1
أشجار الزيتون ال تزال في فلسطين واقفة
حكايات من فلسطين أو من وحيها
د .نضال عبدالقادر الصالح
2
مقدمة فلسطين عنوان لحكاية الحكايات ،حكايتها طويلة متشعبة ليس لها نهاية .كل شيء في فلسطين له حكاية ،كل حجر فيها له حكاية وكل شجرة فيها لها حكاية وكل شارع وزقاق وبيت له حكاية .شجرة الزيتون بحد ذاتها سجل تاريخ من الحكايات ،فعلى جذوعها سجل تاريخ هذا البلد وأسماء كل الذين اغتصبوها ثم رحلوا وبقيت هي شامخة متعالية ،وفي جذورها سجل كل من الذ إليها وذاب في ترابها فاحتضنته ومنحته إسمها .في أوراقها الدائمة الخضرة دليل على دوامية وجودها وفي ثمارها عصير دموع أهلها التي ذرفتها على مر السنين. ولدت عام 1936في مدينة نابلس في فلسطين ،وكان ذلك في أوج الثورة الفلسطينية ضد اإلستعمار البريطاني وضد الهجرة اليهودية إلى فلسطين ووالدتي لها حكاية. تدور بين األهل رواية ،أن قتاال ضاريا دار في شوارع نابلس،يوم والدتي ،بين الثوار والمحتلين البريطانيين ،من ما منع الداية من الحضور إلى بيتنا ،فما كان من والدي إال أن حمل والدتي وذهب بها إلى المستشفى القريب حيث جرت عملية والدتي .تقول الرواية أيضا أن رصاصة دخلت إلى الغرفة التي كنت راقدا فيها واستقرت في سريري ،ولقد حفظ والدي الرصاصة وقد كتب عليها إسمي وتاريخ ميالدي .قرر والدي تسميتي نضال ألنني ،حسب قوله ،ولدت في يوم من أيام نضال الشعب الفلسطيني في سبيل استقالله وحريته. حسب ما أذكر لم ألق في طفولتي وحتى في شبابي المبكر أي شخص يحمل هذا اإلسم ولم أجد لحد االن حامال لهذا اإلسم يكبرني عمرا .بقي هذا اإلسم نادرا لسنين طويلة ومن ثم بدأ بالظهور كإسم مذكر ومؤنث ،ولكنني لم ألق ،إلى وقت قريب ،أي شخص ،رجال كان أو إمرأة ،يحمل اسم نضال عبدالقادر الصالح ،غيري. قبل عدة أعوام وصلتني رسالة على عنوان بيتي في سلوفاكيا معنونة باسم الدكتور نضال عبدالقادر الصالح وهو اسمي الكامل .عندما نظرت إلى المرسل وجدته يحمل نفس اإلسم نضال عبدالقادر الصالح ،فاعتقدت أن خطأ ما قد حصل .ولكنني عندما فتحت الرسالة وأخذت أقرأ محتوياتها دهشت من أن المرسل يحمل فعال نفس اإلسم. تبدأ الرسالة بعد السالم بالقول ":إنني أسارع فأفجؤك قائال أن مرسل هذا الخطاب إليك هو أنا " نضال عبدالقادر الصالح" والذي بوغت ،نعم بوغت ،حين وقعت عيناي في إحدى الصحف اللبنانية على مراجعة كتاب بعنوان " هموم مسلم" بتوقيع الدكتور نضال عبدالقادر الصالح ولقد استعرت هذه المباغته حين تأكد لي ، وأنا أرى الكتاب ،أن المسالة ليست خطيئة مطبعية ،أو تزويرا أريد من خالله نسبة كتاب ليس من صنيعي إلي .وكان أن سارعت إلى السيد بشير الداعوق ،في دار
3
الطليعة التي نشرت الكتاب ،أستفسره عن الموضوع ،فتفضل بإعالمي بأن نضال عبدالقادر الصالح اآلخر ،الذي هو أنت ،حقيقة ،ثم تفضل بتزويدي بعنوانك في سلوفاكيا ،فسارعت إلى كتابة هذا الخطاب إليك". تحدث نضال عبدالقادر الصالح اآلخر في رسالته عن نفسه وعن إختصاصاته ومجال عمله ،فهو سوري من مواليد مدينة حلب سنة ،1957يحمل"وقتها" شهادة الماجستير في النقد األدبي الحديث وكان يعد أطروحة لنيل شهادة الدكتوراة في النقد األدبي الحديث بعنوان " النزوع األسطوري في الرواية العربية المعاصرة" .كما عرفت من الرسالة أن لسميي عدة مؤلفات في األدب والنقد. في الحقيقة أنني بدوري بوغت ،فإسم نضال الصالح اسما نادرا ،أما أن يكون اإلسم مطابقا إلسمي بالكامل فإن المباغتة أدهشتني .ومنذ ذلك اليوم وأنا أتابع المسيرة األدبية والنقدية لنضال عبدالقادر الصالح اآلخر ،ولقد سررت بنجاحاته األكاديمية، فلقد حصل على شهادة الكتوراة بامتياز وأصبح نائبا لعميد كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية الثانية في جامعة حلب للشؤون العلمية وعضوا في عدة جمعيات ومؤسسات تهتم باألدب والنقد .كما صدرت له عدة مؤلفات في األدب والقصة والنقد األدبي . الحكايات الموجودة في هذا الكتاب هي حكايات حقيقية عن شخوص حقيقية عاشت أو ال تزال تعيش في وطنها فلسطين أو في الهجرة خارجها .كما يوجد بعض القصص التي ليس لها عالقة ماشرة بفلسطين ولكنني درجتها في هذا الكتاب ألنها قصص إنسانية عان أصحابها ومعاناتهم ذكرتني بمعاناة شعبنا الفلسطيني. لم أحاول في هذه الحكايات أن أعير جل اهتمامي للحبكة القصصية وال إلى اللغة األدبية المعقدة .لقد بذلت جهدي فقط في الحفاظ على الحدث ووضعه في إطار مبسط يسهل على القارئ العادي فهمه وتقبله فلم يكن هدفي مخاطبة األدباء والنقاد وإنما مخاطبة القراء العاديين .إنني أحاول أن أظهر للقارئ بأن فلسطين ليست حماس وفتح ورجال السلطة فقط ،وإنما هي هؤالء الماليين من البسطاء الذين يفيقون في الصباح وفي رأسهم هموم ،وهي كيف يجدون لقمة العيش ألطفالهم وأهلهم وكيف يصلون إلى عيادة الطبيب لمعاجة مرضهم او مرض احباءهم ،وكيف عليهم تخطي الحواجز اإلسرائيلية ،وكيف الوصول ألرضهم وبساتينهم لزرعها أو قطاف ثمارها أو حصد مزروعاتها دون أن تواجههم إعتداءات المستوطنين المتعطشين لدماءهم. هؤالء هم المقاومون الحقيقيون والذين يدفعون من دمهم ثمن صمودهم ومقاومتهم .هم في الغالب ال يعون خبايا السياسات العربية والعالمية وسياسات المصالح المتبادلة والدهاليز واألروقة المحلية والعالمية .هم يعرفون أن فلسطين وطنهم وال يملكون وطنا آخرا غيره وإن عاشوا خارجه وأن عليهم الصمود والمقاومة من أجل حمايته وحماية أطفالهم وأهلهم ومن أجل لقمة عيشهم .هذه أمثلة بسيطة من حكاياهم في هذا الصراع اليومي .حكايا ال تتحدث عنها محطات التلفزة وال الصحف اليومية ألنها حكايا ال تهم اإلعالم وال القائمين عليه.
4
.1
أشجار الزيتون ستظل في فلسطين واقفة
أبو خضر تجاوز الثمانين عاما ،محني الظهر يتعكز على عصى صنعها من شجر الزيتون ،محنية مثل ظهره .تنظر إليهما فترى أثر السنين على وجوههما ورغم اإلنحناء الظاهر تشعر بالكبرياء الذي يفيض من داخلهما. شجر الزيتون في بالدنا فلسطين ،كتاب تاريخ ،على صفحات جذوعه سطر التاريخ أيام هذا البلد الممزوجة باأللم واألمل والدموع واإلنتصارات والهزائم و يحمل في مرارة ثماره طعم المرارة التي تركتها أقدام كل الغزاة الذين داسوا على هذه األرض ورحلوا بعد أن عاثوا فيها فسادا ،وبقيت شجرة الزيتون واقفة ،جذورها التي شربت من دماء أبناءها حتى ارتوت ،عميقة في األرض كشعبها الفلسطيني. أبو خضر من القالئل الذين بقوا على قيد الحياة الذي يعرف بالدقة ما تركه لنا والدنا رحمه هللا من شجر الزيتون .كان والدي يعشق شجر الزيتون وكلما آلت له الفرصة كان يشتري منها ما تيسر .عندما كنت صغيرا كان يأخذني معه لنطل على الزيتون ولقد اعتاد أثناء تجواله بين أشجار الزيتون أن يترك لبس المدينة وأن يلبس القنباز الفلسطيني مع السروال األبيض الطويل ويشبك طرف القنباز في حزام الوسط لتسهيل عملية المشي بين الحبايل .كان يعرف كل شجرة وهي بالمئات ،وكان يتحدث مع شجرة الزيتون كأنها رفيقة العمر ،يقص بعض جذوعها الناشفة ويمسح عنها ما علق من طين وأوساخ .كنت أسأل والدي كيف تعرف أن هذه لنا وهذه لغيرنا ،إنها بالنسبة لي متشابهة؟ كان ينظر إلي ويقول أعرفها كما أعرف أبنائي يا بني. أبو خضر اعتاد أن يسرح مع والدي ليطل على أشجار الزيتون ورغم كبره وسوء صحته يعرف كل شجرة ومن من اشتراها والدي .كنت أتعجب حين يقول لي هذه ليست لكم ،هذه للحاجة وسيلة أما هذه وهذه وهذه فهي لكم اشتراها والدكم من يونس أما هذه وهذه فهي لكم فك والدكم رهنيتها من صالح العبد وكانت ملك سليمان الحاج وهكذا .ولذلك اعتدت حين أزور قريتنا أن أسرح معه ليدلني على أشجار الزيتون التي تركها لنا والدنا. في آخر زيارة لي لفلسطين دعيت من قبل قريب لي ،مدير مدرسة قريتنا ،على الغداء .قررت أن أستغل الفرصة فاسرح مع أبي خضر لزيارة زيتوننا لعلني أتعلم منه شيءا جديدا .حين وصلت القرية ذهبت لزيارته في سقيفته المصنوعة من الطين والقش والتي تتكون من غرفة واحدة مرتفعة يقال لها علية ومن جابية لحفظ القمح أو الطحين ومن مسطبة يضع فيها بعض المونة. وجدته جالسا على عتبة السقيفة في مالبسه الداخليه التي تتكون من سروال طويل و من قميص قطني بأكمام طويلة .قام حين رآني وعانقني ودعاني إلى السقيفة
5
فطلبت منه أن نجلس خارج السقيفة فأحضر لي تنكة زيت فارغة قلبها ووضع عليها قطعة قماش ودعاني للجلوس .صرخ على ابنته الوحيدة العانس أن تغلي لنا كاسة من الزعتر فركضت لتلبية الطلب .طلبت منه أن يلبس ويسرح معي لنطل على زيتوننا .صرخ على ابنته قائال :نشف القمباز يابا؟ علمت أن إبنته غسلت القمباز الوحيد الذي يملكه وهو ينتظر أن ينشف .بعد أن شربنا الزعتر أحضرت ابنته القمباز الذي لم ينشف تماما وكان فيه ثقبين بحجم القرش الفلسطيني .قلت له: يلزمك قمباز جديد يا أبو الخضر .فأجاب :ماشي حالو يا ابن عمي ،هو أنا رايح أقابل السلطان عبد الحميد. لبس أبو خضر القنباز الذي لم ينشف تماما معلقا بأنه سينشف في الهواء الطلق ووضع قدميه في حذاء اختفى لونه وتغير شكله حتى بات كما يقول أهل بلدنا "شحاطة أو حفاية" بثقبين لتهوية القدمين كما علق عليهما أبو الخضر .ذهبنا إلى منطقة يقال لها قربوصة تكثر فيها ،إلى جانب أشجار الزيتون ،أشجار التين والعنب وهي محاذية ألراضي قرية يقال لها قريوت .وعلى رأس الجبل الذي يطل على قربوصة وقرية جالود حط بعض اليهود المتدينين وأقاموا لهم فيه مستوطنة يرهبون من خاللها ،وتحت أنظار الجيش اإلسرائيلي وبحمايته ،أهالي المنطقة ويمنعونهم من الوصول إلى حقولهم وأشجارهم .لقد ترك لنا والدي في تلك المنطقة بستانا يحتوي على مجموعة من أشجار الزيتون وإلى جانبها بعض من أشجار التين والخوخ نشفت من اإلهمال وعدم الخدمة. أخرجت من جيبي قلما وبحثت عن ورقة لكتابة بعض الملحوظات عن حدود البستان وعدد أشجار الزيتون فيه فلم أجد فسألت أبا الخضر إن كان يحمل ورقة فأخرج مجموعة من جيبه ووضعها في يدي .كانت جميعها وصفات طبية لم تصرف فسألته عنها .عرفت منه أن طبيب الصحة ياتي مرة كل شهر فيذهب إليه وهذا بدوره يكتب له عالجا ال يستطيع أبو الخضر شراءه ألنه ال يملك ماال .نظرت إليه وسألته ما هو مصدر رزقه فقال :مستورة والحمد هلل .قلت له :حدثني عن أمالكك! فقال :أملك أرضا أزرعها قمحا تعطينا مونة العام من الطحين وأملك خمس شجرات زيتون تعطينا مونة العام من الزيت والزيتون وأضاف :قلت لك مستورة والحمد هلل .نظرت إليه وقلت :أعذرني على وقاحتي وأريد أن أسألك متى أكلت لحمة آخر مرة؟ صمت لحظة ثم قال :ال أتذكر ولكن أعتقد أنه منذ عامين ثم أضاف ولليش هي اللحمة؟ جلسنا على أحجار الحبلة التي تحيط بالبستان وصمتنا كل مع أفكاره .ثم خاطبته قائال :أريد منك يا أبا الخضر خدمة أرجو أن تلبيها لي فقال :أطلب رقبتي اعطيك إياها! قلت :ال أريد رقبتك ودعها على كتفيك ولكنني أريد منك أن تأتي معي لطعام الغداء عند إبن عمنا مدير المدرسة .فنظر إلي بتعجب وقال بحدة :أتقبلها لي أن أذهب بدون دعوة؟ وأضاف بأنه لم يتلق أي دعوة فكيف يذهب .قلت له :أنا أدعوك وأنا أمون عليك وعليه .فنظر إلي بشموخ وبقليل من الغضب وقال :له له ما كنت أتصور أنك ترضاها لي ،أن أذهب إلى الغداء بدون دعوة.
6
بائت كل محاوالتي إلقناعه بالفشل .أخرجت من جيبي خمسمائة دينار وضعتها في يده فقفز كأنما لسعته أفعى وصاح" :له له شو هاظ ،يا مصيبتي ،مقابل إيش هذي المصاري ،له له ،يا ريتني مت وال شفت ها الشوفه" .حاولت معه كل الطرق الممكنة وحلفته بالنبي محمد وببقية األنبياء ولكنه رفضها وأخذ يردد " مستورة يا ابن عمي مستورة والحمد هلل" .وأخيرا قلت له :هل تسمح لي بأن أرسل لك األدوية المكتوبة في الوصفات؟" صمت وأجاب باإليجاب. رجعنا إلى القرية ونحن في حالة صمت تام حتى وصلنا إلى منزل مدير المدرسة. ودعني ورحل وانتظرت أراقبه وهو يغادر وبدأ ظهره المنحني يختف مع صوت دقات عصاه المحنية والمصنوعة من شجر الزيتون الفلسطيني .كان يسير بشموخ وعصاه تدق على األرض كما يدق الطارق على باب بيته ،ينتظر من أهل بيته أن سيمعوه فيفتحوا له باب البيت ليدخل ويستريح .لعله كان يدق على باب األجداد الذين دفنوا في هذه األرض لكي يخبرهم أنه قادم إليهم وليطمئنهم " أننا ما زلنا هنا وأن شجر الزيتون في بلدنا ال يزال واقفا"
7
.2
عندما يصبح غصن الزيتون رمزا للمقاومة
تقع قرية جالود على رأس جبل عال تكثر فيه الرياح ويطل على سهل يمتد حتى غور األردن .يقال أن المرأة التي تخبز خبزها في الطابون وتخرج به إلى بيتها عليها أن تشده إلى صدرها بقوة حتى ال تطيره الرياح القوية .ال يتجاوز عدد سكان جالود الخمسمائة نفر وأكثرهم من أصول عائلة واحدة ترجع جذورها وجذور عائلتنا في قرية تلفيت وقرى أخرى في مشاريق نابلس إلى أصول واحدة .ومن المالحظ في قرية جالود كثرة ذوي العيون الزرق وهي ظاهرة غير غريبة في فلسطين وفي بالد الشام عامة ،ففي أحضان هذه المنطقة إنصهرت شعوب مختلفة كثيرة مثل الكنعانيين والرومان واليونان وغيرها وانتجت شعبنا الفلسطيني اإلستثنائي والفريد ومثيله من أبناء سوريا الكبرى. كان قريبنا أبو فوزي زعيم قرية جالود ومن رجال المنطقة البارزين ،ولقد كان من أحد قادة ثورة عام 36ضد اإلنجليز في منطقة مشاريق نابلس ،ولقد سجنه اإلنجليز وحكموا عليه باإلعدام وكاد أن يعدم لوال تدخل مسؤول بريطاني كان أبو فوزي قد أنقذ حياته حين أراد بعض الثوار قتله ،فجرى تبديل الحكم عليه بالسجن .إشتهر أبو فوزي بالكرم الذي كان يصفه البعض بالكرم المجنون .كانت مائدته مشهورة بالغنى ،يأكل منها الضيوف وما تبقى يطعم الكثير من أهل القرية .ولقد عرف عنه القول أن غنى المائدة يدل على مكانة الضيف وقيمته عنده. أنجب أبو فوزي ثمان بنات وكان في كل مرة ينتظرالولد الذي سيرث اسمه ولقد جاء هذا الوريث في حمل أم فوزي التاسع ولكنه لسبب غير معروف ولد بعطب وثقب في القلب .وبسبب مرضه القلبي هذا كان حتى تجاوز السبع سنوات من عمره عاجزا عن المشي والكالم وكان أزرق اللون ضارب إلى السواد من سوء التهوية التنفسية .لقد وصل األطباء إلى نتيجة بأن فوزي سيموت حتما إذا لم تجرى له عملية على يد أحد إخصائيي القلب المعروفين في العالم .وهكذا كان وبعد مشاورات طبية ومراسالت شارك فيها بعض أطباء القلب في عمان والقدس قرر أبو فوزي أن يسافر إلى لندن مع إبنه إلجراء العملية الجراحية المطلوبة على يد طبيب قلب مشهور. سافر أبو فوزي إلى لندن حامال ولده الوحيد بين ذراعية ،موصوال بجهاز أكسجين للتنفس اإلصطناعي وكان أبو فوزي يتمتم الدعاء تلو الدعاء كي ينقذ الباري ولده ويعيده إلى أمه سالما .وبعد عدة عمليات جراحية خطرة وإقامة نقاهة دامت عدة أشهر ،رجع الفتى مع والده إلى الوطن ونزل من الطائرة ماشيا على أقدامه ،أبيض اللون أحمر الخدين وعلى وجهه ابتسامة رأيتها على وجهه للمرة األولى منذ والدته .ولقد فوجئنا حين سمعناه يتكلم ألول مرة وكانت كلماته خليط من العربية وبعض الكلمات اإلنجليزية التي التقطها من الممرضات في المستشفى .ولقد راح يروي لنا قصصا غريبة عن المستشفى وممرضاته ونزالئه وعن الشاي مع الملك( الحليب) الذي اعتاد شربه في المستشفى .وأكثر أحاديثه كانت عن صديقه المغني
8
المعروف "فريد األطرش "الذي كان نزيل نفس المستشفى حيث أجريت له هو اآلخر وعلى يد نفس الجراح عملية جراحية لقلبه. بعد أن عاد فوزي من إقامته العالجية في لندن معافا صحيح البدن ،قام والده بهذه المناسبة بزرع قطعة أرض في وادي جالود زيتونا خصصها ألحفاد المستقبل من ابنه فوزي .لقد عمل بالمثل المعروف " زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون" .كان مجموع ما زرع في تلك القطعة ثالث مئة شجرة من أفضل أنواع الزيتون ،أوالها رعايته الخاصة وكان يسميها أحفادي ويعاملها ويرعاها كأنها أحفاده .نمت األشجار مع نمو فوزي وكبرت وقوي عودها كما كبر فوزي وقوي عوده .وبعد سنين أثمرت زيتونا وزيتا كما أثمر فوزي وأنجب أوالدا وبناتا .كانت السعادة تغمر العائلة وكان منظر بستان الزيتون وأبو فوزي وفوزي منحنين على أشجاره يعالجونها واألحفاد يتراكضون بينها كأنما هم يتناغمون مع أصدقاء لهم في مثل عمرهم ،يسر البال والخاطر. جاء اإلحتالل اإلسرائيلي وجاء معه المستوطنون ذوي اللحى الشقراء المجعدة والطواقي الصغيرة الملصقة على الرأس وأقامو على قمة الجبل المقابل لجالود حافلتين تحولت بعد أيام إلى بيتين ومن ثم تكاثرت كالسرطان حتى تحولت إلى مستوطنة كبيرة ،استولت على األرض والماء والهواء .امتدت المستوطنة وتوسعت حتى حاذت بستان زيتون أبي فوزي يفصلها عنه سياج سلكي ضخم و طريق ترابي. في صباح أحد األيام قامت قرية جالود على منظر مرعب .لقد قام المستوطنون الصهاينة بقطع جميع أشجار الزيتون في بستان أبي فوزي وكان منظر األشجار مقطوعة وملقية على أرض البستان كمنظر مذبحة للهنود الحمر في األفالم األمريكية الرديئة .لقد رأيت المنظر بنفسي حيث صدف أنني كنت في فلسطين حين وصلني خبر المذبحة .لقد كان أبشع ما في الصورة هو منظر أؤلئك القتلة واقفين غير مبالين واإلبتسامة الكريهة بطبوعة على وجوههم البشعة تدل على الكراهية التي يحملونها في قلوبهم السوداء تجاه هذه األرض الطيبة وهواءها وشجرها وأهلها وكأنما كتب على وجوههم القبيحة " جئنا نعوث في أرضكم فسادا". لقد سارع الجيش اإلسرائيلي لحماية القتلة ووقف الجنود سدا بين المستوطنين وبين أهل القرية الذين وقفوا مصعوقين مبهورين بمنظر األشجار المقطوعة والملقية على األرض ،وكاد الجنود أن يلقوا القبض على فوزي الذي كان يبكي من القهر والعجز .رأيته جالسا على األرض وهو يبكي ولم أجد أي فائدة من مواساته فالكلمات ليس لها معنى في مثل هذه المواقف .كان الجنود يصرخون عليه وعلى أهل القرية ،يأمرونهم بالتفرق والذهاب إلى بيوتهم بحجة أنهم يخلون باألمن. علمت من الحاضرين أن أبا فوزي قد أصيب بالجلطة ولقد أخذته سيارة اإلسعاف إلى المستشفى في نابلس وهو يردد " لقد قتلوا أحفادي ،لقد قتل األوغاد أحفادي" وكانت بداية النهاية بالنسبة له فلم يشف من وقع المصيبة أبدا وتوفاه هللا بعد مدة.
9
أشار بعض األقارب من عرب 48على فوزي أن يقيم على المستوطنة دعوة قضائية في المحاكم اإلسرائيلية وأقاموا له لهذا الغرض محاميا من عندهم .رفعت الدعوى وتاه فوزي ،في البداية برفقة محامية وبعد أشهر لوحده بعد أن تعب محاميه ،في أروقة المحاكم اإلسرائيلية باحثا عن العدالة اليهودية حيث القاضي هو الجالد والشرطي هوالقاتل والحاكم هواللص .حتى السلطة الفلسطينية لم تمد له يد المساعدة أو لم يكن في يدها حيلة. بعد سنوات عدت لزيارة الوطن وقررت كالعادة في كل زيارة أن أزور فوزي حتى أستعلم منه عن تطورات قضيته .ركبت السيارة القديمة التي استعرتها من إبن أختي في نابلس وتحركت نحو جالود وهي تبعد عن قريتنا عدة كيلومترات .وقفت في قريتنا وأخذت معي صديقا وقريبا لي .عندما وصلنا إلى مفترق الطرق الذي يتفرع عنه طريقان واحدة إلى جالود واألخرى إلى قريوت ،طلب صديقي مني الوقوف ومن ثم أشار علي بالنزول من السيارة والمشي على األقدام قائال"،سنجد فوزي في البستان". عندما وصلنا البستان وجدنا فوزي بالكوفية الفلسطينية المربوطة حول راسه واقفا ويديه قابضتان على فأس يحفر بمساعدة بعض أهل القرية جورا يزرعون فيها أشتاال من الزيتون .عندما طرحنا عليهم السالم ،رمى فوزي ما بيده ونزع عن رأسه الحطة ومسح بها العرق المتصبب من جبينه وتوجه إلينا راكضا واإلبتسامة تغطي وجهه .تعانقنا ونظرت إليه وكأنني أرى أمامي والده رحمه هللا .فرش حطته على األرض ودعاني للجلوس وقال ضاحكا " :حتى ال توسخ بنطلونك يا مدني". سألته متعجبا " :هل تزرع البستان من جديد؟ ولم أنتظر إجابته فأضفت: سيقطعونها لك من جديد يا رجل" .نظر إلي بتحدي وقال إن قطعوها سأزرعها من جديد .ثم نظر إلى المستوطنه وصاح بأعلى صوته :إقطعوها يا أوالد الكلب وسأزرعها من جديد". كان الصمت والسكون يعم المستوطنة كأنما كانت فارغة من السكان وكان بين الحين واالخر يسمع أصوات خافتة بعيدة .قال فوزي :هم يعيشون هنا ولكنهم يعملون في إسرائيل ،إننا نسمع أصواتهم في المساء وفي الليل فقط .رآني أهز راسي عجبا وأنا أنظر إلى أشتال الزيتون فقال لي بجدية " :يا إبن عمي ،راح يجي يوم ينقلعوا فيه من أرضنا ويرحلوا عن بلدنا مثل ما إنقلع غيرهم وسيبقى الزيتون". بعد أن شربنا الشاي بالنعناع المغلي على نار من حطب الزيتون وبعد أن وعدته بأن أحضر في اليوم التالي للغداء عنده تركناه وغدرنا راجعين .تركت صديقي في قريتنا واتجهت نحو نابلس وال تزال كلمات فوزي ترن في أذني " :سينقلعون يوما من أرضنا وسيغادرون بلدنا كما فعل غيرهم من الغزاة وسيبقى الزيتون" .في تلك اللحظة عرفت أن غصن الزيتون ال يدل في بالدنا على السالم فقط وإنما على التحدي والمقاومة.
10
.3
مدينتي وأم سائد
مدينتي نابلس تتمتع بنكهة خاصة ولها خصوصيتها ولقد أطلق عليها عالم اآلثارارنست رايتس عاصمة فلسطين غير المتوجة ويطلق عليها أهل فلسطين جبل النار لدورها في ثورات الفلسطينيين المتتابعة ضد اإلستعمار والصهيونية. النابلسيون لهم أيضا نكهتهم الخاصة ،لهجتهم التي تمط كجبنة الكنافة النابلسية، عاداتهم وتقاليدهم وحشريتهم التي تظهر لبعض من ال يعرفهم أنها نوع من الوقاحة وما هي بذلك ،حرصهم على الجار وعلى إبن البلد وتكاتفهم مع بعضهم البعض .ال يوجد في نابلس أسرار والنابلسيون يحبون القيل والقال بدون ضغينة أو حسد .ال تستطيع أن تختبئ من عيونهم وأسئلتهم الفضولية -مين األخ؟ وابن مين إنت؟ ووين بشتغل؟ وقديش راتبك؟ وشو بقربلك فالن؟ وسيل من األسئلة التي في بعض األحيان تتجاوز المعقول. بعد اإلحتالل الصهيوني سقطت عني المواطنة في بلدي كما سقطت عن االالف المؤلفة من أبناء شعبي .هكذا قرر الفاشيون الجدد ووافقتهم دول الغرب " الديموقراطية" وصمتت الدول التي تسمى عربية ،فلم يكن لديها ،كما هو حالها اليوم ،ما تقول. لذا كانت الزيارة لنابلس تكلفني كثيرا من الجهد والعناء ،حيث كان علي أن أقدم طلبا للسفارة اإلسرائيلية في فينا وكنت أنتظر الحصول على اإلذن عدة اشهر وفي كثير من الحاالت كانت ترفض بدون شرح األسباب .في حاالت أخرى كان األهل في نابلس يقومون بالسعي للحصول على إذن زيارة يخولني بزيارة بلدي وموطني .أما بعد حصولي على الجنسية السلوفاكية فأصبحت األمور أكثر سهولة وأكثر غرابة وغير معقولية فلقد انفتحت أمامي إمكانية زيارة بلدي كسائح أجنبي لعدم لزوم الفيز لألوروبيين. منزلنا يقع في الجهة الشرقية من نابلس ويطل في الجهة المقابلة على العمارة أو الدبوية كما كان يقال لها ،وهي مركز محافظة نابلس ،بناها األتراك وأعاد بناءها اإلنجليز ومن ثم السلطة األردنية وهدمها أو هدم قسما كبيرا منها اليهود اإلسرائيليون. منزلنا يتكون من طابقين وله حديقة جميلة مملوءة بأشجار الليمون والبرتقال والمندرينا والبوملي .ولقد اعتدت أن أجلس مع والدتي كل صباح في شرفة المنزل حيث نحتسي القهوة بالهال ورائحة الحمضيات تفوح في أرجاء الحديقة وجزء من البيت وتختلط مع رائحة القهوة والهال .وكثيرا ما كان ينضم إلينا الجيران وتمتلئ الشرفة بالضيوف واألصدقاء واألحباء .ال يمكنك أن تشعر بالوحدة في نابلس ،لن يسمحوا لك بذلك.
11
المشي في شوارع وأزقة البلدة القديمة متعة ما بعدها متعة .فمن هنا مر الرومان واليونان واألتراك واإلنجليز واإلسرائيليون الصهاينة ،وكل منهم هدم منها ما هدم وخرب ما خرب ،ولكنها بقيت صامدة ،شامخة تحكي عن تاريخ كل الذين مروا وذهبوا وما عادوا وبقيت هي. كان مشواري المعتاد إلى البلدة القديمة بمثابة حج أقوم به كل يوم .كنت أخرج من بيتنا وأتوجه مشيا على األقدام إلى البلدة القديمة ،وكان المشوار الذي من المفروض أن يأخذ أربعين دقيقة يستمر عدة ساعات ،حيث كان علي أن أقف في عدة محطات ال بد منها لشرب القهوة هنا والشاي بالنعناع هناك واليانسون في محل آخر .أول محطاتي عادة ما تكون قهوة باب البوابة الشرقية ،حيث يجلس القادمون من قرى شرقي نابلس وحيث أجد في كل مرة بعضا من األقارب أو األصدقاء .باب البوابة الشرقية الذي لم يعد موجودا بالفعل يعم بمحالت السمانة وبائعي الخضار. وكنت أشرب القهوة على صوت بائعي الخضار الذين يروجون لبضاعتهم -أحمر وزي العسل يا بطيخ ،أصبع الست يا خيار ،ريحاني يا موز ،وبين الفينة واألخرى كنت أسمع صبي القهوة يطلب القهوة للضيوف بصوت عالي وبشعرية عفوية- واحد حلوي لألفندي اللي جوي ،تالته سادة للساده واثنين سكر قليل للشب القصير وصاحبه الطويل ،وهكذا. بعد اإلنتهاء من شرب القهوة واإلعتذار عن قبول عشرات الدعوات لطعام الغداء، كنت أقوم وأخترق جموع الناس المكتظة لقضاء حاجاتها المختلفة وأتجه نحو البلدة القديمة .الطريق يخترق السوق المكتظ مرورا إلى الجامع الكبير أو الجامع الصالحي نسبة إلى صالح الدين األيوبي الذي أعيد بناءه في زمنه .الجامع الكبير بفصل الطريق إلى طريقين ،واحد يتجه إلى ساحة المنارة وجامع النصر واآلخر إلى خان التجار ومن ثم إلى سوق البصل وسوق الحدادين. كنت أسلك طريق خان التجار مرورا بسوق الذهب وأخرج من هناك متجها نحو صيدلية عدي هاشم ،صديقي الذي درس الصيدلة في فينا وكان يزورني في براتسالفا وكنت أزوره في فينا .وال أبالغ إن قلت أنني كنت خالل هذا الطريق القصير اقف عشرات المرات لمصافحة وعناق المعارف واألقارب ولقبول دعواتهم إلحتساء القهوة أو الشاي أو اليانسون أو الكازوزة. صيدلية عدي هاشم تقع مقابل حلويات العكر المشهورة بصنع الكنافة النابلسية، وكنا نجلس أمام الصيدلية نراقب الناس وهم يدخلون محل الحلويات ويأكلون الكنافة الساخنة ،وكان عدي يغريني بقوله :شو رايك يا ابو داوود في كنافة سخنة من الصدر؟ كنت في بعض الحالت أقبل العرض المغري وفي أخرى أرفضة معتذرا بأنني مدعو على الغذاء عند أختي أم سائد وكان يرد على اعتذاري ":طبعا يا خيي، ما منقدر نتعدى على أم سائد".
12
أختي أم سائد ،شادن الصالح ،زوجة الدكتور جمال أبو حجلة ،طبيب األنف والحنجرة ،يعرفها النابلسيون جيدا .وحين كنت اسير معها في شوارع نابلس ،كانت تتلقى التحيات من كل حوب وصوب .كانت في غاية الطيبة وكان لسانها الذعا ال تستحي أن توجهه لمن يستحق .وكان الجميع يتلقى نقدها بكل حب ورضى قائلين": بتؤمرينا يا أم سائد وإنت على راسنا من فوق" .وكانت تضحك ضحكتها المشهورة وتجيب " هللا يرضا عليكم ،إنتو أخوتي وأوالدي". أم سائد كانت إلى جانب فضائلها األخرى طباخة ماهرة وكانت تعرف أنني أحب كبة الرز المطبوخة باللبن .وكبة الرز لمن ال يعرفها ،هي معجون من الرز المطحون باللحمة المطحونة ،تصنع على شكل طابات وتحشى باللحم المفروم والبصل والصنوبر وتطبخ باللبن .تعلمتها من والدتي وأدخلت عليها تحسينات سرية أعطتها نكهة رائعة الطعم. كنت أدخل إلى بيت أختي ورائحة الكبة وغيرها من المشهيات تفوح في جميع أرجاء البيت ،وكنت أتلصص إلى المطبخ علني أستطيع سرقة ولو كبة واحدة من الطنجرة النحاسية .ولكن أم سائد كانت لي دوما بالمرصاد وكانت تسرع وتطردني من المطبخ بحنو قائلة :روح روح يا أخي ،الغداء جاهز ،ثم تصرخ على ابنها سائد أن يحضر الطاولة وينادي على جدته ،والدتي ،التي دخلت تأخذ "غطسة نومه". وكان سائد يرد عليها" :بتؤمري يا أحلى أم سائد في الدنيا". سائد يعمل مدرسا في جامعة النجاح ،ويحمل في كبدة رصاصة هدية من الفاشيين الجدد اإلسرائيليين .لقد أطلق عليه الجيش اإلسرائيلي النار وكان ال يزال طالبا في المدرسة .ولقد استطاع أن يصل إلى المستشفى في الوقت المناسب ،وبقدرة قادر استطاع األطباء إنقاذ حياته ولكنهم لم يستطيعوا إخراج الرصاصة من كبده ،بقيت ذكرى على همجية العدو اإلسرائيلي وإجرامه. يقول أهل نابلس أنه لكل أكلة مصران وأن في البطن خلوى ال يملؤها إال الحلوى. واعتاد كثيرون من أهل نابلس أكل الكنافة قبل الغداء وبعده .والكنافة حاضرة بعد كل حفلة غداء وال يعتبر الغداء كامال إذا لم تكن آخرته كنافة .وكان ابو سائد خبيرا في طلب الكنافة ،وكان يقول للكنفنجي " :نضال جاي من أوروبة وال تفضحنا معاه ".بعد الغداء وأكل الكنافة كنا نستلقي لمدة ساعة أو نصف الساعة والتي بدونها لم نكن نقدر على السهر والسمر. في المساء كان يأتينا األصدقاء واألقارب للسالم على الضيف القادم من أوروبا ولطالما كان على رأس الحضور الصديق الدكتور فرحان أبو الليل ،المسيحي الذي يحفظ القرآن والذي كان يردد القول بأن القرآن ليس كتاب المسلمين وحدهم ،وأنه كتاب كل العرب وأصل من أصول التراث العربي .قضى جزءا ال باس به من حياته في السجن ،سجنته السلطات األردنية ومن بعدها سجنته الصهيونية اإلسرائيلية وبنفس التهمة ولقد قضى في السجن عدة سنوات .وقلما كان المجلس يخلو من
13
الصديق المناضل بسام الشكعه الذي فجر الموساد رجليه وأقعده على كرسي متحرك ولكنه لم يستطع أن يقعده عن اإلستمرار في النضال من أجل حرية بلده. لم تكن تخلوا األمسية من أحاديث السياسة وأحاديث المجتمع ،من تزوج ومن ولد له طفل ومن مات ومن استشهد .فرغم اإلحتالل كان الناس يعملون ويتزوجون ويخلفون ويتزاورون ويتسامرون .الحياة يجب أن تستمر مع كل القهر والحصار والعنف .السهرات واللقاءات في بيت أم سائد كانت ندوات ثقافية بامتياز ،حيث تلتقي هناك كل اآلراء واإلتجاهات السياسية وحيث كانت تدور النقاشات الهادئه واإليجابية. بتاريخ 11تشرين األول/أكتوبر عام 2002كانت أختي أم سائد جالسة في شرفة منزلها مع زوجها وإبنها سائد .كانت تطرز ثوبا فلسطينيا لعروسة ابنها سائد وكان زوجها يحتسي الشاي وأبنها سائد يهم للصالة .وقفت سيارة عسكرية إسرائيلية أمام المنزل ونزل منها جنديان ،صوبا بنادقهما الرشاشة صوب أختي والعائلة وأطلقا النار بكثافة .أصابت تسع رصاصات أم سائد فسالت دماءها على الثوب وبقي شاهدا على همجية وإجرام النازيين الجدد .أصيب ابنها سائد برصاصة في الرقبة وزوجها برصاصة في الرأس ونجيا من الموت بأعجوبة .هرع سائد إلى أمه وظن أنه أغمي عليها هلعا من المفاجأة وخوفا عليه .ضمها إلى صدره وأخذ يطمئنها بأنه بخير وأن إصابته طفيفة .ظن أن الدماء التي غطت جسدها هي دماء جرحه ،ثم ال حظ أن الدماء تدفق من عدة ثقوب في صدرها فأخذ يصيح" قتلتمو أمي يا مجرمين ".نظرت أم سائد إلى ولدها ،ابتسمت له ثم فارقت الحياة. كانت أم سائد في الستين من العمر ،أم لثالث فتيان وفتاة وجدة لعدد من األحفاد .لم تحمل السالح في حياتها ،كانت فلسطينية تعشق فلسطين كآالف الفلسطينيات مثلها تحاول مساعدة شعبها بدعم صموده ومساعدة عائالت االشهداء واألسرى .لم تكن تسيرفي مظاهرة في شوارع المدينة تلقي الحجارة على الجنود اإلسرائليين ،كانت جالسة مع عائلتها في شرفة منزلها التي تبعد عن الشارع عشرات األمتار .كانت تطرز ثوبا لعروسة إبنها فقتلها النازيون الجدد وبقيت دماءها تغطي ثوب العروس كشاهد على اإلجرام الصهيوني. دفنت أختي أم سائد في قبر يبعد بعض األمتار عن قبر إبنة خالتها الشهيدة شادية أبو غزاله ويحيط بها قبور كثير من الشهداء منهم مجموعة من طالب إبنها سائد الذين وهم في طريقهم إلى الجامعة إنتهوا على يد العدو الصهيوني في مقبرة الشهداء .رحلت أم سائد ومن يومها ما عدت أجد للكبة رائحة وال طعم.
14
.4عندما يطفئوا شمعة نضيء غيرها نزلنا من السيارة ودخلنا العمارة ذات األربع طوابق حيث يسكن مضيفنا وقريبنا. نظرت إلى أسماء سكان العمارة المنقورة على لوحة ملصقة في مدخل العمارة فاكتشفت أن مضيفنا يسكن في الطابق الرابع وتأكدت من أنه ال يوجد في العمارة أي مصعد وعلينا الصعود مشيا على األقدام .نظرت إلى والدتي التي كانت تصحبني في الزيارة وقلت " :يسكن في الطابق الرابع وال يوجد مصعد ".نظرت والدتي إلي وقالت " :أنت تمزح" ،ولكنها عندما نظرت إلى تعابير وجهي اكتشفت أنني أقول الحقيقة وأنه عليها ،أم الثمانين عاما ،أن تصعد الدرج مشيا على األقدام إلى الطابق الرابع .أدارت وجهها واتجهت نحو باب الخروج قائلة ":لن أصعد أربع طوابق مشيا على األقدام من أجل غذاء ،أنا راجعة لبيتي". بدأت عملية اإلقناع والتي لم تكن سهلة وكنت اعرف أن صعود أربع طوابق بالنسبة لوالدتي أمر في غاية الصعوبة .ولكنني لم أكن أستطيع أن أتركها تعود للبيت لوحدها ،ولم يكن باإلمكان أن تكون الدعوة بدونها .أخيرا وبعد جدال طويل استعملت فيه كل الحيل الممكنة ،اقتنعت أم نضال بأنه ال مفر لها من صعود الطوابق األربعة مشيا على األقدام .بدأنا الصعود ببطئ وعلى مهل ،وكنا نقف لإلستراحة كلما صعدنا عدد من الدرجات ،وكنت أسمع كلمات الشتيمة الموجهة إلى عائلة والدي والتي طالت األجداد وأجداد األجداد ،تنطلق من فم والدتي المتعبة والغاضبة وكنت بالكاد أخفي ابتسامتي وأحاول أن أراضيها بتشجيعي لها بأنها ما زالت صبية يحسدها الشابات والشبان .كانت تقف وهي تلهث وتلعن أجدادي وتقول" :أنت ملك الدهلزة ".والحقيقة أن صعود أربع طوابق مشيا على األقدام لم يكن سهال حتى بالنسبة لي. وأخيرا وصلنا البيت ووقفنا أمام الباب منقطعي األنفاس وانتظرنا عدة دقائق حتى نلتقط أنفاسنا ثم طرقت الباب .فتح لنا مضيفنا الباب ودعانا للدخول مرحبا بنا واعتذر عن عدم وجود مصعد في العمارة .دخلت البيت خلف والدتي فقابلتني في صدر مدخل البيت صورة كبيرة لطفل في الخامسة من عمره ولقد لف حول رقبته الشال الفلسطيني المنقط باألسود والبيض وقد غطت وجهه ابتسامة عريضة تشع منها براءة الطفولة رافعا يده اليمنى عالمة على النصر ،ولقد كتب تحت الصورة كلمات "الشهيد ضياء محمد" .سألت مضيفي عن صاحب الصورة فصمت برهة ثم قال" :هذا إبني الشهيد ضياء". إحدى مساوئ الغربة أنها تقطع بينك وبين التواصل مع تفاصيل الحياة اليومية لألهل واألصدقاء في الوطن .هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الموت اإلستشهادي أصبح في فلسطين خبرا عاديا تذكره األخبار كحدث عابر اعتادت الناس على سماعه .ورغما عن ذلك فلقد شعرت بألم وخزة الضمير لكوني ال أعلم شيئا عن
15
ضياء إبن قريبي وصديقي وال عن استشهاده وتفاصيل إستشهاده وهو ذو الخمس أعوام ،لذى وجهت سؤالي إلى مضيفنا والد ضياء أستفسر منه عن التفاصيل .نظر إلي وابتسم ثم قال سنتحدث في الموضوع بعد الغذاء. بعد اإلنتهاء من كلمات الترحيب المعروفة في المجتمعات الفلسطينية و التي يكررها المضيف ،حسب العادة والتقاليد ،مرات عديدة مثل "يا أهال ،نورتوا البيت" ويجيب الضيوف على كل واحدة "أهال بالمهللي ،البيت منور بأصحابه" ،ثم السؤال المتبادل عن الصحة والعافية وكيف صحة األوالد وإلى آخره من كلمات الترحيب والرد عليها ،دعاتا مضيفنا إلى طاولة الغداء التي كانت غنية بالمأكوالت الفلسطينية الشهية .جلسنا وبدأنا في تناول الطعام والمضيف يحثنا على األكل ويضيف الكالم المعهود" :صحتين وعافية ،ما في شي من قيمتكم". لم أستطع طوال الوقت أن أمحي من مخيلتي صورة ضياء وحول عنقه الشال الفلسطيني وتلك اإلبتسامة البريئة التي تغطي وجهه الطفولي ،كما لم أستطع أن أنزع من مخيلتي تلك الجملة التي كتبت تحت الصورة ":الشهيد ضياء محمد" وكان السؤال يطرق أبواب مخيلتي ،ما الذي حصل وأي يد تستطيع أن تقتل طفال بهذا العمر وبهذه البراءة؟ بعد أن انتهينا من الغذاء ووزعت علينا القهوة والحلويات النابلسية لم أعد أحتمل اإلنتظار فتوجهت إلى مضيفنا متوسال إليه أن يحدثني عن ما حدث .نظر مضيفنا إلي ثم أخذ نفسا عميقا وقال :خرج أخي في أيار عام 1985من األسر في السجون اإلسرائيلية في عملية تبادل أسرى بين الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة و العدو الصهيوني .ولقد تم اإلفراج في تلك العملية عن 1150اسير فلسطيني وعربي من ذوي األحكام العالية .لقد كان ذلك عرسا فلسطينيا بامتياز خرج فيه أهل نابلس عن بكرة أبيهم إلستقبال أسراهم المحررين. صمت مضيفنا عدة دقائق وبدى شارد الذهن كأنه يستجمع صور األحداث التي مرت ثم تابع ،أقمت بمناسبة خروج أخي من األسر حفلة غذاء على شرفه دعوت إليها مجموعة من أصدقاءه .بعد الغداء خرجنا نودع الضيوف ووقفنا كالعادة أمام البيت نتابع بعض األحاديث التي كانت دائرة بيننا .على بعد مئات من األمتار وقفت دبابة إسرائيلية كان طاقمها يراقبنا وكنا نحاول أن نتغاضاها فلقد اعتدنا في تلك األيام على وجودهم حولنا في كل مكان .قررنا أن نتجاهلهم وأن نسرع في عملية الوداع وان يعود كل منا بأسرع وقت إلى بيته .حملت ابني ضياء على يدي وضممته إلى صدري وكان أخي يقف إلى جانبي متقدما عني بعض الخطوات وكان يعانق أصدقاءه مودعا .سمعت صوت الرصاصة التي انطلقت من المدفع الرشاش المنصوب على الدبابة اإلسرائيلية .لم أكن أعي أن الرصاصة كانت موجة نحونا حتى شعرت بالم حاد في جنبي وبالدماء تسيل من بين يدي .نظرت إلى يدي فإذا هي مخضبة بالدماء الممزوجة ببقايا الطعام التي خرجت من أمعاء إبني ضياء وغطت
16
يدي التي كانت تحتضنه .كانت أمعائه بارزة وممزقة وكانت بقايا الطعام الممزوجة بدمائة تندفق منها وتسيل على يدي ومالبسي ومن ثم على األرض" . لم يستطع مضيفنا متابعة الحديث وبدا التأثر واضحا على وجهه وضاقت أنفاسه وانفجر في البكاء مغطيا وجهه بكفتي يديه .عم الوجوم على الحاضرين وبكت زوجته ثم خرجت من الغرفة وهي تشهق ولحقتها والدتي وبعض القريبات ليخففن عنها ويواسينها .شعرت باألسف لكوني سببت في فتح جرح لهم كان أو كاد أن يلتئم ،وشعرت بالغضب على همجية وعدم إنسانية العدو الصهيوني الذي ال يتورع عن قتل طفل فلسطيني بهذه البرودة ،كما شعرت باإلحباط الداخلي لعدم فهم العالم الخارجي لطبيعة هذا العدو الذي ال يملك أي شرط من شروط اإلنسانية ،عدو متوحش فقد كل مظاهر اإلنسانية. بعد أن هدأت النفوس قليال لم استطع أن أمنع نفسي من سؤال مضيفي رأيه في الهدف المقصود من الرصاصة ،فهل كانت موجهة إلى إبنه ضياء ،إليه هو أم إلى أخيه األسير المحرر ؟ نظر إلي وقال " :كلنا كنا الهدف .فبقتلهم إبني أرادوا أن يقتلوني وبذلك ينتقموا من أخي. بعد دقائق من الصمت سمعت بكاء طفل صغير ،فقام مضيفنا وخرج من غرفة الضيوف وبعد دقائق عاد وعلى يديه مولود صغير .نظر إلي وقال :يا ابن عمي اسمح لي أن أقدم لك ابني ضياء ،ثم وضعه بين يدي .نظرت إلى الطفل الذي ابتسم إلي ابتسامة العارف أنه في أيدي أمينه .نظرت إلى والده مستفسرا فقال لي :هذا ضياء الجديد ،لقد ظنوا أنهم بإطفائهم شمعة ضياء سيعم الظالم علينا وسنتوه في النفق المظلم وال نعرف طريقنا أو نرجع عنه ،ولكنهم حين يطفؤون شمعة نشعل اخرى ،قتلوا ضياءا وها هو يولد ضياء جديد يأخذ مكانه ،ونحن وهم والزمن طويل". وقفت والدمع ينهمر من عيني ووضعت ضياء الجديد بين يدي والده وقلت :حافظ عليه يا ابن عمي حافظ عليه" .أخذه وضمه إلى صدره وخرج به من غرفة الضيوف .مسحت دموعي بكفة يدي وجلست وكان نداء في داخلي يهتف بأعلى صوته :ال تخف فشعبنا باق وهم سيرحلون ،فمهما أطفأوا من شموع ،سنشعل غيرها".
17
.5
يوم عادي من يوميات فلسطيني
أوقفت السيارة أمام بيت العزاء ونزلت منها مع قريبي مدير مدرسة قريتنا. استقبلنا عدد من أهل القرية وعلى رأسهم عم الشهيد وبعض من أهله .بعد السالم والعناق وكلمات العزاء دخلنا إلى البيت حيث جلس على صف من الكراسي مجموعة من أهل الشهيد وفي منتصفهم والده .سلمت عليهم فردا فردا وعانقت والد الشهيد وتمنيت له الصبر على فقدان ابنه ،فلم يكن لدي ما اضيفه. ماذا تقول ألب قتل المستوطنون اليهود ابنه الوحيد ألنه تجرأ ودخل بستانا قريبا من مستوطنتهم ،يملكه والده أبا عن جد .قتلوه وجروا جثته أمام أعين مزارعي أهل القرية المجاورة ورموها على الطريق العام كما ترمي كيسا من القمامة؟ ماذا تقول ألب سلب المستوطنون اليهود أرضه وقتلوا ابنه الوحيد في وسط النهار وأمام أعين الناس وليس لديه مرجعية يشكو لها فالقاتل والقاضي ورجل األمن ينتمون إلى المرجعية ذاتها؟ ساد الغرفة جو من الصمت يشقه نحيب الوالد و صوت المروحيات الثالث المحيطة بجثة الشهيد الشاب الملفوفة بالكفن األبيض والمستلقية على فراش فرش على أرض الغرفة استعدادا للصالة عليه ودفنه في مقبرة القرية .يخيل للناظر أنه في قيلولة سيقوم منها ليطرح علينا السالم ويوقظ والده من كابوس حلم ويقول له" أنا هنا يا والدي ،مازلت حيا" .لقد قتله حملة التلمود من قبل أن ينهي تعليمه ويتزوج ويخلف األوالد والبنات .لم يكن هناك حاجة للكالم فصمت الحاضرون كل مع أفكاره ومع أسئلته يبحثون لها عن أجوبة مقنعة ،فهم أناس بسطاء طيبون ال يعرفون خبايا صالونات السياسة العربية والعالمية وأسئلتهم بسيطة ،لماذا؟ وإلى متى؟ وما العمل؟ أسئلة تحيرهم وال يجدون لها عند رجال سياسة الصالونات والبدالت األنيقة جوابا. خرجنا جميعا من بيت العزاء وتوجهنا نحو مسجد القرية حيث جرت الصالة على الشهيد ثم توجهنا إلى مقبرة القرية حيث جرى دفنه في قبر تم إعداده إلحتضان جثة الفتى الشهيد ،وبذلك أسدل الستار عن فصل من ملحمة ذات فصول ال تعد وال تحصى وانتهت قصة شاب فلسطيني خرج من بيته ورغب في زيارة بستان لهم فانتهت زيارته بدفنه في قبر في مقبرة القرية ،ولكن لم يسدل الستار عن التراجيديا الفلسطينية المحزنة وبقي الممثلون على المسرح ينتظرون أدوارهم ،فالقبور في حاجة لمن يسكنها. اعتذرت ألهل الشهيد ورجال القرية عن دعوتهم لتناول الغذاء وركبت سيارتي المستأجرة وتحركت نحو نابلس .قبل أن أتحرك جاءني فتى من أهل القرية ورجاني أن أصحبه معي إلى نابلس حيث يدرس فوافقت .كان فتى قليل الكالم علمت منه أنه صديق وقريب الشهيد وأنه يدرس في مدينة نابلس وأنه يركب باص القرية صباحا
18
باكرا ويعود من نابلس إلى القرية بنفس الباص في المساء وأنه لم يذهب اليوم إلى المدرسة كي يحضر جنازة صديقه وقريبه وأنه ذاهب ليقضي الليلة عند أصدقاءه في نابلس .احترمت صمت الفتى وتفهمت عدم رغبته في الكالم وتركته مع أفكاره كما شطحت مع نفسي ومع أفكاري وأسئلتي المحيرة والتي أبحث لها ،بدون طائل، عن جواب. الطريق بين قريتنا والطريق العامة المؤدية إلى نابلس_ رام هللا ،ضيق وكثير الحفر من عدم الصيانة وعلى السائق أن يكون حذرا وخاصة عند اإللتقاء بالسيارات القادمة في الطريق المعاكس .قبل أن أصل إال مفترق الطرق المؤدي إلى نابلس بحوالي خمسين مترا الحظت سيارة عسكرية إسرائيلية مصفحة تقف على جانب الطريق وعلى بعد أمتار منها إشارة "قف" موضوعة على طرف الطريق .لم يكن على الطريق أي حاجز أو أي مانع من موانع المرور المعتادة كالمشط المسنن. أوقفت السيارة على بعد أمتار من اإلشارة ثم أوقفت محركها وانتظرت .لم يعيرني الجنود اإلسرائيليون أي اهتمام واستمروا في حديث بينهم كما لو كنت وسيارتي طيفين غير مرئيين .إنتظرت ونظرت نحوهم لكي أتأكد من أنهم يروني فتأكدت ولكنهم لم يعيرونني أي اهتمام .وبما أنني أعيش في أوروبا وال أعرف خبايا وتفاصيل الحياة اليومية للفلسطيني العادي ،قررت التحرك .عندما شغلت المحرك سمعت صوت الفتى بجانبي يصيح " ال يا مجنون" واختلط صوته بأصوات صراخ الجنود اإلسرائليين بأسلحتهم المشهرة في وجهي .عرفت في تلك اللحظة أنني لست في أوروبا وإنما في فلسطين المحتلة من قبل عدو مجنون ال يرحم وأن أي عمل غير عقالني سيتسبب في قتلي وقتل الفتى .أخرجت جواز السفر السلوفاكي األحمر وصرخت في وجههم باللغة اإلنجليزية أنني سائح أوروبي. أخذ أحد الجنود جواز السفر وتحت غطاء األسلحة الرشاشة الموجهة إلى رؤوسنا أخذ في تصفح الجواز ثم بدأ جدال غير عقالني وغير منطقي معه وكان ملخصه أنه كان من واجبي الوقوف إلى أن أستلم إشارة واضحة من الجنود بالتحرك .لم يكن هناك مجال الستعمال المنطق فالمنطق الوحيد الذي كان يحكم اللحظة هو سلطة السالح ومشروعية القتل بدون محاسبة .أعاد لي الجندي جواز السفر وأمرني بالتحرك. تحركت بالسيارة إلى الطريق العام وتوجهت نحو نابلس ولقد غمرني شعور غامر بأنني ومرافقي الفتى كنا قاب قوسين أو أدنى من الموت .كانت هناك مفارقة غريبة أن جواز السفر األوروبي ،البالد التي شاركت في صنع مأسآة شعبي ،هو الذي أنقذ حياتنا .وألن رفيقي الفتى يعيش في فلسطين المحتلة وليس مثلي في أوروبا ،وألنه يعيش خفايا وتفاصيل الحياة اليومية فيها ،وألنه يعرف عبثية الموت في كل لحظة من لحظات حياتها ،ولقد ترك خلفه دليال راسخا على ذلك ،جثة قريبه وصديقه الذي سقط مقتوال على يد المستوطنين اليهود ،فإنه كان يعي أن الموت على يد الجنود اإلسرائيليين يمكن أن يحدث ألي فلسطيني وألتفه األسباب ،لهذا فقد بال الشعوريا
19
على نفسه حين شعر بيد الموت اإلسرائيلي تقترب منه ساعية لسلبه حياته التي لم يعشها بعد. لم أستطع طوال الطريق تهدئته ولم تنفع اعتذاراتي له عن تطييب خاطره فلقد طغى عليه مزيج من الخوف والحيرة والخجل وكان يتحسس بنطلونه المبلول ويلومني" بدك تقتلنا ،شو إنت مجنون ،شوف شو عملت فيي ،خليتني أبول على حالي ،يا فضيحتي". عندما وصلنا إلى قرية حوارة وهي قرية قريبة من نابلس يمر منها الطريق العام واجهنا حاجز للجنود اإلسرائليين ولقد وقف أمامه صف طويل من سيارات الفلسطينيين في انتظار دورهم للتفتيش .نظر الفتى إلي وقال محذرا ":بتعمل شو بقولولك عليه ،وقف! بتوقف ولو طول اليوم ولما يقولولك إمش! بتمشي وخلي هاليوم يمشي على خير ".وعدته بذلك وبأنني لن أضع أنفسنا في أي موضع يهدد فيه حياتنا أو يسبب لنا األذى. عندما وصل دورنا بعد ساعات من اإلنتظار ،طلب جندي إسرائيلي هوياتنا فقدمت له جواز السفر األوروبي وقدم الفتى هويته .تصفح الجندي جواز سفري ثم صاح على زميل له بالعبرية ولم أفهم إال كلمة تشيكوسلوفاكيا .جاء الجندي الثاني وأخذ جواز السفر وتصفحه بدوره ثم نظر إلي وقال بلغة تشيكية سليمة إن كنت أتكلم التشيكية، فأجبته باإليجاب .علمت منه أنه جاء من بلد اسمها أولومتس في تشيكيا وأن أهله رحلوا إلى "إسرائيل" قبيل سقوط النظام اإلشتراكي عام .1998سألني من أين أنا وأين أعيش ،فأجبته من نابلس وأعيش في براتسالفا في سلوفاكيا. كانت لحظة مفارقة غريبة ،أنا الفلسطيني إبن فلسطين أعيش في بالده بينما هو التشيكي يعيش في بلدي ويحمل بندقية تخوله إيقافي وتفتيشي .كان ال بد أن تثير هذه المفارقة الغريبة جداال بيننا حول من له األحقية في فلسطين ،أنا الفسطيني الذي ولد في فلسطين وعاش أجداده فيها أبا عن جد منذ مئات السنين أم هو ابن أولومتس ،التشيكي وأمثاله من المهاجرين اليهود الذين جاؤوا غرباء من مختلف بقاع األرض ليستوطنوها؟ أنا الفلسطيني الذي يسمح لي بزيارة بلدي فقط كسائح أوروبي أم هو الذي جاء غريبا إليها فأصبح مواطنا يحمل السالح يخوله قتل أهلها وسلب أرضها ؟ تطور الجدال واحتد حتى نسيت أنني أقف أمام جندي مسلح يملك اإلذن بقتلي بدون مسائلة أو سؤال .قلت له " :اسمي نضال بن عبالقادر بن صالح بن بخيت وتابعت أعدد أسماء أجدادي إلى أن وصلت الجد العاشر وأضفت ":كلهم ولدوا في فلسطين وماتوا ودفنوا في أرضها ،لم يأت أحد منهم من سلوفاكيا وال من التشيك وال من روسيا أو بولونيا أو رومانيا مثلكم ،فكيف يكون لكم أنتم الغرباء الحق فيها وال يكون لي؟
20
التف حولنا مجموعة من الجنود وكانوا يستمعون إلى جدالنا وهم مستمتعين بعبثية الجدال ويظهر أنهم كانوا يفهمون حديثنا فالجندي األول كان بولنديا وال أدري ما هي أصول الجنود اآلخرين .فجأة ظهر ضابط إسرائيلي وصاح بالجندي ان ينهي الجدال .أخذ جوازي السفر ،تصفحه وأعاده إلي وقال بعربية مكسرة ":روح بيتك في سلوفاكيا ،هذه بلدنا ،هللا أعطانا إياها وانتوا ما إلكم هون مكان ،ياهلل إمشي" ثم ضرب بيده على سقف السيارة وغادر . شغلت محرك السيارة وتابعت طريقي إلى نابلس والحظت أن رفيقي الفتى يهز رأسه شماال ويمينا ثم قال " :شو هاللغة اللي كنتو ترطنو فيها؟ قلت له بأنها اللغةالتشيكية فسالني " :وعليش كل هالحكي؟ قلت له عن األحقية في فلسطين ،لنا أم لهم؟ قال :هو هذه بدها حكي؟ الحق معانا والسالح معهم ،شو في حكي غير هيك؟" قلت له معك حق وتابعنا الطريق صامتين. عندما دخلنا مدينة نابلس ومررنا بجانب معسكر الالجئين في بالطة طلب مني أن أوقف السيارة فاصدقاءه يسكنون في المعسكر .طلبت منه أن آخذه إلى بيتنا حتى يغير مالبسه فرفض.عرضت عليه جريدة لكي يغطي بها بقعة البول على بنطلونه فرفض .نزل من السيارة ثم أغلق بابها واتكأ على نافذة السيارة وقال " :شكرا على التوصيلة وال تخاف ،مافي إشي أستحي منه .خللي زعماءنا يستحوا ويغطوا على عوراتهم .كلها نتفت بول بتنشف وبتروح ،بس هم وسخهم ما بنضفو كل صابون نابلس وال إشي بغطي على عوراتهم ".ثم أدار ظهره لي وتركني وظللت أراقبه حتى اختفى عن نظري ولكن لم يختف عن فكري وذاكرتي.
21
.6
عقال الباشا
مدير مدرسة قريتنا يملك دارا في مطلع القرية يحيط بها حديقة كبيرة مليئة باألشجار المثمرة .تتوسط حديقة المنزل شجرة توت ضخمة ،يستقبل صاحب البيت تحتها في الصيف زواره ومحبيه من أهل القرية ،يتسامرون وهم يشربون الشاي بالنعناع أو اليانسون والزعتر. كان في قريتنا قبل اإلحتالل اإلسرائيلي ،كما كان في معظم قرى فلسطين ،مضافات حيث يلتقي فيها رجال القرية في كل مساء ،يشربون القهوة المرة مع الهال أو الشاي مع النعناع ويتسامرون إلى ساعة متأخرة من الليل .المضافة عادة تحتوي على عدد من الفرشات واللحف والمخدات إلى جانب القهوة والشاي والسكر إلستعمال الضيوف المارين بالقرية .ولقد جرت العادة في قرانا أن الضيف الغريب له حق الضيافة لمدة ثالث أيام دون أن يسأله أحد عن وجهته وغرضه وسبب زيارته. إعتاد أهل القرية عندما يأتيها ضيف طارئ أن يقوموا بالمشاركة في إطعامه وضيافته .كما أعتادوا في رمضان أن يفطروا معا ،كل يخرج ما عنده من األكل وحسب طاقته( ولذلك دعوه خروجا) ويأكلونه معا غنيهم وفقيرهم .كان في قريتنا مضافتين" ،المضافة التحتى" وهي بجانب مسجد القرية وكان يجلس ويسمر فيها الرجال من أهل القرية ،خاصة بعد صالة العشاء ،و"المضافة الفوقى" التي إعتاد على الجلوس والسمر فيها بعض رجال "الحارة الفوقى". في الصيف كانت ساحة المسجد تتحول إلى مضافة يجلس الرجال فيها على الحصير المفروش تحت شجرة التوت الضخمة التي نمت في وسطها منذ العهد التركي .أما في الشتاء فكانوا يجلسون في داخل المضافة حول موقد من النار المشتعلة من حطب الزيتون الذي يعطي المضافة جوا سحريا معبق برائحة حطب الزيتون المشتعل .كان يجري تحميص حب القهوة مع حب الهال يوميا على نار الحطب الهادئة ثم يقوم صانع القهوة بدق القهوة والهال معا في مهباش خشبي مزخرف تصدر عنه أثناء عملية الدق والطرق إيقاعات جميلة يتفنن صانع القهوة في إخراجها. كان في انتظاري إلى جانب المضيف أو المعزب حسب ما يقال له في منطقتنا بعض من الضيوف من أهل قريتنا .قام الجميع للقائي وعانقوني مقبلين وجنتي حسب العادة في فلسطين .لم أكن أستلطف عادة التقبيل هذه ،ولكن ما كان باليد حيلة، وعلى قدر المحبة يكون عدد القبل وشدتها التي تكون في كثير من األحيان أشبه بعملية الشفط المؤذية.
22
كان من بين الحضور رجل اسمه حامد ولكن ندر أن يناديه أحد بهذا اإلسم ولقد عرفه الناس بلقب الباشا وهو لقب لقبه إياه والدي ألنه كان يمشي مشية الباشوات. إعتاد الباشا حامد على لبس البنطلون المصنوع من قماش الكاكي وكان يضع على رأسه الحطة الفلسطينية البيضاء وفوقها عقال مبروم أسود ويرد طرف الحطة فوق العقال المحني على الرأس قليال ،فينحسر جزء من شعر رأسه بطريقة يقول لها الفالحون في بالدنا عنقرة. ويحكى أن سويديا مسؤوال في وكالة الغوث زار قريتنا وأعجبته شخصية الباشا فسأله من أي جامعة تخرجت يا باشا؟ فرد عليه الباشا بكل جدية" :لقد تخرجت من جامعة دومة" .فهز المسؤول رأسة داللة المعرفة وقال :هم ،عظيم ،عظيم ،ولم يعرف أن دومة قرية صغيرة تقع على جبل مطل على غور األردن وفيها مدرسة إبتدائية فقط. للباشا بستان فيه بعض شجرات من الزيتون والتين والعنب وشجرة من الخوخ المطعم .يقع البستان في منطقة إسمها قربوصة ،على سفح جبل تطل من على قمته قرية قريوت المجاورة .ولقد وضع المستوطنون اليهود أيديهم على قسم كبير من أراضي قرية قريوت وأقاموا فيها مستوطنة كبيرة واستولوا كذلك على منابع المياه في المنطقة ومنعوا أهل القرى من حفر أي بئر فيها .ولقد اعتاد أهل القرى المجاورة" سرقة" الماء من أنابيب المياه الممدودة للمستوطنة ليال وفي الخفاء وذلك بقص األنابيب وسحب مياه المستوطنة ،ولطالما أطلق المستوطنون النار عليهم مما أدى إلى جرح البعض أو قتل البعض اآلخر. اعتاد الباشا أن يذهب يوميا لزيارة أمالكه" ليطمئن عليها .وكان يقول " :أنا رايح أطل على أمالكي وأشوف شو عملوا فيها هالقوادين اليهود" ،ألنه كان من عادة المستوطنين أن يقطعوا األشجار ويخربوا الثمار .كان الباشا يسرح إلى بستانه وعصاه تحت إبطه كالباشوات أو الجنراالت .وكان حريصا جدا على وضعية العقال والحطة على رأسه ،فأهل قرانا يعتبرون العقال رمزا للشرف وإسقاطه عن الرأس تعتبر إهانة كبيرة .كان الباشا يأخذ معه في رحلته صرة من القماش فيها رغيف خبز طابون وحبات زيتون رصيع ملفوفة بورق جريدة قديمة .إعتاد الباشا أن يقوم بزيارة كل شجرة في البستان وأن يالمسها ويالطفها ويصلح ما عطب منها وبعد أن ينهي عمله يجلس ليستريح تحت شجرة الزيتون الكبيرة ،يفتح صرته الملفوفة ويضعها على األرض ويتناول طعامه مع حبات من التين الديفور أو العنب ،ثم يضح رأسه فوق حذاءه ويأخذ قيلولة يصفها بأنا أفضل من النوم في قصر السلطان العثماني. في أحد األيام أفاقته من قيلولته ركالت أحذية عسكرية وصرخات بالعبرية والعربية المكسرة .كانت مجموعة من المستوطنين ترعب فالحي المنطقة وتخرب مزروعاتهم وتقطع أشجارهم .ضربوه بايديهم وبأرجلهم وبعصي غليظة كانوا يحملونها معهم ثم جروه من رجليه إلى الطريق العام ورموه هناك ورحلوا .ركض
23
بعض المزارعين إليه وحاولوا مساعدته على الوقوف .وقف مترنحا والدماء تسيل من شفتيه وجبينه ومن جروح مختلفة في جسمه .صاح الباشا " :أين عقالي؟ أين عقالي؟ أسقط القوادون عقالي وأخذ الجميع يبحثون عن عقال الباشا حتى وجدوه. وضع الحطة الممزقة على راسه ووضع فوقها العقال ولم يكن مهتما ألي جرح أو ألم في جسده وظل يكرر " :لقد أسقط العرصات عقالي". بعد أن شربنا الشاي بالنعناع دار الحديث بين الجالسين عن مختلف األمور واألوضاع في فلسطين واإلحتالل وما شابه إلى أن تطرقوا لقصص الباشا مع المستوطنين .قلت للباشا " :أخبرني يا باشا هل ذهبت بعد الحادثة تلك مع المستوطنين إلى البستان؟" قال :طبعا .وأضاف مدير المدرسة قائال :كل مرة بوكل قتلة وتاني يوم بروح ".نظرت إلى الباشا مستفسرا فقال " :بوكل قتلة بس بعد هديك المرة ما بوقعوا عقالي". علمت منه أنه بعد صدامه األول مع المستوطنين صار عندما يذهب للبستان يقوم بلف الحطة على رأسه فوق العقال ويربطها بشدة فال يسقط العقال عن راسه عندما يتعرض له المستوطنون .قلت له ومتى آخر مرة ذهبت إلى هناك .فرد عنه احد الحضور قائال :مبارح كان هناك وضربوه ،مش شايف كيف شالطيفه ورمانه مثل حبة البندورة البلدية .فقال الباشا :ورمانه معلش ،بس مقدروش يوقعوا عقالي. بعد فترة قام الباشا ليودعنا ،سألته إلى أين؟ فقال إلى البستان ،قلت له سيضربوك أو يقتلوك فضحك وعلق أحد الحضور قائال :إتعود وتمسح .لف الباشا حطته فوق راسه وربطها ربطا محكما حول العقال ،وضع عصاه تحت إبطه و تركنا وذهب وبقيت أراقبه حتى تحول إلى فراشة صغيرة في فضاء فلسطين.
24
.7
الحذاء
كان عواء الكالب يشق السكون المخيم على القرية .كما كانت أصوات األوالد يلعبون على بيادر القرية تسمع بين الحين والحين تمتزج بنداء بعض أمهاتهم عليهم كأنها جزء من سيمفونية ،يناغمها صوت بقرة الحاجة وسيلة الذي تحسبه صوت مغنية أوبرا تتناغم مع ألحان المجموعة السمفونية القروية. للقرية رائحة خاصة ،مزيج من رائحة الطوابين ودخانها ورائحة خبزها الطازج المخبوز في الطابون على حبات الحصى الساخنة ،ورائحة السماد المصنوع من روث البقر والماعز .رائحة القرية في الصيف تختلف عنها في الشتاء ويقول القرويون أن لكل قرية رائحة خاصة يفرق القرويون بينها. " يا محمود ،ولك يا محمود ،وبينك يا مقصوف الرقبة؟" ،نادت أم محمود على إبنها الذي كان غافال ومنصرفا في اللعب .نادى أحد األوالد على محمود صائحا " : محمود أمك بتنادي عليك ".ذهب محمود راكضا إلى البيت وهو يصيح " :ياما أنا جاي ،هاظا هو أنا جاي ،شو بدك قرقعتي الدنيا بالصياح علي؟" "تعال خود غدا ألبوك ،إلو من الصبح على لحم بطنه ".ردت أم محمود و جلبت قطعة قماش بيضاء وضعت عليها رغيفي خبز طابون وبعض حبات من الزيتون الرصيع وقطعة جبنه بيضاء وبيضتين مسلوقتين وربطت قطعة القماش كصرة وضعتها في كيس من القماش مع إبريق من الشاي وأعطتها إلبنها محمود قائلة" : بتروح دوغري عند أبوك ،مش تشنطط هيك وهيك ،أنا بعرفك ".أجابها محمود" : ال ياما ،وهللا العظيم ألروح بسرعة أوصل األكل ألبويي ".ثم أضاف ":ياما باهلل عليك ما عندك تعريفة تعطيني ،جاي عبالي الحلقوم ".ردت أم محمود بعنف": حلقوم يسد زورك ،منين يا حصرتي ،روح عاد ،إنقلع من وجهي". محمود لم ينقلع بل نزع حذاءه ووضعه بين يدي والدته وقال " :شوفي ياما كندرتي ،مهرية واصابع إجريي طالعين برة .إشترولي كندرة جديدة". أخذت أم محمود الحذاء وأحضرت قطعة من الكرتون أدخلتها في فردي الحذاء وضغطت عليها حتى سدت الثقب الكبير وأعادت الحذاء إلى إبنها قائلة " :خود إلبس ،مشي حالك لحتى هللا يفرجها". لبس محمود الحذاء وخرج من البيت وفي يده الكيس .مر من أمام دكان الحاج يونس ووقف عنده يفكر " :آخ يا ربي جاي على بالي الحلقوم ،بفوت وببدل البيضتين بشوية حلقوم ".لم يطل التفكير كثيرا ودخل الدكان. دكان الحاج يونس فيها رفين من الخشب عليهما بعض علب السجائر وعلب الكبريت وعلبة كبيرة من الشاي وبعض قطع الصابون البلدي المصنوع من زيت الزيتون ،وفي أرض الدكان كيس من السكر أبو خط أحمر .أما على الطاولة فكان هناك صندوق من الملبس وآخر من العلكة أو الليدن وعلبة كبيرة من الحلقوم أو كما يقول لها اهلنا في فلسطين الراحة.
25
وجد محمود الحاج يونس كالعادة يصلي فانتظرهه حتى ينهي صالته .ألحاج يونس يكثر من الصالة وعندما كان يسأله القرويون ،شو بتصلي يا حاج ،ال هو وقت ظهر وال عصر وال مغرب ،كان يرد عليهم ،بسدد ديوني لرب العالمين. أنهى الحاج صالته ،طوى السجادة وهو يتمتم بعض التسابيح ثم سأل محمود ":شو اللي بدك إياه يا محمود؟" أخرج محمود البيضتين ووضعهما على الطاولة قائال": بدي في هذول البيضتين تعطيني حلقوم ".أخذ الحاج البيضتين ،فحصهما ثم قال" : هذول مسلوقات .كنو هذا غدا ابوك يا ملعون الوالدين ".نفى محمود ذلك بشدة وحلف مليون يمين بأن والدته أعطته البيضات من أجل أن يشتري حلقوم .وضع الحاج البيضتين في درج الطاولة وتناول قطعتين من الحلقوم ،لفهما في ورقة جريدة قديمة وأعطاها لمحمود. ما أن خرج محمود من الدكان حتى بلع قطعتي الحلقوم ولحس ورقة الجريدة حتى إزرق لسانه من حروف الطباعة على الجريدة ثم مص أطراف اصابعه وتابع السير. خرج من الطريق المعبدة إلى الطريق الترابية وتوجه نحو حقل والده .ما أن إقترب من الحقل حتى سمع صوت والده وهو يحرث أرضه ويصيح على حماره ":حا، إتحرك يا ملعون الوالدين ،تحرك يا حمار ،حا!" طرح محمود على والده السالم وقال ":جبتلك يا با الغدا". وقف أبو محمود عن الحراثة ،نزع الحطة عن رأسه ومسح العرق عن وجهه وقال ":جيت بوقتك ،انا ميت من الجوع ".حل عقدة الصرة وبسط قطعة القماش على األرض وتمعن في محتوياتها وقال ":ولك وين البيضات ،أكلتها يا عرص؟" حلف محمود مليون يمين بأنه لم يأكلها ولكنه بعد مراوغة إعترف بأنه إشترى بها حلقوم من دكان الحاج يونس. قام ابو محمود وحمل عصى وهجم ينوي ضرب ولده بها إال ان محمود قفز وهرب بعيدا عن متناول يد أبيه .عاد أبو محمود للجلوس بعد أن هدأ قليال ثم قال ":إنشا هللا سم الهاري اللي يهري بطنك ،ولك إنت متشبعش حلقوم؟" رد محمود" " بحبو يا با ،بموت فيه ".ثم إقترب من أبيه رويدا رويدا وجلس بجانبه بعد أن تاكد أنه لم يعد غاضبا منه .إنتظر حتى أتم والده طعامه وأخذ في شرب الشاي فنزع حذائه وعرضه على والده قائال " :يابا شوف كندرتي مهرية وأصابعي خارجين منها .أمي حطت لي فيها كرتونه بس في الطريق تمزعت .بدي تشتري لي كندرة جديدة". صمت والده وقال له ":إنشاء هللا ،على العيد بروح على المدينة وبشتري لك كندرة". ظل محمود يسال عن العيد ومتى سيأتي وفي كل يوم يعد األيام الباقية لقدوم العيد. أخيرا جاء العيد وجاء معه الحذاء الجديد ،لونه بني المع ،ال تزال رائحة الجلد والدباغة تفوح منه .كان محمود يلبس الحذاء في البيت وحتى أنه نام به في فراشه عدة ليالي حتى منعته والدته .كان كلما تغبر الحذاء يمسحه بكم قميصة وعندما يمشي على الطريق الترابية كان ينزع الحذاء ويضعه تحت إبطيه ويمشي حافي القدمين. كان يوما شديد الحرارة وكان محمود كعادته يحمل صرة الغداء ألبيه وتحت أبطه الحذاء الجديد .كان مسرورا مبتهجا يغني وهو يمشي أغنية شعبية معروفة "على
26
دلعونا ،على دلعونا" عندما تفاجأ بمجموعة من المستوطنين اليهود واقفة في وسط الطريق .لم يعرهم إهتماما وتابع السير إلى أن وصلهم فأوقفوه .شده أحدهم من شعر رأسه ،إنتزع الصرة من يده وفتحها وألقى بمحتوياتها على األرض وداسها بقدميه .أخذ مستوطن آخر الحذاء من تحت إبط محمود ،قلبه في يده ثم وضعه في حقيبة عسكرية معه وصفع محمود صفعة قوية أوقعته األرض ،ثم رحلوا. نهض محمود ولحقهم وهو يصيح ":هاتو كندرتي يا أوالد الكلب!".ضربوه وأوقعوه أرضا .تكرر المشهد عدة مرات ،وفي كل مرة كان ينهض ويلحقهم صارخا ":هاتو كندرتي يا أوالد الكلب ".ثم يضربوه ويسقطوه أرضا .في المرة األخيرة ضربوه ضربا مبرحا حتى سقط على األرض وعجز عن النهوض وقد غطت وجهه الدماء التي سالت من جروح مختلفة في رأسه ووجهه .رحلوا وتركوه ملقى على األرض .أخذ يبكي وينوح ":آخ يا با يا حبيبي ،اخدوا كندرتي الجديدة ".دوى صوته في الوادي ورجع صداه إليه حتى ظن أن أحدا غريبا يخاطبه .ثم تغلب على نفسه و قام وتابع سيره إلى حقل والده وهو يتمتم " :معلش يا والد الكلب وهللا لفرجيكم واأليام جايه".
27
.8
طوشة الموارس
حمدان يماك مارسا من األرض ،والذي ال يعرف معنى المارس نقول له بأن المارس هو قطعة من األرض يحدها قطعة أخرى لمالك آخر .مارس حمدان تحده من الجهة الجنوبية حبلة تطل على الطريق العام ومن الجهة الشمالية مارس ألخيه ورثه عن عمته .يقسم المارسين خط حراثة عرضه عدة سنتمترات وفي وسطه بين كل بضعة أمتار حجر .العمة تركت المارس الثاني لألخ صدقي مقابل خدماته أثناء مرضها وعجزها قبل مماتها .حمدان لم يرض بهذا ألنه على حسب قوله كان يبعث إلى عمته نقودا حين كان يعمل في الكويت وبذا يكون قد ساهم في مساعدة العمة وإعالتها ويحق له نصف المارس الذي تركته العمة ألخيه .لم يعترف أحد بهذا اإلدعاء ألنه لم يملك ما يثبت ذلك وحتى وإن أثبت فإن العمة تركت ورقة بخط يدها وبشهادة شاهدين أنها تورث المارس لصدقي مقابل خدماته لها. ظل هذا المارس مصدر خالف بين األخوين إنتقل إلى الزوجات واألوالد .وحسب المصادر المطلعة في القرية أن إبن حمدان هو الذي أشعل الشرارة األولى في فتيل طوشة الموارس ،حيث أنه أثناء حراثة مارسهم تعدى بمحراثه على مارس عمه بعدد من السنتمترات مما أثار غضب العم فصفعه .يقول الراوي :ظربه تشف جابه على طوله على األرض". على أثر ذلك تدخل األب حمدان وقامت الطوشة بين األخوين التي إشترك فيها إضافة إلى األخوين ،زوجاتهما وأوالدهما وبناتهما .إستعملت فيها كل أنواع األدوات القتالية المتوفرة من هراوات وعصي ومطارق وحجارة وأحذية وحفايات إلى جانب األيدي المسلحة باألضافر الحادة .كانت الضربات المتبادلة تتخللها الشتائم وحلف الطالق " :علي الطالق من مرتي ثالثة باته إني ألدفنك في هذا المارس ".هكذا هدد األخ أخيه ورد عليه اآلخر بأنه سيدفنه وجميع عائلته ".تمزقت في حمى الطوشة حطط األخوه وسقطت العقل على األرض وديست باألقدام وخرمشت زوجة األخ وجه سلفتها ومزقتا الطرح عن رؤوسهما .أما األوالد والبنات فلم يكونوا أقل ضراوة وسالت الدماء من الرؤوس وعرجت إبنة األخ نتيجة ركلة برجل إبنة عمها. تدخل العقالء من أهل القرية وركضوا إلى أرض المعركة من أجل فض اإلرتباط بين المتقاتلين وبعد جهد ،لم يسلموا هم أنفسهم من ركلة أو من كف طائر أو خرمشة إحدى الزوجات ،تمكنوا من وقف القتال وفض إرتباط المتقاتلين عن بعضهم البعض وأخذوا على الجميع تعهد بأن ال يقربوا األرض لمدة أسبوع حتى تهدأ القلوب والنفوس ويتمكن العقالء من إيجاد حل مالئم لهذا الصراع الدامي بين األخوين. أصبحت الطوشة تعرف بطوشة الموارس وكان األطفال يغنوا أغنية فلسطينية معروفة تقول :آه يا بو الموارس ،قسم البيدر موارس ،قسمو وما أعطاني مارس". وأصبحت الطوشة خبرا على كل لسان يتندر بها الصغير والكبير .كان العقالء يترحمون على والد األخوين الذي كان رجال بمعنى الكلمة ،شهما كريم النفس وكان تعليق العقالء بأن المرحوم يتقلب في قبره بسبب أفعال أبناءه.
28
في صباح أحد األيام بعد مرور أقل من أسبوع على الطوشة جاءت األخبار أن تحركات مريبة تجري في منطقة موارس األخوين .خرج األخوان مدججان بالهراوات تلحقهما زوجاتهما وأوالدهما وتوجه الجميح بروح قتالية عالية نحو الموارس وكل مجموعة تظن أن المجموعة األخرى إعتدت على مارس األخرى. لحق المجموعتين مجموعة من الشباب واألوالد وحتى األطفال ظنا من الجميع أنهم على وشك مشاهدة معركة جديدة بين األخوين وما كانوا ليفوتوها. المنظر الذي قابل الجميع عندما وصلوا الموارس صعقهم حتى أنهم تخدروا في موقعهم ولم ينبثوا بأي كلمة كأنما القط قد أكل ألسنتهم .على الطريق العام وتحت حبلة الموارس وقفت سيارة عسكية إسرائيلية ووقف أمامها عدد من الجنود اإلسرائيليين مدججين بالسالح .على أرض الموارس أقام مجموعة من المستوطنين اليهود عربتي سكن متحركتين وبنوا حول األرض المحيطة بكاملها سياج سلكي ضخم وسميك .عندما تقدم الجمع من الموقع هدد الجنود اإلسرائيليون الجمع بإطالق النار عليهم إن هم إقتربوا من الموقع .عندما سأل أستاذ في مدرسة القرية أحد الضباط عن معنى ذلك أجابه " :هذه منطقة عسكرية محظورة ومصادرة". وقف األخوان بصمت والتقت أعينهما فطأطأ كل منهما رأسه وسقطت الهراوات من أيديهما .أخذت الزوجتان تبكيان وعانقت السلفة سلفتها ووقف األوالد صامتين ولقد سقطت العصي من أيديهم .جاء أحد الخبثاء إلى األخوين وقال ":ها إنبسطو؟ راحت أرضكم ومظلش إشي تتقاتلوا عليه".
29
.9
دفاعا عن الحائط
منذ صغري ولي عالقة خاصة حميمية مع الحائط .كنت في طفولتي أحبو إلى أن أصل الحائط فأجلس طويال متكأ عليه .عندما كبرت كنت أصر على أن يكون سريري محاذيا للحائط وفي المدرسة الداخلية كنت دوما أختار السرير المحاذي للحائط وكذلك في الفنادق أو في أي مكان أنام فيه حتى في السجن كنت أضع برشي بجانب الحائط .كان الحائط وما يزال يشعرني باألمان. في العام الثامن واألربعين ،حين بدأت هجرة الشعب الفلسطيني ،الذي طرد من أرضه على يد عصابات القتلة اليهود ،لجأت إلينا في نابلس جدتي من أمي وعائلتها .كانت جدتي وعائلتها تسكن مدينة الرملة ،ولقد طردت من بيتها على يد جنود الهغانا ،وخرجت بما عليها من المالبس ،قاطعة المسافة من الرملة إلى نابلس مشيا على األقدام .كانت عائلة جدتي تضم باإلضافة إلى جدتي خالتين وخالين ولقد إنضم إليهما بعد يوم خالي الكبير وزوجته وبناته األربع وأوالده الثالثة ،فاصبح عددنا يفوق طاقة بيتنا .لذلك ،قرر والدي أن نترك البيت لجدتي وعائلتها وأن نرحل إلى بيتنا في القرية ،وهكذا كان. بيتنا في القرية قديم جدا ويتكون من طابقين ،العلوي ويحتوي على أربع غرف كبيرة تحيط بساحة نصفها مكشوف والنصف اآلخر مسقوف ،هذا إلى جانب المطبخ وبيت الخالء .أما الطابق السفلي فيتكون من دارين مستقلتين أحداهما كانت تستعمل لخزن الحبوب والزيت والزيتون وإليواء الماشية والثانية لنوم الضيوف .كان يسكن في هذا البيت الكبير ،الذي عرف سلسلة من أجدادي ،عمي وزوجته ،ولم يكن لهما أوالد أو بنات ،فلقد كانت زوجته عاقر .قرر عمي أن يترك لنا الطابق العلوي ونزح هو وزوجته إلى الطابق السفلي. لم يمض يوم على وجودنا في القرية إال ونحن نواجه بنزوح جديد .لجأ إلينا أقارب لنا من قرية عمواس ،التي هدمها اليهود وأزالوا معالمها تماما .كانوا ثالث عائالت برجالهم ونسائهم وأطفالهم باإلضافة إلى ماشيتهم .كان ال بد من القيام بترتيبات صارمة و مالئمة إلقامة هذا الجيش العرمرم. إجتمع الرجال حول والدي وتباحثوا وتشاوروا وخرجوا بقرارات ترتيبة وهي أن والدي ووالدتي وطفليهما سيقيمون في غرفة وسيقيم الرجال العمواسيون في الغرفه الثانية ونساءهم وأطفالهن في الغرفةالثالثة ،أما الغرفة الرابعة فتحول إلى مطبخ ومجلس للنساء ،يجلسن فيه النساء ويتسامرن من جهة ومن جهة أخرى يشرفن على تحضير الطعام لجميع أفراد العائالت األربعة .ولقد جهزت الساحة المسقوفة لتكون مجلسا للرجال يتناولون في طعامهم ويتسامرون في المساء عندما يرجعون من مضافة القرية. كان لغرفة نوم الرجال علية صغيرة مرتفعة عن أرض الغرفة بنحو متر ومساحتها مترين في متر ،ولقد تقرر أن تكون مكانا لنومنا نحن األوالد ،وكان عددنا ستة، تتراوح أعمارنا بين الست سنوات والعشر سنوات .كانت العلية محاطة من جهتين بحاجز خشبي ولها نافذة تطل على ساحة البيت .لم يكن للعلية إال حائط واحد.
30
لم يعرف اهل القرى في تلك األيام األسرة ،كانوا ينامون على فرش محشوة بالقطن أو صوف الغنم ،تفرش في الليل وقت النوم ،و يعاد ترتيبها في الصباح ،حيث تطوى و توضع فوق بعضها البعض في ركن من أركان الغرفة .كان بيتنا في القرية مليئ باألفرشة والمخدات والغطي تحسبا ألي ضيافة طارئة. في المساء وزعوا علينا نحن األوالد أفرشة صغيرة وبعض األغطية ،ذهبنا بها إلى العلية .أعلنت لألوالد و بدون مقدمات أنني سأضع فرشتي بجانب الحائط ولم ألق معارضة من أحد إال من ولد من العمواسيين يكبرني بعام أو عامين .كان أكبر مني سنا وحجما ووجدها مناسبة لكي يفرض نفسه ويعلن تفوقه. ما كنت ألسمح بذلك ،فالحائط لي ولن أتنازل عنه ألحد حتى لو كان ضيفا عندنا .كان هذا الضيف ،بالنسبة لي ،وفي تلك اللحظة ،غريبا ،معتديا على حق من حقوقي، وكان علي أن أدافع عن هذا الحق .لقد كان عليه ،إن إستطاع ،أن ينتزع هذا الحق بالقوة ولم يكن هناك مجال لغير ذلك. أغلقنا باب الغرفة ووزعنا بقية األوالد بين الباب والنافذة لمراقبة تحركات أفراد العائلة وإخطارنا في الوقت المناسب ،ريثما نسوي الخالف بيننا .بدأ العمواسي بأن دفعني دفعة قوية كادت ترميني أرضا ،فعرفت حينها أن األمر قد تخطى الجدل العقالني وحل محله جدل القوة .تعاركنا وتضاربنا بدون اإللتفات إلى أي معيار من معايير الكياسة والضيافة .كانت معركة مفتوحة على كل اإلحتماالت ويسمح فيها إستعمال كل الوسائل ،ما عدا الصراخ ،حتى ال نلفت إنتباه بقية أفراد العائلة .سال الدم من فم غريمي وشعرت بطعم ملوحة دمي في فمي .توالت اللكمات والركالت والخرمشات المتبادلة ،حتى األسنان إستعملت في هذا العراك وكان العض المتبادل أحد الوسائل القتالية المؤثرة .تدحرجنا على األرض وتبادلنا المواقف والمواقع ومرت لحظات كنا فيه في شبه عناق .وقف بقية األوالد صامتين ،يشاهدون المعركة بوجل وترقب في نفس الوقت الذي كانوا يقومون فيه بمراقبة الباب والنافذة خوفا من أي طارئ .نحن لم نكتف بأخذ وعد منهم بأن ال يخبروا األهل أو يقوموا بإخطارهم بما يجري ،بل زدنا على ذلك بتهديدهم بالضرب المبرح إن قاموا بذلك. لم أدري كم طال زمن القتال وخيل إلي أنه أبدي و شعرت أن ضرباتنا المتبادلة بدأت تضعف وأخذت تخطئ هدفها .لقد بدأت أشعر أنه لن تطول المدة حتى ينهي أحدنا القتال مستسلما وكنت أقول لنفسي بأنني لن أكون البادئ في اإلستسالم ولكنني بدأت أشك في إمكانية صمودي إلى ماال نهاية .إستولت علي لحظات وهن تسائلت فيها إن كان الحائط يستحق كل هذا العناء والجهد واأللم .ولكنني كنت أرد على هذا التسائل بأنني سأدافع عن حائطي إلى النهاية. فجأة وقف العمواسي عن القتال ،رفع يدية وقال وهو يلهث ويلحس دمه السائل من فمه بلسانه " :طيب طيب ،الحيط إلك ".ثم أدار ظهره وفرش فرشته تحت النافذة. فرشت بدوري فرشتي بجانب الحائط واستلقيت على فراشي وأدرت وجهي للحائط والدماء تسيل من فمي وأنفي .مسحت دمي بإصبعي وكتبت بدمي على الحائط إسمي ،وبكيت بصمت.
31
.10
الشهيد جحش عبد المجيد
مد الحاج سليمان يده إلى جيب قمبازه وسحب الساعة المعلقة بطرف الجيب بواسطة سلسلة رفيعة من المعدن ،فتح غطاء الساعة وقرأ الوقت ثم أغلقها وأعادها إلى جيبه .صعد درجات مئذنة المسجد ،وقف على عتبة ألمئذنة ،غطى أذنه بيده ونادى بأعلى صوته ":هللا أكبر ،هللا أكبر ،حي على الصالة "..داعيا أهل القرية إلى صالة الفجر .ما أن انهى اآلذان حتى سمع صوت ديك الحاجة وسيلة يصيح ،كأنما هو اآلخر يؤذن لصالة الفجر ،أو يدعو الناس إلى القيام إلى أعمالهم. تبسم الحاج سليمان وقال :تأخرت يا ديك وسيلة ،يظهر أنك هرمت مثل صاحبتك ،ثم سارع إلى المسجد لكي يؤم بالمصلين. هزت زوجة عبد المجيد زوجها وهي تناديه :قم يا عبدالمجيد ،لقد أذن الفجر ،قم يا إبن عمي توضأ لكي نصلي الفجر معا .تململ عبدالمجيد في فراشه وتثاءب وتمطى ثم جلس وهو يحك رأسه ويفرك جسده بيديه ،كأنما يريد أن يبعث في عروقه الدماء .قام من فراشه وذهب إلى بيت الخالء لقضاء الحاجة ،ثم رجع بعد وهلة فوجد زوجته قد أحضرت له قطعة من الصابون النابلسي المصنوع من زيت الزيتون وإبريق من الماء .قرفص بجانب عتبة البيت ومد يديه بقطعة الصابون، فصبت زوجته الماء عليها ،ففركها بكلتا يديه حتى امتألت يديه برغوة الصابون فغطى بها وجهه ودعكه حتى كاد يدميه ثم مأل يديه بالماء وغسل الصابون عن وجهه وأخذ يتوضأ .بعد أن أنهى وضوءه أخذ من زوجته منديال نشف به وجهه ويديه ثم قام بدوره ليصب الماء على يدي زوجته كي تتوضأ هي األخرى ،ثم قاما إلى الصالة ،يؤم بها وهي واقفة خلفه. يعد أن إنتهيا من صالتهما و دعا كل منهما هللا أن يتقبل صالة اآلخر ،قال عبدالمجيد لزوجته :أحضري لنا لقمة نأكلها بينما أعلف الجحش وأحلسه وأعد أدوات الحراثة، فلقد وعدت األستاذ أمين بأن أحرث له البستان الغربي .صاحت زوجته بهلع :يا مصيبتي ،البستان الغربي ،قرب أوالد الحرام المستوطنين اليهود ؟ ألم يجد غيرك لهذه المهمة ،هؤالء أشرار وعدوانيون وأنت تعرف ماذا فعلوا الشهر الماضي بتيسير بن الحاج سليمان ،لوال سترة ربنا لمات مقتوال .رد زوجها قائال :يا إمرأة، صلي على النبي ،واللي كاتبو ربك بصير ،ولقد وعدت األستاذ أمين ولن أخلف وعدي ،كما أنه يحسن إكرامي ونحن في أمس الحاجة للنقود. دخل عبدالمجيد الزريبة ،وتوجه نحو حماره ،فرتب على رأسه بحنو ووضع أمامه كمية من القش وطشت من الماء .أخذ قطعة من القماش وبللها بالماء ومسح بها وجه الحمار ورقبته وأخذ يحدثه كأنما يحدث صديقا " :سنذهب يا صديقي اليوم في مهمة صعبة ،سنحرث بستان األستاذ أمين الغربي ،والبستان يا صديقي ،يقع قرب مستوطنة اليهود ،وهذول يا خوي شرانية ووالد كلب وعليك أن تساعدني وتسمع
32
كالمي وهللا يستر ".دلى الحمار شفته السفلى وكشف عن أسنانه ونهق نهقة قصيرة كأنما أراد أن يطمئن صاحبه بأن كل شيء سيكون على ما يرام .وضع عبد المجيد الحلس على ظهر الحمار وشده وأحسن ربطه ،ثم عاد إلى البيت وجلس مع زوجته على أرض المصطبة ليأكال فطورا نادرا ما يتغير و يتكون من خبز الطابون وصحن من زيت الزيتون وقليل من الزعتر وبعض حبات من الزيتون وكأس من الشاي المغلي مع ورق النعناع الطازج. خرج عبدالمجيد وهو يسوق حماره المثقل بالمحراث والفأس وأدوات أخرى الزمة للحراثة .كان الناس قد بدؤوا يخرجون من بيوتهم لتصريف أعمالهم وكان يسمع بين الحين واآلخر ،كلمات التحية المتبادلة بين أهل القرية ،وكان القرويون يطرحون على بعضهم البعض أسئلة مقتضبة مثل السؤال عن وجهة المسؤول أو عن صحته وصحة عائلته والتمنيات المتبادلة بالخير واألمان. لم يجد عبدا لمجيد تفهما من أبناء قريته ممن عرفوا بوجهته ،فخبرتهم طويلة وقاسية مع ساكني المستوطنة اليهودية في الجهة الغربية من القرية .فقلما تجد شخصا لم يعتدى عليه بالضرب المبرح وسرقة ممتلكاته ،وكثيرا ما أطلق المستوطنون على أبناء القرية والقرى المجاورة النار ولقد أصيب عدد منهم إصابات بالغة وقتل أكثر من رجل حين تجرأ أحدهم على اإلقتراب من أرضه لفلحها وزرعها ،ولقد هجر الكثيرون أراضيهم خوفا على حياتهم ،ولم يكن هناك أي جهة يستطيع الفلسطيني اللجوء إليها والشكوى لديها ،وكان الجيش اإلسرائيلي دائم الدعم للمستوطنين ومستهترا بشكوى الفالحين الفلسطينيين .ولكن عبدالمجيد قد وعد األستاذ أمين القيام بهذه المهمة وهو لن يخلف وعده ،ولطالما ساعد األستاذ أمين عبدالمجيد وعائلته في وقت الحاجة. خرج عبد المجيد وحماره من الطريق العام وسلك الطريق الفرعي الوعر المؤدي إلى لبستان المنشود والذي يقع في أسفل الوادي الغربي .دخل البستان ووقف لحظات يتنصت ويستطلع المكان .كان الهدوء يعم الوادي ولم يكن يسمع إال صدى أصوات بعض الفالحين ،الذين كانوا يحرثون أراضيهم في الجبل المقابل وصراخ بعض األطفال في المستوطنة ونداء بعض نساء المستوطنة بالعبرية . شمر عن ذراعيه ورفع طرفي قمبازه وشبكها بحزامه ،ثم ربط المحراث بالنير المثبت على رقبة الخمار .قرأ البسملة وبصق على كفية وبدأ بالحراثة .لم يحرث أكثر من عدة أمتار عندما سمع أزيز رصاصة تمر من فوق رأسه ،فرمى نفسه على األرض وتسمر مكانه كاتما أنفاسه .سمع بعض الشتائم بالعبرية والعربية المكسرة ولكنه لم ير مصدرها .زحف على بطنه وفك المحراث من على الحمار وألقاه أرضا وسحب الحمار إلى خلف السور المحيط بالبستان واختبأ خلفه .مرت الدقائق التي بدت وكأنها ساعات طوال ولقد طغى الهدوء على الوادي حتى أصوات الحراثين في الجبل المقابل ماعادت تسمع ،وكان يسمع بين الحين واآلخر طلقات نارية ،كان رصاصها يرتطم بالصخور القريبة من عبد المجيد وحماره.
33
إقتنع عبد المجيد بأنه ال مجال إال للهرب والنجاة بحياته وحياة حماره .زحف على ركبتيه وربط الحمار بحبل وجره خلفه وهو يزحف أمامه .ولكن الحمار تسمر في مكانه ورفض أن يتحرك ولو خطوة واحدة .باءت كل محاوالت عبدالمجيد بتحريك الحمار بالفشل ،فاعتلى ظهر الحمار واستلقى علي ظهره ضاما رقبته إليه بشدة ولكزه برجله لكزة قوية ،قفز الحمار على أثرها قفزة مفاجئة كادت أن توقع عبدالمجيد من على ظهره ،وراح يركض صاعدا الطريق الوعرة بين الصخور وعبدالمجيد يشجعه ويحثه على السرعة .كان الرصاص يالحقهم ويسمع أزيزه وارتطامه بالصخور المحيطة بهم .كان عبد المجيد،طوال الوقت ،يتمتم بآيات قرآنية ،داعيا هللا أن يخلصه من هذه المصيبة. وصال أخيرا إلى الطريق العام الذي يقع على مشارف القرية وابتعدا عن الخطر، فانتصب عبدالمجيد جالسا ودقات قلبه تدق في أذنيه كالطبول .فجأة شعر بالدم يسيل من ساقه اليسرى وأصبح قمبازه ينضح بالدماء ،فصاح ":آخ يا إلهي لقد أصابني أوالد الكلب". دخل عبد المجيد القرية ،راكبا حماره والدماء تسيل من ساقه .رآه بعض األوالد والحظوا قمبازة ينضح بالدماء فأخذوا يتراكضون وهم يصيحون" :يا أهل البلد، عبدالمجيد تصاوب ،طخوه اليهود" .ذهب بعضهم ليحضر الحاج سليمان ،فلقد كان إمام المسجد وطبيب القرية وقاضيها .تجمع الناس حول عبد المجيد وحماره ورافقوه إلى بيته ،كل يسأل عن الذي جرى .وصلوا البيت فالقتهم زوجته بالعويل والصراخ ،فلقد وصلها الخبر قبل أن يصل زوجها .ساعد الرجال عبدالمجيد بإنزاله عن الحمار وإدخاله إلى البيت وهم يحاولون طمأنة زوجته بأن اإلصابة في ساقه وأنها ليست خطيرة. دخل الحاج سليمان وفتح الرجال له الطريق وعرضوا مساعدتهم ولكن الحاج سليمان طلب منهم اإلبتعاد وإفساح المجال له ليقوم بعمله .نزع القمباز عن عبد المجيد وفحص ساقه فلم يجد فيها أي جرح .فحص كافة أجزاء جسمه فلم يجد أي جرح في أي جزء من جسد عبدالمجيد ،فقال :جسمك سليم وال يوجد فيه أي جرح فمن أين هذا الدم .نظر الجميع إلى الحمار فإذا هو مستلق على األرض والدماء تنزف من جرح كبير في صدره .تمتم الجميع بصوت واحد" :هظا الحمار المصاوب ،مش عبدالمجيد". قرفص الحاج سليمان بجانب الحمار ،الذي فقد كثيرا من الدماء وراح يشخر والزبد يخرج من فمه .فحص الجرح ثم نظر إلى عبدالمجيد وقال بحزن" :جحشك راح يموت ،نزف منه دم كثير وما في فائدة" .عم الصمت المكان وراحت عيون الجميع تراقب الحمار المسكين وهو ينتفض ويلفظ أنفاسه األخيرة .صاحت زوجة عبدالمجيد حزنا على الحمار قائلة " :شو بدنا نعمل بدون الحمار ؟" ،فلقد كان سندهم في قوتهم ومعيشتهم.
34
جلس عبد المجيد على األرض ورأسه مدفون بين يديه صامتا يهزه الحزن على حماره ،رفيق العمر .صاح أحد األوالد ":جحشك راح شهيد يا عبد المجيد ،هذا أول حمار شهيد في قريتنا" .بعضهم هز رأسه بالموافقة وبعضهم مستنكرا والبعض اآلخر ضاحكا. قام الرجال بمساعدة عبد المجيد بحفر قبر ليدفنوا فيه الحمار ،فما كان عبدالمجيد ليسمح بأن يلقى حماره فطيسة وفريسة للوحوش .دفنوا الحمار في القبر وغطوه بالتراب .قام أحد شباب القرية بإحضار حجر كبير ،كتب عليه بالحبر األسود وبخط عريض " :الشهيد ،جحش عبد المجيد ".ووضعه كشاهد على القبر .إعترض البعض ولكنهم لم يقوموا بإزالة الشاهد ،ويحكى أن الشاهد بقي على رأس قبر جحش عبدالمجيد إلى يومنا هذا.
35
.11
أم الشهداء
جارتنا الحاجة أم عصام شديدة اإليمان باهلل وإيمانها ال يتحمل أي أسئلة عقالنية لماذا وكيف ،هي تؤمن إيمانا وصف بأنه إيمان العجائز .كل شيئ في قاموسها اإليماني راجع إلى هللا .الفقر والغنى من عند هللا والخير والشر من عنده .كل شيئ منه وإليه وإلى حكمته .المصائب حكمة منه وامتحان لصبر المؤمنين وإيمانهم وعلى قدر صبرهم وإيمانهم تنتظرهم المكافأة في عالم الخلد .إذا حدث زلزال في بلد من بالد المسلمين فإنه إمتحان لصير المؤمنين وإذا حدث في بالد الغير فهو عقاب من هللا على كفرهم .على جميع األسئلة الصعبة تجيب هذه حكمته وهو أدرى وأعلم .لقد سمعتها تقول وهي تدفن زوجها " هللا أعطى وهللا أخذ وهذه حكمته". حتى اإلحتالل اليهودي لفلسطين هو إمتحان للمسلمين وعندما كانت صديقتها أم محمود تماحكها وتقول " :يا خيتي شو ما في غيرنا يمتحنو ،وهللا بكفي عاد ،خلص يمتحن غيرنا" كانت أم عصام تتعوذ باهلل من الشيطان الرجيم وتقول" :هللا يسامحك يا أم محمود ،كفرتي ،وهللا لصليلك ركعتين خلي هللا يسامحك"". جارتنا أم عصام قضت معظم أوقات حياتها بين المطبخ والسجادة ،عندما ال تكون في المطبخ تحضر الطعام ألوالدها األربعة تجدها ساجدة على السجادة تصلي رافعة يديها بالدعاء "يا رب إرحمنا واعفو عنا ،إنك السميع المجيب ،يا رب افتح على والدي وارضى عنهم وسهل طريقهم ".كانت تطلب الرحمة لكل الناس وتدعو لهم بحسن الختام في الجنة .كانت فقط تدعوا على اليهود" إقطع شملهم يا رب بجاه محمد نبيك" عندما سقط ابنها األول برصاص اإلحتالل اإلسرائيلي غطته بعد غسله بالعلم الفلسطيني وقبلته وزغرتت ألنه سقط شهيدا" .باركو لي وال تعزوني ،إبني راح شهيد".منذ ذلك اليوم ما عاد إسمها أم عصام ولكن "أم الشهيد" .عندما سقط ابنها الثاني قالت :هللا أعطى وهللا أخذ وفداك يا وطن وأصبح إسمها "أم الشهداء" وبدأ ظهرها باإلنحناء واعتكفت في البيت تصلي وتتعبد .عندما سقط ابنها الثالث قالت : "حكمتك يا رب" وصارت منذ ذلك اليوم تردد " :أحمدك يا رب وال أشكرك". وعندما كانت الجارات تلمنها على هذا القول كانت تقول " :هللا عز وجل يقول في كتابه " إن شكرتمونني ألزيدنكم" وأنا أخاف إن شكرته أن يزيدني و يأخذ إبني الرابع ،ولذا أحمده وال أشكره" عندما أحضروا إبنها الرابع واألخير محموال على أكتاف الشباب ،مضرجا بدماءه التي أسالتها رصاصات العدو اإلسرائيلي صمتت والدموع تسيل على خدها ثم أخذت تتمتم " :حمدتك يا ربي وما شكرتك ،ومع هذا زدتني .هذه حكمتك يا رب فامنحني الصبر على مصيبتي!".
36
لم تستطع أم عصام الصبر على مصيبتها ولم تستطع أن تفهم الحكمة من موت إبنها الرابع واألخير فطلبت من هللا أن يأخذها ويريحها من عذابها فلبى هللا طلبها ولحقت بأبناءها.
37
.12
بدمها أمحي عاري
سحب خنجره الحاد والمعكوف ،مسكها من شعرها وشده إلى الوراء كما تشد الذبيحة ونظر إلى عينيها الباكيتين وقال " :الزم أذبحك يا خيتي ،الزم أمحي عاري" .نظرت إليه والدموع تتدفق من عينيها وتسيل على خديها وقالت ":أنا طنيبة عليك يا خيي ،أنا أختك حبيبتك ولو يا خوي إرحمني .هو رايح يجي يخطبني منك ويتجوزني على سنة هللا ورسول .أنا دخيلك يا خيي". نظر إليها ولقد بدأت الدموع تتجمع في مقلتيه وقال " :بعد إيش ،بعد إيش ،بعد الفضيحة والعار؟ أنا الزم أذبحك حتى أمحي عاري" وشد رأسها إلى الوراء حتى بانت رقبتها .نظرت إليه بتوسل وقالت وقد تحجرشت الكلمات في حنجرتها ":يا خوي أعطيني الخنجر أنا بقتل حالي ،إنت وراك زوجة وأوالد معتازينلك ال تعملها، أنا بقتل حالي ،وهللا العظيم أنا بقتل حالي وقدامك ،بس أعطيني الخنجر!" نظر إليها وقال " :تقتلي حالك مابفيد وما بمحي العار ،الزم أذبحك بإيدي حتى أمحي عاري". وضع الخنجر على رقبتها وذبحها كما تذبح الشاه ،من الوريد للوريد واختلطت دموعها بدموعه وبدماءها التي سالت على مالبسه وعلى أرض الغرفة .ضمها إلى صدره وهو يصيح ":آخ يا أختي يا حبيبتي ،شو اللي عملتي فينا؟" .ظل يحضنها إلى صدره حتى لفثت أنفاسها األخيرة .وضعها على السرير ،قبل وجنتيها وخرج والخنجر بيده ودماء أخته تنقط منه على األرض وتختفي في ترابها.صاح بأعلى صوته ":أنا قتلت أختي ،أنا محيت عاري". جلست مع والدي والمحامي في غرفة صديقهما المدعي العام لمدينتنا .كان الوجوم يخيم على الغرفة ودخان السجاير يضيق علي أنفاسي ويجعل هواء الغرفة سميكا ال يكاد ينظر من خالله .قال والدي للمدعي العام :يجب علينا أن نساعده ،فليس لزوجته وأوالده غيره ،إبحثوا لكم عن طريقة ".نظر المدعي العام إلى والدي وقال: الطريقة موجودة ،إقنعه بأن يصرح بأنه قتل أخته "فورة دم" بدون سبق عزم وإصرار ،وسأطلب تخفيف الحكم عنه إلى أقصى درجة ،وبعد مدة قصيرة سيشمله العفو وسيخرج من السجن ".نظرت إليه بتعحب وقلت له وما المشكلة؟ نظر المحامي إلي وقال" :المشكلة هي أنه يرفض ذلك .حاولوا أنت ووالدك أن تقنعوه!" أحضروه إلى الغرفة ،عانقني وعانق والدي وسأل عن صحته ثم جلس صامتا بعد أن طلب سيجارة،أشعلها و أخذ منها نفسا عميقا وتنهد .أخذ والدي يقرأ عليه آيات قرآنية وأحاديث نبوية ويذكره بأن له زوجة وأوالد هم في أمس الحاجة إليه " .ولك يا إبني ،بس قول إنك قتلتها في فورة دم ولحظة غضب وأنك لم تكن تعزم على قتلها وأنك نادم على فعلتك! وإال فستحكم مؤبد أو إعدام ".نظر إلى والدي وقال له ":إنت سيدي وتاج راسي بس اللي بتطلبوا مني مش مسح عار .أنا قتلتها عن سبق عزم وإصرار حتى أمحي عاري ".طفى السيجارة وقام ثم قال " :خلليهم ياخدوني على السجن ".خرج من الغرفة واختفى عن أعيني ولم أره بعد ذالك أبدا .آه أيها الشرف كم سالت دماء بسببك.
38
.13
قسوة البرد ونار القهر
صعد الحاج محفوظ درجات سلم باص القرية وطرح السالم على الموجودين وهو ينفخ في يديه ويفرك أصابعه ليبث فيها الدفئ .قال موجها الحديث إلى الحاضرين": وهللا يا جماعة ،الدنيا بردها بقص المسمار وشاعر إنه أصابعي بدها تسقط وعظامي تتفتت ".رد عليه مدرس في مدرسة القرية ":هذه هي األربعينية يا حاج محفوظ ،برد األربعينية معروف ".رد الحاج محفوظ وهو يمر بين ركاب الباص الجالسين يبحث عن مقعد فارغ ":ال أربعينية وال خمسينية ،بردها اليوم بقص قص وبجمد الدم في العروق ،وهللا يا أستاذ شفايفي تشققت وصارت متل حب التين الخرطماني ".رد أحد الركاب قائال ":بقولوا أنه باصات المدينة فيها تدفئة مش مثل باصات القرى ".ضحك صالح وهو شاب في مقتبل العمر يدرس في المدينة وقال مستهزئا ":بتقولو تدفئة ،وفي الباصات ،أنا مش فاهم كيف ،يعني بولعوا فيها حطب يا حاج؟" .نظر الحاج محفوظ إليه بإستغراب وقال ":بتستهزي فينا يا ملعون؟ ولك ،لساتها البيضة ما إنقشرتش عنك وصرت بتتهزأ على الكبار اللي قد أبوك؟" قاطعه مدرس المدرسة قائال ":بسيطة يا حاج ،سامحه ،الجهل عدو صاحبه ".ثم دار وجهه نحو الشاب وقال ":التدفئة يا إبني من محرك السيارة". وقف الحاج محفوظ بجانب مقعد يجلس عليه الحاج عبداللة ولقد غطى معطفه معظم مساحة المقعد ،وقال ":مرحبا يا حاج ،لملم معطفك ،تراه حاجز المقعد كله ".سحب الحاج عبدهللا معطفه المحشو بصوف الخاروف وقال":أقعد يا حاج ،عندك وساع بسع جمل ،أقعد يا هال فيك ".رد الحاج محفوظ وهو يجلس إلى جانب الحاج عبدهللا قائال :وهال فيك إنت الثاني ،وهللا ما في حدا مثلك ،الخاروف اللي حاطو على كتافك بخلي جسمك مثل النار ".ثم جلس ووضع في حجره كيسا من قماش الكتان فيه بعض المشتريات .سأله الحاج عبدهللا ":شو شتريت من المدينة يا حاج؟ فأجابه الحاج محفوظ":شوية حلقوم و شوية تفاح لألوالد ،أوالدي وأمهم بحبو التفاح، وإنت شو شتريت؟" رد الحاج عبداللة ":قطعة قماش لبنتي ،ناوية تخيط فستان". علق الحاج محفوظ " :إنشاء هللا ألف مبروك وعقبال عرسها على إبن الحالل" ". من فمك إلى باب السماء "،رد الحاج عبدهللا وتابع "،وهللا يا حاج أنا قلقان على بنتي ،خايف تصير عنساء قبل ما يجيها عريس ،األحوال واقفة والشباب بخافوا يتقدموا للزواج ،ومنين يا حصرتي بدو الواحد منهم يفتح بيت ،ال في شغل وال األرض بتعطي .هذول اليهود أخذوا أرضنا وخربوا زرعنا والشباب قاعدة من دون شغل ".رد عليه الحاج محفوظ متعاطفا ":ربك بحلها يا حاج وآخرتها بتفرج". صاح سائق الباص بصوت عال ":نمشي يا ناس والال ضل في حدا ما أجاش؟ رد الجميع بصوت واحد ":ناقصنا الحاج أبو مصطفى ".واضاف الحاج محفوظ ":أنا شوفتو قبل دقيقتين باكل كنافه عند الكنفنجي ".لم يتم جملته إال والحاج أبو مصطفى يظهر في باب الباص وما زال يمصمص لسانه ويلعق أسنانه ليمتص منها مخلفات الكنافة .خرجت أصوات مختلفة تسأله ":كيف كانت الكنافة يا حاج، طيبة؟" فأجاب " :وهللا يا جماعة طيبة وبتدفي الجسم في ها البرد ".ردت أصوات
39
مختلفة من الجالسين موافقة الحاج أبو مصطفى أن الكنافة طيبة وأنها تزيد حرارة الجسم. أغلق سائق الباص الباب وشغل محرك السيارة الذي بدأ يهتز ويزمجر كأنما هو يحتج على إيقاظه من النوم ،ثم قام السائق بتحريك قضيب السرعات الذي أخذ يزعق كزعيق الغراب وتحرك الباص العجوز يشق شوارع المدينة متجها إلى القرية التي تبعد عن المدينة ما يقارب الثالثين كيلومترا. ما أن بعد الباص عن المدينة عدة كيلومترات حتى وقف خلف صف طويل من السيارات لم يستطع السائق رؤية بدايته .تعوذ باهلل من الشيطان الرجيم وقال بصوت عال " :يا رب إستر ".تسائل الجميع ما الذي حدث ،فأجاب السائق ":شو بدو يكون يعني ،أكيد حاجز تفتيش إسرائيلي ".ثم إتجه إلى ركاب الباص قائال ":يا جماعة ،خليها تمشي على خير .إذا في حدا معه شيئ ممنوع ،يتخلص منه ،وما حدا منكم يستفز ملعونين الوالدين ،هادول يا جماعة مش بشر ،خللينا نروح عند أهالينا بخير وسالمة ،شو بقولولكم إعملو". عم الصمت ركاب الباص وذهب كل منهم يجول مع أفكاره .قطع الصمت صوت الحج أبو مصطفى قائال " :متى بدو ربنا يخلصنا منهم؟" رد أستاذ المدرسة قائال": آخرتهم بدهم ينقلعو من بلدنا ،إنقلع غيرهم كثير قبلهم ".بلهجة ساخرة علق الطالب صالح قائال " :وهللا يا جماعة ،هادول ما بنقلعو إال إذا إحنا قلعناهم ،واللي أخذوه بالقوة ما برجع إال بالقوة ".رد مدرس المدرسة قائال ":ما إحنا عارفين يا فصيح، هو إنت جبت شيء جديد ،لكن يا إبني منين إنجيب القوة ،ال عندنا صواريخ وال دبابات وال طيارات ،والجيوش العربية بس لإلستعراضات والحكام العرب خونه، منين يا حصرتي نجيب القوة؟ ولكن الفتى لم يقتنع بحديث األستاذ وأظهر عدم إقتناعه بهمهمة غير مفهومة ثم صمت. كان الباص يتحرك مثل السلحفاة .كان صف السيارات الذي أمامه يتحرك عدة أمتار ثم يقف وكان السائق يشغل محرك السيارة ويلحق بالصف ثم يقف ويطفئ المحرك توفيرا للوقود .بدأت عالمة التعب على الباص القديم وبدا مثل عجوز ينهكه السير ثم يتوقف لكي يأخذ نفسا ويتابع السير لخطوات أخرى .مرت الدقائق بطيئة ومملة ومتعبة ،وكان الركاب يرجفون من البرد القارس و يتمتمون ببعض اآليات القرآنية لعلها تحميهم وتيسر حالهم وتبث فيهم الدفئ. قرب الباص من حاجز التفتيش اإلسرائيلي .وقفت دبابتان إسرائيليتان مسلحتان براشاشات منصوبة على برج الدبابة حيث يقف خلف كل منهما جندي إسرائيلي ال يظهر منه إال رأسه المغطى بالخوذة الحربية .مد الجنود اإلسرائيليون على عرض الطريق مشط فوالذي مدبب الرؤوس ،كان يفتح ويغلق حسب أوامر الضابط الواقف خلف جنوده يراقب عملية تفتيش السيارات العربية. جاء دور الباص ولكن السائق الخبير بمثل هذه الحواجز ظل جالسا خلف مقود الباص الذي صمت محركه .السائق يعرف خطر تشغيل محرك السيارة بدون إشارة من الجندي اإلسرائيلي ،فكم من الفلسطينيين قتلوا على يد الجنود الصهاينة ألنهم شغلوا محرك سيارتهم أو حركوها بدون إذن واضح من الجندي اإلسرائيلي .ظل السائق يراقب الجنود اإلسرائيليين وينتظر .وقف الجنود يتسامرون ويضحكون غير
40
معيرين أي إنتباه للباص الذي ينتظر وال لركابه .مرت الدقائق بطيئة ،ثقيلة ولقد عم الصمت ركاب الباص الذين جلسوا بدورهم ينتظرون اإلشارة. جاءت اإلشارة وتحرك الباص إلى أن وصل عالمة قف التي نصبت بضع أمتار أمام المشط الحديدي ووقف .أطفأ السائق محرك السيارة وفتح الباب وانتظر .صعد جندي إلى الباص وصاح بصوت عال وبعربية مكسرة ":كلوا بنزل ،بتاخذ كله شنطة معك ".فهم الركاب ،فلم تكن تلك المرة األولى التي يقفون فيها أمام حاجز تفتيش إسرائيلي ،لقد أصبحت الحواجز جزءا من حياتهم اليومية. نزل الركاب من الباص وفي أيديهم ممتلكاتهم ووقفوا في صف طويل واضعين أغراضهم على األرض أمام أقدامهم .بدأت عملية التفتيش وكان الجنود اإلسرائيليون كعادتهم يستعملون أقدامهم أكثر من إستعمالهم أيديهم وإذا إضطروا إلستعمال أيديهم يستعملوا عصى خشبية لتقوم مقام األصابع ،فالعرب قوم نجسون كما يقول لهم حاخاماتهم وعلى اليهودي أن ال يلمس العربي أو أغراضه إال في حاجة الضرورة القصوى .بدأت مشتريات الركاب تتنافر من األكياس التي ديست بالبساطير العسكرية ،ووقف الركاب ينظرون إلى مشترياتهم وهداياهم ألبنائهم وبناتهم في القرية تختلط بالتراب وتداس بأقدام الجنود .لم يكن مصير قطعة القماش التي إشتراها الحاج عبدهللا إلبنته مختلفا عن مصير باقي أغراض الركاب .فكر الحاج عبدهللا واأللم يعصر قلبه ":معلش ،بنتي بتغسلها وبترجع جديدة .أما الحاج محفوظ فلم يستطع أن يكتم غيظه عندما رأى تفاحاته تختلط بالحلقوم الذي عجن بتراب األرض فصاح في وجه الجندي " :ليش فعصتهم يا إبن الكلب؟" ولم يتم جملته إال والهراوة الخشبية تنهال عليه فتسقطه أرضا فوق تفاحاته التي إلتصقت مع الحلقوم بقنبازه الفلسطيني .ظلت الهراوات تنهال على جميع أطراف جسمه تساعدها ركالت البوسطار العسكري وهو يصر على أسنانه ساجدا على األرض كأنما في سجدة صالة .سقط عقاله وحطته من على رأسه ووقعا بجانبه فوق بقية التفاحات وبدأ الدم يسيل من رأسه وأنفه وسال على قنبازه الفلسطيني وعلى األرض واختلط بترابها الذي طالما تمرغ بالدم. فجأه وقفت الضربات وشعر بأيدي تساعده على الوقوف وتجره جرا إلى الباص ثم تجلسه في مقعده بجانب الحاج عبدهللا الذي كان يمسك بقطعة القماش الوسخة ويبكي بصمت. شغل سائق الباص محرك السيارة الذي زمجر واهتز كأنما هو غاضب على ماشهد وتحرك الباص بعد أن أعطى الجنود اإلسرائيلون إشارة السماح وابتعد ببطئ عن الحاجز اإلسرائيلي. خيم الصمت فوق رؤوس الركاب وتاه كل مع أفكاره وتزاحمت األسئلة في العقول حتى أتعبتها .فجأة شق الصمت صوت الطالب صالح وقال سائال الحاج محفوظ": بعدك بردان يا حاج محفوظ؟" أدار الحاج محفوظ رأسه نحوه وقال بصوت عال": ال ،أنا مش بردان ،النار بتلهلب جواي وبتحرقني ،نار القهر يا إبني شديدة مثل نار جهنم بتاكل األخضر واليابس ".صمت قليال ثم صاح ":وينكم من ناري يا والد الكلب ،وينكم من ناري".
41
.14
فلسطيني في حضن األمن العربي
ال أذكر لذلك اليوم إسما ولكنني أرجح أنه كان في نهاية شهر فبراير أو بداية شهر مارس لعام . 1959كنت واقفا أعطي درسا لطالب مدرسة كويتية حين ظهر في باب الصف بواب المدرسة وأخذ يلوح لي أنه يريد أن يتحدث معي وشعرت من حركات يدية أن األمر ملح و جاد .إعتذرت من الطالب وذهبت إلى البواب أسأله ما األمر .أخبرني أن الشرطة الكويتية تبحث عني ،تريد إلقاء القبض علي ،ولقد جاء ليحذرني .كان البواب عراقي األصل وكان عنده شعور خاص نحو فلسطين و الفلسطينيين .قال ":أهرب يا أستاذ ،أنت ال تعرف سجونهم ،من يدخلها لن يخرج منها .أهرب إلى العراق ومنها يمكنك السفر إلى األردن ".أشار علي أن أذهب إلى الساحة الخلفية للمدرسة وأن أقفز فوق الحائط وأهرب. كان الخبر مفاجئا لي واحترت في أمري ولم أكن في وضع يسمح لي التفكير باتزان. خرجت من الصف وركضت إلى الساحة الخلفية للمدرسة ،تسلقت السور وقفزت إلى الشارع الخلفي. سرت في شوارع مدينة الكويت ولم أعرف ماذا أعمل وأين أذهب .إلتقيت ببعض المعارف فأداروا وجوههم عني وأنكروني .وقفت عند خياط فلسطيني كنت قد أعطيته قطعة قماش ليفصل لي بدلة .دخلت المحل ،طرحت عليه السالم وسألته عن البدلة ومتى سينتهي من تفصيلها .كانت العصبية ظاهرة على وجهه وأظهر لي بشكل واضح أنه لم يكن مسرورا بزيارتي .أعلمني أن كثيرا من اصدقائي قد ألقي القبض عليهم وحتى أؤلئك الذين حاولوا الهروب إلى العراق ألقي القبض عليهم وهم في سجن مديرية شرطة دبي .وضع بين يدي قطعة القماش وطلب مني أن أغادر المحل ولم ينس أن يخبرني أن عنده عائلة وال يوجد له أي مكان يلجأ إليه إن طرد من الكويت .أعدت له قطعة القماش وقلت له أن يهديها لمن يريد أو أن يفصل منها لنفسه بدلة وتركت محله وغادرت مسرعا. وقفت في منتصف الشارع محتارا ال أدري ما أفعل وأخذت أسأل نفسي لماذا تسعى الشرطة الكويتية للقبض علي ،فأنا ال أشكل أي خطورة على الكويت .كان الكويت في تلك األيام محمية بريطانية وكنا نأخذ الفيزا للكويت من السفارات البريطانية .لم يكن في الكويت أي أحزاب حتى نتهم بعضويتها ولم نكن منظمين في جمعية سرية تريد الشر للكويت أو تسعى لقلب نظام الحكم فيها .إذن ،سألت نفسي ،ما السبب الذي يدعوهم لمالحقتي ومالحقة أصدقائي للقبض علينا .كنا فلسطينيين وطنيين محسوبون على اليسار ،ولكن لم يكن لنا أي نشاط سياسي في الكويت .كانت القضية الفلسطينية تؤرقنا وكنا نتحدث عن مستقبلها وتطوراتها ولكن لم تكن بعد قد وجدت منظمة فتح أو أي منظمة أخرى حتى نتهم بعضويتها .كان لنا أصدقاء عراقيون يساريون وكنا نلتقي معهم بين الحين واآلخر ،نتسامر ونتحدث عن أحوال العراق وتطورات الوضع السياسي فيه .إعتدنا حين تسنح الفرصة لنا أن نذهب معهم لزيارة منطقة إسمها "عشيرج" يسكنها عمال جلهم عراقيون ،نشرب عندهم الشاي العراقي المخمر ،ونستمع إلى أحاديثهم وقصصهم و إلى أغانيهم العراقية
42
الحزينة .كانوا ببساطتهم يدعمون عبدالكريم قاسم وثورته وكانوا يغنون ":إتقدم يا المهداوي إتقدم ،عشيرج قطعة من السوفيت" ،ولقد كانت محاكمة مخلفات الحكم البائد برئاسة المهداوي على قدم وساق" .كانوا بسطاء وكانت تلك طريقتهم للتعبير عن موقفهم الداعم لقاسم وثورته. بعد تفكير طويل وجدت أنه ال طائل من هربي و قررت تسليم نفسي للشرطة. توجهت نحو المديرية العامة للشرطة الكويتية و سألت عن المسؤول ورقم غرفته ثم توجهت نحوها ،طرقت الباب وبدون أن أسمع اإلذن بالدخول دخلت .كان يجلس خلف الطاولة الخشبية الفخمة ضابط يضع على كتفيه عدد من النجوم ال أذكر عددها وال رتبتها .جلست على كرسي من دون أن يسمح لي أحد بالجلوس .كان الضابط مشغوال بالحديث مع مواطن كويتي يلبس دشداشة بيضاء كلح لونها ،يضع رجال على رجل فبانت ساقه من تحت الدشداشة وكأنها جذع شجرة محروق نشف من طول اإلهمال .كان يلعب بأصابع رجلية ويفركها بأصابع يدية ولقد كانت رائحة رجلية مزيج من روائح العرق والفطريات الممزوجة بوسخ الغبار و الرمال .كان كلما فرك ما بين أصابع رجليه يضع أصابع يديه أمام أنفه ويستنشق عبق رائحتها كما يستنشق المدمن مسحوق الكوكايين ،ومن ثم يمد يده إلى كاسة من الشاي موضوعة على الطاولة التي أمامه ويشرب منها ثم يعود ويضعها على الطاولة ويرجع إلى فرك أصابع رجليه. جلست أنظر إلى الضابط وضيفه وخيل إلي انني ألبس طاقية إخفاء وأنني كنت غير مرئي ،فلم يلتفت أحد منهما إلي ولم يعيراني إهتمامهما. ال أذكر كم مر من الوقت على جلوسي عندما عم الصمت فجأة على الغرفة وانتبه اإلثنان لوجودي .نظر الضابط إلي متفحصا ثم سألني ماذا أريد .أجبته بأنني ال أريد شيئا وجئت أسألهم ماذا يريدون هم مني .نظر إلي بإستغراب كأنني تحدثت إليه بلغة غير مفهومة فأضفت بأنني سمعت أن الشرطة تبحث عني وجئت أستفسر عن السبب .سألني عن إسمي فأجبته .نظر إلى ورقة أمامه وقام عن كرسيه كأنما لسعه ثعبان وضرب بيده بعصبية على جرس أمامه .دخل شرطي ،ألقى التحية العسكرية وقال ":أمرك سيدي؟ قال له سيده " :خذ هذا وضعه مع جماعته!" كنت بالنسبة إليه "هذا" الغير معروف كنهه وال طبيعته ،أراد التخلص مني بأسرع وقت .حاول الشرطي أن يضع األصفاد في يدي فاحتججت بأنني جئتهم بنفسي وال مكان لي وال رغبة للهرب ،فطلب منه الضابط أن ال يفعل .قبض الشرطي على ذراعي وساقني إلى غرفة وقف أمامها شرطي آخر وقال لزميله" ذبه مع جماعته!" .فتح الشرطي الباب ودفعني إلى داخل الغرفة وأغلق الباب خلفي. كانت الغرفة بدون أثاث وكانت مكتظة برجال من مختلف األعمار يجلسون على األرض .كانوا أصدقاء لي،،فلسطينيون من مختلف العالم العربي ،مثقفون من مختلف المهن ،جميعهم ما عدا كاتب هذه السطور وصديق آخر ،متزوجون ولهم عائالتهم التي ال تعلم عنهم شيئا .قاموا واستقبلوني وتبادلنا األسئلة واألجوبة ،أين إعتقلوك وكيف ولماذا وماذا سيفعلوا بنا وإلى آخره من األسئلة التي كانت تحيرنا. في المساء وضعونا في سيارة شرطة مخصصة للسجناء وتحركت السيارة بنا إلى المجهول واألسئلة تدق جدار رؤوسنا ،إلى أين وما الذي سيفعلوه بنا .وصلنا إلى
43
سجن مهجور تابع لمركز شرطة خارج مدينة الكويت .أنزلونا من السيارة وأدخلونا إلى باحة السجن وأغلقوا باب الساحة علينا. كان سجنا مهجورا ،يتكون من عدد من الغرف وساحة مكشوفة يحيط بها سياج من السلك الشائك .كانت الغرف مسكونة بكل أنواع الحشرات مثل العنكبوت وبعض أنواع الحرادين والحرباوات والصراصير وغيرها .لم يرحب بنا سكان الغرف وأبدوا لنا بشكل ال مجال للشك فيه بأنهم سيقومون بكل ما في إستطاعتهم لتنغيص عيشتنا إن نحن تجرأنا أن نعتدي على غرفهم ونقيم فيها .كانت رائحة الغرف مزيج من روائح العفن والبول ،مطعمة بروائح كريهة صعب علينا تحديدها .كان الجو فيها حارا ملتهبا و خانقا .لذا قررنا النوم في الساحة التي كانت أقل خطرا من الغرف وإن كثر فيها النمل والصراصير .إستلقينا بمالبسنا واضعين أحذيتنا كمخدات تحت رؤوسنا وحاولنا النوم ولكن كان النوم في تلك اللحظات منيعا علينا. لم نستطع النوم فلقد كانت األسئلة تحيرنا ،ماذا فعلنا لنستاهل هذه المعاملة؟ كان بيننا مدرسون صرفوا حياتهم في تدريس الطلبة الكويتيين وكان بيننا موظفون من مختلف المهن ،خدموا هذه البلد بإخالص ولم يقم أي منهم بتهديد أمنه بأي صورة كانت .كانوا فلسطينيين ،هجر كثير منهم من بلده على أيدي الصهاينة وبدعم من بريطانيا حامية الكويت في ذلك الوقت. كان بيننا شاعر فلسطيني إسمه عبدارحيم عمر ،كان خفيف الظل صاحب نكتة. إستمعنا إليه يقص علينا قصصا من بلدته جيوس وألقى علينا الشعر الغزلي والهزلي ليخفف عنا كربنا ،ثم أخذ في الغناء وغنينا معه أغنية فلسطينية شعبية" سلم سلم يا مسافر عال األحباب وعال األوطان" ورأيت الدموع تنهمر من أعين الرجال حنينا لألهل و للوطن وأسى ومرارة على معاملة أخوة لهم ،كان من المفروض أن يكونوا دعما وسندا. كان شرطة المخفر يستمعون إلينا من بعيد فلقد حذروهم من اإلقتراب منا ولقد إستقبلونا حين وصلنا السجن بإشمئزاز وصاحوا " :جابوا الشيوعيين ".قال أحدهم :هاذول بعرفوش هللا ،وبتشاركوا بنسوانهم ،ما حد يقرب منهم ".ولكن عندما بدأنا الغناء خرجوا من المركز ووقفوا خلف الشريط السلكي المحيط بساحة السجن وأخذوا يستمعون إلينا ولقد رأيتهم والدموع تسيل على خدودهم تأثرا .لقد كان معظمهم غرباء ،منهم العراقي ومنهم اليمني ومنهم من قبائل البدو .كانوا جميعا بعيدين عن أهلهم وأحبائهم ولقد أثارت أغانينا فيهم الحنين ألهلهم وديارهم. مرت األيام ونحن على هذه الحالة ،في النهار تحرقنا الشمس ،ولم نكن بقادرين على اللوذ إلى الغرف ،فلقد كانت ،باإلضافة إلى الحشرات والزواحف ،حارة مثل الفرن وخانقة تكتم األنفاس .أما في الليل فكنا بين فكي الرطوبة وبين لسعة البرد الصحراوي .لم يعد لمالبسنا لون وأصبحت رائحتها مثل رائحة أجسادنا نتنة واتحدت رائحتنا برائحة المكان ولم نعد نعرف إن كانت الرائحة الكريهة هي رائحة المكان أم رائحتنا .أصبنا جميعا باإلسهال نتيجة لشرب المياه الغير صحية ذات الرائحة النتنة واللون األحمر من صداء المواسير .كان من حسن حظنا أنه لم يكن متوفر لدينا أو لنا أي نوع من المرايا وإال لكنا إرتعبنا من بشاعة منظرنا .ومن
44
حسن حظنا أيضا أن زيارتنا كانت ممنوعة ،فلم نكن نرغب أن يرانا أهلنا وأصدقاءنا بهذه الصورة. ال أدري كم يوم بقينا على هذه الحالة عندما زارنا ضابط كويتي .كان الزمن يمر ببطئ شديد وكنا نشعر أننا بقينا في ذلك المكان الدهر بطوله .أخبرنا الضابط أن السلطات الكويتية قررت ترحيلنا ،كل إلى بلد إقامته وأن الئحة بأسمائنا أرسلت إلى كافة المخابرات العربية كي تحطات منا .قالها بتكهم و بسرور كأنما الخبر أفرحه ثم أضاف أن ترحيلنا سيجري بعد أيام قليلة ،نظر إلينا بتشفي كأنما كنا قتلة والده وأهله و أدار ظهره لنا وغادر المكان بسرعة هاربا من خطر عدوانا. بعد يومين من زيارة الضابط جائت سيارة نقل المساجين لتنقلنا إلى المطار .تحركت بنا متجهة نحو مطار الكويت حيث عزلونا عن بقية المسافرين لمدة ساعتين وقسمونا حسب بلد اإلقامة وكان معظمنا متجها إلى األردن .أخذونا إلى الطائرة التي كانت تنتظر على أرض المطار ،أدخلونا إليها وأجلسونا في مؤخرة الطائرة وبقي بعض الشرطة في حراستنا إلى أن أعلن القبطان عن قرب موعد اإلقالع فغادروها وأغلق باب الطائرة خلفهم .تحركت الطائرة وبدأت تعلو في الجو مغادرة أجواء الكويت ،نظرت من النافذة إلى الكويت التي أخذت تصغر شيئا فشيئا حتى إختفت عن ناظري وكانت تلك آخر مرة يقع نظري فيها على أرض الكويت. لقد مر على ترحيل مجموعتنا من الكويت عشرات السنين ،بعضهم رحل عنا إلى األبد وبعضهم شاخ وعجز ،والبعض اآلخر تدين فأطال لحيته وأخذ يقضي وقته في التعبد والبعض اآلخر ،مثلي ،هاجر ويعيش في الغربة ،ولكن أسماءهم وإلى وقت قريب كانت ما زالت موجودة على مطارات بعض الدول العربية وحدودها ،بما فيها الكويت ،كأشخاص غير مرغوب بهم .لم تنجح تجربة الوحدة بين البلدان العربية، أما وحدة مخابراتها فهي مثالية.
45
.15
الفلسطينية التائهة
رن جرس الهاتف فاستيقذت مذعورا .نظرت إلى الساعة فوجدتها لم تتجاوز الرابعة صباحا .أنا أكره رنين الهاتف في الصباح الباكر ،إنه في العادة يحمل أخبارا سيئة. رفعت سماعة الهاتف وقلت نعم .جاءني صدى صوت نسائي ليقول " :أنا الممرضة بيجي ،أنا آسفة إلزعاجك في مثل هذا الوقت ولكنني في حاجة لمساعدتك". بيجي ممرضة معروفة ،تعمل في قسم األطفال التابع لمستشفى السرطان وقد ألفت كتابا بعنوان " أطفال قلبي" حكت فيه عن قصص مجموعة من األطفال الذين دخلوا المستشفى لعالجهم من مرض السرطان وماتوا بين يديها وهم يعتقدون أن المالئكة ستأخذهم إلى مكان جميل كله فرح ولعب أطفال .كانت قصص محزنة ومؤثرة جدا ولقد لقي الكتاب رواجا كبيرا مما دفع محطات التلفزيون للتسابق على إجراء الحوار معها كما تقدمت مجموعات متعددة من الشركات بالتبرع بأموال أو شراء بعض المعدات للمستشفى وخاصة لقسم األطفال. عرفت من الممرضة بيجي أن السلطات قد أحضرت إلى القسم إمرأة عربية مع طفلها وجدوها تائهة على الحدود السلوفاكية المجرية .بعثوها للفحص الطبي كالعادة بالنسبة للمهاجرين فوجدوا أن طفلها يشكو من سرطان الدم فحولوها وطفلها إلى مستشفى السرطان .أضافت الممرضة بيجي أن المرأة عربية وال تتكلم أي لغة غير العربية ولم يستطيعوا التفاهم معها .أضافت" أنا ال أعرف من العرب غيرك وأريدك أن تساعدني في التفاهم مع المرأة" .وعدتها بالمجيء باسرع وقت. لبست مالبسي بسرعة وخرجت من البيت ،ركبت سيارتي وتوجهت إلى مستشفى السرطان. مرض السرطان له هيبته بغض النظر عن حقيقة يجهلها كثير من الناس أن أمراض القلب والشرايين أكثر فتكا بعدة مرات من مرض السرطان .زيارة قسم األطفال في المستشفى يتطلب عزيمة وقوة إرادة ،فمنظر األطفال الصغار ،حليقي الرأس منهكين من الكيماوي ومن سريان المرض في خاليا جسمهم يدفع الدموع إلى العيون .لم أستطع في كل زيارة أقوم بها إلى هذا القسم أن أمنع نفسي من البكاء وكنت أهرب إلى الحمام وأبكي هناك خوفا أن يراني األطفال. دخلت القسم وكان األطفال ما زالوا نياما .توجهت إلى مكتب الممرضة بيجي وقرعت الباب .إستقبلتني بابتسامة قلقة ومسكتني من يدي وأخذتني إلى إحدى الغرف .كان هناك طفال صغيرا مستلقيا على السرير وبجانب السرير جلست إمرأة على أرض الغرفة صعب علي تقدير عمرها ففي تضاريس وجهها مرسوم كل الوجع والهم اإلنساني . عرفت منها أنها فلسطينية من سكان العراق ولقد ترك زوجها العراق منذ فترة وذهب يبحث عن العمل في ألمانيا .بعث لها أن تلحقه ولقد بعث لها عنوان بعض األشخاص الذين سيسهلون مهمة سفرها .باعت كل ما تملك ،ومع أن زوجها كان قد دفع للوسطاء المبلغ المتفق عليه إال أنها إضطرت إلى أن تدفع في العراق مبلغا إضافيا.
46
جاءت مع طفلها مع مجموعة من العراقيين الباحثين عن لقمة العيش في الدول أألوروبية ولقد تبادلهم الوسطاء في الطريق حتى وصلت إلى مكان قالوا لها وألفراد المجموعة هذه هي ألمانيا وتركوهم على الحدود السلوفاكية بدون جواز سفر و كل إلى مصيرة .تاهت وهي تجوب الطرقات وبيدها ورقة مكتوب عليها عنوان زوجها في ألمانيا .كانت توقف الناس وتقول لهم الكلمة السحرية "ألمانيا ،ألمانيا" حتى أوقفتها الشرطة التي بدورها نقلتها وطفلها إلى معسكر المهاجرين الدولي حيث اكتشفوا أن إبنها مريض بسرطان الدم. حاولت أن أشرح لها بأنها في سلوفاكيا وأن ألمانيا بعيدة وأن طفلها مريض بسرطان الدم وأنه في حاجة ماسة إلى العالج .كانت الدولة مستعدة لعالجه على حسابها الخاص وكان على والدته أن تقيم في المعسكر حتى يتقرر مصيرهما .لكنها رفضت ترك طفلها وأصرت على البقاء رفقته ،ولقد واجه المستشفى بسب ذلك مشكلة في غاية التعقيد ،وكان السؤال المطروح أمامهم ،ما العمل مع هذه األم التي ترفض ترك إبنها؟ المستشفى ال يستطيع توفير اإلقامة لها في غرفه أو أي مكان آخر .عرضت عليها أن تاتي وتقيم عندنا فرفضت .في النهاية وافقت الممرضة بيجي على إبقاءها بالسر بجانب طفلها في المستشفى على أن تخفيها أمام أعين المسؤولين في النهار. تركتهم وذهبت إلى البيت وفي عقلي دوامة من األفكار واألسئلة ،ما الذي حدث لهذا الشعب وكيف وصلت به األمور إلى هذا الحد؟ وما الطينة التي صنع منها أؤلئك الوسطاء الذين فقدوا إنسانيتهم واستغلوا مأساة هذا الشعب وأخذوا في المتاجرة بآالمة؟ كانت الساعة قد قاربت منتصف الليل عندما رن جرس الهاتف .كانت الممرضة بيجي من جديد وكانت منفعلة ،صاحت" لقد أخذت إبنها وهربت" .قلت لها كيف وإلى أين؟ قالت " غافلتنا وأخذت طفلها وهربت وال ندري أين ذهبت". بحثوا عنها فلم يجدوها .بعضهم قال أنها كانت تجوب شوارع المدينة وفي يدها ورقة وتسأل المارة" ألمانيا ألمانيا ؟
47
.16
فلسطينية بين براثن ذئاب بلحية ومسبحة
كنت في مكتبي أتحدث مع صديق لي عبر الهاتف عندما لمحتهما واقفين أمامي. إمرأة محجبة ،تلبس رداءا يغطي كافة جسدها ،ما عدا الوجه واليدين ،ورجل يلبس بدلة وعلى رأسه حطة بيضاء وعقال أسود .وقفا أمامي كتلميذين واقفين أمام مدير المدرسة في إنتظار قراره بعقابهما على أمر إقترفاه .إعتذرت من صديقي وأغلقت الهاتف ثم نظرت إليهما متسائال .كان منظرهما خارج عن إطار المألوف في بلد أوربي مثل سلوفاكيا وحتى في مكتبي. تكلم الرجل قائال :نحن نبحث عن الدكتور نضال ".أجبته ":إنكم تنظرون إليه" ثم دعوتهم للجلوس وعرضت عليهم القهوة أو الشاي فطلبا ماءا .أحضرت لهما زجاجة ماء وكاستين وجلست خلف مكتبي انتظر منهما تفسيرا .قال الرجل ":جئنا نبحث عن إبنتنا فلقد كتبت لنا أنها تعمل لديك ".غصت لحظة في بحر أفكاري أبحث عن كلمات مالئمة كي أجيبهما على سؤالهما المحرج .إبنتهما لها قصة محزنة وقصتها واحدة من قصص كثيرة مماثلة عايشتها في أوروبا. في ذات يوم دخلت مكتبي فتاة محجبة وقالت لي انها فتاة عربية تدرس الطب وتبحث عن عمل يساعدها مدخوله في مصاريفها الدراسية والمعيشية .ثم تابعت": أنت تعرف خالي وهو ،على ما أظن ،صديقك ،ثم سمته لي ".أجبتها بأنه فعال صديقي وتربطني به صلة قرابة ولكنني لم أعرف أن له أخت أو بنت اخت ".فردت قائلة ":لقد عشنا طويال في الكويت ولعل ذلك هو السبب في عدم معرفتك بنا". أخبرتني بأنها تتقن اإلنجليزية والسلوفاكية ويمكنها العمل في الترجمة في أي مجال يتطلب ذلك. لم يكن في مكتبي مكان ألي موظف ،فمكتبي صغير يحتوي على طاولة وهاتف وفاكس وبعض المقاعد .أخذتها إلى صديق لي ،مكتبه يجاور مكتبي ،وقدمت الفتاة على إنها إبنة أخت صديقي وقريبي وسألته العون في إيجاد عمل مناسب لها .أجاب بأن جارنا المصري ،الذي يملك مكتبا تجاريا في نفس الطابق ،ال يتقن السلوفاكية وهو في حاجة لمترجمة .وهكذا كان وعملت الفتاة عند صاحبنا المصري .كان رجال عجوزا يساعد أبناءه ،الذين كانوا يتاجرون في مصر بالخضروات ،في إيجاد سوق لبضائعهم في سلوفاكيا .عملت الفتاة عنده وكانت بين الحين واالخر تتوقف في مكتبي ،تلقي علي التحية وأسالها عن حالها وعن أهلها فتجيبني ثم تغادر إلى عملها. بعد مرور شهر او إثنين جاءتنا فرحة ،توزع علينا الحلوى وتلقي علينا مفاجأة بانها قد تزوجت .علمنا منها أنها إلتقت شابا مصريا يعمل مديرا في مطعم للبيتسا في مدينة فينا النمساوية ،أحبته وأحبها وتزوجا على الطريقة اإلسالمية( على سنة هللا ورسوله) في أحد المساجد في فينا .مدحت الزوج ووصفته بانه متدين يخاف هللا
48
وأنه سمح لها بتكملة دراستها .لم يكن أمامنا إال أن نبارك لها وندعو لها ولزوجها بالتوفيق. بعد فترة قصيرة على زواجها سافرت إلى األردن والتقيت بخالها .أخبرته عن إبنة أخته وقصتها معنا .ضحك صديقي وقال " :يا صديقي العزيز ،ال يوجد لي أخت حتى يكون لي إبنة أخت ".وعندما أخبرته عن إسمها وإسم عائلتها ،صرح لي بأنه ال يعرفهم البتة". رجعت إلى سلوفاكيا وإلى مكتبي وجاء صديقي لكي يرحب بي .بعد أن تبادلنا التحيات المعتادة ،أخبرته بأن الفتاة قد كذبت علي وأن صديقي ليس له أخوات وال بنات أخوات وليس له أدنى معرفة بها أو بأهلها .فجأة ،تحول لون وجه صديقي إلى اإلصفرار كأنما إنسحب الدم من وجهه وأصبح لونه مثل الليمونة .ظننت أنه مريض فسألته ما به .نظر إلي وقال :أنا في مشكلة وأخذ يقص علي ما حدث. جاءت الفتاة إلى صديقي أثناء غيابي وطلبت منه سلفة عشرة آالف دوالر .أخبرته بأن زوجها يريد أن يشتري مطعم البيتسا الذي يعمل فيه وينقصه عشرة آالف دوالر .طمأنته بأنه سيعيد المبلغ بعد أن يصله النقود التي أرسلها أهله إليه وأن المدة لن تطول أكثر من شهر واحد ،وهو يخشى إن لم يشتر المطعم اآلن فسيشتريه موظف آخر يطمع به .ولم تنس أن تخبره أن خالها صديقي وقريبي وهي من عائلة محترمة و معروفة في الوطن. لم يكن مع صديقي هذا المبلغ ،وتحت ضغط بكاءها ونواحها بأنها فرصة العمر لها ولزوجها ،وبناء على تشديدها على صلة القرابة التي تربطها بي ،أخذها إلى مكتب صرافة يقدم السلف بنسبة فائض عالية وقام بكفالتها بالمبلغ ولمدة شهر .عندما أخبرني إسم المكتب الذي إستلفت منه المبلغ شعرت بألم في أمعائي وأصابني الغشيان وصحت به " :هل أنت مجنون؟ هؤالء مافيا و إذا لم يدفع المبلغ في وقته، وهو يستحق بعد أيام قليلة ،فإنهم سيقتلوك ويقتلونها ".لم يجد ما يقوله ،لقد إستطاعت بمراوغتها ودموعها أن تؤثر على قراره. كان علي قبل كل شيء أن أحمي صديقي من أي مسائلة فذهبت إلى صاحب مكتب الصرافة الذي إستدانا منه المبلغ ،وهو ألباني مسلم ،وكان مدينا لي ببعض الخدمات الهامة .شرحت له تفاصيل القصة ووعدته بمساعدته في الحصول على المبلغ وطلبت منه وعدا أن يرفع يده عن صديقي ،ففعل .كانت كلمته،رغما عن طبيعة عمله ،ذات وزن و ثقة .ضحك وقال لي ":ال تخف نحن نعرف كيف نستعيد حقنا". قلت له أعرف ذلك حق المعرفة ،وتركته بعد أن وعدته بزيارة ودية. أخذنا الفتاة وذهبنا وصديقي إلى فينا نبحث عن زوجها .موظفوا المطعم الذي يعمل فيه أخبرونا باننا سنجده في مسجد يصلي فيه ويشترك في حلقات دينية يدرس فيها أحد الشيوخ أسرار الدين وخباياه .عندما سألت صاحب المطعم إن كان ينوي فعال بيع مطعمه أجابني بالنفي القاطع. ذهبنا إلى المسجد ،وهو حسب ما أخبرتنا الفتاة ،نفس المسجد الذي عقد قرانها فيه على زوجها .أجلسنا الفتاة في مقهى بجانب المسجد ودخلنا إلحضار الزوج .كان شابا ملتحيا وفي يده مسبحة كباقي المجموعة التي كانت حوله .خرج معنا بدون أي معارضة ودخلنا المقهى وأجلسناه إلى جانب زوجته .رفض أن يصافحها بحجة انه
49
ال يصافح النساء .إعترضت بقولي ":ولكنها زوجتك يا رجل ،فكيف ال تصافحها ؟" فاجأنا بقوله أنها ليست زوجته وليس له أي عالقة بها أو معها وطلب إظهار أي وثيقة تثبت هذا الزواج .قامت مجادلة بينهما لم أكن أرغب في سماعها ،فسألته عن النقود ومتى سيقوم بسدادها .أنكر أن يكون قد إستلف منها أو من غيرها أي مبلغ. ال حظنا إلتفاف مجموعة كبيرة من ذوي اللحى ،من الذين كانوا في المسجد وقت خروجنا معه ،حولنا .لقد حجزوا جميع المقاعد التي كانت محيطة بنا في المقهى ولم يكن منظرا مريحا على اإلطالق .كانت نظراتهم تهديدية تتطاير منها عالمات العدوانية والعدائية .وجدت أنه ال فائدة من وجودنا ،فهناك من يكذب علينا ولم أكن راغبا في إثارة مجموعة الدبابير التي كانت تحيط بنا .أشرت على صديقي بأن أفضل طريقة للخروج من هذا المأزق المشبع بالخداع والكذب هي أن نسرع بالرحيل. خرجنا وصديقي من المقهى دون أن نودعهم وبقيت الفتاة جالسة ،منشغلة في جدال حاد مع زوجها ،وال ندري ما الذي دار بينهما ومن كان يخدع من أم أن كالهما قاما بخداعنا؟ لم اكن أرغب في اإلنتظار ومعرفة الجواب .إختفت الفتاة بعدها ولم تعد ال إلى الجامعة وال إلى السكن الجامعي ولم تسدد أجرة سكنها لعدة أشهر .سمعت أنها تبيع جسدها على ناصية أحد شوارع فينا. بناءا على طلب من إدارة المسكن الجامعي ،دخلنا غرفتها في المسكن وشهدنا على إستالم مسؤولة المسكن لمالبسها وأغراضها التي تخصها والتي وضعت في علب كرتونية وجرى حجزها في مخزن المسكن .وجدنا بين أغراضها مجموعة من الرسائل من زوجها أو ما أدعته أن يكون ،وكانت رسائل مليئة بوصف عالقاتهم الجنسية وما سيفعلونه في السرير عند لقاءهما القادم .كانت رسائل مخجلة يصعب قراءتها. نظرت إلى الوالدين وقلت لهما" :إبنتكما رحلت منذ مدة ،تركت الجامعة وهي تعيش في فينا وأنا أنصحكما بأن تعودا إلى الوطن وتنسياها ".لكنهما أصرا على مقابلتها فاعطيتهما عنوان صديق لي في فينا سيساعدهما على إيجاها .أخذا الورقة وخرجا من مكتبي محنيي الظهر ،يحمالن على كتفيهما ثقل مصيبة لم يكونا في ذلك الوقت قادرين على إستيعاب أبعادها. أخبرني صديقي بعد فترة أنهما قابال إبنتهما ولكنها رفضت اإلستماع إليهما والعودة إلى الوطن وقالت لهما " :إنسو إبنتكما فلقد ماتت".ثم أدارت ظهرها ورحلت بعيدا. تركاها على ناصية الشارع وعادا متوجهين إلى المطار .كانت األم تبكي بحرقة وكان األب صامتا .نزع عن رأسه حطته وعقاله ولفهما حول رقبته ومشى مكسورا محطما ولم أسمع عنهما أو عن إبنتهما بعد ذلك.
50
.17عشاء ديمقراطي وضع يديه على ركبتيه وجلس يمسح عرقه عن جبينه كأنه تلميذ في حضرة مديره. كان يضم يديه ويفردهما بعصبية وهو يردد :ال تجبرني على أن أحلف بالطالق، ستتعشى عندنا مساء الجمعة وال أقبل أي عذر. نظرت إليه طويال واحترت في ما أقول .كيف اقنع هذا الصديق الجالس أمامي بأن العشاء يضرني وإنني ال آكل طعاما بعد الخامسة مساءا إال بعض الفواكه والخضار، وأن العشاء الذي يصر صديقي على دعوتي إليه سيسبب لي مشاكل صحية ال تعد وال تحصى ،خاصة وأنني في ذلك اليوم مدعو عند صديق على غداء دسم .لقد جف حلقي ونشفت شفتاي من ترديد ذلك له وهو يعود ليحلف األيمان ويصر على هذه الدعوة بإصرار عجيب .ما السر في كون الطعام يكون في بالدنا أحد أهم المكونات للعالقات االجتماعية ؟ ما السر في أن الصداقة والمحبة في بالدنا تتمحور حول الطعام المقدم ونوعه وكميته وشكله .شعبنا مضياف كريم وهذا ال نقاش فيه ولكن لماذا اإلصرار على دعوة الضيف إلى مائدة تضره وليس له رغبة فيها ،فهل هي إرضاء للضيف أم للمضيف؟ طال الصمت بيننا وما عدت أسمع إال أمواج أنفاسه التي أخذت في التسارع متلهفة لجوابي .لقد شعرت بمزيج من الحيرة واألسى والغضب الدفين لوجودي في هذا الموقف ألمحرج ،وبدأ عقلي يحلل بسرعة فائقة النتائج المترتبة على أي إجابة أقولها. قبضت على يد صديقي بشدة وقلت له :يشرفني يا صديقي أن آت إلى بيتك وأن آكل من طعامك ،ورغم معرفتي أن األكل المتأخر ليال يضرني ،إال أنني إكراما لك سأقبل دعوتك ولي رجاء عندك أن يقدم الطعام مبكرا .ثم تابعت القول :وأظن أنه من باب العبث أن أتقدم إليك برجاء ،أن يكون الطعام بسيطا،خفيفا على المعدة ،فمعرفتي بك وبزوجتك تؤكد لي بأن هذا الرجاء لن ينفذ. رأيت البهجة تعم وجه صديقي والتي عبر عنها بعناقي طويال كأننا نلتقي بعد غياب طويل .دار الجدال بيننا حول الوقت ولقد حاولت أن آخذ وعدا من صديقي بأن يكون مبكرا قدر اإلمكان .وأخيرا إنتهى اإلتفاق بيننا ،بعد جدال الممكن وغير الممكن ،أن يكون العشاء بعد صالة المغرب مباشرة .فاألوقات في بالدنا مربوطة بأوقات الصالة. في مساء اليوم المعهود وفي الوقت المتفق عليه طرقت باب صديقي وأنا أتحسس جيوبي التي امتألت بمختلف األدوية التي جلبتها معي .حبوب ضد الحموضة وحبوب لتسهيل الهضم إلى جانب حبوب لمنع النفخة وحبوب أخرى حيطة ألي حالة طارئة .قابلني المضيف بالعناق والترحاب وقادني إلى قاعة الضيوف .فوجئت بأن القاعة مليئة بالضيوف من الجنسين ،بعضهم من أصدقائي وأقاربي وبعضهم غريب عني ولكنه يمت لبعض أقربائي وأصدقائي بصلة النسب. صافحت الجميع فردا فردا فردا ،بعض النساء رفضن مصافحتي ووضعن أيديهن خلف ظهورهن ،فأصبت بالحرج واحترت ألي منهن أقدم يدي ،وتنفست الصعداء
51
عندما انتهيت من واجب المصافحة وجلست في المقعد الذي قدم لي .دارت األسئلة حول الحال واألحوال والعائلة وما غير ذلك .سألتني إحداهن أين زوجتي ,فعم الصمت المكان ووشوشتها امرأة تجلس بجانبها بأنني أرمل ،توفيت زوجتي منذ أعوام .سألتني نفس السيدة لماذا لم أتزوج لحد اآلن ،ودار الحديث حول ضرورة تزويجي ،وبدأ الحاضرون يدلون دلوهم في موضوع زواجي ويطرحون أسماء الزوجات المناسبة لي .لم يسألني أحد عن رأيي وإن كنت أرغب في الزواج أصال، بقيت صامتا أستمع للتمثيلية التي أقوم بدور البطل فيها ولكنني خارج مسرحها. وأخذت أراقب الساعة وأتساءل متى سندعى إلى العشاء الموعود. قام الرجال فجأة وتوجهوا نحو باب الخروج ولم أفهم ما يجري فسألت مضيفي فأجابني بأنهم ذاهبون إلى المسجد لصالة العشاء .وعندما سألته لماذا ال يصلون في البيت أخبرني أن الصالة في المسجد أكثر ثوابا ،واعتذر مني بأن األمر لن يطول وأنهم سيقدمون العشاء بعد عودة الرجال من المسجد مباشرة .وعندما سألته عن وعده بأن يكون العشاء مبكرا إحمر وجهه وقال بأن الصالة أهم من وعده لي وطلب مني أن أقوم معهم للصالة فأخبرته بأنني مسافر ولي حق الجمع فهز رأسه ولحق مسرعا ببقية الرجال وتركني وحيدا مع إبن له ،فلقد خرجت النساء إلى غرفة ثانية للصالة. عاد الرجال بعد وقت خلته دهرا ودعينا لطاولة العشاء ولقد أصبح الوقت بالنسبة لي متأخرا بكل المعايير .قمنا ولقد قررت في نفسي أن ال آكل إال قليل من الخضار، ولكنني ما أن جلست إلى طاولة الطعام حتى رأيت األيدي تمتد إلى صحني وتمأله بالطعام ،وعندما أظهرت إعتراضي بدأت األيمان تنصب على رأسي :باهلل عليك كل ،أال يعجبك الطعام ؟ خذ هذه الكوساية من يدي ،خذ هذه الكبة وضعها في فمك، إفتح فمك هذه قطعة لحم موزة من فخد الخاروف وهكذا انطلقت األيمان المختلفة من الشفاة وامتأل صحني بالطعام حتى بدأ يتساقط منه .خلت نفسي طفال صغيرا يطعمه والديه .وما أن قمنا عن الطاولة حتى شعرت أن معدتي ستنفجر وأخذ كرشي الذي انتفخ مثل قربة يضغط على أنفاسي. وأخيرا عدنا إلى أماكننا وكانت كلمات الشكر تنطلق من األفواه يرد عليها المضيف بكلمات :صحة وعافية .ثم وزعت القهوة العربية المطعمة بالهال وأخذت أرتشف القهوة بتلذذ .عم الصمت القاعة إال من صوت رشفات القهوة من شفاه الضيوف وإعادة ملئ الفناجين من دلة ذات فم ضيق معقوف يدور بها مضيفنا على ضيوفه. شق الصمت صوت أحد الضيوف قائال ":هل رأيتم ما يفعله الرافضة أعداء اإلسالم وكيف يشتمون السيدة عائشة أشرف سيدات الخلق ،زوجة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم؟ قالت سيدة بعد أن وضعت فنجان القهوة الفارغ على الطاولة التي أمامها ":شاهدوا برامجهم التلفزيونية فكلها حقد على اإلسالم والسنة وعلى صحابة الرسول رضوان هللا عليهم جميعا ".قال أحد الجالسين " :حزب هللا يرفع شعار فلسطين كتقية وكل هدفه فتح األبواب إليران الشيعية حتى تحتل أرضنا وتنشر أفكار الرافضة ويسقط دين الحق ،دين أهل السنة والجماعة". بقي الحديث يدور حول الشيعة وموقفهم العدائي من السنة وحقدهم على السيدة عائشة وعلى صحابة النبي األتقياء األوفياء المعصومين عن الخطأ ..بقيت صامتا
52
أستمع وكان كل من الموجودين يدلي بدلوه في بئر الخطر الشيعي على أمة محمد. إنتظرت أن ينتهي الحديث ويتحول إلى الخطر اإلسرائيلي المحدق بمجموع األمة والويالت التي يذوقها أهلنا في فلسطين على أيدي قوى اإلحتالل ،ولكن أنتظاري كان عبثا .فجأة الحظ بعضهم صمتي فسألني عن رأيي .فكرت وترددت طويال قبل أن أنطق بأي كلمة ،ولكن العيون المسلطة علي والوجوه المنتظرة جوابي دفعني للحديث فقلت :إنني أرى في حديثكم هذا زرعا للفتنة نحن في غنى عنها وخاصة في ظروف الهجمة الصهيونية واإلمبريالية على بالدنا .ثم أن المرجعية الشيعية إستنكرت التهجم على السيدة عائشة وعلى صحابة النبي ،وهذا هو فصل المقال وال ضرورة إلعادة وتكرار قول فرد هنا وآخر هناك،كما أن هذا الموضوع ينتمي إلى الماضي ونحن علينا أن ننظر إلى الحاضر والمستقبل والمشاكل المعقدة التي تواجهنا ،وآخر ما نرجوه هو نشوب فتنة بين السنة والشيعة .قاطعني أحدهم صائحا " :ال تصدقهم! تصريح مرجعيتهم هو تقية وهم يقولون ماال يضمرون. تابعت كالمي دون أن أعير أي إهتمام لموضوع التقية وقلت :عند أهل السنة مجموعات تكفيرية إرهابية وهي أكثر خطرا علينا جميعا من أي خطر شيعي محتمل. إنطلقت القنابل الكالمية من مدافع الشفاة الملحمية وتوجهت كالصواريخ تجاهي واللهب الحارق يخرج منها .راحت عيناي تمعن النظر في تلك الشفاة المرتجفة كرشاش حربي سريع الطلقات وقطرات اللعاب تمتزج مع الكلمات المنطلقة كالرصاص حاملة كل الحقد اإلنساني .إستطعت أن ألتقط من بينها كلمات مثل كفر وحرام وردة وعقاب وال نسمح وغير مقبول .حاولت أن أرد وأشرح رأيي وموقفي ولكن األلسنة الحادة كالسيف قطعت جملي كما يقطع السيف لحم عدو في يد محارب حاقد .لم استطع أن أقول ،مهما حاولت ،جملة واحدة مفيدة ،فآثرت الصمت .تابعت صمتي ولم يعد للقهوة مذاق وال رائحة ،وال أدري كم إستمر الهجوم وكم من التهم والشتائم سقطت على رأسي .كانت العيون تحدق في وجهي والشرر يتطاير منها وكانت الشفاه تصب حماها علي فحدقت في وجوههم ،لم يكن هؤالء أهلي وال أقاربي وال أصدقائي الذين إشتقت إليهم بعد غربة .كانوا غرباء وكنت بينهم أشد إغترابا من غربتي خارج وطني .قبض الحزن على قلبي حتى كاد يدميه وغلى الدم في عروقي ولكنني بقيت صامتا . بعد فترة عم الصمت القاعة ورأيت عيون الموجودين تتحاشاني .أخذت أحدق في الوجوه متحديا .بعد فترة من الصمت طالت حتى أصبح الوضع محرجا قال أحدهم بصوت عال ،كأنما حديثه موجه نحوي مع أنه لم يكن ينظر إلي " :هل رأيتم أوروبا التي تدعي الديموقراطية والحرية وترفع شعار حقوق اإلنسان؟ إنها تعتدي على حقوق المرأة المسلمة وتمنع النقاب ".خرجت التمتمات من أفواه الحضور موافقة على قول صاحبنا وأضاف البعض جمال مثل " :إنهم يكرهون اإلسالم والمسلمين، يدعون الديموقراطية ويعتدون على حرية المسلمين وحقوقهم ،يجب أن ال نسمح باإلعتداء على حرية المرأة المسلمة ومنعها من لبس لباسها الشرعي بما فيه النقاب.
53
إستمعت طويال لحديثهم يشكون من تعسف الديموقراطية الغربية وإعتداءها على حقوق المسلمين وخاصة حق المرأة المسلمة بلبس النقاب وتغطية جسمها ووجهها ويديها حتى تصبح إمرأة "إنكوغنيتو" مجهولة الجنس والهوية وال تعرف إن كانت من جنس البشر أم من كوكب آخر ،وإن كانت رجال أو إمرأة .شعرت بعمق التناقض في تفكير أمة محمد وتجذر داء الفصام في العقل المسلم. قمت وتسللت من القاعة إلى الحديقة ومنها إلى الشارع ولم يكتشف أحد خروجي وال شعر بغيابي .تنفست الهواء الطلق المنعش ونظرت إلى السماء .بحثت عن القمر فلم أجده ،مع أنه من المفروض أن تكون ليلة قمرية .لعله إختفى خجال من ما سمع .كان الصمت والظالم مخيم على المدينة يشقهما بين الحين واآلخر صوت ونور مصابيح السيارت المارة على الطريق العام .تمنيت لو أن لي جنحان فأطير بها بعيدا .لم يكن لدي جنحان فوضعت يدي في جيوبي ومشيت مغادرا.
54
.18
عبدالرحيم عمر :الشاعر ،الصديق واإلنسان
إلتقيت به عام 1956في الكويت حيث عملنا معا كمدرسين في مدرسة كويتية ال أذكر إسمها ،ونمت بيننا صداقة متينة ،رغم فرق السن ،فأنا ولدت عام 1936وهو عام .1929كنت شابا حديث التخرج من دار المعلمين في عمان وكان هو متزوجا ورب عائلة .بقينا معا في الكويت إلى أن ألقت السلطات الكويتية القبض علينا وقامت بسجننا ومن ثم ترحيلنا إلى األردن في عام .1959 كان عبدالرحيم عمر ،أبو جمال ،واسع الثقافة ،خفيف الروح وصاحب نكته ،دمث األخالق ولكنه سليط اللسان ال يتورع عن إستععماله ضد من يستحقونه ،شعرا أو نثرا .لقد أوقعه لسانه أكثر من مرة في مشاكل كادت في مرة من المرات أن تودي به إلى السجن .فلقد كتب مسرحية إذاعية لإلذاعة األردنية ،ولكن المدير العام للتلفزيون واإلذاعة قام بإجراء تعديالت عليها وأذاعها ناسبا العمل لنفسه ،مما أثار غضب أبي جمال .أرسل أبو جمال برقية الذعة إلى مدير اإلذاعة والتلفزيون يصفه فيها بأقسى األلفاظ وفي مطلعها على ما أذكر ":في زمنك كثر الفساد وعمت المحسوبية وهبطت الثقافة وإنحط األدب" وأرسل صورا عن البرقية لكل من رئيس الوزراء وكان وقتها السيد مضر بدران وإلى وزير الداخلية وكان وقتها السيد سليمان عرار ،وكان عرار صديقا لعبد الرحيم عمر .أخطأ عامل البرقيات وأرسل ثالث برقيات ،كل واحدة بنفس المضمون موجهة ومعنونة إلى المرسل إليه بدال من أن تكون صورة عن البرقية المرسلة إلى مدير اإلذاعة والتلفزيون .وصلت البرقية لكل من رئيس الوزراء ووزير الداخلية كأنما هما المقصودان بما جاء بها من شتم قاس .لقد فهم وزير الداخلية أن خطأ ما قد وقع ،ألنه كان صديقا لعبدالرحيم عمر ولم يكن عبدالرحيم ليرسل مثل هذه البرقية له .لكن رئيس الوزراء كان أقل تفهما و إستشاط غضبا عندما إستلم البرقية ،وأمر بإلقاء القبض على عبدالرحيم وسجنه. إتصل وزير الداخلية بأبي جمال وطلب منه أن يختفي إلى أن تهدأ خواطر السيد رئيس الوزراء ويقبل بأنه لم يكن مقصودا بمحتويات البرقية وأن خطأ قد حصل من قبل عامل البرقيات ،وهكذا كان ،وظل أبو جمال مختفيا في بيت صديق له إلى أن إتصل به وزير الداخلية وأخبره بزوال الخطر .ولقد قال أبو جمال قصيدة في عرار يعرب فيها عن شوقه إليه بعد مماته وفيها يقول: يا عرار خجال جئت ،يدي فارغة ،شيحان هذا العام ما إخضر وال أخصب في حوران قمح خجال جئت وماء الوجه فوق الوجه طفح وأناديك فتنفيني الليالي العربية رغم أني رغم أني عربي الوجه واآلمال واألحوال قح
55
ولد عبد الرحيم محمد عمر في فلسطين ،في بلدة جيّوس الواقعة إلى الجنوب من طولكرم في ، 14/ 8/ 1929ودرس في مدرستها االبتدائية .وفي العام 1940انتقل إلى قلقيلية ،ثم إلى مدرسة طولكرم الثانوية حيث أنهى في العام 1948شهادة "االجتياز إلى التعليم العالي" .عمل بعد تخ ّرجه معلّما في مدرسة القرية ،ثم ذهب في مطلع العام 1952ليعمل معلّما في مدارس الكويت ،فأمضى فيها سبع سنوات، عاد بعدها إلى األردن ،بعد ترحيله من الكويت ،ليعمل في ميدان اإلعالم .فعمل في اإلذاعة منذ العام ،1959وأصبح في العام 1964رئيسا للقسم الثقافي فيها ،ثم عين رئيسا لتحرير مجلّة "أفكار" بين العامين ، 1966-1967ثم عاد إلى اإلذاعة ليتولّى منصب مساعد المدير ،ثم أصبح مديرا لها في العام .1970تولى إدارة دائرة الثقافة والفنون التابعة لوزارة اإلعالم األردنية في العام ،1971وأسهم في تأسيس رابطة الكتّاب األردنيّين في العام ،1974وانتخب رئيسا للرابطة أكثر من دورة .شارك في كثي ٍر من الفعاليات الثقافية األردنية والعربية ،وكان رئيسا للجنة الشعر في مهرجان جرش لسنوات عدة ،وعضوا في اللجنة التأسيسية لمركز دراسات الحريّة والديمقراطية .كتب المقالة الصحفية في الصحف والمجالّت األردنية ،وكان من بين الفريق الذي أسهم في تأسيس صحيفة "الرأي" األردنية .وكانت له زاوية فيها تحت عنوان "أقول كلمة" .نال وسام االستقالل من الدرجة األولى ،وجائزة الدولة التقديرية لآلداب ،وجائزة عرار للشعر .له عدد من الدواوين الشعرية كما له عدد المسرحيات الشعرية ،بعضها مطبوع ،وبعضها اآلخر عرض على خشبة من ّ المسرح ،ومنها ما هو مخطوط. كان عبدالرحيم عمر كريم النفس مضيافا وكانت عائلته إلى جانب ذلك كبيره ولذلك كانت مصاريفه أكبر من مدخوله مما جعله في ضائقة مالية مزمنة ،وكثرت ديونه وكثر دائنوه .وأذكر أن أحد الدائنين جاء في غيابه إلى منزله يطالبه بالدين وكان لحوحا ،فجا ،فما كان من أم جمال إال أن أعطته السجادة الوحيدة الموجودة في البيت ،كدفعة من أصل الدين .ولقد قال شاعرنا في ذلك قصيدة جميلة وحزينة ولقد بحثت عنها في مجموعاته الشعرية التي في حوزتي فلم أجدها. كان يحب العراق وكان يؤمن أن أمن الوطن العربي من أمن العراق وقال في العراق قصيدة طويلة منها: كيف األحبة في بغداد يا ولدي ظلوا على العهد؟ أم حادوا ولم نحد وكيف حال نخيل الكرخ شامخة أعذاقه كشموخ الشمس في األبد وعن عيون المها ماذا تحدثني
56
سحر الرصافة أصماني ولم يقد بغداد! جئتك خجالنا ولو عذرت نوازع القلب لم أرحل ولم أفد رويت جرحك من عيني ولو نزفت مني الوريد أيا بغداد ام أزد وأنت ما صاح منا قط ملتهف إال بذلت القنا والهام بذل ندي لقد كان عبدالرحيم عمر صديقا لي ولوالدي وكان والدي كلما مر على عمان يمر على عبدالرحيم ،يتحدثان لساعات في مختلف األمور ومنها الشعر واألدب .وعندما توفي والدي كان أبو جمال على فراش المرض فاتصل بي يسألني عن مكان بيت العزاء فرجوته أن ال يحضر وأن هاتفه وكلماته الجميلة المعزية عبر الهاتف تكفيه عن المجيئ ،ولكنه طلب من أحد األصدقاء أن يحضره بسيارته إلى بيت العزاء وكان العزاء في الطابق األول ،فعجز أبو جمال أن يصعد الدرج ،فنزلت إليه وعاتبته على مجيئه ،وهو مريض و راكض في الفراش ،ولكنه قال ":يا صديقي ،هذا عزاء والدنا جميعا ،ومن واجبي القيام بذلك" .ودعته وكانت تلك آخر مرة ألتقيي به فيها .توفي بعدها بوقت قصير في لندن بتاريخ . 1993/9/12 كان عبدالرحيم عمر شاعرا يجمع بين ريادة الحداثة الشعرية وبين تمكنه من عمود القصيدة وكالسيكيتها معا .كان تقدمي التفكير وطني الموقف وكان محسوبا على جبهة اليسار في الوطن العربي .إنه ليؤسفني أن أبو جمال لم يأخذ حقه وما يستحقه في النقد واالحتفاء به ال في حياته وال بعد مماته مع أنه خلف إرثا ثقافيا ومنجزا إبداعيا في الشعر والمسرح والحياة االجتماعية حيث كان صحفيا بارزا وصاحب فكر مميز .ومن قصائده الجميلة التي رغبت مشاركتها مع القراء قصيدة بعنوان: "أغنية إلى الفرصة الضائعة" ،يقول فيها: ت َ الخطَر مدلج تحت ِظالل الريح والشو ِك ورايا ِ سحاب ال ّر ْمل والتي ِه يغنِّي للمطر راحل تحتَ َ باط ٌل ك ُّل الذي في كفِّ ِه والطريق الوعر يَهوي ثم يَهوي في جنون الم ْن َحدَر ستقَر؟ ما الذي خبّأه الدرب وأيْنَ الم ْ كان حلمي أن أزيح ال َغ َّم إذ يطفو على وج ِه الغمام ْة ش َر على وجه الصحارى وأرى الب ْ
57
كان حلمي أن أرى الدف َء عال َم ْه فوق أحزان أحبّائي الحيارى وهز ْمنا ،وافترقنا ،وارتحلنا ساء األسر واألسرى نذرت الشِّع َر ولعينيك م َ ِ ش َها َم ْة ت ال َّ والحزنَ وشارا ِ سال َم ْه يوم فارقتك كان الشعر والحب ال َ والذي كان وال أدري لِ َم ْه َ أنني أسلمت أمري وتع َّرفت على ط ْعم الندام ْه كان قلبي نازفا تهمي على الدرب دماؤ ْه كان قلبي لم يَ َزل في غابة الزيتون يشويه َرجاؤ ْه نخش المال َم ْه سرابا قد لحقناه ولم َ وتذ ّكرت َ الح في آفاقنا ذات صباح وتوارى فانتشينا وتبعناه سكارى تفضحنا الشمس ونبكي ُّ الذ َّل في وجه النَّعا َم ْه قبل أن َ صة والقلب الذي كنّا تمنّينا اصطحاب ْه راحت الفر َ عا َد لكنْ بَ ْع َد أنْ أ ْرهق في ليل السآم ْه َوفجعنا وبكينا لم يكن في العين خفق القلب أو خوف النعام ْه كان فيها ذلك الشيء الذي نخفيه حينا ثم ال يَنفَكُّ يبدو حينما نغفو ويدعونا إلى ليل الكآب ْه يا أحبّائي وأهلي ارفعوا أصواتكم دونَ مهاب ْه سمراء أشواقا صليب ْه لم تزل تربتها ال َّ وأنا أحلم بالوصل ودون الدار يا ليلى الحبيبهّ يسقط الكفُّ ،وجرح الكفِّ ،والقلب الطعينْ لم يَ َزل يَنزف نارا في خيام النازحينْ وعلى جفنيك َعلّقت مصيري وعلى الزيتون والليمون علّقت أناشيدي وشعري ت صغاري وابتهاال ِ ويضيع الح ْلم عدت يا جرحي جريحا َم َّرة أخرى وما في جعبتي غير جراحي المسجى فارس الثأر سا ِء أبكي ّ َ عدت يا للخيبة الخر َ وعلى وجهك أبصرت سياطَ الذ ّل والغزو··· فشدّي احملينا واصبري للغزو والسو ِط َو َعدّي صوتَ فما بَ َّر س ِم َع المعتصم ال َّ َ بو ْع ِد و َما أوفى َ
58
رحمك هللا يا أبا جمال وال أدري هل أبكيك أم أبكي وطنا ضاع وآخر يهمل شعراءه وأدباءه ويتركهم عرضة للضائقة المالية ولتسلط الدائنين.
59
.19
مستشفى األمراض العقلية وعالم المجانين
فتح عينيه كالعادة على صوت الممرضة وهي تضع تحت إبطه ميزان الحرارة .هي تعرف أن حرارته غير مرتفعة ولكنه روتين المستشفى اليومي ،على جميع المرضى أن يقيسوا درجة حرارتهم صباح كل يوم .ضغط على ميزان الحرارة تحت إبطه ونظر إلى الممرضة التي إبتسمت في وجهه وقالت " :اليوم يومك ،سنخلي سبيلك وتذهب إلى البيت ،أكيد أنت مسرور للتخلص منا والعودة للبيت ".نظر إليها وهز رأسه وقال " :ال ،أنا غير مسرور ،ولو عاد األمر لي لبقيت ،لكن وما العمل". بعد أن غادرت الممرضة الغرفة ،سحب ميزان الحرارة من تحت إبطه ووضعه على الطاولة الصغيرة بجانب السرير ثم قام من سريره ،دخل الحمام واغتسل وعاد إلى سريره من جديد ينتظر اإلفطار ومن ثم زيارة األطباء. دخل األطباء وعلى رأسهم صديقه ،مدير القسم والطبيب المسؤول عنه .شرح مدير القسم لمجموعة األطباء حالة المريض قائال " :مريضنا تعرفوه،هو من أصل فلسطيني ووطنه األم كما تعلمون محتل وهو ال يستطيع أن يزور أهله وأقاربة في فلسطين بسبب اإلحتالل ولعل الوضع المتأزم في وطنه األم قد أثر على نفسيته ولقد جاءنا قبل ستة أشهر بأعراض واضحة للبسيخوزا ولقد وصفنا له عدة أدوية، تجاوب المريض مع العالج بشكل جيد ولم يعد لديه أي من ظواهر المرض ،لذا قررنا إخالء سبيلة لتكملة العالج في البيت ".ثم توجه بالحديث إلى المريض قائال: "مر عندي الساعة الحادية عشرة إلى المكتب ،سأعطيك التقرير الطبي وبعض الوصفات لما تحتاجه من األدوية ،ويمكنك بعدها ترك المستشفى والذهاب إلى البيت!" كانت الساعة قد دقت الثانية عشرة ظهرا عندما ترك مكتب الطبيب مسلحا بالتقرير الطبي الذي يشرح حالته منذ دخوله المستشفى والعالجات التي أعطيت له وتجاوبه مع العالج ،باإلضافة إلى نصائح للمريض بأن يتجنب الصدمات العاطفية والنفسية وأن يستعمل أدويته بإنتظام وعليه مراجعة الطبيب المسؤول بعد شهر من خروجه من المستشفى .وقفت الممرضات ومجموعة من المرضى يودعونه ،عانقوه وتمنوا له الصحة والعافية وهدوء البال .بعض المرضى بكى لفراقه ،فلقد كان يحدثهم عن فلسطين والقدس وبيت لحم وكانوا يصغون إليه بشغف ،ولم يخجل هو اآلخر من دموعه المنهمرة على وجنتيه ،فلقد خيل إليه أنه يترك أهله وأصدقاءه. مستشفى األمراض العقلية يتكون من قصر قديم كان ملكا ألحد البارونات النمساويين ،يقع على طرف العاصمة و يحيط به حديقة جميلة تكثر فيها األشجار والزهور ويتخللها طرق ضيقة من اإلسمنت ،ويحيط بالحديقة سور له بوابة عريضة في مدخلها غرفة الحارس .عرض صاحبنا على الحارس أوراق الخروج وودعه هذا بالتمنيات له بالصحة وفتح له البوابة وأغلقها خلفه.
60
مشى صاحبنا وفي يده حقيبة صغيرة فيها بعض المالبس وأدوات الحالقة وتوجه نحو محطة الباص المتوجه إلى قريته ،فهو يسكن في قرية تبعد عن العاصمة حوالي خمسة عشر كيلومترا .لم يأت أحد ليأخذه فزوجته تركته وراحت تعيش مع شاب أصغر منها عمرا وأكثر من زوجها ماال وجاها وأخذت معها طفلهم الوحيد. وقف ينتظر الحافلة مع مجموعة من المسافرين الذين أخذوا يرمقونه بنظراتهم المتفحصة ،فلقد كانت مالمحة ولون بشرته تدل على أنه غريب ،ثم أداروا له ظهورهم .تأخرت الحافلة ألكثر من نصف ساعة ،ووصلت مليئة بالركاب نصفهم واقفين .فتح باب الحافلة واندفع الواقفون على المحطة إلى بابها وحشروا أنفسهم حشرا لدرجة أن السائق لم يتمكن من إغالق باب الحافلة .حاول صاحبنا الدخول ولكنه لم يستطع ،مع كل المحاوالت ،أن يجد لنفسه مكانا يحشر جسده المنهك فيه، فظل واقفا على المحطة يراقب الحافلة وهي تغادر وتتركه وحيدا وتبتعد. كان عليه أن ينتظر الحافلة التالية ولكنه كان منهكا ولم يعرف متى ستأتي وإن كان سيجد له فيها مكانا ،فقرر أن يوقف سيارة أجرة لتقله إلى بيته .مرت سيارات األجرة ولوح لها لكي تقف ولكنها كانت محجوزة ومليئة بالركاب أو كانت تتجاهله لمالمحة التي تدل على أنه غريب .بعد مدة من اإلنتظار تخيل أنها دهرا إستطاع أن يوقف سيارة أجرة ،دخلها وجلس في المقعد الخلفي ثم أعطى السائق العنوان. إندفعت السيارة بسرعة وقادها سائقها كأنه في سباق مونتيكارلو ،وكان السائق ينظر بين الفينة واألخرى إلى صاحبنا من خالل المرآة العاكسة وأخيرا سأله ":أرى أنك تحمل حقيبة ،هل أنت مسافر أم قادم من سفر؟" أجابه صاحبنا ":قادم من سفر. سأله السائق من أين؟ فرد عليه صاحبنا من العالم اآلخر .هز السائق رأسه ونظر في المرآة نظرة متفحصة إنعطفت السيارة أثناءها عن مسارها وكادت أن تصدم عجوزا واقفا على الرصيف ،وسأله أين يكون هذا العالم اآلخر .رد عليه صاحبنا بحدة ":أرجوك ،أنا متعب وأريد أن أذهب إلى بيتي وليس لدي أي رغبة في الحديث .أنظر إلى الطريق أمامك حتى ال تقتل أحدا أو تقتلنا وأرجو أن توصلني إلى بيتي بسالم ".ولكن عينا السائق لم تترك المرآة و تابع في أسئلته ولكنه لم ينتظر عليها جوابا فلقد كان يجيب عليها بنفسه .قال :شكلك و لهجتك يدالن على أنك غريب فمن أين أنت؟ ثم تابع ،ال تقل لي وأنا سأحزر ،أظن أنك من إيران ،أو من العراق أو من مصر. شعر صاحبنا أنه يختنق وبدأت كلمات السائق ترن في عقله مثل أزيز الدبابير وفكر أنه إذا لم يجد طريقة ليصمت بها السائق فإنه سيرمي بنفسه من السيارة .ولكن لحسن الحظ وصل بيته قبل أن يقوم بأي عمل قد يندم عليه .دفع األجرة للسائق وخرج من السيارة مسرعا مغلقا باب السيارة خلفه بعنف ،ولم يأبه لشتائم السائق وإشارته البذيئة بإصبع يده األوسط .ركض مسرعا إلى بيته غير ملتفت خلفه أو حواليه .
61
فتح باب البيت ودخل ،فصدمته رائحة العفونة المعشقة بالغبار الكثيف .فتح النوافذ ولكنها لم تستطع تهوية البيت من العفن والغبار اللذان باتا جزءا من البيت .جلس في مقعده الجلدي وأغمض عينيه وتاه مع أفكاره .ماذا سيفعل وكيف سيقضي أيامه وهو في إجازة مرضية؟ أسئلة لم يستطع اإلجابة عليها .بعد فترة شعر بالجوع فتذكر أنه ال يوجد في البيت شيء يؤكل ،فقرر أن يذهب إلى الحانوت ليشتري بعض الخبز والجبن وغيرها من المأكوالت. خرج من البيت وذهب مشيا على األقدام إلى أقرب حانوت ،أخذ عربة ووضع فيها ما يحتاجه من الخبز والجبن والخضروات والفواكه وتوجه نحو المحاسبة .وقف في الصف حتى جاء دوره ،وضع المشتريات أمام المرأة الجالسة خلف آلة الحاسبة وبدأت هذه بعملية الحساب ثم أخبرته بالمبلغ اإلجمالي المطلوب دفعه .أعطاها كرت البنك ،فلم يكن يملك ما يكفي من النقد ،أدخلته في اآللة التي أمامها ثم طلبت منه أن يضع رقمه السري ففعل .إنتظرت الموظفة لحظات ثم نظرت إليه وقالت"" كرتك إنتهت مدته ".أجابها بتعجب ":كيف هذا ،أنظري إلى تاريخ الكرت إنه صالح لمدة عام على األقل ".سحبت الكرت ونظرت إليه ثم قالت " :جرب مرة أخرى ،ربما أخطأت الرقم السري ".جرب مرة ثانية وثالثة وكان الجواب في كل مرة "،انتهت صالحية الكرت ".نظرت الموظفة إليه وقالت بحدة " :أنا آسفة ،إن لم يكن معك نقدي فال أستطيع أن أعطيك المشتريات" ،وأرجعت له الكرت. ترك المشتريات وخرج من الحانوت ثم وقف حائرا .الكرت لسبب من األسباب منتهي الصالحية ولم يكن في حوزته أي نقود والبنك بعيد في المدينة ،وعليه أن يذهب إليه بالباص أو بالسيارة ،وال يدري إن كانت سيارته صالحة أم ال ،فلقد تركها واقفة في الساحة أمام البيت منذ ستة أشهر .صحيح أنه إحتاط وفك البطارية ولكنه ال يعرف ما ينتظره فستة أشهر مدة طويلة. توجه نحو سيارته ،فتح غطاء الموتور وشبك البطارية ثم جلس خلف المقود وأشعل الموتور .اهتزت السيارة قليال ثم إشتغل الموتور .صاح صيحة فرح ،حرك قضيب السرعات وضغط بقدمه على دعاسة البنزين .تحركت السيارة محدثة صوتا غريبا مزعجا ،فأوقف السيارة ونزل منها ليكتشف سبب هذا الصوت الغريب. خرجت من فمه صرخة وشعر بتدفق الدم في عروقه وبدقات قلبه تتسارع ،كانت عجالت السيارة األربع مثقوبة بفعل سكين أو أداة حادة .لم تكن هذه هي المرة األولى التي يقوم بها بعضهم بتخريب سيارته ولقد قام األوالد في إحدى الليالي طلي سيارته بالبراز ولقد كتبوا عليها :عد إلى لدك فهذه ليست بلدك .وقف ينظر إلى هذه المذبحة مندهشا غاضبا تنطلق من فمه الشتائم الموجهة إلى هذا العالم المجنون .لم يكن أمامه من وسيلة للذهاب إلى البنك إال حافلة البلدة فتوجه نحو الموقف وانتظر قدوم الحافلة . وصل البنك وكان الوقت قد داهمه وقربت ساعة اإلغالق .وقف أمام المصرف اآللي التابع للبنك وقرر أن يجرب حظه .أدخل الكرت فطلبت منه اآللة رقمه السري فوضعه .بعد لحظات من اإلنتظار رجع الكرت وقرأ على شاشة االلة :الكرت منتهي الصالحية .نظر إلى تاريخ صالحية الكرت وتفحصه من جديد ،ال يوجد مجال للشك
62
بانه صالح ألكثر من عام .أدخله مرة ثانية وكتب رقمه السري بتمعن وتأني ،ظنا منه أنه أخطأ في كتابته ولكن اآللة إبتلعت الكرت كما يبتلع سمك القرش األسماك الصغيرة ،وظهر على شاشة اآللة" :الكرت مصادر" .ضرب اآللة بيده ثم ركلها بقدمه وصاح ":إرجعي كرتي يا بنت الكلب ".ولكن اآللة لم تحفل به وال بشتائمه وظل الكرت في بطنها. دخل البنك وتوجه نحو نافذة اإلستقبال والمعلومات ووقف أمام الموظفة الجالسة خلف النافذة ،وأمامها مجلة نسائية تتصفحها ،وشرح لها مشكلته مع الكرت .قالت بدون أن ترفع رأسها عن المجلة ":إذهب إلى النافذة رقم ستة" وتابعت تصفح المجلة .توجه نحو النافذة ذات الرقم ستة فوجد صفا طويال فوقف في الصف ينتظر دوره .كانت حركة الصف بطيئة كالسلحفاة ومر وقت طويل إلى حين وصوله إلى النافذة .في اللحظة التي أراد فيها صاحبنا أن يشرح للموظف مشكلته مع الكرت، أغلق الموظف النافذة واضعا لوحة " مغلق" وقال له " :إنتهى وقتي ،إذهب إلى النافذة رقم أربعة ".حاول صاحبنا أن يحتج ولكنه لم يجد أمامه في النافذة غير الفراغ ،فلقد ترك الموظف النافذة مغلقة وأدار ظهره ورحل. وقف في الصف أمام النافذة رقم أربعة ينتظر دوره .بعد فترة وجد نفسه أمام النافذة تحملق فيه عينا الموظف .شرح له مشكلته مع الكرت ،سأله الموظف عن اإلسم ورقم الحساب فأخبره وانتظر .جاءه الجواب ":الكرت ألغي لعدم إستعماله ألكثر من ستة أشهر .شرح له أنه كان في المستشفى ولكن الموظف لم يبد تفهما وقال: يمكنك المطالبة بكرت جديد .إذهب إلى نافذة المعلومات ،خذ األوراق المطلوبة، إمألها وعد إلي ".عمل كما أشار عليه الموظف وعاد إلى النافذة رقم أربعة فوجدها مغلقة .نظر حوله فوجد أن النوافذ قد أغلقت وأخذ الموظفون يحضرون أنفسهم للمغادرة .سأل أحد حراس البنك كيف يمكنه أن يحصل من حسابه على بعض النقود فأجابه الحارس :يمكنك إستعمال المصرف اآللي خارج البنك! صرخ بأعلى صوته: ولكنهم أوقفوا كرتي فماذا أعمل؟ قال الحارس " :سيدي عليك مغادرة البنك ويمكنك الحضور صباحا". خرج من البنك وجلس على حافة الرصيف .كان القهر يغلي في دمائه وشعر بدموعه تسيل على خده .القهر يالحقه ويالحق أهله وشعبه أينما ذهبوا .بحث في جيوبه لعله يجد ما يكفي لشراء تذكرة عودة إلى قريته فلم يجد .تسائل " :نقودي في البنك ،والبنك يبعد عني مترين ،وال يوجد معي ثمن تذكرة الباص ،فاي عالم مجنون هذا؟ ذهب إلى المحطة لعله يلتقي ببعض معارفه من القرية فيقرضوه ثمن التذكرة .قابل أحدهم وسأله أن يقرضه ثمن التذكرة ،فأدار الرجل وجهه وصعد إلى الباص ولم يجبه .وقف صاحبنا حائرا محتارا .تكلم مع سائق الباص فأجابه هذا أنه بدون تذكرة لن يسمح له بركوب الباص .وجد أنه ال يوجد أمامه إال المشي ،فمشى خمسة عشر
63
كيلومترا حتى وصل قريته .دخل البيت منهكا يسبح في عرقه ،جائعا عطشا وحيدا وبدون نقود .فتح حنفية المغسلة ليشرب فسال منها ماء أحمر كريه الطعم والرائحة ،من طيلة عدم اإلستعمال. جلس في مقعده الجلدي ،إتصل بزوجته ليسألها عن إبنهما فأغلقت الهاتف في وجهه مرتين .أعاد الهاتف إلى موضعه وتمتم ":قحبة ،مجنونة" .فتح التلفزيون لعله يشاهد برنامجا يشغله عن وضعه المحرج .ظهر المذيع في بدلته األنيقة وشعره الالمع من كثرة الزيوت قائال " :إنفجرت سيارة مفخخة في بغداد فقتلت خمسين جلهم من النساء واألطفال" ،وظهرت صور الجثث الممزقة في الشارع تهز البدن والنفس والروح .غير المحطة فظهرت مذيعة مطلية بالبودرة وأحمر الشفاه والخدود وبانت كأنها عاهرة من شارع العاهرات الليلي ،أعلنت ":أطلقت قوات التحالف عدة صواريخ على قرية في أفغانستان فقتلت مجموعة من النساء واألطفال ...وابتسمت المذيعة كأنما أذاعت خبرا سارا ومضحكا .غير المحطة، ظهرت مذيعة شبيهة بزميلتها ولكنها كانت أكثر تبرجا وكان ثدياها بارزان يكادان أن يقفزا من فتحة الفستان وأعلنت أن القوات اإلسرائيلية قد قتلت بعض اإلرهابيين الفلسطينيين في غزة ونابلس وجنين ،وأضافت أن ساركوزي أعلن أن إلسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها ،سانده في ذلك معظم الزعماء األوروبيين .أما أوباما فأعلن أن الواليات المتحدة تتكفل بالدفاع عن أمن إسرائيل المهددة من جيرانها. قام صاحبنا وهو يشتم " :عالم مجانين" وأخذ يقلب في المحطات بحثا عن محطة األفالم فوجدها .كان الفلم عن مصاصي الدماء وشاهد كيف يغرس مصاص الدماء أنيابه في رقبة إمرأة شابه وكيف يمتص دمها ثم يظهر للمشاهدين أسنانه التي تقطر بالدماء. ركل صاحبنا شاشة التلفزيون بقدمه وهو يصيح" عالم مجانين ،عالم مجانين ،يلعن أبوكم يا والد الكلب ،كلكم مجانين ".وتابع في ركل التلفزيون حتى حطمه بالكامل وأخذ يحطم ما تقع يده عليه ،حطم صورة زوجته ،حطم صورته وحطم الصورة األثرية التي ورثها عن أهله في فلسطين .رفع سماعة الهاتف واتصل بصديقه الدكتور وقال بهستيريا " :تعال خذني ،أعدني إلى المستشفى ،ال أستطيع أن أتحمل هذا العالم المجنون ،أرجوك ،أرجوك!" حاول الدكتور بكل الطرق أن يهدئ من حالته ولكنهه كان يكرر " :أرجوك ،تعال وأعدني إلى المستشفى ،فلقد كنت هناك مرتاحا ".وأخذ يبكي حتى وعده الدكتور بالحضور مع سيارة إسعاف إلعادته إلى المستشفى". جلس في سيارة اإلسعاف بعد أن أعطاه الطبيب حقنة مهدئ وألقى برأسه إلى الوراء على مسند المقعد وأغمض عينيه وبدت إبتسامة الرضى تظهر على وجهه". أنا عائد إلى بيت السكون والراحة ،وداعا يا عالم المجانين".
64
.20
العبرة في الموقف وليس في المولد
أريك سيدالتشيك ليس عربيا وليس له أي جذور عربية ،قحطانية أو عدنانية ،سواء من ناحية األم أو األب .لم يقع في حب فتاة عربية ولم يعشق األكل العربي ،وهو قبل أن نلتق لم يلتق بعربي قط .سمع عن العرب في بداية حياته من اإلعالم الغربي فنفر منهم ولم يهتم لدراسة أخبارهم .كان العرب بالنسبة إليه خارج نطاق اهتماماته. ولكنه سمع عن فلسطين والفلسطينيين وما يفعله اليهود بهم وكيف أن اليهود قد سلبوا أرضهم وطردوهم من ديارهم واضطهدوهم وقتلوا أبناءهم وهدموا بيوتهم، فأثار الحدث اهتمامه وفضولة ،فقرأ كل ما يمكن أن تقع عليه يديه من الكتب والمقاالت باللغة التشيكية واإلنجليزية ،فأصبح مدافعا عن القضية الفلسطينية ومعاديا للصهيونية .أخذ يكتب المقاالت ويترجم ما يكتب في الغرب عن القضية الفلسطينية و ينشرها في مواقع على اإلنترنت ،بل أنشأ موقعا خاصا بالقضية الفلسطينية والصهيونية وأخذ يضع على الموقع كل ما يمكنه الحصول عليه من معلومات عن القضية الفلسطينية والحركة الصهيونية ،وكان شعار الموقع :قاطعوا البضائع اإلسرائيلية! عندما سمع بقضية محاكمتي بسبب كتابي الذي صدر بالتشيكية "صرخة فلسطينية" جاء لزيارتي في بيتي في سلوفاكيا وعبر عن دعمه وعرض نفسه ألي مساعدة ممكنة فتوطدت العالقة بيننا رغم فارق السن ،فلقد كان في ذاك الوقت طالبا يدرس التشيكية واإلنجليزية .عندما طلبت منه ترجمة بعض الكتب والمطبوعات عن القضية الفلسطينية من اللغة اإلنجليزية إلى التشيكية وافق ولكن رفض أن يستلم أي مبلغ مقابل أتعابه ،قال :هذا من أجل القضية. أريك قصير القامة ،صغير الحجم ،قليل الوزن ،وإذا أمعنت النظر فيه فلن يثير لديك أي انطباع بأنه يمكن أن يشكل خطرا على أحد .ولكن الجالية اليهودية في الجمهورية التشيكية رأت غير ذلك .فلقد لفت نشاطه انتباه ممثليها فهددوه ،فأهمل تهديدهم ،ولكنهم استطاعوا أن يضغطوا على المسؤولين إليقاف موقعه األلكتروني فأوقفوه .أوقفوا الموقع ولكنهم لم يستطيعوا إيقاف أريك .فقامت الشرطة التشيكية بمساعدة فرقة الملثمين باقتحام بيت والديه في قريتهم في مورافيا .عبثوا في البيت فسادا واستولوا على جميع ما يخصه ،من كتب وأوراق وأشرطة والحاسوب المنزلي والمحمول .وأمام أهل القرية والصحفيين كبلوه واعتقلوه وأخذوه إلى السجن في براغ .نشروا بين الصحفيين أنهم اكتشفوا خلية نازية يقودها أريك. أرادوا تلطيخ سمعته والتشكيك في مصداقيته .بقي في السجن ثالثة أشهر وهي أطول مدة يسمح بها القانون لإلعتقال بدون محاكمة ويجري تطبيقها في الحاالت القصوى عندما يشكل المعتقل خطرا على المجتمع. لم يجدوا أي دليل يمكنهم بواسطته جلبه للمحاكمة فأطلقوا سراحة .السجن والدعاية اإلعالمية القذرة لم توقفه ،فاستمر في نشاطه وزادت حدته .ترجم عدة كتيبات عن
65
القضية الفلسطينية منها كتاب ليفيا ركاح " اإلرهاب اإلسرائيلي المقدس" وكتاب تيه التاريخ اليهودي إلسرائيل شاهاك وغيرها. قدم طلبا لبلدية براغ بالسماح له بإقامة مظاهرة ضد اشتراك الجمهورية التشيكية في الحرب على العراق .رفض المسؤولون طلبه بحجة أن القانون يحدد أن السماح إلقامة أي مظاهرة يعطى فقط للمؤسسات والجمعيات واألحزاب وليس لألفراد .قام بمساعدة محامية صديقة بتشكيل جمعية مع حفنة من أصدقاءه ومؤيديه التشيك وسجلها في وزارة الداخلية ثم عاد وقدم طلبا إلقامة المظاهرة باسم الجمعية فرفض طلبه من جديد وبحجة أخرى .رفع دعوى قضائية ضد البلدية فكسبها وعين يوم 10.11.2007لقيام المظاهره. قبل قيام المظاهرة بعدة أيام حضر إلى براغ الناطق الرسمي باسم الجاليات اليهودية في أوروبا وزار رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وشخصيات سياسية أخرى محتجا أن المظاهرة موجهة ضد اليهود ألنها ستقام في ذكرى الليلة الكرستالية والتي يعتبرها اليهود ليلة مشؤومة قام الغستابو االنازي فيها بقمع اليهود وجرهم إلى المعتقالت. وقف رئيس الجمهورية وأعلن أنه لن سيمح للنازيين الجدد باإلستيالء على العاصمة التشيكية وطلب منع المظاهرة .قام رئيس الوزراء بالمثل وطلب من كل الديموقراطيين حماية براغ من النازيين الجدد .الممثلون والممثالت ،المغنون والمغنيات وحتى عاهرات براغ ،خرجوا جميعا دفاعا عن براغ ضد النازيين الجدد. نزلت الدبابات إلى الشوارع مسلحة بخراطيم المياة ،احتلت قوى الملثمين شوارع براغ .طائرات الهليكوبتر حللقت في سماء براغ لحمايتها من النازيين الجدد. التلفزيون واإلذاعة والصحف كانت في المقدمة وحتى بعض العرب الديموقراطيين اشتركوا في الحملة ،ومنعت المظاهرة وانتصرت الديموقراطية ونجت عاصمة التشيك .أما المواطنون العاديون والبسطاء فلقد استغربوا مما يجري وأخذوا بطرح األسئلة. كان ال بد من تأديب هذا الشاب الذي تجرأ على تخطي المحظورات وأصبح من المفروض أن يجري عقابه عبرة لغيره .توجيه النقد إلسرائيل واليهود في أوروبا الديموقراطية أصبح من المحرمات التي يعاقب عليها القانون .تهمة العداء للسامية والتشكيك بالهولوكوست أصبحت سيفا مسلطا على الرقاب ليرهب العباد .وبناء على ذلك أقام المدعي العام التشيكي ضده دعوة قضائية بتهمة نشر الكراهية ضد اليهود، ونشر العداء للسامية والتشكيك بالهولوكوست ،وجميعها تهم تعاقب عليها جميع القوانين األوروبية .قدموه للقضاء ولم يكن لديهم أي دليل على هذه التهم سوى ثالث مقاالت نشرت على اإلنترنت تحت اسم مستعار.أنكر أنه كتبها ولكن الخبير الذي أحضرته الشرطة قال للمحكمة أن أسلوب المقاالت الثالث يشبه أسلوب أريك في الكتابة ،مع أن أحد المقاالت هو ترجمة عن مقال نشر في أحدى الصحف
66
البريطانية .وبناءا على تقرير الخبير ،وفقط بناء على ذلك ،حكمت المحكمة على أريك بالسجن الفعلي ثالث سنين. خرج أريك من المحكمة وقد وضع حول رقبته الحطة الفلسطينية المنقطة وهو رافع إصبعية بعالمة النصر .وقف أمام المحكمة مجموعة من "الديموقراطيين" من صحفيين وممثلين ومغنين وسياسيين وحتى بعض عاهرات براغ وهم يحملون ال فتات كتب عليها " فالتسقط النازية الجديدة"" وأخرى " لن نستسلم للنازية الجديدة" .وقف معهم بعض العرب وهم يحملون الفتة مماثلة .نظر أريك إليهم ثم إلي وعالمة األلم واإلستغراب على وجهه .ضغطت على يده وقلت ال تعرهم أي انتباه يا صديقي ،هؤالء نزعوا رداء العروبة منذ زمن طويل.
67
.21
فتوى اإلنقاذ
بمحض الصدفة كتب لي أن أشارك السكن ،في المدرسة الداخلية لدراسة اللغة التشيكية ،شابا سودانيا إسمه مبارك .كانت المدرسة في مدينة ماريانسكي ،وهي منتجع جميل على الحدود األلمانية ،يأتيه الناس للعالج من كل أنحاء تشيكوسلوفاكيا .لقد اشتهرت المدينة إلى جانب مياهها وطينها العالجي بوجود مدرسة للفنادق وأخرى للممرضات ،مما كان سببا في كثرة الفتيات الشابات فيها . لم أكن قبلها قد قابلت سودانيا وكانت معلوماتي عن السودان قليلة .كان المصدر األساسي لتصدير صورة الشخصية السودانية إلى العالم العربي هي األفالم المصرية و لم تعط األفالم المصرية األخوة السودانيين حقهم ،فلقد كان السوداني في األفالم المصرية بواب عمارة ،خفيف الظل ،يتكلم العربية المكسرة . لقد محت صورة رفيقي في السكن ومنذ اللحظة األولى الصورة التقليدية التي ألصقتها األفالم المصرية في ذهني .فلقد كان مبارك طويل القامة،عريض المنكبين، حنطي اللون ،جميل الوجه ،مجعد الشعر ،في غاية الثقافة واألدب ،ولقد كان متدينا ال يقطع فرضا .منذ اللحظة األولى ربطتنا عالقة من الود والصداقة وكنا نقضي أمسياتنا في الحديث عن فلسطين وعن السودان .ولم أكن قبل لقاءه أعرف الكثير عن السودان بل كانت معلوماتي عن جنوب السودان شبه معدومة. كان مبارك محط أنظار الفتيات وكن يالحقنه أينما ظهر ،ولم يكن في البدء يهتم بهن خوفا من أن يرتكب إثما ،كما كان يقول لي .وكنت عكسه تماما ،حيث كنت أعشق الفتيات الجميالت وأحب مجلسهن و مالطفتهن ولم أكن أعتبر ذلك إثما وإنما هدية ربانية .كان مبارك ،حين تنضم إلينا مجموعة من الفتيات ،يفر هاربا تاركا شخصي المسكين في حضرة عنقود من الفتيات الجميالت وكن يتعجبن من سلوكه حتى أن بعضهن ظنن أنه مثليا. في مساء أحد األيام عاد مبارك إلى الغرفة مهموما .طرح السالم علي ولكنه على غير عادته نزع مالبسه على عجل ودخل الحمام ليغتسل ولقد مكث في الحمام وقت طويال .خرج من الحمام البسا الجالبية السودانية ذات الجيبين ،واحد في الخلف واآلخر في األمام ،ثم فرش سجادة الصالة وراح يصلي ولقد أطال صالته إلى درجة غير عادية ،ثم جلس يتمتم الدعاء وطلب المغفرة .جلس بعدها مطأطئ الرأس صامتا وطال صمته وبقيت أنظر إلية أنتظر تفسيرا ولم أكن أرغب في قطع صمته وتأمله. قام مبارك ،طوى السجادة ووضعها في الخزانة وجلس على طرف سريره .نظرت إليه وقلت :مالك يا رجل ،ماذا حدث ،لعله خيرا ؟ رد علي بعد فترة بصوت خافت قائال :لقد ارتكبت إثما كبيرا وأرجو من هللا أن يسامحني .قلت :وأي إثم هذا ؟ نظر إلي وقال :لقد قبلتني فتاة .ضحكت وتنهدت قائال :بسيطة ،لقد أخفتني يا رجل ، وهل كانت الفتاة جميلة ؟؟ قال معاتبا ،أنت تأخذ األمر بغير جدية ،فقاطعته قائال محاوال التخفيف عنه :ال ذنب عليك ،فهي التي قبلتك ولست أنت من قبلها .قال : يا زول ،ولكن القبلة أعجبتني .
68
تكرر المشهد عدة مرات ،طالت القبل وزاد عليها بعض من الضم واللمس وشعور بالشهوة وزاد معها الشعور بالذنب ،كما طالت مدة االغتسال ومدة الصالة وكثرة الدعاوي ،حتى خلت أن مبارك مصاب بالهلوسة ،فلقد قل نومه وإذا نام كثر صراخه أثناء نومه وباتت حالته تسوء وال تدعو إلى االطمئنان .لقد تصارعت في داخله ثقافتان واحدة مدعومة بالتراث الديني العميق واألخرى مدعومة بالمشهيات والمقبالت والرغبة المكتومة العارمة. كتب مبارك عدد من الرسائل إلى شيوخ دين في السودان ،يعرف البعض منهم والبعض اآلخر سمع بهم وانتظر األجوبة وانتظرت معه ألنني تأثرت بمشكلته وأحزنني حاله .بعد مدة طويلة بدأت تأتي إليه أألجوبة ،بعضها زاد من حيرته والبعض اآلخر زاد من همه وعذابه .مجمل ما كتبه الشيوخ يتلخص في جملة واحدة :عليك بتجنب المغريات والكثرة من الصالة. لم تحل أجوبة المشايخ مشكلة مبارك وإنما عقدتها .كانت المغريات قوية ،ولم تنفعه كثرة الصالة في ردها ومقاومتها .بقي الحال على ما هو عليه حتى وصلت رسالة من أحد ألشيوخ كانت بلسما على قلب مبارك .لقد أخبره الشيخ الفاضل أنه في أرض كفر وهي أرض حرب وهو كجندي مسلم في أرض حرب يجوز له نكاح نساءهم والتمتع بهن . منذ وصول تلك الرسالة ،تغيرت حال مبارك ،فلقد أخذ يعود في المساء مبتسما فرحا ،ومع أنه بقي مواظبا على الصالة ،إال أنه لم يعد يطيلها كما كان يفعل قبل وصول فتوى اإلنقاذ ،ولم أسمع منه بعدها دعاءا لطلب المغفرة.
69
.22
الحائرة
جاءت تطلب مساعدتي فوعدتها بها إن استطعت .جلست أمامي منحنية الظهر رأسها مائل على كتفها كأنها ما عادت قادرة على حمله ،ضامة أيديها إلى ركبها الملتصقتين ثم قالت " :تزوجت شابا عربيا مسلما" ،سمته لي ثم تابعت حديثها"، رفض أن نتزوج زواجا رسميا حسب قوانين بلدنا ألنها كافرة فتزوجنا زواجا إسالميا عند شيخ في فينا ،فغضب أهلي مني وقاطعوني .طلب مني لبس الحجاب فلبسته فقاطعني كثير من معارفي وصديقاتي". توقفت قليال عن الحديث وبقيت صامتا أنتظر المزيد ،تنهدت وتابعت " :رزقنا بطفلة ،عمرها االن أربع سنوات وهي ذكية تحب الرسم .إبنتي تستعمل يدها اليسرى ،تأكل وترسم بها ولكن زوجي إعتبر هذا خارجا عن الشرع فحاول إجبارها على استعمال يدها اليمنى ففشل .أخذناها للطبيب فأخبرنا بأن هذا امر طبيعي يعتمد على نمو ونشاط شق المخ اليميني أو اليساري". صمتت لفترة ونظرت إلي باستحياء وتابعت ":زوجي لم يقتنع وتابع في محاوالته إجبارها على استعمال يدها اليمنى بدال من اليسرى وأخذ يقسو عليها حتى أنه ضربها على يدها اليسرى بالمسطرة حتى أدمى يدها .لم أستطع أن أتحمل معاناة صغيرتي فشكوته إلى الشرطة". طأطأت رأسها ودفنته بين كفيها وأخذت تنتحب فجلبت لها كوبا من الماء ،شربت منه قليال ثم تابعت بكالم متقطع بين الشهقة والشهقة ":طلقني بال رجعة وطردني من البيت مع إبنتي فلجأت إلى صديقة لي وبقيت عندها مع صغيرتي التي كانت مندهشة ومحتارة وغير قادرة على فهم ما يجري حولها". بقيت صامتا وحائرا ومترقبا أن تطلب مني مساعدتها للعودة إلى زوجها ولكنها فاجأتني حين قالت " :لقد جاءني قبل أيام يريد عودتي مع الطفلة إليه". سررت من سماع الخبر وقلت لنفسي ال حاجة إلى مساعدتي فالمشكلة قد حلت من نفسها ولكنها فاجأتني للمرة الثانية حين تابعت القول ":يريدني أن أرجع إليه ولكنه يقول أنه حسب الشرع اإلسالمي وكوني مطلقة ال أحل له وال يستطيع أن يتزوجني من جديد حتى أتزوج غيره ويطلقني الغير بعد مدة قصيرة ،ولقد اتفق مع صديق له على تفاصيل عملية الزواج والطالق". نظرت إلي وقالت " :ولكنني ال أريد أن أتزوج غيره ولو لثوان وليس أليام وماذا لو طلب هذا الزوج أن يدخل بي وقد أخبرني بعضهم أنه من حقه .وماذا لو رفض تطليقي بعد الزواج ؟!" قلت لها وماذا تطلبين مني ،وكيف يمكنني أن أساعدك؟ قالت ":لقد قرأت كتابك عن اإلسالم والمسيحية وهو يدل على معرفتك بتفاصيل الشريعة والدين ولقد سأت عنك فقالوا لي أنك الوحيد الذي تستطيع مساعدتي وإخراجي من هذا المأزق". نظرت إليها وأخذت في التفكير في ما يسعني أن أقول لها ثم قلت ":يا بنيتي ،أنا أعرف زوجك ولقد سمعت عن قصتك وإن لم أعرف التفاصيل .زوجك وأنا من مدرستين مختلفتين جدا ومفهومنا لإلسالم والشريعة يختلف إختالف الليل والنهار،
70
وحسب معرفتي به ومعرفته بي فإنه سيرفض اإلستماع إلي والتدخل بينكما .أنا جد آسف ،فأنت تطلبين مني المستحيل". سالت الدموع من عينيها ونظرت إلي متوسلة وسألتني" ماذا أعمل ،أشر علي باهلل عليك ،إنصحني!" قلت لها ":أتركيه وعودي وابنتك إلى أهلك ،هذي هي نصيحتي الوحيدة .ومن يدريك إن أنت وافقت أن يعود لتطليقك مرة أخرى وهل ستعيدين القصة من جديد؟" ال أدري إن كنت قد أقنعتها ،فلقد أخذت تضرب على صدرها وتقول ":يا إلهي ماذا أفعل ،أنا حائرة ".ثم قامت ومدت يدها لي بخجل وقالت لي ضاحكة " :إنه يمنعني من مصافحة الرجال ".فضغطت على يدها وقلت لها" :أنا جد آسف على عدم إستطاعتي مساعدتك ".ثم ودعتها إلى باب البيت وخرجت. خرجت إلى شرفة البيت أودعها بعيوني وراقبتها وهي متجهة إلى محطة الباص وقد غاص رأسها بين كتفيها المنحنيتين والحظت إهتزازهما من فعل البكاء .شعرت بإنقباض وألم في أحشائي وانتابتني القشعريرة التي لم تكن من البرد .دخلت وأغلقت الباب خلفي ثم أخذت في لكم الحائط الذي أمامي حتى أدميت يدي.
71
.23
رسالة شوق إلى أمي
صباح الخير يا أمي ،صباح الخير يا حاجة، باألمس حللت عقدة البقجة وفتحتها أبحث فيها عن الذكريات ،فوجدت نفسي طفال صغيرا جالسا على عتبة شرفة بيتنا وأنت تجلسين بجانبي ،وتحكين لي حكاية " يا حاجة ويا باجة ويا قرصا من العجة" وتكركريني وأنا أضحك ضحكة السرور الطفولي والبهجة ،وسمعت صوت والدي وهو يغني في الحمام فترتج لصوته الجدران ويجاريه في الغناء بعض من األهل والجيران. باألمس يا أمي فتحت صندوق األحالم ،أبحث فيه عن أخبار سالف األيام ،فوجدت نفسي طفال صغيرا في سريري وأنت ترشين الغفا في عيوني وتذبحين لي زوجا من الحمام وتقولين " يا حمامة ال تخافيش ،أنا بكذب على عيون إبني حتى تنام". وأغمض العينين وأحلم بسروال جديد وحذاء وحزام ،وحصان له جناحان ،يحملني بعيدا إلى عالم يعمه الحب والسالم واألمان. ومرت األيام يا أمي ورحلت أبحث عن حلمي في العالم األشقر ،حامال في حقائبي ذكريات الشاي بالنعناع والخبز المغمس بالزيت والزعتر ،ورائحة الليمون والياسمين والعنبر ،وصوت األذان في الصباح ينادي " هللا أكبر" .أخذت معي صورا لك ولوالدي وأخوتي وأخواتي ومفاتيح البيت الثالثة للبيت والحديقة والمعبر. ومرت األيام يا أمي وكبرت ،حتى صرت شيخا هرما أشيب الشعر ،مثقال بالهموم محني الظهر ،أبحث عن حلم سرق مني في غفوة ظهر .بحثت عنه فما وجدته، فسمعت صوتك ينادي ":عد يا بني ،فلقد هدني الشوق إليك وما عدت بقادرة على مر الفراق ". بحثت عن الطريق إليك فلم أجده ،بحثت عن جسر للعودة أو ممر أو معبر ،فوجدتها مغلقة في وجهي ،مهجورة حتى ضاع فيها األثر ،فترقرق الدمع في عيوني حزنا وبقيت عالقا على عتبات الحلم ال أدري أين المفر ،وصرخت عاليا آه يا أمي! آه يا أحبابي ،لماذا تركتموني وما عاد أحد منكم يطرق بابي أو يبعث لي أي خبر. رأيت من خلف الدموع أبنائي شامخين مثل جذوع الشجر ،تظللني أوراقها ،ومن بينها يشع على روحي نور القمر ،وسمعت أحفادي ينادونني ":فق من حلمك يا جدنا فنحن هنا ،نحضنك برموش عيوننا ". أفقت من حلمي وأغلقت صندوق األحالم ووقفت أرقب رذاذ المطر وهو يسقط على األرض لتنبت األزهار من أجل ربيع منتظر.
72
.24
قصتي مع الخنزير
حملني القطار السريع شاقا غابات مورافيا ،متوجها إلى مدينة صديقي المورافي الذي دعاني لزيارته في بلدته وقضاء عطلة أعياد الميالد مع أهلة ،فلقد كنت جديدا في البلد وعز على صديقي المورافي أن اقضي أعياد الميالد وحيدا بعيدا عن وطني وأهلي وأصدقائي. جلست بجانب النافذه أراقب أشجار الغابات الخضراء وهي واقفة على جانبي سكة الحديد مثقلة بالثلوج فبدت كعجوز أشيب الرأس محني الظهر من ثقل حمل السنين. كان دخان القطار البخاري يخرج مرتفعا من مدخنة القطار ثم يهبط ناشرا ذرات الفحم السوداء المحترقة على وجه الثلج فيسلبه بعض من بياضه الناصع ويحيل لونه مرقطا كجلد كالب الدالماتيانز. إختلطت أصوات صفارة القطار مع صوت محركه ودواليبة الحديدية التي كانت تطرق قضيب سكة الحديد فتخرج ألحانا لسيمفونية جنائزية تهز أوتار األعصاب. كنت متشوقا لزيارة أهل صديقي ومتوجسا بنفس الوقت ألنها المرة األولى التي أزور فيها عائلة في قرية من قرى تشيكوسلوفاكيا ولم أكن أدر ما ينتظرني ولم أعرف حتى ما ساتوقعه من هذه الزيارة وكيف سينظر أهل صديقي إلي. أعلنت إذاعة القطار عن قرب موعد وصول القطار إلى المحطة حيث كان من المفروض أن ينتظرني فيها صديقي .وضعت طاقيتي الروسية المصنوعة من فرو الخاروف على رأسي وحملت حقيبتي الصغيرة وتوجهت نحو باب الخروج في نفس اللحظة التي وقف فيها القطار على رصيف المحطة .فتحت الباب ونزلت منه فلفحني الهواء الصقيعي وشعرت بالقشعريرة تخر في عظامي ،ورغم أنني كنت أرتدي معطفا شتويا طويال إال انني شعرت كأنني أسير عاريا بدون اي مالبس .كان البرد شديدا وشعرت بالصقيع يغطي زجاج نظاراتي حتى لم أعد أر شيئا من خاللها ووقفت كاألعمى ال أعلم وجهتي .فجأة سمعت صوت صديقي يرحب بي ويصافح يدي التي تخدرت من شدة البرد .نزعت نظاراتي ومسحتها بطرف منديل صوف إلتفحت به ثم وضعتها على عيني من جديد فوجدت نفسي واقفا أمام صديقي الذي اخذ يرحب بي .أجابته شفتاي وهما ترتجفان واستطاعتا ،بعد جهد ،النطق ببعض الكلمات التي تدل على شكري له. خرجنا من المحطة ووقفنا على رصيف الشارع حين أدار وجهه إلي وفاجأني أنه يعيش في قرية تبعد كيلومترا واحدا عن حدود المدينة وأضاف أنه بإمكاننا إنتظار الحافلة ولكنه ينصح بالذهاب مشيا على األقدام ألن الحافلة ستأتي بعد ساعة والمسافة قصيرة ويمكننا قطعها بسهولة على األقدام .خجلت من رفض العرض ووافقت عليه مضيفا أنني ارحب بالمشي ولقد ندمت على قبولي هذا حالما نطقت به .كانت األرصفة مغطاة بالجليد وكنت أشعر بقدماي تغوص في طبقات الثلج الكثيفة وأشعر بصعوبة رفع قدمي لتلحق باألخرى ولقد أخذ الثلج يدخل في داخل
73
حذائي الذي لم يكن مهيئا لمثل هذه المهمة .كانت الخطوات بالنسبة لي حمال ثقيال تنهك أقدامي وكانت دموعي تسيل من عيوني فتتجمد على سطح زجاج نظاراتي وكانت أنفاسي تخرج من أنفي ممزوجة بمخاطي وتتجمد على شواربي فأخرجت منديلي ومسحت به أنفي ووجهي فاختلطت الدموع بالمخاط وتجمدت على وجه المنديل الذي أخذ في التيبس فأصبح مثل ورق الكرتون .كان صديقي ينظر إلي ويعلق بفرح أنني أصبحت أشبه شخصية العيد ميكوالش( شخصية تشبة بابانويل) وكان طوال الطريق يحدثني عن قريتهم التي تقع في منطقة مرتفعة من مورافا وشديدة البرودة ،وكنت صامتا أهز رأسي بين الحينة واألخرى وألعن أجدادي ألنني قبلت عرض السير على األقدام. وصلنا بيتهم فخرجت والدة صديقي ووالده إلستقبالي ودخلنا رأسا إلى المطبخ حيث كان الحطب مشتعال تحت الفرن وكانت رائحة الطعام الدافئة تدخل خياشيمي فتدب بي الدفئ .نزعوا عني معطفي الذي تيبس من الثلج والصقيع وطلبوا مني الجلوس على مقعد قريب من الفرن خلف طاولة مهيئة بالصحون والمعالق والسكاكين والفناجين .أحضر والد صديقي زجاجة فيها سائل صافي كالماء ،وضعها على الطاولة وقال :إسمع يا بني ،أوال نرحب بك في بيتنا وثانيا لقد أخبرنا إبننا بانك مسلم ال تأكل لحم الخنزير ولذلك زوجتي حضرت لنا وزا وبطا مشويا وفي ليلة العيد سنأكل السمك وأرجو أن يكون مسموحا أكله في ديانتكم .أخبرني كذلك أنه قد منع عنكم شرب الكحول ولكن لو نبيكم محمد عاش هنا في جبالنا في مثل هذا البرد فأنا متأكد أنه لن يمنعه .يا بني أنا أنظر إليك فأجد مومياء مجمدة إختفى الدم منها ولذلك أنصحك بشرب كأس من هذا الشراب حتى يعود الدم إلى وجهك وليغفر لك هللا ولنا". قدم لي كأسا من هذا المشروب الصافي اللون كما مأل لنفسه ولزوجته وإبنه ورفع الكأس قائال" :في صحتك" وقذف محتوى الكأس في داخله وفعلت مثله .مرت النار ملتهبة في حنجرتي ثم نزلت إلى أمعائي وشعرت كأن يدا خفية أشعلت فرنا في داخلي فأخذ دمي في الغليان وتدفق إلى رأسي ووجهي .نظر الجميع إلي وقالوا" : ها قد عاد لون وجهك إليك". بعد الغداء الدسم شعرت بالرغبة في الخروج إلى بيت الخالء( الحمام) ولقد فوجئت أن بيت الخالء في بيت صديقي هو فعال في الخالء ويبعد عن البيت عدة أمتار .أشار صديقي إلى بيت خشبي في طرف حديقة البيت وتركني وذهب .يتكون البيت الخشبي من حظيرة للخنازير وغرفة مليئة بالقش وأخرى صغيرة ،تقوم مقام الحمام أو بيت الخالء ،فيها لوح عريض من الخشب في وسطه فتحة مدورة للجلوس عليها والقيام بالالزم .ال يوجد لبيت الخالء هذا باب وال مجاري وال مياه ولكن له نافذة صغيرة تطل على الحديقة .ال حظت على طرف اللوح الخشبي وجود قطع من الجرائد مقصوصة لتقوم مقام ورق الحمام .كان البرد شديدا ومجرد التفكير بالجلوس عاريا على هذا اللوح أصابني بالقشعريرة ولكن لم يكن أمامي أي خيار آخر .أنزلت سروالي وجلست فشعرت بلسعة البرد تضرب مؤخرتي وتخرج من رأسي حتى خيل إلي أن شعر رأسي قد وقف .في تلك اللحظة إكتشفت أن في الحظيرة خنزيرا ضخما
74
كان نائما ولقد أزعجه حضوري فقام يتفحص ذلك الغريب الذي تجرأ على إزعاجه. قام ودفع باب الحظيرة الذي إنفتح بسهولة تحت ضغط تلك الجثة الضخمة وتقدم نحوي. لم أكن ،قبل ذلك التاريخ ،قد تعرفت عليه وال خاطبته وال خاطبني ،ولم يقدمه لي صديق في مناسبة ما ولم نجتمع سويا في مجلس مشترك ولم ألمح طلعته البهية ال من قريب وال من بعيد .كان بالنسبة لي مخلوقا مجهول الهوية خارج نطاق إهتماماتي .لم أهتم في البحث عن أخباره أو دراسة أحواله المعيشية أو حياته السلوكية .كل ما عرفته عنه منذ كنت صغيرا أنه مخلوق قذر ،يعيش على القاذورات ،ولقد حرم أكل لحمه على أمة محمد ،وعندما كبرت وهويت المطالعة وجدت أنه محرم كذلك على اليهود وأنه كان محرما في بالد العراق القديمة. بدأت خياشيمه العريضة تنفتح وتنغلق وفي كل حالة كان يخرج نوعا من الشخير ذو الرائحة الكريهة .تقدم مني ودس رأسه بين رجلي وبدأت خياشيمه تشتم وتتفحص مناطق حساسة من جسدي .حاولت أن أدفعه بعيدا ولكنه كان ثقيال جدا املس الجسد يصعب حراكه .حاولت معه لغة اإلشارة بأن يبتعد عني ولكنه رفض بعناد وازداد عدوانية .رفض رفضا باتا قبول الحوار العقالني بأي لغة كانت وشعرت بأن بعض أعضاء جسمي الحساسة قد أصبحت في خطر فما كان مني إال أن شددت قبضتي ولكمته لكمة عنيفة على خياشيمه فصاح مصدرا صوتا مزعجا كصوت فتح باب حديد أثقله الصدأ،وهرب إلى حظيرته وراح ينظر إلي بغضب وحقد ظهرا في حدقات عيونه .لبست واسرعت في الهرب إلى داخل البيت متظاهرا ألهله بأن شيئا لم يكن. أهل مورافيا مشهورون بشرب البيرة كأوالد عمومتهم التشيك ،وفي كل قرية هناك " هوسبودا" يلتقي فيها في المساء رجال القرية وفي بعض األحيان بعض نساء القرية ،يحتسون البيرة ويتسامرون ويدخنون .كان من واجبي الغير قابل ألي إعتراض مرافقة صديقي ووالده إلى الهوسبودا .كان والد صديقي متشوقا لتعريف أصدقاءه بالعربي الذي جاء ليزورهم ولقد إنتشر خبر زيارتي في القرية ودارت األحاديث حول كوني أمير وإبن وزير ومن غيره من األقاويل .كانت الهوسبودا مليئة بأهل القرية ولقد جاؤوا ليتفحصوا هذا الغريب القادم من بالد الجمال والف ليلة وليلة. عندما دخلنا المكان المكتظ والغارق في دخان السجائر تحولت العيون نحونا مومئة بالتحية .جلسنا ،ثالثتنا ،حول طاولة سرعان ما توسعت حتى أصبحت طاولة مكونة من عدد من الطاوالت يجلس حولها عشرات الرجال .المورافيون كرماء وأكثر ما يظهر كرمهم بدعوة الضيف لشرب البيرة على حسابهم وهكذا إمتألت الطاولة أمامي بعشرات الكؤوس من البيرة وكان كل منهم يحثني على الشرب وهو ما لم أكن قادر عليه وال إعتدته .شعرت أنني في مازق وشعر صديقي بمأزقي فأخذنا نسكب ،وبشكل خفي ،محتويات الكؤوس على أرض المكان تحت الطاولة حتى أصبح تحتنا بركة صغيرة من شراب البيرا .كان بعض محتويات الكؤوس يصل إلى
75
سروالي فتبلل وشعرت كأنما بولت على نفسي .فقط إكتظاظ المكان وغرقه في غيوم من دخان السجاير منع عني الفضيحة. شعر صديقي بالحرج الذي أنا فيه فلكز والده وأخبره أنه علينا المغادرة .حاولت المجموعة الملتفة حول طاولتنا بكل الوسائل إبقاءنا لمدة أطول فلقد كان الجميع متشوقون لمعرفة المزيد عن اخبار العالم العربي وكل ما يتعلق بشؤون حياته ولكن إصرار صديقي أنهى المجادلة وغادرنا .لبست بسرعة معطفي حتى يغطي البقعة الكبيرة التي علقت بسروالي وخرجنا إلى الليل البارد متجهين إلى بيت صديقي حيث كانت والدته تنتظرنا بسفرة عشاء شهية. بعد أن إنتهينا من العشاء وتسامرنا وتحدثنا في مواضيع مختلفة كان جلها يدور حول العالم العربي وطريقة معيشة الناس وخاصة زواج األربعة عند المسلمين ووضع المراة بشكل عام ،إفترقنا كل إلى مهجعه .لم يكن في البيت أي نوع من التدفئة المركزية وكان مطبخ البيت المكان الوحيد الذي يجري تدفئته بنار الحطب المشتعل في الفرن ذو اإلستعماالت المتنوعة .كانت غرف النوم باردة جدا ولكن ألحفتهم دافئة محشية بريش الوز .ولقد إعتاد الجميع على النوم ورؤوسهم مغطاة بطاقية دافئة .كان الهواء يخرج من األنف والفم مشكال غيمة بخارية. دخلت السرير المعد لي وإندسست تحت اللحاف المحشو بريش الوز وحاولت النوم. شعرت بحاجة ملحة للذهاب إلى الحمام ولكن مجرد التفكير في الخروج إلى خارج البيت في ذلك البرد القارص جعلني أتردد .ولكنني لم أستطع مقاومة الطبيعة والحاجة إلى الخروج فغادرت فراشي والتحفت بمعطفي ولبست حذائي وخرجت. درجة الحرارة في الليل أبرد بعدة درجات منها في النهار والثلج من شدة البرد يتحول إلى صقيع ،أملس السطح ،يلمع مثل المرآة ولزج مثل الصابون. ما أن وضعت قدمي على الصقيع حتى تعثرت وانزلقت تلحقها القدم الثانية .وقعت على مؤخرتي وانزلقت عدة أمتار على مؤخرتي حتى وصلت البيت الخشبي فركلته بقدمي فانفتح بابه وبقيت مستلقيا على ظهري ،ساقاي في الحظيرة وجسمي ملقى خارجها .شعرت بآالم في ظهري وتوجست خيفة من أن يكون شيء في جسدي قد كسر .حاولت الجلوس ولكنني لم أستطع فلقد سمرني منظر الخنزير الضخم يرقض على ساقي وينظر إلي بتكهم .أقسم أنني رأيت إبتسامة فرح وتشفي على شفتيه البشعتين كأنما يحذرني بأنه قد حان وقت اإلنتقام .أخذ يمد خياشيمه المفتوحة كبالوعة المجاري ويشخر شخيرا مزعجا ويسعل في وجهي كسعال عجوز مدمن على التدخين في صباح يوم بارد .حاولت أن أبعده عني ولكنني لم أستطع زحزحته ولو سنتمترا واحدا .تذكرت أمي وأهلي وبعض أصدقائي في بلدي وصحت :تعالوا وانظروا ما يجري إلبنكم". فجأة فتح باب البيت وظهر صديقي الذي لم يصدق ما ترياه عيناه ،وعندما أمعن النظر إنفجر ضاحكا وقال :خسارة أنه ال يوجد لدي كاميرا لكي أصوركما ،إنه منظر رائع ".صحت به أن ينكف عن الضحك وينقذني من هذا الوحش .إلتقط صديقي عصا وضرب الخنزير على فخذتية فهرب إلى الحظيرة راكضا. أقسمت أنني لن أدخل الحمام طوال إقامتي عندهم وهذا ما حدث.
76
بعد أن إنتهت زيارتي ألهل صديقي غادرت بيتهم وكان الخنزير واقفا في باب الحظيرة يراقبني ولعله كان متأسفا لمغادرتي ،فلقد ظهر على تعابير وجهه أنه كان يخبئ لي بعضا من أالعيبه اإلنتقامية ولقد خاب ظنه لعدم مقدرته على تحقيقها. غادرت بعيدا وكنت ألتفت بين الحين واآلخر فأراه ال زال في مكانه يراقبني حتى إختفيت عن أنظاره .
77
.25حديث ليلي مع ممرضتي دخلت الممرضة إلى غرفتي بعد منتصف الليل فوجدتني جالس في سريري أحدق في الحائط الذي أمامي كأنني أستقريه األخبار .قالت :أعاجز عن النوم؟ قلت لها: داعبت الوسن وداعبني ولكن النوم طار من عيوني وعجزت عن اللحاق بي .قالت: هل أعطيك حبة منوم؟ قلت لها بأنني أكره أن يسيطر على حواس نفسي أي شيء خارج عن نفسي. سحبت كرسيا وجلست عليه بجانب سريري ،ثم أخذت يدي وقاست نبضات قلبي وسألتني :أبك أوجاع أم أن األفكار ال تزال تتعبك .أجبتها بأن الواقع لم يتغير، ففلسطين ال زالت محتلة والعراق كذلك والوضع المأساوي يعم العالم العربي ،ولذلك فلم تتغير األلفكار والمتاعبها .طلبت مني أن أفتح فمي ونظرت في حلقي وفي عيوني ثم قالت :عندكم متاعبكم وعندنا متاعبنا .قلت لها :عن أي متاعب تتحدثين، لقد حصلتم على ما كنتم تتمنوه ،أسقطتم النظام الشيوعي الدكتاتوري وأقمتم بدال عنه الديموقراطية والحرية. حدقت في وجهي وقالت وقد بدت على مالمحها مالمح الجد وسألتني :هل فعال تصدق ما تقول؟ ولم تترك لي المجال لكي أجيبها وتابعت تقول :أنظر إلي كمثل، ومثلي اآلالف المؤلفة ،أنا أعمل إلى الساعة السادسة صباحا .أترك العمل وأذهب إلى البيت لكي أحضر لزوجي وألوالدي الفطور وبعض الطعام ليأخذوه معهم .ثم أحضر الفطور لوالدة زوجي التي تعيش معنا وهي مقعدة ،أطعمها وأغسلها وأغير لها مالبسها وأرتب لها سريرها ثم أذهب إلى المطبخ إلعداد الغداء لألوالد وأقوم بترتيب المنزل ثم أدخل سريري لكي أنام بضعة ساعات تقطها مطالب حماتي المتكررة .في العهد اإلشتراكي الذي تدعوه بالدكتاتوري ،كان أوالدي يتغدون في مطعم المدرسة إلى جانب الحليب وبعض الكعك في الساعة العاشرة وكان زوجي يتغدى في مطعم العمل بمبلغ زهيد جدا وكنت أنا كذلك أتناول غدائي في مطعم المستشفى ودون مقابل .كانت وزارة الشؤون اإلجتماعية تخصص إمرأة للقيام على رعاية حماتي ،تحضر لها الغداء من مطعم المصنع الذي في شارعنا ،وكانت تقوم على تنظيفها وإعطاءها الدواء وتجالسها حتى أعود أو يعود زوجي من العمل .كنا يا سيدي نطبخ فقط أيام األعياد .كانت األدوية مجانا واآلن فرض على المريض أن يدفع مقابل الدواء أو جزء منه .زوجي يا سيدي يدفع ثلث راتبه ثمن أدوية لوالدته وتقاعدها ال يكفيها لسداد ثمن الدواء .كانت اإلقامة في المستشفى في زمن اإلشتراكية دون مقابل واليوم على المريض أن يدفع ثالث أورات على كل يوم إقامة وهناك كثير من الفحوص الطبية أصبحت بثمن .كان ثمن تذكرة المسرح أو السينما خمسة كورونات واليوم ما يعادل مئتين وخمسين كرونا .كانت الكتب رخيصة وكانت المكاتب مليئة بالكتب القيمة وخاصة الترجمات العالمية .اليوم أصبحت الكتب غالية الثمن ومليئة بقلة األدب واإلنحطاط الفكري .كانت الصحف والتلفزيون واإلذاعة ملك للحزب وكان الشيوعيون يسيطرون على ما يكتب وما يقال واليوم تسيطر الشركات الرأسمالية األجنبية على كل مجاالت اإلعالم وهي التي توجهها وتفرض سياساتها وتحدد مضمونها .لقد أصبح اإلعالم بوقا أمريكيا وصهيونيا ومصنعا
78
للفكر الهابط .فما الذي تغير؟ زادت رواتبنا ضعفا وارتفعت األسعار عشرات األضعاف .ثم زاد الطين بلة أننا دخلنا منطقة اليورو فتحولت األسعار من الكرونة إلى اليورو فزادت عملية التبديل من األسعار كثيرا ،كان فنجان القهوة في عهد اإلشتراكية يساوي خمس كورونات واليوم ما يعادل الستين حتى التسعين كرون. كنا ندفع إكرامية كرونا واحدا أما اليوم فإن تدفع أقل من خمسين سنتا ،وهي تعادل خمسة عشر كرونا ،فإنهم سيرمونها في وجهك .تضاعفت األسعار كما تضاعفت الجريمة وانتشرت المحسوبية وسرقة المال العام .أتعلم ماذا كانت شعارات حزب ساس اإلنتخابية والتي على أساسها نجح في اإلنتخابات وأصبح جزءا من الحكومة؟ كان برنامجه اإلنتخابي يرتكز على إصدار قوانين تسمح بتعاطي الخدرات وتسمح بزواج المثليين وتبنيهم األطفال .هذه حالنا يا سيدي في ظل هذه الديموقراطية الرأسمالية. عم الصمت الغرفة وبقيت تحدق بي كأنها تتحداني ،قلت لها :ولكنكم أصبحتم أحرارا ،تسافرون متى وإلى أي مكان تريدون .ضحكت بسخرية وقالت :نعم ،معي جواز سفر يسمح لي بالسفر إلى أي مكان ،ولكن أخبرني إلى أين سأسافر ومن سيدفع لي تكاليف السفر .في زمن اإلشتراكية ،كنا نسافر إلى البلدان اإلشتراكية وكانت رخيصة مثل بلدنا ،كما كانت النقابات توزع علينا رحالت مجانية وإقامة مجانية في المنتجعات التي أصبحت اليوم ،بعد بيعها إلى الرأسمال األجنبي ،حكرا على األغنياء المحليين واألجانب .لقد باعوا كل شيئ إلى الراسمال األجنبي ،الذي لم يعد يكترث ال بالبيئة وال بالموظفين والعمال ومطالبهم وعند تهديده باإلضراب عن العمل يهدد هو اآلخر بالرحيل إلى بلد أرخص .رفعت صوتها وقالت :يتحدثون عن اإلرهاب ولكنهم إختلقوا إرهابا جديدا هو اإلرهاب الوظيفي .كان العمل في العهد اإلشتراكي واجبا مقدسا وكان على الحكومة أن تجد للمواطن وظيفة مالئمة ،أما اليوم فجميعنا من مختلف المستويات والمراتب الوظيفية نعيش في حالة من القلق بسبب الخوف من خسارة الوظيفة .إنه اإلرهاب الوظيفي .حتى أؤلئك الذين يتمتعون بوظائف عالية فإنهم محاطون بالخوف الوظيفي ،فهم مقيدون بقروض وكفاالت بنكية وأطفالهم في المدارس الخاصة التي تكلفهم مبالغ طائلة .خسارتهم لوظيفتهم سينتج عنها خسارة بيتهم وطرد أبنائهم من المدرسة وخسارة سياراتهم التي إشتروها بالتقسيط البنكي وهكذا. شعرت برأسي يدور ويكاد ينفجر .قلت لها :هناك مثل في بالدنا يقول" جبناك يامعين حتى تعين وجدنا إنه بدك حدى يعينك ".إرحلي واتركيني لوحدي .قامت وأرجعت الكرسي إلى مكانه ثم قالت ":أنا آسفة على إزعاجك ".رجوتها أن تعطيني حبة المنوم .وضعت على الطاولة التي بجانب سريري حبتين وقالت :هذا في حالة أن واحدة ال تكفي .بلعت الحبة وأطفأت النور واندسست في فراشي .نمت وحلمت بحديقة جميلة ،مليئة باألزهار والطيور ولكن غرابا أسودا كان يقف على فرع شجرة يزعق بملئ صدره وكان زعاقه يغطي على ألحان العصافير .حاولت أن أطرده فرميته بحصى وصحت عليه بأعلى صوتي ولكنه ظل يزعق ويزعق حتى خلت أن رأسي سينفجر.
79
.26
عودة لم تكتمل
أعلنت المضيفة عن قرب وصول الطائرة إلى المطار وطلبت من الركاب ربط األحزمة واإلمتناع عن التدخين .بدأت الطائرة تهبط وتحط على أرض المطار وأخذت محركات الطائرة تبطئ دورانها حتى وقفت بالكامل وبدأ المسافرون يستعدون للخروج . كان على متن الطائرة سياح من مختلف البلدان الغربية وكان يسمع أصوات لغات متعددة إختلطت ببعضها البعض حتى باتت لغة واحدة غير مفهومة. جلس عائد يقضم أطراف أظافره ،فلقد غمره مزيج من اللهفة والشوق للوطن واألهل واألصحاب ،مع شعور بالرهبة أخذ يهز كيانه ويسرع من ضربات قلبه. تسائل :لماذا يا ربي أشعر بالرهبة والخوف كلما وطأت قدماي مطار إحدى الدول .آه يا وطني كم إشتقت إليك ،فسنين الغربة قتلتني وقتلني الحنين إليك .لماذا إذن أنا خائف من مقابلتك بعد طول غياب؟ وقفت محركات الطائرة وبدأ الركاب في الوقوف وحمل حقائبهم والتوجه نحو باب الطائرة إستعدادا للخروج .أخذ عائد حقيبة اليد الصغيرة وتوجه هو اآلخر نحو باب الطائرة وخرج منها نازال درجات السلم المعد للخروج .لفحته أشعة الشمس والهواء الدافئ وشعر بهواء الوطن يدغدغه ويعانقه مرحبا بعودته .بدأت أعصابه تهدأ وأسرع متوجها إلى شباك الهجرة والجوازات .كان متلهفا لعناق أهله ،الذين كانو في إنتظاره ،وشعر بالشوق لرؤيتهم يغمر جسده ،فلقد مرت سنين طويلة على غيبته عنهم .أخذ يفكر بأكالت والدته الشهية وتصور الملوخية الساخنة والبخار يخرج منها مشبعا أنفه برائحتها الزكية ،وتذكر الزيت والزيتون والزعتر والشاي بالنعناع والقهوة بالهال بعد أكل قطعة من الكنافة النابلسية وغيرها من األكالت التي لم يذقها منذ أعوام ،فسال لعابه وأخذ يلحس شفتيه بلسانه ويمتصها كما يمتص بقايا طعام أكله قبل لحظات. وقف في الصف الطويل أمام نافذة الجوازات والهجرة ،حامال جواز سفره األجنبي بيده .كان يعتقد أن هذا الجواز سيحميه من الريبة والشكوك التي تنتاب مسؤولي الحدود والمطارات كلما وطأت قدمه إحداها ،ولكن التجربة أثبتت عكس ذلك، فالمولد في جواز السفر " فلسطين" كان كافيا ليثير هذه الشكوك ،وتبدا عملية التفتيش واألسئلة المهينة .فلسطيني تعني في كثير من اللغات إرهابي ،يجب أخذ الحذر منه .في بلد عربي كان يقال للفلسطيني " فلسطيزي" داللة على التوضيع و اإلهانة .يذكر عائد عندما جرى ترحيله من تلك البلد ،أن ضابط الهجرة في المطار قال لزميله وقت ترحيله "،خذ دب هالفلسطيزي في الطيارة ،ترحيل دائم". كان السواح األجانب يمرون بسرعة ،يقدمون جوازات سفرهم لضابط الجوازات، فيبتسم لهم هذا مرحبا ويختم جوازات سفرهم بدون أي تأخير.قدم عائد جواز سفره لضابط الجوازات بعد أن طرح عليه السالم ،وانتظر .لم يرد الضابط له التحية وأخذ يتصفح جواز السفر بعناية وهو متجهم الوجه .سأله عن إسم أبيه وأمه ومن أين هو قادم وما سبب زيارته ،فأخبره عائد .تسائل الضابط قائال :مواليد فلسطين؟" ثم هز رأسه و أخرج من الدرج قائمة أسماء أخذ ينظر فيها ،ثم عاد و تصفح وجه
80
عائد بعينين كأشعة إكس وعلى وجهه إبتسامة تشفي كأنما يقول" :أخيرا ضبطناك، وطلب منه الوقوف جانبا ،فوقف. وقف عائد منتظرا أكثر من نصف ساعة ،والقادمون ،وجلهم أجانب ،يمرون ويدخلون وطنه بدون أي تأخير .جاء رجالن في مالبس مدنية وأشارا إليه بصمت أن يتبعهما ،ففعل .أدخاله إلى غرفة صغيرة وطلبا منه أن يقلع مالبسه ،ففعل .فتشا جيوبه وثنايا مالبسه وحذاءه ثم ألقيا بها بقرف على األرض وطلبا منه لبس مالبسه ،ففعل .لقد علمته التجارب أنه ال فائدة من الجدال مع قوات األمن والمخابرات في البالد الشرق أوسطية ،فإنه لو فعل فلن يصل إلى نتيجة ،ألن الحوار العقالني مع أفراد األمن والمخابرات مستحيل .تركاه في الغرفة ورحال. بعد ساعة عادا ومعهما شرطي يحمل في يده أصفادا حديدية ،وضع أيدي عائد فيها واحكم إغالقها وطلب منه اللحاق بهم ،ففعل .ذهبوا إلى مكان وصول الحقائب وطلبوا منه فتح حقيبتة ،ففعل بصعوبة ،فلم تكن يداه المسجونة في األصفاد قادرة على التحرك بحرية .هجمت ستة أيدي على محتويات الحقيبة ،و قامت ببعثرة كل ما فيها ،قطعة قطعة ،وسقط كثير منها على أرض المطار ،بما فيها الهدايا التي جلبها ألهله وأصدقاءه ،والتي صرف وقتا وجهدا في إنتقاءها .إختلطت قطع المالبس بغبار األرض وداستها ستة بصاطير حاقدة .كان يبدوا على وجوههم اإلمتعاض ألنهم لم يجدوا ما يدينه .وضعوا معجوني الحالقة واألسنان في كيس من البالستيك وأخذوه .طلب منه الشرطي أن يلملم مالبسه المبعثرة ويضعها في الحقيبة و يحمل حقيبته ويلحق به .رجا الشرطي أن يحرر يديه حتى يستطيع أن يحمل الحقيبة الثقيلة ،فرفض .حملها بأطراف أصابعه وجرها خلفه بصعوبة حتى خرجا من المطار وتوجها إلى موقف سيارات األجرة .أشار الشرطي إلى إحداها وعلق قائال: " ال يوجد لدينا سيارات لنقلك ،جميعها محجوزة ولذلك سنستأجر سيارة أجرة. فتح السائق باب السيارة الخلفي المعد للحقائب وانتظر .طلب عائد من السائق أن يساعده في وضع الحقيبة في السيارة ،فرفض .قال أنه سائق سيارة وليس حماال. حمل عائد الحقيبة بصعوبة ووضعها في السيارة ،ثم طلب منه الشرطي أن يجلس بجانب السائق ،ففعل .تحركت السيارة بعد أن أعطى الشرطي العنوان للسائق ،فهم عائد من كالمه أنه مكان للتوقيف. مرت السيارة من وسط المدينة وكانت األضواء تشع كأنها تحتفل بقدوم ضيف مهم، وكان الناس يمشون مسرعين أو ينتظرون سيارات األجرة من أجل العودة إلى بيوتهم بعد عمل يوم شاق .كل له همومه ،ولم تكن هموم عائد واحدة منها .تسائل عائد ،أين أهله ،وهل ال زاوا في إنتظاره على المطار ،وهل أخبرهم أحد بمصيره. وصلت السيارة إلى مبنى كتب فوق مدخله "مركز شرطة منطقة ،"..طلب الشرطي من عائد أن يدفع أجرة السيارة ،ففعل ،وكانت بالعملة الصعبة ولم تكن رخيصة. حمل عائد حقيبته ودخل خلف الشرطي إلى قاعة المركز .أشار الشرطي عليه أن يضع حقيبته في ركن المدخل وتحدث همسا مع الضابط المسؤول عن المركز .تقدم هذا من عائد ،فك قيوده وطلب منه اللحاق به ،ففعل .فتح الضابط باب غرفة وطلب منه الدخول ،فدخل ،ثم أغلق الضابط الباب خلفه بالمفتاح.
81
كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل وكان الظالم يعم المكان فوقف عائد خلف الباب ال يعرف أين هو وإن كان وحده في الغرفة .سمع شخيرا وسعاال وحشرجات تقطع الصمت المخيم على المكان .بعد دقائق بدأت عيونه تعتاد على محيط المكان فوجد نفسه في قاعة مليئة بالمساجين ،كان بعضهم جالسا واآلخر منحني على الحائط والبعض اآلخر واقفا ،لعدم وجود مكان كاف للجلوس. وقف عائد ينظر بهلع إلى منظر القاعة المليئة باألجساد ولقد تخيل منظره بالبدلة الجديدة ،التي إشتراها خصيصا للقاء أهله ،وبالقميص الجديد الناصع البياض وربطة العنق ،مثيرا للهزل والحزن .نظرت العيون المتعبة إليه ثم شاحت عنه وذهبت إلى سبيلها ،غارقة في همومها .بقي عائد واقفا خلف الباب حتى تعبت ساقاه فجلس على األرض متكئا على الباب. مرت األيام ولم يعد عائد يعرف معنى للزمن وللمكان .فلقد كان مكانه يتكون من مساحة ضئيلة خلف باب المكان ،يتحرك منه عندما يفتح أحدهم الباب ليدخل سجينا جديدا أو يخرج سجينا أو إلحضار الطعام ،الذي بدا وكأنه من مخلفات زبائن المطاعم .لم يتكلم عائد مع أحد ،ولم يخاطبه احد من المساجين ،ولم يعرف حتى هويتهم وسبب سجنهم ،ولم يأكل طيلة المدة أي شيئ ،كان فقط يشرب من شاي السجن ،الذي لم يكن لهو طعم وال رائحة . بعد مرور أكثر من اسبوع على إقامته في ضيافة هذا المكان المرعب جاؤوا وأخذوه إلى مركز المخابرات العامة .كانت بدلته قد أصبحت خرقة وقميصه األبيض فقد لونه واختلط بوسخ المكان وعرق الجسد ،وربطة عنقه قبعت في جيبه ملوثة بمخاطه فلقد إضطر إلستعمالها كمنديل للمخاط .كان متعبا ،مرهقا ،رائحته تفيح بالعرق الممزوج برائحة السجن المطعم بروائح الفساء والبول. أدخلوه إلى غرفة جلس فيها رجالن ،طلبا منه الجلوس فجلس .نظرا إليه بعلو و بإشمئزاز فلقد شعرا بسلطتهما على الموقف مما دفعهما للشعور بالتباهي والعظمة. خاطبه واحد منهما قائال" :إسمع وال ،إحنا منعرف عنك كل شي ،بدك تقر والال وهللا هون منكسر راسك ".نظر عائد إليه بإستغراب وقال " :ماذا فعلت لك حتى تواجهني بهذه الطريقة ،هل سبق والتقينا وقمت بإيذائك ،وما الذي فعلته حتى أنال هذا العقاب؟" قفز الرجل من مقعدة وتوجه نحو عائد وهو يتفتف ورذاذ لعابه يتطاير من فمه. شعر عائد بأن الرجل سيقوم بلطمه فنزع عن وجهه نظاراته حتى ال تتحطم .وقف الرجل أمامه صائحا :ولك إنت بتخرس وما بتحكي نص كلمة ،هون إحنا منسأل وإنت بتجاوب على السؤال ".لم يلطمه فلقد طلب منه زميله الجلوس فعاد وجلس خلف الطاولة ،بجانب زميله . بدأت األسئلة تنهال على عائد ،نفس األسئلة التي واجهته من قبل عمالء المخابرات في بالد أخرى .من هم رفاقك في التنظيم ،من هم أصدقاءك ،لماذا سافرت إلى تلك البلد ،من بعثك ،وما هي أسباب قدومك ومع من ستتصل وغيرها من األسئلة .خيل إلى عائد أن األسئلة توزع على جميع عمالء المخابرات في العالم العربي ،من مصدر واحد.
82
التهمة هي نفسها في كل مرة ،العضوية في تنظيم معاد للدولة .كان عند عائد دافع قوي للضحك ،ولكنه لم يضحك ،مع أن الموقف مثير للضحك والحزن معا .كان غريبا أن توجه له تهمة اإلنتماء إلى تنظيم معادي للدولة و هو يعيش خارج هذه الدولة منذ عشرات السنين ،وأي دولة هذه التي يتحدثون عنها ؟ بدت له الدولة كعصابة مجرمين وقطاع طرق ،وليس كدولة .ثم عن أي تنظيم يتحدثون ،فالتنظيم في قاموس المخابرات العربية يتغير حسب الظروف السياسية للدولة وعالقاتها مع الغير .لم يعرف عائد هل يضحك أم يبكي" .أبكيك يا وطني الحبيب ،ما الذي فعلوه بك؟ من إين جاء هؤالء؟ إنهم يتكلمون لغتي ولكنهم ليسوا أهلي .إنهم يرحبون باألجانب ويسجنون أهل هذا البلد". إنتهى اإلجتماع بعد ساعات من التحقيق المضني ،الالعقالني ،والمثير للهزء والحزن معا .كانت النتيجة أنه شخص غير مرغوب فيه ،في وطنه ،وعليه أن يعود من حيث أتى" .ولكن هذا وطني يا أوالد الكلب" قالها بصمت" ،هنا ولدت وهنا ترعرعت وهنا عرفت حبي األول وهنا وهنا". قاموا بترحيله .وضعوه مع حقيبته ،التي سرق معظم محتوياتها ،وعلى حسابه الخاص ،في سيارة أجرة و أخذوه إلى المطار ومن ثم إلى الطائرة ،من دون أن يمر على الجوازات .إنتظروا حتى أغلقت الطائرة أبوابها وبدأ محركها بالدوران .نظر المسافرون إليه بخوف وقلق ،بعضهم تمتم ":يظهر أنه إراهبي" .نظر إليه طفل وابتسم ولكن والدته نهرته وأبعدته خوفا عليه ،فلقد كان منظر عائد مخيفا ورائحته تزكم األنوف. غادرت الطائرة المطار وبدأت ترتفع في الجو .نظر عائد من النافذة إلى وطنه ،فرآه يصغر كلما إرتفعت الطائرة ،حتى بات نقطة سوداء في فضاء أبيض ،ثم إختفى عن أعينه وما عاد يراه إال في مخيلته .
83
.27
حفيدي الدكتاتور
جلست في مقعدي المعتاد وفتحت حاسوبي المحمول وهيأت نفسي لكتابة رسالة إلى صديق .فجاة إنفتح الباب على مصراعية بدون أن يطرق أحد الباب كما هي العادة إستئذانا للدخول و ظهر في الباب إنسان صغير ال يتعدى طوله التسعين سنتمترا، وال يتعدى عمره العامين ،أشقرالشعر مجعد ،كفرو خاروف بلدي ،مالمحه خليط من المالمح العربية والغربية ،تعطيه لمحة خاصة من الجمال والجاذبية .حفيدي نضال الثالث الذي سمته والدته كذلك تيمنا بزوجها نضال الثاني وسماه والده كذلك تيمنا بإسم والده نضال األول ،وهكذا أصبح لدينا في البيت ثالث نضاالت ،تختلط النداءات بها وتخلق في بعض األحيان اإلرتباك والفوضى .كانت نظراته ثاقبة ومالمحه تدل على الجد و عدم الرضى .صاح مشيرا بإصبعه الصغير إلي قائال " :سيدو! البتوب نو ،البتوب نو" .كان حاسوبي المحمول "الالبتوب عدوا له ،وكان يرفض رفضا قاطعا أن يراني والحاسوب مفتوحا أمامي ،أكتب أو أقرا شيئا فيه. هجم علي وقبض على الحاسوب وحاول إغالقه بالقوة فشددت الحاسوب بكلتا يدي وحاولت حمايته من هذا المعتدي الصغير .قلت له " :يا حبيبي ،يا روحي يا عيني، أرجوك إترك الحاسوب ستكسره كما كسرته سابقا وكلفني تصليحه مبلغا ال يستهان به من المال ".ولكنه تابع القبض على دفة الحاسوب ليغلقه وهو يصيح ":سيدو ! البتوب نو ،البتوب نو". حاولت إقناعه بالكالم المعسول وبالرجاء حتى أنني حاولت أن أرشيه ببعض الحلوى ولكنه رفض رفضا قاطعا ،وبقي قابضا على دفة الحاسوب يريد إغالقه وهو يصيح " البتوب نو" .قلت له أنه علي أن أكتب رسالة لعمو ،فخفف الضغط عن الحاسوب ونظر إلي متسائال وسأل" :عمو مازن؟؟" فلقد عقد مع أخي مازن صداقة وطيدة أثناء زيارتنا لعمان ،وكان يلعب معه لعبة النملة نملة أو الطيارة الطيارة ،وظل عمو مازن لهذا السبب عالقا في مخيلته .أجبته بأنني أكتب لعمو عيسى وهو مثل عمو مازن ،ولكن عالمات عدم الرضى عادت إلى وجنتيه وزاد في الضغط على الحاسوب ليغلقه وهو يصيح " :عمو عيسى نو ،البتوب نو" صحت على والدته ورجوتها أن تأخذه وتلهيه لمدة ساعة من الزمان حتى أكتب رسالتي .ضحكت وقالت" " أنت تعرف يا عمو أن ذلك من المستحيالت ،فهو يريدك أن تلعب معه وأن تحكي له حكاية أو تسمعه موسيقى عربية ،وهو يغار من حاسوبك ولن يسمح لك بالعمل وسيجبرك على إغالقه .نظرت إليها وقلت" يا بنيتي، الجماهير العربية ثائرة من الجزائر إلى الخليج العربي ضد الدكتاتورية ،وأنا علي أن أستسلم ألوامر ورغبات هذا الكتاتور الصغير؟؟! ضحكت وقالت " :هو لديه سالح أقوى من أسلحة جميع الحكام العرب ومخابراتهم ،وهو خبير في إستعمال هذا السالح لنيل مطالبه ".سألتها عن هذا السالح الغريب الذي يملكه هذا الكتاتور الصغير فقالت" إنه سالح حبك له ،وهو يعرف ذلك ،ويعرف ما لهذا السالح من
84
اهمية وتأثير فيك ،وهو ويتقن إستعماله .لذا أنصحك باإلستماع إليه وإغالق الحاسوب وأن تهب وقتك له وليس للحاسوب ،فمهما حاولت فإنه سينتصر. إعترفت بالهزيمة ،فحبي لهذا الدكتاتور الصغير سالح حاد وقاتل ولن أستطيع مقاومته .أغلقت الحاسوب ،وضعته على الطاولة ونظرت إلى الدكتاتور الصغير وقلت " :ها أنا قد أغلقته فماذا تريد مني؟ مسح بيده على الحاسوب وقال" : الحاسوب سينام وأنت ستحكي لي حكاية ،أو تضع لي فلم صور متحركة. أجلسته بجانبي ،وضعت يدي خلف كتفه وضممته بلطف وبدأت أقص عليه حكاية قصصتها له عشرات المرات ،وكان يسبقني بسرد الحوادث قبل أن أتفوه بها فلقد حفظها عن ظهر قلب .أثناء حديثي شعرت بوخز في جانبي فتأوهت .نظر حفيدي إلي بقلق وقال " :سيدو ! عندك واوا ؟ أجبته " :يا حبيبي ،سيدو عنده واوا، يؤلمه جميع جسده من راسه إلى قدميه ،فجدك أصبح عجوزا يا حبيبي الصغير". فجأة قفز من جانبي وانفجر في البكاء راكضا إلى والدته في الغرفة الثانية .جاءت به تسألني ما الذي حدث وما الذي أغضبه ودفعه للبكاء؟ لم أدر ما أقول لها ،فلم أكن أعرف سبب بكائه وما الذي أغضبه .كان يبكي ودموعه تنهمر من عينيه ومخاطه يسيل من أنفه يمسحه بكم قميصه ،وكان يقول كالما متقطعا غير مفهوم. حاولت والدته تهدأته فلم تستطع ،وفجأة نظرت إلي وقالت متعجبة " :إنه يقول أنك ستموت،من أين له هذا الكالم ،فهل قلت له أنت شيئا من هذا القبيل؟ قلت لها طبعا ال وتذكرت أنني قلت له أن عندي واوا في جميع أنحاء جسدي فظن أنني سأموت. جلست بجانبة وقلت له " :جدو لن يموت ،عنده شوية واوا ولكنه لن يموت ".قال وما زال يبك " :أنا ال أريدك أن تموت ".أعدت عليه القول بأنني لن أموت حتى هدأ ،فأجلسته على حجري وأخذت أقبل رأسه وفجأة نظر إلي وقال " :عندما يموت اإلنسان يذهب للسماء ،أليس كذلك سيدو؟" أجبته باإليجاب ،فسألني :وهل جدتي في السماء؟ فأجبته بنعم ،فعاد وسألني :إذا أنت مت فستلتقي بجدتي في السماء؟ قلت له نعم .صمت فترة ثم قال :إذا أنت مت يا جدي وصعدت إلى السماء عند جدتي فهل يمكنني أن أذهب معك لكي أتعرف على جدتي ثم أعود إلى أبي وأمي فأنا لم ألتق بها؟ قلت له ال ،ال يمكن ،ألن الصغار الحلوين مثلك ممنوعون من الدخول إلى هناك قطعيا ،وعليهم أن يبقوا مع أمهاتهم وآبائهم ،حتى يكبروا ويتجوزا ويخلفوا أحفادا جميلين مثلك ".همهم بكالم غير مفهوم ثم قال لي " :سيدو ،هل تراني جدتي من السماء؟ قلت له طبعا .صمت لحظة وقال ضع لي موسيقى عربية ،ال أريد بعد أي حدوته. كان منذ صغره يعشق الموسيقى العربية وخاصة الصوفية ،وكان والديه يحضراه إلي عندما يعجزا عن تنويمه فأجلسه في حضني وأضع له الموسيقى الصوفية وكان سرعان ما يغمض عينيه وينام ويأتي والدية ألخذه إلى السرير .لقد بقيت هذه العادة لديه إلى اليوم ،وهو ال ينام إال إذا سمع الموسيقى الصوفية ،وتظل الموسيقى إلى الصباح. وضعته في حجري ملقيا رأسه على يدي وأخذنا نسمع الموسيقى سويا .بدأت عيناه تثقل ثم أغمضها .جاءت والدته وحملته إلى سريره وقبل أن تخرج به من الغرفة
85
فتح عينيه وأشار بإصبعه إلي وقال ":سيدو ! نو نو ال بتوب ".فأجبته " :نعم حبيبي ،نونو البتوب". الحقته عيوني حتى خرجت به والدته من الغرفة وأغلقت خلفها الباب .عم الصمت الغرفة إال من صوت خافت لموسيقى صوفية حزينة .فكرت في اللحظة التي سيأتي فيها ليبحث عني فال يجدني فغمرني الحزن وبكيت.
86
.28
قتلوه ولم يمشوا في جنازته
كان لقاءنا األول في المستشفى حيث كنت أجري بعض الفحوصات الطبية وكان هو ضمن مجموعة تجري عليها شركة أدوية عالمية تجارب لدواء جديد .لم أستطع أن أكتشف وليومنا هذا إسم ونوع ذلك الدواء او األمراض التي يعالجها ،فلقد كانت التجارب سرية .كانت الشركة تقوم بتجاربها على مجموعة من المتبرعين مقابل مبلغا من المال يدفع لهم بعد توقيعهم على وثيقة بأنهم يعوا خطورة التجارب وأن الشركة غير مسؤولة عن أي ضرر يحدث لهم بسببها .كانوا فئران تجارب بامتياز. فاجأتني سعة ثقافته وولعه بالقراءة وكان يعرف تفاصيل قضية الصراع العربي اإلسرائيلي وقضايا المنطقة العربية األخرى وخاصة الحرب على العراق وخلفياتها. ثقافته الواسعة كانت عامال أساسيا في توثيق عرى الصداقة بيننا التي إستمرت بعد تركنا المستشفى. سألته عن سبب إشتراكه في هذه التجارب التي قد تسبب له الضرر فأخبرني أن الحاجة الماسة للنقود هي السبب الوحيد الذي دفعه إلى اإلشتراك ،مع معرفته التامة بخطورتها .كان قد تجاوز األربعين من عمره وبقي بسبب وضعه العائلي المعقد عازبا .كان وحيد والديه ،والدته أصيبت بمرض عضال أقعدها في الفراش أعواما طوال ،وكان يقضي معظم وقته باإلعتناء بها مما إضطره إلى البحث عن وظيفة ليلية تسمح له في النهار باإلعتناء بوالدته المقعدة ،ولم يجد إال وظيفة حارس ليلي ألحد المصانع مع أنه كان جامعيا ومؤهال لوظيفة قيادية في أي مؤسسة حكومية أو شركة خاصة. والده سخط على الدنيا بسبب مرض زوجته فأغرق همومة في شرب الخمرة التي كانت تحوله إلى إنسان عدواني يفجر سخطه وجام غضبه في كل ما حوله ،يحطم كل ما تقع يديه عليه ،إلى أن يخمد نار غضبه فينفجر في البكاء ،حزنا وأسا على زوجته وعلى نفسه .كان يبكي حتى تنفذ قواه فينام حيث ماكان .كان سكره سببا في طرده من عمله وفي نهاية المطاف أحيل على التقاعد المبكر بتقاعد بسيط بالكاد يغطي ثمن الخمرة التي يحتسيها يوميا. كان صديقي محاصرا بين والدته المريضة المقعدة ووالده السكير ،يعتني باإلثنين وال يجد من يعتني به .كان راتبه يكاد ال يكفي للمصاريف المعيشية األساسية من ثمن غاز وكهرباء وماء وغذاء ،هذا إلى جانب إحتياجات والدته الطبية التي ال يغطيها التأمين الصحي ،فتكاثرت ديونه فراح يبحث عن أي مورد إضافي يسدد العجز في مدخوله المالي. ماتت والدته بعد أن تعطلت كل أجهزة جسمها وبدأ جسدها يتقرح بشكل مخيف مما سبب لها اآلالم المبرحة وأصبحت كل محاوالت إبنها للتخفيف عنها غير مجدية وكان في لحظات ضعف يبكي و يتمنى أن تموت والدته لكي ترتاح وتريح .وأخيرا ماتت وبكاها بحرقة ،وكان صوت في داخله يهتف به :ها أنت قد إرتحت أخيرا ولقد آن األوان أن تعتني بنفسك وتعيش" .دفنها ووالده وبعض األقرباء والمعارف بصمت .وقف والده فوق القبر صامتا وبقي صامتا عندما عادوا إلى البيت وظل
87
صمته مستمرا .كان يحتسي الخمر أو يذهب إلى الخمارة ويعود مخمورا فيلقي بجسده على الفراش وينام ويعلو شخيره الذي يمأل البيت. عاد صديقي في صباح أحد األيام من عمله الليلي إلى البيت ليجد فيه إمرأة غريبة قدمها والده له على أنها زوجته الجديدة .لقد عرف صديقي منذ الوهلة األولى أن هذه المرأة هي جزء من مجموعة السكر التي ينتمي والده إليها وال بد أنه إلتقى بها وتوطدت عالقتهما في الخمارة ومن خالل كؤوس الخمرة المتبادله .ولم يطل الوقت حتى تأكد حدسه ،فبدال من إعتناءه بسكير واحد كان عليه أن يعتني بسكيرين، متقاعدين ،يصرفان تقاعدهما على الخمرة وينتظران منه إعالتهما .كانا بتأثير الخمرة كثيرا ما يتشاجرا فيتبادالن الصفعات والركالت والشتائم ويعمالن تحطيما ما تبقى من أثاث وأواني في البيت. لم يمض شهر على دخول الزوجة الجديدة إلى البيت حتى إستولت عليه وأصبحت اآلمرة الناهية فيه وكانت في فترة صحوها تصب حقدها على صديقي لتجعل حياته ال تطاق وتجبره أن يخلي البيت لها .كانت الحياة بالنسبة لصديقي فعال ال تطاق ولم يكن في يده وسيلة تخرجه من هذا المأزق الذي وجد نفسه فيه ولم يكن لدية مكان يأوى إليه .لقد ظلمته الحياة وما تزال مستمرة في ظلمه. كانت الحياة تخبئ له مفاجئتين غير سارتين ،األولى موت والده .وجدوه في صباح أحد األيام ميتا في فراشه .كان من المفروض أن يخفف موت والده من سطوة الحياة عليه وقسوتها ولكنه إكتشف أن والده في لحظة سكر قد كتب البيت بإسم زوجته الجديدة .لم تنتظر هذه دفن زوجها حتى جاءت لصديقي مشهرة في وجهه وثيقة ملكية البيت وتطلب منه الرحيل .لقد هددته بإحالة األمر إلى الشرطة إن لم يرحل من البيت طواعيا .لم تنفع محاوالته في نقض الملكية فلقد كانت موثقة عند كاتب العدل. المفاجأة الثانية أن األطباء إكتشفوا أنه مصاب بتشمع في الكبد .لم يحتس الخمر في حياته ،فتجربته مع والده السكير أبعدته عن الكحول ،وها هو اآلن مصاب بمرض، غالبا ما يصيب المدمنين على الخمرة .لقد أكد له األطباء أن مرضه هو نتيجة التأثيرات الجانبية للدواء المجهول التي قامت شركة األدوية بإجراء تجاربها عليه. لم يكن هناك من سبب آخر .لقد تأكد هذا القول حين أصيب بنفس المرض إثنان آخرآن من المجموعة التي جرت عليها نفس التجارب .ولكن لم يكن في يده أو في يدهم أي حيلة فلم يكن بإستطاعتهم مقاضاة شركة الدواء ،فلقد وقعوا جميعا وثيقة إخالء طرف شركة األدوية من أي مسؤولية. بين ليلة وضحاها أصبح صديقي مشردا مفلسا ومصابا بمرض التشمع الكبدي. كنا نلتقي كل أسبوع في مقهى صغير ،نتحدث عن الفلسفة واألدب والسياسة .كنت ملما بتفاصيل حياته ولقد حاولت تقديم المساعدة المالية ولكنه رفض بغضب خلت أنه سيتركني بعدها ويقطع عالقته معي .ولكنني لم أعلم بطرده من البيت وبمرضه الجديد ،لم يخبرني. فجأة إنقطعت إتصاالته بي وحاولت اإلتصال به فلم أفلح .سافرت خارج البلد وعدت بعد أسبوعين ولم أسمع من صديقي أو عنه أي خبر وكل محاوالتي لإلتصال به باءت بالفشل ،فقررت زيارته في البيت .طرقت باب بيته فخرجت لي إمرأة تفوح منها رائحة الخمرة .سألتها عن صديقي فأخبرتني أنه لم يعد يسكن هناك وأن البيت
88
أصبح ملكها ثم أغلقت الباب في وجهي .وقفت حائرا مصدوما ولم أدر ما أفعل .فتح باب الجيران وأطلت منه إمرأة في مقتبل العمر وأشارت إلي باإلقتراب منها ففعلت. حدثتني بتفاصيل ما حدث لصديقي بعد وفاة والده .سألتها إن تعرف أين أجده، أجابت بحزن ":ستجده مع المشردين ،إبحث عنه هناك". إتصلت بصديق لي يعمل مسؤوال في البلدية وأخبرته بالتفاصيل وطلبت منه أن يساعدني في البحث عن صديقي فوافق .بصفة موقعه في البلدية فهو يعرف مواقع المشردين وأماكن تجمعاتهم .بحثنا في جميع األماكن التي يتجمع فيها المشردون، في أنفاق القطارات القديمة ،في البيوت المهجورة وحتى في بيوت الكنيسة التي تقدم للمشردين الحساء الساخن ،فلم نجده ولم يعرف أحد عن مكانه. كان الجو شديد البرودة وكان الصقيع يغطي ورق األشجار فباتت كشجرة عيد الميالد .كان منظر المشردين بمالبسهم الرثة يجلسون أمام نار أوقدوها من مخلفات القمامة ورائحتها النتنة تسد األنوف يثير في المرء الغثيان .كنت أتسائل ،هل نحن فعال في أوروبا أم في الصومال؟ أهذه هي نتائج الرأسمالية الديموقراطية وهل هكذا يقيم فيها اإلنسان. شعرت أن صديقي موظف البلدية قد ضاق ذرعا بهذا البحث وقال لي بأن ننهي البحث ونتركه ليوم آخر .في تلك اللحظة تقدمت منا إمرأة في منتصف العمر عليها مسحة من جمال مدفون تحت تجاعيد سنين من التشرد وقالت ":ستجده تحت الجسر القديم ".كنت أعرف أن الجسر القديم معطل وتنوي الحكومة هدمة ويجتمع تحت الجسر بعض المشردين ولكن في الصيف وليس في مثل هذا الجو القارص. ذهبنا وبحثنا عنه .وجدناه تحت الجسر ملتف في معطف قديم طرفه مغمور في مياه النهر التي تجمدت فوقه .كان علينا كسر الجليد لتحرير معطفه .كان في حالة غيبوبة يكاد يتجمد من البرد .إتصل صديقي موظف البلدية بسيارة إسعاف ،جاءت وحملته معها إلى المستشفى .ذهبنا خلفها فلقد كان من الضروري أن يظهر صديقي موظف البلدية إهتمامه بالمشرد حتى يهتم موظفوا المستشفى به .بدون ذلك سيجري إهماله .رجعنا إلى بيوتنا بعد أن تأكدنا أنه في أيد أمينة. في الصباح الباكر إتصل بي موظف البلدية ليخبرني أن صديقي قد مات .جاؤا ليكشفوا عليه صباحا فوجدوه ميتا .أخبرني أنه يجب إطالع األهل من أجل أن يستلموا جثته .أخبرته أنه ال يوجد له أي أهل وأن ما من أحد غيري سيهتم بجثته. إنتظر المستشفى ثالثة أيام وقرروا بعدها تسليم الجثة لشركة دفن تعاقدت معها ودفعت أتعابها مقدما. خرجنا في جنازته ثالثة ،صديقي موظف البلدية وزوجته وأنا .بعد إنتهاء مراسم الدفن وضعت على قبره إكليال من الزهور كتبت عليه " :يا صديقي! قتلوك وما مشوا في جنازتك".
89
.29
العم حسنين :بين الحكمة والقمامة
ال أحد يعرف كم عمر العم حسنين وال يمكن ألحد ،حتى ،أن يقدر ذلك تقديرا. تستطيع أن تقول أن عمره مئة عام أو خمسون وقد يكون ذالك أو ذاك أو غيره. يمكنك أن تجد على تضاريس وجهه خارطة مصر بكاملها ،بسهولها وهضابها وجبالها ،حتى األهرام يمكنك أن تجدها مرسومة على تضاريس وجهه .إذا أردت أن تترك لمخيلتك العنان وتبحث في ثناياها عن صورة تمثل البؤس والفقر فال تفعل، فالعم حسنين يريحك من هذا الجهد ويكفي أن تنظر إليه وتتمعن في ثنايا وخبايا وجهه حتى ترى خير صورة تجسد البؤس والفقر بكل معانيهما .ولكن البؤس والفقر الظاهرين على وجهه وجسده النحيل ومالبسه الكالحة اللون والمرقعة وعمامته التي إختفى لونها والتي تخفي تحتها خصالت الشعر الباقية على رأسه ،لم تستطع أن تقتل صفة اإلنسانية فيه ،فهو دائم اإلبتسام ،يحي المارة مبتسما ،كاشفا عن بقايا أسنان أصبح لونها كلون رمال مصر الصحراوية. العم حسنين أصبح معلما من معالم شارع يوسف عفيفي في غردقة مصر .يقف على ناصية الشارع وأمامة سطل كبير من التنك موضوع على عربة ذات العجل الواحد، زودته بها بلدية الغردقة .العم حسنين يسميه أصحاب الحوانيت في ذلك الشارع" ، بتاع الزبالة" ،فهو يقوم بالتقاط األوراق والعلب الفارغة وبعض الفضالت التي يتركها السواح أو اصحاب المحال التجارية ويضعها في السطل ثم يقف أمام عربته وينتظر واقفا حتى حلول الظالم ،فيركب باص العمال الذي ينقله إلى بيته في أحد األحياء الفقيرة في الغردقة القديمة أو الضهار .بيته يتكون من غرفة صغيرة من الصفيح يشاركه العيش فيها بعض زمالءه من أصحاب مهنته ،ال يوجد فيه خزانة أو طاولة أو كراسي وإنما فرش على األرض كفرش السجن. في كل إجازة صيف أقضيها في الغردقة أذهب للبحث عن العم حسنين ،فأجده واقفا في نفس المكان أمام عربته القديمة ذات السطل التنكي ،كتمثال أحد خدم القادة المصريين من زمن الفراعنة .يالقيني بإبتسامة وترحيب كأنما كان في إتظاري قائال " :هالمرة طولت علينا الغيبة". بعد العشاء في الفندق كانت المضيفة الواقفة أمام باب المطعم تقدم لنا سلة من حبات الملبس كضيافة ،كنت آخذ منها حبتين ،أعطيها للعم حسنين حين كنت أمر عليه في موقعه المعهود ،يضع حبة في فمه ويخبئ األخرى في جيبه قائال "،دي لصاحبي اللي ساكن معايا" .كان يفرح بحبات الملبس كفرح طفل صغير ،وكانت إبتسامته الفرحة تكشف عن بقايا األسنان التي بقيت في فمه ،تكاد هي األخرى أن تسقط ،وعن لثه مزرقة اللون من قلة اإلعتناء وداللة على فقر الدم .كنت أضع في يده بعض النقود فيأخذها بصمت ويضعها في جيب عبه ويشكرني ولكنه ال يظهر فرحا كفرحه بحبات الملبس .
90
ألربع سنين متتابعات ،أصبحت زيارتي للعم حسنين كل مساء جزء من برنامجي اليومي طيلة إقامتي في الغردقة .في كل مرة كنت أقدم له حبتي الملبس وبعض النقود ،وفي كل مرة تكون فرحته بحبات الملبس أكبر بكثير من فرحته بالنقود التي كنت أضعها في يده ولم تكن قليلة وخاصة بالنسبة لوضعه .في كل مرة كنت أتسائل، لماذا يا ترى تكون فرحته بحبات الملبس واضحة للعيان ،تظهر على جميع أسارير وجهه ،أما النقود فيأخذها بصمت ويهمس ،كأنما خجال ،بكلمة الشكر ،وكأنما قد أخذها على مضض .كنت أتسائل ولكنني لم أسأله عن السبب حتى ال يفهم عكس ما أقصد. في مساء يوم من األيام المعتادة في رحلتي األخيرة للغردقة ،حيث يتكرر المشهد مع العم حسنين ،فرحة عارمة بحبات الملبس وصمت عند إستقبال النقود ،لم أستطع منع نفسي من سؤاله ،فسألته ":أريد أن أسألك سؤاال يا عم حسنين وأرجوك أن ال تفهمني غلط .لماذا تستقبل حبات الملبس بسرور وفرح أما النقود فتستقبلها بفتور مع أني أعرف إنك في حاجة ماسة لها ؟" نظر إلي وابتسم كاشفا عن تلك األسنان التي على وشك أن تسقط وتلحق بزميالتها وقال ":عداك العيب يا دكتور ،الملبس ضيافة ،والضيافة محبة واحترام ،أما الفلوس فهي حسنة ،تدل على فقري وحاجتي وبؤسي .أنا محتاج ليها ولكنك لما تعطيني إياها تكشف عن عورتي، يعني فقري وحالي المعتر فيصيبني الغم ". نظرت إليه وقلت" :هللا ،أنت طلعت حكيم و فيلسوف يا عم حسنين" ،فرد قائال ":ال فيلسوف وال حاجة ،دي الحياة علمتنا كده ".ثم صمت لحظات وأضاف " :ما تدكدرش يا دكتور ،إللى متلي متايل ،دا إحنا ماليين". تركته وانصرفت وأنا أتسائل :لو عرف اإلنسان كم هو قليل ما يكفي لجلب السرور لالخرين ،وتسائلت أيضا " :كم من الدرر مدفونة في بالدنا تحت أكوام القمامة، ندوس عليها ونحن ال نعلم وال نحس بها؟! تذكرت ما قاله العم حسنين "،دول بالماليين".
91
.30
ما بين ساقيها وعقلها
إعتلى صوت الصفارة معلنة اإلذن للقطار الدولي بالتحرك وبدأ القطار يتحرك كاألفعى السوداء مغادرا محطة براغ .كنت في المقطورة لوحدي اهم بفتح حقيبتي اليدوية وإخراج كتاب للقراءة عندما فتح باب المقطورة ورأيتها واقفة في وسط باب المقطورة ،موشحة بالوهج الشمسي المسلط عليها من النافذة المقابلة فبدت وكأنها مالك قادمة من الغيوم السماوية .لم أدر كم كان مدة وقوفها ولكن عيوني إستطاعت في لحظة خاطفة من ذلك الزمن المجهول أن تقوم بالمسح التصويري لجسدها الفاره المتناسق من رأسها إلى أخمص قدميها وشعرت بأن نظراتي قد إخترقتها والتصقت بقوامها حتى أنني لم أسمع أي كلمة قالتها ولكنني فهمت انها تسألني إن كنت أسمح لها بالجلوس .خرجت من فمي حشرجة غير مفهومة دعمتها بإشارة من يدي تعني الف نعم. شكرتني واستدارت لتضع حقيبتها الصغيرة على الرف فلحقتها نظراتي كما تالحق نظرات الناقد صورة زيتية لفنان مشهور باحثا عن مأخذ فال يجد إال عمال فنيا متقنا خال من أي عيب .جلست على المقعد المقابل واضعة ساقا على ساق فإنحسر الفستان قليال فوق ركبتها كاشفا مساحة قليلة من ساقها فبدت ساقاها كشالل من عصير الحسن المفترس. تسمرت نظراتي على ساقيها وكأنما دقتا بمسامير فوالذية وأخذت اعاتب نفسي" : إحترم شيبتك يا رجل!" ولكني لم أستطع أن أقلع نظراتي بالتخلي عن تلك الساقين المتحديتين .إلتقت نظراتنا فابتسمت كأنها تقول ،نعم أنا واعية لنظراتك ،فانطلقت من فمي دون وعي مني كلمات "أعذريني أنا آسف ،لم أستطع أن أمنع نفسي". ضحكت وقالت ":ال حاجة لإلعتذار فنظراتك ال تؤذيني". شعرت باإلرتباك وقلت لها :أتعنين أنني رجل عجوز ليس مني أي خطر؟" ضحكت مرة أخرى وقالت " :ال ،لم أعن ذلك ،ولكنني كإمرأة إعتدت أن أفرق بين النظرات، فبعضها يعبر عن اإلعجاب وهي ليست خطيرة وأخرى تدل على النهم الجنسي وهذه أخافها ".ثم أضافت " :ليس للعمر هنا أي دور". عم الصمت المقطورة وأخذت أتصفح أوراق كتابي عله يلهيني ويخفي إرتباكي ولكنني سمعتها توجه إلي الكالم وتقول ":أرجو المعذرة ،فمن أي بلد أنت؟" أجبتها سائال وهل هو ظاهر على وجهي انني غريب؟" فأجابت أنت تتكلم التشيكية جيدا ولكن هناك في كالمك لكنة غريبة ،هذا باإلضافة إلى أن شكلك يدل على أنك من بلد ما من الشرق أو من جنوب أوروبا ".قلت لها أنا عربي من فلسطين. نظرت إلي لحظة كأنما هي تدرس مالمحي ثم قالت " :لقد كان معي في الجامعة بعض الطالب العرب ومنهم فلسطينيون ولكنني في الواقع لم أعرفهم ألنه لم يكن بيننا أي تواصل ".قلت لها هذا من سوء حظهم ".ثم سألتها إن كانت تعرف شيئا عن فلسطين وقضيتها فأجابت بأنها تعرف ما تسمعه من األخبار وأنها تعتقد أن المشكلة طالت كثيرا حتى ما عادت أخبارها تثير الناس ".ثم أضافت قائلة ":في الحقيقة أنا مهتمة باإلسالم وأحاول في أوقات فراغي وعندما تسنح لي الفرصة أن أقرأ ما يكتب عن اإلسالم كدين وعقيدة ".صمتت لحظات ثم سألتني إن كنت مسلما
92
فأجبتها باإليجاب وأضفت سائال " :لماذا يهمها اإلسالم؟ فأجابت " :ألنه أصبح قريبا منا في أوروبا وأريد أن أفهم هذا الجديد ،القادم إلينا من الشرق ،هل هو صديق أم عدو؟ أحاول أن أتفهم اإلسالم على حقيقته ،وقلما أجد كتبا باللغة التشيكية أو السلوفاكية عن حقيقة اإلسالم وأخبار الصحف واإلعالم ال تهمني فهم يبحثون عن األخبار المثيرة كأخبار القاعدة وإبن الدن والمرأة خلف النقاب والزواج من أربعة وما إلى ذلك ،ولكنني قرأت عن اإلسالم الصوفي وأعجبني ما قرأت". لم أعد أنظر إلى ساقيها وتمعنت النظر في وجهها الجميل وعينيها الواسعتين وبانت لي أكثر جماال ،ثم فتحت حقيبتي الصغيرة وأخرجت كتاب صدر لي قبل فترة باللغة التشيكية تحت عنوان " مأزق الخطاب الديني -اإلسالم ضد المسيحية ،صراع ديني أم صراع مصالح" وقلت لها " :أود أن أهديك هذا الكتاب وأظن أنه سيعجبك". أخذت الكتاب من يدي وقلبت صفحاته ثم نظرت إلي وقالت " :هل أنت مؤلف الكتاب؟ هذا جميل منك وسأقبل الهدية بسرور وأكون سعيدة إن كتبت لي بعض كلمات إهداء ".أخرجت القلم من جيبي ومددت يدي وأخذت من يدها الكتاب وفتحت الصفحة األولى ونظرت إليها وانتظرت ".فهمت معنى إنتظاري فأخرجت من حقيبة يدها كرتا صغيرا وقدمته لي. قرأت اإلسم والمعلومات المسطورة على الكرت فإنبهرت -الدكتورة ،......دكتوراة في الفيزياء الكمية ،دكتوراة في الفيزياء الذرية ،مديرة قسم الطب الذري في أكاديمية العلوم السلوفاكية ،ممثلة األكاديمية السلوفاكية للبحوث الطبية الذرية في اإلتحاد األوروبي. كتبت بعض كلمات اإلهداء باللغة السلوفاكية وأضفت إليها بعض الكلمات بالعربية ووقعت إسمي باللغتين وقدمت لها الكتاب .أخذته مني وشكرتني ثم سألتني عن معنى الكلمات بالعربية فقلت لها " :معناها أنك جميلة العقل والروح والجسد ،جمال عقلك وروحك ألهياني عن جمال جسدك " .ضحكت وقالت :شكرا على الكلمات وشكرا على الكتاب ،سأقرأه في عطلة األسبوع. تحدثنا طويال ،عن فلسطين وعن العرب واإلسالم وعن الفيزيا الكمية والفيزياء النووية ومجاالتها الطبية .أخبرتني أنها كانت في بروسل ،عاصمة اإلتحاد األوروبي ،لحضور مؤتمر يتعلق بتطبيق الفيزياء النووية في الطب .تحدثنا وتحدثنا ولم أدر كم مر علينا من الوقت إلى أن سمعت صوت مذياع القطار يعلن عن دخولنا محطة براتسالفا. قمنا ،ساعدتها في إنزال حقيبتها عن الرف فشكرتني ثم قالت ":سيارتي في موقف المحطة ،بإمكاني أن أوصلك حيث تريد ".شكرتها وقلت لها أن إبني سيأتي لمقابلتي .غادرنا القطار وتوجهنا نحو قاعة الخروج .كان إبني واقفا في وسط القاعة في إنتظاري ،قدمته لها قائال :هذا إبني الصغير ويحمل نفس إسمي. صافحته وقدمت نفسها ثم صافحتني مودعة فقبلت يدها وأعدتها لها مكرها .تركتنا وتوجهت نحو موقف السيارات ونحن ننظر إليها نودعهها بعيون اإلعجاب .نظر إبني إلي وقال " :جميلة جدا" فقلت له :لو تر عقلها يا بني فهو أروع و أجمل.
93
.31
الضفضع
قبضت بكلتي يديها على فنجان القهوة وحاولت أن ترفعه إلى شفتيها ولكن القهوة إندلقت من الفنجان وإنسكبت على يديها وسالت على الطاولة ومنها على أرض المقهى .تناولت منديال من الورق ومسحت يديها ثم مسحت الطاولة ونظرت إلى يديها وهما ترتجفان وقالت :أنظر إلي ،إنني في حالة مزرية وأنظر إلى يدي كيف ترتجفان حتى أنني ال أستطيع أن أمسك فنجان القهوة بدون أن أدلق القهوة على نفسي ".أمسكت بيديها وطلبت منها أن تهدأ فاألمر ليس بهذه الخطورة ولكل مشكلة حل. نظرت إلي مطوال ثم قالت :ألناس العاديون يشربون في الصباح القهوة أو الشاي أو الحليب أما والدي فحالما يفتح عينيه يمسك قارورة الكحول ويدلق نصفها في حلقه ،ثم يلبس ويذهب إلى الخمارة ويظل هناك إلى أن تغلق الخمارة في المساء. هو أول من يدخلها وهو آخر من يغادرها .كم من مرة إتصلوا بي ليخبروني أنه ملقى على الرصيف خارج الخمارة ،غارق في قيئه وهو في شبه غيبوبة .وفي كل مرة أحمله إلى السيارة وآخذه للبيت وأقوم بغسله وتغيير مالبسه وأضعه في السرير ليقوم في الصباح ويعيد الكرة ويسرع إلى الخمارة من جديد . قلت لها :ألم تحاولوا وضعه في بيت المدمنين؟ ضحكت وقالت :لقد وضعناه ولقد طردوه من هناك مرتين ،في المرة األخيرة أغرى الممرضة أن تشتري له الكحول وزاد الطين بلة أن إدارة المستشفى ضبطته وهو في حالة سكر مع الممرضة فطردتهما كليهما ووضعته على الالئحة السوداء. ضحكت ،حين تصورته يسكر مع الممرضة التي من المفروض أن تقوم بمراقبته ومنع وصول الكحول إليه .نظرت إلي وقالت :أنت تضحك ،أما أنا فأبكي دما . إعتذرت لها وسألتها عن رأي زوجها ،فأجابت أنه محتار مثلها وال يدري كيف يساعدها. خيم الصمت فوق رؤوسنا برهة من الزمن ،طلبت لها فنجانا آخرا من القهوة وانتظرت منها أن تعود لتكملة الحديث .قالت بعد فترة من الصمت :أتدري ماذا حصل قبل شهرين .قلت لها :سمعت الخبر من زوجك ولكنه لم يخبرني بالتفاصيل . نظرت إلي وهزت رأسها ثم بدأت بالحديث ":قبل شهرين إتصل بي صاحب الخمارة ليخبرني أن والدي قد أغمي عليه ولقد طلبوا له اإلسعاف وهو اآلن في المستشفى. ركبت سيارتي وأسرعت إلى المستشفى ولقد قابلت مدير القسم وهو كما تعرف صديق مشترك لنا .أخبرني أن والدي في غيبوبة تامة وأن كل أعضاء جسده ميته أو شبه ميته وأنهم يتوقعوا أن يموت خالل الساعات المقبلة .لفد أكد لي أن والدي سيموت خالل ساعات وأنه لن يعش حتى الصباح وأنه علي أن أقوم بما يلزم من أجل عملية الدفن. دخلت الغرفة التي كان والدي مستلقيا فيها وعندما نظرت إليه وجدته جثة هامدة بال حراك أو نفس .جمعت مالبسه التي كان يفوح منها الكحول ووضعتها في كيس من
94
البالستيك ،ووجدت على الطاولة طقم أسنانه فأخذته ووضعته في الكيس وألقيت بالكيس في سلة القمامة وخرجت. تابعت حديثها قائلة " :ركبت سيارتي وذهبت إلى البيت .شعرت بتأنيب الضمير لعدم حزني على وفاة والدي وحتى لشعوري ببعض الراحة كوني سأتخلص من مشاكله .نمت تلك الليلة واألحالم نراودني وتقلق منامي فقمت في الصبح متعبة من قلة النوم .حضرت ما يلزم من المالبس من أجل الدفن ومنها حسب عاداتنا وتقاليدنا بدلة سوداء وقميص أبيض ورطة عنق سوداء وحذاء أسود تلبس للميت ويدفن فيها .ركبت سيارتي وتوجهت نحو المستشفى". أحضرت الخادمة لها فنجانا جديدا من القهوة ،وضعته أمامها على الطاولة وتركتنا وغادرت .أخذت الفنجان ورفعته إلى شفتيها ويدها تهتز حتى كادت أن تدلق القهوة من جديد .إستطاعت أخذ رشفة صغيرة منه وأعادته إلى الطاولة بسرعة .إنتظرت بفارغ الصبر أن تكمل حديثها ،قالت :دخلت المستشفى فكان أن إلتقيت في معبر القسم بصديقنا المدير .نظرت إليه مستفسرة ولكنه تقدم مني وأخذ البدلة السوداء مني ووضعها على ذراعه ثم أمسك بيدي وقادني وأنا أسير معه بصمت ،حتى جئنا إلى الغرفة التي يرقد فيها والدي .فتح الباب وإذا بي أتسمر مصعوقة على عتبة الغرفة .كان والدي جالسا على حافة السرير ،شعره منفوش ،عيونه جاحظة ،جلد وجنتيه ملتصق بفكية وشفتاه لعدم وجود األسنان داخلة في فمه ،كان مثل الضفدع يخرج أصواتا كأصوات الضفادع لم أفهم منها شيئا .سألت الطبيب متعجبة :ما الذي حدث؟ قال :ال ندري ،إنه يخالف كل قواعد الطب المعروفة ،لعله ذهب إلى السماء فأعاده أهلها لريحة الخمر التي تفوح من فمه ومن جسده . نظرت إلي وابتسمت ثم تابعت قائلة :كان عليك أن تراني وأنا أبحث في سلة القمامة عن طقم أسنانه الذي ألقيته فيها باألمس حتى وجدته فغسلته ووضعته في فمه وكان أول كلمة نطقها أنه يريد كأسا من الفودكا .عندها فهمت ما كان يقوله بلغة الضفادع ،لقد كان يطلب فودكا ،فلم يسأل عن الطعام أو عن أي شيء آخر وإنما سأل عن الكحول". لم أستطع أن أمنع نفسي من الضحك ولقد ضحكت هي معي .لقد حدثني زوجها عن الحادثة ولكنه لم يحدثني عن التفاصيل وال عن طقم األسنان الذي ألقته في القمامة لتأكدها من موت والدها ومن ثم البحث عنه في سلة القمامة ووضعه في فمه من جديد .لقد ضحكت حتى كدت أن أختنق ومن ثم بدأت بالسعال حتى سالت الدموع من عيوني .كان منظر والدها بدون أسنان كالضفدع منطبعا في مخيلتي ال يريد أن يغادرها .شربت كأسا من الماء وأخذت نفسا عميقا حتى هدأت ثم سألتها ماذا تنوي أن تفعل. . نظرت إلي وقالت :جئت أطلب منك خدمة .قلت لها أطلبي إن كان بيدي تلبيتها فلك ذلك .قالت :قررنا زوجي وأنا أن نسافر إلى الغردقة في مصر ،ولقد حجزنا وسنسافر بعد أيام .كل ما أريده منك أنه إذا حدث شيء لوالدي أن ال تسمح ألحد بأن يخبرنا ،وإذا مات فليضعوه في الثالجة لحين عودتنا .أنا في حاجة ماسة لهذه
95
اإلجازة وال أريد يفسدها لنا ،أرجوك .وعدتها وافترقنا وبعد يومين سافرا إلى مصر وانقطعت أخبارهما عني لعدة أيام. بعد مرور أسبوع أو أكثر على سفر صديقي وزوجته ،إتصل بي صديقنا مدير القسم ،ولم أستغرب من مهاتفته لي فلقد إعتدنا على أن نتهاتف بين الحين واآلخر وأن نتحدث في شتى األمور .لكنه فاجأني بقوله :لقد أحضروه اليوم من جديد. سألته مستفسرا عن من يتحدث ،فأوضح قائال :لقد أحضروا الضفدع بعد منتصف الليل وهو في غيبوبة تامة وال يمكن أن ينج منها في هذه المرة .سألته ما سبب تأكده هذه المرة ولقد سبق وأن أكدوا موته في المرة السابقة ولم يمت .قال :يا صديقي ،إنه في غيبوبة تامة وكل أعضاءه الحيوية واقفة وال يمكن أن ينج منها هذه المرة ،ولقد قام بفحصه مجموعة من األطباء وكان قرار الجميع وباإلجماع أنه لن يعيش حتى صباح الغد .قلت له :إن كان ما تقوله صحيحا فماذا ستفعلون بجثته فأنت تعرف أن إبنته وزوجها في مصر ولن يعودا قبل أسبوع .أجاب :أعرف لقد أخبرتني إبنته قبل سفرها واتفقنا في حالة وفاته أن نضعه في الثالجة لحين عودتها. في الصاح الباكر وصلتني رسالة خطية على هاتفي من صديقي المدير يطلب مني الحضور إلى المستشفى .حاولت مهاتفته ولكنني لم أستطع أن أتصل به فركبت سيارتي وتوجهت نحو المستشفى .طرقت باب غرفة المدير ودخلت .كان صديقي جالسا ومعه بعض أطباء القسم .قام صديقي ومسك بيدي وقادني خارج الغرفة . حاولت أن أستفسر منه عن األمر ولكنه بقي صامتا حتى وصلنا إلى قسم الطوارئ. فتح صديقي باب أحد الغرف وطلب مني الدخول فدخلت ،ولكنني بقيت متسمرا على عتبة الغرفة .كان الضفدع جالسا على حافة السرير ،بدون أسنان ينطق بعض الكلمات الغير مفهومة .قال صديقي :إنه يطلب فودكا. خرجنا من الغرفة وكان يقف أمامها بعض أطباء القسم ،قلت :أخبروني باهلل عليكم ما الذي حدث ،لقد أخبرتني أمس ...قاطعني صديقي قائال :أنا أعرف ما أخبرتك إياه باألمس .إننا جميعا عاجزون عن تفسير ما حدث ،إنه يعارض كل قواعد الطب التي درسناها ،أنا ال أومن بالمعجزات ولكنها معجزة ،ال يوجد عندي تفسير آخر . تركت المستشفى وغادرت إلى البيت .عندما وصلت قريتنا سمعت صوت إذاعة القرية يعلن عن وفاة صديق إلبني ال يتجاوز الثالثين من عمره ،ترك خلفه زوجة وطفلين ،أحدهما ثالث سنين واآلخر خمسة .فكرت في الضفدع الراقض في المستشفى والذي تصر السماء على رفض قبوله وتأخذ بدال منه شابا في مقتل العمر ترك خلفه عائلة في أمس الحاجة له .تساءلت عن العبرة في ذلك ،فلم أجد جوابا.
96
.32البحث عن الذات لم يعرف أمير أنه مختلف إال حين دخل المدرسة وبدأ يسمع مالحظات زمالءه .لقد فتح عينيه على حنان أم محبة وأب ودود ،قاما على رعايته منذ والدته بالحب والعطف والحنان .أمه أرضعته مع حليبها حنان األم وحبها ورعايتها ،ووالده رعاه بكل الحب و العطف والحنو .كان بالنسبة إليهما بؤبؤ العين ونور الشمس وضوء القمر .كان لهما مصدر بهجة وفرح ،وحتى عندما جاءت أخته الصغيرة وجذبت إنتباه جميع أفراد العائلة ،بقي هو المدلل والحبيب األول. في أول أيام المدرسة سمع تلميحات بعض الطالب والطالبات "،أسود" .ذهب راكضا إلى البيت ووقف أمام المرآة وبدأ يتفحص لون جلده وألول مرة إكتشف أنه أسمر اللون ،قابل للسواد وشعره أسود مجعد .ألول مرة الحظ الفرق بين لونه ولون أمه وأبيه وأخته الصغيرة ومن حوله من أقاربه وأصدقائهم. ذهب إلى أمه وفاجأها بالسؤال " :لمذا أنا أسمر وأنتم بيض يا أمي؟" نظرت أمه إليه وكانت تنتظر اليوم الذي سياتيها بهذا السؤال ،قالت واإلبتسامة على شفتيها": ألنك أجملنا ،أنظر إلى الناس كيف يجلسون الساعات عراة تحت الشمس من أجل أن يحصلوا على لونك ،ولكن هللا هباك بهذا اللون ألنه يحبك. أثر مشاكسة بينه وبين زميل له أثناء اللعب شتمه زميله بكلمة لم يسمعها من قبل ولم يعرف معناها " ،نجر" فذهب إلى والده يسأله عن معنى الكلمة وإن كان فعال هو " نجر" ،فأجابه والده :ال تستمع لمثل هذا الصبي ألنه يحسدك فأنت أمير .أجاب أمير والده :أنا إسمي أمير ولكنني لست فعال أميرا على أحد ".أجابه والده :أنت يا بني أميرنا وهذا يكفي". وهكذا مرت األيام وكبر أمير ولم تعد تلميحات بعض زمالئه عن لونه تعنيه ،ولم يعد إختالف لونه يشكل له مشكلة ،فكلما كبر زاد فتنة مما دفع الفتيات الجميالت لمالحقته ،وسبب ذلك في إثارة الحسد عند بعض زمالئه .حتى تلميحاتهم على إختالف لونه بدأت مع األيام تخف وتتالشى إال ما ندر. كان عائدا من المدرسة على دراجته عندما أشارت له إمرأة عجوز ،تعيش وحيدة في بيت ليس بعيدا عن بيتهم ،بالوقوف ومساعدتها في تصليح سياج حديقتها ،فلقد عرف بالدماثة والميل لمساعدة اآلخرين .نزل عن دراجته وقام بما طلبت منه العجوز.أحضرت له شاكرة كوبا من الشراب ووقفت تدردش معه ،فلقد كانت وحيدة، تلتقط األخبار واألقاويل من الجيران وتسعى إليقاف المارة للحديث معهم .بينما كان يشرب كوب الشراب ،سألته سؤاال غريبا لم يستطع أن يفهمه ،سألته إن كان زوج أمه يعامله معاملة جيدة .نظر إليها بتعجب وسألها عن أي زوج أم تتحدثين؟ قالت: زوج أمك ،من غيره .فسألها أتقصدين أبي؟ ضحكت وقالت " :أنت ال تعرف أنه ليس والدك وإنما هو زوج أمك؟ والدك الحقيقي أفريقي ".لم يسمع أمير بقية كالمها ،ألقى بكوب الشراب على األرض ،ركب دراجته وأسرع إلى البيت .دفع باب البيت ودخل صارخا ":أمي ،أمي!" فجائت أمة راكضة إليه وعالمات اإلستفهام على وجهها .صاح " :هل أنت أمي حقيقة؟ فأجابته :طبعا أنا أمك وما داعي لهذا
97
السؤال السمج؟ فسألها مرة ثانية والدموع تسيل من عينيه " :هل أنت أمي الحقيقية ،هل أنت حملت بي وولدتني؟ أخذته بين أحضانها وقالت وهي تجهش بالبكاء وكانت تشعر بما هو آت " :أنا أمك يا حبيبي ،أنا حملت بك وولدتك وربيتك، فلماذا بربك هذا السؤال؟ سألها السؤال الذي كانت تنتظره وتخشاه منذ ولدته" : وأبي ،هل هو أبي الحقيقي ،العجوز هلينكا قالت لي أنه ليس أبي وأن أبي الحقيقي أفريقي .شعرت بالرعشة في ساقيها ولم تعد قادرة على الوقوف فجلست .مسكت بيده ،قبلتها وأجلسته بجانبها وأخذت تقص عليه قصتها وقصته. كانت طالبة في كلية الصيدلة عندما إلتقت بشاب من غانا يدرس اإلقتصاد والسياسة .أحبا بعضهما وقررا الزواج .طلب منه المسؤولون شهادة بأنه ليس متزوجا في بلده فوعد بإحضارها .سافر إلى غانا بحجة إحضار الوثيقة ولكنه لم يعد وتركها حامل به .ومنذ ذلك اليوم فقدت كل إتصال به وال تعلم عنه شيئا .بعد أشهر تزوجت من زميلها الذي كان يحبها وإعتبر طفلها طفله وأعطاه إسمه ورباه ورعاه بكل الحب والحنان. منذ ذلك اليوم تغيرت حياة أمير ،إنعزل على نفسه وبدأت عنده حمى البحث عن والده األفريقي .لم يترك طريقة إال وطرقها ،جلس ساعات على اإلنترنت ،إتصل بالسفارات الغانية في البلدان المجاورة ،سأل بعض الطالب الغانيين في براتسالفا، راسل الدوائر الحكومية االغانية ،إتصل بالصليب األحمر. كان يأتي من المدرسة ويدخل غرفته ويغلق الباب خلفه .كانت أمه دائمة البكاء وكان والده يتألم وهو يرى إبنه الذي أحبه ورعاه يضيع من بين يديه .لقد حاول وزوجته المستحيل لطمأنة أمير بأنه إبنهما الذي يحبانه وأن ال شيء في الدنيا يقلل من حبهما له .ولكن ،لم تنفع جميع محاوالتهما وال محاوالت أخته التي كان يحبها ومستعد إلفداءها بروحه .كان البحث عن والده األفريقي يأخذ كل شيئ منه ،وقته وعواطفه وإحساسه .لقد إستمر البحث أكثر من عام عندما جاءه الخبر اليقين .والده األفريقي عمل لعدة سنين في البعثة الغانية لهيئة األمم ،ثم تركها وهو يعمل مدرسا في جامعة شيكاغو األمريكية ،متزوج وله ثالت أطفال ،ولدين وبنت. بدأ يجهز نفسه للسفر إلى الواليات المتحدة .حصل على الفيزا األمريكية ،إشترى له والده تذكرة الطائرة ،ذهابا وإيابا ،حجز له في الفندق ،زوده بالنقود الالزمة وببطاقة بنكية دولية .لقد إقتنع أنه إذا لم يرد أن يخسر إبنه،فعليه مساعدته في محنته في البحث عن الذات. ودعوه على المطار ،بكى وبكت أمه وأخته وبكى والده .عانقوه وتمنوا له سفرا مريحا وعودة سالمة وراحة البال .طارت الطائرة وشعروا أن قلبهم طار معها. وصل إلى الفندق في شيكاغو مزودا بكافة المعلومات عن والده األفريقي ،إسمه، عنوان مكتبه ورقم هاتفه .إتصل به وأخبره أنه سائح من سلوفاكيا يحمل له هدية من أصدقاءه في سلوفاكيا وأنه يريد مقابلته .أوقف تاكسيا ،أعطى السائق العنوان وتحرك التكسي مسرعا إلى لقاء والده األفريقي وهو يفكر في ما سيقوله له وماذا بعد كل هذا الجهد في البحث عنه. دخل مكتبه ،صافحه وجلس متفحصا هذا الرجل الذي شغل فكره وهز حياته ألكثر من عام .كان متوسط القامة ،أسود اللون ،مجعد الشعر ذو أنف مسطح .نظر الرجل
98
الجالس خلف الطاولة إليه وسأله بماذا يمكنه أن يخدمه .أخرج أمير من جيبه صورة لهذا الرجل ووالدته أيام كانا معا ووضدعها على الطاولة أمامه سائال ":هل هذا أنت؟" نظر الرجل إلى الصورة وقال ":نعم ،من أين اتيت بها؟" لم يجبه أمير وإنما سأله إن كان يتذكر الفتاة الواقفة بجانبه .نظر الرجل إلى الصورة مرة ثانية ثم قال " :يا إلهي! طبعا أعرفها ،لقد كنا نحب بعض ،ما أخبارها؟ .أجابه أمير ":هذه أمي وأنا إبنك". بان اإلمتعاض على وجه الرجل وقال ":لم أكن اعرف أنها حبلى ،وماذا تريد مني بعد هذه السنين؟ أجابه أمير بحدة ":هي ال تريد منك شيئا وقبل عام لم أكن أعلم بوجودك ،جئت فقط للتعرف عليك وعلى أخوتي ،هذا كل ما في األمر ".نظر إليه الرجل وقال ":أنا متأسف ،لقد فاجأتني .أعطني مهلة يومين أو ثالثة حتى أحضر زوجتي واألوالد لهذه المفاجأة ".أخرج من جيبة بطاقة وقدمها إلى أمير وتابع" : هذا عنوان بيتي ،خذ تكسي وتعال يوم األحد الساعة الواحدة بعد الظهر لتشاركنا الغداء وسأقدمك إلى العائلة ".سأله بعض األسئلة عن والدته وأخبارها ومن تزوجت ثم صافحه وقال مودعا ":سنراك يوم األحد". الساعة الواحدة بعد الظهر من يوم األحد كان أمير واقفا أمام باب البيت يرن جرسه و دقات قلبه تتسارع عندما سمع خطوات القادم لفتح الباب .إستقبلته العائلة بكاملها .الزوجة إستقبلته بأدب ولكن بجفاء ،كأنما تقول له أنه ليس مرحبا به. الزوج إستقبله كما يستقبل الغريب ضيفا ،أما األوالد فلقد كانوا متحمسين لمعرفة أخاهم الجديد ،كان األمر بالنسبة إليه مثير. جلسوا إلى طاولة الغداء وأكلوا بصمت واألوالد ينظرون إلى أخيهم الجديد ويتهامسون .الزوجة شكت من وضعهم المادي وقسوة الحياة والديون البنكية المتراكمة عليهم .كانت رسالة واضحة له بأنه إن جاء يطلب المساعدة المادية فلن يجدها عندهم .رد عليها بدبلوماسية أنه غير محتاج لشيء ،وأن والداه ال يقصرا في شيء في سبيل راحته ،وأنه جاء فقط ليتعرف على والده وأخوته الصغار بصفته األخ الكبير .أجابته الزوجة بخبث أنه ليس األخ األكبر فهناك أخت تكبره وأن والده كان متزوجا في غانا وله بنت عندما عرف أمه .كان خبر األخت الكبرى صدمة قوية له كتمها في صدره. خرجوا لتوديعه أمام باب التكسي الذي أقله إلى الفندق .لم يجر الحديث عن إمكانية لقاء آخر .وصل غرفته في الفندق واتصل بالمطار يسأل عن رحالت إلى سلوفاكيا. وجد رحلة من شيكاغو إلى فرانكفرت وبعد ساعات من فراكفورت إلى براغ فحجز عليهما .وضع مالبسه في حقيبته ،حاسب الفندق وطلب تكسي إلى المطار ،بعد ساعات قليلة سيطير إلى فرانكفرت. في المطار إتصل بوالده في سلوفكيا ،رن جرس الهاتف طويال ثم سمع والده يقول له ألو ،إبني ،أمير .أجابه أمير " :والدي حبيبي" .أخذ يبكي وبين الشهقة واألخرى أخبره أنه عائد إلى البيت.قال ":سأطير بعد ساعة إلى فراكفورت وبعدها إلى براغ ومن براغ سأحضر إلى براتسالفا في القطار ".فرد عليه والده :ال يا حبيبي، سنحضر جميعنا لمقابلتك في المطار ،وسنعود معا في السيارة ".صاح أمير ":أبي، أبي ،أنا آسف يا أبي على ما سببته لك من األلم ،كم أحبك يا أبي كم أحبك ،قبل
99
والدتي وأختى عني ،أنا مشتاق لكم ".أجابه أبوه ":وأنا أحبك يا بني ،كلنا نحبك ونحن مشتاقون لك". بدأت الطيارة في التحرك ثم أخذت تعلو إلى السماء متوجهة نحو فرانكفورت .ألقى أمير رأسه إلى الخلف ،أغمض عينيه وبدأ يحلم باللقاء القريب مع أمه وأبيه وأخته وتمتم " :أنا عائد إلى بيتنا ،أنا عائد".
100
.33
الصديقة
سألتني ،هل تؤمن بالصداقة الخالصة بين الرجل والمرأة؟ فأجبتها ،طبعا أؤمن، ألست صديقك؟ قالت " :هذا أمر مختلف ،فأنت تعرفني منذ طفولتي وانت صديق لوالدتي ووالدي منذ عقود ".أجبتها ،والدتك صديقتي أما والدك فهو زميلي. فسألتني مندهشة ،كيف ذلك؟ نظرت إليها وقلت " :إذا إحتجت شيئا فأنا أطلبه من أمك وليس من أبيك ،ومن قام برعايتي عندما كنت مريضا ،أليس أمك هي التي جلست بجانب فراشي تعودني؟ وعندما توفيت زوجتي ،من الذي أمسك بيدي يواسيني ،ألم تكن أمك هي التي قامت بمواساتي والتخفيف عني؟ قالت " :فهمت ما تقصد فانا ايضا آتي إليك عندما أقع في مشكلة وأطلب منك العون وال أذهب إلى والدي ".قلت لها ":أليست هذه هي الصداقة؟ صمتت قليال ثم سألتني ":هل يؤمن جميع العرب بالصداقة بين الرجل والمرأة؟ فأجبتها بالنفي وتابعت :كثير من العرب يؤمنون بأنه ما اجتمع رجل وامراة إال كان الشيطان بينهما ،إن ذلك نتاج تراثنا الديني ".فسألتني ضاحكة وهل الشيطان يجلس االن بيننا؟ قلت لها " :يا بنيتي إن الشيطان يقبع داخلنا وعلينا أن نتعلم كبحه وترويضه. شردت قليال كأنما تتردد في طرح سؤالها ثم قالت " :لي أصدقاء أروبيون كثر من الجامعة ومن خارجها وليس لي أي صديق عربي غيرك مع أنني حاولت .جميعهم أرادوني في فراشهم وعندما رفضت غضبوا وتركوني .لماذا يصر العربي على أن موضع المرأة الطبيعي هو الفراش ولماذا يرفض الصداقة الخالصة؟ فكرت قليال قبل أن أجيبها ثم قلت ":العربي والشرقي بشكل عام يحاول دائما إثبات رجولته وكثير من رجالنا يعتقد أن ساحة إثبات الرجولة والفحولة هي الفراش حيث ترضخ المرأة لرغباته وتتقبل فعل رجولته .ولكن أخبريني أال يسعى كثير من الرجال أألروربيين لنفس الهدف؟ نظرت إلي وقالت ببطئ كأنما ارادت مني أن أعي ما تقوله ":ولكن الفرق يا عزيزي أن األوروبي ،طبعا مع وجود الشواذ ،يتفهم رفض الفتاة ويتقبل صداقتها إذا رآها جادة في رفضها ".ثم طأطأت رأسها وقالت بخجل ":أتعلم أنني ما زلت عذراء؟ فأجبتها ،ومن أين لي أن أعلم ،ولكنني ال أستغرب ذلك .فقالت ،كيف ذلك وهل أنا بشعة إلى هذا الحد؟ فأجبتها بأنها جميلة فوق الحد ولكنني أعرفها وأعرف تربيتها وأخالقها ولذلك ال أستغرب ذلك. قالت " :فهمت ،ظننت أنني بشعة ولكن هل تعلم أنه ال أحد يعلم بذلك غير أمي وغيرك أنت .أما أبي فال يهتم بالموضوع وال يعتبره من إختصاصه ويهمه أن أتفوق في دراستي وأن أصبح عالمة مثله أو طبيبة مشهورة .أما في الجامعة فجميعهم يعتقدون أنني فقدت عذريتي وهو أمر طبيعي بالنسبة لهم ،فلم يعد للعذرية قيمة في ثقافتنا .أما أنا فلن أمنحها إال للرجل المناسب ،الذيي يحبني ويحترمني ،فلست وعاءا إلشباع شهوات الرجال.
101
أخذت يدها بيدي وقبلت أناملها فسالت الدمعة من عينها وقالت " :ليتك كنت أبي يا صديقي ".فأجبتها ويدها ما زالت بيدي":ال تقولي ذلك ،لك أب وهو أب جيد ،يحبك ويخاف عليك ،أما أنا فصديقك وسأبقى صديقك". قامت من مكانها قائلة ":علي الذهاب إلى الجامعة ،عندي محاضرة مهمة". عانقتني وقبلت وجنتي وقالت " :آه ،ماذا كنت سأفعل بدون صداقتك ".ورحلت ونظرات الرجال تلتهمني.
102
.34
عندما تنتحر الكلمات
مسكت الورقة لكي أكتب عليها بعض الكلمات ،فصفعتني الورقة على وجهي عدة صفعات ،وصاحت بي :إبعد عني ،فلست منك ولست مني ،فلقد أتعبتني وما عدت أطيق جمر كلماتك ،وال أنين آهاتك ،وال ثورة الغضب التي تلهب أنفاسك ،فأنا ورقة رقيقة من لحاء الشجر ،صنعت لكي يرسم على وجهي لحن الوتر .فتركتها وابتعدت، ورحت أرسم الكلمات في الهواء ،فتطير على أجنحة الريح ،لعلها تسقط في أذن تسمع أو في حضن عقل يفهم. عادت الكلمات خائبة ،كطير مكسور الجنحان .ترتجف خوفا ،ترتعد رعبا ،حروفها تتساقط كورق الشجر ،أسقطه الريح ،وبعثره فوق الكثبان .صاحت واحدة منهن وهي تسقط منهكة :ما بالك ترسلنا إلى بيت الغول وتقذف بنا في يم الطرشان ؟ ما عادت أذن تسمع أو عقل يفهم مضمون الكلمات ،وما عاد لألحرف معنى وال للكلمة مغزى ،فهذا وقت عواء الذئب ونباح القطعان. صاحت أخرى والدمع يسيل على الوجنات:ما بالك تصر على نحر الكلمات ،فتبعثها لحوانيت األموات .أبواب اآلذان ،ياسيدنا ،موصدة في وجه الكلمات .طرقنا الباب فما سمعنا إال أزيز رصاص ممزوج بصراخ الحقد وعويل اللعنات .صدوا األبواب وصاحوا :عودوا من حيث أتيتن ،وأخبرن المرسل بأن هذا ليس زمن الكلمات ،بل زمن السيف المغموس بدم اآلهات ،تخرج من عنق منحور على عتبة معبد ،تصلي فيه ذئاب الغابات ،ويؤم فيهم ثعبان ،أغوى حواء فأخرجت والدنا آدم من الجنات. لملمت األحرف وخبأت الكلمات في جيب القلب ،وحلفت يمينا ،أن ال أطلقها إال بعد أن يخلو المعبد من كل ذئاب الغاب ،ويسحق رأس األفعى وتطهر جدران المحراب، وأن تفتح كل األبواب ،لبذور الحب وغناء األحباب.
103
.35
قارئة الفنجان
أخذت فنجاني ،نظرت فيه ،قلبته في يدها وقالت :صلي على النبي وقل عليه الصالة والسالم .أمامك يا ولدي دربان ،أحدهما يحرسه الشيطان ،من فوق الرأس له قرنان ،لسانه من لهب النار وأذناه كخيال مآت متدل فوق الحيطان .أما أنفه يا ولدي فمعكوف كجذع شجرة مهجور ،طال عليه النسيان .فاحذره يا ولدي وابعد عن درب الشيطان ،الناس فيه ذئاب يقود جموعهموا ثعبان. أما الثاني يا ولدي فهو درب أمان ،درب يحرسه الرحمن ،تنتظرك فيه إمرأة قادمة من دار األحالم ،جميلة الوجه ،رشيقة القد وفي عينيها دفئ الشرق ،وفي وجنتيها قطر الندى وورد جنان ،شفتاها كعصير الخوخ الممزوج بعطر الليمون وعصير الرمان .ستأخذك يا ولدي إلى دنيا العشق وتشبعك حبا وحنان .ستخلفان معا صبايا وأحلى الصبيان. صمتت ونظرت في وجهي عابسة ،قالت :األيام يا ولدي غادرة ،تأتيك بما ال تأخذ في الحسبان ،ففي ركن الفنجان غمامة ،سوداء كدخان البركان ".يا حسرتي عليك يا ولدي" قالت ،ثم صمتت ونظرت في وجهي في ألم وقلبت فوق الصحن الفنجان. ما كذب الطالع يا سيدتي ،وصدق الفنجان .سلكت الدرب الثاني وتجنبت درب الشيطان .جاءت لي منه إمرأة من دنيا األحالم ،كمالك من فوق الغيم ،كنسيم البحر يداعب أمواج الشطئان .صارت لي حبا ،صارت لي عشقا ،صارت لي روحا وحنانا من عند الرحمن .لكنها يا سيدتي رحلت وبقيت وحيدا مثل شجرة يابسة فوق الكثبان. أبكيها بدموع اللوعة ،بدموع الحرقة ،بدموع من نار الظمآن .األيام تمر يا سيدتي، وما زال لهيب حنيني يحرقني ،ال تطفؤه أدوات النسيان .يثير لهيب الجرح صور في األلبوم وأخريات معلقة على الجدران .وذكرى حديث أمسية دار بيننا على عتبات الدار أو في ساحة الديوان .حتى نسيم الصبح يذكرني بها وصياح طفل قادم عبر الشارع أو من حديقة الجيران .كلمة هنا وهمسة هناك ومنظر حبيبان يتناجيان. وطفل يسير برفقة أخته ويحرسهما بخوف والدان .حتى غناء العصافير يذكرني بها وزوج من الحمام فوق فروع األشجار يتناغمان. ما كذب الطالع يا سيدتي وصدق الفنجان .الغيمة في طرف الفنجان قد كبرت حتى صارت يا سيدتي مثل البركان.
104
.36
الوداع األخير
انتظرت في سريري حتى دقت الساعة السادسة صباحا فلملمت أعضاء جسمي وأجبرتها على التحرك والنزول من السرير .جررت أطرافي ودخلت الحمام ووقفت عاريا تحت الدوش البارد إلى أن بدأت أشعر بقليل من الحياة تدب في أطرافي .لقد مر علي أكثر من أسبوعين لم تغمض لي فيهما جفن .حتى حبوب النوم التي وصفتها لي طبيبتي لم تستطع أن تتغلب على الدوامة التي تدور في راسي وتجبرني على النوم .لقد بدأ جسمي يستسلم ولم يبق في جسدي قوة للمقاومة. خرجت من الحمام ،جففت جسدي المتعب ودخلت المطبخ حيث غليت إبريقا كبيرا من القهوة العربية المخلوطة بالهال وجلست أحتسيها بنهم .كنت في حاجة لمنشط لجسمي وعقلي ،فلقد أتعباني كالهما .كان علي أن أحضر الفطور ألوالدي كي يذهبوا إلى المدرسة ،كما كان علي اإلسراع للذهاب إلى المستشفى كعادتي في صباح كل يوم من األشهر األخيرة .لقد اعتادت الممرضات الراهبات على انتظاري لمساعدتي في تنظيف زوجتي وتغيير مالبسها .كانت زوجتي ترفض أن ينظفها أحد غيري وترجو الممرضات أن ينتظرن حتى أحضر. خرجت من البيت وتوجهت نحو سيارتي وعندما هممت في فتح بابها تذكرت أنني لم أحلق ذقني الخشنة فرجعت إلى البيت ألقوم بهذا الواجب ،ليس ألنني أهتم لمنظري ولكن خوفا من أن أخدش وجه زوجتي الذي زاده المرض نعومة ورقة وحساسية. حلقت ذقني كما ينحت النحات وجه تمثاله وتحسست وجهي كي أتأكد من عدم ترك أماكن خشنة وخرجت من البيت مسرعا. لقد مر على وجود زوجتي في المستشفى عدة أشهر وكانت حالتها تتأرجح بين الشفاء وبين خطر الموت وكنت أعيش وأموت كل يوم مع تقرير طبيبها اليومي. كنت أعرف من قسمات وجهه وضعها الصحي ،فحين يلقاني مبتسما كنت أشعر بالنشوة واعرف أن وضعها قد تحسن وحين كان يلقاني عابسا كنت أعرف أن وضعها يسوء .في األيام األخيرة كان دائم العبوس وفي كثير من األحيان كنت أجده تائه النظرات شارد الذهن وهكذا كانت الممرضات فوضع زوجتي الصحي أخذ في التدهور. لقد كان القسم الوحيد في مستشفيات سلوفاكيا الذي يسمح فيه للراهبات بالعمل كممرضات .كن فتيات في مقتبل العمر وقد دخلن سلك الرهبنة إيمانا منهن ،كما كن يجدن في التمريض مجاال لعملهن اإلنساني .لقد أحببن زوجتي وكن يلتقين في غرفتها ويسألنها عن فلسطين التي كانت تعشقها وعن الشعب الفلسطيني وتفاصيل حياته .كانت تحدثهن عن مدينة بيت لحم ومهد المسيح فيها وعن القدس والناصرة ونابلس ،وكانت تصف لهن المطبخ الفلسطيني الذي كتبت عنه كتابا في اللغتين السلوفاكية والتشيكية وعنوانه" المطبخ العربي الفلسطيني" والذي وصلت مبيعاته رقما قياسيا.لقد أهدتهن نسخة من الكتاب فقامت كل منهن بتصويره واإلحتفاظ بنسخة منه .كن يحضرن الطعام في مطبخ الدير الذي كن يسكن فيه بناءأ على
105
الوصفات المكتوبة في الكتاب و في الصباح يتسابقن إلى غرفتها ليشرحن لها ماذا طبخن وكيف وفي بعض األحيان يحضرن لها قليال منه لتتذوقه. قبل أسبوع بعث في طلبي رئيس القسم ولقد وجدت عنده الطبيب المسؤول عن زوجتي وطبيبين مساعدين وطلبوا مني الجلوس .شعرت من تعبيرات وجوههم بأنهم يحملون إلي رسالة شؤم فأخذت نبضات قلبي تدق بسرعة وشعرت باإلختناق فتمسكت بطرفي المقعد بشدة خوفا من أن أقع منه .لقد قرأت في وجوههم الخبر قبل أن يخبرونني به .بدأ رئيس القسم بالقول ":يحز في نفسي أن أخبرك أننا خسرنا المعركة وأن حالة زوجتك أصبحت ميؤوس منها وأنها مسألة أيام أو ساعات ".ثم تابع" لقد قمنا بكل ما يمكن القيام به ولكن علينا أن نعترف بأننا خسرنا المعركة". خرجت من المستشفى وتوجهت نحو سيارتي .فتحت بابها وجلست خلف المقود وبدأت أضرب رأسي به حتى دمي جبيني ولم يوقفني إال بواب المسشفى الذي هرع نحو سيارتي و دق على زجاج النافذه ليسألني ما الذي حصل .شغلت محرك السيارة ورحلت ولم أكن أدري أين وجهتي حتى انتهيت في غابة على أطراف المدينة. ترجلت من السيارة وبدأت أصرخ بأعلى بصوتي وكان صدى صوتي يعود إلي ليخبرني بأن ال أحد يسمعني .مشيت في الغابة تائها ثم تسلقت الجبل حتى وصلت أعلى قمته فجلست على صخرة كبيرة تطل على الوديان المحيطة وأخذت أبكي واشهج حتى نشفت دموعي وتعثر النحيب في حنجرتي ولم أعد بقادر على البكاء. كان يخرج من فمي حجرشات متقطعة كادت أن تخنقني ،ثم صحت بأعلى صوتي ": يا إلهي! إن كنت تريد معاقبتي فعاقبني أما هي فال تستحق المعاقبة .إنها إمرأة فاضلة ،أحبها كل من اجتمع إليها .فهي لم تؤذ أحدا في حياتها وهي مصدر حب وعطف وحنان لكل من حولها ،فارحمها واتركها لمحبيها ".صرخت وناديت وصليت فلم يسمع أحد صراخي وال أستجاب لصالتي ودعائي .تذكرت المسيح الفلسطيني المصلوب وهو يشكو إلى ربه " :يا إلهي لم تركتني؟". نزلت عن قمة الجبل ورجعت إلى سيارتي .جلست خلف مقود السيارة وشغلت محركها وتركت متوجها نحو بيتنا وسؤال يطرق على جدران عقلي ويستولي على مخيلتي ،ماذا سأخبر األوالد؟ كيف أقول لهم أن أمهم ستتركهم إلى األبد .لقد حاولت طوال مدة مرض والدتهم أن أحميهم من عذاب الحقيقة وكنت أزرع فيهم األمل .ماذا أقول لهم اآلن؟ منذ ذلك اليوم وأنا أدخل المستشفى وال أعرف إن كنت ساجدها حية أم ميتة .كنت أصلي في طريقي إلى المسشفى داعيا أن أجدها على قيد الحياة .وكنت أدخل غرفتها في الصباح وقلبي يكاد يسقط من صدري متوجسا ،وكانت تستقبلني بابتسامة وعيونها تضيء بنور الفرح حين تراني .وعندما كنت أقوم بتنظيفها وتلبيسها كنت أحاول جاهدا أن ال أنفجر في البكاء .وبعد عملية التنظيف والغسيل وتغيير المالبس كنت أمشط شعرها ثم أجلس إلى جانبها ماسكا يدها وأقص عليها أخبار األوالد والجيران وأحدثها عن اإلتصاالت التلفونية التي كانت تأتي من األهل في األردن وفلسطين وخاصة من والدتي التي كانت تعشقعها وتعتبرها أمها. أوقفت سيارتي كعادني أمام المستشفى ودخلت القسم وقلبي يكاد يقفز من بين ضلوعي وقبل أن أصل الغرفة قابلتني إحدى الممرضات فصاحت ":أدخل إنها
106
نتنتظرك!" .تنفست الصعداء ودخلت الغرفة .كانت إحدى الممرضات قد قامت بالتحضيرات الالزمة من أجل عملية التنظيف الصباحي وعندما دخلت صاحت زوجتي" ها هو قد جاء ،ها هو قد جاء ،ألم أقل لك أنه سيأتي" .تقدمت منها وحضتنها بلطف حتى ال أؤذيها فلم يعد جسمها يتحمل حتى العناق الخفيف ،قبلتها ورسمت على وجهي ابتسامة ثم أخذت من يد الممرضة اإلسفنجة المعدة لهذا الغرض وغمستها في الطاسة التي تحتوي على الماء الفاتر والصابون وأخذت أمسح كتفيها الهزيلتين بلطف حتى ال أسبب لها األذى .لم أعد أتحمل منظر جسدها الهزيل الذي كان إلى وقت قريب يمتلئ صحة وعنفوانا وجماال ،فبدأت دموعي، رغما عني ،تنهمر على كتفيها وتختلط بسائل التنظيف .وعندما الحظت دموعي سالتني لماذا ابكي فأخبرتها أنني ال أبكي وإنما هو سائل الصابون قد دخل في عيوني .وفي تلك اللحظة أنقذتني الممرضة فأخذت اإلسفنجة من يدي وقالت لي": إذهب واغسل عيونك من الصابون!" فخرجت وذهبت إلى الحمام أغسل وجهي، وكانت دموعي تنهمر وكنت كلما مسحتها وغسلت وجهي بالماء البارد تعود وتنهمر من شديد. تمالكت نفسي وذهبت إلى الغرفة .أخذت المشط وقمت بتمشيط شعرها ثم وضعت رأسها على المخدة وغطيتها فلقد كانت رغم دفئ الطقس تشعر دوما بالبرد .أمسكت يدها وقبلتها ووضعتها على خدي وأخذت أحكي لها كالعادة أخبار األوالد ومدارسهم وأخبار الجيران واألهل في نابلس وعمان .لم أترك صغيرة وال كبيرة إال حدثتها عنها حتى أغمضت عينيها و نامت .كانت تذهب في غيبوبة تطول وتقصر وفي بعض الحاالت تفتح عينيها وعندما تراني بجانبها تبتسم ابتسامة متعبة وتعود إلى غيبوبتها .كنت أجلس إلى جانبها ساعات طوال وأنظر إلى جسدها الناحل الذي كان قبل أشهر مفعم بالنشاط والجمال والحيوية فأشعر بقلبي يتقطع ويعصرني األلم .كان جسدها مشبوكا إلى آلتين وزجاجة حتى بدت كشجرة عيد الميالد. كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة مساء عندما فتحت عينيها وابتسمت ثم قالت ":كنت أعرف أنني سأجدك هنا" ثم أمسكت بيدي وقبلتها وحضنتها إلى صدرها وقالت باللغة العربية " :آخ يا زوجي كم أحبك" ثم رفعت صوتها قليال وقالت بالعربية" أنا بحبو يا عالم ،أنا بحبو" .ضمت يدي إلى خدها وقالت " :شكرا يا حبيبي ،شكرا ،فلقد أهديتني أسعد سنين حياتي ،ال تحزن يا حبيبي فأنا سعيدة جدا لكل لحظة عشتها معك ،أشكرك يا حبيبي ".قلت لها ":أنا أشكرك على كل لحظة عشت فيها معك ،لقد عرفتني معنى الحب والسعادة ".نزلت دمعتين من عيونها الجميلة و تسللتا عبر خدها النحيل وتسربتا إلى عنقها .نظرت إلي وقالت " :قبل األوالد عني ودير بالك عليهم!" في تلك اللحظة رأيت النور يختفي من عينيها رويدا رويدا ثم أغمضتهما وبدأت يدها الحاضنة يدي ترتخي لتصقط كزهرة ذابلة إلى جانبها .دفنت رأسي في حضنها وبكيت حتى جاءت الممرضات وأبعدتني عنها وقالت إحداهن " :إذهب أنت ،إنها اآلن في أيدي المالئكة.
107
غادرت المستشفى ،ركبت سيارتي واتجهت نحو البيت ،هناك الكثير مما يجب عمله. اتصلت بصديقي الدكتور الفلسطيني ماجد والذي كان يعمل في نفس المستشفى وأخبرته بما جرى .فتبرع بأن يساعدني بالقيام باإلجراءات الالزمة .دخلت البيت واستلقيت بكامل مالبسي على أرض غرفة الجلوس منتظرا طلوع الصباح كي أخبر األوالد .أغمضت عيني وسبحت في بحر الذكريات. آخ يا حبيبتي لماذا عجلت الرحيل وتركتني وحدي أقاسي وحشة الليل الطويل؟ أما تعاهدنا على أن نقضي بقية العمر معا ،كتفك على كتفي وذراعيك في ذراعي .لماذا إذن يا حبيبة الروح رحلت؟ أما كان أولى لو انتظرت حتى يكبر األوالد ويتزوجون ويخلفوا األحفاد؟ من سيحكي ألحفادنا حكايا الجن والشاطر حسن وخاتم اللبيك؟ ومن سيحكي إلبنتنا عن ليلة الدخلة وعن أسرار مطبخنا وكيف تصنع الكبة ومن سيمسك يدها ويجلس قربها في ليلة الوالدة؟ وإبننا ماذا أقول له ورتوش الحزن في وجناته يقض علي نومي وسهادي؟ ماذا أقول له عندما يحضر العروس ومن سيمسك بيد عروسه ويهدئ من روعها ويحكي لها بأنها في أيد أمينة و بأننا سنحملها في القلب و نحضنها برموشنا الحزينة؟ لقد وضعناها في مثواها األخير في مقبرة القرية الصغيرة التي أسكنها .حملناها في تابوت من الخشب مغطى بسجادة عليها خارطة فلسطين .كانت ترتدي الزي الشعبي الفلسطيني الذي جاءها هدية من والدتي .لقد جرت مراسيم الدفن على صوت القرآن الكريم الذي أخذ مذياع المقبرة يبثه من شريط مسجل للشيخ عبدالباسط عبدالصمد. كان الصوت القرآني يغطي كل أرجاء القرية ،مما دفع أهل القرية للتوجه نحو مصدر هذا الصوت الساحر .رأيت والدموع تترغرغ في عيوني ،أن مئات من أهل القرية قد جاءوا لكي يشاركوا في الجنازة بعد أن سمعوا الصوت القرآني الساحرفي المذياع ،ولقد امتألت المقبرة بهم ،رأيتهم والدموع تنهمر من عيونهم ،بعضهم حزنا على فقدانها وبعضهم تأثرا بالقرآن الذي لم يفهموا منه أي كلمة ولكنهم شعروا بسحره الذي مأل قلوبهم فبكوا تأثرا وحزنا. وقفت أرتكز على ذراع إبني البكر الذي سندني خوفا من أن أنهار ،أتلقى وبقية أوالدي العزاء من األقارب واألصدقاء وأهل القرية .تحدث رئيس البلدية عنها ثم تحدث صديق وجار لنا باسم أهل البلدة فبكى وأبكى اآلخرين وسبب في زيادة البكاء والنحيب .رأيت أناسا لم أرهم من قبل ،حضروا لتعزيتي وهم يبكون .لقد قال لي بعض أهل القرية في ما بعد أنهم لم يسمعوا من قبل شيئا مثل ذلك ،وأنهم ذهبوا إلى بيوتهم يتحدثون عن الجنازة التي لم يشهدوا مثلها والتي سيطرت على وجدانهم، وأخذوا يتساءلون عن هذا المدهش العجيب الذي كان ينطلق من سماعات المقبرة والذي سيطر على وجدانهم وأحاسيسهم . وقف ابني الصغير إلى جانبي وهو صامت شارد النظرات دون أن يذرف دمعة إلى أن وضعنا والدته في مثواها األخير وبدأ الناس يلقون الزهور داخل القبر .ألقى ابني الصغير لفافة ورق في القبر ثم انفجر في البكاء .لقد علمت متأخرا أن اللفافة كانت تحتوي على قصيدة شعر كتبها لوالدته وال يعرف أحد محتواها.
108
فرغت المقبرة ولم يبق أحد سواي وعمال المقبرة وعبدالباسط عبدالصمد .ذهب أوالدي مع أصدقائهم وبقيت وحيدا مع عمال المقبرة الذين أخذوا في طمر القبر بالتراب .بدأ التابوت يختفي شيئا فشيئا حتى اختفى عن األنظار .ذهبت مع بعض األصدقاء العرب إلى البيت ثم غادروا هم بدورهم وبقيت وحيدا .ألقيت بجسدي المتعب على أريكتي المرهقة وبحلقت في الحائط الذي فوقي فرأيت صورتها وهي تبتسم فرحا وسعادة. حزني ثقيل هذا المساء وحنيني يعصر من بطن الصخر اآله .سألت نفسي ،هل كان ذلك حلما عندما يدركني الصبح سأنساه؟ دخلت غرفة النوم واستلقيت على السرير. مددت يدي كالعادة حتى أمسك يدها فمسكت فراغا .كانت قد رحلت إلى األبد وبقيت وحيدا.
109
.37حديث بين القبور كانت ليلة خريفية ،ولكنها أقرب إلى الليالي الربيعية المتأخرة أو الصيفية ألمبكرة، مقمرة و دافئة .كان الهدوء يعم القرية إال من عواء بعض الكالب ،يسمع بين الحين واآلخر ،وصراخ ضيوف مقهى ألقرية ،الذين كانوا بشاهدون مباراة الهوكي على شاشة التلفاز العريضة المعلقة على حائط المقهى. فتحت باب مقبرة البلدة الحديدي ودخلت .كانت ليلة عيد عند المسيحيين يقال له عيد أألرواح ،يقوم الناس فيه بزيارة قبور موتاهم وتنظيفها ونثر الزهور فوقها ووضع أكاليل الزهور على شواهدها وزرع كافة أنواع الزهور والورود حولها حتى تصبح المقبرة كأنها حديقة غناء ,زاهية األلوان ,تفوح منها رائحة الزهور والورود المختلفة األنواع تمتزج في عطر ينشي النفس وينعش الروح .وفي المساء يقوم األهالي بإشعال الشموع حول القبور حتى تبدو المقبرة كأنها مزينة بنجوم سماوية متأللئة يعطي للمقبرة جوا ساحرا خالبا يسمو بالنفس والروح .كانت المقبرة شبه خالية إال من بعض بقايا الزوار الذين أخذوا بدورهم يغادرون تباعا. توجهت نحو قبر زوجتي ،وقفت أمامه وقرأت الفاتحة على روح الفقيدة ثم جلست على حافة القبر وأغمضت عيني ورحت أحدث زوجتي كما لو كانت إلى جانبي. حدثتها عن األوالد واألحفاد وعن كل واردة وشاردة والمستجدات في حياتنا ،ثم أغمضت عيني وحلقت في مكنون نفسي حتى شعرت أنني قد خرجت من جسدي وأصبحت روحا تسبح في المكان والزمان. أفقت من غيبوبتي الروحية على صوت رجل يقف أمامي يحدثني كالما لم أفهمه. كان جارا لنا ،يسألني إن كان بإمكانه الجلوس على حافة القبر المقابل لقبر زوجتي .قلت له أنه ال مانع لدي إن كان صاحب القبر يسمح بذلك .ضحك جاري وقال :ال أظن بأنه يمانع ،وجلس ،جلسنا لحظة يحدق بعضنا ببعض بصمت .ثم قال لي هامسا :سمعتك تتحدث مع زوجتك ،فهل تعتقد بأنها تسمعك ؟ قلت له :ال أدري ولكنني أشعر بالراحة حين أتحدث إليها .صمت لحظة ثم قال :أنا أيضا أحدث زوجتي حين أزور قبرها ،وكل ما أطلبه منها ،أن تأخذني إليها .قلت له :مالك مستعجل للرحيل إلى العالم اآلخر؟ أجاب وهو ذو الثمانين من العمر بأنه مشتاق لزوجته ومنذ رحيلها لم يعد لدية أي شيء يحثه على البقاء ،فما عاد يشعر بلذة طعام وال شراب وال عاد يشعر بطعم الحياة وال بفرحها .قلت له :حولك بناتك وأبناءك وأحفادك،، وهم بهجة للقلب وفرحة للروح .نظر إلي بعيون حزينة وقال :كل منهم يعيش لنفسه ومشاكله وال وقت عندهم لي ،وإنني أشعر أحيانا بأنني قد أصبحت عالة عليهم ويتمنون لو أنني رحلت عنهم وإلى األبد. شعرت بالحزن لقوله ولم يكن لدي ما أقوله له لكي أعزيه فبقيت صامتا .سألني بعد فترة إن كان ديننا يؤمن بالقيامة و يوم الحساب ،فأجبته باإليجاب .قال :هل تعتقد بأننا بعد مماتنا سنلتقي بأحبائنا الذين سبقونا إلى العالم اآلخر؟ قلت له :نعم ،ولكن سنلتقي روحيا وليس جسديا .نظر إلي داللة على عدم الفهم ،فحاولت أن أشرح له فكرتي فلم أنجح .عم الصمت بيننا ولم نعد نسمع إال أصوات أنفاسنا ،وعز علي أنني
110
لم أستطع أن أجيبه على تساؤله فقلت له .لقد أخبرتني قبل قليل أنك تحدث زوجتك عندما تزور قبرها ،إذن فأنت تشعر بها وكأنها بجانبك ..هز رأسه موافقا على كالمي فتابعت وقلت :هذا هو يا صديقي اللقاء الروحي وهكذا ،حسب ما أعتقد ، أننا سنلتقي مع أحباءنا الذين رحلوا قبلنا. ال أدري إن كان كالمي قد أقنع جاري ولكنه صمت لفترة ثم عاد وسألني :هل لك أن تشرح لي كيف سنقوم من قبورنا وفي أي حالة ،وهل سنقوم كما متنا ،أعني في نفس العمر والشكل الذي متنا فيه؟ ضحكت وقلت :ال أدري فهذا سؤال يصعب الجواب عليه وأنا ...ولكنه قاطعني قائال :إن كنت سأقوم عجوزا كما مت فال أريد أن أقوم وأفضل أن أظل ميتا في قبري .ضحكت وقلت له :معك حق في ذلك ولكن األمر في يد الخالق وليس في يدنا. رحت بدوري أفكر في أجوبة ألسئلة جاري ولكنني لم أجد جوابا يقنعني وراحت األسئلة تتوارد سؤاال بعد سؤال عن فلسفة الموت والحياة وما العبرة منها وهل علينا أن نبحث عن العبرة في الموت أم في الحياة .شعر جاري بغيابي الذهني فقال: أرجوك سامحني إن كنت قد قطعت عليك هدوءك وأزعجتك بأسئلتي ،ولكنني قرأت كتبك ومعظم مقاالتك وما فيها من آراء جريئة ،مما شجعني على سؤالك ،.وأنا فعال في حيرة من أمري ،ففي كل مساء أدعو هللا أن يميتني في منامي لكي ألتحق بزوجتي ،ولكن ماذا لو مت ولم ألتق بها؟ ماذا لو أن الموت هو نهاية لكل شيء وأنه ال قيامة بعد الموت وال لقاء مع أحبائنا الذين سبقونا وماتوا قبلنا ؟ هذا يرعبني يا صديقي ويقض علي منامي. فاجأني حديث جاري وصدمتني أسئلته التي ال بد أنها تدور في عقول الكثيرين وال يجدون جوابا مقنعا لها ،وتحيرت بماذا أجيبه وهو في شوق لمعرفة األجوبة على تساؤالته .لقد وثق في معرفتي وفي قدراتي اإلجابة على أسئلته أكثر من طاقتها على اإلجابة على مثل هذه األسئلة ,نظرت إليه فوجدته متلهفا كي يسمع مني إجابات تقنعه وتريحه .بعد فترة من الصمت توجهت إليه قائال :إنك تطرح علي يا صديقي أسئلة صعبة يحاول اإلنسان أن يجيب عليها منذ وعيه بوجوده على سطح هذه األرض ،ولقد حاول الفالسفة ورجال الدين اإلجابة على هذه األسئلة وخرجوا بعدد من المعتقدات والفلسفات ولكنها لم تشبع رغبة المتسائلين .األديان السماوية يا صديقي ومنها ديانتكم وديننا تؤمن بالقيامة والحساب ومعه العقاب والثواب . العقاب في نار جهنم والحساب في نعيم الجنة .ولكن األديان يا صديقي لم تعطنا تفصيال وال أجوبة ألسئلتك ..فهي لم تحدد لنا في أي شكل وفي أي عمر ستكون قيامة اإلنسان وإن كنا سنلتقي بأحبائنا الذين رحلوا قبلنا ،وهل وهل ،مئات األسئلة بقيت من دون جواب .الحكمة الشرقية ومنها الصينية تؤمن بأن الجسد ليس إال صندوقا لحفظ الروح وعند الموت تخرج الروح لتحل في صندوق آخر وهكذا يستمر استنساخ األرواح إلى ما ال نهاية ،وهي ال تؤمن بالقيامة وال بالعقاب أو الثواب بعدها وإنما أثناء عملية اإلستنساخ فإما أن ترقى الروح وتحل في جسد راق أو تنحط فتحل في جسد وضيع. شعرت أنني قد أثقلت على جاري ،فلقد الحظت عالمات التعب على وجهه فآثرت الصمت .قام من مكانه ثم ودعني ورحل بصمت .كانت المقبرة قد خليت من الزوار
111
وبقيت فيها وحيدا مع أفكاري .ال أدري كم بقيت جالسا هناك وحيدا مع موتى ال أعلم إن هم شعروا بوجودي .كان الهدوء قد سيطر سيطرة تامة على المقبرة وعلى القرية ،وحتى عواء الكالب لم يعد يسمع ،لعل الكالب نامت أو أنها هي األخرى تاهت مع أفكارها .كانت الشموع ال تزال مشتعلة كنجوم سماوية سقطت على األرض ،وكانت رائحة الزهور تعبئ المكان حتى عبقت بي وأصبحت جزءا من جسدي. قمت ،ودعت زوجتي وتوجهت نحو باب المقبرة .وقفت على عتبة الباب ،رجل في الداخل وأخرى في الخارج ،جزء مني في المقبرة وجزء مني خارجا .بقيت واقفا كذلك مدة طويلة محتارا بين عالمين ،واحترت هل أبكي على هذا أم على ذك ،وهل أبقى في هذا أم في ذك ،سمعت صوت زوجتي يناديني من خلف الوعي :ليس بعد يا حبيبي ،ليس بعد ،ثم خرجت من المقبرة وأغلقت الباب خلفي وبكيت على العالمين ومن فيهما .
112
113
114