مال
االخوان المسلمون رؤية إشتراكية
6
فهرس
مقدمة
4
الفصل األول :النشأة والصعود
00
الفصل الثاني :من ناصر إلى مبارك
34
استنتاجات
20
هوامش
24
3
مقدمة النتائج التي حققتها جماعة اإلخوان المسلمين في االنتخابات األخيرة فجرت من جديد قضية موقف اليسار منها .كيف نفهم اإلخوان المسلمين وكيف نفسر نجاحاتهم المتتالية؟ ما هي طبيعتهم الطبقية؟ هل هم عدو لليسار أم منافس له؟ كيف نتفاعل مع هذه الجماعة؟ نحاول في هذا الكراس الصغير اإلجابة على هذه األسئلة كمساهمة أولية في السجال الحالي في أوساط اليسار حول هذه القضية الملحة .وبالطبع ففي كراس بهذا الحجم لن نتمكن من تناول تحليالً تفصيلياً لجماعة بحجم وتاريخ اإلخوان المسلمين .سنحاول فقط إلقاء الضوء على بعض المنعطفات الهامة في ذلك التاريخ الطويل. يطرح المفكر واالقتصادي الماركسي الكبير سمير أمين في مقال له حول اإلسالم السياسي تلخيصاً لما ي مكن اعتباره الموقف المهيمن في أوساط اليسار المصري حول طبيعة اإلخوان .فهو يقدم عدة أطروحات أساسية تمثل رؤية متكاملة تجاه اإلسالم السياسي المعاصر على الوجه التالي: أوالً :أن جماعات اإلسالم السياسي بمختلف أنواعها هي مجرد تنظيمات سياسية تستهدف الوصول إلى السلطة وتستخدم الدين بشكل انتهازي لتحقيق أغراضها. ثانياً :أن اإلسالم السياسي هو مجرد أداة من أدوات الطبقة الرأسمالية التابعة وهي ال تخدم سوى مصالح هذه الطبقة. ثالثاً :أن االنقسام بين الجماعات اإلصالحية مثل اإلخوان المسلمين والجماعات المسلحة مثل الجهاد ليس إال ت قسيم عمل بين استخدام العنف من جانب والتسلل داخل مؤسسات الدولة من الجانب اآلخر والهدف في الحالتين هو االستيالء على السلطة. رابعاً :أن المواجهة بين هذه الجماعات واألنظمة ليست إال تنافساً بين قطاعات مختلفة من الطبقة الحاكمة ،وهو تنافس وصراع حول السلطة سواء حدث ذلك بشكل مسلح كما في الجزائر أو بشكل سياسي كما في حال اإلخوان المسلمين في مصر.
4
خامساً :ال يوجد أي تناقض بين اإلسالم السياسي والعولمة الرأسمالية والليبرالية الجديدة بل أن هناك تكامالً بينهم. وسادساً :أن اإلسالم السياسي ليس معادياً لإلمبريالية بأي شكل من األشكال بل أنه أفضل من يخدم اإلمبريالية وأن االستثناءات مثل حماس وحزب الله ليست سوى نتيجة طبيعية للجغرافيا السياسية التي تضع مثل هذه الحركات في مواجهة االحتالل اإلسرائيلي، وبالتالي في خانة العداء للدور األمريكي في المنطقة. يتفق حول هذه األطروحات قطاع واسع من اليسار المصري والعربي ،مع تنويعات في هذه النقطة أو تلك بالطبع .وبالتأكيد فإن مثل هذا التحليل يؤدي إلى استنتاجات سياسية وعملية خطيرة .فهو يعني أن جماعة مثل اإلخوان المسلمين عدو سياسي لليسار يجب محاربته على كافة األصعدة وال مجال ألي نوع من التنسيق معها أو أي شكل من أشكال العمل المشترك .وهو يؤدي أيضاً إلى رؤية تضع الجماهير المصرية في موقع تخلف وتخبط شديد في الوعي االجتماعي والسياسي ،فكيف نفسر هذا التناقض بين طبيعة الحركة اإلسالمية كما يصفها سمير أمين كحركة معبرة عن البرجوازية التابعة ،خادمة لإلمبريالية ومعاد ية للديمقراطية ومعتنقة لليبرالية الجديدة ،وبين التأييد الشعبي واسع النطاق الذي تتمتع به جماعة مثل اإلخوان المسلمين؟ ولعل رأس حربة المدافعين عن هذه الرؤية للحركة اإلسالمية هو رفعت السعيد ،الذي كرس جهده خالل العقدين األخيرين للتشهير بما يسميه "المتأسلمين" .وألن تحليالت السعيد كان لها نفوذاً في أوساط اليسار وخاصة التجمع والحزب الشيوعي المصري فسيكون من المفيد تناول أطروحاته ببعض التفصيل. وإذا كانت تعليقات سمير أمين تتناول اإلسالم السياسي المعاصر فرفعت السعيد في كتاباته يتناول الحركة اإلسالمية منذ بداياتها في نهاية العشرينات .وهو يضع في سلة واحدة، ليس فقط الجماعات اإلصالحية مثل اإلخوان مع الجماعات المسلحة مثل الجهاد بل يضع في نفس السلة مختلف الجماعات في المراحل التاريخية المختلفة .فحسن البنا والهضيبي
5
وسيد قطب والتلمساني وأيمن الظواهري ومهدي عاكف كل هؤالء بالنسبة للسعيد أجزاء من حركة رجعية إرهابية واحدة معادية للتقدم والحداثة والتنوير. ويستخدم السعيد لتبرير موقفه من مَن يسميهم المتأسلمين منهجاً مادياً ميكانيكياً مستمد من التراث الستاليني الذي ينتمي إليه فيطرح مثالً" :الماركسية إذ تؤكد إمكانية أن يلعب الدين دوراً في حركة التغيير االجتماعي ،أي دوراً سياسياً ،فإنها ترى أن ذلك رهن بمستوى محدد من التطور االجتماعي ومن نمو الوعي االجتماعي وتحديداً فإن الدور يتناقض بل ويتالشى مع نمو الوعي الطبقي الذي يحول الصراع بين جماعات تخضع لالستغالل واالضطهاد فتتشبث بدين جديد يخالف ديانة الحكام وتتخذه محوراً لنضالها وخالصها ،وبين جماعات متميزة طبقياً تنتمي جميع ًا إلى ذات الدين". أي أنه وطبقاً لهذه الرؤية الميكانيكية ،كلما تبلورت الطبقات وتطور المجتمع ونما الوعي الطبقي كلما تالشى التعبير الديني عن االحتجاج االجتماعي .ولكن عن أي طبقات يتحدث السعيد وفي أي سياق يحدث ذلك التطور؟ وهل ما ينطبق على المجتمع الفرنسي في القرن التاسع عشر مثالً ينطبق أيضاً وبنفس الوتيرة ونفس اآلليات على المجتمع المصري في القرن العشرين؟ ويعتبر رفعت السعيد الدين دخيالً على الوعي والصراع االجتماعي:
"أما استخدام الدين كأداة في الصراع االجتماعي فإن الماركسية ترى أنه كان واردًا وممكناً بل وثورياً في المراحل األولى للتطور االجتماعي ،وأنه مع نشوء الطبقات االجتماعية وتبلورها ووقوفها وجهاً لوجه في معترك الصراع الطبقي فإن ادخال الدين في هذا المعترك يمكنه أن يحرف األفكار عن المعطيات الواقعية واألرضية لهذا الصراع ،بل ويمكنه أن يجعل من المقوالت الدينية شعاراً أو أداة يستخدمها الحكام وبعض رجال الدين في تغييب الوعي االجتماعي والطبقي للجماهير ومن ثم في فرض المزيد من االستغالل والقهر عليهم". طبقاً لهذه الرؤية ،التي ينعتها السعيد بـ "الماركسية" وهي مجرد تشويه للماركسية، يصبح الدين مجرد دخيل على الصراع االجتماعي وليس شكالً من أشكال التعبير عن االحتجاج االجتماعي .وهو يقبل بوجود البعد الديني للوعي في ما يسميه المراحل األولى 2
للتطور االجتماعي .وكأن التطور االجتماعي مسار أحادي يمر به البشر في كل مكان دون تناقضات وتعقيدات وخصوصيات .وإذا كان من الصحيح أن الطبقات الحاكمة استخدمت الدين لتبرير وتوطيد حكمها ،فمن الصحيح أيضاً أن الطبقات المقهورة استخدمت الدين في كثير من األحيان للتعبير عن احتجاجها وعن طموحاتها للتغيير .فالدين قابل لتفسيرات مختلفة بل ومتناقضة ،والتعبير الديني لالحتجاج ليس مقصوراً على تلك "المراحل األولى" فالقرن العشرين مليء بالحركات االجتماعية والسياسية الحديثة التي لجأت للدين كوسيلة للتعبير .في أمريكا الالتينية ظهر الهوت التحرير الذي مزج بين االشتراكية وتفسير حديث للمسيحية ،وفي آسيا امتزجت حركات التحرر الوطني بتفسيرات للبوذية والهندوسية. وفي تحليله للحركات اإلسالمية يصل السعيد إلى استنتاج شديد الغرابة فيقول:
" إن معطيات التوجه االجتماعي واالقتصادي لجماعات اإلسالم السياسي على اختالف أنواعها (وإن ارتدى بعضها ثياباً أكثر اعتداالً أو أكثر تطرفاً) فإنها في مجموعها جماعات سياسية تلغي المنظور الطبقي للصراع ..وتقسم البشر ليس على أساس موقفهم من العملية اإلنتاجية (رأسماليون وعمال ،مالك أراضي وأجراء) وإنما من منظور فكري ينحصر في مدى والء الشخص لفكر الجماعة أو ما تبشر به". ولكن أال تلغي كافة الحركات السياسية البرجوازية والبرجوازية الصغيرة ذلك المنظور الطبقي للصراع؟ ألم تقم مثالً الحركات الثورية البرجوازية في أوروبا منذ الثورة الفرنسية بإخفاء طابعها الطبقي وراء شعارات الديمقراطية والمساواة أمام القانون وحقوق اإلنسان والمواطنة؟ وألم "تلغي" حركات التحرر الوطني في العالم الثالث المنظور الطبقي وركزت شعاراتها ومضمون رؤيتها حول التحرر واالستقالل الوطني وأخفت بالتالي مضمونها الطبقي البرجوازي أو البرجوازي الصغير؟ أليست الطبقة العاملة هي وحدها التي من مصلحتها أن تكشف وتفضح التناقضات الطبقية وتؤسس حركتها على وعي كامل وغير مشوه لتلك التناقضات؟ أليس ذلك ما تطرحه الماركسية التي يحب السعيد التحدث باسمها؟
7
إذا كان السعيد يقصد أن الحركات اإلسالمية ليست حركات عمالية ثورية وبالتالي تعبر عن طبقات أخرى ليس من مصلحتها فضح التناقضات الطبقية في المجتمع ،إذا كان هذا ما يقصده فلن نختلف معه .ولكنه يطرح المسألة وكأن الحركات اإلسالمية وحدها هي التي تخفي مضمونها الطبقي. أما الطابع اإلحيائي للحركات اإلسالمية فيفسره السعيد بشكل تبسيطي وكأن استلهام النماذج من التاريخ ال يمكن أن يشير إال للطبيعة الرجعية الصرفة لتلك الحركات:
"إذ توجد ق وى اجتماعية ترفض الواقع االجتماعي القائم وتعجز في نفس الوقت عن التالؤم معه ،وال تمتلك معطيات طبقية لتغييره من منظور طبقي فإنها تعود إلى الوراء لتستلهم ذكريات ونماذج وطموحات وقعت في الماضي وتستدعيها للحاضر أو بالدقة تستجمع الحاضر في محاولة كي تعود به إلى الماضي ..هذه الجماعات ال تمتلك تصورًا محدداً للمستقبل ،فهي إذ تستعيد األسماء والشعارات والزي والرؤية والممارسات فهي تعتقد أن ما سيطبق من نظام اقتصادي واجتماعي (في حالة استالمهم السلطة) هو ذات ما كان مطبقاً أيام الرسول والخلفاء الراشدين ،وهم ال يرهقون أنفسهم في استجالء تفاصيله ألن التفاصيل قد تبدو غير مالئمة للتطبيق اليوم (وهذا طبيعي تماماً) كما أنهم في أغلب األحيان ال يمتلكون رؤية واضحة لما كان يجري في هذا الزمان". ولكن الرغبة في العودة إلى ماضي مثالي ال تعني بأي حال من األحوال رغبة في إعادة إنتاج مجتمع العصور اإلسالمية األولى ولكنها تعني الرغبة في إعادة تشكيل الواقع المعاش بكل ما يتضمنه من مهانة وطنية وتخلف اقتصادي وما يرونه انهياراً أخالقياً وحضارياً .إعادة التشكيل هذه ال ترفض الحداثة بشكل مطلق فهي تقبل التكنولوجيا والتقدم العلمي والمستلزمات المادية للحياة العصرية ولكنها تريد استخدامها في إطار منظومة ثقافية مستوحاة بشكل مثالي وانتقائي من التاريخ اإلسالمي. سنحاول في هذه الكراسة أن نطرح تحليالً مغايراً لجماعة اإلخوان المسلمين .هذا التحليل يقوم على فهم ظهور وتطور هذه الجماعة في سياق التحوالت االقتصادية واالجتما عية والسياسية التي أحاطت بتلك الجماعة في مراحل تطورها المختلفة .فال يمكن 8
مثالً وضع إخوان األربعينات وإخوان السبعينات وإخوان التسعينات في نفس السلة لمجرد استمرارية الشعارات األيديولوجية والخطوط العامة لسياسة الجماعة. ففي مراحل تاريخية مختلفة وفي أوساط طبقية مختلفة تتبلور تفسيرات مختلفة للنصوص الدينية .فالوضع المادي واالجتماعي ألي جماعة أو طبقة أو فئة وعالقتها بالقوى االجتماعية األخرى والصراعات االجتماعية والسياسية واالقتصادية التي ينغمسون فيها كلها تلعب أدوارها في تشكيل تفسيراتهم للنصوص الدينية وللمبادئ واألفكار التي يختارون التركيز عليها حتى وإن تشابهت الشعارات والمبادئ العامة. ولعل تاريخ الحركات الشيوعية يعطينا نموذج للتحوالت الممكنة تحت نفس الشعارات. فهل مثالً الحزب الشيوعي الروسي الذي قاد الثورة البلشفية في عام 9191هو نفسه حزب ستالين الذي حكم االتحاد السوفيتي بالحديد والنار خالل الثالثينات واألربعينات؟ وهل الحزب الشيوعي الصيني في عصر ماو تسي تونج هو نفسه الحزب الشيوعي الصيني الذي يشكل اليوم رأس حربة الرأسمالية وسياسات السوق؟ إن التحليل المادي التاريخي يتطلب منا تجاوز الشعارات والرايات المرفوعة والتدقيق في الجذور االقتصادية واالجتماعية لمختلف الحركات السياسية .وإذا استعرنا مع بعض التحوير مقولة لكارل ماركس فعلينا "البحث عن الرجل في المسلم وليس المسلم في الرجل".
9
الفصل األول :النشأة والصعود )1تناقضات التطور الرأسمالي في مصر كانت مصر خالل العشرينات والثالثينات من القرن العشرين تتعرض لتطورات اقتصادية واجتماعية وسياسية مليئة بالتناقضات .وبدون فهم طبيعة تلك التطورات المتناقضة لن نتمكن من فهم كيف ولماذا ظهرت جماعة اإلخوان المسلمين في نهاية العشرينات وكيف أصبحت خالل عقدين أكبر التنظيمات السياسية في البالد. كانت هناك قيوداً هائلة تعرقل التطور الرأسمالي في مصر .فخالل تلك الفترة كانت مصر بلداً زراعياً يعتمد اقتصادها أساساً على إنتاج وتصدير القطن ويعيش الغالبية من سكانها في الريف .وتعرض االقتصاد المصري لظروف كارثية في نهاية العشرينات ومطلع الثالثينات .فقد انخفضت أسعار القطن المصري في األسواق العالمية بنسبة %17بين عامي 9191و.9111 حدث ذلك نتيجة لألزمة الحادة التي واجهتها صناعة النسيج البريطانية والتي كانت في ذلك الوقت المستورد الرئيسي للقطن المصري)9(. ويجب االنتباه هنا إلى أن القطن كان يشكل العمود الفقري لالقتصاد المصري في ذلك الوقت .كان القطن يمثل حتى بداية األربعينات ما بين 07و %07من إجمالي اإلنتاج الزراعي وما بين 07و %17من إجمالي الصادرات)9(. وقد أدى انهيار أسعار القطن إلى موجة واسعة من الطرد للفالحين من األرض من قبل كبار المالك المصريين واألجانب .وأدى أيضاً إلى تضخم عبء الضرائب واإليجارات والديون للمرابين والتجار. كانت إحدى النتائج المباشرة ألزمة أسعار القطن أن عشرات اآلالف من الفالحين لم يعد بمقدورهم تسديد الديون .واستغلت البنوك والشركات األجنبية الوضع ،وقامت بطرد الفالحين من أراضيهم بسبب الديون التي لم يسددوها .وقد بلغت مساحات األرض التي تم إخالؤها
00
بقوة القانون من الفالحين 996.77 :فدان عام 9191و 996177فدان عام 9117 و 1.6777فدان عام 9119و 176777فدان عام )1( .9119 وقد وصل تركيز ملكية األرض في أيدي عدد قليل من المالك إلى أقصاه خالل فترة الثالثينات حيث أصبح %1.60من مالكي األرض يملكون %0.فقط من األراضي الزراعية، في حين يملك %160من أصحاب األرض %00من األراضي)0(. ويجب االنتباه هنا إلى الدور المحوري الذي كان يلعبه رأس المال األجنبي في الريف المصري ،ففي منتصف الثالثينات كان حوالي ألف مالك أجنبي يملكون نفس مساحة األرض ا لتي يملكها حوالي مليون ونصف المليون فالح ،الذين كان يملك كل منهم أقل من فدان .أي أن رأس المال األجنبي لم يكن محصوراً في البنوك والصناعة بل كان أيضاً أحد محاور ملكية األرض الزراعية .ولذا فبالنسبة لغالبية الفالحين ارتبطت كراهية كبار مالك األرض والمرابين والتجار بكراهية االحتالل األجنبي وبكل ما أتى به. لم يكن الفالحين الفقراء وحدهم ضحايا تلك التطورات فقد كان لها تأثيراً مدمراً على الطبقة الوسطى الريفية .ففي األعوام الثالثون األولى من القرن العشرين انخفض عدد الملكيات الزراعية المتوسطة (بين 97و 17فدان) من 0196090إلى ،0916190في حين زاد عدد الملكيات الزراعية الصغيرة جداً (أقل من فدان) من 1076101في 9197إلى 960906919في )0( .9190 إلى جانب انهيار أسعار القطن والعبء المتنامي لإليجارات ،كان عذاب الفالحين الرئيسي له مصدرين :الضرائب والديون .فالفالحون كانوا يدفعون ما بين 90و %17من دخلهم كضرائب ،مما شكل عبئاً رهيباً على الغالبية العظمى منهم .أما الديون فصارت لعنة ال تحتمل بسبب فوائدها المرتفعة وعواقب عدم الدفع قاسية .وقد وصل متوسط دين العائلة الفالحية في منتصف الثالثينات إلي %0760في حين لم يتعدى متوسط دخلها سبعة جنيهات في الموسم).( . وقد انعكست تلك األوضاع بالطبع على الصراع الطبقي في الريف في شكل انفجارات عفوية وهجمات فردية .وقد وصل عدد مخازن الغالل التي تعرضت للحرق على يد الفالحين 00
إلى 061.7مخزن عام 9191/9190و 16097مخزن عام .9119ووصل عدد العمد الذين تم قتلهم في الفترة من 9119إلى 9111لـ 9977عمدة. كانت السيطرة األجنبية على كافة القطاعات االقتصادية الحديثة إحدى الخصوصيات األساسية لالقتصاد المصري حتى األربعينات .فطبقاً إلحدى التقديرات مثالً كان إجمالي قيمة رأس المال (باستثناء األرض الزراعية) في عام 9111ما يوازي 1.1مليون جنيه إسترليني منهم 007مليون جنيه رأس مال أجنبي .أي أن رأس المال األجنبي كان يملك %01من إجمالي رأس المال في مصر)1(. رأس المال األجنبي كان يتحكم بشكل مباشر في كافة مجاالت النقل والكهرباء والبنوك والصناعة والرهونات الزراعية .كما أنه كان يتسم بدرجة عالية من التركيز واالرتباط المباشر بالمراكز الرأسمالية المتقدمة .أما رأس المال المصري فكان من جانب مجرد شريك صغير أو وكيل لرأس المال األجنبي المهيمن ومن الجانب اآلخر أصبح مرتبط عضوياً بكبار مالك األرض. على جانب آخر كانت الطبقة العاملة تشكل نسبة صغيرة من السكان ،رغم نموها السريع منذ بداية القرن .ففي عام 9111كان في مصر حوالي نصف مليون عامل صناعي مما شكل أقل من %0من إجمالي القوة العاملة في البالد .ورغم ذلك الحجم الصغير ،ورغم أيض ًا حداثة نشأتها إال أنها لعبت دوراً محورياً في الحياة السياسية في البالد منذ ثورة .9191 وقد أدت تلك الطبيعة لتطور الرأسمالية في مصر إلى بطء شديد في عملية التراكم الرأسمالي ،وعرقلة للتطور الصناعي .وكان السبيلين الوحيدين لتوسيع وتعميق الصناعة الحديثة في مصر إما توسيع السوق المحلي الستهالك المنتجات الصناعية أو توسيع أسواق التصدير لتلك المنتجات .وقد رأينا كيف كان الحل األول مستحيل بسبب تحكم كبار المالك المصريين واألجانب في األرض الزراعية وبالتالي اإلفقار الشديد للفالحين وهم غالبية السكان. أما الحل الثاني فكان االستعمار ،وتحكم رأس المال األجنبي ،وهيمنة الرأسماليات المتقدمة على أسواق الصادرات ا لصناعية ،وفرض تصدير سلعة زراعية وحيدة هي القطن على االقتصاد المصري ،كلها تقف عقبات أمامه. 06
إذن فقد كان خروج المجتمع المصري من أزمته الطاحنة يستلزم تحقيق عدد من الخطوات الضرورية :أوالً التحرر من االستعمار وتحقيق االستقالل الوطني ،وثانياً القضاء على سيطرة ال ملكيات الكبيرة في الريف بتنفيذ إصالح زراعي يحرر الفالحين من قيودهم الخانقة، وثالثاً إنهاء السيطرة االحتكارية لرأس المال األجنبي على مراكز االقتصاد المصري. )2الصراع السياسي إال أن تحقيق هذه األهداف يحتاج بالطبع إلى تعبئة سياسية واسعة النطاق للفالحين والعمال والطبقة المتوسطة .فبدون حركة جماهيرية واسعة النطاق كيف يمكن التخلص من تلك القبضة الخانقة لالستعمار ورأس المال األجنبي وكبار مالك األرض؟ كان من المستحيل على البرجوازية المصرية أن تقوم بذلك الدور .فهي غير قادرة على تحرير البالد من االستعمار بسبب ارتباطها الوثيق والعضوي برأس المال األجنبي ،وهي أيضاً غير قادرة على حل المسألة الزراعية بسبب ارتباط مصالحها مع مصالح كبار مالك األرض. وفي الحالتين ال تستطيع حشد جماهير العمال والفالحين الفقراء ،وهو شرط أساسي لنجاح عملية التحرر ،بسبب خوفها العميق من جماهير الفقراء ،التي تدرك جيداً أنهم لن يكتفوا بالقضاء على االستعمار والملكية وكبار المالك ،في حال تحركهم ،بل سيهددون الملكية الخاصة والنظام الطبقي وبالتالي الوجود االجتماعي للبرجوازية .البرجوازية المشلولة إذن ال يمكنها أن تلعب أي دور ثوري حتى لتحقيق المطالب الوطنية والديمقراطية التي تحتاجها كطبقة .فهي تفضل التحالف مع االستعمار والتمترس في معسكر الرجعية الملكية عن قيادة الجماهير بشكل ثوري. وقد ظهر ذلك بوضوح في أعقاب ثورة .9191فقد خلقت الثورة آماالً ضخمة لدى الجماهير في جالء المحتل وحل المشكالت االقتصادية واالجتماعية التي أوردناها في الفقرات السابقة .وكما يذكر طارق البشري في مقدمة كتابه "الحركة السياسية"" :تعلقت هذه اآلمال بالوفد خالل العشرينات ليقود الجماهير نحو تحقيق هذه األهداف .ولكن الوفد خيب اآلمال وثار الشك حول قدرته على إحداث التغييرات المطلوبة ،وتحول تفاؤل العشرينات إلى تشاؤم وحيرة وخوف وبحث عن البدائل)0( ". 03
حزب الوفد كان ممثالً للبرجوازية المصرية ،ورغم قيادته للحركة الوطنية لم يتمكن أبداً من تصعيد المواجهة مع االستعمار وتعميق مضمونها االجتماعي ،فخوفه من تعبئة الجماهير أوالً وارتباطه بالرأسمالية األجنبية وكبار مالك األرض ثانياً جعال منه خصماً سهالً أمام الرجعية واالستعمار البريطاني .والبد أن نتذكر في هذا السياق أن عشرة من أعضاء الهيئة العليا األولى للوفد التي تكونت من 90عضو كانوا من كبار مالك األرض)1(. أما الفالحين ،ورغم هباتهم االحتجاجية الكثيرة ،كانوا غير مؤهلين لبلورة حركة موحدة قادرة على تحدي االستعمار وكبار المالك بسبب انعزالهم عن بعضهم البعض في قرى متباعدة ،والتناقضات الواسعة بين فئاتهم المختلفة ما بين معدمين وصغار مالك وأغنياء ،وهي تناقضات كما أوضحنا سابقاً كانت تزداد عمقاً .أوضاع الفالحين هذه أدت ،كما يحدث دائماً، إلى احتياجهم لقيادة من إحدى الطبقات المدينية لتعبئتهم وتنظيم حركتهم. على جانب آخر ظهرت في المدن المصرية في ذلك الوقت طبقة عاملة جديدة ،كأحد نتائج التطور الرأسمالي .تركزت في شركات ومؤسسات كبرى ،ولعبت دوراً محورياً في ثورة 9191وخالل النصف األول من العشرينات عبر موجة من االضرابات الكبرى قادها عمال الترام والسكك الحديدية وعمال شركة قناة السويس .ونتج عن هذه الموجة نشوء حركة عمالية حديثة وواعدة .لكن الطبقة العاملة حديثة الوالدة لم يكن باستطاعتها أن تلعب دوراً قيادياً ومستقالً في تلك الفترة الثورية .فإلى جانب القمع الذي تعرضت له كانت تعاني من عدة نقاط ضعف جوهرية :أوالً ،كانت معظم المؤسسات والشركات التي تعمل بها مملوكة ومدارة من قبل أوروبيين ،بل أن نسبة كبيرة من العمال المهرة والتقنيين كانت من األجانب مما أضعف من قدرة العمال المصريين على بلورة وعي طبقي مستقل ،واختلط وعيهم بالمشاعر الدينية والوطنية .وثانياً ،ظلت الحركة الشيوعية النشطة ،التي ظهرت في مطلع العشرينات ،أسيرة للعمل النقابي الضيق ،وغير قادرة على الربط ما بين استقاللية الطبقة العاملة وبين ضرورة أن تلعب الحركة العمالية دوراً محورياً في قيادة الفالحين الفقراء، والنضال من أجل االستقالل الوطني. في ذات الوقت كانت األزمة االقتصادية واالجتماعية تعصف ـ باإلضافة إلى العمال وفقراء الفالحين ـ بشرائح مدينية أخرى صارت تعاني بشدة .فالتطور الرأسمالي المأزوم والمتناقض 04
في مصر أحاط ما يمكن تسميتهم بالطبقة المتوسطة التقليدية ،من الحرفيين وأصحاب الدكاكين وصغار التجار ،بأزمات خانقة ،وصار يقذف بالكثيرين منهم إلى صفوف العمال .وكما يؤكد طارق البشري "فعندما يحس هؤالء بأن المستقبل في غير مصلحتهم يتجهون إلى الماضي يلتمسون منه العون ،وبقدر ما ينغلق أفق المستقبل أمامهم بقدر ما ينمو الخيال مستمد من الماضي مدينته الفاضلة .وكانت الدعوة السلفية ما يجذب هؤالء بفكر غامض كاألحالم ظنوه مخرجاً")97(. أما الطبقة المتوسطة الحديثة التي شملت الموظفين في المؤسسات الحديثة الحكومية والخاصة ،من مدرسين ومحامين ومحاسبين وغيرهم من المهنيين ،فقد كانت تعاني من أزمة متعددة الجوانب .فمن المفترض أن هؤالء ،بسبب تميزهم التعليمي ،مؤهلين لمستوى معيشة ومكانة اجتماعية متميزة .لكن التناقض بين التوسع التعليمي السريع داخل تلك الفئة وبطء تطور المؤسسات الرأسمالية الحديثة القادرة على استيعابهم ،باإلضافة إلى سيطرة األجانب ع لى الوظائف العليا في المؤسسات الحديثة حول أحالم غالبية تلك الطبقة إلى كوابيس .وبدالً من المكانة ومستوى المعيشة المتميز واجه الكثيرون منهم ضغوط دفعتهم إلى العيش بطريق ال تختلف عن الطبقة العاملة التي حلموا بالتميز عنها .وزاد من هذه الضغوط األزمة العنيفة التي باتت تعاني منها الشرائح المتوسطة التقليدية في الريف والمدينة التي ظلوا مرتبطين بها أسرياً وثقافياً. وعلى المستوى الثقافي واأليديولوجي واجهت الطبقة المتوسطة الحديثة أزمة حادة، فمنظومة القيم الريفية والتقليدية للبرجوازية الصغيرة التي تربوا عليها تنهار سريع ًا بسبب التطور الرأسمالي ،لكن ألن هذا التطور يحدث بشكل مليء بالتناقضات فقد صاروا يشعرون بحالة ضياع ثقافي .العالم القديم بتقاليده واستقراره ومثله ومبادئه ينهار ،والعالم الجديد مشوه ومتناقض ومخيف. دائماً ما لعبت هذه الفئة ـ الطبقة الوسطى الحديثة ـ دوراً سياسياً استثنائياً في بلدان العالم الثالث بسبب كونهم المصدر األساسي للكوادر السياسية .هم يظهرون دائماً وكأنهم خارج إطار الصراعات الطبقية ألنهم ال ينتمون للبرجوازية وال ينتمون أيضاً للطبقة العاملة أو الفالحين وبالتالي يمكنهم الظهور كممثلين أنقياء للوطن ككل .وألنهم بحكم تعليمهم 05
وتخصصاتهم ،كأطباء ومهندسين ومدرسين وموظفين في مؤسسات مدينية حديثة ،يتفاعلون مع التقدم التقني والعلمي للغرب ،حتى وإن كان بشكل جزئي ،فهم أكثر القطاعات االجتماعية تأثراً وغضباً للتأخر الذي تعاني منه بالدهم في هذه المجاالت. أدت جميع هذه العوامل في الحالة المصرية إلى بحث كثير من هؤالء عن بديل سياسي وأيديولوجي يعبر عنهم وعن رغبتهم في تغيير الوضع القائم .بديل يحقق االستقالل الوطني ويضع نهاية للسيطرة األجنبية وهو ما فشل في تحقيقه حزب الوفد والتشكيالت السياسية التابعة للبرجوازية وكبار المالك .بديل يوقف انهيار الطبقة المتوسطة في الريف والمدينة وأخالقياتها التقليدية القائمة على األسرة والملكية الصغيرة .بديل يحقق درجة من العدالة االجتماعية دون المساس بالملكية الخاصة التي شكلت العمود الفقري لجذورهم الطبقية. بديل يمكن البالد من التقدم التقني واالقتصادي والعلمي دون المساس بالمنظومة األخالقية والثقافية التقليدية التي باتت تنهار أمام أعينهم. )3نشأة وتطور جماعة اإلخوان في سياق ومن خالل كل ما سبق تشكلت الرؤية السياسية لحسن البنا .ذلك المدرس البسيط ذو األصول البرجوازية الصغيرة الذي سرعان ما أصبح زعيم أكبر التنظيمات السياسية في البالد .وقد بدأت رؤيته في التبلور برفض ما رآه كانحالل أخالقي وضعف معنوي تعاني منه المدن المصرية نتيجة للهجمة االستعمارية الغربية" :أنه الوقت الذي تأرجحت فيه األمة المصرية في حياتها االجتماعية بين إسالمها الغالي العزيز الذي ورثته وحمته وألفته ..وبين هذا الغزو الغربي العنيف المسلح المجهز بكل األسلحة الماضية الفتاكة من المال والجاه والمظهر والمتعة ووسائل الدعاية")99( . وقد ربط البنا بين االنحالل األخالقي وبين األفكار والمفاهيم التحررية الغربية:
"وعقب الحرب الماضية (9190م 9190 -م) وفي هذه الفترة التي قضيتها بالقاهرة، اشتد تيار موجة التحلل في النفوس ،وفي اآلراء واألفكار باسم التحرر العقلي ،ثم في السلوك واألخالق واألعمال باسم التحرر الشخصي ،فكانت موجة إلحاد ،وإباحية قوية جارفة طاغية ،ال يثبت أمامها شيء تساعد عليها الظروف والحوادث ( .اإلمام الشهيد حسن البنا ،مذكرات 02
الدعوة والداعية ،القاهرة :دار التوزيع والنشر اإلسالمية ،ص )99( .")01 أمام هذه الهجمة وذلك االنحالل بدأ البنا في بلورة بديل قائم على اإلحياء الديني والمحافظة األخالقية والعمل الخيري .وهو لم يكن ـ في الحقيقة ـ يقدم جديداً ،فقد امتألت مصر في ذلك الوقت بالعديد من الجمعيات الدينية المحافظة والخيرية المرتبطة بالمساجد في القرى واألحياء الفقيرة. أما القضية العامة األولى التي تبنتها جماعة اإلخوان المسلمين فكانت التصدي للتبشير المسيحي .فكما هو الحال في الكثير من المستعمرات وقتها ارتبط نشاط التبشير المسيحي األوروبي في ذهن الجماهير الفقيرة عموماً ،وفي ذهن المتعلمين خصوصاً باالستعمار .وقد تركز النقاش في مؤتمر الجماعة األول المنعقد في مايو 9111على المشكلة الخاصة بنشاط البعثات التبشيرية المسيحية وأساليب مواجهتها .وأرسلت الجماعة خطاباً إلى الملك فؤاد أ عربت فيه عن اعتقادها بضرورة اخضاع البعثات التبشيرية األجنبية للرقابة الحكومية الصارمة)91(. )4بناء التنظيم إال أن جماعة اإلخوان المسلمين تجاوزت سريعاً حدود الدعوة الدينية المحافظة ،وبدأ حسن البنا في تحويل الجماعة من جمعية دينية إلى تنظيم سياسي جماهيري حديث. وعلينا لفهم الطبيعة الطبقية لإلخوان المسلمين أال نعتمد فقط على تحليل دعايتهم أو تكتيكاتهم ،وإنما يجب علينا أيضاً التدقيق في األساليب والمناهج واالستراتيجيات التي تبنتها الجماعة من أجل النمو واالنتشار وخلق الجذور الجماهيرية. التجنيد المكثف كان أول مرحلة في عملية البناء التنظيمي من خالل الدعاية واالتصال واإلعالم .وقد تركز المؤتمر الثاني (نهاية عام )9111حول مسائل اإلعالم والدعاية للجماعة. وأقر تأسيس شركة إلنشاء مطبعة خاصة لإلخوان المسلمين .وأصدرت الجماعة بعد المؤتمر عدة صحف :في البداية صدرت جريدة "اإلخوان المسلمون" األسبوعية وبذل اإلخوان جهداً ضخم ًا لزيادة توزيعها (وقد استمرت الجريدة في الصدور حتى عام 9110حين توقفت بسبب النزاع بين البنا ورئيس تحريرها محمد الشافعي) .ثم أصدرت الجماعة مجلة النذير الناطقة 07
باسم الجماعة ،كما قام البنا بإعادة إصدار المنار التي كان يصدرها رشيد رضا فيما سبق .هذا إضافة إلى طباعة "الرسائل" ،التي أصبحت المصدر الرئيسي للتثقيف داخل الجماعة .وتتكون الرسائل ،التي كتبها حسن البنا ،من رسائل الجماعة الموجهة للحكومة المصرية ومسئوليها حول وضع المجتمع المصري والطريق إلى اإلصالح ،وأيضاً رسائل كتبت لألعضاء حول األفكار والمهام والمسئوليات الملقاة على عاتقهم)90( . وقد نجحت الجماعة من خالل النشاط الدعائي المكثف في وضع أسس نموها السريع خاصة داخل أوساط الطبقة الوسطى الحديثة ،التي شكلت جمهور القراء ألدبيات اإلخوان المتعددة والمتنوعة .وإذا كانت هناك الكثير من التفسيرات المتباينة لسرعة نمو وانتشار جماعة اإلخوان المسلمين ،إال أنه مما ال شك فيه أن القدرات التنظيمية الفذة لحسن البنا، وفهمه ألهمية أساليب الدعاية الحديثة وعملية التجنيد ،لعبت دوراً محورياً في تحويل مجموعة صغيرة من الدعاة في نهاية العشرينات إلى أكبر تنظيم سياسي في البالد مع مطلع األربعينات. في عام ،9111عندما عقدوا مؤتمرهم األول في اإلسماعيلية ،كانت الجماعة تضم 90 فرعاً ( فرع في القاهرة ،وخمسة أفرع في مدن القناة ،والباقي في منطقة الدلتا) .وبمجرد النظر إلى األرقام الخاصة بنمو العضوية والتشكيالت التنظيمية للجماعة سيظهر لنا على الفور أننا أمام ظاهرة استثنائية .ففي منتصف عام 911.بلغ عدد أفرع الجماعة إلى ما بين 977 و 907فرع .وقد بلغ عدد األفرع 99.فرع في منتصف عام ،9111ثم 077في بدايات عام 9109وأكثر من 9777عام .9101وكانت هذه األفرع مقسمة إلى ثالثة مستويات طبقاً لدرجة التطور والتماسك (العاملة والمجاهدة والمختارة))90( . وأيضاً نما حجم العضوية بمعدل سريع منذ بداية الثالثينات ،فقد بلغ عدد أعضاء الجماعة في عام 9110ألف عضو ،وفي عام 911.وصل إلى ما بين 1و 0آالف عضو ،ثم إلى 97 ألف عضو في عام .9111وقد مكن ا لنمو السريع للجماعة في أوساط المتعلمين والمهنيين من إحداث طفرة في حجم وطبيعة العمل الخيري داخل المناطق الفقيرة .ففي عام 9110 صارت هناك مؤسسات ومشاريع خيرية في الغالبية العظمى من أفرع الجماعة .وفي عام 9110بدأت بعض األفرع في تقديم خدمات صحية مجانية ،وفي نفس العام أنشأ اإلخوان 08
أولى عياداتهم الصحية في منوف ،ثم أنشؤا أول مستشفياتهم في المنصورة التي أصبحت تعالج ما بين 07و 977مريض بحلول عام )9.( .9110 وفي نهاية الثالثينات بادر اإلخوان بتأسيس مشروع لمحاربة األمية ،وقاموا بإرسال مجموعات من شبابهم المتعلمين لتعليم القراءة والكتابة في المقاهي الشعبية والنوادي والقرى .وقد امتلك اإلخوان القدرة على القيام بكافة تلك المشاريع بسبب نجاحهم في التجنيد الواسع داخل أوساط المتعلمين من طالب وأطباء ومدرسين .وقد تمكنت الجماعة من خالل تلك النشاطات في تكوين شبكة واسعة من العالقات والمتعاطفين وسط األحياء الشعبية والقرى. وإذا كان االنتشار الواسع للجماعة اعتمد في الفترة األولى وحتى منتصف الثالثينات على الدعاية والعمل الخيري فقد أصبح من الضروري تطوير الشكل التنظيمي لها بحيث يتالئم مع الحجم واإلمكانيات الجديدة .وقد ناقش المؤتمر الثالث (مارس )9110شروط العضوية ومسئولياتها والبنية التنظيمية ،واتخذ قراراً بتنظيم تشكيالت الجوالة .وقد تقرر فصل التنظيم اإلداري للجماعة ،ووضعت مستويات للعضوية تبدأ باألخ المساعد ثم األخ المنتسب ثم األخ العامل ثم المجاهد ،وتحديد هيئات الجماعة بأنها المرشد العام ومجلس الشورى الذي يتكون من نواب المناطق ونواب األقسام ونواب الفروع ومجالس الشورى المركزية ومؤتمر المناطق ومندوبي المكاتب وفرق الرحالت وفرق األخوات)91( . صار هناك هدفان أساسيان في تلك المرحلة :أوالً خلق آلية مرنة وفعالة لالستمرار في التوسع والتجنيد .وثانياً تكو ين آليات تنظيمية لدمج العناصر الجديدة في الجماعة وتوسيع شبكة الكوادر المحترفة وشبه المحترفة .وللمساهمة في تحقيق ذلك تشكلت في صيف 911.الفرق الصيفية التي كان دورها الرئيسي هو التجنيد وخلق جذور للجماعة في مختلف أنحاء البالد .وقد تشكلت هذه الفرق بالكامل من الطالب أعضاء الجماعة .وكان يحدد لكل فرقة منطقة جغرافية (عدد من المراكز) وتتفرغ كل فرقة خالل شهور الصيف للدعوة والتجنيد داخل المنطقة المحددة .وقد تم جمع التبرعات بشكل واسع لتمويل رحالت وتنقالت الفرق الصيفية ،كما تم دفع كافة األفرع لمساعدة وتسهيل مهام الفرق)90(. 09
وقد تزامن تطور العمل الطالبي للجماعة وتشكيل الفرق الصيفية مع اندالع الثورة الفلسطينية األولى عام .911.دفع ذلك الجماعة إلى القيام بحملة واسعة لجمع التبرعات لدعم الشعب الفلسطيني في مواصلة اإلضراب الذي امتد من عام 911.وحتى عام .9111 وقامت في ذلك الوقت بت نظيم المظاهرات وتوزيع البيانات والكتيبات وإلقاء الخطب دفاع ًا عن القضية الفلسطينية)91( . لقد طور البنا شكالً تنظيمياً يتميز بدرجة عالية من المركزية .فالمستويات التنظيمية للجماعة تبدأ بالهيئة التأسيسية وهي السلطة األولى ،وتتكون من 907عضواً ،وهي بمثابة مجلس الشورى العام .بعدها تأتي الجمعية العمومية لمكتب اإلرشاد وتضم من سبقوا في العمل للدعوة ،ومهمتها اإلشراف العام على سير الدعوة واختيار أعضاء مكتب اإلرشاد ومراجعة الحسابات ،وهي من يمنح حق العضوية لنفسها بمعنى أنها شكلت أوالً باالختيار ثم تتولى هي ضم األعضاء ال جدد لها على طريقة المجامع وال تأتي عضويتها باالنتخاب من أسفل. والمرشد العام ذو الوضع المتميز عن مكتب اإلرشاد :وهما يكونان معاً المركز العام .ويتفرع عن المركز العام المكاتب اإلدارية ،والمكتب تخضع له المنطقة والمنطقة تخضع لها الشعبة. واللجان التي تدير أياً م ن مستويات الفروع يتم تعيين المستوى األعلى فيها ذو المسئوليات الرئيسية وينتخب اآلخرون. كان التنظيم إذن تنظيماً هرمياً يعطي صالحيات واسعة للمرشد ولمكتب اإلرشاد .هذه المركزية الشديدة ال تعود إلى الطابع الديني للحركة كما يصور البعض (على غرار رفعت السعيد) إنما تعود إلى نوع المهام السياسية التي طرحتها الحركة على نفسها في ظل ظروف تاريخية بعينها .والمؤكد أن تلك المركزية الشديدة كانت سمة سادت في ذلك الوقت داخل الكثير من التنظيمات السياسية العلمانية وعلى رأسها المنظمات الشيوعية الستالينية التي، رغم تبنيها لمبادئ المركزية الديمقراطية (أي التوازن بين الديمقراطية في اتخاذ القرار والمركزية في تنفيذه) كانت في الواقع تلغي الديمقراطية من المعادلة ،حيث امتلك السكرتير العام في األحزاب الشيوعية وقتها سلطات ال تختلف عملياً عن سلطات المرشد العام في حالة اإلخوان.
60
)5أزمة ما بعد الحرب كانت الحرب العالمية الثانية نقطة تحول هامة في التطور االقتصادي والسياسي في مصر. فعلى المستوى االقتصادي شكل الوجود الضخم للقوات البريطانية المتمركزة في مصر سوقاً واسعاً لمنتجات الصناعة المصرية ،ومن جانب آخر أدى انقطاع كثير من خطوط التجارة العالمية خالل الحرب إلي طفرة في الصناعة الستبدال الواردات ،فشهدت صناعات عديدة كانت نمواً استثنائياً .كما أدت الحرب العالمية إلى نشوء عدد من الصناعات الحديثة مثل صناعة الكيماويات وصناعة الدواء ( 90شركة) وصناعة الورق والزجاج والمواسير وقطع غيار الميكنة .وقد توسعت أيضاً صناعة النسيج فزاد إنتاج الغزل بنسبة %.0واألقمشة بنسبة %977خالل الحرب)97( . لكن مع انتهاء الحرب وخروج غالبية القوات البريطانية المتمركزة في مصر وعودة التجارة الخارجية إلى وضعها السابق دخل االقتصاد المصري في أزمة عنيفة ،وأغلقت مئات المصانع وشرد اآلالف من العمال .واندلعت حركة عمالية نشطة لعبت في صفوفها الحركة الشيوعية دوراً مؤثراً. وعلى المستوى السياسي صار الوفد يعاني من فقد ما تبقى له من شرعية بين الجماهير، بعد قبوله لتولي السلطة بإرادة االستعمار وعبر حصار الدبابات البريطانية للقصر الملكي في أزمة فبراير عام 9109الشهيرة .هذا إلى جانب فضائح الفساد المتكررة داخله واندفاع قياداته يميناً)99(. مع نهاية الحرب بدأ الوفد محاوالت الستعادة شرعيته المفقودة بالتعبئة من جديد ضد االستعمار والملك .وتحرك اإلخوان بسرعة لمنافسة الوفد والشيوعيين في الحركة الوطنية المتصاعدة وخاصة في الجامعات .ودعت جماعة اإلخوان لمؤتمر شعبي يعقد في القاهرة وفي سبعة مراكز رئيسية في األقاليم ،وذلك في بداية أكتوبر عام 9100بهدف مناقشة القضية الوطنية وتحديد وصياغة المطالب بصددها .وعلى الفور بدت مالمح صراع وتنافس حول قيادة الحركة الوطنية بين اإلخوان والوفد خاصة في الجامعة ،العصب الرئيسي للنشاط الوطني)99(.
60
كان هناك تذبذب دائم في العالقة بين الوفد واإلخوان .فالجناح اليميني للوفد بقيادة فؤاد سراج الدين كان يرى ضرورة االستفادة من اإلخوان ضد خطر االنفجارات االجتماعية والحركة الشيوعية التي تنامت خالل الحرب .لكن النحاس كان شديد الخوف من أن تؤدي تلك المغامرة إلى مزيد من الخسائر للوفد أمام اكتساح اإلخوان. ومن الواضح أنه خالل فترة العامين 910.و 9101كان يُنظر لجماعة اإلخوان من قبل القصر وحكوماته كأداة لمناهضة الوفد والشيوعيين .حصل البنا من حكومة صدقي على عدد من ال تسهيالت في هذا السياق منها ترخيص بإصدار جريدة اإلخوان المسلمون ،وتسهيالت في شراء ورق الطباعة بتوفير من 97إلى %17عن سعر السوق ،إلخ)91( . لكن حتى في فترة التقارب تلك كان موقف الجماعة مليء بالتناقضات ،وموقف القصر مليء بالمخاوف .فصحافة الجماعة مثالً أبدت في معظم الحاالت عداءاً سافراً لحكومات األقلية المتعاقبة الموالية للقصر ولسياساتها ،واستمرت الصدامات المباشرة بين األمن والجماعة في المظاهرات والمؤتمرات الشعبية .ولم يكن من الغريب أن تنهار حالة التوافق بين الفريقين بالشكل الدرامي الذي حدث عام )90( .9100 في هذ ا الوقت ظهر استقطاب واضح في صفوف الطلبة ـ وقود الحركة الوطنية ـ داخل الجامعة ما بين الوفد والشيوعيين من جانب وبين اإلخوان والحزب الوطني ومصر الفتاة من جانب آخر .وقد لعب اإلخوان أدواراً سلبية وانقسامية خالل أحداث عام 910.سواء داخل الحركة الطالبية أو الحركة العمالية ،حيث وصلت رغبتهم في منافسة الوفد والشيوعيين إلى حد تخريب االضرابات وتقسيم المظاهرات ،مما دعم الميول داخل القصر والجناح اليميني في الوفد لالهتمام بهم ودعمهم وتأييدهم. وقبل سفر صدقي إلى لندن للتفاوض في أكتوبر 910.أرسل البنا خطاباً إلى الملك وإلى صدقي منادياً "دعوة األمة إلى الجهاد" ،بمقاطعة إنجلترا اقتصادياً وثقافياً واجتماعي ًا. وفي رسالة إلى "شعب وادي النيل" أعلن محذراً" :إن حكومة صدقي باشا ،في إصرارها على إجراء المفاوضات ،ال تمثل إرادة األمة ،وأي معاهدة أو تحالف تتوصل إليه مع بريطانيا قبل
66
أن يتم جالء قواتها ،هو إجراء باطل ولن يلزم األمة" .وفي اليوم السابق على رحيل صدقي إلى إنجلترا دعت الجماعة إلى مظاهرات ضخمة في جميع أنحاء البالد)90( . )6حرب فلسطين بعد تبني األمم المتحدة قرار التقسيم في نوفمبر عام ،9101أصبحت القضية الفلسطينية من جديد أكثر القضايا السياسية إلحاحاً في الساحة السياسية المصرية .هذا اإللحاح لم ينتج فقط عن الشعور بتهديد الهوية اإلسالمية والعربية لفلسطين عموماً والقدس خصوصاً بسبب إنشاء دولة يهودية استيطانية على أرضها ،وإنما نتج عن طبيعية دور هذه الدولة االستيطانية في السياسات االستعمارية البريطانية ومن بعدها األمريكية .ولذا لم يكن منطقياً فصل المعركة ضد االستعمار البريطاني في مصر عن المعركة ضد الصهيونية في شكلها المسلح في فلسطين .وكما ذكرنا من قبل كانت القضية الفلسطينية إحدى المحاور األساسية لعمل جماعة اإلخوان منذ اندالع ثورة عام .911.وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة بدأت الجماعة في إرسال مبعوثين إلى فلسطين ،ليس فقط لنشر الدعوة وإنما أيض ًا للتدريب وللمساعدة في التحريض والتنظيم والقتال ضد الصهاينة)9.( . وظلت القضية الفلسطينية في قلب العمل الدعائي والسياسي للجماعة في مصر من خالل اإلشارة الدائمة لها في الصحف والكتيبات والخطب واألحاديث العامة )91(.وقد اشترك البنا في تشكيل "لجنة وادي النيل" في نوفمبر عام 9101لجمع المال والسالح للمتطوعين الذين يتم تجنيدهم "إلنقاذ فلسطين" وكان مصطفى مؤمن هو ممثل الجماعة في تلك اللجنة)90(. وفي أكتوبر عام 9101طالب البنا كافة شُعب الجماعة بالبدء في االستعداد للجهاد. وفي 97أكتوبر توجهت الكتيبة األولى إلى فلسطين .وفي أبريل عام 9100أُرسلت الكتيبة األولى الرسمية من المتطوعين إلى العريش على الجبهة .وقبل أن يصل المتطوعون الرسميون القادمون تحت إشراف الجامعة العربية كانت كتائب اإلخوان قد اشتبكت بالفعل مع الصهاينة في صحراء النقب)91(.
63
وقد لعب اإلخوان دوراً هاماً في مساعدة القوات المصرية المحاصرة في الفالوجا وهو الحصار الذي نشأ بعد خرق الصهاينة للهدنة الثانية في أكتوبر عام .9100فقد عمل اإلخوان أثناء وجودهم في ال ميدان على نقل المؤن إلى القوات المحاصرة ،وفي القاهرة شاركت الجماعة في الضغط على الحكومة المصرية من أجل المزيد من المتطوعين لفك الحصار عن القوة المحاصرة ،لكن النقراشي رفض ولم يتم فك الحصار إال في فبراير التالي)17( . لقد فسر الكثيرون كفاح الجماعة المسلح ضد الصهيونية بطريقة تآمرية ،واعتبروه موقف انتهازي من جانبها يهدف إلى االستعداد لالستيالء بالسالح على السلطة في مصر .هكذا يرى رفعت السعيد مثالً " :إن القضية الفلسطينية قد أتاحت امكانيات عدة أمام اإلخوان ..فمن خالل تأييدها اتضح البعد اإلسالمي والعربي للجماعة ،ومن خاللها أيضاً أمكن للجماعة أن تمد نشاطها إلى المنطقة العربية كلها ..لكن أكثر ما يعنينا في هذا الفصل هو أن مساندة الثورة الفلسطينية عام 911.ثم االستعداد للمشاركة في حرب فلسطين 9100كانا الفرصة الذهبية أمام الشيخ البنا ليحشد ترسانة ضخمة ويدرب رجاله علناً تحت ستار اإلعداد لحرب فلسطين")19( . وهكذا أيضاً يشير أحمد حسين إلى أن حرب فلسطين قد أمدت اإلخوان
" بفرصة ذهبية لحشد السالح والتمرن على استعماله بدعوى أنه من أجل فلسطين ،وأن اإلخوان كان لديهم كميات من األسلحة والذخائر جمعوها تحت ستار تجهيز المتطوعين إلى فلسطين وهم يعدونها إلحداث انقالب في مصر بالقوة")19( . والغريب أن هذا التفسير التآمري يتغافل دائماً عن حقيقة ال لبس فيها هي ارتباط المعركة ضد الصهيونية بالنضال ضد االستعمار في وعي الجماهير المصرية ،وهكذا كلما ظهر للجماهير في مصر العالقة بين قضية تحررهم والقضية الفلسطينية كلما نجح اإلخوان بسبب دورهم الكفاحي في كسب المزيد من الشباب الغاضب إلى صفوفهم .والمؤكد ـ وهي حقيقة ال يمكن التشكيك فيها ـ أن الجماعة لعبت منذ عام 911.دوراً محورياً في مساندة الشعب الفلسطيني وفي الكفاح ضد الصهيونية.
64
هذا ال يعني أن موقف اإلخوا ن من القضية الفلسطينية كان بال نواقص أو عيوب ،لكن عيوب موقفهم ال تكمن في مدى صدق نواياهم أو انتهازيتهم ،وإنما تكمن في إضفائهم طابع ديني على القضية يجعلها محض صراع بين اليهود والمسلمين ممتد عبر التاريخ ،وبكل ما يتضمنه ذلك من عنصرية تجاه اليهود ككل ،وتغييب للجوهر اإلمبريالي للمشروع الصهيوني وعالقته بالمصالح االقتصادية واالستراتيجية للقوى العظمى. وإذا كان كفاح اإلخوان ضد الصهيونية أدى إلى نجاحهم في ضم جماهير واسعة من الشباب الغاضب إلى صفوفهم ،ففي المقابل أدى الموقف المتخاذل لليسار المصري من قرار التقسيم وإنشاء دولة إسرائيل إلى فقدانه لتلك الجماهير وانعزاله عنها. لقد كان االتحاد السوفيتي أول من اعترف بقرار التقسيم ،ونتج عن ذلك االعتراف حالة من التخبط الشديد في أوساط اليسار المصري والعربي عموماً .فالمنظمات الشيوعية المصرية وقتها كانت تعتبر االتحاد السوفييتي قلعة االشتراكية العالمية ،وصارت بالتالي تابعة أيديولوجياً وسياسياً للحزب الشيوعي السوفييتي .وبدالً من نقد الموقف السوفييتي وفضحه بصفته مناورة تهدف إلى خدمة المصالح الخارجية االستراتيجية لروسيا في ذلك الحين ،تبنت غالبية المنظمات الشيوعية في مصر موقفاً من قرار التقسيم كان مجرد تبرير وترديد للموقف السوفييتي .فنقرأ مثالً في مقالة بجريدة "الجماهير" هذا التبرير الهزلي:
" إن زعماء العرب وزعماء اليهود قد رفضوا التعاون ،ورفضوا اقتراح جروميكو الذي تقدم به منذ 90مايو الماضي والذي يرمي إلى إنشاء دولة موحدة ثنائية مستقلة ..هناك لم يكن بد أمام الديمقراطيين ومحبي الشعوب ،وأعداء االستعمار إال أن يقبلوا حل التقسيم كأساس إلعالن استقالل فلسطين")11( . وفي رد على انتقاد أحمد حسين لقرار التقسيم بصفته طريقة لمنح الصهاينة فلسطين يقول نفس المقال:
"كال يا فاشي إننا ال نريد انتزاع فلسطين من يد العرب والمسلمين لنعطيها لليهود ،إننا نريد انتزاعها من يد االستعمار لنعطيها للعرب واليهود دولة مستقلة ديمقراطية ويجب أن يعلم أحمد حسين وأمثاله أننا ال نوافق على مشروع التقسيم إال مضطرين وكأساس 65
الستقالل فلسطين"( .الجماهير )10( )9101/0/91 كان قبول أغل بية الشيوعيين المصريين في ذلك الحين لقرار التقسيم ،وبالتالي قبول وجود دولة إسرائيل جريمة لم تغفرها الجماهير المصرية .وقد ساعد موقف الشيوعيين هذا اإلخوان كثيراً ،فبينما يستشهد مناضلي اإلخوان في الصفوف األمامية خالل حرب 9100 يقوم اليسار بصدمة الجماهير الغاضب ة ويعترف بإسرائيل ،بل ويعلن أن الحرب ليست إال مناورة من االستعمار والرجعية لتحويل أنظار الجماهير المصرية عن معركتهم الوطنية. موقف الشيوعيين المصريين هذا من القضية الفلسطينية لم ينتج عن ـ كما يدعي طارق البشري وغيره من الكتاب اإلسالميين ـ تواجد بعض اليهود في قيادات األحزاب الشيوعية المصرية .فكثير من هؤالء ناضلوا ببسالة ضد الصهيونية وأنشئوا الرابطة اليهودية لمحاربة الصهيونية .هذا الموقف نتج عن الوالء األعمى لالتحاد السوفييتي ،الذي حول الكثير من األحزاب الشيوعية في مختلف أرجاء العالم إلى مكاتب تخدم السياسة الخارجية الروسية بدالً من كونها أحزاب ثورية مستقلة. والغريب أن بعضاً من شيوعيو ذلك الزمن ظلوا يبررون هذا الموقف حتى اليوم .هكذا نقرأ تعقيب لخالد محي الدين نُشر في كتاب رفعت السعيد "تاريخ الحركة الشيوعية المصرية":
"يجب أن نضع في االعتبار أن اليسار المصري كان يقبل التقسيم كسبيل الستقالل فلسطين ..وأيضاً فإن اليسار المصري وهو يقبل مشروع التقسيم ،ويؤكد في نفس الوقت أنه حل سيء لكنه المتاح الوحيد ..البد لي من أن أقرر أن هذا الموقف من جانب اليسار المصري كان في أغلب جوانبه صحيحاً ،وكان أيضاً موقفاً شجاعاً ،بل ونادر الشجاعة ،ذلك أن الشيوعيين المصريين قد تمسكوا به في وجه تيار قوي جارف مشحون بالعواطف القومية والدينية التي رفضت قرار التقسيم ..ويمكنني أيض ًا أن أقول بإطمئنان أن األيام قد أثبتت أن موقف اليسار هذا كان أكثر المواقف تعقالً وموضوعية والتقاء مع حقائق الوضع وتوازنات القوى")10( .
62
)7البرنامج االقتصادي واالجتماعي أحد االتهامات األساسية التي توجه عادة إلى جماعة اإلخوان هو الغموض في تناول القضايا االجتماعية والسياسية وغياب البرامج الملموسة .وسنجد مثالً رفعت السعيد في تأريخه لإلخوان يطرح" :في رسالته "إلى أي شيء ندعوا الناس" أشار المرشد إلى قضايا العصر قائالً أن العالمية والقومية واالشتراكية والرأسمالية والبلشفية والحرب وتوزيع الثروة والصلة بين المالك والمستهلك كلها خاض فيها اإلسالم .ثم عاد البنا فقال:
"أن المقام ال يسمح بالتفصيل وبأن األمر يحتاج لجوالت" ووعد أن يفصل فيها القول .ولم يف البنا بوعده أبداً ذلك أنه كان دائماً غامضاً في حديثه عن المقترحات التفصيلية والمتعلقة بالحكومة اإلسالمية ،وأنه لم يحدث مطلق ًا أن شرح نواياه بوضوح" )1.( .ويكرر السعيد تأكيده لغياب برنامج محدد في خطاب اإلخوان:
"ال يقدم البنا أي برنامج سياسي ،بل لعله قد تهرب كثيراً من تحديد أي موقف سياسي واضح من أية قضية قومية أو وطنية أو اجتماعية")11( . إال أن البنا شرح باستفاضة في ورقة هامة بعنوان "مشكالتنا الداخلية في ضوء النظام اإلسالمي :النظام االقتصادي" برنامج اإلخوان االقتصادي واالجتماعي ،وسنالحظ بوضوح أن مشكلة ما يطرحه البنا ليست في غموضه أو عدم تحديده أو غياب البرنامج عنه ،وإنما في الطبيعة الوسطية والمتناقضة لمشروعه التي تنبع في األصل من الطبيعة الطبقية لإلخوان. فعلى صعيد الموقف من السيطرة األجنبية على االقتصاد المصري ال يختلف موقف البنا
عن مجمل مواقف القوى الوطنية األخرى: "إن األجانب الذين احتلوا هذا الوطن ..قد وضعوا أيديهم على أفضل منابع الثروات فيه، شركات أو أفراداً ،فالصناعة والتجارة والمنافع العامة والمرافق الرئيسية كلها بيد هؤالء األجانب")10( . والحل الذي يطرحه هو ضرورة تمصير الشركات:
"األصول التي يقوم عليها النظام االقتصادي اإلسالمي توجب االهتمام الكامل بتمصير 67
الشركات ،وإحالل رؤوس األموال الوطنية محل رؤوس األموال األجنبية كلما أمكن ذلك، وتخليص المرافق العامة من يد غير أبنائها")11( . لكنه ،بالطبع ،ال يطالب بتأميم تلك الشركات وإنما فقط بتحويل ملكيتها من رأس المال األجنبي إلى رأس المال المصري. ورؤية البنا حول التفاوتات الطبقية في المجتمع المصري تعبر بصدق ووضوح عن المضمون الطبقي لمشروعه:
" إن التفاوت عظيم والبون شاسع ،والفرق كبير ،بين الطبقات المختلفة في هذا الشعب، فثراء فاحش وفقر مدقع .والطبقة المتوسطة تكاد تكون معدومة ،والذي نسميه نحن الطبقة المتوسطة ليس إال من الفقراء المعوزين وإن كنا نسميهم متوسطين")07( . وهو يقدم في مواجهة ذلك حالً وسطياً إصالحياً يهدف إلى تغيير األمور لكن دون صراع طبقي:
"ضرورة تقريب الشقة بين مختلف الطبقات ،تقريباً يقضي على الثراء الفاحش والفقر المدقع")09(. الجانب العملي لهذا الهدف الوسطي اإلصالحي من وجهة نظر البنا يتضمن جانبين، األول هو اإلصالح الزراعي:
" توجب علينا روح اإلسالم الحنيف ،وقواعده األساسية في االقتصاد القومي ،أن نعيد النظر في نظام الملكيات في مصر ،فنختصر الملكيات الكبيرة ،ونعوض أصحابها عن حقهم بما هو أجدى عليهم وعلى المجتمع ،ونشجع الملكيات الصغيرة ..وأن نوزع أمالك الحكومة حاالً على هؤالء الصغار كذلك حتى يكبروا")09( . االقتراح العملي الثاني الذي يطرحه البنا "لتقريب الشقة بين الطبقات" هو الضرائب التصاعدية:
"البد من العناية بفرض ضرائب اجتماعية على النظام التصاعدي بحسب المال ال بحسب الربح يعفى منها الفقراء طبعاً ،وتجبى من األغنياء الموسرين وتنفق في رفع مستوى المعيشة 68
بكل الوسائل المستطاعة")01( . ويعود البنا ليؤكد أن هذه المقترحات يجب أال تمس قدسية الملكية الخاصة:
" تقرير حرمة المال واحترام الملكية الخاصة ما لم تتعارض مع المصلحة العامة .فقد امتدح اإلسالم المال الصالح وأوجب الحرص عليه وحسن تدبيره وتثميره ،وأشاد بمنزلة الغنى الشاكر الذي يستخدم ماله في نفع الناس ومرضاة الله")00( . هذه النقاط البرنامجية ،ورغم عموميتها وعدم تعرضها للتفاصيل ،تؤكد بوضوح على الطبيعة الطبقية لرؤية البنا .هو ال يمثل بأي حال مصالح كبار المالك والرأسماليين ،هذا واضح في دعوته لإلصالح الزراعي وفرض ضرائب تصاعدية ،وهي أمور كانت الطبقات المالكة تعارضها بشدة .وهو بالتأكيد ال يعبر عن مصالح االستعمار البريطاني ورأس المال األجنبي، فهو يدعو وبال أية مواربة إلى التخلص منهما .لكنه في ذات الوقت ال يعبر عن مصالح الطبقة العاملة وفقراء الفالحين ،فهو يعادي بقوة أي مساس بالملكية الخاصة سواء بالتأميم في حالة الصناعة أو بإصالح زراعي جذري في حالة الزراعة. يدافع اإل خوان عادة عن هذه الرؤية باعتبارها ال تعبر عن مصالح أية طبقة اجتماعية، وإنما تعبر عن مصلحة األمة أو الوطن أو صحيح الدين .إال أنها في واقع األمر كانت والزالت تعبر عن مصالح الطبقة الوسطى الحديثة وامتداداتها في أوساط البرجوازية الصغيرة التقليدية في الريف والمدينة .فهؤالء كانوا يعانون بشدة من سيطرة الملكيات الكبيرة في الريف ،لكنهم في ذات الوقت يريدون حماية الملكيات الصغيرة والمتوسطة من مخاطر ثورة فالحية تطيح بنظام الملكية لصالح الفالحين الفقراء والمعدمين .وهؤالء كانوا يعانون أيضاً من سيطرة كبار الرأسماليين ورأس المال األجنبي على الصناعة والبنوك والمؤسسات الحديثة ،لكنهم بالتأكيد لم يكن بينهم من يريد تأميم تلك القطاعات لصالح العمال ،مما كان سيهدد المنظومة الطبقية التي ظلوا دائماً يبحثون عن مكانة متميزة لهم فيها. وتؤكد كتابات محمد الغزالي ،الذي كان في النصف الثاني من األربعينات أحد أهم مفكري اإلخوان ،على ذلك المضمون الطبقي لخطابهم .ففي كتابه "اإلسالم واألوضاع االقتصادية" ينتقد الغزالي الشيوعية والرأسمالية لموقفهما من الدين: 69
" فقد أنكرت الشيوعية الدين ألنها حسبته مخدراً للشعوب ومسكناً آلالم الطبقات المظلومة وصارفاً لهمم أبنائها من المطالبة بحقوقهم المضيعة .واحتقرت الرأسمالية الدين إذ توسلت به إلشباع المطامع الجشعة وإقرار الفوارق الجائرة .والدين مظلوم بين من كفروا به ومن جحدوه .بين الشيوعية المتطرفة والرأسمالية المتعجرفة")00(. وسرعان ما يتضح الجوهر الطبقي لذلك النقد:
" إن المساواة المطلقة خرافة والتفاوت المفتعل بغير سبب معقول مرفوض من أساسه فالناس سواء في الحقوق العامة")0.( . ويظل ذلك التضارب بين رفض الظلم والفوارق الطبقية ورفض المساواة وإلغاء الفوارق مالزماً لفكر الغزالي فيقول:
"إن الطبقات المترفة ،مصدر فساد عريض ،ومثار فتن متجددة .إن أساس التأخر وسبب الدمار الذي يصيب األوطان والشعوب هو من هذه الطبقات". ( )01ثم يعود ويدافع باستماتة عن قدسية الملكية الخاصة:
" حرية التملك جزء من الحرية الشخصية التي نحترمها ونود لو أحيطت بألف سياج .من حق أي إنسان أن يعمل وأن ينال ثمرة عمله كاملة ،وأن يستمتع بنتائج جهده وأن يورث أبناءه ما اكتسب")00( . بعد ذلك يعود ليؤكد أن:
"الملك الحالل البد أن تخرج منه حقوق شتى ..وما بقي بعد ذلك ال يجوز أن يكو سنادًا لتطاول أسر متكبرة تحاول بقوة المال أن تحكم وتتصدر وتسوق الجماهير بثرائها وبعصاها. وا لواقع أن الغنى النظيف الناتج عن الكسب الشريف المبذول في خدمة المثل العليا والنواحي الفاضلة هو ال ريب منتهى ما ينشده الدين ألتباعه في هذه الحياة .ال يكون الغنى طيب ًا إال إذا عرفت مصادره فكانت متفقة مع شرعية الله وإال إذا حسن العمل فيه فجرت نفقته على ما يرضي الله")01( .
30
هكذا نجد من جديد وبوضوح الجوهر الطبقي للخطاب اإلخواني ،والتعبير الصافي عن الطبقة الوسطى بقطاعاتها الحديثة والتقليدية في هذا التوازن الوسطي اإلصالحي بين قبول الملكية الخاصة بل والدفاع عنها ،وبين وضع القيود عليها عندما تخرج عن نطاق الملكيات الصغيرة والمتوسطة .ونالحظ النقد الالذع للملكيات الكبيرة بكل ما تعني من احتكار وظلم وفساد ،وفي ذات الوقت الدفاع المستميت عن الملكية األخالقية النظيفة المثالية ـ أي الصغيرة. والغزالي يصل إلى استنتاجات عملية أكثر راديكالية مما طرحه البنا .هو مثالً مع تدخل واسع النطاق للدولة في إدارة االقتصاد:
" أجل فلتفرض الدولة على األمالك ما تشاء من قيود ،وعلى األموال ما تشاء من ضرائب، وعلى األوضاع االقتصادية ما تشاء من النظم ،فإن الدين ظهيرها في هذه الوسائل ما دامت تريد من ورائها حماية جمهور الشعب من أن يسقط فريسة سهلة لالستعمار الداخلي أو الخارجي على السواء")07( . وبشكل أكثر وضوحاً يطرح الغزالي أنه:
" إذا اتسعت حاجات الناس باتساع الحضارة وتغير الزمن فعلى الحكومة أن تضع يدها ـ باسم الشعب ـ على مصادر الثروة العامة ،وأن تقصي المحتكرين أفراداً كانوا أو شركات من محاولة استغاللها ألنفسهم وتسخيرها وتسخير الشعب معها لمطامعهم")09( . هذا بالتأكيد لم يكن خطاباً يعبر عن مصالح الرأسمالية الكبيرة أو الملك أو االستعمار، لكنه أيضاً لم يكن خطاباً ثورياً يريد القضاء على النظام الطبقي القائم. ولم تكن التناقضات في خطاب اإلخوان تقتصر على القضايا االقتصادية واالجتماعية بل شملت أيضاً موقفهم من الشرعية والدستور ،فقد كتبت مجلة النذير في عددها رقم :11
" ما كان لإلخوان المسلمين أن تنكر االحترام الواجب للدستور بوصفه نظام الحكم المقرر في مصر وال أن تحاول الطعن فيه أو إثارة الناس ضده وحضهم على كراهيته ،ما كان لها أن تفعل ذلك وهي جماعة مؤمنة مخلصة تعلم أن إهاجة العامة ثورة وأن الثورة فتنة وأن 30
الفتنة في النار". إال أن المرشد العام كان قد طرح عام :9110
"البد من جديد في هذه األمة .هذا الجديد هو تغيير النظم المرقعة المهلهلة التي لم تجني منها األمة غير االنشقاق والفرقة ..هو تعديل الدستور المصري تعديالً جوهري ًا توحد فيه السلطات" .وخاطب الناس بأن يستعدوا فإن استجاب الحكام لألمر كان بها" ،وإذا أبوا فجاهدوهم به جهاداً كبيراً")09( . وكما يالحظ طارق البشري عن موقف حسن البنا :
"لم يحسم أبداً في دعوته ما إذا كان يقصد اإلصالح أم الثورة ،وإذا كانت الثورة فتنة فكيف يمكن إجراء التغيرات الجذرية في الحكم؟")01( . وقد كانت هذه التذبذبات والتناقضات في المواقف وفي الخطاب إحدى أسباب فشل الجماعة في مواجهة القمع الذي انهال عليها بعد حرب فلسطين. )8المحنة والتفكك أدى الدور الذي لعبه اإلخوان في حرب فلسطين وتصعيد كفاحهم ضد االحتالل البريطاني ،وما واكب ذلك من توسع نفوذهم الجماهيري إلى توفير األسباب الكافية النقالب القصر عليهم .وكما يالحظ طارق البشري " :الثابت أن اإلخوان في مرحلة ما وقفوا مع الملك وأيدوه .والثابت باليقين نفسه أنهم في فترات أخرى تصارعوا معه ،فكان الملك على رأس القوى التي حلت الجماعة في عام ،9100واغتالت المرشد العام بعد ذلك بشهرين تقريب ًا. والراجح أن أحزاب األقليات الحاكمة أيدت اإلخوان حيناً ،وأنها صارعتهم من بعد ،وألحقت بهم من إجراءات القمع والعذاب ما لم تعرفه قوة سياسية قبلهم في التاريخ الحديث)00( . وكان القمع بالفعل استثنائياً فتم اعتقال اآلالف من اإلخوان وفصل 907موظفاً وشرد من القاهرة وحدها الى الوجه القبلي 077موظف وأبعد عن كليات الجامعة والمدارس الثانوية نحو ألف طالب )00( .واتسعت دائرة االعتقاالت في صفوف اإلخوان لتشمل 0777معتقل، وتعرض المعتقلون ألقصى درجات التعذيب الوحشي الذي لم تعرف مصر مثله من قبل)0.( . 36
وقد أدت في نهاية األمر تلك الوسطية والخطاب المتناقض وانعكاسهما في تكتيكات البنا إلى المحنة واألزمة التي انتهت باغتياله .فرغم تفاقم األزمة السياسية واالجتماعية في مصر في نهاية األربعينات ،ورغم قوة اإلخوان المسلمين كأكبر وأنشط التنظيمات الجماهيرية لم يكن في استطاعة البنا تقبل فكرة الثورة بما تعنيه من تعبئة للعمال وفقراء الفالحين ومن تهديد ألسس الملكية الخاصة والمجتمع الطبقي ،ولم يتقبل أيضاً أن يتحول إلى مجرد أداة في يد القصر لمواجهة الحركة الجماهيرية. أغتيل البنا وهو في عامه الـ 09ولم يتمكن أبداً من تحقيق وعده لإلخوان المسلمين الذي ظل يلهم حركتهم" :في الوقت الذي يكون فيه منكم ـ معشر اإلخوان المسلمين ـ ثالثمائة كتيبة قد جهزت كل منها نفسها روحياً باإليمان والعقيدة ،وفكرياً بالعلم والثقافة، وجسمياً بالتدريب والرياضة .في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لجاج البحار وأقتحم بكم عنان السماء ،وأغزو بكم كل عنيد جبار ،فإني فاعل إن شاء الله")01( .
33
الفصل الثاني :من ناصر إلى مبارك )1بداية الحكم الناصري والموقف من االنقالب لم يكن الوضع القائم في مصر بعد حرب فلسطين 9100قابالً لالستمرار .فالنظام الملكي كان يتهاوى وحزب الوفد صار مفتقداً لكل مصداقية وشرعية بعد أن فشل في تخليص البالد من االستعمار البريطاني ومن سيطرة رأس المال األجنبي ،باإلضافة إلى عجزه عن حل المسألة الزراعية .ولم يعد كبار المالك والرأسماليين بأحزابهم قادرين على مواجهة الغليان الجماهيري المتصاعد .وفي ظل هذه األجواء المحملة برياح التغيير والثورة لم تتمكن ال الحركة الشيوعية وال جماعة اإلخوان من البروز كبديل قادر على حسم األمور .فقد ظل الشيوعيون أسرى الستراتيجية الثورة الوطنية الديمقراطية التي أمالها االتحاد السوفيتي على األحزاب التابعة له والمتأثرة به .وبدالً من النضال من أجل دور قيادي ومستقل للحركة العمالية المتصاعدة يجذب خلفه الفالحين الفقراء والفئات الدنيا من الطبقة المتوسطة ظل القطاع األكبر من الشيوعيين في موقع التذيل للب رجوازية المصرية وحزب الوفد ،وقد أكدت منظمة حدتو وهي أكبر التنظيمات الشيوعية موقفها بوضوح في جريدة الجماهير:
" إذا كانت أسلحة االستعمار موجهة ضد الوفد والحركة العمالية فإن ذلك يربط بين الحركتين في حلف جماهيري يستند إلى برنامج وطني مشترك")9( . وقد شل اإل خوان ـ كما أوضحنا سابقاً ـ تذبذبهم الدائم بين مهادنة النظام ومواجهته، وبين العمل المسلح والعمل اإلصالحي ،وبين العداء للملكية والوفد وبين التودد والتقرب إليهما ،وبين قدرتهم على تعبئة الجماهير وخوفهم من تجاوز الجماهير الحدود الوسطية واإلصالحية لبرنامجهم ،وهو ما ظهر بوضوح في مواقفهم المعادية لإلضرابات العمالية المستقلة وللهجمات الفالحية ضد كبار مالك األرض ،هذا رغم كونهم أكبر التنظيمات السياسية وقتها من حيث العضوية والنفوذ الجماهيري .وقد زاد من تخبط اإلخوان موجة القمع التي تعرضوا لها بعد عام 9100وغياب البنا ،مما أضعف قيادة الجماعة وفتح المجال داخلها لالنقسامات والتفكك. 34
كان الظرف إذن مهيئاً الستيالء ضباط الجيش على السلطة في يوليو عام .9109وما يهمنا في هذا المجال هو فهم المنعطفات الرئيسية في عالقة النظام الجديد بجماعة اإلخوان المسلمين. لقد بدأ اإلخوان في تجنيد ضباط في الجيش منذ مطلع األربعينات ،وخالل األربعينات كان اإلخوان األنجح بين القوى السياسية في خلق وجود تنظيمي داخل صفوف الجيش .وقد أسسوا مجموعة "جنود الجيش األحرار" التي أصدرت عدداً من البيانات التحريضية في عامي 9109و )9( .9109وفي 9100شكل مكتب اإلرشاد تنظيمان داخل الجيش والشرطة خارج نطاق التنظيم الخاص .وقد عين حسن البنا الضابط صالح شادي لإلشراف على خاليا اإلخوان في الشرطة ،ومحمود لبيب في الجيش )1( .لكن موجة القمع في عام 9100ومقتل البنا أدى إلى تقلص النفوذ اإلخواني داخل الجيش ،لكنه ظل النفوذ السياسي األكبر حتى انقالب عام .9109 وقد شهدت العالقة بين اإلخوان والضباط األحرار ثالثة مراحل متميزة .في الشهور األولى بعد االنقالب مباشرة حاول الضباط أن يحافظوا على عالقات ودية مع اإلخوان ،لكن دون التحالف المباشر معهم ،فقد كان موقف النظام الجديد من اإلخوان خليط من الخوف واالحتياج .الخوف بسبب قوة اإلخوان الجماهيرية واالحتياج بسبب عزلة النظام عن أي قواعد جماهيرية مؤثرة .ومع تحرك النظام للقضاء على األحزاب السياسية القديمة توطدت العالقة بينه وبين اإلخوان في محاولة منه لكسب تأييداً جماهيرياً إلجرائاته السياسية .لكن حتى ذلك التقارب كان مليئاً بالحذر والشكوك من الجانبين .فقد حاول عبد الناصر استغالل حالة االرتباك واالنقسام داخل الجماعة بالتقرب من القيادات الشابة المناهضة للهضيبي في محاولة إلضعاف سيطرته وتعميق االنقسامات .إال أن الهضيبي كان لديه تقديراً صحيحاً لنية النظام في استغال ل نفوذ اإلخوان الجماهيري للسيطرة على السلطة ،ثم التخلي عنهم واالنقضاض عليهم .وهكذا لم يقبل النظام أن يكون لإلخوان أي دور قيادي مشارك للضباط في رسم السياسات ،واكتفى بعرض مناصب ثانوية على بعض رموز اإلخوان كمنح منصب وزير األوقاف للباقوري الذي سرعان ما انقلب على اإلخوان لصالح النظام)0( .
35
وعلى الرغم من الدور الذي لعبه اإلخوان في تأييد ودعم النظام الجديد خالل العام األول من االنقالب إال أن شهر العسل لم يدم طويالً ،ففي أكتوبر 9100وبعد سيطرة النظام على الوضع السياسي في أعقاب أزمة مارس جاءت محاولة اغتيال عبد الناصر على يد شاب من اإلخوان المسلمين ،التي عرفت بحادثة المنشية الشهيرة .وقد وفرت هذه المحاولة المناخ الذي احتاجه عبد الناصر لالنقضاض على اإلخوان ،وتصفية تشكيالتهم التنظيمية وعلى رأسها الجهاز السري بطريقة قمعية .وسواء قبلنا تفسير اإلخوان للحادث بأنه مدبر من قبل النظام، أو قبلنا التفسير الناصري بأنه كان جزء من مؤامرة لقلب النظام ،أو اعتمدنا على التفسير األكثر منطقية وهو أن الحادث جاء كمبادرة فردية من مجموعة إخوانية صغيرة دون علم المرشد ،فالنتيجة النهائية كانت تمكن النظام من تدمير البنية التنظيمية للجماعة ليس فقط باالعتقاالت والمحاكمات واالعدامات لكن أيضاً بتأميم المؤسسات الخيرية واألهلية التي كان اإلخوان قد بنوها عبر عقدين من النشاط المكثف. إال أن القمع وحده ال يكفي في الحقيقة لتفسير االنهيار الذي حدث في قوة ونفوذ ووجود اإلخوان خالل الحقبة الناصرية .وال يمكن فهم ما حدث دون فهم طبيعة النظام الناصري والسياسات التي تبناها ،التي لعبت دوراً كبيراً في استيعاب القاعدة االجتماعية لإلخوان ،أي الطبقة الوسطى الحديثة ،وكسب تأييدها للنظام. )2طبيعة السياسات الناصرية كان اإلصالح الزراعي هو محور سياسات النظام الناصري في مراحله األولى .فالقضاء على طبقة كبار مالك األرض وإعادة توزيع األرض الزراعية كانت شروطاً أساسية لحل األزمة السياسية واالقتصادية في البالد .لكن اإلصالح الزراعي الذي تم لم يؤدي إلى اشباع عطش فقراء الفالحين ومعدمي الريف إلى ملكية األرض ،ذلك أن مصر لم تشهد إصالح ًا زراعياً راديكالياً كالذي حدث في بلدان أخرى عديدة وقتها .فمثالً لو أن ما جرى أدى إلى انتزاع ملكية جميع األراضي الزراعية وإعادة توزيعها على الـ 969مليون عائلة فالحية الموجودة عام ،9109لحصلت كل عائلة على فدانين .لكن ما تم وقتها كان مختلفاً ،ولم يتعدى كونه سلسلة من اإلصالحات المحدودة أثرت فقط على %9.من األراضي الزراعية وتم توزيع %91من هذه األراضي على حوالي %97من العائالت الفالحية)0( . 32
ما يهمنا هنا هو أن المستفيد األساسي من اإلصالح الزراعي لم يكن الفالحين الفقراء بل كان الفئات الوسطى من مالك األرض الذين شكلوا الجذور الريفية للطبقة الوسطى الحديثة. فقد زادت المساحة الزراعية التي في حوزة هؤالء من حوالي 960مليون فدان عام 9109 إلى حوالي 9مليون فدان عام .91.0ولم يحتفظ المالك المتوسطين فقط بنصيبهم من األرض بل اكتسبوا نفوذاً اجتماعياً وسياسياً في المجاالت التي كانت خاضعة لسيطرة كبار المالك من قبل).( . ولعل أكثر المجاالت اإلصالحية التي سمحت للنظام الناصري باالستيعاب السياسي واالجتماعي للطبقة الوسطى الحديثة كان مجال التعليم .فكما في حالة الزراعة لم يكن المستفيد األساسي من التوسع التعليمي هو الفقراء األميين من عمال وفالحين ،وإنما كان المستفيد هم أبناء الطبقة الوسطى ذوي التعليم المتوسط والعالي .ففي عام 9100تم تخفيض المصاريف الجامعية وتحويل جزء من ميزانية التعليم األساسي إلى التعليم الجامعي. وخالل الفترة ما بين عامي 9100و 91.9تضاعفت ميزانية الجامعات عدة مرات (ثمانية أضعاف) في حين زادت ميزانية التعليم ككل بنسبة .%977وزادت نسبة التعليم العالي من الميزانية الكلية للتعليم في نفس الفترة من %90إلى )1( .%99 وخالل الحقبة الناصرية زاد عدد الطالب في المرحلة االبتدائية بنسبة %910في حين زاد عدد الطالب الجامعيين بنسبة .%190وكان عدد الذين التحقوا بالجامعة في العام الدراسي 096.09 9101-9109طالب وصلوا في العام الدراسي 9117-91.1إلى 9.96091طالب )0( .ولم تكن هذه الزيادة الضخمة مرتبطة باحتياجات سوق العمل بقدر ما كانت مرتبطة برغبة النظام الناصري في االستيعاب السياسي واالجتماعي للطبقة الوسطى الحديثة .وقد ظلت هذه الفئة من الجامعيين وخريجي المعاهد محدودة بالنسبة إلى مجمل المواطنين ( %0من نفس الفئة العمرية) إال أن حجم تأثيرها السياسي فاق ذلك بكثير. وإلى جانب التوسع في التعليم العالي والمتوسط كان على النظام الناصري استيعاب هؤالء الخريجين في سوق العمل .ومع الخطة الخمسية األولى والتوسع الكبير في القطاع العام مع مطلع الستينات أصدر النظام القانون رقم 900المعروف بسياسة التعيين ،الذي يلزم الحكومة بتعيين كافة خريجين الجامعات والمعاهد في وظائف حكومية أو في القطاع 37
العام .وقد وصل عدد المعينين في وظائف داخل القطاع العام والحكومة من ذوي المؤهالت العليا والمتوسطة 007ألف موظف خالل عام 91.1منهم 901ألف خريج جامعي ،أو ما يوازي %.7من إجمالي عدد الخريجين .وقد شمل ذلك أكثر من %17من المهندسين والعلماء و %01من األطباء وأكثر من %.7من المحاميين)1( . )3أزمة الناصرية إال أن خطة االستيعاب هذه كانت تعتمد بالكامل على نجاح النمو االقتصادي والخطة الخمسية .لكن رأسمالية الدولة الناصرية لم تتمكن أبداً من تحقيق النجاح الذي يسمح لها باالستمرار .لقد وُضعت الخطة الخمسية األولى في عام 91.9-91.7كخطة تستهدف الدولة من خاللها تركيز كل االستثمارات على عملية التصنيع ،وعلى بناء السد العالي لزيادة اإلنتاج الزراعي وتوفير الطاقة للصناعة .فلسفة الخطة قامت على التصنيع السريع وإحالل الواردات للبدء في خلق أرضية متكاملة تسمح بالتنمية المستقلة وتحويل مصر من دولة زراعية إلى دولة صناعية .وهي خطة اعتمدت على تجارب االتحاد السوفيتي والصين والهند في خلق اقتصاد مستقل وسوق محلية تستوعب اإلنتاج الصناعي. لكن الواقع كان بعيداً كل البعد عن األهداف المرجوة ،وبدالً من أن تصبح الخطة األولى بداية الطريق في سلسلة من الخطط الخمسية تهدف إلى تحقيق نمو اقتصادي يُخرج البالد من أزمتها ،سرعان ما انهارت التجربة وتأزمت وتحولت إلى أحد أشد التجارب فشالً في بناء رأسمالية الدولة. الخطة مثالً كانت تهدف إلى تخفيض قيمة الواردات خالل سنواتها الخمسة من 991 مليون جنيه إلى 990مليون جنيه (بأسعار عام )91.0لكن ما حدث في الواقع هو أن قيمة الواردات زادت لتصل إلى 091مليون جنيه عام ،91.0ووصل العجز في الميزان التجاري إلى 9..مليون جنيه وزادت نسبة الواردات من إجمالي الناتج المحلي من %90 في بداية الخطة إلى %97في نهايتها)97(. ليس هنا مجال تحليل أسباب وتفاصيل فشل رأسمالية الدولة الناصرية .أما ما يهمنا اآلن هو معرفة تأثير ذلك الفشل على الطبقة الوسطى الحديثة التي تمكن النظام من 38
استيعابها سابقاً بسياساته التعليمية والتوظيفية .فقد أدى انكماش االقتصاد المصري بعد فشل الخطة الخمسية األولى إلى انهيار سريع في المستوى المعيشي وفرص التشغيل لخريجي الجامعات وبدأت الشروخ تظهر في قدرة النظام على استمرار استيعابه لتلك الطبقة. ومن مفارقات تلك الفترة أنه في اللحظة التي بدأ فيها انهيار المشروع الناصري قرر الحزب الشيوعي ،الذي كان غالبية كوادره في المعتقالت ،أن يحل نفسه ويندمج في التنظيمات السياسية التابعة للنظام الناصري .حدث ذلك ـ كما هي العادة ـ بتعليمات من االتحاد السوفيتي الذي أصبحت له عالقات وطيدة بالنظام الناصري في ذلك الوقت ،وبينما ـ على جانب آخر ـ كان سيد قطب يحاكم ويعدم شنقاً لمحاولته إحياء تنظيم اإلخوان ومعارضته العنيفة للنظام .هذه المفارقة" :التقدميون" يتواطئون مع النظام ويندمجون فيه، و"الرجعيون" يناهضونه ويموتون على مشانقه (!) لعبت دوراً كبيراً في تشكيل الوعي السياسي المعارض خالل العقدين التاليين. أتت بعد ذلك هزيمة 91.1بالدفعة األخيرة في أزمة النظام الناصري ،وأدت إلى اندفاع شباب الطبقة الوسطى الحديثة للبحث عن بدائل سياسية وأيديولوجية .وقد تزامن ذلك مع محاوالت إعادة إحياء الحركة اإلسالمية ،وظهور مجموعات يسارية مستقلة عن الحزب الشيوعي في أوساط الطالب الجامعيين. انفجرت الحركة الطالبية ضد النظام الناصري عام 91.0بقيادة عناصر يسارية حيث انعدم تقريباً الوجود اإلسالمي داخل الجامعات وقتها .فما تعرض له اإلخوان من قمع وحشي خالل عامي 91.0و 91..أضعف قدرتهم على الحركة وعطل محاوالتهم إلعادة البناء داخل الجامعات .حدثت بعض االستثناءات بالطبع حيث نجحت عناصر إخوانية في المنصورة من التسرب داخل التنظيمات الشبابية لالتحاد االشتراكي ،وقادوا مظاهرات المنصورة في نوفمبر عام 91.0ضد محاوالت اإلدارة في تخفيض أعداد الطالب ،وانتهت المظاهرات التي خرجت من المعهد األزهري في المنصورة بمقتل أربعة من الطالب اإلسالميين )99( .إال أن الهيمنة في تلك الحقبة ظلت في يد الطالب اليساريين.
39
)4السادات والتلمساني والدعوة أدى القمع الذي عانى منه اإلخوان خالل الحقبة لناصرية إلى تغييرات هامة في تكوين وخطاب الجماعة عند خروج قياداتها من المعتقالت خالل فترة السبعينات .لقد باتوا يفتقدون إلى الصلة مع الواقع السياسي وقواعدهم االجتماعية التقليدية بعد عقدين كاملين داخل المعتقل .القيادات والكوادر التي نجت من االعتقال أمضت الفترة الناصرية في دول الخليج، وكونت ثروات من عملها هناك ومن عالقاتها مع النظام السعودي الرجعي الشديد العداء للناصرية .ومع اطالق سياسة االنفتاح االقتصادي التي تبناها السادات عاد الكثير من هؤالء إلى مصر ،ووجدوا أمامهم فرص ضخمة الستثمار مدخراتهم .وتحول العمود الفقري للجماعة من الطبقة الوسطى الحديثة قبل الحقبة الناصرية إلى رجال أعمال ذوي صالت وطيدة بالنظام السعودي .انعكس ذلك بالطبع على مواقف اإلخوان وخطابهم السياسي وهم يعيدون تشكيل صفوفهم تحت قيادة عمر التلمساني. أصبح عمر التلمساني أهم شخصية إخوانية بعد وفاة حسن الهضيبي عام .9111وقد التقى به صالح عشماوي عام 911.ووضع مجلة الدعوة تحت تصرفه ،وتصرف اإلخوان. وظهرت الدعوة في شكلها الجديد بتمويل الشركة اإلسالمية للنشر والتوزيع التي رأس التلمساني مجلس إدارتها)99( . وقد سمح نظام السادات بصدور المجلة بال أي تدخل .ومن المهم مالحظة أن النصيب األكبر من هذه المجلة من حيث المضمون والتوجه كان لإلخوان األوائل الذين أبعدهم الهضيبي عام 9101بسبب تقاربهم مع النظام مثل :صالح عشماوي ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي الذين ارتبطوا جميعاً بعالقات وثيقة مع النظام السعودي )91(.يشير جيل كيبل في دراسته "النبي والفرعون" إلى دور اإلعالنات في تلك المجلة:
" من حوالي مئة وثمانين صفحة من اإلعالنات الملونة في مجلة الدعوة ،اشترى 01 صفحة مقاولون وشركات عقارية و 09صفحة اشترتها شركات إلنتاج الكيماويات والبالستيك و 97صفحة لمستوردي السيارات و 99صفحة لبنوك إسالمية وشركات استثمار")90( .
40
ثم يشير إلى أن حوالي نصف اإلعالنات كانت لثالثة شركات هي الشريف للبالستيك وشركة مسرة للمقاوالت ومودرن موترز وإلى أن
"هذه الشركات الثالثة كان يمتلكها إخوان مسلمون كونوا ثرواتهم في المملكة العربية السعودية خالل األعوام الثالثين السابقة واستثمروها بشكل مكثف في مصر منذ عام ،9110 خاصة في قطاعات االستيراد والبضائع االستهالكية")90(. وقد تميزت مقاالت وموضوعات مجلة الدعوة بمواقف شديدة الرجعية وباالبتعاد التام عن نقد النظام االجتماعي واالقتصادي في مصر .وكان هناك هوساً في المجلة بأربع مصادر للخطر على األمة اإلسالمية :اليهودية والشيوعية والصليبية والعلمانية .وقد اتسم التحليل المطروح لهذه المخاطر على إثارة الذعر واالعتماد على نظرية المؤامرة .ولم تكن هذه العناوين مجرد ترجمة دينية للمخاطر الحقيقية اآلتية مثالً من االتحاد السوفيتي (الشيوعية) والكيان الصهيوني (اليهودية) واإلمبريالية األمريكية (الصليبية) بل كانت في الحقيقة تعكس مضامين شديد الرجعية .ففي حالة الشيوعية كان الموقف يتضمن نقداً عنيفاً للمضمون االجتماعي للحقبة الناصرية ،وعداء شديد لكافة أشكال التأميم واإلصالح الزراعي ودور الدولة في االقتصاد .وقد تأكد هذا المضمون اليميني حين اندلعت انتفاضة يناير 9111وبعثت المجلة برسائل تضامن مع السادات واعتبرت االنتفاضة دليالً على مؤامرة شيوعية! أما الموقف من الصليبية فقد تجاوز التقابل التقليدي بين الغرب المستعمر والصليبية ليتضمن هجوماً على األقباط وتحريضاً صريحاً ضدهم .وفي عدة مقاالت تناولت أحداث الفتنة الطائفية في الزاوية الحمراء عام 9109انصبت االتهامات على األقباط وعلى الكنيسة القبطية:
"أقباط مصر هم أسعد األقليات على ظهر األرض وكل حقوقهم المادية واألدبية ميسرة بل مضاعفة ..وسارت األمور على أفضل ما يكون إلى أن تعين السيد شنودة بطريرك ًا ألقباط مصر")9.(. وحتى مسألة اليهودية ،وهي األكثر اختالطاً في الخطاب اإلسالمي عموماً مع الصهيونية، تركز الهجوم فيها على "طبيعة" اليهودي ،والمؤامرة اليهودية الكبرى ،واألصل اليهودي لكافة مآسي األمة بل والعالم ،فاليهود منبع الشيوعية (كارل ماركس كان يهودي) والعلمانية في 40
منطقتنا (نظرية تأثير جماعة يهودية على أتاتورك) والصليبية (تأثير اللوبي اليهودي ورأس المال اليهودي في واشنطن). وبالطبع ابتعدت هذه التحليالت والدعاية الغارقة في الرجعية بالقارئ تماماً عن أي أسباب حقيقية للمعاناة ،فالرأسمالية وحرية السوق والتفاوت الطبقي المتزايد لم تكن تحصل إال على إشارات عابرة .كانت مجلة كهذه بالطبع كنزاً لنظام السادات ،فهي تهاجم أعدائه من اليسار والناصريين ،وتشغل الرأي العام بمؤامرات وهمية ،وتشعل حينما يريد نار الفتنة الطائفية ،وتؤيد سياساته االقتصادية .وظل التلمساني يؤكد دوماً مواقفه المعادية لكافة أشكال الصراع الطبقي وللمواجهة الجماهيرية مع النظام ،وكل ما كان يريده من النظام هو تطبيق الشريعة اإلسالمية .وقد لخص رؤيته لدور اإلخوان كما يلي:
.9إننا نربي الشعب ،وخاصة الشباب ،على األسس التي عز بها المسلمون وسادوا. .9إننا نقول الحق وندعو الناس جميعاً إلى الوقوف بجانبه ،ومساندته في أحلك المواقف. .1نحن نجمع الناس في المناسبات العامة لنقول لهم ما يجب أن يفعلوه وما يجب أن يتجنبوه. .0نحن نحذر الناس من العلمانية التي تلبس ثوب اإلسالم لتباعد بين اإلسالم وشباب اإلسالم في ظل كلمات معسولة ومسمومة ،مطعمة بألفاظ العقل والمنطق والعلم والتقدمية وحرية الفكر)91( . )5الجماعات اإلسالمية واالندماج مع اإلخوان المسلمين إال أن مجموعة التلمساني لم تكن وحدها في ساحة العمل السياسي اإلسالمي خالل السبعينات التي شهدت أيضاً النمو السريع للجماعات اإلسالمية في الجامعات المصرية .في نهاية الستينات لم يكن الطالب اإلسالميين إال أقلية صغيرة في فعاليات الحركة الطالبية المتصاعدة .وحظيت دائماً اقتراحاتهم بإضفاء تعديالت ذات طابع أخالقي وديني على برنامج "اللجنة الوطنية الطالبية" برفض غالبية الطالب .حتى ذلك الوقت لم يكونوا قد نظموا أنفسهم 46
في الجماعات اإلسالمية ،وظلوا يتجمعون داخل األسر الطالبية التي سرعان ما أصبحت مراكز هامة لتجنيد الكوادر اإلسالمية. مع اندالع الموجة الثانية من الحركة الطالبية في ديسمبر عام 9119تحولت األسر اإلسالمية من الدور الهامشي ولكن المؤيد للحركة الطالبية إلى العداء المباشر للقيادات اليسارية للحركة .وسرعان ما أصبح واضحاً أن هناك توافق ما بين الحركة اإلسالمية في الجامعة وبين نظام السادات .من جانب الجماعات أصبح الطريق لتوسيع نفوذهم هو التعاون التكتيكي مع النظام لكسر نفوذ اليسار داخل الجامعات .وكان من الطبيعي أن يرى النظام في هذه الجماعات اإلسالمية فرصة لتفتيت الحركة الطالبية المتصاعدة وضرب اليسار)90( . ولعل أبرز حلقات ذلك التعاون التكتيكي كان في محافظة أسيوط التي تعاون فيها المحافظ محمد عثمان إسماعيل وبشكل علني مع الجماعات اإلسالمية في جامعة أسيوط. وقد سمح نظام السادات للجماعات بتنظيم المعسكرات الصيفية الضخمة التي لعبت دوراً هاماً في تطوير وتثقيف الكوادر اإلسالمية الشابة ،وكان أيضاً دعم النظام لمثل هذه المعسكرات واضحاً .فقد حضر األمين العام لالتحاد االشتراكي حفل ختام المعسكر اإلسالمي الذي أقامه الطالب اإلسالميون من جامعة القاهرة في صيف عام 9111ولم يكن ذلك التكريم الرسمي استثناءاً)91( . كان تنظيم مثل هذه المعسكرات جزءاً من تراث اإلخوان المسلمين في الثالثينات واألربع ينات ،ولم تقتصر بالطبع األنشطة داخلها على األنشطة الدينية بل شملت التدريبات الرياضية واالستماع إلى محاضرات الدعاة حول مختلف القضايا السياسية واالجتماعية .وقد انعكس ذلك النجاح في التنظيم والتجنيد داخل االنتخابات الطالبية حيث هيمنت الجماعات اإلسالمية على لجنة اإلعالم والنشر لالتحاد العام عام 9110وفازت برئاسة اتحاد الطالب في جامعة القاهرة والمنيا عام 911.وبغالبية المقاعد في مجلس االتحاد العام على المستوى القومي عامي 9110و .9111وكانت انتصارات اإلسالميين كاسحة على مستوى الكليات والجامعات وعلى المستوى القومي)97( .
43
مع نهاية السبعينات حدثت تطورات تنظيمية شديدة األهمية داخل الحركة اإلسالمية. فخرج الجناح التكفيري المسلح من صفوف الجماعات اإلسالمية الطالبية ،وكونوا تنظيماتهم المسلحة المستقلة وبدئوا حربهم البائسة ضد النظام الحاكم .وعلى جانب آخر ازداد التقارب بين الجما عات اإلسالمية في الجامعات ومجموعة التلمساني ومجلة الدعوة ،وانتهى األمر بدخول الجماعات جماعة اإلخوان المسلمين .وقد كان ذلك تحو ًال شديد األهمية .فبالنسبة للتلمساني والقيادات القديمة لإلخوان كان ذلك يمثل فرصة تاريخية إلعادة بناء قواعد اإلخوان ومد الجماعة بكوادر شابة قادرة على إحياء التنظيم .وبالنسبة لقيادات الجماعات اإلسالمية كانت الوحدة تمثل فرصة لالرتباط بالتراث التاريخي لإلخوان وخاصة تراث حسن البنا الذي انقطع طوال الخمسينات والستينات. غيرت الوحدة التكوين الطبقي لإلخوان من جديد ،فلم تعد مجرد مجموعة من قدامى اإلخوان واألثرياء المرتبطين بالسعودية ونظام السادات ،بل عادت جماهير الطبقة الوسطى الحديثة من طالب ومهنيين للتدفق في صفوف الجماعة .وبدأت الجماعة منذ نهاية السبعينات في إعادة بناء تشكيالتها التنظيمية طبقاً ألساليب ومناهج حسن البنا .لكن فهم النجاح الذي حققته منذ السبعينات يحتاج إلى فهم طبيعة وعناصر المد اإلسالمي. هناك ثالث مجاالت رئيسية شكلت العامود الفقري للمد اإلسالمي منذ السبعينات: المساجد األهلية ،والمؤسسات والجمعيات الخيرية اإلسالمية (الخدمية والثقافية والصحية والتعليمية) والمؤسسات الرأسمالية اإلسالمية (البنوك والشركات والمطابع ،الخ))99( . وقد زاد عدد المساجد األهلية في مصر من 97ألف عام 9117إلى 0.ألف عام .9109ومن هذه المساجد لم تكن وزارة األوقاف تشرف إال على ستة آالف مسجد .ووصل عدد المساجد األهلية مع بداية التسعينات إلى أكثر من .7ألف مسجد وزاوية ،وقد قدر العدد في منتصف التسعينات بـ 917ألف مسجد منها 17ألف تحت اإلشراف المباشر لوزارة األوقاف .وقد أتاح هذا النمو السريع والواسع للمساجد المستقلة أرضية خصبة لإلخوان إلعادة نشاطهم الخيري والتنظيمي وتفعيل كوادرهم خارج إطار الجامعات وتوسيع قاعدتهم االجتماعية)99( . 44
ومع بداية التسعينات وصل عدد الجمعيات غير الحكومية في مصر إلى 90ألف جمعية. حوالي ثلث هذه الجمعيات ذات طابع إسالمي )91( .بعض الجمعيات اإلسالمية كانت ذات نشاطات دينية تقليدية مثل حفظ القرآن وتنظيم الحج وتوزيع الزكاة وصيانة المساجد ،لكن غالبيتها تركز نشاطها على العمل الخدمي مثل المستوصفات والحضانات والمدارس ومراكز التأهيل .وكثير منها كان لها طابع محلي مقتصر على الحي أو القرية ،في حين توسعت بعضها لتصبح مؤسسات على المستوى القومي بأفرع متعددة في مختلف المدن والمناطق والمحافظات. وقد لعبت ثالثة عوامل رئيسية دوراً في نجاح هذه الجمعيات على المستوى التمويلي. أوالً استخدام أموال الزكاة في حالة الجمعيات المرتبطة بالجوامع والمساجد .ثانياً التبرعات الوفيرة التي كانت تأتي من البنوك والشركات اإلسالمية سواء ألسباب ضريبية أو دعائية. وثالثاً إعادة استثمار األرباح من خالل تقديم الخدمات ذات األسعار المنخفضة مثل الخدمات العالجية والتعليمية .وكان تفعيل مثل هذه اآلليات الخيرية األسلوب الذي اتبعه اإلخوان في التواصل وخلق العالقات في األحياء الشعبية والقرى وقد ساعد الجماعة في توسيع نفوذها في أوساط قطاعات عريضة من الجماهير. وقد ساهمت الشركات اإلسالمية بدرجة مهمة في إعادة إحياء الخطاب والنشاط اإلخواني ،ليس فقط شركات توظيف األموال التي وصل رأسمالها في منتصف الثمانينات إلى 9.مليار جنيه ـ التي انهارت سريعاً دون أي تأثير يُذكر على نفوذ اإلخوان ـ إنما األهم منها كان استثمار اإلخوان في مجاالت النشر .فلقد تأسست عدداً من دور النشر والتوزيع اإلسالمية حققت نجاحاً ضخم ًا مثل الدار اإلسالمية ودار الوفاء وااللتزام ،باإلضافة إلى الصعود السريع للمجالت اإلسالمية الشهرية مثل لواء اإلسالم والمختار اإلسالمي واالعتصام)90(. لقد أدى النمو واالنتشار السريع للمساجد األهلية والجمعيات الخيرية اإلسالمية مع التوسع الهائل في الدعاية اإلسالمية المطبوعة إلى إعادة بناء تنظيم اإلخوان المسلمين ،أو ًال من خالل خلق مجال حيوي ليس فقط لالرتباط اليومي بالجماهير وإنما األهم لتفعيل شبكة الكوادر وخلق مجال أيديولوجي مساعد للتجنيد السريع .هذا المجال اإلسالمي بمساجده 45
وجمعياته تميز بدرجة عالية من المرونة والالمركزية مما جعل قمعها أو السيطرة عليها من قبل النظام عملية شبه مستحيلة. )6تفاقم أزمة الطبقة الوسطى الحديثة كيف نفسر عودة قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى الحديثة إلى صفوف اإلخوان؟ لقد ظهر مما سبق كيف تمكن النظام الناصري من استيعاب تلك القطاعات في الخمسينات والستينات ،وأيضاً كيف بدأت منظومة االستيعاب في االنهيار مع األزمة االقتصادية وحرب .91.1إال أن أزمة تلك الطبقة تفاقمت بشكل سريع منذ السبعينات .فسياسة التعليم والتوظيف ظلت كما هي خال ل السبعينات والثمانينات وظل التناقض بينها وبين الواقع االقتصادي المأزوم في ازدياد .وقد زاد عدد المشتغلين في القطاع الحكومي بين عامي 9111 و 9109بمعدل %.61في حين كان النمو في إجمالي قوة العمل .%960وبين عامي 9111و 9100خلقت الدولة %0061من الوظائف الجديدة ( %1761إذا استثنينا العمالة خارج البالد) .وفي نفس الفترة تم إنشاء سبعة جامعات جديدة وزادت نسبة المقبولين في الجامعات من %07من الحاصلين على الشهادة الثانوية إلى .%.7وقد زاد عدد خريجي الجامعات من 09619.خريج عام 9110إلى 9906100خريج عام )90( .9100 وخالل الفترة بين عامي 9111و 9109كانت نسبة المعينين في وظائف حكومية من الخريجين تتجاوز %07في حين لم تكن نسبتهم في سوق العمل تتجاوز )9.( .%90 ويظهر من الجدول التالي ( )91العالقة ما بين عدد الخريجين ومعدل النمو خالل الفترة ما بين عامي 91.0و 9100باحتساب عام 91.0-91.0هو سنة األساس.
42
السنة
عدد الخريجين
النمو
4691/4691
492.91
( 411األساس)
4691/4696
.12149
41421
4691/4691
142649
.1929
4611/4696
9924.1
19926
4611/4611
4412911
94421
كان متوسط النمو السنوي للسكان بين عامي 911.و( %9600 :910.أكبر من .سنوات) في حين وصل متوسط النمو السنوي لخريجين الجامعات في نفس الفترة إلى )90( .%976.1ومع زيادة أعداد الخريجين ،الذين ظل غالبيتهم يعملون في الحكومة والقطاع الخاص ،ازدادت أوضاعهم االقتصادية سوءاً .ففي خالل عقد السبعينات ورغم االنتعاش االقتصادي النسبي الذي خلقه ارتفاع أسعار البترول ،انخفضت األجور الحقيقية للعاملين بالقطاع العام بنسبة %0وللعاملين بالحكومة بنسبة )91( .%91ومع انخفاض أسعار البترول وأزمة االقتصاد المصري في الثمانينات انخفض االنفاق العام من %.160من إجمالي الناتج المحلي إلى %0960بين عامي 9109و)17( .9101 وبالط بع كانت النتيجة المنطقية لهذه التطورات ولسياسات التحرير االقتصادي التي تبناها نظام مبارك منذ منتصف الثمانينات حدوث زيادة هائلة في بطالة الخريجين .ففي حين زاد حجم قوة العمل بنسبة %969بين عامي 911.و 910.زاد عدد خريجين الجامعات والمعاهد بنسبة %160خالل نفس الفترة .لكن هؤالء لم يعد من الممكن توظيفهم وقد 47
وصلت انتظار الوظائف الحكومية بالنسبة للخريجين إلى ثالث سنوات عام ،9111ثم إلى 97سنوات عام )19( .9100وقد زادت نسبة البطالة من %969عام 91.1إلى %161عام 911.ثم إلى %99عام .9100وفي عام 9100كان الخريجين يمثلون أقل من ثلث إجمالي قوة العمل وأكثر من %17من العاطلين .وكانت نسبة العاطلين من بين خريجي المعاهد قد وصلت إلى %9060ومن بين خريجي الجامعات إلى %9060في نفس العام. ()19 هذا الجيش الهائل من المتعلمين العاطلين أو العاملين بأجور لم تعد تكفي احتياجاتهم الضرورية سرعان ما أصبح جمهوراً جاهزاً لدعوة اإلخوان .فالفجوة بين تطلعاتهم وتطلعات أسرهم لحياة كريمة ومستوى معيشة متوسط ومكانة اجتماعية متميزة وبين واقع حياتهم من فقر ومديونية وبطالة جعلهم خير متلقيين لرسالة اإلخوان. ولعله يكون مفيداً في هذا المجال أن نلقي نظرة سريعة على أساليب تجنيد وتفعيل فقراء المتعلمين في صفوف اإلخوان خالل الثمانينات والتسعينات .ففي المناطق العشوائية مثالً حيث يمتزج الخريجين الفقراء بالنازحين الجدد من الريف بقطاعات البرجوازية الصغيرة التقليدية وحيث يكون نقصاً حاداً في الخدمات الصحية والتعليمية وغيره من الخدمات الجماهيرية العامة ،وجد اإلخوان مناخاً مناسباً للربط بين نشر الدعوة (أي الدعاية والتجنيد) والعمل الخيري (طرح الجماعة كبديل لدولة توقفت عمداً عن تقديم الخدمات) .في هذه الظروف يكون الدور المركزي للدعاة هو خلق شبكات متسعة من األعضاء والمتعاطفين. اتخذت الدعوة ثالثة أشكال مختلفة ومتداخلة .الشكل األول هو الدعوة الفردية .فتواجد الكوادر في المساجد أثناء وبعد الصالة وفي العمل الخيري وتقديم الخدمات يسمح بعملية تعارف طبيعية مع المتعاطفين والمرشحين للتجنيد .ويتم كسب العناصر الجديدة بشكل تدريجي أوالً باقن اعها بدرجات متصاعدة من االلتزام الديني واألخالقي ،وثانياً بالمشاركة في نشر هذا االلتزام وسط العائلة ثم في الحي ثم في مكان العمل ،وثالثاً بكسب العنصر الجديد إلى مفاهيم اإلخوان حول عالقة الدين بالسياسة وحول الضرورة الدينية للعمل السياسي ـ أي ضمه إلى اإلخوان. 48
الشكل الثاني لنشر الدعوة هو الدعوة العامة ،ويشمل استخدام خطب الجمعة والدعوة للصالة الجماعية ولالرتباط اليومي بالمسجد والدروس الدينية األسبوعية .أما الشكل الثالث فهو الدعوة المطبوعة ويستخدم هذا الشكل من خالل تأسيس مكتبات إسالمية في المساجد المستقلة تُعير الكتب والشرائط وتقوم بتوزيع واسع النطاق للكتيبات الصغيرة الشارحة للدعوة. هذه الكتيبات ال تتجاوز في أغلبها .7صفحة وتتميز ببساطة اللغة وعرض نماذج من التاريخ اإلسالمي ومن التجارب الحياتية الشخصية للكاتب .وفي مجال الكتيبات مازال هناك استخدام واسع النطاق لكتيبات حسن البنا ومنها "إلى الطلبة" و"إلى الشباب وخاصة الطلبة" وبعض خطب البنا المطبوعة)11(. )7النقابات المهنية كانت النقابات المهنية في مصر منذ الخمسينات تحت سيطرة شبه كاملة من قبل النظام وقد تحولت هذه النقابات على يد النظام الناصري إلى مجرد جزء من جهاز الدولة وأصبح دورها فقط تنظيم شئون المهنة .وبسبب التوسع الهائل في التعليم العالي منذ الستينات تحولت النقابات المهنية من تشكيالت نخبوية إلى مؤسسات ذات طابع جماهيري حيث وصل عدد األعضاء ببعض النقابات إلى مئات اآلالف .وقد وصل عدد األعضاء المقيدين بالنقابات المهنية إلى أكثر من مليوني عضو مع بداية التسعينات .وبما أن عضوية النقابات شبه إجبارية للخريجين فقد شملت ليس فقط المهنيين العاملين بل أيضاً األعداد المتزايدة من المهنيين العاطلين .وتحولت التركيبة الطبقية للعضوية النقابية لتشمل كبار أصحاب األعمال من مالكي الشركات الهن دسية والمستشفيات الخاصة والمكاتب االستشارية والقانونية وسالسل الصيدليات إلى جانب القطاع األوسع من المهنيين العاملين بالحكومة والقطاع العام والدرجات األدنى في القطاع الخاص ،باإلضافة إلى الخريجين العاطلين أو المضطرين لمزاولة عمل مأجور خارج إطار المهنة. وقد زادت عضوية النقابات المهنية بشكل سريع منذ السبعينات بمعدل %97سنوياً وهو انعكاس مباشر للتوسع التعليمي .وبالطبع ليس كل من هو مقيد في النقابات المهنية عضو نشط بمعنى قيامه بدفع االشتراكات ليصبح له بالتالي الحق في التصويت .وقد تراوحت 49
نسبة العضوية النشطة في أوائل التسعينات بين نصف وثلثي العضوية المقيدة .ومن المالحظ أن أكثر من نصف األعضاء النشطين في هذه النقابات من الشباب حديثي التخرج. وقد مثلت النقابات المهنية موقعاً مثالياً لإلخوان المسلمين منذ الثمانينات .فمن جانب كان العمل بالنقابات التطور الطبيعي للنجاح الذي حققوه سابقاً في الجامعات .فالخريجين الذين تم كسبهم في الجامعة سرعان ما وجدوا في النقابات المهنية مجاالً خصباً الستثمار خبرتهم السياسية والتعبوية .والطبيعة الطبقية المتناقضة لعضوية تلك النقابات كانت تتماشى مع وسطية االخوان ومفاهيمهم الطبقية التوافقية. ومن جانب النظام فكان السماح لإلخوان بالنشاط داخل النقابات المهنية يشكل مخرجًا من عدة مشكالت .أوالً كانت صعوبة المواجهات مع الحركات االسالمية المسلحة تستدعي درجة من المرونة مع اإلخوان الرافضين للعمل المسلح والمهادنين بشكل عام .وثاني ًا كان تصور النظام أن دخول ا إلخوان العمل النقابي المهني سيساعد على استيعابهم والسيطرة عليهم. شارك اإلخوان في انتخابات نقابة األطباء عام 9100وخالل عامين أصبح لهم قوائم في انتخابات نقابات المهندسين وأطباء األسنان والزراعيين والصيادلة والصحفيين والتجاريين والمحاميين )10( .وقد حصل اإلخوان في نقابة األطباء على سبعة مقاعد من ضمن 90مقعد يشكلون مجلس النقابة عام .9100بعدها توسع نفوذهم في نقابة األطباء خالل السنوات الست التالية بصورة مذهلة حيث وصل عدد اإلخوان في مجلس النقابة عام 9117إلى 97 مقعد .ويوضح الجدول التالي تطور وضع اإلخوان في نقابة األطباء بين عامي 9100و.9117 ()10 العام
العضوية المسجلة
إجمالي األصوات
التيار اإلسالمي
4611
912111
4.2911
)%11( 1111
4619
912111
442111
)%14( 9111
50
4611
112111
462411
)%91( 4.111
4664
612111
.42111
)%94( 41111
وقد شارك اإلخوان في نقابة المهندسين منذ عام .9100وفي 9101فاز اإلخوان بـ 00مقعد من ضمن .9مقعد في مجلس النقابة .وقد سيطر اإلخوان على واحدة تلو األخرى من النقابات المهنية حتى توجت تلك اإلنتصارات في انتخابات نقابة المحاميين، معقل النشاط السياسي الوطني عام 9119حيث حققوا فوزًا ساحق ًا)1.( . )8اإلخوان ونظام مبارك كان موقف نظام مبارك من اإلخوان خالل الثمانينات معتمداً على التوازن بين عدة أهداف .الهدف األول هو محاولة استخدام اإلخوان كبديل مسالم وإصالحي للجماعات الراديكالية التي كانت تشن ضد النظام حرباً شرسة .والهدف الثاني كان محاولة خلق صمام أمان ل لنظام من خالل إعطاء بعض حرية الحركة لإلخوان في النقابات المهنية والجامعات والعمل الخيري دون أن يصل ذلك إلى تهديد النظام .لكن النجاحات المتتالية لإلخوان في االنتخابات الطالبية والنقابية والبرلمانية والمواجهة الدموية مع الحركات الجهادية في بداية التسعينات وا لنهاية الدموية الخطيرة لالنتخابات الجزائرية ،كل تلك العوامل دفعت النظام في منتصف التسعينات إلى شن حملة قمعية جديدة ضد اإلخوان. لكن ما مهد أيضاً لتغيير موقف النظام من الجماعة هو التغييرات التي طرأت على مواقف وتكتيكات الجماعة .ففي عام 9117قاطع اإلخوان االنتخابات التشريعية مع باقي قوى المعارضة (طبعاً باستثناء حزب التجمع الذي شارك بحماس) .وقد اتخذت الجماعة موقفاً مناهضاً للحرب على العراق ولمشاركة الجيش المصري فيها ،وهو ما كلفها عالقاتها السابقة مع النظام السعودي وانشقاق إخوان الكويت .ومع التوقيع على اتفاقات مدريد شنت الجماعة حملة منظمة ضد االتفاقيات وضد األنظمة المشاركة فيها بما فيها نظام مبارك. وقد كان مثل ذلك التصعيد إشارة التجاه قد بدأ في التبلور داخل أوساط قادة الجماعة. كان النظام يريد من الجماعة ،كما كان الحال في السبعينات وبداية الثمانينات ،أن تبقى في 50
إ طار الدعوة المحدودة والتركيز على القضايا األخالقية وعلى تطبيق الشريعة اإلسالمية ،وهو ما كان يريده أيضاً البعض من القيادات القديمة والمحافظة في الجماعة .إال أن الجماعة كانت قد شهدت كما رأينا تغييرات هامة في بنيتها التنظيمية وقواعدها الجماهيرية ولم يصبح ممكن اً الحفاظ على تلك القواعد دون التطرق للقضايا السياسية الكبرى ودون أخذ مواقف نقدية من النظام. لكن التحول حدث وما زال يحدث بشكل تدريجي ،فهناك مقاومة من األجنحة المحافظة داخل الجماعة وهناك من الجانب اآلخر تعجالً من الشباب الغاضب حديث الصلة بها .وبين هذا وذاك تدير القيادة الحالية للجماعة تلك السفينة الضخمة المليئة بالتناقضات .فنجدها أحياناً تتجه للتصعيد ولتقديم أنفسهم كبديل سياسي مباشر للنظام وأحياناً أخرى نجدهم يهادنون النظام ويتراجعون عن مواقفهم السابقة. )9تناقضات برنامج اإلخوان يركز غالبية منتقدي اإلخوان من اليساريين والليبراليين في تناولهم لبرامج الجماعة على مسألتين أساسيتين :مسألة الدولة الدينية وما تعنيه بالنسبة للديمقراطية البرلمانية، ومسألة الموقف من األقباط والمرأة .هذه بالطبع مسائل بالغة األهمية لكن ال يمكن فهم المضمون الطبقي لبرامج اإلخوان دون التطرق لموقف الجماعة من قضيتين أساسيتين هما الموقف من اإلمبريالية والصهيونية والموقف من االقتصاد الرأسمالي وسياسات الليبرالية الجديدة .فالساحة السياسية مليئة باتجاهات تنادي بالدولة المدنية والديمقراطية البرلمانية والمساواة الكاملة للمرأة واألقباط ولكنها تنادي أيضاً بقبول التطبيع مع الكيان الصهيوني واالندماج في المعسكر األمريكي وتبني سياسات الليبرالية الجديدة .ومن أخطاء اليسار التاريخية التحالف مع هؤالء بحجة الدفاع عن العلمانية والدولة المدنية وهو موقف يدفعهم في نهاية األمر وحتى إن كان ذلك ضمنياً وليس علنياً لالصطفاف في معسكر النظام المصري واإلمبريالية األمريكية. يجب مثالً أن ينتقد اليسار بحدة ووضوح مواقف اإلخوان من قضية األقباط وأن يناضل بشجاعة ضد كافة أشكال التمييز ضدهم سواء تلك التي يعاني منها األقباط في ظل النظام 56
الحالي أو تلك التي ينادي بها اإلخوان في برامجهم .لكن عندما ينفصل ذلك النضال عن مضمونه الطبقي وعن النضال ضد اإلمبريالية يتحول األمر إلى شعارات مجردة ال تتميز عن تلك التي تنادي بها اإلدارة األمريكية واليمين الليبرالي ويكون المستفيد األول من ذلك اإلخوان المسلمين الذين يربطون أمام جماهيرهم بين شعارات المساواة وبين المخططات االستعمارية األمريكية في المنطقة. إذن فالقراءة النقدية لبرامج اإلخوان يجب أن تبدأ ليس من الهجوم على موقفهم الرجعي من المرأة واألقباط أو موقفهم من الدولة المدنية ولكن من أطروحاتهم حول الموقف من اإلمبريالية والرأسمالية الليبرالية الجديدة .هل يطرح اإلخوان رؤية عملية لمواجهة الهجمة اإلمبريالية والصهيونية في منطقتنا؟ وهل يطرحون مخرج ًا من السياسات االقتصادية التي تجوع وتشرد الماليين من الفقراء في مصر؟ في المبادرة التي طرحها المرشد عام 9770سنجد عرضاً برنامجياً لمواقف وسياسات الجماعة في الفترة الحالية تجاه مختلف القضايا الخارجية والداخلية .تطرح المبادرة مثالً أن الهجمة األمريكية الحالية "تهدف في المقام األول واألخير الستمرار هيمنة الواليات المتحدة األمريكية وسيطرتها على ثروات ومقدرات المنطقة ،وتفوق الكيان الصهيوني المغتصب ألرض فلسطين" )11( .وهذا الموقف لن يختلف اليسار حوله ولكن عندما نقرأ السياسات التي تقترحها المبادرة لمواجهة هذه الهجمة نكتشف على الفور موقفاً مهادناً ال يطرح أي تغيير حقيقي فالمقترحات العملية للمبادرة تشمل" :دعم الجامعة العربية وتفعيلها ،وتفعيل آليات العمل العربي ،مثل :الدفاع العرب ي المشترك والسوق العربية المشتركة والوحدة االقتصادية". لكن الجامعة العربية واألنظمة التي تمثلها غارقة في التبعية والعمالة لإلمبريالية األمريكية والوحدة االقتصادية التي تنادي بها المبادرة ليست في الواقع سوى الوحدة بين الطبقات الحاكمة وتحت الوصاية األمريكية .وإذا كان اإلخوان يقصدون وحدة من نوع آخر فلماذا ال يطرحون ذلك؟ تطرح المبادرة تأكيداً على االلتزام بما يسمى الشرعية الدولية ومنظماتها:
" ترتبط مصر بدول العالم بروابط عديدة ،كما أنها عضو في األسرة الدولية والمنظمات 53
الدولية ،وهي من ثم تسعى لتأكيد الشرعية الدولية")10( . ولكن أليست هذه الشرعية والمنظمات التي تحمي الكيان الصهيوني وال تخدم سوى مصالح الدول اإلمبريالية الكبرى؟ تكتفي المبادرة بإضافة مطلبها بـ "خروج المنظمات الدولية من وصاية القوى الكبرى" ولكنها ال تطرح كيف يمكن تحقيق ذلك بل أن مطلب كهذا تردده كثير من األنظمة العربية رغم عمالتها التامة لنفس هذه القوى الكبرى. وعلى المستوى الداخلي تحدد المبادرة أسباب األزمة التي تعاني منها مصر بأنها: " الثالوث المدمِر لهذه األمة من جمود سياسي ،وفساد ،وظلم اجتماعي ،وتخلف علمي وتقني، يهدد مصر اآلن في أمنها الوطني ،ومكانتها القومية ،وريادتها اإلسالمية ،ودورها العالمي". ( )11لكن ما تطرحه المبادرة من حلول على المستوى االقتصادي واالجتماعي لن يؤدي إال لمزيد من الجمود والفساد والظلم والتخلف .وهنا يظهر بوضوح التناقضات الطبقية في خطاب اإلخوان فتقول المبادرة:
"فنحن نعمل على تشجيع القطاع الخاص ،وذلك من خالل برنامج مدروس للخصخصة، يتسم بتقييم عادل للمشروعات العامة موضع الخصخصة ،وشفافية كاملة عنه ،مع الحفاظ على الحقوق الكاملة للعمال")07( . لكن كيف يمكن الدفاع عن الخصخصة التي تعني قبل كل شيء تكثيف استغالل العمال وتشريد قطاعات واسعة منهم ،وهو ما يطرحه المستثمرون كشروط لشراء الشركات العامة وفي ذات الوقت الحديث عن حقوق العمال؟ وتؤكد المبادرة على ذلك الخطاب التقليدي المتناقض لإلخوان من مسألة الملكية الخاصة:
"نحن نؤمن بالنظام االقتصادي ،الذي ينبثق من إسالمنا كدين ونظامِ حياةٍ شامل وكامل ،يؤكد على حرية النشاط االقتصادي ،وعلى دور الفرد في هذا النشاط ،محترمًا للملكية المتعددة ،والتي تشمل كأساس الملكية الخاصة ،شريطة قيامها بوظيفتها االجتماعية ،وملكية الدولة بالنسبة للمرافق العامة ،والمنشآت الحيوية")09( . 54
وال توضح المبادرة طبيعة تلك الوظيفة االجتماعية للملكية الخاصة وال تحدد ما هي المنشئات الحيوية التي يجب أن تمتلكها الدولة .هل تشمل مثالً صناعات الحديد والصلب واأللومونيوم والغزل والنسيج والبنوك الكبرى؟ وهل يجب إعادة تأميم ما تم خصخصته من المرافق العامة والمنشئآت الحيوية؟ وفي مجال تحرير التجارة نجد نفس تلك التناقضات:
"نعتمد تحرير التجارة واالنفتاح أسلوباً رئيسياً لعالقاتنا مع الدول األخرى ،في ظل االعتماد المتبادل ،وثورة المعلومات واالتصاالت؛ ولكننا ضد الهيمنة والتبعية التي تهدف إليها حركة العولمة المعاصرة ،ومن ثم سوف نعمل على تعظيم إيجابيات اتفاقية (الجات)، و(منظمة التجارة العالمية) ،والحد من سلبيات هذه االتفاقيات")09( . كيف يمكن الفصل بين حرية التجارة العالمية التي يدافع عنها اإلخوان والهيمنة والتبعية التي يعارضونها؟ وما هي القوة التي سيعتمدون عليها لتحقيق حتى ذلك المطلب الشديد التواضع وهو مجرد الحد من سلبيات االتفاقات التجارية؟ أليست هذه االتفاقات انعكاس ًا لتوازن القوى االقتصادية وهيمنة الدول الرأسمالية الكبرى على االقتصاد العالمي؟ المبادرة مليئة بمقترحات لحل مشاكل التعليم والفقر والصحة وهي كلها مقترحات لن يختلف حولها أحداً ،كتوفير السكن والغذاء والخدمات والرعاية الصحية والخدمات التعليمية الجادة والمجانية .لكن كيف ستمول كل هذه اإلصالحات العظيمة؟ هل بزيادة الضرائب على األغنياء مثالً؟ ليس في مبادرة اإلخوان شيئاً عن هذا بل أن المبادرة تؤيد تخفيض الضرائب على المستثمرين لتشجيع االستثمار .ونجد كافة مقترحات المبادرة مثل رفع نسبة األموال المخصصة للتعليم وللبحث العلمي وتوفير اإلمكانات العلمية الالزمة مثالً .تطرح هكذا دون تحديد لكيفية التمويل .ولذا تظل المقترحات لها تلك الصفة المتناقضة والمثالية .فهي مقترحات تبدو جذابة لقطاعات واسعة من الجماهير ومن الطبقة الوسطى دون أن تكون مزعجة للبرجوازية والمستثمرين .محاولة إرضاء جميع األطراف في المعادلة االجتماعية هي سمة دائمة في خطاب اإلخوان وتعبر بحق عن طبقة التناقضات ـ الطبقة الوسطى الحديثة.
55
وحتى عندما نقرأ التحليالت األكثر عمقاً لمفكري اإلخوان المعاصرين حول القضايا اال قتصادية نجد نفس تلك التناقضات والرؤى الوسطية اإلصالحية التي يغلب عليها التصورات األخالقية .ففي مقال لعبد الحميد الغزالي حول المنهج اإلسالمي في التنمية يطرح أن
"جاء اإلسالم ونظامه االقتصادي ومنهجه في التنمية حربًا حقيقية ومستمرة وناجحة على كل صور الظلم االقتصادي ـ أي االستغالل ـ من خالل :تحريم صريح وقاطع للربا والغرر، واالحتكار واالكتناز ،واإلسراف والتقتير ،والتطفيف والبخس ،والغش والتدليس ،والرشوة والمحسوبية ..إلى آخر كل صور أكل أموال الناس بالباطل ،وكل صور الممارسات الخاطئة في النشاط االقتصادي إنتاجاً وتوزيعًا واستهالكًا")01( . إذن يجب محاربة الظلم االجتماعي ،لكن حين يتناول الكاتب سؤال كيف؟ نجده يكتفي بمبادئ أخالقية عامة بال االقتراب من جوهر االستغالل الرأسمالي. ويعيد الكاتب تكرار الطرح اإلخواني التقليدي بأن اإلسالم يقدم بديالً للرأسمالية وما سمي باالشتراكية كنماذج للتنمية االقتصادية" :ولقد عرفت البشرية وضعياً ـ بعد تجارب طويلة عبر تاريخها ـ نظامين اقتصاديين رأسماليين ماديين :األول ،يتسم بمادية رأسمالية من نوع خاص؛ وهي رأسمالية“ الطبقة" ،ومن ثم انقسم المجتمع إلى طبقتين :الرأسماليين أو أصحاب األعمال والعمال .والثاني :يتصف بمادية رأسمالية أيضاً من نوع خاص؛ وهي رأسمالية "الدولة" ومن ثم انقسم المجتمع إلى فريقين :الدولة اآلمرة وحزبها المسيطر، والعمال؛ وهم جموع الشعب")00( . وبالنسبة للكاتب فالحل يكمن في اإلسالم الذي يتجاوز النظم الطبقية المادية ويعود لإلنسان .هذه اإلنسانية اإلسالمية يفترض أنها ال تعبر عن طبقة اجتماعية محددة .وأمام الفشل الذي منيت به نماذج الغرب والشرق يأتي اإلسالم بإنسانه األخالقي المثالي المجرد من تعريف طبقي .ولكن تجاوز التعريف الطبقي على مستوى األفكار ال يتجاوز القهر الطبقي في الواقع المعاش. سنجد أيضاً قضية اقتصادية محورية في الخطاب اإلخواني هي قضية الربا .وعادة ما يتم نقد موقف اإلخوان من الربا وشكلها المعاصر في الفوائد المصرفية على أنه مجرد موقف رجعي 52
من العصور الوسطى ال يتماشى مع النظم االقتصادية المعاصرة .ولكن هذا النقد يتجاهل مثالً التأثير الم دمر للقروض البنكية ذات الفوائد العالية على قطاعات واسعة من الفالحين وبالتالي يتجاهل تأثير الخطاب اإلسالمي حول الربا على مثل هذه القطاعات. في دراسة نشرت في موقع اإلخوان اإللكتروني تحت عنوان "الربا ..رؤية اقتصادية آلثاره السلبية" يطرح الباحث ثالثة أمثلة للتأثير المدمر للفوائد البنكية .المثل األول يعبر بصدق عن دفاع اإلخوان عن الطبقة الوسطى وظلم الشركات الكبرى واالحتكارية فيطرح الباحث:
"فالمشروعات الكبيرة تحصل على قروض أكبر وبسعر فائدة أقل ،على عكس المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي قد تكون ذات إنتاجية عالية ،وهنا تنشأ مفارقة غريبة ،فالمنشأة والمشروع الكبير القادر على تحمل عبء الربا يحمل عبئاً أقل من المشروع الصغير والمتوسط ،ولعل هذا هو أحد أسباب نمو المنشآت الكبيرة واختناق المشروعات الصغيرة، وتعزيز االحتكارية")00( . ويمكن أن نفهم تأثير تلك الدعاية السياسية في مصر المعاصرة التي يقترض كبار الرأسماليين فيها مئات الماليين من البنوك بشروط ميسرة ،بينما ينهار المقترض الصغير صاحب الدكان أو السيارة األجرة تحت وطأة الديون وفوائدها. المثال الثاني الذي يقدمه الباحث هو مأساة االئتمان الزراعي:
"وتعطي تجربة بنك االئتمان الزراعي في مصر ـ ومأساة الفيضانات في بنجالديش ـ نموذجاً سيئاً في استنزاف البسطاء ،ففي بنك االئتمان الزراعي قام البنك بتوسيع حجم القروض الربوية التي يمنحها للفالحين البسطاء دون أن يحصلوا على أية إرشادات أو توجيهات حقيقية في كيفية االستفادة من هذا القرض ،وكانت نسبة الربا على هذا القرض %91أضيفت إليه مصاريف إدارية ورسوم وتأمينات حتى انتهى الربا إلى % 91على القرض ،وعجز الفالحون عن السداد؛ ألنهم استخدموا القروض في الجانب االستهالكي والبناء على األرض الزراعية ،وأمام إصرار البنك على تحصيل أمواله التي زادت على 961مليار دوالر بدأت عمليات جدولة للديون على عشر سنوات ،إال أنها كانت في حقيقتها تعظيم لهذا الدين، فالفالح المدين بمائة ألف جنيه سوف يردها بعد هذه السنوات 175ألف جنيه بعد الجدولة. 57
ثم ابتكر البنك أسلوباً جديداً فريداً آخر لتسديد هذه الديون بمنح الفالحين قروضاً جديدة لتسديد القروض القديمة ،وبفوائد ربوية أعلى ومصاريف أخرى وتأمينات ،فأثقل كاهل الفالح الذي وجد أبواب السجون أمامه ،والحجز على أرضه ومواشيه خلفه ،فبيعت أراضي وحيوانات بثمن بخس")0.( . هكذا يتحول الرفض األخالقي والديني للربا إلى فهم عميق ومعاصر للتأثيرات الكارثية للفوائد البنكية على الفالحين الصغار والمتوسطين وتصبح جاذبية الخطاب اإلخواني لهؤالء ليست مجرد جاذبية األفكار األخالقية المحافظة بل جاذبية من يفهم معاناتهم الواقعية حتى إن لم يكن يقدم أي بدائل عملية تحررهم من قيود النظام المالي الرأسمالي الحديث. وال مثال الثالث واألخير الذي يقدمه الباحث هو ما يحدث عند اقتراض دول العالم الثالث الفقيرة من الدول الصناعية الكبرى ومؤسساتها المالية:
" وكانت بعض المؤسسات المالية والدول الدائنة تؤجل سداد الدين األصلي في حين تحصل الفائدة على هذا الدين ،وعندما تصل بعض الدول إلى حافة اإلفالس فإن هذه المؤسسات تقرضها لتمكينها من سداد متأخراتها من فوائد الدين القديمة؛ حتى تتجنب اإلعسار المؤقت ،ومن ثم فإن القروض الجديدة تستخدم لسداد خدمات ديون قديمة ،وليس لسداد الدين األصلي ،وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى سرعة استيالء الدائنين الدوليين على الدين الجديد ،ويبقي الدول المدينة في حال من االستغالل الدائم يعرض قرارها السياسي للتأثيرات والضغوط الخارجية ،ويمنع هذه الدول من إتباع سياسة قومية مستقلة")01(. إذن نحن أمام خطاب ال يكتفي بالعودة إلى القرآن والسنة إلثبات أن الربا بكافة أشكالها حرام بل يوضح كيف يؤدي النظام االئتماني الرأسمالي الحديث إلى إفقار دول العالم الثالث وإفقادهم لالستقالل ،وتشريد الفالحين المتوسطين والصغار تحت وطأة الديون وفوائدها الباهظة ،وإفالس المشاريع الصغيرة وهيمنة الشركات االحتكارية الكبرى. لكن في المقابل ال يطرح هذا الخطاب ضرورة إلغاء ديون العالم الثالث أو رفض تسديدها، وال إلغاء ديون الفالحين وإقراضهم دون فوائد ،وال يطرح تصوراً بديالً لنظام مالي يمنع 58
االحتكار والظلم واالستغالل .وعندما هلل اإلخوان لشركات توظيف األموال كبديل لنظام الفوائد البنكية سرعان ما اتضح كيف اعتمدت تلك الشركات على المضاربة في البورصات العالمية وأسواق الذهب وسرعان ما انهارت وأخذت معها مدخرات الماليين. لليسار الثوري تراثاً عريقاً في النضال ضد الرأسمالية المالية وضد قروضها التي تفرضها على صغار الفالحين بفوائد مدمرة ،ولكن أين نضال اليسار المصري اليوم إلسقاط ديون الفالحين؟ أليس هذا الطريق األجدى لكسب الجماهير بعيداً عن الخطاب اإلخواني؟ لعل أهم تناقض في برامج اإلخوان يكمن بين طرحهم الوطني المعادي للهيمنة األمريكية والصهيونية وطرحهم االقتصادي الذي يتوافق مع برامج اإلدارة األمريكية والمؤسسات االقتصادية التابعة لها .فالخصخصة وتحرير التجارة ومجمل السياسات الليبرالية الجديدة التي يتبناها اإلخوان هي جزء أصيل من الهجمة األمريكية على المنطقة التي يعاديها الخطاب اإلخواني .كيف يمكن الحديث عن ضرورة االستقالل الوطني والوقوف في وجه الهيمنة األمريكية والقبول في ذات الوقت بالسياسات االقتصادية التي تفرضها تلك الهيمنة بل وتعمقها؟ كيف يمكن لإلخوان أن يجذبوا اآلالف من الشباب من الطالب والخريجين الفقراء ثم يتبنوا سياسات ال يمكن إال أن تعمق من األزمة التي يعانني منها هؤالء الشباب؟ هذا التناقض ال يمكن التعامل معه وكأنه مجرد نتيجة النتهازية قيادات اإلخوان أو خداعهم لقواعدهم وجماهيرهم .فالتناقض في الخطاب يعكس تناقضات البنية الطبقية لحركة اإلخوان ونجاحهم في جذب الماليين من الشباب رغم تلك التناقضات .هو أيض ًا في واقع األمر نتيجة لغياب اليسار المناضل القادر على طرح برنامج طبقي يربط بين القضايا الوطنية والقضايا االقتصادية واالجتماعية وبالتالي يطرح بديالً ملموساً أمام تلك القطاعات من الفقراء التي يجذبها اليوم الخطاب اإلخواني رغم تناقضاته.
59
استنتاجات
لقد ارتكب اليسار المصري أخطاء فادحة في تحليله وتعامله مع جماعة اإلخوان المسلمين .فقد اتخذ موقفاً يعتبرها حركة رجعية ظالمية تعادي الحداثة والديمقراطية .ووفق هذا التحليل فهي حركة معادية للجماهير وتخدم بشكل مباشر وكامل مصالح أكثر قطاعات البرجوازية رجعية ويمينية .وكان االستنتاج العملي لهذا التحليل هو ضرورة محاربة هذه الحركة ومنع وصولها للسلطة حتى و إن كان ذلك بالتحالف مع السلطة البرجوازية في مواجهتها .وقد حاولنا في هذا الكراس الصغير أن نقدم قراءة بديلة تظهر الطبيعة المعقدة والمتناقضة والمتغيرة لإلخوان في سياق تطورها التاريخي وتفاعالتها السياسية واالجتماعية. فظهور اإلخوان في النصف األول من القرن العشرين كان نتاجاً لتناقضات التطور الرأسمالي التي خلقت طبقة وسطى حديثة مأزومة مرتبطة أخالقياً بجذورها الريفية وعملياً بعالم المدينة الرأسمالية بصراعاته وتناقضاته .وقد استطاع حسن البنا أن ينظم صفوف تلك الطبقة وأن يجعل جماعته منبراً للتعبير عن تطلعاتها الطوباوية. وألن الخطاب الذي بلوره البنا كان خطاباً دينياً مثالياً فقد كان يجذب للجماعة ليس فقط الطبقة الوسطى الحديثة والتي شكلت العمود الفقري للجماعة بل أيضاً قطاعات من األغنياء الذين جذبتهم الشعارات الدينية المحافظة وقطاعات من الفقراء الذين رأوا في شعارات الجماعة المبهمة حول العدالة االجتماعية ومحاربة الظلم والفساد خالصاً من معاناتهم. ولم يكن باستطاعة اإلخوان أن يصبح لهم ذلك النفوذ الجماهيري الهائل دون أخطاء اليسار التاريخية في األربعينات حيث أدت تبعيته لالتحاد السوفيتي إلى تبني استراتيجية الثورة الوطنية الديمقراطي ة ،التي أدت في نهاية المطاف إلى تذيل حزب الوفد والتخلي عن استقاللية وقيادية الطبقة العاملة. وخالل الفترة الناصرية استطاع النظام بمزيج من القمع واالستيعاب من سحب البساط من تحت أقدام اإلخوان ،فقد مكنته سياساته االقتصادية من دمج الطبقة الوسطى الحديثة 20
في مشروع رأسمالية الدولة .لكن فشل تلك التجربة وكارثة حرب 91.1وغياب اليسار الذي باع نفسه للنظام بحله الحزب الشيوعي جعل األرض ممهدة لعودة اإلخوان. وقد كانت السبعينات فترة انتقالية بالنسبة لتطور اإلخوان فقد خرجت القيادات القديمة من المعتقالت وهي فاقدة ألية عالقة بقواعدها االجتماعية ولم يبقى لها سوى االرتباط بكوادر أمضت الفترة الناصرية في الخليج وكونت ثروات ضخمة مما دفع بخطاب ومواقف اإلخوان إلى أقصى اليمين .لكن مع النمو السريع للجماعات اإلسالمية في الجامعات ودخول تلك الجماعات في صفوف اإلخوان تغيرت التركيبة الطبقية للجماعة وعادت بالتدريج لمنهج حسن البنا في البناء التنظيمي. وقد اعتمد النمو الواسع النطاق للجماعة خالل الثمانينات والتسعينات على عدة عوامل أهمها تفاقم أزمة خريجي الجامعات والمعاهد وانهيار الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها في المناطق الشعبية .ومن خالل العمل الدءوب في الجامعات والنقابات المهنية والعمل الخيري وتقديم الخدمات في المناطق الشعبية استطاع اإلخوان من إعادة بناء شبكة كوادرهم وجذورهم االجتماعية .وكلما تحول النظام إلى الليبرالية الجديدة وتخلت الدولة عن دورها في تقديم الخدمات كلما استطاع اإلخوان ملء الفراغ وتوسيع نفوذهم. وما من شك أن غياب اليسار خالل التسعينات قد ترك المجال مفتوحاً أمام نمو اإلخوان سواء كان ذلك الغياب بسبب انهيار االتحاد السوفيتي الذي كان يعتبره غالبية فصائل اليسار نموذجاً وقدوة بل ومصدراً للتعليمات والتمويل في بعض الحاالت ،أو بسبب تذيل النظام بحجة خطورة المد اإلسالمي. كان الموقف الذي اتخذته غالبية فصائل اليسار من الحركة اإلسالمية بمثابة انتحار سياسي فالتحالف مع الدولة قد أفقد هؤالء ألية مصداقية لدى الجماهير ولعل النتائج التي حققها حزب التجمع في االنتخابات األخيرة هي أكبر دليل على ذلك .لكن رفض التحالف مع النظام ورفض اعتبار اإلخوان كتلة رجعية مصمتة ال يعني على اإلطالق االرتماء في أحضانهم فقد رأينا ما حدث حين تحالف الحزب الشيوعي اإليراني مع الخوميني بحجة أنه يقود
20
النضال في مواجهة اإلمبريالية وكانت النتيجة مذبحة للشيوعيين ومذبحة للطبقة العاملة اإليرانية. فيجب أن يكون هدف اليسار المناضل في مصر اليوم هو بناء بديل اشتراكي مستقل ال يرمي نفسه في خندق النظام وال يرمي نفسه أيضاً في خندق اإلسالميين .لكن االستقالل ال يأتي من خالل المواقف السلبية تجاه المعارك الدائرة .فعندما تكون المعركة بين اإلخوان والنظام حول المطالب الديمقراطية مثالً كإلغاء قانون الطوارئ أو استقالل القضاء أو حول مطالب ضد الفساد كالمطالبة بالتحقيق في حادث العبارة ،في حاالت كهذه سيكون من الغباء الشديد لليسار أن يتخذ موقفاً محايداً بحجة االستقالل أو أن يؤسس حمالته المستقلة النقية والصغيرة والهامشية بطبيعة الحال بحجة عدم الدخول في عمل مشترك مع اإلخوان. في مثل تلك الحاالت على اليسار المناضل أن يدخل في عمل مشترك مع اإلخوان .ولكن هذا العمل المشترك ال يجعلنا نتوقف للحظة عن نقد مواقف اإلخوان عندما يهادنون من جديد أو عندما يحرفون مسار المعركة نحو قضايا أخالقية ورجعية .والعمل المشترك ال يجعلنا نتنازل ولو للحظة واحدة عن رايتنا المستقلة. إن منافسة اإلخوان واستعادة الوجود لليسار المناضل في صفوف الجماهير لن يحدث إال من خالل النضال الطبقي في أوساط العمال والفالحين الفقراء .والبديل اليساري المستقل عليه إقن اع الجماهير ،عبر الممارسة الملموسة حول مصالحها الطبقية وليس الدعاية المجردة حول العلمانية والدولة المدنية ،أن مصالحها ليست مع اإلخوان المسلمين بل مع االشتراكية. وأن نثبت عملياً أننا األكثر جذرية في النضال ضد اإلمبريالية والصهيونية واألكثر صالبة واتساقاً في مواجهة االستبداد. لقد أفقدتنا أخطاء اليسار االستراتيجية الفادحة الكثير من الوقت والكثير من الجذور الجماهيرية .وقد ساعدت هذه األخطاء على خلق الفراغ السياسي الذي مكن اإلخوان من توسيع نفوذهم وفرض أنفسهم بصفتهم قوة المعارضة األساسية في مصر .لكن هذا الوضع قاب ل للتغيير سريعاً إذا ما تمكن اليسار المناضل من بلورة االستراتيجيات والتكتيكات الصحيحة .فالتصاعد القادم في الصراع الطبقي سيخلق مساحات جديدة لزرع جذور قوية 26
لليسار تمكنه من النمو وتوسيع نفوذه .إال أن اليسار لن يتمكن من تحقيق شيء طالما ظل حبيساً لمواقف خاطئة لم يجني منها سوى العزلة والتهميش.
23
هوامش
الفصل األول :النشأة والصعود
)9
شارل عسوي ( ،)9100مصر في منتصف القرن :مسح اقتصادي.
)9
المصدر السابق.
)1
المصدر السابق.
)0
جون واتربري ( ،)9101مصر ناصر والسادات :االقتصاد السياسي لنظامين.
)0
شارل عسوي ،المصدر السابق.
).
روبرت تيجنور( ،)9100الدولة واالستثمار الخاص والتغيير االقتصادي في
مصر. )1
توني كليف ( ،)910.مصر في مفترق الطرق.
)0
طارق البشري ( ،)9779الحركة السياسية في مصر.
)1
المصدر السابق.
)97
جول بينين وزكاري لوكمان ( ،)9101عمال على ضفاف النيل.
)99
رفعت السعيد ( ،)9111حسن البنا:متى وكيف ولماذا.
)99
المصدر السابق.
)91
ريتشارد ميتشل ( ،)91.1جماعة اإلخوان المسلمين.
)90
المصدر السابق.
)90
برنيار ليا ( ،)9110جماعة اإلخوان المسلمين في مصر. 24
)9.
المصدر السابق.
)91
المصدر السابق
)90
المصدر السابق.
)91
المصدر السابق.
)97
ريتشارد ميتشل ،المصدر السابق.
)99
برنيار ليا ،المصدر السابق
)99
المصدر السابق.
)91
ريتشارد ميتشل ،المصدر السابق
)90
طارق البشري ،المصدر السابق.
)90
ريتشارد ميتشل ،المصدر السابق.
)9.
المصدر السابق.
)91
المصدر السابق.
)90
المصدر السابق.
)91
برنيار ليا ،المصدر السابق.
)17
ريتشارد ميتشل ،المصدر السابق.
)19
رفعت السعيد ،المصدر السابق.
)19
المصدر السابق.
)11
أبو سيف يوسف ،من تاريخ اليسار المصري.
)10
رفعت السعيد ،تاريخ الحركة الشيوعية المصرية. 25
)10
المصدر السابق.
)1.
رفعت السعيد ،حسن البنا.
)11
المصدر السابق.
)10
حسن البنا ( ،)9110مجموعة رسائل اإلمام الشهيد حسن البنا.
)11
المصدر السابق.
)07
المصدر السابق.
)09
المصدر السابق.
)09
المصدر السابق.
)01
المصدر السابق.
)00
المصدر السابق.
)00
محمد الغزالي ( ،)911.اإلسالم واألوضاع االقتصادية
)0.
المصدر السابق.
)01
المصدر السابق.
)00
المصدر السابق.
)01
المصدر السابق.
)07
محمد الغزالي ( ،)9111اإلسالم والمناهج االشتراكية.
)09
المصدر السابق.
)09
رفعت السعيد ،حسن البنا.
)01
طارق البشري ،المصدر السابق. 22
)00
المصدر السابق.
)00
ريتشارد ميتشل ،المصدر السابق.
)0.
المصدر السابق.
)01
حسن البنا ،المصدر السابق.
الفصل الثاني :من ناصر إلى مبارك
)00
جول جوردن ( ،)9119حركة ناصر المباركة.
)01
المصدر السابق.
).7
المصدر السابق.
).9
المصدر السابق.
).9
روبرت مابرو ( ،)911.االقتصاد المصري.
).1
المصدر السابق.
).0
المصدر السابق.
).0
جون واتربري ( ،)9101مصر ناصر والسادات :االقتصاد السياسي لنظامين.
)..
المصدر السابق.
).1
المصدر السابق.
).0
جيل كيبل ( ،)9100النبي والفرعون.
).1
المصدر السابق.
)17
المصدر السابق. 27
)19
المصدر السابق.
)19
المصدر السابق.
)11
المصدر السابق.
)10
المصدر السابق.
)10
المصدر السابق.
)1.
المصدر السابق.
)11
المصدر السابق.
)10
كاري روزفسكي ويكهام ( ،)9771تعبئة اإلسالم.
)11
المصدر السابق.
)07
المصدر السابق.
)09
المصدر السابق.
)09
إليا حارك ( ،)9119سياسة اإلصالح االقتصادي في مصر.
)01
المصدر السابق.
)00
كاري روزفسكي ويكهام ،المصدر السابق.
)00
إليا حارك ،المصدر السابق.
)0.
هبة حندوسة ( ،)9111العمالة واإلصالح الهيكلي في التسعينات.
)01
المصدر السابق.
)00
المصدر السابق.
)01
المصدر السابق. 28
)17
كاري روزفسكي ويكهام ،المصدر السابق.
)19
جويل كامبانيال ( ،)9779من االستيعاب إلى المواجهة.
)19
كاري روزفسكي ويكهام ،المصدر السابق.
)11
المصدر السابق.
)10
إخوان أون الين
)10
المصدر السابق.
)1.
المصدر السابق.
)11
المصدر السابق.
)10
المصدر السابق.
)11
المصدر السابق.
)977
عبد الحميد الغزالي ( ،)9770المنهج اإلسالمي في التنمية.
)979
المصدر السابق.
)979
إخوان أون الين.
)971
المصدر السابق.
)970
المصدر السابق.
29