الناشر
رئيس جملس اإلدارة ورئيس التحرير
د .حســـني الشــــــافعي h.elshafie57@mail.ru املراسالت القاهرة – مدينة العبور
44971مكتب بريد مجعية أمحد عرابي
ص .ب 72 . Tel. & Fax: + (202) 24 77 38 70 & 71 E-mail: secertary_ert@yahoo.com التصحيح واملراجعة حامد أمحد حممد
اإلخراج الفين مــى مـجـدى حترير شيماء حممد الشافعى الطباعة دار الطباعة املتميزة مدينة العبور – القاهرة
Tel. & Fax: + (202) 4478 96 44 & 46
الطبعة األوىل 2006
إصدار مؤسسة «اآلداب الشرقية » أكادميية العلوم الروسية
الطبعة الثانية 2014 دار نشر أنباء روسيا باإلشرتاك مع
معهد االستشراق -أكادميية العلوم الروسية ( تأسس عام ) 1818 مجي��ع حق��وق الطبع والنش��ر حمفوظة للناش��ر. ال حيق إعادة طبع أو نسخ حمتويات هذا الكتاب ً ً ضوئيا دومنا إذن كتابي من الناشر . إلكرتونيا أو
رقم اإليداع 2014 /4306
بالتعاون مع اجلمعية املصرية الروسية للثقافة و العلوم При содействии eгипетско –российской ассоциации по культуре и науке رئيس جملس األمناء
رئيس جملس اإلدارة
ا.د فيتالي ناؤمكني
د.حسني الشافعى
: الرتمجة العربية للكتاب
ФЕДЕРАЛЬНОЕ ГОСУДАРСТВЕННОЕ БЮДЖЕТНОЕ УЧЕРЖДЕНИЕ НАУКИ ИНСТИТУТ ВОСТОКОВЕДЕНИЯ РАН
А. B. АНТОШИН ЗОЛОТО СЕННАРА
Египет и Судан глазами уральского мастера Золотодобычи XIX века Библиотека журнала “ Восточный архив“
أ .ف .أنتوشني ذهب سنار
مصر والسودان من منظور خبري استخراج الذهب من األورال يف القرن التاسع عشر يتناول الكتاب تاريخ العالقات الروسية املصرية فى منتصف القرن التاسع عشر. ويرتكز حمور احلديث علي يوميات أحد خرباء املناجم من األورال “ -إيفان بارودين”، واليت تتناول فرتة تواجده فى مصر والسودان فى ظل بعثة “ ى .ب .كافاليفسكي” فى األربعينيات من القرن التاسع عشر . خياطب مؤلف الكتاب املستشرقني واملتخصصني فى تاريخ التعدين باألورال، وكذلك كل من لديه اهتمام بعالقات روسيا مع دول الشرق العربي ،كما ميكن استخدام الكتاب كوسيلة تعليمية عند اإلطالع على تاريخ التعدين فى األورال ،وتاريخ العالقات الروسية العربية . احملرر العلمي : ج .ف .جورياتشكني .حاصل علي دكتوراه التاريخ وأستاذ قسم تاريخ دول الشرق األدنى واألوسط التابع ملعهد دول آسيا وأفريقيا جبامعة موسكو احلكومية باسم “ م.ف .المانوسف “ . املراجعني : ف .ف .بيليكوف دكتور التاريخ ( معهد االستشراق بأكادميية العلوم الروسية ) ن .أ .جريليتسينا حاصلة علي درجة الدكتوراه فى التاريخ ( معهد أفريقيا بأكادميية العلوم الروسية ) ترمجة :وليد أمحد طلبه مدرس مساعد بكلية األلسن -جامعة عني مشس مراجعة وتقديم :دكتور حسني الشافعى رئيس جملس ادارة و رئيس حترير جملة أنباء روسيا 5
تقديم :دكتور حسني الشافعى رئيس جملس إدارة و رئيس حترير أنباء روسيا
رئيس اجلمعية املصرية الروسية للثقافة و العلوم
ً كثريا ع��ن ُعم� ْ �ر العالقات بداي��ات التع��اون العلم��ى ب�ين مصر وروس��يا تزي��د الدبلوماس��ية * ال�تي نش��أت بينهم��ا ،و لع��ل بداياته��ا -و هى موض��وع كتابنا هذا - كان��ت فى قصة إنش��اء أول مصنع ميكانيكى الس��تخالص الذه��ب من الرومل فاألرش��يف احلكومىالروس��ى مبقاطع��ة سفريدلوفس��ك مازال حيتف��ظ ما بنيملفات��هتفاصي��ل ه��ذه العالق��ات بكل دق��ة ،امل��ؤرخ الروس��ى “أنتوش�ين”– وهو ً متنقال ما بني أس��تاذ فى التاريخ ومستش��رق معروف َعكف على هذهاألرش��يفات موس��كو وسفريدلوفس��ك وغريهامن مدن روس��ية كثرية حيك��ى من بني دفاتر ّ علمىبني مصر وروسيا بدأ منذ زمن . تعاون هذه األرشيفات قصة أول ٍ بدأت القصة مع علم -الواىل املصرى “حممد على” -بأن الروس قد توصلوا إىل طريقة جديدة الستخالص الذهب من الرمال .كيف علمالواىل الباشا بهذا األمر ؟ * تعود العالقات الدبلوماس���ية التى نشأت بين البلدين إلى عام 1943حيث إحتفل فى العام الماضى 2013بالذكرى السبعين إلقامتها 7
هذا ما ال تذكره الوثائق الرمسية ،لكن أغلب الظن أن ً أحدا من مستشاريه قد نقل له هذه املعلومة .كان ذلك فىيونيو 1838م . استدعى -حممد على باشا -القنصل العام لروسيا فى مصر “ميديم” مبقراحلكم بالقلع��ة ف��ى 28يونيو 1838م ،وطل��ب منه احلصول على وص��فدقيق ،ومفصل للطريق��ة اجلديدة واخلطوات التطبيقية فىروس��يا الس��تثمار الرمال احلاوية ً ذهبا عن طريق الصهر ً بدال منالغسل . ّ َ القنصل العام الروسى مبصر “ميديم” خرج من َّ ليكتب برقيته املصرى معية الواىل التالية فى 28يونيو 1838م لوزارة خارجيته : رسالة إىل نائب مدير الدائرة اآلسيوية لدى وزارة خارجية روسيا السيد سينيافني اإلسكندرية )28( 16 ،يونيو 1838 السيد نائب املدير سينيافني ،ح طلب منى باشا مصر احلصول على وصف دقيق ومفصل للطريقة اجلديدة ،والعمل التطبيقى ،اللذين ميارس��ان فى روس��يا استثمار الرمال احلاوي��ة ً ذهبا عن طريق الصهر ً بدال من الغس��ل .واليوم اتوجه إىل الدائرة اآلسيوية برجاء تطمني رغبة الباشا التى أعرب عنها بهذا ً طائعا إرس��ال وصف بالفرنس��ية للطريقة الص��دد .هلذه الغاية أرجو اجلديدة املتبعة فى مصانعنا ،وكذلك إرس��ال رسوم للمعدات التى تستخدم فى العمليات اآلنفة الذكر تفضلوا ،سيدى نائب املدير ،بقبول فائق احرتامى القنصل العام لروسيا فى مصر “ميديم” وصل��ت الرس��الة إىل العاصم��ة اإلمرباطورية س��انت بطرس��بورج ..وما ب�ين وزارة اخلارجي��ة – ودوائره��ااملتخصص��ة – ومصان��ع الذهـ��ب ،وأرش��يف املصـان��ع -و قد إس��تغرق ه��ذا األمر ما يزي��د عن ثالثة أع��وام -مت مجع كل ما ه��ومتعلق بالطلب املصرى من وثائق ومعلومات ُأرسلت على وجه َ العجلإىل مصر فى سبتمرب 1841م . وق��د َّ كل��ف -حممد على باش��ا -واىل مص��ر رجال��ه أن يعكفوا على دراس��ةما 8
وصله��م من روس��يا من معلوم��ات رأوا أنها تس��تحق االهتمام ،ومنث� ّ �م كان طلبهم أن توفد روس��يا ملصر خرباء فى هذا اجملال إلنش��اءمعمل الس��تخراج الذهب من الرمال املصرية . ً لكن روس��يا كان لديها ٌ ّ مكتوبا يقرتح إرس��ال -مهندسني رأى آخر ،إذ أرس��لت مصريني -هلا لإلطالع واملشاهدة هلذه املعامل الروسية ،وكان هذا هو نص اخلطاب: إلي نيسيلروديه من أركان فيلق مهندسي التعدين سان بطرسبورج 7 ،من ديسيمرب ، 1843رقم 6257 س��يدي الكريم “الكونت كارل فاس��يلييقيتش” ،لقد طلبتم َ صاحب الس��مو ،لدى إرس��الكم لي فى 25من نوفمرب املاضي مين ،يا ( بالغ الس��يد مبعوثنا لدي الباب العال��ي العثماني حتت رقم 254مع ُ امللحقات ) ،أن أبدي رأيي بصدد إيفاد مهندسي تعدين روس إىل مصر ألجل دراسة الرواسب احلاوية ً ذهبا و تنظيم معاجلتها الصحيحة . ً طبقا بع��د مطالع�تي ه��ذه األوراق أتش��رف ،س��يدي الكري��م ،و ُ حملتواه��ا ،ب��أن أبلغك��م أن��ه ال يوج��د لدين��ا اآلن ،فى ظ��ل التطور الس��ريع لصناعة اس��تخراج الذهب من الرواس��ب احلاوية له يف روسيا ٌ أشخاص خبريون متفرغون ،ميكن ختصيصهم لإليفاد إلي مصر. فـضـ�لا عـ��ن أن إيفـ��اد مـهـندس��يـن روس ،وأوروبـ�ين عـل��ي العــمـوم ،إىل هناك من املستبعد -فى رأيي -أن جيلب فائدة عملية وذلك بس��بب عسر املناخ املصري بالنسبة لس��كان الشمال ،وكذا بس��بب عدم إم��كان األوروبي ،ال��ذي ال يعرف لغة ه��ذا البـلـد ،وال عـبادات الش��ـرق ،التكيف بسرعة مع الظروف و العالقات احمللية، اليت تتس��م دائما بتأثري شديد على جناح املؤسسات الصناعية .هلذه األس��باب الوجيهة ،فلو وكل األمر لي إلمتنعت عن إيفاد مهندس��ي تعدي��ن روس إىل مصر ،وكن��ت قد اقتـرحت على الباش��ا ً ، بدال مـن ذلك ،إرس��ال أش��خاص م��ن لدنه إىل روس��يا تقدم هلم دائ��رة التعدين مجيع التس��هيالت املمكنة ألجل أن تتم بأس��رع ما ميكن دراس��ة طرائقنا للتنقيب عن الرواس��ب احلاوية ً ذهبا و معاجلتها .وبإمكان األش��خاص املوفدي��ن من جانب ال��واىل حممد على ،ل��دي وصوهلم إلي أوديسا ،السفر ً رأسا إلي مدينة “إيكاترينبورج ” فى -األورال -إذا مل 9
يعترب ً ً ضروريا هلم التعريج على -سانت بطرسبورج . - أمرا و إنين ،إذ أتش��رف بأن أعيد طيه البالغ املذكور للس��يد مستشار الدول��ة الفعل��ى “تيتوف” حت��ت رقم 254م��ع بالغي القنص��ل العام “كرمي�ير” ،و بأن أرفع ش��كرى إىل مسوكم على إرس��الكم إىل دائرة التعدين تقارير خبصوص املهندسني األربعة العاملني فى خدمة باش��ا مص��ر ،أرجوكم س��يدى الكري��م أن تتقبلوا فائ��ق احرتامى ووالئى . ً كثريا ،حتى وجد ( حممد على باشا ) من يأمتنه على هذهاملهمة اجلليلة. مل مير
فاختار ش��ابني مصريني هما ( :على حممد ،وعيسىالدهشورى)ليقوما بهذه املهمة. وكت��ب قنصل روس��يا باإلس��كندرية :فى 26م��ارس1845م كتاب��ه للخارجية الروسية بهذا الشأن . مراس�لات كثرية أعقبت هذا اخلطاب حتوى ترتيب��ات لقاء املوفديناملصريني من ً �خصيا فيين��ا ملرافقتهما إىل إيكاترينبورج ،وألنهما موفدان من ِقبل واىل مصر –ش� فلق��د تاب��ع بعثتهما اإلمرباطور الروس��ىبنفس��ه ،وال��ذى أصدر تعليمات��ه “ أن يتم استقباهلما ،وبأن يظال حتتإشراف أساتذة معهد التعدين ،وأن يسافر مع املهندسني املذكورينمرافقني إىل مصانع التعدين فى -األورال ، -و أن تقدم هلم كل مساعدة ممكنةللدراسة الراسخة لطرائق معاجلة الرمال احلاوية ً ذهبا املسـتخدمةعنـدنـا“. كان هذا هو نص التكليف اإلمرباطورى . من فوك إلي سينيافني اإلسكندرية 26 ،من مارس 1845م ،رقم 6 سيدي الكريم ليف جرجيوريفيتش ببيان صادر يف 14 :من ديس��مرب أبلغ السيد نائب املستشار السيد املبع��وث -تيت��وف -عن اقرتاح الس��يد وزي��ر املالية ،الذي ن��ال املوافقة ً أشخاصا السامية جلاللة :اإلمرباطور ،بأن يوفد باشا مصر إىل روسيا من لدن��ه ميكن قبوهلم يف املصانع احلكومي��ة يف إيكاترينبورج لدراس��ة طرائقن��ا ف��ى معاجلة الرواس��ب احلاوي��ة ذهب� ً�ا و معاجلتها . لق��د س��بق لس��لفى ،الس��يد املستش��ار ال��وزاري “كرمي�ير” ،أنه أح��اط حممد علي باش��ا يف حينه علم� ً�ا بهذا اإلقرتاح .و قبل الباش��ا 10
هذا اإلقرتاح مع الش��كر و أعلن أنه س��وف يس��تفيد من��ه فيما بعد . واآلن ،قب��ل مغادرت��ي القاهرة ،ص��رح لي حممد على باش��ا برغبته يف أن يرس��ل إل��ي روس��يا هلذا الغرض ش��ابني من أص��ل مصري ،هما ً حاليا يف -فيينا ، - (حممد علي وعيس��ى دهش��وري) ،وهما موجودان و جييدان اللغتني األملانية و الفرنـسية ،ودرسا هناك األسس األولية لفن التعدين . إن باش��ا مص��ر ،فى ه��ذه احلالة و بع��د إطالعه على إرادة الس��يد اإلمرباط��ور به��ذا الش��أن يص� ّ �ر عل��ى إيف��اد هذين الش��ابني بأس��رع ماميكن . نظ� ً �را لذلك ،وإذا أخذت فى احلس��بان أن هذين الش��ابني موجودان ً ً حاليا فى فيينا ،وأنهما بالتاىل س��يقومان برحلة كبرية جدا و زائدة
إذا أرس�لا ع��ن طريق أوديس��ا .فقد ق��ررت أن أتوجه إل��ي معاليكم مباش��رة بأش��د الرجاء بأن تتفضل��وا بإبالغ مس��و “ الكونت كارل فاســيلييفيتش” عن رغبة الباش��ــا ،واإلتصال بوزارة املالية لتهيئة س��فر الش��ابني املذكورين بالطريقة األكثر راحة و دومنا عائق من فيينا مباشرة إىل املكان املقصود بأقصر طريق ممكن . إنين أبعث ببالغى هذا ،بواسطة اإلدارة املصرية إىل السيد مبعوثنا ف��ى فيينا بالربي��د املفت��وح بغية إيصال��ه إىل معاليكم ؛ وأتش��رف طائع� ً�ا ب��أن أطلب منكم -س��يدي الكريم -بغي��ة التنفيذ فى أقل قدر ممكن من الوقت ،تكليف الس��يد املستش��ار السري الكونت “ميدي��م” مباش��رة بإب�لاغ الش��ابني املوجودي��ن ف��ى -فيين��ا -مجي��ع التعليمات الالحقة بصدد س��فرهما إىل روس��يا و تزويدهما جبوازى سفر الزمني ألجل ذلك . فوك وصل املهندس��ان املصريان ( على حممد وعيسى الدهشورى ) ،وبعدرحلة طويلة بني املصانع واملعاهد الروس��ية – ختللها عثرات صحيةمر بها الش��ابان املصريان – إال أنها مل ُتهن عزمهما على استكمالمهمتهما التى ينتظر الواىل املصرى بفارغ الصرب خرب إجنازها . ً حمفوظةباألرشيف تقارير متابعة أداء ( على حممد وعيس��ى الدهشورى ) مازالت 11
الروسى حتى اآلن ،والتى منها جند هذين التقريرين: ( التقرير األول ) اىل الدائرة اآلسيوية سان بطرسبورج 18 ،من أبريل ، 1846رقم 1579 أبل��غ مهن��دس التعدي��ن املق��دم كوفاليفس��كى أركان فيل��ق مهندس��ى التعدين بأن املهندسيني املصريني الدهشورى و على حممد اطلعا فى غضون مارس املاضى على مصانع سيس�يرت و كاس��لى و كيش��تيم و مناج��م س��وميانوفو الس��تخراج الذه��ب ،و مصن��ع زالتؤوس��ت لصناع��ة األس��لحة ،و مناجم مياس الس��تخراج الذهب ،و هم��ا يعمالن االن فى منجم أتلى ،و س��وف يتوجهان بصحبة الس��يد كوفاليفسكى ،عند أول فرصة تستح ،إىل فرقة أحباث جيولوجية للتنقيب و الكشف عن الرواسب احلاوية ً ذهبا حيث سيبقيان حتى مطلع مايو أى حتى موعد توجهها إىل أوديسا . تتش��رف أركان فيلق مهندسى التعدين بأن تبلغ الدائرة اآلسيوية بذل��ك ،و أن تطل��ب طائعة بإعطاء األوامر لبعث الرس��الة ،الواردة من املهندس�ين املصريني املذكورين و املرفقة طيه ،إىل عنوان أرتني بيه املخصصة له . (التقرير الثانى) تقرير املقدم كوفاليفيسكى بتاريخ 1من ديسمرب ،رقم 28 إىل أركان فيلقى مهندسى التعدين طبق��ا للتعليمات املعط��اة ىل من األركان أتش��رف بأن أبلغكم بأن��ى مهندس��ى التعدين ،املرس��لني من لدن باش��ا مصر ،الدهش��ورى و عل��ى حمم��د ،و اللذي��ن عم�لا ط��وال ش��هر نوفمرب ف��ى مكامن ً �خصيا أكثر من 500ب��ود من الرمل ييـريـوزوفس��ك ،قد غس�لا ش� احل��اوى ذهب� ً�ا ف��ى التى عس��يل بدويت�ين ،إضاف��ة إىل ذل��ك كانا يطلع��ان يوميا بصورة عملي��ة على مناذج آالت غس��ل الذهب التى 12
صنعت ألجلهما لكى يس��تطيعا جتميعها بنفس��يهما فى املكان املفروض و دراسة أجزائها بالتفاصيل فى حال صنع ألة حتت إشرافهما ً غالبا فى مصر .أرى من واجبى أن أضيف إىل ذلك أن دروسهما تتوقف بسـبب مرض أحدهما ،و اآلن أصيب الدهشورى بالذكام . ً أجنزت املهمة – التى اس��تمرت ً كامال – بنجاح .لكن حممدعلى باش��ا مل عاما رأيا ً يكتف مبا حتقق ،وكان يرى ً آخرا . إذ ع��اد ف��ى ع��ام1847م لطلب��ه القديم بأن ترس��ل روس��يا مهندس�ين م��ن لدنها للمعاونة فىإنشاء هذ الصناعة مبصر ،بعد أن تيقن أبناؤه – حممد على و عيسى ً جهدا الدهش��ورى– من أن مصر حتتاج إىل هذه الصناعة .ومل يأن اإلمرباطورالروس��ى وأشر عليه ِّ فى دراسة طلب الواىل املصرى ّ خبطه :”خاضع للتنفيذ” . وهكذا .. وص��ل مق��دم فيل��ق مهن��دس التعدي��ن -كوفاليفس��كى -املوف��د ب��اإلدارة ً ٌ ومهندس ف��ى العلومالطبيعية عامال تعدين ، اإلمرباطورية الس��امية ملص��ر يرافقه قادمة من -أوديسا -فى 23نوفمرب 1847م . باخرة مليناء اإلسكندرية على منت ٍ ٍ املوف��دون ال��روس ج��رى اس��تقباهلم مبين��اء اإلس��كندرية رمسي� ً�ا ،وبباخ��رة
خاص��ة مت نقله��م للقاه��رة للق��اء -ال��واىل -لدراس��ة خططه��م ،وخرج��وا م��ن معي��ة ً خطابا لإلمرباطور الروس��ىيش��كره الواىل لريس��ل ال��واىل “ حممد على “ بنفس��ه عل��ى إيف��اده للمهندس�ين ال��روس الذي��ن وصل��وا حبم��د اهلل للدي��ار املصري��ة .
م��ن بني وثائ��ق اإلمرباطورية الروس��ية ،نش��رنا -فى مع��رض قراءتن��ا لبعض هذه الوثائق -نص رس��الة طريفة تتعرض للرتتيبات اخلاصة بهذه البعثة إىل مصر ،و ما خصصته روسيا لتحويلها ،و كان نص هذه الرسالة ما يلى : من أركان فيلق مهندسي التعدين إلي الكونت نيسيلروديه سان بطرسبورج 23 ،أغسطس ، 1847رقم 4412 سيدي الكريم كارل فاسيلييفيتش عطف� ً�ا عل��ي الرس��الة املوق��رة م��ن مسوك��م ،املؤرخ��ة يف 12من ً تقريرا إىل أغس��طس (آب)اجلاري حتت رقم ، 2498تش��رفت بأن أرفع
السيد اإلمرباطورعرضت فيه مايلي :
13
– 1أن يوف��د إل��ي مص��ر لتنظي��م معاجلة الرواس��ب احلاوي��ة ً ذهبا مس��اعد رئيسالتعدين ملصانع زالتوأوست املدير املؤقت هلذه املصانع مهن��دس التعديناملقدم كوفاليفس��كي بوصف��ه ضابط أركان ُ مطلعا كفايةعلي العادات اآلس��يوية أثناء ملم� ً�ا بإنتاج الذهب ،و مأمورياته املتكررة إلي اخل��ارج ،ومعروفا جيدالدي وزارة اخلارجية بتنفي��ذه تكليف��ات خمتلف��ة .أم��ا بالنس��بة للمعون��ة الضروري��ة لضابط األركان هذا يف التكليف املس��ند إليه ،فينبغي أن يرسل معه معلم تعدينواحد وغاسل ذهب واحد . – 2تعي�ين معاش��ات هل��ؤالء املوظفني لق��اء عملهم خ��ارج البالد : للمقدمكوفاليفس��كي 50روبال ذهبا يف الشهر ،و ملعلم التعدين ً 6روبالت ً فضـال ذهبا ،و لغاس��ـل الرمال احلاوية 4روبالت ذهـبا ، ع��ن املعـ��اش لقاء عـمله��م داخـلالبالد حس��ب قوانني املعاش��ات يف التعدي��ن ،أم��ا ل��دي إرس��اهلم فينبغ��ي أنخيصص هل��م للتنقل عرب روس��يا نصف املعاش الس��نوي املخص��ص للعمل يفاخل��ارج دون أي خص��م منه ،و لنفقات الطريق من حدود روس��يا إلياإلس��كندرية : لكوفاليسكي . ً ً روب�لا ل��كل ذهب��ا ل��كل روب�لا ذهب� ً�ا ،ولآلخري��ن 85 225 واح��د ،وفض�لا ع��ن ذل��ك وض��ع 250روب�لا ذهب� ً�ا حت��ت تص��رف
كوفاليفيس��كى للمصاري��ف الطارئ��ة وملواصلة تنق��ل موظفى التعدين من اإلسكندرية حتى مكان وجود الرواسب احلاويةذهبا ولش��راء أدوات الزمة لألحباث العلمي��ة ،وغري ذلك ،على أن ترتك له حري��ة إنفاق هذه النقود حس��بما يرت��أى فىحال الضرورة أو حس��ب �ابا مناس� ً تعليم��ات قنصلنا فى مصر،ولكن حبث يقدم حس� ً �با هلذه النقود .
- 3إن مبلغ النفقات احملسوبة وفق الكشف التقديرى واملخصص ملأمورية املقدم كوفاليفيس��كى املفرتضة إىل مصرملدة عام واحد ً روبال ً ً ذهبا تقريبا بس��بعة آالف وتس��تعمائة وواحد وس��تني واملقدر وأربعني كوبيكا فضة ينبغى نسبة إىلحساب خزينة الدولة. - 4تكلي��ف القنص��ل الع��ام الروس��ى ف��ى مب��ا :ل��دى وص��ول املقدم كوفاليفيس��كى إىل هن��اك إيالء العناي��ة الالزمة لضابط األركان ،ه��ذا وااليعاز ل��ه بأنه إذا طرأت ض��رورة متديد إقامته فى 14
مصر أكثر من واحدة فينيغى أن خيرب بذلك قبلاألوان . إن جاللته االمرباطورية تكرم فى 22أغسطس (أب) اجلارى ،بأن كتب خبط يده على التقرير “خاضع للتنفيذ”. وإننى إذ أتش��رف بإب�لاغ مسوكم به��ذه االرادة الس��امية ،أطلب ً طائعا س��يدى الكريم .االس��تعجال فى إص��دار األمر بإيالء منكم املق��دم كوفاليفيس��كى مع موظف��ى التعدين العناي��ة احلميدة م��ن جانب قنصلنا فى مص��ر ارى من واحبى أن أضي��ف إىل ذلك أننى أقرتح��ت ف��ى احلال على الس��يد الرئيس الع��ام ملصان��ع األورال إرجاع السيد كوفاليفيسكى دون إبطاء اىل سان بطرسبورغ فور تنفيذ املهام املوكلة إلية و إرجاع معلم التعدين وغاس��ل الرمال إىل أوديسا مباش��رة ،حبيث يص�لا إىل هناك فى أواخ��ر أكتوبر املقب��ل ،ولدى وص��ول الس��يد كوفاليفيس��كى إىل هنا جيبأم��ره باحلضور اىل هن��ا و جيب أم��ره باحلضور اىل مسوك��م لنيل التعليمات املناس��بة للتكليف املسند إليه . اس��تمرت البعث��ة الروس��ية ملصر ُقراب��ة الع��ام – وكان يرافقها طوال ه��ذه الفرتة
املهندس��ان املصريان ( حممد على و إيليا الدهش��ورى ) – وأجنزت البعثةمهمة إنشاء �ان -حيث ش��يد املعملبآالته وأدواته وبدأ أول معمل إلس�ً�تخالص الذهب فى -كس� ٍ فى االنتاج فعال ،وعادت البعثة لبالدها لتجدالتكريم اإلمرباطورى الالئق . م��ن فرونتش��نكو إىل نيس��يلروديه س��ان بطرس��بورغ 20 ،م��ن أكتوبر1848 سيدى الكريم كارل فاسيلييفيتش إن حمتوى الرسالة املوقرة لسموكم بتاريخ 6من أكتوبر (تشرين األول)اجل��ارى حت��ت رق��م 3420بصدد مكـاف��أة مهـن��دس التعدين املق��دم كوفاليفيس��كىبالرتب��ة التالي��ة ،رتب��ة عـقي��د ،لقـ��اء األعم��ال ،الت��ى قام بها فى مصر ل��دى أدائهالتكليف املس��ند إليه ، ً مضيفا قد أس��عدت بأن أرفع��ه إىل الرأى الرمسى للس��يداإلمرباطور ، م��ن جهتى أنه يوجد األن فى قائمة مهندس��ى التعدين فىرتبة أعلى من الس��يد كوفاليفيس��كى بضعة مهندس��ى تعدين برتبة مقدم ً كليا أيض� ً�ا ترقيتهم ن مناصب هامة خمتلفة ويس��تحقون يش��غلو 15
إىل الرتب��ة التالي��ة ،وقد تكرم صاحب اجلالل��ة برمحته الفائقة فى 15أكتوبر(تش��رين األول) اجلـارى مبنح املقدم كوفاليفيسكى وسام القديسة أنا من الدرجة الثانية . واننى ،إذ أتش��رف بإبالغ مسوكم به��ذا العطف امللكى ،أطلب ً طائعا . منكم سيدى الكريم ،قبول فائق إحرتامى ووالئى
فرونتشينكو
م��ا ب�ين الرس��الة الت��ى أرس��لها فيل��ق مهندس��ى التعدي��ن إىل الكون��ت كارل فاسيلييفيتش ،و ما بني التكريم اإلمرباطورى الذى ناله املقدم كوفاليفيسكى مهندس التعدين تأتى قصة هذا الكتاب ( ذهب سنار ) أو ( البحث عن الذهب ) . فالكت��اب هو حبث تارخيى عن خمطوطة كتبها خبري التعدين “إيفان بارودين” ال��ذى َق� ُ �دم ملصر وفقا ملرس��وم صاحب الس��عادة االمرباط��ور ني��كاالى بافالفيتش ، ً دعما للمقدم كاناليفس��كى – الذى سبقه ملصر – النشاء وتطوير معاجلة الرماد واستخراج الذهب منه . كان إهتمام حممد على باش��ا بدعوة روس��يا للمش��اركة فى البحث عن الذهب كب�يرا ،وقد صـحب بنفس��ه وف� ً ً �ودا أجنبي��ة إىل الس��ودان مابني عـامى بالس��ودان 1839، 1838لدراس��ة آفاق صناعة الذهب واس��تخراجه ،وقد كان هذا األمر جمال إهتمام االوربني من االيطالني وفرنسيني ومنساوين ،وغريهم . كانت روسيا آنذاك – ورمبا مازالت – دولة متقدمة فى فى جمال التعدين ،ذائعة الصيت فى العامل ،حيث ش��كل الذهب الروس��ي اكثر من 40%مما يس��تخرج فى العامل قاطبة ،وصارت روسيا ذات مكانة متميزة فى السوق العاملى . يس��تدعى الكتاب الذى بني أيدينا هذه القصة بإس��هاب ،وهى قصة تتجلى فيها أم� ً �ورا عديدة ،حيكمها اإلهتمام الزائد بإجناح مهمة التعاون مصرى – روس��ي فى كشف أسرار إستخالص الذهب ،وقد فاض الكي��ل آن��ذاك حبيل غربي��ة لنهب الثروات فى س��لطنة س��نار – اخلاضعة حلكم الواىل كسلطنة سودانية . ق��دم ال��روس ملصر تكنولوجيا غس��يل الرم��ال احلامل��ة للذهب ،بعد إكتش��اف 16
ذرات للذهب حتت طبقات الرواس��ب عرب تيارات األنهار ،وهو ما كان حيلم به الواىل املصرى . لك��ن ه��ذا مل يك��ن كافي� ً�ا ،فقد كش��فت خمطوطة “إيف��ان بارودي��ن “ عن
تكمل��ة قص��ة “ البح��ث ع��ن الذه��ب “ ،حي��ث مل تنته رحل��ة على حممد وعيس��ى الدهشورى بعودتهم لبالدهم ،إذ سرعان ما قدم ملصر كافاليفسكى ورفاقه لزيارة الس��ودان عندما أوضح املهندس��ان املصري��ان – بتجارب أجرياها بنفس��هما – جدوى إستخراج الذهب من رمال كاسان ،وشرق السودان . ومابني أوديسا ،فإسطنبول ،فاإلس��كندرية ،فأطفيح وحتى القاهرة حيكى “ بارودين “ تفاصيل رحلة – مملة – عرب نهر النيل ليفاجأ بفوضى فى إستقباهلم فور وصوهلم للمدينة . ً �كال للحياة اليومية ف��ى عهد حممد على لق��د رأى الروس القادم��ون للقاهرة ش� ً ً كث�يرا عما ألف��وه فى بالده��م ”:من ش��قتنا ن��رى ميدانا غ�ير مكتمل خيتل��ف
يتجم��ع الناس في��ه – بعضهم يدخن واآلخر يش��رب عصري الليم��ون ،وبئر ترفع منه املياه بواسطة ثريان “. أدهش��هـم أن س��ـلطات املـدينـ��ة كان��ت جتم��ع الصبي��ه والصبـاي��ا لتـنظي��ف املـياديـن ،وكان هؤالء الصبيه والصبايا مقس��مون إىل ثالثة أقس��ام ،االول جيمع القمامة فى س�لال ،والثانى يغنى ،والقس��م الثالث يهرع بالسالل اململؤه بالقمامة ألماكن جتميعها ،وكانت سطوة جهاز الدولة فى الشرق هو ما لفت األنظار . لق��د كان رأى الكثريي��ن أن حمم��د عل��ى فعل الش��ئ الكثري من أج��ل إعمار مص��ر .وتعج��ب الرحالة الروس من “عبقرية” مؤس��س مصر احلديثة،الذى “ اس��تطاع باإلصالحات الداخلية أن يتفوق على األقاليم اجملاوره له. زراع��ة أش��جـار الت��وت والنخي��ل ،والقط��ن وحماصي��ل انتاجي��ة أخ��رى كثرية ، الت��ى كانت غـربي��ة عـن مصر قبـ��ل ذلـك ،وكـذل��ك بـناء العـديـ��د من الـورش والـمحـالت ،واملدارس ،والرتسانات – كل هذا دليل على جمهود جبار “ .بيد أنه مل يستطع القادمون من روسيا غض الطرف مرة أخرى عن ثـمن كل تلك اإلصالحات ”: مل يـكن حممد على – الذى يـحظى باإلحتـرام فـى س��وريا ،والذى يدعى بالرهيب ف��ى اجلزيرة العربية ،كما عرف باحنيازه ألفريقيا – ليربز بني س�لاطني الش��رق لوال معانة الش��عب باجلهد املضنى ت��ارة ،وبالضرائب تارة أخرى ،حتت نري اإلحتكار اجلائ��ر ،الذى ال تصب ثرواته إال فى خزينة الباش��ا “ .ومن القـاهرة إلـى بـنى س��ويف 17
فأس��يوط فـجرج��ا فـطيبة فاألقـصر والكرنـك ،فأس��ـوان ،فـجزي��رة فيلـه فـعبور ً وصوال إىل خـط االس��تواء عند قـرية كاالبش��ا ،فـكـوروس��كا ،فصحراء النوبة سلطنة سنار حيكى الروس ما رأته أعينهم فى هذه احملطات . ً مواكبا لإلنهيار الذى أصاب الس��لطنة على إثر محلة القوات كان وصول الروس املصرية التى قادها إمساعيل -ابن حممد على باشا .
حاول��ت قبائ��ل ش��ارجيى املقاومة ،اإل أنه��م مل يصم��دوا أمام ق��وة و تنظيم جيش إمساعي��ل ،فدخل��ت القوات املصرية اىل واد – مدنى حيث استس��لم الس��لطان بادى اخلامس سلطان سنار أمام إمساعيل باشا. لكن ثائرة الثوار مل ختمد ،واندلعت ثورات فى 1822ولقى إمساعيل بك حتــفه على أيديهم فى طريق عودته ملصر . وقاد صهر حممد على محلة إنتقامية قضى فيها على ما يقرب من 50الف مواطن من سنار ،وغدت سنار حتكم كغريها من الواليات حبكمدار مصرى. وصلت البعثة الروس��ية إىل ش��ندى فى فرباير ،ومنها للخرطوم فواد مدنى فسنار ، وه��ى مدين��ة كانت حتتل املرتبة الثانية فى أفريقيا – بعد القاهرة – من حيث عدد السكان الذى بلغ مائة ألف. م��ع وص��ول البعثة ملقصده��ا ،حيث بدأ العمل فى بناء ورش��ة غس��ل الرماد جلمع الذهب ،وحيكى الروس ما أحاط بهذه الورشة من جتهيزات وأعمال . ومع بدء دورة العمل إذ بالروس يكتش��فون أن أسلوب الغسل اليدوى للرمال غري فع��ال باملرة ،ناهيك عن نقل الرمال باجلم��ال .كان األمر يبدو وكأنه ليس للزمن أى حساب . عم��ل الروس على إدخ��ال تعديالت على عمل هذه املنظوم��ة ،فلم يكن هناك من��اص م��ن ميكنة العمل فى املنج��م .وهكذا ..مت نصب أربع��ة آالت و آلة جمرية أخرى ليبدأ العمل فى السري على قدم وساق. ً راضيا عن نتائج بعثته ،ومتكن من إكتشاف كان كافاليفس��كى نفس��ه رمال غنية برواسب الذهب والعمل لبناء ورشة لذلك ،وهكذا فقد كان بناء الورشة مفيدا ً ً فى منطقة كاسان “ ً جدا “ . أمرا
18
كما أش��ار لذلك فى خطابه إىل الواىل حممد على ،مع نصائحه بأهمية استغالل هذه املنطقة لتطوير صناعة استخراج الذهب . لقد ش��ارك قرابة مـائة جـندى فى وداع البعثة الروسية األوىل للتـعـديـن ،وأهدى خالد باش��ا مخس��ة جنيهات لكافاليفس��كى لش��راء الف��ودكا ،ومثله��م لرفيقه وخادمه. قب��ل الرحيل كتب كافاليفس��كى خط��اب وداع الصدقائه املصريني مس� ً �ديا نصائحه هلـم ،مش� ً �ددا عـلى ضـرورة متابعتهـما اليومـية للـورشة ،فالذى ال حيضر
للورشة ولو ليوم واحد ..ال يستحق أن حيمل هـذا اللـقب ،استمروا فى التنقيب عن مكام��ن الذه��ب ،وإذا نضبت ..إحبثوا عن مناطق جديدة تتوافر بها مواد خام أكثر من سابقتها “. أنه��ا قص��ة واقعي��ة ممزوجة بعب��ق التاري��خ ،تنقلنا ع�بر الزمان ،لتق��ص علينا حكاية البحث عن الذهب التى ش��ارك فى صنعها حاكم واعٍ إس��تعان مبهندس��يه م� ً ً مرحبا بأن يقدم للبالد ما �ادا يد التعاون لصديق كان – آنذاك ، -وأثق أنه م��ازال حتتاجه من تكنولوجيات وخربات . من��ذ ذل��ك التاري��خ ...وحت��ى اآلن مازالت ت�تردد فى ذاك��رة الش��عبني املصرى و الروس��ي تلك احملطات اهلامة التى وقفت فيها روس��يا بقوة ،ومببدئية مع الش��عارات التى رفعتها مـصر باالس��تقـالل ،وس��اندتها فى مـعارك تـاريـخـي��ة ً بدءا من ملحمة بناء الس��د العاىل ،و إنش��اء القاعدة الصناعية املصرية فى الس��تينات ،بناء القوات املسلحة و حرب االستنزاف اجمليدة التى قادت لنصر أكتوبر ... 1973 لقد إس��تمر املوقف الروسي على نصرته للقضايا العربية ،وصار موقفه من ثورتى الش��عب املصرى فى 25يناي��ر ، 2011و 30يونيو ، 2013إىل جانب نصرته للش��عب ً شاهدا على هذه النصرة . السورى فى معركته ضد اإلرهاب صار هذ املوقف
ف��إىل صفحات منس��ية من تاريخ ه��ذه العالقات عم��ل على ترمجتها – ألش��هر – الدكت��ور وليد طلبه حيث اجتهد بصياغته الرش��يقة ،وترمجت��ه الصادقة لينقلنا ألجواء تارخيية مجيلة . الناشر رئيس اجلمعية املصرية الروسية للثقافة و العلوم رئيس جملس إدارة و رئيس حترير أنباء روسيا
إبريل 2014 19
مقدمه ُ اكتشفت املخطوطة اليت يدور حوهلا حمور احلديث فى هذا الكتاب فى األرشيف احلكومي مبقاطعة ( سفريدلوفسك) خالل عدة سنوات بعد نهاية احلرب الوطنية العظمي* .إنه دفرت ذو غالف كثيف بين اللون .وبعد فتحه متكن مسئولو األرشيف السوفيييت من قراءة مستهل ذلك املقال ،الذي سرعان ما نقلهم إلي عصر ً ً عائدا للوراء مائة عام : متاما ،كمن ركب آلة الزمن خمتلف « بعثة خبري التعدين “ إيفان بارودين” إىل مصر .الثانى عشر من أكتوبر ً وفقا ملرسوم صاحب السعادة “ اإلمرباطور نيكوالي بافالفيتش” عام . 1847 عال مت إيفاده إىل مصر لدعم مهندس التعدين املقـدم حاكم ربوع روسيا ،وبأمر ٍ “ كافاليفسكي” إلنشاء وتطوير آالت صناعة الذهب » . * يطلق الروس مصطلح “ احلرب الوطنية العظمى “ على احلرب العاملية الثانية ( “ ) 1945 – 1941املرتجم “ 21
إنها عجيبة من عجائب التاريخ – تلك كانت أصداء هذه السطور على اجملتمع السوفيييت بعد احلرب ،كما كانت يف الوقت نفسه مبثابة حتفة مدهشة ماض سحيق كان من الصعب أن يثري إهتمام طبقة عريضة وانعكاس ألحداث ٍ ً متامـا من القراء .فاملناخ الذي كان يعيشه السوفييت فى تلك األعـوام يـخـتلـف عـن مـثيله فـي عـصـر روسـيا القيصـريـة إبـان “ نيكوالي بالـكني ” .فعلى ما يبدو أن من جنا من التجارب املريرة يف احلرب الوطنية العظمي ال ميكنه إبداء اهتمام ببعثة خبري تعدين غري معروف إىل بلد بعيد :كمصر .واألكثر من ذلك ٍ فإن البلد املشار إليه ،حيثما كان الربيطانيون حيتلون مكانة كبرية فيه ،ظل فى أذهان الناس إحدى العجائب ،اليت ال تثري اهتمام سوى قلة من املتخصصني . تغري املوقف بشكل جذري حبلول النصف الثاني من مخسينيات القرن العشرين. أخذ االستعمار يف أفريقيا بالتالشي علي نطاق واسع مما وضع القارة السمراء فى ً أيضا ؛ حيث بدأ تعاون كبري بؤرة االهتمام .كما انضم العامل العربي إىل الركب بني مصر واالحتاد السوفيييت حتت قيادة “ مجال عبد الناصر “ . ها هي ذكريات دفرت بين اللون بسيط ملقي يف أرشيف سفريدلوفسك . ويبدو ً جليا أن التعاون بني بلدينا بدأ حتى قبل إلغاء حق اإلقطاع .بل من املدهش إدراك أن روسيا القيصرية كانت تقدم العون ملصر من أجل االرتقاء بصناعة استخراج الذهب عن طريق إيفاد متخصصني إىل البلد العربي البعيد .كل هذا ً متزامنا مع عملية التقارب السوفيييت العربي الذي تطور فى النصف الثانى كان من اخلمسينيات . كان “ أناتولي جرجيوريفيتش كازلوف “ ( )1984 - 1925أول من ّ عرف القارئ السوفيييت على خمطوطة “ إيفان بارودين ” .وجيدر احلديث عن هذا الرجل بشكل خاص .فقد ولد مبنطقة كريوف٭ ،وأنهى الدراسة فى كلية التاريخ ً مساعدا لقسم جبامعة األورال احلكومية عام . 1956عمل أكثر من عشرة أعوام األرشيف مبحافظة سفريدلوفسك .علم “أناتولي جرجيوريفتش “ فى تلك األعوام ً حتديدا بوجود هذه املخطوطة .وقام “ أ .ج .كازلوف “ فى عام 1955بنشر رسالة معلوماتية قصرية عن هذه التحفة علي صفحات جريدة «عامل األورال»؛ حيث أشار إىل أن « يوميات مسافر» ( -كما حالف التوفيق موظف األرشيف األورالي 1 فى اإلشارة إىل مقال بارودين) « -تصف الكاتب كشخص قوي املالحظة». - 1انظر :أ .كازلوف .رحلة خبير التعدين إ .بارودينا * -كيروف – إحدى الكيانات الفيدرالية فى غرب روسيا ( .المترجم ) 22
متكن “ أناتولي جرجيوريفيتش “ بعد عدة سنوات من نشر معلومات حمدودة عن هذه املخطوطة على صفحات جملة « قصاص األورال» املنتشرة بني سكان األورال فى ذلك الوقت .إنها أقصوصة صغرية تتكون من ثالث صفحات فقط .وقد عبرَّ مؤرخ األورال عن حالته النفسية يف نفس اللحظة ،التى تعرف فيها على تلك املخطوطة ،مما أضفي قيمة عليها .انتابت مؤلف هذا الكتاب – أثناء قراءة تلك السطور – نفس املشاعر ،اليت راودت موظف األرشيف الروسي فى اخلمسينيات . وذكر “ أ .ج .كازلوف” « :متتلئ الصفحات املُ َّ صفرة بسطور مكتوبة خبط صغري ،بينما هناك تصحيحات للكاتب بالقلم الرصاص فى عدة مواضع .وتالشي احلرب فى صفحات أخرى مما شكل صعوبة فى قراءتها .وعلى الرغم من ذلك فقد ً ّ كامال يتضح أن تلك اليوميات ُتعد أمتع كللت اجلهود بالنجاح بعد قراءة الدفرت اليوميات التى كتبها عامل مبناجم األورال أثناء سفره إىل “ بلد األهرامات “ – مصر فى منتصف القرن املاضي ». 2 وميكن القول :ال يوجد أفضل من هذا .مل يكن “ أناتولي جرجيوريفيتش كازلوف “ متخصص فى العمل بأفريقيا .ولكن بصفته متخصص فى تاريخ األورال أثارت اهتمامه حقيقة أن عاملي األورال كان هلم دور كبري فى تطوير صناعة استخراج الذهب فى البالد اإلفريقية البعيدة .هلذا فقد أشار فقط إىل املراحل الرئيسية لرحلة “ إيفان بارودين” .وبعد أن روى احملاور الرئيسية داخل تلك املخطوطة أفصح موظف األرشيف من جديد عن املشاعر التى اعرتته« : بعد طوي الصفحة األربعني من ملف األرشيف النادر تستغرق يف التفكري بال وعي وتستحضر فى الذاكرة صورة صديقنا املعروف “ أفاناسيا نيكيتني “ ، صاحب َ املؤلف الشهري “ رحلة وراء ثالثة حبار “ » .يعد “ أفاناسيا نيكيتني “ من أوائل األوروبيني ،الذين وصفوا اهلند فى القرن اخلامس عشر .وكان “ إيفان بارودين “ من أوائل األوروبيني فى القرن التاسع عشر الذين وصلوا إىل أعالي نهر النيل ،كما أدىل بدلوه يف الدراسات اجليولوجية ألحد أقدم بالد الشرق». 3 ظلت هذه املقالة الصغرية على أية حال أشهر وثيقة تتحدث عن خمطوطة “ إ .ت. بارودين” .ومتكن “ أ .ج .كازلوف “ فى عام 1958نفسه من نشر مادة صغرية عن تلك التحفة األرشيفية على صفحات الصحافة احمللية – فى صحيفة “روسيا - 2أ .ج .كازلوف .أهل األورال فى بالد األهرامات .قصاص األورال .سفيردلوفسك . 1958 ،النسخة األولي .ص .60 -3نفس المرجع .ص .63 23
السوفييتية” . 4مل يكن هذا من قبيل الصدفة ،مبا أن موضوع التعاون السوفيييت العربي كان الشغل الشاغل فى ذلك الوقت .فقد أدت حرب السويس ،وبداية التعاون االقتصادي ّ الفعال بني االحتاد السوفيييت ومصر إىل بروز مثل تلك املواضيع على صفحات الصحف واجملالت السوفييتية .واألمر األبرز هو ظهور مقالة خاصة فى شهر مايو 1958فى صحيفة “ سفريدلوفسك املسائية “ حتتوى على جمموعة من احلقائق بشأن تاريخ التعاون بني روسيا والدول العربية . 5وما مت ذكره هو احتواء األرشيف احلكومي ملقاطعة سفريدلوفسك على يوميات لبارودين ،وكذلك وجود « نسخة كبرية » فى مكاتب األرشيف بسفريدلوفسك وليننجراد تتعلق برحالت املهندسني املصريني إىل األورال فى األربعينيات من القرن التاسع عشر .واملدهش أن نشر تلك املادة على صفحات صحيفة حملية فى ذلك الوقت مل يكن من قبيل ً انعكاسا للتوجه العام لتنشيط التعاون السوفيييت العربي . الصدفة ؛ فقد كان ومن املميز وجود مقالة كبرية فى عدد اجلريدة نفسها بقلم “ ج .كارابيتيان “، وهو مصمم فى مصنع “ أورال ماش للصناعات الثقيلة “ ،حيث تتحدث تلك املقالة عن رحلته إىل معرض دولي فى دمشق .تتخلل املقالة أفكار حول الصداقة بني االحتاد السوفيييت والعامل العربي ؛ وختتتم بشعار تـبـناه الكـاتب « :العرب والروس ً سويا! ». 6 كان خبري التعدين األورالي وكاتب املخطوطة احملفوظة باألرشيف احلكومي ً عضوا بالبعثة ،التى ترأسها الرحالة ملقاطعة سفريدلوفسك “ إيفان بارودين “ 7 الروسي املشهور “ إجيور بيرتوفيتش كافاليفسكي “ فى وقت ما .وكان - 4أنظر :.الكاتب نفسه .المهندسون العرب فى األورال .روسيا السوفيتية 1958 . 11 .مايو. - 5انظر :.وثائق عن التعاون الروسي العربي .سفيردلوفسك المسائي . 1958 . 10مايو. - 6ج .كارابيتيان « .العرب – الروس ،سوا سوا! » .سفيردلوفسك المسائية . 10 . 1958مايو . - 7إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ( – )1868 – 1809/1811شخصية حكومية واجتماعية مرموقة ومراسل وعضو شرفي في أكاديمية بيتيربورج للعلوم ،رحالة ومستشرق .أنهى الدراسة بقسم الفلسفة بجامعة خاركوفسكي .منذ عام 1829التحق بالخدمة فى قسم التعدين .شارك فى بعثات إلي الجبل األسود ووسط آسيا وشمال شرق أفريقيا والصين .ترأس فى عام 1856اإلدارة األسيوية التابعة لوزارة الخارجية . عمل منذ عام 1861سيناتور وعضواً بوزارة الخارجية .أحد مؤسسي جمعية مساعدة األدباء والعلماء المتعثرين (صندوق األدب) ورئيسها الدائم . 24
ً مناصرا للرؤى التقدمية القريبة من فكر “ بيرتاشيفسكي” ، 8مما جعله األخري شخصية حتظى باهتمام الباحثني السوفييت .ولعل الباحثة “ ب .أ .فالسكايا “ كان هلا الدور األكرب فى دراسة سرية حياة وأعمال “ إ .ب .كافاليفسكي” . وقامت “ ب .أ .فالسكايا “ فى النصف الثانى من اخلمسينيات – عندما بدأت صحافة األورال بالكتابة عن خمطوطة بارودين – بنشر عدد من األعمال اليت تتناول كافاليفسكي ومن بينها رسالة علمية. 9 متثل محلة “ إ .ب .كافاليفسكي “ فصل شيق للغاية من فصول تاريخ العالقات ً غريبا أن جيذب هذا املوضوع اهتمام الدولية ملستخرجي الذهب الروسي .وهلذا ليس هؤالء املتخصصني ،الذين كانوا منشغلني بدراسة تاريخ صناعات استخراج الذهب فى روسيا واالحتاد السوفييت .من املدهش أن قصة بعثة “ إ .ب .كافاليفسكي “ تواجدت فى الكتب الدراسية السوفييتية التى كان يدرسها طالب معهد التعدين والفلزات وكليات اجليولوجيا .فقد ُخصصت ،على سبيل املثال ،عدة صفحات لوصف هذه الرحلة فى الكتاب الشهري لف .ف .دانيليفسكي .10ومن الطريف أن الكاتب يذكر وجود خمطوطة بارودين فى األرشيف احلكومي مبقاطعة سفريدلوفسك . ولكن مل تطل الفرتة التى شغل فيها موضوع العالقات الروسية العربية اهتمام اجملتمع والباحثني .بينما قل اهتمام اجملتمع السوفيييت بتلك القضية بني عامي ً ً ً تعقيدا مما فشيئا أن العامل العربي ميثل ظاهرة أكثر شيئا ( . )1980,1970اتضح بدا عليه فى اخلمسينيات .ومل تكن من السهولة مبكان أن يبين االحتاد السوفييت عالقات مع كثري من دول العامل العربي (ومن بينها مصر) والتى سعي قادتها بشكل - 8يقصد ب « مناصري بيتراشيفسكي » المشاركون فى اجتماعات الموظف م. ف .بوتاشيفيتش -بيتراشيفسكي .والذين كانوا ينتقدون الرقابة المشددة وحق اإلقطاع وفساد البيروقراطية .حكم عليهم باإلعدام فى عام ، 1849ولكن تم العفو عنهم قبل تنفيذ الحكم مباشرة .كان الكاتب الروسي الشهير ف .م .داستايفسكي أحد أعضاء «مناصري بيتراشيفسكي » . - 9انظر :.ب .أ .فالسكايا .رحلة « إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي » موسكو 1956 ، ; الكاتب نفسه .األكاديمي ك .م .بير عن رحالت إ .ب .كافاليفسكي إلي مصر والصين فى األربعينيات من القرن التاسع عشر //بالد وشعوب الشرق .موسكو ، 1959 ، اإلصدار األول . - 10انظر :.ف .ف .دانيليفسكي .الذهب الروسي .تاريخ اكتشافه واستخراجه حتى منتصف القرن التاسع عشر .موسكو . 1959 ،ص . 295-301 25
حثيث إىل االستقالل بسياستها ،ورفض الوقوع حتت وطأة نفوذ االحتاد السوفيييت . أدي كل هذا إىل ندرة املعلومات الواردة عن خبري التعدين األورالي “ إيفان بارودين “ ،ورحلته فى اإلصدارات املنتشرة بني مجوع القراء (وخاصة فى الصحافة ً ً فشيئا أصبح االهتمام بتلك القضية مقتصر على األوساط وشيئا اليومية) . األكادميية فقط .واستمرت “ ب .أ .فالسكايا “ فى اإلشارة إىل تاريخ محلة “ إ. ب .كافاليفسكس” . وما ميز أعماهلا اعتمادها على جمموعة كبرية من املصادر ،معظمها من مكاتب األرشيف بليننجراد ،أو على األرجح من األرشيف املركزي احلكومي التارخيي ، وقسم املخطوطات باملكتبة احلكومية العامة باسم “ م .ي .سالتيكوف -شيدرين “.11 وقل ظهور مقاالت عن هذا املوضوع فى صحافة األورال ،بينما بدأ االهتمام بهذا املوضوع يظهر مبدينة زالتؤوست * فى جنوب األورال .ومل يكن ذلك من قبيل الصدفة ،حيث أن حياة إيفان بارودين ،وعمله ارتبطا مبناطق التعدين فى زالتؤؤست .وظهرت فى منتصف السبعينيات فى الصحافة احمللية مقالة قصرية عن احلملة الروسية إىل مصر والسودان ،كان كاتبها املؤرخ احمللي “ أ .ليربمان “ . ً معتمدا على أجزاء واستعان الكاتب مبذكرات “ إيفان بارودين “ من وقت آلخر ، كاملة منها.12 ومل يغفل “ أ .ج .كازلوف “ عن ذكر “ إيفان بارودين ” ؛ حيث كان فى ذلك ً ً الوقت ً واحدا من املتخصصني البارزين فى تاريخ كبريا فى األورال ،بل إنه كان عاملا التعدين باألورال .وأصبح “ أ .ج .كازلوف “ أثناء عمله جبامعة األورال احلكومية - 11انظر :.ب .أ .فالسكايا .معلومات جديدة عن رحلة « ي .ب .كافاليفسكي » إلي مصر ،شرق السودان وغرب أثيوبيا //بالد وشعوب الشرق .موسكو .1965 ، اإلصدار الرابع ،الكاتب نفسه .ي .ب .كافاليفسكي والمستشرقون الروس //تقارير اللجنة الشرقية للجمعية الجغرافية باالتحاد السوفيتي .1965 .اإلصدار األول ،الكاتب نفسه .رصيد الجمعية الروسية الجغرافية فى دراسة أفريقيا //بالد وشعوب الشرق. موسكو .1969 ،اإلصدار التاسع ،الكاتب نفسه .ي .ب .كافاليفسكي والمهندسون المصريون فى األورال وشرق السودان (مصادر غير منشورة) //بالد وشعوب الشرق .موسك . 1973 ،اإلصدار الخامس عشر . - 12انظر :أ .ليبرمان .األوراليون فى مصر //عامل زالتؤوست 11 . 1976 . سبتمبر . * زالتؤوست – إحدى مقاطعات منطقة شليبينسك باألورال ( المترجم ) . 26
عام 1962أحد مؤسسي قسم األرشيف القديم يف كلية التاريخ .وترأس فيما بني عامي ( 1974و ) 1975قسم علوم األرشيف بكلية التاريخ .13وبرز اسم خبري التعدين “ إيفان بارودين “ فى واحد من أحباثه العلمية األخرية ،وهو عبارة عن كتاب سرية ذاتية حتت عنوان « مبدعو العلم والتقنية فى األورال » وصدر فى عام – 1981جبانب أمساء “ إ .إ .بالزونوف “ ووالد وابن شرييبانوف.14 ساعد وضع التأريخ اجلديد يف روسيا -بعد انهيار االحتاد السوفيييت فى التسعينيات -على اتساع رقعة القضايا التى بدأت جتذب انتباه الباحثني .وكانت الظاهرة األبرز حينها ظهور أحد أفرع العلم وهو التأريخ احمللي .ومن الطبيعي فى تلك األجواء أن يزداد اهتمام باحثي األورال بتاريخ استخراج الذهب فى املنطقة . وكان كتاب “ أ .ف .مانني “ ذو الصبغة العلمية املتعارف عليها أكثر األعمال الشيقة اليت تناقش هذا املوضوع .مل يكن الكاتب ،الذى خصص كتابه لدراسة تاريخ صناعات استخراج الذهب فى األورال مبعزل عن حقيقة دعوة اإلمرباطورية الروسية للمتخصصني من مصر الجتياز « دورات تدريبية» مميزة فى مصانع األورال وتدريبهم على التقنيات احلديثة فى جمال استخراج الذهب فى منتصف القرن التاسع عشر . ً متاما أن يتطرق الكاتب إىل وصول املهندسني املصريني ولذا كان من املنطقي فى األربعينيات من القرن التاسع عشر إىل األورال .15أصدر متحف التأريخ احمللي ً مؤلفا بعنوان «تاريخ ذهـب ميـاس » ،الذى يستعرض مبدينة مياس فى عام 1997 مائيت عام من تاريخ استخراج املعادن النفيسة فى تلك املنطقة .واستعرض الكتاب املراحل الرئيسية من تاريخ منطقة صناعة الذهب مبدينة مياس فى القرن الثامن عشر والتاسع عشر ،كما أشار إىل مهمة قائد منطقة تعدين زالتوستوفسك – متخصص الفلزات البارز فى األورال “ ب .ب .أنوساف ” .وتولي أحد أعمال “إ .يو. نيفرايفا” املتخصصة باألحباث العلمية مبتحف التأريخ احمللي مبدينة مياس ً ً خاصا مبوضوع حديثنا .ويرتكز العمل اهتماما املنشورة فى تلك اجملموعة بشكل خاص على الرحالت اخلارجية خلرباء صناعات الذهب مبياس فى القرن - 13انظر :جامعة األورال الحكومية في كتب السيرة الذاتية /المحررين م .إ. جالفاتسكي ،إ .أ .باميتنيخ .إيكاترينبورج . 2000 ،ص .223 - 14انظر :أ .ج .كازلوف .مبدعوا العلم والتقنية فى األورال فى القرن السابع عشر – بداية القرن العشرين .سفيردلوفسك . 1981 ،ص.17 - 15انظر :أ .ف .مانين .طبقة الذهب .إيكاترينبورج . 1995 ،ص .107 27
التاسع عشر .16ووصفت الباحثة بإجياز بعثة جمموعة “ ي .ب .كافاليفسكي “ إىل مصر والسودان ،مستخدمة فى ذلك أحد حمتويات املتحف. تعترب رحلة خبري التعدين باألورال إىل مشال شرق أفريقيا فى القرن التاسع عشر واحدة من أكثر األحداث غرابة وروعة فى تاريخ التعدين باألورال . وهلذا من املنطقي أن يصبح اخلبري فى السنوات األخرية حمل اهتمام الصحفية “ إ .م .جالدكوفا “ ،التى كتبت مقالة عن هذا التاريخ .17وباإلضافة إىل ذلك كان ً ً حمورا فى تاريخ منطقيا أن تلقى بعثة “ ي .ب .كافاليفسكي “ – التى تشكل العالقات الروسية العربية – اهتمام املستشرقني الروس فى التسعينيات من القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين .كما ورد ذكر نفس األمر فى دليل اجلغرافيا اإلقليمية املخصص للسودان ،والذى أصدره معهد أفريقيا عن السودان التابع ألكادميية العلوم الروسية.18 أسهم املستعرب الروسي الشهري “ ج .ف .جارياتشكني “ بدور كبري فى دراسة هذا املوضوع ؛ حيث أصدر فى التسعينيات كمية كبرية من الوثائق املخصصة حلملة “ ي .ب .كافاليفسكي “ احملفوظة فى أرشيف السياسة اخلارجية باإلمرباطورية ً ً رئيسيا ملقال املستعرب مصدرا الروسية .19وعلى األرجح فقد شكلت تلك الوثائق الروسي البارز “ ف .ف .بيليكوف “ فى منتصف التسعينيات. 20 استمر “ ج .ف .جارياتشكني “ فى مستهل القرن الواحد والعشرين فى حبث تلك املسألة بعدما قام بإصدار عدة أعمال فى مصر باللغة العربية تعين بدراسة أمناط - 16انظر :إ .يو .نيفرايفا .بعثات مستخرجي الذهب بمياس فى النصف األول من القرن التاسع عشر //تاريخ الذهب بمياس :مائتي عام .مياس .1997 ،ص .79-86 - 17انظر :إ .م .جالدكوفا .أسرار إيكاترينبورج .لقاءات ،تحريات ،ذكريات صحفي .إيكاترينبورج . 2012 ،ص .83-92 - 18انظر :السودان .الدليل .موسكو . 2000 ،ص.46 - 19انظر :ج .ف .جارياتشكين .مصر من منظور الروس فى منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين .السياسة .االقتصاد .الثقافة //مادة علمية من سلسلة « الشعوب والثقافات » .اإلصدار الخامس عشر .شعوب الشرق األوسط .الكتاب الثانى. موسكو .1992،ص.323-328 ، 233-275 - 20انظر :ف .ف .بيليكوف .علبة التبغ الذهبية للمقدم كافاليفسكي //معادن آسيا األوروبية .1996 .العدد السادس. 28
العالقات الروسية املصرية فى القرن التاسع عشر . 21يدين املؤلف بالفضل ً حقا ً نظرا جلينادى فاسيليفتش جارياتشكني صاحب الفكرة األولي هلذا العمل، لدوره فى إخراج هذا الكتاب إىل النور ؛ حيث أن الكاتب بدأ العمل فى كتابه ً استنادا ملا رواه جارياتشكني .وال ميكنين إنكار امتناني لنائب مدير األرشيف احلكومي ملنطقة سفردلوفسك “ أ .ج .سابوجنك “ ،ومؤرخ األورال الشهري واحلاصل علي درجة دكتوراه العلوم “ ف .أ .شكريين “ ؛ حيث ساعدت نصائحهم فى فتح أبواب تلك احلقبة التارخيية اجلديدة أمام الكاتب .كما أود التعبري عن عرفاني لعامل تاريـخ األورال احلاصل علي درجة الكانديدات فى العلوم “ أ .ف .ليامزين “ الذى قدم املساعدة أثناء العمل باخلرائط اجلغرافية . أدرك مؤلف هذا الكتاب مبجرد العمل على خمطوطة “ إيفان بارودين “ ضرورة ً حتديدا بدأت رحلة التوجه إىل موطن هذا الرجل فى جنوب األورال .فمن زالتؤوست بارودين ،وفى منتصف األربعينيات ،وصل املهندسون املصريون إىل مناجم تعدين مياس هناك .كما أن البحث عن وثائق تارخيية جديدة – ترتبط بشكل أو بآخر بهؤالء األشخاص أو تلك األحداث – قاد املؤلف إىل أرشيف مدينة زالتؤوست وإىل متاحف اجلغرافيا اإلقليمية فى زالتؤوست ومياس حيث متكن الكاتب من الوصول إىل معلومات شيقة . وكان األهم فى ذلك الوقت مطالعته لتلك املناطق ،التى يدور حوهلا احلديث فى الكتاب ،بل واستشعار مناخ جبال إملني ( -تعليق املرتجم :جزيرة يف اجلزء الغربي ملنطقة نوفجوراد) ، -التى كان “ إيفان بارودين “ وأصدقاؤه املصريون يسريون عرب منحدراتها .وأثارت بعض املصادر املنشورة املتعلقة بالتعاون بني روسيا ومصر فى منتصف القرن التاسع عشر انتباه الكاتب فى هذا البحث .كما حظيت مدونات الرحالة “ أ .إيه .بريم “ و” ن .ن .مورافيف -كارسكي “ و” أ .ن .مورافيف “ و” أ .س. نوروف “ و” أ .أ .رافاالفيتش“ وآخرين كانوا متواجدين فى مصر والسودان باهتمام خاص .وأحبر الكثري منهم – كما كان احلال بالنسبة ألصدقاء “ إيفان بارودين“ – إلـى أعالي نهر النيـل ،وتوقفوا فى نفس املناطق السكنية .ترى كيف كان حال اإلسكندرية والقاهرة وبين سويف وأسوان ،وغريها من مدن مصر فى ذلك الوقت؟ ،وما االنطباع الذى ّ خلفته إمرباطورية “حممد على “ فى نفوس الروس فى عهد نيكوالي األول ؟ - 21انظر :ج .ف .جارياتشكين .روسيا ومصر فى ضوء وثائق األرشيف الروسية (منتصف القرن التاسع عشر – بداية القرن العشرين ) .القاهرة( 2002 ،باللغة العربية) ؛ الكاتب نفسه .البحث عن الذهب .من تاريخ العالقات الثقافية بين روسيا ومصر فى منتصف القرن التاسع عشر .اإلسكندرية ( 2003 ،باللغة العربية ) وأخرى. 29
يتعني عند البحث فى خمطوطة بارودين اإللتفات إىل مذكرات قائد البـعثة ، التى كان خبري التعدين باألورال “ ي .ب .كافاليفسكي “ أحد أعضائها . ومن الشيق للغاية مقارنة األخبار التى ترد فى تلك املذكرات ،ومقابلة االنطباع حول أحداث رحلة خبري التعدين ورحلة رئيسه .بالطبع ختتلف مذكرات “ إ .ت. بارودين “ عن مذكرات “ ي .ب .كافاليفسكي “ . ً مساعدا لرئيس منطقة التعدين كان “ إجيور بيرتوفيتش “ فى تلك اللحظة عال من الثقـافة ،كما كان بقدر مبقاطعة زالتؤوست .وهو شخص يتمتع ٍ ٍ ً ممثال للطبقة الراقية املثقفة فى ذلك الوقت .وترد على صفحات كتابه العديد من االقتباسات من أعمال ( هريودوت وهومبولت) ،وكثري من الكتاب اآلخرين الذين ً جيدا .على اجلانب اآلخر كان بارودين من عامة الشعب . كان يعرفهم وهذا هو ما مييز – فى كثري من األحيان – يومياته فى السفر ،وهي عبارة عن شهادة ابن عامل تعدين عن بلد إفريقي بعيد .ويأمل املؤلف فى إكمال العمل الذى بدأه “ أناتولي جرجيوريفتش كازلوف “ فى منتصف القرن املاضى ،وإظهار الكنوز التى حيتوى عليها الدفرت بين اللون احملفوظ فى األرشيف احلكومي ملقاطعة سفريدلوفسك.
30
الفصل األول املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه ال ميكننا بأى حال من األحوال الفصل بني تاريخ وصول املهندسني املصريني إىل األورال وما تبعها من زيارة لبعثة “ ي .ب .كافاليفسكي “ إىل مصر والسودان ، وبني سرية أحد أبرز الشخصيات يف تاريخ مصر ؛ أال وهو “ حممد على” .من املعروف أن “ حممد على” قد متكن من خالل نشاطه على مستوى السياسة اخلارجية من املضي ً قدما حنو إنشاء إمرباطورية قوية بني عامي (. )1830 , 1820 إال أن حماولته لعدم االستجابة لنداء تركيا باءت بالفشل ً ، نظرا ألن الدول األوروبية العظمي كانت مهتمة باحملافظة على اإلمرباطورية العثمانية ،بإعتبارهـا قـوة إقليمية مهمة .وكمـا أشار املـؤرخ الروسي “ ف .ب .ميخايلوف “ ،فقد مت القضاء على دولة حممد على العظمي فى الفرتة بني عامي ( 1839و“ ) 1841بإيعاز من 31
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
ً مضطرا إىل سحب قواته من سوريا جراء إنزال آرياباخ * األوروبية” .1كان والي مصر فيلق من قـوات املشـاه النمسـاوي ،وقصف اخليالة الربيطانية لبريوت باملدافع .مل تكن مصر لتتمكن بعد هذا الصراع من القيام بدورها السياسي الرائد فى الشرق األوسط كما كان احلال فى السابق .وتعرض اجليش املصري لضربة قاصمة . ً جمربا على تقليص أعداد قوات اجليش بشكل كبري وهلذا أصبح “حممد على” ،والقضاء على األسطول البحري ومعظم منشآت الصناعات العسكرية ،اليت ُب ِن َيت فى السابق .من املنطقي أن تؤثر إخفاقات السياسات اخلارجية على مستقبل منو االقتصاد املصــري .فقد أعيد فرض اجلباية السنوية – التى تقدمها مصر لإلمرباطورية العثمانية – مرة أخرى ،وبشكل عام « تراجعت البنية الصناعية فى البالد مائة عام » ، 2على حد وصف املؤرخ الروسي “ ي .إ .زيلينيف “ . كانت البنية الصناعـيـة ملصـر فى غضون ذلك الشـغل الشـاغــل حملمـد عــلى ؛ حيث أنه اقتنع بأنها وسيلة حتقيق قوة الدولة واستقالهلا .وكم كان ً ً جمددا منصفا فى مالحظته أن « حممد على كان الباحث الربيطانى “ إي .بيتيت” ً ومـحدثـا باملقارنة مع العثمانيني ذوى الفكر القـديـم واحملـافظ » ، 3فاجلهود التى بذهلا “حممد على” لتطوير الصناعة والتجارة املصرية قد ساهمت بشكل كبري فى توجيه أنظار األوروبيني للبالد .وكان استخراج الذهب من بني قطاعات ً ً خاصا .فقد كان -بصفة خاصة اهتماما الصناعة ،التى طاملا أوالها حاكم مصر ً واحدا من أهم األهداف ،التى كان “ حممد على” االستيالء على مناجم الذهبينتوى حتقيقها عن طريق عزمه القيام حبملة عسكرية على السودان فى بداية العشرينيات .وهلذا مل يكن من قبيل الصدفة أن يطلق “ ي .ب .كافاليفسكي “ على الذهب « املارد » ،الذى « أ ّرق نائب امللك (حممد على – تعليق أ .ف .أنتوشني)»، « ومصدر قلق حكام السودان على مدار عشرين ً عاما » . 4كان اهلدف اآلخر من * - 1آرياباخ – مركز السلطة فى آثينا القديمة ( المترجم ) . انظر :تاريخ السياسة الخارجية فى روسيا .النصف األول من القرن التاسع عشر (من حروب روسيا ضد نابليون إلى معاهدة باريس عام / )1856رئيس التحرير و .ف. أورليك .موسكو .1995 ،ص.326 . - 2أنظر :ي .إ .زيلينيف مصر :القرون الوسطى .العهد الجديد .سانت بطرسبورج .1999 ،ص.245 . - 3إي .بيتتي القاهرة .تاريخ المدينة .سانت بطرسبورج .2007 ،ص.213 . - 4انظر :مجموعة مقاالت إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي .المجلد الجامس. رحلة إلى أعماق أفريقيا (مرفق بها خريطة وسبعة عشر صورة صغيرة) .سانت بطرسبورج .1872 ،ص .208 32
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
احلملة العسكرية على السودان يتمثل فى احلصول على مصادر جديدة لتمويل اجليش ،الذى بدأ للتو محالته العسكرية الكربي . إال أن اإلغارة علي السودان الشرقية فيما بني عامي ( 1820و )1822مل حيقق النتائج املأمولة حملمد على .فعلى ما يبدو ،مل يكن اجلنود السودانيون أفضل عناصر اجليش املصري لعدم قدرتهم على التأقلم سواء على املناخ فى مصر ،أو على الطعام غري املألوف هلم ،ونتيجة لذلك ارتفعت معدالت الوفاة فيما بينهم . وفيما خيص استخراج الذهب فقد أخرب املستشارون والي مصر بأن مناجم الذهب – التى ترجع إىل عهد مصر القدمية – مل تعد حتتوى على معادن صاحلة لالستخدام فى الصناعة .وقد كتب “ ي .ب .كافاليفسكي “ بعد ذلك عن مصري مناجم الذهب فى إحدى مناطق شرق السودان « :مل يكن استخراج الذهب كاملعتاد، بل مل تكن كميته تغطي سوى عشرين يف املائة من نفقات احلامية (حصن (دول) – تعليق أ .ف .أنتوشني) » .5وقد سافر “ حممد على” بنفسه إىل السودان – على الرغم من بعدها عن عاصمة مصر – فى عامي ( 1838و )1839بصحبة ً خصيصا الستعراض آفاق تطوير صناعة املهندسني الفرنسيني “ المبري وليفيفرا “ استخراج الذهب هناك .يرجع األمر إىل تضليل بعض األجانب لوالي مصر ،بعد أن أخربوه بإمكانية استخراج ما بني 240 - 150لوط ذهب من آالف سنتنارات (مائة كيلوجرام .تعليق املرتجم) من الرمال من إحدى مناطق شرق السودان.6 من املعروف أن مناجم الذهب فى السودان كانت حمل اهتمام األوروبيني .ففى عام 1825وصل إيطاليان ؛ أال وهما متخصص علم املعادن والكيميائي “ جون فورني “ ،وعامل اجليولوجيا “ جون بروكي “ إلـى منطقة سلطنـة سـنار .وفى عام ً حبثا عن مناجم الذهـب 1833أجرى املهندس الفرنسي “ ل .م .لينان دي بيلفون “ فـى املنـطـقة .كما تواجد املهندس اإليطالي “ بورياني“ عام 1837فى فازوغلي (مملكة على الضفة الشرقية للنيل األزرق على حدود إثيوبيا .تعليق املرتجم) ، وهو املكان ذاته الذى تواجدت فيه جمموعة املتخصصني الروس فيما بعد .وتوصل ُ رس َل “ جون األخري إىل نتيجة عدم جدوى التنقيب عن الذهب فى السودان .وقد أ ِ بروكي “ فى العام التالي مرة أخرى إىل السودان ؛ ذلك البلد اإلفريقى البعيد ، ُ ً وبدال منه أرسل عامل اجليولوجيا النمساوي “ يوزف ولكن وافته املنية فى الطريق . - 5نفس المرجع. - 6انظر :ي .ب .كافاليفسكي .حوض النيل على الخارطة الجيولوجية //مجلة التعدين .1849 .الجزء الثانى .الكتاب الرابع .ص.92 . 33
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
فون روسيجري “ ،الذى قام بدراسة جبال منطقة فازوغلي .واتضح أن رأي “ روسيجري” ً ً ً ونظرا ألن “روسيجري”كان متاما عن وجهة نظر اإليطالي “ بورياني “ ، خمتلفا كان يتمتع بسمعة كبرية فقد تيقن “ حممد على “ من وجود خمزون كبري من الذهب فى السودان . 7إال أنه اتضح فيما بعد أن املخزون احلقيقي للمعدن النفيس كان ً حمدودا للغاية فى تلك املنطقة. توضح الوثائق ،التى نشرها “ ج .ف .جارياتشكني “ أن “ حممد علي “ توجه ألول مرة فى نهاية الثالثينيات إىل روسيا بطلبات تتعلق باستخراج الذهب .كان حممد ً مهموما – قبل عام من بداية احلملة املصريية إلمرباطوريته بني عامي (1839 علي و – ) 1841بقضية زيادة معدالت استخراج املعدن النفيس فى مصر . وكانت جناحات روسيا فى جمال التعدين ذائعة الصيت فى العامل آنذاك ؛ حيث شكل الذهب الروسي أكثر من 40%من نسبة ما ُيستخرج فى العامل ،وهلذا أصبحت روسيا املورد الرئيسي هلذا املعدن فى السوق العاملي . ويشري القنصل العام لروسيا فى مصر “ أ .ميديم “ إىل اهتمام والي مصر عام 1838 « بالوصف الدقيق واملفصل للطرق احلديثة واملمارسة العملية ،املطبقة فى روسيا الستغالل الرمال التى حتوى الذهب عن طريق الصهر ً بدال من الغسيل » . 8وفى نهاية األمر أرسلت إىل “حممد على” وثيقة مماثلة مرتمجة إىل اللغة الفرنسية ،ومرفق معها رسومات هندسية ،مما دفع “حممد علي” للتعبري عن إمتنانه لإلمرباطورية الروسية. كانت تلك اخلطوة األوىل على طريق تعاون كال البلدين فى جمال استخراج املعدن النفيس .وفى عام عام 1843أي بعد مرور عدة سنوات توجه “ حممد على” بطلب جديد إىل قيصر روسيا “ نيكوالي األول “ إلرسال بعض املتخصصني الروس فى جمال استخراج الذهب إىل مصر .ومل يكن املبعوث الروسي ً اعتقادا إىل القسطنطينية “ ف .ب .تيتوف “ ليعرتض على مثل هذا التحرك ، منه أن هذا لن يساهم فى تأزم العالقات بني روسيا واإلمرباطورية العثمانية: «يبدو من املستبعد أن يثري ظهور مهندسي التعدين واألساتذة الروس فى مصر - 7أنظر :تاريخ السودان فى الزمن الحديث والمعاصر .موسكو .1992 ،ص.30 . - 8ج .ف .جارياتشكين .مصر فى أعين الروس فى منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين .السياسة .االقتصاد .الثقافة // .اقباس من سلسلة « الشعوب والثقافات » .اإلصدار الخامس عشرة .الكتاب الثانى .موسكو .1992 ،ص.233 . 34
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
حنق السلطان ووزرائه ،أو أن يكن ذريعة لتفسريات خرقاء وسيئة النية ؛ أولاً : ً كثريا بثروة “ حممد ألن احلكومة الرتكية كانت – على ما يبدو – ال تأبه علي باشا” ،حتى أنها كانت ترى فى ذلك ضمانة لتوفري أقساط دفع اجلزية؛ ً ثانيا :اعتادت الدول األجنبية العظمي منذ القدم ،بل واعتاد الباب العالي نفسه على رؤية مصر قبلة لألجانب من مجيع اجلنسيات ،وكان من بينهم من يعمل فى خدمة الباشا ،بل ويشرفون على قطاعات مستقلة فى إدارته ». 9 إال أن وزير املالية “ الكونت ي .ف .كانكرين “ عارض قيام املهندسني الروس ً مشريا إىل أن صناعة استخراج الذهب فى روسيا تتطور ببعثة إىل البلد العربي ، بشكل كبري ،وال يوجد متخصصون متفرغون هلذا األمر .وهلذا عرض على والي ً شخصيا إرسال مهندسيه إىل اإلمرباطورية الروسية .علق “ ف .أ .سامارسكي مصر ً ً “ القائم مؤخرا بأعمال رئيس أركان فيلق مهندسي التعدين – مفسرا تعامل ً قائال « :دعونا املصريني للقدوم احلكومة الروسية املنطقي مع تلك املسألة – إلينا فقط لتفادي إرسال ضابطنا إىل مصر؛ ً ظنا بأن إرسال الضابط سيـعين املـوت الـمحقق » . 10وقد وردت فى كتاب “ ج .ف .جارياتشكني “ رسالة ملمثلي اإلدارات املختلفة فى عامي ( )1844 – 1843تتعلق باإلعداد لزيارة املصريني إىل روسيا. 11 يبدو أن اجلانب الروسي كان يعلم أن مصر بها الكوادر املؤهلة للسفر لتلك ً ً كبريا. اهتماما البعثة اخلارجية .كان “ حممد علي “ يولي تطوير نظام التعليم فاملدارس املتخصصة – التى افتتحها – قامت بتخريج أطباء وفنيني ومهندسني زراعيني وغريهم .وتوافرت خربة التدريس العملية لبعض املتخصصني الفنيني فى اخلارج . تلقي املهندسان “ علي إبراهيم “ و” عيسى الدهشوري “ التعليم فى أملانيا .كان لدى هذين الشابني خربة احلياة فى أوروبا فوقع االختيار عليـهـما من “ حممد علي “ للقيام بـبـعثة إىل اإلمرباطوريـة الروسـية .وصل كال املهندسني املصريني فى ً ونظرا ألن األورال كـانت مشـهورة أغسطس من عام 1845إىل سانت بطرسبورج . بالصـناعات التعدينـية ،كان من املنطقي أن يستهل املصريان رحلتهما إىل هناك على وجه التحديد . - 9نفس المرجع .ص.237 . - 10مفتبس من :ب .أ .فالسكايا .ي .ب .كافاليفسكي والمهندسون المصريون فى األورال وشرق السودان (مواد غير منشورة) //بالد وشعوب الشرق .موسكو، .1973اإلصدار الخامش عشر .ص.127 . - 11أنظر :ج .ف .جارياتشكين .مصر فى أعين الروس ...ص.238-242 . 35
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
توجه املهندسان فى شهر سبتمرب من عام 1845إىل شرق اإلمرباطورية عرب نوفجراد اجلنوبية وكازان .وتوجهت وزارة خارجية اإلمرباطورية الروسية بطلب إىل وزارة املالية لتقديم الدعم للمهندسني املصريني لقبوهلم فى « هيئـة التعدين » ، والسماح هلم بتعلم « طرق استخراج الذهب املستخدمة يف األورال»؛ ومت تكليف مهندس التعدين والرحالة الروسي الشهري العقيد “ إجيور كافاليفسكي “ مبرافقة املهندسني املصريني ؛ وتشري التعليمات التى حصل عليها “ ي .ب .كافاليفسكي “ من وزارة املالية إىل ضرورة « استقبال علي حممد والدهشوري من إدارة الشئون اآلسيوية التابعة لوزارة اخلارجية ،بل وتعريفهم على بعض مؤسسات العاصمة املتخصصة ،والتوجه مباشرة إىل إيكاترينبورج ،حيث سيقومان بتفـقد ضـواحيها ،باإلضافة إىل تفقد ورش منطقة بريوزوف ،والورش اخلاصة بصناعات الذهب اليدوية ؛ بعد ذلك يتوجب زيارة مناجم الذهب مبصانع جبل بلوجودات ،ثم املرور من هناك عرب إيكاترينبورج إىل مصانع زالتؤوست للتعرف على صناعات منطقة مياسكي . وبهذا ستستغرق الرحلة مع املهندسني املصريني ما يقرب من ثـمانية أشهر».12 تعينّ على “ ي .ب .كافاليفسكي “ – بعد انتهاء الرحلة املخطط هلا حتى شهر مايو – 1846نقل مهمة اصطحاب املهندسني إلي الضابط املُعينّ فى منصب رئيس جملس إدارة مصانع تعدين جبال األورال ،والذى سيصطحبهم إىل أوديسا ،بينما سيظل “ كافاليفسكي “ فى زالتؤوست فى انتظار املهمة التالية . وصل املهندسان املصريان إىل إيكاترينبورج فى السادس عشر من أكتوبر ً مريضا .1845وال خيفي على أحد أن “ عيسى الدهشوري “ قد وصل إىل هناك لعدم حتمله الطقس الذى ُ يصعب على املصريني التأقلم عليه .كان “ ي .ف. كافاليفسكي “ قد أشار فى خطابه الذى أرسله من كازان بتاريخ السادس مـن باق فى اسرتاحته ، أكتوبر 1845أن الدهشوري «على الرغم من تعافيه من املرض ٍ إال أن آالم الصدر وحالة احلمي عاودته فى الطريق وتسببت فى توقفنا بني احلني واآلخر؛ باإلضافة إىل ذلك تعرض املسافر اآلخر “ علي حممد “ إىل أزمات صحية متكررة بسبب نزلة برد على حد وصف األطباء » ، 13وفى حقيقة األمر فقد ظهرت ً أيضا عند الوصول . على “ حممد إبراهيم “ أعراض املرض - 12األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .24فهرس .23ملف. ورقة .1 - 13ب .أ .فالسكايا .ي .ب .كافاليفسكي والمهندسون المصريون ...ص.130 . 36
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
فى تلك األثناء جرى اإلعداد بالفعل للربنامج اخلاص بوصول الضيوف األجانب إىل األورال ؛ حيث تلقي “ ي .ب .كافاليفسكي “ آنذاك تعليمات حمددة من غرفة أركان مهندسي التعدين .أشار القائم بأعمال رئيس األركان العقيد “ ف .أ .سامارسكي “ فى اخلطاب املوجه له بتاريخ األول من سبتمرب 1845أنه من األفضل أن يتفقد املصريان مصانع تاجيل ( مدينة فى مقاطعة سسفريدلوفسك .تعليق املرتجم) وهى إحدى سالسل مصانع دوميدوف ،وكذلك ورش الذهب التى ميتلكها تاجر األورال الشهري “ ياكافلوف “ . ومل يكن من قبيل الصدفة ً أبدا أن يقع االختيار على أعمال تلك املصانع ً حتديدا كي يتم عرضها علي الضيوف األجانب .فصناعات التعدين باألورال فى ً منوذجا ملناطق التعدين ،والتى متثل القرن التاسع عشر كانت حتوى بني طياتها كل منطقة منها ً ً ً خاصا ذو صفات مميزة يسوده االكتفاء الذاتي اجتماعيا بناءا والتكافل االجتماعـي .جيدر اإلشارة إىل أن النصف األول من القرن التاسع عشر كان فرتة إزدهار هذا النظام.14 لقد متيزت منطقة تاجيل اجلنوبية بسالسل مصانع دوميدوف ،ومـنطـقـة إيسيتسـك العـلـيا ( إحـدى الـمراكز اإلدارية السبع إليكاترينبورج .تعليق املرتجم ) ،التابعة ملقاطعة ياكافلوف ،مبساحاتها الشاسعة واستقرارها املادي . فعلى سبيل املثال بلغت مساحة منطقة مصانع دوميدوف الريفية فى جنوب تاجيل ً معموال بها قبل الثورة أكثر من 638ألف ديسياتينا (وحدة قياس فى روسيا كان البلشفية وتساوى هكتار .تعليق املرتجم ) .كان “ بافل نيكواليفيتش “ يستحوذ على ملكية املنطقة قبل عام ،1840وبعد موته ورثتها أرملته “ أفرورا كارلوفنا “ وابنه الصغري “ بافل “ . ولكن ظلت اليد الطولي ألناطولي نيكواليفيتش دوميدوف ،الذى حصل فى عام 1836على لقب “ الكونت سان دوناتو “ من دوق توسكانا األكرب ( فرديناندو الثالث . 1769 – 1824تعليق املرتجم ) .كانت لإلصالحات اإلدارية – التى فكر ً ً كبريا على استقرار تأثريا فيها “ أ .ن .دوميدوف “ – وهيكلة نظام إدارة األمالك الوضع فى منطقة جنوب تاجيل فى األربعينيات .وفى عام 1846وصل إىل تلك ً املصانع « املفوض الرمسي » اجلديد الذى ّ مؤخرا .إنه البولندي عينه “ أ .ن .دوميدوف “ - 14أنظر :ي .ج .نيكلودوف .أصحاب مصانع األورال فى النصف األول من القرن التاسع عشر :مالك وممتلكات .جنوب التاجيل .2004 .ص.5 . 37
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
“ أ .أي .كاجوخوفسكي “ املدير السابق ألمالك أمراء لتوانيا رادزيفيللي. 15 هكذا تزامنت زيارة املهندسني املصريني مع مرور املنطقة مبرحلة إنتقالية ، حيث كان املهندسون والفنيون يرتقبون بقلق بالغ ومستمر خطط اهليكلة اجلذرية التى يعتزم مالك املنطقة تنفيذها .مل تكن حلظة وصول الضيوف من مصر – التى كان من الضرورى أن يتفقد فيها املصريون جناحات منظومة التعدين فى األورال – على ما يرام ،بيد أن احلال فى أمالك دوميدوف – التى تفقدوها – كان أفضل مما كان عليه احلال فى مناطق أخرى كثرية فى األورال. فى تلك األثناء انتقلت بعض األمالك السابقة لعائلة دميوديف إىل أمالك “ إمرباطورية “ تعدين عائلة ياكافلوف .فقد آلت ملكية منطقة ايسيتسك العليا ( أحد املراكز اإلدارية السبع فى مدينة إكاترينبورج .تعليق املرتجم) إىل إيفان ياكافلوف ،والذى نقلها بدوره إىل ابنه أليكسي عام .1804وتولي األخري زمام إدارة املنطقة ألكثر من أربعني ً عاما حتى . 1849وكانت تلك الفرتة واحدة من أزهي الفرتات فى تاريخ املنطقة .فقد كان “ أليكسي ياكافلوف “ حيصل على تقارير مفصلة من إدارة املصانع هناك أثناء فرتة إقامته فى سانت بطرسبورج مما ساعده على اإلملام بكل ما جيرى باملنطقة .باإلضافة إىل ذلك كان املالك يراقب ً ً ساعيا لتوفري أيضا جودتها ، عن كثب ليس فقط حجم إنتاج املصانـع ،ولكن مستوى معيشة مناسب للعاملني هناك .فى نفس الوقت وصلت إنتاجية املنطقة إىل ما يقرب من 400ألف بود ( وحدة قياس روسية قدمية .تعليق املرتجم ) حديد حتمل طابع « السمور العجوز » ،هي األفضل ً وفقا لتقديرات إدارة التعدين باألورال آنذاك . على أية حال ،مل يكن منتصف القرن التاسع عشر أزهي العصور فى تاريخ صناعات التعدين فى األورال .فاجلزء األكرب من خام احلديد فى نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين كان يجُ لب من خارج احلدود ،وباألخص من إجنلرتا. إال أن الثورة الصناعية فى إجنلرتا ودول أوروبا األخرى فى النصف األول من القرن ً عمليا إىل تراجع صادرات املعدن الروسي .ففى األربعينيات من القرن التاسع عشر أدت التاسع عشر ظلت إنتاجية قلة فقط من مالك املصانع باألورال تنافس فى األسواق ً نظرا لتمتع معدنها جبودة عالية .ومن بني هؤالء املالك عائالت دميوديف العاملية 16 وياكوفلوف .واليت بلغ نصيب صادرات مصانعهم (من 30-50%وأكثر) . - 15أنظر :نفس المرجع .ص.107 . - 16أنظر :ن .ج .سوروفتسيف .العالقات االقتصادية الخارجية لمالك مصانع التعدين فى األربعينيات والخمسينيات من القرن التاسع عشر :ملخص رسالة من باحث لدرجة الدكتوراه فى تخصص التاريخ .إكاترينبورج .2003 ،ص17 . 38
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
من املميز ،أنه فى نفس اللحظة ،التى كان املهندسان املصريان متواجدين فيها باألورال عام ، 1846أشار رئيس مصانع سالسل جبال األورال “ ف .أ .جالينكا “ 17إىل ً عوضا عن القليل أن « مجيع أصحاب املصانع كانوا حباجة إىل تدوير روؤس أمواهلم منهم » ،18والذى كان من بينهم بالطبع عائليت دميوديف وياكافلوف .ولكن املهم بالنسبة ملوضوعنا هو التوجه الدائم لصناعات التعدين فى منطقة إيستسك العليا التابعة لعائلة ياكافلوف إىل العمل بسياسة تنويع اإلنتاج .وفى العشرينيات من القرن التاسع عشر بدأ العمل باستخراج رواسب الذهب . وحبلول منتصف القرن كان غسيل الذهب جيرى بصورة أكثر فاعلية فى مناجم رودينسك ،التى تقع على بعد عشرة فراسخ من مصنع فريخ -نيفينسكي ( الذى يقع على نهر النيفا فى إيكاترينبورج اآلن .تعليق املرتجم ) .وقامت أول جريدة من نوعها فى تاريخ األورال « -أخبار مقـاطعة بـريم » فى نهاية حكم القيصر “ نيكوالي األول” بوصف مركز استخراج الذهب التابع ملصانع ياكافلوف « :عند النظر إىل املنجم من الصعب أن ال تنبهر مبدى همة ومهارة إدارة املنطقة فى احلصول على رمال الذهب من قاع الربكة ،التى مت مجعها لغسل تلك الرمال . فالثروات ،التى حتويها تلك الرواسب الكبرية كانت خمبأة لفرتة طويلة فى قاع الربكة ،ولكن منذ أن مت اكتشافها أصبحت الربكة ،التى يتم جتفيفها على دفعات ،تعطى كل عام عشرات ماليني بود من الرمـال الغنـية » .وكما أشارت اجلريدة ،فإن تلك احلالة النادرة من أسلوب تعدين املناجم « تثري اهتمام كل فضولي ». 19 بل من املدهش أن يرتك هذا األمر أثره على املصريني ،الذين كانوا متواجدين فى مناجم منطقة مصانع أعاىل نهر النيفا . تعددت طرق تدوير رمال الذهب فى األورال ما بني عامي ( ،)1850 -1840تتوقف - 17بحث مميز عن حياة وعمل تلك الشخصية الرائعة لف .أ .شكيرين ،الذى أشار فى عمله إلى تناقض الجنرال ف .أ .جلينكا « ،فى فترة حكم ألكسندر األول – بدا مشاركا فى حروب عديدة وأحد أفراد حركة ديسمبريين ،بينما فى «الحقبة الرمادية» يبدو نيكوالي األول جنرال ياوران وأحد الوجهاء العظام» (ف .أ .شكرين. الجنرال جلينكا :الشخصية والعصر .إيكاترينبورج .2006 ،ص).3 . - 18اقتباس من :ي .ج .نيكلودوف .قانون بوسيسيون فى تاريخ صناعات التعدين فى األورال فى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين .إيكاترينبورج .2011 ،ص.61 . - 19أنباء مقاطعة بيرم .1854 .رقم .34جزء غير رسمي. 39
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
كل طريقة منها على خصائص كل منجم .فى بعض األحيان يتوجب نزع ً وأحيانا الطبقة الطينية العليا فقط من الرتبة ،حيث توجد الطبقة احلاملة للذهب ، يتوجب حفر آبار ،يتم من خالهلا مد مناجم حتت األرض « عرب الطبقات » وتثبيتها جبذوع الشجر .بعد ذلك يتم نقل الطبقة العليا ،التى ال حاجة هلا على عربات جترها أحصنة إىل أكوام ،بينما ًتنقل الطبقات احلاوية للذهب إىل آلة غسل الذهب .ختتلف مساكة الطبقة اخلاوية من اخلام ،حبيث ترتاوح ما بني 5إىل 10 ساجني ( وحدة قياس روسية تساوى مرت و 13سنتيمرت .تعليق املرتجم ) ،ولكن فى منجم رودينسك مل تبلغ مسكها أكثر من ساجني واحد .ولكن على اجلانب اآلجر من النادر أن تبلغ مسك طبقة الرمال احلاملة للذهب أكثر من ساجني واحد ،بل فى أغلب األحيان أقل من هذا ،وكانت يقبع حتتها طني صفحي أو أحجار ً كلسية .حتى الرمال التى حتوى الذهب ال تعترب ً خالصا ،ولكنها تكون ذهبا ممزوجة بالطني واحلصى ،وفى مرحلة تالية تكون عادة موحلة إذا احتوت على نسبة كبرية من الطني .وتبدو شكلها ككتلة رمادية أو سوداء حتتوى فى غالب األحيان على حصى كبري وقطع من صخور املنطقة اجلبلية . من املالحظ أن بعض مهندسي التعدين ،الذين عملوا فى ورش الذهب باألورال ، كانوا يلوحون إىل قلة فاعلية استخدام أسلوب غسل الرمال ،التى حتوى الذهب. على سبيل املثال ،بعد مرور عدة سنوات من وصول املهندسني املصريني إىل تلك املنطقة اسرتعت إحدى مقوالت القائد “ أفدييف “ ،التى أدىل بها على صفحات «جملة التعدين » اخلاصة االنتباه « :عند القيام بغسل الرواسب ال ميكننا حتديد اخلسارة احلقيقية خلام الذهب ...ولكن ،من املرجح أن تلك الطريقة خترج نسبة ثلث الذهب فقط ،بينما يضيع الثلثان اآلخران ...من الواضح أن النسبة املهدرة أكثر من الذهب املتوفر ...هكذا تبدو طريقة الغسل .ولكن ،على الرغم من فرص جناحها الضئيلة ،ال ميكننا نسيان أن تلك الطريقة هلا الكثري من املمـيزات ؛ فهى األقل تكلفة من وجهة النظر االقتصادية ،واألبسط فى إمكاناتها ». 20 وما يثري الدهشة هو الدور الكبري الذى لعبته تلك التفصيلة األخرية مع هذه التجربة .فالتقنيات احلديثة ،التى كان املهندسان املصريان يتعرفان عليها فى ً نسبيا فى األورال مصانع األورال مل تكن األكثر فاعلية .إال أن التقنيات البسيطة باإلضافة إىل التكلفة املنخفضة لأليدي العاملة سواء فى مصر أو فى السودان هي ما أعطت حملمد علي األمل فى تطوير صناعات استخراج الذهب فى املستقبل .فى - 20أفدييف القائد.عن خبراته المتعددة ،التي أكتسبها فى مصانع إيكاترينبورج من التنقيب عن الذهب //مجلة التعدين .1850 .رقم .1ض56. 40
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
نفس الوقت كانت صناعات استخراج الذهب فى األورال من الناحية التقنية تسري فى ركب التطور .ففى سعيه لرفع درجة فاعلية العمل باملنشأة اقرتح القائد “ أفدييف “ نفسه استخدام طريقة صهر الصخور ،املعرضة للفقدان . كانت اآلالت تستخدم فى مصانع إنتاج الذهب باألورال ،على سبيل املثال فى ً سابقا . ورشة استخراج الذهب بطريقة الغسل فى منجم رودينسك ،كما أشرنا وكما وصفت جريدة « أنباء مقاطعة بريم » لسـري الـعمل فـى الورشـة « ،فإن الرمال تتعرض للغسل ً آليا فى مصايف حديدية ومغاسل خشبية ،وعند تدفق تيار املاء يتم تقليبها باجملاديف ؛ وتعلق قطع الرمال الكبرية بني احلواجز اخلشبية للمغسلة ،حيث يتم مجعها وتنظيفها بالغسل فى اآللة .بعد كل هذا يتم احلصول على حبيبات من الذهب تبلغ فى املتوسط ما بني مائة بود من الرمال حبجم نصف زولوتنيك (وحدة وزن روسية تساوى 4جرامات وربع .تعليق املرتجم ) ،وأخرى ً كثريا ». 21 حبجم زولوتنيك ولكنها أقل من املنطقي أن تسعي جريدة « أنباء مقاطعة بريم » فى نسختها الرمسية إلظهار ً مؤكدة أن املناخ اجليد ،الذى كان يعيش فيه عمال مناجم الذهب فى األورال ، مرحبا ً ً جدا لسكان املنطقة ،الذين كانوا حيصلون وجود تلك الصناعة كان على “ أجر جمزي“ مقابل عملهم ملدة 6إىل 8ساعات .وهلذا شهدت مناجم الذهب ً ً أيضا .وفى إقباال على العمل ليس فقط من قبل الرجال ،ولكن النساء واألطفال هذا الشأن تكتب صحيفة املقاطعة «أن بإمكانك رؤية الرجال ،وخاصة النساء ً مالبسا ،ال يرتدونها فى أماكن أخرى حتى فى األعياد ». 22 يرتدون فى العمل ً منوذجا بهذا الشكل كانت ورش “ ياكافلوف ” لصناعة الذهب تعترب « يحُ تذي به » فى األورال ،مـما يفسر سبب إختـيار إدارة التعدين فى األورال مناطـق ً حتديدا لعرض إجنازات التعـديـن ،التى متلكها عائليت دميوديف وياكافلوف قطاع التعدين على الضيوف املصريني. أثناء رحلتهم فى األورال قام املهندسان املصريان بزيارة مصانع منطقة سيسرت ( إحدى مناطق مقاطعة سسفريدلوفسك .تعليق املرتجم ) ،التى آلت ملكيتها لفرتة طويلة إىل رجل األعمال الشهري “ أ .ف .تورشانينوف“ ،ثم ورثها من بعده “ سالومريسكي “ . - 21أنباء مقاطعة بيرم .1854 .العدد .34جزء غير رسمي. - 22أنباء مقاطعة بيرم .1854 .العدد .34جزء غير رسمي. 41
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
ُ اكتشفت رواسب الذهب فى تلك املنطقة فى بداية العشرينيات من القرن التاسع عشر ،مما حفز إدارة املصانع للقيام بأعمال تنقيب كبيـرة ،والتى جنت ثـمارها عام 1826بعد استخراج ما يقرب من ثالث بودات ذهب .وفى الفرتة ما بني عامي ( )1828 -1827بلغ إنتاج تلك الرواسب الغنية ما يقرب من 60بود ذهب .كان ً كفيال بتعديل الوضع املالي فى مصانع سيسرت بشكل اكتشاف تلك املناجم ً طويال. عام ،بل وساعد على سد ديون أصحابها .ولكن مل يستمر احلال هكذا ففى حلظة وصول املهندسني املصريني كانت ورش الذهب غارقة فى أزمة منذ 20 ً ً تـقريبا .فمجموع ما أمكن تنقيته ،على سبيل املثال ،عام 1837كان عاما سبعة بودات من احلجر الثمني فقط .وفى حماولة لتفسري أسباب هذا الوضع ،كتب القائد “ كوكشاروف “ فى منتصف اخلمسينيات « :على الرغم من وفرة رواسب الرمال احلاملة للذهب فى ضيعة سيسرت حيت اآلن ،إال أن حينها مل ُتكتشف أية ً أيضا بسبب رواسب جديدة ،بل وتعرضت الثروات املُكتشفة فى البداية للنضوب قلة اخلربة ،وقلة معرفة املسئولني عن إدارة عملية التنقيب عن الذهب » .23وبالتاىل مل تكن مجيع املنشآت التى قام املصريان بزيـارتـهـا فى األورال تعيش أزهى عصورهـا ،بل كان بعضها يعانى من مشاكل حقيقية منذ زمن بعيد . ً ً خاصا باجلوانب املالية لرحلة املهندسني املصريني اهتماما أولت رئاسة هيئة التعدين عرب األورال .ووصلت إلي “ ي .ب .كافاليفسكي“ إخبارية بشأن ختصيص وزارة املالية الروسية 1600روبل من الفضة لإلنفاق على إعاشة وتنقالت املصريني «على مدار فرتة تواجدهم على أراضي اإلمرباطورية » . كما مت إعداد كشف حساب تفصيلي ،والذى مبقتضاه مت اعتماد روبل واحد من الفضة لكل مهندس مقابل إعاشة فى اليوم .أشار العقيد “ ف .أ .سامارسكي “ إىل “ ي .ب .كافاليفسكي “ على ضرورة قـيام األخـري ،فى حالة الضرورة ،باستخـدام تلـك النقـود لـحجز « شقـق الئـقة ،وليست فاخـرة » للضيوف املصريني .كما خصصت 600روبل لصرفها على استئجار األحصنة أثناء التنقل يف روسيا ،و400 روبل مقابل «استئجار الشقق وشراء املركبة واملصاريف النثرية» .ومت تكليف “ ي .ب .كافاليفسكي “ بشراء « مركبة مرحية جترها األحصنة يستخدمها املصريون فى طريقهم ،على أن ال تكون باهظة الثمن – ال يتخطي سعرها 150 روبل فضة » ،ومن الضروري أن ُتسلم املركبة فى حالة جيدة إىل الضابط ، 24الذى سينقل املصرينب من زالتؤوست إىل أوديسا . - 23أخبار مقاطعة بيرم .1865 .العدد رقم .26جزء غير رسمي. - 24األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .24فهرس .23ملف .7101ورقة .3-5 42
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
كانت أهم التعليمات ،التى تلقاها “ ي .ب .كافاليفسكي “من قيادته « هى احلرص الشديد عند اإلنفاق على عدم جتاوز املبلغ احملدد بأي حال من األحوال » . وهكذا جرى األعداد لزيارة املصريني باعتبارها رحلة عمل .وهلذا قامت رئاسة هيئة التعدين بتحذير كل من سيتولي مهمة استقبال املهندسني املصريني فى األورال من املصاريف الزائدة أو املشرتيات الباهظة . ً خطابا إىل رئيس جملس إدارة مصانع تعدين سالسل قام وزير املاليه بتوجيه جبال األورال ،طالب فيه « بتكليف رؤساء املصانع احمللية بتقديم كافة أشكال املساعدة للمهندسني املصريني ليتمكنوا من دراسة طريق إنتاج الذهــب ، وخاصة تزويدهم باملعلومات الالزمة وإمدادهم بالرسومات التخطيـطـية » .فى نفس الوقت تلقي رئيس جملس اإلدارة أمر برتشيح الضابط ،الذى سيقوم “ ي .ب. كافاليفسكي “ بتسليم املصريني له .كان املعيار الرئيسي فى اختيار الظابط هي املعرفة اجليدة باللغة األملانية .فى تلك األثناء حصل الرئيس علي بعض املعلومات التى تتعلق بشخصية املهندسني املصريني .فقد أخربه وزير املالية أن “علي حممد إبراهيم” و “عيسى الدهشوري” « ينحدران من أسرتني نبيلتني يف مصر» يف إشارة إىل ضرورة توفري االستقبال الالئق بالضيوف األجانب .ولكن املعلومة األكثر أهمية هي « عدم إجادة املصرييان للغة الفرنسية » :فمن املعروف أن تلك اللغة الفرنسية كانت منتشرة بشكل كبري فى اجملتمع اإلقطاعي الروسي فى القرن التاسع عشر .وفى حالة إتقان الضيوف األجانب لتلك اللغة ،كان ذلك سيسهل من مهمة اجلانب املُضيف .من الطريف أن خرب عدم إجادة املصريني للغة الفرنسية اتضح فى اللحظة األخرية .فى خريف عام 1845قبل وصول املصريني إىل بالدنا أخرب قنصل روسيا فى مصر “ أ .م .فوك “ نائب مدير اإلدارة اآلسيوية التابع لوزارة اخلارجية “ ل .ج .سينيافني “ أن املهندسان « يتكلمان اللغتني األملانية والفرنسية» . 25ولكن تأكدت املعلومة املتعلقة باللغة األملانية ؛ حيث أشار وزير املالية ،أن املتخصصان األجنبـيان « يتحدثون األملانية بشكل جيد بالفعل» : 26من ً ً شرطا فى اختيار الضابط ،الذى سيقوم حتديدا كان إتقان اللغة األملانية أجل هذا “ي .ب .كافاليفسكي” بتسليمه املصريني فى زالتؤوست . مبجرد تلقى األوامر من وزارة املالية ،بدأ رئيس جملس إدارة مصانع سالسل جبال األورال فى التنظيم لتلك الرحلة ؛ حيث أرسل بنفسه خطابات بتكليفات إىل رؤساء - 25ج .ف .جارياتشكين .مصر فى أعين الروس ...ص.242 . - 26األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .24فهرس .23ملف .7101ورقة .2 43
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
إدارة التعدين فى مصانع زالتؤوست وإيـكـاتريـنبـورج وبالجادات ( جبل علـى املنحدر الشـرقي جلبال األورال .تعليق املرتجم ) ،وكذلك إىل رؤساء الشرطة ( فى روسيا قبل الثورة) ،الذين كانوا يشرفون على مصانع ايستك العليا اململوكة لعائلة ياكافلوف ،وعلى مصانع كيشتيم (إحدى مدن مقاطعة شليبيانسك . تعليق املرتجـم ) اململوكة لعائلة “ راستورجوييف “ . 27تلقى مجيعهم تعليمات بتقديم العون الالزم للضيوف املصريني خالل رحلتهم عرب األورال . على اجلانب اآلخر كان “ حممد علي “ ينتظر بفارغ الصرب األخبار عن رحلة مهندسيه .وفى سبتمرب عام 1845قام القنصل الروسي فى مصر “ أ .م .فوك “ بإخطار القسم اآلسيوي التابع لوزارة اخلارجية أن اخلطاب ،الذى كتبه املهندسان املصريان ُ مباشرة إىل “ حممد علي “ . باللغة العربية من روسيا إىل حاكمهم وصل فقد ارتأى الدبلوماسي الروسي ،أن من الضروري تسليم اخلطاب من خالل الوزير املصري “ أرتني -بك “ دون انتظار احلصول على موافقة مبقابلة والي مصر ً شخصيا .يشري أ .م .فوك « ،أنه مل يرغب فى تأجيل تسليم اخلطاب إىل أن يقابل ً حممد علي شخصيا لعلمه مبدى طوق الباشا لتتبع مجيع األخبار ،بل وعلمه ً شخصيا فى توجيه التكليفات لكال الشابني ،الذى أرسلهما باشرتاك الوالي إىل القطر البعيد .فالصفة الغالبة على شخصية حممد علي آنذاك هي عدم التحلي بالصرب ،وازدادت تلك اخلصلة مع تقدم السن .فأكثر ما أبهجه من بني تلك ً تقريبا فى منتصف شهر يونيو القادم ». 28 األخبار علمه بإمكانية عودة الشابني ً طويال حتى صيف . 1846فحتى خريف عام 1845كان إال أن الوقت اليزال منطقيا ً ً جدا أن تكون مناجم الذهب فى بريوزوف أكثر ما أثار إعجاب املهندسني املصريني من بني منشآت صناعات التعدين فى مشال األورال .فعلى ضفاف نهر بريوزوف ظهر أول اكتشاف خلام الذهب فى األورال عام . 1744وبالرغم من بطء وترية استخراج الذهب هناك حتى القرن التاسع عشر ،إال أن تطور صناعات ً ً جزريا مع أشهر اكتشافات أستاذ التعدين “ ل .أي. حتوال الذهب عام 1814شهدت بروسنيتسني “ . بعد عكوف األخري على دراسة الرمال املهدرة من ورش تقطيع اخلام فى منطقة نهر بريوزوف ،لفت االهتمام إىل اكتشاف ذرتي ذهب ،ال يوجد بهما أي أثر آللة التفتيف .من خالل اآلبار املُكتشفة اتضح وجود رمال حاملة للذهب حتت طبقة - 27أنظر :نفس المرجع .الورقة رقم .4-16 - 28ج .ف .جارياتشكين .مصر فى أعين الروس ...ص.247 . 44
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
الرواسب عرب تيارات األنهار .هكذا أثبتت اخلربات اجلديدة املرتاكمة فائدة استخدام طريقة غسل الرمال احلاملة للذهب .وهلذا االكتشاف أهمية خاصة بالنسبة ملوضوع حبثنا ،مبا أن بناء مصانع استخراج الذهب بأسلوب الغسل كان اهلدف الذى وضعته القيادة املصرية وعلى رأسها “ حممد علي” فى األربعينيات . ً أبعادا مدهشة؛ وبفضل هذا االكتشاف أخذت عملية تطوير صناعات الذهب ً حيث بدأت معدالت استخراج الذهب فى النمو بصورة كبرية نظرا لبناء عدد من ورش غسل الذهب الكربي فى مناجم بريوزوف فى عشرينيات القرن التاسع عشر .ومل يكن من الصعب استخراج رواسب الذهب لعدم احلاجة الستعمال آالت خاصة لذلك . 29فبعد اكتشاف رواسب الذهب فى مئات املناطق ،اجتاحت األورال « محي استخراج ذهب » حقيقية .باإلضافة إىل ذلك ساهمت اخرتاعات “ ل .أ. بروسنيتسني ” ،التى استخدمها ً أوال فى مناجم بريوزوف ،فى تطور صناعة استخراج الذهب .بلغ إمجالي ما مت استخراجه من رواسب مناجم بريوزوف خالل الفرتة من عام 1814وحتى إلغاء حق اإلقطاع فى روسيا عام 1861أكثر من 1150بود ذهب . مع ذلك يشري املتخصصون إىل وجود بعض السلبيات فى منظومة تطوير مناجم بريوزوف حلظة وصول املصريني .تكمن املشكلة فى أن الرواسب احلاملة للذهب ً تدرجييا .وما ساعد على تفاقم املشكلة التنقيب املفرط فى بدأت بالنضوب ً املناطق األكثر وفرة باخلام .ومل تنج املناجم أيضا من استخدام الوسائل التقنية احلديثة فى ذلك الوقت – وهي اآلالت ،التى تعمل بالبخار .وفى اخلمسينيات بدأت ً تدرجييا» ، 30على حد وصف املعاصرين . وميض احلياة فى املناجم « باخلفوت على هذا النحو تزامن وصول املهندسني املصريني إىل األورال مع ركود صناعة استخراج الذهب مبناجم بريوزوف .فما الذى ميكن أن يراه املصريان هنا ؟ ،تعطينا املصادر األرشيفية ،التى حتصلنا عليها من صندوق إدارة مناجم مجعية غسل الذهب فى بريوزوف بعض املعلومات عن هذا األمر .تشري وثائق إدارة تعدين مناجم جبال إيكاترينبورج إىل نقل أكثر من مليون و 240ألف بود من الرمال ،التى حتوى الذهب خالل شهر سبتمرب فقط من عام « 1845بعربات اليد وباملزاجل » وأكثر من ً أحيانا تصادف العثور علي نصف مليون عن طريق « حوذيني مستقلني » .ولكن أشياء قيمة :ذات مرة وجد العامل “ إيفان دميشيكوف “ مع جمموعة من أصدقائه - 29يو .شينكارينكا ،أ .بيسارييف ،يو .جونجر ،م .تيتوفيتس ،ف .لوكيانين .مكان ضرب العصا .إيكاترينبورج .2005 ،ص.45 . - 30أنظر :ل .ف .ساباجوفسكايا ،ي .يو .روكاسويف .شركة صناعات الذهب فى بيروزوف ( .)1874-1917إيكاترينبورج .2004 ،ص.12. 45
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
قطعة معدن بوزن أكثر من أربعة باوندات .على اجلانب اآلخر كانت قد حدثت بعض السرقات :ففى شهر أكتوبر فقط من عام « 1845مل ينقل » « احلوذيون املستقلون » إىل الورش أكثر من مخسة آالف ونصف بود من رمال الذهب.31 منذ نوفمرب عام 1845أعطى أمر بإدخال ورشة « شتوية » جديدة إىل اخلدمة فى منجم ذهب “رجافسكي” لعله يساعد فى زيادة معدالت استخراج الذهب . هذا بالطبع بغض النظر عن « املكان املوحل » ،الذى كان من املفرتض مد طريق للسكك احلديدية عربه ،وعدم وجود « أخشاب صـاحلة » بالقرب من تلك املنطقة وصعوبات أخرى كثرية .وفى نفس الفرتة ،التى كان املصريون متواجدين فيها ً ً مؤقتا فى منجم كاسولينسكي بداعي « عدم حتـديـدا ،توقف العمل باألورال 32 إحتواء الرمال علي القدر الكايف من الذهب» . ً وفقا ملعايري ذلك الوقت .وفى كانت مصانع بريوزوف مزودة بأحدث التقنيات حلظة وصول “ علي حممد إبراهيم “ و” عيسي الدهشوري “ بنهاية عام 1845كانت املصانع احمللية مزودة بآالت تعمل بالبخار بقدرة 14حصان ،وثالثة آالت لرفع املياه جترها األحصنة ومخس ماكينات لف جترها األحصنة الستخدامها فى تقنية غسل ورفع الرمال إىل الورش ،باإلضافة إىل ثالثة أفران حديدية كبرية بستة أفران ... وهكذا كان هناك الكثري لرؤيته يف ذلك املكان .باملناسبة ،تساعدنا الوثائق ً ً خالفا حتديدا؟. فى اإلجابة على سؤال ،ملاذا ُدعي املصريان لزيارة منطقة بريوزوف لتزويد املصانع هناك بأحدث التقنيات ،إال أن ما رجح كفتها قيام أحد الشخصيات املهمة بزيارة املكان فى خريف عام 1845قبل وصول املصريني بقليل . أنه صاحب السعادة ،الدوق ليختينربج – زوج ابنة القيصر “نيكوالي األول ماريا ” . 33مل يكن صاحب السعادة يشغل منصب رئيس أكادميية الفنون ً ً عضوا أيضا ،وكان اإلمرباطورية فقط ،بل ترأس معهد التعدين فى بيرتبورج ً ً دائما فى جلنة العلماء فى فيلق مهندسي التعدين ،كما اشتهر أيضا بأحباثه فى جمال الطالء باجللفنة .وتؤكد املصادر ،أن اإلعداد لزيارة الدوق صارت على قدم وساق ُ :رتب كل شيء بنظام دقيق ،حتى أنهم قاموا بشراء ورق هولندي الصنع - 31أنظر :األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .41الفهرس األول .ملف .1444ورقة .298 - 32نفس المرجع .ورقة .345-348 - 33أنظر :األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .41الفهرس األول .ملف .1449ورقة .353 46
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
الستخدامه فى أعمال الكتابة .وهكذا كانت املصانع معدة بشكل جيد حلظة زيارة املهندسني املصريني . وصل “ علي حممد إبراهيم “ و” عيسي الدهشوري “ إىل مناجم بريوزوف فى نوفمرب عام . 1845وبالفعل جنح املصريان فى استغالل حسن ضيافة قيادة املناجم واإلمكانات ،التى وفروها لضيوفهم األجانب .من املعروف أن الدهشوري قد ً تفصيليا على سري عملية اإلنتاج فى مصنع بريوزوف ،أثناء عمله على تعرف ً ُ ماكينة الغسل ،املخصصة له على مدار أربع ساعات .وفـقا لتقـرير العقيد كـافاليـفسكي ،الذى أرسله بتاريخ األول من نوفمرب عام 1845إىل غرفة أركان مهندسي التعدين ،أنه جبانب ذلك « خطط برنامج عمل الدهشوري فى املنجم بالتفصيل » .وبعد مرور شهر ،فى بداية شهر ديسمرب عام 1845أشار “ إجيور بيرتوفيتش “ ،أن املهندسان املصريان « كانا يعمالن كل يوم على مناذج آلالت غسل الذهب ،مت إعدادها ليتمكنا من جتميعها فى مكانهم بأنفسهم ودراسة أجزائها بالتفصيل فى حالة بناء آالت حتت قيادتهم فى مصر » .العثرة الوحيدة أمام ذلك كان توقف العمل باستمرار بسبب مرض أحدهما تارة ،واآلخر تارة أخرى :فى حالة شعور “ علي حممد “ بأعراض املرض ،سرعان ما يلقى الدهشوري نفس املصري.34 فى النهاية اكتسب املتخصصان املصريان مهارة عملية جيدة ً جدا فى العمل على آالت غسل الذهب .وتعرف الضيوف األجانب على املبادئ الرئيسية لعمل تلك اآلالت ،بل كانوا يراقبون عن كثب استخدام تلك الطرق فى صناعات استخراج الذهب باألورال .وفى النهاية أصبحوا يعملون جبد على تلك اآلالت فى غسل الرمال احلاوية للذهب على قدم املساواة مع عمال األورال .فإمجالي الرمال ،التى قام “ علي حممد إبراهيم“ و” عيسي الدهشوري “ بغسلها بأنفسهم أكثر من 500بود من الرمال . بعد التواجد مدة طويلة فى مناجم بريوزوف ،قام املهندسان املصريان جبولة فى مصانع مشال األورال املختلفة .وفى يناير عام 1846تفقدوا مصانع نفيانسك (مدينة فى مقاطعة سفريدلوفيسك ) وتاجيل وأعالي النيفا وجبال بالجادات ، بعـد ذلـك قاموا بزيارة مصانـع كاميـنسك ( مدينة فى مقاطعة سفريدلوفيسك) لصب الزهر وصهر املعادن ومصنع جنوب االيسيتسك للصناعات الثقيلة ومصنع ً تدرجييا حنو اجلنوب ؛ حيث قاموا بتفقد تعدين سيسرت .ثم بدأوا بالتحرك مصـنع كـاسـلي ( إحـدى مـدن مقاطعـة شليبـيـانـسك .تعليق املرتجم ) - 34أنظر :ج .ف .جارياتشكين .مصر فى أعين الروس ...ص.249 . 47
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
لصب الزهر والصناعات الثقيلة ،باإلضافة إىل مصنع كيشتيم لصهر النحاس. 35 توجب على املهندسني “ علي حممد إبراهيم “ و” عيسي الدهشوري “ التوجه إىل جنوب األورال بعد أن أتاح هلم “ ي .ب .كافاليفسكي “ الفرصة لتفقد مصانع إيكاترينبورج .حينها ظهرت مشكلة ختص الشخص الذى سيتسلم الضيوف من كافاليفسكي فى زالتؤوست .كان على رئيس تعدين مصانع زالتؤوست ومدير مصانع األسلحة إجياد حل لتلك املشكلة .فى شهر فرباير عام 1846قام األخري بإخطار القائم بأعمال رئيس جملس إدارة مصانع تعدين سالسل جبال األورال أن مهندس التعدين رئيس األركان “ بليوم “ هو املكلف باصطحاب املصريني من زالتؤوست إىل أوديسا . 36وكان علي “ ي .ب .كافاليفسكي “ تسليمهم لرئيس ً حتديدا ،وهلذا توجه العقيد فى الثانى من مارس بصحبة املصريني إىل األركان مقاطعة زالتؤوست ،وفى انتظاره الكثري من األعمال هناك :فقد مت تعيني “ ي. ً مساعدا لرئيس منطقة تعدين ب .كافاليفسكي “ فى شهر أبريل عام 1846 زالتؤوست ،وأوكلت له مهمة رئاسة املنطقة بسبب سفر “ ب .ب .أنوسوف “ مؤقتاً إىل سانت بطرسبورج . كانت إسرتاتيجية تطوير قطاع التعدين فى جنوب األورال تتميز باعتمادها على رجال األعمال ،وليست احلكومة ،فى أي مبادرة إلفتتاح املصانع فى هذا املكان .وهلذا ظلت معظم املصانع تتبع القطاع اخلاص لفرتة طويلة .ولكن فى عام 1811آلت مصانع منطقة تعدين زالتؤوست إىل القطاع العام بعد إفالس مالكها التاجر كناووف .فى منتصف القرن التاسع عشر ً ، وفقا ألعداد العمال بها، اعتربت منطقة تعدين زالتؤوست أكرب منطقة تعدين فى األورال .تشتهر املنطقة بغاباتها الشاسعة ،وإحتوائها على عديد من املعادن النادرة ،بعضها ال يوجد إال هنا. ولكن حبلول ثالثينيات القرن التاسع عشر ساءت األوضاع فى غابات زالتؤوست، بسبب االستخدام املفرط املرتبط بالتطور اهلائل فى الصناعات التى تعتمد على فحم اخلشب .وهلذا مل يكن من قبيل الصدفة أن تبدأ فى الثالثينيات واألربعينيات عملية تقييم دؤوبة لغابات املنطقة من أجل احلفاظ عليها. 37 - 35أنظر :ب .أ .فالسكايا .رحلة إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي .موسكو .1956 ،ص.95 . - 36األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .24لفهرس .23ملف .7101ورقة .16-17 - 37أنظر :أرسيف المتحف المحلي بمقاطعة زالتؤوست .رسالة من غرفة أركان مصانع زالتؤوست إلى مهندس منطقة مصانع زالتؤوست أ .د .تشولكوف 19 .يونيو .1846 48
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
تشتهر منطقة مياس ( إحدى مدن روسيا فى منطقة تشيليابينسك .تعليق املرتجم) حبقوهلا ،التى حتوى الذهب .وهنا اكتشف خام الذهب ألول مرة فى نهاية القرن الثامن عشر على يد « يفجراف ميتشنيكوف» .يشري الباحثون احملليون آنذاك إىل اخنفاض معدالت إنتاج الذهب ملدة طويلة فى مصنع مياسك « ،باإلضافة إىل افتقار مناجم الذهب » ،التى كان يتوقف العمل فيها تارة ،ويستمر تارة أخرى إىل أن ً نهائيا عام . 181538بدأت مرحلة جديدة فى تاريخ استخراج الذهب من مناجم توقف مياسك بعد اكتشاف كمية كبرية من حقول رواسب الذهب فى العشرينيات . وفى الثالثينيات أصبح مصنع مياسك املركز األكرب لصناعات استخراج الذهب ً منجما .فقد كانت وديان روافد أنهار مياس فى روسيا ،بعد جنى أرباح حواىل 200 كلها حتوى ً ذهبا .وكما هو احلال بالنسبة ملناجم نهر بريوزوف ،أصابت املنطقة « محى الذهب » ،وأصبحوا يطلقون على منطقة مياس اسم « كلوندايك الروسية» ( نسبة إىل نهر كلوندايك فى كندا ،حيث أشيع وجود ذهب هناك عام . 1896 تعليق املرتجم ) .وصلت إنتاجية مناجم مياس عام 1840إىل معدالت قياسية – 76 بود ذهب. 39 تتميز حقول رواسب مياس بإحتوائها على كميات كبرية من املعادن النادرة. ً حتديدا وجد العامل « ن .سيوتكني» أكرب قطعة معدن فى فى هذا املكان أوروبا اآلسيوية عام 1842؛ عبارة عن قطعة معدن كبرية « مثلثة الشكل » بوزن أكربمن 36كيلو جرام .كما أبدى عامل اجليولوجيا الربيطانى الشهري « ر. ً مطلقا على مصنع زالتؤوست « شفيلد مورشيسون » إعجابه بثروات منطقة مياس ، ً عضوا لسنوات طويلة فى جملس اجلمعية وبرمنجهام األورال » .بعد أن كان ً ورئيسا للجمعية امللكية اجلغرافية منذ عام ، 1843وعضو اجليولوجية اللندنية، فعال فى أكادميية العلوم فى بيرتبورج ،قام «ر .مورشيسون » فى عامي ( - 1840 ً وحتديدا إىل بريكاما ( منطقة على ضفاف ) 1841حبملتني بيئيتني إىل روسيا ، نهر كاما – أحد روافد أنهار الفوجلا .تعليق املرتجم ) ومشال األورال وجنوبها . نتيجة ألحباثه فى هذا اجملال أصدر « مورشيسون » عـمل بـعنوان « الوصف اجليولوجي لروسيا األوروبية وسالسل جبال األورال » (اجلزء األول والثانى ،سانت بطرسبورج ، 1849 ،باالشرتاك مع أ .أ .كيزرلينج و ف .أي .فرينيل ) .وهلذا ليس - 38أنظر :ك .بيروف ،ف .شفيتسوف .من تاريخ مصانع زالتؤوست .زالتؤوست، .1926ص.10 . - 39أنظر :ن .شابانوف .استخراج الذهب فى مياس //مياس .القاموس الموسوعي. مياس .2003 ،ص.161 . 49
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
ً ً فخريا فى مجعية حمبى عضوا صدفة أن يتم اختيار عامل اجليولوجيا الربيطانى علوم الطبيعة باألورال قبل وفاته بقليل. 40 ً ً ملتقا حتديدا « تعترب أشار « ر .مورشيسون » فى عمله السابق إىل أن منطقة مياس ً ً ً وغنا فى جنوب األورال» .إذا فماذا رأى املهندسان إنتاجا ألكثر حقول رمال الذهب املصريان بعد وصوهلم إىل هناك ؟ ،ماذا سيسلط عليه الضوء كال املتخصصان التقنيان املؤهالن ،اللذان تلقيا تعليمهما فى املانيا ؟ كانت األراضي املمتدة على طول الشاطئ الغربى لنهر مياس ،وشواطئ جداول نهر تاشكوتارجانك ( أحد أفرع نهر إيرميل فى مياس ) وإيرميل وغريها أكثر املخابئ الغنية باملعدن النفيس . وكما أشار “ر .مورشيسون” « ،فإنها أكثر املناطق إثارة للدهشة إلحتوائها على رصيد غري مسبوق من خام الذهب » ،ومل حتظ أى منطقة أخرى مبثل هذا الكم من املعادن » .وهلذا من املنطقي أن يكرر على « حممد إبراهيم » و« عيسي الدهشوري» ً تقريبا نفس كلمات عامل اجليولوجيا األوروبي الشهري « :أثناء حتركنا عرب نهر مياس على طول الوادى األخضر الزاهى ،انتابنا شعور بالدهشة بعدما رأينا خمبأ للذهب وسط منخفض من احلجر اجلريى ». 41 دورا ً لعب عامل الفلزات الروسي الشهري « ب .ب .أنوسوف » ً بارزا فى تطوير منظومة استخراج الذهب فى مناجم مياس .قام العامل الروسي بتشكيل الفوالذ ،وفى ما بني عامي ( ) 1847 - 1831ترأس منطقة تعدين زالتؤوست .وفى ظل الرئاسة أحتل مصنع مياس مكانة مميزة فى استخراج الذهب ليس فقط باألورال ،ولكن فى روسيا كلها .فقد استخدم فى مناجم مياس ماكينة جمرية الصنع ،باإلضافة إىل آلة ،مت اخرتاعها بواسطة الرئيس السابق ملصانع منطقة زالتؤوست « أ .أ .أجيت « ( .)1832 – 1775وكانت اآللة عبارة عن ماكينة غسل على شكل طسوط ذات أزرع لغسل الذهب .كان اإلجناز األبرز لـ “ب .ب .أنوسف” فى جمال استخراج الذهب هو تصميم آلة غسل الذهب ،والتى كانت تعمل بال توقف على مدار الدورية كلها ( 10ساعات ) ،بينما كانت النماذج األخرى تتوقف كل ثالث ساعات من أجل تنظيفها من الصخور العالقة .كانت اآللة ،التى اخرتعها “ب .ب .أنوسف” تغسل ما بني 16إىل 18بود رمال فى اليوم .هكذا حلت تلك اآللة حمل آالت الغسل - 40أنظر :مخطوطات جمعية محبي علوم الطبيعة باألورال .إيكاترينبورج، .1873المجلد األول .اإلصدار األول .ص.1 . - 41المسح الجيولوجي لروسيا األوروبية وسالسل جبال األورال؛ قام بوضعه سير روديريك إيمبي مورشيسون ،من وحي تأمالته ،التى كتبها بنفسه ،وإدوارد فيرنيل والكونت ألكسندر كيزرلينج //مجلة التعدين .1848 .العدد السابع .ص.41-42 . 50
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
السابقة والطريقة اليدوية فى غسل الرمال .كانت آلة غسل الذهب ،التى اخرتعها « ب .ب .أنوسف » تتكون من طسط به ثقوب ،ومثبت عند قاعدته بعوارض . كان الطسط حماط بآلة خشبية ،يوجد فى منتصفه مرتاس ،وفى وسط املرتاس ً تدرجييا من أعلى باستخدام اجلرافة .استخدم من زراع حديدى .كانت الرمال توضع أجل إضافة املياه إىل الرمال أنبوبتني حديديتني بفتحتني صغريتني على قـدر طـول الطـسط ،ومت تذويدهما بصنبورين .وبالقرب من الطسط مت وضع لوح حديدى به ثقوب ،تزال من فوقه احلصى الكبرية املغسولة ،ثم يعاد غسلها من جديد باملياه من املصفاه املزودة بالصنبور . كما استخدم ب .ب .أنوسف « سكة حديد » بقوة جر حصانية بطول كيلومرت لنقل الرمال إىل ورشة الغسيل .هذا الطريق وفر جهد كثري من العمال ،الذين كانوا ينقلون الرمال بعربات اليد.42 يشهد ذلك على ،أن حقيقة بقاء املهندسني املصريني فرتة طويلة فى منطقة تعدين زالتؤوست ،خاصة فى مناجم أتليان ( قرية فى منطقة مياس ) مل تكن من قبيل الصدفة .ففى هذا املكان قاد األخريان عملية تنقيب فى أبريل عام 1846 ً حتديدا كانت جبانب فرقة من منقبى الذهب احملليني .وعلى ضفاف نهر أتليان تعمل نفس « آلة » غسل الذهب ذات احملرك البخارى ،والتى ال يوجد مثيلتها سوى فى وادى مياس .وهلذا كانت آلة ب .ب .أنوسف أحد أهم األهداف ،التى وصل من أجلها املهندسان إىل مناجم مياس .مل تكن طريقة عمل اآللة هي فقط ما عرضه عامل الفلزات على الضيوف األجانب ،ولكنه أتاح هلم الفرصة لتصميم رسوم ً أيضا .وهكذا يكون قد نفذ أوامر وزارة املالية بتهيئة مجيع ختطيطية هلا الظروف للضيوف األجانب من أجل التعرف على الوثائق الضرورية املتعلقة بأحدث تقنيات التعدين .على حد وصف املؤرخني الروس « ،فإن ب .ب .أنوسف مل خيف تقنية متقدمة أخرى – وهي استخراج الذهب من الرمال عن طريـق التبـليد ( الصهر احلرارى .تعليق املرتجم ) »ً . 43 وفقا لشهادات املصادر ،نالحظ أن “أ .أ .أنوسف” كان ً ً متاما على التفاهم مع الضيوف األجانب :عرب املعلومات فى شهادة خترجه من قادرا املدرسة العسكرية ،فقد كان العامل يتقن اللغة األملانية ( بالطبع أقل كفاءة - 42أنظر :ف .ف .ماروزف .مدينة فى وادي الذهب .تشيليابينسك .1973 ،ص. 24؛ أي .أي .فيشيف .تقنية استخراج الذهب //مقاطعة تشيليابينسك :الموسوعة. تشيليابينسك .2004 ،ص.499 . - 43أ .ف .مانين .شريحة الذهب .إيكاترينبورج .1995 ،ص.110 . 51
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
من إتقانه للفرنسية ) . 44أرتأت قيادة املنطقة ضرورة أن يتعرف املصريون بصورة تفصيلية على رواسب منطقة نيكواليفسك ومنطقة ألكساندرسك .كانت رواسب مقاطعة نيكواليفسك امللكية تنتج فى املتوسط 15زولوتنيك ذهب ً إجنازا غري مسبوق .انتجت حلظة وصول املصريني كل 100بود ذهب ،مما ُاعترب رواسب املنطقتني ،اللتان اشتهرتا بوجود املعادن ،أكثر من 400بود ذهب .يشري “ر .مورشيسون” فى مذكراته ،أن « :وجود معادن بوزن ثقيل تعترب بشكل عام ظاهرة نادرة فى األورال ؛ إال أن أكثر املعادن املميزة بكرب حجمها كانت متواجدة فقط فى تلك املساحة احملدودة ،التى ترويها مياه نهر تاشكوتارجانك ( أحد أفرع نهر إيرميل فى مياس ) وخاصة فى رواسب منطقيت نيكواليفسك ألكساندرسك امللكية ». 45 بالطبع إطلع املهندسان املصريان على آلية سري العمل فى مناجم مياس للذهب . ً ً جليا أمام أعينهم بعد ذلك عند رؤية آالف منوذجا بالطبع ظل وادى الذهب مبياس السودانيني ،الذين اقتادوهم بأمر من حممد علي إىل ورشة غسل الذهب فى فازوغلي. ً ً اقتصاديا للمنطقة بأكملها .فقد مركزا فى ذلك الوقت ،كانت مناجم مياس كان يتوافد كل عام عشرات العمال من القرى اجملاورة للعمل حوذيني وفى حرف ً وكثريا ما كانوا يظهرون شتا ًء فى املناجم بدون املالبس الشتوية ،التى أخرى، ً ً كانوا يستلمونها من حساب املرتب .فقد كان العمل باملناجم شاقا جدا خاصة بالنسبة لفالحى األمس ،الذين مل يعتادوا على العمل فى التعدين .وهلذا ،مل يأت من قبيل الصدفة أن حياول الكثريون التخلص من هذا العمل ،مطالبني إعفائهم ً أسبابا خمتلفة ( مثل :مرض الزوجة ،شيخوخة من العمل فى مناجم مياس مدعني األب وغريها ) .46كان العمل فى مصنع زالتؤوست أفضل بكثري من غسل رمال الذهب فى ورش مياس . أثناء تواجد املهندسني املصريني يف منطقة تعدين زالتؤوست عام ،1846كانت األوضاع يف املناجم تسري بشكل طبيعي .خالفـًا ملا تعرف عليه املصريني من إجنازات يف جمال استخراج الذهب ،كان هناك بعض الظواهر ،بالتأكيد ،حاولوا - 44أنظر :جنرال التعدين بافل أنوسف /إصدار م .ي .جالفاتسكي. إيكاترينبورج .1999 ،ص.19 ،16 . - 45المسح الجيوغرافي لروسيا األوروبية وجبال األورال // ...مجلة التعدين. .1848العدد السابع .ص.46 . - 46أنظر :أرشيف منطقة تعدين زالتؤوست .صندوق .19فهرس .1ملف .1356 ورقة .31-48 52
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
إخفاؤها عنهم .فقيادة املنطقة ،اليت استقبلت الضيوف األجانب ،ال ميكنها أن ال تهتم بشأن قضايا أمنها .كما أن الوضع األمين يف منطقة املناجم كان غري مستقر. ً حتديدا قبل عدة أشهر من وصول املصريني ،كان علي مدار فصل صيف ،1845 البحث ً قائما يف غابات منطقة زالتؤوست عن عصابة «ضليعة يف جرائم السرقة والقتل» .ما أثار قلق رئاسة منطقة التعدين حلظة وصول املهندسني املصريني عدم العثور علي اجملرمني والتخلص من شرورهم :وهلذا كانوا يطلقون عليهم يف وثائقهم كما كان يف السابق «قطاع طرق من البشكرييني اجملهولني».47 ميكنك أن تتخيل مدي قلق القيادة احمللية من تعرض الضيوف األجانب ،الذي جاءوا « بتوصية عليا من اإلمرباطور » ،إلي خطر املوت علي األراضي التابعة ملنطقة تعدين زالتؤوست! وكما وقعت حوادث فظيعة باملنطقة ،فقد وقعت يف الوقت ذاته حوادث مضحكة .علي سبيل املثال ،يف شهر يناير من عام 1846أعلن احلوذي التابع إلدارة مصنع كوسا (مدينة يف مقاطعة شليبيانسك .تعليق املرتجم) – العامل هاديي أورفاتشوف عن فقدانه « ً طردا » حيتوي علي « سبعة أوراق مالية ونقود ُ بقيمة 75كوبييك من الفضة » عند عودته إلي كوسا ،أرسل من أجله إلي اإلدارة الرئيسية ملصنع زالتؤوست 48.واملدهش أن املهندسان املصريان سافرا علي نفس الطريق بعد شهرين... جيدر بنا احلديث عن أشهر الطرق الروسية يف ذلك الوقت .من الطريف أن إدارة مصنع زالتؤوست قررت االعتناء بقضية حتسني حالة الطرق باملنطقة يف نفس وقت تواجد املصريني باألورال .يف شهر فرباير عام 1846بدأت إدارة املصنع بالعمل علي طريق يف منطقة مناجم مياس .كان الطريق املمتد من مياس إلي قرية سريوستان (قرية يف منطقة مياس .تعليق املرتجم ) مير يف ذلك الوقت عرب أحد التقاطعات ،ومل يكن به أسوار « :يف فرتات الليل مل يلحق اخلطر باملارة فقط ،ولكن ً أيضا بالربيد لوجود منحدرات وتصدعات يف الشاطئ مما يعرض املركب للسقوط والتحطم حيت املوت» .يف الواقع كان مجيع ممثلي السلطة مهتمني بعدم تعرض الضيوف األجانب ،الذي القي وصوهلم استحسان مقام اإلمرباطور العالي ،للقتل بسبب مأساة روسيا املعتادة واملمثلة يف سوء حالة الطرق .أعلن رئيس الشرطة احمللية مبنطقة ترويسك (منطقة يف اجلزء الشمال الشرقي يف ألتاي .تعليق املرتجم) أنه تلقي ً أمرا - 47أنظر :أرشيف منطقة تعدين زالتؤوست .صندوق .22فهرس .1ملف .954 ورقة .49 - 48أنظر :نفس المرجع .ورقة .19 53
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
من حمافظ أورينبورج املدني «بتعبيد طريق الربيد ،حيت ال يوجد به أي حفر أو نقر تعوق مرور الربيد أو املارة».49 مع ذلك ظهرت حاجة ماسة لتعديل خطة استقبال الضيوف األجانب ،اليت قامت إدارة تعدين األورال بإعدادها من قبل .يتعلق األمر باجلانب املالي من رحلة “علي حممد إبراهيم” و “عيسي الدهشوري” إلي األورال .يف فرباير من عام 1846 أضطر وزير املالية إلخبار مفتش جبل بريج باألورال ،أن «مهندس التعدين ،العقيد كافاليفسكي املصاحب للمهندسني املصريني علي حممد والدهشوري عرب ورش الذهب باألورال أخطر غرفة أركان مهندسي التعدين ،أن النقود ،اليت استلمها من غرفة األركان بقيمة 1200روبل فضة إلنفاقها ،سواء علي نفسه أو علي املهندسني املذكورين قد صرفت كلها ،كما يطالب بتخصيص مبلغ إضايف ً ضروريا إصدار أمر بتسليم من خزينة مصنع إيكاترينبورج» .50وهلذا كان “ي .ب .كافاليفسكي” أموال إضـافـية «كـقـرض» من خـزيـنــة مــصـانـع إيــكاتــريـنبورج. ومت وضع كشف تقديري بنفقات رحلة املهندسني املصريني إلي األورال ،واليت أصبحت تقدر اآلن بأكثر من ألفني و 950روبل .يبدو أن السبب وراء إعادة تقييم كشف احلساب السابق يكمن يف عدم أخذ واضعيه عامل حسن الضيافة يف االعتبار .مع عدم توافر معلومات دقيقة خبصوص تكاليف السفر بني املناطق ً دائما ما كانت النفقات تقديرية يف تلك الظروف .يف فرتة السكانية املختلفة، ً تقريرا إلي تواجد املصريني باألورال أرسل موظف بهيئة التعدين كوزنيتسوف رئاسة أركان مصانع زالتؤوست «يستأذن» فيه توضيح «كم فريستا (وحدة قياس مسافة روسية تساوي 1066,8مرت .تعليق املرتجم) يبلغ طريق الربيد من مصنع زالتؤؤست حتى مدينة إيكاترينبورج» .51حيت تلك املعلومات مل تكن يف كثري من األحيان متوافرة لدي موظفي هيئة التعدين ،ناهيك عن األرقام الدقيقة ملصروفات الضيوف األجانبً . وفقا لشهادات مصادر األرشيف ،يف النهاية مت اقرتاض أكثر من 1780روبل إضافية من خزينة مصانع زالتؤوست :يف شهر مايو عام 1846توجب علي رئيس األركان بلوم نقل الضيوف املصريني ،الذين مكثوا يف األورال سبعة - 49أرشيف منطقة تعدين زالتؤوست .صندوق .22فهرس .1ملف .954ورقة .47-48 - 50األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .24لفهرس .23ملف .7101ورقة .16-17 - 51أرشيف منطقة تعدين زالتؤوست .صندوق . 22فهرس .1ملف . 954ورقة .22 54
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
ً مسبقا إلعاشتهم. أشهر ،إلي أوديسا بعدما استنفذوا مجيع األموال املخصصة ولكن حبلول شهر مايو عام 1846توجه رئيس هيئة تعدين مصانع زالتؤوست إلي مفتش جبل بريج باألورال – العقيد زلوبني بطلب تسليم األموال اإلضافية للصرف علي املصريني بقيمة 1781روبل و 93كوبييك من الفضة إلي اخلزينة مرة أخري ،أو يقوم زلوبني بطلب تقرير عن بنود صرف تلك األموال من رئيس األركان بلوم .52من املرجح أنه كان يأمل يف أن يتمكن بلوم من توفري بعض ً طويال ً جد ًا .يف يونيو عام « 1846استأذن» العقيد “ف .أ. املال .استمرت تلك القصة سامارسكي” من زلوبني باإلسراع يف تسليم تقرير مصروفات رحلة املصريني عرب روسيا .53يف سبتمرب عام 1846طالب زلوبني من سامارسكي إعادة املبلغ املطلوب – 1781روبل و 93كوبييك إلي مصانع زالتؤوست .ولكن اتضح أن رئيس األركان بلوم مل يقدم حيت اآلن تقرير املصروفات ،والذي ظهر فقط يف نوفمرب من عام ،1846وعلي كل حال كانت نتائجه مفاجئة لرئاسة هيئة التعدين. ً فائضا يف املصروفات بقيمة 44روبل و 6كابييك .وكما اتضح أن لدي “بلوم” فسر رئيس األركان نفسه ،فقد أنفق هذا املبلغ علي إعاشة املصريني يف أوديسا حيت تسلمهم اجلنرال فيودوروف -القائم بأعمال احلاكم العام لنوفوروسياسك (إحدي مدن روسيا الفيدرالية علي البحر األسود .تعليق املرتجم) وبيسارابيا (مصطلح يشري إىل منطقة جغرافية تقع يف أوروبا الشرقية حيدها من الشرق نهر الدنستري ومن الغرب نهر بروت .تعليق املرتجم) .جاء علي لسان بلوم أن األخري كان ً مضطرا يف بعض األحيان لإلنفاق علي الضيوف املصريني من حسابه اخلاص.54 وهلذا وافقت رئاسة هيئة التعدين علي تعويض بلوم عن تلك املصروفات. ولكن القصة كلها انتهت يف يوليو عام 1847بعد عامني من بدء رحلة املصريني إلي روسيا عندما أعيد املبلغ املزعوم – 1781روبل و 93كوبييك إلي مصانع زالتؤؤست. أعربت القيادة املصرية عن عرفانها لروسيا ،التى أتاحت الفرصة للمهندسني - 52األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .24لفهرس .23ملف .7101ورقة .23-24 - 53أنظر :نفس المرجع .ورقة .26 - 54أنظر :األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .24لفهرس .23 ملف .7101ورقة .33 55
املهندسون املصريون فى مشال األورال وجنوبه
بتعلم طرق التعدين .كما ثـمنت الدور الشخصى لـ «ي .ب .كافاليفسكي ». وهلذا ليس من قبيل الصدفة أن يرسل « حممد علي » هدية شخصية إىل العقيد ً وردا الروسي فى خريف عام 1846؛ وهي عبارة عن علبة تبغ مرصعة باألملاس . لتلك اهلدية أرسل « ي .ب .كافاليفسكي» إىل املتحف املصري جمموعة من معادن األورال. 55 بهذا الشكل انتهت امللحمة املرتبطة برحلة « علي حممد إبراهيم » و «عيسي الدهشوري » عرب روسيا .بعد ذلك قام « ي .ب .كافاليفسكي» ورفاقه بزيارة فى املقابل إىل مصر والسودان ،تسرد تفاصيلها إحدى خمطوطات « إيفان بارودين » فى األرشيف احلكومي ملقاطعة سفريدلوفسك .
- 55أنظر :ج .ف .جارياتشكين .مصر فى أعين الروس ...ص.253-255 . 56
الفصل الثاني بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر جاءت نتائج تدريب املهندسني املصريني فى األورال خميبة آلمال “حممد على” بشكل عام .توضح تقارير القنصل الروسى “ أ .م .فوكا ” املُقدمة إىل القسم اآلسيوى التابع لوزارة اخلارجية ،أن واىل مصر كان ينتظر بفارغ الصرب عودة الشابني املتخصصني فى التعدين إىل أرض الوطن من أجل اإلقدام على بناء ورش غسل الذهب فى البالد .1مع هذا ،كما يشري الباحث احمللى فى زالتؤوست “أ. ليربمان” « ،مل يسر األمر على هذا النحو » 2مبجرد عودة “على حممد إبراهيم” و “عيسى الدهشورى” .وذلك على الرغم من ،أنهما مل يعودا من روسيا خاليا الوفاض، بل كانت حبوزتهما مناذج آلالت غسل ذهب .مبجرد العودة من روسيا بدأ الشابان - 1أنظر :ج .ف .جارياتشكين .مصر فى أعين الروس ...ص.251 ، 247 – 246 . - 2أ .ليبرمان .األوراليون فى مصر //عامل زالتؤوست. 11 .1976سبتمبر. 57
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
املتخصصان العمل فى النوبة ( فى شهرى مارس وأبريل 1847فى فازوغلى ) . ً تقريرا إىل روسيا عن العمل الذى أجنزاه جبانب مناذج وبنهاية عام ، 1847أرسال من الذهب املُستخرج . وركز التقرير بشكل كبري على الدليل ،الذى يثبت أن منـطقة ( كاسان ) املوجودة فى فازوغلى هى األنسب لبناء ورشة غسل الذهب .يشري “عيسى الدهشورى” و “على حممد إبراهيم” فى وصفهما للمنطقة ،التى سرعان ما ستأتى إليها البعثة الروسية « :كاسان جبل يسكنه زنوج بارتاس ؛ ويقع فى جنوب شرق فازوغلى ويستغرق الوصول إليه مسرية يومني على طريق القوافل .على املنحدر الشرقى ً اتساعا ؛ حيث ينتشر على جانبيه نبات للجبل توجد إحدى أكثر البقع الزراعية رائع ،يطلق عليه السكان احملليون اسم طماطم ...على ُبعد 50أو 60دقيقة شرق املنطقة الزراعية تظهر مساحة شاسعة ،حيث يوجد خام الذهب بكميات كبرية . ً أيضا داخل أنقاض الصخور اجلبلية ،املغطاة بلون مائل ميكنك إجياد الذهب للحمرة وأكسيد احلـديد ...يقـع الذهب بالقـرب من الـسـطح عـلى عمق مرت واحـد ،كما أن حجم ذرات الذهب فى ضواحى كاسان ( التى تدعى القبضة ) مرضية إىل حد بعيد .كانت أقل كمية معدن مت استخراجها عند التنقيب حبجم بذور الربسيم أو نبات احلندقوق (احلندقوق اهلندى نوع نباتى ينتمى جلنس احلندقوق من الفصيلة البقولية ،وهو أحد حماصيل األعالف .تعليق املرتجم ) ؛ حتى أن تيار املياه مل جيرفها من فوق آلة الغسيل ؛ ومل يتم العثور إىل أية حراشف أو رقاقات ذهب ،أما القطع الكبرية تعادل حجم القنبلة أو أكرب .مت إكتشاف طبقات حتوى ً ذهبا فى مناطق عدة على عمق مرت واحد أو أكثر بقليل » . ً حتديدا قام املهندسان من أجل إثبات جدوى استخراج الذهب من منطقة كاسان املصريان الشابان بتوثيق تلك املعلومات .كما أوضحا ،أن التـجارب ،التى أجرياها تثبت إمكانية استخراج ً ذهبا بقيمة ما يقرب من أربعة قروش فى اليوم باإلستعانة بعامل واحد فقط ومعه “ معدات ثقيلة“ .وفى حالة إستخدام اآلالت أو الطسوط ، املستخدمة فى مناجم مياسك « ،ميكننا أن نعول بكل ثقة على عشرة أضعاف إنتاجية الفرد الواحد ».3 فى النهاية بإمكان آلة غسل واحدة أن تنتج فى اجململ ما ال يقل عن أربعني قرش ذهب فى اليوم .ويضيف املهندسان إمكانية بناء ورشة بطاقة ألفي عامل فى ضواحي كاسان ،وبهذا ميكن أن تتضاعف معدالت اإلنتاج مع الوقت .ومن - 3أ .ب .فالسكايا .ي .ب .كافاليفسكي والمهندسون المصريون ...ص.133 . 58
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
هذا املركز ميكن إجراء أحباث جيولوجية فى املناطـق اجملاورة ،حيث ميكن إكتشاف خمابئ جديدة للمعدن النفيس .ولكن كان ً لزاما على “ حممد على “ اإلنتقال فى أسرع وقت من مرحلة احلديث إىل مرحلة الفعل .وهلذا كان مضطراً ً جمددا من روسـيا .فى تلك األثناء أصبحت العالقات عام 1847لطلب املساعدة الروسية املصرية متالمحة بشـكل جيـعل مـن الصعب رفض طلب حممد عـلى ( كما حدث عام ، ) 1843على حد تعبري رئيس البعثة الدبلوماسية الروسية فى القسطنطينية ،التى أرتأي أنه « فى حالة عدم السماح لضباط هيئة التعدين بالتوجه هذه املرة إىل مصر » ،فمن الضرورى ،أن ُيعرض السفر إىل مشال شرق إفريقيا على مهندس متقاعد ذو خربة ليبدو األمر على أنه زيارة شخصية.4 إتفقت اإلمرباطورية الروسية ومصر فى النهاية على وصول جمموعة املتخصصني الروس وعلى رأسهم “ ي .ب .كافاليفسكي “ إىل مصر من أجل تطوير صناعات استخراج الذهب فى شرق السودان .بعث “ حممد على “ رسالة إىل املستشار الكونت ً تعبريا عن إمتنانه لروسيا ،جاءت كاآلتى « :مع شعورى بامسى ك .ف .نيسلرود ، معانى العرفان لكرم جاللته ،الذى أبداه ىل بشتى الوسائل ،أقدمت على مطالبة جاللته بإرسال مهندس لتفقد مناجم الذهب ،التى إفتتحت فى سنار .وليسمح ىل جاللته ،جبانب طلبى ،بالتعبري عن أمانى الطيبة لصاحب العصمة ،وقد علمت برضى بالغ أن العقيد التابع إلدارة مهندسى التعدين “ كافاليفسكي “ مت تعيينه للقيام بتلك البعثة. ً نظرا لتهيئتها أفضل الظروف املمكنة أدين بالعرفان حلكومة اإلمرباطورية ومساحها للطالبني املصريني ،اللذين أرسلتهما إىل روسيا ،بدراسة أحدث طرق إستغالل الرواسب التى حتوى الذهب .وازداد دينى وعرفانى جلاللته بعد اخلدمة اجلليلة ،التى أنعم عظمته ّ على بها ،كما أرجو صاحب العصمة أن يتقبل احرتامى وتقديرى .فليسعد اهلل أيامه! ».5 وكما أفادت التوصيات ،التى تلقاها “ ي .ب .كافاليفسكي“ ،قام األخري بإختيار خبري تعدين وعامل غسل ذهب ضمن محلته -وهم «أفضل العناصر من ناحية القدرات واملعرفة والسلوك ،وكانت األولوية لذوى البنيان القوى والعزاب ومن لديه عائالت صغرية » . 6واملُلفت للنظر أن رئاسة هيئة التعدين كانـت تـدرك ً ً طويال ،وتتعـرض خلـطر مميت ، جيدا ،أن الرحلة إىل مصر ميكن أن تستمر - 4أنظر :ج .ف .جارياتشكين .مصر فى أعين الروس ...ص.256 . - 5مصر فى أعين الروس ...ص.263-264 . - 6ب .أ .فالسكايا .رحلة إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي .ص.98 . 59
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
وهلذا أوصت الرئاسة “ إجيور برتوفيتش “ برتكيز االهتمام على اخلرباء ،غري املثقلني بأعباء أسر كبرية .وقع اإلختيار فى النهاية على خبري التعدين “ إيفان تروفيموفيتش بارودين “ وعامل غسل الذهب “ إيفان سافيليفيتش فومني “ .كان اخلبري فى ذلك الوقت ُيدعي أستاذ التعدين ،الذى يدير العمل باملناجم .حتى نهاية القرن الثامن عشر ،كانت كوادر املهندسني الفنيني فى صناعات التعدين ،سواء فى روسيا أو فى غرب أوروبا تقضى فرتة التأهيل على إستخدام “ وسائل عملية خبرية “ ،مثل التعلم الذاتى ،واستيعاب العلوم التقنية العاملية احلديثة بشكل مستقل ،والدراسة العملية لعلوم الفلزات والتعدين فى املصانع واملناجم 7.كان ً متناقضا وضع هؤالء فى اجملتمع الروسى فى النصف األول من القرن التاسع عشر ً ومزدوجا بشكل كبري .يشري الباحثون إىل أن الكوادر التقنية اإلدارية مل تنخرط فى البناء الطبقى للمجتمع الروسى .فلم يكن اجلميع يتمتع بنفس احلقوق، التى كانت تتباين ً تبعا للمصنع ،الذى يعملون به .فى مناطق التعدين اخلاصة كان وضعهم القانونى خيضع إلرادة مالك الضيعة .أهم ما كان مييز العمال من أغلبية السكان – هو إرتفاع أجر العامل .فبجانب األجر األساسى ،مت صرف وجبة ً ودائما ما كان العامل حيصل على ما يعادهلا فى شكل نقود .من الناحية طعام، ً القانونية مل يكن مسموحا بتقليص ساعات العمل ،وفى املناطق اخلاصة يتوقف هذا األمر على رغبة كل مالك.8 تشري وثائق أرشيف منطقة تعدين زالتؤوست إىل أن عائلة “ بارودين “ كانت مشهورة حلد كبري فى املصانع احمللية واملناجم فى األربعينيات. تقدر أعداد من حيملون اسم تلك العائلة فى « الكتاب الرمسى إلحصاء ً عامال .من بينهم ،على سبيل املثال “ ،أكيم أجور العمال واملؤن » سبعة عشر ً تروفيموفيتش “ البالغ من العمر تسعة وأربعني عاما ،و “ سريجي تروفيموفيتش ً عاما ،واللذان رمبا كانا أقارب بارودين “ البالغ من العمر مخسة ومخسني ًُ حتديدا أتهم أحد أفراد عائلة بارودين بسرقة بطلنا ( ،أو أخوته) .فى ذلك الوقت - 7أنظر :د .ف .جافريلوف .مصانع تعدين األورال القرن السابع عشر -القرن العشرين .إيكاترينبورج .2005 ،ص.116 . - 8أنظر :ف .ف .توروب .نظام إدارة مصانع التعدين الخاصة فى شمال األورال فى النصف األول من القرن التاسع عشر :ملخص رسالة ماجيستير التاريخ. إيكاترينبورج .1999 ،ص.23-24 . 60
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
الذهب من املناجم .9كان بعض العمال األخرين ،ومنهم على سبيل املثال “ أكيم تروفيموفيتش بارودين “ ،متواجدين فى مناجم الذهب لفرتة ترتاوح بني 200إىل 250يوم فى العام ،يعملون فى غسل الذهب .والبعض اآلخر ( على سبيل املثال، ابنه إيبيفان أكيموفيتش ) كانوا يقضون نفس املدة ( 250 - 200يوم ) فى ختزين اخلشب إلنتاج فحم اخلشب.10 كيف ميكنك االرتقاء لرتبة خبري تعدين فى ورش الذهب مبياس؟ توضح الوثائق أن اخلرباء املؤهلني فى مصنع زالتؤوست أحد الروافد الرئيسية إلمداد هذا الكادر .ففى عام 1849وقع االختيار على مساعد عمال ورشة العوارض فى مصنع زالتؤوست نيكاندر سيسويف لشغل الوظيفة الشاغرة خلبري تعدين املنطقة. 11 مر “ إيفان بارودين “ مبسرية حياة زاخرة حتى وصول املصريني إىل األورال .توضح “ ب .أ .فالسكايا “ ،التى عملت على ملف خدمة بارودين ،أنه ُولد عام ،1799 ً أيضا ابن عامل مبناجم النحاس ونشأ وسط عمال مصانع هيئة التعدين ،وهو التى ميلكها بيلوكوف .ألتحق إيفان باخلدمة فى مناجم التعدين فى مياس ، ً سائقا ،بعد ذلك وهو صبى فى الثانية عشر من عمره .فى البداية عمل بارودين أصبح عامل تعدين يف مصانع خمتلفة .ومنذ عام 1824دأب “ إيفان بارودين “ ذو ً ربيعا على العمل فى ورش الذهب ً : أوال كعامل خدمات خاصة، اخلمس والعشرين ً ونظرا “ ثم خبري صف .وفى عام 1836أصبح “ إيفان تروفيموفيتش “ خبري تعدين . إلخالصه املميز وخدماته اجلليلة “ ُمنح إيفان عام 1845قالدة فضية حتمل شعار ً تقديرا لإلخالص فى العمل” حلملها على رقبته فوق وشاح القديسة ّآنا ( 12وهو “ وسام منحه اإلمرباطور بافل األول ملوظفى الدولة واحملاربني املميزين عام . 1797 تعليق املرتجم) .تشري ب .أ .فالسكايا ،أن « أ .بارودين ،صاحب القامة الطويلة واألعني الرمادية وشعر وحلية صهباء ،يتميز عن عمال األورال خبرباته ومعارفه». 13 - 9أنظر :أرشيف منطقة تعدين زالتؤوست .صندوق .19فهرس .1ملف .1313 ورقة1-12؛ أرشيف منطقة تعدين زالتؤوست .صندوق .22فهرس .1ملف .937 ورقة .23 ،17 - 10أنظر :أرشيف منطقة تعدين زالتؤوست .صندوق .22فهرس .1ملف .937 ورقة .17-18 - 11أنظر :أرشيف منطقة تعدين زالتؤوست .صندوق .22فهرس .1ملف .1089 ورقة .27 - 12أنظر :إي .يو .نيفرايفا .بعثات عمال إستخراج الذهب فى مياس ...ص.80-81 . - 13ب .أ .فالسكايا .رحلة إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي .ص.98 . 61
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
كان “ إيفان تروفيموفيتش بارودين “ يتمتع خبربة فى البعثات اخلارجية قبل ً طبقا للوثائق ،فإنه أثناء تواجد املهندسني املصريني فى زالتؤوست سفره إىل مصر . ً ً ً عام 1846حتديدا ،كان أي .ت .بارودين مبعوثا بصحبة صديقه ،خبري التعدين ً ً ً وصديقا إليفان توفيموفيتش فى العمل ) “ أيضا ، خبريا أ .ك .كريسني ( كان بتصريح من رئيس جملس اإلدارة “ إىل بوخارست “ للتنقيب عن الذهب “ .تؤكد “ أي .يو .نيفرايفا “ أن خبري تعدين مصنع مياس ياكوف ريزانسكي كان من ً حائال ضد ذلك. 14 املفرتض أن يسافر بصحبة بارودين ،إال أن سنه الكبرية وقف مل تأت رحلة “ إيفان تروفيموفيتش بارودين “ إىل مملكة الدوناي من قبيل الصدفة .فقد بدأ عمل املتخصصني الروس فى إستخراج الذهب هنا منذ عام .1808 فاخلطوات املُتخذه على طريق التنقيب عن املعدن النفيس فى مالدوفيا وفاالخيا ( منطقة تارخيية فى رومانيا ،وتقع فى مشال نهر الدانوب .تعليق املرتجم ) أعتمدت على املعلومات اخلاصة بتواجد اجليش الروسى هناك .من الواضح أن بعض الغجر احملليني كانوا يعملون على جتميع رمال الذهب .وفى يناير من عام 1811وصل ذهب فاالخيا إىل بطرسبورج ،حيث قام املتخصصون الروس بتقييم مدي جودته. 15 سعت روسيا أثناء الصراعات العسكرية مع اإلمرباطورية العثمانية إىل إضعاف ً ووفقا الرقابة الرتكية على مالدوفيا وفاالخيا بهدف تقوية نفوذها فى املنطقة . ملعاهدة آق كرمان ( مدينة فى مقاطعة أوديسكا فى أوكرانـيا .تعلـيق املتـرجـم ) املربمة عام 1826بني روسيا وتركيا ،وافقت األخرية على إعادة احلكم الذاتى ملالدوفيا وفاالخيا .كما أحتل اجليش الروسى ممالك الدوناي فى إطار احلرب بني روسيا وتركيا خالل عامى 1828و . 1829وثبت اإلحتالل الروسى أقدامه على تلك األراضى من خالل إتفاقية أدرنه ( مدينة فى مشال غرب تركيا ) للسالم عام . 1829ولكن متكن أمحد باشا ،أثناء مباحثاته فى سانت بطرسبورج عام ، 1834من احلصول على موافقة روسيا من أجل إجالء قواتها عن مـمالك الدونـاي . وفى املقابل ال يتقلد ملنصب السلطان سوى أحد املرشحني ،الذين تقرتحهم روسيا . كانت اإلمرباطورية العثمانية مضطرة لتأييد نظام املمالك اإلدارى ،والذى إختذته دوواوين مالدوفيا وفاالخيا. 16 - 14أي .يو .نيفرايفا .بعثات عمال إستخراج الذهب فى مياس ...ص.80 . - 15أنظر :ف .ف .دانيليفسكي .الذهب الروسى .تاريخ إكتشافه واستخراجه حتى منتصف القرن التاسع عشر .موسكو .1959 ،ص.293 . - 16أنظر :ن .س .كينيابين .سياسة روسيا الخارجية فى النصف األول من القرن التاسع عشر .موسكو1963 ، 62
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
مع هذا بقى عدد ال بأس به من الروس على أراضى مالدوفيا وفاالخيا حتى بعد جالء القوات الروسية .من املعروف أن اإلدارة الروسية كانت تعمل بفاعلية فى مالدوفيا وفاالخيا أثناء املعارك الروسية الرتكية .خالل النصف األول من القرن التاسع عشر كان يعيش ويعمل كثري من احملاربني واملوظفني الروس . 17مع هذا ، ً وفقا رأى بعـض الباحثـني الـروس ،فقد فقدت روسيا التعاطف السياسى من جانب مقاطعات حملية عدة ،فى الوقت الذى كانت تلعب فيه « دور من يزود عن ممالك الدوناي ولكن بقبضة حديدية » ،مما ساعد على توجه تلك املقاطعات مرة أخرى إىل الغرب وحتى إىل تركيا نفسها » . 18من املدهش أن قطاعات خمتلفة من سكان مالدوفيا وفاالخيا تعاملت بشكل متباين مع ممثلى روسيا .كان على إيفان بارودين وصديقه اإلصطدام ،على ما يبدو مع هؤالء ،الذين ارتأوا عدم جدوى وجود روسيا يف تلك املنطقة . كان السبب وراء سفر بارودين وكريسني إىل بوخارست له عالقة بظهور مجعية « للمناجم وتعدين الرواسب احلاملة للذهب واملعادن األخرى » فى فاالخيا وعلى املنحدر الشرقى جلبال كاربات ( سلسة جبال متتد فى أوروبا الوسطى والشرقية ، وبنسبة عالية فى رومانيا .تعليق املرتجم ) .وبعدما منا لعلمه أن اجلمعية حباجة إىل مهندس تعدين حمرتف ،سرعان ما وافق ي .ب .كافاليفسكي على السفر إلي فاالخيا .وفى عامى 1843و 1844قام األخري بتفقد منطقة نهر لوترو ً حبثا عن ً مباشرة. الذهب قبيل وصول خرباء األورال تشهد الوثائق :أنه فى الفرتة ،التى كان إيفان بارودين وصديقه كريسني متواجدين فيها فى بعثة خارجية ،مل تنس إدارة منطقة تعدين زالتؤوست االعتناء ً أمواال وسلمتهم دقيق اجلودار ( 19يتميز بلون داكن بأسرهم ،إمنا دفعت هلم ونكهة أقوي من الدقيق األبيض .تعليق املرتجم ) . وعلى أية حال ،فى الوثائق املتعلقة جبميع أنواع املصروفات ،التى أنفقتها منشآت منطقة تعدين زالتؤوست عام ، 1846وردت أمساء أبطال آخرين عن موضوع حديثنا. - 17أنظر :ف .يا .جروسول .روسيا خارج الحدود فى النصف األول من القرن التاسع عشر .موسكو .2008 ،ص.92-94 . - 18تاريخ السياسة الخارجية لروسيا .النصف األول من القرن التاسع عشر... ص.342 . - 19أنظر :أرشيف منطقة تعدين زالتؤوست .صندوق .19فهرس .1ملف .1330 ورقة .16-39 63
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
فعلى سبيل املثال ،حصل قائد األركان بلوم ،الذى رافق املهندسني املصريني من زالتؤوست إىل أوديسا ،على أدوية من صيدلية األسلحة بقيمة 57كوبييك . كما توجب عليه دفع ثالثة روبالت و 48كوبييك مقابل اخلشب املستخدم فى تدفئة غرفته .باإلضافة إىل مرافقة املصريني كان بلوم يقوم بتنفيذ بعض مهام الرئاسة فى منطقة تعدين زالتؤوست عام . 1846وهلذا مل يكن صدفة أن ُيطالب برد روبل وربع كوبييك إىل اخلزينة مقابل املصاريف الزائدة على إصالحات 20 الكبارى والطرق ،التى قام بها العمال ( أمام الواليات ) حتت قيادته املباشرة . استمرت البعثة التى قام بها بارودين وكريسني إىل فاالخيا مدة عامني ،ثم عاد األخريان إىل األورال فى مايو عام . 1847فى ذلك الوقت إتضح أن بانتظار إيفان تروفيموفيتش رحلة أكثر ً بعدا ( إىل مصر ) . كان متخصص غسل رواسب الذهب “ إيفان سافيليفتش فومني “ رفيق بارودين ً وفقا ملا أورده أ .ج .كازلوف فإن فومني -عامل سابق فى مناجم فى تلك الرحلة . بريوزوف ،ثم عمل بعد ذلك فى مياس وساعد “ب .ب .أنوسف” فى إنشاء آلة لغسل ً الذهب .وكان يصغر إيفان تروفيموفيتش بعشرين ً تقريبا ( ُولد عام )1818 عاما ً أيضا إىل عمال مصانع هيئة التعدين .فى عام ، 1836عندما كما يرجع أصله ً مراسال فى مناجم مياس ،بعد أصبح بارودين خبري تعدين ،كان فومني يعمل ً أعماال كثرية فى املنجم .إال أنه مل يكن يتمتع بنفس اخلربات ، ذلك مارس التى يتمتع بها صديقه :يبدو أن إيفان بارودين هو األكرب فى السن هذه املرة . كان خرباء صناعات الذهب فى مياس على مستوي عاىل من الـكفاءة ،حتى أن أعماهلم الفنية كانت زائعة الصيت فى أحناء اإلمرباطورية الروسية .وهلذا كانوا يسافرون أكثر من مرة فى بعثات عمل إلستغالل خربتهم خارج حدود منطقة تعدين زالتؤوست .تشري “أي .يو .نيفرايفا “ أن خرباء التعدين وعمال غسل الذهب فى مناجم ذهب مياس كانوا يعملون بشكل مؤقت فى مقاطعة إيكاترينبورج وجنوب القوقاز وحمافظة أولونتس ( أولونتس هى إحدى مدن روسيا فى الكيان الفيدراىل الروسى مجهورية كاريليا .تعليق املرتجم ) وغريها فى األربعينيات وبداية مخسينيات القرن التاسع عشر .أدي انتشار تلك الظاهرة إىل وضع قواعد جديدة فى املناجم لتنظيم مثل تلك البعثات ،حيث ألزمت أصحاب املصانع املستفيدة 21 من العمال بضمان كفالة للخرباء وألسرهم على حد سواء . - 20أرشيف منطقة تعدين زالتؤوست .صندوق .19فهرس .1ملف .1330ورقة .16-39 - 21أنظر:أي .يو .نيفرايفا .بعثات عمال استخراج الذهب فى مياس فى النصف األول من القرن التاسع عشر .تاريخ ذهب مياس .ص.79-80. 64
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
ولكن تعترب البعثة إىل مقاطعة إيكاترينبورج أمر ،والبعثة إىل مصر أمر ً متاما .مل يسافر خرباء تعدين مياس إىل هذه املسافة البعيدة من قبل! وهلذا خمتلف ً السبب مت التعامل مع األمور املالية املرتبطة بتلك الرحلة بشكل خمتلف متاما . إقرتح رئيس أركان مهندسى التعدين ختصيص « مرتب من اخلارج» خاص لكل املشاركني فى احلملة :ليحصل « ي .ب .كافاليفسكي» فى الشهر على 50ورقة من فئة العشر روبالت ،و “أي .ت .بارودين” على 6روبالت ،كما سيحصل “أي .س. فومني” على أربع ورقات فى الشهر (« أكثر مما كانوا يتقاضونه فى الداخل ً وفقا لقوانني التعدين ») .فقد مت ختصيص مبلغ ماىل مقابل مصاريف التنقالت للسفر ً خالفا لذلك ،تلقي “ي .ب .كفاليفسكي” عرب أحناء روسيا وخارج حدودها. 250ورقة من فئة العشر روبالت « للمصاريف الطارئة وانتقال موظفى التعدين بعد ذلك من اإلسكندرية وحتى خمابئ رواسب الذهب ولشراء األدوات للباحثني العلميني وغريها» .بشكل عام شكل إمجاىل ما مت ختصيصه لرحلة ي .ب. كافاليفسكي وجمموعته إىل مصر أكثر من 7آالف و 960روبل من الفضة. 22 بدأت رحلة إيفان بارودين وأصدقاءه إىل أفريقيا من زالتؤوست .منذ تلك اللحظة ً حتديدا بدأت قصة خبري صناعات الذهب باألورال ،على خطى تقاليد أدب الرحالت الروسى فى نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين .فالسطور األوىل من تلك القصة ختلف فى ذاكرة القاري الروسى نفس اإلنطباع عند قراءة النموذج الكالسيكى للذكريات الوطنية ،مثل « رسائل رحالة روس » للكـاتب واملـؤرخ ن .م .كارامـزيـن .فى تلـك األثنـاء كان الشغـل الشاغـل للمسـافرين الـروس ،كما جرت العادة ،نقل همومهم األوىل حتى قبل أن يتخطوا احلدود الرمسية لإلمرباطورية الروسية .فبمجرد خروجهم إىل الربارى الشاسعة ،ظلوا يعانون من احلالة املزرية للطرق ،مما صعب حركة تنقل الفريق عليها ومن جشع نظار احملطات واحلوذيني . إمتد طريق البعثة من زالتؤوست إىل أوديسا -أكرب ميناء روسى ،تتحرك خطوط ً ضروريا الوصول ً أوال النقل منه فى إجتاه البحرين األسود واملتوسط .23ولكن كان إىل زالتؤوست ،فاملسافة بينها وبني زالتؤوست أكثر من ألفني و 990فرستا .وفقاً لتقديرات بارودين فقد أنفق 97روبل و 93كوبييك من الفضة على اجلوادين زيادة عن املبلغ احملدد .ولكن تقف وراء تلك األرقام الزهيدة صورة حية ملسرية ما - 22أنظر :ج .ف .جارياتشكين .مصر فى أعين الروس ...ص.260 . - 23عن أهمية أوديسا باعتبارها ميناء تجارى كبير .أنظر :و .سكالكوفسكي. السنوات الثالثون األولي من تاريخ مدينة أوديسا .1795-1825 .أوديسا.1837 ، 65
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
يقرب من ثالثة آالف فرستا عرب الطرق الروسية فى القرن التاسع عشر ،وكذلك مسرية نضال ضد تعسف نظار احملطات . وهلذا تعمد « إيفان بارودين » تذكري من نـسي مـن قـراء مـذكـراتـه املفـرتضـني ،كيف كانت تسري تلك األمور فى العادة « :ليس مجيعكم يعرف كيفية السفر بأحصنة الربيد ؛ فاملوظفون ميرون دون أية صعوبات ،بل يعاملون باحرتام وعدم تعسف فى كل احملطات .أما بالنسبة للبسطاء أمثالنا ،فاألمر غاية فى الصعوبة – والصعوبة ليست فى الطقس السيء وال فى إهتزازات املركبة .ما ال ميكنك حتمله الصراع مع نظار احملطات ،الذين يتقاضون على اإلسرتاحة على حسب فصول العام ،فعلى سبيل املثال فى فصل اخلريف يتزود املسافران حبصان ثالث ،وهلذا يتقاضون مقابل ثالثة أحصنة ،إال إننى دفعت مقابل أثنني فى كل حمطة .وهلذا ينشب اخلالف وتتعاىل الصيحات مع النظار . 24» ...وبالطبع أورد « إيفان تروفيموفيتش » تلك القصة ،ليس فقط من أجل أن يرسم لقارئه صورة حية عن الظروف ،التى واجهها فى مستهل رحلته .يبدو أنه كان يعول على وصول تلك الفقرة إىل موظفى منطقة تعدين زالتؤوست واملنشآت األخرى ،الذين شاركوا فى تنظيم تلك البعثة .وكما هو احلال بالنسبة لرحلة املهـندسني املـصريني إىل األورال ،يظل السؤال الرئيسى ،ما هى الضمانات املالية هلذا اإلجراء؟ كالعادة فى مثل تلك احلاالت سعت السلطات الروسية إىل التوفري من خالل تقليل نفقات التنقالت إىل أقصي حد .ولكن جاءت النتائج مماثلة لتلك ،التى إرتبطت بوصول املصريني إىل األورال :يبدو أن النقود ،التى ُخصصت لتلك الرحلة كانت غري ً وفقا ملا قاله إيفان بارودين ،فقد اضطر فريق البعثة لدفع نقودهم 10 كافية . روبالت و 40كوبييك من الفضة فى حمطات الربيد حتى قبل ختطى حدود روسيا!
أوديسا ً يوما عرب فى النهاية وصلت البعثة إىل أوديسا بعد مسرية ثـمانية عشر اإلمرباطورية الروسية .يذكر “إ .ت .بارودين” ،أنهم وصلوا إىل أوديسا ليلة ً متواجدا فى جنوب الثالثني من أكتوبر عام . 1847وبالطبع كان خبري األورال روسيا أثناء قيامه بالبعثة إىل مالدوفيا وفاالخيا .بعثت أوديسا فى نفس اخلبري روح املقارنة ؛ فعندما قام بوصفها ،تداعت فى ذهنه صور املدن اجلنوبية األخري - 24األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .1-2 66
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
باإلمرباطورية ،وعلى األرجح صور املراكز اإلدارية واإلقتصادية ملمالك الدوناي ً ً إنطباعا بأنها «أفضل أيضا .وبشكل أو بآخر أثارت أوديسا فى نفس خبري التعدين مدينة جتارية على خليج البحر األسـود » ،وخـلفـت فـى ذاكرته صـورة « امليناء العسـكرى والـتجارى » .توضح مذكرات بارودين أن خبري استخراج الذهب كان يراقب احلياة فى ميناء أوديسا برضا « :يا له من مشهد خالب ،تنظر من الشاطئ إىل امليـناء والبحر ،ميتلئ سطح البحر حبركة لسفن تتواري عن األنظار ( تعليق أ .ف. أنتوشني ) وأخرى تصل بأشرعتها املفرودة الشاخمة . ً ً ً مدهشا أن تنظر إىل كل هذا! » . وإيابا فى امليناء ...كم هو ذهابا يتحرك الناس كان خبري التعدين باألورال حيب التجول عرب املدينة فى أوقـات الفـراغ .وانطبعت فى ذاكرته صورة احلدائق املزروعة فى املدينة ( «غابة غناء جبميع األشكال » ) ،و« كثري من املبانى الرائعة » ،ومدرسة ريشيليفسكي ( مؤسسة تعليمية فى أوديسا أنشأها اإلمرباطور أسكندر األول عام . 1817تعليق املرتجم ) ،وبالطبع تذكر أحد من أهم معامل أوديسا ؛ أال وهو النصب التذكارى ملؤسس املدينة ،الفرنسى « ديوك دي ريشيل» .ألقي خبري التعدين باألورال الضوء على وفرة مواد البناء لعمل املهندسني املعماريني « :وما سهل من عملية بناء املنازل هو قرب مناطق تكسري واستخراج الطوب من املدينة نفسها على شاطئ البحر » .أشاد خبري التعدين ،حبس املتخصص، أن « الطوب فى تلك املنطقة قابل للصقل والتشكيل وحتى نشره باملناشري». 25 فى النهاية ترك البناء املعمارى ألوديسا أثره على إيفان تروفيموفيتش :يشري إىل أن « املبانى احلجرية رائعة ،كما أن الشوارع مرصوفة باحلصب» .فى املدينة رأي بارودين مبانى مدرسة التجارة ومسرح ومتحف آثار منطقة نوفوروسايسك . ولكن يبدو أن البعثة مل تقض وقتها فقط فى اإلستمتاع جبمال تلك املدينة ً سابقا ،أنها اجلنوبية ؛ وهى آخر منطقة مأهولة بالسكان ،بل ،كما أوضحنا املنطقة ،التى تسببت هلم فى كثري من الصعوبات قبل بداية رحلتهم الطويلة إىل مشال شرق أفريقيا .فى تلك الظروف كانت لديهم رغبة كبرية ،بال شك، فى اإلستمتاع بشعور التواجد على أرض الوطن آلخر مرة .مع هذا جرى فى نفس الوقت اإلعداد لرحلة مصر .حينها وقف احلظ إىل جانبهم :فقد تعرف املشاركون فى احلملة على ياور كتيبة احلجر الصحى « بيرت دمييرتيفتش كيسليف » ، ً ً تقريبا ،وهلذا كانت متواجدا فى أوديسا .قضى األخري فى مصر يومني الذى كان لديه الكثري من األمور املهمة لريويها ألعضاء بعثة ي .ب .كافاليفسكي ،حتى - 25األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .2 67
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
تتكون لديهم فكرة مسبقة عن مصر .وطاملا مل تطأ قدم أى من أعضاء الفريق ً سابقا ،فقد كانت هذه املعلومات مهمة إىل حد بعيد .يذكر إيفان بارودين مصر أن « ب .د .كيسليف» أرشدنا إىل كيفية وقاية أنفسنا من األمراض . ً أوال :عدم إلقاء القبعة الروسية حتى مع حرارة اجلو ومحاية أنفسنا من نزالت الربد، وعدم اإلفراط فى الطعام واحلرص على توافر أفضل األدوية فى أماكن العمل » « .وقد إتبعنا إرشاداته» ،26كما يشري خبري تعدين األورال .وسنرى فيما بعد ،أن نصائح ياور كتيبة احلجر الصحى مل تنقذ احلملة من األمراض اخلطرية ،ولكنها رمبا ساعدت أعضاءها على حتمل مشقة السفر عرب الصحراء ،والوقاية من بعض املخاطر النامجة عن تعرض سكان مناطق األورال الباردة فى طقس أفريقيا غري املعتاد . إنتهت مدة األسابيع الثالثة -فرتة تواجد البعثة فى أوديسا -وحان الوقت للرحيل عن أرض الوطن .فى 21من نوفمرب عام « 1847هبط أعضاء فريق ي .ب. كافاليفسكي من أعلى اجلبل بإجتاه سفينة البعثة «خريسانوس»» وحصلوا على التذاكر .رأي إيفان تروفيموفيتش أنه من الضرورى اإلشارة إىل « أنهم قاموا بدفع 20وربل فضة للمكان الثانى (على ما يبدو أنه يعنى الدرجة الثانية – تعليق أ .ف .أنتوشني ) » . 27من خالل ذلك سعي خبري التعدين فى األورال أن يوضح لقارئ مذكراته من موظفى منطقة تعدين زالتؤوست أن البعثة كانت ُمضطرة لتحمل نفقات إضافية . ً مسافرا فى إطار إتفاقيات على الرغم أن فريق ي .ب .كافاليفسكي كان تعاون حكومية ،إال أن أعضاءه خضعوا لفحص مجركى دقيق .يذكر بارودين: « قامت السلطات اجلمركية بفحص مجيع أمتعتنا ،بعد ذلك اصطحبنا املندوب اجلمركى عرب الغرفة ،حيث يوجد فى منتصفها قضبان حديدية ،ثم اصطحبنا مندوب آخر » .بعد ذلك وجد أعضاء البعثة أنفسهم عند مدخل السفينة .قام احلراس (حرس امليناء ) بتوصيل مجيع أغراض املشاركني ثم نقلها إىل السفينة . صعد إيفان بارودين وأصدقاؤه على ظهر السفينة لالستمتاع باملنظر الطبيعى املمتد بعد أن نقلوا األمتعة إىل السفينة .وفى السادسة مسا ًء بدأت السفينة باإلحبار من ميناء أوديسا وعلى متنها أعضاء فريق كافاليفسكي .ظل خبري التعدين فى األورال مدة طويلة يتذكر حلظة مغادرة أرض الوطن « :وقفنا على ظهر السفينة - 26األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .2-3 - 27نفس المرجع .ورقة .3 68
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
نستمتع مبنظر املدينة ،التى تقع على منطقة مرتفعة ،تغرب الشمس من ورائها وضوئها يبدأ فى التالشى .تتألأل أضواء نوافذ املنازل فى إجتاهات خمتلفة ،وكلما إبتعدنا عن الشاطئ ،كلما ازداد انعكاس تلك األضواء على سطح البحر .بدت الصور معربة ؛ فمن مل يسبق له رؤية تلك الصور فى حياته ينتابه شعور بالضحك . أنه حنن . 28»... هبت رياح خفيفة وانتشرت السحب فى السماء وسقطت أمطار خفيفة .أصبحت السفينة وسط أمواج البحر املتالطمة .سار طريق البعثة عرب القسطنطينية ،أو ً قدميا « مدينة القيصر » .حتمل املدينة هذا كما تعود الروس أن يطلقوا عليها االسم فى مذكرات خبري التعدين البسيط “إيفان تروفيموفيتش بارودين” ،والذى ترتبط هذه املدينة فى ذاكرته باملالحم واألساطري الروسية القدمية . فى تلك األثناء كانت السفينة تقطع املسافة من أوديسا إىل عاصمة اإلمرباطورية العثمانية فى 40ساعة – أى أكثر من ثالثة أيام .كانت هذه الرحلة جتربة شاقة بالنسبة لألوراليني مثل « إيفان تروفيموفيتش بارودين » وصديقه « فومني » ،إذ أنهم مل يتعودوا على السفر عن طريق البحر .مبجرد االبتعاد عن شاطئ أوديسا بدأت السفينة فى التمايل بشدة .فى تلك األثناء ُدعي أعضاء فريق ي .ب. كافاليفسكي لتناول العشاء .ومبا أنه كان وقت الصيام ،جلس اخلمسة على مائدة الطعام .إال أنهم مل يتمكنوا من تناول الطعام .يصف إيفان بارودين ،الذى مل يتعود على مثل تلك املعاناة ،مدي املتاعب التى سببها هلم دوار البحر « :كان من الصعب تناول الطعام ،بدأت أشعر بدوار وغثيان ،بدت وجوهنا شاحبة ...إذا أردت التحرك فى السفينة ال ميكنك أن تصل ً أبدا إىل وجهتك احملددة ألنك ترتنح فى كل إجتاه ؛ فاألمواج تتالعب بالسفينة » . 29بالطبع كان الرحالة احملنكون، مثل رئيس البعثة ي .ب .كافاليفسكي ،على دراية تامة مبثل تلك الظروف .أما ما يتعلق ببارودين ،خبري تعدين الذهب البسيط ،بدا كل هذا مبثابة املفاجئة ، بل ومعاناة بالغة الصعوبة . ً جمددا مل يستطع إيفان تروفيموفيتش أن يفوت تلك الفرصة قبل أن يشتكى من املصاريف الطارئة ،التى حتملها املشاركون فى البعثة .فعلى الرغم أنهم مل ُ ً ً كامال مقابل وجبيت الغداء والعشاء « : تقريبا ،إال أنهم دفعوا املبلغ شيئا يأكلوا عندما الحظ املندوب عزوفنا عن الطعام ،قال :حيت إن مل تأكلوا ،جيب عليكم الدفع ،فهذا ال يعنيين فى شئ » « .يقول بارودين بإمتعاض :على الرغم أننى مل - 28نفس المرجع .ورقة .3 - 29نفس المرجع .ورقة .4 69
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
أتناول خالل يومني ( تعليق .أ .ف .أنتوشني) بأكثر من ستة كوبييك من الفضة ، إال أننى دفعت روبالن وعشرة كوبييك من الفضة» . 30مبجرد أن دخلت السفينة خليج البوسفور « إنتهت كل املعاناة » وصعد املشاركون فى البعثة إىل سطح السفينة ملشاهدة « القري واملروج اخلضراء ».
إسطنبول وصلت البعثة إىل عاصمة اإلمرباطورية العثمانية فى الثانية عشر من ظهر الثالث والعشرين من نوفمرب .رأي املشاركون فى احلملة صورة ،سيتمكن من رؤيتها أكثر من مرة كل من سيسافر من روسيا إىل إسطنبول فى القرنني التاسع عشر والعشرين .سرعان ما جتمعت املراكب الصغرية حول السفينة ( يذكر بارودين « أن ال يوجد حيت مرت فارغ » ) ،يتنافس أصحابها على نقل الركاب إىل الشاطئ مقابل أجر .ركب أفراد فريق « ي .ب .كافاليفسكي « أحد تلك املراكب ،الذى كان صاحبه يونانى اجلنسية ،وقام بنقلهم إىل الفندق ،بعد ذلك انتقلوا إىل قصر املبعوث الروسى . كانت الرحلة البحرية من أوديسا إىل إسطنبول شاقة على بارودين ورئيسه. يذكر إيفان تروفيموفيتش بعد ذلك « :عندما حتركنا من املرفأ إىل الفندق، توقفنا سبع مرات لإلسرتاحة مع العقيد كافاليفسكي .فقد انهكتنا الرحلة على منت السفينة » . 31كانت إسطنبول ،حيثما وصلت بعثة ي .ب. كافاليفسكي ،بالنسبة إليفان بارودين املدينة التى مسع الكثري عنها ،كما ً ً قائال « :فى تلك مجيعا .يكتب خبري التعدين عنها ، هو احلال بالطبع للروس األثناء كانت عاصمة القياصرة اليونانيني القدامي» منذ فرتة املدينة الرئيسية داخل اجلسد املهلهل لإلمرباطورية العثمانية .يتذكر بارودين « قصر السلطان حبدائقه » « الذى ميتد عربه جسرين إىل الشارع » « :األول مغلق باألستار ،والثانى مفتوح » . من املؤكد أن زوجات السلطان متر عرب اجلسر األول .ويضيف بارودين أن حتت ً وقريبا من هذا املكان الحظ اجلسور ميتد ممر مفتوح على الشارع ملرور املركبات. ً ً مجيال من املرمر :قلعة حيتوى على سبعة أبراج » .متكن مسجدا اخلبري األوراىل « - 30األرشيف الحكومى لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .4 - 31نفس المرجع .ورقة .4 70
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
بارودين من رؤية أحد املعامل املسيحية األسطورية املقدسة فى الشرق ،املعبد السابق للقديسة صوفيا .وبالطبع مل يفوت املواطن الروسى األرثوذكسى فرصة شراء هدية تذكارية صغرية كذكري زيارته هلذا املكان الرائع .وحلسن احلظ ،عندما ً متواجدا فى إسطنبول « ،كانوا يرممون كان فريق ي .ب .كافاليفسكي القبة الوسطي » للمعبد ،وهلـذا «متكن بارودين من احلصول على بعض األحجار الصغرية الرخيصة من الزخارف القدمية » ،التى كانت تزين حوائط كاتدرائية القديسة صوفيا .كانت هذه األحجار الصغرية تسقط مع الزخارف جراء كسر القبة ،على حد قول خبري التعدين األوراىل . ً أيضا مقربة سلطان اإلمرباطورية العثمانية « تذكر إيفان تروفيموفيتش حممد الثانى » فى املكان ذاته ،الذى يوارى جسد زوج السلطان وابنتيه األثنتني الثرى « :النوافذ الزجاجية حتيط باملكان وفى الوسط ضريح السلطان وأشياء أخرى على اجلانب .يوجد أمام الضريح املصنوع من املرمر األبيض عمود فوقـه طربوش ً وجنمة السلطـان » .يتميز البناء كله بالفخامة ،وهلذا ترك ً كبريا فى نفس أثرا خبري صناعـات الذهـب األوراىل « :تزين املبين زخارف رائـعة سـواء من الداخـل أو من اخلارج » . 32ونفس إنطـباع « البناء رائع » ّ خلفه لديه القصر ،الذى كان يعيش فيه قنصل اإلمرباطورية الروسية يف إسطنبول .فى الواقع مل تكن اآلثار املعمارية وحدها ما أثارت اهتمام إيفان بارودين فى القسطنطينية .فقد متكن ، هو ورفاقه ،من معاينة طبيعة احلياة اليومية فى عاصمة اإلمرباطورية العثمانية ، والنجاحات التى حققتها على مستوي التقدم اإلقتصادى .فاإلصالحات اإلجتماعية واإلقتصادية املتخذة أدت إىل ظهور بعض مالمح للتقدم التكنولوجى فى الصناعة الرتكية .مر إيفان باروين ورفاقه على دار سك األموال ورأوا أنهم يستخدمون اآلالت البخارية واملكبس اليدوى . مع هذا ظل الشكل العام لعاصمة اإلمرباطورية العثمانية كما فى السابق. فقد كانت مدينة من مدن الشرق القدمية حبواريها «املتعرجة» و «الضيقة »، لدرجة أنه «من الصعب أن تتقابل مركبتان فى نفس الوقت فيها» ،كما الحظ إيفان بارودين .وتذمر خبري التعدين األوراىل من أن سلطات إسطنبول «ال تعري ً اهتماما ،على ما يبدو ،بنظافة الشـوارع » واندهش الضيف الروسي من إمكانية رؤية اجملامر فى كثري من األماكن حتت السماء املفتوحة مباشرة ،حيث يشعلون النار فيها .على أية حال ،مل يكن كل شئ على ما يـرام فى إسـطنبول : - 32األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .5 71
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
ً وأحيانا تنشب احلرائق جراء ذلك » . «فالناس تسري فى الشوارع ،وتدخن الغليون ، كانت احلشود اليت متأل الشوارع ،خمتلفة متا ًما عن تلك ،اليت رآها خبري تعدين األورال يف السابق .وعندما وصل بارودين إلي سوق اسطنبول شعر بروح الشرق احلقيقية إلي حد بعيد .مل يتجول إيفان تروفيموفيتش يف السوق فقط ،ولكنه استفسر عن سعر املنتجات املعروضة ،واستنتج أنه « :باإلمكان شراء املنتجات بسعر أرخص بكثري من سعرها يف روسيا » .يف السوق رأي بارودين بأم عينه مدي تعدد اجلنسيات يف الشرق ومدي تنوع الشعوب ،اليت تسكنها .فبالنسبة له ،تعترب اسطنبول البوابة املميزة لبالد الشرق .فقد رأي ً أناسا « من قبائل خمتلفة » وأدرك ألول مرة مدي أهمية وجود مرتجم يف رحلته عرب بالد الشرق .يكتب بارودين بأسف ،وهو يتذكر ممثلي ثقافات الشرق املختلفة ،الذين رآهم « :مل يكن ً مرتمجا ً ً شيئا ،وليس هناك ما ُيقال ».33 جيدا ،ألننا ال نعرف عنهم بصحبتنا يف الثاني عشر من ديسمرب غادرت البعثة عاصمة العامل األرثوذكسي القدمية، وتوجهوا إلي حمطتهم التالية «علي منت سفينة عربية » .وصل بارودين ورفقائه إلي مدينة مسرينا ،اليت تقع علي شبه جزيرة آسيا الصغري عن طريق حبر مرمرة وخليج الدردنيل (يف تركيا .تعليق املرتجم ) .تواجدوا هناك لبعض الوقت يف احلجر الصحي بسبب وباء الكولريا ،وتوجهوا بعد ذلك إلي جزيرة رودس (جزيرة يف اليونان .تعليق املرتجم) .كان من بني ركاب السفينة التابعة مللك مصر «األمري مصطفي بك » ،الذي كان متوج ًها مع حاشيته إلي القاهرة .وانطبعت يف ذاكرة خبري التعدين باألورال صورة األمري الشاب ذي اخلامسة والعشرين ً ربيعا.
رودس يذكر إيفان تروفيموفيتش ،أن مدينة رودس تقع علي سفح اجلبل « ،حبيث ميكنك رؤية مجيع شوارعها من البحر » .كان خبري التعدين األورالي يعلم أن متثال إله الشمس هريمز ،أو ما يعرف بأبولو رودس كان أحدي عجائب الدنيا السبع. كان متثال أبولو يف وقت ما بطول 34مرت ،ولكنه حتطم عام 277قبل امليالد أثناء زلزال رودس .رأي إيفان بارودين ورفقائه « رأس حجرية بارزة يف البحر ،كما لو كانت سلسلة جبال ،متر السفن ورائها ،ويف نهاية السلسلة مت بناء برج» .34أشار - 33األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .5 - 34األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول .ملف .559ورقة .6 72
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
بارودين بأسف بالغ عدم تفسري أي شخص وظيفة هذا البناء هلم .يف رودس انطبعت يف ذاكرة بارودين كثري من احلدائق الغناء .فهناك رأي ألول مرة «أشجار النخيل». وما لفت نظره كيفية «منو البلح علي األشجار» يف كل مكان .يف نفس الوقت، الذي كانت فيه درجة حرارة األورال 30درجة حتت الصفر .يتذكر خبري األورال كيف أحضر رئيسه “ي .ب .كافاليفسكي” من املدينة علي منت السفينة ً قائال « :بالنسبة لنا ،سكان برتقال وبلح طازج :يتحدث بارودين باندهاش، ً ً 35 مدهشا جدا» .فقد كان مقياس احلرارة الشمال ،كان الطقس يف شهر ديسمرب يف رودس يسجل 20درجة فوق الصفر.
اإلسكندرية قطع إ .ت .بارودين ورفقائه املسافة من جزيرة رودس إلي اإلسكندرية يف ثالثة أيام .مل يذكر خبري األورال أي شئ مميز يف تلك الرحلة القصرية عرب البحر املتوسط .وصلت البعثة إلي اإلسكندرية يف السابع عشر من ديسمرب عام .1847 ً ً مميزا يف نفس رئيس البعثة ،الرحالة اخلبري ي .ب. انطباعا مل ترتك اإلسكندرية كافاليفسكي ،الذي رأي الكثري يف حياته « :بالنسبة لي ،مل يكن مشهد أشجار ً جديدا .كان مشهد الشاطئ الرملي املنخفض مألوفا للعني، النخيل ،اليت تلوح يف األفق، ً 36 اليت تعودت علي رؤية شواطئنا املليئة باملستنقعات ،وأحيانا تتطلع إليها حبب» . ً مألوفا بالطبع إليفان خالفا لرئيس البعثة ،مل يكن مشهد أشجار النخيل بارودين .فال يوجد جمال للمقارنة بني طبيعة دلتا مصر واملناظر الطبيعية يف مالدوفيا وفاالخيا ،حيثما تواجد إيفان بارودين لفرتة قصرية .وعلي األرجح ال يوجد يف مذكراته ما يثبت أنه تأثر بشكل كبري بطبيعة مصر. بعد اإلقرتاب من املدينة رأي بارودين حصن قايتباي الذي بين يف مكان فنار اإلسكندرية ،الذي يعترب إحدى عجائب الدنيا السبع« :كان الفنار القائم فوق الصخور أول ما يلوح يف األفق» .37وما يتعلق باملناظر الطبيعية ،مل يقر خبيـر التـعـديـن األورالـي سـوى أن « اإلسـكنـدرية تـقع عـلي شاطئ البحر». من املالحظ أن الروس اآلخرون ،الذين كانوا متواجدين يف األسكندرية يف - 35نفس المرجع .ورقة .6 - 36مجموعة أعمال يجور بتروفيتش كافاليفسكي ..ص.6 . - 37األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .6 73
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
الثالثينيات من القرن التاسع عشر قد حتفظوا يف تقييمهم لإلنطباعات عن عاصمة مصر الشمالية .علي سبيل املثال أشار الدبلوماسي “ن .ن .مورافيف -كارسكي”، ً عاما قبل وصول بعثة ي .ب. الذي كان يعيش هناك علي مدار مخسة عشر كافاليفسكي ،يف مذكراته أن أشجار النخيل أكثر ما يثري انطباع املسافر األوروبي؛ « بشكل مفاجئ يرى إحدي عجائب األرض احلارة ،بعدما تعود علي رؤية أشجار أوروبا الكثيفة الظليلة » .مع هذا أشار إلي صعوبة أن حيوذ النخيل ً «حزينا» ويستدعي ذكريات « صحاري إعجاب املواطن الروسي ،ألن شكلها يبدو ً ً أفريقيا الال متناهية » .ويري الدبلوماسي الروسي ،أن الشجرة ال توفر ظال كثيفا، بل ومن الصعب أن تضفي البهجة علي احلدائق املصرية.38 كان “ن .ن .مورافيف -كارسكي” يشري أثناء تذكره انطباعاته عن عاصمة مصر الشمالية ،أنه بالنسبة لألوروبي ،الذي مل يسبق له التواجد يف الشرق ، يبدو كل شئ يف اإلسكندرية « غري معتاد وغـريب » ،ولكن الشخص ،الذي يعرف ً جيدا مدن الشرق وواقع سكانها ،سيجد لنفسه أشياء جديدة يف املدينة.39 ً ً من املدهش أن “ن .ن .مورافيف” كان متواجدا يف اإلسكندرية شتاءا يف نفس الوقت ،الذي تواجدت فيه بعثة ي .ب .كافاليفسكي .يف بداية شهر يناير أدرك ً وخانقا ً ً جدا هناك « ،حيت أن الذباب يف أغلب األحيان طقسا حا ًرا الدبلوماسي الروسي يتجمع ويثري القلق » .40فيما يتعلق بالبناء املعماري ،تركت األحياء األوروبية يف اإلسكندرية ،اليت « مت تشييدها بصورة أنيقة ً متاما » ومجعت بني الطراز الشرقي واألوروبـي ،أثرها يف نفس “ن .ن .مورافيف” . مل تنتاب “أ .ن .مورافيف” – صاحب كتاب “رحلة إلي األماكن املقدسة”، ُ الذي أعيد إصداره أكثر من مرة عام ،1830مشاعر إعجاب خاصة ،عندما رأي ً موظفا يف جممع الكنائس املقدس ويف اإلدارة اإلسكندرية .عندما كان يعمل ً اآلسيوية التابعة لوزارة اخلارجية الروسية فيما بعد ،اشتهر أيضا بعالقته الوطيدة مبطران موسكو فيالريت .من بني أكرب أعماله ،باإلضافة إلي « رحلة إلي األماكن املقدسة » ،قام بتأليف « تاريخ الكنيسة الروسية » و«العالقات يف األمور الكنائسية بني روسيا والشرق » و« خطابات من الشرق يف عامي .»1849-1850 يف اإلسكندرية تذكر أ .ن .مورافيف «اللون األبيض واألسود بلون تربة األرض - 38ن .ن .مورافيف (كارسكي) .تركيا ومصر في عامي 1832و .1833 الوضع العسكري والسياسي .موسكو .1869 ،ص.86 . - 39ن .ن .مورافيف (كارسكي) .المرجع األسبق .ص.86 . - 40نفس المرجع .ص.87 . 74
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
جلميع املباني املتامخة بعضها لبعض ،واليت متتاز شرفاتها عن أسقفها ،اليت ال ً ً سيئا لدي الرحالة الروس انطباعا جدوي من البحث عنها كاملعتاد» .ولكن ما ترك بشكل خاص األوجه «الشاحبة واهلزيلة» لسكان اإلسكندرية ،الذين «كانوا يتجولون مثل األشباح يف مالبس بيضاء أو زرقاء عرب األسواق املوحلة واخلانقة ، املكتظة باإلبل واحلمري النحيلة» .يقول مورافيف« :تبدو علي اجلميع آثار الفقر املدقع والضيق ».41 علي كل حال ،انتاب مؤلف كتاب «رحلة إلي األماكن املقدسة» شعور خبيبة األمل من الفن املعماري باإلسكندرية بنهاية العشرينيات وبداية الثالثينيات من ً قدميا ،أن القرن التاسع عشر .فقد بدي له ،بعدما مسع عن عظمة تلك املدينة اإلسكندرية اآلن «ال تبدو عليها إي من مظاهر جمدها القديم » .علي الرغم أن عينيه وقعت علي بعض «املباني اجليدة» (منازل القناصلة ،ترسانة وقصر الباشا) ً إطالقا «إال أنها ال تعكس عظمة الفن املعماري» .حيت مساجد املدينة مل ترتك نفس اإلنطباع ،الذي خلفته معابد القسطنطينية أو القاهرة .يعتقد الرحالة ً واقعيا حبلول الثالثينيات : الروس أن مالمح اإلسكندرية القدمية قد اختفت «فاحلروب املستمرة ،اليت تعرضت هلا مصر يف القرن احلالي ،واحلصار املتكرر ً متاما ما تبقي من آثار للحضارة القدمية» .أدي ذلك كله إلي لإلسكندرية حمت اإلنطباع األليم الذي خلفه الشكل العام لعاصمة مصر الشمالية .يقول كاتب « رحلة إلي األماكن املقدسة » « :ليس هناك ما يثري الكئآبة أكثر من رؤية أطالل اإلسكندرية القدمية وضواحي اإلسكندرية احلديثة » .متلل عيناك من رؤية الطبيعة امليته ،واليت ناد ًرا ما حتييها بعض أشجار النخيل اليتمية ،ومن رتابتها؛ جيري البحر األزرق مرتامي األطراف بشكل كئيب بإجتاه شواطئ الصحراء املنخفضة ،املغطاة بأكوام من احلصب األبيض ،حيث متتد أكواخ فقرية للعرب بني قواعد مهدمة .تلك األكوام عبارة عن آثار اإلسكندرية القدمية! ».42 ُ من املعروف أن اإلصالحات ،اليت أجريت مببادرة من “حممد علي” ،كان هلا بالغ األثر يف تطوير البنية التحتية يف اإلسكندرية .مع هذا القت نتائج تلك اإلصالحات ،اليت ً استحسانا من جانب مؤلف كتاب « رحلة إلي األماكن أدخلت علي املدينة القدمية املقدسة» .فقد أشار إلي أن حممد علي أولي عناية خاصة بتحصني عاصمة مصر الشمالية من البحر ،وقام مبد خنادق دفاعية عميقة ،وأقام بطاريات مدفعية علي - 41رحلة إلي األماكن المقدسة عام .1830سانت بطرسبورج .1835 ،الجزء األول .ص.97 . - 42رحلة إلي األماكن المقدسة عام .1830سانت بطرسبورج .1835 ،ص. .101 75
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
ً نهائيا علي آثار املدينة القدمية ،والذي بدأها التالل العالية « ،وبهذا يكون قضي قبله الفرنسيون واإلجنليز».43 بشكل أو بآخر بفضل حفر قناة احملمودية وبناء الرتسانة حتولت املدينة إلي مكان أكثر جذ ًبا لألجانب .يشري املستشرق الروسي “ج .ف .جارياتشكني” «أن األجانب تدفقوا علي مصر ،كأنها كاليفورنيا اجلديدة »ً .44 وفقا إلحصاءات “إ. ياروتسكي” ،بلغ تعداد سكان اإلسكندرية ،قبل انتشار وباء الطاعون عام 60 ،1834ألف شخص ،ومن ضمنهم 20 :ألف عربي ،و 6آالف تركي ،و 4آالف من الزنوج والبدو ،و 4آالف من األرمن واألقباط واليهود ،و 5آالف أوروبي 45.يف الثالثينيات استمر تغري حاد يف البنية السكانية لعاصمة مصر الشمالية .يشري “علي باشا مبارك” أنه يف الثالثينيات كان يعيش يف مصر 5آالف لبناني و 3آالف يوناني وألفي إيطالي وألف مواطن مالطي و 800فرنسي و 100اجنليزي و 100اسرتالي جمري و 30من موسكو وإسبانيان .ويف عام 1846كان يعيش يف البالد 50ألف أجنيب .46يف منتصف األربعينيات كان تعداد سكان اإلسكندرية أكثر من 140ألف شخص .أصبحت املدينة املركز الرئيسي لتجارة مصر اخلارجية .أدرج “علي باشا مبارك” املعلومات التالية :يف عام 1838رست يف ميناء اإلسكندرية 1838مركبًا ،ويف عام ( )1699 - 1841مركبًا ،ويف عام 1850رست 1834 مركبًا .يف ما بني عامي ( )1872 -1838تفاوتت أعداد الركاب الوافدين إلي مصر - 43نفس المرجع .ص.99 . - 44ج .ف .جاراتشكين .تشكيل المجموعات األولي للعمال المرتزقة في النظام الرأسمالي في مصر (النصف الثاني من القرن التاسع عشر) //المشاكل اإلجتماعية واالقتصادية ألصل الرأسمالية .موسكو .1984 ،ص.255 . - 45أنظر :إ .ياروتسكي .تعليقات عن اإلسكندرية ،سميرنا ،والقسطنطينية، علي مستوي العالقات الطبيعية والطبية ،مختارة من مقال الدكتور ل .أوبرا «عن الطاعون» //مجلة وزارة الداخلية .الجزء .34سانت بطرسبورج .1841 ،يتقدم الكاتب بالشكر لألستاذ ج .ف .جارياتشكين لتقديمه معلومات عن هذه المقالة. - 46أنظر :علي باشا مبارك .الحيتية والتوفيقية والجمالية ومصر الجديدة والقاهرة ومدنها وبالدها القديمة الشهيرة .القاهرة .1987 ،المجلد -7األسكندرية (علي باشا مبارك .الخطط الجديدة الخيرة لمصر ،مدنها وقراها القديمة والشهيرة .القاهرة، .1985المجلد -7اإلسكندرية .ص .)145.اقتباس من :جنادي جارياتشكين .صفحات من الحوار الروسي المصري .الجزء األول (صفحات من حوار الحضارات والثقافات الروسي المصري .الجزء الثاني .اإلسكندرية :منشأة المعارف .2004 ،ص.91-98 . 76
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
كل عام ،بني 45إلي 80ألف شخص .47وكما يشري ج .ف .جارياتشكني «فإن ً جهودا كبرية يف ضبط النظام اإلداري يف املدينة ،ونشر النظافة األوروبيون بذلوا 48 واجلمال يف اإلسكندرية » ،وحتسني الوضع الصحي فيها . ً انطباعا ترك شكل «امليناء الرائع » و « النظافة واجلمال » يف شوارع املدينة لدي ي .ب .كافاليفسكي ،الذي الحظ ً أيضا « :أن مدينة اإلسكندرية تتمتع ً بشكل رائع ليس فقط بالنسبة ملدن الشرق ،ولكن أيضا بالنسبة للغرب ...واآلن اإلسكندرية تقف علي قدم وساق مع الدول األوروبية بطابع الشرق الغامض ليس ٍ فقط من اخلارج ،ولكن ً أيضا من الداخل » .49من املدهش أن “إيفان تروفيموفيتش” ً متحفظا يف تقديراته عند وصفه لإلسكندرية « :تتمتع املدينة بتحصينات كان جيدة ،ويوجد بها مباني كبرية ،ولكن ال ميكننا أن نطلق عليها رائعة .أسطح املنازل مسطحة ،أو علي األرجح غري مغطاة » .وتوقف لربهة قبل أن يلخص نتائج تقديراته يف النهاية ،قائال« :بيد أنها مدينة جيدة» .50وبالطبع كان هناك عامال ً مؤثرا يف هذا التقييم ؛ فلم يكن لدي خبري األورال البسيط ما يعتمد عليه يف املقارنة ،علي عكس الرحالة اخلبري ورئيسه ي .ب .كافاليفسكي ،الذي رأي نظافة شوارع اإلسكندرية وهو يعلم يف نفس الوقت ،كيف تبدو كثري من مدن الشرق األخرى (وحتى مدن أوروبا) يف ذلك الوقت .وأدرك األخري الصورة الكاملة لإلصالحات ،اليت أدخلها “حممد علي” .كل ذلك ال ميكن أن خيلف نفس اإلنطباع لدي إيفان بارودين . يف اإلسكندرية قامت فرقة “ي .ب .كافاليفسكي” بزيارة أرتني بك، صاحب اجلنسية األرمينية ،الذي كان يرتأس هيئة الشئون اخلارجية والتجارة يف مصر ذلك الوقت .اضطر الفريق للبقاء 12يوم يف احلجر الصحي يف املديـنـة ،وذلـك إلكـتشـاف وباء الكولريا يف القسطنطينية وختوف السلطات من انتشاره يف مصر .إال أن التواجد يف قصر إبراهيم باشا ،حيث كان - 47أنظر :ف .إي .ديتلوف .األقلية من رجال األعمال :تجار ،أم أجانب أم المرسلين من اهلل؟ موسكو .1996 ،ص .47 .يتقدم الكاتب بالشكر لألستاذ ج .ف. جارياتشكين لتقديمه معلومات عن هذه المقالة. - 48أنظر :ج .ف .جارياتشكين .اإلسكندرية الروسية :مصير المهاجرين في مصر .موسكو .2010 ،ص.13 . - 49مجموعة أعمال يجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.6-9 . - 50األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .7 77
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
يعيش فريق البعثة الروسية أثناء احلجر الصحي ،يبعث علي الراحة متا ًما. بعد انتهاء وقت احلجر الصحي يف السادس والعشرين من شهر ديسمرب ،أكمل ً سريعا علي الرحالة طريقهم يف اجتاه القاهرة .يذكر إيفان بارودين« :نقلونا منت سفينة صغرية وبدأنا التحرك عرب القناة » .يف تلك األثناء كان الطريق من اإلسكندرية إلي القاهرة يستغرق ما يقرب من 36ساعة .مل يكن هناك ما يلفت النظر يف املشاهد ،اليت رآها املسافرون يف طريقهم .يتذكر ي .ب .كافاليفسكي، ً قائال« :بدي كل شئ حولنا بال حياة .ويبدو األفق ،حيث خفتت أضواء الشمس 51 ً الغائبة ،شاحبًا وبال حياة ،حتى أنه يبدو ممتدا عرب الصحراء بال نهاية » .مل يتكرم خبري التعدين باألورال بذكر ولو كلمة واحدة يف مذكراته عن املناظر الطبيعية اليت رأتها البعثة ،فلم يكن يهوي الصور الرومانسية يف وصف الطبيعة. كان املسافرون يرحتلون عرب القناة ،اليت شقها حممد علي وحتمل امسها ً تكرميا للسلطان العثماني حممود .كان طول القناة يبلغ أكثر من 80فرستا ( ً 1060مرتا .تعليق املرتجم ) ،وعرضها حوالي 90قدم .يشري “أ .أ .رافالوفيتش” ،الذي ً مسافرا عرب نهر النيل يف نفس عام ،1847أن بناء هذه املنشأة الضخمة تطلب كان جهد حوالي 330ألف فالح ،من بينهم ،علي حد قوله 12 ،ألف ممن لقوا حتفهم «جراء اإلنهاك وسوء التغذية » « .ترقد أجسادهم حتت متاريس القناة العالية »،52 ً تأكيدا علي الثمن الباهظ الذي كان الشعب املصري يشري الرحالة الروسي ،يدفعه علي إصالحات حممد علي .حيت املراقب بشكل نقدي إلصالحات األخري، ً مضطرا لإلعرتاف بأن مثل مؤلف كتاب «رحلة إلي األماكن املقدسة » ،كان 53 القناة «علي الرغم من عيوبها الكثرية ،إال أنها تعترب مصدر اخلري ملصر» .
أطفيح بالقرب من قرية أطفيح كان علي فريق بعثة “ ي .ب .كافاليفسكي” التنقل علي منت مركب آخر .ولكن يف تلك األثناء كان بانتظارهم مفاجئة غري سارة: يبدو أن يد السلطة يف البالد ال تصل إلي تلك املناطق البعيدة عن العاصمة« .يذكر بارودين أنهم انتقلوا إلي مركب كبري عندما خرجوا إلي نهر النيل يف منتصف - 51مجموعة أعمال يجور بتروفيتش كافاليفسكي ...ص.19 . - 52أ .أ .رافالوفيتش .رحلة عبر الوجه البحري ومناطق الدلتا الداخلية .سانت بطرسبورج .1850 ،ص.37 . - 53رحلة إلي األماكن المقدسة عام .1830ص.109 . 78
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
ً وحتديدا يف مدينة احملمودية » .ولكن حلظة صعود الفريق علي منت الطريق ، املركب إكتشفوا أن مجيع الغرف املخصصة حلملة ي .ب .كافاليفسكي (اليت حتظي برعاية مباشرة من حممد علي) مشغولة بشكل ما بواسطة أناس آخرين ! وهلذا اضطر إجيور برتوفيتش ومساعديه من أخذ أماكنهم بالقوة . ً صغريا (ما يقرب من 6آالف مواطن) ،ولكنها كان تعداد سكان قرية أطفيح قرية مهمة تقع علي رأس قناة احملمودية .وكانت مساكن القرية تقع علي جانيب القناة .يف منتصف األربعينيات كان باإلمكان رؤية بعض منازل األوروبيني يف ً مركزا أطفيح ،والذي خيتلف شكلها ،بالطبع ،عن املباني األخري .كانت القرية جتاريا ها ًما ً ً جدا ،حيث كان يعيش ممثلون من أكرب جتار اإلسكندرية .وكان هناك ً أيضا حانات ومقاهي ميلكها مواطنون من جزيرة مالطه ،وخمازن ضخمة تابعة لديوان السلع .يذكر “أ .أ .رافالوفيتش” أن مباني الفالحني كانت تقع « بشكل مدرج » علي منحدرات اهلضاب العالية ،اليت تشكلت من األرض والطمي الناتج عن أعمال حفر القناة .يشري الرحالة الروسي أن املنازل كانت «سيئة ً جدا، غري متناسقة ،وضيقة» ،واملسافات بينها كانت ضيقة لدرجة أن الناس كانت ً طريقا آخر مضطرة إلي اهلبوط إلي أسفل عن طريق األسطح املستوية ،لعدم وجود ببساطة .تتسكع عرب القرية « جمموعة من الكالب اهلزيلة واجلائعة» ،والذي كان عددهم « ،علي ما يبدو ،أكثر من أي مكان آخر يف مصر » .كما يبدو سكان قرية أطفيح «مرضي ومنهكون ورثي الثياب وبؤساء ً جدا».54 ً ً كثريا يف وصفه للنيل والطبيعة حول منطقة متحفظا يبدو إيفان بارودين أطفيح يف مذكراته« :يوجد علي جانيب نهر النيل قري أو ضياع ،وأراضي مزروعة بأحدى احملاصيل .وال يوجد ما يلفت االنتباه» .55مع هذا مل يكن خبري التعدين األورالي البسيط متطلع علي أعمال عدة للكتاب األوروبيني عن مصر .ويف الواقع كان رئيسه ،واليت تكونت لديه منذ الطفولة صورة رومانسية عن النيل ،يشعر ببعض من خيبة األمل « :كان قليب خيفق بأحالم الطفولة ؛ ويا لألسف ،تلك األحالم ،اليت مل تقض عليها ضغوط احلياة ،كان حمكو ًما عليها باإلنكسار علي أعتاب الواقع الكاشف ...فالشواطئ منحدرة وكئيبة ؛ تقف صفوف أشجار النخيل يف شكل واحد ...وحال ظهور إحدى القري من وراء تلك األشجار ،من املستحسن لك عدم رؤيتها ...هكذا يبدو نهر النيل! علي ما أعتقد».56 - 54أ .أ .رافالوفيتش .رحلة إلي شمال مصر ...ص.38 . األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. 55 ملف .559ورقة .7 - 56مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.22 . 79
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
مع هذا ،يالحظ أن تلك الرحلة مل متح حتى صورة النيل ،اليت استدعتها األعمال األدبية يف خميلة ي .ب .كافاليفسكي .من املدهش أن مساعد رئيس منطقة تعدين زالتؤوست تغين بشكل واضح بنهر النيل اإلفريقي العظيم يف املقالة العلمية البحته ،اليت صدرت بعد انتهاء احلملة علي صفحات «جملة التعدين»« .يقول الكاتب :النيل هو نهر فريد ،يتمتع خبصائص متيزه وحده ،وله شكل مييزه عن باقي أنهر الكرة األرضية ...يف وقتنا احلالي مل حتل مجيع األحجيات حول نهر النيل».57 ً انطباعا ً خاصا ليس فقط علي نفس من املالحظ أن منطقة أطفيح مل ترتك أي ً إيفان بارودين و ي .ب .كافاليفسكي .كان بعض الرحالة الروس يشريون أيضا إلي كئابة املناظر الطبيعية اجملاورة .ميكننا أن نضرب املثل بأقوال أ .س .نوروف – احملارب القديم ،الذي فقد قدمه يف احلرب الوطنية عام ،1812ويشتهر أيضا بأنه رحالة نشيط ،وخبري باللغات القدمية واحلديثة .وبعدما مت تعيينه ً وزيرا للتعليم فيما بعد ،أعطي أ .س .نوروف أوصاف للعديد من البلدان املختلفة (ينسب إليه ،علي سبيل املثال ،مذكرات «جولة يف ضواحي لندن»). ً سعيدا من يف منتصف الثالثينيات سافر أ .س .نوروف عرب نهر النيل .ومل يكن رؤية شاطئ النيل يف منطقة أطفيح« :ويذكر األخري :تنتشر املناطق القاحلة يف كل مكان ،ومتتد يف األفق باجتاه الشرق سالسل اجلبال العربية ،وتبدو مظاهر احلياة فقط علي شريط ضيق علي امتداد نهر النيل ،واألماكن اآلخري مغطاه ً كامال بالرمال».58
القاهرة انتهت ً أخريا الرحلة بارودين ورفاقه اململة عرب نهر النيل ،ووصلت بعثة ي .ب. كافاليفسكي إلي مدينة القاهرة .أول ما انطبع يف ذهن إيفان بارودين الفوضي املرتبطة بتنظيم استقباهلم مبجرد الوصول إلي املدينة « .يشري بارودين :وصلنا إلي القاهرة يف العاشرة ً ليال ،وتوقفت السفينة بالقرب من قصر إبراهيم باشا – والد األمري - 57ي .ب .كافاليفسكي .حوض النيل من الناحية الجغرافية//مجلة التعدين. .1849الجزء الثاني .الكتاب الرابع .ص.64. - 58أ .نوروف .رحلة عبر مصر والنوبة في عامي ،1834-1835والتي تعتبر تمهيدا للرحلة إلي األرض المقدسة .سانت بطرسبورج .1853 ،الجزء الثاني .ص. .4 80
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
مصطفي بك .توجه إبراهيم باشا إلي منزله مع الركاب اآلخرين ً (أيضا – تعليق أ. ف .أنتوشني) .بقينا كلنا علي منت السفينة ،وعلي الرغم أن كافاليفسكي كان بانتظار أي فرد من القنصلية يف استقبالنا ،ولكن مل يأت أحد .حبلول 59 ً ً مشيا بصحبة تسينكوفسكي مضطرا للذهاب إلي املدينة الصباح كان للبحث عن القنصل ...وبعد عدة ساعات أرسلوا إلينا ثالثة خيول عربية جمهزة جتر عربة خلفها» .60مـن املـدهـش عـدم ورود ولـو كلـمة واحـدة عـن هـذا املوقــف املـحرج ،الذي واجهته البعثة ،يف مذكرات ي .ب .كافاليفسكي .من املمكن ، أن مساعد رئيس منطقة تعدين زالتؤوست قد ارتأي عدم جدوي إظهار شكواه من قيادة البعثة الدبلوماسية الروسية يف القاهرة بشكل علين .ولكن ها هو إيفان بارودين ،الذي مل يكن خيطط لنشر كتابه ،يفصح عن عدم رضاه .فقد اضطر وفد اإلمرباطورية الروسية الرمسي لقضاء الليل علي منت املركب ،انتظا ًرا للقاء ممثل قنصليته يف القاهرة. كانت القاهرة ،إلي حيث توجهت بعثة ي .ب .كافاليفسكي ،أكرب مدينة يف مصر ذلك الوقت :كان عدد سكانها يبلغ 260ألف شخص .انتاب أ .ن. مورافيف ،الذي زار القاهرة قبل مخسة عشر ً عاما من زيارة إيفان بارودين ورفقائه، شعور باإلعجاب من رؤية مشهد املدينة القدمية .فقد راودته كثري من األفكار املفاجئة ،حيت تعالي صوته حبماس« :ينشرح قلب املواطن الروسي من رؤية هذا املشهد اخلالب املزدان بنهر النيل واألهرامات ومبآذن القاهرة الصغرية اليت تفوق أعداد أجراس كنائسها الذي يذكره مبعامل موسكو الذهبية الشاهقة ،علي الرغم أنها ً تأثريا تقله مجاال».61ومل تكن عاصمة العامل اإلسالمي منذ القرون الوسطي أقل يف نفس ي .ب .كافاليفسكي .فقد ظلت القاهرة ،علي حد وصفة ،يف النصف الثاني من األربعينيات «النموذج الوحيد ملدن الشرق اإلسالمي ،وال أعين بذلك مدن الشرق احلالية القابعة يف اجلهل والعبودية ،ولكن الشرق ً قدميا ،حيث زمن اجملد، زمن اخللفاء » .62من املؤكد أن رئيس البعثة تعرف هناك علي الرتاث األدبي ،الذي - 59ليف سيميونافيتش سينكوفسكي – عالم الطبيعة الروسي .أنهي الدراسة في كلية العلوم الطبيعية التابعة لجامعة سانت بطرسبورج عام .1844توجه مع ي. ب .كافاليفسكي إلي أفريقيا ،حيث عاش سنتين .بعد سنة من عودته سجل رسالة الدكتوراة. - 60األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .7 - 61رحلة إلي األماكن المقدسة عام .1830ص.118 . - 62مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.24 . 81
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
كان يشكل منوذج الشرق يف القرون الوسطى يف أوروبا يف القرنني الثامن عشر والتاسع عشر ،إال أن خميلة املساعد إيفان بارودين كانت بعيدة ً متاما عن تأثري تلك األعمال ،اليت تتغين باملشرق العربي .فلم تعرتيه تلك املشاعر احلماسية عند وصفه للقاهرة يف عهد حممد علي « :يف طريقنا كانت السيدات تسري واألطفال يركضون ورائهم ويصيحون ...وعدد القري قليل من املرفأ وحتى املدينة والطريق مليئ باملتاريس ...تقع املدينة علي سفح اجلبل ...املنازل واسعة ولكنها مبنية أقل حرفية .الشوارع نظيفة ولكنها ضيقة ومتعرجة ،حيث متر العربة خالهلا بصعوبة. يف حالة مرور أحد املوظفنيً ، دائما ما تري رجالن يسريان أمامه وميسكان بسياط ويلوحان بهما »...انطبعت يف ذهن خبري التعدين األورالي ذكريات سيئة عن األطفال يف القاهرة ،الذين يلجأون للتسول .فيشري إلي أن األطفال املطالبني «بالقشيش» يف كل مكان «يزعجونك» لدرجة أنك سرعان ما ترغب يف اهلروب منهم .بشكل عام تكون لدي خبري تعدين األورال نفس اإلنطباع ،الذي خلفته الصورة النمطية ملدن الشرق يف نفس أي ممثل حلضارة أجنبية . وبالطبع رأي بارودين «يف أخر نقطة علي اجلبل» قصر حممد علي ،والذي مت بناءه « علي الطراز األوروبي » ،63علي حد وصف الباحث الربيطاني املعاصر “أي. ً مزجيا من الطراز العثماني والفرنسي .من املدهش أن بيتيت” .كان مدخل القصر إيفان بارودين قد شعر بشكل ما بهذا املزيج يف البناء املعماري للقصر ،مشرياً إلي أنه « ال ميكن أن نطلق عليه قصر ،بل علي األرجح حصن » .والحظ بارودين خصائص الفن املعماري هلذا البناء الرائع « :يف الطابق العلوي توجد نوافذ فقط، نوافذ ضيقة ،وزخارف معقدة ». ً «مسجدا رائعـًا مطعم باملـرمر املصقـول ».64 بالقرب من القصر رآهم يقومون ببناء ً ً حقيقيا ملصر .استمر وكان هذا مسجد حممد علي الشهري ،الذي أصبح اآلن رمزا العمل حوالي ً 20 عاما يف بناء تلك التحفة املعمارية ،اليت بدأ بنائها عام .1824 ً مسجدا يفوق مجيع ويشري “أي .بيتيت” ،أن « حممد علي كان يرغب يف بناء املساجد ،اليت بنيت قبل ذلك .وبالفعل متكن من ذلك » .65من خالل قصر ومسجد ً مشهدا ً رائعا للقاهرة وضواحيها ،اليت حازت علي إعجاب خبري حممد علي يظهر التعدين باألورال « :من هنا ميكنك رؤية املدن املرتامية يف كل مكان ،ونهر النيل مبنعطفاته». - 63أي .بيتتي .القاهرة .تاريخ المدينة .ص.217 . األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. 64 ملف .559ورقة .8 - 65أي .بيتتي .المرجع األسبق .ص.213 . 82
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
مل تكن معامل القاهرة ،اليت أصبحت أهم معامل مصر احلديثة ،واليت يرجع الفضل يف بنائها جملهودات حممد علي ،الشىء الوحيد الذي انطبع يف ذاكرة اخلبري ً شخصا كبارودن ،الذي يعترب حلقة الوصل بني عامل األورالي .من املؤكد ،أن ً املثقفني الروس وعامل العمال البسطاء ،قد مسع شيئا عن أبو اهلول (والذي ارتبط ليه باسم «سفينكوس») وأهرامات مصر الشهرية ،اليت «تشرأب هاماتها العالية أمام املدينة» 66وبال شك مل يتطلع األخري علي أعمال الباحثني عن األهرامات ،ومنهم علي سبيل املثال ،رئيس البعثة ي .ب .كافاليفسكي .من املالحظ أنه مبجرد ذكر آثار مصر القدمية ،كلما أدرك ،أنها تشكل جز ًءا ً مهما من الرتاث التارخيي لتلك احلضارة .كانت معامل مصر الشهرية تري بارزة من فوق إحدي الصخور ،اليت صعد إليها أفراد البعثة الروسية « .يعرب إيفان تروفيموفيتش عن إندهاشه من الصورة اليت انكشفت أمامه :كما يقولون ،تري كل األحياء ،كأنها صورة واحدة .تقع األهرامات يف الشمال ...علي الشاطئ الغربي للنيل ،ويوجد وسطها أبو اهلول .تقع مدينة القاهرة باجتاه الشرق ،وبعدها سلسلة اجلبال العربية اليت حتجب البحر املقدس ،الواقع علي بعد أقل من مائة فرستا من األهرامات ». مبجرد رؤية األهرامات يندهش معظم املسافرين فقط من حجمها وعظمتها. ولكن ،مل يقتصر خبري األورال علي ذلك ،بل قام بتفسري تقنياتها الفنية الرئيسية .وسجل يف مذكراته أن اهلرم األول يتكون من 202درجة (كل درجة بطول واحد إلي واحد ونصف أرشني «مقياس روسي قديم يساوي 71سنتمرت. ً كامالً ، وفقا ملعلوماته 110 ،ساجني تعليق املرتجم ») .وبهذا يصبح طول اهلرم ً ارتفاعا – بطول 65 (مرت و13سنتمرت .تعليق املرتجم ) .كان اهلرم الثاني أقل ساجني («بلغت قاعدته 77ساجني ») .بني تلك األهرامات يقف أبو اهلول بارتفاع 13 ً اهتماما ساجني« :برأس إنسان وجسد أسد» .67وبالطبع أبدي أفراد البعثة الروسية ً بالغا باملعامل األرثوذكسية املقدسة يف مصر .حينها وقف احلظ إلي جانبهم :حيث ً مرتمجا هلم يدعي « ميت » – هكذا كان العرب يطلقون علي املواطن مت تعيني الروسي ،الذي يعيش يف القاهرة .ومل يكتب بارودين أي شئ عن هـوية ذلـك الـرجل ،أو عن كيفية ظهوره يف هذا البلد العربي البعيد .ولكن اصطحبهم «ميت» إلي الكنيسة ،اليت كانت مريم العزراء خمتفية فيها أثناء هروبها إلي مصر ،كما تؤكد األسطورة.68 - 66األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .8 - 67األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .9. - 68أنظر :نفس المرجع .ورقة .8 83
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
رأي الرحالة الروس شكل احلياة اليومية يف القاهرة يف عهد حممد علي. بالتأكيد الحظ الضيوف القادمون من روسيا البعيدة كثري من األشياء الغريبة أثناء العشرين ً يوما ،اليت قضوها يف املدينة .إال أن الذاكرة ال تزال تزخر مبشاهد متفرقة من احلياة اليومية للمواطنني املصريني يف منتصف القرن التاسع عشر : « من شقتنا ميكنك رؤية ميدان غري مكتمل ،أي خندقني مستطيلني حماطني ومثبتني بصواري ،يتجمع الناس حتتهما – بعضهم يدخن واآلخر يشرب عصري ً مالبسا خمتلفة ،فالنساء ذوات العيون الزرقاء أو الالئي الليمون ...يرتدي الناس ً ومشا علي الشفايف واأليدي يغطني حتى وجوههن» .بالقرب من هذا تضعن املكان يوجد بئر « بعمق أربعني ساجني» ،يرفعون املاء منه باستخدام الثريان. كان إيفان بارودين وأصدقائه يرون حدائق «غناء بأنواع من الفاكهة » عرب أحناء ً وخمتلفا عن شكل احلياة ،اليت تعودوا املدينة .69بالطبع كان هذا املشهد غريبًا عليها منذ الطفولة يف منطقة زالتؤوست ومياس ومدن األورال األخري يف ذلك الوقت. وباعتباره ً خبريا يف التعدين ،لفتت الوسائل التقنية واملعدات ،اليت كان السكان احملليون يستخدمونها ،انتباه إيفان تروفيموفيتش .علي سبيل املثال ،نراه يراقب عن كثب ولفرتة طويلة كيفية رفع املياه من البئر يف القاهرة« .علي حد وصف بارودين ،فإنهم يقودون الثريان بشكل حلزوني حول البئر ،ومن داخل البئر هناك فتحات إلدخال الضوء ،بينما ُترفع املياه بقدور فخارية مثبته بأحبال عرب الساقية، وتبدو املياه رطبة وعذبة» .70يلفت خبري التعدين األورالي االنتباه ،أنه بالنسبة ملنتصف القرن التاسع عشر تبدو هذه التقنية عتيقة إلي حد ما ،ولكنها كانت يف نفس الوقت تعمل بفاعلية تامة يف تلك الظروف . يف القاهرة توقف أعضاء بعثة كافاليفسكي يف منزل كمال باشا ،صهر حممد علي .يتذكر شكل املنزل علي اخلريطة بشكل صليب ،حيث يوجد علي كل جانب منه غرفة أو غرفتني ،تتميز أحداها عن األخري بشكل الزخارف واألثاث الداخلي .ولكن أكثر ما أثار إعجاب خبري صناعات الذهب يف منزل كمال باشا هي احلديقة .فقد قضي ورفقائه الكثري من الوقت يف تلك احلديقة الرائعة« :تتمايل أغصان العنب بثمارها من املمرات املمتدة عرب احلديقة .ما أمجل مشاهدة الثمار! :الليمون والربتقال واملوز والعنب ...يوجد بئر يف منتصف احلديقة، - 69نفس المرجع .ورقة .9 - 70األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .8. 84
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
خيرجون منه املياه من أجل السقاية ...كما يوجد حوض بنافورة 71.»...بالطبع، القت آثار كل ذلك الرتف الشرقي هوي يف نفس خبري التعدين األورالي ،الذي تعود علي احلياة القاسية يف ورش الذهب مبياس . بينما ظلت لدي رئيس بارودين ذكريات أكثر إجيابية عن صاحب املنزل، والذي ،علي حد تعبري ي .ب .كافاليفسكي « يرجع أصله إلي ساللة تركية نقية » « مل تعد موجودة ،لألسف ،يف وقتنا احلالي »« .يذكر إجيور بيرتوفيتش، ً إراديا :اتسمت تعابري وجهه أن أخالقه الكرمية والنبيلة تستلزم االحرتام ال ً منمقا وحمرت ًما ،ولكن بال مداراة .تلقي كامل بالوداعة والسكينة؛ كالمه ً باشا تعليمه علي الطريقة الشرقية ،أي أنه يتكلم جيدا اللغة العربية والفارسية، ً خالفا للغة الرتكية » .72كيف قضي أفراد البعثة أوقات فراغهم يف مدينة القاهرة؟ ماذا فعلوا خالل الثالثة أسابيع ،اليت قضوها هناك؟ يذكر ي .ب .كافاليفسكي: « كان عددنا يف ذلك الوقت سبعة مواطنني روس ...يف الصباح كنا نذهب خارج املدينة لرؤية الغابة احلجرية أو األهرامات أو املساجد؛ وكنا نقضي معظم الليل ً مدهشا لدي قنصلنا » .73بالنسبة لبارودين ،الذي تواجد ألول مرة يف الشرق ،كان أن يري تلك املعامل الغريبة . مع هذا مل ينس كافاليفسكي ورفاقه هدف البعثة الرئيسي – أال وهي املساعدة يف التنقيب عن مناجم الذهب يف السودان املصرية .ومل يكن مبقدور فريق كافاليفسكي أثناء وجوده بالقاهرة عدم القيام بزيارة رمسية إلي حممد علي، واليت جائت البعثة حتت رعايته املباشرة .أخرب مؤسس مصر احلديثة املتخصصون الروس اختاذه اإلجراءات اخلاصة بإرسال 10آالف شخص إلي منطقة استخراج الذهب يف فازوغلي ،للعمل يف منامجها .يبدو أن هذا الرقم ،وقدرة دولة مصر يف الشرق أثارت انطباعات حتى املهندسني الروس ،الذي تعودوا يف ذلك الوقت علي جتميع أعداد من الفالحني كل يوم من القري اجملاورة للعمل يف مناجم مياس .ولكن ال ميكن مقارنة هذا باملوارد البشرية اهلائلة ،اليت كان يوجهها حممد علي لتطوير صناعة استخراج الذهب يف مصر. تسهم مذكرات بارودين يف إداركنا بصورة أفضل ملدي تنوع جماالت التعاون بني اإلمرباطورية الروسية ومصر يف عهد حممد علي .روسيا من بني تلك الدول، - 71نفس المرجع. - 72مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.29 . - 73نفس المرجع ...ص .37 .شغل القنصل فوك ألكسندر ماكسيموفيتش هذا المنصب منذ 22أبريل غام 1844حتى نهاية 18ديسمبر عام .1854 85
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
ً ً ملموسا يف مصر بفضل السياسة املنفتحة حملمد علي . تواجدا اليت كان هلا يذكر خبري التنقيب عن الذهب األورالي أنه قام برفقة زمالئه بزيارة «مستشفي، حيث يعيش مساعدوا أطباء (ترمجة – تعليق أ .ف .أنتوشني) من روسيا للدراسة أو للتعرف علي أسباب مرض الطاعون» .74يف الواقع أسهمت اإلمرباطورية الروسية يف تطوير قطاع الصحة يف مصر يف منتصف القرن التاسع عشر .وكما أشار أ .أ .رافالوفيتش ،فإن اهلدف الرئيسي لتواجد البعثة الطبية الروسية يف مصر «هي الدراسة العملية ألعراض مرض الطاعون وطرق العالج منه» يف الشرق عامة ومصر خاصة من أجل زيادة أعداد احلجاج إلي مكة واملدينة عرب مصر. ً أبعادا ويعتقد رافالوفيتش أن مشكلة انتشار األمراض اخلطرية يف مصر حتمل معقدة .وكما هو احلال بالنسبة للرحالة الروس اآلخرين ،أثار رافالوفيتش قضية الثمن ،الذي كان يدفعه الشعب املصري مقابل إصالحات حممد علي « :أري أن حتسني وضع الفالح أفضل وسيلة للتخلص من األمراض الوبائية املنتشرة يف وادي نهر النيل؛ فلن جتدي مجيع اإلجراءات الطبية اإلحرتازية إلدارة التموين يف باإلسكندرية ً نفعا حيت يتوقف القهر الذي يتعرض له الفالحني من البكوات!».75 من املدهش أنه جبوار املستشفي ،حيث كـان مسـاعـدو األطبـاء الـروس يعـملون ،رأي أفراد البعثة صورة للوسائل ،اليت كان حممد علي يعتمد عليها يف بناء إمرباطوريته .يتذكر “إيفان بارودين” أن سلطات املدينة كانت جتمع كثري من «الصبية» «والصبايا» لتنظيف امليدان أمام املستشفي .مل يكن خبري التعدين علي علم بهؤالء ،ومل تكن لديه فكرة إىل «أي طبقة إجتماعية ينتمون» .مع ذلك انطبعت يف ذاكرته كيفية عملهم« :كانوا مقسمني إلي ثالثة أقسام: األول جيمع القمامة يف السالل ،والثاني يقف ويغين ،أما األطفال يف القسم الثالث يركضون بسالهلم إلي مكان جتميع القمامة ،يركضون بكل ما أوتوا من قوة» .يف تلك األثناء الحظ بارودين أن الشرطة تقوم باستمرار «بضرب كل عامل علي رقبته » ،إال أن الذين يعملون علي األرجح «يغنون وال أحد يبكي ».76 وهلذا تشعر مبدى تأثر خبري استخراج الذهب األورالي ،الذي قضي حياته يف روسيا اإلقطاعية ،بسطوة جهاز الدولة يف إمرباطورية الشرق . ألقي “ن .ن .مورافيف-كارسكي” الضوء علي نفس املشكلة املتعلقة - 74األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .9. - 75أ .أ .رافالوفيتش .رحلة في شمال مصر ...ص.378 . - 76ن .ن .مورافيف (كارسكي) .المصدر األسبق .ص.27 . 86
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
بالثمن الباهظ الذي يدفعه الشعب املصري يف سبيل إصالحات حممد علي .وقد توجه مورافيف يف بداية الثالثينيات بأمر من نيكوالي األول إلي الشرق األدني والشرق األوسط لتقديم املساعدة إلي تركيا .ويف مذكراته واجه مورافيف مباشرة األوروبيون ،الذين كانوا يفتخرون بإصالحات حممد علي ،فيقول يف وصف مصر يف الثالثينيات « :اجلوع والفقر املضقع هم أصل الشرور أينما وجدوا، فاملدن عبارة عن أنقاض والسكان هجروا قراهم ،واملنازل خربة – بإختصار ،ينازع الشعب ،املنهك من نري العبودية القاسية ،اخلطى عرب العشوائيات وحتى القبور... يتكلمون عن التعليم يف مصر ،ولكن ال وجود له هناك ،وال ميكن أن يـوجـد يف الوقـت الـراهـن ،مبا أن التعليم مرتبط برخاء الشعب ،الذي مل يلتفت إليه حممد علي ً أبدا ،بل أنهك قوي تابعيه من أجل تدعيم املنشآت احلكومية ،اليت ال تالئم 77 السكان وال ثروات املنطقة » .ويعتقد ن .ن .مورافيف ،أن إجنازات حممد علي يف مصر مل تكن لصاحل الشعب املصري ،بل « إلرضاء رغباته الشخصية ونزواته» . ويؤكد الدبلوماسي الروسي ،أن الشعب املصري « كان يعيش يف كرب بسبب املصائب» ،اليت انهالت عليه بفضل أعمال حممد علي ،بل كان غري مستعد الستيعاب إصالحاته .بال شك ،ال خيلو رأي “ن .ن .مورافيف” من بعض التحيز ،مبا ً حتديدا من أجل مساعدة تركيا أن احلكومة الروسية أرسلته إلي هذا املكان يف جتنب اهلزمية يف احلرب مع مصر .ومع هذا ،إذا أردنا تكوين صورة كاملة عن األوضاع يف مصر يف عهد حممد علي ،جيب أخذ هذا الرأي يف اإلعتبار. واألكثر من ذلك ،مل ينحاز “ن .ن .مورافيف -كارسكي” وحده إلي هذا الرأي . فمثل تلك األفكار كانت تراوض مؤلف كتاب «رحلة إلي األماكن املقدسة ». رأي “أ .ن .مورافيف” أن حممد فعل الكثري يف الواقع . لقد كان رأى الكثريين أن حنند على فعل الشئ الكثريمن أجل إعمار مصر. وتعجب الرحالة الروسي من «عبقرية » مؤسس مصر احلديثة ،الذي « استطاع باإلصالحات الداخلية أن يتفوق علي األقاليم اجملاورة له .زراعة أشجار التوت والنخيل ،والقطن وحماصيل إنتاجية أخرى كثرية ،اليت كانت غريبة عن مصر قبل ذلك ،وكذلك بناء العديد من الورش واحملالت ،واملدارس ،والرتسانات – كل هذا دليل علي جمهود جبار » .يبدو أنه مل يستطع غض الطرف مرة أخري عن ثـمن كل تلك اإلصالحات « :مل يكن حممد علي – الذي حيظي باالحرتام يف سوريا، والذي يدعي بالرهيب يف اجلزيرة العربية ،كما عرف باحنيازه ألفريقيا -ليربز بني سالطني الشرق لوال معاناة الشعب باجلهد املضين تارة ،وبالضرائب تارة أخري ،حتت نري اإلحتكار اجلائر ،الذي ال تصب ثرواته إال يف خزينة الباشا».78 - 77ن .ن .مورافيف (كارسكي) المرجع األسبق .ص.27 . - 78رحلة إلي األماكن المقدسة عام .1830ص.193 . 87
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
من القاهرة باجتاه أعالي نهر النيل ًإذا فلنعد إلي فريق بعثة ي .ب .كافاليفسكي .يف الثامن من يناير 1848 حانت حلظة الرحيل عن القاهرة املضيافة .جتمع بعض الروس لدي رئيس البعثة ً وفقا للعادات القدمية «ورمسوا عالمة الصليب يف خشوع... وجلسوا القرفصاء ً وطلبوا املغفرة!» خالفا لسالف الذكر ل .س .سينكوفسكي ،سافر مع ي .ب. كافاليفسكي الدكتور ترميو – ساليف اجلنسية ،ضمه حممد علي ألفراد البعثة (يطلق عليه بارودين «دكتور جريمانوفيتش ») وهو الرتمجان العربي الذي تربي يف فرنسا ،وكذلك الرسام الفرنسي .أوكلت مهمة حل املشاكل اخلاصة بتأمني احلملة إلي املقدم يوسف أفندي ،وهو من الشراكسة .وبعد ً «خالفا حصر أعداد كل هؤالء ،يقول ي .ب .كافاليفسكي يف مذكراته: لتلك الشخصيات ،أصطحبنا ً أيضا خرباء تعدين روس وخدم من مجيع اجلنسيات واأللوان» .79وهكذا كان إيفان بارودين وصديقه حيتالن مكانة داخل البعثة أقرب ما يكون إلي اخلدم .علي هذا النحو حتركت البعثة بإجتاه احملطة التالية . شحن متاع البعثة كله إلي سطح املركب ،ويف الثانية ً ظهرا بدأ أعضاء فرقة ي .ب. كافاليفسكي يف اإلحبار بإجتاه أعالي نهر النيل« .يذكر إيفان بارودين :كنا مستمتعني برؤية املناطق حولنا .تقع علي شاطئ النهر أحراش شجر النخيل ،ويف األفق تلوح قمم األهرامات العالية ،ويتناوب أمامها وفود من الناس ،كما لو كانوا واقفني للحراسة.80»... يا له من رأي غريب من خبري تعدين أورالي بسيط ،ال مييل بشكل عام لألفكار ً خالف ي .ب .كافاليفسكي ،علي الفلسفية وال النقاش يف مواضيع عامة .علي ً سبيل املثال ،ومثلما أثارت حرية الناس لقرون ،تركت األهرامات ً كبريا يف أثرا نفسه .من الواضح أن إيفان تروفيموفيتش كان ً مهتما ببعض املعلومات املتعلقة بأهرامات مصر .وكم كان تأثر خبري التعدين األورالي بعدما حتاور مع رئيس البعثة – وهو شخص صاحب معرفة وقرأ عديد من أعمال الباحثني األوروبيني عن األهرامات « :كم من القرون مرت علي بناء األهرامات منذ 2500عام قبل ميالد املسيح! ويقولون أن ً جهدا جبا ًرا قد ُبذل لبناء هذا الصرح اهلائل » . ً مهتما حتظي املعلومة األخرية بأهمية خاصة ،مبا أن “إيفان بارودين” كان - 79مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.45 . - 80األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .10. 88
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
باملسائل التقنية البحتة ،حيث حكي عن نظام فيضان النيل ،وكيفية استغالل السكان احملليني له .علم بارودين أن املياه تبدأ يف الفيضان يف بداية شهر يونيو ً وفقا لسجالت «مقياس نهر النيل» ،الذي أقامه السكان احملليني يف مناطق كثرية من أجل معرفة إلي أي مدي ارتفعت املياه .وهكذا يستطيعون «التنبؤ مبوعد حمصول القمح ».81 يروي إيفان بارودين ً أيضا عن طريقة رفع املياه من خالل ساقية هيدروليكية: « يقومون بتثبيت قدرين خزفيني باألحبال ،ويقرنون بني ثورين أو ثالثة » .يشري إيفان تروفيموفيتش – مع إملامه جبميع األمور -أن تلك الطريقة تعترب «فعالة» لصاحب األرض أثناء اخنفاض مستوي مياه النيل .كما اثار اهتمامه الشادوف ، الذي كان املصريون يرفعون به املياه لسقي األراضي .وباعتباره متخصص تقين ، أثارت تلك الوسيلة إعجابه ،وهلذا وصف يف مذكراته طريقة عمل « هذا الكيس اجللدي » .وفيما يتعلق بشاطئ نهر النيل واألراضي ،اليت مرت عربها البعثة ،فلم يكن هناك الكثري مما لفت أنظار املسافرين« :علي اجلانب الغربي من املياه ميكنك رؤية سالسل اجلبال الليبية املمتدة مبحازاة النيل ...وتوجد علي الشاطئ منازل ،وأكواخ من الطوب اللنب داخل أعراش النخيل .ويف كل قرية يوجد العديد من أبراج احلمام» .82كان “إيفان بارودين” يري مدي الفقر احملدق حبياة املصريني، ً متواضعا. وإلي أي مدي كان أسلوب حياتهم
بين سويف كانت البعثة تتوقف يف طريقها علي شواطئ املدن والقري ،وكان من بينها، علي سبيل املثال ،مدينة بين سويف ،اليت تقع بالقرب من قناة حبر يوسف .وكانت تلك املدينة أحد أهم املراكز اإلقتصادية ملصر يف عهد حممد علي .الزال “أ .نوروف” الذي زار هذه املنطقة قبل عشر سنوات ،يتذكر بنايتني «من الفن املعماري الرائع» ً مسجدا وثكنة ،وتتكون باقي مدينة بين سويف من عدد كبري من األكواخ. ً دائما ما كانت تتغري مالمح النيل واملناظر الطبيعية احمليطة بالبعثة يف منطقيت بين سويف واملنيا .كانت اجلبال تقرتب من الشاطئ ومتتد عن ُبعد علي هيئة - 81األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .10. - 82نفس المرجع .ورقة .10 89
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
ً تدرجييا وميكنك رؤية قري متفرقة علي الشاطئ.83 شريط أبيض ،ثم ختتفي وكلما حتركت البعثة إلي األمام ،كلما اتسع نهر النيل .
أسيوط بعدما ختطت البعثة مدينة بين سويف ،توقفت بعثة ي .ب .كافاليفسكي للتزود بالفحم يف أسيوط (سيوط) .كانت أسيوط أحد أهم مراكز مصر العليا« ، ليكوبوليس القدمية » (أطلق هذا االسم علي املدينة يف عهد البطاملة وتعين «مدينة الذئب » .تعليق املرتجم )ً ، وفقا ملا أشار الرحالة الروس ،الذين تعرفوا ً جيدا علي األدب القديم مثل ي .ب .كافاليفسكي .كانت املدينة تقع علي وادي رائع وخصب بالقرب من قاعدة اجلبال الليبية ،اليت كانت تقيها من رمال الصحراء .كانت القبائل تتوافد علي أسيوط من املناطق الداخلية يف القارة السمراء ،حيث كانت تخُ زن املنتجات ،واليت كانت ُتباع بعد ذلك للمصريني .ويف أسيوط انتشرت جتارة العبيد السود ،وسن الفيل ،وريش النعام واألفيون .وكانت خمازن املنتجات موجودة يف مرفأ اجلمرة بأسيوط ،حيث كانت ترسو مراكب التجار األجانب . إمتد سد طويل من شاطئ نهر النيل وحتى مدينة أسيوط .يف يوم من األيام حتصن املماليك بهذا املكان ،وأحاطوا أسيوط حبوائط من الطـوب اللبـن ،ولكن حلظة وصول إيفان بارودين ورفقائه كانت احلصون الدفاعية قد حتولت إلي أنقاض منذ فرتة .متيزت املدينة بالفن املعماري ملساجدها ،وال سيما املسجدين اللذين انطبعا يف ذاكرة أ .نوروف :األول يذكره ،علي حد قوله « مبسجد السلطان حسن يف القاهرة » « -ولكن لألسف مت ترميمه» .واملسجد اآلخر ،ذو مقاييس أصغر ،ولكنه يتميز بزخارف علي مستوي أعلي .84كان هناك ً أيضا عدة معابد قبطية ،قامت جبذب اجلزء األكرب من سكان أسيوط األقباط .وكان إمجالي سكان املدينة ما يقرب من 20ألف مواطن.
جرجا رسا أعضاء بعثة ي .ب .كافاليفسكي يف العاشر من يناير عند الشاطئ ودخلوا مدينة جورجا (جرجا)ً . قدميا كانت واحدة من أهم مدن منطقة طيبة – مصر العليا. ُتعترب برج الدير املسيحي الشاهق اجلميل املكان األبرز يف البناء املعماري ملدينة - 83أنظر :أ .نوروف .المرجع األسبق .ص.14-15 . - 84أنظر :نفس المرجع .ص.34 . 90
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
جرجا – والذي كان ً ً ً كاثولوكيا حلظة وصول بعثة ي .ب. قبطيا ،وكان ديرا كافاليفسكي .أنه دير القديس الشهيد جورج ،الذي حتمل املدينة امسه .علي أية حال ،يف وقت من األوقات كان الدير ميلك أراضي مزروعة شاسعة ،وكان يقدم مساعدات خمتلفة للمسيحيني الفقراء يف مصر .إال أن زمن إزدهار الدير أصبح يف عداد املاضي :يف بداية القرن اخلامس عشر حصد وباء الطاعون أرواح معظم الرهبان ،بعد ذلك بدأ الدير يف التدهور. متكن بارودين ورفقائه من تفقد عدد من معامل مدينة جرجا ،حيث جابوا سوق ً مكتظا لدرجة أننا تلمـسنا طريـقنا وسـط الزحـام املدينة « :كان السوق ً طريقا للمرور بصعوبة» .تواجد أعضاء البعثة بـمشقة ،وكانوا يفسحون لنا يف إحدي الورش ،اليت مل تكن تعد األوراق فقط ،ولكنها كانت منشأة كبرية ً تكنولوجيا يف تلك األثناء :فقد كانت الورشة تزخر بثالثـمائة « ومتقدمة ماكينة لصناعة أنسجة القماش» .وقام إيفان تروفيموفيتش بزيارة املعبد القبطي يف طريقه ،والذي أثار اهتمامه البناء املتواضع للكنائس القبطية ،بعدما تعود علي عظمة املعابد األرثوذوكسية :حيث يشري باندهاش «إلي عدم متكنه من رؤية أية زخارف».85 ومن جديد أكملت البعثة الطريق! ومل ختتلف املناظر الطبيعية اليت قابلتهم عن سابقيه ،وهلذا مل يتذكر أعضاء البعثة الكثري عنها .ومع هذا كانت مالمح املنطقة تتغري .فقد كانت مناطق مصر العليا ختتلف عن تلك املناطق ،اليت مرت عليها بعثة ي .ب .كافاليفسكي يف طريقها من اإلسكندرية إلي القاهرة .فقد الحت أمام إيفان بارودين ورفقائه اجلبال الليبية ،اليت ارتسمت علي خلفيتها أشجار البلوط .حيت يف املناطق اليت تبدو قاحلة ميكنك رؤية نباتات .حيث تنمو علي شاطئ النهر أشجار البلوط بكثافة ،كما تنمو أشجار النخيل. علي أية حال حتركت البعثة الروسية بسرعة كبرية مل متكنهم من اإلستمتاع برؤية الطبيعة :يذكر ي .ب .كافاليفسكي« :تنطلق مركبنا بسرعة وهي تتعثر يف املياه الضحلة؛ حينها تري نفسك داخل شاطئ النيل املوحل ،والذي خترج منه بعد وقت طويل .قبطان املركب عربي؛ لديه معارف حمدودة؛ ضف علي ذلك تواكل العربي ،الذي ينظر إلي ما حيدث أمامه بال مباالة كاجملنون » .من أجل إضفاء بعض املرح علي الرحلة البحرية وشغل الوقت ،بدأ خرباء التعدين الروس يف الغناء .يقول رئيس البعثة ،وهو يتذكر ذلك « :بالطبع ،كنا نسمع كالم - 85األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .10. 91
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
ً ً روسيا ولو ناد ًرا ،إال أننا بالتأكيد كنا مواطنا روسي قبيل شاطئ النيل أو نري 86 نسمع غناء روسي مجاعي للمرة األولي » .مل تكن بعثة ي .ب .كافاليفسكي الوحيدة املسافرة عرب نهر النيل يف ذلك الوقت .فقد تصادف وجود سفن أخري، ً وأحيانا تسنى للرحالة الروس مساعدتهم .علي سبيل املثال ،يف اليوم التالي من زيارة ورشة صناعة النسيج ،حلق أفراد البعثة يف احلادي عشر من يناير يف أعالي النهر مركب القنصل الربيطاني «املتعثرة يف احلركة بسبب الرياح العكسية ». يذكر بارودين أن البعثة الروسية قدمت املساعدة للربيطانيني عن طريق « ر بط » مركبهم مبركب الروس .87وقعت تلك األحداث قبل ستة سنوات من حرب القرم، اليت وقفت بريطانيا وروسيا فيها عدوين لدودين. ويف األربعينيات كانت العالقات مضطربة بني كال البلدين ،فقد سعي اإلجنليز ملنع تقوية نفوذ روسيا يف مناطق كثرية بالعامل .ولكن مل مينع ذلك الروس من تقديم املساعدة الضرورية للمركب الربيطانـي ،حال لقاء املركبني يف مصر البعيدة .علي كل حال ،مل تسر العالقات علي ما يرام بني “ي .ب. كافاليفسكي” والقنصل الربيطاني .فقد وقع سوء تفاهم بسبب وجود رغبة شخصية لدي رئيس البعثة الروسية يف مساعدة الربيطانيني .علي كل حال أرسل القنصل العام لروسيا يف مصر “أ .م .فوك” خطا ًبا من القاهرة بتاريخ 21يناير 1848 إلي إجيور برتوفيتش ،يقول فيه« :أشعر باألسف لعدم متكنكم من التفاهم مع القنصل العام الربيطاني .أنه شخص لبق وحمرتم ،وكل ما حدث بسبب سوء تفاهم ،أو علي األرجح ،بسبب خطأ خسرو بك ،الذي نسي أخطاركم ،أنه ،بطلب من القنصل اإلجنليزي ،قد صدر ً أمرا من الباشا إلي مركبكم بسحب املركب الربيطاني حال التقائكم به واقتضي احلال لذلك ».88
طيبة .األقصر .الكرنك اكملت بعثة ي .ب .كافاليفسكي طريقها عرب نهر النيل وقامت بزيارة مدينة طيبة األسطورية ،واألقصر القدمية والكرنك .يذكر إبرهام نوروف ،الذي سبق بارودين ورفقائه إلي هذا املكان ،اإلنطباع ،الذي خلفته يف نفسه رؤية آثار - 86مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.60 . - 87أنظر :األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول .ملف .559ورقة .11. - 88ب .أ .فالسكايا .ي .ب .كافاليفسكي والمهندسون المصريون ...ص.140 . 92
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
مصر القدمية فجأة « :مبجرد مرورنا أمام جزيرة العرازات ،سرعان ما ظهر أمامي مبين عمالق خلف أشجار النخيل علي الشاطئ الشرقي ،ومل أمتكن من وصفه ألن أشجار النخيل األستوائية العالية بدت أمامه كاألسل؛ كما ظهرت ورائه مسلتني أو ثالثة تشق عنان السماء ،ورأيت ً صفا كاملاً من العواميد».89 كانت لتلك اآلثار الشهرية وقعها ً أيضا علي نفس إجيور بيرتوفيتش كافاليفسكي ،الذي قرأ الكثري عنها .واألكثر من ذلك ،ساعده ذلك يف « التغلب علي شعوره بامللل » ،حيث يذكر فيما بعد« :مل أكن أختيل ،أن يدهشين ً حتفظا يف رأيه؛ شيء هلذا احلد » .90علي اجلانب اآلخر ،كان بارودين أكثر حيث يوضح يف مذكراته أنه رمبا مسع ً شيئا عن هذه اآلثار ،وخاصة ،عن تاريخ ً متذكرا الوقت ،الذي كانت طيبة اجمليد .واستخدم بارودين اسم طيبة اجمليدة، فيه طيبة يف «أزهي عصورها» .ولكن حني وصول بعثة ي .ب .كافاليفسكي ً إلي تلك املناطق ،كان إنطباع خبري التعدين األورالي عنها خمتلف ً وفقا متاما: ملا قاله إيفان تروفيموفيتش «فلم يبق من طيبة سوي بعض األطالل وبقايا اآلثار القدمية » .علي أية حال ،الزال خبري التعدين األورالي يتذكر تلك األطالل .وقام بوصف أول ما رآه عام 1848يف مذكراته« :املسالت ،ومتاثيل أبو اهلول ،وكباش – معبد اآلهلة القدمية ومعابد الفراعنة .بقت ثالثة فقط من املسالت علي حالتها بطول حتى سبعة ساجني وعرض حتى أربعة أرشني (مقياس روسي قديم يساوي 71سنتمرت) .هناك متثال عمالق مقطوع الرأس من اجلرانيت اخلالص .كل هذا تهدم متا ًما اآلن إما علي يد البشر أو بفعل الزمن» .91بدأ سكان طيبة احملليون يف مضايقة «سياح» القرن التاسع عشر ،الذين انزعجوا من سلوكهم املتطفل .ومل ينج القنصل الربيطاني من تلك املضايقات ،خاصة وإن هيئته توحي بأنه صاحب منصب كبري وميسور احلال .أثناء عودته إلي مركبه بعد زيارة بعض املعامل، أدركه حشد من الناس .يصف إيفان بارودين هذا املشهد املضحك بسخرية وذهول: « يلعبون ،ويسريون بلعب أطفال يف أكمامهم .يرقصون بشكل غريب ،لدرجة أن من الصعب متييز تقلبات الوجه من ثين اجلسم ...حتى أنه (أي القنصل – تعليق أ. ف .أنتوشني) سأم من رقصهم وغنائهم ،ولذلك أمر بطردهم ً بعيدا عنه ».92 - 89أ .نوروف .المرجع األسبق .ص.65 . - 90مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.64 . - 91األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .11. - 92نفس المرجع .ورقة .11 93
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
أسوان يف الثالث عشر من يناير بلغت بعثة ي .ب .كافاليفسكي نقطة مهمة يف رحلتها عرب نهر النيل – مدينة أسوان .استمدت املدينة أهميتها منذ القدم باعتبارها نقطة حدودية بني مصر وشعوب اجلنوب .ولكن مل يلحق الرحالة الروس سوي أطالل حضارة أسوان القدمية :بلغ إمجالي تعداد السكان يف املدينة 5آالف مواطن ،كما كانت معظم املباني يف حالة مزرية ومهدمة تقريبًا« .ما مل حيصده وباء الطاعون وعوامل الزمن ،حصدته غزوات النوبـيـني » - ،هكذا كانت فلسفة رئيس البعثة ً حتديدا اضطر الرحالة الروس يف شرحه ألسباب تدهور مدينة أسوان .يف مدينة أسوان ملغادرة مركبهم بسبب شالالت نهر النيل .يف الظهرية كانوا مضطرين لشحن أمتعتهم علي اجلمال .كانت درجة احلرارة عالية ً جدا أثناء الشحن :يذكر إيفان بارودين « أن أرجلهم كانت حترتق داخل األحذية يف الرمال» .الحظ خبري التعدين األورالي بعض الصور من حياة مرفأ أسوان ،مما خفف من وطئة االنتظار .أما املرفأ نفسه فبدي له « خميبًا لألمال ». فقد أثار إعجابه مشاهدة «البحارة املهرة» ،الذين كانوا يناورون وسط األحجار الكبرية يف النهر .سرعان ما أدرك بارودين مدي صعوبة عملهم ،مبا أنهم كانوا مضطرين لقيادة املركب حتى « ال تغرق وسط الكاتاراكت (الشالل – إشارة أ. ف .أنتوشني )» ،الذي كان قريبًا ً جدا من هذا املكان :حتى أن « صوت خرير املياه » ً مسموعا. كان ولكن مل يكتف “إيفان تروفيموفيتش” فقط بالوقوف علي مرفأ أسوان ملراقبة شحن األمتعة علي اجلمال .فقد قام جبولة يف املكان ،وتفقد معامل املنطقة .ومر علي «حماجر امللوك القدامي» ،ورأي مسلة قدمية من اجلرانيت .من املدهش أن خبري التعدين ،الذي طاملا استهوته مثل تلك التفاصيل التقنية ،قام بالتحقق من قياسات املسلة (طول – 24أرشني ،وعرض – أربعة ونصف) .اضطر إيفان بارودين لإلعرتاف ً مستحيال رؤية السمك من بكل أسف أن نتائج قياساته تقريبية ،مبا أنه «كان الطرف اآلخر (للمسلة – تعليق أ .ف .أنتوشــني ) بسـبـب هبــوب الرمـال » .كان ً موجودا بالقرب من املسلة جلمود صخر ُرمست عليه صورة فرعون جالس علي عرشه ً ويأمر شعبه .93ونالحظ أن اآلثار القدمية يف ضواحي أسوان تركت ً كبريا أثرا وقتها علي نفس أ .نوروف .يصرح الرحالة الروسي يف الثالثينيات بعد تفـقد معـامل - 93األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .12. 94
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
املديـنة « :كم هي رائعة ختوم مصر! على الشاطئ الشرقي يرتفع جلمود جرانييت مغطي بأنقاض سيينا القدمية وأسوان احلالية؛ وعلي الشاطئ الغربي يوجد جبل وعليه قلعة جوبا املهدمة».94 بعد شحن األمتعة استكمل أعضاء بعثة ي .ب .كافاليفسكي طريقهم حبرص .يذكر إيفان تروفيموفيتش «أنهم كانوا مضطرين للمرور بني اجلبال أمام الصخور البارزة من املياه» .95وبالطبع يتذكر بارودين ً جيدا شالالت النيل الشهرية (أو كما يطلق املصريون أنفسهم عليها« ،الكاتاراكت») .ويف وصفه هلذا املنظر الطبيعي ،يوضح خبري التعدين شكل هذا املشهد لقراء مذكراته احملتملني (وهم ليسوا مصريني بالتأكيد)« :يف هذا املكان تتالقى كتلتني جبليتني ً سويا، وكان البد لنهر النيل أن يشق طريقه ليشكل صخور بارزة وشالالت». مل تثر طبيعة املنطقة خميلة الرحالة الروس ،حيث من النادر وجود نباتات هناك: «ال أثر لوجود غابات - ،يذكر إيفان تروفيموفيتش - ،تنمو احلشائش فقط علي شاطئ نهر النيل ،وهي إما متيبسة ،وإما تنمو وسط األحجار» .96مل يري أعضاء البعثة سوي أشجار النخيل ،املمتدة علي طول نهر النيل.
جزيرة فيلة يف الطريق رأي الرحالة املعابد القدمية ،واليت يقع أحداها يف جزيرة فيلة وسط نهر النيل علي بعد 5كيلومرتات أعلي مدينة أسوان .استفاض أ .أي .بريم – عامل الطبيعة األملاني الشهري وصاحب كتاب « حياة احليوانات » يف وصف هذا املكان بصورة رومانسية « :وسط الطوب واحلجارة املتناثرة » « تربز جزيرة فيلة اخلضراء بأشجار النخيل وأطالل املعابد .ألول وهلة تبدو كالقلعة الساحرة» .من الغريب استخدام إبرهام نوروف مثل هذا الوصف ،وخاصة إذا أخذنا يف اإلعتبار عدم إتفاقه يف الرأي مع أ .أي .بريم؛ فنراه يصف اجلزيرة «بالساحرة» ،قائال« :ال توجد صورة أكثر ً سحرا ونقا ًءا يف أي مكان مثل اليت تراها يف جزيرة فيلة .إذا أردنا أن ً نعطيها حقها يف الوصف ،فالبد أن نستوحى صورا من أعمال أرسطو ودانيت .حيطم - 94أ .نوروف .المرجع األسبق .ص.151 . - 95األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .12. - 96نفس المرجع .ورقة .34 95
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
النيل الثائر حواجز اجلرانيت ،ويلقي الصخور بشكل عشوائي ،الواحدة أكرب من األخري » .مل يكن نوروف أقل رومانسية يف وصفه حلظة مغادرته هلذه اجلزيرة بعيدا - ،يذكر ً ً الحقا - ،كلما بدت صفوف العواميد الرائعة « .كلما أحبرنا أكثر روعة وانتصبت الصروح اهلرمية ً عاليا .ومع حركة املركب كانت الصخور ً أشكاال خيالية خمتلفة ،وتبدو كمخلوقات خارقة ...ولكن مبجرد احلزينة تتخذ أن الح يف األفق أول شعاع للشمس ،بدأ ضباب الفجر يف التالشي مثل الشهاب».97 ً مدهشا أن تبقي جزيرة فيلة يف ذاكرة بارودين لفرتة طويلة .فقد وهلذا ليس خصص جزء كبري من مذكرات خبري التعدين األورالي لوصف معابدها .علم إيفان تروفيموفيتش بارودين ،علي ما يبدو ،من حواره مع ي .ب .كافاليفسكي ،أن املعبد املوجود يف جزيرة فيلة مت بناءه قبل 2000عام من ميالد املسيحً ، وخصص ً تأكيدا علي ألحد آهلة مصر القدمية (اإلله إيزيس) .وبدوره يشري أ .أي .بريم، أهمية هذا املكان بالنسبة للمصريني القدماء ،أن أسرة إيزيس استمرت يف ذلك املكان أثناء انتشار املسيحية يف جنوب مصر.98 مل تكن هناك أية بقايا للمعبد حلظة وصول البعثة الروسية إلي املنطقة. «ولكن من اجليد رؤية شكل املباني» ،-كما أشار إيفان تروفيموفيتش. كان خبري األورالي معجبًا حبرفية البناءين يف العصور السحيقة ،و«العمارة املتناسقة » اليت متيز «العصور القدمية» « ،والعناء يف االرتقاء بها هلذا اإلرتفاع».99 كما انطبعت يف ذاكرة بارودين العديد من الرسومات علي حوائط املعبد واألعمدة ،ورأي هناك عدة « شخصيات » من تاريخ مصر .وكانت احلوائط مزرقشة بالرموز « اهلريوغليفية » ،اليت مل يتسن للخبري األورالي قراءتهاُ . ونقشت علي األعمدة «طغريات خمتلفة األشكال » .ويذكر بارودين أن األلوان اليت رمست بها اللوحات كانت زاهية .100مع هذا قام السكان احملليون ،كما أشار إيفان بارودين ،بتجميع أنقاض حجارة املعبد لبناء عدة أكواخ منها علي اجلزيرة .عند بناء سد أسوان عام 1902غرق معبد إيزيس باإلضافة إلي مباني أخري يف جزيرة فيلة .ويف بداية السبعينيات من القرن العشرين مت نقلها إلي - 97أ .نوروف .المرجع األسبق .ص.180 ،162 . - 98أ .أي .بريم .رحلة عبر شمال شرق أفريقيا أو عبر البالد التي تقع تحت حكم مصر :السودان ،والنوبة ،وسنار ،وروسيرس ،وكوردفان .موسكو .1958 ،ص. .83 - 99األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .12. - 100نفس المرجع .ورقة .13 96
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
جزيرة إجييليكا (علي بعد 500مرت من جزيرة فيلة .تعليق املرتجم) العالية.101 مل تكتف البعثة ،أثناء وجودها يف جزيرة فيلة ،بتفقد املعبد القديم فقط من اخلارج .فقد صعد الرحالة الروس إلي أعلي املعبد (علي الرغم من خطورة تسلق املعبد املهجور) لإلستمتاع برؤية الضواحي القريبة .برزت علي اجلانب الغربي من اجلزيرة جلمود صخر فوق النهر باإلضافة إلي جبل شاهق .ويف الغرب ينكشف مشهد وادي صغري .كما وقعت أعني أعضاء البعثة علي قري صغرية يسكنها فالحون .كما انطبعت يف ذاكرة خبري التعدين األورالي حياة املصريني البسيطة « :علي جانب الشاطئ توجد عروش شجر النخيل ،وداخلها منازل صغرية أو جمرد أكواخ ،وعنابر من الطوب بال أناقة» .102يعم املكان اهلدوء والسكينة ،وال يسمع سوي «صوت مياه النيل املنهمرة بهدوء » - ،يذكر بارودين .كما تركت بساطة سكان املنطقة وأسلوب حياتهم املتواضع أثره البالغ يف نفوس الرحالة الروس اآلخرين ،الذين أحبروا عرب تلك املناطق .والزال “أ .س .نوروف” يتذكر األسرة النوبية البسيطة، اليت رآها يف هذا املكان« :جينون قوت يومهم من قطع صغرية من األراضي الرملية تغطيها طبقة رقيقة من الطميُ ،يري فيها فسيلة من حصاد الذرة» .103كان صعبًا عليه أن يطلق علي مساكن السكان احملليني قري :فعلي حد تعبريه ،فهي تذكره ألول وهلة باملخيم .كانت املنازل ملتصقة إما بإحدي األنقاض ،أو بشجرة خنيل ،أو بإحدي الصخور .كان الرجال يسريون عراة متا ًما ،فقد كانوا يرتدون شئ ما علي هيئة حزام؛ وكانوا مسلحني حبراب ،وأقواس وتروس ُمغلفة جبلد فرس النهر أو وحيد القرن .النساء تتحرك وهي ترتدي «أغطية» ،ولكن حتى الفتيات ً حزاما تتدلي منه شرائط .عرب شاطئ نهر النيل – البالغات كانوا يرتدون فقط قاموا بزراعة أحواض من الذرة والرتمس .يتميز النبات األخري بأزهاره الزرقاء الشبيهة بأوراق نبات الفول ،وحبوبه املرة ،اليت كان السكان احملليون يصنعون منها زيوت، ً وأحيانا حيولون احلبوب إلي يدهنون بها أجسادهم ويستخدمونها إلنارة املصابيح، دقيق لصناعة اخلبز.
خطوط االستواء يعترب يوم اخلامس عشر من يناير عالمة فارقة يف طريق البعثة عند إحدي النقاط علي نهر النيل .ويبدو أن مجيع الرحالة الروس ال يزالون يتذكرونها :وهلذا - 101يعبر الكاتب عن شكره لف .ف .بيليكوف علي تقديمه تلك المعلومة. - 102األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .13. - 103أ .نوروف .المرجع األسبق .ص.192 . 97
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
ليس من قبيل الصدفة أن يتذكر إيفان بارودين وري .ب .كافاليفسكي هذا اليوم ،الذي عربت فيه البعثة خط اإلستواء .حدث ذلك بالقرب من قرية كاالبشا. وبالطبع قام رئيس البعثة ،الذي علم منه خبري التعدين هذا احلدث ،بتقدير املوقف ووضع اإلحداثيات ،اليت كانت فيها البعثة ( 23درجة 37دقيقة 44ثانية) .كان هناك بعض األنقاض جبوار القرية ،وبالقرب شوهد مدخل مغارة كبرية .يا له من مكان بديع ،مل مينع من التأثر به حتى الشمس ،اليت لفحت وجوه أفراد البعثة بصورة ال حتتمل .وتذكر إيفان بارودين السكان احملليني – الربابرة« :بشرتهم أقرب إلي اإلمسرار ويتكلمون بلغة خاصة » .104ويف السابع عشرة من يناير رأي ً معبدا آخر علي الشاطئ الغربي لنهر النيل ،ولكنه كان حبالة جيدة، الرحالة 105 علي حد قول إيفان تروفيموفيتش« :كانت األبواب واهليكل علي حالتها» . ً سهال تفقد هذا البناء القديم ،مبا أنه كان مغطي بالرمال بارتفاع مل يكن ً اثنني ساجني تقريبًا .فلنعرض ولو لبعض الوقت وصف األماكن ،اليت متكن أعضاء البعثة من رؤيتها أثناء رحلتهم ،وحناول اإلجابة علي السؤال التالي :كيف كانت تبدو املركب ،اليت كان بارودين وكافاليفسكي ورفقائه يبحرون بها عرب نهر النيل؟ تساعدنا مذكرات “أ .أي .بريم” يف تفسري هذا األمر .فقد كان ً مسافرا عرب مصر والسودان عام ،1847-1848تقريبًا يف نفس وقت محلة ي .ب. كافاليفسكي (جرت الرحلة الثانية لعامل الطبيعة األملاني يف الفرتة بني عامي ( 1849و . )1852كان “أ .أي .بريم” يسري عرب نفس الطريق ،الذي سلكته البعثة الروسية ،مستخد ًما ً أيضا مراكب مشابهة ،واليت تركت أفضـل األثر يف نفس العامل األملاني « :من الصعب أن تتخيل رحلة أفضل من اليت تقوم بها علي منت مركب يف نهر النيل ،وخاصة إذا ما كانت مزودة جبميع إحتياجاتك ...تتمتع مجيع مراكب النيل بنفس الشكل .تشغل الكبينة أكثر من نصف طول املركب ،بينما يعترب اجلزء املتبقي ،الذي يرتفع عدة فوتات فوق مستوي الكبينة، ً مكانا حلفظ احلمولة ومأوي للبحارة .كما يبدو سطح املركب حتى منتصف الصارية ً متاحا أمام الركاب :فتلك املسافة مغطاه بسقيفة ،ميكنك أن تشم من حتتها رائحة زكية وتستمتع برؤية املناظر حولك .يقع املطبخ عند الصارية األمامية :وفيه كانون ،أو موقد ،حماط بصندوق خشيب للحماية من الرياح .بني الصارية األمامية وصارية املنتصف مقاعد للتجديف ...يف املعتاد كان هناك شراعني كبريين وآخر صغري علي منت الذهبية (املركب؛ والذي تعود أن يطلق - 104األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .13. - 105نفس المرجع. 98
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
عليه بارودين «داجابيا» – تعليق أ .ف .أنتوشني )» .106من الواضح أن اجلزء األكرب من رحالت البعثة الروسية عرب نهر النيل جرت علي منت تلك املراكب . ويف الطريق عرب نهر أفريقيا العظيم ظهرت بعض حيوانات تلك املنطقة .وبالطبع ً كثريا خلفت رؤية متساح النيل ذكريات ال ُتنسي .وكان رئيس البعثة قد قرأ من قبل عن هذا احليوان ،وهلذا ،بعد رؤيته ،تذكر السطور املكتوبة عن التمساح يف أعمال عامل اجلغرافيا الشهري جومبولد ،والقصص املختلفة عن استئناس التماسيح .107علي ما يبدو أن أفكار بارودين أخذت منحين آخر عندما رأي هذا ً متساحا علي الوحش ألول مرة يف 17من شهر يناير .يذكر بارودين ،أن البحارة رأوا ُبعد ،وأخربوا الرحالة الروس بذلك .يف البداية كانوا ينظرون إليه لبعض الوقت عرب النظارة املُكربة ،وبعد ذلك اقرتبوا منه أكثر .كان التمساح ً راقدا فوق الرمال ً طائرا ُيدعى أبو منجل » .عندما اقرتب املركب وبالقرب منه « يقف كاحلارس من التمساح مبسافة قريبة ً جدا ،ضرب الطائر «منخاره ،كما لو كان حيذره ،وهلذا انتصب التمساح واجته إلي املاء » .يف تلك احلالة أقر إيفان تروفيموفيتش فقط « ً متساحا ،علي الرغم أنه أشار إلي شعوره بالدهشة من رؤية « هذا حبقيقة رؤيته التنني املائي » ألول مرة. ولكن تشري مذكرات بارودين ،أن خبري التعدين األورالي ظل مدة طويلة حيتفظ يف ذاكرته بصورة هذا احليوان .كلما حتركت املركب يف أعالي نهر النيل وعلي متنها أعضاء البعثة ،كلما ازدادت أعداد التماسيح .يف بعض األحيان كانوا يرون عشرة وحوش ملقاه يف مكان واحد .ويذكر بارودين أن حجم البعض منها يصل إلي سبعة أرشني .تعلم “إيفان تروفيموفيتش” كيفية مالحظة السمات املميزة لتلك احليوانات ،وعاداتها ً ً «دائما وتطل أيضا .فهي ترقد برأسها يف اهلواء ،فاغرة أفواهها ،اليت ينسل داخلها طائر صغري » .يف بعض األحيان أقبل الرحالة الروس علي «اللهو» «واللعب » مع تلك الوحوش العمالقة .حيث كانوا يقرتبون منها ويطلقون النار من أسلحتهم وهم علي سـطح املركـب .حـينها كـان التمساح « ينـطلق ،وهو بني احللم واليقظة ،خبوف شديد يف املياه ،ثم يرتفع إلي سطح املاء » .وبعد أن يرتفع كان التمساح ينظر إلي املركب بعض الوقت « ،راغبًا ً شخصا من فوق سطح املركب» .108علي يف اإلنتقام لشعوره باخلوف ،بل وخطف - 106أ .أي .بيرم .المرجع األسبق .ص.71 . - 107مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.88-89 . - 108األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .14. 99
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
أية حال ،كانت تلك األلعاب حمفوفة باملخاطر حلد كبري ،ويف بعض األحيان كانت تنتهي نهاية سيئة .حتقق خبري التعدين األورالي بأم عينيه من خماطر هذه الوحوش اإلفريقية « :ذات مرة اصطدم املركب مبكان ضحل ،كما ذكر اخلبري ،وهلذا كان عليهم السباحة عرب اجلبال إلي اجلزيرة املقابلة من أجل سحب املركب .وعندما بدأ أحد العرب يف السباحة ،التقطه أحد التماسيح ...ومبجرد أن مت ختليصه ،تسبب التمساح يف جرح الكثريين ...وعندما توقف أحد الزنوج يف سن الثانية عشر تقريبًا بالقرب من الشاطئ ،وترك املقود من أجل التغوط ،التقطه التمساح وسحبه .ولقي األخري حتفه ».109
كوروسكا بعد يومني من رؤية البعثة للتمساح وقعت حادثة هامة يف التاسع عشر من يناير .وصلت البعثة الروسية إلي الشاطئ التالي حيث انفصلت ً أيضا عن القنصل الربيطاني .بعدما أصبحوا وحدهم ،تزود أعضاء البعثة بالطعام واملاء يف أحد املناطق السكنية – يف قرية كوروسكو .يبدو أن بعثة “أ .أي .بريم” وصلت يف 24من أكتوبر عام 1847إلي قرية كوروسكو قبل وصول بعثة كافاليفسكي بعدة أشهر .واألكثر من ذلك هو التشابه املثري للدهشة :فقد صادف عامل الطبيعة األملاني وجود فرقة من «عمال املناجم» ،الذين كانوا متوجهني ،بتكليف من حممد علي ،لبناء نفس ورشة غسل الذهب يف كاسان، اليت سرعان ما ستتوجه إليها بعثة ي .ب .كافاليفسكي! ويف اللحظة اليت وصل فيها أ .أي .بريم إلي كوروسكو ،كان هؤالء العمال متواجدين منذ ثـمانية عشر ً يوما هناك يف انتظار اجلمال للتوجه عرب الصحراء إلي املمر اخلطري .110بال ً أدني شك ،يوجد من بني هؤالء العمال أشخاصا تعرف عليهم “إيفان بارودين” ً شخصيا ،بل ومن سيساعدونهم يف استخراج الذهب. و “ي .ب .كافاليفسكي” ً ً حزينا انطباعا كانت كوروسكا علي ما يبدو قرية صغرية ،بل وتركت يف نفس خبري التعدين األورالي .يذكر أيفان بارودين ً الحقا ،أن هذه «املدينة » «: عبارة عن أكوام من الطوب اجملمع دون أي تنسيق» .كانت كوروسكا تتكون من عدة قري صغرية داخل ظالل عروش النخيل .وليس صدفة أن يتوقف “أ .بريم” وفريق “ي .ب .كافاليفسكي” يف هذا املكان :فقد كانت القوافل تتوافد إلي - 109نفس المرجع .ورقة .13-14 - 110أنظر :أ .أي .بريم .المرجع األسبق .ص.84 . 100
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
هذا املكان من املناطق الداخلية ألفريقيا السوداء .كانت جتارة ريش النعام إحدي أهم السلع الرائجة هناك .وبالقرب من كوروسكا بإمكانك رؤية العديد من آالت ً يوميا .وكان صرير عجالت تلك اآلالت الري ،اليت كانت تعمل يف أوقات الليل يزعج معظم أعضاء البعثة ،الذين توقفوا يف القرية للمبيت بعد تنقالتهم الشاقه. يذكر بارودين ،أن مسئولوا اإلدارات احمللية قدموا العون للبعثة ،اليت حتركت بتوصية من حممد علي .فقد ساقوا اجلمال إلي مكان لقاء فرقة كافاليفسكي، وملئوا له أكياس املياه ،كما أعطوا هلم كميات من اخلبز للطريق « .كان احملافظ يهرول ويدبر األمور بنفسه» ،علي حد قول إيفان تروفيموفيتش .مع هذا ً كثريا عن الحظ خبري التعدين األورالي أن ممثل اإلدارة احمللية مل يكن خيتلف سكان القرية البسطاء« :كان يرتدي سرتة من التيل األبيض ،وسراويل واسعة، وحيمل ً سيفا يف جانبه» .كان يرتدي طربوش أمحر علي رأسه ،وميسك يف يده دواة حرب حناسية وقصاصة ورق« :بالتأكيد ،من أجل تسجيل أوامره » ،كما كان يظن خبري التعدين األورالي. تقدم مذكرات خبري التعدين األورالي إطاللة علي نظام إدارة احملليات يف مصر إبان عهد حممد عليُ .دعي أعضاء بعثة ي .ب .كافاليفسكي إلي «منزل ً تعبريا عن املبين ،الذي كان رئيس احملافظ» ،وهو املصطلح الذي استخدمه بارودين، ً ً متهكما« :يطلقون عليه متواجدا فيه ،والذي يشري إليه إدارة السلطة احمللية منزل احملافظ» ،ولكنه ال يشبه أية مقرات أخري .فهو عبارة عن خمازن برية من الطوب ،مدهونة بالطني وبدون شبابيك ،كما أن األبواب مغطاه بقماش مسيك منسوج من أوراق شجر النخيل ...وبدل من املوبيليا ُصممت أقفاص من الطمي ووضع فوقها القماش السميك» .بدل من السقف ُغطي املنزل بنفس األقمشة املصنوعة من شجر النخيل ،اليت كانت خمصصة للنجاة من احلروق ،مبا أن األمطار نادرة يف هذا املكان .أثار مدخل «منزل احملافظ» اندهاش خبري التنقيب عن الذهب األورالي ،الذي تأقلم علي حياة ممثلي السلطات احمللية يف زالتؤوست. ً مرتمجا باللغة كان «احملافظ» يتحاور مع “ي .ب .كافاليفسكي” عرب الفرنسية .بعد ذلك ،كما ذكر بارودين « ،قدموا لنا فنجان قهوة ،ومل يتسن لنا رؤية زوجاته»« .كنا جنلس يف غرفة االستقبال ،ال توجد بها أبواب مفتوحة علي الغرف األخرى» .111مل يقتصر األمر علي ذلك فقط .فقد كان “إيفان تروفيموفيتش” يعلم أنه من غري املقبول لدي الشعوب اإلسالمية اختالط السيدات حبرية مع الرجال - 111األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .15. 101
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
الغرباء .فقد كان يدرك ً جيدا «أنه من املستحيل رؤية الزوجات ،فهم خيفونهم عن أنظار الناس ».
صحراء النوبة ً طويال .علي ما يبدو أن املسافرون بانتظار أصعب يبدو أن فرتة الراحة مل تستمر جزء يف رحلتهم عرب صحراء النوبة الشاسعة .يف العشرين من شهر يناير قاموا بشحن اجلمال ،ويذكر بارودين « :مرت قافلتنا عرب طرق متعرجة بني اجلبال وحيت الصحراء ،حيث تقضي مسرية تسعة أيام ،ال تري فيها ماء وال عشب وال غابة ،بينما تري جبال سوداء قاحلة ورمال حترتق من الشمس ».112 الزال مجيع أعضاء البعثة يتذكرون التسعة أيام كاملة . حيت رحالة خبري مثل ي .ب .كافاليفسكي يصف بشكل بديع الصعوبات ،اليت واجهتهم عندما جتاوزوا الصحراء ،وكيف كان السراب يالحقهم .وباملثل يروي اخلبري عن الرياح الرهيبة اليت حلقت بهم ،وكيف تعذبوا من الظمأ طيلة هذه األيام « .مل أري ً ً متذكرا صحراء شيئا يف حياتي أصعب من ذلك!» -يقول اخلبري، النوبة الشاسعة.113 إذا كانت تلك هي انطباعات ي .ب .كافاليفسكي ،الذي عرب مسالك صحراء وسط آسيا ،فكيف ميكننا تصور مدي صعوبة هذه األيام علي بارودين .يبدو أن مذكراته توضح ،أنه حتى يف أحلك أيامه مل ينس ،أنه ،قبل أي شيءً ، خبريا يف التعدين .وهلذا مل ختل مذكراته من وصف صخور اجلبال املختلفة ،اليت رأوها علي السطح .وظهرت أمام أعضاء البعثة الكثري منها بعد أن بلغوا منطقة جبلية يف اليوم الرابع واخلامس من رحلتهم عرب الصحراء .يذكر إيفان تروفيموفيتش رؤيتهم «صخر ديوريت أخضر» وحجر رخو وحجر احلية وحجر الصوان .كما متكنوا من رؤية صخور الكوارتز بألوانه املختلفة .والحظ خبري التعدين أنواع خمتلفة من اجلرانيت .أثار كل ذلك اهتمام خبري منطقة تعدين زالتؤوست ،الذي يشتهر بإقتنائه الصخور النادرة من مجيع أحناء اإلمرباطورية الروسية .وحيت الظروف العصيبة أثناء التنقل عرب الصحراء النوبية مل حتل دون اهتمام اخلبري األورالي باألشكال املتنوعة حلفريات املنطقة الصاحلة. - 112نفس المرجع. - 113مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.93 . 102
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
وفيما بعد انطبعت يف ذاكرة خبري التعدين األورالي جبال املنطقة « -مرتفعات ً يدويا من كل اجلوانب» .يتكون الوادي يف مستديرة»« ،تبدو كأنها مصقولة األساس من أحجار رملية ،كما لو كانت متهد الطريق للرحالة« :تسري عرب الطريق، بينما يصدر صوت عويل من الفراغ » ،علي حد ذكر إيفان تروفيموفيتش .علي الرغم من هذا املوقف ،إال أن خرباء التعدين الروس كانوا جيرون جتار ًبا يف حماولة الكتشاف خمابئ املعادن النفيسة يف تلك املنطقة .وهلذا قرروا جتربة نظرية عامل اجليولوجيا الربيطاني سالف الذكر “ر .مورشيسون” ،اليت تؤكد أن ظهور ً دليال علي وجود مكامن حتوي علي كميات كبرية من الطبقات الربكانية املعدن ،وخاصة يف مناطق تالقي تلك الصخور مع الطبقات الرسوبية ،واليت خترج من خالهلا إلي السطح .من املفرتض أن مناطق إلتقاء بعض الطبقات الرسوبية واملعادن النفيسة تنتشر يف مكامن رواسب الذهب وكذلك املكامن الناجتة عن االنهيارات .أخذ اخلرباء الروس القليل من الرمال يف منديل جيب أثناء تواجدهم يف املنطقة اجلبلية من أجل غسلها باملاء عند وصوهلم إلي البئر بعد ذلك .واصل أعضاء احلملة دراستهم املتأنية لطبقات اجلبال .وقبل الوصول إلي آبار (املورات) بيومني ،انتبهوا إلي أن طبقات صخور التلك تتفتت بواسطة صخور الديوريت و الصخور الربكانية املتفرقة ،واليت حتولت إلي صخور أرجوان وصخور احلية ً وتدرجييا أخذت اجلبال احمليطة بالرحالة يف اإلرتفاع أكثر وأكثر. وسيانيت.114 يف اخلامس والعشرين من يناير وصلت البعثة ً أخريا إلي البئر « :مل تكن املياه ً كثريا ،وعلي الرغم من إنبعاث الروائح ولونها املائل للخضار ،إال أنها يف البئر سيئه كانت صاحلة للشرب» ،كما ذكر إيفان تروفيموفيتش .كان فريق ي .ب. راضيا ً ً متاما عن تلك املياه بعد تلك الرحلة الشاقة .ومع إرهاقه من كافاليفسكي مسرية الصحراء ،أثار اهتمام إيفان تروفيموفيتش مقاييس هذا البئر .وأوضح أن عمق البئر كان يبلغ ثالثة أرشني ( 71سنتمرت .تعليق املرتجم) ونصف .ومت حفر البئر يف وهدة متتد بني اجلبال بطول سبع فرستا ( 1060مرت .تعليق املرتجم ) .كما انكشف منظر طبيعي للصحراء يف اجلوار .ومن وقت آلخر ميكنك رؤية أشجار (امليموزا) .عند رؤية هذه الصورة تداعت األفكار الطريفة يف رأس إيفان تروفيموفيتش « :كما لو كانت األشجار مزروعة وقت العيد أمام املنازل يف الساحة » .وبني اجلبال ميتد وادي نظيف منوذجي – فال شائبة باملكان ،حيث تزيل رمال الصحراء كل شيء . بالقرب من البئر متكن الرحالة الروس من أخذ ً قسطا من الراحة من عناء الطريق ً مندهشا أثر تعامله ألول مرة مع تلك وروي اجلمال .كان خبري التعدين األورالي - 114أنظر :ي .ب .كافاليفسكي .حوض النيل ...ص.83 . 103
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
احليوانات اليت ال غين عنها يف الصحراء« :أنها حيوانات صبورة لدرجة أنا تسري مخسة أيام دون شرب » .ويف هذا املكان التقت بعثة ي .ب .كافاليفسكي بقافلة كبرية ،وبها ما يقرب من 80مجل .اقرتب أصحاب القافلة من البئر علي أقدامهم ً ً واحدا» ،يتلفحون به ً دائما. «قماشا ومجاهلم احململة باملتاع ،وكانوا يرتدون وكانوا يتسلحون بسيف «ذو شفرتني» ورمح .وعلي حد وصف بارودين ،فلطاملا ظهرت فوائد هذا السالح يف باقي الطريق .فقد منا إلي علمه ،أن القوافل ً دائما ما كانت تتعرض هلجوم قطاع الطرق .مع هذا يشري خبري التعدين األورالي «أن هذا األمر مل حيدث معهم » .وبعد الوصول إلي البئر بدأ التجار يف التزود باملياه واستعادة قواهم لباقي رحلتهم. وكما جرت العادة يف الصحراء ،كان البئر مصدر حياة املنطقة بأكملها، ً فدائما ما كان الناس يسعون للسكن حوله .ولكن يف تلك املناطق كان من الصعب بالطبع توفري الطعام إلعداد كبرية من الناس .يكتب بارودين « :توجد ثالثة عرائش بدوية بالقرب من البئر .وعندما دخلت إلي إحداها ،كان األطفال كلهم عراه ومل أري عليهم أي مالبس ...مل أري من قطيعهم سوي ما يقرب من مخسة ماعز حنيلة وال يظهر منها تقريبًا سوي العظام ،وال توجد أعشاب لتقتات منها ».115 وقد أثار اندهاش خبري التعدين األورالي جمرد حقيقة وجود حياة يف هذا املكان وسط الصحراء النوبية .وهلذا سأل خبري التعدين مرتمجه ،علي ماذا يقتات هؤالء ً وخالفا هلذا ،إذا مرض الناس .أجابه املرتجم « :يقتاتون من عطاءات القوافل املارة ». ً ً مميتا) « ،يستقبله خطرا أحد األشخاص يف القافلة (مما يعترب يف تلك الظروف السكان بالقرب من البئر ملداواته ». استغل أعضاء البعثة وجودهم عند البئر ليكملوا جتاربهم .عندما جرت عملية غسل الرمال ،مت اكتشاف أجزاء دقيقة من الذهب ،مما يعترب دليال ً بينا علي توافر خمابئ املعدن النفيس يف تلك املنطقة .ولكن كانت مشكلة أعضاء البعثة الروسية تكمن يف إدراكهم اجليد أن استغالل تلك املناجم يف الصناعة صعبًا ً جدا. يقول إيفان بارودين ً آسفا« :لألسف ال توجد مياه بالقرب ،وال ميكن استعماهلا ألنها صعبة املنال» .116إرتأي بارودين أنه جبانب عدم توافر املياه ،فإن نقص األخشاب ً حائال دون تطوير صناعة استخراج الذهب يف تلك املنطقة .فال واألعشاب وقف تبدو علي املنطقة «أي مظهر من مظاهر احلياة» .كان خبري التعدين األورالي يدرك - 115األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .15. - 116نفس المرجع .ورقة .15 104
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
أن غياب مصادر املياه ،ووسائل املواصالت البدائية أدت إلي بقاء الذهب ،الذي كان ً «كنزا خمبًأ حتت األرض». من املمكن أن يكون مصدر ثراء حممد علي ،جمرد عادت قافلة “ي .ب .كافاليفسكي” إلي طريقها مرة أخري .ويف طريقهم رأوا شواهد غدر الصحراء النوبية الشاسعة ،وكيف أنها تعاقب بقسوة كل من يتهاون يف تقدير قوتها ،أو من تباغته السموم علي حني غرة أو من ينضب خمزون املاء والطعام لديه .شاهد الرحالة الروس على طول الطريق مناذج حمزنة لضحايا الصحراء .كتب بارودين « :يف طريق مرور القوافل تتناثر يف كل خطوة تقريبًا عظام اجلمال والثريان وقبور ألشخاص مل يتحملوا مصاعب الطريق .117»...وتفاقمت خماوف تلك الصورة بعد حتذير البعض الواردين علي البئر من زيادة متاعب أعضاء البعثة الروسية .كان التجار ،الذين قابلوهم ،خييفونهم من نفوق حوالي نصف مجال قافلة ي .ب .كافاليفسكي بعد اجتياز الصحراء .ولكن ،حلسن احلظ ،مل ينفق سوي مجل واحد خالل ثالثة عشر ً يوما يف الطريق .أثناء مسرية أعضاء البعثة عرب الصحراء ،كانوا مضطرين لركوب اجلمال .كان ي .ب .كافاليفسكي ً متعودا منذ فرتة علي امتطاء هذا احليوان ،فبعثاته العديدة مل تعطه الفرصة جيدا علي طباع اجلمال فقط ،ولكن ً للتعرف ً أيضا للتمييز بني أنواعها .يعرتف ً كافاليفسكي ،قائال« :يف املاضي اعتدت علي ركوب اجلمل ،وتعاملت معه عن كثب يف أفريقيا وآسيا ...أنه أمر حمبب إلي قليب! إذا تثين له تتبع رحالتي ً ضروريا أن أنهي حياتي فوق اجلمل » .118علي اجلانب السابقة عن كثب ،سيبدو اآلخر ،تعامل بارودين بصورة مغايرة متا ًما مع اجلمل . من الواضح أنها املرة األولي له ولصديقه – عامل غسل الذهب فومني ،اليت يرا فيها هذا احليوان .فقط يف تلك احلملة كان عليهم امتطاء اجلمل والرتنح خلف سنامه ً ودائما ما كان إيفان تروفيموفيتش يذكر « أن الكبري أثناء السري يف الصحراء. ً خميفا حينما ال متتطي هذه احليوانات» .وظل يذكر حادثة طريفة مرتبطة األمر باجلمال ،عندما سقط أحد األعضاء املنضمني إلي فريق ي .ب .كافاليفسكي، عامل الطبيعة سينكوفسكي من فوق اجلمل « وأصيبت مؤخرته » .119وسقط بارودين نفسه ذات مرة من فوق اجلمل ،وأتلف الباروميرت الذي كان ميسكه بيده يف تلك اللحظة. - 117المرجع األسبق .ورقة .16 - 118مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.115 . - 119األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .17. 105
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
علي كل حال ،تعود سينكوفسكي وبارودين بالتدريج علي هذا احليوان. أدرك إيفان تروفيموفيتش كيفية التعامل مع هذا الوحش ،الذي رآه ألول مرة« :جيب امتطائه وهو جالس عندما يرفع مؤخرته .ومبجرد أن تثبت فوقه... احرتس حيت ال تسقط مرة أخري علي األرض» .علي الرغم من ضرورة احلفاظ علي تركيزك أثناء ركوب حيوان مثل اجلمل ،إال أنه بنهاية الرحلة كان خبري التعدين قد أمل بطباع هذا الوحش « :ميشي اجلمل يف طريقه ،وإذا به خير علي ركبتيه اخللفيتني دون إكرتاث»ُ .يكمل إيفان تروفيموفيتش، ً قـائال« :أن السفر باجلمال يف مثل هذا املكان حتت الشمس احلارقة يعترب عذا ًبا» .120اتفق الكثريون ممن سافروا عرب الصحراء علي هذا الرأي. يف التاسع والعشرين من يناير جاء اليوم املوعود ،فقد انتهت مسرية األثين عشر يو ًما عرب صحراء النوبة الشاسعة .يبدو ي .ب .كافاليفسكي إعجابه لذلك، قائال« :ال ميكنكم ختيل مقدار سعادتنا عندما وصلنا إلي املياه ! بالتأكيد ال ميكنكم التخيل ،إذا مل متروا مبثل هذا املوقف .يف التاسع والعشرين من يناير ( 10فرباير) حوالي الساعة الثالثة رأينا يف األفق مياه رقعة زرقاء ...أنها نهر النيل ».121 وصل أعضاء البعثة ً أخريا إلي نهر النيل الشهري ،الذي يعرف لدي الرحالة مبذاق مياهه العذب .علي سبيل املثال يذكر أ .أ .رافالوفيتش « :مياه نهر النيل هي أنقي وأفضل مياه ضمن ثالث أماكن علي وجه األرض تصادف وجودي بها ،باستثناء مياه إحدي اجلداول اليت متر عرب مدينة بعلبك يف سوريا ،واليت ،علي ما أعتقد ،أفضل» .يشري الرحالة الروسي أن مياه النيل عكرة تقريبًا طوال العام بسبب احتوائها علي نسبة كبرية من شوائب الطمي احلمراء املائلة لإلصفرار ؛ فقط يف فصل اخلريف تصبح املياه أكثر نقا ًءا .ولكنها « نقية حلد كبري وطعمها عذب ،ومهما شربت منها ،ال تؤدي ألي أمل أو إرهاق يف املعدة ».122 أخريا يف أخذ ً يف القرية التالية رغبت البعثة ً قسطا من الراحة واإلرتواء من مياه نهر النيل .ولكن مل تبد اإلدارة احمللية نفس النشاط ،الذي كان يتمناه مندوبوا حممد علي املرافقني للبعثة .حيت أنهم اضطروا الستخدام العقاب البدني .قام « املقدم » املالزم لبعثة ي .ب .كافاليفسكي بضرب « حمافظ املنطقة » 50ضربة انطباعا ً بالعصي على ظهره ألن األخري مل يوصل هلم ً ً ً سيئا صافيا .وترك ذلك لبنا يف نفس خبري التعدين األورالي ،وأحد سكان اإلمرباطورية الروسية اإلقطاعية، - 120نفس المرجع .ورقة.17 . - 121مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.109 . - 122أ .أ .رافالوفيتش .رحلة عبر صعيد مصر ...ص.181-182 . 106
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
والذي ،علي ما يبدو ،قد تأقلم علي حدوث كل ما خيطر علي البال يف مناجم الذهب مبياس .وباملقارنة باإلجراءات يف روسيا إبان حكم اإلمرباطور “نيكوالي”، كان اإلضطهاد يف الشرق يف عهد حممد علي رهيبًا من خالل استخدام القسوة ً قائال« :كان بشكل علين وفاضـح .فيما بعد يعرب إ .ت .بارودين عن أساه لذلك، رهيبًا رؤية ذلك». 123 أكمل أفراد البعثة طريقهم بعدما رووا ظمأهم وقضوا الليل يف تلك القرية . ومن هنا بدأوا يف رؤية قري صغرية .فالنيل يقع باجلوار ،وهلذا استطاع الناس تدبر قوت يومهم من خالل اإلمكانيات ،اليت أتاحها هلم نيل أفريقيا العظيم .يف تلك األيام رأي خبري التعدين األورالي الكثري من األشياء املمتعة والغريبة ،واليت ال تشبه ما رآه يف روسيا .وقعت يف الثاني من فرباير أحد أبرز األحداث اليت انطبعت يف ذاكرته .يذكر خبري التعدين ،أنه يف هذا اليوم « لدي اقرتابهم من إحدي القري رأوا عن بعد بريق سيوف ،وظنوا أن اجلنود يتدربون علي املبارزة .ولكن عند اقرتابهم أكثر مسعوا وقع الدفوف وصوت غناء .جتلس مجيع السيدات حول أحد املنازل ، بينما تضرب اثنتان منهن علي الدف واألخريات ينشدن إحدى األغاني .علي بعد عدة ساجني جيلس الرجال بدورهم يف جمموعة بشكل متحفظ وبصمت .ظننا ً مرتمجا. أنه رمبا يكون أحد األعياد ،ومل أجد من أسئله عن هذا ،فلم يكن هناك ومرت القافلة أمامهم... مبجرد أن تناولنا طعام الغداء رأينا حشد من الناس خيرج من القرية باجتاهنا، وبدأنا يف جتاذب أطراف احلديث :يبدو أنهم يريدون إضفاء بعض املرح علينا، ولكن بدي األمر غري ذلك .يسري الشيوخ يف املقدمة وحيملون يف أيديهم طوب. يسري خلفهم أربعة سيدات ويبكون حبرقة ومن ورائهم شابني شاهري سيوفهم ويزأرون بأعلي صوتهم وتنهمر الدموع علي وجوههم .يف اخللف حيملون نعش ميت ويسري ورائه مجيع احلشد.124»... بعد أن مروا بالنعش أمام أعضاء البعثة ،هرول األعضاء وراء املوكب .فقد أثارهم الفضول ملشاهدة ،كيف جتري مراسم التشييع لدي من قابلوهم من األفارقة. ً مرامسا مثرية لإلهتمام .فقد وضعوا النعش علي األرض بالقرب من وبالفعل رأوا املقربة .بدأ الشيوخ يف إعداد الطمي من أجل دهن الطوب ،بينما صعد الشابان بسيفيهما املشهرين علي جانيب املقربة « وأخذا ميارسان أشكال خمتلفة من - 123األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .17. - 124نفس المرجع.ورقة .18 107
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
املبارزة بالسيوف»« .كانت الزوجات تنوح وهن جالسات علي األرض ،ويعانقن بعضهن البعض والدموع يف أعينهن - ،علي حد وصف إيفان بارودين .واقرتب منهن بعض الرجال ،وربتوا علي كتوفهن إلقناعهن ،بالتأكيد ،بعدم البكاء .بعد ذلك كونوا حلقة وبدأوا يف الغناء ...كان البعض جيري إلي داخل احللقة ويذر الرمال فوق رأسه وحيركها للوراء بينما تتمايل أجسادهم » .بعد ذلك أنزل الشيوخ النعش داخل املقربة وبدأوا يف وضع الطوب ودهنه بالطمي .مل ينتظر أعضاء البعثة الروسية حتى تنتهي مراسم التشييع ،حيث أن قافلتهم قد حتركت ً بعيدا. ً منوذجا ً جليا إللتقاء حضارتني وثقافتني .فقد شعر خبري متثل هذه القصة صناعات الذهب الروسي مبدي صعوبة فهم أناس ينتمون لثقافة أجنبية .فمن الصعب حدوث ذلك ،خاصة يف الظروف اليت وقعت فيها بعثة ي .ب .كافاليفسكي .فقد كان من بني البعثة مهندس تعدين مؤهل ،وخرباء تعدين وعامل طبيعة ً أيضا ،يبدو متخصصا ً ً واحدا يف ثقافة الشعوب اإلفريقية (ومل يكن يف روسيا أنه مل ينضم ولو مثل هؤالء يف ذلك الوقت) .ولطاملا أشار “إيفان بارودين” يف مذكراته إلي مشكلة جهل أعضاء البعثة الروسية باللغات اإلفريقية .فمن البديهي أن يشعر أن عدم معرفة اللغات سيساهم يف تكوين صورة حمدودة عن أفريقيا وشعوبها .واألكثر من ذلك :يف مثل تلك احلاالت اليت طاملا وصفناها من قبل ،ميكن هلذا املوقف أن ميثل مشكلة حقيقية ،بل وميكن أن يشكل ً خطرا علي حياة أعضاء البعثة.
سلطنة سنار بعد تلك األحداث وصل فريق بعثة ي .ب .كافاليفسكي يف اليوم التالي، الثالث من فربايرً ، أخريا إلي منطقة سكانية مكتظة حلد ما -مدينة بربر (حمارف). وطأت قدم أعضاء البعثة األرض اليت ظلت لوقت طويل مستقلة عن سلطنة سنار. فهي عبارة عن دولة كانت تضم يف املاضي أراضي شاسعة من وادي النيل من حدود مصر يف الشمال وحتى فاشودا يف اجلنوب ،كما كانت تضم أراضي اجلانب الشرقي من النيل حتى شاطئ البحر األمحر وأثيوبيا ،واملناطق الشاسعة املتامخة للشاطئ الغربي لنهر النيل .يف الواقع كانت سنار تستحوذ علي مجيع األراضي بني النيل األبيض والنيل األزرق ووادي نهر راحات ونهر الدندرة .كان الفونج (اسم يطلق علي أسرة سالطني سنار األولي بني .1504-1821تعليق املرتجم) السكان األصليني لسلطنة سنار ،والذي التقي بهم أعضاء بعثة ي .ب .كافاليفسكي أكثر من مرة .امتدت علي طول وادي النيل ممالك مستقلة عن سنار ،ومن بينها دوجنل وشاجيي وشندي وغريها جبانب مملكة بربر. 108
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
ولكن يف اللحظة ،اليت وصل فيها إيفان بارودين ورفقـائه إلي تـلك املنـطقة ، كانت أيام ازدهار سنار قد ولت .تعرضت مدن السلطنة لإلنهيار أثناء محلة القوات املصرية اليت بدأت عام 1820وعلي رأسها إمساعيل – ابن حممد علي .كان اجليش املصري يتكون من 600جندي مشاه تركي وعدة كتائب من سالح الفرسان الرتكي و 800بدوي وسكان من صعيد مصر وقوات خمتلطة من الرببر واألفارقة الذين مت استجالبهم من وسط أفريقيا .كان جيش إمساعيل بك يتكون من جنسيات عديدة من األلبان وساليف اجلنوب واألكراد واملهاجرين من القوقاز .يشري املؤرخ السوفيييت “س .ر .مسرينوف” أنه باإلضافة إلي ذلك ،فقد مت تدعيم اجليش املصري « بوحدات من املدفعية حتت قيادة ظباط أمريكيني » .125إذا كان اجليش املصري ميلك وقتها كثري من األسلحة النارية ،فإن اجليش السوداني كان ميلك قطع منها فقط . مع ذلك حاولت قبائل شاجيي تنظيم مقاومة شرسة ،ولكنهم ُهزموا يف املعارك بالقرب من كورتي (يف نوفمرب عام )1820وبالقرب من جبل دايكا (يف ديسمرب عام .)1820بعد أن دخلت القوات املصرية إلي واد -مدني ،استسلم سلطان سنار بادي اخلامس أمام إمساعيل باشا .ويف اخلامس من مارس عام 1821احتلت مدينة بربر ،وبعد أسبوع ،يف الثاني عشر من مارس جاء الدور علي مدينة شندي .ويف الرابع عشر من يونيو عام 1821دخلت القوات املصرية إلي عاصمة السلطنة – سنار. كانت الغزوات اليت قام بها حاكم مصر زائعة الصيت يف أوروبا ،حيث جلبت له ً معارضا اجملد باعتباره إمرباطو ًرا .حتى “ن .ن .مورافيف كارسكي” الذي كان حملمد علي ،كتب فيما بعد« :كان خضوع البدو ،الذين دعموا سلطة حممد علي يف الصحراء العربية ،باإلضافة إلي احلملة اليت قام بها يف عمق أفريقيا لغزو النوبة ودارفور ودوجنل وسنار ،الفضل يف إضفاء ً ً جديدا علي سالحه ،بل بريقا 126 وساهمت يف القضاء علي فلول املماليك املختبئة يف النوبة » . مع هذا مل يكن لدى السودانيون النية يف إلقاء السالح ،أو اخلضوع ملصر .ويف خريف عام 1822اندلعت ثورات علي أراضي سنار .لقي إمساعيل بك حتفه علي يد الثوار يف شندي أثناء عودته إلي مصر .يف نفس الوقت وقعت القوات املرابضة يف بربر حتت الحُ صار .اجتاحت الثورة اجلزء األكرب من البالدً ، وطردت القوات املصرية خارج مدن عديدة على نهر النيل. - 125س .ر .سميرنوف .تاريخ السودان ( .)1821-1956موسكو .1968 ،ص. .30 - 126ن .ن .مورافيف (كارسكي) .المرجع األسبق .ص.24 . 109
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
يف ذلك الوقت بدأت محلة إنتقامية وعلي رأسها صهر حممد علي .نتيجة لذلك احرتقت مدينة شندي ،وبعد مرور عدة سنوات ُقضي علي ما يقرب من 50ألف مواطن من سلطنة سنار .نتيجة لتلك الثورة تعرض نظام إدارة األراضي يف سنار للتغيري .فقد ترأس تلك اإلدارة حاكم مصر – احلكمدار .كانت البلد مقسمة إلي حمافظات (خرطوم وبربر وفازوغلي وغريها) .وعلي رأس كل حمافظة يوجد مدير .كان القانون الرتكي يف األحوال املدنية واجلنائية يسري علي أراضي السودان .وقبل وصول بعثة ي .ب .كافاليفسكي إلي السودان بعدة سنوات ،يف عام ً 1845عرفت وظيفة قاضي القضاه يف مجيع أحناء البالد .ويف حالة اإلستئناف ميكن للمدعي التوجه إلي حمكمة خرطوم التابعة للمحكمة العليا يف مصر. هكذا بدت السودان أثناء تواجد بعثة ي .ب .كافاليفسكي علي أراضيها.
بربر ً سابقا ،فإن مدينة بربر أولي املدن الكربى ،اليت رآها إيفان بارودين كما أشرنا ورفقائه .أشار ي .ب .كافاليفسكي يف وصف تلك املدينة أن بربر « -مدينة علي ً كثريا يف مصر ،واليت ال يوجد الكثري ليقال عنها ؛ حنو املدن ،اليت كنا نراها ً ً مميزا :مباني التوكول (نوع من املباني يف السودان .تعليق طابعا مع هذا متلك املرتجم ) ،ومنازل صغرية مستديرة من اخلوص ،تثري البهجة من اخلارج ،وتتميز بأسقفها» .127مل تنطبع يف ذاكرة إيفان بارودين أي شيء مميز عن املدينة. ويذكر األخري أن بربر ،علي الرغم أنها «ليست مجيلة يف الشكل املعماري »، إال أنها تتمتع خباصية رائعة « :حيث يوجد بها الكثري من احلدائق الغنية بثمارها ً بعيدا عن املناطق السكنية توقف أعضاء محلة املتنوعة » .128بعد مسرية طويلة ي .ب .كافاليفسكي يف سوق املنطقة لشراء بعض البطيخ .وما أثار اندهاش بارودين هو حجم البطيخ« :البطيخ كبري احلجم لدرجة أنك ال تستطيع محل أثنني ً ً وخالفا للبطيخ رأي سويا» .استلذ إيفان تروفيموفيتش ورفقائه من طعم البطيخ. أفراد البعثة العديد من الثمار الغريبة األخرى .وما لفت انتباههم ،أن معظم سكان املنطقة من السود .ظهرت أفريقيا السوداء الشهرية ،اليت مل يرها أي شخص من سكان األورال األصليني من قبل. - 127مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.117 . - 128األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .19. 110
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
بعد قضاء اليوم يف بربر ،ركب الرحالة املركب وبدأوا يف اإلحبار بإجتاه أعالي نهر النيل.
شندي وصل أعضاء بعثة ي .ب .كافاليفسكي إلي مدينة شندي يف السادس من فرباير .بعد كارثة عام 1822مل تشهد مدينة شندي استقرا ًرا بعد محلة التنكيل اليت قام بها صهر حممد علي .يف نهاية األربعينيات بلغ تعداد سكان املدينة ما يقرب من 4آالف مواطن .ورمبا هلذا السبب مل تقض بعثة ي .ب .كافاليفسكي يف املدينة سوى ما يزيد علي ثالثة ساعات بقليل .قضي أعضاء البعثة معظم الوقت يف زيارة سليمان باشا – اجلنرال اإلقطاعي وحمافظ شرق السودان .وصل سليمان باشا بنفسه إلي مكان لقاء البعثة الروسية علي منت املركب وبصحبته عدد من املوظفني .إنه شخص تركي راشد بشوش ومرح ً جدا .وبعد زيارة املركب أخذ علي عاتقه التنظيم الستقبال أعضاء البعثة يف مقره .أخذ سليمان باشا والرحالة الروس يدخنون الغليون ويشربون القهوة وجيرون حوا ًرا ً هادئا .تعترب هذه ً مدهشا أن تظل الرفقة أفضل راحة إلفراد البعثة بعد رحلة شاقة للغاية .وهلذا ليس لدي بارودين و ي .ب .كافاليفسكي إنطباعات طيبة للغاية من هذه الزيارة. ً حتديدا ،فإن معظم املنازل ،كما ذكر بارودين ، وفيما يتعلق مبدينة شندي كانت مغطاة بأسقف من القش .129وكانت العديد من قطعان احليوانات املتوحشة ترعى يف املروج اجملاورة ،وحتلق فوق النيل أنواع خمتلفة من الطيور .ركز إيفان تروفيموفيتش االهتمام على مدى تطور الزراعة يف تلك املنطقة ،حيث الطقس أفضل من األماكن الصحراوية ،اليت مر عليها أعضاء البعثة ً سابقا .يشري األخري «أن املروج مزروعة بكثري من حماصيل القمح واخلضروات » .130علي كل حال ،كان الطقس حا ًرا ً جدا يف تلك املنطقة ،لدرجة أن البقاء علي سطح املركب أثناء التوقف ً ً عمليا .وعند اجللوس كان اجلو خانقا لدرجة أنهم كانوا مضطرين غري ممكن لسكب املياه على حوائط املركب أثناء توقفها. ً طويال .فاحملطة التالية للروس هي اخلرطوم .من ولكن مل تستمر فرتة الراحة ً جذريا عن النهر اإلفريقي املالحظ أن أعضاء البعثة الروسية قد غريوا وجهة نظرهم - 129األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .19. - 130نفس المرجع .ورقة .19 111
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
العظيم أثناء حتركهم عرب نهر النيل .منا إلي علم ي .ب .كافاليفسكي أن جومبولت وعدد من علماء اجلغرافيا األوروبيني اآلخرين قد أشاروا إلي وجود نهر عطربة ،الذي يصب يف النيل علي اجلانب الشرقي ،علي بعد عدة مئات فرستا جنوب اخلرطوم .مع هذا يعلن رئيس البعثة يف مقالته علي صفحات «جملة التعدين»: «متكنت اليوم من اكتشاف نهر آخر يصب يف النيل من اجلانب الغربي ،يطلق العرب عليه عبود؛ يشق طريقه عرب صحراء النوبة الصغرى ويصب يف نهر النيل يف جنوب مرياوي » .131من املالحظ أن إيفان بارودين قد أشار ً أيضا يف مذكراته ً ً إهتماما كبريا بهذا إلي جناح البعثة يف تأكيد هذه احلقيقة ،132ولكنه مل يول اإلكتشاف ،مع عدم علمه باكتشاف جومبولت ،علي عكس رئيسه .
اخلرطوم ً انطباعا مهيبًا تركت اخلرطوم ،حيث وصل أعضاء البعثة يف التاسع من فرباير، ً جدا علي نفس رحالة خبري مثل ي .ب .كافاليفسكي :فقد بدت له املدينة ،بعد زيارة القاهرة واإلسكندرية« ،واحدة من أفضل مدن مصر » .يذكر مساعد رئيس منطقة تعدين زالتؤوست« :أن املنازل مـوزعة بشـكل فين رائع وحماطة باحلدائق ،واليت ليس من الضـروري إيالئها عناية خاصة :فهي تنمو بفـضل الطقس الرائع واألمطـار دائمة السقـوط؛ الشـوارع نظيـفة ومسـاحة امليـادين شـاسـعة » .133من ً مستخدما نفس املدهش أن صديقه يف الرحلة -إيفان بارودين قام بوصف اخلرطوم ، العبارات ،دون إتفاق مسبق مع رئيسه .فقد بدت له اخلرطوم «األفضل يف البناء املعماري ،إذا ما قورنت بسائر مدن هذا البلد» .بعد مسرية تسعة أيام يف صحراء النوبة وبعد رؤية مدينيت بربر وشندي احملطمتني علي يد قوات حممد علي ،خلف الفن املعماري خبرطوم وحقيقة أن مجيع مباني املدينة بشكل رئيسي من احلجارة ً انطباعا ً خاصا يف نفس خبري التعدين األورالي . ً متواجدا مع هذا مل تثر «أحد أفضل مدن إفريقيا» إعجاب أ .ي .بريم والذي ،كان يف اخلرطوم يف األربعينيات ،علي حد علمنا .ويصف األخري عاصمة السودان احلالية بشكل خمتلف متا ًما« :قبل الوصول إلي املدينة ،تصادف يف الطريق رؤية - 131ي .ب .كافاليفسكي .حوض النيل ...ص.80 . األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. 132 ملف .559ورقة .20. - 133مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.126 . 112
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
جيفة مرتبة وعفنة ،وتري قاذورات أخري عند عبور امليدان واجلسر املبين حلماية املنازل من فيضان النهر .يؤدي هذا الطريق إلي الشارع الرئيسي يف اخلرطوم ،الذي يقطع املدينة من الغرب إلي الشرق؛ من املمكن الوصول إلي السوق من خالل هذا الطريق » .يف ذلك السياق يؤكد عامل الطبيعة األملاني ،أن مجيع شوارع املدينة تبدو علي هذه الشاكلة « :يف أوقات العام ،حيث الطقس ً جافا تبدو الشوارع الرملية مليئة باألتربة؛ بينما تبدو أثناء تساقط األمطار برك وأكوام من الوحل . ولكن ما ال ميكن ختيله درجة احلرارة املرتفعة والرائحة النتنة املنتشرة بها يف مجيع أوقات العام».134 كما هو احلال بالنسبه لي .ب .كافاليفسكي ،انطبعت يف ذاكرة بارودين صورة خمتلفة .فقد أشار إلي وجود « عدد وافر من احلدائق » يف اخلرطوم .وكان الربتقال من بني فواكه تلك احلدائق ،اليت أثارت اهتمامه ،بل كانت مدعاه للمقارنة من جانب خبري التعدين األورالي ،الذي طاف ممالك الدوناي والقسطنطينية ورودوس ومصر .وبعد أن تذوق فواكه اخلرطوم ،أشار يف كتاباته ،أن الربتقال يف تلك املنطقة « علي الرغم من حجمه الصغري ولونه األخضر ،إال أنه يخُ رج عصري أكثر مبرتني من برتقال قربص ».135 وبـالـطبـع مل يـكن الشـغل الشـاغـل ألعـضـاء بـعـثة ي .ب .كافاليفسكي يف اخلرطوم تذوق الربتقال احمللي فقط .مبجرد مغادرتهم الصحراء سقطوا يف شبكة من التناقضات السياسية املتشابكة .كانت عاصمة السودان ً ً ً ً مقصدا لعديد من القوي .كانت كبريا ، دينيا مركزا املسـتقبلية ،اليت ُتعد الكنيسة الكاثولوكية حتاول القيام بلعبة سياسية حمسوبة .فاحلديث الذي ورد يف مذكرات بارودين مع ممثلي هذه الكنيسة يدل علي عدم اخلربة والسذاجة« :التقينا بالوفد ،الذي أرسله البابا من أجل الرتويج لبناء كنيسة يف أثيوبيا ...دخلنا إلي أسقف مريض يف حديقة ،يوجد بها منزل صغري ،وتنمو حوله شجرة عنب ،وبالقرب من الباب توجد أشجار ليمون وبرتقال ورمان وموز ،وكذلك أشجار خنيل ،تتدلي منها ثـمار البلح » .136بعد لقاء األسقف املصري مل يتذكر ً متعودا خبري التعدين األورالي يف منزله سوي أسد مروض .هذا الوحش الصغري كان علي الناس ،ومسح هلم بإطعامه ومداعبته بأيديهم ... - 134أ .أي .بريم .المرجع األسبق .ص.148 . - 135األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .20. - 136نفس المرجع .ورقة .19 113
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
بالطبع قام ي .ب .كافاليفسكي بذكر نفس املوقف بشكل خمتلف ً متاما. بالنسبة ملوظف تعدين حمنك من املدهش متا ًما قيام الكنيسة الكاثولوكية يف السودان بعمل تروجيي يف مثل هذا املوقف .فمن املفرتض أن عمل بعثة ي. ً جتاريا ،أكثر منه ً ً دينيا» .137وهلذا كان يتعامل سياسيا ب .كافاليفسكي « بتوجس مع األسقف ريللو الشاحب اهلزيل ،والذي كان خيطط إلرسال جمموعة من املبشرين مع بعثة ي .ب .كافاليفسكي إلي فازوغلي .
واد مدني بعد عبور مدينة اخلرطوم ،كما يذكر إيفان بارودين « ،يتفرق النيل إلي فرعني ذو أمسني خمتلفني ،األبيض واألزرق » .بعد قضاء ثالثة أيام يف عاصمة السودان املستقبلية ،بدأت البعثة الروسية اإلحبار إلي احملطة التالية عرب النيل األزرق .مر الرحالة يف طريقهم مبدينة واد مدني َ (و ْد َم َد ِني مدينة تقع يف وسط السودان على ارتفاع 409مرت فوق سطح البحر .تعليق املرتجم) حيث توقفوا ملدة قصرية – نصف يوم .كانت املدينة صغرية ،ومل تكن لترتك إي انطباع خاص يف نفس الرحالة .علي سبيل املثال ،مل يذكر أ .أي .بريم عن تلك املدينة سوي أنها كانت تتكون يف األساس من ختشيبات طينية ،يطلقون عليها السكان احملليون تاناكا .138مع هذا ظهر يف اجلوار الوجه احلقيقي لقارة أفريقيا أمام أعني الرحالة الروس علي شاطئ نهر النيل .لكم أثارت خميلة أعضاء بعثة ي. ب .كافاليفسكي تنوع أشكال نباتات وحيوانات املنطقة ،وخاصة بعد املشهد الرتيب أسفل جمري نهر النيل وامللل الفظيع يف صحراء النوبة الشاسعة .حيت رحالة ً صامتا أمام هذا املشهد: علي قدر من احلنكة مثل رئيس البعثة مل يستطع الوقوف 139 «يا جلمال الطبيعة ! ما أغرب هذا التناقض العجيب مع مصر! » احبرت بعثة ي .ب .كافاليفسكي ثـمانية أيام من اخلرطوم عرب النيل األزرق .يف العشرين من فرباير جنحت املركب يف املياه الضحلة ،واضطروا للنزول إلي الشاطئ والسري « بقطعة حديد صغرية » علي أقدامهم حيت مدينة سنار .وقبل الوصول إلي مدينة سنار بقليل رأي الرحالة الروس يف تلك املنطقة وفرة من النباتات ألول مرة بعد الراحة الطويلة .يف البداية ،علي حد ذكر إيفان تروفيموفيتش ،ظهرت أشجار ميموز - 137مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.128 . - 138أنظر :أ .أي .بريم .المرجع األسبق .ص.537 . - 139مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.133 . 114
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
قصرية ومن بعدها أشجار السنط والنخيل .قام خبري التعدين األورالي بتقييم شجر ً مشريا أنها شجرة عالية ،ولكنها «ضعيفة وال تصلح النخيل من وجهة نظر عملية، للبناء » .ورأي ً أيضا أشجار اجلميز ،اليت تنمو عليها ثـمار «التني» .كما انطبعت يف ذاكرته «أشجار الرمان» وهي عبارة عن «شجريات تتدلي منها ثـمار رمان ذات طعم لذيذ» .وتصادف رؤية أشجار «الشزندرة» بسيقان «ملتوية» غري مسيكة . وبنفس الشكل تقريبًا بدت له «أشجار الربتقال» .رأي خبري التعدين األورالي شجرة موز بأوراقها العريضة وطوهلا املتوسط .حاذ مذاق ثـمار املوز علي إعجاب إيفان تروفيموفيتش « .أكرب» األشجار اليت رآها بارودين هي الباوباب األصبعي (االسم العلمي :التبلدي األصبعي .تعليق املرتجم ) بثماره اليت تستخدم ،علي حد قول اخلبري األورالي ،يف إعداد «شراب الليمون» .يذكر بارودين ،أن «هلذا الشراب مذاق رائع».140
سنار سرعان ما وصلت البعثة إلي سنار – عاصمة سلطنة السودان القدمية .يف وقت ما كان مدينة كبرية ،وبنهاية القرن السابع عشر بلغ عدد سكانها 100ألف شخص .يبدو أن هذه املدينة كانت حتتل املركز الثاني يف أفريقيا من حيث أعداد السكان بعد القاهرة آنذاك .كانت الغالبية العظمي من املنازل يف املدينة من الطوب األمحر ،وواقفة حتت أشعة الشمس احلارقة .يشري املؤخر السوفيييت الشهري “س .ر .مسرينوف” يف وصف فرتة إزدهار مدينة سنار« :تذكرنا املنازل الطينية يف وسط املدينة باألسقف املستقيمة والفناء الداخلي ،اليت يتملكها النخبة اإلقطاعية ،ورجال الدين املسلمني والتجار البارزين ،من ناحية الشكل والتخطيط تذكرنا مبنازل املصريني .يعيش فقراء املدينة واحلرفيون يف ضواحي املدينة داخل أكواخ من اخلوص املغطي بالطني؛ بينما تتمتع األسقف املصنوعة من القش بشكل خمروطي» .141قلت أعداد املنازل ذات الطوابق املتعددة يف سنار ،بينما متيز املسجد وقصر السلطان ذو الست طوابق مبساحاته الشاسعة .وشهد سوقا املدينة الرئيسان ً رواجا يف جتارة األحصنة وسن الفيل واألبل واخلضروات والفواكه وغريها .ويف هذا املكان كان التجار املصريون واألتراك حيصلون علي أعداد كبرية من العبيد، الذين كانوا يتوجهون إلي اهلند ومصر وبالد الشرق األوسط وغريها. - 140األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .34. - 141س .ر .سميرنوف .تاريخ السودان .ص.13 . 115
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
يطلق إيفان بارودين علي سنار «عاصمة السودان » .استخدام هذا الوصف يف ذلك الوقت كان ً رهنا حلالة املدينة ً قدميا .فالغزوات اخلارجية ودخول السودان ضمن إمرباطورية حممد علي كان له بالغ األثر علي وضع مدينة سنار .كما أشار ي .ب .كافاليفسكي « :منذ أن قام األتراك بنقل إدارة األراضي الرئيسية» إلي اخلرطوم ،أصبحت سنار «خاوية» :142حلظة وصول البعثة الروسية كان عدد سكانها يبلغ 5آالف شخص . انطباعا كئيبًا ً ً جدا علي نفس أ .أي .بريم. خلفت مدينة سنار يف تلك السنوات ذكر عامل الطبيعة األملاني يف كتاباته أن العاصمة السابقة للسلطنة أقل نظافة من ود مدني ،وبدل من السوق الشرقي املعروف ال يوجد سوي «عدة دكاكني صغرية متواضعة» ،حيث يبتاعون املنتجات الالزمة الستهالك األتراك اليومي».143 مع هذا كانوا يقيمون باملدينة سوق كبري مرتني يف األسبوع ويتوافد عليه سكان الضواحي اجملاورة ،بعضهم يصل علي قدميه واآلخر علي محار أو مجل .مل يكن الليل يف سنار يشهد أي مظاهر للبهجة ،فبحلول منتصف الليل تبدأ الضباع يف السعي بشوارع املدينة . علي أية حال التقي خرباء التعدين الروس مع ممثلي اإلدارة احمللية يف سنار. يذكر بارودين ،أنهم مروا علي منزل «حاكم البالد» إبراهيم باشا يف سنار ،كما حتدث عن نشوب ثورة ضد مصر يف العشرينيات ،وهلذا كان الوضع مضطربة بشكل عام يف إحدى مناطق نفوذ حممد علي البعيدة .وهلذا ليس غريبًا أن يبدو املنزل ،الذي نزل فيه الروس كاحلصن « :حياط املنزل من مجيع اجلهات حبوائط، ويوجد جنود علي كال جانيب الغرفة ،حيث يعيش احلراس ...وعلي اجلانب األيسر من الفناء وضعوا مدافع» .144من املدهش أن اإلدارة احمللية كانت متخوفة من خطر غزوات الشعوب الثائرة ،اليت تعيش يف منطقة سنار. ً متواضعا متا ًما .ومل يلحظ أعضاء البعثة الروسية أي بدي متاع املنزل الداخلي شكل من أشكال الزينة هناك ،بل وجدوا فقط قدران فخاريان بهما ماء .وقاموا بإعداد وجبة الغداء للضيوف األجانب داخل «حانة » .ومع هذا قام الضيوف بزيارة سنار يف غياب احلاكم :فقد غادر إبراهيم باشا البالد يف سفرية . - 142مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.136 . - 143أ .أي .بريم .المرجع األسبق .ص.540 . - 144األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .20. 116
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
بعض قضاء بعض الوقت يف مدينة سنار أكملت البعثة طريقها .كلما ابتعد الرحالة الروس عن أرض الوطن أكثر وأكثر ،كلما شعروا حبنني كبري إلي املاضي ،ال سيما إذ صادفهم ما يذكرهم بروسيا .وقعت إحدي تلك املواقف يف نهاية شهر يناير .وميكن وصف ذكريات إيفان تروفيموفيتش عن هذا املوقف بالعاطفية علي حنو خاص « :ظل مبعوثونا يشعرون بقلق طوال الليل ،ومع نيتهم العودة إلينا يف أوروبا ،كانوا يصدرون صرخات رهيبة فوق الرمال ،تشبه أصوات البط ،أو الكركي ،أو األوز ...لقد كانت لديهم النية للعودة ...بسبب درجة حرارة املكان العالية مل يكن باستطاعتهم اإلستمرار أكثر من ذلك » .145فلرمبا منت الرغبة لدي خبري التعدين األورالي يف التحليق خلف الطيور املتجهة إلي روسيا ،لرؤية جبال زالتؤوست ومناجم مياس بأقصي سرعة ! ولكن كان أعضاء البعثة الروسية مضطرين لالستمرار يف طريقهم عرب أراضي مشال شرق أفريقيا الشاسعة .بدأت مشاهد الطبيعة بالتغري أمام أعينهم ً تدرجييا .بدأت رقعة األعشاب بالظهور يف املروج ،كما ازدادت أعداد األشجار. أبرز ما أثارته شكل احلديقة يف نفس إيفان تروفيموفيتش هي ذكرياته عن روسيا ،مبا أن أوراق األشجار ،علي حد وصفه ،كانت خضراء يانعة« ،مثل اليت يف وطنه»« ،ولكنها مصـفرة بعـض الشـيء بـفعل األتـربة » .146يعتقد خبري التعدين األورالي أن هلذا األمر عالقة « بعدم تساقط املطر لغسل النباتات ،علي الرغم أن السكان يروون األرض بعد ذلك حتى اجلذور » .وهلذا يري بارودين أن طبيعة أفريقيا « ليست ً نوذجا للجمال ».
روصريص يف الثامن والعشرين من شهر فرباير بلغ أعضاء البعثة الروسية منطقة سكنية. إنها روصريص (مدينة تقع يف والية النيل األزرق بالسودان على الضفة الشرقية لنهر النيل األزرق بارتفاع 467مرت ( 1532قدم ) فوق سطح البحر .تعليق املرتجم) – عاصمة مقاطعة فازوغلي ،حيث منطقة استخراج الذهب .إذا كان بارودين قد أطلق علي هذا املكان «مدينة » ،كـما كان يطلق معظم من قابلهم يف الطـريـق ،فإن رئيسه كان يصفها مباشرة «بالقرية» .علي اجلانب اآلخر رأي “أ. - 145األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .20. - 146نفس المرجع .ورقة.34 . 117
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
اي .بريم” أنه من الصعوبة أن تسمي «مدينة» .وكما هو احلال بالنسبة للمناطق السكنية األخرى يف السودان ،وبشكل عام تركت عاصمة مقاطعة فازوغلي ً انطباعا كئيبًا يف نفس عامل الطبيعة األملاني ،الذي يكتب عن روصريص « :أنها 147 بال حياة وتسودها الكآبة» . بلغ عدد سكان القرية ما يقرب من ثالثة آالف مواطن (كانت النسبة األكرب منهم من السود) .تقع مدينة روصريص بالقرب من الضفة الشرقية للنيل األزرق، وتفصلها عن النهر غابة كبرية من النخيل ،بينما حتيط بها سهول السافانا من اجلوانب الثالث األخرى .مل تكن مياه الشرب متوافرة يف عاصمة مقاطعة فازوغلي، وهلذا باإلمكان رؤية حشد من السيدات كل ليلة وهي تقود احلمري احملـملة باملـاء .اكتسي املكان كله بألوان طبيعة إفريقيا اإلستوائية .كان مقر مدير متواجدا يف مدينة روصريص الصغرية .واملدهشً ، ً وفقا لشهادة مقاطعة فازوغلي 148 إيفان بارودين ،أن « احلاكم » يف روصريص «من بشكري كازان» ،الذي أخرب مواطنيه يف املاضي ،أنه ولد علي نهر الفوجلا ،إال أن القدر ألقي به يف مشال شرق أفريقيا .وبالطبع ،ظل اللقاء مع املواطن الكازاني يف ذاكرة إيفان بارودين ملدة طويلة ،فلم يكن يتوقع أن يري مواطنه يف هذا املكان ً بعيدا عن أرض الوطن.
اللقاء مع الصديق العربي بعد عدة أيام كان بانتظار البعثة لقا ًءا ال يقل غرابة ،بل ورمبا أكثر سعادة. يف الثاني من مارس علي مسرية ثالثة أيام من جبال كاسان – املكان احملدد لعمل البعثة الروسية -قابلهم يف الطريق املهندس عيسى الدهشوري ،الذي كان “ي .ب .كافاليفسكي” جيوب معه مصانع التعدين باألورال لعدة أشهر .يف ظل ذكرياته عن تلك األوقات ،اليت طاف فيها مع “الدهشوري” وصديقه “علي حممد ً قائال« :مل أكن إبراهيم” معظم مناطق األورال ،اعرتف ي .ب .كافاليفسكي، أتوقع حينها أن أتقابل معهم يف كاسان!» . حلظة وصول البعثة الروسية إلي كاسان مل تكن األمور تسري بشكل جيد لدي املتدربني السابقني يف ورش الذهب يف بريوزوف ومياس .فلم يتوصلوا إلي األهداف اليت وضعها هلم حممد علي .عن هذا األمر يكتب “ي .ب .كافاليفسكي” - 147أنظر :أ .أي .بريم .المرجع األسبق .ص.554 . - 148األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .21. 118
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
مبزيج من األمل والتعاطف « :مع عدم توافر التطبيقات الالزمة للعمل ،كان املتدربون يشعرون بيأس ،بعد تعرضهم لضغوط من قبل حاكم املنطقة وإجبارهم باستمرار من قبل حممد علي .وهلذا شعروا بسعادة حقيقية عند وصولنا ،الذي أزاح باملسئولية عن كاهلهم » .يف الواقع ظل الشخص اخلبري واملؤهل مثل مساعد رئيس منطقة تعدين زالتؤوست يقود العمل علي بناء الورشة آنذاك .استطاع الدهشوري وعلي حممد أخذ قسط من الراحة ولو لبعض الوقت .من املهم يف هذا ،أن عبء املسئولية قد أثر سلبًا علي صحة أصدقاء ي .ب .كافاليفسكي املصريني : علي الرغم من تأقلمهم علي طقس أفريقيا ،إال أنهم ،علي ما يبدو ،بدأوا يشعرون بأثره الضار .يذكر رئيس البعثة الروسية يف كتاباته أن « الدهشوري املسكني» « قد دفع ثـمن تعرضه ألضرار للطقس ،ومنذ أن وصل إلي السودان تعرض للمرض باستمرار».149 بعد لقاء “الدهشوري” مل يبق علي الوصول إلي جبال كاسان سوي ثالثة أيام . ولكن يف احملطة األخرية من هذه الرحلة الطويلة وقعت حادثة أخرى مدهشة ،الزال يتذكرها بارودين « .توقفنا يف الطريق لتناول الغداء .نزل إلينا من فوق اجلبال ً خنزيرا ً ً مرقطا كهدية .عرب املقدم هلم بريا أربعة زنوج مسلحني حبراب وحيملون عن إمتنانه ،ولكنه مل يقبل اهلدية لعدم متكنه من طهيها ،فجميع الطباخني مسلمون» .150ميكنك ختيل مدي صعوبة رفض رئيس البعثة وأصدقائه ،الذين اجتازوا العديد من احملن ،تذوق خنزير بري مشوي ،أحضره إليهم السكان احملليون كهدية ! ال يزال بانتظار البعثة أيام وليالي علي هذا الطريق .وكما كان يف السابق ، من الضروري اختاذ تدابري احليطة الالزمة يف أفريقيا .كان إيفان تروفيموفيتش ً معتادا بالطبع علي «عدم وضع أي شيء علي األرض يف مكان مبيتهم .بل جيب 151 وضعها فوق حجارة أو شجرة بسبب النمل األبيض» .مع هذا مل يتخل بارودين وصديقه – خبري صناعات الذهب األورالي اآلخر – عن التفاؤل وضبط النفس .فقد كانوا حياولون اجتياز تلك الرحلة الطويلة والصعبة دون أي مشاكل مثل أي عمل صعب آخر قاموا بتنفيذه يف مناجم الذهب مبياس .ويبدو املثال علي هذا األمر - 149مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.155 . - 150األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .21. - 151األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .21. 119
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
ً جليا .يذكر رئيس البعثة كيف سأل بارودين شريكه أثناء وصوله إلي مكان التنقيب يف جبال كاسان : « -إلي أي مدي سينقلوننا أبعد من هذا يا إيفان؟» ً مستلقيا حتت « -لن يكون أبعد من الشمس - ،رد فومني بال مبااله ،وهو يتثائب الشمس الساطعة».152
بناء الورشة وصلت بعثة ي .ب .كافاليفسكي يف الرابع من مارس ً أخريا إلي مقصدها. ومل يكن اختيار مكان بناء ورشة غسل الذهب مصادفة .بالقرب من املعسكر جيري نهر تومات (توميل .تعليق املرتجم) -اجملري الغربي للنيل األزرق (كان بارودين يطلق عليه اسم «توماكو») .وبعد أن رأي النهر ،سرعان ما تذكر “ي .ب. كافاليفسكي” مياس علي جبال زالتؤوست ،مبا أن -مثل مناجم األورال -رواسب الذهب تقبع يف األساس داخل حوض من األنهار« ،وعرب املروج واألنهار الصغرية اليت تصب فيه مع التيار من اإلجتاه الغربي » .153وكما حدث يف األورال وألتاي كانت ً دليال ً دامغا علي توافر خمابئ طبقات «الصخور اخلضراء » بالنسبة لعامل اجليولوجيا الذهب يف هذا املكان .وكما كان يشري رئيس البعثة ،فإن «صفيحة اجلبال الرئيسة» يف وسط أفريقيا تتكون من صخور الكلوريت والتلك ،اليت «خترج من خالهلا صخور البلور والسيانيت » .علي كل حال ،كان من الصعب أن نطلق علي تومات ً نهرا يف معظم أوقات العام .فقد كان درجة احلرارة يف مشال السودان كفيلة بتجفيف جمراه حبيث يصبح من النادر إحتوائه علي املاء « .يذكر إيفان بارودين ،أنه مل ير سوي الرمال بدل من املياه ،فاملياه تتوافر فقط عند سقوط األمطار ». خلف معسكر العاملني علي بناء ورشة غسل الذهب املوجود يف كاسان ً ً مدهشا علي نفس خبري التعدين األورالي .وبالطبع كان لطقس السودان انطباعا أثره يف ذلك األمر ،وهلذا ،إذا كان من الضروري علي إدارة منطقة تعدين زالتؤوست ً سابقا ،فقد غابت مثل تلك اإلعتناء بتدفئة منازل مهندسي التعدين ،كما أشرنا املشاكل هنا « :فالبعض يعيش يف خيام من قماش األشرعة ،و البعض اآلخر يعيش يف أكواخ من القش .أنها القوات ،أي اجلنود .بينما يعيش حاكم املنطقة خالد باشا والضباط اآلخرون يف أكواخ من التنب ،ما عدا املهندسني الدهشوري وعلي ، - 152مجموعة أعمال يجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.155 . - 153نفس المرجع .ص.152 . 120
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
اللذان يعيشان يف خيام ...بالنسبة لنا قاموا ببناء غرف من التنب يف غضون ليلة واحدة » - ،كما ذكر إيفان تروفيموفيتش .154مل يكن من قبيل الصدفة اإلشارة إلي وجود العديد من اجلنود يف املعسكر .يتعلق األمر بقيام القوات السودانية يف ذلك الوقت بأعمال عسكرية ضد قبيلة من الغال يف املنطقة ،وهلذا كان من الضروري محاية ورشة غسل الذهب اليت مت بنائها. سرعان ما أدخل املتخصصون الروس تعديالت جذرية علي أعمال استخراج الذهب يف منطقة تومات « .قبل وصولنا - ،كما أشار بارودين - ،كانت عملية الغسل جتري علي شاطئ النهر ...جيلس عاملوا الغسيل الزنوج علي شكل دائرة ...يقوم هؤالء بوضع نصف بود (16،38كيلو جرام) علي امليزان .يقوم البعض بإحضار الرمال للغسل ،بينما يزيل آخرون الرمال املغسولة» .قام أحد العمال بغسل ما يقرب من مخسة عشر بود من الرمال يف اليومً . وفقا لرأي املهندسني واخلرباء الروس ،كان ً فعاال باملرة « :فهم جيلبون العديد من العمال ، منهج الغسل اليدوي للرمال غري ويقنعونهم بكيفية استقبال وتسليم سلة الرمال لبعضهم البعض .فاألول يضع الرمال يف السلة ويسلمها للعامل القريب منه وهكذا تسري السلة حتى آخر فرد. ويقوم األخري بإفراغ الرمال الغري صاحلة فوق الكومة» .يف تلك األثناء كانت التجهيزات التقنية يف هذا املنجم بدائية ألقصى حد .يكفي القول أن العمال كانوا يضعون الرمال فوق امليزان بإيديهم وليس بالفؤوس .وكانوا ينقلون الرمال علي اجلمال ،ففي مثل تلك الظروف وحبالة الطرق السيئة كانت اجلمال وسيلة النقل الوحيدة املتاحة . من البديهي أن يسارع خرباء التعدين الروس باختاذ قرار بإدخال العديد من التعديالت اجلديدة علي نظام عمل تلك املنشأة .وكان استخدام اآلالت ،اليت كانت تستخدم بشكل فعال يف مناجم مياس للذهب ،أثره بالطبع علي زيادة اإلنتاج بشكل كبري .أمر ي .ب .كافاليفسكي ،كما كان يشري مساعده، « باحلفر » ،كما قام بتطوير منظومة العمل علـي غسـل الذهـب .وبـدورهـم « نصـب » خرباء التعدين الروس يف الورشة مبنطقة تومات « أربعة آالت وآلة ً سابقا ،فقد كانت أخري جمرية الصنع بأطراف مستقيمة » .155وكما أشرنا اآلالت جمرية الصنع تستخدم يف مناجم مياس للذهب منذ فرتة ،وحتى قبل ظهور «طاحونة» ب .ب .أنوسف الشهرية. - 154األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .22. - 155األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .23. 121
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
ً حتميا التغلب علي الفكر القديم للقائمني علي بناء الورشة يف املنطقة. كان ً سريعا أثناء العمل املتواصل يذكر ي .ب .كافاليفسكي « أن الوقت كان مير وأخريا ُ ً كللت جهودنا بالنجاح ...بدأت والصراع مع الطبيعة وجهل األتراك... سريعا .كنا نعمل ً ً ليال ونها ًرا .ومن جديد بدأ األتراك يف احلديث الورشة بالتطور ً 156 عن أن الورشة لن جتنى شيئا :فاألمر يفوق إدراكهم » .مع هذا كان “ي .ب. ً راضيا عن نتائج بعثته األولية .وكتب من مسرح العمل كافاليفسكي” نفسه خطا ًبا إلي القنصل العام أ .م .فوك ،الذي فسر حمتواه يف رسالة إلي املبعوث الروسي يف القسطنطينية “ف .ب .تيتوف” ً . وفقا ملا أورده أ .م .فوك « ،فقد متكن ي .ب. كافاليفسكي من اكتشاف رمال غنية برواسب الذهب وكذلك العمل علي بناء ورشة هناك ...يف ظل شكواه من الصعوبات املختلفة ،اليت اضطر لتحملها، عرب السيد “ي .ب .كافاليفسكي” عن أمله يف إنهاء هذه املهمة الشاقة امللقاة علي 157 عاتقه نهاية سعيدة ،كما ينوي العودة إلي القاهرة يف شهر يوليو»... ً شخصيا إلي نشر “ج .ف .جارياتشكني” خطا ًبا موجه من “إجيور بيرتوفيتش” “حممد علي” يف مارس عام .1848يشري املقدم إلي جناحه يف الوصول إلي « نتائج مرضية ً جدا» « :بالتأكيد أخرب خالد باشا صاحب السمو عن قيام أحد عمالنا من غسل 69حبة ( 1زولوتنيك و 60جزء ) ،إال أنين سأضيف ضرورة عدم الوقوع يف األوهام بسبب تلك النتيجة الباهرة » .يبدو أنه أشار إلي أن الرواسب احلاملة للذهب مفيدا ً ً «غنية ً جدا» ،وهلذا ميكن اعتبار بناء الورشة يف منطقة كاسان ً جدا » . «أمرا أشار “ ي .ب .كافاليفسكي” يف هذا اخلطاب ،املرسل مباشرة من مسرح العمل إلي حممد علي ،إلي أهمية استعمار تلك املنطقة من أجل تطوير صناعة استخراج الذهب هناك .يؤكد رئيس البعثة ضرورة أن تأخذ املستعمرة يف اإلعتبار «مجيع الوسائل ً وأخريا املنفعة اآلمنة املتاحة اليت تتطلبها تلك املنطقة املنعزلة ،وصعوبات العمل ، 158 من وراء هذا املشروع ،بل والتصورات العامة ،اليت ال يفوق سعادتكم فيها أحد. »... مببادرة من ي .ب .كافاليفسكي أخذ أفراد البعثة يصعدون فوق جبل كاسان، الذي يوجد علي بعد مخس فرستا من املعسكر .أثناء ختطيطه رأي رئيس البعثة، أنه من األفضل تفقد املنطقة وتقييم املنابع من أجل تطوير اإلنتاج .كما عقد أعضاء البعثة العزم ً أيضا علي القيام ببعض املشاهدات اليت ختص قياس منسوب املياه وجيولوجيا ونباتات وحيوانات املنطقة .يذكر بارودين أن «احملافظ» خالد - 156مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.152 . - 157ج .ف .جارياتشكين .مصر في أعين الروس ...ص.265 . - 158مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.265-266 . 122
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
باشا وموظفني حمليني ،باإلضافة إلي جمموعات من اجلنود حتركوا مع الروس من أجل « احلراسة » .بعد الصعود علي جبل كاسان ،بدأ رئيس البعثة بال إرادة يف املقارنة بينه وبني العديد من اجلبال اليت رآها يف حياته .ولكن ،بشكل مفاجئ ،استدعت تلك الذكريات يف نفس الرحالة الروسي صورة قريبة ً جدا إلي قلبه « :ليست جبال السويد اليت ترتفع هاماتها فوق السحاب ،وليست جبال ألبانيا و مونتينيجرو الصخرية اجلرداء الوعرة .بل هي جبالنا يف جنوب األورال ،وجبال 159 سيبرييا بوديانها اجلبلية الرائعة ،واجلبال اخلالبة! » مل يكن إيفان تروفيموفيتش مييل يف مذكراته الستخدام مناذج بهذا القدر من الرومانسية .بطبيعة احلال كان خبري التعدين األورالي ً مهتما قبل كل شىء بثروات اجلبال يف شرق السودان .وفيما بعد يصف تلك املناطق ً ، قائال« :أنها مناطق جبلية ،مع أن اجلبال ليست شاهقة .ويف املنحدر الشمالي يقوم الزنوج بعمليات التنقيب منذ قديم األزل .تغطي الرمال احلاملة للذهب طبقات جوفاء بسمك أربعة فريشوك (4،4سم .تعليق املرتجم) إلي ثالثة أرشني (71سم .تعليق املرتجم) ...تنمو األعشاب الطويلة والنادرة ،وتوجد أنواع خمتلفة من الغابات » .160يف احلقيقة، ً ضروريا أخذ كل التفاصيل يف اإلعتبار أثناء تقييم اآلفاق املستقبلية كان لتطوير صناعة التعدين يف السودان املصرية (وخاصة ما يتعلق بتوافر الغابات) .الحظ إيفان تروفيموفيتش وجود طبقات من الطمي والتلك واحلجارة وطبقات خمتلفة من الكوارتز داخل الطبقات اجلبلية .كما ألفت االنتباه إلي حالة الرتبة ً مشريا إلي «عدم وجود تربة خارجية أو تربة سوداء».161 يف تلك املناطق ، ً أصبح األول من أبريل ً مشهودا يف تاريخ ورشة غسل الذهب يف شرق السودان: يوما فقد اتخُ ذت مجيع التدابري من قبل « احلاكم » خالد باشا لإلحتفال ببداية عملية غسل الذهب .خالل ذلك خيربنا ي .ب .كافاليفسكي أنه صاحب املبادرة يف القيام ً شخصيا بدعوة خالد باشا حلـضور هـذا بهذا احلدث :فقد قام رئيس البعثة الروسية احلدث « لتجـنب أي مشاكل أو سوء تفاهم ميكن أن حيدث بعد ذلك ».162 كان ذلك ،يف احلقيقة ،أحد أبرز األحداث اليت انطبعت يف ذاكرة بارودين، الذي يذكر « :خرج اجلنود يف عرض عسكري ووقفوا يف صفوف ثم قاموا بعدة - 159نفس المرجع .ص.158 . - 160األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .22. - 161نفس المرجع .ورقة .22 - 162ي .ب .كافاليفسكي .حوض النيل ...ص.99 . 123
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
حركات منتظمة ووضعوا السالح يف الغمد ،والباشا يأمر القوات بنفسه .بسطوا السجاجيد ،اليت وقف الباشا واملوظفني عليها .كان الزنوج جيلسون علي مسافة بعيدة مبا أنهم عبدة أوثان .كنا جنلس مع رفاقنا ونشاهد املراسم » .163كانت املراسم مثرية ً جدا للدهشة ،كما عكست تعددية جنسيات املشاركني فيها. يذكر إيفان بارودين أن اجلنود يف البداية استغرقوا يف اإلبتهال إلي اهلل ،ثم اقتاد السودانيون ثالثة ثريان ،وقاموا بنحرهم وبدأوا ميسحون اآلالت بدماء الثريان .بال أدني شك ،يعكس كل ذلك الطابع املعقد والكامل خللفية سكان املنطقة الدينية .بعد تلك املراسم االحتفالية بدأ العمل املكثف علي غسل الرمال باستخدام اآلالت .مع هذا ال يزال بيت القصيد يف فاعلية عمل ورشة غسل الذهب ،اليت أنشأت مبشاركة املتخصصني الروس .تتفوات وجهات نظر رئيس البعثة ومساعده بشأن ً جاهدا من خالل مذكراته تلك القضية .فقد كان “ي .ب .كافاليفسكي” حياول إثبات حقيقة أن األوراليون متكنوا من حتقيق جناح باهر يف قضية تطوير صناعة استخراج الذهب يف شرق السودان .كما اعرتف أن العمل كان يسري يف البداية «ببطء»« ،حيث استغرق الزنوج مدة طويلة حتى يدركوا طريقة تشغيل تلك اآللة » . كانت إنتاجية العمال السودانيني يف األيام األول أقل بثالث مرات عن مثيلتها لدي عامل ورش الذهب يف مياس .إال أنه بعد مرور أسبوع تعود عمال غسل الذهب، أصحاب البشرة السمراء علي العمل بالتقنية اجلديدة وارتفعت إنتاجيتهم إلي الضعف .164أثبت ي .ب .كافاليفسكي أن الورشة كانت «تعمل بشكل جيد» «حتى حتت قيادة العرب» ،وكان الذهب « يستخرج تقريبًا كل يوم » .165وفيما يتعلق بآفاق استخراج املعدن النفيس يف السودان املصرية ،فقد ارتبط ذلك لدي املهندس الروسي بشخصية حممد علي« :ميكن القول بكل شجاعة أن صناعة الذهب سوف تزدهر ،طاملا بقى حممد علي علي قيد احلياة ».166 مل يتح لنا التاريخ الفرصة الختبار مزاعم ي .ب .كافاليفسكي :من املعروف أن مؤسس مصر احلديثة العظيم قد فارق احلياة بعد بناء الورشة يف فازوغلي مباشرة .يبدو أن حتليل أقوال إيفان بارودين – مساعد ي .ب .كافاليفسكي جيعلنا نشك يف وجود أية آفاق مستقبلية حقيقية للعمل الذي بدأه املهندسون - 163األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .23. - 164ي .ب .كافاليفسكي .حوض النيل ...ص.99 . - 165مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.209 . - 166نفس المرجع .ص.249 . 124
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
الروس يف ظل ظروف السودان املصرية يف القرن التاسع عشر .من الصعب أن يكون خبري التعدين األورالي قد عول علي إمكانية نشر مذكراته ،وهلذا بدي ً تشائما للغاية . أكثر حرية من رئيسه يف تقييمه .وبدت تلك التقديرات أكثر فقد أكد أنه علي الرغم من قيام قادة املنجم « بإجبار » العمال بكل الوسائل «من أجل غسل كميات أكرب» ،إال أنهم مل يستخرجوا ً شيئا« :فمن بوسعه رفع اإلنتاج ً 167 إذا! فالشعب خائر القوي – فكيف له أن يصبح ً قويا بدون طعام جيد» . فالطعام الوحيد املتوفر ً فعليا هو « الذرة » البدائي املسلوق (أصناف من احلساء) .وبهذا الشكل ،كان خبري التعدين األورالي يعرتف بصراحة أن حالة املوارد البشرية العاملة إحدي أهم املشاكل اليت تعيق منظومة تطوير صناعة استخراج الذهب يف املنطقة .يف مثل هذه الظروف مل يتسن للعمال السودانيني املضي ً قدما يف رفع إنتاجية عملهم ،اليت وصلت إلي ما يقرب من 400بود من الذهب املغسول لآللة الواحدة .ففي أول يوم عمل أنتجت أربعة آآلت 15زولوتنيك ذهب .وبالطبع كانت القدرة اإلنتاجية منخفضة ً جدا .من املعروف أن السودانيون العاملون علي بناء ورشة غسل الذهب يف فازوغلي كانوا يتقاضون من السلطات قرش واحد (وهو ما يعادل يف احلساب الروسي ستة كوبييات من الفضة) يف اليوم.168 من املالحظ أن رأي بارودين يتوافق متا ًما مع تلك التقديرات ،اليت أعطاها الرحالة الروس اآلخرين الذي كانوا يف زيارة ملصر والسودان يف تلك األعوام .علي سبيل املثال ،يف أربعينيات القرن التاسع عشر يف جنوب النوبة أحبر عرب نهر النيل اجليوغرايف الروسي “أ .أ .رافالوفيتش” ،الذي قام بدراسة بيئة وطباع قبائل الرببر القاطنة يف تلك املناطق .ويف التقرير ،الذي قرأه يف شهر مارس عام 1849يف جلسة اهليئة اجليوغرافية التابعة لإلمرباطورية الروسية ،أشار أن السكان احملليون « ً قليال ما يستخدمون اللحوم (علي الرغم من نهم الكثريين به) وبشكل عام هم مقلون يف تناول الطعام إلي حد كبري» .ذكر رافالوفيتش أن طاقم املركب ،الذي سافر علي متنه عرب نهر النيل « ،كان يقتات باستمرار علي كسرات من اخلبز وعدس مسلوق يف ماء وملح دون أي إضافات أخري .يف غضون ذلك كانوا مضطرين أكثر من مرة لإلحبار من 14 ،12ساعة عدة أيام علي التوالي ...وبسبب هذا الطعام املتواضع سرعان ما خارت قوي الربابرة ».169 - 167األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .23. - 168ي .ب .كافاليفسكي .حوض النيل ...ص.93 . - 169أ .أ .رافالوفيتش .تعليقات عن اثنوغرافيا سكان جنوب النوبة //مذكرات الهيئة الجيوغرافية لإلمبراطورية الروسية .سانت بطرسبورج .1850 ،الكتاب الرابع .ص.180 . 125
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
كما أشار أن السبب وراء ضعف إنتاجية عمل السودانيني ليس يف عدم رغبتهم يف العمل ،ولكن بسبب الطبيعة الفقرية لكثري من مناطق السودان ،اليت مل متنح سكان املنطقة الفرصة للحصول علي طعام كاف .يف ظين ،البد من أخذ تلك التصورات يف اإلعتبار عند تقييم القدرة اإلنتاجية لسكان مشال شرق أفريقيا. من احملتمل أن هذه اإلعتبارات ظلت خارج دائرة إهتمام مؤلف كتاب «رحلة إلي األماكن املقدسة» ،علي سبيل املثال ،الذي نقلنا عنه أكثر من مرة ،ومؤلف ً فعاال» .أبدي “أ. «القبائل العربية الضعيفة » ،الذي « يثري صخبًا أكثر من كونه ن .مورافيف” جرأة يف التعبري عن رأيه بصورة الذعة« :ميكن لعامل روسي واحد أن يعوض جمهود عشرة أشخاص» .170ولكن هل ُيعد السبب وراء هذا الرأي يف النزعة ً ضروريا ذكر عامل الظروف الطبيعية القومية فقط؟ فمن بني مجيع الظروف يبدو واملناخية يف املنطقة . ً اعتمادا علي تقديرات بارودين وبعض الباحثني يف تلك املشكلة ظلت الشكوك حتوم بشكل كبري حول تقديرات آفاق استخراج الذهب يف شرق السودان .أعترب “أ .ليربمان” الباحث يف طبيعة منطقة زالتؤوست سالف الذكر أن البعثة الروسية مل تتمكن من زيادة معدالت غسل الذهب« :كان الزنوج هزالي وقلت إنتاجية عملهم » .171جيدر اإلشارة إلي أن رئيس بعثة فازوغلي ي. ً مناهضا لفكرة الدونية العنصرية اليت طاملا القت ب .كافاليفسكي كان فصال كامالً ً صداها يف األدب الروسي يف ذلك الوقت .وهلذا خصص يف مذكراته ً تفصيليا طباع وتقاليد تلك الشعوب .مع عن الشعوب اإلفريقية ،استعرض فيه استعراض اآلراء املختلفة للكتاب األوروبيني السابقني حول هذا األمر ،مل ميتنع ً مؤكدا باستمرار علي فكرة الطبيعة الرببرية إجيور بيرتوفيتش عن إبداء رأيه، وختلف األفارقة.172 علي اجلانب اآلخر قام مساعد رئيس البعثة ،الشخص الذي لديه اهتمامات خمتلفه ً متاما وغري املطلع علي املصادر األدبية األوروبية العديدة ،اليت تناقض هذا املوضوع، بوضع صور متفرقة علي صفحات مدوناته « من وحي الطبيعة» ُتظهر منط حياة شعوب شرق السودان يف منتصف القرن التاسع عشر خالل املدة القصرية اليت قضاها الرحالة الروس يف منجم فازوغلي .وبالطبع مل يتمكن إيفان تروفيموفيتش سوي وضع تصو ًرا ً عاما عن السكان احملليني .أشار األخري إلي حقيقة أن سكان املنطقة - 170رحلة إلي األماكن المقدسة ...ص.110 . - 171أ .ليبرمان .األوراليون في مصر //عامل زالتؤوست 11 .1976 .سبتمبر. - 172مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.214-236 . 126
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
ً ً وعرقيا عن سكان مصر ،الذي كان يشاهدهم أثناء رحلتهم جنسيا خيتلفون الطويلة « :مجيع سكان املناطق اجملاورة من الزنوج » .ونتيجة لتأمالته أوضح أن القبائل احمللية تتمتع بالالمركزية ً متاما من الناحية السياسية « :حيث يوجد ً سلطان حاكم لكل جبل » .كما يعطي وصفا عا ًما لتأمالته اخلاصة بنمط ووسائل تدبري أمور حياتهم « :يسريون عراة يف أغلب األحيان .ميلكون قطعان كافية من املاشية ،وال يتحركون إلي أي مكان بدون سالح ». كان السكان احملليون يعيشون يف األساس علي منحدرات اجلبال اجملاورة « يف عرائش من القش » ،كنا نري من بعيد أضواء النريان اليت كانوا يشعلونها كل ليلية ً . وفقا ملا ذكره ،فاحملارب التقليدي من قبائل شرق السودان كان حيمل معه بني ثالث إلي أربعة بلطات وأسهم «هراوات» و «تروس» .كانت الغالبية احلقيقية لسكان املنطقة من أصحاب العقائد احمللية التقليدية .أنهم « عبدة األوثان » ،كما أطلق عليهم إيفان تروفيموفيتش .علي أية حال ،مل يكن ً كثريا مع قبائل فازوغلي الرببرية ،إلدراكهم أعضاء البعثة الروسية يتواصلون ً ً جيدا مدي خطورة هذا األمر .أعرتف بارودين ،قائال « :مل يذهب أي أحد منا إليهم ولو 173 بدافع الفضول » .مع هذا ،أثارت جتارة العبيد يف أفريقيا إعجاب خبري التعدين األورالي .يف عهد حممد علي كانت تلك التجارة إحدي أشكال « احتكار ً الدولة» ،اليت كانت تدر ً كبريا خلزينة الدولة .قبل وصول البعثة الروسية إلي رحبا السودان بتسعة أعوام عام 1839مت جلب أكثر من 200ألف عبد أسود إلي مصر من هناك .174كان جتار العبيد-اجلالبة يكونون مملكتهم الصغرية اخلاصة ، واليت تقوم بغارات علي القبائل اإلفريقية اجملاورة وحتول آآلف األسري إلي عبيد . انتقل بعض هؤالء التجار للخدمة يف احلكومة كرؤساء للقواعد العسكرية أو كموظفني برتب أعلي. بالطبع مل يستطع خبري التعدين األورالي البسيط اإلطالع علي تلك الظروف ،إال أنه كان يراقب إلي أي مدي كانت جتارة البشر تمُ ارس بشكل علين يف السودان: « كانوا يسوقون عدة أشخاص لبيعهم ،يسوق أحد الزنوج سيدة مقيدة باحلبال ملدة ثالثة أيام ولكن مل يشرتيها أحد».175 - 173األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .24. - 174أنظر :ي .إ .زيلينيف .مصر :القرون الوسطى .العهد الجديد .ص.234 . - 175األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .24. 127
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
والسؤال املطروح :هل كان هناك أي نوع من التواصل بني أعضاء البعثة والسكان احملليني ؟ وكيف كان خبري التعدين األورالي البسيط ،الذي ال يعرف لغات أجنبية ،يتواصل مع ممثلي قبائل شرق السودان؟ تشهد مذكرات بارودين ، أنه بالرغم من الصعوبات ،يبدو أنه متكن يف النهاية من الوصول إلي صيغة تفاهم مشرتكة« :كان من الصعب خالل مدة قصرية التعود علي احلديث معهم ،ولكننا كنا نفهم كالمهم بعض الشيء ...يف حاالت الضرورة كانوا يفهموننا وكنا نفهمهم ،علي الرغم من صعوبة ذلك » .مبا أن ال أحد من أعضاء البعثة يعرف اللغات، اليت كان سكان املنطقة يتحدثون بها ،فلم يبق سوي خمرج واحد من هذا الوضع: كان ي .ب .كافاليفسكي يتحدث معهم «عرب مرتجم باللغة الفرنسية».176 توجب علي إيفان بارودين تعيني إدارة مؤقته لقيادة عملية غسل الذهب يف منجم فازوغلي .بعد أن مت تسوية هذا األمر قرر ي .ب .كافاليفسكي التوجه إلي عمق قارة أفريقيا (إلي منابع نهر تومات) ،وعلي الرغم من معرفته اجليدة بهذا املكان ،ولكن مل يسبق ألحد التواجد هناك .يف الرابع من أبريل ،علي حد قول بارودين ،سافر املقدم إلي إحدي مناطق التنقيب « -وهناك حتتوي رمال الذهب علي نصف زولوتنيك ( 4جرام وربع .تعليق املرتجم) يف كل 100بود ( 16،38كج. ً متواجدا وحدي تعليق املرتجم ) .بينما كان كافاليفسكي يف طريقه ،كنت من أجل مزاولة األعمال مع الدهشوري » .177من املالحظ أن ي .ب .كافاليفسكي قد أكد يف أحد أعماله حقيقة قيامه بتكليف خبري التعدين األورالي بإدارة أعمال بناء الورشة بشكل مؤقت.178 بقي أعضاء البعثة الروسية أكثر من شهر بقليل يف منطقة بناء ورشة غسل الذهب .كان الطقس حا ًرا ً جدا وغري مالئم ملواطين األورال حيت يف شهر مارس وبداية شهر أبريل « :يا هلا من درجة حرارة – ال ميكنك الوقوف علي الرمال – يذكر بارودين – ً وفقا لقياسات العقيد ،فقد سجل مقياس درجة احلرارة يف الثاني عشر من مارس 45درجة .مع هذا كان اجلو رطبًا يف الليل » .ذات مرة يف ليلة الرابع من ً وحتديدا قبيل مغادرة ي .ب .كافاليفسكي من املعسكر بشكل شهر أبريل، مؤقت « ،هطلت األمطار ،ومسع صوت الرعد ...وعلي الصباح فاضت شواطئ نهر التوماك ...وبعد سقوط املطر بدي الطقس بأوجهه السيئة» .أوضح إيفان تروفيموفيتش ،أن موسم املطر يف تلك املنطقة تظهر بوادره من شهر مايو وحتى شهر - 176نفس المرجع .ورقة .35 - 177نفس المرجع .ص.23 . - 178أنظر :ي .ب .كافاليفسكي .حوض النيل ...ص.94 . 128
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
سبتمرب ،وهلذا كانوا متواجدين يف أوقات الطقس اجلاف .أدي عدم تساقط األمطار لوقت طويل إلي تشقق تربة األرض ،بل أحاق الرحالة الروس خبطر داهم « :من اخلطر امتطاء اجلواد وخاصة عرب املناطق املنخفضة » . كانت الغابات كثيفة يف األماكن احمليطة باملخيـم « .يـا لـهـا من غـابة رائـعة » - ،يقول خبري التعدين األورالي بإعجاب .وانطبعت يف ذاكرته بشكل خاص شجرة الباوباب األصبعي واليت كان حميطها يبلغ حتى 10ساجني (مرت و13 سم .تعليق املرتجم ).
إلي طريق العودة يف الثالث عشر من شهر أبريل عقد فريق ي .ب .كافاليفسكي العزم علي العودة .استيقظ أعضاء البعثة يف الصباح الباكر وربطوا امتعتهم فوق اجلمال. وكانت لدي أعضاء البعثة نية يف امتطاء اجلياد عند السفر ،ولكنهم جلبوا «حصان عربي أصيل» جمهز إلي ي .ب .كافاليفسكي فقط ،بينما امتطي خبري التعدين وعامل غسل الذهب محاران .يذكر رئيس البعثة ،أن املوظفون احملليون كانوا سعداء بفكرة رحيل الروس « :كانوا يعربون عن رضاهم بشكل طفولي وهيستريي ،وأخذوا يتجاذبون أطراف احلديث مع خرباءنا بشكل ودي ،علي الرغم من صعوبة فهم بعضهم البعض » .مل يكن إيفان بارودين وصديقه «أقل ً رضا»، إال أنهم كانوا حيتفظون مبالمح موظفي الدولة الصارمة ،من وقت آلخر ترددت يف املكان أصداء ً مزاحا موج ًها إلي قائد عربي أو إلي إحدي اجلمال ،ومنها علي سبيل ً املثال :هيه ،يا صديقي اخفض السنام ولو قليال من فضلك ،كأننا جنلس علي خازوق! » .179وبالتأكيد ،شعر األوراليون بسعادة بالغة ،فالوجهة هذه املرة إلي أرض الوطن. يذكر بارودين ،أن ما يقرب من مائة جندي شاركوا يف مراسـم الوداع. أثناء مراسم الوداع أهدي خالد باشا «مخسة جنيهات لشراء فودكا» 180إلي خبري التعدين األورالي بنفسه .واملدهش ،أن صديق بارودين – فومني و « خادم كافاليفسكي» ( مراسل املقدم ) الذي حيمل اسم أسكندر ،نقلوا نفس املبلغ. وبهذا الشكل ،من وجهة نظر موظفي حممد علي ،كان وضع خبري التعدين - 179مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.237 . - 180األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .24. 129
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
وعامل غسل الذهب أقرب ما يكون إلي وضع خادم أكثر من كونه رئيس بعثة . وسط هذا احلشد السعيد ،علي حد وصف ي .ب .كافاليفسكي ،ارتأى شخصان فقط ،أن رحيل البعثة الروسية ينبأ باملتاعب .كان علي حممد إبراهيم وعيسى الدهشوري ينظرون بأسى إلي استعدادات الروس للرحيل .يصف ي .ب. ً ً جمددا نسمات قائال« :بالنسبة هلم ،بعد ما استنشقوا كافاليفسكي شعورهم ، احلياة األوروبية ،تلوح يف األفق أيام سوداء ،تصحبها مهانة تلو املهانة ومذلة تلو املذلة » .يبدو أن وصول اخلرباء الروس جعل املهندسني املصريني الشابني ،اللذين تربيا يف أملانيا ،يشعران أنهما أوروربيان ،ومتخصصان مؤهالن يستحقان املعاملة باملثل .أما اآلن «أصبحوا ضحية مصريهم :فقد اتسع أمامهم أكثر وأكثر مستنقع متحرك من اجلهل والرتاهات ،علي استعـداد إلغـراقهم ».181 قبل رحيله من فازوغلي كتب إجيور بيرتوفيتش خطاب وداع إلي أصدقاءه املصريني .وقد سلم نسخة من تلك الوثيقة اهلامة إلي أ .م .فوك وقام الربوفيسور ج. ف .جارياتشكني بطباعتها بعد ذلك .من الصعب عدم إدراج مقتطفات من هذا اخلطاب ،الذي يوضح املشاعر الدافئة اليت كان يضمرها املقدم الروسي للشابني املصريني « :صديقي العزيزين حممد وعلي أفندي .بعد العديد والعديد من النصائح اليت أسديتها لكم ،أريد أن أقول لكم كلمة أخرية .إن املعاناة اليت حلت بكم خالل مدة غيابي لبضعة أيام ،أضهرت مدي الضرر الذي حلق بالورشة جراء تغيري وجتاهل النظام الذي وضعته أنا ؛ ال أذكر هذا بهدف إلقاء اللوم عليكم ً جمددا ،بل أشعر بالسعادة لرؤيتكم هذا اإلختالف بأم أعينكم ،مع ضرورة االقتناع بأن املهندس ،يف جمال التعدين بشكل خاص ،الذي ال حيضر إلي الورشة ولو ليوم واحد ،ال يستحق أن حيمل هذا اللقـب .استمروا يف التنقيب عن مكامن الذهب ،اليت لن تكون بالقدر الكايف ،وهلذا جيب عليكم البحث عن مناطق جديدة ،تتوافر بها مادة خام أكثر من املناجم السابقة .عليكم إجراء التجارب كل يوم يف مناطق خمتلفة من املناجم حتى تتعرفوا ً جيدا علي العروق الغنية ، وال تقفوا أمام ضرورة غسل رمال ال حتوي ً شيئا ...أصـدقائي األعـزاء ،لقد أوضحت لكم األماكن ،حيث ميكنكم بناء ورشة ،...وكيف ميكنكم بناء ً سدا لتجميع مياه املطر والكثري من األمور املتعلقة بهذا األمر .وعلي العموم ،تعرفون أنين علي استعداد بكل ترحاب إلسداء النصيحة لكم ،إذا ما احتجتوا إليها... تعرفون ً جيدا يا سادة أن صاحب السعادة يعلق آمال عريضة علي هذا اجملال حديث ً النشأة ،كما أنهم يراقبون هذا األمر عن كثب ،ليس فقط يف مصر ولكن إيضا - 181مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.238 . 130
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
يف أوروبا .وهلذا بانتظاركم أما التكريم أو العقاب .أحرصوا علي إكمال مسرية النجاح اليت بدأناها».182 كان لفراق األصدقاء الروس وقعه األليم “علي حممد إبراهيم” و”عيسى الدهشوري” .من املمكن ،وهلذا السبب مل تكن لدي علي حممد الرغبة يف العودة ً سريعا إلي املخيم بعد صرف رئيس البعثة « احلراسة » املعينة له من قبل خالد باشا، واليت خرجت بصحبة الرحالة الروس لبعض الوقت .استمر “علي حممد” بصحبة البعثة الروسية إلي ما أبعد من ذلك « للقيام ببعض التجارب يف الطريق » .183من الواضح أن هذا مل يكن السبب الوحيد ،فقد أراد املهندس املصري التواجد بعض الوقت مع اخلرباء الروس ،الذي كانت تربطه بهم عالقة صداقة .وبالطبع أجروا بعض التجارب .كما يذكر إيفان بارودين فقد وجدوا يف إحدى املناطق طبقة حتتوي علي ذهب بقيمة ما يقرب من نصف زولوتنيك كل 100بود .ولكن مل تستمر صحبة “علي حممد” ً طويال .بعد يومني ،يف اخلامس عشر من شهر لبعثة “ي .ب .كافاليفسكي” أبريل ،يف إحدي املدن الصغرية فارق “علي حممد” أصدقاءه الروس ،ولكن هذه املرة إلي األبد .ويف نفس الوقت أجري أعضاء البعثة عدة جتارب ،وقاموا بغسل 50 بود رمال وحصلوا علي 20سهم ذهب. أكمل الرحالة الروس طريقهم بعد ذلك بدون “علي حممد” .ويف الثامن عشر من أبريل وصلوا إلي مدينة روصريص ،حيث قام أعضاء البعثة بالصعود علي منت املركب وأحبروا عرب نهر النيل ،يف نفس الوقت افرتقوا عن عامل الطبيعة “ل .س. سينكوفسكي” ،الذي قرر انتظار موسم املطر (الذي بقي عليه ثالثة أشهر ) ،من أجل رؤية نباتات وحيوانات املنطقة يف أبهي صورها. مع هذا متكن أعضاء بعثة ي .ب .كافاليفسكي يف شهر أبريل من االستمتاع مبشاهد الوحوش والطيور الغريبة .كانت أسراب من القرود تتجول علي طول الطريق .عرب شاطئ نهر النري تصادف أمام الرحالة الروس رؤية أنواع كثرية من الطيور ،واليت ذكرت إيفان تروفيموفيتش بطائر الغرغر (دجاج وادي غرب أفريقيا هو طائر ينتمي إىل الدجاج احلبشي .تعليق املرتجم ) ،مبا أن لديها نفس الريش. كانت الطيور تسري مبجموعات كبرية وكانت « مساملة ً جدا » .جبانب ذلك حلقت أسراب من طيور صغرية فوق نهر النيل .وكان عددهم كبري لدرجة «أنها إذا هبطت يف مكان ما علي الشجرية ،ال يري منها ً شيئا» .عند رؤية هذه الطيور - 182ج .ف .جارياتشكين .مصر بأعين الروس ...ص.268 . - 183األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .25. 131
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
تذكر بارودين أحد أشهر الطيور انتشا ًرا يف وطنه – وهي العصافري البسيطة واليت فاقت ً حقا سالالتها اإلفريقية يف احلجم. متكن الرحالة الروسي من التعرف علي منط حياة ممثلي القبائل احمللية الغريب عليهم متا ًما .يذكر خبري التعدين األورالي « :ذات مرة عندما كنا نسري عرب شاطئ النيل ،توقف املقدم حتت شجرية بالقرب من أحد األكواخ .تعيش إحدي األسر يف هذا املكان بال مأوي ،تعيش فقط حتت أغصان كثيفة مرتابطة ومغطاه من إحدي اجلوانب للحماية من أشعة الشمس» .184من املدهش أن ي .ب .كافاليفسكي حاول النقاش مع سكان هذه القبيلة اإلفريقية .يف هذا الوقت الحظ بارودين ورفقائه ثـمار البطيخ الذى ينمو جبوار نهر النيل .مل حتذ تلك الفواكه علي إعجاب خبري التعدين وعامل غسل الذهب – فهي «صغرية احلجم» وحامضية ،كما يذكر إيفان تروفيموفيتش .ولكن عندما غادروا أرض البطيخ ،رأوا بعض القرود ،اليت ً قائال« :وقف أتت بالتأكيد من أجل البطيخ :يرصد بارودين هذا املشهد الطريف، أحد القرود علي قدميه اخللفيتني للحراسة ،بينما بدأ اآلخرون بانتقاء البطيخ ومحله» .حاول خبري التعدين ورفيقه مالحقتهم ولكن بال فائدة. متكنت البعثة الروسية من رؤية حيوانات كبرية .علي سبيل املثال ،رأوا يف إحدي األنهار جمموعة من أفراس النهر ،اليت ،كما يذكر بارودين « ،تظهر جباهها العريضة قبل غروب الشمس » « .تصدر صوت خرير وهي خترج رأسها من املاء- ، ً الحقا - ،ثم يغطس مرة أخرى يف املاء ». يكتب عن هذا خبري التعدين األورالي ً واألكثر من ذلك :كان أعضاء البعثة الروسية يراقبون أيضا عملية صيد هذا الوحش اإلفريقي الكبري .ذات مرة ،رأوا ،وهم علي منت املركب ،كلب حبر حياول التخلص من احلبل امللقي عليه .كان مثبت بإحدي أطراف احلبال قطعة خشب .ظل الصيادون حيومون مدة طويلة حول هذا الوحش يف النهر « .ترغب يف انتشاله ً حيا ً سريعا ،حبيث ال وتشاهده - ،كما يذكر إيفان تروفيموفيتش - ،ولكنه جيري ميكنك اتباعه » .185حكي الصيادون أصحاب اخلربة إلي خبري التعدين األورالي أن فرس النهر بإمكانه الصراع بهذا الشكل ما يقرب من ثالثة أيام ،بعد ذلك فقط ختور قواه وميكن التعامل معه .أخرب السكان احملليون إيفان تروفيموفيتش عن طريقة أخرى لصيد هذا احليوان .فهو خيرج كل ليلة إلي الشاطئ « من أجل تناول - 184األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .26. - 185األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .26. 132
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
الغالل املزروعة » .يف هذا الوقت يقوم الصيادون مبراقبته ،ويتسللون بالقرب منه ويغرزون يف جسده « سن حديدي مثبت خبيط » .وعندما حياول الوحش اهلروب يف املاء يقومون باصطياده . ً خالفا ألفراس النهر ،يذكر أعضاء البعثة الروسية رؤيتهم لألسود ،اليت كانت ً ً تقرتب ليال بعد غروب الشمس من شاطئ نهر النيل ،مصدرة ً خميفا .رأي إيفان زئريا ً ضباعا « تزجمر » .أخربه السكان احملليون أنها كانت جتذب إليها تروفيموفيتش احليوانات املنزلية عن طريق « الزجمرة » . يف وقت الحق أمعن رئيس البعثة يف التخمني « :ال ميكنين حتديد ملاذا حل املرض ً مجيعا » . 186كان الطبيب على يقني من أن كل فجأة ؟ ،ويف يوم واحد أصابنا أعضاء احلملة كانوا مصابني بالعدوى من قبل ،إال أن « العمل املتواصل » أدى إىل عدم ظهور أعراض املرض بشكل واضح .
اخلطر املميت وصلت البعثة يف اخلامس والعشرين من أبريل إلي مدينة سنار .ويف هذه املدينة حتديدا واجهت بعثة “ ي .ب .كافاليفسكي “ حادثة مهمة ً ً جدا ،كادت أن تؤدي بهم إلي املوت .عن هذا يذكر “ إيفان تروفيموفيتش “ ،يف ليلة السادس والعشرين من شهر أبريل « :أصبنا كلنا باملرض :بعضنا باحلمى ،وبعضنا باإلسهال .لفرتة ً تقريبا مبرض ،وهلذا أسرعنا بالرحيل من سنار يف الثالثة طويلة مل يصب أحد منا ً 187 ظهرا للهروب من املرض ،الذي كان يالحقنا » . فالعمل داخل املنجم والرحلة على اجلمال مل تعط أعضاء البعثة أي فرصة للشعور بالوهن .إال أنهم أحبروا إلي مدينة سنار على منت املركب نفسه ،الذي سافروا به من قبل .يتعلق األمر باإلحبار ملدة ثالثة أيام ،حيث كان الروس املرهقون يف حالة « اسرتخاء تام » ،مما أدى إلي ظهور أعراض املرض بسرعة. أكمل أعضاء البعثة رحلتهم وهم مرضى .ولكن مع كل خطوة أصبح حتركهم أكثر صعوبة .يف التاسع والعشرين من أبريل وصلوا إلي إحدى املدن - 186مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.241 . - 187األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .26 133
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
ً نظرا الصغرية ( يف الغالب ،إنها مدينة ود مدني ) « ،وأقاموا يف إحدى الشقق حلالتهم املرضية ،ومل يتسن للمقدم املضي ً قدما أكثر من ذلك » .ظل الروس يف تلك املنطقة السكنية حتى السادس من شهر مايو .مل يكن رئيس البعثة وحده من أصيب باملرض :كان “ إيفان بارودين “ نفسه يعاني من « إسهال دموي » .يف وقت الحق اعرتف بارودين « ،أنه مل يكن يف حسبانه العودة إلي أرض الوطن ألنه املرض األخطر يف هذه البلد ». 188
شعوب أفريقيا يذكر “ إيفان تروفيموفيتس “ أن الرحالة الروس أكملوا مسريتهم علي طول شاطئ نهر النيل وهم يعانون من األمراض « لعل هذا خيفف من آالمهم» .تنوعت ً حتديدا من الرحلة .يف ذكريات مجيع أعضاء البعثة الروسية عن تلك الفرتة الواقع مل يهتم “ ي .ب .كافاليفسكي“ و” إيفان بارودين “ مبراقبة مزارات املنطقة آنذاك .فلم يبق هلم سوى الكفاح من أجل البقاء علي قيد احلياة .ومع هذا أولي ً اهتماما بإحدى عادات القبائل احمللية الغريبة عليهم – أال وهي تشـريـط كالهما أجسـادهـم « .يذكر بارودين يف كتاباته أن الرجال والسيدات يف القرى جيزون أجسادهم بالسكني على هيئة خطوط يف أحناء متفرقة من اجلسد ،وجيدلون 189 بنوع شعرهم يف عدة ضفائر» .كانت أجساد السكان احملليني كلها مدهونة ٍ ما من الدهانات وهلذا ،كما ذكر بارودين « ،تفوح منهم رائحة كريهة » . استفاض “ ي .ب .كافاليفسكي “ يف وصف عادات السكان احملليني يف شق بعض اخلطوط علي أجسادهم .بعدما تعرف على أعمال الرحالة وخرباء علم األعراق البشرية يف ذلك الوقت ،مل يستطع إغفال هذا العمل الغريب ،كما أنه أولي ً اهتماما بطريقة القيام بهذا األمر « .يصف كافاليفسكي يف مذكراته بالطبع ً ً قيام أحدهم برسم ومشا علي جسد اآلخر بالسكني ،أو قيامهم بصنع جروحا طولية ً أحيانا بكيها بقطعة حديدية » .فى تلك األثناء مل يكتف وكانوا يقومون رئيس البعثة باالهتمام باألمور املتعلقة بإجراء تلك العملية؛ فقد أثار اهتمامه سؤال أكثر أهمية :ما املعين الذي حتمله تلك الندبات؟ حاول “ ي .ب .كافاليفسكي “ - 188األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .27 - 189األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق . 101الفهرس األول .ملف . 559ورقة . 27 134
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
ً ً ً واحدا يف احلرب، عدوا مالحظا « :إنه الزجني ،الذي يقتل ولو الرد علي هذا السؤال ، يتمتع فقط بشرف حفر هذه الندبات علي أجسادهم ...ميثل هذا الشكل املميز هلم ً تعبريا عن الشجاعة». 190 من ضمن القبائل اليت قابلتها البعثة يف تلك املنطقة أولي “ بارودين “ و” ي. ً ً خاصا لقبيلة الدنكا ُ . وجل ما تذكره خبري اهتماما ب .كافاليفسكي “ 191 التعدين األورالي متثل يف « قيامهم خبلع السنتني األماميتني » .أعطي “ إيفان مبتكرا ً ً ً جدا لتلك العادة ؛ فعلي حد وصفه ،مل يود سكان تفسريا تروفيموفيتش “ الدنكا أن يبدوا مثل الكالب .و أبدى رئيس البعثة مالحظات أكثر أهمية علي ً مشريا إلي أن هذا الشعب يعيش علي إمتداد نهر النيل منط حياة قبيلة الدنكا ، « على األنقـاض » ،ويقتـاتون علي اجلـذور « وبذور أعشـاب املستـنقعـات » ، ويتاجرون بالعاج « .يبدو سكان القبيلة ضعاف وشكلهم قبيح ،كما أنهم قبائل متحاربة بشكل كـبري» - ، 192هكذا وصف “ ي .ب .كافاليفسكي “ هذا الشعب. ً اهتماما بشكل عام ،ميكننا مالحظة أن بارودين ورئيسه كانا يبديان ً ً تدرجييا التمييز بني ممثلي القبائل كبريا بشعوب السودان املختلفة .وتعلما املختلفة ،وأدركا عاداتهم وأساليب حياتهم .من اهلام بالطبع أن يتمتع خبري التعدين األورالي املتواجد للمرة األولي يف القارة السمراء بتلك امليزة .و يبدو يف تلك األثناء أن تنوع الشعوب اإلفريقية أثار حرية الرحالة اخلبري .يشري عامل اجلغرافيا سالف ً مبحرا يف تلك السنوات عرب نهر النيل ،أنه: الذكر أ .أ .رافالوفيتش ،الذي كان «مبجرد وصول الرحالة من أوروبا إلي مصر ،فإنه يتعود ببطء علي التمييز بني أجناس سكان القبائل العديدة ،اليت تظهر يف املدن التجارية الرئيسية يف تلك املنطقة ...فاملراقب يف البداية يندهش من شيء واحد :أال وهو اإلختالف يف مالمح الوجه والبنية اجلسمانية ولغات سكان املناطق احمللية بشكل عام عن مجيع من رآهم يف عاملنا اآلخر » .193خالل تلك املدة القصرية اليت قضاها إيفان تروفيموفيتش - 190مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.241 . - 191األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق . 101الفهرس األول . ملف . 559ورقة . 27 - 192مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص . 218 - 193أ .أ .رافالوفيتش .تعليقات عن اثنوجرافيا سكان جنوب النوبة //مذكرات الهيئة الجيوغرافية لإلمبراطورية الروسية .سانت بطرسبورج .1850 ،الكتاب الرابع .ص.186 . 135
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
يف أفريقـيا ،جتـاوز مرحـلة مـجـرد إدراك خصـائـص شـعـوب مـصـر والـسودان . فعدم إتقان “ بارودين “ و رفاقه للغات العديد من القبائل اإلفريقية اليت قابلوها كان له ً أثرا بالتأكيد .لطاملا أدرك خبري التعدين األورالي أن هذا األمر أضاع عليهم إلي حد بعيد فرصة فهم ثقافات تلك الشعوب .وهلذا مل يتسن له سوى رسم صور ً مشريا إلي أن ممثلي القبائل قصرية تتعلق علي سبيل املثال بشكل مالبسهم، علي طول املسافة بني أسوان والسودان كانوا يسريون يف األساس « عرايا » ،علي ً مالبسا ويغطون أجسادهم بقماش الرغم أن معظم سكان املدن كانوا يرتدون الكتان .وفيما يتعلق بثقافة التغذية ،كان “ بارودين “ يشري إلي فقر السكان ً تقريبا ،وعجزهم عن تدبري االحتياجات اليومية من احملليني املدقع يف كل مكان الغذاء .يتحدث خبري التعدين األورالي عن قيامه أكثر من مرة هو وصديقه باملرور على أكواخ األفارقة علي أمل احلصول علي بعض الطعام ،ولكن فى أغلب األحيان باءت تلك احملاوالت بالفشل « :عندما تطلب من السكان ً شيئا لتأكله ال جتد يف املنزل أي طعام سوى البلح اجلاف ». 194 ليس من املدهش يف تلك الظروف أن يثري املظهر اخلارجي ملعظم ممثلي الشعوب ً ً سيئا يف نفس “ إ .ت .بارودين “ ،الذي يشري إلي أنه « مظهرهم انطباعا اإلفريقية ً ال يوحى باجلمال » ،مفسرا ذلك « بأن الغالبية ،علي ما يبدو ،شوهتهم عوامل طبيعية – فإما كانوا فاقدي البصر ،أو مصابني بعرج أو جروح يف اجلسد إثر اإلصابة ببعض األمراض » .195جيدر اإلشارة إلي أن خبري التعدين األورالي وصل إلي أفريقيا يف الوقت الذي كانت فيه القارة اإلفريقية بعيدة عن مظاهر احلضارة األوروبية ،وما واكبها من تقدم يف نظام الرعاية الصحية ،واليت تسمح بالتداوى من العديد من األمراض اخلطرية .يذكر بارودين ،أن أفراد البعثة قلما تواصلوا مع األفارقة « لعدم وجود حاجة لذلك » .ولكن ،حتى يف تلك الظروف تولد لدى ً مطلقا على خبري التعدين األورالي شعور بأن “ حممد على “ مل يكن يبسط نفوذه كافة شعوب السودان .فبعض القبائل مل تكن راضية عن سياسات القاهرة ،اليت ً غالبا ما اقتصرت فقط على بعض اخلطب العفوية .الحظ خبري التنقيب عن الذهب ً أصداء عدم الرضا عن تلك السياسة .كما ذكر الحقا ،فعندما كانـت البعـثة الروسـية يف طريقـها عرب النيل « وهبت رياح معاكسة » ،اضطروا – كما كان - 194األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .35 - 195األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .35 136
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
ً معتادا يف مثل تلك الظروف – الستدعاء السكان احملليني من أجل سحب املركب باحلبال لألمام ،مثل حبارة جر املراكب يف نهر الفوجلا .ولكن حماولة قائد البعثة لإلتفاق مع القبائل اجملاورة أثارت حنقهم :فاألفارقة ،علي حد وصف بارودين « ، كانوا يلقون احلجارة من الشاطئ ويركضون عرب الشاطئ ويصرخون دون النظر إلي علم الباشا املرفوع ،وأخذوا ينثرون الرتاب يف اهلواء يف إشارة الي متردهم علي الباشا» .196متكن أعضاء البعثة بصعوبة بالغة من تهدئة املشاركني يف هذا « التمرد العفوي ضد مصر ». ً مهتما باإلمكانيات ظل بارودين – علي الرغم من معاناته من مرض عضال – التقنية املختلفة اليت تصادف رؤيتها يف طريقه .يذكر علـي سبيـل املثـال آالت ري النباتات الـيت كـانت ُتستـخدم فـي تلك املنطقة ،وتتبع باهتمام تقنية عمل تلك اآلالت .بالقرب من الشاطئ مت حفر خزان ،ميتد عرب «قناة» من نهر النيل .وعلي اجلانبني استقر عمودان تكسوهما عارضة مثبت بها عمود منتصب يكسوه عجلة مسننة («ال ،ليست أسنان – قاهلا إيفان تروفيموفيتش متداركـًا – من ً عمودا آخر ،مثبت بإحدي األفضل القول ،أنها أقرب إلي اإلبر» .)197وباجلوار كان هناك أطرافه عجلة بأسنان كاإلبر .كما ُثب َ ّت العمود األول برافعة ،مربوط بها زوجان من ِ الثريان .عن طريق تلك اآللة كان باإلمكان رفع املياه علي ارتفاع ثالثة ساجني ،ثم كانت املياه متر عرب ُ األخدود إلي املكان الذي حيتاجه السكان احملليون. أبدى إيفان بارودين ورئيسه كل تلك املالحظات يف خضم تنقلهم من منطقة سكنية إلي أخرى يف السودان .وأثناء تنقلهم كانوا مضطرين للتوقف ملدد طويلة، حتى يستعيدوا ولو جز ًءا من قواهم اليت فقدوها بشكل كبري .ويف اخلرطوم التقوا ً جمددا بالوفد الكاثوليكي ،مع أن احلالة الصحية لألسقف ريلو حتسنت بعض الشيء ،علي حد قول بارودين .كانت حمطة البعثة التالية يف السابع عشر من مايو يف شندي « بسبب مرض املقدم كافاليفسكي ».
صحراء بيوضة ً وحتديدا يف السابع والعشرين من مايو حترك أعضاء البعثة علي بعد عشرة أيام، اجلمال عرب الشاطئ الغربي لنهر النيل يف اجتاه دوجنل« .يكاد إيفان بارودين يتذكر ولو ً شيئا من هذه املرحلة الصعبة من رحلتهم :سرنا عرب صحراء -وهي - 196نفس المرجع .ورقة .35 - 197األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .26-27 137
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
ً عبارة عن سهول تغطيها الرمال ...وال تنبت فيها سوى شجريات جافة ً وأحيانا متاما. تري بعض األحراش عرب املنخفضات ...ال يوجد ثـمة كائن حي علي إمتداد البصر، والكل يرتدي تعصيبة سوداء كأننا يف حالة حداد» .198حتى السكان احملليون يشبهون الطبيعة احمليطة بهم :وجوه اجلميع سوداء ،فقد كانوا «يتمرغون» يف الرمال والرتاب وحتت الشـجريات « دومنا املكوث يف مأوي مناسب ». هذا هو املكان املسمي “بصحراء بيوضة” .وهناك أصيب رئيس البعثة بوعكة صحية :يذكر إيفان بارودين «أنه أصيب حبمي شديدة » .يصف إجيور بيرتوفيتش نفسه حالته آنذاك ،قائال ً « :يف اليوم الرابع متكنت بالكاد من ً مستحيال لعدم وجود مياه يف الطريق . الثبات فوق احلصان ،ولكن كان التوقف وصلنا بشق األنفس إلي بئر موتوين .استلقيت يف هذا املكان ستة أيام حتت شجرة سنط جافة مغطاة بنفايات خمتلفة ،و كنت أشعر بالضجر من احلرارة العالية اليت تنبعث من داخل جسدي ومن خارجه ،وعذاب العطش وامللل – وهي األعراض احلتمية للحمي الصفراء» .أخربنا بارودين ،أن كافاليفسكي « استلقي يف إحدى املناطق حتت شجرية ملدة ستة أيام» .ونالحظ أنه أثناء تواجده بالقرب من البئر ،استجمع ي. ب .كافاليفسكي قواه وأرسل خطا ًبا إلي أركان فيلق مهندسي التعدين .عندما أدرك أن هناك احتمالية لعدم رؤية زمالئه إلي األبد ،كتب هلم ،قائال« :من بني 26 ً شخصا باملرض» .199بالطبع كانت حالة ي. شخص اصطحبوني من القاهرة أصيب 21 ب .كافاليفسكي سيئة ً جدا ،إال أن االسرتاحة يف الصحراء ملدة ستة أيام مل تكن ُ ً باألمر اليسري ألعضاء البعثة .ويذكر بارودين أن « درجة احلرارة ال تطاق نهارا » ً مضيفا أنه «جنا بفضل اهلل وحده ،علي الرغم أن البئر كان قريبًا ». داخل اخليمة، إال أن التواجد يف مكان واحد فقط وسط الصحراء ملدة طويلة ينذر خبطر مميت. كان رئيس البعثة والرحالة احملنك نفسه أكثر من أدرك هذا اخلطر حيث تذكر الحقا حوا ًرا مسعه ذات مره بني مساعديه .يبدو أن « املؤن تنضب » « واملياه يف البئر تنفد » .من الضروري اختاذ قرار ما .اختذ ي .ب .كافاليفسكي يف تلك الظروف قرا ًرا حبمله علي نقالة .أهم ما يف األمر كان املضي ً قدما باجتاه شاطئ النيل واملدن الكربى للنجاة من الصحراء .الزالت تنطبع يف ذاكرة بارودين صورة أعضاء البعثة وهم حيملون رئيسهم علي النقالة ملدة ثالثة أيام حيت مدينة مروي (مدينة أثرية علي الضفة الشرقية لنهر النيل ،كانت تبعد حوالي 200كيلو مرت من اخلرطوم .تعليق املرتجم ) علي شاطئ النيل. مل تتبق تقريبًا أية ذكريات عن تلك املرحلة الصعبة من الرحلة .ال يذكر خبري - 198نفس المرجع .ورقة .27 - 199ب .أ .فالسكايا .ي .ب .كافاليفسكي والمهندسون المصريون ...ص.136 . 138
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
التعدين األورالي سوى حلظة أن تبقي ساعتني فقط يف الطريق لبلوغ نهر النيل، عندما رأوا « دير مسيحي مت تشييده يف القرن السادس » .200كان الدير ً مهدما «منذ أيام االقتتال األهلي». ً أخريا وصلت البعثة الروسية إلي نقطة النجاة علي شاطئ نهر النيل .و بعد أن ارتاح أعضاء البعثة من عناء السفر عرب الصحراء ،تسين هلم تفقد املنطقة .بالقرب ً معبدا لإلله إيزيس .أدرك بارودين (علي ما يبدو من من اجلبل املتواجد باجلوار أقاموا ً ي .ب .كافاليفسكي) أن املعبد كان عتيقا – فقد مت بنائه «منذ ما يقرب من 5000عام » .ويف اللحظة اليت وصل فيها الروس إلي هناك كان نصف املعبد ً مهدما متا ًما .يغلب الظن – كما افرتض بارودين – أن املعبد حتطم علي يد سكان املنطقة أنفسهم الذين كانوا يستخدمون حطامه لبناء منازهلم :حتمل بعض املنازل آثار الرسومات اليت كانت تزين املعبد .وأمام املدخل – علي حد وصف إيفان ً مرسوما عليها «بعض تروفيموفيتش –ميكنك رؤية البوابات ،و األعمدة ،اليت كان األشخاص » .توجد عدة غرف داخل املعبد ،اليت تعكس حوائطه رسومات خمتلفة. يوجد علي مسافة أبعد بقليل أربعة عشر هر ًما .عند دخول أي من تلك األهرامات ً ً مزينا باللون األزرق ورسومات لشخصيات خمتلفة – يعتقد خبري «بهوا» جتد 201 التعدين األورالي أنها شيدت « حلكام » مصر القدمية – ورموزاً هريوغليفية .يف تلك األثناء الحظ إيفان تروفيموفيتش غياب الرموز املكتوبة باللغات األوروبية، كما استنتج أن بعثة ي .ب .كافاليفسكي أول بعثة من نوعها يف ضواحي معبد إيزيس. أكملت البعثة طريقها بعدما تفقدت هذا اجلزء من شاطئ نهر النيل وأخذت قسطاً من الراحة .
دنقال يف الثالث عشر من يونيو وصلت بعثة ي .ب .كافاليفسكي إلي مدينة دنقال. من املدهش أن إجيور بيرتوفيتش مل يتذكر أية شيء عن فرتة تواجده هناك ، ولكنه علم من خالل املؤلفات بوجود «معسكر من فلول املماليك» يف دنقال، - 200األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .27 - 201أنظر :األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول .ملف .559ورقة .28 139
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
استولت عليه قوات حممد علي آنذاك .وتذكر ً أيضا العديد من أسراب النمل األبيض ،الذي يعترب «مأساة السودان » « :تهدمت منازل بأكملها بسبب النمل، وتبدو بسبب ذلك اآلن وسط املدينة كاهلياكل».202 ال تبدو قصة إيفان بارودين للوهلة األولي أكثر تفصيلاً من مذكرات رئيسه، الذي كان علي ما يبدو يف حالة مزرية لدرجة أنه مل يتذكر مكوثهم بعد ذلك ثالثة أيام كاملة يف دنقال ،وذهـبوا « إلي أحد املوظفني ملشاهدة زرافة يافعة ».203 وبالطبع مل يستطع خبري التعدين األورالي –الذي سنحت له الفرصة لرؤية هذا احليوان ألول مرة عن كثب –جتاهل تلك الزيارة .وهلذا كان من املنطقي متا ًما أن تنمو لديه الرغبة يف وصف هذا املخلوق العجيب بشكل مفصل (ال سيما وأنه كان يعتقد أن أي من قراء مذكراته مل يسبق له رؤية زرافة علي قيد احلياة) ً . وفقا ملا قاله إيفان تروفيموفيتش ،فإن الزرافة تشبه « من حيث اهليكل اخلارجي » احلصان « :صدرها مرتفع ،ومؤخرتها منخفضة ،وعنقها طويل ومنحين كالرتس ،بينما وجهها صغري وجبهتها مكتنزة وصدرها عريض ومنقسم إلي شطرين ،وحوافرها مشقوقة إلي نصفني ،وجلدها مزدان برسومات كالتفاح الصفري ،والشفاه السفلي متدلية » . استحوذت الزرافة اليت كان ميتلكها موظف مدينة دنقال علي اهتمام ضيوفه. فالكثري من الضيوف الذين قاموا بزيارة هذا املوظف – كما هو احلال بالنسبة للرحالة الروس – سعوا بالطبع لتقديم أي شيء هلذا احليوان .وهلذا ،كما ذكر بارودين ،كانت نظرة احليوان تنم عن سعادة « :فال مانع لديه من تناول أي شيء يقدم له » .كما أثار سعر الزرافة دهشة خبري التعدين األورالي ،الذي أبهره « :أن الصغري الذي مل يبلغ ً عاما بعد يقدر بـ 300تالر (وهي عملة معدنية من الفضة . تعليق املرتجم ) ».204 ومن جديد انطلقت البعثة يف طريقها ،بينما ال تزال مسرية طويلة بانتظارها. يف خضم تلك الرحلة رأي أعضائها املعابد القدمية (وخاصة معبد أبو مسبل املنحوت يف اجلبل ،والذي اكتشفه ليبسيوس «عامل أملاني متخصص يف علم املصريات ( .)1810-1884تعليق املرتجم») .يوضح أ .نوروف اإلنطباع الذي خلفه ذلك يف نفس الرحالة الروسي .ويكتب يف ذلك «تبدو معابد أبو مسبل الضخمة كأنها جتذب مركبك مبغناطيس ،وعندما تقف أمامها تشعر أنك كالقزم علي الشاطئ، - 202مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.257 . - 203األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .28 - 204نفس المرجع .ورقة .28 140
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
تستقبلك كأنها كائنات خارقة» .205مبجرد عبور مدينة دنقال تغلب إيفان بارودين و رفاقه علي ثالث « شالالت » نيلية صغرية ،ويف إحدي تلك الشالالت اضطروا إلي إنزال املركب باحلبال .ومل يكن اختاذ تدابري احليطة من قبيل ً مستحيال متا ًما « :فاملياه تضرب الشواطئ ،والرذاذ الصدفة ،مبا أن اإلحبار كان يتطاير ،وتصدر األمواج صوتا ً مرعبًا يصم اآلذان» .علي كل حال تغلبت البعثة علي هذه العقبة وأكملت طريقها .و اضطر أفراد البعثة من جديد للتوقف بسبب مرض ي .ب .كافاليفسكي و رفاقه ؛ فعلي سبيل املثال ،توقفوا يف إحدى املدن الصغرية ليومني .وكم كان إيفان بارودين منصفـًا عندما أشار إلي سوء حظ البعثة الروسية طوال ارحتاهلا يف طريقها إلي الوطن « :واجهتنا عقبات خمتلفة يف طريق العودة ،بسبب املرض تارة ،وبسبب الرياح املعاكسة تارة أخرى .»...نتيجة لذلك مل يتمكنوا من «إسراع اخلطى» ،بل كانوا يتحركون ببطء شديد. يف العشرين من شهر يونيو مرت البعثة علي ظهر اجلمال عرب شاطئ النيل أمام حافيت جبل « حتى أطراف الصحراء الليبية » .يعترب هذا اجلزء من الطريق األكثر صعوبة بالنسبة إليفان تروفيموفيتش الذي اجتاز كل الظروف .علي حد وصفه، فإن «الشمس تشع هليبًا ،والرياح حمملة بغبار الرمال – كانت ببساطة رحلة مليئة بالعذاب » .206يف الثامن والعشرين من يونيو وصلت البعثة إلي إحدي القري وركبت ً جمددا وبدأت رحلتها عرب نهر النيل . املركب
معبد آمون ً معبدا ً قدميا يوضح بارودين ،أنه يف اليوم التالي 29 -من يونيو ظهر أمام أعينهم خمصص لعبادة آمون إله مصر القدمية .مت بناء املعبد قبل عدة آالف سنة من ميالد املسيح .انطبع يف ذاكرة خبري التعدين األورالي املكان الغريب ،الذي ُبين فيه ً مالصقا» لنهر النيل « ويبدو مشطو ًرا أو مبتو ًرا » .كان املعبد املعبد .كان اجلبل « الذي عاينه الرحالة الروس عبارة عن جممع معابد كامل يتكون من عدة مباني. علي أبواب املعبد الرئيسي تقف ستة « متاثيل » من احلجر اخلالص .يقع مدخل املعبد وسط تلك التماثيل .جتد علي احلوائط املوجودة يف ردهات هذا املعبد العديد من صور حيوانات وطيور « وأشخاص بقبعات بارزة » .قدر “إيفان تروفيموفيتش” عدد ردهات املعبد بعشرة .يوجد علي مدخل املعبد الثاني أربعة «متاثيل واقفة» - 205أ .نوروف .المرجع األسبق .ص.232 . - 206األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .28 141
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
باإلضافة إلي عدة متاثيل جالسة .حيتوي املعبد علي العديد من الغرف ً أيضا ،رأي الرحالة يف الغرفة األخرية عدة متاثيل يف وضعية جلوس ويدها علي ركبتها. كانت بساطة البناء أكثر ما أثار دهشة إيفان تروفيموفيتش يف جممع املعابد. يقول خبري التعدين األورالي :ال يوجد هناك أي شيء سوى «التماثيل»« ،ال يعيش هناك اآلن سوى جمموعـات من اخلفافيـش » .ويتعجب بارودين من «كم اجلهد وكم الوقت ،الذي استغرقه بناء هذا الصرح » .اآلن وبعد كل هذا اجملهود ،الذي بذله ً «أشخاصا البناءون القدامي يف إنشاء هذه املعابد« ،يأتي األجانب ببساطة» ملشاهدة عاشوا يف أزمنة ما ،كأنهم يدفعون إتاوة مقابل فضوهلم » .اعترب خبري التعدين األورالي ذو الشخصية العملية أن اهتمام السياح باآلثار القدمية ً أمرا غريبًا .وهلذا ً قائال « :ينفقون علي الرحلة كم من النقود يعرب عن حريته من هذا يف كتاباته ، من أجل مشاهدة مأوي للخفافيش ».207 تذكر إيفان تروفيموفيتش عرب زيارة معبد آمون ً أيضا أن أفضل أنواع البلح ً ً جمزيا علي يف املنطقة كلها كانت تنمو حول املعبد .فقد كان البلح يدر دخال السكان احملليني .لطاملا رأي بارودين وأصدقائه شحنات من البلح ُتنقل من هناك يف قوافل إلي مناطق أخرى من إمرباطورية حممد علي. وبعدما شاهد أفراد البعثة جممع معابد اإلله آمون ،وبعدما ذاقوا لذة ثـمار البلح ، أحبرت مركب أعضاء البعثة الروسية بإجتاه احملطة التالية .
دير يف اليوم التالي من زيارة معبد آمون وصلت البعثة إلي مدينة دير .تقع املدينة يف منطقة خصبة حتيطها أراضي مزروعة بالتبغ والقطن والفول وغريها .حول املدينة ترعي قطعان من األغنام واألبل ،وحتيط بها أشجار النخيل .يف الوقت نفسه كان باملدينة العديد من املنازل ذات طابقني (ومن بينهم منزل من طوب ذو لونني)، ومسجد صغري وعدة زوايا صغرية بقباب .كما انتشرت العديد من األكواخ ،اليت تسكنها عرقيتان رئيسيتان – إما املهاجرين من البوسنة أو أهل النوبة .سرعان ما يلحظ الرحالة الفروق الشاسعة يف العادات وأسلوب حياة ممثلي كال الشعبني . - 207األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .29 142
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
أثار وصول البعثة الروسية اضطرا ًبا وسط سكان مدينة دير :يذكر إيفان بارودين «أن سكان املدينة أخذوا يدقون علي الطبول ويهرولون بأعداد كبرية لدرجة أننا مل جند ً ممرا يف الشارع ومتكنا بصعوبة شديدة من التوجه إلي أطالل ً ً املعبد القديم » .208مع هذا هدأ الناس شيئا فشيئا ،وبينما كان الضيوف الروس عائدين بعدما شاهدوا املعبد ،مل يقابلوا ً أحدا .وأثارت أسعار السلع املنخفضة يف السوق دهشة إيفان تروفيموفيتش يف هذه املدينة :يذكر بارودن أنهم قاموا بشراء 2بود (يعادل البود 38,16كجم .تعليق املرتجم) بلح مقابل قرشني .ال تبدو تلك األسعار غريبة إذا ما أخذنا يف االعتبار وفرة مزارع البلح بالقرب من تلك املدينة . خالفـًا للبلح ،كانت مدينة دير مشهورة باحلصري والسالل اليت كانت تباع يف مدن الشرق البعيدة . ً جمددا خط اإلستواء بالقرب من كالبشه، بلغت البعثة الروسية يف األول من يوليو كما فعلت يف الطريق إلي فازوغلي .ويف هذا املكان تفقدوا املعبد ،الذي ذكر بارودين أنه حتطم علي يد حاكم الفرس الشهري قمبيز ،209أحد أشهر ملوك أسرة األمخينيون وابن امللك كورش الكبري .ومن املعروف أن قمبيز الثاني غزا مصر عام 525قبل امليالد .حكي رئيس البعثة – الذي أطلع ً جيدا علي التاريخ القديم ً – خلبري التعدين األورالي ،أن أعداد قوات قمبيز كانت كبرية جدا «وأقسموا» علي هدم املعبد بأكمله « ،ولكنهم مل يتمكنوا من ذلك بسبب حجم احلجارة الكبري » .ومع هذا كان لديهم الكثري ليفعلوه ،ويف النهاية لعب الوقت واألحفاد دورهم يف إمتام هذا العمل :حلظة وصول الروس كان أساس املعبد مهدم بشكل كامل . اقرتب أعضاء البعثة الروسية يف اليوم التالي من أحد موانئ نهر النيل ،حيث كانوا يرتكون مركبهم الذهيب الصغري ،الذي كان يقوم برحالت ذها ًبا وإيا ًبا عرب أعالي نهر النيل امللئ باحلواف« .انتهت مرحلة الشالالت الصغرية» .وأعاد أعضاء البعثة شحن متاعهم علي اجلمال وحتركوا عرب اجلبال إلي مدينة أسوان ،حيث كانت الباخرة بانتظارهم منذ فرتة .وصل أعضاء البعثة يف الثالث من شهر يوليو علي منت هذه الباخرة إلي قاعدة شحن ،كان احلجاج املسلمون يستخدمونها أثناء أدائهم فريضة احلج إلي مكة .وهلذا أقيم سوق جيد يف تلك املنطقة ،حيث متكن الرحالة الروس – علي حد وصف إيفان تروفيموفيتش – من شراء «قهوة ممتازة» - 208األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .29 - 209نفس المرجع. 143
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
مقابل قرشني .ومل يكن هذا أكثر ما انطبع يف ذاكرة خبري التعدين األورالي يف ً «رجال ً عربيا ُيدعي مربوك» ،والذي كان يرتدي تلك املدينة .فقد رأي أمام عينيه مالبس ثقيلة ً جدا يف الطقس احلار ،ويعلق العديد من أباريق املياه .وكان هذا الرجل يبيع للناس املاء لإلغتسال والشرب.
ً جمددا يف القاهرة ً أخريا وصلت البعثة الروسية إلي القاهرة يف اخلامس من يوليو .متثل أفضل خرب بعد رحلة سفر طويلة عرب الصحراء يف النزول يف «فندق علي الطراز األوروبي» .من اجليد أن تشعر من جديد أنك إنسان «متحضر» ،بعد املبيت حتت السماء املفتوحة، وسط شجريات السنط وداخل خيم السفر .مع هذا مل يتسين هلم التواصل مع أي شخص روسي :علي حد قول إيفان بارودين «مل يكن سواء القنصل الروسي ،أو امللك باملدينة ،رحل اجلميع إلي اإلسكندرية ،وهلذا توجهنا إلي اإلسكندرية يف الثامن من نفس الشهر».210 غري أن السفر إلي اإلسكندرية مل يكن بتلك البساطة .فقد اجتاح املنطقة مرض الكولريا وهلذا قاموا يف التاسع من يوليو باحتجاز الروس يف احملمودية ،حيث أمر حممد علي – كما كان معروفـًا – حبفر قناة شهرية آنذاك من اإلسكندرية - «قناة متر خالهلا السفن واملراكب الصغرية» ،وفقا ملا ذكره إيفان تروفيموفيتش.
ومن جديد يف اإلسكندرية وصلت البعثة إلي اإلسكندرية يف نهار العاشر من يوليو .قضي خرباء التعدين الروس أسبوعني هناك .يقول إيفان بارودين« :مل ُيسمح لنا باخلروج من الفندق بسبب انتشار وباء الكولريا» 211ردد رئيس البعثة – الذي رسم الصورة املرعبة للمدينة الواقعة حتت تهديد الوباء – علي مسامع خبري التعدين ما يلي« :كانت اإلسكندرية خالية متا ًما :هرب البعض إلي اجلزر ،وحبس آخرون أنفسهم يف - 210األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .30 - 211األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .30 144
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
منازهلم ،واضعني أنفسهم طواعية يف حجر صحي بسبب الكولريا؛ مل متتد سوى مواكب اجلنازات بشكل متقطع حيت املقابر» .212اندهش بارودين وأعضاء البعثة الروسية اآلخرين من سلوك حممد علي املريض ،والذي كان «يتجول عرب شوارع املدينة اخلاوية كل يوم يف موكب من أربعة أحصنة ،غري آبه بالكولريا».213 ً فعليا نيابة يف تلك األثناء كان ابراهيم باشا ابن حممد علي حيكم مصر ً وفقا ألقوال بارودين« ،فقد كان ابراهيم باشا يتجول يف عن والده املريض. البحر هر ًبا من الكولريا» .مل يكن بوسع أعضاء البعثة رفض استضافته .أثناء هذا اللقاء أخذ أعضاء البعثة يطلعون حاكم مصر الفعلي علي النجاحات اليت توصلوا إليها بشأن بناء ورشة غسل ذهب يف منطقة فازوغلي .علي ما يبدو أن ً خططـًا كبرية لتطوير صناعة استخراج الذهب يف مصر. ابراهيم باشا وضع آنذاك ً حتديدا عن إرسال مخسة شبان مصريني إلي روسيا من أجل تعلم جري احلديث أمور التعدين .بعد علمه بهذا املشروع قام “ي .ب .كافاليفسكي” بعرض هذا االقرتاح :حيث رأي أنه من املستحسن إرسال ثالثة أشخاص «مباشرة إلي مناجم جبال األورال» ،بينما يتوجب علي اثنني آخرين تلقي العلم بداية يف معهد تعدين سانت بطرسبورج ،وبعد إنهاء الدراسة يتوجب عليهم التوجه إلي مناجم األورال وألتاي. ً خالفا هلذا ارتأي ي .ب .كافاليفسكي من الضروري عدم اإلكتفاء مبا حتقق ً بشأن تطوير ورشة غسل الذهب يف منطقة كاسان .ورأي أيضا أنه من املمكن إسناد إدارة هذه الورشة إلي أحد أصدقائه القدامى من املهندسني املصريني الذين قدموا إليه يف األورال ،أو إلي «الرائد بسالح املدفعية أمحد أفندي املرتبط كذلك مبناجم التعدين» .214طرح إجيور بيرتوفيتش هذه الفكرة علي إبراهيم باشا يف مذكراته املكتوبة يف يوليو عام .1848 وعلي مايبدو مل يتخذ الرحالة الروس تدابري حيطة ومل يتعاملوا جبدية مع إجراءات احلجر الصحي « .يعرتف إيفان تروفيموفيتش بصراحة ،أنه علي الرغم ً أنواعا من الفواكة من وجود احلجر الصحى ،كنا نذهب حيثما نرغب وحنضر الطازجة » .كان من املمكن ً قطعا أن يؤدي هذا التصرف إلي عواقب وخيمة يف ظل انتشار وباء الكولريا .ولكن هذا األمر مل يعكر صفو خبري التعدين األورالي :بل علي العكس ،افرتض أنه يتصرف بشكل صحيح ً متاما يف ظروف - 212مجموعة أعمال إيجور بيتروفيتش كافاليفسكي ...ص.248 . - 213األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .30 - 214ب .أ .فالسكايا .ي .ب .كافاليفسكي والمهندسون المصريون ...ص.137 . 145
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
ً خالفا للسكان احملليني .يف تلك األثناء صاغ خبري التعدين رواية مدهشة الوباء ألسباب انتشار الكولريا يف مصر « :كان السكان املصريون يؤدون فريضة شهر رمضان (الصوم – تعليق أ .ف .أنتوشني) .مبجرد أن يأكلون ثـما ًرا رمادية، يف الصباح جند مائة ومخسون ً ميتا .هذا هو السبب الرئيسي للكولريا».215 شارفت فرتة التواجد ملدة أسبوعني يف اإلسكندرية علي اإلنتهاء .ولوال عدم قدرة أعضاء البعثة علي استعادة عافيتهم من األمراض اليت أصابتهم ،لكانوا حاولوا بأقصي سرعة ترك املدينة املصابة بالوباء قبل ذلك .ولكن مل يتحدث أحد عن إمكانية عودتهم للديار قريبًا .افرتق أعضاء البعثة بشكل مؤقت يف الرابع عشر من شهر يوليو .يتعلق األمر برغبة ي .ب .كافاليفسكي يف التوجه إلي األرض املقدسة ،إلي القدس ،بغض النظر عن الرحلة الشاقة ،الذي جنا فيها من املوت بأعجوبة .وبالطبع كان بارودين وصديقه يتوقون للتواجد يف األماكن ،اليت متثل قدسية ألي مسيحي أرثوذكسي .ولكنهم كانوا مضطرين لرفض ذلك ببالغ األسي« :يشري إيفان تروفيموفيتش بعد ذلك ،أنه علي الرغم من دعوته لنا للسفر معه ،ولكن كان مستحيل السفر إلي هناك بسبب املرض».216 يف النهاية افرتق بارودين عن رئيسه وتوجه علي منت باخرة إلي إسطنبول .وكما هو احلال بالنسبة لرحلته البحرية األولي من أوديسا إلي القسطنطينية ،عاني خبري ً ً وثيقا باملرض العضال الذي ارتباطا التعدين األورالي مشقة السفر .وارتبط ذلك أصابه وأصدقائه يف الصحراء .ويف النهاية أصابته الرحلة البحرية «بدوار البحر». ً مستعدا للمتاعب املصاحبة ولكن يف هذه املرة مل يكن إيفان تروفيموفيتش ً تدرجييا« ،حيث أخذ بالتعود ،علي للرحلة البحرية .بدأت أعراض املرض يف الزوال ً حد ذكرهً ، فشيئا علي اإلهتزازات».217 شيئا يف التاسع والعشرين من يوليو اقرتبت السفينة اليت كانت تقل بارودين من رودوس ،حيث تزودوا بالفحم ثم أكملوا الرحلة .وصل املركب يف األول من ً أغسطس إلي خليج الدردنيل ،حيث اضطر للتوقف ملدة اثين عشر ً كامال :فقد يوما ً ختوفا من وباء الكولريا .بعد كانت السلطات احمللية حتتجزهم يف احلجر الصحي، انتهاء مدة احلجر الصحي مت السماح إليفان تروفيموفيتش بإكمال رحلته علي منت سفينة تركية. - 215األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .30 - 216نفس المرجع .ورقة .30 - 217نفس المرجع. 146
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
اللقاء األول بإسطنبول ً أخريا يف الثالث عشر من شهر أغسطس .قضي وصل بارودين إلي إسطنبول خبري التعدين األورالي قرابة شهر يف عاصمة الدولة العثمانية يف انتظار ي .ب. كافاليفسكي .وخصصوا له غرفة يف مقر ديوان املفوضية الروسية .متكن ً سابقا بارودين خالل هذه الفرتة من رؤية العديد من األشياء املمتعة .وكما أشرنا فقد شعر خبري التعدين األورالي يف زيارته األولي وهو يف طريقه إلي مصر والسودان، بالدهشة من حقيقة قيام سكان إسطنبول بوضع املناقل وإشعال النريان مباشرة يف الشوارع .بينما أيقن اآلن يف طريق عودته أن عاصمة اإلمرباطورية العثمانية ليست املدينة األكثر ً أمانا من ناحية التعرض خلطر احلرائق يف منتصف القرن ً متواجدا فيها يف املدينة يف أغسطس التاسع عشر .يف الفرتة اليت كان بارودين عام ،1848وقعت مخسة حرائق قضت علي شوارع بأكملها .أرتأي خبري التعدين األورالي أن السبب وراء ذلك يرجع – باإلضافة إلي إهمال املواطنني – إلي املستوي السيء لعمل أجهزة اإلطفاء يف إسطنبول« :ففرق اإلطفاء ليست علي املستوي املطلوب» .كانوا حيكون لبارودين ،أنه مبجرد نشوب احلريق ويصل عمال اإلطفاء « -يبدأ اجلدال معهم حول املبلغ ،الذي سيتقاضونه مقابل هذا العمل ،حتى حيرتق الشارع عن آخره».218 يذكر بارودين« ،أنهم كانوا سعداء ً جدا» حلظة وصول ي .ب .كافاليفسكي إلي اسطنبول ً أخريا يف اخلامس من سبتمرب .ولكن مل تستمر سعادة لقائه بصديقه ً ً ً طويال :ففي اليوم التالي مرض إيفان تروفيموفيتش مرضا شديدا .يكتب األخري ً عن هذا قائال« :يف السادس من نفس الشهر حلقت بي وعكة صحية شديدة، وأصبت مبرض ،و لو مل يكن الطبيب قد متكن من وقف النزيف لكنت مت ً قطعا» .اضطر خبري التعدين للراحة ملدة تسعة أيام ،فحالته لن تسمح بركوب ً السفينة عائدا لوطنه .فقد إيفان تروفيموفيتش شهيته بشكل عام ملا يقرب من ثالثة أيام. ً كبريايفإنقاذحياته.يشريخبريالتعديناألورالي يفتلكالظروفلعبصديقهدو ًرا يف مذكراته بشكل مباشر إلي مدي عرفانه لي .ب .كافاليفسكي :مل يكتف كافاليفسكي بإحضار طبيب واحد فقط إلي بارودين « ،ولكنه استدعي طبيبًا - 218األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .5 147
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
آخر ودفع ً بدال منه أجر األطباء باإلضافة إلي مصاريف شراء األدوية من الصيدلية».219 مبجرد أن حتسنت حالة بارودين الصحية يف الرابع عشر من سبتمرب ،انطلق أعضاء البعثة الروسية يف النهاية علي منت السفينة إلي أوديسا.
من جديد علي أرض الوطن وصلت البعثة الروسية إلي املدينة الروسية اجلنوبية يف السادس عشر من سبتمرب. ً أخريا وصل بارودين وأصدقائه إلي األراضي الروسية! إال أنهم وجدوا أنفسهم أمام ً حجر صحي جمددا يف أوديسا :كان اجلميع متخوفني من الوباء الذي اجتاح مصر. وهلذا فقد أشار إيفان تروفيموفيتش إلي أن تدابري احلجر الصحي كانت أكثر ً تشددا هناك .فبمجرد وصول السفينة إلي املرفأ استقبلهم احلراس الذين جردوهم ً من كل شيء («حتى الصليب مل يرتكوه» - ،يتحدث بارودين الحقا بامتعاض). ً مالبسا رمسية .وقضوا اسبوعني يف غرفهم يفصل وقاموا بفحصهم بدقة وسلموهم ً قضبانا ثنائية .يذكر إيفان تروفيموفيتش ،ان موظفو ميناء بعضهم عن اآلخر أوديسا «حرصوا علي عدم إقرتاب أحد من أي شيء – فقد كانوا متخوفني من الكولريا» .220متكن أعضاء البعثة اليت توجهت ملصر من العودة إلي الديار فقط بعد انتهاء احلجر الصحي. ميكنك أن تتخيل مدي الراحة اليت شعر بها أفراد البعثة يف تلك األيام .انتهت أصعب بعثة إفريقية! كتب “ن .س .فسيفالوجسكي” – أثناء عودته من رحلة حبرية طويلة ً أيضا قبل عشرة سنوات من رحلة إيفان بارودين وأصدقائه – أنه ً ً متواجدا يف آسيا كبريا من أوروبا ،وكنت كان يشعر «بسعادة»« :جبت جز ًءا وأفريقيا وعدت إلي وطين ساملًا .221»...وهكذا يبدو أن “ن .س .فسيفالوجسكي” مل يقض أغلب وقته يف النوبة أو يف صحراء بيوضة ولكن يف تفقد معامل باريس وروما ونابولي ! - 219نفس المرجع .ورقة .31 - 220األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة .31 - 221ن .س .فسيفالوجسكي .رحلة عبر جنوب روسيا والقرم وأوديسا إلي القسطنطينية وآسيا الصغرى وشمال أفريقيا ومالتا وسيسيليا وإيطاليا وجنوب فرنسا وباريس في عامي .1836-1837موسكو .1839 ،المجلد الثاني .ص.520 . 148
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
إذا كان األمر كذلك ،ترى كيف كان استقبال روسيا ألفراد بعثة تعرضت خلطر حمدق فى أفريقيا ؟ كوفئ « ي .ب .كافاليفسكي « مبنحه وسام « القديسة ّآنا » من الطبقة الثانية .ومع ذلك مل ينس أمر أصدقائه – خبري التعدين وعامل غسل الذهب ،وطالب احلكومة مبكافأتهم على مشاطرتهم رئيسهم « كل األعباء واملخاطر واملعاناة» .ولكن كان من العسري التفكري يف هدية « إ. س .فومني » ألنه كان ً ً رجعيا .فى نوفمرب عام 1848عاد « بارودين وفومني » رجال إىل مصنع مياس .ومت مكافأتهم على اإلخالص والتفاني فى العمل مبرسوم صادر يف األول من شهر فرباير عام ُ :1849منح « إيفان تروفيموفيتش » ميدالية حتمل ً تقديرا لتفانيه « كي حييط به رقبته فوق وشاح « القديسة آنا » ،كما توقيع « منحوا « فومني» أربعون روبل من الفضة (على الرغم من أنه نفي كتابة ميوله الرجعية ،إال أنهم مل يسلموه منحة الدولة ) .و باإلضافة إلي ذلك أرسل وزير اخلارجية والتجارة الروسي إلي ي .ب .كافاليفسكي ألفي فرانك ملكافأة أعضاء البعثة الروسية .كما سلم إجيور بيرتوفيتش ألف فرانك إلي إيفان بارودين و 800فرانك إليفان فومني ،222واملائتان الباقيتان كانا من نصيب مساعد املقدم .من املعروف أن مصر منحت ي .ب .كافاليفسكي وسام «االفتخار» علي هيئة ميدالية ذهبية بها صورة للسلطان مصنوعة من املاس ،وهالل وجنوم وكذلك علبة تبغ من الذهب.223 كتب « إجيور بيرتوفيتش » مبجرد عودته مدونتني « -عن الوضع السياسي والتجاري الراهن يف شرق السودان وأثيوبيا » و« املشروع التجاري الروسي مع مصر وشواطئ البحر األسود » .وأوصي يف تلك الوثائق بتنظيم رحالت حبرية عرب خط سري أوديسا – القسطنطينية – اإلسكندرية تستمر مدة مخسة إلي ستة أيام ،كما أشار إىل السلع الرئيسية يف التصدير واإلسترياد الروسي .وباإلضافة إىل ذلك دعم بالرباهني ضرورة إنشاء مركز جتاري متخصص يف أوديسا من أجل 224 تدبري شئون التجارة مع الشرق .ولكن قوبلت خمططات « إجيور بيرتوفيتش » برفض من قبل جتار جنوب روسيا ،بعد أن وقف تدهور العالقات السياسية بني - 222أنظر :ب .أ .فالسكايا .ي .ب .كافاليفسكي والمهندسون المصريون ...ص. .138 - 223ج .ف .جارياتشكين .مصر في أعين الروس ...ص269 .؛ ف .ف. بيليكوف .علبة التبغ الذهبية للمقدم كافاليفسكي //معادن أوروبا اآلسيوية .1996 .رقم .6 - 224انظر :األرشيف الحكومي ألوديسا .صندوق .2الفهرس األول .ملف .282 ورقة 8-9؛ صندوق .2085فهرس رقم .369ملف .5712ورقة .5يشكر الكاتب البروفيسور ج .ف .جارياتشكين لتقديمه تلك المعلومات. 149
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
ً حائال أمام حتقيقها . روسيا ومصر نتيجة مشاركة اجليش املصري يف حرب القرم عاد « ي .ب .كافاليفسكي » و « إ .ت .بارودين » و « إ .س .فومني» منذ فرتة إىل أرض الوطن ،بينما ال يزال رفيقهم يف الرحلة اإلفريقية وعامل الطبيعة « ل. ً بعيدا عن روسيا .من املعروف أنه بعد عودة بعثة « ي .ب. س .سينكوفسكي » كافاليفسكي » إىل األورال بقي « ل .س .سينكوفسكي » فى منطقة نهر النيل لبعض الوقت .غادر « بالد األهرامات» بعد عامني فقط من إجرائه لدراسات ً تاركا « جمموعة كبرية من مواد التأريخ الطبيعي» لدى القنصل ميدانية ، الروسي العام يف مصر .يبدو أن « ل .س .سينكوفسكي » مل يتوجه مباشرة إلي روسيا ،بل سافر فى البداية إلي ترييسيت ( مدينة وميناء يف مشال شرق إيطاليا قرب ً متواجدا يف فرباير عام ، 1850 احلدود مع سلوفينيا .تعليق املرتجم ) ،حيثما كان ً وفقا ملا ورد يف جلسة اهليئة اجلغرافية التابعة لإلمرباطورية الروسية ( بتوصية من تلك اهليئة مت إدراج هذا العامل ضمن بعثة ي .ب .كافاليفسكي). 225 كان « ل .س .سينكوفسكي » خيطط للعودة من ترييسيت إىل روسيا عرب السويد وأملانيا .ونشر العامل فيما بعد فى الصحافة العلمية الروسية نتائج أحباثه فى مشال شرق أفريقيا .تغري الكثري على أرض الوطن فى الفرتة التى قضاها « إيفان تروفيموفيتش » فى أفريقيا .ويف صيف عام 1848أصبح قائد األركان وخريج معهد التعدين « أ .ف .ميفيوس » مدير مصنع زالتؤوست .من املدهش أنه عاد ً مساعدا لناظر فقط منذ وقت قريب ( صيف ) 1846من اخلارج ،حيثما توجه بصفته قافلة ذهب طاعن فى السن .226أسهب على صفحات « جملة التعدين » عام 1849 فى وصف املصانع التى زارها يف سليزيا ( منطقة تارخيية يف أوروبـا الوسـطى . تعليق املرتجم ) التابعة ململكة بروسيا ،ودار صك النقود يف فيينا ،ودار املدفعية يف أوجسبورج والعديد من املصانع األملانية األخرى . 227وبغض النظر عن التغريات ً صيفا الوظيفية ،جرت األمور كالسابق ،وكانت الوفود اجليولوجية تتوجه للتنقيب عن الذهب .وكان بطل كتابنا « الكابنت بلوم » – الذى رافق « عيسى الدهشوري » و «على حممد إبراهيم » من زالتؤوست إلي أوديسا – يرتأس أحد تلك - 225أنظر :تقرير الهيئة الجغرافية الروسية خالل عام //1849مدونات الهيئة الجغرافية التابعة لإلمبراطورية الروسية .1851 .الكتاب .5ص.15. - 226أنظر :أرشيف مقاطعة زالتؤوست .صندوق .2الفهرس األول .ملف .282 ورقة .6 - 227أنظر :تقرير عن رحلة قائد األركان ميفيوس األول إلي الخارج//مجلة التعدين .1849 .الجزء األول .الكتاب الثاني .ص.133-238 . 150
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
الوفود يف صيف عام . 1849متكن وفد بلوم من اكتشاف تسعة «حقول غنية بالذهب » .وإمجالي ما مت استصالحه خالل هذا الصيف فقط ثالثة ماليني بود رمال حتوي ً ذهبا ،من املفرتض استخراج أكثر من 23بود ذهب منها. 228 استمر التنقيب عن مكامن احلجر النفيس فـى املناطـق اجملـاورة لـورش بيـروزوف ،حيث كان يعمل « عيسى الدهشوري » على آلة الغسل املخصصة له قبل عدة سنوات .يف صيف عام 1849وجدوا أكثر من 23بود من الذهب يف املناجم اجلديدة .229وبال شك مل متر الرحلة اإلفريقية مرور الكرام علي خبري التعدين األورالي .رأى أحد أفراد عمال مصانع األورال البسطاء بأم عينه اإلسكندرية والقاهرة واخلرطوم وسنار .وعاش على مدار وقت طويل وسط متحدثني باللغة العربية ،وتعامل مع املصريني .توضح مذكرات رحلته ،أن « إيفان تروفيموفيـتش « تعلم بعض األشياء عن اللغة العربية ،حتى أنه متكن من تأليف كتاب حمادثات مميز ( بالروسية والعربية ) ،وحيتوى علي 249كلمة وتعبري . 230مت إحلاق هذا العمل الرائع – الذى ألفه خبري التنقيب عن الذهب األورالي – إىل مذكراته. أظهر حتليل هذا العمل أنه يضم كلمات وعبارات هلا عالقة بفرتة سفر البعثة الروسية على منت املراكب عرب نهر النيل .لقد قضى « ي .ب .كافاليفسكي ً « وأصدقائه ً طويال فى رحلتهم عرب النهر اإلفريقي العظيم ،وهلذا كان من وقتا الطبيعي أن ترتامى إىل مسامعهم عدد كبري من العبارات على لسان ممثلي أطقم هذه السفن .وهكذا علم « إيفان بارودين « املعاني املقابلة باللغة العربية لكلمـات ،مثل « مركب » و« موجة » و« مياه » و« سفينة » وغريها .كما مسع كيف كان القباطنة يصدرون أوامر للبحارة ،قائلني « :إىل أعلى » « ،أرفع ألعلى » « ،إىل أسفل » َ « ،دور » « ،امسك» « ،قف » « ،اسحب » « ،اربط » « ، ارجع » « ،أقطع » وغريها .استفاد « إيفان تروفيموفيتش » من بعض هذه العبارات عندما ترأس لفرتة مؤقتة العمل فى أحد مناجم فازوغلي يف فرتة غياب « ي .ب. كافاليفسكي « .وأثناء حديثه مع اخلرباء احملليني تعلم فى نفس مكان املنجم كيف يصدر أوامر مبعنى « :حترك لألمام » « ،أعمل » « ،ال تعمل » « ،تقدم - 228أنظر :تقرير عن عمل ستة وفود للتنقيب عن الذهب في ضياع مصنع مياس في صيف عام //.1849مجلة التعدين .1850 .رقم .2ص.244 . - 229أنظر :تقرير عن عمل وفود التنقيب عن الذهب في منطقة إيكاترينبورج في صيف //1849مجلة التعدين .1850 .رقم .1ص.152 . - 230األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة ..36-40 151
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
إىل هنا!» .فى هذا اإلطار قام بتفسري املعانى املقابلة للغة العربية لكلمات ،مثل « مسمار » و« ذهب » و« حديد » و« ورشة حدادة » و« مطرقة » و« نار» و« منشار» و« جنار » و« إزميل » و« طوب أمحر» و« جهد » و« مسن » و« مقص» و« جاروف » وغريها .بشكل عام كانت الصفة املميزة لكتاب حمادثة « إيفان بارودين » توفر كلمات وتعبريات مرتبطة بعملية اإلنتاج وقاموس املفردات التقنية .من خالل تواصله مع عمال ورشة غسل الذهب ،كان يوجه أسئلة ملساعديه باللغة العربية ، مثل « :ما امسه ؟ » « ،هل أنت نائم ؟ » « ،من يود تناول الطعام ؟ » وغريها . رأي « إيفان تروفيموفيتش » أكثر من مرة أثناء رحلته شواهد علي مدي قدم األثر الذي خلفه املسيحيون يف الثقافة املصرية .وهلذا ليس بغريب أن يعرف مقابل لفظة ديانته باللغة العربية وكيف ينطق بلغة السكان احملليني كلمة «دير» وتعبري «الصليب املقدس». بالطبع مل يكن مبقدور خبري التعدين األورالي فهم املعين احلقيقي للكلمات اليت مسعها بدقة كافية .على سبيل املثال ،ترمجة كلمة « جالب » يف كتابه مبعين « قائد » .يبدو أن « إيفان تروفيموفيتش » قد مسع أكثر من مرة تلك الكلمة علي املراكب املتحركة عرب نهر النيل .علي األرجح أن الذهبية ( مركب صغري ً قدميا .تعليق املرتجم ) كانت تؤجر بواسطة التجار العرب اجلالبة – الذين كانوا مبثابة قادة حقيقيون – البد أن خيضع هلم طاقم السفينة بأكمله .انطبعت يف ذاكرة « إيفان تروفيموفيتش » من خالل تعامله مع املوظفني العرب يف املدن اليت مرت بها البعثة كلمة « مأمور » ،واليت ترمجها مبعين « قائد احلرس» ،ووظيفة دواة احلرب عند العرب ،واليت متثل رمز النظام البريوقراطي يف مصر والسودان . تكون لدى اخلبري األورالي خمزون من الكلمات نتيجة ملراقبته لطبيعة السودان اخلالبة .فعلى سبيل املثال ،تعلم معين اسم “األسد” ملـك احليـوانات باللـغة العـربية ،وكيف يقول كلمة « ذبابة » و« طائر » و« مسكة » ،وكيف ينطق باللغة احمللية فعل « لسع » . تعلم « إيفان تروفيموفيتش » العديد من الكلمات والتعبريات العربية أثناء مسريته الطويلة عرب الصحراء ومبيته بالقرب من اآلبار فى الواحات .ففى تلك املناطق ً حتديدا مسع كيف كان السكان احملليون ينطقون اسم أكثر احليوانات ً نفعا ً فى الصحراء وهو اجلمل ،كما أدرك أيضا القيمة اجملردة اليت تـمثـلها كلمة ً أفعـاال، «مياه » .وليس من قبـيل الــصدفة أن نـرى فى كـتـاب مـفـردات بارودين مثل « ارتـوي» و « روي ظــمأه » و« شرب» .كما علم « إيفان تروفيموفيتش » 152
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
ً مضطرا ماذا تعين باللغة العربية كلمة « زمزمية » و« خيمة » .ولألسف كان ملعرفة كيف يعين للسكان احملليني تعبري « أنا مريض » ،بل ينطقون باللغة العربية كلمة « متويف » :رأت قافلة « ي .ب .كافاليفسكي « فى طريقها عظام موتى فى الصحراء أكثر من مرة .وتعرضت البعثة الروسية يف طريقها للعديد من املخـاطر ،وأكثر من مرة أنقذتهم احلراسة من تطفل السكان احملليني .وهلذا من املنطقي أن يعـرف خبري التعديـن األورالي معـاني تلك الكلمات « :سالح » و«جندي» و« سيف » . و متكن خبري التعدين األورالي من التواجد يف مدن وقرى مشال شرق أفريقيا، وساوم على األسعار فى األسواق ،وتواصل مع السكان احملليني .وهناك علم ماذا تعين باللغة العربية كلمات « :بطيـخ » و«حديقـة» و« عنـب » ،و« مخـر» و «قهـوة» و«حلم بقري » و« ملح » و«جبنة» و« خبز جمفف » و« بلح » و« خبز» و«قرنفل» .كما ضم قاموس مفردات « إيفان تروفيموفيتش « كلمات ،مثل: « مدينة » و«مسجد» و«حائط » و« نقود » و« صرة نقود » و« مرآة » و«إبرة» و«كتب» و«قلم رصاص » و« مقطف » و«مفتاح » و«إبريق » و«ملعقة» و«منضدة» و«كوب» و« صندوق » و« حصان » و« زيت » و « خيوط» و« فوطة» و«منديل » و«قفاز» و«قماش كتان» و« قميص» و « قبعة» و« ورقة » و« قبقاب » و« فرشاة » و« أواني » و«فنجان » و « ساعة يد » و« حذاء » و« مشط » و« مشعدان » و« معطف» و«حزام» و«كلب» و«جلام» و« مصباح » و« محام » و« حلية » .استفاد « إيفان بارودين» أثناء تعامله مع التجار فى أسواق مصر والسودان من معرفته بلغة أهل املنطقة كلمة « أشكرك » أو كيف يوجه سؤال عن سعر السلعة « :كـم ً قرشا ؟ » .كما تكون لدى خبري التعدين األورالي فكرة عامة عن مسائل احلساب باللغة العربية ،بعدما تعلم التعداد من واحد إىل عشرين وكذلك مضاعفات الرقم عشرة وحيت الرقم مائة .من خالل تعامله مع سكان اإلسكندرية والقاهرة متكن من التعبري باللغة العربية عن معين « صباح اخلري» و« مساء اخلري» و« ال أعلم » ،كما تعلم كيف تعين بلغتهم كلمات « -أب » و«أم» و«فتاة» و«صيب » و« أبن » و«عجوز » و« شاب » . وبهذا الشكل متكن « إيفان تروفيموفيتش بارودين » بصعوبة من التواصل مع أصدقائهم املصريني ،املهندسني « علي حممد إبراهيم » و» عيسي الدهشوري » . ً شاهدا علي توجه « إيفان بارودين » إىل أصدقائه بعبارة كما يعترب كتاب احملادثة ً وداعا ». 231 « أنت ،يا أخي » ،وعند افرتاقه عنهم يف فازوغلي كان يقول بالعربية « - 231األرشيف الحكومي لمقاطعة سفيردلوفسك .صندوق .101الفهرس األول. ملف .559ورقة.40 153
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
ميكننا مالحظة اخلاصية املميزة لقاموس املفردات الصغري الذى وضعه « إيفان بارودين » أثناء مسريته أو فى الزيارات امليدانية عند مقارنته بعمل مشابه صادر بعد مخسة عشر ً عاما من إنتهاء بعثة «ي .ب .كافاليفسكي» .يف بداية الستينيات وضع « ف .كيلزي » قاموس حمادثة ( روسي -عربي ) لطالب كلية الدراسات الشرقية التابعة جلامعة سانت بطرسبورج .حيث عرض على سبيل املثال فى اجلزء الذى حيمل اسم « الطعام والشراب » املقابل باللغة العربية لتلك التعبريات واألسئلة « :هل تشرب نبيذ أمحر أم أبيض؟» « ،هل تشرب القهوة مع الزبد؟ » أو « تناولنا اليوم احملار » .وفى اجلزء الذى حيمل عنوان « املالبس » متكن الطالب الروس ،الذين كانوا يتعلمون اللغة العربية فى منتصف القرن التاسع عشر ،من معرفة كيفية نطق بعض اجلمل باللغة العربية ،مثل « :حجزت دستني من القمصان» و « يعجبين صيحة هذه البلرين » و« اجلوارب رخيصة ً جدا يف لندن ». 232ليس بغريب أن تغيب تلك املفردات بشكل كامل لدى « إيفان بارودين» ،الذى عرف كلمات ومجل باللغة العربية ليس فى تعامالته مع الفرجنة األرستقراطيني ،ولكن علي منت الذهبية ،وبالقرب من آبار منطقة مورات ،وفى أسواق اإلسكندرية والقاهرة .إال أن العمل الذى كتبه خبري التعدين األورالي كان األكثر قيمة ،من وجهة نظرنا . نعتقد بشكل عام أن احلقيقة األكثر أهمية تتمثل يف مدي اهتمام خبري التعدين ً نسبيا اليت قضاها فى مصر األورالي باللغة العربية .حيث تعلم أثناء الفرتة الطويلة والسودان مئات من الكلمات والتعبريات باللغة العربية .يذكر « أ .أ .رافالوفيتش « – الذى ورد ذكره أكثر من مرة علي صفحات هذا الكتاب – والذى قابل مؤسس ً مندهشا مصر العظيم فى العشرين من مارس عام ، 1848أن « حممد على » كان من سعي الرحالة الروسي لتعلم اللغة العربية ً . وفقا ملا ذكره « أ .أ .رافالوفيتش » ، ً مصوبا حنوه إحدى بعد أن علم حاكم مصر بهذا ،نظر إليه « نظرة ثاقبة ومشرقة ، تلك النظرات ،كما لو كان يسعي من خالهلا إىل الكشف عن بواطن النفس واستطالع األفكار الدفينة داخل الشخص ،الذى حياوره » .بعد هذا نطق « حممد ً قائال « :إنين أحكم مصر منذ أربعني ً عاما ،ومع هذا ال أجيد اللغة العربية». 233 على » ، لألسف ،مل تطل قصة ورشة استخراج الذهب بالسودان ،التى ُبنيت مبشاركة - 232ف .كيلزي .التعبيرات الروسية العربية االجتماعية الدارجة ،التي كتبت لطلبة كلية الدراسات الشرقية التابعة لجامعة سانت بطرسبورج ،الذين تأقلموا علي استخدام اللهجة العربية الدارجة المستخدمة في سوريا والمحافظات التركية والفارسية .سانت بطرسبورج .1863 ،ص.28-30 ،16-17 . - 233أ .أ .رافالوفيتش .رحلة عبر صعيد مصر ...ص.268 . 154
بعثة خبري التعدين إيفان بارودين إىل مصر
املتخصصني الروس .واتضح أن بعض من شرعوا يف هذا العمل مع « ي .ب. كافاليفسكي » سرعان ما حاولوا التقليل من قدرة رئيس البعثة الروسية علي تطوير صناعة استخراج الذهب يف مصر والسودان .فعلي سبيل املثال أكد « خالد باشا » فى خطابه إلي «إبراهيم باشا » خليفة « حممد على » أن مجيع خمابئ الذهب مت إفتتاحها حتى قبل وصول « ي .ب .كافاليفسكي » ،كما أن املاكينات العربية كانت تفوق يف جودتها تلك اليت كانت ُتستخدم يف ورش األورال .ومع ً قائال: هذا فقد قال القنصل الروسي العام يف مصر « أ .م .فوك » أن حاكم مصر رد ٌ ٌ ومغفل » وال ميكنه أن يعرف عن أمور التعدين أكثر جاهل إن خالد باشا « ُ من الشخص ،الذى « قضى حياته كلها فى املصانع ،وأرسل من قبل اإلمرباطور ً اهتماما احلاكم». 234وعلي أية حال كان « إبراهيم باشا « فى البداية يولي ً كبريا للعمل الذي بدأه « ي .ب .كافاليفسكي» .يشري « أ .م .فوك « نفسه يف أحد خطاباته إىل «ي .ب .كافاليفسكي » أن « إبراهيم باشا » «أقبل حبماس علـى صـناعة الذهـب وطالب ببعض املعلومات ،وكان يعطي التعليمات ويرسل العمال » .ولكن حبلول خريف عام « 1848هدأ كل شيء » ،وبدأ « أ .م .فوك » فى التعبري لرئيس البعثة الروسية عن ختوفه البالغ من « ضياع كل اجلهد والعناء ً وحتديدا فى يناير عام 1849أنه « ال وجود واألعمال هبا ًء » .وأشار بعد عدة أشهر ألي أثر للذهب يف أي مكان » . 235أشار كل من املبعوث اإليطالي (وكاردينال يف املستقبل) ماساين والرحالة الفرنسي « ج .بيلرتام » فى مذكراتهم أن عملية غسل ً ً فشيئا . 236سرعان ما أغلق « حممد شيئا الذهب فى كاسان أخذت يف التداعي سعيد باشا » الورشة يف فازوغلي . على أية حال تركت بعثة « ي .ب .كافاليفسكي » أثرها علي تاريخ العالقات الروسية املصرية .فألول مرة يتواجد يف ذلك البلد اإلفريقي البعيد خرباء بسطاء للتنقيب عن الذهب ،ويرون طبيعته الغريبة ،ويتمكنون من التعرف علي بعض عادات وتقاليد شعوب مشال شرق أفريقيا .ومن املؤكد أنهم أخذوا بعد عودتهم إىل ً شيئا ما عن مصر والسودان ،فظهر أمام حدود الوطن يقصون ألقاربهم وأصدقائهم ناظري سكان وادي الذهب جبنوب األورال صورة عن أرض الشرق العربي البعيدة .
- 234ب .أ .فالسكايا .كافاليفسكي والمهندسون المصريون ...ص.143 . - 235نفس المرجع. - 236أنظر :تاريخ السودان في العهد الحالى ..ص31 . 155
السرية الذاتية ولـد ألكـسـى أنـتـوشـني فى 17أغـسـطـس 1975م فـى مـديـنـة إيكايرتبنورج ( روسيا) .انهى دراسته فى كلية الدراسات التارخيية جبامـعة أورال عــام 1997م . فى عام 1998م ناقش رسالة املاجيستري فى موضوع “ تاريخ اإلمرباطورية الروسية”،وفى عام 2010ناقش رسالة الدكتوراه والتى كرسها ملشكالت احلرب الباردة .أستاذ فى جامعة أورال الفيدرالية و يلقى حماضرات خاصة بـموضوعات “
تاريخ روسيا” “ ،روسيا * -و دول الشرق” ،و “روسيا وأفريقيا” .
عضو اجمللس العلمى ألكادميية العلوم الروسية اخلاص مبشكالت أفريقيا. شـارك أكـثـر مـن مـرة فـى املـؤتـمـرات العـامليـة لـألفـارقـة أعـوام (.) 2011، 2008، 2005 شارك فى جمال البحث العلمى فى جامعة ستانفورد ،كولومبيا ،جورج تاون ، واجلامعة األمريكية فى الواليات املتحدة األمريكية ،واملعهد الدوىل للتاريخ االجتماعى ( امسرتدام ،هولندا) ،وجامعة ليدز (بريطانيا العظمى) ،وجامعة باريس – نانتري (فرنسا) ،جامعة برمين (أملانيا) وغريهم ،وعمل فى جمال الوثائق التارخيية ألكثر من 30أرشيف لروسيا ،الواليات املتحدة األمريكية ،أملانيا ،هولندا ،فرنسا، بريطانيا العظمى واجملر .لديه أكثر من 130من اإلصدارات العلمية ،من بينهم أربع دراسات متعددة.
157
الفهرس مقدمة د .حسني الشافعى............................................................................
املـقدمه
............................................................................................................
7 21
الفصل األول : املهندسون املصريون فى وسط وجنوب األورال
..................................
31
الفصل الثانى : بعثة خبري التعدين “ إيفان بارودين “ إىل مصر املصادر و األحباث
........
السرية الذاتية .................................................................................................
57 157