ذهب سنار

Page 1



‫الناشر‬

‫رئيس جملس اإلدارة ورئيس التحرير‬

‫د‪ .‬حســـني الشــــــافعي‬ ‫‪h.elshafie57@mail.ru‬‬ ‫املراسالت‬ ‫القاهرة – مدينة العبور‬

‫‪ 44971‬مكتب بريد مجعية أمحد عرابي‬

‫ص‪ .‬ب ‪72 .‬‬ ‫‪Tel. & Fax: + (202) 24 77 38 70 & 71‬‬ ‫‪E-mail: secertary_ert@yahoo.com‬‬ ‫التصحيح واملراجعة‬ ‫حامد أمحد حممد‬

‫اإلخراج الفين‬ ‫مــى مـجـدى‬ ‫حترير‬ ‫شيماء حممد الشافعى‬ ‫الطباعة‬ ‫دار الطباعة املتميزة‬ ‫مدينة العبور – القاهرة‬

‫‪Tel. & Fax: + (202) 4478 96 44 & 46‬‬

‫الطبعة األوىل ‪2006‬‬

‫إصدار مؤسسة «اآلداب الشرقية »‬ ‫أكادميية العلوم الروسية‬

‫الطبعة الثانية ‪2014‬‬ ‫دار نشر أنباء روسيا‬ ‫باإلشرتاك مع‬

‫معهد االستشراق ‪ -‬أكادميية العلوم الروسية‬ ‫( تأسس عام ‪) 1818‬‬ ‫مجي��ع حق��وق الطبع والنش��ر حمفوظة للناش��ر‪.‬‬ ‫ال حيق إعادة طبع أو نسخ حمتويات هذا الكتاب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ضوئيا دومنا إذن كتابي من الناشر ‪.‬‬ ‫إلكرتونيا أو‬

‫رقم اإليداع‬ ‫‪2014 /4306‬‬

‫بالتعاون مع‬ ‫اجلمعية املصرية الروسية للثقافة و العلوم‬ ‫‪При содействии‬‬ ‫‪eгипетско –российской‬‬ ‫‪ассоциации по культуре и науке‬‬ ‫رئيس جملس األمناء‬

‫رئيس جملس اإلدارة‬

‫ا‪.‬د فيتالي ناؤمكني‬

‫د‪.‬حسني الشافعى‬



: ‫الرتمجة العربية للكتاب‬

ФЕДЕРАЛЬНОЕ ГОСУДАРСТВЕННОЕ БЮДЖЕТНОЕ УЧЕРЖДЕНИЕ НАУКИ ИНСТИТУТ ВОСТОКОВЕДЕНИЯ РАН

А. B. АНТОШИН ЗОЛОТО СЕННАРА

Египет и Судан глазами уральского мастера Золотодобычи XIX века Библиотека журнала “ Восточный архив“


‫أ‪ .‬ف‪ .‬أنتوشني‬ ‫ذهب سنار‬

‫مصر والسودان من منظور خبري استخراج الذهب من األورال يف القرن التاسع عشر‬ ‫يتناول الكتاب تاريخ العالقات الروسية املصرية فى منتصف القرن التاسع عشر‪.‬‬ ‫ويرتكز حمور احلديث علي يوميات أحد خرباء املناجم من األورال ‪ “ -‬إيفان بارودين”‪،‬‬ ‫واليت تتناول فرتة تواجده فى مصر والسودان فى ظل بعثة “ ى‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي”‬ ‫فى األربعينيات من القرن التاسع عشر ‪.‬‬ ‫خياطب مؤلف الكتاب املستشرقني واملتخصصني فى تاريخ التعدين باألورال‪،‬‬ ‫وكذلك كل من لديه اهتمام بعالقات روسيا مع دول الشرق العربي ‪ ،‬كما‬ ‫ميكن استخدام الكتاب كوسيلة تعليمية عند اإلطالع على تاريخ التعدين‬ ‫فى األورال ‪ ،‬وتاريخ العالقات الروسية العربية ‪.‬‬ ‫احملرر العلمي ‪:‬‬ ‫ج ‪ .‬ف ‪ .‬جورياتشكني ‪ .‬حاصل علي دكتوراه التاريخ وأستاذ قسم تاريخ دول‬ ‫الشرق األدنى واألوسط التابع ملعهد دول آسيا وأفريقيا جبامعة موسكو احلكومية‬ ‫باسم “ م‪.‬ف‪ .‬المانوسف “ ‪.‬‬ ‫املراجعني ‪:‬‬ ‫ف ‪ .‬ف ‪ .‬بيليكوف‬ ‫دكتور التاريخ ( معهد االستشراق بأكادميية العلوم الروسية )‬ ‫ن‪ .‬أ‪ .‬جريليتسينا‬ ‫حاصلة علي درجة الدكتوراه فى التاريخ ( معهد أفريقيا بأكادميية العلوم‬ ‫الروسية )‬ ‫ترمجة ‪ :‬وليد أمحد طلبه‬ ‫مدرس مساعد بكلية األلسن ‪ -‬جامعة عني مشس‬ ‫مراجعة وتقديم ‪ :‬دكتور حسني الشافعى‬ ‫رئيس جملس ادارة و رئيس حترير جملة أنباء روسيا‬ ‫‪5‬‬



‫تقديم ‪ :‬دكتور حسني الشافعى‬ ‫رئيس جملس إدارة و رئيس حترير أنباء روسيا‬

‫رئيس اجلمعية املصرية الروسية للثقافة و العلوم‬

‫ً‬ ‫كثريا ع��ن ُعم� ْ‬ ‫�ر العالقات‬ ‫بداي��ات التع��اون العلم��ى ب�ين مصر وروس��يا تزي��د‬ ‫الدبلوماس��ية * ال�تي نش��أت بينهم��ا ‪ ،‬و لع��ل بداياته��ا ‪ -‬و هى موض��وع كتابنا هذا ‪-‬‬ ‫كان��ت فى قصة إنش��اء أول مصنع ميكانيكى الس��تخالص الذه��ب من الرومل‬ ‫ فاألرش��يف احلكومىالروس��ى مبقاطع��ة سفريدلوفس��ك مازال حيتف��ظ ما بني‬‫ملفات��ه‏تفاصي��ل ه��ذه العالق��ات بكل دق��ة ‪ ،‬امل��ؤرخ الروس��ى “أنتوش�ين”‏‏– وهو‬ ‫ً‬ ‫متنقال ما بني‬ ‫أس��تاذ فى التاريخ ومستش��رق معروف َعكف على هذه‏األرش��يفات‬ ‫موس��كو وسفريدلوفس��ك وغريها‏من مدن روس��ية كثرية حيك��ى من بني دفاتر‬ ‫ّ‬ ‫علمى‏بني مصر وروسيا بدأ منذ زمن ‪.‬‏‬ ‫تعاون‬ ‫هذه األرشيفات قصة أول‬ ‫ٍ‬ ‫بدأت القصة مع علم ‪ -‬الواىل املصرى “حممد على” ‪ -‬بأن الروس قد ‏توصلوا إىل‬ ‫طريقة جديدة الستخالص الذهب من الرمال ‪ .‬كيف علم‏الواىل الباشا بهذا األمر ؟‬ ‫* تعود العالقات الدبلوماس���ية التى نشأت بين البلدين إلى عام ‪ 1943‬حيث إحتفل فى العام‬ ‫الماضى ‪ 2013‬بالذكرى السبعين إلقامتها‬ ‫‪7‬‬


‫هذا ما ال تذكره الوثائق الرمسية ‪ ،‬لكن أغلب ‏الظن أن ً‬ ‫أحدا من مستشاريه قد‬ ‫نقل له هذه املعلومة ‪ .‬كان ذلك فى‏يونيو ‪1838‬م ‪.‬‏‬ ‫استدعى ‪ -‬حممد على باشا ‪ -‬القنصل العام لروسيا فى مصر “ميديم” مبقر‏احلكم‬ ‫بالقلع��ة ف��ى ‪ 28‬يونيو ‪1838‬م ‪ ،‬وطل��ب منه احلصول على وص��ف‏دقيق ‪ ،‬ومفصل‬ ‫للطريق��ة اجلديدة واخلطوات التطبيقية فى‏روس��يا الس��تثمار الرمال احلاوية ً‬ ‫ذهبا‬ ‫عن طريق الصهر ً‬ ‫بدال من‏الغسل ‪.‬‏‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫القنصل العام الروسى مبصر “ميديم” خرج من َّ‬ ‫‏ليكتب برقيته‬ ‫املصرى‬ ‫معية الواىل‬ ‫التالية فى ‪ 28‬يونيو ‪1838‬م لوزارة خارجيته ‪:‬‏‬ ‫رسالة إىل نائب مدير الدائرة اآلسيوية‬ ‫لدى وزارة خارجية روسيا السيد سينيافني‬ ‫اإلسكندرية ‪ )28( 16 ،‬يونيو ‪1838‬‬ ‫السيد نائب املدير سينيافني ‪ ،‬ح‬ ‫طلب منى باشا مصر احلصول على وصف دقيق ومفصل للطريقة‬ ‫اجلديدة ‪ ،‬والعمل التطبيقى ‪ ،‬اللذين ميارس��ان فى روس��يا استثمار‬ ‫الرمال احلاوي��ة ً‬ ‫ذهبا عن طريق الصهر ً‬ ‫بدال من الغس��ل‪ .‬واليوم اتوجه‬ ‫إىل الدائرة اآلسيوية برجاء تطمني رغبة الباشا التى أعرب عنها بهذا‬ ‫ً‬ ‫طائعا إرس��ال وصف بالفرنس��ية للطريقة‬ ‫الص��دد‪ .‬هلذه الغاية أرجو‬ ‫اجلديدة املتبعة فى مصانعنا ‪ ،‬وكذلك إرس��ال رسوم للمعدات التى‬ ‫تستخدم فى العمليات اآلنفة الذكر‬ ‫تفضلوا ‪ ،‬سيدى نائب املدير ‪ ،‬بقبول فائق احرتامى‬ ‫القنصل العام لروسيا فى مصر “ميديم”‬ ‫وصل��ت الرس��الة إىل العاصم��ة اإلمرباطورية س��انت بطرس��بورج‪ ..‬وما ب�ين وزارة‬ ‫اخلارجي��ة – ودوائره��ا‏املتخصص��ة – ومصان��ع الذهـ��ب ‪ ،‬وأرش��يف املصـان��ع ‪ -‬و قد‬ ‫إس��تغرق ه��ذا األمر ما يزي��د عن ثالثة أع��وام ‪ -‬مت مجع كل ما ه��و‏متعلق بالطلب‬ ‫املصرى من وثائق ومعلومات ُأرسلت على وجه َ‬ ‫العجل‏إىل مصر فى سبتمرب ‪1841‬م ‪.‬‬ ‫وق��د َّ‬ ‫كل��ف ‪ -‬حممد على باش��ا ‪ -‬واىل مص��ر رجال��ه أن يعكفوا على دراس��ة‏ما‬ ‫‪8‬‬


‫وصله��م من روس��يا من معلوم��ات رأوا أنها تس��تحق االهتمام ‪ ،‬ومن‏ث� ّ‬ ‫�م كان طلبهم‬ ‫أن توفد روس��يا ملصر خرباء فى هذا اجملال إلنش��اء‏معمل الس��تخراج الذهب من الرمال‬ ‫املصرية ‪.‬‏‬ ‫ً‬ ‫لكن روس��يا كان لديها ٌ‬ ‫ّ‬ ‫مكتوبا يقرتح إرس��ال ‪ -‬مهندسني‬ ‫رأى آخر ‪ ،‬إذ أرس��لت‬ ‫مصريني ‪ -‬هلا لإلطالع واملشاهدة هلذه املعامل الروسية ‪ ،‬وكان هذا هو نص اخلطاب‪:‬‬ ‫إلي نيسيلروديه من أركان فيلق مهندسي التعدين‬ ‫سان بطرسبورج ‪ 7 ،‬من ديسيمرب ‪ ، 1843‬رقم ‪6257‬‬ ‫س��يدي الكريم “الكونت كارل فاس��يلييقيتش” ‪ ،‬لقد طلبتم‬ ‫َ‬ ‫صاحب الس��مو ‪ ،‬لدى إرس��الكم لي فى ‪ 25‬من نوفمرب املاضي‬ ‫مين‪ ،‬يا‬ ‫( بالغ الس��يد مبعوثنا لدي الباب العال��ي العثماني حتت رقم ‪ 254‬مع‬ ‫ُ‬ ‫امللحقات )‪ ،‬أن أبدي رأيي بصدد إيفاد مهندسي تعدين روس إىل مصر‬ ‫ألجل دراسة الرواسب احلاوية ً‬ ‫ذهبا و تنظيم معاجلتها الصحيحة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫طبقا‬ ‫بع��د مطالع�تي ه��ذه األوراق أتش��رف ‪ ،‬س��يدي الكري��م ‪ ،‬و‬ ‫ُ‬ ‫حملتواه��ا‪ ،‬ب��أن أبلغك��م أن��ه ال يوج��د لدين��ا اآلن ‪ ،‬فى ظ��ل التطور‬ ‫الس��ريع لصناعة اس��تخراج الذهب من الرواس��ب احلاوية له يف روسيا‬ ‫ٌ‬ ‫أشخاص خبريون متفرغون ‪ ،‬ميكن ختصيصهم لإليفاد إلي مصر‪.‬‬ ‫فـضـ�لا عـ��ن أن إيفـ��اد مـهـندس��يـن روس ‪ ،‬وأوروبـ�ين عـل��ي‬ ‫العــمـوم ‪ ،‬إىل هناك من املستبعد ‪ -‬فى رأيي ‪ -‬أن جيلب فائدة عملية‬ ‫وذلك بس��بب عسر املناخ املصري بالنسبة لس��كان الشمال‪ ،‬وكذا‬ ‫بس��بب عدم إم��كان األوروبي ‪ ،‬ال��ذي ال يعرف لغة ه��ذا البـلـد ‪ ،‬وال‬ ‫عـبادات الش��ـرق ‪ ،‬التكيف بسرعة مع الظروف و العالقات احمللية‪،‬‬ ‫اليت تتس��م دائما بتأثري شديد على جناح املؤسسات الصناعية ‪ .‬هلذه‬ ‫األس��باب الوجيهة ‪ ،‬فلو وكل األمر لي إلمتنعت عن إيفاد مهندس��ي‬ ‫تعدي��ن روس إىل مصر ‪ ،‬وكن��ت قد اقتـرحت على الباش��ا ‪ً ،‬‬ ‫بدال مـن‬ ‫ذلك ‪ ،‬إرس��ال أش��خاص م��ن لدنه إىل روس��يا تقدم هلم دائ��رة التعدين‬ ‫مجيع التس��هيالت املمكنة ألجل أن تتم بأس��رع ما ميكن دراس��ة‬ ‫طرائقنا للتنقيب عن الرواس��ب احلاوية ً‬ ‫ذهبا و معاجلتها‪ .‬وبإمكان‬ ‫األش��خاص املوفدي��ن من جانب ال��واىل حممد على ‪ ،‬ل��دي وصوهلم إلي‬ ‫أوديسا ‪ ،‬السفر ً‬ ‫رأسا إلي مدينة “إيكاترينبورج ” فى ‪ -‬األورال ‪ -‬إذا مل‬ ‫‪9‬‬


‫يعترب ً‬ ‫ً‬ ‫ضروريا هلم التعريج على ‪ -‬سانت بطرسبورج ‪. -‬‬ ‫أمرا‬ ‫و إنين ‪ ،‬إذ أتش��رف بأن أعيد طيه البالغ املذكور للس��يد مستشار‬ ‫الدول��ة الفعل��ى “تيتوف” حت��ت رقم ‪ 254‬م��ع بالغي القنص��ل العام‬ ‫“كرمي�ير”‪ ،‬و بأن أرفع ش��كرى إىل مسوكم على إرس��الكم إىل‬ ‫دائرة التعدين تقارير خبصوص املهندسني األربعة العاملني فى خدمة‬ ‫باش��ا مص��ر ‪ ،‬أرجوكم س��يدى الكري��م أن تتقبلوا فائ��ق احرتامى‬ ‫ووالئى ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫كثريا ‪ ،‬حتى وجد ( حممد على باشا ) من يأمتنه على هذه‏املهمة اجلليلة‪.‬‬ ‫مل مير‬

‫فاختار ش��ابني مصريني هما ‪ ( :‬على حممد‪ ،‬وعيسىالدهشورى)‏ليقوما بهذه املهمة‪.‬‬ ‫وكت��ب قنصل روس��يا باإلس��كندرية ‪ :‬فى ‪ 26‬م��ارس‏‏‪1845‬م كتاب��ه للخارجية‬ ‫الروسية بهذا الشأن ‪.‬‏‬ ‫مراس�لات كثرية أعقبت هذا اخلطاب حتوى ترتيب��ات لقاء املوفدين‏املصريني من‬ ‫ً‬ ‫�خصيا‬ ‫فيين��ا ملرافقتهما إىل إيكاترينبورج ‪ ،‬وألنهما موفدان من‏ ِقبل واىل مصر –ش�‬ ‫فلق��د تاب��ع بعثتهما اإلمرباطور الروس��ى‏بنفس��ه‪ ،‬وال��ذى أصدر تعليمات��ه “ أن يتم‬ ‫استقباهلما ‪ ،‬وبأن يظال حتت‏إشراف أساتذة معهد التعدين ‪ ،‬وأن يسافر مع املهندسني‬ ‫املذكورين‏مرافقني إىل مصانع التعدين فى ‪ -‬األورال ‪ ، -‬و أن تقدم هلم كل مساعدة‬ ‫ممكنة‏للدراسة الراسخة لطرائق معاجلة الرمال احلاوية ً‬ ‫ذهبا املسـتخدمة‏عنـدنـا“‪.‬‬ ‫كان هذا هو نص التكليف اإلمرباطورى ‪.‬‏‬ ‫من فوك إلي سينيافني‬ ‫اإلسكندرية ‪ 26 ،‬من مارس ‪1845‬م ‪ ،‬رقم ‪6‬‬ ‫سيدي الكريم ليف جرجيوريفيتش‬ ‫ببيان صادر يف ‪ 14 :‬من ديس��مرب أبلغ السيد نائب املستشار السيد‬ ‫املبع��وث ‪ -‬تيت��وف ‪ -‬عن اقرتاح الس��يد وزي��ر املالية ‪ ،‬الذي ن��ال املوافقة‬ ‫ً‬ ‫أشخاصا‬ ‫السامية جلاللة ‪ :‬اإلمرباطور‪ ،‬بأن يوفد باشا مصر إىل روسيا‬ ‫من لدن��ه ميكن قبوهلم يف املصانع احلكومي��ة يف إيكاترينبورج‬ ‫لدراس��ة طرائقن��ا ف��ى معاجلة الرواس��ب احلاوي��ة ذهب� ً�ا و معاجلتها ‪.‬‬ ‫لق��د س��بق لس��لفى ‪ ،‬الس��يد املستش��ار ال��وزاري “كرمي�ير” ‪ ،‬أنه‬ ‫أح��اط حممد علي باش��ا يف حينه علم� ً�ا بهذا اإلقرتاح ‪ .‬و قبل الباش��ا‬ ‫‪10‬‬


‫هذا اإلقرتاح مع الش��كر و أعلن أنه س��وف يس��تفيد من��ه فيما بعد ‪.‬‬ ‫واآلن ‪ ،‬قب��ل مغادرت��ي القاهرة ‪ ،‬ص��رح لي حممد على باش��ا برغبته‬ ‫يف أن يرس��ل إل��ي روس��يا هلذا الغرض ش��ابني من أص��ل مصري‪ ،‬هما‬ ‫ً‬ ‫حاليا يف ‪ -‬فيينا ‪، -‬‬ ‫(حممد علي وعيس��ى دهش��وري)‪ ،‬وهما موجودان‬ ‫و جييدان اللغتني األملانية و الفرنـسية ‪ ،‬ودرسا هناك األسس األولية‬ ‫لفن التعدين ‪.‬‬ ‫إن باش��ا مص��ر ‪ ،‬فى ه��ذه احلالة و بع��د إطالعه على إرادة الس��يد‬ ‫اإلمرباط��ور به��ذا الش��أن يص� ّ‬ ‫�ر عل��ى إيف��اد هذين الش��ابني بأس��رع‬ ‫ماميكن ‪.‬‬ ‫نظ� ً‬ ‫�را لذلك ‪ ،‬وإذا أخذت فى احلس��بان أن هذين الش��ابني موجودان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حاليا فى فيينا‪ ،‬وأنهما بالتاىل س��يقومان برحلة كبرية جدا و زائدة‬

‫إذا أرس�لا ع��ن طريق أوديس��ا‪ .‬فقد ق��ررت أن أتوجه إل��ي معاليكم‬ ‫مباش��رة بأش��د الرجاء بأن تتفضل��وا بإبالغ مس��و “ الكونت كارل‬ ‫فاســيلييفيتش” عن رغبة الباش��ــا ‪ ،‬واإلتصال بوزارة املالية لتهيئة‬ ‫س��فر الش��ابني املذكورين بالطريقة األكثر راحة و دومنا عائق من‬ ‫فيينا مباشرة إىل املكان املقصود بأقصر طريق ممكن ‪.‬‬ ‫إنين أبعث ببالغى هذا ‪ ،‬بواسطة اإلدارة املصرية إىل السيد مبعوثنا‬ ‫ف��ى فيينا بالربي��د املفت��وح بغية إيصال��ه إىل معاليكم ؛ وأتش��رف‬ ‫طائع� ً�ا ب��أن أطلب منكم ‪ -‬س��يدي الكريم ‪ -‬بغي��ة التنفيذ فى أقل‬ ‫قدر ممكن من الوقت ‪ ،‬تكليف الس��يد املستش��ار السري الكونت‬ ‫“ميدي��م” مباش��رة بإب�لاغ الش��ابني املوجودي��ن ف��ى ‪ -‬فيين��ا ‪ -‬مجي��ع‬ ‫التعليمات الالحقة بصدد س��فرهما إىل روس��يا و تزويدهما جبوازى‬ ‫سفر الزمني ألجل ذلك ‪.‬‬ ‫فوك‬ ‫وصل املهندس��ان املصريان ( على حممد وعيسى الدهشورى ) ‪ ،‬وبعد‏رحلة طويلة‬ ‫بني املصانع واملعاهد الروس��ية – ختللها عثرات صحية‏مر بها الش��ابان املصريان – إال‬ ‫أنها مل ُتهن عزمهما على استكمال‏مهمتهما التى ينتظر الواىل املصرى بفارغ الصرب‬ ‫خرب إجنازها ‪.‬‏‬ ‫ً‬ ‫حمفوظة‏باألرشيف‬ ‫تقارير متابعة أداء ( على حممد وعيس��ى الدهشورى ) مازالت‬ ‫‪11‬‬


‫الروسى حتى اآلن ‪ ،‬والتى منها جند هذين التقريرين‪:‬‏‬ ‫( التقرير األول )‬ ‫اىل الدائرة اآلسيوية‬ ‫سان بطرسبورج ‪ 18 ،‬من أبريل ‪ ، 1846‬رقم ‪1579‬‬ ‫أبل��غ مهن��دس التعدي��ن املق��دم كوفاليفس��كى أركان فيل��ق‬ ‫مهندس��ى التعدين بأن املهندسيني املصريني الدهشورى و على حممد‬ ‫اطلعا فى غضون مارس املاضى على مصانع سيس�يرت و كاس��لى‬ ‫و كيش��تيم و مناج��م س��وميانوفو الس��تخراج الذه��ب ‪ ،‬و مصن��ع‬ ‫زالتؤوس��ت لصناع��ة األس��لحة ‪ ،‬و مناجم مياس الس��تخراج الذهب ‪ ،‬و‬ ‫هم��ا يعمالن االن فى منجم أتلى ‪ ،‬و س��وف يتوجهان بصحبة الس��يد‬ ‫كوفاليفسكى ‪ ،‬عند أول فرصة تستح ‪ ،‬إىل فرقة أحباث جيولوجية‬ ‫للتنقيب و الكشف عن الرواسب احلاوية ً‬ ‫ذهبا حيث سيبقيان حتى‬ ‫مطلع مايو أى حتى موعد توجهها إىل أوديسا ‪.‬‬ ‫تتش��رف أركان فيلق مهندسى التعدين بأن تبلغ الدائرة اآلسيوية‬ ‫بذل��ك ‪ ،‬و أن تطل��ب طائعة بإعطاء األوامر لبعث الرس��الة ‪ ،‬الواردة من‬ ‫املهندس�ين املصريني املذكورين و املرفقة طيه ‪ ،‬إىل عنوان أرتني بيه‬ ‫املخصصة له ‪.‬‬ ‫(التقرير الثانى)‬ ‫تقرير املقدم كوفاليفيسكى‬ ‫بتاريخ ‪ 1‬من ديسمرب ‪ ،‬رقم ‪28‬‬ ‫إىل أركان فيلقى مهندسى التعدين‬ ‫طبق��ا للتعليمات املعط��اة ىل من األركان أتش��رف بأن أبلغكم‬ ‫بأن��ى مهندس��ى التعدين ‪ ،‬املرس��لني من لدن باش��ا مصر ‪ ،‬الدهش��ورى‬ ‫و عل��ى حمم��د ‪ ،‬و اللذي��ن عم�لا ط��وال ش��هر نوفمرب ف��ى مكامن‬ ‫ً‬ ‫�خصيا أكثر من ‪ 500‬ب��ود من الرمل‬ ‫ييـريـوزوفس��ك ‪ ،‬قد غس�لا ش�‬ ‫احل��اوى ذهب� ً�ا ف��ى التى عس��يل بدويت�ين ‪ ،‬إضاف��ة إىل ذل��ك كانا‬ ‫يطلع��ان يوميا بصورة عملي��ة على مناذج آالت غس��ل الذهب التى‬ ‫‪12‬‬


‫صنعت ألجلهما لكى يس��تطيعا جتميعها بنفس��يهما فى املكان‬ ‫املفروض و دراسة أجزائها بالتفاصيل فى حال صنع ألة حتت إشرافهما‬ ‫ً‬ ‫غالبا‬ ‫فى مصر ‪ .‬أرى من واجبى أن أضيف إىل ذلك أن دروسهما تتوقف‬ ‫بسـبب مرض أحدهما ‪ ،‬و اآلن أصيب الدهشورى بالذكام ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أجنزت املهمة – التى اس��تمرت ً‬ ‫كامال – بنجاح ‪ .‬لكن حممد‏على باش��ا مل‬ ‫عاما‬ ‫رأيا ً‬ ‫يكتف مبا حتقق ‪ ،‬وكان يرى ً‬ ‫آخرا ‪.‬‬ ‫إذ ع��اد ف��ى ع��ام‏‏‪1847‬م لطلب��ه القديم بأن ترس��ل روس��يا مهندس�ين م��ن لدنها‬ ‫للمعاونة فى‏إنشاء هذ الصناعة مبصر ‪ ،‬بعد أن تيقن أبناؤه – حممد على و عيسى‬ ‫ً‬ ‫جهدا‬ ‫‏الدهش��ورى– من أن مصر حتتاج إىل هذه الصناعة‪ .‬ومل يأن اإلمرباطور‏الروس��ى‬ ‫وأشر عليه ِّ‬ ‫فى دراسة طلب الواىل املصرى ّ‬ ‫خبطه ‪:‬‏‏”خاضع للتنفيذ” ‪.‬‏‬ ‫وهكذا ‪..‬‏‬ ‫وص��ل مق��دم فيل��ق مهن��دس التعدي��ن ‪ -‬كوفاليفس��كى ‪ -‬املوف��د ب��اإلدارة‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫ومهندس ف��ى العلوم‏الطبيعية‬ ‫عامال تعدين ‪،‬‬ ‫‏اإلمرباطورية الس��امية ملص��ر يرافقه‬ ‫قادمة من ‪-‬أوديسا ‪ -‬فى ‪23‬‏نوفمرب ‪1847‬م ‪.‬‏‬ ‫باخرة‬ ‫مليناء اإلسكندرية على منت‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫املوف��دون ال��روس ج��رى اس��تقباهلم مبين��اء اإلس��كندرية رمسي� ً�ا ‪ ،‬‏وبباخ��رة‬

‫خاص��ة مت نقله��م للقاه��رة للق��اء ‪ -‬ال��واىل ‪ -‬لدراس��ة خططه��م ‪،‬‏وخرج��وا م��ن معي��ة‬ ‫ً‬ ‫خطابا لإلمرباطور الروس��ى‏يش��كره‬ ‫الواىل لريس��ل ال��واىل “ حممد على “ بنفس��ه‬ ‫عل��ى إيف��اده للمهندس�ين ال��روس الذي��ن وصل��وا حبم��د اهلل للدي��ار ‏املصري��ة ‏‪.‬‬

‫م��ن بني وثائ��ق اإلمرباطورية الروس��ية ‪ ،‬نش��رنا ‪ -‬فى مع��رض قراءتن��ا لبعض هذه‬ ‫الوثائق ‪ -‬نص رس��الة طريفة تتعرض للرتتيبات اخلاصة بهذه البعثة إىل مصر ‪ ،‬و ما‬ ‫خصصته روسيا لتحويلها ‪ ،‬و كان نص هذه الرسالة ما يلى ‪:‬‬ ‫من أركان فيلق مهندسي التعدين إلي الكونت نيسيلروديه‬ ‫‏سان بطرسبورج ‪ 23 ،‬أغسطس ‪ ، 1847‬رقم ‪4412‬‏‬ ‫سيدي الكريم كارل فاسيلييفيتش‏‬ ‫عطف� ً�ا عل��ي الرس��الة املوق��رة م��ن مسوك��م ‪ ،‬املؤرخ��ة يف ‪ 12‬من‬ ‫ً‬ ‫تقريرا إىل‬ ‫أغس��طس (آب)‏اجلاري حتت رقم ‪ ، 2498‬تش��رفت بأن أرفع‬

‫السيد اإلمرباطور‏عرضت فيه مايلي ‪:‬‏‬

‫‪13‬‬


‫‏‪ – 1‬أن يوف��د إل��ي مص��ر لتنظي��م معاجلة الرواس��ب احلاوي��ة ً‬ ‫ذهبا‬ ‫مس��اعد رئيس‏التعدين ملصانع زالتوأوست املدير املؤقت هلذه املصانع‬ ‫مهن��دس التعدين‏املقدم كوفاليفس��كي بوصف��ه ضابط أركان‬ ‫ُ‬ ‫مطلعا كفاية‏علي العادات اآلس��يوية أثناء‬ ‫ملم� ً�ا بإنتاج الذهب ‪ ،‬و‬ ‫مأمورياته املتكررة إلي اخل��ارج ‪ ،‬ومعروفا جيدا‏لدي وزارة اخلارجية‬ ‫بتنفي��ذه تكليف��ات خمتلف��ة ‪ .‬أم��ا بالنس��بة للمعون��ة الضروري��ة‬ ‫‏لضابط األركان هذا يف التكليف املس��ند إليه ‪ ،‬فينبغي أن يرسل‬ ‫معه معلم تعدين‏واحد وغاسل ذهب واحد ‪.‬‏‬ ‫‏‪ – 2‬تعي�ين معاش��ات هل��ؤالء املوظفني لق��اء عملهم خ��ارج البالد ‪:‬‬ ‫للمقدم‏كوفاليفس��كي ‪ 50‬روبال ذهبا يف الشهر ‪ ،‬و ملعلم التعدين‬ ‫ً‬ ‫‪ 6‬روبالت ً‬ ‫فضـال‬ ‫ذهبا ‪ ،‬و ‏لغاس��ـل الرمال احلاوية ‪ 4‬روبالت ذهـبا ‪،‬‬ ‫ع��ن املعـ��اش لقاء عـمله��م داخـل‏البالد حس��ب قوانني املعاش��ات يف‬ ‫التعدي��ن ‪ ،‬أم��ا ل��دي إرس��اهلم فينبغ��ي أن‏خيصص هل��م للتنقل عرب‬ ‫روس��يا نصف املعاش الس��نوي املخص��ص للعمل يف‏اخل��ارج دون أي‬ ‫خص��م منه ‪ ،‬و لنفقات الطريق من حدود روس��يا إلي‏اإلس��كندرية ‪:‬‬ ‫لكوفاليسكي ‪ .‬‏‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫روب�لا ل��كل ذهب��ا ل��كل‬ ‫روب�لا ذهب� ً�ا ‪ ،‬ولآلخري��ن ‪85‬‬ ‫‏‪225‬‬ ‫واح��د ‪ ،‬وفض�لا ع��ن ذل��ك وض��ع ‪ 250‬روب�لا ذهب� ً�ا حت��ت تص��رف‬

‫‏كوفاليفيس��كى للمصاري��ف الطارئ��ة وملواصلة تنق��ل موظفى‬ ‫التعدين من اإلسكندرية حتى مكان وجود الرواسب احلاوية‏ذهبا‬ ‫ولش��راء أدوات الزمة لألحباث العلمي��ة ‪ ،‬وغري ذلك ‪ ،‬على أن ترتك له‬ ‫حري��ة إنفاق هذه النقود حس��بما يرت��أى فى‏حال الضرورة أو حس��ب‬ ‫�ابا مناس� ً‬ ‫تعليم��ات قنصلنا فى مصر‪،‬ولكن حبث يقدم حس� ً‬ ‫�با هلذه‬ ‫النقود ‪.‬‏‬

‫‏‪ - 3‬إن مبلغ النفقات احملسوبة وفق الكشف التقديرى واملخصص‬ ‫ملأمورية املقدم كوفاليفيس��كى املفرتضة إىل مصر‏ملدة عام واحد‬ ‫ً‬ ‫روبال ً‬ ‫ً‬ ‫ذهبا‬ ‫تقريبا بس��بعة آالف وتس��تعمائة وواحد وس��تني‬ ‫واملقدر‬ ‫وأربعني كوبيكا فضة ينبغى نسبة إىل‏حساب خزينة الدولة‏‪.‬‬ ‫‪ - 4‬تكلي��ف القنص��ل الع��ام الروس��ى ف��ى مب��ا ‪ :‬ل��دى وص��ول‬ ‫املقدم كوفاليفيس��كى إىل هن��اك إيالء العناي��ة الالزمة لضابط‬ ‫‏األركان ‪ ،‬ه��ذا وااليعاز ل��ه بأنه إذا طرأت ض��رورة متديد إقامته فى‬ ‫‪14‬‬


‫مصر أكثر من واحدة فينيغى أن خيرب بذلك قبل‏األوان ‪.‬‏‬ ‫إن جاللته االمرباطورية تكرم فى ‪ 22‬أغسطس (أب) اجلارى ‪ ،‬بأن‬ ‫كتب خبط يده على التقرير “خاضع للتنفيذ”‪.‬‏‬ ‫وإننى إذ أتش��رف بإب�لاغ مسوكم به��ذه االرادة الس��امية ‪ ،‬أطلب‬ ‫ً‬ ‫طائعا س��يدى الكريم ‪.‬‏االس��تعجال فى إص��دار األمر بإيالء‬ ‫منكم‬ ‫املق��دم كوفاليفيس��كى مع موظف��ى التعدين العناي��ة احلميدة‬ ‫م��ن جانب قنصلنا فى مص��ر ‏ارى من واحبى أن أضي��ف إىل ذلك أننى‬ ‫أقرتح��ت ف��ى احلال على الس��يد الرئيس الع��ام ملصان��ع األورال إرجاع‬ ‫السيد ‏كوفاليفيسكى دون إبطاء اىل سان بطرسبورغ فور تنفيذ‬ ‫املهام املوكلة إلية و إرجاع معلم التعدين وغاس��ل الرمال إىل‏ أوديسا‬ ‫مباش��رة‪ ،‬حبيث يص�لا إىل هناك فى أواخ��ر أكتوبر املقب��ل ‪ ،‬ولدى‬ ‫وص��ول الس��يد كوفاليفيس��كى إىل هنا جيب‏أم��ره باحلضور اىل‬ ‫هن��ا و جيب أم��ره باحلضور اىل مسوك��م لنيل التعليمات املناس��بة‬ ‫للتكليف املسند إليه ‪.‬‬ ‫اس��تمرت البعث��ة الروس��ية ملصر ُقراب��ة الع��ام – وكان يرافقها طوال ه��ذه الفرتة‬

‫‏املهندس��ان املصريان ( حممد على و إيليا الدهش��ورى ) – وأجنزت البعثة‏مهمة إنشاء‬ ‫�ان ‪ -‬حيث ش��يد املعمل‏بآالته وأدواته وبدأ‬ ‫أول معمل إلس�ً�تخالص الذهب فى ‪ -‬كس� ٍ‬ ‫فى االنتاج فعال ‪ ،‬وعادت البعثة لبالدها لتجد‏التكريم اإلمرباطورى الالئق ‪.‬‏‬ ‫م��ن فرونتش��نكو إىل نيس��يلروديه س��ان بطرس��بورغ ‪20 ،‬م��ن‬ ‫أكتوبر‪1848‬‏‬ ‫سيدى الكريم كارل فاسيلييفيتش‏‬ ‫إن حمتوى الرسالة املوقرة لسموكم بتاريخ ‪ 6‬من أكتوبر (تشرين‬ ‫األول)‏اجل��ارى حت��ت رق��م ‪ 3420‬بصدد مكـاف��أة مهـن��دس التعدين‬ ‫املق��دم كوفاليفيس��كى‏بالرتب��ة التالي��ة ‪ ،‬رتب��ة عـقي��د ‪ ،‬لقـ��اء‬ ‫األعم��ال ‪ ،‬الت��ى قام بها فى مصر ل��دى أدائه‏التكليف املس��ند إليه ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مضيفا‬ ‫قد أس��عدت بأن أرفع��ه إىل الرأى الرمسى للس��يد‏اإلمرباطور ‪،‬‬ ‫م��ن جهتى أنه يوجد األن فى قائمة مهندس��ى التعدين فى‏رتبة أعلى‬ ‫من الس��يد كوفاليفيس��كى بضعة مهندس��ى تعدين برتبة مقدم‬ ‫ً‬ ‫كليا أيض� ً�ا ترقيتهم‬ ‫ن مناصب هامة خمتلفة ويس��تحقون‬ ‫يش��غلو ‏‬ ‫‪15‬‬


‫إىل الرتب��ة التالي��ة ‪ ،‬وقد تكرم صاحب اجلالل��ة برمحته الفائقة فى‬ ‫‪15‬أكتوبر(تش��رين األول) اجلـارى مبنح املقدم كوفاليفيسكى‬ ‫وسام القديسة أنا من الدرجة الثانية ‪.‬‏‬ ‫واننى ‪ ،‬إذ أتش��رف بإبالغ مسوكم به��ذا العطف امللكى ‪ ،‬أطلب‬ ‫ً‬ ‫طائعا ‪.‬‬ ‫منكم‬ ‫سيدى الكريم ‪ ،‬قبول فائق إحرتامى ووالئى‏‬ ‫‏‬

‫فرونتشينكو‬

‫م��ا ب�ين الرس��الة الت��ى أرس��لها فيل��ق مهندس��ى التعدي��ن إىل الكون��ت كارل‬ ‫فاسيلييفيتش ‪ ،‬و ما بني التكريم اإلمرباطورى الذى ناله املقدم كوفاليفيسكى‬ ‫مهندس التعدين تأتى قصة هذا الكتاب ( ذهب سنار ) أو ( البحث عن الذهب ) ‪.‬‬ ‫فالكت��اب هو حبث تارخيى عن خمطوطة كتبها خبري التعدين “إيفان بارودين”‬ ‫ال��ذى َق� ُ‬ ‫�دم ملصر وفقا ملرس��وم صاحب الس��عادة االمرباط��ور ني��كاالى بافالفيتش ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫دعما للمقدم كاناليفس��كى – الذى سبقه ملصر – النشاء وتطوير معاجلة الرماد‬ ‫واستخراج الذهب منه ‪.‬‬ ‫كان إهتمام حممد على باش��ا بدعوة روس��يا للمش��اركة فى البحث عن الذهب‬ ‫كب�يرا ‪ ،‬وقد صـحب بنفس��ه وف� ً‬ ‫ً‬ ‫�ودا أجنبي��ة إىل الس��ودان مابني عـامى‬ ‫بالس��ودان‬ ‫‪ 1839، 1838‬لدراس��ة آفاق صناعة الذهب واس��تخراجه ‪،‬وقد كان هذا األمر جمال‬ ‫إهتمام االوربني من االيطالني وفرنسيني ومنساوين ‪،‬وغريهم ‪.‬‬ ‫كانت روسيا آنذاك – ورمبا مازالت – دولة متقدمة فى فى جمال التعدين ‪ ،‬ذائعة‬ ‫الصيت فى العامل ‪ ،‬حيث ش��كل الذهب الروس��ي اكثر من ‪ 40%‬مما يس��تخرج فى‬ ‫العامل قاطبة ‪،‬وصارت روسيا ذات مكانة متميزة فى السوق العاملى ‪.‬‬ ‫يس��تدعى الكتاب الذى بني أيدينا هذه القصة بإس��هاب ‪،‬وهى قصة تتجلى فيها‬ ‫أم� ً‬ ‫�ورا عديدة ‪ ،‬حيكمها اإلهتمام الزائد بإجناح مهمة التعاون مصرى – روس��ي فى‬ ‫كشف أسرار إستخالص الذهب ‪ ،‬وقد فاض‬ ‫الكي��ل آن��ذاك حبيل غربي��ة لنهب الثروات فى س��لطنة س��نار – اخلاضعة حلكم‬ ‫الواىل كسلطنة سودانية ‪.‬‬ ‫ق��دم ال��روس ملصر تكنولوجيا غس��يل الرم��ال احلامل��ة للذهب ‪ ،‬بعد إكتش��اف‬ ‫‪16‬‬


‫ذرات للذهب حتت طبقات الرواس��ب عرب تيارات األنهار ‪ ،‬وهو ما كان حيلم به الواىل‬ ‫املصرى ‪.‬‬ ‫لك��ن ه��ذا مل يك��ن كافي� ً�ا‪ ،‬فقد كش��فت خمطوطة “إيف��ان بارودي��ن “ عن‬

‫تكمل��ة قص��ة “ البح��ث ع��ن الذه��ب “‪ ،‬حي��ث مل تنته رحل��ة على حممد وعيس��ى‬ ‫الدهشورى بعودتهم لبالدهم ‪ ،‬إذ سرعان ما قدم ملصر كافاليفسكى ورفاقه لزيارة‬ ‫الس��ودان عندما أوضح املهندس��ان املصري��ان – بتجارب أجرياها بنفس��هما – جدوى‬ ‫إستخراج الذهب من رمال كاسان ‪،‬وشرق السودان ‪.‬‬ ‫ومابني أوديسا ‪،‬فإسطنبول ‪ ،‬فاإلس��كندرية ‪،‬فأطفيح وحتى القاهرة حيكى “‬ ‫بارودين “ تفاصيل رحلة – مملة – عرب نهر النيل ليفاجأ بفوضى فى إستقباهلم فور‬ ‫وصوهلم للمدينة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫�كال للحياة اليومية ف��ى عهد حممد على‬ ‫لق��د رأى الروس القادم��ون للقاهرة ش�‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كث�يرا عما ألف��وه فى بالده��م ‪ ”:‬من ش��قتنا ن��رى ميدانا غ�ير مكتمل‬ ‫خيتل��ف‬

‫يتجم��ع الناس في��ه – بعضهم يدخن واآلخر يش��رب عصري الليم��ون ‪،‬وبئر ترفع منه‬ ‫املياه بواسطة ثريان “‪.‬‬ ‫أدهش��هـم أن س��ـلطات املـدينـ��ة كان��ت جتم��ع الصبي��ه والصبـاي��ا لتـنظي��ف‬ ‫املـياديـن ‪ ،‬وكان هؤالء الصبيه والصبايا مقس��مون إىل ثالثة أقس��ام ‪،‬االول جيمع‬ ‫القمامة فى س�لال ‪،‬والثانى يغنى ‪ ،‬والقس��م الثالث يهرع بالسالل اململؤه بالقمامة‬ ‫ألماكن جتميعها ‪،‬وكانت سطوة جهاز الدولة فى الشرق هو ما لفت األنظار ‪.‬‬ ‫لق��د كان رأى الكثريي��ن أن حمم��د عل��ى فعل الش��ئ الكثري من أج��ل إعمار‬ ‫مص��ر‪ .‬وتعج��ب الرحالة الروس من “عبقرية” مؤس��س مصر احلديثة‪،‬الذى “ اس��تطاع‬ ‫باإلصالحات الداخلية أن يتفوق على األقاليم اجملاوره له‪.‬‬ ‫زراع��ة أش��جـار الت��وت والنخي��ل ‪،‬والقط��ن وحماصي��ل انتاجي��ة أخ��رى كثرية ‪،‬‬ ‫الت��ى كانت غـربي��ة عـن مصر قبـ��ل ذلـك ‪ ،‬وكـذل��ك بـناء العـديـ��د من الـورش‬ ‫والـمحـالت ‪ ،‬واملدارس ‪ ،‬والرتسانات – كل هذا دليل على جمهود جبار “ ‪ .‬بيد أنه مل‬ ‫يستطع القادمون من روسيا غض الطرف مرة أخرى عن ثـمن كل تلك اإلصالحات ‪”:‬‬ ‫مل يـكن حممد على – الذى يـحظى باإلحتـرام فـى س��وريا ‪ ،‬والذى يدعى بالرهيب‬ ‫ف��ى اجلزيرة العربية ‪ ،‬كما عرف باحنيازه ألفريقيا – ليربز بني س�لاطني الش��رق‬ ‫لوال معانة الش��عب باجلهد املضنى ت��ارة ‪،‬وبالضرائب تارة أخرى ‪ ،‬حتت نري اإلحتكار‬ ‫اجلائ��ر ‪ ،‬الذى ال تصب ثرواته إال فى خزينة الباش��ا “‪ .‬ومن القـاهرة إلـى بـنى س��ويف‬ ‫‪17‬‬


‫فأس��يوط فـجرج��ا فـطيبة فاألقـصر والكرنـك ‪ ،‬فأس��ـوان ‪ ،‬فـجزي��رة فيلـه فـعبور‬ ‫ً‬ ‫وصوال إىل‬ ‫خـط االس��تواء عند قـرية كاالبش��ا ‪ ،‬فـكـوروس��كا ‪ ،‬فصحراء النوبة‬ ‫سلطنة سنار حيكى الروس ما رأته أعينهم فى هذه احملطات ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مواكبا لإلنهيار الذى أصاب الس��لطنة على إثر محلة القوات‬ ‫كان وصول الروس‬ ‫املصرية التى قادها إمساعيل ‪ -‬ابن حممد على باشا ‪.‬‬

‫حاول��ت قبائ��ل ش��ارجيى املقاومة ‪ ،‬اإل أنه��م مل يصم��دوا أمام ق��وة و تنظيم جيش‬ ‫إمساعي��ل ‪ ،‬فدخل��ت القوات املصرية اىل واد – مدنى حيث استس��لم الس��لطان بادى‬ ‫اخلامس سلطان سنار أمام إمساعيل باشا‪.‬‬ ‫لكن ثائرة الثوار مل ختمد ‪ ،‬واندلعت ثورات فى ‪ 1822‬ولقى إمساعيل بك حتــفه‬ ‫على أيديهم فى طريق عودته ملصر ‪.‬‬ ‫وقاد صهر حممد على محلة إنتقامية قضى فيها على ما يقرب من ‪ 50‬الف مواطن‬ ‫من سنار ‪ ،‬وغدت سنار حتكم كغريها من الواليات حبكمدار مصرى‪.‬‬ ‫وصلت البعثة الروس��ية إىل ش��ندى فى فرباير ‪ ،‬ومنها للخرطوم فواد مدنى فسنار ‪،‬‬ ‫وه��ى مدين��ة كانت حتتل املرتبة الثانية فى أفريقيا – بعد القاهرة – من حيث عدد‬ ‫السكان الذى بلغ مائة ألف‪.‬‬ ‫م��ع وص��ول البعثة ملقصده��ا ‪ ،‬حيث بدأ العمل فى بناء ورش��ة غس��ل الرماد جلمع‬ ‫الذهب ‪ ،‬وحيكى الروس ما أحاط بهذه الورشة من جتهيزات وأعمال ‪.‬‬ ‫ومع بدء دورة العمل إذ بالروس يكتش��فون أن أسلوب الغسل اليدوى للرمال غري‬ ‫فع��ال باملرة ‪ ،‬ناهيك عن نقل الرمال باجلم��ال ‪ .‬كان األمر يبدو وكأنه ليس للزمن‬ ‫أى حساب ‪.‬‬ ‫عم��ل الروس على إدخ��ال تعديالت على عمل هذه املنظوم��ة ‪ ،‬فلم يكن هناك‬ ‫من��اص م��ن ميكنة العمل فى املنج��م ‪ .‬وهكذا ‪ ..‬مت نصب أربع��ة آالت و آلة جمرية‬ ‫أخرى ليبدأ العمل فى السري على قدم وساق‪.‬‬ ‫ً‬ ‫راضيا عن نتائج بعثته ‪ ،‬ومتكن من إكتشاف‬ ‫كان كافاليفس��كى نفس��ه‬ ‫رمال غنية برواسب الذهب والعمل لبناء ورشة لذلك‪ ،‬وهكذا فقد كان بناء الورشة‬ ‫مفيدا ً‬ ‫ً‬ ‫فى منطقة كاسان “ ً‬ ‫جدا “ ‪.‬‬ ‫أمرا‬

‫‪18‬‬


‫كما أش��ار لذلك فى خطابه إىل الواىل حممد على ‪ ،‬مع نصائحه بأهمية استغالل‬ ‫هذه املنطقة لتطوير صناعة استخراج الذهب ‪.‬‬ ‫لقد ش��ارك قرابة مـائة جـندى فى وداع البعثة الروسية األوىل للتـعـديـن ‪ ،‬وأهدى‬ ‫خالد باش��ا مخس��ة جنيهات لكافاليفس��كى لش��راء الف��ودكا ‪ ،‬ومثله��م لرفيقه‬ ‫وخادمه‪.‬‬ ‫قب��ل الرحيل كتب كافاليفس��كى خط��اب وداع الصدقائه املصريني مس� ً‬ ‫�ديا‬ ‫نصائحه هلـم ‪ ،‬مش� ً‬ ‫�ددا عـلى ضـرورة متابعتهـما اليومـية للـورشة ‪ ،‬فالذى ال حيضر‬

‫للورشة ولو ليوم واحد ‪ ..‬ال يستحق أن حيمل هـذا اللـقب ‪ ،‬استمروا فى التنقيب عن‬ ‫مكام��ن الذه��ب ‪ ،‬وإذا نضبت ‪ ..‬إحبثوا عن مناطق جديدة تتوافر بها مواد خام أكثر‬ ‫من سابقتها “‪.‬‬ ‫أنه��ا قص��ة واقعي��ة ممزوجة بعب��ق التاري��خ ‪ ،‬تنقلنا ع�بر الزمان ‪ ،‬لتق��ص علينا‬ ‫حكاية البحث عن الذهب التى ش��ارك فى صنعها حاكم واعٍ إس��تعان مبهندس��يه‬ ‫م� ً‬ ‫ً‬ ‫مرحبا بأن يقدم للبالد ما‬ ‫�ادا يد التعاون لصديق كان – آنذاك ‪، -‬وأثق أنه م��ازال‬ ‫حتتاجه من تكنولوجيات وخربات ‪.‬‬ ‫من��ذ ذل��ك التاري��خ ‪ ...‬وحت��ى اآلن مازالت ت�تردد فى ذاك��رة الش��عبني املصرى و‬ ‫الروس��ي تلك احملطات اهلامة التى وقفت فيها روس��يا بقوة‪ ،‬ومببدئية مع الش��عارات‬ ‫التى رفعتها مـصر باالس��تقـالل ‪،‬وس��اندتها فى مـعارك تـاريـخـي��ة ً‬ ‫بدءا من ملحمة‬ ‫بناء الس��د العاىل ‪ ،‬و إنش��اء القاعدة الصناعية املصرية فى الس��تينات ‪ ،‬بناء القوات‬ ‫املسلحة و حرب االستنزاف اجمليدة التى قادت لنصر أكتوبر ‪... 1973‬‬ ‫لقد إس��تمر املوقف الروسي على نصرته للقضايا العربية ‪،‬وصار موقفه من ثورتى‬ ‫الش��عب املصرى فى ‪ 25‬يناي��ر ‪، 2011‬و‪ 30‬يونيو ‪ ، 2013‬إىل جانب نصرته للش��عب‬ ‫ً‬ ‫شاهدا على هذه النصرة ‪.‬‬ ‫السورى فى معركته ضد اإلرهاب صار هذ املوقف‬

‫ف��إىل صفحات منس��ية من تاريخ ه��ذه العالقات عم��ل على ترمجتها – ألش��هر –‬ ‫الدكت��ور وليد طلبه حيث اجتهد بصياغته الرش��يقة ‪ ،‬وترمجت��ه الصادقة لينقلنا‬ ‫ألجواء تارخيية مجيلة ‪.‬‬ ‫الناشر‬ ‫رئيس اجلمعية املصرية الروسية للثقافة و العلوم‬ ‫رئيس جملس إدارة و رئيس حترير أنباء روسيا‬

‫إبريل ‪2014‬‬ ‫‪19‬‬



‫مقدمه‬ ‫ُ‬ ‫اكتشفت املخطوطة اليت يدور حوهلا حمور احلديث فى هذا الكتاب فى األرشيف‬ ‫احلكومي مبقاطعة ( سفريدلوفسك) خالل عدة سنوات بعد نهاية احلرب الوطنية‬ ‫العظمي* ‪ .‬إنه دفرت ذو غالف كثيف بين اللون ‪ .‬وبعد فتحه متكن مسئولو‬ ‫األرشيف السوفيييت من قراءة مستهل ذلك املقال ‪ ،‬الذي سرعان ما نقلهم إلي عصر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عائدا للوراء مائة عام ‪:‬‬ ‫متاما ‪ ،‬كمن ركب آلة الزمن‬ ‫خمتلف‬ ‫« بعثة خبري التعدين “ إيفان بارودين” إىل مصر ‪ .‬الثانى عشر من أكتوبر‬ ‫ً‬ ‫وفقا ملرسوم صاحب السعادة “ اإلمرباطور نيكوالي بافالفيتش”‬ ‫عام ‪. 1847‬‬ ‫عال مت إيفاده إىل مصر لدعم مهندس التعدين املقـدم‬ ‫حاكم ربوع روسيا ‪ ،‬وبأمر ٍ‬ ‫“ كافاليفسكي” إلنشاء وتطوير آالت صناعة الذهب » ‪.‬‬ ‫* يطلق الروس مصطلح “ احلرب الوطنية العظمى “ على احلرب العاملية الثانية‬ ‫(‪ “ ) 1945 – 1941‬املرتجم “‬ ‫‪21‬‬


‫إنها عجيبة من عجائب التاريخ – تلك كانت أصداء هذه السطور على اجملتمع‬ ‫السوفيييت بعد احلرب ‪ ،‬كما كانت يف الوقت نفسه مبثابة حتفة مدهشة‬ ‫ماض سحيق كان من الصعب أن يثري إهتمام طبقة عريضة‬ ‫وانعكاس ألحداث ٍ‬ ‫ً‬ ‫متامـا‬ ‫من القراء ‪ .‬فاملناخ الذي كان يعيشه السوفييت فى تلك األعـوام يـخـتلـف‬ ‫عـن مـثيله فـي عـصـر روسـيا القيصـريـة إبـان “ نيكوالي بالـكني ” ‪ .‬فعلى‬ ‫ما يبدو أن من جنا من التجارب املريرة يف احلرب الوطنية العظمي ال ميكنه إبداء‬ ‫اهتمام ببعثة خبري تعدين غري معروف إىل بلد بعيد‪ :‬كمصر ‪ .‬واألكثر من ذلك‬ ‫ٍ‬ ‫فإن البلد املشار إليه ‪ ،‬حيثما كان الربيطانيون حيتلون مكانة كبرية فيه ‪ ،‬ظل‬ ‫فى أذهان الناس إحدى العجائب ‪ ،‬اليت ال تثري اهتمام سوى قلة من املتخصصني ‪.‬‬ ‫تغري املوقف بشكل جذري حبلول النصف الثاني من مخسينيات القرن العشرين‪.‬‬ ‫أخذ االستعمار يف أفريقيا بالتالشي علي نطاق واسع مما وضع القارة السمراء فى‬ ‫ً‬ ‫أيضا ؛ حيث بدأ تعاون كبري‬ ‫بؤرة االهتمام ‪ .‬كما انضم العامل العربي إىل الركب‬ ‫بني مصر واالحتاد السوفيييت حتت قيادة “ مجال عبد الناصر “ ‪.‬‬ ‫ها هي ذكريات دفرت بين اللون بسيط ملقي يف أرشيف سفريدلوفسك ‪.‬‬ ‫ويبدو ً‬ ‫جليا أن التعاون بني بلدينا بدأ حتى قبل إلغاء حق اإلقطاع ‪ .‬بل من املدهش‬ ‫إدراك أن روسيا القيصرية كانت تقدم العون ملصر من أجل االرتقاء بصناعة‬ ‫استخراج الذهب عن طريق إيفاد متخصصني إىل البلد العربي البعيد‪ .‬كل هذا‬ ‫ً‬ ‫متزامنا مع عملية التقارب السوفيييت العربي الذي تطور فى النصف الثانى‬ ‫كان‬ ‫من اخلمسينيات ‪.‬‬ ‫كان “ أناتولي جرجيوريفيتش كازلوف “ (‪ )1984 - 1925‬أول من ّ‬ ‫عرف القارئ‬ ‫السوفيييت على خمطوطة “ إيفان بارودين ”‪ .‬وجيدر احلديث عن هذا الرجل‬ ‫بشكل خاص ‪ .‬فقد ولد مبنطقة كريوف٭‪ ،‬وأنهى الدراسة فى كلية التاريخ‬ ‫ً‬ ‫مساعدا لقسم‬ ‫جبامعة األورال احلكومية عام ‪ . 1956‬عمل أكثر من عشرة أعوام‬ ‫األرشيف مبحافظة سفريدلوفسك ‪ .‬علم “أناتولي جرجيوريفتش “ فى تلك األعوام‬ ‫ً‬ ‫حتديدا بوجود هذه املخطوطة‪ .‬وقام “ أ‪ .‬ج‪ .‬كازلوف “ فى عام ‪ 1955‬بنشر رسالة‬ ‫معلوماتية قصرية عن هذه التحفة علي صفحات جريدة «عامل األورال»؛ حيث‬ ‫أشار إىل أن « يوميات مسافر» ‪( -‬كما حالف التوفيق موظف األرشيف األورالي‬ ‫‪1‬‬ ‫فى اإلشارة إىل مقال بارودين) ‪ « -‬تصف الكاتب كشخص قوي املالحظة»‪.‬‬ ‫‪ - 1‬انظر‪ :‬أ‪ .‬كازلوف‪ .‬رحلة خبير التعدين إ‪ .‬بارودينا‬ ‫* ‪ -‬كيروف – إحدى الكيانات الفيدرالية فى غرب روسيا ‪ ( .‬المترجم )‬ ‫‪22‬‬


‫متكن “ أناتولي جرجيوريفيتش “ بعد عدة سنوات من نشر معلومات حمدودة‬ ‫عن هذه املخطوطة على صفحات جملة « قصاص األورال» املنتشرة بني سكان‬ ‫األورال فى ذلك الوقت ‪ .‬إنها أقصوصة صغرية تتكون من ثالث صفحات فقط ‪ .‬وقد‬ ‫عبرَّ مؤرخ األورال عن حالته النفسية يف نفس اللحظة ‪ ،‬التى تعرف فيها على تلك‬ ‫املخطوطة ‪ ،‬مما أضفي قيمة عليها ‪ .‬انتابت مؤلف هذا الكتاب – أثناء قراءة تلك‬ ‫السطور – نفس املشاعر ‪ ،‬اليت راودت موظف األرشيف الروسي فى اخلمسينيات ‪.‬‬ ‫وذكر “ أ‪ .‬ج‪ .‬كازلوف” ‪« :‬متتلئ الصفحات املُ َّ‬ ‫صفرة بسطور مكتوبة خبط صغري‬ ‫‪ ،‬بينما هناك تصحيحات للكاتب بالقلم الرصاص فى عدة مواضع ‪ .‬وتالشي‬ ‫احلرب فى صفحات أخرى مما شكل صعوبة فى قراءتها ‪ .‬وعلى الرغم من ذلك فقد‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫كامال يتضح أن تلك اليوميات ُتعد أمتع‬ ‫كللت اجلهود بالنجاح بعد قراءة الدفرت‬ ‫اليوميات التى كتبها عامل مبناجم األورال أثناء سفره إىل “ بلد األهرامات “ – مصر‬ ‫فى منتصف القرن املاضي »‪. 2‬‬ ‫وميكن القول‪ :‬ال يوجد أفضل من هذا ‪ .‬مل يكن “ أناتولي جرجيوريفيتش‬ ‫كازلوف “ متخصص فى العمل بأفريقيا ‪ .‬ولكن بصفته متخصص فى تاريخ‬ ‫األورال أثارت اهتمامه حقيقة أن عاملي األورال كان هلم دور كبري فى تطوير‬ ‫صناعة استخراج الذهب فى البالد اإلفريقية البعيدة ‪ .‬هلذا فقد أشار فقط إىل‬ ‫املراحل الرئيسية لرحلة “ إيفان بارودين” ‪ .‬وبعد أن روى احملاور الرئيسية داخل‬ ‫تلك املخطوطة أفصح موظف األرشيف من جديد عن املشاعر التى اعرتته‪« :‬‬ ‫بعد طوي الصفحة األربعني من ملف األرشيف النادر تستغرق يف التفكري بال‬ ‫وعي وتستحضر فى الذاكرة صورة صديقنا املعروف “ أفاناسيا نيكيتني “ ‪،‬‬ ‫صاحب َ‬ ‫املؤلف الشهري “ رحلة وراء ثالثة حبار “ » ‪ .‬يعد “ أفاناسيا نيكيتني “ من‬ ‫أوائل األوروبيني ‪ ،‬الذين وصفوا اهلند فى القرن اخلامس عشر ‪ .‬وكان “ إيفان‬ ‫بارودين “ من أوائل األوروبيني فى القرن التاسع عشر الذين وصلوا إىل أعالي‬ ‫نهر النيل ‪ ،‬كما أدىل بدلوه يف الدراسات اجليولوجية ألحد أقدم بالد الشرق»‪. 3‬‬ ‫ظلت هذه املقالة الصغرية على أية حال أشهر وثيقة تتحدث عن خمطوطة “ إ‪ .‬ت‪.‬‬ ‫بارودين” ‪ .‬ومتكن “ أ‪ .‬ج‪ .‬كازلوف “ فى عام ‪ 1958‬نفسه من نشر مادة صغرية‬ ‫عن تلك التحفة األرشيفية على صفحات الصحافة احمللية – فى صحيفة “روسيا‬ ‫‪ - 2‬أ‪ .‬ج‪ .‬كازلوف ‪ .‬أهل األورال فى بالد األهرامات ‪ .‬قصاص األورال ‪ .‬سفيردلوفسك‬ ‫‪ . 1958 ،‬النسخة األولي ‪ .‬ص ‪.60‬‬ ‫‪ -3‬نفس المرجع ‪ .‬ص ‪.63‬‬ ‫‪23‬‬


‫السوفييتية”‪ . 4‬مل يكن هذا من قبيل الصدفة ‪ ،‬مبا أن موضوع التعاون السوفيييت‬ ‫العربي كان الشغل الشاغل فى ذلك الوقت‪ .‬فقد أدت حرب السويس ‪ ،‬وبداية‬ ‫التعاون االقتصادي ّ‬ ‫الفعال بني االحتاد السوفيييت ومصر إىل بروز مثل تلك املواضيع‬ ‫على صفحات الصحف واجملالت السوفييتية ‪ .‬واألمر األبرز هو ظهور مقالة خاصة فى‬ ‫شهر مايو ‪ 1958‬فى صحيفة “ سفريدلوفسك املسائية “ حتتوى على جمموعة من‬ ‫احلقائق بشأن تاريخ التعاون بني روسيا والدول العربية ‪ . 5‬وما مت ذكره هو احتواء‬ ‫األرشيف احلكومي ملقاطعة سفريدلوفسك على يوميات لبارودين ‪ ،‬وكذلك وجود‬ ‫« نسخة كبرية » فى مكاتب األرشيف بسفريدلوفسك وليننجراد تتعلق برحالت‬ ‫املهندسني املصريني إىل األورال فى األربعينيات من القرن التاسع عشر‪ .‬واملدهش‬ ‫أن نشر تلك املادة على صفحات صحيفة حملية فى ذلك الوقت مل يكن من قبيل‬ ‫ً‬ ‫انعكاسا للتوجه العام لتنشيط التعاون السوفيييت العربي ‪.‬‬ ‫الصدفة ؛ فقد كان‬ ‫ومن املميز وجود مقالة كبرية فى عدد اجلريدة نفسها بقلم “ ج‪ .‬كارابيتيان “‪،‬‬ ‫وهو مصمم فى مصنع “ أورال ماش للصناعات الثقيلة “ ‪ ،‬حيث تتحدث تلك املقالة‬ ‫عن رحلته إىل معرض دولي فى دمشق ‪ .‬تتخلل املقالة أفكار حول الصداقة بني‬ ‫االحتاد السوفيييت والعامل العربي ؛ وختتتم بشعار تـبـناه الكـاتب ‪« :‬العرب والروس‬ ‫ً‬ ‫سويا! »‪. 6‬‬ ‫كان خبري التعدين األورالي وكاتب املخطوطة احملفوظة باألرشيف احلكومي‬ ‫ً‬ ‫عضوا بالبعثة ‪ ،‬التى ترأسها الرحالة‬ ‫ملقاطعة سفريدلوفسك “ إيفان بارودين “‬ ‫‪7‬‬ ‫الروسي املشهور “ إجيور بيرتوفيتش كافاليفسكي “ فى وقت ما ‪ .‬وكان‬ ‫‪ - 4‬أنظر‪ :.‬الكاتب نفسه ‪ .‬المهندسون العرب فى األورال ‪ .‬روسيا السوفيتية ‪1958 .‬‬ ‫‪ 11 .‬مايو‪.‬‬ ‫‪ - 5‬انظر‪ :.‬وثائق عن التعاون الروسي العربي ‪ .‬سفيردلوفسك المسائي ‪. 1958 .‬‬ ‫‪ 10‬مايو‪.‬‬ ‫‪ - 6‬ج‪ .‬كارابيتيان ‪ « .‬العرب – الروس‪ ،‬سوا سوا! » ‪ .‬سفيردلوفسك المسائية ‪.‬‬ ‫‪ 10 . 1958‬مايو ‪.‬‬ ‫‪ - 7‬إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي (‪ – )1868 – 1809/1811‬شخصية حكومية‬ ‫واجتماعية مرموقة ومراسل وعضو شرفي في أكاديمية بيتيربورج للعلوم ‪ ،‬رحالة‬ ‫ومستشرق ‪ .‬أنهى الدراسة بقسم الفلسفة بجامعة خاركوفسكي ‪ .‬منذ عام ‪ 1829‬التحق‬ ‫بالخدمة فى قسم التعدين ‪ .‬شارك فى بعثات إلي الجبل األسود ووسط آسيا وشمال شرق‬ ‫أفريقيا والصين ‪ .‬ترأس فى عام ‪ 1856‬اإلدارة األسيوية التابعة لوزارة الخارجية ‪.‬‬ ‫عمل منذ عام ‪ 1861‬سيناتور وعضواً بوزارة الخارجية ‪ .‬أحد مؤسسي جمعية مساعدة‬ ‫األدباء والعلماء المتعثرين (صندوق األدب) ورئيسها الدائم ‪.‬‬ ‫‪24‬‬


‫ً‬ ‫مناصرا للرؤى التقدمية القريبة من فكر “ بيرتاشيفسكي” ‪ ، 8‬مما جعله‬ ‫األخري‬ ‫شخصية حتظى باهتمام الباحثني السوفييت ‪ .‬ولعل الباحثة “ ب‪ .‬أ‪ .‬فالسكايا “‬ ‫كان هلا الدور األكرب فى دراسة سرية حياة وأعمال “ إ‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي” ‪.‬‬ ‫وقامت “ ب‪ .‬أ‪ .‬فالسكايا “ فى النصف الثانى من اخلمسينيات – عندما بدأت‬ ‫صحافة األورال بالكتابة عن خمطوطة بارودين – بنشر عدد من األعمال اليت‬ ‫تتناول كافاليفسكي ومن بينها رسالة علمية‪. 9‬‬ ‫متثل محلة “ إ‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي “ فصل شيق للغاية من فصول تاريخ العالقات‬ ‫ً‬ ‫غريبا أن جيذب هذا املوضوع اهتمام‬ ‫الدولية ملستخرجي الذهب الروسي ‪ .‬وهلذا ليس‬ ‫هؤالء املتخصصني ‪ ،‬الذين كانوا منشغلني بدراسة تاريخ صناعات استخراج الذهب‬ ‫فى روسيا واالحتاد السوفييت ‪ .‬من املدهش أن قصة بعثة “ إ‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي “‬ ‫تواجدت فى الكتب الدراسية السوفييتية التى كان يدرسها طالب معهد التعدين‬ ‫والفلزات وكليات اجليولوجيا‪ .‬فقد ُخصصت ‪ ،‬على سبيل املثال ‪ ،‬عدة صفحات‬ ‫لوصف هذه الرحلة فى الكتاب الشهري لف‪ .‬ف‪ .‬دانيليفسكي‪ .10‬ومن الطريف‬ ‫أن الكاتب يذكر وجود خمطوطة بارودين فى األرشيف احلكومي مبقاطعة‬ ‫سفريدلوفسك ‪.‬‬ ‫ولكن مل تطل الفرتة التى شغل فيها موضوع العالقات الروسية العربية اهتمام‬ ‫اجملتمع والباحثني ‪ .‬بينما قل اهتمام اجملتمع السوفيييت بتلك القضية بني عامي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تعقيدا مما‬ ‫فشيئا أن العامل العربي ميثل ظاهرة أكثر‬ ‫شيئا‬ ‫(‪ . )1980,1970‬اتضح‬ ‫بدا عليه فى اخلمسينيات ‪ .‬ومل تكن من السهولة مبكان أن يبين االحتاد السوفييت‬ ‫عالقات مع كثري من دول العامل العربي (ومن بينها مصر) والتى سعي قادتها بشكل‬ ‫‪ - 8‬يقصد ب « مناصري بيتراشيفسكي » المشاركون فى اجتماعات الموظف م‪.‬‬ ‫ف‪ .‬بوتاشيفيتش‪ -‬بيتراشيفسكي ‪ .‬والذين كانوا ينتقدون الرقابة المشددة وحق اإلقطاع‬ ‫وفساد البيروقراطية ‪ .‬حكم عليهم باإلعدام فى عام ‪ ، 1849‬ولكن تم العفو عنهم قبل‬ ‫تنفيذ الحكم مباشرة ‪ .‬كان الكاتب الروسي الشهير ف‪ .‬م‪ .‬داستايفسكي أحد أعضاء‬ ‫«مناصري بيتراشيفسكي » ‪.‬‬ ‫‪ - 9‬انظر‪ :.‬ب‪ .‬أ‪ .‬فالسكايا ‪ .‬رحلة « إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي » موسكو ‪1956 ،‬‬ ‫; الكاتب نفسه ‪ .‬األكاديمي ك‪ .‬م‪ .‬بير عن رحالت إ‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي إلي مصر والصين‬ ‫فى األربعينيات من القرن التاسع عشر‪ //‬بالد وشعوب الشرق ‪ .‬موسكو ‪، 1959 ،‬‬ ‫اإلصدار األول ‪.‬‬ ‫‪ - 10‬انظر‪ :.‬ف‪ .‬ف‪ .‬دانيليفسكي ‪ .‬الذهب الروسي ‪ .‬تاريخ اكتشافه واستخراجه حتى‬ ‫منتصف القرن التاسع عشر ‪ .‬موسكو ‪ . 1959 ،‬ص ‪. 295-301‬‬ ‫‪25‬‬


‫حثيث إىل االستقالل بسياستها ‪ ،‬ورفض الوقوع حتت وطأة نفوذ االحتاد السوفيييت ‪.‬‬ ‫أدي كل هذا إىل ندرة املعلومات الواردة عن خبري التعدين األورالي “ إيفان‬ ‫بارودين “ ‪ ،‬ورحلته فى اإلصدارات املنتشرة بني مجوع القراء (وخاصة فى الصحافة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فشيئا أصبح االهتمام بتلك القضية مقتصر على األوساط‬ ‫وشيئا‬ ‫اليومية) ‪.‬‬ ‫األكادميية فقط ‪ .‬واستمرت “ ب‪ .‬أ‪ .‬فالسكايا “ فى اإلشارة إىل تاريخ محلة “ إ‪.‬‬ ‫ب‪ .‬كافاليفسكس” ‪.‬‬ ‫وما ميز أعماهلا اعتمادها على جمموعة كبرية من املصادر‪ ،‬معظمها من مكاتب‬ ‫األرشيف بليننجراد ‪ ،‬أو على األرجح من األرشيف املركزي احلكومي التارخيي ‪،‬‬ ‫وقسم املخطوطات باملكتبة احلكومية العامة باسم “ م ‪ .‬ي ‪ .‬سالتيكوف‪ -‬شيدرين “‪.11‬‬ ‫وقل ظهور مقاالت عن هذا املوضوع فى صحافة األورال ‪ ،‬بينما بدأ االهتمام بهذا‬ ‫املوضوع يظهر مبدينة زالتؤوست * فى جنوب األورال‪ .‬ومل يكن ذلك من قبيل‬ ‫الصدفة ‪ ،‬حيث أن حياة إيفان بارودين ‪ ،‬وعمله ارتبطا مبناطق التعدين فى‬ ‫زالتؤؤست ‪ .‬وظهرت فى منتصف السبعينيات فى الصحافة احمللية مقالة قصرية عن‬ ‫احلملة الروسية إىل مصر والسودان ‪ ،‬كان كاتبها املؤرخ احمللي “ أ‪ .‬ليربمان “ ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫معتمدا على أجزاء‬ ‫واستعان الكاتب مبذكرات “ إيفان بارودين “ من وقت آلخر ‪،‬‬ ‫كاملة منها‪.12‬‬ ‫ومل يغفل “ أ‪ .‬ج‪ .‬كازلوف “ عن ذكر “ إيفان بارودين ” ؛ حيث كان فى ذلك‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الوقت ً‬ ‫واحدا من املتخصصني البارزين فى تاريخ‬ ‫كبريا فى األورال ‪ ،‬بل إنه كان‬ ‫عاملا‬ ‫التعدين باألورال ‪ .‬وأصبح “ أ‪ .‬ج‪ .‬كازلوف “ أثناء عمله جبامعة األورال احلكومية‬ ‫‪ - 11‬انظر‪ :.‬ب‪ .‬أ‪ .‬فالسكايا ‪ .‬معلومات جديدة عن رحلة « ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي »‬ ‫إلي مصر ‪ ،‬شرق السودان وغرب أثيوبيا ‪ //‬بالد وشعوب الشرق‪ .‬موسكو ‪.1965 ،‬‬ ‫اإلصدار الرابع ‪ ،‬الكاتب نفسه ‪ .‬ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي والمستشرقون الروس ‪ //‬تقارير‬ ‫اللجنة الشرقية للجمعية الجغرافية باالتحاد السوفيتي ‪ .1965 .‬اإلصدار األول ‪ ،‬الكاتب‬ ‫نفسه ‪ .‬رصيد الجمعية الروسية الجغرافية فى دراسة أفريقيا ‪ //‬بالد وشعوب الشرق‪.‬‬ ‫موسكو‪ .1969 ،‬اإلصدار التاسع ‪ ،‬الكاتب نفسه ‪ .‬ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي والمهندسون‬ ‫المصريون فى األورال وشرق السودان (مصادر غير منشورة) ‪ //‬بالد وشعوب‬ ‫الشرق ‪ .‬موسك ‪ . 1973 ،‬اإلصدار الخامس عشر ‪.‬‬ ‫‪ - 12‬انظر‪ :‬أ‪ .‬ليبرمان ‪ .‬األوراليون فى مصر‪ //‬عامل زالتؤوست ‪11 . 1976 .‬‬ ‫سبتمبر ‪.‬‬ ‫* زالتؤوست – إحدى مقاطعات منطقة شليبينسك باألورال ( المترجم ) ‪.‬‬ ‫‪26‬‬


‫عام ‪ 1962‬أحد مؤسسي قسم األرشيف القديم يف كلية التاريخ ‪ .‬وترأس فيما‬ ‫بني عامي ( ‪ 1974‬و ‪ ) 1975‬قسم علوم األرشيف بكلية التاريخ‪ .13‬وبرز اسم خبري‬ ‫التعدين “ إيفان بارودين “ فى واحد من أحباثه العلمية األخرية‪ ،‬وهو عبارة عن‬ ‫كتاب سرية ذاتية حتت عنوان « مبدعو العلم والتقنية فى األورال » وصدر فى عام‬ ‫‪ – 1981‬جبانب أمساء “ إ‪ .‬إ‪ .‬بالزونوف “ ووالد وابن شرييبانوف‪.14‬‬ ‫ساعد وضع التأريخ اجلديد يف روسيا ‪ -‬بعد انهيار االحتاد السوفيييت فى‬ ‫التسعينيات ‪ -‬على اتساع رقعة القضايا التى بدأت جتذب انتباه الباحثني ‪ .‬وكانت‬ ‫الظاهرة األبرز حينها ظهور أحد أفرع العلم وهو التأريخ احمللي ‪ .‬ومن الطبيعي فى‬ ‫تلك األجواء أن يزداد اهتمام باحثي األورال بتاريخ استخراج الذهب فى املنطقة ‪.‬‬ ‫وكان كتاب “ أ‪ .‬ف‪ .‬مانني “ ذو الصبغة العلمية املتعارف عليها أكثر األعمال‬ ‫الشيقة اليت تناقش هذا املوضوع ‪ .‬مل يكن الكاتب ‪ ،‬الذى خصص كتابه لدراسة‬ ‫تاريخ صناعات استخراج الذهب فى األورال مبعزل عن حقيقة دعوة اإلمرباطورية‬ ‫الروسية للمتخصصني من مصر الجتياز « دورات تدريبية» مميزة فى مصانع األورال‬ ‫وتدريبهم على التقنيات احلديثة فى جمال استخراج الذهب فى منتصف القرن‬ ‫التاسع عشر ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫متاما أن يتطرق الكاتب إىل وصول املهندسني املصريني‬ ‫ولذا كان من املنطقي‬ ‫فى األربعينيات من القرن التاسع عشر إىل األورال‪ .15‬أصدر متحف التأريخ احمللي‬ ‫ً‬ ‫مؤلفا بعنوان «تاريخ ذهـب ميـاس » ‪ ،‬الذى يستعرض‬ ‫مبدينة مياس فى عام ‪1997‬‬ ‫مائيت عام من تاريخ استخراج املعادن النفيسة فى تلك املنطقة ‪ .‬واستعرض الكتاب‬ ‫املراحل الرئيسية من تاريخ منطقة صناعة الذهب مبدينة مياس فى القرن الثامن‬ ‫عشر والتاسع عشر ‪ ،‬كما أشار إىل مهمة قائد منطقة تعدين زالتوستوفسك –‬ ‫متخصص الفلزات البارز فى األورال “ ب‪ .‬ب‪ .‬أنوساف ” ‪ .‬وتولي أحد أعمال “إ‪ .‬يو‪.‬‬ ‫نيفرايفا” املتخصصة باألحباث العلمية مبتحف التأريخ احمللي مبدينة مياس‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خاصا مبوضوع حديثنا‪ .‬ويرتكز العمل‬ ‫اهتماما‬ ‫املنشورة فى تلك اجملموعة‬ ‫بشكل خاص على الرحالت اخلارجية خلرباء صناعات الذهب مبياس فى القرن‬ ‫‪ - 13‬انظر‪ :‬جامعة األورال الحكومية في كتب السيرة الذاتية ‪ /‬المحررين م‪ .‬إ‪.‬‬ ‫جالفاتسكي ‪ ،‬إ‪ .‬أ‪ .‬باميتنيخ ‪ .‬إيكاترينبورج ‪ . 2000 ،‬ص ‪.223‬‬ ‫‪ - 14‬انظر‪ :‬أ‪ .‬ج‪ .‬كازلوف ‪ .‬مبدعوا العلم والتقنية فى األورال فى القرن السابع عشر‬ ‫– بداية القرن العشرين ‪ .‬سفيردلوفسك ‪ . 1981 ،‬ص‪.17‬‬ ‫‪ - 15‬انظر‪ :‬أ‪ .‬ف‪ .‬مانين ‪ .‬طبقة الذهب ‪ .‬إيكاترينبورج ‪ . 1995 ،‬ص ‪.107‬‬ ‫‪27‬‬


‫التاسع عشر‪ .16‬ووصفت الباحثة بإجياز بعثة جمموعة “ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي “‬ ‫إىل مصر والسودان ‪ ،‬مستخدمة فى ذلك أحد حمتويات املتحف‪.‬‬ ‫تعترب رحلة خبري التعدين باألورال إىل مشال شرق أفريقيا فى القرن التاسع عشر‬ ‫واحدة من أكثر األحداث غرابة وروعة فى تاريخ التعدين باألورال ‪.‬‬ ‫وهلذا من املنطقي أن يصبح اخلبري فى السنوات األخرية حمل اهتمام الصحفية “‬ ‫إ‪ .‬م‪ .‬جالدكوفا “ ‪ ،‬التى كتبت مقالة عن هذا التاريخ‪ .17‬وباإلضافة إىل ذلك كان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حمورا فى تاريخ‬ ‫منطقيا أن تلقى بعثة “ ي ‪ .‬ب ‪ .‬كافاليفسكي “ – التى تشكل‬ ‫العالقات الروسية العربية – اهتمام املستشرقني الروس فى التسعينيات من القرن‬ ‫العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين‪ .‬كما ورد ذكر نفس األمر فى دليل‬ ‫اجلغرافيا اإلقليمية املخصص للسودان ‪ ،‬والذى أصدره معهد أفريقيا عن السودان‬ ‫التابع ألكادميية العلوم الروسية‪.18‬‬ ‫أسهم املستعرب الروسي الشهري “ ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكني “ بدور كبري فى دراسة هذا‬ ‫املوضوع ؛ حيث أصدر فى التسعينيات كمية كبرية من الوثائق املخصصة حلملة‬ ‫“ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي “ احملفوظة فى أرشيف السياسة اخلارجية باإلمرباطورية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫رئيسيا ملقال املستعرب‬ ‫مصدرا‬ ‫الروسية‪ .19‬وعلى األرجح فقد شكلت تلك الوثائق‬ ‫الروسي البارز “ ف‪ .‬ف‪ .‬بيليكوف “ فى منتصف التسعينيات‪. 20‬‬ ‫استمر “ ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكني “ فى مستهل القرن الواحد والعشرين فى حبث تلك‬ ‫املسألة بعدما قام بإصدار عدة أعمال فى مصر باللغة العربية تعين بدراسة أمناط‬ ‫‪ - 16‬انظر‪ :‬إ‪ .‬يو‪ .‬نيفرايفا‪ .‬بعثات مستخرجي الذهب بمياس فى النصف األول من‬ ‫القرن التاسع عشر ‪ //‬تاريخ الذهب بمياس‪ :‬مائتي عام ‪ .‬مياس‪ .1997 ،‬ص ‪.79-86‬‬ ‫‪ - 17‬انظر‪ :‬إ‪ .‬م‪ .‬جالدكوفا‪ .‬أسرار إيكاترينبورج‪ .‬لقاءات ‪ ،‬تحريات ‪ ،‬ذكريات‬ ‫صحفي ‪ .‬إيكاترينبورج ‪ . 2012 ،‬ص ‪.83-92‬‬ ‫‪ - 18‬انظر‪ :‬السودان‪ .‬الدليل ‪ .‬موسكو ‪ . 2000 ،‬ص‪.46‬‬ ‫‪ - 19‬انظر‪ :‬ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين ‪ .‬مصر من منظور الروس فى منتصف القرن التاسع‬ ‫عشر وبداية القرن العشرين‪ .‬السياسة‪ .‬االقتصاد‪ .‬الثقافة ‪ //‬مادة علمية من سلسلة «‬ ‫الشعوب والثقافات »‪ .‬اإلصدار الخامس عشر‪ .‬شعوب الشرق األوسط‪ .‬الكتاب الثانى‪.‬‬ ‫موسكو‪ .1992،‬ص‪.323-328 ، 233-275‬‬ ‫‪ - 20‬انظر‪ :‬ف‪ .‬ف‪ .‬بيليكوف ‪ .‬علبة التبغ الذهبية للمقدم كافاليفسكي ‪ //‬معادن آسيا‬ ‫األوروبية‪ .1996 .‬العدد السادس‪.‬‬ ‫‪28‬‬


‫العالقات الروسية املصرية فى القرن التاسع عشر‪ . 21‬يدين املؤلف بالفضل ً‬ ‫حقا‬ ‫ً‬ ‫نظرا‬ ‫جلينادى فاسيليفتش جارياتشكني صاحب الفكرة األولي هلذا العمل‪،‬‬ ‫لدوره فى إخراج هذا الكتاب إىل النور ؛ حيث أن الكاتب بدأ العمل فى كتابه‬ ‫ً‬ ‫استنادا ملا رواه جارياتشكني‪ .‬وال ميكنين إنكار امتناني لنائب مدير األرشيف‬ ‫احلكومي ملنطقة سفردلوفسك “ أ‪ .‬ج‪ .‬سابوجنك “ ‪ ،‬ومؤرخ األورال الشهري واحلاصل‬ ‫علي درجة دكتوراه العلوم “ ف‪ .‬أ‪ .‬شكريين “ ؛ حيث ساعدت نصائحهم فى فتح‬ ‫أبواب تلك احلقبة التارخيية اجلديدة أمام الكاتب ‪ .‬كما أود التعبري عن عرفاني‬ ‫لعامل تاريـخ األورال احلاصل علي درجة الكانديدات فى العلوم “ أ‪ .‬ف‪ .‬ليامزين “‬ ‫الذى قدم املساعدة أثناء العمل باخلرائط اجلغرافية ‪.‬‬ ‫أدرك مؤلف هذا الكتاب مبجرد العمل على خمطوطة “ إيفان بارودين “ ضرورة‬ ‫ً‬ ‫حتديدا بدأت رحلة‬ ‫التوجه إىل موطن هذا الرجل فى جنوب األورال ‪ .‬فمن زالتؤوست‬ ‫بارودين ‪ ،‬وفى منتصف األربعينيات ‪ ،‬وصل املهندسون املصريون إىل مناجم تعدين‬ ‫مياس هناك ‪ .‬كما أن البحث عن وثائق تارخيية جديدة – ترتبط بشكل أو‬ ‫بآخر بهؤالء األشخاص أو تلك األحداث – قاد املؤلف إىل أرشيف مدينة زالتؤوست‬ ‫وإىل متاحف اجلغرافيا اإلقليمية فى زالتؤوست ومياس حيث متكن الكاتب من‬ ‫الوصول إىل معلومات شيقة ‪.‬‬ ‫وكان األهم فى ذلك الوقت مطالعته لتلك املناطق ‪ ،‬التى يدور حوهلا احلديث فى‬ ‫الكتاب ‪ ،‬بل واستشعار مناخ جبال إملني ‪( -‬تعليق املرتجم ‪ :‬جزيرة يف اجلزء الغربي‬ ‫ملنطقة نوفجوراد) ‪ ، -‬التى كان “ إيفان بارودين “ وأصدقاؤه املصريون يسريون عرب‬ ‫منحدراتها ‪ .‬وأثارت بعض املصادر املنشورة املتعلقة بالتعاون بني روسيا ومصر فى‬ ‫منتصف القرن التاسع عشر انتباه الكاتب فى هذا البحث ‪ .‬كما حظيت مدونات‬ ‫الرحالة “ أ‪ .‬إيه‪ .‬بريم “ و” ن‪ .‬ن‪ .‬مورافيف‪ -‬كارسكي “ و” أ‪ .‬ن‪ .‬مورافيف “ و” أ‪ .‬س‪.‬‬ ‫نوروف “ و” أ‪ .‬أ‪ .‬رافاالفيتش“ وآخرين كانوا متواجدين فى مصر والسودان باهتمام‬ ‫خاص ‪ .‬وأحبر الكثري منهم – كما كان احلال بالنسبة ألصدقاء “ إيفان بارودين“‬ ‫– إلـى أعالي نهر النيـل ‪ ،‬وتوقفوا فى نفس املناطق السكنية ‪ .‬ترى كيف كان‬ ‫حال اإلسكندرية والقاهرة وبين سويف وأسوان ‪ ،‬وغريها من مدن مصر فى ذلك‬ ‫الوقت؟ ‪ ،‬وما االنطباع الذى ّ‬ ‫خلفته إمرباطورية “حممد على “ فى نفوس الروس فى‬ ‫عهد نيكوالي األول ؟‬ ‫‪ - 21‬انظر‪ :‬ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين ‪ .‬روسيا ومصر فى ضوء وثائق األرشيف الروسية‬ ‫(منتصف القرن التاسع عشر – بداية القرن العشرين )‪ .‬القاهرة‪( 2002 ،‬باللغة العربية)‬ ‫؛ الكاتب نفسه‪ .‬البحث عن الذهب‪ .‬من تاريخ العالقات الثقافية بين روسيا ومصر‬ ‫فى منتصف القرن التاسع عشر‪ .‬اإلسكندرية ‪ ( 2003 ،‬باللغة العربية ) وأخرى‪.‬‬ ‫‪29‬‬


‫يتعني عند البحث فى خمطوطة بارودين اإللتفات إىل مذكرات قائد البـعثة ‪،‬‬ ‫التى كان خبري التعدين باألورال “ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي “ أحد أعضائها ‪.‬‬ ‫ومن الشيق للغاية مقارنة األخبار التى ترد فى تلك املذكرات ‪ ،‬ومقابلة االنطباع‬ ‫حول أحداث رحلة خبري التعدين ورحلة رئيسه ‪ .‬بالطبع ختتلف مذكرات “ إ‪ .‬ت‪.‬‬ ‫بارودين “ عن مذكرات “ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي “ ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مساعدا لرئيس منطقة التعدين‬ ‫كان “ إجيور بيرتوفيتش “ فى تلك اللحظة‬ ‫عال من الثقـافة ‪ ،‬كما كان‬ ‫بقدر‬ ‫مبقاطعة زالتؤوست ‪ .‬وهو شخص يتمتع‬ ‫ٍ ٍ‬ ‫ً‬ ‫ممثال للطبقة الراقية املثقفة فى ذلك الوقت ‪ .‬وترد على صفحات كتابه العديد من‬ ‫االقتباسات من أعمال ( هريودوت وهومبولت)‪ ،‬وكثري من الكتاب اآلخرين الذين‬ ‫ً‬ ‫جيدا ‪ .‬على اجلانب اآلخر كان بارودين من عامة الشعب ‪.‬‬ ‫كان يعرفهم‬ ‫وهذا هو ما مييز – فى كثري من األحيان – يومياته فى السفر ‪ ،‬وهي عبارة عن‬ ‫شهادة ابن عامل تعدين عن بلد إفريقي بعيد ‪ .‬ويأمل املؤلف فى إكمال العمل‬ ‫الذى بدأه “ أناتولي جرجيوريفتش كازلوف “ فى منتصف القرن املاضى ‪ ،‬وإظهار‬ ‫الكنوز التى حيتوى عليها الدفرت بين اللون احملفوظ فى األرشيف احلكومي‬ ‫ملقاطعة سفريدلوفسك‪.‬‬

‫‪30‬‬


‫الفصل األول‬ ‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬ ‫ال ميكننا بأى حال من األحوال الفصل بني تاريخ وصول املهندسني املصريني إىل‬ ‫األورال وما تبعها من زيارة لبعثة “ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي “ إىل مصر والسودان ‪،‬‬ ‫وبني سرية أحد أبرز الشخصيات يف تاريخ مصر ؛ أال وهو “ حممد على” ‪ .‬من املعروف‬ ‫أن “ حممد على” قد متكن من خالل نشاطه على مستوى السياسة اخلارجية من‬ ‫املضي ً‬ ‫قدما حنو إنشاء إمرباطورية قوية بني عامي (‪. )1830 , 1820‬‬ ‫إال أن حماولته لعدم االستجابة لنداء تركيا باءت بالفشل ‪ً ،‬‬ ‫نظرا ألن الدول األوروبية‬ ‫العظمي كانت مهتمة باحملافظة على اإلمرباطورية العثمانية ‪ ،‬بإعتبارهـا قـوة‬ ‫إقليمية مهمة ‪ .‬وكمـا أشار املـؤرخ الروسي “ ف‪ .‬ب‪ .‬ميخايلوف “ ‪ ،‬فقد مت القضاء‬ ‫على دولة حممد على العظمي فى الفرتة بني عامي (‪ 1839‬و‪“ ) 1841‬بإيعاز من‬ ‫‪31‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫ً‬ ‫مضطرا إىل سحب قواته من سوريا جراء إنزال‬ ‫آرياباخ * األوروبية”‪ .1‬كان والي مصر‬ ‫فيلق من قـوات املشـاه النمسـاوي ‪ ،‬وقصف اخليالة الربيطانية لبريوت باملدافع ‪ .‬مل‬ ‫تكن مصر لتتمكن بعد هذا الصراع من القيام بدورها السياسي الرائد فى الشرق‬ ‫األوسط كما كان احلال فى السابق ‪ .‬وتعرض اجليش املصري لضربة قاصمة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫جمربا على تقليص أعداد قوات اجليش بشكل كبري‬ ‫وهلذا أصبح “حممد على”‬ ‫‪ ،‬والقضاء على األسطول البحري ومعظم منشآت الصناعات العسكرية ‪ ،‬اليت‬ ‫ُب ِن َيت فى السابق‪ .‬من املنطقي أن تؤثر إخفاقات السياسات اخلارجية على مستقبل‬ ‫منو االقتصاد املصــري ‪ .‬فقد أعيد فرض اجلباية السنوية – التى تقدمها مصر‬ ‫لإلمرباطورية العثمانية – مرة أخرى ‪ ،‬وبشكل عام « تراجعت البنية الصناعية‬ ‫فى البالد مائة عام »‪ ، 2‬على حد وصف املؤرخ الروسي “ ي‪ .‬إ‪ .‬زيلينيف “ ‪.‬‬ ‫كانت البنية الصناعـيـة ملصـر فى غضون ذلك الشـغل الشـاغــل حملمـد‬ ‫عــلى ؛ حيث أنه اقتنع بأنها وسيلة حتقيق قوة الدولة واستقالهلا ‪ .‬وكم كان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جمددا‬ ‫منصفا فى مالحظته أن « حممد على كان‬ ‫الباحث الربيطانى “ إي‪ .‬بيتيت”‬ ‫ً‬ ‫ومـحدثـا باملقارنة مع العثمانيني ذوى الفكر القـديـم واحملـافظ »‪ ، 3‬فاجلهود‬ ‫التى بذهلا “حممد على” لتطوير الصناعة والتجارة املصرية قد ساهمت بشكل‬ ‫كبري فى توجيه أنظار األوروبيني للبالد‪ .‬وكان استخراج الذهب من بني قطاعات‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خاصا ‪ .‬فقد كان ‪ -‬بصفة خاصة‬ ‫اهتماما‬ ‫الصناعة ‪ ،‬التى طاملا أوالها حاكم مصر‬ ‫ً‬ ‫واحدا من أهم األهداف ‪ ،‬التى كان “ حممد على”‬ ‫ االستيالء على مناجم الذهب‬‫ينتوى حتقيقها عن طريق عزمه القيام حبملة عسكرية على السودان فى بداية‬ ‫العشرينيات ‪ .‬وهلذا مل يكن من قبيل الصدفة أن يطلق “ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي “‬ ‫على الذهب « املارد » ‪ ،‬الذى « أ ّرق نائب امللك (حممد على – تعليق أ‪ .‬ف‪ .‬أنتوشني)»‪،‬‬ ‫« ومصدر قلق حكام السودان على مدار عشرين ً‬ ‫عاما »‪ . 4‬كان اهلدف اآلخر من‬ ‫‪ * - 1‬آرياباخ – مركز السلطة فى آثينا القديمة ( المترجم ) ‪.‬‬ ‫انظر‪ :‬تاريخ السياسة الخارجية فى روسيا‪ .‬النصف األول من القرن التاسع عشر (من‬ ‫حروب روسيا ضد نابليون إلى معاهدة باريس عام ‪ / )1856‬رئيس التحرير و‪ .‬ف‪.‬‬ ‫أورليك‪ .‬موسكو‪ .1995 ،‬ص‪.326 .‬‬ ‫‪ - 2‬أنظر‪ :‬ي‪ .‬إ‪ .‬زيلينيف مصر‪ :‬القرون الوسطى‪ .‬العهد الجديد‪ .‬سانت بطرسبورج‬ ‫‪ .1999 ،‬ص‪.245 .‬‬ ‫‪ - 3‬إي‪ .‬بيتتي القاهرة‪ .‬تاريخ المدينة‪ .‬سانت بطرسبورج ‪ .2007 ،‬ص‪.213 .‬‬ ‫‪ - 4‬انظر‪ :‬مجموعة مقاالت إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ .‬المجلد الجامس‪.‬‬ ‫رحلة إلى أعماق أفريقيا (مرفق بها خريطة وسبعة عشر صورة صغيرة)‪ .‬سانت‬ ‫بطرسبورج ‪ .1872 ،‬ص ‪.208‬‬ ‫‪32‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫احلملة العسكرية على السودان يتمثل فى احلصول على مصادر جديدة لتمويل‬ ‫اجليش ‪ ،‬الذى بدأ للتو محالته العسكرية الكربي ‪.‬‬ ‫إال أن اإلغارة علي السودان الشرقية فيما بني عامي (‪ 1820‬و ‪ )1822‬مل حيقق‬ ‫النتائج املأمولة حملمد على ‪ .‬فعلى ما يبدو‪ ،‬مل يكن اجلنود السودانيون أفضل‬ ‫عناصر اجليش املصري لعدم قدرتهم على التأقلم سواء على املناخ فى مصر‪ ،‬أو على‬ ‫الطعام غري املألوف هلم ‪ ،‬ونتيجة لذلك ارتفعت معدالت الوفاة فيما بينهم ‪.‬‬ ‫وفيما خيص استخراج الذهب فقد أخرب املستشارون والي مصر بأن مناجم الذهب‬ ‫– التى ترجع إىل عهد مصر القدمية – مل تعد حتتوى على معادن صاحلة لالستخدام‬ ‫فى الصناعة ‪ .‬وقد كتب “ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي “ بعد ذلك عن مصري مناجم‬ ‫الذهب فى إحدى مناطق شرق السودان‪ « :‬مل يكن استخراج الذهب كاملعتاد‪،‬‬ ‫بل مل تكن كميته تغطي سوى عشرين يف املائة من نفقات احلامية (حصن‬ ‫(دول) – تعليق أ‪ .‬ف‪ .‬أنتوشني) »‪ .5‬وقد سافر “ حممد على” بنفسه إىل السودان‬ ‫– على الرغم من بعدها عن عاصمة مصر – فى عامي (‪ 1838‬و ‪ )1839‬بصحبة‬ ‫ً‬ ‫خصيصا الستعراض آفاق تطوير صناعة‬ ‫املهندسني الفرنسيني “ المبري وليفيفرا “‬ ‫استخراج الذهب هناك ‪ .‬يرجع األمر إىل تضليل بعض األجانب لوالي مصر ‪ ،‬بعد أن‬ ‫أخربوه بإمكانية استخراج ما بني ‪ 240 - 150‬لوط ذهب من آالف سنتنارات (مائة‬ ‫كيلوجرام ‪ .‬تعليق املرتجم) من الرمال من إحدى مناطق شرق السودان‪.6‬‬ ‫من املعروف أن مناجم الذهب فى السودان كانت حمل اهتمام األوروبيني‪ .‬ففى‬ ‫عام ‪ 1825‬وصل إيطاليان ؛ أال وهما متخصص علم املعادن والكيميائي “ جون‬ ‫فورني “ ‪ ،‬وعامل اجليولوجيا “ جون بروكي “ إلـى منطقة سلطنـة سـنار ‪ .‬وفى عام‬ ‫ً‬ ‫حبثا عن مناجم الذهـب‬ ‫‪ 1833‬أجرى املهندس الفرنسي “ ل‪ .‬م‪ .‬لينان دي بيلفون “‬ ‫فـى املنـطـقة ‪ .‬كما تواجد املهندس اإليطالي “ بورياني“ عام ‪ 1837‬فى فازوغلي‬ ‫(مملكة على الضفة الشرقية للنيل األزرق على حدود إثيوبيا‪ .‬تعليق املرتجم) ‪،‬‬ ‫وهو املكان ذاته الذى تواجدت فيه جمموعة املتخصصني الروس فيما بعد ‪ .‬وتوصل‬ ‫ُ‬ ‫رس َل “ جون‬ ‫األخري إىل نتيجة عدم جدوى التنقيب عن الذهب فى السودان ‪ .‬وقد أ ِ‬ ‫بروكي “ فى العام التالي مرة أخرى إىل السودان ؛ ذلك البلد اإلفريقى البعيد ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫وبدال منه أرسل عامل اجليولوجيا النمساوي “ يوزف‬ ‫ولكن وافته املنية فى الطريق ‪.‬‬ ‫‪ - 5‬نفس المرجع‪.‬‬ ‫‪ - 6‬انظر‪ :‬ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪ .‬حوض النيل على الخارطة الجيولوجية ‪ //‬مجلة‬ ‫التعدين‪ .1849 .‬الجزء الثانى‪ .‬الكتاب الرابع‪ .‬ص‪.92 .‬‬ ‫‪33‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫فون روسيجري “ ‪ ،‬الذى قام بدراسة جبال منطقة فازوغلي ‪ .‬واتضح أن رأي “ روسيجري”‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ونظرا ألن “روسيجري”كان‬ ‫متاما عن وجهة نظر اإليطالي “ بورياني “ ‪،‬‬ ‫خمتلفا‬ ‫كان‬ ‫يتمتع بسمعة كبرية فقد تيقن “ حممد على “ من وجود خمزون كبري من الذهب‬ ‫فى السودان‪ . 7‬إال أنه اتضح فيما بعد أن املخزون احلقيقي للمعدن النفيس كان‬ ‫ً‬ ‫حمدودا للغاية فى تلك املنطقة‪.‬‬ ‫توضح الوثائق ‪ ،‬التى نشرها “ ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكني “ أن “ حممد علي “ توجه ألول‬ ‫مرة فى نهاية الثالثينيات إىل روسيا بطلبات تتعلق باستخراج الذهب ‪ .‬كان حممد‬ ‫ً‬ ‫مهموما – قبل عام من بداية احلملة املصريية إلمرباطوريته بني عامي (‪1839‬‬ ‫علي‬ ‫و ‪ – ) 1841‬بقضية زيادة معدالت استخراج املعدن النفيس فى مصر ‪.‬‬ ‫وكانت جناحات روسيا فى جمال التعدين ذائعة الصيت فى العامل آنذاك ؛ حيث‬ ‫شكل الذهب الروسي أكثر من ‪ 40%‬من نسبة ما ُيستخرج فى العامل ‪ ،‬وهلذا‬ ‫أصبحت روسيا املورد الرئيسي هلذا املعدن فى السوق العاملي ‪.‬‬ ‫ويشري القنصل العام لروسيا فى مصر “ أ‪ .‬ميديم “ إىل اهتمام والي مصر عام ‪1838‬‬ ‫« بالوصف الدقيق واملفصل للطرق احلديثة واملمارسة العملية ‪ ،‬املطبقة فى روسيا‬ ‫الستغالل الرمال التى حتوى الذهب عن طريق الصهر ً‬ ‫بدال من الغسيل »‪ . 8‬وفى نهاية‬ ‫األمر أرسلت إىل “حممد على” وثيقة مماثلة مرتمجة إىل اللغة الفرنسية ‪ ،‬ومرفق‬ ‫معها رسومات هندسية ‪ ،‬مما دفع “حممد علي” للتعبري عن إمتنانه لإلمرباطورية‬ ‫الروسية‪.‬‬ ‫كانت تلك اخلطوة األوىل على طريق تعاون كال البلدين فى جمال‬ ‫استخراج املعدن النفيس ‪ .‬وفى عام عام ‪ 1843‬أي بعد مرور عدة سنوات توجه‬ ‫“ حممد على” بطلب جديد إىل قيصر روسيا “ نيكوالي األول “ إلرسال بعض‬ ‫املتخصصني الروس فى جمال استخراج الذهب إىل مصر ‪ .‬ومل يكن املبعوث الروسي‬ ‫ً‬ ‫اعتقادا‬ ‫إىل القسطنطينية “ ف‪ .‬ب‪ .‬تيتوف “ ليعرتض على مثل هذا التحرك ‪،‬‬ ‫منه أن هذا لن يساهم فى تأزم العالقات بني روسيا واإلمرباطورية العثمانية‪:‬‬ ‫«يبدو من املستبعد أن يثري ظهور مهندسي التعدين واألساتذة الروس فى مصر‬ ‫‪ - 7‬أنظر‪ :‬تاريخ السودان فى الزمن الحديث والمعاصر‪ .‬موسكو‪ .1992 ،‬ص‪.30 .‬‬ ‫‪ - 8‬ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين‪ .‬مصر فى أعين الروس فى منتصف القرن التاسع عشر‬ ‫وبداية القرن العشرين‪ .‬السياسة‪ .‬االقتصاد‪ .‬الثقافة‪ // .‬اقباس من سلسلة « الشعوب‬ ‫والثقافات »‪ .‬اإلصدار الخامس عشرة‪ .‬الكتاب الثانى‪ .‬موسكو‪ .1992 ،‬ص‪.233 .‬‬ ‫‪34‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫حنق السلطان ووزرائه ‪ ،‬أو أن يكن ذريعة لتفسريات خرقاء وسيئة النية ؛ أولاً ‪:‬‬ ‫ً‬ ‫كثريا بثروة “ حممد‬ ‫ألن احلكومة الرتكية كانت – على ما يبدو – ال تأبه‬ ‫علي باشا” ‪ ،‬حتى أنها كانت ترى فى ذلك ضمانة لتوفري أقساط دفع اجلزية؛‬ ‫ً‬ ‫ثانيا‪ :‬اعتادت الدول األجنبية العظمي منذ القدم ‪ ،‬بل واعتاد الباب العالي‬ ‫نفسه على رؤية مصر قبلة لألجانب من مجيع اجلنسيات ‪ ،‬وكان من بينهم من‬ ‫يعمل فى خدمة الباشا ‪ ،‬بل ويشرفون على قطاعات مستقلة فى إدارته »‪. 9‬‬ ‫إال أن وزير املالية “ الكونت ي‪ .‬ف‪ .‬كانكرين “ عارض قيام املهندسني الروس‬ ‫ً‬ ‫مشريا إىل أن صناعة استخراج الذهب فى روسيا تتطور‬ ‫ببعثة إىل البلد العربي ‪،‬‬ ‫بشكل كبري ‪ ،‬وال يوجد متخصصون متفرغون هلذا األمر‪ .‬وهلذا عرض على والي‬ ‫ً‬ ‫شخصيا إرسال مهندسيه إىل اإلمرباطورية الروسية ‪ .‬علق “ ف‪ .‬أ‪ .‬سامارسكي‬ ‫مصر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫“ القائم مؤخرا بأعمال رئيس أركان فيلق مهندسي التعدين – مفسرا تعامل‬ ‫ً‬ ‫قائال‪ « :‬دعونا املصريني للقدوم‬ ‫احلكومة الروسية املنطقي مع تلك املسألة –‬ ‫إلينا فقط لتفادي إرسال ضابطنا إىل مصر؛ ً‬ ‫ظنا بأن إرسال الضابط سيـعين املـوت‬ ‫الـمحقق »‪ . 10‬وقد وردت فى كتاب “ ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكني “ رسالة ملمثلي اإلدارات‬ ‫املختلفة فى عامي (‪ )1844 – 1843‬تتعلق باإلعداد لزيارة املصريني إىل روسيا‪. 11‬‬ ‫يبدو أن اجلانب الروسي كان يعلم أن مصر بها الكوادر املؤهلة للسفر لتلك‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كبريا‪.‬‬ ‫اهتماما‬ ‫البعثة اخلارجية ‪ .‬كان “ حممد علي “ يولي تطوير نظام التعليم‬ ‫فاملدارس املتخصصة – التى افتتحها – قامت بتخريج أطباء وفنيني ومهندسني‬ ‫زراعيني وغريهم ‪ .‬وتوافرت خربة التدريس العملية لبعض املتخصصني الفنيني فى‬ ‫اخلارج ‪.‬‬ ‫تلقي املهندسان “ علي إبراهيم “ و” عيسى الدهشوري “ التعليم فى أملانيا‪ .‬كان‬ ‫لدى هذين الشابني خربة احلياة فى أوروبا فوقع االختيار عليـهـما من “ حممد علي‬ ‫“ للقيام بـبـعثة إىل اإلمرباطوريـة الروسـية‪ .‬وصل كال املهندسني املصريني فى‬ ‫ً‬ ‫ونظرا ألن األورال كـانت مشـهورة‬ ‫أغسطس من عام ‪ 1845‬إىل سانت بطرسبورج ‪.‬‬ ‫بالصـناعات التعدينـية ‪ ،‬كان من املنطقي أن يستهل املصريان رحلتهما إىل هناك‬ ‫على وجه التحديد ‪.‬‬ ‫‪ - 9‬نفس المرجع‪ .‬ص‪.237 .‬‬ ‫‪ - 10‬مفتبس من‪ :‬ب‪ .‬أ‪ .‬فالسكايا‪ .‬ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي والمهندسون المصريون فى‬ ‫األورال وشرق السودان (مواد غير منشورة) ‪ //‬بالد وشعوب الشرق‪ .‬موسكو‪،‬‬ ‫‪ .1973‬اإلصدار الخامش عشر‪ .‬ص‪.127 .‬‬ ‫‪ - 11‬أنظر‪ :‬ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين‪ .‬مصر فى أعين الروس‪ ...‬ص‪.238-242 .‬‬ ‫‪35‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫توجه املهندسان فى شهر سبتمرب من عام ‪ 1845‬إىل شرق اإلمرباطورية عرب‬ ‫نوفجراد اجلنوبية وكازان ‪ .‬وتوجهت وزارة خارجية اإلمرباطورية الروسية بطلب إىل‬ ‫وزارة املالية لتقديم الدعم للمهندسني املصريني لقبوهلم فى « هيئـة التعدين » ‪،‬‬ ‫والسماح هلم بتعلم « طرق استخراج الذهب املستخدمة يف األورال»؛ ومت تكليف‬ ‫مهندس التعدين والرحالة الروسي الشهري العقيد “ إجيور كافاليفسكي “ مبرافقة‬ ‫املهندسني املصريني ؛ وتشري التعليمات التى حصل عليها “ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‬ ‫“ من وزارة املالية إىل ضرورة « استقبال علي حممد والدهشوري من إدارة الشئون‬ ‫اآلسيوية التابعة لوزارة اخلارجية ‪ ،‬بل وتعريفهم على بعض مؤسسات العاصمة‬ ‫املتخصصة ‪ ،‬والتوجه مباشرة إىل إيكاترينبورج ‪ ،‬حيث سيقومان بتفـقد‬ ‫ضـواحيها ‪ ،‬باإلضافة إىل تفقد ورش منطقة بريوزوف ‪ ،‬والورش اخلاصة بصناعات‬ ‫الذهب اليدوية ؛ بعد ذلك يتوجب زيارة مناجم الذهب مبصانع جبل بلوجودات ‪ ،‬ثم‬ ‫املرور من هناك عرب إيكاترينبورج إىل مصانع زالتؤوست للتعرف على صناعات‬ ‫منطقة مياسكي ‪.‬‬ ‫وبهذا ستستغرق الرحلة مع املهندسني املصريني ما يقرب من ثـمانية أشهر»‪.12‬‬ ‫تعينّ على “ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي “ – بعد انتهاء الرحلة املخطط هلا حتى شهر‬ ‫مايو ‪ – 1846‬نقل مهمة اصطحاب املهندسني إلي الضابط املُعينّ فى منصب رئيس‬ ‫جملس إدارة مصانع تعدين جبال األورال ‪ ،‬والذى سيصطحبهم إىل أوديسا ‪ ،‬بينما‬ ‫سيظل “ كافاليفسكي “ فى زالتؤوست فى انتظار املهمة التالية ‪.‬‬ ‫وصل املهندسان املصريان إىل إيكاترينبورج فى السادس عشر من أكتوبر‬ ‫ً‬ ‫مريضا‬ ‫‪ .1845‬وال خيفي على أحد أن “ عيسى الدهشوري “ قد وصل إىل هناك‬ ‫لعدم حتمله الطقس الذى ُ‬ ‫يصعب على املصريني التأقلم عليه‪ .‬كان “ ي‪ .‬ف‪.‬‬ ‫كافاليفسكي “ قد أشار فى خطابه الذى أرسله من كازان بتاريخ السادس مـن‬ ‫باق فى اسرتاحته ‪،‬‬ ‫أكتوبر ‪ 1845‬أن الدهشوري «على الرغم من تعافيه من املرض ٍ‬ ‫إال أن آالم الصدر وحالة احلمي عاودته فى الطريق وتسببت فى توقفنا بني احلني‬ ‫واآلخر؛ باإلضافة إىل ذلك تعرض املسافر اآلخر “ علي حممد “ إىل أزمات صحية‬ ‫متكررة بسبب نزلة برد على حد وصف األطباء »‪ ، 13‬وفى حقيقة األمر فقد ظهرت‬ ‫ً‬ ‫أيضا عند الوصول ‪.‬‬ ‫على “ حممد إبراهيم “ أعراض املرض‬ ‫‪ - 12‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .24‬فهرس ‪ .23‬ملف‪.‬‬ ‫ورقة ‪.1‬‬ ‫‪ - 13‬ب‪ .‬أ‪ .‬فالسكايا‪ .‬ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي والمهندسون المصريون ‪ ...‬ص‪.130 .‬‬ ‫‪36‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫فى تلك األثناء جرى اإلعداد بالفعل للربنامج اخلاص بوصول الضيوف األجانب‬ ‫إىل األورال ؛ حيث تلقي “ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي “ آنذاك تعليمات حمددة من‬ ‫غرفة أركان مهندسي التعدين ‪ .‬أشار القائم بأعمال رئيس األركان العقيد “‬ ‫ف‪ .‬أ‪ .‬سامارسكي “ فى اخلطاب املوجه له بتاريخ األول من سبتمرب ‪ 1845‬أنه من‬ ‫األفضل أن يتفقد املصريان مصانع تاجيل ( مدينة فى مقاطعة سسفريدلوفسك‬ ‫‪ .‬تعليق املرتجم) وهى إحدى سالسل مصانع دوميدوف ‪ ،‬وكذلك ورش الذهب التى‬ ‫ميتلكها تاجر األورال الشهري “ ياكافلوف “ ‪.‬‬ ‫ومل يكن من قبيل الصدفة ً‬ ‫أبدا أن يقع االختيار على أعمال تلك املصانع‬ ‫ً‬ ‫حتديدا كي يتم عرضها علي الضيوف األجانب‪ .‬فصناعات التعدين باألورال فى‬ ‫ً‬ ‫منوذجا ملناطق التعدين ‪ ،‬والتى متثل‬ ‫القرن التاسع عشر كانت حتوى بني طياتها‬ ‫كل منطقة منها ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خاصا ذو صفات مميزة يسوده االكتفاء الذاتي‬ ‫اجتماعيا‬ ‫بناءا‬ ‫والتكافل االجتماعـي ‪ .‬جيدر اإلشارة إىل أن النصف األول من القرن التاسع عشر‬ ‫كان فرتة إزدهار هذا النظام‪.14‬‬ ‫لقد متيزت منطقة تاجيل اجلنوبية بسالسل مصانع دوميدوف ‪ ،‬ومـنطـقـة‬ ‫إيسيتسـك العـلـيا ( إحـدى الـمراكز اإلدارية السبع إليكاترينبورج ‪ .‬تعليق‬ ‫املرتجم ) ‪ ،‬التابعة ملقاطعة ياكافلوف‪ ،‬مبساحاتها الشاسعة واستقرارها املادي ‪.‬‬ ‫فعلى سبيل املثال بلغت مساحة منطقة مصانع دوميدوف الريفية فى جنوب تاجيل‬ ‫ً‬ ‫معموال بها قبل الثورة‬ ‫أكثر من ‪ 638‬ألف ديسياتينا (وحدة قياس فى روسيا كان‬ ‫البلشفية وتساوى هكتار ‪ .‬تعليق املرتجم ) ‪ .‬كان “ بافل نيكواليفيتش “‬ ‫يستحوذ على ملكية املنطقة قبل عام ‪ ،1840‬وبعد موته ورثتها أرملته “ أفرورا‬ ‫كارلوفنا “ وابنه الصغري “ بافل “ ‪.‬‬ ‫ولكن ظلت اليد الطولي ألناطولي نيكواليفيتش دوميدوف ‪ ،‬الذى حصل فى‬ ‫عام ‪ 1836‬على لقب “ الكونت سان دوناتو “ من دوق توسكانا األكرب ( فرديناندو‬ ‫الثالث ‪ . 1769 – 1824‬تعليق املرتجم )‪ .‬كانت لإلصالحات اإلدارية – التى فكر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كبريا على استقرار‬ ‫تأثريا‬ ‫فيها “ أ‪ .‬ن‪ .‬دوميدوف “ – وهيكلة نظام إدارة األمالك‬ ‫الوضع فى منطقة جنوب تاجيل فى األربعينيات‪ .‬وفى عام ‪ 1846‬وصل إىل تلك‬ ‫ً‬ ‫املصانع « املفوض الرمسي » اجلديد الذى ّ‬ ‫مؤخرا‪ .‬إنه البولندي‬ ‫عينه “ أ‪ .‬ن‪ .‬دوميدوف “‬ ‫‪ - 14‬أنظر‪ :‬ي‪ .‬ج‪ .‬نيكلودوف‪ .‬أصحاب مصانع األورال فى النصف األول من‬ ‫القرن التاسع عشر‪ :‬مالك وممتلكات‪ .‬جنوب التاجيل‪ .2004 .‬ص‪.5 .‬‬ ‫‪37‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫“ أ‪ .‬أي‪ .‬كاجوخوفسكي “ املدير السابق ألمالك أمراء لتوانيا رادزيفيللي‪. 15‬‬ ‫هكذا تزامنت زيارة املهندسني املصريني مع مرور املنطقة مبرحلة إنتقالية ‪،‬‬ ‫حيث كان املهندسون والفنيون يرتقبون بقلق بالغ ومستمر خطط اهليكلة‬ ‫اجلذرية التى يعتزم مالك املنطقة تنفيذها ‪ .‬مل تكن حلظة وصول الضيوف من‬ ‫مصر – التى كان من الضرورى أن يتفقد فيها املصريون جناحات منظومة التعدين‬ ‫فى األورال – على ما يرام ‪ ،‬بيد أن احلال فى أمالك دوميدوف – التى تفقدوها –‬ ‫كان أفضل مما كان عليه احلال فى مناطق أخرى كثرية فى األورال‪.‬‬ ‫فى تلك األثناء انتقلت بعض األمالك السابقة لعائلة دميوديف إىل أمالك “‬ ‫إمرباطورية “ تعدين عائلة ياكافلوف ‪ .‬فقد آلت ملكية منطقة ايسيتسك العليا‬ ‫( أحد املراكز اإلدارية السبع فى مدينة إكاترينبورج ‪ .‬تعليق املرتجم) إىل إيفان‬ ‫ياكافلوف ‪ ،‬والذى نقلها بدوره إىل ابنه أليكسي عام ‪ .1804‬وتولي األخري زمام‬ ‫إدارة املنطقة ألكثر من أربعني ً‬ ‫عاما حتى ‪ . 1849‬وكانت تلك الفرتة واحدة من‬ ‫أزهي الفرتات فى تاريخ املنطقة ‪ .‬فقد كان “ أليكسي ياكافلوف “ حيصل على‬ ‫تقارير مفصلة من إدارة املصانع هناك أثناء فرتة إقامته فى سانت بطرسبورج مما‬ ‫ساعده على اإلملام بكل ما جيرى باملنطقة ‪ .‬باإلضافة إىل ذلك كان املالك يراقب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ساعيا لتوفري‬ ‫أيضا جودتها ‪،‬‬ ‫عن كثب ليس فقط حجم إنتاج املصانـع ‪ ،‬ولكن‬ ‫مستوى معيشة مناسب للعاملني هناك ‪ .‬فى نفس الوقت وصلت إنتاجية املنطقة إىل‬ ‫ما يقرب من ‪ 400‬ألف بود ( وحدة قياس روسية قدمية ‪ .‬تعليق املرتجم ) حديد حتمل‬ ‫طابع « السمور العجوز » ‪ ،‬هي األفضل ً‬ ‫وفقا لتقديرات إدارة التعدين باألورال آنذاك ‪.‬‬ ‫على أية حال ‪ ،‬مل يكن منتصف القرن التاسع عشر أزهي العصور فى تاريخ‬ ‫صناعات التعدين فى األورال ‪ .‬فاجلزء األكرب من خام احلديد فى نهاية القرن الثامن‬ ‫عشر وبداية القرن العشرين كان يجُ لب من خارج احلدود ‪ ،‬وباألخص من إجنلرتا‪.‬‬ ‫إال أن الثورة الصناعية فى إجنلرتا ودول أوروبا األخرى فى النصف األول من القرن‬ ‫ً‬ ‫عمليا إىل تراجع صادرات املعدن الروسي‪ .‬ففى األربعينيات من القرن‬ ‫التاسع عشر أدت‬ ‫التاسع عشر ظلت إنتاجية قلة فقط من مالك املصانع باألورال تنافس فى األسواق‬ ‫ً‬ ‫نظرا لتمتع معدنها جبودة عالية ‪ .‬ومن بني هؤالء املالك عائالت دميوديف‬ ‫العاملية‬ ‫‪16‬‬ ‫وياكوفلوف‪ .‬واليت بلغ نصيب صادرات مصانعهم (من ‪ 30-50%‬وأكثر) ‪.‬‬ ‫‪ - 15‬أنظر‪ :‬نفس المرجع‪ .‬ص‪.107 .‬‬ ‫‪ - 16‬أنظر‪ :‬ن‪ .‬ج‪ .‬سوروفتسيف‪ .‬العالقات االقتصادية الخارجية لمالك مصانع‬ ‫التعدين فى األربعينيات والخمسينيات من القرن التاسع عشر‪ :‬ملخص رسالة من‬ ‫باحث لدرجة الدكتوراه فى تخصص التاريخ‪ .‬إكاترينبورج‪ .2003 ،‬ص‪17 .‬‬ ‫‪38‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫من املميز ‪ ،‬أنه فى نفس اللحظة ‪ ،‬التى كان املهندسان املصريان متواجدين فيها‬ ‫باألورال عام ‪ ، 1846‬أشار رئيس مصانع سالسل جبال األورال “ ف‪ .‬أ‪ .‬جالينكا “‪ 17‬إىل‬ ‫ً‬ ‫عوضا عن القليل‬ ‫أن « مجيع أصحاب املصانع كانوا حباجة إىل تدوير روؤس أمواهلم‬ ‫منهم »‪ ،18‬والذى كان من بينهم بالطبع عائليت دميوديف وياكافلوف ‪ .‬ولكن املهم‬ ‫بالنسبة ملوضوعنا هو التوجه الدائم لصناعات التعدين فى منطقة إيستسك العليا‬ ‫التابعة لعائلة ياكافلوف إىل العمل بسياسة تنويع اإلنتاج ‪ .‬وفى العشرينيات من‬ ‫القرن التاسع عشر بدأ العمل باستخراج رواسب الذهب ‪.‬‬ ‫وحبلول منتصف القرن كان غسيل الذهب جيرى بصورة أكثر فاعلية فى‬ ‫مناجم رودينسك ‪ ،‬التى تقع على بعد عشرة فراسخ من مصنع فريخ‪ -‬نيفينسكي‬ ‫( الذى يقع على نهر النيفا فى إيكاترينبورج اآلن‪ .‬تعليق املرتجم ) ‪ .‬وقامت أول‬ ‫جريدة من نوعها فى تاريخ األورال ‪ « -‬أخبار مقـاطعة بـريم » فى نهاية حكم القيصر‬ ‫“ نيكوالي األول” بوصف مركز استخراج الذهب التابع ملصانع ياكافلوف ‪ « :‬عند‬ ‫النظر إىل املنجم من الصعب أن ال تنبهر مبدى همة ومهارة إدارة املنطقة فى احلصول‬ ‫على رمال الذهب من قاع الربكة ‪ ،‬التى مت مجعها لغسل تلك الرمال ‪.‬‬ ‫فالثروات ‪ ،‬التى حتويها تلك الرواسب الكبرية كانت خمبأة لفرتة طويلة فى‬ ‫قاع الربكة ‪ ،‬ولكن منذ أن مت اكتشافها أصبحت الربكة ‪ ،‬التى يتم جتفيفها‬ ‫على دفعات ‪ ،‬تعطى كل عام عشرات ماليني بود من الرمـال الغنـية » ‪ .‬وكما‬ ‫أشارت اجلريدة ‪ ،‬فإن تلك احلالة النادرة من أسلوب تعدين املناجم « تثري اهتمام كل‬ ‫فضولي »‪. 19‬‬ ‫بل من املدهش أن يرتك هذا األمر أثره على املصريني ‪ ،‬الذين كانوا متواجدين فى‬ ‫مناجم منطقة مصانع أعاىل نهر النيفا ‪.‬‬ ‫تعددت طرق تدوير رمال الذهب فى األورال ما بني عامي (‪ ،)1850 -1840‬تتوقف‬ ‫‪ - 17‬بحث مميز عن حياة وعمل تلك الشخصية الرائعة لف‪ .‬أ‪ .‬شكيرين ‪ ،‬الذى‬ ‫أشار فى عمله إلى تناقض الجنرال ف‪ .‬أ‪ .‬جلينكا‪ « ،‬فى فترة حكم ألكسندر األول‬ ‫– بدا مشاركا فى حروب عديدة وأحد أفراد حركة ديسمبريين ‪ ،‬بينما فى «الحقبة‬ ‫الرمادية» يبدو نيكوالي األول جنرال ياوران وأحد الوجهاء العظام» (ف‪ .‬أ‪ .‬شكرين‪.‬‬ ‫الجنرال جلينكا‪ :‬الشخصية والعصر‪ .‬إيكاترينبورج‪ .2006 ،‬ص‪).3 .‬‬ ‫‪ - 18‬اقتباس من‪ :‬ي‪ .‬ج‪ .‬نيكلودوف‪ .‬قانون بوسيسيون فى تاريخ صناعات التعدين فى‬ ‫األورال فى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين‪ .‬إيكاترينبورج‪ .2011 ،‬ص‪.61 .‬‬ ‫‪ - 19‬أنباء مقاطعة بيرم‪ .1854 .‬رقم ‪ .34‬جزء غير رسمي‪.‬‬ ‫‪39‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫كل طريقة منها على خصائص كل منجم ‪ .‬فى بعض األحيان يتوجب نزع‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا‬ ‫الطبقة الطينية العليا فقط من الرتبة ‪ ،‬حيث توجد الطبقة احلاملة للذهب ‪،‬‬ ‫يتوجب حفر آبار ‪ ،‬يتم من خالهلا مد مناجم حتت األرض « عرب الطبقات » وتثبيتها‬ ‫جبذوع الشجر‪ .‬بعد ذلك يتم نقل الطبقة العليا ‪ ،‬التى ال حاجة هلا على عربات‬ ‫جترها أحصنة إىل أكوام ‪ ،‬بينما ًتنقل الطبقات احلاوية للذهب إىل آلة غسل‬ ‫الذهب ‪ .‬ختتلف مساكة الطبقة اخلاوية من اخلام ‪ ،‬حبيث ترتاوح ما بني ‪ 5‬إىل ‪10‬‬ ‫ساجني ( وحدة قياس روسية تساوى مرت و‪ 13‬سنتيمرت ‪ .‬تعليق املرتجم ) ‪ ،‬ولكن‬ ‫فى منجم رودينسك مل تبلغ مسكها أكثر من ساجني واحد ‪ .‬ولكن على اجلانب‬ ‫اآلجر من النادر أن تبلغ مسك طبقة الرمال احلاملة للذهب أكثر من ساجني واحد‬ ‫‪ ،‬بل فى أغلب األحيان أقل من هذا ‪ ،‬وكانت يقبع حتتها طني صفحي أو أحجار‬ ‫ً‬ ‫كلسية ‪ .‬حتى الرمال التى حتوى الذهب ال تعترب ً‬ ‫خالصا ‪ ،‬ولكنها تكون‬ ‫ذهبا‬ ‫ممزوجة بالطني واحلصى ‪ ،‬وفى مرحلة تالية تكون عادة موحلة إذا احتوت على‬ ‫نسبة كبرية من الطني ‪ .‬وتبدو شكلها ككتلة رمادية أو سوداء حتتوى فى‬ ‫غالب األحيان على حصى كبري وقطع من صخور املنطقة اجلبلية ‪.‬‬ ‫من املالحظ أن بعض مهندسي التعدين ‪ ،‬الذين عملوا فى ورش الذهب باألورال ‪،‬‬ ‫كانوا يلوحون إىل قلة فاعلية استخدام أسلوب غسل الرمال ‪ ،‬التى حتوى الذهب‪.‬‬ ‫على سبيل املثال ‪ ،‬بعد مرور عدة سنوات من وصول املهندسني املصريني إىل تلك‬ ‫املنطقة اسرتعت إحدى مقوالت القائد “ أفدييف “ ‪ ،‬التى أدىل بها على صفحات‬ ‫«جملة التعدين » اخلاصة االنتباه ‪ « :‬عند القيام بغسل الرواسب ال ميكننا حتديد‬ ‫اخلسارة احلقيقية خلام الذهب ‪ ...‬ولكن ‪ ،‬من املرجح أن تلك الطريقة خترج نسبة‬ ‫ثلث الذهب فقط ‪ ،‬بينما يضيع الثلثان اآلخران ‪ ...‬من الواضح أن النسبة املهدرة أكثر‬ ‫من الذهب املتوفر ‪ ...‬هكذا تبدو طريقة الغسل‪ .‬ولكن ‪ ،‬على الرغم من فرص‬ ‫جناحها الضئيلة ‪ ،‬ال ميكننا نسيان أن تلك الطريقة هلا الكثري من املمـيزات ؛‬ ‫فهى األقل تكلفة من وجهة النظر االقتصادية ‪ ،‬واألبسط فى إمكاناتها »‪. 20‬‬ ‫وما يثري الدهشة هو الدور الكبري الذى لعبته تلك التفصيلة األخرية مع هذه‬ ‫التجربة ‪ .‬فالتقنيات احلديثة ‪ ،‬التى كان املهندسان املصريان يتعرفان عليها فى‬ ‫ً‬ ‫نسبيا فى األورال‬ ‫مصانع األورال مل تكن األكثر فاعلية ‪ .‬إال أن التقنيات البسيطة‬ ‫باإلضافة إىل التكلفة املنخفضة لأليدي العاملة سواء فى مصر أو فى السودان هي‬ ‫ما أعطت حملمد علي األمل فى تطوير صناعات استخراج الذهب فى املستقبل ‪ .‬فى‬ ‫‪ - 20‬أفدييف القائد‪.‬عن خبراته المتعددة ‪ ،‬التي أكتسبها فى مصانع إيكاترينبورج من‬ ‫التنقيب عن الذهب ‪ //‬مجلة التعدين‪ .1850 .‬رقم ‪ .1‬ض‪56.‬‬ ‫‪40‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫نفس الوقت كانت صناعات استخراج الذهب فى األورال من الناحية التقنية تسري‬ ‫فى ركب التطور ‪ .‬ففى سعيه لرفع درجة فاعلية العمل باملنشأة اقرتح القائد “‬ ‫أفدييف “ نفسه استخدام طريقة صهر الصخور ‪ ،‬املعرضة للفقدان ‪.‬‬ ‫كانت اآلالت تستخدم فى مصانع إنتاج الذهب باألورال ‪ ،‬على سبيل املثال فى‬ ‫ً‬ ‫سابقا ‪.‬‬ ‫ورشة استخراج الذهب بطريقة الغسل فى منجم رودينسك ‪ ،‬كما أشرنا‬ ‫وكما وصفت جريدة « أنباء مقاطعة بريم » لسـري الـعمل فـى الورشـة ‪ « ،‬فإن‬ ‫الرمال تتعرض للغسل ً‬ ‫آليا فى مصايف حديدية ومغاسل خشبية ‪ ،‬وعند تدفق تيار‬ ‫املاء يتم تقليبها باجملاديف ؛ وتعلق قطع الرمال الكبرية بني احلواجز اخلشبية‬ ‫للمغسلة ‪ ،‬حيث يتم مجعها وتنظيفها بالغسل فى اآللة ‪ .‬بعد كل هذا يتم‬ ‫احلصول على حبيبات من الذهب تبلغ فى املتوسط ما بني مائة بود من الرمال حبجم‬ ‫نصف زولوتنيك (وحدة وزن روسية تساوى ‪ 4‬جرامات وربع ‪ .‬تعليق املرتجم ) ‪ ،‬وأخرى‬ ‫ً‬ ‫كثريا »‪. 21‬‬ ‫حبجم زولوتنيك ولكنها أقل‬ ‫من املنطقي أن تسعي جريدة « أنباء مقاطعة بريم » فى نسختها الرمسية إلظهار‬ ‫ً‬ ‫مؤكدة أن‬ ‫املناخ اجليد ‪ ،‬الذى كان يعيش فيه عمال مناجم الذهب فى األورال ‪،‬‬ ‫مرحبا ً‬ ‫ً‬ ‫جدا لسكان املنطقة ‪ ،‬الذين كانوا حيصلون‬ ‫وجود تلك الصناعة كان‬ ‫على “ أجر جمزي“ مقابل عملهم ملدة ‪ 6‬إىل ‪ 8‬ساعات ‪ .‬وهلذا شهدت مناجم الذهب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أيضا ‪ .‬وفى‬ ‫إقباال على العمل ليس فقط من قبل الرجال ‪ ،‬ولكن النساء واألطفال‬ ‫هذا الشأن تكتب صحيفة املقاطعة «أن بإمكانك رؤية الرجال ‪ ،‬وخاصة النساء‬ ‫ً‬ ‫مالبسا ‪ ،‬ال يرتدونها فى أماكن أخرى حتى فى األعياد »‪. 22‬‬ ‫يرتدون فى العمل‬ ‫ً‬ ‫منوذجا‬ ‫بهذا الشكل كانت ورش “ ياكافلوف ” لصناعة الذهب تعترب «‬ ‫يحُ تذي به » فى األورال ‪ ،‬مـما يفسر سبب إختـيار إدارة التعدين فى األورال مناطـق‬ ‫ً‬ ‫حتديدا لعرض إجنازات‬ ‫التعـديـن ‪ ،‬التى متلكها عائليت دميوديف وياكافلوف‬ ‫قطاع التعدين على الضيوف املصريني‪.‬‬ ‫أثناء رحلتهم فى األورال قام املهندسان املصريان بزيارة مصانع منطقة سيسرت‬ ‫( إحدى مناطق مقاطعة سسفريدلوفسك ‪ .‬تعليق املرتجم ) ‪ ،‬التى آلت ملكيتها‬ ‫لفرتة طويلة إىل رجل األعمال الشهري “ أ‪ .‬ف‪ .‬تورشانينوف“‪ ،‬ثم ورثها من بعده “‬ ‫سالومريسكي “ ‪.‬‬ ‫‪ - 21‬أنباء مقاطعة بيرم‪ .1854 .‬العدد ‪ .34‬جزء غير رسمي‪.‬‬ ‫‪ - 22‬أنباء مقاطعة بيرم‪ .1854 .‬العدد ‪ .34‬جزء غير رسمي‪.‬‬ ‫‪41‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫ُ‬ ‫اكتشفت رواسب الذهب فى تلك املنطقة فى بداية العشرينيات من القرن التاسع‬ ‫عشر ‪ ،‬مما حفز إدارة املصانع للقيام بأعمال تنقيب كبيـرة ‪ ،‬والتى جنت ثـمارها‬ ‫عام ‪ 1826‬بعد استخراج ما يقرب من ثالث بودات ذهب ‪ .‬وفى الفرتة ما بني عامي‬ ‫(‪ )1828 -1827‬بلغ إنتاج تلك الرواسب الغنية ما يقرب من ‪ 60‬بود ذهب‪ .‬كان‬ ‫ً‬ ‫كفيال بتعديل الوضع املالي فى مصانع سيسرت بشكل‬ ‫اكتشاف تلك املناجم‬ ‫ً‬ ‫طويال‪.‬‬ ‫عام ‪ ،‬بل وساعد على سد ديون أصحابها‪ .‬ولكن مل يستمر احلال هكذا‬ ‫ففى حلظة وصول املهندسني املصريني كانت ورش الذهب غارقة فى أزمة منذ ‪20‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تـقريبا ‪ .‬فمجموع ما أمكن تنقيته ‪ ،‬على سبيل املثال ‪ ،‬عام ‪ 1837‬كان‬ ‫عاما‬ ‫سبعة بودات من احلجر الثمني فقط ‪ .‬وفى حماولة لتفسري أسباب هذا الوضع ‪ ،‬كتب‬ ‫القائد “ كوكشاروف “ فى منتصف اخلمسينيات ‪ « :‬على الرغم من وفرة رواسب‬ ‫الرمال احلاملة للذهب فى ضيعة سيسرت حيت اآلن ‪ ،‬إال أن حينها مل ُتكتشف أية‬ ‫ً‬ ‫أيضا بسبب‬ ‫رواسب جديدة‪ ،‬بل وتعرضت الثروات املُكتشفة فى البداية للنضوب‬ ‫قلة اخلربة ‪ ،‬وقلة معرفة املسئولني عن إدارة عملية التنقيب عن الذهب »‪ .23‬وبالتاىل‬ ‫مل تكن مجيع املنشآت التى قام املصريان بزيـارتـهـا فى األورال تعيش أزهى‬ ‫عصورهـا ‪ ،‬بل كان بعضها يعانى من مشاكل حقيقية منذ زمن بعيد ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خاصا باجلوانب املالية لرحلة املهندسني املصريني‬ ‫اهتماما‬ ‫أولت رئاسة هيئة التعدين‬ ‫عرب األورال ‪ .‬ووصلت إلي “ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي“ إخبارية بشأن ختصيص وزارة‬ ‫املالية الروسية ‪ 1600‬روبل من الفضة لإلنفاق على إعاشة وتنقالت املصريني «على‬ ‫مدار فرتة تواجدهم على أراضي اإلمرباطورية » ‪.‬‬ ‫كما مت إعداد كشف حساب تفصيلي ‪ ،‬والذى مبقتضاه مت اعتماد روبل واحد من‬ ‫الفضة لكل مهندس مقابل إعاشة فى اليوم‪ .‬أشار العقيد “ ف‪ .‬أ‪ .‬سامارسكي “ إىل‬ ‫“ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي “ على ضرورة قـيام األخـري ‪ ،‬فى حالة الضرورة ‪ ،‬باستخـدام‬ ‫تلـك النقـود لـحجز « شقـق الئـقة ‪ ،‬وليست فاخـرة » للضيوف املصريني‪ .‬كما‬ ‫خصصت ‪ 600‬روبل لصرفها على استئجار األحصنة أثناء التنقل يف روسيا ‪ ،‬و‪400‬‬ ‫روبل مقابل «استئجار الشقق وشراء املركبة واملصاريف النثرية»‪ .‬ومت تكليف‬ ‫“ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي “ بشراء « مركبة مرحية جترها األحصنة يستخدمها‬ ‫املصريون فى طريقهم ‪ ،‬على أن ال تكون باهظة الثمن – ال يتخطي سعرها ‪150‬‬ ‫روبل فضة » ‪ ،‬ومن الضروري أن ُتسلم املركبة فى حالة جيدة إىل الضابط‪ ، 24‬الذى‬ ‫سينقل املصرينب من زالتؤوست إىل أوديسا ‪.‬‬ ‫‪ - 23‬أخبار مقاطعة بيرم‪ .1865 .‬العدد رقم ‪ .26‬جزء غير رسمي‪.‬‬ ‫‪ - 24‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .24‬فهرس ‪ .23‬ملف‬ ‫‪ .7101‬ورقة ‪.3-5‬‬ ‫‪42‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫كانت أهم التعليمات ‪ ،‬التى تلقاها “ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي “من قيادته « هى‬ ‫احلرص الشديد عند اإلنفاق على عدم جتاوز املبلغ احملدد بأي حال من األحوال » ‪.‬‬ ‫وهكذا جرى األعداد لزيارة املصريني باعتبارها رحلة عمل ‪ .‬وهلذا قامت رئاسة‬ ‫هيئة التعدين بتحذير كل من سيتولي مهمة استقبال املهندسني املصريني فى‬ ‫األورال من املصاريف الزائدة أو املشرتيات الباهظة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫خطابا إىل رئيس جملس إدارة مصانع تعدين سالسل‬ ‫قام وزير املاليه بتوجيه‬ ‫جبال األورال ‪ ،‬طالب فيه « بتكليف رؤساء املصانع احمللية بتقديم كافة أشكال‬ ‫املساعدة للمهندسني املصريني ليتمكنوا من دراسة طريق إنتاج الذهــب ‪،‬‬ ‫وخاصة تزويدهم باملعلومات الالزمة وإمدادهم بالرسومات التخطيـطـية »‪ .‬فى‬ ‫نفس الوقت تلقي رئيس جملس اإلدارة أمر برتشيح الضابط ‪ ،‬الذى سيقوم “ ي‪ .‬ب‪.‬‬ ‫كافاليفسكي “ بتسليم املصريني له ‪ .‬كان املعيار الرئيسي فى اختيار الظابط‬ ‫هي املعرفة اجليدة باللغة األملانية ‪ .‬فى تلك األثناء حصل الرئيس علي بعض‬ ‫املعلومات التى تتعلق بشخصية املهندسني املصريني ‪ .‬فقد أخربه وزير املالية أن‬ ‫“علي حممد إبراهيم” و “عيسى الدهشوري” « ينحدران من أسرتني نبيلتني يف مصر»‬ ‫يف إشارة إىل ضرورة توفري االستقبال الالئق بالضيوف األجانب ‪ .‬ولكن املعلومة‬ ‫األكثر أهمية هي « عدم إجادة املصرييان للغة الفرنسية »‪ :‬فمن املعروف أن تلك‬ ‫اللغة الفرنسية كانت منتشرة بشكل كبري فى اجملتمع اإلقطاعي الروسي‬ ‫فى القرن التاسع عشر‪ .‬وفى حالة إتقان الضيوف األجانب لتلك اللغة ‪ ،‬كان ذلك‬ ‫سيسهل من مهمة اجلانب املُضيف ‪ .‬من الطريف أن خرب عدم إجادة املصريني للغة‬ ‫الفرنسية اتضح فى اللحظة األخرية ‪ .‬فى خريف عام ‪ 1845‬قبل وصول املصريني‬ ‫إىل بالدنا أخرب قنصل روسيا فى مصر “ أ‪ .‬م‪ .‬فوك “ نائب مدير اإلدارة اآلسيوية‬ ‫التابع لوزارة اخلارجية “ ل‪ .‬ج‪ .‬سينيافني “ أن املهندسان « يتكلمان اللغتني األملانية‬ ‫والفرنسية»‪ . 25‬ولكن تأكدت املعلومة املتعلقة باللغة األملانية ؛ حيث أشار وزير‬ ‫املالية ‪ ،‬أن املتخصصان األجنبـيان « يتحدثون األملانية بشكل جيد بالفعل»‪ : 26‬من‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫شرطا فى اختيار الضابط ‪ ،‬الذى سيقوم‬ ‫حتديدا كان إتقان اللغة األملانية‬ ‫أجل هذا‬ ‫“ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي” بتسليمه املصريني فى زالتؤوست ‪.‬‬ ‫مبجرد تلقى األوامر من وزارة املالية ‪ ،‬بدأ رئيس جملس إدارة مصانع سالسل جبال‬ ‫األورال فى التنظيم لتلك الرحلة ؛ حيث أرسل بنفسه خطابات بتكليفات إىل رؤساء‬ ‫‪ - 25‬ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين‪ .‬مصر فى أعين الروس ‪ ...‬ص‪.242 .‬‬ ‫‪ - 26‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .24‬فهرس ‪ .23‬ملف‬ ‫‪ .7101‬ورقة ‪.2‬‬ ‫‪43‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫إدارة التعدين فى مصانع زالتؤوست وإيـكـاتريـنبـورج وبالجادات ( جبل علـى‬ ‫املنحدر الشـرقي جلبال األورال ‪ .‬تعليق املرتجم ) ‪ ،‬وكذلك إىل رؤساء الشرطة ( فى‬ ‫روسيا قبل الثورة) ‪ ،‬الذين كانوا يشرفون على مصانع ايستك العليا اململوكة‬ ‫لعائلة ياكافلوف ‪ ،‬وعلى مصانع كيشتيم (إحدى مدن مقاطعة شليبيانسك ‪.‬‬ ‫تعليق املرتجـم ) اململوكة لعائلة “ راستورجوييف “‪ . 27‬تلقى مجيعهم تعليمات‬ ‫بتقديم العون الالزم للضيوف املصريني خالل رحلتهم عرب األورال ‪.‬‬ ‫على اجلانب اآلخر كان “ حممد علي “ ينتظر بفارغ الصرب األخبار عن رحلة‬ ‫مهندسيه ‪ .‬وفى سبتمرب عام ‪ 1845‬قام القنصل الروسي فى مصر “ أ‪ .‬م‪ .‬فوك “ بإخطار‬ ‫القسم اآلسيوي التابع لوزارة اخلارجية أن اخلطاب ‪ ،‬الذى كتبه املهندسان املصريان‬ ‫ُ‬ ‫مباشرة إىل “ حممد علي “ ‪.‬‬ ‫باللغة العربية من روسيا إىل حاكمهم وصل‬ ‫فقد ارتأى الدبلوماسي الروسي ‪ ،‬أن من الضروري تسليم اخلطاب من خالل‬ ‫الوزير املصري “ أرتني ‪ -‬بك “ دون انتظار احلصول على موافقة مبقابلة والي مصر‬ ‫ً‬ ‫شخصيا ‪ .‬يشري أ‪ .‬م‪ .‬فوك ‪ « ،‬أنه مل يرغب فى تأجيل تسليم اخلطاب إىل أن يقابل‬ ‫ً‬ ‫حممد علي شخصيا لعلمه مبدى طوق الباشا لتتبع مجيع األخبار ‪ ،‬بل وعلمه‬ ‫ً‬ ‫شخصيا فى توجيه التكليفات لكال الشابني ‪ ،‬الذى أرسلهما‬ ‫باشرتاك الوالي‬ ‫إىل القطر البعيد ‪ .‬فالصفة الغالبة على شخصية حممد علي آنذاك هي عدم‬ ‫التحلي بالصرب‪ ،‬وازدادت تلك اخلصلة مع تقدم السن ‪ .‬فأكثر ما أبهجه من بني تلك‬ ‫ً‬ ‫تقريبا فى منتصف شهر يونيو القادم »‪. 28‬‬ ‫األخبار علمه بإمكانية عودة الشابني‬ ‫ً‬ ‫طويال حتى صيف ‪ . 1846‬فحتى خريف عام ‪ 1845‬كان‬ ‫إال أن الوقت اليزال‬ ‫منطقيا ً‬ ‫ً‬ ‫جدا أن تكون مناجم الذهب فى بريوزوف أكثر ما أثار إعجاب املهندسني‬ ‫املصريني من بني منشآت صناعات التعدين فى مشال األورال ‪ .‬فعلى ضفاف نهر‬ ‫بريوزوف ظهر أول اكتشاف خلام الذهب فى األورال عام ‪ . 1744‬وبالرغم من بطء‬ ‫وترية استخراج الذهب هناك حتى القرن التاسع عشر ‪ ،‬إال أن تطور صناعات‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جزريا مع أشهر اكتشافات أستاذ التعدين “ ل‪ .‬أي‪.‬‬ ‫حتوال‬ ‫الذهب عام ‪ 1814‬شهدت‬ ‫بروسنيتسني “ ‪.‬‬ ‫بعد عكوف األخري على دراسة الرمال املهدرة من ورش تقطيع اخلام فى منطقة‬ ‫نهر بريوزوف ‪ ،‬لفت االهتمام إىل اكتشاف ذرتي ذهب ‪ ،‬ال يوجد بهما أي أثر آللة‬ ‫التفتيف‪ .‬من خالل اآلبار املُكتشفة اتضح وجود رمال حاملة للذهب حتت طبقة‬ ‫‪ - 27‬أنظر‪ :‬نفس المرجع‪ .‬الورقة رقم ‪.4-16‬‬ ‫‪ - 28‬ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين‪ .‬مصر فى أعين الروس ‪ ...‬ص‪.247 .‬‬ ‫‪44‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫الرواسب عرب تيارات األنهار ‪ .‬هكذا أثبتت اخلربات اجلديدة املرتاكمة فائدة‬ ‫استخدام طريقة غسل الرمال احلاملة للذهب ‪ .‬وهلذا االكتشاف أهمية خاصة‬ ‫بالنسبة ملوضوع حبثنا‪ ،‬مبا أن بناء مصانع استخراج الذهب بأسلوب الغسل كان‬ ‫اهلدف الذى وضعته القيادة املصرية وعلى رأسها “ حممد علي” فى األربعينيات ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أبعادا مدهشة؛‬ ‫وبفضل هذا االكتشاف أخذت عملية تطوير صناعات الذهب‬ ‫ً‬ ‫حيث بدأت معدالت استخراج الذهب فى النمو بصورة كبرية نظرا لبناء عدد من‬ ‫ورش غسل الذهب الكربي فى مناجم بريوزوف فى عشرينيات القرن التاسع‬ ‫عشر ‪ .‬ومل يكن من الصعب استخراج رواسب الذهب لعدم احلاجة الستعمال آالت‬ ‫خاصة لذلك‪ . 29‬فبعد اكتشاف رواسب الذهب فى مئات املناطق ‪ ،‬اجتاحت األورال‬ ‫« محي استخراج ذهب » حقيقية ‪ .‬باإلضافة إىل ذلك ساهمت اخرتاعات “ ل‪ .‬أ‪.‬‬ ‫بروسنيتسني ” ‪ ،‬التى استخدمها ً‬ ‫أوال فى مناجم بريوزوف ‪ ،‬فى تطور صناعة استخراج‬ ‫الذهب ‪ .‬بلغ إمجالي ما مت استخراجه من رواسب مناجم بريوزوف خالل الفرتة من عام‬ ‫‪ 1814‬وحتى إلغاء حق اإلقطاع فى روسيا عام ‪ 1861‬أكثر من ‪ 1150‬بود ذهب ‪.‬‬ ‫مع ذلك يشري املتخصصون إىل وجود بعض السلبيات فى منظومة تطوير مناجم‬ ‫بريوزوف حلظة وصول املصريني ‪ .‬تكمن املشكلة فى أن الرواسب احلاملة للذهب‬ ‫ً‬ ‫تدرجييا ‪ .‬وما ساعد على تفاقم املشكلة التنقيب املفرط فى‬ ‫بدأت بالنضوب‬ ‫ً‬ ‫املناطق األكثر وفرة باخلام ‪ .‬ومل تنج املناجم أيضا من استخدام الوسائل التقنية‬ ‫احلديثة فى ذلك الوقت – وهي اآلالت ‪ ،‬التى تعمل بالبخار ‪ .‬وفى اخلمسينيات بدأت‬ ‫ً‬ ‫تدرجييا»‪ ، 30‬على حد وصف املعاصرين ‪.‬‬ ‫وميض احلياة فى املناجم « باخلفوت‬ ‫على هذا النحو تزامن وصول املهندسني املصريني إىل األورال مع ركود صناعة‬ ‫استخراج الذهب مبناجم بريوزوف ‪ .‬فما الذى ميكن أن يراه املصريان هنا ؟ ‪ ،‬تعطينا‬ ‫املصادر األرشيفية ‪ ،‬التى حتصلنا عليها من صندوق إدارة مناجم مجعية غسل‬ ‫الذهب فى بريوزوف بعض املعلومات عن هذا األمر ‪ .‬تشري وثائق إدارة تعدين مناجم‬ ‫جبال إيكاترينبورج إىل نقل أكثر من مليون و‪ 240‬ألف بود من الرمال ‪ ،‬التى حتوى‬ ‫الذهب خالل شهر سبتمرب فقط من عام ‪ « 1845‬بعربات اليد وباملزاجل » وأكثر من‬ ‫ً‬ ‫أحيانا تصادف العثور علي‬ ‫نصف مليون عن طريق « حوذيني مستقلني » ‪ .‬ولكن‬ ‫أشياء قيمة ‪ :‬ذات مرة وجد العامل “ إيفان دميشيكوف “ مع جمموعة من أصدقائه‬ ‫‪ - 29‬يو‪ .‬شينكارينكا‪ ،‬أ‪ .‬بيسارييف‪ ،‬يو‪ .‬جونجر‪ ،‬م‪ .‬تيتوفيتس‪ ،‬ف‪ .‬لوكيانين‪ .‬مكان‬ ‫ضرب العصا‪ .‬إيكاترينبورج‪ .2005 ،‬ص‪.45 .‬‬ ‫‪ - 30‬أنظر‪ :‬ل‪ .‬ف‪ .‬ساباجوفسكايا‪ ،‬ي‪ .‬يو‪ .‬روكاسويف‪ .‬شركة صناعات الذهب فى‬ ‫بيروزوف (‪ .)1874-1917‬إيكاترينبورج‪ .2004 ،‬ص‪.12.‬‬ ‫‪45‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫قطعة معدن بوزن أكثر من أربعة باوندات ‪ .‬على اجلانب اآلخر كانت قد حدثت‬ ‫بعض السرقات ‪ :‬ففى شهر أكتوبر فقط من عام ‪ « 1845‬مل ينقل » « احلوذيون‬ ‫املستقلون » إىل الورش أكثر من مخسة آالف ونصف بود من رمال الذهب‪.31‬‬ ‫منذ نوفمرب عام ‪ 1845‬أعطى أمر بإدخال ورشة « شتوية » جديدة إىل اخلدمة‬ ‫فى منجم ذهب “رجافسكي” لعله يساعد فى زيادة معدالت استخراج الذهب ‪.‬‬ ‫هذا بالطبع بغض النظر عن « املكان املوحل » ‪ ،‬الذى كان من املفرتض مد طريق‬ ‫للسكك احلديدية عربه ‪ ،‬وعدم وجود « أخشاب صـاحلة » بالقرب من تلك املنطقة‬ ‫وصعوبات أخرى كثرية ‪ .‬وفى نفس الفرتة ‪ ،‬التى كان املصريون متواجدين فيها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مؤقتا فى منجم كاسولينسكي بداعي « عدم‬ ‫حتـديـدا ‪ ،‬توقف العمل‬ ‫باألورال‬ ‫‪32‬‬ ‫إحتواء الرمال علي القدر الكايف من الذهب» ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وفقا ملعايري ذلك الوقت‪ .‬وفى‬ ‫كانت مصانع بريوزوف مزودة بأحدث التقنيات‬ ‫حلظة وصول “ علي حممد إبراهيم “ و” عيسي الدهشوري “ بنهاية عام ‪ 1845‬كانت‬ ‫املصانع احمللية مزودة بآالت تعمل بالبخار بقدرة ‪ 14‬حصان ‪ ،‬وثالثة آالت لرفع املياه‬ ‫جترها األحصنة ومخس ماكينات لف جترها األحصنة الستخدامها فى تقنية غسل‬ ‫ورفع الرمال إىل الورش ‪ ،‬باإلضافة إىل ثالثة أفران حديدية كبرية بستة أفران ‪...‬‬ ‫وهكذا كان هناك الكثري لرؤيته يف ذلك املكان‪ .‬باملناسبة ‪ ،‬تساعدنا الوثائق‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خالفا‬ ‫حتديدا؟‪.‬‬ ‫فى اإلجابة على سؤال ‪ ،‬ملاذا ُدعي املصريان لزيارة منطقة بريوزوف‬ ‫لتزويد املصانع هناك بأحدث التقنيات ‪ ،‬إال أن ما رجح كفتها قيام أحد الشخصيات‬ ‫املهمة بزيارة املكان فى خريف عام ‪ 1845‬قبل وصول املصريني بقليل ‪.‬‬ ‫أنه صاحب السعادة ‪ ،‬الدوق ليختينربج – زوج ابنة القيصر “نيكوالي األول‬ ‫ماريا ” ‪ . 33‬مل يكن صاحب السعادة يشغل منصب رئيس أكادميية الفنون‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عضوا‬ ‫أيضا‪ ،‬وكان‬ ‫اإلمرباطورية فقط ‪ ،‬بل ترأس معهد التعدين فى بيرتبورج‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫دائما فى جلنة العلماء فى فيلق مهندسي التعدين ‪ ،‬كما اشتهر أيضا بأحباثه فى‬ ‫جمال الطالء باجللفنة ‪ .‬وتؤكد املصادر‪ ،‬أن اإلعداد لزيارة الدوق صارت على قدم‬ ‫وساق ‪ُ :‬رتب كل شيء بنظام دقيق ‪ ،‬حتى أنهم قاموا بشراء ورق هولندي الصنع‬ ‫‪ - 31‬أنظر‪ :‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .41‬الفهرس‬ ‫األول‪ .‬ملف ‪ .1444‬ورقة ‪.298‬‬ ‫‪ - 32‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.345-348‬‬ ‫‪ - 33‬أنظر‪ :‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .41‬الفهرس‬ ‫األول‪ .‬ملف ‪ .1449‬ورقة ‪.353‬‬ ‫‪46‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫الستخدامه فى أعمال الكتابة ‪ .‬وهكذا كانت املصانع معدة بشكل جيد‬ ‫حلظة زيارة املهندسني املصريني ‪.‬‬ ‫وصل “ علي حممد إبراهيم “ و” عيسي الدهشوري “ إىل مناجم بريوزوف فى‬ ‫نوفمرب عام ‪ . 1845‬وبالفعل جنح املصريان فى استغالل حسن ضيافة قيادة‬ ‫املناجم واإلمكانات ‪ ،‬التى وفروها لضيوفهم األجانب‪ .‬من املعروف أن الدهشوري قد‬ ‫ً‬ ‫تفصيليا على سري عملية اإلنتاج فى مصنع بريوزوف ‪ ،‬أثناء عمله على‬ ‫تعرف‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ماكينة الغسل ‪ ،‬املخصصة له على مدار أربع ساعات ‪ .‬وفـقا لتقـرير العقيد‬ ‫كـافاليـفسكي ‪ ،‬الذى أرسله بتاريخ األول من نوفمرب عام ‪ 1845‬إىل غرفة‬ ‫أركان مهندسي التعدين ‪ ،‬أنه جبانب ذلك « خطط برنامج عمل الدهشوري فى‬ ‫املنجم بالتفصيل » ‪ .‬وبعد مرور شهر ‪ ،‬فى بداية شهر ديسمرب عام ‪ 1845‬أشار “ إجيور‬ ‫بيرتوفيتش “ ‪ ،‬أن املهندسان املصريان « كانا يعمالن كل يوم على مناذج آلالت‬ ‫غسل الذهب ‪ ،‬مت إعدادها ليتمكنا من جتميعها فى مكانهم بأنفسهم ودراسة‬ ‫أجزائها بالتفصيل فى حالة بناء آالت حتت قيادتهم فى مصر » ‪ .‬العثرة الوحيدة أمام‬ ‫ذلك كان توقف العمل باستمرار بسبب مرض أحدهما تارة ‪ ،‬واآلخر تارة أخرى‪ :‬فى‬ ‫حالة شعور “ علي حممد “ بأعراض املرض ‪ ،‬سرعان ما يلقى الدهشوري نفس املصري‪.34‬‬ ‫فى النهاية اكتسب املتخصصان املصريان مهارة عملية جيدة ً‬ ‫جدا فى العمل‬ ‫على آالت غسل الذهب ‪ .‬وتعرف الضيوف األجانب على املبادئ الرئيسية لعمل تلك‬ ‫اآلالت ‪ ،‬بل كانوا يراقبون عن كثب استخدام تلك الطرق فى صناعات استخراج‬ ‫الذهب باألورال ‪ .‬وفى النهاية أصبحوا يعملون جبد على تلك اآلالت فى غسل الرمال‬ ‫احلاوية للذهب على قدم املساواة مع عمال األورال ‪ .‬فإمجالي الرمال ‪ ،‬التى قام “ علي‬ ‫حممد إبراهيم“ و” عيسي الدهشوري “ بغسلها بأنفسهم أكثر من ‪ 500‬بود من‬ ‫الرمال ‪.‬‬ ‫بعد التواجد مدة طويلة فى مناجم بريوزوف ‪ ،‬قام املهندسان املصريان جبولة فى‬ ‫مصانع مشال األورال املختلفة ‪ .‬وفى يناير عام ‪ 1846‬تفقدوا مصانع نفيانسك‬ ‫(مدينة فى مقاطعة سفريدلوفيسك ) وتاجيل وأعالي النيفا وجبال بالجادات ‪،‬‬ ‫بعـد ذلـك قاموا بزيارة مصانـع كاميـنسك ( مدينة فى مقاطعة سفريدلوفيسك)‬ ‫لصب الزهر وصهر املعادن ومصنع جنوب االيسيتسك للصناعات الثقيلة ومصنع‬ ‫ً‬ ‫تدرجييا حنو اجلنوب ؛ حيث قاموا بتفقد‬ ‫تعدين سيسرت ‪ .‬ثم بدأوا بالتحرك‬ ‫مصـنع كـاسـلي ( إحـدى مـدن مقاطعـة شليبـيـانـسك ‪ .‬تعليق املرتجم )‬ ‫‪ - 34‬أنظر‪ :‬ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين‪ .‬مصر فى أعين الروس ‪ ...‬ص‪.249 .‬‬ ‫‪47‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫لصب الزهر والصناعات الثقيلة ‪ ،‬باإلضافة إىل مصنع كيشتيم لصهر النحاس‪. 35‬‬ ‫توجب على املهندسني “ علي حممد إبراهيم “ و” عيسي الدهشوري “ التوجه إىل‬ ‫جنوب األورال بعد أن أتاح هلم “ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي “ الفرصة لتفقد مصانع‬ ‫إيكاترينبورج ‪ .‬حينها ظهرت مشكلة ختص الشخص الذى سيتسلم الضيوف‬ ‫من كافاليفسكي فى زالتؤوست‪ .‬كان على رئيس تعدين مصانع زالتؤوست‬ ‫ومدير مصانع األسلحة إجياد حل لتلك املشكلة ‪ .‬فى شهر فرباير عام ‪ 1846‬قام‬ ‫األخري بإخطار القائم بأعمال رئيس جملس إدارة مصانع تعدين سالسل جبال األورال‬ ‫أن مهندس التعدين رئيس األركان “ بليوم “ هو املكلف باصطحاب املصريني من‬ ‫زالتؤوست إىل أوديسا‪ . 36‬وكان علي “ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي “ تسليمهم لرئيس‬ ‫ً‬ ‫حتديدا‪ ،‬وهلذا توجه العقيد فى الثانى من مارس بصحبة املصريني إىل‬ ‫األركان‬ ‫مقاطعة زالتؤوست‪ ،‬وفى انتظاره الكثري من األعمال هناك ‪ :‬فقد مت تعيني “ ي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مساعدا لرئيس منطقة تعدين‬ ‫ب‪ .‬كافاليفسكي “ فى شهر أبريل عام ‪1846‬‬ ‫زالتؤوست ‪ ،‬وأوكلت له مهمة رئاسة املنطقة بسبب سفر “ ب‪ .‬ب‪ .‬أنوسوف “ مؤقتاً‬ ‫إىل سانت بطرسبورج ‪.‬‬ ‫كانت إسرتاتيجية تطوير قطاع التعدين فى جنوب األورال تتميز باعتمادها‬ ‫على رجال األعمال ‪ ،‬وليست احلكومة ‪ ،‬فى أي مبادرة إلفتتاح املصانع فى هذا‬ ‫املكان ‪ .‬وهلذا ظلت معظم املصانع تتبع القطاع اخلاص لفرتة طويلة ‪ .‬ولكن‬ ‫فى عام ‪ 1811‬آلت مصانع منطقة تعدين زالتؤوست إىل القطاع العام بعد إفالس‬ ‫مالكها التاجر كناووف ‪ .‬فى منتصف القرن التاسع عشر ‪ً ،‬‬ ‫وفقا ألعداد العمال بها‪،‬‬ ‫اعتربت منطقة تعدين زالتؤوست أكرب منطقة تعدين فى األورال ‪ .‬تشتهر املنطقة‬ ‫بغاباتها الشاسعة ‪ ،‬وإحتوائها على عديد من املعادن النادرة ‪ ،‬بعضها ال يوجد إال هنا‪.‬‬ ‫ولكن حبلول ثالثينيات القرن التاسع عشر ساءت األوضاع فى غابات زالتؤوست‪،‬‬ ‫بسبب االستخدام املفرط املرتبط بالتطور اهلائل فى الصناعات التى تعتمد على‬ ‫فحم اخلشب ‪ .‬وهلذا مل يكن من قبيل الصدفة أن تبدأ فى الثالثينيات واألربعينيات‬ ‫عملية تقييم دؤوبة لغابات املنطقة من أجل احلفاظ عليها‪. 37‬‬ ‫‪ - 35‬أنظر‪ :‬ب‪ .‬أ‪ .‬فالسكايا‪ .‬رحلة إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ .‬موسكو‪ .1956 ،‬ص‪.95 .‬‬ ‫‪ - 36‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪.24‬لفهرس ‪ .23‬ملف‬ ‫‪ .7101‬ورقة ‪.16-17‬‬ ‫‪ - 37‬أنظر‪ :‬أرسيف المتحف المحلي بمقاطعة زالتؤوست‪ .‬رسالة من غرفة أركان‬ ‫مصانع زالتؤوست إلى مهندس منطقة مصانع زالتؤوست أ‪ .‬د‪ .‬تشولكوف‪ 19 .‬يونيو‬ ‫‪.1846‬‬ ‫‪48‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫تشتهر منطقة مياس ( إحدى مدن روسيا فى منطقة تشيليابينسك ‪ .‬تعليق املرتجم)‬ ‫حبقوهلا ‪ ،‬التى حتوى الذهب ‪ .‬وهنا اكتشف خام الذهب ألول مرة فى نهاية القرن‬ ‫الثامن عشر على يد « يفجراف ميتشنيكوف»‪ .‬يشري الباحثون احملليون آنذاك إىل‬ ‫اخنفاض معدالت إنتاج الذهب ملدة طويلة فى مصنع مياسك ‪ « ،‬باإلضافة إىل افتقار‬ ‫مناجم الذهب » ‪ ،‬التى كان يتوقف العمل فيها تارة ‪ ،‬ويستمر تارة أخرى إىل أن‬ ‫ً‬ ‫نهائيا عام ‪ . 181538‬بدأت مرحلة جديدة فى تاريخ استخراج الذهب من مناجم‬ ‫توقف‬ ‫مياسك بعد اكتشاف كمية كبرية من حقول رواسب الذهب فى العشرينيات ‪.‬‬ ‫وفى الثالثينيات أصبح مصنع مياسك املركز األكرب لصناعات استخراج الذهب‬ ‫ً‬ ‫منجما ‪ .‬فقد كانت وديان روافد أنهار مياس‬ ‫فى روسيا ‪ ،‬بعد جنى أرباح حواىل ‪200‬‬ ‫كلها حتوى ً‬ ‫ذهبا ‪ .‬وكما هو احلال بالنسبة ملناجم نهر بريوزوف ‪ ،‬أصابت املنطقة «‬ ‫محى الذهب » ‪ ،‬وأصبحوا يطلقون على منطقة مياس اسم « كلوندايك الروسية»‬ ‫( نسبة إىل نهر كلوندايك فى كندا ‪ ،‬حيث أشيع وجود ذهب هناك عام ‪. 1896‬‬ ‫تعليق املرتجم ) ‪ .‬وصلت إنتاجية مناجم مياس عام ‪ 1840‬إىل معدالت قياسية – ‪76‬‬ ‫بود ذهب‪. 39‬‬ ‫تتميز حقول رواسب مياس بإحتوائها على كميات كبرية من املعادن النادرة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حتديدا وجد العامل « ن‪ .‬سيوتكني» أكرب قطعة معدن فى‬ ‫فى هذا املكان‬ ‫أوروبا اآلسيوية عام ‪ 1842‬؛ عبارة عن قطعة معدن كبرية « مثلثة الشكل »‬ ‫بوزن أكربمن ‪ 36‬كيلو جرام‪ .‬كما أبدى عامل اجليولوجيا الربيطانى الشهري « ر‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مطلقا على مصنع زالتؤوست « شفيلد‬ ‫مورشيسون » إعجابه بثروات منطقة مياس ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عضوا لسنوات طويلة فى جملس اجلمعية‬ ‫وبرمنجهام األورال » ‪ .‬بعد أن كان‬ ‫ً‬ ‫ورئيسا للجمعية امللكية اجلغرافية منذ عام ‪ ، 1843‬وعضو‬ ‫اجليولوجية اللندنية‪،‬‬ ‫فعال فى أكادميية العلوم فى بيرتبورج ‪ ،‬قام «ر‪ .‬مورشيسون » فى عامي ( ‪- 1840‬‬ ‫ً‬ ‫وحتديدا إىل بريكاما ( منطقة على ضفاف‬ ‫‪ ) 1841‬حبملتني بيئيتني إىل روسيا ‪،‬‬ ‫نهر كاما – أحد روافد أنهار الفوجلا ‪ .‬تعليق املرتجم ) ومشال األورال وجنوبها ‪.‬‬ ‫نتيجة ألحباثه فى هذا اجملال أصدر « مورشيسون » عـمل بـعنوان « الوصف‬ ‫اجليولوجي لروسيا األوروبية وسالسل جبال األورال » (اجلزء األول والثانى ‪ ،‬سانت‬ ‫بطرسبورج ‪ ، 1849 ،‬باالشرتاك مع أ‪ .‬أ‪ .‬كيزرلينج و ف‪ .‬أي‪ .‬فرينيل ) ‪ .‬وهلذا ليس‬ ‫‪ - 38‬أنظر‪ :‬ك‪ .‬بيروف‪ ،‬ف‪ .‬شفيتسوف‪ .‬من تاريخ مصانع زالتؤوست‪ .‬زالتؤوست‪،‬‬ ‫‪ .1926‬ص‪.10 .‬‬ ‫‪ - 39‬أنظر‪ :‬ن‪ .‬شابانوف‪ .‬استخراج الذهب فى مياس‪ //‬مياس‪ .‬القاموس الموسوعي‪.‬‬ ‫مياس‪ .2003 ،‬ص‪.161 .‬‬ ‫‪49‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫فخريا فى مجعية حمبى‬ ‫عضوا‬ ‫صدفة أن يتم اختيار عامل اجليولوجيا الربيطانى‬ ‫علوم الطبيعة باألورال قبل وفاته بقليل‪. 40‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ملتقا‬ ‫حتديدا « تعترب‬ ‫أشار « ر‪ .‬مورشيسون » فى عمله السابق إىل أن منطقة مياس‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وغنا فى جنوب األورال» ‪ .‬إذا فماذا رأى املهندسان‬ ‫إنتاجا‬ ‫ألكثر حقول رمال الذهب‬ ‫املصريان بعد وصوهلم إىل هناك ؟ ‪ ،‬ماذا سيسلط عليه الضوء كال املتخصصان‬ ‫التقنيان املؤهالن ‪ ،‬اللذان تلقيا تعليمهما فى املانيا ؟ كانت األراضي املمتدة على‬ ‫طول الشاطئ الغربى لنهر مياس ‪ ،‬وشواطئ جداول نهر تاشكوتارجانك ( أحد أفرع‬ ‫نهر إيرميل فى مياس ) وإيرميل وغريها أكثر املخابئ الغنية باملعدن النفيس ‪.‬‬ ‫وكما أشار “ر‪ .‬مورشيسون” ‪ « ،‬فإنها أكثر املناطق إثارة للدهشة إلحتوائها على‬ ‫رصيد غري مسبوق من خام الذهب » ‪ ،‬ومل حتظ أى منطقة أخرى مبثل هذا الكم من‬ ‫املعادن » ‪ .‬وهلذا من املنطقي أن يكرر على « حممد إبراهيم » و« عيسي الدهشوري»‬ ‫ً‬ ‫تقريبا نفس كلمات عامل اجليولوجيا األوروبي الشهري‪ « :‬أثناء حتركنا عرب نهر‬ ‫مياس على طول الوادى األخضر الزاهى ‪ ،‬انتابنا شعور بالدهشة بعدما رأينا خمبأ‬ ‫للذهب وسط منخفض من احلجر اجلريى »‪. 41‬‬ ‫دورا ً‬ ‫لعب عامل الفلزات الروسي الشهري « ب‪ .‬ب‪ .‬أنوسوف » ً‬ ‫بارزا فى تطوير منظومة‬ ‫استخراج الذهب فى مناجم مياس ‪ .‬قام العامل الروسي بتشكيل الفوالذ ‪ ،‬وفى ما بني‬ ‫عامي ( ‪ ) 1847 - 1831‬ترأس منطقة تعدين زالتؤوست‪ .‬وفى ظل الرئاسة أحتل‬ ‫مصنع مياس مكانة مميزة فى استخراج الذهب ليس فقط باألورال ‪ ،‬ولكن فى‬ ‫روسيا كلها ‪ .‬فقد استخدم فى مناجم مياس ماكينة جمرية الصنع ‪ ،‬باإلضافة إىل‬ ‫آلة ‪ ،‬مت اخرتاعها بواسطة الرئيس السابق ملصانع منطقة زالتؤوست « أ‪ .‬أ‪ .‬أجيت « (‬ ‫‪ .)1832 – 1775‬وكانت اآللة عبارة عن ماكينة غسل على شكل طسوط ذات‬ ‫أزرع لغسل الذهب‪ .‬كان اإلجناز األبرز لـ “ب‪ .‬ب‪ .‬أنوسف” فى جمال استخراج الذهب‬ ‫هو تصميم آلة غسل الذهب ‪ ،‬والتى كانت تعمل بال توقف على مدار الدورية‬ ‫كلها ( ‪ 10‬ساعات ) ‪ ،‬بينما كانت النماذج األخرى تتوقف كل ثالث ساعات‬ ‫من أجل تنظيفها من الصخور العالقة ‪ .‬كانت اآللة ‪ ،‬التى اخرتعها “ب‪ .‬ب‪ .‬أنوسف”‬ ‫تغسل ما بني ‪ 16‬إىل ‪ 18‬بود رمال فى اليوم ‪ .‬هكذا حلت تلك اآللة حمل آالت الغسل‬ ‫‪ - 40‬أنظر‪ :‬مخطوطات جمعية محبي علوم الطبيعة باألورال‪ .‬إيكاترينبورج‪،‬‬ ‫‪ .1873‬المجلد األول‪ .‬اإلصدار األول‪ .‬ص‪.1 .‬‬ ‫‪ - 41‬المسح الجيولوجي لروسيا األوروبية وسالسل جبال األورال؛ قام بوضعه سير‬ ‫روديريك إيمبي مورشيسون‪ ،‬من وحي تأمالته‪ ،‬التى كتبها بنفسه‪ ،‬وإدوارد فيرنيل‬ ‫والكونت ألكسندر كيزرلينج ‪ //‬مجلة التعدين‪ .1848 .‬العدد السابع‪ .‬ص‪.41-42 .‬‬ ‫‪50‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫السابقة والطريقة اليدوية فى غسل الرمال ‪ .‬كانت آلة غسل الذهب‪ ،‬التى اخرتعها‬ ‫« ب‪ .‬ب‪ .‬أنوسف » تتكون من طسط به ثقوب ‪ ،‬ومثبت عند قاعدته بعوارض ‪.‬‬ ‫كان الطسط حماط بآلة خشبية ‪ ،‬يوجد فى منتصفه مرتاس ‪ ،‬وفى وسط املرتاس‬ ‫ً‬ ‫تدرجييا من أعلى باستخدام اجلرافة ‪ .‬استخدم من‬ ‫زراع حديدى ‪ .‬كانت الرمال توضع‬ ‫أجل إضافة املياه إىل الرمال أنبوبتني حديديتني بفتحتني صغريتني على قـدر طـول‬ ‫الطـسط ‪ ،‬ومت تذويدهما بصنبورين ‪ .‬وبالقرب من الطسط مت وضع لوح حديدى به‬ ‫ثقوب ‪ ،‬تزال من فوقه احلصى الكبرية املغسولة ‪ ،‬ثم يعاد غسلها من جديد باملياه‬ ‫من املصفاه املزودة بالصنبور ‪.‬‬ ‫كما استخدم ب‪ .‬ب‪ .‬أنوسف « سكة حديد » بقوة جر حصانية بطول كيلومرت‬ ‫لنقل الرمال إىل ورشة الغسيل ‪ .‬هذا الطريق وفر جهد كثري من العمال ‪ ،‬الذين‬ ‫كانوا ينقلون الرمال بعربات اليد‪.42‬‬ ‫يشهد ذلك على ‪ ،‬أن حقيقة بقاء املهندسني املصريني فرتة طويلة فى منطقة‬ ‫تعدين زالتؤوست ‪ ،‬خاصة فى مناجم أتليان ( قرية فى منطقة مياس ) مل تكن من‬ ‫قبيل الصدفة ‪ .‬ففى هذا املكان قاد األخريان عملية تنقيب فى أبريل عام ‪1846‬‬ ‫ً‬ ‫حتديدا كانت‬ ‫جبانب فرقة من منقبى الذهب احملليني ‪ .‬وعلى ضفاف نهر أتليان‬ ‫تعمل نفس « آلة » غسل الذهب ذات احملرك البخارى‪ ،‬والتى ال يوجد مثيلتها سوى‬ ‫فى وادى مياس‪ .‬وهلذا كانت آلة ب‪ .‬ب‪ .‬أنوسف أحد أهم األهداف ‪ ،‬التى وصل من‬ ‫أجلها املهندسان إىل مناجم مياس ‪ .‬مل تكن طريقة عمل اآللة هي فقط ما عرضه‬ ‫عامل الفلزات على الضيوف األجانب‪ ،‬ولكنه أتاح هلم الفرصة لتصميم رسوم‬ ‫ً‬ ‫أيضا ‪ .‬وهكذا يكون قد نفذ أوامر وزارة املالية بتهيئة مجيع‬ ‫ختطيطية هلا‬ ‫الظروف للضيوف األجانب من أجل التعرف على الوثائق الضرورية املتعلقة بأحدث‬ ‫تقنيات التعدين ‪ .‬على حد وصف املؤرخني الروس ‪ « ،‬فإن ب‪ .‬ب‪ .‬أنوسف مل خيف‬ ‫تقنية متقدمة أخرى – وهي استخراج الذهب من الرمال عن طريـق التبـليد ( الصهر‬ ‫احلرارى ‪ .‬تعليق املرتجم ) »‪ً . 43‬‬ ‫وفقا لشهادات املصادر ‪ ،‬نالحظ أن “أ‪ .‬أ‪ .‬أنوسف” كان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫متاما على التفاهم مع الضيوف األجانب ‪ :‬عرب املعلومات فى شهادة خترجه من‬ ‫قادرا‬ ‫املدرسة العسكرية ‪ ،‬فقد كان العامل يتقن اللغة األملانية ( بالطبع أقل كفاءة‬ ‫‪ - 42‬أنظر‪ :‬ف‪ .‬ف‪ .‬ماروزف‪ .‬مدينة فى وادي الذهب‪ .‬تشيليابينسك‪ .1973 ،‬ص‪.‬‬ ‫‪24‬؛ أي‪ .‬أي‪ .‬فيشيف‪ .‬تقنية استخراج الذهب ‪ //‬مقاطعة تشيليابينسك‪ :‬الموسوعة‪.‬‬ ‫تشيليابينسك‪ .2004 ،‬ص‪.499 .‬‬ ‫‪ - 43‬أ‪ .‬ف‪ .‬مانين‪ .‬شريحة الذهب‪ .‬إيكاترينبورج‪ .1995 ،‬ص‪.110 .‬‬ ‫‪51‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫من إتقانه للفرنسية )‪ . 44‬أرتأت قيادة املنطقة ضرورة أن يتعرف املصريون بصورة‬ ‫تفصيلية على رواسب منطقة نيكواليفسك ومنطقة ألكساندرسك‪ .‬كانت‬ ‫رواسب مقاطعة نيكواليفسك امللكية تنتج فى املتوسط ‪ 15‬زولوتنيك ذهب‬ ‫ً‬ ‫إجنازا غري مسبوق‪ .‬انتجت حلظة وصول املصريني‬ ‫كل ‪ 100‬بود ذهب ‪ ،‬مما ُاعترب‬ ‫رواسب املنطقتني ‪ ،‬اللتان اشتهرتا بوجود املعادن ‪ ،‬أكثر من ‪ 400‬بود ذهب‪ .‬يشري‬ ‫“ر‪ .‬مورشيسون” فى مذكراته‪ ،‬أن‪ « :‬وجود معادن بوزن ثقيل تعترب بشكل عام‬ ‫ظاهرة نادرة فى األورال ؛ إال أن أكثر املعادن املميزة بكرب حجمها كانت متواجدة‬ ‫فقط فى تلك املساحة احملدودة ‪ ،‬التى ترويها مياه نهر تاشكوتارجانك ( أحد أفرع‬ ‫نهر إيرميل فى مياس ) وخاصة فى رواسب منطقيت نيكواليفسك ألكساندرسك‬ ‫امللكية »‪. 45‬‬ ‫بالطبع إطلع املهندسان املصريان على آلية سري العمل فى مناجم مياس للذهب ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جليا أمام أعينهم بعد ذلك عند رؤية آالف‬ ‫منوذجا‬ ‫بالطبع ظل وادى الذهب مبياس‬ ‫السودانيني ‪ ،‬الذين اقتادوهم بأمر من حممد علي إىل ورشة غسل الذهب فى فازوغلي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫اقتصاديا للمنطقة بأكملها ‪ .‬فقد‬ ‫مركزا‬ ‫فى ذلك الوقت‪ ،‬كانت مناجم مياس‬ ‫كان يتوافد كل عام عشرات العمال من القرى اجملاورة للعمل حوذيني وفى حرف‬ ‫ً‬ ‫وكثريا ما كانوا يظهرون شتا ًء فى املناجم بدون املالبس الشتوية ‪ ،‬التى‬ ‫أخرى‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كانوا يستلمونها من حساب املرتب ‪ .‬فقد كان العمل باملناجم شاقا جدا خاصة‬ ‫بالنسبة لفالحى األمس ‪ ،‬الذين مل يعتادوا على العمل فى التعدين ‪ .‬وهلذا ‪ ،‬مل يأت‬ ‫من قبيل الصدفة أن حياول الكثريون التخلص من هذا العمل ‪ ،‬مطالبني إعفائهم‬ ‫ً‬ ‫أسبابا خمتلفة ( مثل‪ :‬مرض الزوجة ‪ ،‬شيخوخة‬ ‫من العمل فى مناجم مياس مدعني‬ ‫األب وغريها )‪ .46‬كان العمل فى مصنع زالتؤوست أفضل بكثري من غسل رمال‬ ‫الذهب فى ورش مياس ‪.‬‬ ‫أثناء تواجد املهندسني املصريني يف منطقة تعدين زالتؤوست عام ‪ ،1846‬كانت‬ ‫األوضاع يف املناجم تسري بشكل طبيعي‪ .‬خالفـًا ملا تعرف عليه املصريني من‬ ‫إجنازات يف جمال استخراج الذهب‪ ،‬كان هناك بعض الظواهر‪ ،‬بالتأكيد‪ ،‬حاولوا‬ ‫‪ - 44‬أنظر‪ :‬جنرال التعدين بافل أنوسف ‪ /‬إصدار م‪ .‬ي‪ .‬جالفاتسكي‪.‬‬ ‫إيكاترينبورج‪ .1999 ،‬ص‪.19 ،16 .‬‬ ‫‪ - 45‬المسح الجيوغرافي لروسيا األوروبية وجبال األورال ‪ // ...‬مجلة التعدين‪.‬‬ ‫‪ .1848‬العدد السابع‪ .‬ص‪.46 .‬‬ ‫‪ - 46‬أنظر‪ :‬أرشيف منطقة تعدين زالتؤوست‪ .‬صندوق‪ .19‬فهرس ‪ .1‬ملف ‪.1356‬‬ ‫ورقة ‪.31-48‬‬ ‫‪52‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫إخفاؤها عنهم‪ .‬فقيادة املنطقة‪ ،‬اليت استقبلت الضيوف األجانب‪ ،‬ال ميكنها أن ال‬ ‫تهتم بشأن قضايا أمنها‪ .‬كما أن الوضع األمين يف منطقة املناجم كان غري مستقر‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حتديدا قبل عدة أشهر من وصول املصريني‪ ،‬كان‬ ‫علي مدار فصل صيف ‪،1845‬‬ ‫البحث ً‬ ‫قائما يف غابات منطقة زالتؤوست عن عصابة «ضليعة يف جرائم السرقة‬ ‫والقتل»‪ .‬ما أثار قلق رئاسة منطقة التعدين حلظة وصول املهندسني املصريني‬ ‫عدم العثور علي اجملرمني والتخلص من شرورهم‪ :‬وهلذا كانوا يطلقون عليهم‬ ‫يف وثائقهم كما كان يف السابق «قطاع طرق من البشكرييني اجملهولني»‪.47‬‬ ‫ميكنك أن تتخيل مدي قلق القيادة احمللية من تعرض الضيوف األجانب‪ ،‬الذي‬ ‫جاءوا « بتوصية عليا من اإلمرباطور »‪ ،‬إلي خطر املوت علي األراضي التابعة ملنطقة‬ ‫تعدين زالتؤوست!‬ ‫وكما وقعت حوادث فظيعة باملنطقة ‪ ،‬فقد وقعت يف الوقت ذاته حوادث‬ ‫مضحكة ‪ .‬علي سبيل املثال ‪ ،‬يف شهر يناير من عام ‪ 1846‬أعلن احلوذي التابع‬ ‫إلدارة مصنع كوسا (مدينة يف مقاطعة شليبيانسك‪ .‬تعليق املرتجم) – العامل‬ ‫هاديي أورفاتشوف عن فقدانه « ً‬ ‫طردا » حيتوي علي « سبعة أوراق مالية ونقود‬ ‫ُ‬ ‫بقيمة ‪ 75‬كوبييك من الفضة » عند عودته إلي كوسا‪ ،‬أرسل من أجله إلي اإلدارة‬ ‫الرئيسية ملصنع زالتؤوست ‪ 48.‬واملدهش أن املهندسان املصريان سافرا علي نفس‬ ‫الطريق بعد شهرين‪...‬‬ ‫جيدر بنا احلديث عن أشهر الطرق الروسية يف ذلك الوقت‪ .‬من الطريف أن إدارة‬ ‫مصنع زالتؤوست قررت االعتناء بقضية حتسني حالة الطرق باملنطقة يف نفس وقت‬ ‫تواجد املصريني باألورال ‪ .‬يف شهر فرباير عام ‪ 1846‬بدأت إدارة املصنع بالعمل علي‬ ‫طريق يف منطقة مناجم مياس‪ .‬كان الطريق املمتد من مياس إلي قرية سريوستان‬ ‫(قرية يف منطقة مياس ‪ .‬تعليق املرتجم ) مير يف ذلك الوقت عرب أحد التقاطعات‪ ،‬ومل‬ ‫يكن به أسوار‪ « :‬يف فرتات الليل مل يلحق اخلطر باملارة فقط‪ ،‬ولكن ً‬ ‫أيضا بالربيد‬ ‫لوجود منحدرات وتصدعات يف الشاطئ مما يعرض املركب للسقوط والتحطم‬ ‫حيت املوت»‪ .‬يف الواقع كان مجيع ممثلي السلطة مهتمني بعدم تعرض الضيوف‬ ‫األجانب‪ ،‬الذي القي وصوهلم استحسان مقام اإلمرباطور العالي‪ ،‬للقتل بسبب مأساة‬ ‫روسيا املعتادة واملمثلة يف سوء حالة الطرق‪ .‬أعلن رئيس الشرطة احمللية مبنطقة‬ ‫ترويسك (منطقة يف اجلزء الشمال الشرقي يف ألتاي‪ .‬تعليق املرتجم) أنه تلقي ً‬ ‫أمرا‬ ‫‪ - 47‬أنظر‪ :‬أرشيف منطقة تعدين زالتؤوست‪ .‬صندوق‪ .22‬فهرس ‪ .1‬ملف ‪.954‬‬ ‫ورقة ‪.49‬‬ ‫‪ - 48‬أنظر‪ :‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.19‬‬ ‫‪53‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫من حمافظ أورينبورج املدني «بتعبيد طريق الربيد‪ ،‬حيت ال يوجد به أي حفر أو نقر‬ ‫تعوق مرور الربيد أو املارة»‪.49‬‬ ‫مع ذلك ظهرت حاجة ماسة لتعديل خطة استقبال الضيوف األجانب‪ ،‬اليت‬ ‫قامت إدارة تعدين األورال بإعدادها من قبل ‪ .‬يتعلق األمر باجلانب املالي من رحلة‬ ‫“علي حممد إبراهيم” و “عيسي الدهشوري” إلي األورال ‪ .‬يف فرباير من عام ‪1846‬‬ ‫أضطر وزير املالية إلخبار مفتش جبل بريج باألورال‪ ،‬أن «مهندس التعدين‪ ،‬العقيد‬ ‫كافاليفسكي املصاحب للمهندسني املصريني علي حممد والدهشوري عرب‬ ‫ورش الذهب باألورال أخطر غرفة أركان مهندسي التعدين‪ ،‬أن النقود‪ ،‬اليت استلمها‬ ‫من غرفة األركان بقيمة ‪ 1200‬روبل فضة إلنفاقها‪ ،‬سواء علي نفسه أو علي‬ ‫املهندسني املذكورين قد صرفت كلها‪ ،‬كما يطالب بتخصيص مبلغ إضايف‬ ‫ً‬ ‫ضروريا إصدار أمر بتسليم‬ ‫من خزينة مصنع إيكاترينبورج»‪ .50‬وهلذا كان‬ ‫“ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي” أموال إضـافـية «كـقـرض» من خـزيـنــة مــصـانـع‬ ‫إيــكاتــريـنبورج‪.‬‬ ‫ومت وضع كشف تقديري بنفقات رحلة املهندسني املصريني إلي األورال‪ ،‬واليت‬ ‫أصبحت تقدر اآلن بأكثر من ألفني و‪ 950‬روبل‪ .‬يبدو أن السبب وراء إعادة تقييم‬ ‫كشف احلساب السابق يكمن يف عدم أخذ واضعيه عامل حسن الضيافة يف‬ ‫االعتبار‪ .‬مع عدم توافر معلومات دقيقة خبصوص تكاليف السفر بني املناطق‬ ‫ً‬ ‫دائما ما كانت النفقات تقديرية يف تلك الظروف‪ .‬يف فرتة‬ ‫السكانية املختلفة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تقريرا إلي‬ ‫تواجد املصريني باألورال أرسل موظف بهيئة التعدين كوزنيتسوف‬ ‫رئاسة أركان مصانع زالتؤوست «يستأذن» فيه توضيح «كم فريستا (وحدة قياس‬ ‫مسافة روسية تساوي ‪ 1066,8‬مرت‪ .‬تعليق املرتجم) يبلغ طريق الربيد من مصنع‬ ‫زالتؤؤست حتى مدينة إيكاترينبورج»‪ .51‬حيت تلك املعلومات مل تكن يف كثري‬ ‫من األحيان متوافرة لدي موظفي هيئة التعدين‪ ،‬ناهيك عن األرقام الدقيقة ملصروفات‬ ‫الضيوف األجانب‪ً .‬‬ ‫وفقا لشهادات مصادر األرشيف‪ ،‬يف النهاية مت اقرتاض أكثر من‬ ‫‪ 1780‬روبل إضافية من خزينة مصانع زالتؤوست‪ :‬يف شهر مايو عام ‪ 1846‬توجب‬ ‫علي رئيس األركان بلوم نقل الضيوف املصريني‪ ،‬الذين مكثوا يف األورال سبعة‬ ‫‪ - 49‬أرشيف منطقة تعدين زالتؤوست‪ .‬صندوق‪ .22‬فهرس ‪ .1‬ملف ‪ .954‬ورقة‬ ‫‪.47-48‬‬ ‫‪ - 50‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪.24‬لفهرس ‪ .23‬ملف‬ ‫‪ .7101‬ورقة ‪.16-17‬‬ ‫‪ - 51‬أرشيف منطقة تعدين زالتؤوست ‪ .‬صندوق ‪ . 22‬فهرس ‪ .1‬ملف ‪ . 954‬ورقة ‪.22‬‬ ‫‪54‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫ً‬ ‫مسبقا إلعاشتهم‪.‬‬ ‫أشهر‪ ،‬إلي أوديسا بعدما استنفذوا مجيع األموال املخصصة‬ ‫ولكن حبلول شهر مايو عام ‪ 1846‬توجه رئيس هيئة تعدين مصانع زالتؤوست‬ ‫إلي مفتش جبل بريج باألورال – العقيد زلوبني بطلب تسليم األموال اإلضافية‬ ‫للصرف علي املصريني بقيمة ‪ 1781‬روبل و ‪ 93‬كوبييك من الفضة إلي اخلزينة‬ ‫مرة أخري‪ ،‬أو يقوم زلوبني بطلب تقرير عن بنود صرف تلك األموال من رئيس‬ ‫األركان بلوم‪ .52‬من املرجح أنه كان يأمل يف أن يتمكن بلوم من توفري بعض‬ ‫ً‬ ‫طويال ً‬ ‫جد ًا‪ .‬يف يونيو عام ‪« 1846‬استأذن» العقيد “ف‪ .‬أ‪.‬‬ ‫املال‪ .‬استمرت تلك القصة‬ ‫سامارسكي” من زلوبني باإلسراع يف تسليم تقرير مصروفات رحلة املصريني عرب‬ ‫روسيا‪ .53‬يف سبتمرب عام ‪ 1846‬طالب زلوبني من سامارسكي إعادة املبلغ املطلوب‬ ‫– ‪ 1781‬روبل و‪ 93‬كوبييك إلي مصانع زالتؤوست‪ .‬ولكن اتضح أن رئيس‬ ‫األركان بلوم مل يقدم حيت اآلن تقرير املصروفات ‪ ،‬والذي ظهر فقط يف نوفمرب من‬ ‫عام ‪ ،1846‬وعلي كل حال كانت نتائجه مفاجئة لرئاسة هيئة التعدين‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فائضا يف املصروفات بقيمة ‪ 44‬روبل و ‪ 6‬كابييك‪ .‬وكما‬ ‫اتضح أن لدي “بلوم”‬ ‫فسر رئيس األركان نفسه‪ ،‬فقد أنفق هذا املبلغ علي إعاشة املصريني يف أوديسا‬ ‫حيت تسلمهم اجلنرال فيودوروف ‪ -‬القائم بأعمال احلاكم العام لنوفوروسياسك‬ ‫(إحدي مدن روسيا الفيدرالية علي البحر األسود‪ .‬تعليق املرتجم) وبيسارابيا‬ ‫(مصطلح يشري إىل منطقة جغرافية تقع يف أوروبا الشرقية حيدها من الشرق نهر‬ ‫الدنستري ومن الغرب نهر بروت‪ .‬تعليق املرتجم)‪ .‬جاء علي لسان بلوم أن األخري كان‬ ‫ً‬ ‫مضطرا يف بعض األحيان لإلنفاق علي الضيوف املصريني من حسابه اخلاص‪.54‬‬ ‫وهلذا وافقت رئاسة هيئة التعدين علي تعويض بلوم عن تلك املصروفات‪.‬‬ ‫ولكن القصة كلها انتهت يف يوليو عام ‪ 1847‬بعد عامني من بدء رحلة‬ ‫املصريني إلي روسيا عندما أعيد املبلغ املزعوم – ‪ 1781‬روبل و‪ 93‬كوبييك إلي‬ ‫مصانع زالتؤؤست‪.‬‬ ‫أعربت القيادة املصرية عن عرفانها لروسيا ‪ ،‬التى أتاحت الفرصة للمهندسني‬ ‫‪ - 52‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪.24‬لفهرس ‪ .23‬ملف‬ ‫‪ .7101‬ورقة ‪.23-24‬‬ ‫‪ - 53‬أنظر‪ :‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.26‬‬ ‫‪ - 54‬أنظر‪ :‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪.24‬لفهرس ‪.23‬‬ ‫ملف ‪ .7101‬ورقة ‪.33‬‬ ‫‪55‬‬


‫املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه‬

‫بتعلم طرق التعدين ‪ .‬كما ثـمنت الدور الشخصى لـ «ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي »‪.‬‬ ‫وهلذا ليس من قبيل الصدفة أن يرسل « حممد علي » هدية شخصية إىل العقيد‬ ‫ً‬ ‫وردا‬ ‫الروسي فى خريف عام ‪ 1846‬؛ وهي عبارة عن علبة تبغ مرصعة باألملاس ‪.‬‬ ‫لتلك اهلدية أرسل « ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي» إىل املتحف املصري جمموعة من‬ ‫معادن األورال‪. 55‬‬ ‫بهذا الشكل انتهت امللحمة املرتبطة برحلة « علي حممد إبراهيم » و «عيسي‬ ‫الدهشوري » عرب روسيا ‪ .‬بعد ذلك قام « ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي» ورفاقه بزيارة فى‬ ‫املقابل إىل مصر والسودان ‪ ،‬تسرد تفاصيلها إحدى خمطوطات « إيفان بارودين » فى‬ ‫األرشيف احلكومي ملقاطعة سفريدلوفسك ‪.‬‬

‫‪ - 55‬أنظر‪ :‬ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين‪ .‬مصر فى أعين الروس ‪ ...‬ص‪.253-255 .‬‬ ‫‪56‬‬


‫الفصل الثاني‬ ‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬ ‫جاءت نتائج تدريب املهندسني املصريني فى األورال خميبة آلمال “حممد على”‬ ‫بشكل عام ‪ .‬توضح تقارير القنصل الروسى “ أ‪ .‬م‪ .‬فوكا ” املُقدمة إىل القسم‬ ‫اآلسيوى التابع لوزارة اخلارجية ‪ ،‬أن واىل مصر كان ينتظر بفارغ الصرب عودة‬ ‫الشابني املتخصصني فى التعدين إىل أرض الوطن من أجل اإلقدام على بناء ورش‬ ‫غسل الذهب فى البالد‪ .1‬مع هذا ‪ ،‬كما يشري الباحث احمللى فى زالتؤوست “أ‪.‬‬ ‫ليربمان” ‪ « ،‬مل يسر األمر على هذا النحو »‪ 2‬مبجرد عودة “على حممد إبراهيم” و‬ ‫“عيسى الدهشورى” ‪ .‬وذلك على الرغم من ‪ ،‬أنهما مل يعودا من روسيا خاليا الوفاض‪،‬‬ ‫بل كانت حبوزتهما مناذج آلالت غسل ذهب ‪ .‬مبجرد العودة من روسيا بدأ الشابان‬ ‫‪ - 1‬أنظر‪ :‬ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين‪ .‬مصر فى أعين الروس‪ ...‬ص‪.251 ، 247 – 246 .‬‬ ‫‪ - 2‬أ‪ .‬ليبرمان‪ .‬األوراليون فى مصر ‪ //‬عامل زالتؤوست‪.‬‬ ‫‪ 11 .1976‬سبتمبر‪.‬‬ ‫‪57‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫املتخصصان العمل فى النوبة ( فى شهرى مارس وأبريل ‪ 1847‬فى فازوغلى ) ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تقريرا إىل روسيا عن العمل الذى أجنزاه جبانب مناذج‬ ‫وبنهاية عام ‪ ، 1847‬أرسال‬ ‫من الذهب املُستخرج ‪.‬‬ ‫وركز التقرير بشكل كبري على الدليل ‪ ،‬الذى يثبت أن منـطقة ( كاسان )‬ ‫املوجودة فى فازوغلى هى األنسب لبناء ورشة غسل الذهب‪ .‬يشري “عيسى الدهشورى”‬ ‫و “على حممد إبراهيم” فى وصفهما للمنطقة ‪ ،‬التى سرعان ما ستأتى إليها البعثة‬ ‫الروسية ‪ « :‬كاسان جبل يسكنه زنوج بارتاس ؛ ويقع فى جنوب شرق فازوغلى‬ ‫ويستغرق الوصول إليه مسرية يومني على طريق القوافل ‪ .‬على املنحدر الشرقى‬ ‫ً‬ ‫اتساعا ؛ حيث ينتشر على جانبيه نبات‬ ‫للجبل توجد إحدى أكثر البقع الزراعية‬ ‫رائع ‪ ،‬يطلق عليه السكان احملليون اسم طماطم‪ ...‬على ُبعد ‪ 50‬أو ‪ 60‬دقيقة شرق‬ ‫املنطقة الزراعية تظهر مساحة شاسعة ‪ ،‬حيث يوجد خام الذهب بكميات كبرية ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا داخل أنقاض الصخور اجلبلية ‪ ،‬املغطاة بلون مائل‬ ‫ميكنك إجياد الذهب‬ ‫للحمرة وأكسيد احلـديد‪ ...‬يقـع الذهب بالقـرب من الـسـطح عـلى عمق مرت‬ ‫واحـد ‪ ،‬كما أن حجم ذرات الذهب فى ضواحى كاسان ( التى تدعى القبضة )‬ ‫مرضية إىل حد بعيد ‪ .‬كانت أقل كمية معدن مت استخراجها عند التنقيب‬ ‫حبجم بذور الربسيم أو نبات احلندقوق (احلندقوق اهلندى نوع نباتى ينتمى جلنس‬ ‫احلندقوق من الفصيلة البقولية ‪ ،‬وهو أحد حماصيل األعالف‪ .‬تعليق املرتجم ) ؛ حتى‬ ‫أن تيار املياه مل جيرفها من فوق آلة الغسيل ؛ ومل يتم العثور إىل أية حراشف أو رقاقات‬ ‫ذهب ‪ ،‬أما القطع الكبرية تعادل حجم القنبلة أو أكرب ‪ .‬مت إكتشاف طبقات‬ ‫حتوى ً‬ ‫ذهبا فى مناطق عدة على عمق مرت واحد أو أكثر بقليل » ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حتديدا قام املهندسان‬ ‫من أجل إثبات جدوى استخراج الذهب من منطقة كاسان‬ ‫املصريان الشابان بتوثيق تلك املعلومات ‪ .‬كما أوضحا ‪ ،‬أن التـجارب ‪ ،‬التى أجرياها‬ ‫تثبت إمكانية استخراج ً‬ ‫ذهبا بقيمة ما يقرب من أربعة قروش فى اليوم باإلستعانة‬ ‫بعامل واحد فقط ومعه “ معدات ثقيلة“‪ .‬وفى حالة إستخدام اآلالت أو الطسوط ‪،‬‬ ‫املستخدمة فى مناجم مياسك ‪« ،‬ميكننا أن نعول بكل ثقة على عشرة أضعاف‬ ‫إنتاجية الفرد الواحد »‪.3‬‬ ‫فى النهاية بإمكان آلة غسل واحدة أن تنتج فى اجململ ما ال يقل عن أربعني‬ ‫قرش ذهب فى اليوم ‪ .‬ويضيف املهندسان إمكانية بناء ورشة بطاقة ألفي عامل‬ ‫فى ضواحي كاسان ‪ ،‬وبهذا ميكن أن تتضاعف معدالت اإلنتاج مع الوقت ‪ .‬ومن‬ ‫‪ - 3‬أ‪ .‬ب‪ .‬فالسكايا‪ .‬ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي والمهندسون المصريون‪ ...‬ص‪.133 .‬‬ ‫‪58‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫هذا املركز ميكن إجراء أحباث جيولوجية فى املناطـق اجملاورة ‪ ،‬حيث ميكن‬ ‫إكتشاف خمابئ جديدة للمعدن النفيس ‪ .‬ولكن كان ً‬ ‫لزاما على “ حممد على‬ ‫“ اإلنتقال فى أسرع وقت من مرحلة احلديث إىل مرحلة الفعل ‪ .‬وهلذا كان مضطراً‬ ‫ً‬ ‫جمددا من روسـيا ‪ .‬فى تلك األثناء أصبحت العالقات‬ ‫عام ‪ 1847‬لطلب املساعدة‬ ‫الروسية املصرية متالمحة بشـكل جيـعل مـن الصعب رفض طلب حممد عـلى‬ ‫( كما حدث عام ‪ ، ) 1843‬على حد تعبري رئيس البعثة الدبلوماسية الروسية‬ ‫فى القسطنطينية ‪ ،‬التى أرتأي أنه « فى حالة عدم السماح لضباط هيئة التعدين‬ ‫بالتوجه هذه املرة إىل مصر »‪ ،‬فمن الضرورى ‪ ،‬أن ُيعرض السفر إىل مشال شرق‬ ‫إفريقيا على مهندس متقاعد ذو خربة ليبدو األمر على أنه زيارة شخصية‪.4‬‬ ‫إتفقت اإلمرباطورية الروسية ومصر فى النهاية على وصول جمموعة املتخصصني‬ ‫الروس وعلى رأسهم “ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي “ إىل مصر من أجل تطوير صناعات‬ ‫استخراج الذهب فى شرق السودان ‪ .‬بعث “ حممد على “ رسالة إىل املستشار الكونت‬ ‫ً‬ ‫تعبريا عن إمتنانه لروسيا ‪ ،‬جاءت كاآلتى ‪ « :‬مع شعورى بامسى‬ ‫ك‪ .‬ف‪ .‬نيسلرود ‪،‬‬ ‫معانى العرفان لكرم جاللته ‪ ،‬الذى أبداه ىل بشتى الوسائل ‪ ،‬أقدمت على مطالبة‬ ‫جاللته بإرسال مهندس لتفقد مناجم الذهب ‪ ،‬التى إفتتحت فى سنار ‪ .‬وليسمح ىل‬ ‫جاللته ‪ ،‬جبانب طلبى ‪ ،‬بالتعبري عن أمانى الطيبة لصاحب العصمة‪ ،‬وقد علمت‬ ‫برضى بالغ أن العقيد التابع إلدارة مهندسى التعدين “ كافاليفسكي “ مت تعيينه‬ ‫للقيام بتلك البعثة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫نظرا لتهيئتها أفضل الظروف املمكنة‬ ‫أدين بالعرفان حلكومة اإلمرباطورية‬ ‫ومساحها للطالبني املصريني ‪ ،‬اللذين أرسلتهما إىل روسيا ‪ ،‬بدراسة أحدث طرق‬ ‫إستغالل الرواسب التى حتوى الذهب‪ .‬وازداد دينى وعرفانى جلاللته بعد اخلدمة‬ ‫اجلليلة ‪ ،‬التى أنعم عظمته ّ‬ ‫على بها ‪ ،‬كما أرجو صاحب العصمة أن يتقبل‬ ‫احرتامى وتقديرى ‪ .‬فليسعد اهلل أيامه! »‪.5‬‬ ‫وكما أفادت التوصيات ‪ ،‬التى تلقاها “ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي“‪ ،‬قام األخري‬ ‫بإختيار خبري تعدين وعامل غسل ذهب ضمن محلته ‪ -‬وهم «أفضل العناصر من‬ ‫ناحية القدرات واملعرفة والسلوك ‪ ،‬وكانت األولوية لذوى البنيان القوى والعزاب‬ ‫ومن لديه عائالت صغرية »‪ . 6‬واملُلفت للنظر أن رئاسة هيئة التعدين كانـت تـدرك‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫طويال ‪ ،‬وتتعـرض خلـطر مميت ‪،‬‬ ‫جيدا ‪ ،‬أن الرحلة إىل مصر ميكن أن تستمر‬ ‫‪ - 4‬أنظر‪ :‬ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين‪ .‬مصر فى أعين الروس‪ ...‬ص‪.256 .‬‬ ‫‪ - 5‬مصر فى أعين الروس‪ ...‬ص‪.263-264 .‬‬ ‫‪ - 6‬ب‪ .‬أ‪ .‬فالسكايا‪ .‬رحلة إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ .‬ص‪.98 .‬‬ ‫‪59‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫وهلذا أوصت الرئاسة “ إجيور برتوفيتش “ برتكيز االهتمام على اخلرباء ‪ ،‬غري‬ ‫املثقلني بأعباء أسر كبرية ‪ .‬وقع اإلختيار فى النهاية على خبري التعدين “ إيفان‬ ‫تروفيموفيتش بارودين “ وعامل غسل الذهب “ إيفان سافيليفيتش فومني “ ‪ .‬كان‬ ‫اخلبري فى ذلك الوقت ُيدعي أستاذ التعدين ‪ ،‬الذى يدير العمل باملناجم‪ .‬حتى نهاية‬ ‫القرن الثامن عشر ‪ ،‬كانت كوادر املهندسني الفنيني فى صناعات التعدين ‪ ،‬سواء‬ ‫فى روسيا أو فى غرب أوروبا تقضى فرتة التأهيل على إستخدام “ وسائل عملية‬ ‫خبرية “ ‪ ،‬مثل التعلم الذاتى ‪ ،‬واستيعاب العلوم التقنية العاملية احلديثة بشكل‬ ‫مستقل ‪ ،‬والدراسة العملية لعلوم الفلزات والتعدين فى املصانع واملناجم‪ 7.‬كان‬ ‫ً‬ ‫متناقضا‬ ‫وضع هؤالء فى اجملتمع الروسى فى النصف األول من القرن التاسع عشر‬ ‫ً‬ ‫ومزدوجا بشكل كبري ‪ .‬يشري الباحثون إىل أن الكوادر التقنية اإلدارية مل تنخرط‬ ‫فى البناء الطبقى للمجتمع الروسى ‪ .‬فلم يكن اجلميع يتمتع بنفس احلقوق‪،‬‬ ‫التى كانت تتباين ً‬ ‫تبعا للمصنع ‪ ،‬الذى يعملون به ‪ .‬فى مناطق التعدين اخلاصة‬ ‫كان وضعهم القانونى خيضع إلرادة مالك الضيعة ‪ .‬أهم ما كان مييز العمال من‬ ‫أغلبية السكان – هو إرتفاع أجر العامل ‪ .‬فبجانب األجر األساسى ‪ ،‬مت صرف وجبة‬ ‫ً‬ ‫ودائما ما كان العامل حيصل على ما يعادهلا فى شكل نقود‪ .‬من الناحية‬ ‫طعام‪،‬‬ ‫ً‬ ‫القانونية مل يكن مسموحا بتقليص ساعات العمل‪ ،‬وفى املناطق اخلاصة يتوقف‬ ‫هذا األمر على رغبة كل مالك‪.8‬‬ ‫تشري وثائق أرشيف منطقة تعدين زالتؤوست إىل أن عائلة “ بارودين “ كانت‬ ‫مشهورة حلد كبري فى املصانع احمللية واملناجم فى األربعينيات‪.‬‬ ‫تقدر أعداد من حيملون اسم تلك العائلة فى « الكتاب الرمسى إلحصاء‬ ‫ً‬ ‫عامال‪ .‬من بينهم ‪ ،‬على سبيل املثال ‪ “ ،‬أكيم‬ ‫أجور العمال واملؤن » سبعة عشر‬ ‫ً‬ ‫تروفيموفيتش “ البالغ من العمر تسعة وأربعني عاما ‪ ،‬و “ سريجي تروفيموفيتش‬ ‫ً‬ ‫عاما ‪ ،‬واللذان رمبا كانا أقارب‬ ‫بارودين “ البالغ من العمر مخسة ومخسني‬ ‫ًُ‬ ‫حتديدا أتهم أحد أفراد عائلة بارودين بسرقة‬ ‫بطلنا ‪ ( ،‬أو أخوته) ‪ .‬فى ذلك الوقت‬ ‫‪ - 7‬أنظر‪ :‬د‪ .‬ف‪ .‬جافريلوف‪ .‬مصانع تعدين األورال القرن السابع عشر‪ -‬القرن‬ ‫العشرين‪ .‬إيكاترينبورج‪ .2005 ،‬ص‪.116 .‬‬ ‫‪ - 8‬أنظر‪ :‬ف‪ .‬ف‪ .‬توروب‪ .‬نظام إدارة مصانع التعدين الخاصة فى شمال األورال‬ ‫فى النصف األول من القرن التاسع عشر‪ :‬ملخص رسالة ماجيستير التاريخ‪.‬‬ ‫إيكاترينبورج‪ .1999 ،‬ص‪.23-24 .‬‬ ‫‪60‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫الذهب من املناجم‪ .9‬كان بعض العمال األخرين‪ ،‬ومنهم على سبيل املثال “ أكيم‬ ‫تروفيموفيتش بارودين “ ‪ ،‬متواجدين فى مناجم الذهب لفرتة ترتاوح بني ‪ 200‬إىل‬ ‫‪ 250‬يوم فى العام ‪ ،‬يعملون فى غسل الذهب‪ .‬والبعض اآلخر ( على سبيل املثال‪،‬‬ ‫ابنه إيبيفان أكيموفيتش ) كانوا يقضون نفس املدة ( ‪ 250 - 200‬يوم ) فى‬ ‫ختزين اخلشب إلنتاج فحم اخلشب‪.10‬‬ ‫كيف ميكنك االرتقاء لرتبة خبري تعدين فى ورش الذهب مبياس؟ توضح‬ ‫الوثائق أن اخلرباء املؤهلني فى مصنع زالتؤوست أحد الروافد الرئيسية إلمداد هذا‬ ‫الكادر ‪ .‬ففى عام ‪ 1849‬وقع االختيار على مساعد عمال ورشة العوارض فى مصنع‬ ‫زالتؤوست نيكاندر سيسويف لشغل الوظيفة الشاغرة خلبري تعدين املنطقة‪. 11‬‬ ‫مر “ إيفان بارودين “ مبسرية حياة زاخرة حتى وصول املصريني إىل األورال‪ .‬توضح‬ ‫“ ب‪ .‬أ‪ .‬فالسكايا “ ‪ ،‬التى عملت على ملف خدمة بارودين ‪ ،‬أنه ُولد عام ‪،1799‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا ابن عامل مبناجم النحاس‬ ‫ونشأ وسط عمال مصانع هيئة التعدين‪ ،‬وهو‬ ‫التى ميلكها بيلوكوف ‪ .‬ألتحق إيفان باخلدمة فى مناجم التعدين فى مياس ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫سائقا ‪ ،‬بعد ذلك‬ ‫وهو صبى فى الثانية عشر من عمره ‪ .‬فى البداية عمل بارودين‬ ‫أصبح عامل تعدين يف مصانع خمتلفة ‪ .‬ومنذ عام ‪ 1824‬دأب “ إيفان بارودين “ ذو‬ ‫ً‬ ‫ربيعا على العمل فى ورش الذهب ‪ً :‬‬ ‫أوال كعامل خدمات خاصة‪،‬‬ ‫اخلمس والعشرين‬ ‫ً‬ ‫ونظرا “‬ ‫ثم خبري صف ‪ .‬وفى عام ‪ 1836‬أصبح “ إيفان تروفيموفيتش “ خبري تعدين ‪.‬‬ ‫إلخالصه املميز وخدماته اجلليلة “ ُمنح إيفان عام ‪ 1845‬قالدة فضية حتمل شعار‬ ‫ً‬ ‫تقديرا لإلخالص فى العمل” حلملها على رقبته فوق وشاح القديسة ّآنا‪ ( 12‬وهو‬ ‫“‬ ‫وسام منحه اإلمرباطور بافل األول ملوظفى الدولة واحملاربني املميزين عام ‪. 1797‬‬ ‫تعليق املرتجم) ‪ .‬تشري ب‪ .‬أ‪ .‬فالسكايا ‪ ،‬أن « أ‪ .‬بارودين ‪ ،‬صاحب القامة الطويلة‬ ‫واألعني الرمادية وشعر وحلية صهباء ‪ ،‬يتميز عن عمال األورال خبرباته ومعارفه»‪. 13‬‬ ‫‪ - 9‬أنظر‪ :‬أرشيف منطقة تعدين زالتؤوست‪ .‬صندوق‪ .19‬فهرس ‪ .1‬ملف ‪.1313‬‬ ‫ورقة‪1-12‬؛ أرشيف منطقة تعدين زالتؤوست‪ .‬صندوق‪ .22‬فهرس ‪ .1‬ملف ‪.937‬‬ ‫ورقة ‪.23 ،17‬‬ ‫‪ - 10‬أنظر‪ :‬أرشيف منطقة تعدين زالتؤوست‪ .‬صندوق‪ .22‬فهرس ‪ .1‬ملف ‪.937‬‬ ‫ورقة ‪.17-18‬‬ ‫‪ - 11‬أنظر‪ :‬أرشيف منطقة تعدين زالتؤوست‪ .‬صندوق‪ .22‬فهرس ‪ .1‬ملف ‪.1089‬‬ ‫ورقة ‪.27‬‬ ‫‪ - 12‬أنظر‪ :‬إي‪ .‬يو‪ .‬نيفرايفا‪ .‬بعثات عمال إستخراج الذهب فى مياس‪ ...‬ص‪.80-81 .‬‬ ‫‪ - 13‬ب‪ .‬أ‪ .‬فالسكايا‪ .‬رحلة إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ .‬ص‪.98 .‬‬ ‫‪61‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫كان “ إيفان تروفيموفيتش بارودين “ يتمتع خبربة فى البعثات اخلارجية قبل‬ ‫ً‬ ‫طبقا للوثائق ‪ ،‬فإنه أثناء تواجد املهندسني املصريني فى زالتؤوست‬ ‫سفره إىل مصر ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عام ‪ 1846‬حتديدا ‪ ،‬كان أي‪ .‬ت‪ .‬بارودين مبعوثا بصحبة صديقه ‪ ،‬خبري التعدين‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وصديقا إليفان توفيموفيتش فى العمل ) “‬ ‫أيضا ‪،‬‬ ‫خبريا‬ ‫أ‪ .‬ك‪ .‬كريسني ( كان‬ ‫بتصريح من رئيس جملس اإلدارة “ إىل بوخارست “ للتنقيب عن الذهب “‪ .‬تؤكد‬ ‫“ أي‪ .‬يو‪ .‬نيفرايفا “ أن خبري تعدين مصنع مياس ياكوف ريزانسكي كان من‬ ‫ً‬ ‫حائال ضد ذلك‪. 14‬‬ ‫املفرتض أن يسافر بصحبة بارودين ‪ ،‬إال أن سنه الكبرية وقف‬ ‫مل تأت رحلة “ إيفان تروفيموفيتش بارودين “ إىل مملكة الدوناي من قبيل‬ ‫الصدفة ‪ .‬فقد بدأ عمل املتخصصني الروس فى إستخراج الذهب هنا منذ عام ‪.1808‬‬ ‫فاخلطوات املُتخذه على طريق التنقيب عن املعدن النفيس فى مالدوفيا وفاالخيا (‬ ‫منطقة تارخيية فى رومانيا ‪ ،‬وتقع فى مشال نهر الدانوب ‪ .‬تعليق املرتجم ) أعتمدت‬ ‫على املعلومات اخلاصة بتواجد اجليش الروسى هناك ‪ .‬من الواضح أن بعض الغجر‬ ‫احملليني كانوا يعملون على جتميع رمال الذهب ‪ .‬وفى يناير من عام ‪ 1811‬وصل‬ ‫ذهب فاالخيا إىل بطرسبورج ‪ ،‬حيث قام املتخصصون الروس بتقييم مدي جودته‪. 15‬‬ ‫سعت روسيا أثناء الصراعات العسكرية مع اإلمرباطورية العثمانية إىل إضعاف‬ ‫ً‬ ‫ووفقا‬ ‫الرقابة الرتكية على مالدوفيا وفاالخيا بهدف تقوية نفوذها فى املنطقة ‪.‬‬ ‫ملعاهدة آق كرمان ( مدينة فى مقاطعة أوديسكا فى أوكرانـيا ‪ .‬تعلـيق‬ ‫املتـرجـم ) املربمة عام ‪ 1826‬بني روسيا وتركيا ‪ ،‬وافقت األخرية على إعادة احلكم‬ ‫الذاتى ملالدوفيا وفاالخيا‪ .‬كما أحتل اجليش الروسى ممالك الدوناي فى إطار احلرب‬ ‫بني روسيا وتركيا خالل عامى ‪ 1828‬و ‪ . 1829‬وثبت اإلحتالل الروسى أقدامه‬ ‫على تلك األراضى من خالل إتفاقية أدرنه ( مدينة فى مشال غرب تركيا ) للسالم‬ ‫عام ‪ . 1829‬ولكن متكن أمحد باشا ‪ ،‬أثناء مباحثاته فى سانت بطرسبورج عام‬ ‫‪ ، 1834‬من احلصول على موافقة روسيا من أجل إجالء قواتها عن مـمالك الدونـاي ‪.‬‬ ‫وفى املقابل ال يتقلد ملنصب السلطان سوى أحد املرشحني ‪ ،‬الذين تقرتحهم روسيا ‪.‬‬ ‫كانت اإلمرباطورية العثمانية مضطرة لتأييد نظام املمالك اإلدارى ‪ ،‬والذى إختذته‬ ‫دوواوين مالدوفيا وفاالخيا‪. 16‬‬ ‫‪ - 14‬أي‪ .‬يو‪ .‬نيفرايفا‪ .‬بعثات عمال إستخراج الذهب فى مياس‪ ...‬ص‪.80 .‬‬ ‫‪ - 15‬أنظر‪ :‬ف‪ .‬ف‪ .‬دانيليفسكي‪ .‬الذهب الروسى‪ .‬تاريخ إكتشافه واستخراجه حتى‬ ‫منتصف القرن التاسع عشر‪ .‬موسكو‪ .1959 ،‬ص‪.293 .‬‬ ‫‪ - 16‬أنظر‪ :‬ن‪ .‬س‪ .‬كينيابين‪ .‬سياسة روسيا الخارجية فى النصف األول من القرن‬ ‫التاسع عشر‪ .‬موسكو‪1963 ،‬‬ ‫‪62‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫مع هذا بقى عدد ال بأس به من الروس على أراضى مالدوفيا وفاالخيا حتى بعد‬ ‫جالء القوات الروسية ‪ .‬من املعروف أن اإلدارة الروسية كانت تعمل بفاعلية فى‬ ‫مالدوفيا وفاالخيا أثناء املعارك الروسية الرتكية ‪ .‬خالل النصف األول من القرن‬ ‫التاسع عشر كان يعيش ويعمل كثري من احملاربني واملوظفني الروس‪ . 17‬مع هذا ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وفقا رأى بعـض الباحثـني الـروس ‪ ،‬فقد فقدت روسيا التعاطف السياسى من جانب‬ ‫مقاطعات حملية عدة ‪ ،‬فى الوقت الذى كانت تلعب فيه « دور من يزود عن ممالك‬ ‫الدوناي ولكن بقبضة حديدية » ‪ ،‬مما ساعد على توجه تلك املقاطعات مرة أخرى‬ ‫إىل الغرب وحتى إىل تركيا نفسها »‪ . 18‬من املدهش أن قطاعات خمتلفة من سكان‬ ‫مالدوفيا وفاالخيا تعاملت بشكل متباين مع ممثلى روسيا ‪ .‬كان على إيفان‬ ‫بارودين وصديقه اإلصطدام ‪ ،‬على ما يبدو مع هؤالء ‪ ،‬الذين ارتأوا عدم جدوى وجود‬ ‫روسيا يف تلك املنطقة ‪.‬‬ ‫كان السبب وراء سفر بارودين وكريسني إىل بوخارست له عالقة بظهور مجعية‬ ‫« للمناجم وتعدين الرواسب احلاملة للذهب واملعادن األخرى » فى فاالخيا وعلى‬ ‫املنحدر الشرقى جلبال كاربات ( سلسة جبال متتد فى أوروبا الوسطى والشرقية ‪،‬‬ ‫وبنسبة عالية فى رومانيا‪ .‬تعليق املرتجم ) ‪ .‬وبعدما منا لعلمه أن اجلمعية حباجة‬ ‫إىل مهندس تعدين حمرتف ‪ ،‬سرعان ما وافق ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي على السفر‬ ‫إلي فاالخيا ‪ .‬وفى عامى ‪ 1843‬و ‪ 1844‬قام األخري بتفقد منطقة نهر لوترو ً‬ ‫حبثا عن‬ ‫ً‬ ‫مباشرة‪.‬‬ ‫الذهب قبيل وصول خرباء األورال‬ ‫تشهد الوثائق‪ :‬أنه فى الفرتة ‪ ،‬التى كان إيفان بارودين وصديقه كريسني‬ ‫متواجدين فيها فى بعثة خارجية ‪ ،‬مل تنس إدارة منطقة تعدين زالتؤوست االعتناء‬ ‫ً‬ ‫أمواال وسلمتهم دقيق اجلودار‪ ( 19‬يتميز بلون داكن‬ ‫بأسرهم ‪ ،‬إمنا دفعت هلم‬ ‫ونكهة أقوي من الدقيق األبيض ‪ .‬تعليق املرتجم ) ‪.‬‬ ‫وعلى أية حال ‪ ،‬فى الوثائق املتعلقة جبميع أنواع املصروفات ‪ ،‬التى أنفقتها منشآت‬ ‫منطقة تعدين زالتؤوست عام ‪ ، 1846‬وردت أمساء أبطال آخرين عن موضوع حديثنا‪.‬‬ ‫‪ - 17‬أنظر‪ :‬ف‪ .‬يا‪ .‬جروسول‪ .‬روسيا خارج الحدود فى النصف األول من القرن‬ ‫التاسع عشر‪ .‬موسكو‪ .2008 ،‬ص‪.92-94 .‬‬ ‫‪ - 18‬تاريخ السياسة الخارجية لروسيا‪ .‬النصف األول من القرن التاسع عشر‪...‬‬ ‫ص‪.342 .‬‬ ‫‪ - 19‬أنظر‪ :‬أرشيف منطقة تعدين زالتؤوست‪ .‬صندوق‪ .19‬فهرس ‪ .1‬ملف ‪.1330‬‬ ‫ورقة ‪.16-39‬‬ ‫‪63‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫فعلى سبيل املثال ‪ ،‬حصل قائد األركان بلوم ‪ ،‬الذى رافق املهندسني املصريني من‬ ‫زالتؤوست إىل أوديسا‪ ،‬على أدوية من صيدلية األسلحة بقيمة ‪ 57‬كوبييك ‪.‬‬ ‫كما توجب عليه دفع ثالثة روبالت و‪ 48‬كوبييك مقابل اخلشب املستخدم فى‬ ‫تدفئة غرفته ‪ .‬باإلضافة إىل مرافقة املصريني كان بلوم يقوم بتنفيذ بعض مهام‬ ‫الرئاسة فى منطقة تعدين زالتؤوست عام ‪ . 1846‬وهلذا مل يكن صدفة أن ُيطالب‬ ‫برد روبل وربع كوبييك إىل اخلزينة مقابل املصاريف الزائدة على إصالحات‬ ‫‪20‬‬ ‫الكبارى والطرق ‪ ،‬التى قام بها العمال ( أمام الواليات ) حتت قيادته املباشرة ‪.‬‬ ‫استمرت البعثة التى قام بها بارودين وكريسني إىل فاالخيا مدة عامني ‪ ،‬ثم عاد‬ ‫األخريان إىل األورال فى مايو عام ‪ . 1847‬فى ذلك الوقت إتضح أن بانتظار إيفان‬ ‫تروفيموفيتش رحلة أكثر ً‬ ‫بعدا ( إىل مصر ) ‪.‬‬ ‫كان متخصص غسل رواسب الذهب “ إيفان سافيليفتش فومني “ رفيق بارودين‬ ‫ً‬ ‫وفقا ملا أورده أ‪ .‬ج‪ .‬كازلوف فإن فومني ‪ -‬عامل سابق فى مناجم‬ ‫فى تلك الرحلة ‪.‬‬ ‫بريوزوف ‪ ،‬ثم عمل بعد ذلك فى مياس وساعد “ب‪ .‬ب‪ .‬أنوسف” فى إنشاء آلة لغسل‬ ‫ً‬ ‫الذهب ‪ .‬وكان يصغر إيفان تروفيموفيتش بعشرين ً‬ ‫تقريبا ( ُولد عام ‪)1818‬‬ ‫عاما‬ ‫ً‬ ‫أيضا إىل عمال مصانع هيئة التعدين ‪ .‬فى عام ‪ ، 1836‬عندما‬ ‫كما يرجع أصله‬ ‫ً‬ ‫مراسال فى مناجم مياس ‪ ،‬بعد‬ ‫أصبح بارودين خبري تعدين ‪ ،‬كان فومني يعمل‬ ‫ً‬ ‫أعماال كثرية فى املنجم ‪ .‬إال أنه مل يكن يتمتع بنفس اخلربات ‪،‬‬ ‫ذلك مارس‬ ‫التى يتمتع بها صديقه‪ :‬يبدو أن إيفان بارودين هو األكرب فى السن هذه املرة ‪.‬‬ ‫كان خرباء صناعات الذهب فى مياس على مستوي عاىل من الـكفاءة ‪ ،‬حتى أن‬ ‫أعماهلم الفنية كانت زائعة الصيت فى أحناء اإلمرباطورية الروسية ‪ .‬وهلذا كانوا‬ ‫يسافرون أكثر من مرة فى بعثات عمل إلستغالل خربتهم خارج حدود منطقة‬ ‫تعدين زالتؤوست ‪ .‬تشري “أي‪ .‬يو‪ .‬نيفرايفا “ أن خرباء التعدين وعمال غسل الذهب‬ ‫فى مناجم ذهب مياس كانوا يعملون بشكل مؤقت فى مقاطعة إيكاترينبورج‬ ‫وجنوب القوقاز وحمافظة أولونتس ( أولونتس هى إحدى مدن روسيا فى الكيان‬ ‫الفيدراىل الروسى مجهورية كاريليا ‪ .‬تعليق املرتجم ) وغريها فى األربعينيات‬ ‫وبداية مخسينيات القرن التاسع عشر ‪ .‬أدي انتشار تلك الظاهرة إىل وضع قواعد‬ ‫جديدة فى املناجم لتنظيم مثل تلك البعثات ‪ ،‬حيث ألزمت أصحاب املصانع املستفيدة‬ ‫‪21‬‬ ‫من العمال بضمان كفالة للخرباء وألسرهم على حد سواء ‪.‬‬ ‫‪ - 20‬أرشيف منطقة تعدين زالتؤوست‪ .‬صندوق‪ .19‬فهرس ‪ .1‬ملف ‪ .1330‬ورقة‬ ‫‪.16-39‬‬ ‫‪ - 21‬أنظر‪:‬أي‪ .‬يو‪ .‬نيفرايفا‪ .‬بعثات عمال استخراج الذهب فى مياس فى النصف‬ ‫األول من القرن التاسع عشر‪ .‬تاريخ ذهب مياس‪ .‬ص‪.79-80.‬‬ ‫‪64‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫ولكن تعترب البعثة إىل مقاطعة إيكاترينبورج أمر ‪ ،‬والبعثة إىل مصر أمر‬ ‫ً‬ ‫متاما ‪ .‬مل يسافر خرباء تعدين مياس إىل هذه املسافة البعيدة من قبل! وهلذا‬ ‫خمتلف‬ ‫ً‬ ‫السبب مت التعامل مع األمور املالية املرتبطة بتلك الرحلة بشكل خمتلف متاما ‪.‬‬ ‫إقرتح رئيس أركان مهندسى التعدين ختصيص « مرتب من اخلارج» خاص لكل‬ ‫املشاركني فى احلملة ‪ :‬ليحصل « ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي» فى الشهر على ‪ 50‬ورقة‬ ‫من فئة العشر روبالت ‪ ،‬و “أي‪ .‬ت‪ .‬بارودين” على ‪ 6‬روبالت ‪ ،‬كما سيحصل “أي‪ .‬س‪.‬‬ ‫فومني” على أربع ورقات فى الشهر (« أكثر مما كانوا يتقاضونه فى الداخل ً‬ ‫وفقا‬ ‫لقوانني التعدين »)‪ .‬فقد مت ختصيص مبلغ ماىل مقابل مصاريف التنقالت للسفر‬ ‫ً‬ ‫خالفا لذلك ‪ ،‬تلقي “ي‪ .‬ب‪ .‬كفاليفسكي”‬ ‫عرب أحناء روسيا وخارج حدودها‪.‬‬ ‫‪ 250‬ورقة من فئة العشر روبالت « للمصاريف الطارئة وانتقال موظفى التعدين‬ ‫بعد ذلك من اإلسكندرية وحتى خمابئ رواسب الذهب ولشراء األدوات للباحثني‬ ‫العلميني وغريها» ‪ .‬بشكل عام شكل إمجاىل ما مت ختصيصه لرحلة ي‪ .‬ب‪.‬‬ ‫كافاليفسكي وجمموعته إىل مصر أكثر من ‪ 7‬آالف و‪ 960‬روبل من الفضة‪. 22‬‬ ‫بدأت رحلة إيفان بارودين وأصدقاءه إىل أفريقيا من زالتؤوست ‪ .‬منذ تلك اللحظة‬ ‫ً‬ ‫حتديدا بدأت قصة خبري صناعات الذهب باألورال ‪ ،‬على خطى تقاليد أدب الرحالت‬ ‫الروسى فى نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين ‪ .‬فالسطور األوىل من‬ ‫تلك القصة ختلف فى ذاكرة القاري الروسى نفس اإلنطباع عند قراءة النموذج‬ ‫الكالسيكى للذكريات الوطنية ‪ ،‬مثل « رسائل رحالة روس » للكـاتب‬ ‫واملـؤرخ ن‪ .‬م‪ .‬كارامـزيـن ‪ .‬فى تلـك األثنـاء كان الشغـل الشاغـل للمسـافرين‬ ‫الـروس ‪ ،‬كما جرت العادة ‪ ،‬نقل همومهم األوىل حتى قبل أن يتخطوا احلدود‬ ‫الرمسية لإلمرباطورية الروسية ‪ .‬فبمجرد خروجهم إىل الربارى الشاسعة ‪ ،‬ظلوا‬ ‫يعانون من احلالة املزرية للطرق ‪ ،‬مما صعب حركة تنقل الفريق عليها ومن جشع‬ ‫نظار احملطات واحلوذيني ‪.‬‬ ‫إمتد طريق البعثة من زالتؤوست إىل أوديسا ‪ -‬أكرب ميناء روسى ‪ ،‬تتحرك خطوط‬ ‫ً‬ ‫ضروريا الوصول ً‬ ‫أوال‬ ‫النقل منه فى إجتاه البحرين األسود واملتوسط‪ .23‬ولكن كان‬ ‫إىل زالتؤوست ‪ ،‬فاملسافة بينها وبني زالتؤوست أكثر من ألفني و‪ 990‬فرستا ‪ .‬وفقاً‬ ‫لتقديرات بارودين فقد أنفق ‪ 97‬روبل و‪ 93‬كوبييك من الفضة على اجلوادين‬ ‫زيادة عن املبلغ احملدد ‪ .‬ولكن تقف وراء تلك األرقام الزهيدة صورة حية ملسرية ما‬ ‫‪ - 22‬أنظر‪ :‬ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين‪ .‬مصر فى أعين الروس‪ ...‬ص‪.260 .‬‬ ‫‪ - 23‬عن أهمية أوديسا باعتبارها ميناء تجارى كبير‪ .‬أنظر‪ :‬و‪ .‬سكالكوفسكي‪.‬‬ ‫السنوات الثالثون األولي من تاريخ مدينة أوديسا‪ .1795-1825 .‬أوديسا‪.1837 ،‬‬ ‫‪65‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫يقرب من ثالثة آالف فرستا عرب الطرق الروسية فى القرن التاسع عشر ‪ ،‬وكذلك‬ ‫مسرية نضال ضد تعسف نظار احملطات ‪.‬‬ ‫وهلذا تعمد « إيفان بارودين » تذكري من نـسي مـن قـراء مـذكـراتـه‬ ‫املفـرتضـني ‪ ،‬كيف كانت تسري تلك األمور فى العادة ‪ « :‬ليس مجيعكم يعرف‬ ‫كيفية السفر بأحصنة الربيد ؛ فاملوظفون ميرون دون أية صعوبات ‪ ،‬بل يعاملون‬ ‫باحرتام وعدم تعسف فى كل احملطات‪ .‬أما بالنسبة للبسطاء أمثالنا ‪ ،‬فاألمر غاية‬ ‫فى الصعوبة – والصعوبة ليست فى الطقس السيء وال فى إهتزازات املركبة ‪ .‬ما ال‬ ‫ميكنك حتمله الصراع مع نظار احملطات ‪ ،‬الذين يتقاضون على اإلسرتاحة على‬ ‫حسب فصول العام ‪ ،‬فعلى سبيل املثال فى فصل اخلريف يتزود املسافران حبصان‬ ‫ثالث ‪ ،‬وهلذا يتقاضون مقابل ثالثة أحصنة ‪ ،‬إال إننى دفعت مقابل أثنني فى كل‬ ‫حمطة ‪ .‬وهلذا ينشب اخلالف وتتعاىل الصيحات مع النظار‪ . 24» ...‬وبالطبع أورد «‬ ‫إيفان تروفيموفيتش » تلك القصة ‪ ،‬ليس فقط من أجل أن يرسم لقارئه صورة حية‬ ‫عن الظروف ‪ ،‬التى واجهها فى مستهل رحلته ‪ .‬يبدو أنه كان يعول على وصول‬ ‫تلك الفقرة إىل موظفى منطقة تعدين زالتؤوست واملنشآت األخرى ‪ ،‬الذين شاركوا‬ ‫فى تنظيم تلك البعثة ‪ .‬وكما هو احلال بالنسبة لرحلة املهـندسني املـصريني إىل‬ ‫األورال ‪ ،‬يظل السؤال الرئيسى ‪ ،‬ما هى الضمانات املالية هلذا اإلجراء؟ كالعادة‬ ‫فى مثل تلك احلاالت سعت السلطات الروسية إىل التوفري من خالل تقليل نفقات‬ ‫التنقالت إىل أقصي حد ‪ .‬ولكن جاءت النتائج مماثلة لتلك ‪ ،‬التى إرتبطت بوصول‬ ‫املصريني إىل األورال ‪ :‬يبدو أن النقود ‪ ،‬التى ُخصصت لتلك الرحلة كانت غري‬ ‫ً‬ ‫وفقا ملا قاله إيفان بارودين ‪ ،‬فقد اضطر فريق البعثة لدفع نقودهم ‪10‬‬ ‫كافية ‪.‬‬ ‫روبالت و‪ 40‬كوبييك من الفضة فى حمطات الربيد حتى قبل ختطى حدود روسيا!‬

‫أوديسا‬ ‫ً‬ ‫يوما عرب‬ ‫فى النهاية وصلت البعثة إىل أوديسا بعد مسرية ثـمانية عشر‬ ‫اإلمرباطورية الروسية ‪ .‬يذكر “إ‪ .‬ت‪ .‬بارودين” ‪ ،‬أنهم وصلوا إىل أوديسا ليلة‬ ‫ً‬ ‫متواجدا فى جنوب‬ ‫الثالثني من أكتوبر عام ‪ . 1847‬وبالطبع كان خبري األورال‬ ‫روسيا أثناء قيامه بالبعثة إىل مالدوفيا وفاالخيا ‪ .‬بعثت أوديسا فى نفس اخلبري‬ ‫روح املقارنة ؛ فعندما قام بوصفها ‪ ،‬تداعت فى ذهنه صور املدن اجلنوبية األخري‬ ‫‪ - 24‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.1-2‬‬ ‫‪66‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫باإلمرباطورية ‪ ،‬وعلى األرجح صور املراكز اإلدارية واإلقتصادية ملمالك الدوناي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إنطباعا بأنها «أفضل‬ ‫أيضا‪ .‬وبشكل أو بآخر أثارت أوديسا فى نفس خبري التعدين‬ ‫مدينة جتارية على خليج البحر األسـود » ‪ ،‬وخـلفـت فـى ذاكرته صـورة « امليناء‬ ‫العسـكرى والـتجارى » ‪ .‬توضح مذكرات بارودين أن خبري استخراج الذهب كان‬ ‫يراقب احلياة فى ميناء أوديسا برضا ‪ « :‬يا له من مشهد خالب ‪ ،‬تنظر من الشاطئ إىل‬ ‫امليـناء والبحر ‪ ،‬ميتلئ سطح البحر حبركة لسفن تتواري عن األنظار ( تعليق أ‪ .‬ف‪.‬‬ ‫أنتوشني ) وأخرى تصل بأشرعتها املفرودة الشاخمة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مدهشا أن تنظر إىل كل هذا! » ‪.‬‬ ‫وإيابا فى امليناء ‪ ...‬كم هو‬ ‫ذهابا‬ ‫يتحرك الناس‬ ‫كان خبري التعدين باألورال حيب التجول عرب املدينة فى أوقـات الفـراغ ‪ .‬وانطبعت‬ ‫فى ذاكرته صورة احلدائق املزروعة فى املدينة ( «غابة غناء جبميع األشكال » ) ‪ ،‬و«‬ ‫كثري من املبانى الرائعة »‪ ،‬ومدرسة ريشيليفسكي ( مؤسسة تعليمية فى أوديسا‬ ‫أنشأها اإلمرباطور أسكندر األول عام ‪ . 1817‬تعليق املرتجم ) ‪ ،‬وبالطبع تذكر أحد‬ ‫من أهم معامل أوديسا ؛ أال وهو النصب التذكارى ملؤسس املدينة ‪ ،‬الفرنسى « ديوك دي‬ ‫ريشيل» ‪ .‬ألقي خبري التعدين باألورال الضوء على وفرة مواد البناء لعمل املهندسني‬ ‫املعماريني ‪ « :‬وما سهل من عملية بناء املنازل هو قرب مناطق تكسري واستخراج‬ ‫الطوب من املدينة نفسها على شاطئ البحر » ‪ .‬أشاد خبري التعدين‪ ،‬حبس املتخصص‪،‬‬ ‫أن « الطوب فى تلك املنطقة قابل للصقل والتشكيل وحتى نشره باملناشري»‪. 25‬‬ ‫فى النهاية ترك البناء املعمارى ألوديسا أثره على إيفان تروفيموفيتش‪ :‬يشري إىل‬ ‫أن « املبانى احلجرية رائعة ‪ ،‬كما أن الشوارع مرصوفة باحلصب»‪ .‬فى املدينة رأي‬ ‫بارودين مبانى مدرسة التجارة ومسرح ومتحف آثار منطقة نوفوروسايسك ‪.‬‬ ‫ولكن يبدو أن البعثة مل تقض وقتها فقط فى اإلستمتاع جبمال تلك املدينة‬ ‫ً‬ ‫سابقا ‪ ،‬أنها‬ ‫اجلنوبية ؛ وهى آخر منطقة مأهولة بالسكان ‪ ،‬بل ‪ ،‬كما أوضحنا‬ ‫املنطقة ‪ ،‬التى تسببت هلم فى كثري من الصعوبات قبل بداية رحلتهم الطويلة‬ ‫إىل مشال شرق أفريقيا ‪ .‬فى تلك الظروف كانت لديهم رغبة كبرية ‪ ،‬بال شك‪،‬‬ ‫فى اإلستمتاع بشعور التواجد على أرض الوطن آلخر مرة ‪ .‬مع هذا جرى فى نفس‬ ‫الوقت اإلعداد لرحلة مصر ‪ .‬حينها وقف احلظ إىل جانبهم ‪ :‬فقد تعرف املشاركون‬ ‫فى احلملة على ياور كتيبة احلجر الصحى « بيرت دمييرتيفتش كيسليف » ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تقريبا ‪ ،‬وهلذا كانت‬ ‫متواجدا فى أوديسا‪ .‬قضى األخري فى مصر يومني‬ ‫الذى كان‬ ‫لديه الكثري من األمور املهمة لريويها ألعضاء بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي ‪ ،‬حتى‬ ‫‪ - 25‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.2‬‬ ‫‪67‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫تتكون لديهم فكرة مسبقة عن مصر‪ .‬وطاملا مل تطأ قدم أى من أعضاء الفريق‬ ‫ً‬ ‫سابقا ‪ ،‬فقد كانت هذه املعلومات مهمة إىل حد بعيد ‪ .‬يذكر إيفان بارودين‬ ‫مصر‬ ‫أن « ب‪ .‬د‪ .‬كيسليف» أرشدنا إىل كيفية وقاية أنفسنا من األمراض ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أوال ‪ :‬عدم إلقاء القبعة الروسية حتى مع حرارة اجلو ومحاية أنفسنا من نزالت الربد‪،‬‬ ‫وعدم اإلفراط فى الطعام واحلرص على توافر أفضل األدوية فى أماكن العمل » ‪« .‬وقد‬ ‫إتبعنا إرشاداته»‪ ،26‬كما يشري خبري تعدين األورال ‪ .‬وسنرى فيما بعد ‪ ،‬أن نصائح‬ ‫ياور كتيبة احلجر الصحى مل تنقذ احلملة من األمراض اخلطرية‪ ،‬ولكنها رمبا‬ ‫ساعدت أعضاءها على حتمل مشقة السفر عرب الصحراء ‪ ،‬والوقاية من بعض املخاطر‬ ‫النامجة عن تعرض سكان مناطق األورال الباردة فى طقس أفريقيا غري املعتاد ‪.‬‬ ‫إنتهت مدة األسابيع الثالثة ‪ -‬فرتة تواجد البعثة فى أوديسا ‪ -‬وحان الوقت‬ ‫للرحيل عن أرض الوطن ‪ .‬فى ‪ 21‬من نوفمرب عام ‪« 1847‬هبط أعضاء فريق ي‪ .‬ب‪.‬‬ ‫كافاليفسكي من أعلى اجلبل بإجتاه سفينة البعثة «خريسانوس»» وحصلوا‬ ‫على التذاكر‪ .‬رأي إيفان تروفيموفيتش أنه من الضرورى اإلشارة إىل « أنهم قاموا‬ ‫بدفع ‪ 20‬وربل فضة للمكان الثانى (على ما يبدو أنه يعنى الدرجة الثانية –‬ ‫تعليق أ‪ .‬ف‪ .‬أنتوشني ) »‪ . 27‬من خالل ذلك سعي خبري التعدين فى األورال أن يوضح‬ ‫لقارئ مذكراته من موظفى منطقة تعدين زالتؤوست أن البعثة كانت ُمضطرة‬ ‫لتحمل نفقات إضافية ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مسافرا فى إطار إتفاقيات‬ ‫على الرغم أن فريق ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي كان‬ ‫تعاون حكومية ‪ ،‬إال أن أعضاءه خضعوا لفحص مجركى دقيق ‪ .‬يذكر بارودين‪:‬‬ ‫« قامت السلطات اجلمركية بفحص مجيع أمتعتنا ‪ ،‬بعد ذلك اصطحبنا املندوب‬ ‫اجلمركى عرب الغرفة ‪ ،‬حيث يوجد فى منتصفها قضبان حديدية ‪ ،‬ثم اصطحبنا‬ ‫مندوب آخر » ‪ .‬بعد ذلك وجد أعضاء البعثة أنفسهم عند مدخل السفينة ‪ .‬قام احلراس‬ ‫(حرس امليناء ) بتوصيل مجيع أغراض املشاركني ثم نقلها إىل السفينة ‪.‬‬ ‫صعد إيفان بارودين وأصدقاؤه على ظهر السفينة لالستمتاع باملنظر الطبيعى‬ ‫املمتد بعد أن نقلوا األمتعة إىل السفينة ‪ .‬وفى السادسة مسا ًء بدأت السفينة باإلحبار‬ ‫من ميناء أوديسا وعلى متنها أعضاء فريق كافاليفسكي‪ .‬ظل خبري التعدين فى‬ ‫األورال مدة طويلة يتذكر حلظة مغادرة أرض الوطن‪ « :‬وقفنا على ظهر السفينة‬ ‫‪ - 26‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.2-3‬‬ ‫‪ - 27‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.3‬‬ ‫‪68‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫نستمتع مبنظر املدينة ‪ ،‬التى تقع على منطقة مرتفعة ‪ ،‬تغرب الشمس من ورائها‬ ‫وضوئها يبدأ فى التالشى ‪ .‬تتألأل أضواء نوافذ املنازل فى إجتاهات خمتلفة ‪ ،‬وكلما‬ ‫إبتعدنا عن الشاطئ ‪ ،‬كلما ازداد انعكاس تلك األضواء على سطح البحر‪ .‬بدت‬ ‫الصور معربة ؛ فمن مل يسبق له رؤية تلك الصور فى حياته ينتابه شعور بالضحك ‪.‬‬ ‫أنه حنن ‪. 28»...‬‬ ‫هبت رياح خفيفة وانتشرت السحب فى السماء وسقطت أمطار خفيفة‪ .‬أصبحت‬ ‫السفينة وسط أمواج البحر املتالطمة ‪ .‬سار طريق البعثة عرب القسطنطينية ‪ ،‬أو‬ ‫ً‬ ‫قدميا « مدينة القيصر » ‪ .‬حتمل املدينة هذا‬ ‫كما تعود الروس أن يطلقوا عليها‬ ‫االسم فى مذكرات خبري التعدين البسيط “إيفان تروفيموفيتش بارودين” ‪ ،‬والذى‬ ‫ترتبط هذه املدينة فى ذاكرته باملالحم واألساطري الروسية القدمية ‪.‬‬ ‫فى تلك األثناء كانت السفينة تقطع املسافة من أوديسا إىل عاصمة‬ ‫اإلمرباطورية العثمانية فى ‪ 40‬ساعة – أى أكثر من ثالثة أيام ‪ .‬كانت هذه الرحلة‬ ‫جتربة شاقة بالنسبة لألوراليني مثل « إيفان تروفيموفيتش بارودين » وصديقه «‬ ‫فومني » ‪ ،‬إذ أنهم مل يتعودوا على السفر عن طريق البحر ‪ .‬مبجرد االبتعاد عن شاطئ‬ ‫أوديسا بدأت السفينة فى التمايل بشدة ‪ .‬فى تلك األثناء ُدعي أعضاء فريق ي‪ .‬ب‪.‬‬ ‫كافاليفسكي لتناول العشاء ‪ .‬ومبا أنه كان وقت الصيام ‪ ،‬جلس اخلمسة على‬ ‫مائدة الطعام ‪ .‬إال أنهم مل يتمكنوا من تناول الطعام ‪ .‬يصف إيفان بارودين‪ ،‬الذى‬ ‫مل يتعود على مثل تلك املعاناة‪ ،‬مدي املتاعب التى سببها هلم دوار البحر‪ « :‬كان من‬ ‫الصعب تناول الطعام‪ ،‬بدأت أشعر بدوار وغثيان ‪ ،‬بدت وجوهنا شاحبة ‪ ...‬إذا أردت‬ ‫التحرك فى السفينة ال ميكنك أن تصل ً‬ ‫أبدا إىل وجهتك احملددة ألنك ترتنح فى‬ ‫كل إجتاه ؛ فاألمواج تتالعب بالسفينة »‪ . 29‬بالطبع كان الرحالة احملنكون‪،‬‬ ‫مثل رئيس البعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي ‪ ،‬على دراية تامة مبثل تلك الظروف ‪ .‬أما‬ ‫ما يتعلق ببارودين ‪ ،‬خبري تعدين الذهب البسيط ‪ ،‬بدا كل هذا مبثابة املفاجئة ‪،‬‬ ‫بل ومعاناة بالغة الصعوبة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫جمددا‬ ‫مل يستطع إيفان تروفيموفيتش أن يفوت تلك الفرصة قبل أن يشتكى‬ ‫من املصاريف الطارئة ‪ ،‬التى حتملها املشاركون فى البعثة ‪ .‬فعلى الرغم أنهم مل‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كامال مقابل وجبيت الغداء والعشاء ‪« :‬‬ ‫تقريبا ‪ ،‬إال أنهم دفعوا املبلغ‬ ‫شيئا‬ ‫يأكلوا‬ ‫عندما الحظ املندوب عزوفنا عن الطعام ‪ ،‬قال ‪ :‬حيت إن مل تأكلوا ‪ ،‬جيب عليكم‬ ‫الدفع ‪ ،‬فهذا ال يعنيين فى شئ » ‪ « .‬يقول بارودين بإمتعاض ‪ :‬على الرغم أننى مل‬ ‫‪ - 28‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.3‬‬ ‫‪ - 29‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.4‬‬ ‫‪69‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫أتناول خالل يومني ( تعليق‪ .‬أ‪ .‬ف‪ .‬أنتوشني) بأكثر من ستة كوبييك من الفضة ‪،‬‬ ‫إال أننى دفعت روبالن وعشرة كوبييك من الفضة»‪ . 30‬مبجرد أن دخلت السفينة‬ ‫خليج البوسفور « إنتهت كل املعاناة » وصعد املشاركون فى البعثة إىل سطح‬ ‫السفينة ملشاهدة « القري واملروج اخلضراء »‪.‬‬

‫إسطنبول‬ ‫وصلت البعثة إىل عاصمة اإلمرباطورية العثمانية فى الثانية عشر من ظهر الثالث‬ ‫والعشرين من نوفمرب ‪ .‬رأي املشاركون فى احلملة صورة‪ ،‬سيتمكن من رؤيتها‬ ‫أكثر من مرة كل من سيسافر من روسيا إىل إسطنبول فى القرنني التاسع عشر‬ ‫والعشرين‪ .‬سرعان ما جتمعت املراكب الصغرية حول السفينة ( يذكر بارودين‬ ‫« أن ال يوجد حيت مرت فارغ » ) ‪ ،‬يتنافس أصحابها على نقل الركاب إىل الشاطئ‬ ‫مقابل أجر ‪ .‬ركب أفراد فريق « ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي « أحد تلك املراكب ‪ ،‬الذى‬ ‫كان صاحبه يونانى اجلنسية ‪ ،‬وقام بنقلهم إىل الفندق ‪ ،‬بعد ذلك انتقلوا إىل قصر‬ ‫املبعوث الروسى ‪.‬‬ ‫كانت الرحلة البحرية من أوديسا إىل إسطنبول شاقة على بارودين ورئيسه‪.‬‬ ‫يذكر إيفان تروفيموفيتش بعد ذلك ‪ « :‬عندما حتركنا من املرفأ إىل الفندق‪،‬‬ ‫توقفنا سبع مرات لإلسرتاحة مع العقيد كافاليفسكي ‪ .‬فقد انهكتنا‬ ‫الرحلة على منت السفينة »‪ . 31‬كانت إسطنبول ‪ ،‬حيثما وصلت بعثة ي‪ .‬ب‪.‬‬ ‫كافاليفسكي ‪ ،‬بالنسبة إليفان بارودين املدينة التى مسع الكثري عنها ‪ ،‬كما‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قائال ‪ « :‬فى تلك‬ ‫مجيعا ‪ .‬يكتب خبري التعدين عنها ‪،‬‬ ‫هو احلال بالطبع للروس‬ ‫األثناء كانت عاصمة القياصرة اليونانيني القدامي» منذ فرتة املدينة الرئيسية‬ ‫داخل اجلسد املهلهل لإلمرباطورية العثمانية ‪ .‬يتذكر بارودين « قصر السلطان‬ ‫حبدائقه » « الذى ميتد عربه جسرين إىل الشارع » ‪ « :‬األول مغلق باألستار ‪ ،‬والثانى‬ ‫مفتوح » ‪.‬‬ ‫من املؤكد أن زوجات السلطان متر عرب اجلسر األول ‪ .‬ويضيف بارودين أن حتت‬ ‫ً‬ ‫وقريبا من هذا املكان الحظ‬ ‫اجلسور ميتد ممر مفتوح على الشارع ملرور املركبات‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مجيال من املرمر ‪ :‬قلعة حيتوى على سبعة أبراج » ‪ .‬متكن‬ ‫مسجدا‬ ‫اخلبري األوراىل «‬ ‫‪ - 30‬األرشيف الحكومى لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.4‬‬ ‫‪ - 31‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.4‬‬ ‫‪70‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫بارودين من رؤية أحد املعامل املسيحية األسطورية املقدسة فى الشرق ‪ ،‬املعبد السابق‬ ‫للقديسة صوفيا ‪ .‬وبالطبع مل يفوت املواطن الروسى األرثوذكسى فرصة شراء هدية‬ ‫تذكارية صغرية كذكري زيارته هلذا املكان الرائع ‪ .‬وحلسن احلظ ‪ ،‬عندما‬ ‫ً‬ ‫متواجدا فى إسطنبول ‪ « ،‬كانوا يرممون‬ ‫كان فريق ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‬ ‫القبة الوسطي » للمعبد ‪ ،‬وهلـذا «متكن بارودين من احلصول على بعض األحجار‬ ‫الصغرية الرخيصة من الزخارف القدمية » ‪ ،‬التى كانت تزين حوائط كاتدرائية‬ ‫القديسة صوفيا ‪ .‬كانت هذه األحجار الصغرية تسقط مع الزخارف جراء كسر‬ ‫القبة ‪ ،‬على حد قول خبري التعدين األوراىل ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا مقربة سلطان اإلمرباطورية العثمانية «‬ ‫تذكر إيفان تروفيموفيتش‬ ‫حممد الثانى » فى املكان ذاته ‪ ،‬الذى يوارى جسد زوج السلطان وابنتيه األثنتني‬ ‫الثرى ‪ « :‬النوافذ الزجاجية حتيط باملكان وفى الوسط ضريح السلطان وأشياء أخرى‬ ‫على اجلانب ‪ .‬يوجد أمام الضريح املصنوع من املرمر األبيض عمود فوقـه طربوش‬ ‫ً‬ ‫وجنمة السلطـان »‪ .‬يتميز البناء كله بالفخامة ‪ ،‬وهلذا ترك ً‬ ‫كبريا فى نفس‬ ‫أثرا‬ ‫خبري صناعـات الذهـب األوراىل ‪ « :‬تزين املبين زخارف رائـعة سـواء من الداخـل‬ ‫أو من اخلارج »‪ . 32‬ونفس إنطـباع « البناء رائع » ّ‬ ‫خلفه لديه القصر‪ ،‬الذى كان‬ ‫يعيش فيه قنصل اإلمرباطورية الروسية يف إسطنبول ‪ .‬فى الواقع مل تكن اآلثار‬ ‫املعمارية وحدها ما أثارت اهتمام إيفان بارودين فى القسطنطينية ‪ .‬فقد متكن ‪،‬‬ ‫هو ورفاقه ‪ ،‬من معاينة طبيعة احلياة اليومية فى عاصمة اإلمرباطورية العثمانية ‪،‬‬ ‫والنجاحات التى حققتها على مستوي التقدم اإلقتصادى ‪ .‬فاإلصالحات اإلجتماعية‬ ‫واإلقتصادية املتخذة أدت إىل ظهور بعض مالمح للتقدم التكنولوجى فى الصناعة‬ ‫الرتكية ‪ .‬مر إيفان باروين ورفاقه على دار سك األموال ورأوا أنهم يستخدمون اآلالت‬ ‫البخارية واملكبس اليدوى ‪.‬‬ ‫مع هذا ظل الشكل العام لعاصمة اإلمرباطورية العثمانية كما فى السابق‪.‬‬ ‫فقد كانت مدينة من مدن الشرق القدمية حبواريها «املتعرجة» و «الضيقة »‪،‬‬ ‫لدرجة أنه «من الصعب أن تتقابل مركبتان فى نفس الوقت فيها» ‪ ،‬كما الحظ‬ ‫إيفان بارودين ‪ .‬وتذمر خبري التعدين األوراىل من أن سلطات إسطنبول «ال تعري‬ ‫ً‬ ‫اهتماما ‪ ،‬على ما يبدو‪ ،‬بنظافة الشـوارع » واندهش الضيف الروسي من إمكانية‬ ‫رؤية اجملامر فى كثري من األماكن حتت السماء املفتوحة مباشرة ‪ ،‬حيث يشعلون‬ ‫النار فيها ‪ .‬على أية حال ‪ ،‬مل يكن كل شئ على ما يـرام فى إسـطنبول ‪:‬‬ ‫‪ - 32‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.5‬‬ ‫‪71‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫ً‬ ‫وأحيانا تنشب احلرائق جراء ذلك » ‪.‬‬ ‫«فالناس تسري فى الشوارع ‪ ،‬وتدخن الغليون ‪،‬‬ ‫كانت احلشود اليت متأل الشوارع‪ ،‬خمتلفة متا ًما عن تلك‪ ،‬اليت رآها خبري تعدين‬ ‫األورال يف السابق‪ .‬وعندما وصل بارودين إلي سوق اسطنبول شعر بروح الشرق‬ ‫احلقيقية إلي حد بعيد‪ .‬مل يتجول إيفان تروفيموفيتش يف السوق فقط‪ ،‬ولكنه‬ ‫استفسر عن سعر املنتجات املعروضة ‪ ،‬واستنتج أنه ‪ « :‬باإلمكان شراء املنتجات‬ ‫بسعر أرخص بكثري من سعرها يف روسيا »‪ .‬يف السوق رأي بارودين بأم عينه مدي‬ ‫تعدد اجلنسيات يف الشرق ومدي تنوع الشعوب‪ ،‬اليت تسكنها‪ .‬فبالنسبة له‪ ،‬تعترب‬ ‫اسطنبول البوابة املميزة لبالد الشرق‪ .‬فقد رأي ً‬ ‫أناسا « من قبائل خمتلفة » وأدرك‬ ‫ألول مرة مدي أهمية وجود مرتجم يف رحلته عرب بالد الشرق‪ .‬يكتب بارودين‬ ‫بأسف‪ ،‬وهو يتذكر ممثلي ثقافات الشرق املختلفة‪ ،‬الذين رآهم ‪ « :‬مل يكن‬ ‫ً‬ ‫مرتمجا ً‬ ‫ً‬ ‫شيئا‪ ،‬وليس هناك ما ُيقال »‪.33‬‬ ‫جيدا‪ ،‬ألننا ال نعرف عنهم‬ ‫بصحبتنا‬ ‫يف الثاني عشر من ديسمرب غادرت البعثة عاصمة العامل األرثوذكسي القدمية‪،‬‬ ‫وتوجهوا إلي حمطتهم التالية «علي منت سفينة عربية »‪ .‬وصل بارودين ورفقائه‬ ‫إلي مدينة مسرينا‪ ،‬اليت تقع علي شبه جزيرة آسيا الصغري عن طريق حبر مرمرة‬ ‫وخليج الدردنيل (يف تركيا‪ .‬تعليق املرتجم )‪ .‬تواجدوا هناك لبعض الوقت يف‬ ‫احلجر الصحي بسبب وباء الكولريا‪ ،‬وتوجهوا بعد ذلك إلي جزيرة رودس (جزيرة‬ ‫يف اليونان‪ .‬تعليق املرتجم)‪ .‬كان من بني ركاب السفينة التابعة مللك مصر «األمري‬ ‫مصطفي بك »‪ ،‬الذي كان متوج ًها مع حاشيته إلي القاهرة‪ .‬وانطبعت يف ذاكرة‬ ‫خبري التعدين باألورال صورة األمري الشاب ذي اخلامسة والعشرين ً‬ ‫ربيعا‪.‬‬

‫رودس‬ ‫يذكر إيفان تروفيموفيتش‪ ،‬أن مدينة رودس تقع علي سفح اجلبل‪ « ،‬حبيث‬ ‫ميكنك رؤية مجيع شوارعها من البحر »‪ .‬كان خبري التعدين األورالي يعلم أن‬ ‫متثال إله الشمس هريمز ‪ ،‬أو ما يعرف بأبولو رودس كان أحدي عجائب الدنيا السبع‪.‬‬ ‫كان متثال أبولو يف وقت ما بطول ‪ 34‬مرت ‪ ،‬ولكنه حتطم عام ‪ 277‬قبل امليالد‬ ‫أثناء زلزال رودس‪ .‬رأي إيفان بارودين ورفقائه « رأس حجرية بارزة يف البحر‪ ،‬كما‬ ‫لو كانت سلسلة جبال ‪ ،‬متر السفن ورائها‪ ،‬ويف نهاية السلسلة مت بناء برج»‪ .34‬أشار‬ ‫‪ - 33‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.5‬‬ ‫‪ - 34‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪ .‬ملف‬ ‫‪ .559‬ورقة ‪.6‬‬ ‫‪72‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫بارودين بأسف بالغ عدم تفسري أي شخص وظيفة هذا البناء هلم ‪ .‬يف رودس انطبعت‬ ‫يف ذاكرة بارودين كثري من احلدائق الغناء‪ .‬فهناك رأي ألول مرة «أشجار النخيل»‪.‬‬ ‫وما لفت نظره كيفية «منو البلح علي األشجار» يف كل مكان‪ .‬يف نفس الوقت‪،‬‬ ‫الذي كانت فيه درجة حرارة األورال ‪ 30‬درجة حتت الصفر ‪ .‬يتذكر خبري األورال‬ ‫كيف أحضر رئيسه “ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي” من املدينة علي منت السفينة‬ ‫ً‬ ‫قائال‪ « :‬بالنسبة لنا‪ ،‬سكان‬ ‫برتقال وبلح طازج ‪ :‬يتحدث بارودين باندهاش‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً ‪35‬‬ ‫مدهشا جدا» ‪ .‬فقد كان مقياس احلرارة‬ ‫الشمال ‪ ،‬كان الطقس يف شهر ديسمرب‬ ‫يف رودس يسجل ‪ 20‬درجة فوق الصفر‪.‬‬

‫اإلسكندرية‬ ‫قطع إ‪ .‬ت‪ .‬بارودين ورفقائه املسافة من جزيرة رودس إلي اإلسكندرية يف‬ ‫ثالثة أيام‪ .‬مل يذكر خبري األورال أي شئ مميز يف تلك الرحلة القصرية عرب البحر‬ ‫املتوسط‪ .‬وصلت البعثة إلي اإلسكندرية يف السابع عشر من ديسمرب عام ‪.1847‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مميزا يف نفس رئيس البعثة‪ ،‬الرحالة اخلبري ي‪ .‬ب‪.‬‬ ‫انطباعا‬ ‫مل ترتك اإلسكندرية‬ ‫كافاليفسكي‪ ،‬الذي رأي الكثري يف حياته ‪ « :‬بالنسبة لي‪ ،‬مل يكن مشهد أشجار‬ ‫ً‬ ‫جديدا‪ .‬كان مشهد الشاطئ الرملي املنخفض مألوفا للعني‪،‬‬ ‫النخيل‪ ،‬اليت تلوح يف األفق‪،‬‬ ‫ً‬ ‫‪36‬‬ ‫اليت تعودت علي رؤية شواطئنا املليئة باملستنقعات‪ ،‬وأحيانا تتطلع إليها حبب» ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مألوفا بالطبع إليفان‬ ‫خالفا لرئيس البعثة‪ ،‬مل يكن مشهد أشجار النخيل‬ ‫بارودين‪ .‬فال يوجد جمال للمقارنة بني طبيعة دلتا مصر واملناظر الطبيعية‬ ‫يف مالدوفيا وفاالخيا‪ ،‬حيثما تواجد إيفان بارودين لفرتة قصرية‪ .‬وعلي‬ ‫األرجح ال يوجد يف مذكراته ما يثبت أنه تأثر بشكل كبري بطبيعة مصر‪.‬‬ ‫بعد اإلقرتاب من املدينة رأي بارودين حصن قايتباي الذي بين يف مكان فنار‬ ‫اإلسكندرية‪ ،‬الذي يعترب إحدى عجائب الدنيا السبع‪« :‬كان الفنار القائم‬ ‫فوق الصخور أول ما يلوح يف األفق»‪ .37‬وما يتعلق باملناظر الطبيعية‪ ،‬مل يقر‬ ‫خبيـر التـعـديـن األورالـي سـوى أن « اإلسـكنـدرية تـقع عـلي شاطئ البحر»‪.‬‬ ‫من املالحظ أن الروس اآلخرون‪ ،‬الذين كانوا متواجدين يف األسكندرية يف‬ ‫‪ - 35‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.6‬‬ ‫‪ - 36‬مجموعة أعمال يجور بتروفيتش كافاليفسكي‪ ..‬ص‪.6 .‬‬ ‫‪ - 37‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.6‬‬ ‫‪73‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫الثالثينيات من القرن التاسع عشر قد حتفظوا يف تقييمهم لإلنطباعات عن عاصمة‬ ‫مصر الشمالية ‪ .‬علي سبيل املثال أشار الدبلوماسي “ن‪ .‬ن‪ .‬مورافيف ‪-‬كارسكي”‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عاما قبل وصول بعثة ي‪ .‬ب‪.‬‬ ‫الذي كان يعيش هناك علي مدار مخسة عشر‬ ‫كافاليفسكي ‪ ،‬يف مذكراته أن أشجار النخيل أكثر ما يثري انطباع املسافر‬ ‫األوروبي؛ « بشكل مفاجئ يرى إحدي عجائب األرض احلارة‪ ،‬بعدما تعود علي‬ ‫رؤية أشجار أوروبا الكثيفة الظليلة »‪ .‬مع هذا أشار إلي صعوبة أن حيوذ النخيل‬ ‫ً‬ ‫«حزينا» ويستدعي ذكريات « صحاري‬ ‫إعجاب املواطن الروسي‪ ،‬ألن شكلها يبدو‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أفريقيا الال متناهية »‪ .‬ويري الدبلوماسي الروسي‪ ،‬أن الشجرة ال توفر ظال كثيفا‪،‬‬ ‫بل ومن الصعب أن تضفي البهجة علي احلدائق املصرية‪.38‬‬ ‫كان “ن‪ .‬ن‪ .‬مورافيف ‪ -‬كارسكي” يشري أثناء تذكره انطباعاته عن عاصمة‬ ‫مصر الشمالية ‪ ،‬أنه بالنسبة لألوروبي ‪ ،‬الذي مل يسبق له التواجد يف الشرق ‪،‬‬ ‫يبدو كل شئ يف اإلسكندرية « غري معتاد وغـريب »‪ ،‬ولكن الشخص‪ ،‬الذي‬ ‫يعرف ً‬ ‫جيدا مدن الشرق وواقع سكانها‪ ،‬سيجد لنفسه أشياء جديدة يف املدينة‪.39‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫من املدهش أن “ن‪ .‬ن‪ .‬مورافيف” كان متواجدا يف اإلسكندرية شتاءا يف نفس‬ ‫الوقت ‪ ،‬الذي تواجدت فيه بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪ .‬يف بداية شهر يناير أدرك‬ ‫ً‬ ‫وخانقا ً‬ ‫ً‬ ‫جدا هناك ‪« ،‬حيت أن الذباب يف أغلب األحيان‬ ‫طقسا حا ًرا‬ ‫الدبلوماسي الروسي‬ ‫يتجمع ويثري القلق »‪ .40‬فيما يتعلق بالبناء املعماري ‪ ،‬تركت األحياء األوروبية يف‬ ‫اإلسكندرية ‪ ،‬اليت « مت تشييدها بصورة أنيقة ً‬ ‫متاما » ومجعت بني الطراز الشرقي‬ ‫واألوروبـي ‪ ،‬أثرها يف نفس “ن‪ .‬ن‪ .‬مورافيف” ‪.‬‬ ‫مل تنتاب “أ‪ .‬ن‪ .‬مورافيف” – صاحب كتاب “رحلة إلي األماكن املقدسة”‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الذي أعيد إصداره أكثر من مرة عام ‪ ،1830‬مشاعر إعجاب خاصة ‪ ،‬عندما رأي‬ ‫ً‬ ‫موظفا يف جممع الكنائس املقدس ويف اإلدارة‬ ‫اإلسكندرية ‪ .‬عندما كان يعمل‬ ‫ً‬ ‫اآلسيوية التابعة لوزارة اخلارجية الروسية فيما بعد‪ ،‬اشتهر أيضا بعالقته الوطيدة‬ ‫مبطران موسكو فيالريت ‪ .‬من بني أكرب أعماله ‪ ،‬باإلضافة إلي « رحلة إلي‬ ‫األماكن املقدسة » ‪ ،‬قام بتأليف « تاريخ الكنيسة الروسية » و«العالقات يف األمور‬ ‫الكنائسية بني روسيا والشرق » و« خطابات من الشرق يف عامي ‪.»1849-1850‬‬ ‫يف اإلسكندرية تذكر أ‪ .‬ن‪ .‬مورافيف «اللون األبيض واألسود بلون تربة األرض‬ ‫‪ - 38‬ن‪ .‬ن‪ .‬مورافيف (كارسكي)‪ .‬تركيا ومصر في عامي ‪ 1832‬و ‪.1833‬‬ ‫الوضع العسكري والسياسي‪ .‬موسكو‪ .1869 ،‬ص‪.86 .‬‬ ‫‪ - 39‬ن‪ .‬ن‪ .‬مورافيف (كارسكي)‪ .‬المرجع األسبق‪ .‬ص‪.86 .‬‬ ‫‪ - 40‬نفس المرجع‪ .‬ص‪.87 .‬‬ ‫‪74‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫جلميع املباني املتامخة بعضها لبعض ‪ ،‬واليت متتاز شرفاتها عن أسقفها ‪ ،‬اليت ال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫سيئا لدي الرحالة الروس‬ ‫انطباعا‬ ‫جدوي من البحث عنها كاملعتاد»‪ .‬ولكن ما ترك‬ ‫بشكل خاص األوجه «الشاحبة واهلزيلة» لسكان اإلسكندرية ‪ ،‬الذين «كانوا‬ ‫يتجولون مثل األشباح يف مالبس بيضاء أو زرقاء عرب األسواق املوحلة واخلانقة ‪،‬‬ ‫املكتظة باإلبل واحلمري النحيلة»‪ .‬يقول مورافيف‪« :‬تبدو علي اجلميع آثار الفقر‬ ‫املدقع والضيق »‪.41‬‬ ‫علي كل حال ‪ ،‬انتاب مؤلف كتاب «رحلة إلي األماكن املقدسة» شعور خبيبة‬ ‫األمل من الفن املعماري باإلسكندرية بنهاية العشرينيات وبداية الثالثينيات من‬ ‫ً‬ ‫قدميا‪ ،‬أن‬ ‫القرن التاسع عشر ‪ .‬فقد بدي له ‪ ،‬بعدما مسع عن عظمة تلك املدينة‬ ‫اإلسكندرية اآلن «ال تبدو عليها إي من مظاهر جمدها القديم »‪ .‬علي الرغم أن‬ ‫عينيه وقعت علي بعض «املباني اجليدة» (منازل القناصلة‪ ،‬ترسانة وقصر الباشا)‬ ‫ً‬ ‫إطالقا‬ ‫«إال أنها ال تعكس عظمة الفن املعماري»‪ .‬حيت مساجد املدينة مل ترتك‬ ‫نفس اإلنطباع ‪ ،‬الذي خلفته معابد القسطنطينية أو القاهرة ‪ .‬يعتقد الرحالة‬ ‫ً‬ ‫واقعيا حبلول الثالثينيات ‪:‬‬ ‫الروس أن مالمح اإلسكندرية القدمية قد اختفت‬ ‫«فاحلروب املستمرة‪ ،‬اليت تعرضت هلا مصر يف القرن احلالي‪ ،‬واحلصار املتكرر‬ ‫ً‬ ‫متاما ما تبقي من آثار للحضارة القدمية» ‪ .‬أدي ذلك كله إلي‬ ‫لإلسكندرية حمت‬ ‫اإلنطباع األليم الذي خلفه الشكل العام لعاصمة مصر الشمالية ‪ .‬يقول كاتب «‬ ‫رحلة إلي األماكن املقدسة »‪ « :‬ليس هناك ما يثري الكئآبة أكثر من رؤية أطالل‬ ‫اإلسكندرية القدمية وضواحي اإلسكندرية احلديثة » ‪ .‬متلل عيناك من رؤية‬ ‫الطبيعة امليته ‪ ،‬واليت ناد ًرا ما حتييها بعض أشجار النخيل اليتمية ‪ ،‬ومن رتابتها؛‬ ‫جيري البحر األزرق مرتامي األطراف بشكل كئيب بإجتاه شواطئ الصحراء‬ ‫املنخفضة ‪ ،‬املغطاة بأكوام من احلصب األبيض ‪ ،‬حيث متتد أكواخ فقرية للعرب‬ ‫بني قواعد مهدمة ‪ .‬تلك األكوام عبارة عن آثار اإلسكندرية القدمية! »‪.42‬‬ ‫ُ‬ ‫من املعروف أن اإلصالحات ‪ ،‬اليت أجريت مببادرة من “حممد علي” ‪ ،‬كان هلا بالغ األثر‬ ‫يف تطوير البنية التحتية يف اإلسكندرية‪ .‬مع هذا القت نتائج تلك اإلصالحات‪ ،‬اليت‬ ‫ً‬ ‫استحسانا من جانب مؤلف كتاب « رحلة إلي األماكن‬ ‫أدخلت علي املدينة القدمية‬ ‫املقدسة»‪ .‬فقد أشار إلي أن حممد علي أولي عناية خاصة بتحصني عاصمة مصر‬ ‫الشمالية من البحر ‪ ،‬وقام مبد خنادق دفاعية عميقة ‪ ،‬وأقام بطاريات مدفعية علي‬ ‫‪ - 41‬رحلة إلي األماكن المقدسة عام ‪ .1830‬سانت بطرسبورج‪ .1835 ،‬الجزء‬ ‫األول‪ .‬ص‪.97 .‬‬ ‫‪ - 42‬رحلة إلي األماكن المقدسة عام ‪ .1830‬سانت بطرسبورج‪ .1835 ،‬ص‪.‬‬ ‫‪.101‬‬ ‫‪75‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫ً‬ ‫نهائيا علي آثار املدينة القدمية ‪ ،‬والذي بدأها‬ ‫التالل العالية ‪« ،‬وبهذا يكون قضي‬ ‫قبله الفرنسيون واإلجنليز»‪.43‬‬ ‫بشكل أو بآخر بفضل حفر قناة احملمودية وبناء الرتسانة حتولت املدينة إلي‬ ‫مكان أكثر جذ ًبا لألجانب ‪ .‬يشري املستشرق الروسي “ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكني” «أن‬ ‫األجانب تدفقوا علي مصر ‪ ،‬كأنها كاليفورنيا اجلديدة »‪ً .44‬‬ ‫وفقا إلحصاءات “إ‪.‬‬ ‫ياروتسكي” ‪ ،‬بلغ تعداد سكان اإلسكندرية ‪ ،‬قبل انتشار وباء الطاعون عام‬ ‫‪ 60 ،1834‬ألف شخص‪ ،‬ومن ضمنهم ‪ 20 :‬ألف عربي ‪ ،‬و ‪ 6‬آالف تركي‪ ،‬و ‪ 4‬آالف من‬ ‫الزنوج والبدو ‪ ،‬و ‪ 4‬آالف من األرمن واألقباط واليهود‪ ،‬و ‪ 5‬آالف أوروبي ‪ 45.‬يف الثالثينيات‬ ‫استمر تغري حاد يف البنية السكانية لعاصمة مصر الشمالية ‪ .‬يشري “علي باشا‬ ‫مبارك” أنه يف الثالثينيات كان يعيش يف مصر ‪ 5‬آالف لبناني و ‪ 3‬آالف يوناني‬ ‫وألفي إيطالي وألف مواطن مالطي و‪ 800‬فرنسي و‪ 100‬اجنليزي و ‪ 100‬اسرتالي‬ ‫ جمري و ‪ 30‬من موسكو وإسبانيان ‪ .‬ويف عام ‪ 1846‬كان يعيش يف البالد ‪50‬‬‫ألف أجنيب‪ .46‬يف منتصف األربعينيات كان تعداد سكان اإلسكندرية أكثر‬ ‫من ‪ 140‬ألف شخص ‪ .‬أصبحت املدينة املركز الرئيسي لتجارة مصر اخلارجية ‪ .‬أدرج‬ ‫“علي باشا مبارك” املعلومات التالية ‪ :‬يف عام ‪ 1838‬رست يف ميناء اإلسكندرية‬ ‫‪ 1838‬مركبًا‪ ،‬ويف عام (‪ )1699 - 1841‬مركبًا‪ ،‬ويف عام ‪ 1850‬رست ‪1834‬‬ ‫مركبًا‪ .‬يف ما بني عامي (‪ )1872 -1838‬تفاوتت أعداد الركاب الوافدين إلي مصر‬ ‫‪ - 43‬نفس المرجع‪ .‬ص‪.99 .‬‬ ‫‪ - 44‬ج‪ .‬ف‪ .‬جاراتشكين‪ .‬تشكيل المجموعات األولي للعمال المرتزقة في النظام‬ ‫الرأسمالي في مصر (النصف الثاني من القرن التاسع عشر)‪ //‬المشاكل اإلجتماعية‬ ‫واالقتصادية ألصل الرأسمالية‪ .‬موسكو‪ .1984 ،‬ص‪.255 .‬‬ ‫‪ - 45‬أنظر‪ :‬إ‪ .‬ياروتسكي‪ .‬تعليقات عن اإلسكندرية‪ ،‬سميرنا‪ ،‬والقسطنطينية‪،‬‬ ‫علي مستوي العالقات الطبيعية والطبية‪ ،‬مختارة من مقال الدكتور ل‪ .‬أوبرا «عن‬ ‫الطاعون» ‪ //‬مجلة وزارة الداخلية‪ .‬الجزء ‪ .34‬سانت بطرسبورج‪ .1841 ،‬يتقدم‬ ‫الكاتب بالشكر لألستاذ ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين لتقديمه معلومات عن هذه المقالة‪.‬‬ ‫‪ - 46‬أنظر‪ :‬علي باشا مبارك‪ .‬الحيتية والتوفيقية والجمالية ومصر الجديدة والقاهرة‬ ‫ومدنها وبالدها القديمة الشهيرة‪ .‬القاهرة‪ .1987 ،‬المجلد ‪-7‬األسكندرية (علي باشا‬ ‫مبارك‪ .‬الخطط الجديدة الخيرة لمصر‪ ،‬مدنها وقراها القديمة والشهيرة‪ .‬القاهرة‪،‬‬ ‫‪ .1985‬المجلد ‪ -7‬اإلسكندرية‪ .‬ص‪ .)145.‬اقتباس من‪ :‬جنادي جارياتشكين‪ .‬صفحات‬ ‫من الحوار الروسي المصري‪ .‬الجزء األول (صفحات من حوار الحضارات والثقافات‬ ‫الروسي المصري‪ .‬الجزء الثاني‪ .‬اإلسكندرية‪ :‬منشأة المعارف‪ .2004 ،‬ص‪.91-98 .‬‬ ‫‪76‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫كل عام ‪ ،‬بني ‪ 45‬إلي ‪ 80‬ألف شخص‪ .47‬وكما يشري ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكني «فإن‬ ‫ً‬ ‫جهودا كبرية يف ضبط النظام اإلداري يف املدينة ‪ ،‬ونشر النظافة‬ ‫األوروبيون بذلوا‬ ‫‪48‬‬ ‫واجلمال يف اإلسكندرية »‪ ،‬وحتسني الوضع الصحي فيها ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫انطباعا‬ ‫ترك شكل «امليناء الرائع » و « النظافة واجلمال » يف شوارع املدينة‬ ‫لدي ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي ‪ ،‬الذي الحظ ً‬ ‫أيضا ‪ « :‬أن مدينة اإلسكندرية تتمتع‬ ‫ً‬ ‫بشكل رائع ليس فقط بالنسبة ملدن الشرق ‪ ،‬ولكن أيضا بالنسبة للغرب ‪ ...‬واآلن‬ ‫اإلسكندرية تقف علي قدم وساق مع الدول األوروبية بطابع الشرق الغامض ليس‬ ‫ٍ‬ ‫فقط من اخلارج ‪ ،‬ولكن ً‬ ‫أيضا من الداخل »‪ .49‬من املدهش أن “إيفان تروفيموفيتش”‬ ‫ً‬ ‫متحفظا يف تقديراته عند وصفه لإلسكندرية ‪ « :‬تتمتع املدينة بتحصينات‬ ‫كان‬ ‫جيدة‪ ،‬ويوجد بها مباني كبرية ‪ ،‬ولكن ال ميكننا أن نطلق عليها رائعة‪ .‬أسطح‬ ‫املنازل مسطحة ‪ ،‬أو علي األرجح غري مغطاة »‪ .‬وتوقف لربهة قبل أن يلخص نتائج‬ ‫تقديراته يف النهاية ‪ ،‬قائال‪« :‬بيد أنها مدينة جيدة»‪ .50‬وبالطبع كان هناك عامال‬ ‫ً‬ ‫مؤثرا يف هذا التقييم ؛ فلم يكن لدي خبري األورال البسيط ما يعتمد عليه يف‬ ‫املقارنة ‪ ،‬علي عكس الرحالة اخلبري ورئيسه ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي ‪ ،‬الذي رأي‬ ‫نظافة شوارع اإلسكندرية وهو يعلم يف نفس الوقت ‪ ،‬كيف تبدو كثري من مدن‬ ‫الشرق األخرى (وحتى مدن أوروبا) يف ذلك الوقت‪ .‬وأدرك األخري الصورة الكاملة‬ ‫لإلصالحات ‪ ،‬اليت أدخلها “حممد علي” ‪ .‬كل ذلك ال ميكن أن خيلف نفس‬ ‫اإلنطباع لدي إيفان بارودين ‪.‬‬ ‫يف اإلسكندرية قامت فرقة “ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي” بزيارة أرتني بك‪،‬‬ ‫صاحب اجلنسية األرمينية ‪ ،‬الذي كان يرتأس هيئة الشئون اخلارجية‬ ‫والتجارة يف مصر ذلك الوقت ‪ .‬اضطر الفريق للبقاء ‪ 12‬يوم يف احلجر الصحي‬ ‫يف املديـنـة ‪ ،‬وذلـك إلكـتشـاف وباء الكولريا يف القسطنطينية وختوف‬ ‫السلطات من انتشاره يف مصر‪ .‬إال أن التواجد يف قصر إبراهيم باشا‪ ،‬حيث كان‬ ‫‪ - 47‬أنظر‪ :‬ف‪ .‬إي‪ .‬ديتلوف‪ .‬األقلية من رجال األعمال‪ :‬تجار‪ ،‬أم أجانب أم‬ ‫المرسلين من اهلل؟ موسكو‪ .1996 ،‬ص‪ .47 .‬يتقدم الكاتب بالشكر لألستاذ ج‪ .‬ف‪.‬‬ ‫جارياتشكين لتقديمه معلومات عن هذه المقالة‪.‬‬ ‫‪ - 48‬أنظر‪ :‬ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين‪ .‬اإلسكندرية الروسية‪ :‬مصير المهاجرين في‬ ‫مصر‪ .‬موسكو‪ .2010 ،‬ص‪.13 .‬‬ ‫‪ - 49‬مجموعة أعمال يجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.6-9 .‬‬ ‫‪ - 50‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.7‬‬ ‫‪77‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫يعيش فريق البعثة الروسية أثناء احلجر الصحي‪ ،‬يبعث علي الراحة متا ًما‪.‬‬ ‫بعد انتهاء وقت احلجر الصحي يف السادس والعشرين من شهر ديسمرب‪ ،‬أكمل‬ ‫ً‬ ‫سريعا علي‬ ‫الرحالة طريقهم يف اجتاه القاهرة ‪ .‬يذكر إيفان بارودين‪« :‬نقلونا‬ ‫منت سفينة صغرية وبدأنا التحرك عرب القناة »‪ .‬يف تلك األثناء كان الطريق من‬ ‫اإلسكندرية إلي القاهرة يستغرق ما يقرب من ‪ 36‬ساعة ‪ .‬مل يكن هناك ما يلفت‬ ‫النظر يف املشاهد‪ ،‬اليت رآها املسافرون يف طريقهم ‪ .‬يتذكر ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫قائال‪« :‬بدي كل شئ حولنا بال حياة‪ .‬ويبدو األفق ‪ ،‬حيث خفتت أضواء الشمس‬ ‫‪51‬‬ ‫ً‬ ‫الغائبة ‪ ،‬شاحبًا وبال حياة‪ ،‬حتى أنه يبدو ممتدا عرب الصحراء بال نهاية » ‪ .‬مل‬ ‫يتكرم خبري التعدين باألورال بذكر ولو كلمة واحدة يف مذكراته عن املناظر‬ ‫الطبيعية اليت رأتها البعثة ‪ ،‬فلم يكن يهوي الصور الرومانسية يف وصف الطبيعة‪.‬‬ ‫كان املسافرون يرحتلون عرب القناة ‪ ،‬اليت شقها حممد علي وحتمل امسها‬ ‫ً‬ ‫تكرميا للسلطان العثماني حممود‪ .‬كان طول القناة يبلغ أكثر من ‪ 80‬فرستا (‬ ‫ً‬ ‫‪1060‬مرتا‪ .‬تعليق املرتجم )‪ ،‬وعرضها حوالي ‪ 90‬قدم‪ .‬يشري “أ‪ .‬أ‪ .‬رافالوفيتش” ‪ ،‬الذي‬ ‫ً‬ ‫مسافرا عرب نهر النيل يف نفس عام ‪ ،1847‬أن بناء هذه املنشأة الضخمة تطلب‬ ‫كان‬ ‫جهد حوالي ‪ 330‬ألف فالح ‪ ،‬من بينهم ‪ ،‬علي حد قوله ‪ 12 ،‬ألف ممن لقوا حتفهم‬ ‫«جراء اإلنهاك وسوء التغذية » ‪ « .‬ترقد أجسادهم حتت متاريس القناة العالية »‪،52‬‬ ‫ً‬ ‫تأكيدا علي الثمن الباهظ الذي كان الشعب املصري‬ ‫ يشري الرحالة الروسي ‪،‬‬‫يدفعه علي إصالحات حممد علي ‪ .‬حيت املراقب بشكل نقدي إلصالحات األخري‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مضطرا لإلعرتاف بأن‬ ‫مثل مؤلف كتاب «رحلة إلي األماكن املقدسة »‪ ،‬كان‬ ‫‪53‬‬ ‫القناة «علي الرغم من عيوبها الكثرية‪ ،‬إال أنها تعترب مصدر اخلري ملصر» ‪.‬‬

‫أطفيح‬ ‫بالقرب من قرية أطفيح كان علي فريق بعثة “ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي” التنقل‬ ‫علي منت مركب آخر‪ .‬ولكن يف تلك األثناء كان بانتظارهم مفاجئة غري سارة‪:‬‬ ‫يبدو أن يد السلطة يف البالد ال تصل إلي تلك املناطق البعيدة عن العاصمة‪« .‬يذكر‬ ‫بارودين أنهم انتقلوا إلي مركب كبري عندما خرجوا إلي نهر النيل يف منتصف‬ ‫‪ - 51‬مجموعة أعمال يجور بتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.19 .‬‬ ‫‪ - 52‬أ‪ .‬أ‪ .‬رافالوفيتش‪ .‬رحلة عبر الوجه البحري ومناطق الدلتا الداخلية‪ .‬سانت‬ ‫بطرسبورج‪ .1850 ،‬ص‪.37 .‬‬ ‫‪ - 53‬رحلة إلي األماكن المقدسة عام ‪ .1830‬ص‪.109 .‬‬ ‫‪78‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫ً‬ ‫وحتديدا يف مدينة احملمودية »‪ .‬ولكن حلظة صعود الفريق علي منت‬ ‫الطريق ‪،‬‬ ‫املركب إكتشفوا أن مجيع الغرف املخصصة حلملة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي (اليت‬ ‫حتظي برعاية مباشرة من حممد علي) مشغولة بشكل ما بواسطة أناس آخرين !‬ ‫وهلذا اضطر إجيور برتوفيتش ومساعديه من أخذ أماكنهم بالقوة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫صغريا (ما يقرب من ‪ 6‬آالف مواطن)‪ ،‬ولكنها‬ ‫كان تعداد سكان قرية أطفيح‬ ‫قرية مهمة تقع علي رأس قناة احملمودية‪ .‬وكانت مساكن القرية تقع علي جانيب‬ ‫القناة ‪ .‬يف منتصف األربعينيات كان باإلمكان رؤية بعض منازل األوروبيني يف‬ ‫ً‬ ‫مركزا‬ ‫أطفيح‪ ،‬والذي خيتلف شكلها‪ ،‬بالطبع ‪ ،‬عن املباني األخري ‪ .‬كانت القرية‬ ‫جتاريا ها ًما ً‬ ‫ً‬ ‫جدا‪ ،‬حيث كان يعيش ممثلون من أكرب جتار اإلسكندرية‪ .‬وكان‬ ‫هناك ً‬ ‫أيضا حانات ومقاهي ميلكها مواطنون من جزيرة مالطه ‪ ،‬وخمازن ضخمة‬ ‫تابعة لديوان السلع‪ .‬يذكر “أ‪ .‬أ‪ .‬رافالوفيتش” أن مباني الفالحني كانت تقع «‬ ‫بشكل مدرج » علي منحدرات اهلضاب العالية ‪ ،‬اليت تشكلت من األرض والطمي‬ ‫الناتج عن أعمال حفر القناة‪ .‬يشري الرحالة الروسي أن املنازل كانت «سيئة ً‬ ‫جدا‪،‬‬ ‫غري متناسقة ‪ ،‬وضيقة»‪ ،‬واملسافات بينها كانت ضيقة لدرجة أن الناس كانت‬ ‫ً‬ ‫طريقا آخر‬ ‫مضطرة إلي اهلبوط إلي أسفل عن طريق األسطح املستوية ‪ ،‬لعدم وجود‬ ‫ببساطة ‪ .‬تتسكع عرب القرية « جمموعة من الكالب اهلزيلة واجلائعة»‪ ،‬والذي‬ ‫كان عددهم ‪« ،‬علي ما يبدو‪ ،‬أكثر من أي مكان آخر يف مصر »‪ .‬كما يبدو‬ ‫سكان قرية أطفيح «مرضي ومنهكون ورثي الثياب وبؤساء ً‬ ‫جدا»‪.54‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كثريا يف وصفه للنيل والطبيعة حول منطقة‬ ‫متحفظا‬ ‫يبدو إيفان بارودين‬ ‫أطفيح يف مذكراته‪« :‬يوجد علي جانيب نهر النيل قري أو ضياع ‪ ،‬وأراضي مزروعة‬ ‫بأحدى احملاصيل ‪ .‬وال يوجد ما يلفت االنتباه»‪ .55‬مع هذا مل يكن خبري التعدين‬ ‫األورالي البسيط متطلع علي أعمال عدة للكتاب األوروبيني عن مصر‪ .‬ويف الواقع‬ ‫كان رئيسه‪ ،‬واليت تكونت لديه منذ الطفولة صورة رومانسية عن النيل ‪ ،‬يشعر‬ ‫ببعض من خيبة األمل ‪« :‬كان قليب خيفق بأحالم الطفولة ؛ ويا لألسف‪ ،‬تلك‬ ‫األحالم ‪ ،‬اليت مل تقض عليها ضغوط احلياة ‪ ،‬كان حمكو ًما عليها باإلنكسار‬ ‫علي أعتاب الواقع الكاشف‪ ...‬فالشواطئ منحدرة وكئيبة ؛ تقف صفوف‬ ‫أشجار النخيل يف شكل واحد‪ ...‬وحال ظهور إحدى القري من وراء تلك األشجار‪ ،‬من‬ ‫املستحسن لك عدم رؤيتها‪ ...‬هكذا يبدو نهر النيل! علي ما أعتقد»‪.56‬‬ ‫‪ - 54‬أ‪ .‬أ‪ .‬رافالوفيتش‪ .‬رحلة إلي شمال مصر‪ ...‬ص‪.38 .‬‬ ‫األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫‪ 55‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.7‬‬ ‫‪ - 56‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.22 .‬‬ ‫‪79‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫مع هذا ‪ ،‬يالحظ أن تلك الرحلة مل متح حتى صورة النيل ‪ ،‬اليت استدعتها األعمال‬ ‫األدبية يف خميلة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي ‪ .‬من املدهش أن مساعد رئيس منطقة‬ ‫تعدين زالتؤوست تغين بشكل واضح بنهر النيل اإلفريقي العظيم يف املقالة‬ ‫العلمية البحته‪ ،‬اليت صدرت بعد انتهاء احلملة علي صفحات «جملة التعدين»‪« .‬يقول‬ ‫الكاتب ‪ :‬النيل هو نهر فريد‪ ،‬يتمتع خبصائص متيزه وحده‪ ،‬وله شكل مييزه عن‬ ‫باقي أنهر الكرة األرضية‪ ...‬يف وقتنا احلالي مل حتل مجيع األحجيات حول نهر النيل»‪.57‬‬ ‫ً‬ ‫انطباعا ً‬ ‫خاصا ليس فقط علي نفس‬ ‫من املالحظ أن منطقة أطفيح مل ترتك أي‬ ‫ً‬ ‫إيفان بارودين و ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪ .‬كان بعض الرحالة الروس يشريون أيضا‬ ‫إلي كئابة املناظر الطبيعية اجملاورة‪ .‬ميكننا أن نضرب املثل بأقوال أ‪ .‬س‪ .‬نوروف‬ ‫– احملارب القديم‪ ،‬الذي فقد قدمه يف احلرب الوطنية عام ‪ ،1812‬ويشتهر أيضا بأنه‬ ‫رحالة نشيط‪ ،‬وخبري باللغات القدمية واحلديثة‪ .‬وبعدما مت تعيينه ً‬ ‫وزيرا للتعليم‬ ‫فيما بعد‪ ،‬أعطي أ‪ .‬س‪ .‬نوروف أوصاف للعديد من البلدان املختلفة (ينسب إليه‪ ،‬علي‬ ‫سبيل املثال‪ ،‬مذكرات «جولة يف ضواحي لندن»)‪.‬‬ ‫ً‬ ‫سعيدا من‬ ‫يف منتصف الثالثينيات سافر أ‪ .‬س‪ .‬نوروف عرب نهر النيل‪ .‬ومل يكن‬ ‫رؤية شاطئ النيل يف منطقة أطفيح‪« :‬ويذكر األخري‪ :‬تنتشر املناطق القاحلة يف‬ ‫كل مكان‪ ،‬ومتتد يف األفق باجتاه الشرق سالسل اجلبال العربية‪ ،‬وتبدو مظاهر‬ ‫احلياة فقط علي شريط ضيق علي امتداد نهر النيل‪ ،‬واألماكن اآلخري مغطاه‬ ‫ً‬ ‫كامال بالرمال»‪.58‬‬

‫القاهرة‬ ‫انتهت ً‬ ‫أخريا الرحلة بارودين ورفاقه اململة عرب نهر النيل ‪ ،‬ووصلت بعثة ي‪ .‬ب‪.‬‬ ‫كافاليفسكي إلي مدينة القاهرة‪ .‬أول ما انطبع يف ذهن إيفان بارودين الفوضي‬ ‫املرتبطة بتنظيم استقباهلم مبجرد الوصول إلي املدينة‪ « .‬يشري بارودين ‪ :‬وصلنا إلي‬ ‫القاهرة يف العاشرة ً‬ ‫ليال‪ ،‬وتوقفت السفينة بالقرب من قصر إبراهيم باشا – والد األمري‬ ‫‪ - 57‬ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪ .‬حوض النيل من الناحية الجغرافية‪//‬مجلة التعدين‪.‬‬ ‫‪ .1849‬الجزء الثاني‪ .‬الكتاب الرابع‪ .‬ص‪.64.‬‬ ‫‪ - 58‬أ‪ .‬نوروف‪ .‬رحلة عبر مصر والنوبة في عامي ‪ ،1834-1835‬والتي تعتبر‬ ‫تمهيدا للرحلة إلي األرض المقدسة‪ .‬سانت بطرسبورج‪ .1853 ،‬الجزء الثاني‪ .‬ص‪.‬‬ ‫‪.4‬‬ ‫‪80‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫مصطفي بك‪ .‬توجه إبراهيم باشا إلي منزله مع الركاب اآلخرين ً‬ ‫(أيضا – تعليق أ‪.‬‬ ‫ف‪ .‬أنتوشني)‪ .‬بقينا كلنا علي منت السفينة‪ ،‬وعلي الرغم أن كافاليفسكي‬ ‫كان بانتظار أي فرد من القنصلية يف استقبالنا‪ ،‬ولكن مل يأت أحد‪ .‬حبلول‬ ‫‪59‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مشيا بصحبة تسينكوفسكي‬ ‫مضطرا للذهاب إلي املدينة‬ ‫الصباح كان‬ ‫للبحث عن القنصل‪ ...‬وبعد عدة ساعات أرسلوا إلينا ثالثة خيول عربية جمهزة جتر‬ ‫عربة خلفها»‪ .60‬مـن املـدهـش عـدم ورود ولـو كلـمة واحـدة عـن هـذا املوقــف‬ ‫املـحرج ‪ ،‬الذي واجهته البعثة ‪ ،‬يف مذكرات ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي ‪ .‬من املمكن ‪،‬‬ ‫أن مساعد رئيس منطقة تعدين زالتؤوست قد ارتأي عدم جدوي إظهار شكواه من‬ ‫قيادة البعثة الدبلوماسية الروسية يف القاهرة بشكل علين ‪ .‬ولكن ها هو إيفان‬ ‫بارودين ‪ ،‬الذي مل يكن خيطط لنشر كتابه ‪ ،‬يفصح عن عدم رضاه‪ .‬فقد اضطر‬ ‫وفد اإلمرباطورية الروسية الرمسي لقضاء الليل علي منت املركب‪ ،‬انتظا ًرا للقاء‬ ‫ممثل قنصليته يف القاهرة‪.‬‬ ‫كانت القاهرة ‪ ،‬إلي حيث توجهت بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي ‪ ،‬أكرب مدينة‬ ‫يف مصر ذلك الوقت ‪ :‬كان عدد سكانها يبلغ ‪ 260‬ألف شخص ‪ .‬انتاب أ‪ .‬ن‪.‬‬ ‫مورافيف‪ ،‬الذي زار القاهرة قبل مخسة عشر ً‬ ‫عاما من زيارة إيفان بارودين ورفقائه‪،‬‬ ‫شعور باإلعجاب من رؤية مشهد املدينة القدمية ‪ .‬فقد راودته كثري من األفكار‬ ‫املفاجئة ‪ ،‬حيت تعالي صوته حبماس‪« :‬ينشرح قلب املواطن الروسي من رؤية هذا‬ ‫املشهد اخلالب املزدان بنهر النيل واألهرامات ومبآذن القاهرة الصغرية اليت تفوق أعداد‬ ‫أجراس كنائسها الذي يذكره مبعامل موسكو الذهبية الشاهقة ‪ ،‬علي الرغم أنها‬ ‫ً‬ ‫تأثريا‬ ‫تقله مجاال»‪.61‬ومل تكن عاصمة العامل اإلسالمي منذ القرون الوسطي أقل‬ ‫يف نفس ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪ .‬فقد ظلت القاهرة‪ ،‬علي حد وصفة ‪ ،‬يف النصف‬ ‫الثاني من األربعينيات «النموذج الوحيد ملدن الشرق اإلسالمي ‪ ،‬وال أعين بذلك مدن‬ ‫الشرق احلالية القابعة يف اجلهل والعبودية‪ ،‬ولكن الشرق ً‬ ‫قدميا‪ ،‬حيث زمن اجملد‪،‬‬ ‫زمن اخللفاء »‪ .62‬من املؤكد أن رئيس البعثة تعرف هناك علي الرتاث األدبي‪ ،‬الذي‬ ‫‪ - 59‬ليف سيميونافيتش سينكوفسكي – عالم الطبيعة الروسي‪ .‬أنهي الدراسة في‬ ‫كلية العلوم الطبيعية التابعة لجامعة سانت بطرسبورج عام ‪ .1844‬توجه مع ي‪.‬‬ ‫ب‪ .‬كافاليفسكي إلي أفريقيا‪ ،‬حيث عاش سنتين‪ .‬بعد سنة من عودته سجل رسالة‬ ‫الدكتوراة‪.‬‬ ‫‪ - 60‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.7‬‬ ‫‪ - 61‬رحلة إلي األماكن المقدسة عام ‪ .1830‬ص‪.118 .‬‬ ‫‪ - 62‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.24 .‬‬ ‫‪81‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫كان يشكل منوذج الشرق يف القرون الوسطى يف أوروبا يف القرنني الثامن عشر‬ ‫والتاسع عشر‪ ،‬إال أن خميلة املساعد إيفان بارودين كانت بعيدة ً‬ ‫متاما عن تأثري‬ ‫تلك األعمال‪ ،‬اليت تتغين باملشرق العربي‪ .‬فلم تعرتيه تلك املشاعر احلماسية عند‬ ‫وصفه للقاهرة يف عهد حممد علي‪ « :‬يف طريقنا كانت السيدات تسري واألطفال‬ ‫يركضون ورائهم ويصيحون‪ ...‬وعدد القري قليل من املرفأ وحتى املدينة والطريق‬ ‫مليئ باملتاريس‪ ...‬تقع املدينة علي سفح اجلبل‪ ...‬املنازل واسعة ولكنها مبنية أقل‬ ‫حرفية‪ .‬الشوارع نظيفة ولكنها ضيقة ومتعرجة‪ ،‬حيث متر العربة خالهلا بصعوبة‪.‬‬ ‫يف حالة مرور أحد املوظفني‪ً ،‬‬ ‫دائما ما تري رجالن يسريان أمامه وميسكان بسياط‬ ‫ويلوحان بهما‪ »...‬انطبعت يف ذهن خبري التعدين األورالي ذكريات سيئة عن‬ ‫األطفال يف القاهرة‪ ،‬الذين يلجأون للتسول‪ .‬فيشري إلي أن األطفال املطالبني‬ ‫«بالقشيش» يف كل مكان «يزعجونك» لدرجة أنك سرعان ما ترغب يف اهلروب‬ ‫منهم ‪ .‬بشكل عام تكون لدي خبري تعدين األورال نفس اإلنطباع‪ ،‬الذي خلفته‬ ‫الصورة النمطية ملدن الشرق يف نفس أي ممثل حلضارة أجنبية ‪.‬‬ ‫وبالطبع رأي بارودين «يف أخر نقطة علي اجلبل» قصر حممد علي‪ ،‬والذي مت‬ ‫بناءه « علي الطراز األوروبي »‪ ،63‬علي حد وصف الباحث الربيطاني املعاصر “أي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مزجيا من الطراز العثماني والفرنسي‪ .‬من املدهش أن‬ ‫بيتيت”‪ .‬كان مدخل القصر‬ ‫إيفان بارودين قد شعر بشكل ما بهذا املزيج يف البناء املعماري للقصر‪ ،‬مشرياً‬ ‫إلي أنه « ال ميكن أن نطلق عليه قصر‪ ،‬بل علي األرجح حصن »‪ .‬والحظ بارودين‬ ‫خصائص الفن املعماري هلذا البناء الرائع ‪ « :‬يف الطابق العلوي توجد نوافذ فقط‪،‬‬ ‫نوافذ ضيقة‪ ،‬وزخارف معقدة »‪.‬‬ ‫ً‬ ‫«مسجدا رائعـًا مطعم باملـرمر املصقـول »‪.64‬‬ ‫بالقرب من القصر رآهم يقومون ببناء‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حقيقيا ملصر‪ .‬استمر‬ ‫وكان هذا مسجد حممد علي الشهري‪ ،‬الذي أصبح اآلن رمزا‬ ‫العمل حوالي ‪ً 20‬‬ ‫عاما يف بناء تلك التحفة املعمارية ‪ ،‬اليت بدأ بنائها عام ‪.1824‬‬ ‫ً‬ ‫مسجدا يفوق مجيع‬ ‫ويشري “أي‪ .‬بيتيت” ‪ ،‬أن « حممد علي كان يرغب يف بناء‬ ‫املساجد‪ ،‬اليت بنيت قبل ذلك‪ .‬وبالفعل متكن من ذلك »‪ .65‬من خالل قصر ومسجد‬ ‫ً‬ ‫مشهدا ً‬ ‫رائعا للقاهرة وضواحيها‪ ،‬اليت حازت علي إعجاب خبري‬ ‫حممد علي يظهر‬ ‫التعدين باألورال ‪ « :‬من هنا ميكنك رؤية املدن املرتامية يف كل مكان ‪ ،‬ونهر‬ ‫النيل مبنعطفاته»‪.‬‬ ‫‪ - 63‬أي‪ .‬بيتتي‪ .‬القاهرة‪ .‬تاريخ المدينة‪ .‬ص‪.217 .‬‬ ‫األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫‪ 64‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.8‬‬ ‫‪ - 65‬أي‪ .‬بيتتي‪ .‬المرجع األسبق‪ .‬ص‪.213 .‬‬ ‫‪82‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫مل تكن معامل القاهرة‪ ،‬اليت أصبحت أهم معامل مصر احلديثة ‪ ،‬واليت يرجع الفضل‬ ‫يف بنائها جملهودات حممد علي‪ ،‬الشىء الوحيد الذي انطبع يف ذاكرة اخلبري‬ ‫ً‬ ‫شخصا كبارودن ‪ ،‬الذي يعترب حلقة الوصل بني عامل‬ ‫األورالي‪ .‬من املؤكد‪ ،‬أن‬ ‫ً‬ ‫املثقفني الروس وعامل العمال البسطاء‪ ،‬قد مسع شيئا عن أبو اهلول (والذي ارتبط‬ ‫ليه باسم «سفينكوس») وأهرامات مصر الشهرية‪ ،‬اليت «تشرأب هاماتها العالية أمام‬ ‫املدينة»‪ 66‬وبال شك مل يتطلع األخري علي أعمال الباحثني عن األهرامات ‪ ،‬ومنهم‬ ‫علي سبيل املثال ‪ ،‬رئيس البعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪ .‬من املالحظ أنه مبجرد‬ ‫ذكر آثار مصر القدمية ‪ ،‬كلما أدرك‪ ،‬أنها تشكل جز ًءا ً‬ ‫مهما من الرتاث التارخيي‬ ‫لتلك احلضارة ‪ .‬كانت معامل مصر الشهرية تري بارزة من فوق إحدي الصخور‪ ،‬اليت‬ ‫صعد إليها أفراد البعثة الروسية ‪« .‬يعرب إيفان تروفيموفيتش عن إندهاشه من‬ ‫الصورة اليت انكشفت أمامه‪ :‬كما يقولون‪ ،‬تري كل األحياء‪ ،‬كأنها صورة‬ ‫واحدة ‪ .‬تقع األهرامات يف الشمال‪ ...‬علي الشاطئ الغربي للنيل ‪ ،‬ويوجد وسطها أبو‬ ‫اهلول ‪ .‬تقع مدينة القاهرة باجتاه الشرق ‪ ،‬وبعدها سلسلة اجلبال العربية اليت حتجب‬ ‫البحر املقدس ‪ ،‬الواقع علي بعد أقل من مائة فرستا من األهرامات »‪.‬‬ ‫مبجرد رؤية األهرامات يندهش معظم املسافرين فقط من حجمها وعظمتها‪.‬‬ ‫ولكن ‪ ،‬مل يقتصر خبري األورال علي ذلك‪ ،‬بل قام بتفسري تقنياتها الفنية‬ ‫الرئيسية‪ .‬وسجل يف مذكراته أن اهلرم األول يتكون من ‪ 202‬درجة (كل درجة‬ ‫بطول واحد إلي واحد ونصف أرشني «مقياس روسي قديم يساوي ‪71‬سنتمرت‪.‬‬ ‫ً‬ ‫كامال‪ً ،‬‬ ‫وفقا ملعلوماته‪ 110 ،‬ساجني‬ ‫تعليق املرتجم »)‪ .‬وبهذا يصبح طول اهلرم‬ ‫ً‬ ‫ارتفاعا – بطول ‪65‬‬ ‫(مرت و‪13‬سنتمرت‪ .‬تعليق املرتجم ) ‪ .‬كان اهلرم الثاني أقل‬ ‫ساجني («بلغت قاعدته ‪ 77‬ساجني »)‪ .‬بني تلك األهرامات يقف أبو اهلول بارتفاع ‪13‬‬ ‫ً‬ ‫اهتماما‬ ‫ساجني‪« :‬برأس إنسان وجسد أسد»‪ .67‬وبالطبع أبدي أفراد البعثة الروسية‬ ‫ً‬ ‫بالغا باملعامل األرثوذكسية املقدسة يف مصر‪ .‬حينها وقف احلظ إلي جانبهم ‪ :‬حيث‬ ‫ً‬ ‫مرتمجا هلم يدعي « ميت » – هكذا كان العرب يطلقون علي املواطن‬ ‫مت تعيني‬ ‫الروسي‪ ،‬الذي يعيش يف القاهرة‪ .‬ومل يكتب بارودين أي شئ عن هـوية ذلـك‬ ‫الـرجل ‪ ،‬أو عن كيفية ظهوره يف هذا البلد العربي البعيد‪ .‬ولكن اصطحبهم «ميت»‬ ‫إلي الكنيسة‪ ،‬اليت كانت مريم العزراء خمتفية فيها أثناء هروبها إلي مصر‪ ،‬كما‬ ‫تؤكد األسطورة‪.68‬‬ ‫‪ - 66‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.8‬‬ ‫‪ - 67‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.9.‬‬ ‫‪ - 68‬أنظر‪ :‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.8‬‬ ‫‪83‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫رأي الرحالة الروس شكل احلياة اليومية يف القاهرة يف عهد حممد علي‪.‬‬ ‫بالتأكيد الحظ الضيوف القادمون من روسيا البعيدة كثري من األشياء الغريبة‬ ‫أثناء العشرين ً‬ ‫يوما‪ ،‬اليت قضوها يف املدينة‪ .‬إال أن الذاكرة ال تزال تزخر مبشاهد‬ ‫متفرقة من احلياة اليومية للمواطنني املصريني يف منتصف القرن التاسع عشر ‪:‬‬ ‫« من شقتنا ميكنك رؤية ميدان غري مكتمل‪ ،‬أي خندقني مستطيلني حماطني‬ ‫ومثبتني بصواري‪ ،‬يتجمع الناس حتتهما – بعضهم يدخن واآلخر يشرب عصري‬ ‫ً‬ ‫مالبسا خمتلفة‪ ،‬فالنساء ذوات العيون الزرقاء أو الالئي‬ ‫الليمون‪ ...‬يرتدي الناس‬ ‫ً‬ ‫ومشا علي الشفايف واأليدي يغطني حتى وجوههن»‪ .‬بالقرب من هذا‬ ‫تضعن‬ ‫املكان يوجد بئر « بعمق أربعني ساجني»‪ ،‬يرفعون املاء منه باستخدام الثريان‪.‬‬ ‫كان إيفان بارودين وأصدقائه يرون حدائق «غناء بأنواع من الفاكهة » عرب أحناء‬ ‫ً‬ ‫وخمتلفا عن شكل احلياة ‪ ،‬اليت تعودوا‬ ‫املدينة‪ .69‬بالطبع كان هذا املشهد غريبًا‬ ‫عليها منذ الطفولة يف منطقة زالتؤوست ومياس ومدن األورال األخري يف ذلك الوقت‪.‬‬ ‫وباعتباره ً‬ ‫خبريا يف التعدين‪ ،‬لفتت الوسائل التقنية واملعدات‪ ،‬اليت كان السكان‬ ‫احملليون يستخدمونها‪ ،‬انتباه إيفان تروفيموفيتش‪ .‬علي سبيل املثال‪ ،‬نراه يراقب‬ ‫عن كثب ولفرتة طويلة كيفية رفع املياه من البئر يف القاهرة‪« .‬علي حد وصف‬ ‫بارودين‪ ،‬فإنهم يقودون الثريان بشكل حلزوني حول البئر‪ ،‬ومن داخل البئر هناك‬ ‫فتحات إلدخال الضوء‪ ،‬بينما ُترفع املياه بقدور فخارية مثبته بأحبال عرب الساقية‪،‬‬ ‫وتبدو املياه رطبة وعذبة»‪ .70‬يلفت خبري التعدين األورالي االنتباه ‪ ،‬أنه بالنسبة‬ ‫ملنتصف القرن التاسع عشر تبدو هذه التقنية عتيقة إلي حد ما‪ ،‬ولكنها كانت‬ ‫يف نفس الوقت تعمل بفاعلية تامة يف تلك الظروف ‪.‬‬ ‫يف القاهرة توقف أعضاء بعثة كافاليفسكي يف منزل كمال باشا‪ ،‬صهر‬ ‫حممد علي‪ .‬يتذكر شكل املنزل علي اخلريطة بشكل صليب‪ ،‬حيث يوجد‬ ‫علي كل جانب منه غرفة أو غرفتني‪ ،‬تتميز أحداها عن األخري بشكل الزخارف‬ ‫واألثاث الداخلي ‪ .‬ولكن أكثر ما أثار إعجاب خبري صناعات الذهب يف منزل‬ ‫كمال باشا هي احلديقة‪ .‬فقد قضي ورفقائه الكثري من الوقت يف تلك احلديقة‬ ‫الرائعة‪« :‬تتمايل أغصان العنب بثمارها من املمرات املمتدة عرب احلديقة‪ .‬ما أمجل‬ ‫مشاهدة الثمار!‪ :‬الليمون والربتقال واملوز والعنب‪ ...‬يوجد بئر يف منتصف احلديقة‪،‬‬ ‫‪ - 69‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.9‬‬ ‫‪ - 70‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.8.‬‬ ‫‪84‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫خيرجون منه املياه من أجل السقاية‪ ...‬كما يوجد حوض بنافورة‪ 71.»...‬بالطبع‪،‬‬ ‫القت آثار كل ذلك الرتف الشرقي هوي يف نفس خبري التعدين األورالي ‪ ،‬الذي تعود‬ ‫علي احلياة القاسية يف ورش الذهب مبياس ‪.‬‬ ‫بينما ظلت لدي رئيس بارودين ذكريات أكثر إجيابية عن صاحب املنزل‪،‬‬ ‫والذي‪ ،‬علي حد تعبري ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي « يرجع أصله إلي ساللة تركية‬ ‫نقية » « مل تعد موجودة‪ ،‬لألسف‪ ،‬يف وقتنا احلالي »‪« .‬يذكر إجيور بيرتوفيتش‪،‬‬ ‫ً‬ ‫إراديا‪ :‬اتسمت تعابري وجهه‬ ‫أن أخالقه الكرمية والنبيلة تستلزم االحرتام ال‬ ‫ً‬ ‫منمقا وحمرت ًما‪ ،‬ولكن بال مداراة‪ .‬تلقي كامل‬ ‫بالوداعة والسكينة؛ كالمه‬ ‫ً‬ ‫باشا تعليمه علي الطريقة الشرقية‪ ،‬أي أنه يتكلم جيدا اللغة العربية والفارسية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫خالفا للغة الرتكية »‪ .72‬كيف قضي أفراد البعثة أوقات فراغهم يف مدينة القاهرة؟‬ ‫ماذا فعلوا خالل الثالثة أسابيع‪ ،‬اليت قضوها هناك؟ يذكر ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪:‬‬ ‫« كان عددنا يف ذلك الوقت سبعة مواطنني روس‪ ...‬يف الصباح كنا نذهب خارج‬ ‫املدينة لرؤية الغابة احلجرية أو األهرامات أو املساجد؛ وكنا نقضي معظم الليل‬ ‫ً‬ ‫مدهشا‬ ‫لدي قنصلنا »‪ .73‬بالنسبة لبارودين‪ ،‬الذي تواجد ألول مرة يف الشرق‪ ،‬كان‬ ‫أن يري تلك املعامل الغريبة ‪.‬‬ ‫مع هذا مل ينس كافاليفسكي ورفاقه هدف البعثة الرئيسي – أال وهي املساعدة‬ ‫يف التنقيب عن مناجم الذهب يف السودان املصرية‪ .‬ومل يكن مبقدور فريق‬ ‫كافاليفسكي أثناء وجوده بالقاهرة عدم القيام بزيارة رمسية إلي حممد علي‪،‬‬ ‫واليت جائت البعثة حتت رعايته املباشرة‪ .‬أخرب مؤسس مصر احلديثة املتخصصون‬ ‫الروس اختاذه اإلجراءات اخلاصة بإرسال ‪ 10‬آالف شخص إلي منطقة استخراج الذهب‬ ‫يف فازوغلي ‪ ،‬للعمل يف منامجها‪ .‬يبدو أن هذا الرقم‪ ،‬وقدرة دولة مصر يف الشرق‬ ‫أثارت انطباعات حتى املهندسني الروس‪ ،‬الذي تعودوا يف ذلك الوقت علي جتميع‬ ‫أعداد من الفالحني كل يوم من القري اجملاورة للعمل يف مناجم مياس‪ .‬ولكن ال‬ ‫ميكن مقارنة هذا باملوارد البشرية اهلائلة‪ ،‬اليت كان يوجهها حممد علي لتطوير‬ ‫صناعة استخراج الذهب يف مصر‪.‬‬ ‫تسهم مذكرات بارودين يف إداركنا بصورة أفضل ملدي تنوع جماالت التعاون‬ ‫بني اإلمرباطورية الروسية ومصر يف عهد حممد علي‪ .‬روسيا من بني تلك الدول‪،‬‬ ‫‪ - 71‬نفس المرجع‪.‬‬ ‫‪ - 72‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.29 .‬‬ ‫‪ - 73‬نفس المرجع‪ ...‬ص‪ .37 .‬شغل القنصل فوك ألكسندر ماكسيموفيتش هذا‬ ‫المنصب منذ ‪ 22‬أبريل غام ‪ 1844‬حتى نهاية ‪ 18‬ديسمبر عام ‪.1854‬‬ ‫‪85‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ملموسا يف مصر بفضل السياسة املنفتحة حملمد علي ‪.‬‬ ‫تواجدا‬ ‫اليت كان هلا‬ ‫يذكر خبري التنقيب عن الذهب األورالي أنه قام برفقة زمالئه بزيارة «مستشفي‪،‬‬ ‫حيث يعيش مساعدوا أطباء (ترمجة – تعليق أ‪ .‬ف‪ .‬أنتوشني) من روسيا للدراسة‬ ‫أو للتعرف علي أسباب مرض الطاعون»‪ .74‬يف الواقع أسهمت اإلمرباطورية الروسية‬ ‫يف تطوير قطاع الصحة يف مصر يف منتصف القرن التاسع عشر‪ .‬وكما أشار‬ ‫أ‪ .‬أ‪ .‬رافالوفيتش‪ ،‬فإن اهلدف الرئيسي لتواجد البعثة الطبية الروسية يف مصر‬ ‫«هي الدراسة العملية ألعراض مرض الطاعون وطرق العالج منه» يف الشرق‬ ‫عامة ومصر خاصة من أجل زيادة أعداد احلجاج إلي مكة واملدينة عرب مصر‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أبعادا‬ ‫ويعتقد رافالوفيتش أن مشكلة انتشار األمراض اخلطرية يف مصر حتمل‬ ‫معقدة ‪ .‬وكما هو احلال بالنسبة للرحالة الروس اآلخرين‪ ،‬أثار رافالوفيتش قضية‬ ‫الثمن‪ ،‬الذي كان يدفعه الشعب املصري مقابل إصالحات حممد علي ‪« :‬أري أن‬ ‫حتسني وضع الفالح أفضل وسيلة للتخلص من األمراض الوبائية املنتشرة يف‬ ‫وادي نهر النيل؛ فلن جتدي مجيع اإلجراءات الطبية اإلحرتازية إلدارة التموين يف‬ ‫باإلسكندرية ً‬ ‫نفعا حيت يتوقف القهر الذي يتعرض له الفالحني من البكوات!»‪.75‬‬ ‫من املدهش أنه جبوار املستشفي ‪ ،‬حيث كـان مسـاعـدو األطبـاء الـروس‬ ‫يعـملون ‪ ،‬رأي أفراد البعثة صورة للوسائل‪ ،‬اليت كان حممد علي يعتمد عليها يف‬ ‫بناء إمرباطوريته‪ .‬يتذكر “إيفان بارودين” أن سلطات املدينة كانت جتمع كثري‬ ‫من «الصبية» «والصبايا» لتنظيف امليدان أمام املستشفي‪ .‬مل يكن خبري التعدين‬ ‫علي علم بهؤالء ‪ ،‬ومل تكن لديه فكرة إىل «أي طبقة إجتماعية ينتمون»‪ .‬مع‬ ‫ذلك انطبعت يف ذاكرته كيفية عملهم‪« :‬كانوا مقسمني إلي ثالثة أقسام‪:‬‬ ‫األول جيمع القمامة يف السالل‪ ،‬والثاني يقف ويغين ‪ ،‬أما األطفال يف القسم‬ ‫الثالث يركضون بسالهلم إلي مكان جتميع القمامة ‪ ،‬يركضون بكل ما أوتوا‬ ‫من قوة»‪ .‬يف تلك األثناء الحظ بارودين أن الشرطة تقوم باستمرار «بضرب كل‬ ‫عامل علي رقبته »‪ ،‬إال أن الذين يعملون علي األرجح «يغنون وال أحد يبكي »‪.76‬‬ ‫وهلذا تشعر مبدى تأثر خبري استخراج الذهب األورالي ‪ ،‬الذي قضي حياته يف روسيا‬ ‫اإلقطاعية ‪ ،‬بسطوة جهاز الدولة يف إمرباطورية الشرق ‪.‬‬ ‫ألقي “ن‪ .‬ن‪ .‬مورافيف‪-‬كارسكي” الضوء علي نفس املشكلة املتعلقة‬ ‫‪ - 74‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.9.‬‬ ‫‪ - 75‬أ‪ .‬أ‪ .‬رافالوفيتش‪ .‬رحلة في شمال مصر‪ ...‬ص‪.378 .‬‬ ‫‪ - 76‬ن‪ .‬ن‪ .‬مورافيف (كارسكي)‪ .‬المصدر األسبق‪ .‬ص‪.27 .‬‬ ‫‪86‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫بالثمن الباهظ الذي يدفعه الشعب املصري يف سبيل إصالحات حممد علي‪ .‬وقد‬ ‫توجه مورافيف يف بداية الثالثينيات بأمر من نيكوالي األول إلي الشرق األدني‬ ‫والشرق األوسط لتقديم املساعدة إلي تركيا‪ .‬ويف مذكراته واجه مورافيف‬ ‫مباشرة األوروبيون ‪ ،‬الذين كانوا يفتخرون بإصالحات حممد علي‪ ،‬فيقول يف‬ ‫وصف مصر يف الثالثينيات ‪ « :‬اجلوع والفقر املضقع هم أصل الشرور أينما وجدوا‪،‬‬ ‫فاملدن عبارة عن أنقاض والسكان هجروا قراهم‪ ،‬واملنازل خربة – بإختصار‪ ،‬ينازع‬ ‫الشعب‪ ،‬املنهك من نري العبودية القاسية ‪ ،‬اخلطى عرب العشوائيات وحتى القبور‪...‬‬ ‫يتكلمون عن التعليم يف مصر‪ ،‬ولكن ال وجود له هناك ‪ ،‬وال ميكن أن يـوجـد‬ ‫يف الوقـت الـراهـن ‪ ،‬مبا أن التعليم مرتبط برخاء الشعب ‪ ،‬الذي مل يلتفت إليه حممد‬ ‫علي ً‬ ‫أبدا‪ ،‬بل أنهك قوي تابعيه من أجل تدعيم املنشآت احلكومية ‪ ،‬اليت ال تالئم‬ ‫‪77‬‬ ‫السكان وال ثروات املنطقة » ‪ .‬ويعتقد ن‪ .‬ن‪ .‬مورافيف ‪ ،‬أن إجنازات حممد علي‬ ‫يف مصر مل تكن لصاحل الشعب املصري ‪ ،‬بل « إلرضاء رغباته الشخصية ونزواته» ‪.‬‬ ‫ويؤكد الدبلوماسي الروسي ‪ ،‬أن الشعب املصري « كان يعيش يف كرب بسبب‬ ‫املصائب»‪ ،‬اليت انهالت عليه بفضل أعمال حممد علي‪ ،‬بل كان غري مستعد‬ ‫الستيعاب إصالحاته‪ .‬بال شك ‪ ،‬ال خيلو رأي “ن‪ .‬ن‪ .‬مورافيف” من بعض التحيز‪ ،‬مبا‬ ‫ً‬ ‫حتديدا من أجل مساعدة تركيا‬ ‫أن احلكومة الروسية أرسلته إلي هذا املكان‬ ‫يف جتنب اهلزمية يف احلرب مع مصر‪ .‬ومع هذا‪ ،‬إذا أردنا تكوين صورة كاملة عن‬ ‫األوضاع يف مصر يف عهد حممد علي‪ ،‬جيب أخذ هذا الرأي يف اإلعتبار‪.‬‬ ‫واألكثر من ذلك‪ ،‬مل ينحاز “ن‪ .‬ن‪ .‬مورافيف ‪ -‬كارسكي” وحده إلي هذا الرأي ‪.‬‬ ‫فمثل تلك األفكار كانت تراوض مؤلف كتاب «رحلة إلي األماكن املقدسة »‪.‬‬ ‫رأي “أ‪ .‬ن‪ .‬مورافيف” أن حممد فعل الكثري يف الواقع ‪.‬‬ ‫لقد كان رأى الكثريين أن حنند على فعل الشئ الكثريمن أجل إعمار مصر‪.‬‬ ‫وتعجب الرحالة الروسي من «عبقرية » مؤسس مصر احلديثة‪ ،‬الذي « استطاع‬ ‫باإلصالحات الداخلية أن يتفوق علي األقاليم اجملاورة له‪ .‬زراعة أشجار التوت‬ ‫والنخيل‪ ،‬والقطن وحماصيل إنتاجية أخرى كثرية ‪ ،‬اليت كانت غريبة عن مصر‬ ‫قبل ذلك‪ ،‬وكذلك بناء العديد من الورش واحملالت ‪ ،‬واملدارس ‪ ،‬والرتسانات – كل‬ ‫هذا دليل علي جمهود جبار »‪ .‬يبدو أنه مل يستطع غض الطرف مرة أخري عن ثـمن‬ ‫كل تلك اإلصالحات ‪« :‬مل يكن حممد علي – الذي حيظي باالحرتام يف سوريا‪،‬‬ ‫والذي يدعي بالرهيب يف اجلزيرة العربية‪ ،‬كما عرف باحنيازه ألفريقيا ‪ -‬ليربز بني‬ ‫سالطني الشرق لوال معاناة الشعب باجلهد املضين تارة‪ ،‬وبالضرائب تارة أخري‪ ،‬حتت‬ ‫نري اإلحتكار اجلائر‪ ،‬الذي ال تصب ثرواته إال يف خزينة الباشا»‪.78‬‬ ‫‪ - 77‬ن‪ .‬ن‪ .‬مورافيف (كارسكي) المرجع األسبق‪ .‬ص‪.27 .‬‬ ‫‪ - 78‬رحلة إلي األماكن المقدسة عام ‪ .1830‬ص‪.193 .‬‬ ‫‪87‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫من القاهرة باجتاه أعالي نهر النيل‬ ‫ًإذا فلنعد إلي فريق بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪ .‬يف الثامن من يناير ‪1848‬‬ ‫حانت حلظة الرحيل عن القاهرة املضيافة ‪ .‬جتمع بعض الروس لدي رئيس البعثة‬ ‫ً‬ ‫وفقا للعادات القدمية «ورمسوا عالمة الصليب يف خشوع‪...‬‬ ‫وجلسوا القرفصاء‬ ‫ً‬ ‫وطلبوا املغفرة!» خالفا لسالف الذكر ل‪ .‬س‪ .‬سينكوفسكي‪ ،‬سافر مع ي‪ .‬ب‪.‬‬ ‫كافاليفسكي الدكتور ترميو – ساليف اجلنسية‪ ،‬ضمه حممد علي ألفراد‬ ‫البعثة (يطلق عليه بارودين «دكتور جريمانوفيتش ») وهو الرتمجان العربي‬ ‫الذي تربي يف فرنسا‪ ،‬وكذلك الرسام الفرنسي‪ .‬أوكلت مهمة حل املشاكل‬ ‫اخلاصة بتأمني احلملة إلي املقدم يوسف أفندي‪ ،‬وهو من الشراكسة ‪ .‬وبعد‬ ‫ً‬ ‫«خالفا‬ ‫حصر أعداد كل هؤالء‪ ،‬يقول ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي يف مذكراته‪:‬‬ ‫لتلك الشخصيات‪ ،‬أصطحبنا ً‬ ‫أيضا خرباء تعدين روس وخدم من مجيع اجلنسيات‬ ‫واأللوان»‪ .79‬وهكذا كان إيفان بارودين وصديقه حيتالن مكانة داخل البعثة‬ ‫أقرب ما يكون إلي اخلدم ‪ .‬علي هذا النحو حتركت البعثة بإجتاه احملطة التالية ‪.‬‬ ‫شحن متاع البعثة كله إلي سطح املركب‪ ،‬ويف الثانية ً‬ ‫ظهرا بدأ أعضاء فرقة ي‪ .‬ب‪.‬‬ ‫كافاليفسكي يف اإلحبار بإجتاه أعالي نهر النيل‪« .‬يذكر إيفان بارودين‪ :‬كنا‬ ‫مستمتعني برؤية املناطق حولنا‪ .‬تقع علي شاطئ النهر أحراش شجر النخيل‪ ،‬ويف‬ ‫األفق تلوح قمم األهرامات العالية‪ ،‬ويتناوب أمامها وفود من الناس ‪ ،‬كما لو كانوا‬ ‫واقفني للحراسة‪.80»...‬‬ ‫يا له من رأي غريب من خبري تعدين أورالي بسيط‪ ،‬ال مييل بشكل عام لألفكار‬ ‫ً‬ ‫خالف ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي ‪ ،‬علي‬ ‫الفلسفية وال النقاش يف مواضيع عامة ‪ .‬علي‬ ‫ً‬ ‫سبيل املثال ‪ ،‬ومثلما أثارت حرية الناس لقرون ‪ ،‬تركت األهرامات ً‬ ‫كبريا يف‬ ‫أثرا‬ ‫نفسه‪ .‬من الواضح أن إيفان تروفيموفيتش كان ً‬ ‫مهتما ببعض املعلومات املتعلقة‬ ‫بأهرامات مصر‪ .‬وكم كان تأثر خبري التعدين األورالي بعدما حتاور مع رئيس‬ ‫البعثة – وهو شخص صاحب معرفة وقرأ عديد من أعمال الباحثني األوروبيني عن‬ ‫األهرامات ‪« :‬كم من القرون مرت علي بناء األهرامات منذ ‪ 2500‬عام قبل ميالد‬ ‫املسيح! ويقولون أن ً‬ ‫جهدا جبا ًرا قد ُبذل لبناء هذا الصرح اهلائل » ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مهتما‬ ‫حتظي املعلومة األخرية بأهمية خاصة ‪ ،‬مبا أن “إيفان بارودين” كان‬ ‫‪ - 79‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.45 .‬‬ ‫‪ - 80‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.10.‬‬ ‫‪88‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫باملسائل التقنية البحتة‪ ،‬حيث حكي عن نظام فيضان النيل‪ ،‬وكيفية استغالل‬ ‫السكان احملليني له‪ .‬علم بارودين أن املياه تبدأ يف الفيضان يف بداية شهر يونيو‬ ‫ً‬ ‫وفقا لسجالت «مقياس نهر النيل»‪ ،‬الذي أقامه السكان احملليني يف مناطق‬ ‫كثرية من أجل معرفة إلي أي مدي ارتفعت املياه‪ .‬وهكذا يستطيعون «التنبؤ‬ ‫مبوعد حمصول القمح »‪.81‬‬ ‫يروي إيفان بارودين ً‬ ‫أيضا عن طريقة رفع املياه من خالل ساقية هيدروليكية‪:‬‬ ‫« يقومون بتثبيت قدرين خزفيني باألحبال ‪ ،‬ويقرنون بني ثورين أو ثالثة »‪ .‬يشري‬ ‫إيفان تروفيموفيتش – مع إملامه جبميع األمور‪ -‬أن تلك الطريقة تعترب «فعالة»‬ ‫لصاحب األرض أثناء اخنفاض مستوي مياه النيل ‪ .‬كما اثار اهتمامه الشادوف ‪،‬‬ ‫الذي كان املصريون يرفعون به املياه لسقي األراضي‪ .‬وباعتباره متخصص تقين ‪،‬‬ ‫أثارت تلك الوسيلة إعجابه‪ ،‬وهلذا وصف يف مذكراته طريقة عمل « هذا الكيس‬ ‫اجللدي »‪ .‬وفيما يتعلق بشاطئ نهر النيل واألراضي‪ ،‬اليت مرت عربها البعثة‪ ،‬فلم‬ ‫يكن هناك الكثري مما لفت أنظار املسافرين‪« :‬علي اجلانب الغربي من املياه‬ ‫ميكنك رؤية سالسل اجلبال الليبية املمتدة مبحازاة النيل‪ ...‬وتوجد علي الشاطئ‬ ‫منازل‪ ،‬وأكواخ من الطوب اللنب داخل أعراش النخيل ‪ .‬ويف كل قرية يوجد العديد‬ ‫من أبراج احلمام»‪ .82‬كان “إيفان بارودين” يري مدي الفقر احملدق حبياة املصريني‪،‬‬ ‫ً‬ ‫متواضعا‪.‬‬ ‫وإلي أي مدي كان أسلوب حياتهم‬

‫بين سويف‬ ‫كانت البعثة تتوقف يف طريقها علي شواطئ املدن والقري‪ ،‬وكان من بينها‪،‬‬ ‫علي سبيل املثال‪ ،‬مدينة بين سويف‪ ،‬اليت تقع بالقرب من قناة حبر يوسف ‪ .‬وكانت‬ ‫تلك املدينة أحد أهم املراكز اإلقتصادية ملصر يف عهد حممد علي‪ .‬الزال “أ‪ .‬نوروف”‬ ‫الذي زار هذه املنطقة قبل عشر سنوات‪ ،‬يتذكر بنايتني «من الفن املعماري الرائع»‬ ‫ً‬ ‫مسجدا وثكنة‪ ،‬وتتكون باقي مدينة بين سويف من عدد كبري من األكواخ‪.‬‬ ‫‬‫ً‬ ‫دائما ما كانت تتغري مالمح النيل واملناظر الطبيعية احمليطة بالبعثة يف منطقيت‬ ‫بين سويف واملنيا‪ .‬كانت اجلبال تقرتب من الشاطئ ومتتد عن ُبعد علي هيئة‬ ‫‪ - 81‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.10.‬‬ ‫‪ - 82‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.10‬‬ ‫‪89‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫ً‬ ‫تدرجييا وميكنك رؤية قري متفرقة علي الشاطئ‪.83‬‬ ‫شريط أبيض ‪ ،‬ثم ختتفي‬ ‫وكلما حتركت البعثة إلي األمام‪ ،‬كلما اتسع نهر النيل ‪.‬‬

‫أسيوط‬ ‫بعدما ختطت البعثة مدينة بين سويف‪ ،‬توقفت بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‬ ‫للتزود بالفحم يف أسيوط (سيوط)‪ .‬كانت أسيوط أحد أهم مراكز مصر العليا‪« ،‬‬ ‫ليكوبوليس القدمية » (أطلق هذا االسم علي املدينة يف عهد البطاملة وتعين «مدينة‬ ‫الذئب »‪ .‬تعليق املرتجم )‪ً ،‬‬ ‫وفقا ملا أشار الرحالة الروس‪ ،‬الذين تعرفوا ً‬ ‫جيدا علي األدب‬ ‫القديم مثل ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي ‪ .‬كانت املدينة تقع علي وادي رائع وخصب‬ ‫بالقرب من قاعدة اجلبال الليبية ‪ ،‬اليت كانت تقيها من رمال الصحراء‪ .‬كانت‬ ‫القبائل تتوافد علي أسيوط من املناطق الداخلية يف القارة السمراء‪ ،‬حيث كانت‬ ‫تخُ زن املنتجات‪ ،‬واليت كانت ُتباع بعد ذلك للمصريني ‪ .‬ويف أسيوط انتشرت جتارة‬ ‫العبيد السود‪ ،‬وسن الفيل‪ ،‬وريش النعام واألفيون ‪ .‬وكانت خمازن املنتجات موجودة‬ ‫يف مرفأ اجلمرة بأسيوط‪ ،‬حيث كانت ترسو مراكب التجار األجانب ‪.‬‬ ‫إمتد سد طويل من شاطئ نهر النيل وحتى مدينة أسيوط‪ .‬يف يوم من األيام حتصن‬ ‫املماليك بهذا املكان‪ ،‬وأحاطوا أسيوط حبوائط من الطـوب اللبـن ‪ ،‬ولكن حلظة‬ ‫وصول إيفان بارودين ورفقائه كانت احلصون الدفاعية قد حتولت إلي أنقاض منذ‬ ‫فرتة‪ .‬متيزت املدينة بالفن املعماري ملساجدها‪ ،‬وال سيما املسجدين اللذين انطبعا‬ ‫يف ذاكرة أ‪ .‬نوروف ‪ :‬األول يذكره‪ ،‬علي حد قوله « مبسجد السلطان حسن يف‬ ‫القاهرة » ‪« -‬ولكن لألسف مت ترميمه»‪ .‬واملسجد اآلخر‪ ،‬ذو مقاييس أصغر‪ ،‬ولكنه‬ ‫يتميز بزخارف علي مستوي أعلي‪ .84‬كان هناك ً‬ ‫أيضا عدة معابد قبطية‪ ،‬قامت‬ ‫جبذب اجلزء األكرب من سكان أسيوط األقباط‪ .‬وكان إمجالي سكان املدينة‬ ‫ما يقرب من ‪ 20‬ألف مواطن‪.‬‬

‫جرجا‬ ‫رسا أعضاء بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي يف العاشر من يناير عند الشاطئ ودخلوا‬ ‫مدينة جورجا (جرجا)‪ً .‬‬ ‫قدميا كانت واحدة من أهم مدن منطقة طيبة – مصر العليا‪.‬‬ ‫ُتعترب برج الدير املسيحي الشاهق اجلميل املكان األبرز يف البناء املعماري ملدينة‬ ‫‪ - 83‬أنظر‪ :‬أ‪ .‬نوروف‪ .‬المرجع األسبق‪ .‬ص‪.14-15 .‬‬ ‫‪ - 84‬أنظر‪ :‬نفس المرجع‪ .‬ص‪.34 .‬‬ ‫‪90‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫جرجا – والذي كان ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كاثولوكيا حلظة وصول بعثة ي‪ .‬ب‪.‬‬ ‫قبطيا‪ ،‬وكان‬ ‫ديرا‬ ‫كافاليفسكي ‪ .‬أنه دير القديس الشهيد جورج‪ ،‬الذي حتمل املدينة امسه ‪ .‬علي‬ ‫أية حال ‪ ،‬يف وقت من األوقات كان الدير ميلك أراضي مزروعة شاسعة‪ ،‬وكان‬ ‫يقدم مساعدات خمتلفة للمسيحيني الفقراء يف مصر‪ .‬إال أن زمن إزدهار الدير أصبح‬ ‫يف عداد املاضي ‪ :‬يف بداية القرن اخلامس عشر حصد وباء الطاعون أرواح معظم‬ ‫الرهبان‪ ،‬بعد ذلك بدأ الدير يف التدهور‪.‬‬ ‫متكن بارودين ورفقائه من تفقد عدد من معامل مدينة جرجا‪ ،‬حيث جابوا سوق‬ ‫ً‬ ‫مكتظا لدرجة أننا تلمـسنا طريـقنا وسـط الزحـام‬ ‫املدينة ‪« :‬كان السوق‬ ‫ً‬ ‫طريقا للمرور بصعوبة»‪ .‬تواجد أعضاء البعثة‬ ‫بـمشقة ‪ ،‬وكانوا يفسحون لنا‬ ‫يف إحدي الورش‪ ،‬اليت مل تكن تعد األوراق فقط‪ ،‬ولكنها كانت منشأة كبرية‬ ‫ً‬ ‫تكنولوجيا يف تلك األثناء‪ :‬فقد كانت الورشة تزخر بثالثـمائة «‬ ‫ومتقدمة‬ ‫ماكينة لصناعة أنسجة القماش»‪ .‬وقام إيفان تروفيموفيتش بزيارة املعبد‬ ‫القبطي يف طريقه‪ ،‬والذي أثار اهتمامه البناء املتواضع للكنائس القبطية‪ ،‬بعدما‬ ‫تعود علي عظمة املعابد األرثوذوكسية ‪ :‬حيث يشري باندهاش «إلي عدم متكنه‬ ‫من رؤية أية زخارف»‪.85‬‬ ‫ومن جديد أكملت البعثة الطريق! ومل ختتلف املناظر الطبيعية اليت قابلتهم‬ ‫عن سابقيه‪ ،‬وهلذا مل يتذكر أعضاء البعثة الكثري عنها‪ .‬ومع هذا كانت مالمح‬ ‫املنطقة تتغري‪ .‬فقد كانت مناطق مصر العليا ختتلف عن تلك املناطق‪ ،‬اليت مرت‬ ‫عليها بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي يف طريقها من اإلسكندرية إلي القاهرة‪ .‬فقد‬ ‫الحت أمام إيفان بارودين ورفقائه اجلبال الليبية‪ ،‬اليت ارتسمت علي خلفيتها أشجار‬ ‫البلوط‪ .‬حيت يف املناطق اليت تبدو قاحلة ميكنك رؤية نباتات ‪ .‬حيث تنمو علي‬ ‫شاطئ النهر أشجار البلوط بكثافة‪ ،‬كما تنمو أشجار النخيل‪.‬‬ ‫علي أية حال حتركت البعثة الروسية بسرعة كبرية مل متكنهم من اإلستمتاع‬ ‫برؤية الطبيعة ‪ :‬يذكر ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪« :‬تنطلق مركبنا بسرعة وهي‬ ‫تتعثر يف املياه الضحلة؛ حينها تري نفسك داخل شاطئ النيل املوحل‪ ،‬والذي خترج‬ ‫منه بعد وقت طويل‪ .‬قبطان املركب عربي؛ لديه معارف حمدودة؛ ضف علي ذلك‬ ‫تواكل العربي‪ ،‬الذي ينظر إلي ما حيدث أمامه بال مباالة كاجملنون »‪ .‬من أجل‬ ‫إضفاء بعض املرح علي الرحلة البحرية وشغل الوقت‪ ،‬بدأ خرباء التعدين الروس‬ ‫يف الغناء‪ .‬يقول رئيس البعثة‪ ،‬وهو يتذكر ذلك ‪ « :‬بالطبع‪ ،‬كنا نسمع كالم‬ ‫‪ - 85‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.10.‬‬ ‫‪91‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫روسيا ولو ناد ًرا‪ ،‬إال أننا بالتأكيد كنا‬ ‫مواطنا‬ ‫روسي قبيل شاطئ النيل أو نري‬ ‫‪86‬‬ ‫نسمع غناء روسي مجاعي للمرة األولي » ‪ .‬مل تكن بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‬ ‫الوحيدة املسافرة عرب نهر النيل يف ذلك الوقت ‪ .‬فقد تصادف وجود سفن أخري‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا تسنى للرحالة الروس مساعدتهم‪ .‬علي سبيل املثال‪ ،‬يف اليوم التالي من زيارة‬ ‫ورشة صناعة النسيج‪ ،‬حلق أفراد البعثة يف احلادي عشر من يناير يف أعالي النهر‬ ‫مركب القنصل الربيطاني «املتعثرة يف احلركة بسبب الرياح العكسية »‪.‬‬ ‫يذكر بارودين أن البعثة الروسية قدمت املساعدة للربيطانيني عن طريق « ر بط‬ ‫» مركبهم مبركب الروس‪ .87‬وقعت تلك األحداث قبل ستة سنوات من حرب القرم‪،‬‬ ‫اليت وقفت بريطانيا وروسيا فيها عدوين لدودين‪.‬‬ ‫ويف األربعينيات كانت العالقات مضطربة بني كال البلدين‪ ،‬فقد سعي‬ ‫اإلجنليز ملنع تقوية نفوذ روسيا يف مناطق كثرية بالعامل‪ .‬ولكن مل مينع ذلك‬ ‫الروس من تقديم املساعدة الضرورية للمركب الربيطانـي ‪ ،‬حال لقاء املركبني‬ ‫يف مصر البعيدة‪ .‬علي كل حال‪ ،‬مل تسر العالقات علي ما يرام بني “ي‪ .‬ب‪.‬‬ ‫كافاليفسكي” والقنصل الربيطاني ‪ .‬فقد وقع سوء تفاهم بسبب وجود رغبة‬ ‫شخصية لدي رئيس البعثة الروسية يف مساعدة الربيطانيني‪ .‬علي كل حال أرسل‬ ‫القنصل العام لروسيا يف مصر “أ‪ .‬م‪ .‬فوك” خطا ًبا من القاهرة بتاريخ ‪ 21‬يناير ‪1848‬‬ ‫إلي إجيور برتوفيتش‪ ،‬يقول فيه‪« :‬أشعر باألسف لعدم متكنكم من التفاهم‬ ‫مع القنصل العام الربيطاني‪ .‬أنه شخص لبق وحمرتم‪ ،‬وكل ما حدث بسبب سوء‬ ‫تفاهم‪ ،‬أو علي األرجح‪ ،‬بسبب خطأ خسرو بك‪ ،‬الذي نسي أخطاركم ‪ ،‬أنه‪ ،‬بطلب‬ ‫من القنصل اإلجنليزي‪ ،‬قد صدر ً‬ ‫أمرا من الباشا إلي مركبكم بسحب املركب‬ ‫الربيطاني حال التقائكم به واقتضي احلال لذلك »‪.88‬‬

‫طيبة‪ .‬األقصر‪ .‬الكرنك‬ ‫اكملت بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي طريقها عرب نهر النيل وقامت بزيارة‬ ‫مدينة طيبة األسطورية‪ ،‬واألقصر القدمية والكرنك‪ .‬يذكر إبرهام نوروف‪ ،‬الذي‬ ‫سبق بارودين ورفقائه إلي هذا املكان‪ ،‬اإلنطباع‪ ،‬الذي خلفته يف نفسه رؤية آثار‬ ‫‪ - 86‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.60 .‬‬ ‫‪ - 87‬أنظر‪ :‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس‬ ‫األول‪ .‬ملف ‪ .559‬ورقة ‪.11.‬‬ ‫‪ - 88‬ب‪ .‬أ‪ .‬فالسكايا‪ .‬ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي والمهندسون المصريون‪ ...‬ص‪.140 .‬‬ ‫‪92‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫مصر القدمية فجأة ‪« :‬مبجرد مرورنا أمام جزيرة العرازات‪ ،‬سرعان ما ظهر أمامي مبين‬ ‫عمالق خلف أشجار النخيل علي الشاطئ الشرقي‪ ،‬ومل أمتكن من وصفه ألن‬ ‫أشجار النخيل األستوائية العالية بدت أمامه كاألسل؛ كما ظهرت ورائه مسلتني‬ ‫أو ثالثة تشق عنان السماء‪ ،‬ورأيت ً‬ ‫صفا كاملاً من العواميد»‪.89‬‬ ‫كانت لتلك اآلثار الشهرية وقعها ً‬ ‫أيضا علي نفس إجيور بيرتوفيتش‬ ‫كافاليفسكي‪ ،‬الذي قرأ الكثري عنها‪ .‬واألكثر من ذلك‪ ،‬ساعده ذلك يف «‬ ‫التغلب علي شعوره بامللل »‪ ،‬حيث يذكر فيما بعد‪« :‬مل أكن أختيل‪ ،‬أن يدهشين‬ ‫ً‬ ‫حتفظا يف رأيه؛‬ ‫شيء هلذا احلد »‪ .90‬علي اجلانب اآلخر‪ ،‬كان بارودين أكثر‬ ‫حيث يوضح يف مذكراته أنه رمبا مسع ً‬ ‫شيئا عن هذه اآلثار‪ ،‬وخاصة‪ ،‬عن تاريخ‬ ‫ً‬ ‫متذكرا الوقت‪ ،‬الذي كانت‬ ‫طيبة اجمليد‪ .‬واستخدم بارودين اسم طيبة اجمليدة‪،‬‬ ‫فيه طيبة يف «أزهي عصورها»‪ .‬ولكن حني وصول بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‬ ‫ً‬ ‫إلي تلك املناطق ‪ ،‬كان إنطباع خبري التعدين األورالي عنها خمتلف ً‬ ‫وفقا‬ ‫متاما‪:‬‬ ‫ملا قاله إيفان تروفيموفيتش «فلم يبق من طيبة سوي بعض األطالل وبقايا اآلثار‬ ‫القدمية » ‪ .‬علي أية حال ‪ ،‬الزال خبري التعدين األورالي يتذكر تلك األطالل‪ .‬وقام‬ ‫بوصف أول ما رآه عام ‪ 1848‬يف مذكراته‪« :‬املسالت‪ ،‬ومتاثيل أبو اهلول‪ ،‬وكباش‬ ‫– معبد اآلهلة القدمية ومعابد الفراعنة‪ .‬بقت ثالثة فقط من املسالت علي حالتها‬ ‫بطول حتى سبعة ساجني وعرض حتى أربعة أرشني (مقياس روسي قديم يساوي‬ ‫‪ 71‬سنتمرت)‪ .‬هناك متثال عمالق مقطوع الرأس من اجلرانيت اخلالص‪ .‬كل هذا‬ ‫تهدم متا ًما اآلن إما علي يد البشر أو بفعل الزمن»‪ .91‬بدأ سكان طيبة احملليون يف‬ ‫مضايقة «سياح» القرن التاسع عشر‪ ،‬الذين انزعجوا من سلوكهم املتطفل‪ .‬ومل‬ ‫ينج القنصل الربيطاني من تلك املضايقات‪ ،‬خاصة وإن هيئته توحي بأنه صاحب‬ ‫منصب كبري وميسور احلال‪ .‬أثناء عودته إلي مركبه بعد زيارة بعض املعامل‪،‬‬ ‫أدركه حشد من الناس ‪ .‬يصف إيفان بارودين هذا املشهد املضحك بسخرية وذهول‪:‬‬ ‫« يلعبون ‪ ،‬ويسريون بلعب أطفال يف أكمامهم‪ .‬يرقصون بشكل غريب‪ ،‬لدرجة‬ ‫أن من الصعب متييز تقلبات الوجه من ثين اجلسم‪ ...‬حتى أنه (أي القنصل – تعليق أ‪.‬‬ ‫ف‪ .‬أنتوشني) سأم من رقصهم وغنائهم‪ ،‬ولذلك أمر بطردهم ً‬ ‫بعيدا عنه »‪.92‬‬ ‫‪ - 89‬أ‪ .‬نوروف‪ .‬المرجع األسبق‪ .‬ص‪.65 .‬‬ ‫‪ - 90‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.64 .‬‬ ‫‪ - 91‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.11.‬‬ ‫‪ - 92‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.11‬‬ ‫‪93‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫أسوان‬ ‫يف الثالث عشر من يناير بلغت بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي نقطة مهمة يف‬ ‫رحلتها عرب نهر النيل – مدينة أسوان‪ .‬استمدت املدينة أهميتها منذ القدم باعتبارها‬ ‫نقطة حدودية بني مصر وشعوب اجلنوب‪ .‬ولكن مل يلحق الرحالة الروس سوي أطالل‬ ‫حضارة أسوان القدمية‪ :‬بلغ إمجالي تعداد السكان يف املدينة ‪ 5‬آالف مواطن‪ ،‬كما‬ ‫كانت معظم املباني يف حالة مزرية ومهدمة تقريبًا‪« .‬ما مل حيصده وباء الطاعون‬ ‫وعوامل الزمن‪ ،‬حصدته غزوات النوبـيـني »‪ - ،‬هكذا كانت فلسفة رئيس البعثة‬ ‫ً‬ ‫حتديدا اضطر الرحالة الروس‬ ‫يف شرحه ألسباب تدهور مدينة أسوان‪ .‬يف مدينة أسوان‬ ‫ملغادرة مركبهم بسبب شالالت نهر النيل‪ .‬يف الظهرية كانوا مضطرين لشحن‬ ‫أمتعتهم علي اجلمال‪ .‬كانت درجة احلرارة عالية ً‬ ‫جدا أثناء الشحن‪ :‬يذكر إيفان‬ ‫بارودين « أن أرجلهم كانت حترتق داخل األحذية يف الرمال»‪ .‬الحظ خبري التعدين‬ ‫األورالي بعض الصور من حياة مرفأ أسوان‪ ،‬مما خفف من وطئة االنتظار‪ .‬أما املرفأ‬ ‫نفسه فبدي له « خميبًا لألمال »‪.‬‬ ‫فقد أثار إعجابه مشاهدة «البحارة املهرة»‪ ،‬الذين كانوا يناورون وسط األحجار‬ ‫الكبرية يف النهر‪ .‬سرعان ما أدرك بارودين مدي صعوبة عملهم‪ ،‬مبا أنهم كانوا‬ ‫مضطرين لقيادة املركب حتى « ال تغرق وسط الكاتاراكت (الشالل – إشارة أ‪.‬‬ ‫ف‪ .‬أنتوشني )»‪ ،‬الذي كان قريبًا ً‬ ‫جدا من هذا املكان‪ :‬حتى أن « صوت خرير املياه »‬ ‫ً‬ ‫مسموعا‪.‬‬ ‫كان‬ ‫ولكن مل يكتف “إيفان تروفيموفيتش” فقط بالوقوف علي مرفأ أسوان ملراقبة‬ ‫شحن األمتعة علي اجلمال‪ .‬فقد قام جبولة يف املكان‪ ،‬وتفقد معامل املنطقة‪ .‬ومر‬ ‫علي «حماجر امللوك القدامي»‪ ،‬ورأي مسلة قدمية من اجلرانيت‪ .‬من املدهش أن خبري‬ ‫التعدين ‪ ،‬الذي طاملا استهوته مثل تلك التفاصيل التقنية‪ ،‬قام بالتحقق من قياسات‬ ‫املسلة (طول – ‪ 24‬أرشني‪ ،‬وعرض – أربعة ونصف)‪ .‬اضطر إيفان بارودين لإلعرتاف‬ ‫ً‬ ‫مستحيال رؤية السمك من‬ ‫بكل أسف أن نتائج قياساته تقريبية‪ ،‬مبا أنه «كان‬ ‫الطرف اآلخر (للمسلة – تعليق أ‪ .‬ف‪ .‬أنتوشــني ) بسـبـب هبــوب الرمـال »‪ .‬كان‬ ‫ً‬ ‫موجودا بالقرب من املسلة جلمود صخر ُرمست عليه صورة فرعون جالس علي عرشه‬ ‫ً‬ ‫ويأمر شعبه‪ .93‬ونالحظ أن اآلثار القدمية يف ضواحي أسوان تركت ً‬ ‫كبريا‬ ‫أثرا‬ ‫وقتها علي نفس أ‪ .‬نوروف‪ .‬يصرح الرحالة الروسي يف الثالثينيات بعد تفـقد معـامل‬ ‫‪ - 93‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.12.‬‬ ‫‪94‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫املديـنة ‪« :‬كم هي رائعة ختوم مصر! على الشاطئ الشرقي يرتفع جلمود جرانييت‬ ‫مغطي بأنقاض سيينا القدمية وأسوان احلالية؛ وعلي الشاطئ الغربي يوجد جبل‬ ‫وعليه قلعة جوبا املهدمة»‪.94‬‬ ‫بعد شحن األمتعة استكمل أعضاء بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي طريقهم‬ ‫حبرص‪ .‬يذكر إيفان تروفيموفيتش «أنهم كانوا مضطرين للمرور بني اجلبال أمام‬ ‫الصخور البارزة من املياه»‪ .95‬وبالطبع يتذكر بارودين ً‬ ‫جيدا شالالت النيل الشهرية‬ ‫(أو كما يطلق املصريون أنفسهم عليها‪« ،‬الكاتاراكت»)‪ .‬ويف وصفه هلذا املنظر‬ ‫الطبيعي‪ ،‬يوضح خبري التعدين شكل هذا املشهد لقراء مذكراته احملتملني (وهم‬ ‫ليسوا مصريني بالتأكيد)‪« :‬يف هذا املكان تتالقى كتلتني جبليتني ً‬ ‫سويا‪،‬‬ ‫وكان البد لنهر النيل أن يشق طريقه ليشكل صخور بارزة وشالالت»‪.‬‬ ‫مل تثر طبيعة املنطقة خميلة الرحالة الروس‪ ،‬حيث من النادر وجود نباتات هناك‪:‬‬ ‫«ال أثر لوجود غابات‪ - ،‬يذكر إيفان تروفيموفيتش‪ - ،‬تنمو احلشائش فقط علي‬ ‫شاطئ نهر النيل‪ ،‬وهي إما متيبسة‪ ،‬وإما تنمو وسط األحجار»‪ .96‬مل يري أعضاء‬ ‫البعثة سوي أشجار النخيل‪ ،‬املمتدة علي طول نهر النيل‪.‬‬

‫جزيرة فيلة‬ ‫يف الطريق رأي الرحالة املعابد القدمية‪ ،‬واليت يقع أحداها يف جزيرة فيلة وسط‬ ‫نهر النيل علي بعد ‪ 5‬كيلومرتات أعلي مدينة أسوان‪ .‬استفاض أ‪ .‬أي‪ .‬بريم –‬ ‫عامل الطبيعة األملاني الشهري وصاحب كتاب « حياة احليوانات » يف وصف هذا‬ ‫املكان بصورة رومانسية‪ « :‬وسط الطوب واحلجارة املتناثرة » « تربز جزيرة فيلة‬ ‫اخلضراء بأشجار النخيل وأطالل املعابد‪ .‬ألول وهلة تبدو كالقلعة الساحرة»‪ .‬من‬ ‫الغريب استخدام إبرهام نوروف مثل هذا الوصف‪ ،‬وخاصة إذا أخذنا يف اإلعتبار عدم‬ ‫إتفاقه يف الرأي مع أ‪ .‬أي‪ .‬بريم؛ فنراه يصف اجلزيرة «بالساحرة»‪ ،‬قائال‪« :‬ال توجد‬ ‫صورة أكثر ً‬ ‫سحرا ونقا ًءا يف أي مكان مثل اليت تراها يف جزيرة فيلة‪ .‬إذا أردنا أن‬ ‫ً‬ ‫نعطيها حقها يف الوصف‪ ،‬فالبد أن نستوحى صورا من أعمال أرسطو ودانيت ‪ .‬حيطم‬ ‫‪ - 94‬أ‪ .‬نوروف‪ .‬المرجع األسبق‪ .‬ص‪.151 .‬‬ ‫‪ - 95‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.12.‬‬ ‫‪ - 96‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.34‬‬ ‫‪95‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫النيل الثائر حواجز اجلرانيت‪ ،‬ويلقي الصخور بشكل عشوائي ‪ ،‬الواحدة أكرب‬ ‫من األخري »‪ .‬مل يكن نوروف أقل رومانسية يف وصفه حلظة مغادرته هلذه اجلزيرة‬ ‫بعيدا ‪ - ،‬يذكر ً‬ ‫ً‬ ‫الحقا‪ - ،‬كلما بدت صفوف العواميد‬ ‫الرائعة ‪ « .‬كلما أحبرنا‬ ‫أكثر روعة وانتصبت الصروح اهلرمية ً‬ ‫عاليا‪ .‬ومع حركة املركب كانت الصخور‬ ‫ً‬ ‫أشكاال خيالية خمتلفة‪ ،‬وتبدو كمخلوقات خارقة‪ ...‬ولكن مبجرد‬ ‫احلزينة تتخذ‬ ‫أن الح يف األفق أول شعاع للشمس‪ ،‬بدأ ضباب الفجر يف التالشي مثل الشهاب»‪.97‬‬ ‫ً‬ ‫مدهشا أن تبقي جزيرة فيلة يف ذاكرة بارودين لفرتة طويلة ‪ .‬فقد‬ ‫وهلذا ليس‬ ‫خصص جزء كبري من مذكرات خبري التعدين األورالي لوصف معابدها‪ .‬علم إيفان‬ ‫تروفيموفيتش بارودين ‪ ،‬علي ما يبدو ‪ ،‬من حواره مع ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي ‪ ،‬أن‬ ‫املعبد املوجود يف جزيرة فيلة مت بناءه قبل ‪ 2000‬عام من ميالد املسيح‪ً ،‬‬ ‫وخصص‬ ‫ً‬ ‫تأكيدا علي‬ ‫ألحد آهلة مصر القدمية (اإلله إيزيس)‪ .‬وبدوره يشري أ‪ .‬أي‪ .‬بريم‪،‬‬ ‫أهمية هذا املكان بالنسبة للمصريني القدماء‪ ،‬أن أسرة إيزيس استمرت يف ذلك‬ ‫املكان أثناء انتشار املسيحية يف جنوب مصر‪.98‬‬ ‫مل تكن هناك أية بقايا للمعبد حلظة وصول البعثة الروسية إلي املنطقة‪.‬‬ ‫«ولكن من اجليد رؤية شكل املباني» ‪ ،-‬كما أشار إيفان تروفيموفيتش‪.‬‬ ‫كان خبري األورالي معجبًا حبرفية البناءين يف العصور السحيقة‪ ،‬و«العمارة‬ ‫املتناسقة » اليت متيز «العصور القدمية»‪ « ،‬والعناء يف االرتقاء بها هلذا اإلرتفاع»‪.99‬‬ ‫كما انطبعت يف ذاكرة بارودين العديد من الرسومات علي حوائط املعبد‬ ‫واألعمدة‪ ،‬ورأي هناك عدة « شخصيات » من تاريخ مصر‪ .‬وكانت احلوائط‬ ‫مزرقشة بالرموز « اهلريوغليفية »‪ ،‬اليت مل يتسن للخبري األورالي قراءتها‪ُ .‬‬ ‫ونقشت‬ ‫علي األعمدة «طغريات خمتلفة األشكال »‪ .‬ويذكر بارودين أن األلوان اليت‬ ‫رمست بها اللوحات كانت زاهية‪ .100‬مع هذا قام السكان احملليون‪ ،‬كما أشار‬ ‫إيفان بارودين‪ ،‬بتجميع أنقاض حجارة املعبد لبناء عدة أكواخ منها علي‬ ‫اجلزيرة ‪ .‬عند بناء سد أسوان عام ‪ 1902‬غرق معبد إيزيس باإلضافة إلي مباني‬ ‫أخري يف جزيرة فيلة ‪ .‬ويف بداية السبعينيات من القرن العشرين مت نقلها إلي‬ ‫‪ - 97‬أ‪ .‬نوروف‪ .‬المرجع األسبق‪ .‬ص‪.180 ،162 .‬‬ ‫‪ - 98‬أ‪ .‬أي‪ .‬بريم‪ .‬رحلة عبر شمال شرق أفريقيا أو عبر البالد التي تقع تحت حكم‬ ‫مصر‪ :‬السودان‪ ،‬والنوبة‪ ،‬وسنار‪ ،‬وروسيرس‪ ،‬وكوردفان‪ .‬موسكو‪ .1958 ،‬ص‪.‬‬ ‫‪.83‬‬ ‫‪ - 99‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.12.‬‬ ‫‪ - 100‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.13‬‬ ‫‪96‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫جزيرة إجييليكا (علي بعد ‪ 500‬مرت من جزيرة فيلة ‪ .‬تعليق املرتجم) العالية‪.101‬‬ ‫مل تكتف البعثة‪ ،‬أثناء وجودها يف جزيرة فيلة‪ ،‬بتفقد املعبد القديم فقط من‬ ‫اخلارج‪ .‬فقد صعد الرحالة الروس إلي أعلي املعبد (علي الرغم من خطورة تسلق املعبد‬ ‫املهجور) لإلستمتاع برؤية الضواحي القريبة‪ .‬برزت علي اجلانب الغربي من اجلزيرة‬ ‫جلمود صخر فوق النهر باإلضافة إلي جبل شاهق ‪ .‬ويف الغرب ينكشف مشهد وادي‬ ‫صغري‪ .‬كما وقعت أعني أعضاء البعثة علي قري صغرية يسكنها فالحون‪ .‬كما‬ ‫انطبعت يف ذاكرة خبري التعدين األورالي حياة املصريني البسيطة ‪« :‬علي جانب‬ ‫الشاطئ توجد عروش شجر النخيل‪ ،‬وداخلها منازل صغرية أو جمرد أكواخ‪ ،‬وعنابر‬ ‫من الطوب بال أناقة»‪ .102‬يعم املكان اهلدوء والسكينة‪ ،‬وال يسمع سوي «صوت‬ ‫مياه النيل املنهمرة بهدوء »‪ - ،‬يذكر بارودين‪ .‬كما تركت بساطة سكان‬ ‫املنطقة وأسلوب حياتهم املتواضع أثره البالغ يف نفوس الرحالة الروس اآلخرين‪ ،‬الذين‬ ‫أحبروا عرب تلك املناطق‪ .‬والزال “أ‪ .‬س‪ .‬نوروف” يتذكر األسرة النوبية البسيطة‪،‬‬ ‫اليت رآها يف هذا املكان‪« :‬جينون قوت يومهم من قطع صغرية من األراضي الرملية‬ ‫تغطيها طبقة رقيقة من الطمي‪ُ ،‬يري فيها فسيلة من حصاد الذرة»‪ .103‬كان صعبًا‬ ‫عليه أن يطلق علي مساكن السكان احملليني قري‪ :‬فعلي حد تعبريه ‪ ،‬فهي‬ ‫تذكره ألول وهلة باملخيم‪ .‬كانت املنازل ملتصقة إما بإحدي األنقاض‪ ،‬أو بشجرة‬ ‫خنيل ‪ ،‬أو بإحدي الصخور‪ .‬كان الرجال يسريون عراة متا ًما‪ ،‬فقد كانوا يرتدون‬ ‫شئ ما علي هيئة حزام؛ وكانوا مسلحني حبراب‪ ،‬وأقواس وتروس ُمغلفة جبلد فرس‬ ‫النهر أو وحيد القرن ‪ .‬النساء تتحرك وهي ترتدي «أغطية»‪ ،‬ولكن حتى الفتيات‬ ‫ً‬ ‫حزاما تتدلي منه شرائط ‪ .‬عرب شاطئ نهر النيل‬ ‫– البالغات كانوا يرتدون فقط‬ ‫قاموا بزراعة أحواض من الذرة والرتمس‪ .‬يتميز النبات األخري بأزهاره الزرقاء الشبيهة‬ ‫بأوراق نبات الفول‪ ،‬وحبوبه املرة‪ ،‬اليت كان السكان احملليون يصنعون منها زيوت‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا حيولون احلبوب إلي‬ ‫يدهنون بها أجسادهم ويستخدمونها إلنارة املصابيح‪،‬‬ ‫دقيق لصناعة اخلبز‪.‬‬

‫خطوط االستواء‬ ‫يعترب يوم اخلامس عشر من يناير عالمة فارقة يف طريق البعثة عند إحدي‬ ‫النقاط علي نهر النيل‪ .‬ويبدو أن مجيع الرحالة الروس ال يزالون يتذكرونها‪ :‬وهلذا‬ ‫‪ - 101‬يعبر الكاتب عن شكره لف‪ .‬ف‪ .‬بيليكوف علي تقديمه تلك المعلومة‪.‬‬ ‫‪ - 102‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.13.‬‬ ‫‪ - 103‬أ‪ .‬نوروف‪ .‬المرجع األسبق‪ .‬ص‪.192 .‬‬ ‫‪97‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫ليس من قبيل الصدفة أن يتذكر إيفان بارودين وري‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي هذا‬ ‫اليوم‪ ،‬الذي عربت فيه البعثة خط اإلستواء‪ .‬حدث ذلك بالقرب من قرية كاالبشا‪.‬‬ ‫وبالطبع قام رئيس البعثة ‪ ،‬الذي علم منه خبري التعدين هذا احلدث‪ ،‬بتقدير املوقف‬ ‫ووضع اإلحداثيات ‪ ،‬اليت كانت فيها البعثة (‪ 23‬درجة ‪ 37‬دقيقة ‪ 44‬ثانية)‪ .‬كان‬ ‫هناك بعض األنقاض جبوار القرية‪ ،‬وبالقرب شوهد مدخل مغارة كبرية‪ .‬يا له‬ ‫من مكان بديع‪ ،‬مل مينع من التأثر به حتى الشمس‪ ،‬اليت لفحت وجوه أفراد البعثة‬ ‫بصورة ال حتتمل ‪ .‬وتذكر إيفان بارودين السكان احملليني – الربابرة‪« :‬بشرتهم‬ ‫أقرب إلي اإلمسرار ويتكلمون بلغة خاصة »‪ .104‬ويف السابع عشرة من يناير رأي‬ ‫ً‬ ‫معبدا آخر علي الشاطئ الغربي لنهر النيل ‪ ،‬ولكنه كان حبالة جيدة‪،‬‬ ‫الرحالة‬ ‫‪105‬‬ ‫علي حد قول إيفان تروفيموفيتش‪« :‬كانت األبواب واهليكل علي حالتها» ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫سهال تفقد هذا البناء القديم‪ ،‬مبا أنه كان مغطي بالرمال بارتفاع‬ ‫مل يكن‬ ‫ً‬ ‫اثنني ساجني تقريبًا‪ .‬فلنعرض ولو لبعض الوقت وصف األماكن ‪ ،‬اليت متكن‬ ‫أعضاء البعثة من رؤيتها أثناء رحلتهم ‪ ،‬وحناول اإلجابة علي السؤال التالي ‪ :‬كيف‬ ‫كانت تبدو املركب ‪ ،‬اليت كان بارودين وكافاليفسكي ورفقائه يبحرون بها‬ ‫عرب نهر النيل؟ تساعدنا مذكرات “أ‪ .‬أي‪ .‬بريم” يف تفسري هذا األمر‪ .‬فقد كان‬ ‫ً‬ ‫مسافرا عرب مصر والسودان عام ‪ ،1847-1848‬تقريبًا يف نفس وقت محلة ي‪ .‬ب‪.‬‬ ‫كافاليفسكي (جرت الرحلة الثانية لعامل الطبيعة األملاني يف الفرتة بني عامي‬ ‫(‪ 1849‬و ‪ . )1852‬كان “أ‪ .‬أي‪ .‬بريم” يسري عرب نفس الطريق ‪ ،‬الذي سلكته‬ ‫البعثة الروسية ‪ ،‬مستخد ًما ً‬ ‫أيضا مراكب مشابهة ‪ ،‬واليت تركت أفضـل األثر يف‬ ‫نفس العامل األملاني ‪ « :‬من الصعب أن تتخيل رحلة أفضل من اليت تقوم بها علي منت‬ ‫مركب يف نهر النيل‪ ،‬وخاصة إذا ما كانت مزودة جبميع إحتياجاتك‪ ...‬تتمتع‬ ‫مجيع مراكب النيل بنفس الشكل ‪ .‬تشغل الكبينة أكثر من نصف طول‬ ‫املركب‪ ،‬بينما يعترب اجلزء املتبقي‪ ،‬الذي يرتفع عدة فوتات فوق مستوي الكبينة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مكانا حلفظ احلمولة ومأوي للبحارة ‪ .‬كما يبدو سطح املركب حتى منتصف‬ ‫الصارية ً‬ ‫متاحا أمام الركاب‪ :‬فتلك املسافة مغطاه بسقيفة ‪ ،‬ميكنك أن تشم‬ ‫من حتتها رائحة زكية وتستمتع برؤية املناظر حولك ‪ .‬يقع املطبخ عند الصارية‬ ‫األمامية‪ :‬وفيه كانون‪ ،‬أو موقد‪ ،‬حماط بصندوق خشيب للحماية من الرياح‪ .‬بني‬ ‫الصارية األمامية وصارية املنتصف مقاعد للتجديف‪ ...‬يف املعتاد كان هناك‬ ‫شراعني كبريين وآخر صغري علي منت الذهبية (املركب؛ والذي تعود أن يطلق‬ ‫‪ - 104‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.13.‬‬ ‫‪ - 105‬نفس المرجع‪.‬‬ ‫‪98‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫عليه بارودين «داجابيا» – تعليق أ‪ .‬ف‪ .‬أنتوشني )»‪ .106‬من الواضح أن اجلزء األكرب‬ ‫من رحالت البعثة الروسية عرب نهر النيل جرت علي منت تلك املراكب ‪.‬‬ ‫ويف الطريق عرب نهر أفريقيا العظيم ظهرت بعض حيوانات تلك املنطقة‪ .‬وبالطبع‬ ‫ً‬ ‫كثريا‬ ‫خلفت رؤية متساح النيل ذكريات ال ُتنسي ‪ .‬وكان رئيس البعثة قد قرأ‬ ‫من قبل عن هذا احليوان ‪ ،‬وهلذا‪ ،‬بعد رؤيته‪ ،‬تذكر السطور املكتوبة عن التمساح‬ ‫يف أعمال عامل اجلغرافيا الشهري جومبولد‪ ،‬والقصص املختلفة عن استئناس‬ ‫التماسيح‪ .107‬علي ما يبدو أن أفكار بارودين أخذت منحين آخر عندما رأي هذا‬ ‫ً‬ ‫متساحا علي‬ ‫الوحش ألول مرة يف ‪ 17‬من شهر يناير‪ .‬يذكر بارودين ‪ ،‬أن البحارة رأوا‬ ‫ُبعد‪ ،‬وأخربوا الرحالة الروس بذلك‪ .‬يف البداية كانوا ينظرون إليه لبعض الوقت عرب‬ ‫النظارة املُكربة‪ ،‬وبعد ذلك اقرتبوا منه أكثر‪ .‬كان التمساح ً‬ ‫راقدا فوق الرمال‬ ‫ً‬ ‫طائرا ُيدعى أبو منجل » ‪ .‬عندما اقرتب املركب‬ ‫وبالقرب منه « يقف كاحلارس‬ ‫من التمساح مبسافة قريبة ً‬ ‫جدا‪ ،‬ضرب الطائر «منخاره‪ ،‬كما لو كان حيذره‪ ،‬وهلذا‬ ‫انتصب التمساح واجته إلي املاء »‪ .‬يف تلك احلالة أقر إيفان تروفيموفيتش فقط «‬ ‫ً‬ ‫متساحا‪ ،‬علي الرغم أنه أشار إلي شعوره بالدهشة من رؤية « هذا‬ ‫حبقيقة رؤيته‬ ‫التنني املائي » ألول مرة‪.‬‬ ‫ولكن تشري مذكرات بارودين‪ ،‬أن خبري التعدين األورالي ظل مدة طويلة‬ ‫حيتفظ يف ذاكرته بصورة هذا احليوان ‪ .‬كلما حتركت املركب يف أعالي‬ ‫نهر النيل وعلي متنها أعضاء البعثة‪ ،‬كلما ازدادت أعداد التماسيح‪ .‬يف بعض‬ ‫األحيان كانوا يرون عشرة وحوش ملقاه يف مكان واحد‪ .‬ويذكر بارودين أن‬ ‫حجم البعض منها يصل إلي سبعة أرشني ‪ .‬تعلم “إيفان تروفيموفيتش” كيفية‬ ‫مالحظة السمات املميزة لتلك احليوانات ‪ ،‬وعاداتها ً‬ ‫ً‬ ‫«دائما وتطل‬ ‫أيضا‪ .‬فهي ترقد‬ ‫برأسها يف اهلواء ‪ ،‬فاغرة أفواهها‪ ،‬اليت ينسل داخلها طائر صغري »‪ .‬يف بعض األحيان‬ ‫أقبل الرحالة الروس علي «اللهو» «واللعب » مع تلك الوحوش العمالقة ‪ .‬حيث كانوا‬ ‫يقرتبون منها ويطلقون النار من أسلحتهم وهم علي سـطح املركـب ‪ .‬حـينها كـان‬ ‫التمساح « ينـطلق ‪ ،‬وهو بني احللم واليقظة‪ ،‬خبوف شديد يف املياه‪ ،‬ثم يرتفع إلي‬ ‫سطح املاء »‪ .‬وبعد أن يرتفع كان التمساح ينظر إلي املركب بعض الوقت ‪ « ،‬راغبًا‬ ‫ً‬ ‫شخصا من فوق سطح املركب»‪ .108‬علي‬ ‫يف اإلنتقام لشعوره باخلوف‪ ،‬بل وخطف‬ ‫‪ - 106‬أ‪ .‬أي‪ .‬بيرم‪ .‬المرجع األسبق‪ .‬ص‪.71 .‬‬ ‫‪ - 107‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.88-89 .‬‬ ‫‪ - 108‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.14.‬‬ ‫‪99‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫أية حال‪ ،‬كانت تلك األلعاب حمفوفة باملخاطر حلد كبري‪ ،‬ويف بعض األحيان‬ ‫كانت تنتهي نهاية سيئة‪ .‬حتقق خبري التعدين األورالي بأم عينيه من خماطر‬ ‫هذه الوحوش اإلفريقية ‪ « :‬ذات مرة اصطدم املركب مبكان ضحل ‪ ،‬كما ذكر‬ ‫اخلبري‪ ،‬وهلذا كان عليهم السباحة عرب اجلبال إلي اجلزيرة املقابلة من أجل سحب‬ ‫املركب‪ .‬وعندما بدأ أحد العرب يف السباحة‪ ،‬التقطه أحد التماسيح‪ ...‬ومبجرد أن‬ ‫مت ختليصه‪ ،‬تسبب التمساح يف جرح الكثريين‪ ...‬وعندما توقف أحد الزنوج يف‬ ‫سن الثانية عشر تقريبًا بالقرب من الشاطئ‪ ،‬وترك املقود من أجل التغوط‪ ،‬التقطه‬ ‫التمساح وسحبه‪ .‬ولقي األخري حتفه »‪.109‬‬

‫كوروسكا‬ ‫بعد يومني من رؤية البعثة للتمساح وقعت حادثة هامة يف التاسع عشر‬ ‫من يناير‪ .‬وصلت البعثة الروسية إلي الشاطئ التالي حيث انفصلت ً‬ ‫أيضا عن‬ ‫القنصل الربيطاني‪ .‬بعدما أصبحوا وحدهم‪ ،‬تزود أعضاء البعثة بالطعام واملاء‬ ‫يف أحد املناطق السكنية – يف قرية كوروسكو‪ .‬يبدو أن بعثة “أ‪ .‬أي‪ .‬بريم”‬ ‫وصلت يف ‪ 24‬من أكتوبر عام ‪ 1847‬إلي قرية كوروسكو قبل وصول بعثة‬ ‫كافاليفسكي بعدة أشهر‪ .‬واألكثر من ذلك هو التشابه املثري للدهشة‪ :‬فقد‬ ‫صادف عامل الطبيعة األملاني وجود فرقة من «عمال املناجم» ‪ ،‬الذين كانوا‬ ‫متوجهني‪ ،‬بتكليف من حممد علي‪ ،‬لبناء نفس ورشة غسل الذهب يف كاسان‪،‬‬ ‫اليت سرعان ما ستتوجه إليها بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي! ويف اللحظة اليت وصل‬ ‫فيها أ‪ .‬أي‪ .‬بريم إلي كوروسكو‪ ،‬كان هؤالء العمال متواجدين منذ ثـمانية‬ ‫عشر ً‬ ‫يوما هناك يف انتظار اجلمال للتوجه عرب الصحراء إلي املمر اخلطري‪ .110‬بال‬ ‫ً‬ ‫أدني شك‪ ،‬يوجد من بني هؤالء العمال أشخاصا تعرف عليهم “إيفان بارودين”‬ ‫ً‬ ‫شخصيا‪ ،‬بل ومن سيساعدونهم يف استخراج الذهب‪.‬‬ ‫و “ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي”‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حزينا‬ ‫انطباعا‬ ‫كانت كوروسكا علي ما يبدو قرية صغرية‪ ،‬بل وتركت‬ ‫يف نفس خبري التعدين األورالي‪ .‬يذكر أيفان بارودين ً‬ ‫الحقا‪ ،‬أن هذه «املدينة » ‪«:‬‬ ‫عبارة عن أكوام من الطوب اجملمع دون أي تنسيق»‪ .‬كانت كوروسكا تتكون‬ ‫من عدة قري صغرية داخل ظالل عروش النخيل‪ .‬وليس صدفة أن يتوقف “أ‪ .‬بريم”‬ ‫وفريق “ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي” يف هذا املكان‪ :‬فقد كانت القوافل تتوافد إلي‬ ‫‪ - 109‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.13-14‬‬ ‫‪ - 110‬أنظر‪ :‬أ‪ .‬أي‪ .‬بريم‪ .‬المرجع األسبق‪ .‬ص‪.84 .‬‬ ‫‪100‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫هذا املكان من املناطق الداخلية ألفريقيا السوداء ‪ .‬كانت جتارة ريش النعام إحدي‬ ‫أهم السلع الرائجة هناك‪ .‬وبالقرب من كوروسكا بإمكانك رؤية العديد من آالت‬ ‫ً‬ ‫يوميا‪ .‬وكان صرير عجالت تلك اآلالت‬ ‫الري‪ ،‬اليت كانت تعمل يف أوقات الليل‬ ‫يزعج معظم أعضاء البعثة‪ ،‬الذين توقفوا يف القرية للمبيت بعد تنقالتهم الشاقه‪.‬‬ ‫يذكر بارودين ‪ ،‬أن مسئولوا اإلدارات احمللية قدموا العون للبعثة‪ ،‬اليت حتركت‬ ‫بتوصية من حممد علي ‪ .‬فقد ساقوا اجلمال إلي مكان لقاء فرقة كافاليفسكي‪،‬‬ ‫وملئوا له أكياس املياه ‪ ،‬كما أعطوا هلم كميات من اخلبز للطريق ‪« .‬كان‬ ‫احملافظ يهرول ويدبر األمور بنفسه»‪ ،‬علي حد قول إيفان تروفيموفيتش‪ .‬مع هذا‬ ‫ً‬ ‫كثريا عن‬ ‫الحظ خبري التعدين األورالي أن ممثل اإلدارة احمللية مل يكن خيتلف‬ ‫سكان القرية البسطاء‪« :‬كان يرتدي سرتة من التيل األبيض ‪ ،‬وسراويل واسعة‪،‬‬ ‫وحيمل ً‬ ‫سيفا يف جانبه»‪ .‬كان يرتدي طربوش أمحر علي رأسه‪ ،‬وميسك يف يده‬ ‫دواة حرب حناسية وقصاصة ورق‪« :‬بالتأكيد‪ ،‬من أجل تسجيل أوامره »‪ ،‬كما‬ ‫كان يظن خبري التعدين األورالي‪.‬‬ ‫تقدم مذكرات خبري التعدين األورالي إطاللة علي نظام إدارة احملليات يف‬ ‫مصر إبان عهد حممد علي‪ُ .‬دعي أعضاء بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي إلي «منزل‬ ‫ً‬ ‫تعبريا عن املبين‪ ،‬الذي كان رئيس‬ ‫احملافظ»‪ ،‬وهو املصطلح الذي استخدمه بارودين‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫متهكما‪« :‬يطلقون عليه‬ ‫متواجدا فيه‪ ،‬والذي يشري إليه‬ ‫إدارة السلطة احمللية‬ ‫منزل احملافظ»‪ ،‬ولكنه ال يشبه أية مقرات أخري‪ .‬فهو عبارة عن خمازن برية من‬ ‫الطوب‪ ،‬مدهونة بالطني وبدون شبابيك‪ ،‬كما أن األبواب مغطاه بقماش مسيك‬ ‫منسوج من أوراق شجر النخيل‪ ...‬وبدل من املوبيليا ُصممت أقفاص من الطمي ووضع‬ ‫فوقها القماش السميك»‪ .‬بدل من السقف ُغطي املنزل بنفس األقمشة املصنوعة من‬ ‫شجر النخيل‪ ،‬اليت كانت خمصصة للنجاة من احلروق‪ ،‬مبا أن األمطار نادرة يف هذا‬ ‫املكان‪ .‬أثار مدخل «منزل احملافظ» اندهاش خبري التنقيب عن الذهب األورالي‪ ،‬الذي‬ ‫تأقلم علي حياة ممثلي السلطات احمللية يف زالتؤوست‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مرتمجا باللغة‬ ‫كان «احملافظ» يتحاور مع “ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي” عرب‬ ‫الفرنسية ‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬كما ذكر بارودين‪ « ،‬قدموا لنا فنجان قهوة‪ ،‬ومل يتسن لنا‬ ‫رؤية زوجاته»‪« .‬كنا جنلس يف غرفة االستقبال‪ ،‬ال توجد بها أبواب مفتوحة علي‬ ‫الغرف األخرى»‪ .111‬مل يقتصر األمر علي ذلك فقط‪ .‬فقد كان “إيفان تروفيموفيتش”‬ ‫يعلم أنه من غري املقبول لدي الشعوب اإلسالمية اختالط السيدات حبرية مع الرجال‬ ‫‪ - 111‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.15.‬‬ ‫‪101‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫الغرباء‪ .‬فقد كان يدرك ً‬ ‫جيدا «أنه من املستحيل رؤية الزوجات‪ ،‬فهم خيفونهم عن‬ ‫أنظار الناس »‪.‬‬

‫صحراء النوبة‬ ‫ً‬ ‫طويال‪ .‬علي ما يبدو أن املسافرون بانتظار أصعب‬ ‫يبدو أن فرتة الراحة مل تستمر‬ ‫جزء يف رحلتهم عرب صحراء النوبة الشاسعة‪ .‬يف العشرين من شهر يناير قاموا بشحن‬ ‫اجلمال‪ ،‬ويذكر بارودين‪ « :‬مرت قافلتنا عرب طرق متعرجة بني اجلبال وحيت‬ ‫الصحراء‪ ،‬حيث تقضي مسرية تسعة أيام ‪ ،‬ال تري فيها ماء وال عشب وال غابة‪ ،‬بينما‬ ‫تري جبال سوداء قاحلة ورمال حترتق من الشمس »‪.112‬‬ ‫الزال مجيع أعضاء البعثة يتذكرون التسعة أيام كاملة ‪.‬‬ ‫حيت رحالة خبري مثل ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي يصف بشكل بديع الصعوبات‬ ‫‪ ،‬اليت واجهتهم عندما جتاوزوا الصحراء ‪ ،‬وكيف كان السراب يالحقهم‪ .‬وباملثل‬ ‫يروي اخلبري عن الرياح الرهيبة اليت حلقت بهم‪ ،‬وكيف تعذبوا من الظمأ طيلة هذه‬ ‫األيام ‪« .‬مل أري ً‬ ‫ً‬ ‫متذكرا صحراء‬ ‫شيئا يف حياتي أصعب من ذلك!» ‪ -‬يقول اخلبري‪،‬‬ ‫النوبة الشاسعة‪.113‬‬ ‫إذا كانت تلك هي انطباعات ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪ ،‬الذي عرب مسالك صحراء‬ ‫وسط آسيا‪ ،‬فكيف ميكننا تصور مدي صعوبة هذه األيام علي بارودين ‪ .‬يبدو‬ ‫أن مذكراته توضح‪ ،‬أنه حتى يف أحلك أيامه مل ينس‪ ،‬أنه‪ ،‬قبل أي شيء‪ً ،‬‬ ‫خبريا يف‬ ‫التعدين‪ .‬وهلذا مل ختل مذكراته من وصف صخور اجلبال املختلفة‪ ،‬اليت رأوها علي‬ ‫السطح‪ .‬وظهرت أمام أعضاء البعثة الكثري منها بعد أن بلغوا منطقة جبلية يف‬ ‫اليوم الرابع واخلامس من رحلتهم عرب الصحراء‪ .‬يذكر إيفان تروفيموفيتش رؤيتهم‬ ‫«صخر ديوريت أخضر» وحجر رخو وحجر احلية وحجر الصوان‪ .‬كما متكنوا‬ ‫من رؤية صخور الكوارتز بألوانه املختلفة‪ .‬والحظ خبري التعدين أنواع خمتلفة‬ ‫من اجلرانيت‪ .‬أثار كل ذلك اهتمام خبري منطقة تعدين زالتؤوست‪ ،‬الذي يشتهر‬ ‫بإقتنائه الصخور النادرة من مجيع أحناء اإلمرباطورية الروسية‪ .‬وحيت الظروف‬ ‫العصيبة أثناء التنقل عرب الصحراء النوبية مل حتل دون اهتمام اخلبري األورالي‬ ‫باألشكال املتنوعة حلفريات املنطقة الصاحلة‪.‬‬ ‫‪ - 112‬نفس المرجع‪.‬‬ ‫‪ - 113‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.93 .‬‬ ‫‪102‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫وفيما بعد انطبعت يف ذاكرة خبري التعدين األورالي جبال املنطقة ‪« -‬مرتفعات‬ ‫ً‬ ‫يدويا من كل اجلوانب»‪ .‬يتكون الوادي يف‬ ‫مستديرة»‪« ،‬تبدو كأنها مصقولة‬ ‫األساس من أحجار رملية‪ ،‬كما لو كانت متهد الطريق للرحالة‪« :‬تسري عرب الطريق‪،‬‬ ‫بينما يصدر صوت عويل من الفراغ »‪ ،‬علي حد ذكر إيفان تروفيموفيتش‪ .‬علي‬ ‫الرغم من هذا املوقف‪ ،‬إال أن خرباء التعدين الروس كانوا جيرون جتار ًبا يف حماولة‬ ‫الكتشاف خمابئ املعادن النفيسة يف تلك املنطقة ‪ .‬وهلذا قرروا جتربة نظرية‬ ‫عامل اجليولوجيا الربيطاني سالف الذكر “ر‪ .‬مورشيسون” ‪ ،‬اليت تؤكد أن ظهور‬ ‫ً‬ ‫دليال علي وجود مكامن حتوي علي كميات كبرية من‬ ‫الطبقات الربكانية‬ ‫املعدن ‪ ،‬وخاصة يف مناطق تالقي تلك الصخور مع الطبقات الرسوبية‪ ،‬واليت خترج‬ ‫من خالهلا إلي السطح‪ .‬من املفرتض أن مناطق إلتقاء بعض الطبقات الرسوبية‬ ‫واملعادن النفيسة تنتشر يف مكامن رواسب الذهب وكذلك املكامن الناجتة‬ ‫عن االنهيارات ‪ .‬أخذ اخلرباء الروس القليل من الرمال يف منديل جيب أثناء تواجدهم‬ ‫يف املنطقة اجلبلية من أجل غسلها باملاء عند وصوهلم إلي البئر بعد ذلك ‪.‬واصل‬ ‫أعضاء احلملة دراستهم املتأنية لطبقات اجلبال ‪ .‬وقبل الوصول إلي آبار (املورات)‬ ‫بيومني ‪ ،‬انتبهوا إلي أن طبقات صخور التلك تتفتت بواسطة صخور الديوريت‬ ‫و الصخور الربكانية املتفرقة ‪ ،‬واليت حتولت إلي صخور أرجوان وصخور احلية‬ ‫ً‬ ‫وتدرجييا أخذت اجلبال احمليطة بالرحالة يف اإلرتفاع أكثر وأكثر‪.‬‬ ‫وسيانيت‪.114‬‬ ‫يف اخلامس والعشرين من يناير وصلت البعثة ً‬ ‫أخريا إلي البئر ‪ « :‬مل تكن املياه‬ ‫ً‬ ‫كثريا‪ ،‬وعلي الرغم من إنبعاث الروائح ولونها املائل للخضار‪ ،‬إال أنها‬ ‫يف البئر سيئه‬ ‫كانت صاحلة للشرب»‪ ،‬كما ذكر إيفان تروفيموفيتش‪ .‬كان فريق ي‪ .‬ب‪.‬‬ ‫راضيا ً‬ ‫ً‬ ‫متاما عن تلك املياه بعد تلك الرحلة الشاقة‪ .‬ومع إرهاقه من‬ ‫كافاليفسكي‬ ‫مسرية الصحراء‪ ،‬أثار اهتمام إيفان تروفيموفيتش مقاييس هذا البئر‪ .‬وأوضح أن عمق‬ ‫البئر كان يبلغ ثالثة أرشني (‪ 71‬سنتمرت‪ .‬تعليق املرتجم) ونصف‪ .‬ومت حفر البئر يف‬ ‫وهدة متتد بني اجلبال بطول سبع فرستا (‪ 1060‬مرت‪ .‬تعليق املرتجم ) ‪ .‬كما انكشف‬ ‫منظر طبيعي للصحراء يف اجلوار‪ .‬ومن وقت آلخر ميكنك رؤية أشجار (امليموزا)‪ .‬عند‬ ‫رؤية هذه الصورة تداعت األفكار الطريفة يف رأس إيفان تروفيموفيتش ‪ « :‬كما‬ ‫لو كانت األشجار مزروعة وقت العيد أمام املنازل يف الساحة »‪ .‬وبني اجلبال ميتد‬ ‫وادي نظيف منوذجي – فال شائبة باملكان‪ ،‬حيث تزيل رمال الصحراء كل شيء ‪.‬‬ ‫بالقرب من البئر متكن الرحالة الروس من أخذ ً‬ ‫قسطا من الراحة من عناء الطريق‬ ‫ً‬ ‫مندهشا أثر تعامله ألول مرة مع تلك‬ ‫وروي اجلمال‪ .‬كان خبري التعدين األورالي‬ ‫‪ - 114‬أنظر‪ :‬ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪ .‬حوض النيل‪ ...‬ص‪.83 .‬‬ ‫‪103‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫احليوانات اليت ال غين عنها يف الصحراء‪« :‬أنها حيوانات صبورة لدرجة أنا تسري مخسة‬ ‫أيام دون شرب »‪ .‬ويف هذا املكان التقت بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي بقافلة‬ ‫كبرية‪ ،‬وبها ما يقرب من ‪ 80‬مجل‪ .‬اقرتب أصحاب القافلة من البئر علي أقدامهم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫واحدا»‪ ،‬يتلفحون به ً‬ ‫دائما‪.‬‬ ‫«قماشا‬ ‫ومجاهلم احململة باملتاع ‪ ،‬وكانوا يرتدون‬ ‫وكانوا يتسلحون بسيف «ذو شفرتني» ورمح‪ .‬وعلي حد وصف بارودين ‪ ،‬فلطاملا‬ ‫ظهرت فوائد هذا السالح يف باقي الطريق ‪ .‬فقد منا إلي علمه ‪ ،‬أن القوافل ً‬ ‫دائما ما‬ ‫كانت تتعرض هلجوم قطاع الطرق‪ .‬مع هذا يشري خبري التعدين األورالي «أن هذا‬ ‫األمر مل حيدث معهم »‪ .‬وبعد الوصول إلي البئر بدأ التجار يف التزود باملياه واستعادة‬ ‫قواهم لباقي رحلتهم‪.‬‬ ‫وكما جرت العادة يف الصحراء‪ ،‬كان البئر مصدر حياة املنطقة بأكملها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫فدائما ما كان الناس يسعون للسكن حوله‪ .‬ولكن يف تلك املناطق كان من‬ ‫الصعب بالطبع توفري الطعام إلعداد كبرية من الناس‪ .‬يكتب بارودين ‪« :‬توجد‬ ‫ثالثة عرائش بدوية بالقرب من البئر‪ .‬وعندما دخلت إلي إحداها‪ ،‬كان األطفال‬ ‫كلهم عراه ومل أري عليهم أي مالبس‪ ...‬مل أري من قطيعهم سوي ما يقرب من مخسة‬ ‫ماعز حنيلة وال يظهر منها تقريبًا سوي العظام ‪ ،‬وال توجد أعشاب لتقتات منها »‪.115‬‬ ‫وقد أثار اندهاش خبري التعدين األورالي جمرد حقيقة وجود حياة يف هذا املكان‬ ‫وسط الصحراء النوبية‪ .‬وهلذا سأل خبري التعدين مرتمجه‪ ،‬علي ماذا يقتات هؤالء‬ ‫ً‬ ‫وخالفا هلذا‪ ،‬إذا مرض‬ ‫الناس‪ .‬أجابه املرتجم ‪ « :‬يقتاتون من عطاءات القوافل املارة »‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مميتا)‪ « ،‬يستقبله‬ ‫خطرا‬ ‫أحد األشخاص يف القافلة (مما يعترب يف تلك الظروف‬ ‫السكان بالقرب من البئر ملداواته »‪.‬‬ ‫استغل أعضاء البعثة وجودهم عند البئر ليكملوا جتاربهم‪ .‬عندما جرت عملية‬ ‫غسل الرمال‪ ،‬مت اكتشاف أجزاء دقيقة من الذهب‪ ،‬مما يعترب دليال ً‬ ‫بينا علي توافر‬ ‫خمابئ املعدن النفيس يف تلك املنطقة‪ .‬ولكن كانت مشكلة أعضاء البعثة‬ ‫الروسية تكمن يف إدراكهم اجليد أن استغالل تلك املناجم يف الصناعة صعبًا ً‬ ‫جدا‪.‬‬ ‫يقول إيفان بارودين ً‬ ‫آسفا‪« :‬لألسف ال توجد مياه بالقرب ‪ ،‬وال ميكن استعماهلا‬ ‫ألنها صعبة املنال»‪ .116‬إرتأي بارودين أنه جبانب عدم توافر املياه‪ ،‬فإن نقص األخشاب‬ ‫ً‬ ‫حائال دون تطوير صناعة استخراج الذهب يف تلك املنطقة ‪ .‬فال‬ ‫واألعشاب وقف‬ ‫تبدو علي املنطقة «أي مظهر من مظاهر احلياة»‪ .‬كان خبري التعدين األورالي يدرك‬ ‫‪ - 115‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.15.‬‬ ‫‪ - 116‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.15‬‬ ‫‪104‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫أن غياب مصادر املياه‪ ،‬ووسائل املواصالت البدائية أدت إلي بقاء الذهب‪ ،‬الذي كان‬ ‫ً‬ ‫«كنزا خمبًأ حتت األرض»‪.‬‬ ‫من املمكن أن يكون مصدر ثراء حممد علي‪ ،‬جمرد‬ ‫عادت قافلة “ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي” إلي طريقها مرة أخري‪ .‬ويف طريقهم‬ ‫رأوا شواهد غدر الصحراء النوبية الشاسعة‪ ،‬وكيف أنها تعاقب بقسوة كل من‬ ‫يتهاون يف تقدير قوتها‪ ،‬أو من تباغته السموم علي حني غرة أو من ينضب خمزون‬ ‫املاء والطعام لديه‪ .‬شاهد الرحالة الروس على طول الطريق مناذج حمزنة لضحايا‬ ‫الصحراء ‪ .‬كتب بارودين‪ « :‬يف طريق مرور القوافل تتناثر يف كل خطوة تقريبًا‬ ‫عظام اجلمال والثريان وقبور ألشخاص مل يتحملوا مصاعب الطريق‪ .117»...‬وتفاقمت‬ ‫خماوف تلك الصورة بعد حتذير البعض الواردين علي البئر من زيادة متاعب أعضاء‬ ‫البعثة الروسية ‪ .‬كان التجار ‪ ،‬الذين قابلوهم‪ ،‬خييفونهم من نفوق حوالي نصف‬ ‫مجال قافلة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي بعد اجتياز الصحراء ‪ .‬ولكن‪ ،‬حلسن احلظ‪ ،‬مل‬ ‫ينفق سوي مجل واحد خالل ثالثة عشر ً‬ ‫يوما يف الطريق‪ .‬أثناء مسرية أعضاء البعثة‬ ‫عرب الصحراء ‪ ،‬كانوا مضطرين لركوب اجلمال ‪ .‬كان ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‬ ‫ً‬ ‫متعودا منذ فرتة علي امتطاء هذا احليوان‪ ،‬فبعثاته العديدة مل تعطه الفرصة‬ ‫جيدا علي طباع اجلمال فقط‪ ،‬ولكن ً‬ ‫للتعرف ً‬ ‫أيضا للتمييز بني أنواعها‪ .‬يعرتف‬ ‫ً‬ ‫كافاليفسكي‪ ،‬قائال‪« :‬يف املاضي اعتدت علي ركوب اجلمل‪ ،‬وتعاملت معه‬ ‫عن كثب يف أفريقيا وآسيا‪ ...‬أنه أمر حمبب إلي قليب! إذا تثين له تتبع رحالتي‬ ‫ً‬ ‫ضروريا أن أنهي حياتي فوق اجلمل »‪ .118‬علي اجلانب‬ ‫السابقة عن كثب ‪ ،‬سيبدو‬ ‫اآلخر ‪ ،‬تعامل بارودين بصورة مغايرة متا ًما مع اجلمل ‪.‬‬ ‫من الواضح أنها املرة األولي له ولصديقه – عامل غسل الذهب فومني‪ ،‬اليت يرا فيها‬ ‫هذا احليوان‪ .‬فقط يف تلك احلملة كان عليهم امتطاء اجلمل والرتنح خلف سنامه‬ ‫ً‬ ‫ودائما ما كان إيفان تروفيموفيتش يذكر « أن‬ ‫الكبري أثناء السري يف الصحراء‪.‬‬ ‫ً‬ ‫خميفا حينما ال متتطي هذه احليوانات»‪ .‬وظل يذكر حادثة طريفة مرتبطة‬ ‫األمر‬ ‫باجلمال ‪ ،‬عندما سقط أحد األعضاء املنضمني إلي فريق ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪،‬‬ ‫عامل الطبيعة سينكوفسكي من فوق اجلمل « وأصيبت مؤخرته »‪ .119‬وسقط‬ ‫بارودين نفسه ذات مرة من فوق اجلمل‪ ،‬وأتلف الباروميرت الذي كان ميسكه بيده‬ ‫يف تلك اللحظة‪.‬‬ ‫‪ - 117‬المرجع األسبق‪ .‬ورقة ‪.16‬‬ ‫‪ - 118‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.115 .‬‬ ‫‪ - 119‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.17.‬‬ ‫‪105‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫علي كل حال‪ ،‬تعود سينكوفسكي وبارودين بالتدريج علي هذا احليوان‪.‬‬ ‫أدرك إيفان تروفيموفيتش كيفية التعامل مع هذا الوحش‪ ،‬الذي رآه ألول‬ ‫مرة‪« :‬جيب امتطائه وهو جالس عندما يرفع مؤخرته‪ .‬ومبجرد أن تثبت فوقه‪...‬‬ ‫احرتس حيت ال تسقط مرة أخري علي األرض»‪ .‬علي الرغم من ضرورة احلفاظ‬ ‫علي تركيزك أثناء ركوب حيوان مثل اجلمل‪ ،‬إال أنه بنهاية الرحلة كان‬ ‫خبري التعدين قد أمل بطباع هذا الوحش ‪« :‬ميشي اجلمل يف طريقه‪ ،‬وإذا به‬ ‫خير علي ركبتيه اخللفيتني دون إكرتاث»‪ُ .‬يكمل إيفان تروفيموفيتش‪،‬‬ ‫ً‬ ‫قـائال‪« :‬أن السفر باجلمال يف مثل هذا املكان حتت الشمس احلارقة يعترب‬ ‫عذا ًبا»‪ .120‬اتفق الكثريون ممن سافروا عرب الصحراء علي هذا الرأي‪.‬‬ ‫يف التاسع والعشرين من يناير جاء اليوم املوعود‪ ،‬فقد انتهت مسرية األثين عشر‬ ‫يو ًما عرب صحراء النوبة الشاسعة ‪ .‬يبدو ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي إعجابه لذلك‪،‬‬ ‫قائال‪« :‬ال ميكنكم ختيل مقدار سعادتنا عندما وصلنا إلي املياه ! بالتأكيد ال‬ ‫ميكنكم التخيل‪ ،‬إذا مل متروا مبثل هذا املوقف ‪ .‬يف التاسع والعشرين من يناير‬ ‫(‪ 10‬فرباير) حوالي الساعة الثالثة رأينا يف األفق مياه رقعة زرقاء‪ ...‬أنها نهر النيل »‪.121‬‬ ‫وصل أعضاء البعثة ً‬ ‫أخريا إلي نهر النيل الشهري‪ ،‬الذي يعرف لدي الرحالة مبذاق مياهه‬ ‫العذب ‪ .‬علي سبيل املثال يذكر أ‪ .‬أ‪ .‬رافالوفيتش ‪« :‬مياه نهر النيل هي أنقي وأفضل‬ ‫مياه ضمن ثالث أماكن علي وجه األرض تصادف وجودي بها‪ ،‬باستثناء مياه إحدي‬ ‫اجلداول اليت متر عرب مدينة بعلبك يف سوريا‪ ،‬واليت‪ ،‬علي ما أعتقد‪ ،‬أفضل»‪ .‬يشري‬ ‫الرحالة الروسي أن مياه النيل عكرة تقريبًا طوال العام بسبب احتوائها علي نسبة‬ ‫كبرية من شوائب الطمي احلمراء املائلة لإلصفرار ؛ فقط يف فصل اخلريف تصبح‬ ‫املياه أكثر نقا ًءا‪ .‬ولكنها « نقية حلد كبري وطعمها عذب‪ ،‬ومهما شربت منها ‪ ،‬ال‬ ‫تؤدي ألي أمل أو إرهاق يف املعدة »‪.122‬‬ ‫أخريا يف أخذ ً‬ ‫يف القرية التالية رغبت البعثة ً‬ ‫قسطا من الراحة واإلرتواء من مياه‬ ‫نهر النيل ‪ .‬ولكن مل تبد اإلدارة احمللية نفس النشاط‪ ،‬الذي كان يتمناه مندوبوا‬ ‫حممد علي املرافقني للبعثة‪ .‬حيت أنهم اضطروا الستخدام العقاب البدني‪ .‬قام «‬ ‫املقدم » املالزم لبعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي بضرب « حمافظ املنطقة » ‪ 50‬ضربة‬ ‫انطباعا ً‬ ‫بالعصي على ظهره ألن األخري مل يوصل هلم ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫سيئا‬ ‫صافيا‪ .‬وترك ذلك‬ ‫لبنا‬ ‫يف نفس خبري التعدين األورالي‪ ،‬وأحد سكان اإلمرباطورية الروسية اإلقطاعية‪،‬‬ ‫‪ - 120‬نفس المرجع‪ .‬ورقة‪.17 .‬‬ ‫‪ - 121‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.109 .‬‬ ‫‪ - 122‬أ‪ .‬أ‪ .‬رافالوفيتش‪ .‬رحلة عبر صعيد مصر‪ ...‬ص‪.181-182 .‬‬ ‫‪106‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫والذي‪ ،‬علي ما يبدو‪ ،‬قد تأقلم علي حدوث كل ما خيطر علي البال يف مناجم‬ ‫الذهب مبياس‪ .‬وباملقارنة باإلجراءات يف روسيا إبان حكم اإلمرباطور “نيكوالي”‪،‬‬ ‫كان اإلضطهاد يف الشرق يف عهد حممد علي رهيبًا من خالل استخدام القسوة‬ ‫ً‬ ‫قائال‪« :‬كان‬ ‫بشكل علين وفاضـح ‪ .‬فيما بعد يعرب إ‪ .‬ت‪ .‬بارودين عن أساه لذلك‪،‬‬ ‫رهيبًا رؤية ذلك»‪. 123‬‬ ‫أكمل أفراد البعثة طريقهم بعدما رووا ظمأهم وقضوا الليل يف تلك القرية ‪.‬‬ ‫ومن هنا بدأوا يف رؤية قري صغرية ‪ .‬فالنيل يقع باجلوار‪ ،‬وهلذا استطاع الناس تدبر‬ ‫قوت يومهم من خالل اإلمكانيات ‪ ،‬اليت أتاحها هلم نيل أفريقيا العظيم ‪ .‬يف تلك‬ ‫األيام رأي خبري التعدين األورالي الكثري من األشياء املمتعة والغريبة‪ ،‬واليت ال‬ ‫تشبه ما رآه يف روسيا‪ .‬وقعت يف الثاني من فرباير أحد أبرز األحداث اليت انطبعت يف‬ ‫ذاكرته‪ .‬يذكر خبري التعدين‪ ،‬أنه يف هذا اليوم « لدي اقرتابهم من إحدي القري رأوا‬ ‫عن بعد بريق سيوف‪ ،‬وظنوا أن اجلنود يتدربون علي املبارزة ‪ .‬ولكن عند اقرتابهم‬ ‫أكثر مسعوا وقع الدفوف وصوت غناء‪ .‬جتلس مجيع السيدات حول أحد املنازل ‪،‬‬ ‫بينما تضرب اثنتان منهن علي الدف واألخريات ينشدن إحدى األغاني ‪ .‬علي بعد‬ ‫عدة ساجني جيلس الرجال بدورهم يف جمموعة بشكل متحفظ وبصمت‪ .‬ظننا‬ ‫ً‬ ‫مرتمجا‪.‬‬ ‫أنه رمبا يكون أحد األعياد‪ ،‬ومل أجد من أسئله عن هذا‪ ،‬فلم يكن هناك‬ ‫ومرت القافلة أمامهم‪...‬‬ ‫مبجرد أن تناولنا طعام الغداء رأينا حشد من الناس خيرج من القرية باجتاهنا‪،‬‬ ‫وبدأنا يف جتاذب أطراف احلديث‪ :‬يبدو أنهم يريدون إضفاء بعض املرح علينا‪،‬‬ ‫ولكن بدي األمر غري ذلك‪ .‬يسري الشيوخ يف املقدمة وحيملون يف أيديهم طوب‪.‬‬ ‫يسري خلفهم أربعة سيدات ويبكون حبرقة ومن ورائهم شابني شاهري سيوفهم‬ ‫ويزأرون بأعلي صوتهم وتنهمر الدموع علي وجوههم‪ .‬يف اخللف حيملون نعش ميت‬ ‫ويسري ورائه مجيع احلشد‪.124»...‬‬ ‫بعد أن مروا بالنعش أمام أعضاء البعثة‪ ،‬هرول األعضاء وراء املوكب‪ .‬فقد أثارهم‬ ‫الفضول ملشاهدة ‪ ،‬كيف جتري مراسم التشييع لدي من قابلوهم من األفارقة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مرامسا مثرية لإلهتمام‪ .‬فقد وضعوا النعش علي األرض بالقرب من‬ ‫وبالفعل رأوا‬ ‫املقربة ‪ .‬بدأ الشيوخ يف إعداد الطمي من أجل دهن الطوب‪ ،‬بينما صعد الشابان‬ ‫بسيفيهما املشهرين علي جانيب املقربة « وأخذا ميارسان أشكال خمتلفة من‬ ‫‪ - 123‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.17.‬‬ ‫‪ - 124‬نفس المرجع‪.‬ورقة ‪.18‬‬ ‫‪107‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫املبارزة بالسيوف»‪« .‬كانت الزوجات تنوح وهن جالسات علي األرض ‪ ،‬ويعانقن‬ ‫بعضهن البعض والدموع يف أعينهن‪ - ،‬علي حد وصف إيفان بارودين ‪ .‬واقرتب منهن‬ ‫بعض الرجال ‪ ،‬وربتوا علي كتوفهن إلقناعهن‪ ،‬بالتأكيد‪ ،‬بعدم البكاء‪ .‬بعد‬ ‫ذلك كونوا حلقة وبدأوا يف الغناء ‪ ...‬كان البعض جيري إلي داخل احللقة ويذر‬ ‫الرمال فوق رأسه وحيركها للوراء بينما تتمايل أجسادهم »‪ .‬بعد ذلك أنزل الشيوخ‬ ‫النعش داخل املقربة وبدأوا يف وضع الطوب ودهنه بالطمي ‪ .‬مل ينتظر أعضاء البعثة‬ ‫الروسية حتى تنتهي مراسم التشييع ‪ ،‬حيث أن قافلتهم قد حتركت ً‬ ‫بعيدا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫منوذجا ً‬ ‫جليا إللتقاء حضارتني وثقافتني ‪ .‬فقد شعر خبري‬ ‫متثل هذه القصة‬ ‫صناعات الذهب الروسي مبدي صعوبة فهم أناس ينتمون لثقافة أجنبية‪ .‬فمن الصعب‬ ‫حدوث ذلك‪ ،‬خاصة يف الظروف اليت وقعت فيها بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪ .‬فقد‬ ‫كان من بني البعثة مهندس تعدين مؤهل‪ ،‬وخرباء تعدين وعامل طبيعة ً‬ ‫أيضا‪ ،‬يبدو‬ ‫متخصصا ً‬ ‫ً‬ ‫واحدا يف ثقافة الشعوب اإلفريقية (ومل يكن يف روسيا‬ ‫أنه مل ينضم ولو‬ ‫مثل هؤالء يف ذلك الوقت) ‪ .‬ولطاملا أشار “إيفان بارودين” يف مذكراته إلي مشكلة‬ ‫جهل أعضاء البعثة الروسية باللغات اإلفريقية‪ .‬فمن البديهي أن يشعر أن عدم‬ ‫معرفة اللغات سيساهم يف تكوين صورة حمدودة عن أفريقيا وشعوبها‪ .‬واألكثر‬ ‫من ذلك‪ :‬يف مثل تلك احلاالت اليت طاملا وصفناها من قبل ‪ ،‬ميكن هلذا املوقف أن‬ ‫ميثل مشكلة حقيقية ‪ ،‬بل وميكن أن يشكل ً‬ ‫خطرا علي حياة أعضاء البعثة‪.‬‬

‫سلطنة سنار‬ ‫بعد تلك األحداث وصل فريق بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي يف اليوم التالي‪،‬‬ ‫الثالث من فرباير‪ً ،‬‬ ‫أخريا إلي منطقة سكانية مكتظة حلد ما ‪ -‬مدينة بربر (حمارف)‪.‬‬ ‫وطأت قدم أعضاء البعثة األرض اليت ظلت لوقت طويل مستقلة عن سلطنة سنار‪.‬‬ ‫فهي عبارة عن دولة كانت تضم يف املاضي أراضي شاسعة من وادي النيل من حدود‬ ‫مصر يف الشمال وحتى فاشودا يف اجلنوب‪ ،‬كما كانت تضم أراضي اجلانب‬ ‫الشرقي من النيل حتى شاطئ البحر األمحر وأثيوبيا‪ ،‬واملناطق الشاسعة املتامخة‬ ‫للشاطئ الغربي لنهر النيل ‪ .‬يف الواقع كانت سنار تستحوذ علي مجيع األراضي‬ ‫بني النيل األبيض والنيل األزرق ووادي نهر راحات ونهر الدندرة‪ .‬كان الفونج (اسم‬ ‫يطلق علي أسرة سالطني سنار األولي بني ‪ .1504-1821‬تعليق املرتجم) السكان‬ ‫األصليني لسلطنة سنار‪ ،‬والذي التقي بهم أعضاء بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‬ ‫أكثر من مرة‪ .‬امتدت علي طول وادي النيل ممالك مستقلة عن سنار‪ ،‬ومن بينها‬ ‫دوجنل وشاجيي وشندي وغريها جبانب مملكة بربر‪.‬‬ ‫‪108‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫ولكن يف اللحظة‪ ،‬اليت وصل فيها إيفان بارودين ورفقـائه إلي تـلك املنـطقة ‪،‬‬ ‫كانت أيام ازدهار سنار قد ولت‪ .‬تعرضت مدن السلطنة لإلنهيار أثناء محلة القوات‬ ‫املصرية اليت بدأت عام ‪ 1820‬وعلي رأسها إمساعيل – ابن حممد علي‪ .‬كان اجليش‬ ‫املصري يتكون من ‪ 600‬جندي مشاه تركي وعدة كتائب من سالح الفرسان‬ ‫الرتكي و‪ 800‬بدوي وسكان من صعيد مصر وقوات خمتلطة من الرببر واألفارقة‬ ‫الذين مت استجالبهم من وسط أفريقيا‪ .‬كان جيش إمساعيل بك يتكون من‬ ‫جنسيات عديدة من األلبان وساليف اجلنوب واألكراد واملهاجرين من القوقاز‪ .‬يشري‬ ‫املؤرخ السوفيييت “س‪ .‬ر‪ .‬مسرينوف” أنه باإلضافة إلي ذلك‪ ،‬فقد مت تدعيم اجليش‬ ‫املصري « بوحدات من املدفعية حتت قيادة ظباط أمريكيني »‪ .125‬إذا كان اجليش‬ ‫املصري ميلك وقتها كثري من األسلحة النارية ‪ ،‬فإن اجليش السوداني كان ميلك‬ ‫قطع منها فقط ‪.‬‬ ‫مع ذلك حاولت قبائل شاجيي تنظيم مقاومة شرسة‪ ،‬ولكنهم ُهزموا يف املعارك‬ ‫بالقرب من كورتي (يف نوفمرب عام ‪ )1820‬وبالقرب من جبل دايكا (يف ديسمرب‬ ‫عام ‪ .)1820‬بعد أن دخلت القوات املصرية إلي واد ‪ -‬مدني‪ ،‬استسلم سلطان سنار‬ ‫بادي اخلامس أمام إمساعيل باشا‪ .‬ويف اخلامس من مارس عام ‪ 1821‬احتلت مدينة‬ ‫بربر‪ ،‬وبعد أسبوع‪ ،‬يف الثاني عشر من مارس جاء الدور علي مدينة شندي‪ .‬ويف الرابع‬ ‫عشر من يونيو عام ‪ 1821‬دخلت القوات املصرية إلي عاصمة السلطنة – سنار‪.‬‬ ‫كانت الغزوات اليت قام بها حاكم مصر زائعة الصيت يف أوروبا‪ ،‬حيث جلبت له‬ ‫ً‬ ‫معارضا‬ ‫اجملد باعتباره إمرباطو ًرا‪ .‬حتى “ن‪ .‬ن‪ .‬مورافيف كارسكي” الذي كان‬ ‫حملمد علي‪ ،‬كتب فيما بعد‪« :‬كان خضوع البدو‪ ،‬الذين دعموا سلطة حممد‬ ‫علي يف الصحراء العربية‪ ،‬باإلضافة إلي احلملة اليت قام بها يف عمق أفريقيا لغزو‬ ‫النوبة ودارفور ودوجنل وسنار ‪ ،‬الفضل يف إضفاء ً‬ ‫ً‬ ‫جديدا علي سالحه‪ ،‬بل‬ ‫بريقا‬ ‫‪126‬‬ ‫وساهمت يف القضاء علي فلول املماليك املختبئة يف النوبة » ‪.‬‬ ‫مع هذا مل يكن لدى السودانيون النية يف إلقاء السالح‪ ،‬أو اخلضوع ملصر‪ .‬ويف‬ ‫خريف عام ‪ 1822‬اندلعت ثورات علي أراضي سنار‪ .‬لقي إمساعيل بك حتفه علي‬ ‫يد الثوار يف شندي أثناء عودته إلي مصر‪ .‬يف نفس الوقت وقعت القوات املرابضة يف‬ ‫بربر حتت الحُ صار‪ .‬اجتاحت الثورة اجلزء األكرب من البالد‪ً ،‬‬ ‫وطردت القوات املصرية‬ ‫خارج مدن عديدة على نهر النيل‪.‬‬ ‫‪ - 125‬س‪ .‬ر‪ .‬سميرنوف‪ .‬تاريخ السودان (‪ .)1821-1956‬موسكو‪ .1968 ،‬ص‪.‬‬ ‫‪.30‬‬ ‫‪ - 126‬ن‪ .‬ن‪ .‬مورافيف (كارسكي)‪ .‬المرجع األسبق‪ .‬ص‪.24 .‬‬ ‫‪109‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫يف ذلك الوقت بدأت محلة إنتقامية وعلي رأسها صهر حممد علي‪ .‬نتيجة لذلك‬ ‫احرتقت مدينة شندي ‪ ،‬وبعد مرور عدة سنوات ُقضي علي ما يقرب من ‪ 50‬ألف‬ ‫مواطن من سلطنة سنار‪ .‬نتيجة لتلك الثورة تعرض نظام إدارة األراضي يف سنار‬ ‫للتغيري‪ .‬فقد ترأس تلك اإلدارة حاكم مصر – احلكمدار‪ .‬كانت البلد مقسمة‬ ‫إلي حمافظات (خرطوم وبربر وفازوغلي وغريها) ‪ .‬وعلي رأس كل حمافظة يوجد‬ ‫مدير‪ .‬كان القانون الرتكي يف األحوال املدنية واجلنائية يسري علي أراضي‬ ‫السودان‪ .‬وقبل وصول بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي إلي السودان بعدة سنوات‪ ،‬يف‬ ‫عام ‪ً 1845‬عرفت وظيفة قاضي القضاه يف مجيع أحناء البالد‪ .‬ويف حالة اإلستئناف‬ ‫ميكن للمدعي التوجه إلي حمكمة خرطوم التابعة للمحكمة العليا يف مصر‪.‬‬ ‫هكذا بدت السودان أثناء تواجد بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي علي أراضيها‪.‬‬

‫بربر‬ ‫ً‬ ‫سابقا‪ ،‬فإن مدينة بربر أولي املدن الكربى‪ ،‬اليت رآها إيفان بارودين‬ ‫كما أشرنا‬ ‫ورفقائه‪ .‬أشار ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي يف وصف تلك املدينة أن بربر ‪ « -‬مدينة علي‬ ‫ً‬ ‫كثريا يف مصر‪ ،‬واليت ال يوجد الكثري ليقال عنها ؛‬ ‫حنو املدن ‪ ،‬اليت كنا نراها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مميزا‪ :‬مباني التوكول (نوع من املباني يف السودان‪ .‬تعليق‬ ‫طابعا‬ ‫مع هذا متلك‬ ‫املرتجم )‪ ،‬ومنازل صغرية مستديرة من اخلوص‪ ،‬تثري البهجة من اخلارج‪ ،‬وتتميز‬ ‫بأسقفها»‪ .127‬مل تنطبع يف ذاكرة إيفان بارودين أي شيء مميز عن املدينة‪.‬‬ ‫ويذكر األخري أن بربر‪ ،‬علي الرغم أنها «ليست مجيلة يف الشكل املعماري »‪،‬‬ ‫إال أنها تتمتع خباصية رائعة ‪« :‬حيث يوجد بها الكثري من احلدائق الغنية بثمارها‬ ‫ً‬ ‫بعيدا عن املناطق السكنية توقف أعضاء محلة‬ ‫املتنوعة »‪ .128‬بعد مسرية طويلة‬ ‫ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي يف سوق املنطقة لشراء بعض البطيخ ‪ .‬وما أثار اندهاش‬ ‫بارودين هو حجم البطيخ‪« :‬البطيخ كبري احلجم لدرجة أنك ال تستطيع محل أثنني‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وخالفا للبطيخ رأي‬ ‫سويا»‪ .‬استلذ إيفان تروفيموفيتش ورفقائه من طعم البطيخ‪.‬‬ ‫أفراد البعثة العديد من الثمار الغريبة األخرى‪ .‬وما لفت انتباههم ‪ ،‬أن معظم سكان‬ ‫املنطقة من السود‪ .‬ظهرت أفريقيا السوداء الشهرية‪ ،‬اليت مل يرها أي شخص من‬ ‫سكان األورال األصليني من قبل‪.‬‬ ‫‪ - 127‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.117 .‬‬ ‫‪ - 128‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.19.‬‬ ‫‪110‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫بعد قضاء اليوم يف بربر‪ ،‬ركب الرحالة املركب وبدأوا يف اإلحبار بإجتاه أعالي‬ ‫نهر النيل‪.‬‬

‫شندي‬ ‫وصل أعضاء بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي إلي مدينة شندي يف السادس من‬ ‫فرباير ‪ .‬بعد كارثة عام ‪ 1822‬مل تشهد مدينة شندي استقرا ًرا بعد محلة التنكيل‬ ‫اليت قام بها صهر حممد علي‪ .‬يف نهاية األربعينيات بلغ تعداد سكان املدينة ما‬ ‫يقرب من ‪ 4‬آالف مواطن‪ .‬ورمبا هلذا السبب مل تقض بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‬ ‫يف املدينة سوى ما يزيد علي ثالثة ساعات بقليل‪ .‬قضي أعضاء البعثة معظم‬ ‫الوقت يف زيارة سليمان باشا – اجلنرال اإلقطاعي وحمافظ شرق السودان ‪ .‬وصل‬ ‫سليمان باشا بنفسه إلي مكان لقاء البعثة الروسية علي منت املركب وبصحبته‬ ‫عدد من املوظفني‪ .‬إنه شخص تركي راشد بشوش ومرح ً‬ ‫جدا‪ .‬وبعد زيارة املركب‬ ‫أخذ علي عاتقه التنظيم الستقبال أعضاء البعثة يف مقره ‪ .‬أخذ سليمان باشا‬ ‫والرحالة الروس يدخنون الغليون ويشربون القهوة وجيرون حوا ًرا ً‬ ‫هادئا‪ .‬تعترب هذه‬ ‫ً‬ ‫مدهشا أن تظل‬ ‫الرفقة أفضل راحة إلفراد البعثة بعد رحلة شاقة للغاية‪ .‬وهلذا ليس‬ ‫لدي بارودين و ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي إنطباعات طيبة للغاية من هذه الزيارة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حتديدا‪ ،‬فإن معظم املنازل ‪ ،‬كما ذكر بارودين ‪،‬‬ ‫وفيما يتعلق مبدينة شندي‬ ‫كانت مغطاة بأسقف من القش‪ .129‬وكانت العديد من قطعان احليوانات املتوحشة‬ ‫ترعى يف املروج اجملاورة‪ ،‬وحتلق فوق النيل أنواع خمتلفة من الطيور ‪ .‬ركز إيفان‬ ‫تروفيموفيتش االهتمام على مدى تطور الزراعة يف تلك املنطقة‪ ،‬حيث الطقس‬ ‫أفضل من األماكن الصحراوية ‪ ،‬اليت مر عليها أعضاء البعثة ً‬ ‫سابقا‪ .‬يشري األخري «أن‬ ‫املروج مزروعة بكثري من حماصيل القمح واخلضروات »‪ .130‬علي كل حال‪ ،‬كان‬ ‫الطقس حا ًرا ً‬ ‫جدا يف تلك املنطقة ‪ ،‬لدرجة أن البقاء علي سطح املركب أثناء التوقف‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عمليا‪ .‬وعند اجللوس كان اجلو خانقا لدرجة أنهم كانوا مضطرين‬ ‫غري ممكن‬ ‫لسكب املياه على حوائط املركب أثناء توقفها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫طويال‪ .‬فاحملطة التالية للروس هي اخلرطوم‪ .‬من‬ ‫ولكن مل تستمر فرتة الراحة‬ ‫ً‬ ‫جذريا عن النهر اإلفريقي‬ ‫املالحظ أن أعضاء البعثة الروسية قد غريوا وجهة نظرهم‬ ‫‪ - 129‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.19.‬‬ ‫‪ - 130‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.19‬‬ ‫‪111‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫العظيم أثناء حتركهم عرب نهر النيل ‪ .‬منا إلي علم ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي أن‬ ‫جومبولت وعدد من علماء اجلغرافيا األوروبيني اآلخرين قد أشاروا إلي وجود نهر‬ ‫عطربة ‪ ،‬الذي يصب يف النيل علي اجلانب الشرقي‪ ،‬علي بعد عدة مئات فرستا جنوب‬ ‫اخلرطوم‪ .‬مع هذا يعلن رئيس البعثة يف مقالته علي صفحات «جملة التعدين»‪:‬‬ ‫«متكنت اليوم من اكتشاف نهر آخر يصب يف النيل من اجلانب الغربي‪ ،‬يطلق‬ ‫العرب عليه عبود؛ يشق طريقه عرب صحراء النوبة الصغرى ويصب يف نهر النيل‬ ‫يف جنوب مرياوي »‪ .131‬من املالحظ أن إيفان بارودين قد أشار ً‬ ‫أيضا يف مذكراته‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إهتماما كبريا بهذا‬ ‫إلي جناح البعثة يف تأكيد هذه احلقيقة‪ ،132‬ولكنه مل يول‬ ‫اإلكتشاف‪ ،‬مع عدم علمه باكتشاف جومبولت‪ ،‬علي عكس رئيسه ‪.‬‬

‫اخلرطوم‬ ‫ً‬ ‫انطباعا مهيبًا‬ ‫تركت اخلرطوم ‪ ،‬حيث وصل أعضاء البعثة يف التاسع من فرباير‪،‬‬ ‫ً‬ ‫جدا علي نفس رحالة خبري مثل ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪ :‬فقد بدت له املدينة‪ ،‬بعد‬ ‫زيارة القاهرة واإلسكندرية‪« ،‬واحدة من أفضل مدن مصر »‪ .‬يذكر مساعد رئيس‬ ‫منطقة تعدين زالتؤوست‪« :‬أن املنازل مـوزعة بشـكل فين رائع وحماطة باحلدائق‬ ‫‪ ،‬واليت ليس من الضـروري إيالئها عناية خاصة ‪ :‬فهي تنمو بفـضل الطقس الرائع‬ ‫واألمطـار دائمة السقـوط؛ الشـوارع نظيـفة ومسـاحة امليـادين شـاسـعة »‪ .133‬من‬ ‫ً‬ ‫مستخدما نفس‬ ‫املدهش أن صديقه يف الرحلة ‪ -‬إيفان بارودين قام بوصف اخلرطوم ‪،‬‬ ‫العبارات ‪ ،‬دون إتفاق مسبق مع رئيسه‪ .‬فقد بدت له اخلرطوم «األفضل يف البناء‬ ‫املعماري‪ ،‬إذا ما قورنت بسائر مدن هذا البلد»‪ .‬بعد مسرية تسعة أيام يف صحراء‬ ‫النوبة وبعد رؤية مدينيت بربر وشندي احملطمتني علي يد قوات حممد علي ‪ ،‬خلف‬ ‫الفن املعماري خبرطوم وحقيقة أن مجيع مباني املدينة بشكل رئيسي من احلجارة‬ ‫ً‬ ‫انطباعا ً‬ ‫خاصا يف نفس خبري التعدين األورالي ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫متواجدا‬ ‫مع هذا مل تثر «أحد أفضل مدن إفريقيا» إعجاب أ‪ .‬ي‪ .‬بريم والذي‪ ،‬كان‬ ‫يف اخلرطوم يف األربعينيات ‪ ،‬علي حد علمنا‪ .‬ويصف األخري عاصمة السودان‬ ‫احلالية بشكل خمتلف متا ًما‪« :‬قبل الوصول إلي املدينة ‪ ،‬تصادف يف الطريق رؤية‬ ‫‪ - 131‬ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪ .‬حوض النيل‪ ...‬ص‪.80 .‬‬ ‫األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫‪ 132‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.20.‬‬ ‫‪ - 133‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.126 .‬‬ ‫‪112‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫جيفة مرتبة وعفنة‪ ،‬وتري قاذورات أخري عند عبور امليدان واجلسر املبين حلماية‬ ‫املنازل من فيضان النهر‪ .‬يؤدي هذا الطريق إلي الشارع الرئيسي يف اخلرطوم ‪ ،‬الذي‬ ‫يقطع املدينة من الغرب إلي الشرق؛ من املمكن الوصول إلي السوق من خالل هذا‬ ‫الطريق » ‪ .‬يف ذلك السياق يؤكد عامل الطبيعة األملاني ‪ ،‬أن مجيع شوارع املدينة‬ ‫تبدو علي هذه الشاكلة ‪ « :‬يف أوقات العام ‪ ،‬حيث الطقس ً‬ ‫جافا تبدو الشوارع‬ ‫الرملية مليئة باألتربة؛ بينما تبدو أثناء تساقط األمطار برك وأكوام من الوحل ‪.‬‬ ‫ولكن ما ال ميكن ختيله درجة احلرارة املرتفعة والرائحة النتنة املنتشرة بها يف‬ ‫مجيع أوقات العام»‪.134‬‬ ‫كما هو احلال بالنسبه لي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪ ،‬انطبعت يف ذاكرة بارودين‬ ‫صورة خمتلفة ‪ .‬فقد أشار إلي وجود « عدد وافر من احلدائق » يف اخلرطوم ‪ .‬وكان‬ ‫الربتقال من بني فواكه تلك احلدائق ‪ ،‬اليت أثارت اهتمامه ‪ ،‬بل كانت مدعاه‬ ‫للمقارنة من جانب خبري التعدين األورالي‪ ،‬الذي طاف ممالك الدوناي والقسطنطينية‬ ‫ورودوس ومصر‪ .‬وبعد أن تذوق فواكه اخلرطوم‪ ،‬أشار يف كتاباته‪ ،‬أن الربتقال يف‬ ‫تلك املنطقة « علي الرغم من حجمه الصغري ولونه األخضر ‪ ،‬إال أنه يخُ رج عصري‬ ‫أكثر مبرتني من برتقال قربص »‪.135‬‬ ‫وبـالـطبـع مل يـكن الشـغل الشـاغـل ألعـضـاء بـعـثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‬ ‫يف اخلرطوم تذوق الربتقال احمللي فقط ‪ .‬مبجرد مغادرتهم الصحراء سقطوا‬ ‫يف شبكة من التناقضات السياسية املتشابكة ‪ .‬كانت عاصمة السودان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مقصدا لعديد من القوي ‪ .‬كانت‬ ‫كبريا ‪،‬‬ ‫دينيا‬ ‫مركزا‬ ‫املسـتقبلية ‪ ،‬اليت ُتعد‬ ‫الكنيسة الكاثولوكية حتاول القيام بلعبة سياسية حمسوبة ‪ .‬فاحلديث‬ ‫الذي ورد يف مذكرات بارودين مع ممثلي هذه الكنيسة يدل علي عدم اخلربة‬ ‫والسذاجة‪« :‬التقينا بالوفد‪ ،‬الذي أرسله البابا من أجل الرتويج لبناء كنيسة يف‬ ‫أثيوبيا‪ ...‬دخلنا إلي أسقف مريض يف حديقة‪ ،‬يوجد بها منزل صغري‪ ،‬وتنمو حوله‬ ‫شجرة عنب‪ ،‬وبالقرب من الباب توجد أشجار ليمون وبرتقال ورمان وموز‪ ،‬وكذلك‬ ‫أشجار خنيل‪ ،‬تتدلي منها ثـمار البلح »‪ .136‬بعد لقاء األسقف املصري مل يتذكر‬ ‫ً‬ ‫متعودا‬ ‫خبري التعدين األورالي يف منزله سوي أسد مروض‪ .‬هذا الوحش الصغري كان‬ ‫علي الناس‪ ،‬ومسح هلم بإطعامه ومداعبته بأيديهم ‪...‬‬ ‫‪ - 134‬أ‪ .‬أي‪ .‬بريم‪ .‬المرجع األسبق‪ .‬ص‪.148 .‬‬ ‫‪ - 135‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.20.‬‬ ‫‪ - 136‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.19‬‬ ‫‪113‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫بالطبع قام ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي بذكر نفس املوقف بشكل خمتلف ً‬ ‫متاما‪.‬‬ ‫بالنسبة ملوظف تعدين حمنك من املدهش متا ًما قيام الكنيسة الكاثولوكية‬ ‫يف السودان بعمل تروجيي يف مثل هذا املوقف ‪ .‬فمن املفرتض أن عمل بعثة ي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫جتاريا ‪ ،‬أكثر منه ً‬ ‫ً‬ ‫دينيا»‪ .137‬وهلذا كان يتعامل‬ ‫سياسيا‬ ‫ب‪ .‬كافاليفسكي «‬ ‫بتوجس مع األسقف ريللو الشاحب اهلزيل ‪ ،‬والذي كان خيطط إلرسال جمموعة‬ ‫من املبشرين مع بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي إلي فازوغلي ‪.‬‬

‫واد مدني‬ ‫بعد عبور مدينة اخلرطوم ‪ ،‬كما يذكر إيفان بارودين ‪ « ،‬يتفرق النيل إلي‬ ‫فرعني ذو أمسني خمتلفني‪ ،‬األبيض واألزرق »‪ .‬بعد قضاء ثالثة أيام يف عاصمة‬ ‫السودان املستقبلية ‪ ،‬بدأت البعثة الروسية اإلحبار إلي احملطة التالية عرب النيل‬ ‫األزرق‪ .‬مر الرحالة يف طريقهم مبدينة واد مدني َ‬ ‫(و ْد َم َد ِني مدينة تقع يف وسط‬ ‫السودان على ارتفاع ‪ 409‬مرت فوق سطح البحر‪ .‬تعليق املرتجم)‬ ‫حيث توقفوا ملدة قصرية – نصف يوم‪ .‬كانت املدينة صغرية‪ ،‬ومل تكن لترتك إي‬ ‫انطباع خاص يف نفس الرحالة ‪ .‬علي سبيل املثال‪ ،‬مل يذكر أ‪ .‬أي‪ .‬بريم عن تلك‬ ‫املدينة سوي أنها كانت تتكون يف األساس من ختشيبات طينية ‪ ،‬يطلقون عليها‬ ‫السكان احملليون تاناكا‪ .138‬مع هذا ظهر يف اجلوار الوجه احلقيقي لقارة أفريقيا‬ ‫أمام أعني الرحالة الروس علي شاطئ نهر النيل‪ .‬لكم أثارت خميلة أعضاء بعثة ي‪.‬‬ ‫ب‪ .‬كافاليفسكي تنوع أشكال نباتات وحيوانات املنطقة ‪ ،‬وخاصة بعد املشهد‬ ‫الرتيب أسفل جمري نهر النيل وامللل الفظيع يف صحراء النوبة الشاسعة ‪ .‬حيت رحالة‬ ‫ً‬ ‫صامتا أمام هذا املشهد‪:‬‬ ‫علي قدر من احلنكة مثل رئيس البعثة مل يستطع الوقوف‬ ‫‪139‬‬ ‫«يا جلمال الطبيعة ! ما أغرب هذا التناقض العجيب مع مصر! »‬ ‫احبرت بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي ثـمانية أيام من اخلرطوم عرب النيل األزرق ‪ .‬يف‬ ‫العشرين من فرباير جنحت املركب يف املياه الضحلة‪ ،‬واضطروا للنزول إلي الشاطئ‬ ‫والسري « بقطعة حديد صغرية » علي أقدامهم حيت مدينة سنار ‪ .‬وقبل الوصول إلي‬ ‫مدينة سنار بقليل رأي الرحالة الروس يف تلك املنطقة وفرة من النباتات ألول مرة بعد‬ ‫الراحة الطويلة‪ .‬يف البداية‪ ،‬علي حد ذكر إيفان تروفيموفيتش ‪ ،‬ظهرت أشجار ميموز‬ ‫‪ - 137‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.128 .‬‬ ‫‪ - 138‬أنظر‪ :‬أ‪ .‬أي‪ .‬بريم‪ .‬المرجع األسبق‪ .‬ص‪.537 .‬‬ ‫‪ - 139‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.133 .‬‬ ‫‪114‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫قصرية ومن بعدها أشجار السنط والنخيل‪ .‬قام خبري التعدين األورالي بتقييم شجر‬ ‫ً‬ ‫مشريا أنها شجرة عالية‪ ،‬ولكنها «ضعيفة وال تصلح‬ ‫النخيل من وجهة نظر عملية‪،‬‬ ‫للبناء »‪ .‬ورأي ً‬ ‫أيضا أشجار اجلميز‪ ،‬اليت تنمو عليها ثـمار «التني»‪ .‬كما انطبعت‬ ‫يف ذاكرته «أشجار الرمان» وهي عبارة عن «شجريات تتدلي منها ثـمار رمان ذات‬ ‫طعم لذيذ»‪ .‬وتصادف رؤية أشجار «الشزندرة» بسيقان «ملتوية» غري مسيكة ‪.‬‬ ‫وبنفس الشكل تقريبًا بدت له «أشجار الربتقال»‪ .‬رأي خبري التعدين األورالي شجرة‬ ‫موز بأوراقها العريضة وطوهلا املتوسط ‪ .‬حاذ مذاق ثـمار املوز علي إعجاب إيفان‬ ‫تروفيموفيتش ‪« .‬أكرب» األشجار اليت رآها بارودين هي الباوباب األصبعي (االسم‬ ‫العلمي‪ :‬التبلدي األصبعي‪ .‬تعليق املرتجم ) بثماره اليت تستخدم‪ ،‬علي حد قول اخلبري‬ ‫األورالي‪ ،‬يف إعداد «شراب الليمون»‪ .‬يذكر بارودين‪ ،‬أن «هلذا الشراب مذاق رائع»‪.140‬‬

‫سنار‬ ‫سرعان ما وصلت البعثة إلي سنار – عاصمة سلطنة السودان القدمية‪ .‬يف وقت‬ ‫ما كان مدينة كبرية‪ ،‬وبنهاية القرن السابع عشر بلغ عدد سكانها ‪ 100‬ألف‬ ‫شخص‪ .‬يبدو أن هذه املدينة كانت حتتل املركز الثاني يف أفريقيا من حيث أعداد‬ ‫السكان بعد القاهرة آنذاك‪ .‬كانت الغالبية العظمي من املنازل يف املدينة من‬ ‫الطوب األمحر‪ ،‬وواقفة حتت أشعة الشمس احلارقة‪ .‬يشري املؤخر السوفيييت الشهري‬ ‫“س‪ .‬ر‪ .‬مسرينوف” يف وصف فرتة إزدهار مدينة سنار‪« :‬تذكرنا املنازل الطينية يف‬ ‫وسط املدينة باألسقف املستقيمة والفناء الداخلي‪ ،‬اليت يتملكها النخبة اإلقطاعية‬ ‫‪ ،‬ورجال الدين املسلمني والتجار البارزين‪ ،‬من ناحية الشكل والتخطيط تذكرنا‬ ‫مبنازل املصريني ‪ .‬يعيش فقراء املدينة واحلرفيون يف ضواحي املدينة داخل أكواخ‬ ‫من اخلوص املغطي بالطني؛ بينما تتمتع األسقف املصنوعة من القش بشكل‬ ‫خمروطي»‪ .141‬قلت أعداد املنازل ذات الطوابق املتعددة يف سنار‪ ،‬بينما متيز املسجد‬ ‫وقصر السلطان ذو الست طوابق مبساحاته الشاسعة ‪ .‬وشهد سوقا املدينة الرئيسان‬ ‫ً‬ ‫رواجا يف جتارة األحصنة وسن الفيل واألبل واخلضروات والفواكه وغريها‪ .‬ويف هذا‬ ‫املكان كان التجار املصريون واألتراك حيصلون علي أعداد كبرية من العبيد‪،‬‬ ‫الذين كانوا يتوجهون إلي اهلند ومصر وبالد الشرق األوسط وغريها‪.‬‬ ‫‪ - 140‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.34.‬‬ ‫‪ - 141‬س‪ .‬ر‪ .‬سميرنوف‪ .‬تاريخ السودان‪ .‬ص‪.13 .‬‬ ‫‪115‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫يطلق إيفان بارودين علي سنار «عاصمة السودان » ‪ .‬استخدام هذا الوصف‬ ‫يف ذلك الوقت كان ً‬ ‫رهنا حلالة املدينة ً‬ ‫قدميا‪ .‬فالغزوات اخلارجية ودخول السودان‬ ‫ضمن إمرباطورية حممد علي كان له بالغ األثر علي وضع مدينة سنار ‪ .‬كما‬ ‫أشار ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي ‪« :‬منذ أن قام األتراك بنقل إدارة األراضي الرئيسية»‬ ‫إلي اخلرطوم‪ ،‬أصبحت سنار «خاوية» ‪ :142‬حلظة وصول البعثة الروسية كان عدد‬ ‫سكانها يبلغ ‪ 5‬آالف شخص ‪.‬‬ ‫انطباعا كئيبًا ً‬ ‫ً‬ ‫جدا علي نفس أ‪ .‬أي‪ .‬بريم‪.‬‬ ‫خلفت مدينة سنار يف تلك السنوات‬ ‫ذكر عامل الطبيعة األملاني يف كتاباته أن العاصمة السابقة للسلطنة أقل نظافة‬ ‫من ود مدني‪ ،‬وبدل من السوق الشرقي املعروف ال يوجد سوي «عدة دكاكني‬ ‫صغرية متواضعة»‪ ،‬حيث يبتاعون املنتجات الالزمة الستهالك األتراك اليومي»‪.143‬‬ ‫مع هذا كانوا يقيمون باملدينة سوق كبري مرتني يف األسبوع ويتوافد عليه‬ ‫سكان الضواحي اجملاورة‪ ،‬بعضهم يصل علي قدميه واآلخر علي محار أو مجل‪ .‬مل‬ ‫يكن الليل يف سنار يشهد أي مظاهر للبهجة‪ ،‬فبحلول منتصف الليل تبدأ الضباع‬ ‫يف السعي بشوارع املدينة ‪.‬‬ ‫علي أية حال التقي خرباء التعدين الروس مع ممثلي اإلدارة احمللية يف سنار‪.‬‬ ‫يذكر بارودين‪ ،‬أنهم مروا علي منزل «حاكم البالد» إبراهيم باشا يف سنار‪ ،‬كما‬ ‫حتدث عن نشوب ثورة ضد مصر يف العشرينيات‪ ،‬وهلذا كان الوضع مضطربة‬ ‫بشكل عام يف إحدى مناطق نفوذ حممد علي البعيدة‪ .‬وهلذا ليس غريبًا أن يبدو‬ ‫املنزل‪ ،‬الذي نزل فيه الروس كاحلصن ‪« :‬حياط املنزل من مجيع اجلهات حبوائط‪،‬‬ ‫ويوجد جنود علي كال جانيب الغرفة‪ ،‬حيث يعيش احلراس‪ ...‬وعلي اجلانب األيسر‬ ‫من الفناء وضعوا مدافع»‪ .144‬من املدهش أن اإلدارة احمللية كانت متخوفة من خطر‬ ‫غزوات الشعوب الثائرة ‪ ،‬اليت تعيش يف منطقة سنار‪.‬‬ ‫ً‬ ‫متواضعا متا ًما‪ .‬ومل يلحظ أعضاء البعثة الروسية أي‬ ‫بدي متاع املنزل الداخلي‬ ‫شكل من أشكال الزينة هناك‪ ،‬بل وجدوا فقط قدران فخاريان بهما ماء ‪ .‬وقاموا‬ ‫بإعداد وجبة الغداء للضيوف األجانب داخل «حانة » ‪ .‬ومع هذا قام الضيوف بزيارة‬ ‫سنار يف غياب احلاكم ‪ :‬فقد غادر إبراهيم باشا البالد يف سفرية ‪.‬‬ ‫‪ - 142‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.136 .‬‬ ‫‪ - 143‬أ‪ .‬أي‪ .‬بريم‪ .‬المرجع األسبق‪ .‬ص‪.540 .‬‬ ‫‪ - 144‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.20.‬‬ ‫‪116‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫بعض قضاء بعض الوقت يف مدينة سنار أكملت البعثة طريقها‪ .‬كلما ابتعد‬ ‫الرحالة الروس عن أرض الوطن أكثر وأكثر‪ ،‬كلما شعروا حبنني كبري إلي‬ ‫املاضي ‪ ،‬ال سيما إذ صادفهم ما يذكرهم بروسيا‪ .‬وقعت إحدي تلك املواقف يف‬ ‫نهاية شهر يناير‪ .‬وميكن وصف ذكريات إيفان تروفيموفيتش عن هذا املوقف‬ ‫بالعاطفية علي حنو خاص ‪« :‬ظل مبعوثونا يشعرون بقلق طوال الليل ‪ ،‬ومع نيتهم‬ ‫العودة إلينا يف أوروبا‪ ،‬كانوا يصدرون صرخات رهيبة فوق الرمال ‪ ،‬تشبه أصوات‬ ‫البط‪ ،‬أو الكركي ‪ ،‬أو األوز‪ ...‬لقد كانت لديهم النية للعودة‪ ...‬بسبب درجة حرارة‬ ‫املكان العالية مل يكن باستطاعتهم اإلستمرار أكثر من ذلك »‪ .145‬فلرمبا منت‬ ‫الرغبة لدي خبري التعدين األورالي يف التحليق خلف الطيور املتجهة إلي روسيا‪ ،‬لرؤية‬ ‫جبال زالتؤوست ومناجم مياس بأقصي سرعة !‬ ‫ولكن كان أعضاء البعثة الروسية مضطرين لالستمرار يف طريقهم عرب‬ ‫أراضي مشال شرق أفريقيا الشاسعة‪ .‬بدأت مشاهد الطبيعة بالتغري أمام أعينهم‬ ‫ً‬ ‫تدرجييا ‪ .‬بدأت رقعة األعشاب بالظهور يف املروج‪ ،‬كما ازدادت أعداد األشجار‪.‬‬ ‫أبرز ما أثارته شكل احلديقة يف نفس إيفان تروفيموفيتش هي ذكرياته عن‬ ‫روسيا‪ ،‬مبا أن أوراق األشجار‪ ،‬علي حد وصفه‪ ،‬كانت خضراء يانعة‪« ،‬مثل اليت‬ ‫يف وطنه»‪« ،‬ولكنها مصـفرة بعـض الشـيء بـفعل األتـربة »‪ .146‬يعتقد خبري‬ ‫التعدين األورالي أن هلذا األمر عالقة « بعدم تساقط املطر لغسل النباتات ‪ ،‬علي‬ ‫الرغم أن السكان يروون األرض بعد ذلك حتى اجلذور »‪ .‬وهلذا يري بارودين أن‬ ‫طبيعة أفريقيا « ليست ً‬ ‫نوذجا للجمال »‪.‬‬

‫روصريص‬ ‫يف الثامن والعشرين من شهر فرباير بلغ أعضاء البعثة الروسية منطقة سكنية‪.‬‬ ‫إنها روصريص (مدينة تقع يف والية النيل األزرق بالسودان على الضفة الشرقية‬ ‫لنهر النيل األزرق بارتفاع ‪ 467‬مرت (‪ 1532‬قدم ) فوق سطح البحر‪ .‬تعليق املرتجم)‬ ‫– عاصمة مقاطعة فازوغلي ‪ ،‬حيث منطقة استخراج الذهب ‪ .‬إذا كان بارودين‬ ‫قد أطلق علي هذا املكان «مدينة »‪ ،‬كـما كان يطلق معظم من قابلهم يف‬ ‫الطـريـق ‪ ،‬فإن رئيسه كان يصفها مباشرة «بالقرية»‪ .‬علي اجلانب اآلخر رأي “أ‪.‬‬ ‫‪ - 145‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.20.‬‬ ‫‪ - 146‬نفس المرجع‪ .‬ورقة‪.34 .‬‬ ‫‪117‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫اي‪ .‬بريم” أنه من الصعوبة أن تسمي «مدينة»‪ .‬وكما هو احلال بالنسبة للمناطق‬ ‫السكنية األخرى يف السودان ‪ ،‬وبشكل عام تركت عاصمة مقاطعة فازوغلي‬ ‫ً‬ ‫انطباعا كئيبًا يف نفس عامل الطبيعة األملاني ‪ ،‬الذي يكتب عن روصريص ‪« :‬أنها‬ ‫‪147‬‬ ‫بال حياة وتسودها الكآبة» ‪.‬‬ ‫بلغ عدد سكان القرية ما يقرب من ثالثة آالف مواطن (كانت النسبة األكرب‬ ‫منهم من السود) ‪ .‬تقع مدينة روصريص بالقرب من الضفة الشرقية للنيل األزرق‪،‬‬ ‫وتفصلها عن النهر غابة كبرية من النخيل‪ ،‬بينما حتيط بها سهول السافانا من‬ ‫اجلوانب الثالث األخرى‪ .‬مل تكن مياه الشرب متوافرة يف عاصمة مقاطعة فازوغلي‪،‬‬ ‫وهلذا باإلمكان رؤية حشد من السيدات كل ليلة وهي تقود احلمري احملـملة‬ ‫باملـاء ‪ .‬اكتسي املكان كله بألوان طبيعة إفريقيا اإلستوائية ‪ .‬كان مقر مدير‬ ‫متواجدا يف مدينة روصريص الصغرية‪ .‬واملدهش‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫وفقا لشهادة‬ ‫مقاطعة فازوغلي‬ ‫‪148‬‬ ‫إيفان بارودين‪ ،‬أن « احلاكم » يف روصريص «من بشكري كازان» ‪ ،‬الذي أخرب‬ ‫مواطنيه يف املاضي‪ ،‬أنه ولد علي نهر الفوجلا‪ ،‬إال أن القدر ألقي به يف مشال شرق‬ ‫أفريقيا‪ .‬وبالطبع‪ ،‬ظل اللقاء مع املواطن الكازاني يف ذاكرة إيفان بارودين ملدة‬ ‫طويلة‪ ،‬فلم يكن يتوقع أن يري مواطنه يف هذا املكان ً‬ ‫بعيدا عن أرض الوطن‪.‬‬

‫اللقاء مع الصديق العربي‬ ‫بعد عدة أيام كان بانتظار البعثة لقا ًءا ال يقل غرابة‪ ،‬بل ورمبا أكثر سعادة‪.‬‬ ‫يف الثاني من مارس علي مسرية ثالثة أيام من جبال كاسان – املكان احملدد‬ ‫لعمل البعثة الروسية ‪ -‬قابلهم يف الطريق املهندس عيسى الدهشوري‪ ،‬الذي كان‬ ‫“ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي” جيوب معه مصانع التعدين باألورال لعدة أشهر ‪ .‬يف ظل‬ ‫ذكرياته عن تلك األوقات ‪ ،‬اليت طاف فيها مع “الدهشوري” وصديقه “علي حممد‬ ‫ً‬ ‫قائال‪« :‬مل أكن‬ ‫إبراهيم” معظم مناطق األورال ‪ ،‬اعرتف ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪،‬‬ ‫أتوقع حينها أن أتقابل معهم يف كاسان!» ‪.‬‬ ‫حلظة وصول البعثة الروسية إلي كاسان مل تكن األمور تسري بشكل جيد‬ ‫لدي املتدربني السابقني يف ورش الذهب يف بريوزوف ومياس ‪ .‬فلم يتوصلوا إلي‬ ‫األهداف اليت وضعها هلم حممد علي ‪ .‬عن هذا األمر يكتب “ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي”‬ ‫‪ - 147‬أنظر‪ :‬أ‪ .‬أي‪ .‬بريم‪ .‬المرجع األسبق‪ .‬ص‪.554 .‬‬ ‫‪ - 148‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.21.‬‬ ‫‪118‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫مبزيج من األمل والتعاطف ‪« :‬مع عدم توافر التطبيقات الالزمة للعمل‪ ،‬كان‬ ‫املتدربون يشعرون بيأس‪ ،‬بعد تعرضهم لضغوط من قبل حاكم املنطقة وإجبارهم‬ ‫باستمرار من قبل حممد علي ‪ .‬وهلذا شعروا بسعادة حقيقية عند وصولنا‪ ،‬الذي‬ ‫أزاح باملسئولية عن كاهلهم »‪ .‬يف الواقع ظل الشخص اخلبري واملؤهل مثل مساعد‬ ‫رئيس منطقة تعدين زالتؤوست يقود العمل علي بناء الورشة آنذاك‪ .‬استطاع‬ ‫الدهشوري وعلي حممد أخذ قسط من الراحة ولو لبعض الوقت‪ .‬من املهم يف هذا‪ ،‬أن‬ ‫عبء املسئولية قد أثر سلبًا علي صحة أصدقاء ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي املصريني ‪:‬‬ ‫علي الرغم من تأقلمهم علي طقس أفريقيا‪ ،‬إال أنهم ‪ ،‬علي ما يبدو‪ ،‬بدأوا يشعرون‬ ‫بأثره الضار‪ .‬يذكر رئيس البعثة الروسية يف كتاباته أن « الدهشوري املسكني»‬ ‫« قد دفع ثـمن تعرضه ألضرار للطقس‪ ،‬ومنذ أن وصل إلي السودان تعرض للمرض‬ ‫باستمرار»‪.149‬‬ ‫بعد لقاء “الدهشوري” مل يبق علي الوصول إلي جبال كاسان سوي ثالثة أيام ‪.‬‬ ‫ولكن يف احملطة األخرية من هذه الرحلة الطويلة وقعت حادثة أخرى مدهشة ‪ ،‬الزال‬ ‫يتذكرها بارودين ‪ « .‬توقفنا يف الطريق لتناول الغداء‪ .‬نزل إلينا من فوق اجلبال‬ ‫ً‬ ‫خنزيرا ً‬ ‫ً‬ ‫مرقطا كهدية‪ .‬عرب املقدم هلم‬ ‫بريا‬ ‫أربعة زنوج مسلحني حبراب وحيملون‬ ‫عن إمتنانه ‪ ،‬ولكنه مل يقبل اهلدية لعدم متكنه من طهيها‪ ،‬فجميع الطباخني‬ ‫مسلمون»‪ .150‬ميكنك ختيل مدي صعوبة رفض رئيس البعثة وأصدقائه‪ ،‬الذين‬ ‫اجتازوا العديد من احملن‪ ،‬تذوق خنزير بري مشوي‪ ،‬أحضره إليهم السكان احملليون‬ ‫كهدية !‬ ‫ال يزال بانتظار البعثة أيام وليالي علي هذا الطريق ‪ .‬وكما كان يف السابق ‪،‬‬ ‫من الضروري اختاذ تدابري احليطة الالزمة يف أفريقيا‪ .‬كان إيفان تروفيموفيتش‬ ‫ً‬ ‫معتادا بالطبع علي «عدم وضع أي شيء علي األرض يف مكان مبيتهم‪ .‬بل جيب‬ ‫‪151‬‬ ‫وضعها فوق حجارة أو شجرة بسبب النمل األبيض» ‪ .‬مع هذا مل يتخل بارودين‬ ‫وصديقه – خبري صناعات الذهب األورالي اآلخر – عن التفاؤل وضبط النفس‪ .‬فقد‬ ‫كانوا حياولون اجتياز تلك الرحلة الطويلة والصعبة دون أي مشاكل مثل أي‬ ‫عمل صعب آخر قاموا بتنفيذه يف مناجم الذهب مبياس‪ .‬ويبدو املثال علي هذا األمر‬ ‫‪ - 149‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.155 .‬‬ ‫‪ - 150‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.21.‬‬ ‫‪ - 151‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.21.‬‬ ‫‪119‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫ً‬ ‫جليا‪ .‬يذكر رئيس البعثة كيف سأل بارودين شريكه أثناء وصوله إلي مكان‬ ‫التنقيب يف جبال كاسان ‪:‬‬ ‫«‪ -‬إلي أي مدي سينقلوننا أبعد من هذا يا إيفان؟»‬ ‫ً‬ ‫مستلقيا حتت‬ ‫«‪ -‬لن يكون أبعد من الشمس‪ - ،‬رد فومني بال مبااله‪ ،‬وهو يتثائب‬ ‫الشمس الساطعة»‪.152‬‬

‫بناء الورشة‬ ‫وصلت بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي يف الرابع من مارس ً‬ ‫أخريا إلي مقصدها‪.‬‬ ‫ومل يكن اختيار مكان بناء ورشة غسل الذهب مصادفة‪ .‬بالقرب من املعسكر‬ ‫جيري نهر تومات (توميل‪ .‬تعليق املرتجم) ‪ -‬اجملري الغربي للنيل األزرق (كان‬ ‫بارودين يطلق عليه اسم «توماكو»)‪ .‬وبعد أن رأي النهر‪ ،‬سرعان ما تذكر “ي‪ .‬ب‪.‬‬ ‫كافاليفسكي” مياس علي جبال زالتؤوست ‪ ،‬مبا أن ‪ -‬مثل مناجم األورال ‪ -‬رواسب‬ ‫الذهب تقبع يف األساس داخل حوض من األنهار‪« ،‬وعرب املروج واألنهار الصغرية اليت‬ ‫تصب فيه مع التيار من اإلجتاه الغربي »‪ .153‬وكما حدث يف األورال وألتاي كانت‬ ‫ً‬ ‫دليال ً‬ ‫دامغا علي توافر خمابئ‬ ‫طبقات «الصخور اخلضراء » بالنسبة لعامل اجليولوجيا‬ ‫الذهب يف هذا املكان ‪ .‬وكما كان يشري رئيس البعثة‪ ،‬فإن «صفيحة اجلبال‬ ‫الرئيسة» يف وسط أفريقيا تتكون من صخور الكلوريت والتلك ‪ ،‬اليت «خترج‬ ‫من خالهلا صخور البلور والسيانيت »‪ .‬علي كل حال‪ ،‬كان من الصعب أن نطلق‬ ‫علي تومات ً‬ ‫نهرا يف معظم أوقات العام ‪ .‬فقد كان درجة احلرارة يف مشال السودان‬ ‫كفيلة بتجفيف جمراه حبيث يصبح من النادر إحتوائه علي املاء ‪ « .‬يذكر إيفان‬ ‫بارودين ‪ ،‬أنه مل ير سوي الرمال بدل من املياه‪ ،‬فاملياه تتوافر فقط عند سقوط األمطار »‪.‬‬ ‫خلف معسكر العاملني علي بناء ورشة غسل الذهب املوجود يف كاسان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مدهشا علي نفس خبري التعدين األورالي ‪ .‬وبالطبع كان لطقس السودان‬ ‫انطباعا‬ ‫أثره يف ذلك األمر ‪ ،‬وهلذا ‪ ،‬إذا كان من الضروري علي إدارة منطقة تعدين زالتؤوست‬ ‫ً‬ ‫سابقا‪ ،‬فقد غابت مثل تلك‬ ‫اإلعتناء بتدفئة منازل مهندسي التعدين ‪ ،‬كما أشرنا‬ ‫املشاكل هنا ‪« :‬فالبعض يعيش يف خيام من قماش األشرعة ‪ ،‬و البعض اآلخر يعيش‬ ‫يف أكواخ من القش ‪ .‬أنها القوات‪ ،‬أي اجلنود ‪ .‬بينما يعيش حاكم املنطقة خالد‬ ‫باشا والضباط اآلخرون يف أكواخ من التنب ‪ ،‬ما عدا املهندسني الدهشوري وعلي ‪،‬‬ ‫‪ - 152‬مجموعة أعمال يجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.155 .‬‬ ‫‪ - 153‬نفس المرجع‪ .‬ص‪.152 .‬‬ ‫‪120‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫اللذان يعيشان يف خيام ‪ ...‬بالنسبة لنا قاموا ببناء غرف من التنب يف غضون ليلة‬ ‫واحدة »‪ - ،‬كما ذكر إيفان تروفيموفيتش‪ .154‬مل يكن من قبيل الصدفة اإلشارة‬ ‫إلي وجود العديد من اجلنود يف املعسكر‪ .‬يتعلق األمر بقيام القوات السودانية‬ ‫يف ذلك الوقت بأعمال عسكرية ضد قبيلة من الغال يف املنطقة ‪ ،‬وهلذا كان من‬ ‫الضروري محاية ورشة غسل الذهب اليت مت بنائها‪.‬‬ ‫سرعان ما أدخل املتخصصون الروس تعديالت جذرية علي أعمال استخراج الذهب‬ ‫يف منطقة تومات ‪« .‬قبل وصولنا‪ - ،‬كما أشار بارودين‪ - ،‬كانت عملية الغسل‬ ‫جتري علي شاطئ النهر‪ ...‬جيلس عاملوا الغسيل الزنوج علي شكل دائرة‪ ...‬يقوم‬ ‫هؤالء بوضع نصف بود (‪16،38‬كيلو جرام) علي امليزان‪ .‬يقوم البعض بإحضار‬ ‫الرمال للغسل‪ ،‬بينما يزيل آخرون الرمال املغسولة»‪ .‬قام أحد العمال بغسل ما يقرب‬ ‫من مخسة عشر بود من الرمال يف اليوم‪ً .‬‬ ‫وفقا لرأي املهندسني واخلرباء الروس‪ ،‬كان‬ ‫ً‬ ‫فعاال باملرة‪ « :‬فهم جيلبون العديد من العمال ‪،‬‬ ‫منهج الغسل اليدوي للرمال غري‬ ‫ويقنعونهم بكيفية استقبال وتسليم سلة الرمال لبعضهم البعض‪ .‬فاألول يضع‬ ‫الرمال يف السلة ويسلمها للعامل القريب منه وهكذا تسري السلة حتى آخر فرد‪.‬‬ ‫ويقوم األخري بإفراغ الرمال الغري صاحلة فوق الكومة»‪ .‬يف تلك األثناء كانت‬ ‫التجهيزات التقنية يف هذا املنجم بدائية ألقصى حد‪ .‬يكفي القول أن العمال‬ ‫كانوا يضعون الرمال فوق امليزان بإيديهم وليس بالفؤوس ‪ .‬وكانوا ينقلون الرمال‬ ‫علي اجلمال ‪ ،‬ففي مثل تلك الظروف وحبالة الطرق السيئة كانت اجلمال وسيلة‬ ‫النقل الوحيدة املتاحة ‪.‬‬ ‫من البديهي أن يسارع خرباء التعدين الروس باختاذ قرار بإدخال العديد من‬ ‫التعديالت اجلديدة علي نظام عمل تلك املنشأة ‪ .‬وكان استخدام اآلالت‪ ،‬اليت‬ ‫كانت تستخدم بشكل فعال يف مناجم مياس للذهب‪ ،‬أثره بالطبع علي زيادة‬ ‫اإلنتاج بشكل كبري‪ .‬أمر ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪ ،‬كما كان يشري مساعده‪،‬‬ ‫« باحلفر » ‪ ،‬كما قام بتطوير منظومة العمل علـي غسـل الذهـب ‪ .‬وبـدورهـم‬ ‫« نصـب » خرباء التعدين الروس يف الورشة مبنطقة تومات « أربعة آالت وآلة‬ ‫ً‬ ‫سابقا‪ ،‬فقد كانت‬ ‫أخري جمرية الصنع بأطراف مستقيمة »‪ .155‬وكما أشرنا‬ ‫اآلالت جمرية الصنع تستخدم يف مناجم مياس للذهب منذ فرتة‪ ،‬وحتى قبل ظهور‬ ‫«طاحونة» ب‪ .‬ب‪ .‬أنوسف الشهرية‪.‬‬ ‫‪ - 154‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.22.‬‬ ‫‪ - 155‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.23.‬‬ ‫‪121‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫ً‬ ‫حتميا التغلب علي الفكر القديم للقائمني علي بناء الورشة يف املنطقة‪.‬‬ ‫كان‬ ‫ً‬ ‫سريعا أثناء العمل املتواصل‬ ‫يذكر ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي « أن الوقت كان مير‬ ‫وأخريا ُ‬ ‫ً‬ ‫كللت جهودنا بالنجاح‪ ...‬بدأت‬ ‫والصراع مع الطبيعة وجهل األتراك‪...‬‬ ‫سريعا‪ .‬كنا نعمل ً‬ ‫ً‬ ‫ليال ونها ًرا‪ .‬ومن جديد بدأ األتراك يف احلديث‬ ‫الورشة بالتطور‬ ‫ً‬ ‫‪156‬‬ ‫عن أن الورشة لن جتنى شيئا‪ :‬فاألمر يفوق إدراكهم » ‪ .‬مع هذا كان “ي‪ .‬ب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫راضيا عن نتائج بعثته األولية‪ .‬وكتب من مسرح العمل‬ ‫كافاليفسكي” نفسه‬ ‫خطا ًبا إلي القنصل العام أ‪ .‬م‪ .‬فوك ‪ ،‬الذي فسر حمتواه يف رسالة إلي املبعوث الروسي‬ ‫يف القسطنطينية “ف‪ .‬ب‪ .‬تيتوف” ‪ً .‬‬ ‫وفقا ملا أورده أ‪ .‬م‪ .‬فوك‪ « ،‬فقد متكن ي‪ .‬ب‪.‬‬ ‫كافاليفسكي من اكتشاف رمال غنية برواسب الذهب وكذلك العمل علي‬ ‫بناء ورشة هناك‪ ...‬يف ظل شكواه من الصعوبات املختلفة ‪ ،‬اليت اضطر لتحملها‪،‬‬ ‫عرب السيد “ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي” عن أمله يف إنهاء هذه املهمة الشاقة امللقاة علي‬ ‫‪157‬‬ ‫عاتقه نهاية سعيدة ‪ ،‬كما ينوي العودة إلي القاهرة يف شهر يوليو‪»...‬‬ ‫ً‬ ‫شخصيا إلي‬ ‫نشر “ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكني” خطا ًبا موجه من “إجيور بيرتوفيتش”‬ ‫“حممد علي” يف مارس عام ‪ .1848‬يشري املقدم إلي جناحه يف الوصول إلي « نتائج‬ ‫مرضية ً‬ ‫جدا»‪ « :‬بالتأكيد أخرب خالد باشا صاحب السمو عن قيام أحد عمالنا من‬ ‫غسل ‪ 69‬حبة (‪ 1‬زولوتنيك و‪ 60‬جزء ) ‪ ،‬إال أنين سأضيف ضرورة عدم الوقوع يف‬ ‫األوهام بسبب تلك النتيجة الباهرة »‪ .‬يبدو أنه أشار إلي أن الرواسب احلاملة للذهب‬ ‫مفيدا ً‬ ‫ً‬ ‫«غنية ً‬ ‫جدا»‪ ،‬وهلذا ميكن اعتبار بناء الورشة يف منطقة كاسان ً‬ ‫جدا » ‪.‬‬ ‫«أمرا‬ ‫أشار “ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي” يف هذا اخلطاب‪ ،‬املرسل مباشرة من مسرح العمل إلي‬ ‫حممد علي ‪ ،‬إلي أهمية استعمار تلك املنطقة من أجل تطوير صناعة استخراج الذهب‬ ‫هناك ‪ .‬يؤكد رئيس البعثة ضرورة أن تأخذ املستعمرة يف اإلعتبار «مجيع الوسائل‬ ‫ً‬ ‫وأخريا املنفعة‬ ‫اآلمنة املتاحة اليت تتطلبها تلك املنطقة املنعزلة ‪ ،‬وصعوبات العمل ‪،‬‬ ‫‪158‬‬ ‫من وراء هذا املشروع‪ ،‬بل والتصورات العامة‪ ،‬اليت ال يفوق سعادتكم فيها أحد‪. »...‬‬ ‫مببادرة من ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي أخذ أفراد البعثة يصعدون فوق جبل كاسان‪،‬‬ ‫الذي يوجد علي بعد مخس فرستا من املعسكر‪ .‬أثناء ختطيطه رأي رئيس البعثة‪،‬‬ ‫أنه من األفضل تفقد املنطقة وتقييم املنابع من أجل تطوير اإلنتاج ‪ .‬كما عقد‬ ‫أعضاء البعثة العزم ً‬ ‫أيضا علي القيام ببعض املشاهدات اليت ختص قياس منسوب‬ ‫املياه وجيولوجيا ونباتات وحيوانات املنطقة ‪ .‬يذكر بارودين أن «احملافظ» خالد‬ ‫‪ - 156‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.152 .‬‬ ‫‪ - 157‬ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين‪ .‬مصر في أعين الروس‪ ...‬ص‪.265 .‬‬ ‫‪ - 158‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.265-266 .‬‬ ‫‪122‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫باشا وموظفني حمليني ‪ ،‬باإلضافة إلي جمموعات من اجلنود حتركوا مع الروس‬ ‫من أجل « احلراسة »‪ .‬بعد الصعود علي جبل كاسان‪ ،‬بدأ رئيس البعثة بال إرادة‬ ‫يف املقارنة بينه وبني العديد من اجلبال اليت رآها يف حياته‪ .‬ولكن‪ ،‬بشكل‬ ‫مفاجئ‪ ،‬استدعت تلك الذكريات يف نفس الرحالة الروسي صورة قريبة ً‬ ‫جدا إلي‬ ‫قلبه ‪« :‬ليست جبال السويد اليت ترتفع هاماتها فوق السحاب ‪ ،‬وليست جبال ألبانيا‬ ‫و مونتينيجرو الصخرية اجلرداء الوعرة‪ .‬بل هي جبالنا يف جنوب األورال ‪ ،‬وجبال‬ ‫‪159‬‬ ‫سيبرييا بوديانها اجلبلية الرائعة‪ ،‬واجلبال اخلالبة! »‬ ‫مل يكن إيفان تروفيموفيتش مييل يف مذكراته الستخدام مناذج بهذا القدر‬ ‫من الرومانسية ‪ .‬بطبيعة احلال كان خبري التعدين األورالي ً‬ ‫مهتما قبل كل شىء‬ ‫بثروات اجلبال يف شرق السودان ‪ .‬وفيما بعد يصف تلك املناطق ‪ً ،‬‬ ‫قائال‪« :‬أنها مناطق‬ ‫جبلية ‪ ،‬مع أن اجلبال ليست شاهقة ‪ .‬ويف املنحدر الشمالي يقوم الزنوج بعمليات‬ ‫التنقيب منذ قديم األزل ‪ .‬تغطي الرمال احلاملة للذهب طبقات جوفاء بسمك أربعة‬ ‫فريشوك (‪4،4‬سم‪ .‬تعليق املرتجم) إلي ثالثة أرشني (‪71‬سم‪ .‬تعليق املرتجم)‪ ...‬تنمو‬ ‫األعشاب الطويلة والنادرة‪ ،‬وتوجد أنواع خمتلفة من الغابات »‪ .160‬يف احلقيقة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ضروريا أخذ كل التفاصيل يف اإلعتبار أثناء تقييم اآلفاق املستقبلية‬ ‫كان‬ ‫لتطوير صناعة التعدين يف السودان املصرية (وخاصة ما يتعلق بتوافر الغابات)‬ ‫‪ .‬الحظ إيفان تروفيموفيتش وجود طبقات من الطمي والتلك واحلجارة وطبقات‬ ‫خمتلفة من الكوارتز داخل الطبقات اجلبلية‪ .‬كما ألفت االنتباه إلي حالة الرتبة‬ ‫ً‬ ‫مشريا إلي «عدم وجود تربة خارجية أو تربة سوداء»‪.161‬‬ ‫يف تلك املناطق ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أصبح األول من أبريل ً‬ ‫مشهودا يف تاريخ ورشة غسل الذهب يف شرق السودان‪:‬‬ ‫يوما‬ ‫فقد اتخُ ذت مجيع التدابري من قبل « احلاكم » خالد باشا لإلحتفال ببداية عملية‬ ‫غسل الذهب‪ .‬خالل ذلك خيربنا ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي أنه صاحب املبادرة يف القيام‬ ‫ً‬ ‫شخصيا بدعوة خالد باشا حلـضور هـذا‬ ‫بهذا احلدث ‪ :‬فقد قام رئيس البعثة الروسية‬ ‫احلدث « لتجـنب أي مشاكل أو سوء تفاهم ميكن أن حيدث بعد ذلك »‪.162‬‬ ‫كان ذلك ‪ ،‬يف احلقيقة ‪ ،‬أحد أبرز األحداث اليت انطبعت يف ذاكرة بارودين‪،‬‬ ‫الذي يذكر ‪« :‬خرج اجلنود يف عرض عسكري ووقفوا يف صفوف ثم قاموا بعدة‬ ‫‪ - 159‬نفس المرجع‪ .‬ص‪.158 .‬‬ ‫‪ - 160‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.22.‬‬ ‫‪ - 161‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.22‬‬ ‫‪ - 162‬ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪ .‬حوض النيل‪ ...‬ص‪.99 .‬‬ ‫‪123‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫حركات منتظمة ووضعوا السالح يف الغمد‪ ،‬والباشا يأمر القوات بنفسه ‪ .‬بسطوا‬ ‫السجاجيد‪ ،‬اليت وقف الباشا واملوظفني عليها ‪ .‬كان الزنوج جيلسون علي مسافة‬ ‫بعيدة مبا أنهم عبدة أوثان ‪ .‬كنا جنلس مع رفاقنا ونشاهد املراسم »‪ .163‬كانت‬ ‫املراسم مثرية ً‬ ‫جدا للدهشة‪ ،‬كما عكست تعددية جنسيات املشاركني فيها‪.‬‬ ‫يذكر إيفان بارودين أن اجلنود يف البداية استغرقوا يف اإلبتهال إلي اهلل ‪ ،‬ثم اقتاد‬ ‫السودانيون ثالثة ثريان ‪ ،‬وقاموا بنحرهم وبدأوا ميسحون اآلالت بدماء الثريان ‪ .‬بال‬ ‫أدني شك‪ ،‬يعكس كل ذلك الطابع املعقد والكامل خللفية سكان املنطقة‬ ‫الدينية‪ .‬بعد تلك املراسم االحتفالية بدأ العمل املكثف علي غسل الرمال باستخدام‬ ‫اآلالت‪ .‬مع هذا ال يزال بيت القصيد يف فاعلية عمل ورشة غسل الذهب‪ ،‬اليت أنشأت‬ ‫مبشاركة املتخصصني الروس ‪ .‬تتفوات وجهات نظر رئيس البعثة ومساعده بشأن‬ ‫ً‬ ‫جاهدا من خالل مذكراته‬ ‫تلك القضية‪ .‬فقد كان “ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي” حياول‬ ‫إثبات حقيقة أن األوراليون متكنوا من حتقيق جناح باهر يف قضية تطوير صناعة‬ ‫استخراج الذهب يف شرق السودان ‪ .‬كما اعرتف أن العمل كان يسري يف البداية‬ ‫«ببطء»‪« ،‬حيث استغرق الزنوج مدة طويلة حتى يدركوا طريقة تشغيل تلك اآللة » ‪.‬‬ ‫كانت إنتاجية العمال السودانيني يف األيام األول أقل بثالث مرات عن مثيلتها‬ ‫لدي عامل ورش الذهب يف مياس‪ .‬إال أنه بعد مرور أسبوع تعود عمال غسل الذهب‪،‬‬ ‫أصحاب البشرة السمراء علي العمل بالتقنية اجلديدة وارتفعت إنتاجيتهم إلي‬ ‫الضعف‪ .164‬أثبت ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي أن الورشة كانت «تعمل بشكل جيد»‬ ‫«حتى حتت قيادة العرب»‪ ،‬وكان الذهب « يستخرج تقريبًا كل يوم »‪ .165‬وفيما‬ ‫يتعلق بآفاق استخراج املعدن النفيس يف السودان املصرية‪ ،‬فقد ارتبط ذلك لدي‬ ‫املهندس الروسي بشخصية حممد علي‪« :‬ميكن القول بكل شجاعة أن صناعة‬ ‫الذهب سوف تزدهر‪ ،‬طاملا بقى حممد علي علي قيد احلياة »‪.166‬‬ ‫مل يتح لنا التاريخ الفرصة الختبار مزاعم ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي ‪ :‬من املعروف‬ ‫أن مؤسس مصر احلديثة العظيم قد فارق احلياة بعد بناء الورشة يف فازوغلي‬ ‫مباشرة ‪ .‬يبدو أن حتليل أقوال إيفان بارودين – مساعد ي ‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‬ ‫جيعلنا نشك يف وجود أية آفاق مستقبلية حقيقية للعمل الذي بدأه املهندسون‬ ‫‪ - 163‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.23.‬‬ ‫‪ - 164‬ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪ .‬حوض النيل‪ ...‬ص‪.99 .‬‬ ‫‪ - 165‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.209 .‬‬ ‫‪ - 166‬نفس المرجع‪ .‬ص‪.249 .‬‬ ‫‪124‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫الروس يف ظل ظروف السودان املصرية يف القرن التاسع عشر‪ .‬من الصعب أن‬ ‫يكون خبري التعدين األورالي قد عول علي إمكانية نشر مذكراته‪ ،‬وهلذا بدي‬ ‫ً‬ ‫تشائما للغاية ‪.‬‬ ‫أكثر حرية من رئيسه يف تقييمه‪ .‬وبدت تلك التقديرات أكثر‬ ‫فقد أكد أنه علي الرغم من قيام قادة املنجم « بإجبار » العمال بكل الوسائل‬ ‫«من أجل غسل كميات أكرب»‪ ،‬إال أنهم مل يستخرجوا ً‬ ‫شيئا‪« :‬فمن بوسعه رفع‬ ‫اإلنتاج ً‬ ‫‪167‬‬ ‫إذا! فالشعب خائر القوي – فكيف له أن يصبح ً‬ ‫قويا بدون طعام جيد» ‪.‬‬ ‫فالطعام الوحيد املتوفر ً‬ ‫فعليا هو « الذرة » البدائي املسلوق (أصناف من احلساء)‪ .‬وبهذا‬ ‫الشكل‪ ،‬كان خبري التعدين األورالي يعرتف بصراحة أن حالة املوارد البشرية‬ ‫العاملة إحدي أهم املشاكل اليت تعيق منظومة تطوير صناعة استخراج الذهب‬ ‫يف املنطقة‪ .‬يف مثل هذه الظروف مل يتسن للعمال السودانيني املضي ً‬ ‫قدما يف رفع‬ ‫إنتاجية عملهم‪ ،‬اليت وصلت إلي ما يقرب من ‪ 400‬بود من الذهب املغسول لآللة‬ ‫الواحدة ‪ .‬ففي أول يوم عمل أنتجت أربعة آآلت ‪ 15‬زولوتنيك ذهب ‪ .‬وبالطبع كانت‬ ‫القدرة اإلنتاجية منخفضة ً‬ ‫جدا‪ .‬من املعروف أن السودانيون العاملون علي بناء ورشة‬ ‫غسل الذهب يف فازوغلي كانوا يتقاضون من السلطات قرش واحد (وهو ما يعادل‬ ‫يف احلساب الروسي ستة كوبييات من الفضة) يف اليوم‪.168‬‬ ‫من املالحظ أن رأي بارودين يتوافق متا ًما مع تلك التقديرات‪ ،‬اليت أعطاها الرحالة‬ ‫الروس اآلخرين الذي كانوا يف زيارة ملصر والسودان يف تلك األعوام‪ .‬علي سبيل‬ ‫املثال‪ ،‬يف أربعينيات القرن التاسع عشر يف جنوب النوبة أحبر عرب نهر النيل‬ ‫اجليوغرايف الروسي “أ‪ .‬أ‪ .‬رافالوفيتش” ‪ ،‬الذي قام بدراسة بيئة وطباع قبائل الرببر‬ ‫القاطنة يف تلك املناطق‪ .‬ويف التقرير ‪ ،‬الذي قرأه يف شهر مارس عام ‪ 1849‬يف جلسة‬ ‫اهليئة اجليوغرافية التابعة لإلمرباطورية الروسية ‪ ،‬أشار أن السكان احملليون «‬ ‫ً‬ ‫قليال ما يستخدمون اللحوم (علي الرغم من نهم الكثريين به) وبشكل عام هم‬ ‫مقلون يف تناول الطعام إلي حد كبري»‪ .‬ذكر رافالوفيتش أن طاقم املركب ‪ ،‬الذي‬ ‫سافر علي متنه عرب نهر النيل ‪ « ،‬كان يقتات باستمرار علي كسرات من اخلبز‬ ‫وعدس مسلوق يف ماء وملح دون أي إضافات أخري‪ .‬يف غضون ذلك كانوا مضطرين‬ ‫أكثر من مرة لإلحبار من ‪ 14 ،12‬ساعة عدة أيام علي التوالي ‪ ...‬وبسبب هذا الطعام‬ ‫املتواضع سرعان ما خارت قوي الربابرة »‪.169‬‬ ‫‪ - 167‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.23.‬‬ ‫‪ - 168‬ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪ .‬حوض النيل‪ ...‬ص‪.93 .‬‬ ‫‪ - 169‬أ‪ .‬أ‪ .‬رافالوفيتش‪ .‬تعليقات عن اثنوغرافيا سكان جنوب النوبة ‪ //‬مذكرات الهيئة‬ ‫الجيوغرافية لإلمبراطورية الروسية‪ .‬سانت بطرسبورج‪ .1850 ،‬الكتاب الرابع‪ .‬ص‪.180 .‬‬ ‫‪125‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫كما أشار أن السبب وراء ضعف إنتاجية عمل السودانيني ليس يف عدم رغبتهم‬ ‫يف العمل‪ ،‬ولكن بسبب الطبيعة الفقرية لكثري من مناطق السودان‪ ،‬اليت مل متنح‬ ‫سكان املنطقة الفرصة للحصول علي طعام كاف‪ .‬يف ظين ‪ ،‬البد من أخذ تلك‬ ‫التصورات يف اإلعتبار عند تقييم القدرة اإلنتاجية لسكان مشال شرق أفريقيا‪.‬‬ ‫من احملتمل أن هذه اإلعتبارات ظلت خارج دائرة إهتمام مؤلف كتاب «رحلة إلي‬ ‫األماكن املقدسة»‪ ،‬علي سبيل املثال‪ ،‬الذي نقلنا عنه أكثر من مرة‪ ،‬ومؤلف‬ ‫ً‬ ‫فعاال»‪ .‬أبدي “أ‪.‬‬ ‫«القبائل العربية الضعيفة » ‪ ،‬الذي « يثري صخبًا أكثر من كونه‬ ‫ن‪ .‬مورافيف” جرأة يف التعبري عن رأيه بصورة الذعة‪« :‬ميكن لعامل روسي واحد أن‬ ‫يعوض جمهود عشرة أشخاص»‪ .170‬ولكن هل ُيعد السبب وراء هذا الرأي يف النزعة‬ ‫ً‬ ‫ضروريا ذكر عامل الظروف الطبيعية‬ ‫القومية فقط؟ فمن بني مجيع الظروف يبدو‬ ‫واملناخية يف املنطقة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫اعتمادا علي تقديرات بارودين وبعض الباحثني يف تلك املشكلة ظلت‬ ‫الشكوك حتوم بشكل كبري حول تقديرات آفاق استخراج الذهب يف شرق‬ ‫السودان ‪ .‬أعترب “أ‪ .‬ليربمان” الباحث يف طبيعة منطقة زالتؤوست سالف الذكر‬ ‫أن البعثة الروسية مل تتمكن من زيادة معدالت غسل الذهب‪« :‬كان الزنوج‬ ‫هزالي وقلت إنتاجية عملهم »‪ .171‬جيدر اإلشارة إلي أن رئيس بعثة فازوغلي ي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مناهضا لفكرة الدونية العنصرية اليت طاملا القت‬ ‫ب‪ .‬كافاليفسكي كان‬ ‫فصال كامالً‬ ‫ً‬ ‫صداها يف األدب الروسي يف ذلك الوقت ‪ .‬وهلذا خصص يف مذكراته‬ ‫ً‬ ‫تفصيليا طباع وتقاليد تلك الشعوب‪ .‬مع‬ ‫عن الشعوب اإلفريقية‪ ،‬استعرض فيه‬ ‫استعراض اآلراء املختلفة للكتاب األوروبيني السابقني حول هذا األمر ‪ ،‬مل ميتنع‬ ‫ً‬ ‫مؤكدا باستمرار علي فكرة الطبيعة الرببرية‬ ‫إجيور بيرتوفيتش عن إبداء رأيه‪،‬‬ ‫وختلف األفارقة‪.172‬‬ ‫علي اجلانب اآلخر قام مساعد رئيس البعثة ‪ ،‬الشخص الذي لديه اهتمامات خمتلفه‬ ‫ً‬ ‫متاما وغري املطلع علي املصادر األدبية األوروبية العديدة ‪ ،‬اليت تناقض هذا املوضوع‪،‬‬ ‫بوضع صور متفرقة علي صفحات مدوناته « من وحي الطبيعة» ُتظهر منط حياة‬ ‫شعوب شرق السودان يف منتصف القرن التاسع عشر خالل املدة القصرية اليت قضاها‬ ‫الرحالة الروس يف منجم فازوغلي ‪ .‬وبالطبع مل يتمكن إيفان تروفيموفيتش سوي‬ ‫وضع تصو ًرا ً‬ ‫عاما عن السكان احملليني‪ .‬أشار األخري إلي حقيقة أن سكان املنطقة‬ ‫‪ - 170‬رحلة إلي األماكن المقدسة‪ ...‬ص‪.110 .‬‬ ‫‪ - 171‬أ‪ .‬ليبرمان‪ .‬األوراليون في مصر ‪ //‬عامل زالتؤوست‪ 11 .1976 .‬سبتمبر‪.‬‬ ‫‪ - 172‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.214-236 .‬‬ ‫‪126‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫وعرقيا عن سكان مصر‪ ،‬الذي كان يشاهدهم أثناء رحلتهم‬ ‫جنسيا‬ ‫خيتلفون‬ ‫الطويلة ‪ « :‬مجيع سكان املناطق اجملاورة من الزنوج » ‪ .‬ونتيجة لتأمالته أوضح‬ ‫أن القبائل احمللية تتمتع بالالمركزية ً‬ ‫متاما من الناحية السياسية ‪« :‬حيث يوجد‬ ‫ً‬ ‫سلطان حاكم لكل جبل »‪ .‬كما يعطي وصفا عا ًما لتأمالته اخلاصة بنمط‬ ‫ووسائل تدبري أمور حياتهم ‪ « :‬يسريون عراة يف أغلب األحيان‪ .‬ميلكون قطعان‬ ‫كافية من املاشية ‪ ،‬وال يتحركون إلي أي مكان بدون سالح »‪.‬‬ ‫كان السكان احملليون يعيشون يف األساس علي منحدرات اجلبال اجملاورة « يف‬ ‫عرائش من القش »‪ ،‬كنا نري من بعيد أضواء النريان اليت كانوا يشعلونها كل‬ ‫ليلية ‪ً .‬‬ ‫وفقا ملا ذكره ‪ ،‬فاحملارب التقليدي من قبائل شرق السودان كان حيمل‬ ‫معه بني ثالث إلي أربعة بلطات وأسهم «هراوات» و «تروس» ‪ .‬كانت الغالبية‬ ‫احلقيقية لسكان املنطقة من أصحاب العقائد احمللية التقليدية ‪ .‬أنهم « عبدة‬ ‫األوثان »‪ ،‬كما أطلق عليهم إيفان تروفيموفيتش ‪ .‬علي أية حال ‪ ،‬مل يكن‬ ‫ً‬ ‫كثريا مع قبائل فازوغلي الرببرية ‪ ،‬إلدراكهم‬ ‫أعضاء البعثة الروسية يتواصلون‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جيدا مدي خطورة هذا األمر‪ .‬أعرتف بارودين ‪ ،‬قائال‪ « :‬مل يذهب أي أحد منا إليهم ولو‬ ‫‪173‬‬ ‫بدافع الفضول » ‪ .‬مع هذا‪ ،‬أثارت جتارة العبيد يف أفريقيا إعجاب خبري التعدين‬ ‫األورالي‪ .‬يف عهد حممد علي كانت تلك التجارة إحدي أشكال « احتكار‬ ‫ً‬ ‫الدولة»‪ ،‬اليت كانت تدر ً‬ ‫كبريا خلزينة الدولة‪ .‬قبل وصول البعثة الروسية إلي‬ ‫رحبا‬ ‫السودان بتسعة أعوام عام ‪ 1839‬مت جلب أكثر من ‪ 200‬ألف عبد أسود إلي مصر‬ ‫من هناك‪ .174‬كان جتار العبيد‪-‬اجلالبة يكونون مملكتهم الصغرية اخلاصة ‪،‬‬ ‫واليت تقوم بغارات علي القبائل اإلفريقية اجملاورة وحتول آآلف األسري إلي عبيد ‪.‬‬ ‫انتقل بعض هؤالء التجار للخدمة يف احلكومة كرؤساء للقواعد العسكرية أو‬ ‫كموظفني برتب أعلي‪.‬‬ ‫بالطبع مل يستطع خبري التعدين األورالي البسيط اإلطالع علي تلك الظروف‪ ،‬إال‬ ‫أنه كان يراقب إلي أي مدي كانت جتارة البشر تمُ ارس بشكل علين يف السودان‪:‬‬ ‫« كانوا يسوقون عدة أشخاص لبيعهم‪ ،‬يسوق أحد الزنوج سيدة مقيدة باحلبال‬ ‫ملدة ثالثة أيام ولكن مل يشرتيها أحد»‪.175‬‬ ‫‪ - 173‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.24.‬‬ ‫‪ - 174‬أنظر‪ :‬ي‪ .‬إ‪ .‬زيلينيف‪ .‬مصر‪ :‬القرون الوسطى‪ .‬العهد الجديد‪ .‬ص‪.234 .‬‬ ‫‪ - 175‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.24.‬‬ ‫‪127‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫والسؤال املطروح‪ :‬هل كان هناك أي نوع من التواصل بني أعضاء البعثة‬ ‫والسكان احملليني ؟ وكيف كان خبري التعدين األورالي البسيط‪ ،‬الذي ال يعرف‬ ‫لغات أجنبية‪ ،‬يتواصل مع ممثلي قبائل شرق السودان؟ تشهد مذكرات بارودين ‪،‬‬ ‫أنه بالرغم من الصعوبات‪ ،‬يبدو أنه متكن يف النهاية من الوصول إلي صيغة تفاهم‬ ‫مشرتكة‪« :‬كان من الصعب خالل مدة قصرية التعود علي احلديث معهم‪ ،‬ولكننا‬ ‫كنا نفهم كالمهم بعض الشيء‪ ...‬يف حاالت الضرورة كانوا يفهموننا وكنا‬ ‫نفهمهم‪ ،‬علي الرغم من صعوبة ذلك » ‪ .‬مبا أن ال أحد من أعضاء البعثة يعرف اللغات‪،‬‬ ‫اليت كان سكان املنطقة يتحدثون بها ‪ ،‬فلم يبق سوي خمرج واحد من هذا الوضع‪:‬‬ ‫كان ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي يتحدث معهم «عرب مرتجم باللغة الفرنسية»‪.176‬‬ ‫توجب علي إيفان بارودين تعيني إدارة مؤقته لقيادة عملية غسل الذهب يف‬ ‫منجم فازوغلي ‪ .‬بعد أن مت تسوية هذا األمر قرر ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي التوجه‬ ‫إلي عمق قارة أفريقيا (إلي منابع نهر تومات)‪ ،‬وعلي الرغم من معرفته اجليدة بهذا‬ ‫املكان‪ ،‬ولكن مل يسبق ألحد التواجد هناك‪ .‬يف الرابع من أبريل‪ ،‬علي حد قول‬ ‫بارودين ‪ ،‬سافر املقدم إلي إحدي مناطق التنقيب ‪ « -‬وهناك حتتوي رمال الذهب علي‬ ‫نصف زولوتنيك (‪ 4‬جرام وربع‪ .‬تعليق املرتجم) يف كل ‪ 100‬بود (‪ 16،38‬كج‪.‬‬ ‫ً‬ ‫متواجدا وحدي‬ ‫تعليق املرتجم ) ‪ .‬بينما كان كافاليفسكي يف طريقه‪ ،‬كنت‬ ‫من أجل مزاولة األعمال مع الدهشوري »‪ .177‬من املالحظ أن ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‬ ‫قد أكد يف أحد أعماله حقيقة قيامه بتكليف خبري التعدين األورالي بإدارة‬ ‫أعمال بناء الورشة بشكل مؤقت‪.178‬‬ ‫بقي أعضاء البعثة الروسية أكثر من شهر بقليل يف منطقة بناء ورشة غسل‬ ‫الذهب ‪ .‬كان الطقس حا ًرا ً‬ ‫جدا وغري مالئم ملواطين األورال حيت يف شهر مارس وبداية‬ ‫شهر أبريل ‪ « :‬يا هلا من درجة حرارة – ال ميكنك الوقوف علي الرمال – يذكر‬ ‫بارودين – ً‬ ‫وفقا لقياسات العقيد‪ ،‬فقد سجل مقياس درجة احلرارة يف الثاني عشر‬ ‫من مارس ‪ 45‬درجة ‪ .‬مع هذا كان اجلو رطبًا يف الليل » ‪ .‬ذات مرة يف ليلة الرابع من‬ ‫ً‬ ‫وحتديدا قبيل مغادرة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي من املعسكر بشكل‬ ‫شهر أبريل‪،‬‬ ‫مؤقت ‪ « ،‬هطلت األمطار ‪ ،‬ومسع صوت الرعد‪ ...‬وعلي الصباح فاضت شواطئ‬ ‫نهر التوماك‪ ...‬وبعد سقوط املطر بدي الطقس بأوجهه السيئة»‪ .‬أوضح إيفان‬ ‫تروفيموفيتش‪ ،‬أن موسم املطر يف تلك املنطقة تظهر بوادره من شهر مايو وحتى شهر‬ ‫‪ - 176‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.35‬‬ ‫‪ - 177‬نفس المرجع‪ .‬ص‪.23 .‬‬ ‫‪ - 178‬أنظر‪ :‬ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪ .‬حوض النيل‪ ...‬ص‪.94 .‬‬ ‫‪128‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫سبتمرب‪ ،‬وهلذا كانوا متواجدين يف أوقات الطقس اجلاف ‪ .‬أدي عدم تساقط األمطار‬ ‫لوقت طويل إلي تشقق تربة األرض‪ ،‬بل أحاق الرحالة الروس خبطر داهم ‪ « :‬من اخلطر‬ ‫امتطاء اجلواد وخاصة عرب املناطق املنخفضة » ‪.‬‬ ‫كانت الغابات كثيفة يف األماكن احمليطة باملخيـم ‪ « .‬يـا لـهـا من غـابة‬ ‫رائـعة » ‪ - ،‬يقول خبري التعدين األورالي بإعجاب‪ .‬وانطبعت يف ذاكرته بشكل‬ ‫خاص شجرة الباوباب األصبعي واليت كان حميطها يبلغ حتى ‪ 10‬ساجني (مرت و‪13‬‬ ‫سم ‪ .‬تعليق املرتجم )‪.‬‬

‫إلي طريق العودة‬ ‫يف الثالث عشر من شهر أبريل عقد فريق ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي العزم علي‬ ‫العودة‪ .‬استيقظ أعضاء البعثة يف الصباح الباكر وربطوا امتعتهم فوق اجلمال‪.‬‬ ‫وكانت لدي أعضاء البعثة نية يف امتطاء اجلياد عند السفر‪ ،‬ولكنهم جلبوا‬ ‫«حصان عربي أصيل» جمهز إلي ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي فقط‪ ،‬بينما امتطي خبري‬ ‫التعدين وعامل غسل الذهب محاران ‪ .‬يذكر رئيس البعثة ‪ ،‬أن املوظفون احملليون‬ ‫كانوا سعداء بفكرة رحيل الروس ‪« :‬كانوا يعربون عن رضاهم بشكل طفولي‬ ‫وهيستريي ‪ ،‬وأخذوا يتجاذبون أطراف احلديث مع خرباءنا بشكل ودي ‪ ،‬علي الرغم‬ ‫من صعوبة فهم بعضهم البعض »‪ .‬مل يكن إيفان بارودين وصديقه «أقل ً‬ ‫رضا»‪،‬‬ ‫إال أنهم كانوا حيتفظون مبالمح موظفي الدولة الصارمة‪ ،‬من وقت آلخر ترددت يف‬ ‫املكان أصداء ً‬ ‫مزاحا موج ًها إلي قائد عربي أو إلي إحدي اجلمال ‪ ،‬ومنها علي سبيل‬ ‫ً‬ ‫املثال‪ :‬هيه‪ ،‬يا صديقي اخفض السنام ولو قليال من فضلك‪ ،‬كأننا جنلس علي‬ ‫خازوق! »‪ .179‬وبالتأكيد‪ ،‬شعر األوراليون بسعادة بالغة ‪ ،‬فالوجهة هذه املرة إلي‬ ‫أرض الوطن‪.‬‬ ‫يذكر بارودين ‪ ،‬أن ما يقرب من مائة جندي شاركوا يف مراسـم الوداع‪.‬‬ ‫أثناء مراسم الوداع أهدي خالد باشا «مخسة جنيهات لشراء فودكا»‪ 180‬إلي‬ ‫خبري التعدين األورالي بنفسه ‪ .‬واملدهش ‪ ،‬أن صديق بارودين – فومني و « خادم‬ ‫كافاليفسكي» ( مراسل املقدم ) الذي حيمل اسم أسكندر ‪ ،‬نقلوا نفس املبلغ‪.‬‬ ‫وبهذا الشكل ‪ ،‬من وجهة نظر موظفي حممد علي ‪ ،‬كان وضع خبري التعدين‬ ‫‪ - 179‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.237 .‬‬ ‫‪ - 180‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.24.‬‬ ‫‪129‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫وعامل غسل الذهب أقرب ما يكون إلي وضع خادم أكثر من كونه رئيس بعثة ‪.‬‬ ‫وسط هذا احلشد السعيد ‪ ،‬علي حد وصف ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪ ،‬ارتأى‬ ‫شخصان فقط‪ ،‬أن رحيل البعثة الروسية ينبأ باملتاعب ‪ .‬كان علي حممد إبراهيم‬ ‫وعيسى الدهشوري ينظرون بأسى إلي استعدادات الروس للرحيل‪ .‬يصف ي‪ .‬ب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جمددا نسمات‬ ‫قائال‪« :‬بالنسبة هلم ‪ ،‬بعد ما استنشقوا‬ ‫كافاليفسكي شعورهم ‪،‬‬ ‫احلياة األوروبية ‪ ،‬تلوح يف األفق أيام سوداء ‪ ،‬تصحبها مهانة تلو املهانة ومذلة تلو‬ ‫املذلة »‪ .‬يبدو أن وصول اخلرباء الروس جعل املهندسني املصريني الشابني‪ ،‬اللذين‬ ‫تربيا يف أملانيا‪ ،‬يشعران أنهما أوروربيان ‪ ،‬ومتخصصان مؤهالن يستحقان املعاملة‬ ‫باملثل ‪ .‬أما اآلن «أصبحوا ضحية مصريهم ‪ :‬فقد اتسع أمامهم أكثر وأكثر مستنقع‬ ‫متحرك من اجلهل والرتاهات ‪ ،‬علي استعـداد إلغـراقهم »‪.181‬‬ ‫قبل رحيله من فازوغلي كتب إجيور بيرتوفيتش خطاب وداع إلي أصدقاءه‬ ‫املصريني ‪ .‬وقد سلم نسخة من تلك الوثيقة اهلامة إلي أ‪ .‬م‪ .‬فوك وقام الربوفيسور ج‪.‬‬ ‫ف‪ .‬جارياتشكني بطباعتها بعد ذلك ‪ .‬من الصعب عدم إدراج مقتطفات من هذا‬ ‫اخلطاب ‪ ،‬الذي يوضح املشاعر الدافئة اليت كان يضمرها املقدم الروسي للشابني‬ ‫املصريني ‪ « :‬صديقي العزيزين حممد وعلي أفندي ‪ .‬بعد العديد والعديد من‬ ‫النصائح اليت أسديتها لكم ‪ ،‬أريد أن أقول لكم كلمة أخرية ‪ .‬إن املعاناة اليت‬ ‫حلت بكم خالل مدة غيابي لبضعة أيام ‪ ،‬أضهرت مدي الضرر الذي حلق بالورشة‬ ‫جراء تغيري وجتاهل النظام الذي وضعته أنا ؛ ال أذكر هذا بهدف إلقاء اللوم عليكم‬ ‫ً‬ ‫جمددا‪ ،‬بل أشعر بالسعادة لرؤيتكم هذا اإلختالف بأم أعينكم‪ ،‬مع ضرورة‬ ‫االقتناع بأن املهندس ‪ ،‬يف جمال التعدين بشكل خاص‪ ،‬الذي ال حيضر إلي الورشة‬ ‫ولو ليوم واحد‪ ،‬ال يستحق أن حيمل هذا اللقـب ‪ .‬استمروا يف التنقيب عن مكامن‬ ‫الذهب ‪ ،‬اليت لن تكون بالقدر الكايف ‪ ،‬وهلذا جيب عليكم البحث عن مناطق‬ ‫جديدة ‪ ،‬تتوافر بها مادة خام أكثر من املناجم السابقة ‪ .‬عليكم إجراء التجارب‬ ‫كل يوم يف مناطق خمتلفة من املناجم حتى تتعرفوا ً‬ ‫جيدا علي العروق الغنية ‪،‬‬ ‫وال تقفوا أمام ضرورة غسل رمال ال حتوي ً‬ ‫شيئا‪ ...‬أصـدقائي األعـزاء ‪ ،‬لقد أوضحت‬ ‫لكم األماكن ‪ ،‬حيث ميكنكم بناء ورشة‪ ،...‬وكيف ميكنكم بناء ً‬ ‫سدا‬ ‫لتجميع مياه املطر والكثري من األمور املتعلقة بهذا األمر ‪ .‬وعلي العموم ‪ ،‬تعرفون‬ ‫أنين علي استعداد بكل ترحاب إلسداء النصيحة لكم ‪ ،‬إذا ما احتجتوا إليها‪...‬‬ ‫تعرفون ً‬ ‫جيدا يا سادة أن صاحب السعادة يعلق آمال عريضة علي هذا اجملال حديث‬ ‫ً‬ ‫النشأة‪ ،‬كما أنهم يراقبون هذا األمر عن كثب ‪ ،‬ليس فقط يف مصر ولكن إيضا‬ ‫‪ - 181‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.238 .‬‬ ‫‪130‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫يف أوروبا‪ .‬وهلذا بانتظاركم أما التكريم أو العقاب‪ .‬أحرصوا علي إكمال مسرية‬ ‫النجاح اليت بدأناها»‪.182‬‬ ‫كان لفراق األصدقاء الروس وقعه األليم “علي حممد إبراهيم” و”عيسى‬ ‫الدهشوري” ‪ .‬من املمكن‪ ،‬وهلذا السبب مل تكن لدي علي حممد الرغبة يف العودة‬ ‫ً‬ ‫سريعا إلي املخيم بعد صرف رئيس البعثة « احلراسة » املعينة له من قبل خالد باشا‪،‬‬ ‫واليت خرجت بصحبة الرحالة الروس لبعض الوقت‪ .‬استمر “علي حممد” بصحبة البعثة‬ ‫الروسية إلي ما أبعد من ذلك « للقيام ببعض التجارب يف الطريق »‪ .183‬من الواضح أن‬ ‫هذا مل يكن السبب الوحيد‪ ،‬فقد أراد املهندس املصري التواجد بعض الوقت مع اخلرباء‬ ‫الروس‪ ،‬الذي كانت تربطه بهم عالقة صداقة ‪ .‬وبالطبع أجروا بعض التجارب‪ .‬كما‬ ‫يذكر إيفان بارودين فقد وجدوا يف إحدى املناطق طبقة حتتوي علي ذهب بقيمة‬ ‫ما يقرب من نصف زولوتنيك كل ‪ 100‬بود‪ .‬ولكن مل تستمر صحبة “علي حممد”‬ ‫ً‬ ‫طويال‪ .‬بعد يومني ‪ ،‬يف اخلامس عشر من شهر‬ ‫لبعثة “ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي”‬ ‫أبريل ‪ ،‬يف إحدي املدن الصغرية فارق “علي حممد” أصدقاءه الروس ‪ ،‬ولكن هذه‬ ‫املرة إلي األبد‪ .‬ويف نفس الوقت أجري أعضاء البعثة عدة جتارب‪ ،‬وقاموا بغسل ‪50‬‬ ‫بود رمال وحصلوا علي ‪ 20‬سهم ذهب‪.‬‬ ‫أكمل الرحالة الروس طريقهم بعد ذلك بدون “علي حممد”‪ .‬ويف الثامن عشر‬ ‫من أبريل وصلوا إلي مدينة روصريص‪ ،‬حيث قام أعضاء البعثة بالصعود علي منت‬ ‫املركب وأحبروا عرب نهر النيل ‪ ،‬يف نفس الوقت افرتقوا عن عامل الطبيعة “ل‪ .‬س‪.‬‬ ‫سينكوفسكي”‪ ،‬الذي قرر انتظار موسم املطر (الذي بقي عليه ثالثة أشهر )‪ ،‬من‬ ‫أجل رؤية نباتات وحيوانات املنطقة يف أبهي صورها‪.‬‬ ‫مع هذا متكن أعضاء بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي يف شهر أبريل من االستمتاع‬ ‫مبشاهد الوحوش والطيور الغريبة ‪ .‬كانت أسراب من القرود تتجول علي طول‬ ‫الطريق ‪ .‬عرب شاطئ نهر النري تصادف أمام الرحالة الروس رؤية أنواع كثرية من‬ ‫الطيور ‪ ،‬واليت ذكرت إيفان تروفيموفيتش بطائر الغرغر (دجاج وادي غرب أفريقيا‬ ‫هو طائر ينتمي إىل الدجاج احلبشي ‪ .‬تعليق املرتجم )‪ ،‬مبا أن لديها نفس الريش‪.‬‬ ‫كانت الطيور تسري مبجموعات كبرية وكانت « مساملة ً‬ ‫جدا » ‪ .‬جبانب ذلك‬ ‫حلقت أسراب من طيور صغرية فوق نهر النيل‪ .‬وكان عددهم كبري لدرجة «أنها‬ ‫إذا هبطت يف مكان ما علي الشجرية ‪ ،‬ال يري منها ً‬ ‫شيئا»‪ .‬عند رؤية هذه الطيور‬ ‫‪ - 182‬ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين‪ .‬مصر بأعين الروس‪ ...‬ص‪.268 .‬‬ ‫‪ - 183‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.25.‬‬ ‫‪131‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫تذكر بارودين أحد أشهر الطيور انتشا ًرا يف وطنه – وهي العصافري البسيطة واليت‬ ‫فاقت ً‬ ‫حقا سالالتها اإلفريقية يف احلجم‪.‬‬ ‫متكن الرحالة الروسي من التعرف علي منط حياة ممثلي القبائل احمللية الغريب‬ ‫عليهم متا ًما‪ .‬يذكر خبري التعدين األورالي ‪ « :‬ذات مرة عندما كنا نسري عرب شاطئ‬ ‫النيل ‪ ،‬توقف املقدم حتت شجرية بالقرب من أحد األكواخ‪ .‬تعيش إحدي األسر يف هذا‬ ‫املكان بال مأوي ‪ ،‬تعيش فقط حتت أغصان كثيفة مرتابطة ومغطاه من إحدي‬ ‫اجلوانب للحماية من أشعة الشمس»‪ .184‬من املدهش أن ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي حاول‬ ‫النقاش مع سكان هذه القبيلة اإلفريقية‪ .‬يف هذا الوقت الحظ بارودين ورفقائه‬ ‫ثـمار البطيخ الذى ينمو جبوار نهر النيل‪ .‬مل حتذ تلك الفواكه علي إعجاب خبري‬ ‫التعدين وعامل غسل الذهب – فهي «صغرية احلجم» وحامضية ‪ ،‬كما يذكر‬ ‫إيفان تروفيموفيتش‪ .‬ولكن عندما غادروا أرض البطيخ‪ ،‬رأوا بعض القرود‪ ،‬اليت‬ ‫ً‬ ‫قائال‪« :‬وقف‬ ‫أتت بالتأكيد من أجل البطيخ‪ :‬يرصد بارودين هذا املشهد الطريف‪،‬‬ ‫أحد القرود علي قدميه اخللفيتني للحراسة ‪ ،‬بينما بدأ اآلخرون بانتقاء البطيخ‬ ‫ومحله»‪ .‬حاول خبري التعدين ورفيقه مالحقتهم ولكن بال فائدة‪.‬‬ ‫متكنت البعثة الروسية من رؤية حيوانات كبرية ‪ .‬علي سبيل املثال‪ ،‬رأوا يف‬ ‫إحدي األنهار جمموعة من أفراس النهر ‪ ،‬اليت‪ ،‬كما يذكر بارودين ‪ « ،‬تظهر جباهها‬ ‫العريضة قبل غروب الشمس »‪ « .‬تصدر صوت خرير وهي خترج رأسها من املاء‪- ،‬‬ ‫ً‬ ‫الحقا‪ - ،‬ثم يغطس مرة أخرى يف املاء »‪.‬‬ ‫يكتب عن هذا خبري التعدين األورالي‬ ‫ً‬ ‫واألكثر من ذلك ‪ :‬كان أعضاء البعثة الروسية يراقبون أيضا عملية صيد هذا‬ ‫الوحش اإلفريقي الكبري‪ .‬ذات مرة‪ ،‬رأوا‪ ،‬وهم علي منت املركب‪ ،‬كلب حبر حياول‬ ‫التخلص من احلبل امللقي عليه‪ .‬كان مثبت بإحدي أطراف احلبال قطعة خشب‪ .‬ظل‬ ‫الصيادون حيومون مدة طويلة حول هذا الوحش يف النهر‪ « .‬ترغب يف انتشاله ً‬ ‫حيا‬ ‫ً‬ ‫سريعا‪ ،‬حبيث ال‬ ‫وتشاهده‪ - ،‬كما يذكر إيفان تروفيموفيتش‪ - ،‬ولكنه جيري‬ ‫ميكنك اتباعه »‪ .185‬حكي الصيادون أصحاب اخلربة إلي خبري التعدين األورالي‬ ‫أن فرس النهر بإمكانه الصراع بهذا الشكل ما يقرب من ثالثة أيام ‪ ،‬بعد ذلك فقط‬ ‫ختور قواه وميكن التعامل معه ‪ .‬أخرب السكان احملليون إيفان تروفيموفيتش عن‬ ‫طريقة أخرى لصيد هذا احليوان‪ .‬فهو خيرج كل ليلة إلي الشاطئ « من أجل تناول‬ ‫‪ - 184‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.26.‬‬ ‫‪ - 185‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.26.‬‬ ‫‪132‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫الغالل املزروعة » ‪ .‬يف هذا الوقت يقوم الصيادون مبراقبته‪ ،‬ويتسللون بالقرب منه‬ ‫ويغرزون يف جسده « سن حديدي مثبت خبيط »‪ .‬وعندما حياول الوحش اهلروب يف‬ ‫املاء يقومون باصطياده ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫خالفا ألفراس النهر ‪ ،‬يذكر أعضاء البعثة الروسية رؤيتهم لألسود‪ ،‬اليت كانت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تقرتب ليال بعد غروب الشمس من شاطئ نهر النيل‪ ،‬مصدرة ً‬ ‫خميفا‪ .‬رأي إيفان‬ ‫زئريا‬ ‫ً‬ ‫ضباعا « تزجمر » ‪ .‬أخربه السكان احملليون أنها كانت جتذب إليها‬ ‫تروفيموفيتش‬ ‫احليوانات املنزلية عن طريق « الزجمرة » ‪.‬‬ ‫يف وقت الحق أمعن رئيس البعثة يف التخمني‪ « :‬ال ميكنين حتديد ملاذا حل املرض‬ ‫ً‬ ‫مجيعا »‪ . 186‬كان الطبيب على يقني من أن كل‬ ‫فجأة ؟ ‪ ،‬ويف يوم واحد أصابنا‬ ‫أعضاء احلملة كانوا مصابني بالعدوى من قبل‪ ،‬إال أن « العمل املتواصل » أدى إىل‬ ‫عدم ظهور أعراض املرض بشكل واضح ‪.‬‬

‫اخلطر املميت‬ ‫وصلت البعثة يف اخلامس والعشرين من أبريل إلي مدينة سنار ‪ .‬ويف هذه املدينة‬ ‫حتديدا واجهت بعثة “ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي “ حادثة مهمة ً‬ ‫ً‬ ‫جدا‪ ،‬كادت أن تؤدي‬ ‫بهم إلي املوت‪ .‬عن هذا يذكر “ إيفان تروفيموفيتش “ ‪ ،‬يف ليلة السادس والعشرين‬ ‫من شهر أبريل‪ « :‬أصبنا كلنا باملرض‪ :‬بعضنا باحلمى ‪ ،‬وبعضنا باإلسهال ‪ .‬لفرتة‬ ‫ً‬ ‫تقريبا مبرض ‪ ،‬وهلذا أسرعنا بالرحيل من سنار يف الثالثة‬ ‫طويلة مل يصب أحد منا‬ ‫ً‬ ‫‪187‬‬ ‫ظهرا للهروب من املرض ‪ ،‬الذي كان يالحقنا » ‪.‬‬ ‫فالعمل داخل املنجم والرحلة على اجلمال مل تعط أعضاء البعثة أي فرصة للشعور‬ ‫بالوهن ‪ .‬إال أنهم أحبروا إلي مدينة سنار على منت املركب نفسه ‪ ،‬الذي سافروا به من‬ ‫قبل ‪ .‬يتعلق األمر باإلحبار ملدة ثالثة أيام ‪ ،‬حيث كان الروس املرهقون يف حالة «‬ ‫اسرتخاء تام » ‪ ،‬مما أدى إلي ظهور أعراض املرض بسرعة‪.‬‬ ‫أكمل أعضاء البعثة رحلتهم وهم مرضى ‪ .‬ولكن مع كل خطوة أصبح‬ ‫حتركهم أكثر صعوبة ‪ .‬يف التاسع والعشرين من أبريل وصلوا إلي إحدى املدن‬ ‫‪ - 186‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.241 .‬‬ ‫‪ - 187‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.26‬‬ ‫‪133‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫ً‬ ‫نظرا‬ ‫الصغرية ( يف الغالب ‪ ،‬إنها مدينة ود مدني ) ‪ « ،‬وأقاموا يف إحدى الشقق‬ ‫حلالتهم املرضية ‪ ،‬ومل يتسن للمقدم املضي ً‬ ‫قدما أكثر من ذلك » ‪ .‬ظل الروس يف‬ ‫تلك املنطقة السكنية حتى السادس من شهر مايو ‪ .‬مل يكن رئيس البعثة وحده‬ ‫من أصيب باملرض‪ :‬كان “ إيفان بارودين “ نفسه يعاني من « إسهال دموي » ‪ .‬يف‬ ‫وقت الحق اعرتف بارودين ‪ « ،‬أنه مل يكن يف حسبانه العودة إلي أرض الوطن ألنه‬ ‫املرض األخطر يف هذه البلد »‪. 188‬‬

‫شعوب أفريقيا‬ ‫يذكر “ إيفان تروفيموفيتس “ أن الرحالة الروس أكملوا مسريتهم علي طول‬ ‫شاطئ نهر النيل وهم يعانون من األمراض « لعل هذا خيفف من آالمهم»‪ .‬تنوعت‬ ‫ً‬ ‫حتديدا من الرحلة ‪ .‬يف‬ ‫ذكريات مجيع أعضاء البعثة الروسية عن تلك الفرتة‬ ‫الواقع مل يهتم “ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي“ و” إيفان بارودين “ مبراقبة مزارات املنطقة‬ ‫آنذاك‪ .‬فلم يبق هلم سوى الكفاح من أجل البقاء علي قيد احلياة‪ .‬ومع هذا أولي‬ ‫ً‬ ‫اهتماما بإحدى عادات القبائل احمللية الغريبة عليهم – أال وهي تشـريـط‬ ‫كالهما‬ ‫أجسـادهـم ‪ « .‬يذكر بارودين يف كتاباته أن الرجال والسيدات يف القرى جيزون‬ ‫أجسادهم بالسكني على هيئة خطوط يف أحناء متفرقة من اجلسد ‪ ،‬وجيدلون‬ ‫‪189‬‬ ‫بنوع‬ ‫شعرهم يف عدة ضفائر» ‪ .‬كانت أجساد السكان احملليني كلها مدهونة ٍ‬ ‫ما من الدهانات وهلذا ‪ ،‬كما ذكر بارودين‪ « ،‬تفوح منهم رائحة كريهة » ‪.‬‬ ‫استفاض “ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي “ يف وصف عادات السكان احملليني يف شق‬ ‫بعض اخلطوط علي أجسادهم ‪ .‬بعدما تعرف على أعمال الرحالة وخرباء علم األعراق‬ ‫البشرية يف ذلك الوقت ‪ ،‬مل يستطع إغفال هذا العمل الغريب ‪ ،‬كما أنه أولي‬ ‫ً‬ ‫اهتماما بطريقة القيام بهذا األمر‪ « .‬يصف كافاليفسكي يف مذكراته‬ ‫بالطبع‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قيام أحدهم برسم ومشا علي جسد اآلخر بالسكني ‪ ،‬أو قيامهم بصنع جروحا طولية‬ ‫ً‬ ‫أحيانا بكيها بقطعة حديدية » ‪ .‬فى تلك األثناء مل يكتف‬ ‫وكانوا يقومون‬ ‫رئيس البعثة باالهتمام باألمور املتعلقة بإجراء تلك العملية؛ فقد أثار اهتمامه سؤال‬ ‫أكثر أهمية ‪ :‬ما املعين الذي حتمله تلك الندبات؟ حاول “ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي “‬ ‫‪ - 188‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.27‬‬ ‫‪ - 189‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك ‪ .‬صندوق ‪ . 101‬الفهرس األول‬ ‫‪ .‬ملف ‪ . 559‬ورقة ‪. 27‬‬ ‫‪134‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫واحدا يف احلرب‪،‬‬ ‫عدوا‬ ‫مالحظا‪ « :‬إنه الزجني ‪ ،‬الذي يقتل ولو‬ ‫الرد علي هذا السؤال ‪،‬‬ ‫يتمتع فقط بشرف حفر هذه الندبات علي أجسادهم ‪ ...‬ميثل هذا الشكل املميز هلم‬ ‫ً‬ ‫تعبريا عن الشجاعة»‪. 190‬‬ ‫من ضمن القبائل اليت قابلتها البعثة يف تلك املنطقة أولي “ بارودين “ و” ي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خاصا لقبيلة الدنكا ‪ُ .‬‬ ‫وجل ما تذكره خبري‬ ‫اهتماما‬ ‫ب‪ .‬كافاليفسكي “‬ ‫‪191‬‬ ‫التعدين األورالي متثل يف « قيامهم خبلع السنتني األماميتني » ‪ .‬أعطي “ إيفان‬ ‫مبتكرا ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جدا لتلك العادة ؛ فعلي حد وصفه ‪ ،‬مل يود سكان‬ ‫تفسريا‬ ‫تروفيموفيتش “‬ ‫الدنكا أن يبدوا مثل الكالب ‪ .‬و أبدى رئيس البعثة مالحظات أكثر أهمية علي‬ ‫ً‬ ‫مشريا إلي أن هذا الشعب يعيش علي إمتداد نهر النيل‬ ‫منط حياة قبيلة الدنكا ‪،‬‬ ‫« على األنقـاض » ‪ ،‬ويقتـاتون علي اجلـذور « وبذور أعشـاب املستـنقعـات » ‪،‬‬ ‫ويتاجرون بالعاج ‪ « .‬يبدو سكان القبيلة ضعاف وشكلهم قبيح ‪ ،‬كما أنهم‬ ‫قبائل متحاربة بشكل كـبري»‪ - ، 192‬هكذا وصف “ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي “‬ ‫هذا الشعب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫اهتماما‬ ‫بشكل عام ‪ ،‬ميكننا مالحظة أن بارودين ورئيسه كانا يبديان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تدرجييا التمييز بني ممثلي القبائل‬ ‫كبريا بشعوب السودان املختلفة ‪ .‬وتعلما‬ ‫املختلفة‪ ،‬وأدركا عاداتهم وأساليب حياتهم‪ .‬من اهلام بالطبع أن يتمتع خبري التعدين‬ ‫األورالي املتواجد للمرة األولي يف القارة السمراء بتلك امليزة‪ .‬و يبدو يف تلك األثناء‬ ‫أن تنوع الشعوب اإلفريقية أثار حرية الرحالة اخلبري‪ .‬يشري عامل اجلغرافيا سالف‬ ‫ً‬ ‫مبحرا يف تلك السنوات عرب نهر النيل‪ ،‬أنه‪:‬‬ ‫الذكر أ‪ .‬أ‪ .‬رافالوفيتش‪ ،‬الذي كان‬ ‫«مبجرد وصول الرحالة من أوروبا إلي مصر‪ ،‬فإنه يتعود ببطء علي التمييز بني‬ ‫أجناس سكان القبائل العديدة‪ ،‬اليت تظهر يف املدن التجارية الرئيسية يف تلك‬ ‫املنطقة‪ ...‬فاملراقب يف البداية يندهش من شيء واحد‪ :‬أال وهو اإلختالف يف مالمح‬ ‫الوجه والبنية اجلسمانية ولغات سكان املناطق احمللية بشكل عام عن مجيع من‬ ‫رآهم يف عاملنا اآلخر »‪ .193‬خالل تلك املدة القصرية اليت قضاها إيفان تروفيموفيتش‬ ‫‪ - 190‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.241 .‬‬ ‫‪ - 191‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ . 101‬الفهرس األول ‪.‬‬ ‫ملف ‪ . 559‬ورقة ‪. 27‬‬ ‫‪ - 192‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ‪ ...‬ص ‪. 218‬‬ ‫‪ - 193‬أ‪ .‬أ‪ .‬رافالوفيتش‪ .‬تعليقات عن اثنوجرافيا سكان جنوب النوبة ‪ //‬مذكرات‬ ‫الهيئة الجيوغرافية لإلمبراطورية الروسية‪ .‬سانت بطرسبورج‪ .1850 ،‬الكتاب‬ ‫الرابع‪ .‬ص‪.186 .‬‬ ‫‪135‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫يف أفريقـيا‪ ،‬جتـاوز مرحـلة مـجـرد إدراك خصـائـص شـعـوب مـصـر والـسودان ‪.‬‬ ‫فعدم إتقان “ بارودين “ و رفاقه للغات العديد من القبائل اإلفريقية اليت قابلوها‬ ‫كان له ً‬ ‫أثرا بالتأكيد‪ .‬لطاملا أدرك خبري التعدين األورالي أن هذا األمر أضاع عليهم‬ ‫إلي حد بعيد فرصة فهم ثقافات تلك الشعوب‪ .‬وهلذا مل يتسن له سوى رسم صور‬ ‫ً‬ ‫مشريا إلي أن ممثلي القبائل‬ ‫قصرية تتعلق علي سبيل املثال بشكل مالبسهم‪،‬‬ ‫علي طول املسافة بني أسوان والسودان كانوا يسريون يف األساس « عرايا » ‪ ،‬علي‬ ‫ً‬ ‫مالبسا ويغطون أجسادهم بقماش‬ ‫الرغم أن معظم سكان املدن كانوا يرتدون‬ ‫الكتان ‪ .‬وفيما يتعلق بثقافة التغذية ‪ ،‬كان “ بارودين “ يشري إلي فقر السكان‬ ‫ً‬ ‫تقريبا‪ ،‬وعجزهم عن تدبري االحتياجات اليومية من‬ ‫احملليني املدقع يف كل مكان‬ ‫الغذاء‪ .‬يتحدث خبري التعدين األورالي عن قيامه أكثر من مرة هو وصديقه باملرور‬ ‫على أكواخ األفارقة علي أمل احلصول علي بعض الطعام ‪ ،‬ولكن فى أغلب‬ ‫األحيان باءت تلك احملاوالت بالفشل ‪ « :‬عندما تطلب من السكان ً‬ ‫شيئا لتأكله ال‬ ‫جتد يف املنزل أي طعام سوى البلح اجلاف »‪. 194‬‬ ‫ليس من املدهش يف تلك الظروف أن يثري املظهر اخلارجي ملعظم ممثلي الشعوب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫سيئا يف نفس “ إ‪ .‬ت‪ .‬بارودين “ ‪ ،‬الذي يشري إلي أنه « مظهرهم‬ ‫انطباعا‬ ‫اإلفريقية‬ ‫ً‬ ‫ال يوحى باجلمال » ‪ ،‬مفسرا ذلك « بأن الغالبية ‪ ،‬علي ما يبدو‪ ،‬شوهتهم عوامل‬ ‫طبيعية – فإما كانوا فاقدي البصر ‪ ،‬أو مصابني بعرج أو جروح يف اجلسد إثر‬ ‫اإلصابة ببعض األمراض »‪ .195‬جيدر اإلشارة إلي أن خبري التعدين األورالي وصل‬ ‫إلي أفريقيا يف الوقت الذي كانت فيه القارة اإلفريقية بعيدة عن مظاهر احلضارة‬ ‫األوروبية ‪ ،‬وما واكبها من تقدم يف نظام الرعاية الصحية ‪ ،‬واليت تسمح بالتداوى‬ ‫من العديد من األمراض اخلطرية ‪ .‬يذكر بارودين ‪ ،‬أن أفراد البعثة قلما تواصلوا‬ ‫مع األفارقة « لعدم وجود حاجة لذلك » ‪ .‬ولكن ‪ ،‬حتى يف تلك الظروف تولد لدى‬ ‫ً‬ ‫مطلقا على‬ ‫خبري التعدين األورالي شعور بأن “ حممد على “ مل يكن يبسط نفوذه‬ ‫كافة شعوب السودان ‪ .‬فبعض القبائل مل تكن راضية عن سياسات القاهرة ‪ ،‬اليت‬ ‫ً‬ ‫غالبا ما اقتصرت فقط على بعض اخلطب العفوية ‪ .‬الحظ خبري التنقيب عن الذهب‬ ‫ً‬ ‫أصداء عدم الرضا عن تلك السياسة ‪ .‬كما ذكر الحقا ‪ ،‬فعندما كانـت البعـثة‬ ‫الروسـية يف طريقـها عرب النيل « وهبت رياح معاكسة » ‪ ،‬اضطروا – كما كان‬ ‫‪ - 194‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.35‬‬ ‫‪ - 195‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.35‬‬ ‫‪136‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫ً‬ ‫معتادا يف مثل تلك الظروف – الستدعاء السكان احملليني من أجل سحب املركب‬ ‫باحلبال لألمام‪ ،‬مثل حبارة جر املراكب يف نهر الفوجلا‪ .‬ولكن حماولة قائد البعثة‬ ‫لإلتفاق مع القبائل اجملاورة أثارت حنقهم‪ :‬فاألفارقة ‪ ،‬علي حد وصف بارودين ‪« ،‬‬ ‫كانوا يلقون احلجارة من الشاطئ ويركضون عرب الشاطئ ويصرخون دون‬ ‫النظر إلي علم الباشا املرفوع‪ ،‬وأخذوا ينثرون الرتاب يف اهلواء يف إشارة الي متردهم‬ ‫علي الباشا»‪ .196‬متكن أعضاء البعثة بصعوبة بالغة من تهدئة املشاركني يف هذا‬ ‫« التمرد العفوي ضد مصر »‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مهتما باإلمكانيات‬ ‫ظل بارودين – علي الرغم من معاناته من مرض عضال –‬ ‫التقنية املختلفة اليت تصادف رؤيتها يف طريقه ‪ .‬يذكر علـي سبيـل املثـال آالت‬ ‫ري النباتات الـيت كـانت ُتستـخدم فـي تلك املنطقة ‪ ،‬وتتبع باهتمام تقنية عمل‬ ‫تلك اآلالت ‪ .‬بالقرب من الشاطئ مت حفر خزان‪ ،‬ميتد عرب «قناة» من نهر النيل ‪ .‬وعلي‬ ‫اجلانبني استقر عمودان تكسوهما عارضة مثبت بها عمود منتصب يكسوه‬ ‫عجلة مسننة («ال‪ ،‬ليست أسنان – قاهلا إيفان تروفيموفيتش متداركـًا – من‬ ‫ً‬ ‫عمودا آخر‪ ،‬مثبت بإحدي‬ ‫األفضل القول‪ ،‬أنها أقرب إلي اإلبر»‪ .)197‬وباجلوار كان هناك‬ ‫أطرافه عجلة بأسنان كاإلبر‪ .‬كما ُثب َ‬ ‫ّت العمود األول برافعة‪ ،‬مربوط بها زوجان من‬ ‫ِ‬ ‫الثريان ‪ .‬عن طريق تلك اآللة كان باإلمكان رفع املياه علي ارتفاع ثالثة ساجني‬ ‫‪ ،‬ثم كانت املياه متر عرب ُ‬ ‫األخدود إلي املكان الذي حيتاجه السكان احملليون‪.‬‬ ‫أبدى إيفان بارودين ورئيسه كل تلك املالحظات يف خضم تنقلهم من منطقة‬ ‫سكنية إلي أخرى يف السودان‪ .‬وأثناء تنقلهم كانوا مضطرين للتوقف ملدد طويلة‪،‬‬ ‫حتى يستعيدوا ولو جز ًءا من قواهم اليت فقدوها بشكل كبري‪ .‬ويف اخلرطوم التقوا‬ ‫ً‬ ‫جمددا بالوفد الكاثوليكي‪ ،‬مع أن احلالة الصحية لألسقف ريلو حتسنت بعض‬ ‫الشيء ‪ ،‬علي حد قول بارودين ‪ .‬كانت حمطة البعثة التالية يف السابع عشر من مايو‬ ‫يف شندي « بسبب مرض املقدم كافاليفسكي »‪.‬‬

‫صحراء بيوضة‬ ‫ً‬ ‫وحتديدا يف السابع والعشرين من مايو حترك أعضاء البعثة علي‬ ‫بعد عشرة أيام‪،‬‬ ‫اجلمال عرب الشاطئ الغربي لنهر النيل يف اجتاه دوجنل‪« .‬يكاد إيفان بارودين‬ ‫يتذكر ولو ً‬ ‫شيئا من هذه املرحلة الصعبة من رحلتهم‪ :‬سرنا عرب صحراء ‪ -‬وهي‬ ‫‪ - 196‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.35‬‬ ‫‪ - 197‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.26-27‬‬ ‫‪137‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫ً‬ ‫عبارة عن سهول تغطيها الرمال‪ ...‬وال تنبت فيها سوى شجريات جافة ً‬ ‫وأحيانا‬ ‫متاما‪.‬‬ ‫تري بعض األحراش عرب املنخفضات‪ ...‬ال يوجد ثـمة كائن حي علي إمتداد البصر‪،‬‬ ‫والكل يرتدي تعصيبة سوداء كأننا يف حالة حداد»‪ .198‬حتى السكان احملليون‬ ‫يشبهون الطبيعة احمليطة بهم‪ :‬وجوه اجلميع سوداء‪ ،‬فقد كانوا «يتمرغون» يف‬ ‫الرمال والرتاب وحتت الشـجريات « دومنا املكوث يف مأوي مناسب »‪.‬‬ ‫هذا هو املكان املسمي “بصحراء بيوضة”‪ .‬وهناك أصيب رئيس البعثة بوعكة‬ ‫صحية‪ :‬يذكر إيفان بارودين «أنه أصيب حبمي شديدة »‪ .‬يصف إجيور‬ ‫بيرتوفيتش نفسه حالته آنذاك‪ ،‬قائال ً‪ « :‬يف اليوم الرابع متكنت بالكاد من‬ ‫ً‬ ‫مستحيال لعدم وجود مياه يف الطريق ‪.‬‬ ‫الثبات فوق احلصان ‪ ،‬ولكن كان التوقف‬ ‫وصلنا بشق األنفس إلي بئر موتوين‪ .‬استلقيت يف هذا املكان ستة أيام حتت شجرة‬ ‫سنط جافة مغطاة بنفايات خمتلفة ‪ ،‬و كنت أشعر بالضجر من احلرارة العالية اليت‬ ‫تنبعث من داخل جسدي ومن خارجه‪ ،‬وعذاب العطش وامللل – وهي األعراض احلتمية‬ ‫للحمي الصفراء»‪ .‬أخربنا بارودين‪ ،‬أن كافاليفسكي « استلقي يف إحدى املناطق‬ ‫حتت شجرية ملدة ستة أيام»‪ .‬ونالحظ أنه أثناء تواجده بالقرب من البئر‪ ،‬استجمع ي‪.‬‬ ‫ب‪ .‬كافاليفسكي قواه وأرسل خطا ًبا إلي أركان فيلق مهندسي التعدين‪ .‬عندما‬ ‫أدرك أن هناك احتمالية لعدم رؤية زمالئه إلي األبد‪ ،‬كتب هلم ‪ ،‬قائال‪« :‬من بني ‪26‬‬ ‫ً‬ ‫شخصا باملرض»‪ .199‬بالطبع كانت حالة ي‪.‬‬ ‫شخص اصطحبوني من القاهرة أصيب ‪21‬‬ ‫ب‪ .‬كافاليفسكي سيئة ً‬ ‫جدا‪ ،‬إال أن االسرتاحة يف الصحراء ملدة ستة أيام مل تكن‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫باألمر اليسري ألعضاء البعثة ‪ .‬ويذكر بارودين أن « درجة احلرارة ال تطاق نهارا »‬ ‫ً‬ ‫مضيفا أنه «جنا بفضل اهلل وحده‪ ،‬علي الرغم أن البئر كان قريبًا »‪.‬‬ ‫داخل اخليمة‪،‬‬ ‫إال أن التواجد يف مكان واحد فقط وسط الصحراء ملدة طويلة ينذر خبطر مميت‪.‬‬ ‫كان رئيس البعثة والرحالة احملنك نفسه أكثر من أدرك هذا اخلطر حيث تذكر‬ ‫الحقا حوا ًرا مسعه ذات مره بني مساعديه ‪ .‬يبدو أن « املؤن تنضب » « واملياه يف البئر‬ ‫تنفد »‪ .‬من الضروري اختاذ قرار ما‪ .‬اختذ ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي يف تلك الظروف‬ ‫قرا ًرا حبمله علي نقالة‪ .‬أهم ما يف األمر كان املضي ً‬ ‫قدما باجتاه شاطئ النيل واملدن‬ ‫الكربى للنجاة من الصحراء ‪ .‬الزالت تنطبع يف ذاكرة بارودين صورة أعضاء‬ ‫البعثة وهم حيملون رئيسهم علي النقالة ملدة ثالثة أيام حيت مدينة مروي (مدينة‬ ‫أثرية علي الضفة الشرقية لنهر النيل ‪ ،‬كانت تبعد حوالي ‪ 200‬كيلو مرت من‬ ‫اخلرطوم ‪ .‬تعليق املرتجم ) علي شاطئ النيل‪.‬‬ ‫مل تتبق تقريبًا أية ذكريات عن تلك املرحلة الصعبة من الرحلة ‪ .‬ال يذكر خبري‬ ‫‪ - 198‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.27‬‬ ‫‪ - 199‬ب‪ .‬أ‪ .‬فالسكايا‪ .‬ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي والمهندسون المصريون‪ ...‬ص‪.136 .‬‬ ‫‪138‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫التعدين األورالي سوى حلظة أن تبقي ساعتني فقط يف الطريق لبلوغ نهر النيل‪،‬‬ ‫عندما رأوا « دير مسيحي مت تشييده يف القرن السادس »‪ .200‬كان الدير ً‬ ‫مهدما «منذ‬ ‫أيام االقتتال األهلي»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أخريا وصلت البعثة الروسية إلي نقطة النجاة علي شاطئ نهر النيل‪ .‬و بعد أن‬ ‫ارتاح أعضاء البعثة من عناء السفر عرب الصحراء ‪ ،‬تسين هلم تفقد املنطقة ‪ .‬بالقرب‬ ‫ً‬ ‫معبدا لإلله إيزيس ‪ .‬أدرك بارودين (علي ما يبدو من‬ ‫من اجلبل املتواجد باجلوار أقاموا‬ ‫ً‬ ‫ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي) أن املعبد كان عتيقا – فقد مت بنائه «منذ ما يقرب من‬ ‫‪ 5000‬عام »‪ .‬ويف اللحظة اليت وصل فيها الروس إلي هناك كان نصف املعبد ً‬ ‫مهدما‬ ‫متا ًما‪ .‬يغلب الظن – كما افرتض بارودين – أن املعبد حتطم علي يد سكان‬ ‫املنطقة أنفسهم الذين كانوا يستخدمون حطامه لبناء منازهلم ‪ :‬حتمل بعض‬ ‫املنازل آثار الرسومات اليت كانت تزين املعبد ‪ .‬وأمام املدخل – علي حد وصف إيفان‬ ‫ً‬ ‫مرسوما عليها «بعض‬ ‫تروفيموفيتش –ميكنك رؤية البوابات ‪ ،‬و األعمدة‪ ،‬اليت كان‬ ‫األشخاص »‪ .‬توجد عدة غرف داخل املعبد‪ ،‬اليت تعكس حوائطه رسومات خمتلفة‪.‬‬ ‫يوجد علي مسافة أبعد بقليل أربعة عشر هر ًما‪ .‬عند دخول أي من تلك األهرامات‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مزينا باللون األزرق ورسومات لشخصيات خمتلفة – يعتقد خبري‬ ‫«بهوا»‬ ‫جتد‬ ‫‪201‬‬ ‫التعدين األورالي أنها شيدت « حلكام » مصر القدمية – ورموزاً هريوغليفية ‪ .‬يف‬ ‫تلك األثناء الحظ إيفان تروفيموفيتش غياب الرموز املكتوبة باللغات األوروبية‪،‬‬ ‫كما استنتج أن بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي أول بعثة من نوعها يف ضواحي معبد‬ ‫إيزيس‪.‬‬ ‫أكملت البعثة طريقها بعدما تفقدت هذا اجلزء من شاطئ نهر النيل وأخذت‬ ‫قسطاً من الراحة ‪.‬‬

‫دنقال‬ ‫يف الثالث عشر من يونيو وصلت بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي إلي مدينة دنقال‪.‬‬ ‫من املدهش أن إجيور بيرتوفيتش مل يتذكر أية شيء عن فرتة تواجده هناك ‪،‬‬ ‫ولكنه علم من خالل املؤلفات بوجود «معسكر من فلول املماليك» يف دنقال‪،‬‬ ‫‪ - 200‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.27‬‬ ‫‪ - 201‬أنظر‪ :‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس‬ ‫األول‪ .‬ملف ‪ .559‬ورقة ‪.28‬‬ ‫‪139‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫استولت عليه قوات حممد علي آنذاك‪ .‬وتذكر ً‬ ‫أيضا العديد من أسراب النمل‬ ‫األبيض ‪ ،‬الذي يعترب «مأساة السودان »‪ « :‬تهدمت منازل بأكملها بسبب النمل‪،‬‬ ‫وتبدو بسبب ذلك اآلن وسط املدينة كاهلياكل»‪.202‬‬ ‫ال تبدو قصة إيفان بارودين للوهلة األولي أكثر تفصيلاً من مذكرات رئيسه‪،‬‬ ‫الذي كان علي ما يبدو يف حالة مزرية لدرجة أنه مل يتذكر مكوثهم بعد ذلك‬ ‫ثالثة أيام كاملة يف دنقال‪ ،‬وذهـبوا « إلي أحد املوظفني ملشاهدة زرافة يافعة »‪.203‬‬ ‫وبالطبع مل يستطع خبري التعدين األورالي –الذي سنحت له الفرصة لرؤية هذا احليوان‬ ‫ألول مرة عن كثب –جتاهل تلك الزيارة ‪ .‬وهلذا كان من املنطقي متا ًما أن تنمو لديه‬ ‫الرغبة يف وصف هذا املخلوق العجيب بشكل مفصل (ال سيما وأنه كان يعتقد‬ ‫أن أي من قراء مذكراته مل يسبق له رؤية زرافة علي قيد احلياة) ‪ً .‬‬ ‫وفقا ملا قاله إيفان‬ ‫تروفيموفيتش ‪ ،‬فإن الزرافة تشبه « من حيث اهليكل اخلارجي » احلصان‪ « :‬صدرها‬ ‫مرتفع ‪ ،‬ومؤخرتها منخفضة ‪ ،‬وعنقها طويل ومنحين كالرتس ‪ ،‬بينما وجهها صغري‬ ‫وجبهتها مكتنزة وصدرها عريض ومنقسم إلي شطرين ‪ ،‬وحوافرها مشقوقة إلي‬ ‫نصفني ‪ ،‬وجلدها مزدان برسومات كالتفاح الصفري‪ ،‬والشفاه السفلي متدلية » ‪.‬‬ ‫استحوذت الزرافة اليت كان ميتلكها موظف مدينة دنقال علي اهتمام ضيوفه‪.‬‬ ‫فالكثري من الضيوف الذين قاموا بزيارة هذا املوظف – كما هو احلال بالنسبة‬ ‫للرحالة الروس – سعوا بالطبع لتقديم أي شيء هلذا احليوان‪ .‬وهلذا‪ ،‬كما ذكر‬ ‫بارودين ‪ ،‬كانت نظرة احليوان تنم عن سعادة ‪ « :‬فال مانع لديه من تناول أي شيء‬ ‫يقدم له » ‪ .‬كما أثار سعر الزرافة دهشة خبري التعدين األورالي‪ ،‬الذي أبهره ‪« :‬أن‬ ‫الصغري الذي مل يبلغ ً‬ ‫عاما بعد يقدر بـ‪ 300‬تالر (وهي عملة معدنية من الفضة ‪.‬‬ ‫تعليق املرتجم ) »‪.204‬‬ ‫ومن جديد انطلقت البعثة يف طريقها‪ ،‬بينما ال تزال مسرية طويلة بانتظارها‪.‬‬ ‫يف خضم تلك الرحلة رأي أعضائها املعابد القدمية (وخاصة معبد أبو مسبل املنحوت‬ ‫يف اجلبل‪ ،‬والذي اكتشفه ليبسيوس «عامل أملاني متخصص يف علم املصريات‬ ‫(‪ .)1810-1884‬تعليق املرتجم»)‪ .‬يوضح أ‪ .‬نوروف اإلنطباع الذي خلفه ذلك يف نفس‬ ‫الرحالة الروسي‪ .‬ويكتب يف ذلك «تبدو معابد أبو مسبل الضخمة كأنها جتذب‬ ‫مركبك مبغناطيس ‪ ،‬وعندما تقف أمامها تشعر أنك كالقزم علي الشاطئ‪،‬‬ ‫‪ - 202‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.257 .‬‬ ‫‪ - 203‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.28‬‬ ‫‪ - 204‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.28‬‬ ‫‪140‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫تستقبلك كأنها كائنات خارقة»‪ .205‬مبجرد عبور مدينة دنقال تغلب إيفان‬ ‫بارودين و رفاقه علي ثالث « شالالت » نيلية صغرية‪ ،‬ويف إحدي تلك الشالالت‬ ‫اضطروا إلي إنزال املركب باحلبال‪ .‬ومل يكن اختاذ تدابري احليطة من قبيل‬ ‫ً‬ ‫مستحيال متا ًما ‪ « :‬فاملياه تضرب الشواطئ ‪ ،‬والرذاذ‬ ‫الصدفة‪ ،‬مبا أن اإلحبار كان‬ ‫يتطاير ‪ ،‬وتصدر األمواج صوتا ً مرعبًا يصم اآلذان»‪ .‬علي كل حال تغلبت البعثة‬ ‫علي هذه العقبة وأكملت طريقها‪ .‬و اضطر أفراد البعثة من جديد للتوقف بسبب‬ ‫مرض ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي و رفاقه ؛ فعلي سبيل املثال‪ ،‬توقفوا يف إحدى املدن‬ ‫الصغرية ليومني ‪ .‬وكم كان إيفان بارودين منصفـًا عندما أشار إلي سوء حظ‬ ‫البعثة الروسية طوال ارحتاهلا يف طريقها إلي الوطن ‪« :‬واجهتنا عقبات خمتلفة يف‬ ‫طريق العودة‪ ،‬بسبب املرض تارة‪ ،‬وبسبب الرياح املعاكسة تارة أخرى‪ .»...‬نتيجة‬ ‫لذلك مل يتمكنوا من «إسراع اخلطى»‪ ،‬بل كانوا يتحركون ببطء شديد‪.‬‬ ‫يف العشرين من شهر يونيو مرت البعثة علي ظهر اجلمال عرب شاطئ النيل أمام‬ ‫حافيت جبل « حتى أطراف الصحراء الليبية » ‪ .‬يعترب هذا اجلزء من الطريق األكثر‬ ‫صعوبة بالنسبة إليفان تروفيموفيتش الذي اجتاز كل الظروف‪ .‬علي حد وصفه‪،‬‬ ‫فإن «الشمس تشع هليبًا ‪ ،‬والرياح حمملة بغبار الرمال – كانت ببساطة رحلة مليئة‬ ‫بالعذاب »‪ .206‬يف الثامن والعشرين من يونيو وصلت البعثة إلي إحدي القري وركبت‬ ‫ً‬ ‫جمددا وبدأت رحلتها عرب نهر النيل ‪.‬‬ ‫املركب‬

‫معبد آمون‬ ‫ً‬ ‫معبدا ً‬ ‫قدميا‬ ‫يوضح بارودين ‪ ،‬أنه يف اليوم التالي ‪ 29 -‬من يونيو ظهر أمام أعينهم‬ ‫خمصص لعبادة آمون إله مصر القدمية ‪ .‬مت بناء املعبد قبل عدة آالف سنة من ميالد‬ ‫املسيح‪ .‬انطبع يف ذاكرة خبري التعدين األورالي املكان الغريب‪ ،‬الذي ُبين فيه‬ ‫ً‬ ‫مالصقا» لنهر النيل « ويبدو مشطو ًرا أو مبتو ًرا » ‪ .‬كان املعبد‬ ‫املعبد‪ .‬كان اجلبل «‬ ‫الذي عاينه الرحالة الروس عبارة عن جممع معابد كامل يتكون من عدة مباني‪.‬‬ ‫علي أبواب املعبد الرئيسي تقف ستة « متاثيل » من احلجر اخلالص ‪ .‬يقع مدخل‬ ‫املعبد وسط تلك التماثيل‪ .‬جتد علي احلوائط املوجودة يف ردهات هذا املعبد العديد‬ ‫من صور حيوانات وطيور « وأشخاص بقبعات بارزة »‪ .‬قدر “إيفان تروفيموفيتش”‬ ‫عدد ردهات املعبد بعشرة‪ .‬يوجد علي مدخل املعبد الثاني أربعة «متاثيل واقفة»‬ ‫‪ - 205‬أ‪ .‬نوروف‪ .‬المرجع األسبق‪ .‬ص‪.232 .‬‬ ‫‪ - 206‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.28‬‬ ‫‪141‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫باإلضافة إلي عدة متاثيل جالسة‪ .‬حيتوي املعبد علي العديد من الغرف ً‬ ‫أيضا‪ ،‬رأي‬ ‫الرحالة يف الغرفة األخرية عدة متاثيل يف وضعية جلوس ويدها علي ركبتها‪.‬‬ ‫كانت بساطة البناء أكثر ما أثار دهشة إيفان تروفيموفيتش يف جممع املعابد‪.‬‬ ‫يقول خبري التعدين األورالي ‪ :‬ال يوجد هناك أي شيء سوى «التماثيل»‪« ،‬ال يعيش‬ ‫هناك اآلن سوى جمموعـات من اخلفافيـش »‪ .‬ويتعجب بارودين من «كم اجلهد‬ ‫وكم الوقت‪ ،‬الذي استغرقه بناء هذا الصرح »‪ .‬اآلن وبعد كل هذا اجملهود‪ ،‬الذي بذله‬ ‫ً‬ ‫«أشخاصا‬ ‫البناءون القدامي يف إنشاء هذه املعابد‪« ،‬يأتي األجانب ببساطة» ملشاهدة‬ ‫عاشوا يف أزمنة ما‪ ،‬كأنهم يدفعون إتاوة مقابل فضوهلم »‪ .‬اعترب خبري التعدين‬ ‫األورالي ذو الشخصية العملية أن اهتمام السياح باآلثار القدمية ً‬ ‫أمرا غريبًا‪ .‬وهلذا‬ ‫ً‬ ‫قائال‪ « :‬ينفقون علي الرحلة كم من النقود‬ ‫يعرب عن حريته من هذا يف كتاباته ‪،‬‬ ‫من أجل مشاهدة مأوي للخفافيش »‪.207‬‬ ‫تذكر إيفان تروفيموفيتش عرب زيارة معبد آمون ً‬ ‫أيضا أن أفضل أنواع البلح‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جمزيا علي‬ ‫يف املنطقة كلها كانت تنمو حول املعبد‪ .‬فقد كان البلح يدر دخال‬ ‫السكان احملليني ‪ .‬لطاملا رأي بارودين وأصدقائه شحنات من البلح ُتنقل من هناك‬ ‫يف قوافل إلي مناطق أخرى من إمرباطورية حممد علي‪.‬‬ ‫وبعدما شاهد أفراد البعثة جممع معابد اإلله آمون ‪ ،‬وبعدما ذاقوا لذة ثـمار البلح ‪،‬‬ ‫أحبرت مركب أعضاء البعثة الروسية بإجتاه احملطة التالية ‪.‬‬

‫دير‬ ‫يف اليوم التالي من زيارة معبد آمون وصلت البعثة إلي مدينة دير‪ .‬تقع املدينة‬ ‫يف منطقة خصبة حتيطها أراضي مزروعة بالتبغ والقطن والفول وغريها‪ .‬حول‬ ‫املدينة ترعي قطعان من األغنام واألبل ‪ ،‬وحتيط بها أشجار النخيل ‪ .‬يف الوقت نفسه‬ ‫كان باملدينة العديد من املنازل ذات طابقني (ومن بينهم منزل من طوب ذو لونني)‪،‬‬ ‫ومسجد صغري وعدة زوايا صغرية بقباب ‪ .‬كما انتشرت العديد من األكواخ‪ ،‬اليت‬ ‫تسكنها عرقيتان رئيسيتان – إما املهاجرين من البوسنة أو أهل النوبة ‪ .‬سرعان ما‬ ‫يلحظ الرحالة الفروق الشاسعة يف العادات وأسلوب حياة ممثلي كال الشعبني ‪.‬‬ ‫‪ - 207‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.29‬‬ ‫‪142‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫أثار وصول البعثة الروسية اضطرا ًبا وسط سكان مدينة دير‪ :‬يذكر إيفان‬ ‫بارودين «أن سكان املدينة أخذوا يدقون علي الطبول ويهرولون بأعداد كبرية‬ ‫لدرجة أننا مل جند ً‬ ‫ممرا يف الشارع ومتكنا بصعوبة شديدة من التوجه إلي أطالل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫املعبد القديم »‪ .208‬مع هذا هدأ الناس شيئا فشيئا‪ ،‬وبينما كان الضيوف الروس‬ ‫عائدين بعدما شاهدوا املعبد‪ ،‬مل يقابلوا ً‬ ‫أحدا‪ .‬وأثارت أسعار السلع املنخفضة يف‬ ‫السوق دهشة إيفان تروفيموفيتش يف هذه املدينة‪ :‬يذكر بارودن أنهم قاموا بشراء‬ ‫‪ 2‬بود (يعادل البود ‪ 38,16‬كجم ‪ .‬تعليق املرتجم) بلح مقابل قرشني ‪ .‬ال تبدو تلك‬ ‫األسعار غريبة إذا ما أخذنا يف االعتبار وفرة مزارع البلح بالقرب من تلك املدينة ‪.‬‬ ‫خالفـًا للبلح‪ ،‬كانت مدينة دير مشهورة باحلصري والسالل اليت كانت تباع يف‬ ‫مدن الشرق البعيدة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫جمددا خط اإلستواء بالقرب من كالبشه‪،‬‬ ‫بلغت البعثة الروسية يف األول من يوليو‬ ‫كما فعلت يف الطريق إلي فازوغلي ‪ .‬ويف هذا املكان تفقدوا املعبد‪ ،‬الذي ذكر‬ ‫بارودين أنه حتطم علي يد حاكم الفرس الشهري قمبيز‪ ،209‬أحد أشهر ملوك أسرة‬ ‫األمخينيون وابن امللك كورش الكبري‪ .‬ومن املعروف أن قمبيز الثاني غزا مصر‬ ‫عام ‪ 525‬قبل امليالد‪ .‬حكي رئيس البعثة – الذي أطلع ً‬ ‫جيدا علي التاريخ القديم‬ ‫ً‬ ‫– خلبري التعدين األورالي‪ ،‬أن أعداد قوات قمبيز كانت كبرية جدا «وأقسموا»‬ ‫علي هدم املعبد بأكمله ‪ « ،‬ولكنهم مل يتمكنوا من ذلك بسبب حجم احلجارة‬ ‫الكبري » ‪ .‬ومع هذا كان لديهم الكثري ليفعلوه‪ ،‬ويف النهاية لعب الوقت واألحفاد‬ ‫دورهم يف إمتام هذا العمل‪ :‬حلظة وصول الروس كان أساس املعبد مهدم بشكل‬ ‫كامل ‪.‬‬ ‫اقرتب أعضاء البعثة الروسية يف اليوم التالي من أحد موانئ نهر النيل‪ ،‬حيث كانوا‬ ‫يرتكون مركبهم الذهيب الصغري ‪ ،‬الذي كان يقوم برحالت ذها ًبا وإيا ًبا عرب‬ ‫أعالي نهر النيل امللئ باحلواف‪« .‬انتهت مرحلة الشالالت الصغرية»‪ .‬وأعاد أعضاء‬ ‫البعثة شحن متاعهم علي اجلمال وحتركوا عرب اجلبال إلي مدينة أسوان‪ ،‬حيث‬ ‫كانت الباخرة بانتظارهم منذ فرتة‪ .‬وصل أعضاء البعثة يف الثالث من شهر يوليو‬ ‫علي منت هذه الباخرة إلي قاعدة شحن‪ ،‬كان احلجاج املسلمون يستخدمونها أثناء‬ ‫أدائهم فريضة احلج إلي مكة‪ .‬وهلذا أقيم سوق جيد يف تلك املنطقة‪ ،‬حيث متكن‬ ‫الرحالة الروس – علي حد وصف إيفان تروفيموفيتش – من شراء «قهوة ممتازة»‬ ‫‪ - 208‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.29‬‬ ‫‪ - 209‬نفس المرجع‪.‬‬ ‫‪143‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫مقابل قرشني‪ .‬ومل يكن هذا أكثر ما انطبع يف ذاكرة خبري التعدين األورالي يف‬ ‫ً‬ ‫«رجال ً‬ ‫عربيا ُيدعي مربوك»‪ ،‬والذي كان يرتدي‬ ‫تلك املدينة‪ .‬فقد رأي أمام عينيه‬ ‫مالبس ثقيلة ً‬ ‫جدا يف الطقس احلار‪ ،‬ويعلق العديد من أباريق املياه‪ .‬وكان هذا‬ ‫الرجل يبيع للناس املاء لإلغتسال والشرب‪.‬‬

‫ً‬ ‫جمددا‬ ‫يف القاهرة‬ ‫ً‬ ‫أخريا وصلت البعثة الروسية إلي القاهرة يف اخلامس من يوليو‪ .‬متثل أفضل خرب‬ ‫بعد رحلة سفر طويلة عرب الصحراء يف النزول يف «فندق علي الطراز األوروبي»‪ .‬من‬ ‫اجليد أن تشعر من جديد أنك إنسان «متحضر»‪ ،‬بعد املبيت حتت السماء املفتوحة‪،‬‬ ‫وسط شجريات السنط وداخل خيم السفر‪ .‬مع هذا مل يتسين هلم التواصل مع أي‬ ‫شخص روسي‪ :‬علي حد قول إيفان بارودين «مل يكن سواء القنصل الروسي‪ ،‬أو‬ ‫امللك باملدينة ‪ ،‬رحل اجلميع إلي اإلسكندرية‪ ،‬وهلذا توجهنا إلي اإلسكندرية يف‬ ‫الثامن من نفس الشهر»‪.210‬‬ ‫غري أن السفر إلي اإلسكندرية مل يكن بتلك البساطة‪ .‬فقد اجتاح املنطقة‬ ‫مرض الكولريا وهلذا قاموا يف التاسع من يوليو باحتجاز الروس يف احملمودية‪ ،‬حيث‬ ‫أمر حممد علي – كما كان معروفـًا – حبفر قناة شهرية آنذاك من اإلسكندرية ‪-‬‬ ‫«قناة متر خالهلا السفن واملراكب الصغرية»‪ ،‬وفقا ملا ذكره إيفان تروفيموفيتش‪.‬‬

‫ومن جديد يف اإلسكندرية‬ ‫وصلت البعثة إلي اإلسكندرية يف نهار العاشر من يوليو‪ .‬قضي خرباء التعدين‬ ‫الروس أسبوعني هناك‪ .‬يقول إيفان بارودين‪« :‬مل ُيسمح لنا باخلروج من الفندق‬ ‫بسبب انتشار وباء الكولريا»‪ 211‬ردد رئيس البعثة – الذي رسم الصورة املرعبة‬ ‫للمدينة الواقعة حتت تهديد الوباء – علي مسامع خبري التعدين ما يلي‪« :‬كانت‬ ‫اإلسكندرية خالية متا ًما‪ :‬هرب البعض إلي اجلزر‪ ،‬وحبس آخرون أنفسهم يف‬ ‫‪ - 210‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.30‬‬ ‫‪ - 211‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.30‬‬ ‫‪144‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫منازهلم‪ ،‬واضعني أنفسهم طواعية يف حجر صحي بسبب الكولريا؛ مل متتد سوى‬ ‫مواكب اجلنازات بشكل متقطع حيت املقابر»‪ .212‬اندهش بارودين وأعضاء البعثة‬ ‫الروسية اآلخرين من سلوك حممد علي املريض‪ ،‬والذي كان «يتجول عرب شوارع‬ ‫املدينة اخلاوية كل يوم يف موكب من أربعة أحصنة‪ ،‬غري آبه بالكولريا»‪.213‬‬ ‫ً‬ ‫فعليا نيابة‬ ‫يف تلك األثناء كان ابراهيم باشا ابن حممد علي حيكم مصر‬ ‫ً‬ ‫وفقا ألقوال بارودين‪« ،‬فقد كان ابراهيم باشا يتجول يف‬ ‫عن والده املريض‪.‬‬ ‫البحر هر ًبا من الكولريا»‪ .‬مل يكن بوسع أعضاء البعثة رفض استضافته‪ .‬أثناء‬ ‫هذا اللقاء أخذ أعضاء البعثة يطلعون حاكم مصر الفعلي علي النجاحات اليت‬ ‫توصلوا إليها بشأن بناء ورشة غسل ذهب يف منطقة فازوغلي‪ .‬علي ما يبدو أن‬ ‫ً‬ ‫خططـًا كبرية لتطوير صناعة استخراج الذهب يف مصر‪.‬‬ ‫ابراهيم باشا وضع آنذاك‬ ‫ً‬ ‫حتديدا عن إرسال مخسة شبان مصريني إلي روسيا من أجل تعلم‬ ‫جري احلديث‬ ‫أمور التعدين‪ .‬بعد علمه بهذا املشروع قام “ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي” بعرض هذا‬ ‫االقرتاح‪ :‬حيث رأي أنه من املستحسن إرسال ثالثة أشخاص «مباشرة إلي مناجم جبال‬ ‫األورال»‪ ،‬بينما يتوجب علي اثنني آخرين تلقي العلم بداية يف معهد تعدين سانت‬ ‫بطرسبورج‪ ،‬وبعد إنهاء الدراسة يتوجب عليهم التوجه إلي مناجم األورال وألتاي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫خالفا هلذا ارتأي ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي من الضروري عدم اإلكتفاء مبا حتقق‬ ‫ً‬ ‫بشأن تطوير ورشة غسل الذهب يف منطقة كاسان‪ .‬ورأي أيضا أنه من املمكن‬ ‫إسناد إدارة هذه الورشة إلي أحد أصدقائه القدامى من املهندسني املصريني الذين‬ ‫قدموا إليه يف األورال‪ ،‬أو إلي «الرائد بسالح املدفعية أمحد أفندي املرتبط كذلك‬ ‫مبناجم التعدين»‪ .214‬طرح إجيور بيرتوفيتش هذه الفكرة علي إبراهيم باشا يف‬ ‫مذكراته املكتوبة يف يوليو عام ‪.1848‬‬ ‫وعلي مايبدو مل يتخذ الرحالة الروس تدابري حيطة ومل يتعاملوا جبدية مع‬ ‫إجراءات احلجر الصحي ‪« .‬يعرتف إيفان تروفيموفيتش بصراحة‪ ،‬أنه علي الرغم‬ ‫ً‬ ‫أنواعا من الفواكة‬ ‫من وجود احلجر الصحى‪ ،‬كنا نذهب حيثما نرغب وحنضر‬ ‫الطازجة »‪ .‬كان من املمكن ً‬ ‫قطعا أن يؤدي هذا التصرف إلي عواقب وخيمة‬ ‫يف ظل انتشار وباء الكولريا‪ .‬ولكن هذا األمر مل يعكر صفو خبري التعدين‬ ‫األورالي‪ :‬بل علي العكس‪ ،‬افرتض أنه يتصرف بشكل صحيح ً‬ ‫متاما يف ظروف‬ ‫‪ - 212‬مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي‪ ...‬ص‪.248 .‬‬ ‫‪ - 213‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.30‬‬ ‫‪ - 214‬ب‪ .‬أ‪ .‬فالسكايا‪ .‬ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي والمهندسون المصريون‪ ...‬ص‪.137 .‬‬ ‫‪145‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫ً‬ ‫خالفا للسكان احملليني‪ .‬يف تلك األثناء صاغ خبري التعدين رواية مدهشة‬ ‫الوباء‬ ‫ألسباب انتشار الكولريا يف مصر ‪« :‬كان السكان املصريون يؤدون فريضة‬ ‫شهر رمضان (الصوم – تعليق أ‪ .‬ف‪ .‬أنتوشني)‪ .‬مبجرد أن يأكلون ثـما ًرا رمادية‪،‬‬ ‫يف الصباح جند مائة ومخسون ً‬ ‫ميتا‪ .‬هذا هو السبب الرئيسي للكولريا»‪.215‬‬ ‫شارفت فرتة التواجد ملدة أسبوعني يف اإلسكندرية علي اإلنتهاء‪ .‬ولوال عدم‬ ‫قدرة أعضاء البعثة علي استعادة عافيتهم من األمراض اليت أصابتهم‪ ،‬لكانوا‬ ‫حاولوا بأقصي سرعة ترك املدينة املصابة بالوباء قبل ذلك‪ .‬ولكن مل يتحدث أحد‬ ‫عن إمكانية عودتهم للديار قريبًا‪ .‬افرتق أعضاء البعثة بشكل مؤقت يف الرابع‬ ‫عشر من شهر يوليو‪ .‬يتعلق األمر برغبة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي يف التوجه إلي‬ ‫األرض املقدسة‪ ،‬إلي القدس‪ ،‬بغض النظر عن الرحلة الشاقة‪ ،‬الذي جنا فيها من املوت‬ ‫بأعجوبة‪ .‬وبالطبع كان بارودين وصديقه يتوقون للتواجد يف األماكن‪ ،‬اليت متثل‬ ‫قدسية ألي مسيحي أرثوذكسي‪ .‬ولكنهم كانوا مضطرين لرفض ذلك ببالغ‬ ‫األسي‪« :‬يشري إيفان تروفيموفيتش بعد ذلك‪ ،‬أنه علي الرغم من دعوته لنا للسفر‬ ‫معه‪ ،‬ولكن كان مستحيل السفر إلي هناك بسبب املرض»‪.216‬‬ ‫يف النهاية افرتق بارودين عن رئيسه وتوجه علي منت باخرة إلي إسطنبول‪ .‬وكما‬ ‫هو احلال بالنسبة لرحلته البحرية األولي من أوديسا إلي القسطنطينية‪ ،‬عاني خبري‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وثيقا باملرض العضال الذي‬ ‫ارتباطا‬ ‫التعدين األورالي مشقة السفر‪ .‬وارتبط ذلك‬ ‫أصابه وأصدقائه يف الصحراء‪ .‬ويف النهاية أصابته الرحلة البحرية «بدوار البحر»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مستعدا للمتاعب املصاحبة‬ ‫ولكن يف هذه املرة مل يكن إيفان تروفيموفيتش‬ ‫ً‬ ‫تدرجييا‪« ،‬حيث أخذ بالتعود‪ ،‬علي‬ ‫للرحلة البحرية‪ .‬بدأت أعراض املرض يف الزوال‬ ‫ً‬ ‫حد ذكره‪ً ،‬‬ ‫فشيئا علي اإلهتزازات»‪.217‬‬ ‫شيئا‬ ‫يف التاسع والعشرين من يوليو اقرتبت السفينة اليت كانت تقل بارودين من‬ ‫رودوس‪ ،‬حيث تزودوا بالفحم ثم أكملوا الرحلة‪ .‬وصل املركب يف األول من‬ ‫ً‬ ‫أغسطس إلي خليج الدردنيل‪ ،‬حيث اضطر للتوقف ملدة اثين عشر ً‬ ‫كامال‪ :‬فقد‬ ‫يوما‬ ‫ً‬ ‫ختوفا من وباء الكولريا‪ .‬بعد‬ ‫كانت السلطات احمللية حتتجزهم يف احلجر الصحي‪،‬‬ ‫انتهاء مدة احلجر الصحي مت السماح إليفان تروفيموفيتش بإكمال رحلته علي‬ ‫منت سفينة تركية‪.‬‬ ‫‪ - 215‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.30‬‬ ‫‪ - 216‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.30‬‬ ‫‪ - 217‬نفس المرجع‪.‬‬ ‫‪146‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫اللقاء األول بإسطنبول‬ ‫ً‬ ‫أخريا يف الثالث عشر من شهر أغسطس‪ .‬قضي‬ ‫وصل بارودين إلي إسطنبول‬ ‫خبري التعدين األورالي قرابة شهر يف عاصمة الدولة العثمانية يف انتظار ي‪ .‬ب‪.‬‬ ‫كافاليفسكي‪ .‬وخصصوا له غرفة يف مقر ديوان املفوضية الروسية ‪ .‬متكن‬ ‫ً‬ ‫سابقا‬ ‫بارودين خالل هذه الفرتة من رؤية العديد من األشياء املمتعة‪ .‬وكما أشرنا‬ ‫فقد شعر خبري التعدين األورالي يف زيارته األولي وهو يف طريقه إلي مصر والسودان‪،‬‬ ‫بالدهشة من حقيقة قيام سكان إسطنبول بوضع املناقل وإشعال النريان مباشرة‬ ‫يف الشوارع ‪ .‬بينما أيقن اآلن يف طريق عودته أن عاصمة اإلمرباطورية العثمانية‬ ‫ليست املدينة األكثر ً‬ ‫أمانا من ناحية التعرض خلطر احلرائق يف منتصف القرن‬ ‫ً‬ ‫متواجدا فيها يف املدينة يف أغسطس‬ ‫التاسع عشر‪ .‬يف الفرتة اليت كان بارودين‬ ‫عام ‪ ،1848‬وقعت مخسة حرائق قضت علي شوارع بأكملها‪ .‬أرتأي خبري التعدين‬ ‫األورالي أن السبب وراء ذلك يرجع – باإلضافة إلي إهمال املواطنني – إلي املستوي‬ ‫السيء لعمل أجهزة اإلطفاء يف إسطنبول‪« :‬ففرق اإلطفاء ليست علي املستوي‬ ‫املطلوب»‪ .‬كانوا حيكون لبارودين‪ ،‬أنه مبجرد نشوب احلريق ويصل عمال‬ ‫اإلطفاء ‪« -‬يبدأ اجلدال معهم حول املبلغ‪ ،‬الذي سيتقاضونه مقابل هذا العمل‪ ،‬حتى‬ ‫حيرتق الشارع عن آخره»‪.218‬‬ ‫يذكر بارودين‪« ،‬أنهم كانوا سعداء ً‬ ‫جدا» حلظة وصول ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‬ ‫إلي اسطنبول ً‬ ‫أخريا يف اخلامس من سبتمرب‪ .‬ولكن مل تستمر سعادة لقائه بصديقه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫طويال‪ :‬ففي اليوم التالي مرض إيفان تروفيموفيتش مرضا شديدا‪ .‬يكتب األخري‬ ‫ً‬ ‫عن هذا قائال‪« :‬يف السادس من نفس الشهر حلقت بي وعكة صحية شديدة‪،‬‬ ‫وأصبت مبرض‪ ،‬و لو مل يكن الطبيب قد متكن من وقف النزيف لكنت مت‬ ‫ً‬ ‫قطعا»‪ .‬اضطر خبري التعدين للراحة ملدة تسعة أيام‪ ،‬فحالته لن تسمح بركوب‬ ‫ً‬ ‫السفينة عائدا لوطنه‪ .‬فقد إيفان تروفيموفيتش شهيته بشكل عام ملا يقرب من‬ ‫ثالثة أيام‪.‬‬ ‫ً‬ ‫كبريايفإنقاذحياته‪.‬يشريخبريالتعديناألورالي‬ ‫يفتلكالظروفلعبصديقهدو ًرا‬ ‫يف مذكراته بشكل مباشر إلي مدي عرفانه لي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‪ :‬مل يكتف‬ ‫كافاليفسكي بإحضار طبيب واحد فقط إلي بارودين ‪« ،‬ولكنه استدعي طبيبًا‬ ‫‪ - 218‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.5‬‬ ‫‪147‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫آخر ودفع ً‬ ‫بدال منه أجر األطباء باإلضافة إلي مصاريف شراء األدوية من الصيدلية»‪.219‬‬ ‫مبجرد أن حتسنت حالة بارودين الصحية يف الرابع عشر من سبتمرب‪ ،‬انطلق‬ ‫أعضاء البعثة الروسية يف النهاية علي منت السفينة إلي أوديسا‪.‬‬

‫من جديد علي أرض الوطن‬ ‫وصلت البعثة الروسية إلي املدينة الروسية اجلنوبية يف السادس عشر من سبتمرب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أخريا وصل بارودين وأصدقائه إلي األراضي الروسية! إال أنهم وجدوا أنفسهم أمام‬ ‫ً‬ ‫حجر صحي جمددا يف أوديسا‪ :‬كان اجلميع متخوفني من الوباء الذي اجتاح مصر‪.‬‬ ‫وهلذا فقد أشار إيفان تروفيموفيتش إلي أن تدابري احلجر الصحي كانت أكثر‬ ‫ً‬ ‫تشددا هناك ‪ .‬فبمجرد وصول السفينة إلي املرفأ استقبلهم احلراس الذين جردوهم‬ ‫ً‬ ‫من كل شيء («حتى الصليب مل يرتكوه»‪ - ،‬يتحدث بارودين الحقا بامتعاض)‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مالبسا رمسية‪ .‬وقضوا اسبوعني يف غرفهم يفصل‬ ‫وقاموا بفحصهم بدقة وسلموهم‬ ‫ً‬ ‫قضبانا ثنائية ‪ .‬يذكر إيفان تروفيموفيتش‪ ،‬ان موظفو ميناء‬ ‫بعضهم عن اآلخر‬ ‫أوديسا «حرصوا علي عدم إقرتاب أحد من أي شيء – فقد كانوا متخوفني من‬ ‫الكولريا»‪ .220‬متكن أعضاء البعثة اليت توجهت ملصر من العودة إلي الديار فقط‬ ‫بعد انتهاء احلجر الصحي‪.‬‬ ‫ميكنك أن تتخيل مدي الراحة اليت شعر بها أفراد البعثة يف تلك األيام‪ .‬انتهت‬ ‫أصعب بعثة إفريقية! كتب “ن‪ .‬س‪ .‬فسيفالوجسكي” – أثناء عودته من رحلة‬ ‫حبرية طويلة ً‬ ‫أيضا قبل عشرة سنوات من رحلة إيفان بارودين وأصدقائه – أنه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫متواجدا يف آسيا‬ ‫كبريا من أوروبا‪ ،‬وكنت‬ ‫كان يشعر «بسعادة»‪« :‬جبت جز ًءا‬ ‫وأفريقيا وعدت إلي وطين ساملًا‪ .221»...‬وهكذا يبدو أن “ن‪ .‬س‪ .‬فسيفالوجسكي”‬ ‫مل يقض أغلب وقته يف النوبة أو يف صحراء بيوضة ولكن يف تفقد معامل باريس‬ ‫وروما ونابولي !‬ ‫‪ - 219‬نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪.31‬‬ ‫‪ - 220‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪.31‬‬ ‫‪ - 221‬ن‪ .‬س‪ .‬فسيفالوجسكي ‪ .‬رحلة عبر جنوب روسيا والقرم وأوديسا إلي‬ ‫القسطنطينية وآسيا الصغرى وشمال أفريقيا ومالتا وسيسيليا وإيطاليا وجنوب فرنسا‬ ‫وباريس في عامي ‪ .1836-1837‬موسكو‪ .1839 ،‬المجلد الثاني‪ .‬ص‪.520 .‬‬ ‫‪148‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫إذا كان األمر كذلك ‪ ،‬ترى كيف كان استقبال روسيا ألفراد بعثة تعرضت‬ ‫خلطر حمدق فى أفريقيا ؟ كوفئ « ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي « مبنحه وسام «‬ ‫القديسة ّآنا » من الطبقة الثانية ‪ .‬ومع ذلك مل ينس أمر أصدقائه – خبري التعدين‬ ‫وعامل غسل الذهب ‪ ،‬وطالب احلكومة مبكافأتهم على مشاطرتهم رئيسهم «‬ ‫كل األعباء واملخاطر واملعاناة»‪ .‬ولكن كان من العسري التفكري يف هدية « إ‪.‬‬ ‫س‪ .‬فومني » ألنه كان ً‬ ‫ً‬ ‫رجعيا ‪ .‬فى نوفمرب عام ‪ 1848‬عاد « بارودين وفومني »‬ ‫رجال‬ ‫إىل مصنع مياس ‪ .‬ومت مكافأتهم على اإلخالص والتفاني فى العمل مبرسوم صادر‬ ‫يف األول من شهر فرباير عام ‪ُ :1849‬منح « إيفان تروفيموفيتش » ميدالية حتمل‬ ‫ً‬ ‫تقديرا لتفانيه « كي حييط به رقبته فوق وشاح « القديسة آنا » ‪ ،‬كما‬ ‫توقيع «‬ ‫منحوا « فومني» أربعون روبل من الفضة (على الرغم من أنه نفي كتابة ميوله‬ ‫الرجعية ‪ ،‬إال أنهم مل يسلموه منحة الدولة )‪ .‬و باإلضافة إلي ذلك أرسل وزير اخلارجية‬ ‫والتجارة الروسي إلي ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي ألفي فرانك ملكافأة أعضاء البعثة‬ ‫الروسية‪ .‬كما سلم إجيور بيرتوفيتش ألف فرانك إلي إيفان بارودين و‪ 800‬فرانك‬ ‫إليفان فومني‪ ،222‬واملائتان الباقيتان كانا من نصيب مساعد املقدم‪ .‬من املعروف أن‬ ‫مصر منحت ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي وسام «االفتخار» علي هيئة ميدالية ذهبية بها‬ ‫صورة للسلطان مصنوعة من املاس ‪ ،‬وهالل وجنوم وكذلك علبة تبغ من الذهب‪.223‬‬ ‫كتب « إجيور بيرتوفيتش » مبجرد عودته مدونتني ‪ « -‬عن الوضع السياسي‬ ‫والتجاري الراهن يف شرق السودان وأثيوبيا » و« املشروع التجاري الروسي مع مصر‬ ‫وشواطئ البحر األسود » ‪ .‬وأوصي يف تلك الوثائق بتنظيم رحالت حبرية عرب‬ ‫خط سري أوديسا – القسطنطينية – اإلسكندرية تستمر مدة مخسة إلي ستة‬ ‫أيام‪ ،‬كما أشار إىل السلع الرئيسية يف التصدير واإلسترياد الروسي ‪ .‬وباإلضافة‬ ‫إىل ذلك دعم بالرباهني ضرورة إنشاء مركز جتاري متخصص يف أوديسا من أجل‬ ‫‪224‬‬ ‫تدبري شئون التجارة مع الشرق ‪ .‬ولكن قوبلت خمططات « إجيور بيرتوفيتش »‬ ‫برفض من قبل جتار جنوب روسيا ‪ ،‬بعد أن وقف تدهور العالقات السياسية بني‬ ‫‪ - 222‬أنظر‪ :‬ب‪ .‬أ‪ .‬فالسكايا‪ .‬ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي والمهندسون المصريون‪ ...‬ص‪.‬‬ ‫‪.138‬‬ ‫‪ - 223‬ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين‪ .‬مصر في أعين الروس‪ ...‬ص‪269 .‬؛ ف‪ .‬ف‪.‬‬ ‫بيليكوف‪ .‬علبة التبغ الذهبية للمقدم كافاليفسكي‪ //‬معادن أوروبا اآلسيوية‪ .1996 .‬رقم‬ ‫‪.6‬‬ ‫‪ - 224‬انظر‪ :‬األرشيف الحكومي ألوديسا‪ .‬صندوق ‪ .2‬الفهرس األول‪ .‬ملف ‪.282‬‬ ‫ورقة ‪8-9‬؛ صندوق ‪ .2085‬فهرس رقم ‪ .369‬ملف ‪ .5712‬ورقة ‪ .5‬يشكر الكاتب‬ ‫البروفيسور ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين لتقديمه تلك المعلومات‪.‬‬ ‫‪149‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫ً‬ ‫حائال أمام حتقيقها ‪.‬‬ ‫روسيا ومصر نتيجة مشاركة اجليش املصري يف حرب القرم‬ ‫عاد « ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي » و « إ‪ .‬ت‪ .‬بارودين » و « إ‪ .‬س‪ .‬فومني» منذ فرتة‬ ‫إىل أرض الوطن ‪ ،‬بينما ال يزال رفيقهم يف الرحلة اإلفريقية وعامل الطبيعة « ل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫بعيدا عن روسيا ‪ .‬من املعروف أنه بعد عودة بعثة « ي‪ .‬ب‪.‬‬ ‫س‪ .‬سينكوفسكي »‬ ‫كافاليفسكي » إىل األورال بقي « ل‪ .‬س‪ .‬سينكوفسكي » فى منطقة نهر‬ ‫النيل لبعض الوقت‪ .‬غادر « بالد األهرامات» بعد عامني فقط من إجرائه لدراسات‬ ‫ً‬ ‫تاركا « جمموعة كبرية من مواد التأريخ الطبيعي» لدى القنصل‬ ‫ميدانية ‪،‬‬ ‫الروسي العام يف مصر‪ .‬يبدو أن « ل‪ .‬س‪ .‬سينكوفسكي » مل يتوجه مباشرة إلي‬ ‫روسيا ‪ ،‬بل سافر فى البداية إلي ترييسيت ( مدينة وميناء يف مشال شرق إيطاليا قرب‬ ‫ً‬ ‫متواجدا يف فرباير عام ‪، 1850‬‬ ‫احلدود مع سلوفينيا‪ .‬تعليق املرتجم ) ‪ ،‬حيثما كان‬ ‫ً‬ ‫وفقا ملا ورد يف جلسة اهليئة اجلغرافية التابعة لإلمرباطورية الروسية ( بتوصية من‬ ‫تلك اهليئة مت إدراج هذا العامل ضمن بعثة ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي)‪. 225‬‬ ‫كان « ل‪ .‬س‪ .‬سينكوفسكي » خيطط للعودة من ترييسيت إىل روسيا عرب‬ ‫السويد وأملانيا ‪ .‬ونشر العامل فيما بعد فى الصحافة العلمية الروسية نتائج أحباثه‬ ‫فى مشال شرق أفريقيا ‪ .‬تغري الكثري على أرض الوطن فى الفرتة التى قضاها «‬ ‫إيفان تروفيموفيتش » فى أفريقيا ‪ .‬ويف صيف عام ‪ 1848‬أصبح قائد األركان‬ ‫وخريج معهد التعدين « أ‪ .‬ف‪ .‬ميفيوس » مدير مصنع زالتؤوست ‪ .‬من املدهش أنه عاد‬ ‫ً‬ ‫مساعدا لناظر‬ ‫فقط منذ وقت قريب ( صيف ‪ ) 1846‬من اخلارج ‪ ،‬حيثما توجه بصفته‬ ‫قافلة ذهب طاعن فى السن‪ .226‬أسهب على صفحات « جملة التعدين » عام ‪1849‬‬ ‫فى وصف املصانع التى زارها يف سليزيا ( منطقة تارخيية يف أوروبـا الوسـطى ‪.‬‬ ‫تعليق املرتجم ) التابعة ململكة بروسيا ‪ ،‬ودار صك النقود يف فيينا ‪ ،‬ودار املدفعية‬ ‫يف أوجسبورج والعديد من املصانع األملانية األخرى‪ . 227‬وبغض النظر عن التغريات‬ ‫ً‬ ‫صيفا‬ ‫الوظيفية‪ ،‬جرت األمور كالسابق ‪ ،‬وكانت الوفود اجليولوجية تتوجه‬ ‫للتنقيب عن الذهب‪ .‬وكان بطل كتابنا « الكابنت بلوم » – الذى رافق « عيسى‬ ‫الدهشوري » و «على حممد إبراهيم » من زالتؤوست إلي أوديسا – يرتأس أحد تلك‬ ‫‪ - 225‬أنظر‪ :‬تقرير الهيئة الجغرافية الروسية خالل عام ‪//1849‬مدونات الهيئة‬ ‫الجغرافية التابعة لإلمبراطورية الروسية‪ .1851 .‬الكتاب ‪ .5‬ص‪.15.‬‬ ‫‪ - 226‬أنظر‪ :‬أرشيف مقاطعة زالتؤوست‪ .‬صندوق ‪ .2‬الفهرس األول‪ .‬ملف ‪.282‬‬ ‫ورقة ‪.6‬‬ ‫‪ - 227‬أنظر‪ :‬تقرير عن رحلة قائد األركان ميفيوس األول إلي الخارج‪//‬مجلة‬ ‫التعدين‪ .1849 .‬الجزء األول‪ .‬الكتاب الثاني‪ .‬ص‪.133-238 .‬‬ ‫‪150‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫الوفود يف صيف عام ‪ . 1849‬متكن وفد بلوم من اكتشاف تسعة «حقول غنية‬ ‫بالذهب » ‪ .‬وإمجالي ما مت استصالحه خالل هذا الصيف فقط ثالثة ماليني بود رمال‬ ‫حتوي ً‬ ‫ذهبا ‪ ،‬من املفرتض استخراج أكثر من ‪ 23‬بود ذهب منها‪. 228‬‬ ‫استمر التنقيب عن مكامن احلجر النفيس فـى املناطـق اجملـاورة لـورش‬ ‫بيـروزوف ‪ ،‬حيث كان يعمل « عيسى الدهشوري » على آلة الغسل املخصصة له‬ ‫قبل عدة سنوات ‪ .‬يف صيف عام ‪ 1849‬وجدوا أكثر من ‪ 23‬بود من الذهب يف املناجم‬ ‫اجلديدة‪ .229‬وبال شك مل متر الرحلة اإلفريقية مرور الكرام علي خبري التعدين‬ ‫األورالي‪ .‬رأى أحد أفراد عمال مصانع األورال البسطاء بأم عينه اإلسكندرية‬ ‫والقاهرة واخلرطوم وسنار ‪ .‬وعاش على مدار وقت طويل وسط متحدثني باللغة‬ ‫العربية‪ ،‬وتعامل مع املصريني ‪ .‬توضح مذكرات رحلته ‪ ،‬أن « إيفان تروفيموفيـتش‬ ‫« تعلم بعض األشياء عن اللغة العربية ‪ ،‬حتى أنه متكن من تأليف كتاب حمادثات‬ ‫مميز ( بالروسية والعربية ) ‪ ،‬وحيتوى علي ‪ 249‬كلمة وتعبري‪ . 230‬مت إحلاق هذا‬ ‫العمل الرائع – الذى ألفه خبري التنقيب عن الذهب األورالي – إىل مذكراته‪.‬‬ ‫أظهر حتليل هذا العمل أنه يضم كلمات وعبارات هلا عالقة بفرتة سفر البعثة‬ ‫الروسية على منت املراكب عرب نهر النيل ‪ .‬لقد قضى « ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي‬ ‫ً‬ ‫« وأصدقائه ً‬ ‫طويال فى رحلتهم عرب النهر اإلفريقي العظيم ‪ ،‬وهلذا كان من‬ ‫وقتا‬ ‫الطبيعي أن ترتامى إىل مسامعهم عدد كبري من العبارات على لسان ممثلي‬ ‫أطقم هذه السفن ‪ .‬وهكذا علم « إيفان بارودين « املعاني املقابلة باللغة العربية‬ ‫لكلمـات ‪ ،‬مثل « مركب » و« موجة » و« مياه » و« سفينة » وغريها ‪ .‬كما‬ ‫مسع كيف كان القباطنة يصدرون أوامر للبحارة ‪ ،‬قائلني‪ « :‬إىل أعلى » ‪ « ،‬أرفع‬ ‫ألعلى »‪ « ،‬إىل أسفل » ‪َ « ،‬دور » ‪ « ،‬امسك» ‪ « ،‬قف » ‪ « ،‬اسحب » ‪« ،‬اربط » ‪« ،‬‬ ‫ارجع » ‪ « ،‬أقطع » وغريها ‪ .‬استفاد « إيفان تروفيموفيتش » من بعض هذه العبارات‬ ‫عندما ترأس لفرتة مؤقتة العمل فى أحد مناجم فازوغلي يف فرتة غياب « ي‪ .‬ب‪.‬‬ ‫كافاليفسكي « ‪ .‬وأثناء حديثه مع اخلرباء احملليني تعلم فى نفس مكان املنجم‬ ‫كيف يصدر أوامر مبعنى‪ « :‬حترك لألمام » ‪ « ،‬أعمل » ‪ « ،‬ال تعمل » ‪ « ،‬تقدم‬ ‫‪ - 228‬أنظر‪ :‬تقرير عن عمل ستة وفود للتنقيب عن الذهب في ضياع مصنع مياس‬ ‫في صيف عام ‪//.1849‬مجلة التعدين‪ .1850 .‬رقم ‪ .2‬ص‪.244 .‬‬ ‫‪ - 229‬أنظر‪ :‬تقرير عن عمل وفود التنقيب عن الذهب في منطقة إيكاترينبورج في‬ ‫صيف ‪//1849‬مجلة التعدين‪ .1850 .‬رقم ‪ .1‬ص‪.152 .‬‬ ‫‪ - 230‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة ‪..36-40‬‬ ‫‪151‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫إىل هنا!»‪ .‬فى هذا اإلطار قام بتفسري املعانى املقابلة للغة العربية لكلمات ‪ ،‬مثل‬ ‫« مسمار » و« ذهب » و« حديد » و« ورشة حدادة » و« مطرقة » و« نار» و« منشار»‬ ‫و« جنار » و« إزميل » و« طوب أمحر» و« جهد » و« مسن » و« مقص» و« جاروف »‬ ‫وغريها ‪ .‬بشكل عام كانت الصفة املميزة لكتاب حمادثة « إيفان بارودين »‬ ‫توفر كلمات وتعبريات مرتبطة بعملية اإلنتاج وقاموس املفردات التقنية ‪ .‬من خالل‬ ‫تواصله مع عمال ورشة غسل الذهب ‪ ،‬كان يوجه أسئلة ملساعديه باللغة العربية ‪،‬‬ ‫مثل‪ « :‬ما امسه ؟ » ‪ « ،‬هل أنت نائم ؟ » ‪ « ،‬من يود تناول الطعام ؟ » وغريها ‪.‬‬ ‫رأي « إيفان تروفيموفيتش » أكثر من مرة أثناء رحلته شواهد علي مدي قدم‬ ‫األثر الذي خلفه املسيحيون يف الثقافة املصرية ‪ .‬وهلذا ليس بغريب أن يعرف مقابل‬ ‫لفظة ديانته باللغة العربية وكيف ينطق بلغة السكان احملليني كلمة «دير»‬ ‫وتعبري «الصليب املقدس»‪.‬‬ ‫بالطبع مل يكن مبقدور خبري التعدين األورالي فهم املعين احلقيقي للكلمات‬ ‫اليت مسعها بدقة كافية ‪ .‬على سبيل املثال ‪ ،‬ترمجة كلمة « جالب » يف كتابه‬ ‫مبعين « قائد » ‪ .‬يبدو أن « إيفان تروفيموفيتش » قد مسع أكثر من مرة تلك الكلمة‬ ‫علي املراكب املتحركة عرب نهر النيل‪ .‬علي األرجح أن الذهبية ( مركب صغري‬ ‫ً‬ ‫قدميا‪ .‬تعليق املرتجم ) كانت تؤجر بواسطة التجار العرب اجلالبة – الذين كانوا‬ ‫مبثابة قادة حقيقيون – البد أن خيضع هلم طاقم السفينة بأكمله‪ .‬انطبعت يف‬ ‫ذاكرة « إيفان تروفيموفيتش » من خالل تعامله مع املوظفني العرب يف املدن اليت‬ ‫مرت بها البعثة كلمة « مأمور » ‪ ،‬واليت ترمجها مبعين « قائد احلرس»‪ ،‬ووظيفة دواة‬ ‫احلرب عند العرب ‪ ،‬واليت متثل رمز النظام البريوقراطي يف مصر والسودان ‪.‬‬ ‫تكون لدى اخلبري األورالي خمزون من الكلمات نتيجة ملراقبته لطبيعة السودان‬ ‫اخلالبة ‪ .‬فعلى سبيل املثال ‪ ،‬تعلم معين اسم “األسد” ملـك احليـوانات باللـغة‬ ‫العـربية ‪ ،‬وكيف يقول كلمة « ذبابة » و« طائر » و« مسكة » ‪ ،‬وكيف ينطق‬ ‫باللغة احمللية فعل « لسع » ‪.‬‬ ‫تعلم « إيفان تروفيموفيتش » العديد من الكلمات والتعبريات العربية أثناء‬ ‫مسريته الطويلة عرب الصحراء ومبيته بالقرب من اآلبار فى الواحات ‪ .‬ففى تلك املناطق‬ ‫ً‬ ‫حتديدا مسع كيف كان السكان احملليون ينطقون اسم أكثر احليوانات ً‬ ‫نفعا‬ ‫ً‬ ‫فى الصحراء وهو اجلمل ‪ ،‬كما أدرك أيضا القيمة اجملردة اليت تـمثـلها كلمة‬ ‫ً‬ ‫أفعـاال‪،‬‬ ‫«مياه » ‪ .‬وليس من قبـيل الــصدفة أن نـرى فى كـتـاب مـفـردات بارودين‬ ‫مثل « ارتـوي» و « روي ظــمأه » و« شرب» ‪ .‬كما علم « إيفان تروفيموفيتش »‬ ‫‪152‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫ً‬ ‫مضطرا‬ ‫ماذا تعين باللغة العربية كلمة « زمزمية » و« خيمة » ‪ .‬ولألسف كان‬ ‫ملعرفة كيف يعين للسكان احملليني تعبري « أنا مريض »‪ ،‬بل ينطقون باللغة‬ ‫العربية كلمة « متويف » ‪ :‬رأت قافلة « ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي « فى طريقها عظام‬ ‫موتى فى الصحراء أكثر من مرة‪ .‬وتعرضت البعثة الروسية يف طريقها للعديد من‬ ‫املخـاطر ‪ ،‬وأكثر من مرة أنقذتهم احلراسة من تطفل السكان احملليني ‪ .‬وهلذا‬ ‫من املنطقي أن يعـرف خبري التعديـن األورالي معـاني تلك الكلمات ‪ « :‬سالح »‬ ‫و«جندي» و« سيف » ‪.‬‬ ‫و متكن خبري التعدين األورالي من التواجد يف مدن وقرى مشال شرق أفريقيا‪،‬‬ ‫وساوم على األسعار فى األسواق ‪ ،‬وتواصل مع السكان احملليني‪ .‬وهناك علم‬ ‫ماذا تعين باللغة العربية كلمات‪ « :‬بطيـخ » و«حديقـة» و« عنـب »‪ ،‬و« مخـر»‬ ‫و «قهـوة» و«حلم بقري » و« ملح » و«جبنة» و« خبز جمفف » و« بلح » و« خبز»‬ ‫و«قرنفل»‪ .‬كما ضم قاموس مفردات « إيفان تروفيموفيتش « كلمات‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫« مدينة » و«مسجد» و«حائط » و« نقود » و« صرة نقود » و« مرآة » و«إبرة»‬ ‫و«كتب» و«قلم رصاص » و« مقطف » و«مفتاح » و«إبريق » و«ملعقة»‬ ‫و«منضدة» و«كوب» و« صندوق » و« حصان » و« زيت » و « خيوط» و« فوطة»‬ ‫و«منديل » و«قفاز» و«قماش كتان» و« قميص» و « قبعة» و« ورقة » و« قبقاب »‬ ‫و« فرشاة » و« أواني » و«فنجان » و « ساعة يد » و« حذاء » و« مشط » و« مشعدان »‬ ‫و« معطف» و«حزام» و«كلب» و«جلام» و« مصباح » و« محام » و« حلية » ‪ .‬استفاد‬ ‫« إيفان بارودين» أثناء تعامله مع التجار فى أسواق مصر والسودان من معرفته بلغة‬ ‫أهل املنطقة كلمة « أشكرك » أو كيف يوجه سؤال عن سعر السلعة ‪ « :‬كـم‬ ‫ً‬ ‫قرشا ؟ » ‪ .‬كما تكون لدى خبري التعدين األورالي فكرة عامة عن مسائل احلساب‬ ‫باللغة العربية ‪ ،‬بعدما تعلم التعداد من واحد إىل عشرين وكذلك مضاعفات‬ ‫الرقم عشرة وحيت الرقم مائة ‪ .‬من خالل تعامله مع سكان اإلسكندرية والقاهرة‬ ‫متكن من التعبري باللغة العربية عن معين « صباح اخلري» و« مساء اخلري» و« ال‬ ‫أعلم »‪ ،‬كما تعلم كيف تعين بلغتهم كلمات ‪ « -‬أب » و«أم» و«فتاة» و«صيب »‬ ‫و« أبن » و«عجوز » و« شاب » ‪.‬‬ ‫وبهذا الشكل متكن « إيفان تروفيموفيتش بارودين » بصعوبة من التواصل‬ ‫مع أصدقائهم املصريني ‪ ،‬املهندسني « علي حممد إبراهيم » و» عيسي الدهشوري » ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫شاهدا علي توجه « إيفان بارودين » إىل أصدقائه بعبارة‬ ‫كما يعترب كتاب احملادثة‬ ‫ً‬ ‫وداعا »‪. 231‬‬ ‫« أنت ‪ ،‬يا أخي » ‪ ،‬وعند افرتاقه عنهم يف فازوغلي كان يقول بالعربية «‬ ‫‪ - 231‬األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك‪ .‬صندوق ‪ .101‬الفهرس األول‪.‬‬ ‫ملف ‪ .559‬ورقة‪.40‬‬ ‫‪153‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫ميكننا مالحظة اخلاصية املميزة لقاموس املفردات الصغري الذى وضعه « إيفان‬ ‫بارودين » أثناء مسريته أو فى الزيارات امليدانية عند مقارنته بعمل مشابه صادر بعد‬ ‫مخسة عشر ً‬ ‫عاما من إنتهاء بعثة «ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي»‪ .‬يف بداية الستينيات‬ ‫وضع « ف‪ .‬كيلزي » قاموس حمادثة ( روسي ‪ -‬عربي ) لطالب كلية الدراسات‬ ‫الشرقية التابعة جلامعة سانت بطرسبورج ‪ .‬حيث عرض على سبيل املثال فى اجلزء‬ ‫الذى حيمل اسم « الطعام والشراب » املقابل باللغة العربية لتلك التعبريات واألسئلة‬ ‫‪ « :‬هل تشرب نبيذ أمحر أم أبيض؟» ‪ « ،‬هل تشرب القهوة مع الزبد؟ » أو « تناولنا اليوم‬ ‫احملار » ‪ .‬وفى اجلزء الذى حيمل عنوان « املالبس » متكن الطالب الروس ‪ ،‬الذين‬ ‫كانوا يتعلمون اللغة العربية فى منتصف القرن التاسع عشر‪ ،‬من معرفة كيفية‬ ‫نطق بعض اجلمل باللغة العربية ‪ ،‬مثل‪ « :‬حجزت دستني من القمصان» و « يعجبين‬ ‫صيحة هذه البلرين » و« اجلوارب رخيصة ً‬ ‫جدا يف لندن »‪. 232‬ليس بغريب أن تغيب‬ ‫تلك املفردات بشكل كامل لدى « إيفان بارودين»‪ ،‬الذى عرف كلمات ومجل‬ ‫باللغة العربية ليس فى تعامالته مع الفرجنة األرستقراطيني ‪ ،‬ولكن علي منت‬ ‫الذهبية ‪ ،‬وبالقرب من آبار منطقة مورات ‪ ،‬وفى أسواق اإلسكندرية والقاهرة ‪ .‬إال‬ ‫أن العمل الذى كتبه خبري التعدين األورالي كان األكثر قيمة ‪ ،‬من وجهة نظرنا ‪.‬‬ ‫نعتقد بشكل عام أن احلقيقة األكثر أهمية تتمثل يف مدي اهتمام خبري التعدين‬ ‫ً‬ ‫نسبيا اليت قضاها فى مصر‬ ‫األورالي باللغة العربية ‪ .‬حيث تعلم أثناء الفرتة الطويلة‬ ‫والسودان مئات من الكلمات والتعبريات باللغة العربية‪ .‬يذكر « أ‪ .‬أ‪ .‬رافالوفيتش «‬ ‫– الذى ورد ذكره أكثر من مرة علي صفحات هذا الكتاب – والذى قابل مؤسس‬ ‫ً‬ ‫مندهشا‬ ‫مصر العظيم فى العشرين من مارس عام ‪ ، 1848‬أن « حممد على » كان‬ ‫من سعي الرحالة الروسي لتعلم اللغة العربية ‪ً .‬‬ ‫وفقا ملا ذكره « أ‪ .‬أ‪ .‬رافالوفيتش » ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مصوبا حنوه إحدى‬ ‫بعد أن علم حاكم مصر بهذا ‪ ،‬نظر إليه « نظرة ثاقبة ومشرقة ‪،‬‬ ‫تلك النظرات ‪ ،‬كما لو كان يسعي من خالهلا إىل الكشف عن بواطن النفس‬ ‫واستطالع األفكار الدفينة داخل الشخص ‪ ،‬الذى حياوره » ‪ .‬بعد هذا نطق « حممد‬ ‫ً‬ ‫قائال ‪« :‬إنين أحكم مصر منذ أربعني ً‬ ‫عاما ‪ ،‬ومع هذا ال أجيد اللغة العربية»‪. 233‬‬ ‫على » ‪،‬‬ ‫لألسف ‪ ،‬مل تطل قصة ورشة استخراج الذهب بالسودان ‪ ،‬التى ُبنيت مبشاركة‬ ‫‪ - 232‬ف‪ .‬كيلزي‪ .‬التعبيرات الروسية العربية االجتماعية الدارجة‪ ،‬التي كتبت‬ ‫لطلبة كلية الدراسات الشرقية التابعة لجامعة سانت بطرسبورج‪ ،‬الذين تأقلموا‬ ‫علي استخدام اللهجة العربية الدارجة المستخدمة في سوريا والمحافظات التركية‬ ‫والفارسية‪ .‬سانت بطرسبورج‪ .1863 ،‬ص‪.28-30 ،16-17 .‬‬ ‫‪ - 233‬أ‪ .‬أ‪ .‬رافالوفيتش‪ .‬رحلة عبر صعيد مصر‪ ...‬ص‪.268 .‬‬ ‫‪154‬‬


‫بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر‬

‫املتخصصني الروس ‪ .‬واتضح أن بعض من شرعوا يف هذا العمل مع « ي‪ .‬ب‪.‬‬ ‫كافاليفسكي » سرعان ما حاولوا التقليل من قدرة رئيس البعثة الروسية علي‬ ‫تطوير صناعة استخراج الذهب يف مصر والسودان ‪ .‬فعلي سبيل املثال أكد « خالد‬ ‫باشا » فى خطابه إلي «إبراهيم باشا » خليفة « حممد على » أن مجيع خمابئ الذهب‬ ‫مت إفتتاحها حتى قبل وصول « ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي » ‪ ،‬كما أن املاكينات‬ ‫العربية كانت تفوق يف جودتها تلك اليت كانت ُتستخدم يف ورش األورال ‪ .‬ومع‬ ‫ً‬ ‫قائال‪:‬‬ ‫هذا فقد قال القنصل الروسي العام يف مصر « أ‪ .‬م‪ .‬فوك » أن حاكم مصر رد‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ومغفل » وال ميكنه أن يعرف عن أمور التعدين أكثر‬ ‫جاهل‬ ‫إن خالد باشا «‬ ‫ُ‬ ‫من الشخص‪ ،‬الذى « قضى حياته كلها فى املصانع ‪ ،‬وأرسل من قبل اإلمرباطور‬ ‫ً‬ ‫اهتماما‬ ‫احلاكم»‪. 234‬وعلي أية حال كان « إبراهيم باشا « فى البداية يولي‬ ‫ً‬ ‫كبريا للعمل الذي بدأه « ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي» ‪ .‬يشري « أ‪ .‬م‪ .‬فوك « نفسه‬ ‫يف أحد خطاباته إىل «ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي » أن « إبراهيم باشا » «أقبل حبماس‬ ‫علـى صـناعة الذهـب وطالب ببعض املعلومات ‪ ،‬وكان يعطي التعليمات ويرسل‬ ‫العمال » ‪ .‬ولكن حبلول خريف عام ‪« 1848‬هدأ كل شيء » ‪ ،‬وبدأ « أ‪ .‬م‪ .‬فوك »‬ ‫فى التعبري لرئيس البعثة الروسية عن ختوفه البالغ من « ضياع كل اجلهد والعناء‬ ‫ً‬ ‫وحتديدا فى يناير عام ‪ 1849‬أنه « ال وجود‬ ‫واألعمال هبا ًء » ‪ .‬وأشار بعد عدة أشهر‬ ‫ألي أثر للذهب يف أي مكان »‪ . 235‬أشار كل من املبعوث اإليطالي (وكاردينال يف‬ ‫املستقبل) ماساين والرحالة الفرنسي « ج‪ .‬بيلرتام » فى مذكراتهم أن عملية غسل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فشيئا ‪ . 236‬سرعان ما أغلق « حممد‬ ‫شيئا‬ ‫الذهب فى كاسان أخذت يف التداعي‬ ‫سعيد باشا » الورشة يف فازوغلي ‪.‬‬ ‫على أية حال تركت بعثة « ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي » أثرها علي تاريخ العالقات‬ ‫الروسية املصرية ‪ .‬فألول مرة يتواجد يف ذلك البلد اإلفريقي البعيد خرباء بسطاء‬ ‫للتنقيب عن الذهب ‪ ،‬ويرون طبيعته الغريبة ‪ ،‬ويتمكنون من التعرف علي بعض‬ ‫عادات وتقاليد شعوب مشال شرق أفريقيا ‪ .‬ومن املؤكد أنهم أخذوا بعد عودتهم إىل‬ ‫ً‬ ‫شيئا ما عن مصر والسودان ‪ ،‬فظهر أمام‬ ‫حدود الوطن يقصون ألقاربهم وأصدقائهم‬ ‫ناظري سكان وادي الذهب جبنوب األورال صورة عن أرض الشرق العربي البعيدة ‪.‬‬

‫‪ - 234‬ب‪ .‬أ‪ .‬فالسكايا‪ .‬كافاليفسكي والمهندسون المصريون‪ ...‬ص‪.143 .‬‬ ‫‪ - 235‬نفس المرجع‪.‬‬ ‫‪ - 236‬أنظر‪ :‬تاريخ السودان في العهد الحالى ‪ ..‬ص‪31 .‬‬ ‫‪155‬‬



‫السرية الذاتية‬ ‫ولـد ألكـسـى أنـتـوشـني فى ‪ 17‬أغـسـطـس ‪1975‬م‬ ‫فـى مـديـنـة إيكايرتبنورج ( روسيا) ‪.‬انهى دراسته فى‬ ‫كلية الدراسات التارخيية جبامـعة أورال عــام ‪1997‬م ‪.‬‬ ‫فى عام ‪ 1998‬م ناقش رسالة املاجيستري فى موضوع “ تاريخ اإلمرباطورية‬ ‫الروسية”‪،‬وفى عام ‪ 2010‬ناقش رسالة الدكتوراه والتى كرسها ملشكالت احلرب‬ ‫الباردة ‪ .‬أستاذ فى جامعة أورال الفيدرالية و يلقى حماضرات خاصة بـموضوعات “‬

‫تاريخ روسيا” ‪“ ،‬روسيا ‪ * -‬و دول الشرق” ‪ ،‬و “روسيا وأفريقيا” ‪.‬‬

‫عضو اجمللس العلمى ألكادميية العلوم الروسية اخلاص مبشكالت أفريقيا‪.‬‬ ‫شـارك أكـثـر مـن مـرة فـى املـؤتـمـرات العـامليـة لـألفـارقـة أعـوام‬ ‫(‪.) 2011، 2008، 2005‬‬ ‫شارك فى جمال البحث العلمى فى جامعة ستانفورد‪ ،‬كولومبيا‪ ،‬جورج تاون ‪،‬‬ ‫واجلامعة األمريكية فى الواليات املتحدة األمريكية ‪ ،‬واملعهد الدوىل للتاريخ‬ ‫االجتماعى ( امسرتدام ‪ ،‬هولندا) ‪ ،‬وجامعة ليدز (بريطانيا العظمى)‪ ،‬وجامعة باريس‬ ‫– نانتري (فرنسا) ‪،‬جامعة برمين (أملانيا) وغريهم ‪ ،‬وعمل فى جمال الوثائق التارخيية‬ ‫ألكثر من ‪ 30‬أرشيف لروسيا ‪ ،‬الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬أملانيا‪ ،‬هولندا ‪ ،‬فرنسا‪،‬‬ ‫بريطانيا العظمى واجملر ‪ .‬لديه أكثر من ‪ 130‬من اإلصدارات العلمية ‪ ،‬من بينهم‬ ‫أربع دراسات متعددة‪.‬‬

‫‪157‬‬



‫الفهرس‬ ‫مقدمة د‪ .‬حسني الشافعى‪............................................................................‬‬

‫املـقدمه‬

‫‪............................................................................................................‬‬

‫‪7‬‬ ‫‪21‬‬

‫الفصل األول ‪:‬‬ ‫املهندسون املصريون فى وسط وجنوب األورال‬

‫‪..................................‬‬

‫‪31‬‬

‫الفصل الثانى ‪:‬‬ ‫بعثة خبري التعدين “ إيفان بارودين “ إىل مصر املصادر و األحباث‬

‫‪........‬‬

‫السرية الذاتية ‪.................................................................................................‬‬

‫‪57‬‬ ‫‪157‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.