1
2
الفهرس جدتي سالمة سلوم
4
مأتم بنت الحايي ..مأتم حجي طرار
8
مأتم جدتي والمخيلة الكربالئية
16
ليلة الرابع من المحرم ..
28
مجلـــــس مــآتـــم الحــــاج طـــرار
36
مع سالمة
46
3
جدتي سالمة سلوم علي الديري
جدتي سالمة سلوم
«إنها زهرة في حديقة اهلل ،خسارة لنا ومكسباً للجنة» جــديت (ســامة) التــي وســع قلبهــا كل العــامل ،انتقلــت إىل ســعة الله.مــا أضيــق األشــياء بعــدك ،ومــا أوســع األشــياء معــك. ـت األقــرب لقلبهــا ومل أكــن األبــر بهــا ،األبعــد عــن ســاع أنفاســها األخــرة وهــي كنـ ُ األكــر انتظــارا ً إلســاعي إيــاه ،ظلــت تنتظــرين كثــرا ً ،أعدهــا أن األيــام املتبقيــة قليلــة ،ومل أكــن أعلــم أنهــا تقيســها بقلبهــا كــا اعتــادت أن تقيــس كل يشء ،كنــت أظنهــا تبالــغ يف أثــر بعــدي عــى قلبهــا ومرونتــه عــى تحمــل األذى ،وهــي التــي تحملــت كل مصاعــب الحيــاة .ظلــت تجمــع العمــات املعدنيــة ،تعدهــا لفرحــة رجوعــي ،لســت أدري كــم فيهــا مــن فئــة الــدوار( 500فلــس) لكنــي أعــرف أن فيهــا لؤلــؤة قلبهــا التــي تــدور بحث ـاً عنــي. مل أفــارق حضنهــا حتــى مرحلتــي الجامعيــة ،حرمتنــي شــيئاً واحــد فقــط ،وهــو الشــعور بنــداء كلمــة (جــديت) .مل تــريك يل مجــاالً ألعــرف الفــرق بــن األم والجــدة ،ال وصفــا وال اســا وال إدراكاً ،يف داللهــا املفــرط يل ،وجــدت أن اســم (جــديت) ال يُــدرك وال يوصــف .مل أعــرف أن أناديهــا يوم ـاً بغــر كلمــة (أمــاه). كنــت حفيدهــا األول ،بعــد أن أجهضــت أمــي مرتــن بتــؤم ،جئــت محفوفـاً بأحجبــة وأحــراز وطقــوس وأضحيــة ،ال يعــرف تفاصيلهــا غريهــا والحاجيــة مريــم جــان.
5
نذورهــا الكثــرة ظلــت تحفنــي بهــا ،وكأنهــا مراســم احتفــال تجددهــا يف كل مناســبة ،لتطمــن أن الحيــاة التــي ُمنحــت يل، ســتظل لألبــد .هــي اآلن يف أبديتهــا البيضــاء ،تحفهــا مالئكــة الرحمــة ،واألكيــد أنهــا ستســأل عــن رفيقاتهــا الــايت كــ ّن رفيقــايت حيــث مأمتهــا ومجلســها اللصيقــان ببعضهمهــا كــا الفــرح والحــزن لصيقــان بهــا ،تغلّــب األول دوم ـاً وال تذلــل الثــاين ليصــر فرحـاً آخــر ،هــي هنــاك يف األبديــة البيضــاء مــع صديقــات الزمــن الجميــل :مريــوم وصفــوي وزهــرة ورشوف. واستوحشــت هــي الدنيــا بعدهــن ،آن لهــن رحلــ ْن قبلهــا ْ أن يفتحــن هنــاك مجلــس أنســهن مــن جديــد مرحبــات بهــا ،وعــى طريقتهــن يف تدليلهــا ،البــد أن ينادينهــا :ســامة ســلوم. جئت محفوفاً بأحجبة وأحراز وطقوس وأضحية، ال يعرف تفاصيلها غريها والحاجية مريم جان. نذورها الكثرية ظلت تحفني بها ،وكأنها مراسم احتفال تجددها يف كل مناسبة ،لتطمنئ أن الحياة التي ُمنحت يل ،ستظل لألبد.
كانــت تتســى يف انتظارهــا لعــوديت لوطــن حضنهــا ،بــأن تحــدث قامئــة املدعويــن لحفــل عــوديت ،وحــن يقــرب منهــا اليــأس ،تلجــأ للحلــم ،فتجــدد أملهــا بــأن تحــي ألمــي كيــف رأت عــوديت يف نومهــا ،لكنهــا ال تذكــر أنهــا كانــت تحلــم ،هــي تحــي الحلــم يف صيغــة الحقيقــة الواقعــة .ومتعــن يف واقعيتهــا بــأن توجــه بعضــا مــن عتبها إىل مــن قــروا يف الحضــور أو إىل مــن قــر يف دعوتهــن أو القيــام بأصــول ضيافتهن. يف الصــف االول ابتــدايئ دخلــت نوبــة بــكاء حــادة فــوق الكــريس املــدريس وال أحــد كان يعــرف ســببها ،املــدرس ظنهــا وحشــة اليــوم األول يف املدرســة ،يف حــن أنهــا كانــت وحشــة تخيــل اليــوم األول بدونهــا .كنــت أتخيــل إمكانيــة أن أفقــد جــديت وأنــا بعيــد عنهــا يف املدرســة .كنــت أرى يف هــذا البعــد فراقــا يدعــوين للبــكاء بحرقــة. اليــوم أجــد يف كل هــذا البعــد القــايس موتــا آخــر ،يضاعــف مــن فداحــة فقدهــا .ال أســرجع اآلن لحظــات ذاك الطفــل بقــدر مــا أســرجع الطفــل نفســه يف أشــد لحظات الفقــد وشــدائدها .مــا أوحــش اليــوم األول دونهــا! 6
مــا كان يل أن أكــر قبــل رحيلهــا ،اليــوم فقــط أشــعر أين مل أعــد ذلــك الطفــل الــذي يتخطفــه خــوف أن يفقــد أمــه ســامة ،مــا أوحشــه مــن يــوم!
جــديت كانــت تبصــم ألنهــا ال تكتــب .ويف عالقاتهــا كانــت تبصــم بقلبهــا ،وأنــا تعلمــت منهــا ذلــك .وهبتنــي كل جميــل يف قلبهــا ،محبــة النــاس ،االحتفــاء بهــم، الســعادة باألشــياء الصغــرة .تصغــر كبائــر األشــياء ،االقـراب مــن األشــياء لتلطيــف قســوتها ،االحتفــاء بالحيــاة ،إدخــال الســعادة عــى اآلخريــن ،إدخــال الفــرح أوال وأخـرا .ضحكتهــا التــي متــأ مأمتهــا فتحيلــه مــكان فــرح أكــر منــه مــكان حــزن .أن تحســب بقلبــك وكأنــك ال تعــرف الحســاب.
7
مأتم بنت الحايي ..مأتم حجي طرار
8
مأتم بنت الحايي ..مأتم حجي طرار
قلــت لجــديت ســامة أريــد أن أكتــب تاريــخ مأمتك.مــا اســم مأمتــك؟ ضحكــت، كعادتهــا ،ال تبــدأ حديثــا مــن غــر أن تريــك عــر ضحكتهــا ســنها الذهبــي الــذي يحمــل ملمح ـاً مــن مالمــح تباهيهــا املعــروف ب ُحليهــا وذوقهــا الجديــد دومــا يف اللبــس والعطــر ،كنــت يف مجلســها العامــر بالنســوة دومــا مــن أجيــال مختلفــة. ســتأيت حكايــة املأتــم إذن منســوجة مــن رسودات النســاء الــايت يرتــدن هــذا املجلــس ،فنســاء هــذا املجلــس هـ َّن أنفســهن نســاء املأتــم .ملجلســها رواد الضحــى ورواد األصيــل (العــر) ،أعامرهــن مختلفــة وأمزجتهــن مختلفــة وحاالتهــن األرسيــة مختلفــة ،لــكل مهــن مكانــان ،مكانهــا يف املجلــس ،ومكانهــا يف قلــب ســامة ،قلبهــا الــذي يســع حكاياتهــن وأرواحهــن املؤتلفــة مــع روحهــا الحيويــة دوم ـاً .ليــس بــن مجلســها ومأمتهــا ســوى نافــذة ،يف املأتــم تحــر ســر القتــى مــن كربــاء وآل البيــت ،ويف املجلــس تحــر ســر الحيــاة كلهــا حلوهــا ومرهــا، وغريبهــا ومألوفهــا ،تجــد النســوة يف هــذا املجلــس فضاءهــن الحــر يف الــرد والقــول ،بعيــدا ً عــن ســلطة الرجــل ،تــأيت الواحــدة منهــن محملــة بيومياتهــا وأخبــار مــا يســتجد يف القريــة ،ومــا تقولــه الصحــف« .مــن خلقنــا ونحــن يف هــذا املأتــم ،ال أعــرف متــى ،لكــن مأمتنــا معــروف مبأتــم حجــي ط ـرار ،وكان يف الســابق معــروف مبأتــم الحاجيــة بنــت الحايــي» مــن هــي الحاجــة بنــت الحايــي؟ ومــن أيــن جــاءت؟ تحيلنــي قيمــة املأتــم الحاجــة ســامة ،إىل خالتــي خاتــون عبدالحســن طـرار ،فهــي ماليــة املأتــم اآلن ،وهــي مــن تعــرف التاريــخ .لكــن مــن
9
أيــن يأتيهــا التاريــخ؟ يف املأتــم النســايئ ال أحــد يعــرف التاريــخ ،لكــن الجميــع يعيــش التاريــخ ،ال أحــد يعــرف متــى قتــل الحســن ،لكــن جميعهــن يعرفــن مــن قتلــه وكيــف قتلــه وحكايــة قتلــه ومــا قيــل يف هــذا القتــل والروايــات التــي تــرد هــذا القتــل .يعرفــن كل هــذه التفاصيــل كــا لــو أنهــا وقعــت باألمــس ،لكنهــن ال يعرفــن كــم كان تاريــخ أمــس. النســاء يف املأتــم يعشــن التاريــخ لكنهــن ال يعرفــن التاريــخ ،بــل ليــس هنــاك تاريــخ، هنــاك لحظــة زمنيــة أبديــة رسمديــة معاشــة بحـرارة القتــل .مــن املدرســة مــن أيــن يــأيت التاريــخ لخالتــي خاتــون إذن؟ ليــس مــن املأتــم ،إنــه مــن املدرســة ،يف ســنة 1963يقــرر أبوهــا الحــاج عبدالحســن طــرار ،أن يرســلها مــع ســبع بنــات مــن القريــة إىل مدرســة قــايل االبتدائيــة للبنــات ،متحديــاً بحمقــه املعــروف الحظــر الذكــوري الــذي فرضــه رجــال القريــة الذيــن كانــوا يــرون تعليــم املــرأة عيبـاً يجلــب العــار ،ســتكون خاتــون ورفيقاتهــا الســبع أول طليعــة ديريــة تفتــح الطريــق لتعلــم املــرأة ،هنــاك يف مدرســة قــايل ســتعرف معنــى التاريــخ ،وســتحفظ وقائعهــا اليوميــة مقرونــة بالتاريــخ املكتــوب بطبشــور أبيــض فــوق لوحــة ســوداء .ســتضيف خاتــون إىل درس املعلمــة بنــت ســيد يوســف درس مدرســة قــايل ،وســيتيح لهــا هــذان الدرســان معرفــة جديــدة ســتمكنها مــن أن تكــون (ماليــة مأتــم أمهــا) .الدكتــورة املاليــة «ســتكون خاتــون أول دكتــورة يف الديــر» هــذا مــا كان يبــر بــه حجــي عبدالحســن طـرار أهــل القريــة ويغيــض بــه املناوئــن لتعليــم املــرأة ،لكــن الدكتــورة ســينتهي بهــا األمــر لتكــون أول (ماليــة) تجمــع درس (ملعلمــة) ودرس (املعلمــة)، أي درس الكتاتيــب ودرس املــدارس .ســيقف بهــا مــرض الربــو والضيقــة عــن تحقيــق أمنيــة أبيهــا ،وســترتك املدرســة عنــد الصــف الثــاين ثانــوي، بعــد أن أقعدهــا املــرض .ذات صبيحــة جــاءت املديــرة إىل «من خلقنا ونحن يف أمهــا ســامة :ابنتــك لــن تقــوى عــى مواصلــة الدراســة ،ال هذا املأتم ،ال أعرف متى ،لكن مأمتنا معروف ِ طاقــة ل َنفَســها عــى رغــم مــا متلكــه مــن طاقــة يف نفســها .مبأتم حجي طرار ،وكان 10
تقــول رفيقــة طفولتهــا ،فاطمــة بنــت حجي حســن ،كنــا بكثري مــن التحــر والدهشــة نشــاهد خاتــون وزميالتهــا الســبع يف
يف السابق معروف مبأتم الحاجية بنت الحايي»
الصبــاح الباكــر ،وهــن مجتمعــات ينتظــرن ســيارة حجــي حميــد غانــم لتأخذهــن إىل املدرســة ،كنــا نلمــس رشائطهــن ومالبســهن ونتمنــى أن نكــون معهــن .حــن تجلــس خاتــون ألداء واجباتهــا املدرســية نتحلــق حولهــا ونقلــب أدواتهــا املدرســية حتــى إ َّن بنــت ســيد هاشــم ظنــت أن املمحــاة امللونــة برائحتهــا الزكيــة حــاوة ،فابتلعتهــا، لكنهــا مل تهضمهــا .لقــد تعلمــت مــن مجالســة خاتــون الق ـراءة والكتابــة بشــكل أفضــل ،مــع أين كنــت قــد تتلمــذت عــى يــد الحاجيــة كلثــم بنــت الحايــي ،كانــت كلثــم تجــد َّيف تلميــذة فوضويــة وغــر منضبطــة وصاحبــة لســان طويــل حتــى أنهــا ســمتني (غوغــوه) مــع ذلــك رصت واحــدة مــن القارئــات يف مأتــم حجــي ط ـرار، لكنــي مل أســتمر .الخبــاز ثاني ـاً مــا تذكــره قيمــة املأتــم وصاحبتــه الحاجــة ســامة أن املأتــم كان ضمــن مأتــم الحاجــي ســلامن ،وهــو مــن أوائــل املآتــم النســائية يف الديــر ،وحــن حــدث خــاف ،صــار جــزءا ً مــن بيتنــا الكبــر مكانـاً للقـراءة الحســينية، كان مجلسـاً يف األصــل ،وهــو مــكان الخبــاز الحــايل الــذي هــو ثــاين خبــاز يف القريــة بعــد خبــاز حجــي عبداللــه بــن مهــدي ،لكنــه أول خبــاز يعمــل يف صيغــة مخبــز، فقــد كان يصنــع الحــاوة والزالبيــا والكعــك و(الكاجــي كجــو) الــذي كان يســميه رصة الخاتــون ،وهــي تســمية أطلقهــا الخبــاز الفــاريس إبراهيــم تعب ـرا ً عــن داللــه لخاتــون التــي كان يخصهــا بالكعــك والحلــوى ،ويك تتباهــى صديقاتهــا بأنهــن قــد أكلــن كيــكاً فقــد كــن ميســحن شــفايفهن بكريــم الكيــك حتــى لــو مل يأكلــن. انتقــل املأتــم فيــا بعــد إىل أكــر مــن جهــة ،ضمــن البيــت نفســه ،لكنــه مل يســجل أبــدا ً يف األوقــاف .قبــل وفــاة الحاجــي ط ـرار بســنة واحــدة وذلــك يف عــام 1977, رصت أنــا املمولــة للأمتــم إضافــة إىل التربعــات التــي تــردين .كان الســمك هــو وجبــة املأتــم ،ومل نكــن نــوزع الوجبــات خــارج املأتــم ،لكــن فيــا بعــد وحتــى اآلن صــارت الوجبــات تصــل إىل بيــوت املشــاركات يف التعزيــة طــوال عــرة محــرم .الحاجيــة كلثــم «نجمــة ،كانــت كلثــم بنــت الحايــي نجمــة ،بيضــاء بطلــة مهيبــة ،مل يكــن مياثلهــا أحــد» هكــذا تســتحرض الحاجيــة ســامة زوجــة الحــاج عبدالحســن ط ـرار صــورة بنــت الحايــي .جــاءت كلثــم مــن ســاهيج مــن بيــت الفــرج ،كانــت أرملــة، ويف ســرتها أربعــة شــبان خلفتهــم يف قريتهــا ســاهيج .كانــت يف الديــر زوجــة
11
للحــاج حســن أبــو الحــاج عبدالحســن طــرار ،ويف الوقــت نفســه عمــة للوجيــه الحــاج عبداللــه بــن عيــى مطــر زوج ابنتهــا. مــا أن يحــر اســم الحــاج عبداللــه بــن عيــى يف أي رسد عــن قريــة الديــر حتــى تــأيت ســرته املقرونــة دوم ـاً بالتبجيــل ،ففيــا كانــت الحاجــة ســامة تــرد م ـرات الحــاج عبداللــه الصباحيــة عــى عمتــه بنــت الحايــي وتتذكــر صــورة عــكازه الوقــور، تدخــل أم فاضــل (فوزيــة بنــت الحــاج راشــد بــن حســن) عــى ســرة الــرد ،لــروي عــن أبيهــا حديثــه املتكــرر عــن حــارة الحــاج عبداللــه ،كان يُح ِّمــل عليهــا تربعاتــه ويرتكهــا عنــد أبــواب املحتاجــن ،فتطــرق البــاب برجلهــا ،فيعــرف صاحــب البيــت أن هنــاك فاعــل خــر ال يــو ّد أن يعرفــه النــاس ،صــار أمــر أم الخري(حــارة الحــاج عبداللــه) معروفـاً يف القريــة ،واكتشــف أهــل القريــة فيــا بعــد أن أم الخــر كانــت رســولة الحــاج عبداللــه بــن عيــى .لقــد أصــاب الحاجــة كلثــم شــيئاً مــن وجاهــة زوج ابنتهــا ،فضاعــف مــن حضــور شــخصيتها البهيــة يف القريــة .لكــن عــى املســتوى اآلخــر ،مل يكــن زوجهــا الحــاج حســن ميلــك شــيئاً مــن هــذه الشــخصية ،بــل مل يكــن ميلــك تقدي ـرا ً يليــق مبكانتهــا« ،مل يكــن يســتحقها» هــذا مــا قالتــه ســامة املالزمــة لهــا والقامئــة عــى أمورهــا اليوميــة.
12
بــدأت كلثــم تقــرأ يف مأتــم الحــاج ســلامن الــذي هــو أول مأتــم نســايئ ،كانــت تقــرأ هنــاك مــع عمتهــا أم زوجهــا فاطمــة بنــت حســن ،لكنهــا مــا لبثــت أن اســتقلت، لتؤســس مأتــم الحاجيــة بنــت الحايــي الــذي ســيعرف الحق ـاً مبأتــم حجــي ط ـرار. لــن تلحــق باملأتــم الجديــد خاتــون الجــدة األخــرى لحجــي ط ـرار ،كانــت خاتــون جــدة حجــي ط ـرار مــن األم تقــرأ يف مأتــم حجــي عبدالرضــا الــذي كان يــوازي يف عراقتــه مأتــم الحــاج ســلامن .ال أحــد يعــرف شــيئاً عــن ســرة خاتــون الجــدة ،تحــر فقــط هيبتهــا ،تصفهــا خاتــون الحفيــدة بأنهــا كانــت شــديدة البيــاض وعاملــة، ولشــخصيتها القويــة الحضــور تســمت ســبعاً مــن بنــات العائلــة باســمها ،ســبع خواتــم أو ســبع خاتونات.لكــن خاتــون الحفيــدة وحدهــا مــن ورث بيــاض خاتــون الجــدة وصوتهــا وعلمهــا يف القـراءة الحســينية .ســرث خاتــون أيضـاً صــوت جدتهــا فاطمــة وحضورهــا القيــادي يف املأتــم النســايئ.
القيادة الثالثية
ســتكون بنــت الحايــي هــي قارئــة املأتــم الجديــد الكبــرة ،وســيتتلمذ عــى صوتهــا الشــجي ،ماليتــان ســيمتد صوتهــا فيهــا طــوال األربعــن ســنة الالحقــة عــى وفاتهــا يف 1961املاليتــان هــا الحاجيــة مريــم بنــت الحــاج أحمــد صاميــل (توفيــت ديســمرب )1997واملعروفــة بالحاجيــة مريــوم ،والحاجيــة رشيفــة بنــت ســيد عبداللــه (توفيــت )2000واملعروفــة بالحاجيــة رشوف. وســتنضم الحاجيــة صفيــة بنــت الحاجــي عبداللــه محســن بدأت كلثم تقرأ يف مأتم الحاج سلامن الذي هو (توفيــت يف فربايــر ،)2004املعروفــة بالحاجيــة صفــوي إىل أول مأتم نسايئ ،كانت صفــوف ماليــات مأتــم حجــي ط ـرار ،جــاءت صفــوي مــن تقرأ هناك مع عمتها رأس رمــان متقنــة قــراءة القصيــد والروايــات ،وســيؤهلها أم زوجها فاطمة بنت حسن ،لكنها ما لبثت أن صوتهــا الــذي يحمــل الكثــر مــن اســمها لتكــون يف الصفــوف استقلت ،لتؤسس مأتم األوىل مــن القياديــات ،وســيكون لعطائهــا املميــز أثــرا ً يف الحاجية بنت الحايي إث ـراء مكتبــة املأتــم (الــذي هــو عبــارة عــن قفــر توضــع الذي سيعرف الحقاً مبأتم حجي طرار. فيــه الكتــب) بالروايــات واألشــعار واألراجيــز والرداديــات البكائيــة. ســينهض املأتــم عــى أصــوات هــذه النســوة الثــاث ،ولــن يكــون ألحــد صــوت يف هــذا املأتــم إال حــن يتقــن درس الق ـراءة عــى أصواتهــن الثــاث ،مــن تــأيت مــن خــارج هــذا الصــوت ال مــكان لهــا يف هــذا املأتــم .ســتكون الحاجيــة مريــوم صــوت املأتــم األعــى ،ســتكون ماليــة املأتــم األوىل ،وســرث مــع هــذا الصــوت ســلطة األمــر والنهــي والتــرف يف مــا ميكــن أن يكــون أو ال يكــون .وبهــذه الســلطة ســتكرس تقاليدهــا الصارمــة يف القـراءة ،ولــن تســتطيع متغـرات الثــورة اإليرانية ومــا صاحبها مــن صحــوة دينيــة أن تنــال مــن هــذه التقاليــد ،فعــى رغــم االنفتــاح الــذي تحملــه روح الحاجيــة ســامة ق ِّيمــة املأتــم ،فإنهــا لــن تســتطيع أن تتجــاوب مــع مطالــب األصــوات الشــابة بــرورة التغيــر وإفســاح املجــال إلدخــال املحــارضات إىل املأتــم، حتــى دخــول امليكرفــون ســيحتاج إىل موافقــة الحاجيــة مريــوم. كانــت الحاجــة ســامة تحمــل للحاجيــة مريــوم تقديـرا ً نابعـاً مــن تبجيلهــا للحاجــة
13
كلثــم ،فهــي تجــد يف الحاجــة مريــوم الوريثــة لكلثــم ولكتابهــا ،وهــي بهــذه الوراثــة حفظــت للأمتــم مكانتــه وبقــاءه. حلم كلثم
رسهــا يف ســامة ،رأت ســامة ذات حلـ ٍـم أنهــا تركــب وكلثــم كانــت كلثــم تُــودع َّ ســفينة يف ســفر بعيــد ،تعــود الســفينة بســامة وحدهــا .رأت كلثــم وهــي البارعــة يف تفســر األحــام ،رأت بروحهــا الشــفافة يف الكشــف ،بشــارة موتهــا .حــن أدخلــت املستشــفى األمــريك يف 1961قالــت لســامة إنــه الســفينة التــي ســتبحر بنــا أنــا وأنــت ،ســتعودين الديــر وحــدك دوين .يف هزيعهــا األخــر تطلــب كلثــم كأس مــاء، ولكــن ليــس أي مــاء ،تريــد مــاء مــن بغلتهــا ( ُحــب مــاء كان يف غرفتهــا) التــي كانــت متألهــا ســامة يومي ـاً مــن مــاء (الجوجــب) .كيــف ســيأيت مــاء الديــر إىل املنامــة وكلثــم يف لحظاتهــا األخــرة .هنــا تدخــل فجــأة الســيدة معصومــة والــدة ســامة، وتحمــل معهــا كأس كلثــم األخــر ،إنــه مــن (بغلتهــا) الحميمــة ،تــرب كلثــم كأســها روح بنــت الحايــي إىل الســاء ،وكأنهــا األخــر مــن مــاء ســامة ،تُســلم يــدا ســامة َ تســلم قطعــة منهــا ،كانــت ســامة تــروي وكأنهــا تســتحرض صفــاء الــكأس نفســه، تطلــق ســامة مــع مــوت كلثــم آه طويلــة :كانــت أح ـ َّن عــى روحــي مــن أمــي نفســها. لــن تجــد ســامة أكــر مــن الوفــاء ملأتــم بنــت الحايــي تخليــدا ً لذكــرى كلثــم، أعطــت روحهــا كلهــا لــه ،وأوقفــت حياتهــا عليــه ،ووجــدت يف خدمتــه اســتمرارا ً لقيامهــا عــى شــأن كلثــم اليومــي. كتاب كلثم
14
مل تكــن ســامة تعــرف القــراءة وال الكتابــة ،ومل تــرث مــن كلثــم صوتهــا املميــز ،لكنهــا ورثــت روحهــا وضوءهــا الخــاص، ورثــت حب ـاً للنــاس ومــن النــاس ،وصفــاء يف الــروح والوجــه ال مثيــل لبشاشــته وشــفافته .مل تــو ّرث كلثــم تركــة مــن مــال، لكنهــا تركــت أثــرا ً يحمــل روحهــا وصوتهــا ،تركــت (كتابــا)
كانت سالمة تروي وكأنها تستحرض صفاء الكأس نفسه ،تطلق سالمة مع موت كلثم آه طويلة: كانت أح َّن عىل روحي من أمي نفسها.
ليــس لــه اســم ،إنــه (الكتــاب) هكــذا تدعــوه تالميذاتهــا الــايت حفظــن مأمتهــا .حــن أخــذ أبناؤهــا كتبهــا ،أرصت ســامة مدفوعــة بتلميذتيهــا (مريــم) و(رشيفــة) أن يعــود الكتــاب إىل مأتــم بنــت الحايــي .ذهبــت ســامة إىل بيــت أبنائهــا يف ســاهيج، وقالــت لهــم :أريــد شــيئاً مــن روح كلثــم ،أريــد كتابهــا .فيكــون لهــا مــا أرادت .مــن يــرث هــذا الكتــاب يــرث مكانــة كلثــم يف املأتــم .هــو اآلن وديعــة بــن يــدي خاتــون الحفيــدة بعــد أن تســلمته مــن الحاجيــة مريــوم .إنــه يحــوي روايــات ومقاتــل وقصيــد ال وجــود لهــا يف غــر هــذا الكتــاب .تحملــه خاتــون بحفــاوة مــن يحمــل مخطوطــة نــادرة ،استنســخته بيـ ٍـد ماهــرة يف كتابــة املخطوطــات ،لكــن عينيهــا ال تفــارق نســخة كلثــم ،فالتاريــخ يف كتــاب كلثــم ،وخاتــون ال تعيــش التاريــخ فقــط بــل تعرفــه منــذ أتقنــت درس الســبورة الســوداء .مل تفــارق عنايــة كلثــم روح ســامة، جاءهــا يــوم أحــد أبنائهــا ،يخربهــا أن كلثــم زراتــه يف املنــام وأوصتــه أن يوصــل لســامة مــا كان يوصلــه لكلثــم ،وأن ي ـ ّر ســامة كــا كان ي ـ ّر كلثــم.
15
مأتم جدتي والمخيلة الكربالئية
16
مأتم جدتي والمخيلة الكربالئية
يُ ِ حــر املأتــم (الحســينية) جــزءا ً مــن الســرة ،ســرة املخيلــة أحيانــاً وســرة العقــل أحيان ـاً أخــرى ،أو يحرضهــا مع ـاً ،حســينية بيــت قاســم حــداد مث ـاً ،قــد شــكلت بحضورهــا جــزءا ً خصب ـاً مــن مخيلــة قاســم ،وهــو مــا فتــئ يذكّرنــا دوم ـاً يف روايتــه لســرته اإلبداعيــة بهــذا الحضــور ،لكنــه ليــس الحضــور الــذي يغلــق املخيلــة عليــه ،فمخيلــة املبــدع ال ترتهــن إىل مكــون واحــد ،فهــي حيــث التعدديــة والنشــاط والحريــة والذهــاب إىل املســتقبل وإعــادة الخلــق ،أي خلــق مــا يحــر فيهــا. مخيلة قاسم
يتحــدث قاســم حــداد عــن هــذا الحضــور يف أحــد حواراتــه «مثــة خصوصيــة صاغــت يل عاملــا ســحريا ســببه النشــأة يف بيئــة شــيعية ،ففــي العائلــة الشــيعية عــادة مــا تنعقــد طقــوس وتقاليــد الحســينيات يف معظــم شــهور الســنة باإلضافــة إىل شــهري محــرم وصفــر .يف دارنــا كان األمــر أكــر خصوصيــة ،فقــد كان يف الــدار مأتــم للنســاء تنعقــد فيــه الق ـراءة ،ومنــذ طفولتــي نشــأت عــى معايشــة هــذه األجــواء والتــرب بتفاصيلهــا اليومية.أعتقــد أن نشــويئ يف هــذا الجــ ّو الــذي ـس اإليقــاع مبكـرا ً وصقلــه .كان يعتمــد عــى البكائيــات والعزائيــات ولّــد لـ ّ ـدي حـ ّ كل يشء حزينــاً يف تلــك الطقــوس .مل أكــن أدرك متامــاً مفهــوم الحــزن ولكننــي أعيشــه .لقــد كان كل يشء يف تلــك الطقــوس يرتبــط باإليقــاع .رمبــا يكــون لســاعي ومعايشــتي هــذه الطقــوس باســتمرار ،واملشــاركة يف مواكــب العــزاء،
17
بهــذه الطريقــة اإليقاعيــة قــد أثــرا الحقــاً يف اإلحســاس املبكــر بالــوزن والبحــور».1
يحرض هذا املأتم يف سرييت كام تحرض جديت، وكام يحرض بيتها املفتوح األبواب دوماً ،إنه يحرض جزءا ً من سرية تكويني الفكري ،مقروناً بسرية موقفي من املخيلة، وسرية املخيلة يختلف عن سرية املوقف من املخيلة ،فالسرية األوىل غري واعية وهي أقرب إىل عمل اإلبداع ،أما املوقف من املخيلة ،فهو موقف فكري يعرب عن خيار واع
إن هــذه املخيلــة الكربالئيــة مل تســعف قاســم فقــط يف اإلحســاس باإليقــاع الــذي هــو أحــد رشوط الشــعر ،إذا مــا فهمنــا اإليقــاع مبعنــاه املفتــوح كــا هــو عنــد قاســم ،بــل أســعفته أيضـاً يف إعــادة خلــق اســمه ،وهــو الــرط الثــاين يف اإلبــداع ،يعيــد املبــدع عــادة خلــق العــامل ،وجــزء مــن هــذا الخلــق هــو خلــق اســم جديــد لــه أو لقــب جديــد مشــتق مــا يخلقــه مــن إبداعــات ،وبهــذه القــدرة ميلــك املبــدع القــدرة عــى تحويــل العــامل وتحويــل ذاتــه ،يتحــدث قاســم عــن مخيلتــه الكربالئيــة التــي أعــاد مــن خاللهــا تحويــل اســمه مــن جاســم إىل قاســم ،عــى النحــو التــايل …« :لكــوين، مــن جهــة أخــرى ،مرتبطـاً ،يف الالوعــي ،باســم «القاســم بــن الحســن» أحــد الشــباب الذيــن قاتلــوا مــع الحســن يف كربــاء ،والــذي استشــهد يــوم عرســه كــا تقــول الحكايــة .وكنــت يف الخامســة مــن عمــري عندمــا اختــاروين ألقــوم بــدور القاســم ،يف حســينية النســاء يف البيــت ،يف زفّـتـــه قبــل ذهابــه إىل املعركــة واستشــهاده يف يــوم الثامــن مــن املحــرم».2 الموقف من المخيلة
يحــر هــذا املأتــم يف ســريت كــا تحــر جــديت ،وكــا يحــر بيتهــا املفتــوح األبــواب دوم ـاً ،إنــه يحــر جــزءا ً مــن ســرة تكوينــي الفكــري ،مقرون ـاً بســرة موقفــي مــن املخيلــة ،وســرة املخيلــة يختلــف عــن ســرة املوقــف مــن املخيلــة، فالســرة األوىل غــر واعيــة وهــي أقــرب إىل عمــل اإلبــداع ،أمــا املوقــف مــن املخيلــة ،فهــو موقــف فكــري يعــر عــن خيــار واع ،يتحــدد فيــه مفهومنــا للمخيلــة وعملهــا وتقييمنــا لهــا وآليــات عملهــا .كيــف كان موقفــي مــن 18
11حوار مع قاسم أجرته روال قباين :جريدة «الزمان» -لندن /18مارس .1999 22حوار مع قاسم أجرته روال قباين :جريدة «الزمان» -لندن /18مارس .1999
املخيلــة الكربالئيــة مــن خــال ســريت مــع مأتــم جــديت؟ أســتخدم هنــا مصطلــح املخيلــة الكربالئيــة ألحيــل عــى الرسديــات التــي أنتجهــا الخيــال الشــيعي مشــبوكاً بالتاريــخ لواقعــة كربــاء ،واملخيلــة هنــا هــي مســتودع عمليــات التخييــل الجامعيــة عــى مــدى تاريــخ طويــل ،وهــي عمليــات تتداخــل فيهــا أمنيــات الجامعــة وأحالمهــا ومحنهــا ومقدســاتها وأحداثهــا التاريخيــة ،األمــر الــذي يصعــب فيــه فصــل الحقيقــي مــن غــر الحقيقــي والواقعــي مــن الخيــايل والتاريخــي مــن االختالقــي «التخييــل أعــم مــن الخيــال وأكــر تجــاوزا لــه عــى مســتوى التصــور واإللهــام والخلــق ،العتــاده عــى اإلغــراب واملفارقــة والخيــال املجنــح البعيــد يف التشــخيص األســلويب والذهنــي ،ناهيــك عــن اف ـراض األحــداث املمكنــة واملســتحيلة ونســجها فنيــا ورسديــا يف عــامل فنــي جــايل يف أبهــى روعــة إبداعيــة .ويجــر التخييــل معــه يف اللغــة العربيــة كلــات اشــتقاقية أخــرى كاملخيلــة بكــر الياء(مصــدر الخيــال) ،والخيــال (منتــوج املخيلــة) ،والتخييــل (فعــل التخيــل ومامرســة الخيــال ،وهــو دال الحركــة واإلبــداع واإللهــام) الــذي يــدل عــى االختــاق والتوهيــم بالحقيقــة والخــداع الفنــي وتصــور األحــداث والشــخصيات يف ســياق فنــي يتقاطــع فيــه الخيــال والواقــع».3 مخيلة المآتم النسائية
متتــاز املآتــم النســائية بأنهــا جــزء مــن البيــت ،إنهــا تــكاد كاملــرأة يف املجتمعــات املحافظــة ال تغــادر البيــت ،تبــدو كأنهــا غرفــة مــن غــرف البيــت ،حتــى إننــا ال ميكن أن نصفهــا بأنهــا ملحقــة بالبيــت ،فهــي وســطه غالب ـاً ،كــا هــو األمــر مــع مأتــم جــديت ،لقــد وعيــت طفولتــي يف وســط هــذا املأتــم ،ووســط البيــت الكبــر الــذي كان فيــه. وهــذا مــا جعــل كثــرا ً مــن املآتــم النســائية غــر مســجلة يف الدوائــر الرســمية ودائــرة األوقــاف الجعفريــة ،كانــت آخــر إحصائيــة شــفهية متداولــة تقــول إن عــدد املآتــم النســائية يف قريــة الديــر يزيــد عــى الثالثــن مأمتـاً أو حســينية .والقليــل منهــا 33مفهوم التخييل الروايئ ،جميل حمداويhttp://www.doroob.com/?p=10447 :
19
مســجل ،يف حــن املآتــم الرجاليــة تبلــغ ســبعة مآتــم ،وجميعهــا مســجلة ،وتقــع يف الحيــز العــام للقريــة ،األمــر الــذي جعلهــا مكان ـاً عام ـاً. رمبــــا تكـــــون هــــذه امليــزة ،هــي ما يجعــل املأتم النســايئ أقرب إىل مـزاج صاحبته وســلطتها ،واملآتــم الرجـــــايل وإن كان ال يخــرج كثـرا ً عــن ذلــك ،لكنــه يتوفــر نســبياً عــى مـزاج أكــر مــن صاحبـــــه وأقــل مــن قريتــه أو عائلتــه أو فريقــه ،فهــو ميثــــل جامعــة صــــاحب املأتــم وعائلتــه ،وتتوســع هــذه الجامعــة بتوســع الخطــوط الحركيـــــة الفكـــــرية التــي متثلها. ظلــت املأتــم النســائية بحكــم عزلتهــا البيتوتيــة مكانـاً للمخيلــة املطلقــة الجامحــة التــي ال يحدهــا عقــل صــارم وال رشع متشــدد ،ورمبــا يصــح أن نصفهــا بأنهــا مخيلــة نســائية بوجــه مــا ،ال مــكان للــكالم املوجــه يف هــذه املآتــم النســائية ،املوجــه بخــط حــريك أو أيديولوجــي .ليــس هنــاك خطابــة تصنعهــا موجــات فكريــة ،هنــاك نياحــة وســرة (شــبه تاريخيــة) ومرويــات رسديــة وقصائــد مق ّفــاة ،وأصــوات نســائية تضــج عــى إيقــاع الحــزن والبــكاء. توجيه المخيلة
يف تحقيــق عــن (مأتــم النســاء) طرحــت مجلــة األنصــار الســؤال التــايل «ملــاذا هــذا الهجــوم الــرس حــول آليــة العمــل يف مأتــم النســاء؟ وهــل هــو قــادر يف صورتــه الحاليــة عــى إخ ـراج جيــل وا ٍع فاهــم؟ كانــت اإلجابــات :واقع ـاً أنــا ال أذهــب إىل املآتــم النســائية ،عندمــا أذهــب إليهــا ال أحصــل عــى فائــدة تذكــر… إن املأتــم النســايئ متخلــف عــن الركــب الحضــاري والثقــايف واالجتامعــي». 4
20
يف نهايــة الثامنينيــات كنــت مدفوع ـاً بحــس ثــوري لتغيــر العــامل ،كان العــامل هــو أنــا وأرسيت وقريتــي ومأتــم جــديت ،كنــت أرى أن املأتــم النســايئ مل يســتجب لصــوت الصحــوة اإلســامية ،والســبب الــذي كنــت أعتقــده يكمــن يف أن املاليــات متخلفــات وغــر واعيــات وال يســمحن بالتغيــر .كنــت أرى ماليــات مأتــم جــديت هكــذا ،وهـ َّن الحاجيـــة مريــم بنــت الحــاج أحمــد صميــل (توفيــت ديســمرب )1997واملعروفــة 44مجلة األنصار :مجلة إسالمية تصدر عن حسينية بن زبر ،العدد .2007 ،9
بالحاجيــة مريــوم ،والحاجيــة رشيفــة بنــت ســيد عبداللــه (توفيــت )2000واملعروفة بالحاجيــة رشوف .والحاجيــة صفيــــــة بنــت الحاجــي عبداللــه محســن (توفيــت يف فربايــر ،)2004املعروفــة بالحاجيــة صفــوي. خضــت معهــن محــاوالت تغيرييــة لكنهــا بــاءت بالفشــل ،كنــت أرى فيهــن حجــر عــرة أمتنــى أن تـزال برسعــة ،مــن أجــل أن يــأيت صــوت الوعي الجديــد والطــرح الجــاد .اليــوم أحــن ألصواتهــن بناســتالوجيا متتاز املآتم النسائية بأنها بالغــة الــدفء ،اليــوم أعيــد اكتشــافهن مــن جديــد ،أرى أين جزء من البيت ،إنها تكاد كاملرأة يف املجتمعات بحاجــة إىل أن أنصــت إليهــن مــن أجــل أن أفهــم عاملهــن املحافظة ال تغادر البيت، الخــاص وثقافتهــن الخاصــة ،بعيــدا ً عــن تشــنجات وعــي تبدو كأنها غرفة من غرف البيت ،حتى إننا الصحــوة الدينيــة. ال ميكن أن نصفها بأنها ملحقة بالبيت ،فهي وسطه غالباً ،كام هو األمر مع مأتم جديت،
لســت ضــد املحــارضات الجــدد الــايت بــدأن يزاحمــن املاليات أو يتزاوجــن معهــن ،لكنــي ضــد هــذا الوهــم بأنهــن ميتلكــن الوعــي والطــرح القــادر عــى أن يأخــذ النســاء إىل الركــب الحضــاري والثقــايف واالجتامعــي .بــل أنــا ضــد هــذه الكلــات املشــحونة بتخمــة مــن األوهــام .مل يجــد خطــاب الصحــوة بحســه األيديولوجــي يف خطــاب املاليــة مــا يعــزز مــن ســلطته واســتحواذه وتفســره لواقعــة كربــاء ،التــي راح يؤولهــا لصالــح حســه الثــوري ،وألنــه خطــاب ال يحســن اإلنصــات إىل مــا يختلــف معــه ،فإنــه مل يجــد يف املاليــة غــر عالمــة عــى نقــص الوعــي والتخلــف والتقليديــة وعــدم القــدرة عــى طــرح اإلســام وكربــاء طرح ـاً جديــدا ً ،لكنــه مل يكــن ومــازال عاج ـزا ً عــن أن يــرى مأزقــه يف تضييــق اإلســام وأدلجــة كربــاء. ســر هــذه املاليــات وتجاربهــن جــزء مــن ثقافتنــا التــي يجــب اإلنصــات إليهــا، وفهمهــا وتوثيقهــا ،بعيــدا ً عــن حــس اإلدانــة الدينــي أو األيديولوجــي .أنــا مديــن يف جانــب مــن فهمــي لعمــل الخيــال الخــاق يف التاريــخ إىل صــوت هــؤالء املاليــات ،وهــن يعــدن رسد التاريــخ بخيــال ال مثيــل لــه ،لذلــك فأنــا مديــن باعتــذار متأخــر إىل ماليــات مأتــم جــديت ألين أســأت االســتامع إليهــن،
21
وأســأت تقديــر صوتهــن األصيــل الــذي مل تشــبه ُهجنــة أيديولوجيــة تضيــق باآلخــر. جمح المخيلة
كان الخــط الحــريك اإلســامي الــذي مثلتــه خــال الثامنينيــات، نــداء لجمــح هــذه املخيلــة ،وتوجيههــا نحــو رشع منضبــط وعقــل مؤدلــج .كنــت أرى يف هــذه املخيلــة أســطورة تجــر الدمعــة ال الفكــرة ،مخيلــة ال تســتجيب لحركــة الواقــع التــي كنــا مأخوذيــن بهــا حــد مجــاوزة الواقــع.
يف محرم 1990بدأنا مرشوع مهرجان عاشوراء األول ،كان مقر املهرجان مأتم جديت ،يبدأ املهرجان بعد عرشة محرم، وقد خصصناه إلقامة محارضات ثقافية عن عاشوراء ،كيف نسثمر عاشوراء يف واقعنا؟
كان صــوت القيــادات الحركيــة قــد بــدأ يضــع هــذه املخيلــة ضمــن دائــرة وعيــه، كان يريــد مــن املأتــم النســائية أن تكــون يف مســتوى وعــي اإلســام الحــريك ،وقــد بــدأت الناشــطات اإلســاميات محاوالتهــن للدخــول إىل هــذه املآتــم ،مــن أجــل تقديــم شــكل خطــاب جديــد ،يفيــد مــن صيغــة الخطابــة الرجاليــة ،التــي ال تكتفــي بالجانــب البــكايئ الحســيني ،وهنــا بــرزت مــع ظهــور أســاء الخطيبــات الجديــدات تذم ـرات املاليــات التقليديــات وصاحبــات املآتــم.
22
مــع صعــود هــذه املوجــة كنــت قريبــاً جــدا ً مــن جــديت ومأمتهــا الــذي ظللــت أخضعــه الســتخدامات متعــددة ،منبثقــة مــن هــذه املوجــة ،غــر أنهــا اســتخدامات تقــع خــارج صفــة املأتــم ،حــن يكــون مأمت ـاً نســائياً ،هــو عــامل آخــر ومكان ـاً آخــر. ال ميكــن الســتخداماتنا الحركيــة أن تخضــع املأتــم لهــا ،فهــو ميثــل خــط مامنعــة قويــة للمخيلــة الكربالئيــة التقليديــة ،وعــى الرغــم مــن أننــي ظللــت لفــرة طويلــة مســؤوالً عــن تركيــب ســواد مأتــم جــديت ،إال أننــي مل أســتطع أن أغــر حتــى يف شــكله ومســاحته التــي تغطــي املأتــم كلــه ،وعــى الرغــم مــن أننــي حاولــت إدخــال شــعارات حركيــة مــن خــال تركيــب الســواد ،إال أننــي فشــلت ،وذلــك يعــود إىل مـزاج املخيلــة البكائيــة ملاليــات املأتــم .لقــد كــن يريــن يف بقــاء املأتــم وفــق رشوط مخيلتهــن املطلقــة العنــان مــن أي مســاءلة واســتخدام ،بقــاء لهــن ومحافظــة عــى وجودهــن واســتمرارا ً لتقاليدهــن وتراثهــم األثــر.
تقليص المخيلة
يف محــرم 1990بدأنــا مــروع مهرجــان عاشــوراء األول ،كان مقــر املهرجــان مأتــم جــديت ،يبــدأ املهرجــان بعــد عــرة محــرم ،وقــد خصصنــاه إلقامــة محــارضات ثقافية عــن عاشــوراء ،كيــف نســثمر عاشــوراء يف واقعنــا؟ وكيــف نعــي الثــورة الحســينية؟ وكيــف نحولهــا إىل وعــي جديــد حــريك؟ وكيــف نخلصهــا مــن األوهــام األســطورية؟ كان املــروع امتــدادا ً ملــروع ســابق خضنــاه قبــل ثــاث ســنوات ،يف عــام 1987تحديــدا ً ،وهــو مــروع خطابــة حســينية ،كنــا نتــدرب كل ليلــة مــن ليــايل محــرم ،بــأن يتــوىل أحــد الشــباب التحضــر لهــا ويكــون ليلتهــا هــو الخطيــب الــذي عليــه أن يقــدم موضوعــاً جديــدا ً ونعيــاً تقليديــاً .كان االتجــاه الســائد تقليــص مســاحة النعــي التــي هــي مســاحة املخيلــة ومحــل خصوبتهــا ،وتوســيع مســاحة الخطابــة التــي هــي محــل الفكــر والوعــي وتقديــم مفاهيــم اإلســام الحــريك. كنــا يف ســياق ،إعــداد جيــل حــريك جديــد ،يفهــم كربــاء فهـاً جديــدا ً ،وقــد انتدبنــا أنفســنا للقيــام بهــذه املهمــة ،وعلينــا واجــب التثقــف والتــدرب وخــوض التجــارب، لحســن حظــي ،مل أتوفــر عــى صــوت جميــل ،وكنــت الوحيــد مــن بــن األصدقــاء الذيــن خاضــوا التجربــة مقت ـرا ً عــى الخطابــة فقــط دون النعــي الحســيني ،يف حــن كان األصدقــاء الســبعة يتولــون تقديــم مجلس ـاً كام ـاً بنعــي وخطابــة ،كنــت أســتعني بصديــق طفولتــي أحمــد رمضــان ،لقــراءة مقدمــة حســينية ملجلــس محــارضيت ،ومــازال هــو يذكــر بــيء مــن املــرح طريقتــه يف ق ـراءة قصيــدة (وجــه الصبــاح عــي ليــل مظلــم…) التــي افتتــح بهــا أحــد مجالــي (تســمى الفــرة التــي يقــرأ فيهــا الخطيــب باملجلــس ،فيقــال يف نهاية الثامنينيات كنت مدفوعاً بحس ثوري بــدأ املجلــس وانتهــى املجلــس). كان التحــول مــن مــروع الخطابــة الحســينية إىل مهرجــان عاشــوراء ،تعب ـرا ً عــن االنحيــاز إىل الجانــب الفكــري ،وعــدم التعويــل عــى الجانــب البــكايئ واملأســاوي يف كربــاء ،كــا أنــه كان مع ـرا ً عــن انحيــازي إىل الجانــب الفكــري يف ذلــك
لتغيري العامل ،كان العامل هو أنا وأرسيت وقريتي ومأتم جديت ،كنت أرى أن املأتم النسايئ مل يستجب لصوت الصحوة اإلسالمية
23
الوقــت .وهــو مــن ناحيــة األخــرى يحمــل أيضــا قناعتــي املبكــرة بعــدم امتــايك مهــارات الق ـراءة الحســينية التــي تشــرط الصــوت الشــجي والقــدرة عــى النعــي بالطريقــة الحســينية. تطهير المخيلة
لقــد خصصنــا مهرجــان عاشــوراء الثــاين واألخــر ،والــذي أقمنــاه أيضــا يف مأتــم جديت، لكتــاب (امللحمــة الحســينية) .لقــد قســمنا الكتــاب عــى عــر ليــال ،يتــوىل كل ليلــة شــخص تقديــم محــارضة مــن هــذا الكتــاب .الكتــاب محاولــة لتصحيــح واقعــة كربــاء مــن االنحرافــات التاريخيــة التــي صنعتهــا املخيلــة.
تصحيــح االنحرافــات التاريخيــة ،كان يعنــي رفــض نشــاط املخيلــة الكربالئيــة التــي أنتجــت هــذا الكــم الضخــم مــن املرويــات واألشــعار والقصص والكرامــات والبكائيــات .كان يعنــي تجفيفا ً ملســاحات واســعة كان اإلسالم الحريك ،كام مثله مطهري مثال ،يريد مــن هــذه املخيلــة ومــا يرافقهــا مــن دمــوع حــارة وطريــة .أن يغري الواقع ،وهو يريد كان يعنــي أن تبقــى املآتــم النســائية مــن غــر ذاكــرة ،ألن من التاريخ ما يغري به الواقع ،ال ما يجعل الواقع ذاكــرة هــذه املآتــم تكمــن يف أرشــيف مخيلتهــا. ثابتاً ،والبكاء كان من وجهة نظر هذا اإلسالم الحريك ،يجعل من كربالء تاريخا ساكناً ال متحركاً،
كان اإلســام الحــريك ،كــا مثلــه مطهــري مثــا ،يريــد أن يغــر الواقــع ،وهــو يريــد مــن التاريــخ مــا يغــر بــه الواقــع ،ال مــا يجعــل الواقــع ثابتــاً ،والبــكاء كان مــن وجهــة نظــر هــذا اإلســام الحــريك ،يجعــل مــن كربــاء تاريخــا ســاكناً ال متحــركاً ،هــو يريــد أن يعــرف اليــوم معســكرات يزيــد ومعســكرات الحســن« ،نعــم لــو كان الحســن بــن عــي بيننــا اليــوم لقــال لنــا :إذا كنتــم تريــدون إقامــة العـزاء مــن أجــي وأردتــم الــرب عــى الصــدور مــن أجــي فــان شــعاركم ال بــد وأن يكــون فلســطينيا».5
24
اإلســام الحــريك ،يريــدك أن تحــرك الواقعــة التاريخيــة لتكــون واقعــة معــارصة، هــو ليــس معنيـاً بالســياق التاريخــي ،بقــدر عنايتــه بالســياق املعــارص ،هــو يريــد أن يســتخدم الواقعــة يف حركــة رصاعاتــه الحاليــة ،وليســت لديــه مشــكلة يف أن 55مرتىض مطهري ،امللحمة الحسينية ،بريوت :الدار اإلسالمية ،ط1, 1990م.
تنحــرف الواقعــة التاريخيــة عــن ســياقها التاريخــي ،لكنــه معنــي بإضفــاء قــدر مــن املعقوليــة عليهــا مــن أجــل أن يكــون اســتخدامه أكــر إقناعـاً ،ومــن أجــل أن يعطــي احرتام ـاً. هكــذا يحــرك مطهــري مثــا واقعــه اليــوم باســتخدام واقعــة أمــس «مــاذا لــو أن الحســن بــن عــي (ع) كان بيننــا اليــوم ،كان اإلسالم الحريك ،كام وأراد أن يطلــب منــا أن نقيــم لــه العـزاء؟ تــرى أي الشــعارات مثله مطهري مثال ،يريد أن يغري الواقع ،وهو يريد كانــت هــي التــي ســيطالبنا برتديدهــا؟ فهــل كان ســيقول من التاريخ ما يغري به لنــا اقــرأوا يف املجالــس «أيــن ابنــي الفتــى عــى األكــر» ،أو الواقع ،ال ما يجعل الواقع يطالبنــا باملنــاداة’‘ :يــا زينــب املعذبــة الــوداع الــوداع» ،وهــي ثابتاً ،والبكاء كان من وجهة نظر هذا اإلسالم أمــور ال شــك مل يفكــر فيهــا «اإلمــام الحســن» طــوال حياتــه الحريك ،يجعل من كربالء وإنــه مل يــردد مثــل هــذه الشــعارات الخانعــة الذليلــة ،يف تاريخا ساكناً ال متحركاً، يــوم مــن أيــام عمــره نعــم فلــو كان الحســن بــن عــي بيننــا اليــوم ،لقــال لنــا :إذا كنتــم تريــدون إقامــة العـزاء مــن أجــي ،وأردتــم الــرب عــى الصــدور ،والخــدود ،مــن أجــي ،فــإن شــعاركم البــد وأن يكــون فلســطينيا فشــمر اليــوم هــو مــويش دايــان وشــمر مــا قبــل ألــف وثالمثائــة عــام ،قــد مــات ،وعليــك أن تتعــرف عــى شــمر هــذا العــر ،ألن جــدران هــذه املدينــة ،يجــب أن تهتــز اليــوم مــن شــعارات فلســطني».6 بالنســبة لإلســام الحــريك ،املخيلــة مهمــة بقــدر مــا ميكــن اســتخدامها لتغيــر الواقــع وتحريــك جمهــوره ،وتفقــد أهميتهــا حــن تفقــد قدرتهــا عــى هــذا االســتخدام، وهــذا االســتخدام هــو مــا يجعــل مــن املخيلــة أيديولوجيــا ،هــو يريدهــا يف حالــة أيديولوجيــة نشــطة. لذلــك فالنقــد التاريخــي الــذي يصــدر عنــه اإلســام الحــريك يف مراجعتــه للمصــادر التاريخيــة التــي أ ّرخــت للواقعــة وطريقــة متثــل الخطابــات الحســينية لهــا ،لــــيس محكومـــــاً بأفــق املــدارس التاريخيــة املعــارصة ومناهجـــــها املعرفيــة ،بقــدر مــا 66مرتىض مطهري ،امللحمة الحسينية ،بريوت :الدار اإلسالمية ،ط1, 1990م.
25
هــو محكــوم بأفــق األيديولوجيــا الحركيــة ،وإن كـــــان أفــق هــذا النقــد يفــي إىل نتائــج تلتقــي أحيانـاً بنتائــج ذاك األفــق. لقــد كنــا محكومــن بهــذا األفــق ،ونحــن نحــاول تغيــر خطــاب املآتــم النســائية. كنــا نســتحرض يف حركــة تغيرينــا خطــاب فضــل اللــه وهــو يتحــدث عــن دور املــرأة القيــادي الحــريك ممثــاً يف حركــة زينــب والربــاب وســكينة .وكنــا نســتند إليــه يف محاولــة تحويــل املـــــأتم النســايئ مــن وظيفــة االســتامع والبكـــــاء إىل وظيفــة الخطابــة واملعرفــة .لكــن أي معرفــة وأي خطابــــــة كنــا نريدهــا أن تحــل مــكان هــذه املخيلــة الكربالئيــة املطلقــة؟ كــــــانت مناذجنــا التــي نحلــم بهــا ،خطيبــات قــادرات عىل بيــان الحقائــق العقائدية وبيــان املفاهيــم اإلســامية وبيــان القيــم واألخــاق .فاملجتمــع النســايئ يحتــاج كــا كنــا نـراه إىل إعــادة النظــر يف تفعيــل طاقاتــه وتحريــك مواهبــه وإخـراج الخطيبــات العاملــات القــادرات عــى العطــاء وعــى البــذل ،يحتــاج إىل مــا هــو أكــر ،يحتــاج إىل دروس دينيــة بشــكل مكثــف يف الفقــه والعقيــدة .كنــا نحلــم بخطــاب نســايئ يحمــل طرحـاً سياســياً ووعيـاً تربويـاً ومجتمعيـاً وتاريخيـاً .كنــا نســتخدم كل هــذه املصطلحــات املفخـــــــــمة بســذاجة ومراهقــة ،والغريــب أن هــذا الخطــاب مــازال فعــاالً بالنــرة نفســها .والدليــل عــى ذلــك أين اقتبســـــت الفقــرة الســابقة التــي تتحــدث عــن النــاذج النســائية التــي كنــا نحلــم بهــا ،مــن أحــد املواقــع اإللكرتونيــة، دون أن أضطــر إال إىل االختصــار فقـــــط .ولســت مضطـرا إىل اإلشـــــارة إىل املصــدر، ألنهــا تصلــح أن تقتبــس مــن عشــــرات املواقــع. كيـــــف يبــدو املوقــف اليــوم مــن هــــذه املخيلــة؟ كيــف نشــاطها االجتمـــــاعي؟ كيــف حضورهــا يف وســائط امليديــا؟ تلــك أســئلة تحتــاج مقاربـــــة أخــرى.
26
لوحة (كوالج) تحية من الفنان عباس يوسف لروح سالمة سلوم ،القصاصات نُسخ ُم َص ّورة عن كتب مأتم الحجية سالمة
27
ليلة الرابع من المحرم.. مجلـــــس مــآتـــم الحــــاج طـــرار باسمة القصاب
28
ليلة الرابع من المحرم.. مجلس مآتم الحاج طرار يف هــدوء محبــب تجلــس الحاجــة ســامة قيمــة مآتــم الحــاج طــرار إىل ركــن مأمتهــا الصغــر .يتغشــاها الســواد فــا يخطــئ مــن بياضهــا يشء .ال يشــذ منهــا غــر جــزء عــي عــى االحتــواء .إنهــا يدهــا البيضــاء .تــرز مــن شــق عباءتهــا كحاممــة مل ميسســها لــون .يتوســط أصابعهــا فــص يف هيئــة خاتــم فــروزي .فريوزتــه ركــن يدهــا ،كــا هــي ركــن مأمتهــا .ميكنــك حــن تجلــس يف أي مــكان يف املأتــم ،أن تلمــح بريــق معاضدهــا الذهبيــة .ال تفــارق املعاضــد معصــم يدهــا حتــى يف الحــزن. ينــزع األســود عــن جــدار مأمتهــا بياضــه يف شــهري الحــزن ،لكنــه ال ينــزع معاضدهــا الذهبيــة ،وال يحلحــل خامتهــا الفــروزي .إنهــا عالمتهــا ال عالمــة حزنهــا. مأمتهــا بيتهــا .ومــن يصــر مأمتهــا بيتـاً لهــا ،يصــر عاملهــا مأمتهــا .تســكن فيــه وحدهــا عــى رغــم كــر ســنها .ال تقبــل أن تتحــول عنــه إىل أي مــكان آخــر ،حتــى لــو كان هــذا اآلخــر ،بيــت ابنتهــا القريــب .ال يخلــو بيتهــا -مأمتهــا -مــن رواده -روادهــا.- كاريزمتهــا املحبوبــة جعلتهــا جهــة قلــب تقصدهــا النســوة والفتيــات عــى حــد ســواء. كــر ســنها ال يتيــح لهــا الحركــة والتنقــل بســهولة .لكنهــا تديــر مأمتهــا مــن مــكان جلوســها .مــن ذلــك الركــن متــارس ســيادتها كــا متــارس عنايتهــا .ال يفوتهــا أن ترحب باملســت ِمعات بحفاوتهــا البالغــة ،ال يفوتهــا أن تحيطهــن بعباراتهــا الذهبيــة كــا تحيــط معصمهــا مبعاضدهــا الذهبيــة .ال تغيــب عــن نظرهــا مــن تحــر ،ال تغيــب
29
عــن وعيهــا مــن تتخلــف .ال تغفــل مــن ال تصلهــا بعــد انتهــاء الق ـراءة والضيافــة. فالوصــل يف نظرهــا تقديــر ،وإهــال الوصــل تقتــر وقطــع. إنهــا ليلــة الرابــع مــن محــرم ،تبكــر خادمــات الحســن بالحضــور إىل املأتــم .يقمــن بتوظيــب املــكان وتهيئتــه للقــراءة .يف املطبــخ ،يجلــس ِقــ ْد ٌر كبــر مــن الحليــب فــوق النــار ،ميتــزج بيــاض الحليــب بخيــوط الزعف ـران ومــاء الــورد .يتمكــن اللــون مــن اللــون والرائحــة مــن الرائحة.ليــس مثــل الحــراة تــذيك الكيميــاء بالكيميــاء. تنتــج كيميــاء جديــدة .حليــب وزعفـران ،أو حليــب زعفـران؛ ســمه مــا شــئت .يعبــق بــه املــكان .ميتلــئ املأتــم برائحــة الزعف ـران قبــل أن ميتلــئ بســواد النســوة .تبــدأ النســوة بالتوافــد ،رائحــة الزعف ـران تهيــئ لــدفء يكــر بــرد الشــتاء. تغــرت بعــض مالمــح املأتم النســايئ يف الســنوات األخــرة .أُدخلــت املحــارضة الدينية تقليــدا ً جديــدا ً .يريــد التقليــد الجديــد أن يســتقطب الفتيــات الــايت ال يجــدن يف النــواح والبــكاء كفايــة لعقولهــن .يريــد أن يقــارب بــن مأتــم الرجــال الــذي يقــدم عـزاءه يف قالــب خطــايب ،وبــن مأتــم النســاء الــذي يقــدم عـزاءه يف قالــب لطمــي. التقليــد النســايئ الجديــد يتمثــل أداء الخطيــب .يقلّــده .يتشــبه األداء النســايئ (امل ِ ُحــاضة) بــاألداء الرجــايل (الخطيــب) ،فيشــتبه الصــوت النســايئ (دون قصــد) بالصــوت الرجــايل .اللحــن والرتنيمــة والرتــم والقــوة والجهــور .لكــن يبقــى مثــة خيــط زعف ـراين يفــرق بــن الصــوت والصــوت ،بــن لغــة الخطــاب ولغــة الخطــاب.
30
عــى غــرار املآتــم النســائية األخــرى ،يشــهد هــذا املأتــم محاولــة تحديــث أو إصــاح .يتبنــى املحاولــة عــدد مــن شــباب القريــة يف نهايــة الثامنينــات .يحــاول هــؤالء تهيئــة املأتــم لدخــول املحــارضة الدينيــة .لكــن قارئــات املأتــم يجابهنهــن بالرفــض القاطــع .يبقــى املأتــم يف قالبــه التقليــدي طيلــة الســنوات الســابقة .يف الســنوات األخــرة القليلــة تتقلــص التحفظــات .تتــرب املحــارضة إىل داخــل املأتــم أحيانــاً .لكنهــا أحيــان قليلــة.
تغريت بعض مالمح املأتم النسايئ يف السنوات األخرية .أُدخلت املحارضة الدينية تقليدا ً جديدا ً. يريد التقليد الجديد أن يستقطب الفتيات الاليت ال يجدن يف النواح والبكاء كفاية لعقولهن.
جهة الحديث
مأتــم القريــة ال يشــبه مأتــم املدينــة .والنســوة يف مأتــم القريــة ال يشــبهن النســوة يف مأتــم املدينــة .يف تلــك الليلــة مل يــزد عــدد الحــارضات عــن األربعــن. ال يــزال محــرم يف لياليــه األوىل .ليــس بــن الحــارضات مــن مل تتجــاوز العقــد الثالــث مــن عمرهــا أو قريبــاً مــن ذلــك .أغلبهــن كبــرات يف الســن .تعلــو وجوههــن البســاطة والعفويــة والتلقائيــة .تجلــس بعضهــن (ممــن ال يســتطعن الجلــوس عــى األرض) فــوق كــرايس .الكــريس تقليــد جديــد يف املأتــم أيضــاً. لكنــه تقليــد لــه أســبابه الصحيــة ال اإلصالحيــة .للأمتــم حرمتــه الخاصــة .تلبــس النســوة يف املأتــم عبــاءة الــرأس ،ال الكتــف ،إمعانــا يف االحــرام .يف املدينــة األمــر ليــس كذلــك ،ملأتــم النســاء يف القريــة حظــوة تفــوق حظــوة مأتــم النســاء يف املدينــة. تبــدأ إحــدى القارئــات بقــراءة الحديــث .1تواصــل النســوة أحاديثهــن الجانبيــة. تســر أحاديثهــن جهــة حارضهــن .وحديــث كربــاء يســر بهــن جهــة التاريــخ. كأنهــا يسـران يف خطــن متوازيــن ،ال يتقاطعــان ،وال يلتقيــان .ال تنقطــع أحاديــث النســوة الجانبيــة حتــى تنقطــع ق ـراءة الحديــث ،ويبــدأ القصيــد. تبــدأ القارئــة بقــراءة القصيــد ،هنــا يخفــت صــوت النســوة ،يغيــب حديــث جهتهــن حتــى يتــاىش .تغطــي النســوة وجوههــن .ويبــدأ صــوت النحيــب .تتفاعــل الحــارضات .تعلــو أصواتهــن .يشــاركن القارئــة ترديــد األبيــات التــي يحفظنهــا .يصــر املأتــم كلــه صوت ـاً واحــدا ً ونحيب ـاً كث ـرا ً. املحــاضة الدينيــة (لعلهــا الليلــة األوىل تتوقــف القــراءة الحســينية .يــأيت دور َ للمحــارضة يف هــذا املأتــم) .تحمــل املحـ ِ ـاضة معهــا دف ـرا ً مدون ـاً فيــه عــدد مــن املحــارضات .تحملــه معهــا يف أي مأتــم تذهــب إليــه .تتوســط املحــارضة املجلــس. تبــدأ النســوة بكشــف وجوههــن .تداخــل إحــدى النســوة :ليــش مــا جبتــون لينــا عيــش الحســن؟ أوال ،ثم يأيت بعده القصيد ،ثم الرواية ،ثم املراد. 11الحديث هو مبثابة التهيئة للدخول إىل القراءة .يقرأ الحديث ً
31
حديث الساعة
تبــدأ املحـ ِ ـاضة بآيــة مــن ســورة طــه .تــرح مفرداتهــا .تنتقــل برتتيــب مقصــود إىل استشــهادات حســينية .تقــدم حــوارا ً يــدور عــى لســان بعــض شــهداء الواقعــة .لعــل النســوة تستســيغ املحــارضة الــذي قطعــت خلــوة بكائهــن .تسرتســل املحـ ِ ـاضة يف الــكالم .ال العـزاء .تبــدأ بعــض النســوة يف التثــاؤب والتملمــل .تقــف بدفرتهــا وســط املســتمعات .تتحــدث املحــارضة عــن محاســبة الــذات .تكشــف إحــدى النســوة عــن وجههــا وتقــول :ال تجيبــن عــن القــر وال املــوت. تتنــاول املحــارضة بعــض أحداث الســاعة .تنتقــد إحدى الكاتبــات الصحفيات .تســميها «بحرانيــة بعثيــة» .تــأيت اللعنــات مــن بعــض النســاء ،تشــاركهن الباقيــات الــايت ال يعرفــن معنــى «بعثيــة» .تــأيت املحــارضة عــى ســرة صــدام حســن .تشــر إىل تاريخــه ونهايتــه .تقــارن بينــه وبــن محمــد باقــر الصــدر الــذي أعدمــه صــدام .تقــول املحارضة «عندمــا نبــش قــر اإلمــام الصــدر بعــد 20ســنة ،تفاجــأ الجميــع مبــا رأوا .كأنــه مــات الســاعة» .تقاطعهــا إحــدى الحــارضات «أيب رحمــة اللــه عليــه ،عندمــا فتحوا قــره بعد ســنوات أيضــا ،وجــدوه عــى حالــه» .تجيبهــا املحــارضة «عليــه بالعافيــة». تبســط املحــارضة الــكالم .ومــن العــراق تنتقــل إىل لبنــان. ومــن صــدام حســن إىل حســن نــر اللــه .فينتقــل الــكالم مــن الــذم إىل اإلط ـراء .يسرتســل الــكالم وال ينقطــع .الشــاهد يجــر الشــاهد .تعلــن إحــدى املســتمعات امتعاضهــا :إذا كل ليلــة محــارضة مــا بجــي .تدخــل إحــدى املســتمعات متأخــرة: «كل يش تقولينــه نعرفــه ،أنــا تأخــرت لــن تنتهــي املحــارضة».
32
تبتســم املحـ ِ ـاضة ،لكنهــا ال تستســلم ،تنتقــد لبــس البالطــو (الجلبــاب األســود) املزركــش ،تســتاء مــن مالبــس حفــات الــزواج غــر املحتشــمة .تدعــو املســتمعات إىل التوقــف بعــد عــرة محــرم ،ومحاســبة أنفســهن ليكــون حــب الحســن قــوالً وفع ـاً ،ال قــوالً فقــط.
كرب سنها ال يتيح لها الحركة والتنقل بسهولة. لكنها تدير مأمتها من مكان جلوسها .من ذلك الركن متارس سيادتها كام متارس عنايتها .ال يفوتها أن ترحب باملست ِمعات بحفاوتها البالغة ،ال يفوتها أن تحيطهن بعباراتها الذهبية كام تحيط معصمها مبعاضدها الذهبية.
تختــم محارضتهــا بأبيــات حســينية وتنتهي .يشــكرها النســوة. يرتفــع صــوت إحداهــن مــن آخــر املأتــم :مــا تقريــن عــاد جــت آخــر الليــل (تعنــي املاليــة). إنهــا املاليــة اآلن .هــا هــي متســك دفرتهــا وتقــف يف صــدر املأتــم .تغطــي شــيئاً مــن وجههــا وتظهــر مــا ميكنهــا مــن الق ـراءة والنعــي .هــا هــي الوجــوه تتبــدل حاالتهــا .ينتفــض امللــل الــذي كان جامثــاً عــى بعضهــا ،وتــدب فيهــا شــهوة النــواح .تعتــدل األجســاد وتتهيــأ للدخــول يف مســاحات البــكاء .البــكاء غســل للــروح وترقيــق للقلــب .البــكاء توجــه خالــص لنــرة الحســن .البــكاء اش ـراك يف فجعــة الفاجعــة. البــكاء مواســاة لصــر زينــب .البــكاء اعتــذار يتجــاوز التاريــخ. هكــذا تفهــم النســوة البــكاء .وهكــذا تقــدم النســوة نفســها بــن يــدي الع ـزاء.
إنها املالية اآلن .ها هي متسك دفرتها وتقف يف صدر املأتم .تغطي شيئاً من وجهها وتظهر ما ميكنها من القراءة والنعي .ها هي الوجوه تتبدل حاالتها .ينتفض امللل الذي كان جامثاً عىل بعضها ،وتدب فيها شهوة النواح .تعتدل األجساد وتتهيأ للدخول يف مساحات البكاء .البكاء غسل للروح وترقيق للقلب.
حديث الواقعة
تبــدأ املاليــة .يغطــي النســوة وجههــا مــرة أخــرى .تطلــق املاليــة ونّتهــا األوىل .يضــج املــكان بالونــن واآلهــات .تقــرأ روايتهــا بإيقــاع يفجــع الســواد .فتزيــد الســواد لوعــة وأىس .يســكب النســوة أصواتهــن يف دموعهــن .يطأطــئ النســوة رؤوســهن فريتفــع نواحهــن .تتاميــل جذوعهــن مينــة ويــرة .تهتــز أجســادهن مــن فــرط البــكاء، وتنفــرط أصواتهــن مــن صــوت الواقعــة .كلــا اشــتد خطــب بأحــد أبطــال كربــاء أو ســار بخطواتــه نحــو املــوت صفقــت النســوة مولــوالت .تصفــق املاليــة عــى ظهــر كتابهــا وتعــي وناتهــا وآهاتهــا .ال تتاملــك النســوة أنفســهن ،يناجــن الســيدة زينــب يف نحيــب كســر« :غريبــة يــا بعــد عمــري»« ،اللــه يســاعدش يــا زينــب»« ،جــوش الشــباب يــا زينــب»« ،مــا قــرت يــا عيــوين». تناجــي النســوة اإلمــام الحســن بصــوت بـ ٍ ـاك متهــدج «يــا حبيبــي يــا غريــب» .متــد ونتهــا «واحســيييييني واحســييييني» .تلطــم صدرهــا «عــى الشــهيد ،عــى الغريــب،
33
عــى الوحيــد ،عــى العطشــان .»..،يختلــط صــوت املســتمعات مــع صــوت القارئــة يف تداخــل يســتدر الدمعــة ويزيــد مــن حــدة الفجيعــة .يف املـراد (اللطميــة) ،يــرب النســوة بيدهــن عــى صدرهــن أو رجلهــن أو رأســهن .ال يهــدأ صــوت النحيــب حتــى تختــم املاليــة« .إنــا للــه وإنــا إليــه راجعــون ،وال حــول وال قــوة إال باللــه العــي العظيــم» .فيــأيت وقــت الدعــاء. حديث الحليب
هــا هــن النســوة يجففــن دموعهــن .يســتعدن شــيئاً مــن هدوئهــن .يســك ّن إىل الدعــاء .كأنهــن ينزعــن عنهــن ثــوب الواقعــة .تــدور خادمــات املأتــم بحليــب الزعفــران الدافــئ .ترتشــفه النســوة برويــة ،فتعــود إىل وجوههــن التــي أرهقهــا البــكاء ،يشء مــن لــون الحيــاة .تفــرش الســفرة عــى األرض .يتوســطها عيــش الحســن وخـرات املأتــم .تتقابــل النســوة .ينفتــح الحديــث عــى الحديــث مــرة أخــرى .يصــر الحديــث جهــة الحــارض ال التاريــخ مــرة أخــرى .تبــدأ حميميــة الــكالم والطعــام. تعــود للوجــوه االبتســامات والضحــكات .قبــل أن تغــادر النســوة ،يتجهــن ناحيــة ركــن املأتــم .حيــث صاحبــة املأتــم .يســلمن عليهــا ،يشــكرنها ،يســتمتعن بحلــو عباراتهــا ،ثــم ينرصفــن. مــن ذلــك الركــن ،بإصبعهــا ذي الخاتــم الفــروزي ،تشــر صاحبــة املأتــم ،تلتفــت ملــن مل تتنــاول حليــب الزعفـران هنــا ،ومــن مل تــأكل هنــاك .تتأكــد أن الجميــع قــد متــت ضيافتهــن ،وأن األمــور تســر بشــكل مــرض .تحيــط بنظراتهــا الجميــع ،ويســبق ســامها ســؤالها عــن مــن مل تحــر مــن املســتمعات والصديقــات.
34
دو ًما يتوسط أصابعها فص يف هيئة خاتم فريوزي .فريوزته ركن يدها ،كام هي ركن مأمتها
35
تعلمن في مجلس سالمة اللغة والحياة فضاء عباس
36
تعلمن في مجلس سالمة اللغة والحياة
لعــل أجمــل ســر اإلنســان هــي التــي تقتفيهــا مــن خــال أصدقائــه ،فهــم كتــاب يــروي تفاصيلــه الصغــرة بشــغف كبــر .أصدقــاء ســامة ســلوم (االســم الــذي يحــب أن يدللهــا بــه الجميــع) قــد ال يبــدون منســجمني عمـرا ً أو جنسـاً أو ثقافــة أو بيئــة. تجــد بــن صديقاتهــا مــن هــم قرينــات عمرهــا وقريباتهــا ومــن هــن أصغــر منهــا ومــن هــن أكــر بــل تتجــاوز حــدود ثقافــة قريتهــا ،بــل إنهــا تســتجلب ملحفلهــا تحيــات صباحيــة مــن رجــال القريــة الذيــن يحرصــون حــن ميــرون بنافــذة دارهــا، أن يلقــوا عليهــا التحيــة ويتبادلــون معهــا النــكات .ورغــم أن الجــدار يحجــب تالقــي األبصــار ،لكــن صوتهــا وعذوبــة لســانها تخرتقــان الجــدار إىل قلــوب كل املاريــن، املبادريــن بالتحيــة» أم حمزة ..طقس اإلفطار والحياة..
أم حمــزة ،ابنــة خالــة ســامة ،تــروي عالقتهــا بصديقــة عمرهــا« :جالســت ســامة أكــر مــن مجالســتي ألمــي» ،يصعــب عــى أم حمــزة تحديــد تاريــخ عالقتهــا بســامة «مــن اوتعينــا عــى الدنيــا مــع بعــض» .فمنــذ بدايــة نشــأة أم حمــزة وجــدت نفســها ظـاً مالزمـاً لســامة ،ترافقهــا كل حــن وتنتقــل معهــا حــن تتعــدى حــدود قريتهــا يف زياراتهــم إىل ســاهيج واملنامــة وباربــار والنعيــم. تصــف نفســها مفتخــرة« :أنــا خزينــة أرسار ســامة ،تخــرين بــكل يشء» .يعــرف املقربــون أن أم حمــزة مستشــارة ســامة ومحــل نجواهــا .تكــرر كث ـرا ً« :ضمتنــي
37
وحبتنــي» ،بــل كانــت تســتأمنها عــى خزانتهــا الخاصــة وعــى أمــور تجارتهــا املتواضعــة واملهمــة يف نفــس الوقــت لديهــا. يبــدأ اليــوم لــدى أم حمــزة الســاعة الســابعة صباحـاً ،حــن تبــدأ بإعــداد (الريــوق) يف بيــت ســامة .ســتجلب أم حمــزة معهــا خب ـزا ً طازج ـاً مــن فــرن الخبــاز محمــد. الرجــل اإليـراين الــذي أحــره زوجهــا (حجــي عبدالحســن طـرار) مــن املنامــة طفـاً وســكن يف جوارهــم ،قبــل أن يســتأجر منهــم محـاً ليــارس فيــه مهنة الخبــز ،ويعتاد أهــل القريــة عــى خبــز محمــد وال يعــودون يســتبدلونه بغــره .لقــد صــار محمــد ابــن قريــة الديــر التــي يعرفهــا أكــر مــا يعــرف ديــاره .ثــم ســتعد أم حمــزة طبــق البيــض والطامطــم ،وســتل ّون الســفرة ما تزال أم حمزة تواصل برنامجها اليومي بالذهاب باللبنــة والقشــطة والشــاي وكل مــا تشــتهيه النفــس. يف الصباح الباكر إىل بيت سالمة ،لكن من دون سالمة .تريد أم حمزة أن ال ينقطع مجلس سالمة يك ال تنقطع سريتها تريدها أن تكون حياة.
الريــوق عنــد ســامة وأم حمــزة يعــد طقسـاً خاصـاً تحرصــان عليــه مع ـاً ،وال ميكــن تفويتــه ألي ســبب كان .لهــذا حــن انتقلــت ســامة للمبيــت يف بيــت ابنتهــا (صبــاح أم عــي)، ســتجدها منــذ الســاعة السادســة والنصــف ،تقــف مرتديــة عباءتهــا ،تتخطــف مــن ســيخرج للعمــل صباحـاً يك تلحــق بــه ليوصلهــا إىل بيتهــا .مل تكــن لتفــوت الريــوق مــع أم حمــزة أو تؤخــره .كان إرصار ســامة عــى العــودة لبيتهــا موضــع تنــدر مــن حولهــا وتعجبهــم باملثــل ،مل يقعدهــا حتــى املــرض ،إال يف أواخــر أيامهــا. تؤكــد أم حمــزة أنــه مل مينعهــا عــن بيــت ســامة حتــى مامنعــة والدهــا ،الــذي كان يجــد هــذا االلتصــاق املتامهــي مبالغ ـاً فيــه .بــل فرضــت متاهيهــا عــى الجميــع، ومل يوقفهــا حتــى زواجهــا .ولــي تســد ذرائــع النقــد عليهــا كانــت تســارع إلنهــاء حاجيــات بيتهــا أوال ثــم تتوجــه لقلــب ســامة وصحبــة ســامة وإفطارهــا ،فــا يحاســبها عــى تقصــر أحــد. 38
«كنــت أرافقهــا يف زياراتهــا للصديقــات ،ينقلنــا حجــي أحمــد (زوج ابنتهــا صبــاح) لزيــارة (نــرة) مــن املنامــة .أمــا حــن نــزور (فضــة) مــن ســاهيج ،فكنــا نســر
عــى أقدامنــا أو نركــب (البيكــب) مــع معصومــة أم ســامة التــي متازحنــا .كنــا نرتاقــص فرحـاً خــال هــذه الزيــارات ،حتــى إننــا نــر عــى الركــوب خلــف البيكــب عوضـاً عــن املقاعــد األماميــة لــي نحظــى مبتعــة الجــوالت الخاطفــة .كانــت زياراتنــا تســتغرق يومــاً كامــاً منــذ الصبــاح وحتــى املســاء ،ومــا أن نســمع بــأن فضــة (توفيــت فضــة بعــد هــذه املقابلــة) مريضــة حتــى تجدنــا عندهــا منــذ الســابعة صباح ـاً». تكمــل أم حمــزة« :كان تــردد زوج ســامة عــى العاصمــة املنامــة ،ســبباً ليكــون أول مــن يفتتــح مخبـزا بالديــر ،يقــدم الكعــك وبعــض الحلويــات الهنديــة التــي أعجــب بهــا ،حتــى أطلــق عــى حــاوة (الكاجــو كجــو) املعروفــة ،اســم (رصة الخاتــون) حبـاً يف أصغــر بناتــه» ،وتضيــف« :عمــل معــه يف املخبــز بعــض شــباب القريــة ،كان يبعثهــم محملــن بالبضاعــة إىل قريــة ســاهيج مشــياً عــى األقــدام .ثــم اشــرى للمخبــز مكينــة حــاوة (شــعر البنــات) ،فتعلمنــا أنــا وســامة طريقــة عملهــا ،وبدأنــا يف إعــداده وبيعــه لألطفــال ،وبعدهــا عملنــا عــى بيــع الــذرة (الفشــار) ،وهكــذا كنــا نســاير الزمــن ،فكلــا أحــر لنــا زوج ســامة فكــرة ،تبنيناهــا وتحمســنا لهــا». مــا تـزال أم حمــزة تواصــل برنامجهــا اليومــي بالذهــاب يف الصبــاح الباكــر إىل بيــت ســامة ،لكــن مــن دون ســامة .تريــد أم حمــزة أن ال ينقطــع مجلــس ســامة يك ال تنقطــع ســرتها تريدهــا أن تكــون حيــاة .تفتــح أم حمــزة بيــت ســامة للزائ ـرات، وتعــد الشــاي ،وتســتقبل الوافــدات ،لكــن ال تســتقبل ضحــكات ســامة والمجازاتهــا التــي يكررهــا الجميــع حولهــا مبتعــة فريــدة. تقــول« :قضينــا رمضــان هــذا العــام كســابقه نقــرأ األدعيــة ونفتــح املجلــس ،يف الحقيقــة مل نغــر شــيئا مــا اعتدنــا عليــه» ،كأن أم حمــزة أخــذت عــى عاتقهــا أمانــة حفــظ املــكان وحفــظ برنامجــه لتحفــظ ذاكــرة ســامة. أم حسين ..امبراطورية الباب المفتوح
«ســامة هــي امرباطوريــة الديــر» ،هكــذا تصفهــا صديقتهــا أم حســن (فاطمــة حميــد) .تتباهــى بســرة األبــواب املفتوحــة التــي قادتهــا لتكــون قريبــة مــن قلــب
39
ســامة« ،كانــت أبــواب بيــوت القريــة مرشعــة ليــل نهــار ،حتــى إننــا مل نكــن نرتــاد الشــارع العــام ،بــل نتنقــل عــر األبــواب الداخليــة التــي تحولــت البيــوت املتعــددة إىل بيــت واحــد .مل يكــن أهــل القريــة يعرفــون حينهــا معنــى الخصوصيــة ،كانــت بيــوت القريــة كلّهــا خصوصيــة واحــدة .ندخــل مــن بيــت حجــي عبداللــه بــن خويــر ،ونخــرج مــن بيــت حجــي حســن ،ومنــه إىل الخبــاز .ال نحتــاج الشــارع بقــدر مــا نحتــاج األبــواب .مل نكــن نشــعر أننــا ال ننتمــي لهــذه البيــوت فالقريــة كل القريــة بيــت واحــد» .تقــول أم حســن. تكمــل« :ســامة ســلوم هــي إمرباطوريــة الديــر ،يعرفهــا الجميــع ويحبهــا الجميــع، النســاء والرجــال الكبــار والشــباب واألطفــال ،يتع ّنــى الجميــع للســام عليهــا»، تضيــف أم حســن « :كانــت تطبــخ للمعاريــس والضحكــة ال تفــارق محياهــا، لديهــا صداقــات متنوعــة تنقســم مجالســهم عــى طــول يومهــا .فصديقــات الصبــاح يختلفــن عــن صديقــات املســاء ،وهـ ّن غريهــن يف الليــل ،مجموعــة تــأيت ومجموعــة تــروح ،ال يخلــو بيتهــا وال تحتــاج إىل ســكرترية أو مديــرة أعــال ترتــب زياراتهــا .هــن يرتــن برنامجهــن اليومــي ،تجلــس ســامة يف صــدر املجلــس تر ّحــب بــكل جامعــة عــى طريقتهــا التــي تتقنهــا يف ف ـ ّن االحتفــاء». «يقــع بيــت ســامة قــرب بيــت والــدي ،لوالــدي بقالــة قريبــة لكــن ســامة ال تــردد عليهــا ،فقــد كان زوجهــا يجلــب لهــا كل حاجاتهــا مــن الســوق ،حتــى الفاكهــة .مل تكن املحــات بالقريــة توفــر كل يشء كــا هــو اآلن .كانــت ســامة تحــرص عــى التلــذذ بالفاكهــة ،وتحــب أنــواع بعينهــا خصوصـاً الرمــان واملانجــو .كلــا زرتها شــاركتني معها أكل الرمــان الــذي يعــد الزمتهــا اليوميــة .تلتــذ بالطعــام وت ـراه مــن طيبــات الدنيــا، كثـرا ً مــا رددت« :أنعــل أبوهــا دنيــا ،خلنــا نتلــذذ فيهــا بكــرة نودعهــا». فاطمة زوجة أستاذ عيسى وحمامة سالمة
40
مل تــدرك معنــى الغربــة بعــد .كانــت يف الثالثــة عــر مــن عمرهــا حــن قالــت للــزوج القــادم مــن البعيــد« :قبلــت» ،ثــم قطعــت الطريــق عــى الــكالم .قطعــت مســافة شــاقة وطويلــة مــن مدينتهــا األم همــدان الواقعــة غــرب إيــران ،ثــم إىل مدينــة
املحمــرة حيــث الســفارة الربيطانيــة للقيــام بإج ـراءات الفحــص .وهنــاك تعجــب هــؤالء مــن إرصار مهــري (فاطمــة زوجــة أســتاذ عيــي املــايض) عــى الــزواج بشــخص ال يقاربهــا يف اللغــة وال الثقافــة وال يف بلــد املنشــأ .ســألها الرشطــي :هــل أجـ ِ ـرك أحــد عــى الــزواج؟ أجابــت بحســم :ال ،ومــا زالــت بعــد خمســن ســنة تؤكــد بأنــه قرارهــا وحدهــا .حاولــت والدتهــا أن تثنيهــا عــن هــذا القـرار بعــد أن أمضــت عقــد الــزواج ،لكــن كان األمــر قــد مــى وانقــى .صــارت «سالمة هي امرباطورية ً زوجــة رجــل بحرينــي ،قبــل أن ميــي الزمــن وتصــر جــزءآ الدير» ،هكذا تصفها صديقتها أم حسني. مــن عــامل زوجهــا وعائلتــه ومنطقتــه. تتباهى بسرية األبواب املفتوحة التي قادتها لتكون قريبة من قلب سالمة« ،كانت أبواب بيوت القرية مرشعة ليل نهار ،حتى إننا مل نكن نرتاد الشارع العام، بل نتنقل عرب األبواب الداخلية التي تحولت البيوت املتعددة إىل بيت واحد.
تــرد مهــري ســرة خروجهــا مــع مجموعــة مــن الصغ ـرات الــايت مل تتجــاوز أعامرهــن الثالثــة عــر ،يطــأن بأقدامهــن الصغــرة مراكــب كبــرة ،ســوف تبحــر بهــن إىل البعيــد، يرافقهــن أزواج غربــاء ال يفقهــن لغتهــم ال يعرفــن طبائعهــم وأخالقهــم ،لــن يكــون مــن الســهل عليهــا بعــد اليــوم أن تلتقــي عائلتهــا وأهلهــا وصديقاتهــا .مــا إن بــدأ املركــب ميخــر عبــاب البحــر باتجــاه البحريــن ،حتــى بــدأت دقــات قلــب الصغــرة تشــعر بــأول الغربــة والخــوف مــن املجهــول: «حينهــا انتابتنــي حالــة مــن البــكاء اســتمرت معــي طــوال الرحلــة ،كذلــك باقــي الفتيــات» ،تقــول مهــري .أخــذت إحــدى الســيدات عــى عاتقهــا محاولــة التخفيــف عــن الفتيــات وطأمنتهــم ،لكــن دون جــدوى« :مل يتوقــف بكاؤنــا ومل يهــدأ خوفنــا». يكفــي أن يحــر اســم ســامة يك تدمــع عــن (فاطمــة) .تتأىس عــى فقدها ،وتأســف أنهــا كانــت مســافرة عندمــا رحلــت ســامة ،فلــم تحــظ بتوديعهــا« .كانــت يل مبثابــة األم» تقــول .لقــد احتــوت ســامة تلــك الطفلــة التــي أتــت ال تعــرف غــر غربتهــا. «تعلقــت بســامة أكــر مــن بناتهــا ،ال أعــرف رس هــذا التعلــق لكننــي أحببتهــا جــدا ً، رمبــا طيبتهــا ســبب هــذا التعلــق ..ال أعــرف» تقــول «وصلــت البحريــن ال أعــرف اللغــة وال أعــرف أحــد ،لكننــي قــررت أن أكــون
41
خليــة يف نســيج هــذا البلــد املتجانــس ،صــار مجلــس ســامة اليومــي مدرســتي للغــة ووســيلتي لالندمــاج باملجتمــع الجديــد». أجــادت فاطمــة اللغــة العربيــة باللهجــة الديراويــة الصعبــة واملتفــردة ،لــن تشــك حــن تجلــس إليهــا وتحاكيهــا إال أنهــا ابنــة الديــر.
لقد ربت سالمة أبناءها وشاركت يف تربية أحفادها الذين يطيب ملعظمهم أن يناديها «أمي سالمة» .أجادت فن الطبخ وصار عالمتها. فكل ما يصدر عن مطبخ سالمة مشهود له بالطيب واللذة الفائقني.
«كنــت ارتــاد بيــت ســامة كل يــوم ،هنــاك تعرفــت عــى النــاس وتع ّرفــوا عــي ،ورصت جــزءا ً مــن هــذا الكيــان الطيــب املتســع يف قبــول اآلخــر» .تكمــل « تحــرص ســامة عــى فتــح مجلســها وهــو بيتهــا لزوارهــا كل يــوم ،حتــى عندمــا تخــرج يف زياراتهــا أو تســافر ،ترســل مــن ينــوب عنهــا يف اســتقبال ضيوفهــا وإقامــة مجلســها». «حنانهــا ال يشــبهه أي حنــان ،ولســانها شــكر شكر(سـكّر) ،كنــت دامئـاً أقــول لســامة لســانك شــكر ،مل مينعنــي عــن زيارتهــا غــر املــرض وتربيــة األطفــال ،حــن أزورهــا وأســلم عليهــا تــرد عــي بـــ (يــا خلــف أمــي) ،حتــى حــن صــارت بــن املــوت والحياة يف لحظــات مرضهــا األخــرة زرتهــا وهــي تغيــب عــن اإلدراك لحظــات وتعــود ،فلــا ســمعت صــويت ردت تحيتهــا الخــاص يب (يــا خلــف جبــدي) ،أنهــا مل تبعــدين عنهــا حتــى يف عاملهــا الخــاص». تكمــل « :منــذ غــادرت ســامة مل أعــد أقــوى عــى دخــول بيتهــا ،ليســت تحملنــي رجــي وال قلبــي .مجلــس ال تغ ـ ّرد فيــه ســامة ،ال شــكر (ســكر) فيــه».
42
تتنهــد ثــم تقــول« :ســامة مــا جــا عليهــا وال بجــي (مل يــأت مثلهــا ولــن يــأت)». تكمــل» ال أســتطيع نســيانها أبــدا ً ،لهــا مواقــف ال تنــى معــي ،وقفــت معــي حــن مل يكــن عنــدي ســند وال عــون عــى متاعــب الحيــاة» ،ثــم تحلّــق بنظرهــا بعيــدا ً وهــي تقــول« :حلمــت بهــا ثــاث مـرات ترتــدي ثوبهــا النشــل ،إنهــا حاممــة ،نعــم ســامة حاممــة ســام وحــب ال تُنــى ..ســلوم ..ســلوم غــر».
على هامش «روبة» سالمة..
مثــل نســوة عرصهــا ،كانــت الزوجــة الثانيــة والثالثــة أمـرا ً ال متلــك ر ّده وال توقيفــه، ال متلــك أمامــه إال االستســام والصــر .امل ـرارة التــي تنقلــب إىل عــداوة ،مل تدخــل قلــب ســامة ،رغــم رشاســة بعــض (رضاتهــا) عليهــا .عندمــا تعرضــت رضتها(فوزيــة املرصيــة) التــي عرفــت برشاســتها لحــادث ســقوط الثالجــة عليهــا ،أخذتهــا ســامة مــن فورهــا إىل املستشــفى ،وقامــت مببارشتهــا واالعتنــاء بهــا .المهــا البعــض عــى ذلــك ،فكانــت تجيبهــم« :مــا يل قلــب» .ال متلــك ســامة قلب ـاً يقســو أو يــر ّد عــى القســوة وحاجــة اآلخريــن تكرسهــا .كانــت تكــرر« :قلبــي روبــة». مقابــل تلــك الـــ «روبــة» ،تتميــز ســامة بشــخصيتها الواثقــة والثابتــة .وعــى خــاف النســوة الــايت يهتممــن بالتفاصيــل الصغــرة ويعظمنهــا ،خاصــة يف وقــت األزمــات، متيــل ســامة إىل تهويــن األمــور وتهدئتهــا ،تراهــا الوســيلة األمثــل للدخول عــى الحل الــذي ال يــأيت بالفــزع والتهويــل .كانــت تجيــد تعليــم مــن حولها هــذه االسـراتيجية، خاصــة مــن يلجــأ إليهــا طالبـاً مشــورتها أو وســط عـراك أحفادهــا مــن حولهــا. لقــد ربــت ســامة أبناءهــا وشــاركت يف تربيــة أحفادهــا الذيــن يطيــب ملعظمهــم أن يناديهــا «أمــي ســامة» .أجــادت فــن الطبــخ وصــار عالمتهــا .فــكل مــا يصــدر عــن مطبــخ ســامة مشــهود لــه بالطيــب واللــذة الفائقــن .أتقنــت ســامة القيــام بــدور الدايــة (تجهيــز العرائــس) ،فكانــت تتص ـ ّدر العرائــس وتهيئهــن للحيــاة الجديــدة وتعلّمهــن أرسار الســعادة الزوجيــة .تقــوم ســامة بهــذا الــدور دون مقابــل غــر بعــض الهدايــا الرمزيــة ،وغالبــاً تكــون ( تحرص سالمة عىل جلب املشــامر) املتعــارف عليهــا عنــد أهــل القريــة. بضاعة مميزة من سفرها، ورثــت ســامة إدارة مأتــم (حجــي طــرار) مــن زوجــة عمهــا (بنــت كلثــم الحايــي) الســاهيجية .مل تنجــب بنــت الحايــي بنتًــا ،فكانــت ســامة ابنتهــا ووريثتهــا يف إدارة املأتــم .كان يف أول األمــر يقــدم الخدمــات للرجــال والنســاء مع ـاً قبــل أن ينحــر عــى النســاء فقــط .تــرف
وحني يسافر أحد أقربائها توصيه بالغريب واملميز، وتحرص عىل ارتداء ثيابها من قامش بضاعتها، فالتاجر ذو البضاعة املميزة هو أول من يتميّز بها.
43
ســامة عــى املأتــم وتهتــم بالقامئــات عــى القــراءة الحســينية وال تنــى إعــداد الوجبــة اليوميــة لهــن. عــرف عــن ســامة قدرتهــا اللغويــة وتوظيفهــا املجــاز يف وصــف األشــياء حولهــا. فحــن تعــرض عــى أحدهــم شــاي الحليــب ،تقــول لــه محفّــزة« :شــوف شــاي الحليــب خــوص» ،وهــي بهــذا ترمــي إىل أنــه لفــرط غالظتــه ميكــن للخوصــة أن تقــف عليــه .وحــن تبيــع بضاعتهــا تــردد (يســتحي الواحــد يذكــر ســعره) داللــة عــى رخــص قيمتــه .يف أواخــر مرضهــا كان املجــاز حيلتهــا لوصــف األمل الــذي يتغــر ويتقلّــب فــا تجــد وصفـاً يســتغرقه ،لقــد اســتخدمت مجــاز املــوت األحمــر واملــوت األصفــر كالً حســب شــدة األمل .ملجــازات ســامة متلقيهــا ،ومردديهــا أيض ـاً ،خاصــة ممــن يحيطــون بهــا مــن األهــل والصديقــات. لحقيبــة ســفر ســامة احتفاؤهــا الخــاص ،طاملــا انتظرهــا األحفــاد .فحــن تســافر للزيــارة يف ايـران أو ســوريا أو الحــج ،كان انتظــار فتــح حقيبــة العــودة فتحـاً للفــرح. تحــرص ســامة عــى جلــب بضاعــة مميــزة مــن ســفرها ،وحــن يســافر أحــد أقربائهــا توصيــه بالغريــب واملميــز ،وتحــرص عــى ارتــداء ثيابهــا مــن قــاش بضاعتهــا، فالتاجــر ذو البضاعــة املميــزة هــو أول مــن يتميّــز بهــا.
44
األثواب الزاهية عىل جسدها ،وبريق الذهب يف يدها عالمتان ال تفارقانها
45
مع سالمة
46
مع سالمة
مع فضاء :أنا وسالمة وحب (علي)
كان لقــاء غريبــا ،لكنــه كان لقــاء ينــم عــن ذكاء تلــك الســيدة التــي جــاءت لتعــرف رغبــة ابنهــا بالــزواج مــن تلــك الفتــاة الغريبــة ،مل تكــن لتعــارض أو متــارس طــرق الفحــص النســائية ،فقــد أدركــت قـرار ابنهــا ،فكانــت خــر معــن لــه وليســت خــر فاحــص لقـراره. محبتهــا ل(عــي) جعــل كل مــن حولهــا يرتقــب زوجــة هــذا االبــن املدلــل لديهــا، هــل ســتبحث لــه كعــادة األمهــات والجــدات عــن ســيدة تفــوق الكث ـرات جــاالً أو جاهـاً .لكنهــا مل تكــن تبحــث ومل تفحــص وتركــت أثــر تربيتهــا البنهــا وســيلتها يف الفحــص واالختيــار.
اســتغرقت أنــا وقتــاً طويــا ،يك أفهــم كل هــذه التشــابكات والرتاتبــات ،فأنــا ُ القادمــة مــن املنامــة حيــث للعالقــات أطــر تختلــف عــن القريــة وأنــا املحــدودة العالقــات واملؤطــرة العبــارات ،أقتحــم عاملــا مــن التــازج مل أكــن ألرفضهــا وال أتعــال عليهــا ،لكننــي باملقابــل مل أمتــا َه معهــا ،وهكــذا شــيئاً فشــيئا بــدأت نســوة ســامة يســتقبلونني ويرحبــون يب كــا تحــب .ال تســألوين اليــوم وبعــد مــي ســبعة عــر عام ـاً عــن اســم إحداهــن وال عــن كنــه حياتهــن ،ألننــي أجهلهــا متام ـاً ،لكننــي ال أجهــل االحتفــاء بهــم واملحبــة لهــن بــل إننــي انحــرج أمــام ذكرهــم الســمي وجهــي ملســمياتهن وهــذا عيــب يف الطبــع والطبيعــة.
47
مضــت األيــام بطيئــة وهاديــة وحاملــة مــع ســامة ومــن حولهــا ،حتــى إننــي مل أجلــس مــع ســامة جلســة مطولــة إال بعــد قرابــة الشــهر مــن عقــد ق ـراين ،كنــت املســتمعة لهــا ال املتحدثــة ورمبــا هــذا جعــل األمــر صعبـاً يف كــر الحواجــز بيننــا، لكــن املشــرك األوحــد هو(حــب عــي) أذاب كل تلــك الحواجــز بســهولة وســهل كل الطــرق الشــائكة .مــن طبيعــة ســامة إنهــا تفضــل أن تبادلهــا عباراتهــا الرتحيبيــة واالحتفاءهــا بهــا بنفــس طريقتهــا ورمبــا مل تــدرك هــي بــأن مــا متلكــه مــن مهــارات تجدهــا ســهلة يف ســلوكها ،هــي صعوبــة بالنســبة لآلخريــن ،وكان لجهــي بهــذا النمــط وضعــف قــدرايت قــد أخــر رسعــة التــازج بيننــا ،فالتعبــر الشــفوي بطبيعتــه يحتــاج لجــرأة املواجهــة وهــذا مــا جعــل لغــة التخاطــب بيننــا ضعيفــة يف البدايــة، حتــى زالــت مــع الزمــن وصــارت تضحــك ملزحــايت معهــا. لكــن عبــارة واحــدة مل تكــن لتنســاها أبــدا ً وكثـرا ً مــا تكررهــا حــن أمازحهــا وأقــول لهــا بأنهــا التحبنــي ،يك أنــال منهــا الــدالل أكــر ،كانــت تــرد «مــن يحــب الشــيخ يحــب تبعــه» ومل تكــن تعلــم بأننــي أردت حبــاً للتبــع قبــل الشــيخ ،لكــن هــذا املطلــب صعــب املنــال ،ألن شــيخها هــو محــور حياتهــا ويصعــب عــى املــرء أن ينافــس محورهــا
48
تســر بنــا األيــام وتقــف ســامة دون الكثــر غريهــا لتكــرر عــى مســمعي كل حــن «مــا يــردش إال لســانش» رمبــا عبارتهــا هــذه هــي كل مــا أتذكــره منهــا ،نعــم لســاين هــو الــذي يــردين ألن عبارتهــا كفيلــة بــأن تكــون وســاما أعلقه عنوان ـا ً لبيتــي ،ألنهــا مل تكــن كلــات مجاملــة وإال لنســيت تسري بنا األيام وتقف سالمة دون الكثري غريها مثــل الكثــر مــن الكلــات العوجــاء التــي تخــرج مــع أقــرب لتكرر عىل مسمعي ريــح إىل خــارج خاطرنــا ،كانــت مواقفهــا تذكــرين مبــا نعرفــه كل حني «ما يردش إال لسانش» رمبا عبارتها عــن عريــق تاريــخ أجدادنــا وعــن وقفاتهــم لآلخريــن ،وهــي هذه هي كل ما أتذكره مــن تلــك الثقافــة التــي بــدت تضعــف يومـا ً بعــد يــوم .نعــم منها ،نعم لساين هو الذي ســامة رحلتــي ولســاين عالــق دون شــكرك ،ألننــي مل أمتلــك يردين ألن عبارتها كفيلة بأن تكون وساما أعلقه يومـاً قدرتــك وال جــزءا مــن طـراوة لســانك الــذي تذيبــي بــه عنواناً لبيتي. جليــد النفــوس الحزينــة واملتحجــرة.
أيتهــا الســاحرة يف عاملنــا مــا أزال ســعيدة بشــهادتك ّيف ،والختصــارك يل بأننــي (نزغــة الربايــا) تلــك العبــارة الديريــة التــي يصعــب عليــي تفهمهــا ،ألنهــا حرصيــة عليكــن، أنتــم أهــل الديــر أهــل املجــاز واإلبــداع ،لكننــي أتذكــر ضحكاتــك التــي متــازج تلــك العبــارة وأجدهــا ميــزة منحتنــي إياهــا ،منحتنــي إياهــا ســيدة مميــزة ســيدة علمتهــا الحيــاة مــا مل تعلمنــا إيــاه الشــهادات. اسكني بخري ،فأنا يا عزيزيت ما أزال احتفظ باألمانة كام تحبني. مع أم صادق
مل يكــن ناديــا ثقافيــا ،كان بيت ـاً دخلــه التلفــاز يف وقــت مــا زال األخــر يعــد فيــه كامليــة مرفّهــة .التفــت العائلــة كلّهــا حــول تلــك الشاشــة الصغــرة املشـ ّعة بالضــوء والحيــاة واملتجــاوزة لحــدود املــكان والجغرافيــا .حينهــا ،كان البيــت الــذي يدخلــه التلفــاز يدخلــه الحــي كلّــه .أفضــت تلــك الشاشــة لعالقــات متعــددة بــن الج ـران الذيــن تحملقــوا حولهــا بدهشــة وحفــاوة ومتعــة .توطّــت العالقــات وتحولــت مــع الوقــت ملصاه ـرات وزيجــات وعالقــات امتــدت حتــى اليــوم. هكــذا يبــدأ رسد أم صــادق (ربــاب أحمــد عيــد) التــي تــؤرخ ملعرفتهــا بســامة: «كنــت أريب ابنتــي يــرى وعمرهــا ســتة أشــهر تقريب ـاً ،كان العــام 1964عندمــا بــدأت خاتــون ابنــة ســامة بالدخــول إىل بيتــي مــع إحــدى الصديقــات وهــي بدريــة (أم رائــد) ،تقاربنــا كثـرا ً واعتدنــا عــى بعضنــا بعضــا ومــا أرسع أن توســعت العالقــة مــن االبنــة خاتــون إىل عائلــة ســامة وبناتهــا وحفيداتهــا». أكــر مــن أخ ـ ّوة الــدم هــو مــا ظــل يربــط بــن أم صــادق وخاتــون بنــت ســامة. عالقــة متامهيــة تجاوزتهــا لتمتــد إىل بناتهــا ،بــل إىل ســامة األم نفســها .فقــد اعتــادت ســامة مصادقــة صديقــات بناتهــا دون أن تجــد حاجـزا ً مينعهــا مــن ذلــك، فهــي ذات شــخصية قــادرة عــى تجــاوز حــدود العمــر يف التواصــل مــع اآلخريــن. تقــول أم صــادق« :كنــت أســتأنس مجالســها وأقدرهــا واعتــز بهــا وأحرتمهــا ،كانــت تكــرر يل بأننــي مثــل بناتهــا فــأرد عليهــا مامزحــة :فهل يل نصيــب مثلهــم يف ورثك؟».
49
يف الجلســة التــي جمعتنــا بــأم صــدق ومعهــا خاتــون للحديــث عــن ســامة، تــروي لنــا أم صــادق مواقــف محفــوة يف ذاكرتهــا »:ال ميكــن أن أنــى ســامة. حــن أردت أن أشــري ماكينــة خياطــة ماركــة (ســنجر) يف العــام 1973وكان ســعرها حينهــا 120دينــارا ،والدينــار حينهــا ليــس كــا هــو الدينــار اآلن، بــادرت الحاجــة ســامة مبنحــي عــرة دنانــر قائلــة أنــت تخيطــن لنــا دون أن تأخــذي مقابــل» .هنــا قاطعــت خاتــون صديقتهــا أم صــادق مســتنكرة :للحــن تذكريــن؟ ردت أم صــادق« :لحــن مواجهتــي ريب لــن أنــى .تــروح الدنانــر وتجــيء لكــن مســاعدة اآلخريــن إذا جــاءت مــن أحــد ،ال تــروح أبــد ا ً». مــا أكــر مــا تقــود الصداقــة إىل املصاهــرة ،هكــذا تــزوج عبــاس األدرج أخ أم صــادق مــن ســكينة ابنــة ســامة .املصاهــرة وطــدت العالقــة أكــر بــن ســامة وأم صــادق وصــارت موضــع إعجــاب نســوة الحــي ،ورمبــا تعجبهــن أيضـاً ،فلــم يكــن معتــادا ً أن تكــون العالقــة بــن األنســاب بهــذا املســتوى مــن االنســجام والتامهــي. تســر بنــا أم صــادق لعالقتهــا مبأتــم ســامة ،فهــي مــن تتــوىل شــؤون الطبــخ ،وتتــوىل ســامة شــؤون التوزيــع .تهتــم ســامة بتقطيــع الدجــاج إىل أكــر عــدد مــن القطــع ليكفــي أكــر عــدد ممكــن مــن النــاس ،األمــر الــذي عــادة مــا يثــر خالفــاً بــن اإلداريتــن لكــن يــزول مــع غســل قــدور الطبــخ ،وابتســامة ســامة املميــزة. تقــول أم صــادق القادمــة مــن ضواحــي املنامــة« :مل أشــعر بالغربــة أبــدا ً مــع أهــل الديــر ،لقــد قربــوين منهــم ،وكنــت أشــعر بــأن املــرأة أخــت يل والرجــل أخ يل واألب أيب واألم أمــي .أنــا القادمــة مــن العاصمــة احتفــت يب القريــة وجعلتنــي يف مصــاف األهــل فكنــت ألجــأ أليهــم حــن أحتــاج املســاعدة ،وكانــو يســاعدوين وأســاعدهم»
50
تضيــف أم صــادق« :لقــد توليــت أمــر تجــارة ســامة حــن ســافرت إحــدى املـرات، ونقلــت بضاعتهــا لبيتنــا ،وأرشفــت عــى شــؤونها ،وكان زبائنهــا يأتــون لبضاعتهــا عنــدي ،بــل وتوليــت أمــر خاتــون وهــي مريضــة أثنــاء ســفر أهلهــا ،حتــى عــاد والدهــا .باملقابــل مل يرتكــوين وحــدي ،كانــو يســاعدوين يف تربيــة أبنــايئ».
تكمــل أم صــادق« :لقــد وصــل بنــا التوافــق أن يســلموين مهــر خاتــون حــن قــرر الطبيــب رسيع ـاً الســفر بابنــي للعــاج يف بــروت ،فأتصــل زوجــي بالحــاج أحمــد زوج ابنــة ســامة طالبـاً املــال مــن أجــل الســفر ،فــرد علينــا أن البنــوك مغلقــة حينهــا وال يوجــد لديــه غــر مهــر خاتــون ومقــداره 350 دينــارا ً وســلمنا إيــاه».
ما أكرث ما تقود الصداقة إىل املصاهرة ،هكذا تزوج عباس األدرج أخ أم صادق من سكينة ابنة سالمة .املصاهرة وطدت العالقة أكرث بني سالمة وأم صادق وصارت موضع إعجاب نسوة الحي، ورمبا تعجبهن أيضاً ،فلم يكن معتادا ً أن تكون العالقة بني األنساب بهذا املستوى من االنسجام والتامهي.
تــردف« :لقــد حولتنــا تلــك الشاشــة الصغــرة إىل عائلــة كبــرة يصعــب معهــا التفــكك والتباعــد أو التجاهــل والنســيان ،رصنا بيت ـاً واحــدا نتشــارك بــاألكل والــرب والطرائــف واملتاعــب، حتــى عندمــا أذهــب املستشــفى ملعالجــة ابنــي كانــوا ينــادون خاتــون بخالــة ولــدي ظنـاً منهــم أنهــا أختــي لكــرة مرافقتهــا يل .كانــت األخبــار تتناقــل بــن البيــوت أرسع مــن مســجات (الواتســاب) اآلن ،وذلــك لقــرب العالقــة بــن البيــوت والجلســات اليوميــة التــي تجمــع الجـران بعــد الغــذاء والعشــاء ،ففــي ذلــك العــام الــذي توليــت فيــه شــؤون خاتــون وهــي مريضــة ،مل تلبــث ســامة أن وطــأت بقدمهــا أرض البحريــن حتــى ســمعت مبــرض ابنتهــا ،لقــد صــدم الخــر ســامة ،متامـاً كــا صدمنــي خربهــا وأنــا قادمــة إىل بيتهــا ألســأل عــن صحتهــا يف يــوم وفاتهــا ..أســفاً عليهــا ..ســامة ال تنــى.. مع حفيدتها فاطمة
يبــدو أن ســامة وجــدت نفســها يف حفيدتهــا األوىل ،فهــي الحفيــدة التــي طاملــا انتظــرت قدومهــا فجــاءت لهــا نســخة مــا تحــب ،تحبهــا (ســنعة) تواصــل األهــل وتكــر مــن الصديقــات ،تجيــد أعــال البيــت واملطبــخ ومهــارة النظافــة ،تتفنــن يف مهــارة ال ـراء ،والبيــع والتجــارة ،ميكــن االعتــاد عليهــا يف كل يشء ،ال تجــد مــن يكرههــا يوم ـاً. وثقــت ســامة يف مهــارات حفيدتها(فاطمــة) فأوكلــت إليهــا مهــات تختــص باملأتــم ومهــات البيــع بــل وتجــاوزت حــدود املــكان ،فاختارتهــا دون غريهــا لرتافقهــا يف
51
أغلــب ســفراتها حــن كانــت تحتــاج لرفقــة ســيدة تعتنــي بهــا ،إنهــا تجــد مــع فاطمــة األمــن والطأمنيــة حتــى آخــر لحظــات حياتهــا ،كانــت تتابعهــا يف أصغــر شــؤونها ،حــن تتأخــر عــن زيارتهــا اليوميــة تطلــب ســامة ممــن حولهــا أن يبــارش االتصــال والســؤال عــن ســبب التأخــر ،مــن حســن طالــع ســامة أن فاطمــة مل تغادر قريتهــا وإال كان وقــع املغــادرة شــديدة ،فهــي كانــت املحــور النســايئ لحيــاة ســامة. اليــوم وقبــل أن تكمــل ســامة عامهــا األول مــن الرحيــل مــا ت ـزال فجــوة الفقــد حــارضة يف خاطــر الحفيــدة التــي تجــد مــع جدتهــا معنــى مختلــف للحيــاة ،إنهــا الخــرة واملــرح يف آن واحــد ،ســامة تحــب الفــرح وتدعــو لــه ،ال تخلــع (معاضضهــا) حتــى وقــت النــوم ،ال تفــارق األلــوان والبهجــة حتــى وهــي مريضــة تحــب أن تختــار ثوبهــا مبــا يناســب جالبيتهــا ،ســامة طاقــة مــن الفــرح تحــث مــن حولهــا عــى حــب الحيــاة واالســتمتاع بهــا ،تقــول «تعلمــت مــع جــديت كيــف أديــر حيــايت الزوجيــة كيــف أهتــم بأهــي وأحبتــي كيــف أكــون شــخصية فاعلــة فيمــن حــويل ،ال أهمــل املســؤليات ،وال التهــرب منهــا بــل اإلقــدام عليهــا وإدارتهــا». نعــم رمبــا لــدى ســامة القــدرة عــى أن تزعــل مــن نفســها لكنهــا ال متلــك القــدرة عــى الزعــل مــن (فاطمــة) هــي حفيدتهــا الكــرى ونــور عينهــا ،حتــى حــن تقــدم فاطمــة عــى تــرف غــر مناســب ،ال تعيبــه ســامة ،وتتخــذ التوجيــه ال التوبيــخ، فتجدهــا تقــول «اللــه يســلمها »...وتكمــل كالمهــا .فاطمــة الكيــان الــذي يحتــل خاطرهــا بيقــن يجمــع الحــب واإلقنــاع واألداء ،وكأن فاطمــة آيــة عمرهــا التــي نزلــت لهــا مــن الســاء ،لتكــون صــورة مصغــرة لــكل مــن تحــب. اليوم وقبل أن تكمل مع فاطمة بنت حجي حسن
كان الشــارع أول تع ّرفهــا إىل خاتــون ابنــة ســامة ،تآلفتــا عنــد أعتــاب اللعــب يف أزقــة قريــة الديــر طفلتــن صغريتــن، ومنــذ ذلــك الحــن ،مل تفرتقــا. 52
يف شــهر رمضــان ،دخلــت (فاطمــة بنــت حجــي حســن) للمرة
سالمة عامها األول من الرحيل ما تزال فجوة الفقد حارضة يف خاطر الحفيدة التي تجد مع جدتها معنى مختلف للحياة ،إنها الخربة واملرح يف آن واحد
األوىل بيــت ســامة .كان الح ـ ّر صوم ـاً آخــر ،والثالجــة مل تعــرف طريقهــا إىل بيــوت القريــة بعــد .يف القريــة تــؤىت بقوالــب الثلــج الكبــرة ويتــم تكســرها ثــم أخذهــا إىل البيــوت لحفــظ مــا يتلفــه الحـ ّر .هكــذا يُحفــظ الســمك مــن التلــف وغــره مــن اإلدام والطعــام .شــاركت فاطمــة صديقتهــا خاتــون تكســر الثلــج مبتعــة وحملتــاه إىل ســامة .قط ـرات املــاء البــاردة املنس ـلّة مــن قطــع الثلــج ،أثلجــت صــوم ســامة وبســطت ح ّرهــا .وفيــا ســوى بــرودة تكســر الثلــج ،املتعــة املشــركة بــن خاتــون وفاطمــة ،فــإن عالقتهــا بقــت ســاخنة وشــديدة الــدفء كلــا طــال بهــا الزمــن. حــن تــروي أم عــي ،ال تنقلنــا عــر خارطــة الزمــن فقــط ،بــل خارطــة املــكان ،فليــس الزمــن وحــده مــا يتغـ ّـر ،املــكان أيض ـاً« .كان بيــت ســامة ميتــد إىل أول الشــارع حيــث مجلــس (ملــوك اآلن)» تقــول فاطمــة ،وتضيــف« :وكان املأتــم يقــام يف لواوين (جمــع ليــوان) البيــت .تجلــس النســوة هنــاك إلقامــة مراســم العـزاء عــى الحســن (ع) ،وكانــت الضيافــة حينهــا (منفــور)». اليوم وقبل أن تكمل تنطــق فاطمــة كلمــة (منفــور) بلــذة حــارضة ،وتكررهــا حتــى سالمة عامها األول من لتشــعرك بــأن طعــم ذلــك املنفــور مــا يـزال عالقـاً يف فمهــا. الرحيل ما تزال فجوة يف (املعلّــم) تل ّقــت كل مــن فاطمــة وخاتــون دروس القــرآن والقصيــد« :قــرأتُ وخاتــون القصيــد أكــر مــن 80مــرة»، هــذه الق ـراءة ش ـكّلت تحــوالً يف عاملهــا فيــا بعــد ،وحازتــا عــى إعجــاب ســامة ومباركتهــا؛ وجــدت إنجازهــا يفــوق عمرهــا.
الفقد حارضة يف خاطر الحفيدة التي تجد مع جدتها معنى مختلف للحياة ،إنها الخربة واملرح يف آن واحد
خصــت ســامة (فاطمــة) بح ّبهــا ،حتــى صــارت دايــة عرســها (الدايــة هــي مــن تقــوم ّ بإعــداد العــروس وتجهيزهــا وتوجيهــا للحيــاة الزوجيــة) .يف الربيــع الثــايل عــر مــن عمرهــا ،تقــدم لهــا الحــاج عيــى خاطبـاً .وحــن صــار األمــر قريبـاً ،أجلســتها ســامة قبالتهــا ،وفتحــت لهــا مدرســة خربتهــا ،دروس يف اللبــس والزينــة وطريقــة الــكالم. أخــذت ســامة أغصانـاً مــن املشــموم وغرســتها يف شــعر فاطمــة .ازعجــت وخـزات املشــموم طفولــة فاطمــة ،لكنهــا تعليــات الدايــة (ســامة) التــي تع ّدهــا لالنتقــال
53
مــن مرحلــة الطفولــة إىل مرحلــة الرشــد واملســؤولية ،وكأن ســامة مل تلحــظ ،أو مل تشــأ أن تلحــظ ،أنهــا أمــام طفلــة صغــرة ،فقــد أخذهــا واجــب الدايــة اتجــاه عروســها ،ال األم تجــاه طفلتهــا. «ســلوم عــى عدهــا وبدهــا تــروح ســاهيج» ،هكــذا تقــول فاطمــة بلهجــة ديراويــة ناصعــة ،وتقصــد بهــا أن ســامة ال تفــوت فرصــة للذهــاب إىل قريــة ســاهيج يف كل وقــت ،ففيهــا صديقتهــا املحبّبــة والتــي نالهــا بعــض املــرض« ،كانــت تأخــذين معهــا لصديقتهــا املريضــة بســاهيج يك نســاعدها ،وكنــت أغســل لهــا املالبــس ،ال ميكــن لســامة أن تــرك صديقتهــا وقــت الضيــق». الفكاهــة واملــرح والجــرأة ســات مت ّيــز حضــور (أم عــي)، وكذلــك رسدهــا للذكريــات واملواقــف واملقالــب ..تــروي عــن حجــي ط ـرار (زوج ســامة) ،كان جيبــه كن ـزا ً مثين ـاً للفتيــات الصغـرات املجتمعــات يف بيــت ســامة ،تضحــك وهــي تقــول: «مــا إن يعــود حجــي طــرار مــن الســوق ،حتــى نقتنــص الفرصــة للوصــول إىل جيــب ثيابــه علنــا ننــال شــيئاً مــن الخــر ،وكنــا نحصــل عــى ربيــة أو نصــف ربيــة ،ومل يكــن يهمنــا حينهــا إذا كان فعلنــا هــذا حــال أو حـرام ،كان همنــا أن نفــرح بذلــك الكنــز الــذي نحصــل عليــه والــذي يظــن البعــض أنــه أكــر مــن ذلــك». كم نحن بحاجة ملن يكون عوناً واقعياً لعواصف الحياة واألحالم الوردية حني تفقد بريقها الوهائج تحت حرارة الحياة..
54
حــن تتحــدث (أم عــي) عــن صبــاح ابنــة ســامة ،يســتوقفها طبــع األخــرة وإرصارها عــى تنظيــف الســجاد واألبــواب والنوافــذ .تضحــك فاطمــة كثــرا ً وهــي تــروي حادثــة كادت أن تــودي بحياتهــا« :ذات يــوم حــن عجــزت صبــاح عــن إبـراز نظافــة املروحــة التــي أصابهــا الزمــن بالصــدأ ،مل يكــن أمامهــا حيلــة ســوى أن طلبــت منــي علبــة (صبــغ رش) يك تغطــي عيــوب الصــدأ .أحــرتُ لهــا الــرش كــا طلبــت لكنــه مل يعنهــا كــا تصــورت ،تعــر اســتخدامه ألنــه تالــف» ،تكمــل فاطمــة« :وبســذاجة ـت أن يتــم تســخينه يك يــذوب وميكــن اســتخدامه ،ويبــدو أين مل أكــن الجاهــل ،اقرتحـ ُ وحــدي الســاذجة حينهــا ،مل يعرتضنــي أحــد ،وبالفعــل قمنــا بتســخينة مــرة ومرتــن
وثــاث ،حتــى دوى فينــا انفجــار هائــل كاد أن يــودي يب ،لقــد انقلبــت الثالجــات، وتحــول الفــرن إىل أشــاء تطايــرت مرتطمــة بالســقف» .بعــد أن مــرت الحادثــة بســام وصــارت مح ـاً للروايــة والتنــدر بفعــل فاطمــة ،اتفــق البعــض -مامزحــن- عــى أن فاطمــة كانــت فعـاً تســتحق القتــل يومهــا ،لكــن ســامة مل تكــن لتقبــل ذلــك ،فقــد اتخــذت دامئـاً موقــع املدافــع عــن جهــل فاطمــة وعــدم معرفتهــا حينهــا. دخلــت (فاطمــة) عــى ســامة ذات يــوم مــرددة النكتــة التــي شــاعت يف تلــك الفــرة« :مــا ســمعتني؟ يقولــون الهنــد هجمــت عــى بومبــي» ،ومثــل غريهــا، اســتنكرت ســامة مــن فورهــا ،وأخذهــا التعاطــف :ده بعــد!! ..ده بعــد!! ..ظلــت تكــرر جملتهــا هــذه ،وفاطمــة مسرتســلة يف جــر اســتعطافها بشــقاوة ،حتــى دخلــت مريــم ابنــة عبــد الواحــد وقالــت لهــا إنهــا مزحــة فــا تــأيس عــى أم ـرا ً مل يكــن .. يف عــادة ســامة ،أنهــا عندمــا تســألها زبونتهــا عــن مثــن بضاعــة مــا ،تقــول لهــا: ببــاش .وهــو مجــاز لطاف ـ ٍة يعرفــه الباعــة واملشــرين مع ـاً .لكــن فاطمــة مل تكــن تعــرف .كلــا ســألت ســامة عــن الثمــن وقالــت لهــا :ببــاش ،ابتهجــت األخــرة وحملــت بضاعتهــا وطــارت فرحــة بهــا .أدركــت فاطمــة فيــا بعــد أن األمــر ال يعــدو أن يكــون مجــاز مــن لســان ســامة األنيــق ،لكــن إدراكهــا جــاء بعــد أن ربحــت الكثــر مــن البضاعــة (البــاش). تختــم (فاطمــة) بنعــي ســامة« :لقــد حرمنــا القــدر رفقتهــا ومجالســتها ،رغــم أننــا افتقدنــا ســامة وهــي كبــرة يف الســن ،إال أين حتــى اليــوم أتخيلهــا فــوق رسيرهــا متازحنــا وتعطــف علينــا ،ومل أصــدق لحظــة أنهــا رحلــت ،فالتصديــق يعنــي أننــا نفقــد العطــف والحــب ،وهــذا مــا ال نريــد». مع صباح بنت حجي حسن
األبــواب املفتوحــة تتيــح لــك أن تدخــل دون حاجــة لالســتئذان ،فالبــاب املفتــوح هو مبثابــة دعــوة مفتوحــة ،كنــا منــر عــى بابهــا ونــرى كثرييــن يــرددون عليهــا ،كانــت تبيــع (البــز) فلــم تكــن تنتــر األســواق بالقريــة بعــد ومل تنتــر طــرق التســويق الحديثــة بعــد لكنهــا بفطرتهــا وسالســة الــكالم لديهــا تفوقــت بتجارتهــا ،فهــي ال
55
تتكلــف لتعــر عــن صــدق مشــاعرها وال تحتــاج لقامــوس تتــزود منــه املفــردات، فاملجــاز لديهــا حــارض دوم ـاً بــل صــدق املشــاعر هــي عملتهــا التــي تشــري بهــا قلــوب مــن حولهــا ،مل تكــن تســتأذن الزبائــن لتبيعهــن ،كانت تقطــع قطعــة القــاش ومتنحهــا لنــا وتلــح عــي بصــدق بأنهــا كنا نجتمع حول مائدة العشاء جميعاً مع أخيها تريــد أن تـراين أرتديهــا ،وحــن أعتــذر عــن رشائهــا تحــت مربر حجي عيىس الفن وحجي نقــص املــال كانــت تقــول «يســلم راســش ،محــد طالبــش عيل وزوج ابنتها حجي أحمد ،كنا أرسة واحدة بفلوســها». حتى يحني نتأخر عن الحضور مل تكن تنسانا. حتى لحظات اشتداد مرضها مل تنساين كنت أسألها هل تعرفينني فرتد «صباح بنت حجي حسن».
«ويــش نذكــر فيهــا مــا تنــى» عبــارة رمبــا يفهــم البعــض منهــا بــأن ال يشء وارد هنــا للتذكــر ،لكنهــا يف حقيقتهــا تعنــي كــا تســتخدمها الســيدة الديريــة ،أنهــا ال ميكــن حــر تلــك الشــخصية وال حــر خريهــا وفعلهــا ف(ســامة) كانــت أمــا وأختــا وصديقــة وجــدة ،وكل يشء بالنســبة لنــا ،اهتمــت بنــا وبأوالدنــا ،تعلمــت منهــا أصــول إدارة البيــت والرتتيــب وأصــول النظافــة وحــق الزوج واألوالد ،ورغــم حرمــاين مــن التعلــم باملدرســة إال أننــي تــزودت باملعرفــة الحياتيــة مبجالســتها ومتابعهتــا ،كانــت بحــق خــر جليــس ،فهــي كتــاب مفتــوح تعلمنــا منــه الكثــر. كنــا نجتمــع حــول مائــدة العشــاء جميعـاً مــع أخيهــا حجــي عيــى الفــن وحجــي عــي وزوج ابنتهــا حجــي أحمــد ،كنــا أرسة واحــدة حتــى يحــن نتأخــر عــن الحضــور مل تكــن تنســانا .حتــى لحظــات اشــتداد مرضهــا مل تنســاين كنــت أســألها هــل تعرفيننــي فــرد «صبــاح بنــت حجــي حســن». حــن وفاتهــا ،قــال يل ابنــي «ســامة أمكــم ماتــت» نعــم نحــن فقدنــا مبوتهــا أم ـاً ومل تكــن كأي أم. مع خديجة بنت سيد حميد 56
مدخلهــا ومخرجهــا دمــوع غامــرة منــذ 27ينايــر 2014حــن يذكــر اســم ســامة أمامهــا ،مــا تـزال (خديجــة بنــت ســيد حميــد) تبــي ســامة ،تبكيهــا ،وهــي تتذكــر
حــن زارتهــا باملستشــفى ورقصــت لهــا ،لتبعــد الحــزن عنهــا ،لكــن لألســف حــزن ســامة للمــرة األوىل غلــب فــرح (خــدوج) ورقصاتهــا . تقــول اعتزلــت املجالــس مل أجــد مجلــي املفضــل ومل أعــد أجــد ســامة التــي تعلقــت بهــا وتعلمــت منهــا معنــى الصــر ،الصــر ليــس حروفــا ومفهومــا تتناقلــه الكتــب ،بــل تجربــة حيــاة ،كنــت كلــا اشــتكيت عندهــا حــايل أو صعوبــة حيــايت قالــت يل اصــري ،وعندمــا أســألها هــل كان للصــر ســبيل إليــك كانــت تــرد (طبعـاً)، كانــت تــردد علمنــا الكثـرات وأنــت واحــدة منهــن ؛ال تشــد الحبــل ،ارخيــه» وكنــت أجــد لنصائحهــا أثرهــا الفعــال يف حيــايت رغــم صعوبــة التنفيــذ. كــم نحــن بحاجــة ملــن يكــون عونـاً واقعيـاً لعواصــف الحيــاة واألحــام الورديــة حــن تفقــد بريقهــا الوهائــج تحــت حـرارة الحياة..
57
الحاجية سالمة مع ابنتها الكربى صباح (أم عيل) يف رشفة بريوت يف إبريل2013
58
الحاجية سالمة تحتضن وردة عيد األم
سالمة يف زواج حفيدتها صفاء ،يف 2013
مل يقعدها املرض وثقل السنني عن زيارة حفيدها األكرب (عيل) يف بريوت ،يف إبريل 2013
الحاجية سالمة مع عائلة حفيدها عيل ..فضاء ،باسل وأماسيل
59
جانب من مدخل بيت الحاجية سالمة ،حيث حركة رواد مجلسها ال تتوقف طوال اليوم ،وتالحظ النافذة التي كانت ممرا لسالمات العابرين
60
الحاجية سالمة مع سمية رجب زوجة املناضل الحقوقي نبيل رجب
الحاجية سالمة مع «أماسيل» ابنة حفيدها األكرب
الحاجية سالمة مع حفيدها وسام عيل العكري يف 2011
خاتون االبنة الوســطى لســامة ،إحدى ماليــات املأتم ،تعلمت عــى يــد :حاجيــة مريــوم وحاجيــة رشوف وحاجيــة صفــوي
أم صادق تتوىل شؤون الطبخ ،وتتوىل سالمة شؤون التوزيع .تهتم سالمة بتقطيع الدجاج إىل أكرب عدد من القطع ليكفي أكرب عدد ممكن من الناس ،األمر الذي عادة ما يثري خالفاً بني اإلداريتني لكن يزول مع غسل قدور الطبخ ،وابتسامة سالمة املميزة
61
62
63
الحاجة سالمة يف الحرم الرضوي يف مشهد 2009
64
الحاجة سالمة وحفيدها مختار يف مدينة مشهد 2009