2
مفتتح املواطنة سعي نحو التغيير
مفتتح العدد
وسيم الكردي في األول من أيار من هذا العام ،2009رحل املسرحي البرازيلي أوغستو بوال ،بعد رحلة طويلة من العمل مع قطاعات اجتماعية متنوعة أبرزها واملهمشة واملضطَّ هدة ،وقد سمى كتابه األول «مسرح املضطهدين» ،وقد عرف أكثر ما عرف بتوظيفه ملا يسمى مبسرح «املنتدى» أو الفئات الفقيرة ّ «املنبر» ،الذي يقوم على إشراك املتفرجني في املشهد املسرحي الذي يعالج قضايا لهم شأن فيها ،بحيث يشتركون في األداء املسرحي داخل املشهد لتقدمي اقتراحات بديلة في محاولة لتخليص املضطَّ هد من االضطهاد الواقع عليه .وهناك عدد متزايد من املعلمني الذين يستخدمون هذا األسلوب املسرحي في تطوير مستوى احلوار بني الطالب ودفعه إلى مستويات عميقة ومتنوعة ،تأخذ بعني االعتبار وجهات النظر املختلفة والنابعة من زوايا نظر متنوعة ،ويصل الطموح بكثيرين ممن يتبنون هذا األسلوب إلى اعتباره قادر ًا على إحداث تغيير اجتماعي حقيقي .إن مساهمة بوال األساسية تقوم في ِ ومضطهد -مسرحياً ،وإشراك املتفرج فيها باعتباره مشاهداً/ممث ً ال ليقدم اقتراح ًا مضطهد ظني على حبك الصور املجتمعية -غير العادلة أو القائمة على َ عملياً ،وليس لفظي ًا فقط ،إنه ينتقل إلى املنصة بجسده ومشاعره وحواسه ومواقفه ،ويعيد تشكيل العالقات اإلنسانية املجسدة في املشهد املسرحي وفق رؤية تشتغل على إزاحة الظلم وإقامة العدل .إن املتفرج/املشاهد يجتاز الفرجة إلى الفعل ،أو لنقل إنه يعمل على تضافر الفرجة مع الفعل كي تكون ممكنات التغيير قائمة. في هذا العام اختير بوال ليكتب الرسالة السنوية لليوم العاملي للمسرح ،وقد اختار أن يختمها مبا يلي ... « :فأن تكون مواطن ًا ال يعني مجرد العيش في كنف مجتمع ما ،وإمنا يعني السعي إلى تغييره» .وقد استلهم كثير من املعلمني في أنحاء مختلفة من العالم ،مبا فيها فلسطني ،من بوال ،هذه الرغبة الكبيرة التي تتطلع إلى إحداث تغيير في املجتمع الذي نعيش فيه ،وليس فقط أن نتفرج على ما يجري ،بل أن يكون لنا شأن فيه .وحني حتدث بوال عن التغيير املناط بنا كدور اجتماعي أصيل ،فإنه بقي وفي ًا «ألبيه األخير» باولو فريري ،الذي قدم نظرية «تعليم املضطهدين» عملياً ،التي يعرف كثير من معلمينا مفهوم «التعليم البنكي» الذي أنشأته ،حيث يتحول الطلبة إلى خزائن تخزن وحتفظ وتتذكر ،وال شأن لها بالوعي أو الفهم أو اإلدراك، وبالتالي ال تعي االضطهاد الواقع عليها ،ومن ثم فلن تسعى إلى إزاحته.
رؤى تربوية -العدد الثامن والعشرون
بالتأكيد إن طموح التغيير أو الرغبة فيه متتد لتشمل الكثيرين ،ورمبا في الغالب معظم الناس إن لم يكن جميعهم ،ألن الرغبة في التغيير تقوم على توقع يتوافق مع ما يريد الناس للحياة أن تكون عليه؛ إنهم يريدون أن تكون احلياة أفضل ،أحسن ،أمتع ،أروع ،أجمل ،ألذ ،أنفع ،أسلس ،أغدق، أورع ،أنبل ،أعدل ،أصلح ... ،إلى آخر هذه القائمة من أفعال التفضيل التي ال نهاية لها ،والتي يتوافق الناس على بعضها ويتخالفون على بعض آخر ،ليس على مستوى الغاية فحسب ،بل على مستوى تفسيرها وتأويلها .ولكن كيف ميكن لذلك أن يتحقق؟ إن ذلك يقوم أساس ًا على تقديرنا لدورنا االجتماعي ،فأن نكون فاعلني تربوي ًا يتطلب أن ننظر إلى دورنا من وجهة ترى التعليم ضمن السياق االجتماعي ،وضمن منظومة عالقاته، ال منبت الصلة عنه وعنها .إن دورنا االجتماعي ينبغي أن يقوم على إحداث فرق؛ أي إحداث تغيير مهما بدا صغير ًا ومحدوداً ،فدورنا التربوي ال ينفصم عن دورنا االجتماعي ،وهذا بالضبط ما سينتقل بنا من متفرجني إلى فاعلني حقيقيني مهما بدا الواقع كئيباً ،فهل هناك ما هو أجدر بأن يكون دافع ًا للتغيير من واقع كهذا؟! إن إحداث فرق في التعليم لن يحدث عبر قرارات بغض النظر عن املستوى الذي يطلقها ،بل ميكن له أن يقوم على املشاركة والتحاور الدائم مع املعلمني والطلبة واملديرين واألهل واملؤسسات املجتمعية وكذلك األفراد . ...والبناء على جتاربهم وخبراتهم ومعارفهم ،وليس بناء على تفصيل مجرد ال يقوم على تقدير حقيقي ملا يجري في احلياة ،في املجتمع ،في املدرسة ،في ساحتها ،في حجرة الصف ،في غرفة املعلمني ،في الطريق إلى املدرسة، وفي الطريق إلى البيت. ... ، إننا ،وعبر جتربتنا ،مع املعلمني بشكل خاص ،نرى أن هناك الكثير من املعلمني ،وعلى الرغم من صعوبة ظروفهم ،فإنهم يعملون بدأب وبإخالص وبدافعية عالية ،وهي تقوم في جوهرها على النمو املتأني املستمر التراكمي الذي يقوم على التجربة الواقعية ،والتجريب املستمر ،ومشاركة اآلخرين في اخلبرات املتشكلة ومحاورتها ،ولكي يستمر ذلك وينمو أكثر فأكثر ،فإنه ينبغي إحداث فرق جوهري في واقع املعلمني وفي ظروفه ،ينبغي علينا أن
نطور عبر نظامنا التعليمي نظام حوافز فعا ً ال ونوعياً ،يقوم جوهرياً ،على نوعية العطاء واملساهمة التي يقدمونها .إن املعلمني قادرون على حتقيق نتائج تقدر ما لديهم ،وتنبني على جتربتهم ،وتتيح لهم مجا ً ال ملتعة التجريب واالستكشاف ،وينبغي أن يدركوا رائعة إذا تسنى لهم أن يعبروا جتربة مختلفة ِّ أن هناك معنى حقيقي ًا لعملهم ،ومعنى حقيقي ًا لوجودهم ،ولكرامتهم ،وهذا ال ميكن أن يتحقق دون أن يتغير املجتمع باملقابل؛ املجتمع الرسمي واألهلي ،املؤسسي والفردي.
3
وعلينا أن ندرك أن املسألة ليست بالبساطة التي نتوقعها ،فسنجد من يصد محاوالت التغيير ،ويعمل على وأدها ،ويريد لألمور أن تبقى على حالها ،وأن يبقى التعليم على حاله ،فال مصلحة له في تغيير يقوم على العدالة والتشارك والتنوع واالختالف ،ويتيح مجا ً ال لإلبداع والتقدم العلمي واالجتماعي ،إن هذا يتطلب تفاعل اجتماعي ،ليس على مستوى التغيير في نوعية التعليم وحسب ،بل ينبغي أن يرافق ذلك تغيير في السياق الذي يقوم عليه التعليم وظروفه ،ومكوناته ،وآليات عمله ،ومنهجيات إدارته ،وطرائق تعامله مع املعلمني؛ سواء على مستوى «تأهيلهم واإلشراف على أدائهم» ،أم على مستوى حقوقهم وكرامتهم املهنية وحقوقهم اإلنسانية التي ال ينبغي التفريط فيها إذا أريد للتعليم أن يسهم في ارتقاء مجتمعنا ومتكينه من تفعيل مشروعه السياسي ،الذي يتطلع إلى احلرية ،ومشروعه االجتماعي الذي يتطلع إلى التقدم والرقي ،ولكن ضمن مفهوم إنساني ال ينبغي التفريط فيه ،وهو «العدالة» وفي كل مستوياتها ،وارتباط ذلك بالتأكيد بتجويد األداء ،وحتسني املساهمة الفردية واملؤسسية ونوعيتها.
مفتتح العدد رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
طالبات خالل حصة تدريبية في مدرسة غزة للموسيقى بعد إعادة افتتاح مقرها اجلديد.
4
ملف املعرفة كإطار للعلوم والثقافة
فاعلية الفكر بني مجتمع املعرفة واجتماعيتها
مالك الرمياوي
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
إن الثقافة هي املجال الرمزي الناظم للمجتمع وللحياة فيه (وهذا ما ّبينه الفكر احلديث) ،فالرمزية ليست أثر ًا للمجتمع ،بل إن املجتمع هو أثر للرمزية ،كما يرى “شتراوس” ،فالفكر بالنسبة للثقافة هو التاريخ فيها؛ أي مبعنى املتغير وصانع التغيير ،فإن كانت الثقافة هي “إطار اشتغاله” ومادته وموضوعه ،فإنه محركها والفاعل الرئيسي في “خلق ديناميتها” ،ما يعني أنه إذا “كانت الثقافة هي جغرافية احلياة ،فإن الفكر هو “الزمن التاريخي” فيها”. وفي هذه الرؤيا وضمنها “ َتولّد” هذا امللف كتجربة تنتج رؤيتها وتعبيراتها ،حيث كل جتربة عميقة هي جتربة تعيد إنتاج الرؤيا التي ال منتج ًا وخطاب ًا دا ً تنتجها بشكل يجعلها فع ً ال .وهذا التصور هو نتاج لتنامي جتربة العمل مع املعلمني والتفكير فيها ،ما أنتج تعبيرات مختلفة منها :براديغم جديد ،علوم وثقافة علمية ،اجتماعية العلوم ومجتمع املعرفة ،تعليم وثقافة علمية ضمن “الشرط اإلنساني للمعرفة والشرط االجتماعي للتعليم والتربية” ،وهذا ما يعطي للملف هويته اخلاصة؛ سواء عبر املواد املترجمة ،أم املواد املعرفية ذات الطابع الفكري ،أم األبحاث ذات الطبيعة التطبيقية ،فكلها تنطلق من توجهات ترى أن “نتائج العلوم هي نتاج تفاعل معارف الناس اللحظية مع موضوعات عاملهم ضمن منجهيات عصرهم” ،وبالتالي فهذه النتائج دائمة التغير ما دامت الصيرورة صفة مالزمة لظواهر العالم ومعارف البشر ومنهجيات املعاجلة ،وإن ترجمة ذلك في اإلطار التربوي تعني بناء التعليم على “جدلية مضامني العلوم ومناهجها في البحث والكتابة والتخييل”، فاحلقيقة نسبية ،وتعتمد على السياق والثقافة ،وكما يرى “باسكال” “فنقيض احلقيقة العميقة ليس اخلطأ ،بل حقيقة مضادة” ،وبالتالي فتعليم املعرفة بوصفها “حقائق” معزولة عن سياقات إنتاجها ومناهج تفكيرها ،هو تعليم ينطلق من املنجز ويقاربه كمطلق ،ويغفل “احلي”؛ أي سيرورة البحث وحيوية املنهج ،وضرورات اللحظة والسياق، وتداخالت الثقافة واالقتصاد والسياسة ،ويتجاهل “الدور الذاتي للعلماء والباحثني” ،الشيء الذي “يلغي املضمون احلواري للتعليم 1 والتعلم من خالل إغفال اجلانب الذاتي واجلانب النسبي في العلوم”. إذا كان ال تعليم وال تعلم إال ضمن سياق هو إنساني من حيث تفاعله األصلي ،وهو كذلك في شكل تنظيميه ،فالتعليم هو «فعل إنساني الطابع» ،وهو من صنع اإلنسان من حيث تشكله ،وما دام التعليم صنعة اإلنسانية والتعلم جزء ًا منها ،فإن ذلك يتطلب وضع التربية ومضامينها املعرفية ضمن الشرط اإلنساني؛ «فمهمة املعرفة موضعة اإلنسان في العالم ال فصله عنه» كما يؤكد موران .ومن هذا التصور ،فإن «دور التعليم» في املجتمع وفي احلياة وفي األفراد؛ سواء أكانوا معلمني أم متعلمني ،يتحدد بشكل النظرة له وشكل املنظور الذي يقوده ،ولهذا فإننا نحاول في ملفنا هذا -كما في ملفاتنا السابقة -إعادة موضعة
التعليم «كعملية» متارس وكمنتوج يتحقق في سياق «املشروع املجتمعي» عبر خلق أفراد فاعلني ،ومعارف قابلة لالستخدام ومناهج تفكير وتأمل فاعلة ومرنة ،فإذا كانت الغاية األهم للتعليم هي تغيير العالم ،فإن نقطة الرسو األولى هي تغيير الرؤيا وشكل التحديق وموقع املعرفة وأدوات الفهم. وقد بدأنا هذا املسار من توجهات عدة ،هي نفسها نتاج لتجربة العمل، ونتاج للحوار الدائم مع املعلمني ،حوار «معرفي تطبيقي» ميس املمارسة، ويحدث في حقل حدوثها ويقاربها بوصفها فاعلية فكرية ذات صلة مبركز احلياة .وذلك عبر العمل مع املعلمني لبناء جتارب تعليمية تتجاوز رهانات املنهاج وحدود التلقني والفعل التلقائي نحو أشكال فاعلة ومفتوحة على املمكنات والدالالت ،إلنتاج ممارسات جديدة وحلول مبتكرة وإعادة هيكلة العالقات التربوية ضمن تصورات جديدة ،تنفتح على أشكال من التأمل البعدي املبني على قاعدة معرفية تضمن له عدم البقاء في أسر احلدوس العفوية ،واالرجتال التلقائي ،الذي ينفتح على خلق خطابات جديدة وتعبيرات جديدة تكشف ما في هذه التجارب من عمق في العالقات ،وما مسها من تغيير ،وتولد للمعلم عني ثالثة، ما ميكنه من رؤية تاريخ عمله وذاكرته باألولى ،ويوجه الثانية نحو أفق التغيير ويجمع النظرتني في نظرة نحو املتصاعد ،املتصاعد الذاتي واالجتماعي. ومبا أننا نتطلع إلى إحداث فرق في التعليم ،فقد اعتمدنا أسلوب عمل يقوم على أن «نحكي عن تعليم نوعي ،نبني كيف ،نطالب بسياسات وقرارات توفر مناخاته وممكناته ،ولكننا لم نكتف بذلك ،بل انخرطنا مع املعلمني في إحداث هذا الفارق ،عبر املمارسة ،ومن خاللها ،ومن خالل التأمل فيها ،والعمل على تطويرها «وقد اعتمدنا في ذلك على «وعي املعلم مبوقعه» ،عبر سياقات حوارية أفضت إلى حتوالت في «نظرته للمهنة والدور» ،من خالل إعادة وضع املهنة كعمل في سياق بناء الذات الشخصية ،والدور االجتماعي النشط. ثمة قصة حتكي عن حجارين يعمالن في دق احلجر بجوار بعضهما، سئال :ماذا تفعالن؟ فأجاب األول :أدق احلجر ،وأجاب اآلخر :أبني
مسجداً .والفارق في اإلجابة يعكس (االختالف في املنظور) ،فكل منهما يهيكل دوره ويراه بطريقة مختلفة ،فاألول ال يرى من عمله إال حلظته ،وانعزاله ،وحرفيته ،وحرفته ،في حني اآلخر يراه في سياق بناء متكامالً ،وهذا ينطبق على التعليم وعلى منوه وتشابكه حتى يصبح ً منظور املعلم ،فثمة معلم يرى نفسه «يدق حجراً» أو يعلم حروف ًا أو أرقام ًا ...وآخر يرى نفسه يبني مجتمعاً. ومن هذه احلكاية ميكننا القول أن ثمة نوعني من املعلمني ،نوع يرهن دوره في حدود الوظيفة والروتني واألجندة السياسية للمؤسسة وللتوجهات الثقافية التقليدية ويرسخ مفاهيم الثبات واالتكال والعفوية في ذاته وعند طالبه ،ونوع آخر يفتح املهنة على آفاق إنسانية واجتماعية
ويعيد النظر في دوره من خالل فتح الدور على أجندة جديدة وتخيالت اجتماعية تنويرية وإبداعية تفتح احلوار االجتماعي على أقصى ممكناته، على أسئلة احلرية والتحرر ،على طموحات التنوير والتعدد الثقافي، وعلى أسئلة املعرفة وسياساتها إلعادة موضعتها كدعامة للكفاح ال أداة للسيطرة .وهذا هو املعلم الذي يعلم أحرف ًا وأرقام ًا وكلمات ومهارات وطرائق وتوجهات ومشاعر ،ألنه يضعها ضمن سياق فاعل وورشة اشتغال يشغل فيها الطالب عقولهم وأجسادهم ،ويختبرون معارف، ويضعونها في مواضع االستخدام ،ويدركون موضوعات تعلمهم، ويكونون مسؤولني عنه .إن هذا التعليم هو انخراط حقيقي في البناء االجتماعي للمجتمع ،وفي املساهمة الكفاحية ،ومشروع التحرر الوطني ،عبر اقتراح متخيالت جديدة في التعليم واحلياة والسياسية.
5
الهامش 1للتعمق في هذه املوضوعات واملقوالت ،انظر في مواد امللف ،مقالة كل من أشرف البطران ،ونادر وهبة ،ويوسف تيبس ،ومشهور البطران وآخرين.
ملف الثقافة العلمية رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
طفلة تعزف على آلة الكمان خالل حصة تدريبية في مدرسة غزة للموسيقى.
6
ي ال َو ِ ة ِ العلميَّ ُ قا َف ُ ُّ الثَّ َ موح ع اق ِ ة ب َ نْ َ والط ُ
وليد املسعودي
ملف الثقافة العلمية
يرتبط مفهوم العلم في العقل الغربي احلديث بالتطورات املتراكمة التي حدثت على صعيد عالقة اإلنسان مع الطبيعة واملجتمع من تطورات في مجال التجارة ،والصناعة ،وبداية املكتشفات العلمية التي غيرت شكل احلياة على األرض منذ أربعة قرون وال تزال في وتيرة متصاعدة ومتنامية من التشكل ،وإعادة اإلنتاج ،في صور متعددة من التخصص والتنوع واالختالف ،بعد أن كان (أي العلم) تابع ًا وخاضع ًا ومهيمن ًا عليه من قبل أشكال املعرفة التقليدية التي حتارب اإلبداع والتجديد ،متمثلة بسلطة الكنيسة التي كانت تضع علومها في خانة املقدس ،الذي ال ميكن أن يخضع إلى لغة العلم والتجربة ومتثيله بشكل بشري .هكذا كانت “املعرفة العلمية” معرفة دينية غير مؤسسة على النظام والعقل ،تستند إلى األسطورة والرمز والتعالي ...الخ.
وتاريخ الصراع بني العلم والكنيسة يحمل في طياته صراع ًا بني طبقات دينية كهنوتية وإقطاعية من جهة ،وبني جتارية عقالنية برجوازية ناهضة من جهة أخرى ،بدأت مع علماء وفالسفة مثل فرنسيس بيكون ،ورينيه ديكارت ،وكوبرنيكوس ،وغاليلو ،ونيوتن ،وباسكال ...الخ ،بعد أن مت االنتقال من مفهوم “الذاتية” التابع إلى نظام سلطة الكنيسة ،ضمن قيم اجلماعة التي تفكر بد ً ال عنه وحتيط وجوده إلى مفهوم الذاتية الذي يطور وجوده ويعيد إنتاجه بشكل تراكمي ومنظم ،معتمد ًا على قيم احلرية واالختيار والبحث العلمي املستمر ،وصو ً ال إلى معرفة ال متلك النهاية أو احلدود مع املعرفة العلمية احلديثة ،وذلك بسبب ما أسلفنا من ممهدات أعاله ،فض ً ال عن ما جاءت به املكتشفات احلديثة في العلوم التي غيرت معنى الزمان واملكان من الثبات واجلمود إلى التغيير واحلركة الدائبة ،متمثلة بالنظرية النسبية الينشتاين.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
إن مفهوم العلم في شكله احلديث أصبح مؤسس ًا على النظام والتراكم واملرونة والنسبية واحلركة والتغيير ...الخ ،وهذه األسس هي وليدة احلداثة الغربية وتطورها املتصاعد بشكل مستمر. ولكن كيف يبدو أو كيف تظهر ثقافة العلم في مجتمعاتنا العربية اإلسالمية؟ وهل استطاع ذلك املفهوم لدينا أن يتجاوز “تزمنه” أو صنميته عبر أجيال وحقب وثقافات منذ ظهور اإلسالم إلى وقتنا الراهن؟ وهل تشكل املدرسة في ذاتها نواة علمية في إيصال املعرفة دون محددات معينة ترسمها أشكال السلطة اجلاهزة من سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية ...الخ؟ وماذا عن املجتمع هل ميلك النظام أو االنتماء إلى ثقافة النظام واملعرفة املنظمة ضمن أشكال معرفة غير سلطوية أو قسرية؟ وما هي العقبات التي تقف في طريق العلم أو التفكير العلمي؟ وكيف ميكننا أن نحقق العلم كسلطة وطاقة بشرية نفاذة إلى املستقبل ،وجعلها مؤثرة وجاهزة ضمن حيز التفكير
والسلوك في ذهنية األفراد واملجتمع على حد سواء؟ ال تزال املعرفة العلمية أو مفهوم العلم لدينا ال يحمل املكانة الطبيعية، فيظهر متداخ ً ال مع معارف وثقافات ال تنتمي إلى العلم بصلة ،بل تنتمي إلى املعرفة الدينية واالجتماعية السائدة واملوروثة عبر أجيال وحقب زمنية غابرة ،حتيط ذهنية مجتمعاتنا وتشكل جاهزها احلي في التفكير والسلوك ،فتظهر املعرفة غير خاضعة إلى لغة العلم في املعنى احلديث، تلك املعرفة التي تشيع السؤال والشك والتغيير والبناء التراكمي املستمر، معرفة مؤدجلة مبثوث في داخلها اخلضوع والطاعة واحترام اجلهل وعدم االهتمام بالعلم ،ألنه في النهاية حكر على أقلية من النخبة؛ سواء كانت داخل العقيدة الدينية أم لدى احلزب العقائدي الشمولي. إن مفهوم العلم يتحدد من خالل كونه املعرفة املنظمة التي تعيد مساءلة ذاتها بشكل فاحص ودقيق ،عبر أدوات من اخلبرة واملهارة واالكتشاف الدؤوب واملستمر ،وألن العلم يحتوي على االتساق املنطقي الذي من املمكن أن يضحى به -كما يرى روالن أومينيس -من أجل اكتشاف جديد على الرغم من الصراع الكبير الذي يعيشه العالم مع النظريات التي ال تقبل الزعزعة أو التغيير ،على عكس ما هو موجود في العقل الديني الذي يعتمد االتساق بشكل ثابت ونهائي ،باعتباره أص ً ال معرفي ًا 1 صادر ًا من جهات غير بشرية ،ومن ثم صيرورته في خانة الالعلم. وذلك األمر ينطبق بشكل حقيقي على طبيعة فهمنا للعلم ،مبعزل عن الوسائل التي صنعته ،وهنا نقصد بالعلم جميع اإلدراكات التي يتمثلها العقل العربي اإلسالمي من معارف وحقائق ،توضع في خانة الصواب والتصديق ،وعدم محاولة نقدها أو جتاوزها ،وذلك باعتبار أن مفهوم العلم لدينا ينقسم إلى العلم األولي املنبثق من الذات اإللهية التي علمت اإلنسان و”أرشدته” إلى احلقيقة واحلكمة ،والعلم الثاني هو املكتسب والبشري الذي ال ميكن أن يصل إلى مستوى األول باعتباره محصلة
“احلياة الدنيا” وما فيها من نقصان وعدم اكتمال بشكل مستمر ،وهكذا في ثنائية ال ميكن أن تلتقي أو تتوحد في إطار النقد والتجاوز ،على الرغم من وجود الكثير من النصوص التي حتث على املعرفة والعلم والبصيرة، إال أنها في نهاية األمر تستخدم بشكل تأويلي وإمياني لصالح املعرفة الدينية وترسيخها؛ أي ال تستخدم بشكل محايث ألزمنة وجودها؛ أي وجود املعنى املنبثق منها في األزمنة القدمية املرتبطة بعوامل وظروف إنتاجها من بيئة سياسية واقتصادية واجتماعية ،ثقافية ...الخ .وعلى الرغم من وجود الكثير من “العلماء والفالسفة” العرب واملسلمني الذين اشتغلوا في قضايا علمية كثيرة وأبدعوا فيها ،فإنه في احملصلة النهائية -كما أسلفنا -ال ميكنهم أن يتجاوزا الثابت أو األصول احملركة 2 لطبيعة فهمنا ملفردة علم أو عقل من خالل البناء والتراكم والتجاوز.
ومن بعد نيوتن وجد أيض ًا ماكس بالنك الذي استطاع بدوره أيض ًا أن يتجاوز وينسف مع (ميكانيكا الكم) “أهم مرتكزات العلم النيوتوني في الثبات وضبط القياس ،وكذلك احلال مع نسبية اينشتاين التي نسفت مبدأ املطلق في العلم” 4،وبذلك تكون التجربة الغربية قائمة على نفي النفي بشكل مستمر ،وأنه ال توجد ثوابت مطلقة أو جذور ثابتة حتيط الوعي البشري وحتدد مستقبله على عكس ما موجود لدينا من ذاكرة مؤطرة بوعي الثابت واملقدس ،الذي ال ميكن زعزعته وجتاوزه في األزمنة الراهنة على األقل ،األمر الذي يجعل تفكيرنا في العلم وأهميته محدد ًا ضمن خانة النسيان واإلهمال إلى حد بعيد.
املدرسة والعلم
وما تشهده املؤسسة التربوية في العراق من وجود الكم الهائل من أنصاف أو أرباع املعلمني ال يشير إلى أن مؤسستنا التربوية قادرة على جتاوز أزماتها في أزمنتنا الراهنة على األقل ،األمر الذي يؤدي إلى وجود عدد محدود بشكل كبير من مدرسي العلم أو املواد العلمية بسبب تردي املستويات الدراسية وعدم إمكانية حتصيلها بشكل ناجع وأكيد ،ولو أجرينا إحصائية داخل أكثر املدارس العراقية ،فإننا جند الفائض التعليمي في مواد االجتماعيات وليس في مواد العلوم، وذلك إن دل على شيء فانه يدل على أن املؤسسة التربوية في طريقها إلى الزوال من حيث قدرتها على التواصل ،وجتديد طاقة اإلنسان وذاكرته ،وإعادة الروح إليه من جديد ،ولو أجرينا أيض ًا مقارنة زمنية علمية بني جيلني تربويني مختلفني من حيث الزمان واملكان والثقافة حول الكثير من املعلومات واملعارف العلمية ،فإننا جند اجليل األول
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
إن املدرسة ال تشكل اليوم بعد ًا مؤثر ًا في ذهنية الطلبة في العراق ،ورمبا في العالم العربي ،على حد سواء ،وذلك لتخليها عن كونها نواة علمية مؤثرة على األجيال االجتماعية الصاعدة ،تاركة الساحة أو األفكار بيد األصوليات ،أو كما أسميناها في مقاالت أخرى “مؤسسات الهامش االجتماعي” ،تلك التي أوجدها االستبداد الشمولي العقائدي، انتصرت على أولى املؤسستني األسرة واملدرسة ،وهذه املؤسسات مرتبطة بالبيئة االجتماعية واالقتصادية والثقافية املتردية لدى طبقات عريضة من املجتمع ،تفكر بد ً ال عنه وترسم صورة قامتة من اجلهل والتخلف والعنف ،وما هو موجود في مناهج التربية العلمية من فيزياء وكيمياء ورياضيات يتم تلقينه بشكل مفرغ من واقعيته؛ أي عدم ربط العلمي بالواقعي من أجل صيرورة ثقافة العلم واملواد العلمية في حالة الرسوخ الذهني واملعرفي ،ومن ثم تكوين ذاكرة ثقافية علمية
إن الصف التربوي يعاني من إمكانية حتويله من جماد غير فاعل إلى مادة قابلة للحياة والتطور ،بفعل عملية التلقني التي كثير ًا ما يستخدمها القائمون على العملية التربوية في كثير من املدارس ،فمادة التاريخ تدرس بطريقة الروي واحلكاية للحدث التاريخي من خالل ربطه باحلاضر ورمبا املستقبل ،من خالل القيم واملعايير وما يغيب هنا صفة املنهج أو العقل الذي يجعل ذلك التاريخ ليس سلسلة أحداث وثقافات بقدر ما هو سلسلة من التطورات والتغيرات تشهدها الذاكرة اإلنسانية طيلة حقبها الزمنية املعاشة ،وهكذا احلال مع علوم الفيزياء التي يجري تلقينها نظريا إلى الطلبة دون معرفة األسس التي تستند إليها؛ أي علوم الفيزياء ،التي من خاللها مت تغيير الكثير من املعارف والثقافات التي كان اإلنسان يؤمن بها ضمن مجال املطلق من القيم واملعرفة والسلوك ،فنظرية اجلاذبية تدرس بشكل نظري رياضي ،وليس بشكل علمي معرفي ،كل ذلك من شأنه أن يجعل املجتمع الصاعد واجلديد مجتمع ًا غير علمي ،أو أنصاف معلمني سرعان ما تزول من ذاكرته جميع املعارف واملعلومات التي حتصل عليها أو عرفها في قادم السنوات.
7
ملف الثقافة العلمية
إن املجتمعات احلديثة املعاصرة أوجدت حداثتها من خالل نقد التعالي وامليتافيزيقا ،تلك التي تتحكم بوجود املعنى وفرضه على املجتمع بشكل نهائي ،هكذا فعلت احلداثة الغربية مع رموزها أن قتلتهم“ ،وهنا استخدام تعبير فرويد في مسـألة قتل األب” ،ولم ِ تبق لوجودهم أي شيء يذكر إال في مجال التاريخ والذاكرة البشرية ،واألمثلة كثيرة ،وبخاصة في مجال العلم ،بدء ًا مع نيوتن الذي استطاع أن يقتل الفيزياء الغيبية املرتبطة بالقرون الوسطى واستبدالها بقوانني احلركة واجلاذبية ،وأنه ال يوجد فضاء مطلق ًا على الرغم من أن نيوتن كان قلق ًا حول مسألة غياب املكان أو الفضاء املغلق ،ألنها ال تنسجم مع فكرته عن الله ،على الرغم 3 من أن قوانينه نصت على ذلك األمر؛ أي عدم وجود فضاء مطلقاً.
لدى األجيال الصاعدة ،ذلك األمر غائب عن احلضور داخل املؤسسة التربوية في العراق على سبيل املثال ،فكل ما يتعلمه التالميذ في مختلف املراحل الزمنية الدراسية سرعان ما يزول من الذاكرة ،بسبب هيمنة “ثقافة احلفظ” ،وعدم توفير بدائل لطرق التدريس احلالية ،تلك التي جتعل مادة الدرس أكثر متعة ورغبة من قبل التالميذ ،من خالل ربط املادة العلمية بالواقع اليومي ،واألمثلة كثيرة بدء ًا بالغذاء الذي نأكله، وانتهاء بالتكنولوجيا التي نستعملها بشكل يومي ،أو بالعالم الذي نعيشه وال ندرك أنه عالم متغير أو غير ثابت على صورة معينة ،وذلك األمر يتم من خالل الدخول إلى التطبيق العملي للعلوم ومعرفتها عن قرب، أي من خالل وسائل اإليضاح التي جتعل مادة العلم أكثر حيوية ،وهذه الوسائل تشمل الصور واللوحات واألفالم املتحركة والثابتة ،فض ً ال عن توفر أو وجود معامل العلوم املختبرية والزيارات امليدانية التطبيقية ،كل ذلك غائب -مع األسف الشديد -داخل مؤسساتنا التربوية ،األمر الذي يجعل الزمن التربوي لدى الطلبة عاط ً ال عن النمو بال مراحل تتعلق باالنتقال من مرحلة النمو واكتساب املعارف املتراكمة ،وتكوين املالمح احلقيقية للشخصية التربوية ،وصو ً ال إلى مراحل االختيار وتثبيت الهوية اجلديدة واملختلفة للشخصية التربوية ،تلك التي متتلك عناصر النقد والبناء على صعيد املستقبل.
8
في حقبة السبعينيات أكثر حضوراً ،من حيث الذاكرة العلمية واملعرفة املتوفرة لديه حول قضايا تخص العلم واحلياة ووجود اإلنسان من اجليل الثاني ،الذي يعيش في أزمنتنا الراهنة على الرغم من التطورات الهائلة والكبيرة في مجاالت العلوم املختلفة من تقنية واتصاالت ومعلومات ..الخ .كل ذلك يعكس أثر البيئة السياسية واالقتصادية واالجتماعية على املدرسة وحضورها التربوي ،ما دامت األخيرة -أي املدرسة- تتبع مسار السياسي السلطوي وتتعامل مع الطلبة وفق ًا حملددات الضبط العسكري الذي ال ميكن جتاوزه ،األمر الذي يجعل قيمة العلم متدنية ومتراجعة لصالح املعارف اجلاهزة التي تبثها األيديولوجيات؛ سواء تلك املنتجة من قبل السلطة ووجودها القسري املباشر ،أم من خالل التعبئة اليومية ملؤسسات الهامش االجتماعي ،تلك التي حتاول أن جتعل اإلنسان ممر ًا لها من حيث املكتسبات واحلضور السلطوي إلى 5 حد بعيد.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
املجتمع والعلم كذلك احلال مع املجتمع الذي يكاد يخلو من النظام واملعرفة املنظمة والهادفة في صنع املدينة احلديثة ،تلك التي تشيع فيها حرية البحث والفكر واحترام الهوية اإلبداعية التطورية لكل ما هو جديد وغريب عن بنية املجتمع املوروثة والتقليدية ،فمجتمعاتنا تتعامل مع العلم ضمن حدود النسبي في اجتاهني أو طريقني متناقضني ،األول يتسم بالدهشة واالغتراب عن املنتج العلمي لغة وثقافة وممارسة ،والثاني يتسم باالزدراء والتعالي عليه ،وذلك باعتبار أن كل املكتشفات العلمية احلديثة التي استغرقت من العلماء املزيد من اجلهد والبحث والعناء املستمر ،وصو ً ال إلى احلالة الناجزة له؛ أي املكتشف العلمي ،كل ذلك يواجه باالزدراء وعدم االكتراث به ،والتعالي عليه ،ألنه في النهاية مرسوم في ذاكرتنا الثقافية أو موجود في نصوصنا الدينية «القرآن الكرمي» ،وألن عالقة املجتمع بالعلم تكاد تكون شبه معدومة من حيث االتصال والتفاعل، فإنه كثير ًا ما يكون ذلك املجتمع (منوذج العراق) أقرب إلى اخلرافة وإنكار قدرة العقل البشري على االكتشاف ،األمر الذي يجعله أقرب إلى املجتمع العاطفي البسيط ،وإن وجدت فيه أشكال ثقافية ،فإنها تكون أقرب بدورها إلى الشعري والصوفي الذي يستغرق الواقع من خالل لغة اخليال واحللم وتأثير األفراد عليه من أصحاب «الكرامات»؛ سواء من كانوا عابرين للزمن البشري الذين وجدوا في أزمنة غابرة أم من كانوا ميتلكون سمات حتريك وعي اجلماهير من خالل لغة األسطورة واخلرافة في العالم العربي في األزمنة الراهنة. وهكذا نقول إن مجتمعاتنا تتعامل مع العلم ليس ضمن مقياس احلاضر واملستقبل وحتقيق التطور واالنتقال من طور إلى آخر ،بل ضمن مقياس القدم واالهتمام بالقدمي واملعرفة املوروثة ،تلك التي تقف جدار ًا صلب ًا أمام التجديد والتغيير واالهتمام بالعلم ،فما دام القدمي هو من يرسم طبيعة أفكارنا النهائية عن احلياة والكون واإلنسان، فما هي الفائدة التي ترجتى من العلم واملكتشفات العلمية؟ وما هي أهمية سعي اإلنسان إلى حتصيل العلم ما دام كل شيء مرسوم ًا ومعد ًا سلفا في ذاكرتنا الثقافية التي لن تتغير وتغدو صاحبة االجتاه العلمي وترسيخ النظرة املرتبطة بوقائع األشياء املشاهدة عياني ًا فكر ًا وسلوك ًا ومعرفة؟
عقبات في طريق العلم يحدد الدكتور فؤاد زكريا مجموعة عقبات في طريق التفكير العلمي، من املمكن أن ندرجها كالتالي:
أو ًال .األسطورة واخلرافة
األولى تقدم تفسير ًا نهائي ًا للعالم ،وتشتغل على وعي اإلنسان البدائي، وذلك باعتبار أن األسطورة تنتمي إلى فضاءات ما قبل العلم ،ومنتجة للمعلوم من املعرفة اجلاهزة التي ال يحيطها السؤال والشك والنقد، وهذه األسطورة حتاول أن تقلب العالم رأس ًا على عقب؛ أي تخرج امليت من احلي وليس احلي من امليت ،أو وفق ًا لتعبير الدكتور فؤاد زكريا تفسر غير احلي من احلي على عكس ما يسعى إليه العلم من تفسير احلي 6 من غير احلي .أما اخلرافة «فإنها جزئية تتعلق بظاهرة أو حادثة واحدة». ومجتمعاتنا العربية اإلسالمية على الرغم من ظهور «احلداثة» مبختلف أشكالها من ثقافية واجتماعية واقتصادية ،فض ً ال عن ظهور املدن احلديثة وتطور العمران واستخدام التقنية احلديثة ،فإنها من حيث التفكير والسلوك واملعرفة ما زالت تعاني من تداخل األزمنة بالشكل الذي يجعلها تتعامل مع العلم ضمن نظرة الفائدة املادية من االستعمال والتفكير العلمي في مجال العلوم فحسب ،أي مجال الكيمياء والفيزياء والبيولوجيا ،أو مجال استخدام التكنولوجيا احلديثة دون الشعور باإلمكانية التي أنتجتها ،أو عملية التطور والتوحيد بني العلوم الطبيعية واإلنسانية .فعملية التفكير بطريقة علمية حديثة باألفكار ذاتها وطريقة انبثاقها من اإلنسان ،تخلو من أية علمنة مرتبطة بالوعي بأن هذه األفكار أشبه باجلسد اإلنساني ،متر في مراحل الطفولة والشباب والنضج والشيخوخة ...وهكذا ضمن جدلية متغيرة ومتطورة بشكل دائم. ما زالت مجتمعاتنا تفسر ظواهر الطبيعة واحلياة وما يصيب اإلنسان من كوارث وأمراض وحروب ...الخ بطريقة غير علمية ،من خالل استخدام لغة األسطورة واخلرافة 7،وذلك إن دل على شيء فإنه يدل على تراجع بنية التعليم والتربية العلمية في هذه املجتمعات ،األمر الذي ال يجعل العلم رائد ًا في تطور مفهوم احلقيقة وجعلها مرتبطة بالبحث واملالحظة الدائمة وفق ًا حلاجات املجتمعات وتطورها ،بل يجعله تابعاً، في خدمة األفكار اخلرافية وتشجيع محاربة اإلبداع واجلديد واملختلف عن اجلاهز االجتماعي املوروث.
ثانياً .اخلضوع للسلطة
ثانية العقبات التي تقف في طريق الفكر العلمي هي اخلضوع للسلطة، وهذه العقبة متتد في تفرعاتها ،لتشمل األفراد واألفكار واملعتقدات واألنظمة السياسية ...الخ ،وبخاصة إذا حتولت هذه األخيرة إلى مرجعية مطلقة حتدد مستقبل اإلنسان ضمن إطارها ،وتسم املجتمعات بالعجز عن التجديد واإلبداع ،بعد أن يتم متثلها؛ أي املرجعية املطلقة من قبل شخصية كاريزمية متتلك احلضور والتأثير ،فيغدو كل شيء مفكر ًا به من خالل هذه الشخصية ودورها في صياغة األفكار والعلوم والقوانني .والتاريخ زاخر بهذه املرجعيات؛ سواء في مجال العلم أم مجال األنثروبولوجيا االجتماعية والسياسية ،وشخصية أرسطو مثال حي في التأبيد والتقديس الفكري والثقافي أكثر من ألف وخمسمائة عام ،ولم تتزعزع مكانته إال من خالل عصر امليكانيك مع غاليلو
الذي خاض صراع ًا عنيف ًا مع نظرة أرسطو القدمية إلى العالم «بوصفه متمركز ًا حول األرض ،كما كانت تقول نظرية في احلركة مبنية على أسس ميتافيزيقية» 8.وهذه النظرة لدى أرسطو كانت متثل سند ًا كبير ًا للقرون الوسطى ومرجعياتها املتعددة في األفكار والعلوم ،ونصيبنا نحن املجتمعات العربية اإلسالمية كان وافر ًا من القبول مبطلقات أرسطو بشكل ال يقبل الرفض ،وصو ً ال إلى جعله مع أفالطون في مصاف النص 9 املقدس ،أو مبنزلة األئمة املعصومني لدى الفارابي.
ومن أهم الدعامات التي تستند إليها هذه العقبة:
ملف الثقافة العلمية
مشهد من مسرحية «عطسة» نظمها مسرح احلرية في جنني.
9
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
< القدم :إن السلطة دائم ًا ما تستند إلى القدمي في تبرير وجودها ،وذلك الن القدمي قد متثل في ذهنية الناس وأصبح في مجال املقدس ،األمر الذي يجعل املجتمع عاجز ًا عن اإلتيان بالبديل واملختلف عنه ،ومن ثم يتم تقسيم الزمان بطريقة مقلوبة تقول إن التطور يبدأ مع القدمي وينتهي مع اجلديد ،بحيث يكون املاضي هو الهرم واملستقبل هو القاعدة، وهكذا يكون القدمي محور ًا لكل شيء لدى املجتمعات املتخلفة التي تتحكم بها سلطات مطلقة من األفكار واألنظمة والقوانني. وحال مجتمعاتنا العربية اإلسالمية ال يخرج من ذلك األمر بكثير، ولكن هذه النظرة سرعان ما تغيرت مع املجتمعات احلديثة ،التي بدأت منذ القرن الثامن عشر وما قبله ،تعي بأهمية التأريخ للمعرفة البشرية وعدها مبثابة السلسلة املتصاعدة عن طريق التراكم املستمر، وبذلك يكون احلاضر صلة وصل للمستقبل وليس للماضي الذي كان يأخذ في زمانيته صفات الله ،باعتباره محرك ًا للمعرفة واألفكار والقوانني ...الخ ،كل ذلك متثل في طروحات هوبر ،وباروك، واسبينوزا ،وفيكو ،وهيوم ،وغيرهم ممن نظروا إلى العصر الذهبي للبشرية باعتباره املستقبل وليس املاضي ،وبذلك مت االنتقال من الزمن األسطوري ،املقدس إلى الزمن الفعلي املرتبط بالتأثير والفعل البشري 10 إلى حد بعيد. < االنتشار :من أهم دعائم اخلضوع للسلطة ،ولكنه يختلف عن القدم أن األخير يسير في االجتاه الطولي أو العمودي للتاريخ ،أما االنتشار فإنه يأخذ االجتاه األفقي من التأثير على البشر ،وكثير ًا ما تكون األفكار املنتشرة بني الناس متثل عقبة أمام التفكير املنفرد واحلر في املجتمعات التقليدية ،وذلك بسبب أن األفكار العامة جتد التصديق والقبول أكثر من غيرها ،باعتبار أن اجلميع يؤمن بها، ومن ثم ال يجوز الشك في مضامينها وأسسها ،والتاريخ يحدثنا كثير ًا عن العلماء الذين حتدوا سلطة األفكار العامة واملرجعيات املطلقة ،فها هو جيمس وات الذي قوبل اختراعه «اآللة البخارية» بالكثير من التهكم والسخرية من قبل الناس ،إال أنه استطاع أن يقدم للبشرية «عمالق ًا في مرحلة الطفولة غير فيها معالم حياة الناس ومستوياتهم» 11،ولكن قد يكون هنالك باملقابل تأثير األفكار العامة واملبادئ السائدة لدى العلماء أنفسهم ،بأن يرفضوا كل جديد في العلم ،من دون أن يوجد االتساق املنطقي املرتبط باملبادئ وقوانني العلم الصارمة ،ومثالنا هنا عن (ألفريد فيغنر) عالم اجليولوجيا والظواهر اجلوية األملاني ،الذي نشر كتابا العام 1915أصل القارات واحمليطات حتدث فيه عن نظريته في االجنراف القاري «وهي تنص على أن أجزاء من القشرة األرضية ليست ثابتة بشكل نهائي» .قوبل هذا العالم بالرفض النهائي والشرس من قبل العلماء على الرغم من
أن نظريته أصبح معمو ً ال بها فيما بعد 12.يقول غاستون باشالر «لم يوقف شيء عجالت تقدم املعرفة العلمية سوى عقيدة العام الباطلة التي سادت منذ أرسطو حتى باكون ذاته ،والتي ال تزال بنظر كثير من العقول عقيدة أساسية في املعرفة» 13.وبذلك يكون العام واملنتشر في حالة حتوله إلى عقيدة عام ً ال أساسي ًا في جمود الفكر ونهاية حقيقية ملفهوم احلركة والتسارع في التقدم البشري. < الشهرة :وهنا ترتبط بعالقة املجتمع مع األفراد املشاهير الذين يأخذون زمانهم وزمان غيرهم ،أو األفراد الذين ميتلكون الشهرة في أزمنة وجودهم ،ويكون لرأيهم حضور طا ٍغ ومؤثر على الناس بحيث يلغي وجودهم الفكري واإلنساني حول ما يصدر من هؤالء املشاهير ،وألن هؤالء ميتلكون الشهرة ،فإن أفكارهم سرعان ما جتد القبول والتقليد، بعيد ًا عن مستوى احلقيقة والعلم حول ما يصدر منهم ،ومجتمعاتنا ابتليت كثير ًا بسلطة هؤالء املشاهير على الرغم من أهمية حضورهم في زمنهم الفعلي ،ولكن أن يتم ترحيل أفكارهم إلى أزمنة غيرهم دون وجود عامل النقد ومحايثة البيئة واملجتمع القدمي ،فإن ذلك يفقدنا عامل التطور والتغيير وإيجاد املختلف عنهم ،وهكذا احلال مع الذين ميتلكون الشهرة في األزمنة الراهنة ،فإنهم يشكلون عالمة في التميز واالختالف والتأثير على املجتمع بشكل إيجابي أو سلبي، وما هو موجود لدينا ال يحمل التأثير املرتبط بالشخص املبدع ،العالم، بقدر ما هو مرتبط مبزدوجتني من الشهرة ،األولى مرتبطة برجل الدين
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
10
الذي يؤثر بشكل طاغ على اجلماهير من خالل لغة املجاز والتعالي الرمزي ،األيديولوجي ،والثانية جتد احلضور في مجاالت الرياضة والغناء والسينما ...الخ ،بحيث تصبح العالمة األخيرة أكثر تأثير ًا على الناس الذين يندمجون مع هذه العالمة األخيرة إلى حد التقليد وإلغاء الكيان الشخصي والوجودي. < الرغبة أو التمني :من دعائم اخلضوع للسلطة الرغبة أو التمني ،وهي موجودة لدى األفراد بشكل خاص ولدى السلطة احلاكمة سياسي ًا واقتصادي ًا وثقافياً ،فالذي يحافظ على امتيازاته من خالل األفكار واأليديولوجيات كافة ،دينية أو دنيوية ،فإن خانة احلقيقة والتصديق تكون وفق ًا ملا يتمنى ويرغب ضمن مجال مصاحله وحياته التي يريد، كذلك احلال مع السلطة التي تتشبث بـ «حقيقتها» بعيد ًا عن درجة وجود اجلدوى من التطور أو حتقيق العلم ،مبا يفيد املجتمع ككل ،والتاريخ يحدثنا كثير ًا عن النماذج الفكرية التي حاربت اإلبداع العلمي والثقافي من أجل مصالح دنيوية بعيد ًا عن مستوى احلقيقة والعلم ،والكنيسة مثال واضح لذلك األمر عندما رفضوا النظر مبنظار غاليلو املقرب جداً ،والذي يضع السماء أمام العني بشكل دقيق وجوهري أفضل من رؤيتها ضمن عاملهم الذي تعودوا وارتاحوا له كثيراً ،وذلك باعتباره عامل ًا يسوده اليقني واالطمئنان والراحة ال ميكن أن يتنازلوا عنه بسهولة لصالح العلم اجلديد ،الذي يغير كثير ًا وجودهم ويلغي االمتيازات 14 التي يحصلون عليها.
ثالثاً .إنكار قدرة العقل
إحدى العقبات التي تقف في طريق التفكير العلمي هي إنكار قدرة العقل البشري في اإلبداع واالكتشاف ،وبخاصة في مجاالت املعرفة األدبية والفنية ،التي يتم فيها التعويض عن العقل من خالل وجود قوى تتمثل في «احلدس» أو اإللهام ،وهذه القوى ال يستطيع اإلنسان احلصول عليها من خالل التجربة واملالحظة ،بل من قبل فكرة احلدس ذاتها التي قد تكون مرتبطة بقوى من خارج العقل البشري ،أو يكون دور العقل في اإلبداع دور ًا ثانوياً ،وذلك األمر وجد لدى املذهب الكالسيكي الذي كان يعتقد بوجود عقل أول «خارج الوجود البشري» محرك للعالم، ومن خالله تصدر العقول األخرى ،في حني أن عقل احلداثة كان نقدياً، أو كما يعبر عنها جان فرانسوا ليوتار بأنها «تصوغ التناهي وتقدم العقل الذي يحضر املعاقلة على أساس املعاقلة نفسها» ،أما ما بعد احلداثة فإنها 15 جتريبية نقدية أو ذرائغية. إن إنكار قدرة العقل البشري في اإلبداع يقود إلى فكرة التعميم ،ومن ثم الثبات الذي ميثل سمة رئيسية للمجتمعات التي تعجز عن مساءلة مصادرها املعرفية وإخضاعها إلى مجال العقل والنقد ،ومن ثم محاولة جتاوزها .وتاريخ الصراع بني أهل العقل والنقل في احلضارة العربية اإلسالمية يشير في حقيقته إلى صراع بني أهل النظر والعقل وبني أهل الثبات واملوروث ،األول يتخذ عقله من البرهان والدليل العقلي في اإلميان واملعرفة ،والثاني يعتمد على الفيض واحلدس ،وما موجود بينهما ال يحتمل وجود املعرفة البشرية املتراكمة التي من شأنها أن تعطي للعقل مساحة أكبر للفهم واحلرية ،وبخاصة بعد أن ساد الشكل الثاني من املعرفة طيلة قرون طويلة بعد أن تخلت الفلسفة عن كونها مرشدة للعقل والتقدم البشري ذاته ،من خالل مهاجمة العقل املتسائل واملتفلسف في عبارات (من متنطق تزندق) ،وفي محاربة الكثير من
الفالسفة ،وإحراق كتبهم واتهامهم بالتكفير واخلروج على نسق األمة 16 – الشريعة اإلسالمية.
رابعاً .التعصب
وذلك األخير يوجد عندما يغلب األفراد قيم التطرف والعصبية واللجوء إلى تقديس الهوية الداخلية للمجتمع؛ سواء أكان ذلك املجتمع ينتمي إلى حدود الطائفة والقومية والدين أو املذهب أو التطرف في مجال الرأي العلمي واألدبي واملعرفي ،فكل ذلك يعيق عملية املساءلة وتفريغ الذات من حدودها املطلقة التي تعتقد أنها األخيرة والنهائية ،ومن ثم يكون التعصب عقبة أمام املعرفة العلمية اجلديدة ،التي تتطلب املرونة وعدم اليقني النهائي حولها ،والتعصب عادة ما يرتبط بالعقل اجلمعي لدى مجتمعاتنا ،الذي يصنع لدى األفراد الكثير من املوانع التي تؤثر في سلوكهم على تقبل اآلخرين واحترام وجودهم املعرفي واإلنساني.
خامساً .اإلعالم املظلل
وذلك األخير من أبرز «مهددات» املعرفة العلمية ،وذلك باعتباره نشاط ًا يتم بطريقة واعية من قبل العاملني عليه ،وذلك الوعي عادة ما يكون مصاحب ًا أليديولوجيات وتصورات تغيب عنها صفة احلياد والعلمية لتكون املعوض عنها جميع املصالح والغايات التي تقف وراء هذه املؤسسة اإلعالمية أو تلك بشكل نسبي ،وال توجد مؤسسة إعالمية في العالم العربي تتبنى املعرفة العلمية الهادفة دون أن تكون مصابة بعقد األيديولوجيا التي تتبع مسار السلطة السياسية واالجتماعية السائدة، وهكذا نقول إن اإلعالم املظلل يلعب اليوم دور ًا كبير ًا في بناء الكثير من التصورات املغلوطة حول الكثير من املعارف واألحداث واملجتمعات في عاملنا املعاصر ،فعالقة الغرب مع الشرق إعالمي ًا عالقة مشوشة وغير علمية من قبل الطرفني ،من خالل التغذية العكسية التي تصنعها مؤسسات الطرفني ،فاألول أيديولوجي يضع العربي اإلسالمي في صورة البدائي واملتخلف لغايات سياسية وأيديولوجية بشكل نسبي، وكذلك احلال مع ما هو موجود لدينا من تصورات نسبية حول اآلخر املختلف من كونه أكثر «سلبية من حيث األخالق والقيم التي يحملها»، وهنا يكون التركيز على اجلنس فحسب وليس على قيمة احلضارة والتغيرات التي طرأت على املجتمعات احلديثة طيلة أربعة قرون خلت، والتي أسست ما هو موجود اليوم من مجتمع يتبع مسار التقدم ويخضع كل شيء إلى العقل والعلم صانع احلضارة ورائدها الوحيد في األزمنة املعاصرة.
كيف يكون العلم ممكناً؟ إن إمكانية حتقيق العلم كمفهوم حديث قائم على مقاييس التجريب واملالحظة والتراكم والنسبية في مجتمعات ما قبل العلم أو احلداثة يالقي الكثير من املعوقات واملشاكل التي تترتب على القول العلمي واجلرأة في مخاطبة الواقع ضمن معيار النقد وإعادة النظر باألسس كافة التي يستند إليها الفكر العربي اإلسالمي ،وهذه املعوقات تصطدم ليس باملعرفي والثقافي والتربوي فحسب ،بل بالسياسي السلطوي الذي يتحكم في طبيعة إنتاج ذلك الفكر وتغييب مسألة التطور والنظرة إلى املستقبل بشكل إيجابي متفائل ،فتحقيق العلم ينبغي أن مير من خالل حتقيق مجموعة من «اإلمكانيات» تتعلق باملعرفة والسياسة واملجتمع والتربية من املمكن أن
جتعلنا نشارك في صناعة احلضارة ال متلقني لها ومستهلكني لكل ما هو جديد وغريب عن بنيتنا املعرفية والثقافية ،وبخاصة أن التوحد العاملي في شروط االقتصاد والسياسة والثقافة أصبح مؤسس ًا من قبل املراكز وليس األطراف التي يراد لها دائم ًا أن تكون في مؤخرة احلضارة والتقدم ال غير.
أو ًال .إمكانية التحول في بنية املعرفة
أولى اإلمكانيات التي من شأنها أن حتدث التحول في بنية اإلنسان هي طبيعة املعرفة وكيفية تلقيها ومدى استجابة املجتمع لها من حيث القبول والرفض واملساءلة والتجاوز ،ومبا أن املعرفة السائدة لدينا «املجتمعات العربية اإلسالمية» هي معرفة جاهزة ،ثابتة تستند إلى آليات دفاعية منذ مهبط السدود األولى (تعبير باشالر) ،فان مسألة البدء بالتصحيح وجتاوز الرأس املغلق غاية أساسية لتدارك العلم واملعرفة العلمية، ومهبط السدود األولى يعلمنا أن النص املعرفي الثقافي متعدد ومتداخل بني القدمي واجلديد ،وكأننا أمام طبقات أرض رسوبية يؤثر بعضها على البعض اآلخر ،من حيث االندماج والتفاعل والظهور ،وإن اختلفت
أشكال هذه الطبقات أو النصوص املعرفية والثقافية ،أو ظهرت بشكل أكثر من غيرها ،فالنص األول هو الطبقة األولى التي منعت اإلسالم من التعدد في الفهم واإلدراك هو نص البداوة والعصبية التي حاول اإلسالم أن ينقلها من القبيلة إلى الدين أو األمة املؤمنة ،املرتبطة بأصل ومآل واحد ،ولكن كل ذلك لم يتحقق ،فذلك النص سحب نفسه إلى الدين اجلديد ،واستطاع أن يغير شيئ ًا فشيئ ًا معامله وحقيقته ،والنص الثاني هو نص اإلسالم «القرآن الكرمي» والسيرة النبوية الشريفة باختالف تنوعاتها وأشكالها بني الفرق واملذاهب اإلسالمية ،وذلك النص يعاني حما ً ال لوجوه من إشكالية في الفهم والتلقي منذ أن أصبح هذا النص ّ كثيرة ومتعددة ومتناقضة مع بعضها البعض ،األمر الذي حدا بالسلطة السياسية املنتصرة فيما بعد إلى االعتماد على نسخة واحدة من النص املعرفي ،وجتاوز بقية النسخ ،ألنها ال تتفق مع األيديولوجيا التي ميتلك ،وهي أيديولوجيا التبرير والدفاع عن الذات وغايتها املصلحية، والنص الثالث هو نص اآلخر ،أو هو طبقة احلداثة الغربية ومكتسباتها التي جاءت وال تزال عن طريق الهيمنة والوصاية ،وليس عن طريق التفاعل واإلبداع.
11
ملف الثقافة العلمية رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
من دورة للتصوير السينمائي للشباب نظمها مسرح احلرية في جنني.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
12
وهذه النصوص الثالثة وجدت لدينا كنسخ معرفية من خالل شخصية الشمولي الواحد الذي ال يقبل التعدد واالختالف ،فالتعدد من شأنه أن يحدث التراكم والتغيير ،ومن ثم املساءلة والرفض ،ذلك األمر كان معمو ً ال به قبل أن تهبط السدود األولى للمعرفة ،ليصبح النص الديني على سبيل املثال مطلق ًا وغير متعدد الوجوه وال يحتمل النسبية والصور 17 املختلفة. إن أولى اإلمكانيات في جتاوز سياق املعرفة اجلاهزة يتمثل في العودة إلى الذات بشكل معرفي ،وتوضيح أنه ال ميكن بناء منظومة معرفية معينة مبعزل عن الوقائع واألشياء التي حتيطها ،أي أنها معرضة للتواصل مع البيئة احمليطة بها ،ومن ثم كل ما يصدر عنها محكوم بتلك البيئة ،وما يحدث فيها من تقلبات وصراعات داخلية ،واألمثلة هنا تتمثل في طبيعة إنتاج النص الديني «القران الكرمي» ،بدء ًا باألزمنة املكية وانتهاء بتشكيل دولة املدينة في األزمنة املدنية ،كل ذلك جعل منظومة اإلسالم املعرفية مشكلة على االختالف وتعدد الوجوه ،ومع نهاية الزمن اإلنتاجي لهذه املنظومة املتمثلة في حياة الرسول محمد (ص) ،توقفت املعارف بأن تكون مختلفة ليؤسس احلد والصورة النهائية املنجزة بعد صراعات وحروب أهلية حول ملكية التأويل ،وهكذا أصبحت املعرفة نهائية ،ليست ألنها صادرة من قبل الله فحسب ،بل ألنها أصبحت في سياق اجلاهز واملقنن غير اخلاضع للمساءلة والنقد واالجتهاد ،وما هو موجود لدينا اليوم ال يخرج من ذلك السياق ،بحكم أن الزمن املعرفي طيلة قرون طويلة لم يخضع إلى التبدل والتغيير ،وإن ظهرت هناك دعوات وطروحات بضرورة اإلصالح الديني والتجديد منذ بداية القرن التاسع عشر إلى األزمنة الراهنة ،إال أنها في النهاية كانت تخاطب األصول والنصوص األولى بعيد ًا عن محايثة الزمن املعرفي األول ،أو إعطاء رؤية تتناسب مع ذلك الزمان ،وليس مع الزمن املعاش والراهن. إن املعرفة العلمية حول ذاتنا الثقافية حتررنا من مسألة ادعاء املعرفة بشكل نهائي ،وتضعنا أمام احلقيقة التي تقول إن مساحة العقل لدينا محدودة ،وينبغي لها أن تتوسع لتشمل الالمفكر فيه واملستحيل التفكير فيه ،وصو ً ال إلى معرفة ال تعرف الثبات أو الدوران حول نفسها ،تتبع اإلنشاء والتكوين بشكل دائم ،وذلك األمر يتم من خالل الدخول إلى مضمار الواقع «واقعنا الثقافي واملعرفي» ،وتفريغ الذات من األسطوري واخلرافي الذي يهيمن على طريقة تفكيرها ،وسلوكها ونظرتها إلى املستقبل واالنتقال من مرحلة التفكير ما قبل علمي (املرتبط بعدم االعتراف بقدرة العقل البشري على اإلبداع واخللق واإلميان بفكرة التقدم البشري ارتباط ًا بالزمن املقدس الذي يجعل املاضي هرم ًا للمستقبل) إلى مرحلة التفكير والبحث عن األسباب في نشوء املعارف واألفكار بشكل جدلي وعلمي ضمن سلسلة من التفاعل واالحتكاك والتالقح مع الثقافات األخرى ،مصاحب ًا ملفاهيم العلم احلديثة ،متمثلة بالتنظيم ،والتراكم ،والدقة والتجريد ،والنسبية ،واليقني ،مع األخذ بنظر االعتبار أن األخير ال يحمل الثبات ،بل احلركة الدائبة نحو آفاق مجهولة يكتشفها العقل البشري.
ثانياً .إمكانية التحول في بنية الدولة أو مفهومها
ال تزال بنية الدولة في العالم العربي تعتمد على التاريخ ،وهنا نقصد
بإعادة إنتاج التاريخ السياسي القائم على العصبية والغلبة وتأثير الصراع واخلالف على التعايش واالختالف ،وكأننا لم نخرج من التاريخ أو نحن نعيش في التاريخ مثلما يعيش السمك في املاء وفق ًا لتعبير جان بول 18 سارتر. وعلى الرغم من التطورات والتغيرات في األجهزة اإلدارية والتنظيمية واألمنية ملفهوم الدولة ،فإن األخيرة لم تستطع أن تتجاوز تقليديتها القائمة على االحتكار من قبل األقلية «حزب ،عشيرة ،عائلة مالكة .. الخ» ،األمر الذي يجعل ذلك املفهوم يبتعد عن التطور واالنتقال إلى سياقات الدولة احلديثة ،ومنوذج الدولة السائد لدينا أكثر قمعية واحتكار ًا ملفهوم احلقيقة واملعرفة والعلم ،وال توجد فيه بشكل نسبي «فرادات» بشرية مختلفة تستطيع أن تؤسس املختلف في بنية الدولة ذاتها ،ألنها تعتمد القولبة والتمثيل العضوي لقيمها من قبل املجتمع ،أو ألنها تعلم الناس االستغناء عنها ،وذلك من خالل دعوتها بصورة ضمنية إلى التخلي عن احلياة الدنيا وما فيها من رغبات وطموحات ،والتي يتم تعويضها باملثال األخالقي في حياة ما بعد املوت .وهنا تتقدم األخالق على الدولة باملفهوم الديني أو باملفهوم الدنيوي ضمن قيم التضحية وإنكار الذات وصهر املجتمع ككل في كيان واحد ،يعيش حالة الفناء في متعاليات ورموز تتعلق باألمة أو الدين والشريعة أو الزعيم والقائد ...الخ ،األمر الذي يلغي حالة الدولة ضمن حقيقتها واملرتبطة بكونها أداة قهر وغلبة وسيطرة طبقات معينة على أخرى ،بعيد ًا عن قيم املشاركة والتدرج املجتمعي أو االنتقال من بنية مجتمعية إلى أخرى أكثر تطور ًا في صياغة مفهوم الدولة 19،وارتباطها بالعلم يكاد معدوماً ،ليس من حيث تبنيها قيم العلم احلديثة فحسب ،بل لعدم قدرتها على مواكبة العلوم اجلديدة وإرسال البعثات العلمية املستمرة بشكل دائم ،فض ً ال عن خوفها من أن تصبح التربية العلمية أداة لتغيير املجتمع ،ومن ثم نهايتها بشكل حتمي؛ أي نهاية قبولها كجهاز إداري وسياسي فاقد الشرعية، ألنه يستند إلى املاضي سلوك ًا وثقاف ًة وممارس ًة جلميع مكتشفات احلداثة والعلم ضمن حدود النسبي وليس املطلق. إن إمكانية حتول الدولة إلى العلم أو تعاشقها للعلم حسب تعبير ليوتار يحتاج إلى حتقيق مجموعة إمكانيات أخرى متفرعة ندرجها كالتالي: < إمكانية االرتباط بالزمن العلمي احلديث :وذلك األمر يتحقق من خالل جتاوز مسألة فساد احلس باألزمنة التاريخية والعيش في املاضي، دون إدراك أن العالم يحمل سمات التغير والتبدل بشكل مستمر أو العيش في أزمنة مختلفة ومتداخلة مع بعضها البعض ،األمر الذي يؤدي إلى عدم التجانس داخل الزمن الواحد ،األمر الذي يجعلنا فاقدي حلركية التاريخ وحضوره البشري .إن تعاشق الدولة مع العلم ميكنها من السيطرة على الزمن ،ومينع تداول األفكار واملعارف بشكل ثابت ومتواصل أو مينع توريث رأس املال الثقافي توريثا وراثي ًا (حسب تعبير بيار بورديو) بني األجيال القادمة واجلديدة. < إمكانية تطور بنية احلظوظ الدراسية لدى الطبقات كافة :وذلك األمر يتحقق من خالل جتاوز مسألة االهتمام باملراكز املدنية نسيان الضواحي واألطراف واملناطق الريفية والنائية بالنسبة حلظوظ التربية والتعليم ،فتطور احلظوظ الدراسية بني أكثر الطبقات االجتماعية يكون مدعوم ًا بوجود إستراتيجية عمل اقتصادي واجتماعي وثقافي،
تقود إلى تطور جغرافية التربية والتعليم لتشمل اجلميع دون إقصاء أو تهميش ،يذكر كما كان األمر معمو ً ال عليه في األزمنة السابقة (العراق) واحلالية أيضاً ،فتطور احلظوظ الدراسية لدى أكثر الطبقات االجتماعية ،وبخاصة تلك التي تعيش حتت مستوى خط الفقر يجنبنا مسألة االستبعاد االجتماعي لدى األجيال اجلديدة القادمة ،وكل ذلك وانتهاء باملراحل يبدأ منذ املراحل الدراسية األولى «البداية اآلمنة» ً املتقدمة من الدراسة من أجل تفادي خطر البطالة ووجود تفاوت واسع 20 وكبير في الفرص واإلمكانيات ضمن حدود األزمنة القادمة.
< إمكانية حتقيق مسألة االستقالل النسبي في مسألة التعليم:
ثالثاً .إمكانية التحول في بنية املجتمع
< العمل على توسيع دائرة الالمفكر فيه داخل العقل العربي: وذلك األمر يتحقق من خالل توسيع دائرة االهتمام بالالمعقول والغيبي وغير املعروف ومحاولة وصفة ضمن ثقافة تاريخية معينة، وجدت في أزمنة محددة بشري ًا أي أزمنة ما قبل العلم واحلداثة، وألن الالمفكر فيه يكاد يكون هائ ً ال في مجتمعاتنا العربية اإلسالمية، لذلك تظهر محاوالت كشفه وبيان وجود العوائق اإلبستيمولوجية التي تتحكم في حضوره ذات أهمية كبيرة ،تلك املتعلقة مبجموعة من السلطة والتمثالت التي حتيط الوعي الفردي واجلمعي على حد سواء، منها ما هو ديني يحرم على املجتمع التفكير في طبيعة الله واخللق واجلنة والنار والوحي واملالئكة وجميع املعقوالت اإللهية التي تقف فوق قدرة اإلنسان ووجوده ،ومنها ما هو اجتماعي مرتبط باألعراف االجتماعية التي حترم على املرأة العمل واملشاركة االجتماعية على سبيل املثال ،ومنها ما هو اقتصادي وسياسي مينع الناس التفكير في طبيعة السلطة ومدى انتقالها وصيرورتها لدى أقلية تتحكم في مصائر املجتمعات وحتدد سلوكهم ومستقبلهم .إن توسيع دائرة الالمفكر فيه داخل العقل العربي يعني توفير قدر كبير من احلرية في إبداء الرأي وإخضاع الالمعقول إلى العلم والتفكير العلمي ،وإنه ال توجد عوائق معرفية معينة تقف أمام اإلنسان في التغيير من طبيعة اجتماعية معرفية إلى أخرى أكثر تقدم ًا وتطور ًا على صعيد عالقة اإلنسان مع املعرفة
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ال ميكن أن تظهر التحوالت في بنية املجتمع من طبيعة إلى أخرى أكثر تطورا ما لم تظهر حتوالت أخرى مرافقة أو مصاحبة لها أو متقدمة عليها أو العكس من ذلك وفقا لطبيعة املجتمع ومدى امتالكه حملددات التغيير والتطور ،وهذه التحوالت هي ما ذكرناها أعاله في بنية الدولة واملعرفة، والن التحوالت األخيرة تؤثر كثيرا على املجتمع ومدى تعاطيه مع قضية العلم والفكر العلمي ،إال أن ذلك األمر قد ال يتحقق بسهولة بسبب وجود تاريخ طويل من الفكر اخلرافي واألسطوري يعزل الناس عن املعرفة العلمية ويؤطر وعيها بشكل مسبق حول اجلديد والغريب من العلوم واملكتشفات احلديثة ،لذلك توجد هنالك إمكانيات أخرى لتحول املجتمع إلى العلم مرتبط ًا بوجود الكثير من املؤسسات واملنظمات التي تتبنى قضية العلم والتفكير العلمي بشكل مستقل عن الدولة ،بحيث
< العمل على ترسيخ االهتمام بقضية العلمنة :وهنا نقصد بالعلمنة ضمن اجتاهني ،األول تاريخي يعنى بنشأة العلمانية وبدايتها األولى التي ترتبط بالوجود الزمني الدنيوي ،وصو ً ال إلى احتادها مع املنجزات العلمية احلديثة منذ أربعة قرون ،إلى األزمنة الراهنة وما صاحبها من تعثرات وانتكاسات وحتوالت إلى سياقات «العلموية» والتطرف في عبادة العلم في القرن التاسع عشر ،فض ً ال عن وجود عوامل النجاح والفشل لدى الكثير من التجارب ،وبخاصة تلك التي حدثت في العالم العربي واإلسالمي في تونس ولبنان وتركيا ...الخ أما االجتاه الثاني فهو يأخذ بنظر االعتبار الواقع االجتماعي الراهن ،ومدى صيرورة التجربة العلمانية وطبيعة انتشارها ،فض ً ال عن وجود مواطن الضعف في كيفية قبولها من قبل املجتمع العربي، أو في كيفية انحسارها مؤسساتي ًا في اإلعالم والثقافة والسلوك البشري ...الخ ،واالجتاه االجتماعي للعلمانية يعنى بنشر األخيرة اجتماعي ًا والدخول في سجال حواري مع األفكار السائدة التقليدية دون أن توجد هناك آليات استبعاد أو إقصاء من خالل طرح فكرة العلمانية ذاتها.
13
ملف الثقافة العلمية
كثير ًا ما يكون التعليم في العالم العربي تابع ًا إلى الدولة أو هو معبر عن جهازها األيديولوجي .وال ميكننا أن نتصور تعليم ًا أو مدرسة ال توجد فيها شعارات الدولة احلزبية واأليديولوجية ،األمر الذي يجعل التالميذ يعيشون األفكار املطلقة والشمولية ،ومن ثم النظر إلى مفهوم احلقيقة من جانب واحد ،وهو اجلانب الذي تصدره الدولة وحقيقتها األيديولوجية ،األمر الذي يؤثر على طبيعة تلقي التالميذ للعلوم واملعارف ،وال يجعلنا منلك احلماس والرغبة في تعزيز التطور ومحاولة ردم احلواجز أو الفواصل العلمية الكبيرة التي نعيشها كمجتمعات لم تدرك العلم ،أو لم تستطع أن تعيش وفق مقياس العلم وفهم حركية العالم والزمن املعاصر .إن استقاللية التعليم بشكل نسبي عن الدولة ميكننا من جتاوز مفهوم احلقيقة الثابتة التي تدور حول املجتمع بشكل تاريخي ،وذلك األمر يتحقق من خالل دمقرطة املؤسسات التربوية والتعليمية واتباع األساليب احلديثة في التربية، نظري ًا وتطبيقي ًا من خالل استخدام الوسائل احلديثة في التعليم ،متمثلة بأجهزة احلاسوب «الكومبيوتر» ،واالستفادة من اخلبرات واملهارات التدريسية لدى الدول املتقدمة ،وبخاصة التجربة اليابانية ،ومحاولة تطبيقها منوذجي ًا لدى أكثر املدارس لدينا ،فض ً ال عن االهتمام باجلانب التطبيقي اإلنساني في التربية والتعليم متمثلة في جتاوز أساليب اإلكراه والعنف ضد التالميذ ،ومحاولة جعل الصف التربوي أو املدرسي أكثر متعة ورغبة من قبل الطلبة أنفسهم ،فض ً ال عن االهتمام بالعلوم واملواد العلمية أكثر من املواد األدبية واالجتماعية على الرغم من ضرورة األخيرة وأهميتها ،على أن تدرس بشكل يلغي عناصر األيديولوجيا والتبجيل الذاتي واملجتمعي ،كما كان األمر معمو ً ال في أكثر املواد الدراسية في العراق سابقاً؛ مثل علوم التاريخ ،واللغة العربية، والتربية الوطنية واإلسالمية ...الخ.
تستطيع أن تؤثر على املجتمع وتخلق سلوك ًا عام ًا حول قضايا اإلنسان، وتساهم في حتوالت املعرفة ذاتها من سيطرة الذات الفردية التي حتكم اجلماهير «رجل الدين على سبيل املثال» إلى حضور املجتمع الذي يفكر فيه الفرد بشكل حر ،وميتلك اإلرادة في تفسير وتأويل الكثير من القضايا املتعلقة باملستقبل ،تلك التي عادة ما تكون محتكرة من قبل نخبة أو أقلية من األفراد؛ سواء داخل العقيدة الدينية أم احلزبية األيديولوجية .وهذه املؤسسات تشتغل داخل املجتمع بشكل علمي وتؤثر عليه مثلما تؤثر املؤسسات األدبية والفنية على املجتمع في األزمنة الراهنة على الرغم من انحسار املؤسسات التي نذكر هنا ،ولكن وجودها يعتمد على انتشار املعرفة العلمية وحتول الدولة ذاتها سياسة ومعرفة إلى العلم ،وذلك األمر يتحقق من خالل:
والعلم واإلبداع ...الخ.
14
رابعاً .إمكانية التحول في بنية التربية
سبق وأن أعطينا وصف ًا موضوعي ًا حول واقع التربية العلمية في العالم العربي «منوذج العراق» ،ومدى غياب أهم الوسائل واألهداف احلقيقية في تدريس العلوم بشكل نظري وتطبيقي ،فض ً ال عن غياب األثر أو الذاكرة العلمية لدى الطلبة بعد انتهاء املراحل الدراسية ،األمر الذي يعكس بشكل حقيقي ليس ضعف القابليات واإلمكانيات داخل املؤسسة التربوية فحسب ،بل كذلك تردي أو ضعف اهتمام الدولة بالعلم والتربية العلمية ،األمر الذي ينعكس سلب ًا على املجتمع العربي مع ضعف إمكانيات التحول في بنى االقتصاد والسياسة واملجتمع، لتكتمل الصورة بشكل سلبي إلى حد بعيد.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
إن عملية التحول في بنية التربية العلمية حتتاج إلى جهد كبير يتمثل في إعادة هيكلة الدرس العلمي ،ليس ضمن جانب النظر والتطبيق أو املادة الدراسية فحسب ،بل يشمل املؤسسة التربوية ذاتها بشكل يجعل الدرس العلمي أكثر رسوخ ًا ويقين ًا لدى الكادر العلمي الذي يقود العملية التربوية ولدى الطلبة أنفسهم ،وذلك األمر يتحقق من خالل: < علمنة اخلطة الدراسية :وذلك من خالل التفكير بالعلوم وأهميتها في املناهج الدراسية وتغليبها على بقية املناهج األدبية األخرى من أجل ترسيخ النظرة العلمية الواقعية لدى الطلبة ،وجتاوز التعلق العاطفي والنظرة السطحية للكثير من القضايا التي تخص املجتمع العربي في األزمنة الراهنة ،تلك املرتبطة بالتاريخ الثقافي واملعرفي، الذي يؤثر كثير ًا على طبيعة تقبلنا للجديد والغريب عن البنية املعرفية السائدة ،وعلمنة اخلطة الدراسة تبدأ من توضيح ماهية العلم ونشأته من حيث املعلومات واملعارف العلمية التي جمعها اإلنسان بشكل نظري وعملي ،إلى األزمنة الراهنة ،فض ً ال عن توضيح العوامل األساسية التي وقفت أمام العلم والنظرة العلمية وتوضيحها لدى الطلبة ،تلك املرتبطة باألسطورة واخلرافة وحضور السلطة املرتبطة بالقدم واالنتشار والتعصب والتضليل اإلعالمي كما ذكرنا سابقاً، كذلك من خالل ترسيخ أهمية التفكير العلمي حول الظواهر الطبيعية واالجتماعية بشكل يبعدنا عن لغة التأمل واخلضوع إلى احلقائق التقليدية واملوروثة دون التفكير بنشأتها ،وفق ًا ملقاييس العلم والنظرة العلمية احلديثة تلك املرتبطة بأحكام الكيفيات والكميات وليس عن طريق املاهيات والتأمل فحسب ،كما هو موجود لدينا بشكل تاريخي مزمن .إن علمنة اخلطة الدراسية تؤدي إلى خلق أجيال «طالبية» واجتماعية فيما بعد متتلك االنفتاح العقلي والثقافي وتؤمن بالتقدم واملعرفة اجلديدة ،وال تعاني من عقد التاريخ ،تلك التي جتعل الغريب مهاب ًا ومخيف ًا إلى حد بعيد.
< الدخول إلى معامل العلم :يشكل الدخول إلى معامل العلم أو ممارسة التجريب العلمي مهمة أساسية أخرى في سبيل علمنة الواقع التربوي وتغييره ،إذ يؤدي الدخول إلى ممارسة العلوم بشكل تطبيقي إلى تنمية قابليات التالميذ في دراسة العلوم وتعقلها من خالل التفاعل مع البيئة الطبيعية واالجتماعية احمليطة ،فض ً ال عن ترسيخ فهم الظواهر الطبيعية لدى الطلبة ومساعدتهم على حل املشكالت التي تواجههم 21.وهكذا نقول إن جتريب العلوم يجعل مادة الدرس أكثر واقعية ويجعل الطلبة أكثر اهتمام ًا بها ،بحيث تصبح املعلومات التي يتعلمونها وظيفية قائمة على الفهم واإلدراك وليست معلومات مجردة قائمة على احلفظ والتلقني. < تنمية اإلبداع في تدريس العلوم :ال ميكن أن يعطى العلم كمهمة تدريسية دون االرتباط باإلبداع ،إذ يغدو اجلهد التدريسي الذي تقوم به املؤسسة التربوية مجرد إعادة وتكرار بعيد عن اجلدوى والفائدة العلمية للطلبة والتالميذ ،أو هو باألحرى عملية تدمير للزمن التربوي الذي يعيشه الطلبة طيلة املراحل الدراسية ،فاإلبداع يعلمنا كيف نقيس الزمن مبعيار احلاضر ،وليس مبعيار املاضي ،ومبا أن احلاضر ال يحوي اإلبداع ،فان عملية تكريسه وترسيخه داخل الصف التربوي مهمة أساسية من اجل جتاوز التكرار واإلعادة والزمن الواحد الذي يدور حول نفسه بشكل مفرغ من اجلديد واملختلف ،وذلك األمر يأخذ بعدين مرتبطني مع بعضهما البعض؛ األول مرتبط بتدريس القائمني على العملية التربوية من كادر تدريسي وإداري بأهمية اإلبداع ودوره في حتقيق التقدم البشري ،والثاني معني بتعليم الطلبة قيمة االكتشاف بشكل نظري وعملي 22،وذلك من خالل: > التعريف التاريخي بأهمية العلوم واملنجزات التي قدمتها للبشرية جمعاء ،وتعريف الطلبة بعظمة العلماء أنفسهم ،ومدى حجم املشاكل واملعوقات والتحديات التي كانت تواجههم ،فض ً ال عن اجلرأة التي كانت لديهم في حتديد قولهم العلمي والثقافي. > تنمية وعي احلرية داخل املدرسة والصف التربوي من خالل احترام األسئلة غير العادية واألفكار غير العادية لدى التالميذ ،فض ً ال عن تربية التالميذ على العقل املتسائل املتحرر من القيود واحلدود واإلكراهات ...الخ. > تدريب الطلبة على لغة املخالفة واالعتراض واالختالف الذي يقود إلى تقديس الغريب واجلديد داخل املؤسسة التربوية. > توفير الكثير من الزمن التربوي أو املدرسي لقيمة التجريب داخل معامل العلم واملختبرات ،فض ً ال عن احلرية في استخدام األجهزة احلديثة مثل أجهزة الكومبيوتر ،والتلفزيون ،ملشاهدة األفالم التي 23 تعنى باملادة العلمية. وليد املسعودي كاتب وباحث من العراق
الهوامش 1اومينيس ،روالن ( .)2008فلسفة الكوانتم ..فهم العلم املعاصر وتأويله، ط ،1الكويت :عالم املعرفة ،ص.316 : 2األمثلة كثيرة حول العلماء والفالسفة العرب واملسلمني الذين اشتغلوا على
العلم ،ومنهم هنا نشير إلى نصير الدين الطوسي الذي كتب في املثلثات واجلبر والهيئة وإنشاء االصطرالبات وكيفية استعمالها ،وكان ميتلك معرفة منظمة وحس ًا كبير ًا في أهمية العلوم املكتسبة من طب وفلسفة وتفضيلها على
15
ملف الثقافة العلمية رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
العلوم التقليدية من فقه وحديث ،وصو ً ال حتديد امتيازات أكثر لدى الطلبة الذين يقبلون على دراسة الفلسفة والطب .راجع :رضا ،محمد جواد ( .)1989أئمة الفكر التربوي اإلسالمي ،ط ،1ذات السالسل للطباعة والنشر والتوزيع ،ص.136-135 : 3هوكنغ ،ستيفن ( .)1990موجز تاريخ الزمن ،ط ،1بغداد :دار املأمون للثقافة واإلعالم ،ص.40 : 4حجازي ،مصطفى ( .)2001علم النفس والعوملة ..رؤى مستقبلية في التربية والتنمية ،ط ،1لبنان – بيروت :شركة املطبوعات للتوزيع والنشر، ص.51 : 5في استطالع أجري من قبلنا مع عدد من طلبة العلوم في املدارس اإلعدادية بني جيلني مختلفني حول مفردات ومعلومات تلقيناها في مراحلنا الدراسية األولى بعد التخرج من اجلامعة ،وجدنا أن نسبة كبيرة من هؤالء الطلبة ينتمون إلى اجليل احلالي يجهلون كثير ًا ماهية التنفس مث ً ال أو القلب وطبيعة عمله أو إيجاد تعريف بسيط له ،وذلك إن دل على شيء فانه يدل -كما أسلفنا -على التراجع عن تكوين ذاكرة علمية اجتماعية لدى األجيال القادمة. 6زكريا ،فؤاد ( .)1988التفكير العلمي ،ط ،3الكويت :سلسلة عالم املعرفة ،ص.61-60 : 7يفسر الكثير من العامة في العراق االحتالل األميركي بأنه إرادة الله بأن سلط قوى كبيرة على نظام مستبد وحاكم ظالم ،وبذلك تكون اإلرادة اإللهية هي مصدر الفعل والتحكم في سلوك البشر أنفسهم ،وهذا األمر يسير باملقارنة مع التفكير باملرض على سبيل املثال ،وكيفية حدوثه بعيد ًا عن العلل واألسباب احلقيقية لذلك األمر ،أي بعيد ًا عن تدخل اإلنسان وما موجود من سلطات سياسية واقتصادية واجتماعية فاسدة ال تقدم اخلدمات الصحية والتربوية بذلك الشأن. 8التفكير العلمي ،مرجع سبق ذكره ،ص.83 : 9بن عبد العالي ،عبد السالم ( .)1979الفلسفة السياسية عند الفارابي، ط ،1بيروت :دار الطليعة ،ص.27 : 10يفوت ،سالم ( .)1991الزمان التاريخي من التاريخ الكلي إلى التواريخ الفعلية ،ط /1بيروت :دار الطليعة ،ص.16 – 15 : 11سليم ،محمد صابر ،وسعد عبد الوهاب نادر ( .)1968اجلديد في تدريس العلوم ،ط ،1بغداد ،ص.41 : 12اومينيس ،مصدر سبق ذكره ،ص.316 : 13باشالر ،غاستون ( .)1981تكوين العقل العلمي ،ط ،1بيروت – لبنان: املؤسسة اجلامعية للدراسات والنشر والتوزيع ،ص.47 : 14التفكير العلمي ،مصدر سابق ،ص.92 : 15ليوتار ،جان فرانسوا (« .)1984استطالع حول مغامرات العقل في الفكر والعلم املعاصرين» ،مجلة دراسات عربية ،ص.140 : 16من املمكن هنا املقارنة بني العقل اجلمعي في املجتمعات العربية اإلسالمية، وهو السائد اليوم ،وبني العقل الفردي في احلضارة الغربية احلديثة ،فاألول يستمد معقوالته من الله والوحي وجميع املفارقات للعقل البشري ،ومن ثم هو عقل جمعي ،منغلق على ذاته ،يحرم اإلبداع واالنتقال من فضاء معرفي إلى آخر ،بينما العقل الفردي ،فإنه يوجد الفرد فيه كذرة متحررة متتلك اإلرادة في تعقل العالم ،وذلك األخير غير مطلق تتحرك فيه جميع املعقوالت واملعارف بطبيعة نسبية في االعتقاد واليقني. 17إن التعدد الذي كان سائد ًا في بداية ظهور اإلسالم ال يحمل التناقض واالختالف مع األصول واملبادئ التي يستند إليها ،بل هو تعدد ضمن طبيعة تفسير النص املعرفي وتأويله ،وهنا يختلف ذلك التعدد عما هو موجود
في األزمنة احلديثة من معارف مختلفة ومتناقضة تتفاعل مع بعضها ،لتنتج فيما بعد املختلف اجلديد ضمن جدلية متواصلة ،على الرغم من أن التعدد في تأويل النص الذي كان سائد ًا لدينا ميثل بداية حسنة للخروج من الفكرة الواحدة والشمولية التي تقف فوق التاريخ والزمان واحلقيقة. 18مجلة العرب والفكر العاملي ،عدد ،9شتاء ،1990بيروت :مركز اإلمناء القومي ،ص.144 : 19يحدد املفكر عبد الله العروي تاريخي ًا أن هناك مقالتني حول الدولة ،األولى متثل األخالق فيها الهرم الرئيس؛ أي إنها تتقدم على مفهوم الدولة ،وأن األخيرة هي اصطناعية ناشئة من أفكار مسبقة تتعلق بالغاية احلقيقية من حياة اإلنسان على هذه األرض ،التي حتمل صورة املؤقت والعابر دون أن يوجد فيها ما هو دنيوي متعلق بتحقيق الذات والرغبات واملتع ... الخ .أما الثانية ،فإنها طبيعية ناشئة عن ضرورة االجتماعي الطبيعي للبشر أنفسهم ،ومن ثم هي دولة معقولة حتمل التجانس ما دامت تستطيع أن حتقق الرفاه والسعادة واحلرية لإلنسان من خالل مبدأ التعاون والتضحية من قبل املجتمع ،وهذه النظرة إلى الدولة ترى اإلنسان كائن ًا خير ًا في طبعة إذا ترك األخير إلى طبيعته يعمل ويكتشف ويبدع ويحقق احلرية والسعادة .وكال املقالتني حتمل املثال والوهم حول صورة الواقع اإلنساني ،وحتجب الكثير من حقائق الصراع البشري تلك املتعلقة بتاريخ طويل من القمع واإللغاء للوجود اإلنساني ،من خالل مفردات تتعلق بالتعالي الديني واألخالقي، أو تتعلق بوهم املجتمع الطبيعي كامل اإلنسانية من حيث النشأة واألصل. راجع :العروي ،عبد الله ( .)2001مفهوم الدولة ،املركز الثقافي العربي، ط ،7ص.13-12 : 20إن املقارنة بني املدن والضواحي على الرغم من تردي املدينة العراقية وحتولها إلى ريف كبير ال ميكن وصفها أو تعريفها من حيث عدم االهتمام واإلقصاء والتهميش ألسباب اقتصادية وسياسية واجتماعية ...الخ ،فما زالت مدينة الثورة «الصدر» حالي ًا تشكل معم ً ال خدمي ًا للمدينة (بغداد) ،دون أن يوجد فيها اإلمكانيات في جتاوز مسألة التوريث اخلدمي واملهني والعمالي بالطرق والوسائل كافة ،لذلك جند أن أكثر خريجي كليات العلوم والطب ال ينتمون إلى هذه الضاحية ضمن حدود النسبي ،بل هناك االنتماء إلى كليات اآلداب والتربية واالجتماع وغيرها ،وذلك إن دل على شيء ،فإنه يدل على ضعف القابليات واإلمكانيات في حتقيق ذلك األمر. 21جتريب تدريس العلوم باملدخل الياباني في بعض مدارس املرحلة االبتدائية، د .منصور عبد السالم فتح الله ،املجلة التربوية ،الكويت :مجلس النشر العلمي -جامعة الكويت ،العدد ،67حزيران ،2003ص.123 : 22هنالك من يفسر نشوء عملية اإلبداع من خالل عاملني ،األول وراثي يعتمد على اإلمكانات الوراثية من مواهب وقدرات عقلية وإبداعية ،وذلك الرأي له امتدادات قدمية ترتبط جذورها بأفالطون ،واألمثلة على هذا الشكل من اإلبداع كثيرة ،مثل بيتهوفن الذي كانت عائلته متلك تسعني عازف ًا وكذلك احلال مع غوته ،وفان كوخ ،وميخائيل أجنلو .أما العامل الثاني، فإنه اكتسابي يتم عبر املمكنات العقلية املكتسبة وليست له عالقة مبؤثرات الوراثة ،بل يعتمد على مؤثرات البيئة احمليطة كالعائلة واملدرسة واملجتمع، فض ً ال عن الظروف احمليطة باملبدع من اجتماعية وثقافية واقتصادية ،كلها تؤثر على اإلبداع في شكل أو بآخر ،وهذا الشكل من اإلبداع مثاله اينشتاين وبيكاسو وباسكال وغيرهم ،راجع :صالح ،قاسم حسني (.)1990 سيكولوجيا اإلبداع الفني ،بغداد :دار الشؤون الثقافية ،ص.9 : 23عاقل ،فاخر ( .)1979اإلبداع وتربيته ،ط ،3بيروت :دار العلم للماليني ،ص.156 :
في الثقافة العلمية
16
جدلية «املوضوعية» وأسطورة الطريقة العلمية: نحو نظرة تكاملية بني العلوم والفنون
نادر وهبة «العلوم بالنسبة لي عملية استقصاء ،أضع خاللها الطالب في عملية ممنهجة تبدأ من تدوين دقيق ملا يالحظه الطالب ،يليها فرض فرضيات، ثم جتربة للتحقق من الفرضيات وجمع البيانات وحتليلها بهدف اخلروج مبعرفة علمية أو بنظرية ما». معلم علوم في مدرسة فلسطينية
ملف الثقافة العلمية
«أهدف من العلوم أن أعلم املبادئ والقوانني من جهة ،واملناهج العلمية من جهة أخرى عبر االستقصاء».
لقد مرت املسيرة التربوية في فلسطني بالعديد من التقلبات والتحديات، وكان أحد تلك التحديات تطوير نظام تعليمي قادر على مواكبة التغيرات في املعرفة ،وفي الوقت نفسه تقدمي تعليم ذي مستوى نوعي .ومنذ تأسيس وزارة التربية والتعليم الفلسطينية ،واحلاجة إلى تطوير قدرات املعلم الفلسطيني ومتكينه في اطّ راد مستمر ،حيث بدأت بتطوير املناهج الفلسطينية التي نتج عنها كتب دراسية في مواضيع مختلفة ،رافقها عملية “تدريب” املعلمني على تنفيذ املنهاج واملواضيع املطروحة داخل الكتب املدرسية .ومن حني إلى آخر ،كانت تدخل علينا مفاهيم وتقنيات بحكم اللجوء إلى خبراء تربويني من اخلارج ،وإلى مصادر ومراجع أجنبية يبدو أنها القت مكان ًا لها بأريحية في الوسط التربوي الفلسطيني ،بدعوى أنها كانت مفاهيم وتقنيات وطرق ًا ناجحة في املجتمع الغربي.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
أريد في هذه املقالة أن أركز على موضوع العلوم وعلى جزئية بيداغوجية أصبحت في “الوعي الباطني” ملعلمي العلوم ،حتى أضحت ممارسة تلقائية الواعية أو “هابيتوس” بحسب بورديو ،أال وهي مفهوم االستقصاء. ال أريد أن أحتدث عن كيفية حتول هذا املفهوم إلى ممارسة على املستوى الصفي ،فبرامج التأهيل في موضوع االستقصاء واملصادر املترجمة عن هذا املفهوم ال حتصى ،ورسائل املاجستير التي تخرج من جامعاتنا الفلسطينية عديدة ،وتؤكد على أهمية االستقصاء في عملية تعلم العلوم. لكن ما أريده هو تفكيك هذا املفهوم البيداغوجي تاريخي ًا وفلسفياً ،ملساءلة شرعيته في حقل العلوم الطبيعة ،وفي عملية إنتاج املعرفة العلمية. وإذا ما تأملنا قلي ً ال في تلك املمارسات املتعلقة باالستقصاء في صفوفنا “إن وجدت” ،جندها ممارسات تقنية آلية مجردة من روح االستقصاء الفعلي -تلك العمليات الذهنية التي يتحاور عبرها الطالب مع الظاهرة بإشراك حواسه وخياله وما يحمله من خلفية ثقافية ومعتقدات وميول. فاالستقصاء في مدارسنا ما هو إال عملية إقصاء للظاهرة العلمية وعزلها
معلمة علوم في مدرسة فلسطينية
عن النوازع وامليول الشخصية ،واإلدعاء بأننا نستطيع الوصول إلى “احلقيقة” عبر سلسة من التقنيات تبدأ باملشاهدة أو احلواس ،وتنتهي مبعرفة علمية .وما يقود هذه العملية أسطورتان :األولى “موضوعية العلوم” ،والثانية “الطريقة العلمية” ،أسطورتان أثبت مؤرخو العلوم أن العلوم وعملية إنتاج املعرفة العلمية بريئتني منهما. أنطلق في هذه الورقة من وجهة النظر التي تقول إن عملية إنتاج املعرفة العلمية من قبل العلماء -وأقصد باملعرفة العلمية هنا النظريات، والقوانني ،واملبادئ ،والتصنيفات في حقول العلوم املختلقة -ما هي إال عملية منقادة بالنوازع الشخصية واأليديولوجيا الفكرية والسياسية، واألمناط الفكرية واالنتماءات العلمية للعلماء ،وهي جوانب إنسانية وثقافية واجتماعية تدخل في صناعة العلوم .كما أجادل أيض ًا أن عملية ما يسمى بـ”االكتشافات العلمية” ،وبخاصة ما يتعلق بالنظريات اجلديدة منها ،ما هي إال عمليات إبداعية مسندة بالتخيالت العقلية لتفسير ظواهر طبيعية معينة .بالتالي ،فإن قضية اعتبار العلوم موضوعية وبريئة من النوازع الشخصية ،وأنها تعتمد على الطريقة أو املنهج العلمي للتوصل إلى احلقيقة ،قضية ممشكلة ،ال بد من إبرازها ومحاورتها. وال بد من أن يقودني هذا املوضوع إلى احلديث عن اجلدل التاريخي- الفلسفي املتعلق بطبيعة املعرفة العلمية ،وعلى وجه اخلصوص اجلدل بني مدرستني فكريتني متناقضتني؛ األولى املدرسة الواقعية التي تعتبر املعرفة العلمية حقيقة موجودة خارج كياننا وقدراتنا ونوازعنا وتفكيرنا، وبالتالي ال بد من االجتهاد بطرق مختلفة للوصول إليها ،والثانية املدرسة النسباوية التي تعتبر املعرفة نتاج ًا إنسانياً-اجتماعياً ،وتؤمن بأن احلقيقة نسبية وتعتمد على السياق والتاريخ والثقافة .وقد وصل هذا اجلدال في العلوم أعلى مستوى له في فترة الستينيات ،وبلغ في كثير من املراحل مستوى الصراع احملتدم عبر الكتب واملؤمترات العلمية والدوريات الهدامة ،فإن هذا الصراع جاء ليلقي املتخصصة .لكن بعكس الصراعات ّ
أسطورة «الطريقة العلمية» ومفهوم جديد لـ «االكتشافات العلمية»
وتتلخص أفكار كون في أن من يراجع تاريخ تطور العلوم والثورات العلمية املهمة ،يجد أنها حتدث عبر حلقة تتكون من مرحلة «العلوم العادية» -يعمل خاللها العلماء ضمن نظرية ما أو إطار فكري معني يقود
لكن ما يهمني هنا هو طبيعة عمل العلماء في مرحلة «العلوم العادية» حسب تصنيف كون .فكيف يختلف عمل العلماء في هذه املرحلة منه عن مرحلة «الثورة العلمية»؟ لنأخذ مثا ً ال عرضه كون في كتابه ويتعلق بنظرية أرسطو في تفسير حركة األجسام .يقول كون إن النظرية األرسطية مث ً ال قادت معظم العلوم واملمارسات العلمية من جتارب وأبحاث فيما يتعلق باألجسام املتحركة ملئات السنني وشكلت إطار ًا فكري ًا أو براديغم أطلق عليه كون براديغم أرسطو .وكانت الظواهر حسب كون تخضع لهذا البراديغم ولتلك التفسيرات التي تتوافق مع نظرية أرسطو ،حتى أن املعضالت التي كانت تواجه هذه النظرية كانت إما أن تطوع للبراديغم نفسه باللجوء إلى تفسيرات أو معادالت معينة تفسرها ،وإما يتم إهمال املعضلة بالكامل. فمثالً ،يقول كون إن ما أتاح لبراديغم القوة الدافعة -وهي نظرية منافسة لنظرية أرسطو حول حركة األجسام -أن ينمو وسط براديغم أرسطو هو تراكم املعضالت في هذا البراديغم األخير .فإذا كانت األجسام حسب
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
الفكرة األساسية التي جاء بها ثوماس كون هي أن العلوم -كسائر احلقول املعرفية األخرى -تقاد بالنوازع الشخصية ،واأليديولوجيا الفكرية والسياسية ،واألمناط الفكرية ،واالنتماءات العلمية للعلماء ،وبالتالي فإن فكرة أن العلوم هي موضوعية ،وأنها تعتمد على الطريقة أو املنهج العلمي للتوصل إلى احلقيقة ،أصبحت من وجهة نظر كون فكرة مشكك ًا فيها .ورمبا لم تكن أفكار كون بحديثة ،فقد حتدث بيرس عن ذاتانية العلوم رد ًا على بيكون الذي كان يؤمن بأن العلوم تعتمد على املشاهدة املوضوعية البريئة ،وهي بالتالي خالية من أية حتيزات .لكن ما مييز أفكار كون أنها اعتمدت على تاريخ العلوم وعلى سوسيولوجيا إنتاج املعرفة عبر التاريخ ،حيث عرض كون تاريخ تطور بعض النظريات التي تعتبر من أهم النظريات التي أثّرت على تفكيرنا وعلى أمناط حياتنا ،وهي: نظرية مركزية الشمس مقابل األرض ،النظرية اجلزيئية مقابل نظرية الفلوجستون ،ونظرية القوى املؤثرة على اجلسم مقابل النظرية األرسطية في القوى الكامنة داخل األجسام ،وأخير ًا نظرية األشعة السينية ونظريات الكهرباء .فمن خالل هذه األمثلة ،استطاع كون أن يعطي معاني جديدة ملفاهيم وأدوار كانت وما زالت سائدة منذ عصرنا هذا؛ مثل مفهوم «االكتشافات العلمية» ،ودور «الصدفة» ،و»حل املشكالت» في العلوم، ومفهوم «املعضالت» وآلية التعامل معها من قبل العلماء في سياقات مختلفة ،ومفهوم «الطريقة العلمية» ودورها ،وطبيعة النظرية مقابل القانون ،ودور «املجمع العلمي» ،ومفهوم «االستقصاء» ،وغيرها.
وما مييز البراديغمات املتنافسة -حسب كون -أنه ال يوجد بينها لغة تفاهم عرفه كون مشتركة ،وبالتالي يستحيل مقارنة براديغم معني بآخر ،وهو ما ّ بـ الالقياسية .وهنا يتجلى مصطلح «الثورية» لدى كون ،فالعلوم بطبيعتها ثورية وليست تراكمية كما كان ينظر لها نظيره بوبر؛ فالثورة العلمية لدى كون أشبه ما تكون بالثورة العسكرية أو االنقالب السياسي في الدولة؛ مبعنى أن لكل نظام أحكامه ومفاهيمه وقوانينه ومنهجياته التي تقود عمله. إال أن التحول الثوري في املعرفة العلمية وعملية ظهور براديغم جديد، إمنا ينطوي في داخلة ذلك اجلانب السيكولوجي للعالِم ،وهو جانب يدعي كون أنه يحصل للعالِم أثناء التفكير العميق بتزامن تراكم معضالت في النظرية السابقة .فالتحول هنا عند كون أشبه ما يكون بتحول ديني، األمر الذي أثار سخط العلماء الذين كانوا يؤمنون بأن العلوم واملمارسة العلمية هما أبعد ما تكونان عن الدين .وكان أكثر الساخطني على كون فالسفة العلوم أصحاب املنهج الوضعي ،الذين كرسوا حياتهم في وضع حدود وفواصل ُتعرف املمارسات العلمية عن املمارسات امليتافيزيقية مثل التنجيم ،فكيف يأتي شخص مثل كون ليدعي أن التحوالت العلمية الشهيرة التي ساهمت في تطور البشرية ،ما هي إال حتول ديني؟
17
ملف الثقافة العلمية
الضوء على طبيعة العلوم وطبيعة إنتاج املعرفة العلمية داخل مختبرات العلوم ،وطبيعة عمل العلماء في ميادينهم املختلفة .وال بد لي هنا من أن أبدأ بأفكار الفيلسوف “النسباوي” ثوماس كون ،وبخاصة تلك التي جاءت في كتابه بنية الثورات العلمية 1العام ،1962والتي كانت مبثابة ضربة موجعة ألصحاب الفكر واملنهج الواقعي ،وعلى رأسهم الفيلسوف كارل بوبر.
معظم ممارسات العلماء أو ما يعرف حسب كون بـ»البراديغم» -ويتبعها فترة «العلوم غير العادية» التي يحدث خاللها ثورة أو انقالب على النظرية السائدة ،سببها تراكم املعضالت (أو ظاهرة عدم التوقع حسب ترجمات أخرى) داخل البراديغم السائد ،وتتجمع النتائج التجريبية التي تناقض النظرية ،وهنا يصاب البراديغم السائد بنكسة في التفكير العلمي ،األمر الذي يولد نواة لنظرية جديدة أو براديغم جديد ،يقود العمل في العلوم. ويستمر البراديغم اجلديد في التنامي ،ويجمع املؤيدين له من العلماء، إلى أن يصل مرحلة عمرية يعمل خاللها العلماء من جديد ضمن مرحلة «علوم عادية» ،وهكذا تستمر احللقة .ويدعي كون أن الثورة العلمية التي حتدث بعد فترة «العلوم العادية» هي حتول غير مرئي يحدث فجأة على نظرة العالِم إلى العا َلم ،أو الظاهرة متام ًا كالتحول اجلشتالطي في علم النفس .ويدعم كون أقواله بأمثلة من تاريخ العلوم ،أهمها ما جاء في كتابه الثورة الكبرنيكية 2،الذي يعرض فيه السياق التاريخي واالجتماعي والسياسي ،مبا فيه النزعات الشخصية واملعتقدات الدينية لتطور نظرية كبرنيكوس املتعلقة مبركزية الشمس بد ً ال من األرض حسب النظرية األرسطية السابقة.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
18
النظرية األرسطية تتحرك لهدف طبيعي؛ أي أن األجسام تتحرك لسبب ما إرادي وتلبية ملتطلبات الطبيعة بهدف الوصول إلى أماكنها الطبيعية، فكيف ميكن تفسير حركة املقذوفات مثل الرمح الذي ينطلق إلى أعلى بعد إزالة القوة عنه؟ وكيف ميكن تفسير حركة األجسام املتأرجحة؟ أسئلة كانت تطرح يومي ًا وتشكل تهديد ًا لبراديغم أرسطو .في فترة ما ،كان باستطاعة أصحاب املدرسة األرسطية أن يخضعوا املعضالت لقوانينهم. فمثالً ،استطاع أتباع فكر أرسطو أن يفسروا ظاهرة املقذوفات بوجود فراغ حول السهم أو الرمح املقذوف يتولد بفعل أداة القذف قبل اإلطالق .ومبا أن الفراغ ظاهرة غير طبيعية بناء على مبادئ النظرية األرسطية ،فإن الهواء يسارع في تعبئة الفراغ خلف الرمح ،ما يدفع الرمح إلى االستمرار في االرتفاع حتى انتهاء جميع الفراغ املتولد خلفه ،وعندها فقط يعاود الرمح إلى النزول نحو مبتغاه؛ أي إلى األرض .لكن ومع تراكم املعضالت ،لم يستطع براديغم أرسطو من الصمود ،ما أدى إلى تولد براديغم مناهض مببادئ مختلفة وبنظره إلى الظاهرة نفسها بإطار نظري مختلف. من خالل املثال السابق لبراديغم أرسطو ،استطاع كون أن يظهر خصائص عمل العلماء ضمن البراديغم الواحد في إطار مرحلة «العلوم العادية». أحاج أو مشاكل يقول كون إن عمل العلماء في هذه املرحلة ليس إال حل ٍ عبر خطوات عرفها العلماء بخطوات املنهج العلمي .ويضيف كون أن عملية حل أحجية أو مشكلة علمية ما بحاجة إلى توفر مصادر تتألف من 3 «شبكة قوية من االلتزامات – الفكرية ،والنظرية واألداتية ،واملنهجية». لذلك ،تعتبر عملية حل األحاجي واملشاكل ضمن مرحلة العلوم العادية هي عملية مضللة على حد قول كون .فاملعضالت التي ال تتوافق مع االلتزامات النظرية؛ إما أن تطوع للنظرية أو البراديغم (مثل ظاهرة املقذوفات في نظرية أرسطو) وإما تهمل متاماً .ليس ذلك فحسب ،بل إن العلماء ضمن االحتاد العلمي اخلاص بالبراديغم الواحد يدربون العلماء الواعدين (الطلبة في اجلامعات مثالً) على تقديس االلتزامات الفكرية والنظرية السابقة ،ويورثونهم االلتزامات األداتية واملنهجية ،التي تتمثل بطرق استقصاء ممنهج ،ووصفات لعمل التجارب واألدوات املستخدمة. أما أولئك الذين رأوا في املعضالت املتراكمة للبراديغم السائد أسباب ًا يواجهون باالنتقادات النهياره كانوا يعملون في اخلفاء ،وكثير ًا وما كانوا َ العنيفة خلروجهم عن األعراف السائدة في البراديغم. وإذا كانت طبيعة العمل في مرحلة «العلوم العادية» غير مجدية ،فإن كون يرى عكس ذلك متام ًا في مرحلة الثورة العلمية .إن التحول الذي يحدث على البراديغم نتيجة تراكم املعضالت التجريبية له طابع مختلف متام ًا عن مرحلة العلوم العادية ،يتخلى فيه العالم (بخياره احلر) عن االلتزامات الفكرية والطرائقية املنهجية للبراديغم السائد ليتبنى تدريجي ًا التزام ًا فكري ًا ومنهجي ًا جديداً .وبني هذا وذاك تتدخل أمور ذاتانية للعالِم لها طابع شخصي ،وترتبط بالقيم واملثل العليا واحلدس واإلميان بالشيء وغيرها من األمور السيكولوجية املعقدة غير قابلة للقياس .يقول كون إن العالِم في هذه املرحلة يضع قيم ًا ومث ً ال عليا شخصية حتت املقارنة -مثل مقولة «من يتردد يخسر» مقابل مقولة «تأنى وانظر جيد ًا قبل أن تقفز» ... وغيرها من املثل العليا للشخص .فالقيم املشتركة التقليدية التي كانت تقود املتحد العلمي ضمن عمله في مرحلة العلوم العادية مثل الدقة، والثبات ،واملوضوعية عبر الطريقة العلمية ،ومدى الشمولية في النتائج العلمية هي معايير غير مثمرة في هذه املرحلة ،وبخاصة عندما تتراكم
املعضالت فيها ،بل محيرة ،حيث ميكن ألي اثنني من العلماء أن يتبنيا مثل هذه القيم املشتركة ،ويخرج كل منهما بخيارات مختلفة .فعندما يأتي األمر إلى اختيار براديغم من بني براديغمات أخرى ،فإن هذه املعايير تفشل متام ًا في املساعدة على االختيار. ويفصل كون طابع مرحلة «الثورة العلمية» ،ويقول إنها عملية اختيار ّ العالِم نظرية ما مقابل أخرى منافسة ،حتدث عندما يكون هناك نوع من االتصال بني النظريتني املتنافسني؛ مثل مراجعة ورقة بحثية منشورة لها عالقة بالنظرية املنافسة ،وزيارة مختبر العالم املنافس ،ومشاهدتهم ومحاولة إعادة التجربة التي قاموا بها للحصول على نتائج مشابهة أو فحص النتائج ،والتواصل عبر املؤمترات املختلفة ،وغيرها من األساليب التي يتم فيها االحتكاك بني أصحاب النظريات املتنافسة بهدف تطويع املشاهدات كل حسب نظريته .وعلى الرغم من عملية التواصل هذه ،فإن اللغة واملصطلحات بني التيارات املتنافسة حتمل معاني ووظائف مختلفة بحسب العالِم وانتمائه البراديغماتي .فمصطلحات مثل «النجوم»، «الكواكب»« ،املخلوط»« ،املركبات» ،لها تفسيرات وتأويالت وفهم مختلف بني النظريات املتنافسة .وعندما يحاول عالم من براديغم معني أن يجرب املفاهيم واملصطلحات للبراديغم اآلخر ،يجد نفسه فجأة وبسبب عوامل شخصية غير عقالنية -ذاتانية -يتحدث لغة اآلخر، وميارس املصطلحات والقوانني التي تقود النظرية املنافسة ،وهنا يحدث االنقالب. استطاع كون أن يقلب املفاهيم الدوغماتية التي كانت سائدة حول طبيعة العلوم وتطور املعرفة العلمية ووضع عالمات استفهام على كل ما يتعلق باملنهج أو الطريقة العلمية واالكتشافات العلمية ،وشكك في املوضوعية التي كان يعتقد أن العلماء كانوا ميارسونها .ولنفهم ذلك بشكل عملي، دعنا نأخذ مثا ً ال آخر من تاريخ العلوم متعلق ًا بالكيمياء جلأ إليه كون إلثبات أفكاره حول العلوم. يخصص كون وحدة خاصة في كتابة بنية الثورات العلمية يتعلق بتعبير «االكتشافات العلمية» .ويختار كون وقائع من التاريخ حدثت فيها ما يسمى باكتشافات علمية ،وهي واقعة اكتشاف األكسجني .يبدأ كون نقاشه في هذا املوضوع بطرح السؤال التالي« :ترى من الذي اكتشف األكسجني فعالً :هل هو البريطاني جوزيف بيرستلي ()1804-1733
أم الفرنسي انتويني الفوازييه ()1794 - 1743؟» .وينبع تساؤل كون هذا من االختالط السائد في الكتب حول الشخصية التي «اكتشفت» األكسجني ،فمعظمها ينسب هذا االكتشاف إلى بيرستلي العام ،1774 والقليل ينسبه إلى الفوازييه العام .1775وأي ًا كان املكتشف ،فقد كان من السائد أن تنسب االكتشافات العلمية إلى شخص ما ،وتقرن بفترة زمنية محددة .لكن إذا درسنا التاريخ ،والسياق الذي كان يعمل به علماء الكيمياء في تلك الفترة ،ميكن أن نحدد اإلجابة مبعايير مختلفة كلياً. يقول كون إن البراديغمات السائدة في الكيمياء في تلك الفترة التي كانت تقود عمل علماء الكيمياء هي براديغمات النظرية الفلوجستية. وكانت التجارب املخبرية تشير إلى خروج غاز «الفلوجستون» عند حرق بعض املركبات الكيميائية ،وهو غاز ال يساعد على االشتعال أو على التنفس .وكان بيرستلي من بني أولئك العلماء الذين كانوا يعملون ضمن براديغمات الفلوجستون .فما كان يشاهده ويستدل به من هذا الغاز املجمع في األنبوب هو الفلوجستون ،ألنه يطفئ الشمعة املضاءة في اإلناء الذي مت جتميع الغاز فيه ،كما أنه يقتل الفأر الذي كان يوضع في هذا اإلناء.
هنا نرى أن كون يعطي «االكتشاف العلمي» مفهوم ًا جديداً ،فهو ليس ال فردي ًا متمث ً عم ً ال بشخص وزمن ومشاهدة بالصدفة ،بل ال بد من توفر حالة وعي أو «إدراك أن شيئ ًا ما موجود ًا ومعرفة ماهية هذا الشيء على السواء» 5.إن هذا اإلدراك املعرفي الناجت في معظم األحيان عن وجود معضالت وحاالت عدم التوقع في النموذج الفكري السابق ،يتطلب وقت ًا طويالً .فهل االكتشاف اجلديد إذ ًا مرهون بتغيير في البراديغم؟ ال بد لكي جنيب عن هذا السؤال أن ندرك الفرق بني النظرية والبراديغم: إن تبني الشخص نظرية ما يعني إدراكه املعرفي بهذه النظرية ،لكن تبني الشخص لبراديغم جديد هو أشمل وأعقد من ذلك بكثير ،ويشمل تغيير ًا في املمارسة العلمية وطرائق إجراء التجارب؛ أي النظر إلى النهج بطريقة أخرى أيضاً .يقول كون «إن قرار استخدام جهاز معني من األجهزة بطريقة خاصة يحمل معه افتراض ًا بأن أنواع ًا معينة من الظروف من دون سواها سوف تظهر» .6لنرجع إلى مثال األكسجني .يقول كون أن كل من بريستلي والفوازييه كانا يستعمالن جتارب «روتينية» لقياس كمية الهواء وجودته والتزامهما بطريقة إجراء التجربة هذه «كانت التزام ًا في الوقت 7 نفسه بفكرة عدم وجود غازات ذات سلوك كسلوك األكسجني». وهنا استطاع كون أن يقلب املفاهيم املتعلقة باالكتشاف العلمي ،على األقل معظمها ،التي ما زلنا نعلمها في مدارسنا حتى يومنا هذا .ميكن أن أخلص الفرق بني املفهوم التقليدي لالكتشاف العلمي واملفهوم املغاير له من وجهة نظر كون في اجلدول التالي:
ملف الثقافة العلمية
لقد أعاد الفوازييه جتارب بيرستلي وعلى مواد أخرى منها أكسيد الكبريت (أو ما يعرف آنذاك بكبريت الكاكلس) وكان الغاز الذي يتم
ال يشكك كون في أن األكسجني مت اكتشافه ما بني العامني 1774 و ،1777أو رمبا بعدهما بقليل ،لكن متى بالتحديد؟ ال ميكن أن نعرف ذلك إال إذا درسنا السياق املعقد واألمناط الفكرية أو البراديغمات التي يعمل من خاللها العلماء أمثال الفوازييه وبيرتسلي .لقد واجه براديغم الفلوجستون الذي كانت حتكمه نظرية االحتراق عبر الفلوجستون معضالت كثيرة لم يستطع الفوازييه تطويعها أو إهمالها كما فعل زميله بيرستلي .فمن خالل األوراق التي أعلن عنها الفوازييه العام ،1777 كان من الواضح أنه بات مقتنع ًا بأن هناك ً خطأ ما في نظرية الفلوجستون. كانت بداية هذا اإلدراك حسب كون مع بداية العام .1772وكان العمل في األكسجني بالنسبة لالفوازييه مجرد إضافة إلحساسه بخطأ نظرية الفلوجستون السائدة .يقول كون« :إن ذلك الوعي املسبق للصعوبات هو جزء مهم ،ساعد الفوازييه ليرى في أصل جتارب العالم بيرستلي غاز ًا لم يقدر بيرستلي على رؤيته بنفسه» 4.وهنا يربط كون «االكتشاف العلمي» بعملية إدراك خطأ البراديغم السابق وبداية إدراك فاعلية براديغم جديد يستطيع خالله العالم أن يرى الشيء نفسه بشكل أو منظور مختلف.
19
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ولكي نستطيع حتديد اإلجابة عن سؤال كون ،ال بد من دراسة الثقافة واملعتقدات العلمية السائدة في فترة العلماء املعنيني .لقد امتازت حقبة بيرستلي باالهتمام مبكونات الهواء ،وكانت نظرية الفلوجستون تقود التجارب املخبرية وتقود التفسيرات على حد قول كون .وكان بيرستلي مهتم ًا بالغاز الذي يخرج نتيجة حرق أكاسيد الزئبق .فالزئبق مادة لزجة ثقيلة يصعب إذابة الغازات فيها .وكان التحدي لبيرستلي أن يفاعل الزئبق مع الغاز .واستطاع بيرستلي في العام 1772أن يصمم جهاز ًا يستطيع من خالله جمع الغازات فوق الزئبق ،وأن يفحص الغازات الناجتة بعد احلرق .بالتالي ،فإن معظم التجارب واألدوات املصممة كانت «منقادة» بالنظرية الفلوجستية .لكن عندما أحرق بيرستلي قطعة من أكسيد الزئبق (كانت تسمى آنذاك زئبق الكاكلس حسب النظرية الفلوجستية) ،وفحص الغاز الناجت ،وجد أن هذا الغاز يساعد على االحتراق ،ويبقي الفأر في اجلرة على قيد احلياة؛ مبعنى أن صفات هذا الغاز املجمع كان متام ًا عكس صفات الفلوجستون .من املفروض حسب نظرية الفلوجستون أن يحرق «زئبق الكاكلس» ويخرج الفلوجستون ويبقى الكاكلس راسباً .يقول كون إن هذه التجربة شكلت معضلة بالنسبة لبيرستلي وألصحاب نظرية الفلوجستون بشكل عام .فهل غير بيرستلي من وجهة نظره بالنسبة لنظرية الفلوجستون؟ اجلواب هو ال ،فقد استطاع بيرستلي أن يطوع املشاهدة أو الظاهرة -أي الظاهرة املتمثلة باملعضلة -إلى نظرية الفلوجستون ،وأطلق على الغاز «هواء خال من الفلوجستون» .يتساءل كون :هل نستطيع أن نعطي حق اكتشاف األكسجني إلى بيرستلي إذاً؟ يقول كون إنه إذا كان اجلواب نعم ،فإن احلق هذا يجب أن يعطى إلى جميع أولئك الذين جمعوا هذا الغاز من قبله ،وأولهم الكيميائي السويدي األصل كارل سكيل ( ،)1786 - 1742الذي استطاع أن يعزل هذا الغاز العام ،1772 وأطلق عليه الهواء الناري ،ألنه يساعد على االشتعال .هل نستطيع أن نعطي احلق إلى أنتويني الفوازييه إذاً؟
جمعه دائم ًا يشبه صفات الغاز الذي جمعه بيرستلي .لكن يقول كون إن الفوازييه كان صاحب مبدأ احلموضة الذي ينص على أن سبب حموضة السوائل هو وجود الفلوجستون -بعكس ما هو متعارف عليه اآلن بأن أيون الهيدروجني هو سبب احلموضة -وكان الفوازييه يؤمن آنذاك بنظرية السائل احلراري -أي أن احلرارة تتكون من سائل يسمى الكالوريك الذي ينتقل من األجسام الساخنة إلى الباردة -فجميعها مشتقات لبراديغمات الفلوجستون .ملاذا نعطي احلق في اكتشاف األكسجني إلى الفوازييه إذاً؟
ملف الثقافة العلمية
20
املفاهيم التقليدية لالكتشاف العلمي رؤية الشيء
املفهوم اجلديد لالكتشاف العلمي إدراك الشيء ومعرفة ماهيته (مشاهدة مرفقة بنظرية)
سريع ،مفاجئ ،صدفة
بطيء ،نشاط متراكم من عدم التوقع في البراديغم
عملية فردية (شخص +زمن)
أساسه اكتشاف علماء سابقني، من الصعب حتديد الزمن ،يتطلب تغيير ًا في براديغم املتحد العلمي
مفصول عن الطريقة العلمية: مبعنى أن الطريقة العلمية تنتج االكتشاف العلمي أو املعرفة العلمية
مرتبط بالطريقة ،فالوعي والتغيير لنمط فكري يتطلب تغيير ًا في الطريقة أيضاً .البراديغم السائد يحدد الطريقة والتجارب واألدوات املستخدمة
ينتج عن حتول أشبه ما يكون ينتج عن ا ّتباع خطوات استقصائية بالتحول السياسي أو الديني الذي – تبدأ باملشاهدة املوضوعية، هو أبعد ما يكون عن الطريقة ثم فرض الفرضيات ،ثم العلمية أو االستقصاء املمنهج، التفسير ،ثم االستنتاج ،وبالتالي فاملشاهدة في هذا السياق غير االكتشاف موضوعية؛ أي مثقلة ومنقادة بنظريات البراديغم السائد
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
املعرفة العلمية أثناء الصناعة :عندما يتحول االستقصاء اإلمبريقي إلى خيار أحاج بسيطة إذا كان االستقصاء حسب كون ما هو إال طريقة تقنية حلل ٍ ضمن البراديغم الواحد ،وهذه الطريقة لم تثمر في ظهور تلك النظريات املهمة التي ساهمت في تغيير مجرى تفكير اإلنسان بالطبيعة والظاهرة، فما هي العوامل التي ساهمت في ظهور تلك النظريات املهمة؟ حتدث كون عن جانبني مهمني :جانب سيكولوجي-ذهني ،وجانب اجتماعي، وهما جانبان ميتزجان مع بعضهما ليساهما في عملية التحول في رؤية الظاهرة .لكن لم يدخل كون إلى آليات عمل اجلانبني بالتفصيل ،بل اكتفى بالقول إن القيم العليا للشخص ،والنظريات التي يحملها ،وقيم املجتمع العلمي الذي ينتمي إليه ،وغيرها من الصفات الذاتانية ،لها دور كبير وأساسي في الثورات العلمية .سوف أتناول فيما يلي ذلك اجلانب االجتماعي ،وبخاصة أفكار برونو التور حول العلوم أثناء الصناعة، وأتناول بعدها اجلانب السيكولوجي-الذهني في عنوان آخر. لننظر إلى العلوم من حقل علم اجتماع العلوم ،حيث استطاع علماء االجتماع ،أمثال وارن هاغستروم والتور ،الدخول إلى مجتمع العلماء وأماكن عملهم ،ليحللوا العالقات االجتماعية بني املجتمع العلمي
نفسه وبني االحتادات العلمية األخرى .فمثالً ،يتحدث هاغستروم 8عن أن الدافع الرئيسي الذي يقود العلماء في أبحاثهم هو استحواذ االعتراف من قبل األقران ،وأن عمل العالِم ضمن مجموعته ينطوي على عملية توافقية بني مصلحته الشخصية وبني قبوله بني أقرانه -فالعلماء في نهاية األمر يتبادلون املعلومات فيما بينهم مقابل االعتراف -وبالتالي فإن عمل اجلماعة العلمية هو أكثر بعد ًا عن املعتقد السائد بأنه منقاد مبعايير العقالنية احملضة والنزاهة على حد قول هاغستروم -مبعنى العمل من أجل االكتشاف وخدمة اإلنسانية -بل إن عملهم منقاد مبعايير اجلماعة العلمية التي ينتمون إليها .وهنا نذكر بيير بورديو عندما حتدث عن فئة العلماء كفئة تتبنى أيديولوجيا مهنية ،وأن املعرفة بالنسبة لهذه اجلماعة هي الرأسمال الرمزي الذي يتبادلونه من أجل نيل االعتراف االجتماعي 9 والسلطة. لكن أفكار هاغستروم القت انتقادات شديدة من أولئك األنثروبولوجيني الذين عاشوا في مختبرات العلماء وعاصروا تفاصيل حياة عمل العلماء .وكان من أهمهم برونو التور الذي عبر في كتابه حياة املختبرات وعملية صناعة احلقائق 10عن أن تغيب النظرة إلى عمل العلماء من وجهة نظر هاغستروم وبورديو ّ دور العالِم في املجموعة ،وتبسط الفعل االجتماعي في مجتمع 11 العلماء بنظريات السيطرة واملصلحة واالعتراف وموازين القوى. ويعتقد التور أن النظرية املاركسية قد تفيد إلى حد ما في تفسير السلوك االجتماعي للعلماء ،إال أن الوسط االجتماعي للمتحدات العلمية والوسط الذي يتحرك فيه العلماء هو أكثر تعقيد ًا من ذلك. ويتحدث التور عن نقطة ضعف لنظرية بورديو ،بحيث أنها تهمل جوانب داخلية ونفسية هي في غاية الدقة والتفصيل ،وتؤثر بشكل قوي متام ًا كما تؤثر العوامل اخلارجية -مثل االعتراف -على حياة عمل العلماء .ويدخل التور مصطلح «املصداقية» الذي يتفاعل مع عوامل خارجية وداخلية ليقود عمل العلماء ،ويربط عاملي الثقة واالعتبار باملعتقد اخلاص للعالِم ،حيث كلما زاد مخزون املصداقية، زادت قدرة العلماء على االستثمار في السوق العلمية تبع ًا للعرض والطلب ،وبالتالي فإن «املصداقية» مفهوم يدل على مخزون استثماري باملفهوم االقتصادي الرأسمالي أيضاً .ويضيف التور أن هذا النوع من االستثمار -أي مخزون املصداقية -مير عبر قنوات مختلفة منها :أن يتم االتصال بالعالم من قبل علماء آخرين مبدين اهتمامهم مبوضوعه ،أو قبو ً ال لإلدعاءات العلمية التي ينشرها ،أو أن يساندوه في مواقفه ويسمعوا ملا يقوله في أوساط اجتماعية مثل املؤمترات واملتحدات العلمية ،أو أن يعرضوا عليه موقع ًا أفضل ،أو أن يعتمدوا البيانات التي «يصنعها» في مختبره دون التشكيك بها، وجميعها أمور تتشابك مع بعضها البعض لتحرك حلقة «املصداقية» على حد قول التور. ويؤكد التور على أن تفاصيل األمور احلياتية داخل املختبرات ال ميكن لها أن تظهر في األوراق العلمية اجلاهزة ،وال بد من فتح ما أسماه بـ «الصندوق األسود»؛ أي العيش بني العلماء وإجراء البحوث األنثروبولوجية التي من خاللها يتم الكشف عن حيرة العلماء في اتخاذ قراراتهم ،وتنافسهم مع بعضهم البعض ،والتناقضات التي كانوا يعيشونها .يقول التور مشير ًا إلى شكل « :1إذا تناولت هاتني الصورتني -صورة املعرفة
كصندوق أسود وصورة املعرفة بشكلها املكشوف -فهما صورتان مختلفتان متام ًا كما هو احلال بالنسبة للصورتني على وجه قطعة نقود: األولى العلوم أثناء العمل ،والثانية العلوم جاهزة .يجب أن نتخذ قرار ًا هنا :يجب أن ندخل العلوم والتكنولوجيا من خالل باب صناعة العلوم 21 وليس من باب العلوم اجلاهزة». شكل 1 Ready Made Science
Science in the Making
مشهد « :1يحصل كل من جيم واتسون وفرانسيس كريك على نسخة من الورقة التي كتبها العالم الكيميائي لينوس بولينج ،حيث يكشف فيها عن شكل الـ ( ،)DNAوقام بإحضارها لهما ابن العالِم بولينج واملدعو بيتر :يقول واتسون في مذكراته:
«يسارع واتسون وكريك بقراءة الورقة وفحص موضع سكر الفوسفات (شكل )2في بنية الـ ( ،)DNAوما إذا كان كافي ًا ليحمل بنية الـ ( )DNAبأكملها .لكن لدهشتهما ،وجدا أن احللقات الثالث املوصوفة في ورقة بولينغ لم تكن حتمل ذرات الهيدروجني التي تربط احللقات بعضها ببعض ،فمن دونها تسقط بنية الـ ( )DNAمتاماً .إنه خطأ في أساسيات الكيمياء ارتكبه أكبر العلماء في الكيمياء .يقول واتسون:
مشهد “ :2يقوم جيم واتسون بتصوير تشكيالت عدة ألزواج القواعد التي تكون الـ ( )DNAمن كتب مختلفة ،ويجرب ترتيب هذه القواعد مع بعضها ،وفحص ما إذا كان التماثل يتحقق أم ال .وقد اندهش عندما وجد أن األدينني ميكن أن يتحد مع أدينني آخر من سلسلة ( )DNAأخرى ،وكذلك اجلوانني والسايتوسني والثاميني .قام واتسون بفحص التماثل وكيف يرتبط سكر الفوسفات في املنتصف .يقول واتسون: «بدأت بفحص التشكيالت في مكتبي ،لكن جاءني عالم البلورات األمريكي جيري دونوهو واعترض على فكرة فحص التماثل التي أقوم بها ،حيث أن النماذج التي قمت بتصويرها من كتاب «دافيدسون» كانت في رأي دونوهو غير صحيحة. قلت له إن هناك كتب ًا كثيرة تضع التماثالت لقواعد الـ ()DNA على شكل اينول ( )enolمتام ًا كما يعرضها كتاب دافيدسون .لم يقتنع جيري دونوهو بهذا الكالم ،وأضاف أن الكثير من الكتب تضع التمثيالت بشكل فرضي وتفضيلي عن بقية التمثيالت، لكن هذا ال يعني أنها صحيحة أو مؤكدة .كنت أمتنى أن يكون جيري على حق ،وأخذت نقده على محمل اجلد ...فهو يعرف
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
«من الواضح أن بيتر كان يخفي شيئ ًا مهم ًا عندما دخل علينا املختبر .عندها شعرت بوعكة وأن معدتي تغطس في أحشائي، هباء .لم أستطع الصبر ولم أحتمل التوتر فكل شيء عملناه قد ضاع ً وسألته عن ما يحمل من أخبار ،فسارع بيتر بالقول« :إن منوذج الـ ( )DNAهو ثالثي إهليجي ،وإن جزيء الفوسفات هو في مركز الشكل اإلهليجي ويشكل العمود الفقري لبنية الـ ( .”)DNAلقد بدا لنا األمر وكأنه مؤامرة ،فقد توصلنا إلى هذا النموذج الثالثي العام املاضي ،وتخلينا عنه .وعندها فكرت كيف أنه لو سمح لنا رئيسنا براغ مبتابعة دراسة هذه البنية لكنا قد توصلنا إلى الشكل النهائي قبل بولينج” (واتسون 1968 :في التور ،ص.)7 :
يؤكد التور من خالل هذا املشهد على آليات دمج السياق باحملتوى العلمي عبر تعابير مثل التوتر ،اللعبة ،نغمة ،تأخير ستة أسابيع ،وهي كلمات غير مألوفة في وصف البنية اجلزيئية ملادة ما .هذه الكلمات موجودة على األقل في السياق ،أي في مرحلة إنتاج املعرفة ،لكنها تتالشى حال التحقق من املعرفة عبر القنوات العلمية مثل املؤمترات ومراجعات اخلبراء.
21
ملف الثقافة العلمية
وأريد في الفقرات التالية أن أعرض جزء ًا مما يعرضه التور في كتابه العلوم أثناء الفعل 13الذي من خالله استطاع أن «يفتح الصندوق األسود» املتعلق «باكتشاف» شكل احلمض النووي الـ ( )DNAمن قبل واتسون وكريك .سوف أعرض مشاهد منتقاة ومأخوذة من مذكرات واتسون نفسه 14،ويعرضها التور ليبرهن وجهة نظره من عملية صناعة املعرفة العلمية.
«كان بيتر ابن العالم بولينج متيقن ًا من النتيجة ومن البنية التي أوجدها والده ،فكيف يشكك بنتائج عالم الكيمياء بولينج؟ لكن عندما أيدني زميلي كريك في رأيي ودهش لهذا اخلطأ نفسه، بدأت أتنفس الصعداء من جديد .هنا عرفت أننا ما زلنا في اللعبة. لكن لم يكن كالنا على دراية باخلطوات التي اتبعها العالم بولينج للتوصل إلى بنية الـ ( .)DNAلو أن طالب في أي كلية في الكيمياء ارتكب اخلطأ نفسه ،لكان قد طرد من دائرة الكيمياء في احلال. حاولنا أن نستقرئ ما إذا كان في ورقة بولينج (براديغمات) ثورية في الكيمياء لم ند ِر عنها ،أو أن هناك عالقة جديدة بني األحماض توجد استثنائيا في املركبات الكبيرة ،ما جعل بولينج يتوصل إلى ما توصل إليه .لكن نغمة الورقة لم يكن فيها أي دليل على أي نظرية كيميائية جديدة ...كنا نعرف أن العالم بولينج سوف يعرف اخلطأ ،وسوف يعمل دون توقف حتى يكشف البنية الصحيحة لـ ( .)DNAأملنا الوحيد هو في زمالئه الكيميائيني -نرجو أن يثقوا أكثر من ذي قبل بذكاء بولينج ،وأن ال يدخلوا في تفاصيل البنية املقترحة .لكن مبا أن الورقة قد مت تقدميها إلى مؤمتر األكادميية العاملي ،وأنه مع أواسط آذار ،سوف توزع الورقة على جميع أنحاء العالم ،فإنه يبقى لدينا مجرد أيام قبل أن يتم الكشف عن اخلطأ .في أحسن األحوال معنا ستة أسابيع قبل أن يتعرف بولينغ على الشكل الصحيح لـ (( ”)DNAواتسون 1968 :في التور، ،1987ص.)8 :
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
22
عن تشكيالت وروابط القواعد وتشكيالت روابط الهيدروجني عليها أكثر من أي عالم كيمياء في العالم ،حتى من بولينج نفسه، خلبرته الطويلة في العمل مع بولينج وفي مختبر كال التكنولوجي في مجال علم تشكيل البلورات .لم يراودني أدنى شك بأن هذا الشخص يعرف متام ًا ما يقول ،ولم أخبره يفتي بشيء ال يعرف عنه .فعدت إلى مكتبي وأنا قلق محاو ً ال أن أتالعب بالتمثيالت لعلي أنقذ قانون التماثل” (واتسون 1968 :في التور،1987 ، ص)9-8 : يعلق التور على املشهد ويقول“ :لقد أخرج جيم واتسون احلقائق العلمية مباشرة من الكتب ،حيث وفرت له صندوق ًا أسود جمي ً ال - أي قانون تشكيالت األينول (انظر تشكيل األينول 2مقابل تشكيل الكيتون حسب جيري دونوهو في شكل .)3لكن كان ال بد لهذا القانون من أن يخضع للتساؤل أو على األقل هذا ما كان يراه جيري يصدق واتسون ما يقوله الكيميائيون في الكتب عن دونوهو .فهل ّ حقيقة األينول أم يصدق هذا العالم الذي درس مع بولينج وعمل في مجال اجلزيئات ،ولم ِ يفت في أمور غريبة طوال عمله خالل األشهر الستة مع واتسون وكريك؟ نالحظ كيف تختلط أمور مثل االنضباط، والسيرة الذاتية واحلالة النفسية مع واتسون لكي يتخذ قرار ًا علمياً. من األفضل لواتسون أن يضحي بقانون “التماثل” بد ً ال من التضحية بنصيحة جيري دونوهو .مهما كانت احلقيقة مباشرة ،وتساعد في حل اللغز ،فال بد من أن يتم التخلي عنها في هذا السياق .بالتالي، فإن الوجه األيسر (في شكل رقم )1يعبر عن القوانني واملبادئ العاملية كحقيقة مطلقة ،بينما تصبح في الوجه األمين وجهة نظر ،أو محط 15 حتقق تعتمد على أمور إنسانية واجتماعية”. شكل :2الفوسفات في خارج احللقة
شكل :3متثيل الكيتون مقابل متثيل األينول
O
OH
متثيل الكيتون
متثيل األينول
أردت من املشهدين السابقني أن أوضح ما كان يقصد به التور بالوجه الشاب للمعرفة العلمية وأهمية السياق في حتديد ممارسات العلماء ضمن احتاد علمي معني .حاول التور عبر مشاهد مختلفة من التاريخ أن يقارن بني وجهني للعلوم :العلوم اجلاهزة والعلوم أثناء «التصنيع» ،فاألولى تخفي األدوات واملواد واألحاديث اجلانبية وعالقات القوى واملصداقية في عمل العلماء ،وهي تلك التي تظهر في الدوريات والصحف التي تعطي االنطباع بأن العلوم ما هي إال ممارسة موضوعية بحتة .ومن خالل سرد تاريخي لقصص حدثت داخل مختبرات العلوم -مثل تلك التي تتعلق بنموذج الـ ( ،)DNAيؤكد التور أن اإلمبريقية املنقادة باالستقصاء والطريقة العلمية املزعومة قلما تقود العمل في فترة األزمات ،بل تتحول إلى خيار من بني خيارات أخرى .وهنا نتذكر كون عندما حتدث عن تصرف العلماء املنقاد بالنوازع الشخصية واملعتقدات السابقة والقيم في مرحلة “الثورة العلمية” .إال أن التور هنا يسلط الضوء على اجلانب االجتماعي ،كون العمل العلمي في هذا العصر ال يقتصر على أفراد يعملون وحدهم في مختبرات أسفل بيوتهم ،بل جماعة احتاد علمي يعملون مع ًا ضد متحدات أخرى منافسة ،وهنا يدخل التور في خطاب األفراد ضمن املتحد العلمي الواحد الذي من خالله نستطيع أن نرى طبيعة العلوم .وألول مرة ،يظهر التور تفاصيل حياة العلماء وخطابهم وتفاوضهم واإلمياءات املؤسساتية الالواعية ،ومشاكلهم مع اآلالت املخبرية ،وغيرها من املمارسة اليومية التي على حد قول التور تتفاعل مع صناعة احلقائق والنظريات العلمية .وهذا ما مييز أفكار التور عن أفكار كون ،حيث يدخل التور في “سيرورة التفسيرات” ،بينما ينظر كون إلى عمل العلماء في شريط زمني قصير وجمعي .وهنا يربط التور بني “الفرد”؛ أي العالم ضمن املجموعة ،وبني سيرورة التفسيرات وصناعة احلقائق.
الثورة الذهنية ودورها في الثورة العلمية يبدي معظمنا اإلعجاب باملعرفة العلمية ،وبخاصة تلك القوانني والنظريات املهمة في تاريخ اإلنسانية كنظرية كبرنيكوس املتعلقة مبركزية األرض ،وقوانني جاليلو ونيوتن ،منوذج روذرفورد للذرة ،والنظرية النسبية ألينشتاين ،والنظرية الضوئية والكهرومغناطيسية وغيرها. ويأتي هذا اإلعجاب من كون املعرفة العلمية نتاج ًا إبداعي ًا إنساني ًا ذهنياً .واتفق متام ًا على أن املعرفة العلمية هي إبداع ذهني ،لكن رمبا
أختلف مع أولئك الذين ينظرون إلى هذا اإلبداع على أنه نتاج أو مخرج كما لو كان املخرج لوحة فنية أو جهاز ًا تكنولوجي ًا ما .فاإلبداع يشمل أيض ًا ذلك اجلانب العملياتي من التفكير أثناء سيرورة العمل العلمي، التي من خاللها مت إنتاج هذه املعرفة العلمية .فهل اإلبداع في اجلانب العملياتي هو نتاج تفكير ممنهج عبر مشاهدات إمبريقية منفصلة أم أنه نتاج ثورة «ذهنية» مبعنى االنقالب على منط التفكير املمنهج املتمثل في االستقصاء اإلمبريقي؟ سأحاول اإلجابة عن هذا السؤال في هذا اجلزء عبر دراسة قام بها عالم النفس الذهني كليمنت 16،حيث تابع تفكير أحد تالمذة الفيزياء أثناء قيام األخير بحل مسألة في متدد الزنبرك باستخدام بروتوكول التفكير بصوت عال.
لتفسير الظاهرة املتمثلة في شكل .4وأثناء احلل كان الطالب يسأل نفسه وبصوت مسموع« :ملاذا يزداد طول الزنبرك بشكل عام؟ ماذا لو كان شكل الزنبرك مربع ًا لولبي ًا وليس دائرياً» .وقام برسم منوذج معدل لذلك على الورق (شكل .)7
23
شكل 7
شكل 4 شكل 8
شكل 6
متى حدث اإلبداع في التفكير لدى الطالب؟ حدث تقدم ملحوظ عندما استخدم الطالب منوذج السلك السداسي امللفوف (شكل .)8 فبعد أن خاض الطالب عراك ًا ذهني ًا ما بني منوذج السلك الرباعي وبني فرضية التقوس ،أدرك الطالب أن هناك عام ً ال آخر رمبا يكون السبب وراء شد الزنبركات ومتددها ،وهو عامل «الفتل» أو «اللف» .إن هذا العامل هو الذي يحافظ على اخلاصية الزنبركية للزنبرك؛ أي هو العامل الذي يجعل زنبرك ًا ما يستطيل أكثر من اآلخر بعد وضع ثقل معني عليه. يستنتج كليمنت من حوار الطالب مع نفسه أن العراك الذهني الذي خاضه الطالب بني اخلاصية «التقوسية» التي قادت تفكيره وخطوات حل املشكلة بشكلها السابق ،وبني عدم قدرته على تفسير الظاهرة في شكل 4أدى إلى نوع من االنطالقة الثورية نحو حل للمشكلة .ويلجأ كليمنت إلى حتليل بروتوكوالت تفكير الطالب بصوت عال ليبرهن على أن التحول في تفكير الطالب كان سريع ًا وحلظياً ،وكان مرافق ًا حلالة سيكولوجية تعبر عن فرح الطالب بهذا التقدم ،ذلك بعد حالة اإلحباط التي تزامنت خالل مرحلة ما قبل االنطالقة ،التي كان يفكر فيها الطالب
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
عما يجول في خاطره بصوت طلب من الطالب أن يفكر ويتحدث ّ عال ،وهو يجيب عن السؤال التالي :أي من الزنبركني في شكل 4 يستطيل أكثر من اآلخر؟ وملاذا؟ وطلب منه أن يفسر اإلجابة باستخدام متثيالت ومناذج توضيحية .في البداية كان أول ما فكر به الطالب هو منوذج لسلك معدني قصير ومنحني (انظر الشكل ،)5ليظهر أن التقوس في السلك ،الذي يعتمد على معامل التمدد للمادة ،هو الذي يرض عن هذا النموذج لعدم تفسيره يجعل الزنبرك ميتد .لكنه لم َ الفرق في متدد الزنبركني في شكل .4وسرعان ما رسم منوذج ًا آخر ٍ منحن بشكل متعرج (شكل )6 ميثل الزنبرك على شكل سلك معدني
بناء على النموذج املرسوم في شكل ،7وعلى فرضية «التقوس»، فإنه يفترض أن يستطيل الزنبرك العريض أكثر من الزنبرك الرفيع في شكل ،4لكن في حقيقة األمر يحدث العكس متاماً .يقول الطالب: «ال أستطيع أن افهم ملاذا؟ هل أرفض منوذج السلك املربع؟ هل اللف علي أن أفكر الدائري للزنبرك يختلف عن اللف الرباعي؟ إنها معضلة َّ في حلها» ،لكن جميع ما كان يفكر به الطالب حلل املعضلة كان منحصر ًا في إطار فرضية «التقوس» ،على أنها السبب الرئيسي وراء استطالة الزنبركات بشكل عام.
ملف الثقافة العلمية
شكل 5
ملف الثقافة العلمية
24
من خالل منوذج التقوس السابق .وقد عرف كليمنت مرحلة االنطالقة في التفكير بالبصيرة ،فهي تشبه التحول اجلشتالطي الذي حتدث عنه كون سابقاً .واستطاع كليمنت أيض ًا أن يعرف منوذجني للتفكير الذهني خاضهما الطالب أثناء حل املعضلة ،األول منوذج «التفكير النفعي» واملتمثل في تبني الطالب لفرضية «التقوس» كأساس لتمدد الزنبركات، وهو تفكير حدسي بطبيعته ،ومريح أيض ًا حتى لو لبعض الوقت .أما النموذج الثاني فهو النموذج التفسيري واملتمثل في تبني الطالب لفرضية «اللف أو الفتل» في املعدن لتفسير الظاهرة .ويبدو أن النموذج النفعي هو بناء ذهني إمبريقي ،فعبر املشاهدة نستطيع أن نرى «امنغاط» الزنبرك وانثناء أجزائه أثناء وضع الثقل عليه .لكن النموذج التفسيري هو منوذج خفي غير مرئي وال يعتمد على اإلمبريقية بشكل مباشر ،بل هو أقرب إلى منوذج تخيلي ،وال يظهر كجزء من التفكير إال باللجوء إلى تشبيهات مرئية معينة .فهل ميكن أن نستنتج أن اإلمبريقية والتفكير اخلطي ال ميكن أن يأتيا بثورة وإبداع فكري؟ ما الفرق بني هذا النوع من التفكير الذي خاضه الطالب في توصله إلى احلل وبني التفكير العادي الذي يقوم به اإلنسان في حل املشكالت اليومية؟ إذا عدنا إلى مثال الزنبرك السابق ،نستطيع أن نرى أن التفكير املتعلق بالنموذج النفعي؛ أي أثناء استخدام الطالب فرضية التقوس ،كان تفكير ًا تقني ًا عبر خطوات مدرجة مسبق ًا في البنية الذهنية للطالب. ففرضية التقوس كانت حتكم تفكير الطالب وتتحكم في خطوات احلل. لكن التحول املفاجئ رمبا حصل مبساعدة منوذج السلك السداسي، الذي استحث تفكير ًا مغاير ًا جنم عنه هدم وإعادة بناء بنية معرفية سابقة عبر عنها الطالب في مناسبات كثيرة بعد مرحلة من اليأس واإلحباط ّ أثناء احلل .فهل يحدث هذا لدى العلماء في مرحلة الثورة العلمية التي حتدث عنها كون سابقاً؟ هل ميكن القول إن «العلوم العادية» في عمل العلماء -حسب كون -تشبه ذلك التفكير النفعي حسب كليمنت؟ هل عملية التفكير اإلبداعي التي تنتج معرفة علمية مهمة تنجم عن عملية حترر من األطر الفكرية السائدة أو البراديغمات التي حتكم طريقة العمل والتفكير؟ أم أن اإلبداع عملية تزاوج بني األطر الفكرية املختلفة ورؤيتها على أنها متشابهة بد ً ال من كونها مختلفة؟
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
مرحلة التخلي عن االستقصاء كالطريقة العلمية – دور اخليال في اإلبداع رمبا قصوت قلي ً ال عن االستقصاء ،فهي طريقة عمل في العلوم دخلت صفوفنا حديثاً .وأقول ذلك ألننا في أمس احلاجة إلى التفكير باستقصاء يبدأ من احملسوس ويضع محددات بني العلوم وبني امليتافيزيقيا والغيبيات .ال بد لنا من أن منتلك الثقافة العلمية والتفكير العلمي الذي يحدد ما إذا كانت ظاهرة علمية -كالكسوف مثالً -تستحق االختباء في البيوت أم نخرج لنراقبها ونتعلم عنها أكثر؟ لكن هل نستطيع فعل ذلك حقاً؟ هل نستطيع أن نضع محددات متيز بني العلوم واملتافيزيقيا؟ رمبا تكون اإلمبريقية -فكرة خضوع الظاهرة إلى املشاهدة والتجريب احلسي -هي مناسبة لذلك .لكن إذا كانت املشاهدة نفسها غير موضوعية ومنقادة بالنظريات السابقة واألطر الفكرية كما حصل مع بيرتسلي والفوازييه –-كالهما رأى غاز ًا يتصاعد من األنبوب ،لكن األول رآه غاز الفلوجستون أما الثاني فرآه أكسجيناً -فهل نعتمد على اإلمبريقية في
حتديد الفرق بني العلوم وامليتافيزيقيا؟ والسؤال األهم ،هل االستقصاء والطريقة العلمية هي الكفيلة في حتديد الفرق بني العلوم وامليتافيزيقيا؟ أسئلة تبقى مفتوحة ،وما زال اجلدل حولها مستمر ًا بني فالسفة العلوم. وإذا كان كون قد حتدى أولئك الذين حاولوا وضع حدود تفرق بني العلوم والالعلوم مبرهناً ،عبر تاريخ تطور النظريات ،بأن تلك املعارف العلمية املهمة تطورت عبر طرق تشبه معارف امليتافيزيقيا ،فهل يوجد معنى ألن نضع محددات بني العلوم وامليتافيزيقيا أو بني العلوم والفنون أو حتى بينها وبني املعرفة الدينية؟ رمبا حان الوقت لكي ننظر إلى العلوم بشكل مختلف ،وأن نطرح أسئلة جديدة .فبد ً ال من التفكير في وضع محددات بني العلوم والالعلوم ،ملاذا ال نسأل ما الذي يجمع بني العلوم والالعلوم؟ وهل من الضروري أن ننظر إلى األمور ضمن أطر فكرية معينة دون األخرى؟ وبد ً ال من أن نفكر من خالل أطر فكرية وبراديغمات ،ونعمل من خالل طرق علمية مؤطرة واستقصاء تقني ممنهج ،رمبا علينا أن نطلق العنان في صفوفنا إلى تفكير نقدي باملسلمات الفكرية واألطر البراديغماتية ،وأن نضيف إلى حلقة االستقصاء التقنية املتبعة عناصر أخرى تشجع على اإلبداع الفكري .وقد حاولت من خالل ما سبق أن أعرض مفهوم ًا مغاير ًا لإلبداع في العلوم عن ذلك املفهوم الذي يعبر عن مخرج ما ،أو «اكتشاف علمي» كمنتج يربط املعرفة العلمية اجلديدة بشخص وزمن معينني ،إلى ذلك املفهوم الذي ينظر إلى املعرفة العلمية على أنه إبداع فكري يشمل التخيل واالختالق وممزوج بالقيم الفردية واملعتقدات الثقافية االجتماعية وقيم املتحدات العلمية ،واالعتراف ضمن سيرورة العمل في العلوم أثناء الصناعة .وحاولت خالل النقاش أن أبني أن نقيض اإلبداع هو العمل ضمن وصفات لطرق ممنهجة مثل خطوات االستقصاء ،وحل املشكالت ،التي اختزلت حتت عنوان «الطريقة العلمية». يتحدث بوهم 17عن ضرورة «اللعب باألفكار» في أثناء تدريس العلوم. فالبراديغم يجعل األفراد يفكرون ويعملون بشكل غير واع ،ويأخذون الكثير من األمور املعرفية على أنها مسلمات دون اخلوض في هذه املسلمات من جديد .إن العمل ضمن براديغم ،يجعل أولئك الذين يعملون بضمنه مرتاحني نوع ًا ما ،ألنهم يظنون أن أي معضلة ميكن حلها ،متام ًا كما حصل مع الطالب أثناء حل مسألة الزنبرك .ونحن في صفوف العلوم نعمل في االستقصاء في أطر فكرية براديغماتية محددة -نوجه الطالب مث ً ال إلى رؤية خلية ما عبر املجهر ،وبشكل معني ،لكي يستنتج شكل اخللية الذي يتوافق مع الشكل العلمي لها، أو نخطط التجارب بشكل معني لكي جنعل الطالب يستنتج أن مصباحني موضوعني في دائرة كهربائية على التوالي يضيئان بشكل خافت أكثر من تلك املوزعة على دائرة التوازي -فجميعها جتارب استقصائية ،لكنها تسعى إلى التأكيد على قانون أو مبدأ علمي ما ضمن براديغم معني. اإلبداع يحصل في أي وقت -ليس في الضرورة في مرحلة الثورة العلمية حسب كون -لكن شريطة أن يكون هناك لعب حر باألفكار 18.ملاذا ننظر إلى العلوم من إطار فكري واحد؟ وملاذا يجب أن نعمل على أساس أن هناك نظرية واحدة صحيحة من تلك النظريات العديدة لتفسير ظاهرة ما؟ فهناك مث ً ال معادلة فكرية إبداعية جتمع بني نظريتي شرودجنر وهايسنبرغ في النظرية الكمية ،وهناك أيض ًا معادلة رياضية أخرى تربط بني نظريتي
للطبيعة ،وحتتاج إلى معرفة تكاملية ما-بني-تخصصية تستحضر في سياق ما من أجل عمل إبداعي يتمثل بإنتاج معرفة علمية معينة.
الضوء – النظرية الكمية والنظرية املوجية ،حيث ميكن التفكير بالضوء على أنه جزيئات محمولة مبوجات.
إن النماذج والتشبيهات التي حتاكي الطبيعة ،والتي يقوم بها العلماء من أجل فهم الظواهر وتفسيرها ،هي أحد عناصر اإلبداع والتخيل في العلوم ،التي تشكل أرضية مشتركة للعلوم والفنون .ويؤسس غوته لنظرة تكاملية بني العالِم والفنان ،ويقول إن العالِم “يحول الواقع اخلارجي أو الظاهرة عبر انتباه حساس لظالل الظاهرة ،وعبر فصل الظاهرة عن الطبيعة ،وإعادة بنائها في تلك اللحظة التي يتم خاللها استخالص مميزاتها ،وصفاتها ،ومزاياها املثيرة ،وعبر عملية االستخالص هذه، يخترعها (أي العالِم) بقيمة أكبر” 19.إن عملية االستخالص هذه، واملتمثلة باحملاكاة وبناء النماذج (مثال منوذج الذرة) ،هي عملية تقليد
وأخيراً ،ليس املطلوب في هذه املرحلة التخلي عن االستقصاء ،لكن ما هو مطلوب هو إعادة بناء ملفهوم االستقصاء ،وطرق العمل به في الصفوف ،ليشمل التخيل واحملاكاة .املطلوب أيض ًا في صفوف العلوم أن «نلعب باألفكار» ،وأن نعلم الطالب التشكيك ومساءلة املسلمات العلمية ،فطبيعة العلوم عبر ما سبق هي تخيلية إبداعية تتغير عبر الزمان واملكان .املطلوب هو استقصاء نقدي بكل ما حتمله الكلمة من معنى. أنهي هذه املقالة بإجابة لعاملة اجلينات باربرا مكلينتوك (– 1902 )1992عندما سئلت عن العوامل التي قادتها إلى اكتشاف أمناط ترتيب الكروموسومات في نبات الذرة امللون ،إذ تقول:
ملف الثقافة العلمية
أريد أن أؤكد على فكرة بوهم حول اللعب احلر بني األفكار والنظريات، ودور مناذج احملاكاة والتشبيهات في رؤية نظريتني مختلفني في مرحلة معينة على أنهما متالقيتان ومتكاملتان .رمبا هنا يكمن التشابه بني عمل كل من العالم املبدع والفنان املبدع :فكالهما له القدرة الذهنية على املفاوضة بني النظريات املختلفة التي تبدو من الوهلة األولى أنها متناقضة ،وكالهما يستطيع الربط بني النظريات املختلفة ورؤيتها في مرحلة ما مكمالت لبعضها البعض ،وميكن جمعها والتكامل بينها في لغة مشتركة ،وهذا عكس ّادعاءات كون حول الالقياسية ،وأن لكل فكرة أو نظرية لغة خاصة بها .فالتفكير اإلبداعي حسب ديسوسور هو ذلك التفكير الذي يتحرر من التقنية احلسابية واالنفتاح نحو ما هو غير متوقع.
ومن مبررات تكامل العلوم والفنون هو أن للعلوم في مرحلة اإلبداع جانب ًا جمالي ًا يشبه ذلك في الفنون .وهنا يقول جيروم ستولنيتز 20إن للجانب اجلمالي أربع حلظات مركزية :االهتمام ،التفاعل العاطفي ،التأمل، الوعي .لنأخذ التفاعل العاطفي مثالً ،حيث أنه السياق الذي تفعل فيها األجسام حتت الدراسة فعلها على املستقبِل -أي اإلنسان -وهو عكس املفهوم السائد في العلوم واملتبع في مدارسنا من عمليات إخضاع اجلسم ويشبه ستولنيتز للفحص واالستكشاف عبر االستقصاء اإلمبريقي. ّ ذلك بردة فعل املستمع للموسيقى ،فاملوسيقى تفرض على املستمع حتريك أصابعه أو رجليه مع النغمات ،وهذا التفاعل يحث على التأمل ثم الوعي والتقدير لهذا العمل اجلمالي -أي الفعل املوسيقي .فمرحلة الوعي األخيرة هي حالة محاورة اجلسم أو الظاهرة التي من خاللها تبنى املعرفة.
25
«دع األجسام التي تتعامل معها تأخذك إلى املكان الذي تريد الوصول إليه ،ودعها تخبرك في كل خطوة ما هي اخلطوة التي تليها ،ألن كل خطوة كفيلة في تكوين ترتيب ذهني جديد في عقلك .فأنت ال تتبع منط ًا فكري ًا قدمي ًا ألنك مقتنع بأن هناك اجلديد ،وبالتالي تركز في عملك على أنه ال بد من أن يكون هناك ما هو جديد .أنت ال تستطيع أن تتحكم في ذلك ،فاجلسم (حتت الدراسة) والعقل يكمالن بعضهما 21 البعض». نادر وهبة – مركز القطان
1كون ،ثوماس س .)2007( .بنية الثورات العلمية ،ت :حيدر حاج إسماعيل ،بيروت :املنظمة العربية للترجمة. Kuhn, Thomas, S. The Copernican revolution (1957). Harvard University Press, Cambridge. 3كون ،ثوماس س .)2007( .بنية الثورات العلمية .ت :حيدر حاج إسماعيل ،بيروت :املنظمة العربية للترجمة ،ص.42 : 4املرجع السابق ،ص.129 : 5املرجع السابق ،ص.128 : 6املرجع السابق ،ص.134 :
2
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
الهوامش
.134 : ص، املرجع السابق7
9
العدد التاسع والعشرون- رؤى تربوية
.من إحدى فعاليات جمعية الكمنجاتي في جنني
26
ملف الثقافة العلمية
Hagstrom, Warren. The scientific community. Illinois University Press. 1975. Bourdieu, Pierre, et al. Academic discourse (Richard Teese, Trans. 1994). Oxford: Polity. 1965. 10 Latour, Bruno & Woolgar, Steve. Laboratory life: The construction of scientific facts. Princeton University Press. 1986. . املنظمة العربية للترجمة: بيروت، سعود املولى: ت، مدخل إلى علم اجتماع العلوم.)2008( ميشيل، دوبوا11 12 Latour, B. Science in action: How to follow scientists and engineers through society. Cambridge, MA: Harvard University Press. 1987. P: 7. 13 Ibid. 1987 14 Watson, James. The Double Helix: A Personal Account of the Discovery of the Structure of DNA, Atheneum, 1980. 15 Latour, B. Science in action: How to follow scientists and engineers through society. Cambridge, MA: Harvard University Press. 1987.P: 9. 16 Clement, J. Learning via model construction and criticism: Protocol evidence on sources of creativity in science. In Glover, J., Ronning, R., & Reynolds, C. (Ed.), Handbook of creativity: Assessment, theory and research. NY: Plenum, 341-381. 1989 17 Bohm, David & Peat, David. Science, order and creativity. Routledge, 1987. 18 Ibid. 1987. 19 Goethe, in McCarthy, John. Remapping Reality. Chaos and Creativity in Science and Literature. Radopi B. V. New York. 2006: p: 88. 20 Stolnitz, Jerome. The aesthetic attitude: The philosophy of the visual arts. Ed. By Philip Alperson. New York: Oxford University Press, 1992. 21 Keller, Evelyn Fox. A Feeling for the Organism: The Life and Work of Barbara McClintock. In McCarthy, John. Remapping Reality: Chaos and Creativity in Science and Literature. Radopi B. V. New York. 2006: p: 105. 8
بيعة ِ ِ في ِ سيا ٌ قل َ ف ْهمِ َ ُ العلمِ ط َّفاعل الت َّ الص ُّ ِ ِ وضوعية امل َ عرفة العلميَّة م و َ
توجه لتنمية قدرات الطلبة في نقد املعرفة العلمية ومساءلتها وإثارة اجلدل حولها -بحث إجرائي تشاركي
27
أشرف البطران
ملخص
وتظهر النتائج أيض ًا وجود حتسن في قدرات الطلبة على استخدام احلجة العلمية في الدفاع عن أفكارهم ونظرياتهم التي تبنوها ،في سياق احلوارات والنقاشات العلمية التي جرت خالل التجربة. وتعرض هذه الورقة في املقابل بعض اإلشكاليات التي واجهتها على مستوى الشراكة في التجربة من جانب ،وعلى مستوى املمارسات واملعتقدات التي يحملها الطلبة حول العلوم واملعرفة العلمية من جانب آخر .كما خرجت ببعض التوصيات الهادفة إلى تطوير هذه التجربة وتعميمها.
إن موضوعية املعرفة العلمية وإمكانية حتقيقها صفي ًا أمر مرهون بالقدرة على توفير بيئة تعلم حقيقية تعزز منهجية التفكير النقدي التساؤلي ،أو كما يسميه باولو فريري بتربية إثارة األسئلة؛ أي جعل الطالب يساءل املعرفة ويحاورها ويكشف عن املصالح واأليديولوجيات املنعكسة فيها ,وال يكتفي باكتسابها وإيداعها كما هي .فاملعرفة تصبح موضوعية كلما استطعنا نقدها ومحاججتها وإثارة اجلدل حولها (قاسم:1986 , .)343لكن اجلدل في جوهره ومضمونه كما يصفه فيورباخ ليس فع ً ال مونولوجيا ,إنه حوار بني األنا واألنت ,ويكون قائم ًا على احلجة املنطقية والبرهان املقنع بالتجربة (مجاهد .)12 :1985 ,السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو :ما هي سبل إنتاج احلجة املنطقية املقنعة؟ وما الذي ميكن أن نستفيده من محاورتنا أو مساءلتنا للمعرفة العلمية؟ بتقديرنا أن أسلوب احلجاج واجلدال العلمي ال ميكن ضمان فاعليته في إطار الفعل الصفي مبعزل عن سياق النظرة إلى العلوم كعمليات وكطريقة للبحث واالستقصاء والتفكير .وهذا يقتضي بالضرورة وجود مناخ تعليمي تعلمي فعال ،يتيح للطلبة االنشغال في بناء معارفهم ويسمح لهم بحرية الفكر والفعل (زيتون .)87 :2007 ،لقد ترك فكر ما بعد احلداثة أثر ًا واضح ًا على عناصر العملية التعليمية ونظرية التعلم ,فلم يعد املعلم مث ً ال مجرد ناقل حملتوى التعلم من املعارف ,وال
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ولم تكن هنالك أية افتراضات أو أسئلة قبلية تسبق الشروع في العمل خالل هذا املشروع ,لكن مصادر البيانات واملعلومات التي وظفت في هذه التجربة البحثية ،التي امتدت من كانون األول 2007وحتى آب ,2008والتي مت فيها االعتماد على انطباعات الطلبة وتأمالتهم, وكذا احلوارات املسجلة عبر الفيديو خالل اللقاءات التي كانت تعقد بشكل دوري خالل الفترة املذكورة ,إضافة إلى مجموعة السير الذاتية تدون خالل املقابالت التي كتبها املشاركون ،واملالحظات التي كانت ّ الشخصية التي كانت جترى على هامش لقاءات التجربة -قد مكنتنا من رصد بعض التغيرات اإليجابية على الطلبة ,حيث أظهر التحليل احملصلة من املصادر السابقة وجود حتسن ملموس في النوعي للبيانات ّ قدرات الطلبة على مساءلة املعرفة العلمية وجعلها مح ً ال للحوار والنقد, ورفض البعض اعتبارها مسلمات تعلو على ذلك من جهة ,ومن جهة أخرى كشف التحليل عن إدراك املشاركني لنسبية املعرفة وعدم حيادها أو استقاللها عن املصلحة السياسية واالقتصادية ،وذلك من خالل انخراطهم معاً ،معلمني وطلبة ،في أنشطة استقصائية وبحثية مكنتهم من الوصول إلى كثير من املعارف املتناقضة ،التي أفضت بهم إلى التمييز بني ما هو حقيقية علمية ورأي علمي.
العلوم في طبيعتها منهج بحث وطريقة تفكير أكثر مما هي حشد من املعارف والقوانني والنظريات ,فتلك األخيرة هي نتاج املنهج العلمي القائم على عمليات البحث واالستقصاء والتفكير العلمي السليم, لذلك ينظر إلى العلوم على أنها «مادة وطريقة» (الكاللدة وآخرون: .)95فالعلوم ليست املعلومات فحسب ،بل الطريقة التي نتوصل من خاللها إلى تلك املعلومات .وملا كان هدف التعليم هو متكني الطلبة من فهم العلوم واملعرفة ,فإن ذلك يعني بالضرورة التركيز على العمليات التي تعكس روح هذه املعرفة وطبيعتها وظروف نشأتها (زيتون، ،)38 :2007فاملهم أن نصل بالطلبة إلى معرفة علمية موضوعية ذات معنى تتأطر في سياق عمل بحثي وجتريبي يعكس الطبيعة احلقيقة لها, وليس فقط الوصول بهم إلى املعرفة ونتائجها كما تظهر في سياق كتب العلوم املدرسية.
ملف الثقافة العلمية
تأتي هذه الورقة البحثية حول موضوعية العلم واملعرفة العلمية نتاج ًا وتتويج ًا ملسيرة العمل ضمن مشروع الثقافة العلمية ,الذي أجنز بالتعاون بني مركز القطان للبحث والتطوير التربوي ومجموعة من طلبة الصف العاشر في مدرستي بنات أبو فالح الثانوية والروم األرثوذكس في رام الله ,إضافة إلى معلمتني ومعلم.
اإلطار النظري
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
28
الطلبة في وضعية التلقي السلبي لها ,فاملعرفة في التصور املابعد حداثي هي نتاج عملية تفاوض اجتماعي ,مبعنى أنها تبنى وال تكتشف ,كما تدعي احلداثة ,تبنى من قبل العقل ,الذي تبنيه الثقافة السائدة والواقع االجتماعي الذي يتفاعل معه .ومهمة التعليم في هذا السياق ،دفع الطلبة وحتفيزهم على بناء معرفتهم الذاتية وإنتاجها (راشد.)2007 ، ولعل االستقصاء العلمي من أهم العمليات التي تساعد الطلبة على تكوين حجج واستدالالت علمية مستقاة من واقع ممارساتهم البحثية, بناء فهم مبثابة علماء صغار يجمعون بياناتهم ويحللونها ويصوغون ً عليها فرضياتهم ،ويطرحون من خاللها حلولهم وحججهم العلمية التي تدعم وجهة نظرهم. أما الشق الثاني من السؤال ,فإن هدف اجلدل العلمي ورسالته األساسية تكمن في نقض القضايا العلمية وإحاطتها بالتساؤالت .فالتساؤل هو حجر الزاوية في اجلدل العلمي ,كما أن املعرفة العلمية احلقة هي التي تبدأ بسؤال وتنتهي بسؤال .فأسئلة العلم األساسية هي دائم ًا على شكل كيف؟ وملاذا؟ وماذا إذاً؟ ولم هو هكذا؟ فظهور السؤال هو مبثابة إعالن مبدئي عن التحام الذات باملوضوع؛ الذات مبا هي عقل وفكر ووجدان، واملوضوع مبا هو مهجع املعرفة ومربضها .لذا ،فالطالب عندما يبدأ بالتفكير يجر معه أسئلته ومعارفه ويخلطها بأسئلة ومعارف جديدة ،في محاولة منه إلرضاء طموحه املعرفي ،يسير في حركة نشطة باجتاه بناء املعنى من خالل التأمل والتفكير النقدي. وفي هذا السياق ،تصبح املعارف مفتوحة لتفسيرات وتأويالت أخرى، وحتيل إلى معنى أعمق وأكثر تنوعاً ,معنى يتشكل ضمن سياق واقعي أصيل قائم على جدل العالقة بني العقل والتجربة ,الذات واملوضوع. فيها (أي األسئلة) ومن خاللها تسقط أبدية املعارف ،وينكشف بعدها النسبي (مجاهد .)21 :1985 ،فاجلدل الصفي حول املعرفة العلمية مثال جيد للتفكير العلمي ,ويجعل من الطلبة عقو ً ال ذاتية السجال دائماً ,ال تقبل املكتوب ملجرد أنه مكتوب .كما يساهم في تطوير قدرات الطلبة على بناء تفسيرات علمية صحيحة وفهمها. لقد راكمت مسيرة التطور العلمي معارف كثيرة تغيرت معها فكرة احلقيقة العلمية ,ففي الوقت الذي كان يعتقد فيه بأن فيزياء نيوتن هي منتهى العلم ومستقره ،جاءت فيزياء أينشتاين لتبتلعها وحتتويها ،وتثبت أن ما كان يعد حقائق مطلقة قي حينه ما هي إال حقائق نسبية قابلة للتغيير والتصحيح بشكل مستمر .وهذه القابلية للتغير ال تعكس حالة من العجز والنقص في مسيرة العلم ،بقدر ما تعكس روح العلم ومرونته وحركته الدؤوبة جتاه تصحيح أوهامه األولى وتبديدها .فاحلقائق واملعارف العلمية كبنية ومنظومة تخرج من رحم التصحيحات املستمرة للبناء املعرفي السابق ( .)popper, 2000: 254لذلك ،يرفض العلماء فكرة بلوغ احلقيقة ويقبلون ببعض الشكوك كجزء من الطبيعة, إن هذا املنطق ال يقتصر على العلم فحسب ,بل ينسحب أيض ًا إلى ميدان العمل البيداغوجي ,فمن الضروري أن يعرف الطلبة أن نتائج العلوم من املعارف والقوانني هي ليست قطعية أو نهائية ,بل تتسم بالثبات النسبي وهي قابلة للطعن واالجنراح مع كل اكتشاف علمي جديد (Roland .)Omnes, 2002: 322فالعلم يشيد بناءات مؤقتة ما يلبث أن يقيم فيها حتى يرحتل عنه متنكر ًا بثوب جديد .فهو إذن ال يعترف باملطلق
والنهائي وال يقبل النزوع نحو الستاتيكية والثبات .فكل معرفة أو نظرية علمية هي مقبولة في زمانها ومكانها ،وما أن تأتي نظرية جديدة لها قدرة تفسيرية عالية حتى حتتوي القدمية أو تلغيها ،بحيث تصبح األخيرة جزء ًا من التاريخ ,ال تهم العلم بقدر ما تهم مؤرخ العلم (زكريا:1978 , .)17 لذا ،ال ينبغي علينا النظر إلى العلم وأفكاره في سياق الفعل البيداغوجي على أنها مسلمات ال تقبل النقاش واملساءلة ،أو أن نرتقي بها إلى مرتبة اإلجالل الديني ,فاملعرفة العلمية تبنى في إطار صيرورة جدلية ال نهائية بني العقل والتجربة ,وبالتالي فهي قابلة إلعادة بناء نفسها في كل حلظة من خالل إثبات خطأ املعارف التي مت بناؤها سابقاً ,فتاريخ العلم هو تاريخ أخطائه واملعرفة فيه هي دوم ًا تصحيح لوهم (Gaston .)Bashlar, 2006: 195 ويضيف باشالر في كتاب تكوين العقل العلمي «تبنى املعرفة على أنقاض معرفة أخرى» .ولعله يقصد بذلك ضرورة األخذ بعني االعتبار املعارف السابقة لدى الطلبة ،واالنطالق منها نحو بناء معارف جديدة ,فالطالب ال يقابل معارفه املدرسية بعقل أبيض خال من أية نقوش معرفية سابقة ،بل يحمل معه ضمن منظومته الفكرية مجموعة من املعتقدات والتصورات اخلاطئة أو املضطربة إزاء املعرفة العلمية .فاجلدل العلمي ميثل منوذج ًا جيد ًا للكشف عن تلك املعتقدات والتصورات .وفي سياق املناقشات النقدية للمعرفة املدرسية ،تتم معاجلتها وتصحيحها ,األمر الذي يفضي بالنهاية إلى تكوين معارف جديدة أكثر اتساق ًا ورزانة .فاملعرفة العلمية كما يقول بوبر تنمو بفعل تصحيح معارفنا السابقة التي ثبت فشلها ،أو عدم دقتها .لذا ،يقترح تعريض مخرجات العلم من معارف وقوانني ونظريات علمية إلى أعنف نقد ممكن من قبل جمهور العلماء لتحديد مدى دقتها وموضوعيتها قبل عبورها النسق العلمي كمعارف موثوقة. فموضوعية املعرفة العلمية ال تتحقق إال مبصادقة أكبر عدد من العقول عليها .وهذا ينطبق على موضوعية املعرفة املدرسية ,ففي إطار هذه الرؤية ،ينبغي تقدمي املعرفة مدرسي ًا ضمن سياقات تتيح للطلبة فرصة إجراء اختبارات وجتارب عليها ,وإبراز نقائضها التي تدحضها وتكذبها ,فما مييز املعرفة العلمية عن غيرها من املعارف هو معيار قابليتها للتكذيب ( ،)popper, 1997: 120-122ليس تكذيبها مبعنى إبطالها ,بل زيادة املعرفة فيها .فاملعرفة العلمية احلقة هي تلك التي تصمد أمام امتحان التجربة واختبار التكذيب ،ومبقدار صمودها تكتسب قيمتها العلمية ،وهذه هي طبيعة العلم ,فالعلم ال يسعى وراء اإلجابات القطعية والنهائية ،وال يهتم بقيمة األشياء بقدر ما يهتم بتفسيرها وكشف حركتها الدينامية ,من أجل تقدمي صورة أكثر دقة وموضوعية عن العالم الذي نعيش ,وليكون أكثر قابلية للفهم.
املشاركون في البحث أجنز هذا البحث التشاركي بالتعاون بني مركز القطان للبحث والتطوير التربوي ،وطلبة الصف العاشر في مدرستي بنات أبو فالح الثانوية والروم األرثوذكس ،وكان من األولى 9طالبات هن :عزيزة موسى، تهاني عيسى العمري ،روان عبد الكرمي أبو عيدة ،رنال محمد ،نسرين
فهيم ،كفى حسن شومان ،لينا هارون شومان ،أفنان نسيم ،دعاء إياد، ومن الثانية 4طالب هم :معاذ صالح ،عيس رجا خورية ،عمر شكري اخلطيب ،مجدي محمود. وقد اشترك في هذه التجربة أيض ًا كل من املعلمة عالية أبو لنب من مدرسة بنات أبو فالح ورندة غنيم من مدرسة الكلية األهلية .وقد أجريت بالتعاون مع الباحث عواد شرف وهو محاضر في جامعة القدس ،ومن املهتمني بالعمل البحثي السيما في املجال البيئي ،حيث شارك الباحث في العديد من املؤمترات العلمية احمللية والدولية.
هدف البحث وأدواته
< تأصيل عادة البحث واالستقصاء العلمي لدى املشاركني بشكل يضمن لهم الوصول إلى معرفة موضوعية. < دفع املشاركني نحو نقد املعرفة العلمية ومساءلتها ،والكشف عن املصالح واأليديولوجيات التي تقف وراءها. < تنمية قدرات املشاركني في استخدام اجلدل وأسلوب احلوار العلمي داخل الغرفة الصفية. < متكني املشاركني من التمييز بني املعارف التي تخضع لقواعد البحث العلمي ،وتلك التي ال تالمس أدواته.
مراحل البحث انتظم هذا البحث اإلجرائي التشاركي في ثالث مراحل أساسية ،هي على النحو التالي:
أوالً .مرحلة البناء والتصور
انطالق ًا من الورقة املفاهيمية التي صاغها الزميل الباحث نادر وهبة،
< ما املوضوع الذي سيتم االشتغال عليه ،بحيث يضمن الوصول إلى تعليم فعال ونشط؟ < ما هي األساليب واإلستراتيجيات التعليمية التي تضمن توفير هذا املناخ التعليمي؟ < ما هو دور الطالب واملعلم ودورنا كباحثني في هذه التجربة؟ وفي إطار محاوالتنا لإلجابة عن تلك األسئلة ،جرت مناقشات بني الباحثني في املركز ,حيث مت تبني «ظاهرة االحترار العاملي» كمشكلة حقيقية تقود التعليم في هذا املشروع .فالتعلم يحدث على أفضل وجه عندما يواجه الفرد مشكلة أو موقف ًا تعليمي ًا محير ًا يعمل فيه عقلة ويجسد من خالله معرفته الذاتية .ويأتي اختيارنا لهذه القضية لكونها مشكلة ضعيفة البنية وذات طابع جدلي مفتوح على تعدد اآلراء ووجهات النظر .وهذا ما يعنينا ,الرأي والرأي اآلخر وما بينهما من فضاء إشكالي ميكن استغالله كقاعدة أساسية للحوار واجلدل والتفكير ,تفكير يقتضي البحث والتقصي من أجل حتقيق فهم موضوعي لهذه الظاهرة قبل احلكم عليها واتخاذ قرار بشأنها. في سياق هذه الرؤية ،فقد مت حتديد األساليب التعليمية التي سيتم استخدامها في هذه التجربة ,ومنها التعلم التعاوني ,والتعلم بأسلوب حل املشكالت ,واالستقصاء العلمي ،وأسلوب احلوار ،والعصف الذهني .إن ضمان فاعلية هذه األساليب في سياق التفاعل الصفي أمر مرهون بتوفر مناخ دميقراطي يسمح بتحقيق بيئة تعلم دافئة ،تستثير التفكير ،وتهيئ الفرصة للتفاعل واحلوار بيننا كباحثني ومعلمني وطلبة، وكذلك بني الطلبة أنفسهم ,وتكون املعرفة فيه وسيط ًا لهذا احلوار والنقاش بني جميع األطراف .ضمن هذا التصور ،فقد مت اإلعالن عن املشروع وحصلنا في إطار ذلك على العديد من طلبات االنتساب ومن جميع محافظات الوطن ,إال أننا آثرنا العمل مع املدارس التي تقع ضمن لواء رام الله نظر ًا لبعد مكان املدارس األخرى عن مركز القطان الكائن في رام الله من جهة ،وحتسب ًا للظروف األمنية التي قد تشهدها احملافظات البعيدة ،والتي رمبا تعيق استمرارية هذه التجربة من جهة أخرى.
فحص املمارسات واملعتقدات بعد أن وقع االختيار على الطلبة ،متت دعوتهم واملعلمني املشاركني معهم إلى اجتماع بتاريخ ,2007/12/8حيث مت تعريفهم مبركز القطان وقدمنا لهم تصور ًا عام ًا عن املشروع وعن مجموعة األنشطة املقترحة, وبناء كما حصلنا على انطباعات جيدة حول اختيارنا لقضية البحث. ً عليه ،فقد مت االتفاق مع املشاركني على االلتقاء مرتني في كل شهر،
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
هذا وقد وظف البحث العديد من األدوات جلمع البيانات في هذه التجربة ,وهي على النحو التالي : < انطباعات املشاركني وتأمالتهم في التجربة. < احلوارات التي كانت تتم بني املشاركني خالل اللقاءات املتتالية. < مجموعة املالحظات التي دونت خالل النقاشات التي كانت تدور على هامش لقاءات التجربة. < أشرطة الفيديو التي مت تصويرها وتفريغها على أوراق لتسهيل عملية التحليل والتأمل. < مجموعة السير الذاتية التي كتبها بعض املشاركني خالل التجربة.
29
ملف الثقافة العلمية
هدفت هذه التجربة البحثية إلى توفير مناخ أو حيز مكاني يجتمع فيه املعلمون والطلبة للحديث عن العلوم والتكنولوجيا ،والقيام بأنشطة للتحري عن طبيعتها ،والتأمل مبعتقداتهم حولها ,وذلك بهدف تغييرها والدفع بها نحو األفضل .وألجل ذلك ،فقد مت توظيف أساليب تعليمية تعكس وجتسد طبيعة هذه العلوم أثناء املمارسة الصفية ،ومنها التعلم باالستقصاء ,والتعلم التعاوني ,والعصف الذهني ,وحل املشكالت. وقد ظهر لنا أثناء العمل مجموعة من األهداف التي سعينا إلى تنمية قدرات املشاركني فيها ,وهي على النحو التالي.
والتي شكلت بالنسبة لنا خط ًا ناظم ًا ومرجع ًا أساسي ًا أثناء صياغتنا للمقترح التعليمي الذي سيتم العمل به في إطار هذه التجربة التي حملت عنوان هذا البحث «التفاعل الصفي سياق لفهم طبيعة العلم وموضوعية املعرفة العلمية» (راجع ,رؤى تربوية,ع ,25ص،)31 : حيث برزت لنا في هذه املرحلة مجموعة من األسئلة التي ينبغي اإلجابة عنها كي نستطيع حتقيق ما نصبو إليه من أهداف خالل هذه التجربة, ومنها على سبيل املثال.
وذلك لكي يتسنى لنا الشروع في العمل.
30
في سياق هذا اللقاء تقدمنا للطلبة بورقة حتت عنوان «اختبر عاداتك!»، وتتضمن مجموعة من األسئلة الهادفة إلى اختبار قدرتهم على التحليل والتفكير واملناقشة من جانب ،وكذلك حتديد ما ميتلكونه من معرفة حول قضية البحث من جانب آخر .فمعرفتهم القبلية حول املوضوع ستشكل جسر العبور ألية معارف الحقة .وقد الحظنا في أثناء املناقشة أن الطلبة عاجزون عن الربط بني أسئلة الورقة وموضوع البحث .وللتدليل على ذلك ،نسوق االقتباسات التالية التي أخذت من شريط الفيديو.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
يقول الطالب عيسى في سياق رده على أحد األسئلة« :ما عالقة عمل األجهزة اإللكترونية في ظاهرة االحتباس احلراري؟ من املعروف أن االحتباس احلراري ناجت عن غازات املصانع والسيارات واحتراق الغابات». وتضيف طالبة أخرى« :ما عالقة أن آكل العنب في فصل الشتاء أو واملجمد بحالة االحترار أتناول السمك الطازج ّ الكوني؟». إننا نبرر هذا التعثر وعدم اإلدراك ملضمون األسئلة وعالقتها مبوضوع البحث إلى غياب النظرة الشمولية للمعرفة ,واملنبثقة أساس ًا من غياب فكرة املنهج التكاملي .فهم يدرسون العلوم كمادة منفصلة ومعزولة عن سياق الفروع املعرفية األخرى .فال عالقة مث ً ال للعلوم بالتكنولوجيا ،أو الرياضيات بالفن .فاملعرفة املعزولة في حقل ضيق ال قيمة لها البتة ,إال إذا أدمجت في سائر حقول املعرفة األخرى كما يقول شرونغر (Robert m, .)1978: 105وإذ نعتقد من جانبنا أن إحاطة املشاركني بفهم جيد لظاهرة االحترار العاملي ،ال ميكن أن يتم مبعزل عن فهم جيد ملبدأ عمل الثالجة. في لقاء آخر عقد بتاريخ ،2007/12/15مت فيه إجراء حوار ونقاش مع الطلبة بهدف الكشف عن معتقداتهم وعن الكيفية التي ينظرون بها إلى العلوم واملعرفة العلمية ,وقد ظهر لنا أثناء النقاش أن الطلبة غير معتادين على املمارسة البحثية ,ويعتمدون بشكل أساسي على ما يقدمه لهم املعلم من معلومات وبيانات .وقد أشار الطلبة في كثير من املواقف إلى أن العلوم بالنسبة لهم ال تعدو كونها مجموعة من املعلومات التي تقدم لهم في أغلب األحيان بشكل سردي ال يتجاوز املنصوص عنه في الكتب ،وبشكل بعيد عن منطق عمليات البحث واالستقصاء ,وهم بدورهم يقومون بتلقيها وحفظها دون أدنى قدرة على مساءلتها ونقدها، فهي بالنسبة لهم ليست معرفة من أجل احلياة ،بل مجرد معلومات تثبت في الذهن إلى حني موعد اختبار تذكرها .فمث ً ال الطالبة عزيزة تقول: “أعتقد من كوني طالبة أن املعلم هو مصدر املعلومات ،ونادرة هي احلاالت التي يطلب منا فيها جمع بيانات ومعلومات ,وإن كان فإن ذلك يكون بدافع احلصول على العالمات وليس بهدف إثارة نوع من اجلدل حولها ... علي سوى املعلومات تصلنا جاهزة ،وما َّ حفظها واالمتحان فيها ،وبعد ذلك يكون نسيانها أمر ًا سهالً”.
وأضافت الطالبة روان“ :نحن في املدرسة تأتينا املعلومات جاهزة، وإذا طلب منا البحث ،فإننا نقدم تقرير ًا في املوضوع دون مناقشة ،وهو فقط للحصول على العالمات”. كما كشف هذا احلوار من جانب آخر عن وجود بعض املعتقدات اخلاطئة لدى الطلبة حول طبيعة العلوم واملعرفة العلمية ,فالغالبية تنظر إلى املعرفة على أنها ثابتة ومتحررة من القيود السياسية واأليديولوجية, وليس هنالك ما يدعو حملاورتها وإثارة اجلدل حولها ,وقد علل الطلبة هذه النظرة إلى املعرفة ،إلى كونهم ال يوضعون مدرسي ًا في سياقات حقيقية متكنهم من مناقشتها وإبداء الرأي فيها ,فهم يستقبلونها كما هي ،وكما وردت في الكتب املدرسية ،حتى انعكست في نفوسهم إلى ما يشبه اإلميان بأن املعرفة في شتى أبعادها وآفاقها هي ثابتة ونهائية. تقول إحدى الطالبات“ :نحن في املدرسة نتلقى املعلومات بشكل مباشر دون إعمال للعقل في البحث والتفكير أو التجريب ...كما أننا ال نقوم مبساءلة املعرفة أو التشكيك بها ,ثم ملاذا نشكك بها ونحن تعلمنا مث ً ال أن القوانني العلمية ثابتة وال تتغير”. “أعتقد أن املعرفة العلمية ثابتة وال ميكن وتضيف كفا : التشكيك بها”. “ال أتصور أن املعارف تتغير ...األشياء التي عيسى : ندرسها اآلن هي نفسها التي درسها من قبلنا, كما أنني لم َأر في مناهجنا أي إشارة إلى أن املعرفة قدمي ًا كانت تختلف عما هي اآلن”. إن جوانب القصور التي يعاني منها الطلبة؛ سواء على صعيد املعتقدات أم املمارسات ،ال تعكس سلوك ًا فطري ًا لدى الطلبة ،بقدر ما تعكس صورة عن املناخ الثقافي والتعليمي السائد ,فالطالب هو أسير بيئته وثقافته التعليمية .ولعل االقتباسات السابقة تكشف عن مساوئ التعليم التقليدي وعيوبه ,فالطالب في سياق الفعل الصفي ،وفي ظل هذا النمط من التعلم ال يتجاوز دوره حد املتلقي السلبي للمعلومات, ومهمته الوحيدة هي أن يؤمن مبا يعرض عليه من معارف دون احلاجة
إلى تطبيقات عملية الستكشاف مضامينها وأبعادها ،ظروف نشأتها وتطوراتها ،تفاعالتها مع املؤثرات الزمانية واملكانية .من هنا يبني الطالب عالقته مع املعرفة ،ويأخذ منها موقف ًا وثوقي ًا دغمائياً ,فهي حقائق مقدسة ثابتة وغير قابلة للتغير والتبديل .كما أن األساليب التي تقدم من خاللها املعارف تؤصل لدى الطلبة هذه النظرة إلى املعرفة, فهي ال تتيح لهم فرصة ملناقشتها ونقدها أو حتى إبداء الرأي فيها .ألنها معرفة قادمة من عقول العلماء ومن بني دفات الكتب.
ثانياً .مرحلة التنفيذ
ثالثاً .مرحلة التقييم
حني نتحدث عن مرحلة التقييم ,فإننا ال نسوقها كمرحلة مستقلة فبناء على ما ورد سابق ًا من تكليف للطلبة بكتابة ومنفردة بذاتها, ً انطباعات وتأمالت وسير ذاتية حول ممارساتهم أثناء انخراطهم في األنشطة والفعاليات التي نفذت خالل هذه التجربة ,فإن ذلك يشير إلى أنهم كانوا في حالة تقييم ومتابعة لألداء بشكل متواصل وعلى مدى امتداد هذه التجربة .كما كانت تعرض هذه الكتابات على الباحثني في املركز ،وجتري نقاشات حولها لتحديد مستوى التغير في أفكار الطلبة ومعتقداتهم .وللتأكد من مدى التطورات التي رافقت املشاركني في سياق هذه املرحلة ،فقد مت عقد جلسة تقييميه ختامية جرى فيها محاورة دونوها خالل هذه الطلبة ومناقشتهم في انطباعاتهم وتأمالتهم التي ّ الفترة .وفي إطار هذه اجللسة حتدث وسيم الكردي مدير مركز القطان إلى الطلبة واستمع إلى آرائهم واقتراحاتهم حول التجربة ،وإمكانية تطويرها ,حيث أبدى الطلبة استعدادهم للمشاركة واالنخراط مجدد ًا في مشاريع بحثية مماثلة. في هذه املرحلة أيض ًا متت مراجعة أشرطة الفيديو ،وقراءة كتابات الطلبة من «انطباعات ,وتأمالت ,وسير ذاتية ومقابالت شخصية» ،باإلضافة إلى امللخصات التي كان يتم تفريغها من أشرطة الفيديو بعد االنتهاء من كل نشاط ،وذلك بهدف حتليلها وحتديد أثر هذه التجربة وما أحدثته من تغييرات على الطلبة ،سواء على صعيد املمارسات أم املعتقدات.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
اعتمدت التجربة في لقاءاتها األولى خالل هذه املرحلة على جلسات احلوار والعصف الذهني كإجراء متهيدي لكسر اجلليد من ناحيتني؛ األولى تتمثل في خلق مناخ دافئ يكسر احلواجز بني املعلمني والطلبة وبني الطلبة أنفسهم ,ويشعر اجلميع بأنهم شركاء وعلى حد سواء في هذه التجربة .أما األخرى فيراد بها تهيئة املشاركني لقضية البحث, حيث تضمنت هذه املرحلة حلقات نقاش علمي وفلسفي حول أسباب الظاهرة ،وذلك بهدف تشجيع الطلبة على اإلدالء بآرائهم وأفكارهم والتعبير عن أبنيتهم املعرفية في هذا اجلانب .وقد راعينا في ذلك ضرورة الترحيب بكل األفكار املطروحة ،وعدم إصدار أحكام مسبقة عليها، أو توجيه النقد ألي منها ,فشعور الطالب بأن أفكاره وآراءه مح ً ال للنقد والسخرية ،سيقف حائ ً ال أمام إقدامه على اإلدالء بأية آراء أو أفكار جديدة .لقد متكنا في إطار هذه املناقشات من صياغة السؤال البحثي الذي جاء ضمن الصيغة االستفهامية التالية :هل الظاهرة هي نتاج لدورة األرض الطبيعية أم هي نتاج الفعل اإلنساني؟ لقد شكل هذا السؤال حافز ًا قوي ًا أثار فضول املشاركني وحفَّزهم على خوض غمار البحث في جلة األسباب والعلل التي أدت إلى وجودها ،حيث جلأ الطلبة في ذلك إلى مصادر متنوعة جلمع املعلومات واألدلة ,من قبيل نشرات وأبحاث علمية ومتابعة الصحف والبرامج الوثائقية واملواقع اإللكترونية .كما قادهم البحث إلى قراءة «بروتوكول كيوتو» ،والتعليق على مواقف الدول الصناعية منه .وقد قدمنا لهم أيض ًا في هذا اإلطار مجموعة من األنشطة التي اعتبرت في الوقت ذاته مصادر للبيانات ،ومنها مثالً ,جلسات عصف فكري تناولت مقاالت وتقارير علمية متناقضة بشأن الظاهرة ،وكذلك عرضنا فيلم ًا ذا صلة أنتجه «أل غور» أثناء ترشحه للرئاسة األمريكية ,ثم تبع العرض حلقة نقاش وحوار حول
ومن اجلدير ذكره أن األنشطة والفعاليات التي مورست خالل هذه التجربة قد مت تصويرها في جميع مراحلها بالفيديو ،كما كلف الطلبة بكتابة انطباعاتهم وتأمالتهم عقب االنتهاء من كل نشاط ،وذلك بهدف التأمل في أداء املشاركني وممارساتهم ،ومالحظة التغيرات التي طرأت عليهم خالل العمل في هذا املشروع.
31
ملف الثقافة العلمية
تعدي ً ال على املقترح التعليمي في ضوء فحص املمارسات واملعتقدات بعد أن مت الكشف عن جوانب الضعف التي تعاني منها حالة الدراسة, عقد الباحثان اجتماع ًا مت فيه مراجعة املقترح التعليمي لهذه التجربة, وذلك لتقييم مدى مالءمة األنشطة وقدرتها على معاجلة جوانب الضعف هذه .وقد وجدنا أن بعض ًا منها يستلزم اإلثراء والتعزيز ,حيث اتفق الباحثان على تضمني املقترح مبزيد من حلقات احلوار واجلدل العلمي الهادف واملسند بأنشطة بحثية واستقصائية تعزز قدرتهم على ربط األفكار وجتميع األدلة وتقييمها ،بشكل يتيح لهم بناء حجج علمية قوية متكنهم من الدفاع عن آرائهم ومواقفهم بأسلوب علمي رصني بعيد عن منطق االنفعال والعاطفة .كما يرجع سبب اختيارنا ملثل هذه األنشطة أيضاً ,إلى محاولة تطوير مهارات التفكير الناقد لدى الطلبة، ودفعهم باجتاه محاورة املعرفة العلمية ونقدها بشكل موضوعي وعلني من قبل الطالب واملعلمني.
مضمون الفيلم وغاياته ,وكنا نهدف من وراء ذلك إلى إثارة التفكير الناقد لدى الطلبة ودفعهم نحو إدراك مدى قابلية املعرفة لالستغالل والتضليل ،وأنها أيض ًا ليست حيادية أو مستقلة عن املصلحة السياسية واالقتصادية .وفي السياق ذاته ،مارس الطلبة لعبة ()Democs ( )deliberative meeting of citizensفي تعليم وتعلم القضايا اجلدلية ,وهو نشاط مبني على بطاقات محادثة اشتملت على بيانات ومعلومات حول الظاهرة ,وأردنا من خاللها إكساب الطلبة قواعد احلوار واحلجاج العلمي وآلياتهما ،ومتكينهم من اتخاذ قرارات مبنية على دالئل واستدالالت منطقية في إطار بيئة تعلم تعاونية تفاعلية على شكل مجموعات .وقد أعقب هذا النشاط جلستا جدل علمي يفصل بينهما فارق زمني ,حيث انقسم فيهما الطلبة إلى فريقني يتبنى كل منهما نظرية مختلفة ,واملطلوب هو أن يدافع كال الفريقني عن نظريته بحجج وبيانات علمية مستقاة من واقع األنشطة واملمارسات البحثية. وقد لوحظ خالل هذه الفعاليات نزوع بعض الطلبة نحو توظيف التفكير العلمي والتفكير الناقد أثناء املمارسة اجلدلية ،ومن كال الطرفني ,فكانوا يقابلون احلجة باحلجة والرأي بالرأي والسؤال بالسؤال .فاملهم في ذلك هو أن يدرك الطلبة أن املعارف العلمية قابلة للنقاش والتشكيك ,وأنها ليست موضوعية مبا يكفي ,فكل معرفة متتلك جزء ًا من احلقيقة وال ميكن قبولها دون متحيص أو مساءلة.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
32
نتائج البحث أظهر التحليل النوعي للبيانات أن الطالبات قد تطورن خالل هذه التجربة في جوانب عدة ,لكننا قبل أن نعرض هذه النتائج نرغب في التأكيد على أن هذه التطورات والتغيرات مرتبطة بالسياق واللحظة التي جاءت فيها ,كما أننا ال ننفي في املقابل ذاتنا املعجبة بهذه اللحظات العابرة .وكسائر األبحاث اإلجرائية املبنية على التأمل في املمارسات وإعادة تأويل اللحظات الشاردة بعد اقتناصها ,فإن نتائج البحث من هذا املنظور غير قابلة للتعميم ,لكنها في الوقت ذاته تتلمس من املعلمني املهتمني بتطوير أدائهم داخل الغرفة الصفية إلى أن يكونوا أكثر تأم ً ال ونقد ًا لذواتهم وأفعالهم من جانب ،وأن يكونوا أكثر استبصار ًا لتلك اللحظات التي تعبر بال حسيب أو رقيب من جانب آخر. أشارت الطالبات املشاركات في البحث اإلجرائي إلى أن حلقات احلوار األولى التي ابتدأت بها التجربة قد ساهمت في خلق مناخ تعليمي أشعرهن بالراحة والطمأنينة ,حيث تبادل املشاركون فيه اآلراء واألفكار وعبروا خاللها عن رؤيتهم ووجهات نظرهم إزاء قضية البحث مع املعلمني والباحثني ,األمر الذي ساهم على حد تعبيرهن في كسر احلواجز النفسية بني الطلبة وقلص الفجوة القائمة بينهم وبني املعلمني. وقد عبر املشاركون عن ذلك في كثير من انطباعاتهم. كتبت عزيزة في تأمالتها« :اكتشفت في هذا املشروع أن هنالك شيئ ًا مختلف ًا عما هو في املدرسة وما هو في مخيلتي أيضاً ،الحظت أنه ال فرق بني املعلم والطالب ،فكالنا جاء ليتعلم من اآلخر». «ال أجد نفسي في هذه التجربة كما أنا وأضافت املعلمة رندة : علية حقيقة داخل الغرفة الصفية ... أالحظ هنا أننا نتعلم مع ًا طالب ًا وطالبات ومعلمات». ً وعبرت دعاء في انطباعاتها« :شعرت شخصيا أنه ال فرق بني طالب ومعلم ،وأن كليهما يأخذ العلم عن اآلخر ويستفيد من معلوماته وخبراته ،ومثال ذلك أستاذ أشرف الذي وقف إلى جانبنا وشجعنا على االستمرار في العمل ،وكان يقول لنا دائم ًا أننا جيدون في أدائنا». لقد شكلت هذه املرحلة التأسيسية مناخ ًا نفسي ًا واجتماعي ًا اتسم بدفء العالقات بني املشاركني ،وعززت إمكانات التفاعل احلواري بني املعلمني والطلبة ،حيث لعب احلوار في هذه املرحلة دور ًا مهم ًا في إحداث التفاعل الصفي ،وشجع الطلبة على توليد األفكار وإبداء اآلراء ,في محاولة منهم إلثبات وجودهم ككيانات فاعلة لها القدرة على التعبير واملناقشة .وللتدليل على ذلك ،أورد هذا املقطع احلواري الذي أخذ من أحد أشرطة الفيديو ,والذي يظهر فيه الطلبة واملعلمون وهم يطرحون وجهات نظر منطقية ومتباينة ،متكنوا خاللها من صياغة السؤال البحثي.
املعلم أشرف : الطالبة كفى :
املعلم مهيوب : الطالبة تهاني : الطالب معاذ : الطالبة دعاء : املعلم مهيوب :
هل الظاهرة التي نحن بصددها طبيعية أم بفعل فاعل؟ قرأت في كتاب ما ،أن درجات احلرارة أخذت باالرتفاع والزيادة بعد الثورة الصناعية ...ورمبا تكون هذه الزيادة هي املسؤولة عن االرتفاع في درجات احلرارة. الزيادة التي سببتها املصانع والسيارات في نسبة ثاني أكسيد الكربون جعلت النبات عاجز ًا عن امتصاصها. ملاذا ال تتجه أنظارنا إلى العوامل الطبيعية كالبراكني؟، فهي تنتج ثاني أكسيد الكربون بكميات ضخمة. هل نواة األرض امللتهبة مث ً ال لها تأثير على ارتفاع احلرارة؟ أتصور أنه ال ,ألن االرتفاع في احلرارة يحدث على السطح وال عالقة لنواة األرض مبا يحدث. أعتقد أن ما تطرحه دعاء غير صحيح ،بدليل أن احلرارة تنتقل من الوسط الساخن إلى األقل سخونة, لنفترض أن درجة حرارة األرض 100درجة، والسطح 0درجة ،هل ستكون كمية احلرارة املنتقلة تساوي الكمية نفسها فيما لو كانت حرارة السطح 2 درجة ،بالتأكيد ال.
نالحظ من خالل هذا املشهد أن هنالك منط ًا مختلف ًا من اخلطاب الصفي املعهود ,حيث املعلم يسأل والطالب يجيب ,وغالب ًا ما يحدد املعلم سلف ًا الطلبة األقدر على اإلجابة ,ليطمئن إلى أن ما قدمه من معرفة قد مت استيعابه وفهمه ,فيما يبقى اجلزء األكبر منهم في حالة من السكون والتلقي السلبي لهذه املعارف .من هنا تنبني عالقة الطالب مع املعرفة, في سياق بعيد عن منطق احلوار واملساءلة ,لتترسخ في ذهنه كعقائد وحقائق مجردة ال شك في ثباتها .لنعيد النظر في املشهد مرة أخرى, سنجد أن هنالك دور ًا مختلف ًا للمعلم والطالب ,فليس املعلم هنا من ميسك بزمام األمور ويسيطر على معظم وقت احلصة ,كما أن الطالب ليس في وضعية التلقي والتبعية ،بل طالب يسأل ويناقش ويطرح وجهة نظر .فسؤال الطالب “معاذ” ال ميكن اإلجابة عنه بنعم أو ال ،مبعزل عن تفسير منطقي سليم يدعم اإلجابة أو يدحضها .كما نرى فيه أيض ًا محفز ًا لآلخرين على إبداء آرائهم وأفكارهم ,فتعليق “دعاء” دفع املعلم ألن يبدي اعتراض ًا معل ً ال بقانون علمي وتفسير منطقي .إن هذا النمط احلواري املتعدد األطراف واالجتاهات ,من شأنه أن يلغي مركزية املعلم في التفاعل الصفي ،ويعزز استقاللية الطلبة في التأمل والتفكير ,ويتيح لهم فرصة التبادل الفعال لألفكار والرؤى واخلبرات ,كما يعزز فيهم روح التساؤل وعدم التسليم ,ويشجعهم على املناقشة والتعبير ,ما مينحهم فهم ًا أعمق ومعنى أشمل حملتوى التعلم. وفي إطار محاولتنا لتفعيل اخلطاب الصفي ،مت عرض فيلم “احلقيقة املزعجة” ( ،)Inconvenient Truthوهو فيلم يتعلق بظاهرة االحتباس احلراري ،كان قد أعده “أل غور” في فترة ترشحه لرئاسة الواليات املتحدة األميركية .كانت لنا أهداف وغايات متعددة من وراء هذا العرض ,ومنها إثارة التساؤل والنظرة الناقدة لدى املشاركني,
الطالبة تهاني تقول :
وتضيف الطالبة كفى :
كما أظهرت البيانات أيض ًا أن بعض املشاركني قد استطاعوا التمييز بني املعرفة العلمية والرأي العلمي ,السيما بعد أن عرضنا لهم تقارير علمية حتوي بيانات متناقضة حول ظاهرة االحتباس احلراري ,حيث دفعهم هذا التناقض إلى إجراء مزيد من البحث واالستقصاء للتأكد من صدق هذه البيانات ,األمر الذي عزز موطن الشك في نفوسهم ،وبخاصة بعد أن حصلوا على مزيد من هذه البيانات املتضاربة .لكنني في املقابل كنت أحلظ بعض الطلبة في بداية هذه التجربة ,يتعاملون مع مثل هذه التقارير يضمنها العلماء املختصون في تقاريرهم على أنها معلومات موثوقة, ِّ العلمية حول القضايا التي يدرسونها ،دون أن يدركوا أن تلك هي مجرد آراء شخصية وأحكام فردية غير موضوعية وغير قابلة للقياس من الناحية العلمية .فمثالً: تقول إحدى الطالبات“ :العلماء يرجعون سبب ارتفاع حرارة األرض إلى زيادة نسبة ثاني أكسيد الكربون
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
تقول املعلمة عاليـة :
هذا الفيلم يعكس مدى تشابك العلم بالبعد السياسي والثقافي للمجتمع. املهم واجلديد بالنسبة لي أن هذه الظاهرة ال ميكن فصلها عن السياسية واالقتصاد ،من هنا أدرك ملاذا لم توقع أمريكا على معاهدة كيوتو ،ألن ذلك سيؤثر على وضعها االقتصادي وعلى مستوى رفاهية الفرد فيها. في الواقع ،وضعني هذا الفيلم أمام حقيقة طاملا اعتقدت أنها وهم وخيال أثناء تعرضنا
إن ما عبرت عنه الطالبات ال يعكس في الواقع إدراكهن لعدم حيادية املعرفة وانعزالها عن املصالح الشخصية والسياسية واالقتصادية فحسب، بل يظهر فيه أيض ًا بعد مضمر تطرقت إليه الطالبة عزيزة في عبارتها السابقة حني تقول“ :أهو لكسب تعاطف الناس واللعب مبشاعرهم؟”؛ مبعنى أن املعرفة العلمية كخطاب لها تأثير وسلطة متارسها علينا كأفراد وجماعات بشكل سري وعلني ,ويتمثل ذلك بفرضها أمناط محددة من التفكير والوعي والسلوك ،وكذلك طرق معينة لرؤية األشياء في العالم من حولنا ,وذلك مبا يتوافق مع “موشور” الرؤية السياسية واأليديولوجية للسلطة ومؤسساتها املنتجة للمعرفة .من هنا تفقد األخيرة موضوعيتها وحيادها بعد أن تصبح غارقة في شباك لعبة الكلمات ,كلمات وصيغ ملتوية ,تتآلف مع ًا لتشكل جسر ًا لعبور القول األيديولوجي الذي يستمد من املعرفة العلمية مشروعية وجوده ,وضمان استمرارية فعله وتسويقه لذاته ثقافي ًا واجتماعياً.
33
ملف الثقافة العلمية
ودفعهم نحو التشكيك مبوضوعية املعرفة العلمية ،وحفزهم على إدراك عدم حيادها أو استقاللها عن املصلحة السياسية واالقتصادية .فاملعرفة سلطة ,أو كما هي في تعبير بيكون “املعرفة قوة” ,لذا ينبغي التخلي عن التصور املثالي للمعرفة ،والكف عن اعتبارها معرفة حيادية أو متحررة من طابعها األيديولوجي ,أو أن يتم التعامل معها على أنها خارج إطار عالقات القوة ورهاناتها .فكثير ًا ما نغفل نحن املعلمني هذا اجلانب للمعرفة من شروحاتنا الصفية ونتعامل معها كصيغ مجردة ومنعزلة عن صيرورات التفاعل مع اخلطابات األخرى ,فقانون نيوتن الثالث في الفعل ورد الفعل على سبيل املثال ،نتناسى أن السلطة قد طوعته لصناعة أدوات املوت والدمار من خالل صناعة القاذفات واملقذوفات ,ونتجاهل استغالل النازية لنظرية النشوء والتطور في تقسيم وتصنيف البشر وفق ترتيب هرمي يتربع على عرشه العرق اآلري األصفر .لذا ،جند أن من الضروري أن يدرك الطلبة هذا البعد للمعرفة .ال على أن نظهرها كمعرفة بريئة ومتدثرة برداء أبيض ,تنحصر مهمتها في وصف العالم وحتليله, وتبيان طبيعة العالقات والروابط احلقيقية بني األشياء فيه ،بل نظهر أيض ًا أنها معرفة غارقة في املمارسة األيديولوجية ,وأنها مهما حاولت النزوع نحو املوضوعية والعلمية ,فإن ذلك لن ينجيها من قبضة السلطة ,ومن إمكانية استغاللها في إعادة إنتاج شرعيتها (راشد .)2007 ،لقد أشارت البيانات احملصلة من شريط الفيديو ،وكذلك من انطباعات وتأمالت الطلبة ,أنهم أدركوا مدى قابلية القضايا العلمية للتأويل والتضليل، االستغالل واالستحواذ ,التوظيف والتدجني لصالح معرفة السلطة ومصلحتها ,فض ً ال عن إدراكهم ملدى ارتباط املعرفة بالذات وإمكانية استغالله لها في حتقيق ٍ أمان ورغبات وأحالم وشهوات ذاتية.
لها في املدرسة ،في هذا العرض استشعرت مدى خطورة املوضوع وجسامة الكارثة ... لكن هذا ال مينع أن يكون لـ “أل غور” غاية ومصلحة شخصية من ورائه. وكتبت الطالبة عزيزة في تأمالتها .... :أل غور يقدم دالئل قوية ومعلومات موثقة عن آثار االحتباس احلراري ...لكنني في املقابل أوجه الشك لهذا العمل وأطرح مجموعة من األسئلة: ملاذا اختار أل غور هذه الظاهرة حتديداً؟ ثم ملاذا عرضها في هذه الفترة احلرجة بالذات؟ أهو لكسب تعاطف الناس واللعب مبشاعرهم؟ أم هو فع ً ال يستشعر اخلطر، وبالتالي يحذرهم من العواقب ،ولكي نكون موضوعيني أكثر أعتقد أنه في كلتا احلالتني، قد استطاع لفت أنظار الناس .لكن ما أود قوله أنه لو قدر لي أن أشاهد هذا الفيلم خارج سياق مشروع الثقافة العلمية ،ملا كنت قد طرحت كل تلك التساؤالت.
ملف الثقافة العلمية
34
في اجلو .وحسب التقارير العلمية هذه النسبة بدأت في الزيادة منذ الثورة الصناعية حتى وقتنا احلالي”. وتضيف الطالبة عزيزة“ :العلماء يقولون إن درجة حرارة األرض ستصل إلى ثالث درجات مئوية خالل مائة سنة”. إن هذه األحكام السريعة وعدم القدرة على التمييز بني املعرفة العلمية والرأي العلمي ،يرجعان باألساس إلى ضعف معرفة الطلبة لطبيعة العلوم واملعرفة العلمية ,من حيث قابلية األخيرة لالختبار والدحض ,وارتباطها الوثيق باملنهج العلمي الذي يستند أساس ًا إلى أسلوب تفكير منضبط وحذر ،يجمع بني املالحظة الدقيقة والفروض املنطقية واإلمكانات التجريبية .فاملعرفة العلمية الصحية هي تلك التي تكون مبررة ومبرهن ًا عليها بأدلة وإثباتات منطقية وعقلية منبثقة من التجربة ومن الفكر العلمي الرصني ,على عكس الرأي الذي يصفه باشالر بأنه “يفكر بشكل ناقص, بل ال يفكر أصالً” ,ألن الرأي -من زاويةُ -يعد ذاتي ًا وتلقائي ًا نابع ًا من فكرة ذهنية غالب ًا ما تكون مرتبطة مبصالح ومنافع شخصية مباشرة ,ومن زاوية أخرى يتيح لنفسه االعتقاد في كثير من املسائل التي ال يستطيع تبريرها وبرهنتها .لذا ،يرى باشالر في الرأي أنه عائق أبستمولوجي ينبغي جتاوزه أو ً ال قبل الوصول إلى معرفة علمية حقيقية. وإذ نعتقد من خالل البيانات أن بعض املشاركني قد جتاوزوا هذا العائق وتغيرت أفكارهم واعتقاداتهم حول طبيعة املعرفة ,وذلك من خالل انخراطهم مع ًا بشكل جماعي في عمليات البحث واالستقصاء ,حيث جلأ املشاركون إلى استخدام اإلنترنت كمرجع رئيسي في البحث .كما كانت البيانات التي يجمعونها تخضع للحوار واملساءلة والتقييم داخل مجموعات صغيرة ،ويتم عرض نتائجها شفوي ًا أو كتابياً. كتبت الطالبة روان في تأمالتها« :كنا في املجموعة نطرح آراء مختلفة، لكن في النهاية الرأي الذي يصمد هو الذي يحظى بإجماع اآلخرين».
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
في إطار هذا احلراك املعرفي ،أدرك املشاركون أن ما يطرح من أفكار ونظريات في هذا السياق هو ليس دقيق ًا أو موضوعي ًا مبا يكفي العتباره معارف موثوقة .فما هو موضوعي يجب أن يكون مشترك ًا بني جميع العلماء .من هنا أصبح الطلبة أكثر حذر ًا في تعاملهم مع هذه التقارير، ويوجهون النقد والشك ملثل هذه البيانات غير املبررة. يقول أحد الطلبة « :أعتقد أن ليس كل ما يقوله العلماء في هذا املجال صحيحاً ،فبعض العلماء يقدرون أنه خالل مائة سنة سوف ترتفع درجة حرارة األرض ثالث درجات، قد يكون هذا الكالم صحيح ًا أو غير صحيح ،وهذا يدعونا إلى الشك مبا يطرح من توقعات». وأضافت عزيزة “ :العلماء يقدمون تقارير متناقضة ،فتنبؤهم بارتفاع حرارة األرض خالل العقد القادم من 6-1.4أو من ،3.5-1سيظل يبقي مساحة للشك ،وهو في النهاية مجرد آراء وتنبؤات”. “توصلت إلى كثير من املعلومات املتناقضة -في روان :
السياسة مثال نرى الرئيس األميركي جورج بوش يؤيد العلماء الذين يقولون إن الظاهرة تسير بشكل طبيعي ،بينما أل غور يؤيد الفريق النقيض، والعلماء احملايدون منقسمون فيما بينهم وال يعطون قراءات دقيقة”. في أثناء معاجلتنا ملعتقدات الطلبة ،وعبر جملة األنشطة الهادفة إلثارة تفكيرهم الناقد إزاء املعرفة ,جتلت لنا إشكالية أثارت فينا بعض املخاوف ,حيث وجدنا أن مسألة الشك باملعرفة لدى إحدى الطالبات قد جتاوزت فهمنا للشك مبا هو فعل تأملي يقود إلى معرفة أكثر صدق ًا وموضوعية .فقد عبرت الطالبة روان في أحد انطباعاتها عقب حصولها على معلومات متناقضة بشأن ظاهرة االحترار العاملي بالتالي: “أنا أشك أن هنالك ارتفاع ًا أص ً ال في درجات احلرارة على الرغم من أنني مقتنعة بأن هنالك ارتفاعاً” .وفي سياق آخر أضافت ...“ :والله أنا صرت أشك في كل شيء”. وقد عبرت الطالبة في موقف ثالث أنها لن تشارك في حلقات اجلدل العلمي ،ألنها لم تعد مقتنعة بكل ما يطرح بخصوص هذه القضية. إن خطورة ما سجلته الطالبة يكمن في إمكانية انتقال هذا الشك العميق إلى محتوى املعارف التي تقدم لها في السياق املدرسي ,بحيث تغدو تلك املعارف ال قيمة لها ،أو أن تصل بها احلالة إلى الشك في كل ما يحيط بها ويدور من حولها .فنحن ال نريد أن تصل األمور إلى هذا املستوى من الشك في املعرفة العلمية ,بل ما أردنا حتقيقه ودفع الطلبه جتاهه هو إدراكهم لعدم يقينية املعرفة ،وأنها نسبية ذات طابع براغماتي يقبل النقد واملساءلة والشك التأملي. ناقشنا هذه االنطباعات مع الطالبة ،وأوضحنا لها أن كثير ًا من املعارف العلمية هي مبثابة حقائق ،وأن هدفنا من وراء هذه األنشطة هو محاولة تغيير أدائكم داخل الصفوف ،وحتفيز نظرتكم الناقدة إلى املعرفة ،بحيث تستطيعون مساءلتها وإثارة اجلدل حولها .ونحن نطرح الشك هنا كبديل عن اليقني وكمحفز لفحص وتقومي املعرفة واألفكار واحلجج من أجل الوصول إلى أحكام متوازنة ,تفضي في نهاية املطاف إلى مزيد من املعرفة والفهم .وليس الشك كمحاولة إلبطال املعرفة العلمية وتعطيلها. لقد شكلت هذه الشكوك ومن خلفها تساؤالت املشاركني امللحة حول صدق هذه الظاهرة وكذلك التناقض في البيانات التي جمعوها في سياق عملية التحري العلمي عام ً ال أساسي ًا في انطالقة مسيرة اجلدل في هذه التجربة ،ولعل التناقضات كانت العامل احلاسم في تفجير هذا اجلدل ،ألن اجلدل مها كانت طبيعته وخلفيته فهو ال ينفجر من تلقاء نفسه كما يقول ماركيوز .لذا ،فقد تقدمنا للطلبة مبجموعة من القصص التي تتضمن بيانات ومعلومات حول الظاهرة ,وهدفنا من خاللها إلى تدريب الطلبة على استخالص مجموعة األفكار واحلجج وكذلك األسئلة التي متكنهم من التصدي ألفكار وحجج محامي الشيطان ,وهو شخصية مركزية في القصة قام أحد الباحثني بلعب دورها ,حيث تتبنى هذه الشخصية فكرة أن ال عالقة لإلنسان بهذه الظاهرة.
وقد أظهر شريط الفيديو أن الطلبة قد استطاعوا خوض مناقشة علمية ميكن أن أشبهها مبحكمة يحاول فيها كال الطرفني متزيق أفكار اآلخر وفروضه .كما سيظهر في هذا املشهد.
إن هذا املشهد احلواري القائم على السؤال واجلواب نقرأ فيه محاولة من كال الطرفني لهدم واقع حالة ونقدها ،ويدل من زاوية أخرى على أن السائل لديه معيار آخر لفهم املسألة ,لكن اجلدل في جوهره ليس سؤا ً ال وجواب ًا بل هو كما قال جارودي “فن طرح األسئلة بقدر ما هو طريقة إلعطاء اجلواب عليها” ,فاجلدل احلق هو التساؤل احلق .وإذ نعتقد من خالل ما سبق أن املشاركني قد جنحوا في إثارة أسئلة متنوعة ذات صلة صحيحة باملوضوع حتى لو كانت مبعنى احلوار ,فتتابعها على
كم أظهرت البيانات أيض ًا وجود حتسن في قدرات بعض الطلبة على صوغ احلجة العلمية املقنعة واملدعمة بالبيانات واألدلة ,وهذا التحسن يعكس حالة مغايرة لنوعية احلجج التي كانوا يسوقونها أثناء احلوارات التي كانت جتري في بداية هذه التجربة ،حيث اتسمت حججهم في هذه املرحلة بالضعف واالعتماد على احلد األدنى من البيانات والتبريرات. سأعرض في هذا السياق نوعني من احلجج؛ حجج ضعيفة وأخرى قوية، وكلتاهما مأخوذة من شريط الفيديو ،وسأقوم بتحليلهما وفق ًا لنموذج «توملن» في اجلدل العلمي ,الذي يصف فيه العناصر األساسية التي ينبغي توافرها في أي حجة قوية؛ سواء أكانت في البيئات القانونية أم في ميدان تدريس العلوم ،وذلك كما هو موضح في الشكل أدناه ،علم ًا أن هذا 1 النموذج ليس مثالي ًا لتقييم نوعية احلجج العلمية كما أشار توملن نفسه:
35
ملف الثقافة العلمية
نادر :أعتقد أن موقفي بعد قراءة القصص لم يتغير ،وما زلت أعتقد أنه ال توجد دالئل تقنعني بأن أغير رأيي. عزيزة :إذا كنت تريد دالئل ملموسة وواقعية ،إذن مباذا تفسر ذوبان اجلليد في منطقة القطبني؟ نادر :هنالك عبر التاريخ تغير مستمر في درجات احلرارة ،قدمي ًا ارتفعت حرارة األرض درجة مئوية واحدة ثم انخفضت ،ثم أتى العصر اجلليدي .أعتقد أنها سلسلة ترتفع فيها درجات احلرارة وتنخفض. تهاني :أنت تقول إنه قدمي ًا ارتفعت حرارة األرض ثم انخفضت بشكل طبيعي ،لكن مباذا تفسر سبب ظهور ثقب قي طبقة األوزون؟ نادر :قدمي ًا كان هنالك آالف البراكني التي تنتج كميات ضخمة من الغازات املختلفة وبكميات أكبر مما تنتجه جميع السيارات على األرض .ثم ما يدريك أيض ًا أن الثقب هو سبب االحترار؟ نسرين :تبني أن هنالك انقراض ًا لبعض احليوانات مثل الضفدع الذهبي، هل لك أن تبني لنا ما هي أسباب انقراضه إذا لم يكن االحتباس احلراري هو السبب؟ نادر :هنالك العديد من الكائنات احلية التي انقرضت بفعل أسباب أخرى ،فالديناصورات مث ً ال لم تنقرض بفعل االحتباس احلراري .كما أن انقراض كائن في منطقة ما يساهم في وجود كائن آخر بديل عنه.
هذا النحو يشير ،من جانب ،إلى أن هنالك شيئ ًا معطوب ًا ينبغي التحقق منه والتأكد من مصداقيته .ويعكس ،من جانب آخر ،أسلوب ًا علمي ًا في التفكير وقدرة على توليف املوضوعات املختلفة وربطها وإعادة صياغتها مبا يخدم آراءهم ووجهات نظرهم .فانتقال تساؤالتهم من أسباب ذوبان جليد القطبني إلى طبقة األوزون ،ثم إلى انقراض احليوانات، يكشف عن فهم تكاملي ونظرة شاملة للموضوع ,متكنوا من خاللهما انتقاء أسئلتهم وحججهم بدقة .إن تفعيل هذا النوع من احلوار النقدي للمعارف والنظريات العلمية أثناء الفعل التدريسي داخل الصف ،من شأنه أن يضاعف قدرات املتعلمني الذهنية ،ويساعدهم على الفهم والتحليل وتكوين اآلراء واختبار األفكار ,كما ينمي فيهم روح التفكير اجلماعي والتفكير العلمي الناقد .فبالنسبة لهذا النوع من التفكير ,فإن كل معرفة هي جواب عن سؤال ،فإذا لم يكن هنالك سؤال ،فال ميكن أن تكون هنالك معرفة علمية أبد ًا كما يقول باشالر .فالسؤال أو االستفسار هو ضمانة املتعلم ملعرفة الصحيح من اخلطأ ,واستمرارها بشكل اطّ رادي سيدفع بهم نحو عدم القبول والتسليم باملعرفة العلمية كما هي ,أو دون إجراء محاكمة عقلية ونقدية لها .هذه ناحية ،والناحية األخرى فإن هذا احلوار واجلدل يساعد الطلبة على تكوين فهم لنظرية املعرفة والعلوم وتعلم شيء عن طبيعتها ،وعن الكيفية التي يتوصل من خاللها العلماء إلى معارفهم ,فيذهب إلى تقدير جهودهم في تطور هذه العلوم.
QUALIFIERS
WARRENT
BACKING TOULMINS ARGUMENT PATTERN
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
CLAIM
REBUTTAL
DATA
36
< اإلدعاء ( :)Claimسؤال أو استنتاج يظهر على شكل قول قد يكون صحيح ًا أو غير صحيح. < البيانات ( :)Dataمجموعة البيانات واملعارف واحلقائق التي تدعم وتفعل اجلدل. اإلدعاء ّ < التبرير أو التعليل ( :)Warrantsوهو مجموعة األسباب التي قد تكون على شكل قواعد ,مبادئ ,معطيات علمية ،تبرر العالقة القائمة بني البيانات واالدعاءات. < التعديالت ( :)Qualifiersالظروف التي يعمل اإلدعاء في إطارها بشكل صحيح. < دعائم النظرية ( :)Backingمجموعة االفتراضات األساسية واملنطقية التي عادة ما تكون محل إجماع وتوافق. < دحض مزاعم اإلدعاء ( :)Rebuttalsالظروف التي يكون فيها اإلدعاء باط ً ال وغير صحيح.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
النوع األول :حجج ضعيفة
كما أشرنا سابق ًا إلى أن مسيرة اجلدل قد بدأت من أرضية بال استنارة, بدأت من تساؤالتهم حول طبيعة ظاهرة االحتباس احلراري ،فكان الطلبة أثناء النقاش يدلون بآراء واعتقادات غير مبررة أو مسندة ببيانات تدعم ادعاءاتهم وتقوي موقفهم منها ,وهذا أمر ضروري من أجل بناء حجة صحيحة فمثالً؛ تقول الطالبة نسرين :
االحتباس احلراري نتاج الفعل اإلنساني, فنشاطات اإلنسان وأعماله وممارساته من أهم أسباب هذه القضية.
وتضيف الطالبة عزيزة« :أعتقد أن ظاهرة االحتباس احلراري طبيعية وبشرية ,فقد كان هناك ارتفاع من قبل ،وزاد بفعل التطور اإلنساني». إن سبب اختياري للطالبتني نسرين وعزيزة وعرضي حلججهما الضعيفة في بداية هذه التجربة كان متعمد ًا وهادف ًا إلظهار التغيرات التي طرأت عليهما في هذا اجلانب .فقد وجدت من خالل مراجعتي لشرط الفيديو أنهما فقط من مجموع الطالب والطالبات قد استطاعتا تقدمي حجج أدعي أنها قوية ,علم ًا أن تلك احلجج لم ِ تأت في سياق كامل ومرتب على النحو الذي ستظهر فيه ,لكنها في الوقت ذاته متثل مجمل ما قالته الطالبتان في سياق حلقة اجلدل العلمي التي أثيرت عقب انقسام الطلبة إلى فريقني, فريق يدعي أن الظاهرة طبيعية واآلخر يرى أنها نتاج الفعل اإلنساني. وقد آثرت جتميع ما قالته الطالبتان في سياق معني وبشكل يتالءم مع منوذج «توملن» في اجلدل العلمي ليسهل علينا تقييم نوعية هذه احلجج.
النوع الثاني :حجج قوية
الطالبة نسرين :الظاهرة تسير بشكل طبيعي ،ومناخ األرض يشهد طبيعي ًا فترات ساخنة وفترات باردة( .اإلدعاء) بدليل أن األرض شهدت عصر ًا جليدي ًا ثم أخذت درجات احلرارة بعد ذلك باالرتفاع .وتضيف أيض ًا بأن العام 1992كان عاما بارد ًا بالنسبة ملا قبله وبعده ،وأنا قرأت على موقع ( )BBCأن العام 2007كان من
أشد األعوام برودة بعد العام ،1992بينما في العام 2005كانت درجات احلرارة مرتفعة ،ثم انخفضت في العام .2007السؤال هنا ملاذا ترتفع احلرارة ومن ثم تنخفض (البيانات) على الرغم من أن كمية اإلشعاع الشمسي الداخل إلى األرض هي نفسها واألرض لم تغير موضعها والشمس في مكانها؟ (التبرير) ثم أضافت الطالبة أن البراكني تصدر كم ًا هائ ً ال من غاز ثاني أكسيد الكربون أكثر مما تنتجه السيارات والطائرات ،فلماذا نلقي اللوم على اإلنسان وحده؟ (دعائم النظرية). الطالبة عزيزة :إن سبب التغير املناخي راجع إلى االستغالل البشع من قبل اإلنسان ملوارد البيئة ،وكذلك ألنشطته الصناعية التي تتسبب في زيادة نسبة ثاني أكسيد الكربون في اجلو (اإلدعاء) .وحسب التقارير العلمية هذه النسبة، بدأت في الزيادة منذ الثورة الصناعية حتى وقتنا احلالي ...أمريكا وحدها تنتج حوالي 24%من مجموع ما ينتجه سكان األرض جميعاً ،وإذا ما استمر اإلنسان في االعتماد على الصناعة ستصل النسبة إلى 40مليار طن سنوي ًا (البيانات) ،ثم أضافت أن غاز ثاني أكسيد الكربون من أهم الغازات احلابسة للحرارة (التبرير)، وأشارت أيض ًا إلى أن احمليطات والنباتات متتص غاز ثاني أكسيد الكربون قدر حاجتها (دعائم النظرية)، لكنها بسبب الزيادة املطّ ردة أصبحت عاجزة عن امتصاص هذا الكم الهائل (التعديالت). إن هذه احلجج التي ساقتها الطالبتان تختلف بشكل كلي عن تلك التي طرحتاها في بداية التجربة ,سواء من حيث البيانات أو التبريرات املنطقية. وإذ نعزو هذا التحسن في نوعية احلجج إلى النشاطات االستقصائية التي خاضها املشاركون ،وإلى مصادر البيانات املتعددة التي استخدموها في سياق عملية البحث والتحري العلمي لإلجابة عن السؤال البحثي املتعلق بطبيعة الظاهرة .لقد انبثق عن هذا االنقسام نشوء نوع من التنافس بني النظريتني ,فبدا الطلبة منشغلني بحماسة في املمارسة البحثية وفي جتميع البيانات والدالئل التي تعزز مصداقية نظريتهم ،ويفتشون باملقابل عن دالئل متكنهم من دحض النظرية األخرى وتكذيبها.
تكتب إحدى الطالبات في تأمالتها« :لكي أكون قادرة على احلوار واجلدل العلمي ،فإن ذلك يستدعي مني البحث والتفتيش عن املعلومات والتأكد من مصداقيتها». «عندما كنت أبحث عن شيء ما يتعلق وكتبت طالبة أخرى : باملوضوع ،أبحث عنه بدافع من داخلي».
ما كان الفتا أثناء عملية البحث عن األدلة ,هو تغير مواقف بعض الطلبة من نظرياتهم التي كانوا يتبنونها في ضوء ما كان يستجد معهم من بيانات .فالطالبة نسرين مث ً ال كانت تدعم فكرة أن الظاهرة فعل إنساني، ومن ثم تغيرت نظرتها إلى ذلك والعكس صحيح بالنسبة للطالبة عزيزة (قارن موقف الطالبات في احلجج الضعيفة والقوية) .ونبرر هذا التغير في املواقف إلى أن الطالبات ضمن النموذج املفاهيمي الذي يشتغلن عليه أو النظرية التي يبحثن فيها ,قد ووجهن خالل عملية التحري العلمي مبعلومات وبيانات تتعارض وتتناقض مع تصوراتهن وتفسيراتهن األولية للقضية .ويبدو أن تلك التناقضات ظلت تتراكم إلى أن وصلت حد اإلشباع ,األمر الذي أفضى إلى هذه الرؤية االنقالبية في املواقف, فاضطررن بذلك إلى استبدال النظريات التي اشتغلن عليها ,لتتبنى كل منهن النظرية النقيضة ،علم ًا أن موقف الطالبات بشكل عام قد انحرف عن كلتا النظريتني عقب االنتهاء من املناقشة النقدية ,حيث تولدت عنها نظرية جديدة احتوت النظريتني معاً .وهذا ما أيدته أيض ًا نتائج االستبانة النهائية التي سنتطرق لها الحقاً.
يقول كوون في كتابه الشهير بنية الثورات العلمية ,إن العلم يتقدم ويتطور ضمن صيرورة ثورية ,والثورة عادة ما تطيح بالنظام القائم وتستبدل مكانه نظام ًا آخر جديد ًا على نحو دراماتيكي .ويقصد كوون بالنظام؛ النموذج التفسيري ،أو كما عبر عنه بـ»البراديغم» ,ويرى من جانبه أن االنتقال من براديغم إلى آخر ال يتأتي إال عبر جملة النتائج التي تناقض النظرية أو النموذج أو التفسير السائد واملتفق عليه ,بالتالي وجب جتاوزه والتخلي عنه لصالح منوذج تفسيري آخر يكون مبثابة بداية
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
السؤال هنا ,كيف لنا أن نقرأ صيرورة هذا التحول والتنقل في مواقف الطلبة من النظريات التي تبنوها؟ وهل له ما يبرره من الناحية العلمية؟ وإن كان ,فهل هنالك من شواهد عبر تاريخ العلم تدعم ذلك.
املهم فيما طرح أن العلماء ال يقبلون النظريات العلمية كحلول للمشكالت مبعزل عن إخضاعها للبحث والتفنيد واملناقشة النقدية ,وال يجادلون في القضايا العلمية من منظور عاطفي .ونرى أن من الضروري وضع الطلبة في مثل هذه السياقات ,فهي تتيح لهم فرصة مناقشة النظريات العلمية ,ويتعلمون في إطار هذه املناقشات كيفية تنسيق األدلة وتوظيفها لبناء تفسيرات علمية مسندة بدالئل واستدالالت من وحي ممارساتهم البحثية .ويبدو ذلك جلي ًا خالل احلجج القوية التي عرضناها سابقاً .فكال الطالبتني تدافعان عن نظريتيهما ببيانات ودالئل وليس دفاع ًا عاطفي ًا كما هو حال حججهن الضعيفة التي ظهرت سابقاً .لكن في املقابل إذا أمعنا النظر جيد ًا في احلجج القوية وحاولنا عمل مقارنة مع منوذج «توملن في اجلدل العلمي» سنجد أن هنالك عنصر ًا مفقود ًا من جملة العناصر التي اقترحها للحجة القوية وهو «دحض مزاعم اإلدعاء» .وهذا يشير إلى أن الطالبات متحيزات كل لنظريتها ,فهن لم ينتقدن نظرياتهن ولم يظهرن الظروف التي يعمل فيها اإلدعاء بشكل صحيح ،وتلك التي يكون فيها باطالً .ونعتقد أن الطالبات قد تعمدن إخفاءه أثناء اجلدل .وبتقديرنا أن هذا شيء مبرر للطالبات .فتاريخ العلم يثبت أن العلماء أيض ًا كانوا ينحازون لنظرياتهم وينتصرون إلدعاءاتهم على الرغم من وجود حجج علمية تدحض تلك االدعاءات .ولنأخذ نظرية الفلوجستون كمثال ,فقد ظل أنصار هذه النظرية متمسكني بها دون براهني أو أدلة ,ومنهم بريستيلي الذي ظل يعتقد بهذه النظرية حتى وافته املنية ,على الرغم من كفاية األدلة العلمية التي قدمها الفوازييه ،والتي أثبت من خاللها أن ال وجود لشيء أسمه الفلوجستون ,وتوصل من خالل جتاربه إلى نظرية جديدة قدم فيها تفسير ًا منطقي ًا لعملية االحتراق ,حيث اعتبر األخير ناجت ًا عن احتاد كيميائي بني املادة احملترقة وغاز األكسجني (.)Thomas Kwon, 1978: 92
37
ملف الثقافة العلمية
إن ما عبرت عنه الطالبات يشير في الواقع إلى األهمية التي يحظى بها االستقصاء العلمي ,ليس كطريقة في التعلم فحسب ،بل أيض ًا كأسلوب لصياغة احلجة العلمية والبرهان املنطقي .فمن خاللها يستطيع الطلبة بناء وتطوير معارفهم الذاتية وتفسيراتهم اخلاصة التي مييلون من إطارها إلى نقد املعارف والنظريات العلمية وتقييمها مهما عال شأنها ,ويتمكنون في ضوء ما استقصوه من بيانات ومعلومات من اتخاذ قرارات وحتديد مواقف قائمة على االقتناع احلر بها .بعكس الطالب الذين يدرسون مادة العلوم بشكل سردي بعيد عن منطق العمليات ,حيث مييلون إلى االستسالم والتسليم باملعارف والقوانني والنظريات ،ثقة منهم في سلطة معلمهم وفي الكتاب املدرسي ،وليس بسبب البرهان واحلجة املقنعة (.)Thomas Kwon, 1978: 119
ملنظور معرفي أو براديغم جديد .ولنأخذ طبيعة الضوء كمثال .ففي إطار النموذج املفاهيمي أو البراديغم الذي عمل فيه نيوتن كان ينظر إلى الضوء على أنه ذو طبيعة جسيمية ,يتكون من جسيمات متناهية في الصغر ,حيث اعتمد في منوذجه التفسيري على حقيقتني ,األولى أن الضوء يسير في خطوط مستقيمة ,والثانية أن الضوء يتحلل عند مروره في منشور زجاجي إلى ألوان عدة يتألف كل منها من نوع معني من اجلسيمات ،وهي تسير بسرعات مختلفة .لكن براديغم نيوتن عجز عن تفسير ظاهرة احليود واالنتشار للضوء ,ما سرع بظهور منوذج تفسيري آخر استطاع تعليل هاتني اخلاصيتني ومتثل في النظرية املوجية على يد كريستيان هوينغز .فإذا سلطنا مصدر ًا ضوئي ًا على حاجز به ثقب ،فإن بقعة ضوئية ستتكون خلف احلاجز ويزداد اتساع هذه البقعة الضوئية كلما ابتعدنا عن الثقب .وهذا يناقض احلقيقة األولى التي اعتمدها نيوتن في دعمه للنظرية اجلسمية ,لكن نيوتن كان يرد بأن الضوء لو كان موجي ًا النعطف عند الظالل كما ينعطف الصوت عند احلواف ويصبح مسموعاً .جاءت بعد ذلك جتارب أكثر دقة تثبت انعطاف الضوء ،وأنه ميتلك خواص موجية .ظل هذان النموذجان عاجزين عن تفسير سلوك الضوء ،وأثقلت التناقضات كاهل النموذجني ,إال أن جتارب أينشتاين تلغ األخيرة قد أعادة احلياة مرة أخرى إلى النظرية اجلسيمية ،لكنها لم ِ النظرية املوجية أيضاً ,وقدم منوذج تفسيري أثبت خالله أن الضوء جسيمات منفصلة تدعى «فوتونات» ،وهي ذات طبيعة موجية وأدى اكتشافه هذا إلى والدة حقل علمي جديد عرف مبيكانيكا الكم ،الذي يصف طبيعة تصرفات اجلسيمات األساسية في حياتنا.
مواقف نتجت أثناء فعل اجلدل 38
ثمة عالقة جدلية قائمة بني العلم والدين ,وهذه اجلدلية بينهما ليست بالشيء اجلديد والطارئ ،بل هي قائمة منذ أمد بعيد .ولطاملا كانت عالقة العلم بالدين موضع نقاش ونزاع بني العلماء والفالسفة ورجال الدين .إن هذه اجلدلية قد انسحبت إلى جلسات احلوار والنقاش خالل هذه التجربة ,وكانت تأتي في سياق عفوي ودون تخطيط مسبق. سأورد هنا موقفني متباينني أخذا من شريط الفيديو ويظهر فيهما تفاع ً ال مختلف ًا للطلبة واملعلمني مع املعرفة الدينية التي كانت تأتي بها الطالبة دعاء ,وحتاول تسويقها كحجج ودالئل علمية تثبت فيها أن التغيرات املناخية احلاصلة قد تنبأ بها القرآن والسنة من قبل.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
املوقف األول:
دعاء“ :قال (ص) :ال تقوم الساعة حتى تعود بالد العرب مروج ًا وأنهاراً” .وقد فسرت الطالبة احلديث وربطته بالتغير املناخي من خالل إدعائها أن جزيرة العرب منطقة صحراوية غنية بالنفط ,وأن هذا النفط أصله مادة عضوية تكونت بفعل حتلل الغابات. وافترضت الطالبة أن التغيرات املناخية اجلارية ما هي إال إجراء متهيدي ألن تعود هذه املناطق غابات خضراء كما كانت. لقد خلق هذا احلديث والتفسير سجا ً ال بني الطالبات وإحدى املعلمات التي أبدت اعتراضها على محاولة ربط املعرفة العلمية باملعرفة الدينية. أفضل أن أفصل الدين املعلمة رندة“ :عند احلديث عن األشياء العلمية ّ عنها ،ألن العلم فعل إنساني وال أذهب للتدليل عليه بآيات من القرآن مثالً ،كما أنني أشعر أحيان ًا بأن تلك اآليات هي فوق مستوى اإلدراك والتفسير العقلي”. “أنا ال أستطيع أن أفصل العلم عن الدين ،وأرى أن العلم عزيزة : مكمل للدين”. “أنا أتفق مع عزيزة ،خصوص ًا وأن كثير ًا من القضايا كفا : العلمية التي اكتشفت حديث ًا قد وردت في القرآن من قبل”. إنني أتفهم ما ادعته املعلمة من أن العلم هو فعل إنساني قابل للتغير والتبديل ,لكنني في املقابل أرى أن الدين كممارسة يعد أيض ًا فع ً ال إنسانياً ,لكن ما مييز أحدهما عن اآلخر هو في الكيفية التي يتم بها الوصول إلى املعرفة العلمية .فلكل منهما منهجه اخلاص ,الذي مييزه عن اآلخر ,فالعلم مث ً ال يخضع الختبارات التجريب والتكذيب وال شيء فيه محصن ًا ويتسم بالقداسة .كما يشترط فيه أيض ًا الثبات املنطقي الداخلي .فتفسيراته يجب أن حتظى بقبول مختلف فروع العلم األخرى. وعلى عكس ذلك يكون الدين ,فهو غير قابل للتجريب والتكذيب، وال تخضع نصوصه املقدسة ملنطق السؤال العلمي“ ,فالدين مبني على أساس اإلميان املطلق الذي ال تساؤل فيه” على حد تعبير لويس وولبرت (.)Lewis wolpert, 1993: 74
املوقف الثاني:
حاولت الطالبة دعاء مرة أخرى خالل اجلدل العلمي االستعانة بآية من القرآن الكرمي كدليل على تورط اإلنسان في الظاهرة موضع البحث, دعاء :قال تعالى «ولنذيقنهم من العذاب األدنى دون العذاب األكبر لعلهم يرجعون) .وقد ادعت الطالبة من خالل تفسيرها لهذه اآلية ,أن ظاهرة التغير املناخي مبا حتمله من تلوث وغالء وبالء إمنا هي إنذار من الله ,ونوع من العذاب األدنى .لكن زميلتيها كفا وعزيزة ملا تذهبا هذه املرة في تأييدها .وإذ نعزو هذا التغير في املواقف إلى إدراك الطالبات لطبيعة املعرفة العلمية ومدى قابليتها للتشكيك والطعن والتغيير بعكس العقائد الدينية الراسخة ,فهي ثابتة ال تنمو ,ألنها ليست إشكالية, بعكس العلم الذي يرتهن منوه وتقدمه على مستوى الزيادة في رهافة إشكالياته وعمقها. «العلم قابل للتغير والتبديل ،وال يجوز أن نحكم على كفا : األشياء بهذه الطريقة ،لنفترض أن ظاهرة االحتباس عبارة عن وهم وخيال ،بوصفك هذا سيكون القرآن على خطأ وهذا مستحيل». عيسى « :أنا مسيحي وأحترم الدين اإلسالمي ،لكنني أفضل إبعاد الدين؛ سواء املسيحية أم اإلسالم عن األمور العلمية ألنها تتغير بعكس الدين . ...أنا أستطيع أن أرجع إلى الكتاب املقدس وأجد أدلة على أمور علمية ،لكن ما الفائدة إذا طرحتها كأدلة على أناس ليسوا مسيحيني أو مدينني». عزيزة« :أعتقد أن تفسير اآلية بهذا الشكل وربطها باالحتباس احلراري غير منطقي ...لنفترض أننا نتناقش مع عالم غير مسلم حول قضية االحتباس احلراري ,أعتقد أن من الصعب إقناعه بوجهة نظرنا إذا قدمنا أدلة من الدين الذي هو ال يؤمن به ,وأرى أن من األفضل أن نناقشه باألسلوب الذي يفهم وهو منطق العلم. يرى بعض العلماء والباحثني أن ك ً ال من العلم والدين ينتظمان ضمن منهجني متباينني ال مجال ملقارنة أو مقايسة أحدهما باألخر ,فلكل منهما حقله اخلاص ,فإذا كان مجال العلم هو الطبيعة وهدفه فيها إدراك وتعليل ظواهرها وكذا حتليل أطرها عبر احلس والعقل ،فإن مجال الدين هو الله وهدفه التقرب إليه عبر النصوص املقدسة التي نزل بها الوحي .في سياق هذا التصور ،فإن العلم والدين يتمظهران في شكلني مستقلني من أشكال احلياة ,حياة فيزيائية قوامها العقل اإلنساني وأخرى نفسية ال يتسع لها الوجود الفيزيائي وهي حياة املشاعر والتأمل الروحي واالبتهال إلى الله. طاملا أن العلم والدين بهذا التباين املنهجي؛ سواء على صعيد اللغة أم األهداف والطرائق ,إذن فليس هنالك أي تناقض بينهما ،وإن كان فهو تناقض ظاهري سطحي راجع إلى االختالف في طبيعة كل منهما ,فإذا كانت «العقائد الدينية هي محاوالت لوضع التجربة الدينية البشرية في صيغة محددة ,فإن العقائد العلمية هي محاوالت لوضع احلقائق التي تكتشفها احلواس في قوانني مقبولة» كما يقول ( .)whiteheadويرى أينشتاين من جانبه أنه ال ميكن أن يكون هنالك تضاد بني الدين والعلم, فالعلم بال دين أعرج ،والدين بال علم أعمى” .فعالقة العلم مع الدين هي عالقة تبادلية يوجه فيها الدين العلم نحو األخالق واجلمال ,فيما مينع العلم الدين من النزوع نحو عالم البدع واألساطير والوثنية.
حتليل نتائج االستبانة
-يقوم العلماء بإنتاج املعرفة العلمية من مبادئ ,وقوانني,ونظريات. وبعض هذه املعارف موجود في الكتب الدراسية .ترى كيف يقوم العلماء بإنتاج مثل هذه املعارف العلمية؟ متحورت إجابات الطلبة عن هذا السؤال حول دور املالحظة والتجربة كطرائق يتوصل من خاللها العلماء إلى املعارف العلمية .فمنهم من قال إن التجربة هي الطريق الصحيح وآخرون ادعوا بأن املعارف يتم احلصول عليها عن طريق املشاهدات اإلمبريقية ,فيما ذهب طرف ثالث نحو القول إن كثير ًا من املعارف مت اكتشافها مبحض الصدفة .فكتبت الطالبة روان التالي: «يقوم العلماء بإنتاج هذه املعارف عن طريق إجراء التجارب واالختبارات على املوضوع الذي يتبناه العالم ،وبعضها يتم اكتشافه عن طريق الصدفة ودون تخطيط ,فنيوتن عندما اكتشف اجلاذبية كان جالس ًا حتت شجرة».
صحيح أن كثير من املعارف العلمية التي توصل إليها العلماء هي معارف إمبريقية حسية ,لكن ذلك ال يعني أن نغالي باحلس ونغفل دور العقل في الوصول إليها ,فاملاليني قبل نيوتن شاهدوا سقوط التفاحة ,لكنه وحده من استطاع ببصره وبصيرته النافذة إدراك معنى السقوط .لذا،
متاثلت إجابات الطلبة حول هذا السؤال ,حيث أجمعوا على أن املعرفة العلمية هي متغيرة وليست حقائق مطلقة ,وقد دلل بعض الطلبة على ذلك بأمثلة من تاريخ العلم .هذا التاريخ الذي يتم إغفاله في كثير من األحيان أثناء تدريسنا للعلوم .كما أن هذه اإلجابات تعكس حالة مغايرة لتلك التي حملتها الطالبات إزاء املعرفة العلمية في بدايات هذه التجربة ،حيث عبرت الطالبة روان عن التالي« :املعرفة العلمية متغيرة وغير ثابتة ,فالعالم الذي قال إن األرض مركز الكون مت تعديل نظريته، وقيل أن الشمس هي مركز الكون .فالعلماء بشر مثلنا يصيبون أحيان ًا ويخطئون أحيانا أخرى .بالتالي ،يجب علينا عدم تصديق كل ما يقولونه» .كما أشارت الطالبة تهاني إلى أن املعارف العلمية يتم إنتاجها وفق ظروف خاصة ,وال تكمن علميتها إال مبقدار انطباقها على الواقع أو قريب مما هو عليه بالفعل «العلماء يتوصلون إلى املعرفة بناء على مواقف وحاالت وظروف معينة ,فيمكن لهذه الظروف أن تتغير وتتغير معها تلك املعارف». في سياق الفعل البيداغوجي ال بد لنا كمعلمي علوم من تبيان أصول املعارف العلمية وتقدميها في سياق حبكة قصصية تظهر تطوراتها التاريخية ,وهذا بالضرورة سيدفع الطلبة نحو رفض تقديس العلم واعتبار املعرفة صيرورة دائمة احلركة ولها تاريخ ,هذا التاريخ ليس خط ًا واص ً ال بني نقطتني ,إنه تاريخ التواءات وتعرجات ثورات وصراعات, انتصارات وهزائم ,أخطاء وتصويبات .فتاريخ العلم هو عبارة عن أفكار تصحح أخطاءها باستمرار كما يقول بوبر .لذا جند من الضروري أن نولي تاريخ املعرفة اهتمام ًا خاصاً ,ألنه من جانب قد يشكل مصدر إلهام بالنسبة للطلبة في اكتشاف أشياء جديدة قد ال تكون ذات صلة مبحتوى الدرس ومضمونه من جانب ،ومن جانب آخر يتعرف الطلبة على أصول املعارف العلمية والسياق الذي نشأت وتطورت فيه ،والذي يعكس في الوقت ذاته مسيرة تطور الفكر اإلنساني بكليته.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
وعبرت دعاء« :عن طريق املشاهدة والتأمل والتفكير في الظواهر الطبيعية». وأجابت نسرين« :العلماء ينتجون املعرفة من خالل مالحظاتهم الدقيقة وقدرتهم على فهم وتفسير هذه املالحظات».
هل تعتقد أن املعرفة العلمية املوجودة في الكتب املدرسية قد تتغير في املستقبل؟ وضح ذلك.
39
ملف الثقافة العلمية
مت تقدمي هذه االستبانة للطلبة قبيل إجراء املناقشة النهائية التي متحورت حول انطباعاتهم املتعلقة بطبية العلم وموضوعية املعرفة العلمية ،وذلك بهدف إعادة اختبار دقة النتائج وواقعيتها التي توصلت لها الدراسة، علما أن هنالك بعض البنود التي وردت في االستبانة لم يتم التطرق لها خالل هذه التجربة.
يقول كانط «املقوالت العقلية دون معطيات حسية جوفاء ،واملعطيات احلسية دون مقوالت عقلية عمياء” .بالتالي ،فإن كل معرفة أو نظرية علمية تتضمن أصو ً ال عقلية وجتريبية ,فال تكون التجربة ممكنة احلدوث ما لم يكن هنالك عقل قادر على تنظم معطيات احلس .وحتى هذا االجتاه الذي يفترض أن املعرفة عقالنية جتريبية في آن معاً ,بات قاصر ًا وبحاجة إلى إعادة تأهيل ,السيما بعد أن شهد العلم حتوالت أبستمولوجية عميقة ,انتقل فيها الواقع املادي من اإلطار املاكروسكوبي إلى امليكروسكوبي ,ومن العالم املجرد واحملسوس إلى عالم الدقائق املعقد واملتناهي الصغر ,بالتالي أصبحنا نقف أمام عوالم غير مباشرة يصعب وصفها ,وأكثر ما يستطيع العلم تقدميه في هذا اجلانب هو بناء مناذج تقريبية لتسهل عملية الفهم والتفسير ,كنموذج نيلز بور الذري، أو منوذج واطسون وكريك في بناء جزيء ( ،)DNAومنوذج ذرة البنزين .لذلك يشهد العلم نزوع ًا نحو جتاوز املسار اخلطي املتبع لعملية اإلنتاج املعرفي ,الذي يبدأ باملالحظة ومير بصياغة الفروض والتجربة، وصو ً ال إلى التفسير والنتيجة ،ليأخذ اإللهام والتأمل واخليال واحلدس موقعه ضمن هذا املسار.
40
افرض/ي أنك ذهبت إلى بائع زهور ,ورأيت على الرف عبوة زجاجية مكتوب ًا عليها “سائل يجعل نباتاتك تنمو بسرعة كبيرة -جربه اآلن!”. كونك كنت زرعت نباتات من قبل ,بالتالي هل تشك باالدعاء املكتوب. فكر/ي بتجربة متكنك من فحص هذا االدعاء.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
غالبية الطالبات شككن في صحة هذا اإلدعاء واجتهن في إجاباتهن نحو توظيف التفكير العلمي قبل إصدار احلكم واتخاذ القرار ,ولعل األنشطة التي نفذت خالل هذه التجربة قد ساهمت بشكل كبير في حتفيز النظرة الناقدة لدى الطلبة إزاء ما يقرؤون ويسمعون ،وأن يكونوا أصحاب رؤية علمية حني يتعلق األمر باتخاذ قرار حيال قضية ما, السيما تلك التي تأتي حتت عناوين وشعارات رنانة غالب ًا ما متارس سلطتها على عقولنا ،وتذهب بتفكيرنا نحو السذاجة والفضول .لقد اقترحت الطالبات مجموعة من اإلجراءات التي تشير إلى ا ّتباعهن خطوات البحث العلمي في تفنيد هذه املزاعم ،والتأكد من صدقها. فكتبت إحداهن التالي: “مبا أنه بائع زهور ,أحضر نباتني من نوع الزهور نفسه ,واترك أحدهما على حاله بشكل طبيعي وأجرب السائل على النبات اآلخر ،وأالحظ الفرق ،وبهذه الطريقة أثبت صحة هذا اإلدعاء”. إن هذا النمط من التفكير مياثل إلى حد ما تفكير العلماء وإجراءاتهم التي يتبعونها في جتاربهم ,كتجربة كلود برنارد مع األرانب ولويس باستور ودودة القز ،وجتارب مندل على نبات البازيالء ,الذي مكنهم في النهاية من التحقق من صدق القضايا العلمية التي يشتغلون عليها ،واخلروج من جتاربهم بنتائج أكثر دقة وموضوعية.
هل يوجد فرق بني النظرية العلمية والقانون العلمي؟ وضح ذلك من خالل أمثلة. لم تتطرق الطالبات إلى فروقات جوهرية بني النظرية العلمية والقانون العلمي؛ سواء من حيث الثبات والتطبيق أم القدرة على التنبؤ والقابلية للتعميم .وقد حصرن إجاباتهن في وظيفة النظرية من حيث قدرتها على تفسير الظواهر الطبيعية ،وأعطني أمثلة على نظريات علمية من قبيل نظرية دالتون الذرية االنفجار العظيم ،ونظرية كوبرنيكوس .فريق آخر من الطالبات انطوت إجاباتهن على فهم ورؤية خاطئة للقانون العلمي, فنظرن له على أنه مجرد رموز وعالمات وحروف يستخدمونها حلل مسألة ما .وليست القوانني من حيث ارتباطها بالواقع وقدرتها على متثيله .فمث ً ال كتبت إحدى الطالبات أن “القانون العلمي إما رموز وإما إشارات وإما حروف (القاعدة) التي نستخدمها للوصول إلى حل معني” .وأضافت أخرى “إن القانون العلمي عبارة رياضية نستخدمها حلل مسألة ما”. طالبتان فقط من مجموع الطالبات حاولن االقتراب من مفهوم النظرية والقانون ،وأحملن إلى بعض الفروقات التي تضمن بعض املغالطات التي نرغب في تبيانها .فكتبت الطالبة عزيزة مث ً ال أن “النظرية عبارة عن تفسير ملجموعة من املالحظات والظواهر الطبيعية التي حتدث من حولنا في ظرف معني ،ومحاولة تفسيرها على أساس علمي .أما القانون
فهو عبارة عن ربط ملجموعة من املفاهيم للوصل إلى تطبيق لها ,مثل قانون السرعة ,حيث نحتاج حلساب السرعة إلى املسافة والزمن ،وهو قابل للتطبيق على أرض الواقع ،من خالل جتربة تثبت دقته” .وعلقت الطالبة كفا في إجابتها أيض ًا على أن “النظرية العلمية تفسر لنا الظواهر التي نشاهدها وتقدم لنا حلو ً ال للمشاكل ،أما القانون فهو دليل وبرهان من الواقع. نلمس في إجابات الطالبتني إشارات إلى أن القانون العلمي ينبثق من الواقع واخلبرة وتؤيده نتائج التجربة ,على عكس ما تطرقن به فيما يخص النظرية ,حيث ربطتا نشوء النظرية العلمية باملالحظة واملشاهدة اإلمبريقية .وهذا صحيح في جانب منه ,لكن النظرية من زاوية أخرى تعتمد بدرجة كبيرة على اخليال واحلدس واإللهام إلى جانب معطيات الواقع وتفاصيله .فكوبرنيكوس مث ً ال لم َير األرض وهي تدور حول الشمس ,واعتمد بشكل أساسي على عقله الذي قهر به كل احلواس التي حاولت تضليله وإبعاده عن فكرة مركزية الشمس ودوران األرض حولها (الكاللدة وآخرون .)67 :أما اجلانب األقوى يتعلق مبا طرحته الطالبة كفا ,في كون النظريات العلمية تقدم لن ًا حلوال للمشكالت. فالعلم أساس ًا مبني على املشكالت وعلى مبدأ السببية .مبعنى أن لكل مشكلة سبباً ,وفي سياق عمليات البحث والتحري عن تلك األسباب يتم ابتداع احللول املرحلية والتبريرات املنطقية التي يتم تأطيرها على شكل قوانني ونظريات تخضع بالضرورة لعمليات فحص وتفنيد ,نقد ومحاججة عقالنية من قبل العلماء قبل اعتمادها ,وذلك لتحديد قوتها التفسيرية ومدى اتساقها واتفاقها مع النظريات األخرى ,فالنظريات العلمية ما هي إال حلول مؤقتة ومبدئية لتلك املشكالت (popper, .)1997: 189
ما هو الفرق بني املعرفة العلمية والرأي العلمي؟ وضح ذلك. استطاعت الطالبات بشكل عام التمييز بني املعرفة العلمية والرأي العلمي ,حيث أجمعن على أن املعرفة العلمية هي إجابات مقنعة عن األسئلة التي يواجهها العلماء ,ويتم التأكد منها خالل عمليات البحث واالستقصاء العلمي .كما أشارت بعض الطالبات إلى أن املعرفة العلمية أكثر صدق ًا وثبات ًا وقابلية للتعميم من الرأي العلمي .وذلك ألنها تستند إلى أدلة وبراهني متفق عليها من قبل جمهور العلماء ,بعكس الرأي
الذي ال ميثل إال صاحبه .وللتدليل على ذلك أقتبس بعض ًا من إجابات الطالبات. دعاء« :املعرفة العلمية ناجتة عن أسئلة العلماء ،ويتم التحقق منها عن طريق عمليات البحث واالستقصاء ،وبالرجوع إلى مصادر متنوعة وهي مقنعة .أما الرأي العلمي ،فهو مجرد قول يقتنع به صاحبه دون أن يقتنع به اآلخرون». تهاني « :الرأي العلمي ميكن أن يكون صائب ًا أو خاطئاً ،أما املعرفة فهي مكتسبة من دالئل وبراهني». أفنان « :املعرفة العلمية شيء مشترك بني اآلخرين ،وتكون ثابتة بشكل مؤقت ,أما الرأي فيقوله العالم ويعبر فيه عن وجهة نظره دون أن يتقيد بنظرية شخص آخر. اتفق العلماء على أن األرض تشهد ارتفاع ًا في درجات احلرارة ,لكنهم ما زالوا مختلفني فيما بينهم حول سبب هذا االرتفاع .فالبعض يعتقد أن الظاهرة نتاج الفعل اإلنساني وأنشطته الصناعية املختلفة ,والبعض اآلخر يعتقد أنها نتاج لدورة األرض الطبيعية.
أجمع الطلبة على أن ظاهرة االحترار العاملي هي قضية تسبب فيها اإلنسان ,لكنهم في الوقت ذاته لم يستبعدوا دور الطبيعة في ذلك، حيث عبرت بعض الطالبات عن أن األرض شهدت في مراحل سابقة فترات باردة وأخرى ساخنة تبع ًا لدورتها الطبيعية ,إال أن الفعل اإلنساني قد فاقم هذه الظاهرة وأخرجها عن سياقها الطبيعي. هل أنت متفاجئ من اختالف العلماء في حتديد سبب ظاهرة االحتباس احلراري؟ فمن املعروف أن جميع العلماء في هذا املجال يستخدمون البيانات نفسها لتفسير سبب ظهورها .كيف ميكن أن يستخدم العلماء البيانات نفسها ومع ذلك يتوصلون إلى نتائج مختلفة؟ وضح ذلك.
خامتة وتوصيات لقد وجدنا من خالل هذا البحث اإلجرائي ،وعبر ما تطرقنا له من نتائج في هذه التجربة ،أن تغير ًا قد طرأ على معتقدات املشاركني فيما يتعلق بطبيعة املعرفة العلمية ,فبعد أن كان الطلبة ينظرون إلى األخيرة على أنها معرفة ثابتة ومحصنة مبا يكفي ضد النقد والشك ,أصبحوا ميوضعونها في إطار رؤية حتليلية ونقدية مكنتهم من إدراك مدى قابليتها للتغير والتبديل من جانب ،وأنها ليست منعزلة عن املصالح الذاتية والسياسية
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
متايزت إجابات الطلبة عن هذا السؤال ,حيث عبر فريق من الطلبة عن عدم تفاجئهم من اختالف العلماء في حتديد سبب الظاهرة ,مبررين ذلك أن لكل عالم طريقته اخلاصة في التفكير والبحث ،وكذلك لهم أدواتهم املتمايزة في الدقة ,التي متكنهم من الوصول إلى املعلومات التي في ضوئها يتم حتديد النتائج ،حيث كتبت إحدى الطالبات في إجابتها “أنا لست متفاجئة ,ألن كل شخص له بيئته التي يعمل فيها وطرائقه اخلاصة في التفكير التي تعطيه أدلته وبراهينه التي تثبت صحة كالمه”. فريق آخر من الطالبات أبدى عدم رضاه عن هذا االختالف ،وشكك في عدم قدرة العلماء على الوصول إلى معلومات موضوعية دقيقة تظهر سبب هذه القضية ،السيما بعد هذا التطور الكبير الذي يشهده العلم ,فما هو موضوعي يجب أن يكون مشترك ًا بني جميع العلماء، حيث ادعت الطالبة عزيزة “أن العلماء يستخدمون معدات تكنولوجية حساسة ودقيقة ،فما الذي مينعهم من الوصول إلى معلومات مشتركة ...بتقديري أن العلماء في الدول الصناعية رمبا يبنون قراراتهم بناء على السياسة واالقتصاد ،فيأخذون جانب ًا معين ًا من البيانات ويتركون ما يتعارض مع مصاحلهم ومصالح الدولة”.
“أصبح لدي ما يعرف بالشك في بعض األمور التي عزيزة : ال اقتنع بصحتها ،وأحاول دائم ًا التوصل إلى رأي منطقي بالنسبة لي كما أكتشف أيض ًا أن كل شخص لديه معرفة في داخله”. وأضافت الطالبة :إن احلوار طريقة رائعة في التدريس ،وهو ما ينقصنا في املدرسة ،وقد تعلمت من خالله طرق ًا جديدة في التفكير ،واألهم من هذا وذاك أصبح لدي القدرة على إيصال وجهة نظري إلى اآلخرين بطرق سليمة حتقق مبتغاي. “كانت املعرفة بالنسبة لي هي املوجودة في الكتب, روان : لكن في هذا املشروع أصبحت نظرتي للمعرفة مختلفة ،وأبحث في مراجع مختلفة مثل اإلنترنت كما أصبحت أيض ًا أبحث عن حقائق األمور واألشياء التي أشك بها”. “كنت أعتقد أن املعرفة العلمية ثابتة وال ميكن كفا : التشكيك بها ,أما اآلن فتغيرت هذه الفكرة وأصبحت مقتنعة بأن املعرفة قابلة للتغير والتعديل، ويجب التشكيك بها ،ألن الشك يجلب معه اليقني. ومن األشياء التي أعجبتني أنه عندما كنت أبحث عن شيء ما يتعلق باملوضوع ،كنت أبحث عنه بدافع من داخلي وليس من أجل العالمات”. “تعلمت من هذه التجربة أشياء كثيرة ،منها البحث دعاء : عن املعلومات ،وتوجيه الشك نحو األشياء التي ال نقتنع بها وليس التسليم بها ،وأن تكون املعرفة العلمية في املدرسة عن طريق اجلدل واحلوار وليس عن طريق التلقني ألن هذه الطريقة متكننا من التمسك بآرائنا والوثوق بها إذا كانت صحيحة ،وفي الوقت نفسه احترام آراء اآلخرين عند طرح أفكارهم ومحاولة تغيير مواقفنا إذا اقتنعنا بأنها غير صحيحة”.
41
ملف الثقافة العلمية
ما هو رأيك في هذه القضية؟ وضح إجابتك.
يبدو من خالل ما سجلته الطالبات أنهن تطورن خالل هذه التجربة، وتغيرت كثير من معتقداتهن حول املعرفة ,بحيث أصبح لدى البعض املقدرة على النقد والتشكيك باملعرفة العلمية وربطها باملصلحة واأليديولوجيا .وقد أرجعت الطالبات هذه القدرة إلى حلقات احلوار واجلدل التي كانت تدور في هذه التجربة .وهذه بعض االقتباسات التي كتبتها الطالبات عندما وجهت لهن السؤال التالي“ :ما هي املعتقدات التي كنت حتملها عن املعرفة العلمية وتشعر بأن تغير ًا قد طرأ عليها خالل هذه التجربة؟ وضح ذلك”.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
42
واأليديولوجية من جانب آخر .إن دوافع التغيير هذه جاءت بالدرجة األولى نتيجة للمناخ احلواري الذي أتاح للطالب فرصة التفاعل واملناقشة واحلوار الدائم مع زمالئه املتعلمني ومع املعلمني والباحثني املشاركني في التجربة ,وقد وجدنا في التعلم املبني على احلوار فرصة لالختالف واالعتراض وتعدد اآلراء وليس االتفاق أو اخلروج برؤية موحدة حول املوضوعات التي كانت تطرح .كما أن مشاركة املعلمني الطلبة في احلوار قد ساهمت في كسر الترسيمات التقليدية املتبعة في أغلب مدارسنا, فنوعية اخلطاب بدت مغايرة ملا هو سائد ومألوف وتوفرت فيه مساحة من احلرية تعززت فيها إمكانات الطلبة على استحضار معارفهم السابقة، وتوليد األفكار وطرح التساؤالت التي كانت تثري هذا احلوار وتغنيه. مت توظيف أنواع متعددة من أساليب التعلم خالل هذه التجربة ،واعتمدنا بشكل رئيسي على توظيف منهجية الشك نظر ًا للمعتقدات التي حملها الطلبة إزاء املعرفة العلمية التي تطرقنا إليها سابقاً ,وقد وجدنا أن هذه الطريقة تعزز وتنمي في الطلبة مهارة التفكير العلمي الناقد وتثير دافعيتهم نحو ممارسة عمليات العلوم كالبحث واالستقصاء ,وهذا ينعكس بشكل إيجابي ليس على إدراك الطلبة وفهمهم لطبيعة املعرفة العلمية فحسب, بل ينسحب أيض ًا على استخدامه كطريقة للحياة ,فقد أشارت الطالبة عزيزة إلى أنها جلأت في أكثر من مناسبة الستخدام االستقصاء كطريقة للتأكد من مصداقية بعض األمور ,فذات مرة كما ذكرت الطالبة, وهي تتابع أحد املسلسالت التلفزيونية ،أن بطلة املسلسل قد أصيبت مبرض عضال ,فاضطرت بذلك إلى استخدام اإلنترنت والبحث عن أسباب ومسببات هذا املرض ودرجة خطورته .على هذا النحو يتجاوز االستقصاء العلمي دوره كأسلوب لتنفيذ بعض األنشطة واملواقف الصفية إلى إمكانية استخدامه وتوظيفه ضمن مواقف حياتية حقيقية. لكن منهجية الشك في املقابل تنطوي على محاذير عدة ,فمن وجهة نظرنا ومن خالل معايشتنا لهذه التجربة ,وجدنا أن اإلغراق في استخدام الشك صفي ًا من شأنه أن يعود بنتائج سلبية على الطلبة ,فما ساور الطالبة روان من شك نتيجة حصولها على بيانات متناقضة حول الظاهرة ورفضها االنضمام إلى حلقات اجلدل كان مؤشر ًا على ذلك, لذا ينبغي على املعلم حني يستخدم هذه الطريقة أن يظهر للطلبة أن الشك هو مجرد خطوة في عملية التفكير ويقود إلى معرفة أكثر انضباط ًا وموضوعية .صحيح أن التناقض في املعلومات والبيانات قد يولد حالة من اإلرباك والالاتزان عند الطلبة ,لكننا نرى فيه من زاوية أخرى أمر ًا محمود ًا إذا أمكن ضبطه واستغالله بطريقة بناءة .فقد وجدنا في هذا التناقض حافز ًا قوي ًا وعام ً ال حاسم ًا في تفجير احلوار واجلدل العلمي بني الطلبة ,وعبر الطلبة في كثير من انطباعاتهم التي قدمنا جزء ًا منها عن أنهم يرغبون في تعلم العلوم بهذه الطريقة .لذا يتعني على املعلم الذي يعمد الستخدام اجلدل العلمي صفي ًا ويرغب في استمراره في إطار احلصة أن ال يقيم عالقة تهدئة بني هذه املتناقضات ,ألنها من جانب تشجع الطالب على طرح التساؤالت وفرض الفروض وبناء التفسيرات ,وتفقد في سياقها املعارف قدسيتها وصنميتها وثباتها. «فاجلدل هو القوة الكلية التي ال تقاوم ,والتي ال ميكن ألي شيء أن يقف في وجهها ,مهما اعتبر هذا الشيء نفسه محصن ًا وثابتاً(.هيجل، ،)21 :1985فض ً ال عن أن اجلدل العلمي يزود الطلبة بشيء عن طبيعة العلوم واملعرفة العلمية ،ويعمل على تعميق املستوى املعرفي لدى املعلم
في احملتوى والتخصص. على الرغم من أن هذه التجربة قد عاجلت معظم املعتقدات اخلاطئة عند الطلبة التي مت الكشف عنها خالل اللقاءات األولى ,والتي في إطارها متت صياغة مجموعة األهداف التي سقناها آنفاً ،فإنه كان بإمكاننا الظفر مبزيد من اإلجنازات على صعيد إدراك طبيعة العلوم واملعرفة العلمية, فيما لو كانت القضية التي اشتغلت عليها التجربة قابلة للتجريب واملالحظة املباشرة .ونتيجة لفقدان هذا اجلانب ،فقد أغرقت التجربة من خالل مجموعة األنشطة في التركيز على دور العقل في بناء املعارف وإنتاجها ,كطرح التساؤالت ,واستخالص النتائج ,وبناء احلجج والتفسيرات ,واجلدل العلمي ,واملقارنة بني املعرفة العلمية والرأي الشخصي ...إلخ ،وتلك في مجملها نشاطات تنسب إلى العقل. فيما أغفلت تلك األنشطة اجلانب اإلمبريقي احلسي وعالقته بصيرورة اإلنتاج املعرفي .لذا أعتقد ومن خالل نتائج االستبانة التقييمية األخيرة، أن هنالك مؤشرات ومجموعة من االستدالالت التي ميكن في ضوئها مستقب ً ال بناء جتارب على ظواهر طبيعية أو أنشطة تعليمية تظهر طبيعة العلوم اإلمبريقية والعقالنية في آن معاً. وعلى املستوى الشخصي كباحث ومعلم في الوقت نفسه ,فقد عملت هذه التجربة على إثراء مخزوني املعرفي في مجال التخصص, فمشاركات املعلمني وتدخالتهم على اختالف تخصصاتهم ،وكذلك الباحثني والطلبة ,كانت تخلق جو ًا من التفاعل النشط بني هذه األطراف وبشكل يسمح بتبادل األفكار واخلبرات .كما كانت هذه التدخالت تنزع في كثير من األحيان نحو مناقشة بعض املواقف الصفية وسبل حتسينها وتطويرها ,األمر الذي انعكس بشكل إيجابي على مستوى أدائي الوظيفي .كما أنني أصبحت أكثر إميان ًا ووعي ًا بأهمية البحث اإلجرائي, ليس فقط في تقييم ونقد ممارساتي الصفية وتطويرها فحسب ,بل أيض ًا في حتديد األساليب واإلستراتيجيات التي يرغب الطلبة في التعلم من خاللها ،وكذلك اإلجراءات التي ينبغي أن أقيم بها أداءهم الصفي ,فقد استنتجت من خالل هذا البحث أن أساليب التقييم التقليدية واملتمثلة في االختبارات التحصيلية هي إجراء غير منصف وال يعطي نتائج دقيقة. وأقترح إلى جانب ذلك إجراءات تقييم أخرى ،تأخذ بعني االعتبار قدرتهم على احلوار ،واملناقشة ،ونقد املعرفة. توصيات: < تكرار مثل هذه التجارب مع األخذ بعني االعتبار العمل على ظواهر قابلة للمالحظة والتجريب وإشراك عدد أكبر من املعلمني والطلبة فيها. < متابعة املعلمني والطلبة املشاركني صفياً ،لتحديد أثر املتغيرات التي حتدثها مثل هذه التجارب. < تعميم هذه التجربة وعرض نتائجها عبر الصفحة اإللكترونية ومجلة رؤى تربوية ،وإتاحة املجال للحديث عنها ضمن املؤمترات واأليام الدراسية التي يعقدها املركز. < العمل على تطوير قدرات املعلمني في استخدام اجلدل العلمي وتوظيفه صفياً. < تقدمي مساق خاص يعنى بتدريب املعلمني على مناهج البحث اإلجرائي.
الهامش Establishing the Norms of scientific Argumentation in classrooms ,Drivers &others,p-293.
1
43
املراجع
املراجع باللغة اإلجنليزية: < Abd-El-Khalick, F. (2002, April). The development of conceptions of the nature of scientific knowledge and knowing in the middle and high school years: A cross-sectional study. Paper presented at the annual meeting of the National Association for Research in Science Teaching, New Orleans, LA. < Shirley Simon & OTHERS,(2006 February), Learning to Teach Argumentation Research and development in the science classroom, P-240.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
مشهد من مسرحية «مزرعة احليوانات» لطلبة مدرسة التمثيل في مسرح احلرية في جنني.
ملف الثقافة العلمية
املراجع باللغة العربية: < أوميس ,روالن ( .)2008فلسفة الكوانتم ,ت :مينى اخلولي ,الكويت :سلسلة عالم املعرفة. < بوانكاريه ,هنري ( .)2006قيمة العلم ,بيروت :دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع. < بوبر ,كارل ( .)1986منطق الكشف العلمي ,ت :ماهر عبد القادر ,ط ,1بيروت :دار النهضة. < بوبر ,كارل ( .)1997أسطورة اإلطار ,ت :مينى اخلولي ,ط ,1الكويت :سلسلة عالم املعرفة. < زكريا ,فؤاد ( .)1978التفكير العلمي ,ط ,1الكويت :سلسلة عالم املعرفة. < زيتون ,عايش محمود ( .)2007النظرية البنائية وإستراتيجيات تدريس العلوم ,ط ,1عمان -األردن :دار الشروق للنشر. < شاملز ,آالن ( .)1991نظريات العلم ,الدار البيضاء -املغرب :دار توبقال للنشر. < عبد املنعم ,مجاهد ( .)1985رحلة في أعماق اجلدل العلمي ,ط ,1القاهرة :دار الثقافة للنشر والتوزيع. < عبد الكرمي ,راشد (“ .)2007أثر ما بعد احلداثة على التعليم” ,ورقة مقدمة للقاء اجلمعية السعودية للعلوم التربوية والنفسية ،الرياض. < غاستون ,باشالر ( .)1982الفكر العلمي اجلديد ,ت :عادل العوا ,ط ,2بيروت – لبنان :املؤسسة اجلامعية للدراسات والنشر. < غاستون ,باشالر ( .)2006تكوين مفهوم املمارسة األبستمولوجية ,ت :محمد هشام ,ط ,1أفريقيا الشرق. < الكاللدة ,علي وآخرون ( .)1995الثقافة العلمية ,رام الله ,فلسطني :وزارة التربية والتعليم. < كوون ,توماس ( .)1962بنية الثورات العلمية ,ت :شوقي جالل ,الكويت :سلسلة عالم املعرفة. < مكنيف ,جني ( .)2001ترجمات في مجال البحوث اإلجرائية ,ت :إسماعيل فقعاوي ,ط ,1رام الله – فلسطني :مركز القطان للبحث والتطوير التربوي. < وولبرت ,لويس ( .)2001طبيعة العلم غير الطبيعية ,ت :سمير حنا ,القاهرة :املجلس األعلى للثقافة.
ترجمات في العلوم املعرفية
44
جورج فينيو* ,ترجمة :د .عز الدين اخلطابي
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
من االنشغال مبقولة املعرفة ،نفتتح هذه الصفحات حول العلوم املعرفية بغية االطّ الع على املنجز اإلنساني في هذا احلقل ،ونقدم هذه الترجمة لفصلني للكاتب الفرنسي جورج فينيو ترجمة عز الدين اخلطابي .والفصالن يناقشان سياقات ميالد علوم املعرفة وإشكاالت تلك الوالدة والفضاءات اجلديدة الناجتة من انفتاحها على حقول العلوم النفسية واالجتماعية واللسانية ،ويتصديان لطرح أسئلة في صلب مضمون املعرفة وعمليات تشكلها واشتغالها .كما يتصديان لقضيتني أساسيتني وهما :املجاالت اجلديدة للعلوم املعرفية وأسئلتها اجلوهرية وآفاقها .فهناك حتديد ملسار هذه العلوم التي تهتم بالوظائف الكبرى للذهن كالتذكر ،والوعي ،والفهم ،واالستدالل ...الخ ،وهناك انفتاح على املجاالت التي تطورت األبحاث املعرفية في إطارها ،مثل العلوم العصبية ،والسيكولوجيا ،واللسانيات ،واملعلوميات ،ما يؤكد على أن مستقبل هذه العلوم واعد بالعطاء. هيئة التحرير
()1
العلوم املعرفية ..فضاء جديد لرهانات عدة .1التاريخ والنشأة إن موضوع العلوم املعرفية ،حسب أندلر ( ،)Andlerهو "وصف الوضعيات الرئيسية للذهن اإلنساني وقدراته ،كاللغة ،واالستدالل، واإلدراك ،والتنسيق ،والتنشيط ،والتخطيط ،وتفسيرها واصطناعها أيضاً" (.)Andler, 1989 نقبل هذا التعريف ،لكننا نشير مع ذلك إلى أنه يتضمن نقطتني سلبيتني :فهو من جهة ،يدفع إلى التفكير في اخلاصية "الشمولية" لهذه العلوم املسماة معرفية "علوم جديدة للذهن"؛ وهو من جهة أخرى ،يدفع إلى االعتقاد أنها علمية محض ،بل وصفية وليست فلسفية .وفي احلقيقة ،توجد مواقف عديدة حول "طبيعة" ما هو إنساني ،والنماذج التي ميكن بناؤها بخصوص نوعية هذه الطبيعة وتصرفاتها .ويعتبر أول منوذج لهذه املواقف التحديثية في األساس -أن ميالد املعرفية يرجع إلى نهاية اخلمسينيات،وذلك في سياق مرتبط بنشأة املعلوميات ( .)informatiqueوهنا تبرز أهمية "الذاكرة" املميزة للعلوم املعرفية ،التي سيحكم املستقبل على مدى جناعتها؛ لكن تبرز أيض ًا الصعوبة املزدوجة في حتديدها ،كما يالحظ أندلر ،تارة بطريقة "امتدادية" ،بحسب موضوعات الدراسة؛ وتارة بطريقة "مكثفة" ،بالنظر إلى االختيارات النظرية املقترحة التي تعتبر اختزالية بالنسبة لقدراتنا اإلنسانية. وهنا تبدو الطبيعة اإلشكالية لكل تعريف؛ لكن رمبا كان ذلك هو الرهان املثير لهذا الفضاء احملفز على النقاشات والتأمالت الذي تشكله العلوم
املعرفية.
وباختصار ،وعلى الرغم من أن األمر يتعلق بأسئلة حول اإلنسان، مقترنة بظهور الفلسفة ،فإن اجلميع يتفق على أن تاريخ هذه العلوم "اجلديدة" حديث نسبيا ( .),Gardner 1985فالبدايات األولى ترجع إلى أواخر الثالثينيات ثم إلى األربعينيات ،عندما تصور املنطقي تورينغ ( )Turingسنة ،1931منوذج ًا رياضي ًا حلاسوب قابل للبرمجة ()ordinateur programmable؛ ثم حوالي سنة ،1950عندما أعاد صياغة تصور هذه "اآللة الذكية" من منظور فلسفي (1988 .),Hodgesوستعرف هذه املرحلة ازدهار املنطق الرياضي الذي سيعمل على بناء املفاهيم واألدوات الضرورية للحسابات اجلديدة. وهو ما سيؤدي سنة ،1943إلى ميالد أول سبرنتيقا ،كتعبير عن مشروع االختزال املادي أو اآللي ملا هو ذهني ضمن ما هو فيزيائي (،1989 .)Andlerوتطورت هذه السبرنتيقا ما بني سنتي 1946و 1953على يد كل من وينر ( )Wienerوماكولش )Mc Culloch( ،في البداية؛ ثم بفضل عشرات اللقاءات التخصصية (ومن ضمنها محاضرات ماسي )Macyالتي شارك فيها رياضيون وسيكولوجيون وفزيولوجيون وسوسيولوجيون ولسانيون وأنثربولوجيون. وساهم كل ذلك في توجيه العلوم املعرفية وتطويرها ،إلى درجة أن بعض الصيغ املفاهيمية التي أجنزت حينها ،ما زالت قائمة إلى حد اليوم .وكان لبعض اللقاءات العلمية تأثير كبير بهذا اخلصوص ،مثل ملتقى نيويورك سنة 1946حول اآلليات الغائبة (Teleological ،)mechanismsوملتقى هكسون ( )Symposium Hixonسنة
.1948وقد مت تدعيم هذه احلركة الفكرية وهذه األعمال على مدى عشرين سنة من قبل املختبر الذي أسسه ماك كولش وسهر عليه مبعهد التكنولوجيا ( ،)MITإلى حني وفاته سنة .1969وفي هذه الفترة، ملع اسم نومان ( )Neumannالذي طور نظرية في اإلنسان اآللي، ساهمت بشكل رئيسي في بلورة التصورات الالحقة حول احلواسيب وفي التنظيرات املتعلقة بطبيعة العمليات الذهنية.
.2امليالد الفعلي للعلوم املعرفية
وفي سنة ،1960بادر السيكولوجيان برونر ( )Brunerوميلر ( )Millerبتأسيس مركز الدراسات املعرفية (Center for )Cognitive Studiesبجامعة هارفارد ( )Harvardالذي سيعرف إشعاع ًا متميز ًا على مدى عشر سنوات على األقل .وفي السنة نفسها، صدر مؤلف مشترك مليلر وبريبام ( )Pribamوغالنتر (،)Galanter وعنوانه ،Plans and the structure of behavior :حيث أعيد النظر في النزعة السلوكية الكالسيكية بعلم النفس ،ومت اقتراح املقاربة السبرنتيقية بديالً .بعد ذلك ،وحتديد ًا سنة ،1967أصدر نيسر ( )Neisserكتاب ًا بعنوان ( )Cognitive psychologieدعا فيه إلى تبني مقاربة سيكولوجية جديدة ،مغايرة للمقاربة السبرنتيقية التي دافع عنها نيويل ( )Newelوسيمون ( ،)Simonاللذان اعتبرا أن بإمكان احلاسوب تزويدنا بنموذج اشتغال الذهن اإلنساني.
وهذا غير صحيح ،فاملواجهات املعلنة هي أيض ًا مؤشرات على تبادالت خفية ،إذ جند أنفسنا أمام "ثورة" باملعنى الكوبرنيكي ()Copernicien للكلمة ،في صياغة معارفنا ومناهجنا التي ال نعرف بالضبط ما هي آفاقها
ما هي املواد التخصصية التي تنخرط في هذه العلوم؟ من املؤكد أن األمر يتعلق بالعلوم العصبية والذكاء االصطناعي والفلسفة والسيكولوجيا واللسانيات .فما الذي ميكن أن يجمع بينها إذن؟ إنه االهتمام بالعالقة وأيض ًا بتحليل الوظائف والتصرفات الناجتة عنها .وبشكل عام ،فإن األمر يتعلق دون شك ،ببناء "علم" جديد للظواهر املكونة ألجهزتنا السيكو-بيولوجية وللتفاعالت بني هذه األجهزة وبني سلوكاتنا ،مبا فيها تلك التي تتخذ صيغ ًا رمزية عالية مثل اللغة والثقافات .لكننا نسجل هنا -كما فعل أندلر -مفارقة كبرى بخصوص األنثروبولوجيا .ففي البدايات األولى للصياغة املفاهيمية والتاريخية للعلوم املعرفية ،لعبت األنثروبولوجيا دور ًا مهماً ،ما فتئ أن أصبح ثانوي ًا في الوقت احلالي. وهذا أمر مثير ،ألن العلم الذي يراد بناؤه ،يهتم بخصوصية ما هو إنساني في شموليته وتنوعه. ونعتقد أنه سيتم تدارك هذا "النسيان" آج ً ال أم عاجالً ،مع االعتراف باملساهمات املهمة للسيكولوجيا االجتماعية التي تعتبر قنطرة بني ما هو "فردي" وما هو "جماعي" ،أو اللسانيات ،لكن على شرط أن تهتم بالعالقات القائمة بني اللغة واملعنى والتعابير الثقافية. أما املطلوب حالياً ،فهو متابعة األبحاث الساعية إلى تطوير النماذج املنطقية الرياضية ،للتوفر على أدوات العمل الضرورية؛ والعصبية والفسيولوجية احلسية ،لكي نفهم في اآلن نفسه ،الوظائف الداخلية والتجليات اخلارجية "لعتادنا األساسي".
.4األبحاث في مجال املعرفة لذلك ،ميكن تصنيف األبحاث في مجال املعرفة ضمن ثالث خانات (:)Imbert, 1987 < العائلة الكبرى األولى ،املهتمة بدراسة االستعدادات أو الكفايات املعرفية ،باملعنى الكالسيكي للكلمة؛ أي االستدالل واللغة واإلدراك والفعل .فقد أصبحت هذه األمور تدرس منفردة وعلى مستويات مختلفة ومستقلة بعضها عن البعض اآلخر ،بعد أن كانت وظائفها تالحظ كمنجزات خارجية مترابطة فيما بينها ،داخل الوضعية الواحدة وضمن مختلف الوضعيات. < العائلة الثانية الكبرى لألبحاث املعرفية ،التي مت فيها حتديد مكونات ومنجزات مختلف أمناط اآلليات ،الفسيولوجية العصبية (في البيولوجيا) أو اإللكترونية واآللية (في الذكاء االصطناعي). < العائلة الثالثة ،حتدد وظيفي ًا استعمال هذه اآلليات عبر وصفها كإجراءات قابلة للتفكيك إلى عمليات أولية ،وصياغتها كخصائص قابلة للصورنة. وتظهر في هذه احلالة الثالثة واألخيرة تباعدات دالة بني األبحاث ،بحيث يقوم بعضها مبالحظة بنية الوضع األولي لعتادنا مثل النضج العصبي ( )Maturation Nerveuseوالقدرات؛ وربط هذا الوضع البنائي
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
وكانت سنوات السبعينيات هي دون منازع ،سنوات ازدهار املراكز املتخصصة واملجالت والندوات حول ما أصبح يعرف بـ "العلوم املعرفية" .وقد أقيمت لهذا الغرض شبكة من الباحثني ومن التبادالت العلمية على نطاق عاملي ،مكنت من حدوث تطورات ال يستهان بها خالل فترة الثمانينيات .وفي هذا اإلطار ،سيفقد الذكاء االصطناعي الذي كان يعتبر مرجع ًا أساسياً ،الكثير من أهميته وهيمنته بفعل تقدم األبحاث في مجال العلوم العصبية ،وأيض ًا بفضل التمثالت اجلديدة للظواهر اإلنسانية الناجمة عن الفلسفة والسيمانتيقا املعرفية واألنثربولوجيا .ويبدو لبعض املتشككني املتشبثني بالتصورات الكالسيكية ،وكأن الدراسات املعرفية هي مجرد موضة عابرة ومرحلة من مراحل هيكلة املعارف.
.3املواد التخصصية داخل العلوم املعرفية
45
ملف الثقافة العلمية
هكذا تولدت العلوم املعرفية انطالق ًا من املعطيات السالفة الذكر .وبالنسبة للعديد من مؤرخي هذه احلركة وأبستميولوجييها ،فإن التاريخ الرمزي لهذا امليالد يرجع إلى سنة ،1956حيث انعقد من جهة ،ملتقى حول نظرية املعلومات ()Symposium of information Theory الذي تضافرت فيه جهود السيكولوجيني واللسانيني املهتمني بإدراج أعمالهم ضمن عمليات اصطناعية معرفية على احلاسوب؛ ومن جهة أخرى ،ملتقى دارموث ( )Darmouthالذي مت فيه اإلعالن رسمي ًا عن ميالد "الذكاء االصطناعي" .وإثر ذلك ،برز موضوع "املعرفة" الذي ستحاول مختلف املواد التخصصية ( )disciplinesمنحه مضامني وتوجهات نوعية.
املستقبلية .وأفضل طريقة لفهمها ،هي التأكد من تقدمها عبر مختلف امليادين املتخصصة التي قد تتباين نتائجها أو تتفق فيما بينها.
46
باستعداداتنا للتعلم ،في حني يقوم البعض اآلخر بتحليل مختلف أشكال الوضع النهائي التي ستتخذها أنساقنا الطبيعية بعد التعلم واكتساب قدرات وظيفية نوعية. وتظل الصعوبات قائمة بخصوص الوسائل املستعملة لربط هذه األوضاع األصلية بتلك األوضاع النهائية بشكل جيد .كما تبرز صعوبات من احلجم نفسه ،عندما يتعلق األمر بتطبيق املقاربة التطورية نفسه على الذكاء االصطناعي ،والقيام بفصل األوضاع األولى عن األوضاع الثانية لآللة (.)Machine Learning
ملف الثقافة العلمية
ويبدو هذا الترتيب الثالثي لألبحاث في العلوم املعرفية كافياً ،ما دمنا ال نهتم باألبحاث القيمة واخلصبة التي طورتها السيكولوجيا العامة والسيكولوجيا االجتماعية منذ مدة ،بخصوص عمليات التذكر واالنتباه أو ظواهر التمثل االجتماعي .وينطبق األمر نفسه على العديد من األعمال املتميزة واملندرجة ضمن املنظور االقتراني (.)Connexioniste) (Andler, 1989 وتزداد صعوبة ترتيب اإلشكاليات ،عندما يتعلق األمر بتوزيعها بحسب الفرضيات التي يحاول البعض اقتراحها على النسق املعرفي اإلنساني، وبحسب االختيارات اإلستراتيجية واملنهجية الناجتة عنها ،وتتميز نقاشات املدارس ومواجهاتها بهذا اخلصوص بكثرتها وحيويتها. هكذا ،سيقترح أندلر خطاطة تشمل الفرضيات األنطولوجية ( )Hypothèses Ontologiquesالثالث األكثر انتشاراً؛ وتتجلى بساطة هذه اخلطاطة في ما يلي: يبدو وصف الظواهر املعرفية وتفسيرها على مستوى فيزيائي خالص (بيوكيميائي وفيزيائي) غير كافيني ،لذلك يتعني تكملتهما مبستوى متثيلي (" .)Niveau Représentationnelفحاالت األنساق الفيزيائية املأخوذة بعني االعتبار ،تشكل معلومات؛ وبهذا املقتضى فهي تعتبر أيض ًا معرفية".
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ليست التحوالت الطارئة على هذه احلاالت ،فيزيائية فقط ،بل ميكن اعتبارها كحسابات للتمثالت التي حتملها. إذا كان من املمكن حتديد كل ظاهرة معرفية كعملية منتجة للعالقات بني املثير ( )Stimulusواالستجابة ( )Réactionأو اجلواب ()Réponse على هذا املثير ،فإنه باملقابل ،من غير املمكن إرجاع التحليل والتعريف في كل مرة ،لنتائج هذه العملية التي متت مالحظتها .وفي احلقيقة، فإن أساس هذه األخيرة يقوم في اللحظة الفاصلة بني املثير واالستجابة، لذلك وجب تعريفها بشكل نسبي بحسب نتائجها؛ وهو ما يعني أن هناك دوم ًا استقاللية تتميز بها العمليات الداخلية بالنظر إلى الظواهر التي أثارتها أو أنتجتها.
.5االختيارات املنهجية واإلبستيمولوجية الكبرى ستساهم هذه الفرضيات في انبثاق اختيارات منهجية وإبستيمولوجية ال
يستهان بها: أوالً .من املمكن ضبط الظواهر املعرفية ووصفها وحتليلها ،بل واصطناعها الواحدة تلو األخرى؛ ومما ال شك فيه أن ذلك سيسمح بانبعاث العديد من األسئلة الفلسفية التي يتعني إحياء تقاليدها من جديد (.)Gardner, 1985 االختصاصات متداخلة املعرفية العلوم إن ثانياً. ( )Interdisciplinairesبالضرورة ،وبالتالي فإن هدفها األساسي ،هو املساهمة في صياغة مفاهيم جديدة من نوع ممتد ( ،)Transversalتشكل مرحلة من مراحل بناء "علم معرفي" مستقبلي. ثالثاً .إذا كان من املستحيل إنكار أهمية تدخل العوامل االجتماعية والعاطفية والتاريخية والثقافية في املعرفة ،فإن بإمكاننا باملقابل ،جتاهلها في مرحلة أولى ،ما سينعكس سلب ًا على نتائجها اإلبستيمولوجية .هذه هي الفرضيات إذن؛ لكنها ال تكفي مع ذلك لتفسير أسباب هذا التطور الهائل الذي عرفته املواد التخصصية املعرفية خالل العقود األخيرة .وكان من الالزم حدوث هذا التطور الهائل في العلوم العصبية وفي مجال املعلوميات ،وحتديد ًا من خالل التطور التقني للحواسيب املتميزة بدقتها املتنامية ،التي أعادت النظر في الهندسات الكالسيكية لبناء اآلالت ولتشغيلها. وكأمثلة على ذلك نذكر: < مجال الكيمياء العصبية ( )neuro chimieالذي مت فيه تطوير البحث النسقي في مواد وعناصر الكيمياء احليوية للعمليات الدماغية (العصيات الناقلة والهرمونات) ،وبالتالي تثوير ( )révolutionnerالتصورات التقليدية والتبسيطية للدماغ وللعصيب. < ميدان الفسيولوجيا العصبية ( )neuro physiologieالذي مكن اليوم من تسجيل نشاط العصيبات املعزولة ودراسة مختلف الوضعيات الكهرو-عصبية ( )neuro-électriquesللعضوية. < مجال علم التشريح العصبي ( ،)neuro anatomieحيث حققت تقنيات التصوير الدماغي ،دقة ال نظير لها في ميدان اخلرائط العصبونية (.)cartographies neuronales < ميادين املعلوميات والرياضيات والفيزياء ،حيث ساهمت التنظيرات وإجناز البرمجيات ( )logicielsأو اللغات "ذات مستوى عال" في حتقيق مرونة غير متوقعة في معاجلة املعطيات وصياغتها. إن هذه املعطيات واملقاربات الغزيرة ،تشكل من جهة ،مصدر ًا للخلط احلاصل بصدد العلوم املعرفية؛ ومن جهة أخرى ،مصدر ًا للمواقف احلاسمة التي اتخذتها هذه العلوم التي أثارتها على شكل مواجهات فلسفية ،حيث لعب "االعتقاد" دور ًا أكبر من دور احلكمة اإلبستيمولوجية ،وهو ما يالحظ ضمن التعارض األساسي القائم بني النزعتني املعرفية واالقترانية .لذلك ،ال ميكن ألية مقاربة لهذا املوضوع أن تتصف بالشمولية ،نظر ًا لتعدد األعمال واألبحاث وتباينها.
()2
أسئلة العلوم املعرفية وآفاقها إن األعمال املختلفة املنجزة في إطار العلوم املعرفية التي تهم مجاالت متنوعة مثل الذكاء االصطناعي ،وتطور العلوم العصبية (neuro ،)Sciencesوالسيكولوجيا ،واللسانيات املعرفية ،تتمحور أساس ًا حول معنى املعرفة وطبيعتها وهندستها .وتتلخص النقاشات في هذا الصدد في التقابل القائم بني النزعة املعرفية الكالسيكية (cognitivisme ،)Clasiqueوالنزعة االقترانية ( .)connexionnismeوقد سادت األولى مدة طويلة في مجال األبحاث املعرفية ،في حني ما زالت الثانية تتلمس طريقها .ولم يبرز أي براديغم (أمنوذج) قادر على جتاوز هذا التقابل .لهذا ليس املطلوب من القارئ االختيار بني إحدى النزعتني، بل احلكم فقط على أهمية هذه باملقارنة مع تلك.
.1النزعة املعرفية الكالسيكية
.1ما مصدر هذه "التمثالت الذهنية" وكيف تبلورت؟ .2ما هي طبيعة العالقة بني هذه التمثالت وموضوع متثلها؟ .3هل يقوم التبادل والتفاعل بني هذه التمثالت على احلساب ()calcul؟ .4هل تعود فكرتنا عن هذه التمثالت إلى فرضيات حول طبيعة األشياء والبشر أو ببساطة إلى البراديغم [األمنوذج] التاريخي "احلاسوبي" الذي انتشر بفضل املعلوميات؟ وأخيراً ،هل توجد عدة ( )dispositifفيزيائية كافية لتزويد النسق املعرفي اإلنساني باالنعكاس ( ،)refletواالصطناع ()simulation؟ (.)Andler, 1989
يتعني إذن إقامة توا ٍز صارم بني علم التركيب ( )Syntaxeوعلم الداللة ( ،)sémantiqueوذلك بالقدر الذي يتم فيه االعتقاد بأن كل ظاهرة داللية ميكن أن تفسر بطريقة تركيبية؛ أي انطالق ًا من أشكال ظاهرة ومن قواعد تركيبية منظمة لهذه األشكال .وبهذا املعنى ،يجيب أصحاب االجتاه املعرفي عن السؤالني األول والثاني .وهم يجيبون عن السؤال الثالث ،وفق
طبعاً ،فإن هذا األمر يعيد النظر في مقوالت احلاالت الذهنية التي حتدثت عنها السيكولوجيا ،والتي "استثمرتها" النزعة املعرفية وأضفت عليها صبغة الوضعيات الوظيفية ،محددة بذلك منطلقها وسيرورتها؛ لذلك اقترن هذا املوقف الفلسفي بالنزعة الوظيفية (.)fonctionnalisme ويخضع هذا املوقف الذي ميثله كل من فودور ( )Fodorونيويل ( )Newelوسيمون ( ،)Simonلنقد شديد إن لم نقل إلعادة نظر في الوقت احلالي ،وبخاصة من طرف بوتنام (.)Putnam) (1988 أما املثال املقدم في األجوبة عن السؤال اخلامس ،فيتعلق بعدة فيزيائية عاكسة لوظائف الذهن .طبعاً ،فإن هذه األجوبة متوقفة على صورة احلاسوب .فهذا األخير هو مبثابة صورة جذابة و"مطمئنة" ،ألنه يشكل في اآلن نفسه عدة فيزيائية خاضعة للقوانني اآللية ونظام ًا ملعاجلة املعلومة التي ميكن اعتبار مختلف حاالتها مطابقة ملقاطع من حساب غير متوافق مباشرة مع حاالت التشكل الفيزيائي لآللة .لذلك ،ال ميكن تصوره من وجهة نظر القوانني الفيزيائية ،على الرغم من تدخل إكراهات آلية ووظيفية على مستوى العمليات التي ينجزها؛ فهو يعتبر "آلة ذات حاالت متتالية" ،باملعنى الذي حدده منوذج تورينغ؛ وخير دليل على ذلك ،هندسة احلواسيب اجلديدة ووظائفها. وباختصار ،فإن احلاسوب ال يعتبر ضمن خطاب العلوم املعرفية، منوذج ًا وال استعارة ،على الرغم من كونه صورة معتمدة من طرف العديد من التأمالت األولية .ونحن نعلم اليوم ،أنه ال يشكل سوى تعويض نسبي لوظائف الذهن البشري ،لكنه يعتبر في اآلن نفسه حق ً ال لتجارب مهمة ،للتعرف على العمليات الوظيفية لهذا الذهن؛ ومن املمكن أن يعلن عن عالقات مستقبلية خاصة بني أنشطتنا الذهنية وما يقتضيه املجتمع؛ وذلك على مستوى االقتصاد والشغل. وال تتعلق املسألة مبعرفة ما إذا كان احلاسوب "يترجم" وظائف الذهن،
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
عندما نفحص أجوبة الباحثني في مجال العلوم املعرفية ،فإن كل شيء يبدو واضحاً؛ ذلك أن التمثالت الذهنية بالنسبة إليهم ،شبيهة "بصيغ" أو "بتعابير مصاغة بشكل جيد" ،مبعنى اللغات التي يبنيها املنطق الرياضي .هكذا ،تتوفر هذه التمثالت – الصيغ (représentations- )formulesعلى صرف وتركيب قابلني للدراسة وللتعريف؛ وأيض ًا على سيمانتيقا حتدد عالقتها بالوضعيات التي متت إثارتها أو متثلها.
فبالنسبة لهذين الباحثني ،يفهم كل حساب كسلسلة محددة من العمليات املنجزة على رموز –وذلك هو اإلجراء األلغوريتمي– وهي سلسلة مستقلة متام ًا عن "اآللة" أو عن النسق املعرفي ،وبالتالي عن الذهن اإلنساني .هكذا ،ستشكل "الوظائف القابلة للحساب" نوع ًا من النمذجة املثالية ( )idéalisationالتامة إن لم نقل العليا ،التي تتجلى كنوع طبيعي غير آبه بالتعريفات والوضعيات املتنوعة .وستكون التمثالت الذهنية بهذا املقتضى ،خاضعة للعمليات املنجزة من طرف آلة تورينغ ( )Turingكنموذج مجرد للحاسوب الرقمي (ordinateur .)numériqueوبالتالي ،وكجواب على السؤال الرابع ،فإن مشكل العالقة بني اجلسم – كنظام فيزيائي – والذهن – كمجال حلماية التمثالت الذهنية – التي أثيرت على مدى تاريخ الفلسفة ،تختزل هنا في اعتبارات مادية محض ،تخص "الهوية الطارئة" ( ،)token identityوالتي مفادها أن كل حالة ذهنية تقابل حالة فيزيائية.
ملف الثقافة العلمية
يتمثل املوقف املعرفي في الدفاع عن فرضية معرفية هي مبثابة حساب التمثالت الذهنية .فكل عضوية تتكيف وتؤثر في محيطها بواسطة متثالت داخلية مستقاة من هذا احمليط ،وأيض ًا من نشاطها بداخله؛ وباملقابل ،فإن هذه التمثالت ستتكيف مع أنشطة ومعتقدات أخرى وستخضع مبقتضى ذلك للتعديل .وهنا تطرح على الفور مجموعة من األسئلة ،وهي:
املنطق الذي حتكم في أعمال تورينغ ( )Turingوتشورش (.)Church
47
48
فعندما يقال لنا إن اآللة "تصطنع" األنشطة اإلنسانية ،فإن ذلك يعني في احلقيقة ،تكيف اإلنسان مع هذه اآللة وليس العكس ،بل مبعرفة كيف تعمل هذه األجهزة التجريبية التي نصنعها ،ونقصد بها اآلالت، على إلهامنا في حتليل أنشطتنا التنظيمية ،ذات االرتباط بذكائنا.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
.2النزعة االقترانية إن احلذر املتخذ إزاء "الثورة املعلوماتية املنتظرة" ،يفسر باملقابل، كيف أن النزعة االقترانية لم تظهر أبد ًا كفلسفة للذهن .فاألمر يتعلق باألحرى ،مبجموع األبحاث واملناهج الهادفة إلى صياغة العديد من العمليات املعرفية بطريقة مغايرة .ويشبه هذا اإلجراء البراغماتي ما حدث بخصوص الذكاء االصطناعي في البداية ،حيث مت االنطالق من أداة -وهي احلاسوب -ومن بعض التأمالت لبلورة اإلجراءات األولى ،وحتديد ًا حل بعض املشاكل النوعية أو البرامج األولى للعبة الشطرجن ،قبل اختبار العالقة بني هذه اإلجراءات وبعض القضايا العامة ( .)Andler, 1989وفي احلقيقة ،فإن النزعة االقترانية هي حركة من األفكار ،أكثر منها "مدرسة" بحصر املعنى .ومع ذلك ،فهي ترتكز أيض ًا على منوذج آلي أساسي ،وإن كان مغاير ًا لنموذج فون نومان (Von ،)Neumannحيث يتعلق األمر بشبكة "مجردة" من العصبونات الصورية ( )neurones formelsأو عصبونات احملاكاة (neural )netاملستلهمة من العلوم العصبية. ويبدو القلب اإلبستيمولوجي واضح ًا هنا ،إذا ما استحضرنا النماذج الكالسيكية واآللية واملقطعية للمعرفة ،فالشبكة االقترانية تتشكل كمجموعة من اآلالت احملاكية لإلنسان واملتفاعلة فيما بينها وفق منط بسيط؛ فعن طريق االقتران -الشبيه بعصبونات اجلهاز العصبي -تقوم اآللة (ع) بنقل اصطناع إيجابي أو سلبي لآللة (ج) ،بحيث تكون العملية إما مثيرة وإما مانعة ،وتكون محددة بحالة نشاط (ع) ،ومصاغة على شاكلة الوصلة العصبية ( )synaptiqueللقناة .وهذه اآلالت أو الوحدات املوجودة داخل الشبكة متشابهة فيما بينها ،وهي ذات عتبات؛ أي أنها قادرة على مقارنة املجموع املتوازن لعمليات االصطناع بعتبة ما ،وعلى القيام بنشاطها عندما تتم جتاوز هذه األخيرة .باملقابل، فإن نشاطها يتوقف عندما ال يتم بلوغ هذه العتبة. وميكننا في كل مرحلة من مراحل التطور ،حتديد النسق بواسطة موجه التنشيط ،فكل انتقال من مرحلة إلى أخرى ،هو نتاج لتحسني قيم نشاط نسق معني ،إما بواسطة كل الوحدات ،وإما اعتماد ًا على وحدة مبفردها .وتبدأ كل عملية داخل الشبكة بفرض موجة التنشيط ،التي تشكل املعطى األول أو املدخل ( ،)Inputالذي سينشر عبر استعمال قاعدة االنتقال ،وينتهي عند بلوغ الشبكة حالة من التوازن ،ميثلها املوجه املساوي لواحد وهو املخرج (.)Out put وخالل كل هذه العملية احلسابية ،تظل هوية الشبكة قائمة بفضل موجه الوصلة العصبية الذي ستشكل "كفايتها" .ويقال أيضاً ،إن "معارف" الشبكة تخزن داخل هذا االقتران؛ ولكننا ال نعلم -ما دامت األبحاث جارية بهذا اخلصوص -كيف ميكن لشبكة من العصبونات الشكلية أن تكتسب املعارف مباشرة ،علم ًا بأن قدرة الشبكات االقترانية مستمدة
من قدرتها على "التعليم الطبيعي" ،انطالق ًا من املعلومات املستقاة من احمليط .وهذه القدرة مغايرة لقدرة النماذج املعرفية الكالسيكية التي يتعني برمجتها باستمرار. إن هذه القدرة ليست هي القوة الوحيدة للشبكات االقترانية .فسلوكاتها متنح أيض ًا خصائص مميزة .وعلى سبيل املثال ،فإن شبكة من العصبونات الشكلية بإمكانها تعميم أو تعديل معطيات ناقصة وبناء منوذج لعينة ما .وعلى الرغم من التشويش عليها أو تدميرها جزئياً ،فإنها تستطيع التعلم من جديد وتقدمي نتائج مقبولة؛ فعلى خالف النماذج املعرفية، تتم العملية عبر تقدمي معلومات لهذا الغرض )Andler,( (ad hoc .)1989وتفسر هذه اخلصائص املتميزة من خالل طبيعة وظائفها ذاتها ،ومن العمليات الكثيفة التي تنجزها مبوازاة مع ذلك :ففي كل مرحلة يوجد عدد من العمليات املستقلة بعدد الوحدات والعمليات املنجزة "بشكل مواز" .لذلك ،فإن حتليل تطور شبكة ما ،يستمد معطياته من األنساق الدينامية وليس من البرمجة الكالسيكية؛ فكل وحدة تعتبر مستقلة وتؤثر محلي ًا بشكل منطقي صارم ،ومن املمكن أن يخضع هذا التأثير للتعديل أو للدعم من طرف تأثيرات أخرى؛ وبتعبير آخر ،فإن كل حالة مستقرة للنسق هي عبارة عن توازن وليست غاية .ويتسم منط التمثل املنجز بهذا الشكل ،باألصالة العميقة مقارنة باألنظمة الكالسيكية للذكاء االصطناعي .فهذه األنظمة تخزن في ذاكرتها وصف املوضوعات والقواعد؛ ويقوم البرنامج باالطالع على هذا املخزون بغرض تنظيم وتفعيل القواعد الضرورية لتحويل املعطيات املقدمة .باملقابل ،فإن الشبكة االقترانية تنظم وصالتها العصبية وتعمل بنفسها على ضبط انتظام احمليط الذي ال تسعى إلى "وصفه" ،بل إلى جعله "منعكساً" بهذا القدر أو ذاك من األمانة (.)Andler, 1989 فاألمر يتعلق إذن بـ "معرفة" يتوفر عليها النسق من البداية ،بل بقدرة حقيقية على التكيف الداخلي مع احمليط ،بغرض ضبط تنظيماته البارزة والتالؤم معها .وميكننا في هذا اإلطار ،االستشهاد بالشبكات التي تستخدم التمثالت "املوزعة" .فكل مفهوم سيطابق عملية تنشيط وحدات عدة ،وباملقابل ،فإن كل وحدة ستعمل على متثيل العديد من املفاهيم .وما متثله الوحدة فعلياً ،يكتسي وضع "عالمة مصغرة" أي مكون ًا داللي ًا أولي ًا ( )proto sémantiqueميكنه التموضع داخل مختلف الترتيبات والتنظيمات انطالق ًا من قواعد "سياقية" وليست شكلية ،أي متكيفة مع احمليط ومع املشاكل الواجب حلها .وغني عن البيان ،أن جتميع هذه "العالمة املصغرة" هو الذي يكتسي وحده ،قيمة داللية في كل عملية.
.3أسئلة املعنى والتمثل بعودتنا إلى األسئلة السابقة ،سنالحظ أننا لم جنب عن السؤال الرابع، حول ما إذا كانت طبيعة التمثالت املبنية من طرف الشبكات االقترانية هي انعكاس لطبيعة األشياء أو أنها ببساطة ،راجعة إلى البراديغم (األمنوذج) الذي مت اختياره ملعاجلة املعلومات .فاخلطابات املقدمة بهذا اخلصوص ،من طرف أصحاب االجتاه االقتراني ،ال تشرح األمر بوضوح؛ ألن العديد من األسئلة تظل عالقة؛ وكمثال على ذلك، عندما تعلن شبكة اقترانية أنها وظيفية ،فهل يتعلق األمر بالنزعة املعرفية
الكالسيكية نفسها؟ وكيف ميكن موضعة هذه األشكال املختلفة للنزعة الوظيفية؟ ثم كيف نفسر عجز الشبكات االقترانية عن الصياغة املباشرة للتمثالت املبنية ،مثل اللغة واالستدالالت؟ وأخيراً ،هل آالت شبكة عصبونات احملاكاة هي عبارة عن عصبونات مثالية أو مجرد مكونات أولية؟ وهناك إمكانيتان لإلجابة عن هذا السؤال :فإما أن الشبكات املعنية هي مجرد مناذج للجهاز العصبي ،غير كافية بل ناقصة ،وإما أنها مجرد شكل مختلف للنماذج الكالسيكية لتوطني اآللة ،باعتبارها وحدات أولية.
إن االجتاه املعرفي الكالسيكي وثيق الصلة بتصور هوبز ()Hobbes املصاغ سنة ،1751الذي مفاده أن التعقل هو احلساب .وسيجد مفهوم احلساب كنموذج ألنشطتنا العقالنية والطبيعية -مبا فيها اللغة! -جتليه النهائي ،خالل الثالثينيات من القرن العشرين ،في أعمال مناطقة مثل تورينغ .ومنذ تلك الفترة ،أصبح معنى التعقل واحلساب ،هو تنظيم وتطبيق عمليات أولية متتالية ،مندرجة داخل فهرس منتظم وفق قواعد ،كما هو الشأن بالنسبة لعمل احلاسوب .وبالتدريج ،أصبحت صورة احلاسوب -أو على األقل اإلجراءات املتتالية التي يقوم بها من أجل احلساب والقواعد التي يطبقها إلخضاع املعطيات الطبيعية بدل اخلضوع لها -أمنوذجية ( )paradigmatiqueبالنسبة لفكرة النظام املعرفي.
لكن "كيف تكتسب الرموز معناها؟" ( .)Andler, 1987إن الفرضية
< كيف سنتعامل مع احلدوس السيكولوجية املشتركة التي تعتبر حاالتنا الذهنية من جرائها ،مجرد مواقف قضوية ()propositionnelles من نوع "أعتقد" أو "تخوف" أو "أنكر" شيئ ًا (من منطلق أن هذا الشيء هو عبارة عن قضية)؟ < ما هي العالقات القائمة بني األبحاث الذهنية واحلاالت الدماغية؟ يجيب فودور ( )Fodorعلى السؤال األول ،مؤكد ًا على أنه من املمكن حتديد حالة ذهنية بواسطة هذا النوع من العالقات (أعتقد ،تخوف، أنكر) وعلى أن الذهن يقيم في كل مرة ،تقاب ً ال مع قضية يعبر عنها بلغة صورية داخلية ،قد تكون هي "لغة الفكر" املسماة ذهنية (Fodor, .)1975بخصوص السؤال الثاني ،يدعي أصحاب االجتاه املعرفي أنه ال توجد فقط حالة عصبية فسيولوجية مقابلة لكل حالة ذهنية ،بل إن هذه األخيرة تندرج أيض ًا ضمن مقولة محددة ،هي مبثابة منوذج لهذه احلالة الذهنية وللدور الذي تلعبه ،أي للروابط السببية القائمة بينها وبني احلاالت الذهنية األخرى .ومن وجهة النظر هذه ،ال شيء يلزم بالربط "مباشرة" بني حالة ذهنية ما وحالة عصبية فسيولوجية ،اللهم بشكل طارئ وعرضي .وتسمح أطروحة الهوية الطارئة (token )identityلدى أصحاب االجتاه املعرفي الكالسيكي ،باجلمع بذكاء بني املطلب الفيزيائي -ألنه من الالزم أن يكون هناك مرتكز فيزيائي ملا هو "ذهني" -واحلاجيات التخصصية للتفسير السيكولوجي ،املستقل
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
والنتيجة املفارقة ،هي أن منوذج النسق الصوري عمم على العديد من وضعيات احلياة اليومية ،بل واكتسب شرعيته "لتصوير" الطريقة التي تشتغل بها معارفنا؛ أي على شكل حساب لتمثالتنا الرمزية .وكما نعلم ،فإن النسق الصوري يتشكل من جتميع لألوليات ()axiomes والقواعد التي تسمح ،من خالل تطبيقها على الرموز بانبثاق مبرهنات ( )théorèmesوصيغ ملفوظات أو جمل .وستضمن األوليات والقواعد ،توافق معنى كل صيغة ناجتة "كمعطيات أولية" .وبهذا املقتضى ،ستقوم قواعد املنطق التي تسمح باالنتقال من صيغة إلى أخرى ،بإنتاج ملفوظات "صادقة" ،انطالق ًا من ملفوظات أخرى "صادقة" أيضاً؛ على اعتبار أن احلقيقة هي مجرد مؤشر على "االنزواء" داخل شروط أولية ،مت اختيارها لتعريف سياق ما ،وال تهم في هذا اإلطار ،أمناط الوقائع أو الوضعيات التي ستخضع للترميز.
فمن وجهة نظر وظيفية ،تعتبر األنظمة املعرفية "أنساق ملعاجلة املعلومة!" وهي تتالءم وظيفي ًا مع مهامها املختلفة بفضل خصائصها البنائية التي يعبر عنها بلغة صورية ،تنطبق فيها القواعد على املعطيات! وهنا أيض ًا تكتسب شرعيتها في تزويدنا بالتمثالت املطابقة ( )adéquatesللعالم! بذلك ،سيصبح احلاسوب ،مثل آلة تورينغ الكونية ،قادر ًا على إجناز كل العمليات املطلوبة لتنظيم املعطيات والقواعد كتمثالت .ويعتبر هذا االنزالق ،من احلاسوب إلى الذهن والعكس ،شرط ًا ضروري ًا أو كافي ًا على األقل ،لتمثل مختلف قدراتنا ووظائفنا الذهنية! واملشكل هو أنه إذا كان االجتاه األول -من احلاسوب إلى الذهن -يشتغل بطريقة مرضية؛ فإن األمر سيكون غير ذلك ،عندما نتعامل مع األشياء من منظور تطبيق النموذج املعلوماتي على الظواهر الذهنية .فكيف تظهر احلاالت الذهنية مبختلف جتلياتها ،السيكولوجية والفسيولوجية العصبية؟ وما هو ثمن هذا االختزال؟ هنا سيبرز سؤاالن فرعيان ،وهما:
49
ملف الثقافة العلمية
وهنا يطرح السؤال األساسي التالي :أين تتموقع الشبكة؟ بالنسبة للبعض ،يوجد مكانها مبستوى بيني أدنى من مستويات البيولوجيا العصبية والسيكولوجيا واللسانيات؛ وهو مستوى وظيفي أساسي. وهنا تواجهنا مشكلة تستدعي احلل ،وهي" :أن صاحب التوجه املعرفي مطالب بإقناعنا بأن كل ما يحدث في مجال املعرفة هو استدالل صوري لتمثالت شبه لسانية .أما صاحب التوجه االقتراني ،فيعتبر على العكس أن كل شيء يرجع إلى الترابط والترتيب واجلمع اإلحصائي للمعطيات شبه احلسية .فمن جهة جند براديغم املنطق الصوري ،ومن جهة أخرى جند براديغم اإلدراك".)Andler, 1989( .
املعرفية البسيطة تنطلق من كون النسق املعرفي اإلنساني يكتسب معناه ومينح معناه لهذه الرموز الداخلية ،عبر احتكاكه بالوسط اخلارجي. وألنه ال ميكن أن نحدد بسهولة وبشكل آلي ،كيفية ضبط "الرموز الداخلية" لهذا املعنى ،فإنه يتم اللجوء إلى عملية التصوير املالئمة لألنظمة املعرفية االصطناعية مثل احلاسوب .لذلك ،تظل النزعة املعرفية الكالسيكية أسيرة لنموذج التمثالت الداخلية التي ال ميكن تشكيلها بالتجربة وال بفضل وراثة جينية ،ألنها تظهر -أثناء املعاجلة!- على شكل مالئم مللفوظات اللغة الصورية ،وبالتالي تكون قابلة للتأويل ( )interprétablesعبر حتويالت حسابية ،لكنها تركيبية .وباملقابل، ميكن لهذه التركيبات أن حتدد "معنى" مكونات النسق .وهذا مثال جيد لالستدالل الدائري الذي تتضمنه التأكيدات ( )assertionsاملركزية داخل النزعة املعرفية الكالسيكية.
عن تفسير الفسيولوجيا العصبية (.)Andler, 1987
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
50
إن استقاللية ما هو "طارئ" ،مبعنى العارض الذي يصيب مختلف تصرفاتنا ،وهذا الطارئ الذي يعتبر "منفصالً" عن أسسه العصبية، يسمحان بتبرير كل من املقتضيات السيكولوجية والبناءات املقترحة من طرف الذكاء االصطناعي .ويتجلى الغموض في تعايش هذا األخير كتكنولوجيا مطبقة -تنتج أنظمة عدة قادرة على القيام بكل فعالية، مبهام إنسانية مخصوصة ومحددة -مع فكرة الذكاء االصطناعي كعلم مهتم باملبادئ العامة لتصرفاتنا الذكية الرامية إلى إنتاج آالت "ذكية" متام ًا في املستقبل .وهنا التبس األمر على النماذج التي مت إنتاجها، حيث وقع اخللط لديها بني ما هو سيكولوجي وما هو تقني بحصر املعنى ،نتيجة التشويش احلاصل على مستوى حتديد العلوم املعرفية ألهدافها وملناهجها .وفي هذا اإلطار ،ذهب البعض مثل شانك ( )Schankإلى التأكيد على أن موضوع الذكاء االصطناعي هو دراسة "الذكاء الطبيعي" .فما الذي سيبقى إذن للفالسفة واألنثروبولوجيني والسيكولوجيني واللسانيني ،فباألحرى للمتخصصني في العلوم العصبية؟ إن طموحات الذكاء االصطناعي املبالغ فيها منذ البداية، جعلت ّادعاءاته العلمية احلالية مشبوهة؛ ذلك أن التوجه املتنامي حالياً، يروم تصنيفه كتكنولوجيا مطبقة إلجناز أنظمة خبيرة أو مصوغات ( )modulesملعاجلة املعطيات.
.4أفول النزعة املعرفية الكالسيكية مما ال شك فيه ،أن الفشل النسبي للطموحات العلمية للذكاء االصطناعي، يعود إلى االبتعاد التدريجي ألصحاب االجتاه املعرفي عن البراديغم
من دورة دراما للفتيان نظمها مسرح احلرية في جنني.
"احلاسوبي – التمثلي" (.)computo-representationnel فال ميكن ألي تفسير للظواهر الطبيعية أن يأخذ الشكل الفقير لبرنامج احلاسوب! وهو ما يعزل الذكاء االصطناعي ،كمجال خاضع أكثر فأكثر ،لتدقيقات التكنولوجيات املختصة والدقيقة .وتتزايد هذه القطيعة حالياً ،داخل العالقة بني الذكاء االصطناعي والسيكولوجيا. فهناك "طبقات" في وصف الظواهر املعرفية ،بدء ًا باملستويات العليا التي يفترض فيها أن اآللة تقوم "مبعاجلة املعلومات" التي يقدمهادماغنا -وانتهاء باملستويات السفلى التي ال يتعني فيها على اآللة ،إنتاج ماليني العمليات األولية وغير املقطعية التي تنظمها وتضمنها الترابطات القائمة بني عصيباتنا. فالتشاكل ( )isomorphieبني احلالتني ،أمر مسلم به فقط! وألن الذكاء االصطناعي الكالسيكي أدرك ذلك ،فإنه ال يستطيع في أفضل احلاالت ،سوى إعادة إنتاج "مقاطع من الذكاء". هكذا ،فإن الذكاء االصطناعي ال يتوفر حالي ًا إال على منط واحد من الوجود وهو الفعل ( .)Andler, 1987وتفسير ذلك هو أن الصياغة األولى للمشكل املطروح ،حتدد في أغلب احلاالت من طرف املستعمل أو السائل ،وليس من طرف الباحث .ويتعني في كل مرة عرض السؤال بشكل دقيق ،حيث حتدد فيه "العناصر األولية" للمشكل الذي يجب حله واخلطوات الواجب ا ّتباعها والنماذج التي يتم تشكيلها بدقة عن طريق اآللة التي تستنتج تدريجي ًا العملية التي ميكنها تقدمي احلل. وبذلك ،تكون الوضعية دوم ًا من طبيعة منطقية .فكل قرار يقتضي االستدالل على قضية انطالق ًا من قضايا مت االستدالل عليها من قبل؛
لكن هذه العملية تشكل دوم ًا اختبار ًا من بني اختبارات أخرى ممكنة. وميكن تلخيص هذه العملية الكالسيكية ،كما فعل أندلر ،انطالق ًا من اخلطاطة التالية: «استدالل منطقي +مراقبة +معارف »inférence + contrôle + connaissances بحيث تشكل املراقبة هيئة القرار ،وتشكل املعارف مخزون القضايا. غير أن هذه اخلطاطة تثير مشاكل جمة ،نعرض لها كالتالي:
51
هكذا ،ميكننا عرض صعوبات الذكاء االصطناعي وإنتاجاته على الشكل التالي:
ملف الثقافة العلمية
< إن القواعد االستكشافية املختارة لتفادي االنفجار التركيبي تظل محلية "جانبية" ،وتطبق بشكل محدود مينع من كل تعميم ،وإال مت السقوط في خطأ منطقي في مجال البرهنة (.)pétition de principe < غالب ًا ما يقوم أصحاب البرامج بإخفاء االختيارات التي وجهت أعمالهم في البداية. < ويتخذ موقفهم شكل "ميتا-قواعد" (أي ما يثير القواعد املتخذة)؛ وهذه األخيرة هي صيغ لالختيار مطبقة على سياقات أو عوامل وضعيات؛ لكنها تخفي الشروط ،وبخاصة األسباب التي أدت إلى اختيار هذه العوامل التي ستستمد منها "القواعد" .وجدير بالذكر، أن مسألة السياق ترتبط بالدقة؛ ()Andler, 1987؛ ذلك أن الذكاء االصطناعي الذي يشتغل على وضعيات طبيعية "متفتحة" بالضرورة ،من أجل تنظيمها ،وبالتالي اختزالها ،مطالب لكي يدعم موقفه ،بافتراض أن معارفنا قابلة دوم ًا للوصف والترجمة ،من خالل بنيات قارة تؤسس وترتب أمناط هذه العمليات و"تؤطرها" .وهو ما يفسر ازدهار هذه النماذج القائمة جميعها على مبدأ تأطير املعلومات والظروف نفسه. ()frames, scripts, memory organisation packets؛ وهي عبارة عن سيناريوهات محلية ،تفسيرية ()explicatifs واحتمالية ( )prédictifsأو منوذجية ( )exemplairesتهم سياقات وصفية ( ،)descriptifsوإن كانت جزئية بالكاد .وال يتم في أغلب احلاالت ،احلديث عن الروابط القائمة بني هذه السيناريوهات وعن دقة اختيار بعض املعارف دون أخرى ،وعما ميكن أن يحصل إذا ما طورنا هذه "األمناط" من املعطيات ،لعرض هذه "الكتلة" من املعارف. ولن نتحدث هنا عن مشكل سياقي آخر ( )frame problemيتعلق باملوقف املتخذ من إنسان آلي يكتشف محيطه وبتحديد الوضعيات املوجهة الكتشافه وتأثيره على محيطه. وفي احلقيقة ،فإن جميع هذه التساؤالت تهم احلدود أكثر مما تهم اإلكراهات التي يتعني جتاوزها .فهل يعتبر الذكاء االصطناعي في مستوى الطموحات املعلنة من طرف البعض؟ وهل املناهج املستعملة قريبة -كما يزعم هذا البعض -إن لم تكن مماثلة للمناهج املستخدمة من طرف ذهننا "ملعرفة" أو حلل املشاكل؟
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ما دمنا نتحدث عن عمليات استداللية ،فإنه من الالزم أوالً ، اإلشارة إلى أن األمر يتعلق بوضع من النوع االحتمالي، وليس االستنباطي .فمن (ب) ومن (أ) ،املتضمنة لـ (ب) نستدل على (أ)؛ ولكن هذا االستدالل ال يضمن نقل احلقيقة ( .)Andler, 1987فهناك إذن غموض في معاجلة اإلجراءات "الطبيعية" السببية. إذا كانت املراقبة تلعب دور ًا راعي ًا "لالنفجار التركيبي ثانياً ، ( – ")l’explosion combinatoireأي أنها تستدعي منذ البداية ،وضع قواعد استكشافية (règles )heuristiquesلتحديد عدد املسالك املمكنة الكتشاف الوضعية والوصول إلى الكل ،فإنه ال شيء يؤكد أن هذا هو احلل الصحيح .فتعدد أمناط القواعد املدرجة في البرامج ،ال يساهم من وجهة النظر هذه ،في توضيح األمور. ثالث ًا وأخيراً ،اكتشف الذكاء االصطناعي مؤخر ًا أن أغلب املهام التي يتعني عليه القيام بها ومعاجلتها ،تستدعي عدد ًا كبير ًا من املعلومات ،وبخاصة عندما يتعلق األمر مبعارف وثيقة الصلة باحلس املشترك ( .)sens communويتم في هذا اإلطار ،اللجوء إلى احلل املقترح من طرف أغلب أنظمة اخلبراء ،حيث تدرج معارف مختص أو خبير داخل مجال محدد ،دون إخضاع املكتسبات الداللية واملعرفية للتنظير؛ وذلك بغرض بناء وقائع وقواعد تسمح بالقيام بالعديد من عمليات التقومي واملعاجلة والبحث عن حلول للمجال املعني .وينجز كل هذا ،ضمن منظور مدقق، يروم احلصول على أجوبة أحادية املعنى ()univoques على أسئلة دقيقة وخاضعة للتراتب (.)hiérarchisées والنتيجة هي أن "مشكلة احلس املشترك ،منعت الذكاء االصطناعي من التغلغل بكل حرية في عالم اإلنسان" ( .)Andler, 1987وهنا تبرز هشاشة أفضل أنظمة اخلبراء التي قد تنتج أجوبة غير سليمة ،عندما يبتعد السؤال عن املعطيات األولية املوضوعة من أجل حتديد املجال والعالقات بني مكوناته" :فبإمكاننا ،على املستوى الوصفي اخلالص نفسه ،أن نشك في كون عملية "الوضع" التي يخضع لها اخلبير ،ترسم صورة أمينة ملسعاه ،إذ ال يعمل هذا اخلبير إال على إعادة بنائها وتبريرها الحق ًا و"عقلنتها" ،وبذلك فهو يحافظ جزئي ًا على سلوكه من اخلارج" (.)Andler, 1987
فما هو وضع "القواعد" املقترحة داخل هذه األنظمة لعقلنة سلوكنا اليومي؟ علما بأن تأثير هذه األخيرة ينحصر في االعتقاد أن األمور جتري على ما يرام ،وأن اللغة تشتغل آلي ًا بهذا القدر أو ذاك ،وأنه من األفضل ً خطأ مشترك ًا أن نفكر بهذه الطريقة! ومما ال شك فيه ،أننا نواجه هنا يدفعنا إلى البحث عن عمليات الذكاء داخل مستويات بالغة التعقيد، بدل اإلحاطة بها على مستويات سلوكية بسيطة ،كما يؤكد ذلك كل من شانك ( )Schankوهوفشتادتر ( )Hoffstadterأو وينوغراد (.)Winograd
52
من الواضح أن مثل هذه األسئلة تثير الشبهة حول النزعة املعرفية الكالسيكية ،وتعيد النظر فيها أكثر فأكثر .ويتجلى هنا موقفان ناجمان عن النقد املتزايد املوجه إليها :فالبعض يركز على ما يعتريها من نقص ومن قصور؛ والبعض اآلخر يؤكد على خاصيتها املتناقضة بالنظر إلى هذا الشكل الطبيعي أو ذاك للمعرفة .واملوقفان معاً ،يركزان على مشكلة "املعنى" .وكما يقرر فودور ،فإن اختزال الذكاء في تنفيذ مهام بسيطة واختزال معنى الرموز املعقدة في رموز أولية ،شيء ،أما إبراز الرابطة بني الرموز والعالم بلغة مادية ،فهو شيء آخر (Andler, .)1987
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
ولذلك ،حاول فودور تطوير نظرية سببية للداللة ،بنجاح نسبي ،حيث اعتبر املعنى نتاج ًا لتفاعل احمليط والنظام املعرفي (.)Foder, 1985 أما سورل ( ،)Searleفقد اقترح من جهته ،التخلي الفوري عن املفاهيم ( .)Searle, 1980غير أن أدق االنتقادات ،صدر عن بوتنام ( )Putnamالذي أكد أنه على الرغم من تبني أطروحات النزعة املعرفية كنظرية حاسوبية للتمثالت ،فإن ذلك ال يشكل بأية حال من األحوال، تأويالت لتمثالتنا الذهنية. ويجب التمييز في هذا اخلصوص بني "حساب" التمثالت وبني املواقف (معتقدات ،رغبات ... ،الخ) التي تترجمها ،دون أية إشارة للمضامني التي تنقلها وترسخها .هكذا" ،يتعني أن تكون التمثالث مؤولة مثل باقي العالمات األخرى" (.)Putnam, 1983, 1988 وأخيراً ،فإن العديد من االعتراضات العامة ،على هذه النزعة املعرفية الكالسيكية ،يصدر عن اجلهل القائم بصدد العالقات بني الذهن والدماغ، وأيض ًا بني الذهن واجلسم .ففي كل هذه األطروحات احلاسوبية ،ال تؤخذ مساهمات الفسيولوجيا العصبية بعني االعتبار .ولرمبا ردت علينا النزعة املعرفية بأنها تتوافق مع أعمال العلوم العصبية ،ألنها "وظيفية" من حيث طبيعتها وألن الذهن -على حد قول بعض السذج -ميكن أن يترسخ بالدماغ مثل البرنامج أو اللغة اآللية داخل اآللة. لكن العديدين ،كما هو الشأن بالنسبة لتشرشالند (،)Churchland يسلمون بأن املعارف الوحيدة التي ميكن أن تتطور في املستقبل ،تتمثل في العلم املعرفي وفلسفة الروح ،اللذين يستلهمان النماذج الفسيولوجية العصبية ويتضمنان مستوى وصفي ًا رفيع ًا (.)Churchland, 1986 ويذهب هؤالء إلى التشكيك في بقاء السيكولوجيا بالشكل القائم حالي ًا على مستوى مناهجها وحقولها ،مبا في ذلك السيكولوجيا الشعبية ( )folk psychologieاملهتمة باملواقف (مخاوف ،معتقدات أو رغبات) والتي تسعى النزعة املعرفية إلى حمايتها. وتبدو وجهة نظر دينيت ( )Denetteأكثر تدقيقاً؛ فبالنسبة إليه ،ال مجال لتفضيل هذا املستوى من التفسير على ذاك ،بل يتعني االشتغال على اإلكراهات والتفاعالت املتبادلة بني مختلف املستويات .ومن وجهة النظر هذه ،ستحافظ السيكولوجيا املعرفية على دورها في تفسير األشكال والوظائف اآللية (.)Denett, 1978 أما مسألة العالقة بني الذهن واجلسم ،فإن أصحاب االجتاه املعرفي
الكالسيكي ،عملوا على جتنبها وكأن التشريح العصبي والفسيولوجيا العصبية لم يوجدا أصالً! وبهذا املقتضى ،فإن املنظور التحليلي للوضعيات وللتعليم ،بتعابير القواعد وتركيباتها ،ال يعتبر مشوه ًا فقط ،بل يتجاهل كلي ًا واقع املالحظات .وكما أكد دريفوس ( ،)Dreyfusفإن هذه القواعد التي يبرزها التأويل اإلرادي ()interprétation volontariste في عمليات التعلم األولي ،تختفي مباشرة عندما تكتسب املؤهالت والكفايات وتستقر على مستوى اجلسم .هكذا ،فنحن "نشتغل" في وضعية اخلبرة كما في احلياة اليومية ،بطريقة شاملة ،عبر التعرف الفوري على التصورات والوضعيات واملشكالت ومقارنتها بتصورات أخرى أو بخطاطات مكتسبة من قبل .وال يتم الرجوع إلى اإلجراءات التحليلية لتفكيك مشكلة أو البحث عن انحصار أو جتاهل نظام من العمليات ،إال في حالة وجود عوائق أو عطل (.)Dreyfus, 1984 وتكمن اخلطورة هنا ،ونحيل على ميرلو -بونتي في هذا الصدد ،في الرجوع إلى سلوكية ( )Behaviorismeالستينيات مبعنى ما ،عبر التأكيد على سلوكياتنا العمومية والظاهرة فقط ،وليس على حاالتنا الداخلية ،وجتاهل ذلك "البعبع" ( )Bête noireاملتمثل في جهازنا العصبي املركزي ( .)Andler, 1987وفي األخير ،وإلنهاء هذا العرض حول ثغرات النزعة املعرفية الكالسيكية؛ نثير االنتباه إلى اجلهل الكبير القائم حول الدماغ واجلسم في عالقتهما بالذهن؛ وهو أيض ًا جهل كلي بالعوامل العاطفية واالجتماعية والثقافية املساهمة بشكل كبير في إقرار خصوصية األنساق احلية واإلنسانية .ونحن نعلم مع ذلك، كيف تخترق هذه العوامل أنشطتنا املعرفية وتنيرها .وال نفهم كيف ميكن احلديث عن مستقبل التنظيرات التقنوية ( )technicistesالتي جتهل هذه األبعاد األساسية ألنشطتنا املعرفية. وتعمل انتقادات أخرى ،مثل تلك الصادرة عن متورانا ()Maturana وفاريال ( ،)varela) (1987على إدراج وجهة نظر ثورية ،باملعنى اجلذري للكلمة ،حيث مت رفض املقدمتني الكالسيكيتني للنزعة املعرفية وهما من جهة ،وجود عالم خارجي محدد سلف ًا ويتعني على أنظمتنا املعرفية اكتشافه وإدراكه كانعكاس؛ ومن جهة أخرى ،كون هذه األنظمة املعرفية تشتغل كآالت ملعاجلة املعلومات مبداخل ومخارج. وبالنسبة إليهما ،فإن األمر يتعلق باألحرى ،بآالت مستقلة ،منتظمة ذاتياً ،باعتبارها تقنيات متحركة ذاتياً ،ال تتفاعل مع احمليط اعتماد ًا على املعلومات ،بل على تدفق للطاقة يعدل من حاالتنا الداخلية ومن أنظمة استقرارنا احمللية والعامة. وسيكون املهم ،ليس حتليل األحداث اخلارجية ،بل الوقوف على الدينامية الداخلية والشاملة للنظام املعرفي ،وكيف تتشكل هذه الدينامية تدريجي ًا على شكل "جتميع ثنائي وبنائي" للنسق وللمحيط ،وخصوص ًا على مستوى احلفاظ على الوحدة البيولوجية بغض النظر عن االختالفات القائمة .فتاريخ نوعنا اجتماعي وهو نوعي وذهني وجسمي (phylo .)et ontogenétiqueومن هذا املنظور ،فإن اللغة والتفاعالت االجتماعية أثبتت فعاليتها منذ بداية تشكل معارفنا. إن املوقف البديل للنزعة املعرفية ،يتمثل في النزعة االقترانية دون
منازع؛ وهي تشمل العديد من التيارات واملناهج املرتكزة على منوذج الشبكة العصبونية ( ،)réseau neuronalبحيث تأخذ شكل شبكات ذات وحدات بسيطة متواصلة فيما بينها ،ما يسمح بانتشار أنشطتها. وتتلخص فكرتها في كون الشبكة تتطور عندما ينشط احمليط ،وبالتالي فإن كل وحدة تقوم بإعادة النظر أو حتويل أو إبراز مستوى نشاطها، بالنظر ملا تستقبله من معطيات -مؤثرة أو مانعة -من هذا احمليط أو من الوحدات املجاورة لها واملتواصلة معها. هكذا ،يكتسب النظام العام قيمة جديدة وتستمر العملية إلى أن تستقر على حالة دائمة بهذا القدر أو ذاك ،كإجابة صادرة عن هذا النظام على تدخل احمليط .وكما سبقت اإلشارة ،فإن األمر يتعلق بعودة إلى اخلطوات األولى للسبرنتيقا ،عندما بني ماك كولش وبيتس ( )Mc Culloch et Pittsسنة ،1943أنه من املمكن حساب الوظائف املنطقية بواسطة شبكات الوحدات املسماة عصبونات صورية ( ،)neurones formelsمعتبرين أن هذه الشبكات متثل "جتسيدات للذهن" ( .)embodiments of mindوفيما بعد ،مت إدراج مستوى إضافي وهو املستوى الرمزي ،الذي مكن من حصول تقارب
مع املواقف املعرفية .لكن أصحاب االجتاه االقتراني تراجعوا اليوم ورفضوا مفهوم النسق الصوري؛ فليست رموز هذا النسق هي التي يتم االشتغال عليها ،بل القيم الرقمية .هنا حدثت القطيعة بني املوقفني: "فداخل النموذج املعرفي ،وكيفما كان التحليل املتبع ،يتضمن كل عنصر معنى وحيد ًا متفق ًا عليه (.)univoque-conventionnel أما داخل الشبكة ،فإن املعنى على العكس ،ال يظهر إال على مستوى غير محدد من األنشطة .وهو ما يسمح باالنبثاق التدريجي ملفاهيم جديدة ،كلما تقدمت الشبكة في تعاملها؛ ويفسر أيض ًا صياغة هذه األخيرة في سياقات معينة ،بشكل طبيعي ودون اللجوء إلى منطق غامض أو احتمالي ،أي منطق ما هو خاطئ وجائز ومنطي (.)... وميكن اعتبار كل العمليات املعرفية التي تنجزها الشبكات أو تعمل على صياغتها بشكل طبيعي ومباشر ومتنوع ،كأشكال للترابط بني التصورات ،وأيض ًا كإدراك وتعرف على األشكال وكترتيب وتصنيف وتكملة أو إدماج واستقراء" ( .)Andler, 1987وعلى خالف النزعة املعرفية التي يتم فيها كل شيء ،بالصيغ الكاريكاتورية لالستدالل االستنباطي ،فإن مسألة املعنى تعالج هنا بطريقة أصيلة، عبر حتديد "خارجي" ( )exogèneيتخذ صيغة اتفاق أو ترابط؛
53
ملف الثقافة العلمية رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
مشهد من مسرحية «عطسة» نظمها مسرح احلرية في جنني.
54
وعبر حتديد "داخلي" ( )endogèneيعرف بالتنظيم الذاتي (auto- .)organisationوفي جميع األحوال ،فإن صعوبات متثل بناءات ووظائف نظامنا املعرفي لم حتل ،كما أن األعمال االقترانية ليست متقدمة مبا فيه الكفاية للحسم في هذا األمر .ويفضل بعض ممثلي االجتاه االقتراني ،الذين يدركون صعوبة مواجهة النزعة املعرفية القائمة ،التأكيد على أنهم يعاجلون املستوى امليكروسكوبي و"الرمزي الفرعي" ( ،)Subsymboliqueفي حني تعالج النزعة املعرفية املستوى املاكروسكوبي أو "الرمزي" .هكذا ،فإن أصحاب االجتاه املعرفي يحللون العمليات املعرفية من مستوى عال -مثل االستدالل والوعي ...الخ -التي تتميز ببطئها وتستدعي تدخل السياق؛ في حني يدرس أصحاب االجتاه االقتراني الظواهر السفلى ،مثل اإلدراك الفوري أو اآللي املستقل عن السياق.
"كفضاء جديد للرهانات" وإعادة تشكيل ( )reconfigurationليس فقط لصيغ ودعامات ووظائف املعرفة ،بل أيض ًا للسؤال التاريخي حول عالقات اجلسم والذهن والدماغ والنشاطات الطبيعية أو املجردة. ونظر ًا للقرابة التاريخية بني النزعتني املعرفية واالقترانية ،فإن النقاش الكبير لن يقوم بينهما ،بل سيتم في املستقبل ،بالنظر إلى تعدد برامج البحث التي تهيئ دون شك ،النبثاق براديغم أو براديغمات تفسيرية ملعارفنا ،وبالتالي لطريقة منحنا معنى لألشياء؛ وباخلصوص للطريقة التي يساهم عبرها جهازنا العصبي املركزي وأيض ًا جسدنا واملجتمع "بأجهزته الرمزية الكبرى" -ومن بينها اللغة -في تأسيس هذا املعنى وانخراط هذه املعطيات جميعها في كل عملياتنا املتعلقة مبعرفة العالم ومتثله وإدراكه.
إن اخلالصة التي تفرض نفسها عند فحص كل هذه النقاشات وهذه املنظورات الشمولية تارة واجلزئية تارة أخرى ،تخص صورة العلوم املعرفية
جورج فينيو ترجمة :د .عز الدين اخلطابي عضو احتاد كتاب املغرب
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
الهوامش * جورج فينيو ،مختص في العلوم املعرفية وحاصل على شهادات علمية في ميادين اللسانيات والسيكولوجيا والفلسفة .هو مدير أبحاث في املركز الوطني للبحث العلمي بباريس ،كما عمل مستشار ًا علمي ًا وتقني ًا في مجال العلوم املعرفية ،لدى البعثة العلمية والتقنية لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي ما بني سنتي 1993 و ،1998ومدير مختبر التواصل والسياسة باملركز الوطني للبحث العلمي ما بني سنتي 2000و .2005من بني مؤلفاته نذكر: 1مدخل إلى العلوم املعرفية ،دار االكتشاف ،باريس .1991 2تنظيم التفكير ،دار النشر لوسوي ،باريس .1994 3بناء املعنى ،منشورات جامعة الفال ،كيبك .2005 4اقتطف هذان الفصالن من مؤلف جورج فينيو مدخل إلى العلوم املعرفية ،الصادر عن دار االكتشاف بباريس سنة .1991 Georges Vignaux, Les sciences cognitives, une introduction, éditions La Découverte, Paris 1991, pp: 7/14 et 311/313. وقد ترجما خصيص ًا مللف الثقافة العلمية في مجلة رؤى تربوية ،وقائمة املراجع اخلاصة بهما مثبتة في النسخة اإللكترونية.
من إحدى فعاليات جمعية الكمنجاتي في جنني.
اإلبستيمولوجيا الطبيعانية عند ويالرد كواين
57
د .يوسف تيبس يعتبر كتاب «من وجهة نظر منطقية» أول كتاب فلسفي لويالرد فان أورمان كواين 1،كما يصرح بذلك في مقدمة ،1980وبالتالي أكثر كتبه مثار ًا للجدل ،ألن الكتابات السابقة على هذا الكتاب منطقية بامتياز .وعلى الرغم من أن عنوان الكتاب يوحي بأن البحوث الواردة فيه منطقية صرفة، فإن مفهوم املنطق عند كواين فلسفي باألساس ،وهو ما يفسره العنوان الفرعي الذي يربط بني املنطقي والفلسفي في لفظ واحد مركب.
تتعلق النقاشات الفلسفية لكواين عموم ًا باملواضيع التالية :التحليلية، الترادف ،امتناع حتديد ترجمة العبارات النظرية ،القضايا ،امتناع حتديد اإلحالة (أو امتناع متحيص اإلحالة ،أو النسبية األنطولوجية) ،امتناع حتدد النظرية الفيزيائية ،النزعة الهوليستية ،النزعة الطبيعية ،النزعة التجريبية ،النزعة السلوكية ،النزعة املاصدقية ...الخ.
ارتبطت فلسفة كواين بنقد النزعة الوضعية ومفهوم الداللة واإلحالة، يعدل التصور وبالتالي تبني تصور جديد لإلبستيمولوجيا يتجاوز أو ِّ التحليلي السائد ملهمة الفلسفة أو اإلبستيمولوجيا على وجه اخلصوص.
وعلى الرغم من أن التساؤل حول «ما الذي يوجد» ذو طابع أنطولوجي محض ،فإن كواين ال يتردد في وضعه سعي ًا وراء التساؤل اجلذري حول
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
يستلزم فهم الفكر اإلبستيمولوجي والفلسفي لويالرد كواين فهم السياق اإلشكالي الذي ظهر فيه ،وهو ما يلخصه في مستهل الفصل السابع من كتابه «النظريات واألشياء» ،حيث يقول« :خالل القرنني املاضيني كان هناك خمسة أمور أفلحت فيها النزعة التجريبية للتغير نحو األفضل. أولها االنتقال من األفكار إلى الكلمات .وثانيها حتول اهتمام الدالليات من األلفاظ إلى القضايا .وثالثها انتقال اهتمام الدالليات من القضايا إلى نسق القضايا .ورابعها مبدأ املنهج الواحدي الذي وضعه مورتن وايت ( )Morton Whiteومفاده ترك الثنائية :حتليلي -تركيبي .وخامسها هو املذهب الطبيعي؛ أي التخلي عن السعي نحو فلسفة أولى سابقة على العلم الطبيعي» .من الواضح أن األمرين األول والثاني يتعلقان بالفلسفة الوضعية والتحليلية ،والثالث بالنزعة الكليانية أو الهوليستية، معتقد ْيها ،واخلامس يلخص والرابع بنقد الوضعية املنطقية باعتماد نقد َ 5 فلسفة كواين الطبيعانية.
فإذا كانت مشكلة التجريبية املنطقية والفلسفة التحليلية هي مسألة التحقق التجريبي من عبارات العلم ،والفصل بني عبارات العلم والعبارات الزائفة ،فإن كواين يذهب أبعد من ذلك ،إذ يتساءل عن نوع املواضيع التي يدرسها العلم ،من هنا سؤاله ،الذي يشكل عنوان 6 املقالة األولى من «وجهة نظر منطقية» ،أقصد« ،ما الذي يوجد»، عما نلتزم به أنطولوجي ًا عندما نقبل نظرية منطقية أو علمية .ذلك أن استعمال أسماء مثل «البراق» ال يلزمنا بوجودها ،أي أنها ال حتيل على أي كائنات محددة .كما أن استعمال احملاميل مثل «فيلسوف» في العبارة «سقراط فيلسوف» ال يعني أنها عامة .في حني أن استعمال املتغيرات املقيدة بسور ( )Bound variablesيلزمنا بوجود شيء ما مثال ذلك« :بعض الكالب بيض» يلزم عنها «يوجد شيء ما هو كلب وأبيض في الوقت نفسه»؛ لكن ال يلزم عنها تسليمنا بوجود «البياض» أو «الكلبية» كحدود عامة .ولتوضيح األمر ،يلجأ كواين إلى معيار إعادة صياغة العبارات ،باملوازاة مع نظرية األوصاف التي حل بها راسل املعوصات الثالثة املشهورة 7،وقد مكنه هذا املعيار من التخلص من األنواع واالحتفاظ بااللتزام بوجود شيء ما .وعليه ،استطاع كواين أن يتخلص عبر إعادة الصياغة من الكليات ألنه يرفض اجلزم بوجود الكائنات املجردة .حاصل القول إننا إذا قبلنا بطريق صورنة خاصة، فسنضطر لقبول األنطولوجيا التي تناسبها .مبعنى آخر إن كل صورنة أو نظرية منطقية لها أنطولوجيتها اخلاصة.
ملف الثقافة العلمية
جتمع فلسفة كواين بني املنطق واألنطولوجيا والعلم أو النظريات من خالل حتليل مفهوم اإلحالة وحتديده .إنه التحقيق في العالقة الوثيقة بني 2 النظريات واألشياء من خالل البت في أمر املعنى واإلحالة ،معتمد ًا في ذلك األدوات املنطقية التي يستقيها من راسل ووايتهيد أو فريجه وغيرهم ،أو يبتكرها كلما دعت إلى ذلك احلاجة .يقول كواين« :إنني ال أقترح اعتماد الوجود على اللغة .ما نحن بصدد مناقشته ليس هو الواقع 3 األنطولوجي بل االلتزام األنطولوجي للخطاب .إن ما يوجد ال يتوقف ،بشكل عام ،على استعمال املرء للغة ،بل على ما يقر املرء بأنه يوجد»، وهذا األمر بالضبط هو ما يشكل األهمية القصوى ،ومن ثم احلاجة امللحة ملن يسعى إلى فهم القضايا واملشاكل الفلسفية والعلمية املعاصرة؛ ألن «الفلسفة والعلوم تقدم إمكانيات النهائية االختالف حول ما يوجد» 4،ما يعني أن ما يهم «من وجهة نظر منطقية» ليس ما يوجد بل ما تقر نظرية ما بوجوده.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
58
أساس النظريات العلمية التي ليست سوى خطابات حول ما يوجد أو باألحرى حول ما تقر أنه موجود .إن وضع هذا السؤال ،في نظر كواين، ال يهدف إلى حتديد املاهية أو اجلوهر ،بل فقط حتديد نوع العالقة بني العبارات العلمية والواقع ،وبالتالي حتديد مسألة تناظر الواحد بالواحد تدعيها النزعة الوضعية أو التجريبية املنطقية .وبالطبع يستلزم البت التي َّ في التناظر حتليل داللة العبارات وتصنيفها ،وهو األمر الذي سيضطر كواين إلعادة النظر في مسألة التمييز بني العبارات التحليلية التحصيلية، التي ال يضيف محمولها إلى موضوعها شيئاً ،والعبارات التركيبية التي يستقى محمولها من التجربة ،إنها بلغة كانط عبارات بعدية. سيخصص كواين لهذا األمر املقالة الثانية من هذا الكتاب ،أي «معتقد ًا النزعة التجريبية» ،التي اعتبرت من أشهر املقاالت وأكثرها أهمية في القرن العشرين .متكن كواين من إبطال التمييز بني التحليلي والتركيبي، وبالتالي هدم نظرية التجريبية املنطقية في املعرفة ،معتمد ًا مثال «ال واحد من العزاب متزوج» ،ليبني أن الركائز التي تقوم عليها التحليلية ،خاصة القابلية للتبادل واحلفاظ على الصدق ،ليست فعالة بشكل مطلق :ميكن استبدال «غير متزوج» بـ «عازب» كمرادف لها ،ما يضع مشكل الترادف الداللي وكذا مشكل الداللة (تقوم التحليلية على الترادف والهوية الداللية) ،وبالتالي مبدأ القابلية للتبادل أو اإلنابة مع احلفاظ على الصدق .يستنتج كواين من هذا التحليل عدم وجود العبارات التحليلية املستندة إلى مبدأ القابلية للتبادل .وحيث إن النزعة التجريبية املنطقية كانت تقوم ،من جهة ،على فكرة إمكانية اختزال كل العبارات الدالة إلى عبارات بسيطة ترتبط مباشرة بالتجربة ،يطلقون عليها اسم العبارات األساسية أو عبارات البروتوكول ( ،)Protokollsätzeما يسمح بالتحقق من داللتها وبالتالي علميتها أو العكس؛ ومن جهة أخرى على عبارات حتصيلية ال يحتاج تأكيد صدقها أو كذبها إلى التجربة ،بل فقط إلى التكافؤ أو الهوية بني حدودها ،ما يجعلها حقائق منطقية غير قابلة لإلبطال ،سيعمد كواين بالنسبة للمعتقد األول إلى تبيان عدم حتليلية بعض العبارات التي تبدو كذلك؛ وسيبرهن بالنسبة للمعتقد الثاني أن عملية االختزال من أجل تسهيل عملية التحقق ،أو تأسيس العلم على التجربة املباشرة ،ليست أمر ًا يقينياً ،وأن اختبار عبارات العلم التجريبي ال يتم بشكل فردي ،بل بشكل جماعي مترابط (هوليستي)؛ أي العبارات العلمية ومن ثم ال أحد قادراً ،في نظر كواين ،أن يعرف ّ يجب تركها وإبطالها بشكل مسبق ،ألن كل العبارات قابلة للتصحيح من حيث املبدأ .قد تبدو بعض العبارات أحيان ًا بديهية ،وبالتالي غير قابلة لإلبطال ،لكن السبب راجع إلى جهلنا بالشروط التي ستؤدي إلى تركها من قبيل اكتشاف «الكوانطا» الذي أدى إلى ترك مبادئ كانت تعتبر بديهية وقبلية؛ مثل مبدأي الع ِّلية والثالث املرفوع. سيبتكر كواين لهذا الغرض جهاز ًا مفاهيمي ًا متسق ًا منطقي ًا يرتبط مبحاولته رفض معتقدي النزعة التجريبية املذكورين ،أقصد ،التمييز بني التحليلية والتركيبية واالختزالية؛ أهم هذه املفاهيم ،امتناع حتديد الترجمة وامتناع متحيص اإلحالة أو لنقل أسطورة الداللة.
امتناع حتديد الترجمة حاول كواين البرهنة على استحالة وضع التكافؤ الداللي بني عبارات
مختلفة؛ سواء داخل اللغة نفسها أم باخلصوص بني لغتني مختلفتني من خالل افتراض أو اصطناع 8جتربة املعجمي أو اللغوي الذي يسعى إلى ترجمة لغة غريبة عنه ،بدائية مثالً ،إلى لغته اخلاصة من دون أن يتوفر على سجل للترجمة أو مرشد؛ ويتساءل عن كيفية وضعه للتقابالت بني احلدود واأللفاظ ،وبني العبارات ،وبني الروابط املنطقية من اللغتني. تستلزم مثل هذه الترجمة نوع ًا من التكافؤ الداللي بني مكونات اللغتني ،ما يعني أن نقد كواين للترجمة هو نقد باألساس للداللة ،التي شكلت أساس التصور الوضعي ملعيار التحقق ،وبخاصة مع رودولف كارناب ،علة ذلك في نظر كواين أن اختبار سجل الترجمة ال يتوقف على الوقائع ( ،)fact of matterبل على خطاطاتنا املفهومية التي اكتسبناها عبر تعلم اللغة .لذا ،عندما نترجم ،فإننا نسقط منطق لغتنا ومقوالتها ومعيشنا على اللغة املترجمة 9،إذ ندمج بشكل وا ٍع مقوالت لغتنا في لغة الغريب .ومن ثم ال يتم اكتشاف مقوالت اللغة الغريبة بل ابتكارها ،وعليه ال يوجد معيار أو سبيل للتحقق من مدى صحة الترجمة .هكذا فمالحظة أي شذوذ أو غرابة في لغة الغريب ،ومن ثم احلكم أحيانا بالعقالنيتها وحتى تخلفها ،ليس في احلقيقة سوى شذوذ في لغة املترجم .بعبارة أدق ،إن الترجمة هي فرض ملقوالت لغة املترجم على لغة الغريب .وبالتالي فهي محاولة إلزالة كل تعارض بني «املتحضر». «املتوحش» وفكر املترجم الفكر ِّ ِّ وليبرهن كواين على ذلك يبدأ بتعريف ما يسميه «مثير الداللة» في ملفوظ ما ،باعتباره تلك الفئة من املثيرات التي تدفع الشخص إلى االنتقال إلى امللفوظ؛ مثالً :إذا كان امللفوظ هو «سيارة» ،فسيتضمن «مثير الداللة» ( )Stimulus-meaningالغبار الذي ينبعث من الطريق وصوت احملرك ...وكذا موضوع ًا طبيعي ًا له شكل وحجم محدد .وبناء عليه، ميكن تقسيم العبارات إلى فئتني: )1عبارات ظرفية ( )occassions sentencesمثل السيارة، واألرنب ،والشجرة ...الخ ،التي ال ُتقبل إال عندما يظهر «مثير الداللة». )2عبارات حملية ( )standing sentencesمثل «الطاقة النووية خطيرة» التي ميكن أن تقبل في غياب «مثير الداللة» .وعليه ،تكون عبارتان «مترادفتي املثير» ،حسب كواين ،إذا كان لهما «مثير الداللة» نفسه في اللغة نفسها .وهذا هو حال أغلب العبارات احلملية .يعتمد اللغوي أو واضع املعاجم أو املترجم على هذا النوع من الترادف ملعرفة ترج َمة ،فإنه يعمد لغة غريبة وترجمتها .وحيث إنه يجهل اللغة ا ُمل َ إلى ما يسميه كواين بـ «الفرضيات التحليلية» ،وهي الفرضيات التي يحاول من خاللها اللغوي تفكيك أو حتليل العبارات أو امللفوظات إلى كلمات أو مفردات بشكل حدسي ،ما يجعل إمكانية اخلطأ واردة دائماً؛ مثال ذلك ( )psychosociologyالتي قد يقسمها إلى أكثر من مادتني معجميتني أو أقل؛ أو «جافاجاي» في اللغة البدائية التي قد يالحظ املعجمي املترجم أنه لفظ «مثير -مرادف» لـ «أرنب» ،دون أن يبرهن على ذلك ألنه ال يتوفر على أي وسيلة الكتشاف الفرق الداللي بني «جافاجاي» و «أرنب». هكذا ،إذا كان من املقبول احلديث ،حسب كواين ،عن ترادف عبارتني باعتماد املثير بناء على االتفاق اللغوي ،فال معنى للتساؤل إن كانت لهما «الداللة نفسها»؛ أي التماثل الداللي ،ألن لفظني يكونان،
في نظر كواين ،مترادفني ضمن مجموعة من الفرضيات التحليلية اخلاصة.
حاصل القول إن الترجمة ال تنقل شيئ ًا عندما تستبدل متوالية من احلروف أو الكلمات أو اجلمل بأخرى ،مبعنى أنه ال يوجد شيء مشترك بني طرفي التكافؤ الداللي املفترض .بعبارة أدق ،ال وجود ألي داللة ككائن لغوي ميكن أن يكون أساس ًا للترجمة ،ومن ثم ال وجود لقضايا هي دالالت للعبارات. يضعنا هذا األمر في حيرة تدفعنا للتساؤل عن مرجعية كواين نفسه،
امتناع متحيص اإلحالة إذا كانت الداللة أسطورة ألن الترجمة ،أي تغيير التركيب أو الصرف اللغوي مع احلفاظ على الداللة أو الصدق ،مجرد إسقاط ملقوالت ترجمة ،وكانت عناصر الدليل اللساني هي: لغة املترجم على اللغة ا ُمل َ الدال واملدلول واملسمى أو املرجع؛ بحيث تشكل الداللة حاصل العالقة بني الدال واملدلول ،وهذه َت َبينَّ وضعها عند كواين ،واإلحالة هي حاصل العالقة بني الدال واملرجع؛ فما هو تصور كواين لإلحالة؟ وما هو وضع الواقع العيني؟ بعبارة أخرى ،هل يسلم كواين بوجود اإلحالة دون الداللة كما يفعل فريجه؟ وهل ميكن أن نتحقق أو نختبر نظرية أو قو ً ال من الداخل بغية معرفة مواضيعه؟ ترتبط اإلحالة لدى النزعة التجريبية والوضعيني املناطقة بالتحقق التجريبي؛ أي الربط بني العبارات العلمية لنظرية ما والتجربة املباشرة أو املعطى احلسي .غير أن كواين يعتبر املعطى احلسي مجرد أسطورة أيض ًا ألن األمر يتعلق، في نظره ،باملواضيع وليس باألحاسيس 14.بل إن املواضيع في ذاتها ال توجد إال من خالل اللغة التي ترد فيها .علة ذلك أن املعطى احلسي يظل مشتت ًا إلى كيفيات ما لم يتم توحيدها عن طريق اإلدراك والتفكير من خالل املواضيع ،فاملواضيع هي التي متنح الوحدة للتجربة؛ ألن الواقع يعطى لنا كـ» تعددية مواضيع قابلة للتعريف والتمييز ،وبالتالي تتم اإلحالة عليها بحدود عامة ومفردة» 15.وهو ما يؤكده في مقال «ما الذي يوجد» إذ يقول« :إن اخلطاطة املفهومية الفيزيائية ،التي تتغيا احلديث عن املواضيع اخلارجية ،متنحنا امتيازات كبيرة لتبسيط تقاريرنا جنمع الوقائع احلسية املبعثرة ونعتبرها إدراكات الشاملة .فعندما ِّ ملوضوع ما ،فإننا نختزل تعقيد زخم التجربة احلسية في بساطة مفهومية ميكن تدبيرها .إن قاعدة البساطة هي بالفعل املبدأ املوجه إلسناد املعطيات احلسية إلى املواضيع» 16.إال أن البساطة غير كافية من أجل التبرير التجريبي لنظرية معينة؛ ذلك أن كل املواضيع ،حتى األولية منها ،نظرية 17.كما يقر كواين في نهاية كتاب «الكلمة والشيء» أن «ال جتربة قادرة أن تبت في مسألة أنطولوجية» ،ليس بسبب الطبيعة اخلاصة لألسئلة األنطولوجية ،بل ألن هذه األخيرة ترتبط بالتجربة بوساطة
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
لكن ماذا عن الروابط املنطقية التي تعتبر كونية ،هل تخضع هي كذلك المتناع حتديد الترجمة؟ على الرغم من أن الروابط املنطقية في األصل جزء من اللغة الطبيعية ،إذ يتأسس السلوك الشفاهي على االتفاق حول احلقائق املنطقية ،ويتم اكتساب االتفاق حول هذه األحكام ،ألن «عادة 12 قبول هذه احلقائق تكتسب في الوقت نفسه مع العادات النحوية»، وبالتالي من املفروض أن تخضع للمنطق نفسه؛ فإن كواين يصونها من هذا األمر ،ألن معايير الترجمة ،في نظره ،هي معاييرنا وتعتمد في تعريفها على منطقنا ،وال يوجد ما هو أفضل من هذه املعايير 13.غير أن هناك فرق ًا بني امتناع حتديد ترجمة الروابط املنطقية وذلك املتعلق باألسوار (الوجودي أو البعضي والكلي) ،إذ أن معيار البت في األسوار يتم بواسطة معيار «ما هو موجود»؛ أي« :الوجود هو أن يكون قيمة متغير». وهو ما يصطلح عليه كواين مبعيار االلتزام األنطولوجي لنظرية ما.
59
ملف الثقافة العلمية
هناك متاثل بني الترجمة اجلذرية وصيرورة تعلم الطفل للغة ،ألن «حالة تعلم الطفل تشبه حالة الغريب» 10،إذ من الصعب البت في مدى التطابق ،في استعمال الطفل ،بني األلفاظ واملواضيع ،وبني استعماله للروابط اللغوية والروابط املنطقية .بل من املستحيل معرفة نوع املوضوع الذي حتيل عليه ملفوظاته ألنه من املستحيل معرفة إن كان الطفل يفرق حق ًا بني لفظ كمي (غير قابل للعد) مثل احلليب ولفظ مفرد يعني موضوع ًا 11 مثل الطاولة؛ أو بني التفاحة كمادة أو كثلة وبني التفاحة كموضوع. وهو الدليل نفسه الذي يسوقه كواين عند احلديث عن امتناع حتديد الترجمة اجلذرية ،وكذا امتناع حتديد الداللة ،من خالل مثال امللفوظ «جافاجاي» ( )Gavagaiالذي يعني في هذه اللغة البدائية« :أرنب»، إذ في كل مرة يتلفظ البدائي بهذه اجلملة يدل في الوقت نفسه على جزء ملتصق باألرنب ،ويضفي على قوله صفة «األرنبية» ،ومرحلة من حياة األرنب ،واملساحات املكانية املوجودة على يسار وعلى ميني األرنب... الخ .وبذلك إذا أراد اللغوي أن يعرف إن كان «جافاجاي» حد ًا عليه أن يسأل البدائي« :هل هذا اجلافاجاي هو نفسه اآلخر؟» ،أو «هل هذا الـ: جافاجاي واحد أم اثنان؟»؛ وليفعل هذا عليه أن يترجم مكونات لغته إلى لغة البدائي ،وهو ما يستلزم وضع فرضيات حتليلية .وحيث إن ترجمة العبارات النظرية وحدود لغة البدائي تعتمد هذه املعطيات لتحديدها، وحيث إن أقصى املعطيات ،التي تساعد اللغوي على ترجمة عبارات اللغة البدائية ،هي نفسها تلك التي تعني كل متعلم للغة على حتديد داللة التعابير اللغوية ،هي معطيات تتعلق بالسلوك اللغوي للمتكلمني بهذه اللغة ،لزم أن داللة العبارات النظرية وحدود اللغة يتم حتديدها باالستناد إلى هذه املعطيات.
بعبارة أخرى ،ما هي وجهة النظر التي ينظر منها كواين إلى هذه األمور ،وكيف يتسنى له إدراك امتناع الترجمة وغياب الداللة كقوام للتكافؤ الداللي الذي أقره فريجه؟ ميكن اإلجابة انطالق ًا من التنبيه إلى ربط كواين بني اخلطاطة املفهومية والتنشئة االجتماعية التي يخضع لها اإلنسان عبر تعلم اللغة .إن كل مجتمع ،وبالتالي كل لغة ،تفرض أثناء تعلمها خطاطة مفهومية على متعلميها ،تتحكم في تصوراتهم وفهمهم وإدراكهم للعالم بكل مكوناته؛ وال يقدرون على التخلص منها ،ما يستلزم أن الترجمة تكون أيض ًا خاضعة للخطاطة املفهومية اخلاصة للمترجم ،فتكون بذلك ترجمة «محايثة» ،بل ال ميكن التخلص من هذه اخلطاطة .بعبارة أخرى ،ال توجد «وجهة نظر بريئة» تند عن اخلطاطة املفهومية ،لذا تضطر كل ترجمة أن تبدأ وتنتهي داخل اخلطاطة ( )at homeومن خاللها .حاصل القول إن وجهة النظر الفلسفية لكواين هي احملايثة ضمن اخلطاطة املفهومية ،فنحن نترجم وجهة نظرنا في اللغة الغريبة؛ ما يدفع كواين إلى التشكيك في إمكانية التجرد من خطاطتنا املفهومية ،وبالتالي التمكن من تصور أمناط تفكير مغايرة لنا.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
60
العديد من النظريات التي جتعلها غير قابلة للبت أو التمحيص .لكن كيف نعرف مواضيع نظرية ما؟ تبني صياغة السؤال حسب كواين ،أنه فارغ ألنه مصاغ بأسلوب مطلق ودائري 18،ألن اجلواب يستند دائم ًا إلى أنطولوجيا أخرى مقبولة دون برهان .بعبارة أخرى ،ال ميكن قبول نظرية معينة إال في إطار نظرية أخرى تكون خلفية بالنسبة لألولى ( ،)background Theoryلذا سيكون من اخلطأ التساؤل حول أنطولوجيا نظرية علمية؛ بدل ذلك يجب التساؤل عما تقر بوجوده، أي التزامها األنطولوجي بالنظر إلى النظرية اخللفية؛ وبالتالي بالنظر إلى امتناع حتديد الترجمة ما بني النظرية «املوضوع» والنظرية اخللفية. بعبارة أخرى ال بد أن ينتهي البحث في أنطولوجيا النظريات العلمية إلى ما تسلم به هذه النظرية من مواضيع ،فتشكل بذلك هذه األخيرة األساس األصيل ا ُمل َسلَّم به ضمن خطاطة مفهومية خاصة وأصلية تكون واضحة من الداخل ،وتصبح ممتنعة التمحيص أو البت عندما نود التحقق من مواضيعها من اخلارج. وحيث ال توجد املواضيع بالفعل ،أو لنقل إن اإلحالة إليها تتغير بالتناسب مع تطور اللغة ،فإنها لن تكون معيار ًا للتحقق بل مجرد أسطورة أيضاً. تتطور املواضيع بتطور الفكر البشري والعلمي خصوصاً؛ وبذلك توجد مواضيع «منوذجية» متوسطة كالطاولة والشجرة والقرد ...الخ، تشكل متثي ً ال للمواضيع األكثر تعقيد ًا وتطور ًا كاجلسيمات والذرات واإللكترونات ...الخ .وعليه ،يفسر كواين تطور الفكر العلمي من خالل تطور اخلطاطة املفهومية التابعة لتطور اللغة التي تدرك املواضيع وفق ًا ملستوى تطورها؛ بعبارة أخرى ليست معرفتنا سوى الفرضيات التي نضعها ،وفق ًا خلطاطتنا املفهومية ،حول املواضيع احملايثة للغتنا املتداولة .ويتم إدماج أسطورة املواضيع بشكل تدريجي في اخلطاطة املواضيعية عبر انتقاء ألمناط التفكير األكثر «جناعة» من أجل بقاء النوع البشري ،وحيث أن املواضيع خاضعة لتطور اخلطاطات املفهومية، فإن اخلطاطة املواضيعية احلالية ،حسب كواين ،آيلة للزوال .حاصل القول إن «أنطولوجيات األشياء الفيزيائية والرياضية ،من منظور اخلطاطة املفهومية الفينومينولوجية ،مجرد أساطير تتصف بالنسبية، وهي كذلك ،في هذه احلالة ،من الناحية اإلبستيمولوجية .إنها وجهة 19 نظر من بني ُأخر ،لها مقابل ضمن اهتماماتنا واقتراحاتنا املختلفة». فما يوجد مجرد مواضعات ابتكرها اإلنسان كما ابتكر اآللهة متام ًا من أجل تبسيط «مسار التجربة» ،فـ»املواضيع الفيزيائية ...أسطورة مناسبة» 20.وعليه ،فقبول أسطورة املواضيع راجع إلى منفعتها بالنسبة للعلم خصوصاً ،والفكر اإلنساني عموماً. بيد أن مشكل املطابقة بني الفرضيات أو التخمينات حول املواضيع والطبيعة يضل موضوعاً ،إذ ًا كيف ميكن تفسير هذا التوافق بني اخلطاطة املفهومية (املعرفة) والطبيعة (العالم)؟ أو بعبارة أدق ،إذا كانت نظريتنا حول العالم صحيحة ،فكيف توصلنا إليها؟ يرى كواين أن العلة هي اخلطاب العادي والعلمي معاً ،ألن املعرفة عبارة عن عملية َمف َْه َمة بواسطة اخلطاطة املفهومية التي يتم اكتسابها من خالل تعلم اللغة؛ والتي تتطور بتطورها .يشكل هذا الترابط الدائري بني اخلطاطة املفهومية واللغة واملواضيع العلمية السمات األساسية لطبيعة اإلنسان ،ومن ثم فالتفكير في هذه الطبيعة املعرفية واالجتماعية واملعيشية هي مهمة اإلبستيمولوجيا املُطَ ْبعنة أو الطبيعانية .لتوضيح ذلك ،يستقي كواين
من أوطو نوراث تشبيهه لتطور املعرفة بتصليح السفينة وهي في حالة إبحار .وهو تشبيه يختصر النزعة الطبيعية واإلبستيمولوجيا الطبيعانية التي يتبناها كواين .ذلك أن مهمة اإلبستيمولوجيا لم تعد هي تأسيس املعرفة بل التحقق من كيفية توصل اإلنسان إلى احلالة الراهنة للمعرفة؟ تقوم اإلبستيمولوجيا الطبيعانية على فكرة تعلم اللغة التي تعمل على تشكيل العلم (الفرضيات والنظريات) والقوانني املنطقية عبر اخلطاطة املفهومية التي تتم مراجعتها بالنظر إلى التجارب اخلاصة. 21
بعبارة أدق ،إن تطور املعرفة ،حسب كواين ،مندمج بشكل طبيعي في تطور النوع البشري ،ومن ثم ال توجد ال فلسفة أولى وال منطق قبلي أو أولي يؤسسان املعرفة واملنطق .إن اإلبستيمولوجيا الطبيعانية هي ،بلغة ميشيل سير ،إبستيمولوجيا علمية ألنها تعنى بنفسها دون ما حاجة إلى ما يؤسسها ،يقول كواين« :تعتني املعرفة واملنطق بنفسيهما» لذا «ميكن لإلبستيمولوجي أن يستعمل بكل حرية النظرية العلمية برمتها» 22.يلزم عن تصور كواين لإلبستيمولوجيا كون الذات اإلنسانية جسم ُيسقط ماديته على العالم انطالق ًا من بنية خطاطته املفهومية ،فيكون احملصول هو نسق العلم .كما تتضمن اإلبستيمولوجيا املنطق ألنها تنظر في طبيعة املواضيع واألشياء وقيمها وسبل تكميمها. حاصل القول ،إن تطبيع اإلبستيمولوجيا يعني التخلي عن تأسيس املعرفة بغير املعرفة نفسها ،ومن ثم ما يجب تطبيعه هو الطبيعة اإلنسانية ،وليس العقل .إن ربط اخلطاطة املفهومية باللغة والعلم والنظرية يعني التأكيد على قدرات اإلنسان الواقعية وحدودها ،ذلك أن اإلنسان يتحدث عن العالم ،ككائن متجذر فيه ،باللغة والعلم. يرفض كواين الفصل بني الفلسفة والعلم إذ ال تختلف الفلسفة ،في نظره ،عن العلوم اخلاصة إال من حيث درجة العمومية ،فبدل أن تهتم العلوم بوجود «البراق» مثال تهتم بوجود الفئات والصفات .كما تعالج الفلسفة قضاياها من خالل اللغة باعتماد االرتقاء الداللي من املادي إلى الصوري .لذا ،على الفيلسوف كما على الفيزيائي أن يوضح قضاياه عن طريق إعادة بناء خطابه (معيار إعادة الصياغة) .لكن يجب أن يسلم بعدم وجود أي إمكانية لبناء لغة صورية منوذجية ،طاملا أن املنطق ال يأتي بشيء جديد ال يوجد في اللغة الطبيعية ،ومن ثم يجب أن نعمل ضمن لغتنا ،أي خطاطاتنا املفهومية ،ونسعى إلى حتسينها لبلوغ مقاصدنا اإلبستيمولوجية والعلمية. من هذا املنطلق ،ستكون مهمة الفلسفة هي وصف الدوال التي تبنيها العلوم ،وبخاصة املنطقية ،من أجل مراجعة املفاهيم ،حتى تستوفي بشكل أكثر فعالية الدوال التي تصفها الفلسفة .بعبارة أوجز ،يجب تنقية القول العلمي من املواضيع املجردة ،وبالتالي من الكليات ،ومن الداللة ككائن مجرد ،ومن املواضيع كحقائق واقعية ،ومن املوجهات املنطقية؛ من أجل اإلبقاء على اخلطاطة املفهومية واملواضيعية ،وااللتزام األنطولوجي وقيم املتغيرات أو السور الوجودي.
د .يوسف تيبس أستاذ املنطق والفلسفة املعاصرة، جامعة محمد بن عبد الله ،فاس ،املغرب
الهوامش
ملف الثقافة العلمية
مشهد من إحدى املسرحيات ملدرسة التمثيل في مسرح احلرية في جنني.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
WILLARD VAN ORMAN QUINE (1908-2000). 2تابع كواين ك ً ال من راسل وواتهيد في تصورهما اللوجيستيقي ،حتى في مقاله «أسس جديدة للمنطق الرياضي» ،غير أنه عمل على اختصار رموزهما الواردة في «مبادئ الرياضيات» في أقل عدد من الرموز ،كما عمل على جتديد البعض منها ،وبخاصة تبسيط مناهج البت في جداول الصدق والدوال الصدقية واملنطق احملمولي .يتبنى كواين املنطق املاصدقي لفريجه ،لذا يرفض املنطق املوجه ألنه مصدر للغموض وااللتباس (انظر مقال «اإلحالة واجلهة» من هذا الكتاب) 3 W. V. O. Quine, [1953] From a Logical Point of View, Harvard Univ. Press, 1980, p. 103. انظر ترجمتنا العربية لهذا الكتاب :من وجهة نظر منطقية :تسع مقاالت منطقية وفلسفية ،دار توبقال للنشر ،الدار البيضاء.2009 ، 4 W. V. O. Quine, [1960] Word and Object, MIT Press, p. 233. 5 Quine, W.V.O.,[1981] Theories and Things, Harvard Univ. Press. Cambridge, Massachusetts & London, pp. 67-72. 6السؤال نفسه يتكرر بطريقة مخالفة لكنها مباشرة حول املواضيع العلمية في املقالة األولى من كتابه «نسبية األنطولوجيا ومقاالت أخرى» وعنوانها «احلديث عن املواضيع». 7يعرض برتراند راسل هذه املعوصات الثالثة في مقاله املشهور (On )denotingمن خالل العبارات اآلتية: أ) «الغول غير موجود». ب) «أراد اخلليفة أن يعرف إن كان ابن حزم هو مؤلف طوق احلمامة». ت) «امللك احلالي لفرنسا أصلع». ً ً فالعبارة (أ) تتضمن أمرين :أوال «إن العبارة صادقة» ،وثانيا أنها تتعلق بوجود الغول؛ وهما قضيتان غير مقبولتني مع ًا الشتمالهما على التناقض. فإذا افترضنا أن العبارة صادقة لزم عن ذلك أن الغول غير موجود ،وبالتالي ال ميكنه أن يكون موضوع القضية احلملية املذكورة (أ)؛ أما إذا افترضنا صدق األمر الثاني ،أي أنها تتعلق بوجود الغول ،لزم عن ذلك ضرورة وجود الغول فينتفي صدق العبارة (أ) .أما العبارة (ب) فتتضمن القضية «ابن حزم هو مؤلف طوق احلمامة»؛ وحيث إن «ابن حزم» و«مؤلف طوق احلمامة» يحيالن على املسمى نفسه ،فيلزم عن ذلك ،تبع ًا لقاعدة اإلنابة ،استبدال أحدهما باآلخر دون املس بالقيمة الصدقية للعبارة .وهكذا ميكن أن نحصل على العبارة اآلتية« :أراد اخلليفة أن يعرف إن كان ابن حزم هو ابن حزم». وهي عبارة فيها تكرار عبثي من الناحية املنطقية. في حني متثل العبارة (ت) خرق ًا ملبدأ عدم التناقض ألنها ونفيها مع ًا كاذبان. فامللك احلالي لفرنسا ال ينتمي ال لفئة «األفراد الصلع» وال لفئة «األفراد غير الصلع» ،وبالتالي يستحيل تقومي هذه العبارة صدقياً. لتحليل وحل هذه املعوصات ( )Puzzlesسيلجأ راسل إلى إجراءين :أوالً التمييز بني الوجود ( )existenceوالوجود االعتباري (،)subsistance فإذا كان األول يقتضي الوجود باملعنى املادي واملوضوعي للوجود الواقعي، فإن الثاني ال يستلزم ذلك ،وبالتالي فإن آلهة األساطير واألعداد واألشكال والكائنات الرياضية لها وجود ،وإال ملا أمكننا احلديث عنها .والثاني هو 1
نظرية األوصاف .أنظر هذا املقال في: Russell, Bertrand, [1956]: Logic and Knowledge, edited by Robert C. Marsh, ed. Capricorn Books 1971, pp.41-56. 8يعتبر كواين أن التجربة اجلذرية مسألة «مصطنعة» فقط إلثارة االنتباه إلى شيء ال يتم االنتباه إليه؛ انظر الفصل الثاني من :الكلمة والشيء. 9 W. V. O. Quine, [1953]. From a Logical Point of View, chap. 3. P. 63. 10 W. V.O. Quine, Relativité de l’ontologie et autres essais, Trad. Jean Largeault, ed.Aubier-Montaigne, 1977, p. 23. 11 Ibid., p. 20. 12 Quine, V. O. W., Philosophie de la logique, p. 151. 13ينتقد كواين مبدأ اإلحسان ( )charityالذي قال به دافيدسون وتتبناه الفلسفة التحليلية كمبدأ للتأويل ،ومفاده أن علينا أن نترجم دائم ًا بطريقة تطابق عقالنية املترجم. 14 Quine, W.V.O., [1981] Theories and Things, p. 41. 15 Quine, W.V.O., Relativité de l’ontologie et autres essais, p. 13. 16 Quine, W.V.O., [1953]. From a Logical Point of View, chap. 1, P. 17. 17 Quine, W.V.O., [1981] Theories and Things, p. 20. 18 Quine, W.V.O., Relativité de l’ontologie et autres essais, p. 66. 19 Quine, W.V.O., [1953]. From a Logical Point of View, p. 19. 20 Ibid., p. 44. 21 Quine, W.V.O., Relativité de l’ontologie et autres essais, pp. 83-105. 22 Quine, W.V.O., [1974] Roots of reference, The Paul Carus lectures, ed., Open Court la sale Illinois, P. 2.
61
االستقصاء واجلدل العلمي والقصة .. سياقات للتعلم احلواري
جتربة تطبيقية مع معلمات ومعلمني
62
مشهور البطران
ملخص
ملف الثقافة العلمية
َت َطلَّع هذا العمل إلى تطوير قدرات املعلمني/ات في مجال احلوار الصفي واستقصاء تأثيره في بناء املعرفة ،على مدار سبعة أشهر من العام الدراسي ،2008-2007ومبشاركة أساسية مع ثالثة معلمني/ات من مدرستي بنات بيت عوا الثانوية ،وذكور بيت عوا الثانوية .استخدم املعلمون/ات سياقات متنوعة لتفعيل احلوار الصفي من قبيل االستقصاء العلمي ،واجلدل العلمي ،إضافة إلى القصة في سياق علمي. ولتمكني املعلمني من بناء هذه السياقات ،فقد انخرطوا في سلسلة من املساقات وورش العمل والعروض البصرية وعروض الكتب ،مكنتهم من إعادة بناء الوحدات التعليمية ،وكذا اكتساب إستراتيجيات تفعيل احلوار الصفي. ولتقييم نوعية احلوار الصفي ،اعتمدنا على مؤشرات مثل نوعية األسئلة ،ومصدرها ،وغاياتها ،إضافة إلى منط التفاعل الصفي .أما بالنسبة لتقييم نوعية اجلدل ،فقد جلأنا إلى منوذج توملني (.)Toulmin’s Argument pattern T.A.P اتكأنا في هذا البحث على طرائق نوعية في جمع البيانات؛ كاملقابالت ،وكتابات املعلمني ،والطالب ،والتصوير ،حيث مت تصوير كل معلم مرتني على مدار الشهور السبعة ،مرة في بداية العام ،والثانية في الثلث األخير منه .وقد أفرغت هذه البيانات وحللت بهدف رصد التغيرات التي طرأت على ممارسات املعلمني في صفوفهم. كانت النتائج جيدة قياس ًا إلى الفترة الزمنية التي استغرقها البحث ،حيث أظهر التحليل النوعي للبيانات تغيرات إيجابية متفاوتة في مجال احلوار واجلدل العلمي.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
في الرؤيا ..مقاربة فكرية حتى اآلن جتري العملية التعليمية وفق نظام ُي ْعلي من شأن العلم وصف العالم من حولنا ،ومع تقديرنا ألهمية كمجموعة من احلقائق ُت ِّ اإلملام باملفاهيم واملعارف العلمية ،فإننا نعتقد أن انخراط الطالب في عمليات العلوم وإكسابهم مهارات االستكشاف العلمي ،أمر ال محيص عنه في أي برنامج لتعليم العلوم. االدعاء أن النظرة إلى العلم كطريقة في االستكشاف في املناهج ميكن ّ الفلسطينية اجلديدة دون املستوى املطلوب ،على سبيل املثال ،لم تولِ املناهج أهمية لالستقصاء العلمي ،فمث ً ال ُيطْ َر ْح موضوع االستقصاء ِ العلمي في منهاج الصف التاسع 1كموضوع َيصف عناصر العملية االستقصائية من غير الشروع في عملية االستقصاء نفسها .إننا عرف الطالب مفهوم الفرضية ،إمنا األهم نعتقد أنه ليس من املهم أن ُي ِّ
عرف الطالب مفهوم أن يصوغها لغة وممارسة ،وليس مهم ًا أن ُي ِّ املشاهدة ،إمنا األهم هو ممارستها وإتقانها .هذا هو شأن االستقصاء في املناهج اجلديدة ،أما اجلدل العلمي فإننا جنزم بأنه مغيب كلي ًا من هذه املناهج. تؤكد األدبيات التربوية احلديثة على ضرورة إيالء أهمية قصوى ملفهوم العلم كطريقة في إنتاج املعرفة .إن مفهوم العلم كطريقة يقتضي التركيز على منهجيات وعمليات من قبيل احلوار ،واجلدل ،واالستقصاء.
ملاذا احلوار واجلدل واالستقصاء لقد اخترنا هذه العمليات ألننا نعتقد أنها روافع للسؤال ،فهي تبدأ بالسؤال وتنتهي به ،فاحلوار واجلدل ال ينتهيان طاملا املعرفة اإلنسانية موجودة ،فكل معرفة مهما كان مصدرها أو درجة دقتها ،هي في النهاية االدعاءات التي ال سبيل معرفة نسبية تنطوي في صيرورتها على قدر من ّ
إلى البرهنة على صحتها على وجه اإلطالق .وعلى هذا النحو ،فان احلوار واجلدل سيبقيان لصيقني للمعرفة أبداً. وإذا كان هذا شأن احلوار واجلدل ،فان االستقصاء هو املاكينة التي تولدهما ،فاالستقصاء في أبسط توصيفاته هو تقصي «احلقيقة» والتأكد من صحتها عن طريق مساءلتها ،فهو من هذه الناحية يتقاطع مع احلوار واجلدل القائمني على السؤال ،بل وميكن القول إن االستقصاء يولد ك ً ال من احلوار واجلدل .فنحن نتحاور أو نتجادل عندما نختلف في تفسيراتنا لظاهرة أو حادثة ما .من جهة ثانية ،فإن عملية االستقصاء تتضمن جمع املعلومات وتفسيرها للوصول إلى النتائج ،هذه النتائج هي مبثابة ّادعاءات في مرحلة ما وحتت ظروف معينة ،وهذه االدعاءات تتطلب تبرير ًا مستند ًا إلى مشاهدات وأدلّة ،وهنا يتقاطع االستقصاء مع اجلدل ،وألن التفسيرات تنبني في ضوء فهم الفرد الذاتي للدالئل ،فإن احلوار واجلدل يتأسسان على ضوء هذه التفسيرات.
في احلوار
وباعتبار النظرية الثورية 3التي تنهض على مفهوم القطيعة واالنفصال، ندعي أيض ًا أن النظريات العلمية القائمة جتاوزت نظريات سابقة فإننا َّ لها ،وهي بدورها قابلة للتجاوز ضمن ما يستحدثه الفكر العلمي من نظريات جديدة ،إن آلية التجاوز هي في األساس قائمة على احلوار بني األطر العلمية التي متثل علماء في حالة حوار وجدل ،ففي كلتا احلالتني ،فإن النظرية تنطوي في بنيتها على أصوات الناس الذين بنوها. العلم بناء لغوي ثقافي اجتماعي قابل للمساءلة والتغيير على الدوام، وطاملا هو كذلك فهو إذن حواري .إننا نقول ذلك ألن ثمة توجهات أخرى ترى أن العلم الطبيعي يختلف عن العلوم اإلنسانية في كونه موضوعي ًا ومعمم ًا وغير قابل للجدل ،فالفكرة العلمية إما أن تكون صائبة وإما خاطئة ،ما يعني -من منظور وضعي -أن الفكرة الصائبة ال مجال للحوار حولها ،ألنها صائبة ،والفكرة اخلاطئة يجري جتاوزها ألنها خاطئة.
إن أهم شرط للحوار هو االعتراف املتبادل ،ومع أن وجود املعلم واملتعلم في الصف مع ًا يعني ضمني ًا توفر هذا الشرط ،إال أن ما يحدث في الغالب هو عكس ذلك“ ،فثمة افتراض مسبق لدى املعلمني بأن الطالب لن يكون بوسعهم بناء معرفة مفيدة وذات صالحية إذا كانت هذه املعرفة غير صادرة عن معلم أو كتاب نصوص ،وال حتمل على األقل موافقتهما الرسمية” (ويلز .)50:2003 ،وعلى هذا األساس،
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
إن هذا املنظور الوضعي ملفهوم العلم ينعكس على العملية التعليمية، فالعلم عادة ما يقدم في الصف على أنه إجابات صحيحة ومعممة حول العالم ،وهذا معناه أن ال حاجة للحوار بشأنه طاملا هو كذلك .إن أحد أهم انعكاسات النظرية الوضعية على الصف ،أن اللغة املسيطرة على اخلطاب الصفي هي اللغة العلمية ،وهذه اللغة هي لغة املجتمع العلمي ا ُملو َدعة في الكتب واملنطوق بها على لسان املعلم .وما يحدث في الصف عبر أمناط التفاعل السائدة هو أن اللغة مبا تتضمن من أفكار يتم تلقيها كما هي في الكتب ،باعتبار أن هذه الكتب حتوي اإلجابات الصحيحة عن العالم مسرودة على لسان املعلم.
ثمة إذن فارق بني مفهومي اللغة والكالم ،فاللغة بحسب دي سوسير هي نتاج املجتمع للملكة الكالمية ،أما الكالم فهو حدث فردي متصل باألداء وبالقدرة الذاتية للمتكلم (عزام .(14:2003 ،وعلى هذا النحو ،فان احلوار مبعنى ما هو حتويل اللغة العامة إلى كالم خاص ينتجه األفراد املنخرطون في احلوار .واحلوار هو عودة باللغة ومسلماتها إلى وضعيات تفكيكية يساهم فيها املتحاورون .إذن احلوار هو فعل كالمي“ ،وهو إعادة إنتاج فردي للغة اجلماعة” (الكردي، .)28:2003وبحسب (أوسنت ،وسورل ،وكرايس) هو “كالم قصدي ،غايته تبادل املعلومات ،مع القيام بفعل محكوم بقواعد مضبوطة في الوقت نفسه ،وهذا الفعل يهدف إلى حتويل وضع املتلقي وتغيير نظام معتقداته ومواقفه السلوكية” (عزام.)145:2003 ، ومع أننا نتفق مع توصيف أوسنت في قصدية الكالم ،فإننا نختلف على مصدر هذه القصدية ووجهتها ونتائجها ،إذ يتضح من التعريف أن املقصود هو تغيير سلوكيات املتلقي وحده ،وفي هذه النظرة ثمة ما يشير إلى سلطة أحادية االجتاه من املتكلم على املتلقي .ففي احلوار ٍ ومتلق دائم ،إمنا يوجد تلفظات بحسب باختني 4،ال يوجد مرسل دائم مبنية على تلفظات سابقة لها وممهدة في الوقت نفسه إلى تلفظات واحملاور كل منهما يتغير ويعيد إنتاج ذاته عبر احلوار. تالية .فاحملا ِور َ ومع أن فكرة احلوار الباختيني نشأت في حقل الدراسات األدبية ،فإنها تطورت ووظفت في سياقات ثقافية واجتماعية وعلمية .ومن هنا، فإننا ننظر إلى الصف العلمي كإطار اجتماعي ثقافي ميكن أن ينخرط فيه الفرد في حوار نشط إذا ما توفرت العناصر الكفيلة بالنهوض بهذا احلوار.
63
ملف الثقافة العلمية
تقود فكرة تراكمية 2العلم إلى أنه ليس ثمة نظرية علمية ميكن إسنادها كلي ًا إلى عالم واحد أو مكتشف واحد ،فالنظريات العلمية متام ًا كالنصوص األدبية مسكونة بتعددية األصوات واإلحاالت املرجعية ،وعلى هذا األساس ،فإن الفكر العلمي في تكوينه هو فكر حواري.
ويرى درايفر ونيوتن وأسبورني (& Driver, Newten )Osborne, 1998, p:291أن املعلم حني يقدم الدروس العلمية كحقائق غير قابلة للحوار فإمنا يستخدم سلطته التقليدية ( )traditional authorityكمعلم ،مبا هو شخص ال يحتاج إلى البرهنة والدالئل على ما يقول ،وهو بذلك يتجاوز سلطة العقل ( )rational authorityمبا تتطلبه من تقدمي دالئل تدعم تفسيرات الظواهر .وقد أشار ليمك ( )lemke, 1990, p:8إلى ذلك عبر توصيفه ألمناط التفاعل الصفي ،حيث بينَّ أن منط التفاعل السائد هو النمط الثالثي :حيث يسأل املعلم سؤا ً ال محدد ًا وعادة ما يكون مصدره الكتاب املقرر ،وفي هذا احلالة يتوقع املعلم إجابة محددة لسؤاله ،ثم يختار الطالب الذي سيجيب عن هذا السؤال ،ومن يقيم املعلم اإلجابة .مع هذا املنحى من التفاعل الصفي ،تبقى ثم ّ املفاهيم واألفكار كما هي معبر عنها بلغة الكتاب ،وال تكتسب بعد ًا ذاتياً .مبعنى أن صوت املعلم وصوت الطالب مع ًا لم يسكنا اخلطاب العلمي الصفي إال في حدود ضيقة .وعلى هذا األساس ،فإن اللغة العلمية العامة لم تتحول إلى كالم فردي.
فإن ثقة املعلم مبا ينتجه الطالب من كالم فردي شرط أساس للنهوض باحلوار.
64
واحلوار يتعارض مع اليقينيات ،فحتى نتحاور يجب أن تطرح احلقائق في إطارها النسبي ،فطاملا إن العلم منتج إنساني اجتماعي سيظل عرضة للتغير والتبديل ،وهذا معناه قابليته للحوار على الدوام. الشرط الثالث للحوار هو توفر اهتمام شخصي متبادل ما بني املتحاورين حول املوضوعات املعرفية املطروحة ،وطاملا أننا نتحدث عن حوار صفي ،فإن املقررات التعليمية يجدر بناؤها على أساس احتياجات املتعلمني ،بحيث تسمح بتفعيل احلوار.
في اجلدل العلمي ()Argument & Argumentation
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
5
يصعب أحيان ًا التفريق بني مفهومي احلوار واجلدل ،فاجلدل :ممارسة كالمية ،فهو من هذه الناحية يتطابق مع مفهوم احلوار ،ومثلما يكون احلوار مونولوجياً ،قد يكون اجلدل أيض ًا مونولوجياً ،فعندما يحاور اإلنسان ذاته مستخدم ًا بيانات معينة كي يقنع نفسه بصحة استنتاج ما أو لدحض فكرة ما ،فإن ما يقوم به هو في صلب عملية اجلدل، ويذهب كل من نايلور وكوغ وداوننغ (S.Naylor, B.kogh, 6)& B. Downingأبعد من ذلك ،إذ يرون أن عمليات التفكير والكتابة والتجارب العلمية هي أيض ًا شكل من أشكال اجلدل .وإذا كان احلوار سابق ًا على اجلدل العلمي ومؤسس ًا له ،فإنهما يتفارقان في نواح عدة: < فاحلوار يهدف إلى تبادل املعرفة بني املتحاورين ،في حني يهدف اجلدل إلى إقناع اآلخر بوجهة نظر معينة إزاء قضية خالفية. < يندرج اجلدل العلمي في سياق األطر املعرفية أو البراديغم بحسب كون 7،فهو إذن ينطوي على شحنة أيديولوجية ويرتبط مبصالح األطراف املتجادلة وقواها؛ أما احلوار فهو لصيق لكل الناس. (ادعاء رئيس قد تتفرع منه < يدور اجلدل العلمي حول فكرة واحدة ّ سلسلة ّادعاءات فرعية) ،أما احلوار فهو أكثر عمومية ،حيث كل الفكر اإلنساني قابل للحوار. < اجلدل العلمي له بنية خاصة ُم ْحكمة -خاصة النمط الديالوجي -تنبني باالدعاءات ،وعلى هذا عبر سلسة من العمليات تبدأ بالبيانات وتنتهي ّ النحو يحتاج اجلدل العلمي إلى ترتيبات خاصة ،في حني أن احلوار تلقائي وأكثر بساطة. تتفق معظم توصيفات اجلدل العلمي في كونه عملية تقييم االدعاءات العلمية وتبريرها عن طريق تقدمي دالئل تستند إلى بيانات إمبريقية بهدف اإلقناع أو الدحض .وميكن تصنيف اجلدل العلمي إلى منطني: .1النمط الديداكتيكي التعليمي :ويسمى في بعض األدبيات بالنمط البالغي ( ،)rhetoricalوهذا النمط يستخدمه املعلمون في الدروس العلمية ،سواء إلثبات صحة نظرية ما أم لنفي أخرى.
فحني يقدم معلم الكيمياء مثال األمونيا ( )NH3كمثال على مادة قاعدية ال حتتوي على هيدروكسيل لدحض نظرية أرهينوس التي تنص على أن “املادة القاعدية هي التي حتتوي على ايون الهيدروكسيل” ،فإن ما يفعله هو جدل علمي .أو حني يقدم معلم العلوم مثال “متسلق اجلبال الذي يعاني من صعوبة في التنفس كلما صعد إلى األعلى” ،فإمنا يحاول البرهنة على النظرية القائلة بتناقص نسبة األكسجني تدريجي ًا مع االرتفاع في طبقات الغالف اجلوي .إن هذا النمط من اجلدل يتصف بأنه إخباري وأحادي االجتاه (من املعلم إلى الطالب) ومحدود ،وال يحتاج إلى ترتيبات خاصة. .2النمط الديالوجي أو متعدد األصوات (:)multivoiced وميتاز هذا النمط بتعددية االجتاهات ووجهات النظر ،ويتضمن وجود ّادعاء رئيسي يختلف حوله طرفان ،يقدم كل منهما دالئل 8 داعمة أو داحضة .ولذا يصف فان امييرن ()Van Eemern هذا النمط من اجلدل بأنه :لغوي ثقافي اجتماعي ،ويري درايفر ونيوتن وأسبورني (Driver, Newten & Osborne, 1998 ) :p:291أن قيمة اجلدل الديالوجي تكمن في أنه يتيح الفرصة للمتعلمني للتعبير عن شكوكهم ،وطرح األسئلة ،وإبداء وجهات نظر مغايرة ،وهذه املواصفات ال ميكن لها أن تتوفر في النمط الديداكتيكي. وعلى الرغم من أن نظرية اجلدل تطورت عبر عقود ،فإن توملني ( )Toulmin, 1958هو أول من وضع منوذج ًا يصف بنية اجلدل وعملياته (،)Simon, Eduran, & Osborne, 2006 p 240 ويتكون منوذج توملني من العناصر التالية: .1 .2 .3 .4
البيانات ( :)Dataوهي املعلومات في صورتها األولية التي يستخدمها الطرفان لدعم االدعاء. االدعاء ( :)claimميثل االستنتاج أو اخلالصة املراد تعميمها واملختلف بشأنها. العالقات ( :)Warrantsوهي الروابط (قواعد ،مبادئ، واالدعاءات. حقائق ...الخ) التي تربط ما بني البيانات ّ الدالئل/املساندات ( :)Backingsهي األدلة التي تسند االدعاءات.
وباستخدام هذه العناصر األربعة تتحدد بنية اجلدل بالكيفية التالية: بسبب (البيانات) ...مع توفر (عالقات وروابط) ...وباالعتماد على (الدالئل) ...لذلك نستنتج (استنتاجات/ادعاءات). إضافة إلى العناصر السابقة ،أضاف توملني عنصرين آخرين يستخدمان في املستويات العليا من املجادالت ،وهما: .1مجال التأهيل ( :)Qualifiersالظروف التي يتأهل فيها االدعاء إلى مرتبة احلقيقة العلمية. .2مجال النفي ( :)Rebuttalsالظروف التي َت ْب ُط ُل فيها صحة االدعاء.
(شكل :)1منوذج توملني للجدل العلمي ) (Toulmin’s Argument pattern T.A.P
65
مجال التأهيل QUALIFIER ّادعاء CLAIM
بيانات DATA العالقات WARRANTS
مجال النفي REBUTTALS
ملف الثقافة العلمية
الدالئل/املساندات BACKINGS
وكمثال على بناء اجلدل العلمي ،نطرح املثال التوضيحي التالي: مثال توضيحي على بناء اجلدل العلمي
الضوء ذو طبيعة موجية
املوجة :أي موجة تتكون من قمم وقيعان ،ولها تردد وطول موجي وطاقة
الضوء :أي ضوء له تردد وطول موجي وطاقة
االنعكاس واالنكسار والتداخل واحليود
العالقات الرياضية التي تنطبق على أي موجة تنطبق على الضوء نفسه
الظاهرة الكهروضوئية
مجال التأهيل
املساندات
مجال النفي
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
االدعاء ّ
العالقات
البيانات
وطاملا أننا نتحدث عن االستقصاء في التعليم ،فمن الضروري أن منيز بني االستقصاء العلمي في املختبر كنشاط للعلماء ،وبني االستقصاء العلمي في الصف ،فاألول يهدف إلى اكتشاف معرفة جديدة أو اإلجابة عن أسئلة لم تعرف إجابتها بعد ،في حني أن الثاني هو طريقة في تعليم العلوم ،وهذا يعني أن االستقصاء كطريقة في التعليم هو استقصاء ما مت استقصاؤه في املختبر ،بتعبير شواب ) 10(Joseph Schwabالذي وصفه بأنه استقصاء في االستقصاء (.)enquiry into enquiry
66
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
لقد جلأنا في هذه التجربة إلى منوذج التعلم االستقصائي التعاوني حلل املشكالت ،من واقع أن املدرسة مبا فيها من أفراد وعالقات وأدوار ومشكالت ميكن أن تشكل بيئة مالئمة لهذا النموذج االستقصائي. ويشمل هذا النموذج العمليات التالية:
في االستقصاء العلمي ثمة تقاطعات كثيرة في توصيف األدبيات التربوية لالستقصاء ،فجميعها تتقاطع في عناصر مشتركة من قبيل :وجود مشكل يولد سؤا ًال ،السؤال يولد فرضية ،الفرضية إما أن ترتقي إلى مرتبة احلقيقة أو يعاد النظر فيها بناء 9 على ما يواكبها من جدل وحوار .وبحسب (،)I.N.S.E.S 2000, P20 فإن االستقصاء هو نشاط متعدد الوجوه يتضمن العمليات التالية: < عمل مالحظات. < صياغة األسئلة. < جمع املعلومات من مصادر مختلفة ،ملعرفة ما هو معروف حول الظاهرة موضوع الدراسة. < التخطيط لالستقصاء. < جمع البيانات حول الظاهرة ،وهذا يتطلب عمل جتارب وقياسات. < حتليل البيانات اجلديدة وتفسيرها. < وضع فرضيات على ضوء البيانات اجلديدة. < اختبار الفرضية للتأكد من صحتها. < فحص قدرة الفرضية على التنبؤ بالظاهرة. ونرى من املهم أن نشير إلى أن عملية االستقصاء ليست عملية خطية ذات خطوات متالزمة ،وليس بالضرورة أن تتضمن كل العمليات السابقة ،وهي أيض ًا ليست الطريقة الوحيدة إلنتاج املعرفة ،وهذا موضوع شائك لن جنادل فيه .إن ما نؤكد عليه هنا أن االستقصاء في جتربتنا هو سياق يفتح أمام املشاركني باب األسئلة احلوارية ،مبا يتيحه من بدائل وتفسيرات بناء على املشاهدات .وهنا تكمن أهمية االستقصاء في أنه مينح الطالب الفرصة ملعرفة كيف يعرفون ما يعرفونه ،وأي أدلة تدعم هذه املعرفة” (.)2000, p:22
< حتديد املشكلة التي ستقود العمل االستقصائي :وحتى تكون هذه املشكلة سياق ًا أصي ً ال للتعلم ،فيجب أن تنبثق من واقع الصف أو املدرسة أو املجتمع .وكذا يجب أن تكون مشكلة حقيقية وليست مصطنعة لغرض التعلم ،وأن يكون للمتعلمني اهتمام فعلي بحلها، وأن ال تكون مفروضة على الطالب؛ أي أن يساهم الطالب في اختيارها. < حتديد الفرضية/الفرضيات :وهنا ميكن تقسيم الصف إلى مجموعات، وتشغيل إستراتيجية العصف الذهني لصياغة الفرضيات التي ستقود البحث .وكل مجموعة تتولى العمل على الفرضية التي تبنيها. < جمع املعلومات حول املشكلة :وهنا يكون العمل تشاركياً ،ويناط بكل مجموعة مهمات محددة ،ويفترض في املعلم أن يوفر لطالبه مصادر تعليمية حول املشكلة. < اختبار الفرضية والوصول إلى النتيجة.
مقدمة تأتي هذه التجربة البحثية في إطار توجه مركز القطان للبحث والتطوير التربوي للعمل مع املعلمني عبر مشاريع بحثية في مدارسهم وبني طالبهم ،على أبحاث نوعية 11،ينخرط فيها الباحثون مع املعلمني والطالب في سياق تبادلية األدوار .ضمن هذا التوجه اخترنا أن نعمل مع مجموعة من ثمانية معلمني/ات من مدارس عدة في اخلليل وأريحا والقدس .ولكن في مرحلة الحقة من البحث اكتفينا بالعمل مع ثالثة منهم بسبب عدم القدرة على التواصل معهم في مدارسهم ،وبخاصة أنهم يتوزعون على ثالث محافظات متباعدة. وبحكم أن الباحث هو معلم في مدرسة بنات بيت عوا الثانوية ،فقد تركزت معظم فعاليات هذه التجربة التطبيقية في هذه املدرسة ،إضافة إلى مدرسة ذكور بيت عوا الثانوية املجاورة لها ،العتبارات سهولة التواصل واملتابعة مع هاتني املدرستني .وعلى هذا األساس ،من املهم أن نشير إلى أن حتليل النتائج وتقييم التغيرات في املمارسات الصفية سوف يعتمد فقط على بيانات املعلمني/ات في مدرستي بنات وبنني بيت عوا الثانويتني .أما بقية املعلمني/ات من املدارس األخرى ،فسنكتفي بتضمني مقترحاتهم التعليمية ضمن مالحق هذا البحث .اجلدول التالي يبني أسماء املشاركني.
#
اسم املعلم/ة
التخصص
سنوات اخلبرة
املدرسة
احملافظة
1
شادية الطل
فيزياء
2
بنات بيت عوا الثانوية
جنوب اخلليل
2
عبير العسود
تكنولوجيا
4
بنات بيت عوا الثانوية
جنوب اخلليل
3
بهاء احملاسنة
تكنولوجيا
2
ذكور بيت عوا الثانوية
جنوب اخلليل
4
فداء حشيش
تربية إسالمية
6
بنات بيت عوا الثانوية
جنوب اخلليل
5
حكمت أبو شرار
اجتماعيات
5
بنات بيت عوا الثانوية
جنوب اخلليل
6
زيد شبانة
تكنولوجيا
3
مدرسة عبد الهادي السراحنة األساسية
اخلليل
7
رنا ترجمان
أحياء
5
مدرسة املطران األساسية للبنني
القدس
8
حترير خربيش
علوم
2
مدرسة النويعمة الثانوية املختلطة
أريحا
املدرستان اللتان أجري فيهما البحث في قرية بيت عوا إحدى قرى اخلليل ،وتتبعان إداري ًا مديرية تربية جنوب اخلليل .املدرستان متقاربتان في عدد الطالب واملعلمني والشعب والكثافة الصفية ،في كل مدرسة 700طالب/ة و 30معلماً/ة إضافة إلى مرشد/ة تربوي .تبدأ املدرستان من الصف السادس وحتى الثاني عشر بفرعيه العلمي واألدبي ،بواقع 16شعبة صفية ،ومبعدل 40طالباً/ة لكل شعبة. ينحدر الطالب من الطبقات املتوسطة وما دونها ،فغالبية سكان القرية يعتمدون على الوظائف احلكومية ،وقليل منهم يعتمدون على العمل داخل «اخلط األخضر» .عدد املعلمني/ات من سكان القرية ضئيل جد ًا حتى اآلن على الرغم من تزايده عام ًا بعد عام ،ويعوض هذا النقص مبعلمني/ات من خارج القرية.
احلصص التي ُص ِّو َر ْت في مرحلة التأمل في املمارسات احلالية أظهرت أن التعليم في املدرستني يعاني من مشكلة تتلخص في :إن املعرفة املتحصل عليها من قبل املتعلمني ال ُت َذ َّو ْت وال حتاكم على محكات الواقع ،بل تبقى في إطار املعلومات املودعة لدى املتعلمني لوقت االمتحان ،دون أن تترجم في احلياة إلى فهم حقيقي يقارب الواقع علمي ًا وثقافياً .املثال
نستنتج من احلوار السابق أن الرقم - 120على الرغم من أنه إجابة صحيحة -ليس له معنى بالنسبة للطالبة ،إنه مجرد رقم .إن هذا املثال هو واحد من عديد األمثلة التي تؤشر على إشكاليات التعليم في املدرسة ،حيث غاية التعليم هو حتصيل العالمات واحلصول على ترتيب أعلى ضمن التراتبية القائمة على معيار التحصيل .في سياق آخر، وهذه املرة في درس اجلغرافيا ،أجابت طالبة في معرض ردها على سؤال املعلمة حول موقع السهل الساحلي الفلسطيني ،إنه موجود في فلسطني .وحني طلبت املعلمة منها أن تشير إلى موقع السهل الساحلي على اخلارطة ،وضعت الطالبة املؤشر على البحر األحمر .هذه األمثلة وغيرها تؤشر-على األقل في التجارب املصورة -على مفارقة التعليم للحياة مبستوياتها االجتماعية والثقافية .في ضوء هذه اإلشكاليات التي أشرنا إليها ندعي أن: أسلوب التعليم البنكي هو املسؤول عن عزل املعرفة عن سياقات إنتاجها ،وبالتالي اختزالها في سياق املعلومات الناجزة واملودعة مؤقتاً .وهذا يترتب عليه تزخيم دور املعلم وتقزمي دور الطالب ،ما يؤدي إلى تقليل فرص بناء املعرفة واحلوار إلى حدودها الدنيا. وبالتالي ،فإننا نفترض أن احلوار التعليمي الفعال يختزل كل هذه اإلشكاليات في ثناياه ،من واقع أن :احلوار ضد التلقني ،احلوار يبني املعرفة ،يتيح تبادل األدوار واملواقع.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
تسود املدرستني أجواء تذمر في أوساط املعلمني/ات والطالب على حد سواء ،حيث َت َبينَّ َ من نتائج حتليل انطباعات الطالب في خمسة صفوف حول التعليم في املدرستني؛ تذمرهم من الروتني الصفي وأساليب التدريس التلقينية وغياب النشاطات العملية التي تستفز عقولهم. كذلك أظهر حتليل تأمالت املعلمني/ات في هذه الدروس تذمرهم من املناهج ،ومن عدم اهتمام الطالب/ات بالتعليم ،وضعف دافعيتهم نحوه وضعف حتصيلهم ومشاركتهم الصفية.
املعلمة :ما طول دودة اإلسكارس؟ الطالبة 120 :سنتمتراً. املعلمة :أحسنت. املعلمة :بتعرفي قديش الـ 120سنتمتراً؟ الطالبة :نعم ..طول غرفة الصف.
ملف الثقافة العلمية
توصيف املدرسة في إطار مشكلة البحث
التالي مستل من حوار بني معلمة وطالبة في الصف الثامن:
67
طبيعة البحث وأدوات االستقراء
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
68
يجمع هذا البحث في خصائصه وفعالياته بني البحث االثنوغرافي والبحث اإلجرائي التشاركي ،فهو من الناحية الزمنية استمر فترة امتدت من مطلع أيلول من العام 2007وحتى نهايات آذار من العام .2008ومن ناحية أخرى ،فإن الباحث واملعلمني هم جميع ًا جزء من العملية البحثية والعملية التعليمية على حد سواء. فهو بحث انخرط فيه الباحث مع املعلمني والطالب تشاركياً ،حيث قام املعلمون والطالب بأدوار إضافية من قبيل التأمل في التجارب، وتوثيقها ،وكتابة االنطباعات ،واالنخراط في احلوار حول التجارب التعليمية. وهذا البحث ال يقوم على افتراضات مسبقة سيصار إلى فحصها، إمنا يقوم على فكرة التأمل في ممارسات املعلمني الصفية ومساءلتها وتقييمها وتغييرها نحو األفضل ،في ضوء احلوار وفي ضوء تأمالت املشاركني وانطباعاتهم ،فهو من هذه الناحية إجرائي تطبيقي .وألن البحث يشارك فيه أكثر من معلم ومعلمة ،إضافة إلى الطالبات ،فهو إذن بحث تشاركي. لقد جلأنا إلى هذا النوع من األبحاث اعتقاد ًا منا أنه الشكل األنسب لألبحاث التربوية التطبيقية“ .فهو نوع من البحث مع الناس وليس عليهم” (ماكنيف .)9:2001 ،إنهم جزء فاعل من البحث في كل مراحله ممارسة وتأم ً ال وتخطيط ًا وتنفيذاً .فهو من ناحية ،يتيح للمشاركني إنتاج معرفتهم عن أنفسهم وعن ممارساتهم التعليمية، وكذا يعمل على حتسني هذه املمارسات .شأن كل األبحاث اإلجرائية ،جلأنا في هذا البحث إلى طرائق نوعية جلمع املعلومات، وهي: .1الدروس املصورة :بواقع حصتني لكل معلم/ة ،حصة في مرحلة التأمل وأخرى في مرحلة التنفيذ .وقد راعينا أن تكون احلصص املصورة على فترات متباعدة نسبياً ،لكي نرصد التغيرات احملتملة من جانب ،وأيض ًا كي يتاح للمشاركات التأمل املعمق في هذه احلصص. .2تأمالت املعلمني/ات الباحثني/ات :وهي في مجملها يوميات وتقييمات وانطباعات حول املمارسات الصفية كتبت على امتداد فترة البحث. .3احلوارات املسجلة :وهي احلوارات التي كنا نسجلها كتابة أو تصويراً ،في اجللسات احلوارية واملقابالت التي كانت تعقب مشاهدة التجارب املصورة .وهذه احلوارات كانت في مستويني، أولهما احلوارات اجلمعية التي يشارك فيها جميع املعلمني واملعلمات وجزء من الطالبات ،وثانيهما احلوارات الثنائية بني الباحث وكل معلمة على حدة. .4انطباعات الطالب والطالبات :في كل صف من الصفوف كلفنا من يرغب من الطالب والطالبات بكتابة انطباعات عن احلصص املصورة بشكل خاص ،وممارسات املعلمات بشكل عام .وقد شكل هذا املصدر التوثيقي موئ ً ال غني ًا في كل مراحل البحث.
في أهداف البحث لم ينق َْد البحث وراء أسئلة بحثية ثابتة ،كان هاجسنا األول هو التأمل في املمارسات الصفية ،كي تفرز هذه التجربة التأملية أسئلة بحثية، وهذا ما حدث .فقد أفرزت املرحلة األولى -التأمل في املمارسات احلالية -األسئلة التي وجهت البحث من قبيل: < ملاذا يختار املعلمون أسلوب التعليم البنكي؟ < هل يكون املعلمون واعني إلى أن أسلوبهم بنكياً؟ < وهل املعلومات املكتسبة من قبل الطالب/ات ضمن أسلوب التعليم البنكي ذات معنى قابل للترجمة في احلياة؟ < ما أمناط التفاعل الصفي السائدة في الصفوف؟ < ما مفهوم احلوار الصفي من وجهة نظر املعلمني/ات؟ < ما هي معيقات احلوار الصفي؟ يؤ َسس للحوار الصفي؟ (ما هي السياقات التي من املمكن أن < كيف َ تؤسس للحوار الصفي و ُتف َِّع ُله؟) هذه األسئلة البحثية كانت محل حوار في مستويات عدة: أولها :حوار جمعي شارك فيه جميع أعضاء الهيئة التدريسية ،وهو
من إحدى فعاليات جمعية الكمنجاتي في جنني.
حوار أفقي مسحي يستهدف وضع كل املمارسات الصفية على مائدة النقاش .وهذا املستوى من احلوار هو متطلب مدرسي مهني نشأ عن رغبة اإلدارة املدرسية في تعميم الفائدة جلميع أعضاء الهيئة التدريسية. ثانيها :حوار يشارك فيه مجموعة الباحثني/ات فقط .وهو حوار موجه باجتاه نقاط محددة أشرنا إليها سابقاً. ثالثها :حوار فردي يشارك فيه صاحب التجربة نفسه ،إنه حوار مونولوجي بني املعلم/ة والتجربة.
69
مراحل البحث مر هذا البحث بثالث مراحل على التوالي:
املرحلة األولى :استكشاف املمارسات الصفية احلالية
< مساعدة املعلمني/ات على التأمل في ممارساتهم. < تقييم احلصص من وجهة نظر املعلمني/ات غير املشاركني في البحث بهدف التغذية الراجعة. < تعميق احلوار التربوي فيما بني املعلمني/ات. < جمع أكبر قدر من املالحظات واالنطباعات فيما يخص املمارسات الصفية. لقد أفرزت هذه املرحلة العديد من املالحظات واالنطباعات
أما في سياق احلوار الصفي ،فقد استطعنا أن نرصد املواصفات التالية: .1طريقة “التفاعل الصفي” قائمة على شكل واحد من األسئلة؛ “السؤال املغلق واجلواب املغلق” ،وغالب ًا ما يكون املعلم هو مصدر السؤال والطالب هو املجيب. .2مصدر األسئلة واإلجابات هو املقرر الدراسي. .3غاية األسئلة قياس حتصيل املعلومات ،والتأكد من حفظها من قبل الطالبات. .4األسئلة املوجهة من الطالب إلى املعلم نادرة جداً ،أما األسئلة من
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
في هذه املرحلة مت تصوير خمسة دروس متنوعة (علوم ،تكنولوجيا، جغرافيا ،تربية إسالمية) خلمس معلمني/ات .وقد مت عرض احلصص املصورة في وحدة السينما املدرسية 12بحضور غالبية أعضاء الهيئة التدريسية ،وخضعت للنقاش والتقييم .من اجلدير اإلشارة أن تقييم املمارسات لم يستند إلى معايير ومرجعيات ثابتة ،أو إلى معياري الصواب واخلطأ ،إمنا هو تقييم ذاتي نابع من رؤية املعلم/ة ملمارسته ،وبالتالي احلكم على مدى مالءمتها ملوقف تعليمي معني من وجهة نظر املعلم/ة، وعلى أرضية احلوار اجلمعي .وكان الغرض من إجراء العروض:
.1السمة املشتركة بني معظم احلصص املصورة أنها حصص معلمني بامتياز ودرجة حضور الطالب فيها ضعيفة .لقد بدا واضح ًا في هذه احلصص أن املعلم هو محور املمارسات الصفية ،إنه يخطط ويشرح ويقيم إجابات الطالب ،ويعطي التعليمات. ويوجه األسئلة ّ وباستثناء دورهم في إجابات األسئلة ،ميكن القول إن الطالب في هذه احلصص ال يفعلون شيئاً. .2أسلوب التعليم املشترك بني هذه احلصص هو التعليم التلقيني مع تفاوت في درجته من معلم إلى آخر ،ومن درس إلى آخر .ولم يسجل أي فارق ملموس ما بني أساليب تدريس العلوم والتكنولوجيا وأساليب تدريس التخصصات األدبية. .3منط التفاعل الصفي املسيطر هو النمط الثالثي(Triadic ( )Dialogueطالب-معلم-طالب) املشار إليه من قبل ليميك ( ،)Lemke, 1990حيث املعلم يسأل السؤال ،ثم يختار الطالب الذي سيجيب عن السؤال ،ومن ثم يقيم املعلم اإلجابة. .4احلصص تخلو من احلوار مبستوياته كافة ،وإذا ما استثنينا أسئلة املعلم التقييمية ،فإن التفاعل ما بني املعلم والطالب كان ضعيفاً. .5خلو احلصص من األنشطة العملية .املعلمون/ات يتكلمون أكثر مما يعملون. .6خلو احلصص من أساليب التعليم التعاوني.
ملف الثقافة العلمية
.1مرحلة تأمل املمارسات احلالية وتقييمها :وقد استمرت هذه املرحلة ثالثة أشهر من الفصل األول ،ومت فيها رصد ممارسات املعلمني/ ات الصفية بواسطة التصوير والكتابة واحلوار مبستوياته املختلفة. .2مرحلة التخطيط والتمكني :في هذه املرحلة انخرط املعلمون/ ات في مساقات وورش عمل مكثفة بهدف تطوير قدراتهم على بناء مقترحات تعليمية تنهض باحلوار ،وكذا حتسني مهارتهم على تفعيله ،ومت أيض ًا تقدمي قراءات وعروض بصرية حول إستراتيجيات بناء احلوار الصفي متهيد ًا للشروع في بناء الوحدات التعليمية. .3مرحلة التنفيذ :استمرت طوال شهري شباط وآذار من الفصل الثاني ،وفيها مت تنفيذ الوحدات التعليمية التي أعيد بناؤها في مرحلة التخطيط. .4مرحلة حتليل البيانات واستخالص النتائج.
واالستنتاجات التي قدمها الباحث أو املعلمون/ات الباحثون/ات أو املعلمون/ات اآلخرون ،وهذه االستنتاجات مبنية على مؤشرات مستلة من كتابات املعلمني/ات والطالب (انظر البند الالحق :استكشاف املمارسات احلالية ..إطار حتليلي) ،ميكن اختصارها في النقاط التالية:
70
طالب إلى طالب فهي معدومة. .5قدرة الطالب على اإلجابة تفوق قدرتهم على طرح األسئلة. .6ثمة رواج وقبول لفكرة اإلجابات اجلماعية (حتدث في حال عدم اختيار الطالب من قبل املعلم ،حيث يسارع مجموع الصف إلى اإلجابة بصوت واحد في آن). .7توجه األسئلة إلى عدد محدود من الطالب. .8أسئلة الطالب ضعيفة في صياغتها اللغوية وال تؤشر على ما يريد الطالب فعالً. .9األسئلة برمتها مغلقة وال تسمح باختالف وجهات النظر.
استكشاف املمارسات احلالية ( ..إطار حتليلي)
ملف الثقافة العلمية
.1ملاذا التعليم الكمي؟
ميكننا أن نرصد ثالثة تفسيرات لهذا السؤال :أولها يتعلق بالفلسفة الوضعية التي تسند العملية التربوية ،وثانيها يتعلق باملعلم ذاته كإنسان اعتاد على تأكيد حضوره املركزي في الصف ،وثالثها يتعلق باملنهاج وطرائق تقييمه .من الناحية الفلسفية تستند التربية إلى الفلسفة الوضعية التي ترى إن ثمة إجابة واحدة ألسئلة العلم .وبالتالي ،ال داعي لالختالف بني اإلفراد في وجهات النظر .فاملعرفة استناد ًا إلى النظرية الوضعية «هي معرفة موحدة ومعممة» (ويلز .)9:2003 ،وعلى هذا النحو ،ال مجال للتمايز بني األفراد في فهم املعرفة وإدراكها .ويرى ويلز (:)10:2003 «إن السياسات التربوية املعاصرة تتبنى هذه النظرية التي بدورها يطبقها املعلمون في صفوفهم ،فاملعلمون يعلمون ويقولون أشياء يفترض بالطالب أن يستوعبوها ويكونوا قادرين على استحضارها عند الطلب». لقد بني حتليل املشاهدات الصفية أن املعلمني يتبنون وجهة النظر السابقة، وإن بطريقة الواعية ،حيث تقول معلمة التربية اإلسالمية في معرض ردها على سؤال فيما إذا كانت املعرفة موضوعية:
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
« ...كون العلم أنتجه العلماء إذن هو موضوعي ،ويجب أن نقدمه لطالبنا كما هو موجود في الكتب ،وإال حلصلت فوضى ،وكل طالب يصبح له وجهة نظر مختلفة ..وهذا ليس علم ًا .»... يتأصل هذا النمط في التعليم جي ً ال بعد جيل ،حيث تتأصل املمارسات الصفية بطريقة أشبه بالتوريث ،فعندما يذهب املعلم إلى الصف ألول مرة ،فإنه يستحضر من ذاكرته منوذج ًا ملعلم يهتدي به .وعادة ما يكون هذا النموذج معلم ًا من املاضي البعيد ترك سحر ًا خاص ًا وتأثير ًا على طلبته .تقول املعلمة فداء: «عندما وقفت في الصف أول مرة ،تذكرت معلمتي الست عبير التي علمتني عندما كنت تلميذة في الصف السادس ..تذكرت كيف كانت تبدأ حصتها ،وكيف كانت تقرأ الدرس وهي تتجول بني الطالبات.»... ومرضي عنها في املدرسة ،إنها ثم يبدأ املعلم مبحاكاة مناذج مجاورة َ النماذج املبجلة ذات األقدمية التي متارس سحرها وجاذبيتها على املعلمني اجلدد .في أثناء ذلك ،يكتسب املعلم خبرة يبنيها يوم ًا بعد يوم
من جتاربه الصفية ومن مواقفه وحياته املدرسية ،في هذه األثناء يبدأ سحر النموذج احملتذى به باخلفوت تدريجياً ،ويحل محله النموذج الذي صاغه املعلم ونحته من جتربته اليومية. إن األخطر في موضوعة املمارسات الصفية أن تتحول إلى أمناط ثابتة وأعراف غير قابلة للتفكيك ،بحيث تغدو هذه املمارسات ً متنبأ بها من قبل الطالب .وهذا ما يحدث غالباً ،فعبر التراكم تتحول املمارسات إلى نوع من االعتناق .فيكسوها الثبات وتغدو عم ً ال مقونناً ،تشير إلى ذلك الطالبة إيناس في دفتر يومياتها: « ...تدخل املعلمة الصف ،تكتب عنوان الدرس اجلديد ،والتاريخ واليوم ،وتقول :انتبهوا! ثم تشرح الدرس ،ونحن نستمع إليها. وفي آخر احلصة تقول لنا :حلوا أسئلة الدرس ...في احلصة القادمة راح أفتش على الوظيفة». إن الصف الدراسي وفق ما سبق يغدو حكاية يتبوأ فيها املعلم دفة السرد بامتياز -إنه سارد كل املعرفة .إن هذه احلكاية تلتهم في ثناياها حكايات املتعلمني الذين لم يتح لهم أن يكتبوا أو يسردوا حكاياتهم .إنهم أشخاص في حكايات الكبار يتحدد وجودهم ومصائرهم من وجهة نظر السارد املعلم .ومن هنا ،فإننا نتفق مع باولو فريري حني يصف التعليم بأنه يعاني من مرض السرد» (فريري .)47:2003 ،إن التعليم البنكي مينح املعلمني الدور املركزي ،فهو محور لكل ما يحدث حوله :إنه مصدر املعرفة ،يشرح ويسأل ويعمل ،ويوضح .وهو مصدر السلطة: يأمر وينهى ويعاقب .ومبقابل الدور املركزي للمعلم ،ثمة غياب واضح لدور الطالب ،إنه ال ينوجد إال لتأكيد دور املعلم .تقول طالبة في الصف العاشر في دفتر مذكراتها: « ...تقف املعلمة وراء طاولتها طوال احلصة ...نستمع صامتني إلى املعلمة ال نفعل شيئ ًا إال اإلجابة عن األسئلة التي تسألها املعلمة.»... يتضح من هذا املجتزأ الدور املركزي للمعلم مبقابل الدور الهامشي للطالب ،وهذا ما يجعل أسلوب التلقني رائج ًا في صفوف املعلمني، مبا هو أسلوب يعزز حضور املعلم البطولي في الصف. إضافة إلى ما سبق ،ثمة عوامل موضوعية خارج إرادة املعلم تدفع باجتاه تبني هذا األسلوب دون غيره ،كما يتضح من املقطع التالي املستل من تأمالت معلمة العلوم: « ...هناك عوامل كثيرة جتعلني أختار هذا األسلوب فهو األسهل من حيث التطبيق ،واألضمن من حيث وصول املعلومات وحتقيق أهداف الدرس ،وبخاصة أن الوقت محدود واملنهاج طويل، وأيض ًا فهو األسلوب املوجود في كل املدارس ومرضي عنه من املشرفني.»... ولكن ما مصير ما يتعلمه الطالب؟ لإلجابة عن هذا السؤال سوف نكتفي بتحليل مشهد واحد من درس تكنولوجيا للصف التاسع ،ميثل نقاش ًا بني
معلمة وطالبة: املعلمة :ما وظيفة املقوم البلوري؟ الطالبة :تقومي التيار الكهربائي املتردد. املعلمة :أحسنت! ..إجابة صحيحة ..وما معنى تقومي؟ الطالبة :تصمت دون أن تعرف اإلجابة. املعلمة تنظر إلى بقية الطالبات بحث ًا عن إجابة .والطالبات ال يعرفن اإلجابة. املعلمة :مش معقول يا بنات أنا حكيت أكثر من مرة أن تقومي التيار يعني تعديله من تيار متردد إلى تيار مستمر. املعلمة :طيب مني تطلع على اللوح ترسم شكل التيار الكهربائي املقوم؟ ال استجابة من الطالبات. املعلمة تضطر أن ترسمه بنفسها على اللوح.
إن احلوار الصفي بصيغته التقليدية (معلم ،طالب ،معلم) و(سؤال مغلق-جواب مباشر) ليس فقط أداة للقياس الكمي للمعلومات، وبالتالي وسيلة لكسب رضا املؤسسة واجلمهور ،بل هو أداة لتوكيد سلطة املعلم ومن خلفه سلطة املدرسة واملجتمع ،من حيث :ال إجابة غير التي يريدها املعلم واملتفق عليها سلف ًا وال مجال للتعددية طاملا أن إجابة واحدة فقط هي املقبولة ،ومن هنا كنا نلحظ مقاطعة املعلم/ة للطالب كواحد من أكثر املشاهد تكرار ًا في الصفوف في إي وقت حتيد فيها إجابة الطالب عما هو في الكتاب .وهذا يؤشر على عدم ثقة املعلمة باإلجابات املرجتلة« ،ألنها غير صادرة عن معلم أو كتاب ،وال حتمل موافقتهما الرسمية» بتعبير ويلز ( ،)49:2003كما يتضح في املثال التالي ملعلمة االجتماعيات:
71
«أل يا صبايا ،اننت مش فاهمات صح ،مش هيك اإلجابة ،اطلعو على الكتاب صفحة 23وبتعرفو إنو إجابتكم غلط.»... لقد تبني لنا في هذه املرحلة أن واحدة من أهم معيقات احلوار هو عدم إدراك املعلمني/ات لطبيعة املعرفة ،مبا هي معرفة نسبية ومنتج إنساني
إن متابعة املشهد من أوله تشير إلى أن املعلمة لم تضع املفهوم العلمي في سياق اشتغاله مع مفاهيم وعمليات أخرى ،وفي سياق اشتغالهما مع ًا في الواقع البيئي .ولهذا ،بقيت هذه املفاهيم عزالء مبتورة عن سياقاتها ،إنها مجرد معلومات مودعة إلى حني استعادتها ثانية.
ملف الثقافة العلمية
يتضح من املشهد السابق أن إجابة الطالبة حول وظيفة املقوم البلوري هي إجابة صحيحة إذا ما قيست وفق معياري الصح واخلطأ .ولكن ذوت. املعنى الكامن في اإلجابة ظل معنى خارجي ًا بالنسبة لها ألنه لم ُي ّ وبالتالي ،فإن هذا املفهوم املكتسب بقي كما هو لغة ومعنى دون أن يساهم في إنتاج معرفة جديدة مبنية عليه ،أي لم يساهم في النمو املعرفي للمتعلم .وبحسب النظرية البنائية االجتماعية (Social )Constructivismلم يضف املفهوم إلى منطقة النمو املمكنة، باعتبار أن وظيفة التعليم هي توسيع حيز منطقة النمو املمكنة (Zone .)of Approximate Development - ZAD
في حني أشارت شادية إلى مفهوم مختلف نوع ًا ما ،فهو :تبادل لآلراء يهدف للوصول إلى املعرفة.
.2في احلوار الصفي ومعيقاته:
لم يشر أي من املعلمني/ات؛ سواء في النقاشات أم اليوميات املكتوبة ،إلى مفهوم اجلدل العلمي ،وعندما طرح املفهوم للنقاش من قبل الباحث ،تبني أن املفهوم غير ذي معنى تربوي بالنسبة ملعظمهم، فهو خاص بالعلماء فقط ،أما البقية منهم فقد اعتبروه مرادف ًا ملفهوم احلوار الصفي في معناه وداللته.
إن احلوار من وجهة نظر فداء":توجيه األسئلة من قبل املعلم للطالب بغرض تقييم التحصيل". أما عبير فتراه":تبادل املعلومات ما بني املعلم والطالب بهدف فهم الدرس".
من إحدى فعاليات مدرسة غزة للموسيقى.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
أما فيما يتعلق مبفهوم احلوار فقد بدا واضح ًا من احلوارات املسجلة أنه ال يتجاوز طرح األسئلة وتلقي اإلجابات عليها .وثمة معيارين لصحة اإلجابة هما املقرر الدراسي أو ً ال ورأي املعلم/ة في املرتبة الثانية .وتقاس صحة اإلجابات مبدى قربها أو ابتعادها عن هذين املعيارين.
72
غير موضوعي ،فاملعلمون/ات يعتبرون أن العلم موضوعي وغير قابل للمساءلة .وهذه النظرة إلى العلم تنسرب إلى وعي األفراد عبر ممارسات تربوية تعكسها الفلسفة الوضعية احلاكمة للممارسات التربوية« ،ومن هذا املنظور تقدم العلوم في املدرسة كإجابات صحيحة واستنتاجات مقنعة حول العالم» (Driver, Newten & Osborne, 1998 ،)p:288ما يعني عدم ضرورة احلوار حولها.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
املعيق اآلخر الذي ظهر جلي ًا هو منط التفاعل الصفي ،وهو النمط الثالثي الذي أشار إليه ليميك ( ،)lemke, 1990, p:8مبا هو منط يكبل احلوار الصفي؛ ألنه يبدأ من املعلم وينتهي به ،ثم يعود ويبدأ من املعلم من جديد في دورات متتابعة ،وهذا يقودنا إلى املعيق الثالث هو نقص في مهارات املعلمني في فن إدارة احلوار ،إذ يرى ويلز ( )49:2003أنه حتى مع وجود منط التفاعل الثالثي ،فإن بإمكان املعلم بقليل من املهارة بد ً ال من تقييم إجابة الطالب والبدء بسؤال مغلق جديد أن يطور إجابة الطالب إلى مبادرة أو رأي أو مقترح يثير حوار ًا مع بقية أفراد الصف. َي َّدعي املعلمون/ات أن احلوار يقود إلى الفوضى 13،في صف اعتاد الطالب فيه على قيادة املعلم الصارمة .أيض ًا اتضح من حتليل التجربة أن ثمة معيقات أخرى خارج إرادة املعلم تدفع باجتاه اختزال فرص احلوار الصفي وبناء املعرفة ،ميكن إجمالها فيما يلي: .1تكميم املنهاج :حني يتم التعامل مع املناهج ككم من املعلومات يتحول املقرر إلى أداة ضاغطة على املعلم إلمتامه في مواقيت محددة خوف ًا من أسئلة اإلدارة املدرسية .ومن هنا ،فإن أسلوب التلقني مبرر ويغلق أبواب ًا كثيرة .تقول املعلمة شادية الطل« :في ذهني الكثير من الفعاليات ،أرغب بتنفيذها في الصف ،ولكن الوقت ال يسعفني». .2املجتمع :على الرغم من أن حضور املجتمع إلى الصف هو غير مباشر ،فإنه انتهاكي ،حيث تضيف املعلمة شادية“ :إنني أشعر أن املجتمع يقف لي عند باب الصف أنهم ال يسألون كيف يتعلم أبناؤهم، بل ما هي درجاتهم” .فأولياء األمور يريدون ألبنائهم معدالت عالية كي يضمنوا ألبنائهم موقع ًا وسط منافسة سوق اجلامعات.
املرحلة الثانية :مرحلة التخطيط والتمكني استمرت هذه املرحلة ثالثة أشهر (تشرين الثاني ،وكانون األول، وكانون الثاني) واقتصرت على العمل مع املعلمني/ات الباحثني/ات فقط .انقادت هذه املرحلة بأسئلة بحثية من قبيل: < ما السياقات التجريبية املالئمة لتفعيل احلوار الصفي؟ < ما نوعية األسئلة التي ُتف َِّعل احلوار؟ على ضوء النقاش واحلوارات التي صاحبت هذه املرحلة ،مت اقتراح سياقات جتريبية للتعلم ،وهي :اجلدل العلمي ،واالستقصاء ،والقصة. وفي هذه املرحلة من العمل ،ظهرت معيقات موضوعية تتعلق باملنهاج، حيث الوحدات التعليمية ال تنطوي على إمكانيات عالية لتفعيل احلوار الصفي .فكان من الضروري متكني املعلمني/ات من بناء سياقات تعليمية جتريبية تتكئ على املناهج املدرسية ،وتسمح بتفعيل احلوار في الصفوف .وعلى هذا األساس التحق املعلمون/ات في مساقات شتوية ملدة أربعة أيام نظمها مركز القطان في أريحا ورام الله. تضمن املساق التمكيني ثالثة محاور أساسية ،هي :اجلدل العلمي، االستقصاء العلمي ،القصة في سياق علمي. وضمن محور اجلدل العلمي ،مت تبني منوذج (Toulmin’s Argument .)pattern T.A.Pلقد مت تبني هذا النموذج في اجلدل ألسباب عدة أهمها :سهولة التنفيذ ،واحتواؤه على مستويات عدة تتدرج في صعوبتها ،بحيث يتيح للمشاركني اختيار املستوى الذي يالءم قدراتهم وإمكاناتهم ،وأخير ًا سهولة تقييم املجادالت املبنية على أساسه. يتضمن منوذج توملني عمليات ومهارات من قبيل :معاجلة البيانات، صياغة االدعاءات ،طرح التبريرات ،بناء املجادالت واملهارات من قبيل طرح األسئلة التشكيكية ،واالستماع واملناقشة .أما احملتوى اجلدلي الذي مت تبنيه في هذا املساق فهو ظاهرة االحتباس احلراري ،هل هي من صنع اإلنسان أم أنها ظاهرة طبيعية؟
وبالطبع ،فقد انقسم املشاركون/ات إلى فريقني كل منهما تبنى إحدى النظريتني .ومت توفير مصادر معلومات حول ظاهرة االحتباس احلراري :مطبوعات ونشرات وملصقات إضافة إلى شبكة اإلنترنت. وعلى مدار أربعة أيام أتيح لكل فريق العمل ملدة ساعتني يومياً ،وقد قام كل فريق على حدة بجمع البيانات التي تدعم نظريته ،وصياغة الفرضيات ،وتقدمي التفسيرات. وفي أثناء ذلك طور املعلمون/ات مجادالت مكتوبة ،وأخرى شفوية ،وثالثة محوسبة باستخدام تقنية العرض على برنامج(power .)point
مت مقترحات حول نوعية األسئلة التي تنهض باجلدل وكذلك ق ُِّد ْ العلمي من قبيل: < كيف تبرهن على هذا االدعاء؟ < ما هي البيانات التي تدعم وجهة نظرك؟
إضافة إلى مهارة طرح األسئلة ،مت التركيز على مهارات االستماع، مهارة املناقشة ،فحص البدائل ،معاجلة البيانات. ضمن محور االستقصاء العلمي مت تبني منوذج التعلم االستقصائي التعاوني حلل املشكالت (جبر وكشك ،)40:2007،حيث مت طرح مشكالت استقصائية عدة تطلبت من املشاركني املالحظة وجمع املعلومات وصياغة الفرضيات وجتريبها للوصول إلى حلول ،أو العودة من جديد لفحص الفرضيات. ضمن محور القصةُ ،ز ِّو َد املشاركون بقصص في سياق علمي ،تتضمن نشاطات وفعاليات هدفت إلى حتسني مهارات املعلمني/ات في استكشاف احملتوى املعرفي للقصص بطرق حوارية ،وكذا لعب أدوار بناء على أحداث في القصص .كما مت تطوير قدرات املعلمني على إعادة بناء محتوى علمي في سياق قصي. إضافة إلى ما سبق ،تطلبت مرحلة التحضير بعض الفعاليات التي أجريت في املدرستني من قبيل عروض الكتب ،والعروض البصرية. وفي هذا السياق ،مت عرض كتابني من إصدار مركز القطان تعليم يبدأ من احلياة ،واللغة وبناء املعرفة .أما في مجال العروض البصرية ،فقد مت عرض جتربة مصورة في اجلدل العلمي حول انقراض الديناصورات من إنتاج معلمني في مساقات سابقة نظمها مركز القطان. مع نهاية املساق ،أتيح لكل معلم/ة اختيار السياق الذي يالئمه ويالءم محتوى الوحدة التعليمية متهيد ًا لبناء املقترحات التعليمية كما هو موضح في اجلدول التالي:
#
املعلم/ة
السياق
الدرس
الصف
1
شادية الطل
القصة اجلدل العلمي
العلوم -املجموعة الشمسية طبيعة الضوء
للصف التاسع الصف احلادي عشر
2
عبير العسود
االستقصاء العلمي
التكنولوجيا-الكهرباء وتطبيقاتها
للصف العاشر
3
بهاء احملاسنة
اجلدل العلمي
العوملة
الصف احلادي عشر
املرحلة الثالثة (مرحلة التنفيذ) استمرت هذه املرحلة طوال شهري شباط وآذار من الفصل الدراسي الثاني ،وقبل الشروع في تنفيذ املقترحات ،مت توضيحها للطالب/ات
في الصفوف ،وكل معلم/ة على حدة أوضح املشروع لطالبه من حيث طبيعته ،وأهدافه ،وحددت األدوار املناطة بكل طالب/ة .ومت توفير مصادر املعلومات الالزمة. وعلى صعيد اجلدل العلمي ،مت جتريب سياق جدلي متهيدي بعنوان (أعراض مرض اخلليج) 14،الغاية منه تعريف الطالب/ات مبفهوم اجلدل وعملياته ومهارته ،متهيد ًا لتنفيذ املقترح اجلدلي املتفق عليه. وقد زود الطالب مبصادر معلومات من شبكة اإلنترنت ،وبعض املقاالت
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
بعد أن أصبح لدى املعلمني/ات خلفية نظرية وعملية مناسبة بدأوا ببناء املقترحات التجريبية ،وقد خضعت للنقاش والتطوير مبشاركة اجلميع إلى أن غدت جاهزة للتنفيذ مع بداية الفصل الدراسي اجلديد من العام .2008
73
ملف الثقافة العلمية
في أثناء الورشة قدمت مقترحات لكيفية إعادة ترتيب طالب الصف في حصص اجلدل العلمي ،حيث ارتأى املعلمون/ات أن يترتب الطالب على شكل نصف دائرة ،وأن يكون املجادلون في مقدمة الصف ،ويكون ظهورهم بالتتالي ،بحيث يقدم كل فريق مجاد ً ال واحد ًا أو أكثر يقدمون نظريتهم ،وفي أثناء ذلك يقوم الطالب بتحضير مالحظات وأسئلة للمجادلني .وتكمن أهمية هذا الترتيب من وجهة نظر املشاركني :في كونه يكسر رتابة الصف التقليدي ،ومينح الفرصة جلميع أعضاء الصف لرؤية وجوه بعضهم البعض ،وما لذلك من أهمية في قراءة تعبيرات الوجه ولغة اجلسد ،ففي الصف التقليدي ،املعلم وحده من ميتلك الفرصة لرؤية وجوه جميع الطالب.
< هل تعتقد أن البيانات املعروضة ميكن أن تؤيد وجهات نظر مخالفة؟
74
الصحافية ،وعلقت على مجالت احلائط وجدران الصفوف .وأتيح للطالب/ات االطالع على هذه املصادر كي تساعدهم على تبني وجهة نظر إزاء ما يسمى بأعراض مرض اخلليج .بعد أن اكتسب الطالب خبرة في بناء املجادالت ،مت تنفيذ املقترحات املخطط لها أص ً ال حول طبيعة الضوء (هل هو موجات أم جسيمات؟) ومقترح العوملة (مع أو ضد). في البداية ،قدمت املجادالت مكتوبة على شفافيات ،ومع ازدياد خبرة املشاركني/ات متكنوا من بناء مجادالت شفوية مدعومة بعروض وشفافيات وصور وأفالم وثائقية.
ملف الثقافة العلمية
في سياق االستقصاء العلمي وحل املشكالت الذي نفذته املعلمة عبير العسود ،قامت الطالبات بعصف ذهني بهدف حتديد املشكالت التي تعانيها املدرسة ،ومن بني املشاكل العديدة التي اقترحتها الطالبات، مت تبني مشكلة انقطاع الكهرباء عن املدرسة كمشكلة تقود العملية االستقصائية .لقد اختيرت هذه املشكلة بناء على املعايير التالية: < إنها مشكلة حقيقية وأصيلة. < مشكلة تسبب للطالبات إزعاج ًا وقلق ًا وحترمهن من استخدام املرافق املدرسية كالسينما ،ومختبر احلاسوب ،واملختبر العلمي. < مرتبطة مبحتوى الوحدة التعليمية. < منفتحة على حقول معرفية عديدة كالفيزياء ،والكيمياء ،والثقافة العلمية. على صعيد القصة ولعب األدوار ،نفذت املعلمة شادية الطل وحدة تعليمية للصف التاسع بعنوان الكواكب واملجموعة الشمسية ،وهذا تطلب منها إعادة بناء الوحدة في سياق قصصي ،وضمنتها بفعاليات ونشاطات تطبيقية الستكشاف املعرفة العلمية؛ سواء داخل النص القصصي أم خارجه. مع نهاية هذه املرحلة ،مت تصوير أربع جتارب كل على حدة ،وعرضت للحوار في مستويني :األول مبشاركة غالبية أعضاء الهيئة التدريسية، والثاني مبشاركة املعلمني/ات الباحثني/ات.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
في نهاية هذه املرحلة ،أصبح لدينا عدد كبير من الوثائق( :مالحظات يوميات انطباعات تقييمات) صاحلة الستكشاف التغير في املمارسات الصفية ،وبالتالي تقييم هذه التجربة برمتها.
تقييم التجربة :تغيير املمارسات الصفية مقاربة حتليلية:
حتى يكون في مكنتنا فهم التغيرات التي تطرأ على ممارسات املعلمني في صفوفهم وإدراكها ،فإننا ننظر إلى الصف نظرة بنيوية من حيث هو بنية ديناميكية من اإلفراد ،واالنفعاالت ،والعناصر ،واألشياء، والظواهر ،والعالقات الداخلية ،والتعالقات اخلارجية ،التي تتبادل التأثير واحلث فيما بينها .وبحسب تعبير ال لند (إبراهيم ،بال تاريخ: ،)43فإن كل عنصر في هذه البنية يتوقف وجوده على كل ما عداه. من جهة أخرى ،فإن التغيير في أي عنصر في هذه البنية ينعكس على
بقية العناصر املجاورة .من هذا املنظور نرى أن التغير في املمارسات الصفية في سياق بحثنا لم يكن قرار ًا براني ًا من خارج البنية الصفية ،إمنا هو صيرورة فعل وتغيير جوانية ،إنها أشبه بعملية محايثة ،بتعبير جيل دولوز ،حيث التغير في عنصر يشكل حث ًا للتغيير في العناصر املجاورة (إبراهيم .)39 :فهو إذن تغيير ينهض على قناعات ورغبات من هم داخل هذه البنية الصفية ،إنه تغيير في العالقات والوعي كما يتضح من املقاطع التالية املأخوذة من يوميات املعلمني/ات: < «أنا لست راضي ًا عن هذه احلصة ..إن فيها درجة عالية من االصطناع وخالية من التلقائية». < «لو لم أشاهد نفسي على الشاشة لبقيت اعتقد أنني أفضل معلم في املدرسة». < «كانت حصتي تلقينية وثقيلة ،ولوال أنني رأيت نفسي في احلصة املصورة ملا توصلت إلى هذه النتيجة». < «حصتي هي حصة تلقينية ..لقد تكلمت أكثر من كل الطالبات». بقي أن نشير إلى أن تقييم هذه التجربة البحثية ال يستند فقط على احلصص التي صورت فحسب ،وإمنا ا ّتبعنا أسلوب متابعة املعلمني/ ات في صفوفهم طوال مراحل البحث ،حيث جلأنا إلى حضور حصص للمعلمني/ات .وألجل تقييم التغيرات في املمارسات الصفية ،فإننا سنركز النظر باجتاه احملاور التالية: .1منط التفاعل الصفي :وضمن هذا احملور سوف نركز النظر باجتاه املعلم/ة من حيث :هل يتخلى عن دوره املركزي؟ هل يشجع املبادرات الطالبية؟ هل يشجع على طلب األدلة والتفسيرات واملبررات؟ هل يشجع طالبه على االختالف في وجهات النظر؟ وهل يشجع الطالب على احلوار فيما بينهم؟ .2األسئلة :نوعيتها ،مصدرها ،غايتها. .3مهارات اجلدل العلمي :وفي هذا السياق سوف ننظر إلى: < مستوى اجلدل العلمي الذي مت في الصفوف. < مدى حتقق عمليات اجلدل العلمي في الصفوف من حيث( :الكالم واالستماع ،صياغة االدعاءات ،التبرير ،التموضع ،بناء املجادلة، تقييم اجلدل).
< دور املعلم/ة في تسهيل عمليات اجلدل العلمي. وبعد النظر في احملاور السابقة ،سوف نبني أثر هذه التغيرات في عملية بناء املعرفة ،من خالل عرض مناذج من بناء املعرفة بواسطة الكتابة واحلوار ولعب األدوار.
احلوار الصفي:
ميكن االدعاء أن تغير ًا ملموس ًا حصل على صعيد احلوار الصفي في مستويات عدة:
.1منط التفاعل الصفي :إضافة إلى منط التفاعل الثالثي-الذي أشرنا إليه في موضع سابق -فقد ظهرت أمناط تفاعلية جديدة ،حيث الطالب يسأل املعلم والسؤال يولد سؤا ً ال آخر ،لننظر إلى هذا احلوار املستل من حصة علوم بعنوان فصل املواد الكيميائية للمعلمة، لنالحظ كيف تبدو األسئلة حرة وتلقائية ،وتعبر عن رغبة في فهم الظاهرة العلمية.
طالبة( :1بعد أن أخذت اإلذن من املعلمة) :كيف بنعرف قديش بيسحب التلفزيون كهرباء؟ طالبة :2بكون مكتوب على التلفزيون قدرته ،مث ً ال 100واط/ساعة، بنضرب 100في زمن التشغيل. أيض ًا فقد الحظنا أن املعلم/ة في أكثر من مناسبة يشجع الطالب/ات على طرح األسئلة على بعضهم البعض .وضمن املشهد السابق سألت طالبة معلمتها :هل كل التلفزيونات بتسحب كهرباء زي بعضها؟ املعلمة :جربي اسألي هالسؤال لـ (خولة) ألنو هي كانت مسؤولة عن جمع املعلومات عن حمولة األجهزة الكهربائية في املدرسة. الطالبة تنظر باجتاه خولة وتعيد السؤال عليها. خوله :ال ..كل جهاز له قدرة بتختلف عن الثاني ،في أجهزة 100 واط وفيه 80واط ... املعلمة :في حدا بحب يسأل خوله حول نفس املوضوع.
ملف الثقافة العلمية
الطالبة :كيف بدي اعرف انو امللح ذاب في املية ونزل في القنينة؟ املعلمة (تبدو محتارة) :مهو معروف انو امللح بذوب في املاء. الطالبة :بس ميكن يظل منو شوية في االسفنجة وما ينزل. املعلمة :ممكن ..ولكن أعتقد أن جزيئات امللح أصغر من مسامات اإلسفنج. الطالبة :بس هيك ما بنكون فصلناه مليح. املعلمة :صح ..ال ميكن فصل املواد %100 الطالبة :طيب ممكن نبحث عن شيء غير اإلسفنج مساماته أصغر من جزيئات امللح؟ املعلمة :جربي!
من دورة للتصوير السينمائي للفتيات نظمها مسرح احلرية في جنني.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
إذا ما دققنا النظر في املشهد احلواري أعاله ،سوف نلحظ أن إجابات املعلمة ال تتسم باليقني ،إنها أقرب إلى االستجابة منها إلى اإلجابة، وهذا الشكل من االستجابة ترك الباب موارب ًا ملزيد من األسئلة ما سمح للحوار أن يتصاعد .من اخلطأ إن ننظر إلى املشهد السابق وكأنه سؤال وجواب .ذلك أن أسئلة الطالبة تنبني وتتطور تصاعدي ًا بناء على االستجابة التي تبديها املعلمة .وهذا يقود إلى فكرة احلوار الباختيني التي تفيد أن الكالم كتلفظ ينبني في سياق يشمل تلفظات اآلخرين واستجابتهم ومواقفهم ( 15.)Bakhtin 1986:78من املهم أيض ًا أن نشير هنا إلى أن احلوار في املشهد السابق ما كان له أن ينهض لوال جتاوز املعلمة حلرفية مفهوم “احلقيقة العلمية” وأيض ًا لوال مبادرة الطالبة وتنويهها إلى فكرة التماسك بني جزيئات امللح ومسامات اإلسفنج .إذ كان بإمكان املعلمة أن تضع حد ًا للحوار لو قالت مثالً ”:أن امللح يذوب قبل املعلمة لوجهة نظر في املاء وال يعلق في مسامات اإلسفنج» .ولكن َت ُُّ الطالبة أدى إلى استمرار احلوار ،وهذا يعني أن وجهات النظر وتعددها وتنوعها هي من مقتضيات احلوار (الكردي.)23:2003 ، النمط التفاعلي اآلخر الذي شاهدناه في أكثر من حصة ،وتكرر أكثر من مرة في احلصة الواحدة هو منط طالب طالب ،حيث الطالب يسأل زميلة ،هذا املثال مأخوذ من حصة التكنولوجيا للصف العاشر:
75
نالحظ مما سبق تراجع منط التفاعل الثالثي لصالح أمناط تفاعلية حوارية جديدة نشأت بفضل تبني أسلوب حل املشكالت.
76
األسئلة احلوارية
ملف الثقافة العلمية
ميكن االدعاء أن األسئلة املغلقة تراجعت بشكل ملحوظ لصالح األسئلة املفتوحة ،ففي مقارنة بني حصتني لنفس املعلم/ة ،ميكن أن نلحظ ذلك كما هو مبني في اجلدول التالي: املعلم/ة
احلصة األولى الفصل األول 2007
احلصة الثانية الفصل الثاني 2008
عبير
اذكري أنواع التيار الكهربائي؟ ارسمي رمز املقوم البلوري؟ صنفي املقومات البلورية؟
ما األفضل :استخدام أنابيب الفلوريسنت أم مصابيح التنجستون؟ ملاذا؟ هل تعتقدن أن املصادر البديلة للطاقة فعالة في حالة املجتمع الفلسطيني؟ كيف؟
شادية
ما هي أصناف التفاعالت الكيميائية؟ من تذكر خطوات حتضير اجلير احلي؟
هل ميكن أن توجد حياة على كواكب أخرى غير األرض؟ ملاذا؟ هل تعتقدن أن بطلة القصة فتاة غنية أم فقيرة؟ وملاذا؟
بهاء
اذكر عناصر النظام اإلداري. اكتب قانون حساب الربح.
هل ميكن التصدي لظاهرة العوملة؟ وكيف؟ ما هي البدائل املتاحة للمجتمع عن العوملة؟ وهل هي واقعية ضمن اخلصوصية الفلسطينية؟ كيف؟
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
لقد تغيرت أيض ًا أغراض األسئلة ،فاألسئلة لم تعد لقياس التحصيل وجمع املعلومات فحسب ،بل تعدت إلى أغراض أخرى من قبيل: أسئلة تشكيكية: عبير :كيف بدي أتأكد أنو املعلومات عن أجهزة املدرسة الكهربائية صحيحة ودقيقة. شادية :شو دليلك على أن الضوء جسيمات؟ أسئلة تقييمية: عبير :شو رأيك في طريقة (املجموعة األولى) في فصل املواد الصلبة. أسئلة حتفيزية: شادية :هل ميكن أن يكون الضوء جسيمات وموجات في الوقت نفسه؟
هل ميكن أن يسلك الضوء سلوك اجلسيمات في ظرف معني وسلوك موجات في ظرف آخر؟ أسئلة تشجع البدائل: عبير :هل ميكن أن تكتبي فرضية أسهل وقابلة لالختبار؟ بهاء :هل ميكن أن نفكر في بدائل عن االستيراد من اخلارج؟ أسئلة توجيهية وتخطيطية: عبير :كيف ميكن أن تكن مستعدات الستقبال مهندس البلدية؟ ما أهم األسئلة التي يجب أن تفكرن بها كي نستفيد من زيارة املهندس الكهربائي؟ أسئلة تشجع على التموضع: شادية :طيب ..أنت بتئيدي أي نظرية؟ وليش؟ بهاء :هل ميكن أن نبحث عن طريق ثالث ما بني رفض العوملة وقبولها؟ أسئلة تطلب تبريرات: بهاء :كيف تثبت أن تبني العوملة يؤدي إلى نهضة اقتصادية؟ هل لديك بيانات إحصائية تثبت أن صناعة األحذية في اخلليل تراجعت؟
مهارات اجلدل العلمي ي مجادالت أظهر حتليل البيانات املعطاة أن طالبات الصف العاشر َب َن نْ َ وادعاء مضاد مصحوب في علمية من املستوى الثاني ،ظهر فيها ّادعاء ّ احلالتني ببيانات وتفسيرات ،في حني أظهر طالب الصف األول ثانوي مجادالت علمية أقوى وتقع ضمن املستوى الثالث (سلسلة ادعاءات وادعاءات مضادة مصحوبة ببيانات وتفسيرات) .وفي كلتا احلالتني، ق ُِّد َم ْت املجادالت شفوية ،وفي أثناء املجادالت قدم الطالب/ات صور ًا وبيانات وأرقام ًا داعمة مفرغة على شفافيات ،وعرضت باستخدام (.)Over head projector فقد ظهرت بجالء مهارات اجلدل العلمي من حيث: > صياغة االدعاءات وإسنادها بالبيانات والتفسيرات: الطالب مالك مساملة :أعتقد أن العوملة ظاهرة إيجابية (ادعاء) ،انظروا كيف أصبح كل شخص يحمل هاتف ًا خليوي ًا (سند) .سمعت أن شركة «جوال» سوف حتتفل مبليون مشترك (سند) .صحيح أن هناك أشخاص ًا ليس لديهم جواالت (مجال النفي) ،ولكن هذا يحدث في كل املجتمعات (سند). الطالبة مرمي عمر :اعتقد انه ال يوجد مرض اسمه مرض اخلليج (ادعاء ،)1إنه مرض مصطنع من اجلنود (ادعاء )2للحصول على تعويضات مالية (تفسير)، فإذا كان هذا املرض موجود ًا فعالً ،فلماذا لم يظهر في احلرب على أفغانستان (سند .)1وملاذا
لم يظهر إال في اجلنود األمريكيني والبريطانيني (سند .)2
سلبيات ولها إيجابيات ،وأنا أعتقد أنه يجب أن نتعايش معها.
> طرح األسئلة النقدية: الطالب عصام سويطي :تقول إن شركة «جوال» ستحتفل قريب ًا باملشترك رقم مليون ،ولكن عدد الفلسطينيني في الضفة والقطاع هو 4ماليني ،معنى ذلك أن ربع الشعب الفلسطيني فقط يستطيع شراء «جوال» ،فكيف تقول إن العوملة ظاهرة إيجابية؟ إذا كان الضوء جسيمات ..أين تذهب هذه الطالبة وفاء : اجلسيمات بعد إطفاء النور في غرفة مظلمة ومغلقة؟ إذا سلطنا ضوء ًا على دوالب خفيف موجود روال إبراهيم : في أنبوبة مفرغة من الهواء تتحرك العجلة، كيف تفسر النظرية املوجية هذه الظاهرة؟
> القدرة على التقييم: مع أن النظرية املوجية فيها ضعف وال تفسر الطالبة سامية : بعض الظواهر ،فإنها تبقى النظرية األقوى. > القدرة على تطويع البيانات كي تخدم وجهة نظر: صحيح أن عدد الفلسطينيني أربعة ماليني نسمة ،ولكن فيهم أطفا ً ال وقاصرين ال يحملون «جواالت». حركة الدوالب تعني أن الطاقة انتقلت من املوجة الضوئية إلى الدوالب، وهذا ال يفسر أن الضوء جسيمات. أما بالنسبة إلى دور املعلم/ة ،فقد أظهر املعلمون/ات قدرات جيدة على إكساب طالبهم مهارات اجلدل العلمي ،املقاطع التالية مأخوذة من حصة متهيدية في اجلدل العلمي (حول أعراض مرض اخلليج) للمعلم بهاء مع طالب الصف األول الثانوي ،حيث تظهر فيها محاولة املعلم إكساب طالبه مهارات اجلدل العلمي: < إلجراء مناظرة ناجحة ،يجب أن يتحلى اجلميع مبهارة حسن االستماع. < حتى نفهم ما يقوله الطرف اآلخر ،يجب أن نستمع جيد ًا لكل شيء،
ملف الثقافة العلمية
> التموضع :أظهر الطالب قدرة على التموضع: طالبة من الصف العاشر :أنا مع النظرية املوجية ،ألنها تفسر معظم ظواهر الضوء. طالب من الصف احلادي عشر :العوملة مثلها مثل أي شيء آخر ،لها
77
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
78
املجادلة ليست فقط القدرة على الكالم إلقناع اآلخرين بوجهة نظر معينة .حتى نبني مجادلة علمية قوية ،يجب أن نستمع أيض ًا لكل شيء يقوله الطرف اآلخر ونفهمه جيداً. < هناك فريق من العلماء يعتقد أنه يوجد مرض أصاب اجلنود األمريكيني والبريطانيني في العراق أثناء حرب اخلليج .هذا الفريق يدعم وجهة نظره بشهادات وبيانات ومقابالت مع اجلنود الذين شاركوا في احلرب .وأيض ًا يوجد فريق آخر ينفي صحة هذه الفرضية ويقدم دالئل وشهادات ،واجلدل بني الفريقني مستمر .إن ما يقوم به الفريقان هو ما يسمى اجلدل العلمي. < سوف تقومون في هذا الصف بشيء مشابه ملا يفعله العلماء. < في البداية سأوفر لكم معلومات حول النظريتني من الصحف واإلنترنت. < بناء على البيانات ستقررون ما هي النظرية التي تؤيدونها. مدعم بالبيانات. < النظرية هي ّادعاء ّ < حاولوا أن تكتبوا في هذه املرحلة مجادالت ،ولكن األفضل أن تكون ومدعمة بوثائق. شفوية ّ < ال يوجد نظرية صحيحة بالكامل ،وال يوجد نظرية خاطئة بالكامل ،إمنا يوجد دالئل أكثر وأقوى لنظرية على حساب نظرية أخرى .ومطلوب منكم أن حتددوا بناء على ما تسمعونه من جدل مع أي النظريتني أنتم. < حاولوا أن تكون ادعاءاتكم مكثفة وعميقة ومبنية على البيانات. مدعمة بأرقام وحسابات وجداول ،كانت مقنعة < كلما كانت األفكار ّ أكثر.
في بناء املعرفة ..مقاربة حتليلية حتى يتاح لنا طرح مقاربة في كيفية بناء املعرفة عبر جتربتنا ،نرى من الضروري أن منيز بني مفهومي املعلومات واملعرفة .إننا نعتقد أن املعلومات هي بيانات مرتبة ومنظمة ضمن عالقات كمية ونوعية ،وهي قابلة للتخزين عبر وسائط مختلفة كالكتاب ،والوسائط التكنولوجية، وتتصف بأنها محايدة ،مبعنى أنها مادة خام ال تخدم وجهة نظر معينة دون غيرها ،وهي متاحة للجميع ألجل تطويعها كي تخدم وجهة نظر ما .وعليه ،فإن عملية نقل املعلومات من وسيط إلى آخر ،ال يحولها إلى معرفة ،إمنا تبقى كمعلومات مكتسبة تتراكم مع الزمن كمياً .إن املقاربات التعليمية التي تعتمد على فكرة نقل احملتوى املعلوماتي، تركز على طرائق اكتساب املعلومات ،كما يتم التعامل مع العقل كحيز .واألفراد املنخرطون في مثل هذه النظم التعليمية ميتازون بسعة معلوماتهم ،لكنهم يفتقرون إلى مهارات التفكير اإلبداعي ،وهذا ما يحدث غالب ًا في املدرسة. في املسافة الفاصلة بني الوسيطني-املرسل واملستقبل -ثمة عمليات يجب أن تتم حتى يقال إن املعلومات حتولت إلى معرفة ،وهذه العمليات هي احلوار واملعاجلة والتفكير والفهم .إن هذه العملية هي ما يسمى بالتذويت أو بناء املعرفة .فالتذويت إذاً ،هو عملية إكساب املعلومات بعد ًا ذاتي ًا من قبل الفرد/األفراد .ومبعنى آخر ،هي إعادة إنتاج املعلومات من وجهة نظر الذات الفاعلة ،وعليه فإن املعرفة هي املعلومات مضاف ًا إليها العمليات التي أشرنا إليها .وبحسب ديفلني ( ،)76:2000تكمن أهمية املعلومات ليس في كونها معلومات ،وإمنا في عملية حتويلها إلى معرفة.
شكل :2التذويت ..بناء املعرفة
حوار
معاجلة
تفكير
فهم
معلومات
معرفة
حتى تبنى املعرفة فمن الضروري أن تتغير طبيعة اخلطاب الصفي، ونقصد باخلطاب الصفي كل ما يؤثر في عملية إنتاج املعرفة من عمليات وأفراد وظروف وعناصر ،لكي تظهر بالشكل الذي تظهر عليه ،وهذا يشمل: < الطالب ومواقعهم وعالقاتهم وأدوارهم. < املعلم ودوره. < املنهاج وطريقة تقدميه. < أمناط التفاعالت الصفية. وعليه ،فإن بناء املعرفة يقتضي إعادة ترتيب لعناصر البنية الصفية من جديد ،أي إعادة ترتيب املواقع واألدوار .وهنا نتفق مع ما تؤكد عليه البنائية االجتماعية في كون التفاعالت االجتماعية شرط ًا أولي ًا في عملية بناء املعرفة .إذ الحظنا أن الطالب/ات األقل حظ ًا في املشاركة الصفية االعتيادية أبدوا مشاركة فاعلة في هذه التجربة البحثية على صعيد احلوار والكتابة .وهذا يتفق مع ما جاء في على لسان ويلز من “أن الفرد ينشط إذا ما وضع في إطار يجمعه مع آخرين” (ويلز.)73:2003 ، لقد ركزت البنائية االجتماعية على مفهوم التعليم كعملية مشاركة للفرد في سياق اجتماعي يجمعه مع أقران آخرين .ومع قناعتنا أن هذا الشكل من التعليم ينتج أفراد ًا مشاركني وفاعلني ،فإننا نعتقد إن إلقاء العبء على الطالب وحدهم أمر له محاذيره حتى لو توفرت كل اشتراطات إنتاج املعرفة (ويلز .)71:2003 ،وعليه ،فإننا نعتقد أنه إضافة إلى توفر االهتمام الشخصي للمتعلم وتوفر مصادر املعلومات وتوفر السياق االجتماعي ،فإن تدخل املعلم وتوجيهاته وإرشاداته هي أمر جوهري في عملية بناء املعرفة ،ولكن مع التشديد على أهمية أن يكون تدخله مسه ً ال لعملية التعليم .املقطع التالي واملستل من مذكرات طالب في الصف األول ثانوي يبني أنه في حال توفر اهتمام شخصي ،فإن متوضع الفرد ضمن إطار اجلماعة ال ينهض بالقدرات الفردية فحسب ،بل واجلماعية أيض ًا (.)73:2003
“اخترت أن أكون مع املجموعة ضد العوملة .كلفني املعلم أن أكتب تقرير ًا عن صناعة األحذية في اخلليل ،وكيف هذه الصناعة خربت بسبب استيراد األحذية من الصني .أنا فرحان ألنني أقوم بهذا العمل .في الدروس العادية ما كنت أهتم بالواجبات البيتية التي يعطيها (املعلمون) .مهمتي مع مجموعتي ليس واجب ًا بيتياً ،أنا أحب أن أقوم بهذا العمل .أحس أنه ال يوجد فرق بيني وبني طالب مجموعتي .ال أحس أن التنافس موجود بيننا ،كل واحد منا يعمل لكي ننفذ مهمتنا بنجاح.”... وفي جتربتنا هذه الحظنا أن الطالب/ات الذين انخرطوا في نشاطات جماعية أبدوا قدرات جيدة على التواصل والبحث وطرح األسئلة ،وقد جتلت عملية بناء املعرفة في أوضح صورها مع طالبات الصف العاشر في سياق حلهن ملشكلة انقطاع الكهرباء ،ذلك أن السياق اإلشكالي كان حتد مع املشكلة ،لقد كان انقطاع سياق ًا حقيقياً ،ما وضع املتعلمني في ٍّ الكهرباء مشكلة واجهت املدرسة سنوات متتالية عدة ،وهذا ما جعل الطالبات يسعني بجد حلل هذه املشكلة .وفي إطار حل املشكلة ،تعلمت الطالبات مفاهيم وعمليات ومهارات في مجال الكهرباء.
القلم مكسور؟ (تسحب القلم خارج كأس املاء فيبدو طبيعيا) (جتربة). ال مش مكسور بس هو مبني انو مكسور (استنتاج). :مهو هذا السؤال ..ليش ببني كأنو مكسور. :بس القلم ببني مكسور ..وال كل األشياء؟ (سؤال استقصائي) :-جنرب املسطرة؟ (تضع املسطرة في املاء فتظهر مكسورة) معناتو كل
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
من إحدى فعاليات جمعية الكمنجاتي في جنني.
يبني املشهد التالي جزء ًا من حصة علوم في مرحلة التحضير للجدل العلمي .املجموعة تتألف من ثالث طالبات في الصف العاشر ممن تبنني النظرية املوجية .واملشهد ميثل حوار ًا داخلي ًا بني أفراد املجموعة حول خاصية من خصائص الضوء .الطالبات يحاولن فهم خاصية االنكسار في ضوء النظرية املوجية .لقد وفرت املعلمة لهن مصادر معلومات متنوعة :قصاصات ،رسومات ،أدوات بسيطة .الطالبات يتحلقن حول الطاولة وأمامهن كأس مملوء باملاء وقلم .وقد كلفن لإلجابة عن سؤال :ملاذا تبدو األشياء مكسورة حني توضع في املاء.
79
ملف الثقافة العلمية
في سياق اجلدل العلمي أيضاً ،كانت عملية بناء املعرفة عبر عمليات
املجادلة عميقة وواضحة األثر .وبسبب تعدد السياقات التجريبية، استخدم الطالب/ات في هذه التجربة أمناط ًا عدة في بناء املعرفة: كتابية ،شفوية ،حوارية ،أخرى عن طريق العمل النشط.
ملف الثقافة العلمية
80
أشي بينكسر في املاء (تعميم). :طيب لو جربنا أشي غير املاء؟ :زي ايش؟ :الزيت مث ًال (تضع القلم في وعاء الزيت) :نفس الشيء ..القلم مبني مكسور. :إحنا بدنا نعرف شو بصير في الضوء. :طيب خلينا ندور في األوراق (يبحثن في الرسومات) :اننت مالحظات انو الشعاع هو إلي بغير مساره؟ :صحيح. :يعني ما الو دخل بالقلم ،معناتو الضوء هو اللي بينكسر ألنه مر فياملاء. :احنا الزم نفكر ليش الضوء بينكسر. :أنا بالحظ من الرسومات ..حتى ينكسر الضوء الزم مير من وسطنيشفافني مثل الهواء واملاء أو الهواء والزيت ( ...استنتاج وتعميم) فيما سبق نلحظ أثر احلوار في بناء املعرفة ،لقد مت عبر احلوار فهم ومعاجلة مفهوم االنكسار بلغة بسيطة ،ولكنها لغة الطالبات ،وبهذا املعنى تصبح عملية بناء املعرفة كما لو أنها تشييد ُبنيان ،وهذه مهمة ليست فردية ،بل هي مهمة جماعية قائمة على الشراكة ما بني املعلم والطالب ،ويلزمها ظروف ومواد وعناصر كي تتم على أكمل وجه.
خامتة على صعيد اجلدل العلمي -مبا هو حقل تربوي غير مطروق في امليدان التربوي الفلسطيني -ميكن القول إن هذا البحث أسس لتجربة جديدة في اجلدل العلمي ،نأمل من التربويني ،باحثني ومعلمني وطالباً ،أن يحاوروها ويراكموا عليها .ففي حدود علمنا أن اجلدل العلمي هو عنصر ثقافي غائب من األدب التربوي الفلسطيني.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
أما على صعيد احلوار الصفي ،فيمكن القول إن مفهوم احلوار لدى املعلمني/ات تغير (من توجيه األسئلة وتلقي اإلجابات عنها) إلى مفهوم جديد يستند إلى تبادل املعرفة بني املتحاورين بغرض الفهم والتغيير .لقد انعكس التغير في املفاهيم على املمارسة ،حيث ظهرت أمناط تفاعلية حوارية جديدة ،حيث الطالب يحاورون بعضهم البعض ،ويحاورون معلمهم .كما تطورت قدرة املعلمني/ات والطلبة على إثارة األسئلة احلوارية والتفكيرية بشكل الفت ،وباملقابل تراجعت األسئلة املغلقة التي تعرقل احلوار. تبق لغة احلوار حبيسة الصفوف ،لقد امتد تأثيرها إلى املدرسة لم َ واملجتمع .فعلى صعيد احلوار املدرسي ،مت حتديد يوم من كل أسبوع للحوار املدرسي ضمن الفعاليات الصباحية ،يشارك فيه بصورة دميقراطية كل من له عالقة مبوضوع احلوار؛ سواء من الطالب أم املعلمني أم اإلدارة املدرسية أم من املجتمع احمللي .أما املواضيع احلوارية التي تطرح ،فهي على األغلب مشكالت املدرسة التعليمية واإلدارية والصحية. وألن احلوار واجلدل يتطلبان إعادة بناء وترتيب البنية الصفية ،فقد ظهرت
تغيرات في األدوار واملواقع والعالقات الصفية .ففي سياق األدوار طرأ حتسن ملحوظ على فهم املعلم لدوره كميسر للعملية التعليمية ،وبهذا املعنى تراجعت أساليب التدريس التلقينية ،وباملقابل طرأ حتسن ملحوظ على أداء الطالبات ودورهن في املواقف التعليمية املختلفة؛ من طالبات يستقبلن املعلومات إلى طالبات يسألن ويحاورن ويخططن. وألن البحث يتطلب أعما ً ال كتابية وتطوير مقترحات تعليمية ،فقد تطورت ً طور املعلمون/ات ا وأيض التأملية، الكتابة مجال قدرات املعلمني في َّ مقترحات تعليمية تتكئ على املناهج املدرسية ،وأعادوا بناءها ،بحيث وتفعله؛ مستخدمني في ذلك سياقات متنوعة من تستدعي احلوار الصفي ّ قبيل االستقصاء ،واجلدل العلمي ،والقصة ،ولعب األدوار.
تأمالت ما بعد بحثية حكاية البحث:
لقد ذهبت إلى املدرسة ألنفذ بحث ًا في «الرواية كسياق للتعليم والتعلم»، وخرجت من املدرسة بعد سبعة أشهر ببحث في «تطوير قدرات املعلمني والطالب في احلوار الصفي واجلدل العلمي» ،وما بني العنوانني ثمة انزياحات وانفصاالت وسقطات هي في محصلتها النهائية رحلة بحثية وتأملية أنتجت هذا العمل البحثي. لم ِ يبد املعلمون/ات استعداد ًا لقراءة الروايات التي يفترض أن تؤسس وتقود عملنا البحثي ،كانت حلظة صادمة بالنسبة لي ،وشعرت باخليبة. ماذا افعل؟ الصدمة واخليبة مع ًا حتولتا إلى سؤال بحثي: هل يجدر بالباحث أن يذهب إلى حقله بكامل عدته البحثية أم يذهب أعزل ويستكشف احلقل ويؤسس فيه األسئلة واألدوات؟ مع هذا السؤال خفت حدة اخليبة وتعافيت قلي ً ال من الصدمة ،وأسست للخطوة التالية: «ما رأيكم أيها الزمالء والزميالت أن نشاهد أنفسنا في املمارسة الصفية؟» الكاميرا تبدو مرعبة ،إنها حتفر فينا السؤال ا ُمل َز ْع ِزع« :هل هذا أنا فعالً؟» من بني 35معلم ًا ومعلمة تعلن معلمة واحدة فقط استعدادها خلوض التجربة .املعلمة الواحدة هذه بدت لي في تلك اللحظة حشد ًا من البشر ،أنا ال أحتاج أكثر من معلم/ه لكي أبدأ. عندما شاهدت نفسها ألول مرة عن بعد أذهلتها :نكهة صوتها وحركات يديها وذهابها وإيابها كالديدبان ،وكالمها الذي لم ينقطع طوال أربعني دقيقة ،وهي تضخ بيانات وقوانني ونظريات. قال املشاهدون :احلصة ممتازة ،من حيث اإلدارة الصفية ،والشرح، والوسائل املستخدمة ...الخ ،وبالطبع شاطرتهم الرأي أنها فع ً ال ممتازة وفق هذه املعايير ،ولكني رميت سؤا ً ال استوحيته من سياق
احلصة« :ماذا يعني لكم ما قالته الطالبة( :أن طول دودة اإلسكارس 120سنتمتر ًا يساوي طول غرفة الصف)؟ أسبوع بعد أسبوع بدأت املبادرات ترتفع ،وبدأت النماذج اجلديدة متارس جاذبيتها على املعلمات .وغدا احلضور إلى قاعة السينما املدرسية ملشاهدة حصص املعلمات تقليد ًا أسبوعياً .وهكذا بدأ املعلمون يجيدون النظر في املشهد أبعد مما اعتادوا عليه في العمل الصفي الرتيب .ومع نهاية هذه املرحلة ،انبثقت األسئلة البحثية التي قادت عملنا إلى مجال احلوار واجلدل.
في البحث النوعي:
بعد أن انقشع ضباب البدايات ،وجدت نفسي أمام بحر من الوثائق والصور والتسجيالت ،في حلظة ما أحسست أن كل شيء سينهار ،وأن كل ما مت إجنازه ستذروه الرياح ،ال أدري من أين أبدأ ،وماذا أفعل بهذه الوثائق؟ وماذا أقيس؟
وسط هذا املعمعة سمعت عبارة ملهمة من أحدهم« :هل كل شيء قابل للقياس؟». إذن ،كيف ميكن لي أن أقيس فرحة طالبة تقفز فرح ًا حني وجدت عطل الكهرباء في مدرسة مضى عليها سنوات وهي تعاني من هذا العطل؟ كيف لي أن أقيس فرحة طالب أنهى مهمته في اجلدل العلمي ونزل فرح ًا إلى رفاقه يسألهم» إن شاء الله كنت مليح؟ إن األبحاث الكمية ال تقيس الفرح ،وليس لها دخل باالنفعاالت، مع أنها تتويج لكل ما مت إجنازه .حني تذكرت هؤالء الناس الفرحني بإجنازهم عرفت مهمتي البحثية ،وهي أن أصف املسار منذ حلظة البدء وحتى تلك القفزة الفرحة التي تشبه خفقة حمامة بيضاء خرجت من أسرها ،إنها بلغة الباحثني تغير في طريقة النظر إلى البيانات.
في األحكام اجلاهزة:
وهكذا قرر بهاء أن يخوض التجربة مع «الصف األعنف» وجنحت التجربة .في مراحل التجربة كافة ،كنا نتحاور مع ًا وكنت أملح في تعبيراته تلك الطاقة االنفعالية اجلميلة:
حني يكون معتقد املعلم عن نفسه أنه محور العملية التعليمية ودوره توصيل املعلومات ،فإن كل العوامل والعناصر واألشياء الصفية سوف يعاد ترتيبها بشكل يضمن حتقق هذا الدور ،ويبدو أسلوب التلقني منسجم ًا مع هذا التوجه .التلقني يدفع باجتاه متركز املعلم حول ذاته ومينحه الدور األكبر .في حني تتضاءل أدوار املتعلمني ،إنهم موجودون لتأكيد دوره .فالطالب يشعرون أنه يتم التعامل معهم كأشياء صفية، إنهم ال يشتركون في احلوار وال يساهمون في بناء معرفتهم وهم يتمايزون في طبقات ضمن معايير الذكاء .هذه املمارسات الصفية تخلق أوضاع ًا صفية غير مريحة لهم. الطالب في أوضاع كهذه لهم خيارات أخرى ضمن سعيهم للعب أدوار صفية ،فقد تظهر أساليب ممانعة ومبادرات رفض ،ومن هنا تنشأ العالقات الصراعية التي تؤدي إلى العنف مبستوياته املختلفة .إننا نفسر أساليب الرفض واملقاومة وإثارة الفوضى كمحاولة للبحث عن دور. وبهذا املعنى ،فإن تقسيم الطالب إلى أذكياء وأغبياء هو انعكاس لتقسيم من نوع آخر :هادئون وفوضويون. مع املعلم بهاء احملاسنة لم تعد هذه التقسيمات والتصنيفات موجودة، فالطالب املوصوفون بالشغب أبدوا درجة عالية من اجلدية وااللتزام واملشاركة.
اإلحساس باملراقبة:
في املرحلة األولى من البحث واجهتنا معيقات عدة؛ أهمها تصوير املعلمات .إذ كان مجرد طرح فكرة التصوير تبدو مروعة لهن ،وقد اعتقدت أن األمر يتعلق باإلرث االجتماعي والتقاليد ،وبخاصة أن الغالبية معلمات ،مبا يثير هذا األمر من حساسية في مجتمع محافظ. بيد أن األمر بدا على العكس متاماً .إذ رفض املعلمون أيض ًا فكرة التصوير ،ما أوحى أن األمر ال يتعلق بالتقاليد ،فقد تبني من خالل حتليل يوميات املعلمات أن األمر يتعلق بسبب آخر هو اإلحساس باملراقبة. يؤشر مفهوم املراقبة على سلطة اآلخر؛ سواء الطالب أم املشرف أم املدير ،وقد ارتبط هذا النوع من املراقبة تاريخي ًا بالطابع االنتقادي لزيارات املدير واملشرف التربوي .ونحن نستخدم هنا مصطلح االنتقاد كخطاب تقويضي باجتاه أحادي من األعلى سلطة إلى األدنى سلطة. وهذا املعنى معاكس متام ًا ملفهوم النقد مبا هو جدل ،واجلدل كما يصفه مصطفى ناصف (ناصف“ )9:2000 ،ال يكون إال حيث التعارض في وجهات النظر تعارض ًا قائم ًا باألساس على االعتراف التبادلي”. لقد اقترنت زيارة املشرف التربوي وكذا املدير بنوع من التحسب ،ما يولد لدى املعلم إحساس ًا دائم ًا باملراقبة وتصيد األخطاء .تقول إحدى املعلمات في يومياتها“ :عندما يزورني املوجه أكون معلمة أخرى غيري ،ذهني مشغول مع املوجه أكثر من الصف ،ال أكون طبيعية في
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
املعلم بهاء احملاسنة هو معلم جديد في سنته التعليمية الثانية ،صمم ونفذ مقترح اجلدل العلمي في الصف األول ثانوي األدبي .املعلمون في مدرسته أعلنوا فشل التجربة قبل أن تبدأ ،ألن هذا الصف عنيف من وجهة نظرهم ،وال يريد أن يتعلم .انسربت هذه الهواجس إلى قلب املعلم بهاء ،فجاء معلن ًا خوفه من احتمال فشل التجربة .يومها قلت له: «إذا كنت في مكان ،حيث ال يتوقع الناس وجودك فيه ،فاعلم أنك في املكان الصحيح».
81
ملف الثقافة العلمية
ما زلت مهجوس ًا باألبحاث الكمية ،وأنا الذي تخرجت من مدرسة ختمت دماغي بالعالقات الكمية والسببية وذهبت إلى جامعة وتخرجت منها دون أن أسمع حرف ًا واحد ًا حول األبحاث النوعية ،ثم عدت إلى املدرسة معلم ًا ألعيد إنتاج نفسي على هيئة من أنتجوني.
< الطالب أبدعوا أكثر مما توقعت. < كتابات الطالب جميلة. < أسئلتهم دقيقة وعميقة. < الطالب املتصفون بالعنف والبالدة شاركوا بشكل ممتاز.
82
احلصة ،إنها حصة مزيفة وال تعكس طبيعتي”.
.3االنضباط الصفي :الفوضى ،اإلجابات اجلماعية ،إدارة الصف.
النوع الثاني من املعيقات هو ما يتعلق بنوعية املمارسات املطروحة للنقاش ،حيث كانت اجللسات احلوارية مفتوحة ملن يرغب في املشاركة، وقد دأب على حضور احلوارات غالبية الهيئة التدريسية ،ما أغنى النقاش في بعض املجاالت ،وهذا بالطبع قدم تغذية راجعة لكثير من املمارسات الصفية .بيد أن كثافة احلضور عكس تباين اهتمامات احلضور وثقافته، األمر الذي أعاق التعمق في احلوار في القضايا اجلوهرية املتعلقة باملمارسات الصفية ،حيث متت انزياحات في النقاش باجتاه القضايا األكثر تقليدية ،لقد بدا واضح ًا منذ اللحظة األولى أن احلوار اجلمعي يجنح باجتاه قضايا شكالنية وثانوية بالنسبة جلوهر املمارسات الصفية، وهي من قبيل:
وبالطبع ،فإن هذه األمور على أهميتها ،ال تقارب جوهر العمل التعليمي ،وهي تؤشر سيميائي ًا على متركز املعلم حول ذاته ،فالعامل املشترك بني كل األمور السابقة ،أنها تعكس موقع املعلم ووظيفته الصفية في املدرسة التقليدية ،حيث املعلم هو من يضبط الصف وينظم الدرس، ويختار الوسائل التعليمية.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
.1وسائل اإليضاح :طبيعتها ،نوعيتها ،فائدتها ،مدى انسجامها مع املوقف التعليمي ،توقيت توظيفها. .2تنظيم الدرس :مراجعة الدرس السابق ،التهيئة للدرس اجلديد، العرض ،اخلامتة ،التقييم.
إن تغييب ما هو جوهري في املمارسات الصفية يعكس ثقافة سائدة في املدرسة تعمد إلى ترسيخ دور املعلم التقليدي مبا هو محور العملية التعليمية .ومع هذا الشكل من االنزياح ،بقيت القضايا اجلوهرية متوارية، ولم تستحضر للنقاش وهي من قبيل :نوعية العالقات الصفية .األمناط احلوارية وطرق بناء املعرفة وكذا املواقع واألدوار الصفية .لقد كانت هذه احلوارات إحدى إشكاليات البحث ،وبذلنا جهد ًا في لفت أنظار املعلمني/ ات إلى أهمية هذه القضايا ،حتى أصبحت محل اهتمام ونقاش. مشهور البطران – مركز القطان
الهوامش 1كتاب الصف التاسع -العلوم العامة ( .)2003تأليف :سامي عبد الكامل وآخرون ،ط ،3رام الله :وزارة التربية والتعليم -مركز املناهج. 2كوون ,توماس ( .)1962بنية الثورات العلمية ,ت :شوقي جالل ,الكويت :سلسلة عالم املعرفة. 3املرجع السابق. 4انظر :الكردي ،وسيم ( .)2003املشكالية :نحو حوار حواري..من الصوت املفرد إلى األصوات املتعددة ،رام الله:مركز القطا للبحث والتطوير التربوي. 5يقابل مصطلح اجلدل في اللغة اإلجنليزية كلمة ( )argumentالتي تدل على بنية تتكون من ّادعاء مسنود ببيانات وعالقات وتفسيرات ،في حني تدل كلمة ( )argumentationإلى املمارسة اجلدلية. 6 http://resources.metapress.com/pdfpreview.axd?cod=762v81898636xn81&size=largest. تاريخ الدخول.2008/3/10 : 7كون ,توماس ( .)1962بنية الثورات العلمية ,ت :شوقي جالل ,الكويت :سلسلة عالم املعرفة. 8انظر: Driver, R., Newten, .p, &Osborne, J.(2000).Establishing the Norms of Scientific Argumentation in Classrooms. Science Education, 84(3), 287-312. 9 ) (Inquiry and the National Science Education Standards, 2000, P20 10 .(Inquiry and the National Science Education Standards, 2000) A Guide for Teaching and Learning, Inquiry Center for Science, Mathematics, and Engineering Education, National Research Council. p. cm. NATIONAL ACADEMY PRESS Washington, DC 11املقصود هنا البحث النوعي ( )qualitative researchكمنهجية في البحث مقابل البحث الكمي (.)quantitative researche 12يوجد اآلن في بعض املدارس الفلسطينية في الضفة والقطاع وداخل اخلط األخضر وحدات سينما ،مت تزويدها للمدارس عبر مشروع مشترك ما بني مؤسسة عبد احملسن القطان واالحتاد األوروبي .وهو مشروع يهدف إلى بناء ثقافة سينمائية لدى األجيال اجلديدة من الطالب الفلسطينيني ،وغالب ًا ما يجري استغالل هذه الوحدات السينمائية إلجراء عروض سينمائية ،وفي حالة بحثنا ،استخدمنا هذه الوحدة إلجراء عروض للحصص الدراسية والتجارب التعليمية املصورة. 13انظر ما ذكر سابق ًا حتت عنوان “في احلوار” 14مرض أشيع أنه أصاب جنود التحالف أثناء غزو العراق العام ،1990وقد رفع آالف من اجلنود األمريكيني والبريطانيني دعاوى قضائية ضد املؤسسة العسكرية في البلدين .وعلى املستوى العلمي ،انقسم املجتمع الطبي إلى فريقني ما بني مؤيد لوجود هذا املرض ومعارض لوجوده. 15انظر :الكردي ،وسيم ( .)2003املشكالية :نحو حوار حواري ..من الصوت املفرد إلى األصوات املتعددة ،ط ،1رام الله :مركز القطان للبحث والتطوير التربوي.
املراجع أ) املراجع العربية: < إبراهيم ،زكريا (بدون تاريخ) .مشكلة البنية ،أضواء على البنيوية ،القاهرة :مكتبة مصر. < جبر ،دعاء وكشك ،وائل ( .)2007تعليم يبدأ من احلياة ..حل املشكالت مجال لتحفيز التعلم وتنمية التفكير ،ط ،1رام الله :مركز القطان للبحث والتطوير التربوي. < ديفلني ،كيث ( .)2001اإلنسان واملعرفة في عصر املعلومات ،ت :شادن اليافي ،الرياض :مكتبة العبيكان. < عزام ،محمد ( .)2003حتليل اخلطاب األدبي على ضوء املناهج النقدية احلداثية ،دمشق :احتاد الكتاب العرب. < فريري ،باولو ( .)2003نظرات في تربية املعذبني في األرض ،ت :مازن احلسيني ،رام الله :دار التنوير للنشر والترجمة. < الكردي ،وسيم ( .)2003املشكالية :نحو حوار حواري ..من الصوت املفرد إلى األصوات املتعددة ،ط ،1رام الله :مركز القطان للبحث والتطوير التربوي. < ماكنيف ،جني ( .)2001ما هو البحث اإلجرائي؟ ،ت :إسماعيل الفقعاوي ،ط ،1رام الله :مركز القطان للبحث والتطوير التربوي. < ناصف ،مصطفى ( .)2000النقد العربي نحو نظرية ثانية ،الكويت :املجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب .سلسلة عالم املعرفة ،ع .255 < ويلز،غوردن وهنيدا ،ماري ( .)2003اللغة وبناء املعرفة ..احلوار والكتابة في تعلم اللغة وبناء املعرفة ،ت :عيسى بشارة ،ط ،1رام الله :مركز القطان للبحث والتطوير التربوي.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
من إحدى فعاليات مدرسة غزة للموسيقى.
ملف الثقافة العلمية
ب) املراجع األجنبية: < Driver, R., Newten, .p, &Osborne, J.(2000). Establishing the Norms of Scientific Argumentation in Classrooms. Science Education, 84(3), 287-312. < Lemke, j.L.(1990). Talking Science: Language, learning, and Values. Norwood, NJ:Albex publishing. < Inquiry and the National Science Education Standards, (2000) A Guide for Teaching and Learning, Inquiry Center for Science, Mathematics, and Engineering Education, National Research Council. p. cm. NATIONAL ACADEMY PRESS Washington, DC. < Simon, S., Eduran, E. & Osborne, J., (2006). Learning to Teach Argumentation: Research and development in the science classroom. International Journal of Science Education, Vol.28, pp. 235-260.
83
حكاية كوكب اسمه “األرض”
84
د .طالب احلارثي ترى هل سأل أحدنا نفسه ،كيف نشأ هذا الكوكب الذي أسميناه «األرض» ،والذي عاش عليه أجدادنا في املاضي ونعيش عليه اآلن؟ وكيف تكونت هذه التضاريس املتنوعة من جبال وهضاب وسهول ووديان وأنهار وبحار وبحيرات ومحيطات وصحا ٍر وأغوار وكهوف وما إلى ذلك؟!
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
وهل كان هذا حال األرض منذ القدم حتى اآلن ،أم أن حال كل ما عليها من مواد حية كانت أم غير حية كان وما زال وسيبقى في تغير مستمر؟ تكون املادة غير احلية من صخور وأتربة ومياه وغالف جوي بدرجة حرارة وهل كان للمادة احلية التي نقع نحن كبشر في قمة هرمها أن تظهر قبل ّ مالئمة؟ وما هي عالقة كوكبنا الصغير األرض بغيره من األجرام السماوية األخرى التي تسبح في هذا الكون الشاسع؟ ورمبا يسهب املرء في تساؤالته :هل ما يحدث على سطح أرضنا من أحداث كالزالزل والبراكني واالنهيارات األرضية والتصدعات هي مجرد أحداث ومصادفات ال قيمة لها أم أن وراء األكمة ما وراءها، وأن العلم استطاع سبر الكثير من أغوار هذه الظواهر وفهم مكنوناتها وأسبابها؟ فمث ً ال رمبا يتساءل أحدنا ملاذا حتدث زالزل عنيفة في مناطق كاليابان وإندونيسيا وأالسكا وأرمينيا وإيران ،بينما حدوث زالزل بهذه الدرجة من القوة والعنف أمر غير مألوف في مناطق كمصر أو السودان أو ليبيا أو فلسطني؟ بل وملاذا يندفع بركان ما بشكل فجائي في جزر الهاواي أو في منطقتي «اثنا» أو «فيزوف» الواقعتني على ارتفاع يزيد على 3000م فوق سطح البحر في إيطاليا؟ ورمبا يتعمق املرء في تساؤله فيسأل :ملاذا ينفجر هذا البركان بقوة ليقذف كت ً ال صخرية عظيمة وحمم ًا منصهرة مندفعة في عنان السماء ،بينما بركان آخر يقذف طين ًا ساخن ًا أو رماد ًا حار ًا أو تنساب منه حمم ملتهبة حمراء بازلتية كما تنساب املياه في جدول رقراق؟ وملاذا تندفع أمواج قاتلة هوجاء تسمى «التسونامي» لتدمر سواحل تقع على بعد مئات الكيلومترات؟ وملاذا تتكاثر اندفاعات ينابيع املياه احلارة املخلوطة بالطني البركاني في جزيرة مثل أيسلندا دون غيرها؟ وأيض ًا ملاذا هنالك جزر على وشك الغطس نهائي ًا حتت سطح البحر مثل جزر القمر وجزيرة «كايويا» -إحدى جزر الهاواي -وجزيرة «دولة مايكرونيزيا» «العتيدة» الواقعة شمال أستراليا في احمليط الهادي التي تصوت دائم ًا إلى جانب إسرائيل وأمريكا في مجلس األمن؟ وقد يسترسل اإلنسان في تساؤالته كلما وجد متحجرة لصدفة بحرية فوق سفح جبل أو تلة أو عثر على هيكل سمكة متحجرة في صحراء قاحلة ال ترعد فيها السماء وال متطر ،أو حضر فيلم ًا سينمائي ًا عن الديناصورات، وما تثيره من رعب لدى املشاهد؟ وهل إنسان اليوم هو نفسه اإلنسان قبل آالف السنني؟ وما أوجه الشبه واالختالف بيننا وبني أسالفنا من
بني اإلنسان؟ ال بل وهل ما يدب اليوم على سطح األرض ويعيش في بحارها ويطير في أجوائها هو الكائنات نفسها التي كانت تدب على سطح كوكبنا هنا وهناك قبل ماليني السنني؟ وهل غالفنا اجلوي ومكوناته اليوم هو الغالف اجلوي نفسه واملكونات نفسها التي كانت في األزمنة الغابرة؟ ويطول حبل األسئلة ،نعم يطول! ولم ال فهذه هي أمنا األرض التي عليها وقعت كل األحداث منذ ماليني السنني وال تزال .ترى هل من املمكن ألحدنا أن يتصور أن طول اليوم الواحد على األرض كان في األزمنة اجليولوجية الغابرة أقل بكثير من 24ساعة كما هو طول يوم هذه األيام؟ وأن سرعة دوران األرض حول نفسها كان أسرع مما هو عليه اآلن ،ما يعني أن السنة الواحدة كانت متتد إلى أكثر من 400يوم أو يزيد في العام الشمسي الواحد .وكيف متيزت وترتبت أغلفة األرض من اخلارج إلى الداخل ،من األخف إلى األثقل فاألثقل؟ وال ينتهي حبل التساؤالت عن هذه األرض وما دار ويدور فيها وعليها من أحداث مختلفة .وألن كل شيء قد يضيق مع الزمن إال العلم ،فهو دائم ًا في اتساع مستمر في كل االجتاهات ،فإننا لإلجابة عن هذه التساؤالت جميع ًا بشكل تفصيلي قد نحتاج إلى مجلدات كثيرة ،فإنه ال بد من االقتضاب في اإلجابة قدر اإلمكان ،أو تناول هذه املواضيع على حلقات وبشكل علمي لتتم لنا اإلجابة. إن علماء اجليولوجيا وباالستعانة بعلم اجليولوجيا (ومعناه احلرفي «علم األرض») قد تصدوا لإلجابة عن كل هذه التساؤالت ،مستخدمني آخر مبتكرات العلوم ومتبعني طرق البحث العلمي في تفسير كل هذه الظواهر اجليولوجية وغيرها ،خالف ًا ملا اتبعه األقدمون من االستعانة باخلزعبالت واللجوء إلى مجاهل امليتافيزيقيا لتفسير كل ذلك.
يقول علماء اجليولوجيا :إن كوكب األرض قد انفصل عن شمسنا قبل حوالي خمسة مليارات عام ،وأنه كان آنذاك كتلة ملتهبة يتكون معظمها من الهيدروجني والقليل من الهيليوم ،متام ًا كما هو حال الشمس اليوم .ومع الزمن بدأت هذه الكتلة امللتهبة تدريجي ًا بالبرودة لتتكون منها العناصر التي تكون القشرة األرضية اليوم .ولعل الدخول في معرفة كيفية صيرورة هذه األشياء بالتفصيل والوقوف على ما آلت إليه بدقة يتطلب مساحة كبيرة من البحث والسرد. ولكن السؤال اجلوهري هنا يكمن في معرفة كيف آلت هذه الكتلة امللتهبة أرضنا -إلى ما آلت إليه اليوم ،لتصبح كوكب ًا يصلح للحياة عليه،وتنتعش على سطحه ماليني األنواع من أشكالها؟! وكيف مت لهذه الكتلة امللتهبة أن «تبرد» على الرغم من أنها تستقبل من الطاقة احلرارية الشمسية أكثر مما تشع في الفضاء اخلارجي؟! ورمبا تفتح اإلجابة عن هذا السؤال الباب على مصراعيه للتكهن وبشكل علمي عن احتماالت تطور الكواكب امللتهبة الحقاً ،لتصبح كواكب ميكن للحياة أن تنتعش فوقها، إذ ما املانع ألي كتلة ملتهبة من املادة أن تتبع مسار كوكبنا وصيرورته لتصبح احلياة ممكنة عليها؟ وقد تكون املسألة مسألة وقت ليس إال!
ويقول اجليولوجيون إن أول أشكال احلياة ما كان لها أن تظهر على سطح األرض قبل أن تصل برودة السطح في بعض األماكن إلى أقل من 90درجة مئوية على األقل ،ويرجحون أن يكون ذلك في منطقة القطب اجلنوبي ،وتدل األبحاث العلمية أن أوائل الكائنات التي ظهرت على سطح األرض كانت عبارة عن أشكال احلياة البدائية كالفيروسات والبكتيريا التي يطلق عليها علماء املستحثات تعبير «الكيموفسلز» ( ،)Chemofossilsوكانت قد ظهرت قبل حوالي 3.6مليار عام وتالها الطحالب قبل 2.8مليار عام .وليس لنا أن نستهني بأي كائن حي ظهر واختفى أو ال يزال يعيش حالي ًا على سطح هذه البسيطة ،فقد عزا علماء األرض تكون أكبر احتياطيات العالم من خام احلديد إلى نشاط هذه البكتيريا الالهوائي في الفترة من قبل 2.7مليار عام إلى حتى ما قبل 1.8مليار عام من اآلن ،حيث يعتقد أن هذه البكتيريا كانت وراء تكوين ما يسميه علماء طبقات األرض «بطبقات احلديد احلمراء املخططة» ( )Red Banded Iron Formationsالتي حتوي أكثر من %70 من االحتياطي العاملي من احلديد .هذا ويعتقد العلماء أن الفترات األولى من تاريخ األرض متيزت بكثرة البراكني وعدم توفر األكسجني في غالف األرض اجلوي الذي كان معظمه يتكون من األمونيا وامليثان. ويعتقد أن هذه الكائنات امليكروبية ظلت هي الوحيدة التي تتربع على عرش مملكة احلياة على األرض حتى ظهور أوائل الديدان ألول مرة في تاريخ األرض قبل ما يزيد على 700مليون عام من اآلن.
مستحاثة ألشباه الديدان التي عاشت على سطح األرض في منطقة أدياكارا
( ،)Ediacaraجنوب استراليا في نهاية عصر البريكامبري.
1
لكن ظهور أشكال كثيرة ومتنوعة من احلياة بدأ فعلي ًا فيما يطلق عليه اجليولوجيون فترة االنفجار الكامبري؛ أي قبل حوالي 550مليون سنة من اآلن ،وهو الذي متثل بظهور كائنات حية مرئية (أي كبيرة) متتلك ألول مرة هياكل عظمية تركت نفسها تتحجر في طبقات الصخور التي دفنت
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
وكما أن الطاقة في الكون نوعان ،فإن القوى أيض ًا نوعان هما قوى اجلذب (اجلاذبية) وقوى التنافر .وتقسم قوى اجلذب إلى صنفني، هما قوى اجلذب الكتلي (اجلاذبية) التي تتواجد بني أي كتلتني في الكون مهما كان تركيبهما وحجمهما ،وقوى اجلذب الكهربائي بني أي شحنتني مختلفتني ،وفي املقابل هنالك قوة تنافر كهربائية واحدة بني أي جسمني يحمالن شحنات متشابهة .ولعل هذا ما يفسر ملاذا تبقى البروتونات مع ًا في نواة الذرة وال تنطلق بعيد ًا عن بعضها البعض على الرغم من أنها حتمل الشحنة املوجبة كهربائي ًا نفسها ،إذ علينا أن نتذكر ما أوردناه أعاله من وجود قوتي جذب وقوة تنافر واحدة ،وأنه نظر ًا لوجود النيوترونات املتعادلة كهربائي ًا في نواة الذرات ،فإن هذا مينح قوى التجاذب كم ًا إضافي ًا للتغلب على قوة التنافر بني البروتونات نفسها
ويذكر العلماء أن أقدم صخرة مت العثور عليها على سطح األرض يعود تاريخها إلى حوالي 4.8مليار عام ،ويستدلون على ذلك بواسطة حتليل النظائر املشعة التي مت العثور عليها في هذه الصخور ،التي يذكر العلماء أنها صخور غير أرضية ،وفدت إلى األرض كنيازك كانت تتساقط على أرضنا من الفضاء اخلارجي بني الفينة واألخرى .وقد افترض العلماء أن أقدم صخور األرض هي بعمر هذه الصخور النيزكية الوافدة.
85
ملف الثقافة العلمية
إن قوانني الطبيعة وعلم الفيزياء جتمع على القول إن هذا الكون كله مركب من ثالثة مكونات رئيسية هي الزمن ،والفضاء ،والطاقة ،وما املادة إال شكل من أشكال الطاقة ،وأن هذه املكونات الثالثة هي في حالة تفاعل دائم فيما بينها ،فتنشأ جراء ذلك أشكال وصور وأحداث ال يستطيع العقل اإلنساني أن يلم بها جميعها .ويقول العلم إن أنواع الطاقة في الكون نوعان رئيسيان ،على الرغم من تعدد أشكالهما ،وهما إما طاقة وضع وإما طاقة حركة ،وأن الطاقة قد تتحول من شكل إلى آخر لكنها ال تفنى وال تستحدث ،حيث أن كميتها في الكون ثابتة ،ولعل هذا املبدأ هو الذي يعطي التفسير احلقيقي لتساؤلنا :أين ذهبت كل تلك الطاقة احلرارية في الكتلة امللتهبة (األرض)؟ وما تستقبل هذه األرض من إشعاع الشمس احلراري؟ واجلواب هو أن معظم هذه الطاقة احلركية (احلرارة بالدرجة األولى) قد حتولت إلى طاقة وضع مخزنة في مواد كالصخور واملياه والكائنات احلية من نبات وحيوان وعناصر الغالف اجلوي وغيره .ولعله عندما تتعقد أشكال احلياة أكثر فأكثر ،فإن هذا يعني أن كميات هائلة من طاقة احلركة قد حتولت إلى طاقة وضع خزنت في هذه املواد ،ولعل أعقد ما في املادة احلية هو دماغ اإلنسان الذي نعتقد أنه يحتوي على أكثر املواد العضوية تعقيد ًا على اإلطالق.
في داخل النواة ،عالوة على ما تضيفه قوى التجاذب بني بروتونات نواة الذرة واإللكترونات الواقعة في مداراتها .ورمبا ينظر إلى تطور األرض على أنه تطور ألشكال الطاقة عليها.
فيها بعد موتها .ومن أمثلة تلك الكائنات حيوانات «الترايلوبايت»، وبعدها «اجلرابتوليت» ،فـ «النوتيات» ،وتبعها بعد ذلك كثير.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
86
وتوالت فيما بعد هذا االنفجار الكامبري أشكال احلياة املختلفة لتغزو البحر واليابسة على حد سواء ،فظهرت األشجار وأشكال غريبة من أألسماك في العصر الديفوني (الفترة من قبل 408 – 360مليون سنة من اآلن) ،وتبعها ظهور الغابات العمالقة في العصر الكربوني (من قبل 360 – 299مليون سنة من اآلن) والتي تشكل بقاياها أكبر مناجم الفحم احلجري في العالم .ثم توالت أشكال مختلفة من احلياة على سطح هذا الكوكب ،منها ما هو في البر ،ومنها ما هو في البحر .فظهرت أوائل الزواحف ذات املراوح مثل «الدميتريدون» ،وتبعها الديناصورات، وهي أيض ًا من الزواحف التي استوطنت األرض بر ًا وجو ًا وبحر ًا ما يزيد على 233مليون سنة ،أي من قبل 299حتى قبل 66مليون سنة من اآلن ،والتي يطلق عليها اجليولوجيون اسم حقبة احلياة الوسطى، فكان هنالك ديناصورات صغيرة ال يتعدى حجم أحدها حجم الديك، ومنها ما بلغ وزنه أكثر من 100طن من أمثال ديناصور هزاز األرض ( ،)Seismosaurusومنها ما كان له قرون وحراشف ضخمة ،ومنها ما كان له أنياب ومخالب قاتلة عظيمة مثل ديناصور الطاغية امللك ( ،)Tyrranosaurus rexوهنالك الديناصورات آكالت العشب التي منها ذات القرون متعددة األنواع ،وهناك العديد من آكالت اللحوم الفتاكة ،ومنها ما كان يطير وله أجنحة وصل طول اجلناح الواحد منها 17 متر ًا أو يزيد ،ولها مخالب وأنياب حادة جد ًا قل أن يفلت منها أي كائن كانت تلحظه يدب على األرض وقتها .ولعل قصة اكتشاف الديناصور غريبة جد ًا غرابة الديناصور نفسه ،فإنه يحكى أن طفلة بريطانية كانت تلعب بالقرب من الشاطئ في مقاطعة سوسكس ( )Suisexجنوب بريطانيا ،فوجدت عدد ًا من األسنان الكبيرة القدمية وقطعة من فك متحجر ،فما كان منها إال أن أخذتها إلى والدها الذي اعتقد خطأ أنها أسنان لفيلة كان «وليم الفاحت» ملك «نورمانديا» قد أحضرها معه عندما غزا بريطانيا سنة 1066م .وحدث أن كان للوالد صديق ًا مهنته طبيب أسنان ،وذات يوم وبينما كان الطبيب يزور الوالد عرض عليه األسنان التي وجدتها ابنته ،فما كان من الطبيب إال أن قال« :من املستحيل أن تكون هذه أسنان فيلة ،إنها تشبه أسنان األغوانا ()Iguana؛ وهي نوع من السحالي البرمائية الكبيرة التي تعيش في جزر اجلالباقوس الواقعة بعيد ًا في وسط احمليط الهادي قريب ًا من خط االستواء ،وبعد ذلك اكتشف املنقبون هياكل عظمية كاملة لهذا الديناصور الذي سموه باسم جوانودون ( )Iguanodonالحقاً.
أما في البحر فقد انتعشت املرجانيات واألمونيات ،وهي من الرخويات ذات الصدفة الكلسية التي فاق طول بعضها 19متر ًا أو يزيد.
أحد حيوانات «األمونيت» من نوع ()Scaphites
3
وفي حقبة احلياة احلديثة التي بدأت من قبل 66مليون سنة من اآلن، ظهرت الثدييات وانتعشت أشكال مختلفة عديدة من احلياة التي ال تزال تدب على سطح األرض ،وتستوطن البحار والبيئات املختلفة من كوكبنا حتى اآلن. هذه عجالة بالنسبة للتطور احلياتي على سطح األرض ،وليس لنا أن نفصل تاريخ األرض البيولوجي عن تاريخها الفيزيائي أو الكيماوي وتشكل الغالف اجلوي ونضوجه وتوفر األكسجني فيه ،األمر الذي ساعد املادة احلية على النمو السريع واالنبثاق والتشعب إلى أشكال كثيرة من أنواع احلياة املختلفة التي نعرف بعضها وجنهل عن الكثير الذي اندثر منها .ما صاحب هذا التطور الفيزيائي من نشوء ألوائل القارات بسبب تراكم وبرودة االنبعاثات الصهيرية األرضية من اجلرانيت ،وما صاحبها من تكون احمليطات وتوسعها وتوزيع أنواع الصخور املتعددة، وتكون املعادن ،وتشكل تضاريس األرض املختلفة ،لتشكل في هذه املنطقة غور ًا وفي تلك جبالً ،فهذا كله وغيره كثير ميكن للجيولوجيا أن تفسره بشكل علمي ومنطقي غاية في الوضوح ،ويحتاج منا إلى حلقات أخرى لسرد وقائعه.
د .طالب احلارثي أستاذ اجليولوجيا وعلوم األرض والبيئة -جامعة القدس املفتوحة
الهوامش 5/5/2008, www.toyen.uio.no/palmus/galleri/montre/ x498.htm 2 5/5/2008 www.lauriefowler.com/dinopix.html 3هذا النوع من اجليوانات استوطن البحار بشكل كثيف طوال حقبة احلياة الوسطى ،ويعتقد أنه كان الغذاء املفضل للزواحف البحرية آنذاك. 5/5/2008, www.marshalls-art.com/pages/ppaleo/ paleo21.htm 1
مجسم لديناصور اجلوانودون ( )Iguanodonالذي وجدت هياكله 2 األولى في جنوب بريطانيا.
نظرية فان هيل في التفكير الهندسي
87
رفاء الرمحي مت تطويرها من قبل باحثني هولنديني هما ديانا فان هيل غيلدوف (Diana Van Hiele تقوم نظرية فان هيل ( )Van Hieleفي التفكير الهندسي التي ّ إن التعلم عملية ليست متصلة (،)discontinuos )Geldofوزوجها بيير ماري فان هيل ( )Pierre Marie Van Hieleعلى فكرة مفادها ّ بل هناك قفزات في منحنى التعلم ،ما يعني وجود مستويات تفكير منفصلة ومختلفة .ومن هنا رأى الباحثان ضرورة وجود مستويات مختلفة اخلصائص في التفكير الهندسي. سأتناول في هذه املقالة اجلوانب الثالثة األساسية للنظرية ،وهي وجود املستويات ،وخصائصها ،وكيفية االنتقال من مستوى إلى املستوى الذي يليه ،أما اجلزء األخير للمقالة ،فسأركز فيه على أهمية معرفة النظرية لتطوير تعليم وتعلم املوضوعات الهندسية.
وفي العام ،1959-1958نشر بيير ثالث أوراق بحثية عن النظرية، إحداها بالهولندية ،وترجمت فيما بعد إلى الفرنسية ،واثنتني باإلجنليزية ( .)Usiskin,1982وكانت إحدى األوراق البحثية بعنوان «الهندسة وتفكير الطفل» (،)The thought of the child & geometry وشرح فيها خمسة مستويات لتطور التفكير الهندسي عند األطفال (.)Wirzup, 1976 وتوجد للنظرية ثالثة جوانب ( )aspectأساسية ،هي (Usiskin, :)1982; Fuys, et al, 1988وجود املستويات ،خصائص املستويات ،االنتقال من مستوى إلى املستوى الذي يليه.
.1وجود مستويات التفكير الهندسي
وقد استخدمت األدبيات بنيتني رقميتني مختلفتني لتحديد تلك املستويات ،األولى ترقّم املستويات من ، 4–0وهو نظام مياثل النظام األوروبي لعد الطوابق في بناية ما بادئ ًا بالطابق األرضي ،ثم األول وبعده الثاني ...وهكذا .ونظام آخر يرقم املستويات من 5-1 ( .)Senk, 1989وسأستخدم في هذه املقالة الترقيم من ،4-0وذلك اعتماد ًا على الترقيم الذي وضعه فان هيل.
التعرف على الشكل ( )recognitionأو البصري املستوى (:)0 ّ ( :)visualizationوفيه يحكم الطالب على الشكل الهندسي من مظهره العام ،ومييزه ككل ،وال يعرف شيئ ًا عن اخلصائص .فمث ً ال الشكل مستطيل ألنه يشبه الباب ،الشكل مربع ألنه يشبه الشباك .وال يستطيع الطالب في هذا املستوى الربط بني اخلصائص ،كما أنه ال يعرف فإن املربع يختلف عن املستطيل. العالقات بينها ،وبالنسبة له ّ املستوى ( :)1التحليلي ( )analysisأو الوصفي (:)descriptive يحلّل الطالب الشكل الهندسي بداللة مكوناته والعالقة بني هذه املكونات .كما يعتمد صفات مميزة لكل فئة من األشكال بشكل جتريبي (الطي ،القياس ،الشبكات) ،ويستخدم اخلصائص في حل املسائل. أن له أربعة أضالع وأربع زوايا قائمة .ويقارن فمثالً؛ يفكر في املربع على ّ بني األشكال باالعتماد على اخلصائص وليس باالعتماد على الشكل العام ،فمث ً ال يقارن بني املربع واملثلث باالعتماد على عدد األضالع، ولكن ال يستطيع الطالب في هذا املستوى الربط بني اخلصائص ،فمث ً ال ال يستنتج أن املربع هو متوازي أضالع. املستوى ( :)2الترتيبي ( )orderingأو العالئقي ()relationship أو االستنتاج غير الشكلي ( :)informal deductionير ّتب الطالب األشكال والعالقات بشكل منطقي ،كما يستخدم استنتاج ًا بسيط ًاً، ولكنه ال يفهم البرهان .باستطاعة الطالب تصنيف األشكال بشكل
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
أن التعلم هو عملية ليست متصلة (،)discontinuos ترى نظرية فان هيل ّ إذ توجد قفزات في منحنى التعلم ،وهذا يعني وجود مستويات تفكير منفصلة ومختلفة(.)Fuys, et al, 1988
ّأما مستويات فان هيل (كما ورد في ،)Usiskin, 1982 :فهي:
ملف الثقافة العلمية
لقد طور كل من ديانا وبيير نظريتهما في رسالتي دكتوراه منفصلتني أواخر العام 1957في هولندا ،وقد توفيت ديانا بعد أن أنهت رسالتها الدكتوراه التي تناولت موضوع تعليم الهندسة .وكان زوجها بيير الذي كان موضوع دراسته «دور احلدس في تعليم الهندسة» هو الشخص القادر على توضيح تلك النظرية وشرحها (.)Fuys ,et al ,1988 ;Usiskin ,1982
88
هرمي بتحليل خصائصها والقيام مبناقشات غير شكلية .مثال ذلك أن له خصائص إضافية ،وفي هذا أن املربع هو معينّ ،ألنه معني غير ّ ّ املستوى يدرك الطالب أهمية التعريف ويبني روابط بني األشكال من خالل التعريفات.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملف الثقافة العلمية
املستوى ( :)3االستنتاج الشكلي ( :)formal deductionيفهم الطالب أهمية االستنتاج ،ويبني نظريات في نظام مسلمات ،ويقوم بالتمييز بني العناصر غير املعرفة والتعريفات واملسلمات ،والبرهان، ويذكر السبب بشكل شكلي وبعبارات منطقية باالعتماد على املسلمات والنظريات ،ويعطي الطالب إثبات ًا شكلياً ،ولكن دون املقارنة بني األنظمة املسلمية ،فمث ً ال يكون باستطاعته برهنة تكافؤ مجموعتني من اخلصائص التي حتدد تعريف متوازي األضالع. املستوى (:)4التجريد( )rigorأوفوقالرياضي()amathematical أو املسلماتي ( :)axiomaticيفهم الطالب ضرورة التجريد الصارم، وباستطاعته أن يجري استنتاج ًا مجرد ًا بحيث ميكن فهم الهندسة الالإقليدية .وفي هذا املستوى ،يذكر الطالب السبب حول نظام رياضي بشكل شكلي أكثر من اخلصائص التي يعرفها من قبل ،ويكون باستطاعته حتليل االستنتاجات من املسلمات والتعريفات ،كما يكون بإمكانه التعلم عن طريق استحداث مسلمات جديدة باالعتماد على النظام الهندسي.
(:)Usiskin, 1982; Hiele, 1999 < املعلومات :يجب أن يبدأ التدريس مبواد تقدم للطفل وتقوده الكتشاف بنى معينة. < التوجيه املباشر ( :)directed orientationوهي أن تقدم املهام للطلبة بطريقة جتعل البنى املتعلمة مألوفة لديهم. < الوضوح ( :)explicitationيقدم املعلم املصطلحات الهندسية ويشجع الطلبة على استخدامها في كتاباتهم ومناقشاتهم في حصص الهندسة. < التوجيه احلر ( :)Free orientationيقدم املعلم مهمات ميكن إمتامها بطرق مختلفة ،ويكتسب الطلبة خبرات في حل متطلبات مبفردهم باالعتماد على ما درسوه سابقاً. < التكامل ( :)Integrationيعطى الطلبة فرص ًا لتجميع ما درسوه سابقاً ،كأن يصمموا أنشطتهم بأنفسهم. يقتصر دور املعلم في املرحلة األخيرة على التخطيط للمهام ،وتوجيه انتباه الطلبة للخصائص الهندسية لألشكال ،واستخدام مصطلحات هندسية ،وتشجيع الطلبة على استخدامها ،وتشجيع حل املشكالت
.2خصائص املستويات ()Usiskin, 1982 اخلاصية األولى :التتابع الثابت ( )fixed sequenceأو الهرمية ( :)hierarchicalوهي ضرورة أن مير الطالب في املستوى السابق قبل أن يصل إلى املستوى التالي. اخلاصية الثانية :التجاور ( :)adjacencyكل ما يكون ضمني ًا ( )intrinsicفي مستوى التفكير السابق يصبح صريح ًا ()ً extrinsic في مستوى التفكير التالي. اخلاصية الثالثة :التمييز ( :)distinctلكل مستوى تفكير رموزه اخلاصة ولغته وعالقاته التي تربط بني تلك الرموز. اخلاصية الرابعة :الفصل ( :)separationوتعني أنه لن يتمكن شخصان في مستويي تفكير مختلفني من فهم بعضهما البعض .فإذا كان الطالب في مستوى التفكير الثاني واملعلم يشرح في املستوى الثالث، فلن يتمكن الطالب من فهم ما يقوله معلمه (.)Fuys, et al, 1988 ذكر الزوجان فان هيل خاصية خامسة ،وهي االكتساب ( :)attainmentوتعني أنه ميكن لعملية التعلم نقل الطالب من مستوى تفكير إلى آخر.
.3االنتقال بني املستويات اعتقد فان هيل أ ّنه ميكن تسريع التطوير الذهني املعرفي في الهندسة من خالل التعليم ( ،)Usiskin, 1982وليس من خالل النضج أو العمر ( .)Senk, 1989; Fuys, et al. ;1988وطبق ًا لفان هيل ،فإن االنتقال من مستوى تفكير إلى آخر يتم من خالل خمس مراحل ،وهي
من فعاليات مسرح احلرية في جنني.
التي حتتاج إلى تفكير حتليلي حول األشكال الهندسية ،مع أهمية استخدام مواد ملموسة مثل أحاجي الفسيفساء ()Mosaic Puzzle التي تساعد على بناء خلفية بصرية وتفكير حتليلي عند األطفال .رأى فان هيل ضرورة أن يتذكر املعلم دائم ًا أن “الهندسة تبدأ باللعب” (316 .)Hiele, 1999:
تقييم وخالصة
كما أن نظرية التفكير الهندسي تلفت انتباه معلمي الرياضيات إلى ما يعرف باحلاجز اللغوي بني املعلم والطالب الذي -كما ذكر فان هيل -أنه ينتج عندما يستخدم املعلم لغة أعلى من مستوى تفكير الطلبة (Fuys, ،)et al., 1988; NCTM, 1988; Usiskin, 1982وقد يفسر ذلك صعوبات الطلبة في تعلم الهندسة ،فكما أشارت الدراسات إلى أن ضعف الطلبة العام في البرهان ناجم عن ضعف قدرات املعلمني في الهندسة ( )Back- Nanwald, 1997في (شويخ.)2005 ، لذا ،فإن على معلم الهندسة أن يشعر أنه يستوعب املادة التي يقوم
وقد أظهرت دراسة بورجر وشوجنسي (Burger &Shaughnessy, )1986أهمية املستويات ( )0و( )1و( )2في وصف عملية االستدالل لدى الطلبة ،وقد يكون النقص في التمارين واألنشطة التي يدرسها الطالب في مستويات التفكير الهندسي والتي تؤهل لالنتقال من مستوى إلى آخر أحد أسباب التأرجح بني املستويات ،فقد يكتسب الطالب بد مستوى معيناً ،ولكنه يفقده بعد فترة ليعود للمستوى األدنى .لذا ،ال ّ من تطوير نشاطات كافية تساعد الطلبة على االنتقال خالل املستويات، كما يجب مساعدة طلبة املرحلة األساسية على اكتشاف خصائص األشكال الهندسية بشكل غير شكلي ،وتطوير قدراتهم البصرية. وأخير ًا أرى ضرورة تعريف املعلمني مبستويات فان هيل للتفكير الهندسي ،وباملراحل الضرورية حلدوث االنتقال من مستوى تفكير إلى آخر ،ما يساعد املعلمني على ترتيب أفكارهم وتقييم مستوى فان هيل أي موضوع الذي وصل إليه طلبتهم سابقاً ،والبناء عليه قبل البدء بشرح ّ هندسي جديد.
89
ملف الثقافة العلمية
تعتبر نظرية فان هيل في التفكير الهندسي من النظريات املهمة التي تلقى ألن فهمها ومعرفتها يساعد في اهتمام التربويني في العالم؛ وذلك ّ تدريس الهندسة للطلبة في املراحل املختلفة .وللنظرية تبعات تربوية كثيرة ،فهي تبينّ للمعلمني ضرورة مرور طلبتهم خالل مستويات تفكير دنيا ،وصو ً أن ذلك قد يستغرق ال إلى مستويات التفكير العليا ،غير ّ بعض الوقت ،كما أن على معلمي الرياضيات معرفة أن التعليم أساسي للتقدم خالل املستويات ،وأنه بإمكان الطلبة الفهم والتوسع في نظام مسلمات ( )axiomatic systemفقط عندما يصلون إلى مستويات التفكير العليا في الهرمية ،وقد يفسر ذلك ما أظهرته دراسات عديدة ( )Usiskin, 1982; Senk, 1989وهو أن كتابة برهان هندسي أمر صعب وغير مرغوب فيه بني الطلبة ،ذلك ألن مثل هؤالء الطلبة قد ال يكونون قد وصلوا إلى مستوى االستنتاج الشكلي ،فقد ظهر في أن الطلبة الذين كانت خلفيتهم الهندسية دراسة سنك (ّ )Senk, 1989 ضعيفة في املستويني البصري والتحليلي ودخلوا املرحلة الثانوية ،كانت فرصتهم في تعلم الهندسة في وقت الحق من السنة قليلة ،ولم يكونوا قادرين إال على حفظ البراهني.
بتدريسها استيعاب ًا تاماً ،وهذا الشعور لن يتأ ّتى ما لم يكن املعلم على دراية تامة مبوضوعاتها ،بحيث يكون باستطاعته أن يعرض أي موضوع من موضوعاتها بطرق مختلفة ،وأن يوضح ما يوجد بينها من ترابط أن التفكير الهندسي يعتمد بشكل مباشر على وتداخل .وكما ظهر ّ اخللفية الرياضية ملعلم الرياضيات التي يكون قد تلقاها وهو طالب في املدرسة ،فإذا كانت هذه اخللفية ضعيفة ،فإن ذلك سيؤدي بالضرورة أن ملعتقدات املعلمني إلى ضعف في تدريسه الهندسة لطالبه ،كما ّ وتوجهاتهم أثر ًا كبيراً ،حيث يرى الكثير منهم أن الهندسة هي من املواضيع األقل أهمية ( )Backe-Nanwald, 1997في (شويخ، .)2005فعلى الصعيد الفلسطيني ،وجد أن نظرة املعلمني للهندسة ليست باألمر املشجع (شويخ ،)2005 ،وقد يشكل ذلك أحد أسباب الصعوبات أمام الطلبة واملعلمني في تعلمها وتعليمها ،لذا يقع على عائق املعلمني تطوير فهمهم للموضوعات الهندسية ليستطيعوا إيصال املفاهيم الهندسية لطلبتهم بشكل صحيح ألن «فاقد الشيء ال يعطيه»!
رفاء الرمحي محاضرة في جامعة بيرزيت
املراجع رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
< شويخ ،جهاد ( .)2005أمناط التفكير الهندسي لدى الطلبة الفلسطينيني -رسالة ماجستير غير منشورة ،جامعة بيرزيت ،بيرزيت ،فلسطني. < Burger, W. F. & Shaughnessy, J.M. (1986). Characterizing the Van Hiele levels of development in geometry. Journal for Research in Mathematics Education, 17(1), 31-48. < Fuys, D., Geddes, D., & Tischler, R. (1988). The Van Hiele model of thinking in geometry among adolescents. Journal for Research in Mathematics Education Monograph Series, No. 3, Reston, VA: National Council of Teachers of Mathematics. < NCTM.(1988). The Van Hiele model of thinking in geometry among adolescents. Journal for Research in Mathematics Education, Monograph No, 3. < Senk, S.L. (1989). Van Hiele levels and achievement in writing geometry proofs. Journal for Research in Mathematics Education, 20 (3), 309-321.
< Usiskin, Z . (1982). Van Hiele Levels and achievement in Secondary School geometry (Final report of the Cognitive Development and Achievement in Secondary School Geometry Project). Chicago: University of Chicago, Department of Education. (ERIC Document Reproduction Service No. ED 220 288). < Van Hiele , P. (1999). Developing geometric thinking through activities that begin with play. Teaching Children Mathematics, 5(6), 310-316. < Wirzup, I. (1976). Breakthroughs in the psychology of learning and teaching geometry, in: J. Martin (Ed). Space and geometry: papers from a research workshop ( pp. 75-97). Columbus, Ohio: ERICK/SMEAC.
90
ملف الثقافة العلمية العدد التاسع والعشرون- رؤى تربوية
.من فعاليات مدرسة غزة للموسيقى
علُو ِم وت َ ِ وظ ُ تَ يف دَورَةِ التَّعلُّم عليم ال ُ ُ
91
هايل الكرد
مقدمة
ولتحقيق ذلك ،مت عقد لقاءات تربوية عدة لتدارس املوضوع واإلطار النظري له مع مجموعة من معلمي العلوم ،الذين تبنوا هذا التوجه من خالل توظيف دورة تعلم العلوم منوذج الـ ( )E’S5البنائي الذي يقوم على النظرية البنائية في التدريس ،كما مت عقد ورش عمل إلعداد مناذج لدروس تطبيقية في ضوء خطوات دورة التعلم منوذج الـ ( ،)E’S5وتطبيقها داخل الصف ،وذلك ملساعدة الطالب على التمكن من بناء معرفتهم بأنفسهم باستخدام ما لديهم من معلومات مسبقة لتعلم املفاهيم اجلديدة ،عن طريق املالحظة الدقيقة والتجريب ،والقيام بعملية االستقصاء بأنفسهم، لتؤدى إلى عملية التعلم واكتشاف تطبيقات جديدة للمفاهيم املراد تعلمها (صادق.)2003 ،
ملف الثقافة العلمية
يشهد تدريس العلوم في عصر العلم والتقنية عاملي ًا ومحلي ًا اهتمام ًا كبير ًا وتطوير ًا مستمر ًا ملواكبة خصائص هذا العصر ومتطلباته ،وهذا يتطلب أن يكون للمدرسة دور مهم في مواكبة هذا التطوير .ولكن عند النظر إلى الواقع احلالي جند أنه ال تزال الفلسفة العامة للمدرسة ،ودورها في املجتمع، وأهداف التربية والتعليم ،ورسالة املعلم ،تركز على عملية نقل املعلومات وتوصيلها ،وعلى اكتساب املعرفة عن طريق السرد والتذكر بدل التركيز على توليدها واستعمالها .وفي معظم الصفوف يتأثر املعلمون بالكالم معظم الوقت ،دون االهتمام باألسئلة والنشاطات التي تتطلب إمعان النظر والتفكير أو االهتمام بإعطاء دور إيجابي للطالب الذي يصرح املعلمون بأنه محور العملية التعليمية وغايتها (جراوان .)1999 ،ومن هنا ال بد أن يركز تدريس العلوم على تقدمي املعرفة على أساس التفكير والبحث والتجريب ،واستخدام املهارات العلمية املختلفة ،حتى يكون للتعليم معنى لدى الطالب ،حيث أن وظيفة املعلومات في حياة الطالب ،هي نقطة االنطالق التي يجب أن يبدأ منها تدريس العلوم (عميرة ،الديب.)1997 ،
ويعرف منوذج الـ( )E’S5بأنه منوذج تدريسي يتكون من خمس مراحل (خطوات) تدريسية ،يستخدمها املعلم مع طالبه داخل أو خارج غرفة الصف أو املختبر ،ويهدف إلى أن يبنى الطالب معرفته العلمية بنفسه ،كما يهدف إلى تنمية العديد من املفاهيم واملهارات العلمية .ويعتمد هذا النموذج على االنشغال ( )Engageإلثارة الطالب وجذب انتباههم ،واالستكشاف ( ،)Exploreوالتفسير ( ،) Explainوالتوسيع (،)Extend والتقومي ( )Evaluationفي جميع مراحلها.
دورة التعلم ()Learning Cycle
< تعريف ( :)1988( )Good etalوقد عرفها بأنها طريقة في تخطيط الدروس وفي التعلم والتعليم ،تقوم على العملية االستقصائية من
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ظهرت دورة التعلم أثناء عقد الستينيات بالواليات املتحدة األمريكية، وبالتحديد العام ،1967وجاءت صياغتها بصورتها األولى على يد كل من كاربلس ( ،)Karplusوآتكن ( ،)Atkinثم أدخل عليها كل من كاربلس وآخرين بعض التعديالت ،وذلك في الفترة بني سنة 1970 وحتى سنة ،1974حيث أدخلت كجزء من مشروع تطوير منهج العلوم ((SCIS) )Science Curriculum Improvement Study ( .)Hanuscin, 2007وهناك تعريفات مختلفة لدورة التعلم ،ومن جملة هذه التعريفات:
أجل تنظيم اكتساب املعارف ،وأن الفهم الصحيح ميكن بناؤه عن طريق دورة التعلم. < بينما عرفها عبد السالم ( :)2001بأنها طريقة أو منوذج تدريسي ميكن استخدامه في تصميم مواد ومحتوى املنهج وإستراتيجيات تعليم العلوم ،ويؤكد على التفاعل بني املعلم والطالب ،ويعتمد على األنشطة الكشفية لتنمية أمناط االستدالل احلسي والشكلي لدى الطالب. < أما ( ،)2008( )Marek, et alفيذكر أن دورة التعلم ليست طريقة تدريس ،ولكنها خطوات (إجراءات) تدريس ،تسمح باستخدام طرائق تدريس عديدة مثل ،العمل املخبري ،والعروض، واملجموعات ،والرحالت امليدانية (احلقلية) ،والتكنولوجيا احلديثة، وكل هذه الطرائق لتدريس العلوم ميكن استخدامها خالل دورة التعلم.
92
وقد استثمرت طريقة التدريس بدورة التعلم في تدريس العلوم مبختلف فروعها ،إذ قام العديد من الباحثني في مجال التربية العلمية بتطويعها واختبار فعاليتها كأسلوب تدريس عام في العلوم؛ ونتيجة لهذه البحوث والدراسات الكثيرة اكتسبت هذه الطريقة شهرة كبيرة جد ًا في تدريس العلوم (جاسم .)2001 ،ومن خالل توظيفنا لدورة التعلم أصبح الطلبة يجدون أن التعلم ممتع ومثير لهم ،وظهر ميل شديد لديهم في تقدمي أسئلة أكثر ،ما ساعدهم في التفكير واالستدالل بشكل أكبر، وأصبحوا يحبون مادة العلوم بعد تطبيق دورة التعلم.
ملف الثقافة العلمية
مراحل دورة التعلم في البداية تكونت دورة تعلم العلوم كطريقة تدريس من ثالث مراحل، هي :االستكشاف ،والتوصل إلى املفهوم ،والتطبيق .ومع تطور أهداف تدريس العلوم في الوقت احلاضر ،فإن دورة تعلم العلوم أصبحت تتكون من أربع مراحل ،هي :االستكشاف ،والتفسير، والتوسيع ،والتقومي .وتطورت في السنوات األخيرة وأصبحت تتكون من خمس مراحل هي :االنشغال ،واالستكشاف ،والتفسير، والتوسيع ،والتقومي .ثم قدم خبراء متحف ميامي بالواليات املتحدة األمريكية ( )Miami Museum of Science, 2001دورة التعلم املكونة من سبع مراحل ،ولكنني سوف أستعرض هنا دورة التعلم املكونة من خمس مراحل التي قمنا بتوظيفها في تدريس منهاج العلوم الفلسطيني كما هي موضحة في الشكل التالي (Lorsbach, .)2008
االستكشاف
التوسيع
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
التفسير
.1مرحلة االنشغال (:)Engage
.2مرحلة استكشاف املفهوم (:)Explore
في هذه املرحلة يكون التعلم متمركز ًا حول املتعلم ،ويكون املتعلم نشيط ًا وتتطلب من الطالب أن يستكشف املفهوم املراد تعلمه من خالل قيامه بسلسلة من األنشطة ،وفيها يعطى الطالب مواد وتوجيهات يتبعونها جلمع بيانات بواسطة خبرات حسية حركية مباشرة ،إلدراك معنى املفهوم الذي يدرسونه ،ويكون طور االستكشاف متمركز ًا حول املتعلم ،كما يكون املعلم في هذا الطور مسؤو ً ال عن إعطاء الطلبة توجيهات كافية ومواد مناسبة تتعلق باملفهوم املراد استكشافه ،ولكن على أن ال تتضمن توجيهات املعلم ما ينبغي أن يتعلمه الطلبة ،ويجب أن ال تفسر هذه اإلرشادات املفهوم املراد تعلمه أيض ًا (.)Martin etal, 1998
ولكي نساعد الطلبة في بناء املفاهيم ،ينبغي توفر مواد محسوسة وخبرات مباشرة ،واألسئلة التوجيهية التالية تساعد املعلم على البدء بعملية التخطيط: < ما املفهوم احملدد الذي سيكتشفه الطلبة؟ < ما النشاطات التي يجب أن ينفذها الطلبة ليألفوا املفهوم؟ < ما أنواع املالحظات والتسجيالت التي سيحتفظ بها الطلبة؟ < ما أنواع اإلرشادات التي يحتاجها الطلبة؟ وكيف سأعطيها لهم دون إخبارهم باملفهوم؟
.3مرحلة التفسير (:)Explain
االنشغال التقـويـ ـ ـ ــم
< ملاذا حدث هذا؟ < كيف ميكن أن أجد؟ < ماذا أعرف بالفعل عن هذا؟ < ماذا أستطيع أن أكتشف حول هذا املفهوم أو املوضوع؟
الهدف في هذه املرحلة حتفيز الطالب وإثارة فضولهم واهتمامهم وانخراط الطالب مبوضوع الدراسة (املفهوم) ،ويكون دور املعلم خلق اإلثارة وتوليد الفضول وتشجيع التنبؤ وطرح أسئلة مثيرة للتفكير ،ليثير لديهم تساؤالت واستجابات تكشف عما لديهم من معلومات وخبرات سابقة ،وكيف يفكرون جتاه املوضوع أو املفهوم( ،صادق.)2003 ، وتستخدم لتركيز اهتمام املتعلمني على املهمات الالحقة ،وفيها أيض ًا يجب أن يطرح الطلبة أسئلة ( ،)Lorsbach, 2008مثل:
تهدف إلى جعل املعلم يوجه تفكير الطلبة بحيث يبني الطلبة املفهوم بطريقة تعاونية ،ولتحقيق ذلك يقوم املعلم بتهيئة بيئة الصف املطلوبة، وعندها يطلب املعلم من الطلبة تزويده باملعلومات التي جمعوها، ويساعدهم على معاجلتها وتنظيمها عقلياً ،ويقوم بعد ذلك بتقدمي اللغة املناسبة والالزمة للمفهوم (للوصول للمفهوم) .فالطلبة هنا يركزون على نتائجهم األولية التي حصلوا عليها من عملية االستكشاف التي قاموا بتنفيذها (الهويدي.)2005 ،
واألسئلة التالية تساعد املعلم على توجيه الطلبة لبناء استكشاف ذاتي للمفهوم: < ما أنواع املعلومات أو النتائج التي يجب أن يتحدث عنها الطلبة؟ < كيف أساعد الطلبة على تلخيص نتائجهم؟ < كيف سأوجه الطلبة وفي الوقت نفسه أحجم عن إخبارهم ماذا وجدوا ،على الرغم من أن فهمهم للمفهوم لم يكتمل بعد؟ < كيف سأساعدهم على استعمال املعلومات التي يحصلون عليها لبناء املفهوم بطريقة سليمة؟ < ما األوصاف التي يجب أن يسندها الطلبة للمفهوم؟ < ما املبررات التي سأعطيها للطلبة إذا سألوا عن سبب أهمية هذا املفهوم؟
.4مرحلة التوسيع «تطبيق املفهوم» (:)Extend
يكون التوسيع متمركز ًا حول املتعلم ،ويهدف إلى مساعدة املتعلم على التنظيم العقلي للخبرات التي حصل عليها عن طريق ربطها بخبرات سابقة مشابهة ،حيث تكتشف تطبيقات جديدة ملا جرى تعلمه ،ويجب أن ترتبط املفاهيم التي جرى بناؤها بأفكار وخبرات أخرى ،وذلك من أجل جعل الطلبة يفكرون فيما وراء تفكيرهم الراهن ،ويجب أن يطلب من الطلبة استعمال لغة املفهوم إلضافة بعد آخر له ،وهذا هو املكان املناسب ملساعدة الطلبة على تطبيق ما تعلموه ،وذلك بإثراء األمثلة أو بتزويدهم بخبرات إضافية إلثارة مهارات استقصاء أخرى لديهم ،أو من خالل البحث في الترابط بني منحى العلم والتقانة واملجتمع وفهم تاريخ العلوم وطبيعته .وعلى املعلم أن يعطى وقت ًا كافي ًا لكي يطبق الطالب ما تعلموه في مواقف جديدة ،وربط املفهوم مع املفاهيم أو املوضوعات األخرى (خطايبة.)2005 ،
< ما هي األمثلة التي تبني كيف تشجع املفاهيم الطلبة على رؤية فوائد العلوم بالنسبة لهم؟ < ما األمثلة التي تساعدهم على فهم العالقة بني العلوم والتقانة واملجتمع؟ < ما األمثلة التي تساعدهم على تطوير مهارات االستقصاء في العلوم وفي امتالك معلومات عن تاريخ العلوم وطبيعتها؟ < ما األسئلة التي بإمكاني طرحها لتشجيع الطلبة على اكتشاف أهمية املفهوم وتطبيقه ،وحتديد فرص العمل الناشئة عنه؟ وكيف استعمل هذا املفهوم عبر التاريخ؟ < ما اخلبرات اجلديدة التي يحتاجها الطلبة لتطبيق أو توسيع (إغناء) املفهوم؟ < ما املفهوم التالي ذو العالقة باملفهوم احلالي؟ وكيف استطيع تشجيع اكتشاف املفهوم التالي؟
واألسئلة التالية تساعد املعلم على توجيه الطلبة على تنظيم أفكارهم:
.5مرحلة التقومي (:)Evaluation
< ما اخلبرات السابقة التي امتلكها الطلبة ذات العالقة باملفهوم احلالي؟ وكيف أستطيع ربط هذا املفهوم باخلبرات السابقة؟
93
الهدف من هذه املرحلة تقييم تعلم فهم الطالب ،لذلك يجب أن يكون التقومي مستمراً ،ويجب أن تتخذ إجراءات متعددة إلجراء تقومي مستمر ومتكامل لتعلم الطلبة ولتشجيع البناء املعرفي للمفاهيم واملهارات
ملف الثقافة العلمية رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
من حفل افتتاح املقر اجلديد ملدرسة غزة للموسيقى.
94
العملية ،ومن املمكن أن يجرى التقومي في كل طور من أطوار دورة تعلم العلوم وليس في نهايتها فقط (الهويدى .)2005 ،ويكون دور املعلم مالحظة الطالب في تطبيق املفاهيم واملهارات اجلديدة ،وتقييم معرفة ومهارات الطالب والسماح للطالب لتقييم معرفتهم ومهاراتهم العملية واجلماعية (صادق.)2003 ،
ملف الثقافة العلمية
ومن األسئلة املساعدة في هذا اخلصوص ما يلي: < ما نتاجات التعلم املناسبة التي أتوقعها؟ < ما أنواع التقومي املناسبة لتقومي اخلبرات اليدوية الالزمة للتأكد من مدى إتقان الطلبة للمهارات األساسية مثل املالحظة ،والتصنيف، والقياس ،والتنبؤ ،واالستدالل. < ما أنوع التقنيات املناسبة للطلبة لعرض وتوضيح مهارات عمليات العلوم املتكاملة؟ < كيف أستطيع استعمال الصور ملساعدة الطلبة على كشف قدراتهم على التفكير في املسائل التي تتطلب استيعاب املفاهيم األساسية وعلى تكامل خبراتهم؟ < ما أنواع األسئلة التي أستطيع طرحها ملساعدة الطلبة على كشف قدراتهم على استعادة ما تعلموه؟ مثال: سيتناول املثال التالي* منوذج ًا مقترح ًا لدرس تطبيقي في ضوء خطوات دورة التعلم لنموذج (:)5E’S الصف: الوحدة الرابعة : املوضوع:
السادس احلركة والقوة أشكال احلركة
أهداف الدرس: بعد نهاية الدرس أتوقع أن يكون الطالب قادر ًا على أن:
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
< يستكشف أشكال احلركة. < يصف كل شكل من أشكال احلركة. < يعطي أمثلة على أشكال احلركة املختلفة. < يبني كل شكل من أشكال احلركة. املواد الالزمة: ألعاب (سيارات أطفال) -مجسمات للكرة األرضية ( -كرة ،خيط، حامل خشبي).
خطة سير الدرس املرحلة األولى :االنشغال
< يطلب املعلم من أحد الطالب االنتقال من مكان إلى آخر ،ثم يسأل عرف احلركة؟ الطالب :ماذا فعل هذا الطالب؟ ّ < يناقش صور الكتاب املدرسي صفحة ( ،)106ويسألهم ماذا تشاهدون في الصفحة من صور؟ هل جميع هذه األشياء تتحرك؟ وهل لها شكل
احلركة نفسه؟ < ثم يكتب عنوان الدرس (أشكال احلركة على السبورة).
املرحلة الثانية :االستكشاف
< يقسم املعلم الطالب إلى مجموعات ،ويتم توزيع ورقة العمل. < يقوم بتوزيع سيارات األطفال ،ويطلب من الطالب حتريك السيارة مرات عدة ،ويطلب تسجيل شكل احلركة مع وصف لها في ورقة العمل. < يقوم بتوزيع مجسمات الكرة األرضية ،ويطلب حتريك املجسم وإعطاء شكل ووصف للحركة وكتابتها في ورقة العمل. < يطلب من الطالب أن يربطوا الكرة باخليط وتعليقه باحلامل ،ثم دفع الكرة دفعة خفيفة من اجلانب ويسجل مالحظاته في ورقة العمل. < يتيح املعلم الفرصة لطالبه كي يتناقشوا حول املالحظات التي قاموا بتسجيلها.
املرحلة الثالثة :التفسير
< يناقش املعلم الطالب في النتائج التي توصلوا إليها ،ويسألهم عن نوع حركة السيارة عند انتقالها من مكان إلى آخر. < ما االختالف بني حركة مجسم الكرة األرضية وحركة بندول الساعة؟ < يسجل على السبورة أنواع احلركة بعد سماعها من الطالب. < يطلب من الطالب صياغة املفاهيم (احلركة االنتقالية ،الدورانية، االهتزازية) بلغتهم ،ثم يسجل املعلم املفاهيم على السبورة. < يعطي الطلبة مثا ً ال لكل شكل من أشكال احلركة ويطلب املعلم منهم تسجيلها في كراسة النشاط.
املرحلة الرابعة :التوسع
< يطلب املعلم منهم متثيل شكل احلركات. < ما سبب تعاقب الليل والنهار؟ كيف حتدث الفصول األربعة؟ < عدد بعض أشكال احلركة في مدينة املالهي. > العلوم من منظور شخصي واجتماعي < ما أشكال احلركة التي تقوم بها عند ممارسة التمارين الرياضية؟ < اذكر أسماء أصحاب مهن يعتمد عملها على احلركة؟ > العلوم والتقانة < كيف متت االستفادة من موضوع احلركة في صناعة السيارات؟ < ما اجلهاز الذي يساعد شخص فاقد قدميه؟ > العلوم بوصفها طريقة لالستقصاء < ما أهمية استخدام أشكال احلركة في حياتنا؟ > تاريخ العلوم وطبيعتها < اذكر بعض أنواع سباق اجلري؟ < هل سمعت بسباق اجلري (املاراثون) ملاذا ُسمي بهذا االسم؟
املرحلة اخلامسة :التقومي
أكمل املخطط املفاهيمي التالي:
أشكال احلركة
95
منها االنتقالية
الدورانية
االهتزازية
مثال
مثال
مثال
انتقال السيارة نشاط بيتي: .1صف شكل احلركة فيما يلي :عجل الدراجة – البندول؟ .2اذكر شكل احلركة املشترك في كل من ( طبلة األذن – وتر العود – بندول الساعة) .3اصنع أرجوحة وحدد شكل حركتها؟
ملف الثقافة العلمية
فيما يلي ورقة العمل املقترحة التي تتضمن نشاطات حتقق أهداف الدرس ورقة عمل حول أشكال احلركة األهداف اخلاصة: < يستكشف أشكال احلركة. < يصف كل شكل من أشكال احلركة. < يعطي أمثلة على أشكال احلركة املختلفة. املواد واألدوات :ألعاب (سيارات أطفال) – مجسمات للكرة األرضية – خيوط – حوامل خشبية – كرات. إرشادات :عزيزي قائد املجموعة ،بالتعاون مع أفراد مجموعتك ،قم بإجراء األنشطة التالية: نشاط (( :)1احلركة االنتقالية) :قم عزيزي الطالب بتحريك السيارة من بداية الطاولة إلى نهايتها سجل املالحظة في اجلدول التالي: احلركة
نوعها
نشاط (( :)2احلركة الدورانية) :قم عزيزي الطالب بتحريك مجسم الكرة األرضية سجل املالحظة في اجلدول التالي: احلركة
نوعها
ما املقصود باحلركة الدورانية؟ ......................................................................................
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ما املقصود باحلركة االنتقالية؟ ......................................................................................
نشاط (( :)3احلركة االهتزازية) :قم عزيزي الطالب بتعليق اخليط في الكرة ،ثم تعليق اخليط على احلامل ،وارفع الكرة ألعلى اخليط ثم اتركها، سجل املالحظة في اجلدول التالي:
96
نوعها
احلركة
ما املقصود باحلركة االهتزازية؟ ...................................................................................... االستنتاج :أستنتج أن األجسام .............في شكل احلركة ،فمنها ما يتحرك حركة ،...........ومنها ما يتحرك حركة ،............ومنها ما يتحرك حركة. .............
اخلالصة
ملف الثقافة العلمية
ولتعميم هذه التجربة مت عقد لقاء تربوي في مركز القطان في غزة مت فيه مشاهدة هذا الدرس التطبيقي مع مجموعة من املعلمني اآلخرين ،وبعد تأمل الدرس ومناقشته كانت مالحظاتهم كما يلي: < املعلمة ميسون منفذة الدرس« :لقد خرجت عن نطاق الروتني اليومي في الشرح ،واستخدام دورة تعلم العلوم سهل علي وعلى الطالبات فهم املوضوع ووصول الطالبات للمعرفة بأنفسهن». < املعلم حمدان« :مقدمة الدرس مشوقة وهادفة وفق مرحلة االنشغال، قامت الطالبات بتنفيذ األنشطة اجلماعية بشكل جيد وفق مرحلة االستكشاف ،وفي مرحلة التفسير ناقشت املعلمة الطالبات في النتائج بصورة جيدة ،وكنت أمتنى لو قامت املعلمة مبطابقة عمل املجموعات مع بعضه». < املعلم محمود« :الدرس جذاب ،ولقد بذلت املعلمة جهد ًا كبيراً، وأشركت الطالبات في إحضار األدوات الالزمة للدرس ،ولقد طبقت املعلمة مراحل دورة التعلم فكانت مرحلة االنشغال مناسبة للدرس، وجذبت الطلبات ،وقد جمعت في نهاية الدرس املفاهيم باستخدام
خارطة مفاهيمية». < الباحث هايل الكرد« :طبقت املعلمة درسها وفق دورة التعلم مبراحلها املختلفة ،وجعلت الطالبات العنصر الفعال في عملية التعليم والتعلم، وكان دورها مقتصر ًا على التوجيه في مرحلة االستكشاف ،وبالفعل جنحت املعلمة في جعل الطالبات يتوصلن بأنفسهن ألشكال احلركة من خالل األنشطة ،ووصف احلركة االنتقالية والدورانية واالهتزازية مع إعطاء أمثلة حياتية تطبيقية عليها (أشكال احلركة في مدينة املالهي القيام بالتمارين الرياضية -قضية الفرد املعاق حركي ًا وآلية مساعدتهفي احلياة)». بعد أن خضنا في بعض جوانب دورة التعلم؛ سواء من الناحية النظرية أم من الناحية التطبيقية ،ولتشجيع الطالب على بناء املعرفة بأنفسهم دون أن يتلقوها من املعلم جاهزة ،ولتنمية العديد من املهارات العلمية املختلفة ،جند أن هناك حاجة ماسة لتبني املعلمني لهذا املدخل في تعليم العلوم ملسايرة االهتمام الدولي واحمللى بالنظرية البنائية ،ومداخل إستراتيجيات تدريسها ،ليساعدهم على االرتقاء بأنفسهم كمهنيني وباحثني. هايل الكرد مركز القطان -غزة
الهامش
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
* ُطبق مع طلبة الصف السادس في مدرسة الهاشمية األساسية للبنات في غزة في 11تشرين الثاني .2008
املراجع املراجع العربية: < جاسم عبد الله (« .)2001فاعلية استخدام دائرة التعلم في حتسني حتصيل العلوم لدى تالميذ الصف األول املتوسط بدولة الكويت» .مجلة رسالة اخلليج العربي، .80 < خطايبة ،عبد الله ( .)2005تعليم العلوم للجميع .عمان :دار املسيرة للنشر. < صادق ،منير (« .)2003فعالية منوذج Seven ESالبنائي في تدريس العلوم في تنمية التحصيل وبعض مهارات عمليات التعلم لدى تالميذ الصف الثاني اإلعدادي بسلطنة ُعمان» .مجلة التربية العلمية ،املجلد السادس ،3 ،ص.187-145 : < عبد السالم ،عبد السالم ( .)2001االجتاهات احلديثة في تدريس العلوم .القاهرة :دار الفكر الغربي.
العدد التاسع والعشرون- رؤى تربوية
ملف الثقافة العلمية
97
. دار املعارف: القاهرة. تدريس العلوم والتربية العلمية.)1997( الديب فتحي،< عميرة إبراهيم . دار الكتاب اجلامعي: عمان. تعليم التفكير مفاهيم وتطبيقات.)1999( عبد الرحمن جروان،< فتحي . املركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر: دمشق، عبد الله خطايبة وآخرون: ترجمة، تعليم العلوم جلميع األطفال.)1998( أر،< مارتن . دار الكتاب اجلامعي: العني، األساليب احلديثة في تدريس العلوم.)2005( زيد،< الهويدى :املراجع اإلجنليزية < Anthony W. Lorsbach , The Learning Cycle as a Tool for Planning Science Instruction, Illinois State University: :2008/10/11 ،على شبكة اإلنترنت http://www.coe.ilstu.edu/scienceed/lorsbach/257lrcy.htm < Edmund A. Marek, Brian L. Gerber, Ann M. Cavallo, LITERACY THROUGH THE LEARNING CYCL: :2008/9/18 ،على شبكة اإلنترنت http://www.ed.psu.edu/CI/Journals/1998AETS/t3_6_marek.rtf < Good, R. etal. 1988. Using prediction in a science learning cycle: A pilot study proposed Research in science Teaching. ERIC No: 302414. < Hanuscin. D. and Lee. M. 2007. Using a Learning Cycle Approach to Teaching the Learning Cycle to Preservice Elementary Teachers. The 2007 annual meeting of the Association for Science Teacher Education, Clearwater, Fl: :2008/12/15 ،على شبكة اإلنترنت http:// web.missouri.edu/hanuscind /astp 20075E.pdf. < Miami Museum of Science: :2009/2/2 ،على شبكة اإلنترنت http://www.miamisci.org/ph/lpintro7e.html.
.من فعاليات جمعية الكمنجاتي في جنني
املساندة النفسية واجلماعية للطلبة من آثار الصدمة
98
محمد أبو ملوح «يتكئ أمين صاحب السنوات األربع على جدار بيته يبكي بألم ،ويرفض أن يلبي نداء والده بالدخول ،فيخرج ويجلس بجواره ميسح دموعه، ويهمس في أذنه «الطائرات رحلت ولن تعود ..والقصف انتهى ..ولن يهتز البيت مرة أخرى ..احللوى وقطع الشوكوالتة واأللعاب في انتظارك ..هات يدك لندخل سوياً» .فيهز كتفيه ويتمتم« :بابا ..ال ،لن أدخل البيت». بحيرة وألم يقول أبو أمين« :ال أعرف ماذا أفعل معه وكيف أتصرف؟ أنا في حيرة من أمري ...حاولت معه بكل الطرق واستخدمت كافة الوسائل ،ولكن لألسف! كلها باءت بالفشل» (عطا الله ,ومصطفى, .)2009 إن حالة أمين الذي يقطن في مدينة غزة ليست غريبة وال الوحيدة بعد احلرب الشرسة التي تعرض لها قطاع غزة على مدى اثنني وعشرين يوماً ،استخدمت فيها آلة العدوان اإلسرائيلية كل أساليب الدمار من قذائف وقنابل وأسلحة محرمة دولياً ،طالت الصغار قبل الكبار.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
لقد تركت احلرب مشاهد وصور ًا في مخيلة كل الناس ،وبخاصة األطفال منهم لن تمُ حى ولن تنسى أبداً .كيف تنسى الطالبة دالل أبو عيشة من مخيم الشاطئ وابنة األربعة عشر ربيع ًا التي فقدت كل أسرتها ،والطالبة جميلة الهباش من غزة ابنة اخلمسة عشر عام ًا التي السموني من حي الزيتون ابنة الثالثة عشر فقدت رجليها ،والطفلة أملازة ّ ربيع ًا التي ُدفنت كل عائلتها حتت أنقاض منزلهم املكون من ثالثة طوابق أمام عينها ،وفقدت اثنني وثالثني فرد ًا من أقاربها. حتد وإن كانت احلرب قد وضعت أوزارها بوقف نار هش ،فإننا أمام ٍّ آخر وهو اخلوف من أن يتحول ما أدرج في ذاكرة األطفال إلى سلوك دائم يرافقهم مدى حياتهم ،ومن ثم يتحول إلى أمراض نفسية عدوانية. نحن بحاجة إلى إعمار من نوع آخر إلزالة ما تركته احلرب العسكرية من آثار نفسية وصحية واجتماعية واقتصادية وانفعالية ...وسياسية .إن احلرب على قطاع غزة تركت أثار ًا نفسية صادمة ،وبخاصة على األطفال الذين يشكلون %60من السكان الذين قتل منهم أربعمائة واثنا عشر طفالً ،وجرح منهم مئات آخرون .إن أعداد األطفال الذين يعانون من اضطرابات وصدمات نفسية كبيرة واإلمكانيات متواضعة.
الصدمة النفسية إن األحداث التي تسبب الصدمة النفسية هي أحداث كبيرة وخطيرة
ومفاجئة ،يغلب عليها القوة الشديدة واملفرطة وغير املتوقعة ،وميكن ويعرف أن تؤثر على فرد أو مجموعة من األفراد أو املجتمع بأسره. ّ احلواجري (احلواجري )2000 ،الصدمة النفسية بأنها «حدث غير متوقع «مفاجئ» يتسم باحلدة خارج عن اخلبرة الذاتية لإلنسان ،يؤدي إلى تهديد وجوده وحياته ،وال تستطيع وسائل الدفاع املختلفة أن تسعف اإلنسان للتكيف معه».
مظاهر الصدمة النفسية تظهر على الشخص الذي يعاني من الصدمة النفسية املظاهر التالية: كوابيس وأحالم مزعجة حول أحداث احلرب ،شعور بأن احلرب سوف حتدث مرة أخرى ،استرجاع األحداث عن طريق لعبة احلرب ،االنطواء والبعد عن اآلخرين والشعور بالقهر ،صعوبة وتقطع النوم واحلركة الزائدة غير املعتادة ،عدم القدرة على القيام باألعمال اليومية املعتادة، تشتت التفكير وصعوبة التركيز وانخفاض التحصيل الدراسي، التبول الالإرادي ،اخلوف من الظالم والترقب والتوجس ،قلة األكل وفقدان الشهية والصداع املستمر ،االلتصاق بالوالدين والبقاء باملنزل، اإلحساس بفقدان األمل والكآبة بسهولة. أعتقد أن من أهم مظاهر الصدمة التي الحظتها فقدان األطفال لطفولتهم وحديثهم بأحاديث الكبار ,وجتاوز عمرهم العقلي لعمرهم الزمني بكثير مثل الطفل أحمد زايد من بيت الهيا ،الذي خاطب العالم من خالل شاشات القنوات الفضائية بلهجة فاقت سنوات عمره التسع بقوله: «يجي العالم يشوف حالتنا ويشوف أوالدنا كيف؟ مرميني بالصفوف قاعدين على البالط ال ميه وال أكل وال كهرباء ...هذه حياة؟! هذه حياة هذه؟! هذا حصار هذا أكبر حصار هذا أعظم حصار من إسرائيل... يشوفوا كيف إحنا عايشني مرميني ال بنضحك وال بنلعب وال بنتعلم وال بنشوف برامج أطفال ،كل ما أفتح التلفزيون بشوف تشييع جنازات، وطخ ،وموت ،وحرب ،دبابات ،واجتياح ،ما بشوف برامج أطفال أتعلم منها ،وال رسوم متحركة أتسلي وال بلعب ...كله تشييع جنازات
أو حاملني شهداء وبطخوا ...إحنا هينا ال في أكل وال شرب ،إحنا مرميني زي الشحادين ،شوفوا الشعوب الثانية كيف أوالدهم يضحكوا ويلعبوا وبيفرحوا؛ وإحنا علينا حصار من سنتني تقريباً ،ال بناكل وال بنشرب وال حد بيعمل شي ،وال املعابر بتفتح ،وال بيدخل لنا أكل وال أشياء ثانية» (زايد.)2009 ، هناك وسائل عدة ملواجهة الصدمة النفسية والتعامل معها ومنها: )1املساندة النفسية :هي تزويد الذي يعاني من الصدمة بالدعم النفسي من خالل إحساسه باملشاركة ومساعدته على التفريغ والتنفيس عما يجول بخاطره ،ومساعدته على تنظيم أفكاره من خالل استبصاره بالتجربة التي مر بها حتى يتمكن من التخلص التدريجي من آثار الصدمة وما خلفته من اضطرابات فكرية أو انفعالية ،وعلى املختص الذي يقوم باملساندة النفسية أن ميتلك مهارات التواصل الفعال والقدرة على تشخيص االضطرابات املختلفة. )2املساندة اجلماعية :هي إتاحة الفرصة ملجموعة من الطلبة الذين يعانون من الصدمة النفسية ,بالتنفيس والتفريغ عما يجول في أنفسهم ،ما يخلق شعور ًا باملشاركة في األلم واأللفة واالنتماء. وهذا يدفع الطالب ليكون أكثر صبر ًا وجلد ًا وعاطفة واهتمام ًا باآلخرين فيستصغر جتربته أمام كبر جتارب اآلخرين .وحول فاعلية تطبيق هذا األسلوب ،يقول املعلم بسام صاحلة معلم الصف الثامن األساسي الذي استشهد ثالثة من طالبه من القصف على مدرسة الفاخورة التابعة لوكالة الغوث في جباليا:
)3التفريغ النفسي :هو نوع من الدعم النفسي يتم فيه إتاحة الفرصة للطفل للتعبير عما بداخله من معاناة ومحاولة إخراجها خارج ذاته، وال تظل حبيسة في داخله ،وذلك من خالل احلديث أو باستخدام الرسم ملا رآه أو رسم رسومات أكثر تفاؤ ً ال مما شاهده ,وكذلك اللعب في مجموعات وتدريبهم على ألعاب جديدة ,وكذلك تدريبهم على تقسيم األدوار للتفاعل مع اآلخرين ،ومن خالل رواية القصص بأن يروي كل فصل قصة أو حكاية عن جناحات وانتصارات ،ومن خالل توظيف السيكودراما ،حيث ميكن لألطفال عمل مسرحية
ويضيف املعلم بسام «لقد اضطررت للقيام ببعض التعديالت حتى أتيح الفرصة للطلبة للتفريغ النفسي ,مث ً ال اتفقت مع بعض املعلمني على أعطاء وقت أكبر لفترة التهيئة الصفية للموضوعات املختلفة وحتويل تعليم بعض الفقرات إلى أسلوب التعلم باأللعاب ،وتعديل خطة العمل السنوية ،حيث قدمت درس القراءة «حمزة طوقان» ابن عم فدوى طوقان ،الذي هدم االحتالل بيته في نابلس وتوظيفه لربط الواقع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة ،وكمدخل للتفريغ النفسي عند الطلبة».
99
مواجهة الواقع تنوعت اجلهود للتعامل مع آثار الصدمة من جهات مختلفة ،فتقول إحدى املديرات من مدراس غزة «في نطاق استعدادات الوزارة الستقبال الطلبة للفصل الدراسي الثاني بعد انتهاء احلرب على غزة، عقدت مديريات التربية والتعليم اجتماعات ملديري املدارس التابعة لها ،أعلن فيه عن برنامج ترفيهي ملدة أسبوع في جميع املدارس للترفيه عن الطلبة .ويتضمن البرنامج العمل ضمن محاور عدة ،أهمها السرد القصصي ملعاناة الطلبة أثناء العدوان ،واللعب الترفيهي ،والرسم، والتفريغ االنفعالي ،على أن يختتم هذا البرنامج بيوم مفتوح ،ويتم في ذلك اليوم توزيع وجبة غذائية على طلبة بعض املدارس .يذكر أن بعض املدارس التزمت بالفعل بهذا النشاط الترفيهي ،إال أن بعض املدارس، وبخاصة الثانوية ،لم يتم االلتزام بهذا البرنامج الترفيهي نظر ًا ألسباب عدة ال مجال لذكرها هنا». ويشير أحد املعلمني في مدرسة خاصة إلى «أن بعض املدارس اخلاصة قامت ببعض األنشطة للترفيه عن طلبتها ،ومنها على سبيل املثال قيام إحدى املدارس بإتاحة الفرصة للطلبة لنفخ أكبر عدد من البالونات، وعند االنتهاء من عملية النفخ ،مت النزول مللعب املدرسة وإطالقها في الهواء واجلري خلف هذه البالونات من أجل (غز) أكبر عدد ممكن منها .وفي مدراس أخرى مت تقدمي عروض بهلوانية وموسيقية وتقدمي العصائر وبعض املأكوالت». أما برنامج التربية والتعليم في وكالة الغوث ,فقد قرر أن يكون األسبوع األول للدوام تهيئة نفسية وتفريغاً ,ولكن البرنامج استمر لليومني األولني ،ومن ثم انتظمت الدراسة كاملعتاد لتعويض ما ضاع وكسب الوقت في إنهاء املنهاج ،واستدراك ًا مت عمل يوم ثالث مفتوح في نهاية األسبوع. وقد أفاد موجه اإلشراف والتوجيه مبدارس وكالة الغوث في محاضرة له في مركز القطان قائالً« :كان هدف اللقاءات في اليومني األولني من الدوام هو املساندة اجلماعية للتخفيف من آثار ما بعد الصدمة ،وإتاحة أكبر فرصة ممكنة للطلبة للتفريغ ،ألنه يعتبر أول مبادرات العالج، والكالم هو نصف أو ثلثا العالج ،ولكن يجب احلذر من أن يكون التفريغ دون تفاصيل دقيقة ،وصدور أحكام حتى ال تتكون صدمة ثانوية .وآليات التفريغ الفاعلة هي الرسم ,وأنشطة حركية ,وغناء,
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
«كان احلزن يخيم على جو الفصل ,واأللم في عيون الطلبة عميق، فبادرت إلى إزاحة املقاعد جانباً ،وأحضرت حصيرة وفرشت أرض غرفة الفصل ,وجلسنا مع ًا في دائرة ,وبدأت احلديث بتجربتي مع السماح بتدخالت من هنا وهناك ,هذا في اليوم األول من الدوام. ولكن في األيام الثالثة التالية أحضرت وجبة إفطار لي وجلميع طلبة الفصل ,نبدأ بتناول الفطور مع ًا على احلصيرة ،ثم تعقد جلسات نعبر كل بالطريقة التي يراها التفريغ ،وفي اليوم األخير اتفقنا على أن ّ مناسبة من رسم ,وكتابة وحكاية ...الخ .لقد كان ميل الطلبة كبير ًا للرسم ،فجمعنا كل الرسومات ومت تعليقها على جدران الفصل ,كانت أشبه مبعرض غلب عليه صور الشهداء الثالثة من الفصل في إطارات من باقات الزهور ،وعبارات مختلفة ,لقد اتصل بي أحد أولياء األمور وشكرني كثير ًا في املساعدة في التخفيف عن ابنه لفقدان صديقه األول الشهيد «بشار».
متثيلية يعبرون من خاللها عن أكثر املوضوعات إحلاح ًا عندهم.
100
ومتثيل وكتابة .وأكد أيض ًا على أن هناك مشاكل اجتماعية خفية يجب التعامل معها ،وهي شعور ذوي الشهداء باحلرمان ،ما يؤدي إلى التجمد االنفعالي وتلبد املشاعر وعدم االستقرار». لقد شارك مركز القطان يوم 24كانون الثاني املاضي في لقاء مطول في برنامج غزة للصحة النفسية بحضور العديد من املؤسسات احلكومية واألهلية ووكالة الغوث الدولية ،التي تداعت ملواجهة نتائج احلرب على غزة ،وخاصة أنها لم تكن األولى مع اختالف حجم العدوان، ولن تكون األخيرة ،كما هو متوقع سياسي ًا وإعالمياً ،ولكن احملزن كان
التعامل مع األشياء والظواهر بعد حدوثها .ملاذا لم تكن هناك جهود وقائية وبرامج داعمة ومنشطة من أجل زيادة الوعي النفسي واملجتمعي قبل حدوث الظاهرة؟ وما هي اإلجراءات واالستعدادات للتعامل مع الظاهرة أثناء حدوثها؟ وليس التخبط والعشوائية في مواجهتها .وعسى ما حدث أن يقرع الناقوس للحذر واحليطة للمستقبل ،وإعداد برامج وكوادر مؤهلة للعمل أثناء احلرب وبعدها من أجل الوقاية والسالمة. محمد أبو ملوح مركز القطان -غزة
املراجع
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
< ثابت ,عبد العزيز ( .)1999العنف واإليذاء واخلبرة الصادمة لدى األطفال .غزة :برنامج غزة للصحة النفسية. < احلواجري ,أحمد ( .)2000دليل املعلم في التعامل مع مشكالت الطالب في الظروف الضاغطة والصادمة .غزة :دائرة التربية والتعليم – وكالة هيئة األمم املتحدة إلغاثة وتشغيل الالجئني الفلسطينيني. < زايد ,أحمد ( .)2009مقابلة مع قناة اجلزيرة الفضائية Available on line: http://www.youtube.com/watch?v=H39i5tYTxaI&feature=related< الشيمي ,داليا ومؤمن ,داليا (« .)2006دليل املساندة النفسية في احلروب والكوارث». http://www.islamonline.net/arabic/In_Depth/Cyber_Counselor/Lebanon_Palestine_summer/topic_0101/d.shtml < صاحلة ,بسام ،وطالب الصف الثامن األساسي في مدرسة جباليا اإلعدادية لالجئني .مقابلة في مركز القطان للبحث والتطوير التربوي – غزة بتاريخ: .2009/2/23 < عطا الله ,عال ومصطفى ,شيماء (« .)2009صغار غزة بعد احلرب ..وسالت دموع اخلوف». www.Islamonline Accessed 15.2.2009. < كريستني ،نصار ( .)1991واقع احلرب وانعكاساتها على الطفل – حالة خاصة – الطفل اللبناني .طرابلس :جروس برس.
من فعاليات جمعية الكمنجاتي في جنني.
فصول من الكرامة
101
رحمة عودة الفصل األول من العام الدراسي 2009/2008بدأ بكارثة تعليمية متثلت في إضراب املعلمني؛ وقفت وحيدة أستقبل 850طالبة ،منهم 190 طالبة جديدة تلتحق باملدرسة ألول مرة في الصف األول األساسي ،قدمن للمدرسة بأزهى حلة مدرسية جديدة ،وحقيبة كم اشتقن لها وكم حلمن بحملها ،ويعلم الله كيف استطاع األهل توفيرها لبناتهن إلدخال البهجة إلى قلوبهن الصغيرة .وقفت حائرة لساعات في انتظار قدوم الهيئة التدريسية ،ولكن بعد طول انتظار قدمت ثالث معلمات فقط ،وأوئدت فرحة الطالبات قبل أن تولد ،وعدن أدراجهن إلى البيت دون أن يدخلن الفصول .وبعد أيام اكتمل النصاب ،وقدمت للعمل باملدرسة هيئة تدريسية جديدة (ثالث وعشرون معلمة ميارسن العمل ألول مرة) مع طاقم إداري جديد (ثالثة إداريني) ،عجزت عن مجاراة الوضع القائم ،متكنت بشق األنفس من مترير فصل دراسي كامل مع ما حمله من معاناة نفسية للجميع؛ الطلبة وأولياء األمور ،واملدرسات ،واملشرفني التربويني ،وأنا في مقدمة اجلميع ،ومع ذلك حلمنا أن تكون بداية الفصل الدراسي الثاني بداية جديدة أكثر أمناً ،نعمل فيها على إنقاذ ما ميكن إنقاذه من العام الدراسي ،بل من مستقبل جيل بأكمله. وقبل أن ُتسطر حروف النهاية للفصل الدراسي األول اندلعت احلرب، انقطعنا عن املدرسة على مدى أربعة وعشرين يوماً ،جلسنا ننتظر املجهول ،نحاول التماسك ونستجمع لنفوسنا قوة أمام األطفال ،ماذا عسانا أن نفعل في اليوم األول بعد العودة للمدرسة؟ مدرسة الكرامة األساسية التي تقع في حي الشعف أقصى شرق مدينة غزة ،لقد بات هذا احلي مشهور ًا على الرغم من فقره املدقع من كثرة ما تردد اسمه في محطات اإلذاعة والتلفزة ،توقعت كما توقع اجلميع أال جند من املدرسة سوى ركام ،ومع ذلك عند عودتنا للمدرسة لم جند شيئ ًا فيها قد تغير، كأمنا تركناها باألمس؛ يبدو أن مبنى املدرسة (الكرامة) أبى إال أن يبقى شامخ ًا كاسمها.
وفي احلرب معنى آخر غير اخلوف والعجز عبرت عنه املعلمة صابرين سلمان ( 23عاماً) معلمة الرياضيات للصف الرابع األساسي في املدرسة نفسها« :كانت أيام ًا صعبة عادت بنا احلياة إلى ما قبل احلضارة ،حيث ال كهرباء وال غاز للطهي وال ماء ،وعلى الرغم من قسوة تلك األيام ،فقد علمتنا معنى االحتاد والتعاون واحملبة واخلوف على اآلخرين والتوفير واالستغالل األمثل للموارد». وعلى مدى ثالثة أيام مرت ثقيلة -قبل قدوم الطلبة -جتاذبنا أطراف احلديث باختالف ألوانه؛ السياسي واألمني والتعليمي والنفسي، ووضعنا خطة -أظنها محكمة -الستقبال الطالبات وعالج اآلثار السلبية املدمرة على مسيرة التربية والتعليم ،متحورت اخلطة حول أهداف رئيسة ثالثة هي: < جتاوز حالة اإلحباط واليأس واالكتئاب التي مير بها أعضاء الهيئة التدريسية والنظر نحو املستقبل بعني املتفائل. < التخفيف من آثار الصدمة النفسية واالنفعالية للطالبات وتعليمهن
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
وأخير ًا بدأ الفصل الدراسي الثاني من العام نفسه بكارثة جديدة ،كارثة إنسانية ونفسية وبيئية ،ووقفت هذه املرة ألستقبل الهيئة التدريسية عاجزة كما عجزت في املرة األولى ،كيف أواسي من كانت أولى كلماتها لي عندما خاطبتها احلمد لله على السالمة كيف حالكم؟« :املوت لم يعد يحمل إلى نفوسنا في طياته ذلك اخلوف ،فاجلميع كان مرشح ًا للشهادة، بل أكثر من ذلك ،كنا للحظات نتمناه ،املخيف فع ً ال هو الفراق؛ إنه مؤلم جد ًا كنت أقول في نفسي لو متنا سوي ًا ال يهم ،ولكن أرجوكم ال متوتوا وتتركوني وحيدة» ،تلك الكلمات التي عبرت بها غادة الكيالي ( 27عاماً) معلمة العلوم للصف الرابع األساسي مبدرسة الكرامة عن حالها ،وتابعت حديثها تصف يوم ًا من أيام حرب غزة ،ذلك اليوم الذي حمل إليها أسوأ خبر ميكن أن يصل إلى إنسان ،فقالت« :أقسى وأطول وأشد يوم في حياتي ،أعتقد أن املشاكل لها حل طاملا أن اإلنسان قادر على التفكير ،ولكن أمام املوت يقف الكل عاجزاً ،فمنذ اللحظة التي استشهد فيها شقيقي زكريا ( 19عاماً) شعرت باخلوف الشديد ،ليس من املوت ،ولكن اخلوف من العجز».
ومبرارة تقول املعلمة عبير الزمارة ( 27عاماً) معلمة اللغة اإلجنليزية: «كيف ميكن أن ننسى الناس الذين قتلوا وهم في املساجد يصلون؟ هل أصبح أداء العبادة في بيوت الله جرمية؟ ويجول في خاطري سؤال لو أن مليون ونصف املليون من احليوانات يعيشون في محمية طبيعية في دولة عظمى مثل أمريكا أو روسيا لعاشت هذه احليوانات أفضل من تلك التي يحياها سكان قطاع غزة ،فأين القوانني التي تضعها املنظمات الدولية حلماية املدنيني زمن احلرب؟ وأين منظمات حقوق اإلنسان؟ بل أين منظمات حقوق احليوان لتدافع عن حظائر احليوانات التي انتهكت حرماتها وقتل ساكنوها».
102
العمل والتطلع ملستقبل أفضل. < إنقاذ العام الدراسي وجتاوز مرحلة تسييس التعليم إلى حرية التعليم من قيود احلزبية املقيتة. ولتحقيق هذه األهداف ،صيغت خطة إجرائية تضمنت العمل على ما يلي: 1
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
< التعبير عن مشاعرنا نحن الكبار بكل ما أوتينا من بيان ،ودون خجل من واقع مؤقت فرض علينا بقوة القهر واخلوف أو السالح ،فاملصارحة باملشاعر املكبوتة ومكنونات الصدر لها دور كبير في إعادة بناء الذات، متهيد ًا لتكون أداة بناء ال معول هدم وفناء ،هذا بالفعل ما مارسناه على مدار األيام الثالثة األولى التي سبقت قدوم الطالبات للمدرسة. < التعامل مع الطالبات بروح األخوة والرحمة قبل كل شيء ،مع إفساح املجال لهن للتعبير عن جتاربهن أثناء احلرب ،من خالل احلديث عن املشاعر والتفريغ النفسي باألحاديث والقصص واألناشيد واألغاني واأللعاب والرسم ومختلف ألوان النشاط الرياضي واحلركي ،مع تعويد الطالبات على تقبل اآلخر ،وعدم السخرية من مشاعر الغير، ومواساة اآلخرين ومساندتهم بجميع الوسائل املمكنة. < تقبل الطالبات مهما كان مستواهن التحصيلي واالجتماعي ،بحيث يحرم استخدام أنواع العقاب البدني واللفظي كافة ،أو حتى ارتفاع الصوت بالـتأنيب ،وبخاصة خالل الشهر األول ،وعدم الضغط على الطالبات بأي شكل من األشكال مهما كان ،ومن الضغوط الواجب البعد عنها عدم تكليف الطالبات بواجبات بيتية مرهقة أو امتحانات، ومع التوازن في التساهل مع الطالبات متشي ًا مع «مبدأ ال إفراط وال تفريط».
من تدريبات طلبة مدرسة التمثيل في مسرح احلرية في جنني.
< عدم انتظار أي دعم مادي أو معنوي من أي جهة كانت ،وتوجيه اجلهود الذاتية للمساندة النفسية والدعم االجتماعي ،من خالل حصر األضرار في البيئة احمليطة ،وزيارة بعض األسر املتضررة ورصد التغييرات التي طرأت على أوضاع الطالبات من حيث الضرر املادي املتمثل في هدم البيوت أو استشهاد األب أو األم أو أحد اإلخوة، وذلك لتعميم اجلديد من أحوال الطالبات على املعلمات ،ليتم خالل الفصل الدراسي احلالي واألعوام التالية تقدمي الرعاية النفسية الكافية التي تضمن لهن االستمرار في الدراسة واالندماج في املجتمع املدرسي وكذلك احمللي. < اإلعالن عن انطالق مشروع «قلم لزميلتي» ،الذي يتضمن جمع التبرعات من الطالبات واملعلمات من قرطاسية وزي مدرسي أو حتى مالبس وحقائب وأحذية وألعاب وغيرها الكثير ،ومن كل ما يفيض عن حاجة األسر امليسورة احلال ،ليتم تقدميه للطالبات الالتي فقدن البيت الذي كان يؤويهن ،ومعه فقدن حقائبهن املدرسية ومالبسهن وكل ممتلكاتهن ،على أن تتم العملية بطريقة ممنهجة ،بحيث حتدد جلنة عليا تشرف على املشروع ،وينبثق عنها جلان فرعية ،إحداها جلمع التبرعات العينية والنقدية ،وأخرى لرصد الطالبات املتضررات ونوع الدعم الذي يحتجنه ،وثالثة تتولى التوزيع بعدالة حسب االحتياجات. وفي اليوم األول من أيام الفصل الدراسي الثاني (،)2009/1/24 بدأت الطالبات بالتوافد على املدرسة ،وأيض ًا كان املوقف هائ ً ال -كما اعتدنا األهوال من بداية هذا العام -بكل ما في الكلمة من معنى، الطالبات وجوههن واجمة ،وعيونهن حائرة ،وبعضهن لم يرتدين الزي املدرسي ،بل لم يحملن تلك احلقيبة التي اعتدتن عليها ،ليس َّ
عن رضا أو تقصير؛ بل ألنهن أرغمن على ذلك بسبب تدمير منازلهن وفقدان ممتلكاتهن .لم يدق جرس املدرسة في موعده ،تأخر بقرار إداري ،ال أدري ملاذا؟ أهو من خوف من مواجهة الطالبات؟ أم إلفساح املجال للمعلمات لتجميع أفكارهن وشجاعتهن ملواجهة املوقف؟ أم لترك الطالبات يلعنب مع زميالتهن؟ وأخيراً ،دق اجلرس ،وانتظم طابور الصباح ،وقرئت الفاحتة ،واستمع اجلميع للسالم الوطني بصمت غير معهود ،ووجهت كلمة مقتضبة باسم اإلدارة املدرسية للطالبات حلثهن على جتاوز املرحلة احلالية ،واالنطالق نحو العمل واملثابرة ،وانطلق اجلميع إلى الغرف الصفية حسب ما تقرر سابقاً ،وجاء دور تنفيذ اخلطة .بدأ فصل جديد من فصول املأساة اإلنسانية التي يعيشها أطفال فلسطني يتكشف ،وتوزعت األنشطة لهذا اليوم ما بني رواية األحداث املاضية وتفريغ ما زرعته هذه األحداث من مشاعر متناقضة جتاوزت احلزن والكآبة إلى الشعور بالقهر أو الالمباالة، بدأت أشعر أثناء مروري على الغرف الصفية أنني أدخل بيو ًتا ال فصو ً ال، أسمع قصص ًا وروايات لم تصل إليها وسائل اإلعالم .كان اإلعالميون فيها أطفا ً ال ال تتجاوز أعمارهم عشر سنوات؛ اجلميع يتحدث بانفعال كما لو كانت فصول الرواية مستمرة واحلدث قائم ًا إلى اآلن ،كانت املشاعر متتزج بني املعلمات والطالبات ،مع العلم أن هناك العديد من يسكن احلي نفسه الذي تقع فيه املدرسة ،وتعرضن للمعاناة املعلمات َّ نفسها ،إال أن جميعهن دسن على جراحهن وكن بالفعل أمهات ،بل في بعض األحيان من أهل االختصاص في عالج الصدمات واألزمات االنفعالية ،وأرى أنه من باب العدالة أن نقول إن بعض املعلمات كانت عقود عملهن املؤقتة قد انتهت ،وحلرصهن على املصلحة العامة ،فقد ليكن إلى جانب طالباتهن ويقمن بالعمل التزمن بالدوام في ذلك اليومَّ ، وفق ما سبق من ترتيبات حلني سد العجز في أعضاء الهيئة التدريسية.
ومن األنشطة التي مت أيض ًا العمل عليها خالل األسبوع األول ،التعبير عن املشاعر بالرسم ،وكانت اإلدارة املدرسية قد وفرت األوراق واأللوان للطالبات لترسم كل طالبة رسمها اخلاص بشكل فردي .ومما أثار فضولي ،رسم الطفلة نغم عودة ابنة السنوات الست ،الطالبة في الصف األول األساسي ،فطلبت منها أن تفسر الرسم ،فكانت القصة
«هذه البنت أبوها في السجن ،والولد أخوه اتصاوب باحلرب، بدهم يروحوا يزوروهم ،بس احلرب لسة ما خلصت ،بالطريق في دبابة وأسد ،األوالد شاطرين ،اتفقوا الولد يرمي احلجر على البنت ويجرحها شوية علشان يتصلوا باإلسعاف ينقلهم على اجلانب الثاني، ويزوروا حبايبهم هناك».
103
ومبناقشة إيحاءات الرسم والقصة مع بعض التربويني ،اتضح أن الطفلة ال تزال تعاني من اخلوف؛ فاحلرب في اعتقادها ال تزال قائمة ،وفي القصة إشارة واضحة لضرورة االتفاق للتغلب على هذا اخلوف واحلواجز ،ومن ثم حتقيق األماني والرغبات. وفي اليوم التالي ،أعطيت الفرصة لكل صف دراسي أن يرسم لوحة جدارية كبيرة بطول مترين ،وقد اشتركت املعلمات مع الطالبات في الرسم ،وفي نهاية املطاف ُعلقت اللوحات على جدران املدرسة، بحيث حتولت اجلدران املتشحة بسواد األوساخ إلى تصوير لساحات املعركة بعيون األطفال. كما أتيحت الفرصة للطالبات ليلعنب في ساحة املدرسة لساعات طويلة، وقد مت التركيز على األلعاب اجلماعية ،وكانت هناك متابعة فاعلة من أعضاء الهيئة التدريسية واإلدارية كافة ،من أجل دمج جميع الطالبات في هذه األلعاب ،كما تركت الفرصة للطالبات للعب لفترة طويلة حتى تعنب ،وطالبت بعض الطالبات بالذهاب للغرف الصفية لكي يتعلمن. ومن األلعاب التي شهدت اندماج الطالبات فيها وإقبالهن عليها بشغف ،ما أسهم بشكل فاعل في التخفيف عن الطالبات ،تلك اللعبة التي مازلت أذكر يوم كنا نلعبها ،وأصر على أنها من أجمل األلعاب التي مارسناها أيام طفولتنا ،بل لقد كانت اللعبة الوحيدة التي يشترك فيها اجلميع بحماس: جتلس الطالبات في دائرة كبيرة وجوههن إلى داخل الدائرة ،ومتسك إحداهن مندي ً ال وتدور من خلفهن وهي تنشد «طاق طاق طاقية تعيش الوحدة العربية .رن رن يا جرس محمد راكب على الفرس .فرسك
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ومن القصص التي سمعتها وأثارت أحزاني الشديدة ،تلك التي روتها الطالبة إميان إعالو ابنة الثماني سنوات ،الطالبة في الصف الثالث األساسي« :بينما كنا في املنزل في أمان نزلت قذيفة دبابة ،تطايرت حجارة البيت املكون من ثالثة طوابق وصارت كومة ،وانتشر الغبار في كل مكان ،وأصبحت الرؤية صعبة ورائحة الفسفور خنقتني ،لم أستطيع التنفس وشعرت بشيء دخل في رجلي ،حاولت أن أمسك به وأشده ألخرجه لم أعرف ما هذا الشيء ألني لم أره من شدة الغبار، وأحسست بأمي إلى جواري ،حاولت هزها لم ترد ،فقد كانت مغمى عليها ،إلى جواري أيض ًا أحسست بأخي مؤمن لم أميز مالمحه، أمسكت بجزء من جسد أخي ألفاجأ أنه قد انفصل عنه ،أدركت أن أخي مؤمن أصبح أشالء مقطعة ،بكيت بشدة ،حسبت أن أهلي جميع ًا ماتوا ،أتى اإلسعاف ونقلونا إلى املستشفى ،أمي كانت بخير لم يصبها أي مكروه ،وكانت حام ً ال في شهرها الثامن ،أخي استشهد وأنا أصبت إصابة طفيفة».
أغرب من الرسم . ...
104
الهندي املشكشك بالوردي والورد مو عندي .الله ال يضرك يا درة يام اخلدود احملمرة .والثعلب فات فات في ديله سبع لفات .غمضوا عنيكم يا حلوين» ،ثم تلقي الطالبة مبنديلها على إحدى الطالبات اجلالسات لتأخذ هذه الطالبة الدور وتعيد كرة النشيد واجلري. في هذه اللعبة إشارات ضمنية للسان حال اجلميع في انتظار األمل املنشود بالوحدة ،وذلك الفارس املغوار الذي ينتظره اجلميع لتحقيقها والتغلب على الثعلب املاكر املتمثل في العدو ،وصراع األخوة ،وكل ما يهدد أمن الصغار ،يستمتع األطفال بترديد أغنية هذه اللعبة ويتمنى الكبار أن تتحقق اآلمال. وإضافة إلى كل ما سبق ،فقد جاء دعم نفسي من نوع آخر ،فقد أرادت املعلمة صابرين سلمان ( 23عاماً) ،معلمة الرياضيات للصف الرابع األساسي زيارة أسرة الطالبة آالء احلبشي ابنة السنوات العشر ،والطالبة في أحد الصفوف التي تقوم بتدريسها ،وقد القى قرارها قبو ً ال .وعن الدافع لهذه الزيارة قالت املعلمة «في أول يوم من أيام الفصل الدراسي الثاني علي ليروين لي ما حدث معهن، دخلت فصلي ،وإذ بالطالبات يتدافعن َّ أمسكت الطالبة آالء بجلبابي وقالت والدموع متأل عينوها «أبي مات وبيتنا تهدم» .لم أمتالك نفسي ولم أحتمل هول املوقف ،أحسست أن أحد أعز أحبابي يقول هذا الكالم ،ضممتها إلى صدري وقلت لها :والدك شهيد يجب أن تفتخري به ،أنت اآلن أفضل منا جميعاً ،هو في اجلنة وسوف يشفع لك ولسبعني من أهله ،وهدأت من روعها وطلبت منها أن تروي لنا ما حدث ،تعاطف معها اجلميع من طالبات ومعلمات ،وفي االستراحة إلي بعض الطالبات وقلن إنهن يرغنب بزيارة آالء في املنزل وتعزية جاءت َّ علي املشاركة في هذه الزيارة فلم أتردد». والدتها ،وعرضن َّ
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
وتقول املعلمة صابرين عن تفاصيل الزيارة« :أبلغنا مديرة املدرسة برغبتنا بالقيام بزيارة ألسرة الطالبة آالء احلبشي لتقدمي العزاء لهم باستشهاد األب ،فوافقت بحماس ،وشجعتنا وذهبنا أنا واملعلمة غادة الكيالي ونفني أبو بكر وخمسة من زميالت آالء بالصف الرابع. كان البيت شديد التواضع ،فيه أجزاء كبيرة قد تهدمت بفعل القصف اإلسرائيلي ،استقبلتنا األم وابنها الطالب في الثانوية العامة ،وكانت األم صابرة ،وشكرت لنا قدومنا ملواساة األسرة في مصابها ،وروت لنا ظروف استشهاد األب» .وعندما سألنا عن املعيل لألسرة بعد استشهاد األب ،قالت :الله حسبهم ونعم الوكيل وهو ال ينسى أحداً. وعلى الرغم من اجلهد الذي بذلته اإلدارة املدرسية والهيئة التدريسية للتخفيف عن الطالبات ،فإن اخلطب كان شديداً ،واآلثار النفسية ال تزال أثقل من أن يحتملها كاهل الطالبات الصغيرات املثقل باألحزان. وعن ذلك تقول املعلمة سماح أبو نعمة ( 22عاماً) ،معلمة التربية اإلسالمية للصف الثالث األساسي« :إميان طالبتي في الصف الثالث األساسي مؤدبة ومتفوقة؛ بعد احلرب صارت عدوانية تضرب زميالتها بعنف وتتعمد إيذاءهن ،بل أكثر من ذلك ،فهي تقوم بسرقة أدواتهن املدرسية .وفي لقاء فردي مع الطالبة روت لي القصة وهي تبكي خج ً ال مما تفعل «بيتنا قصف وتدمر بالكامل ونحن بداخله ،استطعنا الهرب بسالم ،اآلن ال منلك شيئ ًا سوى املالبس التي كنا نرتديها عندما هربنا من القصف ...ال يوجد عندي أدوات مدرسية».
أما الطالبة لندا في الصف الثالث األساسي ،فتصف املعلمة سماح ما آلت إليه حالها بعد احلرب بقولها« :كانت قبل احلرب مجتهدة وتؤثر الوحدة ،ال واجتماعية ،عادت إلى املدرسة بعد احلرب مكتئبة ْ تشارك في األنشطة الصفية ،سألتها عن وحدتها وعدم تبادل احلديث مع زميالتها في الفسحة ،أجهشت لندا بالبكاء ،ثم قالت (أبي والبيت يبق لنا شيء حتى البيت الذي ظل أبي يبنيه سنوات طويلة راحوا) ولم َ ٍ وبناه بيديه راح ،ماذا بقي لنا في هذه احلياة؟ كل شي غال راح ،ملاذا تركونا ....؟! لقد أخطأوا ...املفروض قتلونا كمان وأجهشت بالبكاء مرة أخرى». وتقول معلمة الصف األول األساسي باسمة احلاج ( 42عاماً) تصف أوضاع طالباتها بعد احلرب« :أدرس الصف األول منذ 19عاماً، لم أصادف طوال هذه املسيرة طالبة متزق دفاترها وكتبها مثلما تفعل الطالبة إسالم ،فإذا انتهت من متزيق دفاترها انتقلت لتمزيق دفاتر زميالتها .وال تعد هذه احلالة الوحيدة عندي ،فالطالبة آالء تكسر األقالم ...حاالت في غاية الغرابة عجزت عن معاجلتها ،انتهت احلرب منذ شهر تقريباً ،كل يوم أعطي آالء قلم ًا وإسالم دفتراً؛ وال فائدة ،بدأت أفكر في أن أعالج املوقف بطرق أخرى ،ولكني بحاجة لدعم أكبر من ذوي االختصاص ،وقسم اإلرشاد التربوي مبديرية التربية والتعليم». وعلى الرغم مما تركته احلرب من آثار نفسية سيئة ،فإن هناك بارقة أمل دائماً ،ويظهر هذا في عزم الطالبة إميان إعالو وتصميمها ،فقد كان مما قالته ملعلمتها سماح أبو نعمة بعد لقاء فردي جمع بينهما« :رغم ما حدث ،سأجد وأجتهد في دروسي ،وسأغيظ األعداء». يبق سوى شهرين ،واآلن نسابق األيام، شارف العام على نهايته ،لم َ ال ندرى ملاذا؟ لرأب الصدع في العالقات االجتماعية الناشئة عن تعيني معلمني مساندين جاءوا ليحلوا محل معلمني أساسيني التزموا باإلضراب؟ أم لعالج اآلثار النفسية السلبية للحرب على الكبار قبل الصغار؟ أم إلجناز العام بأقل اخلسائر املمكنة في العملية التعليمية؟ أم الستخالص العبر من األهوال التي مرت بنا خالل هذا العام العصيب وأخذ االحتياطات الالزمة حتسبا ألزمات مشابهة؟ أم لبناء جسور املودة بني أركان العملية التعليمية متمثلة باملعلمني وطلبتهم ،وأعمق من ذلك بني اإلدارات املدرسية والقيادات التربوية في املجتمع؛ بعيد ًا عن التجاذبات السياسية وطلب ًا لألمن التربوي والطمأنينة النفسية على مستقبل املعلمني والطلبة ،وحتقيق ًا ملسؤولية املؤسسة التربوية عن األحكام اخللقية التي تشيع في املجتمع الفلسطيني؟ رحمة محمد عودة مركز القطان -غزة
الهامش 1مت وضع اخلطة اإلجرائية بتبادل مشترك لألفكار بني رحمة عودة ودالل الوحيدي؛ كونهما تعمالن في إدارة مدرستني حتمالن االسم نفسه «الكرامة»، وتشغالن املبنى نفسه ،إحداهما أساسية دنيا ،واألخرى أساسية عليا.
الفاخورة ..معاناة شعب وفاجعة طالب
105
بسام صاحلة
كان طالبي في انتظار خروج طالب الفترة الصباحية ليحلوا محلهم على مقاعد الدراسة في الفترة املسائية ،هذا يلهو مع زميله ،وذاك يراجع مع زميله النشاط البيتي ،وثالث يدرس أسئلة املراجعة نظر ًا لقرب اختبارات نهاية الفصل األول .وفجأة دوت انفجارات عدة عنيفة هزت املكان، وكأن زلزا ً فأخذت أنا وزمالئي املعلمون طمأنة ال قوي ًا قد حدث، ُ الطالب بأن هذا ما هو إال تفريغ طائرات أو غارات وهمية -كما يقولون -فقد تعودنا على مثل هذه الغارات الوهمية ،ولكن استؤنف دوي االنفجارات في كل مكان ،وتعالت سحب الدخان ،ودوت
صفارات سيارات اإلسعاف والدفاع املدني ،فأيقن اجلميع أنه قد وقع ما كان اجلميع يتوقعه ،وإن كان البعض قد راهن على أن وقوعه غير معقول. كانت الساعة بعد احلادية عشرة بقليل ،وكان معظم طالب الفترة الصباحية قد غادروا إلى بيوتهم وكان طالبنا داخل الفصول الدراسية، فهاجوا وماجوا ،واجتهد املعلمون في بث الطمأنينة في نفوسهم ،ولكن دون جدوى ،فقد كان األمر أكبر من أن تتم السيطرة عليه .وما هي إال
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
اليوم هو يوم السبت 27من كانون األول ،2008وغد ًا سيستمتع طالب مدرستي بإجازة رأس السنة الهجرية ( ،)1430وكان بودهم لو أخذوا ال من ٍ اإلجازة هذا اليوم بد ً غد ليصلوا عطلة يوم اجلمعة بعطلة رأس السنة الهجرية ،وبذلك يكون لديهم متسع من الوقت ليزوروا أقاربهم خارج مخيم جباليا ،ولكن ال بأس ،فقد اتفقت مع بعض طالبي أن نستغل اإلذاعة املدرسية للحديث عن الهجرة النبوية وربطها بهجرة الشعب الفلسطيني عن وطنه ،فتكون لديهم فكرة جيدة عن مناسبة هذه العطلة التي سيتمتعون بها.
حلظات ،حتى هرول الطالب خارج الفصول ،ولم ِ ميض إال وقت قصير حتى فرغت املدرسة من الطالب ،ثم من املعلمني.
106
ظن َّنا أن األمر سيستغرق يوم ًا أو بضعة أيام ،ولكن طال أمد العدوان، ِ يكتف بالقصف اجلوي ،بل بدأ بالزحف البري على املناطق احلدودية ولم وغير املكتظة بالسكان .وكان نصيب قرية بيت الهيا ومنطقتي السالطني والعطاطرة غرب مخيم جباليا هو النصيب األوفى من القصف والتدمير والقتل باجلملة لألطفال والنساء والشيوخ ،فخرج الناس في هذه املناطق من بيوتهم وبساتينهم ال يلوون على شيء ،ولكن أين يذهبون؟ أين يجدون األمن واألمان حتى تنتهي هذه األزمة ويعودون من حيث خرجوا؟ لم يجدوا -بحسب ما ظنوا -خير ًا من مدارس وكالة الغوث الدولية ،فمن ناحية هي مدارس من املستبعد أن ينالها القصف ،ومن ناحية أخرى هي تابعة لوكالة الغوث الدولية التي هي بعيدة عن الصراع. لنر! فهل وجدوا األمن واألمان حقًا؟ َ
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
«بعد أيام عدة من العدوان اتصلت بي وكالة الغوث ،وطلبت مني املساعدة في إيواء الناس الذين يفرون من القصف في مدرستي ،مدرسة الفاخورة ،وطلبت مني االستعانة مبن أراه مناسب ًا من معلمي املنطقة فاتصلت بعدد من املعلمني الذين أعرفهم ،فوافقوا جميع ًا ومعلماتها، ُ وفتحت للمدرسة فذهبت الباكر، الصباح في ذلك وكان استثناء، دون ُ ُ أبوابها ،ولكني لم أجد أحد ًا هناك ،فقد جلأ كثير من الناس إلى مدرسة بيت الهيا االبتدائية لالجئني ،ألنها أقرب إليهم من مدرسة الفاخورة، وبعد حلظات بدأ زمالئي في املجيء إلى املدرسة ،ثم ما لبث أن انهالت ٍ حدب وصوب .ولم تكن هناك اجلموع من البشر على املدرسة من كل في البداية أية مواد غذائية أو مالبس أو أغطية ،لدرجة أن األطفال والنساء قد باتوا ليلتهم على بالط الغرف الدراسية في البرد القارس، ثم ما لبثت املساعدات أن أتت شيئ ًا فشيئاً.
يوم الثالثاء 6كانون الثاني ،2009حدث في محيط املدرسة ما لم يكن باحلسبان ،فغرب املدرسة توجد ساحة واسعة ،يليها شارع ضيق يوصل املدرسة مبنطقة السالطني والعطاطرة ،وكان هذا الشارع وتلك الساحة يغصان بالقادمني اجلدد من تلك املنطقتني للجوء للمدرسة، وفجأة وأنا في داخل املدرسة شعرت كأن زلزا ً ال ضرب املدرسة ،وإذا بعدد من الناس الذين بالداخل تسيل من أجسامهم ورؤوسهم الدماء، وحاولت أن أسعف من أراه منهم ،ظن ًا مني أن هذا كل شيء ،ولكن جاءت النداءات واالستغاثات والصراخ من خارج املدرسة ،وكان ما تطاير شظايا االنفجارات والقنابل. رأيته داخل املدرسة إمنا هو فقط من ُ خرجت مسرع ًا إلى اخلارج ،حيث الساحة والشارع الضيق ،ويا لهول ُ ما رأيت! رأيت جثث ًا وقطع ًا آدمية ودماء وأشالء وال أدري ماذا أقول أو أصف .لقد كان املوت في كل مكان ،وكان من الصعب التعرف على الشهداء من شدة متزق اجلثث وكثرتها واختالط بعضها بالبعض اآلخر، وجاءت سيارات اإلسعاف والدفاع املدني على الفور ،ولكن أ َّنى لها أن تستطيع التعامل مع هذا العدد الضخم من الشهداء واجلرحى! وكان وجدت من بني الشهداء ثالثة من من أكثر املناظر إيالم ًا بالنسبة لي أن ُ طالب أحد الصفوف التي أعلمها ،رأيتهم مضرجني بدمائهم ،وصرت أستذكر صورتهم ،وأستذكر أنني قمت بتصويرهم وهم أحياء -كأني فقمت بتصوير جثثهم وهم شهداء كنت أعرف أنهم سيستشهدون- ُ باستخدام جهاز اجلوال اخلاص بي .ومن يومها ال تكاد صورتهم تفارق مخيلتي ،وقد آثر زمالؤهم -بعد انتهاء العدوان وعودتهم للمدرسة -أن ال يجلس أحد على مقاعدهم ،وأن يضعوا اسم كل منهم على مقعده. بعد هذا احلادث مباشر ًة وحتى يومنا هذا لم تهدأ وسائل اإلعالم احمللية والعربية والعاملية -لي ً ال أو نهاراً -وهي تطلبني ألروي لهم ما حدث، وكأني الشاهد الوحيد على احلادث على الرغم من أني كنت داخل املدرسة وقت حدوث القصف ،وقد لفت نظري أن كثير ًا من وسائل
عائلي ممتع أخرج الطالب من اجلو الكئيب الذي كانوا غارقني فيه. كررت جتربة هذا اليوم لليومني الثاني والثالث ،وكان مفعولها كالسحر في نفوس الطالب. وخالل هذه األيام الثالثة فكرنا -أنا وطالبي -فيما ميكن أن نقدمه لزمالئنا وفاء ومحبة ،واستقر الرأي على الذهاب إلى بيوت العزاء اخلاصة الشهداء ً ذهبت مع طالب الصف وأخذنا معنا األكاليل بالشهداء الثالثة ،وقد ُ وقدمنا واجب العزاء لذويهم .كما اتفقنا على عمل صورة مكبرة جتمع ثالثتهم وتعليقها في الفصل حتى ال ننساهم أبداً .وكذلك إحياء ذكرى األربعني عندما يحني هذا املوعد ،حيث نذكر مناقبهم ومآثرهم ،ونذكر ما ينتظرهم وأمثالهم من الشهداء من ثواب عند الله سبحانه وتعالى.
اإلعالم -وال أقول كلها -كانت تتعامل مع احلدث وكأنه خبر غريب يريدون التسابق على نشره ،دون النظر إليه كحادث مروع يعكس حجم الوحشية لالحتالل اإلسرائيلي ،وحجم املأساة التي يعيشها شعبنا والظلم الذي يقع عليه ،بل شعرت أن كثير ًا من املراسلني يعتبرون مهنتهم كأي مهنة أخرى كاحلدادة والنجارة والبناء وغيرها. وأخير ًا وضعت احلرب أوزارها ،ووقف القصف والدمار ،ولكن آثاره لم تزل في نفسي ووجداني أو ً ال ،وفي نفوس طالبي الذين صحوا من هذا الكابوس ليجدوا ثالثة من زمالئهم في الفصل الثامن قد فارقوهم شهداء في هذه املجزرة البشعة ،إلى جانب طالب آخرين وعدد كبير من الناس الذين كانوا داخل املدرسة أو جوارها .لقد فارقنا ثالثة من أحب الطالب إلى قلوبنا ،وأرقُّهم وأنبلهم ،وهم بشار ناجي ،وعصام ديب ،وعاهد قداس .لقد كانت الفاجعة أليمة واحلدث جلل ،حضر الطالب للمدرسة ودخلوا الفصل وكأنه غريب عنهم ،دخلوا يقدمون ِرج ً ال ويؤخرون أخرى ،وأخير ًا جلس كل واحد في مكانه دون أن ينبس ببنت شفة ،مطأطئي الرؤوس ،عيونهم تذرف دمع ًا حاراً ،ولم يفتحوا كتاب ًا أو ميسكوا قلماً ،ثم ما لبث أحدهم وأخرج أوراق ًا وقلم ًا كتب على كل ورقة منها اسم واحد من الشهداء الثالثة وألصقها على املقعد الذي كان يجلس عليه.
أما فيما يتعلق باملنهاج املدرسي ،فقد اتفقت مع زمالئي مدرسي اللغة العربية على إجراء بعض التغييرات على اخلطة الفصلية ،بحيث يتم تقدمي بعض الدروس مثل قصيدة «حمزة« لفدوى طوقان التي حتكي ما فعله اليهود بابن عمها حمزة من هدم بيته وسجن ابنه؛ ملناسبة هذا املوضوع للظرف الذي عشناه أثناء العدوان وبعده. كما اتفقت مع مدير املدرسة وموجه املادة على تنفيذ درس توضيحي خاص بتوظيف التخيل واللعب واألحداث اجلارية في تدريس اللغة العربية ،ومت اإلعداد للدرس وسيتم تنفيذه قريباً. فطلبت من كل طالب أن يكتب ما لم أنس التعبير الكتابي والرسم، ُ يروق له عما حدث أثناء العدوان أو عن الشهداء الثالثة أو أحدهم: ِذكر ما جرى ،املشاعر واألحاسيس ،األمنيات والتطلعات ...كما طلبت منهم أن يرسموا ما يروق لهم حول هذا املوضوع ،وقمنا بتعليق ُ رسومات الطالب على جدران الفصل. ونظمت لطالب الفصل رحلة ترفيهية عالجية ملركز القطان للبحث ُ والتطوير التربوي يوم االثنني 23شباط ،2009حيث قامت د .مي نايف بإدارة أنشطة تراوحت بني احلديث الشفوي والتعبير الكتابي وبعض األنشطة احلركية ،أعقب ذلك مشاهدة فيلم محلي واقعي بعنوان «اجلواهر الثالث« للمخرج ميشيل خليفي ،شد انتباه الطالب وأخرجهم من دائرة الكبت واحلزن. وأخيراً ،ال بد من كلمة في هذا املقام ،فبالدنا تتعرض بني كل فترة ٍ ومآس ِجسام ،وال يبدو في األفق أن هذه األحداث وأخرى ألحداث واملآسي ستنتهي ،أال يدعونا ذلك ألن نخطط جيد ًا من اآلن ملا يجب القيام به قبيل وقوع األحداث ،وما يجب عمله أثناءها ،وكيف نتصرف بعدها ،ونوحد الطاقات ،ونوفر اإلمكانات الالزمة لذلك ،حتى نتجنب ما أمكن من اآلثار السلبية ملثل هذه األحداث على طالبنا خاصة ،وعلى أبناء شعبنا عامة؟ أرجو ذلك. بسام حسني صاحلة مدرسة الفاخورة -مخيم جباليا * الصور الواردة في هذة املقالة مستلّة من أرشيف صحيفة «األيام» الفلسطينية.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
متالكت نفسي على الرغم من أنني أعاني ما يعانيه طالبي ،وقررت ُ أن أعمل شيئ ًا ُيخرج هؤالء الطالب من هذا اجلو الكئيب ،وأجعلهم يفرغون تلك الشحنة العظيمة من الكبت التي متأل عقولهم وقلوبهم. أحضرت طلبت من الطالب إزاحة املقاعد ورصها في أطراف الغرفة ،ثم ُ وجلست أنا والطالب سوي ًا حصير ًة كبيرة وفرشتها في وسط الغرفة، ُ عليها ،وجلسنا نتحدث عن هؤالء الشهداء حديث ًا حر ًا كما لو كان تداعي أفكار ،ثم انتقلنا إلى احلديث عما جرى لكل طالب أو ألسرته أو جيرانه أو أقاربه أو أصدقائه بعفوية مطلقة ،مع بث التشجيع وعدم الضعف أو اخلور لدى الطالب .وأثناء هذا احلديث ذي الشجون ،كنت قد أرسلت طالبني إلى محل بيع الفالفل املجاور للمدرسة ،لشراء اخلبز والفالفل جلميع طالب الصف ،وما أن أفرغ الطالب جزء ًا من الشحنة التي بداخلهم حتى وصل اخلبز والفالفل ،وجلسنا نأكل جميع ًا في جو
107
عبر َ اخلَيَال جَتلِّ ُ يات اإل ِبداعِ َ
108
أمني دراوشة
عنوان الكتاب
اخليال ..من الكهف إلى الواقع االفتراضي
اسم املؤلف
د .شاكر عبد احلميد
الناشر
الكويت :دار املعرفة2009 ،
عدد الصفحات واحلجم
515صفحة من القطع املتوسط
«العقل ال ميكنه أن يعمل دون خيال». «وما اخليال في جوهره إال تفكير في البدائل األخرى للواقع، وكذلك الراهن والراكد واملقيم واآلسن من األمور». إن ما يقوم به الكتاب هو محاولة استكشاف لبعض جوانب اخليال، بأي طريقة نظر إليه اإلنسان ،وكيف فسره عبر التاريخ .فال أحد ميكنه «أن يحيط باخليال ،إنه دائم ًا يرفرف بجناحيه ويهرب من كل محاوالت اإلحاطة والتحديد .إنه طائر حر غالب ًا ما ارتبط باإلبداع واحلرية واملستقبل وجوهر الوجود اإلنساني» (ص.)10:
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
اخليال ومفاهيمه إن اخليال ال ميكن أن يرتبط إال باحلركة ،ال بالسكون ،بحركة أجنحة الطيور ،واألحصنة املجنحة .احلركة من وضع إلى وضع ،من حالة إلى حالة ،احلركة كما تصورها أينشتني وموتسارت ،حركة الطفل وهو يجاهد ويناضل لينمو حتى يصبح إنسان ًا كبير ًا مبدعاً. لقد فسر فرويد أحالم الطيران ،تفسير ًا جنسياً ،أما يوجن فقد فسرها بدوافع الطموح والتفوق املوجودة في الالوعي اجلمعي اإلنساني. أما الشعر فال يقوم إال على االستعارات والصور ،فما الشعر إال دفق حر
للمشاعر امللتهبة احلاملة الطائرة. حلم دافينشي بالطيور والطيران ،بل حاول أن يصنع منوذج ًا مبكر ًا للطائرة ،وكم يسعد األطفال بطائراتهم الورقية ،احمللقة ،يفرحون، يتقافزون ويحدقون في السماء ويصنعون املستقبل باحللم. فاخليال الركن األساسي في النشاط اإلنساني ،وهو الذي ساعد اإلنسان على استكشاف العالم ،ومحاولة السيطرة عليه. أما أقدم اإلشارات على وجود اخليال اإلنساني ،فهي رسوم الكهوف، وهي رسوم سبقت األساطير ،وذلك الن الصورة سبقت اللغة الشفهية، اللغة التي سبقت اللغة الكتابية .وما ذلك إال «أحالم وكوابيس قدمية، لكننا لم نعرفها إال عندما جسدها اإلنسان القدمي في رسومه وأساطيره» (ص.)22: كانوا يرسمون ما جاء في عقولهم من صور ،خالل حاالت الوعي املتغيرة املتعلقة بهم ،يأتون بالرؤى املؤثرة ،يحاولون اإلمساك مبا شاهدوه في أحالمهم وهلوساتهم .لكن ماذا عن اخليال من جانبه اإلبداعي املوجه في اآلداب والعلوم والفنون والتربية .إنه يسير نحو نظامه اخلاص في إنتاج إبداعاته التي كونت مسيرة التقدم البشرية حتى وصلنا إلى ما يعرف باسم :الواقع االفتراضي.
إن الكتاب سيحاول أن يقدم إجابات عن الواقع االفتراضي.
الواقع االفتراضي إنه الواقع الذي يحاكي الواقع احلقيقي ،ولكن عن طريق «عمليات إلكترونية رقمية ترتبط بعالم الكمبيوتر والشاشات واألدوات التكنولوجية املتقدمة» (ص .)28:إن عوالم الكمبيوتر هي عوالم بصرية قريبة للواقع ثالثية األبعاد ،يتأثر ويتفاعل اإلنسان خاللها ،بواسطة احلركة ،واللعب في بيئات افتراضية كاملعارك العسكرية وأعماق البحار والغابات . ...فالفن االفتراضي مثالً ،هو «النشاط الذي يسمح لنا، ومن خالل التفاعل مع التكنولوجيا ،بأن نستغرق بأنفسنا ونندمج في الصورة وعاملها ،وأن نتفاعل معها أيضا» (ص.)29: إن الواقع االفتراضي يؤثر على مستخدميه بتأثيرات واقعية ،على الرغم من كونه ليس واقعاً.
اخليال هو العقل العابر للحدود ولكن ما هو معنى اخليال في اللغة العربية؟ ٍ وخيل للخيال معان كثيرة في اللغة العربية ،فقد يعني :الظن ،والظلّ ، شبه .وأخال الشيء :اشتبه .فاخليال قد يعني الظل الدال على عليهّ : صاحبه أو الصورة الدالة على صاحبها ،ومن البديهي القول إن هناك خلط ًا وعدم متييز بني اخليال والتوهم .فالوهم في لسان العرب يدل على اخليال مبعنى التخيل أو االعتقاد .ولكن بشكل عام يرتبط التخيل بحالة عقلية والتوهم حالة مرتبطة باإلحساس. ويعرف قاموس أكسفورد الفانتازيا أو التخيل بأنه« :حلم يقظة ينبعث نتيجة للرغبات أو االجتاهات الشعورية أو الالشعورية ،إنها العملية أو امللكة اخلاصة بتكوين التمثيالت العقلية لألشياء التي ال تكون موجودة فعال» (ص.)45: أما املتخيل حسب الكاتب ،فهو «موضوع التخييل في حالة ما إذا كانت عالقتنا باملتخيل أكثر حرية ،وهو كذلك موضوع اخليال في حالة ما إذا كانت عالقتنا باملتخيل أكثر حرية ،وهو كذلك موضوع اخليال في حالة ما إذا كانت عالقتنا باملتخيل أكثر انضباط ًا وحتديد ًا وتبلوراً» (ص.)47: واملتخيل قد يكون فردي ًا أو جماعياً ،ومتعلق ًا بحالة سوية أو مرضية.
وبشكل عام ،يكون العمل اإلبداعي ،محصلة للتخيل واخليال ،واخليال مرتبط بالنظام والتكنيك ،والتخيل مرتبط باحلرية النسبية ،واملبدع احلق يجسد عمليتي التخيل واخليال في عمله. هو من ّ
أنواع اخليال
109
«ليس حضور اخليال هو العيب ،العيب في غيابه أو محاربته من جانب «أعداء اخليال»». قال أرسطو« :ال توجد رغبة دون خيال». يورد د .شاكر عبد احلميد سبعة عشر نوع ًا من اخليال ،وهي: .1اخليال االجتماعي :ويتحدث عن الكيفية التي يفهم بها الناس ما يدور في العالم اخلارجي. .2املتخيل الثقافي :عن الكيفية التي ترى بها ثقافة معينة العالم ،وترى نفسها أيض ًا وسط هذا العالم. .3اخليال السياسي :ويرتبط بقدرة الساسة على طرح البدائل للخروج من أوضاع راكدة. .4اخليال اجلغرافي. .5اخليال التاريخي :عن الكيفية التي يستطيع بها املؤرخ أن يكتب عن املاضي الذي لم يعشه. .6اخليال االقتصادي. .7اخليال البدني الرياضي. .8اخليال األدبي :املتعلق بخيال الصور األدبية واملجاز اللغوي واالستعارات. .9اخليال التشكيلي. .10اخليال املوسيقي. .11اخليال االنفعالي. .12خيال التفاصيل وتفاصيل اخليال. .13اخليال الفلسفي املتعلق بالتأمل والتحليق ،وذلك من خالل اخليال النافذ إلى النفس البشرية واحلياة والفنون وغيرها. .14اخليال التطبيقي القائم على أساس التجريب والتدريب وحرية التفكير والتقييم بعيد ًا عن اخلوف من العقاب والفشل. .15اخليال التجريبي. .16اخليال التجريدي :وهو مرتبط بالعلم واألدب والفن. .17خيال العتمة وخيال الضوء :فاخليال قد يعبر عن األحالم واآلمال، أو الفزع والكوابيس واخلوف.
ويضيف أن اخليال ما هو إال «طريقة لالستكشاف والتجوال العقلي على نحو إرادي مرن واحتمالي والعب بالبدائل خالل العوالم اخلاصة بالصور ،واخليال في جوهرة عملية حتويل للصور ،وعلى عكس احلال في االعتقاد الذي يكون إما صحيح ًا وإما خاطئاً» (ص.)50:
وفي الفصول املقبلة سيكون هناك بعض التحليق والرفرفة.
فاخليال ال يهتم كثير ًا بأمور اخلطأ والصواب والصدق والكذب، إنه أكثر حرية ورحابة .وهو العملية الكلية التي حتتوي على التخييل والتخيل واملتخيل والعالم املتخيل الذي جتول فيه عملية التخيل بحرية ال محدودة في البداية.
«عن طريق العقل واملنطق ،منوت كل ساعة ،لكن من خالل اخليال نحيا» (كيتس ،ص)79: «هو أيض ًا جوهر الفن والفلسفة والوجود اإلنساني» (دريدا ،ص)82:
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
وستبقى أجنحة اخليال ترفرف و”تواصل طريقها ،دوماً ،صعود ًا وهبوطا ،مينة ويسرة ،في ضوء الشمس وبني طيات الظالم ،وهي دوم ًا لم ولن تكف أبد ًا عن التحليق والرفرفة” (ص.)90:
خيال األطفال 110
«حتى عندما متشي الطيور على األرض ،فإننا نعرف أن لها أجنحة». فيكتور هوجو يتناول عبد احلميد في الفصل الثاني من دراسته اخليال عند األطفال، حيث يظهر اخليال عند األطفال بشكل جلي بعد سن الثانية ،وينتج حسب رأي عالم النفس الروسي فيجوتسكي نتيجة اإلحباط الذي يحس به األطفال عندما ال ُتشبع رغباتهم املباشرة .فاألطفال حديثو الوالدة يحتاجون إلى اإلشباع الفوري ،ومع منو الطفل يحدث هناك تغيرات ،فرغبات الطفل وأمانيه تصبح أكثر تركيباً ،ومسألة حتقيقها بشكل مباشر تصبح أقل قابلية للتحقيق ،وقد ال تتحقق رغباته على اإلطالق .فمن املمكن أن يرغب الطفل في ركوب حصان ،ولكن ال ميكن حتقيق رغبته ،فيصبح غاضباً ،ويحس باإلحباط عند منعه من ذلك من قبل والديه .وعندما يحس األطفال بتلك الفجوة املثيرة ( )Frustrated gabبني ما يرغبون ويحتاجون له ،وبني اإلشاعات املتحققة لهذه الرغبات واحلاجات ،يتطور اللعب اخليال ،فالرغبات غير القابلة للتحقق في الواقع ،ميكن حتقيقها في عالم اخليال .ويصبح بإمكانهم تخيل عصا ما كأنها حصان ميتطونه ...الخ.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
يصرف األطفال إحباطاتهم وتوتراتهم، ومن خالل اللعب اخليال ّ ويتحررون نسبي ًا منها ،ومع مرور بعض الوقت يكون الطفل قادر ًا من خالل اخليال أن يضع نفسه مكان اآلخرين ،والعكس صحيح، فيما يسمى لعبة تبادل األدوار ،وميكن أن يستخدم الطفل األشياء واملوضوعات ،التي تسمى في عالم املسرح “امللحقات املهمات املسرحية ( )Propsكمعينات مساعدة للخيال ،إنها موضوعات انتقالية
يتعلق الطفل بها وتساعده على العبور إلى عالم اخليال ،إنها ال تكون لها املعنى نفسه في عالم الراشدين ،بل تكون رمز ًا وتعبير ًا عن شيء ما مفقود” (ص ،)92:ومنها اللعب اخلشبية والعصي وغيرها ،ولذلك نرى الطفل يستخدم األحجار الصغيرة كبدائل للنقود ،واملكعبات في بناء منازل متخيلة ...وهكذا. يتبني اخليال عند األطفال في شتى اجلوانب ،في ألعابهم ،وفي كالمهم، وفي رسوماتهم ،وفي قصصهم .وسوف نتطرق تالي ًا إلى بعض جتليات اخليال عند األطفال كما وردت في الكتاب. األطفال واللعب :يعتبر اللعب ركن ًا أساسي ًا في حياة األطفال ،وبخاصة عندما يكونون متحررين من احلاجة الفورية للطعام ،أو االبتعاد عن أخطار تهدد حياتهم .وحتدث العالم السويسري بياجيه عن وجود مراحل أساسية للعب ،هي :لعب املمارسة ،اللعب الرمزي ،األلعاب ذات القواعد. ويعتبر لعب احملاكاة من أكبر األشكال املرتبطة بلعب املمارسة، ويتضمن ألعاب ًا حتدث املتعة .فمنذ الوالدة وحتى عمر السنتني ،يكشف الطفل عن قدر كبير من احملاكاة لآلخرين ،أو لنفسه ،في سلوكه ،من غير فهم واضح ملا تعنيه هذه احلركات .فاألطفال يحاولون االستكشاف من خالل اللمس واألصوات واملشاهدة ،ويتذوقون األشياء وميضغونها ويشمونها ويلعقونها ويقبلونها ،ويلعبون بها ،ثم يرمونها أرضاً ،أو يضعونها بعيد ًا عنهم. هذا االكتشاف بأن األشياء تسقط ،تشعر األطفال بالبهجة والفرح، فيشعرون بقوة جديدة .فاللعب هو خبرة مستمرة للتعلم ،وتعتبر محاكاة تعبيرات الوجه واللعب باأليدي واألصابع جميعها أمثلة للعب
مشهد من مسرحية «الناي السحري» ملجموعة متثيل دراغون في مسرح احلرية في جنني.
املمارسة .وهو توطئة للعب الرمزي كما يقول بياجيه. وينتقل الطفل بنموه من عوالم على أساس اللعب والدمى إلى عوالم تقوم على أساس الهندسة واالقتصاد والسياسة واإلعالم ،وبذلك ينمو الطفل ،ويتطور ،مع كمية املواد واملعلومات التي ميتصها من العالم الواقعي ،ونقلها إلى عامله املتخيل. لكن العالم فيجوتسكي ،خالف بياجيه مبا يطرحه ،وقال“ :إن السلوك اإليهامي املبكر ليس محاكاة رمزية ،لكنه سلوك ميهد الطريق إلى الفهم الرمزي ،فخالل السلوك اإليهامي يخلق الطفل موقف ًا متخيالً ،فيه “تفقد األشياء قوتها احملددة اخلاصة ،إلى درجة أن الطفل يبدأ في األداء على نحو مستقل عما يراه” (ص.)95: وهذا األداء اخلاص يعلم الطفل أن يوجه سلوكه ليس فقط من خالل اإلدراك املباشر لألشياء ،أو املوقف الذي يؤثر فيه بشكل مباشر ،بل من خالل املعنى اخلاص بهذا املوقف. وشرع فيجوتسكي بعد ذلك ،يقدم حتليله اإلبداعي اخلاص عن الكالم املتمركز حول الذات ،حيث قال “هذا الكالم يعكس ميل الطفل أو نزوعه اخلاص ،وبخاصة عندما يكون منهمك ًا في التخطيط أو محاولة التغلب باحليلة على عقبة ما ،إلى أن يفكر بالكلمات ،وأن املصير الذي يلحق بعد ذلك مبثل هذا النوع من الكالم ...يصبح متوجه ًا إلى الداخل ،ويصبح ضمنياً ،يصبح كالم ًا داخلياً” (ص .)97:ذلك حلظة أن يفصل الطفل بني الكالم املوجه نحو التخاطب مع اآلخرين ،والكالم املوجه من أجل خدمة التفكير الذاتي الداخلي“ .إنه نوع من احلوار احلر اخليالي املرن اإلميائي مع الذات في ذلك ،مقابل احلوار مع اآلخرين ،الذي ينبغي أن يكون واقعي ًا ومنطقياً ،أو يتظاهر -على األقل -بأنه كذلك” (ص.)97: ومن خالل حديث فيجوتسكي ،وحتليله ملسار الكالم املتمركز حول الذات ،فإن اإليهام بالنسبة له ،ليس وظيفة سيكولوجية يتم كبتها وقمعها أو إخمادها خالل املسار اخلاص بالنمو. وأظهرت دراسة حلاالت مرضية ألطفال مبراحل مبكرة أن غياب اخليال املبكر ،وليس وجوده ،هو ما يدل على املرض .فمن األعراض املرضية ملرض التوحد ،نرى الغياب الواضح للعب التظاهري ،فالطفل املتوحد ال يتواصل مع اآلخرين ،ويكرر حركات منطية ثابتة.
واإليهام يعتمد على التظاهر واللعب واملراوغة ،ويجلب املتعة ،ويطور السلوك ،وال يكون بهدف املراوغة ألغراض نفعية أو اخلداع ،كما في حاالت الكذب والتحايل وما إلى ذلك.
فما هو اإليهام؟ اإليهام هو «نوع من النشاط العقلي واحلركي واالنفعالي الذي يقوم
111
وقد يقدم اللعب اإليهامي املساعدة لألطفال وحتى للكبار على مواجهة املشكالت التي يصادفونها في حياتهم الواقعية .ويقدم فرصة لنا ملمارسة األدوار التي نقوم بها أو نتمنى أن نصل إليها بحياتنا مثل لعب دور الطبيب أو القائد أو األم . ... ويجعل اإليهام املرء يتعاطف مع اآلخرين ويفهمهم نتيجة قيامه بأدوارهم ،ويساعد في فهم مشاعرنا اخلاصة وأحالمنا وإخفاقاتنا نتيجة مشاهدتنا لهذه األدوار اإليهامية .وينتج عن ذلك توسيع آفاقنا اإلنسانية ،ويجعلنا أكثر توافق ًا مع أنفسنا وواقعنا.
امللحقات والشروط التعاقدية امللحقات مأخوذة من عالم املسرح ،وتنقسم إلى :ملحقات يدوية يستخدمها املمثل مثل املنديل والكتب واملسدس ،...ملحقات املنظر مثل مطفئة السجائر ،ملحقات التزيني مثل الصور املعلقة والستائر. ويستعني األطفال بامللحقات في تنشيط لعبهم اإليهامي ،مثل استخدام العصا في اللعب ،وتخيلها حصان ًا ميكن ركوبه .ومن املهم بالنشاط اإليهامي «أن يتفق على الشرط ،أو اشتراط أولي على استخدام أحد امللحقات بطريقة إيهامية معينة ،وفي ضوئها ينشأ السلوك ،أما إذا رفض مثل هذا الشرط أو االشتراط فإن النشاط اإليهامي سيتوقف» (ص.)107: وفي دراسات اخليال يعرف ذلك باإليقاف املؤقت للحكم العقلي املنطقي أو حالة عدم التصديق .وعندما يصبح الطفل أكبر ،تصبح األلعاب البسيطة املنفصلة مركبة ومتكاملة في لعبة مميزة ،ومع النمو يستطيع الطفل أن يدخل اآلخرين قي األلعاب املركبة ،ويلعب أدوار ًا وأدوار ًا معاكسة. ومييل األطفال في سن الرابعة واخلامسة إلى تركيز ألعابهم حول هدف معني ،فإذا لعبوا لعبة القراصنة ،فإن اللعب يتركز حول اكتشاف مكان الكنز املفقود أو املسروق ويتضمن اللعب التهيؤ على إعداد املالبس املناسبة للعبة وصناعة السفينة ...وجميعها أنشطة متكاملة ومتعددة األدوار .ويتضمن اللعب أيض ًا موضوعات متخيلة ،كالوصول إلى الكنز واالحتفال بالنصر.
لعب الدور اإليهامي يظهر اللعب عند سن الثانية وما بعدها ،ويتبنى الطفل من خالله أدوار ًا مختلفة ،لكنها مترابطة ،مثل دور األم وطفلها أو سائق احلافلة ،وهو من أشكال التعامل بني األطفال األصدقاء .وهذا النوع من اللعب يدل على الصداقة والتوجه نحوها .والتعاون في هذه األلعاب يحتاج إلى املرونة.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
لذلك علينا أن نسأل دوم ًا عن الدور املهم لإليهام في األنشطة االجتماعية واملعرفية السليمة لدى األطفال والكبار على حد سواء.
على أساس اخليال الذي يسقط على نحو مقصود على شيء ما» (ص .)101:واإليهام يعني أيض ًا استعمال امللحقات في نشاطات خيالية ،فتصبح امللحقات موضوعات للتخيل ،فالعصا تصبح فرس ًا يركبه الطفل.
112
ويقول عبد احلميد إنه «ينظر إلى األطفال الناجحني واملشاركني بفاعلية في مثل هذا النشاط من جانب زمالئهم على أنهم محبوبون ،ومن جانب مدرسيهم على أنهم اجتماعيون بدرجة عالية» (ص.)109:
أما بالنسبة للفترة الزمنية ،فإن بشر اخليال وحيواناته ،يتفاوتون في املدة الزمنية ،فمنهم من يبقى فترة زمنية طويلة ساكن ًا في خيال الطفل ،ويكون رفيق ًا حلو املعشر ،وآخرون يسكنون لفترة زمنية قصيرة وعابرة.
ويورد عبد احلميد تعريف العالم هاريس ملعنى لعب الدور ،بأنه «لعب إيهامي يقوم خالله الطفل ،وعلى نحو مؤقت ،بأداء الدور اخلاص بشخص آخر ،وباستخدام أفعال وأقوال إيهامية أو متخلية» (ص.)109:
وميكن أن يزدحم خيال األطفال بالكثير من الكائنات (بشر وحيوانات)، يذهب بعضهم ليحل غيرهم محلهم .وقد يكون اخليال مزدحم ًا لدرجة كبيرة يتضمن مجموعة من القطط أو جيش من سكان املريخ .والبعض ليس لديه سوى رفيق واحد أو اثنني .ولكن حسب الدراسات ،فإنه على األغلب يوجد لدى الطفل رفيقان أو أكثر قليالً.
وليس بالضرورة أن يحدد الطفل الدور اخلاص به هنا ،إذ أن املرحلة الصريحة إمنا تظهر بعد ذلك في سن الثالثة أو الرابعة .ولكن هنا يجب أن نستدل على الدور الذي يلعبه الطفل من خالل األنشطة اإليهامية التي يقوم بها أو موافقته لالقتراحات التي يقدمها العب آخر مشارك معه. وهناك العديد من املظاهر التي تدلل على نشاط اخليال عند األطفال ما بني اللعب اإليهامي ،ولعب الدور ،وسماع القصص ،وغيرها .ولكن هناك ظاهرة ملفتة لالنتباه درسها العلماء ،وتتعلق مبا يسمى بالرفيق اخليالي.
الرفيق اخليالي ميارس األطفال النشاط اإليهامي اخلاص بلعب الدور بني سن الثانية والثالثة ،وهو عادة يكون نشاط ًا مؤقتاً ،ففي أي حلظة قد يتخذ األطفال دور الطفل الرضيع ،أو البطة األم . ... ولكن بعض األطفال يبدأون مبمارسة نوع محير من النشاط اخلاص بلعب الدور ،فهم يلمحون إلى وجود كائن متخيل هويته ثابتة ومستمرة معهم عبر شهور عدة ،ويتم استحضار ذلك الكائن بطريقة منتظمة، بحيث يصبح رفيق ًا مالزم ًا للطفل.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ويورد الكاتب تعريف الباحثة سفيندسون للرفيق اخليالي بأنه «الشخصية غير املرئية التي يطلق عليها الطفل اسم ًا خاصاً ،ويشير إليها خالل محادثاته مع اآلخرين أو يلعب معها مباشرة فترة من الزمن ،على األقل عبر شهور عدة ،ويكون لها حضورها الواقعي بالنسبة إلى الطفل ،ولكن من دون أساس واقعي موضعي واضح أو مشاهد» (ص.)112: وكان االعتقاد السائد سابق ًا أن األطفال الذين لديهم رفيق خيالي غير أسوياء أو يعانون من اضطرابات سلوكية اجتماعية ،ولكن دراسة لألمريكية مارجوري تايلور أثبتت أن ال فروق دالة في الشخصية أو احلالة املزاجية بني األطفال الذين يخترعون الرفيق اخليالي ،والذين ال يفعلون ذلك.
لكن من يشغل احلياة اخليالية لألطفال؟ البشر واحليوانات ،ويكونون متفاوتني في مدى تطور شخصياتهم وحيويتهم ،وكذلك بعدهم أو قربهم من العالم الواقعي .فالبعض قد يتخذ صورة شخص مقرب منه في العالم الواقعي ،والبعض اآلخر يستخدم شخصية خيالية من فلم كارتوني أو من كتاب ...
ويضفي األطفال على بعض الدمى واحليوانات ،شخصية ثابتة نسبياً، ويعاملها كما لو كانت واقعية «فيتحدث إليها ويختلق لها صوت ًا خاص ًا بها ،ويوجهها أو يستشيرها حول بعض املشكالت» (ص.)115: وحسب الدراسات ،فإن الرفيق اخليالي القائم على أساس لعبة ،ميكن أن يختلف عن اللعبة الواقعية ،فيكون أكبر حجم ًا وأكثر ألوان ًا وحركة ...والدراسات املبكرة التي تناولها الكتاب ،تشير إلى «أن النسبة املئوية لوجود ظاهرة الرفيق اخليالي هي %13.4فقط بني األطفال، أما الدراسات التالية فقد ارتفعت بهذه النسبة إلى ... %65والسبب الرئيسي هنا هو أن البحوث املبكرة كانت تستبعد احليوانات احملشوة واللعب الواقعية من أن تكون موجودة ضمن هذه الظاهرة العامة بالرفيق اخليالي» (ص.)116: والدراسات املستمرة حول املوضوع ،تضع هذه األشياء ضمن ظاهرة الرفيق اخليالي .وتناول عبد احلميد في كتابه بعض اخلصائص املميزة لألطفال الذين يبتكرون رفقاء خياليني ،وهي: .1اخلصائص الشخصية :والدراسات املبكرة حتدثت عن أن هؤالء األطفال يكونون ذوي مزاج عصبي وال يتحملون املسؤولية، ومييلون إلى أن يكونوا في الظل ،لكن الدراسات احلديثة أثبتت عكس ذلك. .2تركيز االنتباه :يكون لدى هؤالء األطفال قدرة على تركيز االنتباه أكثر من غيرهم. .3الذكاء :ميتازون بالذكاء الشديد. .4اإلبداع :أشارت بعض الدراسات إلى أن هؤالء األطفال يكونون أكثر إبداع ًا من غيرهم. .5اخللفية األسرية :تكثر الظاهرة لدى األطفال الوحيدين ،الذين ليس لديهم أخوة ،ولكنها حتدث أيض ًا في األسر التي لديها أكثر من طفل. .6مشاهدة التلفزيون :هؤالء األطفال يشاهدون التلفزيون أقل من غيرهم من األطفال ،وذلك ألن وظيفة التلفزيون تشبه وظيفة الرفيق اخليالي ،فكالهما يقدمان الصداقة واملتعة. .7ويدلل ذلك على األضرار السيئة التي يحدثها التلفزيون على اخليال. .8النوع أو اجلنس والرفيق اخليالي :حتدثت بعض الدراسات على أن البنات لديهن بشكل أكثر من األوالد ظاهرة الرفيق اخليالي .ولكن دراسات أخرى أشارت إلى أن ذلك يكون في األعمار املبكرة ،ألنه
كلما زاد العمر زادت أعداد األوالد الذين لديهم هذه الظاهرة. .9اجتاه الوالدين نحو اخليال :تشجيع الوالدين للسلوك اخليالي يعززه لدى األطفال ،والعكس صحيح. .10العمر :على األغلب يكون عمر الرفيق اخليالي وحجمه ونوعه مساوي ًا للطفل الذي يبتكره. ويكون الرفقاء اخلياليون سعداء وأطفا ً ال محبوبني ،ويقومون بأفعال مضحكة وغريبة وسخيفة أحياناً. ويقول عبد احلميد :إن ظاهرة الرفيق اخليالي تستمر أحيان ًا شهور ًا عدة عند البعض ،ولكن عند البعض اآلخر قد تستمر سنوات عدة .ولكنها ظاهرة تختفي يوم ًا ما .وهي مسألة تتعلق بفقدان االهتمام “وحتول نشاط اللعب نحو أمور أخرى ورفقاء آخرين أكثر واقعية ،مع تزايد األحداث واخلبرات امللموسة احملسوسة” (ص.)120: فعند سن التاسعة أو العاشرة ،تذهب بعض األنشطة اخليالية لألطفال إلى أكبر من ظاهرة الرفيق اخليالي إلى العوالم اخلفية أو املجتمعات املتخيلة.
العوالم اخلفية أو املجتمعات املتخيلة وهي مجتمعات إما تكون موجودة وإما يتم ابتكارها لتعيش فيها كائنات خيالية .وتناول الكتاب ما قام به الكاتبان روبرت سيلفي وستيفن ماكبث ،حيث قاما بجمع 64دراسة حالة تشتمل على مجتمعات متخيلة ،ابتكرها 61من الراشدين و 3من األطفال ،نصفهم ذكور والنصف اآلخر إناث.
وميز بعض الباحثني بني ظاهرة الرفيق اخليالي وظاهرة املجتمعات املتخيلة من حيث أن األولى تتعلق بفرد واحد أو اثنني ،وتنسى بسرعة، بينما الثانية أكثر تفصيالً ،وتضم كائنات كثيرة ومتنوعة ،ويتم تذكرها لسنوات طويلة.
113
كما ترتبط ظاهرة الرفيق اخليالي أكثر بالطفولة املبكرة من 6-2سنوات، بينما املجتمعات املتخلية تكون في مرحلة وسيطة ومتأخرة من 12-6 سنة.
اخليال االفتراضي التكنولوجي واألطفال يشير عبد احلميد في الكتاب إلى بعض الدراسات احلديثة ،التي تتحدث عن فائدة ألعاب الفيديو احلديثة ،بكونها تنمي لدى األطفال مهارات عدة ،منها اتخاذ القرارات ،وحل املشكالت ،والتفكير الناقد، واإلبداء ،واملثابرة أيضاً ،وكل ذلك في جو خيالي مليء باملتعة واإلثارة، نتيجة تتابع الصور واألحداث السريع ،لكن -حسب رأي الكاتب -كل هذا يحدث لدى الطفل انفصا ً ال عن الواقع ،ويجعله يعيش في عالم خيالي ،في وقت عليه أن يعد نفسه لدخول العالم احلقيقي. عدا عن العنف والقسوة املوجودة باأللعاب ،التي معظم األبحاث واألسر تعترض عليها ،وال تهتم وال تعترض على اجلانب االنسحابي، والهروب من الواقع الذي يعيشه الطفل داخل هذه األلعاب.
واهتم الكاتبان أساس ًا بتلك العوالم اخلاصة التي: .1يتعرفها األطفال على أنها خيالية بشكل ال شك فيه. .2تستأثر باهتمام الطفل فترة طويلة من الزمن. .3لها أهمية عظيمة لدى الطفل ،ويستمر اهتمام الطفل بها فترة طويلة.
ورشح عن الدراسة معلومات مهمة منها: .1عمر الذروة في خلق العوالم املتخيلة هو سن التاسعة .%74 %19 .2منها مت خلقها ما بني سن الثالثة والسادسة. %7 .3منها مت خلقها ما بني سن .16-13 .4في بعض العوالم حرص بعض األطفال على مشاركة الكبار فيها، والبعض اآلخر اعتبرها أمور ًا خاصة به.
من فعاليات مدرسة غزة للموسيقى.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
وكان هناك تنوع في هذه املجتمعات املتخيلة التي جاءت في األفكار املقدمة« :فمن بني احلاالت األربع والستني التي درسوها ،كانت هناك سبع عشرة حالة تتعلق بأماكن سحرية (أنشئت بفعل السحر) ،وكان هناك خمسة وأربعون مكان ًا طبيعي ًا أيضاً ،ثم كان هناك مكانان ميزجان بني األماكن الطبيعية واألماكن املسحورة ...وبعض العوالم التي تقوم على أساس وجود لعبة أو دمية ( »..ص.)121:
114
والكثير من ألعاب الفيديو «تشبه الرعب الليلي ،مع فارق واحد كبير، هو أنها تسمح ملستخدمها أن يهاجم من يهاجمه ...وليس هناك من حاجة إلى أن يظل عرضة دائم ًا للهجوم ،هنا نوع من األمن واألمان ال يتوفر في أثناء النوم الليلي» (ص.)124:
باحملاكاة ،وتشتمل احملاكاة «على تكوين للصور في سلسلة من األحداث التي ميكن أن حتدث في احلياة الواقعية ،وهي قادرة كذلك على حتويل احلاالت اجلسمية إلى صور عقلية ،وعلى ترجمة صور األحالم أيض ًا إلى أنشطة ال شعورية وال إرادية» (ص.)158:
هناك شواهد كثيرة تدلل على أن الطفل يعي ويدرك أن هناك عاملني؛ أحدهما واقعي ،واآلخر خيالي ،لكنه يشعر بصالت معينة بينهما. وعندما يصل الطفل إلى التميز داخل املستوى اخليالي بني عاملني «عالم واقعي ومدرك وعالم متخيل وغير مرئي ،ومن ثم يكون هذا الوعي بتعدد مستويات الواقع هو البداية احلقيقية لإلبداع» (ص.)128:
وعندها يقوم اخليال بالتحرر من مهامه العادية واالبتعاد عنها .وهنا نقترب من مفهوم عملية اإلبداع التي ظهرت خالل القرن املاضي .إن اخليال منذ أرسطو حتى كانط ،ما هو إال نشاط حر «ولكن ليس على نحو مطلق كما أشار بيكون ،وقد استمر األمر هكذا حتى وصلنا إلى ما يشبه اإلجماع على أن اخليال هو نوع من املمارسة للحرية العقلية .وأن هذه املمارسة تتم بطرائق عدة» (ص.)183:
فالسفة اخليال «فما أوسع حضرة اخليال ،وفيه يظهر وجود املجال، بل ال يظهر فيها على التحقيق إال وجود اخليال». محي الدين بن عربي كان للخيال في اعتقاد أفالطون دور غامض يقوم به بني اإلحساس والتفكير املجرد ،ودور ًا محدد ًا ومحاط ًا بالظنون والشكوك ،إنه نوع من الصور املوجودة في املخ ،التي لها عالقة «بوعينا بالصور العقلية اخلاصة ،مبا ننظر إليه في العالم الواقعي ،وحتى عندما ننغمس في أحالم اليقظة أو نتصور عقلي ًا خطة للمستقبل ،فإن التخيل «الفانتازيا» ينشأ في عقولنا ،هنا ،لكنه يكون أيض ًا مجرد حاالت مصاحبة للتفكير» (ص .)138:بينما ظلت الصور لدى أرسطو تعبر عن بقايا خلبرتنا احلسية ،أو تعمل بوصفها صوراً ،نسخ ًا من الصور التي حتاكي األصل الواقعي ،وليس املثالي كما تصور أفالطون .صور أكثر ثبات ًا وصدقاً ،ال كما يصفها أفالطون نسخة من نسخة أخرى من أصل. إن الصور كما عبر عنها أرسطو قد «تساعد على احلدس ،احلقيقة اجلوهرية املوجودة في األشياء الواقعية .والصور والتخيل هنا ال ينتجان املعنى ،لكنهما ميثالن الواقع أمام العقل بأصدق شكل ممكن» (ص.)144:
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
فاخليال يجب أن يظل خاضع ًا للعقل كما يتصور أرسطو .واحلقيقة إنه ينسب ألوغسطني الفضل في حترير مفهوم اخليال من الدالالت السلبية املصاحبة له ،وعن «ذلك الربط الوثيق ورمبا الوحيد بينه وبني اإلدراك احلسي» (ص.)152: فأوغسطني هو الذي قال «إن ما نراه يعتمد على املدى الذي ننظر عنده إليه» (ص .)152:فعندما تشتد الرغبة التي من خاللها ننظر إلى شيء أو ننتظره ،فإننا ميكن أن نخلط بني الصور الواقعية له والصورة التي نخلقها نحن حوله .وهذا قد يؤدي إلى ظهور الهلوسات ،أو استجابات جسمية متطابقة مع االستجابات التي حتدث إذا كانت الصور واقعية وليست خيالية. ويعد الفارابي من أهم املفكرين اإلسالميني ،الذين حتدثوا عن اخليال وأبدعوا في موضوعه .فقد نسب الفارابي للخيال امللكة اخلاصة
اخليال األدبي يورد الكاتب في مؤلفه قصة صينية قدمية ،تعبر بكلمات قليلة جد ًا عن معنى اخليال في األدب .فاخليال يخلق شيئ ًا جديداً .لذلك ،فاإلبداع واخللق والتوليد هو ما مييز اخليال عن االستحضار واالستعادة عن مجرد اإلنتاج .فاخليال يأتي في كل مرة على هيئة شعرية .وللخيال معنى يتصل بالعمل الصعب واجلهد الدؤوب ،واملقصود هنا التوليد للعمل اخليالي بقوة الرسم والتشكيل بفعل األداء اخليالي ذاته. واخليال هنا كأنه يرجع إلى املرء ،إلى ذاته «تلك النظرة التي كان قد وجهها نحو شيء معني ،أو هو املركب األدائي الذي يوجه ،بحيث يعمل كمرآة غير مرئية للذات الشعرية (ص .)221:فاخليال الشعري يتسبب في حدوث مضاعفات للخيال والصور ،وذلك من خالل توليد األشياء لدى الشاعر في حاالت التجلي الكامل لها .ولذلك «يعتبر اخليال الشعري نسخة مضاعفة للخيال في حاالت نشاطه اخلاص لتفهم األشياء وإدراكها ،وهذه هي حالته دائماً» (ص.)222: ولكن أين هي القصة الصينية القدمية التي ستختصر الكثير من الكلمات؟ «كان يا ما كان ،حلمت ذات مرة ،أنا تشوجن زو ،أنني فراشة ،حتلق هنا وهناك ،وترفرف بجناحيها ثم حتلق هنا وهناك ،ثم استيقظت فجأة من نومي ،وإلى اآلن ال أعرف هل كنت إنسان ًا يحلم بأنه فراشة ،أم أنني فراشة حتلم ،اآلن بأنها إنسان».
أشباح العقل وأشباح اخليال «كان موضوع األشباح من أكثر املوضوعات تعذيب ًا لي عبر حياتي». جيرمي بنتام «تنشط الشياطني على خيال اإلنسان حتى يصبح كل شيء على غير حقيقته». توما األكويني تنتج األفكار اإلبداعية في حالة توحد بني الواقع واخليال ،واملبدع يحاول بكل ما أوتي من قوة أن يلتقط تلك احلالة ،أن ميسكها بيديه ،لكي يجسدها في أعماقه .وكان هيبوليت تني يقول «إن اإلدراك اخلارجي هو هلوسة حقيقية» (ص .)252:وقال لويس بورخيس «إنه بينما نكون نائمني في هذا العالم ،نستيقظ في عالم آلخر» (ص.)252:
أما الشاعر واملصور وليم بليك ،فيقول «إنه لو مت تنظيف أبواب اإلدراك ،فإن كل شيء سيبدو لإلنسان كما هو عليه حقيقة ،النهائي، لقد أغلق ذلك اإلنسان الباب على نفسه حتى يستطيع أن يرى كل األشياء من خالل فتحات أو شقوق صغيرة موجودة في كهفه» (ص.)252:
اخليال العلمي «اخليال شمس في روح اإلنسان». الطبيب بارسيلسس -القرن 16 تعتمد الفانتازيا األدبية واحلكايات اخلرافية على اخلارق من األمور والكائنات على السحر والسحرة ،وكل ذلك متحرر من األسباب الطبيعية والقوانني املادية .ولكن اخليال العلمي يقوم على أساس العلم، أو «على األقل على أساس افتراض فحواه أن كل شيء قابل للتفسير بوساطة العلم» (ص .)281:وعلى الرغم من أن اخليال العلمي قد يحوي حي ً ال وظواهر خيالية ،لكنها يجب أن تفسر في ظواهر العلم واألسباب الطبيعية.
خيال العلماء «اخليال أكثر أهمية من املعرفة، وذلك ألن املعرفة محدودة ،أما اخليال فيحيط بالعالم كله». (أينشتني ،ص.)283: التفكير بالصورة ،هو ما يرتكز عليه اخليال ،والصورة قد تكون بصرية أو سمعية ،أو ملسية ...واقترح بعض العلماء أن كفاءة التفكير بالصورة تعود إلى عدد من اخلصائص منها:
ولذلك ،فإن لها تأثيرها االنفعالي واحلسي الكبيرين ،إذا متت املقارنة بالصور اللفظية األكثر غموض ًا وجتريداً .ووردت إشارات جمة في الدراسات النفسية احلديثة ،تشير إلى أن اإلبداع في العلم يتشابه مع اإلبداع في الفن ،فالفنانون والعلماء يستخدمون «اإلستراتيجيات نفسها في تفكيرهم وفي سعيهم إلى اكتشاف متثيالت جديدة للطبيعة» (ص .)292:فالعلماء يحلون املشكالت ،وكذلك الفنانون وإن بطرقهم اخلاصة.
«اخليال موطن احلقيقة». (جوشوا رينوالدز ،ص)323 :
115
في العام ،1924نشر الشاعر أندريه بريتون ( )1966-1896البيان األول للسيريالية .وعرف السيريالية بأنها حركة أدبية «موجهة بواسطة التفكير ،في ظل الغياب ألي حتكم ميارسه العقل ،وأنها تخلي نفسها من أي التزام جمالي أو أخالقي» (ص .)353:وأكدت في بياناتها وأعمالها أهمية اخليال واحلرية واحللم ،بل واحلماقة ،وأكدت على أهمية اخلضوع للقوى املظلمة اخلاصة بالالشعور ،حيث الهذيان واجلنون والكوابيس ،لكن اخلضوع هنا بقصد التحليق والتمكن. وكتب بريتون يقول «أيها اخليال العزيز :إن ما أحبه فيك بشكل خاص هو أنه من املستحيل نسيانك» (ص .)354 :وقد قامت حركات جتريبية نابضة باحلياة في الفن التشكيلي ،مثل :التعبيرية والسيريالية والدادية والرمزية، بردم احلدود الفاصلة بني املقوالت والتصورات الفنية احملددة واجلامدة. إن السرد التشكيلي السيريالي والقوطي هو احلرية للخيال ،والفوز الكبير لالشعور ،إذ ال يتم االهتمام بالوجه املبتسم بل باجلمجمة التي وراءه. انظر ألعمال كلمنت ومونش ،حيث «يطفر املوت ويثب فرح ًا باحلياة في مشاهد ذات جمال بصري آسر الفت» (ص .)355:وكذلك أعمال الفنان املصري صالح عناني التي «متزج فيها احلياة باملوت والسخرية باأللم واملالمح املشوهة باجلمال والكوميديا باملأساة» (ص.)355: وكما قال هنري جيمس «نحن نعمل في الظالم ،نحن نفعل ما نستطيع أن نفعله ،نحن نعطي ما منلك ،ومشاعر الشك لدينا هي انفعالنا احلقيقي ،وانفعالنا وشغفنا هو شغلنا الشاغل ،وما يتبقى بعد ذلك هو اجلنون اخلاص بالفن».
اخليال املسرحي «عليك أن تتبع إيقاع حتليقك اخلاص». (الشاعر األمريكي وولت وايتمان ،ص)375 : «هدفنا حترير اخليال ،وجذب اجلمهور نحو عالم خيالي» (املخرج املسرحي البريطاني بيتر بروك ،ص)357 : إن إحضار اجلمهور خلشبة املسرح ،وجعله يعيش املناخ اخلاص باملوضوع الرئيسي في املسرحية ،هو الهدف من تصميم خشبة املسرح ومشاهدها .وكل شيء مقبول إذا جنح العمل الفني ،وجعل اجلمهور قادر ًا على التحليق كما املمثلني .يقول الفيلسوف جادامير «إذا كان للمسرح أن يقدم لنا شيئ ًا ال يكون مجرد خدعة سيكولوجية ،وإذا كان له أن يقدم لنا رمز ًا مبين ًا وقو ً ال ناطقاً ،فإنه يحتاج إلى التجلي الروحي نفسه الذي يكون للغة اإلمياءة» (ص.)375: إذن ،املسرح يقدم لنا يد املساعدة للوصول إلى مزيد من الوعي بذواتنا وذوات اآلخرين ،وباحلياة ،ويقدم أيض ًا املسرات االنفعالية اإليجابية
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
.1الطبيعة اخلاصة لعملية التفكير بالصورة :وهي طبيعة تتيح مرونة وحرية أكبر في تكوين األفكار اجلديدة. .2الطبيعة العيانية والتشاكلية الثرية للصور :فالصور العقلية تتسم بالثراء من حيث اللون واحلركة والشكل وغير ذلك. .3احلدس املكاني :أي الطبيعة املكانية للصور .واملقصود هنا التعامل بحرية عبر املكان والزمان ،وحتويلها إلى أشكال قابلة للتحقق في الواقع. .4التأثير االنفعالي :فالصور العقلية وما ينتج عن التفكير البصري، هي صور مليئة باحليوية ،من حيث أشكالها وحركاتها وألوانها ،بل حتى أصواتها املفترضة املصاحبة لها.
اخليال التشكيلي
116
والشعور باملتعة .ففي مسرحية «الطريق إلى دمشق» لسترندبرج ،يقول على لسان زهر اللوتس «ال بد أنني كنت نائم ًا لبضعة ألوف من السنني، وحلمت أنني انفجرت وحتولت إلى أثير ولم أعد أستطيع أن أحس أو أعاني أو أسعد ،ولكنني اآلن أعاني ،وكأمنا أنا البشرية جمعاء .أعاني وليس لي احلق في أن أشكو» (ص.)401 : ويقول في مكان آخر «من يدري ،لعل كل شيء في حياتي كان حلماً، وإنني اآلن في حلم .لكم أمتنى أن يكون األمر كذلك» (ص.)401: فاأللم ميكن الصبر عليه إذا حتدثت عنه ،أو كتبت شيئ ًا عنه كمسرحية أو قصة .وكذلك يعود إلينا املاضي ،ويعود األموات أحياء من خالل اخليال والتخيل واحللم واملسرح والسينما.
اخليال السينمائي «كل أعمال اإلنسان لها جذورها في اخليال اإلبداعي». (كارل جوستاف يوجن ،ص)403:
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ميكن للسرد النثري لألحداث أن يصل إلى إثارة اخليال لدينا ،لكن الفلم السينمائي وأحداثه التي نشاهدها أمام أعيننا وتتوالى ،هي «ما يجعل تخييالت اخليال تتجسد أمامنا ،إننا هنا نرى هذه األحداث الشخصيات بطرائقنا اخلاصة ...بل إننا نرى هذه األحداث والشخصيات متجسدة أمامنا ...ثم كما قيل نسقط مخاوفنا ورغباتنا اإلنسانية على املواقف املوجودة أمامنا» (ص .)424:وما تلك الرغبات واملخاوف التي نسقطها على ما نشاهده سوى حاالت قلق وانفعاالت خاصة ،تكون شعورية وال شعورية ،وجتد لها إشباع ًا وتصريف ًا من خالل األحداث اخليالية تلك. فاألفالم السينمائية كلها ،يوجد فيها قدر من التخيل واإليهام ،وحتى األفالم الوثائقية والتسجيلية ،فيها قدر من اخليال .فالدقة في رسم التفاصيل ،بل تفاصيل التفاصيل ،تؤدي إلى استثارة اإلدراك ،الذي يخرج من الواقع عن طريق التخيل الحتماالت ما ميكن أن يحصل لو أن الوضع الذي ترصده الكاميرا تغير اآلن ،وتخيل األحداث التي أدت إلى وصول األمر إلى ما وصل إليه ،وما ميكن فعله لتغير الوضع. وفي ثمانينيات وتسعينيات القرن املاضي ،ازداد اهتمام صناع السينما بقصص الرعب ،وجتليات الرعب النفسية واجلسدية واملرتبطة بظواهر مثل التعذيب واجلنون ،والقتل واالنتحار ،والوحوش وغيرها .وما زال االهتمام بهذا النوع من األفالم مستمر ًا لغاية اآلن .فاملخرج السينمائي ديفيد كرونينبرغ الذي سار بأفالمه نحو منحنى خيالي للتعامل مع األمور األساسية املتصلة باخلوف ،كاملوت واملرض والشيخوخة ،يبرر ذلك قائ ً ال «ال أعتقد أن ما قدمته في أفالمي أكثر تطرف ًا مما هو موجود في الواقع( .ص .)442 :ويضيف «إن ما قدمته من أفالم إمنا يعمل فقط، على إضاءة هذا الواقع» (ص.)442 :
صور في فوضى يقول الكاتب لويس بورخس «بينما نكون نائمني في هذا العالم ،نستيقظ في عالم آخر ،وبهذا املعنى فإن كل إنسان ما هو إال إنسانان اثنان من
البشر على األقل» (ص .)443:ال يحصل اخليال بطريقة سوية ومنظمة دائماً ،فأحيانا تتداخل أبعاده ويضطرب اخليال ،فتحدث الفوضى بني صورة وتشكيالته .فما أسباب هذا االضطراب؟ إنه املكان ،فعالقة املكان باخليال عالقة مهمة؛ سواء في حاالت الصحة أم املرض .إن محبة املكان من األمور الرئيسية الزدهار اخليال، وعن ذلك قال ابن العربي «إن املكان الذي ليس مكانه ال يعول عليه» (ص .)445:وحتدث باشالر عن محبة املكان قائ ً ال «واملكان الذي هو مكانه» (ص.)445: أما من األسباب التي جتعل اخليال ميوت في ضوء املكان ،فاملدارس الضيقة والكئيبة ،التي يتكدس فيها الطالب دون أدنى شروط التعلم، وكيف للخيال أن ينمو ويكبر في ظل القمع واالستبداد السياسي ،وفي ظل األزمات االقتصادية؟ كما يلعب الزمان دور ًا مهم ًا في تفسير اخليال ،وبخاصة في العصور الوسطى ،وروبرت هولم يعتبرها البؤرة الرئيسية لكل أنواع اإلبداع اخليالي. فقد كان الهواء في ذاك الزمان «مملوء ًا بالطيور العجائبية ،واألرض مغطاة باحليوانات الهائجة ،والبحار زاخرة باألسماك املتوحشة ،في حني كان اإلنسان يحكي حكايات متعددة عن األماكن غير املستكشفة ،عن بالد رائعة وفراديس سماوية مجهولة» (ص .)445:وهكذا طورت وأبدعت األمم حكاياتها عن الغزاة البرابرة ،وعن العالم الذي في طريقه إلى الغياب. يعد اخليال أكثر ملكاتنا جموحاً ،فهو دائم ًا يحاول أن يتحرر من الروابط والسالسل التي تربطه بالعقل« ،وعندما جنح في ذلك ،فإنه ال تكون لديه -هناك خرافات وال معتقدات غريبة وال أوهام شاذة وال أحالممبالغ فيها ،ميكنه أن ينميها» (ص .)462:وكما قال بيكون «فإننا منيل إلى االعتقاد أكثر من ميلنا إلى الفحص واالختبار» (ص.)462: وحسب املؤلف ،فإن هذا امليل ،يسيطر ويسود على نحو خاطئ خالل طفولة العقل البشري.
اخليال والتربية «اخليال ضروري لإلنسان ،ال بد منه كالنور والهواء واملاء والسماء». (أبو القاسم الشابي ،ص)463: «األفكار اإلبداعية ال تزود إال العقول املهيأة لها؟». (باستير ،ص)464: في البداية يجب القول إننا كلنا منلك اخليال ،ولكن بدرجات متفاوتة. وميكننا كذلك عبر أساليب علمية حديثة متاحة اآلن ،أن نطور خيالنا وجنعله خصب ًا أكثر.
ساحات اللعب أول ساحات اللعب هي ساحة الطفولة ،التي ميكن للجميع أن يدخلها
بغض النظر عن مستوى خياله ،ميكن لنا ولوجها واستكشافها والتمتع مبباهجها .وعالم األحالم ساحة لعب أخرى ،والقراءة؛ فسواء قرأت كتاب ًا تاريخياً ،أم صحيفة ،أم ذهبت إلى معرض فني أو قاعات املسرح والسينما ...كل ذلك يساعد على فتح األبواب املغلقة ،وفتح بوابات ساحات اللعب اخليالية .فما عليك سوى إعادة اكتشاف خيالك من خالل جعل نفسك «منفتح ًا على نحو وا ٍع على كل أنواع املؤثرات، وأنت ينبغي لك أال تتوقع أن تقوم هذه املؤثرات بالتأثير املباشر في خيالك أو عملك اإلبداعي ،من تلقاء نفسها ...ما ينبغي أن تقوم به هو أال ترددها على نحو ببغائي» (ص .)464:عليك أن تضيف إليها من خبرتك وذاتك ومشاعرك وانفعاالت. واخليال أنواع ،فالبعض خياله تشكيلي واآلخر لغوي ،وآخر علمي ...فما علينا سوى اكتشاف اخليال لدى التالميذ في املدارس وطالب اجلامعات ،ونطوره ،كل حسب خياله .ولكن بداية علينا أن جنعلهم يدركون أهمية اخليال ،ويألفون الفكرة ،ثم بعد ذلك يوجه كل شخص وفق خياله املميز. أن نشجع الناس على التحرر من القوالب اجلامدة في التفكير، وجعلهم أكثر أصالة ومرونة ،إحدى الطرق األساسية في تنشيط اخليال اإلبداعي. ليس من اخلطأ ،إذا عملنا على إثارة القدرة لدى األطفال على التفكير في األشياء بشكل منطقي منظم ،ولكن ما املانع أيض ًا من «تعليمهم التفكير في األشياء كما ينبغي أن تكون ،أو كما يحتمل أن تكون ،في شروط إضافية متعلقة بها ،مثل املرونة والقابلية للتغير والثراء ،وأيضا احلرية اخلاصة بالنشاط العقلي» (ص .)466:فال ميكن تنشيط القدرة اخلاصة بالتغلب على املشكالت وهزمية العقبات بطرق جديدة وإبداعية دون خيال .فاخليال ضروري لإلبداع.
التربية عن طريق اخليال من الضروري أن يتعلم الطالب املواد الدراسية األساسية ،حسب عمره، فال بد أن يتعلم القراءة والكتابة واحلساب والفيزياء ...وفق املراحل الدراسية التي نعرفها.
ٍ كاف؟ لكن ،هل هذا
ولكن جتميع هذه املعلومات وتركيبها معاً ،والتفكير مبا يوجد خلفها ويتجاوزها أمر خاص بالطالب نفسه ،يتجاوز به الطالب القصور الذاتي في التفكير التقليدي ،وهو أمر ال يتم إال «بالوعي بجوهر اخليال ،اخليال احلر املنطلق العابر للحدود ،املتجاوز ألسر الراهن وقيود احلاضر،
فاخليال يجعل الطالب يهضمون املوضوعات التي يتعلمونها ،ويضيفون عليها ،وذلك من خالل اجلمع بني األسلوب السردي والتصويري. على التربية أن تقوم على أساس اخليال في العلم والفن وغيرها من املوضوعات ،إن أرادت أن تكون تربية توصل إلى اإلبداع ،وإلى مستقبل مضيء.
117
هناك خالف كبير ودائم بني من يطرح ويؤكد على ضرورة تعليم الطالب املوضوعات التقليدية ،وبني من يرغب بتشجيع الطالب وح ّثهم على التفكير بحرية ،واخلروج من سجن هذه املوضوعات التقليدية ،وبذلك بجعلها أدوات وليس سالسل وقيوداً. وما زال النمط السائد في التعليم في معظم دول العالم ،مبا فيه العالم العربي ،قائم ًا على تعليم املوضوعات التقليدية ،وملء عقول الطالب مبوضوعات كثيرة ومملة. إن اخليال ال يتعارض مع املتوقع من التعليم ،بل يؤكد ذلك ،بل يضيف إليه «وال يتعارض مع املهام املطلوبة من الطالب التي يحققونها من دراسة بعض املوضوعات املدرسية ،ويتمايزون من خاللها بواسطة االمتحان ...لكن أصحابه يقولون بضرورة أن تخفف وزارات التربية والتعليم في بالدنا العربية الوطء عن كاهل الطالب والتالميذ وعن عقولهم» (ص .)470:فتقدم لهم ما هو مهم في حياتهم احلاضرة واملستقبلية دون إرهاق ،وأن يتم ذلك بطرق جميلة ومثيرة ومريحة. التربية عن طريق اخليال أمر ال مفر منه ،فهو ضروري للطالب كالنور الشابي .فالتربية املوجهة نحو املاضي والهواء واملاء والسماء كما قال ّ وحسب ال تفيد ،على التربية أن تتوجه أيض ًا للحاضر واملستقبل. على الكتب املدرسية أن تتخلص من احلشو ،والفصول الدراسية من االزدحام املقيت ،واملدارس من العشوائية .على التربية أن تهتم باملعلم والطالب والكتاب ،وحتى األبنية التعليمية .على املدارس واجلامعات أن تكون أماكن للفرح والبهجة .ويخاطب عبد احلميد املسؤولني عن التربية قائالً« :ال جتعلوا عقول الطالب مجرد مخازن ومستودعات للمعلومات ،بل طاقات للتجدد والتجديد واإلضافة واإلبداع ،وزودوا املعامل باألجهزة واملواد الضرورية( »..ص.)472: إذا أردنا جعل التعليم أكثر متعة وتشويقاً ،علينا إضافة املكون اخلاص باخليال إليه ،وأن ُيكافأ الطالب األخصب خيا ً ال «وأن يعد املعلم بطرائق ال جتعله من أعداء اخليال ،كما أشارت بعض تلك البحوث احلديثة التي قالت إن املعلمني يعاقبون الطالب اخليالي واألكثر إبداع ًا واختالف ًا أكثر من عقابهم للطالب التقليدي أو اخلامل» (ص.)472: فاخليال -حسب رأي الكاتب -ينتج صورة بديلة ،صورة موازية أو حتى مكملة ،لكنها مختلفة كونها ال تتعلق باملاضي واحلاضر وحسب، بل باملستقبل ،فاخليال يستكشف ويسبر أغوار االحتماالت ،ويتحرق لرؤية الواقع من األعماق ،ليراه كما هو حقيقة أو ما ميكن أن يكون ليس
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ال ،فيجب علينا أن تزود البرامج الدراسية بشيء ضروري ومفقود بالتربية أال وهو اخليال .على الطالب أن يفكر بالطريقة املألوفة والطريقة األخرى ...الطريقة اخليالية ،حسب العمر ،أما تعليم التفكير حسب الطرق التقليدية املعروفة فقط ،فإنه يؤدي بنا إلى الهاوية .فاملعلومات القدمية املعروفة ،التي تكتسب من خالل التعلم ،تنسب إلى أصحابها: الكتاب ،احلاسوب املعلم ..كل من يقدمها للطالب جاهزة.
واملتجه دوم ًا نحو املستقبل ،إنه خيال ال يكف أبد ًا عن النظر وإعادة النظر فيما هو داخلي وما هو خارجي» (ص.)469:
مبثل ما يقدم للعقل بهذه الطريقة أو بأخرى.
118
واملفروض أن نعلم طالبنا خالل تعلمهم تاريخ الوطن الغربي أو جغرافيته ،وخالل موضوعات الطبيعة كعلوم النبات واحليوان والفيزياء، والفنون واألدب ...أن ال ينظروا إليها على أنها موضوعات موجودة وحسب ،في العالم اخلارجي ،بل هي موجودة في داخلهم. ويجب حتفيزهم على تكوين صور حية حول املوضوعات وحول مكوناتها الوظيفية والبنائية ،ويطورون أحاسيسهم االنفعالية اخلاصة واملناسبة لهم. وفي وقتنا احلاضر توجد برامج رقمية ومصورة للتدريب على اخليال داخل الفصل الدراسي وخارجه ،وتوجد أيض ًا برامج إثرائية لتدريب الطالب على التفكير مثل إديسون وبيكاسو وغيرهم بطرق بسيطة ومشوقة.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ويعيد الكاتب القول إن اخليال ليس «مجرد قدرة على تكوين الصور في العقل وعلى التفكير فيها أو من خاللها ،كما قال بعض العلماء :إن هذا املعنى قاصر على أن يحيط بجوهر اخليال ،األكثر حرية ومرونة وقدرة
من فعاليات مدرسة غزة للموسيقى.
على اللعب بالصور ،وعلى التركيب بينها ،وعلى حتريكها وحتويلها، والقيام بتجارب ذهنية أو فعلية حولها ومن خاللها» (ص.)476: وأخير ًا يحط بنا الكاتب في مرفأ احللم ،ويعيد التركيز على البعد اخليالي في التربية والتعليم ،وهو البعد املهمل فيهما ،مع أنه األفضل للوصول إلى تعليم ميتاز بالكفاءة والفاعلية ،ويجب االهتمام بتحسني اختبارات التحصيل ،فالتركيز على اخليال في التربية والتعليم يؤدي إلى حتسني كل املقاييس واملؤشرات اخلاصة بالتحصيل األكادميي للطالب .ألن اخلبرة التربوية سوف تصبح حينئذ خبرة عميقة ومتكاملة وممتعة. يا إلهي ما أجمل الكتاب! وما أروع صوره وخياالته! إنه كتاب ثمني وقيم ومشوق ،ويعج باإلثارة ،ومكتباتنا عطشى إلى مثل هذه الكتب ،وحبذا لو أن سكان الوطن العربي يطلعون عليه ،وبخاصة من لهم األمر في وزارة التربية والتعليم العالي عندنا. أمني دراوشة كاتب وباحث من رام الله
نحو براديغم جديد
*
119
إدغار موران** ,ترجمة وتقدمي :د .يوسف تيبس
***
يتلخص فكر إدغار موران في تبيان خاصية تعقيد العالم واإلنسان ،ما يستلزم منهج ًا يتطابق مع هذه اخلاصية .وهو التصور الذي قاده إلى إعادة النظر في مفاهيم فلسفية وعلمية من قبيل النظام والالنظام ،والنسق ،واملعلومة ،والكائن احلي ،واملعرفة ،واللغة ،واملنطق ،والبراديغم، والهوية ،والقيمة األخالقية ...معتمد ًا إبستيمولوجيا جديدة هي إبستيمولوجيا التعقيد ،أو لنقل براديغم ًا معرفي ًا جديد ًا يتكون من نظرية اإلعالم ونظرية األنساق والربانية ،إضافة إلى أفكار بعض الفالسفة والعلماء وبعض املبادئ أهمها مبدأ احلوار املنطقي. تنبني إبستيمولوجيا إدغار موران على فكرة استحالة تأسيس العقل على منطق أحادي تقليدي ،ألن العلم املعاصر قد جتاوز أهم مبادئ هذا املنطق ،أقصد ،مبدأ عدم التناقض والثالث املرفوع من خالل اإلقرار بثنائية مكونات الضوء وامتناع البت في متام األنساق املصورنة واتساقها. وهو ما يعني أن استمرار اعتماد العلم على املنطق التقليدي سيفقده أهم خصائصه :اإلبداع واالبتكار والتعقيد .بيد أن هذا ال يستلزم ،في نظر موران ،ترك املنطق ألن استعمال املنطق أمر ضروري للفهم ،وجتاوزه ضروري للذكاء؛ واالستناد إلى املنطق ضروري للتحقق ،وجتاوزه ضروري للحقيقة. هكذا ،تكون العقالنية احلقيقية هي تلك التي تعترف بحدودها ،ألن املنطق ال يستطيع تأسيس العقل ،وتقدر على معاجلة هذه احلدود؛ أي تصبح نظرية للنظرية بالنسبة لذاتها كي تتجاوز هذه احلدود وتعترف في الوقت نفسه بأفق ال يقبل العقلنة. إن املشكل بالنسبة لإلنسان املواطن ،في نظر موران ،هو :كيفية احلصول على املعلومات حول العالم ،وكيفية اكتساب كفاءة تقطيعها وتنظيمها، يعرفها الفكر اإلنساني بفكر التعقيد .باختصار شديد ميكن أن نسم فكر إدغار موران األمر الذي يستلزم «إصالح الفكر» ،أي ملء الثغرات التي ّ بـ»إصالح الفكر» بواسطة إعمال منهج املنهج في جميع جوانب الوجود والفكر اإلنسانيني .وخير دليل على ذلك هو التسمية املضاعفة لعناوين أجزاء كتابه املوسوعي املنهج «طبيعة الطبيعة» ،و«حياة احلياة» ،و«معرفة املعرفة» ،و«إنسانية اإلنسانية».
إن التعقيد هو التحدي األعظم للفكر املعاصرة ،ألنه يستلزم إصالح ًا لنمط تفكيرناُ .بنِي الفكر العلمي التقليدي على ثالث مرتكزات هي: «النظام» و«القابلية لالنفصال» و«العقل» .واحلال أن أسس كل واحد منها قد تزحزح بسبب تطورات العلوم ذاتها التي بنيت في األصل على هذه املرتكزات الثالثة.
ال يسعى فكر التعقيد إلى استبدال فكرة الالنظام بالنظام ،بل إلى خلق حوار منطقي 1بني النظام والالنظام والتنظيم.
مرتكزات العلم التقليدي :نشأ مفهوم «النظام» عن التصور احلتمي وامليكانيكي للعالم .وعليه ،كان يعتبر الالنظام نتيجة جلهلنا املؤقت. ويوجد وراء هذا الالنظام الظاهر نظام خفي يتطلب االكتشاف .مت التشكيك في فكرة النظام الكلي أو ً ال من قبل الديناميكا احلرارية التي اعترفت بوجود اضطراب جسيمي غير منظم في احلرارة .ثانياً ،من قبل الفيزياء اجلزيئية .ثالثاً ،من طرف الفيزياء الكوسمية ،وحالي ًا من طرف
أما املرتكز الثاني للفكر التقليدي فهو مفهوم «القابلية لالنفصال» ،الذي يناظر املبدأ الديكارتي ،مفاد هذا األخير أن دراسة الظاهرة أو حل املشكل يستلزم تفكيكه إلى عناصر بسيطةُ .ترجم هذا املبدأ ،في املجال العلمي، من جهة إلى التخصص ،ثم إلى التخصص الدقيق في امليادين املعرفية، ومن جهة أخرى إلى فكرة إمكان اعتبار الواقع املوضوعي بغض النظر عن املالحظ .واحلال أنه منذ ربع قرن تطورت «علوم نسقية» تربط ما يدرس بشكل منفصل من قبل العلوم التقليدية .يتكون موضوعها عبر التفاعالت بني العناصر وليس عبر فصلها .فموضوع علم البيئة هو األنساق البيئية واملجال احليوي ،التي تشكل مجموعات متعالقة ترجع بشكل منفصل إلى
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ميثل فكر التعقيد براديغم ًا جديد ًا َتو َلّد عن حدود العلوم املعاصرة وتطورها معاً .وال يتخلى عن مبادئ العلم التقليدي ،بل يدمجها في خطاطة أوسع وأغنى.
فيزياء الفوضى .توقفت فكرتا النظام والالنظام عن التنافي بإطالق: للتد ُّوم؛ ميكن ،من جهة ،أن يتولد نظام تنظيمي من شروط مجاورة َ وميكن ،من جهة أخرى ،أن يتولد الالنظام من احلاالت األولية احملددة.
120
علم احليوان ،وعلم النبات ،والبيولوجيا املجهرية ،واجلغرافيا ،والعلوم الفيزيائية ... ،الخ .تتصور علوم األرض كوكبنا كنسق معقد ينتج ذاته بذاته وينتظم ذاتياً؛ وعليه جتمع بني علوم كانت منفصلة من قبل مثل اجليولوجيا ،وعلم الطقس ،وعلم البراكني ،وعلم الزالزل ... ،الخ. هناك سمة أخرى للقابلية لالنفصال هي التمييز بني ا ُمل ِ الحظ واملالحظة. غير أن الفيزياء املعاصرة قد أعادت النظر فيها .فنحن نعلم في الفيزياء املجهرية ،منذ فيرنار هايزنبيرغ ،أن ا ُمل ِ الحظ يتفاعل مع مالحظته. أصبح واضح ًا أنه لم يعد يتعالى أي عالم اجتماع أو اقتصاد ،في العلوم اإلنسانية واالجتماعية ،مثل جنمة سيروس ،على املجتمع .إنه جزء من هذا املجتمع ،واملجتمع ككل يوجد بداخله .ففكر التعقيد ال يستبدل عدم القابلية للفصل بالقابلية لالنفصال ،بل يدعو إلى حوار منطقي يستعمل القابل لالنفصال ،لكنه يدمجه في غير القابل لالنفصال.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
إن املرتكز الثالث ألسلوب تفكيرنا هو املنطق االستقرائي-االستنباطي- التماثلي ()La logique inductive-déductive-identitaire الذي يكافئ العقل املطلق .كان العقل التقليدي يقوم على املبادئ الثالثة :االستقراء واالستنباط والهوية (أي رفض التناقض) .وجهت أول ضربة قاضية لالستقراء ،الذي يسمح باستنتاج قوانني عامة من حاالت جزئية ،من طرف كارل بوبر 2.فقد أصاب كارل بوبر عندما أقر باستحالة استنتاج قانون عام من قبيل «كل بجع أبيض» ملجرد أننا لم جند أبد ًا بجع ًا أسود .ال شك في أن االستقراء له قيمة تفسيرية لكن ليس له قيمة البرهان القاطع .يبني برهان عدم التمام لكورث جودل (K. صو َرن ال يستطيع البرهنة بإطالق )Gödelأن النسق االستنباطي ا ُمل ْ على صحته ذاتياً .والشيء نفسه برهن عليه ألفريد تارسكي في املنطق الداللي :ال نسق يتوفر على الوسائل الكافية لتفسير ذاته .من املمكن أن جند في بعض احلاالت برهان ًا أو تفسير ًا في األنساق الفوقية ،لكن هذه األخيرة تتضمن هي نفسها ثغرات .ومن املؤكد أنه بإمكاننا وضع «وجهات نظر فوقية» ( :)Métapoints de vueفإذا أردت مث ً ال أن أعرف مجتمعي ،بإمكاني أن أقارن بني املجتمعات املعاصرة ،أو أن أدرس املجتمعات القدمية املناقضة ،بل أستطيع أن أتخيل مجتمعات «ممكنة» .وهو ما يسمح لي بإنشاء نوع من الشرفة أستطيع أن أالحظ انطالق ًا منها مجتمعات أخرى خارجية مع البقاء داخل مجتمعي .غير أنه ال يوجد أبد ًا نسق فوقي نظري ميكننا من جتاوز وضعنا االجتماعي أو وضعنا اإلنساني ،أي يجعل منا كائنات فوق اجتماعية أو فوق إنسانية.
الثالثة ،النظام والقابلية لالنفصال والعقل املطلق ،فانعكس ذلك على أسلوب تفكيرنا .وعليه كيف نسير في عالم لم يعد النظام فيه مطلقاً، وحيث القابلية لالنفصال محدودة ،وحيث يشمل املنطق في ذاته ثغوراً؟ هذا هو املشكل الذي يواجه فكر التعقيد. أول مخرج نسلكه هو ما نصطلح عليه اليوم بـ»النظريات الثالث» ،وهي: الربانية (السبيرنطيقا) ،ونظرية األنساق .ظهرت نظرية اإلعالم ،ونظرية ُّ هذه النظريات املترابطة واحلميمية في بداية األربعينيات وتخاصبت فيما بينها. نظرية اإلعالم :أداة ملعاجلة الاليقني واملفاجأة وغير املتوقع .ذلك أن املعلومة التي تعني الفائز في معركة حتل مشكل الاليقني؛ والتي تخبر باملوت املفاجئ ملستبد تأتي بغير املتوقع واجلديد في الوقت نفسه .يسمح مفهوم املعلومة بالدخول في عالم يوجد فيه النظام (التكرار) والالنظام (الضجيج) ،وأن يستخرج منها اجلديد (املعلومة ذاتها) .إضافة إلى أن املعلومة ميكن أن تتخذ صيغة تنظيمية ( ُت ِ برمج) في ثنايا آلة ربانية .فتصبح آنئذ املعلومة هي ما يتحكم في الطاقة وما مينح اآللة االستقاللية. الربانية :متثل في حد ذاتها نظرية في اآلالت املستقلة .فقد قطعت فكرة رد الفعلي الراجع ،التي أدخلها نوربيرت فينار (،)Norbert Wiener مع مبدأ العلية اخلطي ،عندما استبدلها بفكرة العلية الدائرية( :ب) تؤثر في (ج) و(ج) تؤثر عود ًا في (ب)؛ أي أن العلة تؤثر في املعلول ،وهذا يؤثر بدوره في العلة ،كما هو احلال في جهاز التدفئة ،حيث يقنن مثبت احلرارة اشتغال مولِّد البخار .إن هذه اآللية املسماة بـ»التقنني» هي التي تسمح باستقاللية اجلهاز ،في حالتنا هذه االستقالل احلراري للشقة بالنظر إلى احلرارة اخلارجية.
أخيراً ،أدت تطورات بعض العلوم من قبيل الفيزياء الذرية أو الفيزياء الكونية ،بشكل جتريبي وعقالني ،إلى تناقضات يستحيل جتاوزها كما هو حال الطبيعة املتناقضة الظاهرة للذرة (موجة /جسيم) ،وتلك اخلاصة بأصل الكون واملادة والزمان واملكان. هكذا ،وعلى الرغم من أننا ال نستطع االستغناء عن املنطق االستقرائي- االستنباطي-التماثلي ،فإنها ليست مع ذلك سبي ً ال لليقني والبرهان املطلقني .ال يطالب الفكر املعقد بترك هذا املنطق ،بل بتأليف حواري منطقي بني استعماله مقطع ًا مقطع ًا وخرقه في الثقوب السوداء ،حيث يتوقف عن العمل. النظريات الثالث :زحزحت تطورات العلوم املعاصرة هذه املرتكزات
طالبات في مدرسة غزة للموسيقى فرحات بعودتهن إلى املقر اجلديد.
تاريخ فكرة التعقيد الرواد أدرك العديد من كبار فالسفة الغرب ،من قبيل هرقليطس ،وكانط ،وهيجل ،ونيتشه ،وهوسرل ،أهمية فكرة التعقيد وحدود «العقد اخلالص». ِ املؤسسة للواقع الفيزيائي واإلنساني ،واستحالة اختزال هذا العالم إلى ال شك في أن باسكال هو الذي أدرك بشكل أفضل التناقضات املنطقية ّ مجموعة من املكونات البسيطة.
121
نظرية األنساق الربانية حدث نقاش فكري حاد في نهاية األربعينيات بالواليات املتحدة حول جماعة من العلماء أبدعت الربانية (نوربرت فينار) ،ونظرية األنساق، ونظرية اإلعالم (كلود شانون .)Claude shannonوباملوازاة مت ابتكار احلاسوب واإلعالميات ،واألجهزة األولى للتحكم اإللكتروني. ندوات ماسي ()Macy جمعت هذه الندوات التسعة فريق ًا من العلماء من مشارب ماسي. مؤسسة برعاية نيويورك في ،1953 إلى 1946 من نظمت ندوات ماسي، َّ مختلفة حول املواضيع األساسية لنظريات التعقيد .من بني احلاضرين نذكر عالم الرياضيات جون فون نوميان ،وعالم األنثروبولوجيا جريجوري باتيسون ،وعالم االجتماع بول الزارفيلد ،وعالم النفس كورث ليوين ،وعالم الفيزيولوجيا العصبية واران ماكولوتش ،وعالم الرياضيات نوربيرت فينار ،حيث كان هانز فون فوستر سكرتير ًا لهذه الندوات التي ناقشت األنساق والربانية وعلوم العقل. النظام بواسطة الضجيج صاغ فون فوستر في سنة 1960مفهوم النظام بواسطة الضجيج ( .)order from noiseمثال :يتخيل جهاز ًا على شكل ركام من املكعبات، ممغنط من ثالثة أوجه تزحزح فتتجمع عفوي ًا في بناء مهيكل .وفي سنة 1968نشر لودفيج فون بيرطاالن في ()Ludwig von Bertalanffy كتابه :النظرية العامة لألنساق (.)La Théorie générale des systèmes نظرية الفوضى التأثر بالشروط األولية ،اجلواذب الغريبة ،الصور النمطية الهندسية املتكررة ...ظهرت نظرية الفوضى في األرصاد اجلوية ثم في علوم الطبيعة. باملوازاة مع ذلك ،ظهرت نظرية الكوارث على يد عالم الرياضيات روني طوم. التنظيم الذاتي :1977حصل لييا بريجوجني ( )Llya prigogineعلى جائزة نوبل نظير بحوثه في البنيات التبديدية .وقام هنري أطالن ،في البيولوجيا، بص ْو َر َنة نظرية للتنظيم بواسطة «الضجيج» (أي الصدفة ،الالنظام) قابلة للتطبيق على األنساق احلية ( .)Le cristal et la fumée, 1979كما َ اقترح عاملا البيولوجيا من أصل شيلي ،فرانسيسكو فاريال وهومبيرطو ماتورانا ،نظرية «اآلالت بروتية ( »Prïétiquesتتوالد ذاتياً). من 1977إلى :1992نشر إدغار موران املنهج ( )La Méthodeفي أربعة أجزاء تتعلق كلها بفكر التعقيد. :1987مت إنشاء معهد سانطا في (والية املكسيك اجلديدة ،الواليات املتحدة) ،وهو مركز متعدد التخصصات يعنى بعلوم التعقيد.
إن «التوازن احليوي» ( )Homéostasieفي حالة اجلهاز العضوي احلي ،كما َنّبي ذلك والتار كانون بوضوح كبير في كتابه حكمة اجلسد ( ،)1930( ،)The Wisdom of the Bodyهو مجموعة من العمليات ّ ِ املنظمة تتأسس على العديد من ردود األفعال الراجعة .متكن حلقة الفعل الراجع (املسماة التغذية الراجعة) ،في صيغتها السالبة ،من استقرار اجلهاز ،ومن تقليل االنحراف ،كما هو احلال بالنسبة للتوازن احليوي .تكون التغذية الراجعة ،في صيغتها اإليجابية ،جهاز تضخيم،
مث ً ال عند الصعود إلى احلالة القصوى من النزاع املسلح .فعنف زعيم يؤدي إلى رد فعل عنيف ،يستتبع بدوره رد فعل أكثر عنفاً .مثل هذه التفاعالت ،املتعاظمة أو املستقرة كثيرة في الظواهر االقتصادية، واالجتماعية ،والسياسية والسيكولوجية .لقد أدرك ماركس فكرة التفاعل عندما أقر أن البنية التحتية املادية للمجتمع تنتج البنية الفوقية (االجتماعية ،والسياسية ،واإليديولوجية) ،لكن البنية الفوقية تؤثر في املقابل على البنية التحتية املادية.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
جون فرانسوا دورتيه
122
نظرية األنساق :تضع األسس لفكر التنظيم .أول درس نسقي هو: «الكل أكبر من مجموع األجزاء» ،ما يعني وجود خصائص تنجم عن تنظيم الكل ،وميكن أن تؤثر عود ًا على األجزاء .هكذا يحتاز املاء خصائص منبثقة بالنظر إلى الهيدروجني واألكسجني اللذين يكونانه. أضيف كذلك أن الكل أقل من أجزائه ألن هذه األخيرة قد يكون لها خصائص مينعها تنظيم الكل .تساعدنا نظرية األنساق أيض ًا على التفكير في تراتب مستويات التنظيم ،وفي األنساق الفرعية وتداخلها... ، الخ .يقحمنا مجموع هذه النظريات الثالث (نظرية اإلعالم ،ونظرية الربانية ،ونظرية األنساق) في عالم الظواهر َّ املنظمة ،حيث يتم التنظيم مع الالنظام وضده.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
التنظيم الذاتي :يجب أن نضيف إلى هذه النظريات الثالث التطورات املفاهيمية التي حلقت فكرة التنظيم الذاتي .اجلدير بالذكر هنا أسماء من قبيل جون فون نيومان ( ،)J. V. Neumannوهانز فوستر، وهنري أطالن ،ولييا بريجوجني .وضع جون فون نيومان ،في نظريته اخلاصة باآلالت املنظمة ذاتياً ،سؤا ً ال حول الفرق بني اآلالت املص َّنعة و«اآلالت احلية» .فصاغ بدقة املفارقة التالية :تصنع مكونات اآلالت االصطناعية بإتقان ودقة ،إال أنها تبدأ في التلف مبجرد ما تبدأ في االشتغال .في املقابل تتكون اآلالت احلية من عناصر أقل متانة بكثير من قبيل البروتينات التي تنحل باستمرار .بيد أن هذه اآلالت متتلك خصائص عجيبة كالتطور وإعادة اإلنتاج ،وإعادة التكون الذاتي عبر استبدال جزيئات جديدة باجلزيئات الفاسدة .واخلاليا اجلديدة باخلاليا امليتة .وإذا كانت اآللة املص َّنعة تستطيع إصالح ذاتها ،أو أن تنتظم ذاتي ًا وأن تتطور ،فإن اآللة احلية تتكون باستمرار بواسطة موت خالياها وفقا ملبدأ هرقليطس« :احلياة من املوت ،واملوت من احلياة».
من دورة «دراما ثيربي» نظمها مسرح احلرية في جنني.
يكمن مرتكز فون فوستر في اكتشافه ملبدأ «النظام بواسطة الضجيج» ( ،)order from noiseذلك أن املكعبات املمغنطة من وجهني تنتظم في مجموعة متناسقة بواسطة تركيب عفوي حتت تأثير طاقة غير توجيهية ،وفقا ملبدأ النظام (التمغنط) .وبذلك نكون أمام صدور النظام من الالنظام. بناء على ما سلف متكن هنري أطالن من تصور نظريته في «الصدفة ا ُمل َّ نظمة» .إذ يوجد حوار منطقي ،نظام /النظام /تنظيم ،عند خلق الكون نتيجة تقلب حراري (الالنظام) ،حيث تسمح مبادئ النظام ،في بعض احلاالت (لقاءات بالصدفة) ،بتكوين النواة والذرات والكواكب والنجوم .جند هذا احلوار املنطقي أيض ًا عندما تنبثق احلياة جراء تالقي اجلزئيات الكبرى في ثنايا حلقة تتوالد ذاتيا ،فتغدو تنظيم ًا ذاتي ًا حياً. ينشط احلوار املنطقي بني النظام والالنظام والتنظيم بواسطة تفاعالت غير معدودة ،وبصيغ متنوعة إلى حد كبير ،باستمرار في عوالم الفيزياء والبيولوجيا واإلنسان. أدخل بريجوجني فكرة التنظيم انطالق ًا من الالنظام بواسطة الديناميكا احلرارية للصيرورات غير املنعكسة بشكل مختلف .ومن ثم نرى في مثال الدردورات لبينارد ( ،)Benardكيف تتشكل البنيات املتناسقة وتصون بعضها البعض معتمدة عتبة محددة من االضطراب ،ووراء عتبة أخرى ،ضمن شروط تخص الالنظام املتزايد .حتتاج هذه التنظيمات، من دون شك ،إلى التزود بالطاقة ،وإلى استهالكها وبالتالي تبديدها من أجل البقاء .أما الكائن احلي فيكون مستق ً ال بالقدر الكافي كي يستمد الطاقة من بيئته ،بل ويستنبط املعلومات منها ويدمج فيها التنظيم .وهو ما أسميه« :التنظيم الذاتي للبيئة» (.)auto-eco-organization
الظاهر أن فكر التعقيد أشبه ببناية متعددة الطوابق .يتشكل أساسها من النظريات الثالثة (اإلعالم والربانية والنسق) ،ويشمل أدوات ضرورية لنظرية التنظيم .يليه طابق ثان متكون من أفكار جون فون نيومان وفون فوستير ولييا بريجوجني حول التنظيم الذاتي. أود أن أضيف إلى هذه البناية عناصر مكملة ،أقصد ،ثالثة مبادئ: مبدأ احلوار املنطقي ( ،)Dialogiqueمبدأ التكرار (،)récursion مبدأ النحو العام (.)Hologrammatique < مبدأ احلوار املنطقي :يجمع بني مبدأين أو مفهومني متعارضني، يفترض أن يكونا متدافعني لكنهما متالحمان وضروريان لفهم الواقع نفسه .هكذا أقر نيلز بوهر مث ً ال بضرورة اعتبار اجلزيئات الفيزيائية جسيمات وموجات في الوقت نفسه .كما يقول باسكال« :إن نقيض احلقيقة ليس اخلطأ ،بل حقيقة مضادة .وهو ما يترجمه نيلز بوهر في قوله« :إن احلقيقة املبتدلة خطأ بليد ،لكن نقيض حقيقة عميقة هو دائم ًا حقيقة عميقة» .فاملشكل يكمن في جتميع مفاهيم متعارضة للتفكير في الصيرورات املنظمة واملنتجة واخلالقة في عالم احلياة والتاريخ اإلنساني املعقد. < مبدأ التكرار التنظيمي :يتجاوز رد الفعل الراجع (التغذية الراجعة)؛ ويتجاوز مفهوم التقنني إلى مفهومي اإلنتاج الذاتي والتنظيم الذاتي. إنه عبارة عن حلقة مولِّدة تكون فيها املنتوجات والنتائج نفسها مبدعة ملا ينتجها .وعليه ،نكون ،نحن األفراد ،منتوجات إلنتاج متجذر في أعماق التاريخ ،غير أن هذا النسق ال يستطيع إعادة إنتاج ذاته ،إال إذا غدونا نحن أنفسنا منتجني عن طريق التزاوج .ينتج أفراد اإلنسانية املجتمع ضمن التفاعل وبواسطته ،بيد أن املجتمع ينتج اإلنسانية، باعتباره ك ً ال منبثقاً ،من هؤالء األفراد ،وميدهم باللغة والثقافة. < مبدأ النحو العام :مهمته توضيح املفارقة الظاهرة لبعض األنساق،
حيث ال يوجد اجلزء فقط ضمن الكل ،بل يوجد الكل أيض ًا ضمن اجلزء .ذلك أن كل خلية هي جزء من الكل-اجلهاز العضوي احلي الشامل -بل إن الكل ذاته يوجد ضمن اجلزء :يوجد اخلبر الوراثي الكلي في كل خلية فردية على حدة .وباملثل يشكل الفرد جزء ًا من املجتمع ،لكن املجتمع يوجد أيض ًا في كل فرد ،باعتباره كالً ،من خالل اللغة والثقافة ومعاييره.
123
حاصل القول ،يقترح فكر التعقيد عدد ًا معين ًا من أدوات التفكير الناجمة عن النظريات الثالث ،ومفاهيم التنظيم الذاتي ،وتطور أدواتها اخلاصة .كما ال يرفض فكر التعقيد بتات ًا اليقني ليعوضه بالاليقني، وال يرفض الفصل من أجل امتناع القابلية للفصل ،وال يرفض املنطق ليبيح التهافت .بل العكس ،يتطلب املنهج التراوح الدائم بني اليقني والاليقني ،بني األولي والكلي ،بني القابل وغير القابل لالنفصال. كما يستعمل املنطق التقليدي ومبادئ الهوية وعدم التناقض واالستنباط واالستقراء ،لكننا نعرف حدوده ،ونعلم ضرورة خرقها في بعض احلاالت .ال يتعلق األمر إذن بترك مبادئ العلم التقليدي -النظام، والقابلية لالنفصال واملنطق -بل بإدماجها في خطاطة أوسع وأغنى. كما ال يتعلق األمر بوضع تعارض بني نزعة شمولية فارغة وأخرى اختزالية نسقية؛ بل بإعادة ربط األواصر بني األجزاء العينية والكل؛ أي ،يجب خلق متفصل بني مبادئ النظام والالنظام .والفصل والوصل واالستقاللية .والتبعية التي تكون في احلوار املنطقي (متكاملة ومتنافسة ومتعارضة) .في ثنايا الكون .حاصل القول ،ال يناقض فكر التعقيد الفكر التبسيطي ،بل يدمجه؛ أو كما يقول هيجل ،يقوم باجلمع بني البساطة والتعقيد ،بل وحتى في النسق الفوقي الذي يبني ويبرز بساطته اخلاصة .ميكن اإلعالن عن براديغم التعقيد بطريقة ال تقل عن براديغم البساطة :فإذا كان هذا األخير يرفض الفصل واالختزال ،فإن براديغم العقيد يلزمنا بالربط والتمييز في الوقت نفسه.
الهوامش Edgar Morin, Vers un nouveau paradigme, revue sciences Humaines, n 47, février 1995.
*
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
أعيد نشره في: Philosophies de notre temps, coordonné par Jean-François Dortier, éd. Sciences Humaines 2000, pp. 255262-. ** عالم اجتماع ،وفيلسوف ومدير البحث العلمي باملركز الوطني للبحث العلمي ( )CNRSبفرنسا .من أهم مؤلفاته :املنهج ،في 6أجزاء. *** أستاذ املنطق والفلسفة املعاصرة ،جامعة محمد بن عبد الله ،فاس ،املغرب. )Dialogique( 1باملعنى املتداول هو «ما يكون في صيغة حوار» .مت إدخال فكرة احلوار املنطقي في اللسانيات بواسطة الروسي ميخائيل باختني (Mikhail وتع ُبر املعاني .)1895-1975( )Bakhtineفداللة اللفظ ،بالنسبة إليه ،ليست انعكاس ًا ملاهية (املوضوع أو الفكر) وحيدة .فاللغة نتاج بالدرجة األولى للحوارْ ، املختلفة األلفاظ نفسها التي تسند إليها خالل التفاعل الشفاهي« .إن اللفظ عبارة عن قنطرة بني األنا واآلخرين .فإذا استند إلي في طرف ،فإنه يستند في الطرف اور» (.)le Marxisme et la philosophie de language, 1929 الثاني إلى ُمحا ِو ِري .إن اللفظ هو األرضية املشتركة بني احملاور واملحُ َ َ ً يؤدي مبدأ احلوار املنطقي إلى تصور مذاهب وأفكار كنتيجة للحوار-قد يكون أحيانا مضمراً -الذي يتم بني املؤلفات املتجاوبة فيما بينها .ألنها تستقي من بعضها البعض املفاهيم ،وتتكون مبواجهة بعضها البعض وبالتحاور .ال ميكن فهم كل مؤلَّف مبعزل عن غيره ،بل باعتباره منخرط ًا في هذه الشبكة من التفاعالت. أما إدغار موران فيستعمل مفهوم احلوار املنطقي للداللة على فكرة مفادها تعايش وانتشار منطقيات مختلفة في كل أمر إنساني ،ال تقبل االختزال إلى إحداها: متسيد ،أي ًا كان” (.)La Methode, t. 2 “يعني احلوار املنطقي استحالة بلوغ مبدأ وحيد ،لفظ ِّ يناظر هذا املفهوم مفهوم املناظرة عند العرب التي تنبني على فكرة التعاون بني املتحاورين على إظهار احلقيقة ،وخير منوذج لذلك املناظرة املشهورة بني متى بن يونس وأبو سعيد السيرافي التي أوردها أبو حيان التوحيدي في كتابه اإلمتاع واملؤانسة. 2راجع بهذا الصدد مقالنا :د .يوسف تيبس“ :معيار العلم أو القابلية لإلبطال” ،مجلة عالم الفكر املجلد ،37العدد .2008 ،2
َّ ِ ن تَ ربية املُستقبل الشرط فهم اإلنساني :رها ُ ُ ّ
*
124
إدغار موران ،ترجمة :عزيز مشواط يجب على كل تربية وتعليم يبغيان امتالك صالحيتهما مستقبالً ،جتاوز التجزيء املؤذي ،والتأسيس لفعل بديل ينبني على ضرورة االعتراف بالطابع املركب لإلنسان» .تلك هي اخلالصة التي ينتهي إليها عالم االجتماع واإلبستمولوجي الفرنسي املرموق إدغار موران في هذا الفصل الثالث من كتابه املوسوم بـ»املعارف السبعة الضرورية لتعليم املستقبل». يقدم املعالم الكبرى للمشروع التربوي الذي يدافع عنه إدغار موران ،منذ سنوات ،استناد ًا إلى نتائج وتراكمات وتأتي فائدة الكتاب من كونه ِّ تداخل املستويات يحكم الذي التعقيد مستوى في والقرار الفهم فيه يكون أفضل، مستقبل أجل من والنضال مسار طويل في البحث والتفكير ُ ُ ُ واملرجعيات واآلفاق. الكتاب برمته ال يشذ عن املنهج التي يعكف موران على تطويره منذ منتصف سبعينيات القرن املنصرم ،إذ ينتهي استناد ًا إلى رؤية عبرمناهجية ( )transdisciplinaireإلى استخالص سبعة مبادئ رئيسية لكل تربية مستقبلية ،قادته إلى تقسيم الكتاب إلى سبعة فصول( :عماء املعرفة: اخلطأ والوهم ،تعليم الهوية األرضية ،أخالق الكائن اإلنساني ،مبادئ املعرفة املركبة ،تعليم الشرط اإلنساني ،في مواجهة الاليقني ،تعليم الفهم). قدم للكتاب فريديريكو مايور املدير السابق ملنظمة األمم املتحدة للتربية والثقافة والعلوم قائ ً ال “إن التزام مفكر من قبيل موران وحكمته يحظيان لدينا بأهمية قصوى ،إن أفكاره تساعد اليونسكو على املساعدة في إحداث التغييرات العميقة واألساسية من أجل اإلعداد ملستقبل أفضل”. اخلالصات التي انتهى إليها موران في هذا العمل تشكل عصارة أفكاره التربوية ،ألنها أتت في سياق مشروع اليونسكو املتعدد التخصصات، الذي رفع شعار “تعليم من أجل تنمية مستدامة” .إنها تأمالت طالب “مايور” شخصي ًا من موران صياغتها ،لالستئناس بها في سياق النقاش العاملي حول توجهات تربية املستقبل من أجل تنمية مستدامة. أما الفصل املترجم ،فانعكاس وفي لتصورات موران العبرمنهاجية التي يعكف على تطويرها منذ سبعينيات القرن املاضي ،كما يجسد تصوراته الداعية إلى توحيد املعرفة اإلنسانية من أجل توحيد مصير النوع اإلنساني ،ومصير الفرد ،واملصير االجتماعي ،واملصير التاريخي ،وكل املصائر املتناثرة بال نظام .تلك هي الرهانات األساسية لتربية املستقبل ،كما يتصورها موران ،ألن كل تربية جديرة باملستقبل ،هي تلك التي تربط بني املعرفة والوعي بالشروط الوجودية املشتركة لكل البشر ،والوعي أيض ًا بالثراء الضروري املتمثل في تنوع األفراد والشعوب والثقافات.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
املترجم كل تربية مستقبلية ال بد أن تتجه نحو تعليم أولي وشامل ،يرتكز على ضرورة فهم شروط الوجود اإلنساني ،ألننا نعيش في مرحلة تاريخية تتسم بالكونية ،ونعيشها كمغامرة مشتركة تهم البشر في كل مكان .هذه هي احلقيقة التي يجب االعتراف بها في أبعادها اإلنسانية املشتركة ،وفي الوقت ذاته ال بد من االعتراف بالتعدد الثقافي املميز لإلنسانية. إن معرفة اإلنسان تقتضي بالضرورة موضعته في العالم ،وليس فصله، وكما أكدنا على ذلك في الفصل األول ،فإن كل معرفة جادة يجب
أن تأخذ بعني االعتبار سياق موضوعها .وهنا تصبح أسئلة من قبيل: من نحن؟ أين نتموضع؟ من أين أتينا؟ وإلى أين منضي؟ غير قابلة للتجزيء. إن مساءلة وجودنا اإلنساني يعني في املقام األول مساءلة وضعنا في العالم .لقد أسهم تدفق املعارف في نهاية القرن العشرين في توضيح وضعية الوجود اإلنساني بطريقة جديدة ،تغيرت معها التصورات السائدة خالل الستينيات والسبعينيات حول الكون واألرض واحلياة،
بفعل الطفرات التي حققتها علوم الكوسمولوجيا وعلوم األرض وعلوم البيئة والبيولوجيا وعلوم ما قبل التاريخ. وعلى الرغم من التطور احلاصل في هذه امليادين العلمية ،فإنها ال تزال تعاني من التجزئة ،إذ يظل البعد اإلنساني مقصي ًا ومجز ًأ إلى فسيفساء متناثرة من رقعة فاقدة لشكلها احلقيقي .وهنا يطرح مشكل إبستيمولوجي يتعلق باستحالة تصور وفهم الوحدة املعقدة للكائن اإلنساني من خالل الفكر التجزيئي ،الذي ينظر إلى إنسانيتنا بطريقة مجتزأة ،ودون أخذ الكون احمليط بنا واملادة الفيزيقية املكونة واألفكار التي نحملها بعني االعتبار ،كما ال ميكن فهم حقيقتنا من خالل تلك النظرة االختزالية التي حتصر الوحدة اإلنسانية في مكون بيولوجي ذري صرف ،بل إن العلوم اإلنسانية ذاتها تتعرض لالختزال والتجزئة. وهكذا يصبح هذا التركيب اإلنساني غير مرئي وتختفي احلقيقة اإلنسانية كما تختفي قشة صغيرة على رمال شاسعة ،ومن ثمة تصبح املعرفة على الرغم من أصالتها ،بسبب جتزيئها ،غير قادرة على استيعاب تعقد الوجود اإلنسان واستدماجه ،وباملقابل ترتفع حدة اجلهل املعمم ،في الوقت الذي تتضخم فيه معرفة األجزاء املنفصلة. لكل هذه احملاذير يلزم على تربية املستقبل أن تقوم باالستفادة من هذا العدد الكبير من العلوم الطبيعية من أجل فهم أفضل لشروط الوجود اإلنساني في هذا العالم ،أما وظيفة العلوم اإلنسانية ،فيجب أن تتجه نحو توضيح األبعاد اإلنسانية املتعددة واملركبة وضرورة إعارة االهتمام لكل اجلوانب اإلنسانية املهمة ،ليس الفلسفية والتاريخية فحسب ،بل الشعرية والفنية أيضاً.
في البداية ال بد من االعتراف بانتمائنا املزدوج إلى الكون املادي وإلى احمليط احلي ،كما يلزمنا في الوقت نفسه االعتراف بتفردنا اإلنساني، حيث ننتمي في اآلن نفسه إلى الطبيعة ونخالفها أيضاً.
125
1.1الشرط الكوني لقد غادرنا إلى غير رجعة فكرة وجودنا في كون منظم ،كامل وأبدي لصالح عالم خلق عبر مجموعة من الدوائر ،يلف مصيره املجهول، حيث يتضافر فيه التكامل من جهة ،والتناقض والتنافس من جهة أخرى، ويتضافر فيه النظام والالنظام أيضاً .إننا نعيش في كون عمالق ،يتمدد باستمرار ،ويتكون من مليارات املجرات والنجوم ،إن كوكبنا ليس سوى نقطة متناهية في الصغر تدور دون توقف في مدار مجرة صغيرة، وفي عالم ال ٍ متناه من املجرات. تكون أجسامنا ميكن أن تكون قد تشكلت خالل إن اجلزيئات التي ّ الثواني األولى لظهور الكون ،الذي يعود رمبا إلى أكثر من 15مليار ذرات الكربون املكونة ألعضائنا قد تكون تنتمي إلى أحد سنة ،كما أن ّ أو العديد من الشموس السابقة علينا ،أي أن جزيئاتنا الدقيقة انتظمت جتمعت في أوائل الزمن املضطرب لألرض .أما املكونات الكبرى ،فقد ّ في دوامات من االضطراب ،تشكل أحد أكبر مصادر الثراء والغنى والتعدد ،بعد أن حتولت إلى نسق جديد مختلف عن النسق الكيماوي األول :إنه نسق حي ذاتي التنظيم.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
من حصة تدريبية في مدرسة غزة للموسيقى.
.1اإلنسان بني التج ُّ ذر واالقتالع
126
تعرض باستمرار إلى تأثيرات الالنظام إن هذا التتويج الكوني للتنظيم ّ تعرض أيض ًا ملؤثرات ال ّتجميع التي منعت الكون من والتدمير ،كما ّ التالشي واالختفاء بعد ميالده. إننا في وجودنا اإلنساني احلالي نتابع املغامرة الكونية من أجل تطور خالق ،تقودنا في هذه املسيرة تلك امليزة اخلاصة املتمثلة في قدرة الكائن اخلاصة هذه املغامرة احلي على التنظيم الذاتي .إننا نواصل بطريقتنا ّ احملفوفة باملخاطر.
2.1الشرط املادي نشأت احلياة على األرض على الشكل التالي :انتظمت القليل من املكونات املادية بطريقة دينامية وحرارية عن طريق «تخمر» بحري وتفاعل كيماوي وتفريغ كهربائي .وهكذا ،ترتبط احلياة بالشمس، وجتمعت ألن مكونات احلياة استمدت طاقتها الدافعة من الشمس، ّ على كوكب لفظته هذه األخيرة .إن احلياة نتاج للتحوالت التي شهدها مجرى الفطونات املستمدة من شرارات الدوامات الشمسية .وبهذا، نتكون نحن األحياء من بويضة ناجتة عن الشتات والتالشي الكوني، ومن بعض مكونات الوجود الشمسي التي لقحت الوجود األرضي.
3.1الشرط األرضي يرتبط مصيرنا مبصير الكون بشكل وثيق على الرغم من أننا نقع في اجلزء الهامشي منه .إننا نعيش في كوكب األرض الذي ميثل الكوكب الثالث للشمس التي انتزعت منها مركزيتها ،وأصبحت جنم ًا قزمي ًا تدور على غرار مليارات النجوم في مجرة ،تشكل بدورها هامش كون يتمدد باستمرار.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
لقد تشكل كوكب األرض الذي ننتمي إليه منذ حوالي خمسة مليارات سنة ،انطالق ًا من احتمال يقول بانفجار كوني ناجت عن دمار أصاب شمساً .أما بخصوص الكائن احلي ،فقد انبثق رمبا حوالي أربعة مليارات سنة نتيجة دوامة ضخمة ملجموعة من اجلزيئات ،بفعل اضطرابات الكواكب وتشنجاتها .وهكذا انتظمت األرض كونياً ،وأنتجت نفسها باستقالل عن الشمس ،وتشكلت من خالل تركيب فيزيقي حي انطالق ًا من اللحظة التي تطور فيها محيطها البيولوجي. إننا في اآلن نفسه كائنات كونية وأرضية .إن احلياة نتجت بفعل تشنجات واضطرابات الكواكب ( )les convulsions telluriquesوفي سياق مغامرتها الوجودية هذه تعرضت في مناسبتني خلطر التالشي عند نهاية احلياة البدائية ،وخالل املرحلة الثانوية .لقد تطورت احلياة ليس كأمناط مختلفة فحسب ،ولكن تطورت كذلك على شكل أنساق بيئية شكل فيها االفتراس سلسلة من االنتصارات ذات التوجه املزدوج :احلياة من جهة ،والعدم من جهة ثانية. تسبح األرض التي نعيش فيها في هذا الكون الشاسع ،لذلك وجب أن نستخلص النتائج من هذه الوضعية الهامشية واحمليطية ،وباعتبارنا كائنات حية داخل هذه األرض ،فإننا نرتبط بشكل حيوي باملجال البيولوجي األرضي ،ما يجبرنا على االعتراف بالهوية اإلنسانية الضاربة
في عمق املادي والبيولوجي.
4.1الشرط اإلنساني إن أهمية التربية على الشرط اإلنساني حتظى بأهمية قصوى ،ألن من شأن ذلك أن يبرهن على الكيفية التي تشكل بها الوجود اإلنساني من خالل جتميع بعدين أساسني :البعد اإلنساني ،والبعد احليواني. تفيدنا األنثروبولوجيا املهتمة بدراسة حقب ما قبل التاريخ ،في التعرف على مسلسل األنسنة ،إذ أن اكتساب اإلنسان إلنسانيته يعتبر مغامرة تضرب جذورها في عمق التاريخ ،ومبدة تقاس مباليني السنني ،إنها مغامرة مرت مبراحل منفصلة شهدت ميالد أشكال البشر األولني، الذين يطلق العلم عليهم أسماء “النيودرتال“ ،و“األموسابيان“ و“اإليريكتوس املنتصب« ،كما عرفت أيض ًا اختفاء بعض األنواع السابقة ،وكذا انبثاق لغات وثقافات ،ومراحل متصلة مبا يعنيه ذلك من استمرار مسلسل تطور وظائف اليدين والرجلني واستقامة اجلسم وتطور الدماغ ،واستمرار التعقيد االجتماعي ،وهي الصيرورة التي انبثقت منها اللغة اإلنسانية التي متيزنا .هذه اللغة ساهمت في الوقت نفسه في تطور الثقافة والرأسمال املكتسب من املعارف والكفاءة واالعتقادات واألساطير املنقولة جي ً ال عن جيل. لقد انتهت عملية األنسنة إلى والدة جديدة .إن الكائن اإلنساني «يتأنسن» ،ومع ذلك فإن مفهوم اإلنسان ميكن أن نقاربه من خالل مدخلني :مدخل بيومادي وآخر نفسي اجتماعي ،حيث يحيل أحدهما على اآلخر .إن أصلنا هو الكون والطبيعة واحلياة ،لكن بفعل هذه اإلنسانية نفسها وبفعل هذه الثقافة وهذا الفكر وهذا الوعي أصبحنا يظل متخفي ًا فينا على الرغم منا. غرباء عن هذا الكون ،الذي ّ إن فكرنا ووعينا الذي مكننا من معرفة العالم هو نفسه ما يبعدنا عنه ،بل إن قضية الدراسة العلمية واملوضوعية للعالم تبعدنا أكثر عن هذا الكون الثاوي فينا الذي ننتمي إليه. إن تطورنا يتجاوز البعد املادي واحلي ،وهذا التجاوز هو أن اخلصائص اإلنسانية في تشتتها شبيهة مبا يقع لنقطة صغيرة داخل مجسم ضخم. نحمل داخل خصوصيتنا وتفردنا ،ليس فقط اإلنسانية وكل احلياة كافة، ولكن نحمل تقريب ًا كل الكون ،بكل غموضه الذي ميكث في عمق الطبيعة اإلنسانية .وباملقابل ،لسنا مجرد كائنات ميكن إدراكها وفهمها انطالق ًا فقط مما هو كوسمولوجي أو مادي بيولوجي أو نفسي .إن إنسانية اإلنسان أكبر من أن تختزل في هذا البعد أو ذاك.
.2إنسانية اإلنسان 1.2الوحدة املزدوجة يتكون اإلنسان بالدرجة نفسها من مكون بيولوجي وثقافي ،وهذه الوحدة املزدوجة هي ما مينح اإلنسان أصالته ومتيزه .إنه كائن حي متفوق طور بطريقة مذهلة قدراته على احلياة .إنه تعبير بطريقة مفرطة جد ًا عن
إمكانياته التمركزية والغيرية للفرد. إن اإلنسان ذو أبعاد بيولوجية ،بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ،ولكن افتراض عدم توفره على املكتسب الثقافي سيحوله إلى كائن بدائي من األصناف احليوانية األولى ،إن الثقافة مبا هي مجموعة من التراكمات احلاصلة عبر سنني طويلة تتضمن كل ما مت االحتفاظ به ونقله وتعلمه، وهي تتضمن أيض ًا القواعد واملبادئ املكتسبة.
2.2دائرة الدماغ ..الفكر ..الثقافة ال يكتمل اإلنسان ككائن تام اإلنسانية إال داخل الثقافة وبواسطتها ،كما أنه من املستحيل تصور ثقافة دون دماغ إنساني (كجهاز بيولوجي يتوفر على كفاءة احلراك ،والتصور ،واملعرفة والتعلم) ،لكن ال وجود لفكر خالص؛ أي إمكانية وجود وعي وفكر دون ثقافة .إن الفكر اإلنساني ينشأ وينمو داخل هذه العالقة الثنائية بني الدماغ والثقافة ،إذ مبجرد انبثاق الفكر يتدخل في اشتغال اجلهاز العصبي ويؤثر عليه. هناك إذن دائرة ثالثية العناصر متشكلة من الدماغ والفكر والثقافة، حيث كل مفهوم يقتضي بالضرورة وجود العنصر اآلخر .وهكذا ،فإن الفكر انبثق من الدماغ الذي أفرز الثقافة التي ال ميكن تصور إمكانيتها دون دماغ.
أيضاً ،حيث تتضمن صراعات معروفة بني الغريزة والقلب والعقل، وبالنتيجة فإن العالقة الثالثية ال تخضع بالضرورة لتراتبية :عقل، عاطفة ،غريزة .إن العالقة بني هذه املكونات ليست سكونية بل دائرية. العقالنية بهذا املعنى ال تتوفر على سلطة مطلقة ،إنها مجرد مكون يتنافس ويتعارض ،وال ميكن فصلها عن باقي املكونات الثالثة ،وهي في الوقت نفسه هشة ،وتتمثل هشاشتها في قدرة باقي املكونات على السيطرة عليها وإزاحتها ،بل واستبعادها من قبل اإلحساس أو الغريزة. إن غريزة القتل ميكن أن تشغل القدرات اخلارقة للمنطق ،وتستعمل العقالنية التقنية من أجل تنظيم أفعالها وتبريرها.
127
4.2ثالثية :الفرد ،املجتمع ،النوع ال يستقيم احلديث عن اإلنسان دون التوقف عند هذه الثالثية :فرد، مجتمع ،نوع؛ ألن األفراد ليسوا سوى منتوج لصيرورة إعادة إنتاج النوع البشري ،لكن هذه الصيرورة نفسها ليست سوى منتوج اللتقاء فرديني .وهكذا ،فإن تفاعالت األفراد تنتج املجتمع ،وهذا األخير شاهد على انبثاق الثقافة التي تؤثر جدلي ًا على األفراد انطالق ًا من الشكل التالي: فرد
3.2دائرة العقل اإلحساس ..والغريزة إلى جانب ثالثية (الدماغ -الفكر -الثقافة) ميكن العثور أيض ًا على ثالثية بيو– أنثروبولوجية أخرى غير مذكورة سالفاً ،واملتمثلة في ثالثية أخرى جتد سندها في التصور الثالثي للدماغ ،كما جندها لدى ماكلني (Mac 1،)leanإذ أن الدماغ اإلنساني حسب نظرية هذا العالم األمريكي يتضمن مجموعة من املكونات:
إن العالقة بني املكونات الثالثة ليست تكاملية فحسب ولكنها تنافرية
ال يحظى أي عنصر من هذه العناصر باألفضلية ،وال ميكن بأي حال من األحوال إضفاء صفة اإلطالقية على الفرد ،وأن جنعل منه الغاية القصوى لهذه الثالثية ،كما ال ميكن في الوقت ذاته أن نضفي اإلطالقية نفسها على املجتمع على حساب الفرد الذي يعيش بدوره من أجل املجتمع .وهكذا يصبح كال الطرفني غاية ووسيلة :إن الثقافة واملجتمع متكن األفراد من التالحم ،كما أن التفاعالت بني األفراد متكنهم من استمرارية الثقافة والوصول إلى التنظيم الذاتي للمجتمع .وباملقابل، ميكننا أن نعتبر أن االنفتاح وحرية تعبير األفراد/الذوات يشكل مصيرنا األخالقي والسياسي دون أن نعتقد أن الذوات نفسها تشكل الغاية القصوى من ثالثية :املجتمع ،الفرد ،النوع .واخلالصة ،أنه ال ميكن فهم تعقيد الظاهرة اإلنسانية في انفصالها عن العناصر املكونة لها، ألن كل تطور حقيقي لإلنسان يعني تطور ًا متالزم ًا لالستقالل الذاتي لألفراد ،وتطور ًا للمشاركة اجلماعية ،وتطور ًا لإلحساس باالستماع إلى النوع اإلنساني.
.3الوحدة املتعددة التركيبات: الوحدة والتنوع اإلنساني يجب أن ترتكز تربية املستقبل على أن تكون وحدة النوع اإلنساني ال تتعارض مع تعدده ،كما أن فكرة التعدد ال ميكنها القضاء على فكرة
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
< الفص اجلبهي الذي متت وراثته من دماغ الزواحف ،وهو مصدر العدوانية والغرائز البدائية. < قشرة الدماغ احلوفية ،كجزء من مخلفات الثدييات األولى ،حيث يبدو احلصني ( 2)l’hippocampeكمؤشر على ذلك االرتباط الدال بني مجموعة من الكائنات وحلقة مهمة في التطور .إن هذا اجلزء من الدماغ مسؤول عن تطور العاطفة وتطور الذاكرة الطويلة األمد. < القشرة الدماغية :واملتطورة بشكل كبير لدى الثدييات إلى درجة تغطية جميع أجزاء املخ وتشكيل اجلزء الغربي من القشرة الدماغية ،وهي متضخمة بشكل كبير لدى اجلنس البشري مقارنة بباقي األنواع ،وهي التي حتولت فيما بعد إلى قشرة املخ احلديثة ( )néocortexالتي تعتبر املسؤولة عن القدرات التحليلية واملنطقية واإلستراتيجية ،والتي تعمل الثقافة على تطويرها باستمرار .وهنا يظهر وجه آخر من أوجه التعقيد اإلنساني واملتمثلة في استدماج صفات حيوانية (ثدييات وزواحف) في الكائن البشري من جهة ،واختالط اإلنساني باحليواني من جهة ثانية.
مجتمع
نوع
128
الوحدة .هناك وحدة إنسانية وهناك باملقابل تعدد إنساني .إن الوحدة ال تتمثل في املالمح البيولوجية لإلنسان العاقل ،كما أن الوحدة ليست في املكونات السيكولوجية والثقافية واالجتماعية للكائن اإلنساني، هناك أيض ًا تعدد محض بيولوجي داخل الوحدة اإلنسانية ذاتها .وهناك وحدة ليس فقط في اجلهاز العصبي ،بل وحدة فكرية ونفسية وشعورية وثقافية ،األدهى من ذلك أن الثقافات واملجتمعات األشد تباين ًا يشتركون في مبادئ عامة أو منظمة. إن الوحدة اإلنسانية تتضمن داخلها املبادئ املتعددة للتنوع .وهكذا، فإن فهم األبعاد اإلنسانية تقتضي فهم وحدة النوع اإلنساني في تنوعه، وفهم تنوعه في وحدته ،يجب بناء تصور جديد ينظر إلى الوحدة في التنوع وينظر إلى املتعدد في الواحد .وعلى هذا األساس ،يجب على التربية أن تشجع مبدأ الوحدة والتعدد في كل املجاالت ،بل يجب أن يكون هذا الهدف بداية ومنتهى كل فعل تربوي مستقبلي.
1.3املجال الفردي تتجاور داخل الفرد نفسه الوحدة والتعدد الوراثيان .فكل إنسان يحمل في جيناته مورثات النوع اإلنساني ،كما يحمل في الوقت ذاته خصوصياته املميزة له تشريحي ًا وفسيولوجياً .هناك وحدة وتنوع عصبي ،عقلي ،وسيكولوجي ،وعاطفي ،وثقافي ،وذاتي .فكل إنسان يحمل داخله خصوصيات عصبية وثقافية وسيكولوجية وعاطفية وذاتية ترتد باألساس إلى ما هو مشترك ،وفي الوقت ذاته ،يتكون اإلنسان من خصوصيات عقلية وأخالقية ونفسية وشعورية وثقافية متيزه عن اآلخرين.
2.3في املجال االجتماعي املجال االجتماعي بدوره ال يخرج عن ثنائية التنوع والوحدة في اآلن ذاته ،ففي اللغات توجد اختالفات شاسعة في البنيات ،لكنها تشترك جميعها من حيث متفصلها املزدوج ،ما يجعلنا توائم في الكالم ومختلفني في اللغات .وثنائية الوحدة والتعدد نفسها جندها في التنظيمات االجتماعية والثقافية.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
3.3التنوع الثقافي وتعدد األفراد تتخذ الثقافة صيغتني ،فنقول ثقافة بصيغة املفرد وثقافات بصيغة اجلمع .إن الثقافة تشكيلة من املعارف والقدرات والقواعد واألسس واإلستراتيجيات واالعتقادات واألفكار والقيم واألساطير املنقولة جي ً ال عن جيل ،التي يعيد إنتاجها كل فرد وتفرض رقابة على املجتمع وحتافظ على التناسق االجتماعي والسيكولوجي .فال وجود ملجتمع قدمي أو حديث دون ثقافة ،لكن لكل ثقافة خصوصيتها املتفردة ،وبالتالي توجد ثقافة في الثقافات ،لكن الثقافة ال ميكن أن تستمر إال عبر الثقافات املتعددة. توجد التقنيات بدرجات متفاوتة حسب اختالف الثقافات ،كما هو احلال بالنسبة لتقنيات العجالت والدوران ،أو الترابط ،أو البوصلة أو
املطبعة ،وتختلف أيض ًا حسب درجة حضور املعتقدات الدينية واألفكار املالئكية .غير أن بعض الثقافات استطاعت أن تصبح عاملية .فداخل كل ثقافة يوجد رأسمال خاص من املعتقدات واألفكار والقيم واألساطير التي تشكل أساس الروابط القوية بني أفراد جماعة معينة وأجدادهم وثقافتهم وموتاهم. يحاول املدافعون عن التعدد جاهدين التبخيس واحلد من الوحدة اإلنسانية ،في حني يعمد املدافعون عن الوحدة اإلنسانية إلى اعتبار التعدد الثقافي مسألة هامشية .ضد هذين التوجهني يجب االهتمام بالوحدة التي تضمن وتشجع التعدد :تعدد يدخل ضمن سياق الوحدة. تشكل ثنائية الوحدة والتعدد أمر ًا حاسم ًا بالنسبة للثقافات .فالثقافة حتافظ على الهوية اإلنسانية في خصوصياتها ،أما الثقافات فتحافظ على الهويات االجتماعية في ما مييزها .وهكذا يظهر أن الثقافات تنغلق على ذاتها من أجل حماية الهوية اخلاصة .وباملقابل ،تقوم هذه الثقافات باالنفتاح على اخلارج من خالل استدماج األفكار والعادات وعادات األكل واألفراد ،وليس فقط املعارف والتقنيات .إن استيعاب ثقافة ما لعناصر ثقافية تنتمي إلى مجال آخر يؤدي إلى حصول اإلغناء واإلثراء. مكتسبات كبيرة جد ًا وخالقة تنتج عن التالقح الثقافي .إن النموذج اخلالق لهذا التالقح يتجسد بوضوح في موسيقى الفالمنكو وموسيقى أمريكا الالتينية وموسيقى «الراي» 3.وباملقابل ،فان إقصاء ثقافة ما حتت التأثير املدمر للهيمنة التقنية واحلضارية يشكل خسارة لإلنسانية كافة، التي يشكل التعدد الثقافي أحد كنوزها األكثر أهمية. الكائن اإلنساني واحد ومتعدد ،وكما أسلفنا سابقاً ،فان كل إنسان في أبسط مكوناته يحمل داخله مخلفات كونية ،إذ أن كل كائن مهما كانت شدة انغالقه ومهما كان بدائياً ،يتضمن في تكوينه عناصر من هذا الكون .إنه يحمل في داخله أبعاده الداخلية املتعددة وشخصياته االفتراضية ،وعدد ًا النهائي ًا من العناصر املتوهمة ،ووجوداً ،متعدداً، ومتخي ً ال وواقعياً ،في النوم واليقظة ،في الطاعة والتمرد ،في السر والعلن. كل شخص يتضمن داخله مجرات من األحالم واألوهام ومشاعر ظمأى من الرغبات ومشاعر احلب ،وانتكاسات من احلزن ،ومساحات ال متناهية من الالمباالة املتراكمة ،وأكوام ًا من النجوم احملترقة ،ومشاعر من الكراهية ،وإشراقات من الوضوح ،ورعود ًا من احلماقات.
4.3اإلنسان ،العاقل ،الواهم يجب أن نتخلص في القرن احلادي والعشرين من تلك النظرة األحادية البعد التي تعرف الكائن اإلنساني بالعقل فحسب (،)homo sapien أو من خالل وصفه بالكائن الصانع ( ،)homo faberتلك النظرة التي تعرف الكائن اإلنساني بالعقل فحسب أو التي حتصره في أنشطته االقتصادية ( )homoeconomicusأو من التي تقتصر على الوظائف األساسية. يجب النظر إلى اإلنسان بعيد ًا عن هذه النظرة األحادية ،من خالل
استبدالها بتصور يقارب اإلنسان باعتباره كائن ًا مركب ًا يحمل في ذاته خصائص متناقضة وبطريقة ثنائية األقطاب ،إنه: < عاقل وواهم ()sapiens - démens < عامل والعب يحب اللهو ()faber- ludens < واقعي وخيالي ()empiricus- immaginerues < منتج اقتصادياً ،ومستهلك ()economicus- consuman < نثري وشعري ()prosaicus-poeticus إن اإلنسان العقالني هو نفسه احلامل أبعاد ًا عاطفية ،وهو نفسه ذلك املؤمن باألسطورة واخلرافات ،واإلنسان العامل هو نفسه ذاك الذي يجد في اللعب جوهره ،كما أن اإلنسان الواقعي هو نفسه ذلك اإلنسان احلالم .وبالقدر نفسه الذي ميكن أن نصف اإلنسان باالقتصادي ميثل أيض ًا ذلك البعد االستهالكي .من جهة أخرى ،فاإلنسان منتج النثر، هو الذي ينظم الشعر أيضاً ،مبا يعنيه ذلك من امتياز ،ومشاركة، وحب ونزوات .إن احلب شعر ،وكل حب ناشئ قادر على إغراق العالم شعراً ،وكل حب وجد طريقه نحو االستمرارية يبعث في احلياة اليومية متدفق ًا من الشعر فيما تؤدي نهاية احلب إلى رمينا في صحاري النثر .يتضح إذن ،أن اإلنسان ال يعيش فقط من خالل بعديه العقالني والتقني ،إنه يشمئز ،ميزح ،وينخرط في الرقص ،وفي جذبة مرضية وفي األساطير ،والسحر والطقوس .إنه يعتقد أيض ًا في قيم التضحية. ويعيش باستمرار مستعد ًا حلياة ما بعد املوت. في جميع املجاالت يتمظهر النشاط التقني والعملي والثقافي ،كمؤشر على ذكاء جتريبي وعقالني .وفي جميع املجاالت كذلك ،تشكل احلفالت واألعياد والطقوس بكل متظهراتها وأفراحها والضياع الذي تقتضيه مؤشرات على البعد الترفيهي واالستهالكي واخليالي والواهم في اإلنسان.
5.3اإلنسان املركب إننا كائنات لعوبة ،وعدوانية ،وواهمة ،وبالقدر نفسه ،نحن عقالنيون. كل ذلك يشكل اللحمة اخلاصة باإلنسان .إن اإلنسان كائن عقالني ٍ ومستعص عليه .إنه كائن وال عقالني في الوقت ذاته ،قابل للقياس ذو إحساس كثيف وغير مستقر .إنه يضحك ،يبتسم ،يبكي ،ولكن
129
ال بد من التساؤل كذلك إن كان احلمق يشكل معضلة أساسية لإلنسان وليس فقط مخلفاته أو أمراضه .إن تأثير احلمق اإلنساني كان واضح ًا بالنسبة للفلسفة القدمية واحلكمة الشرقية ،وللشعراء من كل األنحاء وألصحاب النظرة األخالقية من «إيرازم» إلى «باسكال» ،ومن «مونتني» إلى «روسو» .غير أن موضوع احلمق هذا تالشى ،بفعل الفورة األيديولوجية للتيار اإلنساني التي اجتاحت العالم ،واجتاحت أيض ًا العلوم. لم يقد احلمق اإلنسان إلى الفناء (فقط الطاقات النووية الناجتة عن استخدام العقل العلمي وفقط التقدم العقالني والتقني في مقابل البيولوجي ،ميكن أن تودي إلى دمار اإلنسان) .بل إن البشر وعلى الرغم من قضائهم جلزء مهم من أوقاتهم في الرقص وممارسة الطقوس والعادات والتزيني وعدد ال يستهان به من احلماقات ،فإن التقدم التقني والعلمي احلاصل يعتبر مذه ً ال حقاً ،وأنتجت احلضارات والفلسفة والعلم ،وسيطر الكائن اإلنساني على كوكب األرض. ميكن أن نستخلص أن التطورات املعقدة أجنزت بواسطة احلمق اإلنساني وضده .إن احلوار عقل/حمق كان ناجع ًا في الوقت نفسه الذي يشكل فيه عنصر دمار .إن الفكر والعلم والفنون قد انبثقت من خالل القوة العميقة للعاطفة واألحالم والقلق والرغبات واملخاوف واآلمال. في كل اإلنتاجات اإلنسانية يتجاور دائم ًا الثنائي عقل/حمق .احلمق يناقض العقل لكنه يستحثه .وقد الحظ أفالطون منذ القدمي أن ديكي، ممثلة قانون احلكمة ،سليلة أوربيس التي متثل إله الالنظام. إنه الغضب األعمى ذاك الذي دمر أعمدة العبودية ،التي مثلها سجن الباستيل ،وباملقابل فإن السيطرة على سجن الباستيل كانت من طبيعة عقلية ،والعقل نفسه سيتحمل مسؤولية طوفان املوت واإلعدام الذي أعقب الثورة الفرنسية. العبقرية في شكل من أشكالها ،ناجتة باألساس من عدم القدرة على سجن اإلنسان في ما هو واقعي ومنطقي ،وفي شفرة وراثية أو في ثقافة أو مجتمع .إن البحث واالكتشاف ال يتقدم إال عبر صبيب معني من الاليقني ،وعبر هامش من التردد املتاح .ألن العبقرية ال تنبثق إال من رحم االنفالت من الرقابة .وهنا يتأجج احلمق ويفعل فعله املبدع.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
إن أنشطة اللعب واالحتفال والطقوس ليست مجرد أنشطة بسيطة للترفيه واالسترخاء من أجل التخفيف من عبء اليومي والعمل .كما أن االعتقاد في اآللهة ،وفي األفكار ال ميكن اختزالها إلى مجرد أوهام أو خرافات .إنها تضرب بجذورها عميق ًا في األعماق األنثروبولوجية، ألنها تهم الكائن اإلنساني في طبيعته األصلية .دون شك ،هناك عالقة ظاهرة أو متخفية بني السيكولوجي والعاطفي والسحر واألسطورة والدين .هناك في الوقت نفسه وحدة وازدواجية ما بني اإلنسان العامل، اإلنسان الالعب ،اإلنسان العاقل ،اإلنسان األسطوري ،وبخاصة أن التطور العقالني التجريبي التقني لدى اإلنسان ،لم يستطع ،في أي حال من األحوال ،أن ينهي مع املعرفة الرمزية واألسطورية والسحرية والشعرية.
قادر على إنتاج معرفة موضوعية .إنه كائن جدي ،ويجيد العد ،ولكن أيض ًا كائن قلق وعصبي وفرجوي ،يحب اللذة ويهيم بها ،كائن عنيف وحنون ،محب وحاقد ،كائن يخترقه اخليال ،ويعترف بالواقع ،يسمع باملوت ويرفض التصديق به .يستبطن األسطورة والسحر ويتجاوران داخله مع العلم والفلسفة .مهووس باآللهة واألفكار ويشكك فيهما وينتقدهما ،يتغذى من األفكار الواقعية ومن األوهام واألحالم غير الواقعية ،وفي الوقت الذي حتدث فيه القطيعة بني الرقابة العقلية والثقافية واملادية ،يقع ذلك اللبس القائم بني الذاتي واملوضوعي .وعندما يتحقق انسجام األوهام بفعل سيادة منطق غير مترابط يقوم البعد األحمق في اإلنسان باستعباد الكائن العاقل ،ويصبح الذكاء العقالني تابع ًا للجانب املتوحش من البشر.
130
ينبثق اإلبداع من خالل ذلك الرابط بني األعماق النفسية والوجدانية املظلمة والشعلة املتقدة للوعي .وعلى هذا األساس يجب على التربية أن تكشف وتوضح املصير املتعدد املعالم لإلنسان ،من خالل توضيح مصير النوع اإلنساني ،ومصير الفرد ،واملصير االجتماعي ،واملصير التاريخي ،وكل املصائر املتناثرة بال نظام وغير املنفصلة .ومن بني الرهانات األساسية أيض ًا لتربية املستقبل ،اإلعالء من موهبة فهم التعقيد اإلنساني ودراسته .إن كل تربية جديرة باملستقبل هي تلك
التي تربط بني املعرفة والوعي بالشروط الوجودية املشتركة لكل البشر والوعي أيض ًا بهذا الثراء الضروري املتمثل في تنوع األفراد والشعوب والثقافات ،ما يجعل جذورنا مشتركة كمواطنني ننتمي إلى هذه األرض. إدغار موران ترجمة :عزيز مشواط
الهوامش
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
* العنوان األصلي للمقال هو (ENSEIGNER LA CONDITION ،)HUMAINEوميثل الفصل الثالث من كتاب إدغار موران املعنون بـ «املعارف السبعة الضرورية لتربية املستقبل» (Les sept savoirs ،)nécessaires à l’éducation du futurواملنشور بدعم من اليونسكو. 1بول د .ماكلني عالم البيولوجيا العصبية ،أمريكي اجلنسية (.)2007-1913 اشتهر بنظريته الثالثية حول الدماغ التي يعتبر فيها أن الدماغ اإلنساني يتضمن ثالثة مكونات ،بحيث يحيل كل مكون على مرحلة من مراحل التطور اإلنساني بدأت من الزواحف والثدييات وصو ً ال لإلنسان احلالي، (املترجم). 2احلصني أو قرن آمون قشرة دماغية توجد أسفل الفص الصدغي للدماغ، وقد حظيت باهتمام كبير من الدراسات التشريحية منذ أواخر القرن التاسع عشر ،وبخاصة في أوائل القرن املنصرم .ويرجع االهتمام إلى املعطيات التي قدمها طبيب األعصاب بابيز ( ،)Papezحيث أظهر هذا الباحث أن للحصني دور ًا مهم ًا في اكتساب املعلومات ،وافتراضها من اجلهات األساسية والضرورية للتذكر والذاكرة .وبالفعل ،أكدت الدراسات
من دورة كمبيوتر للفتيات نظمها مسرح احلرية في جنني.
فيما بعد أن للحصني دور ًا في معاجلة املعلومات اخلاصة بالتذكر والذاكرة طويلة املدى .وزيادة على كون هذه اجلهة الدماغية تشكل املمر الضروري للمعلومات ،فإن لها دور ًا آخر ال يقل أهمية عن األول ،بحيث أنها تخزن املعلومات التي هي في طريق الترسيخ ملدة زمانية تصل إلى أسابيع عدة، قبل أن تبعث أو مترر إلى نوى أو باحات قشرية دماغية أخرى .ويستغرق تخزين املعلومات بالنوى والباحات األخرى حيز ًا زماني ًا يدوم في بعض األحيان بباحات أو نوى عدة ،لكل منها دور ونشاط عصبحيوي يتولى وظيفة معلوماتية معينة( ،املترجم). 3الراي هو حركة موسيقية غنائية نشأت بالغرب اجلزائري ،تعود أصولها إلى لحن» ،لغة أغاني امللحون من اللهجة العامية شيوخ الشعر امللحون أي «ا ُمل ّ القريبة جد ًا للعربية الفصحى ،وتأخذ جل مواضيعها من املديح الديني واملشاكل االجتماعية .ركزت اهتمامها إبان فترة االستعمار الفرنسي على سرد مآسي السكان من صعوبة في املعيشة وآفات اجتماعية حتاول بها توعية املستمع. تطورت هذه احلركة كثير ًا في أواخر القرن املاضي في كل من املغرب واجلزائر، بعد أن استطاع بعض الشباب تطعيمها بإيقاعات موسيقية غربية وشرقية مختلفة لتشكل منوذج ًا فريد ًا من التمازج واالختالط املوسيقي ،املترجم.
ملف العدد القادم
املناهج الفلسطينية بعد عشر سنوات .. ما لها وما عليها
قبل قرابة عقد من الزمن ،مت تطبيق أول املناهج الفلسطينية .وعام ًا بعد عام ،بدأت تتوالى هذه املناهج تباعاً ،وأثناء ذلك انخرط املعلمون في دورات تأهيل إلعدادهم لهذه املرحلة اجلديدة. واآلن ،بعد أن مت إجناز املناهج الدراسية كافة وللصفوف واملراحل جميعها ،رمبا نحتاج في هذه اللحظة التاريخية كمجتمع ومعلمني وواضعي مناهج إلى نظرة جريئة إلى هذه املناهج لنقول كلمتنا فيها. بعد قرابة قرن من اخلضوع ملناهج «اآلخر» ،الذي حاول أن رس َم معالم الهوية الفلسطينية -تاريخ ًا وجغرافيا -وفق غاياته ُي ِّ وشروطه ،نريد ألول مرة أن نقارب معالم الهوية الفلسطينية التي بشرت بها هذه املناهج .وحيث أن الشعب الفلسطيني ال يزال يرزح حتت نير االحتالل ،فإنه من الضروري أن نقف عند هذه اخلصوصية ،لنرى كيف قاربت املناهج هذه اخلصوصية. نعتقد اآلن أن الفرصة سانحة لوقفة جريئة تتسم برؤية حتليلية نقدية لهذه املناهج ،نسائلها في بعدها الفكري الفلسفي ومنتظراتها الثقافية واالجتماعية ،وبخاصة أن املجتمع الفلسطيني مير اآلن في مرحلة انقسام سياسي غير مسبوق ،وكيف ننظر إلى املجتمع الفلسطيني اآلن سياسي ًا واجتماعي ًا وثقافي ًا على ضوء دور املدرسة ومناهجها ومنتظراتها ونتاجاتها؟
< كيف ينظرون إليها اآلن وهنا؟ وما درجة رضاهم عنها؟ هل هذه املناهج تتسم باإلبداع وتبشر مبستقبل واعد وتهيئ الظروف ملجتمع املعرفة؟ < ماذا يقول الطالب عن هذه املناهج؟ وفي هذا السياق رمبا نتطرق
إلى صعوبات املنهاج من وجهة نظر الطالب واملعلم. < ما هي إشكالياتها املعرفية واإلجرائية؟ وكيف يتم جتاوزها؟ وفي هذا السياق ،نريد للملف أن يوثق بعض جتارب املعلمني في املناهج ،أو جتارب على متاس معها. فترض أن وكذا نريد أن نعرض لوجهة نظر املجتمع الذي ُي َ هذه املناهج جاءت لتعيد سرد حكايته ،وتعبر عن طموحاته املستقبلية: < ماذا كان مأمو ً ال منها؟ وماذا حتقق من منتظراتها؟ < كيف ينظر الناس إلى أبنائهم الذين هم صنيعة هذه املناهج؟ وللمشاركني في تأليف املناهج: < هل متت مراعاة اخلصوصية الفلسطينية فيها اجتماعي ًا وثقافي ًا وعلمياً ،أم أن هذه املناهج اجترار لتجارب دول أخرى ونسخ لها مع قليل من احلذف والتعديل واإلضافة؟ < هل هذه املناهج بنيت بإرادة فلسطينية خالصة أم أنها كانت ميدان ًا لصراع اإلرادات؟ مساحات أخرى ..محاور إضافية: .1طبيعة العلم ..اخلصائص وأشكال املقاربة في مناهج العلوم. .2التجريب واالستقصاء العلميان وموقعهما في مناهج العلوم. .3اخليال العلمي ومستويات التفكير العليا ..واقع احلال وآفاق التطوير. .4مفهوم النوع االجتماعي (اجلندر) في مناهج التربية املدنية والوطنية. محرر امللف مشهور البطران
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ونحن في مركز القطان للبحث والتطوير التربوي ،وعبر مجلة رؤى تربوية ،اعتدنا على نشر ملفات متخصصة في حقول تربوية ومعرفية ذات عالقة بالعملية التربوية في فلسطني ،واستمرار ًا لهذا النهج ،فإننا نخصص ملف العدد القادم من املجلة ملقاربة املناهج الفلسطينية اجلديدة .في هذا امللف ،نريد أن نعرض لوجهة نظر املعلمني ،بصفتهم الفئة األكثر التصاق ًا بهذه املناهج ،الذين كانوا على متاس مباشر معها:
131
132
القدس بني رمزية احلياة ومنطق السياسة
ندوة حول كتاب منهاجي :القدس شكل احلضور ودالالت الغياب نظم مركز القطان للبحث والتطوير التربوي ندوة ثقافية تقييمية بتاريخ 2008/3/19حول كتاب «القدس ..الوطن والروح – خطة مرجعية» الذي أصدرته اإلدارة العامة للمناهج اإلنسانية واالجتماعية في مركز املناهج التابع لوزارة التربية والتعليم العالي ،ملناسبة «القدس عاصمة الثقافة العربية العام .»2009والكتاب هو خطة مرجعية لعام دراسي واحد ،وقد قسم إلى ثالثة أقسام كل قسم خاص بفئة عمرية وصفية؛ فالقسم األول للمرحلة األساسية األولى ،والثاني للمرحلة األساسية املتوسطة ،والثالث للمرحلة الثانوية.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
جاءت هذه الندوة منقادة بتوجهني ،التوجه التربوي والتوجه الوطني، ويتركز التوجه األول على تفعيل حوار مجتمعي عام حول سياسات الشأن التربوي ومناهجه وقضاياه ،حيث أننا في مركز القطان نعمل على تشجيع جميع الفعاليات املجتمعية وإشراكها ملناقشة العملية التربوية في فلسطني ،واملساهمة في تطويرها .ولهذا ،تأتي هذه الورشة لتساهم في نقل النقاش واحلوار حول املناهج من حيزه اخلاص إلى العام ،ليساهم املجتمع بكل طاقاته وإمكاناته عبر تدخل األفراد واملؤسسات مبوقعهم وحراكهم ،وعبر تقدمي رؤيتهم وتطلعاتهم نحو غد أفضل ألبنائنا. أما التوجه الوطني ،فينبع من كون الكتيب يتمحور ويدور حول القدس والتعليم عنها ،وملا للقدس من حيز خاص في وجداننا وهويتنا ،وما تتعرض له من عملية محو من قبل االحتالل االستيطاني الصهيوني. ولهذا ،نرى أهمية وجود تعليم عن القدس ،يقدمها مبا فيها من جغرافيا وتاريخ وبشر؛ بشر بحكاياتهم وذكرياتهم وثقافتهم وأحالمهم ،ومكان بعمقه وحضارته وتنوعه الثقافي وعنفوانه التاريخي .ومن هنا جاءت هذه الندوة ،ليس بهدف تقييم الكتاب؛ سواء أكان جيد ًا أم سيئاً ،وإمنا نسعى للوقوف على مخرجاته ومفاصله ،لنستقصي أي غد سيحمل ألبنائنا ،وأي قدس تعلم ألبنائنا ،وأي هوية نسعى إلى تشكيلها ،وأي مجتمع نحاول بناءه. وانطالق ًا من تقديرنا العالي ألهمية املوضوع ،أال وهو القدس ،وأهمية التعليم عنها وهذه نقطة ُتثمن للوزارة وللعاملني فيها ،حيث جاء توقيت الكتاب مناسب ًا وإن كان متأخراً ،إال أنه جاء ليمأل فجوة خطيرة متس نظامنا التعليمي ومشروعنا السياسي. ومن هنا ،ومن إمياننا كما ذكرنا بضرورة فتح الشأن التربوي على املجتمعي مبعنى «التداخل والتفعيل املتبادل» ،ومن االهتمام مبوضوع
القدس ،جاء تنظيمنا لهذه الندوة ،لنراكم على هذه املبادرة عبر رفدها بأفكار نقدية ،تنطلق من النظرة التقييمية باجتاه الفعل النقدي مبعناه اإليجابي أو البناء. بعد أن أصبح الكتاب في متناول املعلمني ،وعبر مالحظاتهم عنه ،ومن خالل اإلطالع عليه وعلى مفعوالته في املدرسة وبني املعلمني والطالب، وكيف أنه شكل مرجعية أساسية ودليل عمل حكم عمليات البحث من قبل املعلمني والطالب التي اندرجت في منطق الكتاب نفسه ،وفي ضوء كل ذلك مت التخطيط لبناء تصور لهذه الندوة ،بعد أن استشرفنا العديد من آراء املثقفني واملعلمني ،فقمنا باخلطوات التالية: < حصلنا على مجموعة من النسخ ،ومت توزعها على مختصني ومثقفني. < اطلعنا على الكتاب ورأينا أننا بحاجة ماسة لعمل حوار مجتمعي عنه وحوله. < وجهنا الدعوة إلى عدد كبير من املثقفني ،وراعينا أن يكونوا متنوعي اخللفيات والتوجهات وذوي صلة بالقدس ،وبخاصة الصلة احلياتية اليومية. < وبناء على مالحظاتهم األولية ،مت بناء الندوة على محاور عدة تتناول ً الكتاب شك ً ال ومضموناً؛ أي من حيث املضمون الثقافي والشكل اجلمالي واملقاربة التربوية. ومت عقد الندوة بحضور املتحدثني ومجموعة من احلضور الذي
ضم معلمني ومعلمات ،حيث تناول اجلزء األول من الندوة تقدمي املداخالت الرئيسية ،وتلها أسئلة اجلمهور وتعقيباته ،وفي النهاية تعقيبات املداخلني .وننشر في هذا اإلطار تعقيبات وزارة التربية والتعليم – قسم املناهج ،حيث قمنا بإرسال نصوص املداخالت للوزارة ليتسنى لهم التعقيب من باب أن ذلك حق أو ً ال ،وثاني ًا خللق حاله حوارية حول املوضوع التي هي غايتنا األولى. إن املداخالت وما تالها من حوار قد ركز على قراءة كتاب القدس من جوانبه املتعددة ،ومتت مقاربته بوصفه منوذج ًا مصغر ًا ملا يقدم ضمن نظامنا التعليمي ،وبذلك لم يكن الهدف هو تقييم الكتاب باملعنى التقليدي لكلمة تقييم ،بل كان الهدف هو «تأصيل احلوار املعرفي» كجزء من حراكنا الثقافي ،واالنتباه «ملا يقدم ألطفالنا»؛ أي إعادة بناء التيقظ واحلساسية املجتمعة جتاه قضايا التربية ومسائلها« ،فسؤال ما املستقبل الذي نعده ألطفالنا مرتبط بأي أطفال نعد ملستقبلنا» ،ولذلك متحورت الندوة على مثلث تأصيل املعرفة ،والتيقظ املجتمعي ،وبناء التكاملية مع عمل وزراه التربية والتعليم ومؤسساتها كمركز املناهج، من خالل محاورة ما ينتج عنها من وجهات نظر متعددة ،ومساعدتها على رؤية مخرجاته ،وبخاصة في مرحلة زمنية ستقوم خالل الوزارة بالنظر في املناهج وإعادة تقييمها. في ضوء ما سبق ،ومن وحي املداخالت واحلوار ،ميكننا القول إن هنالك إجماع ًا خرج به املشاركون في الندوة على أهمية التعليم عن القدس ،وعلى ضرورة هذا املوضوع ثقافي ًا وتربوياً ،وأكدوا على أهمية تعليم القدس للطلبة ،لكي يزداد تواصلهم روحي ًا ومعرفي ًا معها كمدينة فلسطينية وكعاصمة للدولة الفلسطينية املنشودة ،مشددين على ضرورة تذكير الطلبة بأن مدينة القدس وسائر املدن الفلسطينية األخرى ما زالت حتت االحتالل ،وحتتاج إلى بناء أجيال جديدة تنجز وتواصل مسيرة التحرر الوطني الفلسطيني.
وأجمعوا على أن الكتاب ٍ خال من أي نص حي ،أو من أي أثر تفاعلي مباشر يتركه لدى الطلبة واملعلمني للتفاعل مع مدينة القدس كمدينة حية ،وإمنا يصور الكتاب القدس كأنها مدينة من التاريخ اندثرت ولم تعد موجودة .فلقد أغفل الكتاب جميع حيثيات احلياة اليومية للمقدسني؛ أعيادهم ،احتفاالتهم ،طقوسهم اخلاصة ،وأغفل أيض ًا بيداغوجيا تفاعل البشر مع احلجر في القدس ،فال حكايتهم وال نواديهم وال قصصهم وال كثافة حضارتهم منصوص عليها في الكتاب ،وكأنها خالية من سكانها .فال نضال املقدسيني االجتماعي
د .إصالح جاد :ال منطق يحكم الكتاب «الكتاب ال يحكمه أي منطق ثقافي أو تربوي ،وذلك لغياب الرؤية الواضحة والضغوطات اخلارجية» ،هذا ما قالته د .إصالح جاد في مداخلتها ،وفيما يلي نصها:
133
في الواقع جاءت هذه املداخلة مع ظروف نفسية صعبة ،فعندما قمت بزيارة للقدس ومررت باحلواجز التي جعلت الطريق طويلة جد ًا حتى تصل القدس ،بدأت أشعر بحجم املعاناة والعزل والتغيير الذي أصاب املدينة ،كما تكرس شعور االغتراب ،ففجأة جتد نفسك أمام مرور قطار ال تعرف من أين أتى وإلى أين ذاهب ،فقرأت الكتاب في هذه الظروف ،ألخرج بثالث مالحظات مهمة جداً: املالحظة األولى :االنتقائية في األهداف ،بحيث ال يوجد عرض تسلسلي باملعنى التاريخي ،وال على مستوى احلدث ،فهنالك انتقائية في األحداث ،وال يوجد تسلسل منطقي لها ،وهذه األمثلة دليل على االنتقائية؛ فمث ً ال التركيز على هبة البراق دون ذكر أي شيء عن ثورة العام .1936فإذا كان الهدف التعريف بثورات الشعب الفلسطيني ضد االنتداب ومراحل مقاومته ،فكيف يتم جتاهل ثورة بحجم ثورة -1936 1939وضخامتها؟! وما مغزى التركيز هنا فقط على هبة البراق؟ هل ألنها أخذت منحى الدفاع عن املسجد األقصى حني حاولت مجموعات يهودية أن تضع لها موطئ قدم فيه؟ وإذا كان األمر كذلك ،فمرة أخرى كيف يتم جتاهل ثورة العام 1936التي كانت تدافع عن كل الوطن من التغلغل الصهيوني مبا في ذلك مدينة القدس؟! كذلك التركيز على املؤمتر اإلسالمي األول سنة ،1931وعدم التركيز على مؤمترات أخرى ال قبل هذا املؤمتر وال بعده. كذلك بالنسبة لالنتقائية ،وهذا ما يشترك مع النقطة التي سوف أحتدث عنها ،وهي ما هي الرسالة؟ جند في البداية احلديث عن مهبط الديانات السماوية ،وفي الوقت نفسه جند تركيز ًا مبالغ ًا فيه على الفتح اإلسالمي، وال يوجد أي إشارة إلى اآلثار املسيحية املوجودة في القدس ،إال في سياق احلديث عن الغزو الصليبي ،والسياق الثاني في عالقتها مع املسلمني؛ أي دخول عمر بن اخلطاب للقدس ،وغير ذلك ال يوجد أي ذكر للبعد الديني املسيحي ،على الرغم من أن املدينة حتوي العديد من اآلثار والكنائس املسيحية املهمة ،وحتوي أيض ًا املسيحيني الشرقيني الذين لهم تراث عربي شرقي ووطني مهم جد ًا في القدس ،وهي مكون رئيسي من مكونات الشعب الفلسطيني. املالحظة الثانية :غير االنتقائية وغير غلبة الطابع الديني ،هنالك مالحظة حول استخدام املفاهيم ،فمث ً ال كتبوا «االستيطان اإلسرائيلي»، يوجد مليون ومأتي ألف عربي في إسرائيل يحملون الهوية اإلسرائيلية، من وجهة نظري هؤالء ليس لديهم عالقة باالستيطان ،وعندما أقول استيطان ًا إسرائيلي ًا فإن هذا األمر يعني أنني شملت هؤالء الناس .هناك تفرقة كبيرة بني املفاهيم الثالثة ،من هو اليهودي؟ ومن هو اإلسرائيلي؟ ومن املستوطن؟
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ولكن ،رأى املجتمعون أن ذلك يجب أن يبنى في ضوء قراءة واعية للمشروع الفلسطيني السياسي ،وفي ضوء ما تفرضه السياسات املجتمعية والثقافية .وقد رأى احلاضرون أن الكتاب مهم وخطير ،ألنه مقدم للمراحل التعليمية كافة ،وسيتم تعليمه ضمن مواد وحصص تدريسية متعددة (اجتماعيات ،لغويات ،ديانات) ،وأن الكتاب يحاول أن يتضمن معلومات في املجاالت التاريخية واجلغرافية والسياسية كافة ...كما رأوا أيض ًا أن ما يطرح في الكتاب من أهداف معرفية وتربوية هو أكبر بكثير مما في الكتاب من مواد معرفية ،وهو أيض ًا غير واضح ويعوزه الكثير من التنسيق والتدقيق.
والثقافي والسياسي اليومي ،وال معاناتهم من جراء االحتالل، مذكورين في الكتاب.
134
كان األجدر بواضعي املناهج الفلسطينية اإلشارة إلى االستيطان اليهودي .كذلك اخلرائط ،ال تدل على أي شيء مجدد ،فمث ًَ ال اخلارطة الواردة في صفحة ،37التي تشير إلى املستوطنات اليهودية في فلسطني بداية االنتداب ،ليست هي أفضل اخلرائط التي ميكن استخدامها في املناهج ،مبعنى ال توجد خرائط تدل على حجم التوسع االستيطاني واملساحات التي تقلصت في فلسطني مع مرور الوقت. املالحظة الثالثة :هذه النقطة لها عالقة مبوضوع مداخلتي ،وهي استغرابي من كثرة النصوص الشعرية في الكتاب .تفسيري لهذا األمر قد يعود للضغوط اخلارجية على واضعي املنهاج الفلسطيني ،حيث حتاسب النصوص على كل كلمة وكل جملة ،إضافة إلى الروح العامة التي يكتب بها النص .فالنصوص الشعرية حتمل روح ًا حماسية وجهادية واضحة ،فهل املقصود هنا أن يقال عبر النص الشعري ما يصعب قوله في النص العادي تالفي ًا للضغوطات؟ هذا أمر ال يفسره بالطبع إال واضع النصوص الشعرية نفسه. محمود شقير: «هذا الكتاب يعاني من ضعف وارتباك ،وال يعطي صورة حية نابضة للقدس»
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
هذا الكتاب ضعيف ومرتبك ،ويجب أن ترتفع األصوات عالي ًا وتدعو لسحبه من املدارس .ال أريد أن أكرر ما ذكره اإلخوة الذين حتدثوا قبلي. فالكتاب الذي يجري احلديث في بعض صفحاته عن ضرورة احترام التعددية ،ال يتوفر فيه احترام التعددية بالفعل.
والكتاب يعاني من ضعف في اللغة ،وفي املصطلح ،وفي حتديد دالالت الكلمات .ومن األدلة على ذلك ،استخدام بعض املصطلحات التي يرددها اإلعالم اإلسرائيلي ،فالكتاب ال يتحدث عن ضم القدس إلى دولة االحتالل اإلسرائيلي ،وإمنا عن توحيد القدس! ويتحدث الكتاب عن اجلدار ،مرة باعتباره جدار الفصل العنصري، وأخرى باعتباره اجلدار الفاصل .وال يقف األمر عند هذا احلد ،بل حد تقدمي معلومات مغلوطة ،كأن يجري التأكيد على أن اجلدار يصل ّ يفصل القدس الشرقية عن القدس الغربية! وهذا غير صحيح. ومن املفارقات أن الكتاب يتوقع من الطالب الفلسطيني ،أن ينمي شعوره بالتضامن مع الشعب الفلسطيني! أي أن يتضامن الطالب مع نفسه! فهل هذا معقول! هذا عالوة على بعض التوجيهات الفضفاضة، املوجهة إلى الطالب بخصوص القدس ،التي تفتقر إلى الدقة لكي تكون منطقية ومعقولة ،وقابلة للتأثير في النفس. وحيث أن بعض شعراء القصيدة العمودية ما زالوا ميالني إلى املبالغة، للتعبير عن مشاعرهم اجلياشة ،بغض النظر عن مدى انطباق شعرهم معرضون للوقوع في التناقض الصارخ على واقع احلال ،فإن الطالب ّ بني الشعر والواقع ،فال يدرون ،هل يصدقون الشعر أم يصدقون الواقع املر الذي يرونه أمام عيونهم .ففي قصيدة عن القدس في صفحة 19من الكتاب ،ورد البيتان التاليان في سياق إحدى القصائد: نسد مداخله ا القدس ّ لو سرقوا يوم ًا ضحكتها
في وجه جميع الغرباء مزقت التاريخ ورائي
حد ففي حني يجري التركيز على القدس باعتبارها مدينة عربية إسالمية ّ املبالغة ،والدخول في تفاصيل ال ضرورة لها ،فثمة مرور سريع على الطابع املسيحي للمدينة ،الذي يدلل على عراقة القدس وعلى تعدديتها، وتنوع مصادر ثقافتها التي أغناها ويغنيها املسيحيون الفلسطينيون قدمي ًا وحديثاً.
طبع ًا أنا أقدر النوايا الطيبة للشاعر ،لكن احلقيقة املرة املاثلة أمام عيون يسدون مداخل القدس اجلميع ،هي أن احملتلني اإلسرائيليني هم الذين ّ في وجوهنا! وهم الذين سرقوا ضحكتها! ونحن نسعى جاهدين لكي نفضح ذلك ونضع حد ًا له.
كما الحظت أن الكتاب لم يتطرق إلى التاريخ الفلسطيني احلديث، إال على نحو محدود جداً ،حيث جرى ذكر ثورة البراق العام ،1929 وفيما عدا ذلك ،فقد مت جتاهل تاريخ احلركة الوطنية الفلسطينية املعاصرة ونضاالتها وتضحياتها ،ولم يتم ذكر بعض رموزها البارزين من الشهداء والقادة واملناضلني (مثالً :الشهداء :الشيخ عز الدين القسام ،الشاعر عبد الرحيم محمود ،القائد عبد القادر احلسيني).
وما دمنا نتحدث عن الشعر ،فإن بعض القصائد املختارة ضعيفة إلى احلد الذي ال يؤهلها للظهور في هذا الكتاب ،وهناك شعراء فلسطينيون وعرب متميزون كان من األجدر لو أنهم ذكروا في الكتاب .وأما قصيدة الشاعر العربي السوري عمر أبو ريشة ،فقد مت اختيارها لطالب الصفوف األولى ،وهي من اجلزالة بحيث كان األجدر بها لو مت اختيارها لطالب املرحلة األخيرة.
ولم يتطرق الكتاب ،إلى حركة التنوير الفلسطيني التي أسهمت وقدمت نتاجات أدبية وفكرية، في التأسيس للحداثة الفلسطينيةّ ، ملفكرين وأدباء وشعراء فلسطينيني من أمثال روحي اخلالدي ،وخليل السكاكيني ،وبندلي اجلوزي ،وخليل بيدس ،وإبراهيم طوقان ،وعبد الكرمي الكرمي (أبو سلمى) ،وجناتي صدقي ،وآخرين ممن ظهروا قبل النكبة الفلسطينية .وال أريد أن أذكّ ر بأسماء أدباء ومفكرين فلسطينيني، ظهروا بعد النكبة الفلسطينية ،وأسهموا في إثراء الثقافة الفلسطينية املعاصرة ،ويقف في الطليعة منهم ،الراحلون الكبار :محمود درويش، وغسان كنفاني ،وإميل حبيبي.
ومن مقدمة الكتاب ،نعرف أن اخلطة املستهدفة تتكون من أربعة محاور، ويتعلّق احملور الرابع مبا أطلق عليه“ :أدب القدس” .في هذا احملور، تغيب كل أجناس األدب من رواية وقصة ومسرحية وسيرة ومقالة صحافية ،وحتضر بعض النماذج الشعرية فقط. وفي القدس حياة ثقافية معاصرة ،أخذت تتبلور منذ بدايات القرن العشرين ،وفيها مراكز ثقافية ومؤسسات معنية بالثقافة ،ومعنية أيض ًا بتأكيد طابع القدس العربي اإلسالمي املسيحي الذي جتري اآلن حملة صهيونية منهجية لتغييره ،ولتهويد املدينة! فلماذا لم يج ِر التطرق ولو
باختصار للحياة الثقافية الراهنة في القدس؟ وملاذا يغيب الفن التشكيلي والسينما واملسرح والغناء واملوسيقى ،ملاذا؟
135
صورة القدس في الكتاب * عصام نصار عند احلديث عن كتاب يرشد العملية التعليمية حول مدينة القدس وأهميتها فلسطينياً ،من الضروري التذكير بأن دراسة تاريخ هذه املدينة وعموم الدراسات التاريخية -تشكل عملية متعددة اجلوانب واألهدافوالنتائج. فكتابة التاريخ -وبخاصة في الزمن القومي -غالب ًا ما تشكل نشاط ًا انتقائي ًا يستند ،ليس إلى مبدأ تذكر املاضي فحسب ،بل أيض ًا إلى رديفه وهو مبدأ نسيان املاضي .فاملؤرخ ليس بساحر ميتلك شامل املعلومات حول التاريخ برمته ،وال هو بكائن يعيش خارج إطار تاريخ زمنه أو مصالح ذاك الزمن .وعليه ،فكتابة التاريخ ،مبا فيها من نسج للتزمني التاريخي وانتقاء لألحداث وحتليلها والتنظير؛ مبعنى استخدام النظرية، حولها ،وكتابة نص سردي ،وما إلى ذلك ،هي عملية تتطلب وتفترض إجماع بني املؤرخني عليها. مسلمات معينة ال َ
من ضمن هذه اإلشكاليات ،جند التركيز الهائل على تاريخ املدينة في اإلطار الديني فقط ،وعلى أهمية املدينة كمكان مقدس للديانات اإلبراهيمية الثالث أو إحداها فقط .اإلصرار على رؤية املدينة كمكان مقدس ،جاء على حساب رؤيتها كمدينة حية ذات مجتمع وتاريخ اجتماعي وثقافي خاص بها .وباالرتباط بهذه النزعة ،جند أن التواريخ املكتوبة ركزت أكثر على املدينة كبلد عريق وتاريخي ،جاعلة من املراحل
من تبعات الرؤية هذه أن تطور املدينة وحتديثها قد أصبحا جزءاً ،أو حتى حكراً ،على عوامل خارجية عنها وهي غالب ًا أوروبية .هذه الرؤية استشراقية أساساً ،وتضع الغرب أو عمالءه مصدر ًا لتطور املدينة دون أي دور لسكان املدينة أنفسهم .وعدم رؤية السكان متتد لتشمل إعطاء ِّ الدراسات التي ترى القدس مدين ًة أو متصرفي ًة عثمانية ،ال ميكن فهم تاريخها دون فهم التطورات الدولية والعثمانية ،وبخاصة في اسطنبول، محولة السكان ملحقات أو أدوات للعاصمة أو لألوروبيني ،ال دور لهم في تطور مدينتهم على اإلطالق. نظم التأريخ هذه ،ساهمت في تشكيل رؤية تاريخية للمدينة ،تظهرها كمكان عاش حالة التنازع فقط ،ويتأثر بالسياسة مبفهومها الدولي ليس إال .وبالطبع ،هذه اإلشكاليات ليست شاملة ،لكنها األهم التي تعاني منها تواريخ املدينة املكتوبة .السؤال أمامنا هو :هل يعاني هذا الكتاب أي من هذه اإلشكاليات؟ وماذا يقدم للطالب الفلسطيني من تاريخ من ٍّ القدس وأهميتها على مدار التاريخ؟ لنبدأ بشكل الكتاب أوالً، هذا كتاب مطبوع على ورق مقوى ومصقول ،ومبقدمة تستخدم خط ًا جميالً ،لكن تصعب قراءته ،وغير مألوف في الكتب اجلدية .ويشمل صف الكتاب، الكتاب صور ًا عدة تغيرت معالم بعضها خالل عملية ِّ فقبة الصخرة مث ً ال تظهر مبقاييس مغلوطة ،وكذلك األمر مع صور أبواب املدينة .ناهيك عن األخطاء اإلمالئية .واختيار الصور أيض ًا إشكالي؛ فقبة الصخرة تظهر مرات عدة ،وكذلك املسجد األقصى، وال تظهر كنيسة القيامة مرة واحدة .وكذلك األمر فغالبية الصور إن لم تكن ألماكن دينية فهي سياسية دعائية؛ مثل صور اجلدار الفاصل، والقمع اإلسرائيلي .ما ال يوجد ضمن الصور هي حياة املدينة مثل صور األسواق ،والباعة ،والبيوت ،واملناسبات املختلفة .وال توجد صور حول األحداث املهمة؛ مثل سقوط القدس على يد اإلجنليز أو اإلسرائيليني أو غيرهم .صور بوابات املدينة غالب ًا ال تذكر اسم الباب، وال تعلّق على التغيرات التي جرت عليه من قبل إسرائيل ،مثل بابي العمود واخلليل .أمثلة أخرى تشمل صورة جبل الزيتون (ص،)28 :
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
جند هذه االنتقائية بوضوح في أعمال املؤرخني الصهاينة ،والتواريخ التي يكتبونها عن القدس .فنصوصهم التاريخية عموم ًا تستند إلى ذاكرة جماعية يهودية حول القدس ،مستمدة من التراث اليهودي والكتب املقدسة لديهم ،وفي الوقت ذاته تستند إلى نسيان أو تناسي كل التواريخ غير اليهودية للمدينة .وكون الالحقة تشكل جل تاريخ املدينة ،لم مينع مؤرخي املدينة الصهاينة من تعظيم شأن املراحل اليهودية ،جلعلها مرجع ًا لدراسة تاريخ املدينة .فمث ً ال جند أن نظام التزمني املتبع لديهم الذي يتبناه اليوم العديد من املؤرخني غير الصهاينة -يستند إلى مراحلتاريخية سميت بفترات الهيكل األول والهيكل الثاني .ولهذا ،فعندما يتحدث املؤرخ عن القدس في زمن املسيح ،جنده يضع احلدث في زمن الهيكل الثاني ،جاع ً ال من التأريخ اليهودي مرجعه األساسي .وعليه، فإن السمة األساسية للخطاب الصهيوني حول القدس هي االنتقائية من املاضي السحيق ،ورؤية تاريخ املدينة عبر تقسيم سكانها إلى جماعات يفترض أنها متنازعة ،وكانت دوم ًا كذلك منذ فجر التاريخ .وإذا كانت هذه إحدى إشكاليات الكتابة حول القدس حني يتعلق األمر باخلطاب الرسمي الصهيوني ،فهي ليست اإلشكالية الوحيدة ،وليست حكر ًا خاص ًا على اخلطاب التاريخي الصهيوني .فكتابة تاريخ القدس طاملا عانت -وبغض النظر عن هوية كتابها ،سواء أكانوا عرب ًا أم صهاين ًة أم أوروبيني أم غيرهم -من إشكاليات عديدة ترتبط بدراسة تاريخ هذه املدينة.
القدمية املرجع الرئيسي لفهم التاريخ املعاصر ،ومعطية أهمية هائلة ملراحل سابقة ،سواء أكانت يهودية أم كنعانية أم رومانية أم إسالمية.
136
التي ليست جلبل الزيتون ،بل أخذت من موقع عليه ،وال يفسر العنوان مث ً ال الكنيسة التي تظهر في وسط الصورة! وفي الوقت ذاته ،جند أن وصف صورة جبل الزيتون ذاته في موقع آخر من الكتاب ،يظهره كجبل الطور فقط (ص ،)68 :ملاذا لم يشمل الوصف أن هذا هو جبل الزيتون أيضاً؟ من ناحية الصور ،فهذا الكتاب ال يقدم الكثير ،بل يضر أكثر مما يفيد. وعلى ما يبدو أن الوزارة قد كلفت أحد ًا ما بتصوير ما يعتقد أنه مناسب، بدل أن تأخذ الصور على محمل اجلد ،وتفكر في معانيها .ملاذا لم يتم استخدام صور تاريخية؟ ملاذا لم يتم تصوير حياة املدينة االجتماعية؟
تهدف هذه اخلطة كما يرد في النص إلى اعتزاز الطالب بعروبة القدس (ص ،)8 :ما معنى هذا؟ أليس دور الدرس هو تعليم الطالب وليس االعتزاز بأي شيء؟ أليس االعتزاز فارغ ًا إن لم يستند إلى معلومات موثقة وتاريخية صحيحة؟ وفي الوقت ذاته ما معنى أن يستنكر الطالب ما حل بالشعب الفلسطيني (ص)13 :؟ أال نريد معلومات حول ما حل به قبل أن نشرع باالستنكار؟ وعلى الرغم من عدم معرفتي مببادئ اخلطط الدراسية عموماً ،اعتقد أنها أهدافها يجب أن تكون التعليم والتثقيف والتوعية وخلق املواطن -مع املعذرة كون الكلمات تشبه خطابات زعماء عرب -القادر على التفكير والنقد واستيعاب ما للتاريخ من وزن على حياته ومستقبلة كفلسطيني .ملاذا ال جند هذه األمور ضمن األهداف؟ كيف نستبدل التثقيف باالعتزاز واملعرفة باالستنكار؟ ومبا أننا في باب االعتزاز واالستنكار ،أين تاريخ الفلسطينيني في القدس؟ أين احلركة الوطنية وتاريخها منذ أواخر العهد العثماني؟ أين تاريخ املدينة كبلد مفتوح للجميع ومتعدد الثقافات واللغات؟ أين حركة احلداثة في املدينة وتغيرها معماري ًا واجتماعياً؟ أليست هذه أسباب ًا أكثر أهمية في تشكيل االعتزاز؟! واالعتزاز واالستنكار ليسا وحيدين في النص ،بل هناك استخالص العبر أيضاً .جميل ،فاستخالص العبر جزء من عملية البحث التاريخي .لكن ليس هذا ما يقصده املؤلفون ،بل إنهم يطالبون الطلبة في اخلطة الثانية باستخالص العبرة من محبة األنبياء للقدس؟! ما معنى ذلك؟ وهل هذا موقعه بدل أن يكون هذا الهدف خاص ًا بدرس الدين مثالً؟
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ملاذا ال تقدم لنا الصور شيئ ًا عن األحياء العربية في القدس الغربية التي صودرت العام 1948؟ لننتقل إلى محتوى الكتاب، عموماً ،يعاني هذا الكتاب من كل اإلشكاليات التي أشرت إليها أعاله. فهو يرى املدينة أساس ًا كمدينة مقدسة ويربطها باألديان ،وبخاصة اإلسالم ،فيما يتجاهل اليهودية عموماً .وبهذا ،فإن هذه اخلطة صهيونية ولو باملقلوب .كذلك األمر ،فهذا الكتاب يرى املدينة ببعدها التاريخي، معلي ًا شأن الكنعانيني ،وكأن ذلك يرد على االدعاء الصهيوني بأن املدينة يهودية نظر ًا الرتباطها بالتاريخ اليهودي ،فهناك حتى خارطة للدولة الكنعانية (ص )41 :مشكوك متام ًا في صحتها .وهدف الدرس األول في املراحل كافة هو تعريف املدينة بعروبتها وكنعانيتها ،وكأن االثنتني مرتبطتان وتتبعان بعضهما بعضاً .أنا لم أجد دلي ً ال واحد ًا على إثبات أن الشعب الفلسطيني اليوم هو استمرار للكنعانيني ،وطبع ًا قد يكون كذلك مبعنى أنه استمرار لهم ولليهود وللرومان ولإلغريق وللمسلمني والصليبيني واألتراك ...الخ .لكن اخلطاب التاريخي الفلسطيني، كما أفهمه ،ليس صورة مرآة للتاريخ اليهودي ،بل إنه أكثر شمولية. اخلطة ال ترد على االستشراق بنقده أو إثبات خطاياه ،بل بتبني خط “استغرابي” ينتقص من دور غير املسلمني ،هناك فصل كامل مث ً ال عن أرض احملشر واملنشر! وفي الوقت ذاته ،االستشراق في النص يكمن في عدم ربط املدينة مبحيطها ورؤيتها بشكل مستقل.
والطالب ال يعتز أو يستخلص العبر فحسب ،بل من املطلوب منه أن ويثمن الدور (األردني!) واألموي والعباسي .وخير وسيلة يقتدي ّ للتثمني ليست ما يتوقعه املرء من قراءة الوثائق التاريخية ،بل يتم ذلك عبر قراءة الشعر .كنت أعلم مدى حب العرب للشعر ،لكني لم أدرك أن ذلك يأتي على حساب احلس التاريخي والبحث اجلاد .قراءة الشعر على أهميتها لغوي ًا وجمالي ًا وقومي ًا ليست بدي ً ال لتعليم الطالب عن حقيقة ارتباطه بالقدس ،كونها مدينة فلسطينية مهمة ،ناهيك عن أن هناك عدد ًا كبير ًا من قصائد حتى لشعراء لم نسمع بهم من قبل. النص سياسي أكثر مما يجب؛ وأعني بسياسي أنه آني وليس شامالً .وال أقصد التقليل من أهمية العامل السياسي ،فكل نص هو سياسي مبعنى من املعاني ،وسرد تاريخ القدس هو نشاط سياسي بامتياز .لكن ال داعي ألن يكون النص سياسي باملعنى السطحي فقط ،دون دقة أو عمق تاريخي .كذلك األمر على النص أن يكون دقيق املعلومات ،وخالي ًا من األخطاء .فما معنى احلديث مث ً ال عن الصراع العربي اإلسرائيلي قبل وجود إسرائيل (في العهد البريطاني) (انظر ص)13 :؟ أال جند مصطلح ًا أفضل لوصف الصراع آنذاك؟ وما معنى عدم الدقة في التواريخ (ص: 134مرة أخرى) :احتالل القدس كان في 1917/12/11عند دخول اللنبي 12/9 ،كان يوم توجه رئيس البلدية إلى املعسكر اإلجنليزي خارج املدينة ليعلن االستسالم. وأخير ًا هناك إشكاليات في املصادر واملراجع ،وليست فقط من نوع
تنظيم املصادر وترتيب املراجع من حيث األسماء والعناوين والناشرين، بل من ناحية احملتوى ذاته ،حيث تفتقر القائمة إلى مصادر تعتبر مهمة نشرت حول القدس وفلسطني مثل كتابات وليد اخلالدي ،ورشيد اخلالدي ،وبشارة دوماني ،وعادل مناع ،وبطرس أبو منة ،وكامل العسلي ،وغيرهم ،ناهيك عن الدراسات باللغات األجنبية. وعلى الرغم من أن معرفتي ضحلة في مجال اخلطط الدراسية ،ال يبدو لي هذا الكتاب أفضل ما ميكن تقدميه للطالب واملعلم على السواء .لكني في الوقت ذاته سعيد بأن الوزارة تعطي أهمية لتدريس مساق خاص حول القدس .إيالء املدينة هذه األهمية مسألة ضرورية ،وأهنئ الوزارة في أخذها املوضوع على محمل اجلد .لكن هذا بذاته ال يعفي الوزارة من مسؤولية إنتاج نص جيد وخطط مالئمة وجدية ومستندة إلى آخر الدراسات البحثية .الكتاب بني أيدينا يفشل في تقدمي القدس للطالب كمدينة عريقة ومنوذج للتعددية واالستمرارية التاريخية للمجتمع الفلسطيني املقدسي ،فمكان الكتاب هذا بأحسن األحوال هو ضمن كتب الدعاية ،وليس كتب التعليم .اخلطط املزودة في غالبها استشراقية وصهيونية باملقلوب ،وال تساعد الطالب على رؤية القدس أو تخيلها، وملاذا نستثني زيارات الطلبة للقدس من املنهاج؟ أال يعني هذا قبولنا باألمر الواقع الذي يحد من حركة املواطن في مناطق السلطة؟! أال نتوقع أن تتغير األمور يوم ًا ما؟ أال تتحمل الوزارة مسؤولية املساهمة في تطوير املعرفة لدى الطالب، والتفكير ليس في إنتاج كتاب فحسب ،بل مبدلوالت هذا املنهاج وأثره على نظامنا السياسي مستقبالً ،وعلى نوعية عالقة الطالب بالقدس كعاصمة مستقبلية لدولته الوطنية التي نطمح بإنشائها.
الواليات املتحدة ،آذار 2009
القدس بني التربوي والثقافي والسياسي يزيد عناني :تغييب القدس من كتاب القدس شد انتباهي أثناء قراءتي لكتاب “القدس – الوطن والروح” الصفات ّ واألفعال واألسماء التي اس ُت ِ خدمت لتمثيل القدس في صفحات الكتاب، الذي يبدو أنه منهاج تعليمي إلزامي يبني من خالل مضمونه صورة
أحادية للقدس .فعلى سبيل املثال ،ميكن للقارئ أن يالحظ التمثيل اللغوي في “املستوى األول” من جدول احملتويات في تعابير املعاني التي تنبني عليها التحليالت في النصوص التي تلي كلمات مثل :القدمي، العربي ،اإلسالمي ،الغزو ،الصليبيني ،التحرر ،العثمانيني ،املسجد األقصى ،االنتداب البريطاني ،االحتالل اإلسرائيلي ،املستوطنات، اجلدار ،األمم املتحدة ،القدس في القلب ،وأقسم بالله.
137
يظهر وكأن الكتاب يصوغ مسبق ًا داللة بيداغوجية سطحية للقدس سيجري إدراجها في املناهج التعليمية ،تتشكل مرجعيتها من خطاب يجرد القدس من تعدديتها املكانية والزمانية ،ومينع كمي وتاريخي ّ الطالب من بناء دالالتهم الفردية املنبثقة من جتاربهم التي يعيشونها. أتوجس لو فكرت ،على سبيل املقارنة ،أن لدى اإلسرائيليني في نظامهم التربوي منهاج ًا خاص ًا مبدينة القدس .إن كان ذلك حقيقياً، فإنني سأفكر بأن إسرائيل تستخدم قوة املعرفة لنسج صورة للقدس وإقحامها في حياة الطالب اإلسرائيليني وعقولهم ،وستحافظ تلك الصورة على استمرارية خطابهم التوراتي ،وتعزيز ربط الكولونيالية في الفراغ .فهناك احلاجة إلى هذا النوع من املعرفة لبناء رواية خيالية تستوحي براهينها من علم اآلثار والتاريخ وقصص العهد القدمي. وفي السياق ذاته ،ومما ينذر باخلطر ،إن كتاب القدس يستخدم منطق اخلطابة نفسه ،بحيث مت اختزال القدس معماري ًا إلى نصب دينية: “قبة الصخرة”“ ،املسجد األقصى”” ،كنيسة القيامة” .أما بقية املدينة بدالالتها املعقدة وغناها ،فقد مت متثيلها وكأنها فارغة وغير موجودة. مسورة ومحصنة وفارغة دون أية ممارسات ف ُتصور القدس كمدينة قدمية ّ حياتية أخرى عدا تلك املتمثلة بالنصب الدينية. أما التمثيل اآلخر للعمارة في الكتاب فيتجسد في عمارة إسرائيل الكولونيالية املتحكمة واالضطهادية .فاجلدار ،واملستوطنات، والطرق االلتفافية ...الخ ،حتيط باملدينة “املعتقة” كما يصورونها. هناك نوع من اخلضوع والعجز جتاه استعمار املدينة ،وذلك من خالل التكرار املتواصل لكيفية حتكم إسرائيل بفراغ املدينة ،وحتويل املقدسيني والفلسطينيني إلى ضحايا .فاملقاومة اليومية التي ميارسها املقدسيون
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
138
ملجابهة السيطرة اإلسرائيلية على الفراغ من خالل خلق بدائل للحركة، والبناء وإثبات املواطنة ...الخ ،ليس لها أي وزن في الكتاب ،أو أية داللة بيداغوجية .والتفسير املمكن لهذه النقطة حتديد ًا يعود للقضية املشار إليها أعاله في إخالء القدس من أهلها ،التي تبدو واضحة في متثيل صورة القدس في الكتاب.
نصوص الكتاب باحلقبة الرومانسية في أوروبا ،حيث تغنى الشعراء بريتهما آنذاك ،فتم والكتاب والفنانون بإلهام الطبيعة والريف وجمالهما ّ اختزال الريف احلقيقي إلى أشجار وبيوت قدمية وحقول زراعية وقطعان من اخلراف والرعي فقط ،حيث مت تغييب احلياة والقيم احمللية التي أدت إلى إنتاج اجلماليات التي تغنى بها مثقفو تلك الفترة.
أما ما يغذي الرواية الرومانسية والشعرية التي يقدمها الكتاب (يعكس اخلطاب االستعماري في إمالء املعرفة في كتب التاريخ) هو متجيد اللحظات التاريخية للنصر واالنتصار .فمن الواضح أن ما يعرضه الكتاب هو كأن مدينة القدس لم تكن موجودة قبل اإلسالم ،أو قد تكون موجودة كخربة أو آثار دون حياة أو ثقافة؛ فارغة من إنتاج فراغي ومعرفي .فتاريخ االنتصار هو التاريخ الذي يعيد للقدس صورتها اإلسالمية ،وهو يبرز في التقدمي التاريخي املتكرر لبطولة صالح الدين وإحلاقه الهزمية بالصليبيني .فاستخدام الرواية التاريخية اخلطية امللحمية في الكتاب ،يخلق قطبية تتناوب فقط بني اإلسالم واالستعمار ،وتفرغ كل التجارب والتمثيالت األخرى ملاهية القدس.
هل وصلنا إلى حالة من استخدام عدسات االستشراق في النظر إلى أنفسنا أو في إنتاج وإمالء معرفة تطابق من نحن في ما نراه في عدسات نسير فيها املعرفة البيداغوجية االستشراق؟ هل وصلنا إلى مرحلة ّ لتضطهد تنوعنا السرمدي وتعددنا وقيمنا احمللية واحلياتية ألمكنة مثل القدس؟
لقد امتدت القدس دوم ًا إلى ما وراء األسوار؛ ولم تكن األسوار دائم ًا احملدد املناطقي للنسيج البنائي والفراغي للمدينة .فقد أخلى اإلسرائيليون مساحات واسعة من املباني الفلسطينية خارج اجلدار، واستمروا في حتويل املساحات احمليطة به وتنظيفها من أجل إنتاج وتسويق صورة ملا داخل اجلدار بأنها املركز التاريخي القدمي “للقدس الكبرى” (تشبه تلك املراكز التاريخية للمدن األوروبية) ،فهذه السياسة الفراغية اخلطيرة تستحث حتكم ًا عكسي ًا بالقدس املسورة .فبد ً ال من التحكم باملدينة من داخلها ،تعمل إسرائيل على التحكم بها من اخلارج، من خالل إستراتيجية االحتواء داخل البنية الفراغية اإلسرائيلية اخلارجية يطبع تواجد التي حتيط باألسوار ،والتي يجري إنتاجها بصورة حثيثة ،ما ّ ما داخل األسوار مع املنتج الفراغي اإلسرائيلي خارج األسوار ،فتبدو احلقيقة بأن اجلدار يضم مدينة القدس ،وكأنها مقاطعة في قلب “القدس الكبرى” .فالكتاب بسذاجة يؤكد قطعي ًا على تعريف القدس كمدينة موجودة فقط داخل األسوار.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
يذكرني كثير ًا وصف املشهد الطبيعي حول مدينة القدس الوارد في
القدس كواقع حي وأفق حضاري منير فاشه من النادر جد ًا أن أشعر بيأس أو إحباط أو اكتئاب ،ولكن أعترف أن هذا الكتاب جنح في خلق شعور لدي باإلحباط ،وفي تعميق قناعتي بأن منطق التعليم الرسمي منذ نشأ في أوروبا قبل 350سنة غير قادر على رؤية الغنى في احلياة ،وغير قادر على توليد احلياة ...أعترف أنني كلما أعي -من جديد -مقدار ما يقوم به التعليم الرسمي من خداع للعقول ،وتخدير للشعور ،وضحالة في اإلدراك والفهم والتعبير، يصيبني -من جديد -يأس ال أخرج منه إال بعد فترة نقاهة أعيش فيها بعيدا -قدر اإلمكان -عن عالم املؤسسات واملهنيني والكلمات الرسمية .اإلحباط الذي شعرت به ال يرتبط بالكتاب بشكل منفصل عن األمور األخرى ،أو باألشخاص الذين قاموا بوضع الكتاب ... لو كان احلال كذلك ،لهان األمر .املشكلة التي أراها أعمق وأخطر، فهي ترتبط مبنطق التعليم الرسمي الذي يؤدي بالعاملني في التعليم إلى وضع مثل هذا الكتاب .أن تتحول القدس من رؤيا وروح وأفق حضاري تعيش جميع ًا في إدراكات وعالقات وحياة أهاليها -إلى قالب جامدميت «أهداف ومحتوى ووسائل وأساليب وأنشطة» (في كل صفحة من الكتاب تقريباً!) ،وأن تتحول القدس من مصدر إلهام وغنى إلى معلومات متفرقة ال روح فيها وال حياة وال حيوية ...هو مثال صارخ عتبر املعرفة كومة كبيرة من على ما يحدث في املؤسسة التعليمية ،حيث ُت َ املعلومات (نسميها في اجلامعات مساقات ومهارات) ال جتمعها رؤيا، تكون صورة واحدة في األذهان ...مثال من الكتاب« :البحث وال ّ عن معلومات مناخية من خالل اإلنترنت ،ورصد احلالة اجلوية ملدينة القدس لعدة أيام»! يا إلهي ،ماذا يحصل للعقل واإلدراك؟! إال أن أكثر ما أخاف أن يحصل هو أن نعتقد أن املشكلة موجودة في هذا الكتاب ،وكأن باقي كتب املناهج بألف عافية؛ أي ،االعتقاد بأن هذا الكتاب يختلف عن الكتب التي ُتقرر في وزارات التربية حول العالم. ال يختلف الكتاب عن أي كتاب مقرر ،إذ سيكون مم ً ال للطلبة ومولد ًا ميل ويكره أغلب الطلبة الرياضيات والعلوم لكراهية القدس ،متام ًا كما ّ واللغة العربية واإلنكليزية والتاريخ ...الخ .شعورنا بالراحة بالنسبة لكتب الرياضيات واللغات والتاريخ والعلوم ناجت من أننا تعودنا عليها، أي َت َخ َّدرنا جتاهها ،بحيث فقدنا القدرة على رؤيتها على حقيقتها. «القدس» كموضوع منهاجي هو موضوع جديد ،ولهذا السبب نرى
العلّة في الكتاب بسهولة؛ أي أن املشكلة تكمن في منهجة القدس .من هنا أرى أن الكتاب ميثل فرصة نادرة إلعادة النظر في دور الكتب املقررة في شتى املواضيع -في تسطيح األمور وإلغاء ما هو جوهري؛ أي،فرصة للتوقف عن لوم املريض ونسيان املرض ،والكتشاف أن ما اعتقدنا بأنه الدواء كان أصل الداء. تبلور ما يسمى بالنهضة األوروبية الشرذمة صفة مالزمة للتطور منذ ُ (والتي نراها على حقيقتها حالياً) .الكتاب يجسد هذه الشرذمة. الصفحتان 4و 5مثال صارخ على الشرذمة ،على مستويات عدة. كذلك ،فهما مليئتان بتجريدات ال عالقة لها بحياة الناس .فاألهداف ال تشمل أمور ًا رمزية مجردة وتهمل أمور ًا جوهرية .تشمل مث ً مث ً ال التعرف «على املكانة الدينية ملدينة القدس» ،ولكن ال ذكر للنسيج بني الناس ،بني مختلف األديان ،الذي كان ُيجدل يومي ًا في البيوت واحلارات واألسواق ،وبشكل رئيسي في ساحة األقصى ،قبل أن يضع اإلنكليز قانون ًا يتعلق بدخول األقصى وساحته ،حيث حتولت تلك الروح وذلك النسيج وتلك التعددية احلية إلى بذور طائفية (من اجلدير بالذكر هنا ادعاء اإلنكليز بأن القانون كان لضمان حقوق اجلميع!) .رمبا يبدو وحولت القدس بالتدريج القانون أمر ًا ثانوياً ،إال أنه البذرة التي ُزرعت ّ من مكان يشبه حديقة مليئة بأزهار جميلة ،متعايشة معاً ،إلى تعددية هي أشبه بالتعددية في حديقة حيوانات ،حيث تعيش كل مجموعة في قفص مبعزل عن األخرى .نتذكر قرارات عصبة األمم ،وهيئة األمم، وننسى أمور ًا صغيرة تفعل فعل اإليدز في اإلنسان واملجتمع مثل القانون املذكور. تشمل األهداف املذكورة في الصفحتني أيض ًا إدراك «األخطار التي تهدد مزق النسيج املجتمعي فيها: مدينة القدس» ،ولكنها ُتهمل أكبر عامل ّ حتول املدارس (التي كانت بكاملها قبل 1908أجنبية) والتي كانت ّ الطلبة إلى أفراد منعزلني بعضهم عن بعض ،بحيث ينظر كل منهم إلى اآلخرين كمنافسني لكسب رموز ال تعني شيئ ًا في احلياة ،بل تعني كثير ًا بالنسبة لنمط االستهالك في العيش .باإلضافة إلى ذلك ،كانت تلك حتضر الطلبة للعيش في بريطانيا وأمريكا وليس في القدس ،ما املدارس ّ دعا السكاكيني إلى إنشاء مدارس في القدس جتسد رؤيا ومنطق ًا يختلفان عن املدارس األجنبية .لنحمي القدس من الشرذمة املعرفية؛ الكتاب موبوء بالشرذمة .من األفضل ،في رأيي ،أن ال يعرف الطالب شيئ ًا عن القدس ،وتبقى صورتها في خياله متكاملة وملهمة ،من أن يعرفها كمعلومات متراكمة متفرقة ال حياة فيها وال روح.
حي وكرؤيا وأفق حضاري القدس كواقع ّ من أجمل ما قيل في العربية عبارة للنفري« :كلما اتسعت الرؤيا، ضاقت العبارة» .القدس رؤيا تضيق فيها العبارات .يفتقر الكتاب -مثل أي كتاب مقرر -إلى رؤيا ،وبالتالي هو مليء بلغ ٍو ومعلومات لفظية مكومة بعضها فوق بعض. وعبارات فضفاضةّ ،
139
بعض الكتابات احلديثة مثل يوميات خليل السكاكيني وواصف جوهرية حول احلياة في القدس في نهاية احلكم العثماني وفترة االحتالل البريطاني متثل مادة ملهمة جداً ،وذات معنى هائل في الوقت احلاضر على مستوى املنطقة ،وبالتالي ذات أفق حضاري .هذه اليوميات مهملة في الكتاب. فمثالً ،وصف خليل السكاكيني للمدرسة التي أنشأها العام 1908في القدس رد ًا على املدارس األجنبية ،وما ذكره واصف جوهرية بالنسبة للقوانني األولى التي وضعها اإلنكليز هي أمور توضح ما حدث (وما يجب أن يحدث اآلن) على مستوى املنطقة حالياً. جاء في يوميات «جوهرية» ،مثالً ،أنه عندما دخل اللنبي القدس في شهر كانون األول العام 1917قال في أول خطبة له« :اآلن انتهت احلروب الصليبية» .من الصعب التفكير في عبارة أكثر سم ًا وتسميماً .ذكرت القانون املتعلق بدخول ساحة األقصى التي كانت ساحة لكل الناس عبر 1400سنة ،لم ُيسأل خاللها أحد عن دينه قبل دخول األقصى وساحته ...هذه القوانني ومحاولة حتويل «موسم النبي موسى» و»سبت النور» من احتفاالت شعبية إلى احتفاالت رسمية حكومية توضح إستراتيجية االنكليز وسياستهم في متزيق املجتمع وتسميمه ... هي أخطر بكثير من قرارات األمم املتحدة التي ال يخفى شرها على أحد .كره اإلنكليز ما الحظوه من توافق وتناغم بني مختلف املذاهب واألديان في القدس ،ورأوا أن ذلك سيعيق عملهم ،فجاءت القوانني حرب ًا على هذا التوافق ...هذه األمور ذات جدوى ملا يحصل اآلن ...التاريخ ليس معلومات عن زمن مضى ،وإمنا تعميق لفهم الزمن الذي نعيش فيه. بعض االقتراحات العملية لدي أربعة اقتراحات محددة ،كأمثلة :األول يتعلق بكلمة انتداب. فاالنتداب البريطاني كان عبارة عن تسليم أمانة (من قبل عصبة األمم)، اسمها فلسطني ،لإلنكليز على أساس إعادتها ألصحابها يوم الرحيل. لم ُتعد بريطانيا األمانة حتى اآلن .أرى أن تخصيص القدس كعاصمة ثقافية هي فرصة رائعة ملاليني من الطلبة العرب ،الذين يتوجه لهم الكتاب ،أن يبعثوا باستمرار برسائل إلى طلبة بريطانيا يذكرونهم نحول هذه اجلرمية التاريخية باألمانة ويطالبون بها .بهذه الطريقةّ ، إلى عامل يبعث احليوية لدى الشباب ،ويجدل في الوقت نفسه نسيج ًا بينهم ،بد ً ال من التوجه إلى هيئة األمم.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
في القناعة بأنه إذا أردنا سلب روح شيء ،فما علينا إال ّ عمق الكتاب ّ ِ عمق كما معلمني. وتدريب منهاج خالل من سه ندر أي، ؛ جه ه َن من أن ُ ُ ِّ ّ غياب التوافق بني الفكر والقول والعمل ،فكلمة «روح» في العنوان لم أحس بها في الكتاب.
الفكر الغربي فكر شرذمة وحدود (لو تأملنا ،لوجدنا ذلك في كل شيء تقريباً) ،بينما ما ميز الفكر العربي اإلسالمي ،قدمي ًا وحديثاً، وجود أفق حضاري (ولو أنه مطموس حالي ًا بفعل هيمنة املؤسسات). فبغداد والقاهرة وقرطبة وأصفهان م ّثلت جميع ًا أفق ًا حضاري ًا في املاضي .القاهرة زمن عبد الناصر كانت ذات أفق حضاري .كذلك يكونان أفق ًا حضارياً[ .رمبا من املناسب بغداد لفترة .مكة وكربالء ّ اقتراح قراءة بعض الكتب القدمية التي تعكس آفاق ًا حضارية مثل «البيان والتبيني» للجاحظ ،و»محاضرات األدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء» ألبي القاسم الراغب االصفهاني ،و»حتفة النظار في غرائب األمصار وعجائب األسفار» البن بطوطة] .أرى أن هذا العام ميكن أن ميثل فرصة مناسبة جد ًا للعمل ضمن هذه الرؤيا :القدس كأفق حضاري.
140
أما االقتراح الثاني فهو البدء بوضع خارطة للقدس كما كانت العام ً خطأ بالنكبة) بكل بيوتها ( 1948عام حتقيق اجلرمية ،التي نسميها وعائالتها وتواريخهم وأنسابهم ...وبأدق التفاصيل. واالقتراح الثالث هو أن نستغل الفرصة من خالل مناقشة الكتاب إلعادة النظر في أمر أعمق :احتكار التعليم الرسمي لقيم الطفل وقيمة التعلم .وفي الوقت نفسه ،إبراز قول لإلمام علي بأن «قيمة كل امرئ ما يحسنه» ،وأيض ًا إبراز حقيقة أن التعلم قدرة بيولوجية وليست مكتسبة، وأن التعلم متنوع قدر التنوع املوجود في املجتمع .إن إنهاء هيمنة املدرسة واحتكارها بالشكل السائد ليس مبرر ًا منذ أن نشأ ...من أراد اتباع طريق املدارس ،فليكن؛ من الضروري أن تكون له احلرية الكاملة في ذلك .أما أن ُيفرض هذا الطريق على اجلميع ،الذي ينتهي في أن يلوم %80من الطلبة أنفسهم ،فهو أمر من الضروري مقاومته قبل أن يقضي علينا .من هنا ،فإن املطالبة يجب أن تكون في توفير مرافق املخدرة متعددة للتعلم ودعمها ،وليس حتسني جودة التعليم (الكلمة ِّ اجلديدة في املجال التربوي!). أما االقتراح الرابع ،فهو جتميع إنتاجات ملهمة عن القدس واحلياة، فيها من إنتاج شباب وشابات قريبني في أعمارهم من أعمار الطلبة الذين سيقرأون الكتاب ،وتوفيرها كموارد عن القدس من وجهة نظر جسدن توليد احلياة على الرغم من الناس ،وأيض ًا جتميع حكايات نساء ُي ّ كل وسائل الدمار. إبراهيم الفني :كتاب القدس صورة دون واقع
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
الكتاب ال يعالج القدس وال الثقافة العربية ،القدس مدينة احلزن واجلمال ،الله سبحانه وتعالى خلق للجمال عشر حصص ،فنالت القدس تسع ًا منها ،ومنح للحزن عشر حصص فنالت القدس تسع ًا منها. في الواقع الثقافي ،إذا طرحنا مدينة القدس فإن لها 63اسم ًا ولها 21 طبقة حضارية ،الذي كتب هذا الكتاب عن احلضارة اإلسالمية ،حتى أنه لم ِ يعط احلضارة اإلسالمية حقها كما يجب ،ولو كان غرضه الدفاع عن القدس وعن احلضارة اإلسالمية ،ملا سمى مدينة القدس مبدينة داوود ،وهذا أخطر ما نواجهه اآلن في حياتنا الثقافية أن تكون املفردات واملسميات واملعاني اللغوية التي نستعملها مقتبسة من اإلسرائيليات، وهذا أخطر ما يكون أن نطبع مع إسرائيل في اجلانب الثقافي ،وإسرائيل حقيقة دولة بال ثقافة ،ولو حاربناها بالثقافة لهزمناها ،نحن ال نستطيع أن نهزم إسرائيل عسكرياً ،ولكن نستطيع أن نهزمها ثقافياً ،وإسرائيل أص ً ال ليس لها لغة ،وليس هناك لغة عبرية ،فعلى مدى السنوات القدمية لم جند أي حرف عبري صدر إال باللغة اآلرامية ،وإذا نظرنا إلى احلروف األبجدية من األول لآلخر جندها حروف ًا آرامية ،وال توجد حروف عبرية ،دعونا نتطلع إلى األمور اآلتية: أو ً ال حياة السيد املسيح ،إذا أخذنا حياة السيد املسيح كبرنامج ندافع فيه عن القدس ،ميكن أن يقدم لنا أضواء ثقافية مهمة ،حيث أن السيد املسيح مشى وزار ثالثني موقع ًا في القدس ،تصوروا ،هذه الرحلة السياحية
كيف ميكن أن نطورها عربي ًا ونقدمها منهج ًا عبر الثقافة العربية. في يوم من األيام ،كان في مؤمتر األردن (البحر امليت) ،حتت عنوان الهاشمية ،وكنت أنا أحد املشاركني في هذا املؤمتر وعلى مدار سنوات سابقة ،وجدت في املؤمتر 12ورقة إسرائيلية ،وأنا اخترت ورقتي عن حياة السيد املسيح ،اليهود اعترضوا على ورقتي وطلبوا مني سحبها، خافوا ألنهم زوروا التاريخ ،لذلك خافوا من التحدث عن حياة املسيح. في الكتاب نستطيع أن نطرح القدس عاصمة للثقافة العربية ،كما طرحت تونس ،وكما طرحت سوريا ،كما يجب النظر إلى البرامج مطبع ،وأعطي مث ً ال التي أجنزتها الدول املجاورة ،الكتاب الذي أمامنا ّ بسيط ًا جداً ،البرنامج التعليمي الذي نقدمه لطالبنا وندرسهم إياه ،جند أن الدمنرك اشترطت علينا ،مقابل أن تصدر لنا هذه الكتب يجب أن تتالءم مع البرنامج اإلسرائيلي. أيض ًا هناك أخطاء كثيرة في الكتاب ،فقد جمعت ً 685 خطأ في املنهاج الفلسطيني ،تصوروا كم حجم األخطاء في املنهاج الذي ندرسه ألطفالنا ،إذا أردنا أن نطرح القدس كعاصمة للثقافة العربية علينا أن نختار ما هي املفردات التي يجب أن نتعامل معها. كلمة «يورشالم» أو «نورماستك» أو «يورشالمي» كلها أسماء عربية، حيث أن «يور» تعني مكان و«شاليم» اسم إله .واملقدس هنا هو األرض ،عندما بنيت القدس بنيت على مقدس ،نحن نقدس األرض وال نقدس األماكن. كيف عرف القدماء احلضارة :األرض هي األم واألب هو اجلو ،وأنت تنتمي إلى األرض وهي األم. طبعوا مع ماذا تعمل إسرائيل؟ تعمل على تغيير الثقافة العربية ،الذين ّ إسرائيل أهملوا ثقافتنا ،فأصبح البرنامج الثقافي اإلسرائيلي مأخوذ ًا من ثقافتنا ،أين عاداتنا؟ أين تقاليدنا؟ أصبحت إسرائيلية! فأكلة الفالفل العربية صارت أكلة يهودية ،ونحن لم نعترض أو نحتج ونشكر اللبنانيني الذين احتجوا ورفعوا قضية على اليهود الذين اعتبروا احلمص والفالفل أكله يهودية ،فأي شعب حي يجب أن يدافع عن ذاته .فلماذا استك َّنا هذه االستكانة؟ وملاذا أصبحنا غير مثقفني؟! نحن علينا أن نعيد فكر ًا ثقافي ًا جديداً ،نرسم من خالله معلومات تاريخية، ومعلومات جغرافية صادقة ،وهذا موجود في الكتب الفلسطينية وعند الكتاب الفلسطينيني ،ولكن غُ ّيبوا ،ألن النخبة السياسية احلالية احتكرت الثقافة والسياسة ،تصوروا أن قرار 242هو حدودنا ،أين خرائطه؟ هل قرارات األمم املتحدة حددت الدولة؟ هل أصبحت قضية فلسطني هي قضية الضفة الغربية أم أن القرار كان سياسياً؟ اإلسرائيليون لديهم ثالثة فرق تعمل ،فريق مثقف يكتب األبحاث ويضعها على الطاولة ،يأتي السياسي يستفيد من هذه األبحاث ويتعامل معها ،ومن ثمة يترجمها املختصون إلى واقع في امليادين االقتصادية والعسكرية والسياسية .أما نحن ،فالسياسي هو املثقف وهو كل شيء!
املجتمع أصبحوا يخافون من أي موضوع يتعلق بالدين .مثال بسيط، أنا قبل حوالي أسبوعني ،أرسلت بعض مالحظاتي حول هذا الكتاب إلى صحيفة محلية ،وجاءني رد أننا ال نستطيع نشر هذه املالحظات. احلاصل في املجتمع شيء خطير وأستطيع أن أقول إنه دق ناقوس اخلطر ملا يحصل في املناهج الفلسطينية ،زد على ذلك أننا في القرن الواحد والعشرين وبدل ما نزيد حصص املواد العلمية والثقافية لنواكب منطق القرن ،فإننا نعمل عكس ذلك.
الكتاب لم يقدم أي شيء عن القدس ،قدم للقدس صورة دون واقع، أين احلياة؟ أين العادات؟ أين األمة؟ تخيلوا أنه يصف باب األسباط بأحد أبواب القدس دون ذكر اسمه .وبالتالي ،إذا استخدمنا مفردات ثقافية وحضارية نستطيع أن نقول إلسرائيل هذه ثقافتنا ،أنت تواجه برنامج ًا حضاري ًا إسرائيلياً ،باملقابل علينا أن نقدم برنامج ًا حضاري ًا آخر، وال ميكن القول إننا نقتبس من اإلسرائيليني من أجل أن نعمل برنامج ًا حضاري ًا آخر. كلمة يبوس معناها نوري وحرف (ي) تعني (ج) ،عندما تقول يافا يعني جافا .يورشاليم يعني جورسليم ،يرحو يعني جريكو أي أريحا ،وهذا أساس التركيب املعنوي للجغرافيا. وكلمة كنعان ،هي األرض وليست أمة ،وتعني األرض املنخفضة، والقبائل الكنعانية سكنت في األرض املنخفضة ،كلمة كنعاني تعني صانع األرجوان ،ولو نظرت إلى األلوان لوجدت أن اللون األحمر هو اللون املميز ،ألن تربة فلسطني هي حمراء ،فعندما ننظر إلى النساء اللواتي كن يزخرفن ثوب العرس ،كن يعملن على مدار سنة كاملة، وتضع النساء على هذا الثوب ألوان ًا تعبر عن حياة املرأة :هل هي سعيدة أم غير سعيدة؟ كيف نظرت املرأة إلى احلياة التي تعيشها؟ فمث ً ال لو أخذت ثوب ًا فلسطيني ًا من مدينة يافا ،جتد أنها قد نقشت عليه موج البحر الذي هو بجوارها.
هذا الكتاب لم ِ يأت صدفة ،وال يتحمل مسؤولية ذلك واضعو هذا الكتاب فحسب ،ولألسف هو نتاج سياسة عامة؛ سواء في املناهج أم املجتمع الفلسطيني ،فهناك توجه عام ألسلمة املناهج ،إذا نظرنا إلى اللغة العربية مث ً ال جند أن اجلزء األكبر منها منهج ديني أكثر منه منهج تربوي .هذا الكتاب استمرار للتفكير السائد في نهج وزارة التربية والتعليم ،صناع القرار لألسف أصبحوا محافظني وتقليديني، يحاولون زرع هذه السياسة في عقول أبنائنا ،واحلاصل أن كثيرين في
لدي بعض املالحظات حول الكتاب: َّ ترجمة القدس إلى القدس باإلجنليزية ،شيء خطير ،ألنني أعتقد أن القدس في اإلجنليزية هي جورزلم مبعناها الشامل والسياسي الكبير. وفي مدريد طرح اإلسرائيليون على الوفد املفاوض الفلسطيني، القدس هي قدسكم وقدسنا هي جورزلم ،جورزلم هي القدس الشرقية والغربية ،أنا أحتدث عندما تقول في اللغة العربية القدس هي القدس، وعندما تترجم إلى أي لغة ثانية هي جيروزلم ،القدس التي يتحدث عنها اإلسرائيليون ستكون أبو ديس؛ أي القدس التي يريدوننا أن نعرفها ألبنائنا وليس القدس التي هي أصالً. الكتاب أيض ًا أحادي اجلانب من الناحية الثقافية والدينية ،ويتحدث عن جزء واحد من الهوية الفلسطينية ،مبعنى أننا ال نستطيع احلديث عن التاريخ املصري وعن الهوية املصرية فقط وكأنها هوية إسالمية ،فهي هوية قبطية إسالمية فرعونية ،وهذه هي مكونات احلضارة املصرية، وكذلك احلال بالنسبة للحضارة الفلسطينية ،هي حضارة آرامية كنعانية عربية نصرانية إسالمية. هناك في الكتاب حديث يقول إن تاريخ القدس بدأ مع دخول عمر بن اخلطاب ،وهذا تاريخ مشوه ،وهناك إهانة للنصارى عندما فسر في الكتاب انحناء النصارى حلظة دخول عمر بن اخلطاب املدينة ،إن االنحناء كلمة فيها إهانة ،هم لم ينحنوا ،لم تكن العالقة بني املسلمني واملسيحيني على عالقة منحني ومنحى له .باختصار شديد ،النصارى هم فئة فلسطينية أصيلة ،وهم غير املسيحيني ،النصارى هم األمة التي آمنت بالعهد القدمي واجلديد ،هم األمة التي ذكرت في القرآن، وهم األمة الوسط ،هم الشعب الفلسطيني الذي حافظ على ديانته في فلسطني ،وتعرضوا في القدس لالضطهاد من قبل اليهود ،واعتبروا أنهم خوارج ألنهم آمنوا باملسيح ،والحق ًا عند احتالل الرومان للمدينة لوحقوا وطردوا واعتبروا خوارج عن الديانة املسيحية ،ألنهم ال يزالون يتبعون اإلجنيل والتوراة .كما طرد اليهود معهم في تلك السنة ،فاليهود التجأوا إلى بالد الفرس والنصارى جلأوا إلى اجلزيرة العربية ،حافظوا على وجودهم ،وكان لهم تأثير في احلضارات اإلسالمية والفكر اإلسالمي بوجودهم هناك .ومن بقي منهم في فلسطني ،تعرض الضطهاد كبير من الطرفني؛ املسيحيني الغربيني واليهود ،ومن عاد منهم حافظ على هويته الفلسطينية األرثوذوكسية الشرقية. املوضوع الثاني :هو موضوع خطير جداً ،وهو احلديث عن الفتح اإلسالمي ،وهو ما نسمعه كثير ًا هذه األيام ،وبخاصة أن هناك حديث ًا يهول مخاطر املد الشيعي ،ولذلك يجب أن نلجأ إلى األتراك السنة في
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
انتقائية وغياب رؤى واضحة غسان طوباسي« :مضمون الكتاب في سياق تاريخي ،وبخاصة الفتح العثماني والعالقات اإلسالمية املسيحية»
141
مواجهة هذا املد ،ويتغنون بعوده الدولة العثمانية ،ويتم احلديث عن فضائل الدولة العثمانية.
142
حاولت البحث في التاريخ عن فضائل الفتح العثماني في فلسطني خاصة ،لم أستطع أن أجد أي فضائل لهذا التاريخ ،ال في الصحة ،وال في التعليم ،وال في اإلعمار ،فهو استعمار وليس فتحاً. في العام ،1858صدر قانون األراضي ،وقد أعاد تقسيم األراضي على أساس جديد ،مت إدخال تعديالت وإعادة توزيع املناطق إلى سناجق، وأصبحت القدس تضم يافا ،وغزة ،وبئر السبع ،واخلليل ،وكان مركز الدولة العثمانية لتسجيل األراضي في دمشق ،ثم نقل إلى بيروت، وبطبيعة احلال كان الفقراء الفالحون يواجهون صعوبة في الوصول إلى بيروت ،وكانت تباع أراضيهم إلى العائالت الغنية بأسعار رخيصة جد ًا مثل عائلة سرسق. في العام ،1868عدل قانون وسمح لألجانب بشراء األراضي ،وبدأت املؤسسات بشراء األراضي في فلسطني ،فعلى سبيل املثال ،مستوطنة «بتاح تكفا» ،لم تكن لتتم لوال هذا القانون. فالسالطني العثمانيون كانوا حالة تفاوض دائم مع ثيودور هرتزل إلنقاذ الدولة العثمانية ،وطلب تقدمي معونة مالية حلماية انهيار الوضع االقتصادي للسلطة العثمانية ،وقد سمح ألول هجرة يهودية سنة ،1882وأهل القدس هم فقط الذين رفعوا عريضة للصدر األعظم يطالبونه مبنع هجرة اليهود الروس. الدولة العثمانية لم تكن على نقيض مع االستعمار البريطاني ،باختصار كما أن هناك استعمار ًا بريطاني ًا كان هناك استعمار عثماني تركي. قضية أخيرة ،في الكتاب طلب من الطالب عمل تقرير عن هربرت صموئيل ،ومذكور بشكل واضح ،ولم يطلب منهم تقرير عن قائد فلسطيني مثل عبد القادر احلسيني ،وإسعاف النشاشيبي ،وخليل السكاكيني ،أو إدوارد سعيد. أنا أعتقد أن هذا الكتاب ال يصلح كمنهاج ،وهناك ضرورة لرفع الصوت عالي ًا ملنع املزيد من هذه الكتب.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
سمير عوض :القدس كمدينة حية املوضوع الذي سأحتدث عنه ،هو القدس كمدينة حية ،كمدينة تتنفس وتتفاعل مع البيئة التي حولها ،وكمدينة يخنقها االستيطان ومحاوالت التهويد املستمرة ،ولوال أن هناك عقلية وممارسة للمقاومة من قبل السكان الفلسطينيني ملاتت مدينة القدس منذ زمن بعيد. أود احلديث هنا عن مقاومة املدينة ككائن في وجه محاولة تزوير هويتها وروحها .أشعر أن هذا الكتاب يتحدث عن مدينة القدس كجماد بال حياة ،وأنا فلسطيني أشعر أن هذا عكس ما نريده وعكس ما نوافق عليه ،وهذا ما يريده االحتالل ورئيس بلدية القدس السابق
أوملرت. أنا شخصي ًا تعلمت عن القدس من زوجتي هدى العموري ،فهي من مواليد مدينة القدس .اإلنسان ال يتعلم فقط من الكتب واألعمدة واملباني التاريخية ،تعلمت كيف تكون مدينة القدس حية بأهلها ،وبأسواقها، وأناسها ،وحاراتها ،التي تنبض باحلياة ،وأزمان القدس ومواعيدها متداخلة كقطعة فسيفساء .ففي رمضان مثالً ،نتعرف على املهرجانات واالحتفاالت التي متأل الشوارع والساحات ،وهذه أصبحت جزء ًا من التقاليد ،أنا هنا ال أعني بالتقاليد األشياء القدمية ،أنا أقصد بالتقاليد حياة الناس ،كيف ينزلون إلى السوق ،ويحتفلون باملناسبات ،يتحدثون مث ً ال عن األشياء التي تكون غالية في شارع صالح الدين ،ولكنها أرخص في البلدة القدمية .ال أحتدث هنا عن املسجد األقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة ،أحتدث عن املشي في السوق ،من باب العمود وباب خان الزيت إلى احلرم أو إلى حارة النصارى ،وأسواق «السنتوارية» والتحف والعمالت القدمية. أن الكتاب يتحدث عند مطالعتي للكتاب الذي يتحدث عن القدس وجدت ّ عن كل األشياء املوجودة في املدينة عدا الناس! يوجد 200ألف ساكن في املدينة (سامحوني إن أخطأت) لم يتطرق الكتاب إلى هؤالء الناس! لم يتحدث الكتاب عن هؤالء الناس وال عن أماكن وجودهم ،ماذا يعملون؟ وكيف هي حياتهم؟ مع أنهم الشعب املستهدف .إسرائيل ال تستهدف األماكن الدينية بشكل أساسي ،إسرائيل تستهدف الشعب والناس والساكنني في القدس .املقاومة يجب أن ترتكز على هؤالء املواطنني الذين يسكنون املدينة وميثلون اجلانب احلي وا ُملقاوم للتهويد والسياسات العنصرية .فعندما تتحدث عن الهجمة اإلمبريالية واالستعمار وكل هذه املواضيع ،وإذا لم يتوفر االستعداد للمقاومة لكل املعارك على الهويات وعلى املناطق املصادرة وعلى احلصار وعلى إعدام البيوت ،باعتقادي ال ميكن أن نحقق أهدافنا املنشودة في التحرر واالستقالل. الكتاب لم يتطرق إلى اجلانب احلي في القدس ،وأعتقد أن اخلطأ جاء من الناس الذين عملوا هذا الكتاب ،حتى أن وزارة التربية والتعليم ال حية ،بل يشاهدون مدينة القدس من ترى وال تتعامل مع القدس كمدينة ّ خالل مبنى مملوكي أو عثماني أو أموي .إذاً ،واضعو الكتاب ركّ زوا على اجلانب الرمزي واملثولوجي .املهم أن هناك فلسطينيني يعيشون حياة في مدينة القدس ،متنوعني وأصولهم مختلفة .املباني مهمة تعكس هوية أصحابها ،أنا أرى القدس العربية بالسكان الفلسطينيني الذين حتملوا وقاوموا الطرد واإلخالء من قبل بلدية القدس وحكومة إسرائيل. وأنا أختلف مع الناس الذين يتحدثون أننا منتصرون .الصمود شيء، واالنتصار شيء آخر ،أنا برأيي أقصى ما ميكن عمله في القدس هو الصمود ،وهذا ما نطمح له ،نحن لسنا في معركة نحارب بها ونطمح للنصر ،نحن في فلسطني نطمح للصمود. وأنا في نظري كلما فرضت غرامات باهظة ،وكلما صار سحب هويات وتضييق خناق ،فإن السكان هم املستهدفون وليس املباني التاريخية
واملعنى الرمزي للقدس .يجب مساعدة ُسكان مدينة القدس على الصمود في وجه الهجمة االستيطانية اليهودية الهادفة إلى تغيير تاريخ املدينة العربية الفلسطينية ومستقبلها .هذا الكتاب يجيب عن القيم الرمزية ،ولكنه ال يجيب عن األشياء ذات القيمة الكبيرة لدي أنا، أوالدي الصغار مشوا في شوارع القدس القدمية مثالً ،وركضوا في ساحة األقصى ،ونزلوا إلى املصلى املرواني ،وبالنسبة لهم أصبحت القدس جزء ًا من حياتهم. املهم أن نعمل أشياء ونشاطات لتصبح القدس جزء ًا من هوية الناس، وتكون القدس متفاعلة مع الفلسطينيني ،وأنا أشعر أن احلديث اليهودي عن القدس حديث عنصري إقصائي عندما يقولون أن القدس لهم وحدهم وليس ألحد حق فيها ،فالتاريخ اليهودي ملدينة القدس حقيقي ولكنه غير ممتد .القدس لها تاريخ أكبر بكثير من تاريخها اليهودي ،فلها تاريخ كنعاني ويوناني وروماني وآرامي وبيزنطي وإسالمي ،سواء أكان األخير أموي ًا أم مملوكي ًا أم عثمانياً. حضارات متعددة ومتنوعة وشعوب مختلفة عاشت في القدس وساهمت في هويتها ،ولذلك ال يوجد في القدس تفرقة طائفية وال عنصرية .واالستعمار هو الذي خلق هذه التفرقة .سكان مدينة القدس يجب أن ننظر إليهم بنظرة االعتزاز واإلعجاب ،وهم الضمانة ملستقبل القدس العربية الفلسطينية. إعادة النظر في الكتاب خليل التفكجي« :اجلغرافيا السياسية ملدينة القدس وانعكاسها في الكتاب» حقيقة عندما استلمت كتاب القدس وقع في يدي كتاب إسرائيلي يتحدث عن القدس ،ويحمل توقيع أوملرت ،يتحدث عن مكانة القدس وعن التاريخ واجلغرافيا والعمارة اإلسالمية واليهودية واملسيحية ،ويشتمل على الصراع السياسي في تلك الفترة بني العائالت التي كانت موجودة في مدينة القدس ،حتى يصل إلى االتفاقيات األخيرة بالنسبة للمدينة، ومع حتفظنا على فكرة املقارنة ،إال أن ذلك ال مينع من االعتراف بشمولية مجاالت التناول في الكتاب اإلسرائيلي وتعددها ،وهذا ما لم يشتمل عليه الكتاب املنهاجي الفلسطيني ،مع أننا في هذا املوضوع في غاية االحتياج للتعمق والشمولية واملنهجية.
ومن جهة أخرى ،لم يكن الكتاب متوازي ًا في عرض التعددية الثقافية ملدينة القدس ،وهذا مستجد في حياتنا الفلسطينية ،ففي فترات سابقة لم يكن هنالك متييز على أساس الدين ،بحيث كنا كمقدسيني يحضر املسلمون
الشيء اآلخر في الكتاب ،التركيز على القدس ،فأنا دائم ًا في محاضراتي أسأل السؤال األول ،ماذا تعني القدس ،هل هي القدس الشريف؟ القدس الشرقية؟ القدس الغربية؟ وهذا السؤال غير واضح حتى للسياسيني الفلسطينيني الذين عندما يذكرون القدس ال يفهمون معناها.
143
القدس الشريف محددة في الفترة العثمانية باجلسم املوجود داخل األسوار ،بحيث أن اليهود عندما أنشأوا أول مستوطنة إسرائيلية خارج حدود األسوار ،جاء البريطانيون ووضعوا احلدود ،ثم جاء قرار التقسيم ،181ثم جاءت بلدية القدس ،ثم احلدود األردنية ،ثم عملية تقسيم القدس الشرقية والغربية. األمر اآلخر عدم وضوح جغرافية القدس في الكتاب ،فاملشهد اجلغرافي ملدينة القدس له مواصفات خاصة ،فموقعها كان منذ القدم يجمع بني شيئني ،املوقع الدفاعي واملوقع املكاني .القدس على هضبة، محاطة بسلسلة جبال؛ جبل الزيتون ،وجبل املشارف ،وجبل املكبر من الناحية اجلنوبية ،وهو كموقع غير مميز من النواحي االقتصادية أو اإلستراتيجية ،وأهميته األولى تنبع من موقع القدس ومكانتها الدينية، فاملاء مث ً ال كان في القدمي يجلب للقدس عبر قنوات رومانية من جبل اخلليل ،ثم من راس العني في مرحلة أخرى ،وفي الفترة األردنية من عني سينيا .وما ميكنني أن أقوله أن األساس في بناء مدينة القدس في هذا املوقع هو املكانة الدينية ،وأهمية القدس تكمن من كونها أولى القبلتني وثالث احلرمني الشريفني ،ومن وجود كنيسة يحج إليها من جميع أنحاء العالم. األمر األخير في املوضوع ،أن في القدس شخصيات تاريخية ومعاصرة ومراكز ثقافية مت إغفالها ،فحتى الرحالة الذين قدموا إلى هذه املنقطة كتبوا عن احلياة اليومية ،ومن املعروف أن ألهل القدس منط ًا خاص ًا وجلهة خاصة ال يعلمها الكل ،وهذا غير واضح في هذا الكتاب. الصور واألخطاء :في إحدى الصور في صفحة ،84صورة تتضمن أحد أبواب القدس ،ومن ينظر إليه يقول إن هذا باب اخلليل ،ولكنه في الواقع هو نفق إسرائيلي ،كذلك عندما حتمل إحدى الصور اسم (أحد أبواب القدس) وغير معروف للطالب ،ما هو هذا الباب؟ (وهو باملناسبة باب األسباط). سردية ضعيفة ولغة إنشائية بال مخيلة جنوان درويش :عن محتويات الكتاب واإلخراج البصري أشياء مهمة للغاية قيلت في مداخالت هذه الندوة ،وهذه بعض املالحظات األخرى على مضمون هذا الكتاب وإخراجه الذي ال يقل بؤس ًا عن مضمونه. بخصوص ما احتواه الكتاب من «قصائد» ،فهي ليست من القصائد
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
وفي هذا السياق ،أرى أن الكتاب الصادر عن وزارة التربية والتعليم قد حتدث عن أن القدس مهبط الديانات السماوية الثالث ،ولكنه في احلقيقة ركز على ديانة واحدة وهي اإلسالم ،وتركز بشكل أساسي على قبة الصخرة واملسجد األقصى ،وهذا ما نعاني منه اآلن في وسائل اإلعالم العاملية ،كأن القدس هي فقط املسجد األقصى وقبة الصخرة، دون النظر إلى السكان الذين يعيشون في هذا املكان بثقافتهم وحضارتهم وحياتهم.
أعياد الفصح وأعياد املسيحيني وفي الوقت نفسه األعياد اإلسالمية يحضرها املسيحيون ،هذا شكل لدينا ثقافة التنوع وتقبل اآلخر.
144
اجليدة أو الصاحلة في اإلطار التربوي إذا استثنينا أربعة أبيات فقط لعمر أبو ريشة وردت فيه .فهذا «العمل» يستحق جائزة ألسوأ كتاب عن القدس ،ومن الواضح أن الذين كلفوا بإعداده لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث واكتفوا برديء الشعر ،وأهملوا بقية األشكال الكتابية األخرى كاملسرح ،والرواية ،والقصة ،واألجناس األخرى من التعبير الكتابي، ناهيك عن إهمال الفنون البصرية إهما ً ال فادحاً .مت إهمال جميع هذه األشكال لصالح منط رديء من الشعر؛ سواء من التراث أم حتى ما حسبوه شعر ًا معاصراً .مناذج ميتة ،والقدس ميتة معه ،واإلنشاء الذي يبدأ منذ مقدمة الكتاب مرعب بالفعل. في مقدمة الكتاب تقول الوزيرة« :أو ً نثمن عالي ًا موقف قيادات ال ّ الدولة العربية واإلسالمية ومواقف اإلخوة وزراء التربية والتعليم في الدول العربية واإلسالمية» .ملاذا نثمن عالياً؟! وأية مواقف؟ وعن ماذا نتحدث؟ كأن القدس في أحسن أحوالها ،وفي النهاية توقيع «أختكم مليس العلمي» .أنا اعتقد أن املسؤولني عن هذا الكتاب يجب أن يتحملوا مسؤوليتهم جتاه هذا الكتاب ،ويجب مساءلة من أعدوا الكتاب بهذه الصيغة .كتب املناهج عاملي ًا نعرف من ألّفها ،أما هذا الكتاب فهو دون مؤلف مثل النشرات التي يتخلى عنها أصحابها .وأرى أمن هذا استخفاف يعكس االستخفاف العام في التعامل مع قضية القدس، والسيما موضوع القدس عاصمة الثقافة العربية ،2009واخلفة التي يتم التعامل بها معه .هذا الكتاب يعكس العمل الفلسطيني والعمل العربي للقدس حالياً ،لألسف هذا الكتاب ليس استثناء ،والوضع العام ليس أفضل من ذلك! تخبط في الرؤيا السياسية للكتاب ،فكل احلديث من جهة أخرى ،ثمة ّ يجري عن «احملافظة على مدينة القدس» و «استنكار تهويدها» ... وال نفهم هنا بأي معنى ُتفهم كلمة «احملافظة» عند احلديث عن مدينة محتلة؟ وما معنى «االستنكار» الذي يريد الكتاب تلقينه للطالب ...هل نطمح إلى تعليم األجيال القادمة مواصلة طقوس االستنكار العربية؟!
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
يقدم السردية اإلسالمية في أضعف صورها ،وال يصل للمعنى الكتاب ّ العميق اجلذري للسردية اإلسالمية ،وإمنا يذهب نحو اإلنشاء القائم على تعويض الواقع وغياب الفعل ،بلغة إنشائية بال مخيلة .في املقابل الكتاب ال يتطرق بتات ًا حلياة السيد املسيح في القدس ،وبشكل عام هناك للمكون املسيحي في الثقافة العربية املتعلقة بالقدس ،وهذا خطأ تغييب ّ جسيم برأينا. فيما يتعلق باإلخراج البصري ،فالصور الفوتوغرافية التي وردت في الكتاب ال توجد إشارة حلقوق هذه الصور ومن أين أتت ،وفيما يبدو فإن معظمها منقول من شبكة اإلنترنت .على سبيل املثال ،ال توجد معلومات دقيقة عن الصور املرفقة ،أي ما يسمى شرح الصورة .مث ً ال هناك صورة لـ «باب اخلليل» كتب حتتها «أحد أبواب القدس» ،واألغلب أن معدي الكتاب لم يعرفوا أي باب هذا .وحني وضعوا صورة لـ «باب العمود» -أشهر أبواب القدس -وألنهم عرفوه وضعوا حتت صورته اسمه ،ولكن األبواب األخرى التي حتتاج إلى تعريف ،اكتفوا بوضع «أحد أبواب القدس» بدل تسمية الباب.
سليمان منصور :اإلخراج الفني للكتاب أنا أحتدث عن عناصر مهمة في اللوحة املوجودة على الغالف ،وهي األرجل التي تؤكد على الثبات والقوة ولكن الصورة لم تظهر القدمني في الغالف ،كما أننا لم نعرف من التقط صورة قبة الصخرة واملسجد األقصى وملن اللوحة .أيض ًا اللون العام للكتاب يشير إلى أن الكاتب ذو لون واحد ،وفكر معني. أيض ًا الصور املوجودة داخل الكتاب تشير إلى عدم االهتمام باإلنسان الفلسطيني املوجود في مدينة القدس ،بحيث أنه ال يوجد صور يظهر فيها ناس بشكل واضح ،وبعض الصور التي يظهر بها أشخاص يبدون صغار احلجم وغير واضحني ،ويبدون في بعض الصور أنهم يهود وسياح أكثر منهم عرب من سكان القدس. الكتاب موجه لألطفال في سن (ست سنوات إلى أربع عشرة سنة) ال يوجد فيه أي شيء ميكن أن يشد الطفل مثل الرسم واأللوان ،مع أن املوضوع غني جد ًا بهذه األمور ،بحيث أنهم لو توجهوا إلى فنانني فلسطينيني وطلبوا منهم أن يرسموا عن موضوع القدس ،لقدم اجلميع جتاربه وخبراته ،وأصبح الكتاب مستساغ ًا وعالق ًا في ذهن األطفال، لكن الكتاب جاف من جانب الصور واإلخراج الفني ،ويبدو أنه لم تصبه يد مصمم غرافيكي أو فنان. هناك عدد كبير من األخطاء في الكتاب حتدث عنها من سبقني ،ولكن سأحتدث عن أخطاء تهمني كفنان ،وبصفتي مهتم بالصناعات احلرفية فقد ورد في صفحة ( )30صور لصناعات خشبية من القدس ،وهذه النماذج لم أشاهدها أبد ًا في القدس ،وال حتى خارج القدس ،أيض ًا هناك صورة لساعة خزفية مكتوب عليها إنها من خشب ،وهذا خطأ يستطيع حتى الطفل أن يدركه. من ناحية اإلخراج الفني ،فهو سيء جداً ،وأعتقد أن الكتاب لم مير في عملية إخراج فني على اإلطالق ،وكذلك شعار القدس عاصمة الثقافة العربية ،يظهر على أغلب الصفحات كخلفية ضبابية ولم يظهر في أي مكان في الكتاب بشكل واضح. انتقاء اخلط سيئ جد ًا في الصفحات األربع األولى ،ويبدو كخط يد، ولكنه بالفعل من إنتاج احلاسوب ،وقد حاولت أن أقرأ هذه املقدمة ولكن لصعوبة قراءتها تخطيتها إلى صفحات أخرى ،فهل ميكن للمعلمني أن يقرأوها ويستفيدوا منها. صيغة الكتابة في كلمة الوزيرة موجهة إلى الزعماء والقادة وامللوك العرب، وليس ألهالي القدس واملعلمني واألطفال الذين سيقرأون الكتاب.
الهامش * باحث في تاريخ فلسطني احلديث في مؤسسة الدراسات املقدسية ،وأستاذ التاريخ في جامعة برادلي في الواليات املتحدة األمريكية.
تعقيب وزارة التربية والتعليم العالي على وقائع الندوة كما ورد من قسم املناهج
*
145
قراءة متأنية في كتاب القدس ...الوطن والروح ،خطة مرجعية
علي مناصرة مدير عام املناهج اإلنسانية واالجتماعية وزارة التربية والتعليم العالي هذا الكتاب ،هو آخر ما صدر عن مركز املناهج الفلسطيني ،اإلدارة العامة للمناهج اإلنسانية واالجتماعية ،بعد أن قام املركز بإصدار املناهج الفلسطينية كافة ،بدء ًا من الصف األول األساسي وحتى الثاني عشر بفروعه جميعها ،والكتاب عبارة عن خطة مرجعية ،حتتوي على أهداف ومفردات تعكس هذه األهداف ،وأساليب وأنشطة مقترحة لتنفيذه. وقد أعد مبناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية للعام .2009 وقد خطط ليدرس خالل عام ميالدي واحد هو العام ،2009ولم يكن أص ً ال جزء ًا من خطة املناهج ،على الرغم من أن القدس متثل موقع ًا بارز ًا في اخلطة األصلية للمناهج وفي األنشطة التربوية كافة.
وقد أبدى املجتمعون آراء مختلفة في هذا الكتاب ،نقدر أصحابها، ونحترم وجهة نظرهم ،ولكن حتى تكون األمور في نصابها الصحيح ال بد من توضيح األمور اآلتية:
.2يهدف هذا الكتاب إلى حتفيز الطلبة ،واملعلم للبحث عن املعرفة الالزمة عن القدس ،جغرافي ًا وتاريخي ًا وديني ًا واجتماعي ًا وثقافي ًا وأدبي ًا من أجل تعزيز االنتماء إليها والدفاع عنها ،كما هو وارد في الكتاب، فهل هذا الهدف غير واضح؟ وهل الرسالة الكامنة خلفه غير جلية؟ .3تضمن اخلبر املذكور كلمات وجم ً ال وأحكام ًا عامة تفتقر إلى اللياقة النقدية ،فقد ورد “أن الكتاب قد اختصر القدس بشكل مريب ،وهو ما يتناسب مع ما طرحه أحد املفاوضني اإلسرائيليني في املفاوضات حني قال لكم قدسكم ولنا جروسلم” .كما ورد في موطن آخر “إن هذا الكتاب هو أسوأ ما كتب حول القدس ،وأنه قدم سردية واحدة للقدس هي السردية اإلسالمية في أضعف معانيها ،حيث أفقدها عمقها القيمي واألخالقي ،واستخدم تعويض ًا عن هذا الغياب غنائية شعرية شكلية ذات مخيلة كسيحة” ،وورد في اخلبر أيض ًا “أن تاريخ القدس اختصر في كلمات وقصائد منسوجة بهذه السرعة ،ومتأثرة كثير ًا باإلسرائيليات” .وغير ذلك الكثير ،ونحن نرى أن هذه كلمات متعجلة ،ال تليق بالنقد التربوي الذي يؤدي إلى تطوير الكتاب،
* هذا التعقيب هو ما أرسلته لنا وزارة التربية والتعليم العالي إثر إرسالنا ملف الندوة لكي تقوم بالتعقيب ،علم ًا بأن هذا التعقيب قد نشر في املوقع اإللكتروني لوكالة (معاً) اإلخبارية ،كما نشر في العدد األخير من جريدة «مسيرة التربية والتعليم العالي» (العدد ،65أيار )2009الصادرة عن الوزارة.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
ومما يثير االستغراب ،أن يدعو أحد املراكز التربوية إلى اجتماع لتقييم الكتاب 1،ويدعو مجموعة من التربويني واألكادمييني واملثقفني -حسب اخلبر املنشور في صحيفة األيام بتاريخ - 2009/3/26دون أن توجه دعوة إلى وزارة التربية والتعليم العالي ،صاحبة الشأن ،على األقل لسماع اآلراء وتبادلها مع نخبة من املثقفني ،وبيان وجهة نظرها في هذا الكتاب ،واالستفادة من اآلراء كافة ،وذلك على األقل لتكون الطبعة الثانية من الكتاب أكثر دقة من األولى ،وحتى نترجم فع ً ال مفهوم الشراكة احلقيقية في العملية التربوية ،بعيد ًا عن مجرد رفع الشعارات، فنحن أحوج ما نكون -وبخاصة هذه األيام -إلى سماع بعضنا، ليس من خالل الصحف فحسب ،ولكن باللقاء املباشر واحلوار اجلاد املسؤول ،فوزارة التربية والتعليم العالي لم تغلق أبوابها يوماً ،ولن تغلق أبوابها أمام من يبدي رأي ًا أو ينقد موقف ًا أو عم ً ال أو كتاباً ،مع تقديرنا لكل اآلراء التي تؤدي بالنهاية إلى االرتقاء بالعمل ،وتساهم في حتسني العملية التربوية التي هي مسؤوليتنا جميعاً ،فكان أن عمد هذا املركز إلى محاكمة الكتاب بشكل خاص ،واملناهج الفلسطينية بشكل عام، وفي غياب الوزارة التي قامت بهذا العمل ،األمر الذي يشكل خل ً ال في مصداقية هذه احملاكمة ،وأهدافها أصالً.
.1الكتاب هو خطة مرجعية للنشاطات التي يقترح أن تتم في املدارس، وليس كتاب ًا مدرسي ًا باملفهوم التقليدي للكتاب ،وقد أعطى املرونة الكافية ،للمعلم والطالب للبحث واالستقصاء والدراسة حتى يحقق الهدف املنشود ،ونحن على ثقة بأن معلمينا وطالبنا يستطيعون إغناء محاور الكتاب بجهودهم .فما أجمل أن يقوم طالب ما في مدرسة ما بتحضير حصة يقدمها لزمالئه في غرفة الصف عن أي درس أو محور من محاور الكتاب ،حتى تكون املعرفة أثبت في األذهان من مجرد تلقني معلومات طاملا نقدنا أنفسنا ونقدنا غيرنا في طريقة عرضها، وقد القى املعلمون -كما ذكر لي بعضهم -ارتياح ًا واستحسان ًا من طرح املادة بهذه الطريقة ،وشعر املعلمون بأن هناك جديد ًا في هذا الكتاب ،وحتديد ًا في عرضه لألهداف واحملتوى بهذه الطريقة. وهنا يحق لنا أن نتساءل :أليس ما يقوم به الطالب نفسه من بحث واستقصاء أكثر فائدة له ،وأكثر رسوخ ًا ودميومة في ذهنه من دروس جاهزة يقوم بحفظها واستظهارها؟
وهي انطباعات شخصية تفتقر إلى العلمية واملوضوعية ،وال تتفق مع مفاهيم املناهج وأسسها وال حتى مع القيم التربوية.
146
القدس منذ العصور القدمية ،زمن أجدادنا الكنعانيني الكتاب .4تناول ُ َ حتى اليوم ،أي منذ أن بنى أجدادنا العرب الكنعانيون يبوس مرور ًا بالفتح اإلسالمي للقدس ،وغزو الفرجنة لها واالحتالل اإلسرائيلي لها ،وخنق املدينة بجدار الفصل العنصري ،وما ترتب عليه من معاناة وعزل ،ومحاوالت طمس للوجود العربي في املدينة ،وسياسة التهويد التي ميارسها االحتالل ،واالستيطان الذي يهددها ويحيط بها ،وسياسة االحتالل كذلك في التضييق على السكان العرب بوسائل شتى من منع تراخيص البناء للعرب ،وفرض الضرائب الباهظة عليهم ،ومنعهم مسلمني ومسيحيني من ممارسة شعائرهم الدينية ،وغير ذلك الكثير. أال يعد هذا تسلس ً ال منطقي ًا لألحداث التاريخية؟ يعد هذا نضا ً ال للمقدسيني وصمود ًا لهم؟ أال ّ أال يعطينا هذا صورة واضحة عن حيثيات احلياة اليومية للمقدسيني ومعاناتهم؟ .5ضم الكتاب اثني عشر نص ًا شعرياً ،ما بني نشيدة قصيرة سهلة لطلبة املرحلة األساسية الدنيا وحتى رائعة القدس للشاعر متيم البرغوثي. وقد آثرنا في الكتاب أن نختار مجموعة من القصائد التي تتحدث ندعي أن هذا أجمل ما قيل في القدس ،ألنه ال عن القدس ،وال ّ أحكام قطعية في األدب ،ويستطيع الطلبة واملعلمون أن يختاروا معها ما أرادوا من األشعار التي تتفق وذوائقهم الشعرية ،وقد ذكر بعض من نقد الكتاب أن ما قدم عن القدس من شعر “ هو منوذج ميت وإنشاء فارغ من حيث الشكل اعتمد على منط واحد من الشعر العمودي املبالغ فيه“ وهنا نتساءل ،هل قصيدة هارون هاشم رشيد بعنوان “جذور” إنشاء فارغ وشعر عمودي؟
.7لم يكن املقصود إنشاء موسوعة شاملة مانعة جامعة عن القدس، وإال الحتاج األمر إلى عشرات املجلدات ،ولكن اخلطة مقدمة لطلبة املدارس من الصف األول حتى الصف الثاني عشر ،وما يقدم لطلبة املدارس له مواصفاته التربوية اخلاصة التي تراعي النمو العمري والذهني واالنفعالي للطالب. .8هذا الكتاب ليس هو النشاط الوحيد الذي قامت به وزارة التربية والتعليم العالي ،وهو يأتي متكام ً ال مع نشاطات أخرى أعدت لهذه املناسبة ،وكم متنينا أن تقوم املراكز التربوية بإعداد كتب أو خطط أو نشاطات لتكون مكمل ًة لهذه األنشطة ورديف ًا لها تسد النقص إن وجد، وعندها سنقدم الشكر أو ً ال لهذه املراكز على اهتمامها ومشاركتها، وسننقد هذه الكتب أو اخلطط نقد ًا علمي ًا موضوعي ًا يؤدي إلى تطويرها وحتسينها. .9نرحب بأية فكرة أو إضافة ،أو وجهة نظر ،تؤدي إلى تطوير هذا الكتاب، وأي كتاب في املناهج ،ولكن بعد االطالع الفعلي على هذا الكتاب ،أو أي كتاب في املناهج ،ودراسته ،بعيد ًا على األحكام العامة املسبقة، واالنطباعات الفردية غير املوضوعية ،فليس دقيق ًا أن املناهج الفلسطينية تقوم على االنتقائية وغياب الرؤى الفلسفية والسياسية الواضحة ،كم متنينا ونتمنى على مثقفينا وتربويينا أ ّال يبخلوا علينا بوجهة نظرهم لتساعد في تطوير املنهاج الفلسطيني ،وأ ّال نكتفي فقط بالنقد ،ملجرد النقد، وحبذا لو طرحت بدائل ملا ينقد ،إذا كان غير مناسب .ونكون شاكرين إذا مت تزويد مركز املناهج بها ،حتى تكون فع ً ال الشراكة حقيقية.
الهامش 1املقصود هنا هو الندوة التي عقدت في مركز القطان ،ومن املنطلق املهني وأمياننا باحلوار ننشر تعقيبات الوزارة كما وردت بناء على طلب منا (هيئة حترير رؤى تربوية).
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
وهل قصيدة نزار قباني التي يقول فيها: من يغسل الدماء عن حجارة اجلدران؟ من ينقذ اإلجنيل؟ من ينقذ القرآن؟ من ينقذ اإلنسان؟ إنشاء فارغ وشعر عمودي؟ وهل قصيدة األخوين رحباني بعنوان زهرة املدائن -التي ما زالت فيروز ترددها -إنشاء فارغ وشعر عمودي؟ وهل رائعة القدس لتميم البرغوثي قصيدة ميتة ،وشعر عمودي؟ أنا أترك للقارئ املنصف احلكم على هذا؟ .6أبرز الكتاب األهمية الدينية ملدينة القدس ،وال أظن أن أحد ًا ينكر أو ينتقص من هذه األهمية ،فهي أولى القبلتني ،وثاني املسجدين، وثالث احلرمني ،وفيها كنيسة القيامة وفيها آالف املعالم اإلسالمية واملسيحية ،فكيف ميكن جتريد القدس من قدسيتها ومقدساتها؟ وهل ال قد اختصر القدس بشكل مريب؟ وهل فع ً الكتاب فع ً ال مت اختراع قدس أخرى؟ كما ذكر بعض الناقدين للكتاب.
من فعاليات مدرسة غزة للموسيقى.
إضاءة على عدد ٍ من فعاليات مركز القطان للبحث والتطوير التربوي
147
نظم مركز القطان للبحث والتطوير التربوي عدد ًا من الفعاليات واألنشطة التربوية خالل األشهر األربعة األخيرة ،إضافة إلى مشاركات في مؤمترات وفعاليات تربوية محلية وخارجية .وفيما يلي أبرز هذه الفعاليات.
املشاركة في ورشة عمل باليونان حول توظيف الدراما في التعبير الكتابي أدار وسيم الكردي ،مدير املركز ،ورشة عمل في “توظيف الدراما في التعبير الكتابي” ،نظمتها مؤسسة “سرديات” (Narratives )NGOاليونانية التي تعمل في مجال الفن الدرامي واللغة في التعليم واحلوار والنمو ،في العاصمة اليونانية أثينا يومي 4و .4/5وتضمنت الورشة ،التي استهدفت عدد ًا من املعلمني واملعلمات ،مجموعة من القصص العاملية والصور الفوتوغرافية وما ينبثق عنهما من إمكانيات
ودافعيات لتشجيع األطفال على التعبير الكتابي. كما ُنظم لقاء على هامش الورشة ،جمع إدارة املؤسسة اليونانية مع مدير مركز القطان لبحث إمكانيات التعاون املستقبلي ،وإمكانية إنشاء مساق سنوي في توظيف الفنون في التعليم ملعلمني من فلسطني واليونان ودول حوض البحر األبيض املتوسط.
مداخلة حول كتاب “مخيلة احلكاية” في ندوة بعمان حول “االحتفاء باملجتمعات الشفهية” وميسون سكرية «هيمنة التعددية الثقافية» ،وروجيه عساف «جتربة في املسرح املبني على قصص الناس» ،وحسن اجلريتلي «من احلدوتة إلى السيرة :جتربة فرقة الورشة» ،ورمي أبو كشك «العالج بالدراما من خالل حكايات الشباب» ،وسمر دودين «بناء مسرح شباب مبني على احلكايات الشخصية» ،وشريف كناعنة «جتربة قول يا طير في نقل النص الشفاهي إلى نص مكتوب» ،وفتوح فرج «جتربة كتاب حكايات من الدقهلية» ،وفيحاء عبد الهادي «سلسلة قالت شهرزاد» ،وبرالني غيبارا «احلكاية وتعلم اللغة».
وتضمنت الندوة أربعة محاور شملت« :الفكر األحادي والتنوع في التعليم»« ،جتربة املسرح مع التاريخ الشفوي»« ،التواصل الكتابي والتفاعل الشفهي»« ،احلكايات واللغة» ،قدم خاللها عدد من املداخالت لكل من منير فاشه «الشفاء من الفكر األحادي»،
كما أن الكتاب موجه أساس ًا ملعلمي اللغة العربية وآدابها ،وهو محاولة لتقدمي مقاربة للقصص في سياق املنهج الدراسي «تبني منطلقاتها عبر محاورة مغايرة للفكر التربوي من جهة ،ولفلسفة تعلم اللغة وتعليمها من جهة أخرى ،محاورة تعيد صياغة الفكر النظري في خضم التجربة املهمومة أص ً ال مبساءلة جديد الفكر التربوي وإعادة إنتاجه”.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
قدم وسيم الكردي ،مدير املركز مداخلة حول كتاب “مخيلة احلكاية في استكشاف القصة وإنتاج املعني” ،خالل ندوة بعنوان “االحتفاء عمان ،ضمن نشاطات مهرجان باملجتمعات الشفهية” نظمت في َّ “حكايا” الذي ينظمه مسرح البلد في األردن ،بالتعاون مع امللتقى التربوي العربي ،واملركز العربي للتدريب املسرحي ،و(MS/ .)Denmark
يذكر أن كتاب «مخيلة احلكاية» من تأليف كل من مالك الرمياوي الباحث في املركز والكردي ،وهو يتناول عدد ًا من احملاور ،منها تعليم اللغة في سياق القص والتخييل والتعبير ومساءلة الواقع، وبالغة اخلطاب السردي في سياق تطبيقي ،واحلكاية الشفاهية وآليات عمل املخيال الشعبي ،والنص التعليمي بني املنظور األدبي واملنظور األيديولوجي.
لقاء ملناقشة كتاب “القدس ..الوطن والروح” 148
– خطة مرجعية»؛ الذي أصدرته اإلدارة العامة للمناهج اإلنسانية واالجتماعية في مركز املناهج التابع لوزارة التربية والتعليم العالي، ملناسبة «القدس عاصمة الثقافة العربية العام .»2009 وأكد معظم املشاركني على أهمية تعليم القدس للطلبة ،لكي يزداد تواصلهم روحي ًا ومعرفي ًا معها كمدينة فلسطينية وكعاصمة للدولة الفلسطينية املنشودة ،مشددين على ضرورة تذكير الطلبة بأن مدينة القدس وسائر املدن الفلسطينية األخرى ما زالت حتت االحتالل، وحتتاج إلى بناء أجيال جديدة تنجز وتواصل مسيرة التحرر الوطني الفلسطيني. نظم مركز القطان في رام الله لقاء ملناقشة كتاب “القدس ..الوطن والروح – خطة مرجعية”؛ الذي أصدرته اإلدارة العامة للمناهج اإلنسانية واالجتماعية في مركز املناهج التابع لوزارة التربية والتعليم العالي ،ملناسبة “القدس عاصمة الثقافة العربية العام .”2009 والكتاب هو خطة مرجعية لعام دراسي واحد ،وقد قسم إلى ثالثة أقسام كل قسم خاص بفئة عمرية وصفية للطلبة؛ فالقسم األول للمرحلة األساسية األولى ،والثاني للمرحلة األساسية املتوسطة، والثالث للمرحلة الثانوية .وشارك في اللقاء مجموعة من املثقفني واألكادمييني وعدد من املهتمني بالشأن التربوي. وأوصى املشاركون بإعادة النظر في كتاب «القدس ..الوطن والروح
وأجمعوا على أن الكتاب ٍ خال من أي نص حي أو من أي أثر تفاعلي مباشر يتركه لدى الطلبة واملعلمني للتفاعل مع مدينة القدس كمدينة حية ،وإمنا يصور الكتاب القدس كأنها مدينة من التاريخ اندثرت ولم تعد موجودة. وأضافوا :لقد أغفل الكتاب جميع حيثيات احلياة اليومية للمقدسني؛ أعيادهم ،احتفاالتهم ،طقوسهم اخلاصة ،وأغفل أيض ًا بيداغوجيا تفاعل البشر مع احلجر في القدس ،فال حكايتهم وال نواديهم وال قصصهم وال كثافة حضارتهم منصوص عليها في الكتاب ،وكأنها خالية من سكانها .فال نضال املقدسيني االجتماعي والثقافي والسياسي اليومي ،وال معاناتهم من جراء االحتالل ،مذكورين في الكتاب.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
يوم دراسي حول التفاؤل والتشاؤم وعالقته بالتحصيل الدراسي ومن التجارب التي عرضت «أمناط اخلطاب وتداعياته على الطلبة» بإشراف املعلمة جمانة الهندي من مدرسة بنات دير عمار األساسية؛ والتفاؤل والتشاؤم وعالقته مع البيئة التربوية املتكاملة ،بإشراف املعلمني رأفت حاليقة ومحمد صادق من مدرسة قرية األطفال في بيت حلم؛ التأسيس لثقافة األمل في الصفوف األساسية األولى، بإشراف املعلمة إميان نصار من مدرسة ذكور ابن خلدون األساسية في بير نباال؛ معيقات التفاؤل وسبل حلها ،بإشراف املعلمة سامية الديك من مدرسة اللنب الثانوية للبنات في نابلس؛ تأويالتنا لنجاحنا وفشلنا ...وأشياء أخرى ،بإشراف املعلمة دعاء عدوي من مدرسة اإلخاء اإلسالمية في بيت حلم. نظم املركز في 28/3يوم ًا دراسي ًا بعنوان «الذكاء العاطفي ..التفاؤل والتشاؤم وعالقته بالتحصيل الدراسي» لعرض جتارب املعلمني املشاركني في املشروع البحثي «التفاؤل والتشاؤم» الذي تشرف عليه الباحثتان ليانا جابر ومها قرعان .وشارك في اليوم الدراسي 30 من املعلمني والعاملني في وزارة التربية والتعليم واملهتمني بالشأن التربوي .وتال العرض نقاش وحوار حول التجارب.
يذكر أن هذه التجارب جاءت محصلة لعمل بحثي إجرائي تعاوني بني فريق من املعلمني واملعلمات من مدارس مختلفة والباحثتني قرعان وجابر استمر نحو عامني ،مت خالله التأطير النظري للموضوع وربطه مبتعلقات تربوية أخرى ،ثم قام كل معلم أو معلمة بتطوير موضوعه البحثي اخلاص وتطبيقه داخل مدرسته ومشاركة الفريق مبخرجاته وانطباعاته، تال ذلك عميلة كتابة سردية وتوثيقية لكل جتربة على حدة.
منتدى التعليم للجميع يناقش حاالت الشلل الدماغي نظم املركز اللقاءين الرابع واخلامس ملنتدى التعليم للجميع في 3/14 و 4/25بإشراف الباحثة ناي شومر ،حيث عرض املعلم محمد يوسف تسجي ً ال مصور ًا لطالب مصاب بالشلل الدماغي أثناء احلصة، وفتح باب النقاش حول وضعه وظروفه ،ومت اقتراح خطة عمل فردي معه جلسر الفجوة بني قدراته التعلمية احلالية واملستوى العام للصف. وفي اللقاء اخلامس ،مت نقاش قضية طرحتها املعلمة هيلدا الشرقاوي لطالبة تواجه صعوبات في النطق واللغة ،ما يعيقها لاللتحاق بأي مدرسة .ومت تقسيم املعلمني إلى مجموعات صغيرة لبناء تصورات عامة لبرنامج عمل مفترض مع الطالبة متهيد ًا إلحلاقها مبدرسة عادية.
149
منتدى معلمي الدراما يعقد لقاءه التاسع
مت في 4/30و 5/1في مقر جمعية الهالل األحمر بالبيرة ،عقد اللقاء التاسع ملنتدى معلمي الدراما الذي يشرف عليه وسيم الكردي ،مدير
املركز والباحث مالك الرمياوي .وافتتح اللقاء بعرض فعالية بعنوان «معضالت تواجهنا أثناء تطبيق العمل الدرامي» للمعلمة سوسن مرعي من الناصرة ،تاله عرض حصة تربية وطنية للصف السادس األساسي للمعلم نسيم كبها من جنني ،واختتم اليوم األول بعرض مسرحية تناولت قضايا خاصة باألطفال للمعلم عبد املغني اجلعبري من اخلليل. أما اليوم الثاني فاشتمل على عرض حصة حول قصيدة الشرف الرفيع للصف احلادي عشر ،للمعلم أشجع دريدي من طولكرم ،تاله عرض حصة مطبقة مع الصف الثالث األساسي بعنوان «اختيار صديق» للمعلم معتصم األطرش من جلجليا .وفي السياق نفسه مت عرض حصة للصف الرابع األساسي بعنوان «التعاون» من إعداد املعلمتني نسرين مشعل ونوال الشوملي من بيت حلم ،واختتم اللقاء بعرض مسرحية تتعلق باألطفال من إعداد املعلمة فيفان طنوس من رام الله.
ورشة اللغة حول “تعلم اللغة اإلجنليزية اإلبداعي” األدوار ،والرقص .والغناء .وعقد اليوم األول من الورشة مبشاركة 21معلم ًا ومعلمة ،فيما سيعقد اللقاء الثاني في .5/2
يذكر أن غوتنيك حاصلة على ماجستير لغات وثقافات الشرق األدنى وشمال أفريقيا من جامعة غينت من بلجيكا ،وعملت في مركز متخصص في «تعليم اللغة اإلبداعي».
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
افتتح املركز ورشة عمل ملعلمي ومعلمات اللغة اإلجنليزية للمرحلة االبتدائية ،بإشراف األستاذة البلجيكية ماريون غوتنيك ،يوم ،4/25تناولت الطريقة التواصلية واإلبداعية لتعليم اللغة “تعلم اللغة اإلبداعي” ( .)Creative Language learningوهدفت إلى تطوير مهارات املعلمني التواصلية بطريقة توظَّ ف فيها اللغة في احلياة ،وتساعد الطالب على االرتباط بها بطريقة إيجابية دائمة، وذلك عبر نشاطات مختلفة من خالل استخدام الدراما ،ولعب
ومن التجارب التي عرضت «أمناط اخلطاب وتداعياته على الطلبة» بإشراف املعلمة جمانة الهندي من مدرسة بنات دير عمار األساسية، والتفاؤل والتشاؤم وعالقته مع البيئة التربوية املتكاملة ،بإشراف املعلمني رأفت حاليقة ومحمد صادق من مدرسة قرية األطفال في بيت حلم ،التأسيس لثقافة األمل في الصفوف األساسية األولى، بإشراف املعلمة إميان نصار من مدرسة ذكور ابن خلدون األساسية في بيرنباال ،معيقات التفاؤل وسبل حلها ،بإشراف املعلمة سامية الديك من مدرسة اللنب الثانوية للبنات في نابلس ،تأويالتنا لنجاحنا وفشلنا ...وأشياء أخرى ،بإشراف املعلمة دعاء عدوي من مدرسة اإلخاء اإلسالمية في بيت حلم.
تواصل لقاءات منتديات املعلمني ومنتدى املديرين واملشرفني نظم املركز في غزة 10منتديات للمعلمني حضرها 96مشاركاً، مت فيها مناقشة آليات تفعيل ملتقيات املعلمني ،واإلبداع في الرياضيات ،والتعدد اإلعالمي ،واالمتحانات النهائية .كما
مت عقد لقاءين ملنتدى املديرين واملشرفني شارك فيهما 46مدير ًا ومشرفاً ،وتناوال “الذكاء األخالقي” ،وتكامل دور املجتمع احمللي مع اإلدارة املدرسية.
150
ورشتا عمل في إعداد الباحث الصغير نظم املركز في غزة ورشتي عمل يومي 1و 3/3حول إعداد الباحث الصغير شارك فيهما 29طالب ًا من املرحلة األساسية العليا ،مت خاللهما تدريب املشاركني على إعداد البحث بأسلوب نظري وتطبيقي .وأعد املشاركون خالل الورشتني أبحاث ًا حول حقوق الطفل ،ودور تفسير الذرة في تطور البحوث العلمية ،ودور علماء العرب واملسلمني في التطور احلضاري.
لقاء حول مشروع مركز التعلم
نظم املركز في غزة لقاءين لطالبات من اجلامعة اإلسالمية حول مشروع مركز التعلم ( ،)Learning Centreمت خاللهما التعريف
باملفهوم وكيفية تفعيله وربطه باملنهاج وطرح مناذج تطبيقية ومصادر مناسبة.
املشاركة في ورشة عمل حول الكتاب في عصر التقنية
شاركت أمينتا املكتبة هناء الشافعي ورهام النقيب ،بور قـة عمل بعنوان “املكتبات املتخصصة” ،في ورشة عمل نظمتها جامعة فلسطني بغزة في 4/1بعنوان “الكتاب في عصر التقنية”.
صدرت ،مؤخراً ،عن مركز القطان للبحث والتطوير التربوي ،الترجمة العربية لكتاب “تخطيط الدراما التكونية ..الدراما في سياق تعليمي تفاعلي” ،ملؤلفيه باميال بويل ،احملاضرة في مجال الدراما في التعليم في كلية التربية بجامعة كينغستون في اململكة املتحدة ،وبريان إس هيب، أستاذ الدراما في مركز فيليب شيرلوك للفنون اإلبداعية بجامعة ويست إنديس في كنغستون بجمايكا. وذكر وسيم الكردي مدير املركز في تقدميه للطبعة العربية للكتاب أن ترجمة الكتاب «تأتي في إطار برنامج املركز «الدراما في التعليم» ،الذي يتضمن إتاحة مصادر متنوعة للمعلمني في مجال توظيف الدراما في سياقات تعليمية». وأشار الكردي إلى أن املركز «يقوم منذ سنوات عدة بتنظيم برنامج مساقات في مجال توظيف الدراما في التعليم ،وقد أسس ملدرسة صيفية في
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
صدور الترجمة العربية لكتاب «تخطيط الدراما التكونية» عن مركز «القطان»
151
هذا املجال متتد ثالث سنوات ،سيتخرج أول فوج فيها من املعلمني في نهاية صيف « 2009فوج محمود درويس» ،وقد تطلب هذا البرنامج قراءات في هذا احلقل ،وكانت املواد املتوفرة بالعربية محدودة وال تفي بالغاية ،فشرعنا في برنامج ترجمات متنوعة ،يأتي هذا الكتاب كجزء منها ،كما شرعنا في إنتاج مواد متنوعة في هذا احلقل مبنية على خبرات معلمني من فلسطني وأنحاء مختلفة في العالم وجتاربهم». وقال :تكمن أهمية الكتاب في أنه يعالج كل محور من محاور تخطيط الدرس الدرامي بشكل مفصل، وفي عالقة كل محور باحملاور األخرى ،كما تكمن في أنه يصوغ أجوبة مقترحة ألسئلة طرحها املعلمون، وهي تتناول كل محور وكل ما يتعلق به من عناصر ومكونات. وأضاف :إن الكتاب يشجع املعلمني على أن ال يبقوا على احلافة من خالل اهتمامهم فقط بتمارين وألعاب درامية بسيطة ،وخوفهم من اخلوض فيما هو أبعد من ذلك ،بل أن يتحركوا قدم ًا في دراما خالقة استكشافية تعبيرية ...إنه كتاب يساهم في بث «إضاءات» للعملية الدرامية التكونية؛ تخطيط ًا ال وإنتاج ًا ومتثي ً وتشكي ً ال يذكر أن الكتاب جاء في 144صفحة من القطع املتوسط ،توزعت على أحد عشر فص ً ال تناولت الدراما والتعليم ،واستخالص مبادئ التخطيط لطريقة الدراما التكونية ،واملوضوع مجال التعلم ،والسياق ،والدور ،واإلشارة ،واإلستراتيجيات ،وإحداث الدراما ،والدراما قيد املمارسة، وقراءات إضافية ومراجع.
ِ رتكزات م صدور كتيِّب عن مركز “القطان”حول ُ َ ِ َ ل امل ُ ح ِّ ِ س ِ ربوي ت ال قل حل شكالت في ا َّ ّ األ َ اس املَعر ِفي ملوضو ِع َ صدر حديث ًا عن مركز القطان للبحث والتطوير التربوي /مؤسسة عبد احملسن القطان في رام الله ،كتيب اس املَ ِ ِ ِ رتكزات ا َ أل َس ِ ربوي ..مشروع ملوضوع َحلِّ ا ُمل عرفي بعنوان «قراء ٌة في ُم ِ شكالت في احلَقلِ ال َّت ّ بحثي يؤسس للقراءة النقدية» ،ملؤلفه وائل كشك ،الباحث في املركز. الكتيب قراءة نقدية للمنطق األرسطي والرؤيا النيوتونية اللذين يهيمنان على ميدان حل ويتضمن ّ املشكالت في احلقل التربوي ،في محاولة لفهم األسس التي انبنت عليها النظريات والنماذج املتعلقة مبوضوع حل املشكالت.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
كما يتضمن عرض ًا للمنطق اجلدلي واملنطق العلمي في تعالقهما مع موضوع حل املشكالت ،باإلضافة إلى عرض لواقع التجربة التطبيقية كمشروع انبنى على تصور بديل ،وكذا قراءة حتليلية لواقع التجربة في ضوء الرؤية النقدية والتصور البديل. ويقع الكتاب ،الذي يأتي ضمن سلسة أوراق بحثية التي يواكب مركز القطان على إصدارها في سياق اشتغاله الرؤيوي على تطوير الواقع التربوي والتعليمي في فلسطني ،في 40صفحة من احلجم املتوسط، ويتناول ثالثة محاور ،هي :املنهج الديكارتي واملنطق الصوري في مقابل املنطق اجلدلي ومنطق العلم احلديث ،التفكير كعملية في السياق ،قراءة ذاتية لواقع املشروع البحثي “تعليم يبدأ من احلياة” في ضوء التصورات النقدية. ويقول كشك حول الكتاب “إن األرضية التي انبنت عليها النماذج والقوانني والنظريات املتعلقة مبوضوع حل املشكالت في احلقل التربوي ،هي ويبسط ،وذات الرؤية النيوتونية اآللية التي تفصل الذات عن موضوعها ،وذات التطبيق الديكارتي الذي ذات األساس األرسطي الذي ُيجرد ُ يقود العقل إلى احلقيقة املوثوقة ،ويذهب بالواقع إلى املختبرات ليحلل ويجزئ ،وذات التنظير الكانطي القائل بوجود أفكار متعالية أو مفاهيم محضة .إن احلياة ليست مصنوعة من أشياء نفعية محسوبة ومتخصصة ،واإلنسان ال يمُ كن اختزاله والنظر إليه من خالل ُبعده االقتصادي ،أو من خالل ُبعده العقلي مبعزل عن كيانه األخالقي أو كيانه العاطفي ،فالكل متشابك ومترابط ،والعقل مشحون باالنفعاالت ،والعواطف واألفكار ال تنفصالن ،وفهم الواقع واحلياة ليس بالعلم وحده”.
152
دعوة
َّ القطان الصيفية للمعلمات واملعلمني للمشاركة في مدرسة
«الدراما في سياق تعليمي»
جرش – األردن ( 30متوز – 9آب )2009 يعلن مركز القطان للبحث والتطوير التربوي /مؤسسة عبد احملسن القطان عن بدء التسجيل للمعلمني ملستوى السنة األولى ،2009ضمن برنامج دبلوم في مجال توظيف الدراما في سياق تعليمي ،من خالل املدرسة الصيفية التي ستعقد في مدينة جرش باألردن في الفترة بني 30 متوز – 9آب .2009 بنية املدرسة صممت املدرسة لتقدم برنامج دبلوم في الدراما في سياق تعليمي ،من خالل مساقات تراكمية صيفية على مدار ثالث سنوات ،مينح في نهايتها املشارك درجة الدبلوم ،بحيث تكون السنة األولى للمستوى التحضيري ،والسنة الثانية للمستوى املتقدم ،والثالثة ملستوى نيل شهادة الدبلوم في «الدراما في سياق تعليمي» .وكي يتمكن املعلم املنخرط في البرنامج من االنتقال من مستوى إلى مستوى أعلى ،عليه إمتام جميع املتطلبات النظرية والتطبيقية السنوية الواردة في كتيب الطالب. القائمون على املساقات وسيم الكردي (فلسطني) ،كوستاس أمويروبولوس (اليونان) ،وديفيد ديفيس (اململكة املتحدة) ،وهو يدير املدرسة. شروط التسجيل للمساق التحضيري لبرنامج الدبلوم: .1أن يكون املتقدم معلم ًا أو يعمل مع األطفال. .2أن تكون لديه رغبة قوية في تعلم كيفية توظيف الدراما في التعليم. .3أن يتعهد بإجراء ورشة ملعلمي مدرسته أو مجتمعه يشاركهم فيها ما تعلمه في املدرسة الصيفية. .4أن يكون لديه االستعداد للتواصل مع املشاركني اآلخرين في املدرسة ،بغية تبادل اخلبرات والتجارب النوعية الحقاً. تفصل طبيعة عمله وسيرة منوه املهني ،وتوضح دوافعه لتعلم .5أن يقوم بتعبئة النموذج اخلاص بذلك ،وأن يكتب رسالة من صفحة واحدة ّ توظيف الدراما في التعليم.
رؤى تربوية -العدد التاسع والعشرون
املصاريف املالية واملنح: > توفر املدرسة منح ًا جلميع املشاركني تغطي نفقات اإلقامة في جرش – األردن على مدى أسبوعني. > يتحمل املشاركون نفقات السفر وأية مصاريف لها عالقة بالتنقل واملواصالت خارج مكان اإلقامة .كما تقع مسؤولية التأمني الصحي و/أو العالج على كل مشترك/ة. > رسوم االشتراك 100 :دوالر تدفع بعد احلصول على القبول. > تتوفر منح محدودة لرسوم االشتراك ولتغطية تكاليف السفر ،بناء على معايير اقتصادية محددة .ميكن ملن يقع عليهم االختيار للمشاركة، التقدم بطلب منحة لكليهما أو أحدهما ،وذلك بتعبئة النموذج اخلاص. على الراغبني والراغبات في احلصول على معلومات تفصيلية ومنوذج الطلب ،اإلطالع على املوقع اإللكتروني ملركز القطان للبحث والتطوير التربوي:
www.qattanfoundation.org/qcerd/dramasummerschool أو االستفسار عبر البريد اإللكتروني ،qcerd@qattanfoundation.org:أو االتصال على هاتف رقم.2/2963281-02 : آخر موعد لتسليم طلبات االلتحاق 15حزيران 2009