الخصائص الجمالية والعرفانية في الكتابة الصوفية الزاووية في الصحراء المغربية ـــــــــــــ الدكتور :محمد أزلماط
التصميـــــــــم
-Iتمهيــــــد. -IIالسياق المفاهيمي والتاريخي للزاوية وارتباطهما بالتصوف في الصحراء. -IIIالبنية العرفانية في الزوايا بالصحراء المغربية. -IVالمظاهر الجمالية والبنية العرفانية للكتابة الزواوية الصوفية بالصحراء المغربية. -Vالخاتمـــــة.
-Iتمهيد
طفق االهتمام يتزايد بالكتابة الزاووية الصوفية من قبل االنتروبولوجيين والسوسيولوجيين والسميائيين ومؤرخي المعرفة ،بعد أن اتسع استعمالها من قبل المبدعين والدراسي ،حيث يتجلى االهتمام بالكتابة الزاووية الصوفية في المراكز الدراسية التي تم إنشاؤها ،وإحداث الملتقيات التي دارت فيها نقاشات وندوات حول الزوايا وكتاباتها التي غيرت مالمح الحياة االجتماعية والثقافية والسياسية بالمجتمعات ،فأطرت سكانها ومن ضمنها الصحراء المغربية في جميع الميادين ،والسيما الثقافية والمعرفية حيث نشطت فيها طرق صوفية وحركة علمية ساهمتا في إحياء العلم والثقافة وفي تأصيل الكتابة الزاووية، التي تعتبر شكال من أشكال الكتابة اإلبداعية المختلفة ،التي تتجلى فيها الجمالية الباهرة قصد تحقيق اللذة واإلعجاب والتجاوب الذوقي الوجداني ،وأيضا تظهر فيها مميزات فنية مسبوكة وخصائص الدينية المذهبية والفكرية الرؤيوية ،وصياغتها االدائية النسقية وأبعادها لما وراء النصية الكامنة في عالقتها بالمريد والقارىء. وبما أن الكتابة الزاووية في جوهرها نبش في منظومتها الفكرية العرفانية المتنوعة والمختلفة في ماهيتها وطبيعتها ونتائجها ،يجب القيام بالحفر في السياق المفاهيمي والتاريخي للزاوية وعالقتها بالرباط ،والتي منها انبثقت الكتابة الزاووية المختلفة عن الكتابات اإلبداعية البيانية والبرهانية والبديعية المعتمدة على تصورات فكرية عقلية ومعرفية متفاوتة قربا وبعدا من الكتابات الصوفية الغنوصية والتيارات طرق الصوفية الشعبوية. وعلى هذا األساس ،اقترحنا المصطلح التركيبي الكتابة الزاووية لتأصيله، باعتبار أن الكتابة نشأت وتكونت في ظل الزوايا التي هي وعاء للمنظومة الفكرية العرفانية التي تفاعل فيها الوجدان والذوق الروحي مع المجتمع والخطاب االيديولوجي والسياسي، ألن الكتابة الزاووية تعتبر محورا استراتيجيا في التصور والممارسة الدينية ،إلن تحديد أبعادها وقيمها وممارستها وجمالياتها يعود إلى بعدها الكينوني الباطني ،لكونها تبحث في النفس االنسانية بعمق التأويل ،حيث تنصهر الكتابة بالسلوك وبالعرفان وبالخيال وبالخظ وبتفاعل الظاهر بالباطن وعلى اثره يستخدم الكاتب الزووي اللغة المشفرة واالنزياحية. فتمحورت هذه الدراسة على المحاور التاريخية: السياق المفاهيمي والتاريخي للزاوية بالتصوف بالصحراء. -البنية العرفانية في الزوايا بالصحراء المغربية.
-المظاهر الجمالية والفنية للكتابة الزاووية بالصحراء المغربية.
-1-
-IIالسياق المفاهيمي والتاريخي للزاوية: *1السياق المفاهيمي: فمن الكتابة الزاووية نستنبط أن الزواية بمعانيها ومدلوالتها المتمططة يمكن اعتبارها تفسيرا إجرائيا الذي يستوعب القيم الروحية الدينية والعرفانية المتفاعلة بالمجال االجتماعي واالنساني ،بذلك فهي تعتبر مؤسسة نسقية تداللية لكونها تمثل المعيار الذي يجعلها تدخل في نطاق المجتمع ،العتبارها صنع االنسان ،ألن هذا األخير أضفى على الزاوية عالقة إنسانية مؤطرة بالنظم العرفانية والثقافية الصوفية المقتبسة من القرآن والسنة من قبل شيوخها الذين يتمتعون بالسلطة العلمية وبعمق الوجدان الديني لتحقيق سلطة اجتماعية سياسية مقابل سلطة الحكام وهي مستمدة من الشرعية الدينية .فالزاوية عالمة مؤسساتية دينية واجتماعية وعلمية وتربوية وتأطيرية بذلك تتصف بالسلطة واالستقاللية والشخصية الوجدانية. فالزاوية تتناسق في تكوينها من خالل محورين: * فاألول محور سياقي ،ترتبط في الزاوية بالمنظومة الفكرية الصوفية باعتبارها النواة األساسية لتنظيم مجال التعبد والتفقه والجمع بينهما ،ودعم المجال الفكري والعرفاني، وتدبير شؤون اإليواء والطعام واالستقبال والتواصل ،وتسيير مجال الجهاد انطالقا من مدارج أرباب السلوك والكرمات ،واالبتعاد عن التجريد ،والجمع بين المجاهدة والجهاد للدفاع عن الوطن واألمة. * أما المحور الثاني فيكمن في االستبدالية التي تقوم على مبدأي االختيار والتركيب في بنية نسقية داخل الزاوية في إطار منظومة مكونة من مجموعة من المبادئ المتسمة بالوسطية والكشف واالرتباط بسياقات معيشية ومفاهيم فعالة جعلت من تصوف الزوايا تصوف حركي دينامي معتمدة على القرآن والسنة واالبتعاد عن مجال الشعوذة والخزعبالت ،وذاك ما أكده الشيخ ماء العينين. *2السياق التاريخي لمصطلح الزاوية في الثقافة الحسانية:
وللزوايا في الثقافة الحسانية أو البيضان والتي يطلق عليها باللهجة الحسانية أزواي وتسمى أيضا الطلبة أو أهل الكتوب هي فئة أو قبائل يضمها مصطلح واحد وال ينتمي لساللة محددة أوحلف معين ويرى البعض أنها " من أصول مرابطية والبعض منها من غرب األمصار الذين وفدوا إلى الصحراء خالل فترات متباينة وانزووا بعلمهم ودينهم بعد انكسار دولة المرابطين واندثارها" (.)1 وانحدرت منها قبائل من الزوابا التي استوطنت أغلبها بالد موريطانيا وتواتر عطاء أبنائها الفكري في العلوم الشرعية ونجد منها أديقب وأهل بارك هللا وأهل محمد سالم. ويطلق على الزوايا اسم الشرفاء ،ومصطلح الزوايا هي "القبائل التي أخذت االسالم وهي: الزوايا التياب والتائبون هم الذين تخلوا عن حمل السالح. الطلبة أو المتمربطون وهي قبائل الزوايا األصلية والتي تعتني بالعلم وال تحمل السالح إال في حالة الدفاع. -2-
العيال وهو كل من ال يربطه صلة النسب مباشرة بالزوايا ولكن يسكن معهم ويخدمهم مثال. الزوايا االنتمائية التي تنتمي إلى نسب ونذكر منها: زاوية شرفاء الركيبات وزاوية شرفاء العروسيين وزاوية آل ماء العينين وزاوية ابناء تدارين وزاوية شرفاء فاللة والزاوية المختارية التكنية. وعلى هذا األساس ،فالزوايا في الثقافة البيضانية تعني ما قاله الشيخ بابا بن الشيخ سيدي االبيري " أنهم سموا بهذا االسم لمالزمتهم الزاوية ،وهي موضع العبادة" ( )2وأورد محمد محمود سالم المدلشي تعريفا تاريخيا لهم إذ قال " :أنه على عهد المرابطين كانت هناط فئة من المجتمع تنقطع للعبادة والعلم وأنهم كانوا يلزمون الزاوية)3( ". وان الزوايا في الصحراء مؤسسة لها طريقة ومذاهب ومنهج تربوي حيث وصف الشاعر ماهيتها وطبيعتها ووظيفتها في قوله: وزاوية عن زورها ينجلي الفقر وشيدها العلم المورث والنصر وأبرق فيها ومزن علم جرت به من الشيخ أنها يواصلها بحر ونسمع ضوضاء الحجيج أمامها ويطربك الترتيل والدرس والذكر فما حاتم الطائي في حلم ّأحنف على عقل اياسي إذا م
ه عمرو بأطول باعا في العطا من محمد وال العارض الهتان في صوبه القطر()4 البنية العرفانية في الزوايا بالصحراء: *1دعائم البنية العرفانية في الزوايا بالصحراء المغربية: فمن خالل الزوايا نشأ التصوف الذي هو امتداد للمسلك الجنيدي الذي تأسس من منطلقات تدينية دعامتها القرآن والسنة ،اللذان حددا تصورا للتعبير عن إشكاليات االنسان من الواقع الذي يبلوره الشيخ عبر الطريقة ،وتلقين مفاهيمها للمريدين من حيث األوراد واألذكار واألحزاب وتقديم دروسا في اآلداب والحكمة والقيم الروحية .فالتصوف ينطلق من منطلقات الزهد والغنى عن الناس والقناعة ورعاية الفقراء ومجاهدة النفس والورع واالعتكاف .كما أنه قام بتأليف بين ما هو روحي وما هو عملي وسلوكي واسترفد من بنية إحالية محلية ومشرقية وعلى ضوئها ظهر شكلين من التصوف فالشكل األول ذوطابع مشرقي ويتزعمه كل من أي يعزى يلنور ومحي الدين بن عربي وعلي بن حرزهم وأبي مدين الغوت ،وأما الثاني فيتسم بالمحلية والمغربة حيث أن هذا الشكل حاول إدماج لغة التشريع بلغة التحقيق الذوقية ومن رواد عبد السالم بن مشيش وأبو الحسن الشاذلي ومحمد بن سليمان الجازولي والشيخ أحمد الرقيبات والشيخ ماء العينين و...الخ. -3-
*2أسس ومبادىء دعائم البنية العرفانية في الزوايا بالصحراء المغربية: *1-2الطرق الصوفية: ولكل زاوية طريقتها تنسب إلى الشيخ الذي يصل إلى رتبة المربي والترقي في التصوف ويرتب رتبة من رتب األولياء كالقطب والغوث والوتد إلى غير ذلك وكما تكون له الكرامات والمكاشفات وللشيخ شروط كما حددتها رائية سيدي أحمد الشريشي: وللشيخ آيات إذا لم تكن له
فما هو إال في ليالي الهوى يسري
إذا لم يكن علم لديه بظاهر
وال باطن فاضرب به لحج البصر
وإن كان إال أنه غير جامع
لو صفيهما جمعا على أكمل األمر
فأقرب أحوال العليل إلى الردى
إذا لم يكن منها الطبيب على الخبر
فالطريقة الصوفية تعني "السيرة المختصة بالسالكين إلى هللا تعالى من قطع المنازل والترقي في المقامات" ( .)6فالطريقة الصوفية هي رؤيا تقوم على منهج ألحد العارفين بالمجاهدة والجهاد والتزكية والتربية والتعليم واألذكار واألوراد والعلم واالرتكاز
على التقوى ،وممارسة الشعائر االسالمية وفق أركان الدين الثالثة االسالم وااليمان واالحسان. فالطريقة الصوفية في زوايا الصحراء تقوم على عبادة واعتقاد وعمل في طاعة هللا وإيواء وإطعام الغريب وتلقين العلوم وإنشاد الشعر وروايته. وتقوم الطرق الصوفية في الزوايا على خلفية معرفية واجتماعية تتمثل في: * تقييد المحبة بالخوف من هللا والرجاء فيه وطاعته من أجل التواب إليه والسفر إلى طريق هللا في رحلة روحية ذوقية يتالزم فيها الظاهر والباطن حيث يقول شيخ ماء العينين في هذا المضمار: ال تجعل الرحيل من كون لكون بل للمكون رحيلك يكون وانظر إلى قول النبي من كانت هجرته آلخر قد بان. ولتتأمل ذلك الكالما فهو يرشدك والسالما (.)7 * التنسيق بين التصوف والتفقه وبين المجاهدة والجهاد حيث عملت الطرق الصوفية بالزاوية في الصحراء على التنسيق في تفاعل وإدماج بين الممارسة الصوفية السلوكية والفقه في بنية منسجمة متكاملة ،وهذه البنية مرتبطة بالمجاهدة والجهاد القائمان على " استفراغ الوسع في مدفعة العدو ،والجهاد ثالثة أضرب :مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان ،ومجاهدة النفس ،وتدخل ثالثهما في قوله تعالى " :وجاهدوا في هللا حق جهاده"" ،وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل هللا" "إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل هللا" ( )8وهذا التالزم القائم بين التصوف والتفقه عبر المجاهدة. -4-
و يمكن تحديد مالمح التصوف الزواوي في الصحراء في المحاور التالية وذلك انطالقا من الكتابة الزووية: * اإللمام بعلوم الشريعة واالعتصام باهلل وحده بالعين وبالقلب. * معاشرة الناس بالحسنى * االعتزال االداري للطالبين * االلتزام بالكتاب والسنة * االتصاف بالصبر والحلم والعفاف * االرتكاز على األخوة وتوحيد فيما بين الطرق الصوفية ألنها" تعددت وفي الظاهر ربما اختلفت ،شيء واحد واخوة في الدين ،ولبعضهم على بعض حرمة االخوة ال بغض األباعد ذوي الجفوة" وأكد ذلك الشيخ ماء العينين في قصيدته المشهورة أني مخاوي التي يقول فيها: * االرتكاز على الوحدة واالبتعاد عن التفرقة السياسية إذ يهتم الشيخ" بوحدة الجماعة اإلسالمية وينادي بتحقيق أخوتها الدينية ،فإنه ال ينطق من نزعة إقليمية أو سياسية ضيقة ،وإنما يهدف إلى الرفع من مكانة األمة اإلسالمية ويسعى إلى إنقاذها من مما يهددها من أخطار استعمارية ،وهو يستقي هذه العناصر اإلصالحية من عالقته بالتصوف
اإلسالمي ومن خصوصية البيئة التي نشأ فيها وترعرع فيها ،فهو ليس حلقة مفقودة في التاريخ اإلسالمي أو شجرة منقطعة الصلة عن البيئة التي نشأ فيها ولكنه امتداد طبيعي للتجربة الصوفية اإلسالمية فيما تقوم عليه من دعوة إلى مجاهدة النفس وترويضها وتربية الفرد وتنشئته وينطلق من واقع المجتمع الصحراوي فيما ينبني عليه من دعوة إلى االتحاد واالئتالف" (.)9 * استدعاء الكرامة في ترسيخ العمل الصوفي بالزاوية في الصحراء واللجوء الشيخ إلى الكرامة " لم يكن عن رغبة ذاتية وال نزعة نفسية وإنما دعا إلى ذلك أمر توجيهي يتمثل في زرع الثقة التي ينبغي أن تسود بين المريد وشيخه وهي في األساس في سلوك طريق قوم ..ولقد استثمر صوفي المغرب هذا المبدأ حيث ادخلوا الكرمات في باب الرخص ،فال ينبغي إظهار منها إال حينما يضطر إلى ذلك حيث يقول االمام الشاطبي بعد ما ذكر مذهب القوم من عدم التفاهم إلى الكرامات بقوله" وهذا كله يدلك على ما تقدم من كونها في حكم الرخصة ال في حكم العزيمة" ( .)10فالشيخ ال يظهر الكرامات إال عند الضرورة من أجل إقناع المتشكك وتغيير أفق انتظار المريد وتشجيعه للسير قدما نحو االستقامة على الشريعة المستنبطة من القرآن الكريم والسنة الخماد حيرته. * االرتكاز على التعايش بين الملل والنحل والتسامح الديني واللوني والعرقي والجنسي حيث لم يقتصر على الذكور وإنما أيضا على النساء ،وعلى أساس ما سبق ذكره أن الزوايا بالمغرب بصفة عامة قامت بتوحيد جميع المغاربة وغير المغاربة في إطار روحي سني ،أخالقي ألن" الجانب السلوكي غطى حصة األسد من ذهنية متصوفة المغرب ،فالسالك طريق التصوف ال يبلغ الكمال إال باالستقامة والتخلي عن مرذول الصفات" ( )11وذلك عن طريق العلم. * الطرق الصوفية بالزوايا في الصحراء مقرونة بصوفية الجنيد المتصلة بالقرآن والسنة والتأسي بالرسول (ص) ومراعاة الذكر والتعامل مع الناس والتفكر والتأمل في مصنوعات هللا بالرغم من المكابدات وما أصابها من دمار وخراب على يد المستعمر وذاك ما أكده الشيخ ماء العينين في متنه -5-
ال يمكن للزوايا أن تلعب دورا استراتيجيا كجسر حضاري وإنساني إذا لم تكن هناك معرفة صوفية عرفانية ذوقية ،ومن هنا ينبع أهمية التصوف في الزوايا ،ألنه ال يمكنه أن يكون مغلقا داخل فئة معينة أو في خطاب فني عال بعيد عن التواصل ،فالتصوف الزووي جزء من حياة االنسان المتداول في الواقع الذي يمنح له داللة .فهو قابل للتنويع والتجديد والمثاقفة والمناقشة ،ومنها ينتج سلسلة من الطرق والممارسات حسب خريطة جغرافيته التي يرسمها القطب أو الشيخ والتي من خاللها يمكن إدراك تطوره وخصوصيته انطالقا من الفضاء والزمان وبالتغيرات الطارئة على المجتمع. فالتصوف مضمونه كائن مع االنسان ،غير أنه كمصطلح وخطاب أصبح سببا في خالف بين الدارسين فنتجت مقارات للتصوف وتعدد تلقياته التي تمحورت حول االستجابة واالقناع وتغيير وتخييب أفق انتظار المريد أو المتشكك فالتصوف " علم شريف لمن أكرمه هللا بمعرفته وحال منيف لمن تفضل هللا عليه بكمال أوصافه وحسن سيرته وليس هو كما يزعمون يلبس المرقعات والمشي حافيا في الطرقات ،وتعرية الرأس وانزعاج النفس ،وتقشف الثياب وتغير الحاالت والشطح والرقص والتصفيق والتغاسي في الطرقات بل التصوف كما قال ابو علي سيدي الحسن اليوسي :هو صفاء القلوب من األقدار" ( )12وهو أيضا" الوقوف مع آداب الشريعة ظاهرا وباطنا غير حكمة من الظاهر في الباطن ،ومن الباطن في الظاهر فيحصل من الحكمين كمال ثم يكن بعده كمال" ()13
فالبنية العرفانية في الزوايا بالصحراء المغربية تقوم على التصوف الذي اصطلحت عليه بالتصوف الزاووي العتباره ليس ملكا عينا وإنما مشاع بين مريدي الزوايا ،وحاضر وجودي في بنيات المجتمع هذه األخيرة تعكس الثقافة الصوفية لكونها رأسمال ال مادي تتكون من الطريقة والرؤيا والممارسات والتقنيات وسلوكات مكتسبة من الشيوخ عن طريق رموز وعالمات حركية وكتابية .حيث خلفوا كتابات إبداعية عرفانية متميزة ذات خصوصيات جمالية وفنية .فكيف تتمظهر في الكتابة الزاووية. -IVالمظاهر الجمالية للكتابة الزاووية بالصحراء المغربية: تعتبر الكتابة الزاووية صوفية في ماهيتها وكنهها فعال سلوكيا وقيميا لتوصيل العرفان عبر الفهم لتطهير القلب والترقي في مقامات الروح الممزوجة مع البنية االجتماعية وأن يكون المريد مبدعا يغير أفق انتظاره. فالكتابة الزاووية تتأسس على االستماع والتحدث والقراءة باعتبارها صناعة إنسانية ورسوم وأشكال حرفية على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس ،والمؤطرة بالمنظومة الفكرية الصوفية القائمة على التعامل مع النفس والغير ،ومحاربة النفس مع االقتداء بأخالق النبي (ص) وااللتزام بمقتضيات القرآن الكريم ،واستنباط الرؤيا الصوفية من مرجعية الشيخ المعتمدة على الطريقة. فالكتابة الزاووية هي تصوير اللفظ بالحروف الهجائية ،وتتكون من رؤيا والرمز للتعبير عن الطريقة والمذهب والشكل انطالقا من الخط ،ومن خالل هذا التشكيل يتضح ان الكتابة تتخذ مجموعة من الخصائص المتعددة والمتنوعة والناتجة في بلورتها من السياق والتي يمكن تحديدها في فن التواصل الفعال واإلبداع والمعرفة وفي فن التخطيط وهندسة الكتابة وترميز اللغة في شكل خطي عبر الحروف وتطويقها بقواعد تؤطرها اللغة اإلشارية وعلى ضوئها تشكلت أنواع من الكتابات الصوفية والتي يمكن تحديدها في: -6-
* الكتابة الصوفية السلوكية التي تحدد منظومة القيم التي يسلكها السالك في زهده عبر المذاقات ليكون السالك مع هللا بال عالقة والحد في السلوك إلى ملك الملوك وهو تيقظ فطري يوجه المجاهدات لتحقيق التطهير والنقاء. * الكتابة الصوفية البرزخية توافق بين الحدس والعقل وذات رؤيا دينية ترتكز على إصالح القلوب وافرادها باهلل وتفسير مقام اإلحسان الذي هو مقام الشهود والعيان ( .)14وتنشأ الكتابة الصوفية البرزخية من األصل (القرآن والسنة) والعلم (البحث والتحقيق) والوجدان المبنى على الحال ( التسليم والتصديق). * الكتابة الصوفية الحدسية اإللهامية أسست " منهجا في الكتابة وفق تصور ال يشبه قواعد التأليف المتداولة بين المؤلف فإذا كان األديب مصدرا إلبداعه .فالصوفي يعتبر نفسه مجرد ناقل للمعرفة المتنزلة عليه باإللهام وعبره ينتقل المقدس ليطهر المدنس ،فرسالة المتصوف هي إنقاذ العالم .ففي النسق الصوفي يصبح االلهام مصدرا للكتابة واالبتداع
الصوفيين ،وبدل أن يكتب الصوفي تجربته يحدث العكس ،فتصير الكتابة الصوفية هي من تكتب الصوفي وتنفخ فيه من إلهامها ،وكأن وجود الكتابة أسبق من الكاتب حيث خلود النص في األزل ونزوله في لحظات الفيض ليكون عالمة على الجمال االبدي لمبدع الكون " ()15 فالكتابة الصوفية ذات منحى متميزة في معجمها الخاص ،ألن اللغة عند الصوفي تكتسي أبعادا انطلوجية وجودية وهي ليست مجرد وسيلة للتبعية لفكر أو شعور ( )16وإنما هي رؤيا في ماهيتها تنطلق من ابستمية عرفانية تجسد في عالمة لغوية إشارية رمزية تجربته الكامنة غايتها في البحث عن المقدس ابتداءا من المجاهدة ليس بالنفس فقط بل أيضا المجاهدة في العلم والعرفان ،وتدرج فيهما عبر األحوال والمقامات ومدارك السلوك. فالكتابة الصوفية الزاووية يمكن فهمها حسب المقام والحال الكامن فيها ،ألن" الصوفية مصطلحات تعبر عنها ألفاظ وكلمات وتراكيب ،ولها معان خاصة ومطالب مخصوصة غير ما يدل عليه ظاهر األلفاظ والكلمات أو تتضمن هذه الكلمات واأللفاظ على مدلوالتها األصلية ولكن لها معان أعمق وأكثر من مفهومها ومدلولها الظاهر بداهة وألول وهلة فإنها لم توضع إال لنوع معين وقسم خاص من المفاهيم والمقاصد الغير المتبادر إليها الذهن، ولكل قوم ما اصطلحوا عليه فال يدرك أبعادها ،وال يفهم مطالبها إال من كان له معرفة وإلمام وعلم وإدراك بمصطلحات القوم وبما اختاروا لها من الكلمات واأللفاظ هي كاأللفاظ" ()17 *2خصائص الكتابة الزاووية: ومن هذا المنطلق ،فالكتابة الصوفية الزاووية تتمثل خصائصها في المعجمية واألسلوبية وحقول الداللية التي تتباين عن الكتابة اإلبداعية البيانية والبديعية الشعورية والتي تمث الكتابة الزاووية صلة برؤيا باطنية تقوم على اإلدراك الحدسي والمجاهدة والذوق والوجدان. -7-
إن الكتابة الزاووية ولغتها متداخلتين فتكوينهما يحدد طبيعة وماهية كل منهما وبشكل تفاعلي لكونهما تكونتا في رحم اإلشارة والعالمة مع االعتماد على اإلدراك الحدسي. وإن الكتابة الزاووية تمنح االنتقال بين األزمنة المختلفة لإلشارة الحدثية بعالمة لغوية لبست من الزمن نفسه كاإلشارة إلى فعل استشرافي بداللة ماضية لبعد اشاري ،ألنه اللغة العربية تقيم تقابال بين صورتين زمنيتين (فعل /يفعل) وأن هاتين الصورتين تندمجان في سياقات زمنية متعددة حيث ال تقابل صورة فعل بالضرورة زمن الماضي .وال يتوافق صورة يفعل " القيمة السلبية للماضي ،كالدعاء بقولنا ،بارك هللا فيك ،أو الحص بقولنا هال
منحته الجائزة ألنهما ال تعبران عن حدث متحقق وإنما عن حدث مرغوب في تحقيقه. معتبرا أن هذا ما يجعل هذه الحاالت تجليا واضحا لالتوافق الصرف /زمني والتأويل الزمني في اللغة" (.)18 فالبعد الزمني ال يكون إال على سبيل اإلشارة االحتمالية بذلك يمكن استخالص أن الزمن في الكتابة الزاووية ال زماني ألن الخيال يكون برزخي بين العقل والقلب. وعلى هذا األساس ،انبثقت أنماط الكتابة الصوفية والمتمثلة في : كتابة شعرية الصوفية الزاووية كتابة الكرمات الصوفية الزاووية كتابة الرحالت واألسفار الصوفية الزاووية كتابة الرسائل الصوفية الزاووية كتابة األوراد واألذكار واألحزاب الصوفية الزاووية كتابة الخطب الصوفية الزاووية كتابة التأويل الصوفي الزاوويوبالرغم من تعدد وتنوع هذه األنماط فإنها تحتوي على عناصر مشتركة في الجمالية والفنية ،ألن الكتابة الصوفية الزاووية ذات بعد وجودي كينوني باطني تبحث في النفس االنسانية بعمق تأويلي ،وتنصهر وتتفاعل في الكتابة بالسلوك وبالقيم لتطهير النفس والروح من حب شهوات الدنيا. فالكتابة الصوفية الزاووية بكل أنماطها وفي الصحراء خصوصا تتمظهر فيها جمالية وفنية لكون أن التصوف اعتنى بالجمال الذي يعلو وبسمو على النظم التمثلية المستوحاة من الحواس ،ومستوحى من عالم إلهي نوراني ،ألن" كل جمال محبوب عند مدرك ذلك الجمال ،وهللا تعالى جميل يحب الجمال ،ولكن الجمال إن كان يتناسب الخلقة وصفاء اللون أدرك بحاسة البصر ،وإن كان الجمال والحالل والعظمة وعلو الرتبة وحسن الصفات واألخالق وإرادة الخيرات لكافة الخلق وإفاضتها عليهم على الدوام إلى غير ذلك من الصفات الباطنة ادرك بحاسة القلب" ()18 فالجمال في الكتابة الصوفية الزاووية حاضر باعتباره مستهلم من الجمال االلهي المستوحى من القرآن والسنة ،فهو نوعان في الكتابة الصوفية ،فاألول يتم إدراكه بالنظم التمثيلية وتتحدد خصائصه في األشكال والصور واألشياء المرئية في المتن والثاني يتم إدراكه من خالل الحدس والذوق ،ألنه باطني ومرتبط بالسلوك والقيم ال ينكشف إال عبر التأويل. وغالبا ما تكون الكتابة الصوفية صادرة من مبدعها الشيخ ،النها متفاعلة معه العتباره " شيخ ناصح مرشد عالم بعيوب النفس وأغراضه ودواعيها وأدوية أمراضها فارغ من تهذيب نفسه ،وأغراضها يبصره بعيوب نفسه ويخرجه من دائرة حسه ألن من لم يكن له شيخ يقوده إلى طريق الهى قاده الشيطان إلى طريق الردى")20(. -8-
ومن هذا المنطلق يتبين أن جمالية الكتابة الصوفية الزاووية مرتبطة بالكينونة المتمثلة في حب القطبية التي يقول فيها الشاعر: أنا قطب من قلبي وهو من بعدي ومن هو في دهري وذي الهزل والجد ولست أحاشي في األنام لفردهم وال لغوث واألقطاب والعد والحد وأجلسني ربي بمجمع طرقهم ألصدر ذا صدر واورد ذا ورد وشاهدت عرش هللا من فوق سبعنا وشاهدت والكرسي والعرش بالمجد وفطيت باألقالم من بعد أخذها ومن بعد ما سمعي الصرير بال جحد ومن كان ذا كشف يصدق قوليا ومن كان في األعمى يضل عن القصد وياناشدا قولي فإياك االله بال ضد نظرت بعين الحق عين عناية تراقب باألعيان بالواحد الفرد عليك من الرضوان أحسن خلعة تنال بها عزا ونصرا بال ند والخوف تطويل من القول زدتكم ولكنه ما ضر ذو الحق بالعد وإن قلت إن الغير قال هو القطب أقول فسبحان العليم بنا جهدي وإن قلت أنت القطب فاهلل أعلم ويعلم ما يخفي وعلم ما نبدي فصدق وال تخش الورى ان ثغل لها أنا قطب من قبلي ومن هو من بعدي ()21
فالقطبية في الحقل الداللي في الكتابة الصوفية الزاووية ،يقصد بها االنسان الكامل او الحقيقة المحمدية نوعان وهما القطب الحسي و القطب المعنوي فهو " مركز الدائرة ومحيطها ومرآة الحق ،عليه مدار العالم رقائق ممتدة إلى جميع القلوب الخالئق بالخير والشر على حد واحد ال يترجح واحد على صاحبه وهو عنده ال خير و ال شر ولكن وجود ويظهر كونها خيرا وشرا في المحل القابل بحكم الوضع عن أهل السنة وبالعرض والعقل عند بعض العقالء" (.)22 وللقطب عالمات ومن ضمنها الكشف الذي يعني " كشف حجاب حقائق الموجودات ذلك أن الصوفي ال يفتأ يندرج على سلم القوم إلى أن ينقدح لديه المصباح الذي ينير له عالم حقائق الموجودات ،فيطلع على سائر الخفايا ،ويدرك حقيقة كل موجود موجود ويصبح متملكا لناصية الحقيقة" ( ) 23وذلك ما وقع لشيخ الطريقة الفاضلية الكنتية الذي مدحه أحد مريديه بقوله: منيب إلى المولى الجليل وشأوه إلى العرف والفعل الجميل بعيد له المجد عرش والسماحة والتقى -9-
جليساه صفيح إن حفاه بليد أبا السيد المختار جزت المدى فهل بمثلك أيام الزمان تجود وهل لي حظ يغلب الدهر فيك ام لنا جيتي نحو الوصول رقيد قصدتك يا قطب الوجود فليس لي مدى الدهر إال من حجاك حتود فصيتك حيث شاع في كل بلدة ومجدة مجد خلفته جدود ()24 الكتابة الصوفية الزاووية في المتن ليست محاكاتية ،وإنما ذوقية تنتج حقول داللية متغيرة باستمرار متفاعلة مع المقامات واألحوال ،ألن الذوق يؤسس على مرجعية إشارية باطنية تقوم على مطابقة الحروف والكلمات لغوية للمعاني الباطنية في خيال الشاعر، لتحقيق خرق التمثيل األدبي للواقع واالنزياح عن المؤلوف المتداول في النص التناظري وتشكيل االطار المعرفي يقوم على االنزياح والتكثيف والتأويل والتخييل الباطني. واتخذت الكتابة الصوفية في الزاووية منحا مخالفا لما كان سائدا وابتعدت عن الكتابة االبداعية المرتبطة بالمدارس واالتجاهات النطباعية والتكسبية والصنعة وانغمست في الزهد وتغني بمناقب الزهاد والصلحاء واألقطاب واألولياء والشيوخ ،ووصف سيرهم
في لوحاتهم اإلبداعية واعتبارهم أبطال روحانيون بغيتهم اداء رسالتهم التكليفية االستخالفية ،ووصف طرقهم الصوفية واالنتماء إليها وما لها من فضائل ،كقول الشاعر: قدوما مبارك وسهال ومرحبا بمن ليس ما سوى طريقه مذهبا طريقته هنا كحوض رسوله فمن ذاق ماء هاروي :تذهبا ()25 فمن خالل هذه األبيات ،نستخلص مدى العالقة القائمة بين الشيوخ والمريدين والمجتمع ،انطالقا من سياقها حيث تتجلى داللة الوالء واالنتماء للخط المنهجي للزاوية الذي هو وسيلة للقيام بشعائر الدينية للتطهير من الرذائل ،وتزكية النفس لتحقيق السعادة األبدية ،كما يعد اللجوء إلى طريقة الشيخ "بديال وخالصا فهي في نظر أصحابها – وبخاصة الشعراء منهم الملجأ الوحيد الذي تطمئن إليه النفس ،وتتطهر فيه الجوارح ،وبها يتم جمع شتات الناس من كل تفرقة" (.)76 وإن حب القطبية الواردة في الكتابة الزواوية في الصحراء المغربية ،نابعة من حقائق االيمان وانخراط في انوار رب العالمين مسافر إليه عبر الوجدان والقلب مقتديا بنهج النبي (ص) ومنغمسا في نسبة لتأكيد التشبت بالهوية االسالمية وبالثقافة العربية وحبه إليهما واالشارة واضحة إلى مشاعر الحب واالرتباط بالنسب وما ينبثق عنه من تفاعالت وجدانية ووالء له كقول الشاعر: حمدا لمن رفع صيت العرب وخصهم بين األنام بالنيي وعمهم إنعامه بنسبته ليدخلوا بيمنها في زمرته ()26
-10-
فأقطاب الزوايا يشيرون إلى االنتساب لكيان النبي (ص) العتبارهم متوحدون فيه ومندمجون فيه روحا وشكال انتماءا ووالءا وذلك من أجل توطيد الهوية لفسح المجال لسلوكيات األقطاب كعالمات للتعبير عن االنتماء ،وتأكيد على الميل نحو النزعة الطرقية القطبية والقبلية ،ويعبر عنها بتوحد مريدها مع المنظومة العرفانية للقطب والرغبة الوجدانية في المشاعر للتوحد وااللتزام بنظم المنظومة القطبية .كما كان هناك صراع بين األقطاب الطرقية في قبيلة واحدة ،وقد ظهرت مالمحه في الصراع الدائر بين شيوخ القبيلة الذين انتسبوا إلى عدة أقطاب مثل قبيلة بنوسباع الذين تجاذبهم الطريقة الدرقاوية والطريقة
التيجانية مثل الشيخ الجياللي بن أحمد والشيخ ابراهيم بن سيدي محمد البكاري ومحمد بن ابراهيم السباعي تكرور والمامون األشقرالذي قال: رضيت رضيت بالتجاني وحزبه وأهل طريقه قبيال ومعشرا حرام على قلبي سواه تعلقا وميال سوى صحب الرسول إلى الورى " ()27 وفي ذات السياق ،تسعى بعض الطرق الصوفية إلى خلق جو من التواد ،وتكوين العالقات والروابط في أبعاد وجدانية والميل إلى التآخي والمحبة والعطاء وااليثار والتعاون كما قال الشاعر وحب القطبية ال يتأتى إال بحب االله الذي يجعل المريد يتحمل كل اآلالم والمصائب ،التي يبتلي هللا بها ليختبر حبه ويظهره ،بل ويجعله يتلذذ بها ،وذلك الحب يمكن قلب المحب من االتصال بالحضرة اإلالهية كالصقر يحمل صيده بعيدا ويجعله يغيب عن حاضره )28(".وإن الوصول إلى حب هللا يتأتى عبر مجموعة من اإلجراءات التي تتمثل في: * المجاهدة ،وهي ترتبط بالطرق الصوفية المختلفة حيث ال بد" للمريد في أول دخوله إلى الطريق من مجاهدة ومكابدة وصدق وتصديق وهي مظهر ومجالء للنهايات، فمن أشرقت بدايته أشرقت نهايته ،فمن رأيناه جادا في طلب الحق باذال نفسه ،وفلسه وروحه وعزه وجاهه ابتغاء الوصول إلى التحقق بالعبودية ،والقيام بوظائف الربوبية علمنا اشراق نهايته بالوصول إلى المحبوب .وإذا رأينا مقصرا علمنا قصوره عما هنالك" (.)29 وإن هذه المجاهدة تعتبر وسيلة وغاية في ذات الوقت لتربية النفس وتنقيتها بنوع من اآلالم. وفي الكتابة الصوفية الزاووية الصحراوية أنواع من المجاهدات ونذكر منها المهيمن والمتداول في الطرق الصوفية وهي: مجاهدة التقوى :معرفة هللا جل جالله والتخلق والتأدب مع هللا في الظاهروالباطن واالستسالم إلى القضاء والقدر كقول الشاعر: هلل في الخلق ما اختارت مشيئته ما الخير إال الذي يختاره هللا إذا اقتضى هللا فاستسلم لقدرته ما المرىء حيلة فيما قضى هللا -11-
تجري األمور ألسباب لها علل تجري األمور على قدره هللا ()30
وإلى جانب هذه المجاهدة هناك صنف آخر وهو المهيمن في الكتابة الصوفية الصحراوية يصطلح عليه مجاهدة االستقامة التي تقوم على تنقية النفس وتطهيرها باتباع مجموعة من التعاليم التربوية الواردة في المنظومة العرفانية نستخلص ذلك من قول الشاعر: وقم ترى الصبح قد بدت عساكره يجره كوكب بالنور يشتعل كواكب الليل قد بدت لمغربها كأنها طعن جادت به االبل وال تضيع صالة الصبح ويحك ال ألن أهل التقى بالصبح قد شغلوا والظهر والعصر ال تتركها أبدا مع الغتاءين ال يلفى بك الكسل تم الصالة على المختار دائمة دامت الشمس في البروج تنتقل ()31 وكما تطرقت بعض الكتابات الصوفية إلى مجاهدة الجهاد لحماية الثغور االسالمية والوطنية من االستعمار ويتضح ذلك في قول الشاعر: تظنون سورا من حديد أمامكم وما هو إال من ركام الدواخن فا انتم راجعتم نهج دينكم وقمتم على ساق اإلخا والتعاون أثر تم دفين العز من كل كامن وحركتم من مجدكم كل ساكن واحرزتم من ارتكم كل غابر على رغم خيشوم العدو المشاخن فإن انتم استحليتم الذل مرتعا والفتم شرب المياه األواجن والقيتم للمعتدين زمامكم -12-
يقودونكم من كل عات وخائن وقلتم مقال العجز في اليأس راحة
فتصليهم آذان وجذع موازن ()32 النص يبين التعلق بالوطن وشحد روح الجهاد أما المستعمر الذي هو بمثابة ركام الدواجن ويؤكد على ضرورة التعاون واالخاء وربط جسور الجهاد ضد العدو والخونة ان النص يلح على الرغبة في توحيد كل مكونات المجتمع لزعزة كيان المستعمر. فالكتابة الزاووية كيفية مرتبطة باألحوال والمقامات أي طريقة التعامل مع الذات والوجود فهي صورة ذهنية برزخية بين الواقع والتجريد ،وهي خاضعة للتنوع والتطور في تكويناتها ،بذلك فالقيمة الجمالية متفاوتة في الكتابة الزاووية ،ألن االحساس بالجمال ال يكمن في المحسوس ،وإنما في الخيال والذوق عبر التأمل وذاك ما أشار إليه هذا النص الذي يقول :هوى يفوق الذي من قبله ذكرا ليس الهوى كالهوى لمن هو قمرا هاج الهوي فاهيج بالذي ذكرا قالوا لنا قمر من شمسنا ظهرا ()33 فالنص استعمل لغة اشارية للتعبير عن تجربة صوفية كامنة في الطريقة التي سلكتها ألنها ليست أداة للتشخيص وإنما هي سلوك جمالي يكشف الباطن لمعانقة الوجود واالنفالت من قيود البرهان والبيان وإعادة ترتيب العالقة بين الذات وهللا ..فالمعجم المستعمل في المتن الشعري ذاتي وذوقي يقوم على القلب. فاللغة في الكتابة الزاووية تقوم على استلهام من األطالل والغزل القديم للداللة على الحب االلهي كقول الشاعر. أوهاجه دارسن االطالل والدمن البذع إن حن ذولب إلى وطن هوج الرياح وسح الصيب الهين عوجا على طلل محت معالمه لوال ارتسام الهوى بالقلب لم يبن وقفت بالرسم أياما أبينه ورقا ترجع ألحانا على فنن ماذا أثارت من أفنان الغرام به أو تشتكي مثلما أشكو من الشجن ّكأنما أصفحت عما أجمجمه ال نهد شم الدار من جانبي حضن تحمل القلب وجدا لو تحمله (.)34 -13-
وتكمن جمالية الكتابة الصوفية الزاووية في تطرقها إلى السفر والرحلة بطريقة خاصة ،تقوم على التعبير االشاري المسترفد من األحوال الروحية واالنسانية وهذا ما جعل
بعض مبدعي الكتابة الزاووية طريقة جديدة ،ألن لكل سفر مقصد ،فمقصده عند الشيخ ماء العينين يكمن في البحث عن الحقيقة القائمة على البدن والقلب ألن " سفر بالبدن وهو االنتقال من بقعة إلى بقعة وسفر بالقلب وهو االرتقاء من صفة إلى صفة ،فترى الكثيرين سافرون بأجسامهم والقالئل يسافرون بقلوبهم" (.)35 لقد نزعت الكتابة الزاووية في التطرق إلى سفر نزعتين :فالنزعة األولى ذاتية عميقة تعتمد على طريق الذوق والكشف الباطني انطالقا من الشريعة وفي هذا المضمار يقور الشاعر: ال تجعل الرحيل من كون لكون بل للمكون رحيلك يكون وانظر إلى قول النبي من كانت هجرته آلخر قد بانت ولتتأمل ذلك الكالما فهو يرشدك والسالما ()36 وأما النزعة الثانية إنسانية ذات بعد معاناتي وماعانه االنسان والمدينة من دمار وخراب في عهد االستعمار فالشاعر يرثي مدينة السمارة التي كانت عامرة وعالمة أصبحت خاوية خالية فيقول في هذا المضمار: هذه السمارة في انبائها العبر منها تحيرت األلباب والفكر دار بصحراء من رأى عمارتها فيها مضى أورأها اليوم يعتبر ()37 وإن السفر بالبدن يكون إلى أماكن خلفت أثرا في شيوخ الزوايا لها أبعاد نفسية واجتماعية جعلتهم يعبرون حبهم إليها بقولهم. اذا ما رأى الرائي مباني شيدت باندلس لم يلق فيها مخبر يظل على فكر يكفكف حسرة به عبرة لم يدر كيف يعبر -14-
ويقتصر عن أوصافها غير أنه
يحوقل يجابابها ويكبر ()38 وعلى العموم فالكتابة الزاووية الصوفية عن السفر برزخية تحاول التوفيق بين الذوق والمعيش االنساني من أجل كشف أسرار الوجود وكينونة االنسان. فالكتابة الزاووية في األقاليم الجنوبية تتأسس على بعدين استراتيجيين :فالبعد األول يقوم على المنظومة العرفانية التي تتشكل من: * معرفة هللا جل جالله. * مؤاخاة بين الطرق الصوفية وتوحيدها. * ترسيخ وحدة المجتمع في التشريع والسلوك. * بيان الصلة بين الشريعة واالحسان. * تصفية الروح وإعادتها إلى أصلها. االحسان.
* التخلق باألخالق الحميدة وتطهير النفس من الدرن والرذائل لتحقيق مقام
* المصادر الصوفية المهيمنة على الزوايا في الصحراء مستمدة من الطرق الصوفية المغربية التي مغربت التصوف منذ عهد عبد السالم بن مشيش وألفت كتب أسست على خلفية الطرق الصوفية وفي هذا المضمار" ،شملت الظاهرة الصوفية من جميع جوانبها مثل المذهب الصوفي في التوحيد الذي ال يعتمد على العقل والبرهان واالستدالل مثلما تفعل الفرقة كالمعتزلة مثال ،والطرق الصوفية وآدابهم ،وعبادتهم واذكارهم واأللفاظ الخاصة بهم ومناقبهم .ثم أن هؤالء المؤلفين كان أغلبهم من شيوخ الطوائف الصوفية وبخاصة من األندلس أو من المتصوفة أو من الذين لهم ميل إليه ،ومهما يكن فكلهم كان يشبع حاجات فئة معينة ومعنية بهذا الخطاب .إن الفهارس لم ترو مؤلفات المرفوضين مثل ابن عربي وابن سبعين والشتري وغيرهم مما يدل على أن تلك المؤلفات أقصيت تماما من مادة التصوف وحتى المتأخرين ،وبخاصة ما قرب من أجيالهم من الرواة الذين كانوا يستكثرون من مروياتهم ليعظموا في أعين الناس لم يذكروها" (.)39 ومن هذا المنطلق اتخذت العرفانية الزاووية أبعادا تكمن في نهجها نهج التصوف السني الذي هو " سيد العلوم ورئيسها ،ولباب الشريعة وأساسها ،وكيف ال ،وهو تفسير لمقام االحسان الذي هو مقام الشهود والعيان ،كما أن علم الكالم تفسير لمقام االيمان ،وعلم الفقه تفسير لمقام االسالم ،وقد اشتمل حديث جبريل عليه السالم على تفسير الجميع فإذا تقرر أنه أفضل العلوم تبين أن االشتغال به أفضل ما يتقرب به إلى هللا تعالى ،لكونه سببا للمعرفة الخاصة التي هي معرفة العيان" القائمة على العناصر التي يمكن تشكيلها في الجدول التالي: -15-
التسليم
المنظومة العرفانية
التصديق الحال الذوق
الكشف
كشف حجاب حقائق الموجودات
الوجدان
االختراق
اختراق حاجز الزمن تجاوز حدودها وتخطيطها إلى المستقبل
الحدس
الطي
طي المكان أي السفر من مكان إلى آخر دور حاجة إلى وسائل النقل
المجاهدة
التعددية
تعدد صور الوالي
الديمومة
ديمومة الحياة الروحية
االتصال
االتصال بارسول (ص) وبالمخلوقات أمواتا وأحياء
التلقي
تلقي العلم على أيدي السابقين الظاهر والباطن
الشهود
شهود الحق الباري
التصرف
التصرف في الموجودات
القيام بجميع حقوق هللا تعالى سرا وعلنا إقامة الشريعة االسالمية على أحسن التقويم االعراض عن عالم الحسن الخضوع بحفظ األدب في الزوايا هللا حاضر مع شيوخ الزوايا ومريدهم المراقبة الحياء من الحق بالحق هيبة المشاهدة
حفظ الشريعة واألحكام الدينية عبادة هللا كأنك تراه
المعرفة
القرب الدائم إقامة الوظائف الدينية مخلقا بأخالق الحق اعطاء الحكمة ألهلها ومالزمة الهيبة وحفظ أسرار الحق -16-
وإن هذه المنظومة العرفانية اعتمدت على البعد الثاني الذي يكمن في الجمالي في الكتابة ،والذي يكمن في الخط وانتظام األصوات في الكلمة ،والكلمة في الجملة والجملة تشكل خصوصية النص الذي هو نسق من العالمات يقوم على نظام تركيبي ،الذي هتك وتجاوز البنية المؤطرة والمرجعية المتداولة ،وإخراج " المعاجم الطبيعية والغزالية والخمرية من السياق الدنيوي والفضاء الحسي والبعد الظاهري والالهي إلى السياق الديني والفضاء المعنوي والبعد الباطني الروحاني االلهي ،هذا الخرق كان مصدر تفجير وخلق( )...فيتلون النص بوقت صوفي واألحوال التي تتلبسه ،مثلما يتبلل لمعالم المقامات التي يقيم فيها ،وهو ما يظهر ويتجسد ويتشخص في أخالق اللغة الصوفية ،أعني أخالقها الجمالية وتقاسيمها وكتماتها ومالمحها المعجمية والتركيبية والداللية وااليقاعية وهنا تستبين أول خاصية للغة صوفية أعني مصدرها الروحاني الجوانب ،مما يجعلنا ننعتها بكونها لغة باطنية" ( .)40ورؤيوية وبرزخية وإشارية و ال محدودية وكثافة التخييل واالبتعاد عن البيان والبديع والنظم الذي يقوم على العقل والمحاكاة واالنغماس في الخيال للتحليق في عالم التداللية واالحتمالية وتجريد المحسوس عبر العبارة العرفانية. ويتضح من خالل الكتابة الصوفية الزاووية أن جماليتها تكمن في االبتعاد عن التجلي حيث تتساند فيما بينها لتشكل انسجاما النص ،وتالحم عناصره التعبيرية والتصويرية .وتساهم هذه السمة التصويرية الهامة في تشكيل وحدة النص الصوفي ،الذي يجمع بين ثناياه عددا ال متناهيا من صيغ التعبير وأساليب التصوير .وعبر هذا التساند يصبح التصوير الصوفي ،وتعني المتلقي في لغة تصويرية بالغية مخصوصة تجمع المتنافرات والمتنافقات في بؤرة متراكبة على قدر عال من الفنية .وفي هذا البعد تكمن أهمية التصوير األدبي الصوفي وقدرته على التمييز" (.)41
الخاتمـــــة وعلى هذا األساس ،نستخلص مما سبق ذكره ،أن الكتابة الصوفية الزاووية، ليست محاكاتية وإنما ذوقية تنتج حقوال داللية متغيرة باستمرار متفاعلة مع المقامات واألحوال ،ألن الذوق يؤسس على مرجعية إشارية تداللية باطنية ،تقوم على مطابقة الحروف والكلمات اللغوية للمعاني الباطنبة في خيال العارف الزاووي لتحقيق خرق التمثيل األدبي للواقع واالنزياح عنه ،وتشكيل اإلطار العرفاني يقوم على االنزياح والتكثيف والتأويل والتخييل والذوق المتشكلة من االدراك الحدسي عبر المقامات واألحوال ،لتشكيل ال محدودية الوحدة الداللية للكتابة الصوفية الزاووية ،ألن الشفرة والترميزية المستعلمة ليست استعارة ،لكونها تشير إلى معنى خفي ال يمكن استنباطه إال عن طريق التأويل .ألن الكتابة الصوفية الزاووية ترتبط بالكيفية التي يتم فيها تشفيرها وترميزها دون تضمين الوظيفة والمحاكاة والمرجعية لتحقيق قرينة الجمال وإعجاب القارىء. والســالم.
-17-