Phoenician Bird Spring/Summer 2019

Page 1

‫طائر الفينيق‬ ‫‪Spring / Summer 2019‬‬

‫قدمي أُ ِّم إبراهيم‬ ‫الجنة وأنا تحت‬ ‫ْ‬ ‫د‪.‬حسن فرحات‬

‫ها ْي ِب ْيشيا‬ ‫دريد عوده‬

‫البن ّية الرسدية يف رواية ح ّنا مينا‬ ‫د‪.‬هويدا رشيف‬

‫املعرفة وقواعد التطور‬ ‫االجتامعي‬ ‫د‪.‬غيثاء عيل قادر‬

‫ما هو الشعر؟‬ ‫عمر شبيل‬

‫إدارة األزمات عىل مفهوم العلوم مدينة بلغراد الرصبية تحتفي‬ ‫مبهرجان الشعر العاملي ( املرأة‬ ‫اإلنسان َّية‬ ‫اإلله َّية)‬ ‫د‪.‬ماغي عبيد‬ ‫سليمة مليزي‬



‫املحتويات‬ ‫افتتاحية‬

‫قدمي أُ ِّم إبراهيم‬ ‫الجنة وأنا تحت‬ ‫ْ‬ ‫حسن فرحات‬

‫أدب‬

‫دنيا الربم‬ ‫د‪.‬هويدا رشيف‬ ‫ما هو الشعر ؟‬ ‫عمر شبيل‬ ‫البن ّية الرسدية يف رواية ح ّنا مينا‬ ‫د‪.‬هويدا رشيف‬ ‫مرايا األنا والهو ‪ /‬األنوثة والذكورة‬ ‫يف رواية مرايا الرحيل‬ ‫د‪.‬دريَّة فرحات‬


‫شعر‬

‫موعظة‬ ‫حامد معيوف‬ ‫من مزامري القرية‬ ‫عال بدر الدين‬ ‫هايْ ِب ْيشيا‬ ‫دريد عوده‬ ‫تيه‬ ‫سناء الحاموش‬ ‫الحرير املنيس ‪ /‬الحاملون ب ّحارة نعاس ‪ /‬عويل الريح‬ ‫مهى املوسوي‬

‫فلسفة‬ ‫استطيقا االمتصاص والتحويل يف الرواية العربية‬ ‫" القاتل األشقر " لطارق بكاري منوذجا‬ ‫الساهل‬ ‫محمد َّ‬ ‫إدارة األزمات عىل مفهوم العلوم اإلنسانية‬ ‫د‪.‬ماغي عبيد‬


‫إشكالية الداللة وتحوالت املعنى‪ ،‬من البنيوية إىل ما بعد البنيوية‬ ‫د‪.‬عبده شحيتيل‬ ‫املعرفة وقواعد التطور االجتامعي‬ ‫د‪.‬غيثاء عيل قادر‬

‫ات‬ ‫ر‬ ‫حوا‬ ‫حوار مع األديب رياض الدليمي‬ ‫بقلم بسام الطعان‬

‫متنوعات‬ ‫وفاء املرأة لزوجها بعد وفاته‬ ‫أيب الفرج األصفهاين‬

‫من يوميات ابن الحقل والحكايا‬ ‫عمر شبيل‬

‫خاص‬ ‫رثاء أمي‬

‫ِّ‬ ‫د‪.‬حسن فرحات‬ ‫مدينة بلغراد تحتفي مبهرجان الشعر العاملي ( املرأة اإللهية)‬ ‫سليمة مليزي‬


‫الذكرى ‪ ٢١‬عىل رحيل الشاعر نزار قباين‬ ‫خلود منذر‬

‫أقالم واعدة‬ ‫يف تلك اللحظة‬ ‫عباس مهدي‬ ‫الخط العريب‬ ‫اميانويل غانم‬ ‫اقرتح عالجا لطفل يتلعثم يف الكالم نتيجة ضغوطات أرسية صعبة‬ ‫جنى السبالين ‪ /‬ريم املوسوي ‪ /‬اليسا السيد ‪ /‬كارين بدره‬

‫كُتاب القسم األجنبي‬

‫من ساحل آخر‬ ‫أنكا ستوبارو ‪ /‬املرتجم حامد خضري الشمري‬ ‫مدى الذاكرة‬ ‫أدريان سانجورزان‪ /‬املرتجم حامد خضري الشمري‬


All rights reserved. Copyright held by HSF Media Inc. 2019. No reproduction, copying or pasting without expressed consent from HSF Media Inc. For permission or writing oppurtunities please contact: submissions@ya7elweenmagazine.com Magazine Founder: Dr. Hassan A Farhat MD Co-Founder: April Khan Chief Content Manager: Dinah Rashid Senior Arts Director: Saood Mukhtar

‫ الدكتور حسن فرحات‬: ‫رئيس التحرير‬


‫الجنة وأنا تحت ق َد َم ْي أ ِ ّم إبراهيم‬ ‫د‪.‬حسن فرحات‬

‫رئيس التحرير‬ ‫رغم الموتِ‪ ،‬رغم فراقِنا‬ ‫تبقين‬ ‫َ‬ ‫ع ْم ُرنا‬ ‫تبقين حاضرةً‪ ،‬ألنّ ِك ُ‬

‫إبراهيم‬ ‫بقلو ِبنـــــــــا يا أ َّم‬ ‫ِ‬ ‫يمت َ ُّد من ث َ ْدي ٍ لكـــــ ِّل‬ ‫فطيم‬ ‫ِ‬

‫وأنا الفطي ُم ألنني ما زلتُ في حض ٍْن يعي ُد طفولةً‬ ‫لحكيــــم‬ ‫ِ‬ ‫بجحيم‬ ‫وأخاف بع َد ِك أن أُرى‬ ‫إبراهيم حضنُ ِك جنتي‬ ‫يا أ َّم‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫قد كنتُ شيطانا ً‬ ‫برجيم‬ ‫أمامك عابثا ً وتُه ّدِدين طفولتي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫شيْطنتي أرى نفسي َمالكا ً حا ِلما ً‬ ‫بنجوم‬ ‫ت لفرط َ‬ ‫وإذا ابتسم ِ‬ ‫ِ‬

‫إبراهيم يدنو الموتُ في‬ ‫يا أ ّم‬ ‫َ‬ ‫َربَّ ْيتِنا وبفض ِل تربي ِة التقى‬ ‫الغفور وعف ِو ِه‬ ‫في ذمة هللا‬ ‫ِ‬

‫محتوم‬ ‫ق َد ٍر على ك ّل الورى‬ ‫ِ‬ ‫ونعيــــــــــم‬ ‫ستُكافئين بجنّ ٍة‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫رحيم‬ ‫تبقيْنَ راجيةً عطا َء‬ ‫ِ‬

‫تبقين في قلبي وروحي دائما ً‬

‫نسيم‬ ‫همس‬ ‫مر في يارونَ‬ ‫ما َّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬

‫وأعرف أنني‬ ‫أبكيك يا أمي‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬

‫أبكي على َج َد ٍ‬ ‫حميم‬ ‫أبر‬ ‫ث َّ‬ ‫ِ‬

‫ا‬


‫افتتاحية‬


‫نظرة الشيم‬ ‫ففي طيه أسف‬ ‫ويف طيه نِ َعم‬ ‫ويف أعامقه جرح‬ ‫فام لجرح إذا‬ ‫أرضاكم أمل‬ ‫أمتنى أن ينبت‬ ‫شوقي نصيباً‬ ‫وما أبعده من حلم‬ ‫خذ املايض‬ ‫إذا شئت‬ ‫إىل سوق التحف‬ ‫ولكن ال تعبث‬ ‫مبشاعر فاضت‬ ‫تضحية أمام األمم‬ ‫فهي من أفاحت عليك‬ ‫من عطرها النسم‬ ‫وتقاسمت وإياك‬ ‫وعدها املربم امللتزم‬ ‫فال وعد بقي‬ ‫وال وهم عاد‬ ‫وال رؤيا‬ ‫أبعدت الحرية‬ ‫عن فؤادي الوجم‬

‫املصاب بشيزوفرينيا الحروف‬


‫أدب‬

‫دنيا الربم‬ ‫د‪.‬هويدا رشيف‬

‫حائرة أنا‬ ‫يف دنيا الربم‬ ‫أموت ألحيا‬ ‫من قلب ممن‬ ‫قلبه شبم‬ ‫جسمي وحايل‬ ‫يعرتيهام السقم‬ ‫حب‬ ‫من ّ‬ ‫نظرت اليه‬



‫ما هو الشعر؟‬ ‫عمر شبلي‬

‫أي خلــق‬ ‫إذا كانــت اللغــة خلقـا ً جماليـا ً فــإن مهمــة الشــعر هــي العثــور علــى هــذا الجمــال‪ ،‬صياغـةً وتجربــة‪ْ ،‬‬ ‫ب الفكــرة فإنــي أقــول‪ :‬األفــكار والمشــاعر تكــون مخبــوءة ً فــي داخــل‬ ‫اللغــة خلقـا ً جديــداً‪ .‬وإذا أردتُ أن أقـ ِ ّ‬ ‫ـر َ‬ ‫ـعور أنّهــا موجــودة فيــه قبــل أن تنوج ـ َد فــي الكلمــات‪ ،‬إنــه يَ ِلدُهــا‪ ،‬وفــي هــذا التحــول‬ ‫الشــاعر‪ ،‬وينتابــه شـ ٌ‬ ‫تكــون عمليــة الخلــق الشــعري بكاملهــا‪ ،‬صحيــح أننــا كنّــا مــع هيراقليطــس فــي النهــر‪ ،‬ولكــن المرحلــة التــي‬ ‫تلــي نكــون فــي نهــر آخــر‪ ،‬وإن كان لــه نفــس المجــرى‪ ،‬ونفــس الضفــاف‪ ،‬ولكنــه نهــر آخــر فــي المــكان‬ ‫والزمــان‪.‬‬ ‫طبع ـا ً الكلمــات موجــودة‪ ،‬فكيــف نســمي العمليــة الشــعرية خلق ـا ً جديــداً؟‪ .‬إن الجــواب قدمتــه لنــا النمــاذج‬ ‫اإلبداعيــة التــي تجعــل القــارئ المتلقــي يــرى فــي النــص اإلبداعــي مــا قــد ال يــراه قــار ٌ‬ ‫ئ آخــر فــي النــص‬ ‫ولنقــرأْ‬ ‫نفســه‪ ،‬ولعــل محــاوالت الفهــم المتعــدد للكتــاب المقــدس هــي األدلــة القويــة علــى مــا نذهــب إليــه‪ْ ،‬‬ ‫معـا ً مــا يقــول األديــب األرجنتينــي الكبيــر «بورخــس» فــي كتابــه «ســب ُع ليــا ٍل» ص ‪ ، 103‬يقــول بورخس‬ ‫ي قابلــي مــن إســبانيا‪ّ « :‬‬ ‫ـب‬ ‫إن هللا كتــب األناجيـ َل لــك ِ ّل واحــد مــن النــاس‪ ،‬وإنــه يوجــد كتـ ٌ‬ ‫نقـاً عــن غنوصـ ّ‬ ‫مقدســة بعــدد مــا يوجــد هنــاك مــن قــراء للكتــاب المقــدس”‪ ،‬ومعـ نـى هــذا ا ًلــكالم أن الكتــاب الواحــد يصبــح‬ ‫كتبـ ًـا ف ي� وجــدان االخريــن وقلوب ـهــم وعقولهــم‪ .‬هــذا إذا كان هــذا الكتــاب جديـرا بالقـراءة‪ .‬وظاهــرة التأويــل الـ ت يـى‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫ه دليــل واضــح عــى مــا نقــول‪ .‬طبعــا بـ شـرط أن تكــون‬ ‫الم‬ ‫آن‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ال‬ ‫�‬ ‫ســلم مــع تطــور وعيــه ي‬ ‫ي‬ ‫ســت الوجــدان الم ً‬ ‫ن‬ ‫آ�‪ .‬وعلينــا أن نــدرك‬ ‫ـياس الــذي ال َيال ًمــس روح النــص القــر ي‬ ‫الق ـراءة المتعــددة دائمــا بمنــأى عــن التأويــل السـ ي‬ ‫ن‬ ‫أن القــارئ نفســه يتعــدد‪ ،‬وال يثبــت عــى ًقـراءة واحــدة‪ ،‬وليــس ملزمــا بالثبــات‪ ،‬وهــذا دليــل غــى النــص‪ ،‬ودليــل‬ ‫عــى تطــور القــارئ المتل ـق ‪ .‬فـ يـرى حـ ض‬ ‫ـا�ا ف ي� النــص الــذي كان ال ي ـراه مــن قبــل‪ .‬إذن النــص بالكلمــات نفســها‬ ‫يتطــور بتطــور قارئــه‪ ،‬وهـ يـذا يلـغ ســكونية الجمــال‪ ،‬وب ـهــذا المعـ نـى يغــدو النـ ُ‬ ‫ه�اقليطــس‪ ،‬إنــه يتجــدد‪،‬‬ ‫ـص نهـ َـر ي‬ ‫ي‬ ‫ُ‬ ‫ـ� نــدرة ودهشــة للجمــال الجديــد الوافــد والمتولــد مــن الق ـراءات المتعــددة‪ ،‬ويصبــح القــارئ‬ ‫والتجــدد يعـ ي‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ن‬ ‫والنــص صديقـ يـ� ي� مسـ يـرٍة طويلــة‪ .‬إن الدهشــة ي� النــص ال تتولــد إال مــن جــدة إيحائــه‪ ،‬وهــذا يعـ يـى نــدرة‬ ‫النــص ألنــه ال يتكــرر‪ ،‬والنــدرة ه الـ تـى ُتكسـ ُ‬ ‫ه صانعــة الدهشــة‪ .‬وعلينــا‬ ‫ـدرة‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫وال‬ ‫‪،‬‬ ‫ـال‬ ‫ـ‬ ‫غ‬ ‫ال‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ثمن‬ ‫ـياء‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫األ‬ ‫ـب‬ ‫ي‬ ‫ي ي‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أن نــدرك أيضــا أن التأويــل أخــرج الكلمــة مــن داللتهــا المحــدودة‪ ،‬وأعطاهــا معـ نـى متطــورا بتطــور المتل ـق ي ‪،‬‬ ‫ف‬ ‫غ‬ ‫ن‬ ‫ن‬ ‫فـ ي المقــدس نفســه انتقلــت الكل تمــات نفســها مــن معــى إىل معــى أبعــد‪ ،‬ال ينفصــل عــن ســابقه‪ ،‬ولكنــه يلـ ي‬ ‫محدوديتــه‪ ،‬وي ـهــب لــه أضــواء اخ�اقيــة أبعــد مــن ماديــة المعـ نـى األول للكلمــة‪،‬ز فالجهــاد‪ ،‬وال ـزكاة والصــاة‬ ‫وغ�هــا تطــورت بتطــور النــص وبتطــور كاتبــه‪ .‬وإذا أخذنــا مثــاالً علــى ذلــك فإننــا ســنأخذ قــول‬ ‫والصيــام ي‬ ‫الشــاعر الجاهلــي النابغــة الذبيانــي‪ ،‬لنــرى كيــف اســتخدم كلمــة الصيــام‪ ،‬وكيــف تطــور معناهــا فــي النــص‬ ‫المقــدس‪ ،‬يقــول النابغــة الذبيانــي‪:‬‬ ‫غير صائم ٍة‬ ‫خي ٌل صيا ٌم وخي ٌل ُ‬

‫القتام وخي ٌل تعلكُ اللُ ُجما‬ ‫تحت‬ ‫ِ‬

‫هنــا «خيـ ٌل صائمــة» هنــا قصــد الشــاعر أنهــا‪« :‬خيـ ٌل واقفــة»‪ .‬وهــذا يعنــي أن اللغــة هــي اإلنســان عينُــه‪،‬‬ ‫إنهــا وعيــه ومشــاعره وأفــكاره‪ ،‬حتــى أنهــا هــي معتقــده فــي النهايــة‪ ،‬ألنهــا ال يســتطيع إالّ أن يكونَهــا‬ ‫وتكونَــه‪ .‬إذن هــي ليســت خالقــة‪ ،‬إنهــا مخلوقــة‪ ،‬وخالقهــا اإلنســان الــذي يمحــو منهــا مــا يشــاء ويثبــت منهــا‬


‫تسعدني أيها الليل لوال نجومك التي يتكلم ضياؤها لغة مفهومة»‪.‬‬ ‫العــرب أخــذوا شــعرهم غنــا ًء مــن حــداء اإلبــل‪ ،‬وقبــل الكتابــة‪ ،‬ولــذل ظـ ّل العــرب يســتعملون فــي كالمهــم‪:‬‬ ‫أنشـ َد فـ ٌ‬ ‫ـب فــان الشــعر‪ ،‬وقــال حســان بــن ثابــت األنصــاري‪:‬‬ ‫ـان الشــعر‪ ،‬ولــم يقولــوا كتـ َ‬ ‫َّ‬ ‫كنت قائلَهُ‬ ‫تغن‬ ‫بالشعر إ ّما َ‬ ‫ِ‬

‫ّ‬ ‫مضمار‬ ‫إن الغنا َء لهذا الشعر‬ ‫ُ‬

‫وظلّ ْ‬ ‫ت لفظة إنشاد الشعر متحكمة بالعقل العربي حتى في أزمنة كتاباته المتقدمة‪ ،‬يقول المتنبي‪:‬‬ ‫الدهر إالّ من ُروا ِة قصائدي‬ ‫وما‬ ‫ُ‬

‫الدهر ُمن ِشدا‬ ‫إذا قلتُ شعرا ً أصبح‬ ‫ُ‬

‫ـس العربيــة منــذ تكوينهــا‬ ‫ولــم يســتطع حتــى الديــن نفســه أن يلغــي غنائيــة الشــعر التــي فُ ِطــرت عليهــا النفـ ُ‬ ‫األول‪ ،‬ونحــن جميعـا ً مــا زلنــا نحفــظ‪ ،‬ونــردد الشــعر المغنّــى الــذي اســتقبل بــه األنصــار الرســول العربــي‬ ‫عندمــا هاجــر إليهــم‪ .‬لقــد اســتقبلوه‪ ،‬وهــم يغنــون‪:‬‬ ‫البدر علينــــا‬ ‫طلع‬ ‫ُ‬

‫من ثنيّـــات الودا ْع‬

‫الشكر علينا‬ ‫وجب‬ ‫َ‬ ‫ُ‬

‫ما دعــــا للـــ ِه داع‬

‫ُ‬ ‫المبعوث فينا‬ ‫أيها‬

‫جئتَ باألمر المطاع‬

‫بالغنــاء كانــوا يع ِبّــرون عــن إيمانهــم‪ ،.‬وظــل الشــعر يزاحــم التــراث اإلســامي فــي حضــوره‪ ،‬ومــن‬ ‫الــدالالت العاليــة فــي هــذا االتجــاه ّ‬ ‫أن شــمس تبريــزي أخــرج موالنــا جــال الديــن الرومــي مــن الفقيــه إلــى‬ ‫الشــاعر‪ .‬لقــد كان أنيــن النــاي يســرقه إلــى وجــوده األول فــي الغابــة التــي قُطــع منهــا‪ ،‬يقــول جــال الديــن‬ ‫الرومــي معبّــرا ً عــن حــزن النــاي المقتطــع مــن غابتــه‪ ،‬وحنينــه للعــودة إليهــا‪:‬‬ ‫بشنو أز نَ ْي جون حكايت ميكن ْد‬ ‫ستان تامرا ببريده اند‬ ‫كز نَ ِي ْ‬

‫وز جدائي ها شكايت ميكند‬ ‫أز نفيرم مرد وزن ناليده اند‬

‫ـتمع إلــى النــاي‪ ،‬وهــو يحكــي حكايتــه‪ ،‬ويشــكو مــن ألــم الفــراق‪ /‬ومــن يــوم أن قطعونــي مــن‬ ‫والمعنــى‪« :‬إسـ ْ‬ ‫غابتــي إلــى اآلن الرجــال والنســاء يئنّــون مــن صراخــي”‪.‬‬ ‫ـب الشــاعر علــى الفقيــه فــي وجــدان جــال الديــن الرومــي‪ .‬وكان فــي تحوالتــه هــذه شــاعرا ً إنســانيا ً‬ ‫لقــد تغلَّـ َ‬ ‫عالميـا ً يقــرؤه النــاس حيــث ُو ِجــدوا وبلغاتهــم األصليــة‪.« .‬‬ ‫وال بــد مــن اإلشــارة أخيــرا ً إلــى أن الحيــاة‪ ،‬بخصــب معطياتهــا المتطــورة باســتمرار‪ ،‬والتثاقــف مــع األمــم‬ ‫ق‬ ‫األخــرى‪ ،‬والتحــوالت االقتصاديــة والفكريــة التــي دخلــت علــى الواقــع العربــي‪ ،‬والعقــل العربــي‪ ،‬لــم تُبـ ِ‬ ‫موســيقى الشــعر فــي أطرهــا الخليليــة الموروثــة‪ ،‬لقــد حصــل تطــور عــال فــي كل شــيء‪ ،‬وهــذا التطــور‬ ‫وصــل إلــى الموســيقى والغنــاء والشــعر‪ .‬ولهــذا مجــال آخــر ربمــا نتناولــه الحق ـاً‪ ،‬دون أن ننســى التوحــد‬ ‫الدائــم والمشــترك بيــن الغنــاء والموســيقى والشــعر‪.‬‬


‫مايشــاء‪ .‬ولكــن المعــادن التــي يصنــع منهــا هــذا المخلــوق الجميــل‪ ،‬وأعنــي اللغــة‪ ،‬تُس ـتَخرج مــن وعــي‬ ‫اإلنســان كونَــه‪ ،‬وشــعوره المتحــول إلــى كلمــة‪.‬‬ ‫ـاب كتب ـا ً بقراءاتهــم المتعــددة‪،‬‬ ‫ـراء يجعلــون الكتـ ً‬ ‫ـراء‪ ،‬ولكــن القـ ّ‬ ‫إن الكتــاب يحــوي نفــس الكلمــات لــك ّل القُـ ّ‬ ‫وهــذا يوجــد فــي الشــعر أساسـاً‪ ،‬ولكــن مــا عالقــة المقــدس بالشــعر؟‪ ،‬هنــا نعــود إلــى الزبــور ومزاميــر داود‬ ‫ـجى مؤثــر‪ ،‬وذات حضــور شــعري ٍ ال يُضاهــى‪ ،‬وعلينــا أن نعــي أن المزاميــر‬ ‫التــي هــي فــي غنائهــا ذات شـ ً‬ ‫أساسـا ً هــي الغنــاء‪.‬‬ ‫وأنــا أعتبــر أن الشــعر هــو الغنــاء‪ ،‬ولــوال الغنــاء لمــا كان الشــعر‪ ،‬فالغنــاء هــو اللحــن الداخلــي فــي اإلنســان‪.‬‬ ‫يقــول «ابــن عبــد ربــه» فــي العقــد الفريــد‪« :‬اللحــن فضـ ٌل مــن المنطــق لــم يقــدر اللســان علــى اســتخراجه‪،‬‬ ‫ـدرك‪ .‬إن‬ ‫فاســتخرجته الطبيعــة باأللحــان»‪ ،‬فاللحــن لغــة تح ُّ‬ ‫ســها الــروح وتفهمهــا خــارج بنــاءات العقــل المـ ِ‬ ‫الغنــاء قديـ ٌم قِـ َد َم اإلنســان نفســه‪ ،‬وهــو مرحلــة تعقــب الدندنــة‪ ،‬والتــي تتحــول إلــى ترجيــع‪ ،‬ثــم إلــى كلمــات‪.‬‬ ‫ســقة الكلمــات تبــدأ مــن الداخــل‪ ،‬وتتحــول بإيقاعاتهــا إلــى غنــاء لــه إيقــاع ونغــم‪ ،‬وهكــذا كان الغنــاء‬ ‫و َم ْو َ‬ ‫والـ َد الشــعر‪ ،‬والغنــاء ال يكــون غنــاء إال بموســيقاه التــي يلبســها الــكالم ليكــون شــعراً‪ ،‬يقــول ابــن رشــيق‬ ‫فــي العمــدة‪« :‬الموســيقى حلــة الشــعر‪ ..‬فــإن لــم يلبســها طويــت»‪.‬‬ ‫ســقة غيــر واضحــة المعنــى‪ ،‬علــى الرغــم مــن ّ‬ ‫أن بواعثهــا شــجى النفــس‬ ‫وقــد تكــون الدندنــة ال ُم َم ْو َ‬ ‫وأحزانهــا وأفراحهــا‪ ،‬وهــي باســتمرار تســبق اللغــة الواضحــة‪ ،‬ويبــدو‪ ،‬لحركــة بواعثهــا الداخليــة‪ ،‬أنهــا‬ ‫غيــر ُملزَ مــة بالكشــف عــن مناطــق معروفــة ســابقا ً أو موصوفــة‪ .‬وبهــذا المعنــى يقــول «هولبــاك»‪« :‬ال‬ ‫تُنصتــوا لغيــر نبضــات قلوبكــم‪ ،‬بوصلــة الــروح إلــى أرض الشــعر‪ ...‬وعلــى الشــعر أن يكتشــف الواقــع‬ ‫ـر بمصفــاة البنــاءات العقليــة للعالــم‪ ».‬والشــعر فــي لحظــة‬ ‫بطرائقــه الخاصــة‪ ،‬محــض الحدســية دون أن يمـ َّ‬ ‫ح ْدس ـيّتِه يســبق اللغــة الواضحــة بقليــل‪ .‬وســبب الســبق هنــا هــو أن الشــعور يســبق الوعــي‪.‬‬ ‫والرتبــاط الغنــاء‪ ،‬أي الشــعر‪ ،‬بالداخــل يجعلنــا ندّعــي أن الشــعر هــو أول مراحــل النمــو التعبيــري الــذي‬ ‫لجــأ إليــه اإلنســان ليبــث حاجــات نفســه ولواعجهــا ونجاواهــا‪ .‬ولعلــه أول مــا انبثــق عــن الدندنــات التــي‬ ‫ـرت عــن حــزن النفــس اإلنســاية‪ ،‬وليــس مطلوب ـا ً منّــا أن نص ـ ّدِقَ ّ‬ ‫عبّـ ْ‬ ‫أن آدم رثــى ابنــه هابيــل عندمــا قتلــه‬ ‫أخــوه‪ ،‬ولكــن نســبة الشــعر إلــى المخلــوق األول ذات داللــة علــى أســبقية الشــعر فــي وجــود اللغــة المحكيّــة‪.‬‬ ‫ولهــذا ارتبــط وجــود الشــعر الــذي هــو فـ ٌّ‬ ‫ـن بوجــود اإلنســان‪ ،‬يقــول أوكتافيــو بــاز‪« :‬لقــد ُوجــد الفــن حالمــا‬ ‫ـتمر إلــى أن يختفــي اإلنســان»‪ .‬وكــم كنــت أردد وأنــا فــي غربتــي الداكنــة‪:‬‬ ‫أصبــح اإلنســان إنســاناً‪ ،‬وسيسـ ُ‬ ‫ـس الكلمــات التــي تشــتهي جســدي لتوقـ َ‬ ‫ظ فيــه الشــعر‪.‬‬ ‫كنــتُ أحـ ُّ‬ ‫ولع ـ ّل تعامــل الشــعر مــع دندنــات النفــس الداخليــة‪ ،‬وخــارج األبنيــة العقليــة نقــل الغمــوض إلــى مرحلــة‬ ‫البنــاء الشــعري‪ ،‬وبهــذا يكــون الغمــوض فــي الشــعر الخالــد أســبق مــن هيمنــة العقــل علــى اإلنســان‪ .‬ومهمــة‬ ‫الغمــوض فــي الشــعر اإلثــارة والدهشــة وحضــور األســئلة‪ ،‬وليســت مهمــة الغمــوض التعميــة وتضليــل‬ ‫المتلقــي بادعــاء الغمــوض المبــدع‪ .‬وقــد ربــط الشــاعر الفرنســي بودليــر بيــن الغمــوض المصحــوب بالضوء‬ ‫وبيــن ســعادة النفــس التــي تــزداد حضــورا ً بابتعــاد إبداعيتهــا عــن الضــوء الواضــح حيــن قــال‪ « :‬لَكـ ْم كنــت‬


‫البنيّة الســردية في رواية حنّا مينا‬ ‫د‪ .‬هويدا ش�يف‬

‫ّ ف‬ ‫ف‬ ‫ّ‬ ‫أساسي� من عنارص ّ‬ ‫ين‬ ‫الرسدية ي� رواية «حكاية‬ ‫البنية‬ ‫ينصب اهتمامنا ي� هذا البحث عىل عنرصين‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫بحار» هما عنرصا المكان والزمان ّ‬ ‫السديان عىل أن يتم دراسة المكان ي� هذا الععد والزمان ي� العدد‬ ‫ئ‬ ‫ئ‬ ‫الروا� واسع ومتشعب‪،‬‬ ‫الروا� للكاتب يجد دونما عناء‪ ،‬أن عالم حنا مينة‬ ‫يل ‪،‬ومن يتتبع االنتاج‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫الذي ي‬ ‫ف‬ ‫بدءا من روايته األوىل المصابيح الزرق‪ ،‬وهذا العالم أشار إىل األسلوب الواضح ي� طريقة الكتابة الروائية‪،‬‬ ‫ئ‬ ‫ال� تنهض بمقوالت النص األد�‪ ،‬مما ف‬ ‫ت‬ ‫أض� عىل‬ ‫والتعامل الجديد مع تقنيات النص‬ ‫بي‬ ‫ي‬ ‫الروا� ومكوناته ي‬ ‫فضاءات طابعها الخاص‪.‬‬ ‫ف‬ ‫للبحر وقصصه‪،‬‬ ‫العاشق‬ ‫مينا‬ ‫حنا‬ ‫البحر‪،‬‬ ‫وعشق‬ ‫البحر‬ ‫عبق‬ ‫تالفيفها‬ ‫�‬ ‫“حكاية بحار” رواية يدور ي‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ال يلبث عشقه أن ينبت أشياء رائعة‪ ...‬يلبسها خياله تفاصيل لحكاية تشبه البحر ي� عمقه‪ ...‬ي� اتساعه‪..‬‬ ‫ف ي� كنوزه‪...‬‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫شع� من مدينة الالذقية ي� ظل الحرب العالمية الثانية‪،‬‬ ‫لقد استهل‬ ‫مينة فكتابته الروائية ي� ي‬ ‫ح بي‬ ‫ئ‬ ‫الشع� ميناء الالذقية‪ ،‬وشاطئها‪،‬‬ ‫الح‬ ‫الفضاء‬ ‫ثم يتسع‬ ‫الروا� ي� روايته الثانية ليشمل‪ ،‬إضافة إىل ي‬ ‫ي‬ ‫بي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ت‬ ‫ال� والبحر(‪ .)1‬ثم يكثف من إصداراته ي ز‬ ‫ين‬ ‫الروائي�‬ ‫غ�ه من‬ ‫متم�ا عن ي‬ ‫وبحرها‪ ،‬مخ�قا عامال روائيا يشمل ب‬ ‫ت‬ ‫ال� تصور عالم البحر‪ .‬لم يكن ذلك وليد الصدفة‪ ،‬فالكاتب‬ ‫العرب بتخصيص مجموعة من الروايات ي‬ ‫ف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ولد ف� الالذقية تلك المدينة البحرية‪ ،‬ثم ش‬ ‫ت�د مع عائلته ي� قرى ومدن االسكندرونة بب�ها وبحرها‪ ،‬ولما‬ ‫ي‬ ‫ش‬ ‫عاد إىل الالذقية من جديد سنة ‪ ،1939‬عا� البحر عن قرب‪ ،‬عاين حياة البحارة‪ ،‬وعمال الميناء‪ ،‬شهد‬ ‫آالمهم وآمالهم‪ ،‬رآهم يغتسلون بعرق الهم وهم يحملون عىل أكتافهم األكياس والصناديق‪ ،‬فيما رب‬ ‫() نرش مينة روايته األوىل املصابيح الزرق سنة ‪،1954‬أما روايته الثانية فكانت الرشاع والعاصفة‪،‬وقد نرشها سنة ‪. 1966‬أما روايات عامل البحر فكثرية أهمها؛ ثالثية حكاية‬ ‫‪ 1‬‬ ‫بحار(‪ )1981‬الدقل(‪ )1982‬واملرفأ البعيد (‪)1983‬‬



‫ً‬ ‫سم بالرواية‬ ‫ما‬ ‫اسة‬ ‫ر‬ ‫لد‬ ‫مؤهلة‬ ‫موت الرواية الواقعية‪ ،‬إذ لـم تعد العدة النقدية الخاصة بالنقد الواقع‬ ‫ي‬ ‫ي ف‬ ‫ف‬ ‫(‪)6‬‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫يع�‬ ‫ال� انبعثت ي� أمريكا ‪ ،‬لكن هذا ال ي‬ ‫ال� انبعثـت‪ ،‬ي� أوروبا ورواية ((ما وراء التخييل)) ي‬ ‫الجديدة ي‬ ‫ن‬ ‫يع� أن صفة واقعية أو‬ ‫بـالطبع أن نظرية الرسد ال ًيمكنها التعامل مع نصوص واقعية أو ي‬ ‫غ� واقعية بل ي‬ ‫ق‬ ‫غ� واقعية لم تعد مطروحة ي� هذا السياق‪ ،‬وفقدت أهميتها مادام المقصود بها نعت مضمون العمل‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ن‬ ‫األد� وإعطاءه األفضلية عىل الشكل فنظرية الرسد تتجه إىل تحليل الـشكل األدبـي بوصفه حامال للمع�‪،‬‬ ‫بي‬ ‫ن‬ ‫المع�‪.‬‬ ‫وبوصفه المعىط الذي صيغ من خالله‬ ‫ال� تسىع بـدورها إلـى معرفـة القواعد العامة ت‬ ‫والرسدية ه فرع من فروع الشعرية ‪ poetics‬ت‬ ‫ال�‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫(‪)7‬‬ ‫أد�‬ ‫عمل‬ ‫والدة كل‬ ‫م‬ ‫تنظ‬ ‫ه (( العلم الـذي يعنـى بمظاهر الخطاب الرسدي أسلوبا‬ ‫فالرسدية‬ ‫وبالتال‬ ‫‪،‬‬ ‫بي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫(‪)8‬‬ ‫وداللة‬ ‫وبناء‬ ‫استخدم‬ ‫من‬ ‫أول‬ ‫أنه‬ ‫إىل‬ ‫))‬ ‫العر�‬ ‫الرسد‬ ‫((موسوعة‬ ‫ـه‬ ‫ب‬ ‫كتا‬ ‫ـي‬ ‫ف‬ ‫اهيم‬ ‫ر‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫إ‬ ‫اهللا‬ ‫ـد‬ ‫ب‬ ‫ع‬ ‫ـش�‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بيف‬ ‫األجن� ‪ Narratology‬وذلك ي� رسالته الدكتورة موضحا أن‬ ‫مصطلح الرسدية بوصفه مقابال للمـصطلح‬ ‫بي‬ ‫المصدر الصناع ف� العربية يدل عىل حقيقة ش‬ ‫ال�ء وما يحيط به من الهيئات واألحوال كما أنه ينطـوي‬ ‫ي ي‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ث‬ ‫ت‬ ‫ه المصطلح األك� دقة الذي يحيل علـى مجموعـة‬ ‫علـى خاص ي‬ ‫ـي� التسمية والوصف معا‪ ،‬والرسدية برأيه ي‬ ‫ت‬ ‫ال� تكون عليها مقوالته(‪.)9‬‬ ‫الصفات المتعلقة بالرسد واألحوال الخاصة به والتجليات ي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫ين‬ ‫و� مقدمتهم‬ ‫ـروس‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫الشكالني�‬ ‫ات‬ ‫ز‬ ‫إنجا‬ ‫من‬ ‫بدءا‬ ‫متعددة‬ ‫لجهود‬ ‫حصيلة‬ ‫وقد كانت نظرية الرسد‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫ين‬ ‫و�‬ ‫الداللة‪،‬‬ ‫بعلم‬ ‫المشتغلون‬ ‫ـا‬ ‫ه‬ ‫وأغنا‬ ‫ـا‬ ‫ه‬ ‫تمم‬ ‫ـي‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ـرة‬ ‫ي‬ ‫الكب‬ ‫البنيوي�‬ ‫بإسهامات‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫فالديم� بروب‪ ،‬ومرو‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫فالديم� بروب ))‬ ‫بحق‬ ‫مقدمتهم غريماس‪ .‬تبدأ الباحثة نبيلة إبراهيم حديثها حول بروب قائلة‪ (( :‬إنه‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫(‪)10‬‬ ‫مخترصة بهذه الجملة جليل ما قدمه هذا ِ ف‬ ‫األد� طبقا للنظرية الشكالنية ي ت‬ ‫ال�‬ ‫العالم ي� مجـال البحث ي ب‬ ‫األد� ذو طبيعة خاصـة ولهـذا يجب عزله عن سائر المؤثرات الخارجية ثم التعرف إليه‬ ‫نادت بأن النص ب ي‬ ‫(‪)11‬‬ ‫ت‬ ‫توصيف لطبيعته األدبيـة الخاصة بصورة موضوعية ‪ .‬تتجىل أهمية األبحاث يال� قدمها‬ ‫من خالل‬ ‫ٍ‬ ‫ف‬ ‫(‪)12‬‬ ‫الجمع‬ ‫ا�‬ ‫بروب كما توضح الباحثـة بأنها كانت (( المحاولة األوىل لوضع قواعد عامة‬ ‫للقص الخر ي‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫(‪)13‬‬ ‫وثالث� وظيفة أساسية تم‬ ‫إحدى‬ ‫افية))‬ ‫ر‬ ‫الخ‬ ‫الحكاية‬ ‫((مورفولوجية‬ ‫كتابه‬ ‫�‬ ‫ي‬ ‫))وقد حدد بـروب)( ي‬ ‫كب� من الحكايات الخرافية الروسية‪.‬‬ ‫استخراجها مـن استقراء عدد ي‬ ‫ف‬ ‫أسهم الشكالنيون ي� وضع األساس النظري للرسديات‪ ،‬فهم الذين دعوا إلـى إظهـار الخصوصية‬ ‫ح� كانت الدراسات األدبية ف� النصف الث نـا� مـن القرن التاسع ش‬ ‫األدبية أو أدبية األدب‪ ،‬ف� ي ن‬ ‫ع� (( تستند‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫والكشف عن طرائق نشوء األعمال األدبية‪ ،‬مما كان ض‬ ‫ـا‬ ‫ه‬ ‫أهميت‬ ‫تقليص‬ ‫إىل‬ ‫يف�‬ ‫إىل المقاربة التكوينية‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫األدبيـة لحـساب االعتبـارات النفـسية واالجتماعيـة والتاريخية‪ ،‬بحيث كانت الدراسة األدبية وقتها ركاما‬ ‫ن‬ ‫الشكالن�‪،‬‬ ‫من الفلسفة وعلم النفس والتاري ــخ وعلـم الجمال(‪ .)14‬لقد أصبح األدب من وجهة نظر‬ ‫ي‬ ‫ال� ي ز‬ ‫حصيلة لمجموع الفروق ت‬ ‫تعب�ه عن الواقع أو محاكاته‬ ‫تم�ه من‬ ‫الواقع‪ ،‬وهذا ما يمنحه أدبيته وليس ي‬ ‫ي‬ ‫ُ‬ ‫ف‬ ‫له‪ ،‬ومن هنا كان قـولهم بمبدأ التغريب الذي ق ِصد به االختالف عما هو معتاد واالبتعاد عن المألوف ي�‬ ‫األد�‪.‬‬ ‫العمل ب ي‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫معت�ين أنـه أداة‬ ‫وقد أهمل الشكالنيون أهمية الواقع ي� نشوء األدب‪ ،‬وأهملوا أيضا دور المؤلف ب‬ ‫ ‪6‬‬ ‫‪ 7‬‬ ‫‪ 8‬‬ ‫‪ 9‬‬ ‫ ‬ ‫‪10‬‬ ‫‪ 11‬‬ ‫‪ 12‬‬ ‫‪ 13‬‬ ‫‪ 14‬‬

‫() نفسه‪،‬انظر‪ :‬ص ‪٣٣‬‬ ‫() تزفيتان تودوروف‪ ،‬الشعرية‪ ،...‬ترجمة‪ :‬شكري املبخوت ورجاء بن سالمة‪ ،‬منشورات دار توبقال‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪،٢،١٩٩٠‬ص‪.٢٣‬‬ ‫() عبد االله إبراهيم‪ ،‬الرسدية العربية‪ ،‬بحث يف البنية الرسدية للموروث الحكايئ العريب‪ ،‬منشورات املركـز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪، ٢،١٩٩٢‬ص‬ ‫() عبد االله إبراهيم‪ ،‬موسوعة الرسد العريب‪ ،‬منشورات املؤسسة العربية للدراسات والنرش ‪ ،‬بيـروت‪ ١٠ ،‬ص‪١، ٢٠٠٥ ،‬ط‬ ‫() نبيلة إبراهيم‪ ،‬فن القص يف النظرية والتطبيق‪ ،‬منشورات مكتبة غريب‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬ص‪١٦‬‬ ‫() نبيلة إبراهيم‪ ،‬فن القص يف النظرية والتطبيق‪ ،‬منشورات مكتبة غريب‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬ص‪١٦‬‬ ‫() م‪ .‬ن‪ .‬ص‪ .‬ن‬ ‫() فالدميري بروب‪ ،‬مورفولوجية الحكاية الخرافية‪ ،‬ترجمة‪ :‬إبـراهيم الخطيـب‪ ،‬منـشورات الـرشكة املغربية للنارشين املتحدين‪ ،‬الرباط – الدار البيضاء‪1986 ،‬‬ ‫() عدنان بن ذريل‪ ،‬النص واألسلوبية بني النظرية والتطبيق‪ ،‬منشورات اتحاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪ ،٢٠٠٠ ،‬ص ‪26‬‬


‫ف‬ ‫ين‬ ‫المواع� يغرقون ي� بحبوحة من العيش(‪.)2‬‬ ‫الميناء وأصحاب‬ ‫غ� مفصول عن عالم اليابسة‪ ،‬إنها نفس المعاناة اليومية‪ ،‬ونفس‬ ‫لقد وجد أن عالم البحر هذا ي‬ ‫ف‬ ‫ّ‬ ‫االنتهازية واالستغالل‪ ،‬فقرن بينهما ليجعل منهما صورة واحدة لمعاناة المواطن السوري ي� ظل زمكانية‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫محددة‪ ،‬فبحث عن خالص ش‬ ‫الب�ية من هذا المحيط الملطخ فوجده‪ ،‬ي� أبناء الطبقة المسحوقة من‬ ‫ف‬ ‫ّ‬ ‫وفالح� ّ‬ ‫ين‬ ‫اإلنسان من أردان الرذيلة والوحشية فوجده ي�‬ ‫وبحارة‪ .‬بحث عن عالم يتطهر‬ ‫عمال‬ ‫فيه ً‬ ‫ً‬ ‫ئ‬ ‫الروا� ليشمل مدينة‪ ،‬بحرا وغابا‪.‬‬ ‫الغاب(‪ ،)3‬فامتد عالمه‬ ‫ي‬ ‫عالم البحر‪ ،‬لدى مينة‪ ،‬يرتبط بعالم الرجولة والمغامرة والمدى البعيد‪ .‬وللرجولة معان عدة منها‬ ‫ت‬ ‫ال�‬ ‫فه‬ ‫ما يتعلق‬ ‫بمواجهة البحر وأنوائه‪ ،‬ومنها ما يتعلق بالمرأة‪ .‬أما المغامرة ّ ي‬ ‫الصورة األخرى للرجولة ي‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫ع� «البحار السبعة»‪،‬‬ ‫ال تكتمل إال إذا اق�نت بالطموح والوصول إىل المدى البعيد حيث يطوف البحار ب‬ ‫ف‬ ‫من ش‬ ‫م�ق األرض ت‬ ‫ا� يعتاش منه البحارة‬ ‫أك� من‬ ‫وح� مغربــها‪ .‬والبحر يأخذ بعدا ب‬ ‫مجرد موقع جغر ي‬ ‫والصيادون بل هو فعل داللة وانتماء وهوية‪ ،‬إذ لن يكون ّ‬ ‫ينتم إىل‬ ‫للبحار وجود وكيان بدون البحر ألنه‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫هذا العالم‪ .‬وما التنازل عنه سوى تنازل عن الكيان والهوية‪ ،‬حزوم بطل حكاية بحار (‪ )1981‬ي� البحر‬ ‫ف‬ ‫ال�كة المائية‪ ،‬الزرقاء‪ ،‬الواسعة‪ ،‬تضطرب ي� العواصف‪ ،‬وتصخب أمواجها‪ ،‬وتندفع‬ ‫تختلف األشياء هذه ب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ئ‬ ‫الشاط‪ ،‬وترتطم بالصخور فتتحطم‪ ،‬وتتناثر‪ ،‬وتغدو زبدا‪ ،‬بخارا أبيض‪ ،‬وترتد إىل الماء‬ ‫محمحمة إىل‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ين‬ ‫زئ� ش ّ‬ ‫ضفت�‪ ،‬وال يملك تيارا‪ ،‬وتستطيع‬ ‫وح� مخيف‪ ،‬لكن البحر عريض‪ ،‬فسيح‪ ،‬ال يجري ي�‬ ‫ثانية ي� ي‬ ‫ي‬ ‫فيه المناورة والحركة‪ ،‬وتفادي التيارات الجوفية‪ ،‬بأن تبتعد عن األعماق بقدر ما استطعت إىل األعماق(‪.)4‬‬ ‫يقيم البطل سعيد حزوم مقارنة ي ن‬ ‫ب� البحر والنهر فيخلص إىل نتيجة مآلها أن البحر‪ ،‬رغم هياجه‬ ‫ً‬ ‫يظل ث‬ ‫أك� رأفة من النهر‪ ،‬وهو فضال عن ذلك يطل عىل عوالم واسعة وفسيحة‪ ،‬وتستطيع من خالله‬ ‫ف‬ ‫أن تصل إىل المدى البعيد‪ ،‬إنه بوابة للطموح‪ ،‬من يلج ماءه غاص ي� أعماقه واكتشف عوالم جديدة ال‬ ‫تحدها ضفاف‪ .‬هذا هو بحر مينة «بركة زرقاء واسعة»‪ ،‬من ناحية‪ ،‬وهائج صارخ يحمحم ويزأر كأسد من‬ ‫ش‬ ‫معا�ته؟ لن يكون‬ ‫ه مواصفات هذا اإلنسان القادر عىل‬ ‫ناحية أخرى‪ ،‬فمن ذا القادر عىل‬ ‫معايشته؟ ما ي‬ ‫ً‬ ‫إال عاشقا للبحر وأنوائه‪ ،‬ليصبح قادرا عىل ريادة مجاهله الواسعة الشاسعة‪ .‬يتسع عالم البحر ويخرج من‬ ‫ف‬ ‫ا� حيث تجمع الماء ف ي� إطار شواطئه الضيقة ويتشخصن‪ ،‬ويتحول إىل فعل استعارة وداللة‪.‬‬ ‫إطاره الجغر ي‬

‫ثانياً‪ :‬مهاد نظري‬ ‫أ‪ -‬نظرية الرسد‬ ‫ف‬ ‫الرواية كما هو معروف نوع من أنواع الرسد‪ ،‬وحري بنا ي ن‬ ‫ح� نتحدث عن الرواية ي� ضوء نظرية‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫األد� ً‪ ،‬والفرق‬ ‫النقد‬ ‫�‬ ‫الرواية‬ ‫ـة‬ ‫ي‬ ‫نظر‬ ‫ـل‬ ‫ح‬ ‫م‬ ‫ـت‬ ‫حل‬ ‫الرسد أن نتذكر أمرين‪ ،‬األول أن نظرية الرسد كانت قد‬ ‫بي‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ين‬ ‫ب� هذه وتلك حسب ما يوضح صـاحب كتـاب (( نظريـات الرسد الحديثة)) ليس قضية عمومية فقط‬ ‫ت ّ‬ ‫ف‬ ‫تغ� فـي تحديد ما يدرس وعن استخدام تعريفات وأدوات‬ ‫تغ� ي� النتائج‬ ‫ال� ترتبت عن ي‬ ‫بل قضية ي‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫(‪)5‬‬ ‫الثا� فهو اإللمام بكون انبعاث الرسد ي� الغرب قد تزامن مع‬ ‫جديدة للتعامل مع المرسودات ‪ ،‬أما األمـر ي‬

‫() بدأ حنامينة حياته األدبية كاتب قصة قصرية‪،‬وقد نرش قصة بعنوان عىل األكياس(‪)1976‬يتحدث فيها عن مرحلة صعبة جدا يف حياته تعود إىل سن الثانية عرش ة حني بدأ يعمل‬ ‫‪ 2‬‬ ‫حامل يف امليناء ثم كاتباً صغريا ً‪ ،‬انظر مجموعته القصصية‪ ،‬األبنوسة البيضاء‪،‬ص‪.85-45‬‬ ‫() كام ينعكس ذلك يف رواية الياطر‬ ‫‪ 3‬‬ ‫() حكاية بحار‪ ،‬ص‪163‬‬ ‫‪ 4‬‬ ‫() انظر‪ :‬واالس مارتن‪ ،‬نظريات الرسد الحديثة‪ ،‬ترجمة‪ :‬حياة جاسم محمد‪ ،‬منشورات املجلس األعىل للثقافة‪ ،‬القاهرة ‪، ١٩٩٨‬ص ‪١٥‬‬ ‫‪ 5‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫األد� قد تختلف إليها‬ ‫تنظ�ا وممارسة‪ ،‬تبنيا لطريقة تروم اإلحاطة بجانب من جوانـب العمـل‬ ‫والبنيوي‬ ‫ي‬ ‫يب‬ ‫السبل‪.‬‬ ‫ت‬ ‫ال� تشكل حجر األسـاس فـي الدراسات‬ ‫وال بد من اإلشارة إىل بعض المصطلحات الرسدية ي‬ ‫يز‬ ‫ن‬ ‫التمي� ي ن‬ ‫المع� العام فهـو يدل عىل مجموعة‬ ‫الخاص والعام‪ ،‬أما‬ ‫بمعناه‬ ‫الرسد‬ ‫ب�‬ ‫الرسدية‪ ،‬ومن ذلك‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ز‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫يتم� عن‬ ‫األد� نصا أدبيا والمع� الخاص يدل علـى ما يجعل النص رسدا ي‬ ‫ال� تجعل من العمل ب ي‬ ‫التقنيات ي‬ ‫الوصف أو الحوار(‪.)23‬‬ ‫ئ‬ ‫ئ‬ ‫ن‬ ‫ومن المصطلحات األساسية مصطلحا ت ن‬ ‫الحكا� اللذان ربما كانا أعظم‬ ‫والمب�‬ ‫الحكا�‬ ‫الم�‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫الشكالني� الـروس الـذين ي ز‬ ‫ين‬ ‫م�وا ي ن‬ ‫ين‬ ‫المصطلح�‬ ‫ب�‬ ‫اإلنجازات ي� هذا الباب‪ ،‬ويرجع الفضل ي� وضعهما إىل‬ ‫َ‬ ‫ئ‬ ‫الحكا� (( بأنه مجموع األحداث المتصلة فيما بينهـا ت‬ ‫عرف ت ن‬ ‫وال� يقع إخبارنا بها خالل العمل))‬ ‫الم�‬ ‫فقد‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ئ‬ ‫الحكا� يعرف بأنـه (( يتـألف مـن نفـس األحداث بيد أنه ير ياع نظام ظهورها ي ف‬ ‫ن‬ ‫والمب�‬ ‫(‪.)24‬‬ ‫� العمل)) (‪.)25‬‬ ‫ي ف‬ ‫ه (الحكاية‪ ،‬القصة‪،‬‬ ‫ج�ار جينيت ي� كتابه ال ي‬ ‫ويحدد ي‬ ‫ـشه� ((خطاب الحكاية)) ثالثة مفاهيم رئيسة ي‬ ‫الرسدي‪ ،‬واسم الحكاية عىل الدال أو النص الرسدي‬ ‫الرسد) ويطلق اسم القصة علـى المدلول أو المضمون‬ ‫ً‬ ‫نفسه واسم الـرسد عىل اتحاد الدال والمدلول‪ ،‬ويسميه أيضا الفعل الرسدي المنتج‪ ،‬ويقر بأن الحكاية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ه المقصودة بالدراسة ألنها المستوى الوحيد الذي يعرض نفسه‬ ‫الدال‬ ‫النص‬ ‫ها‬ ‫أن‬ ‫التـي تـم ش�حها عىل‬ ‫ي‬ ‫ش ف‬ ‫المبا� ي� النص(‪.)26‬‬ ‫للتحليل‬ ‫ب‪ -‬مكونات البنية الرسدية‪:‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ئ‬ ‫حكا� ما ال تتشكل إال بتضافر‬ ‫لمنجز‬ ‫الرسدية‬ ‫البنية‬ ‫فإن‬ ‫تواصليا‬ ‫لما كان الفعل الرسدي فعال‬ ‫ي‬ ‫العنارص المكونة الثالث ت‬ ‫ه‪ :‬الراوي‪ ،‬المروي‪ ،‬المروي له‪ ،‬والراوي أو السارد هو الشخص الذي يقوم‬ ‫ال�‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫الحك نفـسه مع المرسود له(‪.)27‬‬ ‫بالرسد (( وهناك عىل األقل سارد واحد ماثل ي� مستوى‬ ‫ي‬ ‫بذلك يكون المروي له أو المرسود له هو الشخص الذي يرسد لـه أو يتوجـه إليـه الرسد والمروي‬ ‫األد� ومضمونه اللذان يؤسسان الرسد كما بينا من منظـور جينيت والذي يشكل فيه‬ ‫هو شكل العمل ب ي‬ ‫النص الرسدي (( الشكل )) وجهه القابل للتحليل‪.‬‬ ‫قد تحركت الجهود النقدية متناولة عنارص البنية الـرسدية الـسابقة مـع اخـتالف مستويات الدراسة‬ ‫ف‬ ‫والدالل ف ي� الرسد‪.‬‬ ‫الوظي�‬ ‫واتجاهاتها وأولوياتها‪ ،‬فهناك من اهتم بالجانب‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫وهناك من ن‬ ‫اللسا�‪ ،‬وهناك من وجه عنايته إىل تقنيات العمل األدبـي‬ ‫اعت� بمظاهر الخطاب‬ ‫ي‬ ‫وطرائق تقديمه(‪.)28‬‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ال�‬ ‫وإذا كان‬ ‫ي‬ ‫فالديم� بروب ي� كتابه ((مورفولوجيا الحكاية)) قد درس الوظائف األساسية ف ي‬ ‫تتحكم ببنية الرسد من خالل تقصيه للحكايـات الخرافيـة الروسـية‪ ،‬فـإن ((تزفيتـان تودوروف)) ي�‬ ‫ت‬ ‫ظ‬ ‫كي�‬ ‫األد� ثالثة مظاهر يدرس من خاللهـا هـي المظهر‬ ‫كتابه‬ ‫((الشعرية)) قد جعل للعمل ب ي‬ ‫اللف� وال� ب ي‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ظ‬ ‫ج�ار‬ ‫والدالل‪ ،‬متناوال تحت باب المظهر‬ ‫اللف� مقوالت الصيغة والزمن والرؤى والصوت‪ ،‬بينما تناول ي‬ ‫ي‬ ‫ي ف‬ ‫ه‪ :‬الزمن والصيغة والصوت‪.‬‬ ‫الرسد‬ ‫ـي‬ ‫ف‬ ‫ـية‬ ‫س‬ ‫أسا‬ ‫كان‬ ‫ر‬ ‫أ‬ ‫ثالثة‬ ‫الحكاية))‬ ‫((خطاب‬ ‫�‬ ‫جينيت ي‬ ‫ي‬ ‫ج‪ -‬جدلية العالقة بني الزمن واملكان الرسديني‪:‬‬

‫ ‬ ‫‪23‬‬ ‫‪ 24‬‬ ‫‪ 25‬‬ ‫‪ 26‬‬ ‫‪ 27‬‬ ‫‪ 28‬‬

‫()‬ ‫()‬ ‫()‬ ‫()‬ ‫()‬ ‫()‬

‫م‪ .‬ن ‪ .‬ص‪145 - 144‬‬ ‫مجموعة مؤلفني‪ ،‬نظرية املنهج الشكيل‪ ...‬ص‪180‬‬ ‫مجموعة مؤلفني‪ ،‬نظرية املنهج الشكيل‪ ...‬ص‪180‬‬ ‫حل‪ ،‬منشورات املجلس األعىل للثقافة‪ ،‬ط ‪، ١٩٩٧، ٢‬ص ‪.٣٨‬‬ ‫جريار جينيت‪ ،‬خطاب الحكاية ((بحث يف املنهج))‪ ،‬ترجمة‪ :‬محمد معتصم‪ ،‬عبد الجليل األزدي‪ ،‬عمر ّ‬ ‫م‪ .‬ن‪ .‬ص ‪158‬‬ ‫ناهضة ستّار‪ ،‬بنية الرسد يف القصص الصويف‪ ،‬منشورات اتحاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق ‪ ،٢٠٠٣‬ص‪.٨٠‬‬


‫لس�ته الذاتية خارج كونها حقيقة أدبية(‪.)16‬‬ ‫األد� فقط(‪ .)15‬وال قيمة‬ ‫ي‬ ‫لكتابة العمل ب ي‬ ‫ونظ ًرا لما سبق فقد ُاتهم الشكالنيون بالشكلية‪ ،‬هذه التسمية ت‬ ‫ال� أتت مـن خـصومهم لتصمهم‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫باالنحياز إىل الشكل دون المضمون(‪ .)17‬لكن اإلسهامات النوعية المهمة التـي قـدمها الشكالنيون الروس‬ ‫ن ُ‬ ‫ح� ترجمت مقاالتهم إىل‬ ‫لم تصل إىل الغرب بصورة وافية قبل الخمسينيات من القـرن الماضـي‪ ،‬ي‬ ‫الفرنسية عام ‪١٩٦٥‬عىل يد أحد النقاد البني ي ن‬ ‫كب�‬ ‫تأث� ي‬ ‫ـوي� وهـو تزفتيـان تودوروف‪ ،‬فكان لهذه المقاالت ي‬ ‫ف‬ ‫ين‬ ‫ين‬ ‫وغ�هم‪ ...‬وقد اتجه هؤالء البنيويون‬ ‫وروالن‬ ‫ـت‬ ‫ي‬ ‫جين‬ ‫ار‬ ‫ج�‬ ‫أمثال‬ ‫الفرنسي�‬ ‫البنيوي�‬ ‫النقاد‬ ‫�‬ ‫بارت ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫انطالقا من ت ز‬ ‫ال�امنية أي تحليل النص ي� سكونيته‪،‬‬ ‫األد�‬ ‫المتأثرون بالمبادئ اللسانية‪ ،‬إىل دراسـة النص ب ي‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ن‬ ‫يتع� عىل األلسنية أن تكون قادرة‬ ‫بعيدا عن صاحبه أو الوسـط المحيط به(‪ .)18‬ورأى هؤالء أنه (( كما‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ال� تتحكم ي� األعمال األدبية‬ ‫عىل‬ ‫تعليل جمل لـم تلفظ بعد‪ ،‬فكذلك عىل البويطيقا أن تفرس القواعد ي‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫(‪)19‬‬ ‫ت‬ ‫ال� لم تكتب بعد ‪ .‬وبذلك تكون النصوص األدبية المختلفة أمثلة تس�شد بالقواعـد ً العامـة للبويطيقـا‬ ‫ي‬ ‫أو الشعرية‪ ،‬وتؤكدها خالل صياغات متعددة ومتباينة‪ .‬ورأى البنيويون مـستفيدين أيـضا مـن اللسانيات‬ ‫األد�‪ ،‬وذهب بعضهم إىل أبعد من ذلك‪ ،‬وال سيما‬ ‫أن مؤلف النص يجب إقصاؤه أثناء‬ ‫تحليل النص ب ي‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ـش�ا إىل ما كان للمؤلف من‬ ‫ال� تحمل هذا العنوان م ي‬ ‫روالن بارت الذي قال بموت المؤلف ي� مقالته ي‬ ‫ي ت‬ ‫ال� تتـرجم حيـاة الكتـاب وحوارات المجالت وإىل أن صورة‬ ‫األد�‬ ‫والس� ي‬ ‫هيمنة فعىل كتب التاري ــخ ب ي ِّ‬ ‫(‪)20‬‬ ‫بشكل جـائر علـى المؤلف وشخصيته وتاريخه وأهوائه ‪ .‬وقد وضع‬ ‫األدب ي� الثقافة المألوفة قد ركزت‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫استنادا إىل النمـوذج اللغوي نماذجهم الرسدية ت‬ ‫ال� حللوا خاللها النصوص الرسدية‬ ‫الدارسون البنيويون‬ ‫ي‬ ‫حسب الوجهة ت‬ ‫ال� اختاروهـا‪ .‬ومن المهم هنا اإلشارة إىل أن القول بوجود بنية مجردة تتحكم قواعدها‬ ‫ي‬ ‫ّ‬ ‫ف� إنشاء النـصوص األدبية المختلفة ال ن‬ ‫يع� إلغاء فرادة هذه النـصوص أو تجـاوز خـصوصيتها‪ ،‬إنمـا يعنـي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫األد�‪.‬‬ ‫استخالص الخصوصية ب‬ ‫ال� يعمد إليها الكاتب ي� صياغة عنارص البنيـة فـي النص ب ي‬ ‫ع� الطريقةف ي‬ ‫ن‬ ‫تنظ�ي معمق لسنا‬ ‫ذلك سـيؤدي إلـى ركـام‬ ‫البنيوي� ي� هذا المجال‪ً ،‬فإن‬ ‫وإذا أردنا أن نلم بانجازات‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫بصدده‪ ،‬وإنما بغيتنا أن نضع نصب أعيننا مهادا نظريا عاما ي ن‬ ‫ال� نرغب أن نس�شد‬ ‫يب� جوهر النظرية ي‬ ‫ف‬ ‫ين‬ ‫بنائي� من عنارص البنية الـرسدية هما الزمن والمكان‪.‬‬ ‫بها ي� معالجة عنرصين‬ ‫وتنظ�ات علـم الـرسد البنيوي إذا‬ ‫وهنا نجد أنفسنا أمام سؤال هو ما الجدوى من األخذ بمبادئ‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫الكث� مـن دعاة البنيوية قد انقلبوا‬ ‫األد� ي� الغرب قد تجاوز البنيوية إىل ما بعدها‪ ،‬وإذا كان‬ ‫ي‬ ‫كان النقد ب ي‬ ‫ت‬ ‫ال� استعاض عن النقد بالتعليق‪ ،‬وبدراسة مـا أسماه لغزية النص أي ما ينطوي‬ ‫عليها مثل روالن بارت ي‬ ‫عليه من شفرات ورموز(‪ )21‬وال بد لإلجابة عن هذا السؤال من القول إن البنيوية قد قدمت إنجازات‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ال يمكن ألحد إنكارها أو تجاهلها ي� علـم الـرسد‪ ،‬والباحث ي� فن القص لم يعد يستطيع التعويل عىل‬ ‫ّ‬ ‫فيه‬ ‫ونغ�‬ ‫الرسد‪،‬‬ ‫علم‬ ‫إىل‬ ‫نضيف‬ ‫أن‬ ‫نستطيع‬ ‫ربما‬ ‫نا‬ ‫إن‬ ‫المصطلحات التـي كانـت سـائدة قبـل البنيوية‪ ،‬أي‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫(‪)22‬‬ ‫بل وننقد وننقض بعض مفاهيمه ومصطلحاته‪ ،‬لكن من المحال أن نمحوه من الذاكرة النقدية ‪ .‬فضال‬ ‫عـن أن كـل نظرية من النظريات النقدية تقدم إسهاماتها دون أن تكون نهائية أو كاملة‪ ،‬لكن هناك ما يبقـى‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫الشكال�‬ ‫ـنهج‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫ـى‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫المستندة‬ ‫الرسد‬ ‫نظرية‬ ‫من‬ ‫استفادتنا‬ ‫تكون‬ ‫هنا‬ ‫ومن‬ ‫الجوانب‪،‬‬ ‫بعض‬ ‫�‬ ‫ي‬ ‫وينجح ي‬ ‫ ‬ ‫‪15‬‬ ‫‪ 16‬‬ ‫‪ 17‬‬ ‫‪ 18‬‬

‫ ‬ ‫‪19‬‬ ‫‪ 20‬‬ ‫‪ 21‬‬ ‫‪ 22‬‬

‫() عدنان بن ذريل‪ ،‬النص واألسلوبية بني النظرية والتطبيق‪ ،‬منشورات اتحاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪ ،٢٠٠٠ ،‬ص‪27‬‬ ‫() م‪ .‬ن‪ .‬ص‪29‬‬ ‫() مجموعة مؤلفني‪ ،‬نظرية املنهج الشكيل‪ ...‬ص‪.١٥‬‬ ‫() حميد لحمداين‪ ،‬بنيه النص الرسدي من منظور النقد األديب‪ ،‬منشورات املركـز الثقـايف العربـي‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪، ١٩٩١، ١‬ص‪.١٢‬‬ ‫ ●البويطيقا والشعرية وفن الشعر واإلنشائية تؤدي جميعها معنى واحدا ً هو ‪، Poetics‬وقد اسـتخدمت لفظـة البويطيقا عند أكرث من باحث مثل عدنان بن ذريل يف مرجع مذكور‬ ‫والسيد إبراهيم فـي كتابـه‪ :‬نظريـة الرواية‪ ،‬دراسة ملناهج النقد األديب يف معالجة فن القصة‪ ،‬منشورات دار قباء‪ ،‬القاهرة‪. ١٩٩٨ ،‬أما لفظـة اإلنشائية فقد استخدمت حسب ما‬ ‫يقول الباحث محمد القايض يف تونس بينمـا اسـتخدمت الـشعرية فـي املرشق العريب واملغرب األقىص‪ ،‬انظر‪ :‬محمد القايض‪ ،‬تحليل النص الرسدي بني النظريـة والتطبيـق‪ ،‬دار‬ ‫الجنوب‪ ،‬تونس‪. ١٩٩٧ ،‬‬ ‫() عدنان بن ذريل‪ ،‬النص واألسلوبية بني النظرية والتطبيق‪ ،‬منشورات اتحاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪ ،‬ص ‪76‬‬ ‫() روالن بارت‪ ،‬نقد وحقيقة‪ ،‬ترجمة‪ :‬منذر عيايش‪ ،‬مركز اإلمناء الحضاري‪ ،‬منشورات املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت الدار البيضاء ‪ ،‬ط‪، ١٩٩٤، ١‬ص‪١٧-١٦‬‬ ‫() عدنان بن ذريل‪ ،‬النص واألسلوبية بني النظرية والتطبيق‪ ...‬ص ‪.٨٣‬‬ ‫() جريالد برنس‪ ،‬املصطلح الرسدي ((معجم املصطلحات))‪ ،‬منشورات املجلس األعىل للثقافة‪ ٢٠٠٣ ،‬ص‪٨‬‬


‫ً‬ ‫وقد استطاع المكان أن ظ‬ ‫ـالر المعروفة‬ ‫ش‬ ‫با‬ ‫ـة‬ ‫س‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫د‬ ‫ـه‬ ‫ل‬ ‫مهدت‬ ‫ربما‬ ‫‪،‬‬ ‫كب�‬ ‫باهتمام‬ ‫الحقا‬ ‫يح�‬ ‫ي‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫كث� من الكتب التـي أخـذت تركز ي� بحثها عىل‬ ‫((جماليات المكان)) وقد ظهر ي� النقد‬ ‫العر� الحديث ي‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫‪:‬‬ ‫النابلس‪ ،‬و((بنية‬ ‫لشاكر‬ ‫العربية))‬ ‫ـة‬ ‫ي‬ ‫الروا‬ ‫�‬ ‫المكان‬ ‫((جماليات‬ ‫منها‬ ‫نذكر‬ ‫ه‬ ‫حق‬ ‫المكان وتحاول أن توفيه‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ئ‬ ‫الروا�‪ :‬الفضاء‪ ،‬الزمن‪ ،‬الشخـصية)) ل ـ‪ :‬حـسن بحراوي‪ ،‬و((شعرية الفضاء الرسدي)) لـ ‪ :‬حسن‬ ‫الشكل‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫نجم‪ ،‬و((الفضاء الروائـي)) ل ـ ‪ :‬عبـد الرحيم مراشدة‪ ،‬و((شعرية المكان ي� الرواية الجديدة)) لـ ‪ :‬خالد‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫ن‬ ‫وغ�ها‪...‬‬ ‫حس�‬ ‫حس�‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬


‫ً‬ ‫إن الحديث عن الزمن والمكان ف� بنية الرسد ض‬ ‫يقت� التأكيد دوما عىل العالقة التـي تربط بينهما‪،‬‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ين‬ ‫فاعل� مؤثرين ي�‬ ‫تستغ� عن دراسـتهما بوصـفهما عنرصين‬ ‫أن‬ ‫كما أن دراسة كل منهما منفردا ال يمكن‬ ‫ي‬ ‫ين‬ ‫للتأث�‪ .‬فهما فـي نهاية األمر ركنان من أركان العملية الرسدية‬ ‫وخاضع� بدورهما‬ ‫العنارص الرسدية األخرى‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ق‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫وبا� تلك‬ ‫ال� ينسجانها بينهما أوال‪ ،‬ي‬ ‫وب� كل منهما ي‬ ‫يستمدان قيمتهما وأهميتهما ًمن شبكة العالقـات ي‬ ‫األركان والمكونات الرسدية ثانيا‪.‬‬ ‫ين‬ ‫ويضعنا الحديث عن جدلية العالقة ي ن‬ ‫الرسدي� أمام تساؤل هو‪ :‬لماذا نسىع إىل‬ ‫ب� الزمن والمكان‬ ‫ف‬ ‫ين‬ ‫ين‬ ‫ونع� ي� اإلجابة عـن هذا السؤال عن اهتمام‬ ‫الرسدي�‬ ‫الزمن والمكان‬ ‫معول� عىل تالزمهما وأهميتهما؟ ب‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ن‬ ‫تع� عن اختالفهما‬ ‫الكوني�‬ ‫حيال هذين العنرصين‬ ‫ال� ب‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫الممثل� فـي األدب فـي تالزمهمـا وجدليتهما ي‬ ‫ف‬ ‫ش‬ ‫جبار‬ ‫متسام‬ ‫� ٍء‬ ‫تع� عن توحدهما ي� كل واحد‪ .‬إن نظرتنا إىل الزمن وشعورنا به‬ ‫بقدر ما ب‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫كنظرتنا إىل ي‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫ش‬ ‫ش‬ ‫�ء‪ ،‬أما المكان فهو ثابـت ال‬ ‫قادر علـى الفعـل باألشياء والب� متحرك ي� مسار رسمدي ال يعطله أو ي‬ ‫ٍ‬ ‫يغ�ه ي‬ ‫يتحرك يرى ويلمس ويفعل به من قبل الزمن‪ ،‬ومع ذلك فالزمن مفتقر إليه يل�سل من خاللـه إلينا دالئل‬ ‫ين‬ ‫يدل‬ ‫‬‫باخت�‬ ‫وعالمات وجوده‪ .‬إن اصطالح ((الزمكان)) ‪ -‬الذي تمت ترجمته إىل العربية عن ميخائيل‬ ‫ً‬ ‫داللة واضحة عىل (( العالقات الجوهرية المتبادلة ي ن‬ ‫ب� الزمان والمكان المستوعبة فـي األدب استيعابا‬ ‫ً‬ ‫فنيا(‪.)29‬‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ين‬ ‫الف� هو اتحاد وانصهار عالقـات الزمـان والمكان ي� كل‬ ‫باخت� أن ما يحدث ي� الزمكان ي‬ ‫ويرى ً‬ ‫األد� وأنواعه يتم‬ ‫ٍ‬ ‫واحد ندركه فنيا‪ .‬ويجعل للزمان والمكان أهمية جنسية جوهرية إذ يوضح أن الجنس ب ي‬ ‫(‪)30‬‬ ‫تحديدها من خالل الزمكان بالذات ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫ـفات خاصة‪،‬‬ ‫الرسدي‪،‬‬ ‫للنص‬ ‫ا�‬ ‫وإذ تتضافر األمكنة لخلق الفضاء الجغر‬ ‫يكتسب المكـان ص ٍ‬ ‫ي‬ ‫ويصبح ذا أهمية متعددة المستويات‪ ،‬ال تجعل من الحركة الـرسدية نتاج ًـا لمجـرى الزمن الحكا�ئ‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫والرسدي فحسب بل تجعله نتاجا لهـذين العنـرصين (( نتاجـا لتـضافرهما‪ ،‬لتصارعهما‪ ،‬لتقاربــهما‪،‬‬ ‫ت‬ ‫ال� تجـوس المـساحة والمـسافة الروائية(‪.)31‬‬ ‫لتباعدهما‪ ،‬ولكل حركتهما الشاملة ي‬ ‫ن ف‬ ‫وقد تباينت الجهود النقدية ت‬ ‫الزم� ي� البداية عىل‬ ‫واستحوذ العنرص‬ ‫ال� تناولت هذين العنرصين‪،‬‬ ‫في‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫األك� ت‬ ‫إسهاما جديرا بالذكر ي� مجالهم قد‬ ‫أسهموا‬ ‫الذين‬ ‫اب‬ ‫الكت‬ ‫معظم‬ ‫أن‬ ‫أى‬ ‫ر‬ ‫بعضهم‬ ‫إن‬ ‫ح�‬ ‫االهتمام‬ ‫ب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫كث�ة ي� معالجـة الـزمن أدبيا‪ ،‬بل إن االهتمام بالزمن وصل إىل‬ ‫كب� وقدموا جهودا ي‬ ‫انشغلوا بالزمن إىل حد ي‬ ‫ن ف‬ ‫ـ� التقلي ي ن‬ ‫حد القول إن ماهية الجدل الذي دار ب ي ن‬ ‫والتجريبي� ي� الرواية الحديثة تتمحور بمعظمها‬ ‫ـدي�‬ ‫ي‬ ‫حول الزمن(‪.)32‬‬ ‫ف‬ ‫ين‬ ‫ين‬ ‫باخت� عن الزمكانات الروائية الثالثة القديمة ي� كتابه سـالف الـذكر‪ ،‬أعىط األهمية‬ ‫وح� تحدث‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ئ‬ ‫الروا�‪ .‬وقد نوهت س ي زـ�ا قاسم قبيل ش�وعها ي� تحليل‬ ‫الرئيس ي� الزمكان‬ ‫األوىل للزمن وجعله العنرص‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫(‪)33‬‬ ‫ن‬ ‫زم� فـي المقام األول ‪.‬‬ ‫المكان ي� ثالثية نجيب محفـوظ إىل أن الرواية فن ي‬ ‫ن‬ ‫الطبيع‬ ‫واقع بالزمن‬ ‫النشغال‬ ‫الف� بالزمن الرسدي لم يكن إال صدى‬ ‫ويبدو أن هذا االنشغال ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ت‬ ‫ال�‬ ‫واألدباء أي ًـضا‪ ،‬فهنـاك‬ ‫ي‬ ‫الذي أرق اإلنسان منذ القديم ب‬ ‫الكث� من القصص ي‬ ‫وع� عنه الفالسفة والشعراء ً‬ ‫ن‬ ‫ز‬ ‫إنريك أندرسون‪ ،‬لتقدم الـزمن موضـوعا رئيسا لها وتحاول أن ت�ع عنه ماهيته‬ ‫ظهرت حسب ما يوضح‬ ‫ي‬ ‫(‪)34‬‬ ‫وصفات االستمرارية والالرجعة والتتابع فيه ‪.‬‬ ‫ ‬ ‫‪29‬‬ ‫‪ 30‬‬ ‫‪ 31‬‬ ‫‪ 32‬‬ ‫‪ 33‬‬ ‫‪ 34‬‬

‫()‬ ‫()‬ ‫()‬ ‫()‬ ‫()‬ ‫()‬

‫ميخائيل باختني‪ ،‬أشكال الزمان واملكان يف الرواية‪ ،‬ترجمة‪ :‬يوسف حالق‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪ ،‬دمشق‪، ١٩٩٠ ،‬ص‪٥‬‬ ‫م‪ .‬ن‪ .‬ص ‪6‬‬ ‫حسن نجمي‪ ،‬شعرية الفضاء الرسدي ((املتخيل والهوية يف الرواية العربية))‪ ،‬منشورات املركـز الثقـايف العريب‪ ،‬بريوت‪ -‬الدار البيضاء ط‪، ١٩٧٧، ١‬ص‪.٦٥‬‬ ‫‪.‬أمندالو‪ ،‬الزمن والرواية‪ ،‬ترجمة بكر عباس‪ ،‬منشورات دار صادر‪ ،‬بريوت‪، ١٩٩٧،‬ص‪٢‬‬ ‫سيزا قاسم‪ ،‬بناء الرواية‪ ،‬دراسة مقارنة لثالثية نجيب محفوظ‪ ،‬منشورات الهيئة املـرصية العامـة للكتاب‪، ١٩٨٤ ،‬ص‪٧‬‬ ‫إنرييك أندرسون إمربت‪ ،‬القصة القصرية‪ :‬النظرية والتقنية‪ ،‬ترجمة عيل إبـراهيم علـي منـويف‪ ،‬منشورات املجلس األعىل للثقافة‪، ٢٠٠٠ ،‬ص‪٢‬‬


‫أوالً‪ -‬ملحة عن مضمون الرواية‪:‬‬

‫ت ّ‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫المكا� لرواية ((حكاية بحار)) للكاتب السوري‬ ‫الفضاء‬ ‫اسة‬ ‫ر‬ ‫د‬ ‫عىل‬ ‫الباب‬ ‫هذا‬ ‫�‬ ‫البحث‬ ‫جهد‬ ‫ز‬ ‫ك‬ ‫ي�‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ش‬ ‫ت‬ ‫حنــا مينــا وســنقوم قبــل المبــا�ة بالتحليــل بإعطــاء لمحــة عامــة عــن مضمــون هــذه الروايــة‪ ،‬الـ يـى تأخذنــا مــع‬ ‫ف‬ ‫البطــل ومحاوالتــه ألن يكــون صــورة عــن والــده الــذي اختـىف ي� ظــروف غامضــة‪ ،‬وتصــور األحــداث التخبــط‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫وال ـراع الــذي يواجهــه (ســعيد حــزوم) ي� ســبيل أن يكــون هــو ذاتــه امتــدادا لحيــاة وبطــوالت والــده (صالــح‬ ‫ف‬ ‫حــزوم)‪ ،‬ال مجــرد شــخص يعيــش ي� ظــل سـ يـرة والــده المعروفــة‪ .‬وهــذه الروايــة تشــغل القــارئ وتجعلــه يعيــش‬ ‫ف ي� تالفيــف أحداثهــا‪ ،‬يتحمــس لمحــاوالت ســعيد الدؤوبــة نحــو تحقيــق البطولــة والتفـ ّـرد‪.‬‬

‫ثانياً‪ -‬قضايا املكان‪:‬‬ ‫أ‪ -‬أهمية املكان يف النص الرسدي‪:‬‬

‫ف‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ـال إل ــى اختــاف ي�‬ ‫توظيــف ًالمــكان ي ً� الروايــة الحديثــة ي� الغــرب‪ ،‬مم ــا أدى فبالت ـ ي‬ ‫اختلفــت طري ًقــة ً‬ ‫ن‬ ‫أهميتــه بوصفــه مكونــا روائيــا بنيويــا ودالليــا‪ ،‬وينطبــق هــذا عــى الروايــة العربي ًــة‪ ،‬ف ـ ي حـ يـ� كانــت الروايــة‬ ‫ّ ً‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ـر حاجت ًهــا إىل المــكان ي� كونــه م ـ ًـؤطرا لألح ــداث الروائي ــة ومرسحــا لهــا‪ ،‬صــار المــكان ي� الروايــة‬ ‫التقليديــة تحـ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫الحديثــة مشــاركا أساســيا ي� خلــق المعـ نـى وباعثــا لــه‪ ،‬ب ــل إنــه (( قــد يكــون ي� بعــض األحيــان هــو الهــدف مــن‬ ‫وجــود العمــل كلــه(‪.)35‬‬ ‫ف‬ ‫وبذلــك تخـ ّـى المــكان وظيفتــه اإليهاميــة الـ ت يـى تنحــر ي� اإليهــام بالواقــع مــن خــال تأطـ يـر األحــداث‬ ‫إىل وظائــف أعمــق‪ ،‬مــن شــأنها أن تحــدد جنــس الكتابــة النصيــة وطبيعتهــا واتجاههــا ف ــي كثـ يـر مــن األحيــان ((‬ ‫حـ تـى إن الخطــاب النقــدي بــدأ يشـ يـر إىل نصــوص مكانيــة وغـ يـر مكاني ــة ف ــي األدب المعــارص)) (‪.)36‬‬ ‫مــن الـرض‬ ‫وظيفتــه‬ ‫ـؤدي‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ك‬ ‫يم‬ ‫ال‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫الرسد‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫البن‬ ‫ـارص‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـكان‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫أن‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫ك‬ ‫نتذ‬ ‫أن‬ ‫وري‬ ‫ّ ً‬ ‫ّ ً‬ ‫المرجــوة إال مــن خــال العالقــات الـ ت يـى يبنيهــا مــع ســائر المكونــات الرسديــة األخــرى ًمؤث ـرا فيهــا أو متأث ـرا بهــا‬ ‫عــى حــد ســواء‪ ،‬ولذلــك فإنــه ((بقــدر مــا يصــوغ المــكان ه ــذه العناص ــر يكــون هــو أيضــا مــن صياغتهــا‪ ،‬وتلتحــم‬ ‫ئ‬ ‫ـروا� وتكتم ــل الوح ــدة العضويــة للعمــل))(‪.)37‬‬ ‫كل العنــارص المكونــة للنــص الـ ي‬ ‫وإضافـ ًـة إىل مــا ســبق فــإن المــكان الــردي يتمتــع بخاصيــة تمـ ي ز‬ ‫ـ� مــن‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫المر‬ ‫ـواقع‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ـان‬ ‫ـ‬ ‫ك‬ ‫الم‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ـر‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫وه خاصيــة خلق ــه م ــن خــال اللغــة‪ ،‬وإعطائــه جميــع‬ ‫ـرى‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫خ‬ ‫أ‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ج‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـرى‬ ‫ـ‬ ‫خ‬ ‫األ‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫الف‬ ‫�‬ ‫جهــة ومــن المــكان ي‬ ‫ي‬ ‫المزايــا الـ ت يـى تســتطيع اللغــة أن تــزوده بهــا‪.‬‬ ‫ب‪ -‬من املكان إىل الفضاء‪:‬‬

‫ين‬ ‫كان من أهم ثمرات هذا االهتمام النقدي بالمكان التفريق ي ن‬ ‫مصطلح�‬ ‫ب�‬ ‫المكان والفضاء وجعلهمـا ً‬ ‫ف‬ ‫متمايزيــن‪ .‬وعــى الرغــم مــن تنبــه بعــض الباحثـ ي ن‬ ‫ـ� العــرب إىل هــذا االختــاف ي� وقــت مبكــر نســبيا‪ ،‬فقــد أدى‬ ‫شــيوع المصطلــح األول (( المــكان )) ف� النقــد العــر� إىل اس ــتخدامه دون تميـ زـر عــى المســتوى اإلج ـرا�ئ‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ف ي‬ ‫بي ف‬ ‫ت‬ ‫ق‬ ‫ـتوي�ن‬ ‫التطبيـ ي كمــا نجــد لــدى سـ ي زـرا قاســم ي� دراســتها للمــكان ي� كتــاب ((بنــاء الروايـ ًـة)) إذ تعــرف بوجــود مسـ ي‬ ‫ث‬ ‫ت‬ ‫يع� عن الفراغ المتـسع الـذي‬ ‫من المكان األول (( محدد ي�كـز فيـه مكـان وقوع الحدث‪ ،‬واآلخر أك� اتساعا ب‬ ‫‪،‬نقال عن بورونوف‪ ،‬ص‪.٣٣‬‬ ‫() حسن بحراوي‪ ،‬بنية الشكل الروايئ الفضاء‪ ،‬الزمن‪ ،‬الشخصية‪ ،‬منشورات املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت ‪ -‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪ً ١،١٩٩٠‬‬ ‫‪ 35‬‬ ‫() خالد حسني حسني‪ ،‬شعرية املكان يف الرواية الجديدة ((الخطاب الروايئ الدوارد الخراط منوذجـاً‪ ،‬كتـاب الرياض‪ ،‬عدد(‪(، ٨٣‬أكتوبر ‪ -‬منشورات مؤسسة الياممة الصحفية‪،‬‬ ‫‪ 36‬‬ ‫الرياض ‪، ٢٠٠٠‬ص‪٦‬‬ ‫() حسني محمود‪ ،‬من بحث بعنوان‪ :‬املكان يف رواية زينب – الواقع والدالالت‪ ،‬مجلة املوقف األديب‪ ،‬منشورات إتحاد الكتاب العرب‪ ،‬عدد ‪، ١٩٩٩، ٣٤٣‬ص‪٤‬‬ ‫‪ 37‬‬


‫الفضــاء المكاني في رواية «حكاية بحار”‬ ‫حنا مينا‬


‫ت‬ ‫ال� تخلقها اللغة ف ي� النص‪.‬‬ ‫الفضاء‬ ‫ي‬ ‫الدالل ‪ :‬ويرتبط بالداللة ي‬

‫ت‬ ‫الفضاء كمنظور‪:‬‬ ‫ال� ينظر من خاللها الكاتب إلـى‬ ‫ي‬ ‫ويش� إىل وجهة النظر أو الطريقة ي‬ ‫ئ‬ ‫عالمه‬ ‫الحكا�(‪.)44‬‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫المكا� الذي يشـ يـر إىل أمكنة الرواية جميعها‪ ،‬بتجلياتها كافة‬ ‫وســتتوجه عنايتنا إىل الفضاء بمفهومه‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ا�‪ ،‬آخذيــن بعـ يـ� االعتبــار وجــود فضــاءات خاصــة جزئيــة ســيتم تتبعهــا ي�‬ ‫دون أن يكتـ ي بالمســتوى الجغـر ي‬ ‫النــص الــردي‪.‬‬ ‫د‪ -‬عالقة املكان بالعنارص الرسدية األخرى‪:‬‬

‫ف‬ ‫قلنــا إن المــكان الــردي عنــر بنيــوي تتجــى أهميتــه الحقيقيــة ي� النــص مــن خــال جمل ــة العالقــات‬ ‫ف‬ ‫والتفاعــات الـ ت يـى يقيمهــا مــع العنــارص األخــرى ي� الــرد‪ ،‬وتـ بـرز ف ــي مقدم ــة ه ــذه العالقــات عالقتــه بالزمــن‬ ‫ت‬ ‫األد�‬ ‫ـبية إىل ًالحقــل ب ي‬ ‫الــردي‪ ،‬وقــد تمــت اإلشــارة إىل أن مقولــة الفضــاء الـ ي‬ ‫ـى انتقل ــت بع ــد ظهــور نظريــة النسـ ً‬ ‫والنقــدي‪ ،‬ه تأكيــد جديــد عــى التــازم المعق ــود ب ـ ي ن‬ ‫ـ� الزمــن والمــكان‪ ،‬فقــد أصب ًحــا معــا جــزءا مــن الفضــاء‬ ‫ً‬ ‫يً‬ ‫ف‬ ‫ئ‬ ‫ـ�‪ ،‬إذ لــم يعــد ممكنــا أن تتخيــل فضــاء الروايــة‬ ‫الــردي عامــة والـ ي‬ ‫ـروا� خاصــة كم ــا ه ــو شــأنهما ي� الفضــاء الواقـ ي‬ ‫ن‬ ‫ن‬ ‫دون تخيــل الزمــن ال ــذي ينبـ يـى مــن خاللــه‪ .‬فالزمــن أصبــح البعــد الرابــع للمــكان ممــا يعـ يـى أن حضــور أحدهمــا‬ ‫يعـ ن يـى بال ـرض ورة حضــور اآلخــر‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وإذا كان الزمــن مرتبطــا باألفعــال واألحــداث الـ ت يـى تعــرض خــال الــرد فــإن المــكان يرتبــط أ كـ ثـر مــا يرتبــط‬ ‫ف‬ ‫بالوصــف وهــذا مــا يؤكــده حســن بحـراوي بقولــه‪ (( :‬ي� البنــاء الــردي يكــون التعبـ يـر األمثــل عــن المــكان مــن‬ ‫ُ‬ ‫خــال الوصــف بينمــا يرتبــط الزمــن باألفعــال (األحــداث) الـ ت يـى تعــرض م ــن خــال الــرد(‪.)45‬‬ ‫ً‬ ‫يرتبــط المــكان إضافــة إىل ذلــك مــع الشــخصيات بعالقــة متينــة‪ ،‬فهــو ال قيمــة لــه إذا لــم يحفــل‬ ‫ف‬ ‫بشــخصياته الـ ت يـى تمنحــه المعـ نـى‪ ،‬وتســهم ي� إغنائــه بالــدالالت مــن خــال العالقــات المختلفــة الـ ت يـى قــد تدخــل‬ ‫فيهــا هــذه الشــخصيات مــع المــكان كعالقــات التنافــر أو الحيــاد أو االنتمــاء(‪.)46‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫ومــن الجــ� أن التأثـ يـر المتبــادل بـ ي ن‬ ‫ـ� الشــخصية والمــكان‪ ،‬يجعــل كال منهمــا خاضعــا لآلخ ــر ي� تحديــد‬ ‫ي‬ ‫الكثـ يـر مــن ســماته‪ ،‬كمــا أن المــكان يدخــل ف� عالقــة مبـ ش‬ ‫ـا�ة مــع الحــدث‪ ،‬فهــو عن ــر مــن العنــارص المكونــة‬ ‫ي‬ ‫(‪)47‬‬ ‫للحــدث‪ ،‬بــل إن مجــرد اإلشــارة إىل المــكان تجعلنــا ننتظــر قيــام حــدث مــا ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫وهنــاك أيضــا وجهــة النظــر الـ ت يـى يقودهــا ال ـراوي أو إحــدى الشــخصيات المشــاركة ي� الــرد والـ ت يـى ال‬ ‫يمكــن إدراك المــكان الــردي إال مــن خاللهــا‪ ،‬فقد’ينقــل إلينــا المــكان عـ بـر وجه ــة نظ ــر موضوعيــة حياديــة‬ ‫ف‬ ‫ا�‪ ،‬أو عـ بـر وجهــة‬ ‫ال تتدخــل فيهــا ذاتيــة الناقــل وال نعــرف فيهــا عــن المــكان إال طابعــه الهندس ــي والطبوغ ـر ي‬ ‫نظــر ذاتيــة يكــون الناقــل فيهــا شــخصية مشــاركة بالــرد تـ بـرز فيه ــا عالقــة المــكان بإنســانه بــكل مــا يكتنفهــا‬ ‫مــن مشــاعر وأفــكار تتدخــل ف� رســم ص ــورة المك ــان‪ ،‬أو عـ بـر وجهــة نظــر مركبــة مــن الرؤيتـ ي ن‬ ‫ـ� الموضوعيــة‬ ‫ي‬ ‫والذاتي ــة‪ ،‬حي ــث تب ــرز مالم ــح المك ــان الطبوغرافيــة ومكوناتــه المختلفــة إضافــة إىل عالقــة المــكان باإلنســان‬ ‫الــذي ت‬ ‫يخ�قــه(‪.)48‬‬

‫‪4 4‬‬ ‫‪ 45‬‬ ‫‪ 46‬‬ ‫‪ 47‬‬ ‫‪ 48‬‬

‫()‬ ‫()‬ ‫()‬ ‫()‬ ‫()‬

‫حميد لحمداين‪ ،‬بنية النص الرسدي من منظور النقد األديب‪ ...‬ص‪ ٥٣‬وما بعدها‪.‬‬ ‫سيزا قاسم‪ ،‬بناء الرواية‪ ...‬ص‪.٧٦‬‬ ‫خالد حسني حسني‪ ،‬الشعرية املكان يف الرواية الجديدة‪ ...‬ص‪111-١١٠‬‬ ‫حسن بحراوي‪ ،‬بنية الشكل الروايئ‪ ...‬ص‪٣‬‬ ‫خالد حسني حسني‪ ،‬شعرية املكان يف الرواية الجديدة‪ ...‬ص‪.115 - ١١٤‬‬


‫تتك ــشف في ــه أح ــداث الرواية))(‪.)38‬‬ ‫وقــد أخــذ عــدد مــن الباحثـ ي ن‬ ‫ـ�‪ ،‬عب ــد ال ــرحيم مراشــدة‬ ‫ـ� ومــن بينهــم عبــد الملــك مرتــاض‪ ،‬حســن نجـ‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ئ‬ ‫ـروا� غالــب هلســا ترجمتــه لكتــاب غاســتون باشــار ب ـ (( جمالي ــات المــكان)) بــدال مــن‬ ‫ي‬ ‫وغ�هــم عــى الـ ي‬ ‫(‪)39‬‬ ‫الفضــاء ‪.‬‬ ‫ف‬ ‫ـ� المصطلحـ ي ن‬ ‫أمــا جوهــر الفــرق بـ ي ن‬ ‫ـ� فهــو داللــة مصطلــح ((المــكان)) عل ــى المك ــان الواح ــد المنفـ ًـرد ي�‬ ‫ف‬ ‫العمــل الــردي‪ ،‬وداللــة الفضــاء عــى مجمــوع األمكنــة الـ ت يـى تظهــر ي� العمــل الــردي كلــه وتشــكل مرسحــا لــه‪.‬‬ ‫ن ف‬ ‫ن‬ ‫األد� ك ــان إح ــدى نتائــج اإلنجــاز‬ ‫يؤكــد الباحثــون أن التفريــق بـ يـ� هذيــن المصطلحـ يـ� ي� مجــال النقــد ب ي‬ ‫ـ� الــذي أحدثتــه نظريــة النســبية آلينشــتاين الــذي حــدد الفضــاء بأنــه ينطــوي عــى المــكان والزمــان‬ ‫العلـ ي‬ ‫(‪)40‬‬ ‫والحركــة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الفضــاء إذا أعــم مــن المــكان‪ ،‬ليــس ألنــه يشــمل أمكنــةً الروايــة جميعهــا فقــط‪ ،‬ولك ــن ألن ــه يشـ يـر إىل‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ا�‪ ،‬وإن كان أساســيا‪ ،‬إنــه يســمح لنــا بالبح ــث ي� فضــاءات تتعــدى‬ ‫((مــا هــو أبعــد وأعمــق مــن التحديــد الجغـر ي‬ ‫(‪)41‬‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫المحــدد والمجســد‪ ،‬لمعانقــة التخييـ يـ� والذهـ يـى ومختلــف الصــور الـ يـى تتســع لهــا مقولــة الفضــاء)) ‪ .‬إضافــة‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ال� تقع ي� هذه األمكنة ولوجهات‬ ‫إىل أن داللة مفهوم الفضاء تتســع لتشــمل (( اإليقاع المنظم للح ــوادث ي‬ ‫نظــر الشــخصيات فيهــا )) (‪.)42‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫لكــن كلمــة الفضــاء الـ ت يـى حظيــت بالشــيوع أخـ يـرا‪ ،‬لــم تحــظ باإلجمــاع‪ ً،‬فقــد فضــل الباحــث عبــد الملــك‬ ‫مرتــاض عــى ســبيل المثــال‪ ،‬كلمــة ((الحـ ي زـر)) عــى كلمــة ((الفضــاء)) موضحــا أن م ــصطلح الفضــاء مــن وجهــة‬ ‫ز ّ‬ ‫مع� الخواء والفراغ‪ ،‬أما ي ز‬ ‫ألنه يســتلزم ن‬ ‫الح� فينرصف اســتعماله إىل (( النتوء‬ ‫الح�‬ ‫نظره قارص بالقياس إىل ي‬ ‫(‪)43‬‬ ‫والــوزن والثقــل والحجــم والشــكل)) ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫قــد اعـ تـرض عبــد الرحيــم مراشــدة عــى مصطلــح الحـ ي زـر الــذي اختــاره عبــد الملــك مرتــاض مبينــا أن‬ ‫ن‬ ‫ز‬ ‫ن‬ ‫ـا� عــام‬ ‫هنالــك نوعـ يـ� للفضــاء‪ ،‬األول خــاص يحتــوي عــى الجزئيــات ًواألشــياء مــع الحـ يـر ال ــذي تشــغله‪ ،‬والثـ ي‬ ‫ش‬ ‫ـ�ء الملمــوس باألشــياء مــن حولــه متجــاوزا الحـ ي زـر ال ــذي يشــغله‪ ،‬وهــذا مــا يجعــل مصطلــح‬ ‫يحيــل زإىل عالقــة ًالـ ف ي‬ ‫ن‬ ‫ـالمع� المـراد‪.‬‬ ‫(( الحـ يـر )) قــارصا ي� نظــره‪ ،‬وغـ يـر قــادر عــى اإليفــاء ب ـ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ن‬ ‫معا� أخرى البد من اإلشارة إليها‪.‬‬ ‫المكا�‪ ،‬فإن هناك‬ ‫إذا كنا قد تحدثنا عن الفضاء بمعناه‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ج‪ -‬معاين الفضاء‪:‬‬

‫ف‬ ‫ف‬ ‫األد� بــدالالت متعــددة‪ ،‬وكانــت ه ــذه ال ــدالالت محصــورة ي�‬ ‫ظهــرت كلمــة الفضــاء ‪ Space‬ي� النقــد ب ي‬ ‫األنــواع اآلتيــة‪:‬‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ا�‪ :‬وهــو الــذي شأ�نــا إليــه بالحديــث الســابق‪ ،‬يشــمل مجموعــة األمكن ــة الت ــي تظهــر ي�‬ ‫الفضــاء الجغـر ي‬ ‫النــص الــردي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ـ�‪ :‬وهــو ذو أبعــاد مكانيــة‪ ،‬لكنــه يتعلــق بالمــكان الــذي تشــغله الكتابــة عــى الــورق‪ ،‬وكيفيــة‬ ‫الفضــاء النـ ي‬ ‫تنظيــم الفصــول والغــاف وتصميمهــا‪ ،‬وغـ يـر ذلــك‪.‬‬ ‫() سيزا قاسم‪ ،‬بناء الرواية دراسة مقارنة لثالثية نجيب محفوظ‪ ،‬منشورات الهيئة العامة املرصية للكتاب‪٧٦،٧٥ ،‬ص‪١٩٨٤ ،‬‬ ‫‪ 38‬‬ ‫() حسن نجمي‪ ،‬شعرية الفضاء‪ ...‬ص‪، ٤٢‬عبد الرحيم مراشدة‪ ،‬الفضاء الروايئ‪ ،‬الرواية يف األردن منوذجاً‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪ ،‬اململكة األردنية الهاشمية‪، ٢٠٠٢ ،‬ص‪، ٥٥‬عبد‬ ‫‪ 39‬‬ ‫امللك مرتاض‪ ،‬يف نظرية الرواية‪ ،‬بحث يف تقنيات الرسد‪ ،‬عامل املعرفة عدد‪/،٢٤٠/‬منشورات املجلس األعىل للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬الكويت‪، ١٩٩٨ ،‬ص‪.١٤٢ ،١٤١‬‬ ‫() عبد الرحيم مراشدة‪ ،‬الفضاء الروايئ – الرواية يف األردن منوذجاً‪ ...‬ص‪.٢٤٥‬‬ ‫‪ 40‬‬ ‫() سعيد يقطني‪ ،‬قال الراوي‪ :‬البينات الفضائية يف السرية الشعبية‪ ،‬منـشورات املركـز الثقـايف العربـي‪ ،‬بريوت‪ -‬الدار البيضاء ط‪، ١٩٩٧، ١‬ص ‪.١٤٢ ٢٤٠‬‬ ‫‪ 41‬‬ ‫() سمر روحي الفيصل‪ ،‬الرواية العربية‪ ،‬البناء والرؤيا‪ ...‬ص ‪.٧١‬‬ ‫‪ 42‬‬ ‫() عبد امللك مرتاض‪ ،‬يف نظرية الرواية‪ ...‬ص ‪.١٤١‬‬ ‫‪ 43‬‬


‫الــردي‪ ،‬ي ـض ي ء ويكشــف جوانــب لهــا عالقــة بالمكونــات الرسديــة األخــرى‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً ف‬ ‫والوظيفــة البنائي ــة‪ :‬الـ ت‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ذ‬ ‫ـاوز‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫يت‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـص‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫�‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫تزيني‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫كو‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫في‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫ص‬ ‫الو‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫يق‬ ‫ال‬ ‫ـى‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إىل ترســيخه بوصفــه عن ـرا ض�وريــا لبنــاء الــرد ال يمكــن االســتغناء عن ــه ب ــل يكــون وجــوده ش�طــا أساســيا‬ ‫لمعرفــة المــكان والشــخصيات‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وأخـ يـرا الوظيفــة اإليهاميــة‪ ،‬الـ ت يـى تمــارس دور اإليهــام بالواقــع مــن خــال وصــف األش ــياء والتفاصيــل‬ ‫ف‬ ‫بشــكل يحيــل إىل وجودهــا ي� العالــم الخــار�ج ي (‪.)56‬‬

‫ثالثاً ‪ :‬الفضاءات الجزئية التي شكلت مكونات الفضاء الكلـي فيها و من أبرز هذه الفضاءات (البحر)‪:‬‬ ‫زً‬ ‫ّ‬ ‫كثــف الـ ئ‬ ‫ـرا عــن غـ يـره مــن الروائيـ ي ن‬ ‫ـ� العــرب بتخصيــص مجموعــة مــن‬ ‫لقــد‬ ‫ـروا� مــن إصداراتــه متمـ ي‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫الروايــات الـ ت يـى تصــور عالــم البحــر‪ .‬لــم يكــن ذلــك وليــد الصدفــة‪ ،‬فالكاتــب ولــد ي� الالذقيــة تلــك المدينــة‬ ‫ـرد مــع عائلتــه ف� مــدن وقــرى االســكندرونة ب ّ‬ ‫ب�هــا وبحرهــا‪ ،‬ولمــا عــاد إىل الالذقيــة عـ ش‬ ‫البحريــة‪ ،‬ثــم تـ ش ّ‬ ‫ـا� البحــر‬ ‫ي‬ ‫عن قرب‪ ،‬عاين حياة البحارة‪ ،‬وعمال الميناء‪ ،‬شــهد آالمهم‪ ،‬رآهم يغتســلون بعرق الهم وهم يحملون عىل‬ ‫أكتافهــم الصناديــق واألكيــاس‪ ،‬ومــن هنــا وجــد أن عالــم البحــر هــذا غـ يـر مفصــول عــن عالــم اليابســة‪ ،‬إنهــا ذات‬ ‫المعانــاة اليوميــة‪ ،‬ونفــس االنتهازيــة واالســتغالل‪ ،‬فقــرن بينهمــا ليجعــل منهــا صــورة واحــدة لمعانــاة المواطــن‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ّ‬ ‫زمكانيــة محــددة‪ ،‬فبحــث عــن خــاص ش‬ ‫الب�يــة مــن هــذا المحيــط الملطــخ فوجــده‪ ،‬ي� أبنــاء‬ ‫الســوري ي� ظــل‬ ‫ّ‬ ‫ـ� ّ‬ ‫الطبقــة المســحوقة مــن عمــال وفالحـ ي ن‬ ‫يتطهــر فيــه اإلنســان مــن أردان الرذيلــة‬ ‫وبحــارة‪ .‬بحــث أ كـ ثـر عــن عالــم‬ ‫ف‬ ‫ئ‬ ‫ـروا� ليشــمل مدينــة الالذقيــة ‪ ،‬البحــر‪.‬‬ ‫والوحشــية فوجــده ي� عالمــه الـ ي‬ ‫لكل فضاء عالمه‪ ،‬ناسه‪ ،‬بيئته االجتماعية‪ ،‬شكله‪ ،‬أو أشكاله الخارجية‪ ،‬ي ز‬ ‫م�اته الداخلية من عادات‪،‬‬ ‫تفك� ولغة ي ز‬ ‫تقاليد‪ ،‬لباس‪ ،‬مأكل‪ ،‬ش‬ ‫مم�ة‪.‬‬ ‫م�ب‪ ،‬طريقة حياة‪ ،‬أسلوب ي‬ ‫ف‬ ‫إن فضــاء الروايــة ليــس مكانـ ًـا بالمعـ ن‬ ‫ا� عــى بقعــة معينــة‬ ‫ر‬ ‫ـ‬ ‫غ‬ ‫ج‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫مو‬ ‫ـرد‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫م‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫وال‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫للكل‬ ‫ـق‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫الض‬ ‫ـى‬ ‫ي‬ ‫مــن األرض‪ ،‬وال هــو مجــرد مالمــح خارجيــة لطوبوغرافيــا المنطقــة أو المحيــط العــام‪ ،‬إن فضــاء الروايــة هــو كل‬ ‫هــذه األشــياء مجتمعــة‪ ،‬إضافــة إىل اإلنســان والحيــوان الــذي يعيــش فيــه‪.‬‬ ‫ّ ف‬ ‫فأبطــال مينــة لهــم مواصفــات ي ز‬ ‫غ�هــم مــن الشــخصيات‪ ،‬وكل ذلــك يتجـ يـى ي� رســم المــكان‬ ‫تم�هــم عــن ي‬ ‫ف‬ ‫ي� ظل الزمان‪ ،‬بناســه وشــخصياته وعوالمه الخيالية المنفتحة عىل المنشــود ال عىل الموجود‪ .‬ولكل فضاء‬ ‫لغتــه‪ ،‬فالبحــر فــرض عــى مينــا مفــردات ومصطلحــات تعـ بـر عنــه وتنقــل أجــواءه‪ ،‬ال مجــرد وصــف مياهــه‬ ‫وهياجــه وأعاصـ يـره‪ ،‬رغــم مــا لهــذه األمــور مــن أهميــة‪ ،‬إال أننــا يجــب أن نبحــث عمــا وراء هــذا الفضــاء‪ ،‬وعــن‬ ‫ئ‬ ‫ـروا� دون غـ يـره‪.‬‬ ‫دالالتــه‪ ،‬عالقتــه بالجــو العــام للروايــة‪ ،‬ومــا يحملــه مــن فـرادة يتحــى بهــا عالــم الـ ي‬ ‫‪-1‬فضاء البحر‪:‬‬

‫ف‬ ‫البحــر هــو المحــور األســاس الــذي تلتـ ُّ‬ ‫ـف حولــه األحــداث جميعهــا ي� روايــة (حكايــة بحــار) فقــد‬ ‫ي‬ ‫ش‬ ‫ـر� مــن م�قــه‬ ‫اســتأثرت المدينــة والقريــة بالروايــة العربيــة‪ ،‬ورغــم البحــر الواســع الــذي يحيــط بالعالــم العـ‬ ‫بي ّ‬ ‫حـ تـى مغربــه‪ ،‬إال أنــه لــم يشــغل بــال الروائيـ ي ن‬ ‫ـ� العــرب بشــكل كاف‪ ،‬ولــم يلــق مــن العنايــة مــا يســتحق‪ ،‬كذلــك لــم‬ ‫() حميد لحمداين‪ ،‬بنية النص الرسدي مـن منظـور النقـد األديب‪ ...‬ص ‪ - ٧٩‬سيزا قاسم‪ ،‬بناء الرواية‪ ...‬ص‪ - ٨٢-٨١‬خالد حسني حسني‪ ،‬شعرية املكان يف الرواية الجديدة‪ ...‬ص‪١٣١‬‬ ‫‪ 56‬‬ ‫‪-‬حسن بحراوي‪ ،‬بنية الشكل الروايئ‪ ...‬ص ‪176‬‬


‫أ‪-‬الوصف املكاين‪:‬‬ ‫ت ُ َ‬ ‫ف‬ ‫و�‬ ‫ـردي‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ـنص‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـكان‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫بال‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫للتعر‬ ‫خدم‬ ‫ـت‬ ‫لقــد شأ�نــا إىل أن الوصــف هــو األداة المثــى الـ يـى تسـ‬ ‫ي‬ ‫ـذي‬ ‫الحقيقــة فإنــه مــن غـ يـر الممكــن الحديــث عــن المــكان دون التطــرق إل ــى ًالوص ــف‪ ،‬ألن ًالوصــف هـ ًـو الـ ً‬ ‫يدخلنــا إىل تفاصيــل المــكان بأشــيائه وظواهــره وجزئياتــه‪ ،‬ويحيطنــا علم ــا بــأرساره‪ ،‬جاعــا منــه كيانــا نابضــا‬ ‫ليــس بمكوناتــه فقــط بــل بدالالتــه الناتجــة عــن خضوعــه ألبع ــاد بنيويــة ودالليــة ورمزيــة(‪.)49‬‬ ‫وإذا كان مــن الصعوبــة أن نفصــل الزمــن والمــكان الرسديـ ي ن‬ ‫ـ�‪ ،‬ب ــسبب تالزمهم ــا ال ــشديد واســتدعاء‬ ‫ً‬ ‫ن‬ ‫ـوال األفعــال أو األح ــداث‪ ،‬والوص ــف كأداة تعـ بـر عــن المــكان‪،‬‬ ‫أحدهمــا اآلخــر‪ ،‬فــإن ًكال مــن الــرد بمعــى تـ ي‬ ‫يصعــب فصلهمــا أيضــا‪ ،‬ومــا الحديــث عــن أحدهمــا دون اآلخــر إال بغــرض الدراســة والتحليــل‪.‬‬ ‫وقــد نًســتطيع الحصــول عــى بعــض المقاطــع الوصفيــة المســتقلة عــن الــرد‪ ،‬لكــن ال ــرد ال يمكــن أن‬ ‫ً‬ ‫يوجــد خالصــا مســتقال عــن الوصــف(‪.)50‬‬ ‫وإمكانيــة اســتقالل الوص ــف ال تعن ــي ب ــالطبع إمكانيــة قيــام نــص رسدي معتمــد عــى الوصــف وحــده‪،‬‬ ‫ألن النص الرسدي ناشـئ مـن التحـام الرسد والوصف‪ .‬أما تداخل الرسد بالوصف فيشكل ما يسىم بالصورة‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫الرسديــة الـ ت يـى تع ــرض األشــياء متحركــة‪ ،‬ي� مقابــل الصــورة الوصفيــة الـ ت يـى تعــرض األشــياء ي� ســكونها(‪.)51‬‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫والشــائع أن ي� الوصــف تعطيــا للزمــن الــردي‪ ،‬فهــو ((عـ ًـرض وتقديــم األشــياء والكائنــات والوقائــع‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫المكا� عوضـا عـن الزمنـي‪ ،‬وأرضيتها بدال من وظيفتها‬ ‫وجودها‬ ‫�‬ ‫والحوادث المتجردة‬ ‫ي‬ ‫من الغاية والقصد ي‬ ‫ً‬ ‫الزمنيــة‪ ،‬وراهنيتهــا بــدال مــن تتابعهــا )) (‪ .)52‬بــل إن هنــاك مــن يــرى أن الوصــف يوغــل ي ف‬ ‫� دائــرة المكانيــة عــى‬ ‫ف‬ ‫حـ ي ن‬ ‫ـ� يدخــل الــرد ي� دائــرة الزمنيــة(‪.)53‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫والحقيقيــة أن الوصــف ال يفـ تـرض دائمــا وقفــة زمنيــة كمــا أشــار إىل ذلــك أ كـ ثـر مــن باح ــث‪ .‬فقــد رأى‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ال�وســتية ال‬ ‫جـ يـرار جينيــت مثــا أثنــاء دراســته لروايــة بروســت ((البحــث عــن ًالزمــن ًالمفق ــود)) ((أن الحكايــة ب‬ ‫ـال ال تفلــت‬ ‫تتوقــف عنــد موضــوع ًأو منظــر دون أن يوافــق ذلــك التوقــف توقفــا تأمليــا مــن البطــل نفســه‪ ،‬وبالتـ ي‬ ‫القطعــة الوصفيــة أبــدا مــن زمنيــة القصــة (‪.)54‬‬ ‫ف‬ ‫ش‬ ‫ـ�ء‬ ‫والوصــف نوعــان حســب مــا تشـ يـر إليــه سـ ي زـرا قاســم‪ ،‬فهــو إمــا وص ــف ت ـ‬ ‫ي‬ ‫ـصني� يح ــاول اإلحاطــة بالـ ي‬ ‫ق‬ ‫ش‬ ‫ـ�ء‬ ‫وتجســيده بــكل حذافـ يـره دون تصويــر‬ ‫إحســاس المتلـ ي وموقفــه منــه‪ ،‬وإمــا وصــف تعبـ يـري يتنــاول أثــر الـ ي‬ ‫ف‬ ‫الموصــوف ي� الشــخص الــذي يتلقــاه(‪.)55‬‬ ‫وللوصف وظائف ينهض بها يف النص الرسدي هي‪:‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الوظيفة الزخرفية‪ :‬وفيها يكون الوصف إيقافا لزمن الرسد‪ ،‬وعنرصا طارئا عليـه‪ ،‬وال تكون له أهمية‬ ‫ق‬ ‫المتل� مـن تتابع األحداث‪.‬‬ ‫الدالل للنص بل يكون لوجوده غاية تزينيية تري ــح‬ ‫عىل المستوى‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ً ف‬ ‫ف‬ ‫وه تق ـض ي بــأن يكــون الوصــف ي� خدمــة القصــة وعن ـرا أساســيا ي� النــص‬ ‫والوظيفــة التفسـ يـرية‪ :‬ي‬

‫() خالد حسني حسني‪ ،‬شعرية املكان يف الرواية الجديدة‪ ...‬ص ‪77‬‬ ‫‪ 49‬‬ ‫() حميد لحمداين‪ ،‬بنية النص الرسدي من منظور النقد األديب‪ ...‬ص ‪.٧٨‬‬ ‫‪ 50‬‬ ‫() سيزا قاسم‪ ،‬بناء الرواية‪ ...،‬ص‪٨٢، ٨١‬‬ ‫‪ 51‬‬ ‫() جريالد برنس‪ ،‬املصطلح الرسدي‪ ...‬ص‪٥‬‬ ‫‪ 52‬‬ ‫() محمد عبد املطلب‪ ،‬بحث بعنوان‪ :‬تداخالت الرؤية والرسد واملكان يف رواية هالة البدري((منتهى))‪ ،‬مجلة فصول‪ ،‬الهيئة املرصية العامة للكتاب ‪ ،‬عدد ‪، ٤‬ربيع ‪، ١٩٩٨‬الجزء‬ ‫‪ 53‬‬ ‫الثاين‪ ،‬ص ‪ ٣ ٣١٧‬جريارجينت‪ ،‬خطاب الحكاية‪ ...‬ص‪.١١٢‬‬ ‫() جريار جينت‪ ،‬خطاب الحكاية‪ ...‬ص‪.١١٢‬‬ ‫‪ 54‬‬ ‫() سيزا قاسم‪ ،‬بناء الرواية‪ ...‬ص‪٨١‬‬ ‫‪ 55‬‬


‫إىل جانبــه الفـ تـى يندفــع بمثــل حركتــه‪ ...‬لكــن ســعيد تفــادى اإلعـ تـراض ومــرق كســهم(‪..)62‬‬ ‫باإلضافــة إىل أن هــذا العالــم هــو عالــم أحالمــه‪ ،‬عالــم الفــرح والســعادة النفسـ ّـية تقــول الشــخصية‬ ‫ف‬ ‫ـال‪ ،‬يجفــوه‪ ،‬ويحــس‬ ‫الرئيســية‪« :‬كان هــو يحــب الســهر عــى البحــر‪ ...‬ويعــرف‬ ‫أن النــوم ي� مثــلغ هــذه الليـ ي‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫بعــد تفـ ّـرق الصحــب بحاجــة إىل الصمــت‪ ...‬لقــد كان مــرورا ي� ســهرته ً‪ ..‬يصـ ي إىل أقوالهــم عــن البحــر بفــرح‬ ‫ـول(‪ ..)63‬ولــن تنـ يـ� أن هنــاك ارتبــاط للمــكان بالزمــان (الليــل) واضحــا‪ ،‬وقــد شــكل اإلطــار النفـ يـ� للــذات‪،‬‬ ‫طفـ ي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فقد وجد (س��عيد) نفس��ه مرسورا مغبطا ألن الليل والبحر يؤنســاه‪ ،‬يشــعرانه بالتفاؤل والرأفة الذاتية‪ .‬تقول‬ ‫ف‬ ‫و� ســكينة الليــل تصاعــدت معزوفــة المــوج الرخيمــة والرتيبــة عــى الرمــل‪ ،‬وبــدأت‬ ‫الشــخصية الرئيســية‪ « :‬ي‬ ‫تلــك الســهرة الليليــة الحبيبــة بجــوار البحـًـر(‪ ..)64‬تمــدد عــى البحــر أمــام الخيمــة ‪ :‬ونظــر إىل صفحــة المــاء‬ ‫المتأللئــة بأشــعة القمــر الفضيــة‪ .‬كان قريبــا مــن البحــر يســتعيد وهــو يرنــو إىل النجــوم صــورة ( عــروس البحــر)‬ ‫ف‬ ‫الـ تـى خرجــت اليــه ذات ليلــة صيــف‪ ،‬ويتســاءل‪ « :‬تــرى تحــدث المعجــزة ‪ ،‬وتخــرج ّ‬ ‫إل» ثانيــة ي� ليلــة الصيــف‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫(‪)65‬‬ ‫هــذه» ‪..‬‬ ‫أجنحــة الخيــال نحــو البعيــد البعيــد إىل الالواقــع‪،‬‬ ‫إن ســعيد حــزوم‪ ،‬أحالمــه فا تقــت الواقــع وطــارت مــع ً‬ ‫ن‬ ‫ـى عــودة عــروس‬ ‫إن عشــقه للبحــر فــاق المنطــق‪ ،‬حــى أصبحــت محبوبتــه أيضــا مــن عالــم البحــار‪ ،‬فهــو يتمـ‬ ‫ً‬ ‫البحــر إليــه‪ ،‬وربمــا أن جـ ّـل مــا يتمنــاه هــو حــب امـرأة يكــون فيهــا رائحــة البحــر وعاشــقة لــه أيضــا‪ ،‬حـ تـى ال يبتعــد‬ ‫عــن جـ ّـوه المأثــور ّ‬ ‫وحبــه القاتــل للبحــر ومــا يتضمنــه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ـ� للــذات‪ ،‬وأديــا دورا‬ ‫ً ف فالليــل (الزمــان) والبحــر (المــكان) قــد م ّثــا لــه الراحــة ًالنفســية أي اإلطــار النفـ ي‬ ‫مهمــا ي� إب ـراز الحالــة الفكريــة االجتماعيــة‪ ،‬للبحــارة وخصوصــا عنــد ســعيد حــزوم‪.‬‬ ‫‪-2‬فضاء املقهى‪:‬‬

‫لقــد مثــل فضــاء المقــى‪ ،‬العالــم الــذي مــن خاللــه يســتطيع فيــه ســعيد حــزوم‪ ،‬ت‬ ‫ال�فيــه عــن نفســه‬ ‫ونســيان مــا يريــد نســيانه‪ ،‬كحالــة كمــال كل مــن يقصــده وهــم كـ ثـر‪ ،‬فهــم ينســون اللحظــة والزمــن الــذي هــم‬ ‫ف‬ ‫فيــه‪ .‬تقــول الشــخصية الرئيســة‪ « :‬وكان الجالســون ي� المقــى ‪ ..‬يتوجســون خيفــة مــن ظــال أخــرى‪ ..‬تفســد‬ ‫عليهــم مزاجيــة الجلســة ت‬ ‫الم�فــة(‪..)66‬‬ ‫ق‬ ‫ن‬ ‫ـا� والفقـ يـر يرتــاده مــن أجــل البعــد عــن ضجيــج‬ ‫فالغـ يـى يرتــاد المقــى مــن أجــل إظهــار حالــة البطــر االنفـ ي‬ ‫الحيــاة والتعــب والهمــوم الملقــاة عــى عاتقــه تقــول الشــخصية الرئيســة‪ « :‬فالطبقــة الغنيــة الـ ت يـى صــارت ‪...‬‬ ‫تعـ بـر عــن نفســها بهــذا البطــر‪ ..‬الذيــن نهبــت منهــم أموالهــم يواجهــون شــظف العيــش(‪..)67‬‬

‫هــذا الفضــاء ســيطر عليــه العقــول الغافيــة‪ ،‬ال أحــد يشــغل عقلــه وتفكـ يـره‪ ،‬إن الموجوديــن يحتســون‬ ‫ش‬ ‫الم�وب عندها ال يستطيعون السيطرة عىل ترصفاتهم وردات فعلهم وهذا ما حصل مع «سعيد حزوم»‬ ‫ّ‬ ‫ق‬ ‫ـا�‪ .‬فكانــت ردة فعلــه مخيفــة كادت أن تؤذيــه حمــل مديــه‬ ‫الــذي ســأل عــن بـ يـرة بــاردة‪ ،‬ولــم يتجــاوب معــه السـ‬ ‫ي‬ ‫رض‬ ‫ن‬ ‫ـك� بيــد ويقلــب كــف اليــد األخــرى‬ ‫وكاد ً أن يــؤذي نفســه بهــا يقــول ال‬ ‫شــخصية الرئيســية‪ « :‬جعــل يـ ب بالسـ ي‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ـأ� التســديد دقيقــا فمــا يمــس اللحــم وال يغــرز ي� الكــف(‪..)68‬‬ ‫بطنــا لظهــر ‪ ...‬يـ ي‬ ‫‪6 2‬‬ ‫‪ 63‬‬ ‫‪ 64‬‬ ‫‪ 65‬‬ ‫‪ 66‬‬ ‫‪ 67‬‬ ‫‪ 68‬‬

‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص‪.31‬‬ ‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار‪ ،‬ص ‪.24‬‬ ‫() م‪ .‬ن ‪ .‬ص‪24‬‬ ‫() م‪ .‬ن ‪ .‬ص‪25‬‬ ‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار‪ ،‬ص ‪.64 - 63‬‬ ‫() م ‪ .‬ن‪ .‬ص ‪.64‬‬ ‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.70‬‬


‫يــول الباحثــون العــرب األهميــة الالزمــة لروايــة البحــر(‪.)57‬‬ ‫ّ‬ ‫“وتشــكل روايــات حنــا مينــة اإلســتثناء‪ ،‬مــع بعــض الروايــات العربيــة الحديثــة الـ ت يـى تعــد عــى أصابــع اليــد‬ ‫الواحــدة‪ ،‬كروايــة الســفينة (‪ )1970‬لجـ بـرا إبراهيــم جـ بـرا (‪ ،)1919-1994‬ومــن مكــة إىل هنــا (‪ )1970‬لصــادق‬ ‫وغ�ها‪.‬‬ ‫النيهوم (‪...)58( )1937-1994‬‬ ‫ي‬ ‫لكننــا لــم نــر ايــا مــن هــؤالء الكتــاب مــن يــر عــى خلــق روايــة بحريــة وعالــم بحــري‪ ،‬بناســه ومحيطــه‪،‬‬ ‫ف‬ ‫وأجوائــه‪ ،‬وعــادات بحارتــه‪ ،‬وخصالهــم‪ ،‬كمــا فعــل حنــا مينــا ي� ثالثيتــه وعــى وجــه الخصــوص روايتــه «حكايــة‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫و� كتــب السـ يـرة الذاتيــة‪ ،‬عــن عالقتــه‬ ‫بحــار»‪ ،‬لطالمــا تحــدث مينــة ي� مقابالتــه الصحفيــة واإلعالميــة‪ ،‬ي‬ ‫بالبحــر وعــن تجربتــه الشــخصية الـ ت يـى جعلتــه يخــوض هــذه المغامــرة‪ .‬فهــل تتشــابه تجربــة مينــا مــع تجربــة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مو� ديك (‪ )1851‬الذي عمل بحارا وصيادا‬ ‫هرمان ملفل (‪ )1819-1891 Herman Melville‬صاحب ب ي‬ ‫للحيتان؟ وهل من تشابه مع تجربة أرنست همنغواي (‪ )1899-1961 Ernest Hemingway‬صاحب‬ ‫الشــيخ والبحــر (‪ )1952‬الــذي انفــرد عــى شـ ئ‬ ‫ـاط للصياديــن يراقبهــم عــن كثــب؟‬ ‫الكب� أنطون تشــيخوف إىل جزيرة بعيدة ومعزولة تدىع سـ ي ن‬ ‫ـخال� ليكتب‬ ‫الروس‬ ‫لقد ســافر الكاتب‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫و� كســب المعرفــة والخـ بـرة بتجربــة‬ ‫وه تجربــة ف متشــابهة ي� المعانــاة‪ ،‬ي‬ ‫عــن معانــاة الســجناء المبعديــن‪ ،‬ي‬ ‫ه خـ بـرة مينــة ي� عالــم البحــر؟ وهــل كان بحاجــة إىل مثــل هــذه التجــارب حـ تـى‬ ‫همنغـ فـواي وتجربــة ملفــل‪ .‬فمــا ي‬ ‫َّ‬ ‫يوفــق ي� تصويــر البحــر؟‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫تقــول الشــخصية الرئيســية‪ « :‬لــم يبــق ي� البحــر أحــد‪ ،‬هجــره الســابحون وغابــت الشــمس عنــه وظلــت‬ ‫الري ـ ــح وحدهــا تداعــب ســطحه‪ ،‬وتدفــع موجــه نحــو الشـ ئ‬ ‫ـاط‪ ...‬تطـ يـر بأجنحــة غـ يـر مرئيــة فــوق كائناتــه المائيــة‬ ‫الـ تـى تفـ شـ� ّ‬ ‫رسهــا للنجــوم(‪..)59‬‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫لقــد وصــف البحــر بطريقــة غراميــة خياليــة مازجـ ًـا بـ ي ن‬ ‫ـ� المشــاعر واألحاســيس ومــوج حبيبــه‪ ،‬رابطــا مــا‬ ‫ف‬ ‫يختلــج ي� قلبــه بإحســاس البحــر وكأنــه مخلــوق يتجــاوب معــه‪ ،‬يبادلــه الشعور(بالفرح‪/‬الحزن‪/‬االشــتياق‪)...‬‬ ‫تقول الشخصية الرئيسية‪« :‬يقول ف ي� ذاته للبحر كعادته‪:‬‬ ‫حبي� بقد عدت إليك)(‪..)60‬‬ ‫(حبي� يا ب ي‬ ‫بي‬ ‫ئ ف‬ ‫ش‬ ‫ز‬ ‫ز‬ ‫ـا� ي� رواياتــه؟ وعــى وجــه الخصــوص روايتــه‬ ‫ه مـ يـرات هــذا الحـ يـر المـ ي‬ ‫كل في‬ ‫�ء‪ ،‬مــا ي‬ ‫ثــم‪ ،‬أوال وقبــل ُ ِّ‬ ‫«حكايــة بحــار» وهــل وفــق ي� خلــق فضــاء متفــرد؟‬ ‫ُ‬ ‫إن البحــر مـ زـرة مينــا الروائيــة وعالمــه الـ ئ‬ ‫ـروا� المتفـ ّـرد‪ ،‬فــإن كانــت ًروايتــه ًاألوىل قــد قرنــت بروايــة نجيــب‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫محفــوظ (‪ )2006-1911‬زقــاق المــدق (‪ )1947‬ي� اختيــار الكاتبـ يـ� حيــا شــعبيا ي� مدينــة‪ ،‬فــإن روايتــه الثانيــة‬ ‫ُ‬ ‫ـ� ارنســت همنغــواي(‪..)61‬‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫العا‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫للكا‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫والب‬ ‫ـيخ‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ال‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫بروا‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫ر‬ ‫ق‬ ‫قــد‬ ‫ي‬ ‫ه وليــد الصدفــة‪ ،‬فالروايــة العربيــة فقـ يـرة إىل روايــة البحــر‪ ،‬وهــا‬ ‫لــم تــأت‬ ‫المفارقــة عفــو ًالخاطـ ًـر‪ ،‬وال ي‬ ‫ت‬ ‫هــو كاتــب مبتــدئ يخــرق عالمــا جديــدا ويلــح عــى إصــدار كــم مــن الروايــات يتنــاول مــن خاللهــا عالــم البحــر‬ ‫ف‬ ‫عالــم البحــر‪ ،‬لــدى مينــا ي� «حكايــة بحــار»‪ ،‬يرتبــط بعالــم الرجولــة والمغامــرة والمــدى البعيــد‪ .‬فتقــول‬ ‫ف‬ ‫الشــخصية الرئيســية‪ « :‬فتــح ســعيد عينيــه ف ي� المــاء كعادتــه‪.‬‬ ‫ـزل ي� المــاء بحركــة قفــز عموديــة‪ ،‬ثــم‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫كان‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫اســتقام وقــد شــد جســمه‪ ،‬وجعــل يفتــح ذراعيــه ويشــق بهمــا المــاء مندفعــا إىل األمــام بحركــة إيقاعيــة‪ ...‬ويــرى‬ ‫‪5 7‬‬ ‫‪ 58‬‬ ‫‪ 59‬‬ ‫‪ 60‬‬ ‫‪ 61‬‬

‫() حول بعض هذه الروايات “البحرية” انظر ياغي‪ ،1999 ،‬ص ‪65 - 73‬‬ ‫() عطية‪ ،1981 ،‬ص‪.145‬‬ ‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار‪ ،‬ص ‪20‬‬ ‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار‪ ،‬ص ‪.20‬‬ ‫() انظر شكري‪ ،1980 ،‬ص ‪.235‬‬


‫فرضــت ت‬ ‫اح�امهــا وكلمتهــا عــى الجميــع تقــول الشــخصية الرئيســة‪« :‬حيــث يصبــح بالمتعاركـ ي ن‬ ‫ـ�‪( :‬ك ـىف )‬ ‫ّ‬ ‫ّ ف‬ ‫معـ نـى ذلــك أن يكــف الجميــع أن يتوقفــوا‪ ،‬أن يحتكمــوا إليــه‪ ،‬إال تدخــل ي� الع ـراك‪ ،‬وأدب الذيــن يركبــون‬ ‫رؤوســهم»(‪..)71‬‬ ‫ف‬ ‫ّ كمــا أظهــرت الشــخصية الرئيســة الطبيعــة األخالقيــة الـ ت يـى تمتــع بهــا (صالــح)‪ ،‬فهــو ي� وســط المعــارك‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫يحكم إىل عقله‪ ،‬يدرس ّ‬ ‫الترصفات واألحداث ت‬ ‫‪:‬‬ ‫و�‬ ‫«‬ ‫الرئيسة‬ ‫الشخصية‬ ‫تقول‬ ‫حصلت‬ ‫ال�‬ ‫ترصفاته وهذه‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫اللحظــة نفســها ففــرت األفــواه دهشــة‪ ،‬كان صالــح يرفــع شــعبو إىل أعــى‪ ،‬إىل فــوق رأســه‪ ،‬وخيــل إىل الجميــع‬ ‫أنــه ســي�ض ب بــه حافــة المركــب وأنــه ســيقتله ال محالــة‪ ،‬لكــن صالــح اتجــه إىل النهــر‪ ،‬وقــذف بــه إىل المــاء‪،‬‬ ‫كخرقــة لحميــة‪ ،‬وقــذف بالقضيــب الحديــدي وراءه ومــن جديــد نفــض يديــه(‪..)72‬‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫وأمــا مــا حصــل ي� المقــى أيضــا مــن أحــداث عنــد هبــوب العاصفــة تظهــر مشــاعر الخــوف والقلــق‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫و� ذلــك اليــوم المشــؤوم‪ ،‬تجمعــت ي� هــذا‬ ‫الـ ت يـى انتابــت مــن تواجــد أبناءهــا‪ ،‬تقــول الشــخصية الرئيســة‪« :‬‬ ‫ي‬ ‫ُّ‬ ‫المرفــأ ســفن وقاطـرات‪ ..‬لجــأت إليــه مجتمعــة بحوضــه الواســع‪ ..‬فــكان المقــى ي ًعــج بأصحــاب هــذه الســفن‬ ‫ف‬ ‫والمراكــب وببحارتهــا‪ ،‬وبال ـركاب الذيــن انقطعــوا عــن الســفر‪ ..‬وقــد تكومــوا جميعــا ي� ابنيــة المرفــأ‪ ،‬وتجمعــوا‬ ‫ف ي� المقــى‪ ،‬وكلهــم يرتجــف لهــول العاصفــة الـ ت يـى بــدت خــال ســاعات طويلــة أنهــا ســتقتلع ســقوف األبنيــة‪..‬‬ ‫ً‬ ‫ت ّ‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫وي�نــح يمينــا ويســارا‪ ،‬وحبالــه تغــوص ي� المــاء وتظهــر‬ ‫الصعــود إىل ظهــر أي مركــب يتأرجــح ي� مهــب التيــار‪،‬‬ ‫ف‬ ‫عــى الســطح‪ ،‬ي� توتــر بالــغ يوشــك أن يتقصــف»(‪..)73‬‬ ‫وغ�هــا‪ ،‬معالمهــا الرئيســية ومــا حصــل مــن أحــداث‬ ‫ه األمكنــة (المقــى‪ ،‬البحــر‪ ،‬النهــر‪ ،‬المرفــأ‪ ،‬ي‬ ‫هــذه ي‬ ‫ّ‬ ‫وتطــورات‪ ،‬ومــا ظهــر فيهــا مــن مشــاعر وردات فعــل وترصفــات تنطــق بصفــوف القهــر والتعــب والحالــة‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫االجتماعيــة الصعبــة‪ ،‬وهــذه األحــداث فقــد ت‬ ‫اق�بــت مــن الواقعيــة‪ ،‬وجعلــت القــارئ يشــعر وكأنــه يتأمــل مشــهدا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حقيقيــا‪ ،‬يعيشــه بكافــة تفاصيلـ ًـه‪ ،‬يغــرق بجزئياتــه (البحــر‪ً ،‬النهــر‪ )..‬مشــكال إطــارا لألحــداث وقــد غــدا المكانــان‬ ‫ف‬ ‫ومتنفســا ًلهمومــه‪ ،‬وبمــا يختلــج ي� داخلــه وصميمــه‪ ،‬بعــد‬ ‫مــن خــال رؤيــة الكاتــب‬ ‫مرتبطــا بمشــاعره ورؤيتــه‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫ىف‬ ‫أن تخــى عــن حياديتــه وتخـ خلــف األحــداث أحيانــا وصانعــا لألحــداث مـرارا‪.‬‬ ‫ب‪ -‬املكان املحبوب‪ /‬املكروه‬

‫ً‬ ‫ّ‬ ‫لقــد غــدا (البحــر) المــكان محبوبــا بالنســبة إىل ســعيد حــزوم‪ ،‬فهــو معشــوقه‪ ،‬إليــه يشــكو ويتــودد‪ ،‬منــه‬ ‫ينتظــر المعجـزات‪ ،‬يتحــدث معــه وكأنــه كائــن ٌّ‬ ‫ح يفهمــه فيلـ ب يـى‪ ،‬يســمعه فيجيبــه يتعامــل معــه معاملــة األحبــة‬ ‫ّ ي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ليخيــل إليــك أنــه ُخ ِلــق مــن صلبــه وترعــرع بـ ي ن‬ ‫ـ� أحضانــه‪ ،‬يشــاركه أفراحــه‬ ‫يتغــزل فيه‪،‬يصفــه وصفــا جاذبــا‪ ،‬حـ تـى‬ ‫وأتراحــه‪ ،‬محبوبتــه‪ .‬خرجــت منــه مــن رملــه ومائــه‪ ،‬تقــول الشــخصية الرئيســة‪« :‬فجــأة‪ ،‬خرجــت تلــك الم ـرأة‬ ‫مــن البحــر‪ ،‬هــو لــم يرهــا تخــرج مــن البحــر‪ ،‬ولــم يرهــا تـ تـأ� مــن اليابســة‪ ،‬ولعلهــا انبثقــت مــن رمــل الشـ ئ‬ ‫ـاط‪ ..‬لــم‬ ‫ي‬ ‫يفكــر آنئــذ إال أنهــا ابنــة المــاء(‪..)74‬‬ ‫حبهــا للبحــر‪ ،‬ليــس عــر ترصفاتهــا فحســب بــل ت‬ ‫فقــد تحدثــت الشــخصية عــن ّ‬ ‫اع�فــت برصاحــة‬ ‫ب‬ ‫ف‬ ‫أنهــا تعشــق البحــر‪ ،‬بــل وقــد بــدت حزينــة ألنهــا قــد كـ بـرت ي� الســن وأصبحــت تجــد نفســها غـ يـر مناســبة لــه‬ ‫ً‬ ‫‪.‬‬ ‫ـخصية الرئيســة‪« :‬وهــو لــم يعــد بحــارا‪ ،‬مـىض زمــن البحــر‪ ،‬تــرك المهنــة ومعهــا مـرات‬ ‫ولمغامراتــه تقــول الشـ ً‬ ‫ً‬ ‫قلبــه‪ ،‬ويخيــل إليــه أحيانــا أنــه نســيها أو أنــه أصبــح قــادرا عــى نســيانها‪ ،‬فــإذا عــاد إىل البحــر‪ ،‬عــاوده عشــقه لــه‪،‬‬ ‫و� موضــع آخــر‪ ،‬تظهــر صــورة مشــاعر ســعيد تجــاه البحــر ّ‬ ‫وتقمــص مــن جديــد صــورة البحــار»(‪ ..)75‬ي ف‬ ‫جليــة‬ ‫‪7 1‬‬ ‫‪ 72‬‬ ‫‪ 73‬‬ ‫‪ 74‬‬ ‫‪ 75‬‬

‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.152‬‬ ‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.159‬‬ ‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.166 - 165‬‬ ‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.15‬‬ ‫() م ‪ .‬ن‪ .‬ص ‪.15‬‬


‫هــذه الحركــة الرسيعــة الـ ت يـى تعلمهــا «ســعيد» كادت تؤذيــه وكل مــا قــام بــه مــن أجــل أن ينفــذ غضبــه وأن‬ ‫يثبــت رجولتــه أمــام الحضور‪.‬‬ ‫ف‬ ‫تفك�هــم ورؤياهــم تجــاه اآلخــر الطبقــة‬ ‫إن فضــاء المقــى قــد مثــل الطبقــات االجتماعيــة ومــا يجــول ي� ي‬ ‫الغنيــة ونظرتهــا الدونيــة إىل الطبقــة الفقـ يـرة وإحســاس هــذه الطبقــة بدورهــا تجــاه الطبقــة الغنيــة‪ ،‬فهــو شــعور‬ ‫ممــزوج بالحقــد والظلــم والتظلــم والفوقيــة واالضطهــاد‪ .‬تقــول الشــخصية الرئيســية‪ « :‬أنــا أتألــم لمــا أســمع‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ـ� ي� نفســه مــن‬ ‫وأرى‪ ..‬وأتســاءل يـ ف ي‬ ‫ـأ� يــوم نتخلــص فيــه مــن الظلــم‪ ،‬مــن االضطهــاد‪ ...‬ومــا أثارتــه رؤيــة الويسـ ي‬ ‫أىس‪ ،‬غيظــة البـ يـرة ي� قرارتــه(‪..)69‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فلــم يعــد يمثــل هــذا الفضــاء‪ ،‬المــكان المريـ ـ ــح الــذي يرفــه فيــه اإلنســان عــنً نفســه فحســب بــل تعــداه‬ ‫إىل إظهــار كل صنــوف القهــر االجتمــاع‪ ،‬وإننــا لتجــد ارتبــاط المــكان بالزمــان ّ‬ ‫جليــا (الليــل) وقــد مثــل اإلطــار‬ ‫ي‬ ‫الزبائــن الموجوديــن ف� المقــى‪ ،‬منهــم مــا يمثــل الطبقــة الكادحــة الـ تـى تـ ت‬ ‫ـأ�‬ ‫ـ� للــذات‪ ،‬فقــد وجــد (ســعيد)‬ ‫ي ي‬ ‫ي‬ ‫النفـ ي‬ ‫إىل المقــى لتنــى همومهــا اليوميــة والمعانــاة واالضطهــاد‪ً ،‬وآخــرون يحاولــون إثبــات أنفســهم أمــام الطبقــة‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫ّ‬ ‫واالجتماعيــة القائمــة‬ ‫الفقـ يـرة‪ ،‬ومــن هنــا نجــد ًأن المــكان (المقــى) قــد أدى دورا مهمــا ي� إبـراز الحالــة النفسـ ّـية‬ ‫عنــد ّ‬ ‫البحــارة وخصوصــا عنــد (ســعيد حــزوم)‪.‬‬

‫رابعا‪:‬متثيل املكان يف رواية (حكاية ب ّحار)‪:‬‬

‫ـ�‪ ،‬المــكان المحبــوب‪/‬‬ ‫يتنــاول تمثيــل المــكان مجموعــة موضوعــات ي‬ ‫ـ�‪ /‬غـ يـر الواقـ ي‬ ‫ه المــكان الواقـ ي‬ ‫المكــروه‪ ،‬والمــكان المــرح‪.‬‬ ‫أ‪ -‬املكان الواقعي‪/‬غري الواقعي‪:‬‬

‫ـعيد وحياته مع البحر وعشــقه له وتعلقه بوالده‬ ‫إن أغلب أحداث القصة بل معظمها تدور حول سـ‬ ‫ً‬ ‫الــذي يـراه قــدوة لــه‪ ،‬وكل األحــداث الـ تـى حصلــت‪ ،‬كانــت أحداثــا واقعيــة‪( .‬فالبحــر‪ ،‬أهــل الــ�‪ ،‬ح ش‬ ‫ال�اديــق‪،‬‬ ‫ي ي‬ ‫ي‬ ‫ـ� جميعهــا إىل عالــم الواقــع‪.‬‬ ‫النهــر ‪ ،‬الســفن‪ ،‬الليــل) تنتـ ي‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وخصوصا ّ‬ ‫البحارة المعروفون‬ ‫الح‪،‬‬ ‫أهل‬ ‫وإىل‬ ‫آنذاك‬ ‫الواقع‬ ‫إىل‬ ‫رؤيته‬ ‫الكاتب‬ ‫م‬ ‫قد‬ ‫وع� هذه األمكنة‪،‬‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫ئ ف‬ ‫ّ‬ ‫ـزوم والــد الشــخصية الرئيســية (ســعيد‬ ‫بصفــة الشــجاعة والرجولــة‪ ،‬ومــا جســده الـ ي‬ ‫ـروا� ي� شــخصية صالــح حـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫حــزوم)‪ ،‬مــن ناحيــة طريقــة عيشــه ومغامراتــه وتضحياتــه وشــخصيته الفــذة تقــول الشــخصية الرئيســية‪« :‬إنــه‬ ‫ً‬ ‫ّ ً‬ ‫تتــوج بزهــور القــاع البيضــاء واســتوى عــى مـ ت ن‬ ‫‪:‬‬ ‫ه‬ ‫ـذه‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫(‬ ‫ـال‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ا‬ ‫ز‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫ع‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫ـ� المــرج كملــك عــن جــدارة‪ ً ...‬لكــن بحــا‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫الحــارة الـ تـى تليــق ّ‬ ‫ـ� ّ‬ ‫و� وضــع آخــر تتبـ ّي ن‬ ‫قوتــه ورؤيــة‬ ‫ـأ‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫مر‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫عا‬ ‫أو‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫عر‬ ‫ـائق‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ك‬ ‫‪،‬‬ ‫ـا‬ ‫ببحــار‪ ،‬ودونهــا يصبــح عاديـ‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ش‬ ‫‪:‬‬ ‫مــن حولــه إليــه تقــول الشــخصية الرئيســية «نبتــر دبيــب الرجولــة فيمــن حولــه فتتألــق العيــون وتومــض‬ ‫ش�ارات خاطفــة وهــم يجيبــون‪ :‬مــن حديــد يــا صالــح! مــن حديــد يــا أبــا ســعيد!‬ ‫يجيب صالح!‬

‫ً‬ ‫ً أعــرف‪ ...‬ال يكــون مــن هــذا الشــعب‪ ،‬مــن هــذه المينـ ّـاء‪ ،‬مــن كان قلبــه أرنبــا! ســمعوا‪ :‬كلمــة حديــد تعـ ن يـى‬ ‫ش‬ ‫�ء آخــر‪ ،‬يــرق أمــام ش�وق الشــمس ويتصلــب أمــام العاصفــة البحــار صــورة عــن البحــر(‪..)70‬‬ ‫شــيئا‪ ...‬اإلنســان ي‬ ‫غ�هــا مــن بـ ي ن‬ ‫ـ� البحــارة بقوتهــا وشــجاعتها ورباطــة جأشــها وكذلــك‬ ‫هــذه الشــخصية الـ ت يـى امتــازت عــن ي‬ ‫‪6 9‬‬ ‫‪ 70‬‬

‫() م ‪ .‬ن‪ .‬ص ‪74‬‬ ‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.145 - 144‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫كمــا بــدا البحــر (المــكان) لــدى مينــا‪ ،‬مرتبطــا بعالــم الرجولــة والمغــارة والمــدى البعيــد‪ ،‬أخــذ البحــر بعــدا‬ ‫ف‬ ‫ا� يعتــاش منــه ســعيد والبحــارة والصيــادون بــل هــو مــكان‪ ،‬فعــل داللــة وانتمــاء‬ ‫أ كـ بـر مــن مجــرد موقــع جغ ـر ي‬ ‫ـ� إىل هــذا العالــم ومــا التنــازل عنــه أو عــدم‬ ‫وهويــة‪ .‬إذ ال وجــود لســعيد وال كيــان لــه بــدون البحــر ألنــه ينتـ ي‬ ‫محبتــه إال تنــازل عــن الكيــان والهويــة‪.‬‬ ‫ف‬ ‫ال�كــة المائيــة‪ ،‬الزرقــاء‪ ،‬الواســعة‬ ‫تقــول الشــخصية الرئيســة‪ « :‬ي� البحــر تختلــف األشــياء هــذه ب‬ ‫تضطــرب ف� العواصــف‪ ،‬تصخــب أمواجهــا وتندفــع محمحمــة إىل الشـ ئ‬ ‫ـاط‪ ،‬وترتطــم بالصخــور فتتحطــم‪،‬‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫ش‬ ‫ـ� مخيــف‪ ،‬لكــن البحــر عريــض‪ ،‬فســيح‪،‬‬ ‫وتتناثــر وت فغــدو زبــدا‪ ،‬نجــارا أبيــض‪ً ،‬وترتــد إىل المــاء ثانيــة ي� زئـ يـر وحـ ي‬ ‫ال يجــري � ضفتـ ي ن‬ ‫ـ� وال يملــك تيــارا‪ ،‬وتســتطيع فيــه المنــاورة والحركــة‪ ،‬وتفــادي التيــارات الجوفيــة‪ ،‬بــأن تبتعــد‬ ‫ي‬ ‫إىل األعمــاق‪ ،‬وتقــدر مــا اســتطعت إىل األعمــاق‪..)80( .‬‬ ‫فقــد أقــام ســعيد حــزوم مقارنــة بـ ي ن‬ ‫ـ� البحــر والنهــر وخلــص إىل نتيجــة مآلهــا أن البحــر رغــم هياجــه بظــل‬ ‫ً‬ ‫أ كـ ثـر رأفــة مــن النهــر وهــو فضــا عــن ذلــك يطـ ُّـل عــى عوالــم واســعة وفســيحة‪ ،‬وتســتطيع مــن خاللــه أن تصــل‬ ‫ف‬ ‫إىل المــدى البعيــد‪ .‬إنــه بوابــة للطمــوح‪ ،‬مــن يلــج مــاءه غــاص ي� أعماقــه واكتشــف عوالــم جديــدة ال تحدهــا‬ ‫ضفــاف؟‪ .‬هــذا هــو بحــر مينــا‪ ،‬بركــة زرقــاء واســعة مــن ناحيــة‪ ،‬وهائــج صــارخ محمحــم ويـزأر كأســد مــن ناحيــة‬ ‫ش‬ ‫معا�تــه؟ لــن يكــون إال‬ ‫ه مواصفــات هــذا اإلنســان القــادر عــى‬ ‫ـرى‪ ،‬فمــن ذا القــادر عــى معايشـ ًـته؟ مــا ي‬ ‫أخـ ً‬ ‫عاشــقا للبحــر وأنوائــه‪ ،‬ليصبــح قــادرا عــى ريــادة مجاهلــه الواســعة والشاســعة‪ ،‬يتســع عالــم البحــر ويخــرج مــن‬ ‫ف‬ ‫ا� حيــث تجمــع المــاء ف ي� إطــار شــواطئه الضيقــة ويتشــخصن ويتحــول إىل مثــل اســتعارة وداللــة‪.‬‬ ‫اطــاره الجغـر ي‬ ‫نخلــص القــول‪ ،‬بــأن البحــر معشــوق ســعيد (الشــخصية الرئيســة) وحالــة العشــق الـ ت يـى تربــط بينهمــا‬ ‫ف‬ ‫البحــار موتيــف (حافــز ومحـ ّـرك) يعــود عــى ذاتــه وهــذا مــا ظهــر ي� هــذه الروايــة‪ ،‬هــذا العشــق للمــكان الممــزوج‬ ‫بالرهبــة واالجــال والتعظيـ ًـم ألن البحر(ملــك)‪ ،‬عالــم البحــر هــو عالــم الرجولــة‪ ،‬فقــد انســجم ســعيد بهــذا‬ ‫ً‬ ‫ـكال ورائحــة‪ ،‬تمامــا كمــا تمـ ت زـرج رائحــة الـ تـراب بعــرق الفــاح ووجدانــه‪.‬‬ ‫العالــم شـ‬ ‫هــذه المشــاعر الجياشــة تجــاه البحــر وأهميتــه عنــد ســعيد‪ ،‬عكســت تمامـ ًـا مشــاعره ّ‬ ‫الرافضــة للنهــر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وقــد بــدا ذلــك جليــا مــن خــال المقارنــة الـ ت يـى أجراهــا بينهمــا (البحــر‪ /‬النهــر)‪ ،‬يعــود ســبب ذلــك‪ ،‬ليــس فقــط‬ ‫(الضيف‪/‬عــدم الرأفــة والرحمــة)‪ ،‬بــل إىل ّ‬ ‫َ‬ ‫قصــة مــا حصــل مــع أبيــه‬ ‫للمواصفــات الـ ت يـى اعطاهــا ونســبها إىل النهــر‬ ‫أثنــاء العاصفــة‪ ،‬وكاد النهــر أن يــرق والــده منــه‪ ،‬باإلضافــة إىل مــا حصــل مــن ض‬ ‫إ�ار ومــا سـ ّـببه هــذا النهــر مــن‬ ‫مأســاة عــى النــاس‪.‬‬ ‫تقول الشــخصية الرئيســة واصفة حال ما حصل أثناء العاصفة‪ ،‬وهذا الوصف يؤكد كره الشــخصية‬ ‫ّ‬ ‫ـ� بلغــت النهــر طالعـ نـى منظـ ٌـر رهيــب‪ّ ،‬‬ ‫الرئيســة (ســعيد) للمــكان (النهــر)‪ .‬وحـ ي ن‬ ‫الســيول تنحــط مندفعــة مــع‬ ‫ي‬ ‫المجــرى‪ ،‬آتيــة مــن بعيــد‪ .‬منخفضــة إىل بعيــد‪ ،‬هــادرة بقــوة آالف األحصنــة‪ ...‬وكل وســائل المالحــة النهريــة‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫الموجــودة ي� مرفــأ «قـ ّـرة شــهر» تتخبــط ي� وســط التيــار‪ ...‬كان النــاس يبكــون‪ ،‬كانــت كارثــة ســكان الضفــاف‬ ‫ّ‬ ‫النهــر مهــددون كل شــتاء بكارثــة غـ يـر أن مــا حــدث ذلــك العــام‪ ،‬كان كارثــة شــاملة‪ ،‬لــم يســلم مــن أذاهــا أحــد عــى‬ ‫ف‬ ‫‪ ..‬ف‬ ‫و� ذلك اليوم المشؤوم‪ ،‬تجمعت ي� هذا المرفأ سفن‪ ...‬لجأت إليه محتمية بحوضه‬ ‫طول مجرى النهر‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫‪ّ ...‬‬ ‫أس جيــدا وقلــت للريــس‪.‬‬ ‫ر‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫الكوف‬ ‫دت‬ ‫ـد‬ ‫الواســع شـ‬ ‫ي‬ ‫ ‪-‬لن أدع المركب يتحطم‪ ..‬سأنزل إىل ي ز‬ ‫الغ�‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ ‪-‬وقال الريس صادقا‪ :‬أخاف عليك‬ ‫ ‪-‬وأجبت‪:‬‬ ‫ ‪-‬المسلم هو هللا‪.‬‬ ‫‪ 80‬‬

‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.163‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وواضحــة‪ ،‬تقــول الشــخصية الرئيســة‪ “ :‬كان البحــر أمامــه قــد غــدا منبســطا رحيبــا تــرف عليــه آخــر ظــال‬ ‫النــور‪ .‬هــذا عالمــه‪ ،‬هــذه دنيــاه ومرتــع صبــاه”(‪..)76‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ف‬ ‫إن ســعيدا يصــف البحــر وكأن محبوبتــه أمامــه‪ ،‬يغــرق ي� كافــة تفاصيلــه‪ ،‬حالــة عشــق تغمــره‪ ،‬فهــو‬ ‫ف‬ ‫وغ�هــا‪ ،‬تقــول الشــخصية الرئيســة‪ « :‬لــم يبــق ي� البحــر أحــد‪ .‬هجــره‬ ‫يصــف مــاءه‪ ،‬موجــه محــاره‪ ،‬لؤلــؤه ّ ي‬ ‫الســابحون‪ ،‬وغابــت الشــمس عنــه وظلــت الريـ ـ ــح وحدهــا تداعــب ســطحه‪ ،‬وتدفــع بموجــه نحــو الشـ ئ‬ ‫ـاط‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إن روحــا قريبــة ســتطوف بالبحــر ليــا‪ .‬تتناســل مــن الظلمــة‪ ،‬وتمســح خديهــا بذوائــب المــوج‪ ،‬وتطـ يـر بأجنحــة‬ ‫ف‬ ‫غـ يـر مرئيــة فــوق كائناتــه المائيــة الـ تـى تفـ شـ� ّ‬ ‫رسهــا للنجــوم‪ ،‬ي� صــاة ابتهاليــة تصعدهــا مــن األعمــاق‪ ،‬نجــوى‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫قلــوب حبيســة ي� قيعــان المرجــان والياقــوت منغلقــة عــى ذواتهــا انغــاق المحــار عــى ذاتــه الـ ت يـى تصـ يـر مــع‬ ‫ً‬ ‫تقــادم الزمــن لؤلــؤا أبيــض – هــو ســعيد حــزوم‪ ،‬يعــرف هــذه الــروح لــم يلمســها ولــم يعانهــا‪ ،‬لكنــه يعرفهــا‪ ،‬يدركهــا‬ ‫ف‬ ‫بحواســه الخمســة بمســافة الـ ت يـى تتنفســها كمــا تتنفــس أعشــاب البحــر رائحــة يوديــة خاصــة ي� مثــل هــذه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫األمســيات‪ ...‬مــا أعــذب اللحظــات الـ ت يـى تســبق إلقــاء الجســم ي� المــاء‪ ،‬سيســبح بعيــدا وحيــدا‪ ،‬ويقــول ي� ذاتــه‬ ‫للبحــر كعادتــه‪ « :‬حبيـ ب يـى‪ ،‬يــا حبيـ ب يـى لقــد عــدت إليــك»(‪..)77‬‬ ‫ـ� حالــة العشــق الـ تـى تربــط بـ ي ن‬ ‫هــذه بعــض مقتطفــات مــن النــص تبـ ي ن‬ ‫ـ� ســعيد والبحــر‪ ،‬فهــو مكانــه‬ ‫ي‬ ‫تعب� عن مشــاعر ســعيد تجاه البحر‪.‬‬ ‫المحبوب وملجأه ويكفينا أن الرواية بكاملها ال تحلو صفحة منها من ي‬ ‫تقول الشخصية الرئيسة‪« :‬الصمت ي ن‬ ‫ع� خائنة‪..‬‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ع�؟‬ ‫تخ� أشقاءك ي‬ ‫ ‪ -‬ي‬ ‫ ‪-‬أقولها للبحر‪...‬‬

‫يف� البحر ّ‬ ‫ ‪-‬ومن الصيف ش‬ ‫رسك يل‪..‬‬ ‫ي‬ ‫ ‪-‬البحر آمن يؤتمن‪...‬‬ ‫ ‪-‬هواك مع البحر‪...‬‬ ‫ ‪-‬وهو الهوى ق‬ ‫األب�‪..‬‬ ‫ ‪-‬فإذا ستبد بك الشوق‪..‬؟‬ ‫أمام‪...‬‬ ‫ ‪-‬الماء ي‬ ‫ ‪-‬القنوت مع البحر طيب‪..)78( .‬‬

‫ً‬ ‫هــذا الحــوار الــذي جــرى بينــه وبـ ي ن‬ ‫ـ� المـرأة حــول أهميتهــا ووجودهــا بالنســبة إىل الرجــل‪ ،‬ولكــن ســعيدا‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫ّ‬ ‫ـرا أن البحــر هــو أهــم مــن كل ش‬ ‫ّ‬ ‫وأرص عــى عــدم الوقــوع بشــباكها‪ ،‬ألنــه يــرى‬ ‫�ء ي� هــذا الوجــود‪،‬‬ ‫ظــل معتـ ب‬ ‫في‬ ‫و� موضــع آخــر‪ ،‬نــرى البحــر بالنســبة إىل ســعيد وكأنــه والــده‪ ،‬الوالــد‬ ‫محبوبتــه ومعشــوقته مــن خــال بحــره ي‬ ‫ـر�‪ ،‬القائــد القــدوة‪ .‬تقــول الشــخصية الرئيســة‪:‬‬ ‫ـ� ىقاإلرشــادات والتوجيهــات‪ ،‬الــذي يـ ب ي‬ ‫الــذي يحضــن‪ ،‬يعـ ي‬ ‫�ج ئ ف‬ ‫«وقــف امــام الخيمــة وألـ نظــرة شــاملة عــى البحــر‪ .‬شــعر بامتنــان مفـا ‪ ،‬ي� وســعه اآلن أن يقــول نعــم لــكل‬ ‫ش�ء‪ .‬لقــد اســتعاد نفســه رجــع ســعيد حــزوم قبــل الســباق‪ ...‬ابــن هــذا األزرق الواســع ذي الم ـر ف ئ‬ ‫ا� الفجريــة‬ ‫ي‬ ‫البعيــدة‪ ،‬والنســاء والخمــارات وكل ضيــوف األعمــال والشــقاوات»(‪..)79‬‬ ‫‪7 6‬‬ ‫‪ 77‬‬ ‫‪ 78‬‬ ‫‪ 79‬‬

‫() م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.19‬‬ ‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.20‬‬ ‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.46 - 45‬‬ ‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.58‬‬


‫ً‬ ‫ـ�‪ .‬مــن يضــع حــدا لهــا؟(‪..)83‬‬ ‫ســوى الويسـ ي‬ ‫ـاع البائــس الــذي يعيشــه كافــة الب ًحــارة‬ ‫نلحــظ أن الغضــب الــذي ســيطر عــى ســعيد‪ ،‬والوضــع االجتمـ ي‬ ‫وهــذه المشــاعر البائســة الـ ت يـى ســيطرت عــى مشــاعر البحــارة جعلــت مــن المــكان يفقــد قيمتــه وبــدا هامشــيا‪ ،‬ال‬ ‫دور لــه‪ ،‬ليجعــل صــوت المشــاعر تطـىغ عــى األحــداث وكأن المــكان لــم يعــد لــه أهميــة تذكــر‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫و� موضــع آخــر نجــد المــكان أيضــا قــد فقــد قيمتــه‪ ،‬أثنــاء تواجــد ســعيد داخــل الخيمــة يتخيــل عروســه‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ـاوتها‪ ،‬وصوت يف�وز يصدح داخل الخيمة‪ ،‬جاعال من ســعيد‬ ‫عروس البحر‪ ،‬تظهر ًأمامه منســية آالمه وقسـ‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫يط� ف� الســماء مازجا ي ن‬ ‫بخمرت� ذوباه ذوبان الســكر ي� الماء‪.‬‬ ‫شــخصية‬ ‫ال‬ ‫تقول‬ ‫ـيا‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫منت‬ ‫والصوت‪،‬‬ ‫خياله‬ ‫ب�‬ ‫ي‬ ‫ي ي‬ ‫ً‬ ‫ن‬ ‫الرئيســة‪ « :‬فـ يـروز تغـ يـى يــا ماريــا‪ ،‬يــا موســمة القب ًطــان والبحريــة‪ ،‬وســعيد يســمع ويتسوســح‪ ،‬رافضــا براءتــه‬ ‫ف‬ ‫الـ ت يـى ال فائــدة منهــا عنــد اااه وال الشــيطان‪ ،‬مندغمــا ي� عالــم الجــن المســحور لعــروس الب ًحــر الـ ت يـى لــم تظهــر لــه‬ ‫ف� الليلــة الماضيــة‪ ،‬وهــو ف� خيمتــه‪ ،‬يطــل عـ بـر بابهــا عــى الدنيــا بأضــاع واســعة‪ ،‬منتشــيا بخمرتـ ي ن‬ ‫ـ�‪ :‬إحداهمــا‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫(‪)84‬‬ ‫يتذوقهــا عذبــة‪ ،‬مثلوجــة‪ ،‬واألخــرى يحســها حارقــة‪ ،‬تذيــب القلــب لشــدة حرارتهــا» ‪..‬‬ ‫ً‬ ‫وكذلــك األمــر‪ ،‬نجــد المــكان قــد أصبــح هامشــيا عندمــا دخــل ســعيد المخــزن ووجــد تلــك الفتــاة الـ ت يـى‬ ‫ف‬ ‫رسقــت قلبــه‪ ،‬وهــذا مــا جعلــه ينــى المجوهـرات واالنتيــكات والدنيــا ومــا فيهــا بالرغــم مــن أنــه ي� وضــع حــرج‬ ‫ـ� اللحظــة واألخــرى يدخــل صاحــب المخــزن ويجــده‪ ،‬ويعـ ّـده مــن السـ ي ن‬ ‫وبـ ي ن‬ ‫ـارق� وتقــع المصيبــة الكـ بـرى‪ .‬تقــول‬ ‫ً‬ ‫الشــخصية الرئيســة‪ :‬ت‬ ‫«اق�بــت مــن البــاب المشــقوق مدفوعــا بلهفــة داخليــة‪ .‬فعلــت ذلــك خــال لحظــات‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫توقــف فيهــا تفكــري‪ ،‬وانشــلت إر ت‬ ‫ت‬ ‫ص�تـ ن يـى أسـ يـرا لتلــك الرغبــة النفســية ي� أن أدخــل‬ ‫اد�‪ ،‬واع�تـ ن يـى ًرجفــة ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ـوال نزبــورا أحـ ًـدق ي� التماثيــل الضخمــة المحيطــة ب ي�‪ ،‬فتهيــأ يل أنهــا‬ ‫المخـ‬ ‫ـزن‪ ...‬مــاذا أفعــل يــا رب؟ تلفــت حـ ي‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ّ‬ ‫ـ�‪ ،‬وأنهــا موشــكة أن تطلــق زئـ يـرا أو رصاخــا يجمــع عـ يـ� المــارة ي� الســوق‪ ...‬مــا وراء الحاجــز مــن‬ ‫تكـ شـر ي� وجـ‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫المخــزن‪ ...‬باغتـ نـى مشــهد هـ ّـز ن� هـ ّـزا‪ ،..‬وعــى الجــدار مــرآة‪ ،‬أمامهــا امـرأة تـ ّ‬ ‫ـرح شــعرها‪..‬‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫العار‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫اع‬ ‫ر‬ ‫ذ‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫وقفــا كفهــا القاب يضــة عــى المشــط‪ ...‬كانــت ذات جســم منســق‪ ،‬فــارغ‪ ،‬وحـرض‬ ‫ـ� بنيانهــا انســجاما‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ضا‬ ‫ي‬ ‫ـ� مــن عنــد االبطـ ي ن‬ ‫ف� الطــول ويرســم تجويفــة ف� الوســط‪ ...‬وزاد ف� اغـر ئا� أنهــا كانــت عاريــة الذراعـ ي ن‬ ‫‪...‬‬ ‫ـام‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ـ�‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫‪ ...‬ف‬ ‫ف‬ ‫و� تلــك القيمــة الداخليــة‪ ،‬والوحــدة تلفنــا وأنــا مقــدم عــى مغامــرة مجنونــة ي� هــذا المخــزن‬ ‫ذلــك المخــزن ي‬ ‫(‪)85‬‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫المـ يـ�ء بالســحر‪ ،‬قــد تكــون جنيــة‪ ،‬أو أنهــا عــروس البحــر الـ يـى فتنتـ يـى ليلــة عــى الســاحل ‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫نلحــظ أن مــا حصــل مــع ســعيد ي� أماكــن متعــددة‪ ،‬جعلــه ال يســيطر عــى أعصابــه وتفكـ يـره‪ ،‬وأصبــح‬ ‫ف‬ ‫المــكان ال قيمــة لــه وأفســح ي� المجــال لطغيــان تبيــان تــرف ســعيد‪ ،‬هــذا العاشــق لعــروس البحــر‪ ،‬المدافــع‬ ‫عــن المظلومـ ي ن‬ ‫ـ�‪ ،‬الضعيــف أمــام الحســناوات‪ ،‬وهــذا مــا جعــل الكاتــب يقــوم بتحويــل المــكان إىل مــرح إلظهــار‬ ‫ُ‬ ‫وع ِرفــت بهــا الشــخصية‪.‬‬ ‫المواقــف النفســية واألخالقيــة الـ ت يـى ظهــرت‬

‫‪ -3‬وظيفة املكان يف رواية «حكاية ب ّحار»‪:‬‬ ‫أ‪ -‬الوظيفة التوثيقية ودالالت التوثيق‪:‬‬

‫ف‬ ‫ت‬ ‫ـاع�‬ ‫لــم تحــل روايــة حكايــة بحــار مــن المعطيــات التوثيقيــة‪ .‬ومــن هــذه المعطيــات‪« :‬نظـ‬ ‫ـرت ي� سـ ف ي‬ ‫ف‬ ‫ش‬ ‫فألفيتها الثانية ش‬ ‫ت‬ ‫ساعت� ي ن‬ ‫ين‬ ‫النجاة‪،‬و�‬ ‫�ء من أمل ي�‬ ‫ع�ة‪ .‬بعد‬ ‫ي‬ ‫نوب� عىل الباخرة‪ .‬رصت عىل ي‬ ‫يح� موعد ي‬ ‫ت‬ ‫أ� كل يــوم إىل هــذا المخــزن‪ .‬وأن أمكــث فيــه كل وقــت الفـراغ‪ ،‬ألجــل التحــف‪،‬‬ ‫العــودة إىل الباخــرة‪ ،‬وقــررت أن ي‬ ‫وألجــل هــذه المـرأة الـ ت يـى ال أعــرف اســمها»(‪..)86‬‬

‫‪8 3‬‬ ‫‪ 84‬‬ ‫‪ 85‬‬ ‫‪ 86‬‬

‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.80 - 78‬‬ ‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.87‬‬ ‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.127 - 126 – 123 – 120‬‬ ‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.137 - 136‬‬


‫ن‬ ‫رجال‪ ...‬وانطلقت إىل النهر‪...‬‬ ‫أضح بأفضل‬ ‫لكن� لن‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ ‪ -‬ي‬ ‫كان زئ� النهر أصم ن‬ ‫أذ�‪ ...‬تركت العمل ف ي� النهر‪ ...‬عدت إىل البحر‪ ..‬تت�ك النهر بعد هذه المعركة‪..‬‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ز‬ ‫كان ال بــد مــن تــرك النهــر‪ ..‬أنــا بحــار‪ ,‬الســفرة ي� البحــر بهــا طعــم آخــر‪ ..‬الــرول إىل البحــر لــه حالوتــه‪ ،‬أنتــم ال‬ ‫تقــدرون الفــرق مثـ يـ�‪ ...‬كيــف شأ�حــه لكــم؟‬ ‫ ‪-‬ال بد أنك خفت النهر؟‬ ‫ ‪-‬جائــز‪ ..‬األصــح قرفتــه‪ ،‬أنــا ال أتمـ نـى المــوت ف ي� الميــاه العكــرة‪ ،‬الطينيــة‪ ..‬هــواي هنــا ف ي� الميــاه الــزرق‪.‬‬ ‫ثـ ّـم مــا هــو النهــر مقابــل البحر؟مجــرى مــن المــاء‪ ،‬ضيــق قــذر‪ ،‬غــدار إنــه تقلــب ال أ كـ ثـر‪ ..‬أنــا ال‬ ‫ن‬ ‫ـذ� إىل البعيــد‪ ،‬إىل عالمــك الــذي حــدوده‬ ‫أحــب الثعالــب‪ ،‬أمــا البحــر‪ ...‬تعطيــه نفســك وتقــول‪ :‬خـ ي‬ ‫عنــد األفــق‪ ،‬وإىل قاعــك المفــروش بالمرجــان وعرائســك ًالـ ت يـى سـ ًـحرت ســليمان‪..)81( »..‬مــا قالتـ ًـه‬ ‫الشــخصية الرئيســة‪ ،‬يلخص القول‪ ،‬أن النهر قد غدا مكانا مكروها بالنســبة إىل ســعيد وخصوصا‬ ‫بعدمــا رأى مــا حصــل مــع والــده (صالــح حــزوم)‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ـذي حصلــت فيــه بعــض األحــداث‪ ،‬قــد مثــل بالنســبة إىل ســعيد‪ ،‬مكانــا‬ ‫ً وأمــا المقــى‪ ،‬المــكان‬ ‫الثالــث الـ ّ‬ ‫ً‬ ‫ش‬ ‫محبوبــا تــارة عندمــا يذهــب ليــرب ويرفــه عــن بالــه وينــى همومــه‪ ،‬وتــارة أخــرى يــرى فيــه األثـراء‪ ،‬أصحــاب‬ ‫ف‬ ‫الطبقة الغنية الذين يتعجرفون عىل الفقراء أمثاله‪ .‬تقول الشخصية الرئيسة‪ « :‬وكل الجالسون ي� المقىه‪،‬‬ ‫يتوجســون خيفــة مــن ظــال أخــرى قــد ال تتقصدهــم هــم بالــذات‪ ،‬ولكنهــا تقســو عليهــم مزاجيــة الجلســة‬ ‫ً‬ ‫ت‬ ‫الم�فــة‪ّ ..‬‬ ‫خيــل إليــه أن بط ـرا قــد أخذهــم وأنــه ًلــو فتــح كل يــوم مقــى جديــد‪ ،‬أو عليــة ليــل جديــدة المتــأت‬ ‫ق‬ ‫ـا�‪ ،‬وأنهــا باتــت ال‬ ‫بالــرواد‪ ،‬فالطبقــة الغنيــة‪ ،‬التــب صـ فـارت حديثــا غنيــة‪ ،‬تعـ بـر عــن نفســها بهــذا البطــر االنفـ ي‬ ‫تعــرف مــاذا تفعــل بنقــود لــم تتعــب ي� جمعهــا‪ ،‬بينمــا اآلخــرون الذيــن نهبــت منهــم كل هــذه األمــوال يواجهــون‬ ‫ً‬ ‫شــظف العيــش ويجــأرون بالشــكوى‪ ..‬ولقــد ازداد وهــو عــى البــار تفكـ يـرا بــكل هــذا‪ ...‬مــا يجــري فظيــع‪ ..‬كان‬ ‫ف‬ ‫يقــول ي� نفســه‪ ،‬ثــم ينــى ذلــك إىل أن يفجــأه منظــر‪ ،‬أو يســمع قصــة‪ ،‬أو يصــادف حادثــة‪ ،‬فتثــور فيــه مشــاعر‬ ‫ف‬ ‫ألــم أبكــم‪ ،‬تؤرقــه بعــض الوقــت‪ ..‬خطــر لســعيد‪ ،‬ي� جمــوح غضبــه أن يتنــاول الزجاجــات الفارغــة عــن البــار‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ق‬ ‫ـا� تســاوي تعبهــا‪،‬‬ ‫ويقــذف بهــا الواجهــة الويســكية المتأللئــة بصفــرة‬ ‫أصليــة‪ .‬كان قــادرا‪ ...‬وأن معركــة مــع السـ ي‬ ‫ف‬ ‫(‪)82‬‬ ‫تعـ بـر عــن نعمــة النــاس عــى كل الحمــأ الــذي تجمــع ي� المدينــة» ‪..‬‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ال� ج ًســدتها الرواية عىل الورق‪ ،‬فقد غدا‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫الم‬ ‫ثنائية‬ ‫يظهر‬ ‫المقىه‪،‬‬ ‫�‬ ‫إن ما حصل مع ســعيد‬ ‫ي‬ ‫ـاعر ي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً ف‬ ‫ت‬ ‫آن معــا‪ ،‬فالراحــة الروحيــة والنفســية الـ يـى‬ ‫المــكان (المقــى فبالنســبة إىل الشــخصية مكانــا محبوبــا مكروهــا ي� ٍ‬ ‫يشــعر بهــا ســعيد ي� المقــى قابلهــا قتــال وشــجار ومشــاعر كــره تجــاه األشــخاص المتواجديــن داخــل المقــى‪.‬‬ ‫ج‪ -‬املكان املمرسح‪:‬‬

‫ً‬ ‫ف‬ ‫نجــد أمكنــة الممرسحــة ي� الروايــة موضــوع الدراســة‪ ،‬وتضاءلــت قيمــة هــذه األمكنــة نظ ـرا لشــحنها‬ ‫ّ‬ ‫بالترصفــات واالنفعــاالت العاطفيــة المؤثــرة‪.‬‬ ‫ف‬ ‫تقــول الشــخصية الرئيســة‪ « :‬تنفــس ســعيد بعمــق‪ .‬انتبــه إىل نفســه فجــأة‪ ،‬فوجــد أنــه صــار ي� الطــرف‬ ‫اآلخــر مــن الخيــام‪ .‬كان المــاء يقـ تـرب وهــواء الليــل بــدأ ينســم مــن الغــرب‪ ،‬وكيــس زجا ّجــات البـ يـرة البــاردة فــوق‬ ‫ً‬ ‫يــده المركونــة عــى الجانــب األيمــن‪ ،‬والخواطــر رسدت بــه بعيــدا‪ ...‬نفــاذ الصـ بـر هــذا مليتــه الكـ بـرى‪ .‬كيــف يلحــم‬ ‫ف‬ ‫نفــاذ صـ بـره؟ كيــف يتعلــم أن ينــى الوقــت ويعمــل بنفــس طويــل؟‪ ...‬قــال ســعيد ي� نفســه وهــو يســتعيد هــذه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الكلمــات‪« :‬التقــدم‪ ،‬التقــدم فأيــن هــو هــذا التقــدم؟ ولمــاذا ال يحــدث دفعــة واحــدة ونسـ تـريـ ـ ـح؟ ومــا نفــع كل‬ ‫الجهــود الـ ت يـى بذلــت إذا لــم تصبــح األحــوال حســنة كمــا تريــد؟ وهــذه الفئــة الـ ت يـى اغتنــت فجــأة وصــارت ال تـ شـرب‬ ‫‪8 1‬‬ ‫‪ 82‬‬

‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.159‬‬ ‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.70 - 65 – 64‬‬


‫ً‬ ‫بنــا»(‪ ..)89‬ومــن هنــا نجــد الحــال النفســية الـ ي ت‬ ‫ـى اعـ تـرت الشــخصية‪ ،‬كاشــفا الكاتــب التفاصيــل الدقيقــة بلغــة‬ ‫مليئــة باالنفعــال المؤثــر‪.‬‬ ‫ج‪ -‬الوظيفة التفسريية ودالالت التفسري‪:‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لقــد عمــل الكاتــب عــى وصــف معالــم المــكان‪ ،‬وصفــا دقيقــا‪ ،‬بوصفهــا إطــارا لألحــداث الـ ت يـى تجــري‪،‬‬ ‫فقــد وصــف الترصفــات كالمالبــس وطريقــة العيــش والتفكــر وغــر ذلــك‪ .‬هــذا كلــه يـ ّ‬ ‫ـدل عــى مـزاج الشــخصية‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ً ف‬ ‫وتفك�هــا‪ .‬ولقــد أدى الكاتــب دورا مهمــا ي� إبـراز المــكان كإشــارة إليصــال مــا يبتغيــه القــارئ مــع مراعــاة‬ ‫وطبعهــا‬ ‫ي‬ ‫إسـ تـراتيجية الروايــة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫نجــد مشــهدا‪ ،‬يقــدم وصفــا واضحــا الحــدى جوانــب الحيــاة البحريــة الـ ت يـى تعيشــها الشــخصية وهــذا‬ ‫ف‬ ‫ه السماء‪...‬‬ ‫التفس�ية قول الكاتب‪« :‬كان‬ ‫المثيل لوظيفة المكان‬ ‫ي‬ ‫سعيد عىل ظهره وحدق ي� السماء عاليه ي‬ ‫الشــمس تغمــر كل ش‬ ‫ّ‬ ‫�ء‪ ،‬وتتــأأل عــى البحــر كالمرايــا‪ ،‬والرمــل أســمر تلتمــع حباتــه كنتــار الزجــاج‪ ،‬وخيمــات‬ ‫ي‬ ‫منصوبــة ف� أقــى المــكان مــن جهــة المقــى ‪ ،‬ومظــات ّ‬ ‫ملونــة‪ ...‬ورجــال ونســاء وأطفــال عــى الشـ ئ‬ ‫ـاط بثيــاب‬ ‫ي‬ ‫ّ‬ ‫‪..‬‬ ‫االســتحمام‪ ،‬أو اللباس الكامل وتشــكيلة األلوان للمنظر كله‪ ،‬تعطيه مشــهد مهرجان أو عيد الكل يلهو عىل‬ ‫الشـ ئ‬ ‫ـاط‪ ،‬ثمــة رجــال يلعبــون الكــرة بأقــدام حافيــة‪ ،‬وشــباب يسـ يـرون عــى الرمــل المبتــل يعرضــون جســومهم‬ ‫وســتعرضون أجســام المســتحمات‪..)90( ..‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تقــدم ّ‬ ‫ـرا عــن الترصفــات الـ تـى يقــوم بهــا األنــاس المتواجــدون عــى الشـ ئ‬ ‫ـاط وكذلــك‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ـا‬ ‫الســطور وصفـ‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫ّ‬ ‫الحيــاة الـ ت يـى تعيشــها وتتعايشــها الشــخصية‪ ،‬فالـراوي هنــا ال يقــدم التفاصيــل الـ ت يـى تتخــذ صفــة الواقعيــة بقــدر‬ ‫مــا يضــف الحــال النفســية الـ تـى اعـ تـرت ســعيد بجانــب البحــر الــذي ّ‬ ‫يحبــه ويعشــقه‪ ،‬فالغبطــة تمــأ قلب ًــه وهـ ًـو‬ ‫يً‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫يتأمــل مــا حولــه‪ .‬وتجــد حــوارا جــرى بـ يـ� ســعيد ومــن كان معــه ي� الرحلــة‪ ،‬وهــذا الحــوار يقــدم وصفــا دقيقــا‬ ‫ً‬ ‫للحيــاة الـ ت يـى تعيشــها الشــخصية‪ ،‬بــارزا المشــاعر الـ ت يـى تنتابهــا عنــد حديثهــا عــن البحــر وعــروس البحــر‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ت‬ ‫ـيد�‪ .‬أنــا بحــار‪ .‬أعـ ن يـى كنــت‬ ‫وتقــول الشــخصية الرئيســة‪« :‬قــال ســعيد أنــا لــم أرهــا لسـ‬ ‫ـت صيــادا يــا سـ ي‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫بحــارا‪ .‬وعــروس البحــر ال تــرى ي� األعمــاق يقــال أنهــا تتبــع الســفن ي� ضــوء القمــر‪ ..‬قالــت ســيدة أخــرى‪ :‬مــن‬ ‫رأى عــروس البحــر إذن؟‬ ‫ً‪ .‬ف‬ ‫و� بعــض الليــال تخــرج مــن المــاء وتمـ ش‬ ‫ـ� عــى‬ ‫ي‬ ‫بعــض الصياديــن يقــال أن عــروس البحــر تعشــق أنســيا ي‬ ‫ي‬ ‫الشـ ئ‬ ‫ـاط‪ ،‬وقــد تتمــدد عــى الرمــل فتنــام‪ ،‬فــإذا شأ�قــت عليهــا الشــمس عجــزت عــن الحركــة والعــودة إىل المــاء‬ ‫وعندئــذ يصطادونهــا‪.‬‬ ‫ ‪-‬وماذا يفعلون بها؟‬ ‫ ‪-‬يفتنون بها‪ .‬يحافظون عليها‪ ،‬ويبذلون حياتهم إرضاء لها إذا طلبت منهم ذلك‪.‬‬ ‫ ‪-‬ولماذا ال ت ز‬ ‫ي�وجونها؟‬

‫ف‬ ‫ ‪-‬ال يســتطيع ش�طهــا للــزواج أن يذهــب معهــا الصيــاد إىل مملكــة أبيهــا ي� أعمــاق البحــر‪ ،‬فــإذا رفــض‬ ‫ف‬ ‫و� الليــال المقمــرة تخــرج إليــه‪ ،‬حاملــة حفنــة مــن ئ‬ ‫آلل‬ ‫ي‬ ‫فارقتــه‪ ،‬لكنهــا إذا أحبتــه فلــن تنســاه‪ ،‬ي‬ ‫البحــر‪...‬‬ ‫ ‪-‬مــن يحــب امـرأة يخضــع لهــا‪ ..‬والــذي يحــب عــروس البحــر ال يؤذيهــا‪ .‬يعيدهــا إىل البحــركمــا تطلــب‪.‬‬ ‫وفية كاإلنســان‪ ،‬بل ث‬ ‫وه ال تنس المعروف الســمكة ّ‬ ‫أك� وفاء من اإلنســان‪..‬‬ ‫ي‬ ‫‪8 9‬‬ ‫‪ 90‬‬

‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.103 – 102 – 101 – 100‬‬ ‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.9‬‬


‫هــذا مــا قالتــه الشــخصية الرئيســة بعــد انتهائهمــا مــن مقامرتهــا مــع الفتــاة ودخــول المخــزن خلســة‪.‬‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ش‬ ‫و� النهايــة‬ ‫و� موضــع آخــر تقــول الشــخصية الرئيســة‪ « ً :‬ومـ ّـرت الدقائــق‬ ‫الخمــس‪ ،‬وبعدهــا دقائــق عــر‪ .‬ي‬ ‫ي‬ ‫إل أن أقـ تـرب ففعلــت‪ ،‬دهشــت ألن الصنــدوق كان‬ ‫فتحـ ًـت الكــوة وأطلــت المـرأة حاملــة صندوقــا‪ ..‬وأشــارت ي‬ ‫مليئــا بالحـ يـ� واألحجــار الكريمــة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ومــا كاد العجــوز يديــر ظهــره ذاهبــا إىل الداخــل ألمــر مــا حـ تـى فتحــت الصنــدوق وتناولــت الخاتــم الــذي‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ـ� نظــرة معـ بـرة‪ .‬نظــرة تقــول هــذا تــذكاري‪..)87( ».‬‬ ‫وه تنظــر ي� وجـ ي‬ ‫ي� يــدي وألبســتنيه‪ .‬ي‬ ‫ً‬ ‫سعيدا قد حصل عىل ما كان يريده‪ ،‬الحصول عىل بعض االنتيكات والمجوهرات‪ ،‬والخاتم‬ ‫هنا نجد‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ال� أعجب فيها ورآها ي� المخزن‪.‬‬ ‫الذي يسئل عنه دائما من تلك الفتاة ي‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫ودالالت التوثيــق أيضــا‪ ،‬مــا حصــل مــع الشــخصية مـ ّـرة ي� أحــد المطاعــم‪ ،‬وقــد ســمع فجــأة صــوت‬ ‫ً‬ ‫ال� يحبها ت‬ ‫يف�وز‪ ،‬األغنية ت‬ ‫وال� كلما سمعها يتذكر الحادثة والمكان الذي كان فيه موجودا‪ .‬تقول الشخصية‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫الرئيســة‪ « :‬تذكــر أنــه كان مـ ّـرة ي� أحــد مطاعــم دمشــق‪ .‬كان ذلــك ي� نهايــة الخمســينات وكانــت أغنيــة فـ يـروز‬ ‫ن‬ ‫(زورو� ًكل ســنة مـ ّـرة) جديــدة لــم تكــن شأ�طــة (الكاســيت) قـ ًـد عرفــت بعــد‪ ،‬وكانــت آلــة االســطوانات تعمــل‬ ‫ي‬ ‫أتوماتيكيــا‪ ،‬لمجـ ّـرد أن تضــع فيهــا قطعــة نقــود ‪ 25-11‬قرشــا‪ ،‬وتضغــط عــى رقــم االســطوانة‪ ..‬وكان ملــك‬ ‫ً‬ ‫نقــودا قليلــة لــم يبــق منهــا بعــد دفــع الحســاب ســوى رب ــع لـ يـرة عليــه أن يركــب «البــاص»‪ ..‬وفجــأة عزفــت أغنيــة‬ ‫ن‬ ‫«زورو�»!»(‪..)88‬‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫هــذا بعــض دالالت التوثيــق وإننــا لنجــد ي� حنايــا أحــداث هــذه القصــة واألمكنــة الـ ت يـى رسحــت فيهــا‬ ‫األحــداث دالالت أخــرى مــن المعطيــات التوثيقيــة‪.‬‬ ‫ب‪ -‬الوظيفة االيهاميّة ودالالت اإلبهام‪:‬‬

‫ف‬ ‫لقد وصف «حنا منيا» العالم الخار�ج ي ‪ ،‬ي�ً رواية «حكاية بحار» للكشف عن مكنونات الشخصية‬ ‫الرئيســة والحــال النفســية الـ تـى ت‬ ‫تع�ي ـهــا وخصوصــا عندمــا تكــون أمــام البحــر تستن ًشــق نســيمه وتــرى مــاءه‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫وزيــده وأمواجــه‪ ،‬كمــا ي� كل مشــهد نــرى فيــه الشــخصية أمــام البحــر‪ ،‬فإننــا لنجــد وصفــا لــه وقــد حصهــا الكاتــب‬ ‫ئ‬ ‫ـروا� للحديــث عــن الدوافــع النفســية للشــخصية الرئيســة الـ ت يـى دفعتهــا إىل المكــوث أمــام البحــر‪ ،‬لتنــى‬ ‫أو الـ ي‬ ‫همومهــا ومشــاكلها وناســها‪.‬‬ ‫لقــد دع ســعيد إىل لعشــاء مــن قبــل الرجــل الطيــب الــذي يفهمــه ّ‬ ‫كبحــار‪ ،‬إننــا لنجــد الشــخصية تصــف‬ ‫ي‬ ‫ّ‬ ‫الحــال النفســية والبحــر تقــول الشــخصية الرئيســة‪:‬‬ ‫«خيــل إليــه‪ ،‬أنــه لــو وجــدت نــار‪ ،‬وجماعــة تقتعــد األرض‪،‬‬ ‫وآخــرون يســكرون‪ ،‬لكانــت لوحــة مــن لوحــات ّ‬ ‫ترحــل القبائــل‪ ..‬أو لــكان المشــهد أقــرب إىل نــزول دوريــة جنــد‬ ‫شاط بحر‪ ،‬فه تطهو عشاءها ف� المساء‪ ،‬تاركة للبحار أن يتصاعد كمثله من القدر ت‬ ‫ئ‬ ‫ال� تقف أمامها‬ ‫عىل‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ن‬ ‫الســيدة الجميلــة‪ .‬وحـ يـ� رفــع رأســه ونظــر ي� الفضــاء مــن حولــه رأى القمــر رصــد المشــهد بعـ يـ� مفتوحــة‪...‬‬ ‫انفعــال مــا أخــذه فهــو يســبح ف� خــط مســتقيم بـ ي ن‬ ‫ـ� غيــوم رقــاق‪ ،‬بيــض كالقطــن المنــدوف ونــوره الفـض ي يـض ي ء‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ـابحة ي� الخــاء‪ ،‬باســمة‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫أث�‬ ‫ات‬ ‫ر‬ ‫ذ‬ ‫ذات‬ ‫ـاء‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ض‬ ‫بي‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫ليل‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫غال‬ ‫ـج‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫وين‬ ‫واألرض‪،‬‬ ‫القبــة كلهــا‪ ،‬يـض ي ء الســماء‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫كأســنان بيــض ي� وجــه زن ـج ي غامــق الســواد‪ ..‬وكان البحــر أمامــه يتضــوأ بالقمــر‪ ،‬محتفظــا بمســحة رصاصيــة‬ ‫ف‬ ‫عــى وجــه المــاء وأعـراف المــوج الزبديــة تتــأأل‪ ..‬كأغنيــة تت�يــة عاطفيــة‪ ...‬امتــأ ســعيد بمهابــة كعهــده ي� مثــل‬ ‫هــذه الليــال ومثــل هــذه المواجهــة الصامتــة‪ ،‬أحــس بامتيــاز خــاص وبزهـ ٌـو خــاص‪ ،‬ألنــه وحــده‪ ،‬مــن بـ ي ن‬ ‫ـ� الجميــع‬ ‫ي‬ ‫‪ ..‬ف‬ ‫ف‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ي� فلســفة هــذه أمــام الصحـراء المائيــة‪ ،‬يستشــعر قدســية النجــوى الـ يـى تقــوم بينــه وبـ يـ� البحــر ي� مثــل هــذه‬ ‫ً‬ ‫ّ َّ‬ ‫ف‬ ‫الحــال‪ ،‬يتهيــأ لــه أن البحــر يتكلــم‪ ،‬وهــو يــود أن تي�جــم هــذا الــكالم‪ ً ...‬ي� هــذه الحــاالت يصبــح ســعيد مســتعدا‬ ‫أن يقــول للبحــر الكلمــات وأحـ ّـر ّ‬ ‫الصاعــات‪ ..‬أن يـرض ب صــدره صارخــا‪ »:‬أيهــا األب‪ ،‬أيهــا األب الرحيــم‪ ،‬تلطــف‬ ‫‪8 7‬‬ ‫‪ 88‬‬

‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.137 - 136 – 132‬‬ ‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.92‬‬


‫االندمــاج واالنغمــاس بجمــال مــا حولهــا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫هنــا نجــد التحامــا لألقطــاب الثالثــة بالمــكان والــذي ولــد هــذه المشــاعر‪ ،‬وقــد شــطر ذات الشــخصية‬ ‫ـ� عامــ� المــكان والزمــان بفنيــة رائعــة‪ ،‬بـ ي ن‬ ‫ووزعهــا بـ ي ن‬ ‫ـ� التأمــل لجمــال الطبيعــة والبحــر وظهــور عــروس البحــر‪.‬‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وغــدا أيضــا التحامــا لألقطــاب الثالثــة أيضــا‪ ،‬موضــع آخــر عندمــا يبــدأ الســابحون يهجــرون البحــر‬ ‫ً‬ ‫ت‬ ‫لي�كــوه وحيــدا مــع بحــره‪.‬‬

‫تقــول الشــخصية الرئيســة‪ « :‬بــدأت المصابيــح تشــتعل عــى طــول الشـ ئ‬ ‫ـاط واشــتد اللغــط ف ي� الخيــام‪.‬‬ ‫ف‬ ‫لقــد عــاد المســتحمون مــن الحمامــات‪ ،‬وصــار ف� وســعه أن يـ تـرك نوبــة حراســته‪ .‬سـ ق‬ ‫ـيل� بنفســه ي� المــاء اآلن‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫سيســبح بعيــدا‪ ،‬بعيــدا‪ ،‬ويقــول ي� ذاتــه للبحــر كعادتــه‪ « :‬حبيـ ب يـى‪ ،‬يــا حبيـ ب يـى‪ ،‬لقــد عــدت إليــك»(‪..)93‬‬ ‫هــذا االلتحــام لألقطــاب ولــد المشــاعر لــدى الشــخصية‪ ،‬وشــطرها ووزعهــا بـ ي ن‬ ‫ـ� عامـ يـ� المــكان والزمــان‪،‬‬ ‫ـ� انتظــار عــودة السـ ي ن‬ ‫بـ ي ن‬ ‫ـابح� وإلقــاء نفســه ف ي� البحــر ليســتأنس بوجــوده‪.‬‬ ‫ج‪ -‬عالقة املكان بالشخصية‪:‬‬

‫ً‬ ‫كمــا كانــت الشــخصية نتــاج المــكان‪ ،‬كذلــك المــكان كان نتاجــا للشــخصية فالبحــر ًوعشــق الشــخصية‬ ‫ـآس‪ ،‬فكانــت منفذهــا‪ ،‬يري ـ ــح ذاتهــا مــن الهمــوم ومصــدر عيشــها أيضــا‪ .‬تقــول الشــخصية‬ ‫لــه‪ ،‬جعلهــا تتح ًمــل المـ ي‬ ‫ً‬ ‫ت‬ ‫ض‬ ‫الئيســية‪ « :‬غــدا ســأنزل إىل المينــاء ســأبحث عــن شــغل‪ .‬فقــال أحــد الحا�يــن‪ :‬لــو اســرحت قليــا‪ ..‬بضعــة‬ ‫ً‬ ‫ـا‪ ..‬نحــن نشــتغل ولــن تكــون ف� حاجــة إىل ش‬ ‫�ء‪.‬‬ ‫أيــام مثـ‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ه « الـ شـرادق» لــن ينضــام وفيــه رجــال‬ ‫ ‪-‬أعــرف‪ ..‬كل مــا فعلتمــوه ي� غيبتنــا نعرفــه‪ ...‬نحــن أخــوة‪ .‬ي‬ ‫مثلكــم‪ ..‬لكنـ ن يـى جائــع إىل العمــل‪ ...‬اشــتقت إىل البحــر يــا أوالد‪ ..‬كيــف حالــه؟ أمــا زال أزرق؟‬ ‫ق‬ ‫صدي� عىل كل حال‪ ...‬أنت عاشق يا صالح‪.‬‬ ‫ ‪-‬ال أدري‪ ..‬البحر‬ ‫ي‬ ‫حبي�!» (‪..)94‬‬ ‫ ‪-‬ربما‪ ،‬ربما‪ ..‬الماء ب ي‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ ‪-‬إن تــرف الشــخصية مــع البحــارة والحــوار الــذي دار بينهــم تأكيــدا لكونهــا نتاجــا للمــكان وكذلــك‬ ‫قــد عـ بـرت بحركاتهــا عنــه مــن خــال نواياهــا وترصفاتهــا وحديثهــا ومشــاعرها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫و� موضــع آخــر‪ ،‬تقــول الشــخصية الرئيســة‪ « :‬تمــدد عــى الرمــل أمــام الخيمــة‪ ،‬ونظــر ًإىل صفحــة‬ ‫ي‬ ‫المــاء المتأللئــة بأشــعة القمــر الفضيــة‪ ،‬واسـ تـراح إىل معزوفــة المــوج الرتيبــة‪ ...‬وقــال ف� نفســه‪ :‬هنيئــا للخليـ ي ن‬ ‫ـ�!‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫سـ ن‬ ‫ـعد� ويكفيـ نـى‪ :‬اسـ تـر�خ‬ ‫‪.‬‬ ‫ي‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫ـر‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫والق‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫والل‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ـدا‬ ‫إنهــم ينامــون بينمــا أنــا أســهر‪ .‬إنـ ن يـى أحــب الســهر وحيـ‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ي� اســتلقائه عــى الرمــل(‪..)95‬‬ ‫تعب�هــا عــن حبهـ ًـا للبحــر‪ ،‬فهــو المــكان الــذي‬ ‫لقــد بــدت ترصفــات الشــخصية‪ ،‬واضحــة ً مــن خــال ي‬ ‫تشــعر فيــه باالسـ تـرخاء وهــذا تأكيــد لكونهــا نتاجــا للمــكان والمــكان بــدوره نتاجــا لهــا‪.‬‬

‫ ‬ ‫‪93‬‬ ‫‪ 94‬‬ ‫‪ 95‬‬

‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.20‬‬ ‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪227‬‬ ‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.25‬‬


‫ ‪-‬أنت تعشق عروس البحر كما يبدو‪ ...‬فكيف تقول أنك لم ترها؟ صمت سعيد‪..)91( »..‬‬

‫من هنا نجد أن الكاتب قد ســكب ما بداخل ســعيد (الحالة النفســية والشــعورية) والحالة المعيشـ ّـية‬ ‫وغ�هــم عــى أوراق هــذه الروايــة‪ ،‬الظهــار مشــاعر العشــق الـ ت يـى تنتــاب‬ ‫الـ ت يـى‬ ‫عاشــتها وكذلــك حــال البحــارة ي‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫ً‬ ‫ســعيدا وأهميــة البحـ ّـر وعالمــه بالنســبة إليــه وبنــاء عــى ذلــك أصبحــت الوظيفــة التفسـ يـرية للمــكان تكت ـ ي‬ ‫الل‪.‬‬ ‫باإلشــارة إىل البعــد الــد ي‬

‫‪ -4‬عالقة املكان بالرؤية يف «حكاية بحار»‬ ‫أ‪ -‬عالقة املكان وانتاج رؤية الكاتب‪:‬‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫إن رؤيــة الـ ئ‬ ‫ـروا� «حنــا مينــا» إىل العالــم انطلقــت مــن موقعــه وتواجــده ي� الالذقيــة ي� منطقــة‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫اسكندرونة‪ ،‬ي ن‬ ‫ب� البحارة وعلم البحر‪ ،‬وهذا الموقع هو الذي يحفزه ويضعه ي� خزنة الهدف وهو استفادة‬ ‫ّ‬ ‫تتحرك بدوافع داخلية ايديولوجية تسىع إىل ابراز‬ ‫لقارئ من بعض المواقف أو ليعمل بعكسها‪ .‬فإن رؤيته‬ ‫الفــوارق الطبقيــة الـ ت يـى تدنــو إىل تنويــر ابــن البلــد ضــد المحتــل (كمــا حصــل مــع صالــح حــزوم عنــد أغــرم بكاتريــن‬ ‫ف‬ ‫الحلــوة وقــد خدعتــه وخدعــت وطنهــا) وتهيــج الفقـ يـر ضــد الغـ ن يـى (كمــا حصــل مــع ســعيد ي� المقــى) وتثويــر‬ ‫المظلــوم ضــد الظالــم‪.‬‬ ‫فالبحــر قــد صـ ّـوره بنـ ٌ‬ ‫ـاء عــى رؤيتــه وتحولــت هــذه الرؤيــة إىل داللــة‪ ،‬فهيــاج البحــر وأنوائــه عــى ســبيل‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ح‬ ‫المثــال‪ ،‬للداللــة عــى قــوة البحــار الجســدية‪ ،‬وعــى رفــع التحــدي وكذلــك ىقالغربــة ي� ً تركيــا وســكنه ي� ي‬ ‫الـ شـرادق‪ ،‬ورغــم أن حياتــه كانــت أفضــل مــن عودتــه إىل وطنــه إال أن الحنـ ي ن‬ ‫ـ� يبـ طاغيــا ألنهــا غربــة المواطــن‬ ‫ً‬ ‫المبعــد عــن الوطــن قـرا‪ .‬وهــذا مــا قامــت بــه الشــخصية الرئيســة ومــا جســدته مــن خــال ًترصفاتهــا وكشــف‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫آن معــا‪ ،‬وأمــا المواقــف‬ ‫�‬ ‫ـانية‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ان‬ ‫ـية‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫نف‬ ‫ـادا‬ ‫ال�هــان عــى هــذه الرؤيــة الـ ت يـى تتضمــن أبعـ‬ ‫وه ب‬ ‫ي ٍ‬ ‫نفســياتها‪ ،‬ي‬ ‫ّ‬ ‫الشــخصية ومســاهمات تأثـ يـرات المــكان قــد عــززت هــذه الرؤيــة وأوضحتهــا‪.‬‬ ‫ب‪ -‬عالقة الزمان باملكان‬ ‫لقــد اختلــط معظــم األحــداث بالتذكـ يـر بموقـ ًـف أو مواقــف معينــة كالــذي مــع الشــخصية الرئيســة‬ ‫ٌ‬ ‫ف‬ ‫(ســعيد)‪ ،‬ي� ليلــة صيفيــة وهــو ممــدد عــى البحــر‪ ،‬فرحــا يتأمــل مــا حولــه وإذ تظهــر أمامــه عــروس البحــر‪ ،‬ومــن‬ ‫ٌ ٌ‬ ‫دور بــارز ف ي� فنيــة الروايــة‪ ،‬القائمــة عــى صيانــة الرؤيــة المتوخــاة‪.‬‬ ‫هنــا نجــد التحــام الزمــان بالمــكان‪ ،‬وكان لهمــا‬ ‫ً‬ ‫تقــول الشــخصية الرئيســة‪« :‬لقــد حــدث ذلــك ف� ليلــة صيــف كان يتمــدد عــى الشـ ئ‬ ‫ـاط وحيــدا‪ ،‬وكان‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫الليــل فضــاء ًبالقمــر والفضــاء منــورا‪ ،‬والنجــوم مصابيــح مشــعة ومتناثــرة ‪ ،‬والزبــد ينفــرش رغــاء أبيــض‪...‬كان‬ ‫ً‬ ‫ش‬ ‫�ء بهيــا آرسا إىل درجــة أنــه تمـ نـى أال ينقـض ي الوقــت وال تتنفــس الكائنــات مــن حولــه فتفســد روعــة تلــك‬ ‫كل ي‬ ‫الليلــة‪ ..‬وفجــأة‪ ،‬خرجــت تلــك المـرأة مــن البحــر‪ ،‬وهــو لــم يرهــا تخــرج مــن البحر‪...‬لــم يفكــر آنئــذ إال أنهــا ابنــة‬ ‫ً‬ ‫المــاء‪ ،‬غادرتــه لتتـ ن زـره قليــا هنــاك»(‪..)92‬‬ ‫ً‬ ‫ض‬ ‫ـا�‪ ،‬الحـ ض‬ ‫ـا� والمســتقبل بالمــكان‪ ،‬عندمــا كان مســتلقيا عــى‬ ‫اختلــط الزمــان بأبعــاده الثالثــة المـ ي‬ ‫ً‬ ‫ـاط‪ ،‬ويتأمــل مــا حولــه مــن جمــال للطبيعــة‪ ،‬والمــكان الــذي كان متواجــدا فيــه (شـ ئ‬ ‫الشـ ئ‬ ‫ـاط البحــر) قــد اتخــذ‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ـادا شــعورية � زمــن هــو المـ ض‬ ‫ـا� (كان يتمــدد � ليلــة صيــف) وهــذا البعــد اســتدىع الحـ ض‬ ‫ـا� (فتفســد روعــة‬ ‫أبعـ‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ض‬ ‫ـا� � اللحظــة الشــعورية الحـ ض‬ ‫تلــك الليلــة) مــن خــال الحــزن (الغــاء)‪ ،‬لقــد ضــاع الزمــان المــا� والحـ ض‬ ‫ـا�ة‪،‬‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫وانعكســت مفاعيلهــا عــى المــكان المحبــب عنــد ظهــور عــروس البحــر أمامــه فجــأة‪ ،‬وفوتــت عــى الشــخصية‬ ‫ ‬ ‫‪91‬‬ ‫‪ 92‬‬

‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.14 - 13 – 12‬‬ ‫() حنا مينا‪ ،‬حكاية بحار ص ‪.16 - 15‬‬


‫مرايا األنا والهو‪ /‬األنوثة والذكورة‬ ‫يف رواية مرايا الرحيل‬ ‫ ‬

‫د‪.‬دريّة فرحات‬

‫ـص‪،‬‬ ‫ـص‪ ،‬وقــد تكــون يف داخــل ال ّنـ ّ‬ ‫عالقــة املــرأة بــاألدب عالقــة حميمــة وعريقــة‪ ،‬فهــي تــؤ ّدي دورا ً مؤث ّـرا ً فيــه بوصفهــا قارئــة أوملهمــة أوناقــدة لل ّنـ ّ‬ ‫ـص كاتبــة لــه‪ .‬وتجاذبــت املــرأة املبدعــة نظريــات وآراء متباينــة‪ ،‬مــا بــن وصفــه بــاألدب امللتــزم‪ ،‬وأدب خــارج‬ ‫أو قــد تكــون املــرأة منتجــة هــذا ال ّنـ ّ‬ ‫عــن اإلجــاع‪ ،‬أو قــد يُتهــم أنّــه أدب خــارج عــن القيــم االجتامعيّــة‪ .‬وقــد يتهمهــا بعضهــم بأنّهــا لــن تصــل قمــة اإلبــداع‪ ،‬بــل يــرون أ ّن عــدد ال ّنســاء‬ ‫العامــات يف حقــل األدب قليــل جــدا ً باملقارنــة بعــدد ال ّرجــال‪ ،‬فاملــرأة دخلــت مجــال العلــم والتّعلّــم متأخــرة عــن ال ّرجــل‪ ،‬وانســجاماً مــع موقــع املــرأة‬ ‫الشقــي املتأخــر نســبيّاً عــن موقــع ال ّرجــل فــإ ّن إبداعهــا مل ينــل حظّــه مــن االهتــام‪ ،‬فــكان ومــازال أقـ ّـل شــأناً يف تاريــخ األدب العــريب‪،‬‬ ‫يف املجتمــع ّ‬ ‫ولكــن مــع مرحلــة بعــث النهضــة أدرك املتنــورون أهميــة دور املــرأة يف نهــوض املجتمــع‪ ،‬وهــو مــا اســتدعى تعليمهــا وأفســح لهــا‪ ،‬مــن ثـ ّم‪ ،‬إمــكان‬ ‫املشــاركة يف ال ّنشــاطات االجتامعيــة والثّقافيــة واإلنتــاج األديب فال ّنهضــة ال ّنســائية مل تبــزغ إالّ يف أواخــر القــرن التّاســع عــر‪ ،‬يف ذلــك الحــن أدركــت‬ ‫املــرأة املتعلّمــة كــا أدرك الرجــل أ ّن لهــا حقوق ـاً ضائعــة وأنّــه مــن الواجــب أن نفتــح لهــا أبــواب التق ـ ّدم‪ .‬وقــد ســعت املــرأة إىل رفــع شــأنها‪ ،‬وإىل‬ ‫التّحريــر مــن القيــود املفروضــة عليهــا‪.‬‬ ‫ـي‪ .‬ومل يكــن‬ ‫هــذه الخصوصيــة التــي عرفتهــا املــرأة تدفعهــا إىل التّمـ ّرد والدعــوة إىل التّغيــر‪ّ ،‬‬ ‫ـي والثّقــا ّيف واإلبداعـ ّ‬ ‫والســعي إىل إصــاح وضعهــا االجتامعـ ّ‬ ‫خصوصــا أنّنــا كــا يقــول جــورج طرابيــي نعيــش يف «مجتمــع أبــوي رشقــي‪ ،‬متخلّــف ومتأ ّخــر‪ ،‬مشــحون حتــى ال ّنخــاع بأيدولوجيــا‬ ‫ـهل‬ ‫هــذا التغيــر سـ ً‬ ‫ً‬ ‫طهران ّيــة‪ ،‬متز ّمتــة وحنبل ّيــة‪ ،‬يغــدو مفهــوم ال ّرجولــة واألنوثــة مفهو ًمــا مو ّج ًهــا لــل للعالقــات بــن ال ّرجــل واملــرأة‪ ،‬بــل أيضً ــا للعالقــات بــن اإلنســان‬ ‫ـراع بــن املــرأة وال ّرجــل بــن تحقيــق الـذّات وفــرض الذّكوريّــة‪ ،‬بــن اضطرابــات املــرأة والمبــاالة‬ ‫والعــامل»(رشق وغــرب رجولــة وأنوثــة ص‪ ،)5‬ومــن هنــا جــاء الـ ّ‬ ‫الرجــل وإهاملــه‪ .‬قضيــة أثــارت الكاتبــة والفنانــة التشــكيل ّية فاطمــة اســاعيل‪ ،‬فــكان يراعهــا س ـ ّيالً مبد ًعــا يخــط عــى الــورق مــا جــاء يف القلــب‬ ‫والعقــل بعفويــة وسالســة فكانــت مرايــا ال ّرحيــل‪.‬‬ ‫ومبــا أ ّن املــرأة تســعى إىل التّغيــر فإنّنــا نــرى املــرأة حــارض ًة يف روايــة مرايــا الرحيــل تألي ًفــا لكاتبتهــا فاطمــة اســاعيل‪ ،‬وتاليــا بحضورهــا املكثّــف‬ ‫والعميــق يف طياتهــا‪ ،‬فبطلــة الروايــة شــابني امــرأة موهوبــة تهــوى فـ ّن ال ّرســم وتحلــم بــأن تكــون مم ّيــزة يف هــذا العــامل‪ ،‬لك ّنهــا يف ســبيل تحقيــق هــذا‬ ‫الحلــم الكبــر‪ ،‬تخــوض الحيــاة بــكل مــا فيهــا مــن أمل وشــقاء ومـ ٍ‬ ‫ـآس‪.‬‬ ‫تنفتــح ال ّروايــة ببــوح وجــداين ذايتّ مــن البطلــة تنقــل فيــه معاناتهــا « أضعــت الطريــق ومل أعــد أعــرف مــا الــذي أريــده‪ ،‬مــا هــي األشــياء التــي أمتناهــا‬ ‫ي رؤيــة انعــكايس الخــاص؟ أم أنّــه‬ ‫حقــا‪ ،‬مــا الــذي أرغــب بتحقيقــه‪ ،‬الكائنــات التــي تقــف أمامــي كأنّهــا تص ـ ّدين عــن مواجهــة نفــي‪ ..‬هــل ع ـ ّ‬ ‫ســيتح ّول إىل رصاع حقيقــي بينــي وبــن روحــي بــن األشــياء التــي أريــد‪ ،‬واألشــياء التــي أملــك»‪ ،‬لتنطلــق بعدهــا إىل عــرض كل مــا انعكــس يف حياتهــا‬ ‫فهــي تبحــث عــن األمــان وتبحــث عــن نفســها فـــ «الكائنــة التــي تســكن داخــي مل تعــد تعرفنــي»‪ ،‬لنكتشــف عــر الرجعــات (‪ ،)flash back‬مــا حــدث‬ ‫رف واألنوثــة كمتلــقٍ ومواجهــة‪،‬‬ ‫مــع ســابني إىل أن وصلــت إىل مــا وصلــت إليــه‪ .‬ونتلّمــس يف وعيهــا هــذا الـراع الكائــن بــن الذّكــورة كمفهــوم وتـ ّ‬ ‫ـدي‪ ،‬لهــذا كنــت أبقــى بعيــدة عــن أي التبــاس‪ ،‬وكنــت دامئًــا أقمــع دماغــي حتــى ال يف ّكــر كثـ ًرا‪ ،‬ويحلّــل‬ ‫«عالقــة الذكــور باإلنــاث كانــت ملتبســة لـ ّ‬ ‫كل هــذه العدائ ّيــة م ّنــي اتّجــاه الذكــور؟ ملــاذا أحــاول دامئًــا أن أحمــي نفــي‬ ‫كثـ ًرا»‪ .‬وإ ّن نراهــا يف موقــع آخــر تجلــس مــع نفســها وتفكّر»مــا ســبب ّ‬ ‫منهــم قبــل أن يحاولــوا حتّــى التّفكــر يف أذيّتــي»‪.‬‬

‫والالفــت أن هــذه الرجعــات مل تكــن تســر وفــق زمــن متسلســل‪ ،‬فال ّزمــن يف الــرد ينقســم إىل زمــن القصــة ‪ :‬يعنــي يف بعــض مــا يعنيــه‪،‬‬ ‫ـي‪ ،‬فالحــدث األقــدم هــو الــذي وقــع أ ّو ًل‪ ،‬هــو الــذي يــؤ ّدي إىل نتائــج‬ ‫األحــداث حســب وقوعهــا وفــق تسلســلها الزمنـ ّ‬ ‫تنجــم عنــه‪ .‬إ ّن زمــن القصــة محكــوم باملنطــق‪ ،‬أي باألســباب والنتائــج‪ ،‬وهــو مقيــد بالرتتيــب املتتــايل‪ ،‬فــا تأخــر‬ ‫لحــدث الحــق وال تقديــم لحــدث ســابق‪ ،‬إ ّن األحــداث يف زمــن القصــة مرهونــة بأوقاتهــا‪.‬‬ ‫ـي‪ ،‬واألحــداث فيــه ُيكــن‬ ‫أ ّمــا زمــن الــرد‪ :‬فقابــل لإلخــال بــه‪ ،‬إنّــه ال يخضــع أصـ ًـا ملبــدأ التّعاقــب والتّسلســل املنطقـ ّ‬ ‫أن تذكــر غــر متتابعــة حســب وقوعهــان فقــد يتكلّــم املؤلّــف عــى حــدث قديــم ثـ ّم ينتقــل بعــد ذلــك إىل حــدث‬ ‫قريــب‪ ،‬إ ّن زمــن القصــة مق ّيــد بينــا زمــن الــرد حـ ّر‪.‬‬ ‫ـرد الــذي ال يخضــع ملبــدأ التعاقــب‪ ،‬وتوالــت األحــداث وإن كانــت‬ ‫وقــد اتّبعــت الكاتبــة فاطمــة اســاعيل زمــن الـ ّ‬





‫أنّهــا ال تشـ ّـك يف خيانتــه‪ ،‬وكــم كان جميـ ًـا هــذا التّنــاص مــع أغنيــة أم كلثــوم «ثــورة الشّ ــك» « أكاد أشـ ُّـك يف نفــي‬ ‫ـت م ّنــي»‪ ،‬فســابني تــر ّدد مقولــة « إذا أنــا شــككت بزوجــي فذلــك ألين أنــا أشــك بنفــي»‪.‬‬ ‫ألين أكا ُد أشـ ُّـك فيـ َـك وأنـ َ‬ ‫إنّهــا تبحــث عــن عالقــة زوجيــة ال تقتــر عــى املشــاركة يف الفـراش مائــدة الطعــام‪ ،‬فـــ «الحيــاة الزوجيــة تعنــي أكــر‬ ‫مــن هذا»‪،‬إنّهــا تتــوق إىل عودتــه مــن العمــل لتكــون لحظــات يتشــاركان فيهــا حياتهــا م ًعــا ‪ ،‬لك ّنهــا باتــت اليــوم‬ ‫تتح ـ ّدث إىل رســوماتها أكــر مــا يتح ـ ّدث معهــا‪ .‬إذا ســابني مل تكــن تنشــد حيــاة زوج ّيــة روتينيــة‪ ،‬هــي تريــد مــن‬ ‫ـخصا واح ـ ًدا‪ ،‬ومــن‬ ‫هــذه العالقــة أن تكــون عالقــة متينــة قويــة فيهــا مــن املشــاركة التــي تجعــل مــن الطرفــن شـ ً‬ ‫اإلشــارات التــي تـ ّ‬ ‫ـدل عــى عــدم اهتاممــه أنّــه مل يعــد يخربهــا عــن وقــت رجوعــه‪ ،‬واملفارقــة التــي تصــل إليهــا ســابني‪،‬‬ ‫أنّهــا تحصــل عــى مرادهــا بالطفــل فيحــدث الحمــل بعــد أن تكــون قــد بــدأت التفكــر باالنفصــال‪ ،‬إلحساســها بتغــر‬ ‫جــذري عنــد زوجهــا‪ .‬وإن وصلــت ســابني يف نهايــة رحلتهــا معــه إىل تأك ّدهــا مــن ح ّبــه وعــدم خيانتــه‪ ،‬لكنهــا مل تكــن‬ ‫مخطئــة مبــا يتعلّــق بــا مباالتــه‪ ،‬فهــو اختــار أن يبعدهــا عــن حقيقــة مرضــه خوفًــا عليهــا‪ ،‬وحاميــة لهــا‪ ،‬لكـ ّن ســابني‬ ‫ـب عندهــا أعمــق مــا رآه مــروان‪.‬‬ ‫ليســت مــرآة قابلــة للكــر‪ ،‬إنّهــا قــادرة عــى مواجهــة األمل‪ ،‬فالحيــاة الزوج ّيــة والحـ ّ‬ ‫ـب يحفــظ مشــاعر حبيبتــه وزوجتــه‪ ،‬لك ّنــه أقصاهــا عــن أملــه‪ ،‬أبعدهــا‬ ‫نعــم‪ ،‬قــد يقــول القــارئ إ ّن مــروان إنســان محـ ّ‬ ‫رس مرضــه وحيـ ًدا‪ ،‬وســمح ألنثــى أخــرى وإن كانــت ممرضــة تــؤ ّدي وظيفتهــا‪ ،‬أن تتشــارك معــه‬ ‫عــن مشــاعره‪ ،‬تح ّمــل ّ‬ ‫رسا مصرييًّــا‪ ،‬ومنــع ذلــك عــن ســابني‪ ،‬وقــد يكــون هــذا بنظــر ســابني األنثــى العاشــقة أقــى مــن هجـران الحبيــب‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫ـي‪ .‬والالفــت أن تنتهــي القصــة مبالحظــة مــروان يف رســالته إىل ســابني‬ ‫الهجـران املعنــوي أقــى مــن الهجـران الحقيقـ ّ‬ ‫ـب والســام‪.‬‬ ‫عــن مــا تركــه لهــا مــن ماديّــات وأمــوال‪ ،‬وهــي قــد خــرت يف حياتــه اإلحســاس بالحـ ّ‬ ‫تناجــي ســابني نفســها « أحيانــا تفاصيــل كثــرة تعــود إىل ذاكرتنــا يف لحظــة منســية‪ ،‬تعيدنــا إىل لحظــات قــد تقتــل‬ ‫فينــا الشــعور فإمــا تحيــي طقــوس األمــس بفــرح‪ ،‬أو تدمرنــا كــا دمرتنــا لحظــة حدوثهــا أول مــرة»‪ .‬ومــن خــال‬ ‫مــا جعلتــه ســابني رشيطًــا لذكرياتهــا تذكــر حكايــات صديقاتهــا‪ ،‬اللــوايت مثّلــن منــاذج مختلفــة للـراع بــن األنوثــة‬ ‫والذكــورة‪ .‬فصديقتهــا «ليــزي» تفضــل أن تعيــش مــع رجــل تخدمــه وال تعــود اىل خدمــة خمســة رجــال يف بيــت أهلها‪،‬‬ ‫وأن تتح ّكــم بهــا أ ّمهــا فهــي اآلن تحــت رحمــة رجــل واحــد بينــا يف بيــت أهلهــا ســتكون تحــت رحمــة خمســة رجال‪،‬‬ ‫ـكل شــغف‪ ،‬لنــا‬ ‫فهــي قــد صــارت مقيّــدة بعــد أن كانــت حـ ّرة يف طفولتهــا «ليــزي كانــت حـ ّرة‪ ،‬كنــا منــارس الحيــاة بـ ّ‬ ‫مغامـرات كثــرة ‪ ...‬كلــا كربنــا ازداد الخــوف فينــا»‪ ،‬رضيــت بالـ ّزواج ممــن يح ّبهــا ويريدهــا وإن مل تكــن تح ّبــه‪.‬‬ ‫أ ّمــا ســارة فقــد تز ّوجــت واضطــرت أن تعيــش مــع أهــل زوجهــا يف بدايــة حياتهــا الزوجيّــة‪ ،‬لتعلــق بعــد ذلــك برتبيــة‬ ‫ابنتهــا‪ ،‬وان تجعــل حياتهــا ألجلهــا عــى ال ّرغــم مــن متاعــب حامتهــا‪ ،‬وأن تتح ّمــل املســؤولية بنفســها وتتحمــل عــبء‬ ‫تربيــة ابنتهــا‪ ،‬وأزمتهــا تكمــن يف حاجتهــا إىل أن يعــرف زوجهــا أنّهــا بحاجــة إىل رجــل يشــاركها معنــى دمــج األمومــة‬ ‫واألبــوة‪ ،‬فهــي تريــده ان يشــاركها األحســاس بابنتهــم‪« ،‬يف البــدء كان حنونًــا ج ـ ًّدا معنــا‪ ،‬اآلن تع ـ ّودت أن أتحمــل‬ ‫كل همهــا وحــدي»‪.‬‬ ‫املســؤولية بنفــي‪ ،‬أن أرضــع وأن ّيــم وأغــر الحفضــات‪ ،‬أن أحمــل ّ‬ ‫وتتــواىل حكايــات الصديقــات كأليســار وأ ّمهــا التــي أح ّبــت رجـ ًـا وتز ّوجتــه‪ ،‬وكان زوا ًجــا قلــب حياتهــا ونقلهــا إىل واقــع‬ ‫ـي آخــر‪ .‬أو حكايــة فتــاة ســكنت بقربهــم‪ ،‬فأحبــت ابــن الجـران الــذي ســبق أن تحـ ّرش بســابني‪ ،‬وتظهــر هــذه‬ ‫اجتامعـ ّ‬ ‫الحكايــة االختــاف بطبيعــة الرتب ّيــة التــي ك ّونــت شــخصية ســابني‪ .‬وحكايــة صديقتهــا التــي رغبــت يف الهجــرة مــن‬ ‫البلــد وضيــاع الحلــم بســبب عــدم الحصــول عــى الفيـزا مــن دول عـ ّدة يف مقابــل ســهولة حصــول ســابني عــى الفيـزا‬ ‫ألي بلــد نظ ـ ًرا لطبيعــة عمــل زوجهــا‪ .‬هــذه الحكايــات كلّهــا جــاءت يف تيــار الوعــي عنــد ســابني‪ ،‬فجــاءت حبكــة‬ ‫األحــداث متصلّــة بطبيعــة الـراع الــذي قامــت عليــه ال ّروايــة‪ ،‬وكانــت رصخــة داعيــة إىل فهــم املــرأة والتعامــل مــع‬ ‫أحاسيســها ومشــاعرها وعــدم إهاملهــا‪ ،‬ومــن هنــا نالحــظ تركيــز ال ّروايــة عــى قضيــة نســائ ّية مهمــة تتعلــق بطبيعــة‬


‫متف ّرقــة لك ّنهــا مرتبطــة بتيــار الوعــي للبطلــة ســابني‪ ،‬وقــد نراهــا تكمــل مالمــح شــخصيتها مــن خــال هــذا التــوايل يف‬ ‫الرجعــات‪ ،‬وإذا نظّمنــا هــذه ال ّرجعــات وفــق التسلســل التعاقبــي لعمــر اإلنســان‪ ،‬فســنعود مــع ســابني إىل طفولتهــا‬ ‫وحكايتهــا مــع نظارتهــا التــي انكــرت‪ ،‬ورغبتهــا يف تغيــر شــكل النظــارة‪ ،‬لكـ ّن مــا أرادتــه مل يتح ّقــق‪ ،‬فتخضــع إلرادة‬ ‫والدهــا يف اختيارهــا‪ ،‬وقــد ســاهم هــذا املوقــف يف تكويــن نفســية البطلــة الســاعية دامئــا اىل االكتشــاف فتقــول «‬ ‫كل مــن حــويل‬ ‫ـب نظــاريت‪ .‬كــرت وكــرت معــي تســاؤاليت‪ ،‬وتعلّمــت أن أســتوعب ّ‬ ‫سـ ّ‬ ‫ـكت وبــدأت منــذ ذلــك الحــن أحـ ّ‬ ‫ـكل اللحظــات»‪ ،‬وتعــود أيضــا إىل طريقــة اختيارهــا ملالبســها‪ ،‬فتثــر االختــاف بــن مــا‬ ‫وكل الظّــروف‪ .‬وأن أســتمتع بـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫تريــد ومــا يريــد والدهــا فــرى أ ّن أ ّمهــا هــي املســاعد الحقيقــي لهــا‪ ،‬فهــي تفهــم عليهــا وتســاعدها يف تنفيــذ مرادهــا‬ ‫كل مراحــل نشــأيت‪ ،‬كانــت مســتمعة جيــدة» وكانــت‬ ‫يف مواجهــة أبيهــا‪ ،‬فهــي أقــرب اىل األم‪« ،‬أمــي كانــت صديقتــي يف ّ‬ ‫مشــارك ُة أ ّمهــا فــن الطبــخ مــن اللحظــات الجميلــة التــي تســتطيع فيهــا أن تبــوح أل ّمهــا مبــا تف ّكــر بــه‪ ،‬لهــذا تعلّمــت‬ ‫الطبــخ مبهــارة‪ ،‬ومل يتوقــف هــذا الــود والتقــارب بــن البنــت وأ ّمهــا يف مرحلــة الطفولــة‪ ،‬إنّ ــا امتـ ّد إىل مرحلــة البلــوغ‪،‬‬ ‫خصوصــا يف الوقــت الحــرج الــذي تحتــاج فيــه الفتــاة إىل اكتشــاف التغيـرات الحاصلــة يف جســدها‪ ،‬فكانــت األ ّم هــي‬ ‫ً‬ ‫املعــن واملنقــذ‪ ،‬وكانــت مســتمعة جيــدة لحكايــات الفتــاة املراهقــة‪ ،‬عندمــا أخربتهــا عــن دعــوة ابــن الج ـران لهــا‬ ‫لزيارتــه يف منزلــه عــى انفـراد‪.‬‬ ‫ويف رجعــات أخــرى تعــود بنــا ســابني إىل املدرســة واملواقــف التــي مــ ّرت بهــا ومنهــا ح ّبهــا للكلمــة ومهارتهــا يف‬ ‫الكتابــة‪ ،‬فلــم تنزعــج مــن تأنيــب أســتاذها لهــا للخطــأ اللغــوي الــذي ارتكبتــه يف موضــوع اإلنشــاء‪ ،‬ويتبــن لنــا انّهــا‬ ‫تختلــف دامئــا عــن زميالتهــا اللــوايت كـ ّن يهتمــن بأنفســهن وبتربجهــن‪ ،‬ومل تكتشــف الســبب ّإل الح ًقــا‪ .‬ومــن خــال‬ ‫هــذه العــودات تنقــل ســابني حكايــات الفتيــات املختلفــة التــي عرفتهــن يف مراهقتهــا ويف حياتهــا الجامع ّيــة‪ .‬إ ّن هــذه‬ ‫املواقــف هــي التــي ك ّونــت شــخصية ســابني فصنعــت منهــا فتــاة ترفــض ان تســر وفــق مــا يـراه اآلخــرون‪ ،‬فهــي ال‬ ‫تقنــع مبــا ترســمه لهــا تقاليــد املجتمــع وأحكامــه‪ .‬ولعـ ّـل هــذا مــا يجعلهــا ال تهنــأ بالعيــش يف الســعودية وال تتقبــل‬ ‫القيــود املفــروض عليهــا فلــم تتأقلــم مــع العبــاءة ومــع اللبــاس املفــروض هنــاك‪.‬‬ ‫وتتــوزّع يف ثنايــا ال ّروايــة عــودات ترســم لنــا عالقــة ســابني باآلخــر‪ ،‬أي ال ّرجــل الــذي أح ّبتــه وقـ ّررت االرتبــاط بــه حتــى‬ ‫خصوصــا أ ّن وظيفــة حبيبهــا مــروان الدبلوماس ـ ّية تحتّــم عليــه العيــش‬ ‫لــو رفــض أهلهــا‪ ،‬فاســتع ّدت نفس ـ ًّيا لذلــك‪،‬‬ ‫ً‬ ‫خــارج لبنــان‪ .‬هــذه العالقــة التــي بنيــت عــى التضــاد يف الطّبــاع‪ ،‬حتّــى أ ّن صديقاتهــا اعتــرن عالقتهــا لــن تنجــح‬ ‫«مــن جهــة أخــرى كنــت أســمع مــن صديقــايت األخريــات كالمــا معاكســا عــن مــروان ‪ ،‬عــى أنــه شــخص ال يالمئنــي‪،‬‬ ‫وأننــي أكــر جنونــا وعفويــة منــه‪ ،‬ولكننــي كنــت أشــعر بأننــي عــى ســجيتي أمامــه‪ ،‬كنــت أشــعر بأننــي أنــا‪ ،‬أشــبه‬ ‫نفــي معــه‪ ،‬و أنــه وحــده يشــبهني‪ .‬أحيانــا أشــعر بأنهــن يغــرن منــي لهــذا يرســمن صــورة بشــعة‬ ‫عنــه‪ ،‬وأحيانــا أخــرى أشــعر بأنهــن يحبنــي جــدا ليخربننــي بشــكل حقيقــي عــا يشــعرن بــه اتجاهنــا» ‪ ،‬ومــن األمــور‬ ‫التــي اختلفــا عليهــا أنّــه روتينــي دائــم بينــا هــي تبحــث دامئــا عــن التجديــد بعــد الروتــن‪ ،‬واختلفــا يف صباحاتهــا‬ ‫فضــل أن يرشبهــا مــع ذاتــه‪ .‬واختلفــا يف طبيعــة الهديــة التــي يقدمهــا لهــا فهــي‬ ‫وطريقــة رشب القهــوة التــي كان يُ ّ‬ ‫ر عــى اختيــار مجوه ـرات ألنّهــا أســهل يف االنتقــال نظ ـ ًرا لطبيعــة عملــه‬ ‫تقبــل أن يهديهــا لوحــة فن ّيــة وهــو ي ـ ّ‬ ‫وعــدم اســتقرارهام يف مــكان محـ ّدد‪.‬‬ ‫حتّــى يف إنجــاب الطّفــل الــذي قبـ َـل بــه ألجلهــا‪ ،‬مــع قناعتــه بــأ ّن عالقتهــا مــا زالــت غــر مهيئــة الســتقباله‪ ،‬وكان‬ ‫يغفــو يف أثنــاء حديثهــا مــا يوحــي بعــدم اهتاممــه ومباالتــه‪« ،‬كأ ّن كالمــي ليــس مهـ ًّـا أبـ ًدا‪ ،‬وأنّنــي امــرأة تافهــة ال‬ ‫متلــك ســوى الــكالم‪ ،‬فيرتكنــي أتحـ ّدث مــع نفــي‪ ،‬وكأنّنــي ال أحتــاج ســوى أن أتحـ ّدث»‪ .‬فســابني تبحــث عــن عالقــة‬ ‫ـب وحدهــا ال تكفــي‪ ،‬هــي تعــرف أنّهــا مــا زالــت تح ّبــه‪ ،‬وال تشـ ّـك يف محبتــه‪ ،‬حتّــى‬ ‫أقــوى تربــط بينهــا فمشــاعر الحـ ّ‬


‫رصفات املرأة‪.‬‬ ‫الهرمونات وموعد اإلباضة وتأثريها عىل ت ّ‬ ‫مــع اإلشــارة بشــكل رسيــع إىل معانــاة تتع ـ ّرض لهــا النســاء يف هــذا املجتمــع الذّكــروري وهــو مقايضــة نجاحهــا‬ ‫باســتغالل جاملهــا وانوثتهــا‪ ،‬فاملجتمــع الذّكــوري يخاطــب جســد املــرأة ال عقلهــا وإبداعهــا «يف نقــاش يل مــع صديــق‬ ‫قريــب يشــبه الخيــال أحيانًــا‪ ،‬حــن ســألته أتظـ ّن بأنّنــي ســأكون ف ّنانــة لــو أنّنــي مل أتــزوج ومل أســتطع الحصــول عــى‬ ‫كل هــذا ال ّدعــم املــادي؟ أجابنــي ببســمة‪ ،‬كنــت ســتجدين أحـ ًدا آخــر يدعمــك‪ ،‬فأنــت أنثــى جميلــة» ‪ .‬والالفــت هــو‬ ‫ّ‬ ‫بالصدمــة واالســرخا لهــذا املوقــف‪ ،‬فلديهــا أمــل بالنجــاح‪ ،‬فهــل يف ذلــك موافقــة مــن ســابني‪ /‬الكاتبــة‬ ‫إحســاس ســابني ّ‬ ‫عــى إســتغالل الجــال؟؟؟!!! ( ســؤال برســم القــارئ)‬ ‫وإذا كان الخــط الســاري يف ال ّروايــة يقــوم عــى هــذا الـراع األنثــوي مــع الحيــاة بتشــعبات مشــاكلها‪ ،‬فــإن الكاتبــة‬ ‫عرجــت إىل اإلعــان عــن رأيهــا بقضايــا أخــرى‪ ،‬منهــا مــا كان لــه عالقــة مبــارشة بأحــداث القصــة‪ ،‬ومنهــا مــا كان‬ ‫أقــرب إىل إقحامــه وميكــن االســتغناء عنــه‪ .‬فــكان الحديــث عــن اإلقامــة بالســعودية وأبــدت الكاتبــة عــر بطلتهــا‬ ‫وخصوصــا مــا يتعلّــق بلبــس العبــاءة‪ ،‬كمظهــر خارجــي ال‬ ‫ســابني‪ ،‬موقفهــا مــن العــادات والتقاليــد يف ذلــك البلــد‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يـ ّ‬ ‫وأيضــا طبيعــة الرتب ّيــة يف هــذا البلــد‪ ،‬وميــل النســاء هنــاك إىل التسـ ّوق وقضــاء الوقــت‬ ‫ـدل عــى الحقيقــة ال ّداخل ّيــة ً‬ ‫وأيضــا ذكــرت‬ ‫الســعودية‪ً .‬‬ ‫بــن املجمعات(املــول)‪ ،‬وقــد يكــون هــذا العــرض مسـ ّوغًا كــون البطلــة قضــت ســنوات يف ّ‬ ‫الكاتبــة بعــض العــادات اليابان ّيــة وفتيــات الغيشــا يف خــال إشــارتها إىل تأثــر اإلباضــة عــى النســاء وطريقــة اللبــاس‬ ‫الكاشــفة عــن مفاتنهــا فتكــون إشــارة مــن املــرأة لل ّرجــل بأنهــا صالحــة للتلقيــح يف هــذه الفــرة‪ ،‬ومبــا أ ّن املــرأة يف‬ ‫كل األوقــات تكــون بنظــر‬ ‫املجتمــع العــريب تخبــئ هــذا الجســد بأكــر كميــة مــن األقمشــة وتكــون مغطّــاة فإنّهــا يف ّ‬ ‫وأيضــا أشــارت الكاتبــة إىل‬ ‫توصلــت إليهــا الكاتبــة قــد يخالفهــا الكثــر فيهــا‪ً .‬‬ ‫املجتمــع صالحــة للتلقيــح‪ ،‬مقاربــة ّ‬ ‫الطفــل إيــان الــذي قــى غرقًــا يف البحــر وهــو يبحــث عــن النجــاة مــن املــوت يف بــاده‪ ،‬ومل أجــد رضورة يف إقحــام‬ ‫كل صبــاح ورمبــا‬ ‫هــذا الحــدث يف ســياق رشيــط التّذكّــر عنــد البطلــة‪ ،‬وقــد م ّهــدت لــه الكاتبــة عــن حكايــات مت ـ ّر ّ‬ ‫يتضــح كيــف تــرك هــذا املوقــف أث ـ ًرا يف حيــاة ســابني‪ّ ،‬إل إذا ربطنــاه برغبتهــا يف اإلنجــاب‪.‬‬ ‫تغينــا‪ ،‬لكــن مل ّ‬ ‫ّ‬ ‫الروايــة بــوح ذايت تقــوم عــى املناجاة(املنولــوج الداخــي)‪ ،‬ومــن املالحــظ لجــوء الــرد يف ال ّروايــة إىل طريقة ال ّرســائل‪،‬‬ ‫ومنهــا عرفنــا بعــض مجريــات األحــداث‪ ،‬أ ّمــا الحــوار عــى قلّتــه فقــد جــاء أحيانًــا كاشـفًا للشّ ــخصيات راسـ ًـا مالمحهــا‬ ‫مصـ ّو ًرا واقعهــا ال ّنفــي‪ ،‬ويف أحيــان أخــرى كان أقــرب إىل املبــارشة‪ ،‬مــع اعتــاد العاميــة بأغلبــه‪.‬‬ ‫روايــة مرايــا الرحيــل‪ ...‬هــي أكــر مــن مــرآة تعكــس الصــورة الحقيقيّــة للمجتمــع وللمــرأة وللرجــل‪ ،‬فاســتخدام كلمــة‬ ‫مــرآة بالجمــع لــه عالمــة ســيميائ ّية ت ُشــر إىل االرضاب النفــي الــذي تعانيــه البطلــة‪ .‬وأهــم مــا يعكســه العنــوان أنّنــا‬ ‫أمــام كاتبــة متتلــك الحــس املرهــف والـراع املبــدع والريشــة املبتكــرة التــي ترســم ألــوان الحيــاة‪.‬‬




‫شعر‬

‫موعظة‬ ‫الشاعر حامد معيوف‬

‫متنينا لو األيام عادت‬ ‫وعدنا للملذة تاركينا‬ ‫فام كنا لنأثم من معاىص‬ ‫والكنا الخطيئة فاعلينا‬ ‫مبندم والعمر ولَّ‪ ‬‬ ‫والت ٍ‬ ‫وما ت ُعفى الندامة آمثينا‬ ‫ولوال نهي ُة األديان كنا‪ ‬‬ ‫الغي طرا ً أجمعينا‬ ‫بدرب ِّ‬ ‫عتم‬ ‫رساج الدين ب َّد َد كل ٍ‬ ‫وأرشدنا املحجة سالكينا‬ ‫ومنا من رسى بالنجد هدياً‪ ‬‬ ‫الغي املشينا‬ ‫ومنا صا َح َب َّ‬ ‫معاذ اللة من نفس عنود‬ ‫رست مل تسمع النصح املبينا‬



‫من مزامير القرية‬ ‫عال بدر الدين‬ ‫كان السنونو دائما ً‬ ‫يجعل في قرميدنا بيوته‬ ‫صعون الدور بالقرميد‬ ‫والناس في بالدنا ير ّ‬ ‫والشجر‬ ‫ْ‬ ‫فتسكن الطيور في سقوفنا‬ ‫بق ْدر ما تريد‬ ‫يمر‬ ‫وكان في قرميدنا ينتظر الزمان كي ّ‬ ‫إشارة ً من طفل ٍة مدلـ َّ ْ‬ ‫لة‬ ‫تُس ِكنُها القريةُ في قلوبها‬ ‫والناس والزه َْر‬ ‫ُ‬ ‫ما ظ َّل من قرميدنا يا أ ِ ّم غير الشوق‬ ‫ِكر‬ ‫والذ ْ‬ ‫ولم ْ‬ ‫تزل رائحةُ الور ِد الذي‬ ‫زرعتِ ِه يا أمي‬ ‫يفوح من أعمارنا‬ ‫كأننا نلبس من أيامنا‬ ‫الصغ َْر‬ ‫ما كان في ِ‬ ‫األمس واأليا ْم‬ ‫على جفون‬ ‫ِ‬ ‫ما زالت الطفلة يا أمي بال ْ‬ ‫ملل‬ ‫ُ‬ ‫البشر‬ ‫تبحث عن قرميدها في أعين‬ ‫ْ‬ ‫لكنها تغي ْ‬ ‫َّرت‬


‫لو يرج ُع الزمان‬ ‫تعيش عندنا‬ ‫وترجع الطير التي كانت‬ ‫ُ‬ ‫لكنت للطيور قصتي‬ ‫ورحلتي‬ ‫ت والحجر‬ ‫في عالم اإلسفل ِ‬ ‫حجر‬ ‫ب كلها‬ ‫ْ‬ ‫وفي قلو ٍ‬ ‫*****‬ ‫يا أ ِ ّم يا حديقة العمر التي تظ ّل‬ ‫زهرا َء على الزمن‬ ‫جفاف‬ ‫برغم ما عانيتُ من‬ ‫ْ‬ ‫لم ترحلي من عالمي‬ ‫ت ك ُّل عالمي‬ ‫فأن ِ‬ ‫أقدامك كانت جنتي‬ ‫وتحت‬ ‫ِ‬ ‫مجلس العزا ْء؟‬ ‫أتذكرينَ‬ ‫َ‬ ‫يوم عاشورا َء من دموع؟‬ ‫وكم ذرفنا َ‬ ‫على الشهيد‬ ‫أتذكرين كيف كان الدم ُع يشفينا‬ ‫من الصدوع؟‬ ‫ْ‬ ‫ذكرت‬ ‫صدوعِ روحٍ‬ ‫الطف‬ ‫يوم‬ ‫ّْ‬ ‫َ‬ ‫زينب َ‬ ‫وقلبها المفجو ْ‬ ‫ع‬ ‫*****‬ ‫فهل تعود الطير‬ ‫يا أمي وفي جناحها الربيع‬ ‫وتنشر الدف َء على قلوبنا‬ ‫الصقيع؟!!‬ ‫ونخل ُع‬ ‫ْ‬


‫تغي َّر األنا ْم‬ ‫والحجر‬ ‫تغي َ​َّر القرميد‬ ‫ْ‬ ‫قلتُ ‪ :‬لماذا ترح ُل األشيا ُء عن عيوننا‬ ‫كرحلة الغيم إلى بالد ِه‬ ‫مقر؟‬ ‫ورحلة‬ ‫الحزن إلى ْ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫يفر؟‬ ‫أمي‪ ،‬لماذا‬ ‫يحرن الماضي وال ّ‬ ‫ونحن ال نزال نستلقي على الماضي‬ ‫وال نخلعه؟‬ ‫كأنه ثيابُنا‬ ‫حضورنا‬ ‫كأنه‬ ‫ُ‬ ‫مح َوهُ غيابنا‬ ‫ال يستطي ُع ْ‬ ‫*****‬ ‫والغي ُم‪ ،‬كيف رحل الغي ُم الذي كان‬ ‫ُّ‬ ‫عه ؟‬ ‫يحط عندنا دمو َ‬ ‫ْ‬ ‫عه في أرضنا‬ ‫كيف‬ ‫غدت دمو ُ‬ ‫ثمر‬ ‫ْ‬ ‫والطير كان دائما ً‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫للبستان‬ ‫يعود‬ ‫ونحن ال نعو ْد‬ ‫ْ‬ ‫الزمان‬ ‫تغيّر‬ ‫ْ‬ ‫اإلنسان‬ ‫تغي َ​َّر‬ ‫*****‬ ‫يشر‬ ‫وها أنا أعيش في مدين ٍة بال ْ‬ ‫حجر‬ ‫س ّكانُها‬ ‫ْ‬ ‫حجر‬ ‫وقلبُها‬ ‫ْ‬



‫ها ْي ِب ْيشيا‬ ‫دريد عوده‬

‫أنا من ساللة األجساد المحروقة‬ ‫من نَ ْس ِل المشاعل البشرية‬ ‫شعلتي األشالء‬ ‫نُ ْ‬ ‫طفتي الدماء‬ ‫أ ّمي ها ْي ِبيْشيا‬ ‫ع إلى الكنيسة وقَ َّ‬ ‫إربًا‬ ‫الرعا ُ‬ ‫حملَها ُّ‬ ‫إربًا َ‬ ‫طعوها على المذبح َ‬ ‫سه ذبيحة!‬ ‫أضحيةً َّ‬ ‫للرب الذي قَدَّم نف َ‬ ‫األزقّة‬ ‫ثم أ َ َ‬ ‫حرقوا أوصالَها في ِ‬ ‫ص في الليل خوفًا من البشر!‬ ‫حيث مشى هللا يو ًما ك ِل ٍ ّ‬ ‫ص ٌل من أوصال أ ّمي‬ ‫أنا َو ْ‬ ‫بقيتُ حيًّا ولم ْ‬ ‫ستْها بأنياب القدّيسين‪،‬‬ ‫تأكلني ُ‬ ‫النار التي افتر َ‬ ‫ش ِهدْتُ موتَها‬ ‫ضلعها‬ ‫س ِل ُخ من ِ‬ ‫رأ ْيتُها تموت وأنا أ َ ْن َ‬ ‫وأنزل ِبذرة ً في األرض‪ ،‬في التراب الذي َر َوتْه برمادها‬ ‫ِ‬ ‫آه! لو تعرفون نُ ْس َغ الرماد‬ ‫هو نار النار التي ال ت ُ ْ‬ ‫طفَأ‪.‬‬ ‫بأ ُ ِ ّم عيني رأيْتُ أ ّمي تنط ِفئ‬ ‫تصمتُ َو ْس َ‬ ‫الرعاع ب َخفَر‪ ،‬بانكسار‬ ‫ط ُّ‬ ‫خ َِج َل اآللهة أمام موتها‬ ‫َخ َجلُهم بات حمرة الغروب‬ ‫صمتوا َو ْس َ‬ ‫ط ضجيج الدَّهماء‬ ‫الهاجعةَ‬ ‫صمتُهم غدا‬ ‫ِ‬


‫ْ‬ ‫لكن عندما عادَ ُج ْرحي القديم‪ ،‬حزني على أ ّمي‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫و ُج ْرحي الحالي‪،‬‬ ‫حزن أ ّمي ها ْي ِبيْشيا عل َّ‬ ‫سحاب‬ ‫عندما َر ِجعا إلى التلّة على َكتف ال َّ‬ ‫الشمس عن َ‬ ‫بح ْمل األيّام‬ ‫وألقَتْهما‬ ‫ظهرها ال ُمثْقَل ِ‬ ‫ُ‬ ‫ع الفجر ال ِفضّي‬ ‫صارا ينبو َ‬ ‫نهر في صوتهما‪:‬‬ ‫ونادا من فوق التلّة‪ ،‬وكان ٌ‬ ‫تدور! تدور!‬ ‫ثم انزلَقا وهما يُغَ ِنّيان أغنية الفصول العاصية‬ ‫سيْهما‬ ‫وكانت األقمار تتساقط كالنَّيازك فوق رأ َ‬ ‫ها ُكما! حجارة من ِس ِ ّجيل‬ ‫س َّ‬ ‫س َّ‬ ‫طحة‬ ‫طحة ُم َ‬ ‫هي ُم َ‬ ‫ولو بَ َر َمها الخا ِل ُق ومعه‬ ‫ألف إل ٍه وإله‪.‬‬ ‫ُ‬

‫“ القصيدة من ديوان «يوم بكى هللا»‬


‫ضا من الغَوغاء‪.‬‬ ‫خافوا على أنفسهم أي ً‬ ‫ص ٌل أنا من أوصال أ ّمي‬ ‫َو ْ‬ ‫بقيتُ حيًّا ولم ْ‬ ‫النار السماوية بأنيابها البشرية‬ ‫تأكلني ُ‬ ‫ي اآللهة فخلَّصوني‬ ‫ربّما أ َ ْشفَقَ عل َّ‬ ‫ع هللا‬ ‫خاطوني داخل فَ ْخ ِذ أحدهم ل ِئ ّل يراني أتبا ُ‬ ‫الراكعون أفخاذًا تحت فَ ْخذِه‪،‬‬ ‫اليوم في ُّ‬ ‫الزقاق نفسه‬ ‫ف‬ ‫وها أنا أَقِ ُ‬ ‫َ‬

‫ع ِلّقَ ْ‬ ‫ت أ ّمي على صليب النار‬ ‫حيث ُ‬ ‫صيّادُ البشر‬ ‫ومعها اإللهُ ِ‬ ‫اللّ ُ‬ ‫ص َ‬ ‫هذا يموت كلّما مات أحدُنا ظل ًما‪ ،‬ليتَهم يَ ْعلَمون‪.‬‬ ‫قَ َّ‬ ‫إربًا‬ ‫إربًا َ‬ ‫طعوني َ‬ ‫جريمتي أَنّني كأ ّمي ْقلتُ َّ‬ ‫األرض تدور‬ ‫إن‬ ‫َ‬ ‫س َّ‬ ‫طحة!‬ ‫صرخوا‪ :‬ال‪ُ ،‬م َ‬ ‫ثم َك َّوموا أشالئي‬ ‫شقَعوها فوق بعضها البعض‬ ‫َ‬ ‫جعلوها ه َ​َر ًما‬ ‫كانت هذه وصيّتي األخيرة‪،‬‬ ‫النار على مرآى من أ ّمي‪.‬‬ ‫ي َ‬ ‫ثم أَوقَدوا ف َّ‬ ‫نادى ُج ْرحي الحالي ُج ْرحي القديم‪ ،‬ل ّما يَ ْندَ ِم ْل‬ ‫ثم مشيا معًا إلى البحر وهما يُ َر ِنّمان دورة َ الفصول ودورانَ األرض‬ ‫وأ ّمي َرفَدَتْهما بدمعتها‬ ‫ض ِحكا عاليًا‬ ‫وحين وصال َ‬ ‫وكان الموج في حنجرتَيْهما النارية‪:‬‬ ‫س َّ‬ ‫ضي ُْرنا!‬ ‫طحة! ما َ‬ ‫َو ْلت َ ُك ْن ُم َ‬ ‫ع ثمنَ دورة الماء؟!‬ ‫ِل َم يدفع الينبو ُ‬


‫وحبيبات ندى‬ ‫افر به بعيدا‬ ‫ألقيه على جرف صمت‬ ‫كل شيء ساكت‬ ‫كل العيون ‪..‬‬ ‫كل الوجوه‬ ‫خافت ال يصلني‬ ‫صوت العصافير ‪.‬‬ ‫كيف أقف أمام باب موصد؟‬ ‫ال من يجيب ‪..‬‬ ‫وما من مفتاح معي‬ ‫والدار ليست داري !‬ ‫وال مكان ألقي فيه رأسي‬ ‫ألخرج مني هذا الضجيج‬ ‫فتحت صفحتي ‪..‬‬ ‫رسمت بابا مشرعا‪...‬‬ ‫وقلبا فاتحا قلبه‬ ‫ألنه يعرف من أنا‬ ‫فإني جئته من تيه‪..‬‬ ‫تيه بعيد ‪..‬‬


‫تيه‬

‫سناء الحاموش‬

‫كيف أحمل قلبي‬ ‫وارميه ‪..‬‬ ‫على حافة واد‪.‬‬ ‫كيف اهرب منه‬ ‫كي ال يعود ؟‬ ‫أكور كفي‬ ‫على صوتك أقبض‬ ‫اغلفه بتراب واريج‬


‫الحرير المنسي‬

‫مهى الموسوي‬

‫هذا الحرير المنسي من أين له كل هذا الشجن‪...‬؟‬ ‫سرة على الضلع الصخري‪..‬‬ ‫هذه الحواس المتك ّ‬ ‫كيف يتالعب بها الحلم على هامش المشهد ‪...‬؟‬ ‫مع الريح يشهق الكبد المنذور للناي‬ ‫يتكىء على نصل الروح المتآلف مع نحيب الشهوة‬ ‫وعلى حدود العبث المتكاثف تنزف أصابع الوله‬ ‫في غرف الفقد منتظرة طيف عين حارة‬ ‫تستفرد بوحدتها‬ ‫بمغامرات طائشة‬ ‫كي تمنح الجسد‬ ‫فسحة شغف‪ ،‬في منتصف ليل‬ ‫في نصف سرير‪،‬‬ ‫في غيبوبة القصب‪.‬‬

‫الحالمون ب ّحارة نعاس‬

‫مهى الموسوي‬

‫الحالمون السارحون في ضباب السجائر قلقا احمر‬ ‫يسجدون فجرا ً مع هشيم الوعي‬ ‫على وتر قصيدة‬ ‫مطعّمين بتالوين العناق‬



‫عويل الريح‬ ‫مهى الموسوي‬ ‫أي جرح يضربك‪ ،‬أيتها األوراق؟‬ ‫ي ريح تقتحمك؟‬ ‫أ ّ‬ ‫ي تواطىء يجلجل صدى نضالك؟‬ ‫أ ّ‬ ‫ساق‬ ‫الرمال منزوعةَ ال ّ‬ ‫تنامين فوق ّ‬ ‫ترتجفين من الكالب‬ ‫تقاسمين الوحشة حكاياها في سرير الوحدة‪.‬‬ ‫الريح‪.‬‬ ‫لتحتمي من عويل ّ‬ ‫تدسين أصابعك في الصالة‪....‬‬ ‫ٌ‬ ‫عميق حزنك ‪،‬‬ ‫ولن أسأل‬ ‫كيف من رمادك‬ ‫ً‬ ‫مجازا وكفاحا‪.‬‬ ‫اشتعلت‬


‫مسكونين بألحان تشايكوفسكي‬ ‫موشومين بلغة الالزورد‬ ‫مد ّججين ببخور الحنين‬ ‫الحالمون‬ ‫يُراقصون نبض األرق‬ ‫بقميص منهك من كثرة الشوق‬ ‫إلى أصابع ربيعية‬ ‫تنبت ينبوع حوار‬ ‫يعادل الحياة‬ ‫الحالمون‬ ‫الجميلون كنبوءة حين تُغمض عينيها‬ ‫ب ّحارة نعاس‬ ‫تجيئهم‬ ‫األحالم هلوسات طريدة ‬ ‫تتوارى في الجغرافيا‬ ‫وتغزل عزلتها بصمت‬ ‫كريح‪ ..‬أو كعبث األقدار الراقص على حافة غصن من سحاب‬ ‫الحالمون‪..‬‬ ‫مدمنون على هندسة هزائمهم‬


‫فلسفة‬


‫الســـــاهـــــل‬ ‫محـــمــــد َّ‬

‫أستاذ بم�ز ف ي� اللغة العربية وآدابها ـ المغرب‬

‫ف‬ ‫استطيقا االمتصاص والتحويل ي� الرواية العربية‬ ‫أ‬ ‫«القاتل الشقر» لطارق بكاري نموذجا‬ ‫عىل سبيل التقديم‬ ‫ل�ي ف� أ‬ ‫الدب‪ ،‬ووارث تَر َكــة أ‬ ‫ك ُُّل كتاب�ةـ جدي��دة ه��ي إ ٌ ــ‬ ‫أ ن‬ ‫الدبــاء‬ ‫َ​َ ِ ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يغ��ال ي الكتاب��ات القديم��ة‪ ،‬وك ُُّل كات��ب هـ�و ُم َل ْم ِلم ُــ َ‪ ‬ش�� َتات ال َ َّو ي َ ي‬ ‫آ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ـات كل الدبــاء ‪ -‬البــاء ‪ ‬الذيــن تعاقبــوا‬ ‫الذيــن هلكــوا ي� بَ ِّريَّــة الدب‪ .‬مــن هنــا يمكــن القــول إن كل نــص ‪َ -‬م ْو ُلــود ‪ ‬يحمــل ُم َو ِّرثَـ ِ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫علـى إخصاــب رحــم الذاكرــة‪ .‬أو بعب��ارة أخ��رى‪ ،‬إن كل كتاب��ة جديــدة ه��ي َم ْو ِقـ ٌ�ع أَثَر ِــ ٌّي يَأْ ُهـ ُـل ‪ ‬ببقايــا الديــب ال َ َّول وآثــار‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ـص‬ ‫ُ‬ ‫الحــروف الوىل‪ .‬إن الممارســة الدبيــة ‪ -‬والحــال هــذه ‪ -‬هــي ممارســةٌ تقــوم عــى االمتصــاص والتحويــل‪ ،‬فالديــب يَ ْم َتـ ُ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ـب الذاكــرة الــىت‬ ‫ن‬ ‫ وهــو يَ ُسـ ُ‬‫الســياحة ي� ربــوع الدب تُ ْخ ِصـ ُ‬ ‫ـوح ي� مدائــن الدب ‪ -‬شــواغل وجماليــات ال َ َّو ِلـ يـ�‪ .‬وال شــك أن ِّ‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫تســتحيل ينبوعــا نَ ِمـ يـراً أو مخزنــا عام ـرا‪ .‬مــن ‪ -‬ثَـ َّـم ‪ -‬فالديــب ‪ -‬وهــو يَ ْح ِقـ ُـل ي� أرض الدب ‪ -‬يــروي أوىل الف َِسـ َ‬ ‫ـيلت بميــاه‬ ‫أ‬ ‫ـ�‪َ ،‬ويُ َحـ ِّـو ُل ‪ -‬فضــا عــن ذلــك ‪ -‬تراكمــات الذاكــرة تَ َســاوقاً وخياراتــه الفنيــة ومشــاغله الفكريــة‪ .‬أو بتعبـ يـر أفضــل‪ ،‬إن‬ ‫ال َ َّو ِلـ ي ن َ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫د�‪ ،‬لكــن المتداعيــات ماهــر ٌة ف ي‪ � ‬لعبــة التخفــي‪ ،‬ولذلــك ال يمســك بهــا إال القــارئ‬ ‫مخــزون الذاكــرة يتداعــى ي� المســطور ال ب ي‬ ‫الم ْل َحــاح‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫أ‬ ‫د� هــو فضــاء تتجــاور فيــه نصوص مــن ‪ ‬كل المدائن‬ ‫��ص ُمتفائ ٌ��ل أو ه��و نَ ٌّ‬ ‫أدـ‪ ،‬إذن‪ ،‬ه��و ن ٌّ‬ ‫��ص منفت ٌ��ح‪ ،‬ﻷن النــص ال ب ي‬ ‫كل ن��ص ب ي‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ـال عــى واقعــه‪،‬‬ ‫والزمنــة‪ .‬وعليــه‪ ،‬ال ينبغــي أن يذهــب بنــا الظــن إىل َّ‬ ‫د� هــو عالـ ٌـم منغلـ ٌـق عــى ذاتــه‪ ،‬متعـ ٍ‬ ‫أن النــص ال ب ي‬ ‫العـرـاق أ‬ ‫ومنكف�ئـ ع�لى نفس��ه‪ ،‬بــل ه��و عال��م تتعايــش ف� س�اـحاته ودروبهــ كل أ‬ ‫الدبي��ة والطوائ��ف الفني�ةـ‪ ،‬أو هــو الفضــاء الــذي‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫ـب الــذي تهاجــر إليــه طيــور الدب‪.‬‬ ‫ـى تســرخي فيهــا ‪ ‬قوافــل الدبــاء‪ ،‬وال ُق ْطـ ُ‬ ‫تزدحــم فيــه أكل الصــوات الدبيــة‪ ،‬والواحــة الـ ي‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ض‬ ‫أد� ‪ -‬جديــد تَ ْن َد ِغـ ُـم ي� َع ِز ِيفـ ِـه‬ ‫وعــى هــذا الســاس‪ ،‬فــإن كل نــص ‪ -‬حــا� تَ ْن َص ِهـ ُـر ي� بَ ْوتَق َِتــه نصــوص أخــرى‪ ،‬وكل صــوت ب ي‬ ‫أصــوات أخــرى‪ .‬أو بتعبـ يـر أفضــل‪ ،‬إن كل نــص ‪ -‬حـ ض‬ ‫ـا� تتداخــل فيــه نصــوص غائبــة‪ ،‬وأن كل نــص ‪ -‬مولــود ‪ ‬ينتســب إىل‬ ‫ف‬ ‫و� هذــا الس��ياق‪ ،‬نش ي�ير إىل أن الن��ص ‪ -‬الحا ض‬ ‫ث‬ ‫ت ْد ِو َير َهــا‬ ‫ــ� يُعيد ُــ تش��كيل النصوــص الغائب��ة‪ ،‬ب��ل يُعيـ ُـد َ‬ ‫أك�ثر م��ن أديــب ‪ -‬أب‪ .‬ي‬ ‫تس��اوقاً وَتم ْلمـ َـات الواقــع الــذي ينفَلــق عــن مشــاغل وخضــات ال تشــابه همــوم وأَنــات أ‬ ‫الزمنــة القديمــة‪ ،‬وحرصـاً ‪ -‬إىل جانــب‬ ‫َ َّ‬ ‫َّ‬ ‫َُ ُِ‬ ‫َْ ِ ُ‬ ‫َ​َ ُ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫والبــداع‪.‬‬ ‫ولمســته وهويتــه ي� الخلــق إ‬ ‫بصمتــه ْ‬ ‫ــو ُر أ َِكـ َـوان ال َ َّو ِلـ يـ� دون أن يفقـ َـد ْ‬ ‫ذل��ك ‪ -‬ع�لى َصـ ْـو ِغ ك َْو ٍن َأ َدِب ي ٍّـ ي َُحا ِ‬ ‫وال مشــاحة مــن القــول إن الروايــة تجــذب ‪ -‬أكـ ثـر مــن الفنــون أ‬ ‫الخــرى ‪ -‬النصــوص الـ ت نز ف‬ ‫ئ‬ ‫ـروا�‬ ‫َْ ِ ُ‬ ‫ـى ت ـ وي ي� الذاكــرة‪ ،‬فالنــص الـ ي‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫ـن منكفـ ٌـئ عــى ذاتــه‪،‬‬ ‫ـر ‪ ‬همــوم إ‬ ‫ـاو َرنَا الشــك بــأن الروايــة هــي فـ ٌّ‬ ‫يُ َحـ ب ِّ ُ‬ ‫النســان وطموحاتــه ِب ِمـ َـداد ال َ َّو ِلـ يـ�‪ .‬وال ينبغــي أن يُ َسـ ِ‬


‫ت‬ ‫��ن منــ‬ ‫ـن ي َْج َنـ ُـح ‪ -‬دومــا ‪ -‬إىل التعــد ٌّد وال َّت َعالـ ُـق والتفاعـ ُـل‪ ،‬فالكتابــة‬ ‫االخ�تراق‪ ،‬وخ��ال م��ن ُ‬ ‫الم َط ِّع َم��ات‪ ،‬ب��ل ه��ي فـ ٌّ‬ ‫ُم َح َّص ٌ‬ ‫أ‬ ‫الروائيــة تَ ْن َهـ ُـل ‪ -‬دونمــا خجــل ‪ -‬مــن السِديَــات ت‬ ‫النســانية والديــان‪ ،‬بــل تَغْ ـ ِـر ُف ‪ -‬عــن ســبق إرصار وترصــد‬ ‫ال�اثيــة والميثولوجيــا إ‬ ‫َّ ْ‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫ـب مــع ‪ ‬إبــداالت واقعنــا‬ ‫ مــن بحــار المعرفــة ش�قــا وغربــا‪ ،‬لكــن الروايــة تُعيـ ُـد تشــكيل مــا أنتجــه العقــل إ‬‫ـا� حــى يَ َت َن َاسـ َ‬ ‫النسـ ي‬ ‫ت‬ ‫ـب ‪ -‬إىل جانــب ذلــك ‪ -‬مــع‬ ‫ـى يَ ُع ُ‬ ‫وزهــا ‪ ‬المعـ نـى والــدفء‪ ،‬وحـ تـى يتناسـ َ‬ ‫الــذي يَ ْع َت ِمـ ُـر ألمــا وقلقــا‪ ،‬ومــع تَ َم ْل ُم أــات حياتنــا الـ ي‬ ‫‪ ‬أن ت َُص ِاد َف َنــا ‪ -‬ونحــن نَ ُجـ ُ‬ ‫ال��ذَّ ْو ِق الف�نن ي ال��ذي يَ ُط ُ‬ ‫ـول ف ي� ُمــروج الروايــة ‪ -‬فكــر ٌة ســابقةٌ‬ ‫ــ ْ‬ ‫��ال‪ ،‬ال عجب َ‬ ‫��ول س��احتنا الدبي��ة‪ .‬وبالت ي‬ ‫ث‬ ‫السـ ي ن‬ ‫قديـ�م أو‬ ‫أو أثر ٌــ‬ ‫ـابق�‪ ،‬وأن كل‬ ‫ٌ‬ ‫ا�‪ .‬وعموم�اـ يمكنــ الق��ول إن كل رواي��ة تَسـ ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ـتدين ‪ -‬ال محالــة ‪ -‬شــيئا مــن بنــوك َّ‬ ‫قال��ب ت��ر ي‬ ‫ٌّ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ئ‬ ‫أن التفاعــات ‪ - ‬الـ ت‬ ‫روا� يَ َقـ ُـع ‪ -‬ال غرابــة ‪َ -‬ح ِافــره عــى َح َو ِافــر ال َ َّو ِلـ ي ن‬ ‫ـى تَ ْخ ِر ُطهــا الروايــة مــع النصــوص الخــرى ‪-‬‬ ‫ـ�‪ .‬وال غــرو َّ‬ ‫ي‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ٍّ‬ ‫الصــوات أ‬ ‫تضفــي عليهــا بعــدا جماليــا‪ ،‬وأن الحــوارات ‪ -‬الـ تـى تعقدهــا الروايــة مــع أ‬ ‫الخــرى ‪ -‬تُ ْض ِفــي عــى ‪َ ‬د َوا ِّل َهــا أَ َلقـاً وعــى‬ ‫ي َْ ِ ُ‬ ‫ُْ‬ ‫ُْ ِ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫د� كمــا نظــر إليهــا عقلنــا النقــدي قديمــا‬ ‫مدلوالتهــا َط َز َاجــةً ‪ ،‬وليســت هــذه التفاعــات أو الحــوارات نقصــا أو عيبــا ي� العمــل ال ب ي‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫ال��د َال والمدلو َ‬ ‫َاص‪ ،‬ب��ل إن التفاعـلات النصيـ�ة ‪ ‬قيمــةٌ مُضافــةٌ للعمــل‬ ‫ــل ِ‬ ‫�ص رسق��ات الدب��اء و َكأَ َّن َّ‬ ‫م ْلــكٌ خ ٌّ‬ ‫حي يـ� َع َكـ َـف ي ُْح ِ ي‬ ‫ئ‬ ‫ﻷن النــص ‪ -‬الغائــب‬ ‫وح َ‬ ‫��ت ب َِزف َ​َرا ِت َن�اـ‪ ،‬وهــي ‪ -‬فض�لا ع��ن ذل��ك ‪ُ -‬مغام��ر ٌة و َِعـ َـرةٌ‪َّ ،‬‬ ‫اض ْ‬ ‫ال��روا�‪ ،‬وبالضب��ط إذا َج َّب ْ‬ ‫��ت ش َ​َو ِاغ َل َن��ا‪َ ،‬‬ ‫ي‬ ‫ـا�‪ ،‬وﻷن الصــوت ‪ -‬الالحــق قــد ينقَلــب إىل صــدى ﻷصــوات ســابقة‪ .‬وعــى هــذا أ‬ ‫قــد يَب َلـ ُـع النــص ‪ -‬الحـ ض‬ ‫الســاس‪ ،‬نقــول‬ ‫َّ‬ ‫َْ ِ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ئ‬ ‫�روا� هـ�و نـ�ص منفتـ�ح‪ُ ،‬م َت َعا ِلـ�ق‪ ،‬ومتعـ�دد‪ ،‬وأن ال َّت َعا ُل َقـ�ات النصيـ�ة هـ�ي فعاليـ�ةٌ إيجابيـ�ةٌ ‪ ،‬وقيمـ�ةٌ مضافـ�ة‪ ،‬و َف ْتـ ٌ�ح‬ ‫إن النـ�ص الـ ي‬ ‫ُبـي‪.‬‬ ‫م ي نٌ‬ ‫ـروا� المغــر� طــارق بــكاري الـ تـى صــدرت حديثــا عــن (دار آ‬ ‫أ‬ ‫ئ‬ ‫الداب)‬ ‫بي‬ ‫ومــن هــذا المنطلــق‪ ،‬نَ ْن ُظـ ُـر إىل روايــة (القاتــل الشــقر) للـ ي‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ـى أثــرى بهــا الكاتــب خزانتنــا العربيــة‪ ،‬فقــد ســبق‬ ‫وحر ِــ ٌّي بِال َّت ْسـ ِـجيل‬ ‫ي� لبن��ان‪َ .‬‬ ‫أن (القاتــل الشــقر) هــي الروايــة الثالثــة الـ ي‬ ‫ف‬ ‫ئ‬ ‫ت‬ ‫ين‬ ‫ــوا� ب َع َم َلـ ي ْ ن‬ ‫ـى اقتحــم بهــا بَ ِّريَّــة الروايــة‪ ،‬و(مرايــا‬ ‫ـ�‬ ‫لط��ارق ب��كاري أن َس�� َّط َر اس��مه يـ ِس ِ��ج ِّلنا الر ي ِ‬ ‫روائي�ي همــا‪( :‬نوميديـ�ا) الـ ي‬ ‫ف‬ ‫الج ن�نرال) ت‬ ‫السـ ُطور تَ ْن ُظـ ُـر‬ ‫ال�ت َوثَـ َّ�ق ب َِهــا أوارص االنتمــاء إىل دولــة الروايــة‪ .‬ونحــب أن نشـ يـر ‪ -‬ي� هــذه المرحلــة ‪ -‬إىل أن هــذه ُّ‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫تز‬ ‫ـر ُن أصواتـاً أخــرى‪ .‬أو بتعبـ يـر دقيــق‪،‬‬ ‫إىل رواي��ة (القاتــل الشقــر) كن��ص منفت�حـ يَ ْس�� َتق ِْط ُب نصوصاــ أخ��رى‪ ،‬وكصـ ٍ‬ ‫أدـ ي َْخـ َ ِ‬ ‫�وت ب ي ٍّ‬ ‫إن نظرتنــا إىل (القات��ل أ‬ ‫ت‬ ‫ـى تَ ْخ ِر ُطهــا الروايــة مــع يغ�هــا مــن‬ ‫ـث ف ي� التفاعـ‬ ‫الشــقر) ه��ي نظ�رـة ‪ ‬تَ َن ِاص َّيــةٌ َ‬ ‫تبْ َحـ ُ‬ ‫ـات النصيــة الـ ي‬ ‫تبحــث ف� النصــوص الـ تـى امتصهــا (القاتــل أ‬ ‫الشــقر)‪ ،‬وتُـض ي ُء ‪ -‬فضــا عــن ذلــك ‪ -‬ال َّت ْح ِويـ َـات‬ ‫ي ْ َ َّ‬ ‫النص�وـص‪ ،‬أو ه��ي مقارب��ةٌ َ ْ َ ُ ي‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ال�ت خضع��ت له��ا ‪ - ‬أي النصوــص الس��ابقة ‪َ � -‬م ْع َمــل الروايــة‪ ،‬وتَ ْن َشـ ِـغ ُل ‪ -‬أخـ يـرا ‪ -‬بجماليــة النــص ‪ -‬القديــم ‪ ‬حـ ي ن‬ ‫ـ� يُ ِحيـ ُط‬ ‫ي‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ت‬ ‫ـى يَ ْنف َِلـ ُـق عنهــا الزمــن ‪ -‬الحديــث‪.‬‬ ‫بالهمــوم الـ ي‬

‫‪)1‬ـ م ت ن� رواية (القاتل أ‬ ‫الشقر)‬ ‫َِْ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫واجـ ُـه‬ ‫هن�اـك قصت��ان تَ ْن َد ِغ َم�اـن ي� رواي��ة (القاتـ�ل الشـ�قر)؛ ِق َّصـ�ةٌ مؤ ِّطــرة ‪ ،‬وهــي قصــة (وليــد معــروف) ‪ -‬الصحفــي ‪ -‬الــذي يُ ٍ‬ ‫أ‬ ‫ـض بغــا ًء‬ ‫بالع�دـام بع�دـ أن ُض ِب�� َط ُ‬ ‫بالره��اب‪ ،‬وقص�ةـ ُم َؤ ُّطـ�رة وهــي قصــة (الشــقر) الــذي نَ َت ـأَ ف ي� بريــة تَحيـ ُ‬ ‫متَ َل ِّبس�اـً إ‬ ‫حكمـ�ا إ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫أن ي َُرتِّـ َـق‬ ‫أن تفتـ َ�ح ُ‬ ‫م ْديَـ�ةُ الخيان��ة (خيان��ة الحبيب��ة شــامة) ش َ‬ ‫�خ�اـً ي� وجدانه ِــ‪ ،‬وق��د ح��اول الش��قر ْ‬ ‫وبش��اعةً ودنس��اً‪ ،‬قب�لـ ْ‬ ‫ْ‬ ‫هــذا ال َفتــق بالقتــل (قتــل الحبيبــة شــامة) لكــن دون جــدوى‪ .‬ليتــور َط أ‬ ‫الشــقر ‪ -‬بعــد ذلــك ‪ -‬ف ي‪ِ � ‬تيـ ٍـه أكـ بـر‪ ،‬تيـ ٍـه عابــر للحــدود‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ َ َ َ َّ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫وتي��ه‬ ‫مفع��م بالشـ�هوة والل��م والقت��ل‪ ،‬ب��ل َو َّر َطـ ُ�ه و َ​َجـ ُـع البدايــات (أي الخيانــة) ي� حــروب ال يفقـ ُـه‬ ‫ٍ‬ ‫واللغــات والجن��اس‪ٍ ،‬‬ ‫أ‬ ‫��ات تنظي��م متطرــف ُمناــرصاً ‪ -‬ع��ن س��بق لعن�� ٍة‬ ‫نوازله��ا وال معناه�اـ‪ ،‬ولق��د انتهىــ الشـ�قر ‪َ -‬م ْدفُوع��اً ب�شرش وخ البداي��ات ‪ -‬إىل أَ َج َم ِ‬ ‫ـث ‪ -‬فكرهــا وأحالمهــا‪.‬‬ ‫وعبـ ٍ‬ ‫الشــقر هــي ســرة مــن تأليــف (وليــد معــروف) بعــد أن دس أ‬ ‫وحــري بالتســجيل أن ســرة أ‬ ‫الشــقر ‪ -‬يــوم حصارهمــا ف� (عـ ي ن‬ ‫ـ�‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫َ َ ِ ٌّ َّ ْ ِ‬ ‫َ َّ‬ ‫ي‬




‫الع��رب) ‪ -‬تفاصيلهاــ المفْجع��ة ف� قلب�هـ‪ .‬أو بعب��ارة أخ��رى‪ ،‬إن س�يرة أ‬ ‫الشقــر ه��ي س بَاح بــه أ‬ ‫الشــقر لوليــد معــروف بعــد‬ ‫ي‬ ‫ِ ٌّ َ‬ ‫ُ ِ َ ي‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ض‬ ‫ن‬ ‫��وصا ف� ي ن‬ ‫ــن داخ َلـ ُـه‪ ،‬ي� حـ يـ� ُقـ ِّـد َر لوليــد‬ ‫(ع�ي الع��رب)‪ ،‬وق��د قــى الش��قر ي� ح��ادث تَ َح ُّط ِ��م البي��ت الذــي كان يَ َت َح َّص َنا ِ‬ ‫أن ُح ِ َ ي‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ـاد�‪ ،‬حكايــة‬ ‫معــروف النجــاة‪ِ ،‬ل ُيعيـ َـد ‪ -‬بعــد ذلــك ‪ -‬لملمــة بَـ ْـو ِح الشــقر‪ .‬يقــول وليــد معــروف ي� هــذا إ‬ ‫الطــار‪« :‬هــذه‪ ،‬يــا سـ ي‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫المتــاع فحســب‪ ،‬بــل ﻷكــون أمينــا‬ ‫الشــقر‪ ،‬لكــن يجــدر أن أحيطكــم علمــا بأن ـن ي أعــدت النظــر ي� اللغــة‪ ،‬ال لغــرض إ‬ ‫كذلــك ف� توثيــق الـنز ف الــذي جــرى بــه لســان أ‬ ‫الشــقر‪.1»..‬‬ ‫ي‬ ‫وعمومــا‪ ،‬يمكــن القــول إن روايــة (القاتــل أ‬ ‫الشــقر) تَ َت َو َاشـ ُـج فيهــا قصتــان؛ قصــة وليــد معــروف الـ ت‬ ‫ـب قصــة القاتــل‬ ‫ـى تَ ُجـ ُّ‬ ‫ي‬ ‫الش��قر‪ ،‬ويندغ��م في��ه ‪ -‬فض�لا ع��ن ذلــك ‪ -‬وجع��ان؛ وج��ع ولي��د معــروف الذــي يجــب وَجــع القاتــل أ‬ ‫أ‬ ‫الشــقر‪ .‬يقــول وليــد‬ ‫َ ُ ُّ َ َ‬ ‫َ​َ ُ‬ ‫َ​َ َ‬ ‫َْ َ ِ ُ‬ ‫معــروف ف� هــذا الســياق‪« :‬هــا أنــا قــد كتبــت وجعــي عــى وجعــك أيهــا أ‬ ‫الشــقر العظيــم‪ .‬هــا نحــن اليــوم أسـ يـرا كتــاب‬ ‫ي‬ ‫واحــد‪ :‬منــك الحكايــة وم ـن ي الحــرف‪ ،‬م ـن ي الصياغــة ومنــك ال ـنز ف»‪.2‬‬

‫‪)2‬ـ رواية (القاتل أ‬ ‫الشقر)‪ :‬من االمتصاص إىل التحويل‪.‬‬ ‫أ‬ ‫ـيجةٌ ‪ ‬بـ ي ن‬ ‫هناــك ‪ -‬عموم��ا ‪ -‬آص َِر ٌة بـ ي ن‬ ‫ـ� قصــة‬ ‫ـ� روايــة (القاتــل الشــقر) وكتــاب (ألــف ليلــة وليلــة)‪ ،‬وهنــاك ‪ -‬خصوصــا ‪َ -‬و ِشـ َ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ـال‪ ،‬أي‬ ‫ـى تُ َؤ ِّطـ ُـر الليـ ي‬ ‫(الشــقر) وقصــة (شــهريار)‪ .‬أو بتعبـ يـر آخــر‪ ،‬إن طــارق بــكاري يســتدعي ي� (القاتــل الشــقر) القصــة الـ ي‬ ‫ـ� يُحيـ َط‬ ‫َّ‬ ‫إن الروايــة تسـ ُ‬ ‫ـال‪ ،‬غـ يـر أن الكاتــب أجــرى تحويــات أو تعديــات عــى هــذا القالــب الــردي لـ ي‬ ‫ـتدين شــيئا مــن الليـ ي‬ ‫أ‬ ‫والمســوخ الــىت‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫ـض َّ‬ ‫ـ� يَحيـ َ‬ ‫بالل َم ْعـ َـى الــذي يَ ْج ِثـ ُـم عــى نفوســنا‪ ،‬ولـ ي‬ ‫ـى َه َّشـ َـم ْت واقعنــا‪ ،‬ولـ ي‬ ‫ـ� يُميـ َط عــن العنـ فـف ُ ُ ِ ي‬ ‫بال َ ْع َطــاب الـ ي‬ ‫أ‬ ‫الطــار ل(ألــف ليلــة وليلــة) ي� ثالثــة ُم ْن َح َن َيــات‬ ‫تُف َِّر ُخهــا أرحامنــا‪ .‬ونــرى أن روايــة (القاتــل الشــقر) تتفاعــل نصيــا مــع القصــة إ‬ ‫وم ْنحـ نـى االنتقــام ُ ن‬ ‫ـال)‪ ،‬بقــدر مــا‬ ‫هــي‪ُ :‬م ْنحـ نـى الخيانــة ُ‬ ‫وم ْن َحــى الحـ ي‬ ‫ـ�‪ .‬وننبــه‪ ،‬هنــا‪ ،‬إىل أن الكاتــب بقــدر مــا يســتدعي (الليـ ي‬ ‫ـ� تَ ْن َد ِغـ َـم مــع واقعنــا وهمومنــا وتناقضاتنــا‪.‬‬ ‫يجــري تحويــات عليهــا لـ ي‬

‫ ‪‬أوال‪ُ :‬م ْن َح ن َ� الخيانة‪:‬‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ــر َض لنكبــة‬ ‫الطــار‬ ‫ــد َغ الشــقر وشــهريار معــا مــن ُج ِح ِــر الخيانــة‪ ،‬فشــهريار ‪ -‬كمــا هــو َم ْســ ُطور ي� القصــة إ‬ ‫ُل ِ‬ ‫لليــال ‪ -‬تَ َع َّ‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫الزوجيــة‪ ،‬فق��د َض َب�� َط زوجت��ه ُم َت َل ِّب َس��ةً ب ُِجـ ْـرم الخيانــة مــع خادمــه‪ ،‬أمــا الشــقر ‪ -‬كمــا هــو محفــوظ ف ي� أوراق وليــد معــروف‬ ‫ فإنــه تعــرض لنكبــة العشــق‪ ،‬فقــد ضبــط حبيبتــه (شــامة) تقـ تـر ُف جنحــة الخيانــة مــع أخيــه‪ .‬مــن هنــا‪ ،‬يمكــن القــول إن‬‫أ‬ ‫ف‬ ‫الطــار‪ ،‬نُ َسـ ِّـج ُل أن شــهريار تابــع مشــاهد الخيانــة عــن قــرب‪ ،‬ف� حـ ي ن‬ ‫ـ�‬ ‫و� هــذا إ‬ ‫ي‬ ‫الشــقر وشــهريار اكتويــا معــا بنــار الخيانــة‪ .‬ي‬ ‫أن أ‬ ‫الشــقر تابــع لقطــات الخيانــة عــن بعــد‪ .‬وبمعـ نـى آخــر‪ ،‬إن خيانــة الزوجــة ‪ -‬كمشــهد ســمج ‪ -‬لــم تلتقطــه إال أعـ ي ن‬ ‫ـ� شــهريار‬ ‫ـ� ‪ -‬آثــار الفضيحــة لــ� ال ت ُلوكَهــا أ‬ ‫اللســن‪ ،‬ف� حـ ي ن‬ ‫الــذي ‪ ‬طمــس ‪ -‬ف� الحـ ي ن‬ ‫ـ� أن خيانــة الحبيبــة ‪ -‬كلقطــة قــذرة ‪ -‬شــاهدها‬ ‫ي َ‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ش‬ ‫جميــع النــاس‪ ،‬فقــد تــداول النــاس �يــط ‪ ‬الفضيحــة‪ ،‬بــل صــارت هــذه الفضيحــة حديــث النــاس الــذي ال ينتهــي إال ليبــدأ‪،‬‬ ‫العــداء‪ .‬إن جــرح أ‬ ‫النــداد وتنــدرات أ‬ ‫وك��ذا مص��در تَهكُّمــات أ‬ ‫الشــقر ‪ -‬والحــال هــذه ‪ -‬قــد يكــون أعمــق مــن جــرح شــهريار‪،‬‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ َ ُّ َ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫بـ�ل إن أ‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ــ‬ ‫الل��م ال�ذـي نَ َتـ�أَ ي وج��دان الشـ�قر قدــ يكوــن مضاعف��ا ع��ن اللــم ال��ذي نت��أ ي� قل��ب ش�هـريار‪ .‬يقــول الشــقر ي� هــذا‬ ‫َّ‬ ‫تـ‬ ‫بتعب�ير أدق ‪َ -‬ع َدس ٌ��ة كَبَّــر ْت مأســا�ت‬ ‫ت‬ ‫ال�ت َغـ� َز ْت الجنــوب أيامهـ�ا هيــ مأس��ا ي ‪ ،‬ب��ل إنه��ا ‪-‬‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫الصــدد‪« :‬ل��ن أق��ول إن التقني��ة ي‬ ‫ف‬ ‫ـت شــهريار‬ ‫ـت مــن أبعادهــا»‪ .3‬وإذا كانــت النكبــة الزوجيــة ‪ -‬كمــا هــو مســطور دومــا ي� القصــة إ‬ ‫وهَ َّو َلـ ْ‬ ‫ـال ‪ -‬أَ ْو َرثَـ ْ‬ ‫الطــار لليـ أ ي‬ ‫ف‬ ‫ـس‬ ‫َل ْوثَــة االنتقــام‪ ،‬فــإن نكســة العشــق ‪ -‬كمــا هــو محفــوظ دومــا ي� مســودات وليــد معــروف ‪ -‬أَ ْو َرثَـ ْ‬ ‫ـت الشــقر‪ ،‬كذلــك‪َ ،‬مـ َّ‬


‫االنتقــام‪ .‬وقبــل أن ن ـض ء منحـ نـى االنتقــام‪ ،‬نحــب أن نشــر إىل أن شــهريار أ‬ ‫والشــقر همــا نموذجــان إنســانيان متناقضــان‪،‬‬ ‫ي‬ ‫ي َُْ َ‬ ‫ُ ِ ُّ‬ ‫عــى الرغــم مــن أنهمــا عاشــا معــا فداحــة الخيانــة‪ ،‬وعــى الرغــم ‪ -‬أيضــا ‪ -‬مــن أنهمــا ورثــا معــا ‪ -‬مــن مســتنقع الخيانــة ‪ -‬لوثــة‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ن‬ ‫ـا� مــن ال َّت ْب ِخيــس‬ ‫االنتقـ�ام‪ ،‬فشـ�هريار ‪ -‬ﻷنــه ملــك ‪ -‬كان يحظــى بالتقديــر إ‬ ‫والجــال‪ ،‬ي� حـ يـ� أن الشــقر ‪ -‬ﻷنــه لقيــط ‪ -‬كان يعـ ي‬ ‫ف‬ ‫ـال‪،‬‬ ‫ـوء بالعهــر والشــذوذ‪ ،‬وتعـ‬ ‫إ‬ ‫والذالل‪ ،‬وكان ‪ -‬فضــا عــن ذلــك ‪ -‬يحيــا ي� وســط َم ْوبُـ ٍ‬ ‫ـرض ‪ -‬أخـ يـرا ‪ -‬لالغتصــاب صغـ يـرا‪ .‬وبالتـ آ ي‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫يمكــن القــول إن حيــاة الشــقر كانــت ي� البــدء عرجــاء‪ .‬أو بتوصيــف أدق‪ ،‬إن حيــاة الشــقر كانــت ي� البــدء منكوبــة‪ ،‬ومــا الالم‬ ‫ت‬ ‫تنَ َاس ـ َل ْت مــن مســتنقع البدايــات‪ .‬أمــا حيــاة شــهريار فقــد كانــت ُمف َْع َمــةً‬ ‫ـاث َ‬ ‫ال�ت َع َاشـ� َها ‪ -‬بعـ�د ذلــك ‪ -‬إال إنَـ ٌ‬ ‫والف َ​َد َاح��ات ي‬ ‫ـث الخيانــة ف ي� أرضــه فســادا‪.‬‬ ‫بح ـرارة الطمأنينــة والســعادة‪ ،‬قبــل أن تَ ِعيـ َ‬ ‫إن طــارق بــكاري نَحـ ف‬ ‫ت‬ ‫ـات عــى رغيــف البــؤس‪ ،‬وتَ ُعـ ُ‬ ‫ـول‬ ‫ـى تقتـ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ـت ي� هــذه الروايــة (شــهريار) العوالــم الســفىل‪ ،‬تلــك العوالـ ُـم الـ ي‬ ‫أ‬ ‫ـب واقعــا مشــوها‪ ،‬معطوبــا‪ ،‬وبالــغ‬ ‫الفــواه الجائعــة بالجســد ‪ -‬الســلعة‪ ،‬وتُـ َـواري َسـ ْـو َءتَ َها خلــف حجــاب الحداثــة الــذي يَ ُجـ ُّ‬ ‫أ‬ ‫ــ‬ ‫ت‬ ‫السـ ِـم َج ِة‬ ‫ال�ت تَنْ َد ِغـ ُـم ‪ -‬دونمــا خجــل ‪ -‬مــع المفارقــات َ‬ ‫البش��اعة‪ .‬ولي��س (ال أش��قر) ‪ -‬ي النهايةــ ‪ -‬إال ش��هريار ه��ذه العوال��م أ ي‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫ـر ْت منهــا‬ ‫ـى ‪ ‬ف ُِط َمـ ْ‬ ‫ـى َعـ ب َ َ‬ ‫ـى نَ َتـأَ ْت مــن أرحــام كالقنــوات الـ ي‬ ‫ـت مــن حليــب الخيانــة أو الَنَـ َـوات الـ ي‬ ‫ـر عــى الَنَـ َـوات الـ ي‬ ‫الـ ي‬ ‫ـى ال تَ ْجـ ُ ُ‬ ‫وسـ ْـد َرة‬ ‫كل ســفن الــرب‪ .‬وقــد ال نجانــب الصــواب إذا قلنــا إن الكاتــب قــد أَنَـ َز َل (شــهريار) مــن ســماء البــذخ ودفء المضجــع ِ‬ ‫أ‬ ‫الم َحــال‪.‬‬ ‫بالع ْهــر وك ُِّل َ‬ ‫الم ْح ُشـ َّـوة ُ‬ ‫الخ َطايَــا ُ‬ ‫الطهــر إىل أرض الفاقــة ونَ َتانَـ ِـة الزقــة َ‬

‫ ‪‬ثانيا‪ :‬ن‬ ‫منح� االنتقام‬ ‫ورث أ‬ ‫ين‬ ‫بالخائنــ� معــا (الزوجــة‬ ‫الشــقر وشــهريار معــا ‪ ‬لوثــة االنتقــام مــن مســتنقع الخيانــة‪ ،‬وإذا كان شــهريار قــد فتــك‬ ‫أ‬ ‫ال�نامــج االنتقامــي لشــهريار ُم َعـ ّـداً ســلفا‪،‬‬ ‫والخــادم)‪ ،‬فــإن الشــقر قــد فتــك بالحبيبــة ‪ - ‬الخائنــة (شــامة) فقــط‪ .‬وإذا كان ب‬ ‫ئ‬ ‫ت‬ ‫ب��ل َك َّل َ��ف وزي��را إ ش‬ ‫ـا�‪ ،‬فــإن‬ ‫اتيجي قــد يُ َقو ِّــ ُم أ َ​َو َد الرغبــات العليلــة واعوجــاج الســلوك النسـ ي‬ ‫ب��ال�اف علي��ه كأنــه ُمخططـ ٌـ اس�تر ٌّ‬ ‫انتقامــات أ‬ ‫الشــقر تمليهــا الصدفــة آنــة والـ ضـرورة آنــة أخــرى‪ .‬وعــى الرغــم مــن هــذا االختــاف‪ ،‬فــإن الم ـرأة كانــت ســبيل‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫الطــار‪ ،‬نســجل أن الجنــس كان وســيلتهما ف ي�‬ ‫و� هــذا إ‬ ‫الرجلـ يـ� ‪ -‬نقصــد شــهريار والشــقر ‪ -‬إىل إشــباع رغبتهمــا ي� االنتقــام‪ .‬ي‬ ‫ـخص مــن العــدوان الــذي بدأتــه المـرأة‪ ،‬أو هــو إنصــاف للــذات مــن‬ ‫االنتقــام مــن شــماتة البدايــات‪ ،‬و َكأَ َّن الجنــس هــو ثـ ٌ‬ ‫ـأر ش أـ ي ٌّ‬ ‫ـات الخيانــة الـ ت‬ ‫ـت كيانهمــا المتــوازن‪ .‬هكــذا‪ ،‬فالشــقر وشــهريار كانــا ‪ -‬معــا ‪ -‬يرتقــان ش�خ الخيانــة بضمــادة الجنــس‪،‬‬ ‫ـى َر َّجـ ْ‬ ‫أَنَّـ ِ‬ ‫ي‬ ‫«المجرم�ي» (شــهريار أ‬ ‫والشــقر) �ف‬ ‫ت‬ ‫ال�ت تق�وـم ي ن‬ ‫ين‬ ‫ب�ي‬ ‫وكان��ا يلملم��ان َف ْت َ‬ ‫ي‬ ‫��ق الغ��در ِب ِج ْب��س القت��ل‪ .‬ون��رى أن نجل��و التقاب�لات ي‬ ‫النقــط آ‬ ‫التيــة‪:‬‬ ‫ •الجرائــم المتسلســلة لشــهريار هــي طريقــة عالجيــة وأداة تربويــة ف� آ‬ ‫الن نفســه‪ ،‬فشــهريار كان يُعالـ ُـج ‪ -‬عـ بـر‬ ‫ي‬ ‫ت‬ ‫ـى تتناســل‬ ‫فحصــص الجنــس والــدم ‪ -‬نفســيته المخرومــة مــن نــدوب الخيانــة‪ ،‬أو كان يكــوي أورام الخيانــة الـ ي‬ ‫ـار الجنــس والــدم‪ .‬وكان ‪ -‬فضــا عــن ذلــك ‪ -‬يســعى ‪ -‬عـ بـر طوفــان الــدم ‪ -‬إىل ترهيــب‬ ‫ي� وجدانــه الكسـ يـر بنـ ِ‬ ‫ف‬ ‫النفــوس الـ ت‬ ‫ـض برغبــات شــاذة ونــزوات عليلــة‪ .‬هكــذا‪ ،‬فوالئــم الجنــس والــدم ‪ ‬هــي ‪ -‬ي� ش�يعــة‬ ‫ـى تَحيـ ُ‬ ‫ي‬ ‫�ير ٌة ت َُرتِّـ ُـق الكــر البليــغ الــذي فتحتــه الزوجــة ف ي� قلبــه ِب ُم ْديَـ ِـة الخيانــة‪ ،‬وهــي ‪ -‬إىل جانــب ذلــك‬ ‫شـ�هريار ‪َ -‬ج ِب ي َ‬ ‫والخــاص‪ .‬أمــا الجرائــم‬ ‫الش ـ َه ِويَّة‪َ ،‬و َو ِعيـ ٌـد للذيــن يَشــقون عصــا الوفــاء إ‬ ‫ـر ٌة للذيــن يخضعــون للنفــس َّ‬ ‫ ِعـ ب ْ َ‬‫أ‬ ‫أ‬ ‫ــد‬ ‫عــر طقــوس الــدم والجنــس ‪ -‬يُ َض ِّم ُ‬ ‫المتسلســلة للشــقر فهــي وســيلة عالجيــة فقــط‪ ،‬فالشــقر كان ‪ -‬ب‬ ‫ــف ‪ -‬بأشــاء‬ ‫الجــرح الغائــر الــذي فتحتــه الحبيبــة (شــامة) ِب ِمــرش ْ َ ِط الغــدر‪ ،‬وكان ‪ -‬إىل جانــب ذلــك ‪ -‬يُ ِوق ُ‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫ـى‬ ‫ال�ت تُفس ُ��د آخ��ر الح��رث‪ .‬فوحدهــا والئــم الــدم والجنــس كانــت تُحـ ي ي‬ ‫الضحاي�اـ ‪ -‬العـ�داء ‪ -‬سيــول الحـ�زن ي‬



‫ن‬ ‫ن‬ ‫ش‬ ‫كنــت أعتقــد‪ ،‬وأنــا أطفــئ حياتهــا بإحــدى عــرة طعنــة‪ ،‬أن ـ ي ســأنترص عــى الجــرح أالغائــر داخـ ي‬ ‫ـ�‪ ،‬لكن ـ ي‬ ‫ـ�‪ :‬المــوت»‪ .5‬إن الشــقر ‪ -‬والحــال هــذه ‪-‬‬ ‫اكتشــفت أنـن ي عمقتــه أكـرث ‪ ،‬ووهبتهــا مــا كان يجــدر أن أهبــه لنفـ‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫النســان‪،‬‬ ‫ـس ‪ -‬مــن صخــرة الواقــع ‪ -‬امـرأة مثــل شــهرزاد تُ ِوقـ ُظ فيــه الشــقر إ‬ ‫لـ�م ي َ‬ ‫ُؤْت َح َّظ (شــهريار)‪ ،‬ولــم تَ ْن َب ِجـ ْ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ـت الشــقر إىل أن يُقيـ َـم ‪ � ‬الالمعــى‪ ،‬أن يتشــابكَ مــع المــوت‪ ،‬أن يُ َن ِّقـ َـل الفــؤاد بـ ي ن‬ ‫ـ�‬ ‫بــل إن لعنــة البدايــات دفعـ ْ‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫ـوض حروبــا ال يَغْ َنـ ُـم منهــا إال مــا يُ َن ِّبـ ُـه‬ ‫ـى ف ََّر َخ ْت َهــا الرحــام الموبــوءة‪ ،‬وأن يخـ َ‬ ‫الم ُسـ َ‬ ‫المســاكن‪ ،‬أن يُصـ ِ‬ ‫ـاد َق ُ‬ ‫ـوخ الـ ي‬ ‫الوجــع الــذي يَغْ ُفــو عــى رسيــر القلــب‪.‬‬

‫ن‬ ‫الحك‬ ‫ ‪‬ثالثا‪ُ :‬م ْن َح َ� ي‬

‫ث‬ ‫ـ� تعتـ َـق رقبتهــا مــن ســيف الملــك‪ ،‬أمــا شــهريار‬ ‫ـ� لـ ي‬ ‫ـ� أُنْـ َـى والكتابــة َذ َكــر‪ ،‬فشــهرزاد ‪ ‬كانــت تَ ْحـ ِ ي‬ ‫ـال) أن الحـ ي‬ ‫تُ َع ِّل ُم َنــا (الليـ ي‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ـت خاطــره‪ .‬ي� حـ يـ� أن (القاتــل‬ ‫ـب ‪ -‬بعــد الشــفاء طبعــا ‪ -‬ال ُّن َّسـ َ‬ ‫ـى َط َّي َبـ ْ‬ ‫فقــد جلـ َ‬ ‫ـاخ لـ ي‬ ‫ـ� يُ َد ِّونُــوا الحكايــات َص ْون ـاً للذكــرى الـ ي‬ ‫أ‬ ‫فـ‬ ‫وأن و َْح َدهــا لحظــات الضعــف والجفــاء قــد‬ ‫الش��قر) يُ َع ِّل ُم َنــا أن ش��هرزاد ‪ -‬أو مي��اه الحكاي��ة ‪ -‬موجــودة ي ف ُْر َشــة أرواحنـ�ا‪َّ ،‬‬ ‫ن‬ ‫بمع�نى آخــر‪ ،‬إن‬ ‫��وس شـ�هرزاد‪ ،‬أي إذا نَ َطق َــ القَا ِت ُ��ل َحكْي��اً‪ .‬أو‬ ‫تُف َِّج ُرهـ�ا‪.‬‬ ‫وبالت�اـل‪ ،‬ال ينبغ��ي أن نس��تغرب إذا َج َّ‬ ‫��ب ش��هريار َل ُب َ‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫إن‬ ‫ش��هريار ‪ -‬أي كل قات��ل ‪ -‬قدــ يُ ْس ِ��فكُ ‪ -‬ي� ت َ​َارات الضع��ف ‪ُ -‬حروف��اً‪ ،‬تمامـ�ا كم��ا كان يُ ْس ِ��فكُ ‪ -‬ي� ت َ​َارات القــوة ‪ -‬أرواحـاً‪ ،‬أو َّ‬ ‫كل شــهريار ‪ -‬أي كل قات��ل دومــا ‪ -‬ق�دـ ينقَل��ب ‪ -‬ف� لحظ��ات الوج��ع أ‬ ‫الخ ي�ير ‪ -‬إىل شـ�هرزاد‪ ،‬أو إىل َح َجـ ٍـر تَتَف ََّجـ ُـر منــه أنهــار مــن‬ ‫َْ ِ ُ ي‬ ‫أ‬ ‫ـ� ضــد المــوت تمامــا‬ ‫س�يرة الش��قر الــذي أَ ْل َب َس ُ�هـ ُّ‬ ‫الحكاي��ات‪ .‬وه��ذه الحقيق��ة تُ َؤك ُِّده��ا ي‬ ‫الض ْعـ ُـف جُبَّــةَ شــهرزاد‪ ،‬أو َل َذ ِ‪ ‬ب َ‬ ‫الحـ ْ ِي‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫ـ� هــو مــاذ ال َ ْع َز َلـ ي ْـ� (شــهرزاد والشــقر) وتَ ِم َيم َت ُه َمــا ضــد المــوت‪ .‬وعــى الرغــم مــن ‪ ‬وشــيجة‬ ‫كمــا َلذ َْت بــه شــهرزاد‪َ ،‬‬ ‫فالحـ ْ ي ُ‬ ‫ن أ‬ ‫الحــ� الـ ت‬ ‫ـ� ومدلــول الحكايــات‪ ،‬ونقـ تـرح أن‬ ‫ـى تُ َقـ ِّـر ُب بـ يـ� الشــقر وشــهرزاد‪ ،‬فــإن هنــاك بونـاً بينهمــا مــن حيــث ظــروف الحـ ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫آ‬ ‫ت‬ ‫نوضحهــا عــى النحــو ال ي�‪:‬‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ـال ‪ -‬هــو الصخــرة‬ ‫ـال ‪ -‬هــو َجـ ْـز ُر الحكايــة والليـ ُـل هــو َم ُّدهــا‪ .‬أو بعبــارة أخــرى‪ ،‬إن الفجــر ‪ -‬ي� الليـ ي‬ ‫ •الف َْجـ ُـر ‪ -‬ي� الليـ ي‬ ‫ت‬ ‫ـ�‬ ‫ال�ت تُ ِوق ُ��ف سَيْل َــ الحكاي��ة‪ .‬وال شــك أن الوقف��ات الحكائيـ�ة ه��ي َطـ ْ�و ٌق يُنْ ِجـ ُـد شــهرزاد مــن المــوت‪ ،‬بــل إن َ‬ ‫ي‬ ‫الحـ ْ ي َ‬ ‫ف‬ ‫والم َس ـك ُِّن الــذي تُ َهـ ِّـد ُئ بــه الهــوس ‪-‬‬ ‫بال َّتق ِْطـ يـر هــو ش َ�اب يَ ُمـ ُّـد ي� عمرهــا‪ ،‬فالحكايــة هــي ســاحها ضــد المــوت‪ُ ،‬‬ ‫ـ� هــو تعطيــل ُم َم ْن َهـ ٌـج‬ ‫نقصــد الهــوس بالــدم ‪ -‬الــذي يَ ْن ُش ـ ُط ف ي� بواطــن شــهريار‪.‬‬ ‫ـال‪ ،‬فتعطيــل سـ يـر الحـ ي‬ ‫وبالتـ ي‬ ‫أ‬ ‫�ك ‪ -‬ف ي�‬ ‫ـ�‬ ‫ك� ُ‬ ‫ﻷن��ه يَ ْكف ُ​ُ��ل لشـ�هرزاد أس��باب البق��اء‪ .‬أم��ا َ‬ ‫القات��ل الش��قر ‪ -‬أفه�وـ ‪ -‬ب��دوره ‪ -‬حـ ي ٌ‬ ‫الح ْ ي ُ‬ ‫متَ َق ِّطـ ٌـع أو هــو حـ ي ٌ‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ـ� ‪ -‬ي� القاتــل الشــقر ‪ ‬دومــا ‪ -‬هــو ‪ -‬إىل جانــب ذلــك ‪ -‬ملجــأ‬ ‫غـ يـر ُمنسـ‬ ‫ـال)‪ .‬والحـ ي‬ ‫ـاب تمامــا كمــا هــو الحــال ي� (الليـ ي‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫ـش الداخل‬ ‫يلــوذ بــه الشــقر مــن المــوت ســواء المــوت الــذي يَــذْ َر ُع ‪ ‬الخــارج (أي عـ يـ� العــرب) أو المــوت الــذي يَ ْن َهـ ُ‬ ‫أ‬ ‫(أي آالم الســاق الـ ت‬ ‫ن‬ ‫ـ� َخالص ـاً ‪-‬‬ ‫ـاك شــهرزاد حـ يـ� لجــأ إىل الحـ ي‬ ‫ـى فتحهــا الرصــاص)‪ .‬هكــذا‪ ،‬يبــدو أن الشــقر يحـ ي‬ ‫ي‬ ‫ولــو مؤقتــا ‪ -‬مــن المــوت‪ ،‬لكــن التهديــد الــذي ي ت�بــص أ‬ ‫بالشــقر هــو تهديـ ٌـد مجهـ ٌ‬ ‫ـول ومــزدوج؛ تهديـ ٌـد خارجـ ٌّـي (أي‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ َ َّ ُ‬ ‫أ‬ ‫ن ف‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ـن فيهــا الشــقر المنكــوب جســديا‪،‬‬ ‫ـى يَ َت َح َّصـ ُ‬ ‫رصــاص المتقاتلـ يـ� ي� عـ يـ� العــرب) ‪ ‬قــد يُ َح ِّطـ ُـم ‪ -‬خطــأ ‪ -‬القلع أــة الـ ي‬ ‫ت‬ ‫ـى كان تي�بــص بهــا‬ ‫ـ� (أي نزيــف الســاق) يَ ْل َت ِهـ ُـم ‪ -‬تدريجيــا ‪َ -‬ر ِبيـ َـع الشــقر‪ ،‬عــى عكــس شــهرزاد الـ ي‬ ‫وتهديـ ٌـد داخـ ي ٌّ‬ ‫��وم ووحيـ ٌـد (أي س��يف شـ�هريار)‪ .‬وإذا كان الفج��ر ه��و ال��ذي يُوق ُ��ف تَ َد ُّفـ َـق الحكايــة مــن َسـ ِّـد شــهرزاد‪،‬‬ ‫تهدي ٌ��د معل ٌ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ـورة الشــقر‪ .‬نق ـرأ ي� الروايــة‪:‬‬ ‫ـى تُوقـ ُـف جريــان الحكايــة مــن َم ْط ُمـ َ‬ ‫فــإن َه ِزيـ أـم الرصــاص وأَنَّــات الجــرح هــي الـ ي‬ ‫إل بأســنان م�ض جــة بالــدم‪ ،‬جبينــه‬ ‫«توقــف الشــقر عــن الــكالم المبــاح‪ ،‬عــض شــفته الســفىل بقــوة‪ ،‬وتطلــع ي َّ‬ ‫أ‬ ‫يـنز عرقــا… ودمعــة ثقيلــة تقــف عنــد عتبــة عينــه اليــرى‪ ،‬ال أعلــم إن كان ســببها اللــم الفــادح الــذي تســبب‬ ‫بــه جــرح ســاقه الغائــر»‪.6‬‬ ‫ف‬ ‫ـور ٍة‬ ‫��ارس ‪ -‬مُك َ‬ ‫ْرهــةً ‪ -‬لعبــة الــرد داخــل القــر‪ ،‬أي ي� أجــواء ُمفْعمـ ٍـة بالهــدوء والســكينة َ‬ ‫وم ْم ُهـ َ‬ ‫ •ش��هرزاد كان��ت تُ َم ُ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫بالبــذخ والـ تـرف‪ ،‬ف� حـ ي ن‬ ‫ـارس ‪ -‬مكرهــا ‪ -‬لعبــة الــرد داخــل بيــت ُم َع َّلـ ٍـق ي� الســماء بعــد أن‬ ‫ـ� أن الشــقر كان يُمـ ُ‬ ‫ي‬ ‫رش‬ ‫ـت القذائــف جدرانــه وأســواره‪ ،‬بــل إن هــذا الملجــأ صــار ‪ -‬بعــد الغضــب البـ ي ‪ -‬مثــل قاعــة ســينما ُم ْنفتحـ ٍـة‬ ‫َد َّكـ ْ‬


‫قلبــه الرميــم‪ ،‬ووحدهــا مشــاهد الــدم المســال كانــت تــرق بســمة مــن وجهــه العبــوس‪ ،‬يقــول أ‬ ‫الشــقر ف ي�‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ َُ‬ ‫هــذا الصــدد‪« :‬وحــده االنتقــام كان يســتل مــن شـ ت‬ ‫ـف� ابتســامة ال تليــق بهمــا‪ ،‬ويســتوقف مــد الحــزن‬ ‫ي‬ ‫َّ‬ ‫المس ـتفْحش ف� أ‬ ‫ن‬ ‫‪4‬‬ ‫ـتدرج� إىل غبطــة نشــاز وأنــا أذيقهــم‪ ،‬ف ي� الخيــال‪ ،‬صنــوف التعذيــب‪».‬‬ ‫العمــاق‪ ،‬ويسـ‬ ‫ُ ْ َ ِ ِ ي‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫الم ْن َت َه َكـ ِـة ا ْع ِت َب َار َهــا‪ .‬وبمعـ نـى آخــر‪ ،‬إن هــذه‬ ‫‪ ‬وعمومــا‪ ،‬يمكــن القــول إن الشــقر يُ ِعيـ ُـد ‪ -‬عـ بـر حفــات الجنــس والــدم ‪ -‬لذاتــه ُ‬ ‫ال�ت تَ عمت ف‬ ‫ٌ‬ ‫الحف�لات ه��ي‬ ‫العاقــة‬ ‫ـ� عــن إ‬ ‫إنص��اف لل��ذات ت ي ــ َ ْ َ َ ْ‬ ‫ــر عُه ـرا ودنســا‪ ،‬وهــي ‪ -‬فضــا عــن ذلــك ‪ -‬تأمـ ي ن ٌ‬ ‫ــ ي� بي��ت معمو ٍ‬ ‫ض‬ ‫ت‬ ‫ـر لــرر ســنوات البشــاعة والفداحــة‪.‬‬ ‫ـى ورثهــا عــن حادثــة الخيانــة واالغتصــاب‪ ،‬وهــي ‪ -‬أخـ يـر ‪َ -‬جـ ب ْ ٌ‬ ‫الدائمــة الـ ي‬ ‫ال�نامــج االنتقامــي لشــهريار يبتــدئ ‪ -‬دومــا ‪ -‬بحفلــة جنســية وينتهــي بمذبحــة ب�ش يــة‪ ،‬فقــد كان شــهريار يـ ت ز‬ ‫ـروج‬ ‫ • ب‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫إنتاجــه أو‬ ‫ـ� ي� االنتقــام يُعيـ ُـد الشــقر َ‬ ‫كل ليلــة فتــاة عــذراء‪ ،‬ثــم يقطـ ُـف رأســها قبــل الفجــر‪ .‬وهــذا التقليــد الملـ ي‬ ‫أ‬ ‫ـص أن يُ ْض ِفـ َـي ‪ ‬لمســته الخاصــة عــى برتكــول‬ ‫إحياــ َءه‪ .‬ولكـ ْ‬ ‫ـقر حريـ ٌ‬ ‫ـن‪ ،‬مــع بعــض التحويـراتأ البســيطة‪َ ،‬كأَن الشـ َ‬ ‫ـتلهم مــن شــهريار طقــوس االنتقــام أو كان يسـ يـر عــى درب‬ ‫االنتقــام‪ .‬مــن هنــا يمكــن القــول إن الشــقر كان يَ ْسـ ُ‬ ‫المل��ك فـ القص�اـص‪ ،‬فالحف�لات الجنس�يـة أ‬ ‫للش��قر تنته��ي ‪ -‬حين��ا ‪ِ -‬ب َح ْلـ ِ�ق شَ ْعـ ِـر الخليــات‪ ،‬وتنتهــي ‪ -‬حينــا آخــر‪-‬‬ ‫ي‬ ‫ـع الـ َّـرأْس الــذي يُ َتـ ِّـو ُج بــه‬ ‫َ��ص خصلـات م��ن َش ْ��ع ِر ِه َّن‪ .‬وال ش��ك أن َح ْلـ َـق شَ ْع ِ��ر الرــأس ه��و ُم َع ِ‬ ‫ِبق ِّ‬ ‫��اد ٌل ر َْم ِ�زـ ٌّي لِ َق ْطـ ِ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫الطــار‪ ،‬نشـ يـر إىل أن الشــقر كان يَ ْح َت ِف ـ ُظ بخصــات مــن َشـ ْـع ِر الخليــات‪،‬‬ ‫و� هــذا إ‬ ‫شــهريار حفالتــه الجنســية‪ .‬ي‬ ‫ف‬ ‫ــع ِر هــي غنيمــة حــروب ال َّثــأْر أو هــي ِذكْــرى معــارك القصــاص مــن كل الذيــن َدقُّــوا ي� قلبــه‬ ‫و َكأَ َّن خصلــة َّ‬ ‫الش ْ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ور َه��ا ع�لى َر ِّد ص َِاع‬ ‫مس��امــ الوجـ�ع‪ ،‬ب��ل هــي دليـ�ل يشــهد لل��ذات ‪ -‬نقص��د ذات الش��قر ‪ -‬يـ تَ َ‬ ‫��ارات غ ُْب ِن َه��ا َو ُض ُم ِ‬ ‫ـان مــن الخيانــات والدمــاء‪.‬‬ ‫الخيانــة ِب ِص َيعـ ٍ‬ ‫ •‬ ‫إن طــارق بــكاري يؤكــد ‪ -‬عــر ســرة أ‬ ‫الشــقر ‪ -‬أن شــهريار يســكننا عــى نحــو غريــب‪ .‬أو بمعـ نـى آخــر‪ ،‬إن شــهريار ‪ -‬ســافك‬ ‫ب ي‬ ‫ف‬ ‫ـث فينــا شــهريار‪ ،‬أي تُ ِوق ـ ُظ ‪ ‬فينــا الكائــن‬ ‫ـاب البدايــات تَ ْب َعـ ُ‬ ‫الدمــاء ‪ -‬موجــو ٌد بالقــوة ي� تجاويــف أرواحنــا‪ ،‬وأن َو ْح َدهــا أَ ْع َطـ ُ‬ ‫أ‬ ‫الدمــوي الــذي ‪ ‬يعيـ ف أ‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫رش‬ ‫ـى تنضــح ف ي� إنــاء‬ ‫َ ُ‬ ‫ـث ي� الرض فســادا‪ .‬وبالتـ ي‬ ‫ـال‪ ،‬فالشــقر ‪ -‬ي� الروايــة ‪ -‬ليــس إال رم ـزا لميــاه ال ـ الـ ي‬ ‫ـب‬ ‫ْ��زة الب�ش ي��ة م��ن الطبيعــة إىل الثقافـ�ة‪ ،‬لك��ن هــذا ال�شرش يَ ْنف َِلـ ُ�ق ُ‬ ‫إ‬ ‫النساــن‪ ،‬هذــا ال�شرش ال��ذي تَـ�وارى بع�دـ ال َقف َ‬ ‫ك َّل َمــا نُ ِكـ َ‬ ‫ف‬ ‫«شــ ْه َريَ ِاريِّ ي ن�» أو كائنــات َموبُــو َء ٍة بالــدم‬ ‫إ‬ ‫َــر ُخ َ‬ ‫ــوص بالبدايــات ي‬ ‫خــرا ﻷنهــا تف ِّ‬ ‫النســان ي� البدايــات‪ .‬و َكأَ َّن الكاتــب‪ ،‬هنــا‪ ،‬يُ ي‬ ‫ور ٍة للتيــه والضيــاع‪.‬‬ ‫والعنــف َ‬ ‫وم ْنــذُ َ‬ ‫ • َر ُّد شــهريار َذبْ َحــةَ الم ـرأة ‪ -‬نقصــد خيانــة الزوجــة ‪ -‬بمذابــح ِضـ َّـد النســائية كان بم�مجــا أن يتواصــل حـ تـى فنــاء‬ ‫ـت يــد شــهريار عــن قطــف مزيــد مــن الــرؤوس‪ ،‬فقــد‬ ‫ـت هــذا ال�نز يــف‪َ ،‬و َك َّفـ ْ‬ ‫هــذا الجنــس‪ ،‬لكــن (شــهرزاد) أَ ْو َق َفـ ْ‬ ‫أن تعالــج الملــك مــن لوثــة االنتقــام‪ ،‬وأن تُنقــذَ الب�ش يــة مــن الـ َـوأْد الــذي ال‬ ‫اسـ‬ ‫ـ� ‪ْ -‬‬ ‫ْ‬ ‫ـتطاعت شــهرزاد ‪ -‬عـ بـر َ‬ ‫الم ْحـ ي‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ـال ‪ -‬هــي دا ٌء ودوا ٌء‪ ،‬فالــدا ُء الــذي اســتفحل ي� وجــدان شــهريار‬ ‫يفــرق بـ يـ� متهــم وبــريء‪ .‬هكــذا‪ ،‬فالمـرأة ‪ -‬ي� الليـ ي‬ ‫ نقصــد ‪ ‬لوثــة االنتقــام ‪ -‬هــو مــن فعــل المـرأة (خيانــة الزوجــة)‪ ،‬تمامــا كمــا أن الــدواء الــذي عالــج شــهريار مــن‬‫ف‬ ‫ـال كانــت ‪ -‬لــو‬ ‫هــوس االنتقــام هــو مــن صنــع الم ـرأة (حكايــات شــهرزاد)‪ .‬أو بتوصيــف أدق‪ ،‬إن الم ـرأة ي� الليـ ي‬ ‫ت‬ ‫ـت هــي الــداء‪ ،‬أي ِإ َّن‬ ‫ـى ‪َ -‬‬ ‫ـى كَانَـ ْ‬ ‫الخ ْصـ َـم َ‬ ‫اســتعرنا عبــارة المتنـ ب ي‬ ‫والح َكــم‪ .‬إن شــهريار ‪ -‬والحــال ه أــذه ‪ -‬تَـ َـد َاوى ِبا َّلـ ِ ي‬ ‫جرائمــه انتهــت عــى يــد المـرأة تمامــا كمــا بــدأت عــى يدهــا‪ .‬أمــا الشــقر فقــد دفعــه القصــاص ‪ - ‬مــن الحبيبــة‬ ‫الت ت‬ ‫َ��ت سفينــة القلــب ‪ -‬إىل التيــه والضيــاع‪ ،‬بــل إن َّكل نفــس يُ ْز ِهقُهــا تُ َو ِّر ُط ُه ‪ -‬دونمــا إذن ‪ -‬ف ي� مأســاة البدايات‪.‬‬ ‫ـى َخ َرق ْ‬ ‫ي‬ ‫وبالتــال‪ ،‬فالجرائــم المتسلســلة أ‬ ‫للشــقر ال تُ َض ِّمـ ُـد الجــرح الــذي فتحتــه الحبيبــة (شــامة) ُبم ْديَــة الخيانــة‪ ،‬وال تُبيـ ُـد‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫�نز‬ ‫النــاث أســباب‬ ‫ـى تتناســل ي� بريــة الوجــدان‪ ،‬بقــدر مــا توفــر لهــذا الجــرح أســباب ال يــف‪ ،‬ولهــذه إ‬ ‫إنــاث الحــزن الـ ي‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫التكاثــر‪ .‬يقــول الشــقر ي� هــذا الصــدد‪ « :‬صدقـن ي ‪ ،‬يــا وليــد‪ ،‬لــم أبـرأ مــن شــامة ولــم أخــرج مــن مداراتهــا‪،‬‬


‫ت‬ ‫ن‬ ‫رش‬ ‫ـى َف َت َح ْت َهــا حــوادث الحيــاة ف ي� الوجــدان‪ .‬وبالمختــر المفيــد‪ ،‬نقــول إن روايــة‬ ‫حياتهــا المخرومــة معــى‪ ،‬ولـ ي‬ ‫ـ� تُ َرتِّـ َـق الـ وخ الـ ي‬ ‫أ‬ ‫��س ب َِّريَّ��ةً ت َْسـ َتق ِْط ُب‬ ‫الره��اب ليـ�س ظاه��رة تَف ََّج َ��ر ْت ع��ن فه��م مغل��وط للدي��ن‪ ،‬وأن إ‬ ‫(القات��ل الشقــر) تُ َع ِّل ُم َنـ�ا أن إ‬ ‫الرهــاب لي َ‬ ‫ين‬ ‫الحالم�ي بالجن��ة‪ ،‬بقـ�در م��ا هـ�ي ظاهرــ ٌة تَف ََّجـ َـرت مــن أَ ْع َط ِاب َنــا النفســية ش‬ ‫و�وخنــا الحضاريــة‪ ،‬وهــي ‪ -‬فضــا عــن ذلــك ‪ -‬بريــة‬ ‫ـ� نفســيا الذيــن يأملــون تعويضــا عــن أ‬ ‫ـتقطب المعطوبـ ي ن‬ ‫الحــام المتكــرة‪ ،‬ويرجــون جبـ يـرة لكســور البدايــات‪ .‬ونقـ تـرح أن‬ ‫تسـ ُ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫الرهــاب‪ ،‬يقــول بــكاري‪:‬‬ ‫ـيح عــن فهــم عميــق لظاهــرة إ‬ ‫نخت��م ـ س��ياحتنا ي� ربـ�وع هذــه الرواي��ة ـ بهــذا الثــر الــذي يَشـ ُ‬

‫الم ُســوخ وجهنــا المغـ بـر القبيــح‪ ،‬لســت أتعاطــف مــع جرائمهــم‪ ،‬لكنـن ي أقــول إنهــم ينتمــون إلينــا‪.‬‬ ‫«هــذه ُ‬ ‫جــاؤوا مــن فشــلنا‪ ،‬مــن خيباتنــا‪ ،‬مــن تعليمنــا‪ ،‬مــن ديننــا‪ ،‬مــن عصبيتنــا‪ ،‬مــن ازدواجيتنــا ومزاجيتنــا…‬ ‫دحرهــم ض�وري لكنــه غـ يـر كاف‪ .‬دحرهــم عمليــة تجميليــة تنــوم مأزقنــا الحضــاري‪ ،‬لكنهــا ال تُغْ ـ ِن ي مــن‬ ‫مســوخ‪ .‬نحــن آلــة كبــرة إنتــاج أ‬ ‫الوبئــة الحضاريــة‪ .‬قــد ننتــر عــى «داعــش»‪ ،‬لكننــا لــن نكــف عــن تفريــخ‬ ‫ي‬ ‫ُ ُ‬ ‫الدواعــش»‪.9‬‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪1‬‬

‫الداب ـ ب�وت‪ ،‬لبنان – الطبعة أ‬ ‫الشقر‪ ،‬طارق بكاري‪ ،‬دار آ‬ ‫القاتل أ‬ ‫الوىل عام ‪ – 2019‬ص‪21 :‬‬ ‫ي‬

‫‪ 2‬م‪ .‬ن – ص ‪22‬‬ ‫‪ 3‬م‪ .‬ن – ص ‪97‬‬ ‫‪ 4‬م‪ .‬ن – ص ‪108‬‬ ‫‪ 5‬م‪ .‬ن – ص ‪164‬‬ ‫‪ 6‬م‪ .‬ن – ص ‪41‬‬ ‫‪ 7‬م‪ .‬ن – ص ‪58‬‬ ‫‪ 8‬م‪ .‬ن – ص ‪58‬‬ ‫‪ 9‬م‪ .‬ن – ص ‪20‬‬


‫ع�لى ح��رب حي��ة ورعـ�ب حقي��ق‪ .‬وبمعـ نـى آخ��ر‪ ،‬إن أ‬ ‫الشـ�قر ‪ -‬وخالف��ا لشــهرزاد ‪ -‬كان يَحيــكُ خيــوط الحكايــة ف ي� َجـ ٍّـو‬ ‫ٍ َِ‬ ‫أ‬ ‫ـارب ف ي� الصخــب والرعــب‪ ،‬وكانــت الحكايــة ‪ -‬فضــا عــن ذلــك ‪ -‬تَ ْن َد ِلـ ُـق مــن جســد (أي جســد الشــقر) يَ ْنغُ ـ ُـل‬ ‫ضـ آ ٍ‬ ‫ف‬ ‫ـض بال َّز َفـ َـرات‪ .‬نقـرأ ي� الروايــة‪« :‬أيــن أجــواء «ألــف ليلــة وليلــة» مــن هــذا الجــو؟‪ .‬هنــاك ســكينة‬ ‫بــالالم ويحيـ ُ‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫رث‬ ‫ن‬ ‫ـ�‪ ،‬وهنــا ي� «عـ يـ� العــرب» رصــاص يزغــرد وقذائــف تصطخــب ي� أك ـ مــن‬ ‫وصمـ‬ ‫�ت ال يفضهمــا ســوى الحـ ي‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫مــكان‪ .‬ي� الحكايــة تفــرش شــهرزاد قبــل الحريــر الهــدو َء‪ ،‬وهنــا الشــقر ال يــكاد يكمــل جملــة مــن دون أن‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫ـ� يطفئهــا ف ي� ســاقه لعلهــا ترتــق الجــرح‬ ‫يقفــز مــن مكانــه‪ ،‬جـراء مــا يستشــعره مــن احــراق بســبب الســجائر الـ ي‬ ‫الغائــر»‪.7‬‬ ‫الشــقر فقــد كان يحــ� عــن أ‬ ‫الخــر‪ ،‬أمــا أ‬ ‫ •شــهرزاد كانــت تحــ� عــن آ‬ ‫النــا‪ .‬أو بتعبـ يـر آخــر‪ ،‬إن شــهرزاد كانــت تَ ْجـ ِـد ُل‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫حكايــات خرافيــة‪ ،‬أمــا الشــقر فقــد كان يَ ْخــرط حكايــات واقعيــة أو كان يلمــم شــتات واقعــه المريــر‪ ،‬بــل كان‬ ‫الشــقر ين ِّفــس ‪ -‬عــر الحــ� ‪ -‬عــن آ‬ ‫أ‬ ‫الالم الـ ت‬ ‫ـى تَ ِن َض ِغـ ُط ف ي� ذاكرتــه المخرومــة ووجدانــه الكسـ يـر‪ ،‬وكان ‪ -‬إىل جانــب‬ ‫ب‬ ‫َُ ُ‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ـن مــع صاحبــه‪ .‬نق ـرأ ف ي�‬ ‫ذل��ك ‪ -‬يَ ْب ِغـ�ي أَ ْن َ‬ ‫ـ� ال تُ ْد َفـ َ‬ ‫ي ُد َّس حكايتــه‪ ،‬تاريخــه‪ ،‬ومأســاته ي� جيــب وليــد معــروف لـ ي‬ ‫أ‬ ‫الروايــة‪« :‬تحــ� شــهرزاد خرافــات ال صلــة لهــا بالواقــع‪ ،‬ويحــ� الشــقر واقعــه الدامــي‪ ،‬كان بينــه ي ن‬ ‫وبــ�‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫‪8‬‬ ‫شــهرزاد بــون شاســع‪ ،‬وال يوحــد بينهمــا ي� الحقيقــة ســوى لعبــة الــرد وأرسارهــا» ‪.‬‬

‫عىل سبيل ت‬ ‫ال�كيب‬ ‫أ‬ ‫الطــار ل(ألــف ليلــة وليلــة) بمــداد واقعنــا‬ ‫عطفــا عــى مــا ســبق‪،‬‬ ‫ــر ْت القصــة إ‬ ‫يظهــر أن روايــة (القاتــل الشــقر) قــد َح ب َّ َ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ـال‪،‬‬ ‫الــذي يَ ْج َهـ ُ‬ ‫ـش بالوجــاع وال َ ْع َطــاب‪ ،‬ويَ ْل َهـ ُـج بالالمعــى والعبــث‪ ،‬ويقــر ُف الجنــس والــدم ِنكَايَــةً ي� ُسـ ْـو ِء البدايــات‪ .‬وبالتـ ي‬ ‫ت‬ ‫ـص بالتناقضــات‬ ‫�ال) كإنـ�اء يُ َل ْم ِل ُـ�م و َ​َجـ َـع إ‬ ‫ـى تَغُ ـ ُّ‬ ‫فط��ارق بـ�كاري ل��م يس��تعمل (الليـ ي‬ ‫النســان المنكــوب الــذي يَ ْنف َِلـ ُـق مــن بَ ِّريَّ ِت َنــا الـ ي‬ ‫النســان الجريــح الــذي يَ ْع َت ِمـ ُـر ‪ -‬مدفوعــا ب ـرش وخ البدايــات ‪ُ -‬ج َّبــةَ‬ ‫الصارخــة والمفارقــات الغريبــة‪ ،‬بــل كتــب بــكاري سـ يـرة إ‬ ‫ت‬ ‫ال�ت تُورثه��ا‬ ‫ح�وـادث سَيْـ ِـر‬ ‫ُ‬ ‫شهــريار بم��ا ه��و ٌ‬ ‫ذات مهووس�ةـٌ بال��دم والجنســ ي‬ ‫ل�ك� تُجـ ب َ‬ ‫َس البداي�اـت وتُ َرتِّق َــ التصدع��ات ي‬ ‫ـر ك ْ َ‬ ‫ــ‬ ‫ـ�‬ ‫�ن‪ ،‬ه�وـ إنسـ ٌ‬ ‫�ب ‪ - ‬ي ت َ​َارات الضعــف واليــأس ‪ -‬إىل شــهرزاد بمــا هــي ٌ‬ ‫الحي��اة‪ .‬لكـ ْ‬ ‫ـان رسع��ان مــا يَ ْنق َِلـ ُ‬ ‫ذات مدفوعــة ٌإىل الحـ ي‬ ‫ـص بهــا مــن كل َفـ ٍّـج عميــق‪.‬‬ ‫ـ� تُ َؤ ِّجـ َـل ‪ -‬ولــو مؤقتــا ‪ -‬موعدهــا مــع المــوت الــذي يَ ت َ َ�بَـ ُ‬ ‫لـ ي‬ ‫أ‬ ‫ـض بألــف وجــع وجــع‪ ،‬وأن أرحامنــا تفــرخ ُم ُســوخاً ب�ش يــة‬ ‫إن روايــة (القاتــل الشــقر) ‪ -‬والحــال هــذه ‪ -‬تُ َع ِّل ُمنــا أن واقعنــا يَ ِحيـ ُ‬ ‫و� هــذا الطــار‪ ،‬نســج ُل أن روايــة (القاتــل أ‬ ‫ن ف‬ ‫ت‬ ‫الشــقر)‬ ‫إ‬ ‫تقتـ ُ‬ ‫ُ َ ِّ‬ ‫ـ� تُ ْسـ ِـب َل عــى حياتهــا معــى‪ .‬ي‬ ‫ـات عــى الــدم وتقــر ُف العنــف لـ ي‬ ‫ـض ‪ -‬عــن ســبق إرصار‬ ‫الرهــاب‪ ،‬وقــد ال نجانــب الصــواب إذا قلنــا إن روايتنــا هــي أول روايــة تَ ْف َتـ ُّ‬ ‫ـارب ‪ -‬أساســا ‪ -‬موضــوع إ‬ ‫تُقـ ُ‬ ‫ت‬ ‫رش‬ ‫ـى قــد‬ ‫وترصــد ‪ -‬هــذا الموضــوع الــذي ال يدنــو منــه الروائيــون بمــا يلــزم مـ أـن عمــق وج ـرأة خوفــا ‪ -‬لربمــا ‪ -‬مــن ال ـ ور الـ ي‬ ‫الرهابيـ ي ن‬ ‫ـض‬ ‫ـ�‪ .‬والحــق أن روايــة (القاتــل الشــقر) تحيــكُ ثوبــا آخــر للجماعــات المتطرفــة يُناقـ ُ‬ ‫ينفلــق عنهــا الدنــو مــن ثغــور إ‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ـا� هــو إنســان يسـ ُ‬ ‫ـبل اللحيــة‪،‬‬ ‫ارج ي� معمارنــا الذه ـ ي أن إ‬ ‫تمامــا الثــوب الــذي تَ ت َ ز َ�يَّــا بــه ي� وجداننــا الجمعــي‪ ،‬فالـ َّـد ُ‬ ‫الرهـ ب ي‬ ‫ـرص عــى حســن الخاتمــة‪ ،‬وهــو ‪ -‬فضــا عــن‬ ‫يقتـ ُ‬ ‫ـات عــى الفتــات‪ ،‬ال يدنــو مــن المحرمــات‪ ،‬وال تُغريــه الدنيــا بقــدر مــا يحـ ُ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ـب‬ ‫ــص‪ .‬غـ يـر أن روايــة (القاتــل الشــقر) تَقلـ ُ‬ ‫ذلـ�ك ‪ -‬يُح��ارب لوجهــ هللا‪ ،‬فولي��س طمع��ا ي� غنيم��ة زائل��ة أو تحقيق��ا لره��ان شخ ي ٍّ‬ ‫هــذه الصــورة الـ ت‬ ‫الرهابيــة‪ ،‬فالروايــة تَحيــكُ صــورة أخــرى لهــذه الجماعــات‪ ،‬فهــي تُظهـ ُـر‬ ‫ـى تتناسـ ُـل ي� الوعينــا عــن الجماعــات إ‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫و� هــذا الســياق‪ ،‬نســجل أن‬ ‫أفرادهــا‬ ‫مدفوع�ي ‪ -‬دونم��ا هــدف ‪ -‬إىل ح��روب عبثي��ة‪ ،‬مُتورطـ ي ن َ‬ ‫ي نَ‬ ‫ـ� ‪ -‬حــى الثمالــة ‪ -‬ي� الرذائــل‪ .‬ي‬ ‫أ‬ ‫ات منكوبــةٌ نفســيا‪ ،‬معطوبــة ٌعاطفيــا‪ ،‬ومقهــور ٌة حضاريــا‪ .‬وبمعــىن‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫الروايــة تؤكــد أن كل الَنَـ َـوات الـ‬ ‫ـى تَحــر ُف إ‬ ‫الرهــاب هــي أَنَـ َـو ٌ‬ ‫ي‬ ‫آخــر‪ ،‬إن الروايــة تنفــي أن تكــون أ‬ ‫الَنَـ َـوات الـ ت‬ ‫ات متوازنــةٌ نفســيا‪ ،‬وأن تكــون ‪ -‬إىل جانــب ذلــك ‪-‬‬ ‫ـن إ‬ ‫الرهــاب هــي أَنَـ َـو ٌ‬ ‫ـى تمتهـ ُ‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫ـ� تُسـ َ‬ ‫ـبل عــى‬ ‫�ارب ــ ي كامـ ِـل ق َِو َ‬ ‫اه��ا العقلي��ة وك َِامـ ِـل ص َِّح ِت َهــا النفســية‪ ،‬وتؤكــد ‪ -‬بالمقابــل ‪ -‬أن هــذه الَنَـ َـوات تُحـ ُ‬ ‫تُحـ ُ‬ ‫ـارب لـ ي‬


‫إدارة األزمات عىل مفهوم العلوم اإلنسانية‪.‬‬ ‫‪ .‬غ‬ ‫ما� عبيد‬ ‫د ي‬

‫لعلــه الزمــن الشـ ِّيق الــذي نحيــا بــه‪ ،‬حيــث أنــه مبقتــى املثــل الصينــي القديــم» ليــس لإلنســان مــن لعنــة أســوأ‪ ،‬وال مــن نعمــة أعظــم‪ ،‬مــن‬ ‫أن يعيــش اإلنســان يف زمــن شـ ّيق»‪ ،‬ونحــن نعيــش اليــوم أيامـاً شـ ّيقة‪ ،‬إذ إن الــيء الوحيــد األكيــد‪ ،‬هــو أنــه كل يشء غــر أكيــد‪ ،‬ال ســيام وأن القــرن‬ ‫الواحــد والعرشيــن يتســم بكونــه عــر التحديــات يف ظــل تقهقــر اإلنســانيات‪ ،Decline Of Humanities‬وتراجعهــا يف الجامعــات املعــارصة‪ ،‬بــدءا ً‬ ‫بالواليــات املتحــدة األمريكيــة‪ ،‬مــرورا ً بأوروبــا والعــامل‪ ،‬وصــوالً إىل جامعاتنــا العربيــة واللبنانيــة‪.‬‬ ‫تواجــه مجتمعاتنــا املعــارصة أزمــات وتحديــات كثــرة ال تقــل أهميــة عــن تلــك التــي بــرزت يف القــرن العرشيــن فوســمته بــروز حــروب‬ ‫اإلســتقالل والســيادة‪ ،‬التقــدم اإلقتصــادي‪ ،‬قيــام الــدول الحديثــة‪ ،‬غــر أن أزمــات القــرن الواحــد والعرشيــن تتمثــل يف إشــكاليات حقــوق اإلنســان‬ ‫والتنميــة‪ ،‬حاميــة البيئــة‪ ،‬اإلصــاح الســيايس ومشــاركة املــرأة‪ ،‬ولعــل مــن بينهــا تلــك املتمثلــة بأزمــة « تقهقــر اإلنســانيات « وتراجعهــا إن يف الجامعــات‬ ‫أو يف خارجهــا‪ ،‬وحتــى يف املجتمــع ككل‪.‬‬ ‫هــذا الوضــع الجديــد‪ ،‬الــذي طغــى عــى الجامعــات األمريكيــة واألوروبيــة‪ ،‬والتــي كانــت قــد احتفظــت يف نظامهــا التعليمــي وجامعاتهــا حتــى‬ ‫فــرة ليســت ببعيــدة مبكانــة عاليــة للعلــوم اإلنســانية وللفلســفة‪ ،‬لكــن الحــال ســيتغري يف ظــل التقــدم العلمــي والتســارع التكنولوجــي الــذي ســيولد‬ ‫تهميشـاً لإلنســانيات‪ ،‬وبالتــايل قلقـاً عليهــا‪ ،‬وخوفـاً مــن إمكانيــة صمودهــا مســتقبالً إن يف املــدى القريــب أو البعيــد يف مواجهــة عوملــة تتــادى دومنــا‬ ‫التوقــف عنــد أي حــدود ملشــاريعها التوســعية‪ ،‬الســيام وأن دول العــامل املتقــدم‪ ،‬وعــى رأســها الواليــات املتحــدة األمريكيــة تضــع يف صلــب اهتامماتهــا‬ ‫تطويــر اإلنجــازات التكنولوجيــة‪ ،‬وإهــال األبحــاث والدراســات اإلنســانية‪ ،‬وهــذا مــا حــدا بهــا إىل الرتاجــع عــن مكانتهــا‪ ،‬إضافـ ًة إىل عــدم اإلقبــال عــى‬ ‫التخصــص يف مجاالتهــا‪ ،‬عــى نقيــض مــا كانــت عليــه يف النصــف األول مــن القــرن املــايض‪ ،‬وهــذا مــا ســيجعل مســتقبل العالقــات اإلنســانية يف خطــر‪،‬‬ ‫ـض حتــى مضاجــع املســؤولني الذيــن تســببوا بهــذه الكــوارث اإلنســانية‪ ،‬مــن قتــل وذبــح‪،‬‬ ‫الســيام وأن املشــاكل اإلجتامعيــة تــرز بشــكل فاضــح‪ ،‬وتقـ ّ‬ ‫ترشيــد وحــروب‪ ،‬يف ظــل غيــاب القيــم واملبــادئ األخالقيــة‪ ،‬والــروادع الدينيــة التــي تشــكل الركائــز الجوهريــة لقيــام املجتمعــات اإلنســانية‪.‬‬ ‫وأزمــة تقهقــر اإلنســانيات هــي ليســت وليــدة اللحظــة واليــوم‪ ،‬بــل عــى العكــس مــن ذلــك‪ ،‬هــي ترجــع بأصولهــا إىل بدايــات الـراع الســيايس‬ ‫والتناف��س العلمـ�ي يف م��ا بيـن الجباري��ن « الوالي��ات املتحــدة األمريكيــة « و « اإلتحاــد السوــفيايت « ســابقاً‪ ،‬حيــث أنــه‪ ،‬مــع مــروع اإلتحــاد الســوفيايت‬ ‫بإطــاق املركبــة الفضائيــة الشــهرية « ســبوتنيك « عــام ‪ ،1975‬هــذا الحــدث‪ ،‬ولّــد لــدى الواليــات املتحــدة األمريكيــة دفعـاً إضافيـاً مــع أســباب أخــرى‬ ‫للتخلــص مــن تخلّفهــا النســبي‪ ،‬والتفكــر جديـاً يف إعــادة النظــر بسياســة البحــث املعرفيــة‪ ،‬والعمــل عــى توجيــه الجامعــات واألبحــاث‪ ،‬والدراســات‬ ‫العليــا نحــو األبحــاث العلميــة والطبيعيــة‪ ،‬ومتويلهــا‪ ،‬ودعمهــا بــكل مــا متلــك مــن مقومــات‪ ،‬بغيــة متكنهــا مــن الريــادة يف املجــاالت املتعلقــة بأمنهــا‬ ‫وســامتها‪ ،‬وتحقيــق حلمهــا بالهيمنــة املطلقــة عــى العــامل أجمــع‪ ،‬كقطــب وحيــد‪ ،‬قــادر عــى التحكــم مبصــر العــامل اقتصادي ـاً وسياســياً‪ ،‬علمي ـاً‬ ‫وتكنولوجي��اً وهنــا‪ ،‬بــدأت الفجــوة تتعمــق وتتجـذّر يومـاً بعــد يــوم يف مــا بــن العلــوم واإلنســانيات‪ .‬وكأن سياســة الواليــات املتحــدة تتعمــد اســتبعاد‬ ‫اإلنســانيات‪ ،‬ومعاقبــة املفكريــن والباحثــن يف مجــاالت هــذه العلــوم‪ ،‬عــى اعتبــار أنهــم يثــرون املتاعــب واملشــاكل التــي قد تجعــل الدولــة أو الحكومة‬ ‫يف مــأزق‪ ،‬الســيام وأنهــم يســلطون الضــوء عــى مشــاكل العالقــات العرقيــة‪ ،‬واملســاواة يف الحقــوق وأمــام القانــون‪ ،‬وإشــكاليات الســام‪ ،‬وحقــوق املــرأة‬ ‫والعمــل‪ ،‬واألرسة‪ ،‬والعائلــة يف ظــل عوملــة مع ِّنف ـ ٍة‪ ،‬وتزامــن كل ذلــك مــع حــركات اإلضط ـراب‪ ،‬وثــورة الطــاب يف الســتينيات‪ ،‬مــا حــدا بالواليــات‬ ‫املتحــدة األمريكيــة إىل اعتــاد سياســة التقتــر‪ ،‬وبالتــايل التهميــش‪ ،‬وهــذا مــا سينســحب عــى جامعاتنــا بعــد ذلــك بعــر ســنوات عــى األقل‪ ،‬وســيصبح‬ ‫اإلقبــال والطلــب عــى اختصاصــات علميــة‪ ،‬كإدارة األعــال وغريهــا‪ ،‬يف حــن أن انخفاضـاً دراماتيكيـاً قــد حصــل يف تخصصــات اإلنســانيات لــذا‪ ،‬يذهــب‬ ‫وليــم تشــايس الباحــث األمريــي‪ ،‬واألســتاذ ســابقا ً يف جامعــات بــركيل وســتانفورد إىل القــول ‪ »:‬خــال العقــود األربعــة األخــرة‪ ،‬هنــاك انخفــاض ملحــوظ‪،‬‬ ‫وتراجــع بشــكل مأســاوي يف عــدد الطــاب والطالبــات املتخصصــن باللغــة اإلنكليزيــة‪ ،‬كذلــك هــو الحــال يف الفلســفة والتاريــخ وغريهــا مــن حقــول العلــوم اإلنســانية‪ ،‬وذلــك يرجــع ألســباب‬ ‫عــدة‪ :‬ففــي حــن أن دراســة اإلنكليزيــة شــهدت تراجعـاً يف اإلقبــال عليهــا‪ ،‬فــإن إدارة األعــال أصبحــت اإلختصــاص األكــر شــعبية يف الكليــات والجامعــات الوطنيــة يف أمــركا‪ ،‬واحتــل مركـزا ً‬ ‫مرموقـاً بنســبة طالــب مــن أصــل كل خمــس طــاب أمريكيــن لــذا‪ ،‬ويف غضــون جيــل واحــد تراجــع عــدد املتخصصــن يف العلــوم اإلنســانية مــن ‪ %30‬إىل نســبة أقــل مــن ‪ .%16‬بينــا ارتفعــت‬ ‫نســبة املتخصصــن يف إدارة األعــال مــن ‪ %14‬إىل ‪ ،%22‬وذلــك ضمــن إطــار الجيــل نفســه‪ .)1(».‬لعــل املخيــف يف هــذا القــول هــو مســتقبل ومصــر اإلنســانيات يف األعــوام‬

‫والعقــود القادمــة‪ ،‬الســيام وأنهــا الطــرف األضعــف يف معادلــة العــرض والطلــب‪ ،‬وبالتــايل فهــي مأزومــة أصـاً‪ ،‬ويف حالــة تراجــع وتقهقــر‪ ،‬لدرجــة أن‬ ‫متويــل أبحاثهــا يتحــول إىل املياديــن العلميــة التطبيقيــة العمليــة‪.‬‬ ‫هــذا الواقــع املــأزوم لإلنســانيات مــا هــو إال انعــكاس لصــورة املتغ ـرات التــي طغــت عــى العــامل مــن تســعينيات القــرن املــايض‪ ،‬وأدت إىل‬ ‫تحــوالت ثقافيــة‪ ،‬اقتصاديــة‪ ،‬اجتامعيــة وتربويــة‪ ،‬أورثــت ظاهــرة تراجــع أحــوال اإلنســانيات منــذ عقديــن أو ثالثــة مــن الزمــن تقريبـاً‪ ،‬ولعــل الفلســفة‬ ‫هــي األكــر تأثـرا ً بــن هــذه التخصصــات‪.‬‬ ‫إن مــا حصــل يف الواليــات املتحــدة األمريكيــة وأوروبــا ينســحب عــى العــامل العــريب مبجملــه‪ ،‬وحتــى لبنــان‪ ،‬حيــث األولويــة لعلــوم الهندســة‬ ‫والطــب والتكنولوجيــا‪ ،‬وإدارة األعــال مــع تغييــب ملجمــل أبحــاث العلــوم اإلنســانية‪ ،‬وحتــى أنــه يف بعــض الــدول العربيــة ذهبــوا ح ـ ّد تحريــم‬ ‫الفلســفة‪ ،‬ومنــع تعليمهــا يف املناهــج الرتبويــة والتعليميــة (الســعودية عــى ســبيل املثــال)‪ .‬عــى الرغــم مــن أن هــذا اإلهــال ضــد اإلنســانيات يف‬



‫الوصفيــة والتفســرية للظواهــر اإلنســانية‪ :‬كعلــم النفــس‪ ،‬واإلقتصــاد‪ ،‬اإلنرتبولوجيــا وعلــم اإلجتــاع‪ ،‬الجغرافيــا وغريهــا‪ .‬وبالتــايل هــو ال ينطبــق عــى‬ ‫الدراســات اإلنســانية التــي تتصــف باملعياريــة والتنظيميــة‪ :‬كالقانــون وفقــه اللغــة‪ ،‬الرشيعــة والنقــد األديب‪ ،‬أنظمــة املحاســبة واإلدارة وغريهــا؟‪.‬‬ ‫لعـ ّـل الخطــر األكــر يكمــن أيضـاً يف اســتبدال الفلســفة والتــي هــي « أم العلــوم « بعلــم اإلجتــاع‪ ،‬هــذا الخلــط يف املفاهيــم واملصطلحــات دفــع‬ ‫باملفكــر اللبنــاين مــوىس وهبــي إىل إطــاق رصختــه معلنـا ً ‪ »:‬ويفيــد هــذا التفكــر‪ ،‬عــى حســب ومــا أرى أنــه مــدار النقــاش‪ ،‬أن زمــن ذ َم الفلســفة واســتبدالها بالسوســيولوجي‬

‫والثقــايف قــد بــدأ باإلنحســار عــى صعيــد العــامل‪ ،‬وأن مثــة عــودة إىل اإلنهــام الفلســفي « الكالســييك «‪ .‬وأن الحاجــة العربيــة إىل الفلســفة‪ ،‬وتدريــس الفلســفة بالعربيــة يصطدمــان بواقــع‬ ‫غيــاب النصــوص الفلســفية‪ ،‬وبخاصــة الحديثــة واملعــارصة منهــا‪ ،‬غيابـاً شــبه مطلــق‪ ،‬وأن هــذا الواقــع يجعــل مــن التدريــس بالعربيــة‪ ،‬وبالــرورة‪ ،‬مجــرد خــر عــن أثــر مفقــود‪ ،‬ومــن الكتابــة‬ ‫الفلســفية بالعربيــة‪ ،‬وبالــرورة‪ ،‬مجــرد هوامــش عــى متــون غائبــة‪ .)7(».‬مــن هنــا‪ ،‬وإزاء هــذا الخلــط يف املفاهيــم‪ .‬يتضــح لنــا‪ ،‬بأنــه مــن الواجــب التنبــه لعــدم‬

‫‪ Sciences‬للداللــة عــى مجمــل العلــوم‬ ‫اإلنجـ�رار وراء الشـ�ائع مـ�ن اإلشـ�تقاقات التـ�ي تسـ�عى إىل اسـ�تخدام مصطلـ�ح العلـ�وم اإلجتامعيـ�ة ‪Social‬‬ ‫اإلنســانية ‪،Human Sciences‬الســيام وأن الدقــة العلميــة واملوضوعيــة املصطلحيــة تدعونــا إىل جعــل املصطلــح األول يقتــر عــى علــم اإلجتــاع‬ ‫وفروعــه‪ ،‬يف حــن أن هــذا األخــر هــو أوســع وأشــمل بكثــر‪ .‬وحيــث أن الفلســفة التــي تتســم بالشــمولية والكليانيــة‪ ،‬فــا يجــوز تقزميهــا بحــدود علــم‬ ‫اإلجتــاع وال اقتصارهــا عليــه‪ ،‬فإطالقيتهــا وشــموليتها أبعــد مــن أن ت ُحــد وتؤطــر بحــدود علــم اإلجتــاع وفروعــه لــذا؛ ال بــد مــن الرتكيــز عــى تعديــل‬ ‫املناهــج‪ ،‬ومحاولــة إصالحهــا مبــا يتوافــق واألهــداف التــي تســعى إلنتشــال اإلنســانيات مــن الضيــاع الفكــري الثقــايف‪ ،‬ولــن يكــون ذلــك‪ ،‬إن مل نتفكــر‬ ‫يف أحــوال اإلنســانيات اليــوم يف العــامل بعامــة‪ ،‬ويف الــدول العربيــة ولبنــان بخاصــة‪ ،‬مبــا يتســق والعرصنــة‪.‬‬ ‫ج_التوظيــف الخاطــىء للدميقراطيــة‪ :‬لعــل مــا نشــهده مــا يُســمى بربيــع عــريب أطــل عــى عاملنــا العــريب راس ـاً تصــورات تحمــل اآلمــال‬ ‫بتحقيــق الدميقراطيــة والشــفافية واملواطنيــة‪ ،‬مــن خــال رفــض اإلســتبداد والتوريــث واملطالبــة بالدولــة العادلــة القــادرة‪ ،‬وإذا بــه ينتهــي بخريــف‬ ‫مشــبع بالــدم والقتــل‪ ،‬واختــاف املفاهيــم والصيــغ‪ ،‬ومبزيــد مــن القهــر والذبــح وقطــع الــرؤوس‪ ،‬وأزمــة املبــاين املؤسســة‪.‬‬

‫إنســاننا العــريب املســكون بالض ِّديــة العقليــة يف مــا بــن عقــل عــريب اجـراري تـرايث‪ ،‬وآخــر فقهــي نقــي‪ ،‬وبالتــايل فالتعليــم ال يف لبنــان فحســب‪،‬‬ ‫بــل يف العــامل العــريب بــأرسه‪ ،‬هــو أســر تصــورات الوهــم الدينــي والتعصــب والتطــرف‪ ،‬والتمذهــب والتطييــف‪ ،‬وإال لــو عملــت األنظمــة الرتبويــة‬ ‫والتعليميــة عــى إفســاح املجــال لــدور حقيقــي للرتبيــة املدركــة عــى الدميقراطيــة لكانــت حيــاة الشــعوب العربيــة عــى غــر مــا هــي عليــه‪ .‬مــن‬ ‫هنــا‪ ،‬يتبــادر إىل الذهــن التســاؤل اآليت‪ :‬هــل التعليــم الجامعــي العــريب واللبنــاين هــو تعليــم فقــط مــن أجــل البقــاء يف ظــل عوملــة تخــرق الحــدود؟‪.‬‬ ‫وهــل هــو يف حالــة إبــادة حقيقيــة أم أزمــة آنيــة؟‪ .‬أيــن تكمــن الدميقراطيــة يف أنظمتنــا التعليميــة فكـرا ً ومامرســة وســلوك؟‪ .‬وهــل مــن خارطــة طريــق‬ ‫قــادرة عــى النهــوض بهــذا النظــام التعليمــي املــيء بالتســاؤالت‪ ،‬وجعلــه قــادرا ً عــى تحديــات تقهقــر العلــوم اإلنســانية‪ ،‬وبالتــايل مجــاراة الحداثــة‬ ‫والعرصنــة‪ ،‬والقــدرة عــى مجابهــة تحدياتهــا؟‪.‬‬ ‫لعــل الفشــل املؤســي يف األنظمــة التعليميــة العربيــة‪ ،‬والســيام فعاليــة النظــام التعليمــي اللبنــاين‪ ،‬يرجــع إىل ســبب بنيــوي قائــم عــى اتســاع‬ ‫الهــوة بــن الحاجــات اإلجتامعيــة املتغــرة والبريوقراطيــة الرتبويــة املرتســخة التــي فقــدت صلتهــا بواقعهــا اإلجتامعــي‪ ،‬وبالتــايل رفعــت شــعار التعلــم‬ ‫ال التعليــم‪ ،‬لهــذا ال يتــواىن املفكــر اللبنــاين ناصيــف نصــار عــن الدعــوة إىل ربــط الدميقراطيــة بالفلســفة قائـاً ‪ »:‬يف ســياق التغــر التاريخــي‪ ،‬الــذي ينطــوي عــى‬

‫رصاعــات مفتوحــة ومتواصلــة‪ ،‬ميكــن أن متنــح الفلســفة الدميوقراطيــة القاعــدة النظريــة األساســية التــي تحتــاج إليهــا لــي تثبــت كنظــرة إىل الحيــاة اإلجتامعيــة وكنظــام اجتامعــي ســيايس‪.‬‬ ‫ولكــن ال يشــرط لذلــك أن تتوافــر أمــام الفلســفة بيئــة دميوقراطيــة قامئــة‪ .‬فالــروط املالمئــة لفعــل الفلســفة نوعــان‪ :‬رشوط ذاتيــة ورشوط اجتامعيــة تاريخية‪...‬لقــد أثبتــت الفلســفة أنهــا‬ ‫فاعليــة أساســية مــن فاعليــات الفكــر البــري عــر تاريــخ طويــل ال يســتطيع منــع تأثــره يف أي شــعب مــن شــعوب العــامل نظــام تعليمــي منغلــق إال يف حــدود معينــة‪ .‬كل مثقــف يفكــر يف‬ ‫مشــكالت العــامل اليــوم (يف مشــكالت مجتمعــه أو يف مشــكالت البرشيــة) يكتشــف برسعــة أنــه مدفــوع إىل الفلســفة‪ ،‬بصــورة أو بأخــرى‪ .‬فالقضيــة هــي‪ ،‬يف نهايــة املطــاف‪ ،‬قضيــة الطريــق إىل‬ ‫الفلســفة‪ ،‬إىل الدخــول يف تاريخهــا املتجــدد‪ ،‬وإىل املشــاركة يف تناميهــا املتوهــج‪ .)8(».‬مــن هنــا تــرز أهميــة العالقــة الجدليــة يف مــا بــن الدميقراطيــة والفلســفة‪ ،‬حيــث أن‬

‫أنظمــة التعليــم إذا مــا اعتمــدت الرتبيــة الفلســفية فســيؤدي ذلــك حتـاً إىل تطــور منطــق التفكــر والحكــم‪ ،‬الســيام وأن كل فــرد ســيتحمل مســؤولية‬ ‫التفكــر يف شــؤونه الخاصــة والعامــة‪ ،‬وسيتشــكل مناخـاً مــن حريــة الفكــر‪ ،‬والنقــد‪ ،‬واإلحـرام بــن املواطنــن‪.‬‬

‫وخارطــة الطريــق يف التعليــم الجامعــي يجــب أن تعتمــد عــى الدميقراطيــة املســؤولة ال املكتســبة‪ ،‬مــن خــال إعــداد النخــب العقليــة املؤهلــة القادرة‬ ‫الحتــال املراكــز القياديــة يف شــتى اإلختصاصــات واملجــاالت يف ظــل نظــام يعــاين التخلــف وعــدم مجــاراة التطــورات‪ ،‬التــي يشــهدها الحقــل التعليمــي‬ ‫عــى صعيــد املبــاين القانونيــة الدوليــة‪ .‬كــا أنــه يعــاين مــن ضعــف املســتوى يف أعــداد ال بــأس بهــا مــن األســاتذة الذيــن هــم نتــاج النظــام التعليمــي‬ ‫القائــم عــى التلقــن ال اإلبــداع‪ ،‬حيــث أن مع ِّوقــات عــدة ســاهمت وتســاهم يف تقهقــر العلــوم اإلنســانية تتمثــل بحســب املفكــر اللبنــاين محمــد شـيَّا‬ ‫يف ‪ _1 »:‬غيــاب الحوافــز املاديــة واملعنويــة للتدريــس يف األصــل‪ _2 .‬عــدم تطابــق مقــرر التدريــس مــع اختصــاص األســتاذ‪ _3 .‬عــدم متابعــة األســتاذ نفســه للتطــورات الحديثــة واملعــارصة‬ ‫يف اإلختصــاص‪ _4 .‬عــدم إجــادة األســتاذ للغــات األجنبيــة‪ _5 .‬عــدم إجــادة األســتاذ ملهــارات عمليــة مــا يعطــي الطالــب تصــورا ً خاطئـاً عــن الفلســفة‪_6 .‬يف نقــص مــا يف اختصــاص األســتاذ أو‬ ‫نــوع شــهادته‪ ،‬فتكــون يف غــر الفلســفة (رشيعــة مثـاً) ويــدرس الفلســفة!‪ _7 .‬إهــال مبــدأ أن األســتاذ هــو طالــب أيضـاً‪ ...‬وإىل أن يتقاعــد‪ )9(».‬وهــذا مــا يجعــل مخرجــات التعليــم‬

‫دون املســتوى املأمــول‪ ،‬وحيــث أن الفلســفة التعليميــة والرتبويــة تتمركــز حــول تحســن الجوانــب الكميــة‪ ،‬وعــدم إيــاء التطــور النوعــي مــا يســتحقه‪،‬‬ ‫مــا أفــرز أعــدادا ً كبــرة مــن الخ ِّريجــن دون املســتوى املطلــوب‪ ،‬ووفــر مخرجــات غــر مؤهلــة للمســاهمة يف تنميــة املجتمــع وتطويــره وتقدمــه‪.‬‬

‫إن الرتبيــة عــى مفهــوم الدميقراطيــة تلعــب دورا ً كب ـرا ً يف تحســن منطــق التفكــر والتنفيــذ والحكــم‪ ،‬وتحمــل كل فــرد مســؤولية التفكــر يف‬ ‫شــؤونه الخاصــة والعامــة‪ ،‬وخلــق منــاخ مــن الحريــة املســؤولة‪ ،‬ومــن النقــد واإلحـرام املتبــادل بــن املواطنــن‪ ،‬لهــذا قلــا نجــد جهــدا ً نظريـاً يربــط‬ ‫الدميقراطيــة بأصولهــا الرتبويــة والتعليميــة‪ ،‬بخاصــة وأن ضعــف ثقافــة الدميقراطيــة يتطلــب قاعــدة فلســفية مؤسســة‪ ،‬كــا هــو الحــال يف التجربــة‬


‫املشــاريع املمولــة يــرز التحــول الصــارخ عنهــا باتجــاه املياديــن العلميــة والعمليــة والتقنيــة‪ ،‬لكــن الغريــب يف األمــر أن مبالــغ طائلــة أُنفقــت تحــت‬ ‫شــعار البحــث العلمــي مل تـ ِ‬ ‫ـأت بنوبــل عــريب واحــد‪ ،‬ال يف العلــوم العلميــة وال العلــوم العمليــة والتقنيــة‪ ،‬ولعــل اإلنجــاز الوحيــد كان قــد تحقــق مــع‬ ‫نجيــب محفــوظ يف األدب‪ ،‬وهــذا إن ّ‬ ‫دل عــى يشء إمنــا يــدل عــى حجــم اإلعـراض عــن اإلنســانيات بعامــة‪ ،‬يف الجامعــات العربيــة‪ ،‬وهــي ال تقتــر‬ ‫ع�لى جامعاــت دول الخليـ�ج فحســب‪ ،‬بــل تتعداهــا إىل مجمــل الجامعــات العربيــة والــدول الناميــة‪.‬‬ ‫وبنــا ًء عليــه‪ ،‬البــد مــن طــرح جوهــر اإلشــكالية اآلتيــة‪ :‬كيــف لنــا أن نحـ ّول تراجــع اإلهتــام بالعلــوم اإلنســانية إىل تحـ ٍّد لتثبــت فيــه نفســها‪،‬‬ ‫وكيــف لهــا أن تثبــت أهميتهــا إن عــى صعيــد النظريــة أو التطبيــق‪ ،‬أو مــن خــال املراجعــة والتصحيــح‪ ،‬والتكيــف مــع املعطيــات الجديــدة؟‪ .‬وكيــف‬ ‫لنــا أن نعمــل عــى إدارة األزمــات مبندرجــات مفهــوم العلــوم اإلنســانية؟ ومــا هــي الســبل اآليلــة والوســائل املالمئــة‪ ،‬والتصــورات املعرفيــة للمبــاين‬ ‫املؤسســة؟‬ ‫تكمــن أهميــة هــذا البحــث يف تســليط الضــوء عــى كيفيــة إدارة األزمــات عــى مفهــوم العلــوم اإلنســانية التــي تعــاين التقهقــر والرتاجــع لــذا؛ ال‬ ‫بــد مــن لفــت انتبــاه العاملــن بالعلــوم اإلنســانية إىل أن ال قيامــة إال بالتغيــر الــذي يتطلــب فنـاً يف كيفيــة التفكــر‪ ،‬وبــأن يكــون لنــا منهجيــة فلســفية‬ ‫واضحــة املعــامل تعمــل عــى تفكيــك هــذه األزمــات وتقويضهــا‪ ،‬حيــث أنــه يف ظــل التمييــز يف مــا بــن العلــوم الهشــة والعلــوم الصعبــة‪ ،‬تجدنــا أحــوج‬ ‫مــا نكــون إىل التعلــم كيــف نف ِّكــر؟ ونفــكك األزمــات‪ ،‬ونديرهــا بحكمــة ورويِّــة لــذا‪ ،‬ال بــد مــن اإلســتناد إىل املنهجــن التحليــي والجــديل‪ ،‬بغيــة تفكيــك‬ ‫األزمــات وإخضاعهــا للدراســة التفصيليــة‪ ،‬وعــدم إهــال أســبابها‪ ،‬والوصــول إىل نتائجهــا‪.‬‬ ‫أوالً‪ :‬أســباب تقهقــر العلــوم اإلنســانية‪ :‬اإلنســانيات يف أزمــة‪ ،‬ولعلــه مــن الطبيعــي التعريــف « باألزمــة « عــى الرغــم مــن صعوبــة تحديــد‬ ‫مفهومهــا يف شــمولية طبيعتهــا‪ ،‬واتســاع نطــاق اســتعاملها الــذي يتســع ملجمــل صــور العالقــات اإلنســانية‪ ،‬ويف مختلــف مجــاالت التعامــل ومســتوياته‪،‬‬ ‫الســيام وأن ث ـراء إمكاناتهــا واتســاع اســتخداماتها تجعلنــا يف حــرة مــن تعريفهــا‪ ،‬بــن أن نبــدأ مث ـاً بأزمــة الثقــة التــي تقــع بــن فرديــن‪ ،‬مهــددة‬ ‫اســتمرار صداقتهــا‪ ،‬أو أن نســمع بأزمــة العالقــات القطبيــة يف مــا بــن القــوى العظمــى‪ ،‬منــذرة العــامل بأكملــه بخطرهــا‪ ،‬لكــن هــذا املصطلــح وجــد‬ ‫ضالّتــه عنــد الصينيــن الذيــن نحتــوه مبفردتــن « ‪ « Wet_Ji‬األوىل ترمــز إىل الخطــر‪ ،‬والثانيــة تنــم عــن الفرصــة التــي مــن املمكــن اســتثامرها كفرصــة‬ ‫إلطــاق القــدرات اإلبداعيــة مــن خــال إعــادة صياغــة الظــروف وإيجــاد الحلــول‪ ،‬وهــذا مــا نحتاجــه يف أزمــة اإلنســانيات التــي تتطلــب منــا هــذا‬ ‫التوجــه اإليجــايب إلدارة أزمــة التفاعــل الحــي واملبــدع‪ ،‬مــع التحــدي الكبــر الــذي تفرضــه السياســات التــي تعمــل عــى إهاملهــا وتنحيتهــا جانبـاً‪ ،‬بحيث‬ ‫ميكننــا مــن تحويــل الخطــر الداهــم إىل فرصــة الســتثامر وتحويــل اإلحباطــات أو املحــن إىل منــاخ فعــال وإىل جهــود إبداعيــة(‪ )2‬لــذا؛ ال بــد مــن الرجــوع‬ ‫إىل التمعــن وإعــال الفكــر‪ ،‬وتقييــم الــذات اإلنســانية‪ ،‬العربيــة واللبنانيــة لحــل أزمــات اإلنســانيات والحـ ّد مــن خطــورة واقعهــا املــأزوم‪ ،‬انطالقـاً مــن‬ ‫هــذا الواقــع‪ ،‬األزمــات ال تنحــر يف سياســات الــدول وعالقاتهــا بعضهــا ببعــض‪ ،‬وضمــن القطاعــات العامــة أو الخاصــة‪ ،‬بــل هــي تشــمل جميــع أوجــه‬ ‫الحيــاة‪ ،‬لدرجــة تصــل فيهــا األمــور حالــة التــأزم التــي تتطلــب قـرارا ً ينتــج عنــه مواقــف جديــدة‪ ،‬أكانــت ســلبية أم إيجابيــة وعــى الكيانــات املختلفــة‪.‬‬ ‫أ_األزمــة يف تعريفاتهــا وتحديداتهــا املصطلحيــة‪ :‬األزمــة‪ « ”Crisis‬كــا وردت يف ترجمتهــا اإلنكليزيــة تعنــي « حالــة خطــرة وحاســمة أو نقطــة‬ ‫تحـ ّول «(‪ .)3‬وهـ�ذا التعريـ�ف قريـ�ب جـ�دا ً مـ�ن معناهـ�ا بالفرنسـ�ية حيـ�ث أن « ‪ « crise‬بالفرنســية تعنــي « قـرارا ً‪ ،‬تحــوالً‪ ،‬وتغيـرا ً «(‪ ،)4‬ويف اللغــة العربيــة‬ ‫يحددونهــا عــى أنهــا « الشِّ ــدة والقحــط «(‪ .)5‬وبنــا ًء عــى هــذا التعريفــات‪ ،‬يبــدو بــأن األزمــة هــي تلــك اللحظــة الحاســمة والحرجــة‪ ،‬التــي يتحــدد‬ ‫مبوجبهــا املصــر إمــا بالتطــور نحــو األفضــل‪ ،‬أو بالرتاجــع نحــو األســوأ‪ ،‬وبالتــايل فهــي حالــة توتــر‪ ،‬ونقطــة تح ـ ّول تتطلــب اتخــاذ ق ـرار‪ ،‬ســيؤثر عــى‬ ‫مختلــف الكيانــات التــي تتعلــق بهــا‪ ،‬إنهــا عقــدة مصرييــة‪ :‬إمــا أن تحــل مشــكلة أو تــؤدي إىل انفجارهــا لــذا؛ وبنــا ًء عــى مــا اتفقنــا بتســميته أزمــة‬ ‫اإلنســانيات‪ ،‬والتــي تتطلــب الرتكيــز عــى أســباب هــذه األزمــة فإنــه ال بــد مــن عــرض ألهمهــا‪:‬‬ ‫ب_ أزمــة منهــج وأفهــوم ‪ :‬لعــل إشــكالية اإلنســانيات ترجــع إىل النظــر إليهــا عــى أنهــا متخلِّفــة نســبياً‪ ،‬مقارنـ ًة بالعلــوم الطبيعيــة‪ ،‬حتــى ليذهــب‬ ‫البعــض إىل أن وجــود علــوم طبيعيــة عــى أســس منطقيــة مقننــة‪ ،‬ومناهــج راســخة يشــكل لباحثــي اإلنســانيات التحــدي الــذي ينبغــي عليهــم مواجهتــه‬ ‫للوصــول بعلومهــم إىل مســتوى يقــارب مســتوى العلــوم الطبيعية‪.‬‬ ‫يــرى فيلهلــم دلتــاي‪ )1911-1837( W.Dilthey‬الرافــض ملواقــف املثاليــن والتجريبيــن املعارضــن للمذهــب الطبيعــي‪ ،‬واملؤيديــن لــه‪ ،‬واعــدا ً‬ ‫بتأســيس العلــوم اإلنســانية عــى نحــو أكــر تنســيقاً ومنهجيــة‪ ،‬ومبــا أنهــا متباينــة منهاجـاً وتطبيقـاً‪ ،‬إذ إنهــا نســبية ومتغــرة وفقـاً ألمناطهــا وإيقاعاتهــا‬ ‫التاريخيــة وســياقاتها اإلجتامعيــة والثقافيــة‪ ،‬وهــذا مــا حــدا باملؤرخــن املتأثريــن بدلتــاي إىل أن يصبحــوا يف ِحـ ٍّـل عــن تحقيــق الســمة العلميــة الدقيقــة‬ ‫يف أبحاثهــم(‪ .)6‬حيــث أن املشــكلة بالنســبة لدلتــاي تتمثــل يف ش ـقّني؛ األوىل‪ :‬أن العلــوم اإلنســانية مــازال يعوزهــا تصــور واضــح‪ ،‬ومتَ َفــق عليــه‪ ،‬عــن‬ ‫أهدافهــا ومناهجهــا املشــركة‪ ،‬والعالقــات بينهــا‪ ،‬إذا مــا قُو ِرنَــت مبــا هــو ســائد يف العلــوم الطبيعيــة‪ .‬والثانيــة‪ :‬هــي أن العلــوم الطبيعيــة تــزداد منزلتهــا‬ ‫ومكانتهــا منــوا ً واط ـرادا ً بحيــث ترســخ يف الــرأي العــام َمثَ ـاً أعــى للمعرفــة ال يتــا َءم مــع التقــدم يف العلــوم اإلنســانية‪ .‬ويرجــع لدلتــاي الفضــل يف‬ ‫تســليط الضــوء عــى أهميــة الســعي مبحــاوالت جــا ّدة بقصــد التنبــؤ بحلــول ألزمــة اإلنســانيات‪ ،‬مقارنـ ًة بالعلــوم الطبيعيــة‪ ،‬ففــي حــن أن اإلنســانيات‬ ‫كانــت منــذ القــدم موضــع اإلهتــام األكــر‪ ،‬الســيام وأنهــا جذبــت إليهــا العقــول التــي تناولتهــا بطريقــة أكــر نضجـاً مــن مســائل العلــوم الطبيعيــة‪.‬‬ ‫وأزمــة األفهــوم تتمثــل يف املقصــود بالعلــوم اإلنســانية‪ .‬فهــل املقصــود بهــا كــا ذهــب إىل ذلــك كلــود ليفــي شـراوس حــد املطابقــة يف مــا بــن‬ ‫مصطلحــي العلــوم اإلنســانية والعلــوم اإلجتامعيــة؟‪ .‬وهــل أن مصطلــح العلــوم اإلنســانية يشــر إىل الدراســات التــي تهــدف إىل اإلحاطــة باملنهجيــة‬



‫الغربيــة‪ ،‬الســيام وأن الدميقراطيــة يف بالدنــا تعــاين التغليــف النظــري واللفظــي‪ ،‬والتلفيقــي أو الهامــي‪ ،‬ومادامــت ال تســتند إىل قاعــدة فلســفية هادفــة‬ ‫نصــار إذ إنــه يــردد‬ ‫ومنوذجيــة‪ ،‬فالبنــاء الدميقراطــي ســيبقى معرضـاً للســقوط عنــد أول هــزة جديــة‪ ،‬مــن هنــا كانــت رصخــة املفكــر اللبنــاين ناصيــف ّ‬ ‫‪ »:‬ويف الواقــع‪ ،‬لــو كانــت األنظمــة الرتبويــة يف البلــدان العربيــة تفســح يف املجــال لــدور حقيقــي للرتبيــة الفلســفية‪ ،‬لكانــت حيــاة الشــعوب العربيــة عــى غــر مــا هــي عليــه اليــوم‪ .‬للتعصــب‬ ‫والتطــرف أصــول عديــدة‪ .‬ومنهــا‪ ،‬مــن دون شــك‪ ،‬غيــاب الرتبيــة الفلســفية عــن أنظمــة التعليــم والرتبيــة‪ .‬ومل تكــن الجمعيــة الفلســفية العربيــة مخطئــة عندمــا أكــدت رضورة اإلهتــام‬ ‫بالفلســفة يف التعليــم الثانــوي‪ .‬إال أنهــا‪ ،‬يــا لألســف‪ ،‬اكتفــت بهــذا التأكيــد‪ .‬فلــم تبــادر إىل البحــث مفصـاً يف أوضــاع تعليــم الفلســفة يف البلــدان العربيــة‪ ،‬وإىل تقديــم اإلقرتاحــات العمليــة‪.‬‬ ‫ومــا نقــرأه مــن دراســات ومقــاالت حــول تعليــم الفلســفة يف هــذا البلــد أو ذاك‪ ،‬مثــل لبنــان واملغــرب‪ ،‬ليــس كافيـاً‪ .‬فالقضيــة تتطلــب برنامجـاً واســعاً‪ .‬وأفضــل مــن يقــوم بــه تجمــع مؤسســات‬ ‫جامعيــة متخصصــة يف الشــؤون الرتبويــة‪ .‬ولكــن أنظمــة التعليــم املتنوعــة‪ ،‬مثــل الراديــو والصحيفــة والتلفزيــون‪ ،‬قــادرة عــى لعــب دور كبــر يف هــذا املجــال‪ .‬وهنــا أيضـاً‪ ،‬ميكــن القــول أنــه‬ ‫لــو كانــت األجهــزة اإلعالميــة يف البلــدان العربيــة تفســح يف املجــال لــدور حقيقــي للرتبيــة الفلســفية‪ ،‬ملــا كان الــرأي العــام يف هــذه البلــدان معطـاً إىل الحــد الــذي يثــر ســخرية العــامل‪.)10(».‬‬

‫والشــؤون اإلنســانية الجوهريــة هــي هــي يف جميــع املجتمعــات والعصــور‪ ،‬ومــا مــن شــعب عاجــز عــن التعــرف عــى الدميقراطيــة واألخــذ بهــا إذا‬ ‫مــا توافــرت رشوط ذاتيــة‪ ،‬وبنيــة اجتامعيــة تاريخيــة؛ والدميقراطيــة ممكنــة يف ظــل أنظمــة تحــرم العقــل والبحــث العلمــي املفتــوح عــى الحقيقــة‪،‬‬ ‫وبرامــج واســعة مــن قبــل مؤسســات جامعيــة متخصصــة بالشــؤون التعليميــة والرتبويــة‪ ،‬إضافــة إىل أجهــزة إعالميــة متنوعــة‪ ،‬وخلــق مراكــز دوليــة‬ ‫حياديــة تســلط الضــوء عــى قضايــا اإلضطهــاد والتطــرف واإلرهــاب‪.‬‬ ‫ال قيمــة للدميقراطيــة إن مل ترتبــط باإلســتقاللية واملســا َءلة واملحاســبة لــذا؛ ال بــد مــن إقامــة جســور التبــادل والتعــاون مــع مختلــف قطاعــات‬ ‫العمــل‪ ،‬ســواء يف القطــاع العــام أو الخــاص‪ ،‬تلبيــة لحاجــات الســوق‪ ،‬وســعياً لعقــد اتفاقــات مــع املنشــآت اإلقتصاديــة التــي تــرز يف مالمحهــا الفعاليــة‬ ‫واإلنتاجيــة واإلســتقاللية(‪ . )11‬وبذلــك يصبــح التواصــل قامئ ـاً بــن أربــاب العمــل‪ ،‬وأهــل الجامعــة‪ ،‬واإلدارة الحكوميــة‪ ،‬والتواصــل القائــم يف مــا بــن‬ ‫التعليــم العــايل وســوق العمــل يصبــح رشعيـاً ومرغوبـاً بــه‪ ،‬ويف خدمــة املجتمــع بأكملــه‪.‬‬ ‫التغيــر يف أنظمتنــا التعليميــة رضورة ملحــة لــذا؛ ال بــد مــن تحقيــق التنميــة التــي تشــكل أحــد أهــم املداخــل لتبــادل اآلراء‪ ،‬وحريــة الــرأي‪،‬‬ ‫والتأمــل والتالقــي‪ ،‬والبحــث للتخلــص مــن اإلنعـزال والتقوقــع‪ ،‬التفــرد واألحاديــة‪ ،‬والحــث عــى اعتبــار املعرفــة مفهومـاً بنيويـاً جامعيـاً ال جهــدا ً فرديـاً‪،‬‬ ‫فبــدل أن تكــون جامعاتنــا مجــرد مراكــز لنقــل املعلومــات العلميــة والتكنولوجيــة‪ ،‬علينــا أن نحولهــا إىل مراكــز للمعلومــات وإعــادة إنتاجهــا‪ ،‬واســتصدار‬ ‫املعــامل املعرفيــة فيهــا‪.‬‬ ‫ال بــد لســامة األنظمــة التعليميــة الرتبويــة مــن أن تعمــل عــى خلــق وســائل تعليميــة‪ ،‬ترتكــز عــى الســليم مــن الدميقراطيــة الحقــة‪ ،‬والتعــاون‬ ‫املؤسســايت الفاعــل‪ ،‬واملشــاركة التنســيقية الهادفــة‪ ،‬حيــث أن ال دميقراطيــة مبعناهــا الكامــل والشــامل دون مواطنــن يتمتعــون بالقــدرة عــى مامرســة‬ ‫حقوقهــم الفرديــة والجامعيــة‪ ،‬واإلســهام يف مجتمعاتهــم إســهاماً فعــاالً‪.‬‬ ‫لعــل أبــرز التحديــات التــي تواجــه التعليــم يف جامعاتنــا اليــوم هــي محاولــة العثــور عــى حــل للتناقضــات القامئــة‪ ،‬حيــث مــن جهــة أوىل‪ :‬نلمــس‬ ‫افتقــاد األنظمــة التعليميــة إىل تربيــة هادفــة لعمــل منتــج‪ ،‬ومشــاركة اجتامعيــة‪ ،‬وتضامــن‪ ،‬ومــن جهــة ثانيــة‪ :‬تــرز املنافســة الالزمــة القتصــاد الســوق‪،‬‬ ‫إذ كيــف الســبيل إىل تعليــم لعــامل يســوده التضامــن يف منــاخ مــن التنافــس املتوحــش؟ وكيــف الســبيل إىل التعلــم يف مجتمــع يعــاين فيــه البعــض مــن‬ ‫الالمبــاالة واإلعتــكاف واإلرتيــاب يف مجتمــع يعتــر العلــم وســيلة لصنــع الرأســال البــري والوجاهــة اإلجتامعيــة؟‪ .‬والبعــض اآلخــر يعتــر أنهــم طاملــا‬ ‫هــم رأس مــال فيلقــى بهــم جانبـاً كمعــدات أو تكنولوجيــا مـ ّر عليهــا الزمــن‪.‬‬ ‫د_ أزمتــا اإلســتقاللية واملســا َءلة‪ :‬العالقــة يف مــا بــن اإلســتقاللية واملســا َءلة جدليــة وطرديــة‪ ،‬إذ إنــه كلــا طُرحــت األوىل‪ ،‬طُرحــت الثانيــة‬ ‫وبالعكــس(‪ .)12‬واملســا َءلة هــي التــي تســاهم يف حصــول الجامعــات عــى املزيــد مــن اســتقالليتها‪ ،‬ومبــا أن الجامعــات هــي املؤسســات التعليميــة‬ ‫القــادرة عــى إنتــاج الرتبيــة املنفتحــة عــى املتغ ـرات التــي تقــع يف محيطهــا لــذا؛ مــن الواجــب أن تعمــل عــى تحقيــق اســتقاللها ولــو جزئي ـاً عــن‬ ‫اإلدارات الحكوميــة والســلطة السياســية‪ ،‬بغيــة التجــاوب مــع املتغـرات الحاصلــة معرفيـاً‪ ،‬الســيام وأن للمعرفــة قواعدهــا وأصولهــا‪ ،‬مبانيهــا ونظرياتهــا‪.‬‬ ‫وإلنتاج استقاللية معرفية يف الجامعات العربية واللبنانية‪ ،‬ال بد أوالً من العمل عىل ثالثية‪ :‬األستاذ الجامعي‪ ،‬الطالب واملحتوى‪.‬‬ ‫مــن هنــا أهميــة أن يُعمــل األســتاذ الجامعــي ذهنــه يف املعرفــة التــي ينقلهــا بــدل أن يبقــى مجــرد ناقــل ومسـ ّوق لهــا‪ ،‬والجامعــة بحــث علمــي‪،‬‬ ‫وتعليــم‪ ،‬وكال األمريــن صناعــة األســتاذ ومهارتــه‪ ،‬وإدارتــه للتقنيــات‪ ،‬ومفاعيــل نظــام املؤسســات بالتضامــن والتكافــل والتجانــس‪ ،‬وهــذا يتطلــب منــه‬ ‫القــدرة عــى تبنــي أســس املعرفــة واإلحاطــة بهــا‪ ،‬كذلــك متابعــة املســتجدات التــي تغــذي مــا ينقلــه‪ ،‬والقيــام بأبحــاث‪ ،‬واملشــاركة يف نــدوات ومؤمترات‬ ‫فعالــة ومنتجــة‪ ،‬فأيــن هــم أســاتذة الجامعــة مــن كل هــذه الطروحــات؟‪ .‬الســيام وأن بعــض األســاتذة الجامعيــن يكتفــون بحــدود أطروحاتهــم التــي‬ ‫قدموهــا لنيــل شــهادة الدكتــوراة‪ ،‬وهــذا مــا يســتدعي التســاؤل حــول مــا مــدى مال َءمــة هــذه األفــكار والطروحــات يف ظــل زمــن يتقــدم‪ ،‬وقــد يحكــم‬ ‫عليهــا بانتهــاء الصالحيــة؟‪ .‬وهــل هــؤالء األســاتذة يقــرأون؟‪ .‬أي نــوع مــن القـرا َءات؟‪ ،‬وبــأي لغـ ٍة؟‪ .‬وهــل تتوافــر فيهــم املؤهــات ملواكبــة روح العــر؟‪.‬‬ ‫ال يخفــى عــى أحــد مســاهمة التدخــات السياســية والســلطوية والطائفيــة دورهــا يف إدخــال أســاتذة وطــاب للجامعــة مــا كانــوا يســتحقون‬ ‫الدخــول أو النجــاح‪ ،‬ولعــل الســبب يف ذلــك يرجــع إىل عــدم إميــان أســاتذة الجامعــة باملعنــى‪ ،‬واملهمــة‪ ،‬والــدور واملســؤولية‪ .‬لهــذا ال بــد مــن العمــل‬ ‫عــى تحويــل التعليــم مــن مشــكلة إىل فرصــة ومنــوذج يُحتــذى‪ ،‬وبالتــايل ينبغــي وضــع األصبــع عــى الجــرح بغيــة العمــل عــى الخــروج مــن هــذه‬ ‫األزمــة بآليــات حقيقيــة‪ ،‬مــن خــال إدارتهــا بفعاليــة‪ ،‬بحيــث تضــع يف رأس أولوياتهــا خطــة للنهــوض والتطويــر واملشــاركة‪ ،‬عامدهــا جــدارة األســتاذ‬ ‫الجامعــي وكفا َءتــه‪ ،‬مؤهالتــه ومقوماتــه التــي تخولــه مواجهــة التحديــات املعــارصة‪ ،‬والنــاذج املختلفــة والتطــورات املتســارعة واملتالحقــة‪.‬‬


‫مــن امل ُال َحــظ بــأن اإلســتقاللية الجامعيــة تحتــاج إىل غنــى يف التســهيالت املاديــة‪ ،‬وإىل سياســات تدفــع باملحيــط إىل تحفيــز أهــل العلــم محليـاً‬ ‫وعربيـاً بغيــة تطويــر املعرفــة‪ ،‬واكتســابها‪ ،‬ومــن ثــم العمــل عــى توطينهــا يف ســياق التعــاون الهــادف مــع جهــات غــر محليــة؛ إذ إن هنــاك طاقــات‬ ‫كثــرة ومهمــة يف العــامل العــريب للقيــام بتلــك املشــاريع‪.‬‬ ‫ال ميكــن للجامعــات أن متــارس اســتقالليتها إال بالتواصــل مــع ســوق العمــل ودراســة أثــر نتائجــه‪ ،‬وبإلزاميــة املشــورة التقنيــة لفعاليتهــا يف هــذه‬ ‫املجــال‪ ،‬حيــث يلجــأ أهــل التعليــم العــايل إىل أخــذ املبــادرة بإقامــة جســور متعــددة مــع قطاعــات العمــل املختلفــة‪ ،‬فتصبــح العمليــة تكامليــة يف مــا‬ ‫بــن اإلدارات الحكوميــة‪ ،‬وأهــل الجامعــة وأربــاب العمــل‪ ،‬مــا يخــدم تقــدم املجتمــع وتطــوره‪ ،‬ومبــا يحصــن الجامعــة باملعايــر النموذجيــة التــي‬ ‫تفرضهــا هــذه العمليــة التواصليــة‪ ،‬ومبــا يرفــد املؤسســات اإلقتصاديــة بالكفــا َءات املنتجــة والفاعلــة التــي تلبــي حاجــات ســوق العمــل الهــادف‪ ،‬الســيام‬ ‫وأن منــوذج املنشــأة اإلقتصاديــة يتســم باإلســتقاللية‪ ،‬إضافــة إىل الفعاليــة واإلنتاجيــة‪ .‬واإلســتقاللية الجامعيــة تســتلزم اإلســتقالل املعــريف بعيــدا ً عــن‬ ‫الضغوطــات اإلداريــة والسياســية‪ ،‬مــن خــال التفاعــل مــع املجتمــع العلمــي‪ ،‬ومــع املحيــط الــذي تنتمــي إليــه‪.‬‬ ‫تفــرض اإلســتقاللية الجامعيــة حريــة األســتاذ األكادمييــة‪ ،‬ومشــاركته يف صنــع القـرارات مــن خــال الهيئــات التمثيليــة‪ ،‬إذ يغلــب عــى الجامعــات‬ ‫العربيــة واللبنانيــة طابــع أن إداراتهــا تُــدار مبنطــق أصحابهــا مــن رجــال السياســة واإلداريــن(‪ .)13‬وهــذا مــا يــؤدي إىل افتقــاد الجامعــات للدميقراطيــة‬ ‫الحقــة‪ ،‬فتســود الثقافــة السياســية القامئــة عــى البريوقراطيــة واملركزيــة الشــديدة(‪ .)14‬التــي تجعــل هــذه الجامعــات تعــاين اســتغالل الســلطة والتســلط‬ ‫الــذي مينــع هــذه املؤسســات مــن التطــور والتقــدم‪ ،‬ويجعلهــا تعــاين الضعــف والجمــود لــذا؛ ال بــد مــن مشــاركة األســاتذة الجامعيــن يف صنــع القـرارات‬ ‫يف مختلــف املوضوعــات املطروحــة بغيــة الوصــول إىل إنتاجيــة فعالــة؛ يف ظــل إدارات قياديــة قابلــة ألن توظــف الطاقــات العلميــة واملعرفيــة‪ ،‬وصــوالً‬ ‫إىل تحقيــق الحريــة األكادمييــة املســؤولة واملتســمة باألخــاق املهنيــة‪ .‬كــا أنــه ال بــد مــن تأمــن مــوارد للجامعــة قــد تقــف الحكومــات أحيانـاً عاجــزة‬ ‫عــن القيــام بهــا‪ ،‬وهــذا مــا يتطلــب مــن أهــل الجامعــات إقنــاع املمولــن واملســتثمرين بقــدرة الجامعــة عــى القيــام باملوازنــة؛ يف مــا بــن عقــود‬ ‫املشــاريع الخارجيــة‪ ،‬ومتطلبــات العمــل الجامعــي بقصــد الحفــاظ عــى كينونــة الجامعــة وهويتهــا‪ ،‬ويف هــذا املجــال‪ ،‬ال بــد مــن مشــاركة الهيئــات‬ ‫التعليميــة وممثليهــم بالسياســات العامــة للتمويــل واإلنفــاق‪ ،‬ومناقشــة موازنــة الجامعــة التــي تســاهم يف تع ّرفهــم عــى كلفــة العمليــة التعليميــة‪،‬‬ ‫ومــن ثــم الفعاليــة الداخليــة‪ ،‬كــا انــه ال بــد مــن اإلســتعانة باإلقتصاديــن املؤمتنــن بهــدف اســتخراج املــؤرشات املاليــة األساســية الشــفافة والصحيحــة‪،‬‬ ‫والتــي تســاعد عــى إبـراز إدارة طــرق اإلنفــاق‪ ،‬وتقدميهــا للحفــاظ عــى التعليــم ونوعيتــه‪ ،‬وتحســينه بعيــدا ً عــن الهــدر واملحســوبيات‪.‬‬ ‫وبالرجــوع إىل املســا َءلة التــي ال بــد مــن أن تبــدأ بأعضــاء الهيئــة التعليميــة‪ ،‬مــرورا ً بالقســم والعميــد‪ ،‬وصــوالً إىل الجامعــة والدولــة؛ مبعنــى أن‬ ‫مســا َءلة الدولــة أو الحكومــات للجامعــة تطــال جميــع جوانــب عملهــا‪ ،‬وتســتدعي تقليــدا ً يســتند إىل التقييــم القائــم عــى رفــع التقاريــر الدوريــة‬ ‫مــن األدىن إىل األعــى‪ ،‬بخاص ـ ٍة يف ظــل حكومــات يطغــى عليهــا املعايــر السياســية(‪ ،)15‬واملســا َءلة تتطلــب وضــع نظــام شــامل لتبــادل املعلومــات‪،‬‬ ‫ورفــع التقاريــر‪ ،‬وطــرح الحــوارات املنتجــة والفاعلــة حــول أعــال التقييــم الدوريــة التــي تســتلزم املصداقيــة والشــفافية ال املزاجيــة واإلستنســابية‪ ،‬ألن‬ ‫الهــدف يف النهايــة يكمــن يف إبـراز صــورة شــفافة وواضحــة عــن وضــع الجامعــة يُرفــع للســلطات العليــا يف الدولــة ملعالجــة الثغـرات‪ ،‬ومواكبــة العرصنــة‬ ‫والتقــدم‪ ،‬لكــن مــن املالحــظ بــأن الجامعــة ت ُلقــي هــذه املســؤولية عــى غريهــا بذريعــة التدخــل الســيايس يف شــؤونها‪ ،‬والالمبــاالة مــن القيمــن عليهــا‪.‬‬ ‫إضافــة إىل ذلــك‪ ،‬هنــاك عوامــل أخــرى تلعــب دورهــا يف تقهقــر اإلنســانيات وتراجعهــا كانعــدام السياســات التنمويــة الهادفــة‪ ،‬وطبيعــة املعايــر‬ ‫املســتخدمة للتنميــة املســتدامة الشــاملة‪ ،‬والتمويــل وضعفــه يف ظــل العوملــة والتكنولوجيــا وتحدياتهــا‪ ،‬والنظــرة تجاههــا عــى أنهــا تــرف فكــري ال‬ ‫أكــر‪ ،‬والتشــكيك بجدواهــا ومحصالتهــا التطبيقيــة‪ ،‬زد عــى ذلــك عوامــل أخــرى أســهمت وتســاهم يف هــذا التقهقــر والرتاجــع‪ ،‬وهــذه إشــارة ألن‬ ‫مندرجــات طبيعــة البحــث وضيــق املجــال متنعنــا مــن التوســع أكــر فيــه‪ ،‬وتســليط الضــوء عليهــا‪ ،‬واإلكتفــاء بطــرح التســاؤالت عنهــا وفيهــا وحولهــا؟‪.‬‬ ‫بعــد هــذا العــرض املوجــز لألســباب املوجبــة املحــددة لتقهقــر اإلنســانيات تطالعنــا اإلشــكالية اآلتيــة‪ :‬كيــف لنــا أن نعمــل عــى تعديــل إدارة‬ ‫األزمــات يف مفهــوم العلــوم اإلنســانية؟‬ ‫ثاني ـا ً‪ :‬كيفيــة إدارة األزمــات عــى مفهــوم العلــوم اإلنســانية؟‪ :‬وتتمثــل يف إحــداث تغيــر وتطويــر يف كافــة الجوانــب واملياديــن‪ ،‬مــن‬ ‫خــال تجــدد حركــة املجتمــع الفاعــل واملنتــج‪ ،‬وتنامــي احتياجاتــه مــن مجــرد رفــد ســوق العمــل بالعنــر البــري املؤهــل عــر التكويــن العلمــي‬ ‫واملنهاجــي للطالــب إىل املســاهمة يف تنميــة هــذا املجتمــع عــر تقــي املشــكالت التــي تعــرض مســرة التنميــة (البحــث العلمــي)‪ ،‬والعمــل الجــدي‬ ‫عــى إيجــاد حلــول ناجعــة لهــذه املشــكالت ســواء منهــا القامئــة أو الطارئــة (اإلستشــارات)‪ ،‬وتطويــر اإلمكانــات والقــدرات واملهــارات البرشيــة الالزمــة‬ ‫لوضــع هــذه الحلــول موضــع التطبيــق العمــي بكفــا َءة‪ ،‬وفعاليــة التدريــب‪.‬‬ ‫تعــاين اإلنســانيات مأزقـاً يف ظــل نظــرة متطرفــة تســتند لعمليــة إنــكار مــن قبــل َمــن ال يؤمنــون إال بالعلــم الدقيــق‪ ،‬فيعيبــون عليهــا افتقارهــا‬ ‫للتفســر املنطقــي الدقيــق‪ ،‬ويــرون فيهــا أنهــا ليســت علوم ـاً(‪ ،)16‬وبالتــايل نجــد أنفســنا يف مــأزق حيــث أنــه مل تعــد اإلشــكالية املطروحــة كيــف لنــا‬ ‫مواجهــة تقهقــر اإلنســانيات وتراجعهــا؟‪ .‬بــل يغــدو التســاؤل حــول هــل ميكــن أص ـاً قيــام علــوم إنســانية مرتافــق مــع تحديــات تقهقرهــا؟‪ .‬هــذه‬ ‫التســاؤالت تضعنــا يف موقــع التحــدي مــع مــن ينكــر إمكانيــة وجــود إنســانيات‪ ،‬وبالتــايل تجعلنــا نتصــدر تصحيــح رؤيتهــم عــن العلــم الــذي ال يقــوم‬ ‫برأيهــم إال يف صــورة العلــم الدقيــق‪ ،‬املتحــول إىل صــورة نســق ريــايض‪ ،‬يخلــو مــن أيــة ألفــاظ كيفيــة‪ ،‬وال يتحــدث إال بالرمــوز واألعــداد‪.‬‬



‫مبثابــة التنظــر العقــي العــام والشــامل‪ ،‬يف حــن أن إدارة األزمــة تفــرض املرونــة يف التعامــل مــع كل طــارئ ومســتجد‪ ،‬وعــى النمــط القيــادي أيضـاً أن‬ ‫يســعى إىل مشــاركة الجميــع وتنظيمهــم يف عمــل جامعــي‪ ،‬فاســحاً املجــال ملختلــف األفــكار واآلراء واإلنتقــادات التــي تســاهم يف إنجــاح العمــل‪ ،‬ســاعياً‬ ‫بذلــك إىل تعديــل اإلجـرا َءات يف حــال أثبتــت عــدم نجاحهــا‪ ،‬متالفيـاً الوقــوع يف األخطــاء‪ ،‬متســلحاً بــروح املبــادرة عنــد القيــام بتشــكيل الربامــج والفــرق‬ ‫البحثيــة‪ ،‬ملتزمـاً مبســارات التجــارب العمليــة‪ ،‬متخــذا ً مــن التفكــر اإلبداعــي منطلقـاً ونهجـاً‪ ،‬متجنبـاً تراكــم األخطــاء‪ ،‬وعامـاً عــى إيجــاد الحلــول التــي‬ ‫تتســم بالقابليــة واإلســتجابة للظــروف الطارئــة دون الفشــل‪ ،‬عــى أن تكــون مالمئــة للواقــع واإلمكانيــات املتوافــرة‪.‬‬ ‫‪_4‬اإلســتمرارية واملشــاركة‪ :‬عــى التخطيــط أن يتســم باإلســتمرارية ال أن يكــون عارضـاً‪ ،‬طارئـاً أو مؤقتـاً بحيــث يتطلــب األخــذ بــكل اآلراء الب ّنــا َءة‬ ‫ملختلــف الخـراء الذيــن سـ ُيناط بهــم تنفيــذ الخطــة مــن خــال اللقــا َءات واإلجتامعــات التــي ســيتم فيهــا دراســة األزمــة مبختلــف جوانبهــا وجزئياتهــا‪،‬‬ ‫وصــوالً إىل تشــجيع املنفذيــن لهــا لتطبيقهــا بجديــة وإخــاص وتفــانٍ ‪ ،‬مــع فتــح بــاب الدائــم إىل مناقشــتها العامــة‪.‬‬ ‫كــا أنــه ال بــد مــن اإلســتفادة مــن األخطــاء الســابقة‪ ،‬والتخطيــط لعــدم تكرارهــا‪ ،‬والعمــل عــى تجاوزهــا حيــث يتــم تفويــض العمــل واملشــاركة‬ ‫يف أداء قســم منــه إىل مــن يثــق بهــم‪ ،‬ويســتتبع ذلــك القيــام بعمليــة تقييــم بغيــة تطويــر وتحســن ألدائــه وأداء العاملــن معــه باســتمرار‪ ،‬كذلــك ال بــد‬ ‫مــن اإلتســام بــروح املبــادرة التــي تكســبهم القــدرة عــى بلــوغ الحقائــق والتثبــت منهــا‪ ،‬واإلســتمرار يف عملهــم‪ ،‬وعــدم الخــوف مــن التغيــر الفجــايئ‪،‬‬ ‫وصــوالً إىل التطلــع الدائــم نحــو األهــداف اإلسـراتيجية بأولوياتهــا وتراتبياتهــا ومحاولــة إبرازهــا لآلخريــن‪.‬‬ ‫تتطلــب العمليــة أيضــاً‪ ،‬التدريــب املكثــف املســتمر للعاملــن دون اســتثناء مــع مراعــاة التغيــرات األساســية للعاملــن ومواكبــة التشــجيع‬ ‫والتحفيــز املســتمرين لتقديــم اقرتاحــات؛ مبــا يســمح بزيــادة فــرص التنميــة الذاتيــة املســتمرة مــن خــال تفعيــل أدوات األداء اإلداري القائــم عــى‬ ‫الق ـرارات اإلداريــة‪ ،‬واإلتصــاالت واملعلومــات‪.‬‬ ‫‪ _5‬التوقيــت‪ :‬ت ُعتــر إدارة الوقــت مــن القضايــا املهمــة والفعالــة‪ ،‬التــي تســاهم يف التخطيــط الجيــد الــذي يتطلــب توقيتـاً مناســباً لبلــوغ الخطــة‬ ‫هدفهــا املنشــود يف املوعــد املحــدد‪.‬‬ ‫‪_6‬اإلحتــاالت‪ :‬وتبقــى اإلحتــاالت أيض ـاً‪ ،‬مــن العوامــل األساســية لنجــاح أيــة خطــة إذ إن اختيــار البدائــل وأقدرهــا يف أقــر وقــت ممكــن‬ ‫وأقــل تكلفــة ممكنــة(‪ .)20‬ويف عمليــة التخطيــط‪ ،‬ال بــد مــن مراعــاة منظومــة القيــم واملبــادئ اإلداريــة التــي تُكتســب بفعــل التطــور اإلنســاين‪ ،‬ورشوط‬ ‫فعاليــة النظــام الــكيل للتخطيــط‪.‬‬ ‫ولبلوغ الخطة نتائجها املرج ّوة‪ ،‬ال بد من الرتكيز عىل عنارص عدة‪:‬‬ ‫‪ _1‬النظــام البــري‪ :‬حيــث أن البــر يشــكلون املــورد األهــم للجامعــة بعامــة‪ ،‬وإلدارة أزمــة اإلنســانيات بشــكل خــاص‪ ،‬ويُعتــر النظــام البــري‬ ‫املتغــر األصيــل واملركــزي الــذي ينجــذب نحــوه النظامــن الفنــي والبيئــي لــذا؛ ال بــد مــن تداخــل وتكامــل العنــارص التــي تربــط اإلداريــن بالعاملــن‪،‬‬ ‫حيــث أنــه ينبغــي اختيــار العاملــن يف إدارة األزمــة باإلتفــاق بــن مديــر إدارة األزمــة ورؤســاء الوحــدات لــذا؛ عــى املديريــن أن يتســموا باإلبــداع يف‬ ‫أدائهــم‪ ،‬والســعة يف ترصفاتهــم‪ ،‬واملرونــة يف خططهــم(‪ .)21‬ولعــل الطريقــة الثنائيــة قــد تســاهم يف دقــة اختيــار العاملــن لهــذه املهمــة الجســيمة(‪.)22‬‬ ‫وبذلــك يتــم اختيــار العاملــن عــى أســس علميــة‪ ،‬ســليمة وموضوعيــة‪ ،‬مــع مــا ترتبــه تلــك العالقــة عــى الخطــة واألزمــة معـاً‪.‬‬ ‫يف هــذا النظــام البــري‪ ،‬ال بــد مــن توافــر خصائــص يف املنفذيــن والعاملــن يف الخطــة بغيــة التفاعــل يف مــا بينهــم‪ ،‬وللوصــول إىل تكاملهــا يجــب‬ ‫عــى إدارييهــا اإلتســام ‪ :‬باإللتـزام واإليفــاء بتعهداتهــم والتزاماتهــم ألنهــم القــدوة والقيــادة اإلداريــة والعليــا‪ ،‬وينبغــي أن يعملــوا عــى مشــاركة جميــع‬ ‫العاملــن لرســم معــامل الخطــة واسـراتيجياتها وتحفيزهــم ماديـاً ومعنويـاً‪ ،‬وتدريبهــم عــى أداء العمليــات التــي تحقــق النجــاح للخطــة‪ ،‬كــا أنــه ال بــد‬ ‫مــن إرشاكهــم يف اتخــاذ القـرارات اإلسـراتيجية‪.‬‬ ‫وعــى العاملــن الذيــن ســينفذون الخطــة أن يتصفــوا‪ :‬بالوعــي واإلنضبــاط‪ ،‬وبالرغبــة يف أداء العمــل عــى وجهــه األكمــل‪ ،‬مــع مراعــاة الرقابــة‬ ‫الذاتيــة قبــل الخارجيــة عــى أدائهــم‪ ،‬وتقييمهــم املســتمر‪ ،‬وإبـراز التعــاون واإلملــام بالتفاصيــل وصــوالً إىل التغلــب عــى املخــاوف التــي ســتواجههم يف‬ ‫تنفيــذ خطتهــم‪ ،‬كذلــك متكنهــم مــن إعــادة ترتيــب وتصميــم وتحديــد مواصفــات العمــل واألداء‪ ،‬وتوثيــق حركــة العمــل‪ ،‬ورفدهــا بنظــام املعلومــات‬ ‫الكفــوء الــذي يضبــط البيانــات التصوريــة والتوثيقيــة‪ ،‬وجمعهــا وتحويلهــا إىل مســتندات تســاعد املديريــن عــى اتخــاذ القـرارات الصائبــة مبــا يضمــن‬ ‫صالحياتهــا واختيارهــا‪ ،‬كــا أنــه ال بــد مــن الرتكيــز عــى التنميــط والربمجــة‪ ،‬وعــى اإلج ـراءات الوقائيــة والتصحيحيــة‪ ،‬وتطويــر العمليــات وتحديــد‬ ‫املســؤوليات لصنــع مبــاين تأسيســية محــددة واســترشافية‪.‬‬ ‫‪ :_2‬خلــق البيئــة املناســبة‪ :‬مبعنــى وجــود بيئــة حاضنــة لهــذه الخطــة تتشــكل مــن الفالســفة ومــا أقلهــم يف أيامنــا هــذه! وتتمثــل برســم عالقــات‬ ‫مــع البيئــة الكليــة والخارجيــة‪ ،‬مــع املؤسســات الفكريــة والحكومــات املتعاونــة‪ ،‬والجمهــور املتكامــل مــن العاملــن فيهــا وخارجهــا‪ ،‬ومــع العــامل أجمــع‪.‬‬ ‫ولتحقيــق هــذه البيئــة ال بــد مــن إدخــال تكنولوجيــا املعلومــات واإلتصــاالت واإللكرتونيــات يف عمــل الجامعــة إلطــاع الــكل عــى املســتجدات‬ ‫الحاصلــة بغيــة تأمــن فــرص الحــوار واملناقشــة فيهــا‪ :‬مــن تخطيــط وتنظيــم‪ ،‬توجيــه ومتابعــة‪ ،‬تحســن مســتمر‪ ،‬إضافــة إىل إدارة للتفتيــش والفحــص‬ ‫واملطابقــة للمعايــر‪ ،‬ونظــام للمتابعــة والتنظيــم‪ ،‬واملراقبــة واإلحصائيــات‪ ،‬حيــث أن توفــر املنــاخ اإلداري والتصــوري الســليم ســيقود حتـاً إىل التغيــر‬


‫من هنا‪ ،‬يتوجب علينا التساؤل يف ما هي الخطوات العمالنية إلدارة األزمات عىل مفهوم العلوم اإلنسانية؟‪:‬‬ ‫أ_ إدارة األزمــات‪ :‬تكمــن خطــورة األزمــات يف كونهــا تشــكل تهديــدا ً مبــارشا ً‪ ،‬وخطـرا ً جســيامً هــذا مــن جهــة‪ ،‬يف حــن أنهــا مــن جهــة ثانيــة‪،‬‬ ‫تحمــل فرصـاً إلعــادة اكتشــاف مكامــن الضعــف ومحاولــة إطــاق القــدرات اإلبداعيــة واإلبتكاريــة لحــل املشــكالت التــي تطــرأ‪ ،‬فتبــدو والحــال هــذه‬ ‫كأنهــا مســار أو ســاح ذو حديــن‪ ،‬قاتلــة بســلبياتها‪ ،‬ومنتجــة باســتثامر إيجابياتهــا‪ ،‬إذ تشــكل نقطــة تحــول قــد تكــون نحــو األســوأ أو األفضــل‪ .‬وبالتــايل‪،‬‬ ‫هــي تبعــث عــى إعــال الفكــر‪ ،‬والتبــر‪ ،‬والتمعــن‪ ،‬وتقييــم الــذات ملواجهــة التحديــات الطارئــة‪ ،‬والحــد مــن آثارهــا وخطورتهــا‪ .‬وهــي ال تنحــر يف‬ ‫سياســات الــدول فحســب‪ ،‬بــل تشــمل جميــع أوجــه الحيــاة العامــة والخاصــة‪ ،‬وقــد تصــل أحيانــا حـ ّد التــأزم الــذي يتطلــب قـرارات قــد تــأيت مبواقــف‬ ‫ســلبية أو إيجابيــة عــى الكيانــات اإلنســانية‪ .‬وهــذا مــا يحصــل عــى صعيــد اإلنســانيات التــي تعــاين أزمــة حقيقيــة‪ ،‬تتطلــب ح ـاً‪ ،‬لهــذا ال بــد مــن‬ ‫العمــل عــى وضــع خطــة علميــة شــاملة ومدروســة‪ ،‬متكاملــة املناحــي ومحيطــة‪ ،‬تحــدد اإلمكانيــات الرضوريــة لتنفيذهــا مــن خــال تدريــب األفـراد‬ ‫واملجموعــات للقيــام بأدوارهــم يف مواجهــة أزمــة تقهقــر اإلنســانيات‪ ،‬حيــث أن التطــور الحاصــل يف العلــوم وأســاليب التخطيــط تســاعدنا عــى التقليــل‬ ‫مــن هــذه األزمــة بتلطيفهــا واإلســتعداد ملواجهتهــا(‪ .)17‬وتتطلــب هــذه املرحلــة تحليــل العنــارص املشـكِّلة لألزمــة‪ ،‬وتقديــر اإلمكانيــات املتوفــرة‪ ،‬وبالتايل‬ ‫تحديــد اإلجـرا َءات مــن خــال اإلســتفادة مــن التجــارب بغيــة تحقيــق أعــى درجــات الحيطــة والحــذر‪ ،‬وتجنــب الوقــوع يف مشــاكل أكــر‪ .‬وللوصــول إىل‬ ‫النتائــج املرجــوة ال بــد لنــا مــن خطــة عمالنيــة تتمثــل يف عمليــة إدارة ســليمة‪ ،‬إذ إن فشــل معالجــة األزمــة قــد يتجــى يف عــدم األخــذ بعنــارص العمليــة‬ ‫اإلداريــة الســليمة القامئــة عــى التخطيــط‪ ،‬التنظيــم‪ ،‬التنســيق‪ ،‬واتخــاذ القـرار ومــن ثــم خلــق البدائــل‪ ،‬يف حــال مل تنجــح الخطــة‪.‬‬ ‫ب_ التخطيــط‪ :‬تكمــن أهميــة التخطيــط يف كــون فشــله ســيقود حتـاً إىل تخطيــط للفشــل لــذا‪ ،‬مل يكــن عبثيـاً أن تعمــد بعــض الــدول إىل إنشــاء‬ ‫وزارات متخصصــة للقيــام مبهمــة التخطيــط‪ ،‬وهــذا مــا حــدا ببعــض املفكريــن إىل التعريــف بــه عــى أنــه ‪ »:‬التخطيــط عمــل ذهنــي‪ ،‬موضوعــه الرتتيبــات التــي‬ ‫يفكــر فيهــا املــرء يف حــارضه لــي يواجــه بهــا ظــروف مســتقبله يف ســبيل هــدف ينبغــي الوصــول إليــه‪ .‬فهــو بهــذه الصفــة عمــل تحكمــي يرمــي إىل تطويــع املســتقبل املجهــول إلرادة اإلنســان‬ ‫مــا اســتطاع إىل ذلــك ســبيال‪ ،‬مقل ـاً بذلــك مــن أثــر عوامــل الصدفــة والحــظ يف محاولــة لتشــكيل الحيــاة بالصــور التــي توافــق آمالــه وتطلعاتــه ومبــا يجعــل األمــور تســر وفق ـاً ملــا يبتغيــه‬ ‫ويرتضيــه‪ ...‬فيقــود الحــوادث بنفســه وال تقــوده املصادفــات إليهــا‪ .)18(».‬يتطلــب التخطيــط مبــادىء ال بــد مــن مراعاتهــا‪ ،‬واإللتـزام بهــا عنــد إعــداد الخطــة‪ ،‬بهــدف‬

‫تحقيــق نجاحهــا‪ ،‬وأوىل هــذه الخطــوات تتمثــل يف‪:‬‬

‫‪ _1‬مبــدأ العلميــة ‪ :‬لعــل التصــدي األول ألزمــة تقهقــر اإلنســانيات يتمثــل يف محاولــة تفعيــل عمــل الجامعــات للقيــام بأدوارهــا؛ مــن خــال‬ ‫املســاهمة املنتجــة والفاعلــة يف البحــث العلمــي القائــم‪ ،‬ال عــى رفــد ســوق العمــل باألف ـراد املؤهلــن علمي ـاً ومنهجي ـاً فحســب‪ ،‬بــل يف تأهيلهــم‬ ‫ـي املشــكالت‪ ،‬التــي تعــرض مســرة التقــدم والتطــور وبالتــايل‪ ،‬الســعي إليجــاد‬ ‫باإلمكانيــات التــي تخولهــم القــدرة عــى تنميــة املجتمــع مــن خــال تقـ ّ‬ ‫الحلــول لهــذه املشــكالت أكانــت طارئــة أم قامئــة‪ ،‬والعمــل عــى تطويــر الخـرات‪ .‬لــذا ال بــد مــن إيجــاد املهــارات واإلمكانــات والقــدرات والكفــاءات‬ ‫الالزمــة‪ ،‬لتصبــح هــذه الحلــول مطبقــة عمليـاً وبكفــاءة التدريــب وفعاليتــه‪.‬‬ ‫يفــرض املنطــق العلمــي إحــداث تغيــر أســايس يف أهــداف الجامعــة ومنطلقاتهــا وسياســتها اإلسـراتيجية العامــة واإلجرائيــة‪ ،‬وحتــى يف برامجهــا‬ ‫ومهامهــا‪ ،‬ويف إجرا َءاتهــا وطــرق عملهــا‪ ،‬ويف موازنتهــا‪ ،‬مبــا يكفــل التكيّــف واملوا َءمــة‪ ،‬التطويــع والنظــر إىل املســتقبل‪ ،‬كــا أنــه ال بــد مــن التنبــؤ‬ ‫باملتغ ـرات املحتملــة‪ ،‬والتقلبــات الطارئــة‪ ،‬مــن خــال توفــر املنــاخ املالئــم واإلســتجابة الدامئــة‪ ،‬والتلقائيــة الالزمــة للتغيــر‪ ،‬كذلــك التشــجيع عــى‬ ‫اإلبتــكار واإلبــداع يف إحــداث التغيــر ومواجهــة‪ ،‬ومعالجــة آثــاره الســلبية‪.‬‬ ‫وال بــد مــن أن يلحــظ التغيــر‪ :‬البنــى والهيــاكل والعالقــات الوظيفيــة والتنظيميــة‪ ،‬إضافــة إىل الوســائل والغايــات‪ ،‬والعمــل عــى الخــروج بهــا‬ ‫مــن األطــر واألمنــاط البريوقراطيــة إىل أطــر أكــر انفتاحـاً وتطــورا ً‪ ،‬وغــر محــدودة األفــق‪ .‬كــا أنــه ال بــد مــن توافــر التنســيق املتكامــل ملختلــف مفاصل‬ ‫العمــل واألداء مــن خــال تفويــض ونقــل الصالحيــات والســلطة‪.‬‬ ‫ويتطلــب التغيــر أيض ـاً‪ ،‬التوجيــه‪ :‬حيــث أنــه ينبغــي التغيــر يف النمــط القيــادي الــذي يتــوىل رأس الهــرم يف كل مؤسســة تعليميــة جامعيــة‬ ‫لــذا؛ ال بــد مــن أن يتصــف بقدرتــه عــى الكشــف مبــا يــدور حولــه مــن تغـرات‪ ،‬محــاوالً وضــع التصــورات والخطــط البعيــدة املــدى ألفــكار تطويريــة‬ ‫جديــدة‪ ،‬ومراجعــة مقتضياتهــا مــع كل طــارئ ومســتجد‪.‬‬ ‫كــا أنــه ال بــد مــن أن يبحــث عــن مصــادر جديــدة‪ ،‬تخولــه اإلنفتــاح عــى مختلــف الخـرات التــي تتيــح لــه اإلتيــان بأفــكار تنويريــة‪ ،‬تنمويــة‬ ‫مســتجدة‪ ،‬معتمــدا ً يف ذلــك عــى مــدى فهمــه واســتيعابه للمشــكلة وتحديدهــا‪ ،‬واتخــاذ القـرارات بشــأنها مــن خــال تقييــم املواقــف املت َخـذَة منهــا‪،‬‬ ‫باإلســتناد إىل تجاربــه وخرباتــه‪.‬‬ ‫‪ -2‬مبــدأي املركزيــة واإللزاميــة‪ :‬حيــث أن مركزيــة التخطيــط قــد تنحــو نحــو المركزيــة التنفيــذ‪ ،‬وبالتــايل ينبغــي عــى كل العاملــن يف إدارة‬ ‫عمليــات األزمــة اإللت ـزام الكامــل بتنفيــذ الخطــة بحذافريهــا‪.‬‬ ‫‪ -3‬املرونــة والواقعيــة‪ :‬ينبغــي عــى النمــط القيــادي اإلهتــام باملعلومــات‪ ،‬ومــن ثــم اعتــاد املرونــة يف اختيــار األفــكار‪ ،‬والتيقــظ للفــرص املالمئــة‬ ‫لإلبتــكار‪ ،‬موقنـا ً بالفروقــات يف مــا بــن التخطيــط وإدارة األزمــة حيــث ‪ »:‬أن هنــاك فرقـاً بــن التخطيــط وإدارة األزمــة متامـاً كالفــرق بــن اإلسـراتيجية والتكتيــك يف املجــال‬ ‫العســكري‪ .‬فالخطــة عامــة‪ ..‬أمــا مواجهــة األزمــات إداريـاً تحتــاج إىل مرونــة وتفاعــل مــع األحــداث املســتجدة‪ ،‬ومحاولــة وضــع الحلــول مبــا يتوافــق بشــكل عــام واإلسـراتيجية(‪ .)19‬التخطيــط‬


‫الربمجــة والتنســيق والتوجيــه اإلجـرايئ‪ ،‬والتعدديــة يف مســتويات العمــل تكمــن يف النســق القيــادي‪ ،‬أو البريوقراطــي‪ ،‬أو التكنوقراطــي‪ ،‬عــى أنــه يبقــى‬ ‫للتشــارك دوره يف وضــع األهــداف‪ ،‬والتخطيــط والتنفيــذ‪ ،‬وصــوالً إىل اإلبتــكار واإلبــداع واتخــاذ الق ـرارات‪ ،‬وتعديــل الخطــط‪ ،‬وســمو فعاليــة العلــوم‬ ‫اإلنســانية‪.‬‬ ‫‪_4‬املعايــر اإلجتامعيــة والعمرانيــة والفنيــة وغريهــا‪ :‬والتــي ت ُعتــر مبــاين مؤسســة معرفيــة ومســاعدة تتكامــل مــع مــا ورد ذكــره‪ ،‬وتؤمــن‬ ‫بطروحــات املنفذيــن الفاعلــن للخطــة‪ ،‬لكــن ضيــق الوقــت وحجــم البحــث مينعنــا مــن رشحهــا والتفصيــل فيهــا‪.‬‬ ‫د_ التنســيق‪ :‬يشــكل التنســيق املفتــاح أو البــاب لتطويــق أي أزمــة‪ ،‬حيــث أن التعليــات واألوامــر التــي تنظــم العمــل‪ ،‬وتحــدد أولوياتــه‪،‬‬ ‫وحــدوده‪ ،‬ومســؤولية كل فــرد عــن أعاملــه‪ ،‬واســتعامل عمليــات الضبــط يف األداء‪ ،‬والتوقيــت لــكل مرحلــة مــن املراحــل لــذا؛ يُنظــر إليــه عــى أنــه‬ ‫األســاس الجوهــري يف إدارة األزمــة‪ ،‬وتكمــن أهميتــه يف تحديــد املهــام‪ ،‬وإزالــة اللبــس والغمــوض‪ ،‬وتنســيق املعلومــات‪ ،‬ورسعــة األداء‪ ،‬وتقليــل اللغــط‬ ‫والغلــط‪ ،‬وتخفيــف الخســائر‪ ،‬وضــان توحيــد الجهــود ملتابعــة إنهــاء األزمــة‪ ،‬واملتابعــة الدقيقــة ملجرياتهــا‪ ،‬وجمــع كافــة املعلومــات‪ ،‬وتصنيفهــا‪،‬‬ ‫وتحليلهــا‪ ،‬وتحديــد أســلوبها األمثــل‪ ،‬وتنســيق الكيفيــة يف أســلوبها‪ ،‬وطلبهــا‪ ،‬وتداولهــا‪ ،‬والعنــارص املكونــة‪ ،‬وتنســيق التعــاون بــن عنــارص التخطيــط‬ ‫والتحليــل والجمــع مبــا يتــا َءم وترتيــب أهدافهــا‪ ،‬وضــان جــودة فاعليتهــا اإلحصائيــة‪.‬‬ ‫وعمليــة التنســيق تضــع يف ســلم أولوياتهــا ضــان توحيــد الجهــود للتعامــل مــع األزمــة مبــا يكفــل التقليــل مــن مخاطرهــا‪ ،‬وتقييمهــا‪ ،‬وتعديلهــا‬ ‫مبــا يتســق واملوقــف الطــارئ واملســتجد‪.‬‬ ‫يُشــكل التنســيق اللبنــة األوىل يف إدارة األزمــات إذ يحــدد املســتويات‪ ،‬وحــدود املســؤوليات يف كيفيــة التعامــل مــع األزمــات‪ ،‬وهــو قــد يكــون بــن‬ ‫الجامعــة واملؤسســات األخــرى‪ ،‬وقــد يحصــل ضمــن الجامعــة ويف أثنــاء مراحــل معالجــة األزمــة‪ ،‬حيــث يكمــن الهــدف فيــه يف مرحلــة ميــاد األزمــة إىل‬ ‫إزالــة الغمــوض والتعــرف عــن كســب عــى شــواهدها‪ ،‬يف حــن أنــه يف مرحلــة األزمــة الفعليــة يهــدف إىل تنســيق الجهــد يف جمــع املعلومــات‪ ،‬وتصميم‬ ‫العمــل‪ ،‬أمــا يف مرحلــة نضــج األزمــة فتتمثــل أهميتــه يف عــدم تضــارب اإلختصاصــات‪ ،‬وتشــجيع املتعاملــن مــع األزمــة عــى بلــوغ األهــداف املنشــودة‪.‬‬ ‫تتطلــب عمليــة التنســيق تضافــر جميــع العاملــن املنفذيــن واملتعاونــن داخــل الجامعــة وخارجهــا‪ ،‬وهــو مطلــوب يف مرحلــة التخطيــط لضــان‬ ‫نجــاح خطــة العمــل‪ ،‬واتخــاذ القـرارات الســليمة إلدارة األزمــة مــن خــال اســتثامر جمــع املعلومــات‪ ،‬وتصنيفهــا‪ ،‬وتحليلهــا‪ ،‬وتحديــد األســلوب األمثــل‬ ‫لهــا‪ ،‬ومــن ثــم العمــل عــى تنســيقها وطلبهــا‪ ،‬وتــداول املســؤوليات والعنــارص املك ِّونــة للمركــز فيهــا‪ ،‬حيــث أن «مفهــوم الــذات»(‪ .)24‬يشــكل العامــل‬ ‫الرئيــي يف التوجــه اإلسـراتيجي إلدارة األزمــات‪ ،‬وبالتــايل تنســيق أســلوب التعــاون بــن التخطيــط والتحليــل‪.‬‬ ‫ولضــان جــودة العمــل‪ ،‬ال بــد مــن ضــان توحيــد الجهــود اإلنســانية‪ ،‬ويف كافــة األجهــزة يف أثنــاء إدارة األزمــة ســواء داخــل الجامعــة أو‬ ‫خارجهــا‪ ،‬مبــا يضمــن حضــور املعلومــات واألنشــطة الخاصــة‪ ،‬واملتابعــة الدقيقــة واملوقوتــة لضــان خطــوات تنفيــذ خطــة العمــل يف مواجهــة األزمــة‬ ‫ســواء يف الجامعــة أو خارجهــا مبرونــة‪ ،‬مــع جهوزيــة اإلســتعداد لتنســيق تدفــق الجهــود اإلضافيــة ملنــع تضــارب اإلختصاصــات يف أثنــاء إدارة األزمــة‪.‬‬ ‫كــا أنــه ال يخفــى عــى أحــد‪ ،‬أنــه حتــى بعــد اإلنتهــاء مــن األزمــة‪ ،‬ال بــد مــن تنســيق تــداول املعلومــات الجديــدة مبــا يضمــن عمليــات التقويــم‬ ‫وتعديلهــا‪ ،‬ومبــا يتناســب والواقــع املســتجد لتفــادي نتائــج اســتيالد أزمــات جديدة‪.‬‬ ‫ويبقــى اتخــاذ القـرار هــو الدليــل الســاطع عــى اإلدارة الناجحــة والســليمة‪ ،‬الســيام وأن عمليــة اتخــاذ القـرارات تُعتــر مــن أصعــب األمــور التــي‬ ‫تواجــه املنفذيــن‪ ،‬وبخاصــة يف زمــن تحــول األزمــات وتنميطهــا‪ ،‬حيــث التدخــات والضغــوط الداخليــة والخارجيــة‪ ،‬والوقــت‪ ،‬وعــدم وضــوح الرؤيــة‪،‬‬ ‫بخاصــة وأن يف القـرار نظــام ابتــداع البدائــل‪ ،‬واإلختيــار قــد يقــع بــن بديلــن أو أكــر‪ ،‬وهــذا اإلختيــار الــذي قــد ينتــج عنــه آثــار إيجابيــة أو ســلبية‬ ‫قــد تفــوق املشــكلة األساســية موضــوع القـرار لــذا؛ ال بــد مــن إيجــاد خيــارات مقبولــة لحــل األزمــة مبســؤولية الوعــي فيهــا وبهــا‪ ،‬حيــث أن الســبب‬ ‫الرئيــي يف املشــاكل يكمــن يف ابتــكار أدوات حلولهــا‪ ،‬وهــذا مــا يتطلــب أيض ـاً إيجــاد البدائــل الســليمة وتقييمهــا‪ ،‬ويتمثــل ذلــك يف إرشاك كافــة‬ ‫القطاعــات واملؤسســات املعنيــة للتشــاور يف حــل املشــكلة وتســويتها‪ ،‬ورضورة مشــاركة املرؤوســن هــذا مــا أكــد عليــه علــم النفــس وبخاصــة الســلوكية‬ ‫ملــا لهــم مــن أهميــة يف حــل املشــاكل ويف اتخــاذ القـرارات(‪ .)25‬وإليجــاد البدائــل يف حــل األزمــة ال بــد مــن البحــث عــن التفكــر اإلبتــكاري القــادر عــى‬ ‫الخلــق واإلبــداع والتســويق‪ .‬حيــث أنــه مــن املعيــب أن نحــل املشــكلة بنفــس منهجيــة التفكــر التــي قادتنــا إليهــا‪ ،‬والتــي قــد نكــون ســبباً يف نتائجهــا‪.‬‬ ‫الخامتــة‪ :‬تتطلــب إدارة األزمــة موقف ـاً وتضامن ـاً مشــركاً مــن أهــل اإلنســانيات جميعـاً ألن التحديــات واحــدة‪ ،‬حيــث أن البعــض منهــم مل‬ ‫يستشــعر حجــم املخاطــر الناتجــة عــن هــذه القضيــة لهــذا‪ ،‬ال بــد مــن التــآزر يف تفس ـراتهم‪ ،‬واتفاقهــم عــى الحديــث بلغــة مرشكــة‪ ،‬هــذا مــا أكــد‬ ‫عليــه كارل بوبــر‪ Karl Popper‬بالقــول ‪ »:‬بعــض علــاء العلــوم اإلنســانية غــر قادريــن‪ ،‬بــل ال يرحبــون بالحديــث بلغــة مشــركة‪ .)26(».‬نستشــف مــن هــذا القــول أنــه‬ ‫عــى اإلنســانيات أن ترفــع يدهــا عــن النزعــات الكليــة‪ ،‬والتنبــؤات التاريخيــة الواســعة النطــاق‪ ،‬وأن تســعى لإلحاطــة باملشــاكل املطروحــة فعـاً‪ ،‬وأن‬ ‫تتصــدى لــكل واحــدة منهــا عــى حــدى بواســطة املنهــج النقــدي‪ :‬اإلختبــاري والتكوينــي‪ ،‬وبهــذه النظــرة تصبــح وظيفــة اإلنســانيات دراســة النتائــج‬ ‫غــر املقصــودة‪ ،‬بــل وغــر املرغوبــة للســلوك‪ ،‬بــدالً مــن التنبــؤ مبــا ســيجيء حت ـاً‪ ،‬وهــذه الوظيفــة قــد تخولهــا وضــع التنبــؤات املرشوطــة القابلــة‬ ‫للتكذيــب‪ ،‬بــدالً مــن التنبــؤات الواســعة النطــاق التــي قــد تكــون غــر قابلــة لــه‪.‬‬


‫املنتــج والفعــال يف إدارة األزمــات عــى مفهــوم العلــوم اإلنســانية‪.‬‬ ‫ال بــد مــن الرتكيــز عــى رضورة التعــاون والتضامــن‪ ،‬التوافــق واإللتحــام يف مــا بــن الجامعــة‪ ،‬واملؤسســات ذات الصلــة والعالقــة باملفاهيــم‬ ‫اإلنســانية‪ ،‬أكانــت يف إطــار البيئــة املحليــة‪ ،‬اإلقليميــة أو العامليــة الدوليــة‪ ،‬بحيــث تخــرج الجامعــة مــن جزيرتهــا املغلقــة واملعزولــة إىل عــامل اإلنفتــاح‬ ‫واملشــاركة مــع اآلخــر‪ ،‬املؤمنــة بالحداثــة والتنويــر‪ ،‬والقــادرة عــى مواكبــة العرصنــة مــع متســكها بأصالتهــا‪ ،‬فتغــدو بذلــك منوذجـاً لإلنفتــاح والتغيــر‬ ‫مــن خــال عمليــات إدارة الضبــط والتحكــم التــي تنتهجهــا‪ ،‬وعمليــات التأمــل والبحــث والتطــور التــي تســعى لتنفيذهــا‪.‬‬ ‫ج_ التنظيــم ‪ :‬يُنظــر إىل التنظيــم عــى أنــه أحــد أهــم عنــارص العمليــة املؤسســة للفكــر اإلنســاين‪ ،‬إذ فيــه تتمثــل املعايــر السياســية والقانونيــة‪،‬‬ ‫اإلداريــة واإلقتصاديــة‪ ،‬اإلجتامعيــة والعمرانيــة‪ ،‬لهــذا فالتنظيــم الجيــد هــو املفتــاح الحقيقــي لنجــاح أي جامعــة‪ ،‬أو مؤسســة‪ ،‬أو فكــرة يف تحقيــق‬ ‫أهدافهــا‪ ،‬وإدارة أزمــة اإلنســانيات أحــوج مــا تكــون إىل تنظيــم محكــم‪ ،‬واضــح وب ّنــاء‪ ،‬يعمــل عــى تيســر تنفيــذ املهــام بشــكل منتــج مــرن وف ّعــال‪.‬‬ ‫وللتنظيــم مبــادئ ال بــد مــن مراعاتهــا‪:‬‬ ‫‪ _1‬وحــدة اآلمــر وتنويــع الهــدف والتفريــع يف التخصــص‪ :‬واختصــار خــط الســلطة بقصــد العمــل دون حواجــز ومع ّوقــات‪ ،‬إضافــة إىل مبــدأ‬ ‫اإلرشاف الوظيفــي‪ ،‬وتفويــض الســلطة اللذيــن يســهالن عمــل إدارة األزمــة‪ ،‬ويبقــى للتنســيق أيض ـاً دوره الرائــد والفعــال يف كونــه يرجــع إىل مركــز‬ ‫رئيــي واحــد‪ ،‬عــى أن يتــم التنظيــم فيــه بتوزيــع النشــاطات عــى فئــة املســتفيدين املتعاونــن‪ ،‬كذلــك ال بــد مــن تقســيم العمــل عــى أســاس‬ ‫التخصــص املعــريف التكامــي‪ ،‬حيــث أن كل وظيفــة متثلهــا وحــدة مســتقلة يف البنــاء التنظيمــي كالتخطيــط‪ ،‬التمويــل وغريهــا‪ .‬ولعــل إدارة األزمــات يف‬ ‫اإلنســانيات تحتــاج إىل نــوع مميــز مــن التنظيــم القابــل دومـاً للتعديــل‪ ،‬حيــث أن األشــكال التقليديــة املعروفــة مل تعــد قــادرة عــى اإليفــاء بالغــرض‬ ‫لــذا؛ هــي تحتــاج إىل حريــة أوســع يف التغلغــل مبختلــف اإلختصاصــات واملســتويات اإلداريــة‪ ،‬لهــذا تجــد البعــض مييلــون إىل التنظيــم الشــبيك الــذي‬ ‫يتطلــب عاملــن هــا‪ :‬التكنولوجيــا العاليــة‪ ،‬والتنســيق بــن التخصصــات التــي تجعلهــا بتوجــه موحــد متنــوع‪.‬‬ ‫تســتلزم إدارة أزمــة اإلنســانيات أوالً وقبــل كل يشء‪ ،‬معلومــات وافيــة ومحيطــة‪ ،‬وتصــورات مبتكــرة‪ ،‬حيــث أن الخ ـرات املعرفيــة هــي التــي‬ ‫تجعــل الجامعــة عــى درايــة بــإدارة األزمــة مــن خــال الفريــق العامــل فيهــا‪ ،‬كــا أنهــا تخولهــا قــدرة التغلــب عــى أوهــام عــدم احتــال التعــرض(‪،)23‬‬ ‫وخ ـرات احرتافيــة إداريــة‪ ،‬فنيــة ومهنيــة وتخصصيــة عاليــة‪ ،‬األمــر الــذي يجعــل إدارة أزمــات اإلنســانيات تنبنــي وتتأســس عــى العمــل الجامعــي‬ ‫املســؤول الغنــي باملبــادرات الفرديــة والجامعيــة القيمــة‪ ،‬مــع مــا يرتتــب عــى ذلــك مــن تداخــل نشــاطات ألجهــزة متعــددة ومتنوعــة‪ ،‬وتراكــم أفــكار‬ ‫مبعــرة غــر مؤطــرة‪.‬‬ ‫ينبغــي عــى النســق التنظيمــي إلدارة أزمــات اإلنســانيات أن يتأســس عــى منظومــة تتــازج فيهــا نشــاطات كل الكيانــات ذات العالقــة وتتفاعــل‬ ‫لتنتــج التغيــر نحــو األفضــل‪ ،‬إن يف التخطيــط أو التنفيــذ‪ ،‬مــع مــا يتطلــب ذلــك مــن مرونــة وقــدرة عــى التكيــف‪ ،‬وتفاعــل مــع األحــداث‪ ،‬مبــا يتســق‬ ‫والظــروف الطارئــة واملســتجدة‪ ،‬ورسعــة يف األداء‪ ،‬وتغيــر الخطــط‪ ،‬وســهولة يف تبــادل املعلومــات واإلتصــال واملناقشــة‪ ،‬واإلبتعــاد عــن التعصــب املهنــي‬ ‫الضيــق‪ ،‬إىل تصــور كيل شــامل‪ ،‬وقــدرات أكــر عمقـاً واتســاعاً بالفهــم املتبــادل للخـرات اإلنســانية‪ ،‬والتفاعــل التخصــي مــع كل املؤسســات‪ ،‬وإتخــاذ‬ ‫القـرارات‪ ،‬وإنجــاز األهــداف بأقــر وقــت‪ ،‬وأقــل خســائرممكنة‪ ،‬وأكــر كفــاءة ممكــن تحقيقهــا‪ ،‬واإلســتغالل الجيــد للطاقــات واألفــكار‪ ،‬والتخصصــات‬ ‫واألهــداف‪ ،‬واملــوارد واإلمكانــات املتاحــة‪ ،‬والوعــي املعــريف الثقــايف واإلجتامعــي واإلقتصــادي بغيــة الفهــم العميــق للغــة إدارة هــذه األزمــة‪ .‬مســتفيدين‬ ‫يف ذلــك مــن النســق التقليــدي املؤســس عــى البنيــة الوظيفيــة التــي تشــكلت مــن تجزئــة اإلختصاصــات واملســؤوليات‪ ،‬واتســمت بالبــطء يف اإلتصاالت‪،‬‬ ‫فينعكــس بذلــك ســلباً عــى إدارة األزمــة ويصبــح نقيضـاً لهــا‪.‬‬ ‫تتطلــب عمليــة إدارة أزمــة اإلنســانيات رضورة اإلعتــاد عــى معايــر تنظيميــة جوهريــة يرتكــز عليهــا البنيــان التنظيمــي املالئــم‪ ،‬وهــذه املعايــر‬ ‫التنظيميــة تتمثل يف‪:‬‬ ‫‪_2‬املعايــر السياســية والقانونيــة‪ :‬وتقــوم هــذه املعايــر عــى مبــادئ‪ ،‬لعــل مــن أبرزهــا‪ :‬مبــدأ اإلنتــاء للوطــن‪ ،‬والــوالء للدولــة‪ ،‬والوحــدة‬ ‫الوطنيــة‪ ،‬والفصــل بــن الســلطات‪ ،‬ووحدانيــة املرجعيــة‪ ،‬والتــوازن بــن الســلطة واملســؤولية‪ ،‬وشــمولية الخدمــة العامــة‪ ،‬واإلنتشــار الجغـرايف‪ ،‬وتســهيل‬ ‫املعامــات‪ ،‬واحــرام الدســتور‪ ،‬واإلنســجام الترشيعــي ووحدتــه‪ ،‬واملســاواة بــن املواطنــن يف الحقــوق والواجبــات‪ ،‬وســمو الدســتور يف التسلســل‬ ‫بالترشيعــات مــن الدســتور‪ ،‬إىل القانــون‪ ،‬فاملرســوم اإلشــراعي‪ ،‬فاملرســوم الجمهــوري‪ ،‬فالــوزاري‪ ،‬وهكــذا دواليــك‪ .‬إضافــة إىل احــرام الكفــاءة يف‬ ‫اإلختــاف بــاآلراء واألفــكار‪.‬‬ ‫‪ _3‬املعايــر اإلقتصاديــة واإلداريــة‪ :‬وتتمثــل يف مبــدأ اعتــاد الوفــر اإلقتصــادي مــن خــال تخفيــف الروتــن اإلداري يف التواصــل بــن الضواحــي‬ ‫واملراكــز‪ ،‬وتأمــن التنميــة املحليــة املتمثلــة بالصالحيــات اإلقتصاديــة للســلطات املحليــة‪ ،‬املرونــة يف التخطيــط والتنفيــذ مبشــاركة كل الهيئــات املركزيــة‬ ‫والالمركزيــة‪ ،‬إيجــاد املرجعيــة العليــا للتنميــة اإلقتصاديــة‪ ،‬الفصــل يف مــا بــن األداء القيــادي واألداء التنفيــذي اإلج ـرايئ‪ ،‬اإلســتناد إىل بيئــة حاضنــة‬ ‫عامــة تتســم بالتناســب واإلنســجام يف بنيانهــا التنظيمــي لــإدارة العامــة املنفــذة املتســقة مــع البيئــة القامئــة‪ ،‬اإلعتــاد عــى الهيكليــة املتكاملــة‬ ‫لتســيري العمــل وتنظيــم حســن أدائــه‪ ،‬باللجــوء إىل املســتندات‪ ،‬واملخططــات‪ ،‬واملصــادر واملراجــع‪ ،‬والنــاذج‪ ،‬وتحديــد اإلج ـراءات والطــرق واألدوات‬ ‫والخطــوات الواجــب اتباعهــا‪ .‬كــا أنــه ال بــد مــن الرتكيــز عــى مبــدأ التنــوع والتعــدد والتكامــل‪ ،‬ونوعيــة األداء املســتند إىل املكننــة واألمتتــة‪ ،‬اإلتصــاالت‬ ‫واملعلوماتيــة‪ ،‬والحاميــة املعلوماتيــة‪ ،‬ومواكبــة مســتلزمات التحســن املســتمر مــن خــال تعدديــة مركــز التخطيــط والرقابــة واملتابعــة‪ ،‬وال مركزيــة‬


ّ ‫)ناصيف‬10( .42-41‫ ص‬،‫ مرجع سابق ذكره‬،‫ الفلسفة والديموقراطية وكرامة اإلنسان‬،‫نصار‬ Robert Cown, “ The management and evolution of the entrepreneurial university. The case England”, Higher)11( .education policy, (4,3,1991), P 9-12 Georges Zaarour, Jordan, Higher Education Development Study,World Bank document)12( report n0.15105,1996, P 13. .Op Cit, Loc Cit, P 21 )13( .Op Cit,Loc Cit, P 13-14)14( )IIEP Research Programme: Improving Effectiveness Of HigherEducation Institution:

(15

.Studies Of The Management Of Change, Information Base, 1990,P 2 Morris,R.Cohen, Reason In social science In: Herbert Feigl Marry Brodbeck (eds), Readings In The Philosophy,)16( .Newyork, 1953, P173 Abdulrahman A. Higan, Crisis and Risk Management Paper Presented To International Institute Of Administra� )17( ‫ دار ش‬،‫ القاهرة‬،‫ أصول اإلدارة‬،‫) محمود عساف‬18( tive Science XXII.Congres Of Adm Sciences Viennal, July, 1992, P5 ،�‫العر‬ �‫النا‬ ‫بي‬ .150‫ ص‬،‫م‬1975 E.L, Quarantelli-Disaster Crisis Management : A Summary Of research findings. Journal of management studies)19( .25: 4 july 1988, P374-375 .207-206‫ ص‬،‫ مصدر سابق ذكره‬،‫ أصول اإلدارة‬،‫) محمود عساف‬20( Abdul Rahman Higan, Crisis And Risk Management, A Paper Presented To International Institute Of Administra� )21( .tive Sciences xxii International Confèrence Of Administrative Sciences. Vienna, July, 1992, P12 .Rober F. Littlejohn. When The Crisis Is Terrorism, Security Management, August, 1986, P39)22(

Anne H. Reilly, Preparing For The Worst: The Process Of Effective Crisis Management, Industrial & Envirommen�)23( .tal Crisis Quarterly, Vol 7, N02, 1993, P139 Thievy C. Pauchant And Ian I. Mitroff, Crisis Prone Versus Crisis Avoiding Organazations. Is Your Company’s Cul�)24( .ture Its Own Worst Enemy In Creating Crises? Industrial Crisis Quarterly, Vol 2, N0 1, 1988, P53 .Victor H.Vroom And P.W.Yeton, Leadership And Decision Making, University Of Pittsburg Press, 1973, P10)25( )K. Popper, The Open Society and Its Enemis, Vol 2, The High Tide Of Prophecy,

(26

.Routledge, London, 1985, P209


‫لعــل أزمــة العلــوم اإلنســانية ترجــع يف جانــب منهــا إىل محاولــة اســتقالل العلــوم الطبيعيــة والرياضيــة عــن أمهــا الفلســفة‪ ،‬ففــي حــن أن‬ ‫األخــرة هــي « أم العلــوم وصناعــة الصناعــات « وكان عــى الفيلســوف يك مــا يســتحق لقــب الفيلســوف أن يكــون ملـ ّـاً بــكل العلــوم‪ ،‬لهــذا أتــت دعــوة‬ ‫أفالطــون « مــن مل يكــن مهندسـاً فــا يدخــل علينــا «‪ .‬وكأن هــذه العلــوم املســتقلة باتــت تســعى جاهــدة ألن تقلــد الفلســفة أو متــارس عليهــا تعاليهــا‪،‬‬ ‫وهنــا مكمــن األزمــة الحقيقيــة إذ إن انفصــال هــذه العلــوم عــن مجــال إمكانهــا الفلســفي حــدا بهــا‪ ،‬وهــي يف طــور اســتقالليتها وحريتهــا‪ ،‬وقابليتهــا‬ ‫للتعميــم بعيــدا ً عــن إرثهــا الفلســفي‪ ،‬مــا جعلهــا فريســة ســهلة للتقهقــر‪ ،‬أضــف إىل ذلــك إشــكالية العوملــة املتفلتــة مــن كل قيــد أخالقــي‪ .‬مــن هنــا‬ ‫نتســا َءل عــن ذلــك العقــل العــريب الــذي مــأ التاريــخ أيــن هــو اليــوم؟ وهــل بتنــا عاجزيــن عــن حــل أزماتنــا يف العلــوم اإلنســانية؟‬ ‫املســؤولية مســؤوليتنا‪ ،‬نحــن مــن نصنــع مشــاكلنا وأزماتنــا‪ ،‬ونحــن مــن علينــا حلّهــا وعــدم تجاهــل أثــر النظــام الــدويل علينــا لــذا؛ مشــكلة لبنــان‬ ‫والعــامل العــريب مبجملــه تتمثــل يف افتقادنــا لقاعــدة معلومــات نحتاجهــا للبنــاء عليهــا‪ ،‬كــا أننــا نعــاين مــن أن اإلنســان يف بالدنــا الــذي ميــارس أنشــطة‬ ‫عــدة بــدءا ً بالتفكــر‪ ،‬مــرورا ً بالــكالم والحديــث‪ ،‬وصــوالً إىل العمــل‪ ،‬هــذه األنشــطة تتســم يف عاملنــا باإلنفصــال‪ ،‬فــرى املفكــرون ال يُتــاح لهــم فــرص‬ ‫التكلــم والتحــدث بكفايــة‪ ،‬وال فرصــة التنفيــذ‪ ،‬واملتحدثــون بشــكل عــام ال يفكــرون‪ ،‬وال يعملــون‪ ،‬والذيــن يعملــون وينفــذون ال وقــت لديهــم ليفكــروا‬ ‫ألنهــم يلهثــون وراء لقمــة العيــش‪ ،‬هــذا اإلنفصــام بــن هــذه األنشــطة الثالثــة ينبــئ بخطــر‪ ،‬ولعــل مــا نـراه نتيجــة مــن نتائجــه‪.‬‬ ‫الســؤال إىل أي إنســان نتوجــه؟‪ .‬وأي عــامل إنســاين معــريف نريــد؟‪ .‬وهــل أن الحديــث بالنظريــات الفلســفية والعقليــة يؤطــر كــال معالجــة‬ ‫أســباب األزمــات ويؤمــن الحلــول؟‪ .‬وهــل أن املعرفــة اإلنســانية الشــاملة تســوق مكانتهــا يف عقولنــا مبســؤولية العارفــن‪ ،‬املدركــن‪ ،‬امللتزمــن‪ ،‬األمينــن‪،‬‬ ‫واملســؤولني بالتكامــل مــع املجتمــع؟‪ .‬وبالتــايل مــا هــي الفاعليــة املنتجــة واملتقدمــة للمتباريــن مبســؤولية إدارة أزمــة العلــوم اإلنســانية‪ ،‬يف ظــل متغــر‬ ‫تطــور الظــروف عــى شــأنيتها وذاتيتهــا بأزمــة الســؤال؟‪.‬‬ ‫بنــا ًء عــى مــا تقــدم‪ ،‬ركــز البحــث عــى تصــورات رؤيويــة هادفــة وتكامليــة يف مناهــج مختلفــة‪ ،‬تؤمــن مبســؤولية إدارتــه للجوانــب املعرفيــة‪،‬‬ ‫املؤسســية ملنطلقاتــه وإشــكالياته املتعــددة‪ ،‬بقصــد ضــان توفــر املبــاين واآلليــات املمكنــة ملعالجــة منطلقــات إدارة األزمــات عــى مفهــوم العلــوم‬ ‫اإلنســانية‪ ،‬بفعاليــة األطــر وضــان اإلبتــكار‪ ،‬واختيــار البدائــل‪ ،‬والتنســيق املعــريف املنهجــي واملؤسســايت‪ ،‬بهــدف تأمــن مواجهــة التحــوالت والتحديــات‪،‬‬ ‫وآليــات مواكبــة لتغــر الظــروف والوقائــع والتحــوالت عــى مفهــوم ســامة املعرفــة‪ ،‬وأثرهــا يف إدارة األزمــات عــى مفهــوم العلــوم اإلنســانية‪.‬‬ ‫صحيــح أننــا نتحــدث بنظريــات فلســفية وعقليــة‪ ،‬إمنــا مــن ســيقوم بالعمــل؟‪ .‬هــل هــم األميــون؟‪ .‬نبــدو وكأننــا شــعب داخــل شــعب‪ ،‬فئــة‬ ‫مــن املثقفــن الذيــن يتحــاورون ويقيمــون املؤمتـرات والنــدوات‪ ،‬إمنــا يف نهايــة األمــر ال نصــل لــيء عمــي واقعــي‪ ،‬وال إىل قــوة منفــذة وحقيقيــة ملــا‬ ‫نفكــر فيــه‪.‬‬ ‫إنقــاذ العلــوم اإلنســانية مــن أزماتهــا لــن يكــون إال مبنهجيــة إدارة أزمــات فلســفية واضحــة الفكــر واملعــامل‪ ،‬واملــدارك واملســؤوليات واملناهــج‪،‬‬ ‫بأولويــة التخطيــط‪ ،‬والتنظيــم‪ ،‬والتنســيق‪ ،‬والتنفيــذ واختيــار البدائــل‪ ،‬واللجــوء إىل التــوازن يف مــا بــن الســلطة والدميقراطيــة‪ ،‬ولــن يكــون ذلــك إال‬ ‫باعتــاد منهجيــات خاصــة بنــا كمســؤولني‪ ،‬نحــن مــن نســاهم بإنتاجهــا تتســم باإلعتــدال واملرونــة لــذا؛ يبقــى علينــا معرفــة إدراك اإلنســان بجوهــره‬ ‫التكامــي معرفــة جيــدة‪ ،‬وتعليمــه تعلي ـاً جيــدا ً‪ ،‬وصــوالً إىل دراســة آليــات النهايــات الجيــدة التــي تؤهلــه اإلحتفــاظ مبــكان صالــح لــه ولألجيــال‬ ‫القادمــة‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪http/ The Americanscolar.Org‬‬

‫ف‬ ‫ماجست�‪،‬الرياض‪ ،‬معهد الدراسات العليا‪ ،‬أكاديمية نايف العربية للعلوم‬ ‫(‪)2‬عبدهللا سعد األحمدي‪ ،‬المنظمة الموقفية ي� إدارة األزمات‪ ،‬رسالة‬ ‫ي‬ ‫األمنية‪1414،‬ـه‪ ،‬ص‪.187‬‬ ‫(‪.The American Heritage Dictionary, Houghton Miffin Company, Boston, U.S.A, 1985)3‬‬ ‫(‪.Jacqueline Russ, Dictionnaire de Philosophie, Paris, Bordas, 1991, P61)4‬‬ ‫العر�‪1967 ،‬م‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫أ� بكر الرازي‪ ،‬مختار الصحاح‪ ،‬يب�وت‪ ،‬دار الكتاب‬ ‫بي‬ ‫(‪)5‬محمد بن ب ي‬ ‫(‪society, Herbex Torch)6‬‬ ‫‪.Books, P19‬‬

‫‪Wilhelm Dilthey, Patterns and Meaning in history: NewYork, Thoughts on history and‬‬

‫ف‬ ‫وه�‪ ،‬اآلداب! اآلداب! ماذا أنتم صانعون بكلية اآلداب؟!! مجلة أوراق جامعية‪ ،‬مجلة متخصصة تصدر عن رابطة األساتذة ي� الجامعة‬ ‫(‪)7‬موىس ب ي‬ ‫اللبنانية‪ ،‬لبنان‪ ،‬العدد‪ ،22‬السنة التاسعة‪2001 ،‬م‪ ،‬ص‪.159‬‬ ‫ف‬ ‫(‪ )8‬ناصيف ّ‬ ‫العر�‪ ،‬لمجموعة‬ ‫نصار‪ ،‬الفلسفة والديموقراطية وكرامة اإلنسان‪ ،‬مقال من كتاب حال تدريس الفلسفة ي� العالم‬ ‫بي‬ ‫ش‬ ‫ص‪.41‬‬ ‫الدول لعلوم اإلنسان برعاية اليونسكو‪ ،‬بيبلوس ‪،2015‬‬ ‫بإ�اف الدكتور عفيف عثمان‪ ،‬منشورات المركز‬ ‫ي‬

‫ين‬ ‫الباحث�‪،‬‬ ‫من‬

‫(‪ )9‬محمد َّ‬ ‫شيا‪ ،‬واقع ومستقبل اختصاص الفلسفة‪ ،‬منشورات الجامعة اللبنانية‪ ،‬قسم الدراسات الفلسفية واإلجتماعية‪ ،‬يب�وت‪ 2014 ،‬ص‪.177‬‬



‫إشكالية الداللة وتحوالت املعنى‪ ،‬من‬ ‫البنيوية اىل مابعد البنيوية‬ ‫د‪ .‬عبده شحيتيل‬

‫البنيويــة يف األســاس اتجــاه ومنهــج يؤكــد أهميــة النظــام أو البنــاء يف دراســة أيــة ظاهــرة ‪ ،‬ويــرى أصحابــه أن القيمــة الكــرى هــي‬ ‫للعالقــات الداخليــة والنســق الداخــي يف أيــة معرفــة علميــة ‪ .‬وهــي متثــل اتجاهــا مضــادا ً للنزعــة التجريبيــة مــن جهــة ‪ ،‬والنزعــة‬ ‫التاريخيــة مــن جهــة أخــرى ‪ .‬وقــد ظهــرت يف الســتينات مــن القــرن العرشيــن يف فرنســا حيــث كان يســيطر عــى الحيــاة الثقافيــة‬ ‫اتجاهــان ‪ :‬الوجوديــة مــن جهــة ‪ ،‬واملاركســية مــن جهــة أخــرى ‪ .‬ولكــن جــذور البنيويــة الفلســفية متتــد اىل اقــدم مــن هــذه الفــرة‬ ‫الزمنيــة ‪.‬‬ ‫كل مؤلــف مــن عنــارص متضامنــة ‪ ،‬بحيــث يتوقــف كل واحــد منهــا عــى الباقــي ‪ ،‬وال ميكــن أن يكــون‬ ‫يعــرف الالنــد البنيــة بأنهــا ٌّ‬ ‫مــا هــو اال بواســطة عالقتــه مــع الباقــي ‪.‬هــذا التعريــف يتفــق مــع قــول أميــل بنفنيســت ان املنهــج البنيــوي يســتند اىل القــول‬ ‫بســيطرة النظــام عــى العنــارص ‪ ،‬ويهــدف اىل اســتخالص النظــام مــن خــال العالقــات القامئــة بــن العنــارص ‪ .‬ويؤكــد بياجيــه ‪ ،‬يف‬ ‫كتابــه ‪ :‬البنيويــة ‪ ،‬عــى أن « املثــل األعــى املشــرك بــن جميــع رضوب البنيويــة هــو الســعي اىل تحقيــق معقوليــة كامنــة عــن طريــق‬ ‫تكويــن بنــاءات مكتفيــة بذاتهــا ‪ ،‬ال تحتــاج مــن أجــل بلوغهــا اىل الرجــوع اىل أيــة عنــارص خارجيــة «(‪.) 1‬‬ ‫رفضــت البنيويــة النزعــة التجريبيــة القامئــة عــى مالحظــة مــا يظهــر مــن املوضوعــات الخاضعــة للبحــث ‪ ،‬كذلــك « وقفــت يف وجــه‬ ‫التيــار الطاغــي للنزعــة التاريخيــة التــي تدعــي القــدرة عــى تفســر الظواهــر االنســانية مــن خــال مفهــوم التقــدم باعتبــاره تراكـاً‬ ‫تاريخيـاً يضــاف الجديــد منــه اىل القديــم بحيــث تكــون األفــكار الجديــدة مجــرد توســيع ألفــكار ظهــرت مــن قبــل «(‪.)2‬‬ ‫تضــع البنيويــة التغ ـرات التاريخيــة يف اطــار البنــاء الثابــت ‪ ،‬وتفرسهــا مــن خــال هــذا البنــاء ‪ ،‬محاربــة بذلــك النزعــة التاريخيــة‬ ‫يف مختلــف مجــاالت العلــوم االنســانية‪ ،‬ومبتعــدة عــن تفســر ســاد طويــا « يرجــع الظواهــر االنســانية اىل منشــئها وتطورهــا‬ ‫فحســب ويعجــز عــن كشــف عنــارص الثبــات فيهــا « (‪.)3‬‬ ‫لقــد حاولــت البنيويــة أن تجســد اتجاهـاً علميـاً مــن خــال بحثهــا عــن تجــاوز املظهــر الخارجــي للظواهــر الــذي ميكــن مالحظتــه‬ ‫تجريبيــا ‪ ،‬والنفــاذ اىل الحقيقــة التــى تبقــى ثابتــة وراء املظهــر مهــا طــرأ عليــه مــن تغــر ‪ ،‬وهــذا البنــاء الثابــت يتخــذ طابع ـاً‬ ‫الزمني ـاً ‪،‬كالقوانــن العلميــة التــي تفــر الظواهــر الطبيعيــة ‪ .‬وقــد كان علــم اللغــة مصــدرا مــن أهــم مصادرهــا ؛فعلــوم اللغــة‬ ‫شــكلت البــؤرة األوىل إلشــعاع البنيويــة عــى اختــاف اتجاهاتهــا ‪ :‬األنرتبولوجيــة مــع كلــود ليفــي ســروس ‪ ،‬والفلســفية مــع ميشــيل‬ ‫فوكــو وجــاك دريــدا ‪ ،‬واللغويــة مــع روالن بــارت ‪ ،‬واملرتكــزة إىل التحليــل النفــي مــع جــاك الكان ‪ .‬وكان األب الحقيقــي للحركــة‬ ‫البنيويــة العــامل اللغــوي الســويرسي فردينانــد دي سوســر ‪.‬‬ ‫ ‪1‬‬ ‫‪ 2‬‬ ‫‪ 3‬‬

‫ زكريا ‪ ،‬د‪ .‬فؤاد ‪.‬الجذور الفلسفية للبنائية ‪ ،‬حوليات كلية اآلداب ‪ ،‬جامعة الكويت ‪ ،‬الحولية األوىل ‪ ، 1980‬ص‪. 10‬‬‫ م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 12‬‬‫م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 19‬‬


‫فرديناد دي سوسري والبنيوية اللغوية‬ ‫اليبزيــغ‪ ،‬وامــى مثانيــة عــر شــهرا يف دراســة‬ ‫ولــد دي سوســر ( ‪ )1913-1857‬يف جنيــف ‪ ،‬درس اللغــات يف جامعــة‬ ‫السنســكريتية يف برلــن ‪ .‬نــر وهــو يف الواحــدة والعرشيــن مــن عمــره بحثـاً عــن النظــام البــدايئ ألحــرف العلــة يف اللغــات الهنــدو‬ ‫أوروبيــة‪ .‬يف عــام ‪ 1880‬ناقــش أطروحــة الدكتــوراه حــول موضــوع الحالــة املطلقــة للجــر باالضافــة يف السنســكريتة ‪ .‬انتقــل اىل‬ ‫باريــس وهــو يف الرابعــة والعرشيــن مــن عمــره ‪ ،‬وحــارض يف اللغــة القوطيــة واألملانيــة يف الكليــة التطبيقيــة للدراســات العليــا‪ .‬وبعــد‬ ‫ذلــك أصبــح اســتاذا للغــات السنســكريتية والهنــدو – أوروبيــة يف جامعــة جنيــف ‪.‬‬ ‫أشــهر أعاملــه ‪ :‬محــارضات يف علــم اللغــة العــام ‪ ،‬وهــو عبــارة عــن مالحظــات كان يدونهــا يف محارضاتــه أضيفــت اليهــا مالحظــات‬ ‫العرشيــن‪،‬‬ ‫موتــه ‪ ،‬لتالقــي اهتاممــا كبـرا يف األوســاط االكادمييــة يف ســتينات القــرن‬ ‫طالبــه الذيــن نرشوهــا بعــد‬ ‫حيــث أصبــح التوجــه البنيــوي يف اللغــة منوذجـاً للتنظــر يف الحيــاة االجتامعيــة والثقافيــة ‪.‬‬ ‫كان دي سوســر معــارصا ً لــكل مــن فرويــد واميــل دوركهايــم ‪ ،‬ولكــن ليــس هنــاك مــا يثبــت لقــاءه بــأي منهــا ‪ .‬ولكــن التشــابه‬ ‫واضــح بــن طريقتــه يف النظــر اىل اللغــة وطريقــة دوركهايــم يف دراســة الظواهــر االجتامعيــة ‪ ،‬وفرويــد يف دراســة الحــاالت النفســية‬ ‫انطالقــا مــن الالوعــي ‪.‬‬ ‫يؤكــد دي سوســر انــه مل يكــن راضيـاً عــن وضــع علــم اللغــة كــا عرفــه ‪ ،‬وأنــه كان يشــعر بضخامــة الجهــد املطلــوب مــن اجــل أن‬ ‫يبـ ّـن لعــامل اللغــة مــا الــذي يقــوم بــه ‪ ،‬ذلــك أن املصطلحــات الراهنــة غــر مالمئــة ‪ ،‬فــا بــد مــن اصالحهــا ‪ .‬وذلــك يقتــي برهنــة‬ ‫وتوضيــح مــا تكونــه اللغــة(‪. )4‬‬ ‫مل يســتخدم دي سوســر يف محارضاتــه مصطلــح البنيــة ‪ ،‬بــل اســتخدم مصطلحــي النســق والنظــام (‪ ، )5() ordre-systeme‬ولكــن‬ ‫باملعنــى نفســه الــذي اســتخدم فيــه مصطلــح البنيــة فيــا بعــد ‪.‬‬ ‫ان اللغــة ‪ ،‬كــا يراهــا ‪ ،‬نظــام ال تتحــدد يف داخلــه العنــارص اال مــن خــال عالقــات التعــادل أو االختــاف التــي تقيمهــا مــع العنــارص‬ ‫األخــرى‪ ،‬ومجموعــة العالقــات هــذه تشــكل البنيــة ؛ فالبنيــة تشــر اىل قيمــة العنــارص يف نظــام ‪ ،‬أو يف ســياق مــا ‪ ،‬وليــس يف‬ ‫وجودهــا املــادي والطبيعــي ‪.‬‬ ‫وقــد بــدأ األتجــاه البنيــوي اللغــوي الواضــح بالظهــور عــام ‪ 1928‬عندمــا انعقــد املؤمتــر الــدويل لعلــوم اللســان يف الهــاي بهولنــدا‬ ‫حيــث قــدم ثالثــة علــاء روســن هــم ياكوبســون وكارشفيســي وتربتســكوي ‪ ،‬بحثـاً عــن األصــول األوىل لهــذا االتجــاه ‪ .‬وبعــد ذلــك‬ ‫بعــام صــدر بيــان عــن املؤمتــر األول للغويــن الســاف الــذي انعقــد يف ب ـراغ اســتخدموا فيــه كلمــة « بنيــة « باملعنــى املســتخدم‬ ‫اليــوم ‪ ،‬ودعــوا فيــه اىل اســتخدام « املنهــج البنيــوي « يف دراســة النظــم اللغويــة وتطورهــا ‪.‬‬ ‫عمــل دي سوســر عــى تأســيس نظريــة علميــة عامدهــا النظــام اللغــوي الــذي يهيمــن عــى عنــارصه ‪ ،‬وهدفهــا اســتخالص الطابــع‬ ‫والكالم‬ ‫العضــوي لشــتى التغـرات التــي تخضــع لهــا اللغــة «‪ ، 6‬ومرتكـزات نظريتــه يف اللغــة تقــوم عىل التمييــز بني اللســان‬ ‫‪ ،‬والــدال واملدلــول ‪ ،‬واللغــة الداخليــة واللغــة الخارجيــة ‪ ،‬والتزامنيــة والتعاقبية‪.‬‬ ‫ اللســان والــكالم ‪:‬يعتــر دي سوســر أنــه ال بــد مــن التميــز بــن اللســان والــكالم ‪ ،‬أي بــن ماهــو بنيــوي واجتامعــي يف اللغــة ‪ ،‬ومــا‬‫هــو فــردي ومتغــر ؛ فالــكالم الــذي يتحدثــه أي انســان ‪ ،‬يف أي مجتمــع مــن املجتمعــات هــو اســتخدام شــخيص أو فــردي للغــة‬ ‫العربيــة ‪ ،‬والفرنــي يتكلــم الفرنســية والصينــي‬ ‫معينــة ‪ ،‬هــي اللغــة املعتمــدة يف هــذا املجتمــع ‪ .‬وبهــذا املعنــى العــريب يتكلــم‬ ‫يتكلــم الصينيــة ‪ .. ..‬بينــا اللســان هــو الرمــز الــذي يســتخدمه الشــخص لــي يتنــاول رســالة معينــة مــع اآلخريــن ‪.‬‬ ‫ليــس هنــاك مــن كالم اال بلســان معــن ‪ ،‬ولكــن اللســان هــو مبعنــى مــن املعــاين الــرط املســبق واملفــارق للــكالم ‪ ،‬وهــو مــا يتيــح‬ ‫للشــخص أن يُفهــم اآلخريــن عندمــا يتكلــم ‪.‬‬ ‫‪ 4‬‬ ‫ ‪5‬‬ ‫‪ 6‬‬

‫ ليشته‪ ،‬جون ‪ .‬خمسون مفكرا ً أسايا ً معاصرا ً من البنيوية الى ما بعد الحداثة ‪ ،‬ترجمة د‪ .‬فاتن قبيسي‪،‬ط‪ ، 1‬مركز دراسات‬‫الوحدة العربية ‪ ،‬ص‪308‬‬ ‫ ‪-Payot,paris , 1979. p43 ,De Sausure,Fernand Cours de linguistique generale‬‬‫‪ -‬إبراهيم ‪ ،‬د‪ .‬زكريا ‪ ،‬مشكلة البنية ‪،‬أو أضواء على البنيوية ‪ ،‬دار مصر للطباعة ‪ ،‬ص ‪. 78‬‬



‫يحتــاج اىل تعلــم لــي يعــرف لعبتــه ‪ ،‬منــذ طفولتــه حيــث يتمثلــه شــيئا فشــيئا ‪ .‬واللســان املتاميــز عــن الــكالم ميكــن دراســته بشــكل‬ ‫مســتقل ‪ ،‬فعــى الرغــم مــن اننــا مل نعــد نتكلــم اللغــات امليتــة ‪ ،‬نســتطيع أن نتمثــل جيــدا تنظيمهــا اللغــوي ‪ .‬واذا كانــت اللغــة‬ ‫متنوعــة وغــر متجانســة ‪ ،‬فــإن اللســان مــن طبيعــة متجانســة ؛ إنــه نظــام مــن العالمــات حيــث يتحــد املعنــى بالصــورة الصوتيــة‬ ‫أي الــدال باملدلــول‪.‬‬ ‫الــدال واملدلــول ‪:‬إن اللغــة ‪ ،‬يف جوهرهــا‪ ،‬كــا يــرى دي سوســر ‪ ،‬هــي اللســان بوصفــه نســقاً مــن العالمــات(‪ )9‬وهــذه العالمــات‬ ‫بعيــدة كل البعــد عــن أن تكــون مجــرد تحويــل أو نقــل مــن املجــال العينــي اىل املجــال املجــرد ‪ .‬إن العالمــة عبــارة عــن اتحــاد‬ ‫لصــورة صوتيــة هــي الــدال ‪ ))signifiant‬بتمثــل ذهنــي هــو املدلــول (‪ ) signifié‬وهكــذا ؛ فــان الــدال ينــدرج ضمــن النظــام املــادي‬ ‫أي األصــوات واالميــاءات والحــركات‪ .‬أمــا املدلــول فانــه ينــدرج تحــت النظــام الذهنــي أي هــو فكــرة أو معنــى وليــس شــيئا موضوعيــا‬ ‫‪ .‬يشــبه دي سوســر اللغــة بورقــة ذات وجهــن ‪ :‬الوجــه فيهــا هــو الــدال ‪ ،‬والظهــر هــو املدلــول وال ميكــن متزيــق وجــه الورقــة دون‬ ‫متزيــق ظهرهــا ‪ .‬الفكــر‪ ،‬عــى حــد تعبــره‪ »،‬هــو وجــه الصفحــة بينــا الصــوت هــو ظهرهــا «‪، 10‬ويرتتــب عــى ذلــك أنــه ال ميكــن‬ ‫فصــل الصــوت عــن الفكــر‪ ،‬أو فصــل الفكــر عــن الصــوت ‪ .‬انطالقـاً مــن ذلــك تصبــح اللغــة نســقاً مــن العالمــات أي أن العالمــة ال‬ ‫العبــارة هــي الوحــدة اللغويــة ‪ .‬وعــامل اللغويــات عليــه تحديــد مــا يجعــل مــن اللغــة نظامـاً خاصـاً داخــل مجموعــة مــن الوقائــع‬ ‫الســيميولوجية؛ فاملشــكلة اللغويــة هــي ‪،‬أوال وقبــل كل يشء‪ ،‬مشــكلة ســيميولوجية أي انهــا تنتمــي اىل تلــك املجموعــة الكــرى مــن‬ ‫األنظمــة الرمزيــة التــي تتألــف منهــا الثقافــة ‪ ،‬واملقصــود بالثقافــة الفــن واألســاطري والطقــوس ‪ .....‬فالســيميولوجيا ليســت ســوى‬ ‫ذلــك العلــم الــذي يــدرس حيــاة العالمــات يف كنــف الحيــاة االجتامعيــة(‪. )11‬‬ ‫ويســتعمل دي سوســر تعبــر عالمــة ( ‪ ) signe‬باعتبــاره أفضــل مــن تعبــر رمــز ( ‪ ) symbole‬للداللــة عــى عنــارص اللغــة‪ ،‬ولالشــارة‬ ‫اىل خاصيتهــا األساســية وهــي االتفاقيــة أو االصطالحية ‪.‬‬ ‫تتحــدد قــدرة العقــل عــى الرتميــز باعتبارهــا قــدرة عــى خلــق العالمــات ‪ ،‬ولكــن ينبغــي أن نحــدد بدقــة أن عالقــة الرمــز مبــا يرمــز‬ ‫اليــه ليســت عالقــة خارجيــة ‪ ،‬بينــا هــي كذلــك عندمــا يتعلــق األمــر بالعالمــة أو االشــارة ومــا ترمــز اليــه ‪ ،‬فالرمــز يشــبه مــا يرمــز‬ ‫اليــه ( كاملي ـزان والعدالــة مثــا ) والرمــز ليــس اتفاقي ـاً لذلــك ال نســتطيع اســتبداله ‪ ،‬بينــا العالمــات ميكــن اســتبدالها ( اســتبدال‬ ‫كلمــة يف لغــة مــا اىل مــا يرادفهــا يف لغــة أخــرى ) ‪.‬‬ ‫ركــز دي سوســر اهتاممــه عــى كيفيــة حــدوث الداللــة مــن خــال شــبكة مــن العالقــات داخــل نظــام يتيــح تحقيــق الداللــة ‪ .‬ورأى‬ ‫أن هنــاك نوعــن مــن العالقــات اللغويــة متكنــان مــن تحقيــق هــذه الداللــة ‪-:‬العالقــة االســتبدالية ( ‪ ، )paradigmatique‬وهــي‬ ‫راســية ‪ -‬ترصيفيــة ‪ ،‬و العالقــة الســياقية (‪ ، ) syntagmatique‬وهــي أفقيــة – تركيبيــة‪ .‬األوىل متثــل كلمــة يف النــص ومــا ميــت اليهــا‬ ‫بصلــة لفظيــة أو معنويــة مــن كلــات مل تذكــر فيــه‪ ،‬والثانيــة تقــوم بــن الكلمــة وســائر الكلــات يف الجملــة‪.‬‬ ‫والتمييــز بــن الــدال واملدلــول واعتبــار الداللــة مجــرد عالقــة تآلــف بينهــا قــاد دي سوســر اىل تأكيــد الطابــع االعتباطــي للعالمــة‬ ‫اللفظيــة ‪ .‬وهــذ معنــاه ان الــدال ال ينطــوي عــى أيــة اشــارة أو إحالــة اىل قيمــة املدلــول أو مضمونــه ‪ .‬يــرى دي سوســر أن اللغــة‬ ‫‪ ،‬يف صميــم مبدئهــا األســايس ‪ ،‬ليســت ســجالً مــن األســاء ‪ ،‬أي قامئــة طويلــة باأللفــاظ املقابلــة ملــا يف العــامل مــن أشــياء ‪ ...‬وال شــك‬ ‫أن مثــل هــذا التصــور ‪ ،‬يف أكــر اشــكاله ســذاجة ‪ ،‬ال بــد أن يحيــل العالمــة اللفظيــة اىل نســخة طبــق األصــل مــن الــيء الــذي تشــر‬ ‫اليــه ‪ .‬ولكــن الحقيقــة أن الصلــة التــي تربــط الــدال باملدلــول هــي مجــرد صلــة اعتباطيــة ‪.‬‬ ‫إن «أســاس اللغــة هــو توحيــد الرتكيبــات الصوتيــة واملفاهيــم العقليــة « (‪ ،) 12‬وهــذا التوحيــد يضــع حــدا « للمفهــوم التقليــدي‬ ‫الســاذج عــن شــفافية اللغــة الــذي ســاد الفكــر االنســاين قرونـاً طويلــة «(‪ )13‬؛ فتلفــظ كلمــة أخــت ‪ ،‬مثـ ًـا ‪ ،‬ال يرتبــط بأيــة عالقــة‬ ‫باطنيــة مــع سلســلة األصــوات (أ – خ – ت) ‪ ،‬ومــا يؤكــد ذلــك أن باإلمــكان متثيــل هــذا املفهــوم بأيــة مجموعــة أخــرى مــن‬ ‫األصــوات ‪ .‬وهكــذا ؛ فــإن العالقــة بــن الــدال واملدلــول توافقيــة اعتباطيــة خاليــة مــن أيــة مــررات أو أســباب عقليــة يتــم مــن‬ ‫ ‪9‬‬ ‫‪ 10‬‬ ‫‪ 11‬‬ ‫‪ 12‬‬ ‫‪ 13‬‬

‫ ‪. 37 ibid , p‬‬‫إبراهيم ‪ ،‬د‪ .‬زكريا ‪ .‬مشكلة البنية أو أضواء على البنيوية‪ ،‬دار مصر للطباعة ‪ ،‬ال تاريخ ‪ ،‬ص ‪. 49‬‬‫ م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 50‬‬‫ حمودة ‪ ،‬د‪ .‬عبد العزيز ‪ ،‬الخروج من التيه ‪،‬دراسة في سلطة النص ‪ ،‬عالم المعرفة ‪ ، 298‬المجلس الوطني للثقافة‬‫والفنون واالداب ‪ ،‬الكويت ‪ ،‬نوفمبر ‪ ، 2003‬ص ‪. 52‬‬ ‫‪ -‬م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪.53‬‬


‫هنــاك ‪ ،‬كــا يعتقــد دي سوســر نــوع مــن التعلــق الداخــي بــن الــكالم واللســان ‪ ،‬ولكــن اللســان هــو الجوهــري والــكالم هــو‬ ‫الثانــوي ‪ .‬ولذلــك فــان اللســان ميكــن أن يخضــع لدراســة علميــة أكــر مــن الــكالم ‪ .‬واللســان يظهــر بشــكل كامــل الخاصيــة األساســية‬ ‫للغــة بوصفهــا واقعــة اجتامعيــة ‪.‬‬ ‫لقــد كان دي سوسســر معــارصا لدوركهايــم ( ‪ ) 1917 -1858‬الــذي يقــول ان اللغــة توجــد مســتقلة عــن األفـراد الذيــن يتكلمونهــا ‪،‬‬ ‫وهــي فضــا عــن ذلــك ‪ ،‬بعموميتهــا ‪ ،‬خــارج اي واحــد منهــم ‪ .‬ان اللســان ‪ ،‬كــا يــرى دوركهايــم ‪ ،‬يتميــز بالخاصيتــن اللتــن تتميــز‬ ‫بهــا الواقعــة االجتامعيــة وهــا الجمعيــة ‪( )collectivité‬أي اس��تقاللها ع��ن األف��راد الذي��ن يتكلمونه��ا واالكراهي��ة) ‪( coercivité‬أي‬ ‫مــا يجعلهــا تفــرض ذاتهــا عــى كل واحــد منهــم ‪.‬‬ ‫كانــت نقطــة انطــاق تفكــر دي سوســر هــي التأكيــد عــى خاصيــة الــكالم بوصفــه فعـاً تعبرييـاً ‪.‬إن أفعــال الــكالم ‪ ،‬مــن وجهــة‬ ‫نظــر ســيكولوجية أو صوتيــة ‪ ،‬هــي حتـاً مختلفــة احداهــا عــن األخــرى ‪ .‬ولكــن وجهــة النظــر التــي تســمح بالتشــابه والتامثــل ال‬ ‫يعرفونــه ‪،‬أي يف داخــل معرفتهــم ذاتهــا ؛‬ ‫ترتبــط بالتنفيــذ ‪ ،‬أي ال بنبغــي البحــث عنهــا فيــا يفعلــه املتخاطبــون بــل فيــا‬ ‫فاملتخاطبــون يعرفــون أن تكـرار كلمــة مــا يشــر اىل جوهــر أو كينونــة واحــدة خلــف تغـرات الحــس والصــوت ‪ .‬وهــذا معنــاه أن‬ ‫البحــث عــا هــو ثابــت يف اللغــة يقتــي الوصــول اىل البنيــة املعرفيــة التــي يســتند اليهــا الجانــب املنفــذ منهــا اي الــكالم ‪.‬‬ ‫إن علــم اللغــة ‪ ،‬كــا يــرى دي سوســر ‪ ،‬ينبغــي أن يهتــم بدراســة اللســان ألن حقائــق اللغــة هــي حقائــق اللســان الــذي يشــكل‬ ‫نســقاً تحكمــه القواعــد واملعايــر ‪ ،‬ومعرفــة هــذا النســق ال بــد منهــا لفهــم الجمــل والعبــارات ‪ ،‬أو لتكويــن جمــل وعبــارات جديــدة‬ ‫‪.‬يشــبه دي سوســر اللســان بالكنــز أو املســتودع الهائــل الــذي ال ينضــب ‪ ،‬ومنــه يغــرف الفــرد الــكالم ليســتخدمه يف التواصــل مــع‬ ‫اآلخريــن ‪.‬‬ ‫إن األفـراد يســتخدمون الــكالم ‪ ،‬ولكــن ال ميكــن ألي فــرد منهــم أن يحيــط بــكل مــا يتضمنــه كنــز اللغــة الــذي ال ينضــب ‪ .‬الــكالم‬ ‫أي الجمــل والعبــارات يســتخدمها الناطقــون بلغــة معينــة ‪ ،‬والوصــول اىل اللغــة يقتــي اللجــؤ اىل نــوع مــن التجريــد للوصــول اىل‬ ‫النســق الــذي تنتظــم هــذه الجمــل والعبــارات وفقــا لــه ‪.‬‬ ‫إن اللســان ‪ ،‬كــا يقــول دي سوســر ‪ )7(،‬ال يتطابــق مــع اللغــة ‪ ،‬ولكنــه يشــكل الجــزء األســايس منهــا ‪ ،‬انــه يف اآلن نفســه منتــج‬ ‫اجتامعــي مللكــة اللغــة الطبيعيــة يف االنســان ‪ ،‬ومجموعــة مــن التوافقــات الرضوريــة املتبنــاة مــن الجســم االجتامعــي لتتيــح‬ ‫مامرســة هــذه امللكــة عنــد األفـراد ‪ .‬عندمــا نســمع مــن يتكلــم لســاناً مــا نجهلــه ‪ ،‬نســمع جيــد األصــوات ‪ ،‬ولكــن عــدم قدرتنــا عــى‬ ‫الفهــم تعــود اىل اننــا خــارج الواقعــة االجتامعيــة التــي يشــكل التوافــق اساســيا لقيــام نظــام اللغــة فيهــا ‪ ،‬ونحــن ال نعــرف شــيئا‬ ‫عــن هــذه التوافقيــة ‪.‬‬ ‫يقــارن دي سوســر اللســان بالســيمفونية (‪ ، )8‬حيــث الحقيقــة مســتقلة عــن طريقــة تنفيذنــا لهــا ‪ ،‬واألخطــاء التــي ميكــن أن يقــع‬ ‫فيهــا املوســيقيون الذيــن يلعبونهــا ال تــيء أو تشــوه مطلقــا هــذه الحقيقــة ‪ .‬إن الحقيقــة يف اللغــة ترتبــط باللســان وليــس بالــكالم‬ ‫باعتبــاره الشــكل املنفــذ مــن اللســان ‪ ،‬والــذي يشــبه تنفيــذ املوســيقيني للســيمفونية ‪.‬‬ ‫وهكــذا ؛ فــإن دراســة اللغــة تتضمــن قســمني ‪ :‬األول ‪ ،‬جوهــري ‪ ،‬موضوعــه اللســان وهــو اجتامعــي ومســتقل عــن الفرد‪.‬هــذه‬ ‫الدراســة هــي نفســية فقــط ‪.‬واآلخــر‪ ،‬ثانــوي ‪ ،‬موضوعــه الجــزء الفــردي مــن اللغــة أي الــكالم ‪ ،‬ويشــمل الصــوت ‪ ،‬وهــو نفــي –‬ ‫فيزيــايئ ‪ .‬وهــذان املوضوعــان مرتابطــان بشــكل وثيــق وأحدهــا يفــرض اآلخــر ؛ فاللســان رضوري لــي يكــون الــكالم قابـاً للفهــم‬ ‫وينتــج كل تأثرياتــه ‪ ،‬والــكالم رضوري أيضــا لتأســيس اللغــة ‪ .‬واقعــة الــكالم لهــا دامئــا األســبقية ‪ ،‬مــن الناحيــة التاريخيــة ‪ ،‬فالــكالم‬ ‫هــو مــا يجعــل اللســان يتطــور ‪ ،‬واالنطباعــات الحاصلــة عنــد ســاعنا اآلخريــن هــي مــا يغــر عاداتنــا اللغويــة ‪ .‬هنــاك ‪ ،‬اذن ‪ ،‬تعلــق‬ ‫داخــي بــن اللســان والــكالم ‪ ،‬فهــذا هــو يف اآلن نفســه اداة ومنتــج لــذاك ‪.‬‬ ‫يفصلنــا اللســان عــن الــكالم ‪ ،‬يفصــل وبشــكل قاطــع مــا هــو ‪ ،‬اوالً ‪ ،‬واقعــة اجتامعيــة عــا هــو فــردي ‪ ،‬ومــا هــو ‪ ،‬ثانيـاً ‪ ،‬أســايس‪،‬‬ ‫عــا هــو عــريض ‪ .‬إن اللســان هــو الحــزء االجتامعــي مــن اللغــة ‪ ،‬الخــارج عــن الفــرد الــذي فيــا يتعلــق بــه وحــده ال يســتطيع أن‬ ‫يخلقــه وال أن يغــره ‪ ،‬لكنــه ال يوجــد إال بفضــل نــوع مــن االتفــاق الــذي تــم يف املــايض بــن اطـراف املجموعــة البرشيــة ‪ .‬والفــرد‬ ‫ ‪7‬‬ ‫‪ 8‬‬

‫ ‪DE Saussure , cours , op cite , p 25-‬‬‫‪- . DE Saussure , cours , op cite , p36‬‬


‫‪ .‬هــذه القاعــدة املقبولــة مــرة واحــدة ونهائيــا تحكــم ايضــا اللســان ‪.‬‬ ‫ وبالنهايــة لــي ننطلــق مــن تــوازن اىل آخــر أي مــن تزامنيــة اىل أخــرى يكفــي نقــل قطعــة واحــدة عــى لوحــة الشــطرنج ‪ .‬وهنــا‬‫نجــد مــا مياثــل الواقعــة التعاقبيــة مــع كل مميزاتهــا ‪ .‬ففــي الواقــع ‪:‬‬ ‫أ – كل نقلة شطرنج ال تحرك اال قطعة واحدة ‪ .‬أيضا يف اللسان التغريات ال ترتبط اال بعنارص معزولة ‪.‬‬ ‫ب‪ -‬بالرغــم مــن ذلــك ‪ ،‬فــان للنقلــة ترجيعهــا عــى النظــام بأكملــه ؛ مــن املســتحيل عــى الالعــب أن يــرى مســبقا ‪ ،‬وبشــكل دقيــق‬ ‫‪ ،‬حــدود هــذا التأثــر ‪ .‬إن تغـرات القيــم التــي تنتــج عنهــا ‪ ،‬تبعــا للظــروف تكــون معدومــة ‪ ،‬أو حــادة جــدا او متوســطة األهميــة‬ ‫‪ .‬إن نقلــة كهــذه ميكــن ان تغــر جذريــا مجمــوع الجولــة ويكــون لهــا نتائــج حتــى عــى القطــع التــي كانــت مؤقتــا ال دخــل لهــا ‪،‬‬ ‫واألمــر نفســه يحــدث بشــكل دقيــق يف اللغــة ‪.‬‬ ‫ج‪ -‬إن تغيريقطعــة مــا هــو واقعــة مختلفــة بشــكل مطلــق عــن التــوازن الســابق والتــوازن الالحــق ؛ فالتغيــر الــذي أجــري ال ينتمــي‬ ‫اىل أي مــن هاتــن الحالتــن ‪ ،‬فالحــاالت اذا هــي الهامــة ‪.‬‬ ‫يف جولــة الشــطرنج أيــة وضعيــة معطــاة لهــا خاصيــة فريــدة لكونهــا متحــررة مــن ســابقاتها ؛ فــا اهميــة ‪،‬أبــدا ً ‪ ،‬إن كنــا وصلنــا‬ ‫اليهــا بهــذا الطريــق أو ذاك ‪ ،‬ومــن يتابــع الجولــة بأكملهــا ليــس لــه أيــة أفضليــة عــى الفضــويل الــذي يــأيت لرياقــب حالــة الجولــة‬ ‫يف اللحظــة الحرجــة‪ .‬ولــي نصــف هــذا الوضــع مــن غــر املجــدي اســرجاع مــا حــدث منــذ عــر ثــوان مــن قبــل‪ .‬كل هــذا يطبــق‬ ‫بشــكل مســاو يف اللســان ‪ ،‬ويكــرس التمييــز الجــذري بــن التعاقبيــة والتزامنيــة ‪.‬فالــكالم ال يجــري ابــدا اال عــى حالــة لســان ‪،‬‬ ‫والتغ ـرات التــي تدخــل بــن الحــاالت ليــس لهــا يف هــذه الحــاالت أي مــكان ‪.‬‬ ‫ ليــس هنــاك اال نقطــة واحــدة تبــدو فيهــا املقارنــة خاطئــة ‪ :‬العــب الشــطرنج ميتلــك نيــة اج ـراء النقلــة ‪ ،‬ومامرســة تأثــر عــى‬‫النظــام ‪ ،‬بينــا يف اللســان ليــس هنــاك تعمــد مســبق ألي يشء ؛ فاألمــر فيــه يحــدث بطريقــة تلقائيــا وعرضـاً عــن طريــق الصدفــة ‪.‬‬ ‫يعطــي دي سوســر األفضليــة للتزامنيــة عــى التعاقبيــة ‪ ،‬بالنســبة للمتكلمــن ‪ ،‬وكذلــك بالنســبة لعــامل اللســانيات الــذي ال يهتــم‬ ‫بالتعاقبيــة لذاتهــا ‪ .‬مــن املؤكــد « أن ال يشء اكــر أهميــة مــن معرفــة تكــون حالــة معينــة ‪ ،‬هــذا صحيــح مبعنــى مــن املعــاين ‪،‬‬ ‫فالــروط التــي شــكلت هــذه الحالــة توضــح لنــا طبيعتهــا الحقيقيــة وتحمينــا مــن بعــض األوهــام ‪ .‬ولكــن هــذا يثبــت بشــكل‬ ‫صحيــح أن التعاقبيــة بذاتهــا ال غايــة لهــا ‪.‬والســبب الرئيــي الــذي جعــل بنيويــة دي سوســر تنطبــع بالطابــع الســانكروين هــو‬ ‫الصفــة االعتباطيــة أو االتفاقيــة التــي نســبها اىل العالقــة بــن الــدال واملدلــول ‪.‬‬ ‫وهكــذا ؛ فــان التزامنيــة كــا يراهــا دي سوســر هــي البحــث يف الثوابــت اللغويــة التــي تعــر عــن بنــاءات ال يؤثــر عليهــا التطــور ‪،‬‬ ‫ألن هــذه البنــاءات جــزء مــن الرتكيــب األصــي للغــة « باعتبارهــا وســيلة للتعبــر الرمــزي عــن املعــاين «(‪ .)17‬وفكــرة التزامنيــة هــذه‬ ‫جعلــت البنيويــة ‪ ،‬يف اتجاهاتهــا اللغويــة وغــر اللغويــة ‪ ،‬تعــارض النزعــة التاريخيــة معارضــة شــديدة ‪.‬‬ ‫ اللغويــات الداخليــة واللغوايــات الخارجيــة ‪ :‬اللغويــات الداخليــة ‪ ،‬كــا يراهــا دي سوســر ‪،‬هــي اللغــة ضمــن نســقها الخــاص ‪،‬‬‫ويوضــح ذلــك مــن خــال مثــل لعبــة الشــطرنج الــذي ذكــر ســابقا‪ .‬يقــول يف كتابــه محــارضات يف اللســانيات العامــة ‪ »:‬فيــا يتعلــق‬ ‫باللغويــات الداخليــة ‪ ،‬فــان اللســان هــو نظــام ال يعــرف اال نســقه الخــاص ‪ ،‬ومقارنتهــا بلعبــة الشــطرنج توضــح أنــه مــن الســهل‬ ‫متييــز مــا هــو خارجــي مــا هــو داخــي ؛ واقعــة ان هــذه اللعبــة أتــت مــن الفــرس اىل أوروبــا هــي مــن طبيعــة خارجيــة ‪ .‬أمــا مــا‬ ‫يتعلــق بنظــام اللعبــة وقواعدهــا فهــو داخــي فيهــا ‪ .‬اذا اســتبدلت قطــع الخشــب بقطــع مــن العــاج ‪ ،‬هــذا االســتبدال ال قيمــة لــه‬ ‫بالنســبة للنظــام ‪ ،‬ولكــن اذا قللنــا أو زدنــا عــدد القطــع ‪ ،‬هــذا التغيــر ميــس بشــكل عميــق قواعــد اللعبــة «‪.18‬‬ ‫هــذا املثــل يســتخدمه دي سوســر لتوضيــح الصفــة التاميزيــة للغــة ؛ فنجــاح اللعبــة أساســه العالقــات التفاضليــة أو التاميزيــة بــن‬ ‫القطــع وليــس قيمتهــا الذاتيــة ‪ .‬وهــذا العالقــات هــي مامييــز النســق الداخــي للغــة ‪ ،‬أمــا اللغويــات الخارجيــة فهــي ‪ ،‬كــا يــرى دي‬ ‫سوســر ‪ ،‬تعنــي دراســة العالقــة القامئــة بــن اللغــة والدوائــر املؤثــرة عليهــا ‪ ،‬كالحضــارة والتاريــخ الســيايس ‪ ،‬وعلــم النفــس ‪...‬الــخ ‪.‬‬ ‫تلــك العوامــل املؤديــة اىل انتشــار اللغــة خــارج موطنهــا األصــي أو التــي تــؤدي اىل خلــق لغــة فصحــى يف مقابــل اللهجــات العامــة ‪.‬‬

‫‪1 7‬‬ ‫‪ 18‬‬

‫ ‪ -‬زكريا ‪ ،‬د‪ .‬فؤاد ‪ ،‬م‪.‬س ‪ ،‬ص ‪.20‬‬‫‪De Saussure , cours,p op cite, p 43 -‬‬


‫خاللهــا التوحيــد بــن العالمــة ومــا تشــر اليــه ســواء كان الــيء ذاتــه أو مفهومــه العقــي ‪ .‬تتحقــق الداللــة عنــد دي سوســر مــن‬ ‫خــال عالقــة التآلــف بــن الــدال واملدلــول ‪ ،‬ولكــن الــدال ال يشــر اىل قيمــة املدلــول أو مضمونــه ‪ ،‬وبذلــك تكــون العالقــة بينهــا‬ ‫اصطالحيــة يقيمهــا العــرف االجتامعــي ويث ّبتهــا ‪،‬ومــن ثــم ال يعــود بإمــكان مرســل واحــد للعالمــة اللغويــة أو مســتقبل واحــد لهــا‬ ‫أن يتفقــا عــل فصــم العالقــة أو تغيريهــا بعيداعــن أع ـراف الجامعــة ‪.‬‬ ‫وقــد قــاد القــول باعتباطيــة العالمــة اللغويــة دي سوســر اىل إنــكار وجــود الفكــر خــارج اللغــة أي نفــي اســبقية الفكــر عــى اللغــة‬ ‫‪ ،‬اذ ال يشء ميكــن أن يكــون واضحـاً قبــل ظهــور اللغــة ‪.‬‬ ‫ التزامنيــة والتعاقبيــة ‪:‬ان تاريــخ أيــة كلمــة ‪ ،‬كــا يقــول دي سوســر « كثـرا مــا يكــون بعيــدا ً كل البعــد عــن فهــم املعنــى الحــايل‬‫لتلــك الكلمــة « ‪ ، 14‬ومــا دامــت اللغــة مجــرد نســق أو نظــام ‪ ،‬ومــا دامــت تــؤدي وظيفتهــا باعتبارهــا ذات طبيعــة رمزيــة ‪ ،‬فهــي‬ ‫بحــد ذاتهــا ال تنطــوي عــى أي بعــد تاريخــي ‪ .‬تعنــي التزامنــة ( ‪) synchronie‬عنــد دي سوســر غيــاب الزمــن أي النظــر اىل اللغــة‬ ‫عــى أســاس وصــف حاالتهــا الراهنــة ‪،‬أمــا التعاقبيــة(‪ ،) diachronie‬فإنهــا تهتــم بوصــف تطــور اللغــات عــر الزمــن ‪.‬‬ ‫يف اللغــة ‪ ،‬كــا يؤكــد دي سوســر ‪ ،‬هنــاك محــوران ‪ :‬أفقــي ميثــل اللغــة يف وضعهــا الحــايل الخــاص بالعالقــات بــن أشــياء توجــد معــا‬ ‫‪ ،‬ويســتبعد منهــا أي تدخــل للزمــن‪ ،‬وعامــودي نســتطيع تبعـاً لــه أن نأخــذ باالعتبــار موضوعــات املحــور مــع تغرياتهــا أو تطوراتهــا‬ ‫عــر الزمــن ‪.‬‬ ‫إن اللســان بوصفــه نســقاً مــن القيــم معقــدا ً ‪ ،‬ومنظـاً بشــكل دقيــق ‪ ،‬مــن الــروري أن يــدرس تبعــا لهذيــن املحوريــن ‪ ،‬عــى أن‬ ‫تبقــى األســبقية يف ذلــك للتزامنيــة ‪.‬‬ ‫ليــس هنــاك نظــام مامثــل للســان يكشــف عــن دقــة مشــابهة لــه مــن حيــث التنــوع يف الحــدود ‪ ،‬والعــدد الكبــر مــن القيــم‬ ‫التــي تأخذهــا يف تعلــق داخــي متبــادل ‪ ،‬مضبــوط ودقيــق ‪ .‬ودراســة هــذا النظــام تتطلــب التمييــز بــن اللســانيات التطوريــة ‪،‬‬ ‫الســكونية ‪.‬األوىل ميكــن تســميتها بالتعاقبيــة ‪ ،‬والثانيــة بالتزامنيــة‪ .‬وبهــذا املعنــى يكــون تزامني ـاً كل مــا يتعلــق‬ ‫واللســانيات‬ ‫بالتشــكيلة أو الهيئــة أو املظهــر الســكوين أو الثابــت للســان ‪ .‬ويكــون تعاقبيـاً كل مــا لــه ســمة متعلقــة بالتطــور أو التتابــع ‪ .‬وهكــذا‬ ‫؛ فالتزامنيــة والتعاقبيــة يــدالن عــى حالــة لســان مــا‪ ،‬أو عــى تطــوره ‪.‬‬ ‫إن مــا يلفــت ‪ ،‬أوالً ‪،‬عنــد دراســة وقائــع اللســان هــو أن تتابعهــا بالنســبة للشــخص املتكلــم ال وجــود لــه ؛ فاللغــوي عنــد دراســة‬ ‫هــذه الوقائــع يجــد نفســه أمــام حالــة تفــرض عليــه لــي يفهمهــا أن يــرب صفح ـاً عــن كل مــا أنتجهــا ‪ ،‬أي ينبغــي أن يتجاهــل‬ ‫التعاقبيــة يف دراســته لهــا ‪ ،‬فــا ميكــن الدخــول يف وعــي الــذوات املتكلمــة اال مــن خــال الغــاء املــايض ‪ ،‬فتدخــل التاريــخ ال ميكــن‬ ‫لــه اال أن يجعــل حكمنــا خاطئـاً ‪ .‬ولتوضيــح هــذه الفكــرة يقــدم دي سوســر مثــا ( ‪ )15‬يقــول فيــه ‪ :‬مــن العبــث أن نرســم بانورامــا‬ ‫لجبــال األلــب مــن خــال أخذهــا ‪ ،‬يف الوقــت نفســه ‪ ،‬مــن قمــم مختلفــة لسلســلة جبــال جـرا (‪ )jura‬؛ فالبانورامــا ينبغــي أن تؤخــذ‬ ‫مــن نقطــة واحــدة ‪ .‬واألمــر عينــه ينطبــق عــى اللســان الــذي ال ميكــن وصفــه اال اذا متركزنــا يف حالــة مــن حاالتــه ‪ .‬واللغــوي ‪،‬‬ ‫عندمــا يتبــع تطــور اللســان ‪ ،‬فانــه يشــبه يف عملــه املراقــب الــذي يذهــب مــن طــرف اىل آخــر مــن اط ـراف قمــم سلســلة جبــال‬ ‫جـرا بهــدف تســجيل اختالفــات الرؤيــة املنظوريــة‪.‬‬ ‫ولــي يربهــن عــن اســتقاللية التزامنيــة والتعاقبيــة واالرتبــاط املتبــادل بينهــا ‪ ،‬يقــدم دي سوســر عــدة امثلــة يفضــل مــن بينهــا‬ ‫مقارنــة لعبــة اللســان (‪ )le jeu de langue‬بجولــة مــن لعبــة الشــطرنج (‪.) 16‬‬ ‫ بدايــة وضــع لعبــة الشــطرنج يتناســب جــدا ً مــع وضــع اللســان ؛ فالقيمــة الخاصــة بالقطــع تتعلــق بوضــع كل منهــا عــى لوحــة‬‫الشــطرنج ‪ ،‬واألمــر نفســه يف اللســان حيــث لــكل كلمــة قيمتهــا مــن خــال مقابلتهــا أو معارضتهــا مــع الكلــات األخــرى ‪.‬‬ ‫ يف الدرجــة الثانيــة ‪ ،‬النظــام ال يكــون أبــدا ً اال مؤقتــا ؛ فهــو يختلــف مــن وضعيــة اىل أخــرى ‪ .‬صحيــح أن القيــم تتعلــق أيضــا ‪،‬‬‫وفــوق كل يشء ‪ ،‬باتفــاق مســبق ‪ ،‬هــو قاعــدة اللعبــة ‪ ،‬التــي يســبق االتفــاق عليهــا بدايــة الجولــة ‪ ،‬والتــي تســتمر بعــد كل نقلــة‬

‫ إبراهيم ‪ ،‬زكريا ‪ ،‬مشكلة البنية ‪،‬م‪ .‬س ‪ ،‬ص ‪. 53‬‬‫‪ 14‬‬ ‫ ‪-.Dantier , Bernard. Synchronie ,diachronie,strucuralisme et histoire autour de la langue, www‬‬‫‪ 15‬‬ ‫‪.Classique .uqac .ca,p 11‬‬ ‫ ‪-- . Dantier , Bernard. Synchronie ,diachronie,strucuralisme , op cite ,p 18‬‬‫‪ 16‬‬


‫تؤمــن قواعــد الــزواج دورة تبــادل النســاء داخــل مجموعــة اجتامعيــة ‪ ،‬وتســتبدل بذلــك نظامــا مــن العالقــات القامئــة عــى الــدم‬ ‫(عالقــات مــن طبيعــة بيولوجيــة ) بنظــام اتحــاد او روابــط اجتامعيــة ‪ .‬وبهــذا املعنــى فــان القرابــة لغــة ألنهــا تؤمــن منوذجــا مــن‬ ‫التواصــل بــن األفـراد ‪ .‬الرســالة الناشــئة هنــا يتــم تبادلهــا بــن القبائــل ‪ ،‬بواســطة النســاء ‪ ،‬مــن خــال املصاهــرة ‪ ،‬وليــس بواســطة‬ ‫الكلــات التــي يتــم تبادلهــا بــن األفـراد يف الجامعــة ‪ ،‬وهــذا ال يفســد يف يشء تشــابه الظاهرتــن ‪ :‬تبــادل النســاء ‪ ،‬وتبــادل الكلــات ‪.‬‬ ‫اللغــة هــي تبــادل وتواصــل وحــوار ‪ ،‬وهــذا مــا يحــدث يف الــزواج ‪ ،‬لذلــك تبــدو املقارنــة بــن ظاهــريت تبــادل النســاء وتبــادل‬ ‫العالمــات متاحــة ‪ ،‬وميكــن تطبيــق املنهــج البنيــوي عــى هاتــن الظاهرتــن ‪.‬‬ ‫ان ســفاح القــرىب (تحريــم الــزواج مــن املحــارم ) هــو القاعــدة األساســية لوجــود االنســان يف الحالــة الثقافيــة ‪ ،‬ألنهــا بامتيــاز ‪ ،‬قاعــدة‬ ‫الوهــب والعطــاء ‪ .‬متنــع هــذه القاعــدة الــزواج بــاألم أو األخــت أو االبنــة مــن أجــل تقدميهــن لآلخــر ‪ .‬هــذا التقديــم لآلخــر ينتظــر‬ ‫منــه املقــدم مــا مياثلــه ‪ ،‬ويف هــذا التبــادل ماهــو أكــر مــن االشــياء املتبادلــة ؛ فهنــاك املبــدأ ‪ ،‬مبــدأ املعكوســية أو التبادليــة ‪ ،‬لهــذا‬ ‫الســبب فــان الــزواج هــو التقــاء دراماتيــي بــن الطبيعــة والثقافــة بــن االتحــاد والقرابــة ‪ .‬وانبثــاق التفكــر الرمــزي تطلــب أن‬ ‫تكــون النســاء ‪ ،‬كــا الــكالم ‪ ،‬هــو مايتــم تبادلــه ‪.‬‬ ‫ويف كتابــه «الفكرالــري « قــام سوســر بتحليــل « طبيعــة الفكــر الســطوري « ‪ ،‬واملعتقــدات واألعـراف املتنافــرة التــي جمعــت تعســفاً‬ ‫تحــت عنــوان الطوطميــة ‪ ،‬فوجــد أنهــا « متــت اىل معتقــدات أخــرى ذات صلــة مبــارشة او غــر مبــارشة برمــوز طبيعيــة تســمح‬ ‫بقاربــة العــامل الطبيعــي واإلجتامعــي بوصفــه كالً منتظــا»(‪. )25‬‬ ‫وقــد قــاده تحليــل األســاطري اىل اإلســتنتاج أن العقــل االنســاين واحــد ‪ ،‬وأن التفكــر األســطوري ال ميكــن تعريفــه بأنــه مــا قبــل‬ ‫منطقــي بــل هــو تفكــر منطقــي عــى مســتوى املحســوس ؛ انــه تفكــر يصنــف ويبــوب ‪ ،‬ويســتخدم القوالــب األمبرييــة ( النــيء‬ ‫واملطبــوخ ؛ الطــازج والتالــف ؛ املبلــل واملشــتعل ‪ ) ...‬باعتبارهــا أدوات مفهوميــة تســتخدم الســتخالص األفــكار املجــردة وربطهــا‬ ‫بطريقــة منســقة يف جمــل ‪.‬‬ ‫ان ماهــو أكــر اهميــة ‪ ،‬بنظــر ســروس ‪ ،‬ليــس مضمــون األســطورة ‪ ،‬وال تفســر كل رمــز مــن رمزرهــا عــى حــدة بحيــث يفهــم‬ ‫مبعــزل عــن الســياق الــذي ينــدرج فيــه ‪ .‬حقيقــة األســطورة ‪ ،‬برأيــه ‪ ،‬ترتكــز اىل العالقــات الفاقــدة للضمــون ‪ .‬وبهــذا املعنــى ميكــن‬ ‫القــول أن هنــاك موضوعيــة وبنيــة يف األســاطري وذلــك يتيــح املقارنــة بــن عنــارص عــدد كبــر مــن محتويــات األســاطري املختلفــة ‪.‬‬ ‫مييــل الفيلســوف دامئــا اىل ربــط فكــرة الخطــاب بفكــر الشــخص املنتــج لــه ‪ ،‬ولكــن العــامل ال يفكــر عــى هــذا النحــو ؛ فاســاطري‬ ‫مجتمــع مــا ‪ ،‬بالنســبة لــه ‪ ،‬تشــكل خطابــا لهــذا املجتمــع ‪ ،‬وهــو خطــاب ليــس لــه مرســل شــخيص ‪ ،‬ويتلقــاه العــامل كلغــوي يذهــب‬ ‫لدراســة لســان مجهــول يحــاول أن يضــع لــه قواعــد أو نحــو دون أن يبــايل مبعرفــة مــن قــال ومــا قيــل ‪.‬‬ ‫تشــكل طائفــة مــن األســاطري مجموعــة قابلــة لالســتبدال ؛ ففــي اســاطري الهنــود األمريكيــن حكايــات تنســب األفعــال نفســها ‪ ،‬تبعــا‬ ‫للقصــة اىل حيوانــات مختلفــة ‪ ،‬وفهــم معنــى كلمــة معينــة يف هــذه األســاطري يعنــي نقلــه وتبديلــه يف كل الســياقات التــي يــرد فيهــا‬ ‫‪.‬‬ ‫تتأســس البنيويــة ‪ ،‬كــا يــرى دي سوســر عــى مســتوى التنظيــم الــذي يقيــم نســقاً أو نظامـاً عــى غلفــة مــن الوعــي ‪ ،‬ويف اســاس‬ ‫األنظمــة االجتامعيــة هنــاك بنيــة تحتيــة صوريــة ‪ ،‬هــي تفكــر ال واع ســابق للفكــر االنســاين يبــن كــا لــو ان علمنــا كان معــدا ً‬ ‫مســبقاً يف األشــياء ‪ ،‬وكــا لــو أن النظــام الثقــايف لالنســان كان نظامــا طبيعيــا ثانيــا ‪ .‬والبنيــة متــارس مــن الــذوات الحيــة يف املجتمــع‬ ‫وكانهــا تســر مــن ذاتهــا ؛ فبالنســبة لــه قيمــة االســطورة تــأيت مــن كونهــا تغـرات أو تنويعــات هائلــة عــى موضــوع الســببية ‪.‬‬ ‫لقــد اعتمــد ســروس املنهــج البنيــوي يف دراســة األســاطري ليبــن أن هنــاك مبــادئ كامنــة وراء مظاهــر الثقافــة « ومــا هــو مشــرك‬ ‫بــن مختلــف الثقافــات ال ميكــن االهتــداء اليــه انطالقــا مــن املالحظــة ‪ ،‬ألن هنــاك بنــا ًء خفي ـاً ال ميكــن أن يظهــر عــى الســطح‬ ‫الخارجــي للظواهــر ابــدا ً وامنــا يكتشــف عقلي ـاً «‪ ،26‬وســعى الكتشــاف املعــاين الخفيــة لألســطورة ‪ ،‬واســتخالص املبــادئ األساســية‬ ‫لتفكــر االنســان البــدايئ مــن خاللهــا ‪.،‬وهكــذا فــان هدفــه مــا كان التوقــف عنــد حــدود ثقافــة بدائيــة معينــة ‪ ،‬ولكــن دراســة‬ ‫ ‬ ‫‪25‬‬ ‫‪ 26‬‬

‫ستروس ‪ ،‬كلود ليفي ‪ .‬الفكر البري ‪ ،‬ترجمة د‪ .‬نظير جاهل ‪ ،‬مؤسسة الدراسات الجامعية ‪ ،‬بيروت ‪ ، 1984‬ص ‪. 167‬‬‫‪ -‬زكريا ‪ ،‬د‪ .‬فؤاد ‪ ،‬البنائية ‪ ،‬م‪ .‬س ‪ ،‬ص ‪. 11‬‬


‫هنــاك عالقــة بــن اللغــة والتاريــخ الســيايس ؛ فاالحــداث التاريخيــة الكــرى املتمثلــة بالفتــح أو الغــزو أو االســتعامر حملــت لهجــات‬ ‫اىل أماكــن مختلفــة وأدخلــت تغــرات يف هــذه اللهجــات ‪ .‬وكذلــك املؤسســات عــى أنواعهــا كالكنيســة واملدرســة والصالونــات‬ ‫واملحاكــم واألكادمييــات أثــرت يف التطــور األديب للســان ‪.‬‬ ‫يــرى دي سوســر أن عــى عــامل اللســانيات أن يتفحــص العالقــات املتبادلــة بــن لغــة الكاتــب واللغــة الشــائعة ألن كل لغــة أدبيــة‬ ‫تنتــج ثقافــة تصــل اىل االنفصــال عــن فضائهــا لتتواجــد يف فضــاء طبيعــي هــو اللغــة املحكيــة ‪.‬بينــا تذهــب اللغويــات الداخليــة‬ ‫باتجــاه آخــر ؛ فاللســان هــو ســياق ال يعــرف اال النظــام الخــاص بــه ‪.‬ومقارنتــه بلعبــة الشــطرنج هنــا ايضــا متيــز مــا هــو داخــي فيهــا‬ ‫عــا هــو خارجــي ‪ ،‬ويف هــذا االطــار فــإن انتقــال اللعبــة مــن الفــرس اىل أوروبــا يشــكل عامــا خارجيــا ‪،‬و كل مــا تتعلــق بقواعــد‬ ‫اللعبــة يشــكل عامــا داخليــا ‪.‬واســتبدال قطــع الخشــب بقطــع عــاج ال يؤثــر عــى نظــام اللعبــة ‪ ،‬فهــو اذا عامــل خارجــي ‪.‬وإضافــة‬ ‫قطعــة أو انقــاص عــدد القطــع يحــدث تغيـرا ميــس عميقــا قواعــد اللعبــة ‪ ،‬فهــو اذا عامــل داخــي ‪ .‬وهكــذا اذن يصــل دي سوســر‬ ‫‪19‬‬ ‫اىل التأكيــد ‪ « :‬يكــون داخليــا كل مــا يغــر النظــام بدرجــة مــا»‬ ‫ البنيوية يف العلوم االنسانية‬‫مهــدت أعــال دي سوســر ملقاربــة العلــوم االنســانية بطريقــة أكــر منهجيــة ‪ ،‬فــرز االهتــام بالوقائــع االجتامعيــة والثقافيــة‬ ‫باعتبارهــا مرتبطــة بشــكل جوهــري ببنيــة النظــام االجتامعــي والثقــايف الــذي ينتجهــا ‪ ،‬فبعــد البيــان الــذي أعلنــه علــاء اللغــة‬ ‫الســاف ‪ ،‬الذيــن تأثــروا اىل حــد كبــر بــآراء دي سوســر ‪ ،‬أصبــح املنهــج البنيــوي باعتبــاره « منهجـاً علميـاً صالحـاً الكتشــاف قوانــن‬ ‫بنيــة النظــم اللغويــة وتطورهــا « ‪ ،20‬ال يقتــر تطبيقــه عــى اللغــة فقــط ‪ ،‬بــل يتعداهــا اىل مياديــن الدراســات األدبيــة واألنرتبولجيــا‬ ‫والعلــوم االنســانية بشــكل عــام ‪ .‬والــدور األســايس يف اتســاع نطــاق تطبيــق هــذا املنهــج يعــود اىل كلــود ليفــي ســروس الــذي التقــى‬ ‫بياكوبســون يف امــركا يف اربعينــات القــرن العرشيــن (‪،)21‬وتعــرف مــن خاللــه عــى املنهــج البنيــوي ليســتخدمه يف دراســة الظواهــر‬ ‫االنرتبولوجيــة كنظــام القرابــة واألســاطري والطوطميــة ‪ ..‬الــخ ‪.‬‬ ‫تقــوم نظريــة ســروس يف أساســها عــى فكــرة بســيطة يف ظاهرهــا ‪ ،‬مؤداهــا أن هنــاك أبنيــة عقليــة ال شــعورة عامــة تشــرك فيهــا كل‬ ‫الثقافــات اإلنســانية رغــم مــا بينهــا مــن اختــاف وتبايــن ‪ ،‬وأن الوســيلة الوحيــدة للكشــف عــن هــذه األبنيــة الألشــعورية ‪ ،‬وفهمهــا‬ ‫هــي اللغــة‪. 22‬‬ ‫يشــر ســروس يف « األنرتبولوجيــا البنيويــة « اىل محــارضات دي سوســر يف األلســنيات العامــة ومتييــز الذيــن دونــوا هــذه املحــارضات‬ ‫بــن فئــة تضــم قواعــد اللغــة والتزامنــي والواعــي ‪ ،‬وفئــة تضــم الصوتيــات والتعاقبــي والالواعــي ‪ ،‬ليؤكــد أن التزامنــي يف اإلناســة‬ ‫كــا يف األلســنيات قــد يكــون ال واعيـاً شــأنه شــأن التعاقبــي (‪.)23‬‬ ‫ويف خواطــر حــول ذرة القرابــة يتنــاول ســروس السســتام الرباعــي مــن العالقــات القامئــة بــن الــخ واختــه ‪ ،‬والــزوج وزوجتــه ‪ ،‬واألب‬ ‫وإبنــه ‪ ،‬والخــال وأبــن الخــت ‪ ،‬فــرى انــه يعــر عــن أبســط البنــى التــي ميكــن تصورهــا ‪ ،‬بــل التــي ميكــن معاينتهــا أحيانـاً ‪ ،‬مــع‬ ‫الحــرص عــى حالــة البنــى األخــرى التــي ميكــن أن تستشــف مــن الحالــة البســيطة عــن طريــق بعــض التحــوالت (‪.)24‬‬ ‫وتطبيــق ســروس املنهــج البنيــوي يف دراســة أنظمــة القرابــة ‪ ،‬جعلــه يســتنتج وجــود تشــابه بــن نظــام القرابــة واللغــة ‪ .‬لقــد‬ ‫أقيــم نظــام القرابــة عــى اســاس العالقــات املزدوجــة مثــل ‪ :‬زوج – امــرأة ؛ أب – ابنــة ؛ أخ – أخــت ؛ خــال – ابــن أخــت ‪ .‬مثلــا‬ ‫تأسســت اللغــة عــى العالقــة بــن الــدال واملدلــول ‪ .‬ومثــل اللغــة ‪ ،‬ايضــا ‪ ،‬فــان القرابــة هــي نظــام تواصــل ‪ ،‬انهــا نظــام اعتباطــي‬ ‫مــن التمثــات الرمزيــة ‪.‬‬ ‫ ‪-. Ibid , p 43‬‬‫‪ 19‬‬ ‫ إبراهيم ‪ ،‬د‪ .‬زكريا ‪ .‬مشكلة البنية ‪ ،‬م‪ .‬س ‪ ،‬ص ‪. 48‬‬‫‪ 20‬‬ ‫ ياكوبسون ‪ .‬محاضرات في الصوت والمعنى ‪ ،‬ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح ‪ ،‬المركز الثقافي‬‫‪ 21‬‬ ‫العربي ‪ ،‬بيروت ‪ ، 1994‬ص ‪. 13‬‬ ‫أبو زيد ‪ ،‬د‪ .‬أحمد ‪ .‬جاك دريدا فيلسوف فرنسا المشاغب ‪ ،‬في ‪ :‬جاك دريدا والتفكيك ‪ ،‬تحرير د‪ .‬أحمد عبد الحليم عطية‬ ‫‪ 22‬‬ ‫ا� ‪ ،‬يب�وت ‪ ، 2010‬ص‪. 19‬‬ ‫ر‬ ‫الفا‬ ‫دار‬ ‫‪،‬‬ ‫ط‪1‬‬ ‫بي‬ ‫ ستراوس ‪ ،‬كلود ليفي ‪ .‬اإلناسة البنيانية ( األنتربولوجيا البنيوية ) ‪ ،‬ترجمة حسن قبيسي ‪ ،‬القسم الثاني ‪ ،‬مركز‬‫‪ 23‬‬ ‫اإلنماء القومي ‪ ،‬بيروت ‪ ، 1990‬ص ‪. 17‬‬ ‫ م ‪ .‬ن ‪ ،‬ص ص ‪. 80-81‬‬‫‪ 24‬‬


‫يطــوره وينميــه طــوال األج ـزاء الثالثــة مــن كتابــه الرئيــي « (‪.) 32‬‬ ‫كان حــرص ألتوســر شــديدا ً عــل كشــف البنــاء العلمــي املنضبــط يف كتابــات ماركــس‪ .‬هــذا البنــاء املتصــف باملوضوعيــة ‪،‬والبعيــد‬ ‫عــن االعتبــارات العاطفيــة واالنســانية هــو البنــاء املميــز للامركســية ‪ ،‬وبفضلــه اصبحــت املاركســية علـاً باملعنــى الصحيــح ‪ ،‬كــا‬ ‫يــرى التوســر الــذي «ال يــكل وال ميــل مــن تكـرار القــول بــان طريقــة االنتــاج هــي املوضــوع الوحيــد والفريــد للامديــة التاريخيــة‬ ‫‪ ،‬وهــو موضــوع يختلــف متامــا عــن موضــوع االقتصــاد الســيايس الكالســييك ‪ ،‬وعــن موضــوع نظريــا ت التاريــخ واملجتمــع يف عــر‬ ‫التنويــر «‪ . 33‬وهكــذا فــإن طــرق االنتــاج هــي مــا يتطــور يف التاريــخ‪ ،‬ويتأصــل تطورهــا يف املســتويات املختلفــة للبنيــة االجتامعيــة ‪.‬‬ ‫ومثلــا هــي الحــال يف اعتــاد ألتوســر عــى املنــج البنيــوي يف اعــادة قــراءة ماركــس‪ ،‬كان جــاك الكان (‪ )1981 - 1901‬أحــد‬ ‫املفرسيــن الكبــار للتحليــل النفــي اذ قــدم قـراءة فلســفية لكتابــات فرويــد ســمحت لــه بانتــاج تصــور جديــد متامـاً لهــا حيــث‬ ‫أدرجهــا يف اطــار العلــوم االنســانية ‪ ،‬ويف قراءتــه الجديــدة هــذه عمــل عــى توضيــح سلســة مــن املفاهيــم الســيكولوجية مــن‬ ‫بينهــا مفهــوم الالوعــي ‪ ،‬وقــام بتســليط الضــؤ عــى أهميــة اللغــة عنــد فرويــد ‪ .‬إن اللغــة ‪،‬والرمــوز بشــكل عــام ‪،‬هــي مــن العنــارص‬ ‫الثقافيــة ‪،‬وهــي ‪ ،‬ال العنــارص الطبيعــة ‪ ،‬مــا يشــكل أســاس الــذات البرشيــة ‪.‬‬ ‫يف بحــث لــه حــول وظيفــة وحقــل الــكالم واللغــة يف التحليــل النفــي يؤكــد الكان أن البــر « يجتازهــم ويعــر مــن خاللهــم النظــام‬ ‫الرمــزي «‪ . 34‬ولكــن اللغــة ليســت مجــرد حامــل لألفــكار واملعلومــات ‪ ،‬كــا انهــا ليســت مجــرد واســطة للتواصــل ‪ .‬بــل يجــادل‬ ‫الكان بــأن مــا يجعــل التواصــل ناقصـاً أيضـاً حــاالت ســؤ الفهــم‪ ،‬وزالت اللســان‪ ،‬ورشود الفكــر‪ ،‬ونســيان األســاء‪ ،‬والقـراءات الخاطئــة‬ ‫‪ ...‬الــخ وجميعهــا تــرز يف اللغــة ومــن خاللهــا ‪ .‬هــذه هــي املالمــح التــي مــن خاللهــا ميكــن أن نــدرك آثــار الالوعــي ‪ ،‬وهــذه هــي‬ ‫املالمــح التــي مكنــت الكان مــن ربــط اللغــة بالالوعــي حيــث يقــول ‪ « :‬الالوعــي لــه بنيــة تشــبه اللغــة « ‪،‬و « الالوعــي هــو الــذي‬ ‫يعطــل الخطــاب التواصــي ليــس حســب الصدفــة ‪ ،‬ولكــن وفقــا النتظاميــة بنيويــة معينــة «(‪. )35‬‬ ‫إن املحلــل النفــي ‪،‬كــا يؤكــد الكان ‪،‬هــو أشــبه مــا يكــون باللغــوي (‪ )linguiste‬الــذي يعمــد اىل فــك شــيفرة الرمــوز التــي يحملهــا‬ ‫كالم الشــخص الخاضــع للتحيــل ‪،‬واللغــة الرمزيــة ملحتويــات أحالمــه وأعراضــه املرضيــة لــي يكتشــف معانيهــا الخفيــة ‪ .‬ان املريــض‬ ‫الخاضــع للتحليــل ال يســتطيع التعبــر بشــكل واضــح عــن املوضوعــات املكبوتــة يف الوعيــه ‪ ،‬والالوعــي بهــذا املعنــى هــو ‪ ،‬كــا‬ ‫يـ�رى الكان )‪ ، (36‬هــذا الجــزء مــن الخطــاب أو القــول الــذي تفتقــر اليــه الــذات الواعيــة لــي يكــون قولهــا متصـ ًـا ودون فجــوات ‪،‬‬ ‫والعــاج بالتحليــل النفــي ال يهــدف اىل أكــر مــن مــلء الفجــوات يف كالم املريــض مــن خــال فــك رمــوزه وتفســر مــا خفــي مــن‬ ‫معانيــه ‪ .‬ان صــور االحــام واألعـراض العصابيــة هــي‪ ،‬كــا يقــول الكان‪ ،‬لغــة الالوعــي ‪ ،‬انهــا دوال عــى مدلــوالت مكبوتــة يف الوعــي‬ ‫الشــخص الخاضــع للتحليــل النفــي ‪ .‬واالرتبــاط بينهــا هــو نفســه الــذي يجــده املحلــل النفــي بــن دوال اللغــة القامئــة ومدلوالتهــا‬ ‫‪ .‬وبهــذا املعنــى ميكــن القــول أن بنيــة الالوعــي تشــبه بنيــة اللغــة ؛ فاللغــة نســق مــن العالمــات ‪ ،‬وكل عالمــات هــي دال ومدلــول‬ ‫‪ ،‬والالوعــي هــو بنيــة مــن املكبوتــات التــي تشــكل مدلــوالت لــدوال هــي األعـراض التــي تظهرهــا ‪.‬ففــي آليــة األعـراض واألحــام‬ ‫نجــد بنيــة مشــابهة للغــة ‪ ،‬اي بنيــة كتلــك التــي تظهــر يف اللغــات الفعليــة التــي يتكلمهــا النــاس ‪.‬فلغــة الالوعــي هــي لغــة رمزيــة‬ ‫تشــبه اللغــة العاديــة وآليــة الرتميــز الخاصــة بالالوعــي لهــا نفــس بنيــة األســالب االنشــائية يف الخطــاب أو القــول (‪ ) discours‬التــي‬ ‫ميكــن فهمهــا باعتارهــا أشــكاال مــن التلميــح والتوريــة واالســتعارة ومــا اىل ذلــك مــن املفاهيــم اللغويــة ‪.‬‬ ‫ من البنيوية اىل ما بعد البنيوية‬‫أدى تركيــز دي سوســر عــى فكــرة العالمــة باعتبارهــا عالقــة اعتباطيــة بــن الــدال واملدلــول ‪ ،‬واعتبــار اللغــة نســقا مــن العالمــات ‪،‬‬ ‫اىل نشــأة الدراســات اللســانية ‪ ،‬وعلــم الســيميولوجيا الــذي بــات مــن العلــوم التــي ال تقتــر دراســتها عــى اللغــة فحســب بــل‬ ‫تتعــدى ذلــك اىل مختلــف أشــكال العالمــات التــي تلعــب دورا ال غنــى عنــه يف التواصــل االجتامعــي ‪ .‬ولعــل ابــرز األعــال التــي‬ ‫بــرزت يف هــذا امليــدان تتمثــل بــآراء روالن بــارت يف كتابــه ‪ :‬عنــارص الســيميولوجيا الــذي تنــاول فيــه العالمــات غــر اللغويــة ‪.‬‬ ‫ ‬ ‫‪32‬‬ ‫‪ 33‬‬ ‫‪ 34‬‬ ‫‪ 35‬‬ ‫‪ 36‬‬

‫ م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 51‬‬‫ م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 81‬‬‫‪- . Lacn , Jack, Ecrits ,Edition du seuil, 1966 , p24‬‬ ‫ ليشته ن جون ‪ ،‬خمسون مفكرا ً ‪ ،‬م‪ .‬س ‪ ،‬ص ‪. 150‬‬‫‪-258 op cite , p Lacn , Jack, Ecrits -‬‬


‫الثقافــات القدميــة للوصــول مــن خاللهــا اىل معرفــة املبــادئ األساســية للذهــن البــري ‪ .‬وقــد حقــق ســروس « النقلــة األخــرة‬ ‫للبنيويــة مــن اللغويــات اىل الدراســات األدبيــة عــر دراســة االنرتبولوجيــا يف كتابــه املحــوري األنرتبولجيــا البنيويــة «‪ ، 27‬حيــث‬ ‫تنــاول مختلــف مظاهــر الحيــاة يف املجتمــع البــدايئ املتمثلــة يف الســلوك اليومــي للنــاس ‪ ،‬وطريقــة تشــييدهم للمســاكن ‪ ،‬وآدائهــم‬ ‫للشــعائر والطقــوس ‪ ،‬وتنظيمهــم لعالقــات القرابــة ‪ ،‬ســاعيا لكشــف العالقــات الباطنيــة لهــذه الظواهــر التــي تكشــف عــن بنــاء‬ ‫ذهنــي واحــد‪.‬‬ ‫وهكــذا ؛ فــان دراســة الثقافــات القدميــة عنــد ســروس هــي وســيلة للوصــول اىل املبــادئ األساســية للذهــن البــري ‪ .‬ونواحــي‬ ‫التشــابه األسساســية يف الثقافــات املختلفــة تتمثــل يف «انهــا كلهــا نواتــج لذهــن يعمــل بطريقــة واحــدة «‪ . 28‬والنشــاط العقــي‬ ‫املشــرك بــن جميــع املجتمعــات وفيهــا كلهــا يتوفــريف اللغــة التــي متثــل الحــد الــدىن املشــرك بينهــا ‪ .‬واللغــة هــي الــرط الــروري‬ ‫لقيــام أيــة ثقافــة ‪.‬‬ ‫لقــد تحــول ســروس مــن التفكــر يف الوحــدة اللغويــة ذات املعنــى باعتبارهــا نظامــا أوشــبكة عالقــات قامئــة عــى االختــاف ‪ ،‬كــا‬ ‫كان الحــال عنــد فردينانــد دي سوســر ‪ ،‬اىل التفكــر يف « بنــى األســاطري التــي افرزتهــا الشــعوب يف حالــة البــداءة ‪ ،‬واســس لدراســتها‬ ‫باعتبارهــا شــبكة عالقــات بــن وحــدات تحكمهــا عالقلــت االختــاف « ‪ ، 29‬وأكــد ان املنهــج البنيــوي ‪ ،‬يجعلنــا نــرى النواتــج الثقافيــة‬ ‫عــى اســاس البنــاء الواحــد الــذي تقــوم عليــه أل ن هنــاك بنــاءات للعقــل البــري تفــرض نفســها يف كل نواتجــه االجتامعيــة‬ ‫والثقافيــة وتطبعهــا بطبعتهــا الخاصــة ‪ .‬وهكــذا باتــت البنيويــة عنــده تقــوم عــى أســاس االفـراض أن هنــاك نظامــا يقــع خلــف‬ ‫مظاهــر األشــياء ويتحكــم بهــا ‪ ،‬والنظــام أو النســق العــام عندمــا يتــم الوصــول اليــه مــن خــال األنســاق الفرديــة ميكــن بعــد ذلــك‬ ‫االنطــاق منــه الســتنتاج البنيــة التــي تشــكل النمــوذج العــام لــكل االنســاق املشــابهة ؛ فدراســة عــدد مــن األســاطري يف ثقافــة معينــة‬ ‫(نســق فــردي ) يــؤدي اىل اســتنتاجات عامــة ميكــن تطبيقهــا عــى ايــة أســاطري فرديــة أنتحتهــا شــعوب أو ثقافــات أخــرى ‪.‬‬ ‫كان ســروس يعتقــد أن هنــاك وظيفــة رمزيــة للعقــل ال يؤثــر فيهــا الزمــن ‪ ،‬وأن للعقــل االنســاين هويــة اساســية تظــل مالزمــة لــه يف‬ ‫كل زمــان ومــكان ‪ ،‬وانــا نســتطيع كشــف هــذه الهويــة بتحليــل نواتــج هــذا العقــل مــن أســاطري ونظــم اجتامعيــة وطقــوس ‪،‬وانتقــد‬ ‫بشــدة فكــرة حــدوث تحــول أســايس يف نــوع العقليــة البرشيــة عــر العصــور « ‪ ،30‬وأكــد فكــرة البنــاءات الثابتــة للعقــل البــري التــي‬ ‫تفــرض ذاتهــا يف كل نواتجــه الثقافيــة ‪ ،‬فــارىس يف الحيــاة الثقافيــة الفرنســية أتجاهــا يف دراســة الظواهــر الثقافيــة واالجتامعيــة يؤكــد‬ ‫أهميــة البنيــة الســابقة عــى مظاهرهــا مــن جهــة ‪ ،‬ويرفــض النزعــة التاريخيــة يف فهــم الظواهــر وتفســرها مــن جهــة أخــرى ‪ .‬لذلــك‬ ‫مــا كان غريبــا هــذا الـراع الحــاد الــذي قــام مــا بــن البنيويــة مــن جهــة والوجوديــة واملاركســية مــن جهــة اخــرى ‪ ،‬بعــد أن كانــت‬ ‫الوجوديــة قــد انتــرت اىل حــد كبــر يف الحيــاة الثقافيــة واالجتامعيــة يف فرنســا بعــد الحــرب العامليــة الثانيــة ‪.‬‬ ‫وقــد انســحب تطبيــق ســروس للمنهــج البنيــوي يف ميــدان األنرتبولوجيــة عــى مختلــف العلــوم االنســانية يف ســتينات القــرن‬ ‫العرشيــن حيــث شــاعت الدراســات التــي تعيــد قـراءة نصــوص الفالســفة واألدبــاء قـراءة بنيويــة تســعى اىل املوضوعيــة والعلميــة‬ ‫واعــادة انتــاج معــاين جديــدة مــا عرفتهــا القـراءات الســابقة ‪ .‬ويف هــذا االطــار جــاءت كتابــات ألتوســر والكان اللذيــن أعــادا قـراءة‬ ‫ماركــس وفرويــد ‪ ،‬وروالن بــارت الــذي طبــق املنهــج البنيــوي يف امليــدان األديب ‪.‬‬ ‫لقــد تبنــى لــوي ألتوســر(‪ ) 1990-1918‬املنهــج البنيــوي ‪ ،‬وأعــاد قـراءة النصــوص املاركســية قـراءة بنيويــة يف كتابيــه ‪« :‬مــن أجــل‬ ‫ماركــس» ‪ ،‬و»ق ـراءة يف رأس املــال» ‪،‬حيــث رفــض الــرأي القائــل بأســبقية األف ـراد عــى الظــروف االجتامعيــة ‪ ،‬وتصــور املجتمــع‬ ‫باعتبــاره كيانـاً كليـاً «لــه بنيــة تتكــون مــن مســتويات مســتقلة نســبيا ‪،‬قانونيــة ‪ ،‬ثقافيــة ‪ ،‬سياســية الــخ ‪،‬وهــذه املســتويات تتحــدد‬ ‫طريقــة عملهــا يف نهايــة األمــر باالقتصــاد «(‪. ) 31‬‬ ‫يبــدو ملــن يقــرأ رأس املــال ‪ ،‬ق ـراءة ســطحية ‪،‬بحث ـاً عــن املعــاين املبــارشة التــي تبديهــا نصوصــه ‪،‬أن الفكــرة الرئيســة التــي يــدور‬ ‫حولهــا بحــث ماركــس هــو العمــل وعالقتــه ب ـراس املــال ‪ « ،‬ولكــن التفســر الصحيــح ‪ ،‬يف راي ألتوســر ‪،‬ينبغــي ان يرتكــز عــى‬ ‫التقابــل بــن القيمــة والقيمــة االســتعاملية وفائــض القيمــة ‪ ،‬ومــن هاتــن الفكرتــن يســتخلص البنــاء األســايس الــذي أخــذ ماركــس‬

‫‪2 7‬‬ ‫‪ 28‬‬ ‫‪ 29‬‬ ‫‪ 30‬‬ ‫‪ 31‬‬

‫ حمودة ‪ ،‬د‪ .‬عبد العزيز ‪،‬الخروج من التيه ‪ ،‬م‪ .‬س ‪،‬ص ‪. 93‬‬‫ زكريا ‪ ،‬د‪ .‬فؤاد ‪ ،‬البنائية ‪ ،‬م‪.‬س ‪ ،‬ص ‪. 27‬‬‫ حمودة ‪ ،‬د‪ .‬عبد العزيز ‪ ،‬الخروج من التيه ‪ ،‬م‪ .‬س ‪ ،‬ص ‪93‬‬‫‪ -‬زكريا ‪ ،‬د‪ .‬فؤاد ‪ ،‬البنائية‪ ،‬م‪.‬س ‪ ،‬ص ‪. 31‬‬‫‪ -‬ليشته ‪ ،‬جون ‪.‬خمسون مفكرا ً ‪ ،‬م‪ .‬س ‪ ،‬ص‪. 86‬‬


‫الوضــوح يف الكتابــة ألنــه « ال يــرك فرصــة للذهــن أن يعمــل ويعــاين يف قـراءة النــص «‪ . 41‬ان العمــل اللغــوي ‪،‬كــا يــرى بــارت‬ ‫‪ ،‬ينتــج مشــهدا لغويــا « واملطلــوب مــن القــاريء أن يســتمتع بذلــك املشــهد أو املنظــر يف حــد ذاتــه بــدالً مــن النظــر اىل‬ ‫العامل من خالل اللغة « ‪. 42‬‬ ‫نظَّــر روالن بــارت « لثــورة الصياغــة الحديثــة يف الفرنســية ‪ ،‬وتأثــره تعــدى النــص األديب اىل النــص الفلســفي والصحفــي بــل وصــل‬ ‫اىل عــادات الحديــث والرثثــرة بــن املثقفــن « ‪ .43‬بــات النــص حضــورا ً ال بنــا ًء ‪ ،‬وأداء النــص لذاتــه ‪ ،‬وليــس إليصــال رســالة ‪ .‬وبــارت‬ ‫‪،‬شــاعر النــص األول ‪، 44‬اهتــم بكتابــة جســدية النــص ‪ ،‬وصــارت كتابتــه خــارج أنــواع الكتابــة ‪ ،‬صــارت نوعـاً جديــدا ً خــارج املعهــود‬ ‫« لــذة النــص « أســلوبا نيتشــوياً ‪ ،‬مفع ـاً بعبــارات التحليــل النفــي ومصطلحــات مــا بعــد الحداثــة ‪،‬‬ ‫؛ فقــد اســتخدم يف‬ ‫ليقــول «إن النــص ال يســتطيع أن ينــزع منــي ســوى هــذا الحكــم غــر الوصفــي ‪ :‬هــذا هــو ! أو أكــر مــن ذلــك هــذا هــو بالنســبة‬ ‫يل ! وهــذه العبــارة بالنســبة يل ليســت ذاتيــة وال وجوديــة وإمنــا نيتشــوية»‪. 45‬‬ ‫ال يكــون النــص إبداعي ـاً إال إذا كان مفتوح ـاً للتأويــل ‪ .‬والتأويــل نــوع مــن الشــغف ‪ ،‬ألنــه ليــس إال شــكالً إلرادة القــوة ‪،‬وبهــذا‬ ‫املعنــى ال يحــق التســاؤل عمــن يقــوم بالتأويــل ‪ .‬يتبنــى بــارت هــذا الــرأي النيتشــوي لتصبــح عالقــة القــارىء بالنــص عالقــة شــغف ‪،‬‬ ‫وليغــدو النــص نســيجاً يتكــون ويصنــع نفســه مــن خــال تشــابك مســتمر ‪ ،‬والــذات الضائعــة يف هــذا النســيج تتفــكك كأنهــا عنكــب‬ ‫يــذوب مــن تلقــاء نفســه داخــل اإلفـرازات املشــيدة لشــبكته ‪ .46‬وهــذا النســج ثقــايف بامتيــاز ينهــل مــن الفلســفة ‪،‬والعلــم‪ ،‬واألدب‪،‬‬ ‫والتحليــل النفــي ليضــع أمــام القــارىء مشــهدا ً مدهشـاً يف عمقــه وغرائبيتــه ‪ .‬مــا عــاد النــص منتوجـاً أو نســيجاً وحجابـاً للمعنــى‬ ‫أن الحقيقــة ‪ ،‬وباتــت « لــذة النــص مناقضــة لنظريــة النــص التــي تجعــل منــه منظومــة ذات مركــز وفلســفة للمعنــى «‪ .47‬إن النــص‬ ‫ليــس ســوى كشــف مفتــوح يحتــوي عــى رشارات اللغــة ‪ ،‬واللــذة ليســت عنـرا ً مــن عنــارص النــص ‪ ،‬وال هــي راســب بســيط ؛ إنهــا‬ ‫مــا يجعــل القــارىء يرفــع راســه عنــه وهــو يقــرؤه لــي يســمع شــيئا آخــر ‪.48‬‬ ‫ال ينبغــي االهتــام بحيــاة املؤلــف ألنهــا األقــل أهميــة يف فهــم النــص ‪ ،‬وبــدال مــن ذلــك ينبغــي دراســة النــص نفســه ‪.‬إن التقليــل‬ ‫مــن شــأن املؤلــف ‪ ،‬والدعــوة اىل زحزحــة املوقــع الــذي تحتلــه شــخصيته يف الدراســات األدبيــة والنقديــة ‪ ،‬هــو مــا يعنيــه بــارت‬ ‫مبــوت املؤلــف ؛ فقــد « مــات املؤلــف مــن حيــث هــو مؤسســة ‪ ،‬تــوارى شــخصه املــدين والعاطفــي والســري «‪ ، 49‬وهــذا ال ـراي‬ ‫ينســجم مــع موقــف اســتبعاد الــذات يف االتجــاه البنيــوي بشــكل عــام ‪ .‬مــا هــو اســايس يف دراســة النــص األديب هــو الرتكيــز عــى‬ ‫القوانــن واألنســاق الداخليــة فيــه ‪ ،‬واذا كانــت هنــاك ذات يعــر عنهــا أصـاً فهــي « الــذات التــي تحكمهــا اللغــة وتحكــم حركتهــا‬ ‫«(‪ . )50‬الكتــاب ‪ ،‬كــا يــرى بــارت ‪ ،‬ال يســتخدمون الكتابــة للتعبــر عــن أنفســهم أو ذواتهــم ‪ ،‬بــل يســتفيدون مــن قامــوس اللغــة‬ ‫ومفــردات الثقافــة القامئــة للقيــام بخلــط وتركيــب واعــادة تجميــع الكتابــات املوجــودة بالفعــل واعــادة نرشهــا ‪.‬‬ ‫ان تأثــر بــارت بــدي سوســر ‪ ،‬واهتاممــه باللغــة بشــكل أســايس يف ـران نظرتــه البنائيــة اىل النــص ودراســته بوصفــه داالً ‪ ،‬بــدالً‬ ‫مــن االهتــام بدراســة الرســالة التــي ينقلهــا ‪،‬أو يحــاول توصيلهــا ‪ .‬الشــكل وليــس املضمــون هــو األكــر أهميــة يف األدب ‪ ،‬والكتابــة‬ ‫االبداعيــة ‪ ،‬كــا يراهــا بــارت ‪ ،‬ال تهــدف اىل التواصــل العــادي املألــوف ‪ ،‬أي توصيــل معلومــات معينــة ‪ ،‬ألن خصائــص األدب‬ ‫ومقوماتــه تكشــف « عــن درجــة مــن الغرابــة والقــوة والتنظيــم والثبــات ال تتوفــر يف الــكالم العــادي» ‪.51‬‬ ‫ليســت الكتابــة مجــرد صــورة أخــرى معدلــة مــن فعــل التواصــل عــن طريــق الــكالم ‪ ،‬بــل هــي نظــام قائــم بذاتــه أكــر مــن كونهــا‬ ‫‪4 1‬‬ ‫‪ 42‬‬ ‫‪4 3‬‬ ‫‪ 44‬‬ ‫‪ 45‬‬ ‫‪ 46‬‬ ‫‪ 47‬‬ ‫‪ 48‬‬ ‫‪ 49‬‬ ‫‪ 50‬‬ ‫‪ 51‬‬

‫ م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 10‬‬‫ حمودة ‪ ،‬د‪ .‬عبد العزيز ‪ .‬المرايا المقعرة ‪ ،‬العدد ‪ ، 272‬المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب الكويت ‪،‬‬‫اغسطس ‪ ، 2001 ،‬ص‪. 204‬‬ ‫ صفدي ‪ ،‬مطاع ‪ .‬في تقديمه لترجمة « لذة النص « ‪ ،‬العرب والفكر العالمي ‪ ،‬ص ‪. 5‬‬‫ م‪ .‬ن ‪ ،‬إفتتاحية عدد « لذة النص « ‪.‬‬‫ بارت ‪ ،‬روالن ‪ .‬لذة النص ‪ ،‬ص ‪. 11‬‬‫ م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ص ‪. 35- 34‬‬‫مز ‪ ، ،‬ص ‪. 36‬‬ ‫ م ‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 16‬‬‫= م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 17‬‬‫م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 163‬‬ ‫‪ -‬أبو زيد ‪ ،‬د‪ .‬أحمد ‪.‬لعبة اللغة ‪ ،‬م‪ .‬س ‪ ،‬ص ‪. 12‬‬


‫ولكــن اســتبعاد البنيويــة ‪ ،‬مــن الناحيــة الفلســفية للــذات املتكلمــة ‪ ،‬واعتبــار العالمــة املرتكــزة اىل عالقــة الــدال باملدلــول ‪ ،‬مغلقــة‬ ‫أي قــادرة عــى الداللــة بذاتهــا تــرك اثـرا كبـرا يف االتجاهــات التــي تســمى مبــا بعــد البنيويــة ‪ ،‬والتــي تابعــت االتجــاه البنيــوي يف‬ ‫اســتبعاد الــذات العارفــة عنــد الســعي اىل فهــم وتفســر النصــوص ‪ ،‬مــن جهــة ‪ ،‬ولكنهــا رفضــت فكــرة العالمــة املغلقــة مــن حيــث‬ ‫الداللــة ‪ ،‬وتبنــت القــول بفتــح العالمــة اللغويــة ألنهــا يف ذاتهــا غــر قــادرة عــى الداللــة ‪ ،‬مــن جهــة أخــرى ‪ .‬ويف هــذا االطــار بــرزت‬ ‫اتجاهــات التفكيــك والتأويــل التــي حكمــت الفكــر الغــريب بعــد بلــوغ مــد البنيويــة ذروتــه يف ســتينيات القــرن العرشيــن ‪.‬‬ ‫ روالن بارت‪ :‬الكتابة اإلبداعية وانفتاح املعنى‬‫أخــذ روالن بــارت مفهــوم العالمــة الــذي وضعــه دي سوســر ‪ ،‬واســتخدمه ســروس يف دراســاته االنرتبولوجيــة ‪ ،‬اىل انســاق أخــرى‬ ‫غــر اللغــة مثــل الصــور واالميــاءات واألصــوات املوســيقية ‪ ،‬وبــات املنهــج البنيــوي ‪ ،‬كــا اســتخدمه ‪ ،‬أساس ـاً ال يســتغنى عنــه يف‬ ‫النقــد األديب ‪.‬‬ ‫تنوعــت اعــال بــارت مــن نظريــة العالمــات واملقــاالت النقديــة اىل الدراســات التــي تنــاول فيهــا أبــرز أعــام األدب الفرنــي وصــوال‬ ‫اىل أبــرز أعاملــه الخاصــة مثــل ‪ :‬عنــارص الســيميولوجيا ‪ ،‬و كتــاب األســاطري ‪ ،‬ولــذة النــص ‪ ،‬والدرجــة صفــر يف الكتابــة‪.‬‬ ‫يف كتابــه عنــارص الســيميولوجيا ســعى اىل تحليــل كل املركبــات الثقافيــة معتـرا أنهــا أنســاق مــن العالمــات التــي تعــر عــن معــان؛‬ ‫الســينام ‪ ،‬الشــعارات السياســية ‪ ،‬املوضــة ‪ ،‬الطهــي ‪ ،‬األثــاث ‪ ،‬املصارعــة الحــرة ‪ ،‬وجــه غريتــا غاربــو ‪ ....‬ألــخ كلهــا ميكــن أن تشــكل‬ ‫عالمــات باعتبارهــا مظاهـرا لثقافــة معينــة ‪.‬‬ ‫وتنــاول يف كتابــه أألســاطري الــذي ألفــه عــام ‪ 1957‬الحيــاة اليوميــة ‪ ،‬والرســائل االعالنيــة والتســلية والرتفيــه والثقافــة األدبيــة‬ ‫والشــعبية وســلع املســتهلكني ‪ ،‬وفيــه يظهــر تأثــره الواضــح بــدي سوســر مــن حيــث نظرتــه اىل اللغــة وفقـاً للنمــوذج الــذي وضعتــه‬ ‫نظريــة دي سوســر « يف الرمــز أو العالمــة باعتبارهــا األســاس لفهــم بنيــة الحيــاة االجتامعيــة والثقافيــة « (‪ ،)37‬واعتــر االســطورة‬ ‫رســالة ال متييــز فيهــا بــن الــدال واملدلــول ‪ ،‬وهــي ال تحتــاج اىل فــك شــيفرة أو تأويــل ‪ ،‬ونجــاح عملهــا مرتبــط بكونهــا ال تحتــاج‬ ‫الزالــة أي غمــوض فيهــا ‪ .‬ان املظاهــر الثقافيــة غــر اللغويــة مفعمــة باملعــاين والــدالالت ‪ ،‬كــا يــرى بــارت ؛ فــكل مركــب ثقــايف هــو‬ ‫يف واقــع األمــر مركــب لــه معنــى ‪ ،‬واملعــاين أمــور مصطلــح عليهــا ومقــررة اجتامعيــا ‪ .‬اســتخدام املعطــف ‪ ،‬مثــا ‪ ،‬القصــد منــه هــو‬ ‫الوقايــة مــن املطــر ‪ ،‬هــذا االســتخدام ال ميكــن فصلــه عــن حالــة الطقــس ‪ ،‬ولبــس املعطــف يف يــوم مشــمس يكــون منافيـاً لألوضــاع‬ ‫املتفــق عليهــا اجتامعيـاً ‪.‬‬ ‫ويف كتابــه درجــة الصفــر يف الكتابــة أكــد بــارت أن اللغــة جســد مــن املســبقات والعــادات ‪ ،‬وبهــذا املعنــى هــي مشــركة بــن كتــاب‬ ‫عــر مــن العصــور‪ ،‬وهــذا يعنــي أنهــا تشــبه الطبيعــة التــي متــر بكليتهــا مــن خــال كالم الكاتــب ‪ ،‬دون ان يعطــي لهــا شــكالً أو‬ ‫يغذيهــاز إنهــا تشــبه دائــرة مجــردة ‪ ،‬وخــارج هــذه الدائــرة يبــدأ فعــل التفــرد بفــرض ذاتــه ‪. 38‬ودرجــة الصفــر يف الكتابــة تتمثــل‬ ‫يف شــكل الكتابــة الــذي يجــذب االنتبــاه اليــه بفضــل تفــرده وحياديتــه ‪ .‬وقــد درس يف القســم األول منــه العالمــات القامئــة بــن‬ ‫ثالثــة عنــارص هــي ‪ :‬املحتــوى واللغــة واألســلوب (‪ .)39‬ونتيجــة التجاهــه البنيــوي مل يركــز كثـرا عــى املحتــوى وأكــد عــى االهتــام‬ ‫باللغــة بشــكل أســايس ‪.‬‬ ‫لغــة املؤلــف ‪ ،‬كــا يــرى بــارت ‪ ،‬يرثهــا مــن املجتمــع ‪ ،‬واســلوبه شــبكة خاصــة وشــخصية ورمبــا ال شــعورية مــن العــادات والهواجس‬ ‫اللفظيــة التــي تتســلط عليــه ومتلــك عليــه أمــره ‪ .‬إن الكاتــب يختــار طريقــة الكتابــة املتاحــة لــه تاريخيــا ‪ ،‬والكتابــة بهــذا املعنــى‬ ‫هــي ‪ ،‬اســتخدام اجتامعــي للصــور األدبيــة‪. 40‬‬ ‫ويف كتابــه لــذة النــص دعــا بــارت اىل االهتــام بالنــص وعــدم الرتكيــز عــى الكاتــب أو املؤلــف ألن هــذا الرتكيــز ال جــدوى منــه ‪.‬‬ ‫واألدب الــذي يســتحق االهتــام هــو الــذي يتطلــب مــن القــاريء أعــال ذهنــه لــي يفهمــه ‪ .‬لقــد وقــف بــارت موقفـاً عدائيـاً مــن‬ ‫‪3 7‬‬ ‫‪ 38‬‬ ‫‪ 39‬‬ ‫‪ 40‬‬

‫ ليشته جون ‪ ،‬خمسون مفكرا ً ‪ ،‬م ‪ .‬س ن ص ‪255‬‬‫ ‪écriture ,Edition du seuil 1953 et 1972 ,p 11- ‘ Barthes , Roland. Le degré zero de l‬‬‫ ‪. écriture ,op cite p 12‘Barthes , Roland. Le degrézero de l‬‬‫ أبو زيد ‪ ،‬د‪ .‬أحمد ‪ .‬لعبة اللغة ‪ ،‬عالم الفكر ‪،‬المجلد السادس عشر العدد الرابع ‪ ،‬وزارة اإلعالم الكويت‬‫يناير فبراير مارس ‪ . 1986‬ص ‪. 25‬‬


‫نظرتهــم اىل األدب ؛ فســارتر يف كتابــه (مــا األدب) دعــا لالبتعــاد عــن الجامليــات واللعــب باأللفــاظ ‪ ،‬واعتــر أن األدب الت ـزام ‪،‬‬ ‫ألن الكتابــة األدبيــة ‪ ،‬برأيــه ‪ ،‬ينبغــي أن تعــر عــن مواقــف سياســية واجتامعيــة ‪ .‬يقــول « ان وظيفــة الكاتــب هــي متثيــل العــامل‬ ‫وأن يكــون شــاهدا عليــه « ‪ ،‬فوظيفــة الكاتــب تســمية األشــياء بأســائها واالبتعــاد عــن الغمــوض والتالعــب باللغــة والكلــات ‪.‬‬ ‫أمــا بــارت ‪ ،‬فقــد ركــز عــى القوانــن واالنســاق الداخليــة للنــص األديب ‪ ،‬واعتــر أن العمــل اللغــوي ينتــج مشــهدا يجعــل القــاريء‬ ‫يســتمتع بــه « بــدال مــن النظــر اىل العــامل مــن خــال اللغــة «‪. 58‬‬ ‫ان األدب بــدال مــن أن يكــون ‪ ،‬برأيــه « ناقــا لأليديولوجيــا‪ ،‬أو عالمــة تشــر اىل التـزام ســيايس ‪ ،‬أو تعبـرا عــن قيــم اجتامعيــة ‪ ،‬أو‬ ‫أخ ـرا وســيلة للتواصــل «(‪ ، )59‬هــو مبهــم وغــر شــفاف ‪ .‬وهــذا االبهــام والغمــوض يجعــل القــاريء مشــاركا يف النــص ألنــه يتيــح‬ ‫للقــاريء اســتخالص املعــاين الخفيــة الكامنــة وراء الكلــات ‪،‬والتــي كث ـرا مــا تختلــف عــن املعــاين الســائدة أو املالوفــة ‪.‬‬ ‫يف كتابــه دراســات نقديــة يــروي بــارت «أن أحــد علــاء األنرتبولوجيــا عــرض فيل ـاً عــن الصيــد تحــت املــاء عــى بعــض الزنــوج‬ ‫يف الكونغــو ‪ ،‬وعــى مجموعــة مــن الطــاب البلجيكــن «(‪ ، )60‬ثــم طلــب منهــم أن يذكــروا لــه مــا خرجــوا بــه مــن الفيلــم ‪ .‬زنــوج‬ ‫الكونغــو أعطــوا وصفــا بســيطا مبــارشا ودقيقــا ملــا شــاهدوه ‪ ،‬ومل يضيفــوا شــيئا مــن مخيلتهــم أو تصوراتهــم الخاصــة ‪ .‬امــا الطلبــة‬ ‫البلجيكيــون ‪ ،‬فانهــم مل يتذكــروا مــن أحــداث الفيلــم اال بعــض التفاصيــل القليلــة ‪ ،‬وجــاءت رواياتهــم عنــه ممتزجــة بالكثــر مــن‬ ‫التعب ـرات األدبيــة واملشــاعر واالنفعــاالت التــي أثارهــا الفيلــم يف نفوســهم ‪ .‬ان ق ـراءة النــص كــا يــرى بــارت ‪ ،‬هــي مبعنــى مــن‬ ‫املعــاين اعــادة انتــاج لــه بحيــث يصبــح القــاريء رشيــكاً للمؤلــف يف طريقــة فهمــه وتأويلــه لالمكانيــات الخفيــة التــي يراهــا‬ ‫القــارىء يف النــص ‪ ،‬ورمبــا ال يراهــا املؤلــف نفســه ‪.‬‬ ‫يف مقــال كتبــه تحــت عنــوان «مــوت املؤلــف « عــام ‪ 1968‬أكــد بــارت ‪،‬بطريقــة واضحــة مــوت املؤلــف باعتبــاره منــىء النــص ‪،‬‬ ‫وبــدأ تحولــه مــن البنيويــة اىل مــا بعــد البنيويــة‪ .‬اذا كان بــارت بــدأ حياتــه األدبيــة بنيويــا شــديد الحــاس للبنيويــة ‪ ،‬فانــه بعــد‬ ‫أن ظــل أكــر املروجــن للبنيويــة حتــى نهايــة ســتينات القــرن العرشيــن «تحــول اىل تفكيــي شــديد الحــاس للتفكيكيــة «‪ .61‬تعتــر‬ ‫املقــاالت التــي نرشتهــا مجلــة ‪ Tel quel‬والتــي جمعــت وتــم اصدارهــا عــام ‪ 1968‬يف مجلــد مبثابــة « مانيفســتو الفكــر الجديــد يف‬ ‫متــرده عــى النظــام والعقالنيــة «‪ 62‬باعتبارهــا أســاس املــروع البنيــوي الباحــث عــن تأكيــد العقالنيــة والنظــم الثابتــة ‪ .‬وقــد‬ ‫اســتبدل جهــد البحــث هــذا باتجــاه مختلــف بــات ‪،‬عنــد تيــار مــا بعــد النيويــة ‪ ،‬يســعى ‪ ،‬ليــس اىل فهــم رســالة النــص او املعنــى‬ ‫الــذي وضعــه الكاتــب فيــه ‪ ،‬بــل اىل التأكيــد عــى جهــد القــارىء الــذي يقــود اىل « تعــدد الداللــة واثـراء النــص « ‪ 63‬بعيــدا عــن‬ ‫قبــول مبــدأ توحــد الــدال واملدلــول الــذي اصبــح « اســاس االختــاف بــن البنويــة ومــا بعــد البنيويــة «‪ . 64‬العقالنيــة والنظــم الثابتــة‬ ‫عنــد البنيويــن تتيــح تحديــد املعنــى والداللــة القامئــن يف النــص عــى العالمــات اللغويــة باعتبارهــا توحــد بــن الــدال واملدلــول ‪.‬‬ ‫‪65‬‬ ‫بينــا بــات اســاس التفكيكيــة يقــوم عــى القــول باســتحالة « تحديــد املعنــى وتطوراتــه وتحوالتــه املســتمرة وبصــورة ال نهائيــة «‬ ‫‪ ،‬فقــد بــدا بــارت ابتــداء مــن العــام ‪ « 1971‬يــردد مقولــة رضورة تحــول اللغــة مــن مهمــة الوصــف والتوصيــل اىل مرحلــة تتحــرر‬ ‫فيهــا طاقاتهــا بالكامــل ‪ .‬تحريــر الطاقــة اللغويــة او تفجريهــا ‪ ،‬الــذي يعنيــه بــارت ‪ ،‬ال يقــوم فقــط عــى فصــل الــدال عــن املدلــول‬ ‫وتحريــره منــه ‪ ،‬بــل ايضــا عــى التدمــر املســتمر للعالقــة بــن الكتابــة والقـراءة وبــن مرســل النــص ومســتقبله «(‪ . )66‬يقــول يف‬ ‫كتابــه ‪( :‬موســيقى ‪ ،‬صــورة ‪ ،‬نــص ) الصــادر عــام ‪ »: 1977‬إن النــص ليــس خطــا مــن الكلــات التــي تقــدم معنــى الهوتيــا مفــردا‬ ‫( هــو رســالة املؤلــف ‪ /‬االلــه ) ‪ ،‬بــل فـراغ متعــدد األبعــاد متتــزج وتتصــارع داخلــه مجموعــة متنوعــة مــن الكتابــات غــر األصليــة ‪.‬‬ ‫ان النــص مزيــج مــن املقتطفــات املاخــوذة مــن مراكــز ثقافيــة عديــدة ‪ ....‬ولكــن هنــاك مــكان واحــد ترتكــز داخلــه تلــك التعدديــة‬ ‫وهــذا املــكان هــو القــاريء وليــس املؤلــف «‪ . 67‬هــذا املوقــف مــن النــص يشــكل الســمة األساســية عنــد تيــار التفكيــك الــذي يشــكل‬ ‫‪5 8‬‬ ‫‪ 59‬‬ ‫‪ 60‬‬ ‫‪ 61‬‬ ‫‪ 62‬‬ ‫‪ 63‬‬ ‫‪ 64‬‬ ‫‪ 65‬‬ ‫‪ 66‬‬ ‫‪ 67‬‬

‫ حمودة ‪ ،‬د‪ .‬عبد العزيز ‪ ،‬المرايا المقعرة ‪ ،‬ص ‪. 204‬‬‫ليشته ‪ ،‬جون ‪ .‬خمسون مفكرا ً ‪ ،‬م‪ .‬س ‪ ،‬ص‪. 256‬‬ ‫ أبو زيد ‪ ،‬د‪ .‬أحمد ‪ .‬لعبة اللغة ‪ ،‬م‪ .‬س ‪ ،‬ص ‪. 27‬‬‫ حمودة ‪ ،‬د‪ .‬عبد العزيز ‪ ،‬الخروج من التيه ‪ ،‬م‪.‬س ‪ ،‬ص ‪. 61‬‬‫م ‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 62‬‬ ‫ م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 45‬‬‫ م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 59‬‬‫ م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 60‬‬‫م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 63‬‬ ‫‪ -‬م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 122‬‬


‫أداة للنقــل أو التوصيــل ‪ .‬هنــاك ‪ ،‬بــرأي بــارت ‪ ،‬نوعــان مــن الكتابــة ‪ :‬الكتابــة الالزمــة والكتابــة املتعديــة ‪ .‬الكتابــة التــي تتعــدى‬ ‫ذاتهــا هــي الهادفــة اىل توصيــل رســالة ‪ ،‬أمــا الكتابــة بوصفهــا فعـاً الزمـاً ‪ ،‬فانهــا تعــر عــن ارادة الكاتــب بــأن يكتــب فحســب ‪.‬‬ ‫إن التمييــز بــن نوعــي الكتابــة هذيــن هــو أســاس متييــز بــارت بــن الكتابــة األدبيــة أو االبداعيــة ‪ ،‬والكتابــة العاديــة ‪ .‬الكتــاب‬ ‫املبدعــون وحدهــم( ‪)les écrivains‬ميتلكــون اللغــة بغــر منــازع ‪ ،‬أمــا اآلخــرون ( ‪)les écrivants‬فانهــم ‪ ،‬برأيــه ‪ ،‬يســتخدمون مجــرد‬ ‫لغــة وظيفيــة كــا هــي حــال الوعــاظ او رجــال القانــون أو الكتــاب الذيــن يتناولــون موضوعــات علميــة ‪ ....‬الــخ‬ ‫بالنســبة للكاتــب املبــدع األدب هــو غايــة يف ذاتــه ‪ ،‬واألهميــة األساســية يف األدب هــي بنــاء اللغــة ‪.‬يســعى الكاتــب العــادي ‪ ،‬الــذي‬ ‫يصــف بــارت كتابتــه باملتعديــة ‪ ،‬اىل تحقيــق هــدف معــن يضعــه لنفســه ‪ ،‬ألن الكتابــة بالنســبة لــه هــي مجــرد وســيلة أو اداة‬ ‫يســتخدمها للربهنــة أو التفســر أو التعليــم ‪ .‬اللغــة بالنســبة للكتــاب العاديــن كــا يقــول بــارت « تســند العمــل وتدعمــه ولكنهــا‬ ‫ال تؤلفــه «‪ . 52‬والكاتــب العــادي ال ميــارس أي فعــل فنــي وأســايس خــاص عــى اللغــة ‪ ،‬فهــو يســتخدم اللغــة الســائدة بــن غــره‬ ‫مــن الكتبــة اآلخريــن ‪ ،‬بينــا الكاتــب املبــدع يعــرف عمــق اللغــة وأغوارهــا أكــر مــا يعــرف عــن فائدتهــا ‪ .‬لغــة الكاتــب املبــدع‬ ‫‪ ،‬كــا يصفهــا بــارت « الزمــة وكافيــة بذاتهــا وذلــك باختيــاره وبفضــل مــا يتحملــه فيهــا مــن مشــقة وعنــاء « ‪ 53‬وهــي لغــة تحمــل‬ ‫نوعـاً مــن اللبــس والغمــوض وتثــر التســاؤالت ألنهــا ال تقطــع بــيء ‪ .‬والكاتــب املبــدع ال يهتــم بتضمــن كتابتــه حقائــق معينــة أو‬ ‫معلومــات محــددة ‪ ،‬وامنــا اثــارة األفــكار يف ذهــن القــارىء ‪.‬‬ ‫يتفــق بــارت مــع فوكــو يف النظــر باجــال واكبــار اىل اللغــة املتحــررة مــن قيــود االشــارة والتمثيــل ‪ ،‬أي اللغــة التــي ال تشــر اىل أشــياء‬ ‫أخــرى ألنهــا ليســت لغــة مرجعيــة كتلــك التــي يعتمدهــا الكتــاب العاديــون ‪ .‬و التحــرر مــن عــبء االشــارة والتمثيــل يزيــد مــن‬ ‫متعــة الكتابــة والقـراءة ألن الكتابــة هنــا تـراد لذاتهــا ‪ .‬ذهــب بــارت اىل هــذا املعنــى يف كتابــه درجــة الصفــر مــن الكتابــة حيــث‬ ‫قــال بالثــورة اللغويــة التــي « تخلــص اللغــة مــن عبوديــة االشــارة أو املرجــع والتمثيــل وتتبنــى وظيفــة أخــرى راقيــة وســامية هــي‬ ‫عــدم االشــارة أو الرجــوع اىل غــر ذاتهــا «‪. 54‬‬ ‫املؤلــف ‪ ،‬فركــزت عــى حيــاة املؤلفــن‬ ‫لقــد أضفــت النزعــة التاريخيــة التقليديــة يف الكتابــة عــن تايــخ األدب أهميــة عــى‬ ‫باعتبارهــم أفـرادا ً « مبدعــن تجــاوزوا بإبداعهــم حــدود زمانهــم وارتفعــوا عليــه ‪ .‬وهــذا موقــف يرفضــه بارت متامــا باعتبــار أن األدب‬ ‫يف نظــره هــو نظــام ثابــت وراســخ ‪ ،‬وأن دراســته مــن هــذه الزاويــة تقتــي بــر األدب مــن املؤلــف « ‪ ، 55‬فاملؤلفــون ليســوا يف نهايــة‬ ‫األمـ�ر اال مشـ�اركني يف نظـ�ام يتجاوزهـ�م ويسـ�مو عليهـ�م « شـ�أنه يف ذلـ�ك شـ�أن كل النظـ�م االجنامعيـ�ة ((‪ institution‬وهــذه نظــرة‬ ‫تتفــق متامــا مــع املنهــج البنــايئ الــذي يهتــم أوال وقبــل كل يشء بالنظــام أو النســق ويســقط الفــرد مــن اعتبــاره « ‪.56‬‬ ‫لقــد اتخــذ بــارت موقفــا حــادا مــن الدراســات النقديــة األكادمييــة التــي تعتمــد معايـرا ســيكولوجية تســتهدف دراســة النــص مــن‬ ‫خــال حيــاة صاحبــه ‪ .‬ونــادى مببــاديء البنيويــة التــي تقــول بفهــم عنــارص العمــل األديب مــن خــال عالقــة بعضهــا بالبعــض اآلخــر‬ ‫دون االلتفــات اىل مــا هــو خــارج األدب كالتحليــل النفــي مثــا ‪ .‬وهــذا معنــاه أنــه يعــزل النــص متامــا عــن مؤلفــه ويخضعــه‬ ‫للتحليــل للكشــف عــا يكمــن فيــه مــن رغبــات وطموحــات وتطلعــات وهواجــس دون أن يتعــرض لتحليــل مشــاعر املؤلــف نفســه‬ ‫«‪. 57‬‬ ‫يعتقــد بــارت أن األدب منــذ فلوبــر أصبــح نوعــا مــن التأمــل باللغــة والحــوار مــع اللغــة ‪ .‬والكتابــة ال تهــدف اىل توصيــل معلومــات‬ ‫معينــة ولكنهــا تحتــوي عالمــات متثــل وضعــا تاريخيــا معينــا أو حالــة اجتامعيــة معينــة ‪ .‬والكاتــب ال يفصــح عــن املوقــف بطريقــة‬ ‫مبــارشة ‪ ،‬بــل يــرك الفرصــة للقــاريء ‪ ،‬عــن طريــق العالمــات ألن يســتخلص بنفســه موقفــا معينــا ‪ .‬وهــذا مامييــز الكتابــة االدبيــة‬ ‫عــن الكتابــة العلميــة ‪.‬‬ ‫بيتعــد بــارت عــن موقــف ســارتر والكتــاب الذيــن كانــت لهــم تجربــة تاريخيــة عميقــة أثنــاء الحــرب العامليــة الثانيــة أثــرت يف‬ ‫ ‬ ‫‪52‬‬ ‫‪ 53‬‬ ‫‪ 54‬‬ ‫‪ 55‬‬ ‫‪ 56‬‬ ‫‪ 57‬‬

‫ م ‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 15‬‬‫ م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 17‬‬‫ م ‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 18‬‬‫ م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 22‬‬‫ م‪ .‬ن ‪ ،‬ص‪. 22‬‬‫‪ -‬م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 23‬‬


. 1990 ‫ بريوت‬، ‫العدد العارش مركز اإلمناء‬

،‫ ترجمة محمد الرفرايف ومحمد خري بقاعي‬، « ‫» لذة النص‬. ‫روالن‬، ‫ بارت‬- 10

، 1‫ أحمد عبد الحليم عطية ط‬.‫ تحرير د‬، ‫ جاك دريدا والتفكيك‬: ‫ يف‬، ‫ جاك دريدا فيلسوف فرنسا املشاغب‬. ‫ أحمد‬.‫ د‬، ‫أبو زيد‬-11 2010 ‫ بريوت‬، ‫دار الفارايب‬ Payot,paris , 1979. p43 ,nerale‘De Sausure,Fernand Cours de linguistique ge--12 Dantier , Bernard. Synchronie ,diachronie,strucuralisme et histoire autour de 13la langue, www ,Classique .uqac .ca .Lacn , Jack, Ecrits ,Edition du seuil, 1966 14-. écriture ,Edition du seuil 1953 et 1972 ‘Barthes , Roland. Le degré zero de l - 1


‫( ‪)réduction‬‬ ‫روالن بــارت طليعتــه يف كتاباتــه املتاخــرة حيــث بــات يســتخدم مصطلحــات خــي ( ‪ )castration‬واختـزال‬ ‫النــص مبعنــى تصغــره وحرمانــه مــن خصوبتــه وقدرتــه عــى انجــاب أو توليــد املعــاين ‪ ،‬وهــو مــا يحــدث عندمــا نلتــزم مبعنــى واحــد‬ ‫للنــص وبقـراءة أحاديــة الصــوت لــه ‪ .‬إن املقصــود يف نهايــة املطــاف مــن القــول بخــي النــص أو االختـزال هــو « حرمــان النــص مــن‬ ‫تعــدد الداللــة ألن هــذه أهــم صفــات النــص الكتــايب مقارنــا بالنــص القـرايئ أو االســتهاليك ؛ فالنــص األول ‪ ،‬الــذي يســاهم القــاريء‬ ‫]‪ ...‬فه��و ال��ذي [ ال يحتمــل اال قـراءة‬ ‫يف كتابت��ه وم��لء فراغاتهــ ‪ ،‬ن��ص يتح��دى الق�رـاءة األحادي��ة الش�فـافة أمـ�ا الن��ص الث��اين‬ ‫اســتهالكية واحــدة يتحــول القــاريء بعدهــا اىل نــص آخــر «‪، 68‬وهكــذا فــان خــي النــص يعنــي قراءتــه بطريقــة تفقــده القــدرة‬ ‫عــى الداللــة ‪.‬‬ ‫هــذا املوقــف التفكيــي الــذي يتجــاوز ‪ ،‬فكــرة تعــدد الداللــة املســتند اىل فكــرة العالمــة السوســرية ‪ ،‬ليتبنــى القــول بالنهائيــة‬ ‫الداللــة يشــكل محــورا ً اساســياً مشــركاً يف تيــار مــا بعــد البنيويــة الــذي بــات جــاك دريــدا ابــرز ممثليــه ‪ ،‬بعــد املحــارضة التــي‬ ‫القاهــا يف جامعــة جــون هوبكنــز عــام ‪ 1966‬وباتــت تشــكل « عالمــة فارقــة مــا بــن البنيويــة ومــا بعــد البنيويــة «‪ . 69‬لقــد كان‬ ‫الســعي اىل العلميــة اســاس مرشوعيــة ومتاســك املــروع البنيــوي ‪ ،‬وكان الرتكيــز عــى النــص وفهــم املعنــى الــذي وضعــه الكاتــب‬ ‫فيــه هــو هــدف القـراءة البنيويــة التــي تعتمــد عــى اكتشــاف شــبكة العالقــات بــن العالمــات اللغويــة عــى اســاس التوحــد بــن‬ ‫الــدال واملدلــول ‪ .‬وال شــك بــأن « القــول بتوحــد الــدال واملدلــول يعتــر اســاس االختــاف بــن البنيويــة ومــا بعــد البنيويــة ‪ 70».‬ويف‬ ‫هــذا االطــار ال يختلــف موقــف جــاك دريــد مــن البنيويــة عــن موقــف روالن بــارت ‪ .‬فــاذا كان «التحليــل البنيــوي للنــص يقــوم عــى‬ ‫التســليم بكيانــن محدديــن هــا الــذات واملوضــوع ‪ ،‬الــذات القارئــة للموضــوع واملحققــة الضاءتــه بهــدف تحديــد القواعــد التــي‬ ‫تحكــم أداء النــص للمعنــى «‪ ، 71‬فــان االسـراتيجية التفكيكيــة التــي اعتمدهــا بــارت ودريــدا تقــوم عــى فكــريت الالنــص والالمعنــى‬ ‫حيــث بــات القـراءة التفكيكيــة ال تــرى يف النــص ســوى اختالفــات تؤجــل حــدوث املعنــى ‪.‬‬ ‫مراجع البحث ‪:‬‬ ‫‪ -1‬زكريا ‪ ،‬د‪ .‬الجذور الفلسفية للبنائية ‪ ،‬حوليات كلية اآلداب ‪ ،‬جامعة الكويت ‪ ،‬الحولية األوىل ‪ ، 1980‬ص‪. 10‬‬ ‫‪ -2‬ليشته‪ ،‬جون ‪ .‬خمسون مفكرا ً أساياً معارصا ً من البنيوية اىل ما بعد الحداثة ‪ ،‬ترجمة د‪ .‬فاتن قبييس‪،‬ط‪ ، 1‬مركز دراسات الوحدة العربية ‪ ،‬بريوت‪.‬‬ ‫‪ -3‬حمودة ‪ ،‬د‪ .‬عبد العزيز ‪ ،‬الخروج من التيه ‪،‬دراسة يف سلطة النص ‪ ،‬عامل املعرفة ‪ ، 298‬املجلس الوطني للثقافة والفنون واالداب ‪ ،‬الكويت ‪،‬‬ ‫نوفمرب ‪. 20032‬‬ ‫‪ -4‬ياكوبسون ‪ .‬محارضات يف الصوت واملعنى ‪ ،‬ترجمة حسن ناظم وعيل حاكم صالح ‪ ،‬املركز الثقايف العريب ‪ ،‬بريوت ‪. 1994‬‬ ‫‪-5‬أبو زيد ‪ ،‬د‪ .‬أحمد ‪ .‬جاك دريدا فيلسوف فرنسا املشاغب ‪ ،‬يف ‪ :‬جاك دريدا والتفكيك ‪ ،‬تحرير د‪ .‬أحمد عبد الحليم عطية ‪،‬ط‪ ، 1‬دار الفارايب ‪ ،‬بريوت‬ ‫‪. 2010‬‬ ‫‪ -6‬سرتاوس ‪ ،‬كلود ليفي ‪ .‬اإلناسة البنيانية ( األنرتبولوجيا البنيوية ) ‪ ،‬ترجمة حسن قبييس ‪ ،‬القسم الثاين ‪ ،‬مركز اإلمناء القومي ‪ ،‬بريوت ‪. 1990‬‬ ‫‪-7‬سرتوس ‪ ،‬كلود ليفي ‪ .‬الفكر الربي ‪ ،‬ترجمة د‪ .‬نظري جاهل ‪ ،‬مؤسسة الدراسات الجامعية ‪ ،‬بريوت ‪1984‬‬

‫‪ - 8‬أبو زيد ‪ ،‬د‪ .‬أحمد ‪ .‬لعبة اللغة ‪ ،‬عامل الفكر ‪،‬املجلد السادس عرش العدد الرابع ‪ ،‬وزارة اإلعالم الكويت يناير فرباير مارس ‪1986‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪ -9‬حمودة ‪ ،‬د‪ .‬عبد العزيز ‪ .‬املرايا املقعرة ‪ ،‬العدد ‪ ، 272‬املجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب الكويت ‪ ،‬اغسطس ‪. 2001 ،‬‬ ‫‪6 8‬‬ ‫‪ 69‬‬ ‫‪ 70‬‬ ‫‪ 71‬‬

‫م‪ .‬ن ‪ ،‬ص ‪. 151‬‬ ‫‪.‬‬


‫ومينح الفرصة للحصول عىل خربات تعليمية تلبي االحتياجات اآلنية واملستقبلية لدفع عجلة التنمية اإلنسانية الشاملة؛ إذ مل يعد كافيا أن يعتمد‬ ‫التعليم عىل نقل الخربة من املعلمني إىل األجيال القادمة‪ ،‬فمن الرضوري أن نسلّح أبناءنا بالقدرات التي متكّنهم من التعامل مع مشاكل مل نعارصها ومل‬ ‫نتعامل معها ومل نتخيل إمكانية حدوثها‏‪.‬‏‬ ‫دور الجامعات يف إنتاج املعرفة ‪ :‬ليس خافيا أن الجامعات مصنع املعرفة أو هكذا ينبغي أن تكون ‪ .‬فالجامعة دار صناعة العلم و التعليم وركيزة‬ ‫أساسية‪ ‬يف بناء مكونات اإلنسان العقلية و الوجدانية و تشكيلها ‪ ،‬وهي مركز تأهيل الستيعاب آليات التقدم‪ ,‬فتطلع أي مجتمع إىل التميز املعريف‬ ‫يرتبط باالهتامم مبؤسسات التعليم العايل التي ينبغي أن تسهم يف نشـاطات توظيف املعرفة بصورة فاعلة ‪,‬ومتد املؤسسات األخرى بالجديد من األفكار‬ ‫‪ ,‬وبذوي القدرات من الكوادر املؤهلة ‪..‬وتقوم بتحفيز أعامل وقدرات تلك املؤسسات العلمية‪.‬‬ ‫ينبغــي أن يكــون هــدف التعليــم الجامعــي تطويــر املجتمــع و النهــوض بــه إىل أفضــل املســتويات التقنيــة و االقتصاديــة و الصحيــة و االجتامعيــة‪.‬‬ ‫وصــوال إىل النمــو املعــريف‪ ‬أو مــا يســمى‪ ‬بالثورة املعرفيــة‪ ‬إذ ينبغــي أن تســهم الجامعــة بكفــاءة أعضــاء الهيئــة التدريســية فيهــا ‪ ،‬و مســتوى طالبهــا‬ ‫بالتقــدم االجتامعــي ‪ ,‬و مكوناتــه االجتامعيــة و االقتصاديــة و الثقافيــة ‪ ،‬وتحقيــق التنميــة الشــاملة مبــا تقدمــه الجامعــة مــن إمكانــات و خ ـرات‬ ‫التعليــم و التدريــب املســتمر ؛ بحيــث يصبــح الهــدف األول‪ ‬للتعليــم الجامعــي هــو تطويــر املجتمــع و النهــوض بــه إىل أفضــل املســتويات التقنيــة و‬ ‫االقتصاديــة و االجتامعيــة و الثقافيــة‪.‬‬ ‫‪ ‬لقــد أصبــح مــن حتميــة مســؤوليات الجامعــة النهــوض مبجتمعاتهــا‪ ،‬و متابعــة التطــور التكنولوجــي و املســاهمة فيــه و تطويــر الربامــج و املناهــج‬ ‫التعليميــة‪ ،‬و إعــداد القــوى البرشيــة علميــا و فنيــا و إداريــا واجتامعيــا ‪ ،‬يف ضــوء التطــور التكنولوجــي و متطلباتــه‪.‬‬ ‫يشــمل دور الجامعــة أيضــا ترســيخ العالقــة بــن الجامعــة و املجتمــع ‪ ،‬مــن خــال تنميــة البحــث العلمــي‪ ‬و التطبيقــي و ربطــه بواقــع العمــل ‪ ،‬ومــن‬ ‫تدريــس مشــكالت الصناعــة و الزراعــة و معوقــات العمــل‪ ,‬و إعــداد الكفــاءات البرشيــة التــي يحتاجهــا املجتمــع يف مختلــف النشــاطات ‪ ،‬وتزويدهــا‬ ‫بأحــدث املعــارف و الخـرات ‪ ،‬واذا مــا أهمــل دور التعليــم العــايل يف الخطــط التنمويــة يف املجتمــع‪ ,‬فالنتيجــة هــي تباطــؤ الخطــط التنمويــة و انتشــار‬ ‫الجهل‪.‬‬ ‫فــدور الجامعــة –إذن‪ -‬ليــس تحصيــا علميــا و معرفيــا فقــط‪ ،‬بــل بنــاء الشــخصية املميــزة و تفجــر طاقــات الطلبــة الثقافيــة و الفنيــة و األدبيــة عــن‬ ‫طريــق أنشــطة موازيــة ومنــح جوائــز تنافســية‪.‬‬ ‫مــن مهمتهــا تكويــن العقليــة الواعيــة لحــل مشــكالت املجتمــع و البيئــة املحيطــة ‪ ،‬ومعرفــة األســاليب الفنيــة املســتخدمة ‪ ،‬وتتبعهــا لركــب التقــدم‬ ‫العلمــي و التكنولوجــي‪.‬‬ ‫‪.‬يضــاف إىل ذلــك التنميــة املهنيــة ؛ مثــل ‪:‬تنميــة بعــض املهــارات مثــل‪ :‬مهــارات القيــادة ‪ ,‬و اإلتصــال و غريهــا ‪ ،‬وزيــادة التخصــص يف املهــن‪ ،‬وارتفــاع‬ ‫مســتوى املهــارة الــذي تتطلبــه األعــال و املهــن‪ .‬ويتضمــن دور الجامعــات أيضــا ؛ إعطــاء أهميــة كبــرة للمعلومــة واملعرفــة‪ ،‬واالهتــام بالقــدرات‬ ‫اإلبداعيــة لألشــخاص‪ ،‬وتوفــر إمكانيــة حريــة التفكــر واإلبــداع‪ ،‬والعدالــة يف توزيــع العلــم واملعرفــة والخدمــات بــن الطبقــات املختلفــة يف املجتمــع‪،‬‬ ‫كــا يعنــي نــر الوعــي والثقافــة يف الحيــاة اليوميــة للفــرد‪ ,‬وإذا اعتربنــا أن الثقافــة الكليــة تشــمل (ثــروة معرفيــة)‪ ،‬فــإن هــذه الــروة تتزايــد برتاكــم‬ ‫رأس املــال املعــريف املســؤول عــن إنتــاج معــارف جديــدة‪ ،‬مــن خــال االســتفادة القصــوى مــن التعليــم‪ /‬التعلــم والبحــث املتــأين‪ ،‬للتشــبع بالعطــاء‬ ‫الفكـ�ري واألديب والفن��ي والجمـايل‪ .‬يبنــي جوهــر مهــات مؤسســات التعليــم‬ ‫عــى قواعــد رئيســة أهمهــا‪ :‬حريــة التعبــر عــن الــرأي‪ ،‬والقــدرة عــى الوصــول للمعلومــات‪ ،‬وتقبــل التنــوع اللغــوي والثقــايف‪ ،‬وكذلــك ايــاء الجميــع‬ ‫الحــق يف الحصــول عــى التعليــم الجيــد‪ ،‬وذلــك بهــدف تحقيــق حال ـ ٍة مــن التمكــن االجتامعــي املحــي الشــامل مــن خــال زيــادة القــدرة عــى‬ ‫الوصــول إىل املعــارف ‪ ،‬وفتــح بــاب الحــوار بــن الثقافــات املختلفــة‪ ،‬وزيــادة اإلدراك والوعــي‪ ،‬وكذلــك إتاحــة املــوارد العلميــة املختلفــة‪ ،‬وتســهيل‬ ‫عمليــة التعلــم عــن بعــد‪.‬‬ ‫مثة عوائق تحول دون بناء مجتمع املعرفة ‪,‬منها‪:‬‬ ‫غياب حرية الرأي والتفكري‪ ,‬وقرص حرية البحث من قبل بعض قوى املجتمع مبربرات واهية ‪- ..‬االهتامم غري األمثل بالتعليم بكافة مراحله سواء‬‫التعليم العام أو التعليم العايل وقلة الدارسني بالتخصصات العلمية كالعلوم التطبيقية ‪..‬‬ ‫هيمن��ة العقلي��ة التلقيني��ة الس��ائدة يف مؤسس��ات التعلي��م العربي��ة والت��ي تق��وم ع�لى الحف��ظ واالج�ترار والتك��رار ‪ ..‬‬‫الدعــم الضئيــل إلنتــاج املعرفــة يف البــاد العربيــة‪ ,‬هــذا اإلنتــاج يحتــاج إىل دعــم معنــوي وإمكانــات ماليــة ال محــدودة ‪ ..‬ووجــود ثقافــة معرفيــة‬‫متميــزة يف املجتمــع تشــكل الدعــم الفاعــل لــه والتشــجيع واملســاندة ‪ ..‬وتحــرم قــدرات التفكــر واإلبــداع والبحــث والتأمــل وتربزهــا بصــورة جليــة‪.‬‬


‫د‪.‬غيثاء عيل قادرة‬

‫املعرفة وقواعد التطور االجتامعي‬

‫‪ ‬باملعرفة وحدها و الثقافة‪ ،‬وامتالك جهاز إعالمي مهني يتفق و متطلبات الواقع و املستقبل املنشود يحقق مجتمعنا العريب أهدافه املرتجاة‬ ‫يف التنمية الشاملة‪ ‬ويف مقاومة سدود العقل املجتمعي وقيوده‪ ,‬وحراسه الصامدين‪ .. .‬إن املعرفة محدد أساس لكينونة اإلنسان ووجوده النفيس‬ ‫واالجتامعي وعىل الرغم من التطورات الحياتية املتسارعة التي رفعت من تأثري الفكرة يف هذا العرص وجعلتها أداة تغيري ذات قدرة وفعالية‪..‬مازالت‬ ‫املعرفة قارصة عن إبراز نتائجها ‪..‬‬ ‫إننــا بــإزاء مرحلــة اجتامعيــة معرفيــة انتقاليــة تفصــل بــن واقعــن‪ :‬ســابق ضنــن بإنتــاج املعرفــة ‪,‬وآين عطــش إىل املعرفــة وإنتاجهــا لبنــاء مجتمــع‬ ‫قائــم عــى اإلنســان صانــع املجتمــع ‪.‬‬ ‫وال شك يف أن قياس مستوى متيز مجتمع عن آخر يحدد بقدر متيز نشاطاته املعرفية الرئيسية التي تتمثل يف البحث والتطوير ثم توظيف املعرفة‬ ‫والتعامل معها يف حل قضايا املجتمع واالستفادة منها يف االرتقاء باإلنسان ‪ ,‬وإمكاناته االجتامعية ‪.‬‬

‫وسائل املعرفة ‪:‬‬ ‫أثر التعليم يف إنتاج املعرفة هناك صلةوطيدة بني مجتمع املعرفة و مجتمع التعليم فكالهام يتيح للفرد الذي يتعلم أن يعرف‏‪،‬‏ ويعم ‏ل‪،‬‏ ويتعلم ويعيش‬ ‫مع اآلخرين‪،‬‏ ويحقق ذاته‏‪.‬‏ فالتعليم محرك أساس ملنظومة التنمية االجتامعية الشاملة‏‏‪ ،‬ووسيلة فاعلة لتمكني اإلنسان من الخربات والقدرات وإيجاد‬ ‫فرص العمل املتاحة يف اإلنتاج‪.‬‏‪ ‬فأمام الثورة العلمية والتكنولوجية الهائلة التي تصاحب مجتمع املعرفة البد من توافر نظام تعليمي يحقق الجودة‪،‬‬


‫‪.3‬عقد املؤمترات التي تسمح يف ترقية املجتمع وحل مشكالته‪.‬‬ ‫‪.4‬تبني التعليم املستمر لتعليم الكبار من جميع األعامر ‪ ،‬و التدريب املستمر للمهنيني لرفع كفاءاتهم واكسابهم الخربات الالزمة ألداء املهنة‪.‬‬ ‫‪.5‬نرش العلم و املعرفة يف املجتمع املحيل من خالل محارضات و ندوات ترقى باملجتمع إىل مستوى يجعل أفراده يتكيفون مع مجتمعهم‪.‬‬ ‫‪.5‬عقــد الجامعــة حلقــات و نــدوات و مؤمت ـرات لخريجيهــا ؛ لتحديــث معلوماتهــم يف مجــات تخصصهــم ‪ ،‬ومعالجــة املشــكالت التــي تواجههــم يف‬ ‫الحيــاة العلميــة‪.‬‬ ‫‪.6‬تقدم الجامعة لطالبها برامج تثقيفية لرفع مستواهم الثقايف ‪ ،‬وربطهم ببيئتهم و مجتمعهم‪.‬‬ ‫‪.7‬تقديم خدمات للمجتمع الخارجي عن طريق العمل التطوعي يف املؤسسات الحكومية و األهلية‪.‬‬ ‫‪.8‬توفــر اإلمكانــات البحثيــة و العمليــة و املعامــل املركزيــة ووحــدات البحــوث التــي أنشــأت بغــرض القيــام بالدراســات املتخصصــة يف مختلــف‬ ‫املجــاالت العلميــة و اإلنســانية‪..‬‬ ‫ومن املعلوم أ َّن كل مجتمع وا ٍع يعرف حق املعرفة قيمة ما تقدمه الجامعات من خدمات يف كافة نواحي املعرفة‪ ،‬مام جعل خدمة املجتمع هي‬ ‫الوظيفة أو الواجب الرئيس للجامعة بعد التدريس والبحث العلمي‪ .‬وميكن تصنيف هذا الواجب الثالث إىل أنواع فرعية خدمية أساسية ثالث‪ ،‬قد‬ ‫يتش ّعب من كل منها أصناف مختلفة من الخدمات التي يحتاجها املجتمع‪.‬‬ ‫ويف الختام‪ ،‬ومن خالل ما سبق طرحه‪ ،‬أصبح من الرضوري تحويل األقوال واملقاالت والندوات إىل خطط وبرامج عملية تطبيقية تفصيلية تتسم‬ ‫باملرونة والقابلية للتعديل دوماً‪ .‬وتبقى مثة تغذية راجعة متبادلة ومستمرة بني الخطط والسياسات يف ضوء التغريات التي تحدث يف الواقع‪ ،‬أو التي‬ ‫ميكن توقعها ومحاكاتها باملنظور اإلبداعي اعتامدا ً عىل أسس املعرفة ومهارات التعليم املستمر طول الحياة وتوفري املناخ الرثي الذي يفجر الطاقات‬ ‫وين ّميها لدى الجميع دون إصطفاء أو استبعاد أو تهميش وذلك حفاظاً عىل ألمن الوطني يف كافة تشعباته وآلية للتحصني ملواجهة أية هيمنة متخطية‬ ‫الحدود‪.‬‬ ‫ويبقى أصحاب العلم والتقنية يقودون العامل ويُنريون الطريق ومي ّدوه بعلومهم من أجل اإلستمرار بالتعلم واملشاركة‪ ،‬حيث ما تزال أنظمة مجتمعنا‬ ‫قامئة عىل تجزئة القضايا مضخم ًة موضوعات ُمح َّددة و ُمهمل ًة ألخرى تاركة أمر بلورة املجتمع ككل إىل املسؤول اإلداري األعىل والسياسيني الذين تفارقوا‬ ‫فيام بينهم‪ ،‬وما بينهم وبني مجتمعهم‪ ،‬مام حدى إىل غياب الصياغة الصحيحة ألي منطلق أو مرشوع يخدم املجتمع ضمن توازنات النظام العاملي‬ ‫وال بد من التأكيد بإستمرار أ َّن هدف التعليم وربط الجامعة باملجتمع ربطاً مبارشا ً يبقى هو األساس للحاق بالعامل املتغري من خالل مقدرة األفراد‬ ‫والرشكات أو املؤسسات عىل التالؤم والتك ّيف بعيدا ً عن اإلنحراف مع تيارات األحداث وفقدان القدرة عىل اإلسهام يف صنع التغيري وضبطه وتسيريه‪.‬‬ ‫فال بد من البدء بخطوات سليمة صائبة واثقة يساهم بها الجميع من خالل بلورة املوجهات اإلجرائية والبدء بالعمل عىل كافة املستويات الثقافية‬ ‫والتعليمية واإلجتامعية والسياسية والعمرانية والصناعية والزراعية والشبابية‪ ..‬وغريها‪.‬‬ ‫إن االبــداع يســهم يف انتــاج الحضــارة‪ ,‬وأعضــاء املجتمــع الــذي يفتقــر اىل الحريــة يصعــب عليهــم ان يكونــوا مبدعــن‪ ,‬بالنظــر إىل أن انعــدام الحريــة‬ ‫والخــوف مــن نتائــج مامرســة الحريــة يزيــان او يضعفــان الدافــع النفــي والفكــري اىل اإلبــداع‪ .‬يف مثــل هــذا املجتمــع فــإن امليــل إىل اإلبــداع إذ يثبطــه‬ ‫النظــام القيمــي الســائد‪ ,‬يختفــي‪ ,‬أو يبقــى ســاكنا‪.‬‬

‫مراجع البحث‬ ‫سيد بدوي‪« ،‬مفهوم التطور‪ ،‬معجم العلوم االجتماعية»‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪1975 ،‬‬ ‫دنيكن ميتشيل‪« ،‬معجم علم االجتماع»‪ ،‬ترجمة إحسان محمد الحسن‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بيروت‪1981 ،‬‬

‫ •‬

‫عبدالباسط عبدالمعطي‪ ،‬عادل الهواري‪« ،‬علم االجتماع والتنمية‪ ،‬دراسات وقضايا»‪ ،‬دار المعرفة الجامعية‪،‬‬ ‫اإلسكندرية‪1985 ،‬‬ ‫محمد الجوهري وآخرون‪« ،‬ميادين علم االجتماع»‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،1984 ،‬الطبعة السادسةمحمد‬ ‫عاطف غيث‪« ،‬قاموس علم االجتماع»‪ ،‬دار المعرفة الجامعية»‪ ،‬اإلسكندرية‪1995 ،‬‬

‫ •‬

‫ •‬


‫من الرضورة االطالع عىل التجارب الناجحة للدول املتطورة التي بنت مجتمعاتها املعرفية وفق خصائصها الذاتية ‪..‬واالستفادة من تجارب الشعوب‬ ‫األخرى التي أصبحت لديها املعرفة سمة ومقياسا ملعنى القوة والتفوق يف صياغة أمناط الحياة وتشكيل الذوق الفني والقيم الدول التي ضاعفت من‬ ‫رسعة الفتوحات العلمية واإلبداعية ‪.‬‬ ‫الخدمات التي تستطيع الجامعات تقدميها للمجتمع ‪:‬‬ ‫أوال‪ :‬توفري أحدث املعلومات وتقديم املعونة وإسداء النصائح لألفراد والجامعات والرشكات والهيئات التجارية والصناعية والزراعية وكافة املجاالت‬ ‫املختلفة األخرى والحكومات من أجل مواجهة الصعاب واملشكالت التي تستطيع الجامعة إيجاد حلول علمية لها ضمن تخصصاتها املختلفة‪.‬‬ ‫ثانياً‪ :‬إجراء البحوث العلمية امليدانية واألكادميية التي تستهدف إيجاد الحلول للمشكالت والصعاب املتعلقة بالسياسات العامة ىف كافة مجاالت الحياة‬ ‫من خالل‪-‬‬ ‫مراكز علمية مرتبطة باألقسام العلمية والكليات كل حسب تخصصها‬‫لجان استشارية من أعضاء هيئة التدريس‪ ،‬أفرادا ً أو جامعات‪ ،‬تُ ْنتَ َدب للمساهمة يف املشاريع املختلفة‪.‬‬‫ثالثا‪ :‬تنظيم برامج تدريبية قصرية األجل ملختلف قطاعات املجتمع‪ ،‬من موظفني وعاملني وفنيني ورجال األعامل وغريهم‪ ،‬وعقد مؤمترات وندوات‬ ‫ولقاءات دورية منتظمة ومستمرة‪.‬‬ ‫‪ ‬رابعا‪ :‬تشكيل صفوة قيادية مبدعة تقوم بأعباء التوجيه التخطيطي والتنفيذي القتحام كل ما هو جديد ونافع من املعرفة والتكنولوجيا من خالل‬ ‫تواجد الخرباء الجامعيني يف ميادين العمل داخل املجتمع ضمن مجالس املؤسسات اإلنتاجية والصناعية وغريها‪ ،‬والعكس هو الصحيح بتواجد ممثلني‬ ‫فنيني وإداريني من هذه املؤسسات داخل األقسام الجامعية والبحثية املعنية من أجل إتقان املعرفة النظرية أو تعديلها من خالل املامرسات الفعلية يف‬ ‫التدريب واإلنتاج باإلتجاهني عىل حد سواء ليصبح أكرث فاعلية وتأثريا ً وإثراء كل ما هو نظري وما هو مهني تطبيقي‪.‬‬ ‫خامسا‪ :‬يتطلب من الجميع اإلعرتاف أوالً بذاتية اإلنسان وقدرته عىل املشاركة بوصفه فاعالً إجتامعياً يف مختلف مجاالت الحياة وفق نقاشات وحوارات‬ ‫ودراسات تضع باإلعتبار طبيعة النشاط وأهميته‪ .‬ويأيت هنا دور الجامعة بكل نشاطاتها داخل املجتمع لقيادة ذلك التوجه نحو األفضل‪ ،‬حيث تبقي‬ ‫املؤسسات الجامعية‪ ،‬يف األساس واملبدأ‪ ،‬منبع الجودة الشاملة للتعليم مبفاهيم تشري إىل ثقافة أصيلة إالّ أنها متجددة بالتعامل مبعايري متفق عليها عاملياً‬ ‫من حيث التميّز باملهارات من خالل تحديث مناهجها وتطوير أعضاء هيئة التدريس وإداراتها نحو التحسني والتطوير املستمر وخلق وعي للعمل‬ ‫الجامعي إلظهار القدرات واملواهب وإإلبتكار بعيدا ً عن النمطية السائدة منذ زمن طويل‪.‬‬ ‫سادساً‪ :‬العمل الجاد عىل وجوب تدريب الكوادر املهنية املختلفة وإنخراطها بالتدريب املستمر املتطور‪ ،‬والتدريب التحوييل‪ ،‬والتي مبجملها ت ُ َع ُّد من‬ ‫أهم املطالب يف ضوء ثورة املعلومات واإلتصاالت والتغري يف املهارات التي تتطلبها املهن الجديدة نتيجة التغريات العاملية املتالحقة يف كافة املجاالت‪،‬‬ ‫حيث اصبح ذلك أمرا ً مهامً جدا ً عند الحديث عن التنمية البرشية والتطور اإلجتامعي والتقدم وإعادة الهيكلة نحو اللحاق بالركب املتسابق‬ ‫سابعا‪ :‬إعادة إنتاج وتوليد معارف حديثة وتشغيلها مبحور اإلبداع كخيار إسرتاتيجي حتمي وإيجاد الجواب السليم لكيفية إنتاج املعرفة وعدم الوقوف‬ ‫عند اإلهتامم باستهالكها فقط‪ ،‬وذلك من أجل اللحاق بهذا العرص الذي تتسابق فيه تشظّي املعلومات وإنسيابها وتجددها برسعة مذهلة‪ .‬فال بد من‬ ‫إبتداع الرؤية املجتمعية الخاصة مدعومة بإستشارات ذوي اإلختصاص ال ِعلميني والباحثني يف الجامعات مع سياسات وقرارات وجهود تعمل سوية عىل‬ ‫تكريس إنجاح العمل والوصول إىل الهدف املنشود‪.‬‬ ‫ثامناً‪ :‬البد من األخذ بعني اإلعتبار تأثريات الخطط والربامج بالحارض ومعطياتها وما يحدث يف العامل املحيط مبجتمعنا وما يُتوقّع أن يحصل‪ ،‬متأثرا ً كذلك‬ ‫بإدراك القادة ال ِعلميني وامليدانيني والسياسيني حول املستقبل وما تحمله النوايا واإلسرتاتيجيات والغايات من إستهداف يواجه مسار الحركة وإستخالص‬ ‫الكثري من معايري اإللتقاء وأولويات املشاريع الواجب اإلهتامم بها فعالً من أجل اللحاق بالركب العاملي‪.‬‬ ‫تاســعا‪ :‬دعــم الجامعــات ماديـاً ومعنويـاً وسياســياً وجعلهــا يف موقــع القيــادة الفاعلــة مهنيـاً يف كافــة مجــاالت ونشــاطات املجتمــع املختلفــة‪ .‬وميكــن‬ ‫إجــال خدمــات الجامعــة للمجتمــع يف زيــادة املســؤولية املجتمعيــة و خدمــة املجتمــع فيــا يــي‪:‬‬ ‫‪.1‬إعــداد العنــر البــري‪ ‬القــادر عــى إحــداث التنميــة املنشــودة مــن خــال إعــداد القــوى العاملــة القــادرة عــى مواجهــة‪ ‬التغي ـرات العلميــة و‬ ‫التكنولوجيــة املعــارصة‪.‬‬ ‫‪.2‬تقديم منشورات ذوي الخربة من هيئة التدريس لإلفادة من خرباتهم يف مجاالت اإلنتاج و الخدمات‪.‬‬


‫حوار مع األديب رياض الدليمي‬ ‫أجرى الحوار ‪ :‬بسام الطعان – سوريا‬ ‫العراق اعتاد على الكبوات لكنه سرعان ما ينهض جوادا ً جامحا ً‬ ‫أديب وشاعر وإعالمي عراقي من بابل‪ /‬قضاء المحاويل‪ ،‬بكالوريوس تربية ‪ 1987‬جامعة بغداد‪،‬‬ ‫ماجستير تربية ‪ /‬جامعة سانت كلمينس البريطانية‪ ،‬يعد اآلن للحصول على الدكتوراه ‪ ،‬يعمل مدرسا ً ‪،‬‬ ‫عمل مديرا ً للتحرير ورئيسا للتحرير في مجلة «اآلن» التي تعنى باألدب والفكر وينشر نتاجه في العديد‬ ‫من الصحف والمجالت العربية‪ ،‬صدر له‪ :‬غبار العزلة ـ مجموعة قصصية ‪ .2000‬بنية االستثمار في‬ ‫العراق والبحث عن البدائل‪ ،‬كتاب اقتصادي‪ .2011،‬انطولوجيا القصة في بابل‪ ،‬مجموعة قصصية‬ ‫‪ .2012‬غوايات‪ ،‬مجموعة شعرية ‪ .2013‬تسلقي عروش الياسمين ‪ ،‬مجموعة شعرية ‪.2014‬‬ ‫‪1‬ـ تمارس كتابة القصة القصيرة والشعر والنقد والمسرحية والبحوث إلى جانب العمل االعالمي‪ ،‬وكتابة‬ ‫أي جنس أدبي استلهام وعقيدة‪ ،‬همة وتجربة‪ ،‬يؤدي مجموعها إلى االحتراف‪ ..‬من هنا سأبدأ معك‪ .‬ما‬ ‫هدفك أو رسالتك من وراء ذلك‪ ،‬ثم أال يساهم هذا في إضعاف المبدع الذي في داخلك؟‬ ‫أنا عشت وسط عائلة ومجتمع محافظ بطقوسه االجتماعية والدينية والثقافية ‪ ،‬كان الجمال يحيط بي من‬‫كل جانب وال أستنشق اال الهواء النقي وطيبة الناس وفطرتهم ‪ ،‬تحيط ببيتنا البساتين والحقول وبيادر‬ ‫الحنطة والعنبر ‪ ،‬وتشكل األنهار والجداول قالدة تطوقنا من كل جانب ‪ ،‬كان بيت جدي الثري مفتوحا‬ ‫لكل الناس وهو معروف بسخائه فكان مضيفه عامرا بالناس واالجتماعات وكان يتخذ من المناسبات‬ ‫الدينية واالجتماعية فرصة ليجمع فيها أهل القرية ‪ ،‬وكنت طفال أرى الناس مبتهجين وهم يتناولون‬ ‫سير العظماء والرموز الدينية واالجتماعية وهم جالسون على موائد عامرة ‪ ،‬فأفرح معهم وأستمع لك ّل‬ ‫معلومة جديدة ‪ ،‬لذا أنا تربيت في ظل هذه األجواء ‪ ،‬وعندما أذهب الى المدينة ال تختلف كثيرا عن مثل‬ ‫هذه األجواء لكن كانوا أجدادي وخوالي مهتمين بالثقافة الدينية والسياسية واالدبية وخاصة اللغة وآفاقها ‪،‬‬ ‫لذا ترعرت وتربيت في بيوت يعمرها الكرم والثقافة والناس الفرحين ‪.‬‬ ‫نهلت من كل مناهل الثقافات والفنون فهكذا صيّرت بقصد ومن دون قصد ‪ ،‬ولكن ال يمكن أن أكتب‬‫في آن واحد في كل شيء من دراسات وأبحاث وآداب وفنون فلكل نوع من أنواع المعارف هذه له وقته‬ ‫والبد أن أعطيه متسعا يستحقه ‪ ،‬في أحيان كثيرة عندما أعزف عن كتابة الفنون األدبية أذهب للبحث‬ ‫والدراسة ‪ ،‬وهكذا قد أوفق هنا وأفشل هناك ‪ ،‬ولكن في كل األحوال هكذا وجدت نفسي بين هذا وذاك ‪،‬‬ ‫ولن أدعي االبداع في كل شيء لكن أعي اني أحاول وأحاول علّي أوفق ‪.‬‬ ‫‪2‬ـ هل في العراق ثقافة طائفية يروج لها‪ ،‬والبعض يقول إن الذي يجري في العراق عوده إلى الوراء‪ ،‬إلى‬ ‫محاكم تفتيش جديده ‪،‬إلى زمن الكهوف واللطم والدفوف ‪ ،‬إلى زمن الفرمانات والسالطين الذين ال يرد‬ ‫لهم أمر؟‬ ‫العراق يمر في أزمة ثقافية حقيقية بسبب الضغوط الهائلة المسلطة عليه بعد عام ‪ 2003‬ومازالت ‪،‬‬‫ولكن في كل األحوال من الصعب على للمثقف أن يكون لسان حال السياسي الطائفي ألنه سيخسر نفسه‬ ‫وتأريخه وابداعه ومن هم ركبوا الخطاب الثقافي فهم ثلة قليلة ال يشار لها مطلقا وال تمثل الهم الجمعي‬ ‫الوطني األصيل ‪ ،‬ومن المحال أن يعود العراق الى ما وصفته ‪ ،‬العراق اعتاد على الكبوات لكنه سرعان‬ ‫ما ينهض جوادا جامحا‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ركن أساس في بنية النّص األدبي كيفما كان جنسه ولونه‪ ،‬وقد انتبه لهذه الظاهرة اللغوية منذ‬ ‫‪3‬ـ اللغةُ هي‬ ‫عصر ( أبو تمام)‪ ،‬و(المتنبي)‪ ،‬ومن ث ّم (محمود سامي البارودي)‪( ،‬فالجواهري) اللغة كإحدى اللبنات في‬


‫حوارات‬


‫فمقت الناس الشعر والشعراء النهم عدّوه أي ( الشعر ) أحد وسائل االستبداد والطغيان لهؤالء الحكام ‪.‬‬ ‫‪6‬ـ القصة القصيرة وفنها الجميل التي هي بنت العصر‪ ،‬وبنفس القدر بنت المستقبل‪ ،‬وستبقى عادة‬ ‫راسخة من عاداته الثقافية األدبية‪ ،‬ومع أنها منشورة على صفحات أي جريدة أم مجلة سواء كانت‬ ‫«يفول» على القصة القصيرة على أنها تعيش أيامها األخيرة‪،‬‬ ‫أدبية أم غير أدبية‪ ،‬مع كل هذا‪ ،‬هناك من‬ ‫ّ‬ ‫وهناك من يقول إن فن القصة بات مهددا باالنقراض‪ ،‬وانها مجرد تدريبات لكتابة الرواية‪ ،‬ما رأيك؟‬ ‫ تعد القصة القصيرة واحدة من أرفع الفنون األدبية وأجملها ‪ ،‬وأنا أكتبها منذ نعومة أظفاري وما زلت‬‫‪ ،‬لكن ال أعتقد ان للقصة أثر على مستقبل الرواية وديمومتها وال أثر لألخيرة عليها ‪ ،‬فلكل من هذين‬ ‫الفنيّن استقالليتهما وجماليتهما ‪ ،‬وأعتقد أن الرواية الطويلة ال مستقبل لها فسيلجأ الكتاب الى كتابة الرواية‬ ‫القصيرة التي تنسجم مع التطورات السريعة في هذا العصر وأن وقت االنسان بات قصيرا بسبب ندرة‬ ‫فراغه وهو مجبل أن يشغل أغلب وقته بالعمل وااللتزامات الوظيفية والبيتية ‪.‬‬ ‫‪ -7‬بيئة الكاتب التي يعيش فيها دائما تشكل له منهال وينابيع للكتابة‪ ،‬من أين تأتين بمواضيع وشخصيات‬ ‫وأبطال أعمالك األدبية‪ ،‬من البيئة المحيطة بك ـ أقصد بيئتك البغدادية والبابلية ـ أم من الخيال؟ وإلى أي‬ ‫مدى استفدت من هذه البيئة؟‬ ‫بيئة الكاتب هي احدى حواضن نصوصه ولها انعكاسات كبيرة في أدوات خطابه الشعري أو أي فن أدبي‬‫آخر ‪ ،‬األديب بالضرورة أن يكون منسجما مع أدوات اتصاله المباشرة وهي بيئته التي ولد فيها وترعرع‬ ‫واكتسب من ثقافاتها وشخوصها وأحداثها و ِسفرها شاء أم أبى ‪ ،‬فتجد كل كاتب يعبر عن ثقافته المجتمعية‬ ‫واالجتماعية وواقعه وتكون متسقة به حتى وفاته ‪ ،‬وبرأيي المتواضع هذه حالة صحية ‪ ،‬اذ أن النص حين‬ ‫يعبر عن ثقافة ما فهو يتيح لآلخر تالقحا ثقافيا ودعائم للتجارب الحضارية بين المجتمعات كي يخرج من‬ ‫العزلة الحضارية ‪ ،‬و لن يتم تفكيك النص وفك شفراته ودالالته دون العودة الى مرجعيات الكاتب الثقافية‬ ‫ومن ضمنها البيئة التي يعيشها ‪.‬‬ ‫‪8‬ـ النقاد في بالدنا العربية كثيرون‪ ،‬ولكن أحيانا نرى بعضهم وقد امتاز بصفات غريبة‪ ،‬على سبيل‬ ‫المثال يتناول ناقد ما عمالً ال يستحق القراءة‪ ،‬فنجده وقد فقد اتزانه من شدة اإلعجاب واالنبهار بهذا‬ ‫العمل‪ ،‬وخاصة إذا كان هذا العمل لكاتبة أو شاعرة‪ ،‬وفي عمل آخر يتناوله وهو عمل جاد لكنه يتجاهل‬ ‫كل جمال فيه ويستخف به‪ .‬ما رأيك؟ هل هذا هو حال حركة النقد العربية؟‬ ‫النقد العربي اِن جاز التعبير أن نسميه مازال فاقدا لوظائفه وأغراضه المعرفية واالنسانية هذا أوال ‪،‬‬‫ومن ثم النقد عندنا هو صدى للمناهج الغربية فهو فاقد لشخصيته ومرجعياته ‪ ،‬وليس عيبا ان يأخذ من‬ ‫اآلخر لكن العيب أن يغرق فيه ويمسخ شخصيته ‪ ،‬والنقد جلّه قائم على اعتبارات شخصانية ومآرب‬ ‫أنانوية ضيقة ‪ ،‬ال يبحث عن االبداع بل يرمي الى الوصولية وتحقيق النفعية على حساب قيّمه ومناالته ‪،‬‬ ‫وكما تفضلت بسؤالك فان النقد ال يبحث عن االبداع الحقيقي بل هو مغرض وال يمكن أن يعتد به وليس‬ ‫هو المعيّار الحق الذي يمكن أن يرتكز عليه ‪.‬‬ ‫‪9‬ـ ديوانك الشعري الموسوم (تسلقي عروش الياسمين) نصوصه رائعة ومعبّرة ‪ ،‬ولغته جميلة جداً‪ ،‬تنقل‬ ‫فيه القارئ إلى مزارات الزوردية ‪ ،‬ما مصادر صور أشعارك ولغتك؟‬ ‫شعري هو ابن لحظتي ومخيالي وأرقي وذاكرتي وهموم االنسان والتهديدات والمخاطر المسلطة على‬‫رقبته كي تقضي على وجوده وانسانيته وجذوره ‪.‬‬ ‫‪10‬ـ ما هي المعوقات التي تمنع القاص أو الشاعر عن الوصول إلى أكبر عدد من القراء‪ ،‬وكيف عليه أن‬ ‫يزيل هذه المعوقات؟‬


‫النص الشعري كيف تراها‪ ،‬وكيف تنظر إلى دورها في نصوصك الشعرية والقصصية؟ وهل تجعل منها‬ ‫بطالً في أعمالك؟‬ ‫ال يمكن أن أتحدث عن اللغة بوصفها ثقافة وهوية شعب ما ألنها ستكون منحازة الى مرجعياتها السياسية‬‫واالجتماعية والدينية وفي مثل هذا الحال سوف لن تكون بريئة ‪ .‬لكني أفضل الحديث عن المفردة وتفكيك‬ ‫ن‬ ‫سبقو� الشعراء المتصوفة لذلك ))‬ ‫حروفها ألني وجدت المفردات قائمة على حضارة الحرف (( كما‬ ‫ي‬ ‫وصور وأفكار ‪ ،‬لم يرسم‬ ‫معان‬ ‫‪ ،‬الحرف بذاته وشخصيته يشكل عالما تكتمل به كل عوالم الجمال من‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الحرف هيأته ليميز نفسه عن اآلخر بقدر ما هو وليد إلفرازات نفسية وفكرية وروحية ‪ ،‬و ُ‬ ‫شكل بهذه الهيئة‬ ‫وتلك ليعبر عن داالته ومدلوالته وكينونته وأغراضه ‪ ،‬اذن الحرف ليس شكال وهيئة ورسما ‪ ،‬لذا جاءت‬ ‫كتاباتي ضمن هذا النسق ‪ ،‬اذ شكل الحرف كليّة وليس بضعة ‪ ،‬والحروف ال يمكن أن تشكل مفردة ح ِسنة‬ ‫اِن لم تكن على اصطالح فيما بينها ‪ ،‬وهذا التصالح والتعالق بين الحروف قادر على أن يخلق مفردات‬ ‫وأنساقا لغوية تشاكس الذائقة ‪ ،‬جاذبة وغير طاردة ‪ ،‬وتحاكي الفكر وتدغدغ المشاعر ‪ ،‬فكلما نجعنا في‬ ‫خلق مفردات منسجمة كلما نجحنا في خلق بيئة نقية تصلح للعيش المشترك تقوم على أساس األفعال‬ ‫التبادلية ‪ ،‬ذاعنة وصاغية لآلخر ‪ ،‬لغة غير منافقة ومجردة من األنانية ‪ ،‬لذا اللغة في نصوصي أزعم هي‬ ‫خطاب معرفي فيضي وجمالي وخطاب سالم مشوق غير منفر ‪.‬‬ ‫في نصوصي الشعرية والقصصية وظفت اللغة كأنها محور العمل ولها كيانها وشخصيتها وهي تحرك‬ ‫النص وتجره الى حواضنها وخطابها كما في نصوص (( من طوروس الى الرشراش )) و(( أشكو من‬ ‫فيض اليقين )) (( أنا المشرد بين قوسين ))‬ ‫كما نجد ان (( النص عند جوليا كريستيفا‪ ،‬هو جهاز عبر لغوي ‪ ،‬يعيد توزيع نظام اللغة ‪ ،‬ذلك بكشف‬ ‫العالقة بين الكلمات التواصلية ‪ ،‬مشيرا إلى بيانات مباشرة ‪ ،‬تربطها أنماط مختلفة من األقوال السابقة‬ ‫عليها والمتزامنة معها )) ‪.‬‬ ‫‪4‬ـ أروع موهبة الكاتب هو التأليف‪ ،‬وهو أصعب جوانب العمل سواء كان الروائي أو الشعري أو‬ ‫القصصي‪ ،‬ولكن على ماذا يتوقف نجاح الكاتب‪ ،‬على فلسفته ونظرته إلى الحياة‪ ،‬أم على أسلوبه وأدواته‬ ‫التي تخصه وحده‪ ،‬أم على موهبته؟‬ ‫البد أن تتوفر الموهبة كاشتراط بديهي للكاتب وهي هبة من هللا سبحانه وتعالى ‪ ،‬وبعدها تأتي الخبرة من‬‫خالل التراكم الثقافي لدى المبدع والوعي ‪ ،‬فان لم تتكامل هذه الشروط (( الموهبة والخبرة والوعي )‬ ‫يستحيل أن يتحقق االبداع ‪.‬‬ ‫‪5‬ـ في الماضي كانت الرواية هي التي تعرض وتصف وتحكي وتمتع وتنمي القدرة اللغوية عند الناس‪..‬‬ ‫اآلن كيف تنظر إلى حضورها‪ ،‬هل ستبقى مهما كانت قيمتها قادرة على مواجهة التحدي‪ ،‬وسائل‬ ‫التواصل االجتماعي والتلفاز والحاسوب مثال‪ ،‬واالحتفاظ بالقارئ المثابر على القراءة التي قد تمتد أليام؟‬ ‫الرواية اليوم تشكل الخطاب الثقافي المهيمن على ذائقة المتلقي وبقوة ‪ ،‬واذا ما عدنا لألسباب فان الرواية‬‫هي األنسب لظروف الحياتية للمتلقي ‪ ،‬حيث أصبح االنسان بشكل عام يفضل االنزواء والوحدة للظروف‬ ‫المحدقة التي تحيط به وازدياد المخاطر فتجده يفضل البيت على حضور المنتديات والمظاهرات الثقافية‬ ‫ومناسب له ويتالءم مع ظرفه فاختار الحكاية والسرد ليمأل بها وقته وفراغه ‪ ،‬الشعر والمسرحية تحتاج‬ ‫الى منابر وجمهور لذا قد عزف الناس عن هذه المنابر ‪ ،‬باإلضافة لذلك ان أغلب األنظمة العربية ومنذ‬ ‫الربع األول من القرن الماضي وكذلك الثورات والتنظيمات السرية والعلنية اعتمدت على الشعر لكي‬ ‫يسوق لها فكرها وخطابها ويثير من حماسة الجمهور وتأليبهم على السلطات الحاكمة في حينها ‪ ،‬و لكن‬ ‫بعد أن بسطت نفوذها على مقاليد الحكم حولت الشعر الى بوق تمجيد وتعظيم لها ولتأريخها فأخذ الشعراء‬ ‫يغنون للحكام من أجل منافع ومكاسب زائلة ‪ ،‬لذا فق ّد معظم الشعر من جماليته ولذته الشيء الكثير ‪،‬‬



‫من أهم المعوقات هو فقدان نزاهة النشر ألغلب دور الطباعة ان كانت أهلية أم حكومية ‪ ،‬وكذلك بالنسبة‬‫للمجالت والصحف ‪ . .‬فالنشر يعتمد على العالقات الشخصية أو التملق لألسماء المشهورة ‪ ،‬والقصد منه‬ ‫هو الربح المادي ‪ .‬اما ماهي الكيفية التي يمكن ان يزيلها المبدع ؟‬ ‫فأقول ‪ :‬أما بالجهاد أي المثابرة والصبر أو التنازل والخضوع ‪.‬‬ ‫‪11‬ـ جذوة الكتابة الشعرية لن تموت في العراق رغم شبح الموت الذي خيم على الحياة العراقية ولعقود‬ ‫طويلة ‪ ،‬ومع هذا ظهرت أجيال شعرية متعددة منذ مطلع خمسينات القرن الماضي ‪ ،‬أي مع ظهور‬ ‫السياب ونازك والبياتي والنواب والصائغ وسعدي يوسف والحيدري ‪ ،‬ثم جاءت أجيال أخرى ‪ ،‬جيل‬ ‫ستيني وجيل سبعيني وجيل ثمانيني وجيل تسعيني‪ ،‬وقد عاشت كل هذه األجيال مرارة الواقع السياسي‬ ‫العراقي بكل تناقضاته وتعقيداته‪ ،‬ومع كل هذا سيظل العراق والّ ٌد بالشعراء‪ .‬ما رأيك؟‬ ‫ولد الشعر بالعراق من أول صرخة طفل ولد فيه ‪ ،‬ومنذ أول وطأة قدم ألرضه ‪ ،‬فمحال أن يموت االبداع‬‫بالعراق الن هللا جل وعاله هكذا أراد ‪.‬‬ ‫‪12‬ـ كيف تقيّم الكتابات الشعرية المكتوبة باسم الحداثة والتي تتسم بالتحلل من القيود التقليدية أو المقيّدة‬ ‫جداً‪ ،‬وفي مقدمتها الوزن والقافية وبالترميز عن معان يقصد بها الشاعر قصدا ً أن يعمها وكأن هذه التعمية‬ ‫جزء ال يتجزأ من مفهوم الحداثة‪ ،‬أو كأن المطلوب أال يفهم القارئ ما يقوله؟‬ ‫أنا ال اؤمن بقداسة الشكل الشعري بقدر جدته وأساليبه المبتكرة ‪ ،‬والشعر الغامض وهنا نتحدث عن‬‫الشعر ال غيره بتقديري فالغموض فيه انما هو يعبر عن غياب الرؤية الفنية والذوقية للشاعر ويوجد خلل‬ ‫ما في أدواته الشعرية ‪.‬‬ ‫الثقافة خاضعة في كل زمن ومكان الى اشتراطات اللحظة الحضارية والمتغيرات التي تتسارع بسرعة‬ ‫تفوق األنفاس وأقصد هنا زمننا هذا الزمن المجنون وليد هوس التقنات ( زمن الحداثة وما بعد الحداثة )‬ ‫اللذان تماها مع دعوات النظام الجديد (العولمة ) والفوضى الحضارية والتي ذوبت دوال وشظت شعوبا‬ ‫بين طياتها لتشكل كونتات وشعوبا تسكن الجبال لتعصف بها الريح وسموم الصيف وقسوة الثلج‪.‬‬ ‫تعيش بالعراء بال مأوى ‪ ،‬فكيف سيكون المشهد الثقافي تحت ظل هذه الظروف ؟‪.‬‬ ‫االرض خلت من سكانها لقد ركبوا البحار الى موت رحيم ربما هو األرحم لها وهو طوق النجاة والحل‬ ‫الناجع األخير ‪.‬‬ ‫الشواطئ كانت هي األخرى أكثر تفهما للضغوط الكبيرة التي تواجه البحار ‪ ،‬اذ أصبحت ال تستوعب‬ ‫راكبيها ‪ ،‬الشعوب تمتطي البحار وليس مافيات التهريب والصيادين والتجار فحسب ‪ ،‬فما بالك ان تجد‬ ‫البحار خجلة من هذا الكم الهائل الالئذ اليها ؟ الشواطئ تشي للبحار أن تقذف بمن علق بأذيالها من‬ ‫الغرقى من أطفال ونساء بدال أن تقذف زبدها ولؤلؤها ‪.‬‬ ‫‪13‬ـ كيف تنظر إلى دور اتحاد األدباء في العراق‪ ،‬هل يقوم بواجبه تجاه كل المبدعين العراقيين‪ ،‬أم شأنه‬ ‫شأن المؤسسات االخرى التي ال تخلو من المحسوبية والفساد؟‬ ‫االتحادات والنقابات والروابط الثقافية عموما هي عاجزة عن تلبية متطلبات المبدعين لغياب الدعم‬‫لها من قبل األنظمة الحاكمة ‪ ،‬فأصبحت ناطقة باسم هذا النظام وذاك فجردت من استقالليتها وأهدافها‬ ‫السامية لألسف ‪.‬‬


‫متنوعات‬


‫وفاء المرأة لزوجها‪ -‬بعد وفاته‬ ‫من كتاب األغاني ألبي الفرج األصفهاني‬

‫من آيات الحب العميق هذا الوفاء الذي يكنّه الزوج لزوجته والزوجة لزوجها‬ ‫صا من وفاء الزوجة‪ -‬إلى درجة أن الواحدة منهن أبت أن‬ ‫أحببت أن أسوق لكم قص ً‬ ‫يبني بها‪ ‬‬ ‫متيسرا ومألوفًا في عصرها‬ ‫زوج آخر – بعد وفاة زوجها‪ ،‬رغم أن ذلك كان‬ ‫ً‬ ‫في كتاب (األغاني) ألبي الفرج األصفهاني حكاية طريفة أوردها في حديثه عن ُهدبة‬ ‫بن ال َخ ْش َرم‪ ،‬وكانت له امرأة جميلة‪.‬‬ ‫ُحكم على ّهدبة باإلعدام‪ ،‬فلما أخرج من السجن ليُقتل جعل الناس يتعرضون له‬ ‫ويختبرون صبره ويستنشدونه‪ ،‬فأدركه عبد الرحمن بن حسان فقال له‬ ‫يا ُهدبة‪ ،‬أتأمرني أن أتزوج هذه بعدك‪ -‬يعني زوجته وهي تمشي خلفه؟‬ ‫فقال‪ :‬نعم إن كنت من شرطها‬ ‫قال‪ :‬وما شرطها؟‬ ‫قال‪ :‬قد قلت في ذلك‪-‬‬ ‫فرق الدهر بيننا‪ ‬‬ ‫فال تنكحي إن ّ‬ ‫أغ َّم القفا والوج ِه ليس بأنزعا‪ ‬‬ ‫سا أو ألروع ماجد‪ ‬‬ ‫وكوني حبي ً‬ ‫تبرعا‬ ‫إذا ضن أعشاش الرجال َّ‬ ‫(أغم القفا واألنزع‪ -‬كناية عن البالدة‪ ،‬أعشاش الرجال= قليلو المعروف)‬ ‫فمالت زوجته إلى جزار‪ ،‬وأخذت شفرته‪ ،‬فجدعت بها أنفها‪ ،‬وجاءته تد َمى‬ ‫مجدوعةفقالت‪ :‬أتخاف أن يكون بعد هذا نكاح؟‬ ‫فرسف في قيوده‪ ،‬وقال‪ :‬اآلن طاب الموت‬ ‫وفي رواية أخرى‪ -‬قال النوفلي عن أبيه‬ ‫فلما ُمضي به من السجن للقتل التفت فرأى امرأته وكانت من أجمل النساء‪ ،‬فقال‬ ‫أقلّي علي اللوم يا أ َّم بَوزَ عا‪ ‬‬ ‫وال تجزعي مما أصاب فأوجعا‬ ‫وال تن َكحي إن فرق الدهر بيننا‪ ‬‬ ‫أ َ‬ ‫غ َّم القفا والوج ِه ليس بأنزعا‪ ‬‬ ‫ضروبًا بلحييه على ِعظم زَ وره‪ ‬‬ ‫إذا الناس هشوا للفَعال تقنعا‪ ‬‬


‫ولم تراع حقوقًا كنت أرعيها‬ ‫فانتبهت مذعورة‪ ،‬وحلفت أن ال تجمع رأسها ورأس الرجل وسادة‬ ‫مما ُروي عن شيرويه لما قتل أباه كسرى أراد أن يتزوج بشيرين امرأة أبيه‪ ،‬فقالت له‪ ‬‬ ‫على ثالث شرائط‬ ‫ّ‬ ‫فأخطئهم في معاونتهم إياك على قتل أبيك حتى ال يجرؤوا على‬ ‫‪ ‬أن تحضر الحكماء‪،‬‬ ‫مثله فيك‪،‬‬ ‫‪ ‬وأن تستحضر لي نساء الكبار ألشتفي بالبكاء عليه‪،‬‬ ‫‪ ‬وأن تأذن لي في حضور المكان الذي مات فيه‬ ‫فقال‪ :‬كل ذلك لك!‬ ‫فلما ّ‬ ‫صا مسمو ًما‪،‬‬ ‫خطأتهم وبكت عليه وحضرت المكان الذي مات فيه‪ ،‬أخرجت فَ ً‬ ‫فمصته‪ ،‬فماتت مكانها‬ ‫وكانت قد عمدت إلى سم فوضعته في بعض الخزائن وكتبت عليه‬ ‫إن من تناول منه وزن دانق أعانه على الجماع‪ ،‬فلما ظفر به تناول منه فمات في‬ ‫مكانه‬ ‫روى األصمعي أن رجالً من ضبّة أعجب بامرأة جميلة بمنظرها وبمنطقها‪ ،‬فسألها‬ ‫هذا‬ ‫‪ ‬ألك بعل؟‬ ‫كان فدُعي إلى ما ُخلق له‪ ،‬ف ِنعم البعل كان‬ ‫قال‪ :‬فهل لك من بعل ال تُذم خالئقه‪ ،‬وال تُخشر مواقفه؟‬ ‫عا‬ ‫فأطرقت‪ ،‬وقالت وهي تذرف دمو ً‬ ‫كنا كغصنين في أصل غذاؤهما‪ ‬‬ ‫ماء الجداول في روضات جنّات‬ ‫خيرهما من جنب صاحبه‬ ‫فاجتث َ‬ ‫يكر بفرحا ٍ‬ ‫ت وترحات‬ ‫دهر ّ‬ ‫ٌ‬ ‫وكان عاهدني إن خانني زمني‬ ‫أن ال يضاجع أنثى بعد مثواتي‬ ‫ضا فعاجله‬ ‫وكنت عاهدته أي ً‬ ‫سنيات‬ ‫ريب المنون قريبًا مذ ُ‬ ‫فاصرف عنانك عمن ليس يردعها‪ ‬‬ ‫عن الوفاء خالف في التحيات‬


‫وحلي بذي أكرومة وحميّة‪ ‬‬ ‫وصبر إذا ما الدهر عض فأسرعا‬ ‫يخاطب امرأته ويقول‪ :‬إن هلكت فال تنكحي رجالً لئي ًما‪ ،‬أغم‪ -‬والغَ َمم هو سيالن شعر‬ ‫الرأس‪ ،‬وهذا عندهم مذموم‪ ،‬وخاصة في القفا‪ -‬أي مؤخر العنق‪ ،‬ولهذا يقال في المدح‬ ‫رجل واضح الجبين‪ ،‬وفي كناية الذم‪ -‬أغم القفاحيث كان عندهم أن بعض الخ َْلق يدل‬ ‫على الكرم‪ ،‬وبعضها يدل على اللؤم‬ ‫ومعنى «أنزع» انحسر شعره عن جبينه وقفاه‬ ‫َّ‬ ‫و»الزور» الصدر‬ ‫و»اللحيان» العظمان من جانبي الفم‪،‬‬ ‫يريد أال يكون قصير العنق‪ ،‬فلحياه يصيبان صدره لقصر عنقه‬ ‫وهشوا‪ -‬ارتاحوا أي أرتاحوا لفعل المعالي‪ ،‬فعند ذلك هو ال يظهر ألنه ليس أهالً لذلك‬ ‫في البيت األخير مجال ألن تكون زوجة لرجل كريم ذي حمية وهمة وصبر‪،‬‬ ‫عا إذا عض الدهر بنابه‬ ‫وصاحب ُمروءة ينجد المحتاجين مسر ً‬ ‫إنه يريدها أال تتزوج رجالً غبيًا لئي ًما بخيالً فلتكن إذن حبيسة‪ ،‬أو لتكن مع أروع ماجد‬ ‫تجده عندما يقل الرجال‬ ‫بمعنى آخر هو ال يمنعها من الزواج بعده‪ ،‬ولكنه يشترط أال يكون بصفات مذمومة‪،‬‬ ‫وعرض به‬ ‫وقد غمز هدبة إذ أجاب عبد الرحمن بن حسان‬ ‫ّ‬ ‫ويفصل النوفلي في روايته كيف شوهت وجهها‬ ‫“إنها فعلت ذلك بحضرة مروان بن الحكم‪ ،‬وقالت له إن لهدبة عندي وديعة‪ ،‬فأمهله‬ ‫حتى آتيه بها!‬ ‫قال‪ :‬أسرعي‪ ،‬فإن الناس قد كثروا‪ .‬فمضت إلى السوق‪ ،‬فانتهت إلى قصاب‪ ،‬وقالت‬ ‫أعطني شفرتك وخذ هذين الدرهمين‪ ،‬وأنا أردها عليك‪ ،‬ففعل فقربت من حائط‪،‬‬ ‫وأرسلت ملحفتها على وجهها‪ ،‬ثم جدعت أنفها من أصله‪ ،‬وقطعت شفتيها‪ ،‬ثم ردت‬ ‫الشفرة وأقبلت حتى دخلت بين الناس‪ .‬وقالت يا هدبة‪ :‬أتراني متزوجة بعد ما ترى؟‬ ‫قال‪ :‬ال‪ ،‬اآلن طابت نفسي بعد بالموت‪.‬‬ ‫(األغاني‪ ،‬ج‪ ،21‬ص ‪ 272 -271‬دار الفكر)‬ ‫من قصص (محاضرات األدباء) في هذا الباب‪:‬‬ ‫تزوج رجل بابنة عم له يقال لها رباب‪ ،‬وتعاهدا على أن ال يتزوج أحدهما بعد موت‬ ‫اآلخر‪ ،‬فمات الرجل‪ ،‬وأكرهت المرأة على التزويج‪ ،‬فلما كان ليلة الزفاف رأت في‬ ‫منامها أن ابن عمها آخذ ب ِعضادتي ِ الباب‪ ،‬فأنشد‬ ‫حييت سكان هذا البيت كلهم‪ ‬‬ ‫الرباب فإني ال أحييها‬ ‫إال‬ ‫َ‬ ‫سا وأمسى منزلي خربًا‪ ‬‬ ‫أمست عرو ً‬


‫من يوميات ابن الحقل والحكايا‬ ‫عمر شبلي‬ ‫كان ينام معظم الليل على الحصير ‪،‬‬ ‫حتى يصير جنبه من التجاعيد حصيرا ً ثانيا ً ‪.‬‬ ‫وكان في الليل كثيرا ً ما يُرى‬ ‫مفتشا ً عن ” قمر الزمان”‬ ‫في قرارة الغدير‬ ‫وإن تحد ْ‬ ‫ّت نجمةٌ بريق عينيه على الغدير‬ ‫مدّ لها لسانهُ‬ ‫كأنها جارته ذات الوشاح األزرق الحرير‬ ‫و في النهار كانت الحقول‬ ‫تجعله أميرها ‪،‬‬ ‫فيسأل النسمة عن مسيرها ‪،‬‬ ‫ويسأل الغيمة عن مطيرها ‪،‬‬ ‫ويسأل الزهرة عن عبيرها ‪،‬‬ ‫كان بال أجنح ٍة‬



‫شرر‬ ‫يذر كل ما في قلبه الحزين من‬ ‫ْ‬ ‫كان ُّ‬ ‫كان إذا ما قهقهت غمامةٌ‬ ‫المطر‬ ‫يجلس تحت ثديها ليرضع‬ ‫ْ‬ ‫ألليل ‪ ،‬والقرية ‪ ،‬والشتاء‬ ‫الصور‬ ‫كانت تغذي روحه بأجمل‬ ‫ْ‬ ‫للطين في قريته رائحةٌ لذيذة ٌ‬

‫تجمع بين شهوة األرض وبين لهفة السماء…‬ ‫ي غامر ال يوصف ‪ ،‬كنا نتحلق حول‬ ‫ي القرية في الشتاء تعني الحلول في وج ٍد صوف ّ‬ ‫كانت أماس ّ‬ ‫“الموقدة ” و نتزاحم على ” القرون ” حيث الجلوس فيها أفضل من الجلوس أمام الموقدة ‪،‬‬ ‫ي القرية مواعيد‬ ‫هكذا كنا نعتقد‪ ،‬كنت أتدفأ من األمام ويبقى ظهري معرضا ً للبرد ‪ ،‬كانت أماس ّ‬ ‫مع الصفاء الروحي‪ ،‬وبداية لالتصال بالماضي السحيق والبطوالت التي تفوح من عالم الفقر‬ ‫والملول تتحول إلى جمر تفوح منه رائحة‬ ‫والطين والتمرد ‪ ،‬وكانت قطع السنديان والبلوط‬ ‫ّ‬ ‫تنفذ إلى الصدر بلذة ونشوة ‪ ،‬وتستحضر رائحة الجبل بجذوع أشجاره الباسقة ‪ ،‬حتى لكأننا في‬ ‫الجبل أو لكان الجبل معنا أمام الوقد ‪ ،‬وكنت أشعر بنشوة غامرة ‪ ،‬وأنا أراقب قطع الحطب‬ ‫ي‬ ‫وهي ” تفرقع ” في الموقدة ‪ ،‬ويلذ لي صمت عميق حتى لكأني في حضرة وحي يوحي إل ّ‬ ‫أجمل القصص ويسمعني عزف الرياح حتى لكأنها تعزف على عروقي وأوردتي ‪ ،‬ال على‬ ‫الشجر الدهري المنتصب في األودية والجبال ‪ ،‬الليل والقرية والشتاء كانت الثالوث المقدس‬ ‫عند الفتى المو َّحد ‪ ،‬ال أزال أذكر قصص حمزة البهلوان وسيرة عنتر بن شداد وتغريبة بني‬ ‫هالل والريادة المصرية وقصص ألف ليلة وليلة والملك سيف وهي تروى بحماسة توازي زئير‬ ‫العواصف في الخارج ‪.‬‬ ‫كل هذه القصص شربتها شربا ّ من فم قاسم الصميلي وابراهيم الصميلي زوج عمتي وابراهيم‬ ‫بلعيس وغيرهم ‪ ،‬لكن قاسم الصميلي كان األول في أدائه القصصي واالستحواذ على مشاعر‬ ‫مستمعيه ‪ .‬كان إذا تضايق عنتر في المعركة أو إذا وقع في األسر غدا قاسم الصميلي هو‬ ‫المتضايق أو هو األسير ‪ ،‬كان ينفعل جدا ً وينحاز لعنتر وياما لقي خصوم عنتر من سخرية‬ ‫قاسم الصميلي ‪ ،‬ويا ما سقطت عليهم لعناته كالسوط الالذع ‪ ،‬كانت شخصية عمار بن زياد‬ ‫الذي ينافسه على حب عبلة ممسوخة تماما ً ليس فيها من الفضائل شيء ‪ ،‬وكذلك أخوه الربيع بن‬ ‫زياد الذي كان يكيد لعنتر كيدا ً ‪ ،‬وكل مرة ينجو عنتر من مكائد الربيع بن زياد بسبب شهامته‬ ‫وبسبب إيثاره وشجاعته ونبله وكأن القدر الجميل وحسن الطالع مرتبط بكرم األخالق ‪ ،‬وهكذا‬


‫لكنه يطير‬ ‫كانت صغار الطير في أعشاشها‬ ‫تغريه أن يصطادها‬ ‫وكان ذاك أول الذنوب ‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ثم استحال قلبه مدينةً‬ ‫مقدسة‬ ‫ُح ِ ّرم فيها الصيد والطغاةْ ‪.‬‬ ‫كانت بيوت القرية كلها في فترة الخمسينيات مبنية من حجارة ‪ ،‬وطين يمسك حجارتها غير‬ ‫أنس رائحة الطين في السطوح أيام المطر وأصوات ” المواعيس ”‬ ‫أنس ال َ‬ ‫المنسجمة ‪ ،‬وإن َ‬ ‫المشتبكة مع المحادل فوق تلك السطوح التي كانت تؤرخ الزمان الداخلي فينا وتترك الزمن‬ ‫الخارجي يلهث الكتناه لهفة ال تموت ‪ ،‬كان الشباب يحدلون السطوح تحت المطر و هم‬ ‫يتحادثون من سطح لسطح ‪ ،‬و هم يتحدون البرد بثياب ال تلبس إال صيفا ً ‪ ،‬وكانت زواريب‬ ‫القرية ضيقة جدا ً ‪ ،‬والبيوت كانت متالصقة وكأنها سقف لبيت واحد ‪ ،‬ولذلك كان أكثر من‬ ‫بيت يحدل بمحدلة واحدة في الشتاء ‪ .‬ولوحول الشتاء في الصويري رائحة خاصة ‪ ،‬لعلها تفسر‬ ‫عالقة الفتى بطينها ‪ ،‬أو عالقة المكان بالزمان‪ ،‬كنت في األسر وأنا بعيد عن الصويري آالف‬ ‫األميال أستطيع أن أستحضر تلك الرائحة التي لم يخلعها جلدي أبدا ً ‪ ،‬وقد ظلت على ثيابي‬ ‫ي‪،‬‬ ‫القديمة التي ذهبتُ بها والتي تركتها في بيروت أيضا ً ‪ .‬الثياب القديمة تحمل حزنك الدهر ّ‬ ‫وتدعوك إلى البكاء أحيانا ً كثيرة ‪.‬‬ ‫المطر‬ ‫وكان رغم حزنه في موسم‬ ‫ْ‬ ‫تعرفه كل القناديل التي‬ ‫تشعلها القرية في الشتاء‬ ‫وحول ذلك الموقد القديم‬ ‫ْ‬



‫نشأ عندي يقين أن الفضيلة سالح من تخلَّق بها نجا من مكائد الدهر ونوائبه ‪ ،‬إن القدرة األزلية‬ ‫تكون دائما ً في خدمة أصحاب المآثر وأصحاب القضايا الكبرى ‪ ،‬إنهم ينتصرون في النهاية ‪،‬‬ ‫ولم يكن عنتر يملك الشجاعة وحدها ‪ ،‬بل كان كريما ً ويغيث الملهوف ‪ ،‬وكان سيفه اليشحذ إالّ‬ ‫على أعداء القيم الخالدة وكان يغشى الوغى ويعف عند المغنم ‪ ،‬وكانت ” عبس ” كلها تحبه ‪،‬‬ ‫واليكرهه إالّ الساقطون‪:‬‬ ‫وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها‬ ‫وكان أحيانا ً يتضايق من قومه ‪ ،‬فيصرخ بلوعة وأسى ‪:‬‬ ‫ب‬ ‫ينادونني في السلم يا ابن زبيب ٍة وعند اصطدام الخيل يا ابن األطاي ِ‬ ‫كنت أحاول أن أقلد عنتر في نبله لكي أتخلص من الشدائد ‪ ،‬واكتشفت فيما بعد أن هذه العقيدة‬ ‫ليست خطأ ‪ ،‬رغم تكلفتها العالية في هذا الزمن الرديء ‪ ،‬يومها كانت تنبت لي أجنحة حين‬ ‫ينتصر عنتر ويحسم الموقف ‪ ،‬وحين تشتد مؤامرات الربيع بن زياد كنا نصرخ مع قاسم‬ ‫الصميلي ” هللا يحرق ضالعو ” وكان قاسم الصميلي يعبّر بقسمات وجهه المميزة عن المواقف‬ ‫الصعبة التي يتعرض لها عنتر وأحيانا ً يتراقص شارباه من هول الموقف وشدة حماسته لعنتر‬ ‫‪ ،‬وكنت أتصور عنتر ممتطيا ً األبجر ‪ ،‬وهو يعترض األعداء ويطلب البراز ‪ ،‬وال أزال أذكر‬ ‫قول قاسم الصميلي عندما قتل العبد زنجير ” فضربه عنتر على رأسه فشقه حتى دكة لباسه ” ‪،‬‬ ‫هذا هو عنتر بن شداد حية بطن الواد وقادح النار من غير زناد‪ ،‬وكم كانت تنفرج أسارير قاسم‬ ‫الصميلي حين يعود عنتر من عند الملك النعمان ومعه ” النوق الصافير ” مهرا ً لعبلة بنت مالك‬ ‫‪ ،‬وهو ينشد‪:‬‬

‫ويوم وصويل الحي تبيك حواسدي كام ضحكت يوماً‬ ‫وشيبوب ينعاين‬ ‫ُ‬


‫رثاء أ ِ ّمي‬

‫خاص‬

‫د‪ .‬حسن فرحات‬

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫سم َ‬ ‫بالحق وباسم الذي ّ‬ ‫نفسه الحق ‪ ..‬وباسم الذي جعل الموت آية الحق عىل ما‬ ‫باسمه تعالى‪ :‬الذي ال ينطق إال‬ ‫خلق‪.‬‬ ‫ب ولستُ‬ ‫أقف‬ ‫اليوم امامكم ولست انا بخطي ٍ‬ ‫أيُّها األخوة ُ األعزاء‪ ،‬وأيُّتُها األخواتُ الفاضالت‪ ،‬وأيُّها العلما ُء األفاضل‪ُ .‬‬ ‫َ‬ ‫ت واعظا‪.‬‬ ‫بواعظٍ ‪ .‬وكفى بالمو ِ‬ ‫لقد َّ‬ ‫ب نحو دار الخلود‪.‬‬ ‫من هللاُ علينا بالمو ِ‬ ‫ممر عذا ٍ‬ ‫ت قبل الحياة النّه رحي ٌم بنا‪ ،‬فالموت رحمةٌ والحياة ُ ُ‬ ‫ال ب َّد للمرء التأ ُم ِل م ِليَّا عند قراءة هذه اآلية الكريمة‪ ( :‬إنّا هلل وإنّا إليه راجعون)‬ ‫حيث ّ‬ ‫أسباب الموتِ‪ ،‬فالنهايةُ واحدة ُ ال تتجزا ُ وال تنفص ُل عن أبعادها اإليمانيّة‬ ‫ع إليه دائما ً ودوماً‪ ،‬فمهما تع َّد َدت‬ ‫ُ‬ ‫أن الرجو َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫قبض األرواحِ تهبطُ‬ ‫إن هللا َّ‬ ‫والفلسفيّة والوجودية‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫عز وج َّل‬ ‫تفوق رحمتُه أيّة رحم ٍة وعدالتُه ال تشبهُ عدالة أح ٍد وعند ِ‬ ‫رحمتُه على عبادِه الصالحين‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يِ‪ ،‬هو شاه ٌد على حضورنا المؤقت ورحيلنا الموعود‪،‬إنّه‬ ‫إن هذا‬ ‫َ‬ ‫المصاب الجل َل الذي جمعنا اليوم في هذا المقام الحسين ّ‬ ‫ُ‬ ‫أقداره‬ ‫ت‬ ‫مفهوم أوسعٍ وشام ٍل وخار َج قدراتِنا العقليّ ِة المحدودةِ لفهم‬ ‫ت إلى‬ ‫يتعدّى‬ ‫علمه وتوقي ِ‬ ‫مفهوم الحياةِ والمو ِ‬ ‫أسرار ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ق إنذار‪ّ ”.‬‬ ‫سر فلسف ِة اإلله‬ ‫سواها»‬ ‫وأخ ِذ األرواحِ دونَ‬ ‫ٍ‬ ‫ِالعالم بالنفس وما ّ‬ ‫ِ‬ ‫إن الموتَ هو ُّ‬ ‫اعتراض ودونَ ساب ِ‬ ‫نعم أيّها األحبةُ‬ ‫ُ‬ ‫واألصعب منه هو انفصالنا ُكليا ً عن ذواتنا‪ ،‬وأهلنا وضيعتنا ووطننا وقضايانا العادلة‬ ‫صعب‪،‬‬ ‫الفراق‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ع حياةِ لألجيال لكي تنعم‬ ‫عند أولى فرصة تسنح لنا بالمغادرة ‪ ،‬ك ٌّل منّا من أج ِل هدفٍ ما ألننا في نهاية المطاف مشرو ُ‬ ‫زاهر وحياةٍ أفضل‪.‬‬ ‫بمستقب ٍل‬ ‫ٍ‬ ‫سهم في رحلتهم الطويلة‬ ‫هذا االنفصال يكون مضاعفا ً ومؤلما ً النّه يفصلنا عن موتانا الذين سكنوا المقابر وال أح ٌد يؤن ُ‬ ‫الباكية على أطالل العمر‪.‬‬ ‫أماه! كيف ل أن أنعاك وأنا القادم من خلف بحار الغربة ُ‬ ‫ومحيطاتِها ‪ ،‬تلك الّتي سلبت مني ّ‬ ‫أعز الناس على قلبي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫تترتجف وقلبي يعصرهُ الحزن‬ ‫وبعثرت شبابي وبعدَّت عني أهلي وأحبتي وجيراني وأصدقائي‪.‬كيف يحدث هذا؟! ويداي‬ ‫ُ‬ ‫واآلسى‪ ،‬وجسدي مشلو ُل الحركة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫جيلك الذي كان ينتمي للزمن الجميل‬ ‫أأنعى نفسي؟! وأنعى معها ك َّل نساء‬ ‫ِ‬ ‫حيث ُك ّن يُ ْعت ْ‬ ‫َبرنَ خزانا ً من التراث اليارون ّ‬ ‫يِ‬ ‫ق في سبيل العيال‪.‬‬ ‫ق‪ .‬تلك الجيل الذي عرف معنى الك ِ ّد والتع ِ‬ ‫ب والجه ِد والعر ِ‬ ‫العذب الساكن في األعما ِ‬




‫ت واحدة من ِه ّن‪ .‬عظيمة‬ ‫ت كن ِ‬ ‫نعم! ُك ّن يَ ْنت َِمينَ لألصالة المتأصلة في جينات ِه َّن الوراثيّة المنتمية لألرض ولإلنسان‪ ..‬وان ِ‬ ‫والنورأمامهم بفطرتك المولودة‬ ‫وتمهيدك لطريق العلم‬ ‫لأوالدك والتضحية في سبيلهم‪،‬‬ ‫وحبك الدافئ‬ ‫بعطائك الالمحدود‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫طاهر ال يلي ُد إال الفضيلةَ والطهارة َ واإليمان‪.‬‬ ‫رحم‬ ‫من‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ترحلين يا أماه! وأنا ال زلت ُ‬ ‫ت‬ ‫ت ان ِ‬ ‫أكبر‪ ،‬النّي ال زلت أحم ُل معي ِحلما ً كبيرا ً لم يتحقق بعد ‪ ,‬حيث كن ِ‬ ‫أظن أنّي لم ْ‬ ‫ُ‬ ‫تبحث‬ ‫َم ْن م َّهد له الطرق ليبصرالنورعندما يج ُد آذانا ً صاغيّة وقلوبا ً تعشق الحياة‪ ،‬وأيا ٍد نظيفة تمت ُد لآلخر وعقوالً ن ِيّرة‬ ‫عن ماهية الوجود‪.‬‬ ‫ي ِ الذي ستهجره السنونو الّتي كانت ت َ ْه ِد ُل في أرجائه ُكلَّما‬ ‫ترحلين بعيداً‪ ،‬وتحت ُّل ال ِذّكرياتُ الحميمةُ أطالل بيتنا القرمد ّ‬ ‫ُ‬ ‫يبعث طمانينةَ الطفول ِة في أنفُ ِسنا‬ ‫حضورك الذي كان‬ ‫الهادر الشاه ِد على‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫س ِمعى صوت ُ ِك العذ ِ‬ ‫ِ‬ ‫كنتُ‬ ‫أشعر عندما آتي‬ ‫يِ» أري ُد أن‬ ‫كم عملي‪ ،‬وكنت دائما أسمع‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫لزيارتك أكون على عجلة من أمري ب ُح ِ‬ ‫همساتك في أذن ّ‬ ‫عزيز رحيم ‪.‬منشىئ الوجو ِد‬ ‫أذهب إلى بيتي» كانّ ِك كانت تُدركينَ ّ‬ ‫لجوار‬ ‫رحيلك قد دنى وأنّ ِك ترغبينَ بالرحيل‬ ‫أن موع َد‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫يوم‬ ‫تنعم بالراحة األبدية لليوم الموعود‪ .‬قال تعالى في محكم كتابه‪ »:‬ث ُ َّم إنّك ْم َ‬ ‫وبيده الفناء‪ ،‬ويستر ُد األروا َح بأمره لكي َ‬ ‫القيام ِة تُبعثون»‬ ‫أنجو من هالكي في دُنياي من دونِ ِك ‪ ،‬كانّه ُكتب علينا االفتراق اآلن منعا ً لتفاقم مآسينا اليوميّة الّتي‬ ‫أماه! كيف لي ان‬ ‫َ‬ ‫أرض كانت خصبة بأهلها واآلن اصبحت قاحلة تبحث عن ينابي َع شاب ٍة تسقيها ش َْربة‬ ‫صبغت وجو َدنا منذ والدتنا على‬ ‫ٍ‬ ‫تُعي ُد لها خصوبةَ الشباب‪.‬‬ ‫امام أهدافِنا النبيلة في هذي الحياة‬ ‫ال أح ٌد يستطي ُع أن يُوقف الموت‪ ،‬ولكن ال نُري ُد للمو ِ‬ ‫ت أن يتغلّب علينا‪ ،‬ويقف حاجزا ً َ‬ ‫ُ‬ ‫حاضرنا‬ ‫ونأ� أن نكون من اتباعِ قابيل‪ .‬علينا صياغة‬ ‫الّتي هي ّهبةُ هللا لنا‪ ،‬والّتي يتنافس عليها أتبا ُ‬ ‫ِ‬ ‫ع هابيل وقابيل‪ ,‬ب‬ ‫ومستقبلنا بدق ٍة وعناية‪ ،‬ونقف وقفة تأم ٍل ونجعل ُمن موت احبتنا‪ ،‬حافزا ً لكي تبقى ضيعتُنا عامرة باهلها الطيبين وناسها‬ ‫البسطاء والكرماء وامتدادا ً للذِّكريات الجميلة الخالدة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫الطاهرالثرى حافظا ً أسرار والدتي وحياتي ومستقبلي‪،‬أ ّما جسدي فسيبقى‬ ‫حيث يوارى جسد ُِك‬ ‫الحق‪،‬‬ ‫الفراق‬ ‫كم مؤل ٌم هذا‬ ‫ِ‬ ‫وتكثر ُكرو ُم العنب‪،‬ويرجع‬ ‫يوم تنبتُ فيه من جديد أشجار التفاح ‪ ،‬والتين‬ ‫متناثرا ً بين ناطحات سحاب الغربة‪،‬باحثا ً عن ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ِس اإلنسان الذي هو خليفة هللا في‬ ‫ك ُّل‬ ‫مهاجر ومغترب إلى ضيع ٍة تض ُم إلى صدرها ك َّل من فقد حنان األم وإلى بل ٍد يُق ّد ُ‬ ‫ٍ‬ ‫األرض‪.‬‬ ‫أتقدم باسم والدي وأخوتي وأخواتي وآل صعب وفرحات وعموم أهالي يارون الكرام‪ ،‬بجزيل الشكر واالمتنان والعرفان‬ ‫لك ِّل من حضر مجلسنا هذا وقدّم لنا المواساة والتعازي الصادقة بوفاة الوالدة الحنونة “الحاجة بهيجي يوسف صعب»‪.‬‬ ‫قادرعلى ك ِّل‬ ‫تغمدها هللا بواسع رحمته‪ ،‬وأودعها فسي َح جناته‪،‬ورحم هللا جميع موتى الحاضرين والمؤمنين‪.‬إنّه سمي ٌع عليم ٌ‬ ‫شيء‪.‬‬



‫مدينة بلغراد الرصبية تحتفي بالشعر العاملي‬ ‫مهرجان الشعر العاملي (املرأة االلهية )‬ ‫سليمة ملّيزي الجزائر‬

‫الشــعر بوصفــه تعبي��را عميق��ا ً عـ�ن الفكرــ اإلنس��اني‪ ،‬وفن��ا ً عالميـ�اً‪ ،‬و أداة للح��وار وللتقاــرب‪ ،‬يتيــح للمبــدع‬ ‫االط�لاع علـ�ى تعبي��ر أصي��ل ينتم��ي الـ�ى لغةــ االحس��اس والح��دس الش��عري الجمي��ل ‪ ،‬واللغة والهويــة لألديب‬ ‫والوطــن ‪ ،‬ويــؤرخ حضــارات األمــم ‪ ،‬الشــعر هــو الحفــاظ علــى الهويــة والتقاليــد الثقافيــة الشــفهية ‪ -‬علــى‬ ‫مــر العصــور ‪ -‬قدرتــه الفائقــة علــى التواصــل األكثــر عمقـا ً للثقافــات المتنوعــة‪ ،‬هكــذا كان هــدف مهرجــان‬ ‫« المــرأة اإللهيــة « العالمــي للشــعر ‪ ، 2019‬بلغــراد ‪ -‬صربيــا‪ ،‬الــذي اقيــم يــوم الســبت ‪09.03.2019‬‬ ‫الســاعة ‪ 13‬بعــد الظهــر فــي فنــدق البلغــرادي وبمناســبة يــوم ‪ 8‬آذار – مــارس ‪ 2019‬اليــوم العالمــي للمــرأة‬ ‫وبتنظيــم مــن قبــل مركــز ميزوبوتاميــا الثقافــي فــي بلغــراد – صربيــا‪.‬‬ ‫اردت ان ابــدا مقالــي وتغطيتــي للمهرجــان بهــذه الجملــة التــي تحمــل الكثيــر مــن الجمــال فــي حق الشــعر ‪،‬‬ ‫مهرجــان « المــرأة اإللهيــة « العالمــي للشــعر يعتبــر مــن أهــم المهرجانــات التــي تنعقــد فــي مدينــة بلغــراد –‬ ‫عاصمــة صربيــا ‪ ،‬هــو الملتقــى الثانــي ‪ ،‬مــن تنظيــم واشــراف االســتاذ الشــاعر واإلعالمــي العراقــي صبــاح‬ ‫ســعيد الزبيــدي المقيــم فــي صربيــا ‪ ،‬فــي هــذا االطــار صــدر الكتــاب الثانــي ( المــرأة االلهيــة ) وهــو ديــوان‬ ‫شــعر ضخــم جمــع اكثــر مــن ثالثيــن دولــة وثالثيــن لغــة عبــر العالــم ‪ ،‬فكــرة الكتــاب أن نجعــل مــن‬ ‫الشــعر جســر أدبــي وفكــري‪ ،‬يجمــع بيــن شــعراء العالــم وخاصــة دول البحــر االبيــض المتوســط ‪ ،‬والعالــم‬ ‫العربــي واالوروبــي ‪ ،‬مبــادرة جــدا ً رائعــة وتســتحق كل التشــجيع واالهتمــام والمواصلــة فــي لقــاء الشــعراء‬ ‫عبــر العالــم ‪ ،‬الشــعر هــو الــذي يمكنــه أن يوحــد االنســانية بغــض النظــر عــن كل اتجاهــات االنســان ‪.‬‬ ‫افتتــح المهرجــان يــوم الســبت ‪ 9‬مــارس ‪ 2019‬بعــد الظهــر بحضــور العديــد مــن الضيــوف والمشــاركين‬ ‫فــي المهرجــان كل مــن شــعراء وشــواعر وفنانيــن تشــكيليين وصحفييــن ‪ ،‬مــن العديــد مــن البلــدان االوربيــة‬ ‫‪ ،‬والعربيــة‪.‬‬ ‫الــدول التــي شــاركت فــي المهرجــان هــي صربيــا ‪ ،‬ايطاليــا ‪ ،‬البوســنة والهرســك ‪ ،‬الجبــل االســود ‪،‬‬ ‫العــراق‪ ،‬الجزائــر ‪ ،‬المغــرب ‪ ،‬فرنســا ‪ ،‬كرواتيــا ‪ ،‬مقدونيــا وغيرهــا مــن الــدول كانــت البدايــة افتتــاح‬ ‫معــرض للصــور للمصــورة والشــاعرة والرســامة الصربيــة ســميليانا بوجيتش‪،‬حيــث افتتــح المعــرض مــن‬ ‫قبــل ســعادة الســفير العراقــي لــدى صربيــا ســيد فخــري حســن مهــدي آل عيســى وحرمــه ‪ ،‬ومنظــم المهرجان‬ ‫الشــاعر واإلعالمــي العراقــي صبــاح ســعيد الزبيــدي‬ ‫ثــم بدايــة المهرجــان وكانــت كلمــة ترحيبيــة للمشــاركين ‪ ،‬مــن طــرف الســيد صبــاح الزبيــدي ‪ ،‬وكلمــة ســفير‬ ‫العــراق لــدى صربيــا وكان التقديــم مــن طــرف الشــاعرة الصربيــة ليليانــا تلتهــا قــراءات شــعرية ‪ ،‬بدايــة‬ ‫كانــت بالضيــوف العــرب ‪ ،‬الشــاعر المغربــي احمــد الشــاهدي والشــاعرة المغربيــة فــرح عتيــق ثــم الشــاعرة‬


‫في المساء كانت العودة الى العاصمة بلغراد ‪.‬‬ ‫اليوم الثالث من المهرجان كانت رحلة في جو ماطر وبارد ‪ ،‬الى مدينة تيميرين الصربية‬ ‫كان يــوم االثنيــن المصــادف ‪ 11‬مــارس ‪ -‬آذار ‪ 2019‬اليــوم الثالــث للمهرجــان وفــي الســاعة ‪ 10‬صباحــا‬ ‫تمــت زيــارة مدينــة تيميريــن الصربيــة وإعداديــة « لوكيــان موشيتســكي « فــي هــذه المدينــة والمشــاركة‬ ‫فــي حصــة شــعرية لطلبــة اإلعداديــة بحضــور العــراب الفخــري لإلعداديــة الشــاعر العراقــي صبــاح ســعيد‬ ‫الزبيــدي وضيــوف مــن رومانيــا ‪ ،‬الشــاعر تراندافيــر ســيمبيترو – مدينــة بوزاو ‪ ،‬الشــاعرة كورينــا جونغياتو‬ ‫– مدينــة بوخارســت ‪ ،‬الشــاعرة ماريــا ديفرانتــش ‪ -‬مدينــة تيميشــوارا والشــاعرة غوردانــا ســاريتش – مدينــة‬ ‫نيكشــيتش ‪ ،‬الجبــل األســود‪.‬‬ ‫وكان مديــر اإلعداديــة البروفيســور ميلوميــر راديتــش وطــاب الصــف الرابــع اإلعــدادي فــرع المديــر‬ ‫المالــي وفنيــي الســامة مــن الحرائــق ودوديــن للغايــة مــع تكــرار التصفيــق الحــار للضيــوف‪.‬‬ ‫هذا وزار الضيوف صالونات الحالقة والتجميل في اإلعدادية التابعة ‪ ،‬الحالقة والتجميل‪.‬‬ ‫أهمــت الصحافــة واالعــام فــي الجزائــر بهــذا المهرجــان القيَّــم‪ ،‬حيــث كانــت االديبــة ســليمة ملّيــزي ضيفــة‬ ‫برنامــج مواســم الثقافــة علــى االذاعــة الدوليــة مــع تدخــل عبــر الهاتــف لألســتاذ صبــاح الزبيــدي مــن‬ ‫بلغــراد وتحــدث عــن أهميــة ونجــاح المهرجــان والكتــاب الشــعري ( المــرأة االلهيــة)‪.‬‬ ‫يعتبــر المهرجــان الشــعري العالمــي « المــرأة االلهيــة» الثانــي ‪ ، 2019‬مــن بيــن المهرجانــات الناجحــة‬ ‫فــي دول شــرق اوروبــا ‪ ،‬والــذي اســتطاع أن يجمــع الكثيــر مــن الشــعراء ومــن مختلــف الــدول واللهجــات‬ ‫‪ ،‬وهــذا مــا جســده الشــاعر والصحفــي صبــاح الزبيــدي فــي الكتــاب الــذي طبعــه بمناســبة االحتفــال باليــوم‬ ‫العالمــي للمــرأة ‪.‬‬ ‫‪ 15‬مارس ‪.2019‬‬


‫والصحفيــة الجزائريــة ســليمة مليــزي‪ ،‬ثــم شــعراء وشــاعرات مــن صربيــا ودول اخــرى ‪ .‬وتخللــت‬ ‫االمســية الشــعرية أغانــي تراثيــة مــع فرقــة صربيــة للغنــاء الشــعبي الصربــي الجميــل ‪ ،‬ومطــرب صربــي‬ ‫ومطربــة صربيــة شــابة‪.‬‬ ‫واختتمــت االمســية بتوزيــع شــهادات التكريــم والكتــاب ( المــرأة اإللهيــة ) للمشــاركين ‪ ،‬والتقطــت الصــورة‬ ‫الجماعيــة والفرديــة للشــعراء المشــاركين فــي جــو بهيــج اطفــى عليــه الفــرح والبهجــة بهــذا اللقــاء االدبــي‬ ‫المتميــز ‪.‬‬ ‫هــذا وتمــت تغطيــة المهرجــان اعالميــا مــن قبــل تلفزيــون صربيــا الحكومــي ‪ -‬القنــاة االولــى حيــث صــور‬ ‫واجــرى مقابــات تلفزيونيــة وتــم عــرض الخبــر فــي اخبــار الصبــاح يــوم االحــد ‪ .10.03.2019‬وايضــا‬ ‫تــم نشــر مقــال فــي جريــدة السياســة البلغراديــة ذات االنتشــار الواســع ونشــر يــوم االحــد ‪10.03.2019‬‬ ‫عــن المهرجــان‪.‬‬ ‫اليــوم الثــاين لبرنامــج مهرجــان « المــرأة اإللهيــة « العالمــي للشــعر ‪ ، 2019‬الــذي نظمــه مركــز ميزوبوتاميــا‬ ‫الثقافــي بلغــراد ‪ ،‬االحــد ‪ 10.03.2019‬الســاعة الثامنــة صباحــا ســفرتنا كانــت الــى مدينــة نوفــي ســاد‬ ‫عاصمــة اقليــم الفويفودنــا ذات الحكــم الذاتــي وزيــارة معرضهــا الدولــي للكتــاب ومشــاركتنا فــي مهرجــان‬ ‫الفيــس بــوك االوربــي للشــعر‪ ،‬والمشــاركة فــي اصبوحــة شــعرية مــع مجموعــة كبيــرة من شــعراء الصرب‬ ‫والعالــم ‪ ،‬والشــئ الجميــل ان هنــاك مشــاركين مــن ذوي االحتياجــات الخاصــة ‪ ،‬قــرأوا قصائــد فــي منتهــى‬ ‫الروعــة ‪ ،‬بعــد االنتهــاء مــن القــراءات الشــعرية ‪ ،‬وتوزيــع للمشــاركين شــهادة تســمى ب ( جــواز ســفر‬ ‫مواطنــة جمهوريــة الشــعر العالمــي ) بعــد االســتراحة ‪ ،‬اتجــه المشــاركون فــي مهرجــان « المــرأة اإللهيــة «‬ ‫الــى قلعــة مدينــة نوفــي ســاد التاريخيــة (نوفــي ســاد مدينــة صربيــة وفيهــا قلعــة تاريخيــة تســمى بيتوفارديــن‬ ‫المطلــة علــى المدينــة ‪ ،‬ويختــرق المدينــة نهــر الدانــوب الشــهير ممــا اضــاف جمــاال اخــاذا علــى المدينــة )‪،‬‬ ‫وبعــد التنــزه واخــذ بعــض الصــور التذكاريــة مــع الشــعراء المشــاركين ‪ ،‬كانــت اســتراحة وتنــاول الغــداء فــي‬ ‫احــدى أجمــل المطاعــم الموجــودة فــي ســاحة القلعــة ‪ ،‬وتجــاذب اطــراف الحديــث بيــن الشــعراء والجميــل‬ ‫ان هنــاك انســجام رائــع رغــم اختــاف اللغــات ‪ ،‬اال ان هنــاك اللغــات الحيــة التــي جمعتنــا االنجليزيــة‬ ‫والفرنســية وااليطاليــة والعربيــة ‪ ،‬مــن االشــياء الجميلــة التــي تحــدث لنــا عندمــا كنــا فــي القلعــة وهنــاك‬ ‫ســواح مــن بعــض الــدول ‪ ،‬ان الشــاعرة مــن الجبــل االســود غوردانــة ســاريتش وهــي شــاعرة مــن مدينــة‬ ‫نيكشــيتش فــي جمهوريــة الجبــل االســود كانــت تعمــل كاســتاذة للغــة الفرنســية ‪ ،‬وهــي ســيدة انيقــة مرحــة‬ ‫فيهــا الكثيــر مــن اناقــة الفرنســيات ‪ ،‬ولمــا وجدتنــي اتحــدث باللغــة الفرنســية فرحــت كثيــرا وقالــت لــي انــا‬ ‫ســعيدة ألننــي اتحــدث معــك بالفرنســية ألنــه ال يمكننــي ان أجــد أحــدا ّ هنــا يتحــدث بهــا ‪ ،‬وانــا اشــتاق‬ ‫للحديــث بهــا ‪ ،‬الجميــل ان الكثيــر يعتبرهــا فرنســية ‪ ،‬فســالتها شــابتان باللغــة االنجليزيــة ‪ ،‬انــت مرحــة‬ ‫وجميلــة وهــل اتيــت مــن فرنســا ؟ فطبعــا هــي ال تعــرف االنجليزيــة فكنــت انــا اترجــم لهــا مــن االنجليزيــة‬ ‫الــى الفرنســية ‪ ،‬لمــدة دقائــق ونحــن نتحــدث ‪ ،‬بعــد ذالــك ســالتهما الشــاعرة غورداتــا باالنجليزيــة ‪ ،‬مــن أي‬ ‫بلــد اتيتــم ؟ فــردت عليهــا احداهــن ‪ :‬قالــت نحــن مــن صربيــا ؟ فــردت عليهــا الشــاعرة غوردانــه وهــي‬ ‫تضحــك باللغــة الصربيــة ‪ :‬أنــا مــن الجبــل االســود ولكــن لغتنــا متشــابه‪ ،‬فــكان موقــف جــدا ظريف ـا ً لنــا‬ ‫جميعــا ‪.‬‬






‫ألقاك‬ ‫حين‬ ‫ِ‬ ‫سأشرب نَخبَ ِك‪,‬‬ ‫مقلتيك‬ ‫َصر من‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫سأرتشف الن َ‬ ‫ُ‬ ‫بحرك‬ ‫‪ ‬أغرق ساجدا ً في‬ ‫ِ‬ ‫النساء‬ ‫عطر‬ ‫قوارير‬ ‫سأكسر‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫عطرك في جسدي‬ ‫أختزن‬ ‫‪ ‬و‬ ‫َ‬ ‫ألقاك‪ ‬‬ ‫‪ ‬حين‬ ‫ِ‬ ‫النجوم‬ ‫سأراقص‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الطيور‬ ‫زفاف‬ ‫يوم‬ ‫ِ‬ ‫في ِ‬ ‫ِ‬ ‫سأصلّي ركعا ٍ‬ ‫ت بال توقفٍ‬ ‫ق النخي ِل‬ ‫كعنا ِ‬ ‫ُّ‬ ‫آخر قصائدي‬ ‫و‬ ‫أخط َ‬ ‫صدرك‪ ‬‬ ‫على‬ ‫ِ‬ ‫ألقاك‬ ‫حين‬ ‫ِ‬ ‫الخمر من منزلي‬ ‫كؤوس‬ ‫سألغي‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫أشرب نخبَ ِك من راحتيك‬ ‫و‬ ‫ُ‬ ‫حين ألقاك‬ ‫ي‪ .‬‬ ‫و تُلقي‬ ‫النفس في يد َّ‬ ‫َ‬


‫الشاعر ال يموت بل تخلده قصائده‪ .‬‬ ‫بمناسبة الذكرى (‪ )٢١‬سنة على رحيل‬ ‫الشاعر نزار قباني‪ .‬‬ ‫خلود منذر_ سورية‬

‫و أصن ُع لك ألوانا ً قزحيّه‬ ‫أراك‬ ‫حين‬ ‫ِ‬ ‫ّيك مزهريّةً‬ ‫سأجع ُل من َخد ِ‬ ‫تُ‬ ‫ناسب ألواني‪,‬‬ ‫ُ‬ ‫‪ ‬أفكاري‪,‬‬ ‫‪ ‬و ِشفاهي القرمزيةُ‪ ‬‬ ‫ٌ‬ ‫ياسمين‬ ‫‪ ‬أوراقُ ِك‬ ‫ثغرك نديّة‬ ‫تتساقط من‬ ‫ِ‬ ‫ي تَسر ُح‬ ‫‪ ‬تُناغي ِخصا َل الشي ِ‬ ‫ب في مفرق َّ‬ ‫فراشات ُ ِك األرجوانيّة‬ ‫ي‬ ‫على ُمقلت َّ‬ ‫ب‬ ‫ثمار الغيا ِ‬ ‫‪ ‬تقطفين َ‬ ‫ي‬ ‫من شفت َّ‬ ‫ي‬ ‫‪ ‬وتعصرين‬ ‫َ‬ ‫خمر الفؤا ِد في راحت َّ‬ ‫‪ ‬كرزيّا ً‬

‫ب المرأة‬ ‫ع َ‬ ‫زفت غزالً بأهدا ِ‬ ‫شكرا ً نزار ‪َ .... ..‬‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ألقيت بالقصائ ِد على مفاتنها ‪ ..‬أقبل الصدى ‪ ‬عنبيّا ً‬ ‫غر ُد في المدى ‪...‬‬ ‫بإحساسها لذاتها كشراعٍ يُ ّ‬ ‫عشقُنا و كَتبتُ ‪ ‬دمشقيّا ً‬ ‫نحن رددنا الصدى فال ّ‬ ‫نعم ُ‬ ‫ش ُ‬ ‫عر َ‬ ‫أنا‪ .‬‬ ‫ُ‬ ‫الروح‬ ‫ل‬ ‫حقو‬ ‫في‬ ‫بحرين‬ ‫ت‬ ‫‪ ‬و‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ألقاك‬ ‫حين‬ ‫ِ‬

‫شعرا ً أندلسيا‪ ‬‬

‫سأنثر روحي على ُ‬ ‫لبس‬ ‫ت‬ ‫شرفا ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫أحالمك وأ ُ ُ‬ ‫مبسمك أصن ُع معجما ً جديدا ً‬ ‫قصائدي فرحا ً من‬ ‫ِ‬ ‫عر عنوان َِك‬ ‫سأس ّج ُل دواوينَ ال ِش ِ‬ ‫ّاك‬ ‫لم ُحي ِ‬ ‫أراك‬ ‫‪ ‬حين‬ ‫ِ‬

‫بحور‬ ‫أعبر‬ ‫ذاكرتك‬ ‫ب أبجديّةً أزليّةً في‬ ‫سأ ْكت ُ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫عينيك‬ ‫ال ِشعر من‬ ‫ِ‬

‫أعلن َّ‬ ‫ُ‬ ‫ّأن زماني أ ٍ‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫‪ ‬‬


‫في تلك اللحظة‬ ‫عباس مهدي*‬

‫في تلك اللحظة‬ ‫التي تشعر فيها بيأس التسعين‬ ‫بأن األلم قد فاق األيام و السنين‬ ‫بأن الكمان كسر و بات العازف حزين‬ ‫بأن الفم قد مأله األسى و األنين‬ ‫بأن الفرح ارتمى بين القضبان سجين‬ ‫بأن أملك‪ ‬قد هشمه اليأس بسكين‪ ‬‬ ‫بأن الملك هرم و تخلى عن العرين‬ ‫قف و اسند يسراك باليمين‪ ‬‬ ‫و اجعل الثقة و الغرور لحياتك قرين‬ ‫و ال تفرط بفرحك الثمين‪ ‬‬ ‫و أعزف لحنا ً يطرب به السالطين‬ ‫ينسيك لحظات األسى و الحنين‬ ‫ألن حزنك يا صديقي‪..‬‬ ‫من الخوف و األلم هجين‬ ‫أطلق عنان لحنك الدفين‪ ‬‬ ‫و أطرب من بلغ به الحزن ح ّد اليقين‪ ‬‬ ‫و لتصدح نغماتك بأنني الشاعر الحزين‪ ‬‬ ‫من كنت لقلمي و كتاباتي رهين‪...‬‬ ‫الجامعة اللبنانية _ كلية الحقوق والعلوم السياسية _ الفرع الرابع*‬


‫أقالم واعدة‬


‫المستمرة إلى بالد الشام وتفاعلهم المتواصل مع أهلها وتشاركهم في اللغة والديانات والمعتقدات‪.‬‬ ‫رحالتهم‬ ‫ّ‬

‫عهد النبوة‬ ‫كانت الكتابة ُمنتشرة ً في م ّكة نتيجةً ألهميّتها التجارية؛ إذ كانوا قبل انتشار اإلسالم يكتبون بالخط المكي‪،‬‬ ‫وبعد بعثة النبي عليه الصالة والسالم اتخذ عليه السالم كتّابا ً للوحي‪ ،‬منهم‪ : ‬أبو بكر الصديق‪ ،‬وعثمان بن‬ ‫ي‬ ‫عفان‪ ،‬وعمر بن الخطاب‪ ،‬وعلي بن أبي طالب‪ ،‬ومعاوية بن أبي سفيان‪ ،‬وغيرهم‪ّ ،‬‬ ‫وأول من كتب للنب ّ‬ ‫ي بن كعب‪ ،‬كما ش ّجع عليه الصالة والسالم على تعلُم الكتابة بإطالق‬ ‫عليه الصالة والسالم بعد الهجرة هو أب ّ‬ ‫سراح ك ّل أسير من أسرى معركة بدر مقابل تعليمه الكتابة لغيره من المسلمين‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الخط ال ُمستخدم في تلك الفترة هو الخط المدني والذي يتميز مع الخط المكي باعوجاج األلف‪ ،‬وميل‬ ‫كان‬ ‫الشكل؛ إذ ّ‬ ‫إن الميل في الحروف أسهل وأسرع للكتابة‪ ،‬كما يتطلّب جهدا ً ووقتا ً أقل مقارنةً بكتابة الحروف‬ ‫القائمة والتي تتطلّب جهدا ً ودقة ووقتا ً أكبر‪.‬‬

‫عهد الخلفاء الراشدين‬ ‫في عهد الخلفاء الراشدين كانت هناك أنواع مختلفة للكتابة‪ ،‬منها كتابة البرديّات والتي يُستخدم فيها الخط‬ ‫المدور للكتابة على البردى‪ ،‬والكتابات الحجريّة على األحجار بخطٍ مستقيم وغليظ بال ميل‪ ،‬باإلضافة إلى‬ ‫ّ‬ ‫عثمان بن عفان زيد بن ثابت بكتابة أربع نسخ من المصحف إلى ك ٍّل من المدينة‬ ‫كتابة المصاحف؛ إذ أمر ُ‬ ‫والبصرة والشام و الكوفة‪ُ ،‬كتبت جميعها بالخط المدني دون استخدام حروفٍ ُمنقّطة مما أدى إلى اختالف‬ ‫األلفاظ وقراءة اآليات وفهمها على أكثر من وجه‪.‬‬

‫أنواع الخطوط العربية‬ ‫تتعدّد أنواع الخطوط المستخدمة في اللغة العربية‪ ،‬ولكن بعضها اشتهرت أكثر من األخرى‪ ،‬وساهم‬ ‫وتطورت الخطوط من خالل‬ ‫أشخاص يَحرصون على التدوين والكتابة بشكل مستمر‪،‬‬ ‫انتشارها في إيجاد‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫وضع النّقاط على الحروف‪ ،‬وظهور التشكيل لسهولة نطق الكلمات‪ ،‬ومن أه ّم الخطوط التي ما زالت‬ ‫ُمستخدمةً حتى اآلن‪:‬‬

‫الخط الكوفي‬ ‫الخط الكوفي هو من أقدم ال ُخطوط العربية‪ ،‬ويعود أصله للعرب القاطنين في شمال الجزيرة العربية؛ إذ‬ ‫وطوروه إلى نوع آخر‬ ‫كانوا يستخدمون خطا ً يُعرف بالخط النبطي‪ ،‬ثم أخذ أهل الحيرة واألنباط هذا الخط‬ ‫ّ‬ ‫سمي بالخط الحيري أو األنباري ومع تقدم الزمان تغيّر اسمه وأصبح يُسمى بالخط الكوفي‪ .‬اشتُهر هذا‬ ‫ُ‬ ‫الخط في العصر العباسي؛ حيث أولوه اهتماما ً فائقا ً وأدخلوا عليه الفنون والزخارف‪ ،‬وذلك لتميزه بإمكانية‬ ‫إدخاله على الهندسات والزخارف مع بقاء الحروف على قاعدتها‪.‬‬ ‫للخط الكوفي عدة أنواع منها‪ :‬الكوفي البسيط‪ ،‬والكوفي المورق‪ ،‬والكوفي المزهر‪ ،‬والكوفي الم ضفر‬ ‫باإلضافة إلى الكوفي الهندسي‪.‬‬


‫كلية الصحة العامة‬ ‫الفرع الرابع‬ ‫قسم تقويم النطق‬ ‫السنة االولى‬ ‫‪٢٠١٩-٢٠١٨‬‬ ‫الخط العربي‬ ‫أستاذة المادة ‪ :‬د‪.‬ميراي أبو حمدان‬

‫اعداد الطالبة ‪ :‬ايمانويل غانم‬

‫الخط العربي‬ ‫ب جميل وأنيق‬ ‫اللغة العَربية بشك ٍل عام هي ِمن أقوى اللغات وأصعَبها في العالم‪ .‬تتميز اللغة العربيّة بأسلو ٍ‬ ‫في الكتابة؛ فلكل خط من الخطوط العربية شكل خاص فيه‪ ،‬وتاري ٌخ ارتبط بنشأته‪ ،‬وم ّما يميز الخط العربي‬ ‫عن غيره من الخطوط هو طريقة كتابته التي تعتمد على ّ‬ ‫فن الرسم أكثر من الكتابة العادية المعروفة عند‬ ‫الناس‪ ،‬فيحرص الشخص الذي يتقن كتابة خطٍ ّ من الخطوط العربية على رسمه بأفضل الصور للداللة على‬ ‫مدى جماله‪ ،‬ويُس ّمى الشخص الذي يُتقن كتابة جميع الخطوط العربية بالخطاط‪.‬‬

‫تاريخ الخط العربي‬ ‫العصر النبطي‬ ‫أثبتت الدّراسات ّ‬ ‫أن أصل الخط العربي يعود إلى تطور الخط النبطي؛ إذ إنّه نتيجةٌ لتقدّم حضارة األنباط من‬ ‫الناحية التجارية ظهرت حاجتهم الملحة للكتابة‪ ،‬فاستخدموا الحروف اآلرامية في بادئ األمر‪ ،‬ثم غيّروها‬ ‫تدريجيا ً إلى الكتابة النبطية التي خالفت اآلرامية في ميلها لالستدارة‪ ،‬وشابهتها في التربيع‪ ،‬ث ّم ما لبثت أن‬ ‫ّ‬ ‫الخط عن األنباط بسبب‬ ‫ابتعدت عنها وصارت شبيهةً بالخط المستخدم في الجاهلية‪ .‬أخذ عرب الحجاز‬


‫ألقالم خط الثلث نوعان‪ :‬قلم الثلث الثقيل‪ ،‬وقلم الثلث الخفيف‪.‬‬

‫الخط األندلسي‬ ‫عصر بني أمية‪ ،‬ويمتاز باستدارة حروفه بشكل كبير‪ ،‬وميله للتقوس‬ ‫هو أحد أنواع الخط الكوفي‪ ،‬ظهر في َ‬ ‫أكثر من االستقامة‪.‬‬

‫الخط الفارسي‬ ‫يعتبر الخط الفارسي من الخطوط الجميلة و الذي يفضله الكثير من الخطاطية لسهولته و مرونته و جماله‪,‬‬ ‫كما انه من الخطوط الواضحة التي ال تحتوي على الكثير من التعقيد‪ ,‬و من سمات هذا الخط امتداد األحرف‬ ‫و اإلنحناء‪ ,‬سمي هذا الخط بالفارسي لكونه ظهر ألول مرة في بالد فارس بالقرن السابع الهجري‪.‬‬

‫خط اإلجازة‬ ‫وهو مزيج من خط الثلث‬

‫والنسخ‪.‬‬


‫خط النسخ‬ ‫سمي بهذا االسم بسبب استخدامه في نسخ الكتب والمراسالت‪،‬‬ ‫يعدّ خط النسخ أحد أشهر الخطوط‪ ،‬و ُ‬ ‫عرف‬ ‫و[[[من‬ ‫المؤرخين من قال إنه مرادف للخط الكوفي‪ ،‬ومنهم من قال بأنه أُخذ عن الخط الكوفي‪ ،‬وقد ُ‬ ‫ّ‬ ‫في عصور قبل اإلسالم عن طريق استخدامه في بعض الكتابات مثل نقش حران عام ‪ ،568‬وازدهر خط‬ ‫النسخ في العصر العباسي نتيجة ازدهار حركة الترجمة والتأليف وحاجتهم للكثير من النُساخ‪ ،‬وبلغ أوجه‬ ‫سمي بالخط المحقق‪.‬‬ ‫في عهد المأمون وظهر عنه نوع جديد من الخطوط ُ‬ ‫ّ‬ ‫الخطاط إبراهيم الشجري‪ ،‬وأخوه يوسف الشجري اللذان قاما‬ ‫من الخطاطين الذين برزوا في عهد المأمون‬ ‫ي بخط الثلث‪ .‬كما ظهر عن خط النسخ‬ ‫بابتكار نوع جديد من الخطوط مأخوذ عن خط النسخ‪ ،‬وهو ما ُ‬ ‫سم ّ‬ ‫صور أخرى من الخطوط مثل خط الثلث والطومار والتعليق والرقعة والديواني والطغراء‪.‬‬

‫الخط الديواني‬ ‫يُسمى أيضا ً بالخط الهمايوني‪ ،‬وابتُكر من قِبل الديوان الهمايوني السلطاني للحكومة العثمانية‪ ،‬وكان يُعدّ من‬ ‫ّ‬ ‫الخطاط إبراهيم منيف بعد فتح القسطنطينية ببضع‬ ‫أسرار القصر التي ال يعرفها إال كاتبها‪ .‬وضع قواعده‬ ‫واستمر استخدامه مدة ً من الزمن إلى أن استبدل العثمانيون الحروف العربية بأخرى التينية‪ .‬يتميّز‬ ‫سنين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الخط الديواني بالتواء حروفه‪ ،‬وله نوعان‪ :‬الخط الديواني الجلي ال ُمستخدم في الفرمانات ورسائل الدولة‪،‬‬ ‫والخط الديواني الجلي الزورقي ال ُمستعمل في الصكوك والمستندات والعمالت الورقية‪.‬‬

‫الرقعة‬ ‫خط ُّ‬ ‫ي‬ ‫يتميّز باستقامة حروفه وقصرها‪ ،‬وبأنّه ال يَحتمل التشكيل وال التركيب باإلضافة إلى سهولة قراءته‪ ،‬وسم ّ‬ ‫بهذا االسم نسبةً لقطع ٍة الورق التي يُكتب عليها‪ ،‬وضع قواعده ممتاز بك المستشار في عهد السلطان عبد‬ ‫ّ‬ ‫الخط في عهد الدولة‬ ‫المجيد خان‪ ،‬وكان موقع خط الرقعة يتوسط الخط الديواني وخط سياقت‪ .‬انتشر هذا‬ ‫العثمانية‪ ،‬ومن السالطين الذين كتبوا به السلطان سليمان القانوني وعبد الحميد األول‪.‬‬

‫خط الثُلث‬ ‫سمكٍ‬ ‫س ّمي بهذا االسم ألنه يُكتب ب ُ‬ ‫يعد من الخطوط الصعبة في الكتابة؛ وهو أشهر أنواع الخط النسخي‪ ،‬و ُ‬ ‫وطوره إبراهيم الشجري‪.‬‬ ‫حرر‪،‬‬ ‫يُساوي ثلث قطر القلم‪ .‬اشتهر في أواخر الدولة األموية على يد قطبة ال ُم ّ‬ ‫ّ‬


‫الجامعة اللبنانية ‪ /‬كلية الصحة‪ -‬الفرع الرابع‬ ‫قسم تقويم النطق ‪ /‬السنة المنهجية ‪ :‬األوىل‬ ‫السؤال‪:‬اقترح عالجا لطفل يتلعثم في الكالم نتيجة ضغوطات أسرية صعبة‬ ‫في عصر ضاقت به مساحات االوقات و بات االنسان في سباق مع الزمن هيمنت الضغوطات و المشاكل االسرية في‬ ‫حياتنا اليومية‪ .‬فغدا الطفل ضحية الصراعات التي تغلغلت في روحه و كيانه كتغلغل الدم في العروق‪.‬ومع تكاثر هذه‬ ‫الحاالت التي تشهدها مجتمعاتنا‪ ,‬اصبح من الضروري التطرق لهذه المشاكل وايجاد حلول لمعالجتها فما دور اختصاصي‬ ‫النطق في ذلك؟‬ ‫انطالقا من دورنا كاخصائيي نطق تقع علينا مسؤلية معالجة هذه الحاالت التي تعددت اسبابها و ابرزها‪:‬العامل الوراثي‬ ‫‪ ,‬سوء التغذية‪,‬والضغوطات االسرية الصعبة‪ .‬فتناولنا هذه االخيرة في مقالنا فغالبا ما تؤثر الضغوطات االسرية سلبا‬ ‫على نفسية الطفل و تسبب له مشاكل على عدة اصعدة و منها على الصعيد النطقي اللفظي ‪,‬التلعثم ‪,‬التاتاة و الصعوبات‬ ‫التعليمية في القراءة و الكتابة ‪.‬‬ ‫لذلك ال بد من وضع عالج مناسب الذي يختلف من حالة الى اخرى ‪.‬في ما يخص الطفل المتلعثم يجب العمل على‬ ‫شخصيته و تقويتها بداية على الصعيد االسري ويلعب األهل دورا ً هاما ً في الحد من التلعثم عند الطفل هذا و يجب على‬ ‫الوالدين مراعاة األمور التالية‪:‬السعي اىل الحد من النزاعات االرسية التي تشكل هاجز من الخوف و التوتر عند الطفل ‪,‬و‪ ‬المحافظة‪ ‬على‬ ‫تواصل طبيعي بين عينيهم وعيني‪ ‬الطفل‪ ‬فال ينظرون بعيدا ً عنه إذا لم يتمكن من إخراج بعض‪ ‬الكلمات‪ ‬من فمه‪ ،‬وفي‬ ‫نفس الوقت ال يحدقون به‪ ‬بشكل‪ ‬الفت أو غريب ‪ .‬ان يحولوا عدم مقاطعته و وعدم اكمال الكالم نيابة عنه بقصد مساعدته‪،‬‬ ‫كما ان بعض النصائح من مثل (تمهل) (خذ نفس) ليست ذات جدوى‪ ،‬بل قد تزيد أحيانا ً مستوى التوتر وبذلك يزداد‬ ‫التلعثم ‪.‬‬ ‫وعدم تاخره عن زمالئه‬ ‫وعلى صعيد المدرسة ‪ :‬التعلم المتدرج من االسهل الى االصعب ‪,‬اشعار الطفل باهميته‬ ‫‪,‬التميزبين حروف المد ظوتشويقه للقراءة عن طريق وضع مقدمة مشوقة تستثيره و تجعله متشوقا لالستمتاع و‬ ‫االستمتاع بالقراءة‪.‬واخيرا على صعيد المجتمع ‪ :‬إدماج الطفل المريض في نشاطات اجتماعية تدريجيا حتى يتدرب‬ ‫على األخذ والعطاء وتتاح له فرصة التفاعل االجتماعي وتنمو شخصيته على نحو سوي‪ ،‬ويعالج من خجله وانزوائه‬ ‫وانسحابه االجتماعي‪ ،‬ومما يساعد على تنمية الطفل اجتماعيا العالج باللعب واالشتراك في األنشطة الرياضية والفنية‬ ‫وغيرها‪.‬‬ ‫ال شك ان لكل مشكلة حال و ال توجد مشكلة بدون حل ‪ .‬و قد وضع العلماء عدة حلول للتخلص من مشاكل التلعثم في‬ ‫الكالم لدى االطفال ‪,‬كما ينصح في البداية بضرورة التعرف على اسباب المشكلة ليتم القضاء عليها‪ ,‬الن عالج المشكلة‬ ‫بدون القضاء على اسبابها و جذورها غير مفسد بصفة عامة ‪ ,‬وال بدّاخيرا من استشارة اختصاصي النطق او الطبيب‬ ‫المختص للوقوف على اسباب المشكلة و طرق عالجها ‪.‬‬

‫إعداد الطالب‪ :‬جنى السبالني& ريم الموسوي& اليسا السيد& كارين بدره‬



‫من ساحل آخر‪ ‬‬ ‫الشاعرة الرومانيّة األمريكية ‪ :‬أنكا ستوبارو‪ ‬‬ ‫ترجمة ‪ :‬حامد خضير الشمري‬ ‫دع األبواب مشرعةً‬ ‫تمر‬ ‫لكي أسمعك حين ّ‬ ‫وعندما تكون صامتا‪ ‬‬ ‫وتتنفس بشكل إيقاعي‬ ‫‪ ‬‬ ‫والنسيم يغمر وجهك بالماء والرمل‪ ‬‬ ‫ورائحة الطحلب والقواقع‪ ‬‬ ‫أبقيت القمر ملتصقا بصدرك مثل قلب عمالق‪ ‬‬ ‫لقد‬ ‫َ‬ ‫فيزداد وينقص وقد دفعه انحسار الماء‪ ‬‬ ‫رقصت مع قناديل البحر‪ ‬‬ ‫ذات ليلة‬ ‫َ‬ ‫والتصقت بك في األمواج‬ ‫‪ ‬‬ ‫وهي ترسم طرق الملح في راحتيك‪ ‬‬ ‫وجدتك عند الساحل تتاجر باللؤلؤ‪ ‬‬ ‫الذي جلبته النساء المغويات ضد الزمن‪ ‬‬ ‫أدرت المفتاح في الساعة‬ ‫ضبطت لترتد إلى الخلف‪ ‬‬ ‫‪ ‬التي ُ‬

‫كُ ّتاب القسم األجنبي‬




‫وهي ترمي الدقائق والساعات‪ ‬‬ ‫والثواني والضوء في السنين في مكان آخر‬ ‫وبقيت على الساحل كمصباح في األمواج‪ ‬‬ ‫يتضرم حيا ويرقد في الواقع‪ ‬‬ ‫ويتحدى الجاذبية والحياة والموت‪ ‬‬ ‫وتجذبه بك فنارات الزمن‬ ‫‪ ‬‬ ‫وأنت تشرع في تجارة المرجان واللؤلؤ‪ ‬‬ ‫وترن في أذنيك أغاني ال ُمغويات‬ ‫‪ ‬‬ ‫التي أحببتَها وتركتها في البحر بعيدا‪ ‬‬ ‫وأسير جنبك حافية القدمين‪ ‬‬ ‫ويبقى صوت البحر داخلي‪ ‬‬ ‫كاالرتعاش الذي يزداد وينقص‪ ‬‬ ‫وبكل انحسار وتدفق‬ ‫يص ّم صوت النوارس اآلذان‪ ‬‬ ‫وأرهفت سمعي لقوقعة‪ ‬‬ ‫نبض فيها قلبك‬ ‫مثل بدر‪ ‬‬



‫مدى الذاكرة‪ ‬‬ ‫الشاعر الروماني األمريكي ‪ :‬أدريان‬ ‫سانجورزان‬ ‫ترجمة ‪ :‬حامد خضير الشمري‬ ‫‪ ‬‬

‫أجروا لي عملية طارئة‬ ‫ألزمة أصابتني فجأة‪..‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫كنت أمشي على الساحل وقدماي في الماء‪ ‬‬ ‫وفجأة شعرت بحافز ألقفز في المحيط‪ ‬‬ ‫وأتناول العوالق وقناديل البحر غداء‪ ‬‬ ‫وتراءى الماء كأنه بيتي‪..‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫وكان بوسعي أن أتنفس مثل حوت‪ ‬‬ ‫وأرى السماء تنفلق نصفين‪ ‬‬ ‫أجروا العملية لي دون تخدير‪ ‬‬ ‫هناك على الساحل تماما‬ ‫كنت مثل دمية روسية‪ ‬‬ ‫وبداخلي وجدوا أخريات‪ ‬‬


‫حيث لم يخطئ أحد بحق أحد‬ ‫‪ ‬‬ ‫ال أحد كان مخطئا أو جديرا بالتقدير‪ ‬‬ ‫لم يقرر إال ذلك الحكم‬ ‫‪ ‬‬ ‫بأن هذا كان كما يجب أن يكون‪//‬‬

‫‪.‬‬


‫مثلي‪..‬‬ ‫لكنها أصغر ‪ ‬‬ ‫بألم أقل ‪ ،‬وأقل إجراما‪ ‬‬ ‫حتى بلغوا واحدة‪ ‬‬ ‫كان بوسعها أن تكون أنا‪ ‬‬ ‫لو أن األمور كانت قد حدثت في يوم مختلف‪ ‬‬ ‫عندما ذهبت أمي إلى الفراش‪ ‬‬ ‫في ساعة متأخرة نوعا ما‪ ‬‬ ‫وكان أبي بشكل أفضل‪..‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫وكان الملعب ممتلئا بأشباح من عالم آخر‪ ‬‬ ‫يقفون في صف للحصول على بطاقة إضافية‪ ‬‬ ‫لكي يروا مباراة حياتي البائسة‪ ‬‬ ‫وفرصتهم األخيرة ليشاهدوا‪ ‬‬ ‫تسجيل الهدف‪..‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫عندها فقط حصلت على الفراشات في معدتي‪ ‬‬ ‫ُ‬ ‫أدركت تلك الفرصة التي ُمنحت لي‪ ‬‬ ‫ل ّما‬ ‫ألكون الشخص الذي منح ضربة الجزاء‪ ‬‬


‫" عدالة قضايا املرء‪ ،‬غري قابلة للمساومات‪،‬‬ ‫الوجودي للحياة"‬ ‫ألنّها مرتبطة باملعنى‬ ‫ِّ‬ ‫د‪.‬حسن فرحات‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.