كتاب هموم مسلم التفكير

Page 1

‫‪1‬‬

‫هموم مسلم‬

‫التفكير بدال من التكفير‬

‫د ‪ .‬نضال عبد القادر الصالح‬


‫‪2‬‬

‫مقدمة‬

‫في صحيفة غير دورية تصدر باسم االتحاد اإلسالمي التشيكو‪-‬سلوفاكي و هو اتحاد‬

‫يمثل الجاليتين اإلسالميتين في كل من جمهوريتي التشيك و السلوفاك و يرأسه رجل فاضل‬

‫هو الشيخ الحاج محمد الشلهاوي و هو تشيكي األصل و المولد ‪ ،‬في هذه الصحيفة و‬

‫بناء على رغبة الشيخ الجليل الشلهاوي أنشر بين الحين واآلخر مقاالت عن الدين إلسالمي‬ ‫تهدف إلى تقديم الدين اإلسالمي لمواطني البلد المسلمين منهم و غير المسلمين بطريقة‬

‫مبسطة و عصرية لقيت االهتمام و القبول خاصة من أبناء الجالية المواطنين الذين يعانون‬

‫من مضايقة المعادين من جهة و من خطاب وسلوك المسلمين القادمين من العالم العربي و‬

‫اإلسالمي من جهة أخرى ‪ .‬و يصلني من هؤالء األخوة بين الفترة واألخرى رسائل تعبر عن‬ ‫مشاكلهم و معاناتهم و في بعض األحيان يسألون فيها عن أمور عصى عليهم فهمها‬

‫‪،‬أحاول قدر استطاعتي إجابتهم عليها ‪.‬‬

‫و من هذه الرسائل رسالة يشكو بها كاتبها المسلم من موقف اإلسالم من المرأة ‪ ،‬و هو‬

‫موضوع بالغ الحساسية في أوروبا و طالما كان مصد ار للهجوم على اإلسالم و المسلمين ‪.‬‬ ‫و لألهمية رأيت أن أجيب على تلك الرسالة في صحيفة االتحاد ‪ .‬و من جملة ما كتبت أن‬

‫الشروحات التي كتبت في هذا الموضوع هي من نتاج الخطاب اإلسالمي أي رأي بشري و فهم‬ ‫بشري في فترة معينة للنص القرآني و ليس له قدسية النص القرآني ‪ .‬و أن الحديث النبوي‬

‫المذكور في رسالته و المنسوب للنبي الكريم عن أبي هريرة و الذي يحط من قيمة المرأة‬

‫فإنني شخصيا أشك في نسبة هذا الحديث لنبينا الكريم ألن سيرته المعروفة قبل اإلسالم و‬

‫بعده تعارض مضمون الحديث المذكور ‪ .‬و أن الحقيقة المطلقة ال يملكها إال اهلل و ليس لبشر‬

‫أن يدعي بامتالك الحقيقة المطلقة ‪.‬‬

‫و ما أن خرج المقال إلى الوجود حتى فتحت أبواب جهنم و انهالت علي الرسائل من حماة‬

‫اإلسالم الناطقين بالعربية مهددين متوعدين بأقصى العقوبات للكفرة الزناديق الذين يتجرءون‬

‫على التشكيك بصحابي جليل مثل أبي هريرة و الذين يشككون بصحة األحاديث النبوية إلى‬

‫جانب مجموعة من التهم المتعددة ‪ .‬و قام طالب بنشر مقال في منشور يصدره اتحاد‬

‫الطالب اإلسالمي في سلوفاكيا ال يبتعد محتواه عن مضمون رسائل التهديد السابقة الذكر و‬

‫يضيف الطالب كاتب المقال بأنه علي أن ال أكتب في تلك المواضيع ألنني ( رغم أنني أحمل‬


‫‪3‬‬

‫شهادتي الدكتوراه ) غير مؤهل لذلك ‪ .‬و الحق يقال أنني فوجئت بردود الفعل الموتورة تلك ‪.‬‬ ‫و كنت أتوقع مناقشة الموضوع بطريقة متزنة ‪ ،‬موضوعية ومسئولة ‪،‬بعيدة عن الشتم و‬

‫التجريح والتهديد و التكفير‪.‬‬

‫و سألت نفسي من أين ينبع هذا التوتر و هذا الحقد األعمى ‪ .‬فديننا دين الرحمة و في‬

‫صالتنا اليومية نكرر مرات و مرات " باسم اهلل الرحمن الرحيم " ‪ .‬فمن أين إذن ينبع هذا‬ ‫الحقد األسود ‪ ،‬الرافض لسماع الرأي اآلخر ‪ ،‬حتى ولو كان رأيا مشروعا لمسلم مؤمن؟‬

‫و أنا اعترف بأنني لم ادرس علوم الدين في أي جامعة أو أي معهد كان ‪ ,‬ال وال درست‬

‫علوم الفقه و الشريعة على يد شيخ من الشيوخ أو عالم من العلماء المختصين ‪ .‬و ال ازعم‬ ‫إنني مختص في علوم التاريخ سواء اإلسالمي أو غيره‪ ,‬مع أن كل ذلك له األولوية في‬

‫اهتماماتي الخاصة ‪ .‬كل ما في األمر إنني مسلم مؤمن باهلل و اشهد أن ال اله إال اهلل و أن‬ ‫محمدا عبده و رسوله و أن القران منزل من عند اهلل ‪ .‬حصلت على درجة من العلم تمنحني‬

‫القدرة على دراسة و فهم المواضيع التي تتعلق بديننا و تاريخنا فهما يعطيني إمكانية إبداء‬

‫الرأي فيها ‪ .‬فكالهما مسطور باللغة العربية و أنا عربي افهم لغتي و قادر بالدرس و‬

‫التمحيص على فهم النصوص الدينية و مقاصدها و التاريخ اإلسالمي و منطوقه ‪.‬كما املك‬

‫قدرة عقلية و هي منحة من اهلل سبحانه تعطيني المقدرة على الفحص و التمحيص و التسائل‬

‫و التشكك و البحث عن العلل و الحلول و أن ابدي الرأي الذي قد يكون صوابا أو خطأ و‬

‫لكنه رأي ناتج عن الدرس و التحليل و ليس من فراغ ‪ .‬و ليس هذا فريدا أو غريبا فكثير من‬

‫رجال الفكر الديني سواء من أهل السلف أو الخلف لم يكونوا أصال من أهل االختصاص فمنهم‬

‫من كان حرفيا أو طبيبا أو مهندسا أو غيره ‪.‬‬

‫لقد نظرت في أحوال عالمينا العربي و اإلسالمي فوجدتهما في مؤخرة السلم الحضاري ينخرهما‬

‫الجهل و الفقر و التفرقة و التأخر ‪ .‬فالمسلمون يشكلون نسبة تعادل ‪ 20-18‬في المائة‬ ‫من عدد سكان العالم و نسبة الزيادة السكانية للمسلمين في العام‬

‫تتراوح بين ‪ ,‬اثنين إلى ثالثة في المائة و معدل الزيادة السكانية في العالم لم تصل االثنان‬

‫في المائة ( عام ‪ . ) 1990‬و نسبة اإلنتاج الصناعي لعالم اإلسالم لم تتعدى ‪ %11‬من‬ ‫مجموع اإلنتاج العالمي ‪ .‬و متوسط العمر في بعض الدول اإلسالمية ال يتجاوز ‪ 23‬سنة‪،‬‬

‫واألمية ‪ % 70‬من عدد السكان البالغين ‪ .‬أما دول الغرب المسيحي الذي ال يتجاوز عدد‬

‫سكانها ‪ % 13‬من سكان العالم فإنها تنتج ‪ % 60 - 50‬من اإلنتاج العالمي ‪ .‬و هي‬

‫تمتلك و تدير النظام المصرفي العالمي و تتحكم في كل العمالت الصعبة ‪ .‬كما تنتج و تقدم‬

‫أغلبية سلع العالم الرئيسية و تسيطر على أسواق العالم و تتحكم في الطرق البحرية و الجوية‬


‫‪4‬‬

‫‪ .‬ثم إنها تسيطر و تقود معظم البحث العلمي والتطوير التقني ‪ ،‬و تسيطر على الفضاء و‬

‫الصناعة الفضائية ‪ .‬كما تسيطر على وسائل االتصال العالمية و على صناعة األسلحة‬ ‫الحديثة و قادرة على التدخل العسكري الواسع و السريع ‪.‬‬

‫و تساءلت أين نحن من كل هذا ؟ و ال أعتقد أننا في حاجة للجواب ‪ ،‬فليس إال المكابر أو‬

‫المتعامي من ينكر أننا بعيدون كل البعد عن عالم الحضارة و الرقي ‪ .‬و كأي عربي و مسلم‬

‫طالما تساءلت عن األسباب التي دفعتنا إلى هذه الهاوية ‪ ،‬ألن معرفة األسباب يعتبر مدخال‬

‫لمعرفة الحلول ‪.‬‬

‫لقد كنت في شبابي من أصحاب الحل االشتراكي و لقد تراكمت شكوكي في نجاح هذا الحل مع‬

‫األيام من خالل تجربتي الشخصية أثناء إقامتي الدراسية الطويلة في بلد اشتراكي ‪.‬حيث‬

‫تجاهل النظام الحريات و الطموحات الشخصية لألفراد‪ ،‬و خنق الحريات العامة للجماهير ‪،‬‬

‫فكان ذلك كالسوسة نخرت في عظم النظام فأدت إلى انهياره ‪.‬ومع انهيار المشروع االشتراكي‬

‫عالميا و فشل ما يسمى باالشتراكية العربية في حل القضايا االقتصادية و السياسية الملحة‬ ‫في العالم العربي عدت من جديد‪ -‬و مثلي كثيرون ‪ -‬أبحث عن األسباب و الحلول لوضعنا‬

‫المأساوي ‪.‬‬

‫لقد نشأت و ترعرعت في جو إسالمي ملتزم ‪ .‬فلقد كان والدي رحمه اهلل مسلما‬

‫مؤمنا ملتزما بأركان الدين و فروضه ‪ ،‬يحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب ‪ ،‬كما كان يحفظ‬

‫عددا ضخما من األحاديث النبوية ‪ .‬و كان رحمه اهلل يحثني على القيام بالفروض الدينية و‬

‫في مقدمتها الصالة‪ .‬و كان يراقب تنفيذ ذلك عن كثب ‪ .‬و كان أول سؤال يطرحه عند عودته‬

‫إلى البيت إن كنت قد صليت ‪ ،‬و لم يكن يكتفي بجوابي بل كان يسأل والدتي و أخوتي الصغار‬ ‫ليتأكد من قولي مما منح أخوتي الصغار نوعا من السلطة علي‪ .‬و كان أخي الذي يصغرني‬ ‫بعشر سنوات يبتزني و يهددني في حالة وقوع خالف بيننا أو إن لم ألبي له طلبا طلبه بأنه‬

‫لي‬ ‫سيخبر والدي بأنني لم اصلي ألنه كان يعرف تمام المعرفة إن ذلك سيثير غضب والدي ع َ‬ ‫و لم يكن ذلك باألمر الهين ‪.‬‬ ‫و لقد غرس والدي فينا صورة رومانسية عن اإلسالم و عن التاريخ اإلسالمي ‪ .‬و كان يردد‬

‫دوما عند الحديث عن األوضاع المتردية في بالدنا بأنه " ال يصلح هذا األمر إال بما صلح به‬

‫أوله "و كان دوما يحدثنا ‪ ،‬كيف استطاع اإلسالم أن يحول العرب من مجموعات بدوية جاهلة‬ ‫رعاة إبل أكلة جرابيع وائدي البنات إلى أمة موحدة قوية وصلت حدود دولتها من أقاصي‬

‫الهند و الصين إلى حدود فرنسا ‪.‬‬


‫‪5‬‬

‫و لقد دفعتني هذه الصورة الرومانسية إلى االنضمام إلى اكبر المنظمات اإلسالمية آنذاك و‬

‫لكن إقامتي في صفوفها لم تطل فلقد كان خطاب تلك المنظمة فجا منف ار ال يلبي تطلعات شاب‬ ‫يبحث عن حلول ثورية ألوضاع حياتية متردية على المستوى السياسي و االجتماعي و‬

‫االقتصادي ‪ .‬و لم يكن في برامج تلك المنظمة أو مثيالتها أي حلول عملية لألزمة السياسية‬

‫و االقتصادية و االجتماعية التي كانت تنخر مجتمعاتنا في ذلك الوقت و ال تزال إلى يومنا هذا‬ ‫‪ ،‬و كل ما كانت تطرحه هو مجموعة من لوائح المحرمات و الممنوعات ‪ .‬و بسرعة تحولت‬

‫الصورة الرومانسية عن اإلسالم التي غرسها فينا والدي إلى نفور و رفض دفعني إلى الهرب‬

‫إلى الجهة المعاكسة ‪.‬‬

‫و رغم التجائي إلى الحل االشتراكي فلقد ظلت بذور األيمان باهلل و رسوله و قرانه مغروسة‬ ‫في أعماق فكري ‪ .‬و خالل سنين طويلة لم استطع أن أوفق بين إيماني هذا و بين نفوري‬

‫من اطروحات الخطاب اإلسالمي ‪ .‬و لقد كان والدي رحمه اهلل يقول لي إثناء مناقشاتنا الحادة‬

‫" ال تحمل اإلسالم يا بني كل هذه العيوب ‪ ،‬فليس هذا عيب اإلسالم وانما عيب القائمين عليه‬ ‫" و كان يردد قول محمد عبده حين زار بعض المدن األوروبية ‪ " :‬لقد رأيت إسالما ولم أر‬ ‫مسلمين" و قوله عن العالم اإلسالمي ‪ :‬رأيت مسلمين ولم أر إسالما ‪.‬‬

‫و لم اكن قد أدركت وقتها المعنى العميق لهذا القول و إن مفتاح المعضلة يكمن في جملتي‬

‫محمد عبده السابقتي الذكر ‪.‬‬

‫و خالل إقامتي الطويلة في أوروبا و خاصة في السنوات العشر األواخر انكببت على دراسة‬

‫كل ما يقع لدي من المؤلفات عن الدين اإلسالمي و التاريخ اإلسالمي قديمة كانت آو حديثة ‪.‬‬

‫لقد قمت بدراسة علوم القران من تفسير وتأويل و أسباب نزول و الناسخ و المنسوخ كما‬ ‫قمت بدراسة عدد من كتب الحديث ‪ ،‬و طالعت عددا من المؤلفات عن تاريخ العرب و‬

‫المسلمين ‪ ،‬قديمة كانت آو حديثة عربية آو أجنبية ‪ .‬كما قرأت عددا من مؤلفات قادة‬

‫الحركات اإلسالمية المعاصرة إلى جانب كثير من المؤلفات التي تنتقد الخطاب الديني و الفكر‬ ‫الديني التراثي والمعاصر سواء من منطلق ديني أو من منطلق علماني ‪.‬‬

‫و من خالل القيام بمساعدة الجئ البوسنة المسلمين في أوروبا تعرفت عن قرب على كثير‬ ‫من المنظمات اإلسالمية العاملة في أوروبا أو غيرها ‪ .‬كما شاركت في مؤتمرات إسالمية‬

‫عالمية ومن خاللها اضطلعت على برامج و اطروحات مختلف المنظمات اإلسالمية و التي ال‬

‫تختلف في مجملها عن اطروحات المنظمات اإلسالمية في الخمسينيات ‪ ،‬اطروحات فجة منفرة‬ ‫تنظر إلى الحاضر و المستقبل بمنظار ماضي أحاطته بالرومانسية الخيالية البعيدة و الغريبة‬


‫‪6‬‬

‫حتى عن واقع ذلك الماضي نفسه ‪ .‬و طوال تلك المدة كانت تراودني عدة أسئلة محيرة و‬ ‫أهمها ‪ :‬إذا كنت مسلما مؤمنا باهلل و رسوله فلماذا هذا الضيق‬

‫والنفور من اطروحات الخطاب اإلسالمي ؟ كيف أؤمن باهلل و رسوله وكتابه و في نفس‬

‫الوقت يرفض عقلي و فكري قبول اطروحات و توجيهات الخطاب اإلسالمي ؟‬

‫عندما كنت استمع لخطيب مسجدنا في صالة الجمعة يدعو اهلل سبحانه و نحن في بلد‬

‫مسيحي أن يكسر شوكة المسيحيين و المسيحيات و أن ينصر المسلمين عليهم أن ال‬

‫يوفقهم و أن يقهرهم الخ من الدعوات ‪ ،‬كنت أتسائل هل حقا جميع المسيحيين و المسيحيات‬

‫كفرة مصيرهم جهنم ؟‬

‫و هل جارتنا العجوز المسيحية التي تذهب كل يوم للصالة في الكنيسة و تطرح علينا السالم‬

‫حين تقابلنا بقولها ‪ :‬اهلل معكم " و تصلي شك ار هلل قبل كل وقعة طعام و في مساء كل يوم عند‬

‫النوم ‪ .‬هل هذه العجوز المؤمنة بطريقتها الخاصة مثلها مثل غيرها من اآلالف المؤلفة و‬

‫التي لم تسمع عن اإلسالم و المسلمين إال ما يصلها من أعداء اإلسالم أو من الخطاب‬ ‫اإلسالمي الفج المنفر ‪ ،‬هل هي كافرة مصيرها جهنم أما أولئك الذين يذبحون إخوانهم‬

‫المسلمين و يدمرون بيوتهم و مدارسهم على رؤوس األطفال والنساء والعجزة باسم اإلسالم‬

‫هم مسلمون مصيرهم الجنة ؟ و كنت أدعو اهلل أن يعينني على اإلجابة ‪.‬‬

‫و عادت بي الذاكرة إلى قول محمد عبده السابق الذكر عند زيارته لبعض المدن األوروبية ‪" :‬‬

‫رأيت إسالما ولم أر مسلمين " فماذا رأى يا ترى ؟‬

‫في ظني انه رأى أناسا نظيفي المظهر لطيفي المعشر و المعاملة ‪ .‬رأى أناسا يعيشون في‬ ‫بحبوحة من العيش ‪ ،‬حرياتهم الشخصية مضمونة و أمنهم و أمن أمالكهم مصان ‪.‬‬

‫يذكرون الخالق و يشكرونه على نعمه و يصلون له بطريقتهم الخاصة التي عرفوها منذ‬

‫الصغر عن آباءهم و أجدادهم ‪.‬‬

‫أليس هذا ما يدعو له اإلسالم ؟ أن نعيش نظيفي المظهر طاهري النفس ‪ ،‬لطيفي المعشر و‬

‫المعاملة حرياتنا الشخصية مضمونة أمن أرواحنا و أمالكنا مصان ‪ ،‬و أن نعمل ما فيه منفعة‬

‫لنا ولغيرنا و مجتمعنا وان نتجنب كل ما يضر بنا و بغيرنا و بمجتمعنا ‪ .‬و أن نطلب لغيرنا‬ ‫ما نطلبه ألنفسنا ‪ ،‬وان نشكر اهلل دوما على نعمه وان نكون على صلة روحية دائمة به ؟‬

‫و من جهة أخرى ما الذي دفع محمد عبده يا ترى لوصف العالم اإلسالمي بقوله ‪ " :‬رأيت‬

‫مسلمين و لم أر إسالما " ؟ ليس صعبا تصور صورة العالم اإلسالمي التي رآها محمد عبده‬ ‫آنذاك فهي لم تتغير اليوم كثي ار عن تلك في األمس ‪ .‬و هو قد رأى ما نراه اليوم ‪ ،‬أمة‬

‫ينخرها الجهل والفقر و التفرقة‪ ،‬تقف على الدرجات الدنيا من سلَم الحضارة ‪ .‬مجتمعاتها‬


‫‪7‬‬

‫تعاني مشكلة مع العصر و الحداثة والتقدم ‪ ،‬وهي مكبوتة مهانة محتقرة و مضطهدة ‪،‬‬

‫حرياتها مكبوتة و أمن أرواحها و أمالكها غير مصان ‪ .‬فهناك وصاية مفروضة عليها أوال‬

‫من قبل أنظمة معدومة المشروعية ‪ ،‬تأتى إلى الحكم بالوراثة آو بقوة السالح‬

‫و إضافة إلى ذلك فإنها واقعة تحت وصاية خطاب ديني فج مفروض عليها من قبل ما‬

‫يسمون أنفسهم برجال الدين ‪.‬و هي أيضا واقعة تحت تأثير خطاب الوعظ الديني ألئمة‬

‫المساجد التقليديين الذين ال يتمتعون بثقافة حقيقية و ال بأي انفتاح على التقدم‬

‫و الحداثة ‪ .‬بل أي نوع من الحداثة بالنسبة لهم هو بدعة و زندقة و كفر ‪ .‬و لذلك نجدهم‬

‫يكررون الحديث عن السلف كأنما التاريخ قد وقف عند مرحلة السلف ‪ ،‬و تكفر كل من حاول‬

‫فهم السلف ضمن مرحلته التاريخية ‪ ،‬فالسلف و خاصة أهل القرون الثالثة األولى للهجرة هم‬

‫أهل العقل والفكر والفقه‪ ،‬و كأن كل الناس بعدهم تولد وتعيش و تموت دون عقل ودون فكر‬

‫ودون فقه ‪ .‬واصبح الفكر المعاصر هو فقط تكرير ألقوال وافعال السلف وفكر السلف ‪ ،‬و لقد‬

‫اعتبرت كتب الفقه و التفاسير واالجتهادات السلفية على أنها اإلسالم الوحيد‪ .‬ويرفض الخطاب‬ ‫الديني المعاصر أي محاولة اجتهادية جديدة باعتبارها بدعة و خروج على الدين‪.‬‬

‫وانطالقا من هذه األطروحات واعتمادا على فكر الخطاب الديني المعاصر نجد خطابات األعالم‬

‫الغربي تتحدث بنفس اللهجة ‪ ،‬و تضع اإلسالم و المسلمين في موقع المتهم المدان ‪.‬‬

‫فاإلسالم متهم من قبل الغرب بالتعصب و كبت الحريات و اضطهاد العقل والتفكير ‪ ،‬واحتقار‬

‫المرأة و انه بجوهره مضاد لحقوق اإلنسان ‪ ،‬يسمح للرق و العبودية ‪.‬‬

‫و يحيرني كما يحير اآلالف من أمثالي سؤال مشروع ملح ‪ ،‬سؤال من مسلم يريد االطمئنان‬

‫حرصا على صيانة إيمانه‪ ،‬هل يعقل أن يكون هذا هو الدين اإلسالمي و هل هذا هو‬ ‫المقصد اإللهي الذي بعث اهلل سبحانه نبيه محمد (ص) من اجله ؟‬

‫الحقيقة في رأيي المتواضع أن المشكلة تكمن في أنه قد حدث خلط بين النص اإللهي‬

‫و النص البشري و قد حل النص البشري مع الزمن محل النص اإللهي واستمد منه قدسيته‬ ‫وان خلطا بذلك قد حدث بين الدين والفكر الديني ‪.‬فالدين اإلسالمي هو مجموعة المبادئ‬

‫العامة التي وردت في النصوص القرآنية التي بعثت للرسول الكريم ‪ .‬والفكر الديني هو فهم‬

‫هذه النصوص من قبل أفراد آو مجموعات من الناس في زمن معين ‪ .‬فكل ما كتب‬

‫و قيل بعد وفاة النبي في الدين من أقوال وافعال الصحابة و التابعين وتابعي التابعين و‬

‫تابعيهم هو من باب الفكر الديني قد يطابق المقصد الديني و قد يخالفه و قد يقترب منه وقد‬ ‫يبتعد عنه ‪ ،‬انه رأي بشري يتحدث عن اإللهي و يقول رأيه في شرحه وتفسيره ولكن ليس له‬

‫بأي حال من األحوال قدسيته و إلزامه ‪.‬‬


‫‪8‬‬

‫بعد وفاة الرسول بدأت تظهر الخالفات السياسية و الصراعات السلطوية بين المسلمين و‬

‫خاصة في عهد عثمان بن عفان الذي انتهى عهده بانفجار الفتنة التي أدت إلى مقتله و‬

‫بالتالي إلى احتدام الصراع السلطوي بين الفئات المتصارعة ‪ .‬و لقد سعت كل فئة إلى تأويل‬

‫النصوص الدينية إلى جانب وضع األحاديث النبوية من اجل دعم موقفها السياسي و السلطوي‬ ‫‪.‬و هكذا تراكم في الوعي اإلسالمي كم ها ئل من األحكام والمعتقدات اكتسبت مع مرور‬

‫الزمن إلزامية النص اإللهي‪ ،‬بل أصبحت مرجعية شبه مستقلة و مصد ار مستقال للتشريع ‪.‬و‬

‫لقد أسفر ذلك عن تدشين منظومة فكرية سلفية مغلقة و شاملة ظلت تقدم نفسها عبر‬

‫التاريخ على أنها الممثل الرسمي لإلسالم ‪ ،‬فتحجر فكر األمة و جمدت عقول أبنائها واصبح‬

‫الفكر الديني البشري هو الدين و اصبح ممثلو الفكر الديني الممثلين الوحيدين للدين و‬

‫الناطقين الرسميين باسمه ‪.‬‬

‫إن رفض الفكر الديني و نقده بعضا أو كال ال يعني رفض الدين والمبادئ الدينية وانما هو‬

‫رفض و نقد لآلراء بشرية قابلة للخطأ و الصواب و نزع طابع العام و المطلق عنها ‪ .‬وان أي‬

‫محاولة من قبل أفراد أو جماعات للخلط بين الفكر الديني و الدين‬

‫و اعتبار أن الفكر الديني هو الدين بعينه وله قدسيته إنما هو موقف سياسي من هؤالء‬

‫لتعزيز مركزهم السلطوي أو مركز أسيادهم ‪ ،‬باعتبار أن أي نقد لهذا الفكر إنما هو نقد‬

‫للدين ‪ .‬و من هذا المنطلق توجه للرأي اآلخر تهم التكفير لخنق التفكير و باسم المقدس‬

‫يجري تصفية الرأي األخر فكريا وصاحبه جسديا ‪.‬‬

‫آليات الخطاب الديني‪:‬‬


‫‪9‬‬

‫‪---------------------------‬‬

‫األصل في الدين اإلسالمي ما ورد في القران الكريم و ما ثبت بالتواتر عن النبي من أقوال و‬

‫أفعال محددة فيما يتعلق بالدين و تطبيقه ‪.‬‬

‫والقرآن الكريم نص ‪،‬سهل فهم بعضه وصعب فهم البعض اآلخر لذا فلقد انتدب البعض‬

‫نفسه لتفسيره و تفرغ للجهد الذي يستلزمه مستعين بأحاديث و أفعال نسبت إلى النبي الكريم‬

‫‪ .‬و من تفسير المفسرين بما بداخله من اختالف مذهب كل حسب اختالف ثقافته و انتمائه ‪،‬‬

‫ومن آراء الفقهاء و المجتهدين في المسائل الدينية المختلفة التي ابدوا فيها الرأي من كل ذلك‬ ‫نتج فكر و تراث ديني ‪ ،‬ليس هو الدين بحد ذاته وانما هو فكر بشري يدور على مدار الدين‬ ‫و يلف على محوره ‪ .‬وال يمكن لهذا الفكر أن يكون له قدسية الدين و إلزامه‪.‬‬

‫فالدين كالم اهلل والفكر الديني كالم البشر يتأثر باختالف الثقافات و البيئات و المذاهب و‬

‫االنتماءات العصبية والسياسية ‪ ،‬و يحتمل الصواب والخطأ كأي رأي بشري ‪ .‬و بعبارة أخرى‬

‫فان الدين هو مجموعة المبادئ و التعاليم التي وردت في القرآن الكريم أما الفكر الديني فهو‬

‫الفهم البشري لهذه المبادئ و التعاليم و تطبيقها في مرحلة تاريخية محددة ‪ ،‬فكل شرح و‬

‫تفسير و تأويل لآليات القرآنية بعد وفاة الرسول هو من نتاج الفكر البشري ‪ .‬و هذا الفهم أو‬

‫التفسير هو اجتهاد بشري قد يصيب وقد يخطئ و ليس له قداسة الدين و إلزامه و ليس‬

‫ألصحابه قدسية و ليسوا فوق النقد ‪.‬‬

‫الخطاب الديني المعاصر هو خطاب كلياني متسلط متعال يعتبر كل ما‬

‫ورد في التراث عن السلف من شرح و تفسير للنصوص الدينية و ما نتج عنه من فكر ‪،‬‬

‫صحيح ال نقاش فيه و هو الدين بعينه بل هو الدين الوحيد ‪ ،‬و أن باب االجتهاد و الرأي‬

‫األخر في هذا المجال قد اقفل و إلى األبد‪ .‬و أن أي نقد أو رفض لبعض هذا الفكر هو كفر‬ ‫بالدين والتعاليم اإللهية ‪ .‬و بذلك يختلط الدين بالفكر الديني و يصبح ممثلي الخطاب‬

‫الديني الكلياني هم الممثلين الوحيدين و الناطقين الرسميين باسم الدين ‪.‬‬

‫واذا نظرنا إلى آليات هذا الخطاب و التي تنطلق منها طروحاته وجدنا أهمها ‪:‬‬

‫أوال ‪ :‬ألحا كمية ‪ :‬ينطلق الخطاب الديني من مبدأ " ألحاكمية للله وحده " و هذه ألحاكمية‬

‫تنتقل بدورها إلى حاكميه النصوص الدينية " القرآن و الحديث النبوي" ‪.‬‬

‫و السلطة الوحيدة التي أعطت لنفسها الحق بالقيام بتفسير هذه النصوص هي السلطة التي‬

‫يمثلها رموز الخطاب الديني أو ما يسمون أنفسهم برجال العلم والدين ‪ .‬و بهذا فان الحاكمية‬ ‫اإللهية تنتهي في الحقيقة إلى حاكمية رجال الدين ‪.‬‬


‫‪10‬‬

‫ثانيا ‪ :‬سلطة قداسة السلف ‪ :‬الصحابة و تابعيهم في نظر الخطاب الديني كلهم اجالء‬

‫مكرمون ال يجوز المساس بهم أو نقد سلوكهم و تصرفاتهم ‪ .‬و كل ما صدر عنهم من أقوال‬ ‫و أفعال يعتبر متمما للنصوص الدينية األصلية القرآن و السنة ‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬الخالفة اإلسالمية بمفهومها التاريخي واجبة يجب العودة إليها ‪ .‬و الخالفة اإلسالمية‬

‫التاريخية بما فيها األموية و العباسية هي خالفة إسالمية شرعية ‪.‬‬

‫رابعا ‪ :‬صحة أحاديث الرسول المدونة ‪ ،‬أي أن الصحة التاريخية للمدونة النصية فيما يخص‬

‫تعاليم و أحاديث الرسول شيء محسوم و جرى تدوينها في مدونات رسمية مغلقة هي‬

‫الصحاح ‪ .‬و من يشكك بصحة أي حديث منها يخرج عن ملة اإلسالم ‪.‬‬

‫خامسا ‪:‬أزلية النص القرآني و قدمه ‪ :‬القرآن في نظر الخطاب الديني هو كالم اهلل القديم و‬ ‫صفة ذاته القديمة األ زلية ‪ .‬و ال عالقة بين النص و الواقع المخاطب و ال يرتبط إنزاله‬

‫بالوقائع التاريخية فهو موجود قبل التاريخ البشري ‪ .‬فاآلية القرآنية "تبت يدا أبي لهب و تب‬

‫" مثال و حسب هذا القول نص قديم أزلي ظهرت (أنزلت) بمناسبة إيذاء أبي لهب لنبينا‬

‫(ص) و لم يكن نزولها بسبب ذلك ‪.‬‬

‫سادسا ‪ :‬المرأة ناقصة عقل و دين ‪ .‬و هي متاع للرجل و متعة لشهواته ‪ .‬كما أنها مصدر‬

‫فتنة شيطانية يجب استبعادها عن أي مسؤلية خارج بيتها و األفضل أن تبقى حبيسة بيتها ال‬

‫تخرج منه ‪.‬‬


‫‪11‬‬

‫الفصل األول ‪ :‬ألحاكمية‬

‫يعني الخطاب الديني من مبدأ " ألحاكمية هلل وحده " أن التشريع و إصدار‬

‫القوانين و التحليل و التحريم و األمر و النهي كلها هلل وحده و ليس لمخلوق سواء كان‬ ‫فردا أو جماعة أو أمة أو شعبا أدنى نوع من أنواع المشاركة في هذه الحقوق ‪ .‬وهذه‬

‫الحاكمية تعني في التحليل النهائي االحتكام إلى النصوص الدينية ‪ .‬و السلطة الوحيدة بنظر‬ ‫الخطاب الديني القادرة على القيام بمهمة تفسير النصوص و استنباط التشريع الالزم من‬

‫تحريم و تحليل و أمر و نهي هي السلطة التي يمثلها رموز الخطاب الديني أو ما يسمون‬

‫أنفسهم رجال العلم و الدين ‪ . .‬إي أن الحاكمية اإللهية تنتهي في الحقيقة إلى حاكمية نخبة‬

‫من الرجال سمحت لنفسها أن تنطق باسم الخالق و أن تكون ممثلته على األرض و أن‬

‫تحكم باسمه ‪ .‬و رغم إصرار الخطاب الديني على إنكار الكهنوت أو السلطة المقدسة في‬

‫اإلسالم فان واقع الحال يبين غير ذلك ‪ ،‬فلقد تحول رجال الدين إلى طبقة من الكهنوت تدعي‬ ‫امتالك الحقيقة اإللهية و الحقيقة المطلقة عن اإلسالم الواحد الوحيد و هي جاهزة دائما‬

‫لتجهيل الخصوم و تكفيرهم إذا لزم األمر ‪ .‬و ال تقبل من الخالف في الرأي إال ما كان في‬

‫الجزئيات البسيطة ‪.‬‬

‫" الحكم هلل وحده " يقول محمد شاكر الشريف في كتيب ( حقيقة الديمقراطية ) (‪- )1‬و‬

‫هو واحد من مجموعة ضخمة من الكتيبات التي تتحدث في نفس الموضوع‪ " -‬و أن التشريع‬

‫و التحليل و التحريم و النهي هلل الذي له ملك السماوات واألرض و ليس لمخلوق ‪ -‬سواء‬

‫كان فردا أو جماعة أو أمة أو شعبا أدنى نوع من أنواع المشاركة هلل الكبير المتعالي في أي‬

‫شيء من ذلك " و الديمقراطية في رأي الكاتب تعني " سيادة الشعب " و على كل حال "‬

‫فسواء كان الحكم في النظام الديمقراطي للشعب أم لطبقة أو لفئة و سواء كانت الصورة التي‬ ‫يتواجد فيها النظام الديمقراطي مباشرة أو غير مباشرة أم نيابية فان جميع هذه الحاالت و‬

‫الصور لها في اإلسالم مسمى واحد واضح و صريح ال لبس فيه وال غموض أال و هو " حكم‬

‫الطاغوت " ‪ .‬و من المالحظ هنا اإلصرار على التحدث باسم اإلسالم بالقول " وفي اإلسالم‬ ‫" بدال من " في رأينا " و الحقيقة التي " ال لبس فيها وال غموض " والتي تعني احتكار‬

‫التحدث باسم اإلسالم و قطع الطريق على أي رأي آخر ‪.‬‬


‫‪12‬‬

‫و يتابع الكاتب قوله ‪" :‬إن النظام الديمقراطي ما هو إال صورة من صور نظام حكم الطاغوت‬

‫‪ ،‬وال يصح إيمان عبد و ال يصح له إسالم إال إذا كفر بالطاغوت أي أن يكفر بالديمقراطية فإن‬ ‫لفظ "مسلم " و لفظ " ديمقراطي " ال يجتمعان في حق شخص واحد أبدا و إن نظام الحكم‬

‫الديمقراطي مناقض لنظام الحكم اإلسالمي ‪ ".‬والحكم اإلسالمي " يعطي لجماعة من المسلمين‬

‫المؤهلين الحق أن يضعوا النظم اإلدارية التي يرو نها أصلح و أنفع وأكثر خي ار ‪" .‬‬

‫و هذا القول يمثل أحد المنطلقات األساسية للخطاب الديني و مجمله انه في ظل نظم الحكم‬

‫الوضعية ‪ -‬الديمقراطية ‪ -‬تكون السيادة للشعب أي للبشر و بذلك تكون قد نازعت اهلل‬

‫سلطانه و لذلك يجب استبدال حكم الشعب أو ممثلي الشعب المنتخبين ديمقراطيا بحكم‬

‫جماعة من المؤهلين ( رجال الدين ) الذين يضعون النظم اإلدارية و القوانين التي يروها هم‬

‫أصلح و أنفع و أكثر خي ار للناس ‪ .‬و إذا أمعنا النظر في حيثيات التاريخ فإننا نجد أن‬ ‫السلطة الحاكمة هي التي كانت تقوم وال تزال‬

‫باختيار المؤهلين لهذه المهمة ‪ .‬هذا هو‬

‫اإلسالم الوحيد الصحيح في نظر الخطاب الديني و من لم يقبل بهذا فهو ال يستحق لقب "‬

‫مسلم " ‪.‬‬

‫و رغم االعتراف بأن النظام الديمقراطي قد أقر بعدد غير قليل من الحقوق و الحريات إال أن‬

‫ذلك يعتبر لمع بريق زائف في أعين كثير ممن ال يملكون المعرفة الصحيحة بالنظام‬

‫الديمقراطي ‪ .‬وانه من األمور المنكرة جدا أن نسمع من يقول " أن الديمقراطية من اإلسالم "‬ ‫و "أن اإلسالم نظام ديمقراطي " أو " الديمقراطية اإلسالمية " أو أشباه ذلك من األسماء‬

‫الملفقة من كلمة الحق و هي اإلسالم ‪ .‬و باختصار شديد علينا أن ندرك وان نؤمن بأنه " ال‬ ‫ديمقراطية في اإلسالم " وأن "أصول الديمقراطية و جذورها إنما هي أصول و جذور الحادية‬

‫كفرية " ‪.‬‬

‫يعتبر الخطاب الديني أن النظام الوحيد الذي يقره اإلسالم هو نظام الشورى ‪ .‬فالنظام‬

‫الديمقراطي كما مر سابقا هو نظام بشري يقوم على إرادة الشعب و حاكميه الشعب ‪.‬‬

‫و هو يعارض حاكميه اهلل و هو بذلك نظام حكم الطاغوت ‪ .‬أما نظام الشورى فهو نظام الهي‬

‫للبشر كافة حيث انطلقت أصوله من الوحي ‪)2 ( .‬‬

‫و لقد قيل الكثير عن نظام الشورى في المؤلفات اإلسالمية‪ ,‬ولقد وردت كلمة شورى بمعنى‬

‫التشاور و المشاورة في النصوص القرآنية التالية ‪:‬‬

‫" فان أرادا فصاال عن تراض منهما و تشاور فال جناح عليهما " سورة البقرة آيه‬

‫‪.1‬‬ ‫‪233‬‬ ‫و هذه اآلية تتعلق بالتشاور بين الزوجين في أمر خاص و هو فطام الطفل الرضيع قبل حلول‬ ‫الحولين (‪ . )3‬و لقد ربط البعض المسألة الجزئية عند الزوجين و هي التشاور بأمر فطام‬


‫‪13‬‬

‫الطفل و المسألة العامة عند األمة ‪ " ،‬إذا كان القرآن يرشدنا إلى المشاورة في أدنى‬

‫األعمال و هي تربية الولد و ال يبيح ألحد الوالدين االستبداد بذلك دون األخر ‪ ،‬فهل يبيح‬

‫‪.2‬‬

‫لرجل أن يستبد في األمة كلها " (‪)4‬‬

‫بما رحمة من اهلل لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب النفضوا من حولك ‪ ،‬فاعف‬

‫عنهم و أستغفر لهم و شاورهم باألمر ‪ ،‬فإذا عزمت فتوكل على اهلل " آل عمران ‪159‬‬

‫و هذه اآلية خاصة بالنبي و لقد وردت ضمن آيات تتحدث عن غزوة أحد و تعالج أخطاء‬

‫‪.3‬‬

‫حدثت أبان الغزوة‬

‫" و الذين استجابوا لربهم أقاموا الصالة و أمرهم شورى بينهم و مما رزقناهم‬

‫ينفقون " الشورى ‪38‬‬

‫و تعتبر هذه اآلية بأنها شاملة لكل ما يتعلق بأمور المسلمين و مجاالت حياتهم الفردية و‬ ‫الجماعية ‪ ،‬السياسية واالقتصادية و االجتماعية و الثقافية ‪ )5( .‬و يعتبر البعض أن‬

‫الشورى فرض عبادة لوروده في اآلية مع الصالة (‪)6‬‬

‫لم تحدد اآليات و ال ورد في السنة النبوية الثابتة تحديدا لمفهوم الشورى ‪ -‬من هم‬

‫المقصودين بالمشاورة و كيفية المشاورة و إلزامية الشورى للحاكم أو عدم إلزاميتها و في‬

‫ذلك خالف كثير ‪.‬‬

‫يرى البعض من المعاصرين و هم القلة أن المشاورة تعني المسلمين جميعا نساء و رجاال و‬ ‫كيفية مشاورة المسلمين تركت لألمة باعتبار ه شكال أو ترتيبا إجرائيا ‪.‬‬

‫فقد تتحقق بانتخاب ممثلين عن األمة و قد تتحقق باختيار األمة ألهل الحل و العقد أو تتحقق‬ ‫بغير ذلك‪ ،،‬المهم هو المضمون و تنفيذ األمر و مشاورة المسلمين و تمكين افرادهم من‬

‫اخذ حقهم في الشورى ‪ )7( .‬و مفهوم الشورى بأنه التشاور بين المسلمين في انتخاب‬

‫الخليفة و في شؤون الحياة العامة و شؤون الحكم في دولة اإلسالم ‪ )8(.‬كما أن الشورى‬

‫واجبة ملزمة (‪)9‬‬

‫أما الفريق اآلخر وهم األكثرية يرى أن المشاورة تعني أهل العلم فقط ممن عرفوا بالفقه و‬

‫الفتوى ‪ " .‬و بما أن طريقة االنتخاب لها عيوب كثيرة في الموازين اإلسالمية ألنها ال‬

‫تحقق الضوابط المطلوبة شرعا في اختيار ذوي الكفاءات فان األمثل ( لمن ؟ ) في عصرنا‬

‫أن يختار الحاكم العدل الملتزم بفقه اإلسالم و معاييره ( و من يختاره هو ؟ ) أعضاء‬

‫مجلس الشورى ‪ ) 10 (.‬و يرى أن األستشاره تكون فقط في األمور التي فيها إشكال و‬

‫غموض و " ليس من مهمة مجالس الشورى و ال من حقها في نطاق المجتمع اإلسالمي‬ ‫وضع تشريع أو نسخه بغيره كما هو الشأن في األنظمة الديمقراطية ‪،‬إذ من المعلوم أن‬


‫‪14‬‬

‫ألحاكمية إنما هلل وحده و هو وحده صاحب السلطة التشريعية في المجتمع و إنما وظيفة‬

‫مجالس الشورى هي التعاون لمعرفة أحكام اهلل تعالى كلما أكتنفها الغموض………‪ ..‬فمن‬

‫المعلوم أن اهلل تعالى قد و َكل أمرها و االجتهاد في اختيار جزئياتها إلى بصيرة إمام‬ ‫المسلمين و من يستعين بهم من أهل االجتهاد و الشورى ‪ )11(.‬كما يرى أن الشورى غير‬ ‫ملزمة للحاكم ( ‪) 12‬‬

‫و هكذا فان نظام الشورى ليس في الحقيقة نظاما و ليس إلهيا و إنما هو مجموعة من‬

‫األفكار واآلراء من نتاج الخطاب الديني ‪ ،‬قصد منه خدمة السلطان و إعطاء صبغة‬

‫القدسية على حكمه ‪.‬‬

‫السيد قطب الذي يعتبر شارحا و مفس ار ألفكار المودودي يعتبر أن " أهم خصائص األلوهية بل‬ ‫أولى هذه الخصائص هي " الحاكمية " أو " حق الحاكمية المطلقة " الذي ينشأ عنه حق‬

‫التشريع للعباد و حق وضع المناهج لحياتهم و حق القيم التي تقوم عليها هذه الحياة ‪ .‬و‬ ‫كل من أدعى لنفسه حق وضع منهج لحياة جماعة من الناس فقد أدعى حق األلوهية‬

‫عليهم بادعائه اكبر خصائص األلوهية ‪ .‬و كل من أقره منهم على هذا االدعاء فقد أتخذه‬ ‫إلها من دون اهلل باالعتراف له بأكبر خصائص األلوهية ‪) 13 (.‬‬

‫و المنهج اإلسالمي برأيه هو المنهج " الذي يقوم على إفراد اهلل وحده باأللوهية متمثلة في‬ ‫الحاكمية ‪ -‬و ينظم الحياة الواقعية بكل تفصيالتها اليومية " ( ‪) 14‬‬

‫فهو يعلن إن" إعالن ربوية اهلل وحده للعالمين معناها ‪ "،‬الثورة الشاملة على حاكمية البشر‬

‫في كل صورها و أشكالها و أنظمتها و أوضاعها و التمرد الكامل على كل وضع في أرجاء‬

‫األرض الحكم فيه للبشر في صورة من الصور ‪ ،‬ذلك أن الحكم الذي مرد األمر فيه‬

‫للبشر و مصدر السلطات فيه للبشر ‪ ،‬يجعل بعضهم لبعض أربابا من دون اهلل ‪) 15( .‬‬ ‫و لذلك فانه " ليس ألحد الحق في وضع القوانين ……‪ ..‬و أن السلطة التشريعية و حق‬

‫التشريع في إلسالم يختص به اهلل وحده سبحانه و تعالى ‪) 16 ( ".‬‬

‫أظن أنه من الواضح إن اهلل سبحانه ال ينزل إلى األرض و يحكم بين الناس و يشرع لهم و‬

‫لكن حاكمية اهلل تأتي من خالل النصوص الموحية إلى الرسول محمد (ص) و الواردة بين‬

‫دفتي القرآن ‪ .‬و القرآن كما بين األمام علي بن أبي طالب " إنما خط مسطور بين دفتين ال‬ ‫ينطق و إنما ينطق به الرجال " (‪) 17‬و الرجال المخولون بالتكلم بالنصوص و شرحها و‬

‫تفسيرها حسب مقولة الخطاب الديني هم القلة القليلة المسماة برجال الدين ‪،‬و من يسري‬

‫في فلكهم استحق العضوية في حزب اهلل و ما عداهم فهم أحزاب الشيطان ‪ " .‬إن‬

‫هناك حزبا واحدا هلل ال يتعدد و أحزاب أخرى كلها للشيطان و الطاغوت " (‪ )18‬و في هذا‬


‫‪15‬‬

‫المجال يقول األمام الخميني‪ " :‬فمن المسلم به أن يكون الفقهاء حكام على السالطين ‪.‬‬ ‫فإذا كان السالطين أتباع اإلسالم ينبغي أن يتبعوا الفقهاء و يسألوهم عن القوانين و‬

‫األحكام و ينفذوها ‪،‬و في هذه الحالة يكون الفقهاء هم الحكام الحقيقيون و من ثم ينبغي‬

‫أن يكون الحكم رسميا‬

‫للفقهاء‪)91(.‬‬

‫هكذا فان الحاكمية في النهاية قد انتهت إلى حاكمية البشر بل إلى حاكمية عدد محدود من‬ ‫البشر أعطوا لنفسهم حق تمثيل اهلل على األرض ‪ .‬و في نفس الوقت الذي يرفض فيه‬

‫الخطاب الديني بشدة حكم البشر و تشريع البشر احتكر هو نفسه الحق الكامل و الوحيد‬ ‫لحكم البشر والتشريع لهم و لكن باسم " حاكمية اهلل " ألعطاء حكمه وتسلطه صفة‬

‫القدسية ‪ .‬لقد انتهى هذا المفهوم إلى تكريس أشد األنظمة االستبدادية رجعية و تخلفا ‪.‬‬ ‫و باسم اإلسالم و حاكمية اهلل آل األمر إلى االنفراد بالحكم من قبل أفراد أو جماعات‬

‫تسلطت على مقدرات األمة فخنقت كل مظاهر الحرية و التقدم ‪ .‬لقد تحول شعار "‬

‫الحاكمية هلل " إلى غطاء أيدلوجي للنظم السياسية الدكتاتورية الرجعية و إلى تحريم‬

‫المسائلة و خنق الرأي المخالف‬

‫و اعتماد التكفير لمنع التفكير و نفي الخصم فكريا و اجتماعيا و حتى جسديا ‪.‬‬

‫جاء في حيثيات الدعوى المقامة ضد الدكتور نصر حامد أبو زيد ‪ " :‬أن المذكور‬

‫قد قام بنشر عدة كتب و أبحاث و مقاالت تضمنت طبقا لما رآه علماء عدول ( لم يخبرنا‬

‫هنا مقدمو الدعوة القضائية من قام بتعديل هؤالء ) كف ار يخرجه عن اإلسالم ‪ ،‬األمر الذي‬

‫يعتبر معه مرتدا و يحتم أن تطبق في شأنه أحكام الردة ‪ ) 20( ".‬و " من واقع كتب‬

‫وأبحاث المعلن إليه و صفه كثير من الدارسين والكتاب ( كذا ) بالكفر الصريح ‪) 21( ".‬‬ ‫و إن " المعلن عليه قد أرتد عن اإلسالم طبقا لما أستقر عليه القضاء و أجمع عليه‬

‫الفقهاء ‪ ) 22 ( ".‬و إن " الردة سبب من أسباب الفرقة بين الزوجين و من أحكامها انه‬

‫ليس لمرتد أن يتزوج أصال ال بمسلم و ال بغير مسلم ‪ ،‬إذ الردة في معنى الموت و بمنزلته‬

‫و الميت ال يكون محال لزواج ‪ ) 23( ".‬وانه " ال يصح التذرع في هذا الخصوص بالقول‬

‫بأن الدستور يكفل حرية العقيدة فهذه مقولة حق يراد بها‬

‫باطل ‪) 24( ".‬‬

‫و هكذا و بجرة قلم فان مجموعة من الناس أسمت نفسها تارة " علماء عدول " و تارة أخرى "‬

‫علماء أو فقهاء " و في مكان آخر " كثير من الدارسين و الكتاب " أو إجماع العلماء " و‬

‫ال ندري كيف حصل هذا اإلجماع ‪ ،‬قد أعطت لنفسها الحق اإللهي لتكفير كاتب على رأي‬


‫‪16‬‬

‫كتبه أو نشره ‪ ،‬و طالبت بتطليقه من زوجته بدون إرادته أو إرادة زوجته ‪ .‬و اعتبرته‬

‫بمثابة الميت و هي إشارة بتحليل قتله فقتل الميت ال يعتبر قتال ‪ ،‬فهل بأكثر من هذا‬

‫يقاس التعسف و التسلط و القهر و التحكم بأمور العباد ؟ أليس هذا حرمان اإلنسان من‬

‫أبسط حقوقه اإلنسانية ‪ ،‬حق إبداء الرأي و مخالفة أولئك الذين نصبوا أنفسهم وكالء اهلل‬

‫على األرض واحتكروا الحكم باسمه ‪ .‬و هم بذلك يخالفون أبسط القواعد األساسية التي‬

‫جاء من أجلها اإلسالم ‪ ،‬و هي تحرير اإلنسان من رق و عبودية و تسلط أخيه اإلنسان‬

‫بأي صورة كانت و ألي ذريعة كانت ‪ .‬و قضية الدكتور نصر حامد أبو زيد ليست الوحيدة‬ ‫من هذا النوع فلقد تعرض الكثيرين من المفكرين لمثل هذا اإلرهاب الفكري لمجرد إبداء‬

‫الرأي في بعض القضايا الدينية ‪.‬‬

‫و لقد كان الحوار يدور حول فهم النصوص الدينية أو قرآئة التاريخ اإلسالمي ‪ .‬و لكن رموز‬ ‫الخطاب الديني ال تسمح بوجود الرأي اآلخر و مستعدة الستعمال كل الوسا ئل لخنقه‬

‫وخنق أصحابه ‪.‬‬

‫في الوقت الذي يدعي فيه رموز الخطاب الديني الشمولي بانه ال كهنوت في اإلسالم ‪ ،‬فانهم‬ ‫ينصبون أنفسهم كهنوتا ممثال لسلطة اهلل على األرض يوزعون صكوك الغفران على من‬

‫يريدون و يلصقون تهم الردة و الكفر بمن يريدون ‪ .‬و من يتج أر على التشكيك بحاكميتهم‬ ‫يوصم بالكفر و و الزندقة ‪ .‬و هناك لوائح طويلة و عريضة جاهزة في جعبتهم عن‬

‫مبطالت اإلسالم و التي تخرج فاعلها من دين محمد ( ص ) حتى وان أعلن ألف مرة أنه‬

‫مسلم و انه يشهد انه ال إله إال اهلل وأن محمدا رسول اهلل و قام بالفرائض الدينية كلها ‪.‬‬ ‫فالمؤمن بالديمقراطية و األفكار الهدامة كالقومية و االشتراكية حتى ولو لم تكن شيوعية‬

‫كافر من عباد الطاغوت ‪ ) 25 ( .‬و غيره كثير‪.‬‬

‫كما أن هناك لوائح جاهزة أخرى عن الكبائر التي تجيز على فاعلها إقامة الحد ‪ ،‬مثل التدخين‬ ‫و عدم التنزه من البول ( عدم التنشيف بالورق أو الحجر ) واظهار المرأة لشعرها و حلق‬

‫اللحية عند الرجال ألن ذلك تشبه بالنساء و لبس النساء للبنطلون ألن فيه تشبه بالرجال‬ ‫و نتف الشعر من الوجه أو الحاجب للمرأة و الرجل و لبس المرأة للكعب العالي ألن في‬

‫ذلك اعتراض على خلقه تعالى ‪ ) 26 (.‬و قد تختلف اللوائح في التفاصيل من فريق إلى‬

‫أخر و لكنها جميعا تنطلق من نفس المبدأ و هو مبدأ الحاكمية حيث تعطي مجموعة من‬

‫الناس لنفسها الحق المطلق بالتصرف و التحكم بأمور العباد فتخنق حريتهم و تجهض‬

‫فكرهم و تغتال عقلهم و تجر األمة إلى ظالم التأخر و العجز والفقر ‪.‬‬


‫‪17‬‬

‫اهلل سبحانه خلق اإلنسان وأكرمه بالعقل و فضله بذلك على كل المخلوقات حتى على المالئكة‬ ‫حيث أمرهم سبحانه بان يسجدوا لإلنسان ‪ " ،‬فإذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له‬

‫ساجدين " الحجر آيه ‪ 29‬و " خلق األنسا ن علمه البيان " الرحمن آيه ‪4-3‬‬

‫لقد ميز سبحانه اإلنسان على كافة المخلوقات بالعقل والقدرة على التفكير و التميز والبحث‬ ‫والتمحيص ‪ .‬و أن أي تضييق أو حصر لهذه الهبة الربانية يعني التعدي على منحة‬

‫ربانية منحها اهلل لألنسان مثلها مثل الحياة و بها ميز اهلل اإلنسان عن غيره من‬

‫المخلوقات و ليس ألحد الحق في التعدي عليها أو التضييق عليها أو خنقها ‪.‬‬

‫و اهلل سبحانه خلق البشر و أراد لهم التباين و للعقول االختالف ‪ " .‬يا أيها الناس أنا خلقناكم‬ ‫من ذكر وأنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اهلل اتقاكم " الحجرات آيه‬ ‫‪13‬‬ ‫و بما أن اهلل سبحانه قد منح اإلنسان هبة العقل و القدرة على التفكير ‪ ،‬فلقد منحه كذلك‬ ‫حرية التفكير و حرية العقيدة ‪ .‬ألن عقال بدون حرية التفكير هو عقل معطل ‪ .‬كما أن‬

‫األيمان الحقيقي ال يأتي إال عن طواعية االعتقاد النابعة من القلب والعقل‬

‫و ليس بالجبر و اإلكراه ‪ " .‬ولو شاء ربك آلمن من في األرض كلهم جميعا أفأنت تكره‬ ‫الناس حتى يكونوا مؤمنين" يونس آيه ‪99‬‬

‫ولقد طلب سبحانه من نبيه أن ال يكره الناس على األيمان ‪ .‬فاأليمان الناتج عن الجبر و‬

‫اإلكراه ليس أيمانا صادقا بل ليس أيمانا على اإلطالق وانما هو تظاهر باأليمان ‪"" ،‬أفأنت‬ ‫تكره الناس على أن يكونوا مؤمنين "يونس آيه ‪ " 99‬فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر‬

‫" الكهف آيه ( ‪ " ) "29‬ال إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " ألبقره آيه ‪256‬‬

‫و اهلل سبحانه قد أرسل على مر العصور الرسل و األنبياء لوعظ الناس و إرشادهم فقط و‬

‫ترك الحساب و العقاب على الكفر واأليمان له وحده ‪ ".‬وما نرسل المرسلين إال مبشرين و‬

‫منذرين " األنعام آيه ‪ 48‬و " ثم إلى ربكم مرجعكم " األنعام ‪ " 146‬وان علينا حسابهم‬

‫"‪ .‬حتى إبليس الذي عصى واستكبر ترك اهلل عقابه إلى يوم الحساب ‪ ،‬و أعطاه حرية‬

‫اإلرادة و الفعل ‪.‬‬

‫و لقد طالب سبحانه نبيه أن يدعو الناس إلى األيمان بالموعظة الحسنة و ليس بالجبر‬ ‫واإلكراه ‪:‬‬

‫‪ ‬ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن " النحل آيه‬ ‫‪125‬‬ ‫‪ ‬ولو كنت فظا غليظ القلب ألنفضوا من حولك " آل عمران ‪159‬‬


‫‪18‬‬

‫‪‬‬

‫لقد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ "‬

‫األنعام ‪104‬‬

‫‪ ‬و لو شاء اهلل ما أشركوا ‪ ،‬وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل " األنعام آيه‬ ‫‪107‬‬ ‫‪ ‬والذين اتخذوا من دونه أولياء ‪ ،‬اهلل حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل " الشورى ‪6‬‬ ‫‪ ‬و كذب به قومك وهو الحق ‪ .‬قل لست عليكم بوكيل " األنعام ‪6‬‬

‫‪ ‬قل يا أيها الناس قد جاء كم الحق من ربكم ‪ ،‬فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ‪ ،‬ومن ضل‬ ‫فإنما يضل عليها و ما أنا عليكم بوكيل " يونس ‪108‬‬

‫‪ ‬انا أنزلنا عليك الكتاب بالحق ‪ ،‬فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ‪ ،‬وما أنت‬ ‫عليهم بوكيل " الزمر ‪41‬‬

‫‪ ‬فذكر إنما أنت مذكر ‪ .‬لست عليهم بمسيطر " الغاشيه‪22-21‬‬

‫‪ ‬قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي إنما ألهكم اله واحد " الكهف ‪11‬‬

‫لقد بين القرآن الكريم بوضوح أن اهلل سبحانه و تعالى قد منح اإلنسان العقل و القدرة على‬ ‫التفكير و التميز ‪ .‬كما بين له الحق و الباطل و ترك له حرية االختيار بين اإليمان‬

‫والكفر " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"‪ .‬كما طالب سبحانه نبيه أن ال يجبر الناس‬

‫على اإليمان ألن اإليمان ال يأتي بالجبر واإلكراه و إنما يجب أن يكون صاد ار عن طواعية‬

‫االعتقاد و نابعا من العقل والفؤاد ‪ .‬كما حث نبيه على دعوة الناس إلى اإليمان بالحكمة و‬ ‫الموعظة الحسنة وأن‪ ،‬يجادلهم بالتي هي أحسن ‪ .‬كما أن اهلل سبحانه قد ترك لنفسه‬

‫ولنفسه فقط الحق بالمسائلة والحساب و العقاب والثواب على اإليمان والكفر ‪ ،‬ولم يعط‬

‫هذا الحق ألي كان من الناس ‪ ".‬إن يشأ يرحمكم وان يشأ يعذبكم ‪ ".‬فمن أعطى أولئك‬

‫المدعين بتمثيل اهلل على األرض حق توزيع صكوك الكفر أو األيمان ؟ ومن أعطاهم‬

‫سلطة خنق هبة اهلل لإلنسان و هي العقل و حرية استعماله أي حرية التفكير و البحث و‬

‫إبداء الرأي ؟‬

‫اإليمان الصادق و الحقيقي ال يمكن أن يأتي بالجبر واإلكراه واإلرهاب والتخويف ‪ .‬األيمان‬

‫الصادق يأتي عن طواعية االعتقاد الصادر من القلب والفؤاد ‪ .‬واهلل سبحانه لم يقبل إيمان‬

‫المجبر والمكره ‪ " .‬قالت األعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا و لما يدخل اإليمان‬

‫في قلوبكم " الحجرات ‪ . 14‬أي أنهم آمنوا لفظا ولكن لم يؤمنوا عن عقيدة واقتناع ‪ .‬ثم‬ ‫ها هو فرعون الذي بغى وطغى عندما أدركه الموت قال آمنت فلم يقبل منه ربنا ألن‬

‫إيمانه لم يكن عن اقتناع و عقيدة وانما عن خوف من الهالك ‪ " .‬حتى إذا أدركه الغرق‬


‫‪19‬‬

‫قال آمنت انه ال اله إال اهلل الذي آمنت به بنوا إسرائيل و أنا من المسلمين ‪ .‬اآلن و قد‬

‫عصيت قبل وكنت من المفسدين " يونس ‪91-90‬‬

‫إن اهلل سبحانه و تعالى وحده ال غيره عالم القلوب و هو وحده يعلم من آمن عن صدق و من‬ ‫لم يؤمن أو من آمن نفاقا ‪ .‬و لقد أرجأ سبحانه الفصل في اختالف الناس و مسائلتهم‬

‫عن كفرهم وايمانهم عند مرجعهم إليه وقت الحساب ‪ .‬ولم يخول أحدا آخر بهذه المهمة ‪".‬‬ ‫ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون " األنعام ‪146‬‬


‫‪20‬‬

‫مراجع الفصل ا ألول‬ ‫‪ -1‬محمد شاكر الشريف ‪–-‬حقيقة الديمقراطية‪-‬دار الوطن للنشر – الرياض‪1412-‬ه‬

‫و عبد المجيد بن محمود الريمي ‪-‬خمسون مفسدة جليه من مفاسد الديمقراطية ‪-‬دارالغيث‬

‫–الرياض‪1414-‬ه‬

‫‪ -2‬عبد الهادي بو طالب‪- -‬الديمقراطية والشورى ‪ -‬من كتاب الشورى في اإلسالم‪،‬مؤسسة‬ ‫آل البيت –المجمع الملكي لبحوث الحضارة االسالمية‪-‬عمان‪1989-‬ص‪1168:‬‬

‫‪ -3‬القرطبي‪ ،‬ابو عبد اهلل شمس الدين محمد بن احمد االنصاري‪ -‬الجامع لألحكام القرآن ج‪3‬‬ ‫–دار الكتاب العربي مصر‪ 1967 -‬ص ‪173-160‬‬

‫‪ -4‬رشيد رضا ‪ -‬تفسير المنار‪ -‬ج ‪ – 2‬دار المعرفة – بيروت‪ -‬ص ‪414‬‬

‫‪ -5‬د‪ /‬صالح عبد الفتاح الخالدي ‪ -‬الشورى في القرآن الكريم ‪ -‬من كتاب الشورى في‬ ‫اإلسالم م‪ .‬س ‪ .‬ص‪56‬‬

‫‪ -6‬سيد قطب ‪ -‬في ظالل القرآن ‪-‬ج ‪– 5‬دار الشروق‪-‬ط‪ 1977 -3‬ص‪3165 :‬‬ ‫‪ -7‬د‪ /‬صالح عبد الفتاح ‪-‬م‪ .‬س ‪ .‬ص ‪56‬‬

‫‪ -8‬الشيخ مصطفى الزرقا ‪ -‬الشرع بوجه عام و الشريعة ٍ‬ ‫اإلسالمية ‪ -‬بحث نشر في كتاب (‬ ‫الثقافة اإلسالمية و الحياة المعاصرة ) جمع و تقديم محمد خلف اهلل القاهرة ص ‪147‬‬

‫‪ -9‬محمد رشيد رضا ‪ -‬تفسير المنار ‪ -‬ج ‪- 4‬م س‪-‬ص ‪37‬‬

‫‪ -10‬د‪ /‬وهبه الزحيلي مقال في كتاب الشورى ‪ /‬م ‪ .‬س ‪.‬ص ‪401‬‬

‫‪ -11‬د‪ /‬محمد سعيد رمضان البوطي ‪ -‬خصائص الشورى و مقوماتها ‪ -‬من كتاب الشورى‬ ‫م ‪ .‬س ‪ .‬ص ‪533‬‬

‫‪ -12‬حسن البنا ‪ -‬مواقف في الدعوة والتربية ‪-‬ص ‪ 156‬راجع كذلك حسن هويدي ‪-‬‬

‫الشورى في اإلسالم ص ‪ 39-38‬وكذلك محمد سعيد رمضان البوطي ‪ -‬فقه السيرة ص‬ ‫‪ ،324‬منقول من كتاب الشورى في االسالم ‪،‬م س‬

‫‪- -13‬سيد قطب ‪ -‬هذا الدين ‪ -‬االتحاد اإلسالمي العالمي للمنظمات الطالبية‪-‬انديانا‪،‬‬ ‫أمريكا ‪ 1970 ،‬ص‪16-15 :‬‬

‫‪- -14‬سيد قطب ‪ -‬معالم في الطريق‪ -‬مكتبة وهبه القاهرة‪ -1968-‬ص ‪81‬‬ ‫‪1 -15‬المصدر السابق ص ‪59‬‬

‫‪ -16‬األمام الخميني ‪ -‬الحكومة اإلسالمية – دار الطليعة للطباعة و النشر‪ -‬بيروت –‬ ‫‪-1979‬ص‪103-91 :‬‬


‫‪21‬‬

‫‪ -17‬محمد بن جرير الطبري ‪-‬تاريخ الرسل والملوك ‪ -‬دار المعارف القاهرة ج ‪ 5‬ص‪66‬‬ ‫‪ -18‬سيد قطب ‪ -‬معالم في الطريق م ‪ .‬س ‪ .‬ص ‪136‬‬ ‫‪ -19‬األمام الخميني ‪ -‬الحكومة اإلسالمية ‪ -،‬م س‬

‫‪ -20‬د‪ /‬نصر حامد أبو زيد ‪ -‬ملحق وثائقي عن عريضة الدعوى الخ ‪ -‬من كتاب‬ ‫التفكير في زمن التكفير ‪ -‬سينه للنشر – القاهرة ‪-1995‬ص ‪266‬‬

‫‪ -21‬المصدر السابق ص ‪272‬‬

‫‪ -22‬المصدر السابق ‪ -‬ص ‪272‬‬ ‫‪ -23‬المصدر السابق ‪ -‬ص ‪273‬‬ ‫‪ -24‬المصدر السابق ‪ -‬ص ‪274‬‬

‫‪ -25‬محمد بن جميل زينو ‪ -‬توجيهات إسالمية‪ -‬مكتبة المعارف ‪ ،‬الرياض –‪-1985‬ص‪:‬‬ ‫‪24 -23‬‬

‫كذلك راجع معالم في الطريق ‪ -‬سبق ذكره ص ‪23‬‬

‫‪ -26‬محمد بن جميل زينو‪-‬المصدر السابق‪-‬ص‪87-77-67 :‬‬


‫‪22‬‬

‫الفصل الثاني ‪ :‬سلطة قداسة السلف‬ ‫الصحابة في نظر الخطاب الديني كلهم أجالء ال يصح المساس بهم أو نقد سلوكهم‬

‫و تصرفاتهم ‪ ،‬كما ال يجوز أن ندس أنوفنا فيما كان ينشأ بينهم من خالف ‪ ،‬سواء ما كان‬

‫منه خالفا جدليا أو ما وصل بينهم إلى حد االقتتال ‪.‬‬

‫و لقد حول الخطاب الديني النصوص التراثية التي وصلتنا على السنة الصحابة و التابعين إلى‬ ‫نصوص أولية تتمتع بقدر هائل من القداسة ال تقل في كثير من األحوال عن النصوص‬

‫القرآنية ‪ . .‬و يتجلى تقديس الصحابة والتابعين و تابعي التابعين باعتبار اجتهاداتهم نهائية و‬

‫صائبة ‪ ،‬و أي محاولة لنقد هذه االجتهادات بوصفها اجتهادات بشرية مرفوضة رفضا باتا‬ ‫يتهم أصحابها بالكفر و الخروج عن اإلسالم ‪.‬‬

‫إن إصرار الخطاب الديني على قدسية الصحابة و التابعين و تحصينهم من الخطأ هو وهم‬

‫ترفضه أحداث التاريخ المسجل في كتب التراث ‪ .‬و هذا أمر طبيعي فالصحابة بشر جاءوا من‬

‫أصول مختلفة و دخلوا في اإلسالم في فترات و ظروف مختلفة كما رافقوا الرسول فترات‬

‫مختلفة طالت عند بعضهم و قصرت عند البعض اآلخر ‪ .‬و كان الصحابة إذا واجهتهم‬

‫مشكلة في حياة النبي أو حدث بينهم خالف يأتون إليه فيسألونه فيجيبهم عنها أو يحكم‬

‫بينهم إما اجتهادا منه أو عن طريق الوحي ‪ .‬و كانوا يطيعونه ألن طاعة النبي من طاعة اهلل‪.‬‬ ‫عندما توفي النبي اختلف الصحابة في من يخلفه في قيادة المسلمين فلقد كان (ص ) رسوال‬

‫و نبيا و قائدا للمسلمين في نفس الوقت ‪.‬و لم يكن قد دفن النبي بعد واذا بجماعة من‬

‫األنصار تجتمع في سقيفة بني ساعده الختيار رجل منهم لقيادة المسلمين بصفة األحقية ‪ .‬و‬ ‫يصف عمر بن الخطاب هذه الواقعة فيقول ‪ " :‬أتيناهم ( أي األنصار ) و هم مجتمعون في‬

‫سقيفة بني ساعده واذا بينهم رجل مزمل فقلت من هذا ؟ قالوا ‪ :‬سعد بن عباده فقام رجل‬

‫منهم وقال ‪ :‬نحن األنصار و كتيبة اإلسالم و أنتم يا معشر قريش رهط بيننا دفت إلينا من‬

‫قومكم دافة ‪ .‬قال عمر ‪ :‬واذا بهم يريدون أن يختزلوننا من أصلنا و يغصبونا األمر ‪ .‬فلما‬

‫سكت أردت أن أتكلم وقد زورت في نفسي مقالة قد أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر‬

‫‪ " .‬ويتابع عمر بن الخطاب تفاصيل االجتماع و كيف ألقى أبو بكر كلمة قال فيها ‪ :‬أما بعد‬ ‫يا معشر األنصار فإنكم ال تذكرون منكم فضال إال وأنتم له أهل ‪ ،‬وان العرب ال تعرف هذا‬

‫األمر إال لهذا الحي من قريش وهم أوسط دا ار و نسبا ‪ .‬فرد عليه رجل من األنصار ‪ :‬منا‬


‫‪23‬‬

‫أمير و منكم أمير ‪ .‬فرد عليه أبا بكر ‪ :‬منا األمراء ومنكم الوزراء …… قال عمر ‪ :‬فكثر‬

‫اللغط وارتفعت األصوات حتى تخوفت االختالف فقلت ابسط يدك يا أبا بكر ‪ ،‬فبسط يده‬

‫فبايعته ثم بايعه المهاجرون ثم األنصار و نزونا (وثبنا ) على سعد بن عباده فقال قائل منهم‬

‫‪ :‬قتلتم سعد بن عباده فقلت ‪ :‬قتل اهلل سعد بن عباده ‪) 1 ( .‬‬

‫و إذا نظرنا نظرة واقعية إلى ما حدث في سقيفة بني ساعده و الجدل الذي حدث فيها فإننا‬

‫نجد أن األنصار قد سارعوا إلى االجتماع في سقيفة بني ساعده حال وفاة النبي وحدهم دون‬

‫أن يتصلوا بإخوانهم المهاجرين أو يتفاوضوا معهم أو يشاوروهم أو يدعوهم للحضور ‪ .‬ولقد‬ ‫حدث ذلك كله ولم يدفن النبي بعد ‪ .‬و عندما حضر عمر بن الخطاب و أبو بكر دار الجدل‬

‫بينهم حول "األمر " و " األمارة " و األحقية بها دون األخر على أسس قبلية و ليس دينية ‪.‬‬ ‫و لقد رأى كل فريق محاولة من األخر الستئصاله و تصفيته و اختزاله ‪ .‬و في كل الجدال‬

‫الذي دار بين صحابة الرسول المجتمعين لم يذكر آيات من القرآن الكريم أو حديث شريف‬

‫ولم يذكر أحد الحديث الذائع الصيت والذي ظهر في وقت متأخر بأن الخالفة يجب أن تكون‬ ‫في قريش ‪ .‬ولم يكن الخالف حول اإلسالم و األيمان والشريعة ‪ .‬ولم يشر أحد إلى أمة‬

‫اإلسالم و ضرورة تكتلها وتوحدها وتعاونها على البر والتقوى وانما ارتد الحال إلى الوضع‬

‫القبلي والمنافسة القبلية والتفاخر باألصل ‪ .‬وعندما وصل الجدال إلي مبايعة أبي بكر انتهى‬

‫االجتماع بالعدوان الجسدي على سعد بن عباده حتى قال قائلهم ‪ :‬قتلتم سعدا ‪ .‬فهل كان‬

‫سلوك هؤالء منزه عن الغرض ؟ و هل كانوا فوق البشر مقدسي السلوك والتصرف و فوق‬ ‫النقد ؟ أم كانوا بش ار يكرهون و يحبون و يتحزبون و يتعصبون ‪ ،‬يجتهدون فيصيبون و‬

‫يخطئون ؟‬

‫و في خالفة أبي بكر حدثت حروب الردة و التي يعتبرها البعض حربان ‪ .‬فبعض القبائل ارتدت‬

‫عن اإلسالم و بعضها بقيت على إسالمها متمسكة به مقيمة لشعائره و لكنها امتنعت عن‬

‫أداء الصدقة إلى الخليفة ( قبائل أسد و غطفان و طي ) ‪ .‬و كان الخالف بين أبي بكر و‬ ‫هذه القبائل التي امتنعت عن دفع الصدقة له في حقيقته خالفا على تفسير آية من آيات‬

‫القرآن ‪ " ،‬خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها و ِ‬ ‫صل عليهم إن صلواتك سكن لهم‬ ‫واهلل سميع عليم " التوبة ‪103‬‬

‫و لقد اعتبروا هذه الصدقه خاصة بالنبي تخول للمتصدق التمتع بصالة النبي عليه و تزكيته‬

‫لهم وأنه بعد وفاة الرسول وجدوا أنفسهم غير ملزمين بدفعها لغيره ‪ .‬و بذلك كان ابتداء حرب‬

‫المسلمين ضد المسلمين بسبب خالف الرأي واالختالف على تفسير النص القرآني( ‪)2‬‬


‫‪24‬‬

‫و في رأينا المتواضع إن هذه الحرب كانت حربا سياسية ال عالقة لها بالدين واإلسالم ال من‬ ‫قريب وال من بعيد ‪ .‬فالدخول الجماعي للقبائل في اإلسالم أو الخروج منه ألي سبب كان ال‬

‫عالقة له باإليمان ‪ ،‬فاإليمان ال يكون موقفا جماعيا أو نابعا من موقف رئيس القبيلة ‪ .‬ولكنه‬ ‫موقف سياسي من الدولة الفتية بقيادة أبي بكر و الوالء لها أو عدمه ‪ .‬و لذلك كان موقف‬

‫تلك القبائل موقفا سياسيا و خروجا على الدولة الفتية و عدم طاعتها وطاعة رئيسها ‪ .‬وكان‬

‫موقف أبي بكر كذلك موقفا سياسيا صائبا و هو إعادة الطاعة و الوالء للدولة و رئيسها ‪.‬‬ ‫تقول كتب التراث أن عمر بن الخطاب الخليفة الثالث لما دنا أجله أستشار فيمن يوليه‬

‫الخالفة من بعده ‪ ،‬فاشير عليه بابنه عبد اهلل فرفض ‪ .‬ثم رأى أن يوكل األمر إلى ستة من‬

‫الصحابة قال أن النبي مات وهو راض عنهم ‪ ،‬و عليهم بعد التشاور أن يعينوا واحدا منهم ‪.‬‬ ‫و الستة هم علي بن أبي طالب و عثمان بن عفان و طلحه بن عبيد اهلل و الزبير بن العوام‬

‫و عبد الرحمن بن عوف و سعد بن أبي وقاس ‪ .‬و بعد موت عمر بن الخطاب اجتمعوا و‬

‫تشاوروا فاختلفوا و كان عمر قد أوصى بأن ال تطول مدة التشاور فوق ثالثة أيام وان ال‬ ‫يأتي الرابع إال ولهم أمير ‪ ،‬وقال إذا كان خالف فكونوا مع الفريق الذي فيه عبد الرحمن ‪.‬‬

‫فأقبل عبد الرحمن على عليّ و قال ‪ :‬عليك عهد اهلل و ميثاقه لتعملن بكتاب اهلل و سنة‬

‫رسوله و سيرة الخليفتين من بعده فقال ‪ :‬أرجو أن أفعل و أعمل على مبلغ علمي و طاقتي (‬

‫كان رضي اهلل عنه صادقا مع اهلل و مع نفسه ومع الغير‪،‬و كأنه كان يرفض على أن تضاف‬ ‫إلى كتاب اهلل و سنة رسوله مرجعية بشرية سلفية ‪ . ) .‬ثم دعا عثمان و قال له مثل ذلك‬

‫فأجابه بنعم ‪ .‬فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد حيث كانت المشورة و قال ‪ :‬اللهم‬

‫اسمع و اشهد ‪ ،‬اللهم إني جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان و صفق بيده في يد‬ ‫عثمان و قال ‪ :‬السالم عليك يا أمير المؤمنين ‪) 3( .‬‬

‫تورد كتب التراث أنه في عهد عثمان بن عفان قد حدث فساد كثير ‪ .‬فلقد فتح عثمان خزائن‬

‫بيت المال أمام أهله و عشيرته بني أميه ‪ ،‬واتخذ أقربائه عماال على األمصار و فيهم من كان‬ ‫فاسقا مثل الوليد بن عقبه الذي واله عثمان أمر الكوفة و هو أبن عقبه عدو النبي و الذي‬

‫قتله النبي صب ار و لما قال للنبي و من للصبية يا محمد قال النبي ‪ :‬لهم النار ‪ .‬و الوليد هذا‬

‫صلى في الناس وهو مخمور فزاد في عدد الركعات و السجدات ‪ ،‬ولما نبهه الناس التفت‬

‫إليهم و قال لهم ‪ :‬هال زدتكم ‪ ) 4 ( .‬و لقد زوج عثمان ابنته إلى مروان بن الحكم‬

‫واقتطعه خمس غنائم افريقيه ‪ .‬و لقد أعاد الحكم بن أبي العاص إلى المدينة بعد أن كان قد‬

‫نفاه النبي منها و ظل طريدا طوال حياة النبي و مدة خالفة أبي بك و عمر ‪ .‬و على عكس‬

‫ذلك نفى الصحابي أبو ذر الغفاري إلى الربذه و منعه من البقاء في المدينة أو الذهاب إلى‬


‫‪25‬‬

‫مكة ‪ .‬و من آذاه كذلك عبد اهلل بن مسعود ( ضربه حتى كسر له ضلعين و منعه العطاء‬

‫سنين كثيرة ) حتى انحرفت قبيلته (هذيل ) عن عثمان بسبب ذلك ‪ ،‬و عمار بن ياسر ( ضربه‬

‫حتى فتق أمعاءه ) حتى انحرفت قبيلته‬

‫( بنو مخزوم ) عن عثمان من أجله ( ‪) 5‬‬

‫و لقد عارض عدد كبير من المسلمين عثمان بسبب ما سموه فساد الحكم و اإلدارة ‪ ،‬حيث قام‬

‫بتعيين حكام على األمصار غير ورعين و ال تقاة و ال أكفاء و لكن بسبب قرابته لهم ال غير ‪،‬‬

‫و سوء التصرف في أموال المسلمين و بيت المال و حماية الخارجين على القانون و النظام‬

‫شأن الحكم بن أبي العاص و اضطهاد و نفي المعارضين و عدم الحكم وفقا ألوامر اهلل و سنة‬ ‫نبيه بل تبعا لمشورة مروان بن الحكم ‪) 6 (.‬‬

‫و انضمت إلى المعارضة عائشة زوج النبي و حرضت الناس على قتل عثمان إذ كانت تقول "‬

‫أقتلوا نعثال فقد كفر " ( و نعثل هذا نصراني كان يعيش في المدينة و يشبه عثمان بن عفان‬

‫فأطلقوا على عثمان لقب نعثل ) ( ‪) 7‬‬

‫لعلي ‪ :‬إن شئت أخذت سيفك و آخذ سيفي ‪ ،‬فقد خالف‬ ‫و كان عبد الرحمن بن عوف يقول ِ‬

‫ما أعطاني " و هو يقول لبعض أصحابه على فراش الموت ‪ " :‬عالجوه ‪ -‬أي عثمان ‪ -‬قبل‬

‫أن يطغى ملكه " ( ‪ ) 8‬و روي أنه قيل لعبد الرحمن ‪ ،‬هذا عمل يديك فقال ‪ " :‬ما كنت أظن‬ ‫علي أن ال أكلمه أبدا " ثم مات عبد الرحمن و هو مهاجر لعثمان ‪) 9 ( .‬‬ ‫هذا به ‪ ،‬و لكن اهلل َ‬ ‫و لقد طالب المعارضون عثمان بخلع الخالفة فرفض فكان ما كان من مقتل عثمان و اندالع‬ ‫الفتنة الكبرى حيث قاتل الصحابة الصحابة و اقتتل المسلمون و تحزبوا و تفرقوا ‪.‬‬ ‫و يقول الطبري ‪ :‬لبث عثمان بعد ما قتل ليلتين ال يستطيعون دفنه ثم حمله أربعة‬

‫( حكيم بن حازم و جبير بن مطعم و نيار بن مكرم و أبو جهم بن حذيفه ) فلما وضع ليصلى‬ ‫عليه جاء نفر من األنصار يمنعوهم الصالة عليه ‪ ،‬فيهم أسلم بن أوس بن يجره الساعدي و‬

‫أبو حيه المازني و منعوهم أن يدفن بالبقيع فقال أبو جهم ‪ :‬أدفنوه فقد صلى اهلل عليه و‬

‫مالئكته فقالوا ‪ :‬ال واهلل ال يدفن في مقابر المسلمين أبدا ‪ .‬فدفنوه في حش كوكب فلما ملكت‬ ‫بني أميه أدخلوا ذلك الحش في البقيع ‪) 10 ( .‬‬

‫أما عائشه التي كانت تحرض على قتل عثمان فما أن علمت أن علي بن أبي طالب قد بويع‬

‫بالخالفة انزعجت و قالت ‪ :‬قتل عثمان و اهلل مظلوما و اهلل ألطلبن دمه‪ .‬فلما قيل لها أنها‬

‫كفره و دعى إلى قتله قالت ‪ :‬انهم استتابو ه ثم قتلوه و قد قلت و قالوا و قولي‬ ‫أول من َ‬ ‫األخير خير من قولي األول ‪".‬ثم عادت إلى مكة و خطبت في الناس محرضة إياهم على‬

‫االنتقام لمقتل عثمان " الرجل المقتول ظلما " ‪ ) 11 (.‬ثم اجتمعت عائشة مع طلحه و‬


‫‪26‬‬

‫الزبير و خرجوا لمحاربة علي بن أبي طالب و كان طلحه و الزبير قد بايعا عليا بالخالفة ثم‬ ‫نقضاها ‪.‬‬

‫و مجمل القصة ‪ "،‬أن طلحه و الزبير بعد ما بايعا عليا فارقاه في المدينة و أتيا مكة فالتقيا‬

‫بعائشه فسألتهما األخبار فقاال ان تحملنا من غوغاء العرب في المدينة و فارقنا قومنا حيارى‬

‫ال يعرفون حقا و ال ينكرون باطال و ال يمنعون أنفسهم ‪ .‬فقالت ‪ :‬ننهض إلى هذه الغوغاء أو‬ ‫نأتي الشام ‪ ،‬فقال أحد الحاضرين ‪ :‬ال حاجة لكم في الشام قد كفاكم أمرها معاوية بن أبي‬ ‫سفيان فلنأت البصرة ‪ .‬و نادى مناديها في الناس يطلب ثأر عثمان فاجتمع ثالثة آالف‬

‫فسارت فيهم إلى البصرة و بلغ الخبر عليا فاوسع لهم النصيحة و حذرهم الفتنة فلم ينجح‬

‫النصح ‪ .‬فانتشبت الحرب بين الفريقين في موقعة الجمل ألن عائشة كانت على ظهر جمل ‪،‬‬ ‫و لقد قتل دونه خلق كثير من الفئتين و أخذ خطامه سبعون قريشيا ما نجا منهم أحد ‪.‬‬

‫وانتهت الموقعة بنصر علي بعد عقر الجمل ‪ .‬و فيها قتل طلحة والزبير و قتل سبعة عشر ألفا‬

‫من أصحاب الجمل و كانوا ثالثين ألف ‪) 12 ( .‬‬

‫و قيل أن طلحة قد قتل بسهم رماه به مروان بن الحكم ‪ -‬صفي عثمان ‪ ،‬و مساعده األيمن و‬

‫خليفة المسلمين بعد ثالثين عاما ‪ -‬بعد ما رآه يغادر مكان الموقعة ‪.‬‬

‫و هذا ما دفع بعض رجال العلم كواصل بن عطاء و عمر بن عبيد الزاهد الورع ألن يقوال‬

‫بإنكار الفريقين في أصحاب الجمل و انه ال يجوز قبول شهادة علي و طلحة و الزبير على‬

‫باقة بقل ‪) 13 ( .‬‬

‫" وان المسلم العاقل الذي لم يضع عقله في األوهام و لم يذهب لبه في األحالم ليستطيع أن‬

‫يرى بوضوح أن الخالف بين المسلمين و الصراع بين المؤمنين و األنشقاقات في صفوف‬

‫حزب اهلل و صحابة الرسول منذ عهد الخلفاء الراشدين ‪ ،‬حدثت بداعي السياسة ال بداعي‬

‫الدين و بدافع الملك ال بدافع الشريعة و بسبب حكم الناس ال بسبب حكم اهلل ‪ .‬فللحكم و‬

‫األمارة و الرياسة و السيادة و حدها انشق المسلمون على أنفسهم و قاتل المؤمنون المؤمنين‬ ‫و قاتل الصحابة الصحابة‪ ،‬و طوال هذه الصراعات و تلك الخالفات لم تثر على اإلطالق‬

‫مسألة اإليمان باهلل أو وحدانيته سبحانه أو نبوة النبي أو صدق الرسالة أو سالمة الوحي أو‬

‫صحة القرآن أو أركان اإليمان أو إنكار الصالة أو تطبيق الشريعة و إنما دارت الخالفات و‬ ‫اشتدت الصراعات حول السلطة و عن الميراث ‪) 14 ( .‬‬

‫إن الصراع القبلي الجاهلي و الذي تجلال في الصراع بين المدنيين و المكيين و بين األمويين‬

‫و الهاشميين ظل قائما و تجلى في كل صوره عبر التاريخ اإلسالمي منذ عهد الراشدين عبر‬


‫‪27‬‬

‫الخالفة األموية و العباسية و الفاطمية إلى الحكم اإلسالمي في األندلس و صراع حكام‬ ‫الطوائف الذي أدى إلى سقوط الحكم اإلسالمي في األندلس ‪.‬‬

‫عندما نق أر الرسائل المتبادلة بين معاوية بن أبي سفيان و علي بن أبي طالب فإننا نرى بصورة‬

‫واضحة هذا الصراع القبلي بين الهاشميين و األمويين الذي ظل ينخر في عظم الكيان‬

‫اإلسالمي على مر التاريخ ‪ .‬فمن قول علي بن أبي طالب في رسالة إلى معاوية ‪ :‬و أما قولك‬

‫أنا بنو عبد مناف فكذلك نحن ‪ ،‬و لكن ليس أمية كهاشم و ال حرب كعبد المطلب و ال أبو‬

‫سفيان كأبي طالب و ال المهاجر كالطليق ‪) 15 ( " .‬‬

‫و في موقع آخر ‪ " :‬و منا أسد اهلل و منكم أسد األحالف ‪ ،‬و منا سيد شباب أهل الجنة و‬

‫منكم صبية النار و منا خير نساء االعالمين و منكم حمالة الحطب ‪ ،‬في كثير مما لنا و عليكم‬

‫‪ ) 16 ( ".‬و في موقع آخر يقول ‪ " :‬و سيوف هاشمية قد عرفت مواقع نصالها في أخيك و‬ ‫خالك و جدك و أهلك ‪) 17 ( ".‬‬

‫و الصحابة كما رأينا بشر ‪ ،‬ليسوا بأي حال معصومين عن الخطأ ‪ ،‬فلقد قاتل الصحابة‬

‫الصحابة كما بينت لنا كتب التراث ‪ ،‬لخالف على األمر و الحكم و لعصبية قبلية و ليس‬

‫لخالف على الدين و هم كأي بشر يتحزبون و يتعصبون و يجتهدون فيصيبون و يخطئون ‪.‬‬

‫و لنا الحق كل الحق أن ندس أنوفنا في خالفاتهم و أن يكون لنا رأيا فيها فلقد وضعت تلك‬ ‫الخالفات بصماتها على كل المسار اإلسالمي و إلى يومنا هذا ‪ .‬كما لنا الحق كل الحق أن‬

‫نقبل قول و اجتهادات بعضهم وأن نرفض قول و اجتهادات البعض اآلخر ‪ .‬كما يحق لنا أن‬

‫نقول رأينا فيمن أخطأ و فيمن أصاب أو نقول أخطأ الطرفان ال أن نختبئ خلف القول ‪ " :‬قد‬

‫وقعت اجتهادات من صحابة الرسول كل كان له رأي و من أصاب فله أجران و من أخطأ فله‬

‫أجر ‪ ".‬قد يصح هذا لو لم تحدث فتن كبرى نتيجة لخالفاتهم جرى بسببها دماء المسلمين‬

‫كثير ‪ ،‬و بأحداثها شكلت كل التاريخ اإلسالمي ‪ .‬فانقلبت وحدة األمة إلى صراع دام و قتل‬

‫كثير من المسلمين و انقلبت الخالفة إلى ملك و الدين إلى صراع قبلي و عصبة جاهلية و‬

‫تصفية بالسيف ‪.‬‬

‫إلى جانب هذا الصراع و هذا االقتتال بين الصحابة فان كتب التراث تحدثنا عن تجاوزات قد‬

‫وقعت من قبل بعض الصحابة خرجت عن نطاق التقوى و القدسية و الحصانة التي يحاول‬

‫الخطاب الديني وصفهم بها ‪.‬‬

‫فهذا عبد اهلل بن عباس الهاشمي و ابن عم النبي و راوي األحاديث النبوية و مرجع التفسير‬

‫‪ ،‬قد وقعت منه واقعة خطيرة و هو وال على البصرة ‪ .‬و ذلك أن أبا األسود الدؤولي صاحب‬

‫بيت المال في البصرة أرسل إلى الخليفة علي بن أبي طالب رسالة يقول فيها ‪ :‬عاملك و ابن‬


‫‪28‬‬

‫عمك قد أكل ما تحت يده بغير علمك ‪ .‬فأرسل الخليفة إلى ابن عمه عبد اهلل بن العباس‬ ‫وواليه يسأله فيما وصل أليه فأجابه ‪ " :‬واهلل ألن ألقى اهلل بما في بطن هذه األرض من‬

‫عقباتها و بطالع ما على ظهرها أحب الي أن ألقاه و قد سفكت دماء األمة ألنال بذلك الملك‬

‫و األمارة ‪ ،‬فابعث إلى عملك من أحببت " و لقد هرب ابن عباس بعد ما جمع ما كان قد تبقى‬ ‫في بيت مال المسلمين و يقدر بحوالي ستة مالين درهم و احتمى بأخواله وهم قبيلة بني‬

‫هالل حيث كانوا معه في البصرة ثم مضى بالمال حتى بلغ البيت الحرام في مكة و اصبح‬ ‫آمنا فيه ‪ .‬فكتب له الخليفة علي بن أبي طالب رسالة فيها ‪ :‬فأنني كنت أشركتك في‬ ‫أمانتي ‪ ،‬و لم يكن في أهل بيتي رجل أوثق منك في نفسي لمواساتي و مؤازرتي و أداة‬

‫األمانة لي ‪ .‬فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب ‪ ،‬و العدد عليه قد حرب ‪ ،‬و أمانة‬

‫الناس قد خربت ‪ ،‬و هذه األمة قد فتنت ‪ ،‬قلبت له ظهر المجن ففارقته مع القوم المفارقين و‬ ‫خذلته أسوأ خذالن الخاذلين و خنته مع الخائنين ‪ ،‬فال ابن عمك آسيت ‪ ،‬و ال األمانة أديت‬

‫‪ ،‬كأنك لم تكن هلل تريد بجهادك ‪ ،‬أو كأنك لم تكن على بينة من ربك و كأنك إنما كنت تكيد‬ ‫أمة محمد عن دنياهم أو تطلب غرتهم عن فيئهم ‪ ،‬فلما أمكنتك الغرة أسرعت العداوة و‬

‫غلطت الوثبة و انتهزت الفرصة واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم إختطاف الذئب األزل‬

‫دامية المعزى الهزيلة و ظالعها الكبير فحملت أموالهم إلى الحجاز رحيب الصدر تحملها غير‬

‫متألم من أخذها …… أفما تؤمن بالمعاد و ال تخاف سوء الحساب ؟ أما تعلم أنك تأكل حراما‬

‫و تشرب حراما ؟ أوما يعظم عليك و عندك أنك تستثمن اإلماء و تنكح النساء بأموال‬ ‫اليتامى و األرامل و المجاهدين الذين أفاء اهلل عليهم البالد ؟ فاتق اهلل و ِأد أموال القوم فان‬ ‫واهلل ال تفعل ذلك ثم أمكنني اهلل فيك ألعذرن إلى اهلل فيك حتى آخذ الحق و أرده و أقمع‬

‫الظالم و أنصف المظلوم و السالم ‪.‬‬

‫علي إصابة المال الذي أصبته من‬ ‫فرد عليه ابن عباس ‪ :‬أما بعد ‪ ،‬فلقد بلغني كتابك تعظم َ‬ ‫مال البصرة ‪ ،‬و لعمري بأن حقي في بيت المال ألعظم مما أخذت فيه ‪ ،‬و لئن لم تدعني من‬

‫أساطيرك ألحملن هذا المال إلى معاوية يقاتلك به و السالم ‪) 18 ( ".‬‬

‫ثم ها هو الصحابي و راوي األحاديث أبو بكره قد أدين و جلد من قبل الخليفة الثاني عمر بن‬

‫الخطاب على شهادة كاذبة أدلى بها ‪ )19( .‬و الصحابي سمرة بن جندب الذي عينه زياد‬ ‫بن أبيه نائبا على البصرة يعمل قتال في شيعة علي بن أبي طالب ‪ ،‬و قد أحصي من قتلهم‬

‫هذا الصحابي فبلغوا ثمانية آالف مسلم ‪ ) 20 (.‬أما عبد اهلل بن عمر الخطاب و هو من‬ ‫فقهاء الصحابة فقد اختار طريق العيش الرغد و اختط لنفسه موقفا من السلطة يقضي‬

‫بطاعة كل خليفة و كان يقول ‪ :‬ال أقاتل في الفتنة و أصلي وراء من غلب ‪ ) 21 ( ".‬و لقد‬


‫‪29‬‬

‫بايع جميع الخلفاء ما عدا علي بن أبي طالب بسبب معارضة األخير ألغنياء الصحابة و‬

‫خوف هؤالء على مكتسباتهم ‪ .‬و قد ذكر أن عبد اهلل بن عمر كان يأكل الدجاج و الفراخ و‬

‫الخبيص بالبرمة ‪ ،‬و انه كان يلبس المصبوغ بالمشق و المصبوغ بالزعفران ‪) 22 ( .‬‬

‫فلقد كان من الطبيعي أن تغير الظروف و انتقال المسلمين من حالة الزهد و التقشف التي‬

‫عاشها المسلمون األوائل إلى حالة الثراء و الرخاء اثر الفتوحات اإلسالمية و تدفق الغنائم و‬

‫المكتسبات المادية الضخمة من البلدان الجديدة ‪ ،‬قد أثرت و غيرت في نفوس المستفيدين‬

‫من الصحابة و غيرهم من المسلمين ‪ .‬فبعد أن كان المسلمون األوائل يعيشون عيشة الزهد و‬

‫التقشف ‪ ،‬اتسعت أحوال كثير من الصحابة و زادت أموالهم و تكدست كنوزهم ‪ ،‬و سلكوا‬ ‫طريق العيش الرخي ‪.‬‬

‫فعثمان بن عفان كان له يوم قتل عند خازنه خمسون و مائة ألف دينار و ألف درهم و قيمة‬ ‫ضياعه بوادي القرى و حنين و غيرها مائة ألف دينار و خلف إبال و خيال كثيرة‪.‬‬

‫و بلغ الثمن الواحد مما ترك الزبير بن العوام بعد وفاته خمسين ألف دينار و خلف ألف فرس‬

‫و ألف أمة ‪ .‬و كانت غلة طلحة بن عبيد اهلل من العراق ألف دينار في اليوم الواحد و من‬

‫ناحية السراة أكثر من ذلك ‪) 23 ( .‬و ذكر بن كثير أن ثروة الزبير قد بلغت سبعة و خمسين‬ ‫مليونا و أن غلة أموال طلحة بلغت ألف درهم كل يوم ‪ ) 24 ( .‬و كان على مربط عبد‬

‫الرحمن بن عوف ألف فرس و عشرة آالف رأس من غنم و خلف زيد بن ثابت من الفضة و‬ ‫الذهب ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من األموال و الضياع ‪) 23 ( .‬و عن عائشة‬

‫ابنة سعد بن أبي وقاس قالت ‪ :‬مات أبي رحمه اهلل في قصره بالعتيق على عشرة أميال من‬

‫المدينة و ترك يوم مات مائتي ألف و خمسين ألف درهم ‪) 23 ( .‬‬

‫و على نقيض مما سبق فان علي بن أبي طالب " لم يترك صفراء و ال بيضاء ‪ ،‬إال سبعمائة‬ ‫درهم بقيت من عطائه أراد أن يشتري بها خادما ألهله و قال بعضهم ‪ :‬ترك ألهله مائتين و‬

‫خمسين درهما و مصحفه و سيفه ‪ ) 25 ( " .‬و يحكي المسعودي أن عمر بن الخطاب حج‬ ‫فأنفق مع ولده ستة عشر دينا ار فقال لولده عبد اهلل ‪ :‬لقد أسرفنا في نفقتنا في سفرنا هذا‬

‫‪ )26(.‬أي أنه رأى أنهما أسرفا كثي ار مع أن المبلغ المذكور يعتبر تافها بالنسبة لنفقة‬ ‫شخصين طوال مدة الحج ‪.‬‬

‫ليس المقصود بهذا الحديث بأي حال من األحوال اإلساءة إلى الصحابة أو الحط من قيمتهم ‪.‬‬

‫و ال األخذ بصف هذا الفريق ضد اآلخر في خالفاتهم و ال تبرئة فرقة و إدانة أخرى ‪ ،‬فلقد‬ ‫كتب في هذا الكثير‪ ،‬و مرجع الجميع إلى اهلل سبحانه و هو الذي يحاكم و يحكم ‪ .‬وما ذكر‬

‫أعاله من أخبار بعض الصحابة و مثله كثير موجود في كتب التراث ‪ ،‬وهي نفس المراجع التي‬


‫‪30‬‬

‫يستقي منها الخطاب الديني ‪ .‬و ما سبق ذكره من حوادث و أخبار ما هي إال أمثلة لتأكيد‬

‫حقيقة يصر الخطاب الديني على رفضها و عدم االعتراف بها و هي أن الصحابة بشر كغيرهم‬ ‫من البشر يحبون و يكرهون يتحزبون و يتعصبون و يتأثرون بالعوامل االجتماعية والسياسية‬

‫و العصبية القبلية و كأي بشر فهم يصيبون و يخطئون ‪ ،‬و ليسوا بأي حال من األحوال‬

‫معصومين عن الخطأ و ال عن الخطيئة ‪ .‬فلقد جاءوا من أصول مختلفة و انتماءات قبلية و‬ ‫اجتماعية مختلفة ‪ .‬كما دخلوا اإلسالم ألسباب مختلفة و في فترات مختلفة ‪ ،‬كما عاشروا‬

‫الرسول ( ص) فترات مختلفة طالت عند بعضهم و قصرت عند البعض اآلخر ‪.‬‬

‫و لقد أختلف الصحابة فيما بينهم ألسباب مختلفة و بدرجات مختلفة و أشكال مختلفة وصل‬

‫عند البعض حد الكراهية و البغضاء واالقتتال كما رأينا ما حدث بين علي و معاوية ‪ .‬و لقد‬

‫شتم البعض البعض اآلخر ‪ ،‬فهذا علي بن أبي طالب مثال يقول في عمر بن العاص ‪ :‬إنه‬

‫ليقول فيكذب ‪ ،‬و يعد فيخلف ‪ ..‬و يخون العهد ‪ ) 27 ( .‬و يقول في طلحة و الزبير ‪ :‬إنهم‬ ‫ليطلبون حقا هم تركوه و دما هم سفكوه ‪ ) 28 ( .‬و هذا عمر بن الخطاب يقول قي أبي‬

‫هريرة " ال وازع من ضمير " و " أكبر كذاب من المحدثين " ( ‪ ) 29‬ثم أن الخالف قد تعدى‬

‫القول كما رأينا إلى الحرب و االقتتال ‪ ،‬فحارب بعضهم بعضا و قتل بعض الصحابة إخوانهم‬ ‫من الصحابة ‪.‬‬

‫و لقد كان الصحابة بشكل عام فريقين ‪ ،‬فريق منهم لم يتأثر ببذخ الحياة الجديدة و لم‬

‫يستسلم للترف و الرخاء و بقي على بساطة المسلمين في العهد األول من اإلسالم و لقد‬

‫عارض كنز الصحابة لألموال مستندا على اآلية ‪ 219‬من سورة البقرة ‪ ":‬يسألونك ماذا‬

‫ينفقون قل العفو " و العفو معناه ما فضل عن قوت الرجل و عياله و اآلية ‪ 35‬من سورة‬

‫التوبة ‪ ":‬و الذين يكنزون الذهب و الفضة و ال ينفقونها في سبيل اهلل فبشرهم بعذاب أليم " و‬

‫الذهب و الفضة هما شكال النقد في تلك الحقبة و بذلك تعني كنز األموال بشكل عام ‪.‬‬

‫و كان من رموز الفريق األول ‪ ،‬عمر بن الخطاب و علي بن أبي طالب و أبي ذر الغفاري و‬

‫عمار بن ياسر و غيرهم ‪.‬‬

‫أما الفريق الثاني فلقد تأثر بالحياة الجديدة و استسلم لحياة الرخاء و كنز األموال و جمع‬

‫األطيان كما ذكرنا أمثلة على ذلك أعاله ‪ .‬و لقد إدعى هذا الفريق أن اآليتين المذكورتين‬ ‫قد نسختا باآلية ‪ 103‬من سورة التوبة " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها "‬ ‫و لقد تمسك علي و أصحابه بموقفهم و طالبوا بإعادة األموال المكتسبة إلى بيت مال‬

‫المسلمين ‪ .‬و لقد كان نشاط أبي ذر الغفاري في هذا المجال سببا لشكوى األغنياء منه مما‬ ‫دعا بعثمان بن عفان إلى نفيه إلى صحراء الربدة و بقي فيها حتى مات ‪.‬‬


‫‪31‬‬

‫و لعل هذا من أهم األسباب التي دفعت الكثير من أصحاب علي بن أبي طالب للتخلي عنه و‬

‫اللجوء إلى خصمه معاوية بن أبي سفيان ‪ .‬ففي الوقت الذي دعاهم فيه علي إلى إعادة أموال‬ ‫العفو إلى بيت مال المسلمين ووعدهم بزاد اآلخرة ‪ ،‬وعدهم معاوية باإلبقاء على مكتسباتهم‬ ‫و بزاد الدنيا و نعيمها فاختاروا زاد الدنيا و نعيمها وانضموا إلى معاوية و حاربوا عليا حتى‬

‫ذاب و ال مساعد إال أهل بيتي " ( ‪ ) 30‬و‬ ‫بات علي يقول " فنظرت فإذا ليس رافد و ال ٌ‬ ‫عنه أن النبي ( ص ) قال ‪ ":‬يا علي إن القوم سيفتنون بأموالهم و يمنون بدينهم على ربهم ‪،‬‬ ‫و يتمنون رحمته و يأمنون سطوته ‪ ،‬و يستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة و األهواء الساهية‬

‫ردة أم بمنزلة فتنة ؟ فقال (‬ ‫‪ .‬قلت ‪ :‬يا رسول اهلل ‪ ،‬بأي المنازل أنزلهم عند ذلك ؟ أبمنزلة َ‬ ‫ص ) بمنزلة فتنة ‪ ) 31 ( ".‬أبعد هذا القول قول آخر ؟ صدق الرسول الكريم فلقد كان‬ ‫يعرف أن أصحابه بشر و أن كثي ار منهم سيفتنون بأموالهم و يمنون بدينهم على اهلل‬

‫فيستدلون حرامه بالشبهات الكاذبة و األهواء السا هية ‪.‬‬

‫و رغم أن الخطاب الديني قد عدل الصحابة كلهم و عصمهم عن الخطأ فانه بشكل عام‬

‫قسمهم إلى مراتب‪ ،‬و تتفاوت مراتب الفضل في الزمان ابتداء من عصر النبوة إلى عصر‬

‫الخالفة ‪ .‬و هناك خمس مراتب ‪ :‬الخلفاء الراشدون ‪ ،‬و العشرة المبشرون بالجنة ( منهم‬

‫الخلفاء األربعة الراشدون ) و البدريون الذين شاهدوا بد ار و األحديون الذين شاهدوا أحدا‪ ،‬و‬ ‫أهل بيعة الرضوان بالحديبة ‪ .‬و قد ال تعني المشاهدة الحضور الفعلي بل يمكن الحضور‬

‫أج ار أي له فضل المشاركة بالمال أو بالتأييد بالنية و لكن منعته الظروف من الحضور ‪.‬و قد‬

‫تتداخل المراتب ‪.‬‬

‫خير األمة أصحاب رسول اهلل ‪ ،‬األربعة أفضل من العشرة ‪ ،‬و العشرة‬

‫أفضل ممن عداهم من أهل عصرهم ‪ ،‬و أن أهل ذلك العصر أفضل ممن بعدهم و كذلك من‬ ‫بعدهم أفضل ممن يليهم ‪" ) 32 ( .‬‬

‫و نحن نوافق الدكتور حسن حنفي في قوله بأنه ‪ "،‬إذا كان فضل األربعة األوائل قربهم من‬

‫الرسول فإنما كان ذلك عارضا تاريخيا محضا عن طريق بيعة األمة و عقدها على كل واحد‬ ‫منهم تباعا ‪.‬و كان يمكن لعارض تاريخي آخر كاالغتيال أو الموت أو االستشهاد أن يغير‬ ‫نظام األسبقية في الزمان ‪ .‬أما المبشرون في الجنة فان ذلك يدل على مجرد التعبير عن‬

‫االستحقاق ألن الحساب لم يتم بعد و إال كان مصادرة على المطلوب ‪ ،‬مصادرة على حق اهلل‬ ‫حتى و لو تم ذلك من الرسول ‪ .‬و التبشير في الدنيا مثل الشفاعة في اآلخرة مضاد لقانون‬

‫االستحقاق ‪ .‬و فضل أهل بدر هو في بداية القتال بين الثورة الجديدة وبين النظام القديم ‪ ،‬و‬

‫التحول من الدعوة السلمية و الكفاح المسلح ‪ .‬أما فضل أهل أحد فهو الثبات في القتال ……‬ ‫أما أهل بيعة الرضوان فهو الثبات مع الثورة حتى في أضعف لحظاتها و القدرة على مواصلتها‬


‫‪32‬‬

‫بوسائل أخرى ‪ .‬و لكن ماذا عن الشهداء في كل عصر ؟ و هل اإلنسان مسئول عن وقت‬

‫قدومه إلى الدنيا و العصر الذي عاش فيه أم أن مسئوليته في تقبله لها في أي عصر وجد و‬ ‫في أي معركة فرضت عليه ؟وان االختالف على هذا الترتيب و إدخال من وصلوا إلى القبلتين‬ ‫في مراتب الفضل األولى يدل على أن الموضوع كله حكم قيمة ال سند له من الوحي أو العقل‬

‫أو الواقع ‪) 33 (.‬‬

‫و تفيد كتب التراث أن الصحابة األوائل حتى أولئك الذين قاتلوا مع الرسول في بدر وأحد‬

‫وغيرها من المواقع لم يكونوا مالئكة كما يحاول تصويرهم الخطاب الديني وانما بشر ذوي‬ ‫أهواء و أطماع كغيرهم من البشر ‪ ،‬حيث يروي أبو إمامة ألباهلي ‪ " :‬سألت عبادة بن‬

‫الصامت عن األنفال ( التي وردت في سورة األنفال ) قال ‪ :‬بأنها نزلت فينا أصحاب بدر‪،‬‬

‫حين اختلفنا في النفل و ساءت فيه أخالقنا ‪ ،‬فنزعه اهلل من أيدينا فجعله إلى رسوله ‪ ،‬فقسمه‬

‫رسول اهلل صلى اهلل عليه و سلم بين المسلمين عل السواء ‪) 34 ( " .‬‬

‫كما تفيد كتب التراث أن الصحابة قد هربوا من حول النبي (ص ) في معركة أحد ‪-‬حيث انهزم‬

‫المسلمون لتركهم مواقعم و لهثهم خلف الغنائم ‪-‬حتى صار ينادي ‪ :‬إلي يا فالن ‪ ،‬إلي يا‬ ‫فالن ‪ ،‬أنا رسول اهلل ‪ ،‬فال يعرج عليه أحد ‪ ،‬والنبل يأتي إليه من كل ناحية ‪ ) 35 ( .‬كما‬

‫يروي الطبري أنه عند الهجوم على النبي تفرق أصحابه عنه ‪ ،‬فهرب بعضهم و عاد إلى‬

‫المدينة ال يلوي على شئ‪ ،‬بينما صعد البعض اآلخر إلى صخرة فوق الجبل ‪ ،‬بينما استمر‬

‫النبي ينادي ‪ :‬إلي عباد اهلل إلي عباد اهلل ‪ ) 36 ( .‬و كان عثمان بن عفان أحد الذين هربوا‬ ‫و عادوا إلى المدينة ‪ ،‬و كانوا بعد هربهم أن أبعدوا عن المدينة بما يصل إلى ثالثين ميال ‪،‬‬

‫ولم يعودوا إليها من مهربهم إال بعد ثالثة أيام و بعد أن وصلتهم األخبار بعودة النبي‬

‫(ص) و من بقي من أصحابه ‪ ) 37 ( .‬و يعلق الطبري على هرب أصحاب النبي من حوله‬ ‫بعد هزيمتهم في " أحد" من جراء انشغالهم بالنهب و السلب بأنهم ‪ :‬عوقبوا بما صنعوا ‪،‬‬

‫قتل من أصحاب رسول اهلل (ص ) سبعون ‪ ،‬و أسر سبعون ‪ ،‬وكسرت رباعيته ‪ ،‬و هشمت‬

‫البيضة على رأسه ‪ ،‬و سال الدم على وجهه ‪ ،‬و فر أصحاب رسول اهلل و صعدوا الجبل ‪( .‬‬

‫‪) 38‬‬


‫‪33‬‬

‫مراجع الفصل الثاني‬ ‫‪ -1‬إبن هشام –سيرة ابن هشام –تهذيب عبد السالم هارون ‪-‬دار إحياء التراث العربي‬ ‫بيروت ص ‪295-292 :‬‬

‫‪ -2‬محمد سعيد العشماوي‪-‬الخالفة اإلسالمية ‪ ،‬سينا للنشر‪ -‬ط ‪ -1992-2‬ص‪106 :‬‬

‫‪ -3‬محمد عبده ‪ -‬شرح نهج البالغة ‪ ،‬مؤسسة األعلمي للمطبوعات بيروت ج ‪ 1‬ص ‪34 :‬‬ ‫‪ -4‬علي بن برهان الدين الحلبي ‪ -‬السيرة الحلبية ‪ ،‬دار المعرفة بيروت مج ‪ - 1‬ج ‪ 2‬ص‬ ‫‪593:‬‬

‫‪ -5‬محمد بن جرير الطبري ‪ -‬تاريخ األمم و الملوك ‪ -‬مؤسسة األعلمي ‪ -‬ج ‪– 3‬ص‪439:‬‬ ‫‪،‬الفرق بين الفرق ‪-‬عبد القادر بن طاهر البغدادي التميمي ص‪ ، 17:‬التمهيد‪-‬ألبي بكر‬ ‫الباقالني ‪ ،‬دار الفكر العربي ‪ ،‬القاهرة ص ‪227-220:‬‬

‫‪ -6‬محمد سعيد العشماوي ‪ -‬الخالفة اإلسالمية ‪-‬م‪.‬س ‪-‬ص ‪113-112 :‬‬

‫‪ -7‬العقاد ‪ -‬المجموعة الكاملة ‪ -‬المجلد الثاني ‪ ،‬عبقرية اإلمام علي‪ -‬دار الكتاب اللبناني‬ ‫ص ‪99 :‬‬

‫‪ -8‬طه حسين ‪ -‬األعمال الكاملة ‪ -‬الفتنة الكبرى ‪ -‬دار الكتاب اللبناني ‪ -‬مج ‪ ، 4‬ص ‪:‬‬ ‫‪377-366‬‬

‫‪ -9‬محمد عبده ‪-‬شرح نهج البالغة ‪ -،‬م‪.‬س‪ -‬ج ‪ 1‬ص ‪35 :‬‬

‫‪ -10‬محمد جرير الطبري ‪ -‬تاريخ األمم و الملوك ‪ -‬م‪.‬س‪ -‬ج ‪ 3‬ص ‪439 :‬‬

‫‪ -11‬محمد محي الدين عبد الحميد ‪ -‬تحقيق مقاالت اإلسالميين ألبي الحسن األشعري –‬ ‫النهضة المصرية‪-‬ط‪ -1950-1‬هامش ص ‪55:‬‬

‫‪ -12‬محمد عبده‪ -‬شرح نهج البالغة ‪ -‬م ‪ .‬س‪ -‬ج ‪ 1‬ص ‪44 :‬‬

‫‪ -13‬الشهرستاني ‪ -‬الملل و النحل – تحقيق محمد سعيد الكيالني‪ -‬دار المعرفة ‪ ،‬بيروت‪-‬‬ ‫‪ -1982‬ج ‪ 1‬ص ‪49 :‬‬

‫‪ -14‬محمد سعيد العشماوي‪-‬الخالفة االسالمية‪ -‬م ‪ .‬س ‪-‬ص ‪117 :‬‬

‫‪ -15‬الشريف الرضي ‪ -‬نهج البالغة ‪ -‬شرح محمد عبده – م س ‪-‬ج ‪ 3‬ص ‪17 :‬‬ ‫‪ -16‬المصدر السابق – ص ‪32:‬‬

‫‪ -17‬المصدر السابق ‪-‬ص ‪35 :‬‬ ‫‪-18‬‬

‫المراسالت بين علي بن ابي طالب و عبد اهلل بن العباس نجدها في ‪:‬‬

‫‪‬‬

‫الطبري ‪-‬تاريخ الطبري‪ -‬م‪ .‬س‪ -‬ج ‪ 4‬ص ‪109-108 :‬‬


‫‪34‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫ابن األثير‪-‬الكامل‪ -‬دار الكتاب العربي ‪،‬بيروت ‪ -‬ج ‪ 3‬ص‪194:‬‬

‫طه حسين ‪-‬الفتنة الكبرى ‪ -‬المجموعة الكاملة لطه حسين – دار الكتاب العربي‬

‫‪ ،‬بيروت ‪ -‬م‪.‬س ‪-‬مج ‪ 4‬ص ‪557-551:‬‬

‫‪ -19‬ابن أثير‪ -‬أسد الغابة ‪-‬ج ‪ 5‬ص ‪-38:‬بدون معلومات‬ ‫‪ -20‬الطبري ‪ -‬تاريخه ‪-‬م ‪ .‬س ‪-‬ج ‪ 4‬ص‪176 :‬‬

‫‪ -21‬ابن سعد‪ -‬الطبقات ‪ -‬دار صادر ‪ ،‬بيروت ‪-‬ج ‪ 3‬ص ‪110 :‬‬ ‫‪ -22‬ابن سعد ‪-‬م س ‪ -‬ص ‪127 ، 110:‬‬

‫‪ -23‬ابن سعد ‪ -‬م س ‪ -‬ص ‪222 ، 149 ، 136 ، 110 ، 76 :‬‬

‫راجع كذلك مروج الذهب للمسعودي ‪ -‬دار المعرفة بيروت‪ -‬ج ‪342-341 : 3‬‬

‫‪ -24‬ابن كثير ‪ -‬البداية و النهاية ‪ -‬دار الكتب العلمية ‪ -‬ج ‪ 7‬ص ‪261-259 :‬‬ ‫‪ -25‬المسعودي ‪ -‬مروج الذهب ‪-‬م س‪ -‬ص ‪426 :‬‬ ‫‪ -26‬المصدر السابق ‪– -‬ص ‪343 :‬‬

‫‪ -27‬الشريف الرضي – نهج البالغة ‪ -‬م س‪ -‬ج ‪ 1‬ص ‪147 :‬‬ ‫‪ -28‬المصدر السابق‪ -‬ج ‪ 2‬ص ‪50 :‬‬

‫‪ -29‬ابن حجر ‪ -‬اإلصابة ‪ -‬ج ‪ 8‬ص ‪ -7 :‬بدون معلومات‬

‫‪ -30‬الشريف الرضي – نهج البالغة ‪ -‬م س‪ -‬ج ‪ 2‬ص ‪202 :‬‬ ‫‪ -31‬المصدر السابق ‪ -‬ج ‪ 2‬ص ‪50 :‬‬

‫‪-32‬سيف الدين اآلمدي ‪،‬غاية المراد في علم الكالم ‪ .‬ص ‪ 391 :‬عن د‪ .‬حسن حنفي ‪ ،‬من‬ ‫العقيدة إلى الثورة ج‪ 5 :‬التاريخ المتعين ‪ -‬دار التنوير‪ ،‬بيروت –‪ -1988‬ص ‪301 :‬‬

‫‪ -33‬د ‪ /‬حسن حنفي ‪ .‬من العقيدة إلى الثورة ‪ -‬م ‪ .‬س ‪ .-‬ص ‪301-300 :‬‬

‫‪ -34‬السهيلي ‪ ،‬شرح السيرة النبوية البن هشام ‪ ،‬ضبط ه طه عبد الرءوف ‪ ،‬دار المعرفة ‪،‬‬ ‫بيروت ‪ ،‬ص ‪ 302 :‬و ابن كثير ‪ ،‬البداية و النهاية دار الكتب ‪ ،‬بيروت ص‪302 :‬‬

‫‪ -35‬الحلبي ‪ ،‬سيرة االبن المأمون إنسان العيون ‪ ،‬دار المعرفة ‪ ،‬مج ‪ -2‬ص ‪505 :‬‬ ‫‪ -36‬الطبري ‪ -‬تاريخ الرسل و الملوك – م س ‪ -‬ج ‪- 2‬ص ‪520-519 :‬‬

‫‪ -37‬البهيقي ‪ -‬دالئل النبوة ‪ -‬تحقيق د‪ .‬عبد المعطي قلعجي ‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪ ،‬بيروت ‪،‬‬ ‫ج ‪ 3‬ص ‪310 :‬‬

‫‪ -38‬الطبري ‪ -‬تاريخ الرسل و الملوك ‪ -.‬م س‪ . -‬ج ‪ 2‬ص ‪475 :‬‬


‫‪35‬‬

‫الفصل الثالث ‪ :‬الخالفة ‪ -‬هل كانت إسالمية ؟ أم ملك و سلطان ؟‬ ‫الخالفة الراشدة ‪ :‬هل كانت فعال فترة راشدة كلها صفاء و نقاء ؟‬ ‫كان موت النبي صدمة عنيفة فاجأت المسلمين عامة ‪ ،‬و كانت هزة عميقة لد ى أولئك‬

‫الذين كانوا ينظرون إلى النبي نظرة فوق بشرية ‪ ،‬بمعنى أنه ال يمكن أن يتعرض للموت كما‬

‫يتعرض له البشر رغم أن الرسول (ص) كان يؤكد دوما حقيقة شخصيته البشرية ‪ .‬كما أكدت‬

‫على ذلك آيات القرآن الكريم مثل ‪ " :‬قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي " ( ‪ ) 1‬أو " قل‬

‫سبحان ربي هل كنت إال بش ار رسوال " ( ‪) 2‬‬

‫فهذا عمر بن الخطاب عندما رأى الناس يبكون الرسول سارع إلى منبر المسجد خطيبا قائال ‪:‬‬

‫ال أسمعن أحدا يقول أن محمدا قد مات … إلى آخر كلمته " (‪ ) 3‬ثم جاء أبو بكر و عمر‬

‫يخطب الناس فقال له أسكت ‪ ،‬أسكت ثم صعد إلى المنبر فقال ‪ :‬أما بعد فمن كان منكم يعبد‬ ‫محمدا فمحمد قد مات و من كان منكم يعبد اهلل فان اهلل حي ال يموت ثم تال اآلية ‪ 144‬من‬

‫سورة عمران ‪ ":‬و ما محمد إال رسول قد خلت من قبله الرسل أفأن مات أو قتل إنقلبتم على‬

‫أعقابكم ‪ ".‬فقال عمر بعد سماع الآلية من أبي بكر ‪ :‬و اهلل ما هو إال أن سمعت أبا بكر‬ ‫يتلوها ‪ ،‬فعقرت و أنا قائم حتى خررت إلى األرض و أيقنت أن النبي قد مات ‪) 4 ( ".‬‬

‫و ما أن تأكد الناس من موت النبي حتى ظهرت إلى السطح رواسب الصراع القديم بين مكة و‬

‫المدينة إضافة إلى الصراع بين بني هاشم الذين ينتمي إليهم النبي و صهره وابن عمه علي‬ ‫بن أبي طالب و بقية بطون قريش مثل بني عبد شمس و أمية ‪ ،‬و بدأ الصراع على السلطة‪.‬‬

‫في حين كان علي بن أبي طالب و العباس بن عبد المطلب عمه وعم النبي مشغولين في‬ ‫غسل جثمان النبي و تكفينه ثم حمله إلى مدفنه قرب غرفته التي مات فيها ببيت زوجه‬

‫عائشة ‪ ،‬كان زعماء األنصار يعقدون اجتماعا في سقيفة بني ساعدة ‪ ،‬ثم يعلنون أمارة‬

‫المؤمنين بعد النبي لزعيم الخزرج األنصاري سعد بن عبادة ‪ .‬فبلغ الخبر أبا بكر و عمر بن‬

‫الخطاب فأسرعوا إلى السقيفة حيث يجتمع األنصار و حدث ما حدث إلى أن بايع عمر بن‬

‫الخطاب أبا بكر و تقدم أبو عبيدة الجراح و هو أنصاري إلى أبي بكر و بايعه بالخالفة فانقاد‬ ‫األنصار لرأي أبي عبيدة و بذلك خمدت الفتنة التي كادت أن تشتعل بينهم ‪.‬‬

‫كان بنوا هاشم ‪-‬و هم آل النبي ‪ -‬غائبين عن ما حدث في سقيفة بني ساعده ‪ .‬فلما علموا‬

‫باألمر ثار غضبهم و يبدوا أن فريقا من الغاضبين ذهب إلى علي يريدون مبايعته بالخالفة‬


‫‪36‬‬

‫فطلب منهم أن يرجعوا إليه في الغد و قد حلقوا رؤوسهم ‪ ،‬فلما كان الغد لم يحضر منهم‬

‫سوى ثالثة نفر ‪) 5 (.‬‬

‫بالرغم من مبايعة علي بن أبي طالب ألبي بكر رغم تأخره في ذلك و تعاونه معه و االعتراف‬

‫بالخليفة الثاني عمر بن الخطاب و تعاونه معه ‪ ،‬لكن عدم ألرضى بقي في النفوس إلى أن‬ ‫ظهر واحتدم في خالفة عثمان بن عفان ‪ .‬يحدثنا الطبري في تاريخه( ج ‪ 4‬ص ‪) 209‬‬

‫أن عليا كان يضع كل ليلة زوجه فاطمة الزهراء بنت النبي على جمل و يخرج بها إلى القبائل‬

‫خارج المدينة يحرضها على مبايعته هو و على أحقيته ‪ -‬و هو أبن عم النبي و زوج فاطمة‬ ‫بنت النبي ووالد سبطيه الحسن و الحسين ‪ -‬بالخالفة و ميراث النبي ‪ .‬ولما ماتت فاطمة‬

‫دفنها علي ليال و لم يخبر أبا بكر بالوفاة ‪ .‬و كان لعلي وجه من الناس في حياة فاطمة فلما‬

‫توفيت انصرفت وجوه الناس عنه فأرسل إلى أبي بكر حتى يأتيه وحده لمبايعته ‪".‬‬

‫و لقد تحول الصراع على الخالفة من كونه صراعا بين المهاجرين و األنصار و بين‬

‫الهاشميين و سائر الفرقاء على السلطة إلى صراع حول صاحب الحق الديني في الخالفة‪.‬‬

‫إن مسألة "الحق الديني " قد ارتبطت ارتباطا وثيقا بقضية الخالف حول المفهوم الديني‬

‫للخالفة ‪ .‬هل هي حق الهي ‪ ،‬أي هل يكون اختيار الخليفة بواسطة الوحي المنزل على النبي‬

‫و على النبي تبليغ المسلمين هذا االختيار بنص واضح صريح و يصبح واجب على‬

‫المسلمين بعد النبي الخضوع لهذا االختيار و االعتقاد به كجزء من اإليمان ؟ أم أن الخالفة‬

‫منصب رآسي ال يأتي اختياره من عند اهلل ‪ ،‬بل هو حق من حقوق المسلمين أنفسهم ‪ ،‬و‬

‫لهم هم أن يقرروا طريقة اختيار الخليفة ‪ ،‬وهم الذين يقررون الصفات التي يرون ضرورة‬ ‫توفرها في من يتولى أمر هذا المنصب ‪.‬‬

‫لقد أخذ أنصار علي بن أبي طالب بالقول األول و هو أن الخالفة حق إلهي ‪ ،‬و اصبح بعد‬ ‫ذلك أصال من أصول العقيدة عند الشيعة ‪ .‬و لقد اعتمدوا في قولهم على الحديث النبوي‬

‫المسمى بحديث الغدير ‪.‬‬

‫و قصة هذا الحديث كما ترويها كافة المصادر اإلسالمية هي ‪ :‬أن النبي خرج من مكة عائدا‬

‫إلى المدينة بعد حجة الوداع ‪ ،‬أوحى اليه في الطريق " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من‬ ‫ربك ‪ ،‬وان لم تفعل فما بلغت رسالته ‪ ".‬المائدة آية ‪ 67‬فأمر النبي أصحابه فاجتمعوا في‬

‫مكان يسمى " غدير خم " ثم دعا إليه عليا بن أبي طالب فوقف إلى يمينه ثم خطب فقال ‪ :‬لقد‬

‫دعيت إلى ربي و إني مجيب ‪ ،‬و إني مغادر كم من هذه الدنيا و إني تارك فيكم الثقلين ‪،‬‬

‫كتاب اهلل و عترتي ‪ ،‬أهل بيتي ‪ " .‬ثم أخذ بيد علي و رفعها بحيث يراها الجميع و قال ‪ :‬أيها‬


‫‪37‬‬

‫الناس ألست أولى منكم بأنفسكم ؟ قالوا ‪ :‬بلى فقال ‪ :‬من كنت مواله فهذا علي مواله ‪ ،‬اللهم‬

‫وال من وااله و عاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق حيثما دار ‪".‬‬ ‫فلما انتهى النبي من خطابه ‪ ،‬قال عمر بن الخطاب مهنئا عليا ‪ :‬بخ ‪ ،‬لك يا علي ‪،‬‬

‫أصبحت موالي و مولى كل مؤمن و مؤمنة ‪ .‬ثم عاد النبي إلى خيمته و نصب خيمة أخرى‬ ‫بجانبها لعلي ‪ .‬ثم أمر المسلمين أن يبايعوه باإلمامة ‪) 6 ( .‬‬

‫هذا الحديث روته المصادر السنية و الشيعية و هو من األحاديث المتواترة عند الشيعة‪ ،‬و بلغ‬ ‫من أهميته عندهم أن أحد علمائهم قد ألف موسوعة ضخمة سماها "الغدير" و عدد في‬

‫الموسوعة أسماء مائة و عشرة من الصحابة كلهم روى حديث الغدير ‪) 7 ( .‬‬

‫أما الفريق اآلخر فانه اختلف مع أصحاب علي في داللة الحديث و مركز االختالف كلمة‬

‫"مولى" أو "المواالة" الواردة في الحديث ‪ .‬فشيعة علي تعتبر المواالة بالنسبة لعلي كالمواالة‬

‫بالنسبة للنبي ‪ ،‬أي أن عليا في الحديث قد نصبه النبي بعده وليا ألمر المسلمين ‪ ،‬أي إماما‬

‫لهم ‪ .‬غير أن الفريق اآلخر من المسلمين فانه أعتبر أن كلمة مولى أو المواالة و كل ما ورد‬ ‫في الحديث من كالم و أفعال إنما يدل على المحبة و المودة فقط و ليست تعني النص على‬

‫اإلمامة ‪.‬و لقد أضاف بعض أنصار هذا الفريق من المسلمين أن النبي نص نصا خفيا على‬

‫خالفة أبي بكر و ذلك حين أمر النبي اثناء مرضه األخير أن يصلوا جماعة و أن يكون أبو‬

‫بكر إمامهم في صالتهم هذه ‪ .‬فقالوا أن اإلمامة في الصالة هي اإلمامة الصغرى وأن ذلك‬

‫يوحي باسناد اإلمامة الكبرى إلى أبي بكر ‪.‬‬

‫و هذا هو أوضح مثل على أنه ال يوجد قراءة بريئة للنصوص ‪ ،‬فكل فريق فسر نص‬

‫الحديث تفسي ار يدعم موقفه السياسي و الفكري ‪.‬‬

‫و الجانب اآلخر من الصراع على الخالفة هو الجانب الذي دار حول الصراع التاريخي بين‬ ‫مكة و المدينة و لقد حسم الصراع لصالح مكة بل لصالح قريش بالذات ‪ .‬و لقد احتج‬

‫المهاجرون على األنصار بأحاديث منسوبة للنبي تشترط أن تكون إمامة المسلمين من قريش‬

‫مثل حديث " األئمة من قريش ما بقي في الناس اثنان ‪) 8 ( ".‬‬

‫و رغم معارضة اآلخرين بأحاديث نبوية مخالفة لهذا القول مثل " اسمعوا و أطيعوا و أن‬

‫استعمل عليكم عبد حبشي " رواه األئمة جميعهم أو حديث " و لو استعمل عليكم عبد أسود‬

‫يقودكم بكتاب اهلل فاسمعوا له و أطيعوا " ( ‪) 9‬و غيره كثير إال أن الخالفة بقيت في يد قريش‬

‫منذ الخليفة األول إلى سقوطها ‪.‬‬


‫‪38‬‬

‫يحاول الخطاب الديني أن يعطينا صورة مثالية عن فترة الخالفة الراشدة بكونها الفترة األكثر‬

‫صفاء و نقاء في التاريخ اإلسالمي ‪ .‬فالناس كانوا أتقياء و مثاال للنقاء ‪ ،‬والخالفة كانت مثاال‬

‫للعدل و الرخاء ‪.‬‬

‫لقد رأينا كيف أن جماعة من األنصار قد أسرعت تتسابق و لم يدفن النبي بعد لالستيالء على‬

‫األمر و األمارة دون دعوة إخوانهم المهاجرين و مشورتهم ‪.‬و كيف لحق بهم عمر بن الخطاب‬ ‫و أبو بكر و كيف دار الحديث حول األمر و األمارة دون دعوة بني هاشم أهل النبي و أقربائه‬

‫و انتهى األمر إلى مبايعة أبي بكر ‪ .‬و كيف أن عليا كان يطوف مع زوجته فاطمة بنت النبي‬ ‫في القبائل يحرضها على مبايعته هو و لم يبايع أبي بكر إال بعد وفاة زوجه فاطمة الزهراء ‪.‬‬

‫و ما عدا فترة حكم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فان فترة الخالفة الراشدة كما تحدثنا كتب‬

‫التراث كانت فترة مليئة بالحروب و الفتن و قتال المسلمين المسلمين ‪.‬‬

‫فخالفة أبي بكر لم تدم أكثر من عامين قضاها الخليفة األول في محاربة المرتدين سواء من‬

‫ارتدوا عن اإلسالم أو من رفضوا دفع الصدقة إلى الخليفة بحجة أنها كانت خاصة بالنبي ‪.‬‬

‫أما خالفة عثمان بن عغان فلقد رأينا كما أخبرتنا كتب التراث أنها كانت خالفة محسوبية و‬

‫فساد و تجاوزات أدت في النهاية إلى ثورة المسلمين عليه و قتله و بذلك كانت الفتنة الكبرى‬

‫التي أدت إلى انقسام المسلمين إلى فرق و طوائف و إلى قتال المسلمين المسلمين و‬

‫الصحابة الصحابة ‪ ،‬ووضعت معالمها السلبية على جميع صفحات التاريخ اإلسالمي إلى‬ ‫يومنا هذا ‪.‬‬

‫أما خالفة علي بن أبي طالب فلقد كانت خالفة حروب واضطرابات و فتن و صراع على الملك‬ ‫و السلطان بين علي بن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان ‪ .‬فلقد حارب عليا عائشة زوج‬

‫الرسول مع مجموعة من الصحابة أمثال طلحة و الزبير انتهت بهزيمة عائشة و مقتل طلحة‬ ‫و الزبير و مئات من الصحابة و المسلمين ‪ .‬كما حارب عليا الخوارج و أنهكوا قواه ‪ .‬كما‬

‫حاربه معاوية بن أبي سفيان و مؤيديه و انتهى كل ذلك إلى مقتل علي بن أبي طالب بعد‬

‫أن تخلت عنه األغلبية حتى قال ‪ :‬فنظرت فإذا ليس رادف و ال ذاب و ال مساعد إال أهل بيتى‬

‫‪ ".‬فلقد فضل الكثيرون مغريات الحياة الدنيا التى وعدهم بها معاوية على مغريات اآلخرة التي‬ ‫وعدهم بها علي بن أبي طالب ‪ .‬فهجروه و خانوه و حاربوه ونسوا قول الرسول الكريم ‪ :‬اللهم‬

‫وال من وااله و عاد من عاداه و انصر من نصره واخذل من خذله و ادر الحق حيثما دار ‪ ".‬و‬

‫لكن المسلمين مع األسف قد داروا حيث الدرهم و الدينار ‪.‬‬

‫تعتبر خالفة عمر بن الخطاب العهد الذهبي للخالفة الراشدة و األكثر صفاء و نقاء في‬

‫التاريخ اإلسالمي ‪ .‬و هو الوحيد من بين الخلفاء جميعا الذي استطاع أن يجمع بين أمور‬


‫‪39‬‬

‫الدين و الدنيا ‪ ،‬بين النصوص الدينية و الواقع ‪ .‬و لقد اجتمع في شخص عمر صفات ناد ار‬

‫ما تجتمع في حاكم ‪ ،‬العدل و الحزم ‪،‬المشرع و الحاكم ‪،‬مع الذكاء و الفطنة هذا إلى جانب‬

‫البساطة في العيش و المأكل و الملبس ‪ .‬فلم يتأثر ببذخ عوائد و مكتسبات الفتوحات و‬

‫حرص على أن ال يتأثر بها أصحابه و معاونيه ‪ .‬و لقد كان يراقب حكام األمصار و يبدلهم‬ ‫باستمرار خوف الترهل و االستسالم لحياة الترف ‪.‬‬

‫لقد أدرك عمر بن الخطاب جوهر و روح النصوص القرآنية فالتزم بتطبيق روح النصوص و‬

‫جوهرها و مقاصدها و ليس حرفيتها ‪ ،‬و عندما تعارضت حرفية النصوص مع الوقائع الجديدة‬

‫‪ ،‬جمد حرفية النصوص و طبق روحها و جوهرها و مقاصدها ‪) 10 ( .‬‬

‫فلقد استخلص األحكام من القواعد العامة و المقاصد العامة للشريعة اإلسالمية ‪.‬و من هذه‬

‫القواعد و من اجتهاداته الخاصة الجريئة استخلص تفاصيل خطة عملية تطبيقية لسياسة‬

‫الجيوش الفاتحة و سياسة البلدان المفتوحة ‪ .‬فلقد كانت العالقة بين قادة جيوش الفتح و‬

‫جنودها قائمة على أساس من الديمقراطية الواسعة مع إبقاء التقاليد القبلية خاصة في مسألة‬

‫توزيع الغنائم ‪ .‬و لقد أسس عمر بن الخطاب أول ديوان في اإلسالم ‪ .‬وكان الغرض األول‬

‫من تأسيسه تسجيل أسماء من يستحقون أن توزع عليهم غنائم الفتح و أموال الصدقات ‪ ،‬و‬

‫تسجيل أصنافهم و مراتبهم حسب نوع االستحقاق ‪.‬‬

‫و كانت أوامره صارمة إلى قادة جيوش الفتح في تطبيق القواعد التي و ضعها لتوزيع الغنائم‬

‫‪ ،‬باإلضافة إلى تشديد األوامر الداعية إلى التسامح مع معاملة سكان البلدان التي تقصدها‬ ‫جيوش الفتح ‪ .‬باإلضافة إلى ذلك كان يعمل برقابة صارمة إلحصاء المحاربين و تحديد‬

‫مراتبهم و انتماءاتهم و تسجيل ذلك بدقة في سجل الديوان الذي أصبح في عهده مؤسسة‬

‫إدارية منظمة طورها الخلفاء األمويون بعد ذلك ‪ .‬كل هذا رغبة منه في أن توزع الغنائم بنظام‬

‫محدد ال يتأثر برغبات قادة الجيوش ‪ .‬و إلى جانب ذلك كان عمر بن الخطاب يراقب سلوك‬

‫الحكام الذين يعينهم على البلدان المفتوحة و يطالبهم بالتقارير الدقيقة عن هذا السلوك ‪ ،‬و‬

‫يعاقب بشدة و حزم كل من يبلغه عنه من أولئك الحكام أنه أنزل ظلما بأهل تلك األمصار أو‬

‫سلب أحدا حقه ‪ .‬كما اتبع سياسة خاصة تجاه مسيحي سوريا و فلسطين و العراق حيث أنه‬

‫باعتبارهم عرب و العرب جيش اإلسالم ‪ ،‬أباح لهؤالء العرب المسيحيين حتى اذا لم يدخلوا في‬

‫اإلسالم أن يخدموا في الجيش العربي الفاتح متساوين بالحقوق كلها مع العرب المسلمين في‬

‫حين لم يباح لغير المسلمين من أهل البلدان المفتوحة أن يشتغلوا في الجيش ‪.‬‬

‫و لم يتأثر عمر بن الخطاب ببذخ و رخاء العيش الجديد ‪ ،‬فعاش بسيط المأكل و الملبس و‬

‫لقد كان يقول ‪ " :‬إن رسول اهلل قدر فوضع الفضول مواضعها و تبلغ بالتزجية و اني قدرت‬


‫‪40‬‬

‫فواهلل ألضعن الفضول مواضعها و تبلغ بالتزجية " أي انه اقتنع بالكفاية و ما يكفي من‬

‫العيش و عمر يعني هنا قول النبي (ص) ‪ " :‬من أعطى فضل ماله فهو خير له و من أمسك‬

‫فهو شر له و من كان له فضل ظهر فليعد به على من ال ظهر له ……‪ .‬و ذكر من أصناف‬

‫المال ماذكر حتى رأينا أن ال حق ألحد منا في فضل‪ " .‬رواه مسلم ‪.‬‬

‫و لقد كان عمر يلوم بعض من أثرى من الصحابة على كنزهم األموال ‪ ،‬و لقد ذكرت له أقوال‬ ‫قبيل مقتله يعبر فيها عن عزمه على مصادرة الفضول و التسوية في العطاء ‪.‬‬

‫و لكنه قتل قبل أن يتمكن من تنفيذ ذلك ‪.‬‬

‫كما كان يراقب سلوك الوالة الحاكمين في األمصار و يأخذهم بالشدة و الحزم حين يبلغه عنهم‬ ‫شيء من أعمال الظلم حتى كان يبادر إلى عزل أي مخالف منهم كما كان يصادر األموال و‬ ‫الممتلكات التي يكون الوالي أو الحاكم قد جمعها بغير حق أو انتزعها من أصحابها ظلما و‬

‫استأثر بها ‪ .‬و لقد كتب عمر إلى حذيفة أن أعط الناس أعطيتهم و أرزاقهم فكتب إليه حذيفة‬ ‫إن قد فعلنا و بقي شيء كثير فكتب إليه عمر ‪ :‬انه فيئهم الذي أفاده اهلل عليهم ‪ ،‬ليس هو‬

‫لعمر و ال آلل عمر فاقسمه بينهم ‪) 11 ( :‬‬

‫لقد توفي عمر بن الخطاب عام ‪ 644‬للميالد بعد أن ترك بصماته الخاصة و طابعه الخاص‬

‫على أنظمة الدولة اإلسالمية التي يرجع له فضل كبير في وضع اسسها العملية ‪ .‬لهذا كانت‬

‫خالفة عثمان بن عفان مصدر خيبة أمل للمسلمين ‪ ،‬فبعد أن عاشوا نظام عمر العادل ووجهوا‬ ‫بنظام مختلف كل االختالف ‪ ،‬حيث تفشت المحسوبية و الفساد اإلداري و المالي و جمعت‬

‫األموال الطائلة على أيدي بني أمية ‪ ،‬مما أدى إلى االنفجار و الثورة على عثمان و قتله ‪.‬‬ ‫لقد كانت فترة حكم عمر بن الخطاب تمثل الفترة األكثر عدال و صفاء في تاريخ الخالفة‬

‫اإلسالمية ‪ .‬و لكن عمر بن الخطاب كان شخصية فذة ونادرة في التاريخ العربي اإلسالمي ‪ .‬و‬

‫لقد حاول بعض الخلفاء تقليده ففشلوا ‪.‬‬

‫فعمر بن عبد العزيز الخليفة األموي و الذي يعتبره التراث اإلسالمي الخليفة الراشد الخامس ‪،‬‬ ‫قد حاول تقليد عمر بن الخطاب فلم يستمر حكمه أكثر من سنتين و ثالثة أشهر حيث قتل‬

‫مسموما ‪.‬‬

‫و هذا أيضا الخليفة العباسي المهتدي باهلل يحاول كذلك أن يحذو حذو عمر بن الخطاب فيأمر‬

‫بالمعروف و ينهي عن المكر و يزهد في الدنيا و يجتهد في الليل و يطيل الصالة و يلبس‬ ‫جبة من شعر فثقلت و طأته على العامة و الخاصة بحمله إياهم على الطريقة الواضحة‬

‫فاستطالوا خالفته و سئموا أيامه و عملوا الحيلة حتى قتلوه ‪ .‬و لما قبضوا عليه قالوا له أتريد‬

‫أن تحمل الناس على سيرة عظيمة لم يعرفوها ؟ فقال ‪ :‬أريد أن أحملكم على سيرة الرسول و‬


‫‪41‬‬

‫أهل بيته و الخلفاء الراشدين ‪ .‬فقيل له ‪ :‬إن الرسول كان مع قوم زهدوا في الدنيا و رغبوا في‬

‫اآلخرة كأبي بكر و عمر و غيرهم فأنت إنما رجالك تركي و خزري و مغربي و غير ذلك من‬

‫أنواع األعاجم ال يعلمون ما يجب عليهم في أمر أخرتهم و إنما غرضهم ما استعجلوه من‬

‫هذه الدنيا ‪ ،‬فكيف تحملهم على ما ذكرت من الواضحة ؟ و لقد قتل المهتدي و اختلفوا في‬

‫طريقة قتله ‪ ،‬فالبعض يذكر أنه قتل بالخناجر و شرب القتلة من دمه حتى رووا منه و منهم‬

‫من رأى أنه عصرت مذاكيره حتى مات ‪) 12 (.‬‬

‫و اذا تابعنا قراءة صفحات تاريخ الخالفة اإلسالمية سواء األموية أو العباسية لوجدنا أنهما‬ ‫كانتا حكما عربيا و قريشيا على التحديد و لم يكن الدين إال غطاءا و تبري ار لالستيالء على‬

‫السلطة و التفرد في الملك ‪.‬‬


‫‪42‬‬

‫الخالفة األموية ‪:‬‬

‫هل كانت خالفة دينية أم حكما قبليا وراثيا ؟‬

‫بعد ما قتل علي بن أبي طالب بويع ألبنه الحسن بالخالفة ‪ ،‬و قد خرج مع شيعته لقتال‬

‫معاوية فخذله شيعته كما خذلوا والده من قبله ‪ ،‬مما اضطره إلى مبايعة معاوية بن أبي سفيان‬

‫شرط أن يكون الحسن ولي العهد من بعده ‪ .‬ولكن معاوية بعث من دس السم له و يقال أن‬

‫زوجته جعدة بنت األشعث هي التي دست السم له في العسل فمكث شهرين في ألم شديد إلى‬

‫كبر أعوانه معه ‪) 13 ( .‬‬ ‫كبر و َ‬ ‫أن توفاه اهلل ‪ ،‬و لما بلغ معاوية خبر موت الحسن َ‬ ‫و لقد أجرى معاوية تغيرين أساسيين في طبيعة الخالفة ‪:‬‬

‫التغير األول ‪ :‬أنه غيرها من خالفة رسول اهلل كما جرى عليها الخلفاء الراشدون إلى خالفة‬

‫اهلل حيث قال ‪ :‬األرض هلل و أنا خليفة اهلل فما أخذت لي و ما تركت للناس فبالفضل مني ‪.‬‬ ‫و التغير الثاني ‪ :‬أنه حول الخالفة إلى خالفة وراثية حيث دعا الناس إلى مبايعة ابنه زيد‬

‫في حياته و منذ ذلك الوقت أصبحت الخالفة حكما وراثيا ‪.‬‬

‫أما ابنه اليزيد فباعه طويل في إراقة دماء المسلمين فلقد قتل جيشه الحسين بن علي في‬

‫موقعة كر بالء و لقد قتل مع الحسين اثنان و سبعون رجال منهم من أوالد الحسن أربعة و‬

‫جز رأس الحسين و سلب ما كان معه و حمل رأسه إلى الخليفة يزيد بن معاوية فألقوها بين‬

‫يديه ‪) 14 ( .‬‬

‫و باإلضافة إلى قتل الحسين و كثير من آل النبي ممن كانوا مع الحسين فان جيشه و بأمر‬

‫منه قد هاجم المدينة المنورة و استباحها ثالثة أيام قيل أنه قتل فيها أربعة آالف و خمسمائة‬

‫وانه قد فضت فيها بكارة ألف بكر ‪ .‬و كانت أوامر يزيد لقائد جيشه مسلم أن يستبيح المدينة‬

‫ثالثة أيام و ‪ " :‬كل ما فيها من مال أو دابة أو سالح أو طعام للجند " ( ‪) 15‬و لم يكتف‬

‫خليفة المسلمين و أمير المؤمنين بما فعل ‪ ،‬بل ها هو بأبيات شعر قالها في هذه المناسبة‬

‫يتباه فخ ار بانتصاره معتب ار إياه انتقاما من األنصار على مساعدة النبي في موقعة بدر التي‬

‫هزم أجداده فيها ‪) 16 (.‬‬ ‫ليت أشياخي ببدر شهدوا‬ ‫حين حكت بقباء بركها‬

‫‪:‬‬

‫‪:‬‬

‫و يزيد هذا اشتهر بالسكر و المجون و هو القائل‪:‬‬

‫أال يا صاح للعجب دعوتك ثم لم تستجب‬

‫جزع الخزرج من وقع األسل‬

‫واستمر القتل في عبد األشل‬


‫‪43‬‬

‫إلى القينان واللذات و الصهباء و الطرب‬

‫و تحدثنا كتب التراث أن عبد الملك بن مروان كان قبل توليه الخالفة من أشهر فقهاء‬

‫المدينة في عصره ‪ .‬و لما أفضى إليه أمر الخالفة كان المصحف في حجره فاطبقه و قال ‪":‬‬ ‫هذا آخر العهد بك "‪ .‬و يروى أنه قال ‪ " :‬ال أداوي هذه األمة إال بالسيف حتى تستقيم لي‬

‫قناتكم ‪ " .‬كما قال و هو يقف على قبر النبي بعد مقتل عبد اهلل بن الزبير ‪ ":‬و اهلل ال يأمرني‬

‫أحد بتقوى اهلل بعد مقامي هذا إال ضربت عنقه ‪) 18 ( " .‬‬

‫و كان عبد اهلل بن الزبير بن العوام قد دعا فور مصرع الحسين إلى بيعته للخالفة ‪ ،‬فبايعه‬

‫أهل تهامة و الحجاز ‪ .‬و ظل خليفة للحجاز و اليمن لمدة تسع سنوات أي طوال والية يزيد و‬ ‫مروان بن الحكم ثم عبد الملك بن مروان ‪ .‬و لقد سير يزيد بن معاوية جيشا لقتال عبد اهلل‬

‫بن الزبير بقيادة الحصين بن نمير ‪ ،‬فتحصن أبن الزبير في الكعبة فحاصره جيش يزيد و‬ ‫ضرب الكعبة بالمنجنيق ‪ ،‬و لكن لم يتمكن منه ‪ .‬و في عهد عبد الملك بن مروان سير‬

‫الحجاج بن يوسف الثقفي لمحاربة ابن الزبير فحاصره بجيشه في الكعبة و ضربها بالمنجنيق‬

‫و كان ابن الزبير قد أعاد بناءها بعد أن احترقت في المرة األولى ‪ .‬و اجتز جيش الحجاج‬

‫رأس ابن الزبير و صلبوا جثته حتى كتب عبد الملك إلى الحجاج فأنزلها و سلمها إلى أمه ‪،‬‬

‫و قيل أن الجثة ألقيت في مقابر اليهود‪.‬‬

‫و الحجاج هذا كان واليا لعبد الملك على العراق و لقد بسط على العراقيين سيف البطش و‬

‫اإلرهاب طوال عشرين سنة ‪ ،‬و حين مات كان في سجون العراق من المعارضين خمسون ألفا‬ ‫من الرجال و ثالثون ألفا من النساء ‪ ،‬و يقدر المؤرخون العرب عدد الذين اعدموا في زمن‬

‫الحجاج بالعراق نحو مائة و ثالثين ألف نسمة ‪) 19( .‬‬

‫أما يزيد بن عبد الملك فقد تولى الخالفة بعد عمر بن عبد العزيز الذي تصفه كتب التراث‬

‫بالخليفة الراشد الخامس لعدله و زهده و الذي حاول أن يسير في خطى جده عمر بن الخطاب‬

‫فبدأ بعد أن ولي بلحمته و أهل بيته فأخذ ماكان بأيديهم حتى ضاق به بنو أمية و غيرهم من‬

‫المستفيدين فدسوا له السم فقتلوه و لم تطل خالفته أكثر من سنتين و ثالثة أشهر ‪) 20 ( .‬‬ ‫لقد مأل يزيد بن عبد الملك الدنيا مجونا و خالعة ‪ ،‬و ما أن ولي حتى جاء بأربعين شيخا‬ ‫فشهدوا له ‪ ":‬ما على الخليفة حساب و ال عذاب ‪) 21 ( ".‬‬

‫و من قصص أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك أنه كان يحب حظية من حظاياه اسمها حبابة‬

‫و كانت بالغة الجمال و كان يزيد قد اشتراها في زمن أخيه سليمان بأربعة آالف دينار من‬

‫عثمان بن سهل بن حنيف ‪ ،‬ثم باعها بطلب من أخيه سليمان فلما أفضت أليه الخالفة قالت‬

‫امرأته سعد يوما ‪ :‬يا أمير المؤمنين هل بقي في نفسك من أمر الدنيا‬


‫‪44‬‬

‫شيء ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬حبابة ‪ ،‬فبعثت امرأته فاشترتها له و لبستها و صنعتها و أجلستها من‬

‫وراء الستارة و قالت له أيضا يا أمير المؤمنين هل بقي في نفسك من أمر الدنيا‬

‫شيء ؟ قال وما أخبرتك ؟ فقالت هذه حبابة و أبرزتها و أخلته بها و تركته و إياها ‪ .‬فقال‬

‫يوما أشتهي أن أخلو بحبابة في قصر مدة من الزمن ال يكون عندنا أحد ‪ ،‬فصار له ما طلب‬

‫‪ ،‬و جمع أليه في قصره ذلك حبابة و ليس عنده فيه أحد و قد فرش له بأنواع الفرش و‬

‫البسط الهائلة و النعمة الكثيرة ‪ ،‬فبينما هو معها في ذلك القصر ‪ ،‬على أسر حال و أنعم بال‬ ‫و بين أيديهما عنب يأكلون منه ‪ ،‬إذ رماها بحبة عنب وهي تضحك فشرقت بها و ماتت ‪.‬‬

‫فمكث أياما يقبلها و يرشفها و هي ميتة حتى أنتنت و جيفت فأمر بدفنها ‪ .‬فلما دفنها أقام‬

‫أياما عندها على قبرها هائما ثم رجع فما خرج من منزله حتى مات ‪) 22(.‬و في رواية أخرى‬

‫تقول ‪ ":‬أن يزيد أقعد حبابة عن يمينه و سالمة عن يساره و قال أريد أن أطير فطار إلى لعنة‬

‫اهلل و أليم عذابه ‪) 23( ".‬‬

‫و سواء مات بهذه الطريقة أو بتلك ‪ ،‬فان ذلك ال يغير شيئا من صورة الفساد و المجون‬

‫التي عاشها أمير المؤمنين و خليفة المسلمين يزيد بن عبد الملك و الذي شهد له أربعون‬

‫شيخا بأنه ليس عليه حساب و ال عقاب ‪.‬‬

‫أما ابنه الوليد بن يزيد الذي أوصى له يزيد بالخالفة بعد أخيه هشام ووفى هشام بعهده مع‬ ‫علمه بسوء أخالق الوليد و فسقه فلقد فاق أباه بمختلف أنواع المجون و الفسق ‪ ،‬مثل‬

‫السكر والزنا و اللواط ‪.‬‬

‫و قيل انه عندما وصله خبر وفاة هشام بن عبد الملك و انتقال الخالفة إليه فرح و شرب و‬

‫سكر و قال شع ار ‪:‬‬

‫طاب يومي و ل َذ شرب السالفة‬ ‫و أتانا البريد ينعي هشاما‬

‫فاصبحنا من حمر عانة صرفا‬

‫‪:‬‬

‫ال إذ أتاني نعي من بالرصافة‬

‫‪:‬‬ ‫‪:‬‬

‫و أتانا بخاتم الخالفة‬

‫و لهونا بقينة عزافة‬

‫و عندما سمع صياح بنات هشام يبكين أباهن قال ‪:‬‬

‫إني سمعت بليل‬

‫إذ بنات هشام‬

‫‪:‬‬

‫‪:‬‬

‫و راء المصلى برنه‬ ‫يندبن والد هن‬

‫أنيكهن‬ ‫إن لم‬ ‫‪:‬‬ ‫أنا المخنث حقا‬ ‫َ‬ ‫و عندما نعلم أن الفتيات المذكورات و المقصودات بفعل الفاحشة هن بنات عمه ‪،‬‬ ‫نستطيع أن نتصور مدى تحلل خليفة المسلمين و أمير المؤمنين هذا من األخالق ‪.‬‬


‫‪45‬‬

‫و إننا لنق أر في كتب التراث قصصا كثيرة ترينا مدى فسق و مجون الخليفة الوليد بن يزيد ‪.‬‬

‫فلقد دخل عليه أشعب يوما فلما رآه الوليد كشف عن ذكره ‪ ،‬قال أشعب‪ :‬فرأيته كأنه مزمار‬

‫أبنوس مدهون فقال الوليد لي ‪ :‬أرأيت مثله قط ؟ قلت ال يا سيدي ‪ .‬قال ‪ :‬فاسجد له فسجدت‬

‫ثالثا… و لقد أمر له الخليفة بجائزة ‪) 25( .‬‬

‫هذه واحدة من القصص الكثيرة التي تدل على مدى تهتكه و فسقه و لكن أكثرها فسقا ما فعل‬ ‫بالقرآن الكريم ‪ .‬فلقد دعا الوليد بن يزيد ذات ليلة بمصحف ‪ ،‬فلما فتحه وافق ورقة فيها "‬

‫واستفتحوا و خاب ك ُل جبار عنيد ‪ ،‬من ورائه جهنم و يسقى من ماء صديد " فقال ‪ :‬أسجعا‬ ‫سجعا ‪ ،‬علقوه ‪ ،‬ثم أخذ القوس و النبل فرماه حتى مزقه ثم قال ‪:‬‬

‫جبار عنيد‬ ‫أتوعد َ‬ ‫كل َ‬ ‫إذا القيت ربك يوم حشر ‪:‬‬

‫فها أنا ذاك جبار عنيد‬

‫‪:‬‬

‫فقل له مزقني الوليد ( ‪) 26‬‬

‫و يقص علينا المسعودي أن أمير المؤمنين الوليد قد قال شع ار أنكر في الوحي و كفر برسالة‬

‫محمد ‪.‬‬

‫تلعب بالخالفة هاشمي‬

‫فقل هلل يمنعني طعامي ‪:‬‬

‫‪:‬‬

‫بال وحي أتاه و ال كتاب‬

‫و قل هلل يمنعني شرابي‬

‫( ‪) 27‬‬

‫ومع كل ما ذكر فإننا نجد من دافع عن الوليد إذ قال الذهبي ‪ ":‬لم يصح عن الوليد كفر و ال‬

‫زندقة بل اشتهر بالخمر و التلوط " ( ‪ ) 28‬كأنما التلوط و المجون والتهتك و السكر شيء‬ ‫هين ويسير على خليفة المسلمين و أمير المؤمنين ‪.‬‬

‫و مصيبة المصائب أن هؤالء الحكام قد فعلوا ما فعلوا و سفكوا من دماء المسلمين ما سفكوا‬

‫و غاصوا في المجون من سكر و لواط و تهتك كل ذلك تحت غطاء خالفة اهلل على األرض و‬ ‫أمارة المسلمين حيث كان المسلمون يرددون خلف أئمتهم في كل صالة أن يعز اهلل الدين‬

‫بأمير المؤمنين وأن يوطد دعائم حكمه و أن يديمه حاميا لإلسالم و المسلمين ‪ ،‬بل لقد وجد‬

‫مع األسف جمع من رجال الدين من شهد بأنه ليس على الخليفة حساب و ال عقاب و ال‬

‫عذاب ‪ ،‬وأن اإلمام ال ينخلع لفسقه و ظلمه ‪ .‬فوفقا ألحمد بن حنبل فإن " من غلبهم بالسيف‬ ‫حتى صار خليفة و سمي أمير المؤمنين ال يحل ألحد يؤمن باهلل و اليوم اآلخر أن يبيت و ال‬ ‫يراه إماما عليه ‪ ،‬ب ار كان أو فاج ار ‪ ،‬فهو أمير المؤمنين ‪".‬‬

‫الخالفة العباسية‬


‫‪46‬‬

‫‪ - 1‬صراع اإلرث بين أوالد العم‬ ‫كانت الخالفة األموية كما قال الجاحظ عربية أعرابية ‪ ) 29( .‬أستفرد فيها بني أمية في الحكم‬

‫‪ .‬فانتشرت في زمنها المحسوبية و المفاسد و المظالم ‪ .‬و لقد أدى تعاليها بالعنصر العربي‬

‫إلى غضب العناصر الغير عربية من الموالي ‪.‬‬

‫و في سبيل تقويض هذه الخالفة استغل الهاشميون الذين كانوا يطمعون في الخالفة غضب‬

‫العناصر الغير عربية و رءوا فيهم قوة صالحة لتوجيهها ضد األمويين ‪ .‬و كان الهاشميون‬ ‫يرجعون كل مساوئ الخالفة األموية إلى عدم الحكم بالشريعة اإلسالمية أو بما أنزل اهلل ‪،‬‬

‫ووعدوا أن يحكموا بما أنزل اهلل لو آلت إليهم الخالفة ‪.‬‬

‫لما قتل آخر الخلفاء األموين محمد بن مروان على يد أبو اسماعيل عامر الطويل من قواد‬

‫خراسان بعث برأسه إلى عبد اهلل بن علي فأنفذه بدوره إلى أبي العباس ‪.‬‬

‫خر ساجدا ثم رفع رأسه إلى السماء ‪,‬و قال ‪ :‬الحمد هلل الذي‬ ‫فلما وضع الرأس بين يديه َ‬ ‫أظهرني عليك و أظفرني بك و لم يبق ثأري قبلك و قبل رهطك أعداء الدين ‪ ،‬ثم تمثل قول‬

‫ذي اإلصبع العدواني ‪:‬‬

‫لو يشربون دمي لم يرو شربهم‬

‫‪:‬‬

‫و ال دمائهم للغيظ‬

‫ترويني‬

‫( ‪) 30‬‬

‫و لقد أعمل في بني أمية قتال و ذبحا حتى لقب بالسفاح ‪ .‬و يروى أنه كان جالسا في مجلسه‬

‫بالحيرة على سريره و بنوا هاشم دونه على الكراسي و بنو أمية على الوسائد قد ثنيت لهم ‪،‬‬

‫فدخل سديف و هو مولى آلل أبي لهب ( و في رواية أخرى أنه كان شبل الهراس مولى بني‬ ‫هاشم ) فألقى بين يدي السفاح شع ار يحرض فيه على بني أمية فتغير لون أبي العباس‬

‫السفاح و أقبل على بني أمية قائال ‪ :‬يا بني الفواعل ‪ ،‬أرى قتالكم من أهلي قد سلفو و أنتم‬

‫أحياء تتلذذون في الدنيا ‪ ،‬فأخذتهم الخراسنة فقتلوا إال ماكان من عبد العزيز بن عمر بن‬

‫عبد العزيز فانه استجار بداود بن علي و قال ‪ :‬إن أبي لم يكن كآبائهم و قد علمت صنيعته‬ ‫إليكم فأجاروه و استو هبه من السفاح فوهبه له و قال له ‪ :‬ال تريني وجهه و ليكن بحيث‬

‫تأمنه ‪ .‬ثم أن أبا العباس دعا بالغداء حين قتلوا ‪ ،‬و أمر فبسط عليهم و جلس فوقه و هم‬ ‫يضطربون تحته فلما فرغ من األكل قال ‪ :‬ما أعلمني أكلت أكلة قط أهنأ و ال أطيب لنفسي‬

‫منها ‪ ،‬فلما فرغ ‪ ،‬جروا بأرجلهم و ألقوا في الطريق يلعنهم الناس أمواتا كما لعنوهم أحياء ‪.‬‬

‫و كانت الكالب تجر بأرجلهم و عليهم س ار ويالت الوشي حتى أنتنوا ‪ ،‬ثم حفرت لهم بئر فالقوا‬


‫‪47‬‬

‫فيها ‪ .‬هذا و كتب السفاح إلى عماله في النواحي بقتل بني أمية فأعملوا فيهم قتال حتى لم‬

‫ينج منهم إال من هرب إلى األندلس ‪) 31 ( .‬‬

‫لقد أعلن السفاح يوم مبايعته ‪ :‬الحمد هلل الذي اصطفى اإلسالم لنفسه و كرمه و شرفه و‬

‫عظمه و اختاره لنا فأيده بنا و جعلنا أهله و كهفه و حصنه و الالذعين عنه و الناصرين له‬

‫‪… .‬ثم قال‪ ::‬و زعمت الشامية ‪ -‬أهل الشام ‪ -‬الضالل أن غيرنا أحق بالرئاسة و السياسة و‬ ‫الخالفة منا فشاهت و وجوههم …‪ .‬ثم قال ‪ ،‬إن اهلل رد علينا حقنا و ختم بنا كما افتتح بنا‬ ‫فاستعدوا فأنا السفاح المبيح و الثائر المنيح …… و اعلموا أن هذا األمر فينا ليس بخارج‬ ‫منا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم عليه السالم ‪" .‬‬

‫من هذا القول نفهم أن الخالفة إرث و حق ألهي و أن هذا الحق قد أغتصبه بنو أمية و اهلل‬

‫سبحانه أعاده إلى بني العباس و سيظل هذا األمر في بني العباس إلى أن يسلموه إلى عيسى‬

‫بن مريم المسيح الذي سيبعث من جديد ألقامة العدل و الدين ‪.‬‬

‫لقد بدأ السفاح حكمه باإلضافة إلى قتل األحياء من بني أمية بإعطاء األوامر بإخراج جثثهم و‬ ‫نثر رمادها في الريح ‪ .‬فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان فلم يجدوا فيه إال خيطا مثل الهباء‬

‫و نبش قبر يزيد بن معاوية فوجدوا فيه حطاما كأنه الرماد ‪ ،‬و نبش قبر عبد الملك بن مروان‬ ‫فوجدوا جمجمته ‪ ،‬و كان ال يوجد في القبر إال العضو بعد العضو غير هشام بن عبد الملك‬

‫فانه وجد صحيحا فضرب بالسياط و حرق و ذري في الريح ‪ ) 32 ( .‬و لقد رأى البعض في‬

‫صلب جثة هشام بن عبد الملك انتقاما لما فعله هشام في زيد بن علي بن الحسين حين خرج‬ ‫على هشام و قتل في المعركة و دفنه رفاقه في ساقية ماء ‪ ،‬و جعلوا على قبره التراب و‬

‫الحشيش إلخفائه فاستدل على مكانه قائد جيش هشام فاستخرجه و بعث برأسه إلى هشام‬

‫فكتب إليه هشام أن أصلبه عريانا فصلبه ثم كتب اليه بإحراقه و ذروه في الرياح ‪) 33 ( .‬‬ ‫و تال السفاح في الخالفة بعهد منه أخوه أبو جعفر عبد اهلل بن محمد المنصور‪ ،‬و يعتبر‬

‫المنصور المؤسس الفعلي للدولة العباسية ‪ .‬و قد افتتح خالفته بقتل عمه عبد اهلل بن علي‬

‫خوفا من منازعته الملك ‪ .‬ثم انقلب على أبي مسلم الخراساني الرجل الذي هزم األمويين و‬ ‫فتح بسيفه للعباسيين الطريق من أجل االستيالء على السلطة ‪ ،‬فقتله لخوفه من شعبيته و‬

‫عزوته ‪ .‬و هكذا قتل الرجلين اللذين كان لهما الفضل األول في انتصار العباسيين على‬

‫األمويين و استالمهم الحكم ‪.‬‬

‫و لنق أر بعض الرسائل المتبادلة بين الخليفة المنصور و محمد بن عبد اهلل بن الحسن بن‬

‫الحسين بن علي بن أبي طالب الذي خرج على المنصور بعد أن استأثر بني العباس بالحكم و‬


‫‪48‬‬

‫أبعدوا عنه أبناء عمومتهم بني طالب ‪ ،‬حتى نأخذ صورة واضحة عن صراع أبناء العمومة‬

‫حول السلطة و السلطان‪.‬‬

‫أرسل المنصور كتابا لمحمد بن عبد اهلل الملقب بالنفس الزكية يقول فيه ‪ :‬إنما جزاء الذين‬ ‫يحاربون اهلل و رسوله و يسعون في األرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و‬

‫أرجلهم من خالف أو ينفوا في األرض …‪ ..‬و لك عهد اهلل و ميثاقه و ذمة رسوله أن أومنك‬

‫و جميع ولدك و اخوتك و أهل بيتك و من اتبعكم ‪ ..‬الخ الرسالة ‪" .‬‬

‫فرد محمد النفس الزكية على المنصور بكتاب يقول ‪ ":‬إن أبانا علي كان الوصي و كان‬

‫األمام فكيف ورثتم واليته وولده أحياء ‪ .‬ثم قد علمت أنه لم يطلب األمر أحد مثل نسبنا و‬

‫شرفنا و حالنا …‪ ..‬فلسنا من أبناء اللعناء و ال الطرداء و ال الطلقاء ‪ ،‬و ليس يمت أحد من‬ ‫بني هاشم بمثل الذي نمت به من القرابة و السابقة … إنا أولى باألمر منك و أوفى بالعهد‬

‫ألنك أعطيتني من األمان و العهد ما أعطيته رجاال قبلي ‪ ،‬فأي األمانات تعطيني ؟ أمان عمك‬

‫عبد اهلل بن علي أم أمان أبي مسلم ؟‬

‫فرد المنصور بكتاب يقول فيه ‪ :‬بلغني كالمك ‪ ،‬فإذا جل فخرك بقرابة النساء …‪ .‬و لم يجعل‬

‫اهلل النساء كالعمومة و اآلباء و أنكم بنو بنته ( الرسول ) و إنها لقرابة قريبة و لكن ال‬

‫يجوز لها الميراث ‪ ،‬و ال ترث الوالية و ال يجوز لها اإلمامة فكيف تورث بها …‪ .‬لقد طلبها‬

‫أبوك ( األمارة) بكل وجه فأخرج فاطمة نها ار و مرضها س ار و دفنها ليال ‪ ،‬فأبى الناس إال‬

‫الشيخان ( أبو بكر و عمر ) … لقد علمت أن مكرمتنا في الجاهلية سقاية الحاج األعظم‬

‫ووالية زمزم ‪ ،‬فصارت للعباس بين أخوته فنازعنا فيها أبوك فقضى لنا عليها عمر …‪ ..‬و‬

‫لقد طلب هذا األمر غير واحد من بني هاشم فلم ينلها إال ولده …… ميراث النبي له و‬

‫الخالفة في ولده …‪ ..‬و لقد حزنا عليكم مكارم اآلباء وورثنا دونكم خاتم األنبياء …‪ .‬ثم كان‬

‫الحسن فباعها ( الخالفة ) بخرق و دراهم ‪ ،‬و لحق بالحجاز و أسلم شيعته بيد معاوية و دفع‬

‫األمر إلى غير أهله ‪ )34 ( .‬و المنصور هنا يشير إلى مبايعة الحسن لمعاوية مقابل‬ ‫خمسة مالين هي أموال بيت مال الكوفة ‪) 35 ( .‬‬

‫هل تحتاج هذه الرسائل المتبادلة بين المنصور و النفس الزكية ‪ ،‬بين أبناء العمومة و حليفي‬

‫األمس إلى تعليق ؟ إن الحكم و الخالفة بالنسبة للطرفين إرث و ميراث عن النبي ‪ ،‬و الخالف‬

‫بينهما حول أحقية هذا الميراث ‪ .‬و لم تتحدث تلك الرسائل عن قيم اإلسالم و مبادئ الشريعة‬

‫و عندما تذكر اآليات القرآنية و األحاديث النبوية فإنما تذكر لدعم أحقية طرف على اآلخر في‬

‫الخالفة ‪.‬‬


‫‪49‬‬

‫ثم لنق أر ما قاله النفس الزكية في المنصور في خطبته للناس في المدينة ‪ " :‬قد كان من‬

‫أمر هذا الطاغية عدو اهلل ما لم يخف عليكم من بنائه القبة الخضراء التي بناها ندا هلل في‬

‫ملكه و تصغي ار للكعبة الحرام ……اللهم إنهم أحلوا حرامك و حرموا حاللك‬

‫و آمنوا من أخفت و أخافوا من آمنت…… إلى آخر الخطبة ‪".‬‬

‫و ظل المنصور" بالنفس الزكية " إلى أن قتله ‪ ،‬ثم صلب عامله أصحاب محمد النفس الزكية‬ ‫ما بين ثنية الوداع إلى دار عمر بن عبد العزيز صفين ‪ ،‬و بقوا على هذه الحال أياما ثالثة ‪،‬‬

‫ثم ألقيت جثثهم في مقابر اليهود ‪.‬‬

‫و لقد استمر الصراع على الخالفة بين أبناء العمومة العباسين و العلويين بأشكال مختلفة‬

‫طوال الحكم العباسي ‪ .‬فبعد عام من والية موسى الهادي الخليفة العباسي الرابع قام الحسين‬ ‫بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب في المدينة مطالبا بالخالفة فبويع له ‪ .‬ثم ذهب‬

‫إلى مكة و دعا إلى تحرير العبيد ‪ ،‬فانضم إليه الكثير منهم غير أن الهادي سير جيشا فهزمه‬

‫و قتله و قتل كثي ار ممن معه‪ .‬و أفلت إدريس بن عبد اهلل بن الحسن بن الحسين بن علي‬

‫فهرب إلى مصر ثم إلى أرض المغرب ‪ .‬و في عهد الرشيد أغوى الشماخ اليمامي و هو أحد‬

‫شيعة إدريس فدس السم إلدريس و قتله ‪.‬‬

‫و في أيام المستعين ظهر بالكوفة يحي بن عمر بن يحي بن الحسين بن علي بن أبي طالب‬

‫فسير إليه الخليفة من قتله ‪ .‬و في عهد المستعين أيضا ظهر بالري أحمد بن عيسى بن‬

‫علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب و دعا إلى الرضى من آل محمد فسير له الخليفة من‬

‫قتله‪ .‬ثم ظهر بقزوين الحسن بن إسماعيل بن أحمد بن عبد اهلل بن علي بن الحسين بن علي‬

‫بن أبي طالب فبعث له الخليفة جيشا هزمه و قتله ‪.‬‬

‫و كان العباسيون أشد قسوة على العلويين من األمويين حتى ترحم العلويين على أيام بني‬

‫أمية فلقد قال اإلمام الشيعي محمد بن عبد اهلل بن الحسن باكيا ‪ ":‬لقد نقمنا على بني أمية ما‬

‫نقمنا ‪ ،‬فما بنو العباس إال أقل خوفا للله منهم وأن الحجة على بني العباس ألوجب منا عليهم‬

‫‪ ،‬و لقد كان للقوم ( بني أمية ) أخالق و مكارم و فواضل ليست ألبي جعفر المنصور ‪ ".‬كما‬

‫ترحم أحد شعراء العلويين قائال ‪:‬‬ ‫يا ليت جور بني مروان عاد لنا‬

‫( ‪) 36‬‬

‫‪:‬‬

‫يا ليت عدل بني العباس في النار‬

‫و لقد اتخذ الصراع العلوي العباسي أشكاال مختلفة تطور في بعض الحاالت إلى ثورات عارمة‬ ‫كادت أن تقض من أركان الدولة العباسية ‪.‬و من أهم هذه الثورات ‪:‬‬


‫‪50‬‬

‫ثورة القرامطة ‪:‬‬ ‫في بداية القرن العاشر ظهرت فرقة من اإلسماعيلية الشيعة انتشرت في أرجاء الدولة‬

‫العباسية و كادت أن تزعزع أركانها ‪ .‬و لقد سميت بالقرامطة نسبة إلى مؤسسها حمدان قرمط‬ ‫‪ .‬و لقد اختلف المؤرخون بشأن عالقة هذه الحركة باإلسماعيلية‪ ،‬و يرجح أنها نبعت من‬

‫الحركة اإلسماعيلية ‪ ،‬ثم حدثت بينهما فجوات مصدرها سياسي و سلوكي أكثر منه مذهبي ‪.‬‬

‫و لقد انتشرت الحركة بشكل كبير بين صغار الفالحين و الحرفيين و غيرهم من الفقراء و‬

‫المعدمين و خاصة في منطقة واسعة بين البصرة و الكوفة من العراق و في منطقة البحرين و‬

‫بعض مناطق بالد الشام و في اليمن ‪) 37 ( .‬‬

‫يروي المرقيزي أن دعوة القرامطة في نواحي الكوفة قد انتشرت بين مختلف القبائل العربية‬

‫القاطنة يومئذ هناك إضافة إلى النبط العاملين بالزراعة في سواد الكوفة حيث كان لها تنظيم‬

‫دقيق يعمل س ار بمهارة و دأب و كان دعاتها على صلة مستمرة باألعضاء و المنظمات وفق‬

‫خطط منسقة لإلطالع على شؤونهم و سير الدعوة‬ ‫بينهم ‪.) 38 (.‬‬

‫و يذكر ابن أألثير من أن أحد قواد جيش المعتضد فاجأ القرامطة في أحد مراكزهم من منطقة‬

‫الكوفة عام ‪ 287‬ه فقتل رؤساءهم و أسر اآلخرين و لكنه أضطر إلى تسريحهم جميعا ألنهم‬ ‫كانوا من الفالحين ‪ ،‬و ألن قتلهم أو إبقائهم في األسر يومئذ يعني شلل حركة الزراعة في‬

‫المنطقة ‪) 39 ( .‬‬

‫و السؤال المطروح هنا هل كان أولئك الفالحون و الفقراء و المعدمون يهتمون بالخالف‬

‫العباسي العلوي حول أحقية الخالفة ؟ و هل انتفضوا و قاتلوا من أجل أحقية العلويين في‬

‫خالفة المسلمين ؟ بالطبع ال ‪.‬‬

‫لقد اجتذبت الحركة القرمطية هؤالء الناس المستضعفين ‪ ،‬المضطهدين الفقراء ‪ ،‬و جعلت‬

‫منهم جيشا مسلحا يقاتل ببسالة و حماسة جيوش الخالفة العباسية بأطروحاتها عن المساواة‬

‫و العدل والمؤاخاة و لتحقيق أحالمهم البسيطة في العيش بكرامة و سعادة على هذه األرض ‪.‬‬ ‫و خالل الصراع الدامي بين القرامطة و الدولة العباسية ‪ ،‬نجح أحد الدعاة القرمطيين و هو‬

‫أبو سعيد الجنابي في ترسيخ أسس قيام دولة لهم في البحرين ‪ ،‬حيث وجد استجابة واسعة‬

‫بين سكان المدن و القرى و سكان البادية أيضا ‪.‬واستقلت دولة البحرين القرمطية وانسلخت‬

‫عن الخالفة في عهد سليمان أبي طاهر أحد أبناء أبي سعيد الجنابي ‪.‬‬


‫‪51‬‬

‫و تحدث كتب التراث أن القرامطة قد اقترفوا أعمال نهب و سلب و تخريب و سفك دماء كثيرة‬ ‫في أرجاء الدولة العباسية‪ .‬فلقد هاجموا الشام و خربوها تخريبا شديدا ‪ .‬ثم امتدت غاراتهم‬

‫ففتحوا البصرة و الكوفة و أعملوا فيها النهب و ألقوا الرعب في كل مكان ‪ .‬و في عام ‪ 327‬ه‬

‫افتتحوا برياسة أبي طاهر القرمطي مكة و نهبوا أموال الحجاج و قتلوهم حتى في المسجد‬

‫الحرام ‪ ،‬كما قلعوا الحجر األسود و نقلوه إلى البحرين و لم يردوه إلى مكة إال عام ‪ 339‬ه‬ ‫بطلب من أبي علي عمر بن يحي العلوي ‪.‬‬

‫و لقد اختلف المؤرخون بالنسبة لموقف القرامطة من الدين اإلسالمي فالبعض يقول انهم "‬

‫ينكرون الرسل والشرائع كلها "‬

‫( ‪ ) 40‬و البعض اآلخر يقول أنه كان لهم فلسفة‬

‫خاصة في الدين تتمثل في " تأليه العقل " أو " عقلنة اهلل "‪ ،‬فهم يقولون بالعقل األعلى الذي‬

‫هو اهلل ‪ .‬كما الغوا الطقوس و الشعائر الدينية كلها ‪) 41 ( .‬‬

‫و يروي الرحالة الفارسي ناصر خسرو بأنه شاهد أثناء زيارته جمهورية القرامطة سنة ‪1052‬‬

‫م مسجدا بناه أحد الفرس السنيين هناك ‪ ،‬وأنهم ‪ -‬أي القرامطة _ ال يمنعون أحدا من إقامة‬

‫الصالة أما هم فال يقيمونها ‪ ) 42 ( .‬و يروي كذلك أنه بفضل السياسة المالية السليمة‬

‫المنظمة ‪ ،‬بلغت مالية البحرين في عهد القرامطة درجة لم تبلغها في دور آخر من أدوار‬

‫تاريخها ‪ .‬و أن التجارة الداخلية و الخارجية كانت في يد الحكومة و أن أرباحها تنفق على‬

‫المصالح العامة و تحسين أعمال المزارعين و العمال ‪ ،‬و أن للحكومة طواحين تطحن للناس‬ ‫قمحهم دون أجرة و أنه لم يبق في البالد فقير ‪) 43 ( .‬‬

‫ثورة الحشاشين ‪:‬‬ ‫الحشاشون فرقة إسماعيلية سرية دعت إلى إمامة نزار بن المنتصر الخليفة الفاطمي و قد‬

‫أسسها حسن الصباح الذي انضم و هو حدث إلى الدعوة الفاطمية ووفد إلى مصر في خالفة‬ ‫المنتصر الفاطمي و انضم إلى مؤيدي إمامة نزار ‪ .‬ثم عاد إلى إيران و بث دعوته فالتف‬

‫حوله كثيرون و استطاع أن يستولي على قلعة الموت الجبلية الحصينة و جعلها مق ار لدعوته‬ ‫‪ ،‬ووجه اهتمامه إلى االستيالء على قالع أخرى و إلى التخلص من أعدائه باالغتيال و قد‬ ‫ساعد الحشاشين على تقوية صفوفهم و توسيع نطاق دعوتهم ضعف الخالفة العباسية و‬

‫نزاعات السالجقة على العرش و انقسام العالم اإلسالمي على نفسه ‪ .‬و قد تميزوا بتنظيم‬

‫دقيق و باتخاذ االغتيال أداة يتخلصون بها من أعدائهم ‪ .‬و اتسع نطاق الدعوة حتى شمل‬

‫شمال الشام ‪ .‬و في عام ‪ 1256‬هاجم هوالكو خان التتري قلعة الموت و قضى على‬


‫‪52‬‬

‫الحشاشين بفارس ‪ ،‬ثم قضى عليهم في الشام السلطان ظاهر بيبرس المملوكي سنة ‪1271‬‬ ‫م ‪ ،‬و لم يبق منهم إال فرق متفرقة في سوريا و إيران و الهند ‪) 44 (.‬‬

‫ثورة الزنج ‪:‬‬ ‫عاش الفالحون األصليون في منطقة البصرة من جنوب العراق تحت وطأة الضرائب و قسوة‬

‫الجباة مما أضطرهم لهجر العمل في األرض ‪ ،‬خصوصا بعد أن أصبحوا ال يملكون من األرض‬

‫شيئا منذ اتخذت الدولة العباسية خطة إقطاع التجار األثرياء أراضيها للتخلص من أعباء‬

‫استثمارها فأدى ذلك إلى تعرية هؤالء الفالحين من ملكياتهم الصغيرة بصورة شملت أوسع‬

‫الجماهير الفالحية و أدى إلى انتشار الملكيات الزراعية الكبيرة على نحو احتاج معه استثمار‬

‫هذه الملكيات إلى كثافة األيدي العاملة في األرض ‪ ،‬على حين كانت هجرة الفالحين عن‬ ‫األرض تتعاظم باستمرار تخلصا من إرهاق اإلقطاعيين الجدد لهم ‪) 45 ( .‬‬

‫لقد دفعت هذه الظروف أصحاب اإلقطاعيات الزراعية للبحث عن أيدي عاملة رخيصة للعمل‬

‫في أراضيهم فوجدوا ضالتهم في زنج شرقي أفريقيا فجلبوهم بأعداد هائلة و حشدوهم في‬

‫منطقة البصرة ‪) 46 ( .‬‬

‫كان على هؤالء الزنوج أن يعملوا باألرض تحت وطأة أقسى الظروف وأسوأ أحوال العيش و‬ ‫الشروط الصحية ‪ ،‬يفتك بهم سوء التغذية و جهد العمل القاسي وانتشار األوبئة ‪.‬‬

‫لذا فأن هذه الجماعة المضطهدة كانت مشبعة بدوافع االنفجار و عوامل الحقد االجتماعي‬

‫حين وجدت في علي بن محمد ( كان يزعم أنه ينتسب إلى علي بن أبي طالب و فاطمة بنت‬

‫الرسول عن طريق زيد بن علي ) معب ار عن هذه الدوا فع و مخلصا من عيشة القهر التي‬ ‫يعيشونها ‪.‬‬

‫فلقد دعا علي بن محمد الزنج إلى الخروج على مستثمر يهم واعدا إياهم‬

‫بضمان الحرية و العيش الرغيد لهم ‪ ،‬رافضا كل تميز عنصري و قومي ‪.‬‬

‫و لقد ظهر علي بن محمد هذا أول ما ظهر عام ‪ 869‬م ‪ ،‬و ما هي إال فترة وجيزة حتى‬

‫استولى على ضواحي البصرة ‪ ،‬و سيرت عليه حكومة بغداد الجيش بعد الجيش فهزمت جميعا‬

‫لقد هزت ثورة الزنج دولة الخالفة العباسية هزة عنيفة بما اكتسحت خالل خمسة عشر سنة‬ ‫من مدن و قرى و أراضي عامرة و بما هزمت من جيوش للدولة ثم بما عطلت من فاعليات‬

‫اقتصادية ‪ ،‬زراعية و تجارية و ما كلفت خزينة الدولة من تكاليف باهظة أنهكت خزينة الدولة‬

‫آن ذاك ‪.‬‬


‫‪53‬‬

‫ففي السابع من أيلول عام ‪ 871‬م أوقع الزنج بالبصرة أثناء صالة الجمعة ‪ ،‬فنهبوا المدينة و‬ ‫أعملوا السيف في رقاب أهلها فمات منهم ثالث مائة ألف على ما تقول الروايات و أشعلوا‬

‫النار في مبانيها ‪ .‬و كان الخليفة الموفق نفسه قد خاض المعركة ضد الزنج عام ‪ 872‬فلم‬

‫يقدر على هزيمتهم ‪ .‬و ترجع قوتهم تلك إلى انضمام كافة الزنج إلى ثورتهم و إلى الدعم‬

‫الذي لقوه من قبل جماعات كبيرة من األعراب و من الفالحين غير الزنج حيث قدموا لهذه‬

‫الثورة مساعدات قيمة من حيث تموين جيوشها ‪) 46 ( .‬‬

‫‪ -2‬ا لدولة تأكل أبناءها‬ ‫ما أن أستقر الحكم للعباسيين بعد هزيمة األمويين و سقوط الدولة األموية حتى بدأ الصراع‬

‫الداخلي بين العباسيين أنفسهم و بينهم وبين حلفائهم ‪.‬‬

‫فلقد قام الخليفة العباسي الثاني المنصور بقتل أثنين من أهم حلفائه و الذي يرجع لهما‬

‫الفضل األول في هزيمة األمويين واستالم العباسيين السلطة ‪ ،‬و هما عبد اهلل بن علي عم‬ ‫المنصور و أبو مسلم الخراساني ‪ .‬و لقد قتل األول خوفا من منافسته على الخالفة و‬ ‫الثاني خوفا من نفوذه الذي أخذ يقوى ‪ .‬و لم يشفع ألبي مسلم ندائه للخليفة ‪:‬‬

‫يا أمير المؤمنين ألعدائك " ‪ ،‬فرد عليه المنصور ‪ ":‬وأي عدو لي أعدى منك ؟‬

‫"استبقني‬

‫و لقد دخل على المنصور ولي عهده عيسى بن موسى فوجد أبا مسلم قتيال فقال ‪ :‬قتلته ؟‬

‫قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال ‪ :‬إنا هلل وانا إليه راجعون ‪ ،‬بعد بالئه وأمانته ؟ فقال المنصور ‪ :‬خلع اهلل‬

‫قلبك ‪ ،‬و اهلل ليس لك على األرض عدو أعدا منه ‪ ،‬و هل كان لكم ملك في حياته ؟ ( ‪) 47‬‬

‫و كان المنصور قد عين إبن عمه و قائد جيشه عيسى بن موسى ‪ -‬الذي أدى خدمات جليلة‬

‫للدولة بإخضاع ثورات العلويين ‪ -‬خلفا له في الحكم ‪ ،‬حتى إذا شب أبنه المهدي رغب في أن‬ ‫ينقل والية العهد إليه و هكذا حمل عيسى على التنازل عن حقه في الخالفة وأكرهه على أن‬

‫يحل الناس من يمين البيعة الذي اقسموه له عام ‪ 767‬م ‪.‬‬

‫أما الخليفة العباسي الثالث المهدي فلقد قتل مسموما و يقال أن جاريته حسنة قد دست له‬

‫السم ‪.‬‬

‫و لقد حاول الخليفة الرابع الهادي خلع والية أخيه هارون الرشيد الذي كان أثي ار عند أمهم‬

‫الخيزران فأبى هارون و لقد قتل الهادي و هو في دار حريمه و قيل بتحريض من الخيزران ‪.‬‬


‫‪54‬‬

‫و لقد قضى الرشيد ‪ -‬الذي امتد حكمه ثالثا و عشرون سنة و بلغت الخالفة العباسية أوج‬

‫سلطانها و قوتها في عهده ‪ -‬على البرامكة ‪ ،‬بعد أن كان قد قربهم و أغدق عليهم و رفع من‬ ‫مراكزهم ‪ .‬فلم يكد هارون الرشيد يلي عرش الخالفة حتى كافأ يحي البرمكي على إخالصه‬

‫فرفعه إلى مقام الوزارة ‪ ،‬و هكذا تنامت قوته و نفوذه هو و أبناه الفضل و جعفر ‪ .‬و تختلف‬

‫الروايات بالنسبة لألسباب التى دفعت الرشيد للغضب على أصدقائه و مساعديه البرامكة ‪.‬‬

‫فلقد أمر الرشيد بجعفر أن يقتل ليعلق رأسه على الجسر المركزي ببغداد ‪ ،‬و يقطع جسمه‬ ‫نصفين يعرض كل نصف على واحد من الجسرين اآلخرين ‪ .‬أما أبوه و أخوته فاعتقلوا و‬

‫صودرت أموالهم و ممتلكاتهم ‪.‬‬

‫ثم أن هارون الرشيد أستخلف أوالده األمين ثم المأمون ثم المعتصم و أخذ العهد على‬

‫ذلك ‪ .‬و ما كاد الرشيد يلحق بالرفيق األعلى حتى كادت الدولة العباسية تنقسم إلى شطرين‬

‫‪ .‬و سبب ذلك أن األمين حاول خلع أخيه المأمون عن والية العهد ألبنه موسى ‪ ،‬و أخذ يذكر‬

‫اسم موسى في خطب الجمعة ‪ .‬و كان المأمون في خراسان حيث كان قد عهد أليه بالوالية‬

‫الشرقية ‪.‬و لقد ذهب األمين إلى أبعد من ذلك إذ أعلن خلع المأمون من منصبه و عهد إلى‬

‫قائد جيوشه علي بن عيسى في اتخاذ جميع اإلجراءات الضرورية ضده ‪.‬بيد أن عليا هذا ما‬

‫لبث أن قتل في موقعة جرت بين قواته و جيوش المأمون بقيادة ‪ ،‬طاهر بن حسين في الري ‪.‬‬

‫و تقدمت جيوش المأمون بقيادة طاهر و هرثمة إلى بغداد و حاصرت األمين الذي اضطر‬

‫آخر األمر إلى االستسالم ‪ .‬و على الرغم من أن هرثمة قد أمنه على حياته ثم سار به من‬ ‫قصره في أواخر أيلول عام ‪ 813‬م على حراقة فقد هاجمه رجال طاهر و قتلوه ‪.‬‬

‫و بعد مقتل األمين بويع في بغداد لعمه إبراهيم المهدي ‪ ،‬فلما دخل المأمون بغداد فر إبراهيم‬

‫هذا هاربا حتى قبض عليه أعوان المأمون و لكن المأمون أخلى سبيله ‪ .‬و كان إبراهيم هذا‬

‫أديبا شاع ار راويا للشعر و أيام العرب حسن الصوت ‪ .‬و كان الناس يقولون لم ير في جاهلية‬

‫أو إسالم أخ و أخت أحسن غناء من اب ار هيم المهدي و أخته علية ‪.‬و كان الرشيد يحب أن‬

‫يسمع صوته ‪ .‬و عندما عفا عنه المأمون أحضر أليه في ثياب مبتذلة فلما رآه المأمون أمر‬ ‫له بخلع فاخرة و أمر له بغذاء و قربه منه ‪ .‬و من قول إبراهيم المهدي في هذا ‪ " :‬إن‬

‫المأمون لم يستبقني محبة في وال صلة لرحمي وال رباء للمعروف عندي و لكنه سمع من هذا‬

‫الجرم ( الحلق و الصوت) ما لم يسمع من غيره ‪ .‬أي إن المأمون قد عفا عنه لحسن صوته‬ ‫و غناءه ‪) 48 ( .‬‬


‫‪55‬‬

‫و بعد وفاة المأمون بويع ألبنه العباس ‪ ،‬ولكن الجيش الذي قد بايع العباس بالخالفة ما لبث‬

‫أن انفض من حوله و بايع المعتصم الذي حضر فجأة من مصر حيث كان واليا عليها ‪ ،‬و‬

‫لقد بويع للمعتصم و لم يجد أيما معارضة ‪.‬‬

‫و رغم أن المعتصم قد أوكل أمر سالمته الشخصية إلى فرقة من األتراك بيد أن أشهر قواد‬

‫المعتصم ظل رجال فارسيا يدعا باألفشين نسبة إلى أجداده ‪ .‬و لقد وفق األفشين للقضاء على‬ ‫االضطرابات في أذربيجان ومن ثم على البيزنطيين الذين هاجموا في عهد اإلمبراطور توفيل‬

‫شمالي سوريا فهزمهم واستولى على عمورية ‪ .‬و على الرغم من بالئه هذا باإلضافة إلى‬ ‫إحباط مؤامرة جديدة هدفت إلى تنصيب العباس بن المأمون خليفة ‪ ،‬فقد اتهمه المعتصم‬

‫باالرتداد عن اإلسالم عام ‪ 840‬م و حبسه في بناء خاص ثم منع عنه الطعام إلى أن مات ‪.‬‬

‫كان القواد األتراك الذين جلبهم المعتصم قد انتهوا في عهد ابن المعتصم و خلفه الواثق باهلل‬ ‫إلى غاية من النفوذ حتى لقد اضطر الخليفة الواثق أن يخلع على القائد التركي اشتاس لقب‬

‫السلطان ‪ .‬و عندما توفي الواثق في سن مبكرة كان وصيف خلف اشناس قد أمسى من القوة‬

‫بحيث يستطيع أن يرفع إلى العرش الرجل الذي يرتضيه ‪ .‬و الواقع أنه نصب بادئ األمر محمد‬ ‫بن الواثق و كان ال يزال دون سن الشد و لكن سرعان ما استبدل بمحمد هذا عمه المتوكل‬

‫على اهلل ‪.‬‬

‫و لقد عقد المتوكل والية العهد في مستهل حياته ألبنه األكبر المنتصر ثم ألبنيه األصغرين‬

‫محمد المعتز و إبراهيم المؤيد من بعده ‪ .‬ولكن الفتح بن خاقان األثير عند المتوكل أوغر صدر‬ ‫الخليفة على المنتصر فقدم عليه أخاه المعتز في والية العهد ‪ .‬و لقد تآمر المنتصر مع القائد‬ ‫التركي وصيف عاى قتل أبيه المتوكل ‪ ،‬و نفذت المؤامرة ليل التاسع من كانون األول سنة‬

‫‪ 861‬م‬

‫و لم يستطع المنتصر قاتل أبيه أن يحافظ على العرش أكثر من ستة أشهر حاول خاللها إكراه‬ ‫أخويه المعتز و المؤيد على التنازل عن والية العهد ‪ ،‬و لكنه قتل مسموما قبل أن يسنح له‬

‫ذلك ‪.‬‬

‫و لقد رفع األتراك إلى العرش ابن أخي المتوكل أحمد المستعين باهلل ‪ .‬و خالل حكمه الذي دام‬

‫أربع سنوات تقلصت سلطته إلى حد باتت السلطة الحقيقية بين أيدي أمراء الجيش األتراك ‪.‬‬ ‫فاضطر آخر األمر إلى خلع نفسه في كانون الثاني عام ‪ 866‬م ليقتل بعدها بفترة قصيرة‪.‬‬

‫و يحكى أن المعتز الذي بويع له في عهد المستعين قد أرسل إلى المستعين _ بعد أن اضطره‬

‫إلى خلع نفسه ‪ -‬من يقتله ويحمل رأسه إليه ‪.‬‬


‫‪56‬‬

‫و لقد قام المعتز أثناء خالفته بحبس أخيه المؤيد ‪ ،‬و لما وصل إلى المعتز أن البعض‬

‫يجتمعون بالمؤيد في حبسه أمر بقتله‪.‬‬

‫و صار دس السم للخلفاء و قتلهم قاعدة شبه مطردة ‪ ،‬فلقد سملت أعين الخليفة القاهر ثم‬

‫الخليفة التقي ثم الخليفة المستكفي ‪ .‬و ظهر الخليفة القاهر للناس و هو يرتدي قبقابا خشبيا‬ ‫و يتسول الناس‪ ،‬و غدا يقول ‪ :‬باألمس كنت أمير المؤمنين و أنا اليوم من فقراء المسلمين"‬

‫هذه حقائق تاريخية مكتوبة في كتب التراث الذي يستقي منها الخطاب الديني معلوماته ‪ .‬و قد‬

‫يقول البعض أن هذا تصيد لألخطاء ‪ ،‬و أنه قد أهملنا ذكر التقدم و النهضة العمرانية و‬

‫األدبية التي ظهرت أيام األمويين و نمت وترعرعت أبان حكم العباسيين ‪ .‬ال شك بأن أحدا ال‬ ‫يستطيع نكران ذلك ‪ .‬و لكن الوقائع تدلنا بشكل واضح أن الخالفة لم تكن يوما دينية إسالمية‬

‫‪ ،‬و إنما كانت ملكا و سلطانا و حكما قبليا عائليا ‪ .‬و منذ خالفة عثمان بن عغان حملت في‬ ‫أحشائها بذور الصراع القبلي حول السلطة و الحكم ‪ ،‬و لم يكن الصراع في يوم من األيام‬

‫دينيا حول اإليمان و اإلسالم و لكن اإلسالم كان غطاء للميراث وأحقية السلطان ‪ .‬و لقد بدأت‬

‫صراعا قرشيا( مكيا )‪ -‬أنصاريا ثم أمويا ‪-‬هاشميا ‪ ،‬ثم عباسيا ‪-‬علويا ‪ ،‬ثم عباسيا ‪-‬‬

‫عباسيا و انتهت صراعا بين العرب و غيرهم من الموالي ‪ .‬و لقد سالت في هذه الصراعات‬

‫دماء مسلمة كثيرة و صرفت أمواال باهظة حتى انتهى األمر إلى زوال الخالفة وتفتت األمة إلى‬

‫دويالت و سقوطها فريسة لألعداء ‪.‬‬

‫‪-3‬‬

‫حياة اللهو في ظل الخالفة العباسية‬

‫هل كان الخلفاء العباسيون يتحرون أوامر الدين و يتقيدون بها ‪ ،‬و ال ينعمون إال بما أحل‬

‫اهلل ؟ و هل كان الناس في ذلك العصر أجل و اتقى من الناس في عصرنا هذا و أكثر مخافة‬

‫من اهلل ؟ و هل كان الناس يعيشون حياة جد و عفة أم أنهم كانوا يعيشون عيشة ترف و لهو‬ ‫و مجون ؟ و هل كانت حالة الشعب في ظل الخالفة العباسية رخية سعيدة أم بائسة شقية ؟‬

‫لقد رأينا عند ذكر حركة القرامطة و ثورة الزنج أن طبقة واسعة من صغار الفالحين و الحرفيين‬

‫و العمال كانت تعيش في أوضاع اقتصادية و اجتماعية في غاية البؤس مما دفعها إلى دعم‬

‫ثورة القرامطة و ثورة الزنج و غيرها ‪ ،‬تعبي ار عن أحالمها في العيش في ظروف حياتية أفضل‬

‫‪ .‬و هذا يعطينا الدليل على أن قطاعات واسعة من الشعب كانت تعيش في ظروف حياتية‬

‫بائسة و شقية ‪.‬‬


‫‪57‬‬

‫أما الخلفاء و أقربائهم و حاشيتهم و المقربين منهم فلقد عاشوا عيشة ترف و نعيم و لهو‬ ‫وصل حد المجون ‪ ،‬زاد عند بعضهم و خف عند اآلخر ‪.‬‬

‫واذا قارنا بين حياة الخلفاء و حاشيتهم في الحقبة األموية و مثيلتها في الحقبة العباسية‬

‫لوجدنا األولى أقل تكلفا و أكثر سذاجة وأدل على الذوق العربي البدوي البسيط ‪ .‬فالخلفاء‬

‫األمويون إذا وهبوا فإنما كانت أكثر جوائزهم اإلبل أخذا بمذاهب العرب و بداوتهم ‪ .‬أما في‬

‫دولة بني العباس فجوائزهم كانت أحمال من المال و تخوت الثياب و الخيل و غيرها ‪ .‬و لقد‬

‫انتقل الناس في العهد العباسي إلى عادات األمم األخرى و تقاليدهم و أفرطوا كل اإلفراط ‪،‬‬ ‫فمثال اتخذ العباسيون " نيروز " ‪-‬و كان عيدا فارسيا قديما ‪ -‬عيدا قوميا يحتفلون به‬

‫احتفالهم بعيد الفطر ‪ ،‬و يتبارون بالهدايا و القصائد و يجلس فيه الخلفاء للتهنئة ‪) 49 ( .‬‬

‫لقد كان مؤسس الدولة العباسية أبو العباس ( السفاح ) رجل قتل و سفك دماء و كان يؤثر‬

‫الجد و العلم و لم يكن للخليفة الثاني المنصور في اللهو مجال ‪ ،‬و لم يكن يحب الشراب و‬ ‫ال يشرب على مائدته ‪ .‬ثم هو ال يسرف في عطاء لشاعر و ال لمادح ‪ .‬و لقد ترك البالد‬

‫حين مات موحدة قوية ‪ -‬لم يشذ عنها إال األندلس ‪ -‬و الخزائن مملوءة بالمال‬

‫أما المهدي الخليفة الثالث ‪ ،‬فقد كان سخيا كريما ‪ ،‬داعية للترف و النعيم و اللهو‬

‫و اللعب ‪ .‬و يخبرنا صاحب األغاني على لسان اسحق الموصلي بأن المهدي لم يكن يشرب ‪،‬‬

‫ولكن كان أصحابه يشربون عنده حيث يراهم ‪ ) 50 ( .‬و يقول صاحب كتاب أخالق الملوك‬

‫" كان المهدي في أول أمره يحتجب عن الندماء متشبها بالمنصور نحوا من سنة ثم ظهر‬

‫لهم فأشار عليه ( أبو عون ) بأن يحتجب عنهم فقال له المهدي ‪ :‬إليك عني يا جاهل إنما‬

‫اللذة في مشاهدة السرور و في الدنو ممن سرني ‪ ،‬فأما من وراء حجاب فما خبرها و لذتها‬

‫؟ ( ‪) 51‬‬

‫توفي المهدي بعد حكم دام عشر سنوات ‪ ،‬فخلفه ابنه الهادي الذي قتل و لم يطل حكمه أكثر‬ ‫من عام فخلفه أخوه هارون الرشيد ‪.‬‬

‫و في عهد الرشيد الذي امتد ثالثا و عشرين سنة بلغت الخالفة العباسية أوج سلطانها و‬

‫قوتها ‪ ،‬حيث بلغ دخل الدولة في كل عام سبعون مليونا و مائة و خمسون ألف دينار و هي‬

‫ميزانية ضخمة بالنسبة لذلك الزما ن مما يدل على ما بلغته الدولة من الغنى في ذلك الوقت ‪.‬‬

‫( ‪ ) 52‬و لقد كان لهذا الغنى الضخم أثر كبير في نقل حياة الناس نقلة نوعية من حيث‬

‫اإلفراط في الترف و اللهو ‪ .‬هذا إلى جانب عظم سلطان الفرس و ما عرف عنهم من قديم‬

‫الزمان بميلهم إلى اللهو و السرور و حب النبيذ ‪ ،‬و لقد كانت الديانة الزرادشتية تبيح شرب‬ ‫النبيذ بل تجعله من شعائرها ‪) 53 ( .‬‬


‫‪58‬‬

‫و لقد كان الرشيد جياش العواطف ‪ ،‬يوعظ فيتأثر بالموعظة إلى أن يجهش في البكاء ‪ ،‬و‬

‫يسمع الغناء فيطرب له كل الطرب ‪ ،‬فيدعوه الطرب أن يتكلم بكلمة فيها شيء من عدم الورع‬ ‫الديني ‪ ،‬يقول ‪ :‬يا آدم لو رأيت من يحضرني من ولدك اليوم لسرك ‪ .‬ثم يندم على قولته‬

‫فيستغفر اهلل ‪ .‬كان الرشيد من أغزر الناس دموعا في وقت الموعظة و أشدهم عسفا في وقت‬

‫الغضب والغلظة ‪ .‬كان متدينا شديد التدين ‪ ،‬غضوبا يسفك الدم لشيء ال يستحق سفك دم ‪ ،‬و‬ ‫طروبا يملك الطرب عليه نفسه و مشاعره ‪) 54 ( .‬‬

‫كان الرشيد يكثر الشراب و مخالطة الندماء في جلسات اللهو و الطرب ‪ .‬وبإمكاننا أن نق أر في‬ ‫كتاب األغاني تفاصيل كثيرة لجلسات الطرب و الشراب التي كان يدعو لها الرشيد و يشارك‬

‫فيها ‪ .‬و على لسان المغني المقرب للرشيد إبراهيم الموصلي يقول ‪ :‬بينا أنا عشية في منزلي‬

‫إذ أتاني خادم من خدم الرشيد فاستحثني بالركوب إليه فخرجت شبيها بالراكض ‪ ،‬فلما صرت‬

‫إلى الدار عدل بي عن المدخل إلى طرق ال أعرفها فانتهى بي إلى دار حديثة البناء ……‪.‬‬

‫فإذا هو (الرشيد ) جالس في كرسي في وسط الصحن ليس عنده إال خادمه يسقيه ……‪ .‬و‬ ‫قال وقد دعا بعود ‪ :‬بحياتي أطربني بما قدرت ‪ ،‬قال ففعلت …‪ ..‬فبينما أنا كذلك إذ جاءه‬

‫مسرور الكبير … فأومأ إليه بالدنو فدنا فألقى في أذنه كلمة ثم انحنى ‪ ،‬فاستشاط الرشيد‬

‫غضبا واحمرت عيناه و انتفخت أوداجه ثم قال ‪ :‬حيام أصبر على آل بني طالب ‪ ،‬و اهلل‬

‫ألقتلنهم وألقتلن شيعتهم …‪ .‬فقلت ‪:‬إنا هلل ‪ ،‬ليس عنده أحد يخرج غضبه عليه أحسبه و اهلل‬

‫سيوقع بي فاندفعت أغني ‪:‬‬ ‫نعم عونا على الهموم ثالث‬

‫بعدها أربع تتمة عشر‬

‫‪:‬‬

‫‪:‬‬

‫فإذا ناولتك هن جوار‬

‫ثم فيها لك السرور و ما‬

‫مترعات من بعدهن ثالث‬ ‫ال بطاء لكنهن حناث‬ ‫‪:‬‬

‫‪:‬‬

‫عطرات بيض الوجوه خناث‬

‫أطيب عيشا إال الخناث اإلناث‬

‫قال الرشيد ‪ :‬ويلك ! اسقني ثالثا ال أمت هما ‪ .‬فشرب ثالثا متتابعة ثم قال ‪:‬غن ! فغنيت‬

‫فلما قلت ‪ :‬ثالث مترعات من بعدهن ثالث ‪ ،‬قال ‪ :‬هات ويلك ثالثا ‪ ،‬ثم قال لي ‪ :‬غن فلما‬ ‫غنيته قال ‪ :‬حث علي بأربع تتمة العشر ‪ ،‬ففعل فواهلل ما استوفى أخرهن حتى سكر ‪,‬‬

‫فنهض ليدخل ثم قال ‪ :‬قم يا موصلي فانصرف ‪ .‬فانصرف الموصلي و قد أمر له الخليفة‬

‫بمائة ألف درهم ‪ ،‬و في هذا يقول ‪ " :‬ووافيت منزلي و قد سبقتني المائة ألف درهم " ( ‪55‬‬

‫)‬


‫‪59‬‬

‫و عن أحمد بن المرذبان عن بعض كتاب السلطان يحدثنا كيف جلس الرشيد يستمع إلى غناء‬

‫الجواري في منزل إبراهيم الموصلي ‪ ،‬و كان الرشيد يسمع و ال ينشط لشيء من غنائهن إلى‬

‫أن غنت صبية من حاشيته‬

‫يا سوري الزند قد أعيت قوادحه‬

‫ما أقبح الناس في عيني و أسمجهم‬

‫‪:‬‬

‫‪:‬‬

‫أقيس إذا شئت من قلبي بمقياسي‬

‫إذا نظرت فلم أبصرك في الناس‬

‫فطرب ارشيد لغنائها و استعاد الصوت م ار ار و شرب أرطاال ‪ ،‬ثم سأل الجارية عن صانعه‬

‫فأمسكت ‪ ،‬فاستأذنها فتقاعست فأمر بها فأقيمت حتى وقفت بين يديه فأخبرته بشيء أسرت‬

‫أليه ……‪ .‬ثم التفت إلى إبراهيم الموصلي فقال ‪ :‬ما ضرك إال أن تكون خليفة ‪ ،‬فكادت نفسه‬ ‫تخرج ‪ ،‬حتى دعا به و أدناه بعد ذلك ‪ .‬قال ‪ :‬و كان الذي أخبرته به الجارية أن الصنعة في‬

‫الصوت ألخته علية بنت المهدي و كانت الجارية لها ووجهت بها إلى إبراهيم يطارحها ‪ ،‬فغار‬

‫الرشيد ‪) 55 ( .‬‬

‫و عن اسحق الموصلي أن أباه إبراهيم لعب النرد يوما مع الرشيد في الخلعة التي يلبسها و‬

‫الخلعة التي كانت على الرشيد فتقامر للرشيد فلما قمره قام إبراهيم فنزع ثيابه ثم قال للرشيد ‪:‬‬

‫حكم النرد الوفاء به و قد قمرت ووفيت لك‬

‫…إلى آخر القصة ‪) 55 ( .‬‬

‫و عن عبد اهلل بن العباس بن الفضل بن الربيع و من نفس المصدر يحدثنا ‪ :‬أحضرت‬

‫فوقفت بين يدي الرشيد و أنا أرتعد فاستدعاني حتى صرت أقرب الجماعة إليه و مازحني و‬

‫أقبل علي و سكن مني …‪ ..‬و سقيت أقداحا و غنى المغنون جميعا فأومأ أسحق الموصلي‬

‫بعينه أن أبدأ ‪ ،‬واستأذنت في الغناء فضحك الرشيد و قال ‪ :‬غن جالسا ‪ ،‬فجلست و غنيت‬

‫لحني األول فطرب و استعاده ثالث مرات و شرب عليه ثالثة أنصاف ثم غنيت الثاني ‪ ،‬فكانت‬ ‫هذه حاله و سكر ‪ ،‬فدعا بمسرور فقال له ‪ :‬احمل السعة مع عبد اهلل عشرة آالف دينار و‬

‫ثالثين ثوبا من فاخر ثيابي ‪ ،‬فحمل ذلك أجمع معي ‪ .‬و كان عبد اهلل هذا فاسقا " يقيم على‬

‫لواط و يشرب على زنا " و يسكر ليالي رمضان حتى الفجر ‪.‬‬

‫و طبعا ال يخطر على بال أحد أن الرشيد كان طوال يومه عاكف على اللهو و الطرب و‬

‫الشراب ‪ ،‬ال عمل له إال مجالسة المغنين و مخالطة الندماء ‪ .‬فلقد كان الرشيد رجل دولة يشار‬ ‫إليه بالبنان حكم إحدى أعظم الدول في ذلك العصر ‪ ،‬يقود الحمالت ‪ ،‬و يحج إلى بيت اهلل‬

‫الحرام و يعني بشؤون الدولة التي كانت في زمنه قد بلغت أوج عصرها الذهبي ‪ ،‬و كان كذلك‬

‫يجالس الفقهاء و األدباء و الشعراء و الوزراء ‪ ،‬و لقد ازدهر في زمنه األدب و الشعر و‬

‫الفقه و العلوم المختلفة ‪ .‬و إذا كان كتاب األغاني يحدثنا و كأن الرشيد ال عمل له إال اللهو‬


‫‪60‬‬

‫و الشرب و مخالطة المغنين و الندماء ‪ ،‬ألن هذا الكتاب الضخم قد ألفه صاحبه حول المغنين‬

‫و الغناء ‪ ،‬فاسمه يدل عليه حيث هو كتاب األغاني ‪ .‬و لكنه يعطينا الصورة األخرى عن‬

‫الرشيد و مجتمع الرشيد و غيره من الخلفاء العباسيين ‪ ،‬و هي صورة مخالفة لتلك الصورة‬

‫األحادية الجانب التي يحاول البعض إقناعنا بها ‪.‬‬

‫جاء األمين فزاد في اللهو درجات ‪ ،‬و رغم أن بعض المحققين يعتقدون أن كثي ار من األخبار‬ ‫عن األمين وضعت في زمن المأمون لتشويه سمعة األمين و الحط من شأنه ‪ ،‬إال أن ميل‬

‫األمين الواضح إلى اإلفراط في اللهو و الشراب و الغلمان مما ال يسهل إنكاره ‪.‬‬

‫عندما بويع لألمين بالخالفة طلب الخصيان و أتباعهم و غالى بهم و صيرهم لخلوته في ليله‬

‫و نهاره و قوام طعامه وشرابه ‪ ،‬و احتجب عن اخوته و أهل بيته و قواده و استخف بهم و‬ ‫قسم ما في بيوت األموال و ما بحضرته من المال و الجواهر في خصيانه و جلسائه و‬ ‫محدثيه ‪ .‬وأمر ببناء مجالس لمنتزهاته و مواضع خلوته ‪) 56 ( .‬‬

‫جاء المأمون بعد األمين ‪ ،‬و لكنه لم يغرق في اللهو مثل األمين ‪ ،‬فلقد كان المأمون يحب‬

‫الكتب و يحب الفلسفة و يحب الجدل في المسائل الدينية ‪.‬و كان يجمع حوله العلماء من كل‬

‫نوع و يباحثهم و يجادلهم ‪ .‬و لكنه مع كل هذا كان يلهو و يشرب حين يسنح له الوقت بذلك‬

‫‪.‬و كان يزين مجلسه و يغنيه أسحق الموصلي كما كان أبوه إبراهيم الموصلي يزين مجلس‬ ‫أبيه الرشيد ‪ .‬و كذلك كان يغنيه عمه إبراهيم بن المهدي بعد أن عفا عنه ‪ .‬و كان كأبيه‬ ‫يغدق األموال الطائلة على المغنين و الشعراء ‪ ،‬كما كان يعيش حياة ترف و بذخ ‪.‬‬

‫و تحكي لنا كتب التراث مثال أن المأمون في اعراسه بيوران بنت الحسن أعطاها في مهرها‬

‫ليلة زفافها ألف حصاة من الياقوت و بسط لها فرشا كان الحصير منها منسوجا بالذهب‬ ‫مكلال بالدر و الياقوت ‪) 57 ( .‬‬

‫و يروى أنه كان ألسحق الموصلي عند المأمون من الدرجة مما سمح له أن يدخل إليه مع‬

‫الفقهاء ‪ .‬و يحكى أن مخارق و علويه ( مغنيان معروفان في ذاك الزمان ) كانا يجلسان في‬ ‫مجرة لهما ينتظران جلوس المأمون و خروج الناس من عنده ‪ ،‬إذ دخل يحي بن أكثم و عليه‬

‫سواده ( شعار العباسيين ) و يده في يد أسحق الموصلي يماشيه ‪ ،‬حتى جلس معه بين يدي‬

‫المأمون ‪ ،‬فكاد علوية أن يجن و قال ‪ :‬يا قوم أسمعتم بأعجب من هذا ‪ ،‬يدخل قاضي القضاة‬

‫و يده في يد مغن حتى يجلسا بين يدي الخليفة ‪) 58 ( .‬‬

‫و يروي أسحق الموصلي ‪ :‬استدعاني المأمون يوما و هو مستلق على فراش حتى صارت‬

‫ركبتي على الفراش ……‪ .‬قال المأمون ‪ :‬قد بلغني أنك في هذه األيام صنعت لحنا في شعر‬ ‫الراعي و لم أسمعه منك ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يا سيدي ما سمعه أحد إال جواري و ال حضرت عندك‬


‫‪61‬‬

‫للشرب منذ صنعته ‪ .‬فقال ‪ :‬غنه فقلت ‪ :‬الهيبة و الصحو يمنعاني أن أؤديه كما تريد …‪.‬‬

‫قال ‪ :‬صدقت ‪ ،‬ثم أمر بالغداء فتغدينا و مدت الستارة فغني من وراءها و شربنا أقداحا ‪ ،‬فقال‬

‫‪ :‬يا اسحق أما جاء أوان ذلك الصوت ؟ فقلت ‪ :‬بلى يا سيدي و غنيته لحني في شعر الراعي‬

‫… فاستحسنه و ما زال يشرب عليه سائر يومه و قال لي ‪ :‬يا اسحق ال طلب بعد وجود‬ ‫البغية ‪ ،‬ال أشرب بقية يومي هذا إال على هذا الصوت ‪) 59 ( .‬‬

‫و تتابع الخلفاء ‪ ،‬و سار الجميع إال ما ندر على نفس المنوال ‪ ،‬بعضهم زاد في اللهو درجة‬

‫أو درجات و البعض اآلخر قلل درجة أو درجات ‪ ،‬و لكن أكثرهم جالس الندماء يستمع إلى‬

‫المغنين و المطربين يشرب الخمر و ينشو و يطرب و يوزع األموال الضخمة و الهدايا الثمينة‬

‫عليهم ‪.‬‬

‫حتى المعتصم الذي كان أكثر ميال للجد لقد كان له جلسائه و ندمائه من المغنين ‪ ،‬و كان‬

‫يشرب و يلهو و يوزع الهدايا على المطربين و الندماء ‪.‬‬

‫و يحدثنا اسحق الموصلي أنه دخل على المعتصم يوما من األيام فرآه لقس النفس فقال له ‪:‬‬

‫يا أمير المؤمنين ‪ ،‬انه يوم أكل و شرب فاشرب حتى أنشطك ‪ .‬قال ‪ :‬أو تفعل ؟ قال نعم ‪ ،‬قال‬

‫‪ :‬يا غلمان قدموا الطعام و الشراب و مدوا الستارة و احضروا الندماء و المغنين ‪ .‬فأتي‬ ‫بالطعام فأكل و بالشراب فشرب و حضر الندماء و المغنون فغنوا و غناه اسحق فطرب‬

‫المعتصم و شرب شربا كثي ار و لم يبق أحد بحضرته إال وصله وخلع عليه و حمله ‪ ،‬وفضل‬

‫اسحق في ذلك أجمع ‪) 60 ( .‬‬

‫و كان الواثق يحسن الشعر و الغناء و لقد قال في خادم له يعشقه يدعا " مهج " شع ار ‪:‬‬ ‫يا ذا الذي بعذابي ظل مفتخ ار‬

‫لوال الهوى لتجارينا على قدر‬

‫‪:‬‬

‫ما أنت إال مليك جار إذ قد ار‬

‫‪ :‬و إن أفق منه يوما سوف ترى (‪) 61‬‬

‫و كان الواثق قد سمع الخادم المحبوب يحدث صاحبا له بأن الواثق ‪ " :‬ليجهد منذ أمس أن‬

‫أصالحه فما أفعل ‪ ".‬فقال في الخادم المحبوب شع ار يعاتبه ‪:‬‬ ‫سأمنع قلبي من مودة غادر‬ ‫خطبت إليه الوصل خطبة راغب‬

‫‪:‬‬

‫تعبدني خبثا بمكر مكاشر‬

‫‪ :‬فالحظني زهوا بطرف مهاجر‬

‫( ‪62‬‬

‫و لقد كثر أوالد الخلفاء و أقاربهم ‪ ،‬و أحصي ولد العباس من رجال و نساء و صغار و كبار‬


‫‪62‬‬

‫فكان عددهم زمن المأمون ثالثة و ثالثين ألف ‪ ) 63 ( .‬و لقد أولع كثير منهم بالموسيقى و‬

‫الغناء ‪ ،‬فعلية بنت المهدي و أخوها إبراهيم كانا من أحسن الناس صوتا و أعلمهم بالغناء ‪( .‬‬

‫‪) 64‬و كانت علية تحب خادما يقال له" طل " و لها فيه أشعار منها ‪:‬‬ ‫‪:‬‬

‫قد كان ما كلفته زمنا‬

‫حتى أتيتك زائ ار عجال‬

‫و منها أيضا ‪:‬‬

‫"طل " و لكني حرمت نعيمه‬

‫يا رب إن كانت حياتي هكذا‬

‫( ‪) 65‬‬

‫‪:‬‬

‫‪:‬‬

‫يا ط ٌل من وجد بكم يكفي‬ ‫أمشي على حتف إلى حتف‬ ‫ووصاله إن لم يغثني اهلل‬

‫علي فما أريد حياه‬ ‫َا‬ ‫ضر َ‬

‫‪:‬‬

‫ثم هذا هو أبو عيسى بن هارون الرشيد و كان من أحسن الناس وجها و مجالسة و عشرة و‬

‫يعده لهذا‬ ‫أمجنهم وأشدهم عبثا ‪ .‬و كان المأمون يحبه و يمنى أن يلي الخالفة بعده ‪ ،‬بل كان ُ‬ ‫األمر من بعده ‪ .‬وكان أبو عيسى هذا فاسقا ماجنا و مما يدل على فسقه ما قاله في شهر‬ ‫رمضان ‪:‬‬

‫دهاني شهر الصوم ال كان من شهر‬ ‫فلو كان يعديني األمام بقدرة‬

‫الشهر(‪66‬‬

‫‪:‬‬

‫‪:‬‬

‫و ما صمت شه ار بعده آخر الدهر‬

‫على الشهر الستعديت جهدي على‬

‫و عندما مات أبو عيسى هذا ‪ ،‬صلى عليه المأمون و نزل في قبره وامتنع عن الطعام أياما‬

‫حتى كاد أن يضر ذالك به ‪ .‬و كان سبب موت أبي عيسى أنه كان يحب صيد الخنازير فوقع‬

‫عن دابته فلم يسلم دماغه ‪) 67 ( .‬‬

‫و كان عبد اهلل بن موسى الهادي أضرب الناس بالعود وأحسنهم غناء و أشد خلق اهلل عربدة‬

‫أيضا ‪ .‬و في جلسة شرب مع المأمون سكر و زاد في العربدة حتى انه تطاول على المأمون ‪،‬‬ ‫فأمر المأمون خادما له من خواص خدمه أن يضع له السم في الطعام ففعل فبقي عبد اهلل‬

‫أيام ثم مات ‪) 68 ( .‬‬


‫‪63‬‬

‫و غير هؤالء من أبناء الخلفاء كثير و ال مجال لحصره هنا ‪ .‬و لقد تبعهم في ذلك أوالد‬

‫الخاصة مثل عبد اهلل بن العباس بن الفضل بن الربيع حفيد وزير الرشيد ‪ ،‬و كان ماجنا‬

‫مستهت ار ينام على زنا و يقعد على لواط و لقد مر معنا ذكره و أمثاله كثيرون يطول ذكرهم ‪.‬‬

‫و قلد األغنياء و الخاصة سلوك الخلفاء و أقاربهم ‪ ،‬فعاشوا عيشة بذخ و ترف بل زادوا في‬

‫لهوهم و مجونهم ‪ .‬و لقد تباهوا في بناء القصور الفخمة و اقتناء الحواري ‪ .‬و كثرت مجالس‬ ‫اللهو و الشراب بما يجري فيها من خالعة و مجون ‪ ،‬و انتشرت الخمارات و الحانات كما‬

‫انتشر القمار حتى في حانات الفقراء ‪) 69 ( .‬كما انتشر شعراء اللهو و المجون أمثال بشار‬

‫بن برد وأبي نواس ‪ ،‬فتشببوا في النساء و في الغلمان و بالغوا في وصف محاسن الخمر ‪ ،‬بل‬

‫تخطوها إلى الفسق والكفر و جاهروا به ‪ .‬و منها قول أبي نواس ‪:‬‬

‫فان قالوا حرام قل حرام‬

‫و قوله ‪:‬‬

‫أال فاسقني خم ار و قل لي هي الخمر‬

‫و لكن اللذائذ في الحرام‬

‫‪:‬‬

‫و ال تسقني س ار إذا أمكن الجهر‬

‫‪:‬‬

‫أما بشار بن يرد فلقد ذهب إلى أبعد من ذلك ‪ ،‬فهو يقول ‪:‬‬ ‫ال تصلي و ال تصوم فان صمت فبعض النهار صوما رقيقا‬

‫و دعا إلى عبادة النار ‪:‬‬

‫األرض مظلمة و النار مشرقة‬

‫( ‪) 70‬‬

‫‪:‬‬

‫و النار معبودة مذ كانت النار‬

‫و كثرت اإلماء و العاهرات و المخنثون و فسدت بغداد حتى قيل فيها ‪ " ،‬بغداد ضيقة على‬

‫المتقين ‪ ،‬ال ينبغي لمؤمن أن يقيم بها " ( ‪ ) 71‬كما قال فيها الشاعر ‪:‬‬ ‫قل لمن اظهر التنسك في الناس وأسى يعد في الزهاد‬

‫الزم الثغر و التواضع فيه ‪ ،‬ليس بغداد منزل العباد‬

‫و هكذا فان العراق الذي كان في العصر األموي جادا إذا قيس بغيره من الشام و الحجاز ‪،‬‬

‫أصبح في العصر العباسي الهيا و سائر األمصار تقلده و تقتبس من لهوه ‪.‬‬


‫‪64‬‬

‫و ال يستطيع أحد أن يدعي بان صورة اللهو و المجون التي رأيناها هي حال الناس جميعهم‬

‫في العصر العباسي ‪ .‬و ما كان العالم اإلسالمي كله لهو ومجون و ال كان العراق كله و ال‬

‫بغداد كلها تحيى هذه الحياة ‪ ،‬و إنما ذلك يمثل ناحية من نواحيها ووجها من وجوهها ‪ .‬فلقد‬

‫كان هناك فقهاء و علماء دين و أتقياء وورعون ‪ .‬و ما كان الناس كلهم أغنياء و ال‬

‫كلهم هازلون ‪ .‬و لم تكن أموال الدولة موزعة توزيعا متساويا و ال متقاربا ‪ ،‬و كانت الفروق‬

‫بين الطبقات ضخمة ‪ .‬فكثير من مال الدولة ينفق على قصور الخلفاء و األمراء و الوزراء و‬

‫المقربين ‪ .‬و هم بدورهم ينفقون منه أمواال ضخمة على المقربين و الندماء و المغنين و جوار‬ ‫و أتباع و على مادحيهم من شعراء و أدباء ‪ .‬أما عامة الشعب فتفشى فيهم الفقر و البؤس‬

‫و الجوع و المرض ‪.‬‬

‫و من قصيدة ألبي العتاهية نختار هذه األبيات التي تصور حال عامة الشعب تصوي ار دقيقا ‪:‬‬

‫من مبلغ عني اإلمام نصائحا متوالية‬

‫إني أرى األسعار أسعار الرعية عالية‬

‫و أرى اليتامى و األرامل في البيوت الخالية‬

‫يشكون مجهد ة بأصوات ضعاف عالية‬ ‫من للبطون الجائعات للجسوم العارية‬

‫( ‪) 72‬‬

‫و لقد انتج هذا الوضع ردود فعل مختلفة ‪:‬‬

‫أوال ‪ :‬هو انضمام قطاعات واسعة من الفقراء و صغار العمال و المزارعين إلى الحركات‬

‫الثورية التي قامت ضد الخالفة في بغداد مثل حركة القرامطة و ثورة الزنج و ثورة البابكين و‬

‫غيرها ‪ ،‬التي استطاعت أن تجذب إليها هؤالء الناس الفقراء و المضطهدين بوعودها عن‬

‫المساواة و العدالة و الحرية ‪ ،‬و جعلت منهم جيشا مسلحا قاتل بحماسة جيوش الخالفة‬ ‫العباسية و كادت أن تقض أركانها ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬هو االنعزال عن الحياة العامة و الزهد فيها و الهروب منها ‪ .‬فلقد رأت قطاعات من‬

‫الناس ما رأت من شهوات ال حد لها ‪ ،‬و لهو و مجون ال حدود له ‪ ،‬ففضلت قمع تلك‬

‫الشهوات و الزهد و االنعزال بعد ما يئست من تغير الحال أو تغيره ‪.‬‬


‫‪65‬‬

‫الثالث ‪ :‬هو خروج جماعات لألمر بالمعروف والنهي عن المنكر و العمل بكتاب اهلل وسنة‬

‫رسوله ‪ .‬ولقد كانو ا اتجاهان ‪:‬‬

‫األول اتجه إلى اإلصالح في حدود الطاعة للخليفة و السلطان ‪ ،‬و الثاني مقاتلة من خالف‬

‫أوامر اهلل و سنة رسوله كائنا من كان سلطانا أو غيره ‪ .‬و لقد قاد هذه الجماعة سهيل بن‬

‫سالمة األنصاري ‪ ،‬ولقد تبعه خلق كثير ‪ ،‬و لقد انتهى أمر هذه الجماعات بالقبض على‬

‫زعمائها و حبسهم ‪ ) 73 ( .‬و لكنها في الحقيقة لم تنتهي تماما ‪ ،‬فلقد كانت تبدو حينا و‬

‫تخمد حينا آخر ‪.‬‬

‫إذا لم تكن الخالفة العباسية ‪ -،‬مثلها مثل ا األموية ‪ -‬خالفة إسالمية بل حكما و سلطانا و‬ ‫ال كان خلفاءها أكثر تدينا من حكامنا و ملوكنا اليوم ‪ .‬و لم يتقيد الخلفاء العباسيين بأوامر‬

‫الشريعة والدين كما لم يكن الناس في ذلك العصر بأكثر تدينا من الناس في عصرنا و ال‬

‫كانوا أكثر تمسكا بأوامر الدين و نواهيه ‪ ،‬فلقد كان منهم كما في أي عصر الالهي و الماجن‬ ‫‪ ،‬والعابد و التقي ‪ ،‬بل نستطيع أن نقول أن بعضهم قد تج أر على ما ال يجرؤ عليه أحد اليوم‬

‫‪ ،‬فلقد تغنوا علنا بالحرام كالسكر و الزنا واللواط و حتى الزندقة كأبي نواس و بشار و غيرهم‬

‫‪ .‬و كان العابثون و الماجنون ذو حظوة عند الخلفاء مثل عبد اهلل بن العباس بن الفضل بن‬

‫الربيع بل و كان المأمون ينوي تولية الخالفة من بعده ألبي عيسى بن الرشيد مع أنه كان من‬

‫أكثر الناس مجونا و استهتا ار ‪.‬‬

‫و لم يكن الخلفاء العباسيون و ال حتى في أوج عصرهم الذهبي حكام عدول ‪ ،‬بل كانوا حكاما‬

‫استبداديين ‪ ،‬قد يعجب أحدهم نغمة أو صوت أو بيت شعر فيهب لصاحبها األلوف و الهدايا‬ ‫الثمينة ‪ ،‬وقد يكره ذلك فيهدر الدم و يصادر األموال و األمالك ‪ .‬و يحكي لنا الجاحظ في‬

‫كتابه الحيوان حكاية تعطينا صورة واضحة عن ذلك ‪:‬‬

‫يقول ‪ " :‬أن أبا أيوب المورياني و زير المنصور بينا هو جالس في أمره و نهيه إذ أتاه رسول‬ ‫أبي جعفر فامتقع لونه و طارت عصافير رأسه و ذعر ذع ار نقض حبوته واستطار فؤاده ‪ ،‬ثم‬

‫عاد طلق الوجه ‪ ،‬فتعجبنا من حاله و قلنا له ‪ ،‬انك لطيف الخاصة ‪ ،‬قريب المنزلة ‪ ،‬فلم‬

‫ذهب بك الذعر فاستفزعك الوجل ؟ فقال ‪ :‬سأضرب لكم مثال من أمثال الناس ‪ ،‬زعموا أن‬

‫البازي قال للديك ‪ ،‬ما في األرض أقل وفاء منك ‪ ،‬قال ‪ :‬كيف ذلك ؟ قال ‪ :‬أخذك أهلك بيضة‬ ‫فحصنوك ثم خرجت على أيديهم فأطعموك على أكفهم حتى إذا كبرت صرت ال يدنو منك أحد‬

‫إال طرت ها هنا وها هناك و ضججت و صحت ‪ .‬و أخذت أنا من الجبال فعلموني ‪ ،‬و ألَفوني‬ ‫ثم يخلى عني فآخذ صيدي في الهواء فأجيء به إلى صاحبي ‪ .‬فقال له الديك ‪ :‬انك لو‬

‫رأيت من البزاة سفا فيدهم مثل ما رأيت من الديوك لكنت أنفر مني ‪.‬‬


‫‪66‬‬

‫و لكنكم أنتم لو علمتم ما أعلم لم تتعجبوا من خوفي مع ما ترون من تمكن حالي ‪) 74 .‬‬

‫ووشي برجل يقال له " الفضيل بن عمران " إلى أبي جعفر المنصور و كان كاتب ابنه جعفر‬

‫وولي أمره ‪ ،‬وشي به أنه يعبث بجعفر فبعث المنصور برجلين و أمرهما أن يقتال الفضيل حيث‬ ‫وجداه ‪ ،‬فنفذا األمر و ضربا عنقه ‪ .‬و كان الفضيل رجال عفيفا دينا ‪ ،‬فقيل للمنصور ‪ :‬إن‬

‫الفضيل كان أب أر الناس مما رمي به ‪ ،‬و قد عجلت عليه ‪ .‬فوجه رسوال جعل له عشرة آالف‬

‫درهم إن أدركه قبل أن يقتل ‪ ،‬فقدم الرسول قبل أن يجف دمه ‪ ،‬و قد استنكر جعغر ذلك و‬

‫قال لمواله سويد ‪ :‬ما يقول أمير المؤمنين في قتل رجل د ِين مسلم بال جرم و ال جناية ؟ فقال‬

‫سويد ‪ :‬هو أمير المؤمنين يفعل ما يشاء و هو أعلم بما يصنع ‪.‬‬

‫( ‪ ) 75‬و لقد سئل أحد األدباء ‪ :‬لم ال تتقرب بأدبك إلى السلطان فقال ‪ :‬ألني رأيته يعطي‬

‫عشرة آالف في غير شيء و يرمي من السور في غير شيء ‪ ،‬و ال أدري أي الرجلين أكون ‪.‬‬ ‫( ‪) 76‬‬

‫و إلى جانب هذا كله فلقد نمت و ترعرعت في ذلك العصر الشعوبية و التفاخر باألصول‬

‫القومية و العرقية ‪ ،‬بل و الصراع بينهما على السلطان والحكم و النفوذ ‪ .‬ففي عهد الرشيد و‬

‫المأمون زاد نفوذ الفرس فاضطهدوا العرب و أبعدوهم عن المسئولية ‪ .‬و يروي الطبري ‪ :‬أن‬

‫رجال تعرض للمأمون بالشام فقال له ‪ :‬يا أمير المؤمنين ‪ ،‬أنظر لعرب الشام كما نظرت لعجم‬ ‫أهل خراسان فقال المأمون ‪ :‬أكثرت علي يا أخا أهل الشام ‪ ،‬و اهلل ما أنزلت قيسا عن ظهور‬

‫الخيل إال و أنا أرى انه لم يبق في بيت مالي درهم واحد ‪ .‬و أما اليمن ‪ ،‬فواهلل ما أحببتها و ال‬

‫أحبتني قط ‪ ،‬و أما قضاعة فسادتها تنتظر السفياني و خروجه فتكون من أشياعه ‪ ،‬و أما‬

‫ربيعة ‪ ،‬فساخطة على اهلل منذ بعث نبيه من مضر ‪ ،‬و لم يخرج اثنان إال خرج أحدهما شاريا‬

‫‪ .‬إعزب فعل اهلل بك !(‪)77‬‬

‫هب‬ ‫فلما جاء المعتصم أحل الترك محل الفرس ‪ ،‬فنكل الترك بالفرس و العرب جميعا ‪ .‬و لقد َ‬ ‫الشعراء العرب و الموالي كل يدافع عن أصوله و يفخر بها ‪.‬‬ ‫فيقول قائل من الفرس ‪:‬‬

‫بهاليل غر من ذؤابة فارس‬

‫هموا راضة الدنيا و سادة أهلها‬

‫‪:‬‬

‫‪:‬‬

‫فيقول آخر عربي ‪:‬‬

‫ال تغتر إنك من فارس‬

‫لو حدثت كسرى بذا نفسه‬

‫‪:‬‬

‫إذا انتسبوا ال من عرينة أو من عكل‬ ‫إذا افتخروا ال راضة الشاة و اإلبل‬

‫‪::‬‬

‫في معدن الملك و ديوانه‬ ‫صفعته في جوف ديوانه‬


‫‪67‬‬

‫و مثل هذا الكثير ‪ ،‬و لقد بقي هذا الصراع قائما إلى أن سقطت الخالفة ‪ .‬و كانت الشعوبية‬

‫سببا في استقالل فارس عن دولة الخالفة ‪ .‬فقامت فيها الدولة الطاهرية في خراسان ( ‪-820‬‬

‫‪ ) 872‬و الدولة الصفادية ( ‪ ) 903 -816‬و الدولة السامانية ( ‪ ) 999-874‬التي تفرعت‬ ‫منها الدولة الغزنوية ( ‪ 1183 - 976‬م)‬

‫و كان األمويون قد استقلوا باألندلس على يد عبد الرحمن الفاتح ( ‪ 756‬م ) و في المغرب‬ ‫تأسست دولة األدارسة في مراكش ( ‪ ) 923 - 788‬و دولة األغالبة في تونس ( ‪- 800‬‬

‫‪ ) 908‬و في مصر دولة الطولونين ( ‪ ) 905 - 868‬ثم دولة اإلخشيديين ( ‪) 969 -935‬م‬

‫‪.‬‬

‫و في عهد الخليفة المعتمد ( ‪ 920 - 870‬م) انكمشت الخالفة العباسية إلى حدود الجزيرة و‬

‫العراق‪ .‬و في عهد الراضي ( ‪ ) 944 - 940‬كانت البصرة في يد ابن رائق و خوزستان في‬

‫يد البريدي و فارس في يد عماد الدين بن بويه و كرمان في يد أبي علي محمد بن الياس و‬

‫الري و اصبهان في يد ركن الدولة بن بويه و الموصل و ديار بكر و مضر و ربيعة في يد‬ ‫بني حمدان و مصر والشام في يد محمد األخشيدي و المغرب و افريقيه في يد خلفاء عبد‬

‫الرحمن الناصر األموي و خراسان و ما وراء النهر في يد نصر بن أحمد الساساني و‬

‫طبرستان و جرجان في يد الديلم و البحرين و اليمامة في يد أبي طاهر القرمطي ‪ .‬و هكذا‬

‫أصبحت الدولة دويالت و األمة شعوب متفرقة ‪,‬‬

‫وانتهى الصراع العباسي العلوي إلى قيام الخالفة الفاطمية في شمال أفريقبا و مصر ‪ .‬و‬

‫الخالفة الفاطمية مثلها مثل األموية و العباسية ‪ ،‬قامت بحد السيف و عاشت بحد السيف و‬

‫كانت أيضا وراثية ‪ ،‬يتوارث الحكم فيها االبن عن أبيه أو تؤول إلى األقرب عصبة من‬

‫الخليفة ‪ .‬و يطلب الخليفة بيعة الناس فمن أبى أو اعترض أو تمهل كان السيف جزاءه و‬

‫القتل عقابه ‪.‬‬

‫و لنق أر ما يقوله العباسيون عن الفاطميين ‪ ،‬حيث كتب الخليفة القادر العباسي محض ار في‬

‫الخلفاء الفاطميين و قرئت النسخ في بغداد و أخذت عليها توقيعات القضاة و األئمة و‬

‫األشراف و منهم الشريف الرضي و أخوه المرتضى و أبو عبد اهلل بن النعمان فقيه الشيعة و‬

‫غيرهم من أعالم األمة ببغداد و لقد جاء في المحضر ‪:‬‬

‫هم ( الفاطميون ) منسوبون إلى ديصان بن سعيد … ‪ ..‬إخوان الكافرين و نطف الشياطين‬

‫………‪ ..‬و إن الناجم بمصر و هو منصور بن نزار الملقب بالحاكم ‪ -‬حكم اهلل عليه‬

‫بالبوار و الخزي و النكال ‪ -‬ابن معد بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد … …الذي صار‬


‫‪68‬‬

‫إلى المغرب تسمى بعبيد اهلل و تلقب بالمهدي ‪ ،‬و هو و من تقدمه من سلفه األرجاس‬

‫األنجاس ‪ -‬عليه و عليهم اللعنة ‪ -‬أدعياء خوارج ال نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب ‪،‬‬ ‫وان ذلك باطل و زور ………‪.‬و إن هذا الناجم بمصر ( الخليفة الفاطمي ) هو و سلفه‬

‫كفار و فساق و فجار و زنادقة و لمذهب الثنوية و المجوسية معتقدون ‪ ،‬فقد عطلوا الحدود‬

‫و أباحوا الفروج و سفكوا الدماء و سبوا األنبياء و لعنوا السلف و ادعوا‬ ‫الربوية ‪) 78 ( .‬‬

‫و لعل أفضل قول في هذا كله ما قاله ابن خلدون ‪ " :‬ذهبت معاني الخالفة و لم يبق إال‬

‫أسمها و صار األمر ملكا بحتا ‪ ،‬و جرت طبيعة التغلب إلى غاياتها و استعملت في أغراضها‬ ‫من القهر و التغلب في الشهوات و المالذ ‪".‬‬

‫كما أن قول ملك النوبة لعبد الرحمن بن مروان لما دخل أرض النوبة فا ار أيام السفاح لينطبق‬ ‫تماما على الخالفة العباسية و الفاطمية و إن قصد بقوله الخالفة األموية ‪ " :‬أنتم قوم‬

‫استحللتم ما حرم اهلل عليكم و أتيتم ما عنه نهيتم و ظلمتم فيما ملكتم فسلبكم اهلل العز و‬

‫ألبسكم الذل بذنوبكم " ( ‪) 79‬‬

‫لماذا يصر الخطاب الديني بعد كل هذا على العودة إلى الخالفة متمثال بالمثلين اليتيمين في‬

‫تاريخ الخالفة اإلسالمية و هما خالفة أبي بكر الصديق و عمر بن الخطاب ‪ .‬متناسيا العوامل‬

‫االستثنائية التي كونت شخصية الرجلين ‪ ،‬وأولهما معاشرتهما الطويلة للرسول و تأثرهما به و‬ ‫ثانيهما انهما قد أحيطا بمجموعة من الصحابة قريبي العهد بالرسول ‪ ،‬زهدوا في الحياة الدنيا‬

‫و سعوا إلى إرضاء اهلل ‪ ،‬و لم يكونوا قد تأثروا بعد باآلثار السلبية للرخاء الناتج عن عوائد‬

‫الفتوحات ‪.‬‬

‫و الحقيقة أن خالفة أبى بكر كانت قصيرة لم تتعد السنتين بكثير قضاها في محاربة المرتدين‬

‫عن اإلسالم و محاربة رافضي دفع الصدقات له ‪ .‬أما عمر بن الخطاب فباإلضافة إلى العوامل‬

‫السابقة الذكر ‪ ،‬فلقد كان رجال فذا فريدا من نوعه في التاريخ العربي و‬

‫اإلسالمي ‪.‬‬

‫إن إصرار الخطاب الديني على العودة إلى الخالفة ‪ ،‬يرجع للصبغة الدينية القدسية التي‬

‫صبغها الخطاب الديني عليها ‪ ".‬فالخليفة في نظره هو خليفة رسول اهلل و هو بذلك حمى اهلل‬

‫في بالده و ظله الممدود على عباده ‪ .‬فواليته عامة و مطلقة كوالية اهلل تعالى ووالية الرسول‬

‫(ص) و له حق التصرف في رقاب العباد و أموالهم و أبضاعهم ‪ .‬فله وحده األمر والنهي ‪،‬‬

‫وكل والية دونه فهي مستمدة منه ‪ ،‬الشتمال منصب الخالفة على الدين و الدنيا فكأنها األصل‬


‫‪69‬‬

‫الجامع و هذه كلها متفرعة عنها و داخلة فيها لعموم نظر الخالفة و تصرفها في سائر‬

‫األحوال الدينية و الدنيوية " ( ‪) 80‬‬

‫و لقد كان تصرف الخلفاء منذ عثمان إلى آخر خليفة عباسي نابع من هذا المفهوم للخالفة ‪،‬‬ ‫و خير مثل على ذلك ما قاله المنصور في خطبته بمكة ‪ ":‬أيها الناس إنما أنا سلطان اهلل في‬

‫أرضه أسوسكم بتوفيقه و تسديده و تأييده ‪ ،‬و حارسه على ماله أعمل فيه بمشيئته و إرادته‬

‫‪ ،‬و أعطيه بأذنه فقد جعلني اهلل عليه قفال إن شاء أن يفتحني فتحني إلعطائكم و قسم‬ ‫أرزاقكم و إن شاء يقفلني عليها أقفلني …… " ( ‪) 81‬‬

‫و رغم االدعاء القائل بأن الخليفة مقيد بقيود الشرع وأن ذلك كافيا لضبطه إن أراد أن يجمح ‪،‬‬

‫فان الحقائق التاريخية أثبتت أن " قيود الشرع " لم تكن كافية من ضبط الخلفاء من أن‬

‫يجمحوا و يستبدوا و يعبثوا بأرواح و أمالك العباد ‪.‬‬

‫لم يعين الوحي القرآني كما لم يعين الرسول (ص) للمسلمين شكل الحكم ‪ ،‬بل رسم خطوطه‬

‫العريضة فقط ‪ ،‬أما التفاصيل فمتروكة لهم ‪ .‬و كما يقول الدكتور حقي فانهم " قد يولون‬

‫عليهم أمي ار أو ملكا أو رئيسا جمهوريا لمدة مؤقتة ‪ ،‬أو لمدى الحياة ‪ .‬و قد تكون حكومتهم‬ ‫مركزية أو ال مركزية ‪ ،‬و اتحادية أو وحدوية أو متحالفة … كل هذه المظاهر الشكلية غير‬

‫ذات أهمية المهم هو أن تحقق الحكومة اإلسالمية مبادئ الدين العامة ‪ :‬مبادئ الحرية و‬

‫الشورى و التآخي و السالم ‪ ،‬و لتكن بعد ذلك أساليب الحكم ما شاءت ‪ .‬و لتكن مجالس‬

‫الشورى نيابية أو نقابية أو أي شكل آخر ‪ ،‬انهم أحرار في الطريق التي يسلكون ……‪ ..‬و‬ ‫إذا كان القدماء قد وصفوا الخليفة وصفا معينا ‪ ،‬متأثرين باألجواء االجتماعية و السياسية‬

‫التي عاشوها فليس كالهم منزل من السماء ‪ ،‬و ال نحن مجبرون على قبوله بحرفيته ‪ ،‬فنحن‬

‫نعيش في زمن غير زمنهم ‪ ،‬و لنا ملء الحق أن نناقش تصرفاتهم و آرائهم ‪ .‬لقد حررنا اهلل‬ ‫تعالى فلماذا نقبل عبودية الفكر ؟ إذا كان القرآن الكريم قد حضنا على استخدام عقولنا في‬

‫نحو خمسين آية ‪ ،‬و حثنا على التفكر و التفكير في ثمان عشرة آية ‪ ،‬فلماذا ال نستخدم‬

‫عقولنا و نفكر ؟ ( ‪) 82‬‬

‫" نحن لسنا مرغمين على تطبيق أسلوب معين ‪ ،‬حتى وال أي من أساليب الخلفاء الراشدين ‪،‬‬ ‫فلقد تغيرت الدنيا و تبدلت المفاهيم و تطورت المجتمعات ‪ ،‬و ترك لنا الحق في مساوقة‬

‫التطور ‪ ،‬و تطبيق ما يناسب مستوياتنا ووعينا و ثقافتنا …‪ ..‬شرط أن ال تخرج عن مفهوم‬ ‫الشورى و الحرية و هو حكم الشعب نفسه بنفسه بواسطة نوابه ‪ ،‬و مشاركة الحاكم‬

‫المحكومين في تطبيق السياسة العامة ‪ ،‬و إدارة دفة الدولة بالتشاور و التعاون المتقابل‬ ‫بينهما ‪) 83 ( ".‬‬


‫‪70‬‬

‫مراجع الفصل الثالث‬ ‫‪ -1‬سورة الكهف ‪ -‬آية ‪110‬‬ ‫‪-2‬سورة اإلسراء ‪ -‬آية ‪93‬‬

‫‪-3‬ابن سعد ‪ -‬طبقات ابن سعد ‪ -‬دار صادر ‪ ،‬بيروت ‪ 1957‬مج ‪ ، 2‬ص ‪266 :‬‬ ‫الطبري ‪ -‬تاريخه –م س ‪ -‬ج ‪ 3‬ص‪199 - 197 :‬‬

‫‪-4‬ابن سعد ‪ -‬م‪.‬س‪ -‬ص ‪268 :‬‬

‫‪-5‬اليعقوبي ‪-‬تاريخه‪ ،‬طبعة النجف ‪ ، 1958 ،‬ج ‪ 2‬ص‪103 :‬‬

‫‪-6‬الشهرستاني ‪ -‬الملل و النحل ‪ -‬دار المعرفة –بيروت ‪-‬ج ‪ 1‬ص ‪163 :‬‬

‫‪ - 7‬عبد المحسن النجفي ‪ -‬موسوعة الغدير – الغدير في الكتاب والسنة واألدب –دار‬

‫الكتاب العربي‪ -‬بيروت‪-1 977 -‬مجلد ‪-1‬ص‪238-1 :‬‬

‫‪ -8‬صحيح مسلم – دار إحياء التراث العربي –بيروت‪ -‬ج ‪ 3‬ص‪1453 :‬‬ ‫‪ -9‬م ‪ .‬س‬

‫‪ -‬ص ‪1468 :‬‬

‫‪ -10‬احمد أمين ‪ -‬فجر اإلسالم ‪ -‬دار الكتب ‪ ،‬بيروت ‪ 1969‬ص‪ -238 :‬مقتبس من ‪:‬‬

‫‪ -‬صبحي المحمصاني ‪ -‬المسلمون تأخر نهضتهم ‪ -،‬مالئمة الشريعة لحاجات العصر‬

‫‪ -‬من كتاب الثقافة اإلسالمية و الحياة المعاصرة ص ‪177 :‬‬

‫‪ -11‬البالذري ‪ -‬فتوح البلدان ‪-‬دار الكتب العلمية ‪ ،‬بيروت ‪، 1978 ،‬ص‪439 :‬‬ ‫‪ -12‬المسعودي ‪ -‬مروج الذهب –م س ‪ -‬ج ‪ 4‬ص ‪186 :‬‬

‫‪ -13‬السيوطي ‪ -‬تاريخ الخلفاء ‪ -‬ص ‪-216 :‬مجهول مكان و تاريخ الطباعة‬

‫‪ -14‬عباس محمود العقاد ‪ -‬األعمال الكاملة ‪-‬أبو الشهداء‪-‬من كتاب محمد سعيد‬

‫العشماوي‪-‬الخالفة االسالمية‪-‬م س –ص ‪136:‬‬

‫‪-15‬ابن األثير ‪ -‬الكامل ‪ -‬دار الكتاب العربي ‪-‬ج ‪ 5‬ص ‪314-310 :‬‬ ‫الطبري ‪ -‬تاريخه‪ -‬مؤسسة األعلمي ‪ -‬ج ‪ 3‬ص ‪381-374 :‬‬

‫‪ - 16‬الدينوري ‪ -‬األخبار الطوال ‪ -‬دار المسيرة‪ ،‬بيروت ص ‪267:‬‬

‫‪-17‬آبو الفرج األصفهاني ‪ -‬األغاني ‪ -‬دار الثقافة ‪ ،‬بيروت ‪ -،‬ط ‪ -1974-3‬ح ‪ 5‬ص ‪:‬‬ ‫‪232‬‬ ‫‪ -18‬السيوطي ‪ -‬تاريخ الخلفاء ‪ -‬م س ‪-‬ص ‪219-216 :‬‬ ‫‪-19‬البالذري ‪ -‬فتوح البلدان ‪ -‬م س ‪-‬ص ‪374 ، 371 ، 294 :‬‬


‫‪71‬‬

‫‪ -‬الطبري ‪ -‬تاريخه ‪ -‬م س ‪-‬ج ‪ 2‬ص ‪1213 ، 868 ، 866-854 :‬‬

‫‪ -‬المسعودي ‪ -‬مروج الذهب – م س ‪ -‬ج ‪ 5‬ص ‪391 :‬‬

‫‪-20‬أبو الفرج األصفهاني ‪ -‬األغاني ‪ -‬م ‪ .‬س‪ -‬ج ص‪295 -246 :‬‬ ‫‪ -21‬السيوطي ‪ -‬تاريخ الخلفاء‪ -‬م س ‪ -‬ص ‪246 :‬‬

‫‪ -22‬إبن كثير ‪ -‬البداية و النهاية – م س ‪-‬مج ‪ 9‬ص ‪242 :‬‬

‫‪ -23‬المسعودي ‪ -‬مروج الذهب ‪ -‬م س ‪-‬ج ‪ 3‬ص ‪210-207 :‬‬ ‫‪-24‬األصفهاني ‪ -‬م ‪ .‬س‪ -‬ج ‪ 7‬ص ‪18 ، 17 :‬‬ ‫‪ -25‬المصدر السابق‪-‬ص ‪47 :‬‬

‫‪ -26‬م ‪ .‬س ‪ ------‬ص ‪49 :‬‬

‫‪-‬السيوطي تاريخ الخلفاء ‪ -‬م س ‪ ،-‬ص ‪251 :‬‬

‫‪ -27‬المسعودي ‪-‬مروج الذهب ‪ -‬م س ‪ -‬ج ‪ 3‬ص ‪229-228 :‬‬ ‫‪ -28‬السيوطي ‪ -‬تاريخ الخلفاء ‪ -‬م س ‪ -‬ص ‪251 :‬‬

‫‪ -29‬الجاحظ ‪ -‬البيان و التبين ‪- -‬تحقيق و شرح حسن السندوبي – مطبعة الرحمانية‪-‬‬ ‫مصر‪-1932 -‬ج ‪ 3‬ص‪206:‬‬

‫‪-30‬األصفهاني ‪ -‬م ‪ .‬س ‪-‬ج ‪ 4‬ص ‪345 :‬‬

‫‪-31‬م ‪ .‬س ‪----------‬ص ‪253-246 :‬‬

‫‪ -32‬إبن األثير ‪ -‬الكامل –م س ‪ -‬ج ‪ 4‬ص ك ‪333‬‬

‫‪-33‬المسعودي ‪ -‬مروج الذهب – م س ‪ -‬ج ‪ 3‬ص ‪219 :‬‬

‫‪ -34‬د ‪ /‬علي إبراهيم حسن ‪ -‬التاريخ اإلسالمي العام ‪ -‬مكتبة النهضة المصرية ‪-‬‬ ‫ص ‪366-355 :‬‬

‫‪ -35‬الطبري ‪ -‬تاريخ األمم و الملوك ‪ -‬م س ‪-‬ج ‪ 4‬ص ‪125-121 :‬‬

‫‪ -36‬محمد سعيد العشماوي ‪ -‬الخالفة اإلسالمية ‪ -‬سينا للنشر ‪ ،1992‬ص ‪173-172 :‬‬ ‫‪ -37‬البغدادي ‪ -‬الفرق بين الفرق‪ -‬م س ‪-‬ص‪142 :‬‬

‫‪ -38‬المقريزي تقي الدين‪ -‬اتعاظ الحنفاء بذكر األئمة الفاطميين الخلفاء – نشر جمال‬ ‫الشيال ‪ -‬ص ‪1040 :‬‬

‫‪-39‬ابن أثير ‪ -‬الكامل ‪ -‬م س ‪ -‬ج ‪ 6‬ص ك ‪95‬‬ ‫‪-40‬البغدادي – م س ‪ -‬ص ‪277 :‬‬

‫‪-41‬بندلي جوزي ‪ -‬تاريخ الحركات الفكرية في االسالم – دار الروائع – بيروت‪ -‬ص ‪167 :‬‬ ‫‪193-192 ،‬‬


‫‪72‬‬

‫‪227 ، 200 ،199‬‬

‫‪-42‬ناصر خسرو ‪ -‬سفرنايه ‪ -‬نقال عن المصدر السابق ‪-‬ص ‪:‬‬ ‫‪228‬‬ ‫‪-43‬العشماوي محمد سعيد ‪ -‬الخالفة اإلسالمية ‪ -‬م س ‪-‬ص ‪175 :‬‬

‫‪ -44‬الدوري عبد العزيز ‪ -‬دراسات في العصور العباسية المتأخرة – بغداد‪-1945 -‬‬ ‫ص ‪20 :‬‬

‫‪ -45‬أحمد علي ‪ -‬ثورة الزنج – دار مكتبة الحياة – بيروت‪-1961-‬ص ‪74 :‬‬

‫‪ -46‬احمد علي ‪-‬م ‪ .‬س‪ -‬ص‪ ، 114 :‬و الطبري – تاريخه‪ -‬م س ‪ -‬ج ه‪ ،‬ص ‪:‬‬ ‫‪95 ،91‬‬

‫‪-47‬د ‪ /‬علي إبراهيم حسن ‪ -‬م‪.‬س ‪ -‬ص ‪366-365 :‬‬ ‫‪ -48‬األصفهاني ‪ -‬م ‪ .‬س‪ -‬ج ‪ 10‬ص ‪137 :‬‬

‫‪ -49‬أحمد أمين ‪ -‬ضحى اإلسالم ‪ -‬دار الكتاب العربي ‪ -‬بيروت ‪ -‬ج ‪ 1‬ص ‪103-102 :‬‬ ‫‪ -50‬األصفهاني ‪ -‬األغاني ‪ -‬م س ‪-‬ج ‪ 4‬ص ‪146 :‬‬

‫‪ -51‬أحمد أمين ‪ -‬ضحى اإلسالم –م س ‪ -‬ج ‪ 1‬ص ‪ 108 :‬عن أخالق الملوك ص ‪30 :‬‬ ‫‪ -52‬ابن خلدون ‪ -‬المقدمة ‪ -‬المطبعة البهية المصرية‪-1922 -‬ص ‪111 :‬‬ ‫‪ -53‬أحمد أمين ‪ -‬ضحى اإلسالم – م س ‪ -‬ج ‪ 1‬ص ‪112 :‬‬ ‫‪ -54‬المصدر السابق‪---‬ج ‪ 1‬ص ‪115 -112 :‬‬

‫‪ -55‬األصفهاني ‪ -‬األغاني ‪ -‬م س ‪ -‬ج ‪ 5‬ص ‪205-، 204 199-198 :‬‬ ‫‪-56‬الطبري ‪ -‬تاريخ الملوك – م س ‪ -‬ج ‪257، 215 10‬‬

‫‪ -57‬ابن خلدون ‪ -‬تاريخه ‪ -‬ج ‪ 1‬ص ‪ -145 :‬مجهول مكان و تاريخ الطبع‬ ‫‪ -58‬األصفهاني ‪ -‬األغاني ‪ -‬م س ‪ -‬ج ‪ 5‬ص ‪259-258 :‬‬ ‫‪-59‬م س ‪-----------------‬ص ‪318-317 :‬‬ ‫‪ -60‬م س ‪----------------‬ص ‪299-298 :‬‬

‫‪ -61‬العشماوي محمد سعيد ‪ -‬الخالفة اإلسالمية ‪ -‬م س ‪، -‬ص ‪289 :‬‬ ‫‪-62‬األصفهاني = األغاني – م س ‪ -‬ج ‪ ، 9‬ص ‪291 :‬‬

‫‪ -63‬المسعودي ‪ -‬مروج الذهب ‪ -‬م س ‪-‬ج ‪ ، 2‬ص ‪259 :‬‬

‫‪-64‬األصفهاني ‪ -‬األغاني – م س ‪ -‬ج ‪ ، 10 ،‬ص ‪96 ، 173 ، 101 :‬‬ ‫‪ -65‬المصدر السابق‪------‬ص ‪173 :‬‬

‫‪ -66‬م س ‪--------------‬ص ‪197 :‬‬

‫‪-67‬م س ‪--------------‬ص ‪201-200 :‬‬

‫‪- 68‬م س ‪--------------‬ص ‪208 ، 205 :‬‬


‫‪73‬‬

‫‪ -69‬الجاحظ ‪ -‬الحيوان ‪ -‬ج ‪ ، 5‬ص ‪ -115 :‬مجهول مكان و تاريخ الطبع‬

‫‪ -70‬الجاحظ ‪ -‬البيان و التبين ‪ -‬م س ‪-‬ج ‪ ، 1‬ص ‪38 :‬‬

‫‪ -71‬أحمد أمين ‪ -‬ضحى اإلسالم – م س ‪ -‬ج ‪ 1‬ص ‪ 128 :‬عن بشر بن الحارث نقال عن‬ ‫تاريخ بغداد ج ‪1‬‬

‫ص‪5:‬‬

‫‪ -72‬أبو العتاهية ‪ -‬ديوانه ‪ -‬ص ‪ -304 :‬عن احمد امين – ضحى االسالم –م س – ج ‪1‬‬ ‫ص‪129-128 :‬‬

‫‪ -73‬الطبري ‪ -‬تاريخه ‪ -‬م س ‪-‬ج ‪ ، 1‬ص ‪248 ، 241 :‬‬

‫‪-74‬الجاحظ ‪ -‬الحيوان ‪ -‬ج ‪ ، 2‬ص ‪ -132 :‬مجهول مكان و تاريخ الطبع‬

‫‪ -75‬الطبري ‪ -‬تاريخه – م س ‪ -‬ج ‪ ، 10‬ص ‪248 ، 241 :‬‬

‫‪-76‬أحمد أمين ‪ - -‬ضحى اإلسالم ‪ -‬م س ‪-‬ج ‪ 1‬ص ‪ - 130 :‬عن المستطرف ‪112/1‬‬ ‫‪ -77‬الطبري ‪ -‬تاريخه ‪ -‬م س ‪ -‬ج ‪ ، 10‬ص ‪296 :‬‬ ‫‪ -78‬ابن خلدون ‪ -‬المقدمة ‪ -‬م س ‪ -‬ص ‪17 :‬‬ ‫‪ - 79‬المصدر السابق‪---‬ص ‪146-145 :‬‬

‫‪ -80‬م س ‪---------‬ص ‪138 -133 :‬‬

‫‪ - 81‬العقد الفريد –مطبعة االستقامة‪ -‬القاهرة –‪ -1953‬ج ‪ - 2‬ص ‪179 :‬‬

‫‪ -82‬د ‪ /‬ممدوح حقي ‪ ،‬نقد و تعليق على كتاب ‪ -‬اإلسالم و أصول الحكم ‪ ،‬تأ ليف علي‬ ‫عبد الرازق ‪ -‬دار مكتبة الحياة ‪ ،‬ص ‪59 :‬‬

‫‪ -83‬المصدر السابق ‪ -‬ص ‪36 :‬‬


‫‪74‬‬

‫الفصل الرابع‬ ‫األحاديث النبوية والصحة التاريخية للمدونة النصية لألحاديث‬ ‫من المعروف كما تحدثنا كتب التراث ‪ ،‬أن الحديث النبوي لم يدون‬

‫في عهد الرسول(ص) كما دون القرآن و لم يكن للحديث كتبةكما كان كتبة الوحي القرآني ‪.‬‬

‫بل وجدنا أحاديث نبوية تنهي عن تدوين الحديث منها ما رواه مسلم في صحيحه أن الرسول‬

‫قال ‪ ":‬ال تكتبوا عني و من كتب عني غير القرآن فليمحه ‪ ".‬كما أخرج الترمذي و النسائ‬

‫وأحمد والدرامي ‪ ،‬عن أبي سعيد الخدري قال (ص) ‪ " :‬ال تكتبوا عني سوى القرآن ‪ ،‬و من‬

‫كتب غير القرآن فليمحه ‪ ".‬و في رواية أخرى عن أبي سعيد يقول ‪ ":‬جهدنا بالنبي (ص) أن‬

‫يأذن لنا في الكتابة فأبى ‪ .‬حتى أبو هريرة و هو أكثر الناس رواية عن الرسول (ص) يقول ‪:‬‬

‫" خرج علينا رسول اهلل (ص) و نحن نكتب األحاديث ‪ ،‬فقال ‪ ،‬ما هذا الذي تكتبون ؟ قلنا‬

‫أحاديث نسمعها منك ‪ .‬قال ‪ :‬كتاب غير كتاب اهلل ؟ أتدرون ؟ ما ضل األمم قبلكم إال بما‬

‫اكتتبوا من الكتب مع كتاب اهلل ‪) 1 (".‬‬

‫كان الخلفاء الراشدون يكرهون كثرة الرواية عن رسول اهلل خشية الكذب عليه و خشية أن‬

‫يصدهم ذلك عن القرآن ‪ .‬و كان أشدهم في ذلك الخليفة عمر بن الخطاب‪ ،‬حيث كان يخاطب‬

‫صحابة رسول اهلل بقوله ‪" :‬إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل فال تصدوهم‬

‫باألحاديث فتشغلوهم ‪) 2 " .‬‬

‫عن أبي بكر الصديق أنه جمع الناس بعد وفاة الرسول و قال لهم ‪ " :‬إنكم تحدثون عن‬

‫رسول اهلل أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختالفا ‪ ،‬فال تحدثوا عن رسول اهلل شيئا‬

‫‪ ،‬فمن سألكم فقولوا ‪ :‬بيننا و بينكم كتاب اهلل ‪ ،‬فاستحلوا حالله و حرموا حرامه ! " ( ‪) 3‬‬

‫نشأ عن عدم تدوين الحديث في العصور األولى و صعوبة حصر ما قاله النبي (ص) أو فعل‬ ‫في مدة ثالث و عشرين عاما منذ بدء الوحي إلى و فاته ‪ ،‬أن استباح قوم ألنفسهم وضع‬

‫الحديث و نسبته كذبا إلى الرسول (ص) ‪ .‬و حسبنا دليال على مقدار الوضع أن البخاري و‬

‫كتابه يشتمل على نحو سبعة آالف حديث منها ثالثة آالف مكررة قالوا أنه اختارها من نحو‬

‫ستمائة ألف حديث كانت متداولة في عصره ‪ .‬و كان كثير من الوضاعين إذا أعجبهم حديث و‬

‫أروا فيه من وجهة نظرهم كالم حسن نسبوه إلى النبي (ص) ‪.‬قال خالد بن يزيد ‪ :‬سمعت محمد‬


‫‪75‬‬

‫بن سعيد الدمشقي يقول ‪ :‬إذا كان كالم حسن لم أر بأسا أن أجعل له إسنادا ‪) 4 ( ".‬و كان‬

‫الخصوم السياسيون و المذهبيون يضعون األحاديث التي تدعم موقفهم السياسي و المذهبي‬

‫و تنقض موقف خصومهم ‪.‬‬

‫مضى القرن األول للهجري و لم يجعل أحد من الخلفاء للحديث صبغة رسمية و لم يعهد إلى‬

‫جمع من الفقهاء أن يستوثقوا مما في أيدي الناس من الحديث و يجمعوا ما صح عندهم منه‬ ‫‪ ،‬و بقي الحديث يتناقل على ألسنة الناس بدون قيد أو روابط حتى بلغ ما نسب إلى النبي‬

‫(ص) مئات اآلالف من األحاديث ‪.‬‬

‫لقد دفعت الفوضى في الحديث عن الرسول جماعة من العلماء إلى محاولة تنقية الحديث‬

‫مما ألم به ‪ ،‬و تميز جيده عن رديئه ‪ .‬و سلكوا في ذلك جملة مسالك أهمها أنهم طالبوا‬

‫بإسناد الحديث ‪ ،‬أي أن يعينوا رواة الحديث ليتمكنوا بذلك من معرفة قيمة المحدث صدقا أو‬

‫عدلوا الصحابة جملة و تفصيال ‪.‬‬ ‫كذبا ‪ .‬و أكثر هؤالء َ‬ ‫فقل أن‬ ‫و الحقيقة أن علماء الحديث قد عنوا بنقد السند أكثر بكثير مما عنوا بنقد المتن ‪َ .‬‬ ‫نظفر بنقد صريح من ناحية أن ما نسب إلى النبي ال يتفق مع روح القرآن أو العقل أو أن‬

‫الحوادث التاريخية الثابتة تناقضه أو غير ذلك ‪ .‬حتى نرى البخاري نفسه على جليل قدره و‬ ‫كذلك تلميذه مسلم ‪ ،‬يثبتان أحاديث مخالفة لمعاني القرآن أو دلت الحوادث الزمنية و‬

‫المشاهدة التجريبية على أنها ال يمكن أ‪ ،‬تكون صحيحة ‪ ،‬القتصارهما على نقد الرجال( الرواة)‬

‫دون نقد المتن(مضمون الحديث) مثل حديث ‪ " ،‬ال يبقى على ظهر األرض بعد مائة عام نفس‬ ‫منفوسة " أو حديث‪ " ،‬من اصطبح كل يوم سبع ثمرات من عجوة ال يضره سم و ال سحر ذلك‬

‫اليوم إلى الليل " و غيره كثير سنذكر بعضا منه الحقا‪.‬‬

‫و لقد اختلف الصحابة في الحديث عن رسول اهلل كثرة و قلَة و أكثرهم رواية أبو هريرة ‪ ،‬حتى‬ ‫عاتبه الصحابة و انتقدوا كثرة روايته للحديث ‪ .‬و بحسب أكثر الروايات الواردة في كتب التراث‬ ‫فان أبا هريرة قد أسلم في الفترة األخيرة من حياة الرسول (ص) و عاصره في المدينة مدة ال‬

‫تتجاوز الثالث سنوات ‪ .‬و مع هذا فإننا نرى أنه قد روى عن الرسول (‪ ) 5374‬حديثا نجد‬ ‫منها في الصحيحين بخاري و مسلم ( ‪ ) 1574‬حديثا ‪ .‬بينما نجد للصحابة الذين عاشوا‬

‫بكنف النبي (ص) مدة أطول بكثير لهم أحاديث أقل بكثير مما ألبي هريرة ‪ .‬فمثال نجد في‬

‫الصحيحين ‪:،‬‬ ‫عن أبي بكر‬

‫حسا ن بن ثابت‬

‫الزبير بن العوام‬

‫=‬

‫=‬

‫=‬

‫( ‪ ) 16‬حديثا‬

‫حديث واحد‬

‫حديث واحد‬


‫‪76‬‬

‫العباس بن عبد المطلب‬

‫عبد الرحمن بن أبي بكر =‬

‫عبد اهلل بن الزبير‬

‫علي بن أبي طالب‬ ‫عمار بن ياسر‬

‫عمر بن الخطاب‬

‫=‬ ‫=‬

‫( ‪ ) 4‬أحاديث‬

‫( ‪ ) 3‬أحاديث‬ ‫=‬

‫(‪ ) 3‬أحاديث‬

‫=‬

‫=‬

‫( ‪ ) 37‬حديثا‬ ‫حديثان‬

‫(‪ ) 43‬حديثا‬

‫و إذا جمعنا في الصحيحين ما روي عن ثالثين من مشاهير الصحابة و من بينهم الخلفاء‬

‫األربعة الذين عاشوا مع الرسول خالل فترة الرسالة كلها نحصل على ما مجموعه ( ‪)173‬‬

‫مائة و ثالثة و سبعون حديثا ‪ .‬بينما ألبي هريرة في نفس الصحيحين أكثر من تسعة أضعاف‬

‫مجموع كل هؤالء ‪) 5 ( .‬‬

‫و تحدثنا كتب التراث أن بعض الصحابة قد رفض األخذ بأحاديث البعض اآلخر ‪ .‬فلقد روي أن‬

‫أبا هريرة روى حديثا ‪ ":‬من حمل جنازة فليتوضأ " فلم يأخذ به إبن عباس و قال ‪ " :‬ال يلزمنا‬

‫الوضوء في حمل عيدان يابسة ‪ ".‬كما رفضت عائشة زوج الرسول حديث ‪ ":‬أن الميت يعذب‬ ‫ببكاء أهله عليه ‪ ".‬و قالت ‪ " :‬أين منكم من قوله تعالى " ال تزر وازرة وزر أخرى " و حلفت‬

‫أن الرسول ما قاله ‪ .‬و الحديث المرفوض من عائشة ما زال في الصحاح ‪ ) 6 ( .‬و يقول‬ ‫الشيخ محمد الغزالي‪ ":‬إن الخطأ غير مستبعد على راو و لو كان في جاللة‬

‫عمر ‪) 7 ( ".‬‬

‫و لقد عارضت عائشة العديد من أحاديث أبي هريرة و قالت عنه " إنه غير موهوب لسماعه ‪،‬‬

‫و عندما يكون ملتمسا فانه يعطي أجوبة فاسدة " (‪ ) 8‬و كانت تقول فيه أيضا ‪:‬‬

‫" تلقى دروسه حتما بشكل سيئ ‪ ،‬و كانت تصرخ في وجهه عندما يقول حديثا سائلة‪:‬‬

‫" و لكن من سمع هذا من أبي القاسم ( لقب الرسول )…… انك تروي أحاديث لم تسمع‬

‫بها … أحترس فيما ترويه ‪) 9( ".‬‬

‫كما أن عمر بن الخطاب قال يوما بخصوص أبي هريرة ‪ ":‬لدينا الكثير من األشياء التي يمكن‬ ‫قولها و لكننا نخاف من قولها و هذا الرجل ( يعني أبا هريرة ) ال وازع لدين ‪ ".‬و قال فيه‬

‫كذلك ‪ ":‬أكبر كذاب من المحدثين هو أبو هريرة " ( ‪) 10‬‬

‫و لقد روى أبو هريرة أن رسول اهلل قال ‪ " :‬من أصبح جنبا فال يصوم ‪ ".‬فأنكرت ذلك عائشة‬

‫و قالت ‪ " :‬كان رسول اهلل يدركه الفجر في رمضان و هو جنب من غير احتالم فيغتسل و‬

‫يصوم ‪ ".‬فلما ذكر ذلك ألبي هريرة اعترف قائال ‪ ":‬إنها أعلم مني و أنا لم أسمعه من النبي و‬


‫‪77‬‬

‫سمعته من الفضل بن عباس ‪ ) 11 ( ".‬و إننا لنجد في كتب التراث أمثلة كثيرة على أن بعض‬

‫الصحابة قد رفض األخذ برواية البعض اآلخر في أحاديث كثيرة ‪ .‬هذا إلى جانب أن السنة‬ ‫يرفضون بعض الرواة من الشيعة كما أن الشيعة بدورهم يرفضون بعض رواة السنة ‪.‬‬

‫فالشيعة مثال يرفضون كل رواية فيها مدح ألعداء علي بن أبي طالب ‪ .‬فهم يرفضون كل‬

‫رواية فيها مدح لمعاوية بن أبي سفيان أو يزيد أو مروان بن الحكم أو عمر بن العاص و‬

‫أمثالهم ‪ ،‬و يشككون في راويها ‪ .‬كما يرفضون األخذ بروايات من سبق ذكرهم و أمثالهم ‪.‬‬ ‫فمروان بن الحكم مثال كان من عوامل الفتنة في زمن عثمان بن عفان و لم يكن محببا من‬

‫المسلمين و ال موضع ثقتهم ‪ .‬و كان مروان في جيش عائشة في معركة الجمل و هو المتهم‬

‫األول بقتل طلحة عندما رآه يترك المعركة حيث رماه بسهم فأصابه فظل طلحة ينزف دما حتى‬

‫مات ‪.‬‬

‫و عمرو بن العاص صديق معاوية و مساعده األيمن وواليه على مصر و لقد انضم لمعاوية‬ ‫في الفتنة التي وقعت بين علي بن أبي طالب و معاوية ‪ ،‬و كان الحكم من قبل معاوية على‬

‫أثر معركة صفين ‪ .‬و تذهب الروايات إلى أن عمرو قد خدع أبا موسى األشعري في قضية‬

‫التحكيم مقابل وعد من معاوية بتولية عمرو مصر مدى الحياة ‪ .‬فما أن أعلن أبا موسى أنه‬

‫اتفق و عمرو على خلع كل من علي بن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان حتى يختار‬

‫المسلمون من يشاءون ليولى عليهم ‪ ،‬حتى وقف عمرو بن العاص فأعلن أنه يخلع عليا من‬ ‫األمر و يثبت معاوية ‪ .‬و عندما شعر أبو موسى بخديعة عمرو قال له ‪ :‬إنما مثلك يا عمرو‬

‫كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث و إن تتركه يلهث ‪ .‬فقال عمرو ‪ :‬إنما مثلك كمثل الحمار‬

‫يحمل أسفا ار ‪ .‬و لقد قال علي بن أبي طالب في عمرو بن العاص ‪ ":‬إنه ليقول فيكذب و يعد‬ ‫فيخلف …‪ .‬و يخون العهد ‪) 12 ( .‬‬

‫و الشيعة يشككون كذلك في رواية الصحابي أبي هريرة و رماه شعبة بن الحجاج بالتدليس ‪،‬‬

‫حيث الحظ أن أبا هريرة يروي عن كعب األحبار و يروي عن رسول اهلل و ال يميز بين‬

‫الروايتين ‪ ،‬لذا رماه بالتدليس ‪ ) 13 ( .‬و كعب األحبار هذا يهودي أسلم و يعزى إليه كثير‬ ‫من اإلسرائيليات التي دخلت األحاديث المنسوبة للنبي والى التراث اإلسالمي عامة ‪ ،‬و كان‬

‫أبو هريرة تلميذا له و يروي عنه ‪ .‬و يقول العالم الشيعي محمد الحسين آل كاشف الغطاء ‪":‬‬

‫إن ما يرويه مثل أبي هريرة …‪ .‬و سمى آخرين فليس له من االعتبار عند األماميين مقدار‬ ‫بعوضة ‪ ) 14 (".‬و يبدو أن أبا هريرة لم يكن على عالقة و ثيقة بعلي بن أبي طالب فلم‬ ‫يروي عنه و لم يوافق على العمل له و عمل لمعاوية ‪.‬‬


‫‪78‬‬

‫و سمرة بن جندب عند الشيعة ليس بصحابي ألنه كان صغي ار في عهد الرسول ‪ ،‬و يقول‬

‫الخميني فيه أنه يفتري أحاديث تمس في كرامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب و أنه يروي‬

‫آالف األحاديث في فضل الحكام الجائرين ‪ ) 15( .‬و كان سمرة هذا واليا لمعاوية على البصرة‬

‫‪ .‬و روى الطبري خب ار مسندا إلى سوار العدوي قال ‪ ":‬قتل سمرة من قومي سبعة وأربعين ألف‬ ‫رجال كلهم قد حفظ القرآن ‪ ".‬كما ورد أن سمرة قتل من قبيلة همذان ثمانية آالف رجل ليس‬

‫لهم ذنب إال التشيع ‪) 16( .‬‬

‫و يثير حفيظة الشيعة مثال ما ورد في صحيح البخاري بأن المهلب كان يقول بثبوت خالفة‬

‫يزيد بن معاوية و أنه من أهل الجنة و كذلك قول ابن تيمية في رسائله الكبرى أن يزيد من‬

‫أولياء اهلل و قول الغزالي صاحب كتاب علوم الدين مثل هذا القول ‪) 17 ( .‬‬

‫و عند الشيعة ‪ ،‬ال صحيح البخاري و ال غيره بمنأى عن النقد ‪ ،‬فهم يقولون بأنه ‪ " :‬إذا‬

‫كان للبخاري و مسلم و غيرهما طرق توصل رواياتهما بالنبي و الصحابة فكذلك للكليني و‬

‫الطوسي و الصدوق طرق توصل رواياتهم بالنبي و باألئمة المعصومين ‪ ،‬كما يعرف كل من‬ ‫نظر إلى كتبنا " الكافي " و " التهذيب " و من ال يحضره الفقه و األستبصار ‪ .‬و إذا كان في‬

‫هذه الكتب روايات مرفوعة أو مرسلة أو ضعيفة ‪ ،‬ففي صحيح البخاري و مسلم و غيرها مثل‬

‫هذه الروايات ‪ ،‬ففي هذه الصحاح ما يقطع بعدم صحته و عدم إمكان صدوره عن رسول اهلل ‪.‬‬ ‫و قد أشار إلى هذه الروايات اإلمام شرف الدين في كتابه ( أبو هريرة ) مع أنه قد شذت عن‬

‫هذه الصحاح أخبار صحيحة لم تذكر فيها ……… فإذا كانت روايات ( الكافي ) توضع في‬

‫الميزان و تناقش ليعرف صحيحها من ضعيفها فأولى أن يوضع ما روي في صحيحي البخاري‬ ‫و مسلم و غيرهما في الميزان ليعرف صحيحه من ضعيفه ‪ ".‬و بالرغم مما للكافي من‬

‫أهمية عند الشيعة ‪ ،‬خاصة عند القدماء من علمائهم فأن أكثر من نصف أخبار الكافي يعده‬

‫الشيعة ضعيفا ‪) 18( .‬‬

‫كما اختلف أهل السنة في األخذ عن الرواة الشيعة فعلى سبيل المثال ال الحصر نذكر بعض‬

‫األسماء التي اختلف فيها ‪) 19 ( .‬‬

‫‪ -1‬ابان بن تغلب ‪ :‬قال عنه العالم السني الذهبي " شيعي جلد " و قال عنه السعدي " زائغ‬

‫مجاهر "‬

‫‪ -2‬خالد بن مخلد القطواني ‪ :‬ذكره أبو داوود واحتج به البخاري و مسلم في صحيحيهما و‬ ‫قال عنه الجوزاني ‪ ":‬كان شتاما معلنا بسوء مذهبه "‬

‫‪ -3‬سعيد بن اشوع ‪ :‬قال عنه الذهبي ‪ ":‬صدوق " و قال عنه النسائي ‪ :‬ليس به بأس و قال‬

‫عنه الجوزاني ‪ :‬زائغ ‪ ،‬زائد التشيع ‪.‬‬


‫‪79‬‬

‫و يرفض الخطاب الديني التشكيك برواية أي صحابي و انه ال يجوز لمسلم رفض رواية‬

‫صحابي ‪ ،‬فاجالل كل صحابي فرضا الزما على كل مسلم ألن تعظيمهم هو تعظيم لرسول اهلل‬ ‫و بالتالي رفض رواية أي صحابي معصية هلل تعالى ‪.‬‬

‫و هذا مثال صارخ على السلطة المقدسة التي أعطاها الخطاب الديني لنفسه و يعتمد في‬

‫مقولته هذه على حديث منسوب إلى الرسول (ص) و لقد ورد الحديث بصور مختلفة ‪ ،‬و‬

‫خالصة الحديث أن الرسول قال ‪ " :‬أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم‪" . .‬‬

‫و هذا حديث موضوع ‪ .‬يذكر محمد ناصر األلباني و هو سني ثقة في سلسلة األحاديث‬

‫الموضوعة و الضعيفة ‪ ،‬أن هذا الحديث موضوع ‪ .‬و يقول األلباني عن ابن حزم ‪ :‬هذه رواية‬

‫ساقطة ‪ ،‬فالحديث مروي عن طريق سالمة بن سليم عن الحارث بن غصين عن األعمش عن‬ ‫أبي سفيان عن جابر ‪ .‬فالحارث بن غصين مجهول و أبو سفيان ضعيف و سالم بن سليم‬

‫يروي األحاديث الموضوعة ‪) 20 (.‬‬

‫و هناك صورة أخرى للحديث رواه نعيم بن حماد و عبد الرحيم بن زيد و يقول األلباني ‪":‬‬

‫الحديث موضوع ‪ ،‬ألن نعيم بن حماد ضعيف و عبد الرحمن بن زيد كذاب ‪ ".‬و هناك صورة‬

‫ثالثة للحديث بنفس المعنى رويت عن طريق سليمان بن عمر النغعي و يقول األلباني ‪ :‬هو‬

‫حديث موضوع فالنخعي ‪:‬كذاب ‪".‬‬

‫و هناك أحاديث في الصحاح تناقض ما ورد في األحاديث المذكورة ‪ ،‬فلقد روى البخاري في‬

‫علي شرب ‪ ،‬و من شرب لم يظمأ‬ ‫صحيحه أن النبي قال ‪ ":‬إني فرطكم على الحوض من مر َ‬ ‫علي أقوام أعرفهم و يعرفوني ‪ ،‬ثم يحال بيني و بينهم فأقول إنهم مني فيقال ‪:‬‬ ‫أبدا ‪ ،‬ليردن َ‬ ‫إنك ال تدري ما أحدثوا بعدك ‪ ،‬فأقول سحقا سحقا لمن غير بعدي ‪) 21 ( ".‬‬

‫و في رواية أخرى و إسناد مختلف يورد البخاري الحديث أن النبي قال ‪ ":‬أنا فرطكم على‬

‫إلي رجال منكم ‪ ،‬حتى إذا أهويت ألناولهم أختلجوا دوني ‪ ،‬فأقول ‪ :‬أي رب‬ ‫الحوض ليرفعنَ َ‬ ‫‪ ،‬أصحابي فيقول ‪ :‬ال تدري ما أحدثوا بعدك ‪ ) 22 ( ".‬و عن علي بن أبي طالب أن‬ ‫النبي ( ص ) قال ‪ ":‬إن القوم سيفتنون بأموالهم و يمنون بدينهم على ربهم و يتمنون‬

‫رحمته و يأمنون سطوته ‪ ،‬و يستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة و األهواء الساهية ‪ .‬قلت ‪:‬‬ ‫يا رسول اهلل بأي المنازل أنزلهم عند ذلك ؟ أبمنزلة ردة أم بمنزلة فتنة ؟ فقال ‪ :‬بمنزلة فتنة‬

‫‪)23(.‬‬

‫أما من هو الصحابي ففي ذلك خالف ‪ .‬فالبعض يعتبر أن الصحابي كل من لقي رسول اهلل‬

‫مؤمنا به فمات على اإلسالم ‪ ،‬طالت مجلسته أم قصرت ‪ ) 24 ( .‬و البعض اآلخر أشترط‬

‫بلوغ الحلم و المجالسة و إن قصرت كما أن البعض زاد في الشروط فيقول ‪ :‬ال يعد صحابيا إال‬


‫‪80‬‬

‫من وصف بأحد األوصاف األربعة ‪ :‬من طالت مجالسته أو حفظت روايته أو ضبط أنه غ از‬ ‫معه أو أستشهد بين يديه ‪ .‬و تقدر كتب التراث بأن عدد الصحابة الذين جالسوا النبي أو‬

‫سمعوا منه أو رووا عنه ( ‪ )14555‬مائة وأربعة عشر ألف صحابيا ‪ ،‬كل منهم روى الحديث‬

‫أو الحديثان أو أكثر ‪ ) 25( .‬و ال عجب في ذلك فإن النبي خالل فترة نبوته التي بلغت ثالث‬ ‫و عشرون سنة ‪ ،‬قد اجتمع و جالس آالف من المسلمين ‪ ،‬و قد حدث النبي قوما بما لم‬ ‫يحدث به آخرين ووقع من الحوادث أمام قوم ما لم يره آخرون ‪ ،‬و قد تفرق الصحابة في‬

‫األمصار ‪ ،‬بعضهم قتل في حروب الفتن و بعضهم قتل في حروب الفتوحات ‪ ،‬و البعض اآلخر‬

‫عاش في مختلف بقاع البالد اإلسالمية ‪.‬‬

‫و كانت رواية الحديث تعتمد على الذاكرة ‪ ،‬و تذكر في المناسبات ‪ .‬و قد يصح الحديث‬

‫سندا و يضعف متنا ‪ .‬و لقد أختلف العلماء في قبول أو رفض بعض األحاديث بسبب ذلك ‪.‬‬

‫فلقد رفض األحناف كثير من األحاديث ألنهم أروا علة في متنها مثل رفضهم حديث " ال يقتل‬ ‫مسلم في كافر " مع صحة سنده لمخالفته في رأيهم للنص القرآني " النفس بالنفس " و‬

‫األحناف و المالكية يكرهون تحية المسجد و اإلمام يخطب مع ورود حديث يطلب هذه التحية‬

‫بل إن مالكا أبطل هذه الصالة ‪) 26 ( .‬‬

‫و يرفض بعض الفقهاء حديث أن دية المرأة نصف دية الرجل باعتبار أن الدية في القرآن‬ ‫واحدة للرجل وللمرأة ‪ .‬كما رفض بعضهم الحديث المروي عن أبي هريرة بأن موسى عليه‬

‫السالم فقأ عين ملك الموت عندما جاء ليقبض روحه و قصة هذا الحديث عن أبي هريرة أن‬

‫النبي (ص ) قال ‪ :‬جاء ملك الموت إلى موسى فقال له ‪ :‬أجب ربك قال ‪ :‬فلطم موسى عين‬ ‫ملك الموت ففقأها ‪ ،‬قال ‪ :‬فرجع ملك الموت إلى اهلل تعالى فقال ‪ :‬أرسلتني إلى عبد لك ال‬

‫يريد الموت و قد فقأ عيني ‪ ،‬قال ‪ :‬فرد اهلل إليه عينه و قال ‪ :‬إرجع إلى عبدي فقل ‪ :‬الحياة‬

‫تريد ؟ فان كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور ‪ ،‬فما وارث يدك من شعره فانك تعيش‬

‫بها سنة قال ‪ :‬ثم مه ؟ قال ‪ :‬ثم تموت ……‪ ..‬إلى آخر الحديث ( ‪ ) 27‬ومع غرابة هذا‬

‫الحديث الذي يناقض نصوص القرآن و يشكك في طاعة النبي موسى هلل و تفضيله الحياة‬

‫الدنيا على اآلخره و الذي ال يقبله عقل وال منطق فان األغرب من ذلك أن يأتي البعض و‬ ‫يكفر كل من أنكر هذا الحديث ‪) 28( .‬‬

‫و الشافعية و الحنابلة أجازوا أن يجبر األب أبنته البالغة على الزواج بمن تكره مع وجود عدة‬

‫أحاديث تخالف ذلك ‪ .‬أما األحناف فلقد أعطوا المرأة الحق أن تباشر عقدها معتمدين على‬

‫عدة أحاديث مختلفة مثل " ال تنكح األيم حتى تستأمر ‪ ،‬و ال تنكح البكر حتى تستأذن قالوا ‪:‬‬


‫‪81‬‬

‫يا رسول اهلل و كيف أذنها ؟ قال ‪ :‬أن تسكت " و في حديث آخر ‪ ":‬الثيب أحق بنفسها من‬

‫وليها و البكر تستأمر و أذنها سكوتها ‪".‬‬

‫و عن إبن عباس أن جارية بك ار أتت النبي (ص) فذكرت أن أباها زوجها و هي كارهة فخيرها‬ ‫رسول اهلل ‪ ".‬و في رواية أن فتاة قالت للرسول ‪ :‬إن أبي زوجني من ابن أخيه يرفع بي‬

‫خسيسته و أنا كارهة ‪ ،‬فأرسل الرسول إلى أبيها فدعاه فجعل األمر إليها ‪ .‬فقالت ‪ :‬يا رسول‬

‫اهلل ‪ ،‬قد أجزت ما صنع أبي و لكني أردت أن أعلم النساء أن ليس لآلبائهم من األمر شيء ‪".‬‬

‫( ‪ ) 29‬و مع كل هذا فإننا نجد أن الشافعية و الحنابلة قد عملوا بعكس ذلك ‪ .‬و هناك خالف‬ ‫كبير في قبول أو رفض كثير من األحاديث ال مجال لذكره هنا‬

‫إن ركاما من األحاديث الضعيفة مأل آفاق الثقافة اإلسالمية بالغيوم ‪ .‬و لقد‬

‫غطت هذه الغيوم حتى على القرآن الكريم فبات مهجو ار إال للقرآئة في المآتم و األعياد و صنع‬ ‫األحجية ‪ .‬و لقد أصبح القرآن أيقونة على الرفوف و بتنا نقول قال أبو هريرة وقال عبد اهلل (‬ ‫؟ ) بدال من قولنا قال اهلل تعالى في كتابه العزيز ‪ .‬و أصبحت الصحاح كصحيح البخاري و‬

‫مسلم و غيرها كتبا مقدسة ‪ ،‬مع أنها مليئة باألحاديث التي دلت الحوادث الزمنية و المشاهدة‬ ‫التجريبية على أنها غير صحيحة ‪ .‬و هناك أحاديث يناقض متنها معاني القرآن الكريم بل و‬ ‫تناقض المباد ىء األساسية لتعاليم الخالق في كتابه ‪.‬‬

‫و ال يمكن لمسلم عاقل أن يقبل المقولة التبريرية للخطاب الديني بأن آيات القرآن الكريم‬

‫يمكن أن تنسخ بالحديث ‪ .‬فالقرآن هو الرسالة اإللهية الوحيدة التي أوحيت للرسول ‪ ،‬و‬

‫القرآن هو اإلطار الذي عملت به أقوال و أفعال الرسول فيما يختص بأمور العقيدة و الدين و‬ ‫ما كان من الممكن أو المسموح له بغير ذلك ‪ .‬و قوله سبحانه هو القول الفصل ‪" :‬و ما‬ ‫فرطنا في الكتاب من شيء " األنعام آية ‪38‬‬

‫أما فيما يتعلق بأمور الدنيا فكان الرسول يجتهد بما يراه مناسبا في ذلك العصر على أن ال‬

‫يخرج عن إطار الرسالة اإللهية أو يخالفها ‪ .‬و لقد صحح الوحي للرسول عدد من االجتهادات‬

‫و المواقف ‪ .‬و كان الرسول (ص) يستشير أصحابه و يأخذ برأيهم إذا وجده أصوب من رأيه‬ ‫‪ .‬وقصة اختيار موقع جيش المسلمين في بدر دليل على ذلك ‪ ،‬حيث أخذ برأي األنصاري‬

‫الحباب بن المنذر قائال (ص) ‪ " :‬لقد أشرت بالرأي " و غير الرسول (ص) بناءا على‬

‫مشورة حباب موقع جيش المسلمين ‪ ) 30 ( .‬كما أن الوحي كان في بعض األحيان يؤيد رأي‬

‫الصحابة كما حدث لعمر بن الخطاب حيث كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن ‪ ،‬و لقد اخرج‬

‫البخاري و غيره عن انس أن عمر بن الخطاب قال ‪ :‬وافقت ربي في ثالث ‪ ،‬في الحجاب و في‬

‫أسرى بدر و في مقام إبراهيم ‪.‬‬


‫‪82‬‬

‫ثم أن هناك أحاديث كثيرة تعطي صورة مشوهة للرسول الكريم مخالفة للصورة التي وصفها به‬ ‫القرآن الكريم ‪ :‬إنك لعلى خلق عظيم " و الصورة البهية التي عرفناها من سيرته قبل البعثة‬

‫و بعدها ‪ .‬فهو حسب تلك األحاديث المنسوبة إليه يخالف ‪ -‬حاشاه ‪ -‬تعاليم القرآن و يباشر‬

‫زوجاته إثناء الحيض ( بخ ‪) 300 ،293‬و هو يصلي بدون وضوء بعد نوم شخر فيه ( بخ‬

‫‪ ) 138‬و هو يترك الناس في المسجد ينتظرونه بعد أن أقيمت الصالة يناجي رجال في جانب‬

‫المسجد فما قام للصالة حتى نام القوم ( بخ ‪) 642‬و هو يصفع امرأة ألنها رفضت طلبه‬

‫بهبة نفسها له ( بخ ‪ ) 5255‬و غيره كثير ‪ .‬و هل بعد ذلك يريدون منا أن نصدق ذلك ؟‬

‫حاشا الرسول أن يخالف قوله تعالى ‪ (،‬يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في‬

‫المحيض و ال تقربوهن حتى يطهرن ) البقرة آية ‪ 222‬و ليس من أخالقه أن يترك الناس‬

‫في المسجد و يناجي رجال بجانب المسجد فال يقوم إلى الصالة حتى نام القوم ‪ .‬و ليس من‬

‫أخالقه أن يصفع امرأة ألنها رفضت طلبه بهبة نفسها له‪ ،‬تحت أي ظروف ‪ .‬و لنا الحق و‬

‫كل الحق أن ال نصدق ذلك و أن ال نصدق مثله الكثير حتى ولو ورد في كل صحاح األرض‬

‫و حتى ولو روي على لسان ألف صحابي و تابع ‪.‬‬

‫ثم أن هناك أحاديث تظهر الرسول على أنه عالم بالغيب و اهلل يقول في كتابه العزيز " قل ال‬

‫يعلم من في السماوات و األرض الغيب إال اهلل " النمل ‪ 65‬و اهلل " عالم الغيب فال يظهر على‬

‫غيبه أحد ‪ ".‬الجن ‪ 26‬كما أن هناك أحاديث تظهره و هو شفيع ألصحابه وأمته مع أن اهلل‬ ‫يقول " و قل هلل الشفاعة جميعا " الزمر ‪ 44‬و " مالكم من دونه ولي و ال شفيع لعلكم‬

‫تذكرون ‪" .‬‬

‫ثم أن هناك أحاديث يناقض بعضها البعض و أخرى يرفضها العقل والمنطق مثل الحديث‬

‫المروي عن أبي هريرة بأنه " ال تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس إلى ذي‬

‫الخلصة " مسلم ‪ 2906‬و دوس هي قبيلة أبي هريرة ‪ .‬و ال ندري ما عالقة إليات نساء‬

‫دوس‬

‫و قيام الساعة ؟ و رغم تأويالت شراح السلف التي تحاول إثبات صحة هذا الحديث فلنا‬

‫الحق أن نشك في نسبة هذا الحديث للنبي (ص) ‪ .‬و ذو الخلصة هذا صنم و يروي مسلم‬ ‫نفسه في صحيحه حديثين يثبت فيهما جرير بن عبد اهلل أن النبي (ص ) بعثه إلى مائة و‬

‫خمسين رجال فحرق الصنم حتى جعله كالجمل األجرب ‪.‬‬

‫ثم أن هناك أحاديث كثيرة مليئة باإلسرائيليات و أفكارها توراتية بعيدة كل البعد عن التعاليم‬

‫القرآنية خاصة فيما يتعلق بتشخيص الخالق ‪ ،‬و العرش و حملته‬

‫و التي تصور اهلل سبحانه كأنه سلطان أو ملك جالس على عرشه و حاشيته حوله ‪.‬‬


‫‪83‬‬

‫و أحاديث أخرى تتحدث عن الشياطين و الجنة والنار مع أن كل ذلك من علم الغيب وجلها‬

‫مقتبس من اإلسرائيليات ‪.‬‬

‫و لنا الحق كل الحق أن نشكك في صحة نسب هذه األحاديث إلى رسولنا الكريم من دون أن‬

‫نهاب تشكيك " حماة الدين " بصحة ديننا و قوة إيماننا ‪ .‬و القضية هنا كما ذكرنا سابقا هي‬ ‫خالف فكري ال يتعلق أبدا بطاعة اهلل و الرسول و إنما يتعلق بقبول أو رفض نسب هذه‬

‫األحاديث إلى الرسول (ص) ‪.‬‬

‫إن التأويالت التي يحاول بواسطتها الشراح السلفيون إيجاد مخرج لمثل تلك األحاديث ‪ ،‬إنما‬

‫يدل على مدى العنت و التكلف انصياعا لفريضة رسخت في العقل السلفي بأن األحاديث‬

‫الواردة في صحيحي البخاري و مسلم هي نصوص مقدسة مقطوع بثبوتها و ال يصح ألحد‬ ‫التشكيك بها أو ببعضها ‪ .‬يقول النووي في التقريب ‪ " :‬ذكر الشيخ ( ابن صالح )أن ما‬

‫روياه ( البخاري و مسلم ) أو أحدهما مقطوع بصحته ‪ ،‬و العلم القطعي حاصل فيه ‪ .‬و يذكر‬

‫السيوطي أن قول ابن صالح هذا ‪ ،‬هو قول أهل الحديث قاطبة و مذهب السلف عامة ‪( ".‬‬

‫‪) 31‬‬

‫و سنورد هنا بعض األمثلة على تلك األحاديث و الواردة في الصحيحين بخاري و مسلم ‪ .‬و ال‬

‫مجال هنا لذكرها جميعا ‪ ،‬ومن أراد التوسع في هذا الموضوع عليه مراجعة كتاب نيازي عز‬

‫الدين ‪ -‬دين السلطان‪) 32 ( -‬‬

‫ما نسب للنبي من األحاديث مروية في الصحيحين بخاري و مسلم ( ‪) 34 ، 33‬‬ ‫أحاديث تناقض بعضها ‪:‬‬ ‫ا ‪ -‬قيام الساعة‬ ‫‪ -1‬عن أبى هريرة أن الرسول ( ص ) قال‬

‫‪ ::‬ال تقوم الساعة حتى تضطرب إليا ت نساء‬

‫دوس إلى ذي الخلصة ‪ (.‬قبيلة دوس هذه هي قبيلة أبو هريرة) مسلم ‪2906‬‬

‫‪ -2‬عن أبي هريرة أن الرسول (ص ) قال ‪ :‬ال تقوم الساعة حتى يخرج نار من ارض‬ ‫الحجاز تضيء أعناق اإلبل ببصري ‪ .‬مسلم ‪2902‬‬


‫‪84‬‬

‫‪ -3‬عن أبي هريرة أن الرسول ( ص ) قال ‪ :‬ال تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها‬ ‫‪ .‬مسلم‪157‬‬

‫‪ -4‬عن أبي هريرة أن الرسول ( ص ) قال ‪ :‬ال تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون‪.‬‬ ‫مسلم ‪84\2923‬‬

‫‪ -5‬عن أبي هريرة أن الرسول ( ص ) قال ‪ :‬ال تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان‬ ‫يسوق الناس بعصاه ‪ .‬مسلم ‪291‬‬

‫‪ -6‬عن أبي هريرة أن الرسول ( ص ) قال ‪ :‬ال تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر‬ ‫و حتى تقاتلوا الترك صغار األعين حمر الوجوه ذلف األنوف كأن وجوههم المجان المطرقة‬

‫‪ .‬بخ ‪3578‬‬

‫هناك أحاديث أخرى رواها أبو هريرة تتحدث عن قيام الساعة‪ ،‬مثل حديث طويل رواة مسلم‬

‫بأن الساعة ال تقوم حتى ينزل الروم باألعماق أو بدابق و هما موقعان بالشام قرب حلب ‪ .‬و‬ ‫إن التناقض الصارخ في هذه األحاديث المنسوبة للرسول و التي تتحدث عن قيام الساعة ال‬

‫يحتاج إلى تعليق و ال ينكرها إال مكابر‪،‬ـ ثم أن قيام الساعة من علم الغيب و علم الغيب كما‬

‫أخبرنا اهلل سبحانه بشكل واضح ال لبس فيه هو من علم اهلل وحده و ال يظهر على غيبه أحد‬ ‫‪.‬‬

‫ب‪ -‬المبشرون بالجنة‬ ‫‪-1‬عن أبي هريرة ‪ -‬مختصر ‪ -‬أن الرسول كلف أبا هريرة أن يذهب و يبشر الناس قائال ‪:‬‬

‫كل من لقيت يشهد أن ال إله إال اهلل مستقينا بها قلبه بشره بالجنة ‪ .‬مسلم ‪31‬‬

‫‪-2‬عن أبى ذر أن الرسول قال ‪:‬من مات من أمتي ال يشرك باهلل شيئا دخل الجنة …‪ ..‬و‬

‫إن زنى وان سرق ‪ .‬بخ ‪ 1237‬وان شرب الخمر بخ ‪6443‬‬

‫‪ -3‬عن أبى هريرة أن الرسول قال ‪ :‬لن ينجي أحد منكم عمله ‪ .‬قال رجل وال إياك يا رسول‬

‫اهلل ؟ قال ‪ :‬وال إياي إال أن يتغمدني اهلل برحمته و لكن سددوا ‪.‬مسلم ‪ 2816‬و بخ ‪5673‬‬

‫‪ -4‬عن أم عالء أن الرسول قال ‪( ‬مختصر) ‪ :‬واهلل ما ادري و أنا رسول اهلل ما يفعل بي ‪.‬‬ ‫بخ ‪1243‬‬

‫من الحديثين الثالث و الرابع نفهم أن يوم الحساب و نتائجه من علم الغيب ‪ ،‬و هو علم اهلل‬

‫سبحانه وحده ‪ ،‬و على المرء أن يفعل ما يرضي اهلل و أن يأمل رحمته ‪ .‬كما نفهم من‬

‫الحديثين أنه حتى النبي (ص) نفسه و هو نبي اهلل و رسوله ال يعلم ما سيفعل به يوم‬


‫‪85‬‬

‫الحساب ‪ ،‬وانما يأمل رحمة اهلل ‪ .‬و بعكس ذلك فإن الحديثان األول و الثاني يبشران آخرين‬ ‫بالجنة إذا آمنوا باهلل و إن زنوا و سرقوا و شربوا الخمر ‪ .‬أليس هذا قمة التناقض‬

‫و مخالفا لكل تعاليم اهلل سبحانه و مشجعا على الفسق و الفجور بحجة اإليمان باهلل ؟ و بعد‬

‫كل هذا يريدون منا أن نصدق أن هذا من قول النبي (ص ) ‪.‬‬ ‫ت ‪-‬نكاح المحرم حالل أم حرام‬

‫‪-1‬عن عثمان بن عفان أن الرسول قال ‪: " :‬ال ينكح المحرم وال ينكح و ال يخطب ‪.‬بخ ‪1409‬‬ ‫‪-2‬عن ابن عباس أن الرسول تزوج ميمونة و هو محرم ‪.‬بخ ‪ 1410‬و مسلم ‪1837‬‬ ‫أيريدون إقناعنا بأن رسول اهلل يأمر بشيء و يخالفه بنفسه ؟‬

‫ث‪-‬الغائط والقبلة‬ ‫‪ -1‬عن آبي أيوب األنصاري أن الرسول قال ‪:‬إذا أتى أحدكم الغائط فال يستقبل القبلة وال يولها‬ ‫ظهره وشرقوا أو غربوا ‪.‬بخ ‪144‬‬

‫‪ -2‬عن عبد اهلل ابن عمر‪ :‬رأيت الرسول( ص) يقضي حاجته مستدب ار القبلة مستقبل الشام‬ ‫‪ .‬بخ ‪148‬‬

‫ج‪ -‬تعليق الرسول على تشخيص أهل الكتاب هلل سبحانه‬ ‫‪-1‬عن عبد اهلل ( ؟ ) ( غير معروف الهوية ) ‪ :‬جاء رجل من أهل الكتاب إلى الرسول فقال‬

‫يا أبا القاسم إن اهلل يمسك السموات على إصبع و األرض على إصبع و الشجر على إصبع و‬ ‫الخالئق على إصبع فيقول أنا الملك أنا الملك ‪ .‬فرأيت رسول اهلل ضحك حتى بدت نواجذه ثم‬

‫قال و ما قدروا اهلل حق قدره ‪ .‬بخ ‪7415‬‬

‫‪ -2‬نفس الحديث السابق تحت رقم ‪ 7414‬زاد الرواة جملة " فضحك رسول اهلل تعجبا و‬ ‫تصديقا ‪".‬‬

‫في الرواية األولى يضحك الرسول ( ص ) استنكا ار من قول الكتابي و في الرواية الثانية‬

‫تصديقا له ‪ .‬كما أن الحديث بحد ذاته في شقيه يسئ إلى عظمة الخالق في تشخيصه كملك‬

‫يحمل الدنيا على أصابعه ‪،‬حاشاه ‪.‬‬


‫‪86‬‬

‫ح‪-‬أكل لحوم الحمر حرام أم حالل‬ ‫‪-1‬عن ابن عمر أن رسول اهلل نهى عن أكل لحوم الحمر األهلية ‪ .‬مسلم ‪651‬‬

‫علي في الحمر من‬ ‫‪-2‬عن أبى هريرة ………‪..‬قيل والحمر يا رسول اهلل ؟ قال ‪:‬ما أنزل َ‬ ‫شيء ‪ .‬مسلم ‪987‬‬ ‫خ ‪-‬الفتنه من الشرق أم من بيت عائشة ؟‬ ‫‪-1‬عن عبد اهلل ابن عمر ‪ :‬رأيت رسول اهلل يشير إلى المشرق فقال ‪ :‬ها إن الفتنه ها هنا‬ ‫من حيث يطلع قرن الشيطان ‪ .‬بخ ‪3279‬‬

‫‪-2‬عن عبد اهلل (؟) ( مجهول الهوية ) أشار رسول اهلل إلى بيت عائشة فقال ‪ :‬ها إن الفتنة‬ ‫ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان ‪ .‬بخ ‪3104‬‬

‫من الواضح أن اسم عائشة قد أضيف في الحديث الثاني بقصد اإلساءة إليها ‪.‬‬

‫د ‪-‬معجزه الرسول والماء‬

‫‪-1‬عن جابر رأيتني والنبي و قد حضرت العصر و ليس معنا ماء غير فضله فجعل في إناء‬

‫فأتى رسول اهلل فادخل يديه و فرج أصابعه ثم قال حي على أهل الوضوء البركة البركة من اهلل‬

‫’ فلقد رأيت الماء ينفجر بين أصابعه فتوضأ الناس وشربوا … فقلت لجابر كم كنتم يومئذ‬

‫قال آلف واربعمائه ‪ .‬بخ ‪ 5639‬و في الحديث رقم ‪ 3576‬قال جابر لو كنا مائه آلف لكفانا‬

‫‪.‬‬

‫‪-2‬عن عائشه قالت خرجنا مع رسول اهلل في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أنقطع عقد‬

‫لي وأقام رسول اهلل على التماسه و أقام الناس معه و ليسوا على ماء …(مختصر) فاشتكى‬ ‫الناس إلى ابي بكر فجاء أبو بكر والرسول واضع رأسه على فخذي وقد نام ……فقام حين‬

‫اصبح على غير ماء فانزل اهلل آيه التيمم ‪ .‬بخ‪334‬‬

‫أي نام الرسول واصحابه وليسوا على ماء ولم يفعل أي معجزه للحصول على الماء ‪ ،‬حتى‬ ‫نزلت بسبب شحة الماء آية التيمم ‪ ،‬ألن معجزه الرسول الوحيدة هي القرأن و هذا الحديث‬

‫مذكور في البخاري ‪ 12‬مرة ‪.‬‬


‫‪87‬‬

‫‪ -a‬ذ ‪ -‬شرب الخمرة حالل أم حرام؟‬

‫‪ - 1‬قال رسول اهلل ( ص ) ‪ :‬كل مسكر حرام بخ ‪. 6124‬‬

‫‪ -2‬نهى رسول اهلل أن يجمع بين التمر و الزهو والتمر و النبيذ و لينبذ كل على حده ‪.‬‬

‫بخ‪5602‬‬

‫‪ -3‬عن أبي سعد الخدري أن الرسول قال ‪:‬من شرب منكم النبيذ فليشربه زبيبا فردا أو تم ار‬ ‫فردا ‪ .‬مسلم‪22\1987‬‬

‫‪ -4‬عن عبد اهلل ابن أبى قتاده إن الرسول قال ‪ :‬ال تنبذوا الزهو والرطب معا وال تنبذوا الزبيب‬ ‫والتمر معا و إنما كل منهما على حده ‪ .‬مسلم ‪24\1988‬‬

‫‪ -5‬أن رجال قال على شارب الخمرة اللهم العنه فقال الرسول ‪ :‬ال تلعنوه فلقد علمت انه يحب‬ ‫اهلل و رسوله ‪ .‬بخ ‪ 6780‬وفي الحديث رقم ‪ 6781‬ال تكونوا عون الشيطان على أخيكم (‬ ‫شارب الخمرة)‪.‬‬

‫ال خالف على مضمون الحديث األول بأن كل مسكر حرام ‪ .‬و لكن ليسمح لنا أن نشك‬

‫كل الشك بصحة األحاديث األربعة األخرى ‪ ،‬فهي تناقض الحديث األول و تناقض ما ورد في‬ ‫القرآن الكريم ‪ .‬وأي تفسير تبريري لهذه األحاديث إنما هو نوع من التلفيق المرفوض عقال و‬ ‫منطقا و دينا ‪ .‬و نحن نشك بنسبة هذه األحاديث إلى الرسول الكريم و لنا الحق في ذلك ‪.‬‬

‫فليس من المعقول أن يحلل الرسول ( ص ) شرب النبيذ تحت أي صيغة كانت ‪.‬‬

‫أحاديث تشوه صوره الرسول و تعطيه صوره مخالفه لصوره القرآن الذي قال فيه " إنك لعلى‬‫خلق عظيم "‬

‫‪ .1‬فهم يدعون انه لم يبالي بالصالة و المصلين ‪:‬‬

‫عن انس قال ‪ :‬أقيمت الصالة والرسول يناجي رجال في جانب المسجد فما قام إلى الصالة‬

‫حتى نام القوم ‪ .‬بخ ‪642‬‬

‫‪-2‬و هو يصفع المرأة التي رفضت طلبه بهبة نفسها له ‪ .‬فعن أبي أسيد قال ‪ :‬خرجنا مع‬ ‫النبي (ص) حتى انطلقنا إلى حائط يقال له الشوط ‪ .‬حتى انتهينا إلى حائطين فجلسنا‬

‫بينهما فقال (ص ) اجلسوا ها هنا و قد أتي بالجونية – احد سبايا الحرب اسمها أميمة‪-‬‬

‫ومعها دايتها حاضنة لها ‪ ،‬قال النبي (ص) ‪ :‬هبي نفسك لي قالت ‪ :‬وهل تهب الملكة للسوقة‬

‫؟ قال ‪ :‬فأهوى بيده عليها لتسكن ‪ ،‬فقالت ‪ :‬أعوذ باهلل منك فقال ‪ :‬قد عذت بمعاذ ‪ .‬الخ‬

‫الحديث ‪ .‬بخاري ‪5255‬‬


‫‪88‬‬

‫‪-3‬و هم يدعون انه يخالف أمر اهلل فينكح الحائض‪:‬‬

‫عن عائشة قالت كان إحدانا إذا كانت حائضا أمرها رسول اهلل فتتأزر بإزار ثم يباشرها ‪ .‬بخ‬ ‫‪ 293‬و ‪300‬‬

‫و عن زينب بنت أبى سلمه قالت بينما أنا مع رسول اهلل في خميلة حضت فقال انفست ؟‬

‫فقلت نعم فدعاني فأضجعت معه في الخميلة ‪ .‬بخ ‪323‬‬

‫‪-4‬و يدعون انه ينام ويشخر ثم يصلي بدون وضوء (أضجع الرسول فنام حتى نفخ ثم أتاه‬

‫المنادي وآذنه بالصالة فقام معه فصلى ولم يتوضأ ‪ .‬بخ ‪138‬‬

‫‪ -5‬ويدعون بأنه عنيف قاسي‪:‬‬

‫عن أبى هريرة أن الرسول قال ‪ :‬والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم آمر‬

‫بالصالة فيؤذن لها ثم آمر برجل فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فاحرق عليهم بيوتهم‪ .‬أ‪644‬‬

‫‪ -6‬وهو يبصق في الماء ويدعو أصحابه لشربه ‪ .‬راجع ‪.‬بخ ‪188‬‬ ‫‪ -7‬وهو يفتخر بنفسه بتعالي‬

‫حيث يدعون انه قال ‪ :‬لي خمسه أسماء أنا محمد وأنا احمد وأنا الماضي الذي يمحو اهلل به‬

‫الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب ‪ .‬بخ ‪3532‬‬

‫ويدعون انه قال أيضا ‪ :‬أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر و أول شافع‬

‫و أول مشفع ‪ .‬مسلم ‪2278‬‬

‫‪ -8‬ويدعون انه ليس في قلبه رحمه حيث ادعوا انه دعا على قومه بالمجاعة حيث قال ‪:‬‬

‫اللهم سبعا كسبع يوسف ‪ ،‬فأصابتهم المجاعة حتى أكلوا الجلود الميتة والجيف فاتاه أبو‬

‫سفيان ( كأنما أبا سفيان أرحم على قومه من الرسول ( ص ) ؟) فقال يا محمد انك تأمر‬

‫بطاعة اهلل و بصله الرحم وان قومك قد هلكوا …‪ ..‬إلى آخر الحديث ‪.‬بخ ‪1007‬‬

‫‪ -9‬وهو يدعو لنكاح البكر بدل الثيب‬

‫حيث ادعوا انه قال لمن تزوج ثيبا ‪:‬فأين أنت من العذارى ولعابها فهال تزوجت بك ار تضاحكك‬ ‫و تضاحكها و تالعبك و تالعبها ‪ .‬راجع احاديث باب نكاح البكر في البخاري فهي كثيرة)‪.‬‬

‫كيف نصدق ذلك و الرسول نفسه تزوج أكثر من ثيب ؟‬

‫‪ -10‬ويرجع عن كالم أعطاه ليحابي نفسه‬

‫فعن انس انه بعد غزوة خيبرجمع السبي فجاءه دحيه فقال يا رسول اهلل أعطني من السبي‬

‫جاريه فقال اذهب وخذ جاريه فاخذ صفيه بنت حي فجاء رجل إلى الرسول وقال له أعطيت‬

‫دحيه بنت سيد قريظه و النظير ؟ ما تصلح إال لك فقال رسول اهلل ادعوه بها فلما نظر إليها‬

‫قال خذ جاريه من السبي غيرها واعتقها (ص) و تزوجها ‪.‬بخ ‪1365‬‬


‫‪89‬‬

‫‪ -11‬ويدعون انه يحتقر النساء حيث نسب إليه انه قال ‪:‬‬ ‫ا‪-‬النساء ناقصة عقل و دين ‪ .‬بخ ‪304‬‬ ‫ب‬

‫ت ‪-‬‬

‫‪-‬والنساء اكثر أهل النار ‪ .‬بخ ‪29‬‬

‫وهن شؤم فإنما الشؤم في ثالث الفرس والمرأة و الدار‪ -‬بخ ‪2858‬‬

‫ث‪ -‬وهن في مستوى الحمار والكلب حيث نسب إليه انه قال ‪ :‬الكلب والحمار والمرأة‬

‫تقطع الصالة إذا مرت أمام المصلي فاصله بينه وبين القبلة ‪ .‬بخ ‪511‬‬

‫ج‪ -‬المرأة فتنه ‪ :‬عن أسامه بن زيد أن الرسول قال ‪ :‬ما تركت بعدي فتنه هي اضر‬

‫على الرجال من النساء " مسلم ‪2740‬‬

‫ح‪ -‬المرأة في صوره شيطان ‪ :‬عن جابر أن الرسول قال ‪ :‬أن المرأة تقبل في صوره‬

‫شيطان و تدبر في صوره شيطان فإذا ابصر أحدكم ام أر ة فإن ذلك يرد ما في نفسه " مسلم‬ ‫‪1403‬‬ ‫‪ -12‬بين يدي امرأة متزوجة ال تحل له‪ ،‬تعبث بشعره ؟‬ ‫عن أنس أن رسول اهلل ( ص ) كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه وكانت تحت‬

‫عبادة بن الصامت ‪ ،‬فدخل عليها يوما فأطعمته ثم جلست تفلي رأسه ‪ ،‬فنام رسول اهلل ثم‬

‫استيقظ وهو يضحك ‪ ،‬قالت ما يضحكك يا رسول اهلل ؟ إلى آخر الحديث ‪ .‬رواه البخاري في‬

‫صحيحه‪-‬كتاب الجهاد و السير‪ .‬و ما يهمنا هنا أن الحديث ينسب للنبي ما ال يمكن تصور‬

‫حدوثه منه ‪ .‬إذ ال يتصور مسلم أن يضع النبي ( ص ) رأسه بين يدي امرأة ال تحل له لتعبث‬

‫بشعره حتى ينام قريبا منها ‪ ،‬رغم كل التأويالت التي يحاول الشراح تقديمها هروبا من العتراف‬

‫برد الحديث الستحالة حدوثه ‪.‬‬

‫أي تشويه لصورة الرسول الكريم هذه ؟ هل يريدون منا أن نصدق أن الرسول (ص )‬

‫ينكح الحائض مخالفا قول اهلل تعالى " فاعتزلوا النساء في المحيض " ؟ و هل يريدون منا‬

‫أن نصدق أن الرسول لم يبالي بالصالة و المصلين و راح يناجي رجال في جانب المسجد و ما‬ ‫قام للصالة حتى نام الناس ؟ و هل يريدون منا أن نصدق أنه يصفع امرأة ألنها رفضت طلبه‬

‫بهبة نفسها له ؟ و هل يريدون منا أن نصدق أنه ينام و يشخر ويقوم للصالة بدون وضوء‬

‫؟ و هل يريدون منا أن نصدق بأنه أراد أن يحرق على الناس بيوتهم ؟ و أنه يفتخر بنفسه‬

‫فيقول أنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ؟ و انه يدعوا على قومه حتى أصابتهم‬

‫المجاعة القاتلة و كان أبو سفيان أرحم لقومه منه ؟ و أنه يرجع عن وعد قطعه ليفضل نفسه‬ ‫على غيره؟ وأنه يضع رأسه بين يدي امرأة متزوجة ال تحل له لتعبث بشعره ؟ أي تشويه هذا‬

‫لصورة الرسول الكريم ‪ ،‬الذي وصفه القرآن ‪ :‬إنك لعلى خلق عظيم " و لقد كان على خلق‬ ‫عظيم قبل البعثة وبعدها و كان قدوة للمسلمين في الحلم و الصبر و الرحمة و اإلنسانية ‪.‬‬


‫‪90‬‬

‫أحاديث تناقض آ يات القرآن الحكيم‬

‫‪ -1‬دخول الجنة للزاني والسا رق ولشارب الخمر ‪:‬‬

‫عن أبى ذر الغفاري أن الرسول قال ‪ :‬من مات من أمتي ال يشرك باهلل شيئا دخل الجنة …‪..‬‬

‫وان زنى وان سرق وان شرب الخمر ‪.‬بخ ‪ 1237‬و ‪ 6443‬وهذا الحديث مروي في البخاري‬

‫تسعه مرات‪.‬‬

‫الحديث مناقض لكثير من آيات القرآن الكريم و يشجع على عمل كل الموبقات ‪ .‬فأين نحن إذا‬ ‫من آيات الزنا والسرقة والعمل الصالح و الصراط المستقيم ؟‬

‫‪ -2‬كل شيء في كتاب حتى الكفر واأليمان ‪:‬‬

‫عن عبداهلل (؟) ان الرسول قال ‪ :‬إن أحدكم يجمع في بطن أمه ……ثم يبعث اهلل ملكا‬

‫فيؤمر بأربع برزقه واجله وعمله وشقي أم سعيد فواهلل إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى‬

‫ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ‪.‬‬

‫وان الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها ذراع أو ذراعين فيسبق عليه‬

‫الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ‪ .‬بخ ‪ 6594‬مسلم ‪2643‬‬

‫إن هذا الحديث مخالف لكل ما انزله اهلل في القرآن ‪ .‬فلماذا إذن بعث الرسل و لماذا الحساب‬ ‫والعقاب إذا كان كل شيء مكتوب سلفا ‪.‬و لماذا السعي و االجتهاد ؟ و أين كل تلك اآليات‬

‫القرآنية التي تدعوا إلى العمل الصالح و إلى تطبيق العبادات و تبشر المؤمنين بالجنة بناءا‬ ‫على عملهم و تنذر الكافرين بنار جهنم جزاء كفرهم ‪ .‬؟ و ما الحاجة إذن إلى كل الرسل‬

‫واألنبياء و الكتب السماوية الداعية لهداية الناس ‪ ،‬إن كان قد كتب لهم مقدما إن كانوا من‬

‫أصحاب الجنة أم من أصحاب النار ؟‬

‫‪ -3‬نكاح الحائض ‪:‬‬

‫عن عائشة قالت كان إحدانا إذا كانت حائضا أمرها الرسول فتازرت بإزار ثم يباشرها بخ ‪293‬‬

‫و ‪300‬‬

‫وأين قول اهلل سبحانه ( يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض وال‬

‫تقربوهن حتى يطهرن ) ‪2\222‬‬

‫‪ -4‬إتباع أهل الكتاب في كل شيء ‪:‬‬

‫عن أبي سعيد الخدري أن الرسول قال ‪ :‬لتتبعن سنن من كان قبلكم شب ار بشبر و ذراعا بذراع‬ ‫حتى لو سلكوا حجر ضب لسلكتموه قلنا يا رسول اهلل اليهود والنصارى قال فمن؟ بخ ‪3456‬‬

‫هل طلب منا القرآن أن نتبع اليهود والنصارى ؟‬


‫‪91‬‬

‫‪-5‬نسب للرسول انه قال ‪:‬يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنه ‪.‬بخ ‪4916‬‬

‫أين قول اهلل سبحانه ( وال تدركه األبصار وهو يدرك األبصار) ثم كيف يكشف اهلل عن ساقه‬

‫اهو بشر ؟ إنها محاولة فاشلة لتفسير الآليه ( يوم يكشف عن ساق)‬

‫‪ -6‬الصدقة وسخ الناس ‪:‬‬

‫ينسب للرسول انه قال ‪:‬إن الصدقة ال تنبغي آلل محمد إنها أوساخ الناس ‪ .‬بخ ‪1072‬‬

‫أين قول اهلل سبحانه (خذ من أموالهم صدقه تطهرهم و تزكيهم بها ) التوبة ‪ 103‬فكيف‬

‫تصبح إذن أوساخ الناس ؟‬

‫‪-7‬عفريت الجن ‪:‬‬

‫عن أبى هريرة أن الرسول قال ‪ :‬إن عفريتا من الجن أنفلت البارحة ليقطع علي صالتي‬

‫فأمكنني اهلل منه فأخذته وأردت أن اربطه على سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه‬

‫كللكم فتذكرت قول أخي سليمان ( مختصر )……فرددته خاسئا ‪ .‬بخ ‪3423‬‬

‫يقول اهلل سبحانه عن الجن (إنه يراكم هو وقبيله من حيث ال ترونهم ) األعراف ‪27‬‬

‫‪ -8‬الكتاب فوق العرش ‪:‬‬

‫عن أبى هريرة أن الرسول قال ‪ :‬لما قضى اهلل الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش"‬

‫إن رحمتي غلبت غضبي "‪ .‬بخ ‪3194‬‬

‫هذا الحديث و غيره في الصحيحين كثير يصور اهلل سبحانه كسلطان أو ملك وحوله حاشيته‬ ‫يجلس فوق العرش‪.‬مع أنه جل شانه_ ال تدركه األبصار و هو يدرك األبصار و هو اللطيف‬

‫الخبير‪ . -‬ثم إن كل هذه األمور من علم الغيب وال يعلم الغيب إال اهلل (قل ال يعلم من في‬

‫السموات و األرض إال اهلل ) النمل ‪( 65‬عالم الغيب فال يظهر على غيبه أحد )الجن ‪( 26‬‬

‫قل ال املك لنفسي نفعا وال ضر ار إال ما شاء اهلل و لو كنت اعلم الغيب الستكثرت من الخير و‬

‫ما مسني السوء ‪ .‬إن أنا إال نذير و بشير لقوم يؤمنون ) األعراف ‪187‬‬

‫‪ -9‬اهلل ليس بأعور ‪:‬‬

‫عن عبداهلل (؟ ) قال ‪ :‬ذكر الدجال عند رسول اهلل فقال الرسول ‪ " :‬إن اهلل ال يخفى عليكم‬

‫إن اهلل ليس بأعور و أشار بيده على عينه ‪ .‬وان المسيح الدجال اعور العين اليمنى كان‬

‫عينه عنبه صافيه ‪ ".‬بخ ‪7407‬‬

‫من الواضح أن هذا الحديث المنسوب للرسول توراتي مائه في المائة‪ ،‬فهل من المعقول أن‬

‫يقول النبي (ص) أننا سنفرق بين اهلل سبحانه و بين المسيح الدجال بحقيقة أن الدجال أعور‬

‫و أن اهلل ليس بأعور ( حاشا اهلل ) أ بهذا يعرف اهلل سبحانه ؟ استغفر اهلل العظيم ‪.‬‬


‫‪92‬‬

‫‪ - 10‬تحليل الزنى؟ ‪:‬‬

‫عن سلمه بن األ كوع عن أبيه أن رسول اهلل قال ‪ :‬أيما رجل و امرأة توافقا فعشره بينهما ثالثة‬ ‫أيام فان أحبا أن يتزايدا تزايدا أو يتتاركا تتاركا ‪ .‬بخ ‪5119‬‬

‫‪ -11‬متعة أم زنى ‪:‬‬

‫عن جابر بن عبد اهلل و سلمه بن األكوع قاال خرج علينا منادي رسول اهلل فقال أن رسول اهلل‬

‫قد أذن لكم أن تستمتعوا ‪ ,‬يعني متعه النساء "‪ .‬مسلم ‪1405‬‬

‫أليس هذا هو الزنا بحد عينه و هل يعقل أن ينادي الرسول ( ص ) بتعاشر الرجل و المرأة‬ ‫ثالثة أيام كتجربة فإن أرادا يتزايدا تزايدا وان أرادا أن يتتاركا تتاركا ؟ و هل صحيح أن‬

‫الزنى مكتوب على اإلنسان كما ورد قي الحديث المنسوب الى الرسول الكريم عن أبي‬

‫هريرة‪ :‬إن اهلل كتب على ابن آدم حظه من الزنى ‪ ،‬أدرك ذلك ال محالة‪ .‬رواه مسلم رقم‬ ‫‪2657‬‬ ‫‪ -12‬هل العدة شرط لزواج األرملة ‪:‬‬

‫أن سبعيه األسلميه نفست بعد وفاه زوجها بليال فجاءت إلى رسول اهلل فاستأذنته أن تنكح‬

‫فأذن لها فنكحت " بخ ‪ 5320‬فأين العدة التي قال بها اهلل في كتابه ؟‬ ‫‪-13‬عذاب الميت ‪:‬‬

‫عن ابن عمر عن عمر أن الرسول قال ‪ :‬يعذب الميت ببكاء أهله‬

‫عليه " مسلم ‪ 17\ 927‬رفضته عائشة و قالت أين من قوله تعالى ( و ال تزروا وازرة وزر‬ ‫أخرى)‬

‫‪ -14‬الميت يسمع ‪:‬‬

‫عن انس بن مالك أن الرسول قال ‪ :‬إن العبد إذا وضع في قبره و تولى عنه أصحابه و انه‬ ‫ليسمع قرع نعالهم ……‪ " .‬بخ ‪1374‬‬

‫فأين قوله تعالى ( انك ال تسمع الموتى )‬ ‫كيف يجوز إرضاع الرجل الكبير ؟‬

‫عن عائشة ‪ ،‬قالت ‪ :‬جاءت سهلة بنت سهل إلى النبي ( ص ) فقالت يا رسول اهلل إني أرى‬

‫في وجه أبي حذيفة من دخول سالم ( موال له ) وقد بلغ الرجولة ‪ ،‬فقال الرسول ( ص ) ‪:‬‬ ‫ارضعيه تحرمي عليه و يذهب الذي في قلب أبي حذيفة ‪ .‬قالت ‪ :‬كيف أرضعه و هو رجل‬ ‫كبير ؟ فتبسم الرسول و قال ‪ :‬علمت أنه رجل كبير ‪ .‬فرجعت فقالت ‪ :‬إني أرضعته فذهب‬

‫الذي في نفس أبي حذيفة ‪ .‬رواه البخاري ‪ 1453‬و رواه مسلم أيضا تحت( كتاب الرضاع‬

‫)‪.‬‬

‫مخالفة هذا الحديث ألصول الدين ال تحتاج إلى برهان ‪ ،‬رغم التأويالت المتعنتة‬

‫والمتكلفة للشراح إلثبات صحة الحديث ‪.‬‬


‫‪93‬‬

‫أحاديث ال يقبلها العقل و ال فائدة منها لإلسالم و المسلمين‬ ‫هناك أحاديث كثيرة في الصحيحين نسبت للرسول تتحدث عن الجنة والنار والعرش وحملة‬

‫العرش وأمور كثيرة تتحدث عن الغيب وكلها أمور في علم اهلل الذي يخبرنا في قرآنه ( عالم‬

‫الغيب فال يطلع على غيبه أحد )الجن ‪26‬‬

‫و هناك أحاديث كثيرة تعطي الرسول قدره القيام بالمعجزات و ذلك مناقض لما عرف بان‬ ‫معجزه الرسول الوحيدة هي القرآن ‪ .‬ولطالما طلب المشركون منه معجزة كمعجزات موسى‬

‫والمسيح كشرط لإليمان برسالته و لم تذكر كتب التراث أن الرسول قد قام بمثل هذه‬

‫المعجزات أمامهم ‪ 0‬ثم هناك أحاديث طبيه و غيرها أثبتت التجربة العملية القاطعة على‬

‫عدم صحتها ‪.‬‬ ‫‪.1‬‬

‫الجنة و قطف العنب ‪ :‬عن عبد اهلل بن عباس قال ‪ :‬خسفت الشمس على عهد‬

‫الرسول … فقال الرسول إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا ولو آخذته ألكلتم منه ما‬ ‫بقيت الدنيا ‪ .‬بخ ‪748‬‬

‫‪.2‬‬

‫عن أبى هريرة أن الرسول قال ‪ :‬أيكم يبسط ثوبه فيأخذ من حديثي ثم يجمعه إلى‬

‫علي حتى فرغ من حديثه ثم جمعتها إلى‬ ‫صدره فإنه لم ينس شيئا سمعه ‪ .‬فبسطت برده َ‬ ‫صدري فما نسيت شيئا حدثني به ‪ .‬مسلم ‪ : 2492‬كأنما كان هذا األمر خاصا فقط بأبي‬ ‫هريرة‪.‬‬

‫‪.3‬‬

‫عرش إبليس ‪:‬‬

‫عن جابر أن الرسول قال ‪ :‬إن إبليس يضع عرشه على الماء‬

‫ثم يبعث سراياه فأدناه منه منزله أعظمهم فتنه ‪ .‬يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا و كذا‬

‫فيقول ما صنعت من شيء ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بين الرجل وامرأته‬

‫قال ‪:‬نعم أنت ‪ .‬بخ ‪ 67\2816‬و هي صورة توراتية ‪.‬‬

‫‪.4‬‬

‫وكالء اهلل على األرض ‪ :‬عن انس قال‪ :‬مروا بجنازة فاثنوا عليها خي ار فقال‬

‫الرسول وجبت ثم مروا بأخرى فاثنوا عليها ش ار فقال الرسول وجبت فقال عمر بن‬

‫الخطاب ما وجبت ؟ قال الرسول هذا أثنيتم عليه خي ار فوجبت عليه الجنة وهذا أثنيتم عليه‬

‫ش ار فوجبت عليه النار ‪ ,‬انتم شهداء اهلل على األرض ‪ .‬بخ ‪1367‬‬

‫‪.5‬‬

‫مسا ر الشمس ‪:‬عن أبى ذر أن الرسول قال ألبي ذر أتدرى أين تذهب الشمس‬

‫قال اهلل والرسول اعلم قال الرسول فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فيستأذن لها و‬


‫‪94‬‬

‫يوشك أن تسجد فال يقبل منها يقال لها أرجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك‬

‫قوله تعالى ‪:‬والشمس تجري لمستقر ‪.‬بخ ‪3199‬‬

‫‪.6‬‬

‫بني إسرائيل والفيران ‪ :‬عن أبي هريرة أن الرسول قال ‪:‬فقدت أمة من بني‬

‫إسرائيل ال يدرى ما فعلت وانني ألراها إال الفأر إذا وضع لها ألبان اإلبل لم تشرب واذا‬

‫وضع لها أبان الشاة شربت ‪ .‬بخ ‪3305‬‬

‫‪.7‬‬

‫الشجرة تبكي ‪:‬عن جابر أن الرسول كان يقوم إلى شجره فقال رجل من األنصار‬

‫يا رسول اهلل أال تجعل لك منب ار ؟ …فجعلوا له منب ار فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر‬

‫فصاحت الشجرة صياح الصبي ثم نزل الرسول فضمها إليه تئن أنين الصبي الذي يسكت‬

‫قال الرسول كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها ‪ .‬بخاري ‪3584‬‬

‫‪.8‬‬ ‫‪.9‬‬

‫إرضاع الرجل يحرم عليه المرأه ‪ :‬مر ذكره رواه البخاري رقم ‪ 1453‬و رواه مسلم ‪.‬‬ ‫الخلق و أيام األسبوع ‪ :‬عن أبي هريرة أن الرسول قال ‪ :‬خلق اهلل التربة يوم‬

‫السبت و خلق الجبال يوم األحد و خلق الشجر يوم االثنين و خلف المكروه يوم الثالثاء و‬

‫خلق النور يوم األربعاء و بث فيها الدواب يوم الخميس و خلق آدم بعد العصر من يوم‬

‫الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل‪.‬‬ ‫مسلم ‪2789‬و هي صورة توراتية للخلق ‪.‬‬

‫‪.10‬‬

‫ضرس الكافر و جلده ‪ :‬عن أبي هريرة أن الرسول قال ‪ :‬إن ضرس الكافر ( يوم‬

‫‪.11‬‬

‫من سبق لبق ‪:‬عن أبي هريرة أن الرسول قال ‪ :‬يدخل من أمتي الجنة سبعون‬

‫القيامة ) مثل جبل أحد و غلظ جلده مسيره ثالث أيام ‪.‬مسلم ‪-4411\2851‬‬

‫ألف بدون حساب فقال عكاشة يا رسول اهلل ادع اهلل أن أكون منهم قال اللهم أجعله‬ ‫منهم ثم قام آخر فقال يا رسول اهلل ادع اهلل أن يجعلني منهم قال الرسول سبقك بها‬

‫عكاشة ‪ .‬مسلم ‪216‬‬

‫‪.12‬‬

‫شجرة الجنة ‪ :‬عن أبي هريرة أن الرسول قال ‪ :‬إن في الجنة لشجره يسير الراكب‬

‫‪.13‬‬

‫طيور الجنة تسقط مشويه ‪ :‬عن عبد اهلل ابن مسعود أن الرسول قال ‪:‬إنك‬

‫‪.14‬‬

‫في الجنة ال يبولون وال يغوطون ‪ .‬عن أبي هريرة أن الرسول قال ‪ :‬إن أول زمره‬

‫في ظلها مائه عام ‪ .‬مسلم ‪2826‬‬

‫لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا ‪ .‬مسلم ‪48‬‬

‫يدخلون الجنة على صوره القمر ليله البدر والذين يلونهم على اشد كوكب درِي في السماء‬

‫إضاءة وال يبولون وال يتغوطون وال يتمخطون وال يغتسلون …‪.‬إلخ ‪ .‬مسلم ‪15\2834‬‬


‫‪95‬‬

‫‪.15‬‬

‫الشيطان والضراط ‪ :‬عن أبي هريرة أن الرسول قال ‪ :‬إذا نودي للصالة أدبر‬

‫‪.16‬‬

‫نهيق الحما ر والشيطان ‪ :‬عن أبي هريرة أن الرسول قال ‪ :‬إذا سمعتم صياح‬

‫الشيطان وله ضراط حتى ال يسمع األذان …‪..‬إلخ الحديث ‪..‬بخ ‪6081‬‬

‫الديك فاسألوا اهلل من فضله فإنها رأت ملكا واذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا باهلل من‬

‫الشيطان فانه رأى شيطانا ‪.‬بخ ‪3303‬‬

‫‪.17‬‬

‫الحلم من الشيطان ‪:‬عن أبي هريرة أن الرسول قال ‪ :‬الرؤيا من اهلل والحلم من‬

‫الشيطان فإذا حلم أحدكم فليبصق عن يساره وليتعوذ باهلل من شرها فإنها ال تضره ‪ .‬بخ‬ ‫‪3295‬‬ ‫التثاؤب من الشيطان ‪ :‬عن أبي هريرة أن الرسول قال ‪ :‬التثاؤب من الشيطان‬ ‫‪.18‬‬

‫فإذا تثائب أحدكم فليرده ما استطاع فان أحدكم إن قال (ها) ضحك الشيطان ‪ .‬بخ ‪3289‬‬

‫‪.19‬‬

‫الشيطان ينخز المولود ‪ :‬عن أبي هريرة أن الرسول قال ‪ :‬كل بني آدم يطعن‬

‫الشيطان في جنبه بإصبعه حين يولد ‪،‬غير عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن في‬

‫الحجاب ‪ .‬بخ ‪ 3286‬و نحن اليوم نعلم أن صراخ المولود أمر طبيعي بسبب دخول الهواء‬ ‫إلى قصبات الطفل و ال عالقة لها بالشيطان و نخزه ‪ .‬و لقد وجد بعض المسيحيين في‬ ‫هذا الحديث تأييدا لعقيدتهم في تأليه المسيح ‪ ،‬حيث نجد القس إبراهيم لوقا في كتابه(‬

‫المسيحية و اإلسالم ) يقول ‪ " :‬فإقرار اإلسالم بأن البشر جميعا قد زاغوا و فسدوا و‬

‫أنهم معرضون القتراف الخطايا و اآلثام ‪ ،‬بجانب إقراره للمسيح وحده بالعصمة ‪ ،‬وأنه‬ ‫مصون عن مس الشيطان ‪ ،‬يرفع المسيح عن طبقة البشر ‪ ،‬وبالتالي يقر بال‬

‫هوته‪.‬الممجد ‪ . ) 35 ( ".‬كما أن صياح الديك و نهيق الحمار و التثاؤب و من‬

‫الصفات الطبيعية التي منحها الخالق سبحانه لهذه المخلوقات و ال عالقة لمشاهدة‬

‫المالئكة و الشياطين بذلك ‪.‬‬

‫‪.20‬‬

‫فتح بطن النبي ‪ :‬عن أبي ذر أن الرسول قال ‪( :‬مختصر ) نزل جبريل ففرج‬

‫صدري ثم غسله بماء زمزم ثم جاء بطشت من الذهب ممتلئ حكمه و إيمانا أفرغه في‬

‫صدري ثم أطبقه بخ ‪ 349‬وهذه القصة معروفة عند العرب قبل االسالم ترويها كتب‬ ‫التراث بأنها حدثت ألمية ابن أبي صلط ‪.‬‬

‫‪.21‬‬

‫الجمال مع الناس يوم الحشر ‪ :‬عن أبي هريرة أن الرسول قال ‪ :‬يحشر الناس‬

‫على ثالث طرائق راغبين راهبين واثنان على بعير وثالثة على بعير وأربعة على بعير‬

‫وعشره على بعير تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث‬

‫اصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا ‪ .‬بخ ‪ 6522‬و لو عاش مخترع هذا الحديث اليوم‬ ‫لربما استعمل‬

‫السيارات والشاحنات بدال من الجمال ‪.‬‬


‫‪96‬‬

‫‪.22‬‬

‫انشقاق القمر ‪ :‬أن أهل مكة سألوا الرسول ا ن يريهم آيه فأراهم القمر شقين‬

‫حتى أروا حراء بينهما ‪ .‬بخ ‪ 3866‬و يروي مسلم أن القمر انشق فلقتين فكانت فلقه وراء‬

‫الجبل وفلقه دونه مسلم ‪ . 44\2800‬لماذا اإلصرار على أنه كان للرسول معجزات‬

‫كمعجزات موسى و عيسى و المعروف أن معجزة الرسول هي القرآن ‪ .‬ثم لو أن هذا‬

‫صحيح لماذا لم يعلم الناس عامة بذلك كبرهان على النبوة و نحن نعلم من كتب التراث‬ ‫كيف كان المشركون يطلبون من النبي (ص ) مثل هذه المعجزات ليصدقوا نبوته ‪.‬‬

‫‪.23‬‬

‫الداء والدواء في جناحي الذبابة ‪ :‬عن أبي هريرة أن الرسول قال ‪ :‬إذا وقع الذباب‬

‫في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فان في إحدى جناحيه داء واألخرى شفاء ‪ .‬رواه‬

‫البخاري ‪ 1334 .‬و العجيب أن رموز الخطاب الديني المعاصر قد أقاموا ضجة كبرى‬

‫ضد رافضي هذا الحديث و اتهموهم بالكفر ‪ ،‬و أحضروا طبيبا (عالما ؟؟ ) يبرهن للعالم‬

‫على شاشة التلفاز بأن العلم الحديث برهن على صحة ما جاء في هذا الحديث ؟!‬

‫‪.24‬‬

‫بول الحصان وروثه يوم الحساب ‪ :‬عن أبي هريرة أن الرسول قال ‪ :‬من احتبس‬

‫فرسا في سبيل اهلل وتصديقا بوعده فان شبقه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة ‪.‬‬

‫بخاري‪1177‬‬

‫‪.25‬‬

‫من سيشبه المولود ؟ – ‪ :‬في حديث طويل عن عبد اهلل ابن سالم أن الرسول‬

‫قال ‪ :‬إن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها مائه كان الشبه له واذا سبق مائها كان الشبه لها‬

‫‪ .‬بخاري ‪1337‬‬

‫‪.26‬‬

‫الشيطان يبول في األذن ‪ :‬عن عبد اهلل ابن عمر أن الرسول قال عندما ذكر‬

‫عنده أن فالنا ما زال نائما حتى اصبح وما قام للصالة ‪ :‬بال الشيطان في آذنه ‪.‬‬

‫بخاري‪1144‬‬

‫‪.27‬‬

‫لعق اليدين بعد األكل ‪ :‬عن ابن عباس أن الرسول قال ‪ :‬إذا أكل أحدكم فال يمسح‬

‫‪.28‬‬

‫أهل النار و أهل الجنة ‪ :‬أن رسول اهلل قال ‪ :‬إن اهلل خلق آدم ثم مسح ظهره‬

‫يده حتى يلعقها أو يلعقها ‪ .‬بخاري‪55456‬‬

‫بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال ‪ :‬خلقت هؤالء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح‬

‫على ظهره فاستخرج منه ذريه فقال هؤالء خلقت للنار وبعمل أهل النار يعملون ثم قال إن‬

‫اهلل إذا خلق العبد للنار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله اهلل النار واذا‬ ‫خلق العبد بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال الجنة فيدخله اهلل الجنة ‪.‬‬

‫رواه البخاري ‪ .2643‬فما فائدة العمل الصالح إذا كان قد كتب للبشر مقدما إن كانوا من‬


‫‪97‬‬

‫أهل النار أو من أهل الجنة ؟ و لماذا الثواب والعقاب و لماذا أنزل اهلل الرسل هداية‬

‫للناس ؟‬

‫‪.29‬‬

‫سيدنا موسى يفقأ عين ملك الموت ‪ :‬عن أبي هريرة أن الرسول قال ‪( :‬‬

‫مختصر ) جاء ملك الموت إلى موسى فقال له اجب ربك ‪ ،‬فلطم موسى عين ملك الموت‬

‫ففقأها فرجع ملك الموت إلى اهلل فقال ‪ :‬انك أرسلتني إلى عبد لك ال يريد الموت و قد‬

‫فقأ عيني قال ‪ :‬فرد اهلل إليه عينه و قال ‪ :‬ارجع إلى عبدي فقل ‪ :‬الحياة تريد ؟ إلى آخر‬

‫الحديث رواه البخاري ‪ 639‬ومسلم ‪ .2372‬و هل يعقل أن يرفض نبي أمر اهلل و يفضل‬

‫الحياة على تلبية أمر اهلل ؟ و هل ملك الموت بشر حتى تفقأ عينه ؟ أين وصل خيال‬

‫الرواة ؟‬

‫‪.30‬‬

‫الزنى مكتوب على اإلنسان ‪ :‬مر ذكره " مسلم ‪ 2657‬و هل يعقل ذلك ؟ و هل‬

‫الزنى أو حظه منه مكتوب على اإلنسان ال محالة ؟‬

‫‪.31‬‬

‫في المرأة عوج ‪ :‬عن أبي هريرة أن الرسول قال ‪ :‬إن المرأة خلقت من ضلع ‪ .‬لن‬

‫تستقيم لك على طريقه فان استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج وان ذهبت تقيمها‬ ‫كسرتها وكسرها طالقها " مسلم ‪1468‬‬

‫‪.32‬‬

‫حديث النكاح بوجود عائشة ‪ :‬أن رجال سأل الرسول عن رجل يجامع أهله ويكسل‬

‫(أي قبل أن يمني ) هل عليها الغسل ؟ و عائشة جالسه (؟؟؟؟؟؟ ) فقال الرسول ‪ :‬اني‬

‫ألفعل ذلك أنا وهذه ‪-‬يعني عائشة (؟؟؟ ) ثم نغتسل " مسلم ‪350‬‬

‫‪.33‬‬

‫من يدخل الجنة قبل‪ ،‬الفقراء أم األغنياء ؟‪ :‬عن أبي هريرة أن الرسول قال ‪ :‬يدخل‬

‫‪.34‬‬

‫نزع الحذاء ؟ عن أبي هريرة أن الرسول قال ‪:‬إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمنى واذا‬

‫الفقراء الجنة قبل األغنياء بخمسمائة عام " مختصر مسلم ‪35‬‬

‫نزع فليبدأ بالشمال لتكن اليمنى أولهما تنعل وآخرهما تنزع " بخاري ‪ 1900‬و مسلم‬

‫رقم‪ . 2097‬ما تأثير نزع الحذاء على دين المسلم و إيمانه‪ ،‬و هل ذلك بهذه األهمية‬

‫؟‬

‫‪.35‬‬

‫أخو عائشة يطلب من أخته و أمام رجل غريب تطبيقا عمليا عن كيفيه اغتسال‬

‫الرسول ‪ :‬عن أبي بكر بن حفص قال سمعت أبا سلمه يقول دخلت أنا و أخو عائشة‬

‫فسألها أخوها عن غسل النبي فدعت بإناء نحو من صاع و أفاضت على رأسها و بيننا و‬

‫بينها حجاب " بخ ‪ 251‬و هل يدخل في عقل مسلم أن تقوم أم المؤمنين و زوجة الرسول‬ ‫بهذا العرض العملي أمام رجل غريب ؟ أما كان يكفي لو أنها شرحت األمر بالكالم و هل‬

‫قضية الغسل معقدة لهذه الدرجة حتى تطلب من أم المؤمنين عرضها عمليا ؟‬


‫‪98‬‬

‫‪.36‬‬

‫المرأة في طاعة الرجل حتى في الفراش ‪ :‬إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم‬

‫تأت فبات غضبان عليها لعنتها المالئكة حتى تصبح ‪ .‬مسلم ‪122/1436‬‬

‫‪.37‬‬

‫ال نفقه للمطلقة و الصحابة يغشون المرأة الغريبة ؟؟؟ عن فاطمة بنت قيس‬

‫أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة و هو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال‬

‫واهلل مالك علينا شيء ‪ .‬فجاءت رسول اهلل فذكرت له فقال ليس لك عليه نفقه فأمرها أن‬

‫تعتد في بيت أم شريك ثم قال ‪ :‬تلك امرأة يغشاها أصحابي ‪ .‬اعتدي عند ابن أم كلثوم‬

‫فانه رجل أعمى ‪ .‬تضعين ثيابك فإذا حللت فاذنيني ‪.‬قالت فلما حللت ذكرت له أن معاوية‬

‫بن أبي سفيان و أبا جهم خطباني فقال الرسول فأما أبو جهم فال يضع عصاه على عاتقه‬

‫(أي كثير الضرب للنساء ) و أما معاوية فصعلوك ال مال له ‪ .‬أنكحي أسامه بن زيد‬ ‫فكرهته ثم قال أنكحي أسامه بن زيد فنكحته " مسلم ‪1480‬‬ ‫هل يمكن أن يقول الرسول للمطلقه بأنه ال نفقه لها ؟‬

‫و هل يمكن أن يقول بان أصحابه يغشونها ؟‬

‫و هل يمكن أن يغصب الرسول المرأة على الزواج بمن تكره ؟‬

‫و هل حقا كان معاوية بن أبي سفيان و هو من أغنى أغنياء قريش صعلوكا ال مال له ؟‬ ‫أحاديث ذات هدف سياسي قصد واضعوها دعم موقف سياسي أو اإلساءة إلى بعض الصحابة‬

‫أو رفع مكانه البعض األخر ‪.‬‬

‫‪.1‬‬

‫اإلساءة إلى عائشة ‪ :‬مثل حديث عن عبد اهلل (؟) رأيت الرسول يشير إلى مسكن‬

‫عائشة فقال ‪ :‬ها إن الفتنه هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان بخ ‪3104‬‬

‫‪.2‬‬

‫اإلساءة إلي عمر بن الخطاب مثل حديث ‪ :‬عن أبي هريرة أن الرسول قال ‪:‬‬

‫بينما أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت لمن هذا القصر ؟‬

‫فقالوا لعمر بن الخطاب فذكرت غيرته فوليت مدب ار فبكى عمر وقال أعليك أغار يا رسول‬

‫اهلل ؟ رواه البخاري ومسلم‬

‫‪.3‬‬

‫األساة إلى علي بن أبي طالب ‪:‬‬

‫في هذا الموضوع‬

‫وهناك عدد من األحاديث في الصحيحين‬

‫مثل حديث عن ابن عمر قال كنا في زمن النبي ال نعدل بابي بكر أحدا ثم عمر ثم عثمان ثم‬

‫نترك أصحاب النبي ال نفاضل بينهم بخ ‪ 3697‬فأين علي ابن أبي طالب ؟‬

‫و كذلك الحديث عن أبي هريرة أن الرسول قال ‪ :‬بينما راع في غنمه عدا الذئب فاخذ شاه‬

‫فطلبها حتى استنفذها فالتفت إليه الذئب فقال له من لها يوم السبع ليس لها راع غيري فقال‬


‫‪99‬‬

‫الناس سبحان اهلل فقال الرسول إني أومن به وأبو بكر وعمر وما ثم أبو بكر وعمر ‪ .‬بخ‬

‫‪ 3690‬وأين علي ابن أبي طالب ؟‬

‫و باإلمكان مراجعة األحاديث التالية فهي موضوعه لتسيء لعلي بن أبي طالب راجع البخاري‬

‫رقم ‪-36044 , 3655 , 3660 , 3662 , 3690 , 3693 ,3697‬‬

‫‪.4‬‬

‫رفع شأن قريش ‪ :‬عن محمد بن جبير أن معاوية بن أبي سفيان قال سمعت‬

‫كبه اهلل على وجهة ما أقاموا‬ ‫رسول اهلل يقول ‪ :‬إن هذا األمر في قريش ال يعادلهم أحد إال َ‬ ‫الدين بخ ‪3500‬‬ ‫و حديث أن الرسول قال ‪ :‬ال يزال هذا األمر في قريش ما بقي منهم اثنان ‪ .‬بخ ‪714‬‬

‫‪.5‬‬

‫رفع واعالء شأن بني أميه ‪،‬مثل حديث عن معاوية بن أبي سفيان يقول سمعت‬

‫رسول اهلل يقول ‪ :‬ال يزال من أمتي أمة قائمه بأمر اهلل ال يضرهم من خذلهم وال من‬

‫خالطهم حتى يأتيهم أمر اهلل وهم على ذلك ‪ .‬قال عمير قال مالك … قال معاذ وهم بالشام‬

‫‪ ,‬بخاري ‪3641‬‬

‫‪.6‬‬

‫اإلساءة إلى أبناء أبي طالب ‪:‬‬

‫مثل حديث عن أبي هريرة أن الرسول قال ‪ :‬يهلك الناس هذا الحي من قريش قالوا فما تأمرنا‬ ‫؟ قال ‪ :‬لو أن الناس اعتزلوهم ‪ .‬بخ ‪3604‬‬

‫هناك أحاديث كثيرة كما ذكرنا سابقا مذكورة في الصحيحين و في كتب األحاديث األخرى‬

‫منسوبة للرسول تصر على تشخيص الخالق سبحانه ‪ ،‬و تصوره سلطانا أو ملكا جالسا‬

‫على العرش و من حوله جنوده و حاشيته ‪ ،‬و هو يستقبل األنبياء البشر و يتحدث إليهم‬ ‫كما لو كان ملكا أو سلطانا ‪.‬و لقد نسي واضعي األحاديث هذه قول اهلل في كتابه عن‬

‫نفسه " ال تدركه األبصار و هو يدرك األبصار و هو اللطيف الخبير " " و ما كان لبشر‬

‫أن يكلمه إال وحيا أو من وراء حجاب "‪.‬‬

‫ثم أن معظم األحاديث المنسوبة للرسول و التي تتحدث عن العرش و الكرسي و اللوح‬

‫المحفوظ و سدرة المنتهى و الجنة والمالئكة ‪ ،‬هي محاولة لتفسير اآليات المتشابهة و‬

‫لكن باالستعانة بالقصص التوراتية و اقتباس قصصها المحرفة ‪ .‬و لقد نسي واضعوا تلك‬

‫األحاديث أيضا بأن كل هذه األمور من علم الغيب و أنه " ال يعلم من في السماوات و‬

‫األرض الغيب إال اهلل " النمل ‪ 65‬و أن اهلل سبحانه هو " عالم الغيب فال يظهر على غيبه‬

‫أحد " الجن ‪26‬‬

‫فلماذا إذن اإلصرار على حشو التراث اإلسالمي بكل تلك األساطير اإلسرائيلية ‪ ،‬و الدخول في‬ ‫أمور ال يعلمها إال اهلل كاالدعاء بأن الرسول قال ‪ :‬إن اللوح المحفوظ لوح من درة بيضاء‬


‫‪100‬‬

‫طوله ما بين السماء واألرض و عرضه ما بين الشرق و الغرب ‪ .‬و حافتاه الدر و الياقوت‬

‫‪ ،‬و دفتاه ياقوتة حمراء ‪ ،‬و قلمه نور و كالمه معقود بالعرش ‪ ،‬وأصله في " حجر ملك " و‬ ‫يضيف أنس على هذا القول ‪ :‬اللوح المحفوظ في جبهة إسرافيل و يضيف مقاتل ‪ :‬و هو‬

‫عن يمين العرش ‪) 36 ( .‬‬

‫و مع كل هذا يصر الخطاب الديني بأن الصحة التاريخية للمدونة النصية ألحاديث الرسول‬

‫شيء محسوم ‪ ،‬و أن الصحاح هي مدونات رسمية مغلقة ال يجوز المساس بها و التشكيك‬ ‫بصحة أي حديث ورد فيها ‪ ،‬و من يجرؤ على أن يفعل ذلك يخرج عن دين محمد و‬

‫يتهم بالكفر واإللحاد ‪ .‬و هو غير قادر على استيعاب و قبول أن رفض حديث و قبول آخر‬ ‫إنما هو خالف فكري و ليس خالفا عقائديا ‪ ،‬و أن التشكيك بصحة حديث من األحاديث‬ ‫ليس تشكيكا بصحة قول النبي و إنما هو التشكيك بصحة نسب الحديث للنبي (ص) ‪.‬‬

‫خاصة وأن المدونة النصية لألحاديث كتبت بعد مائتي عام من وفاة الرسول ‪ ،‬و أن‬

‫األحاديث إلى ذلك الوقت قد جرى تداولها شفهيا على ألسنة الرجال ‪ .‬و لقد رأينا أن بعض‬ ‫الصحابة مثل زوجة الرسول عائشة قد رفض رواية صحابة آخرين حتى في مثل جالل‬

‫عمر بن الخطاب ‪ ،‬مثال في رواية حديث ‪ ":‬يعذب الميت في بكاء أهله عليه " ‪ .‬و األمثلة‬

‫على ذلك كثير ‪.‬فإذا كان هذا قد حدث و لم يمر على وفاة الرسول سوى عدة أعوام ‪ ،‬و‬

‫كان الصحابة الراوون و الرافضون قريبي العهد بالرسول ‪ ،‬فكيف بعد أكثر من مائتي عام‬

‫عام من وفاته عندما دون الحديث( البخاري توفي‬

‫عام ‪ 256‬ه‬

‫لقد رأينا أن النبي (ص) قد جالس و صاحب و تحدث إلى اآلالف من المسلمين طوال مدة‬

‫نبوته البالغة ثالث و عشرون عاما ‪ .‬و لقد بلغ الصحابة الذين رووا عنه أكثر من مائة و‬

‫أربعون ألف صحابيا كما تروي كتب التراث تفرقوا في مختلف أرجاء الدولة اإلسالمية و قد‬

‫حفظ الواحد منهم حديث أو حديثان أو أكثر ‪ .‬و الرواة و الصحابة منهم بشر و لم نسمع‬ ‫أبدا عن بشر مهما سمو مركزه و علمه أنه معصوم عن الخطأ و النسيان ‪ .‬كما أن كتب‬

‫التراث قد أجمعت على أن أقرب الصحابة إلى النبي قد شارك و ساهم في الفتن التي قامت‬ ‫بين المسلمين من أجل الصراع على السلطة ‪ .‬و قاتل الصحابة الصحابة و قتل صحابة‬

‫النبي اخوتهم في الدين و رفاقهم في الجهاد ‪ .‬فلماذا بعد كل هذه الحقائق التاريخية يصر‬

‫الخطاب الديني على تعديل الصحابة كلهم إجماال و تفصيال ؟ و لماذا يصر على أن الخطأ‬ ‫و النسيان مستبعد على راو صحابي أو تابع أو تابع التابع كأنما هم فوق البشر ‪.‬؟‬


‫‪101‬‬

‫و لماذا يصر على أن األحاديث الواردة في البخاري و مسلم و غيرها من الصحاح تفيد‬

‫حصول العلم القطعي بثبوتها مع أنه قد ثبت بما ال يدع مجاال للشك ‪ ،‬إن في البخاري و‬

‫مسلم أحاديث ال يمكن التسليم بصحة صدورها عن النبي ( ص ) ألن متنها مناقض للقرآن‬

‫‪ ،‬أو مخالف لحقائق التاريخ ‪ ،‬أو معارض لثوابت العقل‪ ،‬وأن حصانة البخاري و مسلم التي‬ ‫منحت لهما ال دليل عليها ؟‬

‫إنه لمن غير الممكن الجواب على هذا السؤال بمعزل عن مفهوم الحاكمية الذي يبني عليه‬ ‫الخطاب الديني كل أطروحاته ‪ .‬فلقد ذكرنا سابقا أن مبدأ " الحاكمية هلل " قد تحول إلى‬

‫مبدأ حاكمية النصوص ‪ .‬و لقد أعطى الخطاب الديني لنفسه‬

‫و لنفسه فقط الحق‬

‫الكامل لتفسير و تأويل تلك النصوص و استنباط األحكام و القوانين و التشريعات ‪ .‬و‬ ‫بذلك تحولت الحاكمية في نهاية األمر إلى حاكمية رموز الخطاب الديني أو حاكمية "‬

‫رجال الدين " ‪.‬‬

‫لقد قام اإلسالم في األساس على النص القرآني ‪ ،‬و هو نص إلهي نزل على النبي بواسطة‬

‫الوحي ‪ .‬و لقد نزل منجما في مدة ثالث و عشرين عاما ‪ .‬و رغم أن النص القرآني قد نزل‬ ‫بلغة الرسول محمد (ص) و هي اللغة العربية و لم تكن بمعزل عن الواقع الثقافي العربي‬

‫في ذلك الوقت ‪ ،‬إال أنه نزل بلغة خاصة الداللة ‪ ،‬يسهل فهم مقاصدها في بعض األحيان‬

‫و يصعب في أحيان أخرى ‪.‬‬

‫و لقد كان على الرسول محمد (ص )‪ ،‬و هو المتلقي األول للرسالة القرآنية إبالغها للناس و‬ ‫إعالمهم بمحتواها و مضمونها ‪ .‬و رغم أن الرسالة القرآنية كانت رسالة لفظية و غير‬

‫كتابية فإن الرسول قد أبلغ منطوق الرسالة للناس بأمانة دون تحوير أو تبديل أو تحريف‬

‫‪ .‬و رغم أن المخاطبين في ذلك الوقت كانوا ينتمون إلى نفس اإلطار الثقافي للغة النص‬

‫‪ ،‬فإنهم في كثير من األحيان لم يكونوا بقادرين على فهم مقاصد الوحي و غاياته ‪ ،‬فكانوا‬

‫لذلك يرجعون إلى الرسول من أجل شرحه و إيضاحه ‪.‬‬

‫و من هنا كان عمل الرسول و حديثه شارحا و مفصال للنص لما غمض في النص القرآني أو‬ ‫لما لم يرد فيه تفصيل ‪ .‬و لقد كان القرآن الكريم هو اإلطار الذي يعمل من خالله الحديث‬ ‫النبوي و السنة النبوية ‪ .‬أي تفسير و بيان و تفصيل لما أجمله القرآن و ال يضيف إلى‬

‫النص القرآني شيئا ال يتضمنه على وجه اإلجمال و اإلشارة و ال يغير فيه زيادة و نقصانا‬

‫‪.‬‬


‫‪102‬‬

‫و بعد وفاة الرسول كثر الحديث عن رسول اهلل و انقسم الفقهاء و المشرعون‪ -‬مع بعد‬ ‫الزمن عن وفاة الرسول ‪ -‬إلى قسمين أساسيين األول ‪ :‬ما سمي بأصحاب الرأي و‬

‫الثاني ‪ :‬أصحاب الحديث ‪.‬‬

‫و بينما كان أهل الحديث يدافعون عن حاكمية النصوص بما فيها نص الحديث و شموليتها‬ ‫لكل مجاالت النشاط البشري ‪ ،‬كان أهل الرأي يدافعون عن العقل متمثال في إدراك "‬

‫المصالح المرسلة " و في " االستحسان "و " االستصالح " ‪ .‬و في ظل هذا الصراع الفكري‬

‫كان الخالف بين أهل الرأي و أهل الحديث أحد مظاهر الصراع العام آنذاك بين " العقل "‬ ‫و " النقل " و بين" اإلبداع "و " التقليد " ‪ .‬و لم يكن الصراع بين أهل الرأي و أهل الحديث‬

‫يدور حول مشروعية السنة النبوية ‪ ،‬و لكن كان يدور حول حرية اختيار األحاديث و حول‬

‫مصداقية بعض المرويات و في تحديد ما يندرج من المرويات تحت " النصوص الدينية "و‬ ‫في الوقت الذي كان فيه أهل الحديث يفضلون االستناد إلى النصوص ولو كانت ظنية ‪-‬‬

‫مثل حديث اآلحاد ‪ -‬على القياس ‪ ،‬كان أهل الرأي يفضلون القياس على النصوص الظنية‬

‫‪ ،‬و ذلك ألن القياس عندهم يعتمد على القرائن و األحكام الكلية التي أطلق عليها فيما بعد‬

‫" المقاصد الكلية‬

‫للشريعة" (‪)37‬‬

‫والحقيقة أن الخالف لم يكن حول حجية أحاديث اآلحاد وحدها بل هناك من قلل من درجة‬

‫حجية المتواترات كذلك ‪ ،‬و ذلك على أساس أن التواتر ليس إال االجتماع على رواية بعينها‬

‫‪ ،‬و لما كان التواتر جمع آحاد و كانت شبهة الكذب يمكن أن تلحق األفراد ‪ ،‬فان نفي‬

‫الكذب عن مجموعة األفراد مستحيل ‪ .‬و على ذلك ينكر أصحاب هذا الرأي أن يكون العلم‬ ‫الناشئ عن التواتر مساويا للعلم الناشئ عن العيان ‪ ،‬و يكتفون‬

‫بالقول ‪ :‬أن المتواتر من األخبار يجب علم طمأنينة و معنى الطمأنينة عندهم ما يحتمل أن‬

‫تخالجه شك أو يعثر به وهم ‪ " ) 37(".‬و لقد يؤيد ذلك التفكير الواقع العملي ‪ ،‬فقد وجدنا‬ ‫أمما تتفق على وجود أخبار غير صادقة ‪ ،‬و تتوافر بين جموعها ‪ ،‬و يتلقاها الخلف عن‬

‫السلف مع بطالنها و قيام الدليل على كذبها ‪) 38 (_".‬‬

‫ثم جاء الشافعي –‪-402-051‬ه فارسخ شرعية السنة و شموليتها بعد أن جرى توحيد‬

‫مصطلحي الحديث و السنة ‪ ،‬فحول السنة من نص مساعد و شارح و مفصل للنص‬

‫القرآني إلى نص أولي له نفس درجة المشروعية باعتباره وحيا ألهيا له صفة االنفرادية‬

‫بالتشريع كما للنص القرآني ‪ ،‬و جعلهما على درجة واحدة من اإل لزام ‪ .‬و لقد اعتبر أن‬


‫‪103‬‬

‫وحي السنة هو " اإللقاء في الروع " أي " الوحي بالمعنى اللغوي الذي هو اإللهام و‬

‫ليس عن طريق وساطة الملك جبريل ‪) 39 ( .‬‬

‫إن كثي ار من الشواهد التي أوردتها كتب التراث تدلنا على أن النبي (ص) كان يرى الرأي ثم‬ ‫يستشير أصحابه و يتبع رأيهم في حاالت كثيرة و طالما طرح الصحابة على الرسول‬

‫السؤال في اجتهاداته خارج إطار القرآن ‪ -‬أهو الوحي يا رسول اهلل أم الرأي و المشورة ؟‬ ‫و تشير الحوادث أيضا أن النبي كان أحيانا يخطئ في اجتهاده و يعدل الوحي له قراره و‬

‫يعاتبه عليه ‪ ،‬واستدلوا على ذلك مثال بأنه عوتب في أسرى بدر بقوله تعالى ‪ " :‬ما كان‬

‫لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في األرض " و لو كان حكم بمقتضى الوحي ما عوتب‬

‫‪) 40( .‬و هذا يؤكد على بشرية النبي و على أن أفعاله و أقواله فيما عدا النص القرآني‬ ‫ليست وحيا ألهيا ‪.‬‬

‫واعتبر الشافعي عمل الصحابة من السنن الواجبة اإل تباع ‪ ،‬فوسع بذلك دائرة النصوص‬

‫الدينية ‪ ،‬و يروى عنه أنه كان يقول عن الصحابة ‪ ":‬رأيهم خير من رأينا …‪ ..‬هم فوقنا‬

‫في كل علم و اجتهاد وورع وعقل …… وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا ‪) 41 ( ".‬‬

‫و على عكس الشافعي فلم يعتبر أبا حنيفة أعمال و أقوال الصحابة سنة واجبة اإلتباع ‪ ،‬بل‬

‫كان يختار من أقوال الصحابة و أفعالهم ما يهديه إليه عقله و القياس ‪ .‬لكن هذا االختيار‬ ‫مشروط بما لم يرد فيه حكم القرآن أو السنة ‪ .‬و كان يقول ‪ ":‬إذا لم أجد في كتاب اهلل و‬

‫سنة رسوله أخذت بقول الصحابة من شئت وأدع من شئت ‪ ،‬و ال أخرج من قولهم إلى‬

‫قول غيرهم ‪ ،‬فإذا انتهي األمر إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين و سعيد بن المسبب فلي‬

‫أن أجتهد كما اجتهدوا ‪ )42 ( ".‬و ليست األدلة القطعية عند أبي حنيفة قاصرة على الكتاب‬ ‫والسنة ‪ ،‬ولكنه يدخل فيها القياس خاصة ما بني على األحكام الثابتة في الدين مثل‬

‫قاعدة " ال حرج في الدين " و قاعدة " سد الذرائع "‬

‫و قاعدة " ال تذر وازرة وزر أخرى " و غير ذلك من القواعد المنصوص عليها في القرآن‬

‫الكريم ‪ ،‬المصدر األول لهذه الشريعة أو األقيسة القطعية المنصوص على عللها بأصل‬

‫قطعي ‪ .‬إن األقيسة القطعية التي تبنى على هذه النصوص أو تعتمد على هذه األصول‬ ‫يرد بها خبر الواحد و يطعن بها في نسبته إلى الرسول (ص) ‪) 43( .‬‬

‫و ظهرت المعتزلة بمبدأي العدل والتوحيد ‪ ،‬الذين كانا ردة فعل لجدال تحكمه عالقة‬

‫المسلمين بغيرهم من أتباع الديانات األخرى وألبعاد شبهة الشرك عن اإلسالم ‪ .‬و لقد كان‬

‫المعتزلة أول من ردوا البدع و دافعوا عن صفاء الدين اإلسالمي ضد أتباع الديانات‬

‫األخرى ‪ " .‬و كان المعتزلة األوائل من الدرجة األولى في العلم و البيان و كانوا هم حملة‬


‫‪104‬‬

‫العلم األوائل ‪ ،‬وهم الذين أعملوا العقل في النظر واالستدالل و نشأت الحضارة على أيديهم‬

‫أوال ‪ .‬و لقد كان االعتزال ثورة على التقليد و التعصب و اللجاج و يعتز بالعقل والبرهان‬ ‫ضد التقليد و الهوى والمحاجة ‪) 44 ( ".‬‬

‫ثم ظهرت محنة خلق القرآن التي تبناها الخليفة المأمون و فرضها بالقوة ‪ ،‬وتبعه في ذلك‬ ‫المعتصم و الواثق ‪ .‬و لقد امتحن المأمون األئمة و العلماء والفقهاء في القول بخلق‬

‫القرآن ‪ ،‬و عاقب معارضي هذا القول و على رأسهم أحمد بن حنبل ‪ .‬و حين قتل الواثق‬

‫أحمد بن نصر الخزاعي في ذلك و قف عامة الناس إلى جانبه واعتبروه شهيدا إماما ‪ .‬و‬

‫لقد أثارت محنة خلق القرآن ردود فعل عدائية ضد المعتزلة التهام الناس لهم بأنهم وراء‬

‫قرار المأمون بامتحان من أمتحنهم ‪.‬‬

‫و مع أن المعتزلة قد قالوا بخلق القرآن ‪ ،‬فان هذه المسألة كانت عندهم فرعا لمبدأ العدل ‪ ،‬و‬ ‫جاء ردا على قول النصارى بالتجسد ‪ ،‬و هو أن المسيح كلمة اهلل القديمة ‪.‬‬

‫و يعتبر البعض أن قرار المأمون بامتحان من أمتحنهم بخلق القرآن لم يكن نتيجة لتأثير‬ ‫المعتزلة على المأمون وال إشارة منهم ‪ .‬يقول الدكتور فهمي جدعان بأنه‬

‫" ال يوجد نص واحد يشير من قريب أو بعيد إلى أن واحدا من المعتزلة قد " أشار " على‬ ‫المأمون بامتحان من امتحنهم من الفقهاء أو المحدثين أو رجال السياسة ‪ .‬و لقد كان‬

‫المأمون فوق كل الفرق و المذاهب و النحل فال هو ينتمي إلى االعتزال و ال إلى التشيع و‬ ‫ال إلى أصحاب الحديث و الفقه و ال إلى غيرهم ‪ .‬كان المأمون ملكا منفرد السلطة‬

‫استحواذيا كالنيا ‪ .‬و لم يكن ليأخذ قراره بناءا على رغبة أحد ‪ .‬و لقد كان قرار المأمون‬

‫بإشهار المحنة ق ار ار سياسيا جاء " تحت وطأة تعاظم سلطة موازية لسلطة الخالفة هي‬

‫سلطة أهل الدين الذين كانوا يتطلعون إلى السيطرة على العامة ليعززوا بذلك دعواهم بأنهم‬ ‫" حراس األرض " و " بأن أولئك الذين صار ملكهم إلى صبية أغمار غلب عليهم زنادقة‬

‫الطرق فصرفوهم إلى كل جنون ‪ ،‬و أدخلوهم في الكفر فلم يكن لهم بالعلماء و السنة‬ ‫حاجة ‪ ،‬و اشتغلوا عهدهم و استغنوا برأيهم ‪) 45 ( ".‬‬

‫ثم ظهر الشعري – ت ‪ 033‬ه‪-‬‬

‫و طغت األشعرية و رسخت الفكر " السني األصولي " ‪.‬‬

‫و لقد خرجت األشعرية من صفوف المعتزلة و كرد فعل عليها ‪ .‬و كان أبو الحسن األشعري‬

‫تلميذا ألبي علي الجبائي و خرج عليه اثر مناظرة جرت بينهما ‪ .‬ثم اشتغل ومن تبعه‬

‫بإبطال رأي المعتزلة و إثبات ما وردت به السنة و مضى عليه الجماعة ‪ .‬و " ظل الحنابلة‬

‫يرفضون األشاعرة و يرتابون في أمر صاحبهم األشعري و طعن كثير منهم على عقيدته‬

‫حيث سلك مسلكا وسطا بين موقف السلف و تطرف من خالفهم ‪ .‬و كفره الحنابلة‬


‫‪105‬‬

‫واستباحوا دمه و نصره جماعة من أكابر العلماء كأبي بكر الباقالني وامام الحرمين‬ ‫واألسفاريني و غيرهم ‪ .‬و سموا رأيه بمذهب أهل السنة و الجماعة ‪) 46 ( ".‬‬

‫وانحسر االعتزال و طغت األشعرية ‪ ،‬ولقد ذهب األشاعرة إلى أسبقية الشرع على العقل‬

‫و ذلك على عكس المعتزلة الذين أعطوا للعقل دو ار أوليا و سابقا على الشرع ‪.‬أي أنهم‬

‫جعلوا الدليل العقلي أصال ‪ ،‬والدليل الشرعي فرعا على الدليل العقلي ‪ .‬و ال يعني ذلك‬ ‫عندهم التعارض بينهما إذ ليس في القرآن إال ما يوافق طريقة العقل ‪.‬‬

‫و بينما قال المعتزلة أن اإلنسان خالق ألفعاله حتى تصح المسئولية و يقع االستحقاق ‪،‬‬

‫والثواب والعقاب ‪ ،‬قال األشاعرة بالقضاء والقدر وأن اهلل أراد جميع أفعال العباد خيرها و‬

‫شرها ‪ ،‬نفعها و ضررها ‪ ،‬الخير والشر بقضاء اهلل و قدره ‪.‬‬

‫و مع األيام تعطل العقل و جمد الفكر و ساد الجهل واتبع التقليد ‪ ،‬و كما يقول محمد عبده‬ ‫" وانتشرت الفوضى بين المسلمين تحت حماية الجهلة من ساساتهم فجاء قوم ظنوا في‬

‫أنفسهم ما لم يعترف به العلم لهم فوضعوا ما لم يعد لإلسالميين قبيل باحتماله ‪ .‬غير أنهم‬

‫وجدوا من نقص المعارف أنصا ار ومن البعد عن ينابيع الدين أعوانا فشردوا بالعقول من‬

‫عن مواطنها ‪ ،‬وتحكموا في التضليل و التكفير ‪ ،‬و غلوا في ذلك حتى قلدوا بعض من سبق‬

‫من األمم في دعوى العداوة بين العلم و الدين و قالوا لما تصف ألسنتها الكذب ‪ ،‬هذا حالل‬

‫و هذا حرام ‪ ،‬و هذا كفر و هذا إسالم ‪ ،‬والدين من وراء ما يتوهمون و اهلل جل شانه فوق‬ ‫ما يظنون و ما يصفون و لكن ماذا أصاب العامة في عقائدهم و مصادر أعمالهم من‬

‫أنفسهم بعد طول الخبط و كثرة الخلط ؟ شر عظيم و خطب عميم ‪) 47 ( ( ".‬‬

‫و هكذا لقد تم ترسيخ الفكر الديني األصولي الكلياني المبني على سلطة مبدأ‬

‫"الحاكمية" التي يستمدها هذا الفكر من سلطة النصوص الدينية ‪ .‬ومن اجل توسيع هذه‬

‫السلطة جرى توسيع نطاق هذه النصوص إلى أبعد حد ‪ .‬فلقد حولت السنة ‪ -‬بعد أن جرى‬

‫توحيد عمل الرسول المتواتر مع الحديث المنقول ‪ -‬من نص شارح و مفصل للنص القرآني‬

‫إلى نص له درجة المشروعية و اإللزام و التشريع كما للنص القرآني ‪ ،‬بل زيد من سلطته‬ ‫حتى أنهم أجازوا نسخ اآليات القرآنية بالسنة ‪ ) 48( .‬بصفتها وحيا إلهيا ‪ .‬و من أجل‬ ‫ترسيخ هذه السلطة كان ال بد من تثبيت مجموعة من الثوابت في الوعي اإلسالمي ‪:.‬‬

‫أوال ‪ :‬أن السنة وحي إلهي له إلزامية النص القرآني و مشروعيته ‪ ،‬بل و يمكن نسخ‬ ‫الوحي القرآني بالسنة ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬بما أن الحديث النبوي ‪ ،‬هو قول شفهي ‪ ،‬ظل منقوال شفويا أكثر مائتي عام ‪ ،‬كان ال‬ ‫بد من تعديل الناقلين و الرواة باعتبارهم جيال من األبرار األطهار األخيار ‪ ،‬و هم بذلك‬


‫‪106‬‬

‫معصومون عن الكذب و الخطأ ‪ ،‬كأنما لم يكونوا بش ار ‪ ،‬و لذلك ما وصلنا منهم و عنهم‬ ‫من أحاديث ‪ ،‬يعد صحيحا وملزما ‪ ،‬و يخرج عن دين اإلسالم كل من يشكك بصحته ‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬وسعت دائرة السنة لتشمل عمل الصحابة ‪ ،‬الذي اعتبر من السنة الواجبة األتباع ‪" ،‬‬

‫فهذه الطبقة ( الصحابة ) كان لها قوة الحفظ و الفهم و الفقه في الدين والبصر والتأويل ‪،‬‬ ‫ففجرت من النصوص انهار العلوم ‪ ،‬واستنبطت كنوزها و رزقت فيها فهما خاصا ……‪.‬‬

‫فهذا الفهم هو بمنزلة الكأل و العشب الذي أنبتته األرض الطيبة ‪ ،‬و هو الذي تميزت به‬

‫هذه الطبقة عن الطبقة الثانية ‪ ،‬و هي التي حفظت النصوص فكان همها حفظها و‬

‫ضبطها ‪ ،‬فوردها الناس و تلقوها بالقبول واستنبطوا منها واستخرجوا كنوزها اتجروا فيها‬ ‫و بذروها في أرض قابلة للزرع و النبات و رووها كل بحسبه ‪) 49 ( ".‬‬

‫رابعا ‪ :‬ثم أضيف إلى كل هذا ما يسمى "بإجماع المسلمين " و هو كما يقول الشافعي " ما‬ ‫اجتمع المسلمون عليه و حكوا عمن قبلهم االجتماع عليه وان لم يقولوا هذا بكتاب و ال‬

‫بسنة ‪ ،‬فقد يقوم عندي مقام السنة المجتمع عليها ‪ ،‬و ذلك أن اجتماعهم ال يكون عن‬

‫رأي ‪ ،‬ألن الرأي إذا كان تفرق فيه ……‪ .‬واإلجماع حجة على كل شيء ألنه ال يمكن فيه‬

‫خطأ ‪) 50( ".‬‬

‫ال أظن أننا نبعد عن الحقيقة إذا قلنا أن هذا اإلجماع مستحيل الوقوع ‪ .‬و يظهر أن الشافعي‬ ‫نفسه قد و صل إلى نفس النتيجة بعد انتقاله إلى مجتمع ذي طبيعة مغايرة في مصر‬

‫حيث يقول ‪ " :‬فدل ذلك ‘على أن قائل السلف يقول برأيه ‪ ،‬و يخالف غيره ……… و في‬ ‫هذا دليل على أن بعضهم ال يرى قول بعض حجة تلزمه إذ رأى خالفها وأنهم ال يرون‬

‫الالزم إال الكتاب أو السنة " ( ‪) 51‬‬

‫و لقد كتب لهذه األطروحات أن تهيمن على مجمل الخطاب الديني حتى عصرنا هذا ‪ ،‬وأن‬

‫تشمل كل مجاالت الحياة االجتماعية والمعرفية ‪ .‬وأصبح العقل اإلسالمي في عصرنا تحت‬

‫هيمنة هذا الخطاب الكلياني ‪ ،‬حيث سجن العقل و همش وأغلقت أمامه أبواب االبتكار‬ ‫واالجتهاد و ترك أمامه باب إعادة و تكرير الماضي فقط ‪ .‬و بمعنى آخر فان كل حالة‬

‫جديدة أو مستجدة في مجتمعاتنا ‪ ،‬سياسية كانت أم اقتصادية أو اجتماعية ينبغي أن نجد‬

‫لها أصال في النصوص الدينية النابعة من مجموعة "الثوابت" التي أضفى عليها الخطاب‬

‫الديني القدسية واإللزامية ‪ .‬و ما على العقل إال اكتشاف الحكم الموجود فيها خافيا أو‬ ‫مستت ار ‪.‬‬

‫لم تجر هيمنة الخطاب الديني الكلياني على العقل العربي اإلسالمي عن طريق التفوق‬

‫العقلي والمحاجة ‪ ،‬وانما عن طريق تضيق رحاب الكلمة القرآنية المنزلة واصباغ صفة‬


‫‪107‬‬

‫القدسية والسلطة العليا على فكر الخطاب الديني و أطروحاته مستعصما و مستمدا‬

‫مشروعيته من األحاديث المنسوبة للرسول و من أقوال و أفعال الصحابة و السلف ‪ ،‬بعد‬

‫أن حول هذه النصوص من نصوص ثانوية إلى نصوص أولية لها صفة المشروعية‬

‫واإللزامية كما للنص القرآني ‪ .‬والخطاب الديني الكلياني جاهز دائما لالستشهاد باألحاديث‬

‫المنسوبة للنبي (ص) و بأقوال السلف إلقحام الخصم و قطع الطريق عليه ‪ ،‬و على‬

‫الخصم القبول بصحة نسب الحديث للنبي و عدم التشكيك بذلك حتى قبل النظر في‬

‫مضمون الحديث و مقاصده ‪ .‬و قبل نقاش مشروعية أو عدم مشروعية المطابقة بين‬

‫الحالة الراهنة و بين األوضاع السائدة في زمن النبي (ص) ‪ .‬لقد استحوذ فكر فريق من‬

‫األمة على الدين و على األمة ووقعنا في ما وقع فيه النصارى واليهود حيث استحوذت‬ ‫تعاليم بطرس و ماثيوس و حنا و بولص‬

‫على التعاليم الدينية وأصبحت هي الدين عند‬

‫النصارى و أصبح التلمود و ما حرفة الحاخامات اليهود من التوراة هو الدين عند اليهود‪.‬‬

‫غير أنه من فضل اهلل و عونه حفظ للمسلمين القرآن الكريم كامال غير منقوص حتى يومنا‬ ‫هذا ‪ ،‬و هو الوحي و التنزيل الحكيم الذي نزل على النبي محمد (ص) و الرسالة التي‬

‫بعث ليبلغها للناس ‪.‬و كل الشروحات و التفسيرات و التأويالت التي تدور حول النص‬ ‫القرآني ‪ ،‬إنما هو فكر بشري قابل للصواب و الخطأ و ليس له القدسية واإللزام ‪.‬‬

‫لقد حان للمسلمين أن يختاروا بين المخاطرة بحقيقة و نقاء دين االسالم و بين التضحية‬

‫بتلك القداسة الزائفة التي أضفاها الخطاب الديني على المنظومة التاريخية للفكر الديني‬

‫المبنية على أخبار اآلحاد و أقوال السلف‪ .‬و ذلك ال يتوفر إال من خالل العودة إلى دراسة‬

‫القرآن الكريم ‪ ،‬الوحي الخالص والثابت ‪،‬دراسة علمية عصرية و على ضوء تطورات‬

‫العصر ‪.‬‬


‫‪108‬‬

‫مراجع الفصل الرابع‬ ‫‪ )1‬البغدادي‪ -‬تقيد العلم ‪ -‬تحقيق د‪ .‬يوسف العش ‪ ،‬دمشق ‪ 1949 ،‬ص ‪34 :‬‬

‫‪ )2‬أحمد أمين ‪ -‬فجر اإلسالم – م س ‪-‬ص ‪ 210 :‬عن القرطبي في جامع بيان العلم ‪.‬‬ ‫‪ )3‬د ‪ /‬محمد عجاج الخطيب ‪ -‬السنة قبل التدوين ‪ -‬دار الفكر ‪ 1981،‬ص ‪97 :‬‬ ‫‪ )4‬النووي في شرحه لمسلم ج ‪ 1:‬ص ‪ 32 :‬مجهول مكان و تاريخ الطبع‬

‫‪ )5‬نيازي عز الدين ‪ -‬دين السلطان – بيسان للنشر‪ -‬دمشق‪ -1997-‬ط ‪ - 1‬ص ‪-77 :‬‬ ‫‪78‬‬ ‫‪ )6‬محمد الغزالي ‪ -‬السنة النبوية بين أهل الفقه و أهل الحديث ‪ -‬دار الشروق بيروت‪-‬‬ ‫‪-1989‬ص‪1 6 ،‬‬

‫‪ )7‬محمد الغزالي ‪ -‬م س‪ -‬ص ‪17 :‬‬

‫‪ )8‬إبن حجر ‪ -‬اإلصابة –م س ‪ -‬ج ‪ ، 8‬ص ‪17 :‬‬

‫‪ )9‬اإلمام الزركشي ‪ -‬اإلجابة ‪ ، -‬المكتب اإلسالمي ‪ ،1998 ،‬ج ‪ 7‬ص ‪118 ، 113 ، 44 :‬‬ ‫‪)10‬إبن حجر ‪ -‬اإلصابة‪ -‬م س ‪ -‬ج ‪ 8‬ص ‪17 :‬‬

‫‪)11‬مسلم الثبوت و شرحه ج ‪ 2‬ص ‪ 175‬مجهول مكان و تاريخ الطباعة‬ ‫‪ )12‬محمد عبده‪ -‬شرح البالغة‪ -‬م س ‪-‬ن ج ‪ 1‬ص ‪147 :‬‬

‫‪)13‬صبحي الصالح ‪ -‬علوم الحديث و مصطلحه – دار العلم للماليين‪ ،‬بيروت‪ 1977 -‬ص ‪:‬‬ ‫‪309‬‬ ‫‪)14‬محمد الحسين الكاشف الغطاء‪ -‬أصل الشيعة وأصولها‪ -‬القاهرة‪ -1958-‬ص ‪149 :‬‬

‫‪)15‬اإلمام الخميني ‪ -‬الحكومة اإلسالمية – دار الطليعة للطباعة والنشر ‪ ،‬بيروت‪ 1979-‬ص‬ ‫‪60 :‬‬

‫‪)16‬الطبري ‪ -‬تاريخه – م س ‪ -‬ج ‪ ، 6‬ص ‪132 :‬‬

‫‪)17‬محمود أحمد مهدي ‪ -‬ما الفوارق بين السنة و الشيعة – ط ‪ -1963 -1‬ص ‪247 :‬‬ ‫‪)18‬العاملي ‪ -‬عقيدة الشيعة في اإلمام الصادق و سائر األئمة ‪ ، 1963 ،‬ص ‪206 :‬‬

‫‪)19‬يوسف عارف الحاج محمد ‪ ،‬الميزان بين السنة و الشيعة ‪ -،‬نابلس ‪ 1992‬ص ‪141 :‬‬ ‫‪)20‬محمد ناصر األلباني ‪ -‬سلسلة األحاديث الضعيفة و الموضوعة ‪ -‬ص ‪81 ، 78 :‬‬

‫‪)21‬البخاري ‪ -‬صحيحه ‪ -‬دار مطابع الشعب‪ -‬بدون مكان و زمان‪ -‬ج ‪ 9‬ص ‪59 ، 58 :‬‬ ‫‪)22‬البخاري ‪ -‬صحيحه – م س ‪-‬ج ‪ 9‬ص ‪58 :‬‬

‫‪ )23‬محمد عبده – شرح البالغة ‪ -‬م س ‪ -‬ص ‪50 :‬‬


‫‪109‬‬

‫‪)24‬ابن حجر ‪ -‬اإلصابة – م س ‪ -‬ج ‪ 1‬ص ‪6 :‬‬

‫‪)25‬أحمد أمين ‪ -‬فجر اإلسالم – م س ‪ -‬ص ‪221 :‬‬ ‫‪)26‬محمد الغزالي ‪ -‬م س ‪ -‬ص ‪20 :‬‬

‫‪)27‬رواه البخاري و مسلم – عن المصدر السابق‬ ‫‪)28‬محمد الغزالي ‪ -‬م س ‪ -‬ص ‪28 :‬‬

‫‪)29‬محمد الغزالي ‪ -‬م س ‪ -‬ص ‪33-32 :‬‬

‫‪)30‬إبن كثير ‪ -‬البداية و النهاية—م س ‪ -‬ج ‪ 3 :‬ص ‪266 :‬‬

‫‪)31‬السيوطي ‪ -‬تدريب الراوي في شرح النووي ‪ -‬دار الكتاب العلمية ‪ ،‬بيروت‬ ‫ط‪ 2 ،‬مج ‪ 1‬ص ‪131 :‬‬

‫‪ )32‬نيازي عزالدين ‪ -‬دين السلطان ‪-‬بيسان للنشر‪ -‬دمشق‪ -‬م س ‪ -‬ص ‪172 :‬‬ ‫‪ )33‬البخاري ‪ -‬صحيحه ‪ -‬بحاشية السندي ‪ -‬دار إحياء الكتب العربية ‪ ،‬القاهرة‬

‫‪)34‬مسلم ‪ -‬صحيحه ‪ -‬تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ‪ -‬دار إحياء الكتب العربية‬ ‫‪ )35‬القس إبراهيم لوقا‪-‬المسيحية و اإلسالم ‪ -‬ص ‪27 :‬‬

‫‪)36‬الشاطبي أبو أسحق ‪ -‬الموافقات في أصول الشريعة ‪ -‬دار الفكر العربي‬ ‫ط ‪ 1975 -2 ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪24-22 :‬‬

‫‪)37‬أبو زهرة ‪ -‬أبو حنيفة ‪ ،‬حياته و عصره‪ -‬دار الفكر العربي – القاهرة – ط ‪1977- 2‬‬ ‫ص ‪276-275 :‬‬

‫‪)38‬أبو زهرة ‪ -‬أبو حنيفة ‪ -‬م س ‪ ، -‬ص ‪277 :‬‬

‫‪)39‬الشافعي ‪ -‬الرسالة‪ -‬شرح و تحقيق أحمد محمد شاكر ‪ -‬المكتبة العلمية بيروت –‬ ‫بدون تاريخ‪ -‬ص ‪92-91 :‬‬

‫‪)40‬أحمد أمين ‪ -‬فجر اإلسالم – م س ‪ -‬ص ‪233 :‬‬ ‫‪)41‬الشافعي ‪ -‬المصدر السابق‬

‫‪)42‬أبو زهرة ‪ -‬أبو حنيفة ‪ -‬م س ‪ -‬ص ‪107 :‬‬ ‫‪)43‬أبو زهرة ‪ -‬م س ‪ -‬ص ‪239 ،106 :‬‬

‫‪)44‬د ‪ /‬حسن حنفي ‪ -‬من العقيدة إلى الثورة – م س ‪ -‬ج ‪ 5‬ص ‪547-546 :‬‬

‫‪)45‬د ‪/‬فهمي جدعان ‪ -‬المحنة ‪ -‬دار الشروق للنشر ‪،‬عمان ‪ 1989‬ص ‪-278 ،262 :‬‬ ‫‪280‬‬ ‫‪)46‬الشيخ محمد عبده ‪ -‬رسالة التوحيد ‪ ،‬طبع محمد رشيد رضا ‪ -‬ص ‪ ( 18-17 :‬من‬ ‫كتاب من العقيدة إلى الثورة م س ‪ .‬ص ‪) 547 :‬‬

‫‪)47‬الشيخ محمد عبده م س ص ‪ ( 522 :‬من كتاب د ‪ /‬حنفي ‪ ،‬م س ص ‪) 549 :‬‬


‫‪110‬‬

‫‪ )48‬اإلمام أبي القاسم هبة اهلل ‪ -‬الناسخ و المنسوخ على هامش كتاب أسباب النزول‬ ‫تصنيف أبي الحسن النيسابوري‪ -‬دار المعرفة ‪ ،‬بيروت ‪ .‬ص ‪14-1 :‬‬

‫‪)49‬أبن تيمية ‪ -‬نقد المنطق ‪ -‬طبعة الفقي ‪ ،‬القاهرة ‪ 1955 ،‬ص ‪79 :‬‬

‫‪)50‬الشافعي ‪ -‬جماع العلم ( ضمن األم ) ‪ -‬دار الشعب‪ -‬القاهرة بدون تاريخ ‪ -‬ج ‪ 7‬ص ‪:‬‬ ‫‪255‬‬ ‫‪)51‬الشافعي ‪ -‬الرسالة‪-‬م س ‪ -‬ص ‪472-471 :‬‬


‫‪111‬‬

‫الفصل الخامس‬ ‫عالقة النص بالواقع المخاطب‬ ‫لقد شاء اهلل سبحانه أن يكون كالمه إلى البشر بلغتهم ‪ .‬و لقد نزل القرآن‬

‫على الرسول محمد (ص) منجما باللغة العربية ‪ .‬و ذلك يعني أن المخاطبين به باألساس‬

‫هم الناس الذين ينتمون إلى نفس النظام اللغوي للنص القرآني و ينتمون إلى اإلطار الثقافي‬

‫الذي تعد اللغة العربية محوره و إال لما فهموه و ما وعوا مقاصده ‪.‬‬

‫إنها رسالة إلهية و لكنها رسالة موجهة إلى البشر عن طريق الرسول محمد (ص) الذي‬

‫كان عليه أن يبلغ الرسالة لهم بأمانة و صدق ‪ .‬ولم تكن تلك الرسالة مفارقة لقوانين واقعهم‬ ‫بكل ما يحتوي هذا الواقع من أبنية و أهمها البناء الثقافي ‪ ".‬إن المطلق يكشف عن نفسه‬

‫للبشر و ينزل إليهم بكالمه عبر نظامهم الداللي الثقافي‬ ‫واللغوي ‪) 1 ( .‬‬

‫القرآن رسالة إلهية نزلت بنص لغوي بشري ‪ ،‬و بصفته تلك فان تفسيره يخضع آلليات عديدة‬

‫أهمها المجال المعرفي الخاص الذي يحدد طرائق التفسير و من ثم األفق المعرفي و الثقافي‬

‫الذي يتناول المفسر المتخصص من خالله النص ليحاول أن يفهم النص من خالله‪ .‬و بما‬ ‫أن المجال المعرفي و الثقافي يختلف من مفسر إلى آخر فكان ال بد أن تتعدد تفسيرات‬

‫النص القرآني و تأويالته ‪.‬‬

‫إن دراسة مفهوم النص القرآني من أجل محاولة اكتشاف مقاصد الرسالة اإللهية ال ينبغي أن‬

‫يغفل واقع المتلقين للنص بما يشمل عليه أي الواقع من أبنية اقتصادية واجتماعية و سياسية‬ ‫و ثقافية ‪) 2( .‬فالمرسل إليه هم الناس ‪ ،‬و الرسول ما هو إال مبلغ أي وسيلة و ليس غاية‬

‫… فكيف تسقط الغاية من الحساب ؟ ( ‪) 3‬‬

‫إن مقولة الخطاب الديني بأن النص القرآني قد نزل بمعزل عن المجتمع و الواقع الذي خاطبه‬ ‫يتناقض مع أن النص القرآني قد نزل على النبي منجما على بضع و عشرين سنة ‪ ،‬و أن‬

‫أكثر اآليات القرآنية و خاصة ما يتعلق باألحكام نزلت عند سبب خاص ‪ .‬وان علم‬ ‫" أسباب النزول " من أهم العلوم الدالة و الكاشفة على عالقة النص بالواقع ‪.‬‬


‫‪112‬‬

‫و رغم إصرار الخطاب الديني على عدم وجود أسباب للنزول و إنما مناسبات للنزول فأن كتب‬ ‫التراث تحدثنا عن " أسباب النزول " و علم " أسباب النزول " و عن أهمية معرفة أسباب‬

‫النزول ليس فقط من أجل رصد الحقائق التاريخية التي أحاطت بتشكيل النص و لكن من أجل‬ ‫فهم النص أيضا و استخراج دالالته ‪ .‬إن دراسة أسباب النزول تؤدي أيضا إلى فهم حكمة‬

‫التشريع اإللهي ‪ .‬فلقد روي أن عمر بن الخطاب خال يوما فجعل يتساءل كيف تختلف أمة‬

‫اإلسالم و نبيها واحد و قبلتها واحدة ‪ ،‬فقال أبن عباس ‪ :‬لقد أنزل علينا القرآن فقرأناه و‬

‫علمنا فيما نزل ‪ ،‬وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن و ال يدرون فيما نزل ‪ ،‬فيكون لهم‬ ‫فيه رأي ‪ ،‬ثم يختلفون في اآلراء ‪ ،‬ثم يقتتلون فيما اختلفوا فيه ‪ ) 4 ( .‬و يقول اإلمام‬

‫الشاطبي أن السنة قد تشارك القرآن في ذلك ‪ ،‬فكثير من األحاديث وقع على أسباب و ال‬

‫يحصل فهمها إال بمعرفة السبب ‪ .‬و يضرب على ذلك مثال أن الرسول نهى عن ادخار لحوم‬

‫األضاحي بعد ثالث ‪ ،‬فلما كان بعد ذلك قيل ‪ :‬لقد كان الناس ينتفعون بضحاياهم و يحملون‬ ‫منها الودك و يتخذون منها األسقية فقال الرسول ‪ :‬و ما ذاك ؟ قالوا ‪ :‬نهيت عن لحوم‬

‫األضاحي بعد ثالث ‪ ،‬فقال ‪ :‬إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم ‪ ،‬فكلوا و تصدقوا‬

‫وادخروا ‪) 5 ( .‬‬

‫إن اإلصرار على رفض قبول أسباب النزول واعتبارها مناسبات للنزول ‪ - ،‬باعتبار أن النص‬ ‫القرآني أزلي و كان معدا سلفا و أنه كان يتحين مناسبة ليظهر أو ينزل ‪ - ،‬له أبعاد خطيرة‬

‫جدا ‪ .‬فأسباب النزول هي الظروف الواقعية التي تفاعلت مع النص ليظهر على النحو الذي‬

‫أصبح حكما ‪ ،‬أو كانت سببا لتعديله ‪ .‬و الفرق بين أن تكون الظروف الواقعية أسبابا للنزول‬ ‫أو أن تكون مناسبات له كبير جدا ‪ ،‬واعتبار أن النص كان معدا سلفا ينفي مسئولية اإلنسان‬

‫عن أفعاله ‪ .‬فمثال إذا كانت اآلية الكريمة " تبت يدا أبي لهب و تب " معدة سلفا فإن أبا لهب‬ ‫لم يكن له خيار في ما فعل ‪.‬‬

‫و نفي قدرة اإلنسان على الفعل و مسئوليته عن الفعل يؤدي‬

‫بالضرورة إلى عدم استحقاقه للثواب أو العقاب و هو ما يعارض مقاصد الرسالة القرآنية التي‬ ‫نزلت لتهدي الناس و تعد بالثواب و تهدد بالعقاب ‪.‬‬

‫إن رفض أسباب النزول و التمسك بعموم اللفظ دون مراعاة لخصوص السبب يمكن البعض‬ ‫أن يتمسك ببعض اآليات دون غيرها و يؤدي إلى خلق تناقضات داخل النص ال يمكن حلها‬ ‫و يؤدي إلى فساد للشرع و الدين ‪ .‬فمثال لو نظرنا إلى بعض اآليات القرآنية التي تفيد‬

‫الجبر و تلك التي تفيد حرية االختيار بدون مراعاة أسباب النزول والواقع المخاطب لوقعنا كما‬ ‫وقع السلف في تناقض و مواقف متعارضة سيتمسك كل موقف ببعض اآليات دون غيرها‬

‫لتبرير موقفه ‪.‬‬


‫‪113‬‬

‫آيات تفيد الجبر‪:‬‬

‫" ما كانوا ليؤمنوا إال أن يشاء اهلل "‬

‫" أولئك الذين لم يرد اهلل أن يطهر قلوبهم "‬

‫" ال تهدي من أحببت إن اهلل يهدي من يشاء "‬ ‫" و ما خلقت اإلنس والجن إال ليعبدون "‬

‫"قل ال أملك لنفسي نفعا و ال ضر ار إال ما شاء اهلل "‬

‫و غيره كثير‬ ‫آيات ال تفيد الجبر ‪:‬‬

‫" و من يرد اهلل أن يهديه يشرح صدره لإلسالم "‬

‫" لو شاء اهلل لهدى الناس جميعا "‬

‫" و لو شاء ربك آلمن من في األرض جميعا "‬

‫" و لو شئنا ألتينا كل نفس هواها "‬

‫" لها ما كسبت و عليها ما اكتسيت "‬ ‫"ليجزي اهلل كل نفس بما كسبت "‬

‫كثير‬

‫و غيرها‬

‫و يمكننا أن نأخذ مثال أخ ار مثل موضوع السلم والحرب مع غير المسلمين ‪:‬‬

‫آيات تحث على السلم ‪:‬‬

‫" ال إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي "‬

‫" و لو شاء ربك آلمن من في األرض جميعا "‬

‫" و إن جنحوا للسلم فاجنح لها و توكل على اهلل "‬

‫فما جعل اهلل لكم عليهم سبيال "‬

‫آيات تحث على الدفاع عن النفس ‪:‬‬ ‫تعتدوا ‪ ،‬إن اهلل‬

‫ال يحب المعتدين "‬

‫آيات تحث على القتال ‪:‬‬

‫" فان اعتزلوكم فلم يقاتلوكم و ألقوا عليكم السلم‬

‫"" و قاتلوا في سبيل اهلل الذين يقاتلونكم و ال‬


‫‪114‬‬

‫الكفار "‬

‫" يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من‬ ‫" قاتلوا الذين ال يؤمنون باهلل و ال باليوم األخر‬

‫و ال يحرمون ما حرم اهلل و رسوله و ال يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا‬

‫الجزية و هم صاغرون "‬

‫و لقد أدى هذا مثال إلى دفع قاضي البصرة عبيد اهلل بن الحسن إلى القول ‪:‬‬

‫" كل ما جاء في القرآن حق و يدل على اختالف ‪ ،‬فالقول بالقدر صحيح و له أصل في‬

‫الكتاب ‪ ،‬و القول بالجبر صحيح و له أصل في الكتاب و من قال بهذا فهو مصيب و من قال‬

‫بهذا فهو مصيب ألن اآلية الواحدة ربما دلت على وجهين مختلفين واحتملت معنيين متضادين‬

‫‪ ،‬و كل من سمى الزاني مؤمنا فقد أصاب و من سماه كاف ار فقد أصاب و من قال هو فاسق و‬

‫ليس بمؤمن و ال كافر فقد أصاب ألن القرآن قد دل على هذه المعاني … ( ‪) 6‬‬

‫و لقد روي عن علي بن أبي طالب أنه لما أرسل عبد اهلل بن العباس ليحاج بعض الخوارج‬

‫أوصاه بأال يعارضهم بالقرآن ألن القرآن حمال ذو وجوه و يحتمل معاني مختلفة ‪.‬‬

‫و رغم أن الواقع في حالة حركة مستمرة و الوقائع ال نهاية لها و رغم أن النصوص القرآنية‬

‫محدودة فإنها قادرة على استيعاب حركة الواقع بحكم قدرة اللغة القرآنية على التعميم و التجريد‬

‫‪.‬‬

‫أن استيعاب النصوص القرآنية لحركة الواقع و للوقائع الجديدة يستند إلى "دوال" إما في‬

‫بنية النص القرآني و إما في السياق التاريخي و االجتماعي الذي نزل فيه ‪ ،‬أي في أسباب‬

‫النزول ‪) 7 ( .‬‬

‫و قد أدرك عمر بن الخطاب حكمة التشريع الذي يعطي المؤلفة قلوبهم نصيبا من الزكاة من‬

‫بنية النص ذاته و من السياق العام للنص ‪ ،‬فأدرك أن حكمة هذا التأليف ‪ ،‬تقوية اإلسالم‬

‫الذي كان ضعيفا و في بدء نموه ‪ ،‬و مع قوة اإلسالم و سيطرته على الجزيرة العربية وامتداده‬

‫إلى ما وراءها ‪ ،‬لم يعد ثم حكمة في إعطاء جزء من الزكاة لمن ال يستحقها و كان المراد‬

‫كسب عدم عداءهم لإلسالم و المسلمين ‪ .‬و بنفس الفهم من جانب الخليفة عمر لحكمة‬

‫فرض حد قطع اليد في السرقة لم يقم هذا الحد عام المجاعة كما لم يقم هذا الحد على العبدين‬

‫الذين سرقا من سيدهما الذي كان يجيعهما ‪.‬‬

‫و بمناسبة ذكر حد السرقة فإننا نجد أن هذا الحد قد ورد في آية قرآنية صريحة بسيطة‬

‫اللفظ واضحة المعنى ‪ ".‬و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما جزاء ما كسبا نكال من اهلل ‪".‬‬

‫المائدة ‪ 38‬وال يجد في القرآن الكريم شروط لهذا الحد ‪ .‬و مع ذلك فإننا نجد الفقهاء‬


‫‪115‬‬

‫يختلفون فيما بينهم حول كل المسائل المتعلقة بهذا الحد ‪ .‬اختلفوا حول تعريف السرقة و‬

‫تعريف االختالس و مقدار ما يجب فيه قطع يد السارق ‪ .‬واختلفوا حول اليد إن قطعت فمن‬

‫أين تقطع ‪ ،‬واختلفوا حول السارق للمرة الثالثة والرابعة و الخامسة ‪ ،‬هل تقطع الرجل أم ماذا‬ ‫يفعل به ‪ .‬كما اختلفوا حول المبلغ المسروق الذي يقام في الحد ‪.‬‬

‫فكان أول ما بدئوا في زمن الفتوحات أن نسبوا إلى الرسول حديثا هو ‪ :‬ال تقطع األيدي في‬

‫الغزو " ثم مضوا وعددوا قيودا وشروطا ‪ ،‬ال قصد من وراءها غير التهرب من تطبيق الحد ‪،‬‬ ‫مثل ال قطع إال في ما سرق من حرز ‪ ،‬و ال قطع في االختالس الظاهر و ال قطع على‬

‫سارق األموال العامة ألن له فيها نصيبا ‪ ،‬و ال قطع على من أؤتمن على وديعة فخان و ال‬ ‫قطع على من سرق من حمام أو مسجد أو قبر ‪ ،‬و ال قطع على سارق الشجر و الزرع ‪ ،‬و‬

‫ال قطع لمن سرق اإلبل أو البقر أو الغنم أو الخيل أو البغال و الحمير و غيرها كثير وصلت‬

‫إلى أكثر من ثمانين حالة ‪ ) 8 ( .‬و كل ذلك ليس إال تهربا من االعتراف من أن الحد كما‬

‫هو وارد في اآلية قد قصد به التصدي لعالج شرور وثيقة الصلة بالمجتمع القائم ذلك الوقت‬ ‫في شبه جزيرة العرب ‪ ,‬و أن قيام الحد بقطع يد السارق أصبح غير صالح في مجتمع قد‬

‫تغيرت معالمه واختلفت ظروفه و مقوماته أشد االختالف عن أحوال المجتمع في زمن الرسول‬ ‫‪ .‬وأن المهم هو استنباط الحكمة المقصودة من نص اآلية ‪ .‬و من ذلك فانه من حق‬

‫المجتمعات الجديدة واألجيال التالية أن تطور األحكام على هدى روح اإلسالم و مقاصده ‪.‬‬

‫إن حكمة و مقاصد النصوص القرآنية ال يمكن أن تستنبط إال من خالل دراسة عالقة النص‬

‫القرآني بالواقع الذي نزل فيه ‪ ،‬كما أن القول بأن العبرة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب‬

‫أدى إلى إهدار حكمة التدرج بالتشريع في قضايا األحكام خاصة ما يتعلق بالحالل و الحرام و‬

‫هو أمر بالغ األهمية في جدلية العالقة بين النص و الواقع ‪ .‬إن التمسك بعموم اللفظ دون‬

‫مراعاة لخصوص السبب و الواقع الذي نزل النص فيه يمكن البعض كما مر معنا من التمسك‬

‫ببعض اآليات دون غيرها ‪ ،‬و يؤدي إلى خلق تعارضات بين اآليات القرآنية ‪ ،‬مما يخلق مأزقا‬

‫يصعب حله ‪ .‬و لقد حاول علماء الدين الخروج من هذا المأزق باالعتماد على" النسخ " ‪،‬‬

‫متناسون بأنه إذا كانت أسباب النزول تبين العالقة المتينة بين النصوص والواقع وارتباطها به‬ ‫‪ ،‬فان قضية الناسخ و المنسوخ تؤكد على هذا االرتباط و هو عامل مهم في المساعدة‬ ‫على استنباط حكمة النصوص الدينية و من ثم حكمة و مقاصد الشريعة اإلسالمية ‪.‬‬

‫لقد قسم علماء القرآن " الناسخ و المنسوخ " إلى ثالث أنماط ‪) 9 ( :‬‬ ‫‪ -1‬ما نسخ خطه و بقي حكمه ‪.‬‬


‫‪116‬‬

‫‪ -2‬ما نسخ حكمه و بقي خطه ‪.‬‬ ‫‪ -3‬ما نسخ خطه و حكمه ‪.‬‬

‫النمط األول و الثالث يفترضان حدوث تغير في النص القرآني بحذف بعض اآليات سواء بقي‬

‫حكمها أم لم يبق و هو افتراض له داللته الخطيرة ‪ .‬و من أمثال ذلك النسخ ما يورد عن‬

‫عائشة بالنسبة آلية التحريم بعشر رضعات فنسخن بخمس ‪ ،‬قالت عائشة ‪ :‬كان مما أنزل‬

‫عشر رضعات ملزمات فنسخن بخمس معلومات فتوفي رسول اهلل و هي مما يق أر في القرآن ‪".‬‬

‫رواه مسلم‬

‫و كذلك كنسخ الجلد في حق المحصنين بالرجم ‪ ،‬و الرجم غير متلو اآلن في القرآن‪ .‬و أخرج‬

‫أبي بن كعب قال ‪ :‬كانت سورة األحزاب توازي سورة النور فكان‬ ‫ابن حيان في صحيحه عن ّ‬ ‫فيها ‪ :‬والشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما ‪ ) 10 ( ".‬و لقد قال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا إسماعيل‬ ‫بن إبراهيم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال ‪ :‬ليقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله و ما‬

‫يدريه ما كله ‪ ،‬قد ذهب منه قرآن كثير ‪ .‬و عن ابن أبي مريم عن…‪..‬عن أبي األسود عن‬ ‫عروة بن الزبير عن عائشة قالت ‪ :‬كانت سورة األحزاب تق أر في زمن النبي مائتي آية فلما‬

‫كتب عثمان المصحف لم نقدر منها إال ما هو اآلن ‪) 11 ( .‬‬

‫و لقد أورد كل من الزركشي في كتابه البرهان في علوم القرآن و السيوطي في كتابه اإلتقان‬ ‫في علوم القرآن عدد من األمثلة ( ‪ ) 12‬التي تشير إلى إسقاط آيات من القرآن قبل وفاة‬

‫الرسول و بعد و فاته ‪ .‬فلقد ورد في الصحيحين عن أنس في قصة أصحاب‬

‫" بترمونة" الذين قتلوا و " فتت " يدعو على قاتلهم قال أنس ‪ :‬و نزل فيهم قرآن حتى رفع ‪":‬‬

‫أن بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا و أرضانا " و في المستدرك عن حذيفة أنه قال ‪:‬‬

‫ما تقرئون ربعها ‪ -‬يعني سورة براءة ‪ . -‬و قال الحسين بن المناري في كتابه الناسخ‬

‫والمنسوخ ‪ " :‬و مما رفع رسمه من القرآن و لم يرفع من القلوب حفظه سورتا الفتون في‬

‫الوتر و تسمى سورتي الخلع و الحفد ‪ .‬و عن أنس بن مالك أنه قال ‪ :‬كنا نق أر على عهد‬ ‫الرسول (ص)سورة تعدلها سورة التوبة ما أحفظ منها غير آية واحدة ‪) 13 ( ".‬‬

‫و يمكننا هنا إثارة سؤال في غاية األهمية ‪ :‬هل يمكن أن يفترض من هذه الروايات سقوط‬

‫بعض نصوص من القرآن من ذاكرة الصحابة رغم حرص الصحابة على التدوين والحفظ معا ؟‬ ‫! و هل يمكننا أن نقبل الموقف التبريري الذي يفترضه العلماء مثل قول أبو بكر الرازي ( كما‬

‫ورد في كتاب الزمكشري م س ) أن اهلل ينسيهم إياه و يرفعه من أوهامهم و يأمرهم باإلعراض‬

‫عن تالوته و كتبه في المصحف ‪ " .‬؟ أو كما روي عن عبد اهلل بن مسعود أنه قال ‪ :‬أقرأني‬


‫‪117‬‬

‫رسول اهلل (ص) آية فحفظتها و كتبتها في مصحفي ‪ ،‬فلما كان الليل رجعت إلى مصحفي فلم‬

‫أرجع منها بشيء و غدوت على مصحفي فإذا الورقة بيضاء فأخبرت (ص) فقال لي ‪ :‬يا‬

‫ابن مسعود تلك رفعت البارحة ‪) 14 ( .‬‬

‫هذا و إذا كان نسخ خط بعض اآليات ممكنا زمن الرسول و يمكن تعليله و قبوله ‪ ،‬فكيف‬

‫نستطيع أن نفهم و أن نقبل وأن نعلل تعليال منطقيا نسخ آيات قرآنية بعد و فاته؟ أما النوع‬

‫الثاني من النسخ الذي ال يتضمن إلغاء النصوص ‪ ،‬وانما يكتفي بتعليق أو نسخ أحكامها ‪،‬‬

‫فلقد اختلف العلماء فيه ‪ .‬فمنهم من قال ليس في القرآن ناسخ و ال منسوخ و أن القرآن كالم‬

‫اهلل و ليس فيه من منسوخ ‪ ،‬و هؤالء هم األقلية ‪ .‬أما األكثرية فلقد قالت بالنسخ ‪ .‬و لقد‬

‫اختلف هؤالء في ذلك أيضا فلقد قال البعض في نسخ بعض اآليات في حين آخرون قالوا في‬

‫عدم النسخ ‪ .‬و لقد نسخ البعض جزء من اآلية فيما نسخ اآلخرون اآلية بكاملها ‪ .‬كما‬

‫اختلفوا في الناسخ فبعضهم قال الناسخ آية أو مجموعة من اآليات في حين قال اآلخرون‬

‫الناسخ آية أخرى ‪ .‬كما نسخ البعض القرآن بالسنة كما رفض اآلخرون نسخ القرآن بالسنة‬

‫واعتبروا أن القرآن ال ينسخ إال بالقرآن ‪.‬‬

‫فمثال اختلف العلماء في اآلية ‪ 30‬من سورة البقرة " و مما رزقناهم ينفقون " فقالت طائفة‬

‫منهم هي الزكاة المفروضة ‪ ،‬و قالت جماعة كل ما فضل عن الزكاة نسخته اآلية المفروضة‬

‫و قال آخرون نسخت الزكاة المفروضة كل زكاة في القرآن ‪ .‬و كذلك في قوله تعالى في اآلية‬

‫‪ 62‬من سورة البقرة " الذين آمنوا و الذين هادوا " فالبعض قال ‪ :‬أن الذين آمنوا هم من‬

‫آمن من الذين هادوا و النصارى الخ و قال آخرون هي منسوخة و ناسخها عندهم " من يبتغ‬

‫غير اإلسالم دينا الخ اآلية " ‪.‬‬

‫و قوله عز وجل في سورة البقرة أيضا اآلية ‪ " 109‬فاعفوا واصفحوا " نسخ بعض العلماء ما‬ ‫جاء فيها من العفو و الصفح بقوله تعالى ‪ ":‬الذين ال يؤمنون باهلل وباليوم اآلخر " إلى قوله‬

‫تعالى " حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون "واعتبروا باقي اآلية محكمة ‪ .‬و كذلك‬

‫نسخوا من اآلية ‪ 115‬من سورة البقرة قوله عز و جل " وأينما تولوا فثم وجه اهلل " و نسخوها‬ ‫بقوله تعالى " و حيثما كنتم فولوا وجهكم شطره ‪ ".‬واعتبروا بقية اآلية من المحكم ‪ .‬و لقد‬

‫اعتبر بعض العلماء نصف اآلية ‪ 184‬من سورة البقرة منسوخ و نصفها اآلخر محكم‬

‫واعتبروا ناسخها قوله تعالى ‪ " :‬فمن شهد منكم الشهر فليصمه ‪ ".‬كما اختلفوا في أحكام اآلية‬

‫‪ 221‬من سورة البقرة " و ال تنكحوا المشركات حتى يؤمن إلى آخر اآلية " فبعضهم قال أن‬

‫بعض أحكامها نسخت باآلية الخامسة من سورة المائدة ‪ "،‬اليوم أحل لكم الطيبات " إلى قوله‬

‫تعالى " والمحصنات من المؤمنات و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب إلى آخر اآلية "" و‬


‫‪118‬‬

‫البعض اآلخر و على رأسهم عبد اهلل بن عمر قال أن اآلية ‪ 221‬المذكورة من سورة البقرة‬ ‫محكمة واآلية الخامسة من سورة المائدة منسوخة ‪.‬‬

‫و هم اختلفوا في الناسخ مثل قوله تعالى في اآلية ‪ 178‬من سورة البقرة " يا أيها الذين آمنوا‬

‫كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد الخ اآلية " فبعضهم قال ناسخها‬

‫اآلية التي في سورة المائدة " و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس " و قال آخرون ناسخها‬

‫اآلية التي في بني إسرائيل و هي قوله تعالى " و من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا …‬

‫الخ اآلية "‬

‫و نسخوا بعض اآليات أو جزءا منها بالسنة النبوية كاآلية ‪ 173‬من سورة البقرة " إنما حرمت‬

‫عليكم الميتة والدم و لحم الخنزير … الخ اآلية " و لقد نسخوا بعضا منها بقوله (ص) ‪:‬‬ ‫أحلت لنا ميتتان و دمان السمك و الجراد والكبد و الطحال ‪ ".‬و هذا جميعه أمثلة من‬

‫الناسخ والمنسوخ في سورة البقرة ‪ .‬و مثل ذلك كثير ال مجا لحصره هنا ‪) 15 (.‬‬

‫إن الظروف التاريخية و االجتماعية التي استدعت إطالق األوامر المتضمنة في اآليات‬

‫أسباب النزول ‪ -‬أو نسخها وابدالها بغيرها تؤكد على العالقة الوثيقة بين النص والواقع‬

‫المخاطب ‪ .‬وان اإلصرار على حذف الصبغة التاريخية عنها يجعلها تتجاوز الواقع و تبتعد عنه‬ ‫وتتعالى عليه ‪ .‬و مثال ذلك ما ورد في كتب التراث ‪ :‬بأن نسخ األمر بحالة السالم مع الكفار‬ ‫قد سبق هنا األمر بقتالهم ‪ .‬فاألمر بالعيش معهم في سالم وارد في مائة وأربع عشرة آية‬

‫موزعة على أربع و خمسين سورة ‪ ،‬و لكن كل هذه اآليات منسوخة من قبل اآلية الخامسة‬

‫من سورة المائدة واآلية مائة و ستة عشرة من سورة البقرة التي تقول ‪ ":‬كتب عليكم القتال "‬

‫‪) 16 (.‬‬

‫و هكذا و بجرة قلم جرى شطب مائة وأربعة عشرة آية بآية أو آيتين ‪ ،‬وأهدر البعد التاريخي‬

‫للنص وارتباطه بأسباب النزول و بالواقع المخاطب ‪ .‬فبدون دراسة مستفيضة للظروف‬

‫السياسية التي قامت فيها دولة الرسول ( ص) في يثرب ‪ ،‬و دراسة الصراعات و التحالفات‬

‫المتغيرة التي خاضها الرسول في تلك الفترة ‪ ،‬ال نستطيع أن نفهم مقاصد اآليات الكريمة‬

‫الداعية للسلم تارة والحرب تارة أخرى مع المشركين ‪ -‬قريش و حلفاءها ‪ -‬وأهل الكتاب ‪-‬‬

‫القبائل اليهودية التي كانت موجودة في يثرب وكانت جزءا أساسيا في الصراعات و التحالفات‬

‫‪.‬‬

‫فقبيلة خزاعة العربية مثال ‪ ،‬كانت بمسلميها و مشركيها حليفة للرسول ضد مشركي قريش ‪،‬‬

‫و كانت عينا للرسول تنقل له األخبار عن تحركات مشركي قريش و‬ ‫تحالفاتهم ‪) 17 ( .‬‬


‫‪119‬‬

‫و لقد حالف الرسول ( ص ) في بداية األمر يهود يثرب و حاول استمالتهم و التقرب‬

‫إليهم ‪ ،‬ففرض على أتباعه صوم يوم الغفران اليهودي ‪ ،‬كما صلى الرسول وأتباعه وجهة‬

‫اليهود في الصالة نحو القدس ‪ ،‬ولقد نزلت آيات الوحي تمجد أنبياء بني إسرائيل و تمجد‬

‫التوراة ككتاب سماوي ‪ ( :‬إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور ) المائدة ‪ 44‬و ( كيف يحكمونك‬ ‫و عندهم التوراة فيها حكم اهلل ) المائدة ‪ 43‬و ( إن الذين آمنوا و الذين هادوا و النصارى و‬ ‫الصابئين ‪ ،‬من آمن باهلل واليوم اآلخر ال خوف عليهم و ال هم يحزنون ) البقرة‪62‬‬

‫و لكن اليهود تمسكوا بدينهم و رفضوا االعتراف بسيادة الرسول ‪ ،‬و كان ال بد لدولة النبي‬

‫الفتية في يثرب و خاصة بعد معركة " أحد " أن تسعى النضواء هؤالء لسلطة الدولة لتأمين‬

‫الجبهة الداخلية ‪ ،‬فكان أن عقدت في بادئ األمر صحيفة " المعاقل " و أعقبها إلغاء الصوم‬

‫اليهودي مع تقرير صوم رمضان العربي إلى جانب تحويل القبلة إلى كعبة مكة و تقديس يوم‬

‫الجمعة ‪ -‬يوم العروبة ‪.‬‬

‫ثم تطورت األحداث ولم تعد صحيفة " المعاقل " بكافية وال بقادرة على مواكبة األحداث و كان‬

‫ال بد من انضواء اليهود الكامل السياسي و العقائدي تحت لواء دولة النبي ( ص ) في يثرب‬

‫أو إجالئهم منها ‪ .‬فحدثت غزوة قينقاع و كان يهود قينقاع حلفاء لعبد اهلل بن أبي بن سلول‬

‫‪ ،‬الذي تدخل لدى النبي (ص) حتى ال يذبحوا ‪ ،‬فألغى النبي األمر بقتلهم شريطة جالئهم من‬

‫المدينة خالل ثالثة أيام ‪ .‬و لقد غادروا يثرب بل الجزيرة كلها إلى الشام ‪ . ) 18 ( .‬و لقد‬

‫عقبت اآليات الكريمة على موقف ابن سلول بقولها ‪ ( :‬يا أيها الذين آمنوا ال تتخذوا اليهود‬ ‫والنصارى أولياء ‪ ،‬بعضهم أولياء بعض ‪ ،‬و من يتولهم منكم فأنه منهم ‪ ،‬إن اهلل ال يهدي‬

‫القوم الظالمين ‪ ).‬المائدة ‪51‬‬

‫و تتابع مسلسل تطهير الدولة الفتية من البؤر اليهودية المعارضة فغ از النبي (ص) يهود بني‬

‫النضير و حصرهم في حصونهم ‪ ،‬وانتهى الحصار بأن خرجت بنو النضير من ديارها ذليلة‬

‫مهانة ‪ ،‬و قد نزل بعضهم على يهود خيبر بينما استمر باقي الركب ليستقر في فلسطين ‪ .‬و‬

‫فيهم نزلت اآلية الكريمة ‪ ( ،‬هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم ألول‬

‫الحشر ما ظننتم أن يخرجوا أو ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من اهلل فأتاهم اهلل من حيث لم‬

‫يحتسبوا و قذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي‬

‫األلباب ‪ ).‬الحشر ‪4-1‬‬

‫أما قبيلة قريظة اليهودية ‪ ،‬و حتى ال يكون مصيرها مصير قينقاع و نضير فلقد التزمت ببنود‬

‫صحيفة المعاقل و أمدت المسلمين بآالت الحفر و نقل األتربة أثناء حفر الخندق حول المدينة‬

‫لصد هجوم قريش واألحزاب في الموقعة المسماة بموقعة الخندق ‪) 19 (.‬‬


‫‪120‬‬

‫و لقد أحاط الخندق بالمدينة تماما إال جبل" سلع " بالخلف و كان بذاته مانعا طبيعيا قويا ‪ ،‬ثم‬ ‫حصن بني قريظة المتين ‪ .‬و هنا كانت نقطة الضعف التي أدركها الرسول (ص)‬

‫فكان يكفي أن تفتح قريظة أبواب حصنها حتى تدخل جيوش قريش واألحزاب إلى المدينة ‪ .‬و‬

‫لقد حاولت قريش و حلفائها فعال التفاوض مع قريظة على فتح أبواب الحصن ‪ ،‬ولكن يظهر‬

‫أنهم فشلوا في ذلك بدليل أن قريش واألحزاب قد فشلت في اقتحام المدينة واضطرت إلى العودة‬ ‫‪ .‬هذا مع أن كتب السيرة تقرر أن قريظة قد نقضت العهد ‪ .‬و سواء حدث هذا أم لم يحدث‬

‫فأنه ما عاد من الممكن السكوت على مثل هذا الموقف الحساس ‪ ،‬و هو أن قريظة و حصنها‬

‫نقطة ضعف في أمن المدينة و أنه كان ال بد من تطهير المدينة تطهي ار كامال من العنصر‬

‫اليهودي الرافض لسيادة النبي و دولته الفتية و الذي ما عاد يؤتمن إليه ‪ .‬و هكذا حدث ‪،‬‬ ‫فقام النبي ( ص ) بغزو بني قريظة فقتل من قتل وأسر من أسر و تطهرت المدينة تطهي ار‬

‫كامال من العنصر اليهودي‪ ‬و نزلت اآليات الكريمة تصف ارتداد المشركين وأتباعهم من‬

‫اليهود بإيجاز ‪ ( :‬و رد اهلل الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خي ار و كفى اهلل المؤمنين القتال و‬

‫كان اهلل قويا عزي از ‪ .‬و أنزل الذين ظاهروهم من اهل الكتاب من صياصيهم و قذف في قلوبهم‬

‫الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا ‪.‬وأورثكم أرضهم و ديارهم وأموالهم وأرضا لم تطأوها و‬ ‫كان اهلل على كل شئ قدي ار ‪ (.‬األحزاب ‪27-25‬‬

‫و هكذا فإننا نجد أن الوحي كان يتابع الحوادث و يعطي حكمه فيها و يتغير حكمه بتغير‬

‫الواقع المخاطب ‪ ،‬وتتغير لهجته بتغير الواقع على األرض‪ .‬و بدون دراسة وتتبع لتلك‬

‫الحوادث والوقائع التي كانت أسبابا لنزول تلك اآليات فأنه من الصعب فهم مقاصد تلك اآليات‬ ‫و قد نقع في ما وقع فيه القائل بأن مائة وأربعة عشرة آية نسخت بآيتين ‪ .‬أو يظهر لنا‬

‫وكأن هناك تناقض بين اآليات ‪.‬‬

‫لقد قال معظم علماء القرآن بالنسخ في اآليات القرآنية ‪ .‬و لقد قال البعض وهم القلة بأن‬

‫القرآن كالم اهلل وأنه ال نسخ في كالم اهلل ‪ .‬و لقد اعتبر القائلون بالنسخ أن كل من ال يقول‬ ‫به قد كفر ‪.‬‬

‫يقول نيازي عز الدين في كتابه دين السلطان ‪ :‬أنه ليس في القرآن نسخ وانما هناك إنساء‬

‫فقط ‪ .‬فالنسخ هو اإللغاء مع اإل زالة للنص من القرآن أو من الكتاب ‪ ،‬و هذا حصل في قصة‬ ‫الغرانيق ‪ ،‬حيث ألقى الشيطان نتيجة لتمني الرسول (ص) أال ينزل اهلل تعالى في ذلك اليوم ما‬

‫يغضب قومه قريش ألنه كان يطمع بإسالم بعض وجهاءهم ‪ ،‬فألقى الشيطان في أمنية‬

‫الرسول و في ذهنه بعض الكلمات فاعتقد أنها من الوحي ‪ ،‬و كانت كما يلي ‪:‬‬


‫‪121‬‬

‫" أفرأيتم الالت و العزى ‪ ،‬تلك الغرانيق العال وان شفاعتهم لترجى ‪ " .‬فسر القرشيون من‬

‫المشركين و سجدوا مع رسول اهلل في الصالة ‪ .‬و لكن بعد فترة نزل جبريل و عاتب الرسول و‬

‫صحح اآلية ناسخا ما ألقى الشيطان ‪ ،‬فعادت اآلية بعد النسخ و اإل زالة ‪:‬‬

‫" أفرأيتم الالت و العزى و مناة الثالثة األخرى ألكم الذكر وله األنثى ‪ ".‬و أنزل اهلل تعالى اآلية‬ ‫التالية لتشرح الذي حصل " و ما أرسلنا من قبلك من رسول و ال نبي إال إذا تمنى ألقى‬

‫الشيطان في أمنيته فينسخ اهلل ما يلقي الشيطان ثم يحكم اهلل آياته و اهلل عليم حكيم ‪ .‬ليجعل‬

‫ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض و القاسية قلوبهم وأن الظالمين لفي شقاء بعيد‬

‫إلى آخر اآليات ‪ " .‬الحج ‪ ( . " 55-52‬راجع صحيح البخاري رقم ‪، 4863 ، 4862‬‬ ‫وكذلك تاريخ الطبري ‪ ،‬وأسباب النزول للواحدي ‪).‬‬

‫أما اإلنساء فقد جعله اهلل تعالى رحمة للناس من عامة المؤمنين من أجل تعليمهم أسلوب‬ ‫تعديل أحكام الشرع للمسلمين متمشيا مع تطور األعراف و عقليات الناس و تغير الزمان‬ ‫والمكان ‪ .‬و اهلل سبحانه لم يرسل رسالته القرآنية أصال إال لتخليص الناس من الظلم و‬

‫الظالمين و ليكون رحمة للعالمين ‪ ،‬و ليدلنا على طريق الخير و الفالح ‪ .‬و هذا ال يمكن‬

‫تحقيقه في عالم كل شيء فيه يتغير من لحظة إلى أخرى إال بوجود دستور قابل للتعديل و‬

‫قوانين قابلة للتعديل ‪ ،‬مع مرور الوقت و اختالف المكان و الزمان و األعراف مع متطلبات‬

‫التطور اإلنساني ( ‪) 20‬‬

‫يقول الدكتور محمد عابد الجابري ‪ :‬من أجل تحقيق الحد األدنى من الموضوعية في دراسة‬

‫التراث ‪ ،‬يجب التحرر من الفهم الذي تؤسسه المسبقات التراثية أو الرغبات الحاضرة ‪ ،‬هذا إلى‬ ‫جانب ربط فكر صاحب النص الذي أعيد تنظيمه حين المعالجة البنيوية بمجاله التاريخي بكل‬

‫أبعاده الثقافية و السياسية و االجتماعية ‪) 21 ( .‬‬

‫و يضرب الجابري مثال على ربط مفهوم النص بمجاله التاريخي ‪ ،‬نصيب البنت من اإلرث في‬ ‫اإلسالم و هو الثلث كما تبين من قوله تعالى ( و للذكر مثل حظ األنثيين ) و يقول ‪ :‬كيف‬ ‫نق أر هذا الحكم قراءة تجعله معاص ار لنفسه و معاص ار لنا في نفس الوقت ‪.‬؟‬

‫يجيب الجابري على تساؤله بقوله ‪ :‬لكي نجعل هذا الحكم معاص ار لنفسه يجب أن تقرأه في‬ ‫محيطه االجتماعي الخاص ‪ .‬المجتمع الذي نزل فيه اإلسالم و كان ذا بنية قبلية كما هو‬

‫معروف ‪ ،‬وأن توريث البنت قد يؤدي إلى اإلخالل بالتوازن على المستوى االقتصادي خصوصا‬

‫مع تعدد الزوجات و هو شيء كان معموال به بكثرة في المجتمع العربي قبل اإلسالم ‪ .‬إذ قد‬

‫يرث الرجل عن طريق زوجاته من قبائل متعددة مما يؤدي إلى تركيز الثروة لديه داخل القبيلة‬

‫أو تركيزها في قبيلته على حساب قبيلة أخرى ‪ ،‬فضال عن ما قد ينشأ من ذلك من منازعات و‬


‫‪122‬‬

‫مشاكل في مجتمع ال دولة و القانون ‪ .‬فلقد كان حرمان البنت من اإلرث تدبي ار يفرضه المحيط‬

‫االجتماعي ‪.‬‬

‫و يتابع الجابري قوله ‪ :‬و عندما جاء اإلسالم ‪ ،‬و كان يمثل زمن نزول القرآن التشريعي في‬

‫المدينة ‪ ،‬مرحلة االنتقال من مجتمع الجاهلية إلى مجتمع الدولة ‪ ،‬أقر نوعا من الحل الوسط‬

‫يتناسب مع المرحلة الجديدة ‪ .‬و هكذا فبدال من حرمان البنت من اإلرث جملة منحها الثلث و‬

‫أضاف إلى ذلك تدبي ار بضم نوعا من التوازن بأن جعل نفقتها على‬

‫زوجها ‪ .‬و هكذا استطعنا أن ندرك بسهولة كيف أن توريث البنت الثلث فقط يجد تبريره و‬

‫مصداقيته في المجتمع اإلسالمي الناشئ و هو بذلك يستجيب لمتطلبات المجتمع الذي خاطبه‬

‫أول مرة ‪) 22 (.‬‬

‫و الحقيقة أن التراث اإلسالمي مليء باألمثلة على العالقة الوثيقة بين النصوص القرآنية و‬

‫الواقع المخاطب ‪ .‬فشرب الخمرة مثال لم يجري تحريمه دفعة واحدة وانما على درجات ‪ .‬ففي‬

‫بداية اإلسالم كان أغلب المسلمين يشربون الخمرة و كان شرب الخمرة من العادات‬

‫المستحكمة عند أغلب الناس منذ الجاهلية ‪ .‬و الحكمة اإللهية رأت‪ -‬على ما نظن ‪ -‬أنه‬ ‫يصعب على الناس ترك تلك العادة المستحكمة بسهولة و دفعة واحدة و لذلك و في صدر‬

‫اإلسالم اكتفى سبحانه بإنزال اآلية ‪ 43‬من سورة النساء " ال تقربوا الصالة وأنتم سكارى حتى‬

‫تعلموا ما تقولون " و كان منادي الرسول (ص) إذا أقام الصالة ينادي ال يقربن الصالة سكران‬

‫‪) 23( .‬‬

‫ثم أن أشياء كانت تحدث لرسول اهلل (ص) ألسباب شرب الخمرة قبل تحريمها ‪ ،‬منها قصة‬

‫علي بن أبي طالب مع حمزة عم النبي ‪ ،‬حيث أن حمزة قد وثب على ناقتي علي بن أبي طالب‬ ‫و هو ثمل و جب أسنمتها و بقر خواصرها وأخذ من أكبادها ‪ .‬فدخل علي بن أبي طالب على‬

‫النبي يشكو حمزة ‪ ،‬فسار النبي إلى حمزة فوجده ثمال محمرة عيناه فالمه على ما فعل ‪ .‬فنظر‬ ‫حمزة إلى الرسول (ص) و قال ‪ :‬و هل أنتم إال عبيد أبي ‪ ،‬فعرف رسول اهلل أن حمزة ثمل ‪،‬‬

‫فنكص على عقبيه القهقرى ‪ ،‬و كانت هذه القصة من األسباب الموجبة لنزول تحريم الخمر ‪(.‬‬ ‫‪ ) 20‬حيث نزلت اآلية‪ ( ‬إنما الخمر و الميسر و األنصاب و األ زالم رجس من عمل‬

‫الشيطان فاجتنبوه ) المائدة ‪) 24 ( 90‬‬

‫ثم هناك قضية الرق و ما" ملكت أيمانكم " و غيرها ‪ ،‬تؤكد على ارتباط النصوص القرآنية‬ ‫بالواقع المخاطب ‪ ،‬حيث كان للرق و لما " ملكت أيمانكم " مبررات تاريخية اقتصادية‬

‫واجتماعية رأت الحكمة اإللهية التعامل معها بدبلوماسية و حرص ‪ .‬ولم يعد اليوم لذلك أي‬

‫مبرر بعد أن تغيرت الظروف االجتماعية والسياسية والعالقات االقتصادية ‪ .‬إن العالقة الجدلية‬


‫‪123‬‬

‫بين النصوص والواقع تتضح أيضا من خالل الفروقات التعبيرية التي نلحظها بين السور‬

‫المكية والمدنية و بين نص تشريعي ونص لتوحيد الخالق وتمجيده والتسبيح باسمه وبين‬

‫حكاية قصصية واستطراد إرشادي ‪.‬‬

‫يقول الدكتور العشماوي بأن " أحكام الشريعة نزلت على أسباب و نتيجة لوقائع حدثت‬

‫واقتضت أحكاما لحلها ‪ ،‬لذلك فان التطبيق السليم ألحكام الشريعة يعني ربط الحكم بواقعه و‬

‫تفسير القواعد على األسباب التي نزلت من أجلها ……‪ .‬فبعض آيات القرآن نسخ بعضها‬

‫اآلخر ‪ ،‬و كان ذلك من باب التطبيق السليم للمنهج الذي ال يقف عند نص محدد و ال يتشبث‬

‫بحكم خاص و ال يتجمد حول قاعدة ثابتة ‪ ،‬و إنما يتقدم على المصالح و يراعي تجدد الوقائع‬

‫فينقل الناس من حكم إلى حكم أصلح ‪،‬فيواكب بذلك ركب الحياة و يواجه أي حادث جديد و‬

‫يالئم كل واقع مبتكر ‪) 25 ( .‬‬

‫و يتابع بأن " شريعة محمد عليه الصالة و السالم هي الرحمة ‪ ،‬و شريعة الرحمة ‪ :‬أن‬

‫تبني األحكام على الوقائع وأن تتغير كلما تغيرت الوقائع ‪ .‬واآلراء و األحكام و التفاسير و‬

‫االجتهادات إنما تقوم على ظروف العصر و أحوال المجتمعات و طبائع الناس و تتغير كلما‬ ‫تغيرت الظروف أو تبدلت األحوال أو اختلفت الطبائع ‪.‬‬

‫" إن التحديد بين أحكام الشريعة و أراء المجتهدين و تفاسير المفسرين و شروح الشراح و‬

‫أحكام القضاء أمر ضروري ‪ ،‬حتى ال يحدث الخلط بينهما فيدعي المجتهد أو يزعم المفسر أو‬ ‫يقول الشارح أو يرى القاضي أن ما صدر عنه من حكم هو الشريعة ‪ .‬فالصحيح أن كل‬

‫اجتهاد أو تفسير أو شرح أو حكم هو من أفعال الناس قابل للخطأ و الصواب ليس معصوما و‬ ‫ال هو مقدس ‪ )26 ( ".‬و " يؤدي الفهم الخاطئ إلى إضفاء هاالت من التقدير الزائد و‬

‫التقديس الخاطئ على اجتهادات و تفاسير و شروح وأراء كانت وليدة ظروفها و نتيجة ثقافتها‬ ‫و رهينة و قائع عايشتها و أسيرة أحداث حددت تقديرها ‪) 27 ( ".‬‬

‫يعترف بعض رموز الخطاب الديني اإلسالمي المعاصر أحيانا بأن النصوص قابلة لتجدد الفهم‬ ‫واختالف االجتهادات في الزمان و المكان‪ ،‬فنجد سيد قطب في كتابه معالم الطريق يقول ‪ :‬و‬

‫الذين يسوقون النصوص القرآنية لالستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد و ال‬ ‫يراعون هذه السمة فيه ال يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج ‪ ،‬و عالقة‬

‫النصوص المختلفة بكل مرحلة منها ‪ .‬الذين يصنعون هذا يخلطون خلطا شديدا و يلبسون‬

‫هذا المنهج لبسا مضلال و يحملون النصوص ما ال تحتمله من المبادئ و القواعد النهائية ‪،‬‬

‫ذلك أنهم يعتبرون كل نص كما لو كان نصا نهائيا ‪ ،‬و يمثل القواعد النهائية لهذا الدين ‪( .‬‬ ‫‪) 28‬‬


‫‪124‬‬

‫و لكن هذا الفهم لعالقة النصوص الدينية بالوقائع التاريخية المخاطبة و من ثم نفي‬

‫" األحكام النهائية " عن القواعد التي تقررها سرعان ما يتراجع عند رموز الخطاب الديني أمام‬

‫القول التقليدي بأنه" ال اجتهاد مع وجود النص " ‪ .‬و المقصود هنا طبعا هو مفهوم الخطاب‬ ‫الديني للنص ‪ ،‬المفهوم المتعالي عن الواقع والمغترب عنه ‪ .‬مفهوم فريق من األمة أعطى‬

‫لنفسه الحق بان يكون هو األمة والناطق الرسمي باسم النص ‪ ،‬و بذلك حول البشري إلى‬

‫مقدس ‪ ،‬و حول سلطة البشري إلى سلطة المقدس ‪ .‬و من ثم مد سلطته على كل مجاالت‬ ‫الحياة السياسية واالجتماعية و الثقافية ‪ ،‬فسجن العقل و تحجر فكر األمة و ترسخ التأخر‬

‫حتى أصبح العرب و المسلمون يقفون على الدرجات الدنيا من سلَم الحضارة و التقدم و الرقي‬

‫‪.‬‬

‫إن إهدار البعد التاريخي للنص الديني واهدار العالقة الوثيقة بين النص الديني و الواقع‬

‫المخاطب ‪ ،‬يعني االنفصال عن الواقع والتعالي عليه و العودة العمياء إلى الماضي ‪ ،‬باعتبار‬ ‫أن كل شيء قد تم اكتشافه من قبل أسالفنا في الماضي و ما علينا إال البحث في ما قاله‬

‫السلف لكي نجد الحلول لمشاكلنا العصرية ‪ .‬هذا من جهة ‪ ،‬ومن جهة أخرى يؤدي ذلك إلى‬ ‫خلق التناقضات داخل النص ال يمكن حلها و تدفع كل فئة إلى التمسك ببعض النصوص دون‬ ‫غيرها لدعم موقفها الفكري والسياسي كما حصل في الماضي ‪ .‬هذا الماضي الذي يقدم إلينا‬

‫على أنه صفحة ناصعة البياض في كل مرحلة من مراحله ‪ .‬متناسين أن هذا الماضي يضم‬ ‫أيضا ‪ ،‬قتال الصحابة للصحابة وأحداث الفتنة الكبرى و موقعة الجمل و موقعة كربالء و‬

‫موقعة الحرة و مذابح الحجاج و ضرب الكعبة بالمنجنيق من قبل خلفاء مسلمين واستباحة‬

‫دماء وأموال وأعراض المسلمين من قبل جيوش الخلفاء المسلمين ومالحقة أهل بيت النبي و‬ ‫ذبحهم الواحد تلو األخر و غيره من حوادث الفتن والصراع على السلطة والحكم ‪.‬‬


‫‪125‬‬

‫مراجع الفصل الخامس‬ ‫‪ -1‬د‪ /‬نصر حامد أبو زيد ‪ -‬مفهوم النص ‪ ،‬دراسة في علوم القرآن ‪ -‬المركز الثقافي العربي‬

‫‪ ، 1994 ،‬ص ‪56 :‬‬

‫‪ -2‬المصدر السابق ‪ -‬ص ‪27-26 :‬‬

‫‪ -3‬د‪ /‬حسن حنفي من العقيدة إلى الثورة – م س ‪ -‬ج ‪ 1‬ص ‪88 :‬‬ ‫‪ -4‬عباس متولي حماده ‪ -‬أصول الفقه ‪ -‬ط ‪ 2‬ص ‪62 :‬‬ ‫‪ -5‬اإلمام الشاطبي ‪ -‬الموافقات ‪ -‬ج ‪ 3‬ص‪352 ،348 :‬‬

‫‪ -6‬أبن قتيبه ‪ -‬تأويل مختلف الحديث ‪ -‬مطبعة كردستان العلمية‪-‬مصر ‪1326‬ه ص ‪:‬‬ ‫‪57-55‬‬

‫‪ -7‬د‪ /‬نصر حامد أبو زيد ‪ -‬المصدر السابق‬

‫‪ -8‬أبو بكر جابر الجزائري ‪ -‬منهاج المسلم – ( الغالف الخارجي ) دار الفكر العربي(‬

‫الداخلي) دار نهر النيل بدون مكان و زمان النشر ‪ ،‬ص ‪527-524 :‬‬

‫راجع كذلك الزمخشري ‪ -‬الكشاف ‪ ،‬دار الكتب العلمية بيروت ‪ 1995‬ضبط و تصحيح‬

‫محمد عبد السالم شاهين ج ‪ 1‬ص ‪619 :‬‬

‫‪ -9‬األمام أبي القاسم هبة اهلل ‪ -‬الناسخ والمنسوخ ‪ -‬على هامش كتاب ‪ ،‬أسباب النزول‬

‫للنيسبوري دار المعرفة‪ -‬بيروت ص ‪10 :‬‬

‫‪ -10‬الزركشي ‪ -‬البرهان في علوم القرآن –دار المعرفة بيروت ‪ 1977-‬ج ‪ 2‬ص ‪41 :‬‬

‫‪ -11‬السيوطي ‪ -‬اإلتقان في علوم القرآن – المكتبة الثقافية بيروت –‪ – 1973‬وبهامشه‬ ‫الباقالني‪ ،‬إعجاز القرآن‪ -‬ج ‪ 2‬ص ‪26-25 :‬‬

‫‪ -12‬الزركشي ‪ -‬م س ‪ -‬ص ‪37-36 :‬‬ ‫كذلك السيوطي – المصدر السابق‬

‫‪ -13‬اإلمام أبي القاسم ‪ -‬م س ‪ -‬ص ‪10 :‬‬ ‫‪ -14‬المصدر السابق ‪ -‬ص ‪12-11 :‬‬ ‫‪ -15‬المصدر السابق ‪ -‬ص‪102 -3 :‬‬

‫‪-16‬السيوطي جالل الدين –م س ‪ 0 -‬ج ‪ 2‬ص ‪24 :‬‬

‫‪-17‬ابن كثير ‪ ،‬البداية والنهاية ‪ ،‬م س ‪ ،‬ج ‪ 4‬ص ‪52-50 :‬‬ ‫‪ -18‬الحلبي ‪ -‬السيرة ‪ - ،‬م س ‪ -‬ج ‪ 2‬ص ‪478 :‬‬ ‫‪ 19‬الحلبي ‪ -‬السيرة ‪ ،‬م س ‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪632 :‬‬


‫‪126‬‬

‫‪ -20‬نيازي عز الدين ‪ -‬دين السلطان ‪ -‬م س ‪-‬ص ‪650-629 :‬‬

‫‪ --21‬د ‪ /‬محمد عابد الجابري ‪ -‬التراث و الحداثة – مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بيروت‬ ‫‪ - 1991‬ص ‪42 :‬‬

‫‪ -22‬المصدر السابق ‪-‬ص ‪56-54 :‬‬

‫‪ -23‬الواحدي النيسابوري ‪ -‬أسباب النزول ‪ ،‬المكتبة الثقافية ‪ ،‬بيروت بدون تاريخ ص‪:‬‬ ‫‪118‬‬ ‫‪ -24‬المصدر السابق ‪ -‬ص ‪119-118 :‬‬

‫‪ 25‬العشماوي محمد سعيد ‪ -‬جوهر اإلسالم ‪ ،‬سينا للنشر ‪،‬القاهرة ‪ - 1992‬ص ‪25-24 :‬‬

‫‪ -26‬المصدر السابق ‪ -‬ص ‪33-32 :‬‬ ‫‪ -27‬المصدر السابق ‪ -‬ص ‪39 :‬‬

‫‪ -28‬سيد قطب ‪ -‬معالم الطريق – م س ‪ -‬ص ‪57 :‬‬


‫‪127‬‬

‫الفصل السادس‬ ‫المرأة في الخطاب الديني‬ ‫لقد صدف أن كنت في فلسطين أثناء الحملة االنتخابية لرئاسة السلطة‬

‫الفلسطينية ‪ .‬و لقد قامت السيدة سميحة الخليل بترشيح نفسها لرآسة السلطة الفلسطينية‬ ‫منافسة بذلك السيد ياسر عرفات ‪ .‬و لقد كان حديث االنتخابات يطغى على كل المجالس‬

‫والمجتمعات الفلسطينية ‪ .‬وأذكر أننا كنا في مجلس عائلي عندما بدأ الحديث عن االنتخابات‬

‫والمرشحين فسألت بعض األخوات الجالسات إن كن سينتخبن السيدة سميحة الخليل بوصفها‬

‫امرأة ‪ ،‬و كنت أتوقع دعم النساء لزميلتهن ‪ .‬و لقد فوجئت عندما كان الجواب بالنفي وأن‬

‫ترشيح السيدة الخليل لنفسها مخالف للتعاليم اإلسالمية ‪ .‬و لقد زادت دهشتي عندما سمعت‬

‫إحدى األخوات تقول ‪ :‬أن المرأة ال تصلح للرئاسة ألنها ناقصة عقل و دين " فسألت األخت‬

‫القائلة إن كانت هي تعتبر نفسها فعال ناقصة عقل و دين ؟ فصمتت محتارة ألن األمر أصبح‬ ‫يخصها شخصيا و ما كانت لتعترف بأنها ناقصة عقل ودين و لم تكن كذلك فلقد كانت امرأة‬

‫فاضلة عاقلة متدينة ولم تكن بأي حال من األحوال أقل عقال و دينا من أي رجل كان ‪.‬‬

‫و تسائلت يومها كيف جرى غرس هذه األفكار الغريبة في الوعي اإلسالمي ؟ و هل ينظر‬

‫اإلسالم فعال إلى المرأة على أنها مخلوق من الدرجة الثانية أو الثالثة و أنها ناقصة عقل و‬

‫دين ؟‬

‫و عدت إلى آيات الوحي القرآني الذي أنزله اهلل تعالى رسالة إلى الناس بواسطة رسوله‬

‫األمين فلم أجد أي نص يدل على أن المرأة مخلوق ناقص العقل والدين أو أنه مخلوق من‬

‫الدرجة الدنيا عليه أن يقبع في بيته وأن ال يخرج إلى الحياة العامة ‪.‬‬

‫أما اآليات القرآنية التي تشير إلى البقاء في البيوت فإنها تخاطب أمهات المؤمنين زوجات‬ ‫النبي (ص) و خاصة بهن ‪ ،‬حيث أنهن " لسن كأحد النساء " و هن" زوجات النبي " و‬ ‫بصفتهن تلك لهن و ضع خاص يختلف عن نساء المسلمين كافة ‪.‬‬


‫‪128‬‬

‫" يا نساء النبي لستن كأحد النساء إن اتقيتن فال تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض‬

‫و قلن قوال معروفا ‪ .‬وقرن في بيتكن و ال تتبرجن تبرج الجاهلية األولى ……‪ .‬الخ اآلية ‪".‬‬

‫األحزاب ‪34-32‬‬

‫الخطاب القرآني يوجه حديثه إلى الرجل والمرأة بدون تفرقة ‪:‬‬

‫‪ " -‬يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و‬

‫بث منهما رجاال كثي ار و نساء "‬

‫النساء ‪1‬‬

‫‪ " -‬ومن آياته أنه خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها و جعل بينكم مودة و‬

‫رحمة إن في ذلك آليات لقوم يتفكرون " الروم ‪21‬‬

‫‪ "-‬و هو الذي خلقكم من نفس واحدة و جعل منها زوجها ليسكن إليها "‬

‫األعراف‪189‬‬

‫‪ " -‬و أنه خلق الزوجين الذكر و األنثى " النجم ‪45‬‬

‫‪ " -‬ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون " الذاريات ‪49‬‬

‫‪ " -‬يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا أن‬

‫أكرمكم عند اهلل أتقاكم ‪ ".‬الحجرات ‪13‬‬

‫و هكذا فان الخطاب القرآني لم يفرق بين المرأة والرجل و خاطبهم بنفس المستوى ‪ ،‬و كرمهم‬

‫و سواهم باإلنسانية ‪ .‬و لم يفضل أحدا على األخر إال بالعمل الصالح ‪ ،‬و كرامة المرأة ال تقل‬

‫عن كرامة الرجل ‪.‬‬

‫إن األطروحات التي تقلل من قيمة المرأة و تصفها بأنها قليلة عقل و دين و أنه عليها أن‬

‫تقبع في بيتها و ال تظهر على الناس ألنها فتنة للرجال ‪ ،‬وأنها خلقت متاعا إلشباع شهوات‬ ‫و رغبات الرجل ‪ ،‬إنما هي جميعا من نتاج الفكر الديني األصولي الكلياني و ليست من‬

‫الدين ‪.‬‬

‫و ينطلق هذا الفكر في موقفه المعادي للمرأة من تأويالت للسلف لبعض اآليات القرآنية‬

‫باإلضافة إلى الرجوع إلى مجموعة من األحاديث المنسوبة إلى نبينا الكريم و التي ال تتوافق‬

‫مع روح القرآن من جهة و تخالف ما عرفناه عن الرسول من سيرته قبل إلسالم و بعده سواء‬

‫في سلوكه العام أو تجاه المرأة بشكل خاص ‪ .‬و في ذلك تقول السيدة بنت الشاطئ ‪ " ،‬فلقد‬

‫كان حسن الخلق ‪ ،‬إن صمت فعليه الوقار ‪ ،‬وأن تكلم سما و عاله البهاء ‪ .‬و حياته في بيته‬ ‫تبدو رائعة في بشريتها ‪ ،‬فقد كان يؤثر أن يعيش بين أزواجه رجال ذ ا قلب و عاطفة‬

‫ووجدان ‪ .‬و ما حاول أن يروض نساءه على قهر غريزة األنثى فيهن ‪ ،‬و ال كان يطيب له أن‬

‫تمسخ فطرتهن فيتجردن من الغيرة و الشوق و الرغبة و االستئثار بالزوج الحبيب ‪ .‬و كان‬


‫‪129‬‬

‫(ص) يعذر و يقدر و يرحم دون أن يرى في ضعف البشرية إثما ال يغتفر أو يجد في فطرة‬

‫الغيرة عند حواء ما يدعو إلى الغض و االزدراء ‪ ) 1 ( .‬واهلل سبحانه قال فيه " انك لعلى‬

‫خلق عظيم "‪ .‬فهل يمكن لرجل هذه أوصافه أن يقول ما نسب إليه في المرأة ‪ .‬؟!‬

‫ففي صحيح البخاري مثال نق أر حديثا منسوبا للرسول (ص) يقول ‪ ":‬لم يفلح قوم ولوا أمرهم‬

‫امرأة " و راوي الحديث هو الصحابي أبو بكرة ‪ .‬و لقد ورد هذا الحديث على لسان أبي بكرة‬

‫تعليقا على موقف عائشة من قتال علي بن أبي طالب في موقعة الجمل ‪ ،‬أي بعد خمسة و‬ ‫عشرين عاما على وفاة الرسول ‪ .‬و أبو بكرة هذا قد أدين و جلد من قبل الخليفة عمر بن‬

‫الخطاب على شهادة كاذبة أدلى بها ‪)2( .‬‬

‫كما نجد صحابيا أخر هو أبو هريرة يروي أحاديث منسوبة للنبي (ص) تحط من قيمة المرأة‬

‫مثل‪:‬‬

‫" الكلب و الحمار والمرأة تقطع الصالة إذا مرت أمام المؤمن فاصلة بينه و بين القبلة ‪( ".‬‬

‫رواه البخاري ) و " سوء الحظ يوجد في ثالثة أشياء ‪ ،‬البيت و المرأة و الفرس ‪ ( ".‬بخاري‬

‫)ذكر سابقا‬

‫و ترد عائشة زوجة النبي (ص) عل ذكر الحديث األول فتقول ‪ :‬تقارنوننا اآلن بالحمير و‬

‫الكالب ‪ ،‬واهلل لقد رأيت النبي و هو على أهبة إقامة صالته و كنت هناك ممدودة على الفراش‬

‫بينه و بين القبلة و لكي ال أشرد ذهنه كنت أتحاشى أن أتحرك و ما كان ذلك يهمه ‪ ".‬و ترد‬

‫على الحديث الثاني بقولها ‪ " :‬إن أبا هريرة تلقى دروسه حتما بشكل سيئ ‪ ،‬لقد دخل علينا‬

‫في حين كان الرسول في وسط الجملة فلم يسمع إال النهاية ‪ ،‬كان الرسول قد قال ‪ :‬قاتل اهلل‬ ‫اليهود انهم يقولون ثالثة أشياء تحمل سوء الحظ ‪ ،‬البيت و المرأة و الفرس " و لطالما‬ ‫هاجمت عائشة أبا هريرة قائلة ‪ :‬انك تروي أحاديث لم تسمع بها مطلقا ‪) 3( ".‬‬

‫و هناك أحاديث كثيرة معادية للمرأة نسبت للرسول (ص) مثل ‪:‬‬

‫‪ -‬الحديث المشهور عن عبد اهلل بن عمر ‪ ،‬أن الرسول قال ‪ ":‬ألقيت نظرة على الجنة فرأيت‬

‫أكثر أهلها الفقراء و ألقيت نظرة على جهنم فرأيت أكثر أهلها من النساء ‪".‬‬

‫( بخاري ) ذكر سابقا‬

‫‪ " -‬النساء ناقصة عقل و دين ‪ ".‬م س‬

‫‪ " -‬لم أترك بعد أي سبب للفوضى أكثر شؤما من النساء ‪ ".‬م س‬

‫‪ " -‬المرأة تقبل في صورة شيطان و تدبر في صورة شيطان " م س و غيره في الصحاح‬

‫كثير ‪.‬‬


‫‪130‬‬

‫و رغم أن السيرة النبوية تحدثنا أ‪ ،‬النبي (ص) لم يضرب أبدا بيده ال واحدة من نساءه و ال‬

‫عبدا و ال شخصا أخر و أنه كان (ص) يمقت العنف ضد النساء و لقد طالب في عدة مواقع‬ ‫بعدم ضربهن ‪ ،‬و في حديث له يقول ‪ ":‬ال أستطيع أن أتحمل رؤية رجل غاضب تحت تأثير‬

‫الغيظ و هو يهم بضرب زوجته ‪) 4( ".‬‬

‫فإننا نجد السلف مثلهم مثل الخلف يحثون على ضرب النساء إذا رفضن استجابة دعوة الزوج‬

‫للعالقة الجنسية ‪ ،‬داعمين دعواهم بأحاديث منسوبة للرسول (ص) أو بتأويل بعض اآليات‬

‫القرآنية ‪ .‬فإننا نجد الطبري مثال ينصح المؤمن أن يوثق المرأة الرافضة في فراشها ‪ ،‬فاآلية‬

‫الكريمة التي تقول " فاهجروهن في مضجعهن " تعني حسب تفسيره ‪ :‬اربطوهن بفراشهن‬ ‫فالهجر حسب تفسيره هو الحبل الذي كانت تربط به العرب‬

‫الجمال ‪ ) 5 ( ".‬فللرجل الحق أن يجامع امرأته عندما يريد و كما يريد شريطة أن يكون‬

‫الجماع من الفرج ‪) 6 ( ".‬‬

‫و هكذا جرى تأويل بعض اآليات القرآنية عن طريق إسقاط األفكار المعادية للمرأة عليها ‪.‬‬

‫فإذا نظرنا إلى اآلية الخامسة من سورة النساء فإننا نجد أن اهلل عز و جل يقول " ال تؤتوا‬

‫السفهاء أموالهم التي جعل اهلل لكم قياما ‪".‬‬

‫و السفهاء في اللغة العربية جمع سفيه و هو الجاهل ‪ .‬و يفسر الزمخشري " السفهاء " في‬

‫اآلية الكريمة بأنهم المبذرون أموالهم ‪ ،‬الذين ينفقونها فيما ال ينبغي ‪ ) 7 ( .‬و في تفسير‬

‫الجاللين " السفهاء " هم المبذرون من الرجال و النساء و الصبيان ‪) 8 ( .‬‬

‫و بما أن السفهاء مستثنون من اإلرث ‪ ،‬فلقد وجدها البعض فرصة متاحة الستثناء النساء‬

‫من اإلرث واستبعادهم عن أي مسئولية باعتبار أن كلمة " سفهاء " في اآلية الكريمة‬

‫تعني النساء و األطفال ‪ ،‬بل أن النساء هن أسفه السفهاء بالتأكيد ‪ ) 9 ( .‬و لقد نسب ألبن‬

‫عباس أنه قال ‪ :‬السفهاء هم الصبيان و النساء ‪) 10 ( ".‬‬

‫و هكذا قد انغرس في الوعي اإلسالمي و بكل بساطة و بناءا على تأويل بشري آلية قرآنية أن‬

‫النساء سفهاء و عليه يجب استبعادهن من اإلرث و عن أي مسئولية عامة ‪ ،‬وانني ألذكر‬

‫كيف جاء شيوخ عائلتنا إلى والدي رحمه اله محتجين على إشراكه النساء في تركة المرحوم‬

‫جدي ‪ ،‬و كانت حجتهم أن إعطاء النساء من الميراث مخالف للشرع و العادة و سابقة مضرة‬

‫ستخلق للعائلة مشاكل ال حصر لها ‪.‬‬

‫يقول اهلل تعالى في سورة الفلق " قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق …‪ ..‬إلى أن يقول من‬

‫شر النفاثات في العقد "‬


‫‪131‬‬

‫يقول الزمخشري ‪ " :‬النفاثات " هم النساء أو النفوس أو الجماعات السواحر الالتي يعقدن‬

‫عقدا و ينفثن عليها ‪) 11 (.‬و ال أدري كيف حشرت كلمة النساء هنا ‪ ،‬فالمعروف أن هذه‬

‫السورة نزلت في لبيد اليهودي و بناته الذين سحروا النبي في وتر به إحدى عشر عقدة ‪( .‬‬ ‫‪) 12‬‬

‫و في سورة آل عمران يقول تعالى ( آية ‪ ( ) 14‬زين للناس حب الشهوات من النساء و‬

‫البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و األنعام و الحرث ذلك‬ ‫متاع الحياة الدنيا و اهلل عنده حسن المآب )‬

‫لقد أجمع المفسرون على أن النساء و البنين و قناطير الذهب و الفضة و الخيل‬

‫المسومة( الحسان ) و األنعام ( اإلبل والبقر والغنم ) و الحرث ( الزرع ) هي من الشهوات‬

‫( أي ما تشتهيه األنفس ) زينها اهلل ابتالء أو الشيطان ‪ .‬و كل ذلك متاع الحياة الدنيا‬

‫هنا يقع المرء في حيرة و يحق له أن يتساءل ‪:‬‬

‫أوال ‪ :‬هل يمكن أن يضع القرآن المرأة على مستوى األنعام من إبل وبقر و غنم ‪ ،‬و أن‬

‫يعتبرها متاعا ( ما ينتفع بها من األشياء ) و شهوة ؟ أم أن هذا ما فهمه السلف من اآلية أو‬

‫أرادوا أن يفهموا ‪،‬ألن ذلك يلبي رغبات الرجال في ذلك الوقت حيث كان المجتمع رجاليا مائة‬

‫في المائة ؟‬

‫و لقد طغى هذا الفهم على الوعي اإلسالمي خالل قرون طويلة ‪ ،‬و لقد عوملت المرأة بناءا‬

‫على هذا الفهم ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬إذا كانت اآلية الكريمة تعني أن المرأة متاعا و شهوة فلمن ؟ فاآلية ال تقول زين‬

‫للرجال ولكن زين للناس و " الناس " هم الرجال والنساء واألوالد و البنات ‪ ،‬فكيف تكون‬ ‫النساء متاعا و شهوة للنساء والبنات واألوالد ؟‬

‫ثالثا ‪ :‬إذا كانت المرأة متاعا و شهوة للرجل ‪ ،‬فلماذا ال يكون الرجل أيضا متاعا و شهوة‬

‫للمرأة ؟ والمرأة إنسان مثلها مثل الرجل‪ ،‬أم أن المرأة مخلوق بدون شعور و رغبات ؟‬ ‫يجيب الدكتور شحرور على هذه التساؤالت بما يلي ‪:‬‬

‫" النساء " في رأيه هنا ال تعني جمع امرأة وانما جاءت في اللسان العربي من فعل " نسأ "‬

‫والنسيء هو التأخير كقوله تعالى " إنما النسيء زيادة في الكفر " التوبة ‪ 37‬و نسيء و‬

‫نسوء جمعها نسوة و نساء ( راجع معجم متن اللغة ‪ -‬أحمد رضا ) ‪ .‬و يمكن إطالق هذا‬

‫المصطلح على كل شيء جاء متأخ ار ‪ .‬و هنا يظهر معنا النساء في آية الشهوات ‪ ،‬والتي‬ ‫تعتبر الشهوة رقم واحد والتي يشتهيها كل الناس و هي المتأخرات من المتاع‬


‫‪132‬‬

‫( األشياء ) أي ما نسىء منها أو نقول عنها في المصطلح الحديث ( الموضة ) ‪ ،‬فاإلنسان‬ ‫يشتهي أخر موضة في اللباس و في السيارات و في األثاث والبيوت ‪ .‬فنرى هذه الشهوة‬

‫الموجودة عند اإلنسان قاطبة واإلنسان يشتهي المتأخر الجديد من األشياء ‪) 13 (.‬‬ ‫من األمور التي تثير الجدل هي ترتيب العالقة بين الرجل والمرأة بمعنى آخر لمن‬ ‫القوامة ؟ و هل القوامة للرجل مطلقا و في كل الظروف ؟‬

‫يقول تعالى في اآلية ‪ 34‬من سورة النساء ( الرجال قوامون على النساء بما فضل اهلل بعضهم‬

‫على بعض و بما أنفقوا من أموالهم … إلى آخر اآلية الكريمة )‬

‫لقد كان التفاعل األول مع اآلية الكريمة في الفكر اإلسالمي هو مفهوم القوامة المطلقة للرجل‬

‫على المرأة ‪ .‬و لقد كان لذلك ما يبرره ‪ .‬و لقد طغى هذا المفهوم على الفكر الديني عبر‬

‫العصور واعتبر قاعدة أساسية لتعامل الرجل مع المرأة ‪ .‬فلقد أعطى هذا الفهم الرجل الحق‬ ‫المطلق بالتصرف بالمرأة كملك خاص يتصرف فيه كما يشاء ‪ .‬فهي خادمة له و ملبية‬

‫لشهواته و رغباته ‪ ،‬تخرج بأمره و تقعد بأمره و تذهب للحج بإذنه و تخرج للصالة بإذنه ‪.‬‬ ‫إذا أمعنا النظر في اآلية الكريمة و على ضوء تطورات اعصر فإننا نجد ‪:‬‬

‫أوال ‪ :‬أن اآلية الكريمة قد ذكرت القوامة بين الرجال والنساء عامة ‪ ،‬ولم تخص المسلمين و‬

‫المسلمات أو المؤمنين و المؤمنات مما يعطيها صفة القاعدة العامة ‪.‬‬ ‫ثانيا ‪ :‬ذكرت اآلية للقوامية علَة و هذه العلَة هي ‪:‬‬

‫ا‪ -‬بما فضل اهلل بعضهم على بعض‬

‫ب‪-‬بما أنفقوا من أموالهم‬

‫فإذا ذ هبت العلة ذهب المعلول ‪ ،‬واذا تغيرت العلة تغير المعلول فإذا كان الرجل مريضا مثال‬ ‫كأن يكون أعمى أو مشلوال الخ و زوجه تقوم على خدمته ‪ ،‬فإنه في هذه الحالة تتغير‬

‫القوامية و تصبح للمرأة ‪.‬‬

‫واذا كانت المرأة تعمل و الزوج عاطل عن العمل لسبب من األسباب و هي تنفق على زوجها‬ ‫و عائلتها فتصبح لها القوامية ‪ .‬و إذا كانا متكافئين فهي تعمل و هو يعمل و تنفق على‬ ‫العائلة كالرجل تصبح متكافئة معه في القوامية ‪) 14 ( .‬‬

‫من األمور الغير مسموح التفكير فيها و مناقشتها في الفكر اإلسالمي هو نصيب المرأة من‬

‫اإلرث و هو الثلث ‪ ،‬حيث حسم األمر بناء على قراءة السلف لآلية ‪ 176‬من سورة النساء‬

‫والتي تقول‪ " :‬للذكر مثل حظ األنثيين " ‪.‬‬

‫النص القرآني جاء لكي يتفاعل مع الوقائع المتغيرة و المجتمعات المختلفة ولتكون أحكامه‬ ‫مالئمة لكل عصر ‪ .‬لذا فإنه علينا لكي نستنبط من النص حكما معاص ار و مالئما لتطور‬


‫‪133‬‬

‫المجتمع ‪ ،‬أن نق أر النص في محيطه االجتماعي األول ‪ ،‬أي المحيط االجتماعي الذي خاطبه‬

‫النص ألول مرة ‪ .‬بهذه الطريقة فقط نستطيع أن نفهم مقاصد النص وأن نقرأه قراءة معاصرة‬ ‫وأن نستنبط منه حكما مالئما لعصرنا و لكل العصور ‪.‬‬

‫لقد كان المجتمع المخاطب آنذاك مجتمعا قبليا ‪ .‬و كانت العالقة بين القبائل هي عالقة نزاع‬

‫حول المراعي ووسائل العيش ‪ .‬و كان يسود ذلك المجتمع تعدد الزوجات ‪ ،‬كما كان الزواج‬ ‫من بنات القبائل األخرى مطلوب في إطار التحالفات التي يفرضها المجتمع القبلي ‪ .‬و كان‬

‫توريث البنت في هذه المجتمعات مع تعدد الزوجات و المصاهرة بين القبائل وسيلة لإلخالل‬

‫بالتوازن االقتصادي ‪ ،‬إذ يفتح الطريق أمام انتقال الثروة من قبيلة المرأة إلى قبيلة زوجها ‪،‬‬

‫مما قد ينشأ عن ذلك منازعات و مشاكل ال حدود لها في مجتمع ال يوجد فيه دولة وال قانون ‪.‬‬

‫و لذلك كانت أكثر القبائل تحرم المرأة من اإلرث تماما حفاظا على الثروة و تجنبا للمشاكل ‪ .‬و‬

‫من المعروف أن حرمان المرأة من اإلرث ال يزال موجودا في مجتمعات كثيرة تمر بما مرت به‬

‫المجتمعات العربية قبل اإلسالم و لنفس األسباب ‪ .‬و ال نبعد عن الحقيقة كثي ار إذا قلنا أن‬

‫المرأة تحرم من اإلرث حتى في كثير من البلدان اإلسالمية و ذلك بناءا على تبريرات مختلفة‬

‫بعضها مجلل بغطاء إسالمي ‪ .‬ولقد جرت العادة في أوروبا إلقطاعية و لزمن غير بعيد على‬ ‫توريث االبن األكبر للعائلة فقط ‪ ،‬حفاظا على أمالك العائلة اإلقطاعية و على اسمها ‪.‬‬

‫و عندما جاء اإلسالم و كان يمثل زمن نزول القرآن التشريعي في المدينة ‪ ،‬مرحلة االنتقال‬

‫من مجتمع الال دولة إلى مجتمع الدولة ‪ ،‬أقر نوعا من الحل الوسط يتناسب مع المرحلة‬ ‫الجديدة ‪ .‬و هكذا فبدال من حرمان البنت من اإلرث جملة منحها الثلث و أضاف إلى ذلك‬

‫تدبي ار يقيم نوعا من التوازن بأن جعل نفقتها على زوجها ‪ .‬و هكذا فإذا أخذنا بعين االعتبار‬

‫بساطة االقتصاد آنذاك و محدودية الملكية استطعنا أن ندرك بسهولة كيف أن توريث البنت‬ ‫الثلث فقط كان يجد تبريره و مصداقيته في المجتمع اإلسالمي الناشئ ‪ ،‬بوصفه حكما‬

‫يستجيب تماما لمتطلبات المجتمع الذي خاطبه أول مرة ‪) 15 ( .‬‬

‫بهذه الطريقة فقط نستطيع أن نفهم مقاصد كثير من اآليات القرآنية و قراءتها قراءة معاصرة‬

‫واستنباط األحكام المالئمة لعصرنا ‪ .‬إن مثل هذه القراءة يساعدنا على فهم مقاصد اآليات‬ ‫القرآنية الخاصة بأمور المرأة مثل حقها في اإلرث و قبول شهادتها في المحاكم و تعدد‬

‫الزوجات ولبس الحجاب و ما ملكت أيمانكم إلى جانب أمور كثيرة ساء فهمها مثل قضية‬

‫تحرير الرقيق و رفض العبودية واحترام حقوق اإلنسان و غيرها ‪.‬‬

‫بدون فهم العالقة الجدلية بين النص و الواقع المخاطب و بدون ربط النص بمجاله التاريخي‬

‫بكل أبعاده الثقافية والسياسية واالجتماعية قإننا لن نستطيع فهم مقاصد النصوص التشريعية‬


‫‪134‬‬

‫و سنعجز عن استنباط األحكام المالئمة للعصر ‪ .‬بغير ذلك سنظل حبيسي المفهوم التراثي‬ ‫للنصوص ‪ ،‬باعتبارها نصوص قطعية الداللة ال عالقة لها بالواقع المخاطب ‪ ،‬مما يجعله‬ ‫مفهوما متعاليا على الواقع المتطور و يسقط عنه صفة العالمية و الشمولية ‪.‬‬

‫نالحظ في المدة األخيرة ظاهرة إعادة طبع و نشر الكتب المعادية للمرأة بكميات كبيرة و على‬

‫ورق مصقول ‪ ،‬توزع بالمجان أو بأسعار رخيصة جدا مثل ‪ :‬أحكام النساء ألبن الجوزي ‪ ،‬و‬

‫الفتاوى المتعلقة بالنساء ألبن تيمية ‪ ،‬و هي مستخرجة من كتابه " مجموع الفتاوى الكبرى " ‪،‬‬

‫إلى جانب كتيبات مختلفة لمؤلفين مختلفين بعضهم معروف واألخر مجهول ‪ .‬و مجرد قراءة‬

‫بسيطة لعناوين الفصول تعطينا صورة واضحة عن محتويات هذه المؤلفات التي تطبع و توزع‬

‫بهدف ‪ -‬كما يدعي طابعوها و موزعوها ‪ -‬مساعدة النساء المسلمات و محاربة أولئك الذين‬ ‫يتكلمون في عصرنا هذا عن حرية المرأة و حقوق المرأة ‪-:‬‬

‫‪ -‬تحذير النساء من الخروج ‪.‬‬

‫‪ -‬خير أعمال النساء ما يختار للمنزل ‪.‬‬

‫ الحجة في إثبات أن األفضل للمرأة أن ال ترى الرجال ‪.‬‬‫ مساهمة النساء بصالة الجماعة يعتبر عمال فاضحا ‪.‬‬‫‪ -‬منع سفر المرأة إن لم تكن مصحوبة بزوجها أو ابنها‬

‫كما يجب منع المرأة من ارتداء العباءة القصيرة فإنها تظهر ما ترتديه المرأة من المالبس ‪ ،‬و‬ ‫منعها من ارتداء الكعب العالي فإن فيه زيادة في طول المرأة ‪ ،‬فذلك فيه عدم الرضا ء بما‬

‫أعطاه اهلل من طولها ‪ .‬و عليها لبس الحجاب الصفيق الساتر لوجهها و يجب منعها من‬

‫ارتداء الحجاب الشفاف أو الالصق على الوجه حيث أنه يصف تفاصيل الوجه ‪ .‬كذلك يجب‬ ‫منعها من ارتداء الحجاب المستحدث المبدي لعينيها و هو ما يسمونه النقاب ‪ ،‬فهو نقاب‬

‫الفتنة ‪ .‬و أن ال تخرج لألسواق و األفضل لها أن تصلي في بيتها ألن الصالة في بيتها أستر‬

‫لها و أبعد عن الفتنة ‪ ،‬و عليها أن ال تركب السيارة إال مع محرم ‪ .‬كما يجب منع النساء عن‬

‫كشف وجوههن أمام أخوان أزواجهن و ذلك أشد خط ار من كشف وجوههن عند الرجال األجانب‬ ‫‪ .‬و يمنع الحمو من الدخول على زوجة ابنه " فالحمو الموت " ( قول منسوب للنبي (ص)‬

‫أي ينبغي الفرار منه كما يفر اإلنسان من الموت ‪ .‬كما ال يجوز للمسلم النظر في وجوه‬

‫النساء حتى وال في المجالت أو التلفاز و ال في غيرها ‪ .‬كما ال يجوز مكالمة المرأة األجنبية‬

‫في التلفون أو مراسلتها فإن ذلك يثير الشهوة بين االثنين و يدفع الغريزة إلى التماس اللقاء ‪.‬‬

‫( ‪) 16‬‬


‫‪135‬‬

‫و ليس من قبيل المصادفة كذلك إعادة طبع و توزيع كتاب الفقيه محمد حسن خان الكونجي‬

‫وهو من أصل هندي " حسن األسوة بما يثبت من اهلل في النسوة " ‪ ،‬و هو كتاب تجاوز‬

‫الكثيرين في معاداة النساء ‪ ،‬فيمكن للقارئ قراءة كل شيء عن الشهوة الجنسية الكبرى عند‬ ‫النساء و عدم أهلية المرآة للتفكير و عدم أهليتها في كل ما يتعلق بالديانة ‪ ،‬و كثرة عدد‬

‫النساء في جهنم و غيره كثير ‪) 17 ( .‬‬

‫يقول الشيخ الغزالي في كتابه هموم داعية ‪ :‬لقد رأيت المرأة في بالدنا ال تدخل مسجدا أبدا‬

‫………‪ .‬و قلما يؤخذ لها رأي في الزواج ………‪.‬و إذا انحرف الشاب تسوهل معه أما إذا‬ ‫إنحرفت المرأة فجزاءها القتل " ثم يقول " هناك نفر من المتكلمين باسم اإلسالم يرون المرأة‬

‫في الجامع قذى في عيونهم ‪ ،‬و يضعون العوائق من عند أنفسهم ال من عند اهلل كيال يكون‬

‫للنساء وجود في ميادين األمر و النهي و النصح للعامة و الخاصة ‪ ".‬و يرد على فتوى أحد‬

‫المشايخ بأن " المرأة ال يجوز أن ترى أحدا أو يراها أحد " بأنها فتوى مخبول ال يعرف اإلسالم‬

‫‪ ،‬بل هو وأمثاله قرة عين ألعداء اإلسالم ‪) 18 ( .‬‬

‫لقد تحولت المرأة في الفكر الديني إلى متاع خلق لخدمة الرجل واشباع شهواته و رغباته‬

‫الدنيوية و الجنسية ‪ .‬و لم يعد ينظر إليها على أنها نفس إنسانية كما لم يعد يحسب حساب‬

‫إلحساسها وال لحاجاتها و رغباتها ‪ .‬و على الزوجة تلبية رغبات الزوج الجنسية في أي وقت‬

‫و في جميع األحوال ‪ .‬أما الزوج فلقد اختلف الفقهاء في أمره ‪ ،‬هل يجب عليه مجامعة زوجته‬

‫؟ قالت طائفة ‪ :‬ال يجب على الزوج مجامعة زوجته ‪ ،‬فإنه حق له إن شاء استوفاه وان شاء‬ ‫تركه ‪ .‬و قالت طائفة أخرى ‪ ،‬يجب على الزوج وطؤها في العمر مرة واحدة ليستقر لها‬

‫الصداق ‪ ) 19 ( .‬أما حق الرجل على المرأة في الجماع فحق مقدس ‪ ،‬على الزوجة أن تلبيه‬ ‫في كل األوقات و تحت كل الظروف واال تعرضت لغضب الزوج ‪ ،‬و إذا غضب الزوج منها ‪،‬‬

‫غضب اهلل و مالئكته لغضب الزوج عليها ‪) 20 ( .‬‬

‫و لم يكتف الفكر الديني بتحويل المرأة إلى متاع خاص بالرجل مهمته إشباع رغباته و‬

‫شهواته في الحياة الدنيا ‪ ،‬بل حول هذا الحق المقدس إلى الحياة األخرى في اآلخرة و طبعا‬

‫بإيراد أحاديث منسوبة إلى الرسول الكريم ‪ .‬فهناك ‪ -‬في الجنة ‪ -‬ينكح الرجال النساء "‬

‫بذكر ال يمل و شهوة ال تنقطع " و " إذا قام الرجل عن المرأة رجعت بك ار " و أن " الرجل‬

‫ليصل في اليوم الواحد إلى مائة عذراء " حيث " يعطى الرجل قوة مائة رجل " (‪ )21‬و هكذا‬

‫فإن شيطان الجنس يعشش في عقول أولئك الذين يحاولون تصوير العالقة بين الرجل والمرأة‬

‫فقط من خالل تلك الرغبات و الشهوات المخزونة في عقولهم المكبوته و الشاذة ‪.‬‬


‫‪136‬‬

‫إن الكثير من السمات التي يتميز بها وضع المرأة المسلمة و التي يصر الفكر الديني‬

‫الكلياني إبقاءها على ما هي عليه ‪ ،‬عرفتها و ال تزال تعرفها مجتمعات متأخرة كثيرة مثل‬

‫بعض أنحاء أوروبا الجنوبية و أمريكا الالتينية و الصين والهند و غيرها ‪ .‬و من سمات‬

‫ذلك تفضيل المولود الذكر على األنثى و التقصير في تعليم البنت والحد من اختالطها بالذكور‬ ‫و محاولة إبقاءها في البيت و التلهف على تزويجها بسرعة و بدون إذنها أو مشورتها ‪ ،‬و‬

‫حق الزوج في تأديبها بالضرب و منعها من القيام بأي دور اجتماعي أو سياسي واعتبارها‬ ‫متاع لخدمة الرجل و متعة إلشباع شهواته ‪.‬‬

‫و لقد كان نظام الحريم و الحجاب معروفين و سائدين في مجتمعات سابقة على ظهور‬

‫اإلسالم ‪ .‬و لقد ورد في العهد القديم من التوراة ما يشير إلى لبس النساء للنقاب حتى حوالي‬

‫القرن التاسع عشر قبل الميالد ‪ ) 22( .‬و في العهد الجديد نجد أن الرجل لم يخلق من أجل‬ ‫المرأة بل المرأة خلقت من أجل الرجل‪ ،‬كما وجب على المرأة أن تلبس نقابا على رأسها‬

‫احتراما للمالئكة ‪ ) 23 ( .‬أما في أوروبا فلقد لبست نساء اإلغريق و الرومان النقاب ‪ .‬و لقد‬ ‫ظلت البراقع الحمراء حتى عصر النهضة جزءا من الزينة في ذلك العصر ‪ .‬كما فرض الحجاب‬ ‫على المرأة البابلية و لم يسمح لها بالخروج من منزلها دون حجاب ‪)24 ( .‬‬ ‫و لقد ورد لفظ ( حجاب ) في القرآن الكريم في اآليات التالية ‪:‬‬

‫ في اآلية ‪ 15‬من سورة المطففين = " كال إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون "‬‫ في اآلية ‪ 17-16‬من سورة مريم = " فاتخذت من دونهم حجابا "‬‫ في اآلية ‪ 32-31‬من سورة (ص)‬‫‪ -‬في اآلية ‪ 45‬من سورة اإلسراء‬

‫"‬

‫= " حتى توارت بالحجاب "‬

‫= " جعلنا بينك وبين الذين ال يؤمنون حجابا مستو ار‬

‫و في اآلية الخامسة من سورة فصلت = و من بيننا و بينك حجاب‬‫‪-‬في اآلية ‪ 51‬من سورة الشورى‬

‫حجاب‬

‫‪-‬في اآلية ‪ 46‬من سورة األعراف‬

‫=و ما كان لبشر أن يكلمه إال وحيا أو من وراء‬

‫= " و بينهما حجاب"‬

‫و جميع هذه اآليات مكية ‪ ،‬و كلمة حجاب الواردة فيها ليس لها عالقة بلبس المسلمة ال من‬

‫قريب و ال من بعيد ‪.‬‬

‫كذلك وردت في اآليات التالية‪:‬‬

‫‪-‬في اآليات ‪ 34-32‬من سورة األحزاب = " يا نساء النبي ……‪.‬الخ السورة "‬


‫‪137‬‬

‫‪-‬في اآلية ‪ 53‬من نفس السورة‬

‫حجاب "‬

‫= و إذا سألتموهن متاعا فسألوهن من وراء‬

‫و هذه اآليات موجهة إلى نساء النبي و خاصة بهن ‪.‬‬

‫أما اآلية ستون من سورة النور ‪ "،‬والقواعد من النساء الالتي ال يرجون نكاحا فليس عليهن‬

‫جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وان يستعفين خير لهن " فهي خاصة بالقواعد‬ ‫من النساء بسبب المرض أو العجز ‪.‬‬

‫ثم هناك آيتان هما محور الحديث حول الحجاب ‪:‬‬

‫ اآلية ‪ 59‬من سورة األحزاب ‪ " :‬يا أيها النبي قل ألزواجك و بناتك و نساء المؤمنين يدنين‬‫عليهن جالبيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فال يؤذين "‬

‫ اآلية ‪ 31‬من سورة النور ‪ ":‬و قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن و يحفظن فروجهن و ال‬‫يبدين زينتهن إال ما ظهر منها و ليضربن بخمرهن على جيوبهن … إلى آخر اآلية "‬

‫و في تفسير هاتين اآليتين خالف كثير و يتركز الخالف على تحديد المقصود بعبارة‬

‫" يدنين عليهن من جالبيبهن " و عبارة " و ليضربن بخمورهن على جيوبهن " و كذلك تحديد‬ ‫معنى الزينة الواردة في اآلية ‪ 31‬من سورة النور ‪.‬‬

‫و يقول الجاحظ في كتاب " القيان" ‪ :‬لم يكن بين رجال العرب و نساءها حجاب ‪ ،‬كانوا‬

‫يجتمعون على الحديث و المسامرة بأعين األولياء و حضور األزواج ‪ .‬فلم يزل الرجال‬

‫يتحدثون مع النساء في الجاهلية واإلسالم حتى ضرب الحجاب على أزواج النبي خاصة ‪ ،‬ثم‬

‫كانت الشرائف من النساء يقعدن للرجال للحديث ‪ ،‬و لم يكن النظر من بعضهم إلى بعض عا ار‬

‫في الجاهلية وال حراما في اإلسالم ‪ ،‬ثم لم يزل للملوك و األشراف إماء يختلقن في الحوائج ‪،‬‬

‫و يدخلن الدواوين و نساء يجلسن للناس ‪ ،‬فما أنكر ذلك منكر و ال عابه عائب و الدليل على‬

‫أن النظر إلى النساء كلهن ليس بحرام ‪ ،‬و لكنه أمر أفرط فيه المتعدون حد الغير على‬

‫سوء الخلق و ضيق الغطن فصار عندهم كالحق الواجب ‪) 25 ( .‬‬

‫أما اآلية ‪ 31‬من سورة النور فلقد فسرها الواحدي صاحب كتاب أسباب نزول القرآن بقوله ‪:‬‬

‫نزلت في الزناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إذا برزن في الليل لقضاء‬

‫حوائجهن فيرون المرأة فيدنون منها فيغمزونها فإن سكتت اتبعوها وان زجرتهم انتهوا عنها و‬ ‫لم يكونا يطلبون إال اإلماء ‪ ،‬و لكن لم يكن يومئذ تعرف الحرة من األمة ‪ ،‬فشكون ذلك إلى‬

‫أزواجهن ‪ ،‬فذكروا ذلك إلى رسول اهلل فأنزل اهلل تعالى هذه اآلية ……‪ .‬فكان فساق المدينة‬

‫يخرجون فإذا أروا المرأة عليها قناع قالوا ‪ :‬هذه حرة فتركوها و إذا أروا المرأة بدون قناع قالوا‬

‫‪ :‬هذه أمة فكانوا يراودونها ‪) 26 ( ".‬‬


‫‪138‬‬

‫فحكمة األمر هنا كما ورد في اآلية ‪ " :،‬ذلك أدنى أن يعرفن فال يؤذين " هي التمكن من‬

‫التفرقة بين الحرائر و اإلماء أيام كان هناك حرائر واماء وأيام كان من المسموح ‪ -‬على ما‬

‫يظهر من التفسير‪-‬العبث باإلماء و لكن من غير المسموح العبث بالحرائر و كان القصد‬ ‫حماية الحرائر من عبث العابثين ‪.‬‬

‫و يؤيد هذا التفسير ما يحكى عن عمر بن الخطاب من أنه ضرب أمة بسوطه إذ رآها تتشبه‬

‫في لباسها بالحرائر ‪ .‬و هذه العلة بالطبع قد زالت في عصرنا هذا ‪ .‬حيث ال يوجد في مجتمعنا‬

‫المعاصر حرائر واماء و حيث النساء كلهم سواء و على المجتمع أن يحمي الجميع من عبث‬

‫العابثين ‪.‬‬

‫و أما عبارة " وليضربن بخمورهن على جيوبهن " فيقول الزمخشري ‪ ":‬كانت جيوب النساء‬

‫واسعة تبدوا منها نحورهن و صدورهن و ما حوليها و كن يسدلن الخمر (الغطاء ) من ورائهن‬

‫فتبقى مكشوفة ‪ ،‬فأمرن أن يسدلنها من قدامهن حتى يغطينها ‪) 27 ( .‬‬

‫و أما عن تعريف الزينة فلقد كان موضع خالف بين األقدمين ‪ ،‬فقد قال القرطبي ‪ :‬اختلف‬

‫الناس في قدر ذلك فقال بن مسعود ‪،:‬ظاهر الزينة هو الثياب و زاد بن جبير الوجه و قال‬

‫األوزاعي ‪ ،‬الثياب والوجه والكفان و قال بن عباس بل إلى نصف الذراع ‪) 28 (".‬‬

‫و أما عبارة " يغضضن من أبصارهن " و " يغضوا من أبصارهم " فجاء هنا حرف " من "‬

‫للتبعيض ‪،‬أي جزء من كل ‪ ،‬فأمرنا اهلل الغض من البصر ال غض البصر ‪ .‬ثم أنه لم يضع‬

‫المفعول به بالنسبة للرجل و المرأة على حد سواء ‪ ،‬أي لم يقل لنا أن نغض أبصارنا عن‬

‫ماذا ؟ فتركت مفتوحة حسب األعراف و حسب الزمان والمكان فالبحلقة باآلخرين غير مرغوب‬ ‫بها سواء للمرأة أو للرجل ثم أنه استعمل فعل " غض " للداللة على لطف الفعل ‪ ،‬فالغضاضة‬

‫فيها لطف و طراوة ‪ ،‬فنقول غصن غض أي لين و طري ‪) 29 ( .‬‬

‫و الحقيقة تقال أن الخالف في صفوف الخطاب الديني حول لبس المرأة هو خالف حول‬ ‫المساحة المسموح للمرأة إظهارها ‪ .‬فهناك شبه إجماع في صفوف الخطاب الديني سواء‬

‫السلفي أو المعاصر على أن المرأة عورة يجب إخفاءها في مالبس فضفاضة كثيفة ال تظهر‬

‫من ثنايا الجسم شيئا حتى ال تثير شهوة الرجل ‪ .‬و الخالف هنا حول إذا ما كانت المرأة عورة‬ ‫جملة بما فيها الوجه والكفين ‪ ،‬أم أنه مسموح لها بإظهار الوجه والكفين و هو رأي المعتدلين‬

‫‪ . .‬فبعضهم يقول ‪ :‬المرأة كلها عورة و البعض اآلخر يقول ‪ :‬ما عدا الوجه والكفين طبعا مع‬

‫عدم إظهار الشعر ‪ .‬و عندما لم يجد أي من الطرفين دعما لموقفهما في اآليات القرآنية و‬

‫التي ال تذكر شيئا عن كون المرأة عورة ‪ ،‬لجأ الطرفان كالعادة إلى األحاديث المنسوبة إلى‬


‫‪139‬‬

‫النبي الكريم ‪ .‬و بذلك خرج إلى الوجود ما يسمى باللباس الشرعي أو اللباس اإلسالمي ‪ ،‬الذي‬

‫يفرض على المرأة المسلمة أن تلبسه في جميع أنحاء العالم وفي جميع الظروف ‪.‬‬ ‫لقد وردت كلمة عورة في القرآن الكريم في عدة مواقف مثل ‪:،‬‬

‫‪-‬اآلية ‪ 13‬من سورة األحزاب‪ " ،‬يقولون أن بيوتنا عورة و ما هي بعورة " أي أن بيوتهم‬

‫أصبحت مكشوفة للمهاجمين‪.‬‬

‫‪-‬و في اآلية ‪ 58‬من سورة النور‪ " ،‬يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم و الذين‬

‫لم يبلغوا الحلم ثالث مرات و من بعد صالة العشاء ثالث عورات لكم…‪"".‬‬ ‫أي أن هناك ثالثة أوقات يجب أن يستأذن حين الدخول عليه ‪.‬‬

‫يقول شحرور ‪ " :‬والعورة ليس لها عالقة بالحالل والحرام ‪ .‬و باللسان العربي تعني ما‬

‫يستحي المرء من إظهاره ‪ .‬أي عدم رغبة اإلنسان في إظهار شيء ما في جسده أو سلوكه‬

‫فالرجل األصلع قد يرى صلعته عورة ‪ ،‬و هذا الحياء من إظهار ما ال يرغب في إظهاره نسبي و‬

‫يتبع األعراف و العادات ‪ .‬والعورة متغيرة حسب الزمان و المكان ‪) 30 ( .‬‬

‫فعلى المرأة المسلمة أن تلبس لباسا خارجيا و تخرج للمجتمع حسب األعراف السائدة في‬

‫مجتمعها ‪ ،‬بحيث ال تكون عرضة لسخرية وأذى الناس ‪ .‬وما نسميه اليوم اللباس الشرعي هو‬

‫لباس المرأة العربية المسلمة في القرن السابع الميالدي و ال يمكن أن يفرض على كل‬

‫مسلمات العالم ‪ .‬و علينا أن ال نخلط بين فرائض اللباس في اإلسالم التي تدعو إلى حفظ‬

‫النفس والعرض و عدم عرضها لسخرية وأذى الناس و بين الزي القومي العربي ‪.‬‬


‫‪140‬‬

‫مراجع الفصل السادس‬ ‫‪ -1‬د ‪ /‬عائشة عبد الرحمن ‪ -‬نساء النبي ‪ -‬دار الكتاب العربي بيروت ‪ 1979 -‬ص ‪22 :‬‬ ‫‪27 ، 26‬‬

‫‪،‬‬

‫‪ -2‬أبن األثير ‪ - -‬أسد الغابة ‪ -‬م س ‪ -‬ج ‪ 5‬ص ‪38 :‬‬

‫‪ -3‬اإلمام الزركشي ‪ -‬اإلجابة إليراد ما استدركته عائشة على الصحابة ‪ -‬المكتب اإلسالمي ‪،‬‬ ‫بيروت ‪ 1980‬ط ‪ 2‬ص ‪120 ، 113 :‬‬

‫البخاري ‪ -‬م س ‪ -‬رقم ‪519 ، 517 ، 511‬‬

‫‪-4‬أبن سعد ‪ -‬الطبقات – م س ‪ -‬ج‪ 8‬ص ‪204 :‬‬

‫‪-5‬الطبري ‪ -‬تفسيره – دار الفكر‪ -‬ج ‪ 8‬ص ‪ – 309 :‬بدون تاريخ‬ ‫‪ -6‬المصدر السابق‬

‫‪ -‬ج ‪ 4‬ص ‪400 :‬‬

‫‪-7‬الزمخشري ‪ -‬الكشاف ‪ -‬دار الكتب العلمية ‪ -‬م س ‪ -‬ج ‪-1‬ص ‪461‬‬

‫‪ -8‬تفسير الجاللين ‪ - ،‬بهامش القرآن الكريم و بهامشه أسباب النزول للسيوطي ‪-‬دار‬

‫الهجرة ‪ ،‬دمشق‪ 1987‬ص ‪102‬‬

‫‪-9‬الطبري ‪ -‬تفسيره – م س ‪ -‬ج ‪ 7‬ص ‪، 561 :‬‬

‫‪-10‬محمد علي الصابوني ‪ -‬صفوة التفسير – على هامش القرآن الكريم ‪-‬دار القرآن الكريم‬ ‫بيروت ج ‪ 1‬ص ‪259 :‬‬

‫‪ -11‬الزمخشري ‪ -‬م س ‪ -‬ج ‪ 4‬ص ‪815 :‬‬

‫‪ -12‬الواحدي النيسبوري ‪ -‬أسباب النزول ‪ ،‬المكتبة الثقافية ‪ ،‬بيروت ص ‪263 :‬‬

‫‪ -13‬د ‪ /‬محمد شحرور ‪ -‬الكتاب و القرآن ‪ -‬قراءة معاصرة ‪ ،‬األهالي للنشر ‪ ،‬دمشق ‪،‬‬ ‫ط ‪ 6‬ص ‪643-641 :‬‬

‫‪1994‬‬

‫‪ -14‬المصدر السابق ص ‪620 :‬‬

‫‪ -15‬د ‪ /‬محمد عابد الجابري ‪ -‬م س ‪-‬ص ‪55-54 :‬‬ ‫‪-16‬‬

‫ص ‪55-5‬‬

‫ا‪ -‬سليمان بن عجالن ‪ -‬األسرة المسلمة ‪-‬دار ابن خزيمه – الرياض ‪-1992‬‬

‫‪ 1411‬ه ‪0‬‬ ‫ص ‪64-7‬‬

‫ب‪ -‬محمد بن صالح العثمين‪ -‬الفتاوي النسائية‪ -‬دار ابن خزيم الرياض‬ ‫ص ‪======== - 93-9 :‬‬

‫ت‪- -‬عبد اهلل بن وكيل الشيخ – المرأة و كيد األعداء‪ -‬دار الوطن ‪ 1411‬ه‬


‫‪141‬‬

‫ث‪ -‬عبد العزيز عبد اهلل الباز مع مجموعة ‪ -‬فتاوى النظر والخلوة واالختالط ‪-‬‬

‫دار القسم – الرياض‪ 1416 -‬ه ص‪87-7 :‬‬

‫‪ -17‬فاطمة المرنيسي ‪ -‬الحريم السياسي ‪ ،‬النبي و النساء‪ -‬ترجمة عبد الهادي عباس –‬ ‫دار الحصاد دمشق ‪ -‬ص ‪121 :‬‬

‫‪ -18‬محمد الغزالي ‪ -‬هموم داعية – دار القلم دمشق ‪ 1985‬ص ‪144 -140 :‬‬

‫‪ -19‬إبن قيم الجوزية ‪ -‬روضة المحبين و نزهة المشتاقين ‪ -‬دار الكتاب العربي ص ‪:‬‬ ‫‪ 227-226‬عن كتاب دين السلطان ‪ ،‬م س ‪ ،‬ص ‪960 :‬‬

‫‪-20‬عن أبي هريرة أن الرسول قال ‪ :‬إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأت فبات‬

‫غضبان عليها لعنتها المالئكة حتى تصبح " رواه البخاري و مسلم ‪ -‬م س‬

‫‪ -21‬أبن قيم الجوزية ‪--‬م س ‪ ،‬ص ‪260 :‬‬

‫‪ -22‬سفر التكوين ‪ ، 65/24‬و سفر أشعيا ‪ 23-16 / 3‬من الكتاب المقدس –دار الكتاب‬

‫المقدس‬

‫‪ -23‬العهد الجديد ‪ -‬الرسالة األولى الموجهة إلى كورنثوس ‪ 77-7 /11‬من المصدر السابق‬ ‫‪-24‬عن ‪ /‬حسين أحمد أمين ‪ -‬حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة اإلسالمية – دار النهضة‬ ‫العربية بيروت ‪ 1985‬ص ‪77-76 :‬‬

‫‪ -25‬عن المصدر السابق ‪ ،‬ص ‪82 :‬‬ ‫‪ -26‬عن المصدر السابق ‪ ،‬ص ‪85 :‬‬

‫الزمخشري ‪ -‬الكشاف – م س ‪-‬ج ‪ 3‬ص ‪543 :‬‬

‫‪ -27‬الزمخشري ‪ -‬الكشاف ‪ -‬م س ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪225 :‬‬ ‫‪ -28‬عن ‪ /‬حسين محمد أمين‪ -‬المصدر السابق‬

‫‪ -29‬د‪ /‬محمد شحرور – الكتاب و القرآن‪ -‬م س – ص ‪643-638 :‬‬ ‫‪ -30‬د‪ /‬محمد شحرور ‪-‬المصدر السابق –ص ‪620، 619 :‬‬


‫‪142‬‬

‫الفصل السابع‬ ‫و ماذا بعد ؟‬

‫حدثني صديق لي بأن زائ ار من سوريا زاره في مكتبه و كان الراوي يق أر كتابا‬

‫لمؤلف سوري صدر حديثا ‪ .‬و لما رأى الزائر الكتاب قال لصديقي معاتبا ‪ :‬أتق أر لهذا الكافر؟‬

‫فتعجب صديقي من هذا الموقف و سأل الزائر إن كان قد ق أر الكتاب فأجابه بالنفي و تابع بأن‬

‫خطيب المسجد في دمشق قد ذكر الكتاب في خطبة له و هاجم الكتاب و اتهم صاحبه بالكفر‬

‫و حث المصلين على عدم قراءته ألنه كتاب كفر ‪ .‬و عندما طلب صديقي من الزائر قراءة‬

‫الكتاب و الحكم عليه بنفسه رفض ‪.‬‬

‫و في اليوم التالي خطرت لصديقي فكرة طريفة ‪ .‬فأخذ الكتاب المذكور و أزال عنه الغالف و‬

‫كل ما يدل على عنوانه و اسم مؤلفه ‪ ،‬ووضعه في غالف كتاب ألحد الفقهاء السوريين‬

‫المعروفين ‪ ،‬و طلب من الزائر قراءة الكتاب في الفندق حيث كان يقيم طوال زيارته التجارية‬ ‫للبلد ‪ .‬و يتابع صديقي روايته بأن الزائر حضر إلى المكتب في اليوم التالي متأخ ار عن‬

‫موعده ‪ ،‬معتذ ار بأنه سهر الليل يق أر الكتاب الممتع و أضاف بأنه سيعمل على شراء الكتاب‬

‫حال عودته إلى دمشق إلتمام ق ارءته‪ .‬و عندما أخبره صديقي بأن الكتاب الممتع الذي سهر‬ ‫الليل في قراءته ما هو إال كتاب" الكفر ؟" الذي هاجمه باألمس صمت مندهشا و محرجا ‪.‬‬

‫لقد ذكرت هذه الحادثة هنا ألنها تعطينا صورة واضحة على أن العقل العربي واإلسالمي قد‬

‫أصبح عند الكثيرين عقال متلقيا ‪ ،‬ال باحثا مستنبطا وهو واقع تحت سلطة خطاب سلطوي‬ ‫كلياني فج ‪ ،‬سالحه التكفير و قمع الرأي اآلخر ‪.‬‬

‫من أهم األهداف التي كنا نسعى إليها كجالية إسالمية وال نزال هي ‪:‬‬

‫أوال‪ :،‬االعتراف بنا كجالية لها الحقوق القانونية كما للجاليات األخرى المسيحية و‬

‫اليهودية ‪ .‬ثانيا ‪ ،:‬االعتراف بالدين اإلسالمي كدين بجانب المسيحية واليهودية ‪.‬والى أن‬ ‫يحصل هذا أو ذلك كنا دائما نسعى لخلق أجواء غير عدائية ضدنا سواء بين صفوف‬

‫المسئولين أو بين صفوف المواطنين ذوي األكثرية المسيحية ‪ ،‬و ذلك بإعطاء صورة نيرة‬

‫عن اإلسالم و المسلمين ‪.‬‬


‫‪143‬‬

‫و من أكبر العقبات التي كانت تواجهنا في سعينا من أجل تحقيق هذه األهداف هي ‪ ،‬الخطاب‬ ‫المسيحي األصولي المتعصب والمعادي لإلسالم والمسلمين من جهة والخطاب اإلسالمي‬

‫األصولي المتعصب والكلياني لمجموعات الطلبة و بعض المقيمين القادمين من العالمين‬

‫العربي واإلسالمي ‪ .‬و كال الخطابين يعتمدان في طرحهما على نفس اآلليات التي تنطلق من‬ ‫دعوى امتالك الحقيقة المطلقة ورفض الرأي اآلخر و محاولة عزله وازاحته بكل الوسائل ‪ .‬و‬ ‫ال أبعد عن الحقيقة إذا قلت أن خطاب المجموعات اإلسالمية تلك يعطي المبررات تلو‬

‫المبررات للخطاب المسيحي األصولي المتعصب ‪ ،‬في عدائه للدين اإلسالمي و الجالية‬ ‫اإلسالمية كما يعطي صورة مشوهة عن اإلسالم و المسلمين عامة ‪.‬‬

‫من المشاكل التي كانت تواجهنا مثال‪ ،‬رفض األصوليون للزواج الرسمي الحكومي و رفض‬

‫تسجيل الزواج في السجالت الرسمية بحجة أنه زواج كفر ‪ ،‬واإلصرار على االكتفاء بما يسمى‬

‫" الزواج اإلسالمي" و هو عبارة عن ورقة يوقعها" الزوج و الزوجة" و شاهدان باإلضافة إلى‬ ‫شخص ثالث يقوم مقام المأذون ‪ .‬و كثي ار ما كان يأتيني بعض هؤالء إلى مكتبي حين كنت‬ ‫مسئوال عن الجالية ‪ ،‬يطلبون مني التصديق على شهادة الزواج تلك ‪.‬‬

‫و عندما كنت أطلب منهم عقد زواج رسمي في مكاتب الحكومة باإلضافة إلى" الزواج‬

‫اإلسالمي " كشرط لتصديقي و ثيقة الزواج تلك ‪ ،‬حتى ال نقع تحت طائلة مخالفة و معاقبة‬

‫القانون ‪ ،‬خاصة وأن الزوجة مواطنة عليها أن تتبع قوانين بلدها ‪ ،‬كان طلبي ذلك يواجه‬

‫بالرفض القاطع إلى جانب اتهامي بعدم معرفتي بأصول اإلسالم أو بعدم التقيد بتعاليمه ‪ .‬و‬

‫لطالما زارني في مكتبي بعض عائالت تلك الفتيات اللواتي جرى عقد قرانهن على بعض‬ ‫األخوة زواجا " إسالميا " طالبين منا الضغط على أبناء جاليتنا من أجل تسجيل زواجهم في‬

‫الدوائر الحكومية حماية لهن وألطفالهن ‪ .‬و لقد تعدى األمر حتى إلى البنات المسلمات اللواتي‬ ‫وقعن في شباك هذا الزواج و عند أول خالف ‪ ،‬أنكر الزوج الزواج واختفت الوثيقة والشاهدان‬ ‫والمأذون ‪ ،‬كما اختفت األخالق اإلسالمية ‪ .‬و ليس هذا كالما في الهواء فأفراد الجالية‬

‫يعرفون تمام المعرفة أسماء بعض تلك األخوات اللواتي انتهين على أرصفة شوارع أوروبا بعد‬

‫أن وقعن في شباك بعض دعاة اإلسالم والمحسوبين على بعض تلك المجموعات اإلسالمية ‪.‬‬ ‫إن الفهم الخاطئ للدين مثال دفع أحد األخوة لضرب ابنته ضربا مبرحا إلجبارها على الكتابة‬ ‫باليد اليمنى ألن الكتابة باليد اليسرى حرام ‪ ،‬مع أن الطبيب شرح له أن حالة ابنته حالة‬

‫طبيعية ناتجة عن تغير فسيولوجي في الدماغ وال يمكن إجبارها على الكتابة باليد اليمنى ‪ .‬و‬

‫لقد كانت زوجته تشكوه لنا ولم نكن لنستطع إقناع األخ بخطأ سلوكه بل تطور األمر بأن‬

‫ضرب زوجته ضربا مبرحا ألنها شكته لنا ‪ .‬و يطول بنا الحديث لو أردنا التوسع في ذكر‬


‫‪144‬‬

‫الوقائع المماثلة والتي كانت تثير حفيظة مواطني البلد و تعطي للخطاب المسيحي األصولي‬

‫المعادي الحجة و المبرر لمعاداتنا وعزلنا ‪.‬‬

‫و مما كان يزيد الطين بلة أن مجموعات من" الدعاة" من الوطن كانت تزورنا بين الحين‬

‫واآلخر من أجل نشر الدين اإلسالمي بين المواطنين في أوروبا‪ .‬و أذكر كيف دعيت مرة من‬ ‫قبل المسئولين لمعالجة موقف محرج أثارته مجموعة من الدعاة وصلت يومها قادمة من‬

‫إحدى البلدان العربية‪ .‬وحال نزول المجموعة من القطار ‪ -‬و كان أفراد المجموعة يرتدون‬

‫" دشاديش " لم يعد يعرف لونها‪ ،‬و لحاهم كادت تغطي بطونهم ‪ ،-‬أخذ أفرادها بالتحرش‬

‫بالمارة لدعوتهم إلى الدين اإلسالمي ‪ .‬و طبعا لم يفهم مواطني البلد حديث أخوتنا "الدعاة"‬

‫ألنه لم يكن بينهم أي لغة مشتركة فال" دعاة" اإلسالم هؤالء يتكلمون اللغة السلوفاكية وال‬

‫مواطنو ا البلد يفهمون العربية ‪ .‬و كان منظر األخوة يثير الريبة وال يدعوا إلى االرتياح‬ ‫والطمأنينة مما دعا بعض المارة لدعوة رجال الشرطة ‪ .‬ولقد ظن البعض أنهم لصوص‬

‫وارهابيون‪ ،‬أما البعض اآلخر فلقد اعتقد أنهم هاربون من مستشفى األمراض العقلية ‪.‬‬

‫و لقد أتحفنا أحد الدعاة القادمين من الوطن العربي في خطبة جمعة بدعوة األخوة الطالب‬

‫المسلمين على ترك علوم الفيزياء و الكيمياء والطب وغيرها ودراسة علوم الدين ألن علوم‬

‫الدين تحتوي على كل تلك العلوم ‪ .‬كما أنه من الواجب عدم الدراسة في بالد الكفر والتعلم‬

‫على أيدي الكفار ‪.‬‬

‫إن اهلل سبحانه قد خلق اإلنسان وأكرمه من دون خلقه بالعقل والمعرفة و حرية اإلرادة ‪ ،‬ولقد‬ ‫أكرمه بذلك حتى فوق المالئكة حيث أمرهم أن يسجدوا له‪ ،‬احتراما و إجالال للعقل اإلنساني‬

‫الذي هو هبة اهلل ‪ .‬وال يحق ألحد أن يحد من عمل هذه الهبة أو يعطلها ‪ .‬والحرية هي‬

‫الطاقة التي تحرك العقل وتنشطه ‪ .‬و العقل بدون حرية إرادة هو عقل معطل ‪ ،‬وال يحق ألحد‬ ‫وبأي صفة كانت أن يحد من إرادة اإلنسان و حرية تفكيره ‪ .‬و حرية التفكير ال تعني فقط‬

‫حرية البحث والدرس والتعبير وابداء الرأي ‪ ،‬وانما تعني أيضا الحق الكامل في المشاركة في‬ ‫صنع القرار السياسي واالجتماعي واالقتصادي ‪ .‬أي الحق في المشاركة في صنع كل الق اررات‬

‫التي تتعلق بأموره الحياتية بجميع أشكالها ونواحيها ‪ .‬وأداة تطبيق هذا الحق تكمن في حرية‬

‫انتخاب ممثلي الشعب من قبل كافة أفراد الشعب رجاال و نساء و على كافة مستويات صنع‬

‫القرار من أصغر وحدة سكانية كالقرية إلى ممثلي الشعب بكامله ‪ .‬ولندعو ذلك ديمقراطية أو‬ ‫شورى أو أي شئ آخر ‪ ،‬ولندعو المجالس المنتخبة مجالس برلمانية أو مجالس شورى أو‬

‫مجالس شعب ‪ ،‬فاألسماء ليست بذي أهمية و لكن المهم هو المضمون ‪.‬‬


‫‪145‬‬

‫ومن يدعو انتخاب الشعب لممثليه " بحكم الطاغوت " إنما هو الطاغوت بعينه أو من جند‬

‫الطاغوت ‪ .‬فالطاغوت هو حكم الفرد المتسلط برقاب العباد وأموالهم و مصيرهم ‪ .‬الطاغوت‬

‫هو استبعاد جماهير الشعب عن المشاركة في صنع الق اررات التي تمس حياتها و معاشها و‬ ‫مستقبلها ومستقبل أطفالها ‪ .‬الطاغوت هو سلب ثروات البلد لمصلحة أفراد أو مجموعات ‪.‬‬

‫الطاغوت هو خنق الحريات وحبس العقل واغتياله ‪ .‬الطاغوت هو احتكار الدين واستغالله‬ ‫للمحافظة على مصالح السلطان الجائر المتسلط أو للمحافظة على مصالح مجموعة من‬

‫الرجال عينت نفسها وكيلة اهلل على األرض ‪ ،‬تتكلم باسمه وتتسلط على مقدرات ومصالح‬

‫العباد باسمه ‪ ،‬وتستغل سالح التكفير من أجل اغتيال العقل ‪-‬هبة اهلل لإلنسان والذي كرمه‬

‫اهلل به فوق كل المخلوقات ‪ ،‬حتى طلب من المالئكة السجود له تكريما و تعظيما ‪.‬‬

‫التكفير سالح ذو حدين ‪،‬فإنك إن أشهرته في وجه غيرك فإنك حتما ستجد من يشهره في‬

‫وجهك و لن يعجز شاهروه عن إيجاد األسباب و المبررات لذلك ‪ .‬و لقد سمعت خطيب‬

‫مسجد يكفر الشيخ محمد الغزالي بحجة أنه ضد السنة النبوية ‪ ،‬وكان الشيخ الغزالي رحمه اهلل‬

‫بدورة قد كفر المرحوم فرج فوده ‪ .‬ولقد سمعت خطيبا آخر يكفر الشيخ الجليل القرضاوي‬

‫بحجة أن الشيخ يدعو إلى الديمقراطية و االنتخابات و هو بذلك يدعو إلى حكم الشعب و‬

‫ذلك معارضة صريحة لحكم اهلل و شرع اهلل ‪ .‬واألمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى ‪.‬‬

‫لقد زرع في الوعي اإلسالمي عبر السنين أطنان من األوهام واألباطيل و الخرافات ‪ ،‬ليست‬

‫هي من الدين في شئ ‪ ،‬بل غطت على الدين و حلت محله ‪ .‬كما غطت حتى على اإلنتاج‬

‫الفكري اإلسالمي الجاد لبعض علماء السلف ‪ ،‬حتى أمست قلعة شامخة من الجهل والتأخر ‪.‬‬ ‫فابتعد المسلمون عن التفكير العلمي وتحجر فكر األمة ‪ ،‬وتعطلت قدرة العقل على البحث‬

‫والدرس واالكتشاف ‪ .‬و أصبحت أمور الدين تدور حول أمور ال تهم اإلسالم والمسلمين مثل‬

‫كيفية لبس الحذاء و نزعه ‪ ،‬و دخول الحمام و الخروج منه و طريقة االستحمام ‪ ،‬و تربية‬

‫اللحى و حلق الشوارب و لبس الذهب أو الحرير و غيرها كثير‪.‬‬

‫و كتبت المؤلفات في عذاب القبر و أهوال القبور ‪ ،‬حيث يسلط على الكافر في قبره تسعة و‬

‫تسعون تنينا والتنين سبعون حية لكل حية سبعة رؤوس يلسعونه و يخدشونه إلى يوم القيامة‬

‫‪ ، ) 1( .‬و ملك الموت الذي ضربه النبي موسى فقلع عينه مع أنه كما تروي كتب التراث‬ ‫ضخم الجثة حتى بلغ ‪ -‬رأسه في السماء السابعة و قدميه في األرض الدنيا ‪ -‬وامتألت‬

‫المؤلفات اإلسالمية باألساطير التوراتية و الخرافات مثل قصة سليمان و ما فيها من أكبر‬

‫حشد من الخوارق و المعجزات التي تقوم بها الشياطين و الجن التي كانت تبني لسليمان‬

‫القصور و تستخرج الذهب واليواقيت من معادنها والجواهر واألحجار الكريمة من أماكنها كما‬


‫‪146‬‬

‫تأتي بالدر من البحار الخ من المعجزات ‪ .‬و قصة ذي القرنين الذي سمي بذلك لبلوغه أطراف‬

‫األرض ‪ ،‬حيث سخر اهلل له السحاب يحمله حيث أراد ‪ ،‬و قصص آجوج و ماجوج الحفاة العراة‬ ‫الذين لهم وبر كاإلبل و لكل منهم أذنان يفترش إحداهما و يلتحف باألخرى و لهم مخالب و‬

‫أضراس و أنياب كالسباع إذا جاعوا ينتشرون كالجراد و يأتون على كل شيء و ينجب الواحد‬ ‫منهم ألفا ‪ .‬و قصة نمرود الجبار الذي بنى برج بابل و الذي طار إلى السماء في تابوت‬

‫تحمله النسور فأرسل اهلل عليه ذبابا من البعوض فدخلت واحدة في منخره مكثت فيه أربعمائة‬

‫سنة و كان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلها حتى أهلكه اهلل ‪ .‬و قصص مماثلة كثيرة‬

‫يمكننا أن نجدها في كتب الت ارث الديني االسالمي‪)2 ( .‬‬

‫ولقد زرع في وعي األمة بأنه ال فائدة من البحث والدرس واالكتشاف ‪ ،‬ألن أسالفنا قد بحثوا و‬

‫درسوا واكتشفوا لنا كل ما نحن في حاجة إليه‪ ،‬و علينا فقط العودة لتلقي ما اكتشفوه لنا‬

‫والعمل به ‪ ،‬فبه وفيه خالصنا مما نحن فيه من تأخر و جهل ‪ .‬وأصبح الفكر الديني لمجموعة‬ ‫من الرجال هو الدين اإلسالمي بل وحل محله ‪ .‬وأي مخالف لرأي هذه المجموعة ‪ ،‬هو خارج‬

‫عن األمة وعن دين محمد (ص) ‪ .‬فهم الفرقة الناجية و مخالفيهم‬

‫هالك ون و هم أهل الحق و االستقامة و مخالفيهم أهل باطل و زيغ ‪ ،‬وهم أهل السنة و‬

‫مخالفيهم أهل البدع ‪ ،‬و هم أهل السلف ‪ ،‬ألن السلف خير من الخلف ‪ .‬و قسموا تاريخ‬

‫األمة إلى مراتب و قرون ‪ .‬فخير األمة وأفضلها بعد الرسول هم أصحابه الذين شاهدوا الرسول‬

‫‪ ،‬ثم التابعون الذين شاهدوا الصحابة ثم تابعوا التابعين الذين شاهدوا التابعين ‪ ،‬و هكذا‬

‫يستمر السقوط التدريجي واالنحطاط واالنهيار من األفضل إلى األسوأ والجيل السابق خير‬ ‫من الجيل الالحق ‪ .‬كل ذلك على مبدأ أن " السلف خير من الخلف " و أن " ما يجب‬

‫اعتقاده أن الصحابة أفضل القرون ثم التابعون لهم ثم أتباع التابعين ( وهكذا ) والتابعي من‬

‫اجتمع بالصحابي دون اشتراط طول االجتماع كما في الصحابي مع النبي ‪ ،‬و رتبة أتباع‬

‫التابعين تلي رتبة التابعين وهكذا ‪) 3 ( .‬‬

‫و رغم احترامنا العميق للسلف و تقديرنا لما تركوه لنا من تراث ضخم ال يزال يغني عقلنا و‬

‫فكرنا فمن غير المعقول إيقاف التاريخ و الفكر عند مرحلة السلف و التعايش مع عقدة‬

‫النقص القائلة بأن " السلف خير من الخلف " و االستسالم اإلرادي للسقوط واالنهيار‬

‫التدريجي باعتباره قد ار محتوما ‪ .‬فإن ذلك يدفع إلى تحجر العقل والفكر و قفل أبواب‬

‫الدرس واالجتهاد و يؤدي إلى العزلة و عدم مواكبة العصر والتطور ‪.‬‬

‫لقد آن األوان للخروج من سياسة دفن الرؤوس في الرمال كالنعامة ‪ ،‬و الكف عن منح‬

‫القداسة لروايات السلف و خاصة ما ورد في الصحاح و على رأسهم البخاري و مسلم ‪،‬‬


‫‪147‬‬

‫باعتبارها نصوص قاطعة الثبوت ‪ .‬و على المسلمين أن يختاروا بين صفاء هذا الدين و‬

‫مواكبته مع العصر والتطور و بين التضحية بتلك القداسة التي أضفاها السلف و من بعده‬

‫الخلف على النصوص الثانوية و التي أعطيت بدون دليل قاطع مصطلح ‪ -‬السنة النبوية‪ -‬و‬ ‫منحت سلطة اإللزام ‪ .‬على المسلمين العودة إلى الوحي الخالص و هو ماال يتوافر إال في‬

‫القرآن الكريم ‪ ،‬و إلى السنة النبوية الثابتة ثبوتا قطعيا ال شك فيه و هي السنة النبوية‬

‫المتواترة و خاصة في ما يتعلق بالعبادات ‪.‬‬

‫النص القرآني كما وصفه علي بن أبي طالب " حمال ذو وجوه " أي يمكن قراءته قراءات‬

‫مختلفة ‪ .‬و تختلف قراءاته باختالف المجاالت الثقافية و الميادين العلمية التي يتحرك في‬

‫ربوعها قارئه ‪ ،‬و كل قراءة تحمل هوية قارئها ‪ .‬و كل قارئ يدعي أن قراءته‪ -‬شرحه و‬

‫تفسيره ‪ -‬هي القراءة الوحيدة الصحيحة ‪ ،‬و يحاول استبعاد القراءات األخرى إنما هو بذلك‬ ‫يستبعد النص األصلي و يقوم بإحالل قراءته محله ‪ .‬إن ميزة النص القرآني و إعجازه تكمن‬

‫في اتساعه و قدرته على احتواء مختلف القراءات ‪ ،‬و في " كونه يتسع معناه اتساعا يجمع‬

‫المختلفات ‪ ،‬و يقبل المعترضات ‪ .‬فنحن نجد في هذا النص ‪ :‬الناسخ و المنسوخ ‪ ،‬و الظاهر‬ ‫و الباطن ‪ ،‬و المحكم و المتشابه ‪ ،‬و الحقيقي و المجازي ‪ ،‬و المجمل و المفصل ‪ ،‬و العام‬

‫و الخاص ‪ ،‬كذلك نقف فيه على خطاب الواقعي و الحلمي ‪ ،‬و الحسي و المثالي ‪ ،‬و الشاهد‬ ‫و الغائب ‪ ،‬و الواحد و الكثير ‪ ،‬و العقل و النقل ‪ ،‬واألمر و النهي ‪ ،‬و الجبر واالختيار ‪ ،‬و‬

‫التقوى و الفجور ‪ ،‬واإللهي و الشيطاني ‪ ) 4 ( .‬و بناءا على ذلك فان الخطاب القرآني "‬

‫كالم تتسع معانيه و تتعدد وجوه الداللة فيه " (‪ ) 5‬و ال يمكن ألحد أن يدعي امتالك حقيقته‬ ‫‪ .‬واالختالف هنا إذن مشروع و مقبول به ‪ ،‬و عامل إثراء للفكر و العقل عامة و للفكر والعقل‬ ‫اإلسالمي خاصة ‪ ،‬و ذلك على أرضية حرية الفكر واحترام الرأي اآلخر ‪ .‬واإلسالم عالم متعدد‬

‫األطراف‪ ،‬واسع‪ ،‬و متغير و ينتمي إليه جميع المسلمين بتصوراتهم المختلفة لإلسالم و‬

‫كيفية ممارسته و التعامل معه ‪ .‬و ليس ألحد أن يدعي احتكاره و النطق باسمه‪ .‬كما ليس‬

‫ألحد الحق برفض المسلم اآلخر المختلف عنه في الرأي وانكار إيمانه و نفيه من حظيرة‬

‫اإلسالم ‪ .‬فاإلسالم ليس حظيرة مغلقة حكر على مجموعة من الناس تدعي امتالك الحقيقة‬ ‫اإلسالمية ووحدها تقرر ما هو إسالمي و ما هو غير إسالمي ‪.‬‬

‫هذه هموم مسلم ال يدعي امتالك الحقيقة و ال يدعي امتالك الحلول وانما يقول رأيه‬

‫المتواضع فيها ‪ ،‬من منطلق الحق المقدس لحرية إبداء الرأي‪ ،‬و ينادي بهذا الحق لآلخرين‪،‬‬

‫مهما كانت قيمة الرأي و مهما كان مصدره ‪ .‬و ليس المهم أن يكون الرأي صائبا أو خاطئا ‪-‬‬ ‫مع اعتقادي انه في كل رأي جزء من الحقيقة ‪ -‬وانما المهم أن نفتح الباب على مصراعيه‬


‫‪148‬‬

‫للفكر و التفكير و لنغلقه في وجه االستبداد و التسلط الفكري و التكفير‪ .‬فبالتفكير الحر و‬

‫حماية حق الغير بالتفكير وابداء الرأي نخرج أنفسنا من دائرة القصور و العجز العقلي الذي‬ ‫نعيشه منذ حقبة طويلة من الزمن و نفتح المجال إلنتاج ما هو جديد و أصيل و مبتكر في‬

‫مختلف مجاالت الفكر والمعرفة ‪.‬‬


‫‪149‬‬

‫مراجع الفصل السابع‬ ‫‪-1‬الطهطاوي علي أحمد ‪-‬أهوال القبور‪ -‬المكتبة الثقافية بيروت ‪ -1995‬ص‪7 :‬‬

‫‪-2‬راجع مروج الذهب للمسعودي ‪ ،‬و البداية و النهاية ألبن كثير و عرائس المجالس للثعلبي‬ ‫و غيرها فهي مليئة بمثل هذه الخرافات‪.‬‬

‫‪ -3‬محمد الفضالي ‪-‬الكفاية – تحقيق الشيخ ابراهيم البيجوري دار غحياء الكتب العربية ‪،‬‬

‫ص ‪ 72-71 :‬مقتبس عن كتاب ‪ ،‬من العقيدة إلى الثورة ‪ ،‬ج ‪ 5‬ص ‪ 306 :‬تأليف ‪ ،‬د‬ ‫حسن حنفي – م س ‪-‬‬

‫‪ --4‬علي حرب ‪ -‬نقد الحقيقة – المركز الثقافي العربي – بيروت –‪ - 1995‬ص ‪25 :‬‬ ‫‪ --5‬علي حرب ‪ -‬المصدر السابق ص ‪34 :‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.