جدتي سلامة سلوم

Page 1

1


2


‫الفهرس‬ ‫جدتي سالمة سلوم ‬

‫‪4‬‬

‫مأتم بنت الحايي‪ ..‬مأتم حجي طرار ‬

‫‪8‬‬

‫مأتم جدتي والمخيلة الكربالئية ‬

‫‪16‬‬

‫ليلة الرابع من المحرم‪ ..‬‬

‫‪28‬‬

‫مجلـــــس مــآتـــم الحــــاج طـــرار ‬

‫‪36‬‬

‫مع سالمة ‬

‫‪46‬‬

‫‪3‬‬


‫جدتي سالمة سلوم‬ ‫علي الديري‬


‫جدتي سالمة سلوم‬

‫«إنها زهرة في حديقة اهلل‪ ،‬خسارة لنا ومكسباً للجنة»‬ ‫جــديت (ســامة) التــي وســع قلبهــا كل العــامل‪ ،‬انتقلــت إىل ســعة الله‪.‬مــا أضيــق‬ ‫األشــياء بعــدك‪ ،‬ومــا أوســع األشــياء معــك‪.‬‬ ‫ـت األقــرب لقلبهــا ومل أكــن األبــر بهــا‪ ،‬األبعــد عــن ســاع أنفاســها األخــرة وهــي‬ ‫كنـ ُ‬ ‫األكــر انتظــارا ً إلســاعي إيــاه‪ ،‬ظلــت تنتظــرين كثــرا ً‪ ،‬أعدهــا أن األيــام املتبقيــة‬ ‫قليلــة‪ ،‬ومل أكــن أعلــم أنهــا تقيســها بقلبهــا كــا اعتــادت أن تقيــس كل يشء‪ ،‬كنــت‬ ‫أظنهــا تبالــغ يف أثــر بعــدي عــى قلبهــا ومرونتــه عــى تحمــل األذى‪ ،‬وهــي التــي‬ ‫تحملــت كل مصاعــب الحيــاة‪ .‬ظلــت تجمــع العمــات املعدنيــة‪ ،‬تعدهــا لفرحــة‬ ‫رجوعــي‪ ،‬لســت أدري كــم فيهــا مــن فئــة الــدوار(‪ 500‬فلــس) لكنــي أعــرف أن فيهــا‬ ‫لؤلــؤة قلبهــا التــي تــدور بحث ـاً عنــي‪.‬‬ ‫مل أفــارق حضنهــا حتــى مرحلتــي الجامعيــة‪ ،‬حرمتنــي شــيئاً واحــد فقــط‪ ،‬وهــو‬ ‫الشــعور بنــداء كلمــة (جــديت)‪ .‬مل تــريك يل مجــاالً ألعــرف الفــرق بــن األم‬ ‫والجــدة‪ ،‬ال وصفــا وال اســا وال إدراكاً‪ ،‬يف داللهــا املفــرط يل‪ ،‬وجــدت أن اســم‬ ‫(جــديت) ال يُــدرك وال يوصــف‪ .‬مل أعــرف أن أناديهــا يوم ـاً بغــر كلمــة (أمــاه)‪.‬‬ ‫كنــت حفيدهــا األول‪ ،‬بعــد أن أجهضــت أمــي مرتــن بتــؤم‪ ،‬جئــت محفوفـاً بأحجبــة‬ ‫وأحــراز وطقــوس وأضحيــة‪ ،‬ال يعــرف تفاصيلهــا غريهــا والحاجيــة مريــم جــان‪.‬‬

‫‪5‬‬


‫نذورهــا الكثــرة ظلــت تحفنــي بهــا‪ ،‬وكأنهــا مراســم احتفــال‬ ‫تجددهــا يف كل مناســبة‪ ،‬لتطمــن أن الحيــاة التــي ُمنحــت يل‪،‬‬ ‫ســتظل لألبــد‪ .‬هــي اآلن يف أبديتهــا البيضــاء‪ ،‬تحفهــا مالئكــة‬ ‫الرحمــة‪ ،‬واألكيــد أنهــا ستســأل عــن رفيقاتهــا الــايت كــ ّن‬ ‫رفيقــايت حيــث مأمتهــا ومجلســها اللصيقــان ببعضهمهــا كــا‬ ‫الفــرح والحــزن لصيقــان بهــا‪ ،‬تغلّــب األول دوم ـاً وال تذلــل‬ ‫الثــاين ليصــر فرحـاً آخــر‪ ،‬هــي هنــاك يف األبديــة البيضــاء مــع‬ ‫صديقــات الزمــن الجميــل‪ :‬مريــوم وصفــوي وزهــرة ورشوف‪.‬‬ ‫واستوحشــت هــي الدنيــا بعدهــن‪ ،‬آن لهــن‬ ‫رحلــ ْن قبلهــا‬ ‫ْ‬ ‫أن يفتحــن هنــاك مجلــس أنســهن مــن جديــد مرحبــات بهــا‪ ،‬وعــى طريقتهــن يف‬ ‫تدليلهــا‪ ،‬البــد أن ينادينهــا‪ :‬ســامة ســلوم‪.‬‬ ‫جئت محفوفاً بأحجبة‬ ‫وأحراز وطقوس وأضحية‪،‬‬ ‫ال يعرف تفاصيلها غريها‬ ‫والحاجية مريم جان‪.‬‬ ‫نذورها الكثرية ظلت‬ ‫تحفني بها‪ ،‬وكأنها مراسم‬ ‫احتفال تجددها يف كل‬ ‫مناسبة‪ ،‬لتطمنئ أن الحياة‬ ‫التي ُمنحت يل‪ ،‬ستظل‬ ‫لألبد‪.‬‬

‫كانــت تتســى يف انتظارهــا لعــوديت لوطــن حضنهــا‪ ،‬بــأن تحــدث قامئــة املدعويــن‬ ‫لحفــل عــوديت‪ ،‬وحــن يقــرب منهــا اليــأس‪ ،‬تلجــأ للحلــم‪ ،‬فتجــدد أملهــا بــأن تحــي‬ ‫ألمــي كيــف رأت عــوديت يف نومهــا‪ ،‬لكنهــا ال تذكــر أنهــا كانــت تحلــم‪ ،‬هــي تحــي‬ ‫الحلــم يف صيغــة الحقيقــة الواقعــة‪ .‬ومتعــن يف واقعيتهــا بــأن توجــه بعضــا مــن عتبها‬ ‫إىل مــن قــروا يف الحضــور أو إىل مــن قــر يف دعوتهــن أو القيــام بأصــول ضيافتهن‪.‬‬ ‫يف الصــف االول ابتــدايئ دخلــت نوبــة بــكاء حــادة فــوق الكــريس املــدريس وال أحــد‬ ‫كان يعــرف ســببها‪ ،‬املــدرس ظنهــا وحشــة اليــوم األول يف املدرســة‪ ،‬يف حــن أنهــا‬ ‫كانــت وحشــة تخيــل اليــوم األول بدونهــا‪ .‬كنــت أتخيــل إمكانيــة أن أفقــد جــديت‬ ‫وأنــا بعيــد عنهــا يف املدرســة‪ .‬كنــت أرى يف هــذا البعــد فراقــا يدعــوين للبــكاء بحرقــة‪.‬‬ ‫اليــوم أجــد يف كل هــذا البعــد القــايس موتــا آخــر‪ ،‬يضاعــف مــن فداحــة فقدهــا‪ .‬ال‬ ‫أســرجع اآلن لحظــات ذاك الطفــل بقــدر مــا أســرجع الطفــل نفســه يف أشــد لحظات‬ ‫الفقــد وشــدائدها‪ .‬مــا أوحــش اليــوم األول دونهــا!‬ ‫‪6‬‬

‫مــا كان يل أن أكــر قبــل رحيلهــا‪ ،‬اليــوم فقــط أشــعر أين مل أعــد ذلــك الطفــل الــذي‬ ‫يتخطفــه خــوف أن يفقــد أمــه ســامة‪ ،‬مــا أوحشــه مــن يــوم!‬


‫جــديت كانــت تبصــم ألنهــا ال تكتــب‪ .‬ويف عالقاتهــا كانــت تبصــم بقلبهــا‪ ،‬وأنــا‬ ‫تعلمــت منهــا ذلــك‪ .‬وهبتنــي كل جميــل يف قلبهــا‪ ،‬محبــة النــاس‪ ،‬االحتفــاء بهــم‪،‬‬ ‫الســعادة باألشــياء الصغــرة‪ .‬تصغــر كبائــر األشــياء‪ ،‬االقـراب مــن األشــياء لتلطيــف‬ ‫قســوتها‪ ،‬االحتفــاء بالحيــاة‪ ،‬إدخــال الســعادة عــى اآلخريــن‪ ،‬إدخــال الفــرح أوال‬ ‫وأخـرا‪ .‬ضحكتهــا التــي متــأ مأمتهــا فتحيلــه مــكان فــرح أكــر منــه مــكان حــزن‪ .‬أن‬ ‫تحســب بقلبــك وكأنــك ال تعــرف الحســاب‪.‬‬

‫‪7‬‬


‫مأتم بنت الحايي‪ ..‬مأتم حجي طرار‬

‫‪8‬‬


‫مأتم بنت الحايي‪ ..‬مأتم حجي طرار‬

‫قلــت لجــديت ســامة أريــد أن أكتــب تاريــخ مأمتك‪.‬مــا اســم مأمتــك؟ ضحكــت‪،‬‬ ‫كعادتهــا‪ ،‬ال تبــدأ حديثــا مــن غــر أن تريــك عــر ضحكتهــا ســنها الذهبــي الــذي‬ ‫يحمــل ملمح ـاً مــن مالمــح تباهيهــا املعــروف ب ُحليهــا وذوقهــا الجديــد دومــا يف‬ ‫اللبــس والعطــر‪ ،‬كنــت يف مجلســها العامــر بالنســوة دومــا مــن أجيــال مختلفــة‪.‬‬ ‫ســتأيت حكايــة املأتــم إذن منســوجة مــن رسودات النســاء الــايت يرتــدن هــذا‬ ‫املجلــس‪ ،‬فنســاء هــذا املجلــس هـ َّن أنفســهن نســاء املأتــم‪ .‬ملجلســها رواد الضحــى‬ ‫ورواد األصيــل (العــر)‪ ،‬أعامرهــن مختلفــة وأمزجتهــن مختلفــة وحاالتهــن‬ ‫األرسيــة مختلفــة‪ ،‬لــكل مهــن مكانــان‪ ،‬مكانهــا يف املجلــس‪ ،‬ومكانهــا يف قلــب‬ ‫ســامة‪ ،‬قلبهــا الــذي يســع حكاياتهــن وأرواحهــن املؤتلفــة مــع روحهــا الحيويــة‬ ‫دوم ـاً‪ .‬ليــس بــن مجلســها ومأمتهــا ســوى نافــذة‪ ،‬يف املأتــم تحــر ســر القتــى‬ ‫مــن كربــاء وآل البيــت‪ ،‬ويف املجلــس تحــر ســر الحيــاة كلهــا حلوهــا ومرهــا‪،‬‬ ‫وغريبهــا ومألوفهــا‪ ،‬تجــد النســوة يف هــذا املجلــس فضاءهــن الحــر يف الــرد‬ ‫والقــول‪ ،‬بعيــدا ً عــن ســلطة الرجــل‪ ،‬تــأيت الواحــدة منهــن محملــة بيومياتهــا‬ ‫وأخبــار مــا يســتجد يف القريــة‪ ،‬ومــا تقولــه الصحــف‪« .‬مــن خلقنــا ونحــن يف‬ ‫هــذا املأتــم‪ ،‬ال أعــرف متــى‪ ،‬لكــن مأمتنــا معــروف مبأتــم حجــي ط ـرار‪ ،‬وكان يف‬ ‫الســابق معــروف مبأتــم الحاجيــة بنــت الحايــي» مــن هــي الحاجــة بنــت الحايــي؟‬ ‫ومــن أيــن جــاءت؟ تحيلنــي قيمــة املأتــم الحاجــة ســامة‪ ،‬إىل خالتــي خاتــون‬ ‫عبدالحســن طـرار‪ ،‬فهــي ماليــة املأتــم اآلن‪ ،‬وهــي مــن تعــرف التاريــخ‪ .‬لكــن مــن‬

‫‪9‬‬


‫أيــن يأتيهــا التاريــخ؟ يف املأتــم النســايئ ال أحــد يعــرف التاريــخ‪ ،‬لكــن الجميــع‬ ‫يعيــش التاريــخ‪ ،‬ال أحــد يعــرف متــى قتــل الحســن‪ ،‬لكــن جميعهــن يعرفــن مــن‬ ‫قتلــه وكيــف قتلــه وحكايــة قتلــه ومــا قيــل يف هــذا القتــل والروايــات التــي تــرد‬ ‫هــذا القتــل‪ .‬يعرفــن كل هــذه التفاصيــل كــا لــو أنهــا وقعــت باألمــس‪ ،‬لكنهــن ال‬ ‫يعرفــن كــم كان تاريــخ أمــس‪.‬‬ ‫النســاء يف املأتــم يعشــن التاريــخ لكنهــن ال يعرفــن التاريــخ‪ ،‬بــل ليــس هنــاك تاريــخ‪،‬‬ ‫هنــاك لحظــة زمنيــة أبديــة رسمديــة معاشــة بحـرارة القتــل‪ .‬مــن املدرســة مــن أيــن‬ ‫يــأيت التاريــخ لخالتــي خاتــون إذن؟ ليــس مــن املأتــم‪ ،‬إنــه مــن املدرســة‪ ،‬يف ســنة‬ ‫‪ 1963‬يقــرر أبوهــا الحــاج عبدالحســن طــرار‪ ،‬أن يرســلها مــع ســبع بنــات مــن‬ ‫القريــة إىل مدرســة قــايل االبتدائيــة للبنــات‪ ،‬متحديــاً بحمقــه املعــروف الحظــر‬ ‫الذكــوري الــذي فرضــه رجــال القريــة الذيــن كانــوا يــرون تعليــم املــرأة عيبـاً يجلــب‬ ‫العــار‪ ،‬ســتكون خاتــون ورفيقاتهــا الســبع أول طليعــة ديريــة تفتــح الطريــق لتعلــم‬ ‫املــرأة‪ ،‬هنــاك يف مدرســة قــايل ســتعرف معنــى التاريــخ‪ ،‬وســتحفظ وقائعهــا اليوميــة‬ ‫مقرونــة بالتاريــخ املكتــوب بطبشــور أبيــض فــوق لوحــة ســوداء‪ .‬ســتضيف خاتــون‬ ‫إىل درس املعلمــة بنــت ســيد يوســف درس مدرســة قــايل‪ ،‬وســيتيح لهــا هــذان‬ ‫الدرســان معرفــة جديــدة ســتمكنها مــن أن تكــون (ماليــة مأتــم أمهــا)‪ .‬الدكتــورة‬ ‫املاليــة «ســتكون خاتــون أول دكتــورة يف الديــر» هــذا مــا كان يبــر بــه حجــي‬ ‫عبدالحســن طـرار أهــل القريــة ويغيــض بــه املناوئــن لتعليــم املــرأة‪ ،‬لكــن الدكتــورة‬ ‫ســينتهي بهــا األمــر لتكــون أول (ماليــة) تجمــع درس (ملعلمــة) ودرس (املعلمــة)‪،‬‬ ‫أي درس الكتاتيــب ودرس املــدارس‪ .‬ســيقف بهــا مــرض الربــو والضيقــة عــن تحقيــق‬ ‫أمنيــة أبيهــا‪ ،‬وســترتك املدرســة عنــد الصــف الثــاين ثانــوي‪،‬‬ ‫بعــد أن أقعدهــا املــرض‪ .‬ذات صبيحــة جــاءت املديــرة إىل «من خلقنا ونحن يف‬ ‫أمهــا ســامة‪ :‬ابنتــك لــن تقــوى عــى مواصلــة الدراســة‪ ،‬ال هذا املأتم‪ ،‬ال أعرف‬ ‫متى‪ ،‬لكن مأمتنا معروف‬ ‫ِ‬ ‫طاقــة ل َنفَســها عــى رغــم مــا متلكــه مــن طاقــة يف نفســها‪ .‬مبأتم حجي طرار‪ ،‬وكان‬ ‫‪10‬‬

‫تقــول رفيقــة طفولتهــا‪ ،‬فاطمــة بنــت حجي حســن‪ ،‬كنــا بكثري‬ ‫مــن التحــر والدهشــة نشــاهد خاتــون وزميالتهــا الســبع يف‬

‫يف السابق معروف مبأتم‬ ‫الحاجية بنت الحايي»‬


‫الصبــاح الباكــر‪ ،‬وهــن مجتمعــات ينتظــرن ســيارة حجــي حميــد غانــم لتأخذهــن إىل‬ ‫املدرســة‪ ،‬كنــا نلمــس رشائطهــن ومالبســهن ونتمنــى أن نكــون معهــن‪ .‬حــن تجلــس‬ ‫خاتــون ألداء واجباتهــا املدرســية نتحلــق حولهــا ونقلــب أدواتهــا املدرســية حتــى إ َّن‬ ‫بنــت ســيد هاشــم ظنــت أن املمحــاة امللونــة برائحتهــا الزكيــة حــاوة‪ ،‬فابتلعتهــا‪،‬‬ ‫لكنهــا مل تهضمهــا‪ .‬لقــد تعلمــت مــن مجالســة خاتــون الق ـراءة والكتابــة بشــكل‬ ‫أفضــل‪ ،‬مــع أين كنــت قــد تتلمــذت عــى يــد الحاجيــة كلثــم بنــت الحايــي‪ ،‬كانــت‬ ‫كلثــم تجــد َّيف تلميــذة فوضويــة وغــر منضبطــة وصاحبــة لســان طويــل حتــى أنهــا‬ ‫ســمتني (غوغــوه) مــع ذلــك رصت واحــدة مــن القارئــات يف مأتــم حجــي ط ـرار‪،‬‬ ‫لكنــي مل أســتمر‪ .‬الخبــاز ثاني ـاً مــا تذكــره قيمــة املأتــم وصاحبتــه الحاجــة ســامة‬ ‫أن املأتــم كان ضمــن مأتــم الحاجــي ســلامن‪ ،‬وهــو مــن أوائــل املآتــم النســائية يف‬ ‫الديــر‪ ،‬وحــن حــدث خــاف‪ ،‬صــار جــزءا ً مــن بيتنــا الكبــر مكانـاً للقـراءة الحســينية‪،‬‬ ‫كان مجلسـاً يف األصــل‪ ،‬وهــو مــكان الخبــاز الحــايل الــذي هــو ثــاين خبــاز يف القريــة‬ ‫بعــد خبــاز حجــي عبداللــه بــن مهــدي‪ ،‬لكنــه أول خبــاز يعمــل يف صيغــة مخبــز‪،‬‬ ‫فقــد كان يصنــع الحــاوة والزالبيــا والكعــك و(الكاجــي كجــو) الــذي كان يســميه‬ ‫رصة الخاتــون‪ ،‬وهــي تســمية أطلقهــا الخبــاز الفــاريس إبراهيــم تعب ـرا ً عــن داللــه‬ ‫لخاتــون التــي كان يخصهــا بالكعــك والحلــوى‪ ،‬ويك تتباهــى صديقاتهــا بأنهــن قــد‬ ‫أكلــن كيــكاً فقــد كــن ميســحن شــفايفهن بكريــم الكيــك حتــى لــو مل يأكلــن‪.‬‬ ‫انتقــل املأتــم فيــا بعــد إىل أكــر مــن جهــة‪ ،‬ضمــن البيــت نفســه‪ ،‬لكنــه مل يســجل‬ ‫أبــدا ً يف األوقــاف‪ .‬قبــل وفــاة الحاجــي ط ـرار بســنة واحــدة وذلــك يف عــام ‪1977,‬‬ ‫رصت أنــا املمولــة للأمتــم إضافــة إىل التربعــات التــي تــردين‪ .‬كان الســمك هــو وجبــة‬ ‫املأتــم‪ ،‬ومل نكــن نــوزع الوجبــات خــارج املأتــم‪ ،‬لكــن فيــا بعــد وحتــى اآلن صــارت‬ ‫الوجبــات تصــل إىل بيــوت املشــاركات يف التعزيــة طــوال عــرة محــرم‪ .‬الحاجيــة‬ ‫كلثــم «نجمــة‪ ،‬كانــت كلثــم بنــت الحايــي نجمــة‪ ،‬بيضــاء بطلــة مهيبــة‪ ،‬مل يكــن‬ ‫مياثلهــا أحــد» هكــذا تســتحرض الحاجيــة ســامة زوجــة الحــاج عبدالحســن ط ـرار‬ ‫صــورة بنــت الحايــي‪ .‬جــاءت كلثــم مــن ســاهيج مــن بيــت الفــرج‪ ،‬كانــت أرملــة‪،‬‬ ‫ويف ســرتها أربعــة شــبان خلفتهــم يف قريتهــا ســاهيج‪ .‬كانــت يف الديــر زوجــة‬

‫‪11‬‬


‫للحــاج حســن أبــو الحــاج عبدالحســن طــرار‪ ،‬ويف الوقــت نفســه عمــة للوجيــه‬ ‫الحــاج عبداللــه بــن عيــى مطــر زوج ابنتهــا‪.‬‬ ‫مــا أن يحــر اســم الحــاج عبداللــه بــن عيــى يف أي رسد عــن قريــة الديــر حتــى‬ ‫تــأيت ســرته املقرونــة دوم ـاً بالتبجيــل‪ ،‬ففيــا كانــت الحاجــة ســامة تــرد م ـرات‬ ‫الحــاج عبداللــه الصباحيــة عــى عمتــه بنــت الحايــي وتتذكــر صــورة عــكازه الوقــور‪،‬‬ ‫تدخــل أم فاضــل (فوزيــة بنــت الحــاج راشــد بــن حســن) عــى ســرة الــرد‪ ،‬لــروي‬ ‫عــن أبيهــا حديثــه املتكــرر عــن حــارة الحــاج عبداللــه‪ ،‬كان يُح ِّمــل عليهــا تربعاتــه‬ ‫ويرتكهــا عنــد أبــواب املحتاجــن‪ ،‬فتطــرق البــاب برجلهــا‪ ،‬فيعــرف صاحــب البيــت‬ ‫أن هنــاك فاعــل خــر ال يــو ّد أن يعرفــه النــاس‪ ،‬صــار أمــر أم الخري(حــارة الحــاج‬ ‫عبداللــه) معروفـاً يف القريــة‪ ،‬واكتشــف أهــل القريــة فيــا بعــد أن أم الخــر كانــت‬ ‫رســولة الحــاج عبداللــه بــن عيــى‪ .‬لقــد أصــاب الحاجــة كلثــم شــيئاً مــن وجاهــة‬ ‫زوج ابنتهــا‪ ،‬فضاعــف مــن حضــور شــخصيتها البهيــة يف القريــة‪ .‬لكــن عــى املســتوى‬ ‫اآلخــر‪ ،‬مل يكــن زوجهــا الحــاج حســن ميلــك شــيئاً مــن هــذه الشــخصية‪ ،‬بــل مل يكــن‬ ‫ميلــك تقدي ـرا ً يليــق مبكانتهــا‪« ،‬مل يكــن يســتحقها» هــذا مــا قالتــه ســامة املالزمــة‬ ‫لهــا والقامئــة عــى أمورهــا اليوميــة‪.‬‬

‫‪12‬‬

‫بــدأت كلثــم تقــرأ يف مأتــم الحــاج ســلامن الــذي هــو أول مأتــم نســايئ‪ ،‬كانــت تقــرأ‬ ‫هنــاك مــع عمتهــا أم زوجهــا فاطمــة بنــت حســن‪ ،‬لكنهــا مــا لبثــت أن اســتقلت‪،‬‬ ‫لتؤســس مأتــم الحاجيــة بنــت الحايــي الــذي ســيعرف الحق ـاً مبأتــم حجــي ط ـرار‪.‬‬ ‫لــن تلحــق باملأتــم الجديــد خاتــون الجــدة األخــرى لحجــي ط ـرار‪ ،‬كانــت خاتــون‬ ‫جــدة حجــي ط ـرار مــن األم تقــرأ يف مأتــم حجــي عبدالرضــا الــذي كان يــوازي يف‬ ‫عراقتــه مأتــم الحــاج ســلامن‪ .‬ال أحــد يعــرف شــيئاً عــن ســرة خاتــون الجــدة‪ ،‬تحــر‬ ‫فقــط هيبتهــا‪ ،‬تصفهــا خاتــون الحفيــدة بأنهــا كانــت شــديدة البيــاض وعاملــة‪،‬‬ ‫ولشــخصيتها القويــة الحضــور تســمت ســبعاً مــن بنــات العائلــة باســمها‪ ،‬ســبع‬ ‫خواتــم أو ســبع خاتونات‪.‬لكــن خاتــون الحفيــدة وحدهــا مــن ورث بيــاض خاتــون‬ ‫الجــدة وصوتهــا وعلمهــا يف القـراءة الحســينية‪ .‬ســرث خاتــون أيضـاً صــوت جدتهــا‬ ‫فاطمــة وحضورهــا القيــادي يف املأتــم النســايئ‪.‬‬


‫القيادة الثالثية‬

‫ســتكون بنــت الحايــي هــي قارئــة املأتــم الجديــد الكبــرة‪ ،‬وســيتتلمذ عــى‬ ‫صوتهــا الشــجي‪ ،‬ماليتــان ســيمتد صوتهــا فيهــا طــوال األربعــن ســنة الالحقــة‬ ‫عــى وفاتهــا يف ‪ 1961‬املاليتــان هــا الحاجيــة مريــم بنــت الحــاج أحمــد صاميــل‬ ‫(توفيــت ديســمرب‪ )1997‬واملعروفــة بالحاجيــة مريــوم‪ ،‬والحاجيــة رشيفــة بنــت‬ ‫ســيد عبداللــه (توفيــت ‪ )2000‬واملعروفــة بالحاجيــة رشوف‪.‬‬ ‫وســتنضم الحاجيــة صفيــة بنــت الحاجــي عبداللــه محســن بدأت كلثم تقرأ يف مأتم‬ ‫الحاج سلامن الذي هو‬ ‫(توفيــت يف فربايــر‪ ،)2004‬املعروفــة بالحاجيــة صفــوي إىل‬ ‫أول مأتم نسايئ‪ ،‬كانت‬ ‫صفــوف ماليــات مأتــم حجــي ط ـرار‪ ،‬جــاءت صفــوي مــن تقرأ هناك مع عمتها‬ ‫رأس رمــان متقنــة قــراءة القصيــد والروايــات‪ ،‬وســيؤهلها أم زوجها فاطمة بنت‬ ‫حسن‪ ،‬لكنها ما لبثت أن‬ ‫صوتهــا الــذي يحمــل الكثــر مــن اســمها لتكــون يف الصفــوف استقلت‪ ،‬لتؤسس مأتم‬ ‫األوىل مــن القياديــات‪ ،‬وســيكون لعطائهــا املميــز أثــرا ً يف الحاجية بنت الحايي‬ ‫إث ـراء مكتبــة املأتــم (الــذي هــو عبــارة عــن قفــر توضــع الذي سيعرف الحقاً مبأتم‬ ‫حجي طرار‪.‬‬ ‫فيــه الكتــب) بالروايــات واألشــعار واألراجيــز والرداديــات‬ ‫البكائيــة‪.‬‬ ‫ســينهض املأتــم عــى أصــوات هــذه النســوة الثــاث‪ ،‬ولــن يكــون ألحــد صــوت يف‬ ‫هــذا املأتــم إال حــن يتقــن درس الق ـراءة عــى أصواتهــن الثــاث‪ ،‬مــن تــأيت مــن‬ ‫خــارج هــذا الصــوت ال مــكان لهــا يف هــذا املأتــم‪ .‬ســتكون الحاجيــة مريــوم صــوت‬ ‫املأتــم األعــى‪ ،‬ســتكون ماليــة املأتــم األوىل‪ ،‬وســرث مــع هــذا الصــوت ســلطة األمــر‬ ‫والنهــي والتــرف يف مــا ميكــن أن يكــون أو ال يكــون‪ .‬وبهــذه الســلطة ســتكرس‬ ‫تقاليدهــا الصارمــة يف القـراءة‪ ،‬ولــن تســتطيع متغـرات الثــورة اإليرانية ومــا صاحبها‬ ‫مــن صحــوة دينيــة أن تنــال مــن هــذه التقاليــد‪ ،‬فعــى رغــم االنفتــاح الــذي تحملــه‬ ‫روح الحاجيــة ســامة ق ِّيمــة املأتــم‪ ،‬فإنهــا لــن تســتطيع أن تتجــاوب مــع مطالــب‬ ‫األصــوات الشــابة بــرورة التغيــر وإفســاح املجــال إلدخــال املحــارضات إىل املأتــم‪،‬‬ ‫حتــى دخــول امليكرفــون ســيحتاج إىل موافقــة الحاجيــة مريــوم‪.‬‬ ‫كانــت الحاجــة ســامة تحمــل للحاجيــة مريــوم تقديـرا ً نابعـاً مــن تبجيلهــا للحاجــة‬

‫‪13‬‬


‫كلثــم‪ ،‬فهــي تجــد يف الحاجــة مريــوم الوريثــة لكلثــم ولكتابهــا‪ ،‬وهــي بهــذه الوراثــة‬ ‫حفظــت للأمتــم مكانتــه وبقــاءه‪.‬‬ ‫حلم كلثم‬

‫رسهــا يف ســامة‪ ،‬رأت ســامة ذات حلـ ٍـم أنهــا تركــب وكلثــم‬ ‫كانــت كلثــم تُــودع َّ‬ ‫ســفينة يف ســفر بعيــد‪ ،‬تعــود الســفينة بســامة وحدهــا‪ .‬رأت كلثــم وهــي البارعــة‬ ‫يف تفســر األحــام‪ ،‬رأت بروحهــا الشــفافة يف الكشــف‪ ،‬بشــارة موتهــا‪ .‬حــن أدخلــت‬ ‫املستشــفى األمــريك يف ‪ 1961‬قالــت لســامة إنــه الســفينة التــي ســتبحر بنــا أنــا‬ ‫وأنــت‪ ،‬ســتعودين الديــر وحــدك دوين‪ .‬يف هزيعهــا األخــر تطلــب كلثــم كأس مــاء‪،‬‬ ‫ولكــن ليــس أي مــاء‪ ،‬تريــد مــاء مــن بغلتهــا ( ُحــب مــاء كان يف غرفتهــا) التــي كانــت‬ ‫متألهــا ســامة يومي ـاً مــن مــاء (الجوجــب)‪ .‬كيــف ســيأيت مــاء الديــر إىل املنامــة‬ ‫وكلثــم يف لحظاتهــا األخــرة‪ .‬هنــا تدخــل فجــأة الســيدة معصومــة والــدة ســامة‪،‬‬ ‫وتحمــل معهــا كأس كلثــم األخــر‪ ،‬إنــه مــن (بغلتهــا) الحميمــة‪ ،‬تــرب كلثــم كأســها‬ ‫روح بنــت الحايــي إىل الســاء‪ ،‬وكأنهــا‬ ‫األخــر مــن مــاء ســامة‪ ،‬تُســلم يــدا ســامة َ‬ ‫تســلم قطعــة منهــا‪ ،‬كانــت ســامة تــروي وكأنهــا تســتحرض صفــاء الــكأس نفســه‪،‬‬ ‫تطلــق ســامة مــع مــوت كلثــم آه طويلــة‪ :‬كانــت أح ـ َّن عــى روحــي مــن أمــي‬ ‫نفســها‪.‬‬ ‫لــن تجــد ســامة أكــر مــن الوفــاء ملأتــم بنــت الحايــي تخليــدا ً لذكــرى كلثــم‪،‬‬ ‫أعطــت روحهــا كلهــا لــه‪ ،‬وأوقفــت حياتهــا عليــه‪ ،‬ووجــدت يف خدمتــه اســتمرارا ً‬ ‫لقيامهــا عــى شــأن كلثــم اليومــي‪.‬‬ ‫كتاب كلثم‬

‫‪14‬‬

‫مل تكــن ســامة تعــرف القــراءة وال الكتابــة‪ ،‬ومل تــرث مــن‬ ‫كلثــم صوتهــا املميــز‪ ،‬لكنهــا ورثــت روحهــا وضوءهــا الخــاص‪،‬‬ ‫ورثــت حب ـاً للنــاس ومــن النــاس‪ ،‬وصفــاء يف الــروح والوجــه‬ ‫ال مثيــل لبشاشــته وشــفافته‪ .‬مل تــو ّرث كلثــم تركــة مــن مــال‪،‬‬ ‫لكنهــا تركــت أثــرا ً يحمــل روحهــا وصوتهــا‪ ،‬تركــت (كتابــا)‬

‫كانت سالمة تروي وكأنها‬ ‫تستحرض صفاء الكأس‬ ‫نفسه‪ ،‬تطلق سالمة مع‬ ‫موت كلثم آه طويلة‪:‬‬ ‫كانت أح َّن عىل روحي‬ ‫من أمي نفسها‪.‬‬


‫ليــس لــه اســم‪ ،‬إنــه (الكتــاب) هكــذا تدعــوه تالميذاتهــا الــايت حفظــن مأمتهــا‪ .‬حــن‬ ‫أخــذ أبناؤهــا كتبهــا‪ ،‬أرصت ســامة مدفوعــة بتلميذتيهــا (مريــم) و(رشيفــة) أن‬ ‫يعــود الكتــاب إىل مأتــم بنــت الحايــي‪ .‬ذهبــت ســامة إىل بيــت أبنائهــا يف ســاهيج‪،‬‬ ‫وقالــت لهــم‪ :‬أريــد شــيئاً مــن روح كلثــم‪ ،‬أريــد كتابهــا‪ .‬فيكــون لهــا مــا أرادت‪ .‬مــن‬ ‫يــرث هــذا الكتــاب يــرث مكانــة كلثــم يف املأتــم‪ .‬هــو اآلن وديعــة بــن يــدي خاتــون‬ ‫الحفيــدة بعــد أن تســلمته مــن الحاجيــة مريــوم‪ .‬إنــه يحــوي روايــات ومقاتــل‬ ‫وقصيــد ال وجــود لهــا يف غــر هــذا الكتــاب‪ .‬تحملــه خاتــون بحفــاوة مــن يحمــل‬ ‫مخطوطــة نــادرة‪ ،‬استنســخته بيـ ٍـد ماهــرة يف كتابــة املخطوطــات‪ ،‬لكــن عينيهــا ال‬ ‫تفــارق نســخة كلثــم‪ ،‬فالتاريــخ يف كتــاب كلثــم‪ ،‬وخاتــون ال تعيــش التاريــخ فقــط‬ ‫بــل تعرفــه منــذ أتقنــت درس الســبورة الســوداء‪ .‬مل تفــارق عنايــة كلثــم روح ســامة‪،‬‬ ‫جاءهــا يــوم أحــد أبنائهــا‪ ،‬يخربهــا أن كلثــم زراتــه يف املنــام وأوصتــه أن يوصــل‬ ‫لســامة مــا كان يوصلــه لكلثــم‪ ،‬وأن ي ـ ّر ســامة كــا كان ي ـ ّر كلثــم‪.‬‬

‫‪15‬‬


‫مأتم جدتي والمخيلة الكربالئية‬

‫‪16‬‬


‫مأتم جدتي والمخيلة الكربالئية‬

‫يُ ِ‬ ‫حــر املأتــم (الحســينية) جــزءا ً مــن الســرة‪ ،‬ســرة املخيلــة أحيانــاً وســرة‬ ‫العقــل أحيان ـاً أخــرى‪ ،‬أو يحرضهــا مع ـاً‪ ،‬حســينية بيــت قاســم حــداد مث ـاً‪ ،‬قــد‬ ‫شــكلت بحضورهــا جــزءا ً خصب ـاً مــن مخيلــة قاســم‪ ،‬وهــو مــا فتــئ يذكّرنــا دوم ـاً‬ ‫يف روايتــه لســرته اإلبداعيــة بهــذا الحضــور‪ ،‬لكنــه ليــس الحضــور الــذي يغلــق‬ ‫املخيلــة عليــه‪ ،‬فمخيلــة املبــدع ال ترتهــن إىل مكــون واحــد‪ ،‬فهــي حيــث التعدديــة‬ ‫والنشــاط والحريــة والذهــاب إىل املســتقبل وإعــادة الخلــق‪ ،‬أي خلــق مــا يحــر‬ ‫فيهــا‪.‬‬ ‫مخيلة قاسم‬

‫يتحــدث قاســم حــداد عــن هــذا الحضــور يف أحــد حواراتــه «مثــة خصوصيــة‬ ‫صاغــت يل عاملــا ســحريا ســببه النشــأة يف بيئــة شــيعية‪ ،‬ففــي العائلــة الشــيعية‬ ‫عــادة مــا تنعقــد طقــوس وتقاليــد الحســينيات يف معظــم شــهور الســنة باإلضافــة‬ ‫إىل شــهري محــرم وصفــر‪ .‬يف دارنــا كان األمــر أكــر خصوصيــة‪ ،‬فقــد كان يف الــدار‬ ‫مأتــم للنســاء تنعقــد فيــه الق ـراءة‪ ،‬ومنــذ طفولتــي نشــأت عــى معايشــة هــذه‬ ‫األجــواء والتــرب بتفاصيلهــا اليومية‪.‬أعتقــد أن نشــويئ يف هــذا الجــ ّو الــذي‬ ‫ـس اإليقــاع مبكـرا ً وصقلــه‪ .‬كان‬ ‫يعتمــد عــى البكائيــات والعزائيــات ولّــد لـ ّ‬ ‫ـدي حـ ّ‬ ‫كل يشء حزينــاً يف تلــك الطقــوس‪ .‬مل أكــن أدرك متامــاً مفهــوم الحــزن ولكننــي‬ ‫أعيشــه‪ .‬لقــد كان كل يشء يف تلــك الطقــوس يرتبــط باإليقــاع‪ .‬رمبــا يكــون‬ ‫لســاعي ومعايشــتي هــذه الطقــوس باســتمرار‪ ،‬واملشــاركة يف مواكــب العــزاء‪،‬‬

‫‪17‬‬


‫بهــذه الطريقــة اإليقاعيــة قــد أثــرا الحقــاً يف اإلحســاس‬ ‫املبكــر بالــوزن والبحــور»‪.1‬‬

‫يحرض هذا املأتم يف‬ ‫سرييت كام تحرض جديت‪،‬‬ ‫وكام يحرض بيتها املفتوح‬ ‫األبواب دوماً‪ ،‬إنه يحرض‬ ‫جزءا ً من سرية تكويني‬ ‫الفكري‪ ،‬مقروناً بسرية‬ ‫موقفي من املخيلة‪،‬‬ ‫وسرية املخيلة يختلف‬ ‫عن سرية املوقف من‬ ‫املخيلة‪ ،‬فالسرية األوىل‬ ‫غري واعية وهي أقرب إىل‬ ‫عمل اإلبداع‪ ،‬أما املوقف‬ ‫من املخيلة‪ ،‬فهو موقف‬ ‫فكري يعرب عن خيار واع‬

‫إن هــذه املخيلــة الكربالئيــة مل تســعف قاســم فقــط يف‬ ‫اإلحســاس باإليقــاع الــذي هــو أحــد رشوط الشــعر‪ ،‬إذا مــا‬ ‫فهمنــا اإليقــاع مبعنــاه املفتــوح كــا هــو عنــد قاســم‪ ،‬بــل‬ ‫أســعفته أيضـاً يف إعــادة خلــق اســمه‪ ،‬وهــو الــرط الثــاين يف‬ ‫اإلبــداع‪ ،‬يعيــد املبــدع عــادة خلــق العــامل‪ ،‬وجــزء مــن هــذا‬ ‫الخلــق هــو خلــق اســم جديــد لــه أو لقــب جديــد مشــتق‬ ‫مــا يخلقــه مــن إبداعــات‪ ،‬وبهــذه القــدرة ميلــك املبــدع‬ ‫القــدرة عــى تحويــل العــامل وتحويــل ذاتــه‪ ،‬يتحــدث قاســم‬ ‫عــن مخيلتــه الكربالئيــة التــي أعــاد مــن خاللهــا تحويــل‬ ‫اســمه مــن جاســم إىل قاســم‪ ،‬عــى النحــو التــايل‪ …« :‬لكــوين‪،‬‬ ‫مــن جهــة أخــرى‪ ،‬مرتبطـاً‪ ،‬يف الالوعــي‪ ،‬باســم «القاســم بــن الحســن» أحــد الشــباب‬ ‫الذيــن قاتلــوا مــع الحســن يف كربــاء‪ ،‬والــذي استشــهد يــوم عرســه كــا تقــول‬ ‫الحكايــة‪ .‬وكنــت يف الخامســة مــن عمــري عندمــا اختــاروين ألقــوم بــدور القاســم‪ ،‬يف‬ ‫حســينية النســاء يف البيــت‪ ،‬يف زفّـتـــه قبــل ذهابــه إىل املعركــة واستشــهاده يف يــوم‬ ‫الثامــن مــن املحــرم»‪.2‬‬ ‫الموقف من المخيلة‬

‫يحــر هــذا املأتــم يف ســريت كــا تحــر جــديت‪ ،‬وكــا يحــر بيتهــا املفتــوح‬ ‫األبــواب دوم ـاً‪ ،‬إنــه يحــر جــزءا ً مــن ســرة تكوينــي الفكــري‪ ،‬مقرون ـاً بســرة‬ ‫موقفــي مــن املخيلــة‪ ،‬وســرة املخيلــة يختلــف عــن ســرة املوقــف مــن املخيلــة‪،‬‬ ‫فالســرة األوىل غــر واعيــة وهــي أقــرب إىل عمــل اإلبــداع‪ ،‬أمــا املوقــف مــن‬ ‫املخيلــة‪ ،‬فهــو موقــف فكــري يعــر عــن خيــار واع‪ ،‬يتحــدد فيــه مفهومنــا‬ ‫للمخيلــة وعملهــا وتقييمنــا لهــا وآليــات عملهــا‪ .‬كيــف كان موقفــي مــن‬ ‫‪18‬‬

‫‪ 11‬حوار مع قاسم أجرته روال قباين‪ :‬جريدة «الزمان» ‪ -‬لندن ‪ /18‬مارس ‪.1999‬‬ ‫‪ 22‬حوار مع قاسم أجرته روال قباين‪ :‬جريدة «الزمان» ‪ -‬لندن ‪ /18‬مارس ‪.1999‬‬


‫املخيلــة الكربالئيــة مــن خــال ســريت مــع مأتــم جــديت؟‬ ‫أســتخدم هنــا مصطلــح املخيلــة الكربالئيــة ألحيــل عــى الرسديــات التــي أنتجهــا‬ ‫الخيــال الشــيعي مشــبوكاً بالتاريــخ لواقعــة كربــاء‪ ،‬واملخيلــة هنــا هــي مســتودع‬ ‫عمليــات التخييــل الجامعيــة عــى مــدى تاريــخ طويــل‪ ،‬وهــي عمليــات تتداخــل‬ ‫فيهــا أمنيــات الجامعــة وأحالمهــا ومحنهــا ومقدســاتها وأحداثهــا التاريخيــة‪ ،‬األمــر‬ ‫الــذي يصعــب فيــه فصــل الحقيقــي مــن غــر الحقيقــي والواقعــي مــن الخيــايل‬ ‫والتاريخــي مــن االختالقــي «التخييــل أعــم مــن الخيــال وأكــر تجــاوزا لــه عــى‬ ‫مســتوى التصــور واإللهــام والخلــق‪ ،‬العتــاده عــى اإلغــراب واملفارقــة والخيــال‬ ‫املجنــح البعيــد يف التشــخيص األســلويب والذهنــي‪ ،‬ناهيــك عــن اف ـراض األحــداث‬ ‫املمكنــة واملســتحيلة ونســجها فنيــا ورسديــا يف عــامل فنــي جــايل يف أبهــى روعــة‬ ‫إبداعيــة‪ .‬ويجــر التخييــل معــه يف اللغــة العربيــة كلــات اشــتقاقية أخــرى كاملخيلــة‬ ‫بكــر الياء(مصــدر الخيــال)‪ ،‬والخيــال (منتــوج املخيلــة)‪ ،‬والتخييــل (فعــل التخيــل‬ ‫ومامرســة الخيــال‪ ،‬وهــو دال الحركــة واإلبــداع واإللهــام) الــذي يــدل عــى االختــاق‬ ‫والتوهيــم بالحقيقــة والخــداع الفنــي وتصــور األحــداث والشــخصيات يف ســياق فنــي‬ ‫يتقاطــع فيــه الخيــال والواقــع»‪.3‬‬ ‫مخيلة المآتم النسائية‬

‫متتــاز املآتــم النســائية بأنهــا جــزء مــن البيــت‪ ،‬إنهــا تــكاد كاملــرأة يف املجتمعــات‬ ‫املحافظــة ال تغــادر البيــت‪ ،‬تبــدو كأنهــا غرفــة مــن غــرف البيــت‪ ،‬حتــى إننــا ال ميكن‬ ‫أن نصفهــا بأنهــا ملحقــة بالبيــت‪ ،‬فهــي وســطه غالب ـاً‪ ،‬كــا هــو األمــر مــع مأتــم‬ ‫جــديت‪ ،‬لقــد وعيــت طفولتــي يف وســط هــذا املأتــم‪ ،‬ووســط البيــت الكبــر الــذي‬ ‫كان فيــه‪.‬‬ ‫وهــذا مــا جعــل كثــرا ً مــن املآتــم النســائية غــر مســجلة يف الدوائــر الرســمية‬ ‫ودائــرة األوقــاف الجعفريــة‪ ،‬كانــت آخــر إحصائيــة شــفهية متداولــة تقــول إن عــدد‬ ‫املآتــم النســائية يف قريــة الديــر يزيــد عــى الثالثــن مأمتـاً أو حســينية‪ .‬والقليــل منهــا‬ ‫‪ 33‬مفهوم التخييل الروايئ‪ ،‬جميل حمداوي‪http://www.doroob.com/?p=10447 :‬‬

‫‪19‬‬


‫مســجل‪ ،‬يف حــن املآتــم الرجاليــة تبلــغ ســبعة مآتــم‪ ،‬وجميعهــا مســجلة‪ ،‬وتقــع يف‬ ‫الحيــز العــام للقريــة‪ ،‬األمــر الــذي جعلهــا مكان ـاً عام ـاً‪.‬‬ ‫رمبــــا تكـــــون هــــذه امليــزة‪ ،‬هــي ما يجعــل املأتم النســايئ أقرب إىل مـزاج صاحبته‬ ‫وســلطتها‪ ،‬واملآتــم الرجـــــايل وإن كان ال يخــرج كثـرا ً عــن ذلــك‪ ،‬لكنــه يتوفــر نســبياً‬ ‫عــى مـزاج أكــر مــن صاحبـــــه وأقــل مــن قريتــه أو عائلتــه أو فريقــه‪ ،‬فهــو ميثــــل‬ ‫جامعــة صــــاحب املأتــم وعائلتــه‪ ،‬وتتوســع هــذه الجامعــة بتوســع الخطــوط‬ ‫الحركيـــــة الفكـــــرية التــي متثلها‪.‬‬ ‫ظلــت املأتــم النســائية بحكــم عزلتهــا البيتوتيــة مكانـاً للمخيلــة املطلقــة الجامحــة‬ ‫التــي ال يحدهــا عقــل صــارم وال رشع متشــدد‪ ،‬ورمبــا يصــح أن نصفهــا بأنهــا مخيلــة‬ ‫نســائية بوجــه مــا‪ ،‬ال مــكان للــكالم املوجــه يف هــذه املآتــم النســائية‪ ،‬املوجــه بخــط‬ ‫حــريك أو أيديولوجــي‪ .‬ليــس هنــاك خطابــة تصنعهــا موجــات فكريــة‪ ،‬هنــاك نياحــة‬ ‫وســرة (شــبه تاريخيــة) ومرويــات رسديــة وقصائــد مق ّفــاة‪ ،‬وأصــوات نســائية تضــج‬ ‫عــى إيقــاع الحــزن والبــكاء‪.‬‬ ‫توجيه المخيلة‬

‫يف تحقيــق عــن (مأتــم النســاء) طرحــت مجلــة األنصــار الســؤال التــايل «ملــاذا هــذا‬ ‫الهجــوم الــرس حــول آليــة العمــل يف مأتــم النســاء؟ وهــل هــو قــادر يف صورتــه‬ ‫الحاليــة عــى إخ ـراج جيــل وا ٍع فاهــم؟ كانــت اإلجابــات‪ :‬واقع ـاً أنــا ال أذهــب إىل‬ ‫املآتــم النســائية‪ ،‬عندمــا أذهــب إليهــا ال أحصــل عــى فائــدة تذكــر… إن املأتــم‬ ‫النســايئ متخلــف عــن الركــب الحضــاري والثقــايف واالجتامعــي»‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪20‬‬

‫يف نهايــة الثامنينيــات كنــت مدفوع ـاً بحــس ثــوري لتغيــر العــامل‪ ،‬كان العــامل هــو‬ ‫أنــا وأرسيت وقريتــي ومأتــم جــديت‪ ،‬كنــت أرى أن املأتــم النســايئ مل يســتجب لصــوت‬ ‫الصحــوة اإلســامية‪ ،‬والســبب الــذي كنــت أعتقــده يكمــن يف أن املاليــات متخلفــات‬ ‫وغــر واعيــات وال يســمحن بالتغيــر‪ .‬كنــت أرى ماليــات مأتــم جــديت هكــذا‪ ،‬وهـ َّن‬ ‫الحاجيـــة مريــم بنــت الحــاج أحمــد صميــل (توفيــت ديســمرب‪ )1997‬واملعروفــة‬ ‫‪ 44‬مجلة األنصار‪ :‬مجلة إسالمية تصدر عن حسينية بن زبر‪ ،‬العدد ‪.2007 ،9‬‬


‫بالحاجيــة مريــوم‪ ،‬والحاجيــة رشيفــة بنــت ســيد عبداللــه (توفيــت ‪ )2000‬واملعروفة‬ ‫بالحاجيــة رشوف‪ .‬والحاجيــة صفيــــــة بنــت الحاجــي عبداللــه محســن (توفيــت يف‬ ‫فربايــر‪ ،)2004‬املعروفــة بالحاجيــة صفــوي‪.‬‬ ‫خضــت معهــن محــاوالت تغيرييــة لكنهــا بــاءت بالفشــل‪ ،‬كنــت أرى فيهــن حجــر‬ ‫عــرة أمتنــى أن تـزال برسعــة‪ ،‬مــن أجــل أن يــأيت صــوت الوعي‬ ‫الجديــد والطــرح الجــاد‪ .‬اليــوم أحــن ألصواتهــن بناســتالوجيا متتاز املآتم النسائية بأنها‬ ‫بالغــة الــدفء‪ ،‬اليــوم أعيــد اكتشــافهن مــن جديــد‪ ،‬أرى أين جزء من البيت‪ ،‬إنها تكاد‬ ‫كاملرأة يف املجتمعات‬ ‫بحاجــة إىل أن أنصــت إليهــن مــن أجــل أن أفهــم عاملهــن املحافظة ال تغادر البيت‪،‬‬ ‫الخــاص وثقافتهــن الخاصــة‪ ،‬بعيــدا ً عــن تشــنجات وعــي تبدو كأنها غرفة من‬ ‫غرف البيت‪ ،‬حتى إننا‬ ‫الصحــوة الدينيــة‪.‬‬ ‫ال ميكن أن نصفها بأنها‬ ‫ملحقة بالبيت‪ ،‬فهي‬ ‫وسطه غالباً‪ ،‬كام هو األمر‬ ‫مع مأتم جديت‪،‬‬

‫لســت ضــد املحــارضات الجــدد الــايت بــدأن يزاحمــن املاليات‬ ‫أو يتزاوجــن معهــن‪ ،‬لكنــي ضــد هــذا الوهــم بأنهــن ميتلكــن‬ ‫الوعــي والطــرح القــادر عــى أن يأخــذ النســاء إىل الركــب‬ ‫الحضــاري والثقــايف واالجتامعــي‪ .‬بــل أنــا ضــد هــذه الكلــات املشــحونة بتخمــة‬ ‫مــن األوهــام‪ .‬مل يجــد خطــاب الصحــوة بحســه األيديولوجــي يف خطــاب املاليــة مــا‬ ‫يعــزز مــن ســلطته واســتحواذه وتفســره لواقعــة كربــاء‪ ،‬التــي راح يؤولهــا لصالــح‬ ‫حســه الثــوري‪ ،‬وألنــه خطــاب ال يحســن اإلنصــات إىل مــا يختلــف معــه‪ ،‬فإنــه مل‬ ‫يجــد يف املاليــة غــر عالمــة عــى نقــص الوعــي والتخلــف والتقليديــة وعــدم القــدرة‬ ‫عــى طــرح اإلســام وكربــاء طرح ـاً جديــدا ً‪ ،‬لكنــه مل يكــن ومــازال عاج ـزا ً عــن أن‬ ‫يــرى مأزقــه يف تضييــق اإلســام وأدلجــة كربــاء‪.‬‬ ‫ســر هــذه املاليــات وتجاربهــن جــزء مــن ثقافتنــا التــي يجــب اإلنصــات إليهــا‪،‬‬ ‫وفهمهــا وتوثيقهــا‪ ،‬بعيــدا ً عــن حــس اإلدانــة الدينــي أو األيديولوجــي‪ .‬أنــا‬ ‫مديــن يف جانــب مــن فهمــي لعمــل الخيــال الخــاق يف التاريــخ إىل صــوت‬ ‫هــؤالء املاليــات‪ ،‬وهــن يعــدن رسد التاريــخ بخيــال ال مثيــل لــه‪ ،‬لذلــك فأنــا‬ ‫مديــن باعتــذار متأخــر إىل ماليــات مأتــم جــديت ألين أســأت االســتامع إليهــن‪،‬‬

‫‪21‬‬


‫وأســأت تقديــر صوتهــن األصيــل الــذي مل تشــبه ُهجنــة‬ ‫أيديولوجيــة تضيــق باآلخــر‪.‬‬ ‫جمح المخيلة‬

‫كان الخــط الحــريك اإلســامي الــذي مثلتــه خــال الثامنينيــات‪،‬‬ ‫نــداء لجمــح هــذه املخيلــة‪ ،‬وتوجيههــا نحــو رشع منضبــط‬ ‫وعقــل مؤدلــج‪ .‬كنــت أرى يف هــذه املخيلــة أســطورة تجــر‬ ‫الدمعــة ال الفكــرة‪ ،‬مخيلــة ال تســتجيب لحركــة الواقــع التــي‬ ‫كنــا مأخوذيــن بهــا حــد مجــاوزة الواقــع‪.‬‬

‫يف محرم ‪ 1990‬بدأنا‬ ‫مرشوع مهرجان عاشوراء‬ ‫األول‪ ،‬كان مقر املهرجان‬ ‫مأتم جديت‪ ،‬يبدأ املهرجان‬ ‫بعد عرشة محرم‪،‬‬ ‫وقد خصصناه إلقامة‬ ‫محارضات ثقافية عن‬ ‫عاشوراء‪ ،‬كيف نسثمر‬ ‫عاشوراء يف واقعنا؟‬

‫كان صــوت القيــادات الحركيــة قــد بــدأ يضــع هــذه املخيلــة ضمــن دائــرة وعيــه‪،‬‬ ‫كان يريــد مــن املأتــم النســائية أن تكــون يف مســتوى وعــي اإلســام الحــريك‪ ،‬وقــد‬ ‫بــدأت الناشــطات اإلســاميات محاوالتهــن للدخــول إىل هــذه املآتــم‪ ،‬مــن أجــل‬ ‫تقديــم شــكل خطــاب جديــد‪ ،‬يفيــد مــن صيغــة الخطابــة الرجاليــة‪ ،‬التــي ال تكتفــي‬ ‫بالجانــب البــكايئ الحســيني‪ ،‬وهنــا بــرزت مــع ظهــور أســاء الخطيبــات الجديــدات‬ ‫تذم ـرات املاليــات التقليديــات وصاحبــات املآتــم‪.‬‬

‫‪22‬‬

‫مــع صعــود هــذه املوجــة كنــت قريبــاً جــدا ً مــن جــديت ومأمتهــا الــذي ظللــت‬ ‫أخضعــه الســتخدامات متعــددة‪ ،‬منبثقــة مــن هــذه املوجــة‪ ،‬غــر أنهــا اســتخدامات‬ ‫تقــع خــارج صفــة املأتــم‪ ،‬حــن يكــون مأمت ـاً نســائياً‪ ،‬هــو عــامل آخــر ومكان ـاً آخــر‪.‬‬ ‫ال ميكــن الســتخداماتنا الحركيــة أن تخضــع املأتــم لهــا‪ ،‬فهــو ميثــل خــط مامنعــة‬ ‫قويــة للمخيلــة الكربالئيــة التقليديــة‪ ،‬وعــى الرغــم مــن أننــي ظللــت لفــرة طويلــة‬ ‫مســؤوالً عــن تركيــب ســواد مأتــم جــديت‪ ،‬إال أننــي مل أســتطع أن أغــر حتــى يف‬ ‫شــكله ومســاحته التــي تغطــي املأتــم كلــه‪ ،‬وعــى الرغــم مــن أننــي حاولــت إدخــال‬ ‫شــعارات حركيــة مــن خــال تركيــب الســواد‪ ،‬إال أننــي فشــلت‪ ،‬وذلــك يعــود إىل‬ ‫مـزاج املخيلــة البكائيــة ملاليــات املأتــم‪ .‬لقــد كــن يريــن يف بقــاء املأتــم وفــق رشوط‬ ‫مخيلتهــن املطلقــة العنــان مــن أي مســاءلة واســتخدام‪ ،‬بقــاء لهــن ومحافظــة عــى‬ ‫وجودهــن واســتمرارا ً لتقاليدهــن وتراثهــم األثــر‪.‬‬


‫تقليص المخيلة‬

‫يف محــرم ‪ 1990‬بدأنــا مــروع مهرجــان عاشــوراء األول‪ ،‬كان مقــر املهرجــان مأتــم‬ ‫جــديت‪ ،‬يبــدأ املهرجــان بعــد عــرة محــرم‪ ،‬وقــد خصصنــاه إلقامــة محــارضات ثقافية‬ ‫عــن عاشــوراء‪ ،‬كيــف نســثمر عاشــوراء يف واقعنــا؟ وكيــف نعــي الثــورة الحســينية؟‬ ‫وكيــف نحولهــا إىل وعــي جديــد حــريك؟ وكيــف نخلصهــا مــن األوهــام األســطورية؟‬ ‫كان املــروع امتــدادا ً ملــروع ســابق خضنــاه قبــل ثــاث ســنوات‪ ،‬يف عــام‬ ‫‪1987‬تحديــدا ً‪ ،‬وهــو مــروع خطابــة حســينية‪ ،‬كنــا نتــدرب كل ليلــة مــن ليــايل‬ ‫محــرم‪ ،‬بــأن يتــوىل أحــد الشــباب التحضــر لهــا ويكــون ليلتهــا هــو الخطيــب الــذي‬ ‫عليــه أن يقــدم موضوعــاً جديــدا ً ونعيــاً تقليديــاً‪ .‬كان االتجــاه الســائد تقليــص‬ ‫مســاحة النعــي التــي هــي مســاحة املخيلــة ومحــل خصوبتهــا‪ ،‬وتوســيع مســاحة‬ ‫الخطابــة التــي هــي محــل الفكــر والوعــي وتقديــم مفاهيــم اإلســام الحــريك‪.‬‬ ‫كنــا يف ســياق‪ ،‬إعــداد جيــل حــريك جديــد‪ ،‬يفهــم كربــاء فهـاً جديــدا ً‪ ،‬وقــد انتدبنــا‬ ‫أنفســنا للقيــام بهــذه املهمــة‪ ،‬وعلينــا واجــب التثقــف والتــدرب وخــوض التجــارب‪،‬‬ ‫لحســن حظــي‪ ،‬مل أتوفــر عــى صــوت جميــل‪ ،‬وكنــت الوحيــد مــن بــن األصدقــاء‬ ‫الذيــن خاضــوا التجربــة مقت ـرا ً عــى الخطابــة فقــط دون النعــي الحســيني‪ ،‬يف‬ ‫حــن كان األصدقــاء الســبعة يتولــون تقديــم مجلس ـاً كام ـاً بنعــي وخطابــة‪ ،‬كنــت‬ ‫أســتعني بصديــق طفولتــي أحمــد رمضــان‪ ،‬لقــراءة مقدمــة حســينية ملجلــس‬ ‫محــارضيت‪ ،‬ومــازال هــو يذكــر بــيء مــن املــرح طريقتــه يف ق ـراءة قصيــدة (وجــه‬ ‫الصبــاح عــي ليــل مظلــم…) التــي افتتــح بهــا أحــد مجالــي‬ ‫(تســمى الفــرة التــي يقــرأ فيهــا الخطيــب باملجلــس‪ ،‬فيقــال يف نهاية الثامنينيات كنت‬ ‫مدفوعاً بحس ثوري‬ ‫بــدأ املجلــس وانتهــى املجلــس)‪.‬‬ ‫كان التحــول مــن مــروع الخطابــة الحســينية إىل مهرجــان‬ ‫عاشــوراء‪ ،‬تعب ـرا ً عــن االنحيــاز إىل الجانــب الفكــري‪ ،‬وعــدم‬ ‫التعويــل عــى الجانــب البــكايئ واملأســاوي يف كربــاء‪ ،‬كــا‬ ‫أنــه كان مع ـرا ً عــن انحيــازي إىل الجانــب الفكــري يف ذلــك‬

‫لتغيري العامل‪ ،‬كان العامل‬ ‫هو أنا وأرسيت وقريتي‬ ‫ومأتم جديت‪ ،‬كنت أرى‬ ‫أن املأتم النسايئ مل‬ ‫يستجب لصوت الصحوة‬ ‫اإلسالمية‬

‫‪23‬‬


‫الوقــت‪ .‬وهــو مــن ناحيــة األخــرى يحمــل أيضــا قناعتــي املبكــرة بعــدم امتــايك‬ ‫مهــارات الق ـراءة الحســينية التــي تشــرط الصــوت الشــجي والقــدرة عــى النعــي‬ ‫بالطريقــة الحســينية‪.‬‬ ‫تطهير المخيلة‬

‫لقــد خصصنــا مهرجــان عاشــوراء الثــاين واألخــر‪ ،‬والــذي أقمنــاه أيضــا يف مأتــم جديت‪،‬‬ ‫لكتــاب (امللحمــة الحســينية)‪ .‬لقــد قســمنا الكتــاب عــى عــر ليــال‪ ،‬يتــوىل كل ليلــة‬ ‫شــخص تقديــم محــارضة مــن هــذا الكتــاب‪ .‬الكتــاب محاولــة لتصحيــح واقعــة‬ ‫كربــاء مــن االنحرافــات التاريخيــة التــي صنعتهــا املخيلــة‪.‬‬

‫تصحيــح االنحرافــات التاريخيــة‪ ،‬كان يعنــي رفــض نشــاط املخيلــة الكربالئيــة التــي‬ ‫أنتجــت هــذا الكــم الضخــم مــن املرويــات واألشــعار والقصص‬ ‫والكرامــات والبكائيــات‪ .‬كان يعنــي تجفيفا ً ملســاحات واســعة كان اإلسالم الحريك‪ ،‬كام‬ ‫مثله مطهري مثال‪ ،‬يريد‬ ‫مــن هــذه املخيلــة ومــا يرافقهــا مــن دمــوع حــارة وطريــة‪ .‬أن يغري الواقع‪ ،‬وهو يريد‬ ‫كان يعنــي أن تبقــى املآتــم النســائية مــن غــر ذاكــرة‪ ،‬ألن من التاريخ ما يغري به‬ ‫الواقع‪ ،‬ال ما يجعل الواقع‬ ‫ذاكــرة هــذه املآتــم تكمــن يف أرشــيف مخيلتهــا‪.‬‬ ‫ثابتاً‪ ،‬والبكاء كان من‬ ‫وجهة نظر هذا اإلسالم‬ ‫الحريك‪ ،‬يجعل من كربالء‬ ‫تاريخا ساكناً ال متحركاً‪،‬‬

‫كان اإلســام الحــريك‪ ،‬كــا مثلــه مطهــري مثــا‪ ،‬يريــد أن يغــر‬ ‫الواقــع‪ ،‬وهــو يريــد مــن التاريــخ مــا يغــر بــه الواقــع‪ ،‬ال مــا‬ ‫يجعــل الواقــع ثابتــاً‪ ،‬والبــكاء كان مــن وجهــة نظــر هــذا‬ ‫اإلســام الحــريك‪ ،‬يجعــل مــن كربــاء تاريخــا ســاكناً ال متحــركاً‪ ،‬هــو يريــد أن يعــرف‬ ‫اليــوم معســكرات يزيــد ومعســكرات الحســن‪« ،‬نعــم لــو كان الحســن بــن عــي‬ ‫بيننــا اليــوم لقــال لنــا‪ :‬إذا كنتــم تريــدون إقامــة العـزاء مــن أجــي وأردتــم الــرب‬ ‫عــى الصــدور مــن أجــي فــان شــعاركم ال بــد وأن يكــون فلســطينيا»‪.5‬‬

‫‪24‬‬

‫اإلســام الحــريك‪ ،‬يريــدك أن تحــرك الواقعــة التاريخيــة لتكــون واقعــة معــارصة‪،‬‬ ‫هــو ليــس معنيـاً بالســياق التاريخــي‪ ،‬بقــدر عنايتــه بالســياق املعــارص‪ ،‬هــو يريــد‬ ‫أن يســتخدم الواقعــة يف حركــة رصاعاتــه الحاليــة‪ ،‬وليســت لديــه مشــكلة يف أن‬ ‫‪ 55‬مرتىض مطهري‪ ،‬امللحمة الحسينية‪ ،‬بريوت‪ :‬الدار اإلسالمية‪ ،‬ط‪1, 1990‬م‪.‬‬


‫تنحــرف الواقعــة التاريخيــة عــن ســياقها التاريخــي‪ ،‬لكنــه معنــي بإضفــاء قــدر‬ ‫مــن املعقوليــة عليهــا مــن أجــل أن يكــون اســتخدامه أكــر إقناعـاً‪ ،‬ومــن أجــل أن‬ ‫يعطــي احرتام ـاً‪.‬‬ ‫هكــذا يحــرك مطهــري مثــا واقعــه اليــوم باســتخدام واقعــة‬ ‫أمــس «مــاذا لــو أن الحســن بــن عــي (ع) كان بيننــا اليــوم‪ ،‬كان اإلسالم الحريك‪ ،‬كام‬ ‫وأراد أن يطلــب منــا أن نقيــم لــه العـزاء؟ تــرى أي الشــعارات مثله مطهري مثال‪ ،‬يريد‬ ‫أن يغري الواقع‪ ،‬وهو يريد‬ ‫كانــت هــي التــي ســيطالبنا برتديدهــا؟ فهــل كان ســيقول‬ ‫من التاريخ ما يغري به‬ ‫لنــا اقــرأوا يف املجالــس «أيــن ابنــي الفتــى عــى األكــر»‪ ،‬أو الواقع‪ ،‬ال ما يجعل الواقع‬ ‫يطالبنــا باملنــاداة‪’‘ :‬يــا زينــب املعذبــة الــوداع الــوداع»‪ ،‬وهــي ثابتاً‪ ،‬والبكاء كان من‬ ‫وجهة نظر هذا اإلسالم‬ ‫أمــور ال شــك مل يفكــر فيهــا «اإلمــام الحســن» طــوال حياتــه الحريك‪ ،‬يجعل من كربالء‬ ‫وإنــه مل يــردد مثــل هــذه الشــعارات الخانعــة الذليلــة‪ ،‬يف تاريخا ساكناً ال متحركاً‪،‬‬ ‫يــوم مــن أيــام عمــره نعــم فلــو كان الحســن بــن عــي بيننــا‬ ‫اليــوم‪ ،‬لقــال لنــا‪ :‬إذا كنتــم تريــدون إقامــة العـزاء مــن أجــي‪ ،‬وأردتــم الــرب عــى‬ ‫الصــدور‪ ،‬والخــدود‪ ،‬مــن أجــي‪ ،‬فــإن شــعاركم البــد وأن يكــون فلســطينيا فشــمر‬ ‫اليــوم هــو مــويش دايــان وشــمر مــا قبــل ألــف وثالمثائــة عــام‪ ،‬قــد مــات‪ ،‬وعليــك أن‬ ‫تتعــرف عــى شــمر هــذا العــر‪ ،‬ألن جــدران هــذه املدينــة‪ ،‬يجــب أن تهتــز اليــوم‬ ‫مــن شــعارات فلســطني»‪.6‬‬ ‫بالنســبة لإلســام الحــريك‪ ،‬املخيلــة مهمــة بقــدر مــا ميكــن اســتخدامها لتغيــر الواقــع‬ ‫وتحريــك جمهــوره‪ ،‬وتفقــد أهميتهــا حــن تفقــد قدرتهــا عــى هــذا االســتخدام‪،‬‬ ‫وهــذا االســتخدام هــو مــا يجعــل مــن املخيلــة أيديولوجيــا‪ ،‬هــو يريدهــا يف حالــة‬ ‫أيديولوجيــة نشــطة‪.‬‬ ‫لذلــك فالنقــد التاريخــي الــذي يصــدر عنــه اإلســام الحــريك يف مراجعتــه للمصــادر‬ ‫التاريخيــة التــي أ ّرخــت للواقعــة وطريقــة متثــل الخطابــات الحســينية لهــا‪ ،‬لــــيس‬ ‫محكومـــــاً بأفــق املــدارس التاريخيــة املعــارصة ومناهجـــــها املعرفيــة‪ ،‬بقــدر مــا‬ ‫‪ 66‬مرتىض مطهري‪ ،‬امللحمة الحسينية‪ ،‬بريوت‪ :‬الدار اإلسالمية‪ ،‬ط‪1, 1990‬م‪.‬‬

‫‪25‬‬


‫هــو محكــوم بأفــق األيديولوجيــا الحركيــة‪ ،‬وإن كـــــان أفــق هــذا النقــد يفــي إىل‬ ‫نتائــج تلتقــي أحيانـاً بنتائــج ذاك األفــق‪.‬‬ ‫لقــد كنــا محكومــن بهــذا األفــق‪ ،‬ونحــن نحــاول تغيــر خطــاب املآتــم النســائية‪.‬‬ ‫كنــا نســتحرض يف حركــة تغيرينــا خطــاب فضــل اللــه وهــو يتحــدث عــن دور املــرأة‬ ‫القيــادي الحــريك ممثــاً يف حركــة زينــب والربــاب وســكينة‪ .‬وكنــا نســتند إليــه‬ ‫يف محاولــة تحويــل املـــــأتم النســايئ مــن وظيفــة االســتامع والبكـــــاء إىل وظيفــة‬ ‫الخطابــة واملعرفــة‪ .‬لكــن أي معرفــة وأي خطابــــــة كنــا نريدهــا أن تحــل مــكان‬ ‫هــذه املخيلــة الكربالئيــة املطلقــة؟‬ ‫كــــــانت مناذجنــا التــي نحلــم بهــا‪ ،‬خطيبــات قــادرات عىل بيــان الحقائــق العقائدية‬ ‫وبيــان املفاهيــم اإلســامية وبيــان القيــم واألخــاق‪ .‬فاملجتمــع النســايئ يحتــاج كــا‬ ‫كنــا نـراه إىل إعــادة النظــر يف تفعيــل طاقاتــه وتحريــك مواهبــه وإخـراج الخطيبــات‬ ‫العاملــات القــادرات عــى العطــاء وعــى البــذل‪ ،‬يحتــاج إىل مــا هــو أكــر‪ ،‬يحتــاج‬ ‫إىل دروس دينيــة بشــكل مكثــف يف الفقــه والعقيــدة‪ .‬كنــا نحلــم بخطــاب نســايئ‬ ‫يحمــل طرحـاً سياســياً ووعيـاً تربويـاً ومجتمعيـاً وتاريخيـاً‪ .‬كنــا نســتخدم كل هــذه‬ ‫املصطلحــات املفخـــــــــمة بســذاجة ومراهقــة‪ ،‬والغريــب أن هــذا الخطــاب مــازال‬ ‫فعــاالً بالنــرة نفســها‪ .‬والدليــل عــى ذلــك أين اقتبســـــت الفقــرة الســابقة التــي‬ ‫تتحــدث عــن النــاذج النســائية التــي كنــا نحلــم بهــا‪ ،‬مــن أحــد املواقــع اإللكرتونيــة‪،‬‬ ‫دون أن أضطــر إال إىل االختصــار فقـــــط‪ .‬ولســت مضطـرا إىل اإلشـــــارة إىل املصــدر‪،‬‬ ‫ألنهــا تصلــح أن تقتبــس مــن عشــــرات املواقــع‪.‬‬ ‫كيـــــف يبــدو املوقــف اليــوم مــن هــــذه املخيلــة؟ كيــف نشــاطها االجتمـــــاعي؟‬ ‫كيــف حضورهــا يف وســائط امليديــا؟ تلــك أســئلة تحتــاج مقاربـــــة أخــرى‪.‬‬

‫‪26‬‬


‫لوحة (كوالج) تحية من الفنان عباس يوسف لروح سالمة سلوم‪ ،‬القصاصات نُسخ ُم َص ّورة عن كتب مأتم الحجية سالمة‬

‫‪27‬‬


‫ليلة الرابع من المحرم‪..‬‬ ‫مجلـــــس مــآتـــم الحــــاج طـــرار‬ ‫باسمة القصاب‬

‫‪28‬‬


‫ليلة الرابع من المحرم‪..‬‬ ‫مجلس مآتم الحاج طرار‬ ‫يف هــدوء محبــب تجلــس الحاجــة ســامة قيمــة مآتــم الحــاج طــرار إىل ركــن‬ ‫مأمتهــا الصغــر‪ .‬يتغشــاها الســواد فــا يخطــئ مــن بياضهــا يشء‪ .‬ال يشــذ منهــا غــر‬ ‫جــزء عــي عــى االحتــواء‪ .‬إنهــا يدهــا البيضــاء‪ .‬تــرز مــن شــق عباءتهــا كحاممــة‬ ‫مل ميسســها لــون‪ .‬يتوســط أصابعهــا فــص يف هيئــة خاتــم فــروزي‪ .‬فريوزتــه ركــن‬ ‫يدهــا‪ ،‬كــا هــي ركــن مأمتهــا‪ .‬ميكنــك حــن تجلــس يف أي مــكان يف املأتــم‪ ،‬أن‬ ‫تلمــح بريــق معاضدهــا الذهبيــة‪ .‬ال تفــارق املعاضــد معصــم يدهــا حتــى يف الحــزن‪.‬‬ ‫ينــزع األســود عــن جــدار مأمتهــا بياضــه يف شــهري الحــزن‪ ،‬لكنــه ال ينــزع معاضدهــا‬ ‫الذهبيــة‪ ،‬وال يحلحــل خامتهــا الفــروزي‪ .‬إنهــا عالمتهــا ال عالمــة حزنهــا‪.‬‬ ‫مأمتهــا بيتهــا‪ .‬ومــن يصــر مأمتهــا بيتـاً لهــا‪ ،‬يصــر عاملهــا مأمتهــا‪ .‬تســكن فيــه وحدهــا‬ ‫عــى رغــم كــر ســنها‪ .‬ال تقبــل أن تتحــول عنــه إىل أي مــكان آخــر‪ ،‬حتــى لــو كان‬ ‫هــذا اآلخــر‪ ،‬بيــت ابنتهــا القريــب‪ .‬ال يخلــو بيتهــا ‪-‬مأمتهــا‪ -‬مــن رواده ‪-‬روادهــا‪.-‬‬ ‫كاريزمتهــا املحبوبــة جعلتهــا جهــة قلــب تقصدهــا النســوة والفتيــات عــى حــد‬ ‫ســواء‪.‬‬ ‫كــر ســنها ال يتيــح لهــا الحركــة والتنقــل بســهولة‪ .‬لكنهــا تديــر مأمتهــا مــن مــكان‬ ‫جلوســها‪ .‬مــن ذلــك الركــن متــارس ســيادتها كــا متــارس عنايتهــا‪ .‬ال يفوتهــا أن ترحب‬ ‫باملســت ِمعات بحفاوتهــا البالغــة‪ ،‬ال يفوتهــا أن تحيطهــن بعباراتهــا الذهبيــة كــا‬ ‫تحيــط معصمهــا مبعاضدهــا الذهبيــة‪ .‬ال تغيــب عــن نظرهــا مــن تحــر‪ ،‬ال تغيــب‬

‫‪29‬‬


‫عــن وعيهــا مــن تتخلــف‪ .‬ال تغفــل مــن ال تصلهــا بعــد انتهــاء الق ـراءة والضيافــة‪.‬‬ ‫فالوصــل يف نظرهــا تقديــر‪ ،‬وإهــال الوصــل تقتــر وقطــع‪.‬‬ ‫إنهــا ليلــة الرابــع مــن محــرم‪ ،‬تبكــر خادمــات الحســن بالحضــور إىل املأتــم‪ .‬يقمــن‬ ‫بتوظيــب املــكان وتهيئتــه للقــراءة‪ .‬يف املطبــخ‪ ،‬يجلــس ِقــ ْد ٌر كبــر مــن الحليــب‬ ‫فــوق النــار‪ ،‬ميتــزج بيــاض الحليــب بخيــوط الزعف ـران ومــاء الــورد‪ .‬يتمكــن اللــون‬ ‫مــن اللــون والرائحــة مــن الرائحة‪.‬ليــس مثــل الحــراة تــذيك الكيميــاء بالكيميــاء‪.‬‬ ‫تنتــج كيميــاء جديــدة‪ .‬حليــب وزعفـران‪ ،‬أو حليــب زعفـران؛ ســمه مــا شــئت‪ .‬يعبــق‬ ‫بــه املــكان‪ .‬ميتلــئ املأتــم برائحــة الزعف ـران قبــل أن ميتلــئ بســواد النســوة‪ .‬تبــدأ‬ ‫النســوة بالتوافــد‪ ،‬رائحــة الزعف ـران تهيــئ لــدفء يكــر بــرد الشــتاء‪.‬‬ ‫تغــرت بعــض مالمــح املأتم النســايئ يف الســنوات األخــرة‪ .‬أُدخلــت املحــارضة الدينية‬ ‫تقليــدا ً جديــدا ً‪ .‬يريــد التقليــد الجديــد أن يســتقطب الفتيــات الــايت ال يجــدن يف‬ ‫النــواح والبــكاء كفايــة لعقولهــن‪ .‬يريــد أن يقــارب بــن مأتــم الرجــال الــذي يقــدم‬ ‫عـزاءه يف قالــب خطــايب‪ ،‬وبــن مأتــم النســاء الــذي يقــدم عـزاءه يف قالــب لطمــي‪.‬‬ ‫التقليــد النســايئ الجديــد يتمثــل أداء الخطيــب‪ .‬يقلّــده‪ .‬يتشــبه األداء النســايئ‬ ‫(امل ِ‬ ‫ُحــاضة) بــاألداء الرجــايل (الخطيــب)‪ ،‬فيشــتبه الصــوت النســايئ (دون قصــد)‬ ‫بالصــوت الرجــايل‪ .‬اللحــن والرتنيمــة والرتــم والقــوة والجهــور‪ .‬لكــن يبقــى مثــة‬ ‫خيــط زعف ـراين يفــرق بــن الصــوت والصــوت‪ ،‬بــن لغــة الخطــاب ولغــة الخطــاب‪.‬‬

‫‪30‬‬

‫عــى غــرار املآتــم النســائية األخــرى‪ ،‬يشــهد هــذا املأتــم‬ ‫محاولــة تحديــث أو إصــاح‪ .‬يتبنــى املحاولــة عــدد مــن‬ ‫شــباب القريــة يف نهايــة الثامنينــات‪ .‬يحــاول هــؤالء تهيئــة‬ ‫املأتــم لدخــول املحــارضة الدينيــة‪ .‬لكــن قارئــات املأتــم‬ ‫يجابهنهــن بالرفــض القاطــع‪ .‬يبقــى املأتــم يف قالبــه التقليــدي‬ ‫طيلــة الســنوات الســابقة‪ .‬يف الســنوات األخــرة القليلــة‬ ‫تتقلــص التحفظــات‪ .‬تتــرب املحــارضة إىل داخــل املأتــم‬ ‫أحيانــاً‪ .‬لكنهــا أحيــان قليلــة‪.‬‬

‫تغريت بعض مالمح املأتم‬ ‫النسايئ يف السنوات‬ ‫األخرية‪ .‬أُدخلت املحارضة‬ ‫الدينية تقليدا ً جديدا ً‪.‬‬ ‫يريد التقليد الجديد أن‬ ‫يستقطب الفتيات الاليت‬ ‫ال يجدن يف النواح والبكاء‬ ‫كفاية لعقولهن‪.‬‬


‫جهة الحديث‬

‫مأتــم القريــة ال يشــبه مأتــم املدينــة‪ .‬والنســوة يف مأتــم القريــة ال يشــبهن‬ ‫النســوة يف مأتــم املدينــة‪ .‬يف تلــك الليلــة مل يــزد عــدد الحــارضات عــن األربعــن‪.‬‬ ‫ال يــزال محــرم يف لياليــه األوىل‪ .‬ليــس بــن الحــارضات مــن مل تتجــاوز العقــد‬ ‫الثالــث مــن عمرهــا أو قريبــاً مــن ذلــك‪ .‬أغلبهــن كبــرات يف الســن‪ .‬تعلــو‬ ‫وجوههــن البســاطة والعفويــة والتلقائيــة‪ .‬تجلــس بعضهــن (ممــن ال يســتطعن‬ ‫الجلــوس عــى األرض) فــوق كــرايس‪ .‬الكــريس تقليــد جديــد يف املأتــم أيضــاً‪.‬‬ ‫لكنــه تقليــد لــه أســبابه الصحيــة ال اإلصالحيــة‪ .‬للأمتــم حرمتــه الخاصــة‪ .‬تلبــس‬ ‫النســوة يف املأتــم عبــاءة الــرأس‪ ،‬ال الكتــف‪ ،‬إمعانــا يف االحــرام‪ .‬يف املدينــة‬ ‫األمــر ليــس كذلــك‪ ،‬ملأتــم النســاء يف القريــة حظــوة تفــوق حظــوة مأتــم النســاء‬ ‫يف املدينــة‪.‬‬ ‫تبــدأ إحــدى القارئــات بقــراءة الحديــث‪ .1‬تواصــل النســوة أحاديثهــن الجانبيــة‪.‬‬ ‫تســر أحاديثهــن جهــة حارضهــن‪ .‬وحديــث كربــاء يســر بهــن جهــة التاريــخ‪.‬‬ ‫كأنهــا يسـران يف خطــن متوازيــن‪ ،‬ال يتقاطعــان‪ ،‬وال يلتقيــان‪ .‬ال تنقطــع أحاديــث‬ ‫النســوة الجانبيــة حتــى تنقطــع ق ـراءة الحديــث‪ ،‬ويبــدأ القصيــد‪.‬‬ ‫تبــدأ القارئــة بقــراءة القصيــد‪ ،‬هنــا يخفــت صــوت النســوة‪ ،‬يغيــب حديــث‬ ‫جهتهــن حتــى يتــاىش‪ .‬تغطــي النســوة وجوههــن‪ .‬ويبــدأ صــوت النحيــب‪ .‬تتفاعــل‬ ‫الحــارضات‪ .‬تعلــو أصواتهــن‪ .‬يشــاركن القارئــة ترديــد األبيــات التــي يحفظنهــا‪ .‬يصــر‬ ‫املأتــم كلــه صوت ـاً واحــدا ً ونحيب ـاً كث ـرا ً‪.‬‬ ‫املحــاضة الدينيــة (لعلهــا الليلــة األوىل‬ ‫تتوقــف القــراءة الحســينية‪ .‬يــأيت دور‬ ‫َ‬ ‫للمحــارضة يف هــذا املأتــم)‪ .‬تحمــل املحـ ِ‬ ‫ـاضة معهــا دف ـرا ً مدون ـاً فيــه عــدد مــن‬ ‫املحــارضات‪ .‬تحملــه معهــا يف أي مأتــم تذهــب إليــه‪ .‬تتوســط املحــارضة املجلــس‪.‬‬ ‫تبــدأ النســوة بكشــف وجوههــن‪ .‬تداخــل إحــدى النســوة‪ :‬ليــش مــا جبتــون لينــا‬ ‫عيــش الحســن؟‬ ‫أوال‪ ،‬ثم يأيت بعده القصيد‪ ،‬ثم الرواية‪ ،‬ثم املراد‪.‬‬ ‫‪ 11‬الحديث هو مبثابة التهيئة للدخول إىل القراءة‪ .‬يقرأ الحديث ً‬

‫‪31‬‬


‫حديث الساعة‬

‫تبــدأ املحـ ِ‬ ‫ـاضة بآيــة مــن ســورة طــه‪ .‬تــرح مفرداتهــا‪ .‬تنتقــل برتتيــب مقصــود إىل‬ ‫استشــهادات حســينية‪ .‬تقــدم حــوارا ً يــدور عــى لســان بعــض شــهداء الواقعــة‪ .‬لعــل‬ ‫النســوة تستســيغ املحــارضة الــذي قطعــت خلــوة بكائهــن‪ .‬تسرتســل املحـ ِ‬ ‫ـاضة يف‬ ‫الــكالم‪ .‬ال العـزاء‪ .‬تبــدأ بعــض النســوة يف التثــاؤب والتملمــل‪ .‬تقــف بدفرتهــا وســط‬ ‫املســتمعات‪ .‬تتحــدث املحــارضة عــن محاســبة الــذات‪ .‬تكشــف إحــدى النســوة عــن‬ ‫وجههــا وتقــول‪ :‬ال تجيبــن عــن القــر وال املــوت‪.‬‬ ‫تتنــاول املحــارضة بعــض أحداث الســاعة‪ .‬تنتقــد إحدى الكاتبــات الصحفيات‪ .‬تســميها‬ ‫«بحرانيــة بعثيــة»‪ .‬تــأيت اللعنــات مــن بعــض النســاء‪ ،‬تشــاركهن الباقيــات الــايت ال‬ ‫يعرفــن معنــى «بعثيــة»‪ .‬تــأيت املحــارضة عــى ســرة صــدام حســن‪ .‬تشــر إىل تاريخــه‬ ‫ونهايتــه‪ .‬تقــارن بينــه وبــن محمــد باقــر الصــدر الــذي أعدمــه صــدام‪ .‬تقــول املحارضة‬ ‫«عندمــا نبــش قــر اإلمــام الصــدر بعــد ‪ 20‬ســنة‪ ،‬تفاجــأ الجميــع مبــا رأوا‪ .‬كأنــه مــات‬ ‫الســاعة»‪ .‬تقاطعهــا إحــدى الحــارضات «أيب رحمــة اللــه عليــه‪ ،‬عندمــا فتحوا قــره بعد‬ ‫ســنوات أيضــا‪ ،‬وجــدوه عــى حالــه»‪ .‬تجيبهــا املحــارضة «عليــه بالعافيــة»‪.‬‬ ‫تبســط املحــارضة الــكالم‪ .‬ومــن العــراق تنتقــل إىل لبنــان‪.‬‬ ‫ومــن صــدام حســن إىل حســن نــر اللــه‪ .‬فينتقــل الــكالم‬ ‫مــن الــذم إىل اإلط ـراء‪ .‬يسرتســل الــكالم وال ينقطــع‪ .‬الشــاهد‬ ‫يجــر الشــاهد‪ .‬تعلــن إحــدى املســتمعات امتعاضهــا‪ :‬إذا كل‬ ‫ليلــة محــارضة مــا بجــي‪ .‬تدخــل إحــدى املســتمعات متأخــرة‪:‬‬ ‫«كل يش تقولينــه نعرفــه‪ ،‬أنــا تأخــرت لــن تنتهــي املحــارضة»‪.‬‬

‫‪32‬‬

‫تبتســم املحـ ِ‬ ‫ـاضة‪ ،‬لكنهــا ال تستســلم‪ ،‬تنتقــد لبــس البالطــو‬ ‫(الجلبــاب األســود) املزركــش‪ ،‬تســتاء مــن مالبــس حفــات‬ ‫الــزواج غــر املحتشــمة‪ .‬تدعــو املســتمعات إىل التوقــف بعــد‬ ‫عــرة محــرم‪ ،‬ومحاســبة أنفســهن ليكــون حــب الحســن‬ ‫قــوالً وفع ـاً‪ ،‬ال قــوالً فقــط‪.‬‬

‫كرب سنها ال يتيح لها‬ ‫الحركة والتنقل بسهولة‪.‬‬ ‫لكنها تدير مأمتها من‬ ‫مكان جلوسها‪ .‬من ذلك‬ ‫الركن متارس سيادتها كام‬ ‫متارس عنايتها‪ .‬ال يفوتها‬ ‫أن ترحب باملست ِمعات‬ ‫بحفاوتها البالغة‪ ،‬ال‬ ‫يفوتها أن تحيطهن‬ ‫بعباراتها الذهبية كام‬ ‫تحيط معصمها مبعاضدها‬ ‫الذهبية‪.‬‬


‫تختــم محارضتهــا بأبيــات حســينية وتنتهي‪ .‬يشــكرها النســوة‪.‬‬ ‫يرتفــع صــوت إحداهــن مــن آخــر املأتــم‪ :‬مــا تقريــن عــاد‬ ‫جــت آخــر الليــل (تعنــي املاليــة)‪.‬‬ ‫إنهــا املاليــة اآلن‪ .‬هــا هــي متســك دفرتهــا وتقــف يف صــدر‬ ‫املأتــم‪ .‬تغطــي شــيئاً مــن وجههــا وتظهــر مــا ميكنهــا مــن‬ ‫الق ـراءة والنعــي‪ .‬هــا هــي الوجــوه تتبــدل حاالتهــا‪ .‬ينتفــض‬ ‫امللــل الــذي كان جامثــاً عــى بعضهــا‪ ،‬وتــدب فيهــا شــهوة‬ ‫النــواح‪ .‬تعتــدل األجســاد وتتهيــأ للدخــول يف مســاحات‬ ‫البــكاء‪ .‬البــكاء غســل للــروح وترقيــق للقلــب‪ .‬البــكاء توجــه‬ ‫خالــص لنــرة الحســن‪ .‬البــكاء اش ـراك يف فجعــة الفاجعــة‪.‬‬ ‫البــكاء مواســاة لصــر زينــب‪ .‬البــكاء اعتــذار يتجــاوز التاريــخ‪.‬‬ ‫هكــذا تفهــم النســوة البــكاء‪ .‬وهكــذا تقــدم النســوة نفســها‬ ‫بــن يــدي الع ـزاء‪.‬‬

‫إنها املالية اآلن‪ .‬ها هي‬ ‫متسك دفرتها وتقف‬ ‫يف صدر املأتم‪ .‬تغطي‬ ‫شيئاً من وجهها وتظهر‬ ‫ما ميكنها من القراءة‬ ‫والنعي‪ .‬ها هي الوجوه‬ ‫تتبدل حاالتها‪ .‬ينتفض‬ ‫امللل الذي كان جامثاً‬ ‫عىل بعضها‪ ،‬وتدب فيها‬ ‫شهوة النواح‪ .‬تعتدل‬ ‫األجساد وتتهيأ للدخول‬ ‫يف مساحات البكاء‪ .‬البكاء‬ ‫غسل للروح وترقيق‬ ‫للقلب‪.‬‬

‫حديث الواقعة‬

‫تبــدأ املاليــة‪ .‬يغطــي النســوة وجههــا مــرة أخــرى‪ .‬تطلــق املاليــة ونّتهــا األوىل‪ .‬يضــج‬ ‫املــكان بالونــن واآلهــات‪ .‬تقــرأ روايتهــا بإيقــاع يفجــع الســواد‪ .‬فتزيــد الســواد لوعــة‬ ‫وأىس‪ .‬يســكب النســوة أصواتهــن يف دموعهــن‪ .‬يطأطــئ النســوة رؤوســهن فريتفــع‬ ‫نواحهــن‪ .‬تتاميــل جذوعهــن مينــة ويــرة‪ .‬تهتــز أجســادهن مــن فــرط البــكاء‪،‬‬ ‫وتنفــرط أصواتهــن مــن صــوت الواقعــة‪ .‬كلــا اشــتد خطــب بأحــد أبطــال كربــاء أو‬ ‫ســار بخطواتــه نحــو املــوت صفقــت النســوة مولــوالت‪ .‬تصفــق املاليــة عــى ظهــر‬ ‫كتابهــا وتعــي وناتهــا وآهاتهــا‪ .‬ال تتاملــك النســوة أنفســهن‪ ،‬يناجــن الســيدة زينــب‬ ‫يف نحيــب كســر‪« :‬غريبــة يــا بعــد عمــري»‪« ،‬اللــه يســاعدش يــا زينــب»‪« ،‬جــوش‬ ‫الشــباب يــا زينــب»‪« ،‬مــا قــرت يــا عيــوين»‪.‬‬ ‫تناجــي النســوة اإلمــام الحســن بصــوت بـ ٍ‬ ‫ـاك متهــدج «يــا حبيبــي يــا غريــب»‪ .‬متــد‬ ‫ونتهــا «واحســيييييني واحســييييني»‪ .‬تلطــم صدرهــا «عــى الشــهيد‪ ،‬عــى الغريــب‪،‬‬

‫‪33‬‬


‫عــى الوحيــد‪ ،‬عــى العطشــان‪ .»..،‬يختلــط صــوت املســتمعات مــع صــوت القارئــة‬ ‫يف تداخــل يســتدر الدمعــة ويزيــد مــن حــدة الفجيعــة‪ .‬يف املـراد (اللطميــة)‪ ،‬يــرب‬ ‫النســوة بيدهــن عــى صدرهــن أو رجلهــن أو رأســهن‪ .‬ال يهــدأ صــوت النحيــب حتــى‬ ‫تختــم املاليــة‪« .‬إنــا للــه وإنــا إليــه راجعــون‪ ،‬وال حــول وال قــوة إال باللــه العــي‬ ‫العظيــم»‪ .‬فيــأيت وقــت الدعــاء‪.‬‬ ‫حديث الحليب‬

‫هــا هــن النســوة يجففــن دموعهــن‪ .‬يســتعدن شــيئاً مــن هدوئهــن‪ .‬يســك ّن إىل‬ ‫الدعــاء‪ .‬كأنهــن ينزعــن عنهــن ثــوب الواقعــة‪ .‬تــدور خادمــات املأتــم بحليــب‬ ‫الزعفــران الدافــئ‪ .‬ترتشــفه النســوة برويــة‪ ،‬فتعــود إىل وجوههــن التــي أرهقهــا‬ ‫البــكاء‪ ،‬يشء مــن لــون الحيــاة‪ .‬تفــرش الســفرة عــى األرض‪ .‬يتوســطها عيــش الحســن‬ ‫وخـرات املأتــم‪ .‬تتقابــل النســوة‪ .‬ينفتــح الحديــث عــى الحديــث مــرة أخــرى‪ .‬يصــر‬ ‫الحديــث جهــة الحــارض ال التاريــخ مــرة أخــرى‪ .‬تبــدأ حميميــة الــكالم والطعــام‪.‬‬ ‫تعــود للوجــوه االبتســامات والضحــكات‪ .‬قبــل أن تغــادر النســوة‪ ،‬يتجهــن ناحيــة‬ ‫ركــن املأتــم‪ .‬حيــث صاحبــة املأتــم‪ .‬يســلمن عليهــا‪ ،‬يشــكرنها‪ ،‬يســتمتعن بحلــو‬ ‫عباراتهــا‪ ،‬ثــم ينرصفــن‪.‬‬ ‫مــن ذلــك الركــن‪ ،‬بإصبعهــا ذي الخاتــم الفــروزي‪ ،‬تشــر صاحبــة املأتــم‪ ،‬تلتفــت‬ ‫ملــن مل تتنــاول حليــب الزعفـران هنــا‪ ،‬ومــن مل تــأكل هنــاك‪ .‬تتأكــد أن الجميــع قــد‬ ‫متــت ضيافتهــن‪ ،‬وأن األمــور تســر بشــكل مــرض‪ .‬تحيــط بنظراتهــا الجميــع‪ ،‬ويســبق‬ ‫ســامها ســؤالها عــن مــن مل تحــر مــن املســتمعات والصديقــات‪.‬‬

‫‪34‬‬


‫دو ًما يتوسط أصابعها فص يف هيئة خاتم فريوزي‪ .‬فريوزته ركن يدها‪ ،‬كام هي ركن مأمتها‬

‫‪35‬‬


‫تعلمن في مجلس سالمة اللغة والحياة‬ ‫فضاء عباس‬

‫‪36‬‬


‫تعلمن في مجلس سالمة اللغة والحياة‬

‫لعــل أجمــل ســر اإلنســان هــي التــي تقتفيهــا مــن خــال أصدقائــه‪ ،‬فهــم كتــاب‬ ‫يــروي تفاصيلــه الصغــرة بشــغف كبــر‪ .‬أصدقــاء ســامة ســلوم (االســم الــذي يحــب‬ ‫أن يدللهــا بــه الجميــع) قــد ال يبــدون منســجمني عمـرا ً أو جنسـاً أو ثقافــة أو بيئــة‪.‬‬ ‫تجــد بــن صديقاتهــا مــن هــم قرينــات عمرهــا وقريباتهــا ومــن هــن أصغــر منهــا‬ ‫ومــن هــن أكــر بــل تتجــاوز حــدود ثقافــة قريتهــا‪ ،‬بــل إنهــا تســتجلب ملحفلهــا‬ ‫تحيــات صباحيــة مــن رجــال القريــة الذيــن يحرصــون حــن ميــرون بنافــذة دارهــا‪،‬‬ ‫أن يلقــوا عليهــا التحيــة ويتبادلــون معهــا النــكات‪ .‬ورغــم أن الجــدار يحجــب تالقــي‬ ‫األبصــار‪ ،‬لكــن صوتهــا وعذوبــة لســانها تخرتقــان الجــدار إىل قلــوب كل املاريــن‪،‬‬ ‫املبادريــن بالتحيــة»‬ ‫أم حمزة‪ ..‬طقس اإلفطار والحياة‪..‬‬

‫أم حمــزة‪ ،‬ابنــة خالــة ســامة‪ ،‬تــروي عالقتهــا بصديقــة عمرهــا‪« :‬جالســت ســامة‬ ‫أكــر مــن مجالســتي ألمــي»‪ ،‬يصعــب عــى أم حمــزة تحديــد تاريــخ عالقتهــا بســامة‬ ‫«مــن اوتعينــا عــى الدنيــا مــع بعــض»‪ .‬فمنــذ بدايــة نشــأة أم حمــزة وجــدت نفســها‬ ‫ظـاً مالزمـاً لســامة‪ ،‬ترافقهــا كل حــن وتنتقــل معهــا حــن تتعــدى حــدود قريتهــا‬ ‫يف زياراتهــم إىل ســاهيج واملنامــة وباربــار والنعيــم‪.‬‬ ‫تصــف نفســها مفتخــرة‪« :‬أنــا خزينــة أرسار ســامة‪ ،‬تخــرين بــكل يشء»‪ .‬يعــرف‬ ‫املقربــون أن أم حمــزة مستشــارة ســامة ومحــل نجواهــا‪ .‬تكــرر كث ـرا ً‪« :‬ضمتنــي‬

‫‪37‬‬


‫وحبتنــي»‪ ،‬بــل كانــت تســتأمنها عــى خزانتهــا الخاصــة وعــى أمــور تجارتهــا‬ ‫املتواضعــة واملهمــة يف نفــس الوقــت لديهــا‪.‬‬ ‫يبــدأ اليــوم لــدى أم حمــزة الســاعة الســابعة صباحـاً‪ ،‬حــن تبــدأ بإعــداد (الريــوق)‬ ‫يف بيــت ســامة‪ .‬ســتجلب أم حمــزة معهــا خب ـزا ً طازج ـاً مــن فــرن الخبــاز محمــد‪.‬‬ ‫الرجــل اإليـراين الــذي أحــره زوجهــا (حجــي عبدالحســن طـرار) مــن املنامــة طفـاً‬ ‫وســكن يف جوارهــم‪ ،‬قبــل أن يســتأجر منهــم محـاً ليــارس فيــه مهنة الخبــز‪ ،‬ويعتاد‬ ‫أهــل القريــة عــى خبــز محمــد وال يعــودون يســتبدلونه بغــره‪ .‬لقــد صــار محمــد‬ ‫ابــن قريــة الديــر التــي يعرفهــا أكــر مــا يعــرف ديــاره‪ .‬ثــم‬ ‫ســتعد أم حمــزة طبــق البيــض والطامطــم‪ ،‬وســتل ّون الســفرة ما تزال أم حمزة تواصل‬ ‫برنامجها اليومي بالذهاب‬ ‫باللبنــة والقشــطة والشــاي وكل مــا تشــتهيه النفــس‪.‬‬ ‫يف الصباح الباكر إىل بيت‬ ‫سالمة‪ ،‬لكن من دون‬ ‫سالمة‪ .‬تريد أم حمزة أن‬ ‫ال ينقطع مجلس سالمة‬ ‫يك ال تنقطع سريتها‬ ‫تريدها أن تكون حياة‪.‬‬

‫الريــوق عنــد ســامة وأم حمــزة يعــد طقسـاً خاصـاً تحرصــان‬ ‫عليــه مع ـاً‪ ،‬وال ميكــن تفويتــه ألي ســبب كان‪ .‬لهــذا حــن‬ ‫انتقلــت ســامة للمبيــت يف بيــت ابنتهــا (صبــاح أم عــي)‪،‬‬ ‫ســتجدها منــذ الســاعة السادســة والنصــف‪ ،‬تقــف مرتديــة‬ ‫عباءتهــا‪ ،‬تتخطــف مــن ســيخرج للعمــل صباحـاً يك تلحــق بــه‬ ‫ليوصلهــا إىل بيتهــا‪ .‬مل تكــن لتفــوت الريــوق مــع أم حمــزة أو تؤخــره‪ .‬كان إرصار‬ ‫ســامة عــى العــودة لبيتهــا موضــع تنــدر مــن حولهــا وتعجبهــم باملثــل‪ ،‬مل يقعدهــا‬ ‫حتــى املــرض‪ ،‬إال يف أواخــر أيامهــا‪.‬‬ ‫تؤكــد أم حمــزة أنــه مل مينعهــا عــن بيــت ســامة حتــى مامنعــة والدهــا‪ ،‬الــذي كان‬ ‫يجــد هــذا االلتصــاق املتامهــي مبالغ ـاً فيــه‪ .‬بــل فرضــت متاهيهــا عــى الجميــع‪،‬‬ ‫ومل يوقفهــا حتــى زواجهــا‪ .‬ولــي تســد ذرائــع النقــد عليهــا كانــت تســارع إلنهــاء‬ ‫حاجيــات بيتهــا أوال ثــم تتوجــه لقلــب ســامة وصحبــة ســامة وإفطارهــا‪ ،‬فــا‬ ‫يحاســبها عــى تقصــر أحــد‪.‬‬ ‫‪38‬‬

‫«كنــت أرافقهــا يف زياراتهــا للصديقــات‪ ،‬ينقلنــا حجــي أحمــد (زوج ابنتهــا صبــاح)‬ ‫لزيــارة (نــرة) مــن املنامــة‪ .‬أمــا حــن نــزور (فضــة) مــن ســاهيج‪ ،‬فكنــا نســر‬


‫عــى أقدامنــا أو نركــب (البيكــب) مــع معصومــة أم ســامة التــي متازحنــا‪ .‬كنــا‬ ‫نرتاقــص فرحـاً خــال هــذه الزيــارات‪ ،‬حتــى إننــا نــر عــى الركــوب خلــف البيكــب‬ ‫عوضـاً عــن املقاعــد األماميــة لــي نحظــى مبتعــة الجــوالت الخاطفــة‪ .‬كانــت زياراتنــا‬ ‫تســتغرق يومــاً كامــاً منــذ الصبــاح وحتــى املســاء‪ ،‬ومــا أن نســمع بــأن فضــة‬ ‫(توفيــت فضــة بعــد هــذه املقابلــة) مريضــة حتــى تجدنــا عندهــا منــذ الســابعة‬ ‫صباح ـاً»‪.‬‬ ‫تكمــل أم حمــزة‪« :‬كان تــردد زوج ســامة عــى العاصمــة املنامــة‪ ،‬ســبباً ليكــون أول‬ ‫مــن يفتتــح مخبـزا بالديــر‪ ،‬يقــدم الكعــك وبعــض الحلويــات الهنديــة التــي أعجــب‬ ‫بهــا‪ ،‬حتــى أطلــق عــى حــاوة (الكاجــو كجــو) املعروفــة‪ ،‬اســم (رصة الخاتــون)‬ ‫حبـاً يف أصغــر بناتــه»‪ ،‬وتضيــف‪« :‬عمــل معــه يف املخبــز بعــض شــباب القريــة‪ ،‬كان‬ ‫يبعثهــم محملــن بالبضاعــة إىل قريــة ســاهيج مشــياً عــى األقــدام‪ .‬ثــم اشــرى‬ ‫للمخبــز مكينــة حــاوة (شــعر البنــات)‪ ،‬فتعلمنــا أنــا وســامة طريقــة عملهــا‪ ،‬وبدأنــا‬ ‫يف إعــداده وبيعــه لألطفــال‪ ،‬وبعدهــا عملنــا عــى بيــع الــذرة (الفشــار)‪ ،‬وهكــذا كنــا‬ ‫نســاير الزمــن‪ ،‬فكلــا أحــر لنــا زوج ســامة فكــرة‪ ،‬تبنيناهــا وتحمســنا لهــا»‪.‬‬ ‫مــا تـزال أم حمــزة تواصــل برنامجهــا اليومــي بالذهــاب يف الصبــاح الباكــر إىل بيــت‬ ‫ســامة‪ ،‬لكــن مــن دون ســامة‪ .‬تريــد أم حمــزة أن ال ينقطــع مجلــس ســامة يك ال‬ ‫تنقطــع ســرتها تريدهــا أن تكــون حيــاة‪ .‬تفتــح أم حمــزة بيــت ســامة للزائ ـرات‪،‬‬ ‫وتعــد الشــاي‪ ،‬وتســتقبل الوافــدات‪ ،‬لكــن ال تســتقبل ضحــكات ســامة والمجازاتهــا‬ ‫التــي يكررهــا الجميــع حولهــا مبتعــة فريــدة‪.‬‬ ‫تقــول‪« :‬قضينــا رمضــان هــذا العــام كســابقه نقــرأ األدعيــة ونفتــح املجلــس‪ ،‬يف‬ ‫الحقيقــة مل نغــر شــيئا مــا اعتدنــا عليــه»‪ ،‬كأن أم حمــزة أخــذت عــى عاتقهــا‬ ‫أمانــة حفــظ املــكان وحفــظ برنامجــه لتحفــظ ذاكــرة ســامة‪.‬‬ ‫أم حسين‪ ..‬امبراطورية الباب المفتوح‬

‫«ســامة هــي امرباطوريــة الديــر»‪ ،‬هكــذا تصفهــا صديقتهــا أم حســن (فاطمــة‬ ‫حميــد)‪ .‬تتباهــى بســرة األبــواب املفتوحــة التــي قادتهــا لتكــون قريبــة مــن قلــب‬

‫‪39‬‬


‫ســامة‪« ،‬كانــت أبــواب بيــوت القريــة مرشعــة ليــل نهــار‪ ،‬حتــى إننــا مل نكــن نرتــاد‬ ‫الشــارع العــام‪ ،‬بــل نتنقــل عــر األبــواب الداخليــة التــي تحولــت البيــوت املتعــددة‬ ‫إىل بيــت واحــد‪ .‬مل يكــن أهــل القريــة يعرفــون حينهــا معنــى الخصوصيــة‪ ،‬كانــت‬ ‫بيــوت القريــة كلّهــا خصوصيــة واحــدة‪ .‬ندخــل مــن بيــت حجــي عبداللــه بــن‬ ‫خويــر‪ ،‬ونخــرج مــن بيــت حجــي حســن‪ ،‬ومنــه إىل الخبــاز‪ .‬ال نحتــاج الشــارع بقــدر‬ ‫مــا نحتــاج األبــواب‪ .‬مل نكــن نشــعر أننــا ال ننتمــي لهــذه البيــوت فالقريــة كل القريــة‬ ‫بيــت واحــد»‪ .‬تقــول أم حســن‪.‬‬ ‫تكمــل‪« :‬ســامة ســلوم هــي إمرباطوريــة الديــر‪ ،‬يعرفهــا الجميــع ويحبهــا الجميــع‪،‬‬ ‫النســاء والرجــال الكبــار والشــباب واألطفــال‪ ،‬يتع ّنــى الجميــع للســام عليهــا»‪،‬‬ ‫تضيــف أم حســن‪ « :‬كانــت تطبــخ للمعاريــس والضحكــة ال تفــارق محياهــا‪،‬‬ ‫لديهــا صداقــات متنوعــة تنقســم مجالســهم عــى طــول يومهــا‪ .‬فصديقــات الصبــاح‬ ‫يختلفــن عــن صديقــات املســاء‪ ،‬وهـ ّن غريهــن يف الليــل‪ ،‬مجموعــة تــأيت ومجموعــة‬ ‫تــروح‪ ،‬ال يخلــو بيتهــا وال تحتــاج إىل ســكرترية أو مديــرة أعــال ترتــب زياراتهــا‪ .‬هــن‬ ‫يرتــن برنامجهــن اليومــي‪ ،‬تجلــس ســامة يف صــدر املجلــس تر ّحــب بــكل جامعــة‬ ‫عــى طريقتهــا التــي تتقنهــا يف ف ـ ّن االحتفــاء»‪.‬‬ ‫«يقــع بيــت ســامة قــرب بيــت والــدي‪ ،‬لوالــدي بقالــة قريبــة لكــن ســامة ال تــردد‬ ‫عليهــا‪ ،‬فقــد كان زوجهــا يجلــب لهــا كل حاجاتهــا مــن الســوق‪ ،‬حتــى الفاكهــة‪ .‬مل تكن‬ ‫املحــات بالقريــة توفــر كل يشء كــا هــو اآلن‪ .‬كانــت ســامة تحــرص عــى التلــذذ‬ ‫بالفاكهــة‪ ،‬وتحــب أنــواع بعينهــا خصوصـاً الرمــان واملانجــو‪ .‬كلــا زرتها شــاركتني معها‬ ‫أكل الرمــان الــذي يعــد الزمتهــا اليوميــة‪ .‬تلتــذ بالطعــام وت ـراه مــن طيبــات الدنيــا‪،‬‬ ‫كثـرا ً مــا رددت‪« :‬أنعــل أبوهــا دنيــا‪ ،‬خلنــا نتلــذذ فيهــا بكــرة نودعهــا»‪.‬‬ ‫فاطمة زوجة أستاذ عيسى وحمامة سالمة‬

‫‪40‬‬

‫مل تــدرك معنــى الغربــة بعــد‪ .‬كانــت يف الثالثــة عــر مــن عمرهــا حــن قالــت للــزوج‬ ‫القــادم مــن البعيــد‪« :‬قبلــت»‪ ،‬ثــم قطعــت الطريــق عــى الــكالم‪ .‬قطعــت مســافة‬ ‫شــاقة وطويلــة مــن مدينتهــا األم همــدان الواقعــة غــرب إيــران‪ ،‬ثــم إىل مدينــة‬


‫املحمــرة حيــث الســفارة الربيطانيــة للقيــام بإج ـراءات الفحــص‪ .‬وهنــاك تعجــب‬ ‫هــؤالء مــن إرصار مهــري (فاطمــة زوجــة أســتاذ عيــي املــايض) عــى الــزواج‬ ‫بشــخص ال يقاربهــا يف اللغــة وال الثقافــة وال يف بلــد املنشــأ‪ .‬ســألها الرشطــي‪ :‬هــل‬ ‫أجـ ِ‬ ‫ـرك أحــد عــى الــزواج؟ أجابــت بحســم‪ :‬ال‪ ،‬ومــا زالــت بعــد خمســن ســنة تؤكــد‬ ‫بأنــه قرارهــا وحدهــا‪ .‬حاولــت والدتهــا أن تثنيهــا عــن هــذا القـرار بعــد أن أمضــت‬ ‫عقــد الــزواج‪ ،‬لكــن كان األمــر قــد مــى وانقــى‪ .‬صــارت‬ ‫«سالمة هي امرباطورية‬ ‫ً‬ ‫زوجــة رجــل بحرينــي‪ ،‬قبــل أن ميــي الزمــن وتصــر جــزءآ الدير»‪ ،‬هكذا تصفها‬ ‫صديقتها أم حسني‪.‬‬ ‫مــن عــامل زوجهــا وعائلتــه ومنطقتــه‪.‬‬ ‫تتباهى بسرية األبواب‬ ‫املفتوحة التي قادتها‬ ‫لتكون قريبة من قلب‬ ‫سالمة‪« ،‬كانت أبواب‬ ‫بيوت القرية مرشعة‬ ‫ليل نهار‪ ،‬حتى إننا مل‬ ‫نكن نرتاد الشارع العام‪،‬‬ ‫بل نتنقل عرب األبواب‬ ‫الداخلية التي تحولت‬ ‫البيوت املتعددة إىل بيت‬ ‫واحد‪.‬‬

‫تــرد مهــري ســرة خروجهــا مــع مجموعــة مــن الصغ ـرات‬ ‫الــايت مل تتجــاوز أعامرهــن الثالثــة عــر‪ ،‬يطــأن بأقدامهــن‬ ‫الصغــرة مراكــب كبــرة‪ ،‬ســوف تبحــر بهــن إىل البعيــد‪،‬‬ ‫يرافقهــن أزواج غربــاء ال يفقهــن لغتهــم ال يعرفــن طبائعهــم‬ ‫وأخالقهــم‪ ،‬لــن يكــون مــن الســهل عليهــا بعــد اليــوم أن‬ ‫تلتقــي عائلتهــا وأهلهــا وصديقاتهــا‪ .‬مــا إن بــدأ املركــب‬ ‫ميخــر عبــاب البحــر باتجــاه البحريــن‪ ،‬حتــى بــدأت دقــات‬ ‫قلــب الصغــرة تشــعر بــأول الغربــة والخــوف مــن املجهــول‪:‬‬ ‫«حينهــا انتابتنــي حالــة مــن البــكاء اســتمرت معــي طــوال الرحلــة‪ ،‬كذلــك باقــي‬ ‫الفتيــات»‪ ،‬تقــول مهــري‪ .‬أخــذت إحــدى الســيدات عــى عاتقهــا محاولــة التخفيــف‬ ‫عــن الفتيــات وطأمنتهــم‪ ،‬لكــن دون جــدوى‪« :‬مل يتوقــف بكاؤنــا ومل يهــدأ خوفنــا»‪.‬‬ ‫يكفــي أن يحــر اســم ســامة يك تدمــع عــن (فاطمــة)‪ .‬تتأىس عــى فقدها‪ ،‬وتأســف‬ ‫أنهــا كانــت مســافرة عندمــا رحلــت ســامة‪ ،‬فلــم تحــظ بتوديعهــا‪« .‬كانــت يل مبثابــة‬ ‫األم» تقــول‪ .‬لقــد احتــوت ســامة تلــك الطفلــة التــي أتــت ال تعــرف غــر غربتهــا‪.‬‬ ‫«تعلقــت بســامة أكــر مــن بناتهــا‪ ،‬ال أعــرف رس هــذا التعلــق لكننــي أحببتهــا جــدا ً‪،‬‬ ‫رمبــا طيبتهــا ســبب هــذا التعلــق‪ ..‬ال أعــرف»‬ ‫تقــول «وصلــت البحريــن ال أعــرف اللغــة وال أعــرف أحــد‪ ،‬لكننــي قــررت أن أكــون‬

‫‪41‬‬


‫خليــة يف نســيج هــذا البلــد املتجانــس‪ ،‬صــار مجلــس ســامة‬ ‫اليومــي مدرســتي للغــة ووســيلتي لالندمــاج باملجتمــع‬ ‫الجديــد»‪.‬‬ ‫أجــادت فاطمــة اللغــة العربيــة باللهجــة الديراويــة الصعبــة‬ ‫واملتفــردة‪ ،‬لــن تشــك حــن تجلــس إليهــا وتحاكيهــا إال أنهــا‬ ‫ابنــة الديــر‪.‬‬

‫لقد ربت سالمة أبناءها‬ ‫وشاركت يف تربية‬ ‫أحفادها الذين يطيب‬ ‫ملعظمهم أن يناديها‬ ‫«أمي سالمة»‪ .‬أجادت‬ ‫فن الطبخ وصار عالمتها‪.‬‬ ‫فكل ما يصدر عن مطبخ‬ ‫سالمة مشهود له بالطيب‬ ‫واللذة الفائقني‪.‬‬

‫«كنــت ارتــاد بيــت ســامة كل يــوم‪ ،‬هنــاك تعرفــت عــى‬ ‫النــاس وتع ّرفــوا عــي‪ ،‬ورصت جــزءا ً مــن هــذا الكيــان الطيــب‬ ‫املتســع يف قبــول اآلخــر»‪ .‬تكمــل « تحــرص ســامة عــى فتــح مجلســها وهــو بيتهــا‬ ‫لزوارهــا كل يــوم‪ ،‬حتــى عندمــا تخــرج يف زياراتهــا أو تســافر‪ ،‬ترســل مــن ينــوب‬ ‫عنهــا يف اســتقبال ضيوفهــا وإقامــة مجلســها»‪.‬‬ ‫«حنانهــا ال يشــبهه أي حنــان‪ ،‬ولســانها شــكر شكر(سـكّر)‪ ،‬كنــت دامئـاً أقــول لســامة‬ ‫لســانك شــكر‪ ،‬مل مينعنــي عــن زيارتهــا غــر املــرض وتربيــة األطفــال‪ ،‬حــن أزورهــا‬ ‫وأســلم عليهــا تــرد عــي بـــ (يــا خلــف أمــي)‪ ،‬حتــى حــن صــارت بــن املــوت والحياة‬ ‫يف لحظــات مرضهــا األخــرة زرتهــا وهــي تغيــب عــن اإلدراك لحظــات وتعــود‪ ،‬فلــا‬ ‫ســمعت صــويت ردت تحيتهــا الخــاص يب (يــا خلــف جبــدي)‪ ،‬أنهــا مل تبعــدين عنهــا‬ ‫حتــى يف عاملهــا الخــاص»‪.‬‬ ‫تكمــل ‪« :‬منــذ غــادرت ســامة مل أعــد أقــوى عــى دخــول بيتهــا‪ ،‬ليســت تحملنــي‬ ‫رجــي وال قلبــي‪ .‬مجلــس ال تغ ـ ّرد فيــه ســامة‪ ،‬ال شــكر (ســكر) فيــه»‪.‬‬

‫‪42‬‬

‫تتنهــد ثــم تقــول‪« :‬ســامة مــا جــا عليهــا وال بجــي (مل يــأت مثلهــا ولــن يــأت)»‪.‬‬ ‫تكمــل» ال أســتطيع نســيانها أبــدا ً‪ ،‬لهــا مواقــف ال تنــى معــي‪ ،‬وقفــت معــي حــن مل‬ ‫يكــن عنــدي ســند وال عــون عــى متاعــب الحيــاة»‪ ،‬ثــم تحلّــق بنظرهــا بعيــدا ً وهــي‬ ‫تقــول‪« :‬حلمــت بهــا ثــاث مـرات ترتــدي ثوبهــا النشــل‪ ،‬إنهــا حاممــة‪ ،‬نعــم ســامة‬ ‫حاممــة ســام وحــب ال تُنــى‪ ..‬ســلوم‪ ..‬ســلوم غــر»‪.‬‬


‫على هامش «روبة» سالمة‪..‬‬

‫مثــل نســوة عرصهــا‪ ،‬كانــت الزوجــة الثانيــة والثالثــة أمـرا ً ال متلــك ر ّده وال توقيفــه‪،‬‬ ‫ال متلــك أمامــه إال االستســام والصــر‪ .‬امل ـرارة التــي تنقلــب إىل عــداوة‪ ،‬مل تدخــل‬ ‫قلــب ســامة‪ ،‬رغــم رشاســة بعــض (رضاتهــا) عليهــا‪ .‬عندمــا تعرضــت رضتها(فوزيــة‬ ‫املرصيــة) التــي عرفــت برشاســتها لحــادث ســقوط الثالجــة عليهــا‪ ،‬أخذتهــا ســامة‬ ‫مــن فورهــا إىل املستشــفى‪ ،‬وقامــت مببارشتهــا واالعتنــاء بهــا‪ .‬المهــا البعــض عــى‬ ‫ذلــك‪ ،‬فكانــت تجيبهــم‪« :‬مــا يل قلــب»‪ .‬ال متلــك ســامة قلب ـاً يقســو أو يــر ّد عــى‬ ‫القســوة وحاجــة اآلخريــن تكرسهــا‪ .‬كانــت تكــرر‪« :‬قلبــي روبــة»‪.‬‬ ‫مقابــل تلــك الـــ «روبــة»‪ ،‬تتميــز ســامة بشــخصيتها الواثقــة والثابتــة‪ .‬وعــى خــاف‬ ‫النســوة الــايت يهتممــن بالتفاصيــل الصغــرة ويعظمنهــا‪ ،‬خاصــة يف وقــت األزمــات‪،‬‬ ‫متيــل ســامة إىل تهويــن األمــور وتهدئتهــا‪ ،‬تراهــا الوســيلة األمثــل للدخول عــى الحل‬ ‫الــذي ال يــأيت بالفــزع والتهويــل‪ .‬كانــت تجيــد تعليــم مــن حولها هــذه االسـراتيجية‪،‬‬ ‫خاصــة مــن يلجــأ إليهــا طالبـاً مشــورتها أو وســط عـراك أحفادهــا مــن حولهــا‪.‬‬ ‫لقــد ربــت ســامة أبناءهــا وشــاركت يف تربيــة أحفادهــا الذيــن يطيــب ملعظمهــم أن‬ ‫يناديهــا «أمــي ســامة»‪ .‬أجــادت فــن الطبــخ وصــار عالمتهــا‪ .‬فــكل مــا يصــدر عــن‬ ‫مطبــخ ســامة مشــهود لــه بالطيــب واللــذة الفائقــن‪ .‬أتقنــت ســامة القيــام بــدور‬ ‫الدايــة (تجهيــز العرائــس)‪ ،‬فكانــت تتص ـ ّدر العرائــس وتهيئهــن للحيــاة الجديــدة‬ ‫وتعلّمهــن أرسار الســعادة الزوجيــة‪ .‬تقــوم ســامة بهــذا الــدور‬ ‫دون مقابــل غــر بعــض الهدايــا الرمزيــة‪ ،‬وغالبــاً تكــون (‬ ‫تحرص سالمة عىل جلب‬ ‫املشــامر) املتعــارف عليهــا عنــد أهــل القريــة‪.‬‬ ‫بضاعة مميزة من سفرها‪،‬‬ ‫ورثــت ســامة إدارة مأتــم (حجــي طــرار) مــن زوجــة‬ ‫عمهــا (بنــت كلثــم الحايــي) الســاهيجية‪ .‬مل تنجــب‬ ‫بنــت الحايــي بنتًــا‪ ،‬فكانــت ســامة ابنتهــا ووريثتهــا يف‬ ‫إدارة املأتــم‪ .‬كان يف أول األمــر يقــدم الخدمــات للرجــال‬ ‫والنســاء مع ـاً قبــل أن ينحــر عــى النســاء فقــط‪ .‬تــرف‬

‫وحني يسافر أحد أقربائها‬ ‫توصيه بالغريب واملميز‪،‬‬ ‫وتحرص عىل ارتداء ثيابها‬ ‫من قامش بضاعتها‪،‬‬ ‫فالتاجر ذو البضاعة‬ ‫املميزة هو أول من يتميّز‬ ‫بها‪.‬‬

‫‪43‬‬


‫ســامة عــى املأتــم وتهتــم بالقامئــات عــى القــراءة الحســينية وال تنــى إعــداد‬ ‫الوجبــة اليوميــة لهــن‪.‬‬ ‫عــرف عــن ســامة قدرتهــا اللغويــة وتوظيفهــا املجــاز يف وصــف األشــياء حولهــا‪.‬‬ ‫فحــن تعــرض عــى أحدهــم شــاي الحليــب‪ ،‬تقــول لــه محفّــزة‪« :‬شــوف شــاي‬ ‫الحليــب خــوص»‪ ،‬وهــي بهــذا ترمــي إىل أنــه لفــرط غالظتــه ميكــن للخوصــة أن‬ ‫تقــف عليــه‪ .‬وحــن تبيــع بضاعتهــا تــردد (يســتحي الواحــد يذكــر ســعره) داللــة‬ ‫عــى رخــص قيمتــه‪ .‬يف أواخــر مرضهــا كان املجــاز حيلتهــا لوصــف األمل الــذي يتغــر‬ ‫ويتقلّــب فــا تجــد وصفـاً يســتغرقه‪ ،‬لقــد اســتخدمت مجــاز املــوت األحمــر واملــوت‬ ‫األصفــر كالً حســب شــدة األمل‪ .‬ملجــازات ســامة متلقيهــا‪ ،‬ومردديهــا أيض ـاً‪ ،‬خاصــة‬ ‫ممــن يحيطــون بهــا مــن األهــل والصديقــات‪.‬‬ ‫لحقيبــة ســفر ســامة احتفاؤهــا الخــاص‪ ،‬طاملــا انتظرهــا األحفــاد‪ .‬فحــن تســافر‬ ‫للزيــارة يف ايـران أو ســوريا أو الحــج‪ ،‬كان انتظــار فتــح حقيبــة العــودة فتحـاً للفــرح‪.‬‬ ‫تحــرص ســامة عــى جلــب بضاعــة مميــزة مــن ســفرها‪ ،‬وحــن يســافر أحــد أقربائهــا‬ ‫توصيــه بالغريــب واملميــز‪ ،‬وتحــرص عــى ارتــداء ثيابهــا مــن قــاش بضاعتهــا‪،‬‬ ‫فالتاجــر ذو البضاعــة املميــزة هــو أول مــن يتميّــز بهــا‪.‬‬

‫‪44‬‬


‫األثواب الزاهية عىل جسدها‪ ،‬وبريق الذهب يف يدها عالمتان ال تفارقانها‬

‫‪45‬‬


‫مع سالمة‬

‫‪46‬‬


‫مع سالمة‬

‫مع فضاء‪ :‬أنا وسالمة وحب (علي)‬

‫كان لقــاء غريبــا‪ ،‬لكنــه كان لقــاء ينــم عــن ذكاء تلــك الســيدة التــي جــاءت لتعــرف‬ ‫رغبــة ابنهــا بالــزواج مــن تلــك الفتــاة الغريبــة‪ ،‬مل تكــن لتعــارض أو متــارس طــرق‬ ‫الفحــص النســائية‪ ،‬فقــد أدركــت قـرار ابنهــا‪ ،‬فكانــت خــر معــن لــه وليســت خــر‬ ‫فاحــص لقـراره‪.‬‬ ‫محبتهــا ل(عــي) جعــل كل مــن حولهــا يرتقــب زوجــة هــذا االبــن املدلــل لديهــا‪،‬‬ ‫هــل ســتبحث لــه كعــادة األمهــات والجــدات عــن ســيدة تفــوق الكث ـرات جــاالً‬ ‫أو جاهـاً‪ .‬لكنهــا مل تكــن تبحــث ومل تفحــص وتركــت أثــر تربيتهــا البنهــا وســيلتها يف‬ ‫الفحــص واالختيــار‪.‬‬

‫اســتغرقت أنــا وقتــاً طويــا‪ ،‬يك أفهــم كل هــذه التشــابكات والرتاتبــات‪ ،‬فأنــا‬ ‫ُ‬ ‫القادمــة مــن املنامــة حيــث للعالقــات أطــر تختلــف عــن القريــة وأنــا املحــدودة‬ ‫العالقــات واملؤطــرة العبــارات‪ ،‬أقتحــم عاملــا مــن التــازج مل أكــن ألرفضهــا وال أتعــال‬ ‫عليهــا‪ ،‬لكننــي باملقابــل مل أمتــا َه معهــا‪ ،‬وهكــذا شــيئاً فشــيئا بــدأت نســوة ســامة‬ ‫يســتقبلونني ويرحبــون يب كــا تحــب‪ .‬ال تســألوين اليــوم وبعــد مــي ســبعة عــر‬ ‫عام ـاً عــن اســم إحداهــن وال عــن كنــه حياتهــن‪ ،‬ألننــي أجهلهــا متام ـاً‪ ،‬لكننــي ال‬ ‫أجهــل االحتفــاء بهــم واملحبــة لهــن بــل إننــي انحــرج أمــام ذكرهــم الســمي وجهــي‬ ‫ملســمياتهن وهــذا عيــب يف الطبــع والطبيعــة‪.‬‬

‫‪47‬‬


‫مضــت األيــام بطيئــة وهاديــة وحاملــة مــع ســامة ومــن حولهــا‪ ،‬حتــى إننــي مل‬ ‫أجلــس مــع ســامة جلســة مطولــة إال بعــد قرابــة الشــهر مــن عقــد ق ـراين‪ ،‬كنــت‬ ‫املســتمعة لهــا ال املتحدثــة ورمبــا هــذا جعــل األمــر صعبـاً يف كــر الحواجــز بيننــا‪،‬‬ ‫لكــن املشــرك األوحــد هو(حــب عــي) أذاب كل تلــك الحواجــز بســهولة وســهل كل‬ ‫الطــرق الشــائكة‪ .‬مــن طبيعــة ســامة إنهــا تفضــل أن تبادلهــا عباراتهــا الرتحيبيــة‬ ‫واالحتفاءهــا بهــا بنفــس طريقتهــا ورمبــا مل تــدرك هــي بــأن مــا متلكــه مــن مهــارات‬ ‫تجدهــا ســهلة يف ســلوكها‪ ،‬هــي صعوبــة بالنســبة لآلخريــن‪ ،‬وكان لجهــي بهــذا‬ ‫النمــط وضعــف قــدرايت قــد أخــر رسعــة التــازج بيننــا‪ ،‬فالتعبــر الشــفوي بطبيعتــه‬ ‫يحتــاج لجــرأة املواجهــة وهــذا مــا جعــل لغــة التخاطــب بيننــا ضعيفــة يف البدايــة‪،‬‬ ‫حتــى زالــت مــع الزمــن وصــارت تضحــك ملزحــايت معهــا‪.‬‬ ‫لكــن عبــارة واحــدة مل تكــن لتنســاها أبــدا ً وكثـرا ً مــا تكررهــا حــن أمازحهــا وأقــول‬ ‫لهــا بأنهــا التحبنــي‪ ،‬يك أنــال منهــا الــدالل أكــر‪ ،‬كانــت تــرد «مــن يحــب الشــيخ‬ ‫يحــب تبعــه» ومل تكــن تعلــم بأننــي أردت حبــاً للتبــع قبــل الشــيخ‪ ،‬لكــن هــذا‬ ‫املطلــب صعــب املنــال‪ ،‬ألن شــيخها هــو محــور حياتهــا ويصعــب عــى املــرء أن‬ ‫ينافــس محورهــا‬

‫‪48‬‬

‫تســر بنــا األيــام وتقــف ســامة دون الكثــر غريهــا لتكــرر عــى مســمعي كل حــن‬ ‫«مــا يــردش إال لســانش» رمبــا عبارتهــا هــذه هــي كل مــا أتذكــره منهــا‪ ،‬نعــم لســاين‬ ‫هــو الــذي يــردين ألن عبارتهــا كفيلــة بــأن تكــون وســاما أعلقه‬ ‫عنوان ـا ً لبيتــي‪ ،‬ألنهــا مل تكــن كلــات مجاملــة وإال لنســيت تسري بنا األيام وتقف‬ ‫سالمة دون الكثري غريها‬ ‫مثــل الكثــر مــن الكلــات العوجــاء التــي تخــرج مــع أقــرب لتكرر عىل مسمعي‬ ‫ريــح إىل خــارج خاطرنــا‪ ،‬كانــت مواقفهــا تذكــرين مبــا نعرفــه كل حني «ما يردش إال‬ ‫لسانش» رمبا عبارتها‬ ‫عــن عريــق تاريــخ أجدادنــا وعــن وقفاتهــم لآلخريــن‪ ،‬وهــي هذه هي كل ما أتذكره‬ ‫مــن تلــك الثقافــة التــي بــدت تضعــف يومـا ً بعــد يــوم‪ .‬نعــم منها‪ ،‬نعم لساين هو الذي‬ ‫ســامة رحلتــي ولســاين عالــق دون شــكرك‪ ،‬ألننــي مل أمتلــك يردين ألن عبارتها كفيلة‬ ‫بأن تكون وساما أعلقه‬ ‫يومـاً قدرتــك وال جــزءا مــن طـراوة لســانك الــذي تذيبــي بــه‬ ‫عنواناً لبيتي‪.‬‬ ‫جليــد النفــوس الحزينــة واملتحجــرة‪.‬‬


‫أيتهــا الســاحرة يف عاملنــا مــا أزال ســعيدة بشــهادتك ّيف‪ ،‬والختصــارك يل بأننــي (نزغــة‬ ‫الربايــا) تلــك العبــارة الديريــة التــي يصعــب عليــي تفهمهــا‪ ،‬ألنهــا حرصيــة عليكــن‪،‬‬ ‫أنتــم أهــل الديــر أهــل املجــاز واإلبــداع‪ ،‬لكننــي أتذكــر ضحكاتــك التــي متــازج تلــك‬ ‫العبــارة وأجدهــا ميــزة منحتنــي إياهــا‪ ،‬منحتنــي إياهــا ســيدة مميــزة ســيدة علمتهــا‬ ‫الحيــاة مــا مل تعلمنــا إيــاه الشــهادات‪.‬‬ ‫اسكني بخري‪ ،‬فأنا يا عزيزيت ما أزال احتفظ باألمانة كام تحبني‪.‬‬ ‫مع أم صادق‬

‫مل يكــن ناديــا ثقافيــا‪ ،‬كان بيت ـاً دخلــه التلفــاز يف وقــت مــا زال األخــر يعــد فيــه‬ ‫كامليــة مرفّهــة‪ .‬التفــت العائلــة كلّهــا حــول تلــك الشاشــة الصغــرة املشـ ّعة بالضــوء‬ ‫والحيــاة واملتجــاوزة لحــدود املــكان والجغرافيــا‪ .‬حينهــا‪ ،‬كان البيــت الــذي يدخلــه‬ ‫التلفــاز يدخلــه الحــي كلّــه‪ .‬أفضــت تلــك الشاشــة لعالقــات متعــددة بــن الج ـران‬ ‫الذيــن تحملقــوا حولهــا بدهشــة وحفــاوة ومتعــة‪ .‬توطّــت العالقــات وتحولــت مــع‬ ‫الوقــت ملصاه ـرات وزيجــات وعالقــات امتــدت حتــى اليــوم‪.‬‬ ‫هكــذا يبــدأ رسد أم صــادق (ربــاب أحمــد عيــد) التــي تــؤرخ ملعرفتهــا بســامة‪:‬‬ ‫«كنــت أريب ابنتــي يــرى وعمرهــا ســتة أشــهر تقريب ـاً‪ ،‬كان العــام ‪ 1964‬عندمــا‬ ‫بــدأت خاتــون ابنــة ســامة بالدخــول إىل بيتــي مــع إحــدى الصديقــات وهــي بدريــة‬ ‫(أم رائــد)‪ ،‬تقاربنــا كثـرا ً واعتدنــا عــى بعضنــا بعضــا ومــا أرسع أن توســعت العالقــة‬ ‫مــن االبنــة خاتــون إىل عائلــة ســامة وبناتهــا وحفيداتهــا»‪.‬‬ ‫أكــر مــن أخ ـ ّوة الــدم هــو مــا ظــل يربــط بــن أم صــادق وخاتــون بنــت ســامة‪.‬‬ ‫عالقــة متامهيــة تجاوزتهــا لتمتــد إىل بناتهــا‪ ،‬بــل إىل ســامة األم نفســها‪ .‬فقــد‬ ‫اعتــادت ســامة مصادقــة صديقــات بناتهــا دون أن تجــد حاجـزا ً مينعهــا مــن ذلــك‪،‬‬ ‫فهــي ذات شــخصية قــادرة عــى تجــاوز حــدود العمــر يف التواصــل مــع اآلخريــن‪.‬‬ ‫تقــول أم صــادق‪« :‬كنــت أســتأنس مجالســها وأقدرهــا واعتــز بهــا وأحرتمهــا‪ ،‬كانــت‬ ‫تكــرر يل بأننــي مثــل بناتهــا فــأرد عليهــا مامزحــة‪ :‬فهل يل نصيــب مثلهــم يف ورثك؟»‪.‬‬

‫‪49‬‬


‫يف الجلســة التــي جمعتنــا بــأم صــدق ومعهــا خاتــون للحديــث عــن ســامة‪،‬‬ ‫تــروي لنــا أم صــادق مواقــف محفــوة يف ذاكرتهــا‪ »:‬ال ميكــن أن أنــى ســامة‪.‬‬ ‫حــن أردت أن أشــري ماكينــة خياطــة ماركــة (ســنجر) يف العــام ‪ 1973‬وكان‬ ‫ســعرها حينهــا ‪ 120‬دينــارا‪ ،‬والدينــار حينهــا ليــس كــا هــو الدينــار اآلن‪،‬‬ ‫بــادرت الحاجــة ســامة مبنحــي عــرة دنانــر قائلــة أنــت تخيطــن لنــا دون أن‬ ‫تأخــذي مقابــل»‪ .‬هنــا قاطعــت خاتــون صديقتهــا أم صــادق مســتنكرة‪ :‬للحــن‬ ‫تذكريــن؟ ردت أم صــادق‪« :‬لحــن مواجهتــي ريب لــن أنــى‪ .‬تــروح الدنانــر‬ ‫وتجــيء لكــن مســاعدة اآلخريــن إذا جــاءت مــن أحــد‪ ،‬ال تــروح أبــد ا ً»‪.‬‬ ‫مــا أكــر مــا تقــود الصداقــة إىل املصاهــرة‪ ،‬هكــذا تــزوج عبــاس األدرج أخ أم صــادق‬ ‫مــن ســكينة ابنــة ســامة‪ .‬املصاهــرة وطــدت العالقــة أكــر بــن ســامة وأم صــادق‬ ‫وصــارت موضــع إعجــاب نســوة الحــي‪ ،‬ورمبــا تعجبهــن أيضـاً‪ ،‬فلــم يكــن معتــادا ً أن‬ ‫تكــون العالقــة بــن األنســاب بهــذا املســتوى مــن االنســجام والتامهــي‪.‬‬ ‫تســر بنــا أم صــادق لعالقتهــا مبأتــم ســامة‪ ،‬فهــي مــن تتــوىل شــؤون الطبــخ‪ ،‬وتتــوىل‬ ‫ســامة شــؤون التوزيــع‪ .‬تهتــم ســامة بتقطيــع الدجــاج إىل أكــر عــدد مــن القطــع‬ ‫ليكفــي أكــر عــدد ممكــن مــن النــاس‪ ،‬األمــر الــذي عــادة مــا يثــر خالفــاً بــن‬ ‫اإلداريتــن لكــن يــزول مــع غســل قــدور الطبــخ‪ ،‬وابتســامة ســامة املميــزة‪.‬‬ ‫تقــول أم صــادق القادمــة مــن ضواحــي املنامــة‪« :‬مل أشــعر بالغربــة أبــدا ً مــع أهــل‬ ‫الديــر‪ ،‬لقــد قربــوين منهــم‪ ،‬وكنــت أشــعر بــأن املــرأة أخــت يل والرجــل أخ يل واألب‬ ‫أيب واألم أمــي‪ .‬أنــا القادمــة مــن العاصمــة احتفــت يب القريــة وجعلتنــي يف مصــاف‬ ‫األهــل فكنــت ألجــأ أليهــم حــن أحتــاج املســاعدة‪ ،‬وكانــو يســاعدوين وأســاعدهم»‬

‫‪50‬‬

‫تضيــف أم صــادق‪« :‬لقــد توليــت أمــر تجــارة ســامة حــن ســافرت إحــدى املـرات‪،‬‬ ‫ونقلــت بضاعتهــا لبيتنــا‪ ،‬وأرشفــت عــى شــؤونها‪ ،‬وكان زبائنهــا يأتــون لبضاعتهــا‬ ‫عنــدي‪ ،‬بــل وتوليــت أمــر خاتــون وهــي مريضــة أثنــاء ســفر أهلهــا‪ ،‬حتــى عــاد‬ ‫والدهــا‪ .‬باملقابــل مل يرتكــوين وحــدي‪ ،‬كانــو يســاعدوين يف تربيــة أبنــايئ»‪.‬‬


‫تكمــل أم صــادق‪« :‬لقــد وصــل بنــا التوافــق أن يســلموين مهــر‬ ‫خاتــون حــن قــرر الطبيــب رسيع ـاً الســفر بابنــي للعــاج يف‬ ‫بــروت‪ ،‬فأتصــل زوجــي بالحــاج أحمــد زوج ابنــة ســامة‬ ‫طالبـاً املــال مــن أجــل الســفر‪ ،‬فــرد علينــا أن البنــوك مغلقــة‬ ‫حينهــا وال يوجــد لديــه غــر مهــر خاتــون ومقــداره ‪350‬‬ ‫دينــارا ً وســلمنا إيــاه»‪.‬‬

‫ما أكرث ما تقود الصداقة‬ ‫إىل املصاهرة‪ ،‬هكذا‬ ‫تزوج عباس األدرج أخ أم‬ ‫صادق من سكينة ابنة‬ ‫سالمة‪ .‬املصاهرة وطدت‬ ‫العالقة أكرث بني سالمة‬ ‫وأم صادق وصارت موضع‬ ‫إعجاب نسوة الحي‪،‬‬ ‫ورمبا تعجبهن أيضاً‪ ،‬فلم‬ ‫يكن معتادا ً أن تكون‬ ‫العالقة بني األنساب بهذا‬ ‫املستوى من االنسجام‬ ‫والتامهي‪.‬‬

‫تــردف‪« :‬لقــد حولتنــا تلــك الشاشــة الصغــرة إىل عائلــة كبــرة‬ ‫يصعــب معهــا التفــكك والتباعــد أو التجاهــل والنســيان‪ ،‬رصنا‬ ‫بيت ـاً واحــدا نتشــارك بــاألكل والــرب والطرائــف واملتاعــب‪،‬‬ ‫حتــى عندمــا أذهــب املستشــفى ملعالجــة ابنــي كانــوا ينــادون‬ ‫خاتــون بخالــة ولــدي ظنـاً منهــم أنهــا أختــي لكــرة مرافقتهــا‬ ‫يل‪ .‬كانــت األخبــار تتناقــل بــن البيــوت أرسع مــن مســجات (الواتســاب) اآلن‪ ،‬وذلــك‬ ‫لقــرب العالقــة بــن البيــوت والجلســات اليوميــة التــي تجمــع الجـران بعــد الغــذاء‬ ‫والعشــاء‪ ،‬ففــي ذلــك العــام الــذي توليــت فيــه شــؤون خاتــون وهــي مريضــة‪ ،‬مل‬ ‫تلبــث ســامة أن وطــأت بقدمهــا أرض البحريــن حتــى ســمعت مبــرض ابنتهــا‪ ،‬لقــد‬ ‫صــدم الخــر ســامة‪ ،‬متامـاً كــا صدمنــي خربهــا وأنــا قادمــة إىل بيتهــا ألســأل عــن‬ ‫صحتهــا يف يــوم وفاتهــا‪ ..‬أســفاً عليهــا‪ ..‬ســامة ال تنــى‪..‬‬ ‫مع حفيدتها فاطمة‬

‫يبــدو أن ســامة وجــدت نفســها يف حفيدتهــا األوىل‪ ،‬فهــي الحفيــدة التــي طاملــا‬ ‫انتظــرت قدومهــا فجــاءت لهــا نســخة مــا تحــب‪ ،‬تحبهــا (ســنعة) تواصــل األهــل‬ ‫وتكــر مــن الصديقــات‪ ،‬تجيــد أعــال البيــت واملطبــخ ومهــارة النظافــة‪ ،‬تتفنــن يف‬ ‫مهــارة ال ـراء‪ ،‬والبيــع والتجــارة‪ ،‬ميكــن االعتــاد عليهــا يف كل يشء‪ ،‬ال تجــد مــن‬ ‫يكرههــا يوم ـاً‪.‬‬ ‫وثقــت ســامة يف مهــارات حفيدتها(فاطمــة) فأوكلــت إليهــا مهــات تختــص باملأتــم‬ ‫ومهــات البيــع بــل وتجــاوزت حــدود املــكان‪ ،‬فاختارتهــا دون غريهــا لرتافقهــا يف‬

‫‪51‬‬


‫أغلــب ســفراتها حــن كانــت تحتــاج لرفقــة ســيدة تعتنــي بهــا‪ ،‬إنهــا تجــد مــع‬ ‫فاطمــة األمــن والطأمنيــة حتــى آخــر لحظــات حياتهــا‪ ،‬كانــت تتابعهــا يف أصغــر‬ ‫شــؤونها‪ ،‬حــن تتأخــر عــن زيارتهــا اليوميــة تطلــب ســامة ممــن حولهــا أن يبــارش‬ ‫االتصــال والســؤال عــن ســبب التأخــر‪ ،‬مــن حســن طالــع ســامة أن فاطمــة مل تغادر‬ ‫قريتهــا وإال كان وقــع املغــادرة شــديدة‪ ،‬فهــي كانــت املحــور النســايئ لحيــاة ســامة‪.‬‬ ‫اليــوم وقبــل أن تكمــل ســامة عامهــا األول مــن الرحيــل مــا ت ـزال فجــوة الفقــد‬ ‫حــارضة يف خاطــر الحفيــدة التــي تجــد مــع جدتهــا معنــى مختلــف للحيــاة‪ ،‬إنهــا‬ ‫الخــرة واملــرح يف آن واحــد‪ ،‬ســامة تحــب الفــرح وتدعــو لــه‪ ،‬ال تخلــع (معاضضهــا)‬ ‫حتــى وقــت النــوم‪ ،‬ال تفــارق األلــوان والبهجــة حتــى وهــي مريضــة تحــب أن تختــار‬ ‫ثوبهــا مبــا يناســب جالبيتهــا‪ ،‬ســامة طاقــة مــن الفــرح تحــث مــن حولهــا عــى حــب‬ ‫الحيــاة واالســتمتاع بهــا‪ ،‬تقــول «تعلمــت مــع جــديت كيــف أديــر حيــايت الزوجيــة‬ ‫كيــف أهتــم بأهــي وأحبتــي كيــف أكــون شــخصية فاعلــة فيمــن حــويل‪ ،‬ال أهمــل‬ ‫املســؤليات‪ ،‬وال التهــرب منهــا بــل اإلقــدام عليهــا وإدارتهــا»‪.‬‬ ‫نعــم رمبــا لــدى ســامة القــدرة عــى أن تزعــل مــن نفســها لكنهــا ال متلــك القــدرة‬ ‫عــى الزعــل مــن (فاطمــة) هــي حفيدتهــا الكــرى ونــور عينهــا‪ ،‬حتــى حــن تقــدم‬ ‫فاطمــة عــى تــرف غــر مناســب‪ ،‬ال تعيبــه ســامة‪ ،‬وتتخــذ التوجيــه ال التوبيــخ‪،‬‬ ‫فتجدهــا تقــول «اللــه يســلمها ‪ »...‬وتكمــل كالمهــا‪ .‬فاطمــة الكيــان الــذي يحتــل‬ ‫خاطرهــا بيقــن يجمــع الحــب واإلقنــاع واألداء‪ ،‬وكأن فاطمــة آيــة عمرهــا التــي‬ ‫نزلــت لهــا مــن الســاء‪ ،‬لتكــون صــورة مصغــرة لــكل مــن‬ ‫تحــب‪.‬‬ ‫اليوم وقبل أن تكمل‬ ‫مع فاطمة بنت حجي حسن‬

‫كان الشــارع أول تع ّرفهــا إىل خاتــون ابنــة ســامة‪ ،‬تآلفتــا‬ ‫عنــد أعتــاب اللعــب يف أزقــة قريــة الديــر طفلتــن صغريتــن‪،‬‬ ‫ومنــذ ذلــك الحــن‪ ،‬مل تفرتقــا‪.‬‬ ‫‪52‬‬

‫يف شــهر رمضــان‪ ،‬دخلــت (فاطمــة بنــت حجــي حســن) للمرة‬

‫سالمة عامها األول من‬ ‫الرحيل ما تزال فجوة‬ ‫الفقد حارضة يف خاطر‬ ‫الحفيدة التي تجد مع‬ ‫جدتها معنى مختلف‬ ‫للحياة‪ ،‬إنها الخربة واملرح‬ ‫يف آن واحد‬


‫األوىل بيــت ســامة‪ .‬كان الح ـ ّر صوم ـاً آخــر‪ ،‬والثالجــة مل تعــرف طريقهــا إىل بيــوت‬ ‫القريــة بعــد‪ .‬يف القريــة تــؤىت بقوالــب الثلــج الكبــرة ويتــم تكســرها ثــم أخذهــا‬ ‫إىل البيــوت لحفــظ مــا يتلفــه الحـ ّر‪ .‬هكــذا يُحفــظ الســمك مــن التلــف وغــره مــن‬ ‫اإلدام والطعــام‪ .‬شــاركت فاطمــة صديقتهــا خاتــون تكســر الثلــج مبتعــة وحملتــاه‬ ‫إىل ســامة‪ .‬قط ـرات املــاء البــاردة املنس ـلّة مــن قطــع الثلــج‪ ،‬أثلجــت صــوم ســامة‬ ‫وبســطت ح ّرهــا‪ .‬وفيــا ســوى بــرودة تكســر الثلــج‪ ،‬املتعــة املشــركة بــن خاتــون‬ ‫وفاطمــة‪ ،‬فــإن عالقتهــا بقــت ســاخنة وشــديدة الــدفء كلــا طــال بهــا الزمــن‪.‬‬ ‫حــن تــروي أم عــي‪ ،‬ال تنقلنــا عــر خارطــة الزمــن فقــط‪ ،‬بــل خارطــة املــكان‪ ،‬فليــس‬ ‫الزمــن وحــده مــا يتغـ ّـر‪ ،‬املــكان أيض ـاً‪« .‬كان بيــت ســامة ميتــد إىل أول الشــارع‬ ‫حيــث مجلــس (ملــوك اآلن)» تقــول فاطمــة‪ ،‬وتضيــف‪« :‬وكان املأتــم يقــام يف لواوين‬ ‫(جمــع ليــوان) البيــت‪ .‬تجلــس النســوة هنــاك إلقامــة مراســم‬ ‫العـزاء عــى الحســن (ع)‪ ،‬وكانــت الضيافــة حينهــا (منفــور)»‪.‬‬ ‫اليوم وقبل أن تكمل‬ ‫تنطــق فاطمــة كلمــة (منفــور) بلــذة حــارضة‪ ،‬وتكررهــا حتــى سالمة عامها األول من‬ ‫لتشــعرك بــأن طعــم ذلــك املنفــور مــا يـزال عالقـاً يف فمهــا‪.‬‬ ‫الرحيل ما تزال فجوة‬ ‫يف (املعلّــم) تل ّقــت كل مــن فاطمــة وخاتــون دروس القــرآن‬ ‫والقصيــد‪« :‬قــرأتُ وخاتــون القصيــد أكــر مــن ‪ 80‬مــرة»‪،‬‬ ‫هــذه الق ـراءة ش ـكّلت تحــوالً يف عاملهــا فيــا بعــد‪ ،‬وحازتــا‬ ‫عــى إعجــاب ســامة ومباركتهــا؛ وجــدت إنجازهــا يفــوق‬ ‫عمرهــا‪.‬‬

‫الفقد حارضة يف خاطر‬ ‫الحفيدة التي تجد مع‬ ‫جدتها معنى مختلف‬ ‫للحياة‪ ،‬إنها الخربة واملرح‬ ‫يف آن واحد‬

‫خصــت ســامة (فاطمــة) بح ّبهــا‪ ،‬حتــى صــارت دايــة عرســها (الدايــة هــي مــن تقــوم‬ ‫ّ‬ ‫بإعــداد العــروس وتجهيزهــا وتوجيهــا للحيــاة الزوجيــة)‪ .‬يف الربيــع الثــايل عــر مــن‬ ‫عمرهــا‪ ،‬تقــدم لهــا الحــاج عيــى خاطبـاً‪ .‬وحــن صــار األمــر قريبـاً‪ ،‬أجلســتها ســامة‬ ‫قبالتهــا‪ ،‬وفتحــت لهــا مدرســة خربتهــا‪ ،‬دروس يف اللبــس والزينــة وطريقــة الــكالم‪.‬‬ ‫أخــذت ســامة أغصانـاً مــن املشــموم وغرســتها يف شــعر فاطمــة‪ .‬ازعجــت وخـزات‬ ‫املشــموم طفولــة فاطمــة‪ ،‬لكنهــا تعليــات الدايــة (ســامة) التــي تع ّدهــا لالنتقــال‬

‫‪53‬‬


‫مــن مرحلــة الطفولــة إىل مرحلــة الرشــد واملســؤولية‪ ،‬وكأن ســامة مل تلحــظ‪ ،‬أو‬ ‫مل تشــأ أن تلحــظ‪ ،‬أنهــا أمــام طفلــة صغــرة‪ ،‬فقــد أخذهــا واجــب الدايــة اتجــاه‬ ‫عروســها‪ ،‬ال األم تجــاه طفلتهــا‪.‬‬ ‫«ســلوم عــى عدهــا وبدهــا تــروح ســاهيج»‪ ،‬هكــذا تقــول فاطمــة بلهجــة ديراويــة‬ ‫ناصعــة‪ ،‬وتقصــد بهــا أن ســامة ال تفــوت فرصــة للذهــاب إىل قريــة ســاهيج يف كل‬ ‫وقــت‪ ،‬ففيهــا صديقتهــا املحبّبــة والتــي نالهــا بعــض املــرض‪« ،‬كانــت تأخــذين معهــا‬ ‫لصديقتهــا املريضــة بســاهيج يك نســاعدها‪ ،‬وكنــت أغســل لهــا املالبــس‪ ،‬ال ميكــن‬ ‫لســامة أن تــرك صديقتهــا وقــت الضيــق»‪.‬‬ ‫الفكاهــة واملــرح والجــرأة ســات مت ّيــز حضــور (أم عــي)‪،‬‬ ‫وكذلــك رسدهــا للذكريــات واملواقــف واملقالــب‪ ..‬تــروي عــن‬ ‫حجــي ط ـرار (زوج ســامة)‪ ،‬كان جيبــه كن ـزا ً مثين ـاً للفتيــات‬ ‫الصغـرات املجتمعــات يف بيــت ســامة‪ ،‬تضحــك وهــي تقــول‪:‬‬ ‫«مــا إن يعــود حجــي طــرار مــن الســوق‪ ،‬حتــى نقتنــص‬ ‫الفرصــة للوصــول إىل جيــب ثيابــه علنــا ننــال شــيئاً مــن‬ ‫الخــر‪ ،‬وكنــا نحصــل عــى ربيــة أو نصــف ربيــة‪ ،‬ومل يكــن يهمنــا حينهــا إذا كان‬ ‫فعلنــا هــذا حــال أو حـرام‪ ،‬كان همنــا أن نفــرح بذلــك الكنــز الــذي نحصــل عليــه‬ ‫والــذي يظــن البعــض أنــه أكــر مــن ذلــك»‪.‬‬ ‫كم نحن بحاجة ملن‬ ‫يكون عوناً واقعياً‬ ‫لعواصف الحياة واألحالم‬ ‫الوردية حني تفقد بريقها‬ ‫الوهائج تحت حرارة‬ ‫الحياة‪..‬‬

‫‪54‬‬

‫حــن تتحــدث (أم عــي) عــن صبــاح ابنــة ســامة‪ ،‬يســتوقفها طبــع األخــرة وإرصارها‬ ‫عــى تنظيــف الســجاد واألبــواب والنوافــذ‪ .‬تضحــك فاطمــة كثــرا ً وهــي تــروي‬ ‫حادثــة كادت أن تــودي بحياتهــا‪« :‬ذات يــوم حــن عجــزت صبــاح عــن إبـراز نظافــة‬ ‫املروحــة التــي أصابهــا الزمــن بالصــدأ‪ ،‬مل يكــن أمامهــا حيلــة ســوى أن طلبــت منــي‬ ‫علبــة (صبــغ رش) يك تغطــي عيــوب الصــدأ‪ .‬أحــرتُ لهــا الــرش كــا طلبــت لكنــه‬ ‫مل يعنهــا كــا تصــورت‪ ،‬تعــر اســتخدامه ألنــه تالــف»‪ ،‬تكمــل فاطمــة‪« :‬وبســذاجة‬ ‫ـت أن يتــم تســخينه يك يــذوب وميكــن اســتخدامه‪ ،‬ويبــدو أين مل أكــن‬ ‫الجاهــل‪ ،‬اقرتحـ ُ‬ ‫وحــدي الســاذجة حينهــا‪ ،‬مل يعرتضنــي أحــد‪ ،‬وبالفعــل قمنــا بتســخينة مــرة ومرتــن‬


‫وثــاث‪ ،‬حتــى دوى فينــا انفجــار هائــل كاد أن يــودي يب‪ ،‬لقــد انقلبــت الثالجــات‪،‬‬ ‫وتحــول الفــرن إىل أشــاء تطايــرت مرتطمــة بالســقف»‪ .‬بعــد أن مــرت الحادثــة‬ ‫بســام وصــارت مح ـاً للروايــة والتنــدر بفعــل فاطمــة‪ ،‬اتفــق البعــض ‪-‬مامزحــن‪-‬‬ ‫عــى أن فاطمــة كانــت فعـاً تســتحق القتــل يومهــا‪ ،‬لكــن ســامة مل تكــن لتقبــل‬ ‫ذلــك‪ ،‬فقــد اتخــذت دامئـاً موقــع املدافــع عــن جهــل فاطمــة وعــدم معرفتهــا حينهــا‪.‬‬ ‫دخلــت (فاطمــة) عــى ســامة ذات يــوم مــرددة النكتــة التــي شــاعت يف تلــك‬ ‫الفــرة‪« :‬مــا ســمعتني؟ يقولــون الهنــد هجمــت عــى بومبــي»‪ ،‬ومثــل غريهــا‪،‬‬ ‫اســتنكرت ســامة مــن فورهــا‪ ،‬وأخذهــا التعاطــف‪ :‬ده بعــد!! ‪ ..‬ده بعــد!!‪ ..‬ظلــت‬ ‫تكــرر جملتهــا هــذه‪ ،‬وفاطمــة مسرتســلة يف جــر اســتعطافها بشــقاوة‪ ،‬حتــى دخلــت‬ ‫مريــم ابنــة عبــد الواحــد وقالــت لهــا إنهــا مزحــة فــا تــأيس عــى أم ـرا ً مل يكــن ‪..‬‬ ‫يف عــادة ســامة‪ ،‬أنهــا عندمــا تســألها زبونتهــا عــن مثــن بضاعــة مــا‪ ،‬تقــول لهــا‪:‬‬ ‫ببــاش‪ .‬وهــو مجــاز لطاف ـ ٍة يعرفــه الباعــة واملشــرين مع ـاً‪ .‬لكــن فاطمــة مل تكــن‬ ‫تعــرف‪ .‬كلــا ســألت ســامة عــن الثمــن وقالــت لهــا‪ :‬ببــاش‪ ،‬ابتهجــت األخــرة‬ ‫وحملــت بضاعتهــا وطــارت فرحــة بهــا‪ .‬أدركــت فاطمــة فيــا بعــد أن األمــر ال يعــدو‬ ‫أن يكــون مجــاز مــن لســان ســامة األنيــق‪ ،‬لكــن إدراكهــا جــاء بعــد أن ربحــت‬ ‫الكثــر مــن البضاعــة (البــاش)‪.‬‬ ‫تختــم (فاطمــة) بنعــي ســامة‪« :‬لقــد حرمنــا القــدر رفقتهــا ومجالســتها‪ ،‬رغــم أننــا‬ ‫افتقدنــا ســامة وهــي كبــرة يف الســن‪ ،‬إال أين حتــى اليــوم أتخيلهــا فــوق رسيرهــا‬ ‫متازحنــا وتعطــف علينــا‪ ،‬ومل أصــدق لحظــة أنهــا رحلــت‪ ،‬فالتصديــق يعنــي أننــا‬ ‫نفقــد العطــف والحــب‪ ،‬وهــذا مــا ال نريــد»‪.‬‬ ‫مع صباح بنت حجي حسن‬

‫األبــواب املفتوحــة تتيــح لــك أن تدخــل دون حاجــة لالســتئذان‪ ،‬فالبــاب املفتــوح هو‬ ‫مبثابــة دعــوة مفتوحــة‪ ،‬كنــا منــر عــى بابهــا ونــرى كثرييــن يــرددون عليهــا‪ ،‬كانــت‬ ‫تبيــع (البــز) فلــم تكــن تنتــر األســواق بالقريــة بعــد ومل تنتــر طــرق التســويق‬ ‫الحديثــة بعــد لكنهــا بفطرتهــا وسالســة الــكالم لديهــا تفوقــت بتجارتهــا‪ ،‬فهــي ال‬

‫‪55‬‬


‫تتكلــف لتعــر عــن صــدق مشــاعرها وال تحتــاج لقامــوس تتــزود منــه املفــردات‪،‬‬ ‫فاملجــاز لديهــا حــارض دوم ـاً بــل صــدق املشــاعر هــي عملتهــا التــي تشــري بهــا‬ ‫قلــوب مــن حولهــا‪ ،‬مل تكــن تســتأذن الزبائــن لتبيعهــن‪ ،‬كانت‬ ‫تقطــع قطعــة القــاش ومتنحهــا لنــا وتلــح عــي بصــدق بأنهــا كنا نجتمع حول مائدة‬ ‫العشاء جميعاً مع أخيها‬ ‫تريــد أن تـراين أرتديهــا‪ ،‬وحــن أعتــذر عــن رشائهــا تحــت مربر حجي عيىس الفن وحجي‬ ‫نقــص املــال كانــت تقــول «يســلم راســش‪ ،‬محــد طالبــش عيل وزوج ابنتها حجي‬ ‫أحمد‪ ،‬كنا أرسة واحدة‬ ‫بفلوســها»‪.‬‬ ‫حتى يحني نتأخر عن‬ ‫الحضور مل تكن تنسانا‪.‬‬ ‫حتى لحظات اشتداد‬ ‫مرضها مل تنساين كنت‬ ‫أسألها هل تعرفينني‬ ‫فرتد «صباح بنت حجي‬ ‫حسن»‪.‬‬

‫«ويــش نذكــر فيهــا مــا تنــى» عبــارة رمبــا يفهــم البعــض‬ ‫منهــا بــأن ال يشء وارد هنــا للتذكــر‪ ،‬لكنهــا يف حقيقتهــا تعنــي‬ ‫كــا تســتخدمها الســيدة الديريــة‪ ،‬أنهــا ال ميكــن حــر تلــك‬ ‫الشــخصية وال حــر خريهــا وفعلهــا ف(ســامة) كانــت أمــا‬ ‫وأختــا وصديقــة وجــدة‪ ،‬وكل يشء بالنســبة لنــا‪ ،‬اهتمــت بنــا‬ ‫وبأوالدنــا‪ ،‬تعلمــت منهــا أصــول إدارة البيــت والرتتيــب وأصــول النظافــة وحــق الزوج‬ ‫واألوالد‪ ،‬ورغــم حرمــاين مــن التعلــم باملدرســة إال أننــي تــزودت باملعرفــة الحياتيــة‬ ‫مبجالســتها ومتابعهتــا‪ ،‬كانــت بحــق خــر جليــس‪ ،‬فهــي كتــاب مفتــوح تعلمنــا منــه‬ ‫الكثــر‪.‬‬ ‫كنــا نجتمــع حــول مائــدة العشــاء جميعـاً مــع أخيهــا حجــي عيــى الفــن وحجــي‬ ‫عــي وزوج ابنتهــا حجــي أحمــد‪ ،‬كنــا أرسة واحــدة حتــى يحــن نتأخــر عــن الحضــور‬ ‫مل تكــن تنســانا‪ .‬حتــى لحظــات اشــتداد مرضهــا مل تنســاين كنــت أســألها هــل‬ ‫تعرفيننــي فــرد «صبــاح بنــت حجــي حســن»‪.‬‬ ‫حــن وفاتهــا‪ ،‬قــال يل ابنــي «ســامة أمكــم ماتــت» نعــم نحــن فقدنــا مبوتهــا أم ـاً‬ ‫ومل تكــن كأي أم‪.‬‬ ‫مع خديجة بنت سيد حميد‬ ‫‪56‬‬

‫مدخلهــا ومخرجهــا دمــوع غامــرة منــذ ‪ 27‬ينايــر ‪ 2014‬حــن يذكــر اســم ســامة‬ ‫أمامهــا‪ ،‬مــا تـزال (خديجــة بنــت ســيد حميــد) تبــي ســامة‪ ،‬تبكيهــا‪ ،‬وهــي تتذكــر‬


‫حــن زارتهــا باملستشــفى ورقصــت لهــا‪ ،‬لتبعــد الحــزن عنهــا‪ ،‬لكــن لألســف حــزن‬ ‫ســامة للمــرة األوىل غلــب فــرح (خــدوج) ورقصاتهــا ‪.‬‬ ‫تقــول اعتزلــت املجالــس مل أجــد مجلــي املفضــل ومل أعــد أجــد ســامة التــي‬ ‫تعلقــت بهــا وتعلمــت منهــا معنــى الصــر‪ ،‬الصــر ليــس حروفــا ومفهومــا تتناقلــه‬ ‫الكتــب‪ ،‬بــل تجربــة حيــاة‪ ،‬كنــت كلــا اشــتكيت عندهــا حــايل أو صعوبــة حيــايت‬ ‫قالــت يل اصــري‪ ،‬وعندمــا أســألها هــل كان للصــر ســبيل إليــك كانــت تــرد (طبعـاً)‪،‬‬ ‫كانــت تــردد علمنــا الكثـرات وأنــت واحــدة منهــن ؛ال تشــد الحبــل‪ ،‬ارخيــه» وكنــت‬ ‫أجــد لنصائحهــا أثرهــا الفعــال يف حيــايت رغــم صعوبــة التنفيــذ‪.‬‬ ‫كــم نحــن بحاجــة ملــن يكــون عونـاً واقعيـاً لعواصــف الحيــاة واألحــام الورديــة حــن‬ ‫تفقــد بريقهــا الوهائــج تحــت حـرارة الحياة‪..‬‬

‫‪57‬‬


‫الحاجية سالمة مع ابنتها الكربى صباح (أم عيل) يف رشفة بريوت يف إبريل‪2013‬‬

‫‪58‬‬

‫الحاجية سالمة تحتضن وردة عيد األم‬

‫سالمة يف زواج حفيدتها صفاء‪ ،‬يف ‪2013‬‬


‫مل يقعدها املرض وثقل السنني عن زيارة حفيدها األكرب (عيل) يف بريوت‪ ،‬يف إبريل ‪2013‬‬

‫الحاجية سالمة مع عائلة حفيدها عيل‪ ..‬فضاء‪ ،‬باسل وأماسيل‬

‫‪59‬‬


‫جانب من مدخل بيت الحاجية سالمة‪ ،‬حيث حركة رواد مجلسها ال تتوقف طوال اليوم‪ ،‬وتالحظ النافذة التي كانت ممرا‬ ‫لسالمات العابرين‬

‫‪60‬‬

‫الحاجية سالمة مع سمية رجب زوجة املناضل الحقوقي‬ ‫نبيل رجب‬

‫الحاجية سالمة مع «أماسيل» ابنة حفيدها األكرب‬


‫الحاجية سالمة مع حفيدها وسام عيل العكري يف ‪2011‬‬

‫خاتون االبنة الوســطى لســامة‪ ،‬إحدى ماليــات املأتم‪ ،‬تعلمت‬ ‫عــى يــد‪ :‬حاجيــة مريــوم وحاجيــة رشوف وحاجيــة صفــوي‬

‫أم صادق تتوىل شؤون الطبخ‪ ،‬وتتوىل سالمة شؤون التوزيع‪ .‬تهتم سالمة بتقطيع الدجاج إىل أكرب عدد من القطع ليكفي أكرب‬ ‫عدد ممكن من الناس‪ ،‬األمر الذي عادة ما يثري خالفاً بني اإلداريتني لكن يزول مع غسل قدور الطبخ‪ ،‬وابتسامة سالمة املميزة‬

‫‪61‬‬


62


63


‫الحاجة سالمة يف الحرم الرضوي يف مشهد ‪2009‬‬

‫‪64‬‬

‫الحاجة سالمة وحفيدها مختار يف مدينة مشهد ‪2009‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.