إلى جانب الحليب وبعض الكعك في الساعة العاشرة وكان زوجي‬ ‫يتغدى في مطعم العمل بمبلغ زهيد جدا وكنت أنا كذلك أتناول غدائي في مطعم‬ ‫المستشفى ودون مقابل‪ .‬كانت وزارة الشؤون اإلجتماعية تخصص إمرأة للقيام على‬ ‫رعاية حماتي‪ ،‬تحضر لها الغداء من مطعم المصنع الذي في شارعنا‪ ،‬وكانت تقوم‬ ‫على تنظيفها وإعطاءها الدواء وتجالسها حتى أعود أو يعود زوجي من العمل‪ .‬كنا‬ ‫يا سيدي نطبخ فقط أيام األعياد‪ .‬كانت األدوية مجانا واآلن فرض على المريض أن‬ ‫يدفع مقابل الدواء أو جزء منه‪ .‬زوجي يا سيدي يدفع ثلث راتبه ثمن أدوية لوالدته‬ ‫وتقاعدها ال يكفيها لسداد ثمن الدواء‪ .‬كانت اإلقامة في المستشفى في زمن‬ ‫اإلشتراكية دون مقابل واليوم على المريض أن يدفع ثالث أورات على كل يوم إقامة‬ ‫وهناك كثير من الفحوص الطبية أصبحت بثمن‪ .‬كان ثمن تذكرة المسرح أو السينما‬ ‫خمسة كورونات واليوم ما يعادل مئتين وخمسين كرونا‪ .‬كانت الكتب رخيصة وكانت‬ ‫المكاتب مليئة بالكتب القيمة وخاصة الترجمات العالمية‪ .‬اليوم أصبحت الكتب غالية‬ ‫الثمن ومليئة بقلة األدب واإلنحطاط الفكري‪ .‬كانت الصحف والتلفزيون واإلذاعة‬ ‫ملك للحزب وكان الشيوعيون يسيطرون على ما يكتب وما يقال واليوم تسيطر‬ ‫الشركات الرأسمالية األجنبية على كل مجاالت اإلعالم وهي التي توجهها وتفرض‬ ‫سياساتها وتحدد مضمونها‪ .‬لقد أصبح اإلعالم بوقا أمريكيا وصهيونيا ومصنعا‬


‫‪78‬‬

‫للفكر الهابط‪ .‬فما الذي تغير؟ زادت رواتبنا ضعفا وارتفعت األسعار عشرات‬ ‫األضعاف‪ .‬ثم زاد الطين بلة أننا دخلنا منطقة اليورو فتحولت األسعار من الكرونة‬ ‫إلى اليورو فزادت عملية التبديل من األسعار كثيرا‪ ،‬كان فنجان القهوة في عهد‬ ‫اإلشتراكية يساوي خمس كورونات واليوم ما يعادل الستين حتى التسعين كرون‪.‬‬ ‫كنا ندفع إكرامية كرونا واحدا أما اليوم فإن تدفع أقل من خمسين سنتا‪ ،‬وهي تعادل‬ ‫خمسة عشر كرونا‪ ،‬فإنهم سيرمونها في وجهك‪ .‬تضاعفت األسعار كما تضاعفت‬ ‫الجريمة وانتشرت المحسوبية وسرقة المال العام‪ .‬أتعلم ماذا كانت شعارات حزب‬ ‫ساس اإلنتخابية والتي على أساسها نجح في اإلنتخابات وأصبح جزءا من الحكومة؟‬ ‫كان برنامجه اإلنتخابي يرتكز على إصدار قوانين تسمح بتعاطي الخدرات وتسمح‬ ‫بزواج المثليين وتبنيهم األطفال‪ .‬هذه حالنا يا سيدي في ظل هذه الديموقراطية‬ ‫الرأسمالية‪.‬‬ ‫عم الصمت الغرفة وبقيت تحدق بي كأنها تتحداني‪ ،‬قلت لها‪ :‬ولكنكم أصبحتم‬ ‫أحرارا‪ ،‬تسافرون متى وإلى أي مكان تريدون‪ .‬ضحكت بسخرية وقالت‪ :‬نعم‪ ،‬معي‬ ‫جواز سفر يسمح لي بالسفر إلى أي مكان‪ ،‬ولكن أخبرني إلى أين سأسافر ومن‬ ‫سيدفع لي تكاليف السفر‪ .‬في زمن اإلشتراكية‪ ،‬كنا نسافر إلى البلدان اإلشتراكية‬ ‫وكانت رخيصة مثل بلدنا‪ ،‬كما كانت النقابات توزع علينا رحالت مجانية وإقامة‬ ‫مجانية في المنتجعات التي أصبحت اليوم‪ ،‬بعد بيعها إلى الرأسمال األجنبي‪ ،‬حكرا‬ ‫على األغنياء المحليين واألجانب‪ .‬لقد باعوا كل شيئ إلى الراسمال األجنبي‪ ،‬الذي لم‬ ‫يعد يكترث ال بالبيئة وال بالموظفين والعمال ومطالبهم وعند تهديده باإلضراب عن‬ ‫العمل يهدد هو اآلخر بالرحيل إلى بلد أرخص‪ .‬رفعت صوتها وقالت‪ :‬يتحدثون عن‬ ‫اإلرهاب ولكنهم إختلقوا إرهابا جديدا هو اإلرهاب الوظيفي‪ .‬كان العمل في العهد‬ ‫اإلشتراكي واجبا مقدسا وكان على الحكومة أن تجد للمواطن وظيفة مالئمة‪ ،‬أما‬ ‫اليوم فجميعنا من مختلف المستويات والمراتب الوظيفية نعيش في حالة من القلق‬ ‫بسبب الخوف من خسارة الوظيفة‪ .‬إنه اإلرهاب الوظيفي‪ .‬حتى أؤلئك الذين يتمتعون‬ ‫بوظائف عالية فإنهم محاطون بالخوف الوظيفي‪ ،‬فهم مقيدون بقروض وكفاالت‬ ‫بنكية وأطفالهم في المدارس الخاصة التي تكلفهم مبالغ طائلة‪ .‬خسارتهم لوظيفتهم‬ ‫سينتج عنها خسارة بيتهم وطرد أبنائهم من المدرسة وخسارة سياراتهم التي‬ ‫إشتروها بالتقسيط البنكي وهكذا‪.‬‬ ‫شعرت برأسي يدور ويكاد ينفجر‪ .‬قلت لها‪ :‬هناك مثل في بالدنا يقول" جبناك‬ ‫يامعين حتى تعين وجدنا إنه بدك حدى يعينك‪ ".‬إرحلي واتركيني لوحدي‪ .‬قامت‬ ‫وأرجعت الكرسي إلى مكانه ثم قالت‪ ":‬أنا آسفة على إزعاجك‪ ".‬رجوتها أن تعطيني‬ ‫حبة المنوم‪ .‬وضعت على الطاولة التي بجانب سريري حبتين وقالت‪ :‬هذا في حالة‬ ‫أن واحدة ال تكفي‪ .‬بلعت الحبة وأطفأت النور واندسست في فراشي‪ .‬نمت وحلمت‬ ‫بحديقة جميلة‪ ،‬مليئة باألزهار والطيور ولكن غرابا أسودا كان يقف على فرع‬ ‫شجرة يزعق بملئ صدره وكان زعاقه يغطي على ألحان العصافير‪ .‬حاولت أن‬ ‫أطرده فرميته بحصى وصحت عليه بأعلى صوتي ولكنه ظل يزعق ويزعق حتى‬ ‫خلت أن رأسي سينفجر‪.‬‬


‫‪79‬‬

‫‪.26‬‬

‫عودة لم تكتمل‬

‫أعلنت المضيفة عن قرب وصول الطائرة إلى المطار وطلبت من الركاب ربط‬ ‫األحزمة واإلمتناع عن التدخين‪ .‬بدأت الطائرة تهبط وتحط على أرض المطار‬ ‫وأخذت محركات الطائرة تبطئ دورانها حتى وقفت بالكامل وبدأ المسافرون‬ ‫يستعدون للخروج ‪.‬‬ ‫كان على متن الطائرة سياح من مختلف البلدان الغربية وكان يسمع أصوات لغات‬ ‫متعددة إختلطت ببعضها البعض حتى باتت لغة واحدة غير مفهومة‪.‬‬ ‫جلس عائد يقضم أطراف أظافره‪ ،‬فلقد غمره مزيج من اللهفة والشوق للوطن‬ ‫واألهل واألصحاب‪ ،‬مع شعور بالرهبة أخذ يهز كيانه ويسرع من ضربات قلبه‪.‬‬ ‫تسائل‪ :‬لماذا يا ربي أشعر بالرهبة والخوف كلما وطأت قدماي مطار إحدى الدول‪ .‬آه‬ ‫يا وطني كم إشتقت إليك‪ ،‬فسنين الغربة قتلتني وقتلني الحنين إليك‪ .‬لماذا إذن أنا‬ ‫خائف من مقابلتك بعد طول غياب؟‬ ‫وقفت محركات الطائرة وبدأ الركاب في الوقوف وحمل حقائبهم والتوجه نحو باب‬ ‫الطائرة إستعدادا للخروج‪ .‬أخذ عائد حقيبة اليد الصغيرة وتوجه هو اآلخر نحو باب‬ ‫الطائرة وخرج منها نازال درجات السلم المعد للخروج‪ .‬لفحته أشعة الشمس والهواء‬ ‫الدافئ وشعر بهواء الوطن يدغدغه ويعانقه مرحبا بعودته‪ .‬بدأت أعصابه تهدأ‬ ‫وأسرع متوجها إلى شباك الهجرة والجوازات‪ .‬كان متلهفا لعناق أهله‪ ،‬الذين كانو‬ ‫في إنتظاره‪ ،‬وشعر بالشوق لرؤيتهم يغمر جسده‪ ،‬فلقد مرت سنين طويلة على‬ ‫غيبته عنهم‪ .‬أخذ يفكر بأكالت والدته الشهية وتصور الملوخية الساخنة والبخار‬ ‫يخرج منها مشبعا أنفه برائحتها الزكية‪ ،‬وتذكر الزيت والزيتون والزعتر والشاي‬ ‫بالنعناع والقهوة بالهال بعد أكل قطعة من الكنافة النابلسية وغيرها من األكالت التي‬ ‫لم يذقها منذ أعوام‪ ،‬فسال لعابه وأخذ يلحس شفتيه بلسانه ويمتصها كما يمتص‬ ‫بقايا طعام أكله قبل لحظات‪.‬‬ ‫وقف في الصف الطويل أمام نافذة الجوازات والهجرة‪ ،‬حامال جواز سفره األجنبي‬ ‫بيده‪ .‬كان يعتقد أن هذا الجواز سيحميه من الريبة والشكوك التي تنتاب مسؤولي‬ ‫الحدود والمطارات كلما وطأت قدمه إحداها‪ ،‬ولكن التجربة أثبتت عكس ذلك‪،‬‬ ‫فالمولد في جواز السفر " فلسطين" كان كافيا ليثير هذه الشكوك‪ ،‬وتبدا عملية‬ ‫التفتيش واألسئلة المهينة‪ .‬فلسطيني تعني في كثير من اللغات إرهابي‪ ،‬يجب أخذ‬ ‫الحذر منه‪ .‬في بلد عربي كان يقال للفلسطيني " فلسطيزي" داللة على التوضيع و‬ ‫اإلهانة‪ .‬يذكر عائد عندما جرى ترحيله من تلك البلد‪ ،‬أن ضابط الهجرة في المطار‬ ‫قال لزميله وقت ترحيله‪ "،‬خذ دب هالفلسطيزي في الطيارة‪ ،‬ترحيل دائم‪".‬‬ ‫كان السواح األجانب يمرون بسرعة‪ ،‬يقدمون جوازات سفرهم لضابط الجوازات‪،‬‬ ‫فيبتسم لهم هذا مرحبا ويختم جوازات سفرهم بدون أي تأخير‪.‬قدم عائد جواز سفره‬ ‫لضابط الجوازات بعد أن طرح عليه السالم‪ ،‬وانتظر‪ .‬لم يرد الضابط له التحية وأخذ‬ ‫يتصفح جواز السفر بعناية وهو متجهم الوجه‪ .‬سأله عن إسم أبيه وأمه ومن أين‬ ‫هو قادم وما سبب زيارته‪ ،‬فأخبره عائد‪ .‬تسائل الضابط قائال‪ :‬مواليد فلسطين؟" ثم‬ ‫هز رأسه و أخرج من الدرج قائمة أسماء أخذ ينظر فيها‪ ،‬ثم عاد و تصفح وجه‬


‫‪80‬‬

‫عائد بعينين كأشعة إكس وعلى وجهه إبتسامة تشفي كأنما يقول‪" :‬أخيرا ضبطناك‪،‬‬ ‫وطلب منه الوقوف جانبا‪ ،‬فوقف‪.‬‬ ‫وقف عائد منتظرا أكثر من نصف ساعة‪ ،‬والقادمون‪ ،‬وجلهم أجانب‪ ،‬يمرون‬ ‫ويدخلون وطنه بدون أي تأخير‪ .‬جاء رجالن في مالبس مدنية وأشارا إليه بصمت‬ ‫أن يتبعهما‪ ،‬ففعل‪ .‬أدخاله إلى غرفة صغيرة وطلبا منه أن يقلع مالبسه‪ ،‬ففعل‪ .‬فتشا‬ ‫جيوبه وثنايا مالبسه وحذاءه ثم ألقيا بها بقرف على األرض وطلبا منه لبس‬ ‫مالبسه‪ ،‬ففعل‪ .‬لقد علمته التجارب أنه ال فائدة من الجدال مع قوات األمن‬ ‫والمخابرات في البالد الشرق أوسطية‪ ،‬فإنه لو فعل فلن يصل إلى نتيجة‪ ،‬ألن الحوار‬ ‫العقالني مع أفراد األمن والمخابرات مستحيل‪ .‬تركاه في الغرفة ورحال‪.‬‬ ‫بعد ساعة عادا ومعهما شرطي يحمل في يده أصفادا حديدية‪ ،‬وضع أيدي عائد فيها‬ ‫واحكم إغالقها وطلب منه اللحاق بهم‪ ،‬ففعل‪ .‬ذهبوا إلى مكان وصول الحقائب‬ ‫وطلبوا منه فتح حقيبتة‪ ،‬ففعل بصعوبة‪ ،‬فلم تكن يداه المسجونة في األصفاد قادرة‬ ‫على التحرك بحرية‪ .‬هجمت ستة أيدي على محتويات الحقيبة‪ ،‬و قامت ببعثرة كل ما‬ ‫فيها‪ ،‬قطعة قطعة‪ ،‬وسقط كثير منها على أرض المطار‪ ،‬بما فيها الهدايا التي جلبها‬ ‫ألهله وأصدقاءه‪ ،‬والتي صرف وقتا وجهدا في إنتقاءها‪ .‬إختلطت قطع المالبس‬ ‫بغبار األرض وداستها ستة بصاطير حاقدة‪ .‬كان يبدوا على وجوههم اإلمتعاض‬ ‫ألنهم لم يجدوا ما يدينه‪ .‬وضعوا معجوني الحالقة واألسنان في كيس من البالستيك‬ ‫وأخذوه‪ .‬طلب منه الشرطي أن يلملم مالبسه المبعثرة ويضعها في الحقيبة و يحمل‬ ‫حقيبته ويلحق به‪ .‬رجا الشرطي أن يحرر يديه حتى يستطيع أن يحمل الحقيبة‬ ‫الثقيلة‪ ،‬فرفض‪ .‬حملها بأطراف أصابعه وجرها خلفه بصعوبة حتى خرجا من‬ ‫المطار وتوجها إلى موقف سيارات األجرة‪ .‬أشار الشرطي إلى إحداها وعلق قائال‪:‬‬ ‫" ال يوجد لدينا سيارات لنقلك‪ ،‬جميعها محجوزة ولذلك سنستأجر سيارة أجرة‪.‬‬ ‫فتح السائق باب السيارة الخلفي المعد للحقائب وانتظر‪ .‬طلب عائد من السائق أن‬ ‫يساعده في وضع الحقيبة في السيارة‪ ،‬فرفض‪ .‬قال أنه سائق سيارة وليس حماال‪.‬‬ ‫حمل عائد الحقيبة بصعوبة ووضعها في السيارة‪ ،‬ثم طلب منه الشرطي أن يجلس‬ ‫بجانب السائق‪ ،‬ففعل‪ .‬تحركت السيارة بعد أن أعطى الشرطي العنوان للسائق‪ ،‬فهم‬ ‫عائد من كالمه أنه مكان للتوقيف‪.‬‬ ‫مرت السيارة من وسط المدينة وكانت األضواء تشع كأنها تحتفل بقدوم ضيف مهم‪،‬‬ ‫وكان الناس يمشون مسرعين أو ينتظرون سيارات األجرة من أجل العودة إلى‬ ‫بيوتهم بعد عمل يوم شاق‪ .‬كل له همومه‪ ،‬ولم تكن هموم عائد واحدة منها‪ .‬تسائل‬ ‫عائد‪ ،‬أين أهله‪ ،‬وهل ال زاوا في إنتظاره على المطار‪ ،‬وهل أخبرهم أحد بمصيره‪.‬‬ ‫وصلت السيارة إلى مبنى كتب فوق مدخله "مركز شرطة منطقة‪ ،"..‬طلب الشرطي‬ ‫من عائد أن يدفع أجرة السيارة‪ ،‬ففعل‪ ،‬وكانت بالعملة الصعبة ولم تكن رخيصة‪.‬‬ ‫حمل عائد حقيبته ودخل خلف الشرطي إلى قاعة المركز‪ .‬أشار الشرطي عليه أن‬ ‫يضع حقيبته في ركن المدخل وتحدث همسا مع الضابط المسؤول عن المركز‪ .‬تقدم‬ ‫هذا من عائد‪ ،‬فك قيوده وطلب منه اللحاق به‪ ،‬ففعل‪ .‬فتح الضابط باب غرفة وطلب‬ ‫منه الدخول‪ ،‬فدخل‪ ،‬ثم أغلق الضابط الباب خلفه بالمفتاح‪.‬‬


‫‪81‬‬

‫كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل وكان الظالم يعم المكان فوقف عائد خلف الباب‬ ‫ال يعرف أين هو وإن كان وحده في الغرفة‪ .‬سمع شخيرا وسعاال وحشرجات تقطع‬ ‫الصمت المخيم على المكان‪ .‬بعد دقائق بدأت عيونه تعتاد على محيط المكان فوجد‬ ‫نفسه في قاعة مليئة بالمساجين‪ ،‬كان بعضهم جالسا واآلخر منحني على الحائط‬ ‫والبعض اآلخر واقفا‪ ،‬لعدم وجود مكان كاف للجلوس‪.‬‬ ‫وقف عائد ينظر بهلع إلى منظر القاعة المليئة باألجساد ولقد تخيل منظره بالبدلة‬ ‫الجديدة‪ ،‬التي إشتراها خصيصا للقاء أهله‪ ،‬وبالقميص الجديد الناصع البياض‬ ‫وربطة العنق‪ ،‬مثيرا للهزل والحزن‪ .‬نظرت العيون المتعبة إليه ثم شاحت عنه‬ ‫وذهبت إلى سبيلها‪ ،‬غارقة في همومها‪ .‬بقي عائد واقفا خلف الباب حتى تعبت‬ ‫ساقاه فجلس على األرض متكئا على الباب‪.‬‬ ‫مرت األيام ولم يعد عائد يعرف معنى للزمن وللمكان‪ .‬فلقد كان مكانه يتكون من‬ ‫مساحة ضئيلة خلف باب المكان‪ ،‬يتحرك منه عندما يفتح أحدهم الباب ليدخل سجينا‬ ‫جديدا أو يخرج سجينا أو إلحضار الطعام‪ ،‬الذي بدا وكأنه من مخلفات زبائن‬ ‫المطاعم‪ .‬لم يتكلم عائد مع أحد‪ ،‬ولم يخاطبه احد من المساجين‪ ،‬ولم يعرف حتى‬ ‫هويتهم وسبب سجنهم‪ ،‬ولم يأكل طيلة المدة أي شيئ‪ ،‬كان فقط يشرب من شاي‬ ‫السجن‪ ،‬الذي لم يكن لهو طعم وال رائحة ‪.‬‬ ‫بعد مرور أكثر من اسبوع على إقامته في ضيافة هذا المكان المرعب جاؤوا‬ ‫وأخذوه إلى مركز المخابرات العامة‪ .‬كانت بدلته قد أصبحت خرقة وقميصه األبيض‬ ‫فقد لونه واختلط بوسخ المكان وعرق الجسد‪ ،‬وربطة عنقه قبعت في جيبه ملوثة‬ ‫بمخاطه فلقد إضطر إلستعمالها كمنديل للمخاط‪ .‬كان متعبا‪ ،‬مرهقا‪ ،‬رائحته تفيح‬ ‫بالعرق الممزوج برائحة السجن المطعم بروائح الفساء والبول‪.‬‬ ‫أدخلوه إلى غرفة جلس فيها رجالن‪ ،‬طلبا منه الجلوس فجلس‪ .‬نظرا إليه بعلو و‬ ‫بإشمئزاز فلقد شعرا بسلطتهما على الموقف مما دفعهما للشعور بالتباهي والعظمة‪.‬‬ ‫خاطبه واحد منهما قائال‪" :‬إسمع وال‪ ،‬إحنا منعرف عنك كل شي‪ ،‬بدك تقر والال وهللا‬ ‫هون منكسر راسك‪ ".‬نظر عائد إليه بإستغراب وقال‪ " :‬ماذا فعلت لك حتى‬ ‫تواجهني بهذه الطريقة‪ ،‬هل سبق والتقينا وقمت بإيذائك‪ ،‬وما الذي فعلته حتى أنال‬ ‫هذا العقاب؟"‬ ‫قفز الرجل من مقعدة وتوجه نحو عائد وهو يتفتف ورذاذ لعابه يتطاير من فمه‪.‬‬ ‫شعر عائد بأن الرجل سيقوم بلطمه فنزع عن وجهه نظاراته حتى ال تتحطم‪ .‬وقف‬ ‫الرجل أمامه صائحا‪ :‬ولك إنت بتخرس وما بتحكي نص كلمة‪ ،‬هون إحنا منسأل‬ ‫وإنت بتجاوب على السؤال‪ ".‬لم يلطمه فلقد طلب منه زميله الجلوس فعاد وجلس‬ ‫خلف الطاولة‪ ،‬بجانب زميله ‪.‬‬ ‫بدأت األسئلة تنهال على عائد‪ ،‬نفس األسئلة التي واجهته من قبل عمالء‬ ‫المخابرات في بالد أخرى‪ .‬من هم رفاقك في التنظيم‪ ،‬من هم أصدقاءك‪ ،‬لماذا‬ ‫سافرت إلى تلك البلد‪ ،‬من بعثك‪ ،‬وما هي أسباب قدومك ومع من ستتصل وغيرها‬ ‫من األسئلة‪ .‬خيل إلى عائد أن األسئلة توزع على جميع عمالء المخابرات في العالم‬ ‫العربي‪ ،‬من مصدر واحد‪.‬‬


‫‪82‬‬

‫التهمة هي نفسها في كل مرة‪ ،‬العضوية في تنظيم معاد للدولة‪ .‬كان عند عائد دافع‬ ‫قوي للضحك‪ ،‬ولكنه لم يضحك‪ ،‬مع أن الموقف مثير للضحك والحزن معا‪ .‬كان‬ ‫غريبا أن توجه له تهمة اإلنتماء إلى تنظيم معادي للدولة و هو يعيش خارج هذه‬ ‫الدولة منذ عشرات السنين‪ ،‬وأي دولة هذه التي يتحدثون عنها ؟ بدت له الدولة‬ ‫كعصابة مجرمين وقطاع طرق‪ ،‬وليس كدولة‪ .‬ثم عن أي تنظيم يتحدثون‪ ،‬فالتنظيم‬ ‫في قاموس المخابرات العربية يتغير حسب الظروف السياسية للدولة وعالقاتها مع‬ ‫الغير‪ .‬لم يعرف عائد هل يضحك أم يبكي‪" .‬أبكيك يا وطني الحبيب‪ ،‬ما الذي فعلوه‬ ‫بك؟ من إين جاء هؤالء؟ إنهم يتكلمون لغتي ولكنهم ليسوا أهلي‪ .‬إنهم يرحبون‬ ‫باألجانب ويسجنون أهل هذا البلد‪".‬‬ ‫إنتهى اإلجتماع بعد ساعات من التحقيق المضني‪ ،‬الالعقالني‪ ،‬والمثير للهزء‬ ‫والحزن معا‪ .‬كانت النتيجة أنه شخص غير مرغوب فيه‪ ،‬في وطنه‪ ،‬وعليه أن يعود‬ ‫من حيث أتى‪" .‬ولكن هذا وطني يا أوالد الكلب" قالها بصمت‪" ،‬هنا ولدت وهنا‬ ‫ترعرعت وهنا عرفت حبي األول وهنا وهنا"‪.‬‬ ‫قاموا بترحيله‪ .‬وضعوه مع حقيبته‪ ،‬التي سرق معظم محتوياتها‪ ،‬وعلى حسابه‬ ‫الخاص‪ ،‬في سيارة أجرة و أخذوه إلى المطار ومن ثم إلى الطائرة‪ ،‬من دون أن يمر‬ ‫على الجوازات‪ .‬إنتظروا حتى أغلقت الطائرة أبوابها وبدأ محركها بالدوران‪ .‬نظر‬ ‫المسافرون إليه بخوف وقلق‪ ،‬بعضهم تمتم‪ ":‬يظهر أنه إراهبي"‪ .‬نظر إليه طفل‬ ‫وابتسم ولكن والدته نهرته وأبعدته خوفا عليه‪ ،‬فلقد كان منظر عائد مخيفا ورائحته‬ ‫تزكم األنوف‪.‬‬ ‫غادرت الطائرة المطار وبدأت ترتفع في الجو‪ .‬نظر عائد من النافذة إلى وطنه‪ ،‬فرآه‬ ‫يصغر كلما إرتفعت الطائرة‪ ،‬حتى بات نقطة سوداء في فضاء أبيض‪ ،‬ثم إختفى عن‬ ‫أعينه وما عاد يراه إال في مخيلته ‪.‬‬


‫‪83‬‬

‫‪.27‬‬

‫حفيدي الدكتاتور‬

‫جلست في مقعدي المعتاد وفتحت حاسوبي المحمول وهيأت نفسي لكتابة رسالة إلى‬ ‫صديق‪ .‬فجاة إنفتح الباب على مصراعية بدون أن يطرق أحد الباب كما هي العادة‬ ‫إستئذانا للدخول و ظهر في الباب إنسان صغير ال يتعدى طوله التسعين سنتمترا‪،‬‬ ‫وال يتعدى عمره العامين‪ ،‬أشقرالشعر مجعد‪ ،‬كفرو خاروف بلدي‪ ،‬مالمحه خليط من‬ ‫المالمح العربية والغربية‪ ،‬تعطيه لمحة خاصة من الجمال والجاذبية‪ .‬حفيدي نضال‬ ‫الثالث الذي سمته والدته كذلك تيمنا بزوجها نضال الثاني وسماه والده كذلك تيمنا‬ ‫بإسم والده نضال األول‪ ،‬وهكذا أصبح لدينا في البيت ثالث نضاالت‪ ،‬تختلط النداءات‬ ‫بها وتخلق في بعض األحيان اإلرتباك والفوضى‪ .‬كانت نظراته ثاقبة ومالمحه تدل‬ ‫على الجد و عدم الرضى‪ .‬صاح مشيرا بإصبعه الصغير إلي قائال‪ " :‬سيدو! البتوب‬ ‫نو‪ ،‬البتوب نو"‪ .‬كان حاسوبي المحمول "الالبتوب عدوا له‪ ،‬وكان يرفض رفضا‬ ‫قاطعا أن يراني والحاسوب مفتوحا أمامي‪ ،‬أكتب أو أقرا شيئا فيه‪.‬‬ ‫هجم علي وقبض على الحاسوب وحاول إغالقه بالقوة فشددت الحاسوب بكلتا يدي‬ ‫وحاولت حمايته من هذا المعتدي الصغير‪ .‬قلت له‪ " :‬يا حبيبي‪ ،‬يا روحي يا عيني‪،‬‬ ‫أرجوك إترك الحاسوب ستكسره كما كسرته سابقا وكلفني تصليحه مبلغا ال يستهان‬ ‫به من المال‪ ".‬ولكنه تابع القبض على دفة الحاسوب ليغلقه وهو يصيح ‪ ":‬سيدو !‬ ‫البتوب نو‪ ،‬البتوب نو‪".‬‬ ‫حاولت إقناعه بالكالم المعسول وبالرجاء حتى أنني حاولت أن أرشيه ببعض‬ ‫الحلوى ولكنه رفض رفضا قاطعا‪ ،‬وبقي قابضا على دفة الحاسوب يريد إغالقه وهو‬ ‫يصيح " البتوب نو"‪ .‬قلت له أنه علي أن أكتب رسالة لعمو‪ ،‬فخفف الضغط عن‬ ‫الحاسوب ونظر إلي متسائال وسأل‪" :‬عمو مازن؟؟" فلقد عقد مع أخي مازن‬ ‫صداقة وطيدة أثناء زيارتنا لعمان‪ ،‬وكان يلعب معه لعبة النملة نملة أو الطيارة‬ ‫الطيارة‪ ،‬وظل عمو مازن لهذا السبب عالقا في مخيلته‪ .‬أجبته بأنني أكتب لعمو‬ ‫عيسى وهو مثل عمو مازن‪ ،‬ولكن عالمات عدم الرضى عادت إلى وجنتيه وزاد في‬ ‫الضغط على الحاسوب ليغلقه وهو يصيح‪ " :‬عمو عيسى نو‪ ،‬البتوب نو"‬ ‫صحت على والدته ورجوتها أن تأخذه وتلهيه لمدة ساعة من الزمان حتى أكتب‬ ‫رسالتي‪ .‬ضحكت وقالت" " أنت تعرف يا عمو أن ذلك من المستحيالت ‪ ،‬فهو‬ ‫يريدك أن تلعب معه وأن تحكي له حكاية أو تسمعه موسيقى عربية‪ ،‬وهو يغار من‬ ‫حاسوبك ولن يسمح لك بالعمل وسيجبرك على إغالقه‪ .‬نظرت إليها وقلت" يا بنيتي‪،‬‬ ‫الجماهير العربية ثائرة من الجزائر إلى الخليج العربي ضد الدكتاتورية‪ ،‬وأنا علي‬ ‫أن أستسلم ألوامر ورغبات هذا الكتاتور الصغير؟؟! ضحكت وقالت‪ " :‬هو لديه‬ ‫سالح أقوى من أسلحة جميع الحكام العرب ومخابراتهم‪ ،‬وهو خبير في إستعمال هذا‬ ‫السالح لنيل مطالبه‪ ".‬سألتها عن هذا السالح الغريب الذي يملكه هذا الكتاتور‬ ‫الصغير فقالت" إنه سالح حبك له‪ ،‬وهو يعرف ذلك‪ ،‬ويعرف ما لهذا السالح من‬


‫‪84‬‬

‫اهمية وتأثير فيك‪ ،‬وهو ويتقن إستعماله‪ .‬لذا أنصحك باإلستماع إليه وإغالق‬ ‫الحاسوب وأن تهب وقتك له وليس للحاسوب‪ ،‬فمهما حاولت فإنه سينتصر‪.‬‬ ‫إعترفت بالهزيمة‪ ،‬فحبي لهذا الدكتاتور الصغير سالح حاد وقاتل ولن أستطيع‬ ‫مقاومته‪ .‬أغلقت الحاسوب‪ ،‬وضعته على الطاولة ونظرت إلى الدكتاتور الصغير‬ ‫وقلت‪ " :‬ها أنا قد أغلقته فماذا تريد مني؟ مسح بيده على الحاسوب وقال‪" :‬‬ ‫الحاسوب سينام وأنت ستحكي لي حكاية ‪ ،‬أو تضع لي فلم صور متحركة‪.‬‬ ‫أجلسته بجانبي‪ ،‬وضعت يدي خلف كتفه وضممته بلطف وبدأت أقص عليه حكاية‬ ‫قصصتها له عشرات المرات‪ ،‬وكان يسبقني بسرد الحوادث قبل أن أتفوه بها فلقد‬ ‫حفظها عن ظهر قلب‪ .‬أثناء حديثي شعرت بوخز في جانبي فتأوهت‪ .‬نظر حفيدي‬ ‫إلي بقلق وقال‪ " :‬سيدو ! عندك واوا ؟ أجبته ‪ " :‬يا حبيبي‪ ،‬سيدو عنده واوا‪،‬‬ ‫يؤلمه جميع جسده من راسه إلى قدميه‪ ،‬فجدك أصبح عجوزا يا حبيبي الصغير‪".‬‬ ‫فجأة قفز من جانبي وانفجر في البكاء راكضا إلى والدته في الغرفة الثانية‪ .‬جاءت‬ ‫به تسألني ما الذي حدث وما الذي أغضبه ودفعه للبكاء؟ لم أدر ما أقول لها‪ ،‬فلم‬ ‫أكن أعرف سبب بكائه وما الذي أغضبه‪ .‬كان يبكي ودموعه تنهمر من عينيه‬ ‫ومخاطه يسيل من أنفه يمسحه بكم قميصه‪ ،‬وكان يقول كالما متقطعا غير مفهوم‪.‬‬ ‫حاولت والدته تهدأته فلم تستطع‪ ،‬وفجأة نظرت إلي وقالت متعجبة‪ " :‬إنه يقول أنك‬ ‫ستموت‪،‬من أين له هذا الكالم‪ ،‬فهل قلت له أنت شيئا من هذا القبيل؟ قلت لها طبعا ال‬ ‫وتذكرت أنني قلت له أن عندي واوا في جميع أنحاء جسدي فظن أنني سأموت‪.‬‬ ‫جلست بجانبة وقلت له‪ " :‬جدو لن يموت‪ ،‬عنده شوية واوا ولكنه لن يموت‪ ".‬قال‬ ‫وما زال يبك‪ " :‬أنا ال أريدك أن تموت‪ ".‬أعدت عليه القول بأنني لن أموت حتى‬ ‫هدأ‪ ،‬فأجلسته على حجري وأخذت أقبل رأسه وفجأة نظر إلي وقال‪ " :‬عندما يموت‬ ‫اإلنسان يذهب للسماء‪ ،‬أليس كذلك سيدو؟" أجبته باإليجاب‪ ،‬فسألني‪ :‬وهل جدتي‬ ‫في السماء؟ فأجبته بنعم‪ ،‬فعاد وسألني‪ :‬إذا أنت مت فستلتقي بجدتي في السماء؟‬ ‫قلت له نعم‪ .‬صمت فترة ثم قال‪ :‬إذا أنت مت يا جدي وصعدت إلى السماء عند جدتي‬ ‫فهل يمكنني أن أذهب معك لكي أتعرف على جدتي ثم أعود إلى أبي وأمي فأنا لم‬ ‫ألتق بها؟ قلت له ال‪ ،‬ال يمكن‪ ،‬ألن الصغار الحلوين مثلك ممنوعون من الدخول إلى‬ ‫هناك قطعيا‪ ،‬وعليهم أن يبقوا مع أمهاتهم وآبائهم‪ ،‬حتى يكبروا ويتجوزا ويخلفوا‬ ‫أحفادا جميلين مثلك‪ ".‬همهم بكالم غير مفهوم ثم قال لي‪ " :‬سيدو‪ ،‬هل تراني جدتي‬ ‫من السماء؟ قلت له طبعا‪ .‬صمت لحظة وقال ضع لي موسيقى عربية‪ ،‬ال أريد بعد‬ ‫أي حدوته‪.‬‬ ‫كان منذ صغره يعشق الموسيقى العربية وخاصة الصوفية‪ ،‬وكان والديه يحضراه‬ ‫إلي عندما يعجزا عن تنويمه فأجلسه في حضني وأضع له الموسيقى الصوفية وكان‬ ‫سرعان ما يغمض عينيه وينام ويأتي والدية ألخذه إلى السرير‪ .‬لقد بقيت هذه العادة‬ ‫لديه إلى اليوم‪ ،‬وهو ال ينام إال إذا سمع الموسيقى الصوفية‪ ،‬وتظل الموسيقى إلى‬ ‫الصباح‪.‬‬ ‫وضعته في حجري ملقيا رأسه على يدي وأخذنا نسمع الموسيقى سويا‪ .‬بدأت عيناه‬ ‫تثقل ثم أغمضها‪ .‬جاءت والدته وحملته إلى سريره وقبل أن تخرج به من الغرفة‬


‫‪85‬‬

‫فتح عينيه وأشار بإصبعه إلي وقال‪ ":‬سيدو ! نو نو ال بتوب‪ ".‬فأجبته‪ " :‬نعم‬ ‫حبيبي‪ ،‬نونو البتوب‪".‬‬ ‫الحقته عيوني حتى خرجت به والدته من الغرفة وأغلقت خلفها الباب‪ .‬عم الصمت‬ ‫الغرفة إال من صوت خافت لموسيقى صوفية حزينة‪ .‬فكرت في اللحظة التي سيأتي‬ ‫فيها ليبحث عني فال يجدني فغمرني الحزن وبكيت‪.‬‬


‫‪86‬‬

‫‪.28‬‬

‫قتلوه ولم يمشوا في جنازته‬

‫كان لقاءنا األول في المستشفى حيث كنت أجري بعض الفحوصات الطبية وكان هو‬ ‫ضمن مجموعة تجري عليها شركة أدوية عالمية تجارب لدواء جديد‪ .‬لم أستطع أن‬ ‫أكتشف وليومنا هذا إسم ونوع ذلك الدواء او األمراض التي يعالجها‪ ،‬فلقد كانت‬ ‫التجارب سرية‪ .‬كانت الشركة تقوم بتجاربها على مجموعة من المتبرعين مقابل‬ ‫مبلغا من المال يدفع لهم بعد توقيعهم على وثيقة بأنهم يعوا خطورة التجارب وأن‬ ‫الشركة غير مسؤولة عن أي ضرر يحدث لهم بسببها‪ .‬كانوا فئران تجارب بامتياز‪.‬‬ ‫فاجأتني سعة ثقافته وولعه بالقراءة وكان يعرف تفاصيل قضية الصراع العربي‬ ‫اإلسرائيلي وقضايا المنطقة العربية األخرى وخاصة الحرب على العراق وخلفياتها‪.‬‬ ‫ثقافته الواسعة كانت عامال أساسيا في توثيق عرى الصداقة بيننا التي إستمرت بعد‬ ‫تركنا المستشفى‪.‬‬ ‫سألته عن سبب إشتراكه في هذه التجارب التي قد تسبب له الضرر فأخبرني أن‬ ‫الحاجة الماسة للنقود هي السبب الوحيد الذي دفعه إلى اإلشتراك‪ ،‬مع معرفته التامة‬ ‫بخطورتها‪ .‬كان قد تجاوز األربعين من عمره وبقي بسبب وضعه العائلي المعقد‬ ‫عازبا‪ .‬كان وحيد والديه‪ ،‬والدته أصيبت بمرض عضال أقعدها في الفراش أعواما‬ ‫طوال‪ ،‬وكان يقضي معظم وقته باإلعتناء بها مما إضطره إلى البحث عن وظيفة‬ ‫ليلية تسمح له في النهار باإلعتناء بوالدته المقعدة‪ ،‬ولم يجد إال وظيفة حارس ليلي‬ ‫ألحد المصانع مع أنه كان جامعيا ومؤهال لوظيفة قيادية في أي مؤسسة حكومية أو‬ ‫شركة خاصة‪.‬‬ ‫والده سخط على الدنيا بسبب مرض زوجته فأغرق همومة في شرب الخمرة التي‬ ‫كانت تحوله إلى إنسان عدواني يفجر سخطه وجام غضبه في كل ما حوله‪ ،‬يحطم‬ ‫كل ما تقع يديه عليه‪ ،‬إلى أن يخمد نار غضبه فينفجر في البكاء‪ ،‬حزنا وأسا على‬ ‫زوجته وعلى نفسه‪ .‬كان يبكي حتى تنفذ قواه فينام حيث ماكان‪ .‬كان سكره سببا في‬ ‫طرده من عمله وفي نهاية المطاف أحيل على التقاعد المبكر بتقاعد بسيط بالكاد‬ ‫يغطي ثمن الخمرة التي يحتسيها يوميا‪.‬‬ ‫كان صديقي محاصرا بين والدته المريضة المقعدة ووالده السكير‪ ،‬يعتني باإلثنين‬ ‫وال يجد من يعتني به‪ .‬كان راتبه يكاد ال يكفي للمصاريف المعيشية األساسية من‬ ‫ثمن غاز وكهرباء وماء وغذاء‪ ،‬هذا إلى جانب إحتياجات والدته الطبية التي ال‬ ‫يغطيها التأمين الصحي‪ ،‬فتكاثرت ديونه فراح يبحث عن أي مورد إضافي يسدد‬ ‫العجز في مدخوله المالي‪.‬‬ ‫ماتت والدته بعد أن تعطلت كل أجهزة جسمها وبدأ جسدها يتقرح بشكل مخيف مما‬ ‫سبب لها اآلالم المبرحة وأصبحت كل محاوالت إبنها للتخفيف عنها غير مجدية‬ ‫وكان في لحظات ضعف يبكي و يتمنى أن تموت والدته لكي ترتاح وتريح‪ .‬وأخيرا‬ ‫ماتت وبكاها بحرقة‪ ،‬وكان صوت في داخله يهتف به‪ :‬ها أنت قد إرتحت أخيرا ولقد‬ ‫آن األوان أن تعتني بنفسك وتعيش"‪ .‬دفنها ووالده وبعض األقرباء والمعارف‬ ‫بصمت‪ .‬وقف والده فوق القبر صامتا وبقي صامتا عندما عادوا إلى البيت وظل‬


‫‪87‬‬

‫صمته مستمرا‪ .‬كان يحتسي الخمر أو يذهب إلى الخمارة ويعود مخمورا فيلقي‬ ‫بجسده على الفراش وينام ويعلو شخيره الذي يمأل البيت‪.‬‬ ‫عاد صديقي في صباح أحد األيام من عمله الليلي إلى البيت ليجد فيه إمرأة غريبة‬ ‫قدمها والده له على أنها زوجته الجديدة‪ .‬لقد عرف صديقي منذ الوهلة األولى أن‬ ‫هذه المرأة هي جزء من مجموعة السكر التي ينتمي والده إليها وال بد أنه إلتقى بها‬ ‫وتوطدت عالقتهما في الخمارة ومن خالل كؤوس الخمرة المتبادله‪ .‬ولم يطل الوقت‬ ‫حتى تأكد حدسه‪ ،‬فبدال من إعتناءه بسكير واحد كان عليه أن يعتني بسكيرين‪،‬‬ ‫متقاعدين‪ ،‬يصرفان تقاعدهما على الخمرة وينتظران منه إعالتهما‪ .‬كانا بتأثير‬ ‫الخمرة كثيرا ما يتشاجرا فيتبادالن الصفعات والركالت والشتائم ويعمالن تحطيما ما‬ ‫تبقى من أثاث وأواني في البيت‪.‬‬ ‫لم يمض شهر على دخول الزوجة الجديدة إلى البيت حتى إستولت عليه وأصبحت‬ ‫اآلمرة الناهية فيه وكانت في فترة صحوها تصب حقدها على صديقي لتجعل حياته‬ ‫ال تطاق وتجبره أن يخلي البيت لها‪ .‬كانت الحياة بالنسبة لصديقي فعال ال تطاق ولم‬ ‫يكن في يده وسيلة تخرجه من هذا المأزق الذي وجد نفسه فيه ولم يكن لدية مكان‬ ‫يأوى إليه‪ .‬لقد ظلمته الحياة وما تزال مستمرة في ظلمه‪.‬‬ ‫كانت الحياة تخبئ له مفاجئتين غير سارتين‪ ،‬األولى موت والده‪ .‬وجدوه في صباح‬ ‫أحد األيام ميتا في فراشه‪ .‬كان من المفروض أن يخفف موت والده من سطوة الحياة‬ ‫عليه وقسوتها ولكنه إكتشف أن والده في لحظة سكر قد كتب البيت بإسم زوجته‬ ‫الجديدة‪ .‬لم تنتظر هذه دفن زوجها حتى جاءت لصديقي مشهرة في وجهه وثيقة‬ ‫ملكية البيت وتطلب منه الرحيل‪ .‬لقد هددته بإحالة األمر إلى الشرطة إن لم يرحل من‬ ‫البيت طواعيا‪ .‬لم تنفع محاوالته في نقض الملكية فلقد كانت موثقة عند كاتب العدل‪.‬‬ ‫المفاجأة الثانية أن األطباء إكتشفوا أنه مصاب بتشمع في الكبد‪ .‬لم يحتس الخمر في‬ ‫حياته‪ ،‬فتجربته مع والده السكير أبعدته عن الكحول‪ ،‬وها هو اآلن مصاب بمرض‪،‬‬ ‫غالبا ما يصيب المدمنين على الخمرة‪ .‬لقد أكد له األطباء أن مرضه هو نتيجة‬ ‫التأثيرات الجانبية للدواء المجهول التي قامت شركة األدوية بإجراء تجاربها عليه‪.‬‬ ‫لم يكن هناك من سبب آخر‪ .‬لقد تأكد هذا القول حين أصيب بنفس المرض إثنان‬ ‫آخرآن من المجموعة التي جرت عليها نفس التجارب‪ .‬ولكن لم يكن في يده أو في‬ ‫يدهم أي حيلة فلم يكن بإستطاعتهم مقاضاة شركة الدواء‪ ،‬فلقد وقعوا جميعا وثيقة‬ ‫إخالء طرف شركة األدوية من أي مسؤولية‪.‬‬ ‫بين ليلة وضحاها أصبح صديقي مشردا مفلسا ومصابا بمرض التشمع الكبدي‪.‬‬ ‫كنا نلتقي كل أسبوع في مقهى صغير‪ ،‬نتحدث عن الفلسفة واألدب والسياسة‪ .‬كنت‬ ‫ملما بتفاصيل حياته ولقد حاولت تقديم المساعدة المالية ولكنه رفض بغضب خلت‬ ‫أنه سيتركني بعدها ويقطع عالقته معي‪ .‬ولكنني لم أعلم بطرده من البيت وبمرضه‬ ‫الجديد‪ ،‬لم يخبرني‪.‬‬ ‫فجأة إنقطعت إتصاالته بي وحاولت اإلتصال به فلم أفلح‪ .‬سافرت خارج البلد وعدت‬ ‫بعد أسبوعين ولم أسمع من صديقي أو عنه أي خبر وكل محاوالتي لإلتصال به‬ ‫باءت بالفشل‪ ،‬فقررت زيارته في البيت‪ .‬طرقت باب بيته فخرجت لي إمرأة تفوح‬ ‫منها رائحة الخمرة‪ .‬سألتها عن صديقي فأخبرتني أنه لم يعد يسكن هناك وأن البيت‬


‫‪88‬‬

‫أصبح ملكها ثم أغلقت الباب في وجهي‪ .‬وقفت حائرا مصدوما ولم أدر ما أفعل‪ .‬فتح‬ ‫باب الجيران وأطلت منه إمرأة في مقتبل العمر وأشارت إلي باإلقتراب منها ففعلت‪.‬‬ ‫حدثتني بتفاصيل ما حدث لصديقي بعد وفاة والده‪ .‬سألتها إن تعرف أين أجده‪،‬‬ ‫أجابت بحزن‪ ":‬ستجده مع المشردين‪ ،‬إبحث عنه هناك‪".‬‬ ‫إتصلت بصديق لي يعمل مسؤوال في البلدية وأخبرته بالتفاصيل وطلبت منه أن‬ ‫يساعدني في البحث عن صديقي فوافق‪ .‬بصفة موقعه في البلدية فهو يعرف مواقع‬ ‫المشردين وأماكن تجمعاتهم ‪ .‬بحثنا في جميع األماكن التي يتجمع فيها المشردون‪،‬‬ ‫في أنفاق القطارات القديمة‪ ،‬في البيوت المهجورة وحتى في بيوت الكنيسة التي‬ ‫تقدم للمشردين الحساء الساخن‪ ،‬فلم نجده ولم يعرف أحد عن مكانه‪.‬‬ ‫كان الجو شديد البرودة وكان الصقيع يغطي ورق األشجار فباتت كشجرة عيد‬ ‫الميالد‪ .‬كان منظر المشردين بمالبسهم الرثة يجلسون أمام نار أوقدوها من مخلفات‬ ‫القمامة ورائحتها النتنة تسد األنوف يثير في المرء الغثيان‪ .‬كنت أتسائل‪ ،‬هل نحن‬ ‫فعال في أوروبا أم في الصومال؟ أهذه هي نتائج الرأسمالية الديموقراطية وهل هكذا‬ ‫يقيم فيها اإلنسان‪.‬‬ ‫شعرت أن صديقي موظف البلدية قد ضاق ذرعا بهذا البحث وقال لي بأن ننهي‬ ‫البحث ونتركه ليوم آخر‪ .‬في تلك اللحظة تقدمت منا إمرأة في منتصف العمر عليها‬ ‫مسحة من جمال مدفون تحت تجاعيد سنين من التشرد وقالت‪ ":‬ستجده تحت‬ ‫الجسر القديم‪ ".‬كنت أعرف أن الجسر القديم معطل وتنوي الحكومة هدمة ويجتمع‬ ‫تحت الجسر بعض المشردين ولكن في الصيف وليس في مثل هذا الجو القارص‪.‬‬ ‫ذهبنا وبحثنا عنه‪ .‬وجدناه تحت الجسر ملتف في معطف قديم طرفه مغمور في مياه‬ ‫النهر التي تجمدت فوقه‪ .‬كان علينا كسر الجليد لتحرير معطفه‪ .‬كان في حالة غيبوبة‬ ‫يكاد يتجمد من البرد‪ .‬إتصل صديقي موظف البلدية بسيارة إسعاف‪ ،‬جاءت وحملته‬ ‫معها إلى المستشفى‪ .‬ذهبنا خلفها فلقد كان من الضروري أن يظهر صديقي موظف‬ ‫البلدية إهتمامه بالمشرد حتى يهتم موظفوا المستشفى به‪ .‬بدون ذلك سيجري‬ ‫إهماله‪ .‬رجعنا إلى بيوتنا بعد أن تأكدنا أنه في أيد أمينة‪.‬‬ ‫في الصباح الباكر إتصل بي موظف البلدية ليخبرني أن صديقي قد مات‪ .‬جاؤا‬ ‫ليكشفوا عليه صباحا فوجدوه ميتا‪ .‬أخبرني أنه يجب إطالع األهل من أجل أن‬ ‫يستلموا جثته‪ .‬أخبرته أنه ال يوجد له أي أهل وأن ما من أحد غيري سيهتم بجثته‪.‬‬ ‫إنتظر المستشفى ثالثة أيام وقرروا بعدها تسليم الجثة لشركة دفن تعاقدت معها‬ ‫ودفعت أتعابها مقدما‪.‬‬ ‫خرجنا في جنازته ثالثة‪ ،‬صديقي موظف البلدية وزوجته وأنا‪ .‬بعد إنتهاء مراسم‬ ‫الدفن وضعت على قبره إكليال من الزهور كتبت عليه‪ " :‬يا صديقي! قتلوك وما‬ ‫مشوا في جنازتك‪".‬‬


‫‪89‬‬

‫‪.29‬‬

‫العم حسنين‪ :‬بين الحكمة والقمامة‬

‫ال أحد يعرف كم عمر العم حسنين وال يمكن ألحد‪ ،‬حتى‪ ،‬أن يقدر ذلك تقديرا‪.‬‬ ‫تستطيع أن تقول أن عمره مئة عام أو خمسون وقد يكون ذالك أو ذاك أو غيره‪.‬‬ ‫يمكنك أن تجد على تضاريس وجهه خارطة مصر بكاملها‪ ،‬بسهولها وهضابها‬ ‫وجبالها‪ ،‬حتى األهرام يمكنك أن تجدها مرسومة على تضاريس وجهه‪ .‬إذا أردت أن‬ ‫تترك لمخيلتك العنان وتبحث في ثناياها عن صورة تمثل البؤس والفقر فال تفعل‪،‬‬ ‫فالعم حسنين يريحك من هذا الجهد ويكفي أن تنظر إليه وتتمعن في ثنايا وخبايا‬ ‫وجهه حتى ترى خير صورة تجسد البؤس والفقر بكل معانيهما‪ .‬ولكن البؤس‬ ‫والفقر الظاهرين على وجهه وجسده النحيل ومالبسه الكالحة اللون والمرقعة‬ ‫وعمامته التي إختفى لونها والتي تخفي تحتها خصالت الشعر الباقية على رأسه‪ ،‬لم‬ ‫تستطع أن تقتل صفة اإلنسانية فيه‪ ،‬فهو دائم اإلبتسام‪ ،‬يحي المارة مبتسما‪ ،‬كاشفا‬ ‫عن بقايا أسنان أصبح لونها كلون رمال مصر الصحراوية‪.‬‬ ‫العم حسنين أصبح معلما من معالم شارع يوسف عفيفي في غردقة مصر‪ .‬يقف على‬ ‫ناصية الشارع وأمامة سطل كبير من التنك موضوع على عربة ذات العجل الواحد‪،‬‬ ‫زودته بها بلدية الغردقة‪ .‬العم حسنين يسميه أصحاب الحوانيت في ذلك الشارع‪" ،‬‬ ‫بتاع الزبالة"‪ ،‬فهو يقوم بالتقاط األوراق والعلب الفارغة وبعض الفضالت التي‬ ‫يتركها السواح أو اصحاب المحال التجارية ويضعها في السطل ثم يقف أمام عربته‬ ‫وينتظر واقفا حتى حلول الظالم‪ ،‬فيركب باص العمال الذي ينقله إلى بيته في أحد‬ ‫األحياء الفقيرة في الغردقة القديمة أو الضهار‪ .‬بيته يتكون من غرفة صغيرة من‬ ‫الصفيح يشاركه العيش فيها بعض زمالءه من أصحاب مهنته‪ ،‬ال يوجد فيه خزانة‬ ‫أو طاولة أو كراسي وإنما فرش على األرض كفرش السجن‪.‬‬ ‫في كل إجازة صيف أقضيها في الغردقة أذهب للبحث عن العم حسنين‪ ،‬فأجده واقفا‬ ‫في نفس المكان أمام عربته القديمة ذات السطل التنكي‪ ،‬كتمثال أحد خدم القادة‬ ‫المصريين من زمن الفراعنة‪ .‬يالقيني بإبتسامة وترحيب كأنما كان في إتظاري‬ ‫قائال‪ " :‬هالمرة طولت علينا الغيبة‪".‬‬ ‫بعد العشاء في الفندق كانت المضيفة الواقفة أمام باب المطعم تقدم لنا سلة من‬ ‫حبات الملبس كضيافة‪ ،‬كنت آخذ منها حبتين‪ ،‬أعطيها للعم حسنين حين كنت أمر‬ ‫عليه في موقعه المعهود‪ ،‬يضع حبة في فمه ويخبئ األخرى في جيبه قائال‪ "،‬دي‬ ‫لصاحبي اللي ساكن معايا"‪ .‬كان يفرح بحبات الملبس كفرح طفل صغير‪ ،‬وكانت‬ ‫إبتسامته الفرحة تكشف عن بقايا األسنان التي بقيت في فمه‪ ،‬تكاد هي األخرى أن‬ ‫تسقط‪ ،‬وعن لثه مزرقة اللون من قلة اإلعتناء وداللة على فقر الدم‪ .‬كنت أضع في‬ ‫يده بعض النقود فيأخذها بصمت ويضعها في جيب عبه ويشكرني ولكنه ال يظهر‬ ‫فرحا كفرحه بحبات الملبس ‪.‬‬


‫‪90‬‬

‫ألربع سنين متتابعات‪ ،‬أصبحت زيارتي للعم حسنين كل مساء جزء من برنامجي‬ ‫اليومي طيلة إقامتي في الغردقة‪ .‬في كل مرة كنت أقدم له حبتي الملبس وبعض‬ ‫النقود‪ ،‬وفي كل مرة تكون فرحته بحبات الملبس أكبر بكثير من فرحته بالنقود التي‬ ‫كنت أضعها في يده ولم تكن قليلة وخاصة بالنسبة لوضعه‪ .‬في كل مرة كنت أتسائل‪،‬‬ ‫لماذا يا ترى تكون فرحته بحبات الملبس واضحة للعيان‪ ،‬تظهر على جميع أسارير‬ ‫وجهه‪ ،‬أما النقود فيأخذها بصمت ويهمس‪ ،‬كأنما خجال‪ ،‬بكلمة الشكر‪ ،‬وكأنما قد‬ ‫أخذها على مضض‪ .‬كنت أتسائل ولكنني لم أسأله عن السبب حتى ال يفهم عكس ما‬ ‫أقصد‪.‬‬ ‫في مساء يوم من األيام المعتادة في رحلتي األخيرة للغردقة‪ ،‬حيث يتكرر المشهد‬ ‫مع العم حسنين‪ ،‬فرحة عارمة بحبات الملبس وصمت عند إستقبال النقود‪ ،‬لم‬ ‫أستطع منع نفسي من سؤاله‪ ،‬فسألته‪ ":‬أريد أن أسألك سؤاال يا عم حسنين‬ ‫وأرجوك أن ال تفهمني غلط‪ .‬لماذا تستقبل حبات الملبس بسرور وفرح أما النقود‬ ‫فتستقبلها بفتور مع أني أعرف إنك في حاجة ماسة لها ؟" نظر إلي وابتسم كاشفا‬ ‫عن تلك األسنان التي على وشك أن تسقط وتلحق بزميالتها وقال‪ ":‬عداك العيب يا‬ ‫دكتور‪ ،‬الملبس ضيافة‪ ،‬والضيافة محبة واحترام‪ ،‬أما الفلوس فهي حسنة‪ ،‬تدل على‬ ‫فقري وحاجتي وبؤسي‪ .‬أنا محتاج ليها ولكنك لما تعطيني إياها تكشف عن عورتي‪،‬‬ ‫يعني فقري وحالي المعتر فيصيبني الغم ‪".‬‬ ‫نظرت إليه وقلت‪" :‬هللا‪ ،‬أنت طلعت حكيم و فيلسوف يا عم حسنين"‪ ،‬فرد قائال‪ ":‬ال‬ ‫فيلسوف وال حاجة‪ ،‬دي الحياة علمتنا كده‪ ".‬ثم صمت لحظات وأضاف‪ " :‬ما‬ ‫تدكدرش يا دكتور‪ ،‬إللى متلي متايل‪ ،‬دا إحنا ماليين‪".‬‬ ‫تركته وانصرفت وأنا أتسائل‪ :‬لو عرف اإلنسان كم هو قليل ما يكفي لجلب السرور‬ ‫لالخرين‪ ،‬وتسائلت أيضا‪ " :‬كم من الدرر مدفونة في بالدنا تحت أكوام القمامة‪،‬‬ ‫ندوس عليها ونحن ال نعلم وال نحس بها؟! تذكرت ما قاله العم حسنين‪ "،‬دول‬ ‫بالماليين‪".‬‬


‫‪91‬‬

‫‪.30‬‬

‫ما بين ساقيها وعقلها‬

‫إعتلى صوت الصفارة معلنة اإلذن للقطار الدولي بالتحرك وبدأ القطار يتحرك‬ ‫كاألفعى السوداء مغادرا محطة براغ‪ .‬كنت في المقطورة لوحدي اهم بفتح حقيبتي‬ ‫اليدوية وإخراج كتاب للقراءة عندما فتح باب المقطورة ورأيتها واقفة في وسط باب‬ ‫المقطورة‪ ،‬موشحة بالوهج الشمسي المسلط عليها من النافذة المقابلة فبدت وكأنها‬ ‫مالك قادمة من الغيوم السماوية‪ .‬لم أدر كم كان مدة وقوفها ولكن عيوني إستطاعت‬ ‫في لحظة خاطفة من ذلك الزمن المجهول أن تقوم بالمسح التصويري لجسدها‬ ‫الفاره المتناسق من رأسها إلى أخمص قدميها وشعرت بأن نظراتي قد إخترقتها‬ ‫والتصقت بقوامها حتى أنني لم أسمع أي كلمة قالتها ولكنني فهمت انها تسألني إن‬ ‫كنت أسمح لها بالجلوس‪ .‬خرجت من فمي حشرجة غير مفهومة دعمتها بإشارة من‬ ‫يدي تعني الف نعم‪.‬‬ ‫شكرتني واستدارت لتضع حقيبتها الصغيرة على الرف فلحقتها نظراتي كما تالحق‬ ‫نظرات الناقد صورة زيتية لفنان مشهور باحثا عن مأخذ فال يجد إال عمال فنيا متقنا‬ ‫خال من أي عيب‪ .‬جلست على المقعد المقابل واضعة ساقا على ساق فإنحسر‬ ‫الفستان قليال فوق ركبتها كاشفا مساحة قليلة من ساقها فبدت ساقاها كشالل من‬ ‫عصير الحسن المفترس‪.‬‬ ‫تسمرت نظراتي على ساقيها وكأنما دقتا بمسامير فوالذية وأخذت اعاتب نفسي‪" :‬‬ ‫إحترم شيبتك يا رجل!" ولكني لم أستطع أن أقلع نظراتي بالتخلي عن تلك الساقين‬ ‫المتحديتين‪ .‬إلتقت نظراتنا فابتسمت كأنها تقول‪ ،‬نعم أنا واعية لنظراتك‪ ،‬فانطلقت‬ ‫من فمي دون وعي مني كلمات "أعذريني أنا آسف‪ ،‬لم أستطع أن أمنع نفسي"‪.‬‬ ‫ضحكت وقالت‪ ":‬ال حاجة لإلعتذار فنظراتك ال تؤذيني‪".‬‬ ‫شعرت باإلرتباك وقلت لها‪ :‬أتعنين أنني رجل عجوز ليس مني أي خطر؟" ضحكت‬ ‫مرة أخرى وقالت‪ " :‬ال‪ ،‬لم أعن ذلك‪ ،‬ولكنني كإمرأة إعتدت أن أفرق بين النظرات‪،‬‬ ‫فبعضها يعبر عن اإلعجاب وهي ليست خطيرة وأخرى تدل على النهم الجنسي وهذه‬ ‫أخافها‪ ".‬ثم أضافت‪ " :‬ليس للعمر هنا أي دور‪".‬‬ ‫عم الصمت المقطورة وأخذت أتصفح أوراق كتابي عله يلهيني ويخفي إرتباكي‬ ‫ولكنني سمعتها توجه إلي الكالم وتقول‪ ":‬أرجو المعذرة‪ ،‬فمن أي بلد أنت؟" أجبتها‬ ‫سائال وهل هو ظاهر على وجهي انني غريب؟" فأجابت أنت تتكلم التشيكية جيدا‬ ‫ولكن هناك في كالمك لكنة غريبة‪ ،‬هذا باإلضافة إلى أن شكلك يدل على أنك من بلد‬ ‫ما من الشرق أو من جنوب أوروبا‪ ".‬قلت لها أنا عربي من فلسطين‪.‬‬ ‫نظرت إلي لحظة كأنما هي تدرس مالمحي ثم قالت‪ " :‬لقد كان معي في الجامعة‬ ‫بعض الطالب العرب ومنهم فلسطينيون ولكنني في الواقع لم أعرفهم ألنه لم يكن‬ ‫بيننا أي تواصل‪ ".‬قلت لها هذا من سوء حظهم‪ ".‬ثم سألتها إن كانت تعرف شيئا‬ ‫عن فلسطين وقضيتها فأجابت بأنها تعرف ما تسمعه من األخبار وأنها تعتقد أن‬ ‫المشكلة طالت كثيرا حتى ما عادت أخبارها تثير الناس‪ ".‬ثم أضافت قائلة‪ ":‬في‬ ‫الحقيقة أنا مهتمة باإلسالم وأحاول في أوقات فراغي وعندما تسنح لي الفرصة أن‬ ‫أقرأ ما يكتب عن اإلسالم كدين وعقيدة‪ ".‬صمتت لحظات ثم سألتني إن كنت مسلما‬


‫‪92‬‬

‫فأجبتها باإليجاب وأضفت سائال‪ " :‬لماذا يهمها اإلسالم؟ فأجابت‪ " :‬ألنه أصبح‬ ‫قريبا منا في أوروبا وأريد أن أفهم هذا الجديد‪ ،‬القادم إلينا من الشرق‪ ،‬هل هو‬ ‫صديق أم عدو؟ أحاول أن أتفهم اإلسالم على حقيقته‪ ،‬وقلما أجد كتبا باللغة التشيكية‬ ‫أو السلوفاكية عن حقيقة اإلسالم وأخبار الصحف واإلعالم ال تهمني فهم يبحثون‬ ‫عن األخبار المثيرة كأخبار القاعدة وإبن الدن والمرأة خلف النقاب والزواج من‬ ‫أربعة وما إلى ذلك‪ ،‬ولكنني قرأت عن اإلسالم الصوفي وأعجبني ما قرأت‪".‬‬ ‫لم أعد أنظر إلى ساقيها وتمعنت النظر في وجهها الجميل وعينيها الواسعتين وبانت‬ ‫لي أكثر جماال‪ ،‬ثم فتحت حقيبتي الصغيرة وأخرجت كتاب صدر لي قبل فترة باللغة‬ ‫التشيكية تحت عنوان " مأزق الخطاب الديني‪ -‬اإلسالم ضد المسيحية‪ ،‬صراع ديني‬ ‫أم صراع مصالح" وقلت لها‪ " :‬أود أن أهديك هذا الكتاب وأظن أنه سيعجبك"‪.‬‬ ‫أخذت الكتاب من يدي وقلبت صفحاته ثم نظرت إلي وقالت‪ " :‬هل أنت مؤلف‬ ‫الكتاب؟ هذا جميل منك وسأقبل الهدية بسرور وأكون سعيدة إن كتبت لي بعض‬ ‫كلمات إهداء‪ ".‬أخرجت القلم من جيبي ومددت يدي وأخذت من يدها الكتاب وفتحت‬ ‫الصفحة األولى ونظرت إليها وانتظرت‪ ".‬فهمت معنى إنتظاري فأخرجت من حقيبة‬ ‫يدها كرتا صغيرا وقدمته لي‪.‬‬ ‫قرأت اإلسم والمعلومات المسطورة على الكرت فإنبهرت‪ -‬الدكتورة‪ ،......‬دكتوراة‬ ‫في الفيزياء الكمية‪ ،‬دكتوراة في الفيزياء الذرية‪ ،‬مديرة قسم الطب الذري في‬ ‫أكاديمية العلوم السلوفاكية‪ ،‬ممثلة األكاديمية السلوفاكية للبحوث الطبية الذرية في‬ ‫اإلتحاد األوروبي‪.‬‬ ‫كتبت بعض كلمات اإلهداء باللغة السلوفاكية وأضفت إليها بعض الكلمات بالعربية‬ ‫ووقعت إسمي باللغتين وقدمت لها الكتاب‪ .‬أخذته مني وشكرتني ثم سألتني عن‬ ‫معنى الكلمات بالعربية فقلت لها‪ " :‬معناها أنك جميلة العقل والروح والجسد‪ ،‬جمال‬ ‫عقلك وروحك ألهياني عن جمال جسدك‪ " .‬ضحكت وقالت‪ :‬شكرا على الكلمات‬ ‫وشكرا على الكتاب‪ ،‬سأقرأه في عطلة األسبوع‪.‬‬ ‫تحدثنا طويال‪ ،‬عن فلسطين وعن العرب واإلسالم وعن الفيزيا الكمية والفيزياء‬ ‫النووية ومجاالتها الطبية‪ .‬أخبرتني أنها كانت في بروسل‪ ،‬عاصمة اإلتحاد‬ ‫األوروبي‪ ،‬لحضور مؤتمر يتعلق بتطبيق الفيزياء النووية في الطب‪ .‬تحدثنا وتحدثنا‬ ‫ولم أدر كم مر علينا من الوقت إلى أن سمعت صوت مذياع القطار يعلن عن دخولنا‬ ‫محطة براتسالفا‪.‬‬ ‫قمنا‪ ،‬ساعدتها في إنزال حقيبتها عن الرف فشكرتني ثم قالت‪ ":‬سيارتي في موقف‬ ‫المحطة‪ ،‬بإمكاني أن أوصلك حيث تريد‪ ".‬شكرتها وقلت لها أن إبني سيأتي‬ ‫لمقابلتي‪ .‬غادرنا القطار وتوجهنا نحو قاعة الخروج‪ .‬كان إبني واقفا في وسط‬ ‫القاعة في إنتظاري‪ ،‬قدمته لها قائال ‪ :‬هذا إبني الصغير ويحمل نفس إسمي‪.‬‬ ‫صافحته وقدمت نفسها ثم صافحتني مودعة فقبلت يدها وأعدتها لها مكرها‪ .‬تركتنا‬ ‫وتوجهت نحو موقف السيارات ونحن ننظر إليها نودعهها بعيون اإلعجاب‪ .‬نظر‬ ‫إبني إلي وقال‪ " :‬جميلة جدا" فقلت له‪ :‬لو تر عقلها يا بني فهو أروع و أجمل‪.‬‬


‫‪93‬‬

‫‪.31‬‬

‫الضفضع‬

‫قبضت بكلتي يديها على فنجان القهوة وحاولت أن ترفعه إلى شفتيها ولكن القهوة‬ ‫إندلقت من الفنجان وإنسكبت على يديها وسالت على الطاولة ومنها على أرض‬ ‫المقهى‪ .‬تناولت منديال من الورق ومسحت يديها ثم مسحت الطاولة ونظرت إلى‬ ‫يديها وهما ترتجفان وقالت‪ :‬أنظر إلي ‪ ،‬إنني في حالة مزرية وأنظر إلى يدي كيف‬ ‫ترتجفان حتى أنني ال أستطيع أن أمسك فنجان القهوة بدون أن أدلق القهوة على‬ ‫نفسي‪ ".‬أمسكت بيديها وطلبت منها أن تهدأ فاألمر ليس بهذه الخطورة ولكل‬ ‫مشكلة حل‪.‬‬ ‫نظرت إلي مطوال ثم قالت ‪ :‬ألناس العاديون يشربون في الصباح القهوة أو الشاي‬ ‫أو الحليب أما والدي فحالما يفتح عينيه يمسك قارورة الكحول ويدلق نصفها في‬ ‫حلقه ‪ ،‬ثم يلبس ويذهب إلى الخمارة ويظل هناك إلى أن تغلق الخمارة في المساء‪.‬‬ ‫هو أول من يدخلها وهو آخر من يغادرها‪ .‬كم من مرة إتصلوا بي ليخبروني أنه‬ ‫ملقى على الرصيف خارج الخمارة‪ ،‬غارق في قيئه وهو في شبه غيبوبة‪ .‬وفي كل‬ ‫مرة أحمله إلى السيارة وآخذه للبيت وأقوم بغسله وتغيير مالبسه وأضعه في‬ ‫السرير ليقوم في الصباح ويعيد الكرة ويسرع إلى الخمارة من جديد ‪.‬‬ ‫قلت لها‪ :‬ألم تحاولوا وضعه في بيت المدمنين؟ ضحكت وقالت ‪ :‬لقد وضعناه ولقد‬ ‫طردوه من هناك مرتين‪ ،‬في المرة األخيرة أغرى الممرضة أن تشتري له الكحول‬ ‫وزاد الطين بلة أن إدارة المستشفى ضبطته وهو في حالة سكر مع الممرضة‬ ‫فطردتهما كليهما ووضعته على الالئحة السوداء‪.‬‬ ‫ضحكت‪ ،‬حين تصورته يسكر مع الممرضة التي من المفروض أن تقوم بمراقبته‬ ‫ومنع وصول الكحول إليه‪ .‬نظرت إلي وقالت ‪ :‬أنت تضحك‪ ،‬أما أنا فأبكي دما ‪.‬‬ ‫إعتذرت لها وسألتها عن رأي زوجها‪ ،‬فأجابت أنه محتار مثلها وال يدري كيف‬ ‫يساعدها‪.‬‬ ‫خيم الصمت فوق رؤوسنا برهة من الزمن‪ ،‬طلبت لها فنجانا آخرا من القهوة‬ ‫وانتظرت منها أن تعود لتكملة الحديث ‪ .‬قالت بعد فترة من الصمت ‪ :‬أتدري ماذا‬ ‫حصل قبل شهرين‪ .‬قلت لها ‪ :‬سمعت الخبر من زوجك ولكنه لم يخبرني بالتفاصيل ‪.‬‬ ‫نظرت إلي وهزت رأسها ثم بدأت بالحديث‪ ":‬قبل شهرين إتصل بي صاحب الخمارة‬ ‫ليخبرني أن والدي قد أغمي عليه ولقد طلبوا له اإلسعاف وهو اآلن في المستشفى‪.‬‬ ‫ركبت سيارتي وأسرعت إلى المستشفى ولقد قابلت مدير القسم وهو كما تعرف‬ ‫صديق مشترك لنا‪ .‬أخبرني أن والدي في غيبوبة تامة وأن كل أعضاء جسده ميته‬ ‫أو شبه ميته وأنهم يتوقعوا أن يموت خالل الساعات المقبلة‪ .‬لفد أكد لي أن والدي‬ ‫سيموت خالل ساعات وأنه لن يعش حتى الصباح وأنه علي أن أقوم بما يلزم من‬ ‫أجل عملية الدفن‪.‬‬ ‫دخلت الغرفة التي كان والدي مستلقيا فيها وعندما نظرت إليه وجدته جثة هامدة بال‬ ‫حراك أو نفس‪ .‬جمعت مالبسه التي كان يفوح منها الكحول ووضعتها في كيس من‬


‫‪94‬‬

‫البالستيك‪ ،‬ووجدت على الطاولة طقم أسنانه فأخذته ووضعته في الكيس وألقيت‬ ‫بالكيس في سلة القمامة وخرجت‪.‬‬ ‫تابعت حديثها قائلة ‪ " :‬ركبت سيارتي وذهبت إلى البيت ‪ .‬شعرت بتأنيب الضمير‬ ‫لعدم حزني على وفاة والدي وحتى لشعوري ببعض الراحة كوني سأتخلص من‬ ‫مشاكله‪ .‬نمت تلك الليلة واألحالم نراودني وتقلق منامي فقمت في الصبح متعبة من‬ ‫قلة النوم ‪ .‬حضرت ما يلزم من المالبس من أجل الدفن ومنها حسب عاداتنا‬ ‫وتقاليدنا بدلة سوداء وقميص أبيض ورطة عنق سوداء وحذاء أسود تلبس للميت‬ ‫ويدفن فيها‪ .‬ركبت سيارتي وتوجهت نحو المستشفى‪".‬‬ ‫أحضرت الخادمة لها فنجانا جديدا من القهوة ‪ ،‬وضعته أمامها على الطاولة وتركتنا‬ ‫وغادرت‪ .‬أخذت الفنجان ورفعته إلى شفتيها ويدها تهتز حتى كادت أن تدلق القهوة‬ ‫من جديد‪ .‬إستطاعت أخذ رشفة صغيرة منه وأعادته إلى الطاولة بسرعة‪ .‬إنتظرت‬ ‫بفارغ الصبر أن تكمل حديثها ‪ ،‬قالت ‪ :‬دخلت المستشفى فكان أن إلتقيت في معبر‬ ‫القسم بصديقنا المدير‪ .‬نظرت إليه مستفسرة ولكنه تقدم مني وأخذ البدلة السوداء‬ ‫مني ووضعها على ذراعه ثم أمسك بيدي وقادني وأنا أسير معه بصمت‪ ،‬حتى جئنا‬ ‫إلى الغرفة التي يرقد فيها والدي ‪ .‬فتح الباب وإذا بي أتسمر مصعوقة على عتبة‬ ‫الغرفة‪ .‬كان والدي جالسا على حافة السرير‪ ،‬شعره منفوش‪ ،‬عيونه جاحظة ‪ ،‬جلد‬ ‫وجنتيه ملتصق بفكية وشفتاه لعدم وجود األسنان داخلة في فمه‪ ،‬كان مثل الضفدع‬ ‫يخرج أصواتا كأصوات الضفادع لم أفهم منها شيئا‪ .‬سألت الطبيب متعجبة ‪ :‬ما الذي‬ ‫حدث؟ قال ‪ :‬ال ندري‪ ،‬إنه يخالف كل قواعد الطب المعروفة‪ ،‬لعله ذهب إلى السماء‬ ‫فأعاده أهلها لريحة الخمر التي تفوح من فمه ومن جسده ‪.‬‬ ‫نظرت إلي وابتسمت ثم تابعت قائلة ‪:‬كان عليك أن تراني وأنا أبحث في سلة القمامة‬ ‫عن طقم أسنانه الذي ألقيته فيها باألمس حتى وجدته فغسلته ووضعته في فمه‬ ‫وكان أول كلمة نطقها أنه يريد كأسا من الفودكا‪ .‬عندها فهمت ما كان يقوله بلغة‬ ‫الضفادع‪ ،‬لقد كان يطلب فودكا‪ ،‬فلم يسأل عن الطعام أو عن أي شيء آخر وإنما‬ ‫سأل عن الكحول‪".‬‬ ‫لم أستطع أن أمنع نفسي من الضحك ولقد ضحكت هي معي‪ .‬لقد حدثني زوجها عن‬ ‫الحادثة ولكنه لم يحدثني عن التفاصيل وال عن طقم األسنان الذي ألقته في القمامة‬ ‫لتأكدها من موت والدها ومن ثم البحث عنه في سلة القمامة ووضعه في فمه من‬ ‫جديد‪ .‬لقد ضحكت حتى كدت أن أختنق ومن ثم بدأت بالسعال حتى سالت الدموع من‬ ‫عيوني‪ .‬كان منظر والدها بدون أسنان كالضفدع منطبعا في مخيلتي ال يريد أن‬ ‫يغادرها‪ .‬شربت كأسا من الماء وأخذت نفسا عميقا حتى هدأت ثم سألتها ماذا تنوي‬ ‫أن تفعل‪. .‬‬ ‫نظرت إلي وقالت‪ :‬جئت أطلب منك خدمة‪ .‬قلت لها أطلبي إن كان بيدي تلبيتها فلك‬ ‫ذلك‪ .‬قالت ‪ :‬قررنا زوجي وأنا أن نسافر إلى الغردقة في مصر‪ ،‬ولقد حجزنا‬ ‫وسنسافر بعد أيام ‪ .‬كل ما أريده منك أنه إذا حدث شيء لوالدي أن ال تسمح ألحد‬ ‫بأن يخبرنا ‪ ،‬وإذا مات فليضعوه في الثالجة لحين عودتنا‪ .‬أنا في حاجة ماسة لهذه‬


‫‪95‬‬

‫اإلجازة وال أريد يفسدها لنا ‪ ،‬أرجوك ‪ .‬وعدتها وافترقنا وبعد يومين سافرا إلى‬ ‫مصر وانقطعت أخبارهما عني لعدة أيام‪.‬‬ ‫بعد مرور أسبوع أو أكثر على سفر صديقي وزوجته‪ ،‬إتصل بي صديقنا مدير‬ ‫القسم‪ ،‬ولم أستغرب من مهاتفته لي فلقد إعتدنا على أن نتهاتف بين الحين واآلخر‬ ‫وأن نتحدث في شتى األمور ‪ .‬لكنه فاجأني بقوله ‪ :‬لقد أحضروه اليوم من جديد‪.‬‬ ‫سألته مستفسرا عن من يتحدث‪ ،‬فأوضح قائال ‪ :‬لقد أحضروا الضفدع بعد منتصف‬ ‫الليل وهو في غيبوبة تامة وال يمكن أن ينج منها في هذه المرة ‪ .‬سألته ما سبب‬ ‫تأكده هذه المرة ولقد سبق وأن أكدوا موته في المرة السابقة ولم يمت ‪ .‬قال ‪ :‬يا‬ ‫صديقي‪ ،‬إنه في غيبوبة تامة وكل أعضاءه الحيوية واقفة وال يمكن أن ينج منها‬ ‫هذه المرة‪ ،‬ولقد قام بفحصه مجموعة من األطباء وكان قرار الجميع وباإلجماع أنه‬ ‫لن يعيش حتى صباح الغد ‪ .‬قلت له ‪ :‬إن كان ما تقوله صحيحا فماذا ستفعلون بجثته‬ ‫فأنت تعرف أن إبنته وزوجها في مصر ولن يعودا قبل أسبوع ‪ .‬أجاب‪ :‬أعرف لقد‬ ‫أخبرتني إبنته قبل سفرها واتفقنا في حالة وفاته أن نضعه في الثالجة لحين‬ ‫عودتها‪.‬‬ ‫في الصاح الباكر وصلتني رسالة خطية على هاتفي من صديقي المدير يطلب مني‬ ‫الحضور إلى المستشفى ‪ .‬حاولت مهاتفته ولكنني لم أستطع أن أتصل به فركبت‬ ‫سيارتي وتوجهت نحو المستشفى‪ .‬طرقت باب غرفة المدير ودخلت‪ .‬كان صديقي‬ ‫جالسا ومعه بعض أطباء القسم ‪ .‬قام صديقي ومسك بيدي وقادني خارج الغرفة ‪.‬‬ ‫حاولت أن أستفسر منه عن األمر ولكنه بقي صامتا حتى وصلنا إلى قسم الطوارئ‪.‬‬ ‫فتح صديقي باب أحد الغرف وطلب مني الدخول فدخلت‪ ،‬ولكنني بقيت متسمرا على‬ ‫عتبة الغرفة ‪ .‬كان الضفدع جالسا على حافة السرير‪ ،‬بدون أسنان ينطق بعض‬ ‫الكلمات الغير مفهومة ‪ .‬قال صديقي ‪ :‬إنه يطلب فودكا‪.‬‬ ‫خرجنا من الغرفة وكان يقف أمامها بعض أطباء القسم‪ ،‬قلت ‪ :‬أخبروني باهلل عليكم‬ ‫ما الذي حدث‪ ،‬لقد أخبرتني أمس ‪ ...‬قاطعني صديقي قائال ‪ :‬أنا أعرف ما أخبرتك‬ ‫إياه باألمس ‪ .‬إننا جميعا عاجزون عن تفسير ما حدث‪ ،‬إنه يعارض كل قواعد الطب‬ ‫التي درسناها ‪ ،‬أنا ال أومن بالمعجزات ولكنها معجزة‪ ،‬ال يوجد عندي تفسير آخر ‪.‬‬ ‫تركت المستشفى وغادرت إلى البيت ‪ .‬عندما وصلت قريتنا سمعت صوت إذاعة‬ ‫القرية يعلن عن وفاة صديق إلبني ال يتجاوز الثالثين من عمره ‪ ،‬ترك خلفه زوجة‬ ‫وطفلين ‪ ،‬أحدهما ثالث سنين واآلخر خمسة‪ .‬فكرت في الضفدع الراقض في‬ ‫المستشفى والذي تصر السماء على رفض قبوله وتأخذ بدال منه شابا في مقتل‬ ‫العمر ترك خلفه عائلة في أمس الحاجة له ‪ .‬تساءلت عن العبرة في ذلك‪ ،‬فلم أجد‬ ‫جوابا‪.‬‬


‫‪96‬‬

‫‪ .32‬البحث عن الذات‬ ‫لم يعرف أمير أنه مختلف إال حين دخل المدرسة وبدأ يسمع مالحظات زمالءه‪ .‬لقد‬ ‫فتح عينيه على حنان أم محبة وأب ودود‪ ،‬قاما على رعايته منذ والدته بالحب‬ ‫والعطف والحنان‪ .‬أمه أرضعته مع حليبها حنان األم وحبها ورعايتها‪ ،‬ووالده رعاه‬ ‫بكل الحب و العطف والحنو‪ .‬كان بالنسبة إليهما بؤبؤ العين ونور الشمس وضوء‬ ‫القمر‪ .‬كان لهما مصدر بهجة وفرح‪ ،‬وحتى عندما جاءت أخته الصغيرة وجذبت‬ ‫إنتباه جميع أفراد العائلة‪ ،‬بقي هو المدلل والحبيب األول‪.‬‬ ‫في أول أيام المدرسة سمع تلميحات بعض الطالب والطالبات‪ "،‬أسود"‪ .‬ذهب‬ ‫راكضا إلى البيت ووقف أمام المرآة وبدأ يتفحص لون جلده وألول مرة إكتشف أنه‬ ‫أسمر اللون‪ ،‬قابل للسواد وشعره أسود مجعد‪ .‬ألول مرة الحظ الفرق بين لونه ولون‬ ‫أمه وأبيه وأخته الصغيرة ومن حوله من أقاربه وأصدقائهم‪.‬‬ ‫ذهب إلى أمه وفاجأها بالسؤال‪ " :‬لمذا أنا أسمر وأنتم بيض يا أمي؟" نظرت أمه‬ ‫إليه وكانت تنتظر اليوم الذي سياتيها بهذا السؤال‪ ،‬قالت واإلبتسامة على شفتيها‪":‬‬ ‫ألنك أجملنا‪ ،‬أنظر إلى الناس كيف يجلسون الساعات عراة تحت الشمس من أجل أن‬ ‫يحصلوا على لونك‪ ،‬ولكن هللا هباك بهذا اللون ألنه يحبك‪.‬‬ ‫أثر مشاكسة بينه وبين زميل له أثناء اللعب شتمه زميله بكلمة لم يسمعها من قبل‬ ‫ولم يعرف معناها‪ " ،‬نجر" فذهب إلى والده يسأله عن معنى الكلمة وإن كان فعال‬ ‫هو " نجر"‪ ،‬فأجابه والده‪ :‬ال تستمع لمثل هذا الصبي ألنه يحسدك فأنت أمير‪ .‬أجاب‬ ‫أمير والده‪ :‬أنا إسمي أمير ولكنني لست فعال أميرا على أحد‪ ".‬أجابه والده‪ :‬أنت يا‬ ‫بني أميرنا وهذا يكفي‪".‬‬ ‫وهكذا مرت األيام وكبر أمير ولم تعد تلميحات بعض زمالئه عن لونه تعنيه‪ ،‬ولم يعد‬ ‫إختالف لونه يشكل له مشكلة‪ ،‬فكلما كبر زاد فتنة مما دفع الفتيات الجميالت‬ ‫لمالحقته‪ ،‬وسبب ذلك في إثارة الحسد عند بعض زمالئه‪ .‬حتى تلميحاتهم على‬ ‫إختالف لونه بدأت مع األيام تخف وتتالشى إال ما ندر‪.‬‬ ‫كان عائدا من المدرسة على دراجته عندما أشارت له إمرأة عجوز‪ ،‬تعيش وحيدة‬ ‫في بيت ليس بعيدا عن بيتهم‪ ،‬بالوقوف ومساعدتها في تصليح سياج حديقتها‪ ،‬فلقد‬ ‫عرف بالدماثة والميل لمساعدة اآلخرين‪ .‬نزل عن دراجته وقام بما طلبت منه‬ ‫العجوز‪.‬أحضرت له شاكرة كوبا من الشراب ووقفت تدردش معه‪ ،‬فلقد كانت وحيدة‪،‬‬ ‫تلتقط األخبار واألقاويل من الجيران وتسعى إليقاف المارة للحديث معهم‪ .‬بينما كان‬ ‫يشرب كوب الشراب‪ ،‬سألته سؤاال غريبا لم يستطع أن يفهمه‪ ،‬سألته إن كان زوج‬ ‫أمه يعامله معاملة جيدة‪ .‬نظر إليها بتعجب وسألها عن أي زوج أم تتحدثين؟ قالت‪:‬‬ ‫زوج أمك‪ ،‬من غيره‪ .‬فسألها أتقصدين أبي؟ ضحكت وقالت‪ " :‬أنت ال تعرف أنه‬ ‫ليس والدك وإنما هو زوج أمك؟ والدك الحقيقي أفريقي‪ ".‬لم يسمع أمير بقية‬ ‫كالمها‪ ،‬ألقى بكوب الشراب على األرض‪ ،‬ركب دراجته وأسرع إلى البيت‪ .‬دفع باب‬ ‫البيت ودخل صارخا‪ ":‬أمي‪ ،‬أمي!" فجائت أمة راكضة إليه وعالمات اإلستفهام‬ ‫على وجهها‪ .‬صاح‪ " :‬هل أنت أمي حقيقة؟ فأجابته‪ :‬طبعا أنا أمك وما داعي لهذا‬


‫‪97‬‬

‫السؤال السمج؟ فسألها مرة ثانية والدموع تسيل من عينيه‪ " :‬هل أنت أمي‬ ‫الحقيقية‪ ،‬هل أنت حملت بي وولدتني؟ أخذته بين أحضانها وقالت وهي تجهش‬ ‫بالبكاء وكانت تشعر بما هو آت‪ " :‬أنا أمك يا حبيبي‪ ،‬أنا حملت بك وولدتك وربيتك‪،‬‬ ‫فلماذا بربك هذا السؤال؟ سألها السؤال الذي كانت تنتظره وتخشاه منذ ولدته‪" :‬‬ ‫وأبي‪ ،‬هل هو أبي الحقيقي‪ ،‬العجوز هلينكا قالت لي أنه ليس أبي وأن أبي الحقيقي‬ ‫أفريقي‪ .‬شعرت بالرعشة في ساقيها ولم تعد قادرة على الوقوف فجلست‪ .‬مسكت‬ ‫بيده‪ ،‬قبلتها وأجلسته بجانبها وأخذت تقص عليه قصتها وقصته‪.‬‬ ‫كانت طالبة في كلية الصيدلة عندما إلتقت بشاب من غانا يدرس اإلقتصاد‬ ‫والسياسة‪ .‬أحبا بعضهما وقررا الزواج‪ .‬طلب منه المسؤولون شهادة بأنه ليس‬ ‫متزوجا في بلده فوعد بإحضارها‪ .‬سافر إلى غانا بحجة إحضار الوثيقة ولكنه لم يعد‬ ‫وتركها حامل به‪ .‬ومنذ ذلك اليوم فقدت كل إتصال به وال تعلم عنه شيئا‪ .‬بعد أشهر‬ ‫تزوجت من زميلها الذي كان يحبها وإعتبر طفلها طفله وأعطاه إسمه ورباه ورعاه‬ ‫بكل الحب والحنان‪.‬‬ ‫منذ ذلك اليوم تغيرت حياة أمير‪ ،‬إنعزل على نفسه وبدأت عنده حمى البحث عن‬ ‫والده األفريقي‪ .‬لم يترك طريقة إال وطرقها‪ ،‬جلس ساعات على اإلنترنت‪ ،‬إتصل‬ ‫بالسفارات الغانية في البلدان المجاورة‪ ،‬سأل بعض الطالب الغانيين في براتسالفا‪،‬‬ ‫راسل الدوائر الحكومية االغانية‪ ،‬إتصل بالصليب األحمر‪.‬‬ ‫كان يأتي من المدرسة ويدخل غرفته ويغلق الباب خلفه‪ .‬كانت أمه دائمة البكاء‬ ‫وكان والده يتألم وهو يرى إبنه الذي أحبه ورعاه يضيع من بين يديه‪ .‬لقد حاول‬ ‫وزوجته المستحيل لطمأنة أمير بأنه إبنهما الذي يحبانه وأن ال شيء في الدنيا يقلل‬ ‫من حبهما له‪ .‬ولكن‪ ،‬لم تنفع جميع محاوالتهما وال محاوالت أخته التي كان يحبها‬ ‫ومستعد إلفداءها بروحه‪ .‬كان البحث عن والده األفريقي يأخذ كل شيئ منه‪ ،‬وقته‬ ‫وعواطفه وإحساسه‪ .‬لقد إستمر البحث أكثر من عام عندما جاءه الخبر اليقين‪ .‬والده‬ ‫األفريقي عمل لعدة سنين في البعثة الغانية لهيئة األمم‪ ،‬ثم تركها وهو يعمل مدرسا‬ ‫في جامعة شيكاغو األمريكية‪ ،‬متزوج وله ثالت أطفال‪ ،‬ولدين وبنت‪.‬‬ ‫بدأ يجهز نفسه للسفر إلى الواليات المتحدة‪ .‬حصل على الفيزا األمريكية‪ ،‬إشترى له‬ ‫والده تذكرة الطائرة‪ ،‬ذهابا وإيابا‪ ،‬حجز له في الفندق‪ ،‬زوده بالنقود الالزمة‬ ‫وببطاقة بنكية دولية‪ .‬لقد إقتنع أنه إذا لم يرد أن يخسر إبنه‪،‬فعليه مساعدته في‬ ‫محنته في البحث عن الذات‪.‬‬ ‫ودعوه على المطار‪ ،‬بكى وبكت أمه وأخته وبكى والده‪ .‬عانقوه وتمنوا له سفرا‬ ‫مريحا وعودة سالمة وراحة البال‪ .‬طارت الطائرة وشعروا أن قلبهم طار معها‪.‬‬ ‫وصل إلى الفندق في شيكاغو مزودا بكافة المعلومات عن والده األفريقي‪ ،‬إسمه‪،‬‬ ‫عنوان مكتبه ورقم هاتفه ‪ .‬إتصل به وأخبره أنه سائح من سلوفاكيا يحمل له هدية‬ ‫من أصدقاءه في سلوفاكيا وأنه يريد مقابلته‪ .‬أوقف تاكسيا‪ ،‬أعطى السائق العنوان‬ ‫وتحرك التكسي مسرعا إلى لقاء والده األفريقي وهو يفكر في ما سيقوله له وماذا‬ ‫بعد كل هذا الجهد في البحث عنه‪.‬‬ ‫دخل مكتبه‪ ،‬صافحه وجلس متفحصا هذا الرجل الذي شغل فكره وهز حياته ألكثر‬ ‫من عام‪ .‬كان متوسط القامة‪ ،‬أسود اللون‪ ،‬مجعد الشعر ذو أنف مسطح‪ .‬نظر الرجل‬


‫‪98‬‬

‫الجالس خلف الطاولة إليه وسأله بماذا يمكنه أن يخدمه‪ .‬أخرج أمير من جيبه‬ ‫صورة لهذا الرجل ووالدته أيام كانا معا ووضدعها على الطاولة أمامه سائال‪ ":‬هل‬ ‫هذا أنت؟" نظر الرجل إلى الصورة وقال‪ ":‬نعم‪ ،‬من أين اتيت بها؟" لم يجبه أمير‬ ‫وإنما سأله إن كان يتذكر الفتاة الواقفة بجانبه‪ .‬نظر الرجل إلى الصورة مرة ثانية ثم‬ ‫قال‪ " :‬يا إلهي! طبعا أعرفها‪ ،‬لقد كنا نحب بعض‪ ،‬ما أخبارها؟‪ .‬أجابه أمير‪ ":‬هذه‬ ‫أمي وأنا إبنك‪".‬‬ ‫بان اإلمتعاض على وجه الرجل وقال‪ ":‬لم أكن اعرف أنها حبلى‪ ،‬وماذا تريد مني‬ ‫بعد هذه السنين؟ أجابه أمير بحدة‪ ":‬هي ال تريد منك شيئا وقبل عام لم أكن أعلم‬ ‫بوجودك‪ ،‬جئت فقط للتعرف عليك وعلى أخوتي‪ ،‬هذا كل ما في األمر‪ ".‬نظر إليه‬ ‫الرجل وقال‪ ":‬أنا متأسف‪ ،‬لقد فاجأتني‪ .‬أعطني مهلة يومين أو ثالثة حتى أحضر‬ ‫زوجتي واألوالد لهذه المفاجأة‪ ".‬أخرج من جيبة بطاقة وقدمها إلى أمير وتابع‪" :‬‬ ‫هذا عنوان بيتي‪ ،‬خذ تكسي وتعال يوم األحد الساعة الواحدة بعد الظهر لتشاركنا‬ ‫الغداء وسأقدمك إلى العائلة‪ ".‬سأله بعض األسئلة عن والدته وأخبارها ومن‬ ‫تزوجت ثم صافحه وقال مودعا‪ ":‬سنراك يوم األحد‪".‬‬ ‫الساعة الواحدة بعد الظهر من يوم األحد كان أمير واقفا أمام باب البيت يرن جرسه‬ ‫و دقات قلبه تتسارع عندما سمع خطوات القادم لفتح الباب‪ .‬إستقبلته العائلة‬ ‫بكاملها‪ .‬الزوجة إستقبلته بأدب ولكن بجفاء‪ ،‬كأنما تقول له أنه ليس مرحبا به‪.‬‬ ‫الزوج إستقبله كما يستقبل الغريب ضيفا‪ ،‬أما األوالد فلقد كانوا متحمسين لمعرفة‬ ‫أخاهم الجديد‪ ،‬كان األمر بالنسبة إليه مثير‪.‬‬ ‫جلسوا إلى طاولة الغداء وأكلوا بصمت واألوالد ينظرون إلى أخيهم الجديد‬ ‫ويتهامسون‪ .‬الزوجة شكت من وضعهم المادي وقسوة الحياة والديون البنكية‬ ‫المتراكمة عليهم‪ .‬كانت رسالة واضحة له بأنه إن جاء يطلب المساعدة المادية فلن‬ ‫يجدها عندهم‪ .‬رد عليها بدبلوماسية أنه غير محتاج لشيء‪ ،‬وأن والداه ال يقصرا في‬ ‫شيء في سبيل راحته‪ ،‬وأنه جاء فقط ليتعرف على والده وأخوته الصغار بصفته‬ ‫األخ الكبير‪ .‬أجابته الزوجة بخبث أنه ليس األخ األكبر فهناك أخت تكبره وأن والده‬ ‫كان متزوجا في غانا وله بنت عندما عرف أمه‪ .‬كان خبر األخت الكبرى صدمة قوية‬ ‫له كتمها في صدره‪.‬‬ ‫خرجوا لتوديعه أمام باب التكسي الذي أقله إلى الفندق‪ .‬لم يجر الحديث عن إمكانية‬ ‫لقاء آخر‪ .‬وصل غرفته في الفندق واتصل بالمطار يسأل عن رحالت إلى سلوفاكيا‪.‬‬ ‫وجد رحلة من شيكاغو إلى فرانكفرت وبعد ساعات من فراكفورت إلى براغ فحجز‬ ‫عليهما‪ .‬وضع مالبسه في حقيبته‪ ،‬حاسب الفندق وطلب تكسي إلى المطار‪ ،‬بعد‬ ‫ساعات قليلة سيطير إلى فرانكفرت‪.‬‬ ‫في المطار إتصل بوالده في سلوفكيا‪ ،‬رن جرس الهاتف طويال ثم سمع والده يقول‬ ‫له ألو‪ ،‬إبني‪ ،‬أمير‪ .‬أجابه أمير‪ " :‬والدي حبيبي"‪ .‬أخذ يبكي وبين الشهقة واألخرى‬ ‫أخبره أنه عائد إلى البيت‪.‬قال‪ ":‬سأطير بعد ساعة إلى فراكفورت وبعدها إلى براغ‬ ‫ومن براغ سأحضر إلى براتسالفا في القطار‪ ".‬فرد عليه والده‪ :‬ال يا حبيبي‪،‬‬ ‫سنحضر جميعنا لمقابلتك في المطار‪ ،‬وسنعود معا في السيارة‪ ".‬صاح أمير‪ ":‬أبي‪،‬‬ ‫أبي‪ ،‬أنا آسف يا أبي على ما سببته لك من األلم‪ ،‬كم أحبك يا أبي كم أحبك‪ ،‬قبل‬


‫‪99‬‬

‫والدتي وأختى عني‪ ،‬أنا مشتاق لكم ‪ ".‬أجابه أبوه‪ ":‬وأنا أحبك يا بني‪ ،‬كلنا نحبك‬ ‫ونحن مشتاقون لك‪".‬‬ ‫بدأت الطيارة في التحرك ثم أخذت تعلو إلى السماء متوجهة نحو فرانكفورت‪ .‬ألقى‬ ‫أمير رأسه إلى الخلف‪ ،‬أغمض عينيه وبدأ يحلم باللقاء القريب مع أمه وأبيه وأخته‬ ‫وتمتم‪ " :‬أنا عائد إلى بيتنا‪ ،‬أنا عائد‪".‬‬


‫‪100‬‬

‫‪.33‬‬

‫الصديقة‬

‫سألتني‪ ،‬هل تؤمن بالصداقة الخالصة بين الرجل والمرأة؟ فأجبتها‪ ،‬طبعا أؤمن‪،‬‬ ‫ألست صديقك؟ قالت‪ " :‬هذا أمر مختلف‪ ،‬فأنت تعرفني منذ طفولتي وانت صديق‬ ‫لوالدتي ووالدي منذ عقود‪ ".‬أجبتها‪ ،‬والدتك صديقتي أما والدك فهو زميلي‪.‬‬ ‫فسألتني مندهشة‪ ،‬كيف ذلك؟‬ ‫نظرت إليها وقلت‪ " :‬إذا إحتجت شيئا فأنا أطلبه من أمك وليس من أبيك‪ ،‬ومن قام‬ ‫برعايتي عندما كنت مريضا‪ ،‬أليس أمك هي التي جلست بجانب فراشي تعودني؟‬ ‫وعندما توفيت زوجتي‪ ،‬من الذي أمسك بيدي يواسيني‪ ،‬ألم تكن أمك هي التي قامت‬ ‫بمواساتي والتخفيف عني؟ قالت‪ " :‬فهمت ما تقصد فانا ايضا آتي إليك عندما أقع‬ ‫في مشكلة وأطلب منك العون وال أذهب إلى والدي‪ ".‬قلت لها‪ ":‬أليست هذه هي‬ ‫الصداقة؟‬ ‫صمتت قليال ثم سألتني‪ ":‬هل يؤمن جميع العرب بالصداقة بين الرجل والمرأة؟‬ ‫فأجبتها بالنفي وتابعت‪ :‬كثير من العرب يؤمنون بأنه ما اجتمع رجل وامراة إال كان‬ ‫الشيطان بينهما‪ ،‬إن ذلك نتاج تراثنا الديني‪ ".‬فسألتني ضاحكة وهل الشيطان يجلس‬ ‫االن بيننا؟ قلت لها‪ " :‬يا بنيتي إن الشيطان يقبع داخلنا وعلينا أن نتعلم كبحه‬ ‫وترويضه‪.‬‬ ‫شردت قليال كأنما تتردد في طرح سؤالها ثم قالت‪ " :‬لي أصدقاء أروبيون كثر من‬ ‫الجامعة ومن خارجها وليس لي أي صديق عربي غيرك مع أنني حاولت‪ .‬جميعهم‬ ‫أرادوني في فراشهم وعندما رفضت غضبوا وتركوني‪ .‬لماذا يصر العربي على أن‬ ‫موضع المرأة الطبيعي هو الفراش ولماذا يرفض الصداقة الخالصة؟‬ ‫فكرت قليال قبل أن أجيبها ثم قلت‪ ":‬العربي والشرقي بشكل عام يحاول دائما إثبات‬ ‫رجولته وكثير من رجالنا يعتقد أن ساحة إثبات الرجولة والفحولة هي الفراش حيث‬ ‫ترضخ المرأة لرغباته وتتقبل فعل رجولته‪ .‬ولكن أخبريني أال يسعى كثير من الرجال‬ ‫أألروربيين لنفس الهدف؟‬ ‫نظرت إلي وقالت ببطئ كأنما ارادت مني أن أعي ما تقوله‪ ":‬ولكن الفرق يا عزيزي‬ ‫أن األوروبي‪ ،‬طبعا مع وجود الشواذ‪ ،‬يتفهم رفض الفتاة ويتقبل صداقتها إذا رآها‬ ‫جادة في رفضها‪ ".‬ثم طأطأت رأسها وقالت بخجل‪ ":‬أتعلم أنني ما زلت عذراء؟‬ ‫فأجبتها‪ ،‬ومن أين لي أن أعلم‪ ،‬ولكنني ال أستغرب ذلك‪ .‬فقالت‪ ،‬كيف ذلك وهل أنا‬ ‫بشعة إلى هذا الحد؟ فأجبتها بأنها جميلة فوق الحد ولكنني أعرفها وأعرف تربيتها‬ ‫وأخالقها ولذلك ال أستغرب ذلك‪.‬‬ ‫قالت‪ " :‬فهمت‪ ،‬ظننت أنني بشعة ولكن هل تعلم أنه ال أحد يعلم بذلك غير أمي‬ ‫وغيرك أنت‪ .‬أما أبي فال يهتم بالموضوع وال يعتبره من إختصاصه ويهمه أن أتفوق‬ ‫في دراستي وأن أصبح عالمة مثله أو طبيبة مشهورة‪ .‬أما في الجامعة فجميعهم‬ ‫يعتقدون أنني فقدت عذريتي وهو أمر طبيعي بالنسبة لهم‪ ،‬فلم يعد للعذرية قيمة في‬ ‫ثقافتنا‪ .‬أما أنا فلن أمنحها إال للرجل المناسب‪ ،‬الذيي يحبني ويحترمني‪ ،‬فلست‬ ‫وعاءا إلشباع شهوات الرجال‪.‬‬


‫‪101‬‬

‫أخذت يدها بيدي وقبلت أناملها فسالت الدمعة من عينها وقالت‪ " :‬ليتك كنت أبي يا‬ ‫صديقي‪ ".‬فأجبتها ويدها ما زالت بيدي‪":‬ال تقولي ذلك‪ ،‬لك أب وهو أب جيد‪ ،‬يحبك‬ ‫ويخاف عليك‪ ،‬أما أنا فصديقك وسأبقى صديقك‪".‬‬ ‫قامت من مكانها قائلة‪ ":‬علي الذهاب إلى الجامعة‪ ،‬عندي محاضرة مهمة‪".‬‬ ‫عانقتني وقبلت وجنتي وقالت‪ " :‬آه‪ ،‬ماذا كنت سأفعل بدون صداقتك‪ ".‬ورحلت‬ ‫ونظرات الرجال تلتهمني‪.‬‬


‫‪102‬‬

‫‪.34‬‬

‫عندما تنتحر الكلمات‬

‫مسكت الورقة لكي أكتب عليها بعض الكلمات‪ ،‬فصفعتني الورقة على وجهي عدة‬ ‫صفعات‪ ،‬وصاحت بي ‪ :‬إبعد عني‪ ،‬فلست منك ولست مني‪ ،‬فلقد أتعبتني وما عدت‬ ‫أطيق جمر كلماتك‪ ،‬وال أنين آهاتك‪ ،‬وال ثورة الغضب التي تلهب أنفاسك‪ ،‬فأنا ورقة‬ ‫رقيقة من لحاء الشجر‪ ،‬صنعت لكي يرسم على وجهي لحن الوتر‪ .‬فتركتها وابتعدت‪،‬‬ ‫ورحت أرسم الكلمات في الهواء‪ ،‬فتطير على أجنحة الريح‪ ،‬لعلها تسقط في أذن‬ ‫تسمع أو في حضن عقل يفهم‪.‬‬ ‫عادت الكلمات خائبة‪ ،‬كطير مكسور الجنحان‪ .‬ترتجف خوفا‪ ،‬ترتعد رعبا‪ ،‬حروفها‬ ‫تتساقط كورق الشجر‪ ،‬أسقطه الريح‪ ،‬وبعثره فوق الكثبان‪ .‬صاحت واحدة منهن‬ ‫وهي تسقط منهكة‪ :‬ما بالك ترسلنا إلى بيت الغول وتقذف بنا في يم الطرشان ؟ ما‬ ‫عادت أذن تسمع أو عقل يفهم مضمون الكلمات‪ ،‬وما عاد لألحرف معنى وال للكلمة‬ ‫مغزى‪ ،‬فهذا وقت عواء الذئب ونباح القطعان‪.‬‬ ‫صاحت أخرى والدمع يسيل على الوجنات‪:‬ما بالك تصر على نحر الكلمات‪ ،‬فتبعثها‬ ‫لحوانيت األموات‪ .‬أبواب اآلذان‪ ،‬ياسيدنا‪ ،‬موصدة في وجه الكلمات‪ .‬طرقنا الباب فما‬ ‫سمعنا إال أزيز رصاص ممزوج بصراخ الحقد وعويل اللعنات‪ .‬صدوا األبواب‬ ‫وصاحوا‪ :‬عودوا من حيث أتيتن‪ ،‬وأخبرن المرسل بأن هذا ليس زمن الكلمات‪ ،‬بل‬ ‫زمن السيف المغموس بدم اآلهات‪ ،‬تخرج من عنق منحور على عتبة معبد‪ ،‬تصلي‬ ‫فيه ذئاب الغابات‪ ،‬ويؤم فيهم ثعبان‪ ،‬أغوى حواء فأخرجت والدنا آدم من الجنات‪.‬‬ ‫لملمت األحرف وخبأت الكلمات في جيب القلب‪ ،‬وحلفت يمينا‪ ،‬أن ال أطلقها إال بعد‬ ‫أن يخلو المعبد من كل ذئاب الغاب‪ ،‬ويسحق رأس األفعى وتطهر جدران المحراب‪،‬‬ ‫وأن تفتح كل األبواب‪ ،‬لبذور الحب وغناء األحباب‪.‬‬


‫‪103‬‬

‫‪.35‬‬

‫قارئة الفنجان‬

‫أخذت فنجاني‪ ،‬نظرت فيه‪ ،‬قلبته في يدها وقالت‪ :‬صلي على النبي وقل عليه الصالة‬ ‫والسالم‪ .‬أمامك يا ولدي دربان‪ ،‬أحدهما يحرسه الشيطان‪ ،‬من فوق الرأس له‬ ‫قرنان‪ ،‬لسانه من لهب النار وأذناه كخيال مآت متدل فوق الحيطان‪ .‬أما أنفه يا ولدي‬ ‫فمعكوف كجذع شجرة مهجور‪ ،‬طال عليه النسيان‪ .‬فاحذره يا ولدي وابعد عن درب‬ ‫الشيطان‪ ،‬الناس فيه ذئاب يقود جموعهموا ثعبان‪.‬‬ ‫أما الثاني يا ولدي فهو درب أمان‪ ،‬درب يحرسه الرحمن‪ ،‬تنتظرك فيه إمرأة قادمة‬ ‫من دار األحالم‪ ،‬جميلة الوجه‪ ،‬رشيقة القد وفي عينيها دفئ الشرق‪ ،‬وفي وجنتيها‬ ‫قطر الندى وورد جنان‪ ،‬شفتاها كعصير الخوخ الممزوج بعطر الليمون وعصير‬ ‫الرمان‪ .‬ستأخذك يا ولدي إلى دنيا العشق وتشبعك حبا وحنان‪ .‬ستخلفان معا صبايا‬ ‫وأحلى الصبيان‪.‬‬ ‫صمتت ونظرت في وجهي عابسة‪ ،‬قالت‪ :‬األيام يا ولدي غادرة‪ ،‬تأتيك بما ال تأخذ‬ ‫في الحسبان‪ ،‬ففي ركن الفنجان غمامة‪ ،‬سوداء كدخان البركان‪ ".‬يا حسرتي عليك‬ ‫يا ولدي" قالت‪ ،‬ثم صمتت ونظرت في وجهي في ألم وقلبت فوق الصحن الفنجان‪.‬‬ ‫ما كذب الطالع يا سيدتي‪ ،‬وصدق الفنجان‪ .‬سلكت الدرب الثاني وتجنبت درب‬ ‫الشيطان‪ .‬جاءت لي منه إمرأة من دنيا األحالم‪ ،‬كمالك من فوق الغيم‪ ،‬كنسيم البحر‬ ‫يداعب أمواج الشطئان‪ .‬صارت لي حبا‪ ،‬صارت لي عشقا‪ ،‬صارت لي روحا وحنانا‬ ‫من عند الرحمن‪ .‬لكنها يا سيدتي رحلت وبقيت وحيدا مثل شجرة يابسة فوق‬ ‫الكثبان‪.‬‬ ‫أبكيها بدموع اللوعة‪ ،‬بدموع الحرقة‪ ،‬بدموع من نار الظمآن‪ .‬األيام تمر يا سيدتي‪،‬‬ ‫وما زال لهيب حنيني يحرقني‪ ،‬ال تطفؤه أدوات النسيان‪ .‬يثير لهيب الجرح صور في‬ ‫األلبوم وأخريات معلقة على الجدران‪ .‬وذكرى حديث أمسية دار بيننا على عتبات‬ ‫الدار أو في ساحة الديوان‪ .‬حتى نسيم الصبح يذكرني بها وصياح طفل قادم عبر‬ ‫الشارع أو من حديقة الجيران‪ .‬كلمة هنا وهمسة هناك ومنظر حبيبان يتناجيان‪.‬‬ ‫وطفل يسير برفقة أخته ويحرسهما بخوف والدان‪ .‬حتى غناء العصافير يذكرني بها‬ ‫وزوج من الحمام فوق فروع األشجار يتناغمان‪.‬‬ ‫ما كذب الطالع يا سيدتي وصدق الفنجان‪ .‬الغيمة في طرف الفنجان قد كبرت حتى‬ ‫صارت يا سيدتي مثل البركان‪.‬‬


‫‪104‬‬

‫‪.36‬‬

‫الوداع األخير‬

‫انتظرت في سريري حتى دقت الساعة السادسة صباحا فلملمت أعضاء جسمي‬ ‫وأجبرتها على التحرك والنزول من السرير‪ .‬جررت أطرافي ودخلت الحمام ووقفت‬ ‫عاريا تحت الدوش البارد إلى أن بدأت أشعر بقليل من الحياة تدب في أطرافي‪ .‬لقد‬ ‫مر علي أكثر من أسبوعين لم تغمض لي فيهما جفن‪ .‬حتى حبوب النوم التي‬ ‫وصفتها لي طبيبتي لم تستطع أن تتغلب على الدوامة التي تدور في راسي وتجبرني‬ ‫على النوم‪ .‬لقد بدأ جسمي يستسلم ولم يبق في جسدي قوة للمقاومة‪.‬‬ ‫خرجت من الحمام‪ ،‬جففت جسدي المتعب ودخلت المطبخ حيث غليت إبريقا كبيرا‬ ‫من القهوة العربية المخلوطة بالهال وجلست أحتسيها بنهم‪ .‬كنت في حاجة لمنشط‬ ‫لجسمي وعقلي‪ ،‬فلقد أتعباني كالهما‪ .‬كان علي أن أحضر الفطور ألوالدي كي‬ ‫يذهبوا إلى المدرسة‪ ،‬كما كان علي اإلسراع للذهاب إلى المستشفى كعادتي في‬ ‫صباح كل يوم من األشهر األخيرة‪ .‬لقد اعتادت الممرضات الراهبات على انتظاري‬ ‫لمساعدتي في تنظيف زوجتي وتغيير مالبسها‪ .‬كانت زوجتي ترفض أن ينظفها أحد‬ ‫غيري وترجو الممرضات أن ينتظرن حتى أحضر‪.‬‬ ‫خرجت من البيت وتوجهت نحو سيارتي وعندما هممت في فتح بابها تذكرت أنني لم‬ ‫أحلق ذقني الخشنة فرجعت إلى البيت ألقوم بهذا الواجب‪ ،‬ليس ألنني أهتم لمنظري‬ ‫ولكن خوفا من أن أخدش وجه زوجتي الذي زاده المرض نعومة ورقة وحساسية‪.‬‬ ‫حلقت ذقني كما ينحت النحات وجه تمثاله وتحسست وجهي كي أتأكد من عدم ترك‬ ‫أماكن خشنة وخرجت من البيت مسرعا‪.‬‬ ‫لقد مر على وجود زوجتي في المستشفى عدة أشهر وكانت حالتها تتأرجح بين‬ ‫الشفاء وبين خطر الموت وكنت أعيش وأموت كل يوم مع تقرير طبيبها اليومي‪.‬‬ ‫كنت أعرف من قسمات وجهه وضعها الصحي‪ ،‬فحين يلقاني مبتسما كنت أشعر‬ ‫بالنشوة واعرف أن وضعها قد تحسن وحين كان يلقاني عابسا كنت أعرف أن‬ ‫وضعها يسوء‪ .‬في األيام األخيرة كان دائم العبوس وفي كثير من األحيان كنت أجده‬ ‫تائه النظرات شارد الذهن وهكذا كانت الممرضات فوضع زوجتي الصحي أخذ في‬ ‫التدهور‪.‬‬ ‫لقد كان القسم الوحيد في مستشفيات سلوفاكيا الذي يسمح فيه للراهبات بالعمل‬ ‫كممرضات‪ .‬كن فتيات في مقتبل العمر وقد دخلن سلك الرهبنة إيمانا منهن‪ ،‬كما كن‬ ‫يجدن في التمريض مجاال لعملهن اإلنساني‪ .‬لقد أحببن زوجتي وكن يلتقين في‬ ‫غرفتها ويسألنها عن فلسطين التي كانت تعشقها وعن الشعب الفلسطيني وتفاصيل‬ ‫حياته‪ .‬كانت تحدثهن عن مدينة بيت لحم ومهد المسيح فيها وعن القدس والناصرة‬ ‫ونابلس‪ ،‬وكانت تصف لهن المطبخ الفلسطيني الذي كتبت عنه كتابا في اللغتين‬ ‫السلوفاكية والتشيكية وعنوانه" المطبخ العربي الفلسطيني" والذي وصلت مبيعاته‬ ‫رقما قياسيا‪.‬لقد أهدتهن نسخة من الكتاب فقامت كل منهن بتصويره واإلحتفاظ‬ ‫بنسخة منه‪ .‬كن يحضرن الطعام في مطبخ الدير الذي كن يسكن فيه بناءأ على‬


‫‪105‬‬

‫الوصفات المكتوبة في الكتاب و في الصباح يتسابقن إلى غرفتها ليشرحن لها ماذا‬ ‫طبخن وكيف وفي بعض األحيان يحضرن لها قليال منه لتتذوقه‪.‬‬ ‫قبل أسبوع بعث في طلبي رئيس القسم ولقد وجدت عنده الطبيب المسؤول عن‬ ‫زوجتي وطبيبين مساعدين وطلبوا مني الجلوس‪ .‬شعرت من تعبيرات وجوههم‬ ‫بأنهم يحملون إلي رسالة شؤم فأخذت نبضات قلبي تدق بسرعة وشعرت باإلختناق‬ ‫فتمسكت بطرفي المقعد بشدة خوفا من أن أقع منه‪ .‬لقد قرأت في وجوههم الخبر قبل‬ ‫أن يخبرونني به‪ .‬بدأ رئيس القسم بالقول‪ ":‬يحز في نفسي أن أخبرك أننا خسرنا‬ ‫المعركة وأن حالة زوجتك أصبحت ميؤوس منها وأنها مسألة أيام أو ساعات‪ ".‬ثم‬ ‫تابع" لقد قمنا بكل ما يمكن القيام به ولكن علينا أن نعترف بأننا خسرنا المعركة"‪.‬‬ ‫خرجت من المستشفى وتوجهت نحو سيارتي‪ .‬فتحت بابها وجلست خلف المقود‬ ‫وبدأت أضرب رأسي به حتى دمي جبيني ولم يوقفني إال بواب المسشفى الذي هرع‬ ‫نحو سيارتي و دق على زجاج النافذه ليسألني ما الذي حصل‪ .‬شغلت محرك السيارة‬ ‫ورحلت ولم أكن أدري أين وجهتي حتى انتهيت في غابة على أطراف المدينة‪.‬‬ ‫ترجلت من السيارة وبدأت أصرخ بأعلى بصوتي وكان صدى صوتي يعود إلي‬ ‫ليخبرني بأن ال أحد يسمعني‪ .‬مشيت في الغابة تائها ثم تسلقت الجبل حتى وصلت‬ ‫أعلى قمته فجلست على صخرة كبيرة تطل على الوديان المحيطة وأخذت أبكي‬ ‫واشهج حتى نشفت دموعي وتعثر النحيب في حنجرتي ولم أعد بقادر على البكاء‪.‬‬ ‫كان يخرج من فمي حجرشات متقطعة كادت أن تخنقني‪ ،‬ثم صحت بأعلى صوتي ‪":‬‬ ‫يا إلهي! إن كنت تريد معاقبتي فعاقبني أما هي فال تستحق المعاقبة‪ .‬إنها إمرأة‬ ‫فاضلة ‪ ،‬أحبها كل من اجتمع إليها‪ .‬فهي لم تؤذ أحدا في حياتها وهي مصدر حب‬ ‫وعطف وحنان لكل من حولها‪ ،‬فارحمها واتركها لمحبيها‪ ".‬صرخت وناديت‬ ‫وصليت فلم يسمع أحد صراخي وال أستجاب لصالتي ودعائي‪ .‬تذكرت المسيح‬ ‫الفلسطيني المصلوب وهو يشكو إلى ربه ‪ " :‬يا إلهي لم تركتني؟"‪.‬‬ ‫نزلت عن قمة الجبل ورجعت إلى سيارتي‪ .‬جلست خلف مقود السيارة وشغلت‬ ‫محركها وتركت متوجها نحو بيتنا وسؤال يطرق على جدران عقلي ويستولي على‬ ‫مخيلتي‪ ،‬ماذا سأخبر األوالد؟ كيف أقول لهم أن أمهم ستتركهم إلى األبد‪ .‬لقد حاولت‬ ‫طوال مدة مرض والدتهم أن أحميهم من عذاب الحقيقة وكنت أزرع فيهم األمل‪ .‬ماذا‬ ‫أقول لهم اآلن؟‬ ‫منذ ذلك اليوم وأنا أدخل المستشفى وال أعرف إن كنت ساجدها حية أم ميتة‪ .‬كنت‬ ‫أصلي في طريقي إلى المسشفى داعيا أن أجدها على قيد الحياة‪ .‬وكنت أدخل غرفتها‬ ‫في الصباح وقلبي يكاد يسقط من صدري متوجسا‪ ،‬وكانت تستقبلني بابتسامة‬ ‫وعيونها تضيء بنور الفرح حين تراني‪ .‬وعندما كنت أقوم بتنظيفها وتلبيسها كنت‬ ‫أحاول جاهدا أن ال أنفجر في البكاء‪ .‬وبعد عملية التنظيف والغسيل وتغيير المالبس‬ ‫كنت أمشط شعرها ثم أجلس إلى جانبها ماسكا يدها وأقص عليها أخبار األوالد‬ ‫والجيران وأحدثها عن اإلتصاالت التلفونية التي كانت تأتي من األهل في األردن‬ ‫وفلسطين وخاصة من والدتي التي كانت تعشقعها وتعتبرها أمها‪.‬‬ ‫أوقفت سيارتي كعادني أمام المستشفى ودخلت القسم وقلبي يكاد يقفز من بين‬ ‫ضلوعي وقبل أن أصل الغرفة قابلتني إحدى الممرضات فصاحت ‪ ":‬أدخل إنها‬


‫‪106‬‬

‫نتنتظرك!"‪ .‬تنفست الصعداء ودخلت الغرفة‪ .‬كانت إحدى الممرضات قد قامت‬ ‫بالتحضيرات الالزمة من أجل عملية التنظيف الصباحي وعندما دخلت صاحت‬ ‫زوجتي" ها هو قد جاء‪ ،‬ها هو قد جاء‪ ،‬ألم أقل لك أنه سيأتي" ‪.‬تقدمت منها‬ ‫وحضتنها بلطف حتى ال أؤذيها فلم يعد جسمها يتحمل حتى العناق الخفيف‪ ،‬قبلتها‬ ‫ورسمت على وجهي ابتسامة ثم أخذت من يد الممرضة اإلسفنجة المعدة لهذا‬ ‫الغرض وغمستها في الطاسة التي تحتوي على الماء الفاتر والصابون وأخذت‬ ‫أمسح كتفيها الهزيلتين بلطف حتى ال أسبب لها األذى‪ .‬لم أعد أتحمل منظر جسدها‬ ‫الهزيل الذي كان إلى وقت قريب يمتلئ صحة وعنفوانا وجماال‪ ،‬فبدأت دموعي‪،‬‬ ‫رغما عني‪ ،‬تنهمر على كتفيها وتختلط بسائل التنظيف‪ .‬وعندما الحظت دموعي‬ ‫سالتني لماذا ابكي فأخبرتها أنني ال أبكي وإنما هو سائل الصابون قد دخل في‬ ‫عيوني‪ .‬وفي تلك اللحظة أنقذتني الممرضة فأخذت اإلسفنجة من يدي وقالت لي‪":‬‬ ‫إذهب واغسل عيونك من الصابون!" فخرجت وذهبت إلى الحمام أغسل وجهي‪،‬‬ ‫وكانت دموعي تنهمر وكنت كلما مسحتها وغسلت وجهي بالماء البارد تعود‬ ‫وتنهمر من شديد‪.‬‬ ‫تمالكت نفسي وذهبت إلى الغرفة‪ .‬أخذت المشط وقمت بتمشيط شعرها ثم وضعت‬ ‫رأسها على المخدة وغطيتها فلقد كانت رغم دفئ الطقس تشعر دوما بالبرد‪ .‬أمسكت‬ ‫يدها وقبلتها ووضعتها على خدي وأخذت أحكي لها كالعادة أخبار األوالد ومدارسهم‬ ‫وأخبار الجيران واألهل في نابلس وعمان‪ .‬لم أترك صغيرة وال كبيرة إال حدثتها‬ ‫عنها حتى أغمضت عينيها و نامت‪ .‬كانت تذهب في غيبوبة تطول وتقصر وفي‬ ‫بعض الحاالت تفتح عينيها وعندما تراني بجانبها تبتسم ابتسامة متعبة وتعود إلى‬ ‫غيبوبتها‪ .‬كنت أجلس إلى جانبها ساعات طوال وأنظر إلى جسدها الناحل الذي كان‬ ‫قبل أشهر مفعم بالنشاط والجمال والحيوية فأشعر بقلبي يتقطع ويعصرني األلم‪ .‬كان‬ ‫جسدها مشبوكا إلى آلتين وزجاجة حتى بدت كشجرة عيد الميالد‪.‬‬ ‫كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة مساء عندما فتحت عينيها وابتسمت ثم‬ ‫قالت‪ ":‬كنت أعرف أنني سأجدك هنا" ثم أمسكت بيدي وقبلتها وحضنتها إلى‬ ‫صدرها وقالت باللغة العربية‪ " :‬آخ يا زوجي كم أحبك" ثم رفعت صوتها قليال‬ ‫وقالت بالعربية" أنا بحبو يا عالم‪ ،‬أنا بحبو"‪ .‬ضمت يدي إلى خدها وقالت‪ " :‬شكرا‬ ‫يا حبيبي‪ ،‬شكرا‪ ،‬فلقد أهديتني أسعد سنين حياتي‪ ،‬ال تحزن يا حبيبي فأنا سعيدة جدا‬ ‫لكل لحظة عشتها معك‪ ،‬أشكرك يا حبيبي‪ ".‬قلت لها‪ ":‬أنا أشكرك على كل لحظة‬ ‫عشت فيها معك‪ ،‬لقد عرفتني معنى الحب والسعادة‪ ".‬نزلت دمعتين من عيونها‬ ‫الجميلة و تسللتا عبر خدها النحيل وتسربتا إلى عنقها‪ .‬نظرت إلي وقالت‪ " :‬قبل‬ ‫األوالد عني ودير بالك عليهم!"‬ ‫في تلك اللحظة رأيت النور يختفي من عينيها رويدا رويدا ثم أغمضتهما وبدأت يدها‬ ‫الحاضنة يدي ترتخي لتصقط كزهرة ذابلة إلى جانبها‪ .‬دفنت رأسي في حضنها‬ ‫وبكيت حتى جاءت الممرضات وأبعدتني عنها وقالت إحداهن‪ " :‬إذهب أنت‪ ،‬إنها‬ ‫اآلن في أيدي المالئكة‪.‬‬


‫‪107‬‬

‫غادرت المستشفى‪ ،‬ركبت سيارتي واتجهت نحو البيت‪ ،‬هناك الكثير مما يجب عمله‪.‬‬ ‫اتصلت بصديقي الدكتور الفلسطيني ماجد والذي كان يعمل في نفس المستشفى‬ ‫وأخبرته بما جرى‪ .‬فتبرع بأن يساعدني بالقيام باإلجراءات الالزمة‪ .‬دخلت البيت‬ ‫واستلقيت بكامل مالبسي على أرض غرفة الجلوس منتظرا طلوع الصباح كي أخبر‬ ‫األوالد‪ .‬أغمضت عيني وسبحت في بحر الذكريات‪.‬‬ ‫آخ يا حبيبتي لماذا عجلت الرحيل وتركتني وحدي أقاسي وحشة الليل الطويل؟ أما‬ ‫تعاهدنا على أن نقضي بقية العمر معا‪ ،‬كتفك على كتفي وذراعيك في ذراعي‪ .‬لماذا‬ ‫إذن يا حبيبة الروح رحلت؟ أما كان أولى لو انتظرت حتى يكبر األوالد ويتزوجون‬ ‫ويخلفوا األحفاد؟ من سيحكي ألحفادنا حكايا الجن والشاطر حسن وخاتم اللبيك؟‬ ‫ومن سيحكي إلبنتنا عن ليلة الدخلة وعن أسرار مطبخنا وكيف تصنع الكبة ومن‬ ‫سيمسك يدها ويجلس قربها في ليلة الوالدة؟ وإبننا ماذا أقول له ورتوش الحزن في‬ ‫وجناته يقض علي نومي وسهادي؟ ماذا أقول له عندما يحضر العروس ومن‬ ‫سيمسك بيد عروسه ويهدئ من روعها ويحكي لها بأنها في أيد أمينة و بأننا‬ ‫سنحملها في القلب و نحضنها برموشنا الحزينة؟‬ ‫لقد وضعناها في مثواها األخير في مقبرة القرية الصغيرة التي أسكنها‪ .‬حملناها في‬ ‫تابوت من الخشب مغطى بسجادة عليها خارطة فلسطين‪ .‬كانت ترتدي الزي الشعبي‬ ‫الفلسطيني الذي جاءها هدية من والدتي‪ .‬لقد جرت مراسيم الدفن على صوت القرآن‬ ‫الكريم الذي أخذ مذياع المقبرة يبثه من شريط مسجل للشيخ عبدالباسط عبدالصمد‪.‬‬ ‫كان الصوت القرآني يغطي كل أرجاء القرية‪ ،‬مما دفع أهل القرية للتوجه نحو‬ ‫مصدر هذا الصوت الساحر‪ .‬رأيت والدموع تترغرغ في عيوني‪ ،‬أن مئات من أهل‬ ‫القرية قد جاءوا لكي يشاركوا في الجنازة بعد أن سمعوا الصوت القرآني الساحرفي‬ ‫المذياع‪ ،‬ولقد امتألت المقبرة بهم‪ ،‬رأيتهم والدموع تنهمر من عيونهم‪ ،‬بعضهم‬ ‫حزنا على فقدانها وبعضهم تأثرا بالقرآن الذي لم يفهموا منه أي كلمة ولكنهم‬ ‫شعروا بسحره الذي مأل قلوبهم فبكوا تأثرا وحزنا‪.‬‬ ‫وقفت أرتكز على ذراع إبني البكر الذي سندني خوفا من أن أنهار‪ ،‬أتلقى وبقية‬ ‫أوالدي العزاء من األقارب واألصدقاء وأهل القرية‪ .‬تحدث رئيس البلدية عنها ثم‬ ‫تحدث صديق وجار لنا باسم أهل البلدة فبكى وأبكى اآلخرين وسبب في زيادة البكاء‬ ‫والنحيب‪ .‬رأيت أناسا لم أرهم من قبل‪ ،‬حضروا لتعزيتي وهم يبكون‪ .‬لقد قال لي‬ ‫بعض أهل القرية في ما بعد أنهم لم يسمعوا من قبل شيئا مثل ذلك‪ ،‬وأنهم ذهبوا إلى‬ ‫بيوتهم يتحدثون عن الجنازة التي لم يشهدوا مثلها والتي سيطرت على وجدانهم‪،‬‬ ‫وأخذوا يتساءلون عن هذا المدهش العجيب الذي كان ينطلق من سماعات المقبرة‬ ‫والذي سيطر على وجدانهم وأحاسيسهم ‪.‬‬ ‫وقف ابني الصغير إلى جانبي وهو صامت شارد النظرات دون أن يذرف دمعة إلى‬ ‫أن وضعنا والدته في مثواها األخير وبدأ الناس يلقون الزهور داخل القبر‪ .‬ألقى ابني‬ ‫الصغير لفافة ورق في القبر ثم انفجر في البكاء‪ .‬لقد علمت متأخرا أن اللفافة كانت‬ ‫تحتوي على قصيدة شعر كتبها لوالدته وال يعرف أحد محتواها‪.‬‬


‫‪108‬‬

‫فرغت المقبرة ولم يبق أحد سواي وعمال المقبرة وعبدالباسط عبدالصمد‪ .‬ذهب‬ ‫أوالدي مع أصدقائهم وبقيت وحيدا مع عمال المقبرة الذين أخذوا في طمر القبر‬ ‫بالتراب‪ .‬بدأ التابوت يختفي شيئا فشيئا حتى اختفى عن األنظار‪ .‬ذهبت مع بعض‬ ‫األصدقاء العرب إلى البيت ثم غادروا هم بدورهم وبقيت وحيدا‪ .‬ألقيت بجسدي‬ ‫المتعب على أريكتي المرهقة وبحلقت في الحائط الذي فوقي فرأيت صورتها وهي‬ ‫تبتسم فرحا وسعادة‪.‬‬ ‫حزني ثقيل هذا المساء وحنيني يعصر من بطن الصخر اآله‪ .‬سألت نفسي‪ ،‬هل كان‬ ‫ذلك حلما عندما يدركني الصبح سأنساه؟ دخلت غرفة النوم واستلقيت على السرير‪.‬‬ ‫مددت يدي كالعادة حتى أمسك يدها فمسكت فراغا‪ .‬كانت قد رحلت إلى األبد وبقيت‬ ‫وحيدا‪.‬‬


‫‪109‬‬

‫‪ .37‬حديث بين القبور‬ ‫كانت ليلة خريفية‪ ،‬ولكنها أقرب إلى الليالي الربيعية المتأخرة أو الصيفية ألمبكرة‪،‬‬ ‫مقمرة و دافئة‪ .‬كان الهدوء يعم القرية إال من عواء بعض الكالب ‪ ،‬يسمع بين الحين‬ ‫واآلخر‪ ،‬وصراخ ضيوف مقهى ألقرية ‪ ،‬الذين كانوا بشاهدون مباراة الهوكي على‬ ‫شاشة التلفاز العريضة المعلقة على حائط المقهى‪.‬‬ ‫فتحت باب مقبرة البلدة الحديدي ودخلت‪ .‬كانت ليلة عيد عند المسيحيين يقال له عيد‬ ‫أألرواح ‪ ،‬يقوم الناس فيه بزيارة قبور موتاهم وتنظيفها ونثر الزهور فوقها ووضع‬ ‫أكاليل الزهور على شواهدها وزرع كافة أنواع الزهور والورود حولها حتى تصبح‬ ‫المقبرة كأنها حديقة غناء‪ ,‬زاهية األلوان‪ ,‬تفوح منها رائحة الزهور والورود‬ ‫المختلفة األنواع تمتزج في عطر ينشي النفس وينعش الروح‪ .‬وفي المساء يقوم‬ ‫األهالي بإشعال الشموع حول القبور حتى تبدو المقبرة كأنها مزينة بنجوم سماوية‬ ‫متأللئة يعطي للمقبرة جوا ساحرا خالبا يسمو بالنفس والروح‪ .‬كانت المقبرة شبه‬ ‫خالية إال من بعض بقايا الزوار الذين أخذوا بدورهم يغادرون تباعا‪.‬‬ ‫توجهت نحو قبر زوجتي‪ ،‬وقفت أمامه وقرأت الفاتحة على روح الفقيدة ثم جلست‬ ‫على حافة القبر وأغمضت عيني ورحت أحدث زوجتي كما لو كانت إلى جانبي‪.‬‬ ‫حدثتها عن األوالد واألحفاد وعن كل واردة وشاردة والمستجدات في حياتنا‪ ،‬ثم‬ ‫أغمضت عيني وحلقت في مكنون نفسي حتى شعرت أنني قد خرجت من جسدي‬ ‫وأصبحت روحا تسبح في المكان والزمان‪.‬‬ ‫أفقت من غيبوبتي الروحية على صوت رجل يقف أمامي يحدثني كالما لم أفهمه‪.‬‬ ‫كان جارا لنا‪ ،‬يسألني إن كان بإمكانه الجلوس على حافة القبر المقابل لقبر‬ ‫زوجتي‪ .‬قلت له أنه ال مانع لدي إن كان صاحب القبر يسمح بذلك ‪ .‬ضحك جاري‬ ‫وقال‪ :‬ال أظن بأنه يمانع‪ ،‬وجلس‪ ،‬جلسنا لحظة يحدق بعضنا ببعض بصمت‪ .‬ثم قال‬ ‫لي هامسا‪ :‬سمعتك تتحدث مع زوجتك‪ ،‬فهل تعتقد بأنها تسمعك ؟ قلت له ‪ :‬ال أدري‬ ‫ولكنني أشعر بالراحة حين أتحدث إليها‪ .‬صمت لحظة ثم قال‪ :‬أنا أيضا أحدث زوجتي‬ ‫حين أزور قبرها‪ ،‬وكل ما أطلبه منها ‪ ،‬أن تأخذني إليها‪ .‬قلت له‪ :‬مالك مستعجل‬ ‫للرحيل إلى العالم اآلخر؟ أجاب وهو ذو الثمانين من العمر بأنه مشتاق لزوجته ومنذ‬ ‫رحيلها لم يعد لدية أي شيء يحثه على البقاء‪ ،‬فما عاد يشعر بلذة طعام وال شراب‬ ‫وال عاد يشعر بطعم الحياة وال بفرحها‪ .‬قلت له‪ :‬حولك بناتك وأبناءك وأحفادك‪،،‬‬ ‫وهم بهجة للقلب وفرحة للروح‪ .‬نظر إلي بعيون حزينة وقال‪ :‬كل منهم يعيش‬ ‫لنفسه ومشاكله وال وقت عندهم لي‪ ،‬وإنني أشعر أحيانا بأنني قد أصبحت عالة‬ ‫عليهم ويتمنون لو أنني رحلت عنهم وإلى األبد‪.‬‬ ‫شعرت بالحزن لقوله ولم يكن لدي ما أقوله له لكي أعزيه فبقيت صامتا‪ .‬سألني بعد‬ ‫فترة إن كان ديننا يؤمن بالقيامة و يوم الحساب‪ ،‬فأجبته باإليجاب‪ .‬قال‪ :‬هل تعتقد‬ ‫بأننا بعد مماتنا سنلتقي بأحبائنا الذين سبقونا إلى العالم اآلخر؟ قلت له‪ :‬نعم‪ ،‬ولكن‬ ‫سنلتقي روحيا وليس جسديا‪ .‬نظر إلي داللة على عدم الفهم ‪،‬فحاولت أن أشرح له‬ ‫فكرتي فلم أنجح‪ .‬عم الصمت بيننا ولم نعد نسمع إال أصوات أنفاسنا‪ ،‬وعز علي أنني‬


‫‪110‬‬

‫لم أستطع أن أجيبه على تساؤله فقلت له‪ .‬لقد أخبرتني قبل قليل أنك تحدث زوجتك‬ ‫عندما تزور قبرها‪ ،‬إذن فأنت تشعر بها وكأنها بجانبك‪ ..‬هز رأسه موافقا على‬ ‫كالمي فتابعت وقلت‪ :‬هذا هو يا صديقي اللقاء الروحي وهكذا‪ ،‬حسب ما أعتقد ‪،‬‬ ‫أننا سنلتقي مع أحباءنا الذين رحلوا قبلنا‪.‬‬ ‫ال أدري إن كان كالمي قد أقنع جاري ولكنه صمت لفترة ثم عاد وسألني‪ :‬هل لك أن‬ ‫تشرح لي كيف سنقوم من قبورنا وفي أي حالة‪ ،‬وهل سنقوم كما متنا‪ ،‬أعني في‬ ‫نفس العمر والشكل الذي متنا فيه؟ ضحكت وقلت‪ :‬ال أدري فهذا سؤال يصعب‬ ‫الجواب عليه وأنا‪ ...‬ولكنه قاطعني قائال‪ :‬إن كنت سأقوم عجوزا كما مت فال أريد أن‬ ‫أقوم وأفضل أن أظل ميتا في قبري‪ .‬ضحكت وقلت له‪ :‬معك حق في ذلك ولكن األمر‬ ‫في يد الخالق وليس في يدنا‪.‬‬ ‫رحت بدوري أفكر في أجوبة ألسئلة جاري ولكنني لم أجد جوابا يقنعني وراحت‬ ‫األسئلة تتوارد سؤاال بعد سؤال عن فلسفة الموت والحياة وما العبرة منها وهل‬ ‫علينا أن نبحث عن العبرة في الموت أم في الحياة‪ .‬شعر جاري بغيابي الذهني فقال‪:‬‬ ‫أرجوك سامحني إن كنت قد قطعت عليك هدوءك وأزعجتك بأسئلتي‪ ،‬ولكنني قرأت‬ ‫كتبك ومعظم مقاالتك وما فيها من آراء جريئة ‪ ،‬مما شجعني على سؤالك‪ ،.‬وأنا‬ ‫فعال في حيرة من أمري‪ ،‬ففي كل مساء أدعو هللا أن يميتني في منامي لكي ألتحق‬ ‫بزوجتي‪ ،‬ولكن ماذا لو مت ولم ألتق بها؟ ماذا لو أن الموت هو نهاية لكل شيء‬ ‫وأنه ال قيامة بعد الموت وال لقاء مع أحبائنا الذين سبقونا وماتوا قبلنا ؟ هذا‬ ‫يرعبني يا صديقي ويقض علي منامي‪.‬‬ ‫فاجأني حديث جاري وصدمتني أسئلته التي ال بد أنها تدور في عقول الكثيرين وال‬ ‫يجدون جوابا مقنعا لها‪ ،‬وتحيرت بماذا أجيبه وهو في شوق لمعرفة األجوبة على‬ ‫تساؤالته‪ .‬لقد وثق في معرفتي وفي قدراتي اإلجابة على أسئلته أكثر من طاقتها‬ ‫على اإلجابة على مثل هذه األسئلة‪ ,‬نظرت إليه فوجدته متلهفا كي يسمع مني‬ ‫إجابات تقنعه وتريحه‪ .‬بعد فترة من الصمت توجهت إليه قائال‪ :‬إنك تطرح علي يا‬ ‫صديقي أسئلة صعبة يحاول اإلنسان أن يجيب عليها منذ وعيه بوجوده على سطح‬ ‫هذه األرض‪ ،‬ولقد حاول الفالسفة ورجال الدين اإلجابة على هذه األسئلة وخرجوا‬ ‫بعدد من المعتقدات والفلسفات ولكنها لم تشبع رغبة المتسائلين‪ .‬األديان السماوية‬ ‫يا صديقي ومنها ديانتكم وديننا تؤمن بالقيامة والحساب ومعه العقاب والثواب ‪.‬‬ ‫العقاب في نار جهنم والحساب في نعيم الجنة‪ .‬ولكن األديان يا صديقي لم تعطنا‬ ‫تفصيال وال أجوبة ألسئلتك‪ ..‬فهي لم تحدد لنا في أي شكل وفي أي عمر ستكون‬ ‫قيامة اإلنسان وإن كنا سنلتقي بأحبائنا الذين رحلوا قبلنا ‪ ،‬وهل وهل‪ ،‬مئات األسئلة‬ ‫بقيت من دون جواب‪ .‬الحكمة الشرقية ومنها الصينية تؤمن بأن الجسد ليس إال‬ ‫صندوقا لحفظ الروح وعند الموت تخرج الروح لتحل في صندوق آخر وهكذا يستمر‬ ‫استنساخ األرواح إلى ما ال نهاية‪ ،‬وهي ال تؤمن بالقيامة وال بالعقاب أو الثواب‬ ‫بعدها وإنما أثناء عملية اإلستنساخ فإما أن ترقى الروح وتحل في جسد راق أو‬ ‫تنحط فتحل في جسد وضيع‪.‬‬ ‫شعرت أنني قد أثقلت على جاري‪ ،‬فلقد الحظت عالمات التعب على وجهه فآثرت‬ ‫الصمت‪ .‬قام من مكانه ثم ودعني ورحل بصمت‪ .‬كانت المقبرة قد خليت من الزوار‬


‫‪111‬‬

‫وبقيت فيها وحيدا مع أفكاري‪ .‬ال أدري كم بقيت جالسا هناك وحيدا مع موتى ال أعلم‬ ‫إن هم شعروا بوجودي‪ .‬كان الهدوء قد سيطر سيطرة تامة على المقبرة وعلى‬ ‫القرية‪ ،‬وحتى عواء الكالب لم يعد يسمع‪ ،‬لعل الكالب نامت أو أنها هي األخرى‬ ‫تاهت مع أفكارها‪ .‬كانت الشموع ال تزال مشتعلة كنجوم سماوية سقطت على‬ ‫األرض‪ ،‬وكانت رائحة الزهور تعبئ المكان حتى عبقت بي وأصبحت جزءا من‬ ‫جسدي‪.‬‬ ‫قمت‪ ،‬ودعت زوجتي وتوجهت نحو باب المقبرة‪ .‬وقفت على عتبة الباب‪ ،‬رجل في‬ ‫الداخل وأخرى في الخارج‪ ،‬جزء مني في المقبرة وجزء مني خارجا‪ .‬بقيت واقفا‬ ‫كذلك مدة طويلة محتارا بين عالمين‪ ،‬واحترت هل أبكي على هذا أم على ذك ‪ ،‬وهل‬ ‫أبقى في هذا أم في ذك‪ ،‬سمعت صوت زوجتي يناديني من خلف الوعي‪ :‬ليس بعد يا‬ ‫حبيبي‪ ،‬ليس بعد‪ ،‬ثم خرجت من المقبرة وأغلقت الباب خلفي وبكيت على العالمين‬ ‫ومن فيهما ‪.‬‬


112


113


114


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.