روسيا فى عيون مصرية -الاصدار باللغة العربية

Page 1



‫الناشر‬

‫رئيس جملس اإلدارة ورئيس التحرير‬

‫د‪ .‬حســـني الشــــــافعي‬ ‫‪h.elshafie57@mail.ru‬‬

‫املراسالت‬ ‫القاهرة – مدينة العبور‬ ‫‪ 44971‬مكتب بريد مجعية أمحد عرابي‬ ‫ص‪ .‬ب ‪72 .‬‬

‫‪Tel. & Fax: + (202) 24 77 38 70 & 71‬‬ ‫‪E-mail: secertary_ert@yahoo.com‬‬

‫ترمجة‬ ‫ولـيـد طـلبـة‬ ‫مراجعة‬ ‫د ‪ .‬حممد رياض‬ ‫اإلخراج الفين‬ ‫مــى مـجـدى‬ ‫التصحيح واملراجعة‬ ‫حامد أمحد حممد‬ ‫الطباعة‬ ‫دار الطباعة املتميزة‬ ‫مدينة العبور – القاهرة‬ ‫‪Tel. & Fax: + (202) 4478 96 44 & 46‬‬

‫الطبعة األوىل ‪2015‬‬ ‫دار نشر أنباء روسيا‬ ‫مجيع حقوق الطبع والنشر حمفوظة للناشر‪.‬‬ ‫ال حيق إعادة طبع أو نسخ حمتويات هذا الكتاب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ضوئيا‬ ‫إلكرتونيا أو‬

‫بالتعاون مع‬

‫اجلمعية املصرية الروسية للثقافة و العلوم‬

‫دومنا إذن كتابي من الناشر ‪.‬‬

‫رقم اإليداع‬ ‫‪2014/15423‬‬

‫رئيس جملس األمناء رئيس جملس اإلدارة‬ ‫ا‪.‬د فيتاىل ناؤمكني د‪.‬حسني الشافعى‬


‫جورياتشكن ‪.‬ف‪.‬ج‬ ‫روسيا فى عيون املصرية‬ ‫( بداية القرن العشرين )‬

‫‪2015‬‬



‫حيتوي هذا الكتاب على ترمجة املؤلف لإلنطباعات التى‬ ‫كونها ثالثة مواطنني مصريني أثناء تواجدهم يف روسيا بداية القرن‬ ‫العشرين ‪.‬‬ ‫األول الشاعر والصحفي حممد طلعت‪ ،‬الذي كان يعمل يف روسيا حمر ًرا يف‬ ‫جريدة “التلميذ” الصادرة باللغة العربية يف سانت بطرسبورج منذ أكتوبر عام ‪1906‬م‬ ‫وحتى نهاية شهر مايو عام ‪1907‬م ‪.‬‬ ‫واملواطن الثانى األمري حممد علي‪ ،‬الذي قام “برحلة إلي اليابان” عرب خط السكك‬ ‫احلديدية حديث اإلنشاء من موسكو إلي اجلار الشرقى لروسيا عام ‪1909‬م ‪.‬‬ ‫و املواطن الثالث الرئيس السابق حملكمة مصر العليا “حممود رشيد”‪ ،‬الذي جاب‬ ‫اإلمرباطورية الروسية من جنوبها اىل مشاهلا قبيل احلرب العاملية األولي‪ .‬وتنقل األخري‬ ‫بني القرم ومشال وجنوب القوقاز‪ ،‬باإلضافة إلي قيامه برحلة حبرية عرب نهر الفوجلا من‬ ‫أسرتاخان حتى رايبانسك‪ ،‬ومنها انطلق إلي بطرسبورج‪.‬‬ ‫وبفضل مذكرات تلك الرحالت‪ ،‬اليت قام املؤلف برتمجتها مع بعض اإلختصارات‪ ،‬أصبح‬ ‫لدى املصريني يف بداية القرن العشرين تصور واضح عن اجلوانب اإلجتماعية اإلقتصادية‪،‬‬ ‫واإلجتماعية السياسية يف حياة الروس‪ ،‬وظروف عملهم ومعيشهم‪ ،‬ال سيما املسلمني‬ ‫منهم‪.‬‬ ‫ان اطالع القارىء الروسي يف الوقت احلاضر علي انطباعات املصريني عن روسيا‬ ‫آنذاك يتيح له الفرصه ان يتعرف لوجهة نظرهم جتاه روسيا البعيدة وتقييمهم‬ ‫لبواكري العالقات الكبريه نسبيا بني البلدين‪.‬‬ ‫يستهدف الكتاب طالب املعاهد العليا وطالب املدارس‬ ‫واملهتمني بتاريخ الشرق والعالقات الدولية‪.‬‬ ‫الناشر‬

‫دار نشر أنباء روسيا‬ ‫‪2014‬‬ ‫‪5‬‬



‫املقدمه‬ ‫ال ميكن لسكان بالد األهرامات اجلزم بأنهم قاموا بعدد من الرحالت إلي روسيا‪ ،‬يضاهي‬ ‫رحالت الروس إلي مصر؛ حيث قام الروس بالعديد من الرحالت إلي مصر يف العصور الوسطى‬ ‫ويف العصر احلديث ‪ .‬فقيام املصريني برحالت متكررة إلي اإلمرباطورية الروسية كان‬ ‫يتطلب إجراءات حمددة حتكمها العديد من العوامل اإلقتصادية والسياسية ‪.‬‬ ‫تعود باكورة العالقات السياسية الكبرية بني روسيا ومصر – أكرب والية ذات حكم‬ ‫شبه ذاتي يف اإلمرباطورية العثمانية – إلي الثلث اإلخري من القرن الثامن عشر ‪ ،‬عندما‬ ‫اختذت إمرباطورة روسيا كاترينا الثانية (‪ )1762-1796‬قرا ًرا بتقديم الدعم إلي علي‬ ‫بك الكبري‪ ،‬الذي حاول االنفصال عن االمرباطوريه الرتكيه‪ .‬مع هذا مل حيقق هذا الدعم‬ ‫األهداف املرجوة‪ .‬انتهت احلرب الروسية‪-‬الرتكية (‪ )1768-1774‬بإبرام معاهدة كيتشوك‬ ‫كاينارجي (معاهدة سالم بني روسيا والدولة العثمانية انعقدت يف ‪ 21‬يوليو ‪ 1774‬يف‬ ‫معسكر قرب قرية كيتشوك كاينارجي اليت تقع يف بلغاريا املعاصرة‪ .‬تعليق املرتجم)‬ ‫واليت قامت روسيا ومصر مبقتضاها بتبادل املمثلني الدبلوماسيني‪ 1.‬كما أنشأت قنصلية‬ ‫عامة يف اإلسكندرية‪.‬‬ ‫بأمر من كاترينا الثانية يف األول من ديسمرب عام ‪1784‬م ُعني كوندراتي (كونراد)‬ ‫فون تونوس (الذي يعود أصله إلي أملان حبر البلطيق) ممثلاً‬ ‫ً‬ ‫دبلوماسيا لإلمرباطورية‬ ‫الروسية يف اإلسكندرية‪ .‬وصل كونراد إلي مصر يف األول من يوليو عام ‪1785‬م ‪ ،‬و و بعث‬ ‫يف الرابع والعشرين من يوليو أول رسالة إلي سانت بطرسبورج‪ .‬ظل أول دبلوماسي روسي يف‬ ‫بالد األهرامات يدعم مساعي احلكام املماليك احملليني لإلنفصال عن تركيا حتى آخر‬ ‫يوم يف حياته‪ .‬علي الرغم من اعرتاض السلطات املصرية يف الثامن والعشرين من سبتمرب‬ ‫عام ‪1789‬م ظل كوندراتي فون تونوس يعمل يف اإلسكندرية علي فرتات متقطعة‬ ‫حتى بداية احلرب الروسية الرتكية اجلديدة يف الثامن والعشرين من سبتمرب عام ‪1789‬م‪.‬‬ ‫يف ذلك الوقت مت إعدامه علي يد ضباط السلطان العثماني القادمني من اسطنبول علي‬ ‫الرغم من اعرتاضات املماليك املصريني‪.‬‬

‫كانت مقرات القنصلية التركية في روسيا موجودة في سانت بطرسبورج وموسكو‬ ‫‪ 1‬‬ ‫وأوديسا وفالديفاستوك ومدن أخري في اإلمبراطورية الروسية‪.‬‬ ‫‪7‬‬


‫يعترب حممد علي (‪ – )1849 - 1805‬الذي وصل إلي سدة احلكم يف مصر عام ‪1805‬م‬ ‫بعد القضاء علي جمموعات املماليك – مؤسس الدولة املصرية احلديثة‪ ،‬اليت حكمت‬ ‫ً‬ ‫كبريا يف عهد‬ ‫مصر حتى ثورة يوليو عام ‪1952‬م‪ .‬شهدت العالقات املصرية الروسية تطو ًرا‬ ‫ً‬ ‫حممد علي‪ ،‬وخاصة يف السنوات األخرية من حياته ‪ 2.‬أصبحت دلتا النيل مقصدا للكتاب‬ ‫الروس ورجال احلكومة واجملتمع والصحفيني والفنانني واألطباء واملستشرقني املتدربني‪.‬‬ ‫مع هذا الزال القليلون من مصر يزورون روسيا ‪ ،‬فقد كانت أعدادهم ُتعد علي أصابع‬ ‫اليد ‪ ،‬كما أننا ال نعرف سوي قيام املصريني برحلتني فقط إلي اإلمرباطورية الروسية يف‬ ‫عهد حممد علي‪ .‬كانت إحدي تلك الرحالت الطويلة ً‬ ‫جدا من نصيب استاذ جامعة األزهر‬ ‫ً‬ ‫مدعوا إلي سانت بطرسبورج عام ‪1838‬م من أجل‬ ‫‪ ،‬الشيخ حممد الطنطاوي ‪ ،‬الذي كان‬ ‫إعداد مقرر تعليمى للغة العربية يف القسم التعليمي التابع لإلدارة األسيوية ‪ ،‬وبعد عشر‬ ‫سنوات قام بتدريسه يف جامعة العاصمة ( يف سانت بطرسبورج عام ‪1861‬م ) ‪ .‬ضمت إحدي‬ ‫املذكرات حديثة اإلصدار مبدينة سانت بطرسبورج أهم أعمال الشيخ الطنطاوي «وصف‬ ‫روسيا» (‪ 400‬صفحة تقريبًا) ‪ ،‬ومل يصدر هذا العمل سوي يف منتصف عام ‪2013‬م ‪ 3،‬على‬ ‫الرغم من ظهور العديد من األحباث عنه قبل ذلك ‪ ، 4‬وكما نرى فان العمل العظيم للشيخ‬ ‫عياد الطنطاوى الذى مل يتهيب السفر إىل روسيا البعيدة املغطاة بالثلج “ كأول معلم للغة‬ ‫ً‬ ‫تاركا منصبه كأستاذ للغة العربية باألزهر اليزال يلفت اال نتباة‬ ‫العربية “ عام ‪1840‬م‬ ‫حتى األن ‪ .‬هذا وقد استحقت ذكراه ان خيصص هلا “ املؤمتر األول للعالقات الثقافية‬ ‫املصرية – الروسية والذى جرت فعالياته يومى ‪ 19-18‬سبتمربعام ‪ 2013‬م فى القاهرة‬ ‫مبناسبة مرور ‪ً 70‬‬ ‫عاما على أقامة العالقات الدبلوماسية بني اإلحتاد السوفيتى ومصر‪ .‬وفى‬ ‫فعاليات هذا احملفل الدوىل صدر كتاب “ من تراث الشيخ عياد الطنطاوى “ مبشاركة‬ ‫مباشرة ودعم رجل الثقافة املصرى البارز الدكتور حسني الشافعى ومت نصب متثال نصفى‬ ‫للشيخ عياد الطنطاوى من أعمال الفنان املصرى الشهري أسامة السروى فى دار الكتب‬ ‫جبمهورية مصر العربية ‪.‬‬ ‫يتكون كتاب « وصف مصر » من ثالثة أجزاء ‪ .‬خصص الكاتب اجلزء األول منه‬ ‫للرحلة من القاهرة إلي سانت بطرسبورج ‪ ،‬اليت استمرت ثالثة أشهر ونصف‪ .‬ويف اجلزء‬ ‫الثاني خلص مراحل من تاريخ روسيا مع تركيز االهتمام علي عهد بطرس األكرب وبناء‬ ‫تفاصيل عن نشاط محمد علي‪ :‬ي‪ .‬إي‪ .‬زيلينيف‪ .‬مصر اإلسالمية‪ .‬نُشر في سانت‬ ‫‪ 2‬‬ ‫بطرسبورج‪ ،2007 .‬ص‪.210-237 .‬‬ ‫د‪ .‬حسين الشافعي‪ .‬الشيخ محمد عياد الطنطاوي – «معلم اللغة العربية األول في‬ ‫ ‪3‬‬ ‫اإلمبراطورية الروسية»‪ .‬القاهرة‪( 2013 ،‬باللغة العربية)‪.‬‬ ‫إي‪ .‬يو‪ .‬كراتشكوفسكي‪ .‬الشيخ طنطاوي‪ ،‬استاذ جامعة سانت بطرسبورج‪ .‬مجموعة‬ ‫ ‪4‬‬ ‫أعمال‪ ،‬المجلد الخامس‪ ،‬ص‪281-285 .‬؛ أ‪ .‬ي‪ .‬كريمسكي‪ .‬تاريخ األدب العربي الحديث‪ .‬موسكو‪،‬‬ ‫‪ ،1971‬ص‪281-185 .‬؛ ف‪ .‬ن‪ .‬كيربيتشينكا‪ ،‬ف‪ .‬ف‪ .‬سافرونوف‪ .‬تاريخ األدب المصري في‬ ‫القرنين التاسع عشر والعشرين‪ .‬موسكو‪ ،2002 ،‬المجلد األول‪ ،‬ص‪70-76 .‬؛ س‪ .‬أ‪ .‬كيريلينا‪.‬‬ ‫العلماء العرب في روسيا (القرن التاسع عشر‪-‬بداية القرن العشرين) ‪//‬مديح موسكو‪ ،2008 ،‬ص‪.‬‬ ‫‪ .145-158‬عن هذا الموضوع سجلت الطالبة المصرية مديحة رضا رسالة دكتوراة في جامعة سانت‬ ‫بطرسبورج عام ‪1984‬م بعنوان «وصف روسيا» للشيخ الطنطاوي باعتباره إحدى معالم األدب‬ ‫العربي في القرن التاسع عشر»‪.‬‬ ‫‪8‬‬


‫روسيا احلديثة يف عهده وهدم مفاصل الدولة القدمية‪ .‬وحظى هذا األمر باهتمام كبري من‬ ‫الكاتب ‪ ،‬مبا أن وطنه ظل يعاني آثار تلك الفرتة‪ .‬حيتوي الثلث األخري من كتاب « وصف‬ ‫روسيا » معلومات عن منط حياة سكان روسيا وعاداتهم ‪ .‬ومل يقتصر احلديث يف هذا‬ ‫الشأن علي مراسم الزواج وتشييع اجلنازات واألعياد واملطبخ الروسي والقيام برياضة التزجل‬ ‫شتاءا‪ ،‬بل جرى احلديث عن العلوم واألدب والصحافة ونظام التعليم‪ .‬واألكثر من ذلك أجري‬ ‫الكاتب مقابلة بني اللغة الروسية واللغة العربية ‪ ،‬وألول مرة قام برتمجة عدة أشعار من‬ ‫اللغة الروسية إلي اللغة العربية ‪ ،‬وكان دائما مايقارن بني الواقع يف روسيا ومصر ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مل تكن اإلنطباعات عن رحلة املصريني الثانية أقل ً‬ ‫سريعا‪.‬‬ ‫أثرا ‪ ،‬علي الرغم من انتهائها‬ ‫يدور احلديث عن تواجد الشابني املصريني علي حممد وعيسى الدهشوري يف األورال ‪ .‬يف‬ ‫الفرتة بني أغسطس عام ‪1845‬م وحتى نهاية يونيو عام ‪1846‬م كان الشابان يدرسان‬ ‫طرق استخراج الذهب من الطبقات اجلبلية حتت قيادة مهندس التعدين الروسي ي‪ .‬ب‪.‬‬ ‫كافاليفسكي‪ 5.‬خاض الباشا املصري العديد من احلروب وهلذا كان حباجة إلي ملء‬ ‫خزانة الدولة ‪ .‬من أجل حل تلك املسألة جلأ إىل طلب املساعدة من روسيا‪ .‬حتمل الشابان‬ ‫املصريان بشرف مشاق تلك التجربة القاسية علي الرغم من صقيع الشتاء‪ .‬ولكن بعد‬ ‫العودة إلي أرض الوطن مل يتسن للشابني القيام باملهام املوكلة إليهما‪ ،‬وهلذا طالب حممد‬ ‫علي السلطات الروسية بإيفاد ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي إلي مصر ملساعدة تلميذيه‬ ‫السابقني يف استخراج الذهب ‪ ،‬وبعث برسالة إلي املستشار الكونت ك ‪ .‬ف‪ .‬نيسيلرود ‪،‬‬ ‫فحواها كاآلتي ‪ « :‬مع شعوري بأمسي معاني العرفان لكرم جاللته‪ ،‬الذي أبداه لي بشتى‬ ‫الوسائل ‪ ،‬أقدمت علي مطالبة جاللته بإرسال مهندس لتفقد مناجم الذهب ‪ ،‬اليت افتتحت يف‬ ‫‪6‬‬ ‫سنار ‪.‬‬ ‫وليسمح لي جاللته – جبانب طليب – أن أعرب عن أمنياتي الطيبة لصاحب العصمة‪،‬‬ ‫وقد علمت برضا بالغ أن العقيد التابع إلدارة مهندسي التعدين كافاليفسكي مت تعيينه‬ ‫للقيام بتلك البعثة ‪ .‬أدين بالعرفان حلكومة اإلمرباطورية ً‬ ‫نظرا لتهيئتها أفضل الظروف‬ ‫املمكنة ومساحها للطالبني املصريني اللذين أرسلتهما إلي روسيا بدراسة أحدث طرق‬ ‫استغالل الرواسب اليت حتوي الذهب ‪ .‬وازداد امتناني وعرفاني جلاللته بعد اخلدمة اجلليلة‪،‬‬ ‫اليت أنعم عظمته علي بها‪ ،‬كما أرجو صاحب العصمة أن يتقبل احرتامي وتقديري‪ .‬أطال‬ ‫اهلل أيامكم السعيدة !‬ ‫كما سافر املقدم كافاليفسكي ً‬ ‫وفقا للتكليف من أجل الوقوف علي ما يلزم لتنفيذ‬ ‫مهمته‪.‬‬

‫مصر فى عيون روسية في منتصف القرن التاسع عشر‪-‬بداية القرن العشرين‪ .‬اإلقتصاد‪.‬‬ ‫ ‪5‬‬ ‫الثقافة‪ .‬تأليف ومقدمة وتعليقات وحواشي وترجمة لألستاذ ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين‪ //‬شعوب الشرق‬ ‫األوسط‪ .‬اإلصدار الخامس عشر‪ ،‬الكتاب األول‪ .‬موسكو‪ ،1992 ،‬ص‪.323-328 ،233-272 .‬‬ ‫ً‬ ‫«بحثا عن الذهب‪ .‬من‬ ‫لقد توسعنا في االطالع علي هذا الموضوع بشكل مفصل باللغة العربية‪:‬‬ ‫تاريخ العالقات الثقافية بين روسيا ومصر في منتصف القرن التاسع عشر»‪ .‬األسكندرية‪« :‬منشأة‬ ‫المعارف»‪( 2003 ،‬باللغة العربية)‪.‬‬ ‫سنار – مقاطعة في وسط السودان‪.‬‬ ‫‪ 6‬‬ ‫‪9‬‬


‫أطلب من سيادتكم سيدي الكونت التعبري عن بالغ إحرتامي جلاللة اإلمرباطور‬ ‫‪7‬‬ ‫وحرصي علي صداقتكم الغالية » ‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫نفذ جيور بيرتوفيتش هذا التكليف بنجاح ‪ ،‬وهلذا منحه حاكم مصر وسام «اإلفتخار»‬ ‫علي هيئة ميدالية ذهبية عليها طـُغراء من املاس للسلطان وهالل وجنمة وعلبة تبغ من‬ ‫ً ‪9‬‬ ‫الذهب أيضا‪.‬‬

‫مع هذا مل يقتصر دور جيور بيرتوفيتش يف تطوير العالقات الروسية املصرية علي تقديم‬ ‫املساعدة للمنقبني عن الذهب يف مصر؛ فقد عمل ً‬ ‫أيضا علي دراسة الطبيعة اجلغرافية‬ ‫واملصادر الطبيعية وغريها يف املنطقة‪ ،‬كما حاز علي دعم والي مصر حممد علي وابنه‬ ‫إبراهيم ‪ ،‬وعرف بتقديره اجلم لتلك املنطقة‪ ،‬وهلذا عندما عاد من رحلته إلي القارة اإلفريقية‬ ‫كتب توصيات مدعومة بالرباهني من أجل إقامة عالقات جتارية دائمة مع دول مشال شرق‬ ‫ً‬ ‫صدي سواء يف مذكرات «عن الوضع السياسي والتجاري‬ ‫إفريقيا‪ .‬كان لتلك التوصيات‬ ‫احلالي يف شرق السودان وإثيوبيا» أو يف مذكرات «مشروع التجارة لروسيا مع مصر واملدن‬ ‫الواقعة علي شواطئ البحر األسود»‪ 10.‬أوصي كافاليفسكي يف تلك املذكرات بتنظيم‬ ‫رحالت حبرية عرب طريق أوديسا – القسطنطينية – اإلسكندرية ‪ ،‬ميكنهم القيام بها‬ ‫خالل مخسة أو ستة أيام ‪ ،‬كما اقرتح قائمة من السلع لإلسترياد والتصدير ‪ ،‬ودلل علي‬ ‫ضرورة إنشاء مقر جتاري خاص يف أوديسا ‪ ،‬ميكنه أن يهتم بأمور التجارة مع الشرق‪.‬‬ ‫‪11‬‬ ‫قوبلت مبادرات ي‪ .‬ب‪ .‬كافاليفسكي بالرفض من قبل جتار جنوب روسيا لعدة أسباب‪.‬‬ ‫كما وقف تدهور العالقات السياسية بني روسيا ومصر ً‬ ‫عائقا أمام تنفيذ خطته‪.‬‬ ‫أصاب اجلمود العالقات السياسية بني األسرتني احلاكمتني فى كال البلدين بعض‬ ‫التوتر من جراء حرب القرم ‪ ،‬اليت شاركت فيها مصر ً‬ ‫فعليا إلي جانب احللفاء ‪ 12،‬مع هذا أخذت‬ ‫ُ‬ ‫العالقات التجارية يف التطور‪ .‬أنشأت هيئة للمالحة والتجارة الروسية عام ‪ ،1856‬وترأسها‬ ‫األمري العظيم قنسطنطني ‪ .‬قامت احلكومة بشراء ثلث األسهم‪ ،‬ثم تنازلت عن احلصص‬ ‫لصاحل إحدي الشركات‪ ،‬ومنحتها امتيازات أخرى ‪ .‬ويف عام ‪1958‬م بدأ تشغيل الطريق‬ ‫البحري يف البداية إلي اإلسكندرية مباشرة ‪ ،‬ثم الطريق الدائري اإلسكندرية ‪ -‬أوديسا ‪-‬‬ ‫القسطنطينية‪ ،‬الذي مير ببريايوس ( مدينة يونانية يف منطقة أتيكا اإلدارية تقع على‬ ‫بعد ‪ 9‬كيلومرت جنوبي العاصمة أثينا ‪ .‬تعليق املرتجم ) ومسرينا ورودوس وإسكندرونة‬ ‫مصر فى عيون روسية‪ ...‬ص‪.263-264 .‬‬ ‫ ‪7‬‬ ‫وسام المجد‪.‬‬ ‫‪ 8‬‬ ‫أنظر‪ :‬نفس المرجع‪ ،‬ص‪.323-328 ،233-272 .‬‬ ‫‪ 9‬‬ ‫أقرأ عن هذا في‪ :‬ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين‪ .‬اإلسكندرية بين روسيا ومصر‪//‬مييريانا‪ ،‬المجلد‬ ‫‪1 0‬‬ ‫األول‪ .‬موسكو‪ ،2006 ،‬ص‪.161 .‬‬ ‫أرشيف مقاطعة أوديسا الحكومية‪ .‬صندوق ‪ .2‬فهرس ‪ .1‬ملف ‪ .282‬األوراق ‪8-9‬؛ نفس‬ ‫‪1 1‬‬ ‫المرجع‪ ،‬صندوق ‪ ،2085‬فهرس ‪ ،369‬ملف ‪ ،5712‬ورقة ‪ 5‬عكسية‪.‬‬ ‫ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين‪ .‬مشاركة المصريين في حرب القرم (ذكري مرور ‪ 150‬عامًا علي‬ ‫‪ 12‬‬ ‫األحداث)‪//‬موضوعات المؤتمر العلمي «قراءات كافاليفسكي»‪ .‬موسكو‪ ،‬معهد دول آسيا وإفريقيا التابع‬ ‫لجامعة موسكو الحكومية‪ ،2007 ،‬ص‪85-90 .‬؛ نفس المؤلف‪ :‬القوات المصرية في حرب القرم‬ ‫والحرب الروسية التركية (‪//)1877-1878‬أرشيف الشرق‪ ،‬رقم ‪ ،2010 ،)22( 2‬ص‪.42-49 .‬‬ ‫‪10‬‬


‫ً‬ ‫حاليا‪.‬تعليق املرتجم)‬ ‫(مدينة تقع على البحر املتوسط ضمن حمافظة هاتاي الرتكية‬ ‫وبريوت ويافا ثم اإلسكندرية ‪ .‬ويف عام ‪1858‬م قامت مثانية بواخر تابعة هليئة املالحة‬ ‫والتجارة الروسية بإثنني وأربعني رحلة عرب طريق اإلسكندرية ‪ ،‬نقلت على متنها ‪12,4‬‬ ‫ألف راكب من احلجيج بشكل أساسي‪ ،‬ويف عام ‪1859‬م بلغ إمجالي ركابها خالل ‪70‬‬ ‫رحلة حبرية ‪ 22,3‬ألف راكب ‪.‬‬ ‫تغري الوضع مع اعتالء اخلديوي إمساعيل (‪ )1879 - 1863‬عرش مصر‪ .‬علي الرغم من‬ ‫مشاركة القوات املصرية إلي جانب بورتا (مصطلح مبعين « الباب العالي » يف الدولة‬ ‫العثـمانية القدمية ‪ .‬تعـليق املتـرجـم) و يف خضـم احلرب الروسـية الرتكـية (‪1877-‬‬ ‫‪ )1878‬ظلت عالقة القاهرة وبطرسبورج تتخذ شكل عالقة صداقة كبرية‪ ،‬أساسها الود‬ ‫واإلحرتام املتبادل واملساواة يف احلقوق‪ .‬علي سبيل املثال ‪ « ،‬أرسلت وزارة اخلارجية الروسية‬ ‫تعليمات إلي مستشارها يف مصر «ليكس»‪ 13‬من أجل تركيز اهتمامه علي حماوالت‬ ‫إضعاف نفوذ إجنلرتا الطاغي يف مصر بقدر اإلمكان‪ .‬وهلذا مت تكليفه بعدم التدخل‬ ‫مباشرة يف شئون إدارة مصر‪ ،‬بل حماولة التأثري بشكل شخصي علي اخلديوي ووزرائه‬ ‫باعتبار أن حكومة اإلمرباطورية التزال تتعامل بعني الرضا مع مصاحل مصر‪ ،‬علي الرغم‬ ‫من تصرفاتهم العدائية أثناء احلرب األخرية»‪ً - 14‬‬ ‫وفقا ملا جاء يف تقريره إلي اإلمرباطور عام‬ ‫‪1878‬م ‪.‬‬ ‫من املمكن أن نعترب وجود اجلنرال الروسي روستسالف فادييف (‪1824-1883‬م) يف وادي‬ ‫ً‬ ‫شاهدا علي العالقات املثمرة بني البلدين‪ .‬وعلي الرغم من عدم معرفتنا تاريخ عمله‬ ‫النيل‬ ‫علي أرض األهرامات ‪ ،‬إال أن قصته تبعث علي اإلهتمام ‪ .‬يرجع األمر إلي عام ‪1870‬م ‪ ،‬عندما‬ ‫قام حاكم مصر اخلديوي إمساعيل بدعوة هذا اجلنرال الروسي‪ ،‬املشهور بنجاحاته يف حرب‬ ‫القرم ‪1853-1856‬م ويف العمليات العسكرية يف القوقاز‪ ،‬لتولي مسئولية حتديث اجليش‬ ‫املصري ‪ .‬وصل اجلنرال ر‪ .‬أ‪ .‬فادييف إلي مصر عام ‪1874‬م ‪ ،‬وغادرها عام ‪1876‬م غداة احلرب‬ ‫الروسية‪-‬الرتكية‪ .‬منت إلي علمنا تلك احلقيقة عن طريق اخلطابات ‪ ،‬اليت أرسلها الشاعر‬ ‫الروسي الشهري والفيلسوف ف‪ .‬س‪ .‬سولوفيوف إلي والدته من مصر‪ ،‬بعد مكوثه بعض الوقت‬ ‫‪15‬‬ ‫مع اجلنرال يف فندق «آبات» يف القاهرة أثناء وجوده ألول مرة علي أرض األهرامات ‪.‬‬ ‫أقرتح إمساعيل علي فودييف تولي قيادة اجليش املصري‪ .‬يقول اجلنرال عن هذا يف‬ ‫كتاباته ‪« :‬ال أعرف يف الواقع ملاذا تريدني احلكومة املصرية ‪ :‬أتريدني من أجل تكوين‬ ‫جيش ضد تركيا أم من أجل الدخول يف حرب ضد إثيوبيا‪ ،‬اليت طاملا حبثت هلا عن أي‬ ‫جنرال أوروبي يتمتع ببعض الشهرة ؛ ومن قبيل الصدفة بالطبع أصبح امسي مشهو ًرا‬ ‫يف الشرق والدول السالفية‪ .‬ما خيص اهلدف األول – أي احلرب ضد تركيا– فأنا علي‬ ‫كان المستشار الحكومي إيفان أليكساندروفيتش ليكس يعمل قنصال عامًا ووكيال دبلوماسيا‬ ‫‪ 13‬‬ ‫في مصر عام ‪1882-1895‬م‪...‬‬ ‫أرشيف السياسات الخارجية لإلمبراطورية الروسية‪ .‬صندوق «تقارير وزارة الخارجية»‪،‬‬ ‫‪ 14‬‬ ‫‪1878‬م‪« ،‬مصر»‪.‬‬ ‫ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين‪ .‬ماذا كان يفعل ف‪ .‬سولوفيوف في مصر؟‪//‬آسيا وإفريقيا في الوقت‬ ‫‪ 15‬‬ ‫الراهن‪...‬؛ نفس المؤلف باللغة العربية‪ :‬الشاعر الروسي فالديمير سولوفيوف في مصر‪ .‬القاهرة‪،‬‬ ‫«الثقافة الحديثة»‪.2004 ،‬‬ ‫‪11‬‬


‫استعداد ألهب نفسي كامال هلذا األمر‪ ،‬ولكن ما خيص اهلدف الثاني – أي احلرب ضد‬ ‫إثيوبيا– فضمريي مينعين من تنفيذه»‪ .‬كان املصريون يف القاهرة يطلقون علي فادييف‬ ‫وزير احلربية املصري ‪ ،‬مبا أنه قاد اخلديوي النتهاج سياسات عسكرية أكثر استقالال‬ ‫عن تركيا وخلوض حر ًبا ضد بورتا‪ 16.‬و مل تكتف مصر يف احلقيقة خبوض حرب ضد‬ ‫‪17‬‬ ‫اإلمرباطورية العثمانية فقط‪ ،‬ولكنها أرسلت جز ًءا من قواتها وأسطوهلا ضد روسيا ‪.‬‬ ‫فوقوف كلتا البلدين علي أرض مشرتكة فيما خيص طريقة مقاومتهما لإلمرباطورية‬ ‫العثمانية ساهم بشكل كبري يف تزايد التعاون املشرتك بينهما ‪ .‬يدور احلديث يف املقام‬ ‫األول عن زيارات بروتوكولية للسفن احلربية الروسية املتمركزة يف حوض البحر املتوسط‪،‬‬ ‫وبالتحديد يف اجلزء الشرقي منه‪ 18.‬وكالعادة استمرت البواخر جتوب البحر مدة طويلة‪ :‬من‬ ‫عدة أشهر إلي أكثر من عام‪ ،‬ورست البواخر يف مواني البحر املتوسط‪ ،‬ومن ضمنها بورسعيد‬ ‫واإلسكندرية‪ً .‬‬ ‫وفقا ملعلومات الصندوق رقم ‪ 417‬من أرشيف األسطول احلربي للحكومة‬ ‫الروسية « فقد كانت هيئة األركان البحرية (مكتب اإلحصاء العسكري البحري)»‬ ‫تسري عدة بواخر عسكرية روسية هناك كل عام يف النصف الثاني من مثانينيات‬ ‫القرن التاسع عشر ‪ 19.‬ظلت السفن الروسية تتوقف باستمرار يف املواني املصرية حيت بداية‬ ‫احلرب العاملية األولي‪ .‬استمرت السفن احلربية الروسية يف التوافد خاصة يف عهد عباس‬ ‫ً‬ ‫مسبوقا يف العالقات بني روسيا ومصر يف شتى‬ ‫حلمي الثاني‪ ،‬والذي شهد عهده تطو ًرا غري‬ ‫اجملاالت‪ .‬هذا ما أكدته صحافة اإلسكندرية يف ذلك الوقت ‪ .‬كتبت صحيفة «لو فار دي‬ ‫ألكساندري» حتت عنوان «السرب البحري الروسي يف البحر املتوسط» أن السفينة الرئيسة‬ ‫يف السرب البحري الروسي – اليت جتوب البحر املتوسط – تقع حتت قيادة األمرياالي كرجير‬ ‫إلي مرفأ اإلسكندرية يف األول من فرباير يف زيارة ودية؛ حيث ظلت هناك علي مدار عشرة‬ ‫ً ‪20‬‬ ‫أعوام‪ .‬كما قام األمرياالي بزيارة إلي القاهرة أيضا‪.‬‬ ‫كان لتحسن العالقات السياسية مع روسيا أثره على تطوير العالقات التجارية بني‬ ‫البلدين ‪ .‬فقد دفع احلجم الكبري لصادرات القطن املصرية رجال األعمال الروس إلنشاء‬ ‫مجعية صداقة روسية حللج وضغط القطن ً‬ ‫آليا يف مصر عام ‪1879‬م ‪ .‬كانت اجلمعية‬ ‫أ‪ .‬ي‪ .‬سيجانكوف‪ ،‬ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين‪ .‬نظرة إلي ماضي تاريخ العالقات العسكرية‬ ‫‪1 6‬‬ ‫والتاريخية بين روسيا ومصر قبل حرب أكتوبر عام ‪1973‬م‪//‬صداقة علي مدار ربع قرن‪1973- .‬‬ ‫‪ .1998‬موسكو‪ ،1999 ،‬ص‪.99-100 .‬‬ ‫أنظر‪ :‬بالتفصيل‪ :‬ج‪.‬ف‪.‬جارياتشكين‪ .‬القوات المصرية في شرق‪ ،...‬ص‪.42-49 .‬‬ ‫‪1 7‬‬ ‫في ذلك الوقت كانت الصحافة الروسية واإلصدارات األخري تطلع علي هذا المكان‬ ‫‪ 18‬‬ ‫«مراكب حراسة»‪.‬‬ ‫أنظر‪ :‬أرشيف األسطول الحربي للحكومة الروسية‪« .‬إبحار قوة من المراكب تحت قيادة‬ ‫‪1 9‬‬ ‫األميراالي ن‪ .‬إ‪ .‬كازناكوف (صندوق ‪ ،417‬فهرس ‪ .1‬ملف ‪.1885 ،54‬؛ «إبحار فرقاطة «دميتري‬ ‫دونسكي» في البحر المتوسط (نفس المرجع‪1886 ،114 .‬؛ «إبحار قوة من مراكب األميراالي ن‪.‬‬ ‫إ‪ .‬كازناكوف‪ .‬الثاني عشر من إبريل‪ -‬السابع من أكتوبر عام ‪1886‬م؛ «إبحار مركب «القناص»‬ ‫في مياه جزر اليونان‪ .‬الثالث من يناير‪-‬الحادي عشر من ديسمبر عام ‪1887‬م (نفس المرجع‪،‬‬ ‫ملف ‪)228‬؛ «تخصيص مركب «شيورناموريتس» كسفينة حراسة في بريا وإبحارها عبر البحر‬ ‫المتوسط»‪( 29.05.1889-15.06.1890 .‬نفس المرجع‪ .‬ملف‪.)50-5 .‬‬ ‫«لي فاريه دي أليكساندري» (وفيما بعد «لي فار دي ألكساندري»)‪.13.11.1902 ،‬‬ ‫‪2 0‬‬ ‫‪12‬‬


‫تضم ورشتني خاصتني يف اإلسكندرية والزقازيق ومباني سكنية وسيارات ومستودعات‬ ‫وغريها‪ .‬بلغ رأس مال اجلمعية ‪ 400‬ألف روبل (‪ ......‬جنيه مصري)‪ ،‬والذي كان يعترب ً‬ ‫مبلغا‬ ‫ً‬ ‫كبريا يف ذلك الوقت ‪.‬‬ ‫كما كانت هناك بعض احملاوالت إلنشاء شركات صناعية وخاصة‪ ،‬كما حتوي دور‬ ‫األرشيف التارخيية الروسية «ملف تدشني شركة روسية مساهمة ملشاريع الكهرباء يف‬ ‫‪21‬‬ ‫مصر»‪.‬‬ ‫جيدر اإلشارة إلي أن العالقات التجارية العرضية بني روسيا ومصر شهدت حتوال ً من‬ ‫ُ‬ ‫خالل انتظام حركة البضائع ‪ ،‬ابتداء من عام ‪1856‬م عندما أنشأت هيئة للمالحة والتجارة‬ ‫الروسية عام ‪ ،1856‬وترأسها األمري العظيم قنسطنطني ‪ .‬قامت احلكومة بشراء ثلث األسهم‪،‬‬ ‫ثم تنازلت عن احلصص لصاحل إحدى الشـركات ‪ ،‬ومنحتها امتيازات أخرى ‪ .‬ويف عام ‪1958‬م‬ ‫بدأ تشغيل الطريق البحري يف البداية إلي اإلسكندرية مباشرة ‪ ،‬ثم الطريق الدائري‬ ‫اإلسكندرية ‪ -‬أوديسا – القسطنطينية‪ ،‬الذي مير ببريايوس (مدينة يونانية يف منطقة‬ ‫أتيكا اإلدارية تقع على بعد ‪ 9‬كيلومرت جنوبي العاصمة أثينا‪ .‬تعليق املرتجم) ومسرينا‬ ‫ورودوس وإسكندرونة (مدينه تقع على البحر املتوسط ضمن حمافظة هاتاي الرتكية‬ ‫ً‬ ‫حاليا‪.‬تعليق املرتجم) وبريوت ويافا ثم اإلسكندرية‪ .‬ويف عام ‪1858‬م قامت مثانية بواخر‬ ‫تابعة هليئة املالحة والتجارة الروسية بإثنان وأربعني رحلة عرب طريق اإلسكندرية ‪ ،‬نقلت‬ ‫على متنها ‪ 12,4‬ألف راكب من احلجيج بشكل أساسي ‪ ،‬ويف عام ‪1859‬م بلغ إمجالي‬ ‫ركابها خالل ‪ 70‬رحلة حبرية ‪ 22,3‬ألف راكب ‪.‬‬ ‫ساعد إنشاء غرفة جتارية روسية يف اإلسكندرية عام ‪1903‬م‪ 22‬على ظهور أشكال‬ ‫جديدة من العالقات التجارية اإلقتصادية مع مصر‪ :‬متثلت تلك العالقات يف اإلستعانة‬ ‫باخلربات يف اإلقتصاد وزيارات املتخصصني الروس يف جمال استصالح األراضي وزراعة‬ ‫القطن وتنظيم معارض عائمة للمصنوعات اليدوية الروسية بني عامي ‪1910-1913‬م يف‬ ‫اإلسكندرية وبورسعيد ‪ ،‬والقيام ببعثات علمية وتطبيقية عام ‪1912‬م ‪.‬‬ ‫يف الثالث عشر من مارس عام ‪1909‬م أبرمت اتفاقية للتجارة واملالحة بني روسيا ومصر‪.‬‬ ‫مبقتضي البند الثاني من اإلتفاقية ُمنحت روسيا أفضلية يف التعامل‪ .‬كما حصلت‬ ‫اإلمرباطورية الروسية علي ميزة السعر املنخفض للتعريفة اجلمركية املصرية (ألكثر‬ ‫من ‪ .)8%‬يف فرتة ما قبل احلرب بقليل أثرت تلك اإلتفاقية بشكل إجيابي علي تبادل‬ ‫البضائع بني كلتا البلدين‪ .‬فقد أسهمت مثل تلك اإلمتيازات يف رواج السلع الرئيسة‪،‬‬ ‫وخاصة عرب ميناء اإلسكندرية ‪ ،‬الذي كان متر خالله ‪ 90%‬من حركة التصدير‬ ‫واإلسترياد يف مصر ‪.‬‬ ‫أرشيف روسيا التاريخي‪ .‬سانت بطرسبورج‪ .‬صندوق ‪ ،1263‬فهرس ‪ ،1879 ،1‬دفتر‬ ‫‪ 21‬‬ ‫‪ :116‬مجلة عن نظام شركة الصداقة الروسية لحلج وضغط القطن آليًا في مصر؛ صندوق ‪،20‬‬ ‫فهرس ‪ ،4‬ملف ‪1889-1891 .3678‬؛ أنظر‪ .‬نفس المرجع‪ .‬صندوق ‪ ،22‬فهرس ‪ ،2‬ملف ‪،2713‬‬ ‫‪.1902‬‬ ‫الوثائق الخاصة بإنشاء غرفة تجارية روسية في اإلسكندرية‪ ،‬وميثاقها منشورة في‪ :‬مصر‬ ‫‪2 2‬‬ ‫بأعين روسية‪ ،...‬ص‪.213-216 .‬‬ ‫‪13‬‬


‫كانت روسيا تصدر إلي مصر السكر (بإمجالي ‪ 25%‬من حجم الصادرات) والكريوسني‬ ‫(‪ )23%‬والدقيق – ‪ 18%‬والتبغ – ‪ 12%‬والكحول – ‪ ،4%‬باإلضافة إلي أعداد قليلة من‬ ‫املاشية احلية وكميات من األمساك اجملففة واململحة واألمسنت واألخشاب وغريها‪.‬‬ ‫حدثت تغريات ملحوظة يف حركة الصادرات الروسية إلي مصر بنهاية القرن التاسع عشر‬ ‫وبداية القرن العشرين‪ .‬فقد أصبحت منتجات تكرير البرتول (الكريوسني بشكل‬ ‫رئيسي) تشغل مكانة مميزة يف قائمة الصادرات‪ ،‬باإلضافة إلي املنتجات الصناعية مثل‬ ‫املنسوجات واألحذية املطاطية وبعض املشغوالت املعدنية ‪.‬‬ ‫شكل القطن – منتج التصدير الرئيسي يف مصر – أكثر من ‪ 95%‬من حجم الصادرات‬ ‫املصرية إلي روسيا ‪ ،‬جبانب تصدير بعض البذور واخلضروات واملنتجات احليوانية واملشروبات‬ ‫وغريها‪ .‬واحتلت روسيا املركز السادس (‪ 5%‬من حجم التجارة املصرية) علي قائمة الدول‪،‬‬ ‫اليت لديها عالقات جتارية مع مصر بني عامي ‪1909-1911‬م بعد اجنلرتا (‪ )41%‬وفرنسا‬ ‫(‪ )9%‬وأملانيا (‪ )8%‬واإلمرباطورية النمساوية اجملرية (‪ )7%‬وتركيا (‪. )6%‬‬

‫قبل احلرب العاملية األولي مل ينقطع احلديث يف سانت بطرسبورج عن دراسة‬ ‫مسألة تعميق العالقات التجارية مع مصر‪ ،‬وتواصلت البعثات الروسية من أجل دراسة‬ ‫ظروف السوق يف الشرق األوسط يف حماولة لتعويض ما فاتهم ‪ .‬ويف مايو عام ‪1910‬م‬ ‫انعقد يف موسكو مؤمتر ملمثلي التجارة والصناعة ‪ ،‬والذي مت ختصيصه ملناقشة‬ ‫آليات تطوير العالقات مع دول الشرق‪ .‬وهلذا الغرض ُعقد اجتماع خاص يف وزارة‬ ‫التجارة والصناعة ‪ ،‬حيث جري التخطيط لتخفيض تعريفة النقل عرب السكك‬ ‫احلديدية وقيمة النقل البحري وتسهيل اإلجراءات اجلمركية وزيادة التسهيالت‬ ‫اخلاصة باسرتداد رسوم تصدير السلع إلي الشرق األوسط ‪ 23.‬علي الرغم من أحداث‬ ‫احلرب العاملية األولي قامت هيئة املالحة والتجارة الروسية بتجهيز إحدى البعثات عام‬ ‫‪1915‬م للتوجه إلي القاهرة ‪ ،‬حيث قضت أربعة أشهر‪ .‬قام أعضاء وفد اهليئة التجاري‬ ‫يف مدن مصر الكربي كاإلسكندرية والقاهرة وبورسعيد واملنيا وأسيوط وغريها‬ ‫بتجميع مناذج متنوعة من البضائع‪ ،‬اليت كانت تصدر قبل ذلك إلي أملانيا واسرتاليا‬ ‫بأعداد كبرية‪ ،‬وأخذوا يدرسون وسائل وظروف رواجها لتعويض العجز املتوقع يف‬ ‫السلع الروسية بعد انتهاء احلرب ‪ 24.‬وبهذا الشكل خلق اجلانب الروسي مقدمات‬ ‫لتطوير العالقات التجارية مع بالد األهرامات يف املستقبل ‪.‬‬ ‫شهدت العالقات العلمية الثقافية تطو ًرا ً‬ ‫مبهرا بني البلدين‪ .‬فقد كان الروس واملصريون‬ ‫يتالقون يف املؤمترات وحلقات النقاش يف خمتلف فروع العلم والتكنولوجيا‪ .‬ويف الفرتة من‬ ‫السادس إلي التاسع عشر من ديسمرب عام ‪1902‬م افتتح اخلديوي عباس حلمي الثاني وسط‬ ‫أجواء احتفالية املؤمتر الطيب املصري األول‪ .‬وقد حضر – ً‬ ‫وفقا لكلمات املمثل الدبلوماسي‬ ‫أرشيف السياسة الخارجية لإلمبراطورية العثمانية‪ ،‬صندوق ‪ ،240‬فهرس ‪،)616( 1‬‬ ‫‪2 3‬‬ ‫ملف ‪ ،1069‬ورقة ‪15‬؛ األرشيف الحكومي الروسي لألسطول البحري الحربي‪ ،‬صندوق‪،678 .‬‬ ‫فهرس ‪ ،1‬ملف ‪ ،1412‬ورقة ‪.7-11‬‬ ‫نفس المرجع‪ .‬صندوق ‪ ،678‬فهرس ‪ ،1‬ملف ‪ ،1441‬ورقة ‪.1-8‬‬ ‫‪ 24‬‬ ‫‪14‬‬


‫والقنصل العام أ‪ .‬إي‪ .‬كوياندر ‪ 180 - 25‬طبيب يف هذا التجمع العلمي‪ .‬كان وفد األطباء‬ ‫الروس األكرب ً‬ ‫عددا ‪ ،‬حيث ضم ‪ 16‬شخصية ‪« ،‬من بينهم – علي حد وصف القنصل العام‬ ‫– العديد من األمساء اليت حتظي بشهرة يف األوساط الطبية ‪ ،‬مثل األستاذ بافلوف وأوت‬ ‫وسكفارسوف والدكتور الطبيب رانشيفسكي وغريهم‪ .‬كان ممثل احتاد األطباء‬ ‫التابع لوزارة الداخلية املستشار السري لبافلوف ‪ ،‬بينما كان رانشيفسكي مندوب‬ ‫اللجنة الطبية العسكرية العلمية املستشار الرمسي‪ 26. »...‬عند وصول املستشرقني إلي‬ ‫فيينا يف خريف عام ‪1886‬م جرت لقاءات شارك فيها من اجلانب املصري يعقوب أرتني باشا‬ ‫العامل الشهري يف جمال التاريخ اإلجتماعي املصري‪ ،‬ومن اجلانب الروسي املستشرق البارز‬ ‫ف‪ .‬ر‪ .‬روزين‪ .‬وسرعان ما حصل أرتني باشا مبرسوم ملكي علي وسام ستانيسالف من‬ ‫ً‬ ‫كبريا لوادي النيل‪ ،‬حيث توافد‬ ‫الطبقة الثانية‪ 27.‬يولي رواد الثقافة والفن الروس اهتما ًما‬ ‫يف نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ف‪ .‬يا‪ .‬بريوسوف وف‪ .‬إ‪ .‬شليابن وك‪ .‬د‪.‬‬ ‫باملونت وم‪ .‬أ‪ .‬كوزمني ون‪ .‬أ‪ .‬جوميلوف وإ‪ .‬أ‪ .‬بونني ٌ‬ ‫وآنا بافلوفا وليسيا أوكراينكا وف‪.‬‬ ‫فرييسايف وغريهم‪ .‬ولطاملا انشغل العديد منهم بالقضايا يف مصر وكانت مصر متثل‬ ‫املوضوع الرئيسى يف أعماهلم املهمة ‪ 28.‬ولعل فيه الكفاية ذكر تلك األعمال الرائعة‪،‬‬ ‫مثل «األغاني املصرية» لك ‪ .‬باملونت ‪ ،‬و«أغاني اإلسكندرية» مل‪ .‬كوزمني وغريهم ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أصيب الفنانون الروس «بهوس حب مصر»‪ ،‬ومنهم علي سبيل املثال‪ :‬إ‪ .‬ك‪ .‬أيفازوفسكي‬ ‫وفرييشاجني ود‪ .‬ي‪ .‬إيفيموف وف‪ .‬د‪ .‬بالينوف وك‪ .‬ي‪ .‬ماكوفسكي ون‪ .‬ك‪ .‬ريريخ وم‪ .‬س‪.‬‬ ‫ساريان وم‪ .‬أ‪ .‬شاجال وغريهم‪.‬‬ ‫أسهم الدور الدبلوماسي ملمثلي روسيا علي أرض األهرامات بشكل بالغ يف تطوير‬ ‫العالقات بني البلدين‪ .‬فعدم تدخل روسيا يف شئون مصر الداخلية كان حمل اهتمام‬ ‫ً‬ ‫كثريا ما كانوا يعولون يف فرتة الحقة علي مساعدة ومساندة القناصلة‬ ‫حكامها‪ ،‬الذين‬ ‫الروس يف ظل الضغوط اإلجنليزية الفرنسية واإلجنليزية ‪ .‬مع إدراك ضرورة توافر عالقات‬ ‫جيدة مع قيادة أكرب والية عثمانية‪ ،‬ومع استغالل طبيعة سلطتها الطبقية‪ ،‬حاول‬ ‫الدبلوماسيون الروس إقامة عالقات وثيقة مع اخلديوي واألمراء ‪ 29.‬بعد تنفيذ تعليمات‬ ‫وزارة اخلارجية أسهم املمثلون الدبلوماسيون الروس يف بالد األهرامات يف إقامة عالقات‬ ‫شخصية بني األسرتني احلاكمتني يف روسيا ومصر – رامانوف وحممد علي‪ .‬بدأت تلك‬ ‫الروابط املباشرة يف الظهور يف الثمانينيات والتسعينيات من القرن التاسع عشر‪.‬‬ ‫أليكساندر إيفانوفيتش كوياندر – الممثل الدبلوماسي والقنصل الروسي العام في مصر بين‬ ‫‪2 5‬‬ ‫عامي ‪1887-1902‬م‪.‬‬ ‫أرشيف السياسة الخارجية لإلمبراطورية الروسية‪ ،‬األرشيف السياسي‪ ،‬فهرس ‪،482‬‬ ‫‪ 26‬‬ ‫ملف ‪ ،844‬ورقة ‪195-199‬؛ نفس المرجع‪ ،‬صندوق ‪ ،317‬فهرس‪ ،‬ملف ‪ ،135‬ورقة ‪.287‬‬ ‫أرشيف السياسة الخارجية لإلمبراطورية الروسية‪ ،‬صندوق‪ .317 .‬الوكالة الدبلوماسية‬ ‫‪2 7‬‬ ‫والقنصلية العامة في مصر‪ ،‬فهرس‪ ،820 .‬ملف‪ ،199 .‬ورقة ‪.38‬‬ ‫أنظر‪ :‬بشكل مفصل‪ :‬ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين‪ .‬اإلسكندرية الروسية‪ .‬مصير الهجرة إلي‬ ‫‪ 28‬‬ ‫مصر‪ .‬موسكو‪« ،‬الطريق إلي روسيا»‪ ،2010 ،‬ص‪.192-219 .‬‬ ‫من الناحية الشكلية تحتفظ بوضعها كأحدى أكبر واليات اإلمبراطورية العثمانية‪ ،‬بينما في‬ ‫‪ 29‬‬ ‫الواقع تعتبر مستعمرة بريطانية‪.‬‬ ‫‪15‬‬


‫شهد عام ‪1888‬م بعض التحوالت ‪ ،‬عندما قام أبناء اخلديوي توفيق عباس حلمي الثاني‬ ‫– والذي حكم مصر فيما بعد – و حممد علي‪ ،‬بزيارة روسيا‪ 30.‬وقد أشار القنصل العام‬ ‫أ‪ .‬أي‪ .‬كوياندر إلي هذه احلقيقة بشكل خاص‪ ،‬مما يؤكد مرة أخرى علي مساعي‬ ‫قادة كلتا البلدين لتدعيم العالقات بينهما بشتى السبل‪ ،‬مستغلني العالقات الشخصية‬ ‫‪31‬‬ ‫واحلميمية بينهما ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫شخصيا علي أرض العاصمة الروسية ‪ .‬ومبرسوم‬ ‫استقبلهم اإلمرباطور ألكسندر الثالث‬ ‫عالي ُمنح األخوان عباس حلمي الثاني وحممد علي أومسة روسية‪ ،‬كما كوفئ املرافقني‬ ‫ألبناء اخلديوي – رئيس مراسم قصر اخلديوي تونينو باشا ومدير مكتب ديوان اخلديوي‬ ‫الرتكي حممود شكري ‪ ،‬باإلضافة إلي مربي االمراء واألستاذ جنيب أفندي ‪ 32.‬بعد عام‬ ‫منح اخلديوي توفيق جمموعة من الشخصيات الروسية الرمسية ومن ضمنهم دبلوماسيون‬ ‫أومسة روسية‪ً ،‬‬ ‫ردا علي حسن االستقبال واإلعداد لرحلة عباس وحممود علي إلي سانت‬ ‫‪33‬‬ ‫بطرسبورج‪.‬‬ ‫كان األمري العظيم نيقوالي نيقواليفيتش رامانوف األكرب أول شخص من اجلانب‬ ‫الروسي «مي ّهد» الطريق أمام أسرة امللك إلي شواطئ نهر النيل ‪ ،‬حيث كان كان األمري‬ ‫ً‬ ‫متواجدا هناك عام ‪1872‬م ‪ 34.‬ومنذ‬ ‫العظيم نيكوالي نيكواليفيتش رامانوف األكرب‬ ‫عام ‪ 1888‬فقط بدأت سلسلة من الزيارات علي مستوي رفيع ألسرة رومانوف إلي مصر –‬ ‫مبشاركة فعالة ومباشرة للممثل الدبلوماسي الروسي يف بالد األهرامات أ‪ .‬إ‪ .‬كوياندر‬ ‫– يف تنفيذ اخلطة املوضوعة حبذافريها ‪.‬‬ ‫وبعد زيارة فلسطني من أجل حضور افتتاح املعبد املبين يف القدس بدعم األسرة‬ ‫ً‬ ‫ختليدا لذكري اإلمرباطورة ماريا ألكساندروفنا قام األمري العظيم سريجي‬ ‫امللكية‬ ‫ألكساندروفيتش وقرينته إليزافيتا فيدورافنا واألمري العظيم بافل ألكساندروفيتش‬ ‫بزيارة إلي مصر يف أكتوبر عام ‪1888‬م ‪ .‬وأثناء اإلعداد لتلك الزيارة أخطر وزير اخلارجية‬ ‫تفصيليا عن رحالت المصريين عبر اإلمبراطورية الروسية‪ ،‬أنظر‪ :‬ج‪.‬ف‪.‬جارياتشكين‪.‬‬ ‫‪3 0‬‬ ‫األمراء المصريون في روسيا‪//‬أرشيف الشرق‪...‬‬ ‫أرشيف السياسة الخارجية لإلمبراطورية الروسية‪ .‬صندوق القنصلية العامة في مصر‪،‬‬ ‫‪ 31‬‬ ‫فهرس‪ ،820 .‬ملف‪ ،199 .‬ورقة ‪.196‬‬ ‫مُنح عباس باشا وسام ستانسالف من الطبقة األولي‪ ،‬ومُنح محمد علي نفس الوسام من‬ ‫‪ 32‬‬ ‫الدرجة الثانية ونجمة؛ مُنح تونينو باشا وسام القديسة آنٌا من الطبقة الثانية‪ ،‬ومُنح محمود شكري بك‬ ‫نفس الوسام من الطبقة الثالثة‪ ،‬كما مُنح حاجب أفندي وسام القديس القديس ستانسالف من الطبقة‬ ‫الثالثة‪ .‬أرشيف السياسة الخارجية لإلمبراطورية الروسية‪ ،‬فهرس ‪ ،820/1‬ملف ‪ .199‬ورقة ‪111-‬‬ ‫‪111‬مكرر‪.‬‬ ‫نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪111-111‬مكرر‪ .‬أنظر عن هذا الموضوع تفصيليا‪ :‬ج‪.‬ف‪.‬‬ ‫‪ 33‬‬ ‫جارياتشكين‪ .‬األمراء الروس في روسيا‪//‬أرشيف الشرق‪...‬‬ ‫د‪.‬أ‪.‬سكالون‪ .‬رحلة عبر الشرق واألراضي المقدسة في عهد األمير العظيم نيكوالي‬ ‫‪3 4‬‬ ‫ً‬ ‫نيكواليفيتش عام ‪1872‬م‪ .‬الطبعة الثانية‪ .‬سانت بطرسبورج‪ .1892 ،‬أنظر أيضا‪ :‬ج‪ .‬ف‪.‬‬ ‫جارياتشكين‪ .‬العالقات المتبادلة بين األسرتين الحاكمتين في روسيا ومصر في القرن التاسع عشر‬ ‫والعشرين‪ .‬موسكو‪ ،‬معهد اإلستشراق التابع ألكاديمية العلوم الروسية‪« ،‬أرشيف االستشراق»‪،‬‬ ‫‪.2011‬‬ ‫‪16‬‬


‫الروسي ن‪.‬ك‪.‬جريس سفارة القاهرة باآلتي ‪« :‬حسب املعلومات اليت بلغتين من الوزارة ‪ ،‬فأنتم‬ ‫تعلمون ً‬ ‫جيدا إلي أي مدي ينظر سيدى اإلمرباطور بعني الرضا لزيارة أبناء اخلديوي سانت‬ ‫بطرسبورج واملدن الروسية األخرى‪ .‬فقد اتخُ ذت مجيع اإلجراءات الالزمة – بأمر من صاحب‬ ‫املقام العالي – حتى يتكون لدي عباس وحممد علي باشا أفضل اإلنطباعات عن زيارتهم‬ ‫لروسيا‪ .‬وهذا ما يعطينا احلق يف التعويل علي أن اخلديوي لن يألو ً‬ ‫جهدا ليربهن ألعضاء‬ ‫أسرة اإلمرباطورية الروسية – اليت تعتزم زيارة مصر – علي مدي عرفانه لإلهتمام البالغ‪،‬‬ ‫‪35‬‬ ‫الذي أبداه له صاحب املقام العالي »‪.‬‬ ‫يف نهاية عام ‪1889‬م قام األمري العظيم بيرت نيقواليفيتش واألمرية العظيمة ميليتسا‬ ‫‪36‬‬ ‫نيقواليفنا بزيارة إلي أرض االهرامات ‪.‬‬ ‫بعد عام‪ ،‬وخالل جولته البحرية حول العامل قام األمري العظيم نيقوالي الثاني بزيارة إلي‬ ‫مصر بصحبة أخيه األمري العظيم جرجيوري ألكساندروفيتش ‪ .‬وقبيل وصوهلم صرح‬ ‫اخلديوي حممد توفيق باشا إلي أ‪ .‬إي‪ .‬كوياندر ‪ ،‬قائال‪« :‬أشعر بالسعادة أن استقبالي‬ ‫ً‬ ‫تكلفا‪ ...‬لن يغيب عن ذاكرتي مدي اإلعتناء الذي أواله‬ ‫للضيوف بدافع احلب وليس‬ ‫صاحب املقام العالي ألبنائي‪ ،‬وحسن استقباله هلم يف روسيا‪ ،‬ومن جانيب طاملا متنيت مقابلة‬ ‫وريث عرش روسيا بالصورة الالئقة بشرف زيارته »‪ 37.‬استمرت الرحلة أسبوعني وامتدت‬ ‫حتى مدينة أسوان‪ .‬أثار دهشة املصريني املبلغ الذي مت إنفاقه علي شرف زيارة صاحب السمو‬ ‫يف شكل إعانات مالية وتربعات وبقشيش (جبانب األومسة وامليداليات والعمالت الذهبية‬ ‫وهدايا من الفضة) بإمجالي ألفني ونصف جنيه اسرتليين (وحسب قول أ‪ .‬إي‪ .‬كوياندر‪ ،‬فقد‬ ‫كان التأثري هائال)‪ .‬حتى أن اخلديوى نفسه اندهش من تلك املبالغ‪ .‬وعندما ُسئل القنصل‬ ‫العام كوياندر عن الشخص – الذي رمبا يرغب يف ضمه إلي قائمة املكرمني – أجاب‬ ‫‪38‬‬ ‫بالرفض‪ ،‬وأضاف أنه ال ميكن – بعد كل ما فعلوه – املطالبة بشيء آخر ‪.‬‬ ‫قام األمري قنسطنطني بيرتوفيتش أولدينبورجسكي بصحبة قرينته بزيارة مصر يف‬ ‫الفرتة بني ديسمرب عام ‪1901‬م ويناير ‪1902‬م ‪ .‬وبعد شهر وصل األمري العظيم بوريس‬ ‫فالدميريوفيتش‪ .‬عند استقبال األمراء « بذل اخلديوي عباس حلمي الثاني – ً‬ ‫وفقا ملا قالة‬ ‫أ‪ .‬إي‪ .‬كوياندر – ما بوسعه ليحسن استقبال ضيوفه املهمني‪ .‬فحتى اآلن ال تزال ذاكرته‬ ‫‪39‬‬ ‫حتتفظ بصورة استقبال الباب العالي له عام ‪1888‬م‪»...‬‬ ‫يف مستهل عام ‪1907‬م قام األمري العظيم بوريس فالدميريوفيتش بزيارة ملدة أسبوعني‬ ‫إلي وادي النيل باالسم املستعار كومبيت دي برودي ‪ 40.‬وألكثر من مرة قضي األمري العظيم‬ ‫أرشيف السياسة الخارجية لإلمبراطورية الروسية‪ ،‬صندوق القنصلية العامة في مصر‪،‬‬ ‫‪ 35‬‬ ‫فهرس ‪ ،820/1‬ملف ‪« 304‬زيارة شخصيات رفيعة المستوى إلي مصر‪ ،»1880-1890 .‬ورقة‬ ‫‪ 297-297‬مكرر‪.‬‬ ‫نفس المرجع‪ ،‬ورقة ‪.99-157‬‬ ‫‪ 36‬‬ ‫نفس المرجع‪ .‬ورقة ‪ 200‬مكرر‪.202-‬‬ ‫‪ 37‬‬ ‫‪ 38‬‬ ‫أرشيف السياسة الخارجية لإلمبراطورية الروسية‪ .‬صندوق ‪ ،317‬ملف ‪ ،135‬ورقة‬ ‫‪3 9‬‬ ‫‪ 196-196‬مكرر‪.‬‬ ‫نفس المرجع‪ .‬صندوق ‪ ،820‬فهرس ‪ ،482‬ملف ‪ ،859‬ورقة ‪.51‬‬ ‫‪ 40‬‬ ‫‪17‬‬


‫قنسطنطني قنسطنطينو فيتش رامانوف فرتة استشفاء واستجمام يف حلوان وأسوان ‪ ،‬وهلذا‬ ‫‪41‬‬ ‫كتب باقة من أروع أشعاره عن بالد األهرامات ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫جمددا علي‬ ‫ويف بدايات القرن العشرين بدأ ممثلو الطبقة احلاكمة يف مصر بالتوافد‬ ‫اإلمرباطورية العثمانية ‪ .‬ويف عام ‪ 1900‬نزل عباس حلمي الثاني يف األوديسا حتت اسم‬ ‫مستعار أثناء سفره إلي بيسارابيا (منطقة جغرافية تقع يف أوروبا الشرقية حيدها من‬ ‫الشرق نهر الدنستري ومن الغرب نهر بروت‪ .‬تعليق املرتجم ) ‪.‬‬ ‫وبعد جلسة خاصة – استقبل فيها عباس حلمي الثاني أ‪ .‬إي‪ .‬كوياندر– كتب‬ ‫الدبلوماسي الروسي إلي وزير خارجيته الكونت ف‪ .‬ن‪ .‬المذدورف‪ ،‬قائال‪« :‬لقد خاض‬ ‫ً‬ ‫كثريا يف احلديث عن انطباعاته بشأن رحلته عرب بيسارابيا وعن زيارته إلي‬ ‫عباس باشا‬ ‫أوديسا‪ .‬كما الحظ مدي العناية واإلهتمام اليت القاها يف كل مكان من قبل سلطات‬ ‫اإلمرباطورية ‪ ،‬مما جعله ً‬ ‫ً‬ ‫تعبريا عن‬ ‫مدينا بربقية إلي جاللة اإلمرباطور أثناء مغادرته البالد‬ ‫أمسي معاني العرفان »‪ 42.‬مل يكتف امللك بالرد فقط علي برقية اخلديوي املصري ‪ ،‬بل‬ ‫‪43‬‬ ‫ومنحه الوسام امللكي ‪.‬‬ ‫تعددت زيارات ابن اخلديوي توفيق األصغر إلي روسيا احملببة إلي قلبه (ثالث زيارات) ‪.‬‬ ‫ويف عام ‪ 1909‬قام برحلة رائعة عرب مجيع أحناء روسيا واليابان من خالل طريق السكك‬ ‫ً‬ ‫حديثا‪ .‬وفيما يتعلق «برحلته إلي اليابان» (هكذا أطلق حممد علي‬ ‫احلديدة املنشىء‬ ‫علي كتاب مذكرات سفره – عن هذا انظر باألسفل) كتب املمثل الدبلوماسي وقنصل‬ ‫روسيا العام يف القاهرة أليكسي ألكساندروفيتش مسرينوف‪ 44‬إلي وزير اخلارجية أ‪.‬‬ ‫ب‪ .‬إزفولسكي اآلتي ‪« :‬منذ وقت قريب زارني مسو األمري حممد علي‪ ،‬شقيق اخلديوي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مسافرا إلي اليابان عرب أراضي روسيا وسيبرييا‪ .‬أعرب األمري عن تقديره هلذا‬ ‫حيث كان‬ ‫االستقبال احلافل الذي القاه يف روسيا وجلميع وسائل الراحة اليت ُقدمت له أثناء سفره‪،‬‬ ‫كما أمرني األمري أن أنقل شكره إلي جاللة اإلمرباطور ‪.‬‬ ‫ويف اخلتام استدعي حممد علي ذكري االستقبال احلافل الذي القاه هو وأخاه من قبل‬ ‫اإلمرباطور ألكسندر الثالث (اخلديوي احلالي) – وهما يف سن الصبا – قائالً أنه طاملا شعر‬ ‫لدي وصوله أنه يف ضيافة جاللة اإلمرباطور‪ ،‬ولطاملا متين ان يعرب عن عرفانه ومشاعر الوفاء‬ ‫‪45‬‬ ‫اجلياشة لعظمته »‪.‬‬ ‫ك‪ .‬ب‪ .‬دنيفنيكي‪ .‬مذكرات‪ .‬أشعار‪ .‬خطابات‪ .‬موسكو‪.1998 ،‬‬ ‫‪4 1‬‬ ‫أرشيف السياسة الخارجية لإلمبراطورية الروسية‪ .‬صندوق ‪ ،317‬الوكالة الدبلوماسية‬ ‫‪4 2‬‬ ‫والقنصلية العامة في مصر‪ ،‬فهرس ‪ ،820‬ملف‪ ،135 .‬ورقة ‪.93‬‬ ‫نفس المرجع‪ ،‬ورقة ‪« .246‬في اليوم الثالث‪ - ،‬كتب كوياندر في خطابه بتاريخ األول من‬ ‫‪ 43‬‬ ‫يونيو عام ‪1902‬م – لي الشرف أن أسلم الخديوي في جلسة احتفالية وسام القديس ألكسندر نيفسكي‬ ‫مرصعًا باأللماس»‪.‬‬ ‫أنظر‪ .‬عن تلك الشخصية‪ :‬ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين‪ .‬اإلسكندرية الروسية‪ .‬مصير الهجرة في‬ ‫‪ 44‬‬ ‫مصر‪ .‬موسكو‪« ،‬الطريق الروسي»‪ ،2012 ،‬ص‪151-168 .‬‬ ‫أرشيف السياسة الخارجية لإلمبراطورية الروسية‪ .‬صندوق‪ ،‬فهرس ‪ ،820‬ملف ‪،135‬‬ ‫‪ 45‬‬ ‫ورقة ‪ 23-23‬مكرر‪.‬‬ ‫‪18‬‬


‫وقبل اندالع احلرب العاملية األولي مباشرة زار البالد رئيس احملكمة املصرية السابق‬ ‫‪46‬‬ ‫حممود رشاد بك ‪.‬‬ ‫يف احلقيقة أسهمت الزيارات الشخصية العديدة علي مستوي شخصيات رفيعة‬ ‫والتعاطف واالحرتام املتبادل بني كال البلدين يف فتح أفق جديدة للتعاون املشرتك يف‬ ‫مجيع اجملاالت يف املستقبل‪ .‬فقد ازداد تبادل اإلصدارات املطبوعة ‪ :‬حيث كانت ترد من‬ ‫بالد األهرامات جمالت «اهلالل» و«املنار» و« املقتطف » و«الكتاب» وغريها من الدوريات ‪،‬‬ ‫باإلضافة إلي اإلحصائيات‪ ،‬ومن بينها اإلحصاء العام املكون من ثالثة جملدات لعام ‪1897‬م‬ ‫وقواميس صغرية ‪ 47.‬حصلت مكـتبة جامعـة سانت بطرسـبورج ‪ ،‬علي سبيـل املـثال ‪« ،‬‬ ‫على صندوقي كتب كبريين» حيتويان علي سالسل كاملة من باكورة إصدارات «‬ ‫ً‬ ‫جملدا‪ .‬وبدأ مرصد‬ ‫اجملمع العلمي »‪ ،‬باإلضافة إلي قاموس لغة عربية مكون من سبعة عشر‬ ‫اخلديوية يف إرسال تقارير شهرية عن تقديرات األرصاد منذ األول من يناير عام ‪1888‬م إلي‬ ‫مرصد بولكوفسكي يف سانت بطرسبورج‪ .‬وحرص قسم اللغات الشرقية التابع للقسم‬ ‫اآلسيوي بوزارة اخلارجية علي األشرتاك للحصول علي إصدارات جريدة «األهرام» وجملة‬ ‫«اهلالل» علي مدار العام‪ .‬كما دخلت جملة «املطاف» الصادرة يف اإلسكندرية‪ -‬واليت‬ ‫كان جيدد األشرتاك فيها كل سنة ‪ -‬حيز إهتمام القسم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وجاء رد فعل الروس علي نفس القدر‪ .‬فقد أرسلت إلي بالد األهرامات أعمال مجعية اآلثار‬ ‫الروسية وتقارير جلنة محاية آثار الفن العربي وغريها‪ .‬وقد حظيت تلك اإلصدارات برضا‬ ‫األوساط الثقافية املصرية‪.‬‬ ‫أدي تطور العالقات التجارية والسياسية وزيادة حركة البضائع والركاب إلي مصر‪،‬‬ ‫باإلضافة إلي الوضع املستقر يف بالد األهرامات‪ ،‬إلي تكون مستعمرة روسية هناك ‪.‬‬ ‫والدليل علي تزايد أعداد املواطنني الروس يف مصر يف ذلك الوقت متثل يف ارتفاع أعداد‬ ‫املهاجرين من املناطق ذات الغالبية املسلمة يف روسيا يف النصف الثاني من القرن العشرين ‪.‬‬ ‫وبالتأكيد أثر انضمام مناطق شاسعة من القوقاز ووسط آسيا إلي روسيا علي تدفق األسر‬ ‫املسلمة من اإلمرباطورية الروسية ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وفقا إلحصاءات أكرب تعداد لسكان مصر‪ ،‬وأكثرها تفصيال عام ‪1897‬م ‪ ،‬بلغ إمجالي‬ ‫الروس يف مصر ذلك الوقت‪ 4225‬نسمة ‪ 48.‬وبلغامجاليالروسذوياألصولاليهوديةاملقيمنييف‬

‫السياحة في روسيا بقلم رشاد بك – رئيس محكمة مصر ً‬ ‫سابقا‪ .‬القاهرة‪ .‬غير معروف عام اإلصدار‪.‬‬ ‫‪ 46‬‬ ‫بتوصية من أ‪ .‬إي‪ .‬كوياندر «تم منح القائم بأعمال المستشار المالي المحلي ورئيس قسم اإلحصاء‬ ‫‪ 47‬‬ ‫والتعداد (تعداد السكان البالد الكامل عام ‪1897‬م) والمواطن الفرنسي أ‪ .‬بوانيه‪-‬بك وبأوامر عليا‪ ،‬وسام‬ ‫القديسة ستانسالفا من الطبقة الثانية وذلك لتقديمهما‪ -1 :‬ثالثة نسخ من القاموس الجغرافي‪ ،‬أحدهم خاص‬ ‫بوزارة خارجية اإلمبراطورية‪ ،‬بينما اإلثنان اآلخران لقسم اللغات الشرقية؛ ‪ -2‬نسخة (ثالثة مجلدات)‬ ‫من نتائج التعداد العام لسكان مصر موجهة إلي لجنة اإلحصاء الروسية المركزية»‪ .‬كما تم التأكيد علي‬ ‫استعداد المواطن الفرنسي أ‪ .‬بوانيه لتقديم المساعدة المستمرة لممثلي الدبلوماسية الروسية (أرشيف السياسة‬ ‫الخارجية لإلمبراطورية الروسية‪ ،‬فهرس ‪ ،820/1‬ملف ‪ ،207‬ورقة ‪22-22‬مكرر‪ 150-150 ،‬مكرر)‪.‬‬ ‫التعداد الشامل للسكان عام ‪1897‬م‪ .‬الجزء األول‪ ،‬القاهرة‪1931 ،‬م‪ ،‬ص‪206-221 .‬‬ ‫‪4 8‬‬ ‫(باللغة العربية)‪.‬‬ ‫‪19‬‬


‫مصر ما يقرب من ‪ 314( 10%‬شخص)‪ ،‬بينما ازداد قليال تعداد املسلمني منهم (‪332‬شخص) ‪.‬‬

‫‪49‬‬

‫ويف الوقت ذاته كان هناك ‪ 140‬خوارزمي و‪ 42‬خباري؛ من ضمن ‪ 523‬مواطن روسي‬ ‫‪50‬‬ ‫باإلسكندرية‪.‬‬ ‫جيدر اإلشارة أن اجلالية الروسية املسلمة بدأت يف التكون مبصر قبل ذلك ‪ ،‬أي بعد‬ ‫إنشاء أول مجعية مركزية للمسلمني يف روسيا القيصرية ؛ أال وهي مجعية أورينبورغ‬ ‫الروحية احملمدية (‪1917 - 1788‬م)‪ ،‬عندما مت السماح باحلج إلي مكة واملدينة‪ .‬مع تطور‬ ‫حركة املالحة يف البحر األسود والبحر املتوسط بعد ذلك ‪ ،‬ومع مد خطوط مواصالت بني‬ ‫أوديسا واإلسكندرية ‪ ،‬أصبحت األخرية نقطة توقف مهمة علي طريق احلج ؛ حيثما‬ ‫كانت تتجمع وتتشكل جاليات مسلمة وافدة من روسيا القيصرية‪ ،‬وكان من بينهم‬ ‫أحد سكان من وسط آسيا كولداش‪-‬بك كمال الدين البخاري‪ ،‬الذي أبدي حسن الضيافة‬ ‫عام ‪1880‬م إلي عامل االدين الشهري واملصلح الديين وصاحب الفكر التنويري شهاب الدين‬ ‫مورجاني من كازان أثناء قيام األخري باحلج إلي مكة («نزلنا من السفينة ونزلنا عند‬ ‫‪51‬‬ ‫كولداش‪-‬بك كمال الدين البخاري»)‪.‬‬ ‫يف ذلك الوقت كان كولداش بك – حسبما قال املرجاني – ميتلك غرفة خمصصة‬ ‫ً‬ ‫واسعا ويسع العديد من‬ ‫للحجاج املسلمني القادمني من روسيا إلي القاهرة ‪ .‬وكان منزله‬ ‫الضيوف الروس املسلمني املتوجهني ألداء فريضة احلج عرب مصر ‪ ،‬والذين كانوا يعودون‬ ‫إلي أرض الوطن عرب ميناء اإلسكندرية ‪ 52.‬ويشري حفيده سامي كولداش ‪ ،‬القاطن اآلن‬ ‫يف عاصمة مصر الشمالية ( األسكندرية) ‪ ،‬إلي الدور الفعال الذي كان يلعبه جده ‪،‬‬ ‫خاصة بني الوافدين ألول مرة إلي أرض مصر‪ 53.‬كان خ‪ .‬أملوشيف‪ ،‬إمام قرية بيرتيكس‬ ‫يف حمافظة نيجيجوراد‪ ،‬الذي قام باحلج بني عامي ‪1901 - 1899‬م أحد من تلقوا املساعدة‬ ‫من أسرة كولداش‪ .‬كتب محيد اهلل ابن فتح اهلل (االسم الكامل ألملوشيف) يف مذكراته‬ ‫نفس المرجع‪ .‬ص‪.68 .‬‬ ‫‪4 9‬‬ ‫من المدهش أن تقرير القنصل الروسي العام إي‪ .‬ليكس في القاهرة خالل عام ‪1880‬م‬ ‫‪ 50‬‬ ‫يتحدث عن‪« :‬بلغت أعداد الروس التابعين والذين يعيشون في مصر تحت حمايتنا ‪ :250‬وهم من‬ ‫سكان الجبل األسود‪ ،‬والصرب‪ ،‬والبلغاريين وسكان وسط آسيا؛ كانت أعداد الروس قليلة‪ ،‬بينما العدد‬ ‫األكبر من الروس التابعين يونانيون وأرمن وشراكسة‪ ،‬ومن طشقند وسمرقند (مصر بأعين روسية‪...‬‬ ‫ص‪».)125-126 .‬‬ ‫شهاب الدين مورجان‪ .‬رحلة المورجاني‪//‬حج المسلمين الروس‪ .‬مجموعة مذكرات سفر‬ ‫‪5 1‬‬ ‫عن الحج‪ .‬ن‪ .‬نوفجوراد‪ :‬دار نشر «المدينة»‪ ،2008 ،‬ص‪ .14.‬عن المسلمين في مصر‪ .‬بالتفصيل‪:‬‬ ‫ج‪.‬ف‪.‬جارياتشكين‪ .‬اإلسكندرية الروسية‪ .‬مصير الهجرة في مصر‪ .‬موسكو‪« ،‬الطريق الروسي»‪،‬‬ ‫‪ ،2010‬ص‪.55-59 .‬‬ ‫ً‬ ‫الحقا بالتجارة وتخصص في توريد آالت الفنار والمواني‪ .‬بجانب رجل‬ ‫اشتغل المهاجر‬ ‫‪5 2‬‬ ‫األعمال حسن فوليا منذ عام ‪1930‬م أشتغل بتجارة المواد الغذائية‪ ،‬التي كانت منتشرة في بورسعيد‬ ‫والسويس وكانت تمتلئ بها سفن الشحن المارة عبر قناة السويس‪ .‬توفي عام ‪ 1951‬عن عمر يناهز‬ ‫‪60‬عامًا و ُدفن في مقابر البحارة في اإلسكندرية‪.‬‬ ‫أنظر بالتفصيل‪ :‬ج‪.‬ف‪.‬جارياتشكين‪ .‬اإلسكندرية الروسية‪ .‬مصير الهجرة في مصر‪.‬‬ ‫‪5 3‬‬ ‫موسكو‪« ،‬الطريق الروسي»‪ .2012 .‬ص‪.58-61 .‬‬ ‫‪20‬‬


‫«احلج‪ -‬نامة» (نامه يف اللغات اهلندو‪ -‬فارسية هو رسالة واحلج نامة هو كتاب احلج أورسالة‬ ‫احلج ) ( تعليق املصحح د‪ -‬حممد رياض) عن صاحب املنزل املضياف يف اإلسكندرية –‬ ‫والذي أطلق عليه لسبب غري معلوم «الطشقندي» ‪« : -‬بعد خروجنا من بورسعيد توجهنا‬ ‫ً‬ ‫صباحا‪.‬‬ ‫إلي اإلسكندرية‪ ،‬حيث وصلنا يف الثامن والعشرين من شهر شوال‪ 54‬يف السابعة‬ ‫ومل نكن يف أفضل حال‪ .‬ومن أجل الرتويح عن أنفسنا توجهنا إلي منزل مواطن طشقندي‬ ‫ُيدعي حاج كولداش ‪ .‬وطلبنا من أهل املنزل أن يعدوا لنا طعام البلوف (طبق من األرز‬ ‫شهيا ً‬ ‫واللحم‪ .‬تعليق املرتجم) ‪ ،‬الذي بدا ً‬ ‫جدا‪ .‬بعد تناول الطعام أكملنا الطريق يف أفضل‬ ‫‪55‬‬ ‫حال» ‪.‬‬ ‫ونري ان املعيار الوحيد لتقييم املصريني لروسيا انبعث من خالل ممثلي اجلالية الروسية‬ ‫املسلمة – اليت كانت تعيش باستمرار يف مصر – باإلضافة إلي طالب جامعة األزهر وفرعها‬ ‫‪56‬‬ ‫يف اإلسكندرية وطالب املؤسسات العلمية األخرى ‪.‬‬ ‫قام صابر عليم أفندي ‪ -‬أحد خرجيي جامعة األزهر تتاري اجلنسية ‪ -‬بزيارة حممد طلعت‪،‬‬ ‫كاتب أوىل املذكرات الثالث الصادرة يف كتاب عن رحالت املصريني أثناء تواجدهم يف‬ ‫روسيا يف بداية القرن العشرين‪ ،‬حيث عرض عليه التوجه إلي سانت بطرسبورج للعمل‬ ‫حمرر لغة عربية يف صحيفة «التلميذ»‪ 57.‬أرسل لطف اهلل شكري اإلسحاقي‪ ،‬الذي أنهي‬ ‫الدراسة يف جامعة األزهر يف القاهرة مع أخوه أمحد أفندي اإلسحاقي‪ ،‬هذا العرض املكتوب‬ ‫إلي حمرر الصحيفة املستقبلي‪ .‬يف الوقت ذاته ألتقى خريج األزهر التتاري اآلخر عبد الرشيد‬ ‫‪58‬‬ ‫إبراهيم أفندي مبحمد طلعت يف العاصمة الروسية ‪.‬‬ ‫كان املسلمون الروس يف مصر يعرفون املصريني علي روسيا وحيكون عن وطنهم‬ ‫واألطر اليت حتكمه ووضع املسلمني يف روسيا‪ .‬واألبرز يف هذا اإلطار زيارة عامل الدين‬ ‫الترتي واحملاضر الترتي سالف الذكر خ‪ .‬ف‪ .‬أملوشيف ‪ 59،‬الذي قام باحلج مرتني أثناء رحلته‬ ‫الشهر العاشر في التقويم القمري‪.‬‬ ‫‪ 54‬‬ ‫خ‪ .‬ألموشيف‪ .‬الحج نية‪ .‬كتاب عن الحج‪ .‬مذكرات سفر‪ .‬ن‪ .‬نوفجوراد‪ :‬دار نشر نيم‬ ‫‪5 5‬‬ ‫«ماخينور»‪ .2006 .‬ص‪.39 .‬‬ ‫ً‬ ‫طبقا لما أورده األستاذ ف‪ .‬م‪ .‬أتسامب‪ ،‬فقد بلغ عدد المدارس في المدن المصرية بحلول‬ ‫‪5 6‬‬ ‫القرن التاسع عشر أكثر من ‪ 50‬مدرسة‪ ،‬حيث كان الطالب من جميع أنحاء العالم اإلسالمي يتلقون‬ ‫ً‬ ‫خالفا لذلك‪ ،‬في مئات وآالف المساجد أُلحقت كتاتيب – مدارس ابتدائية‪ .‬ف‪.‬م‪.‬أتسامب‬ ‫التعليم العالي‪.‬‬ ‫الحياة الفكرية في القاهرة واإلسالم (القرن الثامن‪-‬بداية القرن العاشر‪//‬مقاالت لومونوسف‪ .‬ملخص‬ ‫تقارير‪ .‬إبريل ‪2001‬م‪ .‬معهد دول آسيا وإفريقيا التابع لجامعة موسكو الحكومية‪ .‬ص‪).161-170 .‬‬ ‫«التلميذ» ‪ -‬صحيفة باللغة العربية كانت تصدر في سانت بطرسبورج بين عامي ‪1906-‬‬ ‫‪5 7‬‬ ‫ً‬ ‫‪1907‬م‪ .‬بعد إصدار ثالثين عددا حظرت السلطات نشرها في أعوام الثورة الروسية األولى‪ .‬الناشر‬ ‫والمحرر عبد الرشيد إبراهيموف‪.‬عن ذلك‪ :‬اإلسالم في سانت بطرسبورج‪ ...‬ص‪.80-81 .‬‬ ‫روسيا بأعين مصرية‪ .‬رحلة محمد طلعت إلي سانت بطرسبورج في عامي ‪1906-‬‬ ‫‪5 8‬‬ ‫‪1907‬م‪//‬أرشيف الشرق‪ .‬موسكو‪ ،‬رقم‪ ،2009 ،)20( 2‬ص‪.58-59 .‬‬ ‫وُلد خ‪.‬ف‪.‬ألموشيف عام ‪1855‬م في محافظة سيمبيرسك‪ ،‬وتوفي عام ‪1929‬م‪ .‬تلقي العلوم‬ ‫‪5 9‬‬ ‫الدينية في األزهر‪ ،‬حيث كان يدرس الفقه اإلسالمي‪ ،‬واللغات العربية والفارسية والتركية والتاريخ‬ ‫والفلسفة وعلوم الفضاء والجغرافيا والرياضيات والطب وعلم الجماليات‪ .‬وفيما بعد عُ رض عليه‬ ‫‪21‬‬


‫الطويلة إلي الشرق األوسط يف الفرتة بني عامي ‪1901 - 1899‬م ‪ .‬التقي أملوشيف أثناء‬ ‫تواجده يف القاهرة مبحرر صحيفة «املؤيد»‪ ،‬وكان موضوع احلديث الرئيس بينهما حول‬ ‫الوضع فى روسيا‪ .‬يف الوقت ذاته استقبله مصطفي كامل الذي كان آنذاك يشغل منصب‬ ‫ً‬ ‫كثريا‬ ‫رئيس حترير صحيفة «اللواء» ‪ .‬يتذكر أملوشيف هذا اللقاء قائال‪« :‬كنا نتحدث‬ ‫عن قضايا علمية خمتلفة تشغل العلماء وختتص بالتعليم اإلسالمي‪ .‬ترك حماوري يف‬ ‫نفسي انطباع رجل مفكر وحاذق يعول علي قرائن حقيقية وحمددة‪ .‬تركزت نتائج‬ ‫حوارنا يف مقالة ُنشرت بإحدى الصحف و سأدرج أهم النتائج هنا‪« :‬عامل كازان‪ .‬يعترب‬ ‫احلدث األبرز يف بلدنا وصول أشهر عامل من الكازان إلي مصر يف طريقه ألداء فريضة‬ ‫احلج املقدسة ‪ .‬اسم هذا العامل الكبري‪ ،‬الذي شرفنا بزيارته ‪ ،‬السيد محيد اهلل ابن فتح اهلل‪.‬‬ ‫اليوم يتحدث الكثريون معه عن وضع املسلمني يف كازان ويف روسيا بشكل عام ‪ .‬فمن‬ ‫خالل كلماته علمنا أن احلكومة الروسية تضع العراقيل أمام انتشار الدين اإلسالمي‪،‬‬ ‫موجهة إساءات للمسلمني ال يستحقونها‪ .‬وهلذا يناضل املسلمون من أجل التمسك بدينهم‪،‬‬ ‫‪60‬‬ ‫ويتحملون الكثري من أجل هذا الدين ومبادئه »‪.‬‬ ‫وفيما بعد ورد يف صحيفة «اللواء» أن « القرآن واللغة العربية ُتدرس » يف اجملتمع الروسي‬ ‫اإلسالمي‪« ،‬كما تدرس الفتيات أسس الدين وأركان اإلسالم »‪ ،‬وهلذا « تنتشر األخالق‬ ‫ً‬ ‫منوذجا‬ ‫والفضيلة بينهم »‪ « ،‬وال ينتشر الفسق والفحشاء‪ ،‬بل أن معظم نسائهم يعتربن‬ ‫للفضيلة والعفة»‪« ،...‬وأن دراسة العلوم اإلسالمية متطورة يف تلك املناطق بشكل‬ ‫‪61‬‬ ‫كبري»‪.‬‬ ‫من املؤكد أن اهتمام جريدة مصطفي كامل بوضع املسلمني يف روسيا – كما كان‬ ‫احلال على ما يبدو بالنسبة للصحف املصرية القومية األخرى – جعل «اللواء» صاحبة‬ ‫املبادرة يف جتميع مساعدات لصاحل اجلياع من املسلمني الروس عام ‪1907‬م‪ً .‬‬ ‫وفقا ملا أوردته‬ ‫الصحافة املصرية فقد بدأ جتميع املساعدات ملسلمي روسيا يف شهر يناير‪« :‬فقد مجعت أول‬ ‫‪ 77‬جنيه‪ ،‬واستمرت التربعات»‪ 62.‬يف الثالث عشر من يونيو من نفس العام كتبت اجلريدة‬ ‫‪63‬‬ ‫أن «اللواء» قد مجع ‪ 10235‬جنية يف اكتتاب عام من أجل املسلمني الروس اجلائعني‪.‬‬ ‫ً‬ ‫دروسا لدى مدرسي‬ ‫تعرف ف‪ .‬أملوشيف يف مصر علي موسي بيجييف‪ ،‬الذي كان يتلقي‬ ‫جامعة األزهر‪ ،‬وكان حيضر دروس حممد عبده أحد دعاة اإلصالح يف مصر‪ ،‬ويذاكر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تعليما ملدة عامني يف مكة واملدينة‪،‬‬ ‫منفردا يف مكتبات القاهرة‪ .‬ويف وقت الحق تلقى‬ ‫ً‬ ‫جمددا إلي القاهرة‪ ،‬حيث عكف علي كتابة األحباث العلمية‪ .‬وبفضل‬ ‫وبعد عامني عاد‬ ‫م‪ .‬بيجييف خرج إلي النور أهم عمل يف ذلك الوقت «تاريخ القرآن الكريم وقوائمه»‪ ،‬الذي‬ ‫صدر يف كتاب مستقل يف كازان عام ‪1905‬م‪ ،‬كما ًنشر يف جملة «املنار» القاهرية عام‬ ‫‪1907‬م‪ .‬مبرور الوقت أصبح م‪ .‬جيجييف داعية بارز وشخصية اجتماعية وسياسية وناشر‬ ‫العمل في إحدى مدارس بطرسبورج‪ ،‬والتي خدم فيها بعض الوقت ً‬ ‫أيضا كمال عسكري‪.‬‬ ‫خ‪ .‬ألموشيف‪ .‬المرجع األسبق‪ .‬ص‪.42 .‬‬ ‫‪6 0‬‬ ‫نفس المرجع‪.‬‬ ‫‪6 1‬‬ ‫كان الجنيه عام ‪ 1907‬يعادل ‪ 26‬فرانك أو ‪ 14‬روبل روسي‪ .‬بيجي‪ .‬مقتبس عن‪« :‬فنار‬ ‫‪ 62‬‬ ‫اإلسكندرية»‪.16.01.1907 ،‬‬ ‫نفس المرجع‪ 13 ،‬يوليو ‪1907‬م‪ .‬الجنية يعادل ‪ 26‬فرانك أو ‪ 14‬روبل روسي‪.‬‬ ‫‪6 3‬‬ ‫‪22‬‬


‫وعضو يف احلزب اإلسالمي «إتفاق املسلمني» الذي مت إنشائه يف روسيا يف سنوات ما قبل‬ ‫‪64‬‬ ‫الثورة ‪1907 - 1905‬م‪.‬‬ ‫وكما اتضح كان املسلمون الروس يلعبون دو ًرا فعاالً يف مصر ولديهم عالقات وطيدة‬ ‫مع املسلمني املصريني‪ .‬مل تقل حوارات أملوشيف مع الصحفيني املصريني البارزين ومل يقل‬ ‫اهتمامه بروسيا واملسلمني الروس‪ ،‬بل علي العكس‪.‬‬ ‫أثارت األحداث املرتبطة بروسيا الرأي العام يف مصر‪ .‬فهزمية روسيا القيصرية يف احلرب‬ ‫الروسية‪-‬اليابانية عام ‪1905 - 1904‬م كان له وقعه الكبري علي اجلماعات اإلسالمية اليت‬ ‫كانت تعتمد علي الشباب األتراك ‪ 65.‬فبالنسبة هلم ميثل انتصار اليابانيني ً‬ ‫نصرا للشرق‬ ‫املستعبد علي الغرب‪ ،‬علي الرغم من أن طرفا الصراع يف تلك احلرب الضروس كانتا قوتني‬ ‫إمربيالينت ؛ أال وهما روسيا واليابان ‪ .‬يف الواقع مل حتظ الرؤى املعادية لروسيا بتأييد الرأي‬ ‫العام يف مصر‪ ،‬ولكنها أثارت الكثري من القلق للدبلوماسيني الروس‪.‬‬ ‫حتولت املؤشرات السلبية لوضع املسلمني يف روسيا إلي إجيابية والعكس‪ .‬القي حمرر‬ ‫وناشر صحيفة «ترمجان» إمساعيل بك جابرينسكي‪ ،66‬الذي وصل القاهرة يف أكتوبر‬ ‫عام ‪1907‬م « استقباال حافال وسط اجملتمع املسلم هناك»‪.‬ويف اإلجتماع الذي نظمته جريدة‬ ‫«املؤيد» ألقي حماضرة حبضور ‪ 500‬شخصية من علماء إسالميني بارزين وناشرين وشيوخ‬ ‫ً‬ ‫تأكيدا للفكرة اليت أثارها من قبل علي صفحات جريدته‪« ،‬فقد صور‬ ‫وبكوات وغريهم؛‬ ‫ببالغة الالمباالة امللحوظة واالحندار الفكري واألخالقي واإلقتصادي بني املسلمني يف‬ ‫‪67‬‬ ‫كل مكان» ‪.‬‬ ‫ومن أجل توضيح أسباب تلك الظاهرة واختاذ الوسائل املناسبة للمساعدة يف إعادة‬ ‫بناء العامل اإلسالمي علي املستوي الثقايف واإلقتصادي وتزويده بأفضل وسائل احلضارة‬ ‫األوروبية اقرتح إمساعيل بك دعوة رواد الثقافة اإلسالمية إلي مؤمتر يف القاهرة أو يف أي‬ ‫مكان آخر بعد عام أو أثنني ‪.‬‬ ‫وُلد بيجييف (بيجييف‪ ،‬بيجي) موسي ياروالفيتش عام ‪1874‬م في مقاطعة بينزينسكي‪.‬‬ ‫‪ 64‬‬ ‫وتوفي عام ‪1949‬م‪//‬اإلسالم في سانت بطرسبورج‪ ...‬ص‪ .37 .‬أنظر عن هذا فيما يلي ُ‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫أشير في الخطاب الدبلوماسي للقنصل العام ب‪ .‬ف‪ .‬ماكسيموف إلي وزارة الخارجية‬ ‫‪6 5‬‬ ‫بتاريخ السابع عشر من مارس عام ‪1905‬م‪« :‬حربنا في أقصى الشرق تترك انطباعً ا متباي ًنا علي‬ ‫العرقيات المختلفة التي تعيش في مصر‪ .‬بال أدني شك تتعامل معظم الجماعات اإلسالمية معنا بعداء‬ ‫وتشعر بسعادة لنجاحات اليابانيين»‪ .‬أرشيف السياسة الخارجية لإلمبراطورية الروسية‪ .‬صندوق‪.‬‬ ‫األرشيف السياسي‪ .‬فهرس ‪ ،482‬ملف ‪ .1905 .853‬ورقة ‪.53‬‬ ‫وُلد الميرزا إسماعيل جاسبرينسكي عام ‪1851‬م في القرم‪ ،‬وتوفي عام ‪1914‬م في‬ ‫‪ 66‬‬ ‫باخشيساراي‪ .‬شخصية إجتماعية بارزة‪ ،‬ناشر ومحرر ومربي وصاحف فكر تنويري ومفكر في‬ ‫الثقافة التركية وأحد قادة الجناح الليبرالي للمسلمين الروس‪.‬‬ ‫أرشيف السياسة الخارجية لإلمبراطورية الروسية‪ ،‬صندوق‪ ،‬األرشيف السياسي‪ ،‬فهرس‬ ‫‪6 7‬‬ ‫‪ ،1907 ،589‬ورقة ‪.149‬‬ ‫‪23‬‬


‫وبعدما ألقي كلمته – اليت ختللها أكثر من مرة التصفيق احلاد – مت إختيار جلنة‬ ‫منظمة من أجل تنفيذ مبادراته علي أرض الواقع‪ .‬يذكر املمثل الدبلوماسي الروسي يف‬ ‫القاهرة فيما بعد أن حماضرة إمساعيل بك كان مبثابة دعاية أكثر من طيبة لروسيا‬ ‫وسط احلاضرين‪ .‬فبعد أن استمعوا لوصفه للعالقة الطيبة وغري املنحازة لقوانني احلكومة‬ ‫واجملتمع الروسي جتاه املسلمني يف روسيا ووسط تصفيق حاد من احلضور طلب رئيس‬ ‫حمكمة القاهرة لطيف باشا سليم من إمساعيل بك باسم املسلمني املصريني – ً‬ ‫معربا عن‬ ‫امتنانه حلكومة اإلمرباطورية والشعب الروسي – التعامل اإلنساني مع إخوانهم املسلمني‬ ‫‪68‬‬ ‫هناك » ‪.‬‬ ‫كانت تلك هي التقديرات املتضاربة لسياسة احلكومة القيصرية جتاه املسلمني‬ ‫الروس‪ .‬وهلذا وقع املسلمون املصريون يف حرية حول حقيقة تلك التقديرات‪ .‬فلم يفرت‬ ‫إهتمامهم بأوضاع مسلمى روسيا‪.‬‬ ‫سرعان ما حتول اإلهتمام إلي واقع عملي؛ ففي عام ‪ 1906‬وصل إلي روسيا حممد طلعت‬ ‫للعمل حمر ًرا يف جريدة «التلميذ» الصادرة يف سانت بطرسبورج باللغة العربية‪ .‬واستمر يف‬ ‫‪69‬‬ ‫روسيا منذ أكتوبر عام ‪1906‬م وحتى مايو عام ‪1907‬م‪ ،‬أعقبها ظهوركتاب ذكرياته‪.‬‬ ‫متثل التشابه الرئيسي ملذكرات سفر الرحالة املصريني املوضحة فيما يلي يف أن مؤلفيها‬ ‫يولون إهتماما ً‬ ‫أوليا بوضع املسلمني الروس‪ ،‬خاصة حممد طلعت ورشاد بك‪ .‬يتعلق االختالف‬ ‫– يف املقام األول – يف طريق سري رحالت املصريني الثالث عرب روسيا‪.‬فبينما مر حممد علي‬ ‫بالبالد عرب طريق مستقيم من موسكو وحتى فالديفاستوك‪ ،‬فإن حممد طلعت قد بدأ‬ ‫طريقه يف أوديسا وانتهي يف سانت بطرسبورج‪ ،‬بينما قطع رشاد بك الطريق من اجلنوب‬ ‫إلي العاصمة الشمالية عرب الطريق املؤدي من أوديسا – القرم (إيفباتوريا‪ ،‬سيفاستوبل‪،‬‬ ‫باخشيساراي‪ ،‬يالتا) – القوقاز (باتوم‪ ،‬كوتايسي‪ ،‬تيفليس‪ ،‬فالديفاستوك‪ ،‬ومن جديد‬ ‫إلي تيفليس‪ ،‬باكو) – أسرتاخان – مسارا – ساراتوف – كازان – نيجين نوفجوراد –‬ ‫ً‬ ‫خالفا ً هلذا حتتوي مذكرات القاضي علي وصف‬ ‫ريبينسك – وحتى سانت بطرسبورج‪.‬‬ ‫موسكو وتفري ومدن حبر البلطيق وكييف من الناحية اإلقتصادية واجلغرافية والثقافية‪-‬‬ ‫العرقية‪ ،‬كما اشتمل الوصف علي تأمالته أثناء رحلته السابقة إلي روسيا يف مستهل‬ ‫‪70‬‬ ‫القرن العشرين‪.‬‬ ‫حيمل عنوان مذكرات رشاد بك معنيني‪ .‬فمن ناحية ميكن ترمجته «رحلة عرب‬ ‫روسيا»‪ ،‬ومن ناحية أخري «سياحة يف روسيا»‪ .‬مل يأت تقارب كال العنوانني – حتى يف‬ ‫حيز تفكري املؤلف – من قبيل الصدفة لعدة أسباب ‪.‬‬ ‫نفس المرجع‪ ،‬ورقة ‪.149-150‬‬ ‫‪ 68‬‬ ‫محمد طلعت‪ .‬السير والنظار (رحالت وتأمالت)‪ .‬القاهرة‪ ،‬دار نشر «بروجريس»‪. 1907 ،‬‬ ‫‪ 69‬‬ ‫يدور الحديث عن رحلة المؤلف األولي‪ ،‬التي قام بها إلي روسيا منذ عشرة سنوات؛ أي‬ ‫‪ 70‬‬ ‫في عام ‪1903‬م تقريبًا‪ .‬تقع المعلومات عن تلك الرحلة في أحدى فصول هذا الكتاب تحت عنوان‬ ‫«الرحلة األخرى» (ص‪ .)66-71 .‬لم نتمكن من التوصل إلي تأكيدا لهذا‪ .‬ومن ناحية أخري ال يوجد‬ ‫سبب لعدم الوثوق في المؤلف‪.‬‬ ‫‪24‬‬


‫بدأت مصر منذ بدايات القرن العشرين تنفتح أكثر علي السوق الرأمسالي‪ ،‬بل وأصبحت‬ ‫جز ًءا ال يتجزأ منه‪ ،‬وبسبب سياسات بريطانيا أصبحت مصر مبثابة مستعمرة هلا‪ .‬ومل تكن‬ ‫بالد األهرامات بعيدة عن تطور السياحة العاملية ‪ .‬وازداد يف مجيع أرجاء الكرة األرضية‬ ‫آنذاك – ومن بينها روسيا – « اهلوس بعلم املصريات » ‪ ،‬وارتفعت أعداد السياح الوافدين‬ ‫إلي وادي النيل كل عام‪ ،‬حيث وصلت يف ذلك الوقت إلي ما ال يقل عن مخسة أو ستة آالف‬ ‫ً‬ ‫جناحا ً‬ ‫باهرا يف مصر منذ بداية التسعينات من القرن العشرين‬ ‫شخص‪ .‬حقق جمال السياحة‬ ‫‪71‬‬ ‫عندما وصلت أعداد السياح الوافدين من أوروبا يف موسم الشتاء فقط إلي ‪ 5200‬زائر‪ .‬يرجع‬ ‫الفضل يف اإلشارة إلي ذلك إلي موظف بعثة مجعية املالحة والتجارة الروسية ف‪ .‬م‪ .‬ميلر‪،‬‬ ‫الذي كان متوج ًها للقيام بتفتيش دوري علي عمل الوكاالت التابعة للجمعية علي خط‬ ‫اإلسكندرية يف إبريل ومايو من عام ‪1893‬م ‪ 72.‬وأثناء تواجده يف العاصمة الشمالية ملصر‬ ‫ً‬ ‫مشريا يف تقريرعن رحلته باسم مدير عام إدارة مجعية املالحة‬ ‫أثار إهتمامه هذا اجملال‪،‬‬ ‫والتجارة الروسية أن ‪« :‬حركة السياحة تتزايد مع كل عام‪ .‬يف السنوات السابقة كان‬ ‫السياح يتوجهون إلي الشرق بني احلني و اآلخر‪ ،‬وباألخص يف فصلي الربيع واخلريف‪ ،‬أما‬ ‫يف الوقت احلالي فهم يتوافدون تقريبًا علي مدار العام‪ ،‬ولكن من املالحظ أن فصال الربيع‬ ‫‪73‬‬ ‫ً‬ ‫تزايدا يف اإلعداد»‪.‬‬ ‫واخلريف يشهدان فقط‬ ‫أتاحت مثل تلك املأموريات الفرصة إلي قيادة مجعية املالحة والتجارة الروسية الختاذ‬ ‫اإلجراءات الالزمة لزيادة حركة الركاب يف ظل تصاعد وترية اإلهتمام بالشرق العربي‬ ‫بشكل عام ومبصر بشكل خاص‪ .‬وحبلول القرن العشرين بدأ إزدهار السياحة يف روسيا‪،‬‬ ‫والذي وصل صداه إلي صحافة اإلسكندرية‪ ،‬وباألخص الصحيفة الرئيسة يف املدينة «فنار‬ ‫اإلسكندرية»‪ ،‬اليت جاء علي صفحاتها يف صيف عام ‪1906‬م أنه من املتوقع وصول سياح‬ ‫روس إلي اإلسكندرية‪ ،‬وسيقومون بزيارة القاهرة وصعيد مصر ‪ 74.‬تعني علي القنصلية‬ ‫ً‬ ‫حتديدا ظل القنصل أ‪.‬‬ ‫الروسية يف عاصمة مصر الشمالية تولي شئون الروس مباشرة‪ ،‬وهلذا‬ ‫م‪ .‬بيرتوف حيتفظ بوسام شرف التفاني للجنة الرحالت البحرية‪ ،‬مما يدل بصورة جلية علي‬ ‫‪75‬‬ ‫خدماته اجلليلة للسياحة الروسية يف مصر ‪ ،‬اليت شهدت تطو ًرا قبل احلرب العاملية األولي ‪.‬‬ ‫لفتت وزارة التعليم الروسية اإلهتمام إلي ضرورة تنظيم سياحة عامة وإدراجها يف برامج‬ ‫املدارس ‪ ،‬وهلذا أنشأت جلنة لتنظيم الرحالت التعليمية ‪ .‬وسعت اللجنة خبطى حثيثة‬ ‫لتكوين جمموعات سياحية إلي مصر من أجل الوقوف علي مستوي العملية التعليمية يف‬ ‫املدارس الثانوية واملدارس األخري واجليمنازيا‪ .‬كما سعت اللجنة – يف املقام األول – إلي‬ ‫تلبية طلبات األساتذة واملدرسني يف املعاهد التعليمية للسفر إلي أرض الفراعنة ‪ .‬يظهر‬ ‫عنوان إحدى الوثائق األرشيفية املتعلقة بعمل اللجنة واملوجهة إلي املبعوث الروسي يف‬ ‫األرشيف التاريخي للدولة الروسية‪ .‬صندوق ‪ .107‬جمعية المالحة والتجارة الروسية‪،‬‬ ‫‪7 1‬‬ ‫فهرس ‪ ،1‬ملف ‪ ،1174‬ورقة ‪.110‬‬ ‫كانت جمعية المالحة والتجارة الروسية تقوم بتلك البعثات كل عشر سنوات‪ ،‬بداية من عام ‪1863‬م‪.‬‬ ‫‪7 2‬‬ ‫األرشيف التاريخي للدولة الروسية‪ .‬صندوق ‪ 107‬جمعية المالحة والتجارة الروسية‪.‬‬ ‫‪7 3‬‬ ‫فهرس ‪ ،1‬ملف ‪1893 ،1174‬م‪ .‬ورقة ‪110‬مكرر‪.111-‬‬ ‫«فنار اإلسكندرية»‪.08.06.1906 ،‬‬ ‫‪7 4‬‬ ‫ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين‪ .‬اإلسكندرية الروسية‪ ،...‬الطبعة الثانية‪ ،‬ص‪.172 .‬‬ ‫‪7 5‬‬ ‫‪25‬‬


‫مصر أ‪ .‬أ‪ .‬مسرينوف طبيعة عملها وعن اهتمام األوساط الثقافية والتعليمية املتزايد ببالد‬ ‫األهرامات ‪« :‬عالقة جلنة تنظيم البعثات التعليمية بتقديم املساعدة إلي أ‪ .‬أ‪ .‬مسرينوف يف‬ ‫احلصول علي تسهيالت عرب طريق السكك احلديدية أثناء سفر جمموعة من املدرسني‬ ‫الروس املقرر قيامهم برحلة إلي مصر يف السادس عشر من مارس عام ‪1910‬م‪ .‬كانت رئيسة‬ ‫‪76‬‬ ‫اللجنة الكونتيسة ف‪ .‬ن‪ .‬بابرينسكايا‪ ،‬والسكرتري أو‪ .‬فينتريفيلد ‪.‬‬ ‫أوردت الوثيقة بعد ذلك قيام اللجنة – علي غرار العام املاضي – بتنظيم رحالت إلي‬ ‫ً‬ ‫شخصا‬ ‫مصر‪ ،‬اليت سيشارك فيها أربعة جمموعات من املدرسني واملدرسات الروس بواقع ‪50‬‬ ‫‪77‬‬ ‫يف كل جمموعة »‪.‬‬ ‫و كان تعاون السلطات املصرية مع الروس طيبا عندما كان األمر يتعلق بوصول‬ ‫أعضاء الرحالت الروسية إلي شواطئ نهر النيل يف منتصف عام ‪ .1910‬ولقد توصلنا‬ ‫إلي خطاب موجه من وزير اخلارجية رشدي‪-‬بك إلي أ‪ .‬أ‪ .‬مسرينوف يعرب فيه عن استعداده‬ ‫لتقديم املساعدة إلي الوفد الروسي‪ ،‬الذي يتكون من أساتذة وطالب املدارس العسكرية‬ ‫‪78‬‬ ‫اإلبتدائية يف كييف ومدارس سانت بطرسبورج ‪.‬‬ ‫ولكن مل ترد الطلبات من دارسي وطالب مدارس عسكرية يف روسيا فقط ولكن‬ ‫من ممثلي املعاهد التعليمية العليا ً‬ ‫أيضا‪ .‬ويف نفس العام تقدم املدرس املساعد جبامعة‬ ‫بطرسبورج أ‪ .‬تيموفييف بطلب إلي أ‪ .‬أ‪ .‬مسرينوف لتقديم املساعدة يف حصول طالب‬ ‫‪79‬‬ ‫ً‬ ‫شخصا علي التسهيالت الالزمة ‪.‬‬ ‫جامعة العاصمة وعددهم مخسة وعشرين‬ ‫استحوذت الرغبة يف التعرف علي مصر والعيش يف عامل املاضي علي فكر أساتذة‬ ‫اجلامعات‪ .‬وهلذا تبدو قصة إجنذاب الروس إلي مصر وسعيهم للتواجد يف وادي النيل ورؤية‬ ‫آثار مصر القدمية ناقصة دون ذكر رحلة أستاذي جامعة موسكة أ‪ .‬ن‪ .‬بابرينسكي و ن‪.‬‬ ‫ف‪ .‬باجايافلينسكي‪ ،‬اللذان قررا قضاء عطلة أعياد امليالد يف مصر ‪ .‬بعد زيارتهم إلي مصر‬ ‫خرجت إلي النور مذكرات سفر ن‪ .‬ف‪ .‬باجايافلينسكي («عرب نهر النيل‪ .‬مقالة رحلة شتاء‬ ‫عام ‪1907‬م »)‪ ،‬اليت صدرت يف سبعة أعداد من جملة «العلوم الطبيعية واجلغرافيا» عام‬ ‫‪1908‬م ‪ 80.‬تتكون جمموعة املذكرات من تسعة أبواب و حتتوي علي معلومات تارخيية‬ ‫وجغرافية وإنسانية منتقاة بعناية ‪ ،‬باإلضافة إلي الصور الطبيعية أثناء الرحلة النيلية‬ ‫من القاهرة وحتى شواطئ النوبة ‪ .‬ميكن للسائح املعاصر أن يستفيد من وصفه لآلثار‬ ‫املصرية القدمية‪ .‬يف تلك األثناء يصف أستاذ علم احليوان يف جامعة موسكو اجلوانب‬ ‫اإلجتماعية والنفسية لطبقات اجملتمع املصري املختلفة اليت رآها أثناء تواجده يف مصر‪،‬‬ ‫مصر بأعين روسية‪.284-285 ،...‬‬ ‫‪7 6‬‬ ‫نفس المرجع‪.‬‬ ‫‪7 7‬‬ ‫نفس المرجع‪ ،‬ص‪.284-287 .‬‬ ‫‪7 8‬‬ ‫نفس المرجع‪.‬‬ ‫‪7 9‬‬ ‫أنظر بالتفصيل عن الكاتب‪ :‬ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين‪ ،‬م‪ .‬أ‪ .‬كيسلوف‪ .‬رحلة باجايافلينسكي إلي‬ ‫‪ 80‬‬ ‫الممالك العربية في الخليج الفارسي عام ‪1902‬م‪ .‬موسكو‪ ،‬دار نشر مركز معهد دول آسيا وإفريقيا‬ ‫التابع لجامعة موسكو الحكومية‪1999 ،‬؛ ج‪ .‬ف‪ .‬جارياتشكين‪ ،‬م‪ .‬أ‪ .‬كيسلوف‪ .‬الخليج الفارسي‪:‬‬ ‫مغامرات عجيبة للعالم الروسي‪« //‬آسيا وإفريقيا اليوم»‪ ،1999 ،‬رقم ‪.6‬‬ ‫‪26‬‬


‫باإلضافة إلي اجلاليات األجنبية هناك ‪ .‬ومل يستطع أستاذ علم احليوان غض الطرف عن‬ ‫السياسة الربيطانية يف مصر املُستعمرة ‪.‬‬ ‫يف ذاك الوقت كان إهتمام الشركات السياحية يف مدن مصر الكربى يتزايد بدول‬ ‫العامل احمليط (علي سبيل املثال جزر كوك) ومن بينها اإلمرباطورية الروسية ؛ وظهر‬ ‫مرشدين ومرافقني على شاكلة البيديكري (اسم ُيطلق علي املرشد ً‬ ‫قدميا)‪ ،‬وهذا ما يفسر‬ ‫دواعي سفر الكاتب املصري الثالث رشاد بك‪ ،‬واليت دخلت مذكراته ضمن هذه اجملموعة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫كبريا مبعامل مدن روسيا الروسية ‪ ،‬وبعادات سكانها و‬ ‫وهلدف ما أبدي الكاتب إهتما ًما‬ ‫تقاليدهم والفروق بينها‪ ،‬ووسائل املواصالت اليت تربطها وأسعارها وأسعار الفنادق ‪ .‬يدل‬ ‫إصدار مذكرات سفر حممد طلعت ورشاد بك يف أحد دور النشر بالعاصمة أن اإلهتمام‬ ‫باجلوانب اإلقتصادية هو ما دفع األخري للقيام بتلك الرحلة ‪ .‬حدد الشاعر والصحفي حممد‬ ‫طلعت ً‬ ‫سلفا رحلة القاضي املصري ‪ ،‬كما ساعدنا – علي ما يبدو – عن طريق شركة‬ ‫سياحية غري مشهورة يف القاهرة يف متويل رحلته واإلعداد هلا بشكل كامل‪.‬‬ ‫و من الناحية املوضوعية حيتوي كتاب حممد طلعت – علي الرغم من حجمه الصغري‬ ‫–علي العديد من املعلومات عن روسيا‪ .‬فوجوده يف مدينة بطرسبورج ألكثر من نصف عام‬ ‫أتاح له فرصة التعرف ً‬ ‫جيدا علي حياة العاصمة وتاريخ إنشاءها علي يد اإلمرباطور بطرس‬ ‫األول ‪ ،‬باإلضافة إلي معاملها ومشاكلها التجارية والثقافية وشكل احلياة وعادات عشرات‬ ‫اآلالف من اجملتمع املسلم هناك‪.‬‬ ‫يبدو أن الدراسة املتأنية للواقع الروسي ومراقبة الظروف اإلجتماعية والسياسية خالل مدة‬ ‫طويلة يف العاصمة واإلمرباطورية ساعدت الصحفي املوهوب علي جتنب الوقوع يف أخطاء‬ ‫بشأن حتديد األماكن والتوثيق واجلغرافيا ‪ ،‬كما أعطته الفرصة للتأمل يف القضايا‬ ‫السياسية املعقدة لإلمرباطورية الروسية‪ ،‬وحضور جلسات الدوما‪ .‬ظل حمرر جريدة‬ ‫ً‬ ‫قياسا علي‬ ‫«التلميذ» يقارن بني سياسات اإلمرباطورية الروسية ودول أوروبا‪ ،‬وجيري‬ ‫ً‬ ‫خياليا بالنسبة للمواطن املصري‪ ،‬كما هو‬ ‫الواقع املصري ‪ .‬فالكثري مما رآه ومسعه كان‬ ‫ً‬ ‫احلال بالنسبة للمواطن الروسي ‪ .‬من املدهش أن روسيا خلفت انطباعا طيبًا يف نفس طلعت‬ ‫بشكل عام ‪ ،‬وهلذا نشعر بتعاطف يف كتاباته عن الروس‪ .‬فعلي األرجح أسهم كتاب‬ ‫«رحالت وتأمالت» يف تكوين صورة إجيابية عن روسيا والروس يف مصر‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حتفظا باملقارنة بالكاتبني‬ ‫وعلي الرغم من ذلك يعترب أسلوب سرد حممد طلعت أكثر‬

‫اآلخرين‪ .‬فقد كان ملتز ًما بتقاليد فن (وصف الرحالت) فقط مع تغري يف طريقة الوصف‬ ‫التقليدي وخروج علي قوالب األدب العربي الرفيع‪ .‬ونالحظ اخلروج علي القوالب التقليدية‬ ‫ألدب «الرحالت» حتت تأثري أشكال األدب القصصي اجلديدة من خالل تعدد املعلومات‬ ‫االسرتشادية‪ ،‬مما يعترب أسلوب مميز يف ذلك الوقت‪ .‬وهلذا ميكننا اعتبار مقاالت حممد‬ ‫علي دليل للمستقبل يسرتشد به املسافرون املصريون إلي روسيا‪.‬‬ ‫وبعد عام من ذلك صدرت يف دار نشر «األمريية» القاهرية مذكرات األمري حممد علي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتعليما يف مصر‪ ،‬والذي قام برحلة إلي اليابان‬ ‫ثقافة‬ ‫(‪1875-1955‬م) – أحد أفضل املواطنني‬ ‫عام ‪1909‬م عرب روسيا‪ ،‬كانت املذكرات عبارة عن مخس وثالثني صفحة بتنسيقات قليلة ‪.‬‬ ‫‪27‬‬


‫ال تتطرق مذكرات شقيق عباس الثاني إلي النظام السياسي يف اإلمرباطورية‬ ‫الروسية بنفس الدرجة يف مذكرات م‪ .‬طلعت والقاضي رشاد بك‪ .‬فقد أولي حممد علي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خاصا يف مذكراته لوصف أصول الروس وأسلوب حياتهم اليومية وسالالت‬ ‫إهتماما‬ ‫سكان روسيا ومنغوليا والصني‪ ،‬ووصف املناطق اجلغرافية املختلفة علي مدار رحلته‪.‬‬ ‫كتب ولي العهد الفضولي – الذي حكم بالد األهرامات – قصة مؤثرة عن رحلته‪.‬‬ ‫بدت العديد من األشياء اليت رآها أمري مصر يف ربوع روسيا غريبة ‪ ،‬ومل يستوضح بعض‬ ‫احلقائق اجلغرافية والتارخيية علي الرغم من حماولته إظهار سعة إطالعه ومقارنة النظم‬ ‫احلاكمة يف اإلمرباطورية الروسية مبثيالتها يف املؤسسات األوروبية اليت زارها أكثر من‬ ‫ً‬ ‫كثريا يف القراء ‪،‬‬ ‫مرة‪ .‬وعلي أية حال كان من املؤكد أن مذكرات حممد علي قد أثرت‬ ‫فهي تستمد أهميتها حتى اآلن من خالل نقلها صو ًرا حية للضيف األجنيب وتشهد علي رغبة‬ ‫الدوائر احلاكمة يف تطوير العالقات بني البلدين‪ .‬باإلضافة إلي ذلك تعترب رحلة حممد‬ ‫ً‬ ‫شاهدا آخر علي أن عالقات الصداقة بني األسرتني احلاكمتني يف روسيا ومصر بلغت‬ ‫علي‬ ‫ذروتها يف فرتة حكم أخيه اخلديوى عباس حلمي الثاني (‪1914 - 1892‬م) ‪.‬‬ ‫تعترب رحلة القاضي املصري رشاد بك‪ ،‬اليت أنهاها – ً‬ ‫وفقا لتأكيداته – عام ‪1913‬م‪ ،‬هي‬ ‫‪81‬‬

‫األكرب واألهم من بني رحالت املصريني الثالث ‪.‬‬

‫جيدر اإلشارة إلي أن موقف رشاد بك أكثر ً‬ ‫حرجا من حممد طلعت واألمري حممد علي‪ .‬إذا‬ ‫ً‬ ‫كان الصحفي املصري وشقيق اخلديوي قد تعامال بصورة أكثر هدوءا مع وضع املسلمني‬ ‫الروس واستحسنا سياسة حكومة القيصر ‪ ،‬فلطاملا انتقد القاضي السابق هذا املوقف‪.‬‬ ‫كما أن السلطات الروسية مل تسلم من نقدة لعدة أسباب ‪ .‬وعلي جانب آخر‪ ،‬أبدى رشاد بك‬ ‫ً‬ ‫كبريا بالشعراء والكتاب الروس أمثال بوشكني ولريمانتوف ودوستويفسكي‬ ‫إهتما ًما‬ ‫وجوجل وليف تولستوي‪ .‬وفقا ً ملا قاله رشاد بك فقد التقي بتولوستوي وأعجب بتواضعه‪،‬‬ ‫واألكثر من ذلك‪ ،‬دعاه الكاتب الروسي لزيارة ضيعة ياسنايا بوليانا يف أول زيارة له إلي‬ ‫روسيا يف بدايات القرن العشرين‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فعليا جبميع مشاكل السياسات‬ ‫مهتما‬ ‫كان مؤلف كتاب « رحلة عرب روسيا »‬ ‫الداخلية واخلارجية للحكومة القيصرية ‪ .‬فقد أولي إهتما ًما ً‬ ‫خاصا لسانت بطـرسبورج‪،‬‬ ‫وحكي عن قصورها وكنائسها ومعاملها وجسورها وشوارعها ومتاحفها وأشهر آثارها‬ ‫وفنادقها ومطاعمها وأسعارها‪ .‬بتعبري آخر‪ ،‬حقق املؤلف األهداف اليت وضعها قبل سفره‬ ‫إلي روسيا‪.‬وعلي الرغم من ذلك فإن املقارنة بينه وبني حممد طلعت يف وصف مدينة‬ ‫بطرسبورج‪ ،‬ستجعل النتائج تصب يف صاحل األخري ‪.‬‬ ‫ولكن يعود الفضل حملمد رشاد يف أن املوضوع الرئيس لتأمالته وحبثه أثناء رحلته يف روسيا‬ ‫يعترب وصف القرم والقوقاز والفوجلا؛ أي مناطق متركز املسلمني يف اإلمرباطورية الروسية ‪.‬‬ ‫ألول مرة تم نشر «رحلة» رشاد بك في جريدة «المؤيد» القاهرية في بداية عام ‪1914‬م‪.‬‬ ‫‪ 81‬‬ ‫في الواقع أن إصدار هذا العمل لم يتأخر عن ذلك‪ .‬لألسف‪ ،‬بغض النظر عن البحث المضنى‪ ،‬حتى‬ ‫بمساعدة المؤرخين المصريين‪ ،‬لم نتمكن من إكتشاف سيرة الكاتب الذاتية‪ .‬فقد قمنا بترجمة مذكرات‬ ‫سفر القاضي المصري بأنفسنا بعدة نسخ وخاصة ما يخص هذا الجزء‪ ،‬الذي يدور الحديث فيه عن‬ ‫بطرسبورج‪ ،‬الذي استفاض في وصفه محمد طلعت‪.‬‬ ‫‪28‬‬


‫وبعد تطرقه بشكل خمتصر إلي أوديسا وتارخيها وإلي حرب القرم ً‬ ‫أيضا أقدم الرحالة‬ ‫املصري علي وصف القرم ‪ ،‬حيث جذبته عاصمة تتار القرم باختشرياي ‪ .‬اكتسبت قصة‬ ‫آثار باخشيساراي اإلسالمية والكتابات فوقها والرتكيب العرقي لسكانها واملهن اليت‬ ‫ً‬ ‫(وخصوصا نصوص املخطوطات القدمية)‬ ‫يشتغلونها قيمة خاصة بسبب أن املعلومات‬ ‫ضاعت بال رجعة ‪ ،‬وهلذا يكتسب وصفها قيمة تارخيية ‪.‬‬ ‫تكتسب املعلومات اخلاصة بزيارة حممود رشيد‪ ،‬ورمبا املواطن املصري والشاهد الوحيد‬ ‫يف ذلك الوقت‪ ،‬إلي زاكافقازيا ومشال القوقاز أهمية كبرية بالنسبة للمواطنني‪ .‬كان‬ ‫القاضي يعلم ويدرك ذلك ً‬ ‫جيدا وهلذا كانت معلوماته مفصلة ودقيقة سواء ما خيص‬ ‫البناء العرقي للسكان وختصصاتهم‪ ،‬أو ما خيص عاداتهم وطباعهم وتقاليدهم ‪ ،‬كما‬ ‫كتب بالتفصيل عن املدن واملتاحف والفنادق وأسعار الغرف فيها وأسعار تذاكر األتوبيس‬ ‫وأكثر األماكن املرحية فيها الستعراض الطريق أمام املسافرين ‪ .‬يف خضم ذلك مل ينس‬ ‫الكاتب إطالع القراء علي املسافات بني املدن وأفضل طريقة للقيام برحلة وعن الوقت‬ ‫املُستغرق للتنقل بني املدن ‪ .‬نعتقد أن مالحظات املسافر املُدقق ميكن أن تكون نافعة‬ ‫للسائح املعاصر‪.‬‬ ‫سوف تثري إهتمام القارئ املعلومات اخلاصة بباكو وأذربيجان وسكانها‪ ،‬باإلضافة إلي‬ ‫املعلومات اخلاصة مبجال إستخراج النفط وأوضاع أصحاب املاليني هناك ‪.‬‬ ‫تعترب املعلومات عن أسرتاخان والتطور اإلقتصادي فيها حمورية يف وقتنا احلالي ‪ ،‬بل‬ ‫مفيدة للباحثني احلاليني‪.‬‬ ‫فقد أثار اإلهتمام الوصف احلي لنهر الفوجلا واملدن الواقعة علي ضفافه وتطور الثقافة‬ ‫اإلسالمية فيها‪ ،‬اليت أثارت إعجاب املؤلف ‪ .‬يكتب الرحالة يف وصفه كازان أن «التطور‬ ‫‪82‬‬ ‫الثقايف لدي املسلمني هناك شهد طفرة كبرية منذ عشر سنوات»‪.‬‬ ‫أضاف رشاد بك بعض الوثائق التارخيية إلي قصته‪ .‬يف اجلزء الذي يتحدث فيه الكاتب‬ ‫عن شامل (قائد سياسي وديين يف مشال القوقاز وأحد أشهر املقاومني للوجود الروسي هناك‪،‬‬ ‫ولد عام ‪1797‬م‪ .‬تعليق املرتجم) ‪ ،‬غري الكاتب من األسلوب املوضوعي يف احلكي‪ً ،‬‬ ‫مثنيا‬ ‫على قائد ثورة مشال القوقاز بأوصاف حقيقية وخيالية‪ ،‬بعد ذلك اعترب مسلمو القوزاق‬ ‫ً‬ ‫تأكيدا علي «حصول املسلمني الروس علي مجيع‬ ‫الروس أكثر الفرسان شجاعة ومهارة‪.‬‬ ‫حقوقهم السياسية واملدنية» يضيف الكاتب ‪ ،‬قائأل‪ « :‬روسيا بشكل عام بلد مجيل ‪،‬‬ ‫إال أن القرم والقوقاز أكثر مجالاً ‪ .‬وليس غريبًا أن يستحوذ املسلمون علي أكثر األراضي‬ ‫ً‬ ‫مؤكدا أنه لو أحسن املسلمني إستغالل أرضهم كما‬ ‫خصوبة» ‪ .‬وأنهي الكاتب فكرته‪،‬‬ ‫‪83‬‬ ‫فعل صالح الدين «ملا غابت مشس دولتهم » ‪.‬‬ ‫اكتشف الكاتب بعض املعلومات اخلاصة حبقائق تارخيية‪ ،‬ولكنه طوعها لوجهة‬ ‫ً‬ ‫فانطالقا من مشاعر احلنني إلي الوطن يذكر‬ ‫النظر‪ ،‬اليت ميكن وصفها بأنها أسالمية ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الكاتب أن اإلمرباطورية الروسية وقعت حتت سلطة التتار املسلمني علي مدار ‪ 250‬عاما‪،‬‬ ‫‪8 2‬‬ ‫‪8 3‬‬

‫رشاد بك‪ .‬المرجع األسبق‪ ،‬ص‪.49 .‬‬ ‫نفس المرجع‪ ،‬ص‪.97-98 .‬‬ ‫‪29‬‬


‫وكان األمراء الروس مضطرين لتزويج بناتهم من أمراء التتار‪ ،‬ولكن بعد إخضاع كازان‬ ‫وأسرتاخان علي يد إيفان الرهيب وحتى وقتنا احلالي يقع التتار حتت سلطة روسيا‪ ،‬مع أنهم‬ ‫كانوا حيكمون الروس من قبل ‪.‬‬ ‫دفع هذا املوقف رشاد بك للجوء إلي اإلرشاد والوعظ ‪ « :‬إذا غريت روسيا موقفها السابق‬ ‫وانتهجت سياسة حكيمة بالغاء الباسبور‪ ،...‬وأبدت مشاعر الود للعثمانيني‪ ،‬فسيبزغ‬ ‫‪84‬‬ ‫جنمها وسينتشر عبريها وجمدها يف كل مكان »‪.‬‬ ‫وأنتقد الكاتب رجال الدين األرثوذكس الذين يعيشون «يف رغد وهناء يف قصور‬ ‫رائعة» ً‬ ‫‪85‬‬ ‫خالفا «للفقر املدقع وبؤس الرعية » («أمتين لو هبط املسيح إلي األرض»!)‪.‬‬ ‫ولألسف تعترب املعلومات اليت أوردها م‪ .‬رشاد يف نهاية كتابه غري منظمة‪ .‬فالتسرع‬ ‫يف جتميع املعلومات عن روسيا والسعى «إلدراك كل املعلومات» أدي إلي عدم التحقق‬ ‫والتشوش والتضارب يف بعض األحيان‪ .‬وجاء اختيار األماكن ً‬ ‫وفقا لألهواء‪ .‬يطلق‬ ‫الكاتب علي قرى األملان علي نهر الفوجلا «ساكسونيا السفلى والعليا‪ .‬كما بدت قرية‬ ‫ميخايلوفسكي علي بعد ‪ 35‬كم من بطرسبورج‪ .‬يف معرض حديثه عن «طريق سيبرييا‬ ‫الكبري» يكتب أن الطريق بعد فالديفاستوك ينقسم إلي فرعني – األول إلي عاصمة‬ ‫الصني بكني والثاني إلي املدينة اليابانية «يوكاخامي»‪.‬‬ ‫علي اجلانب اآلخر يتضح أن رشاد بك كان ً‬ ‫مهتما بشكل كبري بالشعراء والكتاب‬ ‫الروس بوشكني ولريمونتوف ودوستويفسكي وجوجل وليف تولوستوي‪ .‬وفقا ً ملا قاله‬ ‫رشاد بك فقد التقي بتولوستوي وأعجب بتواضعه‪ ،‬واألكثر من ذلك‪ ،‬دعاه الكاتب‬ ‫الروسي لزيارة ضيعة ياسنايا بوليانا يف أول زيارة له إلي روسيا يف بدايات القرن العشرين‪،‬‬ ‫إال أنه مل يتمكن من تلبية الدعوة‪.‬‬ ‫***‬ ‫ً‬ ‫أحيانا وعدم تكافؤها واستمرارها‬ ‫علي الرغم من كثافة وتوسع العالقات بني البلدين‬ ‫ً‬ ‫أحيانا أخري‪ ،‬إال أن مساحة التعاون علي املستوي احلضاري الثقايف ال ترضي‬ ‫من جانب واحد‬ ‫طموحات – بال أدني شك – أي من الشعبني املختلفني متا ًما ‪ .‬من الواضح أن املصريني‬ ‫يف احلوار املشرتك كانوا متأخرين عن الروس‪ ،‬الذين كانوا يتوافدون علي مصر بصورة‬ ‫أكرب من توافد املصريني علي روسيا ‪ .‬ومما ال شك فيه كان هناك مطلبًا ً‬ ‫ملحا لتعرف كل‬ ‫جانب علي اآلخر ‪ ،‬وهلذا جاءت هذه الرحالت إلي روسيا البعيدة واجملهولة بهدف التعرف علي‬ ‫أرض الواقع علي ثقافتها وعاداتها وتقاليدها‪ ،‬ومعرفة كيف يعيش املسلمون‪ ،‬وخاصة‬ ‫بعد انتشار اإلشاعات والقصص املتضاربة حول مصريهم‪...‬‬

‫‪8 4‬‬ ‫‪8 5‬‬ ‫‪30‬‬

‫نفس المرجع‪ ،‬ص‪.103-104 .‬‬ ‫نفس المرجع‪ ،‬ص‪.73 .‬‬




‫خطبة الكتاب‬ ‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬ ‫احلمد هلل الواحد احلق ‪ .‬الذى باين بني اخللق ‪ .‬فجعلهم متخالفني غري متحالفني‪.‬‬ ‫ومتنائني غري متدانني ‪ .‬فهم وإن اجتمعوا باالشباح ‪ .‬فقد افرتقواا مبقاصد األرواح ‪.‬‬ ‫وكما حتالفوا فى األلوان واألشكال ‪ .‬قد تباينوا فى الطباع واألخالق واألميال ‪.‬‬ ‫فقال وهو خري القائلني ‪ ( .‬ولو شاء ربك جلعل الناس أمة واحدة وال يزالون خمتلفني)‪.‬‬ ‫والصالة والسالم على سيدنا حممد اآلمر بالسفر ‪ .‬واملنزل عليه فى الكتاب‬ ‫الكريم أوامر السري والنظر ‪ .‬وعلى آله وصحبه الذيـن افتـتحوا البالد وعمـروها ‪.‬‬ ‫وشيدوا املدن ومصروها ‪( .‬وبعد) فهذه صحائف خطها البنان ‪ .‬مملوءة بالبيان ‪ .‬مما‬ ‫أماله اجلنان ‪ .‬قصد االعتبار مبا رأت البيان ‪ .‬من بدائع األكوان ‪.‬‬ ‫أقدمها بني يدى جنواى ألبناء وطنى األعزاء ‪ .‬ليعلموا أين هم من األمم فى تلك‬ ‫االحناء ‪ .‬فيتسابقوا مع السابقني ‪ .‬واهلل تعاىل مع العاملني احملسنني ‪.‬‬



‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫مقدمه‬ ‫أخط كلماتى هذه ‪ ،‬وأنا متحقق أنه من أصعب األمور تصوير احلقائق لتتجلى لدى‬ ‫القارئ كما هى ال صاعدة إىل درجات املبالغة والغلو وال نازلة إىل حالة العى والقصور ‪ .‬ألن‬ ‫القارئ غري الكاتب فهذا امنا يكتب عن مشاهدة وحتقق وذاك يقرأ عن تصور وتصديق‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ووجدانا ّ‬ ‫قد يتحدان مع شعور الكاتب ووجدانه أو خيتلفان ‪.‬‬ ‫شعورا‬ ‫ال سيما وأن للقارئ‬ ‫ً‬ ‫وعليه مهما لبست العبارات ً‬ ‫ضافيا من حسن التعبري ‪ ،‬ومجال األسلوب ‪ ،‬فإنها ال‬ ‫ثوبا‬ ‫ً‬ ‫تكسب القارئ نفس وجدان الكاتب وشعوره ‪ ،‬خصوصا وأن االنسان مطبوع على أن‬ ‫يقيس ما مل يشاهده من األمور على ما يقع منها حتت أنظاره فهو حيكم بطبعه فرتاه‬ ‫واحلال هكذا يعجب من كلما خيالف مشاهداته وفوق ذلك ‪ .‬فإنه ليس كل قارئ ُم ً‬ ‫لما‬ ‫ً‬ ‫عارفا جبيوغرافيتها مما جيعل احلقائق قريبة من تصوره‪.‬‬ ‫بتاريخ البالد التى يقرأ عنها ‪ ،‬وال‬ ‫وهلذا كله أظن أنى لو استعنت بقلم كل بليغ ‪ ،‬وفكر كل فيلسوف ألصور ما وصلت‬ ‫ً‬ ‫مشاركا ىل فيها مشاركة العيان واملشاهدة ملا أكون‬ ‫إليه مشاهداتى حبيث جتعل القارئ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وبعيدا عن احلال التى جتعل احلقائق جملوة كما تبينتها ‪ ،‬ولكنى مع ذلك‬ ‫مقصرا‬ ‫إال‬ ‫سأبذل اجلهد فى تصويرها خدمة ألبناء وطنى األعزاء ليقفوا على أحوال األمم ‪ ،‬ويستفيدوا‬ ‫ً‬ ‫عمال بقول اهلل تعاىل فى كتابه الكريم ( قل‬ ‫منها استفادة من أدى فريضة السري والنظر‬ ‫سريوا فى األرض فانظروا كيف كان عاقبة املكذبني ) ‪.‬‬ ‫وجيمل بنا قبل أن خنوض فى موضوع رحلتنا هذه أن ننوه بذكر بعض ما جيب على‬ ‫من يريد القيام بفريضة السري والنظر التى تعد من فروض الكفاية بالنسبة جملموع األمة‬ ‫‪ ،‬ولكنها من الفروض العينية على القادرين عليها بالعلم واملال ‪.‬‬ ‫فأما السري فيقتضى له معرفة اجليوغرافيا التخطيطية ليتسنى للسائر أن يقصد فى‬ ‫ً‬ ‫جزافا ‪ .‬وأما‬ ‫مشيه ‪ ،‬ويقتصد من ماله حتى ال يضيع الوقت الثمني هبا ًء ‪ ،‬وال املال العزيز‬ ‫النظر فتجب له معرفة أمور كثرية أهمها اجليوغرفيا السياسية ليكون على بينة من أمر‬ ‫البالد التى يصل إليها وعالقتها مع غريها وعلى علم بأحكامها وسائر شئونها السياسية‬ ‫ً‬ ‫‪ ،‬ومعرفة اجليوغرفيا التجارية ليكون ً‬ ‫وعارفا مبا يزيد عن‬ ‫ملما حباصالتها وصناعاتها ‪،‬‬ ‫حاجاتها منها وما حتتاجه هى من حاصالت غريها ‪ .‬ويدخل فى مجلة ذلك ما تستخرجه‬ ‫أرضها من املعادن واخلريات لعله جيد من ذلك ما يفيد به بالده ‪ ،‬ومعرفة التاريخ ‪ -‬قدميه‬ ‫وحديثه ‪ -‬ليتمكن بذلك من املقارنة بني ماضى تلك البالد وحاضرها ليقف على األسباب‬ ‫التى انتشلتها من وهدة االحنطاط إىل ذروة التقدم والرقى ‪ ،‬أو العكس ليمكنه بعد هذا‬ ‫‪35‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫أن حيث قومه على األخذ بتلك األسباب التى قدمت املتقدمة ‪ ،‬وترك األسباب التى أخرت‬ ‫ً‬ ‫حميطا بكل شئ مما يهم الوقوف عليه كالنظر فى أديان‬ ‫املتأخرة ‪ .‬حبيث أن يكون‬ ‫القوم ‪ ،‬وعوائدهم وأخالقهم وصنائعهم وعلومهم إىل غري ذلك وبشرط أن يتجرد من عوامل‬ ‫العصبية للدين أو اجلنس أو الوطن إذ لو كان إلحدى هذه العصبيات سلطان عليه ألبعده‬ ‫عن الصواب ‪ ،‬وأوكله إىل اخلطأ فى النظر والقياس ‪ .‬وعليه فإذا مل يكن مريد السري‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خالفا ملا‬ ‫صاوفا فكرة إىل ما هو من قبيل التسلية واملفاكهة‬ ‫والنظر كذلك فرمبا يكون‬ ‫يقصده السائرون الناظرون من ضروب العظة ‪ ،‬والعربة ألنفسهم ‪ ،‬ولغريهم من بنى وطنهم ‪.‬‬ ‫ومن األسف أن الكثريين ممن يسريون ‪ ،‬وينظرون قد ميألون رحالتهم التى يكتبونها‬ ‫بعد عودتهم إىل أوطانهم مبشاهداتهم جمردة ‪ .‬إال من وصف الرياض والفياض واملبانى ‪،‬‬ ‫وغري ذلك مما يقصدون به حكاية احلال فقط ‪ .‬فيبتعدون بذلك عن احلكمة اجلليلة‬ ‫التى تكون من وراء السري والنظر اللهم إال النفر القليل ممن رحلوا كاملرحومني اجلليلني‬ ‫(عبد اهلل باشا فكرى) وولده (أمني باشا فكرى) وكحضرة الكاتب اجمليد (أمحد‬ ‫زكى بك) ‪ ،‬وآخرين من أمثاهلم ‪ .‬ولنا حنن معاشر املسلمني من فريضة احلج عامل قوى‬ ‫يلجئنا إىل السري والنظر فمنا األلوف املؤلفة فى كل عام تسري من كل صوب وحدب ‪،‬‬ ‫ولكنهم مع األسف ال ينظرون ‪.‬‬ ‫وقد أضاعوا احلكمة املقصودة من احلج الشريف ‪ .‬وكل امرئ عرف الدين االسالمى‬ ‫‪ ،‬وأحاط بتعليمه إحاطة التعقل عرف أنه مع ورود اآليات الكثرية بأوامر السري والنظر‬ ‫قد تضمنت جزيئات تعاليمه الشريفة ‪ ،‬وكلياتها الكثري من األغراض التى ترمى إليها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تصرحيا ‪ ،‬وفريضة احلج داعية إىل التعارف بني‬ ‫تلميحا أو إما‬ ‫تلك األوامر الكرمية إما‬ ‫أجزاء األمم اإلسالمية دانيها ونائيها مهما أختلفت األلسن ‪ ،‬وتباينت األوطان ‪ .‬واملسلم ال‬ ‫وطن له لقوله عليه الصالة والسالم ( ليس منا من يدعو إىل عصبية ) فكل بالد إسالمية‬ ‫هى للمسلم وطن له بني أهلها سكن وإن كان ال خيلو من تفضيل بالده على سواها‬ ‫ً‬ ‫طبعا‪ ،‬ولقول سيدنا على عليه السالم ‪ ( :‬ليس بينك وبني بلد نسب وخري البالد ما محلك) ‪.‬‬ ‫والصلوات اخلمس ليس الغرض منها إال أن حتيط دائرة االحتاد بأهاىل البلد الواحد اذ بتواىل‬ ‫ً‬ ‫جمهوال من أخواته أو أن ال تتوطد‬ ‫االجتماع للصالة اليومية ال يتأتى معه أن يظل أحد املصلني‬ ‫بسببه دعائم األخاء واالحتاد بينه وبينهم ‪ .‬وكما كانت هذه الصالة اليومية داعية‬ ‫االحتاد بني أهاىل البلد الواحد فصالة اجلمعة باعثة عليه بني أهاىل مجلة بالد متجاورة‬ ‫كصالة العيدين اخل ‪ ،‬ولكننا مع األسف الشديد قد أغفلنا أمر التفكر والعمل ملا يراد‬ ‫ً‬ ‫وخصوصا فريضة احلج حتى أن الكثريين منا مل يعرفوا القصد من‬ ‫من حكمة العبادات ‪،‬‬ ‫الطواف واهلرولة عند تأدية هذه الفريضة املباركة ‪ ،‬فصرنا واحلال هكذا أحوج األمم إىل‬ ‫من يسري وينظر ‪ ،‬ويكون واسطة تعارف بني األمم اإلسالمية ألننا اقتصرنا على ما يراد‬ ‫بتلك العبادات من املثوبة األخروية كأننا جهلنا أن الدنيا مزرعة اآلخرة ‪ ،‬وأن التالزم الزم‬ ‫بني مصاحل الدارين كما تقتصيه السعادة احلقيقية ‪ .‬وحنن لو فرضنا أننا قائمون بتأدية‬ ‫فريضة احلج كما أراد الشارع دنيا و أخرى ‪ ،‬وأننا هناك نتساءل ونبحث عن أحوالنا ليعلم‬ ‫البعض حال البعض اآلخر ملا نكون فى غنى عن قيام بعض األفراد بفريضة السري والنظر‬ ‫ليسري وينظر ويكتب ‪ .‬فما بالناوقد أهملنا تلك احلكمة اجلليلة ال نكون أسرع األمم‬ ‫‪36‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫إىل تأدية هذه الفريضة حتى إذا عرفنا من أحوال أخواتنا ما نطمئن له من التقدم فى ميادين‬ ‫احلياة ‪ ،‬والفوز فى معرتك تنازع البقاء فرحنا وسعينا ألن نكون مثلهم ‪ ،‬أو كان األمر‬ ‫بالعكس فإننا حنذر من أن نصري إىل ما صاروا إليه ‪ ،‬ونفكر فى وجه احليلة للحيطة منه‬ ‫‪ .‬ومند بعد ذلك إىل من عرفنا سوء أحواهلم يد املعونة إذا كنا قادرين عليها إذ « ال يكلف‬ ‫ً‬ ‫نفسا إال وسعها « كما تقتضيه األخوة الدينية احلقيقية ‪ .‬وسيعلم بعد حني كل‬ ‫اهلل‬ ‫قارئ من إخوانى املصريني الفروق اهلائلة بيننا وبني األمم الراقية واملنحطة ‪.‬‬

‫( ملحوظة البد منها )‬ ‫أنا ال أزكى نفسى وال أضعها فوق منزلتها بإمتداح قلمـى أو الثنـاء على فكرى معـاذ‬ ‫اهلل تعاىل ‪ ،‬ولكنى أقول بأن رحلتى هلا ميزة خاصة على الرحالت التى كتبها غريى من‬ ‫فضـالء القـوم ‪ ،‬وذلك أنهم من أصحاب الثراء والوجاهة فيباعد بينى وبينهم كونهم أغنياء‬ ‫دونى ‪ ،‬وإن مجعتنى بهم دائرة العلم ‪ .‬فهم لوجاهتهم ومسو منزلتهم وثرائهم ال خيالطون‬ ‫إال الطبقة السامية من األمة التى حلوا بينها ‪ ،‬وال ينزلون إال فى األمكنة املناسبة حلاهلم‬ ‫هذه ‪ .‬وبنا ًء عليه فمتى كتبوا عن أحوال األمة وأخالقها فال يتمكنون من أن حييطوا‬ ‫بأخالق القوم الذين ال خيالطونهم من الطبقة الوسطى والسفلى ‪ .‬وأما أنا وهلل احلمد حالتى‬ ‫املدنية التى باعدت بينى وبني املال متكنت بها من خمالطة أهل هاتني الطبقتني ‪ ،‬وحالتى‬ ‫العملية مجعتنى بذوى العلم ‪ ،‬والثراء ‪ ،‬والوجاهة من أهل تلك الطبقة العالية ‪ .‬فأنا واحلالة‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫أقمت فى البالد التى اكتب‬ ‫خصوصا ‪ ،‬وأننى‬ ‫هذه أكتب عن خربة عامة بكل الطبقات‬ ‫عنها الشهور العديدة إقامة سعى وراء املعيشة جتعلنى أكتب عن حتقق واختبار ‪ ،‬وتوضح‬ ‫للسائحني من األغنياء ما يتكبده أخوانهم الفقراء من العناء ‪ ،‬وما تفعله معهم الشركات‬ ‫واحلكومات ‪ .‬وهم إمنا مروا بالبالد التى كتبوا عنها كسحابة صيف ورمبا تلقفوا‬ ‫بعض ما كتبوه عن مرشديهم ممن استعدوا إلرشاد السائحني ‪ .‬وقد نبهت فى معظم النقط‬ ‫فى رحلتى هذه على أهم أحوالنا احلاضرة من مسائلنا السياسية والعمرانية ‪ .‬وىل أمل أن‬ ‫ً‬ ‫وخصوصا أصحاب‬ ‫تلفت رحلتى أنظار سراتنا وساستنا ‪ ،‬وأرباب احلركة الفكرية بيننا ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الئقا حبالة األمة العزيزة ‪،‬‬ ‫اجلرائد اليومية إىل ما أكتبه والتفضل ببسط ما جيدونه‬ ‫ً‬ ‫سلفا واهلل ولينا وهادينا إىل الرشاد‬ ‫ووضعه حتت بساط اجلدل واملناقشة ‪ .‬وأنى الشكرهم‬ ‫والفالح ‪.‬‬

‫‪37‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫أسباب الرحلة ‪:‬‬ ‫ال يعرف الناس من ال يرتضى سفرا‬

‫وبالتغرب كم وجه املال سفرا‬

‫قد اغرتبت فأمحدت التغرب إذ‬ ‫فكل درس غريب الدار يقرأه‬ ‫وما اإلقامة فى األوطان مكسبة‬ ‫وتوهلم غربة االنسان كربته‬ ‫كم كنت أمسع عما ال أرى خربا‬

‫به قرأت ألخالق الورى سورا‬ ‫مل يدره قاعد مهما درى وقرأ‬ ‫علم أمرئ لذرى أوطانه هجرا‬ ‫ليست مقولة من للغربة اختربا‬ ‫فشمت باخلرب ما قد جاوز اخلربا‬

‫ً‬ ‫غرضا‬ ‫لقد يعذر الذين ال يفقهون املعنى احلقيقى للقضاء والقدر ‪ ،‬وال ينسبون ألنفسهم‬ ‫ً‬ ‫عمال فقد حيار املرء فى تقلباته ‪ ،‬وانعكاس القضايا الكونية على غري‬ ‫وال إلختيارهم‬ ‫ً‬ ‫مراده دون أن يفقه هلا سرا ‪ ،‬أو يتحقق هلا كنها ‪ .‬بينما أنا فى منزىل بالقاهرة فى أوائل‬ ‫شهر أغسطس سنة ‪ . 1906‬إذ زارنى أحد فضالء طلبة العلم الشريف باجلامع األزهر وامسه‬ ‫ً‬ ‫كتابا‬ ‫(صابر عليم أفندى) من التاتار ومعه رفيقان آخران وبعد أن تبادلنا التحية ناولنى‬ ‫هو من صديق تاتارى امسه (لطف اهلل الشكرى االسحاقى) كان هو وأخوه (أمحد أفندى‬ ‫االسحاقى) من طلبة العلم باألزهر فى سنة ‪ 1901‬وكان كالهما على جانب عظيم من‬ ‫ً‬ ‫وخصوصا‬ ‫الرتبية العالية والتهذيب السامى ‪ .‬وهما ممن أقاموا فى الشرق السنني العديدة ‪،‬‬ ‫فى مصر واحلجاز والشام ‪ .‬وللداللة على ما كان بينى وبينهما من احلب املتبادل والصداقة‬ ‫املتينة أنبت بعض أبيات من قصيدة رددت بها على خطاب وردىل منهما وأنا فى دار السعادة‬ ‫سنة ‪ . 1902‬وكنت تركتها مبصر‬

‫لقد مشت لطف اهلل فى اليوم اذحبا‬ ‫هما فى املعاىل بني أيدى العال على‬ ‫وأخوان صدق ما تذكرت شخصهم‬ ‫تناءيت عنهم مرغما وحشاشتى‬ ‫ً‬ ‫تعبريا عن احلب ان فى‬ ‫ومن قال‬ ‫وكيف حمل احلب يضرم إنه‬ ‫ومهما يطل عهد البعد فانه‬ ‫حتركه أيدى اشتياقى فينثنى‬ ‫لتقطيع آنفاسى من البعد حسرة‬ ‫ولست أرى ىل لذة غري لذتى‬ ‫وأشرف وقت فى حياتى الذى انقضى‬ ‫وقتنى على بعد الديار منيقة‬ ‫‪38‬‬

‫بعطفة لطف اهلل واخلدن أمحد‬ ‫حمامد أخالق بها الغري يقتدى‬ ‫تفيض دموعى حيث أذكر معهدى‬ ‫بها روض ود من حمتبهم تدى‬ ‫حشاشته ً‬ ‫نارا على احلب يعتدى‬ ‫ملهبط وحى احلب أكرب حمتد‬ ‫مدى الدهر خمضل بودى يشهد‬ ‫ً‬ ‫دائما بالتأود‬ ‫فيؤمل قلبى‬ ‫على القرب ال من شوقى املتأكد‬ ‫برتديد أشواقى وطول تسهدى‬ ‫وىل فيهمو فكر بغيب ومشهد‬ ‫حوت من جماىل أنسهم كل مسعد‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫حوت كل لفظ تنطوى حتت ظله‬ ‫من االخ لطف اهلل واخلدن أمحد‬ ‫أتيت إىل استانبول أحسب أننى‬ ‫فلم أر فيها ما يروق سوى مناظر‬

‫معانى الوفا من سيد وابن سيد‬ ‫و ‪ ....‬وشتى غريهم مل اعدد‬ ‫بها مستعيض عن بها مصر مقصدى‬ ‫وهبتها من مواهب موجد‬

‫منازه فيها قد تسلمت منازل‬

‫على ربوات حيث السحب باليد‬

‫وغادة حسن ليس ذو احلسن دونها‬

‫لشعب نشيط ليس يعمل للغد‬

‫وفيما عدا هذا فليست ببلدة‬

‫تفوق على مصر بأمر مسدد‬

‫تناولت الكتاب املشار إليه فإذا هو يطلب قيامى إىل سانت بطرسبورج ألحرر جريدة‬ ‫عربية امسها التلميذ مبرتب شهرى قدره مائة روبل ‪ .‬وملّا كان املتداول على السنة اجلرائد‬ ‫من أفرنكية وعربية وجود ثورة هى على أشد حاالتها فى تلك البالد رفضت ‪ ،‬واعتذرت عن‬ ‫ً‬ ‫متعلال مبا تذيفه تلك اجلرائد وظلت من أوائل شهر أغسطس إىل أوائل أكتوبر‬ ‫الرفض‬ ‫وأنا على هذا األباء ‪ ،‬وحضرة (صابر أفندى) املشار إليه على إحلاح فى الرجاء حتى استخرت‬ ‫ً‬ ‫وخصوصا حضرة‬ ‫اهلل تعاىل فى اإلجابة مذعنا إلشارة الكثريين من أخوانى وأصدقائى ‪،‬‬ ‫العامل الفاضل (حممود سامل بك) بالرغم عن التوبيخ والتأنيب اللذين كنت امسعهما من‬ ‫البعض اآلخر بني متوجس ً‬ ‫شرا من زمهرير تلك الديار على صحتى ‪ ،‬وخائف من اسنفحال أمر‬ ‫الثورة إىل احلد الذى ال تبقى فيه ‪ ،‬وال تذرفأ كون مع الذاهبني ‪ .‬فقمت إىل بوررت سعيد ثم‬ ‫إىل االسكندرية فوصلتها فى اليوم الرابع عشر من شهر أكتوبر سنة ‪ . 1906‬ومن حماسن‬ ‫الصدف أن لقيت بها حضرة العامل (حممود سامل بك) مبكتبة املؤيد عند حضرة صديقى‬ ‫الفاضل (حممود الباجورى أفندى) فزودنى ببعض أمور نافعة شكرته ‪ ،‬وال زلت أشكره‬ ‫عليها ‪ .‬وبعد أن أحضرت معدات السفر واستخرجت اجلواز بارحت ثغر االسكندرية فى اليوم‬ ‫السادس عشر من الشهر املذكور على وابور القومبانية الروسية املسمى ( تشيخاتشوف)‬ ‫فاقتلع مرساه وسار على اسم اهلل فى الساعة الثالثة والدقيقة األربعني مسا ًء وعندئذ‬ ‫تذكرت ما كنت قلته من قصيدة امتدحت بها حضرة السيد (أبى اهلدى أفندى الصيادى‬ ‫الرفاعى) فى سنة ‪ 1321‬وهى‬

‫فلم يهب هول البحار ان اعتدى‬ ‫هلل انسان تالعب بالبخار‬ ‫كم كان من أسراره فى عامل العمران ما أدى إليه وأرشدا‬ ‫بلد ألخرى كالسحاب متى عدا‬ ‫سفن نراها كاجلبال متر من‬ ‫بسفينة وهى املدينة مشهدا‬ ‫هل حاسب من كان فيها انه‬ ‫لو أن فيها للمصلى مسجدا‬ ‫ما خاهلا رجل الصالح سفينة‬ ‫مما تعلق باحلياة أو الردى‬ ‫فبتلك ما فى هذه متوفر‬ ‫‪39‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫من حتفه للفوز من كيد العدى‬ ‫جترى فتحسبها كطالب مأمن‬ ‫إال الفرار إىل حبيب أبعدا‬ ‫أو عاشق سلب القرار فال يرى‬ ‫فرتاه يسرع كى ينال املقصدا‬ ‫أو سائح دار بقيمة وقته‬ ‫أو هاجر أوطانه لريى الشريف ابن اهلدى وأخا اهلدى وأبا اهلدى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫هادئا ‪ ،‬وظل ركاب السفينة حيدقون بابصارهم حنو ثغر‬ ‫صافيا ‪ ،‬والبحر‬ ‫وكان اجلو‬ ‫االسكندرية احملروس حتى غابت معامله عن العيون ‪ .‬وعندئذ مل يبق من مسرح هلا سوى‬ ‫املاء والسماء ‪ ،‬وكلنا سيار فوق سيار فوق سيار ‪ ،‬وكانت هذه السفينة من أكرب سفن‬ ‫القومبانية الروسية ‪ ،‬وأنظفها وتقطع فى الساعة الواحدة تسعة عشر ً‬ ‫ً‬ ‫حبريا ‪ .‬فوصلنا‬ ‫ميال‬ ‫فى الساعة العاشرة من صباح اليوم الثامن عشر إىل برييه ‪ .‬وقد نزلنا إىل املدينة بعد أن وقفنا‬ ‫على مقدار الزمن الذى تستغرقه السفينة فى هذه الفرضة وكنا قبل نزولنا منها مجعنا‬ ‫ً‬ ‫مبلغا من حنو أربعة أشخاص مساعدة لفاضل بائس هو من مسلمى بلغاريا املتخرجـني‬ ‫من املدرسـة الزراعـية العثمـانية ‪ ،‬وامسه (حممد عاكف أفندى) وكان فى خدمة زراعة‬ ‫سعادة الشهم اهلمام (عثمان غالب باشا) أحد أعيان القاهرة املعروفني بسابق خدماتهم‬ ‫الوطنية ووجاهتهم وثروتهم ‪ ،‬وانفصل عنها فانزلناه معنا ‪ ،‬وتركناه يستخرج ورقة جواز‬ ‫ليدخل بها البالد الروسية فى صحبتى حينما أعلمنا باخلطر احملدق به فيما لو وقع فى أيدى‬ ‫رجال الدولة كما يزعم ‪.‬‬ ‫ثم جتولنا باملدينة على إحدى العربات فإذا هى بلدة صغرية ال تكاد تبلغ ربع الثغر‬ ‫االسكندرى ولكنها أشبه به فى شوارعها ونظاماتها ‪ ،‬ولكن ليس فى جتارتها وحركة‬ ‫االشغال فيها ‪ .‬وهى مستطيلة الشكل وبعض مساكنها من اجلهة الغربية على جزئ‬ ‫منحدر من اجلبل ‪ ،‬وبها بعض منتزهات صغرية ‪ .‬وبعد ذلك قصدنا حمطة السكة احلديدية‬ ‫قاصدين التوجه إىل أثينا عاصمة مملكة اليونان وقد كانت ربواتها بادية للعني اجملردة‬ ‫فسار القطار يطوى الفيافى ‪ ،‬وعلى جانبى الطريق سهول نضرة وبساتني بهجة تسر‬ ‫الناظرين ‪ ،‬وطريق السكة احلديدية هذه متتد بني حاجزين من البناء فى طوله ‪ ،‬وعليها‬ ‫بعض اجلسور والقناطر ملرور الناس ومير من نفق طوله يستغرق مسافة دقيقتني فوصلنا‬ ‫تلك العاصمة فى أقل من ساعة فإذا هى بلدة صغرية فى شبه حبرية بال ماء ‪ ،‬ولكن اجلبال‬ ‫احمليطة بها متنائية عنها ‪ ،‬وحمطتها كمحطة “برييه” فى صغرها ونظافتها‪.‬‬ ‫وهذه العاصمة منتظمة الشوارع ‪ ،‬ونظيفة ً‬ ‫جدا ‪ ،‬وبها ترامواى موصل إىل حمل اآلثار ‪.‬‬ ‫ولكننا وصلنا إليه على إحدى العربات لنسرع فى العود فاجتزنا فى طريقنا على سراى‬ ‫اجمللس النيابى ‪ ،‬وسراى امللك واملدرسة احلربية وحمل التمثيل ‪ .‬وهذه املبانى ليست بأضخم‬ ‫من بنايات شارع شريف باشا باالسكندرية ‪ .‬ولكنها ظريفة فى شكلها تكتنفها‬ ‫البساتني من كل جانب ‪ ،‬وهناك شاهدنا احملل الذى كان حيكم فيه قضاة أثينا فى‬ ‫العصور السالفة ‪ ،‬وهو على ربوة عالية ً‬ ‫جدا ‪ ،‬ومل يبق منه إال أعمدة قائمة ‪ ،‬وبعض الدرج‬ ‫واألبواب ‪ ،‬وهو فى شكله أشبه ببعض الربابى الكائنة بصعيد مصر إال أنه جمرد من‬ ‫ً‬ ‫قليال ‪ ،‬وحواليه بعض النسوة يبعن الصور الشمسية املنقولة عن اآلثار ‪ ،‬وهناك‬ ‫النقوش إال‬

‫‪40‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫ً‬ ‫أيضا سجن (سقراط) الفيلسوف اليونانى الشهري الذى وقفت أمامه فتذكرت به ما يصيب‬ ‫الفالسفة ‪ ،‬وعظماء العلماء فى كل جيل وقلت‬

‫سجنوك أعداء الفضيلة حينما‬ ‫هم قيدوك ألن فكرك مطلق‬

‫ً‬ ‫طليقا‬ ‫جهلوا بأن احلى ليس‬ ‫مل يلق فى تلك العقول طريقاً‬

‫وهناك غري ما ذكر من اآلثار ‪ ،‬ولكن الوقت ما كان يكفى لزيارتها كلها ‪.‬‬ ‫ومن العجيب أن هذه آثار فالسفة اليونان الذين طبقت شهرتهم اآلفاق ‪ ،‬ولكنها مل تعمل‬ ‫فى النفس تلك الرهبة التى تعملها آثار قدماء املصريني وال غرو أن تكون آثار األساتذة أرفع‬ ‫ً‬ ‫قدرا لدى النفوس من آثار التالمذة ‪.‬‬ ‫والربهة الصغرية التى قضيتها فى ذينك املدينتني عند ذهابى إىل البالد الروسية ‪ ،‬واألربعة‬ ‫أيام التى أقمتها بهما عند عودتى منها قد كانت كافية فى أن أتبني حال البالد اليونانية ‪،‬‬ ‫وأعرف أنها متتاز على قطرنا العزيز فى نظام بوليسها وحكومتها ‪ ،‬ووجود جملس نيابى بها‬ ‫وعنايتها برتقية املعارف والضرب على أيدى أصحاب اللهو والفجور ‪ .‬ومملكة اليونان هذه‬ ‫وإن كانت صغرية وعدد نفوسها ال يبلغ املليونني ونصف فقد ساعدها احلظ باستقالهلا‬ ‫وصريورتها حرة فى تكوين حكومة منتظمة ‪ ،‬وذلك بسعى شعبها النشيط ومساعدة‬ ‫الدول من الوجهة السياسية بقصد قص أجنحة الدولة العثمانية حرسها اهلل تعاىل ‪.‬‬ ‫وليتذكر إخوانى ‪ ،‬وأبناء وطنى األعزاء ‪ .‬أنه مل جتن علينا معشر املصريني أمة من األمم‬ ‫جناية األمة اليونانية هذه مبا ترسله إلينا من نتائج زراعة القنب ( احلشيش ) ‪ .‬وما تهدينا به‬ ‫من أبنائها الذين هم علة العلل فى إفساد وطننا العزيز ‪ ،‬وإن كان بينهم أفراد مهذبون ‪ .‬إذ‬ ‫هم وحدهم الذين أكثروا نوادى اللهو والطرب والرقص وحمال امليسر ‪ ،‬وفتح حمالت الفسق‪،‬‬ ‫واختاذ الساقطني ّ‬ ‫منا فى مهواة الفساد حتت كنفهم متسلحني باالمتيازات املعطاة هلم ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا بتلك األمور الدنيئة ‪ ،‬والربا الذى يتجاوز احلد القانونى‬ ‫وابتزاز أموال الكثريين منا‬ ‫بدرجات هائلة ‪ ،‬مما هو معلوم لدى كل متجول ببالد األرياف املصرية ‪ .‬ولقد اكتشفت سر‬ ‫دخول هذا السم القتال ( احلشيش ) إىل بالدنا مع شدة احتياط وعناية رجال مصلحة خفر‬ ‫السواحل األمناء ؛ وذلك أنى تقابلت مع أشخاص من عربان مديرية البحرية فألفت وجودهم‬ ‫بتلك البالد نظرى إىل البحث عن أحواهلم ‪ ،‬والسبب الداعى إلقامتهم بها ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وعونا هلم فى إدخال احلشيش إىل ديارنا‬ ‫فظهر ىل أنهم شركاء للتجار اليونانيني ‪،‬‬ ‫العزيزة بطريقتني اثنتني ‪ :‬إحداهما وضع احلشيش فى أكياس من اجللد متصلة خبيوط‬ ‫طويلة تنتهى بعوامات من الفلني ‪ ،‬وعند وصوهلم إىل النقطة احملازية جلهة املكس يلقون‬ ‫بتلك األكياس فى البحر ثم يعودون إىل الرب ‪ ،‬ويركبون الفاليك الستحضارها ‪ ،‬وثانيهما‬ ‫قيام هؤالء األعراب باملراكب التى جتتاز القنال إىل البحر األمحر فينزلون بإحدى املوانى‬ ‫العثمانية ‪ ،‬ثم ينقلونه على اجلمال املهربة ‪ .‬وعلى هذا فهؤالء العربان بلوى ثانية فى عدم‬ ‫ً‬ ‫شافيا لسالمة وطننا العزيز‬ ‫قطع فساد هذه التجارة الراحبة هلم القاتلة لسواهم ‪ ،‬وال أرى دواء‬ ‫وخالص أبنائه من وبال هذه التجارة إال إرسال موظف أمني يبقى بالبالد اليونانية على‬ ‫‪41‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫حساب مصلحة خفر السواحل ملصادرة هذه التجارة والوقوف على اخلارج منها ‪ ،‬واإلهتداء إىل‬ ‫ناقليه ما دامت احلكومة اليونانية مل يرضها منع زراعة احلشيش فى بالدها ‪ .‬وبغري تنفيذ‬ ‫هذه الفكرة ال يتسنى حلكومتنا السنية منع دخول هذا الصنف ‪ ،‬ومصادرته مع حماولة‬ ‫املتجرين به أمثال حتيالتهم التى ذكرنا بعضها ‪ ،‬وخضوع بعض عساكرها ألموال هؤالء‬ ‫اخلائنني ‪.‬‬ ‫( عود ) وكان معنا شاب فرنساوى مستشرق يسمى نفسه (جورج) وكان من ركاب‬ ‫الدرجة الثالثة ‪ ،‬ويزعم أنه تاجر ولكن ظهر كذبه فى االسم والصناعة عند نزوله مبيناء‬ ‫“ أودسا “ كما سنذكره بعد ‪ .‬ثم عدنا إىل برييه ثم إىل السفينة التى بارحتها فى الساعة‬ ‫األوىل بعد الزوال من اليوم نفسه قاصدة جزيرة ( اورله ) من ممالك الدولة العثمانية للبقاء‬ ‫بها حتت احلجر الصحى ( الكورنتينة ) فوصلناها فى ‪ -‬الساعة اخلامسة ‪ -‬من صباح يوم ‪.19‬‬ ‫ً‬ ‫واحدا منهم ( وال فخر ) على إحدى الفلك‬ ‫وهناك انتقل ركاب الدرجة الثالثة الذين كنت‬ ‫ً‬ ‫ردحا‬ ‫إىل الربد ‪ ،‬فادخلونا فى مكان فسيح به مقاعد خشبية مستطيلة وظلنا منتظرين‬ ‫من الزمان ريثما تتم معدات االستحمام ‪ ،‬وتبخري املالبس التى كنا قد خلعناها فى قاعة من‬ ‫قاعات ذلك املكان ‪ .‬ثم دخلنا بعد ذلك من الباب املقابل له إىل مستحم مستطيل به حجرات‬ ‫صغرية متقابلة ‪ ،‬على أبوابها ستائر من القماش ‪ ،‬وبكل حجرة رشاشة ماء وقطعة من‬ ‫الصابون ومنشفة ‪ ،‬وبعد أن أمتمنا ذلك حتت مراقبة أحد عساكر الصحة البحرية عدنا إىل‬ ‫املكان الذى كنا تركنا مالبسنا به ‪ ،‬فوجدناها أعيدت من املبخرة كأنها النار املوقدة‪،‬‬ ‫وكأنها عجني فلبسناها مضطرين ثم جتولنا باجلزيرة ‪ ،‬وأخذ كل واحد ّ‬ ‫منا ما لزمه من‬ ‫املأكوالت التى يشتهيها من بائع يونانى وهو الوحيد بتلك اجلزيرة ‪ ،‬وقد شاهدنا بأراضيها‬ ‫ً‬ ‫كثريا من معدن الكربيت الذى يسمى مبصرنا ( كربيت العمود ) ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وكثريا من الفحم احلجرى ‪ ،‬ومل أدر ما السبب‬ ‫فى نقط متعددة ‪ ،‬وبكمية كبرية‬ ‫فى عدم استخراج هذين املعدنني منها ‪ ،‬وبـها مجلة من اهلضاب العاليـة املـمـلوءة بالنبات‪.‬‬ ‫وهـى جيـدة اهلـواء ‪ ،‬وسكانها بعيدون عن حمل احلجر الصحى ‪ .‬وال ينسى القارئ أن‬ ‫ذلك الشاب الفرنساوى كان معنا ليأخذه العجب من حالته التى ظهرت فيما بعد ‪ .‬ثم عدنا‬ ‫إىل املركب ‪ ،‬وقد بارحت اجلزيرة فى ‪ -‬الساعة اخلامسة ‪ -‬من صباح يوم ‪ 21‬إىل “ جناق‬ ‫قلعة “ فوصلناها حيث كانت الساعة الثالثة والدقيقة اخلامسة والثالثني ‪ .‬ومل نلبث بها‬ ‫إال مبقدار أن نزل بعض الركاب ‪ ،‬وركب غريهم وزارها عمال الدولة العثمانية املنوطني‬ ‫مبراقبة السفن املارة ‪ .‬وجناق قلعة هذه ذات منظر مجيل ‪ ،‬وبها معسكر عثمانى ‪ ،‬وبها‬ ‫يصنع الفخار اجلميل على أشكال متنوعة وأحجام خمتلفة ‪ .‬ثم بارحتها السفينة حيث‬ ‫كانت الساعة الرابعة والدقيقة الثالثني من اليوم نفسه بعد أن اقرتبت منها قوارب باعة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫طويال من اخلشب بأعاله قطعة من الصفيح‬ ‫عودا‬ ‫املأكوالت ‪ .‬وكنا نرى مع الواحد منهم‬ ‫على شكل إناء يضع به املشرتى النقود فيأخذها البائع ‪ ،‬ويضع فى مكانها ما أراد‬ ‫املشرتى بعد حصول املساومة ‪.‬‬ ‫ثم وصلنا إىل األستانة حيث كانت الساعة ‪ -‬الرابعة والدقيقة الثالثني ‪ -‬من مساء اليوم‬ ‫نفسه ‪ ،‬ولقد أكثر سواى الكتاب الفضالء من وصف مناظر األستانة ومشاهدها فال أعيد‬ ‫‪42‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫الكالم عليها هنا مبقال طاملا طرق األمساع ومأل البقاع ‪ .‬وإمنا ىل إنتقاد كبري سيأتى‬ ‫الكالم عليه مبناسبة ما بدا من بعض عماهلا أثناء عودتى األوىل ثم بارحت السفينة مياه‬ ‫ً‬ ‫صباحا ‪ -‬قاصدة ثغر “‬ ‫األستانة فى اليوم الثانى والعشرين حيث كانت الساعة ‪ -‬العاشرة‬ ‫أودسا “ إحدى ثغور الدولة الروسية على البحر األسود ‪ ،‬وثالثة مدنها بعد سانت بطرسبورج‬ ‫وموسكو ‪.‬‬ ‫وفى أثناء املرور مبياه “البوسفور” أخذ القبطان الثانى للسفينة جيمع تذاكر‬ ‫(البسابورتات) وحيفظها بطرفه وكنا جنهل ذلك من قبل ‪ ،‬وعند وصولنا إىل ميناء “‬ ‫أودسا “ فى اليوم الثالث والعشرين حيث كانت ‪ -‬الساعة الرابعة والدقيقة الثالثني ‪ -‬ظل‬ ‫ً‬ ‫استعدادا للنزول إىل الرب ‪ ،‬وطال الوقت إىل أن حضر أحد‬ ‫ركاب السفينة وافقني بأمتعتهم‬ ‫رجال البوليس وكلم القيودان فرمى إليه رزمة من الورق هى تلك التذاكر التى أخذها من‬ ‫الركاب ‪ ،‬وبقينا هكذا منتظرين إىل أن وافى ضابطان وبضع عساكر ثم وضعوا الدرج‬ ‫ووقف على طرفيه العلوى والسفلى حارسان وأخذ بعد ذلك ضابط يقرأ أمساء الركاب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫واحدا حتى أتى على آخرهم إال أنا ‪ ،‬وكان كل من قرئ امسه يستلم تذكرته وينزل‬ ‫واحدا‬ ‫ً‬ ‫بعد أن يطلع عليها احلارسان أيضا ‪ .‬ثم طال الكالم بني الضابطني بعد أن نودى بامسى‬ ‫ومتثلت أمامها ثم جئ بشخص يعرف القليل من اللغة العربية فرتجم ىل أنهما يريدان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫معقودا على عكس‬ ‫مغلقا وحللت ما كان‬ ‫التفتيش على أمتعتى ‪ ،‬ففتحت ما كان‬ ‫أمرى إذ ذاك ثم أمرنى املرتجم عن لسانه برد كل شئ إىل حالته من تلك األمتعة ‪ ،‬ثم‬ ‫سلمنى إىل أحد رجال البوليس وفهمنى أن أذهب معه إىل حيث يريد فأمتثلت األمر ‪ ،‬وتبعت‬ ‫العسكرى ومعه محال حيمل األمتعة بعد أن سألت املرتجم عن السبب ‪ ،‬ومل جيبنى بشئ‬ ‫فذهب بى إىل مركب آخر امسه ( سات سارى فيج ) أى “ وىل العهد “ فوجدت ذلك املرتجم‬ ‫هناك وأفهمنى أن السبب فى ارجاعى ومنع نزوىل بالبلد عدم التأشري على تذكرة املرور‬ ‫احملررة بامسى من جانب قنصل دولة روسيا باسكندرية ثم تركنى العسكرى واملرتجم‬ ‫قبل سفر السفينة بدقيقة واحدة ‪.‬‬ ‫وكانت ‪ -‬الساعة السادسة ‪ -‬من مساء اليوم نفسه ‪ ،‬وهنا أنبه القارئ الكريم إىل مسئلة‬ ‫(حممد عاكف أفندى ) املار ذكره فإنه مل يناد بامسه ولكنه أجاب عند نداء الضابط باسم‬ ‫“ ينى بابا دوبولو “ فال يبعد أن يكون من استحضر له تذكرة املرور ‪ ،‬ومل يستخرجها له‬ ‫وبامسه ‪ .‬بل اشرتاها من آخر وأشر له عليها من قنصل الدولة الروسية بثغر “ برييه “ فليعجب‬ ‫القارئ الكريم من ذلك ‪ ،‬ولينظر كيف أن الشخص الذى هرب من األستانة بال تذكرة‬ ‫إىل مصر قد دخل البالد الروسية بتذكرة غري تذكرته ‪ ،‬وباسم غري امسه مع كلما‬ ‫تتخذه حكومة تلك الدولة من احلذر واالحتياط ‪ ،‬وكيف انعكس األمل أمام كلينا إذ‬ ‫كان يظن أن حيلته ستنكشف وأنه سريد ‪ ،‬وكان يقينى أن ال حرج ِّ‬ ‫على ما دامت بيدى‬ ‫ً‬ ‫حتقيقا ملا يقوله رجال التصوف من وجود‬ ‫تذكرة املرور ‪ .‬وهذا وأمثاله مما حيار له الفكر‬ ‫السبب عند حتقق عدمه وعدمه عند حتقق وجوده ‪ ،‬وإن كان املشاهد فى الصورة خالفه ‪.‬‬ ‫أما الشاب الفرنساوى وال إخال القارئ نسى اإلشارة إليه ً‬ ‫آنفا فلم يتل امسه فيما تلى‬ ‫من األمساء عند النداء ‪ ،‬ولكنه أجاب عند ذكر امسه الذى كنا ندعوه به منذ تعارفنـا‬ ‫‪43‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫وقد وضح أن اسـمه ( بيري ) ‪ .‬وأنه مكلف من حكومة اجلمهورية الفرنساوية مبأمورية‬ ‫سياسية وقد تبني ىل ذلك من احتفاء الضابطني به عندما أطلعهما على أوراق أخرى‬ ‫استخرجها من حمفظته ‪ ،‬ثم ذهب مبعيته أحدهما فى احلال وعاد ‪ .‬فليتأمل املتأمل كيف‬ ‫ً‬ ‫خصوصا وأنى قد وجدت بني ركاب سفينة كلهم ال‬ ‫كان موقفى فى تلك اللحظات‬ ‫ً‬ ‫خليطا من ذوى األديان الثالثة منهم حنو الثالمثائة من مهاجرى‬ ‫يعرفون العربية ‪ ،‬وكانوا‬ ‫ً‬ ‫اليهود الروسيني الذاهبني إىل القدس وحنو الثالثـمائة حاجا من مسلمى خبارا ‪ ،‬ومستخدمو‬ ‫السفينة من مسيحى الروس ‪.‬‬ ‫وما جاء وقت العشاء حتى رأيت مؤذن البخاريني يؤذن للصالة ‪ .‬فأقاموها غري متجهني إىل‬ ‫قبلة واحدة لعدم إمكان ذلك حينئذ ‪ ،‬واجتمع اليهود للتفرج عليهم يتغامزون ويتهامسون‪،‬‬ ‫وهكذا كانوا يفعلون كل صالة فى أوقاتها حتى وصلوا إىل يافا وكذلك اليهود‬ ‫ً‬ ‫واضعا وجهه حلائط السفينة يتلو ويهمهم وللكل‬ ‫كنت أراهم وقد وقف الفرد منهم‬ ‫صوت كدوى النحل ‪ ،‬واملسلمون يضحكون منهم ويسخرون ‪ ،‬وكان املسيحيون‬ ‫مشغولني باشغال وظائفهم فلم يبد الحد شئ من عبادتهم لوال أن أحد القسس البلغاريني‬ ‫ً‬ ‫قليال أو أقل من القليل‬ ‫كان من الركاب وبه بعض خلل فكان كلما هبت الريح ولو‬ ‫ً‬ ‫رافعا وجهه إليها‬ ‫صعد على حمل عال من السفينة ‪ ،‬وأخذ يصلى ويشري إىل السماء بيديه ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫قائال ‪ :‬بعض كلمات كأنه يكلم بها املوىل سبحانه وتعاىل ومع ذلك فقد كان ركاب‬ ‫السفينة يسخرون به ويعبثون حتى املسيحيون أنفسهم ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جاهال لغة القوم ‪ .‬وبينما أنا فى‬ ‫طعاما لكونى‬ ‫ولقد مضت ليلتى األوىل وأنا مل أذق‬ ‫اليوم الثانى إذ مر بى شخص حبشى متزى بزى الروسى ‪ ،‬وما كلمنى بالعربية حتى سررت‬ ‫به غاية ما ميكن من السرور ‪ ،‬وأخذ يسألنى وأسأله تلك األسئلة التى تدور بني غريبني‬ ‫ً‬ ‫طعاما من طاهى السفينة فدلنى على‬ ‫يتعارفان ‪ ،‬ثم كلفته بأن يرينى كيف أشرتى‬ ‫ما أريد ‪ ،‬وأثناء ذلك أرشدنى إىل أحد السوريني بني الركاب ‪ ،‬ومنذ عرفنى به إىل أن نزل‬ ‫فى يافا كان ال ينفك عن التودد ِّ‬ ‫إىل ‪ ،‬وبذل اجلهد فى سد إحتياجاتى دون أن أطالبه‬ ‫بشئ منها ‪ ،‬وكان مينعنى ً‬ ‫قهرا من دفع شئ من دراهمى حتى أدهشنى مبكارمه على‬ ‫غري سابق تعارف ‪ .‬ومثل هذا الشخص املهذب الظريف جيب على أن أربط عقدة التعارف‬ ‫بينه وبني القارئ الكريم فأقول إنه حضرة اخلواجه ( شكرى جورجى ديب ) من التجار‬ ‫املشتغلني بنقل جتارة وطنه ( القدس الشريف ) من فواكه ومسبحات وصلبان من الصدف‪،‬‬ ‫ومصنوعات خشبية من صناعاته إىل البالد الروسية ‪ ،‬وجلب ما ينفق بوطنه منها ‪.‬‬ ‫وكانت هذه السفينة ذاهبة إىل بورت سعيد عن طريق يافا فمرت باألستانة ثم جناف‬ ‫قلعة فازمري فساقس فمارسني فبريوت فيافا فبورسعيد ‪ .‬وكانت تقف فى كل أسكلة‬ ‫من هذه األساكل للتفريغ والشحن ‪ ،‬فلم نصل إىل بورت سعيد إال فى اليوم الثانى من شهر‬ ‫ً‬ ‫ونصفا من صباح ذلك اليوم فتكون‬ ‫نوفمرب سنة ‪ 1906‬حيث كانت الساعة ثـمانية‬ ‫السفينة قد استغرقت فى سريها من “ أودسا “ إىل “بورت سعيد “ أثنى عشر ً‬ ‫يوما ‪.‬‬ ‫ومن املسائل التى تستحق الذكر فى مدة هذه األثنى عشر ً‬ ‫يوما أن تقابلت بأحد القضاة‬ ‫بوالية بغداد آيبا من األستانة إىل وطنه ‪ ،‬ومعه آخران أحدهما أحد طلبة صنف املأذونية‬ ‫‪44‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫مبدرسة احلقوق العثمانية ‪ ،‬واآلخر تلميذ باملدارس اإلبتدائية وكانت جترى بينهم حمادثات‬ ‫سياسية وإدارية فما دار على ألسنتهم أن ( طالب باشا ) الذى هو اآلن من أعضاء شورى الدولة‬ ‫كان متصرف جند ‪ ،‬وكان ( منصور باشا ) أحد أغنياء جند املشتغلني بتجارة اللؤلؤ‬ ‫ً‬ ‫مأمورا بالدائرة السنية السلطانية إذ ذاك ‪ ،‬ومن سكان قضاء القطيف ‪ .‬وحدت أن طلب‬ ‫ً‬ ‫جانبا من املال على سبيل اهلدية ‪ ،‬وإن شئت قل على سبيل‬ ‫(طالب باشا ) من ( منصور باشا )‬ ‫الرشوة‪ ،‬فلم يذعن هذا ملطالب ذاك فلم يكن من ( طالب باشا ) إال أنه طالبه باألسلحة املهربة‬ ‫املوجودة مبنزله وملا مل يكن لديه منها شئ فقد أجابه ً‬ ‫سلبا ‪ ،‬وبعد ذلك مل يشعر ( منصور‬ ‫باشا ) إال وقد هامجته فى منزله قوة عسكرية قبضت عليه ‪ ،‬واستخرجت من إحدى جهات‬ ‫املنزل اخلارجية صناديق أسلحة مدفونة ‪ ،‬ومع وضوح احلق بعد سنوات قضاها ( منصور‬ ‫باشا) فى السجن ‪ .‬وأن هذا العمل مكيدة مدبرة من ( طالب باشا ) فلم يكن جزاءه إال نقله‬ ‫ً‬ ‫إستدالال‬ ‫إىل وظيفة عضو فى شورى الدولة ‪ .‬وهكذا صادروا يوردون من أمثال هذه النادرة‬ ‫على الفوضى فى األحكام ماال حيسن عن دولتنا العثمانية ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫قاضيا‬ ‫ثم انتقلوا إىل حديث آخر أوجب أن ذلك القاضى يشرح عن نفسه ما أفهمنا أنه كان‬ ‫فى جهات جند وعزل عنها بعد سنتني ‪ ،‬فذهب إىل دار السعادة ليشرتى وظيفة أخرى ‪ ،‬وهى‬ ‫التى يذهب إليها إذ ذاك‪ .‬وقد أخذ على العهد أن ال امسيه فى حمادثاتى أو كتاباتى وقد‬ ‫ً‬ ‫أيضا أنه ملّا رست السفينة مبياه يافا ‪ ،‬وكان ذلك‬ ‫فعلت ‪ .‬ومن املسائل التى تستحق الذكر‬ ‫فى اليوم األول من شهر نوفمرب سنة ‪ 1906‬كان الركاب اآلتني منها إلينا يلغطون بذكر‬ ‫حادثة مل أمسع مبثلها فى حياتى ‪ ،‬ورمبا مل يقع شبيهها فى األمة اإلسالمية ‪ ،‬وذلك أنه بينما‬ ‫كان الناس يصلون العشاء والرتاويح فى يوم ‪ 13‬رمضان سنة ‪ 1324‬املوافق ‪ 31‬أكتوبر‬ ‫سنة ‪ 1906‬باملسجد اجلامع عارض ‪ -‬أحد رجال املذهب احلنفى ‪ -‬باقى املصلني من ذوى املذاهب‬ ‫األخرى ‪ .‬ريثما يتم مجاعته صالتهم فلم يقبل منه ذلك أحد األئمة اآلخر‪ ،‬ومل ميهله هذا‬ ‫املعارض حتى أزهق روحه برصاصة من مسدسه فى وسط املسجد ‪ .‬فلينظر القارئ وليتأمل‬ ‫ً‬ ‫حقيقيا إىل‬ ‫كيف أدى إختالف املذاهب بني أولئك اجلهلة الذين مل يفقهوا للدين معنى‬ ‫التفاخر والبغضاء حتى بني جدران بيت اهلل تعاىل فى بالد إسالمية ذات حكومة إسالمية ‪.‬‬ ‫بارحت ثغر بورت سعيد فى اليوم الثالث من الشهر ‪ ،‬وبعد أن مررت بالزقازيق وتزودت منها‬ ‫برؤية بعض أصدقائى ‪ ،‬ومكارم كل من حضرات األفاضل ( دياب أفندى سعد ) احملامى‬ ‫ً‬ ‫أيضا ‪ ،‬و(أمني عبد الكريم أفندى) التاجر‪،‬‬ ‫الشهري ‪ ،‬والشيخ (عفيفى أمحد) احملامى الشهري‬ ‫وحضرة صديقى املهذب الشيخ ( حممد املنهى ) عمدة البقاشني ‪ ،‬وحضرة الوجيه شيخ‬ ‫العرب (محد بك أبو سلطان) قمت إىل االسكندرية فوصلتها فى ظهرية اليوم اخلامس ‪،‬‬ ‫وبعد أن قصدت دار القونسالتو الروسية فأشرت على تذكرة املرور مبا لزم ‪ ،‬وقضيت لوازم‬ ‫السفر صادفت وجود الوابور الروسى ( تشيخاتشوف ) الذى سافرت به املرة األوىل فركبته‬ ‫‪ ،‬وأقلع حيث كانت الساعة التاسعة مساء فوصل “ برييه “ فى اليوم الثامن ‪ ،‬وقام منها فى‬ ‫اليوم نفسه إىل جزيرة القديس جورج لقضاء زمن الكورنتينه الذى مل يكن منه فائدة إال‬ ‫تعذيب ركاب الدرجة الثالثة ‪ ،‬إن كان العذاب يسمى فائدة ‪ .‬وكما حصل فى جزيرة‬ ‫“أورله” حصل بهذه اجلزيرة ‪ ،‬ولكن ليس باالحتياط والنظافة التى هى بذلك احملجر التابع‬ ‫للدولة العثمانية ‪.‬‬ ‫‪45‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫وهذه اجلزيرة ككل اجلزر اليونانية فى الكالء والغابات ‪ .‬وبها مقام “القديس جورج”‬ ‫كأضرحة بعض املشايخ فى مصر ‪ ،‬وبه صندوق للنذور ونسخة خطية من الكتاب املقدس‪.‬‬ ‫وبينما حنن نتنزه فى أرباضها إذ عثر صاحب املطعم الذى هناك بأحد ركاب الدرجة‬ ‫الثالثة من اليونانيني حياول أن يعبث بشرف سيدة من بنات جنسه ‪ ،‬وكان حلادثته‬ ‫مشاجرة عنيفة بينهما ‪ ،‬وبني ضابط يونانى من املنتزهني باجلزيرة ‪ ،‬ولوال أن توسط بعض‬ ‫مجهور احلاضرين الشتغل الرصاص بني اجلميع فى تلك اجلزيرة اخلالية من رجال الضبط‪،‬‬ ‫والتى كان من الواجب على حكومة اليونان أن ال ختليها من ذلك ما دامت أعدتها للحجر‬ ‫الصحى ببالدها ‪ ،‬وما دام فيها بعض السكان ‪ ،‬ثم بارحت السفينة تلك اجلزيرة فى اليوم‬ ‫ً‬ ‫ونصفا من صباح‬ ‫العاشر عائدة إىل برييه ثم خرجت منها حيث كانت الساعة احدى عشر‬ ‫ذلك اليوم ‪ .‬فمرت باألستانة وجازت البوسفور إىل البحر األسود ‪.‬‬ ‫وقد مجع القيودان تذاكر املرور كاملرة األوىل ‪ ،‬ومن وقت مبارحة السفينة دار السعادة‬ ‫فى اليوم احلادى عشر إىل أن وصلت “ أودسا “ فى اليوم الثالث عشر مل نذق النوم واألكل‬ ‫ً‬ ‫قليال ‪ ،‬إذ اشتدت األنواء فكانت السفينة كريشة فى مهب الريح ال يستقر هلا حال من‬ ‫إال‬ ‫اإلرتفاع واإلخنفاض بفعل األمواج ‪ ،‬وقد اشتدت األنواء حتى أفرغ كل إنسان ما فى جوفه‬ ‫بسبب الدوار الذى أصابه ‪ .‬وما كان من القيودان إال أنه زاد سرعة السري ليتغلب على األمواج‬ ‫ولوال فضل اهلل تعاىل ‪ ،‬وما أوتيه ذلك الرجل من قوة اجلأش وحدة الذهن ونبوغه فى واجبات‬ ‫وظيفته البتلعنا البحر ولكن اهلل سلم فوصلنا ساملني وألقت السفينة مرساها ‪ ،‬وصعد‬ ‫إلينا رجال البوليس ونادوا األمساء فنودى امسى فى مجلتهم ‪ ،‬وأنا بني مصدق ومكذب من‬ ‫جراء ما صادفنى باملرة األوىل ‪.‬‬ ‫فاستدعيت أحد احلمالني الذين ميتازون فى البالد الروسية مجيعها بوضع قطعة من‬ ‫القماش األبيض تسرت نصفهم األسفل ‪ .‬كما يضع خدمة احملال العمومية هنا وسار معى‬ ‫حيمل األمتعة حتى نزلنا فى املينا ‪ ،‬وجاء عمال الكمرك ‪ ،‬فلم جيدوا معى ما يستحق‬ ‫الرسوم فاعطونا أوراق بعدد القطع للخروج من دائرة الكمرك واكرتيت إحدى العربات‬ ‫“ وهى عربات صغرية ال تسع سوى اثنني جيرها حصان واحد “ بأن أطلعت صغرية احلوذى‬ ‫على الورقة التى كان كتبها ىل حضرة ( صابر عليم أفندى) املشار إليه ً‬ ‫آنفا ‪ ،‬وهى باللسان‬ ‫الروسى ‪ .‬ومن الفكاهات التى تستحق الذكر أن احلوذى شاهد بني أمتعتى ماكينة‬ ‫السبريتو ‪ ،‬التى كنت أصنع به الشاى أثناء السفر فأشار إىل أن أناوله إياها فأخذها وشرب‬ ‫ما فيها ‪ ،‬وأنا أمنعه وهو ال ميتنع كأمنا حظى مباء احلياة ‪ ،‬وقد اتضح ىل من إقامتى فى‬ ‫روسيا أن السيربتو مشروب عموم الروسيني ‪ .‬إال أنهم يستخرجونه من القمح على ما يقولون‬ ‫ويسمونه ( فودكا ) ‪.‬‬ ‫ومما متتاز به حكومة الروس فى مصلحة الكمرك أن القيودان يؤشر على كل‬ ‫تذكرة مرور بعدد القطع التى حيملها كل سائح فيطلع عليها رجال املصلحة ‪ ،‬ومتى‬ ‫شيئا ً‬ ‫ً‬ ‫زائدا على ما رقمه القيودان أو أقل منه فهناك يصري التدقيق وتلقى‬ ‫رأوا فى أمتعة أحد‬ ‫ً‬ ‫الشبهة عليه ‪ ،‬ورمبا كان ذلك خوفا من التهريب أو غري ذلك مما ال أقف عليه ‪ .‬ظلت العربة‬ ‫ً‬ ‫وخوفا من أن يكون احملل الذى أوقفنى‬ ‫سائرة إىل بضع دقائق فأشار إىل احلوذى بالنزول‬ ‫‪46‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫عنده ليس باملقصود نزلت وتقدمت إىل أحد رجال البوليس الروسى فأطلعته على تلك‬ ‫الورقة فما قرأها حتى دنا من احلوذى وألزمه باملسري بعد كالم طويل دار بينهما فهمت‬ ‫منه أنه أرشده إىل حقيقة الذى أبغى الذهاب إليه ‪ ،‬ومما تكرر على مسعى فى حماورتهما‬ ‫مجلة ( مسلما نسكى صربانيا ) ‪ ،‬وفيما بعد عرفت أن تعربها “ املقربة االسالمية “ ألن‬ ‫املسجد بداخله رحبة فسيحة بها قبور اخواننا املسلمني كما سيلى ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ذاهبا بى إىل ذلك احملل ‪ ،‬ثم وقف بى حنو الساعة أمام باب كبري فى‬ ‫أخذ احلوذى يعدو‬ ‫آخر البلدة من اجلهة الغربية ‪ ،‬ونزل فذهب ودق اجلرس فخرج إليه شخص قصري القامة جداً‬ ‫‪ ،‬وأتى إىل العربة فبدأنى بالسالم ‪ ،‬وكلمنى بالرتكية يسألنى عما أريد ‪ .‬وملا ّ‬ ‫علم ِّ‬ ‫أنى‬ ‫أطلب حضرة العامل الفاضل املشار إليه ً‬ ‫آنفا أخذ ينقل األمتعة هو واحلوذى إىل الداخل ‪،‬‬ ‫وبعد اإلنتهاء من ذلك أبى احلوذى لسكره الشديد إال أن يتقاضى منى ثالثة من الروبالت‬ ‫ً‬ ‫أى ثالثني ً‬ ‫صاغا ‪ .‬على أنه ظهر فيما بعد أنه ال يستحق من األجر إال حنو الثالثة قروش‬ ‫قرشا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫‪ ،‬ولكنى دفعتها فورا منعا لألشكال بسببى بني اخلادم واحلوذى ‪ .‬دخلت احملل فى غيبة‬ ‫اإلمام فى بعض املهام ومع إنى سقيم من دوار البحر مل ميهلنى شوقى إىل رؤية مسجد إسالمى‬ ‫فى بلدة مسيحية ‪ ،‬حتى تعود ّ‬ ‫إىل صحتى ‪ .‬بل أخذت اتفرج على احملل ومشتمالته فإذا هى‬ ‫كما أصفها للقارئ فيما يلى ‪ .‬يدخل الداخل من الباب العمومى فيجد رحبة فسيحة بها‬ ‫أشجار باسقة ‪ ،‬وعلى ميينه املسجد ‪ ،‬وأمامه حاجز من اخلشب ذو باب منتظم جيتاز منه إىل‬ ‫قطعة أرض تبلغ الفدان وكسور بها املقابر على أسلوب بديع فى أرض مشغولة باحلشائش‬ ‫ً‬ ‫تلميذا ‪ ،‬وست تلميذات ‪ ،‬ومعلم‬ ‫واألزهار البديعة ‪ ،‬وعلى اليسار مكتب به حنو العشرين‬ ‫ً‬ ‫جيدا ‪.‬‬ ‫يعرف اللغة العربية‬ ‫وامسه ( حممد بن فتح اهلل ) من مهاجرى بروسه إىل األستانة ‪ .‬وقد كان هاجر إليها مع‬ ‫ً‬ ‫عاما ‪ ،‬وعلى‬ ‫جده ألمه ‪ ،‬ونشأ وتربى بني مصر وبروسه واألستانة وعمره سبع وعشرون‬ ‫يسار املكتب منزل فخيـم بـه مجـلة مساكـن أحدها للمعلم املذكـور ‪ .‬والباقى لإلمام‬ ‫وآخر للضيوف ‪ .‬أما املسجد فله وجهة من اخلشب والزجاج على شكل بهيج منتظم يدخل‬ ‫الداخل منه إىل فسحة صغرية معدة لرتك األحذية بها ‪ ،‬ثم باب آخر للمسجد الذى مساحته‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عرضا ‪ ،‬وهو فى غاية احلسن والرواء ‪.‬‬ ‫طوال ‪ ،‬ومخس عشرة خطوة‬ ‫اثنتان وعشرون خطوة‬ ‫شديد النور كأنه أسس من االخالص ال من أموال الناس وبانية رجل من أهل اخلري امسه (‬ ‫عبد اهلل بن أبى شحمان ) ‪ .‬واملسلمون فى ثغر “أودسا” ال يزيد عددهم على ثالمثائة غالبهم‬ ‫مشتغل بالتجارة إال القليل من أصحاب املطاعم وحمالت النوم ‪ ،‬وحلضرة ( صابر أفندى )‬ ‫املشار إليه مركز إحرتام بني اجلميع حتى الروسيني أنفسهم ‪ ،‬وهو كشيخ للمسلمني‬ ‫ورئيس وهو فى احلادية واخلمسني من عمره ‪ ،‬ولكنه قوى البنية ممتلئ اجلسم وجيه‬ ‫ً‬ ‫جيدا ولكنه يعسر عليه التكلم‬ ‫مجيل الطلعة يعرف العربية الفصحى ويتفهمها‬ ‫ً‬ ‫كثريا ووجوده بأدوسا نافع لعموم املسلمني الذين ميرون بالثغر املذكور فرتاه وال‬ ‫بها‬ ‫شغل له إال قضاء حوائجهم وإقامة الصالة هلم ‪ .‬وملا قابلته كان ضيفه من العلماء وامسه‬ ‫( ابراهيم بن غازى قاى ) عمره حنو الثالث وستني سنة قال ىل ‪ :‬إن بلده “اتنه” إحدى قرى‬ ‫ً‬ ‫خطيبا فى “أودسا” مبركز حضرة ( صفروف‬ ‫والية “طنبو” من واليات روسيا ‪ ،‬وقد كان‬ ‫‪47‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫أفندى ) فى سنة ‪ . 1872‬ثم رقى إىل درجة آخوند وهى درجة علمية بني مسلمى روسيا‬ ‫للخدمة فى مصاحلهم الشخصية ‪ ،‬ثم فصل من اخلدمة فى سنة ‪ . 1898‬وقد تلقى علومه‬ ‫ً‬ ‫أيضا ‪.‬‬ ‫فى خان كرمان بوالية رازن من الواليات الروسية‬ ‫وثغر “أدوسا” هذا من أعظم ثغور اململكة الروسية على البحر األسود ‪ .‬وهو يرتفع عن‬ ‫سطح البحر بنحو اخلمسني ً‬ ‫مرتا وكسور ‪ ،‬وبه من املبانى الضخمة ‪ ،‬والشوارع الواسعة‬ ‫ً‬ ‫خصوصا ما هو منه على البحر ‪ .‬فهناك‬ ‫املنتظمة ما يدهش األبصار وبه منتزهات مجيلة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جانبا من أرض املدينة إىل أن تنتهى‬ ‫ورونقا ‪ ،‬وتشغل‬ ‫منتزهات ال يوجد أعظم منها بهاء‬ ‫بشاطئ البحر وبها سلم كبري للنزول إىل البحر وجبانبه آلة ميكانيكية ذات عربتني‬ ‫كعربات الرتامواى للصعود والنزول للمنتزهني ‪ ،‬أو ملن ال يقدرون على املشى ‪ .‬وبهذا الثغر‬ ‫حمل لآلثار ومكتبة عمومية ‪ ،‬ومدارس ودور صناعية كثرية ‪ ،‬وحركته التجارية‬ ‫والصناعية مستمرة ألنه واسطة بني جتارة روسيا وتركيا بل بني روسيا والشرق ‪.‬‬ ‫وبعد أن بذل حضرة األستاذ صابر أفندى صفارون كل العناية بى فى ضيافته أناب‬ ‫عنه مؤذن املسجد فى تشييعى إىل حمطة السكة احلديدية ‪ ،‬وعمل ما يلزم لسفرى حيث‬ ‫ً‬ ‫مشتغال برتحيل الكثريين من مريدى احلج إىل بيت اهلل احلرام فذهبت إىل احملطة‬ ‫كان‬ ‫قبل ظهر يوم ‪ 14‬نوفمرب سنة ‪ 1906‬فاستخرج ىل ثالث تذاكر إحداها للسفر وعليها نـمـرة‬ ‫سـريـر النـوم ‪ ،‬وأخـرى لألكـل ‪ ،‬والثالثة للفرق بني أجرة االكسربيس والقطار العادى ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫متاما ‪ ،‬وكان أوصى بى عمال عربة األكل وهم من‬ ‫ثم ودعته وقام القطار فى وقت الظهر‬ ‫مسلمى والية ( قاسم ) إحدى الواليات اإلسالمية الروسية ‪ .‬إذ ال يوجد مطعم فى أية حمطة‬ ‫أو عربة أكل فى أى قطار إال وأصحابها وعموم مستخدميها من مسلمى تلك الوالية ‪.‬‬ ‫وملا كانت تلك األيام من أواخر شهر رمضان املعظم فكان خادم عربة األكل يأتى‬ ‫ليدعونى لالفطار معهم وأما فى وقت الصحور فيأتى باألكل إىل موضعى وكان التفاهم‬ ‫ً‬ ‫بينى وبينهم عسر ً‬ ‫قليال من اللغة العثمانية وهم ال يعرفون منها إال أقل‬ ‫جدا إذ أنى أعرف‬ ‫من القليل ‪ .‬وهكذا ظلت فى حراستهم وعنايتهم ‪ ،‬وإن كنت قضيت هذه املدة كأعجوبة‬ ‫ً‬ ‫صامتا إال‬ ‫بني املسافرين ملخالفتى هلم فى الزى واللون وعدم معرفة لسانهم ‪ ،‬وقضيت الوقت‬ ‫ما كانت تدعو إليه الضرورة من إشارة تغنى عن العبارة حتى وصلنا إىل حمطة سانت‬ ‫بطرسبورج فى الساعة احلادية عشرة من اليوم السادس عشر من الشهر ‪ ،‬فوجدت هناك‬ ‫ً‬ ‫كال من حضرة الفاضل ( عبد الرشيد ابراهيم أفندى ) ‪ ،‬ومعه شخص من‬ ‫فى إنتظارى‬ ‫الذين كنت أعرفهم أثناء اجملاورة باألزهر الشريف مع من ذكرتهما آنفا فعرفنى وعرفنى‬ ‫حبضرته فكلفه بنقل أمتعتى‪ .‬وتركناه وسرنا إىل أن خرجنا من احملطة التى دهشت‬ ‫لضخامتها ‪ ،‬وإرتفاعها وسعتها وحسن منظرها ثم ركبنا عربة فلما سرنا بضع خطوات دون‬ ‫أن أمسع لسريها جلبة التفت فإذا هى بال عجل وإمنا هلا ساقان من احلديد تنزلق بهما على‬ ‫الثلج الذى كان يغطى كل الشوارع ‪ ،‬ويعلو األشجار ‪ ،‬واألسطحة فى املدينة وفى طول‬ ‫الطريق من أودسا إىل بطرسبورج ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫شيئا من ذلك عند نزوىل بها وال بعد أن بارحناها حتى صحوت‬ ‫غري أنى مل أشاهد فى أودسا‬ ‫من النوم فى صباح اليوم الثانى وأنا بالقطار فشاهدته بإحدى احملطات فطننت أنه جري خملف‬ ‫‪48‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫من أثر عملية بناء ‪ ،‬أو ترميم باحملطة ‪ ،‬ولكنى ملا صرت أراه فوق كل شئ حتققت أنه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومشاال وأنا فى غاية الدهشة حتى‬ ‫ميينا‬ ‫الثلج ‪ .‬وظلت العربة تعدو بنا فى شوارع املدينة‬ ‫وصلنا إىل منزل فخيم هو املنزل الذى يسكن إحدى طبقاته حضرة ( عبد الرشيد أفندى )‬ ‫وتلك الطبقة تشتمل على قاعة جلوس كربى بها أثاث ثـمني وبيانو وباب آخر يوصل إىل‬ ‫غرف أخرى للجلوس والنوم وعلى مشال الداخل قاعة صغرية هى مكتبة حضرته وبينهما‬ ‫طرقه توصل إىل قاعة األكل ‪.‬‬ ‫وملا كان غرضى من هذه الرحلة بيان ما عليه القوم من الدرجة العمرانية وليس حكاية‬ ‫احلال عن شخصى فقط فسأخلص ذلك فيما يلى مبشئية اهلل تعاىل ‪.‬‬

‫( بطرسبورج )‬ ‫غري خاف على قراءة رحلتى ‪ .‬أن بطرس األكرب هو الذى ‪ -‬اختط هذه املدينة الكبرية ‪-‬‬ ‫فى سنة ‪ 1704‬ميالدية ‪ .‬ومساها بامسه وباسم القديس بطرس ‪ ،‬وانتخب موقعها على نهر‬ ‫عظيم يسمى “ النيفا “ وهو خيرج من حبرية تسمى ( الدوجا ) فصارت عاصمة الروس بعد‬ ‫ً‬ ‫عمرانا‪.‬‬ ‫أن كانت عاصمة اململكة مدينة “ موسكو “ وصارت هى من أعظم مدن الدنيا‬ ‫ومدنية وال بأس من اإلشارة إىل شئ من ملخص تاريخ ذلك القيصر الكبري حتى يعرف‬ ‫القارئ ممن مل يطلعوا على التاريخ ما كابده ذلك القيصر فى ختطيط هذه املدينة ‪،‬‬ ‫وما عاناه من املتاعب فى سبيل ذلك ‪ ،‬وفى جعلها عاصمة اململكة ‪ .‬فهذا القيصر توىل‬ ‫اململكة فى سنة ‪ . 1689‬وهو فى السابع عشرة سنة من عمره ‪ ،‬وأخذ يفكر فى توسيع‬ ‫دائرة ملكه ومسو عظمته فعمد إىل التفكري فى بناء أسطول حربى وجتارى يدور‬ ‫فى موانئ البحر األسود بعد الوصول إىل ذلك البحر بامتالكه “ازوف” وهى إحدى الثغور‬ ‫بعد عناء عظيم ‪ .‬وملا كانت خزينة اململكة خالية من املال فرض ضريبة على األشراف‬ ‫ً‬ ‫متنكرا‬ ‫وخدمة الدين ‪ ،‬واستخدم من يعتمد عليهم فى مجع ذلك املال ‪ ،‬ثم قام هو بنفسه‬ ‫ً‬ ‫متنقال فى ممالك أوروبا املشهورة بقواها البحرية واحلربية فأقام فى اجنلرتا والدمنارك‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بسيطا فى بناء السفن يتعلم دقائقها حبيث إذا عرفه أحد إنتقـل إىل جهـة أخـرى‬ ‫عامال‬ ‫غيـر معـروف فيـها ‪ ،‬وهكذا حتى عاد إىل بالده فى سنة ‪ . 1700‬واستلم أزمة امللك وشرع‬ ‫بالعمل فى بناء األسطول بالبحر األسود ‪ .‬ثم استعمل الدهاء فصار يتحد مع هذا امللك‬ ‫حملاربة سواه ‪ ،‬كما احتد مع ملك الدمنارك وملك بولونيا على حماربة أسوج واقتسام‬ ‫أمالكها ‪ ،‬ومل يرتد عن هذه السياسة حتى أضاف إىل روسيا مقاطعات كثرية كنص‬ ‫وصيته املشهـورة التى سلـك سبيـلها القياصـرة بعده ‪ .‬ثم انقطع إلصالح داخلية البالد‬ ‫حتى نظم جنديتها ‪ ،‬وماليتها ومدارسها ومعاملها ‪ ..‬اخل ‪ .‬وجعل نفسه رئيس الكهنة‬ ‫الروسية ‪ ،‬ومل يزل القياصرة بعده كذلك ‪ .‬وبطرس الكبري هو من عائلة رأسها رجل‬ ‫امسه ( ميخائيل رومانوف ) كان ابن أحد األساقفة ‪ ،‬وأمه من بيت رورك ورورك هذا‬ ‫هو أول أمري قام فى سنة ‪ 862‬ميالدية من قبيلة تعرف باسم روسن اشتهر باحلكمة ‪.‬‬ ‫فاستدعته مجلة قبائل للحكم عليها فبدأ الدولة الروسية احلالية ‪ .‬وأطلق على رعاياه‬ ‫‪49‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫اسم روسيني نسبة إىل قبيلة روسن وتوارث امللك عنه أمراء من نسله وسعوا نطاق الدولة‬ ‫حتى قام فالدميري األول وأدخل الديانة املسيحية إىل البالد فى سنة ‪ . 988‬ومن ذلك احلني‬ ‫ظهرت الدولة الروسية ‪ ،‬وصار هلا عالقة بالدولة األخرى ولكن مملكة بولونيا هامجتها‬ ‫وكسرتها ‪ ،‬فصار قسم منها تـحت سيـادة بولونيا‪ ،‬وظل كذلك إىل القرن الثامن عشر‪،‬‬ ‫وقسم حتت سيادة التاتار إىل أوائل القرن اخلامس عشر ‪ .‬وكان ما عدا ذلك هو القسم‬ ‫الذى يعرف باسم روسيا الكربى أو بالد املسكوف ‪ .‬وهو الذى تغلب بعدئذ على بقية‬ ‫البالد الروسية وصريها دولة واحدة فى زمن ( إيفان الثالث ) ‪ ،‬وما ذكرته هنا هو من‬ ‫ً‬ ‫سلطانا‪ .‬فدولة التاتار‬ ‫املسائل التى توجب على األمم أن ال جيعلوا لليأس على قلوبهم‬ ‫التى كانت باألمس سائدة على الروس صارت ً‬ ‫جزءا منها وحتت سيادتها كبولوائة التى‬ ‫إنقسمت بني ثالث دول ‪ ،‬وقامت دولة الروس تسود اليوم وهلل فى خلقه شئون ‪.‬‬ ‫عود وكانت مدينة موسكو عاصمة روسيا فقد رأى القيصر أن عدم إتصاهلا ببالد‬ ‫الغرب يضر ببالده فانتخب موقع بطرسبورج وباشر عمارتها بنفسه حتى بلغ املشتغلون‬ ‫فيها من العمال حنو األربعني ً‬ ‫ألفا ‪ ،‬وكان يباشر كل شئ حتى قيل إنه اقتلع ضرس عامل‬ ‫جاءه يشكو اآلالم من ضرسه ‪ ،‬وللرتغيب فى سكنى مدينته هذه نقل إليها رفات القديس‬ ‫واآلثار الدينية التى كانت بكنائس موسكو وكييف ومجلة ما نقله رفات القديس‬ ‫واآلثار الدينية التى كانت بكنائس موسكو وكييف وأن مجلة ما نقله رفات القديس‬ ‫“نيفسكى” الذى يتسمى بامسه أول شارع فى بطرسبورج ‪ ،‬أو هو نسبة إىل نهر النيفا ألن‬ ‫لفاهم (سكى) أداة نسبة فى اللغة الروسية فصارت بعنايته وجماهدته من أكرب مدن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مليونا ونصف مليون ‪ .‬ونهر النيفا‬ ‫وعمرانا ‪ ،‬وعدد سكانها يبلغ األثنني‬ ‫إتساعا‬ ‫الدنيا‬ ‫يقسمها جبدار املتفرعة إىل حنو ست من اجلزر ولكن اجلسور احلجر واحلديدية الكثرية‬ ‫على النهر وعلى فروعه جعلت املواصالت واخره للغاية وكل هذه اجملارى سواء من أصل‬ ‫النهر أو فروعه تسود جانبيها األرصفة املتينة العالية واحلواجز احلديدية البديعة األشكال‬ ‫مما ال ميكن تقدير قيمته ‪ ،‬ويدهش الفكر عند حساب إليفها ‪.‬‬ ‫وملا كنا أشرنا إىل عدم الفائدة من الرحالت التى ميألها من وصف البقاع ألنها خترج بهم‬ ‫عن حكمة السري فيجدر بنا اآلن بعد ما ذكرنا من مبدأ قيامنا وما صدفنا فى طريقنا‬ ‫ليكون كنصيحة ملن يود الرحلة إىل تلك األمصار القاصية أن نقسم كالمنا بغاية‬ ‫الوجازة إىل ما يهم معرفته متيز أمة عن أمة أخرى فنقول ‪:‬‬ ‫ً‬ ‫أوال‪ :‬ليس شئ أهم من الوقوف على عقائد القوم فى عقائدهم ‪ ،‬وهلذا نذكر أنهم‬ ‫قسمان‪ :‬قسم على املذهب األرثوذكسى وهم األغلب وهو مذهب احلكومة الرمسى ‪،‬‬ ‫وقسم على املذهب الكاثوليكى وهو األقل ‪ ،‬وبني هذين القسمني فريق من األكراد‬ ‫وفريق أخر من املسلمني ‪ .‬وكل هؤالء قابضون على دينهم أكثر من سواهم فى البالد‬ ‫ً‬ ‫ًُ‬ ‫خصوصا بني ديننا‬ ‫ختريفا ‪ ،‬وعلى نقاوة قلب وخوف من اهلل واستقامة تامة‬ ‫األخرى وأقل‬ ‫اإلسالمى الشريف‪ .‬وتوجد عداوة كامنة بني األرثوذكسيني والكاثوليكيني وبني‬ ‫هذين ‪ ،‬واليهود أما املسلمون فمحبوبون منهم كافة‪ .‬حتى إنى كنت سكنت عند‬ ‫عائلة يهودية فلم يقبلونى إال بعد أن تأكدوا أنى مسلم ‪ ،‬وكذلك سكنت مرة أخرى‬ ‫‪50‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫مع عائلـة مسيحيـة ‪ ،‬فلم يسكنونى إال ملّا تأكدوا ِّ‬ ‫أنى لسـت يهودى ‪ ،‬وهم حيرتمون‬ ‫الكنائس واملعابد ورجال الدين أعظم إحرتام ‪ .‬وكنت إذا ركبت عربة رأيت احلوذى‬ ‫كلما مر على كنيسة أو “ أيقونة “ ‪ -‬صورة ألحد القديسني ‪ -‬أسرع بكشف رأسه‬ ‫ورسم الصليب مجلة مرار حتى يتجاوزها ‪ ،‬وهكذا حال كل املارة مشاة وركبانا ‪.‬‬ ‫وكان ذلك يؤثر فى قلبى أشد التأثري ‪ ،‬إذ تتمثل أمامى وحدة اخلالق سبحانه وتعاىل ‪،‬‬ ‫وتوجه الكل إىل تعظيمه وعبادته على إختالف الطرق والتنافس فى سلوكها ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫صحيحا‪.‬‬ ‫وكلما يسمع عن الروسيني من بغضهم للمسلمني أو التضييق عليهن ليس‬ ‫ولكنه يوجد من ذوى اجلاه والنفوذ من يتظاهر بذلك فيسند فعله إىل األمة بأمجعها ‪.‬‬ ‫والروسيون أهل وداعة وتودد ‪ ،‬وحسن معاملة ‪ ،‬ومكارم أخالق ‪ .‬ويكفى أن أقول أنى فى‬ ‫تسعة أشهر مل أر مشاجرة واحدة فى أحد الشوارع ‪ ،‬أو باجملتمعات العمومية ‪ .‬ومل يوجد من‬ ‫أعماهلم الدينية ما يتشابه مع بعض أعمالنا اإل وجود بعض اإلحتفاالت لبعض القديسني‬ ‫كاملوالد عندنا ‪.‬‬ ‫وتوطيد العقائد الدينية فى قلوب الروسيني سبب كبري فى عدم وجود اجلرائم بينهم ‪،‬‬ ‫وال يقدح فى قوىل هذا وقوع الفظائع من رجال اللجنة الثورية ‪ .‬فإن هؤالء ليسوا من الدين فى‬ ‫شئ بسبب ماالبس عقائدهم من كتابات فالسفة الفرانساويني ضد الدين ‪ .‬وكان أول ما‬ ‫طلب منى حتريره أن أكتب كلمة إىل املسلمني فنظمت القصيدة األتية حتت عنوان إىل‬ ‫املسلمني ‪ ،‬وذلك بالعدد السابع من جريدة “التلميذ” الصادرة فى يوم السبت ‪ 14‬شوال سنة‬ ‫‪ ، 1324‬أول ديسمرب سنة ‪.1906‬‬

‫( إىل املسلمني )‬ ‫إىل ما إىل ما حنن يا قوم ّ‬ ‫نوم ؟‬

‫عن السبق فى كسب العال النوم جيرم‬

‫هلموا وهبوا ليس للنوم قيمة‬ ‫أال فاسألوا أهل البصائر وامسعوا‬ ‫يقولون عنا ان للجو علة‬ ‫أليس هو اجلو الذى فيه قد منت‬ ‫وآثارهم فينا تؤكد أنهم‬ ‫لعمر املعاىل لو يقدر بعثهم‬ ‫لقد نسب االفرنج تأخرينا إىل‬ ‫وما الذنب إال قولنا وصنيعنا‬

‫إذا كان للتأخري والفقر يسلم‬ ‫مباذا تأخرنا اذا هم تقدموا ؟‬ ‫لتأخرينا كال فهذا توهم‬ ‫حياة السالف على الفوز أقدموا‬ ‫هم الناس أما حنن كالبهم سوم‬ ‫ملا قدروا أن ينسبونا اليهمو‬ ‫أوامر دين فيه فوز ومغنم‬ ‫وما الدين إال النور واجلو معتم‬ ‫‪51‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫ندين به دانوا ومل يتقدموا‬ ‫برتك أمور الدين نشقى وندهم‬ ‫يقوم به العمران أو هو سلم‬ ‫فقد قادهم حنو العال حني اسلموا‬ ‫بقانونه السامى السماوى فعظموا‬ ‫ملا وسع التشريح قول يتمم‬

‫وهاكم بأرض اهلند قوما بغري ما‬ ‫ومن يتبني حالنا يدر أننا‬ ‫ومل ال؟ وهذا ديننا فيه كل ما‬ ‫وأسطع برهان عليه رجاله‬ ‫وسادوا بنى الدنيا بأقصر مدة‬ ‫ً‬ ‫تشرحيا لداعى احنطاطنا‬ ‫ولو شئت‬ ‫***‬ ‫ً‬ ‫خسرا أن أضعتم لسانكم‬ ‫فمن ذاك‬ ‫هموا رغبوا أن ينقلونا جلنسهم‬ ‫أال فانظروا للقبط فى مصر نظرة‬ ‫اليس ألن القوم ضاع لسانهم‬ ‫ومن ذاك دور العلم مل تك بيننا‬ ‫وما هو من دور الصناعات عندنا‬ ‫شعرنا بأنا فى افتقار اليهما‬ ‫هما اثنان مسئوالن مثر وعامل‬ ‫بدر همه هذا وهذا بعلمه‬ ‫وإن خبالفا خلسر عام ومل يكن‬ ‫ومن ذاك أن أهملتم املرأة التى‬ ‫تغذية باأللبان لكن فكرها‬ ‫فأهملتموها للجهالة مل تكن‬ ‫وتدبري أمر البيت من كل وجهة‬ ‫هلذا فأوىل أن حتلى حبلية‬ ‫ومن ذاك تقليد األجانب فى الذى‬ ‫‪52‬‬

‫***‬

‫***‬

‫***‬

‫ويأبى لسان الغري أن تتعلموا‬ ‫ً‬ ‫وحتما سنعجم‬ ‫بتحويله عنه‬ ‫فأين همو من جمدهم وهمو همو‬ ‫فضاعت معاليهم ومل يغن مندم‬ ‫على ما اقتضت حاجاتنا وهى الزم‬ ‫كال شئ مما يرتضيه التقدم‬ ‫فكيف عن االقدام والسعى حنجم‬ ‫وليس مسئول جهول ومعدم‬ ‫فإن يفعالن فاألجر أعلى وأعظم‬ ‫لنا قدم فى االرتقا تتقدم‬ ‫عليها إرتقا األبناء إن هم تعلموا‬ ‫كمدرسة أوىل له حني يقدم‬ ‫بعارفة شأن احلياة لتغنموا‬ ‫عليها وإال فهو بيت مهدم‬ ‫من العلم ثم الدين وهو املقدم‬ ‫يضر وعنه الفقر والبؤس ينجم‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫لكنا سبقناهم وما نتربم‬ ‫تفرقنا واحسرتا فهو يعدم‬ ‫على أن نصر املؤمنني حمتم‬ ‫ذوو العزم كنا فى املنافع نعزم‬

‫ولو كان ذا التقليد فيما يفيدنا‬ ‫وأكرب من هذا وذلك كله‬ ‫وخشية غري اهلل ً‬ ‫جبنا وخسة‬ ‫وأين همو لو كان يوجد منهمو‬ ‫***‬ ‫فيها نبى االسالم هبوا حبكمة‬ ‫إىل األخذ باحلسنى إىل القول بالنهى‬

‫إىل وحدة الدين احلنيف وأقدموا‬ ‫إىل الفعل فى حزم فذلك أحزم‬

‫واملسلمون غري مضطهدين فى دينهم ‪ .‬وهم فى البالد الروسية حنو اخلمسة وعشرين‬ ‫ً‬ ‫مليونا من النفوس ‪ ،‬واملوجود منهم فى عاصمة الروس حنو العشرة آالف منهم التجار ‪ ،‬والصناع‬ ‫وفيهم ذوو الوجاهة والثراء ‪ ،‬ومل يكن هلم فيها مسجد للصالة سوى بيوت استأجروها إلقامة‬ ‫العبادة ‪ .‬وقد دعونا الناس لإلكتتاب بواسطة جريدة «التلميذ» ‪ ،‬ووجهنا اخلطاب مللوك‬ ‫اإلسالم فلم جيب النداء سوى األمري اجلليل املعظم مسو أمري «خبارا» األفحم بأن تربع بثمن‬ ‫أرض املسجد من جيبه اخلاص وتوج ذلك بعمل اكتتاب عام فى بالد إمارته فاجتمع‬ ‫ً‬ ‫مضافا إىل ما كان مجعه حضرة «رئيس اجلمعية اخلريية اإلسالمية»‬ ‫املال الكثري ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫فى بطرسبورج وهو بولونى األصل من سكانها املسلمني ‪ .‬وقد اشرتوا ً‬ ‫كبريا على‬ ‫بيتا‬ ‫ً‬ ‫مسجدا ويرتكوا‬ ‫شارع النيفسكى ‪ ،‬وشارع آخر متقابل معه واختاروا أن جيعلوا صحنه‬ ‫مساكنه لالستغالل ‪ ،‬ولكنه مل يتم لآلن ‪.‬‬ ‫وممن اشتغلوا خبدمة هذا االكتتاب ‪ ،‬وكانت له اليد الطوىل فى خدمة املسلمني هناك‬ ‫ً‬ ‫أيضا رجل مثر فاضل امسه ( حممد عليم مقصودف أفندى ) وديع األخالق طاهر القلب ذو‬ ‫مزايا شريفة وخالل عالية ‪ .‬أما ما تذيعه اجلرائد من وجود إضطهادات من الدولة الروسية‬ ‫للمسلمني فراجع إىل ما أشرنا إليه من قيام بعض وجهاء احلكام الذين هم من رجال الدين‬ ‫والعسكرية بشئ من هذا القبيل ‪ .‬فيسند عمله إىل األمة الروسية وحكومتها مجلة ‪،‬‬ ‫وهو غري صحيح ‪ .‬إال أن حكومة الروس ككل احلكومات املستعمرة ختشى قيام أهاىل‬ ‫املستعمرات احملكومني بها ‪ ،‬فهى تعمل للحذر من هذه اجلهة بأن أوجدت األحكام على‬ ‫ثالثة أنواع حكم عرفى بال جمالس حتقيق ‪ ،‬وحكم عرفى بعد إنعقاد جملس حتقيق‬ ‫خاص ‪ ،‬وحكم قانونى أمام احملاكم ‪ .‬والنوعان األوالن حملاكمة اجملرمني السياسيني‬ ‫ً‬ ‫عموما عسكريون ‪.‬‬ ‫وأمثاهلم حبسب أهمية اجلرمية ‪ .‬وحكام املستعمرات‬ ‫ً‬ ‫ثانيا‪ :‬إن احلالة العمرانية فى البالد الروسية سائرة على حمور منتظم إن مل يزد على‬ ‫مدينة املمالك األوربية األخرى ‪ .‬فال ينقص عنها ‪ .‬وهى بالد صناعية زراعية جتارية ‪.‬‬ ‫فأما الصناعة ففيها مدارس صناعية كثرية راقية ‪ ،‬ومدارس فنية للعمليات الكربى ‪،‬‬ ‫وبها من املعامل العدد العظيم ‪ ،‬وليس شئ مما يصنع فى املمالك األوربية إال ويصنع بها ‪.‬‬ ‫‪53‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫ً‬ ‫خصيصا بغريها ‪ .‬ومما متتاز على غريها به صياغة الذهب األبيض ( البالتني )‬ ‫إال ما كان‬ ‫ً‬ ‫قريبا ‪.‬‬ ‫الذى يستخرج من جبال أورال ‪ ،‬وبعض املصنوعات اخلشبية مما سيأتى بيانه‬ ‫وأما الزراعة فكذلك غري أنها خصيصة بزراعة القمح لصالحية أرضها له ‪ ،‬وإلتساع‬ ‫مساحتها ‪ ،‬وبها من األثـمار والنباتات األخرى ما يوافق البالد الباردة فقط ‪ .‬ومما يدور فى‬ ‫ً‬ ‫تقريبا الكرمب فهم يقدمونه فى أول الطعام كالشوربة ويسمونه (‬ ‫مآكلهم طول السنة‬ ‫برش ) ‪ .‬وهم فى حالتهم الزراعية كأهاىل الصعيد عندنا إذ ينتظرون احنسار الثلوج واملياه‬ ‫عن األراضى ثم يزرعونها (بالتلويق ) ‪ ،‬وفيما عدا إبان الزراعة تراهم يشتغلون بالصناعة‬ ‫فالنساء واألطفال يشتغلون بعمل العلب على شكل الفواكه من التفاح ‪ ،‬والكمثرى ‪،‬‬ ‫وغريها مما يوجد منه عند جتار األفرنج هنا مبصر ‪.‬‬ ‫وأما التجارة فما متتاز به على سائر املمالك األخرى التجارة فى اخليول التى تكثر بها‬ ‫“اخليول البلق” ثم القمح ‪ ،‬وبعض تلك املصنوعات التى أشرنا إليها ‪.‬‬ ‫ولكل نوع من هذه األنواع مدارس خاصة موجودة بكثرة عدا املدارس العلمية والدينية‬ ‫منها ما هو للحكومة وما هو لألهاىل ‪ ،‬ومنها العام واخلاص ‪ ،‬ولكل مدرسة سواء كانت‬ ‫أمريية أو أهليه لباس خاص يعرف به ‪ .‬فتعرف احلوذى ‪ ،‬واحلمال ‪ ،‬والطرزى ‪ ،‬واحلداد من‬ ‫شكله وهندامه ‪ .‬ومما جيعل ذكره هنا أنه غري مسموح ألحد من التالميذ باملدارس‬ ‫اإلبتدائية أو الثانوية أن يدخل احملال العمومية كالقهاوى واحلانات وأمثاهلا ‪ .‬اللهم إال أن‬ ‫يكون من طلبة املدارس العالية فال حرج عليه ‪ ،‬على العكس منا معشر املصريني فهذه‬ ‫حمال املقامرات واحلانات والفسق مملوءة بالشبان بال رقيب من احلكومة ‪ ،‬وال من األهاىل ‪.‬‬ ‫وللمسلمني ببطرسبورج مكاتب أهلية ال سيطرة للحكومة عليها ‪ .‬غري أنها مكاتب‬ ‫إبتدائية بسيطة يديرها رجال بسطاء إال القليل منها فى يد بعض العارفني ‪ ،‬ومواردها من‬ ‫الرب واإلحسان ‪ ،‬وقد كان فى اإلمكان أن جيمع املسلمون أمرهم فى تلك العاصمة لعمل‬ ‫مدرسة كربى نافعة ‪ ،‬ولكن هلم العذر فى ذلك إذ ليست حكومة الروس كحكومة‬ ‫فرنسا التى أنشأت املدرسة الصناعية فى تونس من أموال أوقاف املدرسة الصادقية ثم جعلتها‬ ‫ألنباء الفرنسيس خاصة ومل تدخل بها من املسلمني إال ستة بعد رفع الشكاوى العديدة‬ ‫حبجة أن أبناء املسلمني يفسدون أخالقهم بل أن حكومة الروس سوت بني رعاياها فى‬ ‫التعليم فتجد مدارسها تقبل أبناء املسلمني وبناتهم بعناية تامة بال استثناء وترى بني أبناء‬ ‫الروس من يساويهم من أبنائنا وبناتنا فى كل الدرجات العلمية ‪.‬‬ ‫وهكذا الشأن فى املدرسة احلربية فمن ترقوا بها من أبناء املسلمني إىل رتبة الفريق وما‬ ‫حتتها كثريون ‪ .‬ولكن مما تؤاخذ عليه احلكومة الروسية أنها كانت أرادت أن جتعل‬ ‫التعليم فى املدارس االسالمية باللغة الروسية وأن تكتب اللغة التاتارية حبروف روسية‪.‬‬ ‫وقد كتبت جبريدة التلميذ أدعو املسلمني هناك ملعارضة ذلك فلم يتم فعال ملا فى أخواننا‬ ‫املسلمني هناك من الشدة واليأس واليقظة والعمل للمستقبل وإن قام منهم من ساعد فى‬ ‫عمل كراسة دينية تشتمل على التوحيد وبعض العبادات بنصها العربى حبروف روسية‬ ‫حتى مسخت النطق وكانت هذه الكراسة باعثة إلحدى الراهبات على طلب تعيينها‬ ‫‪54‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫معلمة للدروس الدينية باملدارس االسالمية وال يؤخذ ذلك على أخواننا هناك ففيهم بعض‬ ‫املارقني كما هو احلال عندنا ‪.‬‬ ‫ويشكو املسلمون هناك من تدخل احلكومة فى إدارة شئون احملاكم الشرعية فى‬ ‫حالة أنها ال تتدخل فى شئون حماكم الشريعة املوسوية ‪ .‬ولكنى أقول أن ذلك ليس فيه‬ ‫ً‬ ‫عموما ‪ ،‬وعلى رجال‬ ‫غبار على حكومة الروس ‪ .‬بل تبعته على األمة اإلسالمية نفسها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خصوصا ففيهم من ال يعارضون احلكومة فى ذلك ولو بالقول إستخفافا باألمر ‪،‬‬ ‫الدين‬ ‫وحمافظة على الراتب كما يفعل الكثريون عندنا ‪ ،‬ومن كانوا على هذه الشاكلة‬ ‫حمقورون مرذولون لدى األمة التاتارية بأسرها ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ :‬أن حالة التعليم لدى املسلمني فى روسيا سائرة كغريه ‪ ،‬كالسيل اجلارف بباعث‬ ‫االخالص فى اخلدمة من زمرة األغنياء والوجهاء ‪ .‬بل الفقراء ففى كل قرية مكتب لتعلم‬ ‫القرآن الشريف ‪ ،‬وليس للمعلم أجر من التالميذ سوى قطعة من اخلشب يستحضرها الطفل‬ ‫معه للوقود وألجل التدفئة ‪ .‬إذ أن اجلو فى البالد الروسية بارد ويصل فى بعض األحـيان‬ ‫لدرجـة ‪ 30‬حتـت الصفر ‪ ،‬ويثبت فى كثري من األيام على درجة من العشرين إىل اخلامسة‬ ‫والعشرين ‪ .‬ونزول الثلوج مستمر فرتاه كالقطن املندوف املتطاير ‪ .‬ومن األغنياء فى كل‬ ‫جهة من له مكتب خصوصى‪ ،‬ومنهم من له مجلة مكاتب حتى أن أحد األغنياء فى مدينة‬ ‫باكو افتتح مائة مكتـب على نفقته ‪ ،‬وهلم شغف كبري مبساعدة الفقراء ‪ ،‬وإحرتام‬ ‫العلماء ومعاونتهم وحب اجلنس العربى من حيث أن النبى الكريم صلوات اهلل عليه من‬ ‫العرب ‪.‬‬ ‫وباإلمجال فحالة مسلمى روسيا أحسن بكثري من كل مسلمى العامل اآلن من الوجهة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مكتبا فى خربني‬ ‫دائما ‪ ،‬ولقد افتتح أحد أغنيائهم‬ ‫العمرانية‪ .‬وهم على رقى متقدم لألمام‬ ‫بالصني‪ ،‬وسيكون الفضل فى نشر اإلسالم ببالد الصني ملسلمى الروس دون غريهم ‪.‬‬ ‫ومن أعجب ما فى عاصمة الروس مما يلفت النظر ويدهش الفكر ضخامة بناياتها ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وقسما للرتامواى ‪،‬‬ ‫وقسما للعربات ‪،‬‬ ‫قسما للمشاة ‪،‬‬ ‫وإتساع شوارعها ‪ ،‬وتقيسمها فرتى‬ ‫ً‬ ‫وقسما للتنزه وفى تقاطع الشوارع منتزهات مجة وكل منتزه به متثال إما ألحد األدباء ‪ ،‬أو‬ ‫القواد ‪ ،‬أو العلماء‪ ،‬أو السواس ‪ ،‬أو امللوك ‪.‬‬ ‫وأهم شارع بها هو شارع “النيفسكى” ‪ -‬الذى ميتد من الشرق إىل الغرب على مسافة‬ ‫مخسة آالف مرت ‪ ،‬وعلى جانبيه الفنادق واملراسح واملنتديات واملخازن اململوءة مبختلف‬ ‫األمتعة واملقتنيات والكنـائس إىل غـري ذلك ‪ . -‬ومن عجائبها أن الرتامواى الكهربائى‬ ‫يسري فوق الثلج املتجمد مدة الشتاء من العاصمة إىل قرية تسمى “ برتبورج اسرتانا “ والثلج‬ ‫ً‬ ‫تقريبا ‪ .‬وعند دخول شهر مايو ينقطع فيأخذون‬ ‫يتجمد فوث سطح املاء إىل عمق ثالثة أمتار‬ ‫منه القطع الكبرية فيخزنونها فى مطامري حتت األرض الستعماله مدة الصيف وهو‬ ‫ً‬ ‫أيضا أن اجلسور التى وضعت على‬ ‫عندهم من شهر مايو إىل أوائل سبتمرب ‪ .‬ومن عجائبها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جـسرا فـوق واحـد وعشريـن فرعـا ‪ .‬وأن مـساحة‬ ‫نهر “النيفا” وفروعه تبلغ مائة ومخـسني‬ ‫حبرية “ الودجا “ تبـلغ ‪ 18000‬كيلو مرت مـربـع ‪ ،‬وطـوهلا ‪ 200‬كيلو مرت ‪ ،‬وعرضها ‪،158‬‬ ‫‪55‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫يذهب الناس إليها للتفسح على بواخر صغرية ‪ ،‬وبها مخس حمطات للسكك احلديدية ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وخصوصا “العائلة املالكة”‪،‬‬ ‫وواحد وعشرين خطا للرتامواى ‪ .‬ومن عجائبها أن خدمة الذوات‬ ‫وسائقى عرباتهم هلم مالبس مزركشة بالقصب على اللون األمحر ‪ ،‬وكذلك إختالف‬ ‫أزياء مالبس الضباط بإختالف أسلحتهم ‪ .‬ومن عجائبها املشهورة “كنيسة العذراء” فهى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ضخما من الرخام الذى يشبه رخام أعمدة الكرنك‪ .‬وهلا قبة من‬ ‫عمودا‬ ‫قائمة على ‪132‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫النحاس قطرها عشرون مرتا على ستة ومخسني عمودا قواعدها وتيجانها من النحاس‬ ‫املطلى بالذهب ‪ ،‬وفيها أعالم ‪ ،‬وأسلحة غنمها الروس من النصر على الدولة العثمانية ‪ ،‬ودول‬ ‫النمسا ‪ ،‬وفرنسا ‪ ،‬واملانيا ‪ ،‬وإيران ‪ ،‬والكنائس فى روسيا كل واحدة منها خاصة مبسألة‬ ‫تارخيية ‪ .‬ألن من القواعد املتبعة فى روسيا أن لكل واقعة تنتصر فيها كنيسة تبنى هلذا‬ ‫الغرض ‪ .‬ويودع بها كلما يكتسب من الغنائم وهناك كنيسة أمامها مدافع عثمانية‬ ‫على شكل نصف دائرة ومدافع فوق بعضها على شكل منارة قائمة فى مركز نصف‬ ‫الدائرة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تذكارا لكاترينا‬ ‫ومن عجائبها “حديقة الكسندره” أنشأها ( القيصر اسكندر الثانى )‬ ‫الثانية ‪ ،‬وبها متثاهلا حتمل الوسامات الكثرية وحوهلا رجال اململكة ‪ .‬ومن عجائبها “مرسح‬ ‫الكسندره” وبه قاعة تسع ألفى متفرج ‪ .‬ومنها “دير نيفسكى” الشهري وهو مبنى على‬ ‫شكل حصن عظيم حتيط به اخلنادق ‪ ،‬وكانت وهبته األمرباطورة اليصابات ما استخرج‬ ‫من الفضة مدة سنة كاملة تبلغ ‪ 1800‬كيلو ‪ ،‬وذلك سنة ‪ 1752‬ومنها جسر مصر ومنها‬ ‫متثاالن ألبى اهلول أخذا من مصر ووضعا على نهر “النيفا” فى زمن بطرس األكرب مما يدل‬ ‫على أن آمال ذلك القيصر كانت ترمى إىل اإلستيالء على مصرنا العزيزة ‪ .‬ومن عجائبها أن‬ ‫بها حنو من الثمانية وعشرين الفا من عربات الركوب ‪.‬‬ ‫ومنها أن الروسيني ال يستعملون غري الشاى وحمالته كثرية ‪ ،‬ومنتظمة ‪ .‬وبها آالت‬ ‫الطرب ومجيع من يؤدى اخلدمة من النساء إال حمالت اخلمر فخادموها من الشبان أو الرجال‬ ‫ً‬ ‫صباحا إىل الساعة احلادية عشرة مساء‬ ‫وتلك يبتدئ فتحها من الساعة احلادية عشرة‬ ‫ً‬ ‫صباحا وتظل إىل الساعة الثانية بعد نصف الليل ومجيع احملالت‬ ‫وهذه تفتح من السادسة‬ ‫تكون مغلقة يوم األحد إال حمالت األكل فتفتح بعد الظهر ومنها املكتبة القيصرية‬ ‫فهى فى بناء متسع ومنتظم ً‬ ‫جدا وبها حنو مليون وسبعمائة ألف جملد مطبوع وحنو أربعني‬ ‫ألفا خبط اليد وحنو مثانني ألف رسم متقن جلميع جوانب األرض وقد زرتها مع حضرة عبد‬ ‫الرشيد أفندى ابراهيموف وأطلعت فيها على نسخة من القرآن الشريف قيل أنها أحد نسخ‬ ‫سيدنا عثمان رضى اهلل عنه ‪.‬‬ ‫ولنظارة احلقانية مكتبة خاصة أطلعنى عليها حضرة العامل الفاضل واألديب املهذب‬ ‫أنطون أفندى فضول اخلشاب الطرابلسى من كبار املعلمني مبدرسة اللغات الشرقية‬ ‫القيصرية وقد أطلعت فيها طائفة من أنفس الكتب وعثرت فيها على ذيل لكتاب‬ ‫يتيمة الدهر خبط مجيل وكتاب فى التثليث نافع لكل من أطلع عليه من جهة القول‬ ‫احلق فى عقيدة التثليث والوقوف على حقيقتها وغري ذلك ‪ .‬ومنها دار التحف وهى تشتمل‬ ‫على آثار مجة من قرون خمتلفة ومنها معرض الصور وهى فى بناء ضخم مركب من‬ ‫‪56‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫طبقتني به من صور املشاهري واملشاهد احلربية واآلثارالدينية والقواد والشعراء والكتاب‬ ‫وامللوك فى خمتلف العصور بيد مشاهري املصورين ولنابليون بونابرت أكثر من عشرين‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وخصوصا فى حريق موسكو ‪ .‬وترى بها من الفتيان والفتيات‬ ‫رمسا على أحوال خمتلفة‬ ‫من يشتغل بنقل تلك الصور ‪ .‬ومنها معرض األلعاب وهو لألهاىل ومن أعجب ما رأيت فيه أن‬ ‫ً‬ ‫راكبا عجلة بسكليت على قوائم خشبية حتكى شكل‬ ‫صعد شخص ممتلئ اجلسم‬ ‫ً‬ ‫شبه منحرف قاعدته أرض احملل وظل فى أعالها يلعب ألعابا خمتلفة ثم نزل بالعجلة وفى‬ ‫أثناء نزوله جاء شخص آخر وقلب تلك العجلة فانكفأت براكبها واعتدل ثانية وهو جيرى‬ ‫بها دون أن يقع أو خيتل فى سريه ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وخصوصا األمراض الزهرية ومرض العيون ‪ .‬ومنها أن بها‬ ‫ومنها معرض لصور األمراء ‪.‬‬ ‫مجعية خريية افتتحت مطاعم جمانية للفقراء الذين بيد كل منهم شهادة تدل على‬ ‫فقره ومطاعم أخرى ملن مل تكن بيد أحدهم شهادة حبيث أن كل صحن ال يزيد عن ثالثة‬ ‫مليمات ‪.‬‬ ‫ومن عجائبها التى سررت هلا أن ليس فيها امرأة مسلمة فى دور الفحش حتى أنه فى ذات يوم‬ ‫ملا علم كبار التاتار بوفود بعض النسوة املسلمات لغرض الفحش بقيادة امرأة أفرنكية‬ ‫كانت استوتهن أمجعوا أمرهم وطلبوا من احلكومة إخراجهن فأجيبوا ملا طلبوا ‪ .‬ومنها أن‬ ‫من قوانني احلكومة أن كل مالك يبنى فى منزله ً‬ ‫ً‬ ‫عموميا لقضاء احلاجة وهلذا ال ترى‬ ‫حمال‬ ‫احلكومة مباول وال مراحيض للماره ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إحصائيا لكل من يسكن املدينة مهما كان جنسه‬ ‫كتابا‬ ‫ومنها أن احلكومة تطبع‬ ‫وسنه فى كل ستة أشهر وله كتبة خصوصيون إلجراء التعديالت الوقتية به فإذا ذهبت‬ ‫إىل بطرسبورج ً‬ ‫مثال وأردت أن تسأل عن شخص مل تهتد عن حمل سكناه فما عليك إال أن‬ ‫ً‬ ‫مذكورا‬ ‫تكتب تذكرة من ذات الثالثة ملليمات إلدارة الربيد فري د عليك الرد بعنوانك‬ ‫به عنوان من تريد ‪ .‬وكيفية ضبط القيد فى كتاب االحصاء هذا أن لكل بيت بوابا لديه‬ ‫دفرت من قبل إدارة احملافظة يقيد به كل من يسكن باملنزل حسب املنصوص فى تذكرة‬ ‫املرور التى حيملها وإذا خرج يؤشر أمامه أنه خرج فى يوم كذا وخيطر احملافظة عن كل‬ ‫ذلك واملنازل هناك تبنى على شكل مربع له فناء متسع وكل مسكن له باب من الداخل‬ ‫وآخر من اخلارج وعلى كل باب خارجى شخص ذو لباس خاص ويسمى “شويتسار “ أى‬ ‫خادم والبواب يسمى “ديفرانك “‪.‬‬ ‫والشويتسار من وظيفته أن خيطر البواب بكل ما حيصل فى سكنه وعليه أن يستلم‬ ‫الربيد من املوزع ويسلمه إىل السكان وبهذه الكيفية قد استغنت احلكومة عن اخلفراء‬ ‫ً‬ ‫ليال واكتفت مبرور البوليس “ السوارى “ ومنها أن احلكومة تطبع خريطة املدينة مبينة‬ ‫فيها مجيع حمالت احلكومة وقناصل الدول واملدارس واجلمعيات اخلريية والطبية وحمالت‬ ‫احلريق باأللوان املختلفة بوضاحة تامة ومعها كراسة صغرية بها مجلة تعليمات للبوليس‬ ‫وللعامة وتباع بعشرة ملليمات ‪.‬‬ ‫وتقسيم العملة الروسية كتقسيم العملة املصرية بال فرق سوى اختالف نقش السكة‬ ‫‪57‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫فقط ‪ ،‬ومنها أن يوجد على باب كل بيت لوحة سوداء ذات مسامري بارزة لتعلق بها األوراق‬ ‫عن احملالت اخلالية باملنزل فإذا كان اخلاىل شقة كاملة كانت الورقة بيضاء وعليها‬ ‫منرة تلك الشقة ومشتمالتها بالكتابة وإذا كان اخلاىل غرفة كانت الورقة خضراء‬ ‫وإذا كان اخلاىل موضع سرير فى غرفة كانت الورقة محراء فال حيتاج الباحث هناك إىل‬ ‫ً‬ ‫قطيعا غسيل املالبس باملنازل بل عند الغسال‬ ‫شيخ حارة أو إىل مسسار ‪ .‬ومنها أنه ممنوع‬ ‫وحمالت الغسيل كثرية ً‬ ‫جدا وبها السيدات يغسلن وخييطن ويكوين اخل ولرئيس كل‬ ‫حمل للغسيل دفرت مصدق عليه من إدارة احملافظة ذو قسيمتني ثابتة ومنقولة مكتوب‬ ‫ً‬ ‫شيئا أشر عليه ووصف ما ميتاز منه‬ ‫فيها كل أنواع املالبس مطبوعة فمتى أحضرت له‬ ‫وأمضى الورقة وناولك إياها وأعطاك املوعد احلقيقى فتعود وتدفع الورقة مع األجرة‬ ‫فتستلم مالبسك فى غاية النظافة ‪ .‬ومنها أن كل حمل مرسوم على وجهته مجيع األصناف‬ ‫التى يعرف بها فأنت من بعيد تعرف هذا بائع ألبسة وذاك بائع فاكهة وهلم جرا وكل شئ‬ ‫يباع مكتوب عليه ثـمنه احملدد ‪ .‬ومنها أن لكل حمطة للسكة احلديدية أمني تودع‬ ‫عنده ما تريد نظري عشرة ملليمات عن كل قطعة وتأخذ بها قسيمة مقيدة بدفرت معتمد‬ ‫من احملافظة ‪.‬‬ ‫ومنها عدم زواج البنات قبل العشرين ومن خيالف يعاقب ‪ .‬ومنها أن االكتتابات ال‬ ‫تكون إال بتصريح من احلكومة ومنها أن اليانصيب ليس فوضى كما هو عندنا ومنها‬ ‫أن للجمعيات اخلريية صناديق موزعة جبميع احملالت العمومية والطرق والكنائس اخل ‪.‬‬ ‫وليس فى بطرسبورج من أبناء العرب اآلن إال حضرة الفاضل أنطون أفندى اخلشاب املشار إليه‬ ‫وهو رجل فى غاية الوداعة وعلى جانب عظيم من مكارم األخالق ومعرفه غزيرة ويعرف‬ ‫من اللغات العربية والفرنساوية والروسية والفارسية والرتكية تربى باملدارس الروسية‬ ‫ً‬ ‫ناشئا ثم هاجر إىل فارس بوظيفة بالبنك الروسى هناك وبها تعلم اللغة الفارسية وعاد منها‬ ‫بعد سنوات ‪ .‬وقد بارحت مدينة بطرسبورج فى مايو سنة ‪ 1907‬وهو على وشك التعيني‬ ‫بنظارة اخلارجية بوظيفة سامية وأخوه بإحدى املدارس العالية وآخر امسه سليم خورى من‬ ‫جبل لبنان وكان بها رجل امسه سليم نوفل من ألد أعداء املسلمني مات بعد أن كسرت‬ ‫رجاله وذاق اهلوان ‪ .‬وأنطون أفندى هذا متزوج بسيدة روسية هى آية فى الكمال ومكارم‬ ‫األخالق وقد صنعا معى من املعروف ماال أزال أشكرهما عليه فال أفيهما حقهما منه ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫رابعا‪ :‬أن السبب فى إذاعة السوء عن البالد الروسية وشهرتها بالقالقل على غري حقيقة هو‬ ‫أن بها مجعية ثورية حتاكى حزب تركيا الفتاة ولكنها تتعمد الفتك باحلكام وبهدم‬ ‫أبنية احلكومة لغرض قلب نظامها وليس هناك عقدة مل حتل بني األمة واحلكومة إال‬ ‫مسألة تقسيم األراضى فإنها كلها مملوكة للعائلة املالكة والطبقة العليا من املالك الذين‬ ‫يسمونهم باللغة الروسية “ باميشيك “ وإال فكل شئ سواها سائر على حمور البالد املتمدنة‬ ‫ً‬ ‫تقريبا ‪.‬‬ ‫الراقية ويقابل الفدان عندنا ما هو حتت اسم “ دستينا “ عندهم وهو نصف فدان‬ ‫وقد حضرت إفتتاح “الدوما الثانى” بتاريخ ‪ 2‬مارس سنة ‪ . 1907‬فكنت أمسع الفالحني‬ ‫يصيحون بقوهلم األرض األرض ‪ .‬وبهذه املناسبة نقول ‪ :‬أن املسلمني فى الدوما قليلون فى‬ ‫جانب غريهم ‪ ،‬ولكنهم مع ذلك مشتتو اإلرادة ومل مييلوا إىل حزب واحد وكنت نشرت‬ ‫‪58‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫جبريدة “التلميذ” قصيدة حتت عنوان مع أى األحزاب نكون ؟ ال بأس بإيرادها وهى ‪:‬‬

‫هموا ثبتوا على دأب فسادوا‬ ‫ً‬ ‫عفوا‬ ‫ألن اجملد ليس ينال‬ ‫ترى االحزاب منهم فى اختالف‬

‫ومل يعرف ديارهمو الفساد‬ ‫ودأب ذوى احلياة هو اجلهاد‬ ‫فتحسبهم عن املقصود دحادوا‬

‫وحيتدم اجلدال وقد يؤدى‬ ‫فتحسبهم على شر تناجوا‬ ‫إذا هم بعد هذا فى ائتالف‬ ‫وكيف وكل حزب فى ثبات‬ ‫أليس من الغرابة فى مكان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫واعتقادا‬ ‫فكرا‬ ‫وخيتفلون‬ ‫نعم هو من عجائبهم ولكن‬ ‫وما ضر اختالف ذوى جهاد‬ ‫فإن تضارب األفكار منه‬ ‫ومملكة حوت أبناء سعى‬ ‫ومملكة ينقب من بنيها‬ ‫ومملكة تفانى كل فرد‬ ‫ومملكة حوت من نام عنها‬ ‫فهيا وأدركوا املقصود سعياً‬ ‫وال تتقسموا فيضيع منا‬

‫إىل حال حياكيها اجلالد‬ ‫وشؤم جره ذاك العناد‬ ‫يقودهمو إىل الغرض احتاد‬ ‫على مبداه ينكشف املراد‬ ‫من القوم احتاد وانفراد‬ ‫وأس النفع فكر واعتقاد‬ ‫توحد قصدهم فبدا الرشاد‬ ‫ملنفعة تسود بها البالد‬ ‫سديد الرأى تعرفه العباد‬ ‫إىل خرياتها ً‬ ‫أبدا تشاد‬ ‫رجال عن عالها التباد‬ ‫حوته لنفعها هى ال ُتكاد‬ ‫ً‬ ‫مخوال كيف سؤددها يعاد‬ ‫لتسمو من منافعنا العماد‬ ‫مع الريح اهتمام واجتهاد‬

‫ثم ذيلت هذه القصيدة مبقالة طويلة استغرقت حنو الثالث صفحات من اجلريدة جاء فى‬ ‫ختامها ما يأتى ‪:‬‬

‫فإذا انضممنا واحتدنا وال خنالنا إال كذلك حبكمة رجالنا الذين يقع عليهم‬ ‫االنتخاب وتساءلنا بعد ذلك ‪.‬‬

‫‪59‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫( مع أى األحزاب نكون ؟ )‬ ‫فاجلواب على هذ مما جيب إعمال الروية والفكر له ولكنه بسيط للغاية فهذا ديننا‬ ‫االسالمى الشريف يدعو إىل احلرية الدينية وإىل املساواة وإىل العدل والنظام والعمران‬ ‫والتسمح وعدم التشديد كما أنه يدعو إىل األخذ باحلزم وعدم التهاون والتساهل فى‬ ‫الواجبات إىل ماال حصر له من مكارم األخالق فأى حزب رأيناه أقرب إىل هذه املبادئ الكرمية‬ ‫أو هو منها على مجاع األخذ بها فإننا نكون معه ويكون صوتنا صوته وغايتنا غايته وإال‬ ‫فنكون مع كل حزب فيما يالئم هذه املبادئ وينطبق على حاجتنا فى املدينة والعمران‬ ‫ً‬ ‫كما إننا جيب أن ال نرتك ً‬ ‫واجبا دون أن نتمسك برأينا فيه فإن األساس الذى نضعه‬ ‫حقا أو‬ ‫حنن فى الدوما ستكون عليه الطبقات اآلتية بعدنا من أبنائنا وماال يوافقهم حينذاك من‬ ‫تلك األصول التى أسسناها ال ميكنهم نقضها ونكون جنينا عليهم شر جناية ووقعنا فى‬ ‫معنى قوله عليه الصالة والسالم فيما رواه حييى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وابن حجر عن‬ ‫امساعيل بن جعفر عن العالء عن أبي هريرة ص ‪ 110‬جزء ‪ 10‬قسطالنى ( من دعا إىل هدى‬ ‫ً‬ ‫شيئا ومن دعا إىل ضاللة‬ ‫كان له من األجر مثل أجور من تبعه ال ينقص ذلك من أجورهم‬ ‫ً‬ ‫كان عليه من االثم مثل آثام من تبعه ال ينقص ذلك من آثامهم شيئا ) أى بعد أن سنها سواء‬ ‫كان العمل بها فى حياته أو بعد موته ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫كثريا فإن وقت النوم فات فيجب التيقظ لآلتى فى‬ ‫فلنتدبر ونتفكر ونتبصر وحنتط‬ ‫سائر األوقات واهلل وىل املؤمنني‬ ‫وال شك أنهم مهما اختلفوا فى اآلراء وضاعت أصواتهم فى ذلك الوسط املزدحم فإنهم أحسن‬ ‫ً‬ ‫حاال منا معشر املسلمني فى مصر إذ متادت حكومتنا املطلقة فى إنفرادها باحلكم حتى‬ ‫ساءت احلال ومل ندر إىل ما يكون املآل‬ ‫نعم أن الدول األوروبية وعلى اخلصوص دولة اجنلرتا احملتلة تعارض كل املعارضة‬ ‫فى نوالنا احلكم الدستورى التام كما هو الشأن فى البالد املستقلة املتمدنة إذ لو نلنا‬ ‫احلكم الدستورى التام لكننا نتناول التصرف فى املالية وفى التعليم وفى اجليش فأما‬ ‫املالية فيمنعنا من السيطرة عليها أرباب الديون العمومية ومساعدة الدول األوروبية ألولئك‬ ‫املداينني وأما التعليم واجليش فال إخال أن الدول األوروبية تعارض فيهما اللهم إال أن الدولة‬ ‫االجنليزية تعارض فيهما أو فى الثانى دون األول كما تدل عليه مطامح ساستها ‪.‬‬ ‫وعلى كل حال فإن املطالبة باحلكم الدستورى من كل مصرى واجبة ‪ .‬وأما نوع‬ ‫املطالبة فال أوافق الذين يطعنون على األمة االنكليزية ويكتبون الكتابات الشديدة‬ ‫ويبعثون العامة على املظاهرات الشائنة التى أشغلت احملرتف عن حرفته والصانع عن‬ ‫صناعته واملتعلم عن دروسه حتى كدنا نرتك الدين والدنيا لالشتغال بالسياسة من‬ ‫غري بابها وإنى أوافق فريق العقالء الذين راعوا املناسبات الزمانية فى األحوال احلاضرة‬ ‫فرأوا االستعانة بإيقاف األمة احملتلة على ما هو أوفق وأجدرينا لنوال مطلوبنا فإن‬ ‫بيننا وبني الزمن الذى تنجلى فيه االجنليز عن وطننا العزيز مسافة طويلة ولكن‬ ‫‪60‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫ميكننا تقصريها بإعداد أنفسنا من الوجهة العلمية واالقتصادية بالطرق احلكيمة ‪.‬‬ ‫فإذا شاء رجال األحزاب ومن يهمهم أمرنا من قادة األفكار وكبار الكتاب أن يتناولوا‬ ‫األنفع قبل النافع واألهم قبل املهم فليجتهدوا فى إزالة ما ألصق بنا العار بني األمم األخرى فإنه‬ ‫طاملا أخجلنى الكثريون من الروسيني املسيحني واملسلمني ورجال العلم واألدب فى تونس‬ ‫مما شاهده سائحوهم من سوء حالتنا األدبية ‪ .‬فليس بني تلك األمم رجل يتزيى بزى النساء أو‬ ‫امرأة تتشبه بالرجال أو امرأة مسلمة يستعملها املسيحى االجنبى فى الرقص القبيح ليتفرج‬ ‫عليها إخوانها املسلمون وخيسرون على هذا ماهلم قدر ما يكتسبون من االثم إىل غري ذلك‬ ‫مما انفردنا به دون سوانا من األمم االسالمية على اخلصوص وليس عندنا غرينا انتشار‬ ‫حفظة القرآن الكريم فى الشوارع والطرق يقرأونه ليسألوا الناس به وال يبالون بشرف‬ ‫احملل الذى يقرأونه فيه أو دناسته ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مضافا إىل أصوات من يهمهم األمر‬ ‫فإليهم وإىل علمائنا ورجال الصحافة عندنا أرفع صوتى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫راجيا أن يتناولوا الكالم فى كل شئ من مهام أمورنا فال جيعلوا اهتمامهم قاصرا على‬ ‫جالء االجنليز فقط وليرتكوا التشامت وما يدعو إىل التفريق واالنقسام فهذا أوىل بهم‬ ‫وأليق ‪.‬‬ ‫وال بأس أن نورد هنا بعض ما اقرتحه علينا رجال الفضل فنشرناه فى جريدة التلميذ من‬ ‫املنظومات وهى ‪:‬‬

‫( ساحنة )‬ ‫لكل باد خفاء فيه نفتكر‬

‫الحد للفكر مهما حدد النظر‬

‫ادخل إىل الروض تنفح من أزاهره‬

‫وفوق رأسك منه يسقط الثمر‬

‫أم كيف إذا ما الدوح أسقطها‬

‫واشرح وعلل ملا مل يسقط القمر‬

‫أم كيف مل تسقط الشمس املنرية أو‬

‫تسقط عواملها واالجنم الزهر‬

‫الكل جسم له ثقل وقد بقيت‬

‫تسرى بدهر قديم ليس ينحصر‬

‫وفى مداراتها مازال سائرها‬

‫يرعى النظام وبدء عنده السرر‬

‫***‬ ‫هذا “ نيوتن “ قد أبدى بفكرته‬ ‫فاجلذب والدفع ناموسان قد وضحا‬ ‫لكن إذا ما تساوى اثناهما ثبتت‬

‫تعليلها ‪ ،‬وهو تعليل به تظر‬ ‫بفكره وبه االنصار تفتخر‬ ‫ومل يكن قط سيار به بصروا‬ ‫‪61‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫وإن يكونا على حال اختالفهما‬ ‫فإنها حال كون اجلذب أكرب من‬ ‫أو إن يكونا بفكس الفرض فهى ً‬ ‫إذا‬ ‫هذا وذاك بعيد ليس يعقله‬ ‫فاصفح “ نيوتن “ أن اجلاذبية ال‬ ‫نعم أتيت ببعض احلق تثبته‬ ‫***‬

‫هذا كبري وهذا شأنه الصغر‬ ‫نقيضه فى املكان الفذ تنحصر‬ ‫عن صفحة الكون لألطراف تنحسر‬ ‫عقل به فى جمال البحث ندكر‬ ‫سلطان منها على األ كوان يقتدر‬ ‫فى العلم رايا وليس الرأى حيتقر‬

‫( اهلل أكرب ) قد قامت بقدرته‬

‫وعنده وحده عن كونها اخلرب‬

‫وال جمال لعقل عند حكمته‬

‫مهما ارتقى فى مساء احلكمة البشر‬

‫كم ال حق فى صنوف العلم َّ‬ ‫فندما‬

‫قد كان يبديه ذو سبق ويبتكر‬

‫وأول أولوا ما قاله خطأ‬

‫وصوبوا رأيه من بعد واعتذروا‬

‫وبني أخذ ورد فى مباحثهم‬

‫تطوى اللياىل عليهم ثم تنتشر‬

‫حتى غدا العلم آراء مبعثرة‬

‫وباخلطأ والصواب ازدادت الصور‬ ‫***‬

‫أواه يا شرق كم من عامل قربت‬

‫آراؤه فيك مل حتفل بها الفكر‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫طورا وآونة‬ ‫جهال بقيمتها‬

‫حسبان قائلها من فرقة كفروا‬ ‫***‬

‫لو كان يعرف (ماركونى) وزمرته‬ ‫عن كهربائية اجلو استقر له‬ ‫ألفا وستني ً‬ ‫عاما لو تناقله‬ ‫ففتشوا الكتب تلقوا كنز معرفة‬ ‫هاكم بنى الغرب أهدوها عنايتهم‬ ‫‪62‬‬

‫***‬

‫(عمرو بن حبر ) ملا تاهو أو ما افتخروا (‪)1‬‬ ‫رأى وقد ظل فى األوراق يسترت‬ ‫فيها بنو البحث أهداهم به النظر‬ ‫أهدا كموه األساطني االىل غريوا‬ ‫وقد هدوا بهداها اذهم افتكروا‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫أن يفهموها ففاقوافيه واشتهروا‬ ‫فكيف يسعفكم باحلكمة القدر‬

‫لسانكم عرفوه حني أعوزهم‬ ‫واخجلتاه بقيتم فيه دونهمو‬

‫هو أبو عثمان عمرو بن حبر اجلاحظ البصرى املتوفى سنة ‪ 360‬هجرية وقد رود رأيه‬ ‫عن ذلك فى كتابه ( احليوان )‬ ‫***‬

‫( العلم )‬ ‫العلم عني وأما غريه أثر‬ ‫والعلم يدرك ما ال يدرك النظر‬ ‫إىل سواه وجمهول له السفر‬ ‫وليس عقبى له ختفى وال سور‬ ‫وعنده بهما بني املال خرب‬ ‫لفاعل بيديه األمر والقدر‬ ‫وما بها من برايا ليس تنحصر‬ ‫ساعون فى الفلك األعلى كما أمروا‬ ‫ومل ينب للنهى ما منه تنبهر‬ ‫فى ساحة العامل األعلى له فكر‬ ‫بهم إىل غري ما هم منه قد فطروا‬

‫ما الشمس عند ضياء العلم والقمر‬ ‫هما به عرفا ال من ضيائهما‬ ‫لذى وذاك طريق ال يغادره‬ ‫والعلم مل حتص عن عد طرائقه‬ ‫هما لدى الفلك األعلى على دأب‬ ‫والعلم يعلم أن الكل منفعل‬ ‫يدرى العوامل ً‬ ‫طرا مادوناو نأى‬ ‫هم فى الفضاء وكل حتت سيطرة‬ ‫والعلم لواله مل تعرف مناهجها‬ ‫والعلم فى العامل االدنى به اطلعت‬ ‫دلته أن سفني اخللق سائرة‬ ‫***‬ ‫ختالفوا وطريق احلق واحدة‬ ‫لو صاحلوا العلم ال نقادوا ملا خلقوا‬ ‫لكنهم خاصموه فاستذهلمو‬ ‫وكلما حملتهم منه بارقة‬ ‫واستعملوا نوره فى حوز خمرتع‬ ‫اهلل فيهم فلم خيشوا أوامره‬

‫وسخر وللهدى لكنهم سخروا‬ ‫له مع الرشد ما ضلوا وما خسروا‬ ‫جهل هو البغض والتفريق والضرر‬ ‫تكثروا من ضروب اجلهل وادخروا‬ ‫يفنى االنام وال يبقى وال يذر‬ ‫وليس منهم بأمر اهلل مؤمتر‬ ‫‪63‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫إىل احتاد ولكن منه قد نفروا‬ ‫أحالمهم ثم عن مدلوهلا اندحروا‬ ‫إىل طرائق عنها قد نأى البشر‬ ‫له تسري وال يبدو هلا ضجر‬ ‫اذناه فالوعظ ال يهديه والنذر‬

‫اهلل فيهم فقد تهدى شرائعه‬ ‫فاولوها بأوهام تطيش بها‬ ‫فالبهم تسرح تهديها غرائزها‬ ‫بل العوامل ً‬ ‫طرا للذى خلقت‬ ‫اال ابن حواء مل يصدع مبا مسعت‬ ‫***‬ ‫ّ‬ ‫قلم بأن الربايا سخرت لكمو‬ ‫وانكم نسخة من مثل عامله‬ ‫وأنكم قد أحطتم بالوجود دوما‬ ‫العلم هلل ما تدرون منه سوى صفر‬

‫وانها جملاىل نفعكم وطر‬ ‫األعلى اليكم كمال الكون يفتقر‬ ‫ً‬ ‫علما وهذا منكم هذر‬ ‫حيويه‬ ‫وقد غابت األرقام والصور‬ ‫***‬

‫الوقت والعمل‬ ‫يا أسري احلياة يهوى الدعاره‬ ‫تاجر أنت رأس مالك عمر‬ ‫ال تكن مثل تاجر يرتامى‬ ‫بل تبصر مع التدبر واعمل‬ ‫إمنا الشغل لو تفكرت كنز‬ ‫ومن العقل أن حتاسب نفسا‬ ‫رمبا يستطيع فاقد مال‬ ‫هل رأيت امرءا رقى للمعاىل‬ ‫ً‬ ‫شيئا‬ ‫أو ترى فى عوامل اهلل‬ ‫ً‬ ‫مستمرا على الدأب‬ ‫أم ترى الكل‬ ‫فاصرف العمر منك فى عمل ينفع‬ ‫إمنا العمر ينتهى ككتاب‬ ‫فحروف تتلى بها كلمات‬ ‫‪64‬‬

‫من يود الفساد قد ود عاره‬ ‫وصنيع اليدين صنف التجارة‬ ‫بغية الكسب فى مهاوى اخلسارة‬ ‫بتأن يكن لنحجك شاره‬ ‫وهى داعى التمدين أس العماره‬ ‫عن فنا العمر سالكا أدواره‬ ‫رده دون أن يرد نهاره‬ ‫دون سعى وشاد فيها دياره‬ ‫ً‬ ‫خملدا للسكون يبغى قراره‬ ‫حبسن السلوك يقفو مداره‬ ‫واصنع ً‬ ‫خريا وأبغ ادخاره‬ ‫ً‬ ‫راغبا اخباره‬ ‫أنت تقراه‬ ‫وسطور إىل متام العباره‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫عات منا بطالة ودعاره‬ ‫مبفيد االعمال عني اخلساره‬ ‫وهى أجزاء عمرنا املختارة‬ ‫خطر غري مدرك وغرارة‬ ‫حفظها واجب بأقصى املهارة‬ ‫فاشتغل لالخاء واحفظ شعاره‬ ‫ويغدو نفع اجلميع فخاره‬ ‫حيوان يود منا احتقاره‬ ‫يذكر الناس بعده آثاره‬

‫مثلما تنهب الدقائق والساعات‬ ‫فقضاء االعمار دون اشتغال‬ ‫مثل أنفاسنا الدقائق متضى‬ ‫نفس واحد يضيع هباء‬ ‫إمنا الوقت فى احلقيقة روح‬ ‫يا ابن حواء هؤالء بنوها‬ ‫فجدير أن يعمل الكل للكل‬ ‫وامرؤ ال يفيد ً‬ ‫فردا سواه‬ ‫يذهب املرء واملنافع تبقى‬

‫( رجاء )‬ ‫( رفع إىل مسو خديوى مصر العظيم )‬ ‫“ منى وأنا أحد رعاياه املخلصني ( منذ كنت فى روسيا ) “‬ ‫أيا ملكا حيمى املال حتت ظله‬ ‫لكل امرئ مرآة حال وانها‬ ‫يرى الناس فيها ما أكن ضمريه‬ ‫قباطن كنه املرء تهدى لكشفه‬ ‫وكم رجل خيتال فى غري ثوبه‬

‫مباضى حسام من نهاه وعدله‬ ‫العماله يبدو بها قدر عقله‬ ‫وان حاول الكتمان متويه قوله‬ ‫دالئل قد جتلى بظاهر فعله‬ ‫ولوال يداه الغرترنا ّ‬ ‫بدله‬

‫وكم رجل جلت نياشني صدره‬ ‫ً‬ ‫انسانا حبق وفت لنا‬ ‫ومن كان‬ ‫فان امر أمل حيى من روض غرسه‬ ‫وما ميزته عن سواه فضيلة‬ ‫ً‬ ‫ذكرا ملن مضى‬ ‫وما خلد التاريخ‬ ‫فإن كان ً‬ ‫خريا كان أدعى لذكره‬ ‫وشتان بني اثنني حقر واحد‬

‫عن العد لكن ما أبانت لفضله‬ ‫يداه بانسان نباهى مبثله‬ ‫رجال فكل الناس فى مثل شكله‬ ‫فنغطى هلا ملا نرى جر ذيله‬ ‫بغري صنيع دل عن كنه أصلة‬ ‫خبري وإال دام ترداد عذله‬ ‫بذكراه واعتز اال خري بنبله‬ ‫‪65‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫***‬ ‫أموالى إنى من رعاياك ههنا‬ ‫ً‬ ‫مرددا‬ ‫أفاخر باملوىل العزيز‬ ‫ويقصر طول الدهر عن حصر بعضما‬ ‫وأعيا أوىل التاريخ ما عددوا له‬ ‫فقد منح االهلني أكرب نعمة‬ ‫بأن وىل العهد يرأس جلنة اكتتاب‬ ‫لننشى لنا كلية نعتلى بها‬

‫أفاخر من حوىل مبصر وأهله‬ ‫لعلياه ما يفنى الثنا ألقله‬ ‫توىل الرعايا من مكارم طوله‬ ‫ً‬ ‫أسفارا هلم بدء نقله‬ ‫وقد آد‬ ‫سيودعها التاريخ بطن سجله‬ ‫فيا نعمى رئاسة جنله‬ ‫وجنلس فى نادى العال بني أهله‬

‫***‬

‫ظنناه أوال كم بذا القصد كله‬ ‫فقالوا وهل وافى بفعل كفعله‬

‫فأضحكهم فخرى بهذا وقيل ىل‬ ‫فعدت إىل ذكرى مآثر جدكم‬ ‫***‬ ‫ً‬ ‫عطفا فإننا‬ ‫فباهلل يا موالى‬ ‫واحلل لنا من عقدة األمر ينفتح‬

‫عبيدك واحى القطر من سوء حمله‬ ‫بكم بابه والصعب يضحى كسهله‬

‫أنل ذلك املشروع من فيض فضلك‬ ‫ً‬ ‫ودم ً‬ ‫ظافرا‬ ‫راقيا أوج األريكة‬

‫جزيل ومن تدبري حزمك أوله‬ ‫أيا ملكا حيمى املال حتت ظله‬

‫وقد بارحت مدينة «بطرسبورج» فى شهر مايو سنة ‪ . 1907‬حينما علمت ممن أثق بهم‬ ‫من كبار أخوانى هناك عزم احلكومة على إبطال جريدة « التلميذ» العربية ‪ ،‬وجريدة‬ ‫« الفت » الرتكية ‪ .‬فطالبت صاحب تينك اجلريدتني ( عبد الرشيد ابراهيموف أفندى ) مبا‬ ‫تأخر عنده من مرتبى وحتصلت على بعضه بعد العناء الشديد مبساعدة حضرة العامل‬ ‫الفاضل ( عطا اهلل أفندى ) صاحب جريدة “نور واملعلم” باملدرسة الكلية القيصرية ‪،‬‬ ‫وحضرة ولده ( حممد صفا أفندى ) ‪ .‬وبعد ذلك توجهت إىل تونس لألسباب التى ٍأشرحها فى‬ ‫الرسالة التالية ‪ ،‬وإنى قبل اخلتام اثنى على مجيع من ذكرتهم برحلتى هذه ‪ ،‬واستلفت‬ ‫القراء ومجهور أخوانى املصريني إىل ما سينشر فى الرسالة التالية فإن فيها ما يهم كل مسلم‬ ‫على اخلصوص ‪ ،‬وكل مصرى على العموم ‪ .‬واهلل سبحانه وتعاىل أسأل أن يوفقنا ملا فيه‬ ‫اخلري والفالح إنه مسيع جميب ‪.‬‬

‫‪66‬‬


‫الرحلة األوىل ( السري و النظر )‬

‫مت طبع هذ الرسالة مبطبعة التقدم الكائنة‬ ‫بشارع “حممد على” مبصر – القاهرة ‪.‬‬ ‫فى اليوم الثانى عشر من شهر رمضان‬ ‫املعظم من عام ‪1326‬‬ ‫هجرية على صاحبها‬ ‫أفضل التسليم‬ ‫والتحية ‪.‬‬

‫‪67‬‬





‫الرحلة الثانية ( الرحلة اليابانية )‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬ ‫احلمد هلل اآلمر بالسري والنظر‪ ،‬املعني يف احلضر والسفر‪ ،‬والصالة والسالم على سيد‬ ‫املرسلني املنزل عليه الكتاب املبني ‪‹‹ :‬قل سريوا يف األرض فانظروا كيف كان عاقبة‬ ‫املكذبني›› ‪ ،‬وعلى آله وأصحابه الذين أكثروا األسفار ّ‬ ‫ودونوا األخبار ومصروا األمصار‪ ،‬يف‬ ‫سالف األعصار (بعد) فإن اهلل جلت قدرته وتعالت عظمته قد خلق األرض وقدر فيها أقواتها‪،‬‬ ‫وأوجد األمم وحبّب إىل كل أمة عوائدها وأخالقها‪ ،‬ورغبها يف ّ‬ ‫جوها و مهادها‪ ،‬ولغتها‬ ‫وبالدها‪ ،‬وجعل الناس خمتلفى األشكال والطباع ‪ .‬كمان خالف بني ما وجدوا فيها من‬ ‫البقاع ‪ ،‬ولكنهم مهما اختلفوا يف املشارب وتفرقوا يف امللل واملذاهب‪ .‬فإن رابطة اإلنسانية‬ ‫جتمعهم واألبوة اآلدمية تقربهم وتشملهم واملزامحة يف طلب األرزاق هي اليت يتسبب عنها ما‬ ‫بينهم من اخلالف أو الوفاق ‪ .‬فحب االختصاص ّ‬ ‫يفرقهم وضرورة املساعدة جتمعهم ألن كل‬ ‫فريق من سكان األرض حيتاج بعضه إىل بعض كما قيل ‪:‬‬

‫ُ‬ ‫حضارة‬ ‫بدو و‬ ‫الناس‬ ‫ٍ‬ ‫للناس من ٍ‬ ‫ِ‬

‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫يشعروا ُ‬ ‫خدم‬ ‫لبعض وإن مل‬ ‫بعض‬ ‫ٍ‬

‫ً‬ ‫مفطورا عليها اإلنسان وجب على العاقل أن يطوف يف‬ ‫ولكن ملا كان حب األوطان طبيعة‬ ‫ً‬ ‫كثريا من األمكنة و البقاع ‪ ،‬و يعرف ما لكل من العوائد اليت‬ ‫بالد اهلل ما استطاع ‪ ،‬ويرى‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫يرتتب عليها جزيل الفوائد‪ ،‬وإذا رأى أن جهة من اجلهات أكثر ثروة وأعظم ِمن أمته قوة حبث‬ ‫يف أسباب ذلك حبث املدقق اخلبري وعرفه معرفة الناقد البصري ‪ .‬حتى إذا عاد إىل وطنه عرف‬ ‫ً‬ ‫مضمحال حاهلا كاسفا باهلا ‪ ،‬عرف أسباب ذلك الكساد ‪،‬‬ ‫ذلك إىل أهل وطنه وإذا رأى أمة‬ ‫وما يرتتب عليه من مضرات العباد‪ ،‬وحذر من ذلك أهل بالده بقدر استطاعته ومبلغ اجتهاده‬ ‫‪ ،‬ويكون إذا أخرب بشيء خمربا عن مشاهدة وعيان ال عن ختمني وحسبان فيحصل بذلك‬ ‫ُوحة فضله‬ ‫على الفوائد اجلليلة‪ ،‬ومزايا جزيلة‪ .‬أهمهما منفعة وطنه الذي فيه ُر ِب ٍّي وببحب ِ‬ ‫ُحبيِ ٍّ ‪ ،‬والفوز برضا اهلل ومزيد ثوابه بنفعه البالد وخدمته للعباد ‪ ،‬وأحب عباد اهلل إىل اهلل‬ ‫أنفعهم لعباده ‪ ،‬وزيادة علمه واتعاظه بأحوال الناس وتباين طباعهم وأخالقهم‪ ،‬وإطالعها‬ ‫إىل كثري من األسرار اإلهلية املكنونة والقوانني املدبرة املصونة اليت دبر اهلل بها شؤون‬ ‫املخلوقات ‪ ،‬وأحكم بها نظام الكائنات ‪ .‬فمن وقف على سر صنع اخلالق زاد يف تعظيمه ‪،‬‬ ‫وعكف على إجالله وتكرميه ‪ ،‬وتقرب إليه بامتثال أوامره ونواهيه ‪ ،‬واعتصم حببل حب‬ ‫ومراضيه ‪ .‬إذ كلما انكشف الغطاء ‪ ،‬وجال نور العلم غياهب الظلماء ‪ ،‬انكشفت أسرار‬ ‫األشياء فيزيد اإلنسان يف تعظيم مودعها ‪ ،‬وجيتهد يف التقرب إىل مبدعها ومن سافر ‪ ،‬واطلع‬ ‫على غري بالده كان كمن عاش زيادة على عمره ‪ ،‬وشهد عصره وغري عصره ألنه عليم‬ ‫باملشاهدة واألسفار أضعاف ما ميكن أن يعلمه باإلقامة ‪ ،‬ومطالعة األخبار‪ ،‬وذلك علمه‬ ‫باملشاهدة والنظر‪ ،‬وهذا علمه بالسماع واخلرب إىل غري ذلك من الفـوائد التـي ال حتصى ‪ ،‬وال‬ ‫‪71‬‬


‫الرحلة الثانية ( الرحلة اليابانية )‬

‫ميكن حصرها وال تستقصى‪ ،‬وال خيفى عن ذوي األلباب كثر مما وقع لألنبياء واملرسلني‬ ‫والصحابة والتابعني‪ ،‬والعلماء والعظماء والصاحلني من التنقل واألسفار للقرى واألمصار‪،‬‬ ‫وما جاء يف الكتاب العزيز ووردت به األخبار من احلث على السري يف األرض للنظر واالعتبار ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ويتجول يف طوهلا وعرضها‬ ‫وملا كان ال ميكن كل واحد من الناس أن يسري يف األرض‬ ‫ملوانع متنعه من األسفار‪ ،‬وبواعث تلزمه بعدم مبارحة الديار نصب كثري من الفضالء‬ ‫أنفسهم للسري يف البالد ملقاصد جليلة أهمها منفعة العباد‪ّ ،‬‬ ‫ودونوا الرحل املفقدة يف‬ ‫اجلهات العديدة ‪ ،‬فمن طالعها فكأمنا شاهد ما شهدوه من املشاهد‪ ،‬وأطلع على ما رأوه‬ ‫من اآلثار واملعاهد ولذلك قد رأيت أن أقيد رحليت إىل اليابان ليطلع عليها كل إنسان خدمة‬ ‫أؤديها‪ ،‬وهدية للمسرتشدين من ٍّ‬ ‫لإلنسانية ّ‬ ‫بين األوطان أهديها‪ ،‬وأسأل اهلل دوام التوفيق‬ ‫واهلداية ألقوم طريق ‪.‬‬

‫مبدأ السفر‬ ‫إنى َ‬ ‫ك ْن ُت قد عزمت على السفر إىل بالد اليابان من مدة ‪ .‬وكان العزم على االرحتال‬ ‫إليها يف الوقت املناسب ‪ .‬لذلك قبل هطالن األمطار بها ‪ ،‬و كان هذا يستدعى أن يكون‬ ‫السفر إليها يف أول شهر مايو ‪ ،‬ولكن ملا حصلت احلوادث اليت حصلت باسالمبول كان ذلك‬ ‫ً‬ ‫باعثا على التأخري‪ ،‬ومل نتمكن من السفر إال يف أول شهر أبريل فنزلنا من اإلسكندرية‬ ‫متوكلني على اهلل تعاىل ‪ ،‬وركبنا منت البحر يف الباخرة النمساوية املسماة (الليد)‬ ‫فأخذت تشق بنا عباب البحر حتى وصلنها حبفظ اهلل تعالي وحسن رعايته إىل (ترييستا)‬ ‫بعد ثالثة أيام ونصف يوم ‪ ،‬ومنها قد ركبنا وابور الرب ً‬ ‫ليال و مل نزل سائرين حتى وصلنا‬ ‫صباحا إىل (فينا) عاصمة النمسا ‪ ،‬وقد مكثنا بها يومني ألجل أخذ التذاكر الالزمة لنا ‪،‬‬ ‫والتوصية على حفظ أماكننا بواسطة شركة كوك ‪ ،‬وبعد إقامتنا مدة هذين اليومني‪،‬‬ ‫وحصولنا على الغرض املقصود من اإلقامة بها قد برحناها ليال متوجهني إىل بالد الروسيا ‪،‬‬ ‫وبعد مضي يوم وليلتني من سفرنا هذا قد وصلنا إىل مدينة (موسكو)‪ .‬وكان ذلك قبل‬ ‫قيام (الرتنسيربيان) وابور سكة احلديد السيربى ‪.‬‬ ‫ومل نرد أن نتكلم على هذه الطريق لكونها معروفة بني األنام مطروقة للخاص والعام‪،‬‬ ‫وقد جعلنا مبدأ الكالم يف رحلتنا هذه من بعد الوصول إىل «موسكو» ببالد الروس‪ ،‬و يف‬ ‫الساعة العاشرة اإلفرجنية ً‬ ‫ليال قد محلت عربة الفندق أمتعتنا إىل (اركتسك) مبوسكو‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا ‪ .‬وكانت‬ ‫اليت بينها وبني الفندق عشرون دقيقة بالعربة ‪ ،‬وقد توجهنا إليها بعد ذلك‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫شديدا ‪ ،‬وملا وصلنا إىل احملطة وجدناها يف غاية من االزدحام ‪،‬‬ ‫مطرا‬ ‫هذه الليلة ممطرة‬ ‫ً‬ ‫مالزما يف موسكو يف انتظارنا ‪ ،‬ومبجرد وصولنا إىل القاطرة‬ ‫وجدنا الرتمجان الذي كان‬ ‫ً‬ ‫سريعا لتفقد أماكننا اليت وصينا عليها لنعلم إن كانت حمفوظة لنا أم ال ‪ .‬فرأينا‬ ‫توجهنا‬ ‫أن خدام القطار لكثرة أسئلة الناس هلم وشدة اشتغاهلم بأعماهلم مع االزدحام الكثري ال‬ ‫يكادون يتمالكون الرد على أحد من السائلني ‪ .‬فلما رأيت ذلك اضطررت للتكلم مع‬ ‫‪72‬‬


‫الرحلة الثانية ( الرحلة اليابانية )‬

‫ناظر احملطة‪ ،‬و شاب تابع لشركة عربات النوم ‪ ،‬فأجابا إىل ذلك بكل أدب واحرتام ولطف‬ ‫وابتسام‪ ،‬وساعدانا على ذلك فاهتدينا إليها بدون دنى تعب وال مشقة بعد ما كانت بعدت‬ ‫علينا يف معرفتها الشقة ‪ ،‬وجدنا أن عربات النوم املوجودة بهذا القطار كسائر عربات النوم‬ ‫التابعة هلذه الشركة بأوروبا ‪ .‬وال تفرتق عنها إال باالستضاءة واألنوار الكهربائية فإن‬ ‫يف عربة منها بطريات كهربائية تضئ سائر العربات ‪ ،‬ويف كل عربة خادم كالعادة‪،‬‬ ‫ولكنه حيشن التكلم مع الركاب باللغة (الفرنسـية و االجنليزية واألملـانيـة) ‪ ،‬وقد‬ ‫ً‬ ‫ونصفا على حساب ساعة (مسرتسربج)‬ ‫حترك القطار من هذه احملطة الساعة احلادية عشر‬ ‫املوافقة للساعة الثانية عشرة ببالد املسكوف ‪ ،‬وحيث أن هذا هو املبدأ احلقيقي للسفر‬ ‫الطويل الذي قد عزمنا عليه‪ .‬فقد توكلنا عليه تعاىل ‪ .‬والتجأنا إليه أن يلحظنا بعني‬ ‫عنايته ‪ ،‬ويكألنا بالليل والنهار حبسن رعايته ‪ ،‬وميدنا بروح منه حتى نقوى على حتمل‬ ‫مشاق السفر ‪ ،‬ونأمن من غوائل اخلطر ‪.‬‬ ‫ثم ملَّا كانت عادتي أن أنام يف أوائل الليل توجهت إىل احملل الذي ّ‬ ‫أعد َّ‬ ‫لي ‪ ،‬ودخلته‬ ‫ً‬ ‫طالبا من اهلل أن حيرسين بعينه اليت ال تنام َم َ‬ ‫تيمنا قوله صلى اهلل عليه و سلم‪:‬‬ ‫ومنت فيه‬ ‫«بامسك ربي وضعت جنيب و بك أرفعه» ‪ ،‬وقضيت ليليت هذه حبمد اهلل على أحسن حال‪،‬‬ ‫وأمجل مثال ‪ ،‬وملا أصبح الصباح توجهت إىل احملل املعد للماء فلم أجد به ماء فاضطرتين‬ ‫احلالة للبحث عنه‪ ،‬ومل أزل كذلك حتى اهتديت إليه وأجريت ما هو الزم من وضوء وغسل‪،‬‬ ‫ولبست مالبسي وصليت ثم توجهت إىل عربة األكل فوجدتها كسائر عربات األكل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومشاال ‪ .‬فوجدتها‬ ‫ممتعا النظر برؤية املزارع اجملاورة للسكة احلديدة ميينا‬ ‫املعروفة ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫أحسن من املزارع اليت رأيتها بقرب (موسكو) بكثري ‪ .‬وكان يلوح لي أن الزراع رجال‬ ‫حيبون العمل ‪ ،‬وال مييلون إىل البطالة والكسل‪ ،‬وهم يتولون أمر زراعتهم بأنفسهم وال‬ ‫يشركون معهم نساءهم يف أمرها أو يرتكونها هلم كما هو شأن كثري من اجلهات ‪ ،‬وأن‬ ‫األراضي بهذه اجلهة مستوية صاحلة للزراعة جيدة الرتبة خالية من الغابات واملستنقعات‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫أخربت أن‬ ‫استعدادا ‪ .‬ثم إني‬ ‫فضال عن كون األشغال العملية تكسبها قوة وتزيدها‬ ‫ً‬ ‫الوابور به مثانون سائحا خمتلفو األجناس وأغلبهم قاصد «الصني أو اليابان» ‪ ،‬وكان‬ ‫بالقطار أحد املفتشني فلما أخرب بعدم وجود املاء ببعض حماله نبه على إصالح مواسري‬ ‫ً‬ ‫قريبا منا‬ ‫املياه حتى صار املاء موجودا جبميع مواضعه ‪ ،‬فسررت بذلك حيث إن وجود املاء‬ ‫يسهل لنا تناوله بدون مشقة يف مجيع االحتياجات اليت تدعو إليه ‪.‬‬ ‫وبعد الظهر من هذا اليوم قد تقابلنا مع الوابور (الرتنس سربيان) إىل أعلى درجات التقدم‬ ‫واحلضارة‪ ,‬وتكون جديرة بالعظمة واإلمارة ويف الساعة احلادية عشرة قبل ظهر ذلك‬ ‫اليوم قد مررنا َ‬ ‫مزارع واسعة جرت العادة أن يكون يف مثلها كثري من أنواع املاشية ‪،‬‬ ‫ولكن مل يكن فيها سوى اخليل ‪.‬‬ ‫وقبيل الساعة الثانية عشرة قد وصلنا إىل حمطة (ياكوبووا) وملا وصلنا إليها رأينا بهذه‬ ‫البلدة جامعني إسالميني ‪ ،‬وهذان اجلامعان يدالن داللة واضحة على أن أننا قد دخلنا بالد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫سرورا‬ ‫كثريا منهم فتحققنا من ذلك ‪ ،‬وسررنا‬ ‫التتار‪ ،‬ومل ميض على ذلك مدة إال وقد رأينا‬ ‫ً‬ ‫كثريا ملا رأينا أراضيهم مشغولة بالزارعة وخمدومة خدمة جيدة تدل على أن هلم دراية‬ ‫‪73‬‬


‫الرحلة الثانية ( الرحلة اليابانية )‬

‫ً‬ ‫نشاطا و حمبة للعمل ‪ ،‬وكراهة للتقاعد والكسل ‪ ،‬وقبل‬ ‫وعناية بالزراعة ‪ ،‬وإن عندهم‬ ‫غروب الشمس قد وصلنا إىل (أوفة) وهي بلدة كبرية موضوعـة علـى تل مـرتـفـع ‪ ،‬وحتت‬ ‫هذا التل نهر متـفرع مـن نـهـر (أورال) ‪ .‬وللوصول إليها قد اضطرتنا احلالة إىل املرور على‬ ‫ّ‬ ‫كربى كبري ‪ .‬وبعد املرور عليه قد وجدنا معامل كثرية ومصانع شتى مكتوبا عليها‬ ‫أمساؤها حبروف عربية ‪ .‬وكان الوقوف يف هذه احملطة نصف ساعة ويف أثنائها قد اشرتينا‬ ‫ً‬ ‫مجيال ً‬ ‫جدا حيار يف وصفه‬ ‫أوراق بريد عليها مناظر مجيلة ‪ ،‬ووقت الغروب كان املنظر‬ ‫الكتاب ويدهش من حسنه األلباب ‪ ،‬ويا حبذا لو وجد شاعر ماهر ووصف تلك املناظر ‪ ،‬وذلك‬ ‫ألن البحر قد حصل فيه ّ‬ ‫مد حتى دخل فيه كثري من األشجار واألعشاب اليت كان لظالهلا‬ ‫شكل على املاء يف غاية من حسن الروعة ‪ ،‬وانعكاس امحرار الشفق وزرقة السحاب‬ ‫يكسبان لون البحر طالوة ‪ ،‬ويزيدانه بهجة وحالوة ‪ ،‬فكأن ذلك املنظر من أحسن ما‬ ‫يشرح اخلاطر و يقربه الناظر‪ ،‬وجبوار هذه البالد غابات كثرية ومروج شهرية ‪.‬‬ ‫وقبل زوال الشفق ودخول الظالم قد رأيت ألول مرة ً‬ ‫إبال من إبلهم فوجدتها ال ختتلف‬ ‫عن اإلبل العربية إال بطول وبرها وكونها «ذات سنامني» ‪ ،‬وقد ّ‬ ‫عودوا هذه اإلبل على جر‬ ‫عربات احلمل املثقلة ‪ ،‬وال حيملون على ظهورها كالعادات العربية ‪ ،‬والذي سهل هلم هذا‬ ‫هو اعتدال الطرق واستواؤها خبالفها يف بالد العرب لكثرة صخورها وتالهلا ‪ ،‬وجنودها‬ ‫ووهادها ‪ ،‬وذلك امنت اهلل بها فقال ‪( :‬وحتمل أثقالكم إىل بلد مل تكونوا بالغيه إال بشق‬ ‫األنفس) وهذه اجلهات فيها بالد كثرية وقرى متقاربة ‪ ،‬ولذلك يكثر فيها السكان يف‬ ‫كل مكان‪ ،‬ويف هذه البالد مساجد كثرية أيضا تشبه مساجد تركية غري أن اجلزء‬ ‫األعلى من مناراتها مصنوع من النحاس املطلي بالذهب ‪ ،‬وينتهي من أعاله بهالل كذلك ‪،‬‬ ‫ولذلك يرى بريقها من مسافة شاسعة ويف هذا اليوم قد مررنا على مجلة قطارات مملوءة من‬ ‫املهاجرين إىل سربيا «سيبرييا» ‪.‬‬

‫ويف اليوم التالي لذلك اليوم قد استمر اهلواء معتدال وبقيت السماء صحوة وغاية األمر‬ ‫أن الربد قد اشتد قبيل الفجر ‪ ،‬ولكن مبجرد طلوع الشمس صار اهلواء يف غاية االعتدال ‪،‬‬ ‫وكسيت املناظر أبهى حلل اجلمال ‪ ،‬وصار القطار مير بنا مر السحاب ‪ ،‬وكم مررنا على‬ ‫ً‬ ‫أيضا على بالد كثرية‬ ‫مناظر مجيلة تدهش حبسنها األلباب ‪ ،‬و يف أثناء سرينا كنا منر‬ ‫بوسط غابات غزيرة ‪ ،‬وهي موضوعة فوق تالل مرتفعة وأكمات جمتمعة تسر النفس من‬ ‫حسن رؤيتها وتبهج القلب جبميل بهجتها و هذه البالد تشبه بالد سويسرا ملا اكتست من‬ ‫حلل اجلمال الطبيعية واحلالة البديعة الوضعية‪ .‬إال أنه يظهر عليها أنها وإن كانت يف‬ ‫الصيف ممتعة جبودة اهلواء‪ ،‬وعذوبة املاء‪ ،‬ونضرة األشجار‪ ،‬وأرج األزهار ‪ ،‬فإنها البد وأن‬ ‫تكون يف الشتاء كثرية الربد والثلج صعبة املعيشة ‪ ،‬ويكون أهلها يف غاية من الضنك‬ ‫والضيق ‪ ،‬ال ميلكون ما يقوم بضرورياتهم ويكفى الحتياجاتهم ‪ ،‬وبعد الظهر قد مررنا‬ ‫على بالد يف أرض مستوية وبها بعض مستنقعات ومزارع كثرية وسرنا جبوارها مدة‬ ‫كبرية ‪ ،‬وقد مررنا على كثري من احملطات الصغرية ورأينا مجلة قطارات حتمل كثريا‬ ‫من املهاجرين ‪.‬‬ ‫وهؤالء املهاجرين وإن كانت حالتهم يظهر عليها الفقر والفاقة إال أنهم ال يكرتثون مبا‬ ‫‪74‬‬


‫الرحلة الثانية ( الرحلة اليابانية )‬

‫هم فيه بل يظهرون الفرح والسرور ‪ ،‬والبشر واحلبور ‪ ،‬ويظهر ذلك من مالعبتهم ألوالدهم‬ ‫ومالطفتهم لنسائهم ‪ ،‬وفضال عن ذلك فإنك تراهم عند وقوف القطار يف أى حمطة مشغولني‬ ‫باللهو والطرب ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫صباحا وصلنا إىل حمطة (صليابس) وقد ّ‬ ‫مر بنا قطار كبري ممـلوء‬ ‫ويف الساعة العاشرة‬ ‫باملهاجرين ‪ ،‬وكان معهم “حرس من العساكر” ألجل احلفظ ومنع ما عساه أن يقع منهم‪،‬‬ ‫وقد أردت أن آخذ صورهم فأخربت أن ذلك ممنوع يف بالد سيبرييا ‪.‬‬ ‫ويف الساعة السادسة بعد الظهر من ذلك اليوم قد وصلنا إىل (جورجان) ‪ .‬وهي بلدة كبرية‬ ‫ولكنها أصغر من (أوفا) وهي واقعة يف أرض مستوية ليس بها غابات وال تالل ‪.‬‬ ‫ويف اليوم التالي لذلك اليوم وصلنا إىل (اومسك) وكان ذلك اليوم شديد الربد ‪ .‬وقد‬ ‫انضم لقطارنا بهذه احملطة عربة صالون خلدمة دولة الغراندوق (قونستانتان) ‪ .‬وكان‬ ‫معه جنراالن وأمرياالى ‪ .‬ومجلة من الضباط املستخدمني حبكومة “سيبرييا” الذين كانوا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كثريا ‪ ،‬وقد وافق ذلك اليوم )‬ ‫إزدحاما‬ ‫يالزمون آلخر مراكزهم‪ ،‬و كانت احملطة مزدمحة‬ ‫يوم األحد( الذي يتفرغ فيه الناس من أعماهلم ويستعدون للتنزه والتفسح ‪ ،‬وبوصولنا إىل‬ ‫هذه احملطة وجدنا العساكر قد أحاطوا بالقطار من كل جانب للمحافظة ‪ ،‬ومنع الناس عن‬ ‫كثر االزدحام جتاه القطار خمافة حصول أي أمر كان ‪ ،‬وكانت عساكر (اجلندرمة) يف‬ ‫غاية من حسن اهليئة و متام النظام‪ ،‬و ملا رأى ذلك دولة (الغراندوق) نزل من القطار وتـمشى‬ ‫عـلى رصيف احملطة مظهرا السرور والبـشاشة للـوافـدين ‪ ،‬وقابلهم بكل احرتام وهو‬ ‫قوي الشبه بالعائلة ( امللـوكية الروسية ) طـويل القـامة ‪ ،‬حنيف اجلسم ‪ ،‬طويل األنف‬ ‫كسائر عائلة (رومانوف) ‪ .‬ثم ركب القطار وسرنا بعد أن حيته اجلماهري بالتحية الالئقة‬ ‫به ‪ .‬والدعاء ببقائه ‪ .‬كنا ّ‬ ‫منر يف هذا اليوم على بالد قليلة السكان ‪ ،‬وأغلب أراضيها‬ ‫مستنقعات على قدر مد البصر ‪ ،‬وفيها كثري من الطيور املائية ّ‬ ‫املغردة اليت تطرب املسامع‬ ‫وتشجي حبس صوتها السامع ‪.‬‬ ‫وبعد ظهر ذلك اليوم قد ابتدأ ظهور الغابات الكبرية ولكنها متأثرة من شدة الربد ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا كثري من األعشاب الطبيعية اليت ال متكن أهلها من الزراعة‬ ‫ويف أراضي هذه اجلهة‬ ‫مع وجودها ولكثرتها ال ميكنهم تنقيتها منها ‪ ،‬ولذلك حيرقونها ألجل خلو األرض منها‬ ‫وجعلها صاحلة للزراعة ‪ ،‬وأهالي هذه اجلهة يلبسون على ( رؤوسهم قبعات من الفرو ) إال أنهم‬ ‫جيعلونها كبرية جدا لتقيهم من شدة الربد ‪.‬‬ ‫وعند الغروب قد وصلنا إىل (نيكوال يسفك) وهي بلدة كبرية موضوعة على‬ ‫شاطئ نهر كأغلب بالد “سيبرييا” وهذا النهر واسع يشبه يف سعته نهر النيل جبوار قصر‬ ‫النيل وفيه كثري من املراكب الشراعية ‪ ،‬والبواخر البحرية وقبل الوصول إليها قد مررنا‬ ‫ً‬ ‫كثريا من املستخدمني ‪ ،‬وأعاظم طبقات‬ ‫على كربي موصول هلا ‪ .‬وملَّا وصلنا إليها رأينا‬ ‫الناس يف انتظار (الغراندوق) والكل يظهر عليه عالمات الفرح والسرور ‪ ،‬وقد علمت أنه‬ ‫ً‬ ‫كثريا أكثر من سواه وذلك إلخالصه يف خدمة أمته وسهره على منفعة‬ ‫حمبوب لديهم‬ ‫بالده ورأفته بهم وإحسانه إليهم ‪ ،‬وهكذا جرت عادة اهلل يف خلقه أن اإلحسان يستعبد به‬ ‫اإلنسان كما قيل‬ ‫‪75‬‬


‫الرحلة الثانية ( الرحلة اليابانية )‬

‫أحسن إىل الناس تستعبد قلوبهم‬

‫فلطاملا استعبد اإلنسان إحسان‬

‫وكان يرافق القطار (قومندان املركز العسكري) وأحد مفتشي السكة احلديدة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كثريا ‪ ،‬وقد صحب هذا اهلواء قليل من املطر‬ ‫شديدا واهلواء‬ ‫ويف اليوم التالي كان الربد‬ ‫وقد ابتدأت هذه احلالة من “نيكوالي يفسك” ملا دخلنا وسط الغابات الكبرية ‪ ،‬وقد‬ ‫ً‬ ‫وصفا الوقت وانكشف السحاب‬ ‫أخذ اجلو يف االعتدال واملطر يف القلة إىل أن تالشى‬ ‫يف الساعة العاشرة ‪ .‬وكان املنظر مجيال بالنسبة لبقاء الثلج املفكر بالشتاء ‪ ،‬ووجود‬ ‫أشجار كثرية من أنواع خمتلفة ‪ ،‬ومل نزل سائرين يف غابات كبرية ‪ ،‬وبعد الظهر قد‬ ‫ً‬ ‫صاعدا يف مرتفع من األرض ولذلك كان سريه يف ‪ -‬غاية‬ ‫تأملت فوجدت القطار يسري‬ ‫البطء ‪ -‬حتى إن الراجل رمبا ميكنه أن يسري معه ‪ ،‬وقد شاهدت (جتار األعشاب) يقطعونه‬ ‫بالطرق القدمية املعروفة ‪ ،‬وحيملونها على عربات متخذة من أعواد اخلشب تزحلق على‬ ‫األرض اللينة بدون عجل جيرها حصان أصغر من اخليل العربية ‪ ،‬وشعر ذيول هذه اخليل‬ ‫ومعرفتها وغرتها طويلة ً‬ ‫جدا ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫صافيا وسار القطار كأنه يسري بنا‬ ‫معتدال واجلو‬ ‫وبعد الظهر من هذا اليوم صار اهلواء‬ ‫يف جلج من املاء ‪ ،‬وذلك من كثرة الثلج الذي تذيبه حرارة الشمس فيعود ماء ‪ .‬ويف الساعة‬ ‫السادسة ً‬ ‫ليال قد وصلنا إىل (كراسنيوارسك) ‪ .‬وملا وصلنا إليها رأينا املدير وكبار‬ ‫املستخدمني ينتظرون باملالبس الرمسية ‪ ،‬واالزدحام شديد من كثرة الوافدين من‬ ‫األهالي ‪ ،‬وغريهم لرؤية (الغرندوق) وهذه املديرية هلا مدير حيكم على البالد املوجودة‬ ‫على شواطئ نهر “شيانشان” ‪ ،‬وهي تساوي حكومة فرنسا ثالث مرات يف أراضيها ال يف‬ ‫ً‬ ‫جاريا‬ ‫سكانها ‪ ،‬وهذا النهر أكرب من النهر السابق وأوسع منه وأما الكوبري فإنه كان‬ ‫فيه العمل ومل يتم نظامه ولذلك كان املرور عليه بتكلف وكان يف هذا النهر كثري‬ ‫من االوز الربى الذي ليس مملوكا ألحد ‪ ،‬و يف اليوم السادس قد تراكم املطر ‪ ،‬واشتد‬ ‫اهلواء و الربد ‪ ،‬وكان سرينا يف غابات كثرية و أشجار كبرية ‪ ،‬وكانت هذه األشجار‬ ‫ً‬ ‫كثريا من‬ ‫على عظمها جمردة من األوراق يظهر عليها التأثري من شدة الربد‪ ،‬وكما نرى‬ ‫ً‬ ‫حمرتقا ‪ ،‬وقد سألنا عن السبب الذي أوقع هذه األشجار يف العطب ‪ ،‬وكيف‬ ‫هذه األشجار‬ ‫وصل إليها هذا احلريق ؟ فأخربنا أحد السائحني أن هذا احلريق حيصل من تطاير الشرر‬ ‫أثناء سري القطار مع يبوسة الشجر و شدة ّ‬ ‫حر الصيف فتصري حمرتقة كما ترى ‪.‬‬ ‫فإنه عند شبوب النار بهذه األشجار ال يطفئها أحد لبعدها عن البالد ‪ ،‬و قلة وجود املا ّر‬ ‫عليها فكانت هذه احلالة مؤثرة حيث أن هذه األشجار اجلميلة معرضة هلذه اآلفات‬ ‫الكثرية ‪ ،‬فالذي ينجو من الثلج حيرتق بالنار ‪ ،‬والذي ينجو من الثلج ال ينجو من قطع‬ ‫التجار ‪ ،‬وبعد الظهر ّ‬ ‫قد مررنا على أناس يشتغلون بعمل سكك وقناطر ألن أراضيهم فيها‬ ‫ّ‬ ‫كثري من املعادن ‪ ،‬وقد أخربنا أحد السائحني الذين كانوا معنا أن حالة هؤالء الناس أحسن‬ ‫من فقراء املهاجرين الذين يتوجهون كل سنة إىل “أمريكا” ‪ ،‬وقد دخلنا إىل النوم يف أول‬ ‫ً‬ ‫صباحا ألجل تغري القطار‬ ‫الليل بالنسبة لكوننا عازمني على القيام يف الساعة الرابعة‬ ‫يف (اركتسك) عاصمة سيبرييا ولذلك قد حصل لنا أرق شديد ناتج عن اشتغال الفكر‬ ‫‪76‬‬


‫الرحلة الثانية ( الرحلة اليابانية )‬

‫بالساعة اليت حيصل فيها التغيري ‪ ،‬ولذلك كان النوم باملالبس املعتادة ألجل عدم العناء‬ ‫ً‬ ‫يف الصباح يف تغيريها ‪ ،‬وقبل الوصول إىل اركتسك قد ُ‬ ‫“قسيسا” يف حمطة صغرية‬ ‫رأيت‬ ‫مبالبسه الرمسية وبيده صليب وصار حيي (الغراندوق) بهذا الصليب ‪ ،‬وقد وصلنا بعد ذلك‬ ‫إىل حمطة (اركتسك) فوجدناها حمطة مجيلة مبنية باألحجار ‪ ,‬وملا وصلنا إليها وجدناها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كثريا ‪ .‬وكانت العساكر‬ ‫ازدحاما‬ ‫مزينة بالبيارق وغريها من أنواع الزينة ومزدمحة‬ ‫مصطفة تضرب باملوسيقى ‪ .‬وذلك ليس لقدوم الدوق فقط ‪ .‬بل إن هذا اليوم قد وافق يوم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ميالد َّ‬ ‫عاما ‪ .‬وكان منظر هذه‬ ‫مزدمحا والفرح‬ ‫أيضا ‪ .‬فكان السرور‬ ‫وىل عهد الروسيا‬ ‫ً‬ ‫خصوصا الحنصار هذه البلدة‬ ‫احملطة يف غاية من البهجة و اجلمال و العظمة و اجلالل ‪.‬‬ ‫يف وسط جبال عالية مكتسية بأشجار كثرية‪ ،‬ونباتات طبيعية ذات بهجة ‪ .‬ومل يزل‬ ‫ً‬ ‫موجودا فوق رؤوس هذه اجلبال ‪ .‬وهذا الثلج عند ذوبانه يتكون منه عدة أنهار حتيط‬ ‫الثلج‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫بالبلدة وتزيدها حسنا ومجاال ً‪ ،‬وبهجة وكماال ‪ .‬وهذه البلدة أعظم بالد سيربيا ‪ ،‬وبها‬ ‫ً‬ ‫منتظرا باحملطة ‪ ،‬وذلك‬ ‫آثار مجيلة ‪ ،‬ومناظر كثرية ‪ .‬وقد صار التغيري من قطر إىل آخر‬ ‫ألن حكومة الروس ال تأذن لشركة عربات النوم باالستمرار يف السري أكثر من أحد عشر‬ ‫ً‬ ‫يوما‪ .‬ولذلك قد اضطرتنا احلالة هلذا التغيري ‪ .‬وبعد اخلروج من هذه احملطة قد ّ‬ ‫مررنا على‬ ‫ً‬ ‫حسنا بالنسبة لوجود‬ ‫كوبرى من احلديد موضوع يف آخر حبرية بيكال ‪ .‬وكان املنظر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عدة جزائر صغرية كثرية بها أعشاب طبيعية تكسب البحر رونقا ومجاال ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫جديرا بالعناية بالذكر إننا مع كوننا كنا يف شهر مايو كانت حبرية‬ ‫ومما رأيناه‬ ‫(بيكال) كلها مثلجة كأنها قطعة واحدة من الزجاج ‪ ،‬وكأنها مرآة للناظر ‪ ،‬وكان‬ ‫بداخلها وابوران حمبوسان قد منعهما الثلج عن العبور وعاقهما عن املرور ‪ .‬فإن صريورة هذه‬ ‫البحرية العظيمة البالغ قدرها مثل (حبر مرمرة) ً‬ ‫ثلجا وجعلها قطعة واحدة لدليل على قدرة‬ ‫ً‬ ‫مالزما لشاطئ هذه البحرية ‪ ،‬وكان اهلواء‬ ‫الصانع جل و عال ‪ .‬وكان سفرنا بقية هذا اليوم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بطيئا فسألنا عن سبب ذلك فقيل لنا أنه خطر‬ ‫سريا‬ ‫جيدا ‪ .‬إال أن الوابور كان يسري بنا‬ ‫ً‬ ‫وابورا ملقى جبانب الطريق على األرض ‪ .‬وعرفونا أن األرض يف هذه اجلهة‬ ‫الطريق وأرونا‬ ‫ً‬ ‫ليست صلبة ‪ ،‬وأن اجلبل فوقها ‪ ،‬وكثريا ما يقع منه بعض أحجار على السكة فينحدر‬ ‫القطار ‪ ،‬ويرتتب عليه مثل هذه األخطار ‪ ،‬وينتج عنه حوادث مثل هذه احلادثة اليت مات فيها‬ ‫ً‬ ‫بطيئا فإنه كان ينهار على الركاب رمل يثريه‬ ‫رجل وجرح سبعة ‪ ،‬ومع كون السري كان‬ ‫اهلواء مثل الرمل الذي يثار على الركاب الراكبني بقطر السويس ‪ ،‬وبقدر ما كان اهلواء‬ ‫ً‬ ‫باردا يف الصباح بقدر ما اشتد احلر بعد الظهر حتى صار بدرجة ال تقل عن احلر الذي يوجد‬ ‫بقطر مصر بهذا األوان ‪ ،‬ثم أخذ الوابور يسري بنا يف جهات خلوية ليس بها إال أشجار‪ ،‬وبعد‬ ‫عشر ساعات من مالزمتنا لسواحل البحر سار بنا يف أرض يابسة وغابات حمرتقة كاليت‬ ‫ً‬ ‫خادما من خدام القطار من الصني وهو أول رجل‬ ‫سبق الكالم عليها ‪ ،‬ويف هذا اليوم رأيت‬ ‫قابلته من الشرق األقصى ‪ ،‬وقبيل الساعة السادسة بعد الظهر قد ّ‬ ‫مررنا على كوبرى كبري‬ ‫ً‬ ‫جدا ورأينا حبافتيه غابات كثرية ثم سرنا إىل أرض مائية و فيها كثري من الغابات وفيها‬ ‫خيام حنو األربعني ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عسكريا ‪ ،‬وحمشودة بالعساكر ‪ .‬وبالسؤال عنها أخربنا أن هؤالء‬ ‫ترتيبا‬ ‫وكلها مرتبة‬ ‫‪ 45000‬عسكري بفناء بلدة يف حدود “منشوريا” من “املسكوف” وهذه البلدة تسمى‬

‫‪77‬‬


‫الرحلة الثانية ( الرحلة اليابانية )‬

‫(اودتسك) وفيها حمطة ‪ ،‬فلما وصلنا إليها رأينا الرت يتساب الرمسية وتالميذ املدارس‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وإناثا ينتظرون (الغراندوق) من القطار وسلم على “الراهبات” بيده واظهر هلم البشر‬ ‫ذكورا‬ ‫والعواطف ‪ ،‬وقد صار سرينا بعد هذه احملطة حنو كيلومرت ‪ ،‬وحنن حبذاء خيام العساكر‬ ‫“البيادة والطوجبية” ‪ ،‬وكنا كلما ّ‬ ‫مررنا على جهات فيها عساكر يهتفون بالدعاء إىل‬ ‫الدوق عند مرور القطار عليهم‪ ،‬وبقينا كذلك طول ليلنا وعند صباح اليوم السابع قد أصبح‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫صباحا‬ ‫مصحوبا مبطر ويف الساعة الثامنة ونصف‬ ‫شديدا كالعادة ‪ ،‬ولكنه ليس‬ ‫الربد‬ ‫قد وصلنا إىل “شيطه” وهي ثاني بلدة عسكرية مبنشوريا وفيها ‪ 8000‬عسكري من‬ ‫ّ‬ ‫والقوة اهلائلة ‪ ،‬ويظهر‬ ‫“املسكوف” وفيهم “الكوذاك الدون” املشهورون بالشجاعة والتدبر‬ ‫على أجسامهم الضخامة وهم يف غاية من حسن اهليئة ومتام النظام ‪ ،‬وكان وقوفنا يف‬ ‫حمطة صغرية قريبة من حمطة العاصمة ‪ ،‬وذلك ألن العساكر كانوا منتظرين الدوق بها ‪.‬‬ ‫وأراضى هذه اجلهة مستوية إال أنها قليلة املزارع ‪ ،‬كثرية الكأل واملراعي الطبيعية ‪،‬‬ ‫والسكك احلديدية بها منحنية تشبه أنصاف دوائر ‪ ،‬ولذلك قد فكرتنا هذه السكة‬ ‫بالسكك احلديدية اليت بالرملى الشرقى املشابهة التامة بينهما ‪.‬‬ ‫ويف وقت الظهر قد تزايدت احلرارة ‪ ،‬وملا جاء وقت األكل قد حضر دولة (الغراندوق) إىل‬ ‫حجرة األكل العمومية ‪ .‬وأكل معنا بكل سرور وابتهاج ‪ ،‬ومل يظهر عليه ما يفيد‬ ‫أدنى تأفف وال تكرب ‪ ،‬وال ثقة وال عظمة فعلمنا من ذلك أنه رجل وديع األخالق كامل‬ ‫الصفات مييل للتواضع واملوادعة ‪ ،‬وحيب اجملاملة واملصانعة ‪ .‬وبعد الظهر وصلنا إىل حمطة‬ ‫ً‬ ‫كثريا من الصينيني مبالبسهم العجيبة ما بني ذكر وأنثى‪،‬‬ ‫(بورياتسكايا) ووجدنا فيها‬ ‫ً‬ ‫جديرا باالستغراب أنهم البسون الفراء يف شدة احلر ‪ ،‬ورأيت الفرسان منهم‬ ‫ومما رأيته‬ ‫راكبني خيوهلم حبالة ال بأس بها إال أنهم يرفعون الركاب إىل أعلى حتى تصري ركبهم‬ ‫مقوسة وأرجلهم معوجة وأراضي بالدهم قليلة املزارع كثرية الرمال والصخور ‪ .‬ولوال وجود‬ ‫الثلج ملا وجد عندهم شئ من الكأل واملراعي ‪ ،‬ولذلك يرى على مجيع مواشيهم أنها يف‬ ‫غاية اهلزال واالضمحالل ‪ .‬ويف هذا اليوم قد رأيت بعض مراعيهم بعض مجال بيض واخليل‬ ‫كثرية عندهم ‪ ،‬ولذلك يسوقونها للمراعي كما تساق اإلبل ‪ ،‬وسروج خيلهم كالسروج‬ ‫العربية هلا مسند من األمام ومسند من اخللف ‪ ،‬ورأيت هلم تعودا على الركوب والنزول بغاية‬ ‫السرعة والراحة ‪ ،‬وخيوهلم صغرية احلجم وهي يف غاية من اهلدوء ويظهر عليها اهلزال وعدم‬ ‫الراحة ‪ ،‬ولعل ذلك ناشئ من كثرة األسفار عليها ‪ ،‬وعدم إعطائها من العلف ما يكفيها‬ ‫مع عدم االعتناء خبدمتها ‪ ،‬ومن عوائدهم أنهم متى نزلوا عنها يربطونها يف أسفل عمد‬ ‫جمعولة لذلك الغرض ‪ ،‬ورأيت الكثري منهم يركبها مسافة طويلة مع أن الظاهر عليها أن‬ ‫ظهورها يابسة حيصل منها للراكب على تعب كثري ‪ .‬ولكن بالنظر لكثرة تعودهم‬ ‫على ركوبها رمبا تسهل هذه املتاعب واملشاق ‪ ،‬ويف هذه الصحراء الواسعة يوجد ماليني من‬ ‫احليوان املعروف يف أمريكا (بكلب الغيظ) ‪ ،‬وهو يف احلقيقة نوع من أنواع الفأر الربي‬ ‫ً‬ ‫أيضا فيها كثري‬ ‫كبري احلجم مياثل حجمه حجم الثعلب ويداه أصغر من رجليه ‪ ،‬ويوجد‬ ‫من اإلوز على اختالف أنوعه وأشكاله ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫كثريا من (النساء الصينيات) فوجدتهن يضفرن‬ ‫وعند الوصول إىل حمطة صغرية قد رأيت‬ ‫‪78‬‬


‫الرحلة الثانية ( الرحلة اليابانية )‬

‫شعورهن ضفريتني طويلتني ويرسلنها إىل األمام ‪ ،‬وأما رجاهلم فأنهم جيعلون شعورهم‬ ‫جديلة واحدة ويرسلونها خلفهم ‪ ،‬وجيعلونها مسدولة على ظهورهم ‪.‬‬ ‫وعند منتصف الليل قد طلبوا منا ( الباسبورتات) لكوننا خرجنا من حدود “الروسيا” و‬ ‫دخلنا “منشوريا” وهي تابعة للصني إال أن السكك احلديدية الشمالية فيها تابعة للروسيا‬ ‫و حمروسة حبرس منها ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫صباحا ‪ -‬وصلنا إىل حمطة (يوكيدون) ‪ .‬وملا وصلنا‬ ‫ويف منتصف الساعة ‪ -‬احلادية عشرة‬ ‫إليها وجدناها مزدانة بزينة مجيلة كالعادة ‪ .‬وكانت العساكر املوجودة للمقابلة من‬ ‫أالى األعمال اهلندسية باملوسيقى ‪ ،‬و كان بهذه احملطة اجلنرال املسكويف املناط به العمل‬ ‫يف منشوريا الشمالية ‪ ،‬كما أنه كان بكل حمطة عشرون من عساكر (اجلندرمة)‬ ‫ألجل احلراسة واحلفظ‪ ،‬وهم يقيمون مبحل واحد حماط بسور مرتفع ‪ ،‬وفيه منافذ كثرية‬ ‫للبنادق تشبه منافذ اخلنادق ‪ ،‬ويف هذه اجلهة قد أذن لنا أن نأخذ الصور الفتوغرافية اليت‬ ‫نريد أخذها حيث أن هذا األمر غري ممنوعا فيها ألنها غري تابعة للروسيا ‪ ،‬وقد جعل بهذه‬ ‫اللحظة استعراض للعساكر واصطفوا على جانيب السكة احلديدية حتى إذا قام القطار‬ ‫أخذوا يهتفون بالدعاء (للغراندوق) ‪.‬‬ ‫و كانت األراضى بهذه اجلهة قليلة املزارع كثرية اجلهات الرملية واحلجرية ‪ ،‬إال أن بعد‬ ‫ً‬ ‫ومجاال ‪ ،‬و قد ّ‬ ‫مر‬ ‫مدة من الزمن وصلنا إىل أراض مجيلة املناظر تكسوها الطبيعة بهجة‬ ‫القطار “خبندق صغري “ ‪ ،‬وهو أول خندق قابلناه يف طريقنا هذا ‪.‬‬ ‫وأهالي هذه اجلهة معتادون على احلمل على ظهورهم ‪ ،‬وقد وصلنا بعد ظهر هذا اليوم إىل‬ ‫ً‬ ‫شديدا والوفود كثريين ‪،‬‬ ‫بلدة صغرية تسمى (سيسكار) ‪ .‬وملا وصلنا إليها رأينا االزدحام‬ ‫ومن ضمن الوافدين رجل من عظماء الصني قد أرسل ملقابلة (الغراندوق) ‪ ،‬ومعه عشرون من‬ ‫العساكر الصينية البسني مالبس تشبه مالبس العساكر اليابانية ‪ ،‬وملا شاهدتهم رأيت‬ ‫مترنا ً‬ ‫ً‬ ‫تاما واستخففت بهم ‪ .‬فقيل ّ‬ ‫لي إنك لو رأيتهم يف بالدهم لرأيت‬ ‫أنهم ليسوا متمرنني‬ ‫ً‬ ‫وجيشا ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قويا‪ ,‬ومالبس مجيلة وأعجبك مترنهم على مجيع األمور العسكرية‪،‬‬ ‫منتظما‬ ‫جندا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وقد ّ‬ ‫كثريا‬ ‫فيضانا‬ ‫مررنا على نهر يسمى (نونى) ‪ -‬وهذا النهر هو الذي فاض يف العام املاضي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حتى أغرق أربعة وتسعني كيلومرتا عرضا ‪ -‬وغرق يف بالد كثرية ‪ .‬لكنها يف هذا العام‬ ‫مررنا عليها وجدناها يف غاية من البهجة والنظارة ‪ ،‬ويف احلادية عشرة ً‬ ‫ملا ّ‬ ‫ليال قد وصلنا‬ ‫إىل (خاربني) عاصمة منشوريا الشمالية ‪ ،‬وهي مركز الوالي املسكويف ‪ ،‬وملا وصلنا إليها‬ ‫وجدناها مزينة متام الزينة متأهبة لقدوم (الغراندوق) على حسب العادة ‪ ،‬ويف انتظاره‬ ‫كثري من الناس ‪ ،‬وبينهم ثالثة من عظماء الصني البسني ُحلل زرقاء ‪ ،‬وعلى رؤوسهم‬ ‫قبعات من اخلوص لكل قبعة حجر من األحجار النفيسة ‪ ،‬وهذه األحجار تدل على رتبة كل‬ ‫ً‬ ‫وفضال عن ذلك فإن هذه القبعات عليها كساء من شعر اخليل مصبوغ بألوان‬ ‫واحد منهم ‪،‬‬ ‫خمتلفة على حسب اختالف مراتبهم ‪ ،‬ويف هذه احملطة قد نزل السائحون اللذين يريدون‬ ‫ً‬ ‫الوصول إىل بالد الصني لينتظروا ليلتهم ويركبوا بالقطار الذي ُّ‬ ‫صباحا ‪.‬‬ ‫يؤمها‬ ‫ويف آخر يوم قد أصبحنا يف قطار مبحطة (اجنو) ‪ ،‬واليت رأينا بها أاليا من الفرسان ‪ ،‬وآخر‬ ‫‪79‬‬


‫الرحلة الثانية ( الرحلة اليابانية )‬

‫من املشاة وثالث بطريات ‪ ،‬ومجيعهم يف انتظار (الغراندوق) ‪ .‬وحيث أننا قربنا من اليابان‬ ‫ً‬ ‫ثالثا من نسائهم وهذه أول مرة شاهدنا فيها نساءهم فوجدناهن غاية يف حسن‬ ‫فقد رأينا‬ ‫الشكل‪ ،‬و نظام املالبس ‪ ،‬وقد مررنا على مجلة حمطات صغرية والذي تنبهت إليه أن‬ ‫عجائز نساء الصني ‪ ،‬و كذلك شيوخهم يشربون الدخان يف عيدان طويلة كاليت كانت‬ ‫مستعملة من عهد غري بعيد يف القطر املصري‪ .‬كما أني رأيتهم يضعون الدخان يف أكياس‬ ‫ً‬ ‫أيضا وبقي اهلواء طول ذلك اليوم يف غاية االعتدال‬ ‫من اجللد كالعادة املصرية القدمية ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مرتاكما حتى خفنا أن يعقبه املطر ‪ ،‬ولكن مل حيصل ذلك ‪.‬‬ ‫واجلودة ‪ .‬أن السحاب كان‬ ‫وكنا منر على جبال قليلة االرتفاع وأراضي زراعية مزينة بالزراعة وقبل مرورنا على بالد‬ ‫(نوتستك) نتكلم على السكة احلديدية فنقول “إن هذه السكة هلا إعالنات كثرية‬ ‫تربرب الركاب ‪ ،‬وأن قطاراتها مشتملة على كل ما يلزم من االحتياجات من عربات‬ ‫أكل وصالون ومعبد ومكتبة ومحام وغري ذلك مما يرغب املسافر ‪ ،‬وجيعله يعتقد متام‬ ‫االعتقاد أنها أوفى من السكة احلديدية األوربية ‪ ،‬ولكن احلقيقة أن قطاراتها ال تزيد‬ ‫ً‬ ‫شيئا عن قطارات النوم املوجودة بأوروبا ‪ .‬وأن هذه اإلعالنات كلها ترغيبات يراد بها جلب‬ ‫املنفعة ليس إال ‪ ،‬وأغرب من ذلك أن الوابور يوقد بالغاز أو اخلشب أو الفحم ‪ ،‬وأنهم جيعلون‬ ‫الوقود مما رخص مثنه وقلت قيمته ‪ ،‬من هذه األشياء فعند املرور على بالد يوجد فيها الغاز‬ ‫ً‬ ‫كثريا يوقدونه به ‪ ،‬وعند املرور على الغابات الكثرية واألشجار الكبرية جيعلون وقوده‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كثريا يف ذهابها وإيابها ‪ ،‬وبهذه‬ ‫شيئا‬ ‫من فحمها أو خشبها حتى ال تكلفهم هذه الوابورات‬ ‫السكة حرس (موسكويف) ‪ ،‬وهو ضروري هلا بالنسبة لكثرة وجود فريق من عصابات‬ ‫اللصوص يسمى (كونكوز) ينزلون على الركاب متى متكنوا من ذلك ‪ ،‬ويزعجونهم‬ ‫بضرب البارود يف وجوههم ‪ ،‬وغري ذلك من أنواع املخاوف اليت متكنهم من سلبهم ونهب ما‬ ‫معهم ‪ ،‬ولطاملا يركبون مع الركاب يف زي سواح حتى إذا سار القطار وهدأت األفكار‬ ‫ووضع الراكب محولة ‪ ،‬وأرخى الليل سدوله ‪ ،‬أخذوا يهددون الركاب ويعذبونهم بأنواع‬ ‫العذاب ويشهرون عليهم السالح ‪ ،‬حتى إذا عجزوا عن املدافعة والكفاح سلبوا ما قدروا‬ ‫على سلبه ونهبوا ما متكنوا من نهبه ‪ ،‬ولوال خوفهم من احلرس لكثرت أغاراتهم وقويت‬ ‫عصاباتهم ‪ ،‬ووجود هذا احلرس يشعر بأن الوالء على هذه اجلهات للروس ‪.‬‬ ‫ويف حمطة من احملطات الصغرية قد نزل رجل من الركاب الذين كانوا معنا ‪ ،‬فرأيت‬ ‫كثري من مستخدمي اجلمارك الصينية يف انتظاره ‪ ،‬فسألت عنه فقيل لي إنه أحد رؤساء‬ ‫رجل اجلمارك الصينية ‪ ،‬وأن أغلب أكابر مستخدميها من األوربيني ‪ ،‬وهؤالء املوظفون‬ ‫الصينيون الذين كانوا ينتظرونه ترا عليهم مسة الوقار وحسن اهليئة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫متدرجا يف االرتفاع يف جهات مرتفعة‬ ‫و بعد قيام القطار من هذه احملطة قد أخذ يسري بنا‬ ‫حتى اضطروا لوضع ماكينة أخرى مساعدة جلر القطار حتى يتيسر املسري ويسهل‬ ‫العسري‪ ،‬وبعد قطع هذا املرتفع قد وصلنا إىل حمطة (نيكواليفسك) فرأينا بها عساكر‬ ‫ً‬ ‫حصانا من جياد‬ ‫كثرية ومعهم رايات وهم يف انتظار (الغراندوق) فنزل من القطار فركب‬ ‫اخليل كان قد ُأ ّ‬ ‫عد له ‪ ،‬و ذهب هو وحاشيته ومن معه إىل تلك البلدة ‪ ،‬ويف الساعة ‪ -‬احلادية‬ ‫عشرة ‪ً -‬‬ ‫ليال قد وصلنا إىل (نوكوستك)‪ .‬ووجدناها منارة بالنور الكهربائي الكثري الذي‬ ‫يدل على أنها بلدة كبرية ال قرية صغرية ‪ ،‬ومن حسن احلظ قد وجد معنا (موسيوشفالي)‬ ‫‪80‬‬


‫الرحلة الثانية ( الرحلة اليابانية )‬

‫أحد مفتشي عربات النوم فإنه قد دلنا على وابور البحر الذي يوصلنا إىل اليابان بدون تعب‪،‬‬ ‫وقد أخربنا أحد مستخدمي السكة احلديدية أنه ميكننا أن نبيت بوابور البحر ‪ ،‬ولو أنه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كثريا ‪ .‬فإنه كفانا كلفة‬ ‫سرورا‬ ‫صباحا فأنشرح صدرنا هلذا اخلرب ‪ ،‬وسررنا به‬ ‫يسافر‬ ‫ً‬ ‫التنقيب والبحث عن حمل نبيت فيه مع ما هو حال علينا من تعب السفر فضال عن مشقة‬ ‫الذهاب واإلياب ‪.‬‬ ‫وملا وصلنا إىل السفينة البخارية ‪ ،‬وجدناها صغرية حمدودة حلمولة ألف طولوناته ‪ ،‬وهي‬ ‫تابعة لكمبانية همربج مؤجرة من احلكومة الروسية ألجل تسهيل السـري بني الروسيا‬ ‫واليابان ‪ ،‬فركبنا فيها وقلنا‪“ :‬بسم اهلل جمريها” ‪ .‬ومل نزل سائرين حتى وصلنا بسالمة اهلل‬ ‫تعلى إىل (فالديفوستوك) ‪ .‬فحصل لنا يف ذلك سرور إال أنه مل ميكن ً‬ ‫تاما ألن اهلواء كان‬ ‫شديدا ً‬ ‫ً‬ ‫جدا ‪ ،‬وقبل الدخول إىل حجرة النوم مكثنا مدة مع مفتش عربات النوم نتحدث معه‪،‬‬ ‫وكان مدار احلديث بيننا فيما يلزم لنا عند رجوعنا من حفظ األماكن وغري ذلك مما‬ ‫يكفل لنا الراحة ويسهل طريق العودة ‪ ،‬وملا سأل السمتخدمني عن وجود حمال يف العودة‬ ‫أخربوه أن مجيع احملال مشغولة من أول شهر أبريل إىل أخر شهر سبتمرب ‪ ،‬فلم نسر هلذا اخلرب‬ ‫الذي ترتب عليه أن نبقى ثالثة شهور وحنن يف بعد عن األوطان ‪ ،‬وهذا مقدار عظيم من‬ ‫الزمان ‪ ،‬ولكنه مل حيصل ذلك ‪ .‬بل أنه بهمته وحسن عنايته أمكن واحلمد هلل أن تأخذ‬ ‫أماكن من األماكن االحتياطية يف الوابور الراجع من خاربني يف سبعة يوليو إىل أوروبا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مقيدا بهذه املدة ‪ ،‬ويف هذه‬ ‫مكثنا يف بالد اليابان‬ ‫ولذلك اقتضت الضرورة بأن يكون‬ ‫الليلة قد حصل ِّ‬ ‫ىل أرق كثري وتواردت ِّ‬ ‫علي خواطر شتى ‪ ،‬واشتغل الفكر ببعد املسافة‬ ‫اليت بيين وبني وطين وتذكرت أهلي وجرياني وصحيب وخالني ‪ ،‬وختيلت أن كل فرد من‬ ‫أفراد عائليت وكل صاحب من أصحابي بل ‪ ،‬وكل شجرة يف البستان وغصن من األغصان‬ ‫يطالنبى بالرجوع إىل أوطاني فأكثرت من الدعاء هلل سبحانه وتعاىل أن يعيدني إىل وطين‬ ‫ً‬ ‫ساملا وأن حيفظين يف الذهاب واإلياب ‪ ،‬وعزمت على أني بعد انقضاء رحليت هذه أن ال أتوجه‬ ‫ً‬ ‫فريدا فى هذه البالد ال أجد من‬ ‫إىل بالد بعيدة بهذا البعد الشاسع ألنى تأملت فوجدت نفسي‬ ‫يسامرني وال من خيربني عن األوطان ‪ ،‬وما حصل من األمور املهمة واحلوادث امللمة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫صباحا ‪ -‬قد حترك الوابور للسفر فلبست مالبسي‬ ‫ويف ‪ -‬منتصف الليل الساعة الثامنة‬ ‫ً‬ ‫سريعا لعدم إمكان ذلك يف البحر بالنسبة لكثرة هوائه ‪ ،‬ورداءة جوه وكان (قباطني‬ ‫الوابور) كلهم من (األملان) ومجيع عماله من الصينيني حتى النجار والطباخ ‪ ،‬وكان‬ ‫الوابور يف غاية النظافة العتناء كل فريق من العمال بأداء ما وكل إليه من األعمال ‪،‬‬ ‫ورأيت الشيوخ منهم يف غاية من قبح املنظر وتشويه اخلليقة ‪ ،‬وأن الشبان منهم رؤيتهم‬ ‫مقبولة وصورهم مألوفة فعجبت من التغري العجيب الذي يعرتيهم عند الكرب فيغري خلقتهم‬ ‫وميسخ صورهم ‪ ،‬وقلت سبحان مغري األحوال من حال إىل حال ‪ .‬وأما كالمهم فإنه يشبه‬ ‫كالم الربابرة ‪ .‬وهم يتكلمون بصوت منخفض بقدر ما يسمع أحدهم اآلخر ‪ ،‬وهلم اعتناء‬ ‫تام بالنظافة وال يفرتون عن ذلك طرفة عني ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عظيما حتى مرض مجيع من يف السفينة من السائحني ‪ ،‬ولذلك‬ ‫تغريا‬ ‫وقد تغري حال البحر‬ ‫مل يبق معي إال اثنان وقت اجللوس على املائدة ‪ ،‬و قد استطاعا احلضور إليها وكان اهلواء‬ ‫‪81‬‬


‫الرحلة الثانية ( الرحلة اليابانية )‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫غربيا ‪ ،‬ومع اشتداده واستدامته قد تراكم السحاب واغرب اجلو وأظلم البحر حتى‬ ‫جنوبيا‬ ‫ً‬ ‫شيئا أمامه ‪ ،‬واضطرته هذه احلالة إىل استعمال الصفري‬ ‫صار القبطان ال يستطيع أن ينظر‬ ‫يف كل مخس دقائق خمافة من الوقوع يف شيء من اخلطر الذي حيصل من املصادمة ‪.‬‬ ‫ويف ‪ -‬الساعة الثامنة ً‬ ‫ليال ‪ّ -‬‬ ‫قد حتسنت حالة اجلو واعتدل اهلواء وانكشفت غياهب‬ ‫الظلمات حتى متكنا من رؤية القمر وهدأ البال ‪ ،‬كما وأن القبطان قد أخربنا أن هذه‬ ‫اجلهة ليس فيها خطر كغريها لقلقة وجود السفن السائرة فيها ‪ ،‬وغاية األمر أننا نتقابل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قاصدا (فالديفوستوك)‪.‬‬ ‫غدا الساعة التاسعة مع الوابور اآلتي من اليابان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مضطربا ‪،‬‬ ‫معتدال ‪ ،‬ولكن البحر ال يزال‬ ‫جيدا ‪ ،‬وصار اجلو‬ ‫ويف اليوم التالي قد أصبح اهلواء‬ ‫واألمواج تلعب بالباخرة ومن فيها ‪ ،‬فتارة ترتفع بنا حتى نتخيل أننا طود املاء ‪ ،‬وتارة تنخفض‬ ‫حتى نظن أننا قد وصلنا إىل قاع البحر ‪ ،‬وصار الناس يف انزعاج عظيم كل ذلك وحنن يف‬ ‫غاية الثبات متوكلني على اهلل تعاىل ‪ ،‬واثقني بكرمه ورمحته وفضله ورأفته ملتجئني‬ ‫إليه أن ينجينا من ظلمات البحر كما حفظنا من غوائل الرب ‪.‬‬ ‫وبعد الزوال ّ‬ ‫قد قيس األفق الذي حنن فيه فعلم أننا قد برحنا النقطة اليت كان يلزم أن‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫نكون فيها بنحو مخسة عشر ميال ‪ ،‬وهذا من قوة الريح وشدة تأثريه على الباخرة ‪ ،‬وبهذه‬ ‫ً‬ ‫صباحا ‪ -‬إىل (سروجة) وهي بغاز طوله عشرة أميال‬ ‫احلالة كنا ندخل يف الساعة ‪ -‬السادسة‬ ‫حبرية ‪.‬‬ ‫فصرنا يف غاية الوجل من أن يوجد سحاب أو أي مانع مينعنها عن الدخول يف هذا البوغاز‪،‬‬ ‫ً‬ ‫صباحا ‪ ،‬ولكن حبمد‬ ‫ولذلك قد أمرت خادمي أن يوقظين من النوع من مبدأ الساعة الرابعة‬ ‫ّ‬ ‫اهلل تعاىل ومجيل لطفه وحسن تيسريه قد سهل األمر ‪ ،‬ووصلنا إليه ومل جند أي مانع مينعنا‬ ‫عن الدخول فيه ‪ ،‬وملّا كان اإلنسان الذي يسافر السفر الطويل حيصل له سرور عظيم ‪،‬‬ ‫وفرح شديد إذا وصل بسالمة اهلل تعاىل إىل اجلهة اليت يريدها ‪ .‬كان السرور يف هذه‬ ‫شدته ّ‬ ‫الليلة ال ميكن وصفه حتى أنه من ّ‬ ‫قد منعنا من النوم ‪ ،‬ووجدنا على سطح الباخرة‬ ‫مبالبسنا العادية من الساعة الثانية بعد نصف الليل ‪ .‬إال ِّ‬ ‫أني وجدت عزيزي “على بك‬ ‫ً‬ ‫رضا” قد حصله له تعب كثري وفتور زائد لكونه مضى عليه يومان ومل يذق شيئا من الزاد‬ ‫واضطراب السفينة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫مجيال أمجل من‬ ‫وقد شاهدنا دخولنا يف البوغاز قبل طلوع الشمس وكان املنظر‬ ‫مناظر النرويج املشهورة باأللوان الكثرية ‪ ،‬وذلك ألن جبال اليابان كلها مزدانة بالنباتات‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫طبيعيا‬ ‫وضعا‬ ‫الطبيعية واألشجار املختلفة األلوان واألشكال ‪ ،‬وهذه األشجار موضوعة‬ ‫بنظام مجيل حتى يتخيل لرائيها أنها موضوعة بوضع بستاني ماهر ‪ ،‬فسبحان من أبدعها‬ ‫على هذا املثال وأوجدها على ذلك املنوال ‪ ،‬وباجلملة ِّ‬ ‫فإني مهما وصفت هذا املنظر اجلميل‬ ‫والصنع املتقن اجلليل فإنه ال ميكنين أن أوفيه حقه ملا اشتمل عليه من اجلمال والبهاء‪،‬‬ ‫وحسن الشكل ومجيل الرواء ‪ ،‬فإنه ال يقوى على ذلك إال ناثر قادر أو شاعر ماهر ‪ .‬و ملّا‬ ‫وصلت الباخرة إىل البوغاز أكثروا من الصفري إيذانا بوصوهلا و مبجرد مساعه قد حضر‬ ‫حنو ‪ 200‬زورق صغري ‪ ،‬ويف كل واحد من هذه الزوارق رجل واقف ويف يده مقذاف يقذف‬ ‫‪82‬‬


‫الرحلة الثانية ( الرحلة اليابانية )‬

‫ً‬ ‫خالفا للعادة املعروفة ويف كل زورق‬ ‫به املاء إال أن وقوفه يف آخر الزورق ال يف جانبه ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫موجبا‬ ‫شارحا للصدور‬ ‫فانوس من الورق وفيه كتابة باللون األمحر ‪ ،‬فكان ذلك املنظر‬ ‫للسرور ‪ ،‬سيما لرؤيته أول مرة وجاء يف أحد هذه الزوارق ضابط من ضباط البوليس ومعه‬ ‫ً‬ ‫أحدا ‪،‬‬ ‫اثنان من البوليس السري وأخذوا يفتشون مجيع األماكن من دون أن يكلموا‬ ‫وملّا انتهى عملهم أذنوا بالدخول لغريهم ‪ ،‬ومبجرد ذلك األذن قد وجدنا مجلة من الشبان‬ ‫قد دخلوا الباخرة وصاروا يتكلمون بكالم غري مفهوم لنا ‪ ،‬فسألنا عنهم فأخربنا أنهم‬ ‫من ِقبل أصحاب الفنادق ‪ ،‬ووجدنا احلاملني هلم ّ‬ ‫قد ّ‬ ‫تعود على احلمل ‪ ،‬ومعرفة تامة به‬ ‫وتظهر عليهم عالمات القوة والشهامة ‪ ،‬وعلى ظهورهم بطاقات مكتوب عليها أمساؤهم‬ ‫(أو منرهم ) باللغة اليابانية ‪ ،‬وخرج كثري من الناس وبقينا حتى حضر رئيس الكمبانية‬ ‫ألجل أن خيلص ما معنا من املكس ‪ ،‬ويوصلنا إىل احملطة أحضر سفينة أكرب هذه‬ ‫الزوارق ألجل محل ما معنا من األمتعة ‪ ،‬وفيها شاب حسن اهليئة نظيف املالبس حيسن‬ ‫التكلم باللغة اإلجنليزية ‪ ،‬فودعنا القبطان وأعطيناه نقودا ألجل أن يعطيها للخدم‬ ‫ً‬ ‫وسرورا بوصولنا بسالمة اهلل تعاىل إىل البالد اليابانية اليت قصدناها ‪.‬‬ ‫منحة هلم ‪،‬‬

‫‪83‬‬





‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫‪1‬‬

‫من مصر إىل أودسا‬ ‫هل أتاك حديث روسيا وقرميها ؛ وقافقاسية وزعيمها على بعد الدار وشط املزار‪ .‬وأن‬ ‫تعجب فعجب قوهلم أهذه بالد تستحق أن يرحل إليها ؛ وماذا بها من املشوقات واملرغبات حتى‬ ‫يتجشم املرء من أجلها عناء السفر ‪ ،‬ويتقطع البعيد من املسافات‬ ‫ً‬ ‫رونقا‬ ‫أجل أن بالد القياصرة جديرة بأن تشد إليها الرحال ؛ ألنها فى الواقع ال تقل عن غريها‬ ‫ً‬ ‫ونظاما وال ً‬ ‫ً‬ ‫وسالما‪ .‬وألن بها ما باملمالك االخرى من املناظر الطبيعية ومعامل احلضارة‬ ‫امنا‬ ‫واملدينة ما يستفز السائح ملشاهدة آثارها اجلميلة ‪ ،‬وزيارة معاهدها اجلليلة وجيعله ال ميل‬ ‫من اإلقامة بني ربوعها الناضرة وغياضها الزاهرة أو يأسف حبال من األحوال على ما يصرفه‬ ‫فيها من الوقت واملال ‪.‬‬ ‫ولكل أمة عادات أهليه وتقاليد دينية وقيود رمسية وقواعد نظامية جيب على الغريب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وطباعا‬ ‫أخالفا‬ ‫احرتامها ولو كانت خمالفة لعادات وتقاليد قومه ‪ .‬كما أن لكل شخص‬ ‫ينبغى لغريه عدم التعرض له بها ولو كانت مما ال يالئم أخالقه وطباعه ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومنعا‬ ‫بعضا‪،‬‬ ‫وتأدبا فى حق بعضهم‬ ‫تلطفا منهم‬ ‫تلك سنة درج الناس عليها من القدم‬ ‫ملا عسى أن حيدث من عدم احرتم األخالق والعادات من األحقاد واملشاحنات والضغائن‬ ‫والعداوات ‪ .‬إذ من احملال أن يكون مجيع الناس على مشرب واحد وأخالق وطباع واحدة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫نظرا لتباين األمزجة واجلبالت وتأثري قوانني الوارثة والبيئة فى الشخص ‪ ،‬وتباعد األقاليم‬ ‫واملناطق وإختالف اللغات واألجناس والديانات ‪ .‬وقصارى القول ‪:‬‬ ‫ً‬ ‫عور فغمض عينك الواحدة‬ ‫أرضا أهلها كلهم‬ ‫إن جئت‬ ‫اذا متهــد هذا وجب عليـك‬

‫أن قصدت السفر إىل روسيا‬

‫أن تعرف قبل كل شئ نظامات الدخول فيها واخلروج منها‪ ،‬وأن ترضخ إليها ولو‬

‫أنها غريبة فى بابها ‪ ،‬وفيها من الشذوذ ماال يوافق روح العصر باملرة ‪ .‬فأول ما تعمله أن‬ ‫حتصل على باسبور كالعادة ‪ ،‬ثم تؤشر عليه من (قونصالتو الروسيا) بعد أن تدفع هلا‬ ‫قرشا” وبغري هذه اإلشارة يستحيل عليك أن تطأ أرض روسيا ً‬ ‫ً‬ ‫أيا كانت‬ ‫رمسا قدره “‪24‬‬ ‫صفتك ‪ ،‬ومهما علت فى اهليئة االجتماعية منزلتك ‪ .‬على أن الباخرة نفسها جتمع اجلوازات‬ ‫من ركابها فبل السفر من ‪ -‬االستانة إىل أودسا ‪ -‬أن وجد منهم من ال جواز له ‪ ،‬أو كان جوازه‬ ‫ً‬ ‫دافعا‬ ‫غري مؤشر عليه من القنصل أنزلته حاال إىل الرب ‪ ،‬ومل تسمح له بالسفر حتى لو كان‬ ‫لألجرة بتمامها‪ ،‬وإذا فرض أنه سافر خلسة ردوه عند وصوله إىل” أودسا “ ً‬ ‫مثال من حيث أتى‬ ‫ومل يقبلوا فيه أدنى شفاعة ‪.‬‬ ‫‪87‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫ومتى وصلت السفينة إىل “أودسا” يصعد البوليس اليها لفحص اجلوازات اجملموعة من‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫دقيقا‪ .‬فان وجدها مستوفية للشروط القانونية صرح ألصحابها بالنزول إىل الرب‬ ‫فحصا‬ ‫قبل‬ ‫وإال فال ‪.‬‬ ‫وفى اللوكاندة ال يكتفون ببطاقة الزيارة ‪ .‬بل يطالبونك “ بالباسبور” ليقيدو امسك‬ ‫فى دفاترهم من واقعه ‪ ،‬ولري سلوه بعد ذلك إىل “بوليس املدينة” ليعرف من أنت وأين أنت ؟‬ ‫وهو بعد أن يسجله يرده إليك ‪ ،‬ويأخذ على ذلك رمسا حتاسبك عليه اللوكاندة عند‬ ‫ً‬ ‫أيضا ‪،‬‬ ‫مبارحتها ‪ .‬ولو انتقلت من لوكاندة إىل أخرى فى نفس البلد طالبوك بالباسبور‬ ‫وأرسلوه إىل البوليس مرة أخرى ‪ .‬وهكذا جيرى احلال على هذا املنوال فى كل بلد حتله من‬ ‫ً‬ ‫حتما التأشري على الباسبور من البوليس قبل‬ ‫بالد الروسيا ‪ .‬وعند اخلروج من الروسيا جيب‬ ‫ً‬ ‫رمسا ال يقل عن رسم الدخول ‪ ،‬وعليك بعد ذلك أن‬ ‫السفر ببعض أيام‪ ،‬وفى نظري ذلك تدفع‬ ‫ّ‬ ‫متر يوم السفر على بوليس املينا ليتحقق من هذه االشارة ويقيد أمسك عنده‪ ،‬وبغري ذلك ال‬ ‫ميكنك ً‬ ‫أبدا الركوب فى الباخرة واخلروج من الروسيا ‪.‬‬ ‫وليس هذه القيود قاصرة على األجانب ‪ .‬بل هى شاملة أنفس رعايا الروسيا ‪،‬ولكن‬ ‫ذلك كله ال ينبغى أن يقعد همتك ويثنى عزميتك عن السفر إىل هاتيك البالد اجلميلة‪.‬‬ ‫للوقوف على درجة مدنيتها ومعرفة حقيقة قوتها وموارد غناها وثروتها‪ .‬فإنك متى دخلتها‬ ‫متتعت فيها بكل حرية كما لو كنت فى” فرنسا أو انكلرتا” وذهب عنك تأثري الباسبور‬ ‫وقيوده ‪.‬‬ ‫احبرت بنا الباخرة من “سكندرية” فى يوم من مايو رق نسيمه وصفا أدميه ‪ ،‬ولكنها‬ ‫لسوء احلظ مل تلبث أن سطا عليها الضباب فى غداة ذلك اليوم فحجبها عن االنظار حتى‬ ‫ً‬ ‫شيئا‬ ‫خلنا أننا فى احمليط االطالنطى ‪ ،‬أو حتت جو “لو ندرة” فى زمن الشتاء ‪ ،‬ومل نعد نبصر‬ ‫فأخذت الباخرة تستجري بكثرة الصفري والشهيق والزفري لكى حتيد عن الطريق البواخر‬ ‫القادمة عليها ‪ ،‬وال تتصادم معها إذا مسعت نعيقها وصمت آذانها من ذلك لنعري ‪ .‬وفى اليوم‬ ‫الثالث وصلنا إىل بريية مينا بعد سفر ‪ 40‬ساعة من سكندرية‪ ،‬وفى الرابع إىل “أزمري”‬ ‫و بينها وبني بريية ‪ 20‬ساعة ‪ّ ،‬‬ ‫وقد سبق لنا أن قلنا بعض الشئ عن هذه املدن الثالث فى‬ ‫رحلتنا التى نشرناها عن “اجملر و رومانيا” ‪.‬‬ ‫وملا دخلنا مينا “أزمري” كانت أحدى ‪ -‬البواخر اليونانية ‪ -‬قادمة من جهة البد فمسها لغم‬ ‫فانشقت وحصل فيها دوى عظيم ‪ ،‬وتصاعد منها دخان وهليب وتطاير أكثر ركابها إىل‬ ‫اجلو “فتمزقوا أربا أربا” على مرأى منا‪ ،‬وياهلول هذا املنظر ثم هوى اجلميع إىل قاع البحر‬ ‫فاستولت الكآبة علينا‪ ،‬وإنقلب سرورنا إىل أحزان وكثر عويل النساء والصبيان ‪ ،‬وكان‬ ‫من ضمن السيدات “فتاه روسية” ذات مجال فتان حتاكى ‪ -‬البدر فى مته ليلة النصف من‬ ‫شعبان ‪ -‬فكأمنا هى حورية من حور اجلنان‪ ،‬أو ملك من مالئكة الرمحن ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫تعهدا‬ ‫وقد أقمن فى املينا ثالثة أيام ‪ .‬ومل يرض الربان بالسفر إال بعد أن أخذ على ضباطها‬ ‫بالكتابة بسالمة الطريق وخلوها من اخلطر فسارت بنا السفينة بعد ذلك “باسم اهلل‬ ‫جمرها” قاصدة القسطنطينية ‪ .‬وملا أقرتبت من حمل احلادثة كان الكل وقوفا على ظهرها‬ ‫‪88‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫يصعدون الزفرات ويرددون احلسرات ‪ ،‬ويندبون سوء طالع أولئك التعساء ‪ ،‬وما ال قوه بني‬ ‫طرفة عني وفى الطريق ّ‬ ‫مرت الباخرة على “متلني” وتسمى بالرتكى” مدللي”‪ ،‬وكانت‬ ‫ً‬ ‫قدميا “أليبسوس” ومسيت “متلني” باسم عاصمتها‪ ،‬وكان ذلك فى زمن “البيزنتيني‬ ‫تسمى‬ ‫“ ‪،‬وهى من أهم وأكرب جزر البحر املتوسط ‪ .‬وعدد سكانها ‪ 130‬ألف نفس أكثرهم روم ‪.‬‬ ‫وهواء اجلزيرة فى غاية االعتدال حتى فى فصل الشتاء وبها ثالثة ينابيع معدنية ومن أهم‬ ‫حاصالتها الزيت والزيتون ‪.‬‬ ‫ومل تقف الباخرة بها بل أستمرت فى سريها‪ ،‬وبعد مخس ساعات أجتازت “الدردنيل” ‪ .‬ثم‬ ‫ً‬ ‫وأخريا إىل “القسطنطينية” وأنت اآلن تعرفها معرفة املستفيد مما‬ ‫دخلت فى ‪ -‬حبر مرمرة ‪-‬‬ ‫نشرناه لك عنها‪ ،‬وعن أختها بورصة وما عهد ذلك ببعيد ‪.‬‬ ‫ومن “ازمري” إىل “االستانة” ‪ 24‬ساعة ‪ .‬إن مكثت بها الباخرة يومني أو ثالثة سافرت إىل‬ ‫ً‬ ‫هادئا على الغالب فى الربيع‬ ‫الروسيا فى “البوسفور “ ثم فى البحر األسود‪ .‬وهذا البحر يكون‬ ‫وفى الصيف ‪ ،‬أما فى الشتاء فيهج وتكون املالحة فيه وقتئذ حمفوفة باملصاعب وال يتجلد‬ ‫منه فى هذا الفصل إال اجلهات القريبة من سواحله ولكن ملدة قصرية وفى اخلريف يكثر‬ ‫ً‬ ‫خصوصا فى آخر أكتوبر‪ ،‬وبعد سفر حنو ثالثني ساعة وصلت‬ ‫فيه الضباب والزوابع‬ ‫الباخرة إىل أودسا ‪.‬‬

‫‪89‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫‪2‬‬

‫من أودسا إىل تفليس‬ ‫أودسا من أمجل مدن الروسيا وأبهاها‪ .‬وكانت يف األصل قرية تركية صغرية بها تعرف‬ ‫ بقلعة حاجي بك ‪ -‬أستوىل عليها رجل أسبانيوىل أمسه “ديريباس إنتظم فى سلك البحرية‬‫الروسية فى سنة ‪ .1769‬ووصل فيها إىل رتبة “أمريال” ‪ ،‬وهو أول من أسس أودسا‪ ،‬وكان‬ ‫ذلك فى عهد اإلمرباطورة الكبرية “كاترين الثانية “ ‪ .‬ثم جاء بعده رجالن فرنسويان‬ ‫ودخال فى خدمة احلكومة الروسية الواحد بعد اآلخر‪ ،‬وهما “الدوك دوريشليو ‪ ،‬والكونت‬ ‫دوالجنرون” فوسع كالهما دائرة املدينة وزاد فى تقدمها وعمرانها‪ ،‬ومازالت التجارة فيها‬ ‫كل يوم فى إزدياد حتى أصبحت اآلن تعد” مرسيليا الروسيا”‪ .‬وأول من استعمرها قوم من‬ ‫ً‬ ‫سعيا وراء الرزق والكسب ‪ .‬وامسها مشتق من أسم مدينة يونانية‬ ‫“االروام واليهود والبلغار”‬ ‫تدعى أوديسوس ( أى مدينة عولص املذكورة فى وقائع تلماك ) كانت بالقرب من هذه‬ ‫اجلهة وذ كرت فى تاريخ حرب “ترواده” ‪.‬‬ ‫وقد أطلق أسم “ديريباس” على شارع من أهم شوارع “أودسا”‪ .‬كما مسيت املدرسة‬ ‫االعدادية فيها بامسه‪ ،‬وأطلق اسم الجنرون على اجلهة املوجودة فيها محامات البحر ‪ .‬وفى‬ ‫أودسا مجلة متاثيل لكاترينه وآخر لريشليو‪ ،‬وفيها شارع لطيف مشرف على البحر امسه‬ ‫“بولفارنيقوال” ‪ ،‬وبها مجلة لوكاندات منها “لوطاندرة وسان بطرسربوج وأوروبا وسافوراى‬ ‫وباساج وبريستول” وفيها ّ‬ ‫عدة بنوكة وتياترو ومتحف وجنينة كبرية ‪ ،‬وأكبرية قهاويها‬ ‫“روبينا وفانكويى” وفى ضواحيها محامات‪ ،‬وحل مشهورة مفيدة للصحة ‪ .‬وعدد سكان‬ ‫أودسا ‪ 400‬ألف نفس ‪.‬‬ ‫وفى” سنة ‪ ”1812‬ظهر الطاعون فى أودسا للمروة االوىل ‪ .‬وكاد خيربها حتى أن من‬ ‫مات فيها بهذا الواباء ال يقل عن ‪ 13‬ألف نفس‪ ،‬وفى “سنة ‪ ”1854‬حاصرتها أساطيل الدول‬ ‫املتحالفة فى حرب القريم ‪ ،‬وأطلقت عليها املدافع‪ .‬وأهلها خليط من “الروس واالروام واليهود‬ ‫ً‬ ‫مليونا من‬ ‫ومن االروام” من أثرى فيها مثل ‪ -‬بيت راىل ‪ -‬الذى أصبحت ثروته ال تقل عن أربعني‬ ‫الروبالت ( الروبل قطعة بعشرة وكسور ) ‪ .‬وعلى بعد ‪ 80‬ميال منها جلهة االستانة جزيرة‬ ‫جبلية صغرية امسها “فيدونسي” أى جزيرة الثعابني كفاك اهلل شرها ‪.‬‬ ‫ومن أودسا سافرت إىل القريم املشهورة باعتدال هوائها‪ ،‬ومجال مناظرها‪ ،‬وكان السفر‬ ‫على باخرة فى البحر األسود من بواخر روسكى باراخوت ألنها أفضل وأنظف وأمجل ‪ ،‬من‬ ‫ً‬ ‫خصوصا إذا كانت من وابورات الطبقة األوىل ‪ .‬فسارت‬ ‫بواخر شركة روسيان باراخوت‪.‬‬ ‫بنا الباخرة تشق حبيزومها عباب املاء إىل أن رست فى الغداة على “أوباتوريا” أول موانى‬ ‫ً‬ ‫سوقا‬ ‫القريم ويسميها التتار كوزالوه ‪ ،‬والروس كوزلزف ‪ ،‬وكانت فيما مضى من الزمان‬ ‫‪90‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫للنخاسة تباع فيه املماليك واجلوار البيض ‪.‬‬ ‫وقد امتكها األتراك فى «سنة «‪ ،»1478‬والروس فى «سنة ‪ »1552‬على مثال جامع ‪-‬‬ ‫أياصوفيا باالستانة ‪ -‬وعدد سكانها ‪ 25‬ألف ‪ .‬وهم «روس وتتار وأروام ويهود»‪ ،‬وفيها مالحة‬ ‫شهرية وعلى بعد فرستني منها محامات وحل صحية فى حبرية مونياك و‪ 18‬فرست محامات‬ ‫وحل أخرى فى حبرية ساك ( الفرست مقاياس روسى يساوى ‪ً 1035‬‬ ‫مرتا )‪ .‬ويبتدئ موسم‬ ‫هذه احلمامات فى ‪ 25‬مايو وينتهى فى آخر أغسطس‪ ،‬وفى هذه ّ‬ ‫املدة يقصدها كثري من‬ ‫املرضى واملستشفني ‪ .‬وعلى بعد ‪ 63‬فرست من «أوباتوريا» توجد «مدينة سنفريو بول»‬ ‫عاصمة القريم اجلديدة ‪ ،‬وهى مدينة لطيفة وبها ‪ 60‬ألف نفس ‪.‬‬ ‫وبعد سفر حنو مخس ساعات من أوباتوريا‪ ،‬وصلت الباخرة إىل «سواسطابول» ‪ .‬وهى‬ ‫اآلن مدينة كبرية ذات شوارع عظيمة ومبان فخيمة ‪ ،‬وبها النور الكهربائى وفيها يسري‬ ‫ الرتام ‪ -‬فى كل مكان‪ ،‬وفى ميناها أسطول البحر األسود‪ ،‬وبها حامية روسية كبرية‬‫حتى أن القادم عليها ال يتصور ألول وهلة إال أن كل أهلها ضباط وعساكر ‪ .‬ومع كونها‬ ‫مدينة جتارية فانها تعد مدينة حربية من الدرجة األوىل ‪ ،‬وهى متصلة مع كل الروسيا‬ ‫خبطوط حديدية ‪ ،‬وفيها متاثيل للضباط الذين امتازوا فى احلروب بريني كانوا أو حبريني‬ ‫‪ ،‬وتذكارات حربية أشبه بتذكارات “واترلو” فى بلجيكا ‪ .‬ومن الطف منازهها على البحر‬ ‫اجلنينة البلدية ‪ ،‬وفيها تصدح املوسيقى فى كل يوم ويقصدها الضباط بكثرة الجيوز‬ ‫للعساكر الدخول فيها‪.‬‬ ‫ومن ضمن شوارعها شارع مهم امسه “البولفار التارخيى” فيه جنينة كبرية على جهة‬ ‫مرتفعة موجودة بها بناية مستديرة فى غاية العظم مرسومة فى دائرها من الداخل ‪ .‬وقائع‬ ‫“حرب القريم” وصور العساكر الذين اشرتكوا فيها من “تركية وفرنساوية وانكليزية”‬ ‫وغريها ‪ .‬وبها معدات الدفاع وكثري من أدوات االستحكامات واملهمات احلربية ‪ ،‬وما أشبه‬ ‫ذلك فى شارع آخر بالقرب من مدخل املنيا متحف تارخيى فى غاية االهمية خيتص حبصار‬ ‫“سواسطابول “ وكل ما استعمل فيها من مدافع وأسلحة وخرط وغري ذلك‪ .‬وقد اشتهرت‬ ‫ً‬ ‫تقريبا ولكنها مل‬ ‫“سواسطابول” بهذا احلصار سنيت ‪1854 -‬و ‪ - 1855‬وفيه خرجت كلها‬ ‫تلبث أن نهضت من كبوتها‪ ،‬وقامت بسرعة عظيمة من عثرتها‪ ،‬وعدد سكانها اآلن ‪50‬‬ ‫ألف نفس األكثرية نصارى واألقلية تتار وأروام ويهود ‪ ،‬وفيها بعض لو كاندات أشهرها‬ ‫لوكاندة كيست على البحر‪ ،‬واجلران أوتيل وعلى بعد ‪ 10‬كيلو مرتات منها “دير‬ ‫مارجرجس” وله اآلن ألف سنة وموقعه مجيل للغاية ‪.‬‬ ‫ومن “سواسطابول” إىل “باغجه سراى” عاصمة القريم القدمية ‪ 43‬كيلو ً‬ ‫مرتا فى‬ ‫السكة احلديدية ‪ .‬وهي مدينة صغرية بها مجلة جوامع وبساتني‪ ،‬ولكن ليس فيها شئ‬ ‫من آثار الرقي احلديث فال طرق ممهدة‪ ،‬وال ترامواى وال نور كهربائى وال لوكاندات معتربة‪.‬‬ ‫وبها قصر خانات التتار بين فى القرن السابع عشر ‪ ،‬وعلى باب جامعه مكتوبة هذه العبارة‪:‬‬ ‫(سالمت كراى خان ابن احلاج سليم كراى خان سنة ‪ . )1155‬وحبوش القصر حنفية‬ ‫مكتوب عليها ‪“ :‬قبالن كراى خان ابن احلاج سليم كراى خان غفر اهلل هلما ولو الديهما‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫طهورا ) ومرسوم بها‬ ‫شرابا‬ ‫سنة ‪ . “ 1162‬وعلى هذه احلنفية اآلية الكرمية ( وسقاهم ربهم‬ ‫‪91‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫شجرتا ورد وثالثة أصناف من الفاكهة ‪.‬‬ ‫وفى احلوش حنفية أخرى مكتوب عليها ( ً‬ ‫عينا فيها تسمى سلسبيال ) ‪ .‬وبالدور األعلى‬ ‫قاعة االستقبال مكتوبة على جدرانها قصيدة فارسية ‪ ،‬ومرسوم عليها أطباق فاكهة‬ ‫متنوعة ‪ ،‬وهذه القاعة هى أمجل ما فى القصر وبالدور األرضى قاعة سقفها من أمجل ما‬ ‫صنع الصناع ‪ ،‬وعلى بابها منقوشة هذه العبارة ‪ :‬باب ديوان سالمت كراى خان ابن احلاج‬ ‫سليم كراى خان سنة ‪ ، 1156‬وبالقصر باب السلسبيل مكتوب عليه صاحب هذه الديار‬ ‫سلطان األعظم األكرم «منكلى كراى خان »‪ ...‬اخل ‪ .‬وبداخل القصر جنينة وخبارجه‬ ‫جنينة وهذه األخرية هى اآلن جنينة البلدية التى يتنزه فيها الناس ‪ ،‬وفيها اجلامع السلطانى‬ ‫وكانت العشا تؤذن فيه وقت زيارتى للبلد فى مايو فى منتصف الساعة العاشرة‬ ‫األفرنكية ‪.‬‬ ‫وفى باغجه سراى ‪ -‬جريدة تنشر بالغة الرتكية ‪ -‬لصاحبها امساعيل بك غصربنسكي‬ ‫ّ‬ ‫يتعلمن الرتكية والروسية‪،‬‬ ‫امسها «ترمجان»‪ ،‬وبها مدرسة للبنات تديرها كرميته ‪ ،‬وفيها‬ ‫ومبادئ اللغة العربية ‪ ،‬والعقيدة اإلسالمية ‪ ،‬واحلساب واجلغرافيا وعلم الصحة ‪ ،‬وعلم‬ ‫ّ‬ ‫حتفظن القرآن كله ‪.‬‬ ‫تدبري املنزل واألشغال اليدوية ‪ ،‬ومن البنات من‬ ‫وعدد سكان باغجه سراى ‪ 18‬ألف نفس منهم ‪ 14‬ألف من التتار ‪ ،‬وثالثة آالف مسيحى‬ ‫وألف يهودى ‪.‬‬ ‫ومن «سواسطابول» إىل «يالطه» ثالث طرق البحر واألوتوموبيل وسكة احلديد ‪ ،‬واألول‬ ‫ً‬ ‫خصوصا‬ ‫مجيل ألن املسافر فيه يشاهد شاطئ القريم جبباله املختلفة األلوان ‪ ،‬والثانى أمجل‬ ‫من إبتداء باب بايدار ألنه كله مناظر لطيفة وجبال وأشجار ‪ ،‬والثالث ال شئ فيه يستحق‬ ‫الذكر ‪ .‬ويالطة هى من أمجل مدن احلمامات البحرية فى القريم ‪ .‬وهواؤهافى الصيف‬ ‫معتدل ونافع ألمراض الصدر‪ ،‬ويسمونها «نيس الروسيا » وكل شوارعها ومبانيها على‬ ‫ً‬ ‫يوميا ‪.‬‬ ‫الطراز احلديث ‪ ،‬وفيها جنينة بلدية لطيفة تصدح فيها املوسيقى‬ ‫ومن أشهر لوكانداتها روسيا «وفيال ايلنا ومارينو» وعدد سكانها ‪ 35‬ألف نفس‬ ‫األكثرية نصارى واألقلية مسلمون ويهود ‪ .‬ومن ضواحيها «ليفاديا» وفيها يصيف‬ ‫القيصر‪ .‬وألوبكا وأورياندا وغريها من اجلهات اخللوية اجلميلة ‪ .‬ومن «يالطه» سافرت إىل‬ ‫«باطوم» فمرت الباخرة على مجلة ثغور أهمها (تيو دوزى وكريش) آخر موانى القريم ‪ .‬وفى‬ ‫بوغار «كريش» هذه يتصل حبر أزوف بالبحر األسود ‪.‬‬ ‫فساحل القريم يبتدى إذن من ‪ -‬أوباتوريا وينتهى فى كريش ‪ -‬وبعضه سهول وبعضه‬ ‫جبال‪ ،‬واملناظر اجلبلية كلها فى غاية اجلمال ‪ .‬وأما ساحل القوقاز فيبتدئ من (أنابا‬ ‫وينتهى فى باطوم)‪ .‬وكله غابات وأشجار وجبال من أمجل ما يكون ‪ .‬ومن أهم ثغوره»‬ ‫نوفور وسيسك» وهى مدينة كبرية وجاجرى وكلها غارقة فى األشجار واخلضرة ‪ ،‬وهى‬ ‫من أمجل املصايف وعلى بعد ‪ 15‬فرست منها «جبل اتوس اجلديد» وبه دير أسسه فى سنة‬ ‫‪ 1875‬بعض رهبان جبل اتوس القريم – وسوخوم عاصمة مملكة أباظا ( أخبازي )‪ .‬وكلها‬ ‫فواكه وأزهار وهواؤها فى غاية اجلودة ‪ ،‬ومنها يرسل مقدار عظيم من الدخان إىل «مصر»‪،‬‬ ‫‪92‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫وفى ضواحيها آثار مدن قدمية وهيا كل وقصور وقالع ومعاقل ‪ ،‬وعدد سكانها ‪ 20‬ألف‬ ‫نفس ‪ .‬أما سكان نفس مملكة أباظة فيبلغون نصف مليون ثالثة أرباعهم مسلمون ‪،‬‬ ‫والباقى «نصارى أورثوذكس» ومعظم سكان هذه اململكة املسلمني هاجروا إىل تركيا‬ ‫ومل يبق فى القوقاز سوى ‪ً 30‬‬ ‫ألفا منهم ثـمانية آالف من ضمن سكان «سوخوم» ‪ ،‬والباقون‬ ‫منتشرون بينها وبني «نوفوروسيسك» على ساحل البحر األسود وقبائلهم تسمى أونج ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫جباال مجيلة فى ساحل القوقاز‬ ‫ومن جاجرى إىل باطوم يرى املسافر وهو على ظهر الباخرة‬ ‫ذات غابات وأشجار ‪ ،‬وقممها البالغ ارتفاعها ‪ 2500‬مرت مغطاة كلها بالثلج ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أخريا إىل باطوم آخر مينا للروسيا على‬ ‫وبعد سفر ثالثة أيام من يالطه وصلت الباخرة‬

‫البحر األسود وبينها وبني أودسا ‪ 563‬ميال ‪.‬‬

‫وباطوم كما أنها مدينة جتارية هى مدينة حربية وقد وسعها الروس وفتحوا فيها الشوارع‬ ‫وأناروها بالنور الكهربائى ‪ ،‬وانشأوا فيها على شاطئ البحر جنينة بلدية من الطرز احلديث‬ ‫كلها شوارع مستقيمة ‪ ،‬وبها تصدح املوسيقى العسكرية كل يوم ‪ .‬وفى باطوم جنينة‬ ‫أخرى من زمن الرتك فى غاية اللطف على شاطئ حبرية صغرية وقد مسيت هذه اجلنينة‬ ‫اآلن جنينة إسكندرية ‪ .‬وهواء باطوم معتدل ولكن ماءها ال يزيل الصابون إال بشق‬ ‫األنفس ‪ ،‬وفيها ثالثة جوامع ومعامل للغاز ملك نوبيل األسوجى صاحب اجلوائز السنوية‬ ‫املشهورة ‪ .‬وإليها يأتى البرتول من – باكو ‪ -‬الكائنة على حبر اخلزر فة مواسري حمكمة‬ ‫حتت األرض ‪ ،‬وهى مسافة طويلة ً‬ ‫جدا يقطعها – االكسربيس ‪ -‬الذى يقال له فى الروسيا‬ ‫ً‬ ‫أيضا معامل روتشيلد‬ ‫كورييسكي فى حنو ‪ 24‬ساعة ‪ .‬ومن أهم معامل الغاز فى باطوم‬ ‫املعروف ومعامل مانتاشيف األرمنى الروسى ‪ .‬وعلى بعد ‪ 13‬فرست من باطوم فى السكة‬ ‫احلديد مزارع الشاى املشهورة فى «شكوى» ‪ .‬وعدد سكان باطون ‪ 37‬ألف نفس ‪ ،‬وهم‬ ‫خليط من الروس والكرج واألرمن والرتك واجلركس ‪ .‬ومن أحسن لوكانداتها الشرق‬ ‫واملنظر اجلميل وفرنسا واألمربيال ‪.‬‬ ‫ومن باطوم سافرت بالسكة احلديدية إىل قوطايس وبورجوم وباكوريانى فى داخلية‬ ‫ً‬ ‫بالدا صغرية لكنها تستحق الزيارة جلمال الطرق املوصلة إليها‬ ‫القوقاز ‪ .‬وهى وإن كانت‬ ‫بالنظر لتشعب جباهلا وكثرة أشخارها‪ ،‬وتعدد منعطفاتها وجريان األنهر والغدران فيها ‪.‬‬ ‫وليس فى قوطايس شئ يذكر سوى «نهر ريون» وخريره يسمع له دوى شديد من بعيد ‪،‬‬ ‫وفيها نزل فرنسا صاحبته امرأة من سويسره هلا فى قوطايس ‪ 30‬سنة وقد أثرت بها ‪.‬‬ ‫وبورجوم مدينة محامات معدنية وبها نهي سريع اجلريان شديد اخلرير ‪ ،‬وآخر أكرب منه‬ ‫وماؤها العادي بالنسبة إلزالة الصابون مثل ماء باطوم ‪ .‬أما باكوريانى نفسها فال تستحق‬ ‫ً‬ ‫يوما وال بعض يوم وإمنا الطريق إليها من بورجوم من أمجل ماتراه العني‪.‬‬ ‫اإلقامة بها ال‬ ‫ومن بورجوم طريق آخر فى غاية البهجة واحلسن إىل أباستومان السفر فيه يكون فى‬ ‫األوتوموبيل واباستومان ‪ .‬هذه من البالد املشهورة بإعتدال هوائها ومجيل مناظرها ‪.‬‬ ‫ومن بورجوم سافرت إىل «تفليس» عاصمة القوقاز بالسكة احلديدية ‪ .‬وهى فى منتصف‬ ‫الطريق بني ‪ -‬باطوم وباكو ‪ -‬أو بني األسود وحبر اخلزر‪ ،‬وبلغ ارتفاعها عن سطح البحر ‪.‬‬ ‫‪93‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫‪3‬‬

‫من تفليس إىل بالد الشراكسة‬ ‫كانت «تفليس» فى أوائل العصر املسيحى قرية حقرية ال تذكر ‪ .‬وفى القرن اخلامس‬ ‫للميالد عثر فيها بالصدفة امللك املسمى «بالذئب» السبع أثناء الصيد ‪ ،‬والقنص على عني‬ ‫ماء حارة جترى فى اجلبل فاختذها من ذلك الوقت عاصمة ململكة «الكرج» ‪ .‬ونقل إليها‬ ‫ختت ملكه من «متسخيت» العاصمة القدمية ‪ .‬التى هى اآلن بلدة صغرية على بعد ساعة‬ ‫منها فى السكة احلديدية ‪ ،‬ولوال هذه العني لظلت «تفليس» على حقارتها إىل األبد‬ ‫‪ ،‬ولبقيت جمهولة من اجلميع وما كان مسع بذكرها أحد فالعني إذن هى ولية نعمتها‬ ‫وينبوع عزها وسعادتها ‪.‬‬ ‫وفى سنة ‪ 1395‬حطمها «تيمور» وجنوده وأعملو السيف والنار فيها‪ .‬وذحبوا أهلها وأسرو‬ ‫ً‬ ‫النساء‪ .‬وقد استوىل العجم عليها وأقاموا بها ً‬ ‫طويال ‪ .‬وفى سنة ‪ 1801‬دانت للروسيا‬ ‫زمنا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نهائيا حلكمها ‪ ،‬وبعد ذلك أخذت تتسع شيئا فشيئا حتى وصلت إىل ما هى‬ ‫وخضعت‬ ‫عليه اآلن من احلضارة والتقدم والعمران ‪.‬‬

‫وتنقسم تفليس إىل قسمني ‪:‬‬ ‫القسم األول «افرنكى» وكل شوارعه واسعة مستقيمة‪ .‬ومن أهمها شارع‬ ‫جاالفانسكى وشارع ميخاييلوفسكى وكالهما مضاء بالكهرباء ‪ ،‬وفى الشارع‬ ‫األول منهما ديوان حاكم القوقاز ‪ ،‬ومصاحل احلكومة والكنيسة الروسية الكربى ‪،‬‬ ‫وخمازن التجارة واملتحف وجنينة اسكندر وتياترو األوبرا ‪ ،‬وهو فى غاية احلسن والبهاء‬ ‫‪ ،‬ويقال له عندهم كازونى تياتر أي تياترو احلكومة ‪ ،‬وأمجل ما فيه من اخلارج‬ ‫واجهته الفارسية البناء ‪ ،‬وعلى بعد قليل منه تياترو آخر كبري‪ .‬وفى الشارع الثانى‬ ‫معظم املطاعم واأللعاب واملالهي ‪ ،‬وفى آخره جنينة اجملتهد ‪ ،‬والناس يقصدونها كل‬ ‫ً‬ ‫خصوصا يوم األحد ‪ ،‬وبها ختت أرمن يغنون أغانى شجية ‪ ،‬وهم‬ ‫يوم للفسحة والرياضة‬ ‫البسون مالبس ملونة وعلى رؤوسهم لفافات محراء مطرزة بالقصب‪ ،‬وآالت الطرب‬ ‫عندهم «قانون ودف و كمنجتان وأورغن» وبالقرب من هذه اجلنينة فى الشارع قهوة‬ ‫كبرية بها ختت من «الكرج» مركب من رجال ونساء وكلهم البسون مالبس ملونة‬ ‫كذلك ‪ ،‬ومزركشة بالقصب واحلانهم طلية ‪ ،‬وآالت الطرب فى هذا التخت «بيانو‬ ‫‪94‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫مندولني ودف وآالت كبرية من ذوات األوتار» تسمى كل واحدة منها عندهم جيتاره ‪.‬‬ ‫والقسم الثانى أهلى وبه جنينة النباتات واجلوامع واألسواق البلدية ‪ ،‬وتعرف هناك بالبازار‪،‬‬ ‫ومن أعظمها سوق امليدان وسوق األرمن وسوق الشيطان ‪ ،‬وشوارع هذا القسم كأغلب شوارع‬ ‫البالد الشرقية ضيقة وملتفة على بعضها ‪ ،‬ومعوجة أعوجاج الثعبان ‪.‬‬ ‫وفى «تفليس» نهر صغري أمسه كورا وآخر أصغر منه من نوع الغدير أمسه «فريا» ‪.‬‬ ‫وعلى األول منهما تدور دواليب حديدية للطحن ‪ ،‬وغريه بقوة التيار وبها حمل امسه فانتازيا‬ ‫يرقصون فيه ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أهليا ‪ ،‬وهو على نوعني أحدهما رقص اللزجني رقص‬ ‫رقصا‬ ‫ليال ( عند الطلب )‬ ‫ويسمى «ليزجينيكا»‪ ،‬والثانى رقص «الكرج» ويسمى كينتا اورى ‪ .‬وفى» تفليس»‬ ‫ً‬ ‫حاكما على القوقاز وبالقرب منه مطعم‬ ‫متثال واحد يعرف بتمثال «فارانسوف» وكان‬ ‫مشهور باملأكوالت األهليه امسه نادكورو ايه ‪.‬‬ ‫ومآذن اجلوامع فى «تفليس» ليست عالية ‪ ،‬فهى كمآذن تونس ‪ ،‬وفى «تفليس» مجلة‬ ‫ً‬ ‫شيئا‬ ‫فنادق أعظمها وأمجلها وأحسنها لوكاندة الشرق أمام سراي احلاكم ‪ ،‬وهى ال تقل‬ ‫ً‬ ‫ونظاما ‪.‬‬ ‫عن فنادق الدرجة األوىل فى أوربا ‪ ،‬ومطعمها فاخر للغاية ‪ ،‬وكفاها ترتيبا ونظامة‬ ‫أن مديرها فرنساوى خبالف اللوكاندات األخرى فى جنوب القوقاز فا كثرها بيد «الكرج‬ ‫واألرمن» وهى أشبه شئ بلوكاندات األروام فى مصر ‪.‬‬ ‫وأمام لوكاندة الشرق خلف السراى جبل «القديس داود» اهلواء فيه منعش من الساعة‬ ‫ً‬ ‫خصوصا فى الليل‪،‬والصعود إليه يكون فى‬ ‫السادسة مساء ‪ ،‬والناس يفدون اليه بكثرة‬ ‫ذهابا وأقل منها ً‬ ‫ً‬ ‫ايابا‪ .‬وفى ثلث‬ ‫( مصعد كهربائى )‪ .‬واملسافة ‪ 10‬دقائق‬ ‫فينيكولري‬ ‫اجلبل من جهة البلد «دير القديس داود» ‪.‬‬ ‫ويعد هذااجلبل من أمجل مناره «تفليس» وكله يضاء بالكهرباء ‪ ،‬وفيه مطاعم‬ ‫ومقاهى وختوت آالتيه كل أحلانها مطربة شجية ‪ ،‬ومن ضمن آالتهم « الرباب واملزمار‬ ‫والنقرية » ‪ ،‬ومن قمة اجلبل ترى مناظر « تفليس » كلها ولكن املنظر بالليل أمجل منه‬ ‫بالنهار ألن البلد وقتئذ تكون كأنها مزينة بزينة عمومية فى غاية التنسيق واإلبداع مبا‬ ‫يتألأل فيها من األنوار التى تبهر مبحاسنها األبصار ‪.‬‬ ‫وتكاد « تفليس» أن تكون حماطة باجلبال من مجيع جهاتها‪ .‬فاحلر الذى تفر منه فى‬ ‫مصر هو مالقيك فيها ‪ .‬ولكن إذا اعتدل اهلواء أنتعش األرواح واألجسام وحبب إىل الغريب‬ ‫املقام بها بضعة أيام ‪.‬‬ ‫وفى «تفليس» محام معدنى مشهور امسه «محام أوربيليانى» ومياهه تنفع للروماتيزم ‪،‬‬ ‫وهى مستمدة من تلك العني احلارة التى أكتشفها جاللة امللك الذئب السبع ‪.‬‬ ‫وفى « تفليس » ميدان فسيح على بعد قليل من سراى احلاكم امسه «ميدان ايريفان»‬ ‫تتوزع منه خطوط الرتامواى فى البلد فى كل مكان ‪ ( .‬وايريفان هذه بلدة جهة قارص‬ ‫على مقربة من باطوم ‪ ،‬وعندها «امشيازين» وهى مدينة مقدسة عند األرمن وبها مقر‬ ‫كبري الدين ) ‪.‬‬ ‫‪95‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫وفى «تفليس» بعض املسلمني مثل بابانوف وحصانوف من أرباب املاليني ‪ .‬وبواسطة‬ ‫باريس تصل إليها فى ثـمانية أيام مارة «بربلني وبطرسبورج وموسكو وخاركوف‬ ‫وروستوف وباكو» ثم «تفليس» ‪ .‬وعدد سكانها ‪ 400‬ألف نفسى منهم ‪ 30‬ألف روسى و‬ ‫‪ 180‬ألف أرمنى و ‪ 100‬ألف كورجي و ‪ 60‬ألف مسلم ومخسة آالف يهودى ‪.‬‬ ‫وفى «تفليس» متحف لطيف به مجلة رايات قدمية أستعملها «الشيخ شامل» بطل‬ ‫قافقاسية وزعيمها ( وسيأتى الكالم عليه فيما بعد ) فى حروبه مع الروس مكتوب‬ ‫ً‬ ‫عليها « أنا فتحنا لك ً‬ ‫مبينا – نصر من اهلل وفتح قريب وبشر املؤمنني ياحممد » ‪ .‬وفيه‬ ‫فتحا‬ ‫لوحة كبرية مرسومة فيها صورة الشيخ شامل ‪ ،‬وبه رايات عجمية مكتوبة فى أطرافها‬ ‫ً‬ ‫شاهرا سيفه وغري ذلك من الرايات‬ ‫البسملة وبعض آيات قرآنية ‪ ،‬وفى وسطها أسد العجم‬ ‫واألعالم ‪ .‬وفى املتحف صور ورسوم متثل أغلب وقائع الشيخ شامل ‪ ،‬وبه أسلحة قدمية‬ ‫ومدافع منقوشة عليها عبارات باللغة الرتكية اللغة العربية ‪ ،‬ومن ضمن مافيه لوحة‬ ‫كبرية متثل دخول الروس فى «تفليس» ‪ ،‬وبه يفطات وأوراق قدمية مكتوبة بالرتكى‬ ‫وغري ذلك من نفائس اآلثار ‪.‬‬ ‫ومن ضواحى «تفليس» «كودجور وماجنليس» وهما مشهوران بإعتدال اهلواء حتى أنه‬ ‫يكاد أن ال يكون للحر أثر فيهما فى زمن الصيف ‪ .‬والذهب إليهما يكون باألوتوموبيل‬ ‫من ميدان أيريفان ‪.‬‬ ‫وفى «تفليس» شركة فرنساوية لتسيري االوتوموبيالت بينهما وبني «فالديقافقاز» فى‬ ‫طريق بهج للغاية مسافته عشر ساعات أما‪ .‬إذا كان السفر إىل تلك اجلهة فى السكة‬ ‫احلديدية ففي طريق آخر ال مناظرفيه ‪ ،‬وال مجال وال تقل مسافه عن ‪ 24‬ساعة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ذهابا‬ ‫وأحسن حمل فى األتوموبيل احملل منرة ‪ 3‬خلف السائق ‪ .‬واألجرة ‪ 20‬روبال ونصف‬ ‫ومثلها ً‬ ‫ايابا ‪ ،‬خالف أجرة العفش ‪ .‬وقد ركبت األتوموبيل مع غريى من السياح وأخرتقت‬ ‫به سلسلة جبال القوقاز املشهورة ‪ ،‬وتسمى هذه السكة بالسكة احلربية الكورجية‬ ‫ألن اجليوش الروسية أستعملتها فى حروبها فى القوقاز ‪ ،‬وأكثر سكان هذه اجلبال‬ ‫ً‬ ‫أيضا األنكوش واألستني ‪ ،‬وليسوا كلهم مسلمني ‪ .‬أما‬ ‫نصارى من الكورج ويسكنها‬ ‫مناظرها فمدهشة ومجيلة للغاية ال يذكر جبنها أمجل مناظر سويسره فمن حزون إىل‬ ‫سهول إىل قمم شاهقة تناطح السحاب يانعة خضرآء إىل جناد ووهاد كلتها األشجار إىل‬ ‫وديان سحيقة جترى فيها األنهار إىل قلل شاخمة تأخذ هى األخرى مبجامع األلباب ‪ ،‬ولو أنها‬ ‫قرعة جرداء إلنبات فيها وال ماء ‪ .‬وفى الطريق لوكاندات وحمطات أوهلا حمطة قازبق (‬ ‫كلمة حمرفة عن غازى بك )‪ .‬وأنفاق كأنفاق السكك احلديدية متر منها األتوموبيالت‪،‬‬ ‫وعالمات ملعرفة خط السري وتقدير املسافات ‪.‬‬ ‫وملا وصلنا إىل «فالديقافقاز» إذا بها مدينة مجيلة على نهر جار امسه «ترييك» وهى‬ ‫ً‬ ‫مرتفعة عن سطح البحر بثمامنائة مرت ‪ .‬فإذا كان ّ‬ ‫شديدا فى «تفليس» كان الربد‬ ‫احلر‬ ‫ً‬ ‫شديدا ‪ ،‬وهى قاعدة والية تريسكى وبها جنينة بلدية كبرية فى غاية احلسن واجلمال ‪،‬‬ ‫حيفها نهر ترييك من إحدى جهاتها بل هى أمجل حدائق القوقاز كلها حتى نفس «تفليس»‬ ‫‪96‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫‪ ،‬وكلها مضائة بالكهرباء وفيها تصدح املوسيقى العسكرية فى كل يوم وإليها يهرع‬ ‫الناس بكثرة ‪ .‬وبالبلد جامع فخيم على حافة النهر مبأذنتني عالتني فى غاية احلسن ‪،‬‬ ‫وبها شارع كبري فى وسطه ممشى طويل مغروسة فيها األشجار ذات الظل الظليل على‬ ‫اجلانبني وموضوعة مقاعد للجلوس من الطرفني ‪ .‬وعدد سكان هذه املدينة ‪ 75‬ألف نفس ‪،‬‬ ‫وبها فنادق كبرية مثل اجلران أوتيل واالمربيال وغريها ‪ ،‬ومنها تسافر القطارات إىل مشال‬ ‫روسيا وإىل محامات القوقاز املعدنية املشهورة ‪ ،‬وهى بياتيجورسك على بعد ساعات من‬ ‫فالديقافقاز – وايسانتوك وكيزلوفودسك ‪ -‬ومنها خيرج ماء نارزان املعدنى الذى يشرب‬ ‫فى الروسيا بكثرة – وجليز نوفودسك ‪ .‬وهذه احلمامات متقاربة من بعضها وكلها فى‬ ‫غاية اإلستعداد وال ينقصهاش شئ من معدات الراحة والنظافة املوجودة فى غريها من‬ ‫محامات أوربا املعدنية ‪ ،‬والفنادق هناك معتربة غري أن أجرة السكن فيها غالية ً‬ ‫جدا ‪.‬‬ ‫وفى والية تريسكى تسكن قبيلة من اجلراكسة امسها «القابارطاي» واجلهة املقيمة‬ ‫بها هذه القبيلة تبعد عن فالديقافقاز ست ساعات فى السكة احلديدية ‪ .‬ومسيت والية‬ ‫تريسكى بهذا االسم إىل نهر تريتك ‪ ،‬وهو نهر ينبع من جبال قازبق ( غزى بك ) فى سلسلة‬ ‫جبال القوقاز ويصب فى حبر اخلزر ‪.‬‬

‫‪97‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫‪4‬‬

‫فى بالد الشراكسة والداغستان‬ ‫على بعد ثالث ساعات من فالديقافقاز والية قوبانسكى ‪ ،‬وهى مقر معظم قبائل‬ ‫أخواننا اجلراكسة ‪ .‬وتلك القبائل هى «أبزاخ وحـاتوقـاى وبـجـدوع وكمكـوه‬ ‫وشابسـغ وحكوص»ومسيت والية قوبانسكى بهذا االسم إىل نهر قوبان وهو نهر ينبع‬ ‫من جبال البزر فى سلسلة جبال القوقاز ‪ ،‬ويصب فى البحر األسود ‪ ،‬وفى سفوح اجلبال‬ ‫ً‬ ‫أيضا «قبيلة‬ ‫البزر الشمالية تسكن قبائل قره جاي اجلركسية ‪ .‬ومن قبائل اجلركس‬ ‫شيشانسي» من سكان اجلبال وال تنسى القبائل التى ذكرناها عند الكالم على بالد‬ ‫ً‬ ‫مجيعا‬ ‫أباظا ‪ .‬واجلراكسة وأن كانو ال يزيدون عن ‪ 500‬ألف نفس لكن أهل القوقاز‬ ‫خيشون بأسهم ملا أمتازوا به من الشجاعة واجلسارة والرماية والفروسية ‪ .‬والروسيا نفسها‬ ‫حتسب هلم كل حساب وحترتمهم مزيد اإلحرتام ‪.‬‬ ‫ومن تريسكى إىل كمره بلد الشيخ شامل ‪ 16‬ساعة ست منها فى العربة وعشرة على‬ ‫ظهر الفرس ‪ ،‬وهذا الرجل اخلالد الذكر هو من قبيلة اللزجني فى الداغستان ‪ ،‬وحقيقة‬ ‫أمسه ( مشويل ) ولكنه اشتهر فى مشارق األرض ومغاربها بشامل وحنن جنارى الناس فى‬ ‫ً‬ ‫دائما بهذا االسم املشهور ‪.‬‬ ‫ذلك ونسميه‬ ‫حربيا فقط بل كان ً‬ ‫مل يكن « الشيخ شامل» ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وإداريا‪ .‬وهو الذى كون‬ ‫دينيا‬ ‫رجال‬ ‫رجال‬ ‫اجلامعة القوقازية وأنشأ احملاكم الشرعية فى القوقاز وقد حارب الروسيا ( ‪ ) 45‬سنة على‬ ‫ً‬ ‫مستقال بنفسه ‪ ،‬ولو ال خيانة «حاجي‬ ‫التحقيق ‪ .‬منها ‪ 13‬سنة حتت راية غريه و‪ 32‬سنة‬ ‫مراد» ملا متكنت الروسيا بكل حوهلا وقوتها وصولتها وسطوتها من أسره ً‬ ‫أبدا ‪ ،‬ولظل‬ ‫حياربها إىل املمات ‪.‬‬

‫«فحاجى مراد» هو إذن «يهودا القوقاز» أو حسن حتسني الذى داس بأرجله على عهود‬ ‫الوطن والدين ‪ ،‬وخالف واجبات الشرف والذمة وأضر حبقوق األمة حيث سلم ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حمال «مبدينة كالوجا»‬ ‫أسريا فى فبضة روسيا خصصت ألقامته‬ ‫وملا وقع الشيخ شامل‬ ‫ً‬ ‫الواقعة على نهر اوكا ‪ .‬وهى على بعد ‪ 400‬كيلو مرتا من «مسكو» ‪ .‬وقد اقام هناك‬ ‫ً‬ ‫مكرما إىل أن رخصت له احلكومة القيصرية بالسفر إىل االقطار احلجازية فحج‬ ‫معظمها‬ ‫ً‬ ‫البيت احلرام وزارة الروضة الشريفة النبوية ثم اختار املدينة املنورة مقرا له أن انتقل الرفيق‬ ‫األعلى رضى اهلل عنه وأرضاه ‪ ،‬وجعل اجلنة متقلبه ومثواه ورفعه إىل عليني مع الذين أنعم‬ ‫ً‬ ‫رفيقا ‪.‬‬ ‫اهلل عليهم من النبيني والصديقني والشهداء والصاحلني وحسن أولئك‬ ‫‪98‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫ومبوت “الشيخ شامل” وزميله “األمري عبد القادر اجلزائرى” إنقرضت دولة االبطال فى‬ ‫اإلسالم ‪ .‬وقد خلف ثالثة أوالدوهم “حممد شافع” وقد تربى فى مدارس روسيا ثم انتظم فى‬ ‫سلك اجليش الروسى ‪ ،‬ومازال يرتقى فيه إىل أن وصل إىل رتبة جنرال ‪ ،‬وقد توفى من ثالث‬ ‫سنني ودفن فى أرض اجلراكسة والية قوراجاى ‪ .‬وغازى حممد باشا وقد مات هو اآلخر فى‬ ‫املدينة املنورة ‪“ ،‬وحممد كامل” وهو مقيم بها اآلن ‪ .‬وقرب الشيخ شامل يوجد باملدينة املنورة‬ ‫جبوار قرب العباس عم النبى وأمام قرب األمام ابن حجر ‪ .‬وقد بعثنا بصورته فى شيبته وكهولته‬ ‫وشيخوخته إىل إدارة املؤيد األغر لرياها هناك ويتربك بها من يشاء ‪.‬‬ ‫والداغستان يقدرون بنحو ‪ 800‬ألف نفس وهلم من الصفات ‪ .‬واألخالق الفاضلة ما ال‬ ‫خوانهم اجلراكسة ‪ ،‬والفضل فى تهذيبهم وتثقيفهم وبث روح الفضائل والكماالت فى‬ ‫نفوسهم وما هم عليه من اإلستقامة والصالح والتقوى يرجع إىل رجل من “علماء خبارى”‬ ‫ً‬ ‫قدميا وحديثا من األيادى البيضاء فى‬ ‫امسه “الشيخ حممد بن سليمان” ‪ .‬وكم لبخارى‬ ‫خدمة اإلسالم واملسلمني ‪ .‬وعلى هذا الشيخ اجلليل نبغ “الشيخ منصور” صاحب الدعوة‬ ‫إىل اجلهاد ضد الروسيا ‪ ،‬ومن تالميذه “الشيخ شامل واجلراكسة والزجني واالباظا “ من‬ ‫أقدم أمم القوقاز ‪ .‬ومل يعلم فى التاريخ أن أمما قبلهم سكنت هذه البالد فلقد نزحوا إليها‬ ‫من آسيا الوسطى ‪ ،‬واستوطنوها قبل املسيح بثالثة آالف سنة ‪ ،‬وفى القرن الثامن للميالد‬ ‫ً‬ ‫مجيعا فاعتز بهم اإلسالم ألنهم فى الواقع قوة اليستهان‪ .‬بها وكلهم يرجعون إىل‬ ‫أسلموا‬ ‫ً‬ ‫أصل واحد تقريبا ‪ ،‬ولكنهم ملا جاءوا القوقاز تفرقوا فى جهات خمتلفة فاختلفت هلجاتهم‬ ‫ً‬ ‫مجيعا ال تقرأ وال تكتب ‪ ،‬ومن أظهر خمارج احلروف فيها “احلاء واخلاء‬ ‫الكالمية ‪ ،‬ولغتهم‬ ‫والسني والشني والقاف والغني” وكل معامالتهم وصكوكهم تكتب باللغة العربية‪،‬‬ ‫وعلماؤهم وأئمتهم يعرفون هذه اللغة قراءة وكتابة ألنها لغة دينهم وزيادة على ذلك‬ ‫فأن الداغستان يقرؤون ويكتبون بالعربي ويتكلمون وكل هذه القبائل على‬ ‫ً‬ ‫إختالف أنواعها تلبس ً‬ ‫واحدا يسمى “جركسكا” وهو عبارة عن جبة امسها عندها‬ ‫لبسا‬ ‫شوخا وفى صدرها أصابع تسمى كازيرى كانت معدة فى االصل لوضع الرصاص فيها ‪،‬‬ ‫وأصبحت اآلن جملرد الزينة واحملافظة على التقاليد القدمية ‪ ،‬وخنجر يتدىل على بطونهم‬ ‫ً‬ ‫مرصعا باحلجارة الكرمية أو غري مرصع‬ ‫امسه” كنجال” وقد يكون جفرية من الذهب‬ ‫وقد يكون من الفضة أو غريها على حسب مقدارة الشخص ‪ .‬وقلبق يوضع على الرأس‬ ‫امسه باباخ وفى الربد يرتدون فوق هذه الكسوة برداء من الفرو األسود على شكل عباءة‬ ‫امسه فوركا ‪.‬‬ ‫وكذلك “الكورج” نصارى أو مسلمني يلبسون على الغالب هذا اللبس ‪ ،‬وتسمى اجلبة‬ ‫عندهم آرخالوخ ‪ ،‬ومنهم من ال يضع الباباخ على رأسه ‪ ،‬ويلف عليها لفافة من القماش تسمى‬ ‫بابا ناقي ‪ ،‬وتتدىل منها عزبة خلف الظهر ومنهم من يغطي رأسه بقطعة قماش مصنوعة‬ ‫امسها باشالقي ‪ ،‬وهى عبارة عن قلنسوة هلا زر لونه كلون القطعة وطرفاها ميتدان على‬ ‫اجلانبني إىل الفخذين ‪ .‬و”الكورج” تنصروا فى أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع بعد‬ ‫امليالد‪ .‬ولغتهم تقرأ وتكتب والكتابة الكورجية وجدت فى القرن الرابع قبل املسيح‬ ‫وحروفها نسيج وحده فال تشبه غريها من احلروف األخرى ‪ ،‬وقد خرج من الكورج مجلة‬ ‫ً‬ ‫عائشا فى أواخر القرن‬ ‫شعراء أهمهم “روستافللي” الشاعر الكورجى الكبري ‪ ،‬وكان‬ ‫الثالث ومن أعظم شعره قصيدة امسها “جلد الفهد” ‪.‬‬ ‫‪99‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫‪5‬‬

‫القوقاز‬ ‫ينقسم القوقاز إىل قسمني منفصلني عن بعضهما بسلسلة جبال القوقاز أحدهما فى‬ ‫أوربا واآلخر فى آسيا‪ .‬ولغات القوقاز هى “الكورجية واملنجريلية واللزجينية والسوانية‬ ‫ولغة الشيشانسي” وفيه أيضا اللغة الروسية واألرمنية والرتكية والفارسية ‪ ،‬وعدد‬ ‫اللهجات الكالمية فيه يبلغ حنو” ثالثني هلجة” ‪ ،‬وميزانية القوقاز ‪ 67‬مليون روبل‬ ‫( حنو سبعة ماليني جنيه ) ومعظم التجارة فى القوقاز بيد األرمن وكذلك الصياغة‬ ‫فلهم فيها القدح املعلى حتى أن مجيع جفار اخلناجر والسيوف املرصعة هناك من صنع‬ ‫أيديهم ‪ ،‬وضباط العجم رعايا روسيا ال حيملون الكاسكيت العسكرية مثل أخوانهم‬ ‫فى اجليش الروسى ‪ .‬بل يلبسون القلبق العجمى مرسوما عليه شارة فارس مذهبة أو‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫سيفا بيهه اليمنى‪ ،‬وعلى ظهره‬ ‫شاهرا‬ ‫مفضضة‪ ،‬وهى كما ال خيفى عبارة عن أسد‬ ‫قرص الشمس بأشعته إمضاءة‪ .‬وفوق هذه الشارة التاج الروسى ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫شديدا ‪،‬وقد الرتمومرت إىل درجة أربعة‬ ‫وعلمت أن الربد فى القوقاز فى زمن الشتاء يكون‬ ‫يوميا ً‬ ‫ً‬ ‫ليال‬ ‫حتت الصفر ‪ ،‬وقد يقع املطر ستة أيام متوالية فى بعض اجلهات ‪ ،‬ومخسة عشر‬ ‫ً‬ ‫ونهارا فى اجلهات األخرى ‪.‬‬ ‫وكانت امتداد سلطة روسيا على القوقاز ومجيع آسيا الوسطى فى القرن التاسع عشر ‪،‬‬ ‫ولكن “خبارى “ مل تزل حمافظة على إستقالهلا حتت سيادة روسيا ‪.‬‬ ‫وحاكم القوقاز لقبه كلقب حاكم اهلند أى نائب امللك ‪ .‬وعدد سكان القوقاز يبلغ‬ ‫حنو سبعة ماليني منهم ثالثة ماليني مسلمون ومليونان من الكرج و ‪ 200‬ألف منجرليان‬ ‫وهم و “الكورج نصارى أورثودكس وكاثوليك ولكن األكثرية أورثودكس وفى‬ ‫الكورج ‪ 40‬ألف مسلم ‪ ،‬واألرمن فى الدنيا ‪ 4‬ماليني منهم مليون ونصف فى القوقاز ‪،‬‬ ‫وأثنان فى تركيا ‪ ،‬ونصف مليون فى العجم ‪ .‬وهناك طائفة من السكان امسها السوانت‬ ‫غري معلوم عددها ‪ .‬وهم ال يزالون على الفطرة حتى أنهم ليكتسون لآلن جبلود الغنم ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا ‪ 300‬ألف يهودى ‪.‬‬ ‫وكلهم أورثودكس وهم أفقر أهل القوقاز ومن سكان القوقاز‬ ‫واملنجرليان وأن كانوا كورجا إال أن لغتهم ال تقرأ وال تكتب خبالف لغة الكورج كما‬ ‫قلنا وكل منهم إذا تكلم ال يفهم لغة اآلخر ‪.‬‬ ‫ويف القوقاز فرقتان عسكريتان أحدهمت فى قارص على التخوم العثمانية ‪ ،‬والثانية‬ ‫فى تفليس وكل فرقة منهما تتألف من ‪ 70‬ألف عسكري ‪.‬‬ ‫‪100‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بلديا‪،‬‬ ‫وطبال‬ ‫مزمارا‬ ‫ومسعت فى القوقاز فى أحدى اجلنائن العمومية فى ليلة خريية‬ ‫وكان كل الزمارين والطبالني من العجم‪ ،‬ولكن شتان بني نغمات مزمارهم وبني نغمات‬ ‫مزمارنا فال عدمت مصر مزمارها وطبلها البلدي‪ ،‬وكل مشخصاتها ومقوماتها االهلية ‪.‬‬ ‫ومن فالديقافقاز رجعت إىل» تفليس» باالوتومبيل‪ ،‬ومن تفليس سافرت فى السكة‬ ‫احلديدية إىل «باكو» فوصلتها بعد ‪ 14‬ساعة وهى مدينة واقعة على حبر اخلزر‪ ،‬وكانت‬ ‫تابعة للعجم ولكنها اآلن ملك روسيا وكلها مبنية على الطراز احلديث وشوارعها‬ ‫منتظمة ‪ ،‬وفيها النور الكهربائي وهواؤها ردئ وحرها ّ‬ ‫أشد «تفليس» والسبب فى ذلك وجود‬ ‫آبار النفط على بعد نصف ساعة منها ‪.‬‬ ‫وهذه اآلبار وإن كانت تنفجر منها ينابيع الثروة وتفييض على أهل البلد النضار إال أنها‬ ‫جعلت الطقس فى الصيف ال يطاق‪ .‬ولو أن املدينة على شاطئ البحر وعلى هذا الشاطئ‬ ‫رصيف طويل عريض كله باالسفلت يسمونه البولفار يقصده الناس من بعد العصر‪،‬‬ ‫ويشتد فيه الزحام ليال وفيه تصدح املوسيقى العسكرية ‪،‬وكله يضاء بالنور الكهربائي‬ ‫وبالقرب منه جنينة البلدية ‪.‬‬ ‫وتعد «باكو» عاصمة مملكة البرتول واآلبار املوجودة فيها وفى الضواحي البعيدة‬ ‫عنها بتسعة عشرة فرستا تبلغ مائة بئر‪ .‬ومنها خيرج أكثر من نصف اجلاز الذى يباع‬ ‫فى أسواق الدنيا كلها ‪ .‬وفى «باكو» مجلة فنادق أشهرها فندق أوربا وكان بأرباض‬ ‫باكو هيكل قدمية لعبادة النريان أمسه «زوراسرت « ولكنه قد تهدم اآلن ‪ ،‬وتصدعت‬ ‫منه اجلدران ومل يبق سوى أطالل بالية تنعق فيها البوم والغربان ‪ .‬وفى «باكو»كثري‬ ‫من املسلمني أصحاب املاليني منهم » موسى ناجي يوف» وثروته ‪ 60‬مليون ( سته ماليني‬ ‫ً‬ ‫مليونا و «مرزا علي يوف» شرحه و‬ ‫جنيه ) وقد مات و «احلاج زين العابدين تقي يوف» ‪50‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مليونا‪.‬‬ ‫مليونا و «خمتاروف » ‪25‬‬ ‫«الشيخ علي داداشوف» ‪30‬‬ ‫وكان «تقي بوف» فى أول أمره ( شياال ) ‪.‬وهو ال يعرف لألن سوى كتابة أمسه وعمره‬ ‫‪ 72‬سنة ‪،‬وله وابورات فى البحر وبنوكه وفاوريقات ومآثره على قومه ال تعد وال حتص ‪.‬‬ ‫فكم أقام هلم املستشفيات وأنشأ املدارس لتعليم البنني والبنات‪ ،‬وله غري ذلك من األعمال‬ ‫ً‬ ‫شيئا من‬ ‫اخلريية ما خلد أمسه وعطر بذكره احملافل واملنتيات ‪ ،‬وبعد أن كان ال ميلك‬ ‫حطام الدنيا أصبح اآلن صاحب مخسة ماليني من اجلنيهات‪ ،‬وصار يأمر وينهي وحيل‬ ‫ويعقد ويتصدر فى اجملالس واجملتمعات ‪.‬‬ ‫إذا العناية الحظت عبد الشرا‬

‫نفذت على ساداته أحكامه‬

‫ً‬ ‫مليونا ‪ ،‬ومانتاشيف ‪ 40‬وهو‬ ‫وفى «باكو» أغنياء من األرمن « كوكوساف» ثروته ‪80‬‬ ‫صاحب معامل البرتول فى باطوم وقد مات ‪.‬‬ ‫وعدد سكان «باكون ‪ »200‬ألف نفس منهم ‪ 100‬ألف مسلم ‪ ،‬و ‪ 50‬الف أرمنى ‪،‬‬ ‫و ‪ 15‬ألف كورجيو‪ 15‬ألف يهودي والباقى من أجناس أخرى ‪.‬‬ ‫‪101‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫‪6‬‬

‫فى بالد التاتار وفى بطرسربج‬ ‫سافرت من «باكو» إىل اسرتخان واملسافة ‪ 62‬ساعة ‪ 48‬ساعة منها فى حبر اخلزر وست‬ ‫ساعات من مصب نهر الفرجلا‪ .‬فى هذا البحر إىل البلد وإمنا مسي «حبر اخلزر» نسبة ألمة من‬ ‫أمم الرتك قاطنة على شواطئه تسمى اخلزر ‪ ،‬و مسطحه عبارة عن ‪ 1250‬كيلو مرت من‬ ‫الشمال إىل اجلنوب‪ ،‬وعرضه خيتلف من ‪ 280‬كيلو إىل ‪ 46‬وكله ملك الروسيا ما عدا‬ ‫ساحله اجلنوبى فانه ملك العجم ‪ .‬والقسم الشمالي منه يتجمد معظمة فى السنة ثالثة أو‬ ‫هائجا ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جدا ‪ ،‬وهو يعد من‬ ‫هادئا وأما فى اخلريف‬ ‫أربعة أشهر ‪ ،‬وفى الصيف يكون هذا البحر‬ ‫أهم موارد الثروة فى روسيا ‪ ،‬وبه يصطادون الفقمة وأمساكا كبرية وليس فيه شئ من‬ ‫مجال البحر األبيض وال مجال البحر األسود ومن أهم موانى حبر اخلزر خالف «باكو كراستو‬ ‫فودسك والكسندر وفودسك» وتوجد على مصب نهر «الفوجلا» فيه مدينة برتوفسك ‪ ،‬وبه‬ ‫مجلة شركات حبرية متخر بواخرها فيه ‪ ،‬وفى النهر ً‬ ‫معا أهمها شركة سامولوث وقافقاز‬ ‫مري كورى ‪ ،‬وفى النهر شركة أخرى امسها «فوجلسكي» ميكن أن تذكر جبنب هاتني‬ ‫الشركتني ‪.‬‬ ‫وطريق «خبارى» يكون من «باكو» إىل كراستو فودسك ثم فى السكة‬ ‫احلديدية‪،‬هذه السكة احلديدية متر على «مروومسر قند وطاشقند وأورانبوغ وسامار‬ ‫وأوفا » ‪ ،‬وكلها بالد إسالمية ‪ .‬ومعظم سكان الثالثال بالد األخرية من التتار واملسافة‬ ‫من كراستو فودسك إىل طاشقند ثالثة أيام بلياليها فى القطار ‪ ،‬وأحسن طريق إىل طهران‬ ‫عاصمة إيران باكو وانزىل ( على حبر اخلزر ) ومنها فى ترعة إىل بري بازار ثم فى العربة‬ ‫إىل رشت فقزوين فطهران ‪ ،‬ومسافة هذا الطريق ثالثة أيام من باكو ‪ .‬وهناك طريق آخر‬ ‫ولكنه أطول وهو باكو – جولفا – طوريس – قزوين – طهران ‪.‬‬ ‫أما «أسرتخان» فمدينة جتارية فى غاية األهمية حتى أنه ليصدر منها فى السنة مليون‬ ‫بود من البضاعة يبلغ ثـمنها ‪ 100‬مليون روبل ‪ ( .‬البود معيار روسى يساوى ‪ 4‬فونت والفونت‬ ‫رطل روسى يساوى ‪ 410‬جرام فيكون البود عبارة عن ‪ 16‬كيلو و ‪ 400‬جرام ) ‪.‬‬ ‫وسوق البرتول رائجة فى أسرتاخان وكذلك الفحم والفواكه وجلود الغنم واألمساك ‪،‬‬ ‫ومن هذا النوع األخري يصدر فى السنة ‪ 150‬مليون فسيخة ( هارنج ) ‪.‬‬ ‫‪102‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫وفى أسرتاخان عشرة جوامع وعدد العمال الذين يشتغلون فى املراكب فى ميناها ال‬ ‫ألفا ‪ .‬وعدد سكانها ‪ 150‬ألف نفس منهم ‪ً 30‬‬ ‫يقل عن مخسني ً‬ ‫ألفا من التتار والباقى روس‪.‬‬ ‫وفيها النور الكهربائى والرتامواى وجنينة عمومية ‪ ،‬ومن أعظم فنادق أسرتاخان وأشهاها‬ ‫ً‬ ‫طعاما نزل موسكو الكبري ‪.‬‬ ‫ومن أسرتاخان سافرت فى الفوجلا على باخرة مجيلة من بواخر سامولوث فمرت الباخرة‬ ‫على مجلة بالدعامرة آهلة بالسكان مجيلة املنظر ‪ ،‬ووقفت فى أهمها ‪ :‬منها سامارا‬ ‫وعدد سكانها ‪ 100‬ألف نفس وفيها ثالثة خطوط حديدية خط إىل موسكو ‪ ،‬وخط إىل‬ ‫سيبرييا ‪ ،‬ومنها سا ًراتوف وعدد سكانها ‪ 200‬ألف نفس ‪ ،‬ومنها قازان وهى ليست على‬ ‫نهر الفوجلابل على فرع منه يقال له قازانكا وهذه املدينة مرتبطة مع موسكو خبط‬ ‫حديدى ‪ ،‬وتعترب أهم مراكز التتار وعدد سكانها ‪ 160‬ألف نفس النصف روس والنصف‬ ‫تتار ‪ .‬والنهضة العلمية فيها بني املسلمني حصلت من عهد عشر سنني وبها مدارس إسالمية‬ ‫ً‬ ‫مسلما ومطبعة كادميوي وهى‬ ‫زاهرة ‪ ،‬وكتبخانة يرتدد عليها فى اليوم حنو ‪150‬‬ ‫أكرب مطبعة إسالمية فى روسيا ‪ ،‬وبها يطبع سنويا ‪ 200‬الف نسخة من القرآن ‪ .‬وفى قازان‬ ‫ً‬ ‫‪17‬جامعا ‪.‬‬ ‫والتتار قوم فى غاية الشهامة والشجاعة وهلم شهرة فى االقتصاد واالستقامة ‪ ،‬والقناعة‬ ‫وهم جتار ماهرون وزراع بارعون وأكثرهم يعرفون القراءة والكتابة واحلركة العلمية‬ ‫بينهم فى» باغجه سراى وأسرتاخان وقازان وأورانبورغ وأوفا » فى غاية التقدم ‪ .‬وهلم جرائد‬ ‫خمصوصة وجمتمعات علمية ومدارس للبنني والبنات ‪ ،‬ومن نسائهن بعض العاملات ‪،‬‬ ‫وعدد املسلمني التتار فى أراضى الفوجلا حنو مليونني ومركز شيخ إسالم التتار فى اوفا‪،‬‬ ‫واللغة التتارية هى بنت عم اللغة الرتكية ‪ ،‬وبينهما من املشابهة ما بني اللغتني الطليانية‬ ‫واالسبانية ‪ ،‬وكمان أن األنكليز واالمريكان أوالد عم كذلك التتار والرتك أوالد عم‬ ‫ولذلك تراهم يهتمون أهتماما ً زائدا بكل بالدولة العثمانية حتى أنهم ليفرحون لفرحها‬ ‫وحيزنزن حلزنها ‪،‬وعدد املسلمني التتار فى روسية أوربا ستة ماليني أكثرهم فى أسرتاخان‬ ‫وقازان وأور انبورغ وأوفا وسامارا وطنبو وبالد قاسم وسعيد ومن أهم التتار موسى جار اهلل‬ ‫ولد فى روستوف ‪ .‬وطلب العلم فى قازان وخبارى واملدينة املنورة ومصر وعمره اآلن ‪ 35‬سنة ‪،‬‬ ‫ومنزلته فى بالد التتار كمنزلة الشيخ عبده فى مصر ‪ ،‬وهو يعد هناك من كبار املصلحني‬ ‫الدينيني وله مجلة تآليف ورسائل جليلة ‪.‬‬ ‫وقد سألنى التتار عن «الشيخ حممد عبده» «والشيخ على يوسف» و «الشيخ رشيد رضا‬ ‫ومصطفى باشا كامل وفريد بك» وجدى وشكروا هلم صدق غريتهم على الدين وأثنو‬ ‫الثناء اجلميل على خدماتهم اجلليلة لإلسالم واملسلمني ‪.‬‬ ‫وعلى بعد ساعتني من قازان يشاهد على القوجلا كوبرى من أمجل وأتقن نوع وبعد‬ ‫سبعة أيام من أسرتاخان وصلت السفينة إىل «نيجنى نوف جورود» وهى واقعة على ملتقى‬ ‫ً‬ ‫منعقدا فيها وقت زيارتى هلا السوق الكبري ( يارماركا ) وهو‬ ‫نهر أوكابنهر فوجلا ‪ ،‬وكان‬ ‫ً‬ ‫ذلك الذى جيتمع فيه الكثريون من أهل روسيا خصوصا الفالحني ‪ ،‬ويقصده جتار التتار‬ ‫ً‬ ‫رمسيا فى ‪ 15‬يوليو من كل سنة ‪ ،‬وينتهى فى ‪15‬أغسطس ‪ .‬وأجر غرف النوم‬ ‫وينعقد‬ ‫‪103‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫وقتئذ تكون باهظة ً‬ ‫جدا أما األكل فكالعادة سكان نيجنى ‪ 100‬ألف نفس وللتتار‬ ‫فيها بعض اجلوامع واملدارس ‪.‬‬ ‫ومن «نيجنى» سافرت فى الفوجلا فمرت الباخرة على بالد كبرية عامرة من أهمها –‬ ‫أوسرتاما‪ -‬ويوجد عند بلد امسها «باراسالوى» كوبرى بديع الصنع مثل الكوبرى الذى‬ ‫بعد قازان ‪ ،‬وبعد سفر يومني وصلنا إىل ريبنسكى مدينة الغالل فى روسيا وهنا إنتهت‬ ‫السياحة فى الفوجلا‪ .‬وهذا النهر من أكرب الدنيا ‪ ،‬وله فى روسيا املقام األول مجيع أنهرها وهو‬ ‫خيرتق روسية أوروبا كلها من مشاهلا إىل حنوبها وطوله ‪ 3400‬فرست منها ‪ 3000‬صاحلة‬ ‫للمالحة ‪ ،‬ومنبعه فى امسها أو «ستاشكوف»فى كحومة توير ‪ ،‬وعلى حنو ‪ 100‬فرست‬ ‫من املنبع خزان طوله ‪ 700‬فرست يصرف منه املاء فى زمن التحاريق فريتفع منسوب النهر‬ ‫ويعود ذلك على املالحة بالنفع العظيم ‪ .‬ومن الفوجلا يتفرع نهران كبريان «نهر كاما‬ ‫ونهر أوكا» ‪ .‬وفى وادى الفوجلا ‪ 23‬حكومة ( والية ) عدد سكانهـا ‪ 40‬مليـون نفـسو ‪،‬‬ ‫علـى ضـفتيه ‪ 39‬منـها تسـع عواصم مـن عواصـم هذه احلكـومات ‪ ،‬وأكثر من ألف بلد‬ ‫وآخره عند «مدينة توير» وهى مرتبطة مع «موسكو وبطرسبورج» خبط حديدي وبينها‬ ‫موسكو ثالث ساعات والناظر إليه عند مرور القطار على هذه املدينة يقع فى دهشة‬ ‫وال يكاد يصدق أنه هو نفس نهر فوجلا العظيم الذى متخر فيه الوابورات بني أسرتاخان‬ ‫ً‬ ‫تقريبا ترعة من ترع مصر ‪ ،‬وكلما بعد‬ ‫ورينسكى ألنه فى هذه اجلهة أى جهة املنبع يشبه‬ ‫ً‬ ‫تدفقا يشبه إندفاع مياه النيل ‪ ،‬وغزارتها‬ ‫عن املنبع وقرب إىل املصب زاد اتساعه وتدفق ماؤه‬ ‫فى إبان فيضانه ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫دالال مبا عليها من شجر‬ ‫وشواطئ الفوجلا عارية ليست كشواطئ النيل التى تتيه‬ ‫الدوم والنخيل ‪ .‬والنقط القليلة املاء فيه معلمة على طول النهر بعوامات صغرية قمعية‬ ‫الشكل على خطني خط أبيض وخط أمحر وكلها تضاء ً‬ ‫ليال من أعالها بالكهرباء ‪،‬‬ ‫وعلى ضفتيه عمد ملونة مجيلة الشكل متباعدة بعضها عن بعضها مبسافات معلومة ‪،‬‬ ‫وهى كذلك تضاء بالكهرباء ‪ .‬وفى بعض جهات يكون عرضه قدر عرض النيل مرتني ‪،‬‬ ‫وأما طوله فأقل من طول النيل بكثري‪ ،‬وهو يصلح للمالحة مدة ستة أشهر والستة الباقية‬ ‫ً‬ ‫جليدا ‪.‬‬ ‫من السنة يتجمد ماؤه ويصري كله‬ ‫ً‬ ‫وفى الفوجلا يربطون مراين اخلشب بعضها ببعض ً‬ ‫حمكما وجيعلون اجلزء الظاهر‬ ‫ربطا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫منها أقل من الغطس بكثري ‪ ،‬ويضعون فوقها األشارات نهارا ويوقدونها باملصابيح ليال ‪،‬‬ ‫ويبنون عليها ً‬ ‫غرفا من اخلشب ويقطرونها بقاطرة خبارية فيكون هلا أثناء سريها فى النهر‬ ‫منظر مجيل وبهذه الوسيلة يتخلص التجار من دفع أجرة باهظة على اخلشب فيما لو شحنوه‬ ‫كله فى باخرة ‪ .‬ولون ماء الفوجلا فى الصيف كلون ماء النيل فى شهر طوبه ‪.‬‬ ‫وروس الفاجلا ليسوا فى درجة من املدينة والتهذيب مثل «بطرسبورج وموسكو وكيـيف‬ ‫وأودسا » وقطع األكل عندهم كبرية حتى أن نصف الكوستليته الواحدة ليكفى‬ ‫لتغذية أثنني ً‬ ‫معا ‪.‬‬

‫‪104‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫( بطرسربج )‬ ‫ومن « ريبنسكى» أخذت القطار إىل «بطرسربج » فوصلتها بعد ‪ 16‬ساعة ‪ .‬وهى مدينة‬ ‫كبرية على ضفتى النيفا وفى غاية احلسن والرشاقة ‪ ،‬وقد أسسها « بطرس األكرب سنة‬ ‫‪ »1703‬على أثر اإلنتصار الذى أحرزه األسطول الروسى على بالد السويد فى خليج فنالندا‪،‬‬ ‫وبلغ عدد سكانها فى آخر حكمه ‪ 70‬ألف نفس ‪ ،‬وهو اآلن أكثر من مليون ‪ .‬وفى سنة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عميما فوقفت‬ ‫عظيما واملصاب‬ ‫‪ 1824‬فاض نهر النيفا فأغرق املدينة ‪ ،‬وكان اخلطر‬ ‫حركتها عشر سنوات ‪ ،‬ولكنها أخذت بعد ذلك فى التقدم فزاد عدد السكان واتسع‬ ‫نطاق العمران ‪ ،‬وكلها اآلن مبنية على الطراز احلديث وشوارعها فى غاية االستقامة‬ ‫عوجا وال ً‬ ‫ً‬ ‫أمتا ‪ ،‬ومن أهمها وأمجلها شارع النيفا وهو شارع طويل‬ ‫كاأللف فال ترى فيها‬ ‫اليدرك الطرف مداه ‪ ،‬وبه ترع صناعية حسنة الوضع بديعة الصنع ‪.‬‬ ‫والنور الكهربائي منتشر فى « بطرسبورج» بكثرة وخطوط الرتام فيها كخطوط‬ ‫الكف أو كالشرايني فى اجلسم ‪ ،‬وبها ميادين ذات أشجار باسقة ومياه دافقة وأزهار‬ ‫ورياحني ‪ .‬وأمجل مناظرهها ما كان على شاطئ النيفا أو يف اجلزر املوجودة به املسمى‬ ‫جمموعها اوسرتاما وهى ثالثة ‪ « :‬يالجني وكوستوفوسكى وكامنى» وهناك جزيرة‬ ‫رابعة أمسها بازل ولكن ليس فيها شئ سوى املنازل ‪.‬‬ ‫ودرجة احلرارة فى «بطرسبورج» تنزل فى الشتاء إىل ‪ 25‬درجة حتتالصفر مبيزان‬ ‫سانتيجراد ( أما فى سبرييا فتنزل والعياذ باهلل إىل ‪ ) 40‬ونهر النيفا فى هذا الفصل يتجمد‬ ‫ماؤه ‪ ،‬ويكون املرور عليه وقتئذ بزحافات ‪ ،‬وهواء «بطرسربج « ال بأس به فى الربيع والصيف‬ ‫فقط ‪.‬‬ ‫وقصر الشتاء فى «بطرسبورج « على ضفة النيفا من جهة وميدان فسيح من جهة أخرى ‪،‬‬ ‫وفى وسط هذا امليدان عمود من احلجر احملبب ( اجلرانيت ) امسه «عمود أسكندر» ‪ .‬وهو‬ ‫قصر رفيع العماد مل خيلق مثله فى البالد فال اخلورنق حياكيه وال أى قصر من قصور‬ ‫امللوك فى أوروبا يدانيه ‪ .‬وفيه ‪ 1600‬غرفة وكلها مؤثثة باألثاث الفاخر والرياش الثمني ‪،‬‬ ‫وبه الكنز االمرباطورى وهو حيتوى على «صوجلان مرصع بقطع ماس» من أكرب ما يوجد‬ ‫فى أوربا و «تاج كاترينه الثانية » وثـمنه ‪ 100‬ألف جنيه وصليب كبري مرصع مباس ‪،‬‬ ‫وأوانى مجيلة من خزف سيفر ‪ ،‬وطنافس بديعة للغاية ‪.‬‬ ‫والقصري مصور فى «بطرسبورج » على مجلة صور بأشكال خمتلفة منها صورة متثله‬ ‫‪105‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫ً‬ ‫البسا مالبس عسكرية وعلى ظهره اجلربندية واحلرام ‪ .‬وفى خصر‬ ‫بصفة جندى بسيط‬ ‫الزمزمية وفوق كتفه الشمال البندقية ووىل العهد ( تزاريفتش ) عمره اآلن تسع سنني ‪.‬‬ ‫وفى «بطرسبوج » كنائس فخيمة ً‬ ‫جدا أهمها كنيسة «القديس إسحق» وأصله من‬ ‫دملاسيا وكنيسة قازان زكنيسة القيامة ‪ ،‬وقد أسست هذه األخرية على أحسن طراز‬ ‫ً‬ ‫غدرا بيد النهلست فى‬ ‫وأمجل هندام فى احملل الذى قتل فيه «االمرباطور أسكندر الثانى»‬ ‫أول مارس سنة ‪ .1881‬وقواعدها من الرخام األسود املصقول ماملرآة ‪ .‬وأنى للقلم أن يوفى هذه‬ ‫الكنائس بعضى حقها من الوصف واجلمال ‪ ،‬وما حوته من الطرائف والنفائس ‪ .‬وغاية ما‬ ‫ميكن أن يقال باالمجال أنها آية احلسن واإلبداع بل عروس الكنائس ‪.‬‬ ‫وفى قلعة «ماربولس وماربطرس» التى أسسها بطرس األكرب على شاطئ النيفا األمين‬ ‫توجد كنيسة باسم هذين القديسني الكبريين بها قبور القياصرة من إبتداء بطرس‬ ‫ً‬ ‫أيضا قبور كبار العائلة‬ ‫األكرب لغاية اسكندر الثالث والد األمرباطور احلاىل ‪ .‬وبها‬ ‫احلاكمة ‪ .‬وفى هذه القلعة يضرب مدفع الظهر كل يوم وبها دار الضرب ‪.‬‬ ‫وفى «بطرسبورج »دير الكسندرنيفسكي الذى غلب السويديني فى سنة ‪ 420‬به‬ ‫كنيسة البشاره املدفون بها أعاظم الكتاب ومشاهري الرجال فى روسيا فهى كالبانتيون‬ ‫فى باريس املنقوش على بابه ( لعظماء الرجال شكر الوطن ) ‪.‬‬ ‫وزيادة على هذه الكنائس الروسية يوجد فى بطرسبورج كنائس األرمن والكاثوليك‬ ‫والربوتستانت وكنيس اليهود فى غاية البساطة واحلسن وأمامه على ربوة «سفينة نوح»‬ ‫ويوجد فيها جامع فخيم للمسلمني فى شارع كون بورج على شاطئ النيفا األيسر ‪ ،‬وقد‬ ‫بلغت تكاليفه مليون روبل ( مائة ألف جنية ) مجعت كلها باإلكتتاب وهو على طرز‬ ‫جوامع الرتكستان وله مأذنتان ‪.‬‬ ‫والفصل فى بناة عائد إىل خبارى املعظم فإنه ملازار جاللة القيصر قال ياموالنا لكل أمة‬ ‫فى بطرسبورج من رعاياك معبد ماعدا املسلمني ‪ ،‬وهم هنا كما ال خيفى على األنظار‬ ‫العالية غري قليلني فهل جلاللة القيصر أن يأذن هلم ببناء جامع جيمع شتاتهم ويلم مشلهم‪،‬‬ ‫ويقيمون فيه كفريهم شعائر الدين فأظهر القيصر ارتياحه إىل هذا الطلب العادل ‪ ،‬وأمر‬ ‫ببناء اجلامع وهى مأثرة جليلة يذكرها جلاللة القيصر « نقوال الثانى » بالشكران على‬ ‫مدى الزمان رعاياه املخلصون من املسلمني ‪ ،‬ويشركهم فى الدح والثناء فى بقاع املسكونة‬ ‫كافة أخوانهم فى الدين ‪.‬‬ ‫وفى « بطرسبورج » كتبخان اسكندر املشهورة وبها مصحف كبري خبط اليد كما‬ ‫ً‬ ‫بداخليـا كتبخـانة فيها ثالثـون‬ ‫فيها أكادميية الفنون الظريفة وأكادميية العلوم التـى‬ ‫ألـف جملـد ‪ ،‬وكتب أخرى كثرية خبط اليد وجمموعة نقود ومداليات ثـمينة ‪ ،‬ومتحف‬ ‫نباتي ومتحف جيولوجى ومتحف أسيوي ‪.‬‬ ‫وفى «بطرسبورج » متحف حيوانى ومتحف االيرميتاج وبه « آثار مصرية وأشورية‬ ‫ومتاثيل يونانية ورومانية »‪ ،‬وجمموعة نقود ومداليات فى ثالث غرف ‪ ،‬وكتبخانة‬ ‫‪106‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫حتتوى على مائة ألف جملد ولوحات صور ورسوم فرنساوية وطليانية وأسبانية ‪.‬‬ ‫وفى بطرسبورج متحف «اسكندر الثالث» ومتحف مشتمل على كثري من حتف ‪-‬‬ ‫الصنيني واليابانيني ‪ -‬وبها متحف البيداجوجيا ومتحف الطوجبية ومتحف آسيا ومتحف‬ ‫املوسيقى ومتحف بطرسبورج القدمية متحف سيبرييا والشرق األقصى ومتحف الطب‬ ‫العسكرى ومتحف التاريخ الطبيعى ‪ .‬ومن ضمن مافيه حيونات هائلة وحيتان كبرية‬ ‫وثعابني ضخمة ‪ ،‬وطيور من التى تعيش فى الثلج وغري ذلك ‪ .‬وفيها متحف قوانني الصحة‬ ‫ومتحف املقاييس واملوازين ومتحف حبرى فى نظارة البحرية فى الدار العظمة التى أسسها‬ ‫ً‬ ‫أيضا كتبخانة كبرية ‪.‬‬ ‫بطرس األكرب املعروفة باالمريوتية ‪ ،‬وفى هذه الدار‬ ‫وفى بطرسبورج رصد خاناتان وميدان فسيح ً‬ ‫جدا امسه شان دومارس أسسه بطرس‬ ‫األكرب ألقامة األعياد األهلية وعمل اإلحتفاالت العسكرية ‪.‬‬ ‫وبالقرب من قلعة القديس «ماربولس وماربطرس» منزل بطرس األكرب ‪ .‬على ما كان‬ ‫عليه فى أيامه وأكثر األدوات واملفروشات املوجودة فيه من صنع يده ‪.‬‬ ‫ولبطرس األكرب فى بطرسبورج ثالثة متاثيل خمتلفة وفيها متثال «لكاترينة الثانية‬ ‫ولنقوال األول » الذى حصلت حرب القريم فى أيامه‪ .‬واالسكندر الثالث مؤسس سكة‬ ‫حديد سيبرييا العظمة ‪.‬‬ ‫ودواوين احلكومة فى» بطرسبورج» فى غاية الفخامة ومن املبانى العظيمة بناية‬ ‫جملس شورى الولة والسينود املقدس والدوما ‪,‬‬ ‫ً‬ ‫صيفا وشتاء توفرها «برلني وفيينا‬ ‫وأسباب البسط واألنشراح فى «بطرسبورج « متوفرة‬ ‫وباريس ولوندرة » ففيها تياترات من كل نوع ‪ ،‬ومالهي خمتلفة أشهرها األكواريوم‬ ‫وكازينو وجنائن عمومية ‪ ،‬ومطاعم فاخرة منها «مطعم كوبات» وهو أغالها ومطعم‬ ‫الدب ومطعم فرنساوى ومطعم طليانى وفيها حمالت لبيع تذاكر السكك احلديدية‬ ‫وأسرة النوم وتذاكر املالحة النهرية والبحرية وفنادق معتربة منها فندق أوربا وأستوريا‬ ‫وانكلرتة وفرنسا ورجيينا ‪.‬‬ ‫وكل السفرجية فى مطاعم هذه الفادق مسلمون من التتار‪ .‬وهم العموم بارعومن فى‬ ‫ً‬ ‫وتأدبا وخفة ورشاقة‪،‬‬ ‫اخلدمة براعة الألفرنج فيها ‪ ،‬وال يقلون عنهم مهارة وسرعة ونظافة‬ ‫وفى أثناء تأدية وظائفهم يكونون باملالبس األفرنكية ‪ ،‬وحاسرين عن رؤوسهم ولوال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خلصا ‪.‬‬ ‫أفرجنا‬ ‫ضيق عيونهم حلسبتهم‬ ‫وعدد املسلمني فى «بطرسبورج » ‪ 12‬ألف نفس ‪ .‬ومن ضواحى «بطرسبورج » برتوهوف‬ ‫وهى قسمان برتوهوف القدمية وبرتوهوف اجلديدة ‪ ،‬وفى هذه قصر الصيف على شاطئ‬ ‫البحر أمام كرونستاد ذلك الثغر احلربى املشهور ‪ ،‬وهو وإن كان أصغر من قصر الشتاء إال‬ ‫أنه ال يقل عنه بهجة ورواء ورياشا فمن قاعة العرش إىل مفروشة كلها باحلرير األبيض‪،‬‬ ‫وتسمى القاعة البيضاء إىل أخرى باحلرير األزرق وتسمى بالقاعة الزرقاء إىل حجرة « حجرة‬ ‫‪107‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫بطرس األكرب» إىل غرفة صينية كلها حتف مجيلة من حتف الصني ‪ ،‬وهكذا مما‬ ‫يتخيل معه األنسان عند الطواف فى هذا القصر وفى أخيه قصر الشتاء فى «بطرسبورج»‬ ‫أنه يطوف فى غرف اجلنان ‪ .‬وفى يرتوهوف اجلديدة نوافري وعيون ينفجر منها املاء على‬ ‫أشكال خمتلفة تروق الناظر وتسر اخلاطر ‪ ،‬وهى على مثال مياه فرساى الشهرية فى فرنسا‪.‬‬ ‫ولكل عني من هذه العيون اسم فمنها واحدة تسمى عني آدم ‪ ،‬وأخرى تسمى عني حواء‬ ‫وهكذا ‪ .‬وهناك حدائق غناء تصدح فيهاموسيقى املعية القيصرية مرتني فى األسبوع‬ ‫وكل رجاهلا ضباط يرتدون وقت العمل بفريتكة محراء فوق البنطلون ويتحزمزن عليها‬ ‫حبزام ‪ .‬وبروجرامها يوزع على الناس وكل األفرع مكتوبة فيه باللغة الفرنساوية ‪.‬‬ ‫ومل يصرح ّ‬ ‫ىل بزيارة القصرين االبعد األطالع على الباسبور والتحقيق من شخصيتى ‪.‬‬ ‫وهذا وكل قصور امللوك فى أوربا معدة للذيارة والفرجة فى أوقات معينة ‪ ،‬ولكل‬ ‫إنسان أن يشاهدها متى كانت خالية من أربابها‪.‬‬ ‫«ولبطرس األكرب» فى تلك اجلهة منزل كان يصيف فيه وهو اآلخر اليزال كما كان‬ ‫ً‬ ‫حافظا لشكله القديم ‪ ،‬وجلميع األثاثات واألدوات التى كان يستعملها هذا‬ ‫مدة وحوده‬ ‫القيصر العظيم ‪.‬‬ ‫وفى «بطرسبورج » مجلة جرائد كبرية منها النوافى فرميا وغريها ‪ ،‬وثـمن النسخة‬ ‫الواحدة منها ‪ « 5‬كوبك أى قرش تعريفة » كما فى مصر ‪ .‬وفيها جريدة تنشر باللغة‬ ‫الفرنساوية وامسها جورنال دوسان بطرسبورج وهى اآلن فى السنة الواحدة بعد املائة من‬ ‫عمرها ‪.‬‬ ‫ومن بطرسبورج إىل باريس طريقان أحدهما بطرسبورج – برلني – باريس ومسافته ‪48‬‬ ‫ساعة والثانى بطربسبورج – فارسوفى – الكسندروفو – برلني – باريس ومسافته ‪53‬‬ ‫ساعة ‪.‬‬ ‫وفى سياحتى األوىل فى روسيا كاد الليل فى «بطرسبورج » فى شهر مايو أن يكون‬ ‫ً‬ ‫فجرا ‪ .‬فال توقد فيه املصابيح الفى الطرقات وال فى العربات ‪ ،‬وكنت أذا أويت إىل‬ ‫كله‬ ‫غرفتى وقت النوم ال أجد حاجة لتنويرها إكتفاء بذلك النور اهلادى اللطيف نور الفجر‬ ‫الدائم ‪ ،‬والشمس فى تلك املدة كانت تغرب فى الساعة التاسعة مساء وتشرق فى منتصف‬ ‫الساعة الرابعة بعد نصف الليل ‪.‬‬ ‫ومن بطرسبورج إىل موسكو عشر ساعات فى اإلكسربيس ‪.‬‬

‫‪108‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫‪7‬‬

‫آخر السياحة‬ ‫«موسكو» مدينة مقدسة عند الروس ‪ .‬وكلها مضاءة بالنور الكهربائى ‪ ،‬والرتامواى‬ ‫يسري فيها من أوهلا إىل آخرها ‪ ،‬وامسها بالروس «موسكوفا» وإليها ينسب املوسكوف ‪ ،‬وهى‬ ‫من الروسيا مبثابة القلب من اجلسد ‪ ،‬ولذلك يسمونها قلب روسيا ‪ .‬وكما أن «رومه» عاصمة‬ ‫الديانة الكاتوليكية كذلك «موسكو» هى عاصمة الديانة االورتوذوكسية‪ ،‬واللغة‬ ‫الروسية فى موسكو فصيحة نقية ‪ .‬بل هى أمجل وأفصح منها فى غريها من مجيع البالد‬ ‫الروسية كما أن اللغة الفرنساوية فى تور واللغة الطليلنية فى سيينا وفلورانسا أفصح فى‬ ‫منهما فى سائر البالد الفرنساوية والطليانية ‪ ،‬وجتار موسكو بارعون فى التجارة لدرجة‬ ‫أنهم يفوقون فيها على جتارة روسيا كلها ‪.‬‬ ‫وفى «موسكو» كنائس فخمة ً‬ ‫جدا منها «كنيسة كرملني» التى يتوج بها القياصرة‬ ‫عند جلوسهم على العرش ‪ ،‬وفيها قبور القياصرة القدمياء مثل « ميخائيلوف والكسيس‬ ‫وتيودور » ‪ ،‬وفى موسكو ناقوس قديم ذو زنـة كبرية حتى أنه لضخامتـه وعـظمه‬ ‫يسمونـه قيصر النواقـبس ‪ ،‬وبها مجلة مزارات منها رواق للصور والرسوم امسه» جاللريى‬ ‫تريشيجوف» وفيها مجلة تياترات ومالهى وقصر مجيل للقيصر ‪ ،‬ويقولون أن هواء‬ ‫«موسكو» وإن كان ً‬ ‫باردا فى الشتاء إال أنه جاف وال ضرر منه ‪ ،‬وفيها فنادق كبرية مهمة‬ ‫منها «املرتوبول والناسيونال والسافوراى والكونتينانتال «ونزل «موسكو « الكبري وعدد‬ ‫سكان موسكو ينيف عن املليون ‪ ،‬ومنها إىل سواسطابول فى القريم بالسكة احلديدية‬ ‫‪ 30‬ساعة ‪ ،‬وحنو ثالثة أيام إىل تفليس فى القوقاز ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫رجال ترتيا فسألته بالرتكى كم عدد التتار هنا فعبس وتوىل ثم‬ ‫وفى موسكو قابلت‬ ‫أستفهم منى خبشونة وغلظة – سن كم ؟ أنت من ؟ فعرفته بنفسى فلم يقتنع بل فتح‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حتقيقا – س – نره ليسن – أنت من أين ؟ مصرلي – من مصر – نه وقت‬ ‫حمضرا وعمل معي‬ ‫كلدك – متى جئت – ج – دون اخشام – البارحة مساء – س – مسلماني سن – امسلم أنت‬ ‫– ج – أوت أفندم بن مسلم ‪ .‬امني سن – نعم ياسيدى أنا مسلم ‪.‬‬

‫وهنا طوى احملضر وبعد أن تفرس فيه قليال ‪.‬أراد أن ميتحننى ليعرف أن كنت حقيقة‬ ‫ً‬ ‫مسلما أغري مسلم فقال لي‪ :‬بكل بساطة وسذاجة ولكن بصوت أجش – مشدى أمل نشرح‬ ‫لك صدرك أو قوسنا – هايدى باقلم – األن أقرأ لنا سورة أمل نشرح – هيا لننظر – فحمدت‬ ‫‪109‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫اهلل على أن وقع اختياره على هذه السورة ومل يقع على غريها ‪ ،‬وقلت فى سرى اخلطب سهل‬ ‫ً‬ ‫مسعا وطاعة ‪ .‬تعوذت باهلل من الشيطان الرجيم ومسيت بسم اهلل‬ ‫وجابته بكى أفندم أي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الرمحن الرحيم ‪ ،‬ورتلت له السورة ترتيال فانشرح صدر الرجل ‪ ،‬وأقبل على وهش وبش فى‬ ‫ً‬ ‫عابسأ ‪ ،‬وقال لي‪ :‬ياغجي – صاغول أوك ( الكاف تنطق ً‬ ‫نونا ) أي عظيم‬ ‫جهي بعد أن كان‬ ‫ً‬ ‫مسرورا‬ ‫– أشكرك ‪ ،‬وما كان أسرع بعد ذلك أن أجابنى إىل ماطلبت ثم سلم على‪ ،‬وانصرف‬ ‫وعلمت منه أن عدد املسلمني فى موسكو ‪ 18‬ألف نفس ‪ ،‬ومن حنو عشر سنني تعرفت فى‬ ‫موسكو ابفخر روسيا ‪ ،‬وعلمها اخلفاق اجلامع بني فضيلتى العلم والعمل ‪ ،‬وحمب اجلنس‬ ‫البشري على اإلطالق نابغة الزمان ومعدن الفصل والعرفان الفيلسوف الكبري تولستوى‬ ‫ً‬ ‫والبسا مالبس الفالحني‪،‬‬ ‫(وأصلة ضابط فى اجليش ) ‪ .‬وكان نازال وقتئذ عند أحد مريدية‬ ‫وهى أحب شئ إليه وقد دعانى لزيارته فى بلده «ياسنايابوليانا» فشكرت واعتذرت ‪.‬‬ ‫وال غرابة إذا وفى « تولستوى » النبى حقه فى كتابه ( حكم النبى حممد ) فإمنا يعرف‬ ‫الفضل من الناس ذووه ‪ ،‬والرجل جواد مضياف كثري الرماد ‪ ،‬وكانت داره قبل موته مهبط‬ ‫احلكمة العالية ‪ ،‬وكعبة القصاد من سائ البالد ‪ .‬ومن مبادئه نشر لواء السالم وبث روح‬ ‫احملبة واإلخاء بني مجيع األنام ‪ ،‬وحب الفالحني والعطف على الفقراء واملساكني ‪ ،‬وإحتقار‬ ‫املال حتى أنه وزع معظم ثروته على البائسني واملعوزين‪ ،‬وعاش عيشة الزهد والتقشف ومـا‬ ‫ً‬ ‫جهـدا فى كل وقت ‪ ،‬وآن فى ختفيف ويالت بنى اإلنسان وتبديد ظلمات‬ ‫كان يألـو‬ ‫اجلهل وتنوير البصائر واألذهان ‪ .‬وكان ينظر إىل هذا الوجود بنفس العني التى كان بها‬ ‫إليه الشاعر الكبري والفيلسوف العربى اخلطري «أبو العالء املعري» فى قوله ‪:‬‬

‫واللبيب اللبيب من ليس‬

‫يغــرت بكون مصريه للفساد‬

‫ً‬ ‫ورغما من شيخوخته وتقدمه فى السن مل متت‬ ‫ولكنه مع زهده وأعراضه عن الدنيا‬ ‫ً‬ ‫همته‪ ،‬ومل جينح قط إىل البطالة والكسل ‪ .‬بل كان يعمل على الدوام وال ميل أبدا من‬ ‫العمل ‪ ،‬وباجلملة فمنزلة تولستوى عند الروس كمنزلة كونفسيوش عند الصينني ‪،‬‬ ‫والروس حيبونه ً‬ ‫حبا يقرب من العبادة حتى كان فى حياته إذا طرق أى باب فتح له فى احلال‬ ‫وقوبل بكل ترحاب ‪.‬‬ ‫ومن «موسكو» إىل «كييف» ‪ 22‬ساعة فى الكوريسكي ‪ .‬وكييف مدينة مجيلة‬ ‫على «نهر الدنييرب» وفيها الرتامواى والنور الكهربائى ‪ ،‬وشوارعها واسعة وفى غاية النظافة‬ ‫وكنائسها مجيلة ‪ ،‬والديورة أمجل وبها جثمان مجاعة من القديسني ‪ ،‬وفى كييف‬ ‫لوكاندات عظيمة منها «السافواى والكونتينانتال » وغريهما وعدد سكانها ‪ 600‬ألف‬ ‫نفس منهم ‪ 2000‬مسلم والدنييرب نهر كبري منبعه فى حكومة مسولنسك وطوله ‪2005‬‬ ‫فرست ‪ ،‬وخيرتق تسع حكومات ويصب فى البحر األسود ‪ ،‬وليس كله للمالحة ‪.‬‬ ‫وفى سياحتى األوىل فى الروسيا زرت «ريفال « وفيها أسطول البلطيق ‪ ،‬وفيلنا ومعظم‬ ‫‪110‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫ً‬ ‫ورحيا‪ ،‬وأكثر سكانها أملان «وهلزجنفورس» عاصمة «فنلندا»‪ .‬وهى على‬ ‫أهلها يهود‬ ‫شاطئ البحر «وفارسوفى» عاصمة «بولونيا» ‪ ،‬وما أكثر اليهود فيها ‪ ،‬وكلها بالد لطيفة‬ ‫فى غاية التقدم والعمران ‪.‬‬ ‫ومن «كييف» إىل «أودسا» حنو ‪ 10‬ساعات بسكة احلديد ‪ ،‬ويوجد اآلن قطار يقطع‬ ‫املسافة من بطرسبورج إىل أودسا فى ‪ 32‬ساعة ‪.‬‬ ‫ومن «أودسا» إىل «االستانة» ‪ 344‬ميال ‪ ،‬ومن «االستانة» إىل «الدردنيل» ‪ 135‬م ‪ .‬ومن‬ ‫«الدردنيل» إىل «أزمري « ‪ 142‬م ومن «أزمري» إىل «برييه» ‪ 211‬م ‪ .‬ونصف ‪ ،‬ومن «برييه»‬ ‫إىل «اسكندرية» ‪ 539‬م متت السياحة ومل يبقى إال بعض كليمات على تاريخ روسيا‬ ‫وشئونها العمومية ‪.‬‬

‫‪111‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫‪8‬‬

‫ذيل السياحة‬ ‫(‪)1‬‬

‫أخبار ومعلومات عن روسيا‬ ‫فالروسيا هلا اآلن فى الوجود ‪ 1050‬سنة ‪ .‬وأول عواصمها نوف جورود ( املدينة اجلديدة )‬ ‫على حبرية دملي وهى على بعد ‪ 150‬كيلو مرت من “بطرسبورج “ وثانى عاصمة “كييف”‬ ‫والثالثة “موسكو” والرابعة “بطرسبورج “ وقد حكم الروسيا عائلتان “روريك وعائلة‬ ‫ً‬ ‫بطريقا على موسكو‬ ‫رومانوف” ‪ ،‬وهى العائلة احلاكمة اآلن ‪ .‬ورومانوف هذا كان‬ ‫وأول من توىل أريكة امللك من ذريته “القيصر ميخائيلوف” وتاله” الكسيس” ثم “بطرس‬ ‫األكرب” وهو أول من لقب بلقب إمرباطور ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا التتار املسلمون ‪ 250‬سنة والسعيد من الروس فى العهد من كان‬ ‫وقد حكم الروسيا‬ ‫يزوج بنته إىل أمري من أمراء التتار ‪.‬‬ ‫وملا إختلفت كلمة التتار ودبت بينهم عقارب الشقاق انتهز هذه الفرصة “الغراندوق‬ ‫دميرتى دون سكوي” وقاتلهم حتى أجالهم عن أرض الروسيا وأرجعهـم إىل بالدهـم‬ ‫األصلية ‪ .‬وكانت ذلك فى سنة ‪ 1380‬وفى سنة ‪ 1552‬استوىل القيصر أيوان ( أى حنا )‬ ‫امللقب باملهول على قازان عاصمة التتار ‪ ،‬وبعدها بسنتني أخذ أسرتاخان ومن ذلك الوقت إىل‬ ‫اآلن أصبح التتار حتت حكم الروسيا بعد أن كانوا سادتها وحكامها‪ ،‬فانظر ياصاحا إىل‬ ‫تقلبات الزمان ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ويوما نسر‬ ‫ويوما نساء‬ ‫فيوم علينا ويوم لنا‬ ‫وقد دخلت “الديانة النصرانية” فى روسيا فى القرن العاشر للميالد على يد قسس أروام‬ ‫من قسس القسطنطينية ‪ .‬ترمجوا اإلجنيل إىل اللغة البلغارية القريبة من اللغو الروسية‪،‬‬ ‫وكانت هذه الرتمجة من أقوى العوامل على انتشار املسيحية فى روسيا ‪ .‬وأول من تنص‬ ‫من الروس الغراندوقة أو لغا وقد مت تنصريها فى القسطنطينية ‪ ،‬وكان عرابها اإلمرباطور‬ ‫“قسطنطني بورفريو جينيت” وبعدها تنصر حفيدها “فالدميري” وهو الذى نشر الديانة‬ ‫النصرانية فى روسيا كلها حتى عده الروس من كبار القديسني ‪ ،‬وانزلوه منزلة احلواريني‪،‬‬ ‫والرسل األولني ‪.‬‬ ‫‪112‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫وكنائس روسيا ال تقل اآلن عن ‪ 500‬ألف كنيسة والقساوسة يبلغون املليون ً‬ ‫عدا ‪،‬‬ ‫وكلهم أقوياء البنية ً‬ ‫جدا وهلم منظر مهيب ونفوذ وسطوة على قلوب الشعب ‪ ،‬ومن عاداتهم‬ ‫أنهم يرخون شعورهم وراء ظهورهم ‪ ،‬وكان لروسيا فى أول أمرها بطريق له الرئاسة العظمى‬ ‫على مجيع رجال الدين ‪ ،‬ولكن “بطرس األكرب” ملا رأى أن البطريق معارض له فى اإلصالح‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وإنهاضا أمر بإلغاء وظيفته ‪ ،‬ومن وقتها إىل‬ ‫ودائما يقف حجر عثرة فى سبيل تقدم البالد‬ ‫اآلن صارت السلطة الدينية والسلطة الدنيوية فى قبضة قياصرة روسيا العظام ‪ ،‬ومل تقم‬ ‫للبطارقة قائمة بعدها فى البالد ‪.‬‬ ‫وأغلب قباب الكنائس الكربى فى روسيا من الربونز املذهب ‪ ،‬ومنها ما هو على شكل‬ ‫القباب الطيارة والدين األورثوذكسي فى روسيا أرسخ من جبل رضوى على ظهر األرض ‪.‬‬ ‫حتى أنك لرتى فى كل مكان منها فى الطرقات فى الدواوين فى املصاحل فى البواخر فى‬ ‫اللوكاندات فى غرف النوم فى املطاعم فى القطارات “أيقونات للمسيح والعذراء” والرسل‬ ‫ال تنقطع من حوهلا األنوار ال بالليل وال بالنهار ‪ .‬وكلما مر أحد أمام كنيسة رسم الصليب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫غالبا عند اإلبتداء فى‬ ‫وتكرميا ( وكذلك احلال‬ ‫تعظيما‬ ‫بيده على وجهه إىل صدره‬ ‫األكل وبعد الفراغ منه من باب الشكر على النعمة ) ‪ .‬ومن الكنائس ما هو مرسوم على‬ ‫جدارنها من اخلارج صورة القديسني ليكونوا شهداء على الناس ‪ .‬والصالة عند الروس بال‬ ‫أرغن ولكنها قد تتخللها بعض تراتيل دينية ‪.‬‬ ‫وما أمجل كنائس “بطرسبورج وموسكو وكييف” وما أفخمها ‪ .‬أن العقل ليحار فى‬ ‫وصف بدائعها وحماسنها ‪ ،‬وما اشتملت عليه فى الداخل من النفائس والذخائر الثمينة ففى‬ ‫كنيسة القديس أسحق وفى كنيسة قازان فى “بطرسبورج” ترى حمل أكليل الشوك‬ ‫ً‬ ‫أكليال من ماس بديع الصنع ‪ ،‬وترى العذراء مرسومة وفى أناملها اخلوامت‬ ‫على رأس املسيح‬ ‫الغالية وفى جيدها قالئد الدر و اجلواهر ‪.‬‬ ‫ولعمر احلق لو نزل املسيح إىل األرض وشاهد ما عليه بعض رجال الدين من الرتف والنعيم‬ ‫وما يتشحون به من اخلز والديباج ‪ ،‬وما يسكنونه من القصور الباذخة ألحاهلم على جملس‬ ‫ً‬ ‫موصيا طغمة ال كلريوس بالزهد والتقشف ‪ ،‬أو على‬ ‫تاديب ‪ ،‬وعاد يعظ الناس من جديد‬ ‫األقل بالقناعة فى املأكل ( واملشرب ) والبساطة فى امللبس حتى فى أيام اآلحاد واملواسم‬ ‫واألعياد ‪ .‬ألن مملكته ليست من هذه الدنيا ولو رأى ما وضعوه على صورته الكرمية‬ ‫ً‬ ‫آسفا ووزعها فى احلال على‬ ‫من احللى الباهرة خلانه حلمه املعهود وانتزعها بيده غضبان‬ ‫الفقراء واملساكني ليكون هلم من ثـمنها رؤوس أموال تنقذهم من خمالب الفقر والفاقة ‪،‬‬ ‫حتى ال يعيشوا بؤساء وميوتوا تعساء وال ذنب هلم سوى أنهم ولدوا فقراء ‪.‬‬ ‫أما إذا فتش الكنائس بنفسه وعلى األخضر كنائس بطرسبورج ورومه ومدريد ومالطه‬ ‫والقديس وبيت حلم مسقط رأسه ووقف على ما حتويه خزائنها من األعالق املصوغة من‬ ‫الذهب اخلالص واملرصعة باجلواهر والآلىلء ‪ ،‬هلاله األمر واستهوته أشجان وألمر باألفراج‬ ‫عنها ً‬ ‫ً‬ ‫مكتفيا بالذخائر األخرى ‪ ،‬وأشار ببيع احلجارة الكرمية وسك الذهب إىل نقود‬ ‫فورا‬ ‫للتداول بني الناس حتى يقل الشقاء املستحكة حلقاته على األرض ‪ ،‬وختفف وطأة‬ ‫الفقر فى هذا العامل فيتشتت مشل العدميني ‪ ،‬وتنحل عصابات الفوضويني وينضمون إىل‬ ‫‪113‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫ً‬ ‫مجيعا من أبنائها الصادقني‬ ‫أحصان أمهم الكنيسة ‪،‬ويعودون إىل حظريتها ويصحبون‬ ‫وحمبيها املخلصني ‪.‬‬ ‫وبعد هذا كله ال أدرى ملاذا حييطون بعض كنائس القوقاز مثل كنيسة باطوم‬ ‫وكنيسة تفليس باملدافع التى غنمها الروس فى حروبهم مع الرتك أو اجلركس أو حنوهم‬ ‫‪ ،‬مع أن الكنائس مل تكن فى األصل إال لنشر احملبة والسالم ‪ ،‬ومل جتعل متاحف لتذكر‬ ‫الناس بسفك دماء الناس وصربهم باملدفع وقتلهم حبد احلسام ‪ .‬والتقويم املتبع فى روسيا هو‬ ‫ً‬ ‫أيضا فى رومانيا والصرب واجلبل األسود وبلغاريا أى‬ ‫التقويم اجلولياني العتيق ‪ .‬وهو املتبع‬ ‫فى البالد التى أهلها أرتوذكس مثل الروس بل هو من ضمن التقاويم اجلارى عليها العمل‬ ‫إىل اآلن فى نفس القسطنطينية ‪ ،‬وفى معظم البالد الرتكية ويرمزون له فى اجلرائد التى‬ ‫تنشر فيها باللعنة الفرنساوية حبر فى ( ‪ ) v.s‬أى ‪ ( Vieux Style‬طرز عتيق ) ويسمونه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫شرقيا‪ .‬أما التقويم املتبع عند” الكاتوليك والربوتستانت ” فى أوربا‬ ‫حسابا‬ ‫عندنا هنا‬ ‫وغريها من القارات فهو كما ال خيفى التقويم اجلرجيوريانى ‪.‬‬ ‫والفرق بني الشهر الروسى واألفرنكى ثالثة عشر ً‬ ‫يوما فإذا ضممت هذا العدد إىل تاريخ‬ ‫أى يوم فى الشهر األفرنكى كان عند التاريخ الروسى مثال ذلك أول سبتمرب فى روسيا‬ ‫يوافق ‪ 14‬منه فى أوربا ومصر وبالعكس أطرح عدد ‪ 13‬من تاريخ الشهر الروسى يكون‬ ‫عندك التاريخ األفرنكى‪.‬‬ ‫وعدد العساكر املوجود حتت السالح فى روسيا ثالثة ماليني ‪ ،‬وأما االحتياطى فال له ‪.‬‬ ‫وإن كان العساكر الربية أقوياء أشداء فالعساكر البحرية أشد وأقوى ‪.‬‬ ‫ومن العساكر الربية نوع يقال له القوازق ( وهى كلمة تتارية معناها قاطع الطريق)‪.‬‬ ‫وهم نصارى ومسلمون وبوذيون ‪ ،‬فالنصارى قوازق الدون واملسلمون قوازق اجلراكسة‬ ‫وأورال وسيبـرييـا ‪ ،‬وهؤالء بعضهم نصارى والبوذيون قوزاق املاغوجلهة “حبرية بيكال”‬ ‫وكل القوازق شجعان بواسل أولو بأس شديد وقوة ‪ ،‬وهلم فروسية خارقة للعادة حتى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وافقا ) وسط ثالثة خيول أو أربعة ‪ ،‬وميسك‬ ‫خصوصا املسلمون لريكب (‬ ‫أن الواحد منهم‬ ‫بأعنتها بيديه ويهجم بها كلها من قيام بسرعة كسرعة الربق اخلاطف ‪ ،‬وهو ثابت فى‬ ‫مكانه ال يتحرك وال يتزلزل كأنه الطود الراسخ ‪ ،‬ومنهم من ينط احلاجز واخلندق حبصان‬ ‫واحد و ينزل ويركب فى الطريق ً‬ ‫مرارا أثناء ركض احلصان كأنه عفريت من اجلان ‪.‬‬ ‫والقوازق على العموم ال يهابون املوت وال ينكصون ً‬ ‫أبدا على األعقاب فإذا اعرتضهم‬ ‫نهر فى طريقهم خاضوه ‪ ،‬أو حبل صعدوه وكلهم فرسان خالية بارعون فى الكر والفر‪،‬‬ ‫و يلبسون مالبس اجلراكسة ( جركسكا ) وأشهر أنواع القوازق قوازق وهو نهر طوله‬ ‫‪ 2000‬فرست مير فى مخس حكومات من حكومات روسيا ‪ ،‬ويصب فى حبر أزوف وليس‬ ‫ً‬ ‫صاحلا للمالحة ‪ ،‬وعلى بعد غري قليل من مصبه مدينة “نوفوشركاسك” عاصمة‬ ‫كله‬ ‫هؤالء القوازق ‪ ،‬وعدد سكانها ‪ 55‬ألف نفس ورئيسهم يسمى بلسان الروس أتامان ‪.‬‬ ‫وضباط اجليش فى الرب والبحر أكثرهم من أوىل النعماء تلوح على وجوههم عالئم النجابة‬ ‫ً‬ ‫مجيعا مجيلة وفاخرة ‪.‬‬ ‫والعلم والذكاء ‪ ،‬ومالبسهم‬ ‫‪114‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫واملالبس األهلية فى روسيا فرتيكه فوق البنطلون وعليها حزام بسيط أو بشرابتني‪،‬‬ ‫وقد تكون الفرتيكه بيضاء أو ملونة مطرزة أو غري مطرزة ‪ ،‬ومنهم من يلبس فوقها‬ ‫اجلاكيته ولألهاىل كاسكيت خمصوصة غري الكاسكيت املستعمل فى أوروبا ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫غالبا كلمة نيتشيفو ( معهلش ) والشعب‬ ‫وكذلك الطلبة ‪ .‬ويرتدد على لسان الروس‬ ‫الروسى ساذج بسيط والعامة فى غاية اإلحنطاط واهلمجية خبالف اخلاصة فإنهم بلغوا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بعيدا فى ميادين‬ ‫شوطا‬ ‫أرقى درجات التهذيب وإستنارت عقوهلم باملعارف العصرية ‪ .‬وساروا‬ ‫احلضارة واملدنية ‪ ،‬واملرأة من اخلاصة فى غاية الرقى والتقدم ‪.‬‬ ‫ولوكاندة النوم فى روسيا امسها “جو ستيتسا “ ومع ذلك فإن أغلب اللوكاندات‬ ‫الكبرية مكتوب عليها امسها باللغة الفرنساوية كما هو احلال فى البالد األوربية ‪،‬‬ ‫ولو كاندة األكل تسمى عندهم رستوران ‪ .‬وأجرة النوم فى بعض الفنادق غالية ً‬ ‫جدا فهى‬ ‫ختتلف من ثالث روبالت إىل عشرة فما فوق ‪.‬‬ ‫ومن الغنب الفاحش أن بعض هذه الفنادق ال تكتفي بهذه األجرة بل تضيف عليها أجرة‬ ‫الغطاء ومالآت الفرش وأكياس املخدات والفوط وحنو ذلك ‪ ،‬فهي متتص دم النازل عندها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أجنبيا ‪.‬‬ ‫روسيا كان أو‬ ‫ولقد زادت فنادق باطوم روسية كانت أو أرمنية أو كورجية الطني بلة ‪ .‬والطنبور نغمة‪.‬‬ ‫فإنها عند تقديم احلساب تضيف على جمموع األقالم ً‬ ‫قلما ( للبقشيش ) تقدر هي قيمته‬ ‫ً‬ ‫إلزاميا وعلى هذا املثال يكون احلال فى املطاعم الكبرية فيها ‪.‬‬ ‫كما تراه وجتعل دفعه‬ ‫واألكل فى روسيا جيد ولذيذ وأثـمانه معتدلة أعتدال أثـمان األكل فى غريها ‪،‬‬ ‫ولكن ذلك ال يكون إال فى األكلة ذات الثمن احملدد فقد يكون هذا الثمن أقل من روبل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ونصفا حبسب عدد األلوان التى يتناوهلا الشخص ‪ .‬أما إذا كان األكل بالطبق (‬ ‫روبال‬ ‫أو‬ ‫إال كارت ) فاستعد للبذل وال تبخل وال تلومن بعد ذلك إال نفسك فقد يكون ثـمن الصحن‬ ‫ً‬ ‫روبال أو روبلني ‪.‬‬ ‫الواحد‬ ‫ومقدمات الطعام عندهم كالسردين والبطارخ املكبوس والبطارخ الغض ( الطازه)‬ ‫واألمساك اململحة املختلفة األشكال واأللوان والسالطات املتنوعة شئ يفوق احلصر‬ ‫وحيار اإلنسان أثناء األكل أيكتفى بهذه احلوادق اجلالبة للشهية أم جيمع بينها وبني‬ ‫غريها من املآكل األخرى ‪.‬‬ ‫ومن أطعمتهم األهلية شوربة الكرنب ويسمونها بورش وهم يتناولونها مع الكرمية‬ ‫ويأكلون معها فطائر صغرية حمشوة أو غري حمشوة امسها “بريوجكى “ ‪ .‬وهلم شوربة‬ ‫ً‬ ‫أيضا شوربة السمك ‪ ،‬وهى‬ ‫أخرى تقرب من البورش امسها شئ ‪ .‬ومن مأكوالتهم األهلية‬ ‫على ثالثة أنواع “ أوخا وسيلنكا وأوكرشكا ” وهذه األخرية ال تؤكل االمربدة بقطع‬ ‫الثلج الصغرية ‪.‬‬ ‫واملياه املعدنية التى تشرب فى روسيا تكاد تكون كلها من نفس البلد ‪ ،‬وهى‬ ‫“بورجوم ونارزان وايسانتوك” منرة ‪ 20‬وقد يستغنى الكثري من الروس عن مخر فرنسا‬ ‫‪115‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫وغريها من اخلمور األجنبية مبا يصنع فى بالدهم من اخلمر اجليد كنبيذ القريم ونبيذ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أيضا‬ ‫وفضال عن ذلك فإن هلم شامبانية خمصوصة تصنع فى مصانعهم ‪ ،‬وهلم‬ ‫بسارابيا ‪،‬‬ ‫شراب يتعاطونه قبل األكل امسه فودكا “ عرقي “ وهو نوعان أبيض ناصع وضارب إىل‬ ‫احلمرة ‪ .‬وفى أغلب البالد الروسية يباع اللنب الرايب فى زجاجات مسدودة مثل زجاجات‬ ‫اجلازوزة ويسمونه كيفري وهو نافع ولذيذ ‪ .‬واألدوية فى روسيا ال خترج من األجزخانات إال‬ ‫إذا كانت ملتصقة بها ورقة مجيلة الشكل حتتوى على صورة طبق األصل من تذكرة‬ ‫الطبيب الذى أمر بها وعلى امسه ‪ .‬وميزانية الروسيا ثالثة مليارات روبل و‪ 300‬مليون روبل‬ ‫أى أكثر من ‪ 300‬مليون جنية ‪ .‬واحلكومة حمتكرة الفودكا ودخلها منه وحده ‪800‬‬ ‫ً‬ ‫مليونا من اجلنيهات فى السنة ‪ .‬ولكنه لدى نشوب احلرب األرباوية‬ ‫مليون روبل أى ‪80‬‬ ‫صدر أمر قيصرى بإبطال ذلك االحتكار ومبنع مجيع املشروبات الروحية فى روسيا كلها ‪.‬‬ ‫واحلكومة متلك أكثر من نصف السكك احلديدية وإيرادها من ذلك يبلغ ‪ 100‬مليون‬ ‫روبل أى عشرة ماليني جنية فى السنة ‪.‬‬ ‫أما باقى سكك احلديد فى روسيا فبيد الشركات ‪ ،‬والوابورات الروسية نظيفة وحسنة‬ ‫اإلدارة وفيها كل معدات الراحة املوجودة فى غريها من قطارات أوروبا ‪ .‬ومقاعدها تستعمل‬ ‫بالنهار للجلوس وبالليل للنوم بتحويلها إىل أسرة وهى تنهب األرض ً‬ ‫نهبا ‪ ،‬وتطوى البيد‬ ‫طيا ّ‬ ‫وقل أن ختلو منها جهة من جهات الروسيا فالسكك احلديدية ممتدة فى طول البالد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وعرضها إمتدادا عظيما ‪ ،‬وكل جمموعة خطوط منها يسمى باسم خاص فخطوط القوقاز‬ ‫تسمى “ترانسيكوكازيات” وخطوط طاشقند ومسر قند وخبارى وحنوها تسمى‬ ‫“ترانسيكاسبيان “ وخطوط “سبرييا” ‪ .‬تسمى ترانسيسيربيان وهذه السكة األخرية‬ ‫تبتدئ اآلن من بطرسبورج ومتر على موسكو ثم خترتق سيبرييا وغريها من بالد آسيا‬ ‫حتى تصل إىل “فالديفوستوك” فى الشرق األقصى ‪ ،‬واملسافة مخسة عشر ً‬ ‫يوما ‪ .‬والقطارات‬ ‫فى هذه السكة من أفخر ما يكون وفيها كل وسائل الراحة واهلناء حتى الكتبخانة‬ ‫واحلمام ‪.‬‬ ‫وحيق لروسيا أن ترفع رأسها وتتباهى على غريها بسكة “سيبرييا العظيمة “ ‪ ،‬فهى‬ ‫لعمرى مفخرة من مفاخرها بل معجزة من معجزات الزمان تشهد للحكومة الروسية‬ ‫باهلمة العالية ‪ ،‬واإلقتدار العجيب ‪ ،‬والسبق على االقران فى حلبة هذا امليدان ‪ .‬واألجرة من‬ ‫ً‬ ‫روبال و ‪ 60‬كوبك فى الدرجة األوىل “ حنو ‪ 34‬جنيها “‬ ‫“بطرسبورج” إىل فالديفوستك ‪337‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جنيها “ ومن فالديفوستوك يتفـرع‬ ‫روبال و‪ 45‬كوبك فى الدرجة الثانية “ حنو ‪22‬‬ ‫و ‪208‬‬ ‫خـط حديـدي إىل “بكيـن” عاصـمة الصيـن ‪ ،‬وآخر إىل “يوكوهاما” فى بالد اليابانيني‬ ‫فهكذا تكون اهلمم العالية فى ربط أجزاء األرض ببعضها وتقريب األبعاد على املسافرين‪.‬‬ ‫ومرتب القيصر فى الشهر مليون روبل ( ‪ 100‬ألف جنية ) ‪ .‬وما من مزرعة عظيمة أو عمارة‬ ‫فخيمة مررت عليها أثناء طوافى فى روسيا وسألت عنها األقيل ىل أنها ملك لتاج حتى ظننت‬ ‫بعض الظن أثم أن هذا التاج ميلك نصف البالد الروسية لنفسه خاصة ‪ .‬وفى الواقع فإن‬ ‫جاللة اإلمرباطور “نقوال الثانى” اجلالس اآلن على عرش القياصرة أغنى امللوك والسالطني‬ ‫وهلل األرض ومن عليها وهو خري الوارثني ‪.‬‬ ‫‪116‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫(‪)2‬‬ ‫أخبار ومعلومات عن روسيا‬

‫العملة فى روسيا كلها جيدة والزيف فيها وهى ترتكب من “ ذهب وفضة وحناس‬ ‫ً‬ ‫قريبا فيها ‪ .‬فمن الذهب‬ ‫وورق” وال يوجد بها اآلن نيكل ‪ ،‬ولكنهم عولوا على إدخاله‬ ‫اجلنيه ونصف ومن الفضة الروبل ونصفه ‪ ،‬وقطعة بعشرين كوبك وقطعة خبمسة‬ ‫عشر وقطعة بعشرة وخبمسة ‪ ،‬ومن النحاس قطعة خبمسة كوبك وقطعة بثالثة وقطعة‬ ‫بإثنني وكوبك واحد ‪ .‬ومن الورق ورقة ذات ‪ 500‬روبل وورقة ذات ‪ 100‬وورقة ذات ‪ 50‬وورقة‬ ‫ذات ‪ 25‬وورقة ذات ‪ 10‬وورقة ذات ‪ 5‬وورقة ذات ‪ – 3‬ويوجد روبل جديد من الفضة منقوشة‬ ‫عليه صورة القيصر احلاىل وصورة ميخائيلوف أول قيصر من عائلة رومانوف ولكنه نادر‬ ‫وعزيز ‪.‬‬ ‫واجلنيه املوسكو فى يساوى ‪ 10‬روبالت والروبل ‪ 100‬كوبك ( فرنكني و‪ 67‬سانتيما‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وكسورا ‪.‬‬ ‫ملليما‬ ‫أو قطعة بعشرة مصر وشئ ) والكوبك يساوى‬ ‫ومسلمو روسيا يسمون الروبل مانات والقطعة ذات العشرين كوبك عباس ‪.‬‬ ‫شيئا وكان ثـمنه ً‬ ‫ً‬ ‫مثال ‪ 60‬كوبك قال لك أن الثمن ثالثة عباس ‪.‬‬ ‫فإذا اشرتيت من أحدهم‬ ‫ً‬ ‫روبال ( جنيهني)‬ ‫وال ميكن للسائح فى هذه البالد أن يعيش عيشة الئقة بأقل من عشرين‬

‫فى اليوم خالف مصاريف السفر واإلنتقال التى ال تقل فى خط مثل اخلط الذى اتبعناه عن ‪60‬‬ ‫ً‬ ‫جنيها ً‬ ‫ً‬ ‫وحبرا فى الدرجة األوىل ‪ .‬والسياحة فى هذا اخلط أى من اإلسكندرية إىل القريم‬ ‫برا‬ ‫والقوقاز وروسيا األصلية ميكن إمتامها فى ثالثة شهور ونصف من ‪ 15‬مايو آلخر أغسطس‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ولطيفا وأما بعدها فيصعب السفر فيه لشدة‬ ‫هادئا‬ ‫ألن البحر األسود فى هذه املدة يكون‬ ‫إضطرابه وهيجانه ‪ .‬وللكريدى ليونيه ثالثة فروع فى روسيا واحد فى أودسا والثانى فى‬ ‫موسكو والثالث فى بطرسبورج وفى البالد من املصارف الروسية املنتظمة شئ كثري ‪ ،‬ومن‬ ‫أكرب شعراء الروس “بوشكني” ولد فى سنة ‪ 1799‬فى بلدة امسها “ميخائيلوفكسي”‬ ‫على بعد ‪ 35‬كيلو مرت من بطرسبورج وقد نفي مرتني أحدهما فى بلدته هذه واألخرى‬ ‫فى القريم ‪ ،‬وقتل فى سنة ‪ 1837‬فى مبارزة بالقرب من “بطرسبورج “ ‪ ،‬بسبب غريته على‬ ‫ً‬ ‫عربيا ) دخل‬ ‫زوجته ‪ ،‬وقاتله ضابط بلجيكى امسه “دانتيس” ‪ .‬وكان جد بوشكني (‬ ‫فى خدمة بطرسبورج األكرب فرقاه إىل رتبة ضابط ‪ ،‬وملا توسم فيه النجابة والذكاء بعث‬ ‫به إىل باريس ليتعلم فيها العلوم العسكرية ‪ ،‬وملا عاد أخذ يرتقى فى اجليش الروسى إىل‬ ‫أن وصل إىل رتبة جنرال ‪ .‬فلروسيا إذن أن تفاخر بالعرب وأن حتافظ على عالقات القربى‬ ‫بينناوبينها وصالت النسب ‪.‬‬ ‫‪117‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫ولبوشكني اآلن متاثيل فى بطرسبورج وموسكو وأودسا ‪ ،‬وفى هذه املدينة األخرية‬ ‫منزل نقش على بابه ( هنا أقام بوشكني فى سنة ‪. ) 1823‬‬ ‫ً‬ ‫ضابطا فى اجليش ولد سنة ‪ 1841‬ونفى‬ ‫ومن كبار شعراء الروسيا “ لريمونتوف “ وكان‬ ‫إىل القوقاز فى “بياتيجورسك” إحدى مدن احلمامات ‪ ،‬وفيها قتل هو اآلخر فى مبارزة سنة‬ ‫ً‬ ‫معلوما عنه من آرائه‬ ‫‪ 1841‬وقاتله ضباط روسى امسه “ماريتنوف “ ‪ .‬وسبب النفى ما كان‬ ‫وأفكاره احلرة ونظمه ملرثية لصديقه بوشكني طعن فيها على بعض املقامات العالية‪.‬‬ ‫وسبب القتل أنه عرض فى أحد اجملالس بأحد الضباط حتى أضحك عليه النساء فاستاء‬ ‫ً‬ ‫غضبا ورأى فى نفس التعريض إهانة له ‪ ،‬وطلب من لريمونتوف‬ ‫الضباط من ذلك واستشاط‬ ‫أحد أمرين أما اإلعتذار فى احلال وأما املبارزة فأبى لريمونتوف قبول األمر األول ورضى بالثانى ‪.‬‬ ‫وكانت املبارزة وقتئذ جائزة فى روسيا أما اآلن فهى ممنوعة إال بني ضباط الربية‬ ‫والبحرية ولكن على شرط رضا رؤسائهم وموافقتهم عليها ‪.‬‬ ‫ومن مشاهري كتاب الروس “جوجول” وقد مات من حنو ‪ 50‬سنة ‪ ،‬ومن تآليفه “كتاب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مستفيضا وكيف‬ ‫شرحا‬ ‫األرواح امليتة “ شرح فيه ما كانت عليه روسيا فى الزمن املاضى‬ ‫كان يستعبد اإلشراف فيها الفالحني املساكني ويسومونهم اخلسف والعذاب املهني حتى‬ ‫أنهم كانوا يعدونهم كالسلع واملتاع فيبيعونهم مع األرض بيع املواشى واألنعام إىل أن جاء‬ ‫القيصرالرحيم أبو الفالح حقيقة اإلمرباطور “اسكندر الثانى “ فحررهم من رق العبودية‬ ‫وأزال ما كان من الفوارق بينهم وبني باقى الرعية ‪ ،‬ومن األسف العظيم أن القيصر الذى خدم‬ ‫األنسانية أعظم خدمة قتله النهلست شر قتلة ‪ ،‬وهو الذى بنيت على دمه فى احملل الذى قتل‬ ‫ببطرسبورج كنيسة القيامة الفائقة فى احلسن واجلمال ‪.‬‬ ‫ومن فحول الكتاب “ دوستوييفكسي “ وقد مات من عشرين سنة ‪ ،‬ومن أشهر مصنفاته‬ ‫كتاب “ اجلرمية والعقاب” ورمبا فاق لومربوزو فى بعض مباحثه وفصوله ‪ ،‬وأملنا فى حضرة‬ ‫الفاضل قبعني الذى عنى بتعريب كتاب “ الفيلسوف تولستوى فى حكم النبى صلى اهلل‬ ‫عليه وسلم” أن يشمر عن ساعد اجلد ويرينا همته فيرتجم كتاب اجلرمية والعقاب خدمة‬ ‫ً‬ ‫خصوصا املشتغلني بالقضاء واحملاماة ‪ .‬كما خدم األمة برتمجة كتاب‬ ‫للناطقني بالضاد‬ ‫احلكم املستطاب ‪ .‬وفى روسيا اآلن كاتب كبري امسه “ ماكسيم جوركي” ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مليـونا منهـم ‪ 110‬ماليني روسى أرثوذكـس و‪ 21‬مليـون‬ ‫وعدد سكان الروسـيا ‪160‬‬ ‫مـسلم ( على األصح ) ‪ 10‬منهم فى روسية أوروبا والباقى فى روسية آسيا و‪ 11‬مليون‬ ‫كاتوليك و‪ 6‬مليون بروتستان و‪ 10‬مليون من البوذيني فى منغوليا و‪ 6‬مليون يهود ‪.‬‬

‫وأغلب السكان فى مقاطعتى “كورالند وليفونيا” من اآلملان رعايا روسيا وبيدهم قسم‬ ‫عظيم من التجارة ‪ .‬وأهل فنلندا متقدمون ً‬ ‫جدا فى الزراعة وكان هلم أثناء زيارتى لبالدهم‬ ‫فى سياحتى األوىل فى روسيا عملة خمصوصة غري العملة الروسية ‪ ،‬وهم أهل ابآء وأنفة‬ ‫وكلهم بروتستانت ‪ ،‬وكذلك أهل بولونيا أخالقم مشابهة ألخالق أهل فلندا وكلهم‬ ‫كاتوليك ‪.‬‬ ‫‪118‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫وإذا تعلم الروس اللغة الفرنسية أتقنوها وتكلموا بها بطالقة لسان وحسن بيان ‪ ،‬وزيادة‬ ‫على أن أمساء الدكاكني فى روسيا تكتب باللغة الروسية ومعها اللغة الفرنسية أو‬ ‫األملانية ‪ ،‬فإن ما يبلغ فيها مرسوم على واجهتها ‪ .‬وللروس رقص خمصوص امسه رقص قوزاق‬ ‫وهو شبيه بالرقص احلربى ‪.‬‬ ‫وقد اصطلحوا فى روسيا على تسمية حكومات “ خاركوف وبولتافا وكييف‬ ‫وسريينجوف بروسيا الصغرية وموسكو بروسيا الوسطى وأودسا والقريم بروسيا اجلديدة‬ ‫“ وباقى احلكومات بروسيا الكبرية ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫روبال ‪ ،‬ومع ذلك ال يعمل‬ ‫وثـمن الباسبور فى روسيا ملن يسافر من رعاياها إىل اخلارج ‪18‬‬ ‫ً‬ ‫به إال لستة أشهر ‪ .‬أما الذين يسافرون إىل الداخل فيعطى هلم الباسبور جمانا ‪ .‬وكل روسى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫روبال عن كل سنة إال إذا كان‬ ‫رمسا للباسبور ‪20‬‬ ‫يتغيب عن روسيا يدفع عند عودته هلا‬ ‫تغيبه لطلب العلم أو ملصلحة تعود باخلري على بالده ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ناقما على الروس ويشكو بثه وحزنه إىل اهلل مما يالقيه‬ ‫وما اجتمعت بيهودى إال ورأيته‬ ‫ً‬ ‫قانونا حظرت‬ ‫من اإلضطهاد وسوء املعاملة فى هاتيك البالد ‪ .‬فإن احلكومة الروسية سنت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حماميا ‪ ،‬وحرمت‬ ‫طبيبا أو‬ ‫فيه على اليهودى غري املولود فى بطرسبوج اإلقامة بها إال إذا كان‬ ‫اليهود من التوظف فى الوظائف امللكية العسكرية ‪ ،‬وجعلت عدد التالمذة اليهود فى‬ ‫ً‬ ‫حمددا فال يقبل منهم أكثر من مخسة فى املائة بشرط أن يكونا على‬ ‫مدارس احلكومة‬ ‫ً‬ ‫مصاريفهم ‪ ،‬أنظر كيف أن الروس حيجرون على احلرية الشخصية وحيرمون فريقا من‬ ‫ً‬ ‫خصوصا فى هذا العصر عصر العرفان واملدنية العصر اخلشونة‬ ‫الناس من حقوقهم الطبيعية‬ ‫واهلمجية ‪.‬‬ ‫ولكنا أثناء طبع هذا الكتاب علمنا أن جاللة القيصر “نقوال الثانى” عندما حتقق‬ ‫له صدق رعاياه اليهود وإخالصهم وتفانيهم فى خدمته واستبساهلم فى احلرب األورباوية‬ ‫منحهم احلقوق املدنية ‪ ،‬وساوى بينهم من الرعية فكأنه نظر إىل ما طلبناه هلم فى آخر هذه‬ ‫الرحلة ‪ ،‬كما سيأتى وإنا لنا بغيتنا وحقق أمنيتنا فلجاللته على هذه املنحة اجلليلة وعلى‬ ‫أبطال املسكرات من روسيا الشكر اجلزيل والثناء اجلميل منا ومن عموم اإلنسانية ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا دستور روسى وعمره اآلن سبع سنني – وهنا استطراد ال بأس‬ ‫والدستور فى الروسيا‬ ‫به – ذلك إنى أقرتح على من يعنيه األمر فى مصر أن يأمر ً‬ ‫حاال بكتابة لوحتني كبريتني‬ ‫باخلط الثلث اجلميل إحداهما يكتب فيها اآلية اآلتية ( وأمرهم شورى بينهم ) وتوضع فى‬ ‫قاعة اجلمعية التشريعية جهة األعضاء ‪ ،‬والثانية يكتب فيها اآلية األخرى ( وشاورهم فى‬ ‫األمر ) توضع جهة الرئيس وأن تكون كتابة هاتني اللوحتني على مثال اليفط املوجودة‬ ‫مبحكمة مصر بعضها فى قاعة اجللسة وبعضها فى أودة الرئاسة املكتوبة فيها اآليات‬ ‫اآلتية ( إن اهلل يأمر بالعـدل واألحسـان ‪ ،‬يا أيها الذين آمنوا أوفو بالعقود ‪ ،‬وإذا حكمتم بني‬ ‫الناس أن حتكموا بالعدل ‪ ،‬ولكم فى القصاص حياة ‪ ،‬اعدلوا هو أقرب للتقوى ) ‪.‬‬ ‫وكلها خبط اخلطاطني الشهريين “حسن أفندى سري” و”على أفندى لطفى” ‪ .‬وهذه‬ ‫اآليات مجيعها سواء اخلاصة باحملاكم أو بالشورى ليس فيها ما ميس عواطف أحد من‬ ‫‪119‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫أخواننا النصارى وال أخوننا اليهود ‪ .‬ألنها ال تتعلق بأمور تعبدية بل مبسائل عمرانية تهم‬ ‫ً‬ ‫دائما بالعدل مع الناس كافة على إختالف أجناسهم‬ ‫اجلميع ومن شأنها أن تذكر القضاة‬ ‫وأديانهم ‪ ،‬وجتعلهم ال حييدون قيد أمنلة عن احلق حتى مع عدوهم ‪ ،‬ومن يبغضونه عمالً‬ ‫بقوله تعاىل “ ال جيرمنكم شنآن قوم على أن ال تعدلوا “ ومن شأنها كذلك أن تذكر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جليال ‪ .‬فال يضع‬ ‫حقريا كان ‪ ،‬أو‬ ‫نوابنا ورئيسهم باملشاورة واملذاكرة فى أمر من أمورهم‬ ‫أحد منهم كمامة على فمه ويالزم السكوت وال يغرنه الغرور وال تزعزعه األباطيل‬ ‫واألراجيف ‪ ،‬وال الوشايات والسعايات وال السخائم والنمائم وال الدسائس واملكايد وال‬ ‫الكذب واإلختالق وال البشاشة والزلفى وال ضدهما ‪ ،‬وال الدعوة إىل املآدب واألفراح‬ ‫والوالئم وال األقبال واألدبار ‪ ،‬وال أكثر من ذلك بل يضرب بكل هذه األمـور العرضية‬ ‫ً‬ ‫عـرض احلائط ‪ ،‬وجيعل لنفسه ً‬ ‫خاصا فى كل مسألة ‪ ،‬وال حيجم عن أبدائه ولو‬ ‫رأيا‬ ‫ً‬ ‫بعبارة عامية بكل صراحة وحرية غري هياب وال وجل ‪ ،‬وأن ال جيرى أبدا وراء رأى الغري‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وأن ال يقول إال ما يعتقده ً‬ ‫نافعا لصاحل البلد وإال كـان‬ ‫وصوابا ‪ ،‬وأن ال يقرر إال ما يراه‬ ‫حقا‬ ‫ال معـنى للجمعـية وال لإلجتـماع ‪ .‬ومن أخص واجبات اجلرائد نشر املناقشات واملداوالت‬ ‫حتى تعرف األمة قيمة كل نائب من نوابها ومقدار اهتمامه بالشئون العمومية ‪.‬‬ ‫وفى استامبول توجد يفط فى احملاكم التجارية وفى بعض خمازن التجارة مكتوب‬ ‫فيها هذا األثر الشريف “ الكاسب حبيب اهلل “ ‪ .‬ولالجنليز شعار قديم وهو “ ربى وحقى “‬ ‫يكتب فى بعض جرائدهم باللغة الفرنساوية ال باللغة االنكليزية ‪.‬‬ ‫ولنعد اآلن إىل ما حنن بصدده ألننا نعرتف بأننا خرجنا عن املوضوع وطاملا خفف اإلعرتاف‬ ‫اإلقـرتاف ‪.‬‬ ‫الروسيا على العموم بالد مجيلة ولكن أمجلها “القريم والقوقاز” فهما الدرة اليتيمة فى‬ ‫تاج القياصرة ‪ ،‬وال عجب فان املسلمني ملكوا أمجل بقاع األرض وأخصبها ‪ ،‬ولو كانوا‬ ‫ساسوا ممالكهم بالعدل واحلكمة وعاملوا اجلميع معاملة واحدة وأحسنوا اإلدارة وحبثوا‬ ‫فى كل أمر يعود باخلري على الرعايا ‪ ،‬وأخذوا من التمدن احلديث أحسنه وضبطوا األعمال‬ ‫صغريها وكبريها ومل يفرطوا فى أى شئ من حقوقهم وكافؤا احملسن وجازوا املسئ وسدوا‬ ‫آذانهم عن مساع الوشايات واألكاذيب كما فعل صالح الدين وطبقوا القوانني من غري‬ ‫وهم ال يقصروا ‪.‬‬ ‫خماباة وال مراعات الستقام أمرهم وحفظوا ملكهم‪ ،‬وما جرأ أحد على أن ينظر إليه بعني‬ ‫الطمع أو ميد له يد السوء ‪ .‬فما سقطت املمالك إال من أهمال أهلها وظلمهم وإنغماس أفرادها‬ ‫فى محأة الرذائل والشك ‪ ،‬وطرق احلبل على الغارب وعدم اإلستعداد احلر ــــــــــــــ ألجل‬ ‫احملافظة على كل مملكة جيب على عدم ترك األمور للصدف واملقادير وأن ال يعولوا‬ ‫على غريهم وال يعتمدوا إال على أنفسهم ‪ ،‬وأن ال يغرتوا بزخارف الكالم ‪ ،‬وأن يعدوا ملن‬ ‫يعتدى عليهم ما استطاعوا من قوة ومن رباط اخليل كما هو احلال فى نفس ممالك أوروبا‬ ‫حلذرها وختزفها عـلى الدوام من بعضها ‪ ،‬وكما يقضى به قانون تنازع البقاء على ظهر‬ ‫هذه الغرباء التى وطئت فيها اآلن الذمة باإلقدام وأصبحت العهود و املواثيق ً‬ ‫حربا على ورق‪،‬‬ ‫ً‬ ‫خالفا ملا يأمر به كل دين ‪ :‬اللؤم والغدر واخليانة كما‬ ‫وصار شعار القوم فى هذه األيام‬ ‫‪120‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫شاهد ذلك اخلاص والعام – أين الصدق أيها الناس أين الشرف ؟ – أين اإلنسانية ؟ – أين‬ ‫القدوة احلسنة؟ – هل هكذا تكون نتيجة الرتبية !– ماذا جرى للدنيا؟ – أنزعت الشفقة‬ ‫والرمحة من القلوب! – أم ماتت الضمائر! – ما هذه الدروس التى تلقى اآلن على العامل؟‬ ‫ً‬ ‫عبثا وكل أتعابهم فى‬ ‫– أالصالحه هى أم الفساده ؟ أن كل جهد رجال الرتبية أصبح‬ ‫تهذيب رجال الغد وتعويدهم فى الصغر على حمبة الصدق والعدل واحلق والرأفة جبميع‬ ‫بنى اإلنسان من أى جنس وأى دين كان ضائعة سدى ‪.‬‬ ‫أيرضى أحد من ذوى القلوب بتلك الفظائع اجلهنمية التى حصلت فى عصر العلم واملدنية‬ ‫فى احلروب البلقانية ! أم يصح أن يسكت القوم عنها ويغمضوا اجلفون عليها ! أم مل‬ ‫يكن هلم أوالد !– أليست هلم نساء وفلذات أكباد! – أليس فيهم الشيخ الفانى ؟ أ إىل هذا‬ ‫احلد جيهلون أن الكل إنسان وأن هذا اإلنسان مهما كان حيب الرفق به ومعاملته على‬ ‫األقل ولو ببعض الشفقة التى يعامل بها احليوان ‪:‬‬ ‫ما لقينا من غدر دنيانا فال‬

‫كانت وال كان أخذها والعطاء‬

‫ولقد رسم القرآن للمسلمني تلك اخلطط القومية خطط اإلستعداد للعدو وغريها من‬ ‫اخلطط احلكيمة التى تضمن هلم سعادة الدارين ‪ ،‬ولكنهم أختلفو أو قصروا أو أهملوا‬ ‫أو أشتغلوا بالقشر دون اللب ‪ ،‬وقدموا العرض على اجلوهر فكان ما كان وحقت عليهم‬ ‫أحكام الزمان ‪.‬‬ ‫ومسلمون روسيا من تتار وجركس وداغستان وغريهم ‪ ،‬هم من غري مبالغة أشد مسلمى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتعلقا بأهدابه وأكثرهم غرية عليه ‪ ،‬وحمافظة على سننه وآدابه‪.‬‬ ‫متسكا بدينهم‬ ‫األرض‬ ‫وهم حاصلون اآلن على حقوقهم السياسية واملدنية وهلم فى روسيا املكانة الثانية من بني‬ ‫ً‬ ‫عنصرا تتألف منهم الدولة الروسية ‪ ،‬وكلهم أمم حربية أشتهروا بالشجاعة والرماية ‪،‬‬ ‫‪128‬‬ ‫والروسية طاملا خدموا روسيا اخلدمات اجلليلة وبرهنوا ً‬ ‫مرارا فى احلروب على والئهم وشدة‬ ‫إخالصهم ‪ ،‬أظهروا بسالة عجيبة حتى أن احلكومة رقت الكثريين منهم إىل رتب القواد‬ ‫فى اجليش الروسى ‪ ،‬ومنهم ضباط فى فرقة فرسان احلرس القيصرى اخلاص ملا أمتازوا به من‬ ‫الوالء التام واألمانة واإلخالص واألقدام ‪.‬‬ ‫وفى حرب الروسيا مع اليابان سلمت قيادة فرقة مؤلفة من ستة آالف عسكرى كلهم‬ ‫روس نصارى أورتودكس إىل جنرال مسلم ‪.‬‬ ‫ومن املسلمني جيل يقال له ‪ -‬القارغيز والباشكري ‪ -‬يقيمون فى جبال أورال فى أوروبا‬ ‫وآسيا وعددهم ستة ماليني ‪ .‬والروس يسمون العامل الكبري من علماء املسلمني أخون‬ ‫والصغري منال ‪ .‬وأكثر املسلمني الروسيني مشهورون باقراء الضيف حتى كأنهم املعنيون‬ ‫بقول القائل ‪.‬‬ ‫ياضيفنا لو جئتنا لوجدتنا‬

‫حنن الضيوف وأنت رب املنزل‬

‫وعندما يزور أمري خبارى القيصر يستقبله بكل إعظام وإجالل وإكرام وتتبادل‬ ‫‪121‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫بينهما خطب الوالء ورجال اإلصالح املسلمون وال سيما الشيوخ والتجار مهتمون كل‬ ‫االهتمام بنشر التعليم بني األفراد وتنوير األذهان بالعلوم احلديثة ‪ ،‬وباجلملة فإن مسلمى‬ ‫روسيا ناهضون اآلن نهضة حقيقية تعود عليهم بالعز والفخر مدى الدهر ‪ .‬وهم ال يقصرون‬ ‫ً‬ ‫أيضا برتبية البنات ‪ ،‬وال يكتفون بتعليم أبنائهم فى‬ ‫همهم على تعليم البنني بل يعتنون‬ ‫ً‬ ‫كثريا منهم إىل «االستانة ومكة واملدينة ومصر» ‪.‬‬ ‫بالدهم بل يرسلون‬ ‫وعندنا جمموعة رسوم متثل مسلمى القوقاز والتتار والكورج وبعض نصارى الروس‬ ‫مبالبسهم األهلية بعثنا بها إىل إدارة املؤيد ليطلع عليها من يشاء ‪ ،‬وكذلك أرسلنا إليها‬ ‫جريدة كورجية وجريدتني تنشران فى القوقاز باللغة الرتكية ‪.‬‬ ‫( أحدهما ) تطبع فى تفليس وامسها منال نصر الدين وقد صور فيها جاللة السلطان «حممد‬ ‫رشاد اخلامس» بصفة شخص فإن أحنت الستون ظهره وأثقلت احلوادث والكوارث كاهله‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وناقال أمتعته من األستانة إىل األناضول ‪ ،‬وأمامه إمرباطور األملان‬ ‫اطمارا بالية مرقعة ‪،‬‬ ‫البسا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مسلما عليه سالما عسكريا ‪ ،‬ولكن السلطان وهلل احلمد باقى فى القسطنطينية‬ ‫وسيبقى بها إن شاء اهلل هو وآل بيته الكرام إىل األبد ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫عجميا يضرب بالبلطة إمرأة أفرنكية لينفروا أوروبا من العجم‪،‬‬ ‫وفى هذه اجلريدة رمسوا‬ ‫ويرغروا صدرها عليهم ولكنى علمت أن كل هذا كذب وبهتان ‪ ( .‬والثانية ) تطبع فى‬ ‫باكو وامسها شاللة وفيها صورة الشاعر الرتكى الكبري «عبد احلق حامد بك» وصورة‬ ‫مثل مقتل الشهيد العظيم « حممود شوكت باشا» ورسم منابع البرتول فى باكو ‪.‬‬ ‫وهنا جيدر بى أن أتكلم على ثالثة أشياء لو مل تكن فى الروسيا لكانت كلها‬ ‫حماسن ‪ ،‬وهى الباسبور وإضطهاد اليهود وعداوة الروس للدولة العثمانية ‪.‬‬ ‫فإذا ألغت الروسيا الباسبور وجعلت الدخول واخلروج فى بالدها ً‬ ‫حرا تشبها بغريها من األمم‬ ‫املتمدنة قصدها الناس من كل فج ‪ ،‬وعاد عليها ذلك بكثر من الفوائد اإلقتصادية واملنافع‬ ‫األدبية ‪ ،‬وال خوف عليها من أشرار األجانب ألن لديها من القوة ما يكفى لردع كل من جيرأ‬ ‫على إنتهاك حرمة القانون أو خيل بالنظام العام ‪.‬‬ ‫وإذا كفت عن إضطهاد اليهود ومنحتهم احلقوق املمنوحة لغريهم من العناصر الروسية‬ ‫ً‬ ‫أحرارا يروحون ويغدون كما يشاءون ‪ ،‬ومل حتجر على حريتهم الشخصية‬ ‫وتركتهم‬ ‫ً‬ ‫دائما «الدين هلل والوطن للجميع» نفعوها وأخلصوا هلا وحتدثوا بفضلها‬ ‫وجعلت شعارها‬ ‫ً‬ ‫خصوصا وأنهم ال‬ ‫عليهم وشكروا منتها ‪ ،‬وتباهوا باإلنتساب إليها وافتخروا برعويتها‬ ‫ً‬ ‫وطنا غري روسيا وقد مضت عليهم فيها القرون الطويلة وهم ال يتكلمون‬ ‫يعرفون هلم‬ ‫ً‬ ‫مجيعا أن يتمتعوا فى الداخل واخلارج‬ ‫لغة غري لغتها فهم رعاياها وفى ذمتها ‪ ،‬وحيق هلم‬ ‫حبمايتها ‪.‬‬ ‫وإذا صافت الروسيا الدولة العثمانية وتركتها تعيش كما حتب هى أن تعيش وكفت‬ ‫عن خلق املشاكل هلا ووضعت ً‬ ‫حدا ملطامعها ‪ ،‬وإكتفت مبلكها العظيم ومبا هى فيه‬ ‫مـن رغد ونعيم ‪ ،‬ومدت يدها إىل األتراك وصافحتهم وساملتهم تناسوا املاضى ألنهم شعب‬ ‫‪122‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫حسن النية سليم الطوية ‪ ،‬وعادت هذه املصافاة على الطرفني بفوائد ال حتصى ومزايا ال‬ ‫تستقصى ‪.‬‬ ‫أمل تكن فرنسا واجنلرتا عدوتني قدميتني؟ – أمل حيول امللك أدوارد حبنكته وحذقه‬ ‫ومهارته تلك العدواة الشديدة إىل صداقة متينة مع إختالف أخالق األمتني وتباين الدين‬ ‫فيهما ‪ .‬بروتستان وأولئك كاتوليك ‪ ،‬وكل مذهب منهما ينظر إىل اآلخر بغري العني التى‬ ‫– ينظر بها لنفسه – أمل تتحالف اجنلرتا مع اليابان وهذه دولة وثنية وتلك مسيحية؟ ‪.‬‬ ‫فمتى يوجد فى الروسيا رجل نبيل القصد كريم السجايا حيذو حذو امللك أدوار ويرجع‬ ‫عن تلك التقاليد البالية العتيقة وحيول عدواة تركيا إىل صداقة حتى يسرتيح العامل من‬ ‫تلك القالقل التى جمتها األذواق وملت من مساعها اآلذان؟ ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫واحدا لكثري‬ ‫وأن عدوا‬ ‫وما بكثري ألف خل وصاحب‬ ‫ً‬ ‫خططا جديدة معقولة بأن ألغت الباسبور‬ ‫فإذا غريت الروسيا خططها القدمية وإنتهجت‬ ‫وعاملت اليهود بالرفق واللني ‪ ،‬وصادقت العثمانيني حتسنت أسعارها وإرتفع منارها ‪ ،‬وطاب‬ ‫ً‬ ‫مجيعا وبلغت فى اجملد‬ ‫فى اخلافقني ذكرها وفاح فى كل مكان شذاها وأحر الناس‬ ‫منتهاها ‪.‬‬ ‫وإذا أحب اهلل ً‬ ‫ألقى عليها حمبة للناس‬ ‫يوما دولة‬ ‫ومدارس روسيا زاهية زاهرة بالعلوم واألداب ‪ .‬والعرجبية الروس يلبسون كلهم رداء واسع‬ ‫األردان أشبه شئ باجلبة والقفطان ‪ .‬وفى أثناء السري فى روسيا بالقطار ال يقع نظرك إال‬ ‫على مروج خضراء تسر اخلواطر وتقر األنظار على أنه مهما كانت الروسيا وعظمتها‬ ‫وأوروبا وبهجتها ‪ ،‬ومدنيتها فليس فى نظر املصرى بالد أمجل من مصر ‪ .‬ورحم اهلل “مصطفى‬ ‫باشا كامل” القائل ‪:‬‬ ‫بالدى بالدى لك جسمى وفؤادى لك حبى وودادى لك قلمى ومدادى لك عقلى ورشادى‬ ‫ً‬ ‫يقينا وليس فى الدنيا بالد‬ ‫لك صحوي ورقادى لك قربى وبعادى فأنت أنت البالد احملبوبة‬ ‫أمجل وال أفضل منك فى ملتى وأعتقادى ‪.‬‬ ‫ولكن كل هذا ال مينع من السفر إىل بالد الغري للنظر واإلعتبار واإلستفادة واإلختبار ‪.‬‬

‫ً‬ ‫عوضا عمن تفارقه‬ ‫سافر جتد‬ ‫وأعلم بأن وقوف املاء يفسده‬

‫واتعب فإن لذيذ العيش فى التعب‬ ‫أن ساح طاب وأن مل جير مل يطب‬

‫األسد لوال فراق الغاب ما أفرتست‬

‫والسهم لوال فراق القوس مل يصب‬

‫الشمس لو وقفت فى الفلك دائمة‬ ‫الترب كالرتب ملقى فى أماكنه‬

‫متلها الناس من عجم ومن عرب‬ ‫والعود فى أرضه نوع من احلطب‬

‫فإن تغرب هذا عز مطلبــه‬

‫وإن تغرب هذا عز كالذهب‬ ‫‪123‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫ولقد نشرت “جريدة املؤيد الغراء “ هذه الرحلة بأكملها فى تسعة أعداد منها فى أوائل‬ ‫سنة ‪ ، 1914‬وجاء بعد ذلك فى العدد الصادر منها فى ‪ 4‬مارس من السنة املذكورة ما يأتى‬ ‫حتت عنوان ‪:‬‬

‫حتية اإلعجاب‬ ‫“ إىل املؤرخ رشاد بك “‬ ‫ً‬ ‫معرضا يعرض فيه حضرة العامل املفضال‬ ‫لقد كان من حظ املؤيد أن يكون على الدوام‬ ‫ً‬ ‫سابقا ‪.‬‬ ‫والرحالة الكبري واملؤرخ الشهري “حممود بك رشاد” رئيس حمكمة مصر األهلية‬ ‫ً‬ ‫موثوقا بها لرصد ذخائره العلمية ورحالته إىل دانى البالد وقاصيها حملض‬ ‫نفائسه وخزانة‬ ‫خدمة األمم الشرقية ‪ .‬ولسنا اآلن فى مقام تعداد ما أفادت رحالت هذا املؤرخ من تهيئة النفوس‬ ‫املصرية على اخلصوص إلستطالع ما أوجب رقى األمم ‪ ،‬وسبب إحنفاضها فإن رحلتيه‬ ‫األخريتني اللتني نشرها املؤيد عن الدولة العلية وروسيا حركتا فى النفوس لواعج األشجان‬ ‫على زمن كان فيه السبق للمسلمني فى جوب األمصار ‪ ،‬وإقتحام األخطار إلقتناص مدينة‬ ‫األمم وصقلها بصاقل من عوائد وأخالق العرب مما دعا إىل تفوقهم فى زمن قصري ‪ ،‬على‬ ‫غريهم فى كل شئ ‪.‬‬ ‫ولقد تنبه حضرة الغيور الفاضل «مصطفى بك جنيب » وكيل النائب العمومى ‪ .‬إىل أن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عظيما مثل « حممود بك رشاد» جيب أن يشجع على عمله العظيم بكلمة شكر‬ ‫رجال‬ ‫فأرسل إلينا بالرسالة اآلتية موجهة إىل مؤرخنا الرحالة بالنيابة عن األمة فرأينا أن ننشرها مع‬ ‫الشكر وهذا نصها ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أفرادا من مواطنيه يقومون إلعالء شرف وطنهم ‪ ،‬وجيدون فى‬ ‫يسر كل وطنى أن يرى‬ ‫جتديد معامل فخرهم ألنه قد مضى علينا زمن أهملنا فيه كل شئ فخربنا فيه هذا البناء‬ ‫املشيد الذى تركه لنا أسالفنا العظام ‪ ،‬وطمسنا بتهاوننا آثار هؤالء األجداد الفخام الذين‬ ‫أجتهدوا فى البحث والتنقيب والكد فى مناكب األرض واجلد وراء الرزق ‪ ،‬والسعى إلزدياد‬ ‫درجة العمران وحيق لنا اآلن أن نفتخر برحالتنا الفاضل الذى جدد عصر «ابن بطوطة» فى‬ ‫ً‬ ‫فضال عن املتاعب اجلمة واملصاعب‬ ‫اإلسالم أال وهو العامل القانونى « حممود بك رشاد » فإنه‬ ‫الشديدة التى يلقاها فى السفر فإنه ال يبخل باملال وال بالوقت للتجول فى البالد املتنوعة‬ ‫ً‬ ‫فضال عن أنها‬ ‫إال رجاء احلاوية ملختلف األجناس ‪ .‬فإن كتاباته عن السياحات املتنوعة‬ ‫مفيدة فى ذاتها من حيث الوصف والوقوف على حالة البلدان ففيها من العظات الكبرية‬ ‫ً‬ ‫خصوصا‬ ‫املدهشة التى تأخذ بلب اإلنسان ملا فيها من احلكمة البالغة ‪ ،‬وامللحوظة الكاملة‬ ‫عندما يصف داء قومنا وما آلت إليه حكومات الشرق مع األسف من الفساد واالستبداد حتى‬ ‫وصلت هلذه الدرجة التعيسة ‪ ،‬مع أن الطبيعة مل تضن على الشرق بأحسن العوامل فقد نبغ‬ ‫فى هذه األراضى كبار الرجال من أنبياء ومرسلني ‪ ،‬وفالسفة عظام تتفاخر بهم حتى اآلن‬ ‫‪124‬‬


‫الرحلة الثالثة (السياحة فى روسيا )‬

‫اإلنسانية فحق لنا أمام هذا الرحالة الكبري أن نفتخر بأفكاره ‪ ،‬ووجب علينا أن نأخذ‬ ‫بنصحه اخلالص ألن مثل هذا اهلمام كمثل الطبيب املاهر أمام جسم فى خطر هائل ‪ .‬فأرى‬ ‫أن من الواجب على أمتنا أن تشجع أبناءها املخلصني وتعضدهم ألن أحسن وسيلة لإلكثار‬ ‫من املفكرين اجملتهدين إناس من األمة بكل الوسائل ‪ ،‬وإنتهز هذه الفرصة ألعرض أننا‬ ‫فى حاجة عظيمة ملثل هذه الدروس التى ألقاها علينا هذا الكاتب العظيم ‪ .‬ألنها مملوءة‬ ‫مبا نسميه بعلم الفلسفة اإلجتماعية ‪ ،‬فإذا قام كل بعمل نافع مفيد كهذا كل على‬ ‫حسب استعداده وقوته لتغريت حالتنا اإلجتماعية ‪ ،‬وطرقنا طريق احلياة الصحيحة أكثر‬ ‫ً‬ ‫رجاال خملصني قادرين عاملني كصاحب هذه األسفار املفيدة ‪.‬‬ ‫اهلل فينا‬

‫مصطفى جنيب‬ ‫وكيل النائب العمومى لدى احملاكم املختلطة‬

‫‪125‬‬



‫الفهرس‬

‫تقديم د‪ .‬حسني الشافعى ‪5 ........................................................................‬‬ ‫مقدمه ‪7 ....................................................................................................‬‬ ‫الرحلة األوىل ( كتاب السري و النظر ) ‪31 .......................................................‬‬ ‫الرحلة الثانية ( كتاب الرحلة اليابانية ) ‪69 ..................................................‬‬ ‫الرحلة الثالثة ( كتاب سياحة فى الروسيا ) ‪85 ..............................................‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.