49 joba aljoubah مجلة الجوبة

Page 1

‫درا�سات ونقد‬ ‫ن�صو�ص �شعرية و�سردية‬ ‫مواجهات‬ ‫�سرية و�إجناز‬ ‫حمور خا�ص‬

‫‪49‬‬


‫برنامـج نشر الدراسات واإلبداعـات األدبية ودعم البحوث والرسائل‬ ‫العلمية‬ ‫يف مركز عبدالرحمن السديري الثقايف‬ ‫‪ -1‬ن�شر الدرا�سات والإبداعات الأدبية‬

‫يهتم بالدرا�سات‪ ،‬والإبداعات الأدبية‪ ،‬ويهدف �إلى �إخراج �أعمال متميزة‪ ،‬وت�شجيع حركة الإبداع‬ ‫الأدبي والإنتاج الفكري و�إثرائها بكل ما هو �أ�صيل ومميز‪.‬‬ ‫وي�شمل الن�شر �أعمال الت�أليف والترجمة والتحقيق والتحرير‪.‬‬ ‫مجاالت الن�شر‪:‬‬ ‫�أ ‪ -‬الدرا�سات التي تتناول منطقة الجوف في �أي مجال من المجاالت‪.‬‬ ‫ب‪ -‬الإبداعات الأدبية ب�أجنا�سها المختلفة (وفق ًا لما هو مب ّين في البند «‪ »٨‬من �شروط الن�شر)‪.‬‬ ‫ج‪ -‬الدرا�سات الأخرى غير المتعلقة بمنطقة الجوف (وفق ًا لما هو مب ّين في البند «‪ »٨‬من �شروط الن�شر)‪.‬‬ ‫�شروطه‪:‬‬ ‫‪� -١‬أن تت�سم الدرا�سات والبحوث بالمو�ضوعية والأ�صالة والعمق‪ ،‬و�أن تكون موثقة طبق ًا للمنهجية العلمية‪.‬‬ ‫‪� -٢‬أن ُتكتب المادة بلغة �سليمة‪.‬‬ ‫‪� -٣‬أن ُيرفق �أ�صل العمل �إذا كان مترجم ًا‪ ،‬و�أن يتم الح�صول على موافقة �صاحب الحق‪.‬‬ ‫‪� -٤‬أن ُتقدّم المادة مطبوعة با�ستخدام الحا�سوب على ورق (‪ )A4‬ويرفق بها قر�ص ممغنط‪.‬‬ ‫‪� -٥‬أن تكون ال�صور الفوتوغرافية واللوحات والأ�شكال التو�ضيحية المرفقة بالمادة جيدة ومنا�سبة للن�شر‪.‬‬ ‫‪� -٦‬إذا كان العمل �إبداع ًا �أدبي ًا فيجب �أن ي ّت�سم بالتم ّيز الفني و�أن يكون مكتوب ًا بلغة عربية ف�صيحة‪.‬‬ ‫‪� -٧‬أن يكون حجم المادة ‪ -‬وفق ًا لل�شكل الذي �ست�صدر فيه ‪ -‬على النحو الآتي‪:‬‬ ‫ الكتب‪ :‬ال تقل عن مئة �صفحة بالمقا�س المذكور‪.‬‬‫ البحوث التي تن�شر �ضمن مجالت محكمة ي�صدرها المركز‪ :‬تخ�ضع لقواعد الن�شر في تلك‬‫المجالت‪.‬‬ ‫ الكتيبات‪ :‬ال تزيد على مئة �صفحة‪( .‬تحتوي ال�صفحة على «‪ »250‬كلمة تقريب ًا)‪.‬‬‫‪ -٨‬فيما يتعلق بالبند (ب) من مجاالت الن�شر‪ ،‬في�شمل الأعمال المقدمة من �أبناء وبنات منطقة‬ ‫الجوف‪� ،‬إ�ضافة �إلى المقيمين فيها لمدة ال تقل عن عام‪� ،‬أما ما يتعلق بالبند (ج) في�شترط �أن‬ ‫يكون الكاتب من �أبناء �أو بنات المنطقة فقط‪.‬‬ ‫‪ -٩‬يمنح المركز �صاحب العمل الفكري ن�سخ ًا مجانية من العمل بعد �إ�صداره‪� ،‬إ�ضافة �إلى مكاف�أة‬ ‫مالية منا�سبة‪.‬‬ ‫‪ -١٠‬تخ�ضع المواد المقدمة للتحكيم‪.‬‬


‫‪ -2‬دعم البحوث والرسائل العلمية‬

‫يهتم بدعم م�شاريع البحوث والر�سائل العلمية والدرا�سات املتعلقة مبنطقة اجلوف‪ ،‬ويهدف‬ ‫�إلى ت�شجيع الباحثني على طرق �أبواب علمية بحثية جديدة يف معاجلاتها و�أفكارها‪.‬‬ ‫(أ) الشروط العامة‪:‬‬ ‫‪ -١‬ي�شمل الدعم املايل البحوث الأكادميية والر�سائل العلمية املقدمة �إلى اجلامعات واملراكز‬ ‫البحثية والعلمية‪ ،‬كما ي�شمل البحوث الفردية‪ ،‬وتلك املرتبطة مب�ؤ�س�سات غري �أكادميية‪.‬‬ ‫‪ -٢‬يجب �أن يكون مو�ضوع البحث �أو الر�سالة متعلق ًا مبنطقة اجلوف‪.‬‬ ‫‪ -٣‬يجب �أن يكون مو�ضوع البحث �أو الر�سالة جديد ًا يف فكرته ومعاجلته‪.‬‬ ‫‪� -٤‬أن ال يتقدم الباحث �أو الدار�س مب�شروع بحث قد فرغ منه‪.‬‬ ‫‪ -٥‬يقدم الباحث طلب ًا للدعم مرفق ًا به خطة البحث‪.‬‬ ‫‪ -٦‬تخ�ضع مقرتحات امل�شاريع �إلى تقومي علمي‪.‬‬ ‫‪ -٧‬للمركز حق حتديد ال�سقف الأدنى والأعلى للتمويل‪.‬‬ ‫‪ -٨‬ال يحق للباحث بعد املوافقة على التمويل �إج��راء تعديالت جذرية ت��ؤدي �إلى تغيري وجهة‬ ‫املو�ضوع �إال بعد الرجوع للمركز‪.‬‬ ‫‪ -٩‬يقدم الباحث ن�سخة من ال�سرية الذاتية‪.‬‬ ‫(ب) الشروط اخلاصة بالبحوث‪:‬‬ ‫‪ -١‬يلتزم الباحث بكل ما جاء يف ال�شروط العامة(البند «�أ»)‪.‬‬ ‫‪ -٢‬ي�شمل املقرتح ما يلي‪:‬‬ ‫ تو�صيف م�شروع البحث‪ ،‬وي�شمل مو�ضوع البحث و�أهدافه‪ ،‬خطة العمل ومراحله‪ ،‬واملدة‬‫املطلوبة لإجناز العمل‪.‬‬ ‫ ميزانية تف�صيلية متوافقة مع متطلبات امل�شروع‪ ،‬ت�شمل الأجهزة وامل�ستلزمات املطلوبة‪،‬‬‫م�صاريف ال�سفر والتنقل وال�سكن والإعا�شة‪ ،‬امل�شاركني يف البحث من طالب وم�ساعدين‬ ‫وفنيني‪ ،‬م�صاريف �إدخال البيانات ومعاجلة املعلومات والطباعة‪.‬‬ ‫ حتديد ما �إذا كان البحث مدعوم ًا كذلك من جهة �أخرى‪.‬‬‫(ج) الشروط اخلاصة بالرسائل العلمية‪:‬‬ ‫�إ�ضافة لكل ما ورد يف ال�شروط اخلا�صة بالبحوث(البند «بـ«) يلتزم الباحث مبا يلي‪:‬‬ ‫‪� -١‬أن يكون مو�ضوع الر�سالة وخطتها قد �أق ّرا من اجلهة الأكادميية‪ ،‬ويرفق ما يثبت ذلك‪.‬‬ ‫‪� -٢‬أن ُيق ّدم تو�صية من امل�شرف على الر�سالة عن مدى مالءمة خطة العمل‪.‬‬ ‫الجوف‪ :‬هاتف ‪ - 014 626 3455‬فاك�س ‪� - 014 624 7780‬ص‪ .‬ب ‪� 458‬سكاكا ‪ -‬الجوف‬ ‫الريا�ض‪ :‬هاتف ‪ - 011 281 7094‬فاك�س ‪� - 011 281 1357‬ص‪ .‬ب ‪ 94781‬الريا�ض ‪11614‬‬ ‫‪sudairy-nashr@alsudairy. org. sa‬‬


‫جمل�س �إدارة م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري‬

‫ملف ثقايف ربع �سنوي ي�صدر عن‬ ‫مركز عبدالرحمن السديري الثقافي‬

‫هيئة الن�شر ودعم ا ألبحاث‬

‫رئي�س ًا‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫ع�ضو ًا‬

‫د‪ .‬عبدالواحد بن خالد الحميد ‬ ‫د‪ .‬خليل بن �إبراهيم المعيقل ‬ ‫د‪ .‬ميجان بن ح�سين الرويلي ‬ ‫محمد بن �أحمد الرا�شد ‬

‫امل�شرف العام ‪� :‬إبراهيم بن مو�سى احلميد‬ ‫�سكرترياً‬ ‫�أ�سرة التحرير‪ :‬حممود الرحمي ‬ ‫حمرراً‬ ‫حممد �صوانة ‬ ‫ ‬ ‫حمرراً‬ ‫عماد املغربي ‬ ‫ ‬ ‫�إخـــراج فني ‪ :‬خالد الدعا�س‬ ‫املرا�ســــــالت‪ :‬هاتف‪)+966()14(6263455 :‬‬ ‫فاك�س‪)+966()14(6247780 :‬‬ ‫ ‬ ‫�ص‪ .‬ب ‪� 458‬سكاكا اجلـوف ‪ -‬اململكة العربية ال�سعودية‬ ‫‪www.alsudairy.org.sa‬‬ ‫‪aljoubahmag@alsudairy.org.sa‬‬

‫ردمد‬

‫‪ISSN 1319 - 2566‬‬

‫�سعر الن�سخة ‪ 8‬رياالت ‪ -‬تطلب من ال�شركة الوطنية للتوزيع‬

‫رئي�س ًا‬ ‫في�صل بن عبدالرحمن ال�سديري ‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫�سلطان بن عبدالرحمن ال�سديري ‬ ‫زياد بن عبدالرحمن ال�سديري الع�ضو المنتدب‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫عبدالعزيز بن عبدالرحمن ال�سديري ‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫�سلمان بن عبدالرحمن ال�سديري ‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫د‪ .‬عبدالرحمن بن �صالح ال�شبيلي ‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫د‪ .‬عبدالواحد بن خالد الحميد ‬ ‫�سلمان بن عبدالمح�سن بن محمد ال�سدير ي ع�ضو ًا‬ ‫طارق بن زياد بن عبدالرحمن ال�سديري ع�ضو ًا‬ ‫�سلطان بن في�صل بن عبدالرحمن ال�سديري ع�ضو ًا‬ ‫�شيخة بنت �سلمان بن عبدالرحمن ال�سدير ي ع�ضو ًا‬ ‫الإدارة العامة ‪ -‬الجوف‬ ‫المدير العام‪ :‬عقل بن مناور ال�ضميري‬ ‫م�ساعد المدير العام‪� :‬سلطان بن في�صل ال�سديري‬ ‫قواعد الن�شر‬ ‫‪� -1‬أن تكون املادة �أ�صيلة‪.‬‬ ‫‪ -2‬مل ي�سبق ن�شرها ورقياً �أو رقمياً‪.‬‬ ‫‪ -3‬تراعي اجلدية واملو�ضوعية‪.‬‬ ‫‪ -4‬تخ�ضع املواد للمراجعة والتحكيم قبل ن�شرها‪.‬‬ ‫‪ -5‬ترتيب املواد يف العدد يخ�ضع العتبارات فنية‪.‬‬ ‫‪ -6‬ترحب اجلوبة ب�إ�سهامات املبدعني والباحثني والك ّتاب‪،‬‬ ‫على �أن تكون املادة باللغة العربية‪.‬‬ ‫«اجلوبة» من الأ�سماء التي كانت ُتطلق على منطقة اجلوف �سابقاً‪.‬‬

‫املقاالت املن�شورة ال تعرب بال�ضرورة عن ر�أي املجلة والنا�شر‪.‬‬

‫ُيعنى بالثقافة من خالل مكتباته العامة يف اجلوف والغاط‪ ،‬ويقيم املنا�شط املنربية الثفافية‪ ،‬ويتب ّني‬ ‫برناجم ًا للن�شر ودعم الأبحاث والدرا�سات‪ ،‬ويخدم الباحثني وامل�ؤلفني‪ ،‬وت�صدر عنه جملة (�أدوماتو)‬ ‫املتخ�ص�صة ب�آثار الوطن العربي‪ ،‬وجملة (اجلوبة) الثقافية‪ ،‬وي�ضم املركز ك ًال من‪( :‬دار العلوم) مبدينة‬ ‫�سكاكا‪ ،‬و(دار الرحمانية) مبحافظة الغاط‪ ،‬ويف كل منهما ق�سم للرجال و�آخر للن�ساء‪ .‬وت�صرف على‬ ‫املركز م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري اخلريية‪.‬‬ ‫‪www. alsudairy. org. sa‬‬


‫الـمحتويــــات‬

‫العدد ‪ - 49‬خريف ‪1437‬هـ ‪2015 -‬م‬

‫‪24.............................‬‬ ‫كتاب اقتصاديات التعليم «استثمار‬ ‫يف أمة»؛ لعبد الواحد احلميد‬

‫‪34........................‬‬ ‫الثقافة العربية‬ ‫يف الهند‬

‫‪68.............................‬‬ ‫تجربة عبدالرحمن الدرعان‬ ‫بين «نصوص الطين» و «رائحة الطفولة»‬

‫افتتاحية العدد ‪4 . ................................................‬‬ ‫دراسات‪ :‬جماليات النص وفنيات السرد في إبداعات القص‬ ‫السعودي ‪ -‬مصطفى الصوفي‪6 . ..............................‬‬ ‫«شق النهار» ألسامة أنور عكاشة ‪ -‬هشام بنشاوي‪10 ..........‬‬ ‫عدو الشعب‪ ..‬من إبسن إلى آرثر ميلر ‪ -‬صالح المطيري ‪14 ..‬‬ ‫«الفانوس السحري» رص��د للسينما الخليجية واستقراء‬ ‫آللياتها المختلفة ‪ -‬عبدالكريم قادري ‪21 .....................‬‬ ‫كتاب اقتصاديات التعليم «استثمار في أمة»؛ لعبد الواحد‬ ‫الحميد ‪ -‬الزبير مهداد ‪24 . ...................................‬‬ ‫الثقافة العربية في الهند‪ -‬غازي خيران الملحم ‪34 ............‬‬ ‫قصص قصيرة‪ :‬طريقان ‪ -‬ألباب كاظم ‪41 . ....................‬‬ ‫قصص قصيرة جدا ‪ -‬سمية البوغافارية‪43 . ...................‬‬ ‫عصفور الصخر ‪ -‬محمد أحمد عسيري‪44 ....................‬‬ ‫نصوص قصيرة قضم ٌة نائم ٌة في األسنان ‪ -‬عبداهلل السفر‪46 .‬‬ ‫البداية األخيرة قصة قصيرة ‪ -‬نادية أحمد محمد ‪48 .........‬‬ ‫قصة قصيرة ‪ -‬محمد مباركي ‪50 . ..............‬‬ ‫«ضاعت منّي» ّ‬ ‫شعر‪ :‬المطر العاصي ‪ -‬عقل الضميري ‪52 . ....................‬‬ ‫وكيف أل ُّم الجراح؟ ‪ -‬حنان بيروتي ‪54 ..........................‬‬ ‫اإلنسان يعلن عن ذاته ‪ -‬سليمان العتيق ‪56 . ....................‬‬ ‫الشمس من رأسهِ ‪ -‬أحمد هالل‪59 . ................‬‬ ‫ُ‬ ‫الذي تأك ُل‬ ‫قصيدتان ‪ -‬أحمد تمساح‪62 ....................................‬‬ ‫َصائِد ‪ -‬محمد محمد عيسى ‪63 ..............................‬‬ ‫ق َ‬ ‫ضريح ‪ -‬حمدي هاشم حسانين ‪64 .............................‬‬ ‫قوس البهجة األولى ‪ -‬أحمد نمر الخطيب‪65 ..................‬‬ ‫الصباح األنيق ‪ -‬عبداهلل أحمد األسمري ‪66 ...................‬‬ ‫اريات ‪ -‬شاهر ذيب‪67 ......................‬‬ ‫أ ُحب ُِّك فلتسألي الذَّ ِ‬ ‫محور خ��اص‪ :‬تجربة عبدالرحمن ال��درع��ان بين «نصوص‬ ‫الطين» و «رائحة الطفولة» ‪ -‬إعداد‪ :‬محمود الرمحي وتركية‬ ‫العمري‪ ..‬مشاركة عيسى األلمعي‪ ،‬أسماء الزهراني‪ ،‬جبير‬ ‫المليحان‪ ،‬خالد اليوسف‪ ،‬تركية العمري‪ ،‬هويدا صالح‪،‬‬ ‫إبراهيم الحجري‪ ،‬إبراهيم الكراوي‪ ،‬عمر بوقاسم ‪68 . .........‬‬ ‫سيرة وإنجاز‪ :‬د‪ .‬عبدالمحسن بن فالح اللحيد‪98 . .............‬‬ ‫نوافذ‪ :‬العالج بالقراءة أو علم الببليوثيرابيا ‪ -‬مرسي طاهر ‪100 . .‬‬ ‫طعم الكتابة الشَ يق والشاق عالقة الكتابة بالموجة الرقمية‪،‬‬ ‫أحمد الدمناتي‪ ..‬مشاركة إبراهيم زولي‪ ،‬هيثم البوسعيدي‪،‬‬ ‫صالح جبار محمد‪ ،‬بشار عبداهلل‪ ،‬موسى حوامدة‪ ،‬حمدي‬ ‫الجزار‪ ،‬كريم رضي‪ ،‬وزنة حامد‪ ،‬محمد اشويكة‪ ،‬عبدالغني‬ ‫فوزي‪ ،‬فهد العتيق‪103 . .........................................‬‬ ‫مواجهات‪ :‬الناقد د‪ .‬عبدالقادر فيدوح‪ ،‬حاوره الناقد‪ :‬سعيد‬ ‫بـوعيطة ‪120 . .....................................................‬‬ ‫قراءات‪135 . .......................................................‬‬

‫صورة الغالف‪ :‬قلعة زعبل في سكاكا بمنطقة الجوف‪.‬‬


‫اف���ت���ت���اح���ي���ة‬ ‫ال�����������ع�����������دد‬ ‫■ إبراهيم احلميد‬

‫كثيرة هي المواضيع التي تستحق دراسات مزيدة‪ ،‬والكتابة فيها‬ ‫بشكل مكثف‪ ..‬تلك الدهشة التي تجتاح القارئ وهو يسبر النصوص‪،‬‬ ‫والكتابة اإلبداعية التي تستحق أن نمسك باللحظة‪ ،‬وأن نتي َّق َن أن‬ ‫الكتابة في شأنها ال يمكن أن نحيط بها مهما أسهبنا في تخصيص‬ ‫المقاالت وال��دراس��ات‪ ،‬على األق��ل من وجهة نظر مبدعينا الذين‬ ‫يتوقون إلى الجمال والكمال؛ ذلك أنه وبكل بساطة ال يمكننا اال‬ ‫إثارة المزيد من األسئلة التي تستدعي إجاباتها أكثر من احتمال‪،‬‬ ‫غير أن البعد األكثر إثارة هو الوصول إلى اكتشاف النص من خالله‬ ‫مباشرةً‪ ،‬أو من خالل تسليط األضواء الكاشفة على طريقه‪.‬‬ ‫تعرض صفحات العدد دراس��ة مهمة ح��ول كتاب «اقتصاديات‬ ‫التعليم‪ :‬استثمار في أمة» للدكتور عبدالواحد الحميد‪ ،‬الذي يناقش‬ ‫أهمية االستثمار في التعليم وعالقته بالتنمية‪ ،‬إذ إن قوة العمل‬ ‫والتعليم هما السالح التنافسي األول‪ ،‬وليس الموارد الطبيعية كما‬ ‫كان سائدا طيلة قرون‪ ،‬ومؤكدا أن أهمية الكتاب ما تزال حاضرة‬ ‫رغم مضي سنوات عديده على صدوره‪.‬‬ ‫كما يُسلِّط العدد الضوء على كتاب «الثقافة العربية في الهند»‬ ‫ال��ذي يأتي ضمن إص��دارات مركز الملك عبداهلل بن عبدالعزيز‬ ‫يوض ُح أهم مالمح هذه الثقافة في‬ ‫لخدمة اللغة العربية‪ .‬الكتاب ِّ‬

‫‪4‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫اف � � � � � � � �ت � � � � � � � �ت� � � � � � � ��اح � � � � � � � �ي� � � � � � � ��ة‬ ‫الهند‪ ،‬وكيفية بعث العالقة التي تمتاز بجذورها الضاربة بين العرب‬ ‫والهنود؛ سابراً أغ��واراً ومفاوز لم تكن معروفة في جوانب عديدة‬ ‫منها قبل صدوره‪.‬‬ ‫وفي المحور الخاص الذي تحتفي فيه الجوبة باألديب القاص‬ ‫عبدالرحمن الدرعان‪ ،‬حرصت المجلة على إثراء المحور بدراسات‬ ‫حول المجموعتين «نصوص الطين» و «رائحة الطفولة»‪ ،‬كما يكتب‬ ‫عدد من أصدقاء األدي��ب ُم َقلِّبين في أوراق��ه ونصوصه اإلبداعية‬ ‫ومجموعاته القصصية ونصوصه الشعرية‪ ،‬مشيدين بـ«توجهه‬ ‫للتجريب‪ ،‬والخروج عن التقليدية في نصوصه وباللغة الجميلة التي‬ ‫تميزها‪ ..‬بخصوصية تجعل لكل نص عالمه الخاص»‪ ،‬ومطالبونه في‬ ‫أماكن أخرى بإخراج ما كتبه‪ ،‬ألنه ذاكرة إبداعية ال يمكن أن تنسى»‪،‬‬ ‫وأن عدم نشره لديوان شعري يضم شتات قصائده يُ َع ُّد اغتياالً لها ‪.‬‬ ‫يلفت نظرنا «طعم الكتابة الشيق والشاق»‪ ،‬حيث « الكتابة كينونة‬ ‫وجودية تختار ضحاياها بأناقة جديرة بالتأمل واإلنصات»‪ ،‬حيث‬ ‫القاسم المشترك بين هؤالء‪ :‬طعم الكتابة‪ ،‬وهاجس اإلبداع‪ ،‬والتجربة‬ ‫الحرة في استخدام الكتابة الرقمية والشبكة العنكبوتية‪.‬‬ ‫أما الدكتور عبدالقادر فيدوح‪ ،‬فيؤكد في مواجهة الجوبة أ ّن «وعينا‬ ‫المعرفي يعتريه دَخَ نٌ‪ ،‬مشيرا إلى أننا ال نمتلك مشروعا ثقافيا وأن‬ ‫كحاطب ليل‪ ،‬ال يدري ما الذي يمسكه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الدارس في وعينا المعرفي‬ ‫ويجمعه بين يديه‪.»..‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫‪5‬‬


‫جماليات النص وفنيات السرد‬ ‫في إبداعات القص السعودي‬ ‫‪ρρ‬مصطفى الصويف*‬

‫كثير من ال��دراس��ات المعاصرة عن تطور القصة القصيرة في ال��دول الخليجية عامة‬ ‫والسعودية خاصة تشير إلى افتقار فن القصة القصيرة إلى التقنيات الفنية الحديثة‪ ،‬و تبين‬ ‫الدراسات النقدية أن تطور الفن القصي يمر عموما بمرحلة القص التقليدي والخطابية‬ ‫المباشرة‪ ،‬لكنها أيض ًا ال تتغاضى عن بروز بعض النماذج القصصية في المرحلة األخيرة‬ ‫التي تحمل سمات القص المتطور وفنياته الحديثة‪ ،‬وتبعد شيئ ًا فشيئ ًا عن اإلغ��راق في‬ ‫المحلية والمؤثرات البيئية‪ ،‬والتي تبشر بهوية قصصية لها ميزاتها وشخصيتها ونكهتها‬ ‫الخاصة‪ ،‬ستأخذ مكانتها في الساحة األدبية العربية‪.‬‬ ‫وال نستطيع أن نتناسى عوامل مهمة في هذه‬ ‫المرحلة دخلت بقوة على خط اإلب��داع األدب��ي‬ ‫والثقافي في منطقة الخليج عموماً؛ كانتشار‬ ‫التعليم‪ ،‬وال��ت��وس��ع المعرفي والثقافي‪ ،‬وعمق‬ ‫ال��وع��ي‪ ،‬وات��س��اع ال��ع�لاق��ات م��ع ال���دول الغربية‬ ‫واالطالع على ثقافاتها وآدابها وفنونها‪ ،‬ومشاركة‬ ‫ال��م��رأة في مجاالت التعليم والثقافة والعمل‪،‬‬ ‫واالنتعاش المادي الكبير‪ ،‬والسياحة‪ ،‬والتواصل‬ ‫مع مجتمعات جديدة‪ ،‬وتقنية االتصاالت وشبكة‬ ‫اإلنترنت التي حولّت العالم إلى قرية صغيرة؛‬ ‫فأصبحت التجارب اإلبداعية والحياة الثقافية‬ ‫واألدبية في متناول الجميع بسهولة ويسر‪ ،‬وبكل‬ ‫شفافية‪.‬‬

‫‪6‬‬

‫والمبدعين‪ ،‬وأثْرَت مضامين نصوصهم‪ ،‬وزوّدتهم‬ ‫بأشكال وفنيات القص ولغته وأجوائه النفسية؛‬ ‫وبالنتيجة بدأت تظهر تجارب أدبية جديدة في‬ ‫جميع مجاالت اإلبداع لها نكهتها المميزة ومالمح‬ ‫من الخصوصية قابلة للتطور مع الزمن وتكوين‬ ‫طريقها التجريبي المتميز‪.‬‬ ‫وأي نص إب��داع��ي أدب��ي‪ ،‬ال بد أن يبرز بين‬ ‫سطوره رؤية الكاتب الذاتية للعالم‪ ،‬ونستشف من‬ ‫خالله الطريق اإلبداعي لألديب‪ ،‬وبخاصة إذا‬ ‫ك�رّس له كل جهده ووقته‪ ،‬وأعطاه كل اهتمامه‬ ‫وعصارة فكره‪.‬‬

‫ت��م��ث��ل ن���ص���وص ال���ق���اص ال��م��ب��دع (م��ح��م��د‬ ‫ه��ذه ال��ع��وام��ل جميعها أثّ���رت على األدب���اء الشقحاء) في مجال القصص القصيرة أنموذجاً‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫دراس �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��ات ون �ق �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��د‬

‫مهماً ومتميزاً للقص السعودي الذي تمكّن من‬ ‫امتالك فنيات القص وتقنياته‪ ،‬وطوّعها بمهارة‬ ‫في نصوصه اإلبداعية؛ فمسيرة القاص الشقحاء‬ ‫تشير إلى تجربة ذاتية لها خصوصيتها وطابعها‬ ‫المميز‪ ،‬انطلقت بحرية في رحاب الفن القصصي‬ ‫الصعب‪ ،‬وحلّقت في فضاءات األدب الرحب‪ ،‬ما‬ ‫جعله رائداً في فن القصة القصيرة في السعودية‪.‬‬ ‫فمسيرة أربعين عاماً من اإلب��داع المتواصل‬ ‫ال للكاتب الذي بدأ الكتابة منذ‬ ‫يعد تاريخاً طوي ً‬ ‫العام ‪1964‬م وحتى اليوم‪ ،‬فأعطى نتاجاً غزيراً‬ ‫بالمقياس اإلبداعي‪ ،‬وصدرت له أكثر من عشر‬ ‫مجموعات قصصية‪ ،‬وثالثة دواوين شعرية‪ ،‬وعدة‬ ‫مؤلفات في الدراسة والنقد األدبي‪ ،‬وكتبت عن‬ ‫إبداعاته عشرات الكتب والمقاالت‪.‬‬ ‫هذه المسيرة اإلبداعية شهدت تطوراً تدريجياً‬ ‫وارتقا ًء مهماً الفتاً للنظر‪ ،‬بفنيّات القص وتقنياته‬ ‫وأشكاله ومضامينه‪ ..‬أخرجته من دائرة المحلية‬ ‫والذاتية التي تتصف بالمباشرة والسطحية‪،‬‬ ‫والتحليق ف��ي ع��وال��م ش��اع��ري��ة شخصية إل��ى‬ ‫ن��ص��وص قصصية م��ب��دع��ة‪ ،‬تتصف بالتقنيات‬ ‫الحديثة وال��وع��ي وال��ع��م��ق الفني والمضامين‬ ‫اإلنسانية واله ِّم االجتماعي‪ ،‬ونضج في األشكال‬ ‫الفنية‪ ،‬وتوظيفها بمهارة في تحقيق غايات الفن‬ ‫القصصي؛ فيبدو القاص أنه يواصل تطوير أدائه‬ ‫القصصي وتنوّعاته الفنية ويرتقي بنصوصه‬ ‫اإلبداعية‪ ..‬كما ذكر الدكتور طلعت السيد أنه‪:‬‬ ‫«يواصل تطوير أدائه الفني ويرتقي بقصصه من‬ ‫نصوص تتصف باالفتقار إلى الترابط والخيال‬ ‫وغلبة ال��وص��ف ال��ش��اع��ري واع��ت��ب��ار الشخصية‬ ‫أداة لنقل األفكار في المجموعات األول��ى‪ ،‬إلى‬ ‫نصوص تتصف بالوعي والنضج في مجموعتيه‬ ‫األخيرتين»‪.‬‬

‫فيعطي نصاً قصصياً شديد التوهج والفوران‪،‬‬ ‫الحس‬ ‫ِّ‬ ‫يعبر عن عمق المعاناة العاطفية ورهافة‬ ‫وشفافية المشاعر‪ ،‬لكنها هي ذات الحالة التي‬ ‫تبقي القاص حبيس تجربته الشخصية وغربته‬ ‫الذاتية عن العالم‪ ،‬ويبقى في ص��راع دائ��م مع‬ ‫ال��واق��ع الصلب‪ ،‬وت���أزّم نفسي‪ ،‬وسخط وتمرد‬ ‫لا ومتنفساً ألزماته‪،‬‬ ‫وث��ورة دائمة‪ ،‬فال يجد ح� ً‬ ‫سوى الهروب إلى األحالم الرومانسية والتحليق‬ ‫في عالم الخيال‪ ،‬لذلك طبعت قصص الشقحاء‬ ‫على نحو عام باللغة الشاعرية الشفافة‪ ،‬والتعبير‬ ‫عن المعاناة الذاتية واالنفعاالت الداخلية والقلق‬ ‫والتوتر‪ ،‬والرؤية الساخطة الشخصية لمشكالت‬ ‫العالم‪.‬‬

‫وي��ج �رّب ال��ق��اص تقنيات متنوعة ف��ي الفن‬ ‫ال��ق��ص��ص��ي ف���ي م��ح��اول��ة ل��ل��خ��روج م���ن ع��ال��م‬ ‫التعبير عن ال��ذات واله ِّم المحلي‪ ،‬إلى التعبير‬ ‫عن الموضوع والهم العربي اإلنساني‪ .‬وتتنوع‬ ‫قصص الشقحاء بين القصة القصيرة جداً التي‬ ‫ال تتجاوز السطرين كما في قصص (المتاهة‪،‬‬ ‫مناجاة‪ ،‬الحلم) إلى قصة قصيرة جداً ال تتجاوز‬ ‫الصفحة‪ ..‬إلى عدة صفحات (األرض‪ ،‬الصمت‪،‬‬ ‫أحالم الرغبات رمزية‪ ،‬وجه‪ ،‬توهج‪ ،‬البقاء على‬ ‫م��ق��رب��ة‪ ،‬السكين‪ ،‬اإلس��ف��ل��ت‪ ،‬ال��م��درج البديل‪،‬‬ ‫العجوز النسخة األولى‪ ،‬النجاح‪ ،‬األخت الثالثة‪،‬‬ ‫ويبدو القاص في حالة نفسية متألقة دائمة الخالص)ـ‬ ‫كما نجد قصصاً قصيرة متنوعة الطول‪،‬‬ ‫من االنفعال والتفاعل‪ ،‬ال تهدأ إ ّال بعد الكتابة‪،‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫‪7‬‬


‫لكنه يستمر في السرد‪ ،‬ويستغرق في الوصف‬ ‫حتى يعطينا فكرة أنه يكتب قصة روائية طويلة‬ ‫(شهرزاد تتحدث‪ ،‬سبات عميق)‪ .‬وقصص ألفها‬ ‫عن لسان المرأة (سبات عميق‪ ،‬متآكال بالصمت)‪.‬‬

‫التقنية القصصية الحديثة ليحوّله إل��ى نص‬ ‫قصصي متميز‪ ،‬من خالل حركة الحدث وتطوره‪،‬‬ ‫ليوصله بمهارة إب��داع��ي��ة إل��ى مرحلة النضوج‬ ‫واالكتمال الفني المثير‪.‬‬

‫وعندما نتابع النصوص القصصية المتنوعة‬ ‫ل��ل��ق��اص ال��ش��ق��ح��اء‪ ،‬ن��ج��د ص��ع��وب��ة ش��دي��دة في‬ ‫تصنيفه ضمن اتجاه أدبي محدّد‪ ،‬بين االتجاهات‬ ‫السائدة‪ ،‬وكأن محمد يتهرّب بمهارة من االنتماء‬ ‫إلى أي من المدارس اإلبداعية المعروفة على‬ ‫الساحة األدبية السعودية‪ .‬كما نرى ذلك بوضوح‬ ‫في مجموعاته القصصية‪( :‬قالت إنها قادمة‪،‬‬ ‫االن��ح��دار‪ ،‬الغريب الطيب‪ ،‬الحملة‪ ،‬الغياب‪،‬‬ ‫المحطة األخيرة)‪.‬‬

‫الحدث‬ ‫يعرض فيه الكاتب قصة شخصية‪ ،‬إنسانية‪،‬‬ ‫واعية‪ ،‬محلّقة الخيال تعوّد صاحبها أن يهرب‬ ‫من أجواء المدينة المملّة ليجلس في مقهى‬ ‫في الضاحية‪ ،‬يفكّر‪ ،‬يقرأ‪ ،‬يحلم باستحضار‬ ‫صورة فتاة أحالمه التي ال تفارق مخيلته‪ ،‬لكن‬ ‫الشعارات الوطنية والقومية تتزاحم وتتنافس‬ ‫مع أجوائه الداخلية‪ ،‬يحين وقت عودته‪ ،‬ويشعر‬ ‫بالحاجة للتبول‪ ،‬يركب السيارة‪ ،‬يتخيّل فتاته‬ ‫في انتظاره على الطريق‪ ،‬يساق إلى مخفر‬ ‫الشرطة‪ ،‬يُ��ض��رب فلقة على قدميه‪ ،‬يخلى‬ ‫سبيله‪ ،‬لكنه يساق م��رة أخ��رى من مجهولي‬ ‫الهوية إلى مكان مجهول‪ ،‬تبقى سيارته دائرة‬ ‫وجاهزة تنتظر من يقودها‪.‬‬

‫يجرّب القاص في هذه المجموعات تقنيات‬ ‫جديدة في الفن القصصي في محاولة للخروج‬ ‫من عالم التعبير عن ال��ذات واله ّم المحلي إلى‬ ‫التعبير عن الموضوع‪ ،‬والهم العربي اإلنساني‬ ‫ك��م��ا ف��ي ق��ص��ة (ال��غ��ري��ب)‪ ،‬ع��ن��دم��ا يستحضر‬ ‫شخصية ت��رم��ز إل��ى اإلن��س��ان ال��ع��رب��ي‪ ،‬ويرسم‬ ‫عرض المشاهد‬ ‫مالمح الشخصية العامة ذات خطابات متعدّدة‬ ‫الوجوه‪ ..‬لكن انفعاالته المتوهجة‪ ،‬وتوتره تجعله‬ ‫المقطع األول‪ :‬عبارة عن رسالة غير محدّدة‪،‬‬ ‫يقطع السياق ويعلن عن موته فجأة‪ ،‬فال تكتمل تبين أوضاع الحياة في المجتمع اإلنساني‪( :‬فراق‪،‬‬ ‫الدالالت الفنية والمعاني الموضوعية للشخصية‪ .‬شوق‪ ،‬لقاء‪ ،‬حب)‪ ،‬يوظف القاص هذه االنفعاالت‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬بلغة شاعرية شفّافة كنموذج للعالقات‬ ‫التقطيع المشهدي في النص القصصي‬ ‫االجتماعية العاطفية المفقودة في الواقع القائم‬ ‫هذه الطريقة الفنية في التأليف القصصي ومقارنتها بالحلم الحياتي المنشود؛ فتتوهج في‬ ‫نجدها في قصص متنوعة عديدة منها (الرغبة‪ ،‬ذهنه الرغبة في الهروب من الواقع‪ ،‬إلى سحر‬ ‫الزهور الصفراء‪ ،‬مـدى االنحدار‪ ،‬الوهم‪ ،‬شهرزاد الحلم وجاذبيته الوردية‪.‬‬ ‫تتحدث‪ ،‬ذاكرة النسيان)‪.‬‬ ‫المقطع الثاني‪ :‬يصور عملية هروب شخصية‬

‫‪8‬‬

‫في قصة (إبحار في ذاكرة النسيان) يستخدم‬ ‫القاص تقنيات فنية قصصية مميزة في القص‬ ‫الحديث‪ ،‬وهي التقطيع المشهدي في سياقات‬ ‫أحداث القصة‪ ،‬فرغم أن حدث القصة عادي في‬ ‫الحياة اليومية لإلنسان‪ ،‬غير أن القاص يستخدم‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫ب��ط��ل ال��ق��ص��ة م��ن رت��اب��ة ال��ح��ي��اة ف��ي المدينة‪،‬‬ ‫وجمودها وسأمها إلى مقهى خارج المدينة التي‬ ‫اعتاد الجلوس فيها مع صحفه وأحالمه‪ ،‬فيصور‬ ‫المؤلف ه��ذه الحالة بقوله‪« :‬مدينة األش��ب��اح‬ ‫والضياع‪ ...‬حيث تجد في كل زاوية شبحاً يتلفّح‬


‫وكأن هذه الحالة من األجواء تعبر عن تجربة‬ ‫شخصية للمؤلف‪ ،‬رومانسية المظهر‪ ،‬لكنها‬ ‫مختلفة عن الهروب الرومانسي التقليدي نحو‬ ‫الطبيعة والوحدة والتأمل‪ ،‬بل نجد هنا هروباً‬ ‫رومانسياً معكوساً نحو الضجيج والصخب الذي‬ ‫تتميز ب��ه أج���واء المقاهي‪ .‬فالمقهى توفر له‬ ‫الشيشة والقراءة الخاصة‪ ،‬وضمن هذه األجواء‬ ‫يستحضر حلمه الداخلي‪ ،‬فتطل من بين السطور‬ ‫صورة فتاته‪ ،‬يستغرق في عالمها ويعيشه كبديل‬ ‫أو تعويض عن أج��واء واق��ع المدينة‪ ،‬وأشباحها‬ ‫ومعاناته‪ ،‬ومن نقيق الضفادع والملل واإلحباط‪.‬‬

‫المقطع الخامس‪ :‬في المخفر يتعرض للضرب‬ ‫المبرح على قدميه التي يصور فيها القاص حالة‬ ‫الصراع بين عالمين متداخلين‪ ،‬عالم المخفر‬ ‫وعالم الفتاة الحلم التي تلعق قدميه المتورمتين‪،‬‬ ‫فالقاص يرمز إل��ى العيش ال��دائ��م م��ن هاجس‬ ‫مخلصا‬ ‫ً‬ ‫القمع من كل شيء‪ ،‬فتكون الفتاة الحلم‪،‬‬ ‫من هذا القمع‪.‬‬

‫دراس �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��ات ون �ق �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��د‬

‫بالطو‪ ...‬وحيث يرتفع نقيق الضفادع التي تتجول‬ ‫بسيّارات مختلفة األشكال والموديالت‪ ،‬األمر‬ ‫الذي يجعل كل الطرق‪ ،‬تؤدي إلى خارج المدينة»‪.‬‬

‫الحلم تنتظره في الشارع‪ ،‬يتوقف جانباً ويطفئ‬ ‫أضواء سيارته بانتظار حضورها‪ ..‬لكن المفارقة‬ ‫الكبيرة هي حضور الشرطة‪ ،‬التي تلقي القبض‬ ‫عليه بحجة إطفاء أض��واء السيارة‪ ،‬وهي إشارة‬ ‫رم��زي��ة ل��م��ح��ارب��ة ح��ل��م ال��ح��ي��اة‪ ،‬وح��اج��ة رج��ال‬ ‫الشرطة لألضواء لكشف ما يفعله الناس‪.‬‬

‫المقطع الثالث‪ :‬الشخصية تنتهي من القراءة‬ ‫فيستغرق في التصورات واألخيلة‪ ،‬ويستحضر‬ ‫زيف الواقع والشعارات القومية‪ ،‬فيرفض الشيشة‬ ‫وينحّ يها بقرف‪ ،‬وه��ذا يشير إلى ت��أزّم الصراع‬ ‫وذروته بين الواقع المهروب منه‪ ،‬وبين ما يقدمه‬ ‫المقهى من وسائل ترفيه‪ ،‬فيؤدي به الصراع إلى‬ ‫االنحصار والشعور بالحاجة إلى التبول نتيجة‬ ‫شدة تأثير االنفعاالت النفسية التي يعاني منها‬ ‫وتوصله إلى الذروة‪ ،‬وهذه اإلشارة تتكرر في أكثر‬ ‫بهذه التقنية القصصية المشهدية الجميلة‬ ‫من موضع في المجموعة‪ ،‬والنتيجة تشير إلى‬ ‫استطاع القاص الشقحاء أن يطور الحدث‪ ،‬وينمّي‬ ‫انتصار الوعي والتعلّق بالحلم على االستسالم‬ ‫للشيشة‪ ،‬والشعارات المزيفة في توظيف بارع تفاعالته وانفعاالته‪ ،‬ويجسّ د التجربة اإلنسانية‬ ‫لألحاسيس والمشاعر الداخلية في سياق القص‪ .‬ومعاناتها‪ ،‬وغربة اإلنسان في خضم التطورات‬ ‫والمتغيرات السطحية والمظاهر المزيفة‪ ،‬التي‬ ‫المقطع الرابع‪ :‬يتجلى في مرحلة العودة من‬ ‫المقهى بدافع العادة ودافع الحاجة للتبول‪ ،‬وهي تجري في مجتمعه‪ ،‬فيبقى يعيش في حالة دائمة‬ ‫استجابة لعملية االضطراب والصراع الداخلي من المعاناة‪ ،‬من التوتر‪ ،‬من الخوف‪ ،‬من الوحدة‪،‬‬ ‫النفسي بين االستسالم ألج��واء المقهى‪ ،‬وبين من القلق‪ ،‬من الضياع‪ ..‬على أمل أن يجد نفسه‬ ‫الحلم الذي يتولّد من القراءة‪ .‬فيتخيل أن فتاة يومًا ما‪ ،‬فيعيش حالة انسجام بين ذاته وواقعه‪.‬‬ ‫أخيراً يخرج من المخفر‪ ..‬يعيش في ضياع‬ ‫مبهم‪ ،‬ال يتذكر بيته أو يرفض العودة إليه‪ ،‬يسأل‬ ‫متسوالً‪ ،‬تأتي سيارات مجهولة‪ ،‬تقوده إلى مكان‬ ‫مجهول‪ ،‬وتبقى سيارته مضاءة‪ ،‬دائرة المحرك‪،‬‬ ‫جاهزة تنتظر أحدًا يقودها‪ ،‬في محاولة للمقارنة‬ ‫بين المجتمع القمعي القاهر‪ ،‬وبين المجتمع‬ ‫اإلنساني الذي أشار إليه القاص في المقدمة‪.‬‬

‫* كاتب سوري مقيم في األردن‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫‪9‬‬


‫«شق النهار» ألسامة أنور عكاشة‬ ‫آخر روايات صاحب الروائع التلفزيونية‬ ‫‪ρρ‬هشام بنشاوي*‬

‫يستهل عميد ال��درام��ا التلفزيونية‪ ،‬ال�ك��ات��ب ال��راح��ل‬ ‫أس��ام��ة أن��ور عكاشة (‪2010-1941‬م) رواي�ت��ه األخ�ي��رة «شق‬ ‫النهار»‪ ،‬والتي نشرها مسلسلة في جريدة «األهرام» بعودة‬ ‫بطل رواي�ت��ه شوقي‪ ،‬الكهل ال��ذي اشتعل رأس��ه شيبا‪ ،‬إلى‬ ‫بيت األس ��رة بعد انفصاله ع��ن زوج�ت��ه‪ ،‬ول��م يكن بالبيت‬ ‫س��وى ال�ع��مّ ��ة نجية واب�ن�ه��ا ال�ض��ري��ر الشيخ ع ��ادل‪ .‬وتذكر‬ ‫حديث أخته عن محاولة انتحار ابنة عمه في ليلة زفافه‪ ،‬وهو المغرم باألميرة‬ ‫الساكنة في «سرايا الباشا»‪ ،‬وكان يتابعها عن بعد؛ لم تكن المالمح واضحة‪ ،‬كان‬ ‫ي��راه��ا كطيف أشقر ي��رت��اد الحديقة الخلفية ف��ي الصباحات الشتوية‪ ،‬والهالة‬ ‫الضبابية تغشى عينيه‪ ،‬ويكاد يميز فقط خصالت الشعر الذهبي المنحدر على‬ ‫الجبين والخدين‪ ،‬وهي مستغرقة في ق��راءة مجلة أو كتاب‪ .‬ويدهشه أن الشيخ‬ ‫الضرير ي��رى نهير‪ ،‬كما يراهم جميعا‪ ،‬حين أخبره بأنها ع��ادت إل��ى البيت بعد‬ ‫عشرين عاما‪ ،‬عقب تجربة زواج فاشلة‪ ،‬وراوده األمل في أن يراها مجددا‪ ،‬بعدما‬ ‫لمح الضوء يتخلل ضلفتي «الشيش» في إح��دى غرف الطابق الثاني‪ ،‬وخالجه‬ ‫أمل مراوغ في إمكانية انفراجهما تحت وطأة حر الليل‪ ،‬وبدا متلهفا لسماع أخبار‬ ‫األسرة من الشيخ عادل‪ ،‬وعقدت الدهشة لسانه حين علم بأن الشيخ عادل يتردد‬ ‫على «سراية الباشا»‪ ،‬وتنامت مشاعر الضيق بين جوانحه تجاهه‪ ،‬حين اكتشف أنه‬ ‫على عالقة ود بأهل «السراية»‪ ،‬ويكاد أن يصبح واحدا منهم‪.‬‬ ‫ورآه��ا تستقبل الشيخ عادل وبصحبته‬ ‫فتى الشطرنج النابغ متهللة‪ ،‬وسرعان ما‬ ‫اندمجوا في حوار باسم تتخلله الضحكات‪،‬‬ ‫ثم تركوا الحديقة إل��ى ال��داخ��ل‪ ،‬وس��اوره‬

‫‪10‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫ف��ض��ول معرفة حكاية الشيخ ع���ادل مع‬ ‫ال��ج��ي��ران‪ ،‬وان��ت��ظ��ر ع��ودت��ه حتى الفجر‪،‬‬ ‫واستنكر عادل تضايقه من توطد عالقته‬ ‫بفتاة «س��راي��ا الباشا»‪ ،‬وتذكر ح��واره مع‬


‫وحكى شوقي للشيخ عادل عن مرارة معاناته‬ ‫م��ع طليقته‪ ،‬التي حرمته م��ن رؤي��ة الطفلين‪،‬‬ ‫فنصحه بأن يبحث عن حب جديد يبعث الحياة‬ ‫في قلبه‪ ،‬ملمحا إلى «سراية الباشا»‪ ،‬وأحبطه‬ ‫الشيخ عادل حين طلب منه رقم هاتفها الخاص‬ ‫لكي يكلمها‪ ،‬بأال يحاول وال يسبب لنفسه الحرج‪،‬‬

‫دراس �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��ات ون �ق �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��د‬

‫أخته ألفت‪ ،‬التي أخبرته عن زواج نهير بصديق‬ ‫ع���ادل‪ ،‬الشيخ ط��ارق العسكري‪ ،‬وش��رد ذهنه‬ ‫وه��و يستحضر معاناته مع زوجته المريضة‪،‬‬ ‫ال��ت��ي رف��ض��ت‪ ،‬ف��ي إص����رار‪ ،‬دخ���ول مستشفى‬ ‫األم���راض النفسية‪ ،‬وشهد الجيران ومخافر‬ ‫الشرطة الكثير من المهازل‪ ،‬كاتهامها له بخطف‬ ‫أبنائه‪ ،‬أو ادعائها محاولته قتلها‪ ،‬وإبالغه بنفسه‬ ‫عن محاولتها إشعال النار في المسكن بإلقاء‬ ‫أنبوب البوتاغاز في مسقط العمارة‪ ..‬وأفاق من‬ ‫ش��روده على صوت ألفت‪ ،‬وهي تروي المأساة‬ ‫التي تورطت فيها نهير بعد زواجها من الطبيب‪،‬‬ ‫الشيخ العسكري‪ ،‬ال��ذي كان يخفي خلف قناع‬ ‫الرجل التقي الباسم سادية شيطانية‪ ،‬والتي‬ ‫تعدتها إلى ضحية أخ��رى‪ ،‬حيث فوجئت نهير‬ ‫ذات ليلة بجثة ام��رأة في المطبخ‪ ،‬كانت هي‬ ‫جسر خالصها‪ ،‬بعد سنوات من الصبر‪ ،‬بعدما‬ ‫قضت نحبها تحت تعذيبه‪ ،‬وساومته بالطالق‬ ‫مقابل ع��دم التبليغ عنه‪ .‬ح��دث كل ه��ذا وهو‬ ‫في أس��وان‪ ،‬التي اعتبر تعيينها فيها بعيدا عن‬ ‫العاصمة عقابا‪ ،‬وهو الذي رفض كل إغراءات‬ ‫أورب��ا‪ ،‬وتمسك بما سماه القيم القديمة‪ ،‬وفي‬ ‫ه��ذه المدينة المنعزلة‪ ،‬أصيبت زوجته بنوبة‬ ‫اكتئاب حادة‪ ،‬بسبب رتابة الحياة‪ ،‬وطلبت العودة‬ ‫إلى بيت أسرتها‪ ،‬وفوجئ بوالدها واألخ األكبر‬ ‫يصران على الطالق‪.‬‬

‫قالها في وجوم فضح ما بين جوانحه‪ ،‬فسأله‬ ‫إن ك��ان يحبها‪ ،‬ورد ف��ي انكسار‪« :‬وه��ل مثلي‬ ‫يجرؤ على حب مثلها؟»‪ ،‬وغادر الغرفة‪ ،‬وفوجئ‬ ‫به يبكي بال صوت في الشرفة الخلفية‪ .‬وعند‬ ‫محاولة شوقي التودد إليه طلب منه أن يتركه‬ ‫وحده‪ ،‬ولم يستطع النوم في تلك الليلة‪ ،‬بعد أن‬ ‫ظل السؤال يتأرجح في ذهنه‪ :‬لماذا تصادف أن‬ ‫يولع كالهما بنفس الفتاة؟ وهل استكثر عليه‬ ‫وهو األعمى أن يتمتع بجمال ال ي��راه؟ وبقيت‬ ‫األسئلة تتناسل‪ ،‬وغرق في بحيرة الحيرة‪.‬‬ ‫صباحا‪ ،‬ل��م يجده ف��ي البيت‪ ،‬وحين خرج‬ ‫للبحث ع��ن��ه‪ ،‬التفت إل��ى حديقة «ال��س��راي��ة»‪،‬‬ ‫وفوجئ بالشيخ جالسا مع نهير وأمها وبعض‬ ‫األط��ف��ال‪ ،‬وه��و يغني إح���دى أغ��ان��ي األط��ف��ال‪،‬‬ ‫فتجمد في مكانه ذاهال‪ ،‬واندلعت نيران الغيرة‬ ‫ف��ي ص����دره‪ .‬ان��ت��اب��ه إح��س��اس شيطاني دفعه‬ ‫لكي يفسد عليه متعته‪ ،‬فدخل عليهم مقتحما‬ ‫جلستهم الصباحية المرحة‪ ،‬وادع��ى أن عمته‬ ‫طلبت منه استدعاء الشيخ ع��ادل أينما كان‪،‬‬ ‫وفطن هذا األخير لحيلته‪ ،‬ورد عليه ردا حادا‬ ‫ساخطا أثار ذهول الجميع‪ ،‬وغادر المكان طالبا‬ ‫منه أال يتبعه مرة أخرى‪ ،‬مهددا إياه بترك البيت‬ ‫والحي والمدينة كلها له‪.‬‬ ‫وعندما لم تهتم نهير باعترافه لها بحبه لها‪،‬‬ ‫قرر مغادرة المكان‪ ،‬وجاء ليودعها‪ ،‬وأخبرها أنها‬ ‫رحلة استشفاء‪ ،‬وأنشد بيتا شعريا لجميل بثينة‪،‬‬ ‫وحين هبت غاضبة بدعوى أنها ال تفهم شعره‪،‬‬ ‫طلبت منه معرفة ما أل ّم بصحته‪ ،‬فأجابها‪« :‬أنت‬ ‫مرضي‪ ..‬وأريد أن أشفى منك»‪.‬‬ ‫وت��ج��در اإلش���ارة إل��ى أن ال��ق��ارئ سيستمتع‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪11 )2015‬‬


‫بالمشاهد الحوارية البليغة في الرواية‪ ،‬ويعزى‬ ‫هذا إلى كون الراحل أسامة أنور عكاشة يولي‬ ‫أهمية بالغة للحوار في سائر أعماله الدرامية‪.‬‬ ‫****‬

‫‪12‬‬

‫بسبب قانون ال��ط��وارئ‪ ،‬اعتقل شوقي أمام‬ ‫الجامعة‪ ،‬حين وجد نفسه عالقا في مظاهرة‬ ‫سياسية‪ ،‬وه��و ف��ي طريقه إل��ى ال��ع��م��ل‪ ،‬وفي‬ ‫المعتقل‪ ،‬حقق معه أب��و ق���ردان‪ ،‬زم��ي��ل أخيه‬ ‫المناضل الراحل شهدي‪ ،‬واتهمه هذا األخير‬ ‫بأنه وش��ى بهم جميعا في ليلة واح��دة‪ ،‬وخيل‬ ‫إليه أن��ه يدفع ثمن نضال وال��ده وأخيه شهيد‬ ‫القضية‪ ،‬وهو الذي عاش متشرنقا منعزال‪ .‬وفي‬ ‫المعتقل المفتوح أحس شوقي بأن حياته خاوية‪،‬‬ ‫حين الحظ أنه الوحيد الذي بال قضية‪ ،‬وتتكرر‬ ‫أيامها في رتابة‪ ،‬وأغراه رفيق الزنزانة‪ ،‬الشاعر‬ ‫عباس بالبحث عن الواحة الضائعة‪ ،‬والتي لم‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫تكن سوى استعارة عن الحرية‪ ،‬وألن المعتقل‬ ‫في الصحراء‪ ،‬لم تضع الحكومة حراسا وال‬ ‫وأحس شوقي‬ ‫َّ‬ ‫أس��وارا‪ ،‬ألنه بعيد عن العمران‪،‬‬ ‫بأنهم يحرضونه على الهرب بطريقتهم الخاصة‪،‬‬ ‫فقرر خوض التجربة؛ بينما فشلت نهير في أن‬ ‫تجعل من قضية شوقي قضية رأي عام‪ ،‬وقاومت‬ ‫االستسالم لفكرة الفقد‪ ،‬وتضاربت اآلراء حول‬ ‫شوقي فيما يتعلق بأنشطة سياسية سرية‪ ،‬حتى‬ ‫شكت نهير والشيخ عادل في معرفتهما له‪ ،‬وهو‬ ‫الذي كان أشبه بكتاب مفتوح بالنسبة إليهما‪،‬‬ ‫وات��ص��ل المسؤول الكبير‪ /‬قريب نهير طالبا‬ ‫مقابلتها في مكتبه وأخبرها ببراءة شوقي‪ ،‬في‬ ‫حين اتصل الشيخ ع��ادل بصديقه الضابط‪،‬‬ ‫وال���ذي أك��د ل��ه أن خبر اإلف���راج عنه صحيح‪،‬‬ ‫وصعقه خبر هروب شوقي من معسكر االعتقال‪.‬‬ ‫****‬ ‫ما بين الحلم واليقظة‪ ،‬اختفى عباس‪ ،‬وهو‬ ‫هائم على وجهه في البيداء لمح شوقي شيخان‪،‬‬ ‫وتبعهما دون أن يعرف وجهتهما‪ ،‬وحاول تذكر‬ ‫رفيق الرحلة عباس‪ ،‬وفكر في سبب اختفائه‪،‬‬ ‫وهو يتذكر أنهما لم يتشاجرا‪ ،‬ثم لم يتذكر أنه‬ ‫ك��ان برفقة شاعر يدعى عباس‪ .‬وم��ع تباشير‬ ‫الصباح‪ ،‬وصلوا إلى الواحة‪ ،‬وغرق في غيبوبة‬ ‫بعدما اجتاز العتبة‪ ،‬ولم يعرف قدر ما نامه من‬ ‫نهاره‪ ،‬واستيقظ ليال‪ ،‬ووج��د الواحة الخالية‬ ‫مليئة بأناس لم يرهم من قبل‪ ،‬وجد نفسه بين‬ ‫ال��ط��وارق‪ ،‬لكن سرعان ما اكتشف أن ضيافة‬ ‫ال���ط���وارق ك��ان��ت م��ج��رد ح��ل��م‪ ،‬ح��ي��ث استيقظ‬ ‫وهو نائم على سفح الجبل‪ ،‬وال أثر للواحة وال‬ ‫للطوارق أو غيرهم‪ ،‬لكنه وج��د نفسه يرتدي‬ ‫العباءة المغربية التي ألبسوه إياها‪ ،‬كان يرتعد‬


‫دراس �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��ات ون �ق �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��د‬

‫من الحمّى‪ ،‬ووجد بالقرب منه الشاعر الحزين وانتابه حنين جارف لأليام الخالية‪.‬‬ ‫عباس‪ ،‬الذي صاح به‪ :‬أفلت من الموت بأعجوبة‪.‬‬ ‫ف��ي حجرته بقي نائما ل��م��دة ث�لاث��ة أي��ام‪،‬‬ ‫وف��ي غ��ي��اب��ه‪ ،‬تقوقع الشيخ ع���ادل ونهير‪ ،‬واعتبر األطباء نومه وسيلة للهرب من مواجهة‬ ‫وانفصال عن محيطهما‪ ،‬وتكثف وج��ود شوقي الواقع؛ بعد أن تقمص شخصية أخيه المناضل‬ ‫في المكان رغم الغياب‪ ،‬وأصبح محورا في حياة شهدي‪ ،‬وحتى طليقته لم تدرِ إن كان شوقي فعال‬ ‫الكثيرين ممن افتقدوه وأحسوا بلوعة الفقد‪ .‬أم شهدي‪ .‬لم تعد واثقة من أي شيء‪ ،‬بعد أن‬ ‫وتلقت نهير دعوة للقاء قريبها الموظف السامي‪ ،‬غمت عليها المالمح والقسمات بعد خروجه من‬ ‫والذي أبلغها أنه تم التوصل لمكان شوقي‪ ،‬وسبب المعتقل‪« .‬ك��ان واردا أن يكون األخ هو اآلخر‪،‬‬ ‫القبض عليه تشابه أسماء مع ناشط خطر‪ ،‬وقد وأن يكون هذا اآلخر هو الحقيقة‪ ،‬ولعلها تكون‬ ‫أفرج عنه بعد القبض على الشخص الحقيقي‪ ،‬هي من سقطت في الغيبوبة»‪ ،‬وتفاجأت بأنه‬ ‫وتم تعيين فرق إنقاذ جابت الصحراء برا وجوا‪ ،‬ترك البيت وبحثت عنه في بيت العمة‪ ،‬ودلها‬ ‫وأودع المستشفى ليعالج من تداعيات الحمى‪ ،‬الشيخ ع��ادل على مكانه‪ ،‬حيث كانا يجلسان‬ ‫بيد أن نهير غادرت مكتبه وهي محبطة‪ ،‬كأنها تحت الشجرة‪ ،‬وكل واحد منهما يمسك كتابا‪،‬‬ ‫لم تصدق الحكاية‪ ،‬وأحست أنها تكره شوقي‪ ،‬وأخبرها أنهما تزوجا باألمس‪.‬‬ ‫وف��ي طريقها إل��ى البيت التقت الشيخ ع��ادل‪،‬‬ ‫وتضاربت اآلراء حول شهدي‪ ،‬الذي قيل إنه‬ ‫وكانت بحاجة إل��ى ال��ب��وح‪ ،‬فجالسته على نيل‬ ‫مات‪ ،‬وأنه هاجر إلى أوربا الشرقية‪ ،‬واستقرت‬ ‫حلوان‪ ،‬وأخذت تحدثه عن حياتها السابقة‪...‬‬ ‫أقوال أخرى عند الثوري الذي ال يغادر المعتقل‬ ‫****‬ ‫إال ليعود إليه في اليوم نفسه‪ .‬ولم تجد لدى‬ ‫عاد شوقي إلى الحي‪ ،‬اتجه إلى البيت باحثا الشيخ أي كالم يشفي غليلها‪ ،‬وأبلغها أن الشك‬ ‫عن طيفها تحت الشجرة‪ ،‬وصعق بخبر رحيل يمأل قلبها‪ ،‬وهي تعلم أن زوجها خائن‪ ،‬وهو من‬ ‫األسرة إلى الخارج‪ ،‬وسلمته الخادمة مظروفا وشى بأخيه‪ ،‬لكن الشيخ ال يستطيع أن يحدد من‬ ‫يحمل عطر نهير‪ ،‬وتبدت له رسالتها غامضة‪ ،‬منهما الخائن ومن الضحية‪« ،‬قد يكون شهدي‬ ‫وتالها على الشيخ عادل‪ ،‬فطلب منه اللحاق بها‪ ،‬هو شوقي‪ .‬صدقيني فأنا ال أستطيع التفرقة‬ ‫وذهل رده الشيخ‪ ،‬بأنه ال يمكنه أن يتخلى عن بين صوتين يصالن إلى أذني صوتا واحدا وأنا‬ ‫مسؤولياته الحزبية والرفاق ويركض خلف قصة كما تعرفين ال أرى‪ ..‬ألمس األشياء فقط وقد‬ ‫حب غامضة‪ ،‬فتمتم الشيخ‪« :‬كنت أظ��ن أنني تحسست الوجهين ولم أجد فارقا يميز أحدهما‬ ‫أعرفك‪ ،‬ولكن ما أسمع منك اآلن يؤكد أنني لم عن اآلخر!»‪ ،‬وتركته‪ ،‬وسارت في طريقها لتبحث‬ ‫أكن سوى حاطب ليل يضرب في الظالم»‪ ،‬واتجه عن طفليها‪ ،‬وحين رأتهما ينتظران عند محطة‬ ‫الشيخ إلى الحديقة واتخذ مكانه تحت الشجرة المترو‪ ،‬أيقنت أنها ستجده هناك‪.‬‬ ‫ * كاتب من المغرب‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪13 )2015‬‬


‫عدو الشعب‪..‬‬ ‫من إبسن إلى آرثر ميلر‬ ‫‪ρρ‬صالح بن محمد املطيري*‬

‫المخلص الغيور وهو يرى مجتمعه الذي تربّى بين ناسه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫هلع يحسّ ه‬ ‫ترى أي ٍ‬ ‫ودرج على أرضه‪ ،‬وتنسّ م هواءه‪ ،‬ينحدر نحو الهاوية الماحقة‪ ،‬من غير أن يشعر‬ ‫المخلص كمداً وحسرة أ ّن الناس‬ ‫َ‬ ‫ُصة ويزيد‬ ‫أحد؟ بل إ ّن ما يزيد األم َر هلعا وغ ّ‬ ‫ال يستشعرون الخطر‪ ،‬بل ال يريدون أن يستشعروا أي خطر‪ ،‬وال يريدون من أحد‬ ‫أن يُخرجهم من الوهم الذي هم فيه‪ ..‬رغم أنّهم يسيرون نحو الهاوية وهم ال‬ ‫يشعرون‪.‬‬ ‫ت��ل��ك ه���ي ال��ف��ك��رة ال��رئ��ي��س��ة ال��ت��ي قريش يريدون أن يعرفوا ما الخطب‬

‫تمثّل بؤرة الصراع في مسرحية (عد ّو الذي يصيح به؟ فأقبل عليهم صلى اهلل‬ ‫الشعب)‪ ،‬للكاتب النرويجي هنريك إبسن عليه وسلم وقال‪:‬‬ ‫المتوفى عام ‪1906‬م‪ .‬وهذه الفكرة تذكّر‬

‫بقصة معروفة في السيرة‬ ‫القاري حقاً ّ‬ ‫النبوية العطرة‪ ،‬وذلك عندما أمر اهلل‬ ‫نبيه المصطفى صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أن يصدع برسالته‪ ،‬فما كان منه إال أن‬ ‫ال من تالل مكة وصاح بملء فيه‪:‬‬ ‫عال ت ً‬

‫‪14‬‬

‫«أرأي����ت����م إن ح��د ّث��ت��ك��م أن ال��ع��دو‬ ‫مصبّحكم أو ممسّ يكم‪ ،‬أكنتم مصدّقيّ ؟‬ ‫قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فإني نذي ٌر لكم بين يديّ‬ ‫عذابٌ شديد»‪.‬‬ ‫فما كان من أق��رب الناس إليه وهو‬

‫واصباحاه‪ ،‬واصباحاه‪ ،‬فالت ّم عليه رجال عمّه أبو لهب إال أن قال‪ :‬ت ّباً لك سائ َر‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫دراس �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��ات ون �ق �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��د‬

‫اليوم‪ ،‬ألهذا جمعتنا؟ فأنزل اهلل تعالى‪( :‬تَبَّتْ‬ ‫يَدَا أَبِي لَه ٍَب َوت َّ​َب)‪.‬‬ ‫والحال نفسه في هذه المسرحية تحدث‬ ‫هنا‪ ،‬إذ يصل الطبيب العالم (ستوكمان) إلى‬ ‫حقيقة مصيرية خطيرة تهدّد حياة البلدة‬ ‫التي يسكن فيها‪ ،‬ثم يريد إعالنها ونشرها‬ ‫بين السكان‪ ،‬فيُجابه ويُ��ص� ّد عن ذل��ك من‬ ‫أقرب الناس إليه‪.‬‬ ‫وهذه المسرحية هي عم ٌل درامي عظيم‪،‬‬ ‫وقد انتشرت ترجماتها في كثير من اللغات‪،‬‬ ‫وها هي بين يديّ اآلن في نسخة إنجليزية‬ ‫صاغها بأسلوب مسرحي رصين الكاتب‬ ‫األمريكي آرثر ميلر‪ ،‬المتوفى عام ‪2005‬م‪.‬‬ ‫يعيش الطبيب توماس ستوكمان في بلدة‬ ‫الشك عن اليقين‪ :‬إنّ الماء في هذه الينابيع‬ ‫تعتمد ف��ي اقتصادها على ينابيع مائية‪،‬‬ ‫يحتوي على أصلِ البالء وأصلِ الداء‪ ،‬إنّه ماءٌ‬ ‫يقصدها الناس من أنحاء القطر لالستشفاء‬ ‫ملوّثٌ ببكتيريا وبائية تهدّد صحّ ة ك ِّل من في‬ ‫والراحة واالستجمام‪ ،‬وتقوم إدارة البلدة ببناء‬ ‫البلدة وك ِّل من يأتي إليها!‬ ‫مشروع مائي يستمر سنوات‪ ،‬لغرض تعزيز‬ ‫إنّه ألم ٌر جلل‪ ،‬بل طا ّم ٌة كبرى‪ ،‬كيف تكون‬ ‫البعد السياحي وتنشيط االقتصاد ال��ذي‬ ‫يعتمد على ه��ذه الينابيع‪ ،‬فيجني السكان ه��ذه الينابيع ال��ت��ي يأتيها بعضهم لطلب‬ ‫واإلدارة أرب��اح��ا وع��وائ��د مجزية م��ن هذه الصحة وال��ش��ف��اء‪ ..‬ف��إذا هي تهديه الوباء‬ ‫والبالء؟ بل كيف يصدّق السكان أن الماء‬ ‫السياحة المائية‪.‬‬ ‫الذي يظنونه عنوان الصحة في بلدتهم‪ ،‬فإذا‬ ‫وما هي إال أن يالحظ الطبيب ستوكمان‬ ‫هو يصير بؤرة الداء والوباء؟‬ ‫بعض األع��راض الغريبة على مرضاه الذين‬ ‫يتحصل الطبيب على التقرير الذي فيه‬ ‫يستخدمون هذه الينابيع‪ ،‬حتى تبدأ تساوره‬ ‫الشكوك التي تقلق راحته‪ ،‬ف��إذا هو يأخذ نتائج الفحص المخبري الخطيرة التي تدين‬ ‫عيّنات مخبرية من ماء هذه الينابيع فيبعث الينابيع وتتهمها بالتلوث وال��م��رض‪ ،‬ولكن‬ ‫بها إلى مختبر الجامعة‪ ،‬وما هي إال أن تأتي كيف يعلن هذه الحقيقة للناس وكيف يُطلع‬ ‫النتائج الخطيرة من المختبر‪ ،‬حتى يسفر عليها المأل؟ وكيف سيستقبلون هذه الحقيقة‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪15 )2015‬‬


‫‪16‬‬

‫الصارخة‪ ،‬يا ترى؟‬

‫ألنها األه ّم الستمرار الصحيفة في البلدة‪.‬‬

‫م���ن ه��ن��ا‪ ،‬ال ب���د ل��ل��ط��ب��ي��ب م���ن ال��ل��ج��وء‬ ‫للصحافة إلعالم الناس بهذا النبأ العظيم‪،‬‬ ‫والصحافة نقصد بها هنا صحيفة البلدة‬ ‫الوحيدة التي يمثلها ثالثي يتألف من الناشر‬ ‫ورئيس التحرير والمحرر‪ .‬في البداية يُطلع‬ ‫رئيس التحرير ومساعده المحرر‬ ‫َ‬ ‫الطبيب‬ ‫على النتائج المخبرية التي تعلن هذه الحقيقة‬ ‫الخطيرة‪ ،‬طبعا للوهلة األولى تَعد الصحاف ُة‬ ‫مث َل هذا النبأ الخطير سبقاً صحفياً على‬ ‫مستوى القطر‪ ،‬تتهافت على نشره ويسيل‬ ‫له لعاب المحرر والرئيس‪ ،‬فيتعاطفان مع‬ ‫الطبيب‪ ،‬وي��ظ��ه��ران ل��ه جاهزيتهما التامة‬ ‫لنشره في العدد التالي للصحيفة‪ ،‬فيسلّمهما‬ ‫الطبيب التقرير‪ ،‬ويحرّصها على نشره دون‬ ‫أي تصرّف أو أخطاء مطبعية أو خالفه‪.‬‬

‫يواجه الطبيبُ ستوكمان أخ��اه محافظ‬ ‫البلدة بالنتائج الخطيرة عن تفشي البكتيريا‬ ‫الوبائية في مياه الينابيع‪ ،‬وهي الينابيع التي‬ ‫استم ّر مشروعُها سنوات‪ ،‬وأصبحت منتجعاً‬ ‫يستقطب إليه السياح من كل األنحاء‪ ،‬يبيّن‬ ‫الطبيب ألخيه المحافظ أنه سبق له ‪-‬أي‬ ‫الطبيب‪ -‬أن حذّرهم من بناء هذا المشروع‬ ‫في مكانه المنخفض ه��ذا‪ ،‬وأ ّن��ه كان يجب‬ ‫مكان أعلى مما هو عليه اآلن‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫تأسيسه في‬ ‫ولكنهم في مجلس اإلدارة لم يأخذوا برأيه‪،‬‬ ‫بل ألقوه في سلة اإلهمال‪ .‬ومع مرور الوقت‬ ‫ان��ح��درت البكتيريا م��ن أعلى البلدة حيث‬ ‫مدابغ الجلود ومصانعها‪ ،‬ووج��دت طريقها‬ ‫إلى الماء‪.‬‬

‫وتتخذ األح��داث منعطفا مقلقا للغاية‪،‬‬ ‫حيث تتدخل السلط ُة مُمثّل ًة في المحافظ‪،‬‬ ‫أي محافظ البلدة‪ ،‬الذي هو أخو الطبيب‪،‬‬ ‫فيعمل هذا المتنفّذ على منع نشر التقرير‬ ‫الذي يشوّه سمعة الينابيع ويتّهمها بالتلوث‬ ‫والوباء‪ ،‬هنا تقع الصحافة في مطبّ السلطة‬ ‫والخوض في مستنقع الممنوع الذي يجب أال‬ ‫تغامر فيه‪ ،‬يلوّح المحافظ المتنفّذ للناشر‬ ‫والمحرر بالتبعات الجسام التي ستترتب‬ ‫ع��ل��ى ن��ش��ر م��ث��ل ه���ذا ال��ت��ق��ري��ر‪ ،‬وإن شئت‬ ‫ق��ل إن المحافظ جعل ي��ل�وّح لهما بالعصا‬ ‫وال��ج��زرة‪ ،‬فتتهاوى كل القيم وك��ل المبادئ‬ ‫وكل الشعارات الصحفية للناشر والمحرّر‪،‬‬ ‫فيميالن إل��ى المداهنة‪ ،‬وي��ؤث��ران العافية‪،‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫لم يقتنع المحافظ بهذه النتائج الجديدة‪،‬‬ ‫وألقى بظالل الشك على مصداقيتها‪ ،‬وقال‬ ‫ملف النسيان حتى ال تؤثر‬ ‫إنه يجب طيّها في ّ‬ ‫على اقتصاد البلدة القائم على هذه الينابيع‪،‬‬ ‫وإذا ح��دث أس���وأ األح����وال «ف��س��وف تنظر‬ ‫اإلدارة حينها فيما يمكن عمله من تحسينات‬ ‫واحتياطات»‪ ،‬ولكن دون نشر أي شيء أو أي‬ ‫نتائج تسيء إلى سمعة الينابيع‪.‬‬ ‫طبعاً‪ ،‬الطبيب ستوكمان تسيطر عليه‬ ‫الروح المثالية هنا‪ ،‬ويرى أن واجبه األسمى‬ ‫ودوره األج ّل هو تبليغ هذه الحقيقة للناس‬ ‫حتى يصيروا على بيّنة من األمر‪ ،‬ويعملوا ما‬ ‫من شأنه مكافحة أصل الوباء‪ ،‬أو على األقل‬ ‫تجنّب الوقوع في أسبابه‪ ،‬وهذا يقتضي على‬ ‫البلدة عمال عظيما وخطبا جسيما‪ ،‬وهو أن‬


‫وهكذا‪ ،‬يستمر الطبيب في إصراره على‬ ‫تبليغ رسالته مهما كانت التضحيات جسيمة‪،‬‬ ‫إنه يرى أنه ال يهم أن تخسر البلدة أمواال‬ ‫طائلة ما دام��ت أنها ستكسب في النهاية‬ ‫صحة السكان وتحسم أصل الوباء‪ ،‬ويواصل‬ ‫ال��رج��ل إص����راره على إع�ل�ام ال��ن��اس بهذه‬ ‫الحقيقة‪ ،‬وتواصل السلطة تصدّيها له بكل‬ ‫وسيلة‪ ،‬وبكل وجه وفي كل مكان‪.‬‬

‫للمحافظ لكي يتحدث ويهوّل من نشر النتائج‬ ‫المتعلقة بالماء‪ ،‬وأنها ستنسف اقتصاد البلدة‬ ‫وت��رم��ي ب��ه إل��ى الحضيض‪ ،‬وأن��ه��ا ستسبب‬ ‫ارتفاع الضرائب ومضاعفتها على الناس‪،‬‬ ‫لكي يعيدوا بناء مشروع الينابيع من جديد‪،‬‬ ‫أي أنها سترهق كاهل الشعب بالنفقات‪،‬‬ ‫وستثقل عليهم المؤونة‪ ،‬وأن النتائج المخبرية‬ ‫في النهاية ‪ -‬رغم الشك في مصداقيتها‪ -‬ال‬

‫وتُغلق أب���واب التبليغ ف��ي وج��ه الطبيب‬ ‫ُوصل رسالته‬ ‫المخلص‪ ،‬ويريد الرجل أن ي ِ‬ ‫إلى الناس‪ ،‬والصحيفة الوحيدة نكصت على‬ ‫عقبيها ورفضت النشر‪ ،‬والسلطة تحبط أيَّ‬ ‫اجتماع عام يعلن عنه الطبيب ويدعو الناس‬ ‫ٍ‬ ‫إليه‪ ،‬وتُفشل أي فرصة أم��ام الطبيب لكي‬ ‫يتحدث إلى العموم ويبيّن لهم خطورة الماء‬ ‫في الينابيع‪ ،‬وهكذا تقف السلطة في وجه‬ ‫الطبيب‪ ،‬وتوصد أمامه كل وسيلة‪ ،‬وتحبط له‬ ‫أي عمل‪ .‬بل األقسى من ذلك‪ ،‬أنها سلطت‬ ‫عليه سفهاء الناس يرمون بيته بالحجارة‪،‬‬ ‫وي��ق��ع اخ��ت��ي��ار منصب ال��حَ ��ك��م أو رئيس‬ ‫ويضايقون أوالده في المدرسة‪ ،‬وينغصون الجلسة على الناشر‪ ،‬أي ناشر الصحيفة‪،‬‬ ‫عيشه في البلدة‪.‬‬ ‫وقد علمتَ آنفا أن الحكومة استطاعت أن‬ ‫ولكن هذه المنغّصات ال تفتّ في عضد تطوي هذا الناشر مع محرريه تحت جناحها‪،‬‬ ‫الطبيب وال تف ّل عزيمته‪ ،‬ومتى ك��ان أولو حتى أصبحوا جميعا من حزب السلطة‪ ،‬ومن‬ ‫العزم من الرجال يحفلون بالمنغصات التي أدواتها المدجنة‪ ،‬وهكذا يدير هذا الحكم‬ ‫تعترض سبيلهم؟ وهل توجد رسالة سامية ال المدجّ ن ذلك االجتماع على نحو جائر‪ ،‬فيمنع‬ ‫تقف في طريقها عقبات وصعاب؟ هذا هو الطبيب من اإلدالء بأي إيضاح أو التحدث إلى‬ ‫شأن الدنيا منذ الخليقة‪.‬‬ ‫الجمهور‪ ،‬فيما يفسح المجال على مصراعيه‬

‫دراس �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��ات ون �ق �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��د‬

‫ت��دكّ المشروع المائي القائم من أساسه!‬ ‫وتبنيه من جديد في مكان مرتفع ال تصل‬ ‫إليه بذور الوباء‪.‬‬

‫ويستمر الصراع في المسرحية على هذا‬ ‫النحو‪ ،‬الطبيب يحاول أن يقنع الناس بحقيقة‬ ‫الماء الملوث بالوباء‪ ،‬والسلطة تفسد وتُفشل‬ ‫له أي محاولة‪ ،‬وأي اجتماع‪ ،‬أو أي إعالن‬ ‫ألي من‬ ‫يدعو إليه؛ حتى تمكّن الطبيب بعد ٍ‬ ‫أن يقنع واحدا ممن يتعاطفون معه أن يتيح‬ ‫له قاع ًة صغيرة في بيته‪ ،‬يدعو إليها الناس‬ ‫ليسمعوا منه‪ ،‬وحتى في هذه المحاولة تأتي‬ ‫السلطة إل��ى المشهد ممثلة في المحافظ‬ ‫نفسه‪ ،‬حيث يحضر المحافظ هذا االجتماع‬ ‫رئيس‬ ‫ٌ‬ ‫ويقترح أن يكون هناك حَ َك ٌم مستقل أو‬ ‫للجلسة لكي يضبط األم���ور ويعيد إليها‬ ‫النظام متى ما انفرط عقده‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪17 )2015‬‬


‫تستحق كل هذه التضحيات الجسيمة‪ ،‬إلى‬ ‫آخر هذه التهويالت التي يلقيها المحافظ‬ ‫على النظارة ف��ي ثقة واع��ت��داد‪ ،‬وتُستقبل‬ ‫بكل استحسان وترحيب وأريحية من رئيس‬ ‫الجلسة‪ ،‬ذلك الحكم المُدجّ ن‪.‬‬ ‫ينفض الطبيب المتفاني يديه من‬ ‫ُ‬ ‫هنالك‬ ‫هذا المجتمع‪ ،‬ذلك المجتمع الذي قرر أن‬ ‫يسترسل في غيّه‪ ،‬ويستمريء الوهم الذي‬ ‫يتخبط فيه‪ ،‬ويتعامى بل يجبن عن مواجهة‬ ‫الحقيقة التي يعيش فيها‪ ،‬فيقرر الطبيب‬ ‫وقوم آخرين‪..‬‬ ‫عندها الهجرة إلى عالم آخر ٍ‬ ‫عالم بعيد ال صلة له بهذا المجتمع‪ ،‬ألم‬ ‫يقولوا في مأثور القول (ال كرامة لنبي في‬ ‫قومه)‪.‬‬

‫لعلك تسألني ما الفكرة التي يريد إيصالها‬ ‫إب��س��ن م��ن ه��ذه المسرحية؟ طبعا قضية‬ ‫اكتشاف الطبيب لحقائق تشير إلى تسمم‬ ‫المياه في البلدة ما هو إال مثال استعاري‪،‬‬ ‫يشير ه��ذا المثال إل��ى القضية أو الفكرة‬ ‫األكيدة والحقيقة المحضة التي يصل إليها‬ ‫المثقف المخلص الغيور بعد بحث وتحقيق‬ ‫تمس سالمة مجتمعه وتهدد بقاءه‬ ‫وتأكد أنها ّ‬ ‫وتشكل خطرا حقيقيا على مصيره‪.‬‬

‫ومن هنا‪ ،‬يجد المخلص دوره األول في‬ ‫إي��ص��ال ه��ذه الحقيقة إل��ى ال��ن��اس‪ ،‬وه��ذا‬ ‫محض بالغ كما ترى‪ ،‬يليه طبعا الدعوة إلى‬ ‫اتخاذ ما يترتب على هذه الحقيقة من عمل‬ ‫أو إجراءات أو احتياطات لدرء األخطار‪ ،‬آو‬ ‫ها هو الرجل العالم المخلص الغيور ال في األقل لتقليل اآلثار التي يمكن أن تترتب‬ ‫يجد مَن يصغي إليه‪ ،‬وها هم دهماء الناس على هذه القضية أو تلك‪.‬‬ ‫وبينما المخلص يشرع ب��أن يقوم ب��دوره‬ ‫وسفهاء البلدة يحطمون نوافذ بيته بالحجارة‪،‬‬ ‫فتتهاوى ال��ح��ج��ارة على بيته كما تتهاوى المنشود ذاك‪ ،‬وبينما هو يتهيأ ليعلن على‬ ‫أمس الحاجة إلى معرفته‪،‬‬ ‫السهام على المحاصرين‪ ،‬فينظر الرجل إلى المأل ما هم في ّ‬ ‫أبنائه وأسرته نظرة أسف ولسان حاله يقول‪ :‬إذا بالسلطة تدخل على الخط وتحول بينه‬ ‫ال مقام لنا هنا بعد اليوم‪ ،‬فيطلب عند ذاك وبين ما يريد إبالغه‪ ،‬وهذه السلطة قد تكون‬ ‫من أحد أصحاب السفن لكي يبحث له عن اإلدارة الزمنية‪ ،‬أي فئة الساسة التي تتحكم‬ ‫سفينة تأخذه وأسرته ليهاجروا جميعا إلى بمصير المجتمع‪ ،‬أو قد تكون الناس أنفسهم‪،‬‬ ‫أمريكا‪ ..‬وتنتهي أحداث المسرحية في آخر ألن السلطة الزمنية قد تزيّن للناس مناهضة‬ ‫مشهد على ه��ذا الوضع‪ ،‬الطبيب وأسرته المخلصين فيقومون بالدور نيابة عنها‪ ،‬كما‬ ‫يتلقى أل��وان األذى من ه��ذه البلدة الظالم رأينا من تسليط الدهماء على بيت الطبيب‪،‬‬ ‫أهلها‪ ،‬ويتطلع إلى الخالص والخروج منها‪ .‬يقذفونه بالحجارة وعلى أوالده يضايقونهم‬ ‫ذلكم هو ملخص الصراع في مسرحية في المدرسة‪ ،‬ويؤذونهم في الطرقات‪.‬‬

‫‪18‬‬

‫طبعا أطراف القضية هنا هي‪( :‬المثقف)‬ ‫ع��دو الشعب لـ «هنريك إبسن» كما صبّها‬ ‫آرثر ميلر في نص مسرحي معاصر‪ ،‬واآلن‪ ..‬المخلص‪ ،‬والسلطة‪ ،‬والصحافة‪ .‬وقد أشبعنا‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫دراس �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��ات ون �ق �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��د‬

‫ال��ق��ول ع��ن المخلص وع���ن ال��س��ل��ط��ة‪ ،‬أم��ا‬ ‫الصحافة فما أحراها أن تكون كقول الشاعر‪:‬‬

‫وم � � � � ��ا ش� � � � � � ّر ال � � �ث �ل ��اث� � ��ة أم ع� �م ��ر‬ ‫ب �ص��اح �ب��ك ال � ��ذي ال ُت�ص�ب�ح�ي�ن��ا!‬ ‫فالمؤلف إبسن وإن ك��ان يدين الساسة‬ ‫بشدة هنا‪ ،‬إال أنه يُلحق بهم الصحافة بال‬ ‫ريب ويتهمهم بالتحيز والمماألة‪ ،‬فالصحافة‬ ‫في أحداث المسرحية دائما نجدها تحطب‬ ‫في حبل السلطة وتعزف في جوقتها وتحلّق‬ ‫في سربها‪ ،‬وقد رأينا كيف أن ناشر الصحيفة‬ ‫ورئيس التحرير ومحررها قد انضووا كلهم‬ ‫تحت لواء السلطة عندما لوّحت لهما السلطة‬ ‫بالعصا والجزرة؛ طبعا يتضح هنا أيضا أن‬ ‫القيم الصحفية‪ ،‬قد تكون في غالب الحال‬ ‫قيما مثالية تعلّق فقط على مكاتب الصحيفة‬ ‫وتوضع تحت عنوانها‪ ،‬وتلقى في المحافل‬ ‫العامة من غير أن يكون لها أي تأثير ملموس‬ ‫ف��ي م��س��ار ال��ص��ح��اف��ة أو م��م��ارس��ة العمل‬ ‫الصحفي نفسه‪ ،‬ألن العمل الصحفي شأنه‬ ‫ش��أن ك��ل مهن المجتمع‪ ،‬يمتهنه أشخاص‬

‫مثلي ومثلك‪ ،‬يتأثرون بقوى الشد والجذب‬ ‫والترغيب والترهيب وال��خ��وف على لقمة‬ ‫العيش وعلى رزق العيال‪ ،‬وما إلى ذلك من‬ ‫مؤثرات وأسباب قد تزاحم أحيانا ال ُمثُل التي‬ ‫تتردد أصداؤها هنا وهناك‪ ،‬وتطنطن بها‬ ‫الصحيفة أو الشركة أو أي جهة أخرى‪.‬‬ ‫والمشكلة ال��ت��ي ت���ؤرق ال��ن��اق��د ف��ي هذه‬ ‫ال��م��س��رح��ي��ة أن ال��م��ؤل��ف إب��س��ن ق��د ت��رك‬ ‫القضية معلّقة ما بين المخلص والسلطة‪،‬‬ ‫فال المخلص نجح في إقناع السلطة‪ ،‬وال‬ ‫السلطة ُوفّقت في تهدئة المخلص وترويضه‬ ‫وك � ّف��ه ع��ن إص����راره؛ كما أن الطرفين لم‬ ‫نوع من‬ ‫يصال أيضا إلى حل وسط‪ ،‬أو إلى ٍ‬ ‫المهادنة أو ما أشبه‪ .‬وال شك أن كثيرا من‬ ‫الناس ممن يتبنى التفكير العملي ‪-‬دعني من‬ ‫الميكافيلي‪ -‬قد يرى أن المسألة يمكن أن‬ ‫يكون لها حلٌّ وسط‪ ،‬أي فكرة بين المنزلتين‪،‬‬ ‫تخفف من غلواء المخلص‪ ،‬وتقلل أيضا من‬ ‫تعنّت السلطة‪ .‬إن مسألة ش��دَّ الحبل من‬ ‫الطرفين سينتج عنها بال ري��ب انقطاعه‪،‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪19 )2015‬‬


‫كما أن الهروب من المشهد‪ ،‬وهو الذي كان‬ ‫يخطّ ط ل��ه الطبيب المخلص عند انتهاء‬ ‫ال‬ ‫المسرحية ليس هو في حقيقة األم��ر ح ً‬ ‫للمشكلة‪ ،‬وإنما قد يكون باألحرى هروباً من‬ ‫الواقع كما قد يراه بعضهم‪ .‬نعم قد تحمّل‬ ‫المخلص أصناف األذى وألوان المشقة‪ ،‬لكن‬ ‫الذي ال شك أنه ليس من الحكمة‪ ،‬وليس من‬ ‫مصلحة المجتمع‪ ،‬وليس من التدبير الحسن‬ ‫االستمرار في هذه القطيعة بين الطرفين كما‬ ‫قد يرى كثير ممن عركتهم الحياة؛ فالمخلص‬ ‫وال��س��ل��ط��ة ك�لاه��م��ا ف��ي م��رك��ب واح����د في‬ ‫النهاية‪ ،‬وألجل أن يصل المركب إلى شاطئ‬ ‫األمان ال بد أن يحاوال أن يتقاربا في وجهة‬ ‫النظر‪ ،‬أو على األقل يؤجال األم��ور العالقة‬ ‫إلى أن تبين على حقيقتها كالشمس في رابعة‬ ‫النهار‪ .‬والمعروف أن من خُ لق السلطة‪ ،‬أي‬ ‫سلطة‪ ،‬إذا ما فوجئت بما تكره من األمور‪،‬‬ ‫أنها تنكر وتكابر وتمعن في اإلع��راض أول‬ ‫األمر‪ ،‬ثم تشك في إمكانية األمر‪ ،‬ثم تضطر‬ ‫إلى االعتراف أخيرا‪ ،‬يقول طه حسين عندما‬ ‫ق��رأ عمال مشابها لمسرحيتنا ه���ذه‪ ،‬هو‬ ‫(الطاعون) أللبير كامو‪:‬‬ ‫«فالحكومة ف��ي أول األم��ر ق��د فوجئت‬ ‫ب��ال��ك��ارث��ة‪ ،‬ل��م تكن تنتظرها ول��م تكن قد‬ ‫استعدت لها‪ .‬وهي من أجل ذلك تُنكر الكارثة‬ ‫مخلصة‪ ،‬ثم متكلفة‪ ،‬ثم مكابرة‪ ،‬ثم تضطر‬ ‫إل��ى االع��ت��راف بما ليس ب��دٌّ من االعتراف‬ ‫به‪ ،‬ثم تتخبط في مواجهة الكارثة‪ ،‬فيكثر‬

‫خطؤها ويقل صوابها‪ ...‬وليست حال الشعب‬ ‫نفسه بأحسن من حال الحكومة‪ ،‬فالشعب‬ ‫يشك ثم ينكر‪ ،‬ثم يتكلّف‪ ،‬ثم يكابر‪ ،‬ثم يذعن‬ ‫للحقيقة الواقعة»(‪.)1‬‬ ‫تلكم ه��ي ح��ال السلطة وح���ال الشعب‬ ‫عندما يل ّم بهم الخطب الذي يرى المخلصون‬ ‫نذره بينما يتعامى بعضهم عنه‪ ،‬وهي كما ترى‬ ‫حال مشابهة‪.‬‬ ‫وقبل أن أضع القلم ال بد أن أشير إلى‬ ‫ما يمكن أن يكون حكمة صائبة أو تدبيرا‬ ‫حسنا‪ ،‬وهو (فتّش عن الماء)‪ ،‬وتذكّرنا علة‬ ‫ال��م��اء ف��ي ه��ذه المسرحية ب��رواي��ة (أرض‬ ‫النفاق) للمرحوم يوسف السباعي‪ ،‬إذ يرى‬ ‫المؤلف أن جرثومة النفاق‪ -‬ه��ذا المرض‬ ‫االجتماعي الذي يفتك باألخالق والمثل‪ -‬قد‬ ‫تسربت إلى النهر الذي يسقي البلد‪ ،‬وأنها‬ ‫قد عششت بل باضت وفرّخت في جزيئات‬ ‫الماء الذي يشربه الشعب من قرون‪ ،‬لذا فما‬ ‫كان من الكاتب المخلص (شخصية الرواية)‬ ‫وق��د ض��اق ب��ه��ذه الحقيقة المؤلمة إال أن‬ ‫حمل كيسا كبيرا من األخالق الفاضلة (فيه‬ ‫كميّة وافية من مسحوق الصدق والشجاعة‬ ‫واإلخالص!) وقذف به في عرض النهر‪ .‬وما‬ ‫هي إال أن يختلط الكيس بما فيه من أخالق‬ ‫فاضلة بماء النهر الذي يشربه الناس حتى‬ ‫تظهر أولى النتائج المرجوّة على المأل وعلى‬ ‫لسان خطيب الجمعة!‬

‫* كاتب من السعودية‪.‬‬ ‫(‪ )1‬طه حسين‪ ،‬ألوان‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪1981 ،‬م‪ ،‬ص ‪.356‬‬

‫‪20‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫دراس �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��ات ون �ق �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��د‬

‫«الفانوس السحري»‬ ‫رصد للسينما الخليجية واستقراء آللياتها المختلفة‬ ‫‪ρρ‬عبدالكرمي قادري*‬

‫تدعمت مكتبة السينما العربية بمنتج جديد‪ ،‬للناقد السينمائي السعودي‬ ‫خالد ربيع السيد‪ ،‬المعنون‪( :‬ال�ف��ان��وس ال�س�ح��ري‪ ...‬ق��راءة ف��ي أف�لام خليجية)‬ ‫الصادر عن دار جداول (‪2014‬م)‪ ،‬رصد من خالله حركية السينما في دول الخليج‬ ‫العربي‪ .‬وقد جاءت هذه التجربة النقدية التي تناول من خاللها الناقد العديد من‬ ‫األفالم الروائية الطويلة والقصيرة والتسجيلية‪ ،‬عن طريق القراءات الجمالية‬ ‫المتبصرة‪ ،‬تتخللها تحليالت عميقة تسهم بشكل أو بآخر في وضع أسس متينة‬ ‫لصناعة متن خاص وفاعل لسينما خليجية مستقبال‪.‬‬ ‫ج���اء ه���ذا ال��م��ن��ت��ج ال���ورق���ي ليكون‬ ‫رافدا من روافد النهوض بالفن السابع‪،‬‬ ‫ويمشي جنبا إلى جنب مع القطاعات‬ ‫األخ���رى التي تصب ه��ي األخ���رى في‬ ‫بوتقة التأسيس لهذه السينما المنتظرة‪،‬‬ ‫وأق��ص��د بها األف�ل�ام التي باتت تنتج‬ ‫هنا وهناك‪ ،‬إضافة إلى المهرجانات‬ ‫السينمائية الكبرى التي تنظم في هذه‬ ‫ال���دول؛ وه��ي كلها معطيات تتماشى‬ ‫م��ت��واز م��ع ال��ك��ت��اب��ات النقدية‬ ‫ٍ‬ ‫بشكل‬ ‫الرصينة‪ ،‬والتي تكون في الكثير من‬ ‫األح��ي��ان بمثابة ال��م��ن��ارة ال��ت��ي ترشد‬ ‫سفن المخرجين‪ ،‬كي يختاروا الطريق‬

‫السليم؛ ومن أهمها تجربة الناقد خالد‬ ‫ربيع السيد الذي نتناول كتابه‪ ،‬خاصة‬ ‫وأن���ه يملك م��ن الثقافة السينمائية‬ ‫لمختلف التجارب العالمية‪ ،‬ما يؤهله‬ ‫ليكون صاحب رأي ورؤي��ا يقتدى بهما‬ ‫في السينما‪.‬‬ ‫تعكس ه���ذه ال��ث��ق��اف��ة ال��ع��دي��د من‬ ‫ال��ت��ج��ارب النقدية ال��ت��ي سبقت هذا‬ ‫الكتاب‪ ،‬م��ن خ�لال فانوسه السحري‬ ‫ال���ذي ك��ان بمثابة ال��ج��زء األول لهذا‬ ‫الكتاب‪ ،‬وال��ذي تناول فيه العديد من‬ ‫تجارب السينمائية العالمية والعربية‬ ‫المختلفة واتجاهاتها‪ ،‬أهمها بدايات‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪21 )2015‬‬


‫سينما هوليود‪ ،‬والموسيقى في السينما‪،‬‬ ‫والسينما الشعرية‪ ،‬والسينما التونسية‪،‬‬ ‫والمصرية واإليطالية والفرنسية‪ ،‬والسينما‬ ‫الفقيرة‪ ،‬وسينما الهالك‪ ،‬وسينما المعتقالت‬ ‫وال��ح��روب‪ ،‬وخ�لاف��ه م��ن األب���واب األخ��رى‪،‬‬ ‫وكلها جوانب للكتابة المثقفة والصحيحة‪.‬‬ ‫جاءت معظم القراءات النقدية في هذا‬ ‫الكتاب مؤثثة بالمعرفة‪ ،‬وعميقة بشعور‬ ‫المسؤولية تجاه السينما وصناعة الصورة‬ ‫وتحويلها إلى منتج مفعم بالروح‪.‬‬

‫‪22‬‬

‫ق��سّ ��م ال��م��ؤل��ف ك��ت��اب��ه إل���ى ال��ع��دي��د من‬ ‫الفصول‪ ،‬استهلها بمقدمة تناول فيها تجربته‬ ‫الخاصة مع المشاهدة السينمائية‪ ،‬والتي‬ ‫كانت معاناة في ظل غياب قاعات العرض‬ ‫خ�لال س��ن��وات الثمانينيات والتسعينيات‬ ‫وحتى مطلع األلفية الثانية‪ ،‬وكانت أغلب‬ ‫مناهله الثقافية للسينما الخليجية هي‬ ‫مطالعته لما يكتب في الصحف‪ .‬ويضيف‬ ‫الناقد من خ�لال ه��ذه المقدمة بخصوص‬ ‫بداية اهتمامه بالسينما الخليجية «أستطيع‬ ‫أن أق��ول اآلن إنه بدأ اهتمامي يتكون بعد‬ ‫مشاهدتي ألفالم هيفاء المنصور القصيرة‬ ‫التي كان من الممكن تحميلها من اإلنترنت‬ ‫وهي‪« :‬من؟»‪« ،‬الرحيل المر»‪« ،‬أنا واآلخر»‬ ‫و«نساء بال ظل»‪ ،‬ثم بعد مشاهدتي لتجارب‬ ‫سعودية وبحرينية عرضت ف��ي ج��دة عبر‬ ‫مهرجان ال��ع��روض المرئية عامي ‪2006‬م‬ ‫و‪2007‬م‪ ،‬ومسابقة أف�لام السعودية عام‬ ‫‪2008‬م ب��ال��دم��ام‪ ،‬التي فتحت ب��اب�اً لألمل‬ ‫سرعان ما أغلق لعدم استمرارية المسابقة‬ ‫في السنوات التالية»‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫ويضيف «غير أن االهتمام الحقيقي الذي‬ ‫تشكّل لديّ كان بعدما شاهدت في ‪2008‬م‬ ‫مجموعة من التجارب في مهرجان الخليج‬ ‫السينمائي بدبي‪ ،‬فعزز ذلك لديّ االلتفات‬ ‫إليها‪ ،‬وإن كنت ال زلت أنظر إليها بغير عين‬ ‫االعتبار‪ ،‬إذ كانت ضعيفة المستوى الفني‬ ‫بشكل عام»‪.‬‬ ‫ي��ل��ي ه����ذا ال��ت��ق��س��ي��م م���دخ���ل ب��ع��ن��وان‬ ‫«السينما‪ ..‬اتصال وتنمية وتثقيف»‪ ،‬رصد‬ ‫فيه الناقد المكانة التي أصبحت عليها‬ ‫السينما في العالم‪ ،‬وأهميتها القصوى كآلية‬ ‫للمعرفة والتوعية‪ ،‬ووسيلة تعبير فنية عن‬ ‫الواقع المعاش‪ ،‬ليذهب المؤلف إلى أكثر من‬ ‫هذا‪ ،‬ويبرز الدور المهم للسينما في صناعة‬ ‫االنطباع الجماعي للفرد والمجتمع‪ ،‬من‬ ‫خالل المشاهدة الجماعية في صالة عرض‪،‬‬ ‫ليكون االتفاق الذهني بمثابة المادة األولية‬ ‫التي تعكس أسباب ه��ذا االتفاق الذهني‪.‬‬ ‫ومن جهة أخرى‪ ،‬يواصل ربيع المضي قدما‬


‫دراس �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��ات ون �ق �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��د‬

‫في إبراز الدور الكبير للسينما‪ ،‬وأن يدعم ال��س��ع��ودي «وج�����دة» و«ح���رم���ة» و«ص���دى»‬ ‫هذه الفكرة بتجربة عملية للسينما المصرية‪ ،‬وخالفه من األف�لام األخ���رى‪ ،‬ناهيك عن‬ ‫إذ يكتب «تأمل ما فعلته السينما المصرية تناوله العديد م��ن المواضيع التي تمس‬ ‫خ�ل�ال ع��ق��د ال��ث��م��ان��ي��ن��ي��ات ح��ي��ن عرضت قضايا السينما الخليجية‪ ،‬من بينها «صورة‬ ‫مشكالت زواج الشباب وأزمة اإلسكان من‬ ‫ال��م��رأة ف��ي األف�ل�ام العمانية القصيرة»‪،‬‬ ‫خ�لال ع��ش��رات األف�ل�ام‪ ،‬وتناولتها بزوايا‬ ‫و«الفنتازيا الكوميدية في أف�لام الشباب‬ ‫متباينة‪ ،‬فأسهم ذلك‪ ،‬مع عوامل أخرى‪ ،‬في‬ ‫تحريض رؤوس األم���وال‪ ،‬ودف��ع مؤسسات الكويتيين القصيرة»‪ ،‬و«ظاهرة أفالم الطلبة‬ ‫العقار العامة وشركات المساهمة الخاصة اإلم��ارات��ي��ي��ن ال��ق��ص��ي��رة»‪ ،‬و«ال��م��وض��وع��ات‬ ‫إل���ى ال��ت��وجّ ��ه ن��ح��و ب��ن��اء م��ئ��ات اآلالف من كمدخل لألفالم اإلماراتية القصيرة»‪.‬‬ ‫ال���وح���دات ال��س��ك��ن��ي��ة‪ ،‬ح��ت��ى ت�لاش��ت تلك‬ ‫أما الباب الثاني‪ ،‬فيتناول الناقد خالد‬ ‫المشكالت مع مطلع التسعينيات»‪.‬‬ ‫ربيع السيد أف�لام عبداهلل المحيسن‪ ،‬من‬ ‫وعليه‪ ،‬نستنتج من خالل ما كتب خالد بينها‪« :‬اغ��ت��ي��ال مدينة» و«اإلس��ل�ام جسر‬ ‫أن السينما تحمل ثقال دالليا ومعرفيا كبيرا‪،‬‬ ‫المستقبل» و«الصدمة» و«ظ�لال الصمت»‬ ‫وتسهم بالعديد من األشكال في بناء حضارة‬ ‫ليرحل بعدها إلى الباب الثالث واألخير‪،‬‬ ‫الشعوب ومكتسباتها؛ من أبسط األشياء‬ ‫ويضع أم��ام ال��ق��ارىء سلسلة من التقارير‬ ‫االجتماعية والمطالب التنموية المختلفة‪،‬‬ ‫إل���ى ص��ن��اع��ة ال��ذه��ن وال��ف��ك��ر ال��ج��م��اع��ي‪ ،‬والحوارات التي أجريت معه‪ ،‬والتي نشرت‬ ‫في كل من جريدتي «المدينة» و«الرياض»‪،‬‬ ‫وتوجيهه إلى ما يخدم األفكار والمزايا‪.‬‬ ‫لتبدأ بعدها رحلة الكتاب مع ثالثة أبواب ومجلة «ال��ع��رب��ي» الكويتية‪ ،‬إذ أظهر من‬

‫وثالثة وعشرين فصال؛ إذ جعل من الباب خاللها رؤاه للفن السابع وآلياته وواقعه‬ ‫األول حيزا يلج من خالله بشكل مباشر تاريخا ومستقبال‪ ،‬وما تحتاجه هذه السينما‬ ‫إلى عالم األف�لام الخليجية‪ ،‬لتكون بداية كي تزهر وتنمو‪.‬‬ ‫الفصل األول مع قراءته للفيلم اإلماراتي‬ ‫ال��ف��ان��وس ال��س��ح��ري‪ ،‬ق���راءة ف��ي أف�لام‬ ‫«الدائرة»‪ ،‬للمخرج الشاب نواف الجناحي‪،‬‬ ‫خليجية‪ ،‬يعد وثيقة نقدية مهمة ز ّي�نَ��ت‬ ‫عدّد فيه الناقد القيم المختلفة للفيلم‪ ،‬من‬ ‫الموضوع إل��ى الشكل وحركات الكاميرا‪ ،‬رفوف المكتبات العربية‪ ،‬وستكون مرجعاً‬ ‫إضافة إلى العديد من التجارب السينمائية مهماً وتوثيقياً للفن السابع في دول الخليج‪،‬‬ ‫األخ��رى‪ ،‬وهذا على غرار كل من الفيلمين سينهل م��ن معينها الكثير م��ن الباحثين‬ ‫البحرينيين «ك��ن��اري» و«ال��ب��ش��ارة»‪ ،‬والفيلم والدارسين ومحبي السينما‪.‬‬ ‫ * كاتب من المغرب‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪23 )2015‬‬


‫«اقتصاديات التعليم‪ :‬استثمار في أمة»‬ ‫كتاب لعبد الواحد الحميد‬ ‫أسئلة وشجون تتجدد باستمرار‬ ‫‪ρρ‬الزبير مهداد*‬

‫لعل ال�ن�ق��اش ح��ول أهمية االس�ت�ث�م��ار ف��ي التعليم وع�لاق�ت��ه بالتنمية أصبح‬ ‫متجاوزا في الوقت الراهن‪ ،‬بعدما تأكد بالدليل والحجة أن التعليم ليس مجرد‬ ‫خدمة اجتماعية تقدم ل�لأف��راد‪ ،‬بل هو استثمار؛ واالستثمار في التعليم يعود‬ ‫بمردود مالي على الدول النامية بالخصوص‪ .‬هذه الحقيقة توصلت إليها نتائج‬ ‫البحوث العلمية التي أنجزت في هذا الحقل في ظل أنظمة سياسية مختلفة؛‬ ‫رأسمالية وليبرالية واشتراكية؛ أجمعت كلها على أن مردود االستثمار في ميدان‬ ‫التعليم ي�ع��ادل أو ي�ف��وق م ��ردود االس�ت�ث�م��ار ف��ي ال�م�ي��ادي��ن األخ ��رى؛ كالمصانع‪،‬‬ ‫وال �م��زارع‪ ،‬والنقل‪ ،‬وغيرها‪ .‬ه��ذه ه��ي الفكرة العامة التي يتمحور حولها كتاب‬ ‫(اقتصاديات التعليم‪ :‬استثمار في أم��ة)‪ ،‬الذي صدر عن دار مصر للطباعة‪ ،‬من‬ ‫تأليف الدكتور عبدالواحد الحميد‪.‬‬ ‫الحميد ليس مجرد مصنّف أو مؤلّف‬ ‫بين أفكار‪ ،‬فهو خبير اقتصادي‪ ،‬حائز‬ ‫على درجة الدكتوراه في االقتصاد من‬ ‫جامعة ويسكانسون‪ /‬ميلواكي بالواليات‬ ‫المتحدة ع��ام ‪1404‬ه����ـ‪1984/‬م‪ ،‬عضو‬ ‫هيئة ال��ت��دري��س بجامعة الملك فهد‬ ‫ل��ل��ب��ت��رول وال��م��ع��ادن‪ .‬ت��ول��ى مناصب‬ ‫حكومية مهمة ومسؤوليات اقتصادية‬

‫‪24‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫وتدبيرية جسيمة‪ ،‬منها‪ :‬وكيل وزارة‬ ‫العمل للتخطيط والتطوير‪ ،‬ونائب وزير‬ ‫العمل‪ ،‬ومكلف ب��إدارة صندوق تنمية‬ ‫الموارد البشرية‪ ،‬وأمين عام مجلس‬ ‫القوى العاملة‪ ،‬عضو مجلس الشورى‪،‬‬ ‫عضو مجلس إدارة المؤسسة العامة‬ ‫للتأمينات االجتماعية‪ ،‬والهيئة العامة‬ ‫لالستثمار‪ ،‬وعضو اللجنة التحضيرية‬


‫دراس �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��ات ون �ق �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��د‬ ‫للمجلس األعلى لشؤون البترول والمعادن‪ ،‬بفهم الخطاب واستيعابه ونقده ومناقشته؛‬ ‫رئ��ي��س ت��ح��ري��ر مجلة االق��ت��ص��اد‪ ،‬ومجلة وهذا ما يفسر الصراحة والدقة والجرأة‬ ‫س��ع��ودي ك��وم��ي��رس‪ ،‬ون��ائ��ب رئ��ي��س تحرير على المكاشفة التي تحلّى بها الكاتب في‬ ‫جريدة اليوم‪.‬‬ ‫طرحه‪.‬‬ ‫ال��ك��ت��اب ف���ي األص����ل ب��ح��ث أ ُل���ق���ي في‬ ‫اللقاء السنوي الخامس لمديري التعليم‬ ‫في القصيم‪ ،‬ال��ذي أقيم من ‪ 25 - 23‬ذو‬ ‫القعدة عام ‪1417‬هـ‪ ،‬أي قبل عشرين سنة‪،‬‬ ‫اللقاء حضره فاعلون في المضمار التعليمي‬ ‫ونافذون‪ ،‬وقياديون حكوميون‪ .‬فهو حديث‬ ‫خبير ل��خ��ب��راء‪ ،‬وخ��ط��اب مكاشفة ل��ذوي‬ ‫االخ��ت��ص��اص‪ ،‬ال��ذي��ن يتسلّحون بالتكوين‬ ‫األك��ادي��م��ي ال��ع��م��ي��ق‪ ،‬وي��م��ت��ل��ك��ون ال��خ��ب��رة‬ ‫الدقيقة‪ ،‬راكموا تجربة ميدانية تسمح لهم‬

‫فهل األفكار التي يتضمنها الكتاب ما‬

‫تزال جديرة بالقراءة‪ ،‬متجددة‪ ،‬على الرغم‬ ‫من طول المدة التي انقضت منذ نشرها‬ ‫ألولت مرة؟‬

‫يشير د‪ .‬عبدالواحد الحميد إل��ى أن‬

‫النمو االقتصادي ال��ذي حققته الواليات‬

‫المتحدة األمريكية ك��ان لغزا للباحثين‪،‬‬

‫حتى نهاية الخمسينيات الميالدية؛ فقد‬ ‫أج��رى الباحث االقتصادي روب��رت سولو‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪25 )2015‬‬


‫(نوبل االقتصاد عام ‪1987‬م) بحثاً مهماً‪،‬‬ ‫كَشَ ف من خالله أن الزيادة في رأس المال‬ ‫الطبيعي ال تفسر إال أقل من نصف الزيادة‬ ‫ف��ي النمو االق��ت��ص��ادي األم��ري��ك��ي؛ فأيقن‬ ‫الباحثون أن حلَّ اللغز يكمن في االستثمار‬ ‫في رأس المال البشري‪ ،‬أو ما ُعبِّر عنه بـ‬ ‫«نوع العمالة»‪ ،‬مشيرا إلى أن اإلنجازات في‬ ‫التعليم وراء تحقيق عدد من الدول لنموها‬ ‫االقتصادي الكبير‪.‬‬ ‫إن للتعليم المدرسي أهميته بال ريب؛‬ ‫فهو القوة الحيَّة في شتى مناحي الحياة‪،‬‬ ‫والعامل األس��اس واألق��وى للتقدم؛ بل هو‬ ‫زيادة على ذلك‪ ،‬ذو صلة أساسية بالتقدم‬ ‫والعدالة االجتماعية والمساواة في الفرص‪،‬‬ ‫واإلسهام الفعال في بناء المجتمع وتشكيل‬ ‫سمات األفراد وتحقيق التكامل بين عناصر‬ ‫ومكونات شخصيتهم وإنمائها‪.‬‬ ‫ال ببلداننا‪،‬‬ ‫لكن‪ ،‬يبدو أن اللغز لم يجد ح ً‬ ‫فاإلنفاق على التعليم لم ي��ؤ ِّد إلى النتائج‬ ‫المنتظرة‪.‬‬ ‫محتوى الدراسة‬ ‫عالج الحميد قضية اإلنفاق على التعليم‬ ‫والنتائج المتحصلة منه م��ن خ�لال عدة‬ ‫جوانب‪ ،‬سردها بترتيب دقيق‪ ،‬موزّعة على‬ ‫فصول‪ ،‬لكل فصل عنوان مالئم‪.‬‬

‫‪26‬‬

‫بفصل عنوانه‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫يستهل المؤلف كتابه‬ ‫«التعليم وم���أزق ال��ن��درة»‪ ،‬أش���ار فيه إلى‬ ‫أن أم��ري��ك��ا م��ن أج��ل م��واج��ه��ة العجز في‬ ‫الموازنة‪ ،‬قررت وضع سياسة تقشفية‪ ،‬لكن‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫إنفاقها على التعليم لم يتعرّض لتخفيض؛‬ ‫ب��ل وأك��ث��ر م��ن ذل��ك‪ ،‬ق��ررت بشكل ج��ريء‬ ‫ج��دا زي���ادة اإلن��ف��اق على التعليم؛ وكانت‬ ‫النتيجة نمو اإلنتاج الوطني‪ ،‬وهذه النتيجة‬ ‫استجابت لطموح هذه الخطة‪ ،‬ولم تخيب‬ ‫ظ��ن واضعيها‪ ،‬ال��ذي��ن ك��ان م��ن رأي��ه��م أن‬ ‫التعليم أه��م األول��وي��ات التي يجب أن ال‬ ‫يمسّ ها التقشف؛ ألن قوة العمل والتعليم‬ ‫هما السالح التنافسي األول‪ ،‬وليس الموارد‬ ‫الطبيعية‪ ،‬كما كان سائدا طيلة قرون‪.‬‬ ‫�وض��ح��ا أن رج��ال‬ ‫وي��ض��ي��ف الحميد م� ِّ‬ ‫االق��ت��ص��اد يُ���عِ ���دِّ ون اإلن��ف��اق على التعليم‬ ‫استثمارا في رأس المال البشري‪ ،‬ذا مردود‬ ‫مرتفع‪ ،‬يفوق م��ردود االستثمار في إقامة‬ ‫المصانع واآلالت‪ ..‬إال أن المشكلة‪ ،‬تتمثل‬ ‫في أن العائد من االستثمار في رأس المال‬ ‫البشري يتحقق في المدى الطويل‪ ،‬األمر‬ ‫ال��ذي ي��ؤدي في بعض األحيان إلى تأجيل‬ ‫التوسّ ع في اإلن��ف��اق على التعليم؛ بسبب‬ ‫االح��ت��ي��اج��ات االجتماعية الملحّ ة‪ ،‬التي‬ ‫يصعب على الحكومات تأجيل مواجهتها‪.‬‬ ‫إال أن العناية باالحتياجات االجتماعية‬ ‫وتأجيل اإلنفاق على التعليم قد يؤدي إلى‬ ‫آثار سلبية وخيمة على األم��ة‪ ،‬وليس على‬ ‫ال��ف��رد وح���ده‪ ،‬م��ا يحتّم دع��م الحكومات‬ ‫لهذا النوع من االستثمار بسبب «العائد‬ ‫االج��ت��م��اع��ي» ال��م��رت��ف��ع‪ ،‬وم��ن أج��ل إع��ادة‬ ‫التوازن بين التكلفة الفردية التي يتكبدها‬ ‫الفرد‪ ،‬و«التكلفة االجتماعية» التي يتحملها‬ ‫موضحا أن األنشطة التي‬ ‫المجتمع‪ .‬ويسهب ِّ‬


‫دراس �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��ات ون �ق �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��د‬

‫تسهم في تطوير رأس المال البشري هي‪:‬‬ ‫التعليم‪ ،‬والتدريب على رأس العمل‪ ،‬وتعليم‬ ‫الكبار‪ ،‬والخدمات الصحية‪.‬‬ ‫ويؤكد الباحث أن التعليم كخدمة ذات‬ ‫ثمن‪ ،‬أثرُه يتعدى البائع والمشتري ليشمل‬ ‫المجتمع أيضا‪ ،‬وكلما ازداد الطلب على‬ ‫بضاعة التعليم ازدادت مكتسبات المتعلم‬ ‫والمجتمع؛ وألن الفائدة ال تتحقق في المدى‬ ‫القريب‪ ،‬فإن الواجب يحتّم على الدولة دعم‬ ‫التعليم‪ ،‬لقطف النتائج على المدى البعيد‬ ‫والمتوسط‪ .‬ألن االستثمار في رأس المال‬ ‫البشري هو المؤثر في التقدم والتنمية‪،‬‬ ‫وليس الزيادة في رأس المال الطبيعي والتي‬ ‫ال تفسر التقدم االقتصادي‪.‬‬

‫وي���ت���س���اءل ال��ح��م��ي��د ع���ن أي اإلن��ف��اق‬ ‫أفضل لبلداننا‪ ،‬وال��ذي يتوقع منه أفضل‬ ‫مردود يخدم التنمية‪ ،‬هل هو اإلنفاق على‬ ‫التعليم االبتدائي أم الثانوي أم الجامعي؟‬ ‫واستعرض عدة إجابات على هذا السؤال‬ ‫توصلت إليها نتائج أب��ح��اث أج��ري��ت في‬ ‫دول عديدة‪ ،‬وتبين منها – اعتبارا لدرجة‬ ‫نمو بلداننا – أن دراسة العوائد االجتماعية‬ ‫للتعليم تبرز أهمية التعليم االبتدائي‪ ،‬ثم‬ ‫الثانوي‪ ،‬ثم العالي‪ .‬فالدول ذات الدخل‬ ‫المنخفض تحقق عوائد مهمة عند التوسع‬ ‫في التعليم الثانوي‪ ،‬في حين تحقق الدول‬ ‫المتقدمة ذات الدخل العالي أفضل العوائد‬ ‫عند التوسع في التعليم العالي‪.‬‬

‫إال أن ال��ت��ح��دي ال�����ذي ي���واج���ه ه��ذا‬ ‫االستثمار هو أن كثيرا من النفقات ال تذهب‬ ‫إلى التعليم مباشرة‪ ،‬بل تتوزع على جوانب‬ ‫شتى؛ كنفقات الصيانة واإلنشاء‪ ،‬وتدريب‬ ‫المعلمين‪ ،‬وتطوير المناهج‪ ،‬والوسائل‬ ‫التعليمية‪ ..‬إل��خ؛ واألس��وأ من ذلك أن نوع‬ ‫التعليم ال يكون جيداً على ال��دوام محققاً‬ ‫آلمال واضعي السياسة التعليمية؛ فبعض‬ ‫الخريجين ال يخدمون التنمية الوطنية‪،‬‬ ‫والنظام التعليمي ال يستجيب لحاجات سوق‬ ‫الشغل‪ ،‬وخبرات خريجي التعليم ال يستفاد‬ ‫منها‪ ،‬كما قد ال يوضع الشخص المناسب‬ ‫في المكان المناسب‪ ،‬إلى جانب استنزاف‬ ‫وتحت عنوان «اإلن��ف��اق ليس كل شيء»‬ ‫التعليم الجامعي للميزانية الضخمة بدل‬ ‫التعليم الثانوي‪ ،‬ال��ذي يستوعب أضعاف يلفت الحميد النظر إلى أن العوائد المجزية‬ ‫أعداد المستفيدين من التعليم الجامعي‪.‬‬ ‫ال تتحقق ب��م��ج��رد تخصيص ميزانيات‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪27 )2015‬‬


‫للتعليم؛ فالتمويل ليس هو المُحدِّ ُد األساس‬ ‫لربحية المشروع؛ فهناك جوانب أخرى غير‬ ‫اقتصادية تؤثر في مردود االستثمار‪ .‬وبلغة‬ ‫الخبير االقتصادي‪ ،‬يرى الحميد بخصوص‬ ‫االس��ت��ث��م��ار ف��ي رأس ال��م��ال ال��ب��ش��ري أن‬ ‫المنطق يقتضي العمل على تحقيق أعلى‬ ‫مردود بأقل كلفة‪ ،‬ليكون االستثمار مربحا؛‬ ‫لكن على الرغم من أن السلوك االقتصادي‬ ‫يظل أم��راً مهماً‪ ،‬ومع ذل��ك‪ ،‬ينبغي النظر‬ ‫إلى التعليم من زاوية غير اقتصادية بحتة‪،‬‬ ‫بوصفه حقاً إنسانياً‪.‬‬ ‫ال��س��ؤال ال��م��ط��روح‪ ،‬ه��ل يتم استغالل‬ ‫الموارد لتحقيق الكفاءة المطلوبة؟ يجب‬ ‫ع��ل��ى ال��م��س��ؤول��ي��ن ت��ح��دي��د ال��م��ق��ص��ود من‬ ‫ال��ك��ف��اءة‪ ،‬ح��ت��ى ي��ت��م ع��ل��ى ض��وئ��ه��ا قياس‬ ‫ال��م��ردود وال��ن��ت��ائ��ج‪( ،‬ي��ق��دم أمثلة دقيقة‬ ‫ومشخّ صة للمفاهيم وطرق القياس)‪.‬‬

‫‪28‬‬

‫هل الخصخصة هي الحل؟ تحت هذا‬ ‫العنوان يستعرض الحميد العديد من اآلراء‬ ‫التي أدلى بها االقتصاديون؛ فمنهم من يرى‬ ‫أن الحل في خصخصة التعليم‪ ،‬وآخ��رون‬ ‫ي���راع���ون الطبيعة االج��ت��م��اع��ي��ة للقطاع‬ ‫ويرفضون فكرة الخصخصة‪ ،‬باعتبارها‬ ‫تهدد مصالح الطبقات الفقيرة وتضرب‬ ‫حقها في التعليم المجاني‪ ،‬وآخرون يدعون‬ ‫للخصخصة مع االحتفاظ للدولة بتدخلها‬ ‫ف��ي ال��ق��ط��اع ك��ح��ل وس���ط ي��رض��ي جميع‬ ‫األط����راف‪ .‬وم��ن أه��م المُنظّ رين للعملية‬ ‫«ميلتون فريدمان» رجل االقتصاد األمريكي‬ ‫الحائز على نوبل االقتصاد‪ ،‬والذي تحمس‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫ف��ي ب��داي��ة األم��ر لخصخصة القطاع‪ ،‬ثم‬ ‫م��ا لبث أن راج���ع كثيراً م��ن أف��ك��اره‪ ،‬إثر‬ ‫النقاشات التي تناولت آراءه‪ ،‬واالنتقادات‬ ‫التي استهدفتها‪.‬‬ ‫ف��ال��خ��ص��خ��ص��ة ك��ف��ك��رة ت��ب��دو وج��ي��ه��ة‪،‬‬ ‫واالنتقاد ال يوجَّ ه لها في حد ذاتها‪ ،‬لكن‬ ‫في طريقة تنفيذها وحدودها وإجراءاتها‪،‬‬ ‫والضمانات المخولّة للمواطنين في مواجهة‬ ‫شركات القطاع الخاص التي تحتكر تقديم‬ ‫خدمات التعليم‪.‬‬ ‫ويؤكد الحميد أن األخطاء االستثمارية‬ ‫ف��ي التعليم ت��ك��ون نتائجها ف��ادح��ة‪ ،‬ألن‬ ‫اإلنسان ليس آلة يمكن االستغناء عنها إذا‬ ‫لم تنتج‪ ،‬فعندما تُرتكب أخطاء في التعليم‪،‬‬ ‫تُ��خَ �رِّج ال��م��درس��ة إنسانا غير ق���ادر على‬ ‫اإلسهام في تنمية المجتمع‪ ،‬وتترتب عن‬ ‫ذلك نتائج سيئة تضر بالمجتمع كله‪.‬‬ ‫ثم يعرج الباحث على رص��د مؤشّ رات‬ ‫اإلنفاق السعودي على التعليم‪ ،‬مبيناً أن‬ ‫إنفاق الدولة على التعليم منذ نشوء الدولة‬ ‫السعودية الحديثة عرف تطورا ملحوظاً‪،‬‬ ‫واستحوذ على نصيب مهم م��ن الموازنة‬ ‫العامة للدولة‪ ،‬واعتبر أهم إنفاق استثماري‬ ‫تضمنته تلك الميزانية‪ .‬وكانت بنود قطاع‬ ‫التعليم ف��ي ال��م��وازن��ة ال��ع��ام��ة تبلغ نحو‬ ‫ربع بنود الميزانية‪ ،‬بلغت ذلك بعد توالي‬ ‫الزيادات والنمو‪ ،‬بنسبة تُراوِ ح ما بين ‪ 2‬و‪5‬‬ ‫بالمئة سنويا‪ .‬وأسهب في الحديث من خالل‬ ‫دراسة مستفيضة لإلنفاق التعليمي ونسبته‬


‫وحرصاً على بسط األرق��ام وزي��ادة في‬ ‫التوضيح‪ ،‬استعرض المخصصات المالية‬ ‫التي تذهب للتعليم وتلك التي ال تصب فيه‬ ‫مباشرة‪ ،‬فأكد أن ضخامة المخصصات‬ ‫المالية ل��ل��وزارة ال يعني أنها تذهب كلها‬ ‫للتعليم؛ فثمة مبالغ طائلة تخصص ألجور‬ ‫ال���م���وارد ال��ب��ش��ري��ة‪ ،‬واس��ت��ئ��ج��ار المباني‪،‬‬ ‫وكلف الصيانة‪ ،‬وب���دالت التنقل‪ ،‬ورس��وم‬ ‫الماء والكهرباء والهاتف وغير ذل��ك؛ في‬ ‫حين تظل هناك صعوبات قائمة بسبب‬ ‫قلة المخصصات المالية لها‪ ،‬منها‪ :‬نقص‬ ‫ال��وس��ائ��ل التعليمية‪ ،‬والكتب المدرسية‪،‬‬ ‫وانخفاض مخصصات التدريب‪ ،‬وتزايد‬ ‫أع��داد المباني المستأجرة‪ ،‬وتعثر أعمال‬ ‫الترميم وال��ص��ي��ان��ة‪ ..‬إل��خ‪ ،‬فالجزء ال��ذي‬ ‫يذهب إلى العملية التعليمية ضئيلٌ‪ ،‬مقارنة‬ ‫مع ما يذهب لغيرها‪.‬‬

‫دراس �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��ات ون �ق �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��د‬

‫إل��ى الناتج اإلج��م��ال��ي المحلي‪ ،‬وال��زي��ادة‬ ‫الكمّية التي عرفها وتراجعها المقدر نتيجة‬ ‫معدالت التضخم‪ ،‬كل ذلك من خالل تطور‬ ‫الموازنات السعودية‪.‬‬

‫في بعض التخصصات؛ وللتخفيف من عبء‬ ‫التكاليف يتعين رفع إنتاجية المدرّس‪ .‬إن‬ ‫الكفاءة الداخلية للتعليم تؤثّر فيها عوامل‬ ‫أخ��رى ال يتحكم فيها ال��م��درّس كالبُنيات‬ ‫التحتية‪ ،‬والوسائل التعليمية‪ ،‬والمناهج‬ ‫وغيرها‪ .‬وفي معرض اإلجابة على السؤال‬ ‫أشار إلى رأي الخبير االقتصادي األمريكي‬ ‫«ليستر ث���ورو»‪ ،‬ال��ذي يطالب برفع أج��ور‬ ‫المدرسين كشرط ض��روري لدخول غمار‬ ‫المنافسة الدولية مع اليابان وأوروبا‪ ،‬على‬ ‫أن تكون ال��زي��ادة مقرونة بتقوية تدريبه‬ ‫ص ِصه‪ .‬ليخلص إلى نتيجة عامة‬ ‫وزيادة ِح َ‬ ‫مفادها أن أجور المدرسين ليست مشكلة‪،‬‬ ‫إذا تم التعامل معها بذكاء وتخطيط مُحكم‪.‬‬ ‫ثان مهم يمتص حصة مهمة‬ ‫هناك أم ٌر ٍ‬ ‫من ميزانية التعليم‪ ،‬وهي المباني الدراسية‬ ‫المستأجرة‪ ،‬فاإليجارات السنوية للمباني‬ ‫المدرسية تكلّف الموازنة حصة كبيرة‪ ،‬على‬ ‫الرغم من عدم توافر الشروط التي تحقق‬ ‫الكفاية الداخلية في جُ ِّل المباني‪ ،‬وتكون‬ ‫سببا في ضعف إنتاجية ال��م��درس‪ .‬وهذا‬ ‫الموضوع الشائك ما يزال يثير كثيرا من‬ ‫ردود الفعل والتعليقات والمطالبات التي‬ ‫تنادي بضرورة التخلّص من هذه المباني‪،‬‬ ‫ووض���ع مخططات إلح���داث المؤسسات‬ ‫التعليمية تغني الوزارة عن استئجار المباني‬ ‫لتعليم التالميذ‪.‬‬

‫ويتساءل المؤلف عن رواتب المعلمين‪ ،‬هل‬ ‫هي مشكلة؟ وللجواب على السؤال يؤكد أن‬ ‫أجور الموظفين تستحوذ على حصة األسد‬ ‫من موازنة التعليم‪ ،‬إال أن ذلك ليس قاصرا‬ ‫على السعودية‪ ،‬بل هي ظاهرة عامة تشمل‬ ‫كل الدول‪ ،‬واألجر الجيد يشكل عامل إغراء‬ ‫يحدد الحميد معالم الحلقة المفرغة‬ ‫الستقطاب الشباب للعمل في القطاع؛ إال‬ ‫أن ذلك يؤدي إلى جلب أشخاص بغير رغبة التي لم يتحرر التعليم من أس��ره��ا‪ ،‬هذه‬ ‫وال ميل إلى المهنة‪ ،‬كما يؤدي إلى فائض الحلقة تتمثل في تضخم اإلنفاق الجاري‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪29 )2015‬‬


‫على حساب اإلنفاق الرأسمالي؛ ما يؤدي‬ ‫إل��ى فشل ال��ن��ظ��ام التعليمي ف��ي تحقيق‬ ‫الكفاية الداخلية بالشروط التي تحددها‬ ‫خطط التنمية‪ ،‬بسبب غياب بُنية أساسية‪،‬‬ ‫وض��ع��ف م�����ردود ال����م����درس؛ م���ا يتطلب‬ ‫لمواجهته توظيف مزيد من المدرسين‪،‬‬ ‫وبالتالي زيادة اإلنفاق‪ ،‬والضرورة تقتضي‬ ‫زي��ادة اإلن��ف��اق الرأسمالي بتوسيع البنية‬ ‫األساسية للقطاع الذي سيؤدي إلى زيادة‬ ‫الكفاية الداخلية للتعليم وإنتاجية المدرس‪.‬‬ ‫وي����رأي ال��م��ؤل��ف‪ ،‬أن ك��س��ر ه���ذه الحلقة‬ ‫المفرغة هو أول شروط معالجة المعضلة‬ ‫المالية التعليمية؛ إال أن اإلنفاق الرأسمالي‬ ‫يجري تأجيله تحت ضغط ضخامة اإلنفاق‬ ‫الجاري؛ ما يزيد المشكل تفاقما‪ .‬ألجل ذلك‬ ‫يدعو بحرارة إلى التفكير االبتكاري إلبداع‬ ‫خطط واستراتيجيات لتغطية االحتياجات‬ ‫التمويلية للتعليم‪ ،‬ومناقشة اقتراح إشراك‬ ‫القطاع الخاص‪ ،‬بإبراز مساوئه ومحاسنه‬ ‫وصعوباته‪.‬‬

‫‪30‬‬

‫أحيانا أش��د وأده��ى وأخطر من التهديد‬ ‫الذي يمثله األميون؛ األمر الذي يستدعي‬ ‫التفكير في القيم التي تتضمنها المناهج‪،‬‬ ‫وال��ت��ي يتشربها المتعلمون ع��ل��ى أي��دي‬ ‫المدرسين‪.‬‬ ‫ثم يُنهي الحميد كتابه المهم بعدد من‬ ‫ال��خ�لاص��ات وال��ت��وص��ي��ات‪ ،‬ث��م ال��م�لاح��ق‪،‬‬ ‫وتعقيب وزيري المعارف والمالية واالقتصاد‬ ‫الوطني على الدراسة‪.‬‬ ‫ما يزال النقاش متواصال‬ ‫موضوع أهمية التعليم في التنمية أصبح‬ ‫من البديهيات‪ ،‬كما تجاوز النقاش اليوم‬ ‫أهمية اإلنفاق على التعليم في الموازنات‬ ‫الوطنية‪ ،‬وأصبح النقاش ي��دور ح��ول نوع‬ ‫التعليم المطلوب تحقيقه‪ ،‬وم��واص��ف��ات‬ ‫الكفاية الخارجية‪ ،‬فلم تعد الحاجة قاصرة‬ ‫ع��ل��ى ت��خ��ري��ج ح��ام��ل��ي ش���ه���ادات يتقنون‬ ‫القراءة والكتابة‪ ،‬كما كان األمر عليه قبل‬ ‫ع��ق��ود؛ ألن طبيعة العصر ال��ي��وم تغيّرت‪،‬‬ ‫وأصبحت عجالت التنمية تحتاج لمواصلة‬ ‫الدوران إلى كفايات محددة ينبغي توفرها‬ ‫ف��ي الساهر عليها‪ ،‬منها‪ :‬كفايات لغوية‬ ‫وتكنولوجية وتواصلية‪ ،‬إلى جانب التحلي‬ ‫ب����روح ال��م��س��ؤول��ي��ة وال���م���ب���ادرة وال��واج��ب‬ ‫والمواطنة واالهتمام بالشأن العام‪.‬‬

‫بفصل عنوانه‬ ‫ٍ‬ ‫ويختم ال��م��ؤل��ف كتابه‬ ‫«المناهج والمؤشرات وعائد المدى البعيد»‬ ‫ليؤكد من خالله أن العوائد المتوقعة من‬ ‫اإلنفاق على التعليم ال ترتبط فقط بمدى‬ ‫ما يُصرَف من أم��وال‪ ،‬وإنما بنوع التعليم‬ ‫الذي يتم تقديمه للطالب‪ ،‬فبعضه ال يحقق‬ ‫العوائد المتوقعة وال التنمية المنشودة‪،‬‬ ‫يُنبّه الحميد إلى أن خصوصية الكائن‬ ‫بل يكون ذا تأثير سلبي على التنمية‪ ،‬ألنه ال��ب��ش��ري تجعل االس��ت��ث��م��ار ف��ي اإلن��س��ان‬ ‫يكرّس الجهل والقيم المناهضة للتنمية؛ بل يختلف عن االستثمار في اآلالت والمعدات‪.‬‬ ‫وتهديد خريجي هذا التعليم للتنمية يكون فبخالف اآللة ذات العمر اإلنتاجي المحدود‪،‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫ف��اإلن��ف��اق ال��م��رت��ف��ع ف��ي ه���ذه ال��ح��ال��ة‬ ‫وخ�لاف��ا للتوقعات‪ -‬ال ي��ؤدي إل��ى معدل‬‫مرتفع للنمو االقتصادي‪ ،‬والسبب في ذلك‬ ‫أن اإلنفاق المرتفع‪ ،‬وإن أدى إلى تحسّ ن كثير‬ ‫من مظاهر التمدرس وبنياته األساسية‪ ،‬فإن‬ ‫جوانب أخرى خفيّة لم يطالها هذا اإلنفاق‪.‬‬ ‫ترشيد النفقات‬ ‫الدعوة إلى التخلّي عن استئجار المباني‬ ‫التعليمية لها ما يبررها‪ ،‬فاستئجار المباني‬ ‫يكلف ن��ف��ق��ات ك��ث��ي��رة ل��ل��كِ ��راء وال��ص��ي��ان��ة‬ ‫والترميم‪ ،‬واألسوأ هو أن هذه المباني التي‬ ‫يتم استئجارها لم تُب َن لتكون مؤسسات‬

‫أم��ا أج���ور ال��م��درس��ي��ن‪ ،‬فلم تكن أب��دا‬ ‫مشكلة في أي نظام تربوي‪ ،‬على الرغم مما‬ ‫يبدو للعيان أنها تستهلك حجما كبيرا من‬ ‫المخصصات‪ .‬فمردود أي منظومة تربوية‬ ‫يتوقف على ال��م��درس؛ فهو ع��ام��ل كبير‬ ‫األهمية في المؤسسة المدرسية‪ ،‬يمثل أكبر‬ ‫المدخالت البشرية للتعليم بعد التالميذ‪،‬‬ ‫ودراس����ات م��ت��ع��ددة أثبتت أن على عاتق‬ ‫المدرس يقع ‪ %60‬من نجاح العملية‪ ،‬وأن‬ ‫له أثراً قوياً على تكيّف التالميذ المدرسي‬ ‫وتحصيلهم الدراسي(‪.)1‬‬

‫دراس �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��ات ون �ق �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��د‬

‫والتي يمكن استبدالها أو التخلّص منها‪،‬‬ ‫فإن اإلنسان ال يمكن التخلص منه إذا ثبت‬ ‫أنه غير منتج أو غير صالح لالستخدام‪،‬‬ ‫فهو يستمر في عمله مدى العمر ويظل عبئا‬ ‫على المجتمع والتنمية‪ .‬والمسؤولية في‬ ‫ذلك يتحملها النظام التربوي ال��ذي عجز‬ ‫على الرغم من اإلنفاق عليه من أن يحقق‬ ‫الكفاية الخارجية‪ .‬وعندما يتم ارتكاب‬ ‫األخطاء في االستثمار التعليمي‪ ،‬فتخرّج‬ ‫ال���م���دارس وال��م��ع��اه��د وال��ج��ام��ع��ات بشرا‬ ‫يحملون الشهادات ولكنهم غير قادرين على‬ ‫اإلسهام في تنمية مجتمعاتهم‪ ،‬فإن الخسارة‬ ‫صرِ فت على‬ ‫ال تقتصر على األم��وال التي ُ‬ ‫ه��ؤالء األش��خ��اص أث��ن��اء دراس��ت��ه��م‪ ،‬وإنما‬ ‫تتجاوز ذلك إلى اآلثار السلبية التي تنعكس‬ ‫على المجتمع ج��راء دخ��ول عناصر غير‬ ‫منتجة إلى ميادين العمل المختلفة‪.‬‬

‫تعليمية‪ ،‬لذا فهي تفتقد الشروط والمعايير‬ ‫الالزم توفرها في المؤسسات التربوية‪ ،‬ما‬ ‫يؤثر سلبا على أداء المدرسين‪ ،‬وال تلبي‬ ‫االحتياجات النفسية والتربوية للتالميذ‪،‬‬ ‫وي��ؤدي حتما إل��ى ت��ردّي م��ردود المؤسسة‬ ‫التعليمية وضعف الكفاية الداخلية‪.‬‬

‫لذلك يُ َع ُّد المدرسون أهم أدوات تنفيذ‬ ‫ال في إدارة‬ ‫المناهج التربوية والمتحكمين فع ً‬ ‫مقود تحقيق التكامل بين عناصر العملية‬ ‫التعليمية ومكوناتها‪ ،‬فنجاح أي إصالح أو‬ ‫تجديد أو تطوير تربوي يعتمد على مدى‬ ‫تقبّل المدرسين له‪ ،‬ونوع استجابتهم نحوه‪،‬‬ ‫وطبيعة مشاركتهم فيه‪.‬‬ ‫ومن اآلف��ات السيئة التي تنخر العملية‬ ‫التربوية م��ن ال��داخ��ل اكتفاء المدرسين‬ ‫بما حصلوا عليه من تعليم في المدارس‬ ‫ومراكز التكوين‪ ،‬وعدم حرصهم على متابعة‬ ‫المستجدات العلمية‪ ،‬وخاصة منها المتعلقة‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪31 )2015‬‬


‫بطبيعة عملهم؛ ما يجمّد إمكاناتهم العلمية‬ ‫والفكرية والمهنية عند الحد الذي بدأوا‬ ‫فيه‪ ،‬وه��و بسيط ج���داً‪ .‬كما أن القوانين‬ ‫والضوابط اإلداري��ة‪ ،‬ال تحفّز المدرس وال‬ ‫تشجعه على خوض غمار التجربة والبحث‪،‬‬ ‫وال��م��ب��ادرة ال��ذات��ي��ة ف��ي ت��ط��وي��ر العملية‬ ‫التعليمية‪ ،‬وتحديث أو تحسين أجوائها‪.‬‬ ‫إن التكوين المتين المستمر للعاملين في‬ ‫حقل التعليم ي��ؤدي بالضرورة إلى تكييف‬ ‫وتحسين مهاراتهم وكفاياتهم(‪)2‬؛ فالتكوين‬ ‫المستمر ال��ذي يجدد معرفة المدرسين‬ ‫ويثري خبرتهم يظل مطلبا غاليا لتحديث‬ ‫خبرتهم العلمية والتعليمية والمهنية من‬ ‫حين آلخر‪.‬‬ ‫ضعف م��ؤه�لات وك��ف��اي��ات المعلمين‪،‬‬ ‫وتدهور قدراتهم الشرائية في سوق المعرفة‬ ‫والمواكبة العلمية يؤدي إلى تردي المردود‬ ‫التربوي للعمل المدرسي‪ .‬وبروز مظاهرها‬ ‫في ضعف الكفاية الداخلية للتعليم‪ ،‬وهذا‬ ‫الوضع يكتسي خطورة زائدة حين يكون في‬ ‫المستوى االبتدائي‪ ،‬وبخاصة في المناطق‬ ‫القروية‪ .‬فالمعلمون يقومون بالواجب كسبا‬ ‫للعيش‪ ،‬وال يُسهمون في تطوير وسائلهم‬ ‫التربوية والتعليمية وتجديدها‪ ،‬بل يقتلون‬ ‫اهتمامات التالميذ ويكبحونها‪.‬‬ ‫ما ال يطاله اإلنفاق‬

‫‪32‬‬

‫فنصيب التعليم من اإلنفاق ونسب القبول‬ ‫وال��ن��ج��اح تعد م��ن أه��م م��ؤش��رات التطور‬ ‫التربوي‪ ،‬رغ��م أن آثارها ال تنعكس دوما‬ ‫على المسيرة التنموية لبلداننا؛ فمظاهر‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫الغش والفساد المختلفة التي تطبع نتائج‬ ‫تعلمينا لم تعد تخفى على أح��د؛ إضافة‬ ‫إل��ى ذل���ك‪ ،‬ف��إن ه��ذا التعليم ال يفلح في‬ ‫تحديد معالم الشخصية المتنورة الفعالة‬ ‫المجتهدة‪ ،‬فهذه أمور تحددها القيم التي‬ ‫تتأسس عليها فلسفة التربية وتترجمها‬ ‫المناهج التعليمية‪ .‬القيم ظلت مغيبة في‬ ‫هذه السياسات‪ ،‬رغم أهميتها في تحديد‬ ‫نوع المخرجات وجدواها؛ إنها الروح التي‬ ‫تحقق االنتصار في معارك التنمية بأبسط‬ ‫األسلحة واإلمكانات‪ .‬فما يعاب على تعليمنا‬ ‫أنه لم يفلح في تنمية قدرة المتعلمين على‬ ‫االهتمام بالشأن المحلي أو مواكبة تطلعات‬ ‫ب�لاده��م التنموية واالق��ت��ص��ادي��ة‪ ،‬فتركيز‬ ‫نظامنا التعليمي على اكتساب المعلومات‬ ‫وتَهيُّؤ المتعلم لالختبار ونيل الشهادة التي‬ ‫إهمال كليٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫تؤهله للبحث عن عمل‪ ،‬أدى إلى‬ ‫للجانب السلوكي والخُ ل ُقي في شخصيات‬ ‫المتعلمين‪ .‬وحتى الجانب العقلي فإن تنميته‬ ‫اقتصرت على حشوه بالمقررات‪ ،‬مع تغييب‬ ‫التفكير النقدي المستقل‪ ،‬وانعدام المبادرة‬ ‫األدب��ي��ة والعلمية ل��دى التالميذ‪ ،‬وتراجع‬ ‫كبير لبعض القيم االجتماعية‪ :‬كالتعاون‪،‬‬ ‫والصدق‪ ،‬واألمانة‪ ،‬وحلَّ محل هذه القيم‬ ‫النبيلة سلوك األنانية والوصولية وطغيان‬ ‫المصلحة الخاصة‪.‬‬ ‫اإلصالح ال ينبغي أن يظل قاصرا على‬ ‫النمو الكمّي للمتعلمين أو المؤسسات أو‬ ‫التجهيزات‪ ،‬بل على ما تحمله الزيادة في‬ ‫ال��ع��دد م��ن تطور نوعي حقيقي‪ ،‬ولنا في‬ ‫روسيا خير مثال‪ ،‬فإن االتحاد السوفياتي‬


‫دراس �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��ات ون �ق �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��د‬

‫كان يفاخر العالم بأنه يضم أكبر عدد من برنامج تعليمي يستكمل صورة المواطن كما‬ ‫األطباء قياساً إلى السكان‪ .‬إال أنه مع ذلك يرسمها الفكر التنموي الوطني؛ ويتكرس‬ ‫يعاني النسبة المرتفعة للوفيات داخل مراكز ذلك في النصوص والتطبيقات والمعامالت‬ ‫ال��ع�لاج‪ ،‬بسبب استفحال خطر السلوك ال��ت��رب��وي��ة‪ ،‬وس��ائ��ر األن��ش��ط��ة المنهجية‬ ‫ال��ب��ي��روق��راط��ي وف��س��اد الضمير المهني وال��م��وازي��ة‪ ،‬ال��ت��ي يتم فيها التركيز على‬ ‫وتفشي المحسوبية والرشوة‪ ،‬وهيمنة ذلك‬ ‫قيم‪ :‬الحق‪ ،‬والخير‪ ،‬والجمال‪ ،‬والعدالة‪،‬‬ ‫على مرافق الحياة كلها حتى بين أس �رّة‬ ‫والمساواة‪ ،‬وحب العمل‪ ،‬والنضال من أجل‬ ‫المرضى؛ ما أدى إلى ضعف فاعلية الطب‪،‬‬ ‫الجميع؛ وتقدم الفرد‪ /‬المواطن كإنسان‬ ‫وهزم مشروع الدولة في محاربة المرض‪.‬‬ ‫في الوقت نفسه حققت دول أخ��رى نموا كامل األهليّة والقدرة‪ ،‬وككائن اجتماعي‪،‬‬ ‫بسرعة كبيرة‪ ،‬وذلك راجع في المقام األول يتمتع بالحقوق الكاملة‪ ،‬ومن واجبه أن يكون‬ ‫إلى فضائل االنضباط واإلخالص واإلرادة فاعال في تقدم المجتمع‪ ،‬مناضال من أجل‬ ‫الوطنية التي تحلّى بها األف��راد وشجعت الوطن وتقدمه وأمنه ووحدته‪ .‬وه��ذه هي‬ ‫واعتنت بها التربية‪ ،‬ون��س��وق مثاال على القضية المحورية المهمة التي يختم بها‬ ‫ذلك من اليابان التي أص��در إمبراطورها المؤلف كتابه الثمين‪.‬‬ ‫ع��ام ‪1890‬م م��رس��وم��ا ح��ول التربية أل��حَّ‬ ‫نعود إلى تجديد طرح السؤال األول‪ ،‬هل‬ ‫فيه على الدور األخالقي وفضائل الصدق‬ ‫ما تزال أفكار الكاتب تستوجب النظر إليها‬ ‫والورع واالقتصاد والنشاط الضروري من‬ ‫أجل ازدهار اإلمبراطورية‪ .‬فكانت الوظيفة بعد عقدين من الزمن؟ أعتقد أن ما ورد في‬ ‫األخالقية للتعليم أكثر أهمية من الوظيفة الكتاب من قضايا وأسئلة ما تزال حية‪ ،‬بل‬ ‫االقتصادية‪ ،‬لكن االثنتين امتزجتا معا لكي إن طرحها اليوم للنقاش ينبغي أن يكون أشد‬ ‫إلحاحا وأدعى للدعم والمساندة‪ .‬وهذا ما‬ ‫تسهال تحويل البالد(‪.)3‬‬ ‫ونحن أيضا يمكن أن نجعل من تعليمنا يبرر دعوتنا إلى إعادة إصدار الكتاب في‬ ‫مسهما ف��ي تسهيل ت��ح��وي��ل ال��ب�لاد‪ ،‬إذا طبعات شعبية‪ ،‬وتعميم توزيعه على أوسع‬ ‫حرصنا على تكوين العقل األخالقي الملتزم نطاق بين العاملين في القطاع التعليمي بكل‬ ‫الوطني بدل العقل األدات��ي‪ ،‬ووسيلة ذلك البالد العربية‪.‬‬ ‫* كاتب من المغرب‪.‬‬ ‫(‪ )1‬صورطي‪ ،‬يزيد عيسى‪ :‬المشكالت التي تواجه المدرسين العرب وحلولها‪ ،‬المجلة العربية للتربية‪ ،‬مجلد‬ ‫‪ 17‬عدد ‪ 2‬ص ‪165‬‬ ‫(‪ )2‬وهبة‪ ،‬نخلة‪ :‬قضايا تربوية بحرينية‪ ،‬المنامة‪ ،‬وزارة التربية والتعليم‪( ،‬مركز البحوث التربوية والتطوير)‬ ‫‪1996‬م ص ‪287‬‬ ‫(‪ )3‬الخرشاف‪ ،‬إدريس‪ :‬مقال منشور بجريدة العلم ‪1417/3/2‬هــ‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪33 )2015‬‬


‫الثقافة العربية‬ ‫في الهند‬ ‫‪ρρ‬غازي خيران امللحم*‬

‫تعد الهند واحدة من البقاع المتسعة التي وصل إليها العرب في فترات مختلفة‪،‬‬ ‫م��ن عمر ال��زم��ن؛ س��واء ب��واس�ط��ة ال�ف�ت��وح��ات اإلس�لام�ي��ة‪ ،‬أو ال�ع�لاق��ات التجارية‬ ‫العديدة التي نشطت مع شبه القارة الهندية‪ ،‬عندما أشرقت بنور اإلسالم‪ ،‬وهبت‬ ‫عليها نفحاته البليلة‪ .‬ولما كانت اللغة العربية لغة القرآن الكريم ولسان حال‬ ‫الدعوة اإلسالمية‪ ،‬كان من الطبيعي أن تنتشر مع مدِّ اإلسالم وتعاليمه الراقية‬ ‫في المناطق المفتوحة‪ .‬ونظرا لهذه األهمية اعتنى المسلمون في جميع أقطار‬ ‫العالم باللغة العربية عناية فائقة‪ ،‬وبذلوا جهودا مكثفة في تعليمها وتدريسها في‬ ‫كل األقطار التي وصلوها‪ ،‬السيما الهند التي ارتبطت والجزيرة العربية بعالقات‬ ‫ودية في النواحي المختلفة‪ ،‬الثقافية والتجارية واالجتماعية‪ ،‬وكانت المنطقتان‬ ‫مهد َّي حضارات عريقة وعلى سوية عالية من التطور والرقي اإلنساني‪ ،‬فأثرتا‬ ‫وتأثرتا في بعضهما بعضا‪ ..‬لدرجة تأسيس مستعمرات عربية في الهند‪ ،‬وكذلك‬ ‫استقر الكثير من أهل الهند واستوطنوا في أماكن متفرقة من األرض العربية‪.‬‬

‫‪34‬‬

‫ومنذ ذلك الوقت‪ ،‬استقرت الثقافة من الهنود‪.‬‬ ‫اإلسالمية بشكل رسمي في األرج��اء‬ ‫وق��د ت��أث��روا تأثيرا بالغا بأنماط‬ ‫الهندية‪ ،‬ونشط الهنود أنفسهم في تعلم‬ ‫الحياة العربية‪ ،‬وأصبحوا يشكلون وحدة‬ ‫العربية‪ ،‬رغبة منهم في قراءة القرآن‬ ‫حضارية لها شخصيتها المستقلة التي‬ ‫ال��ك��ري��م ق���راءة سليمة‪ ،‬وف��ه��م معانيه‬ ‫تستمد مكوناتها من ال��ت��راث العربي‬ ‫بصورة صائبة‪ ،‬وكان للحديث الشريف‬ ‫األصيل ومن الحضارة الهندية العريقة‪.‬‬ ‫أيضا دور كبير في نشر اللغة العربية‬ ‫وبمرور العصور‪ ،‬وبالتدريج‪ ،‬باتت‬ ‫في تلك األصقاع البعيدة‪ ،‬التي باتت‬ ‫موضع احترام وتقدير من قبل الكثير الهند م��ن ال��م��راك��ز الرئيسة للثقافة‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫وك��ت��اب «ال��ث��ق��اف��ة ال��ع��رب��ي��ة ف��ي الهند»‬ ‫لمجموعة من المؤلفين الهنود‪ ،‬والصادر عن‬ ‫مركز الملك عبداهلل بن عبدالعزيز الوطني‪،‬‬ ‫يهتم بشأن اللغة العربية ومكانتها في الهند‪،‬‬ ‫ودوره��ا في بناء الحضارة الهندية‪ ،‬يشير‬ ‫بوضوح لكل ما سبق ذكره‪ ،‬بل ويزيد عليه‬ ‫بفيض من الشرح المهم‪ ..‬والتعليل الملم‪..‬‬ ‫وقد عكف مؤلفو الكتاب (وهم مجموعة من‬ ‫جهابذة العلم وأرب��اب الفكر الهندي) على‬ ‫إج��راء مسح شامل لتاريخ الثقافة العربية‬ ‫ف��ي الهند‪ ،‬وإب���راز مجهودات م��ن شاركوا‬ ‫بإنجازاتهم العلمية والثقافية ف��ي علوم‬ ‫والسيَر والتراجم‪،‬‬ ‫التفسير والحديث والفقه ِ‬ ‫وال��ن��ح��و وال��ص��رف وال���ع���روض والمعاجم‬ ‫والشعر والصحافة‪ ..‬إلخ‪.‬‬ ‫إذ ن��ه��ض م��ن أرض ال��ه��ن��د وع��ل��ى مد‬ ‫ال��زم��ن أدب����اء وش���ع���راء‪ُ ،‬ع��رف��وا بفصاحة‬ ‫اللسان العربي المبين‪ ،‬وخرج منها صفوة‬ ‫من العلماء‪ ،‬ولفيف من رجال الفكر والقلم‬ ‫الذين أدوا أدوارا رائعة في مجال التصنيف‬ ‫والتأليف‪ ..‬وت��رك��وا آث���ارا باقية‪ ،‬ال يمكن‬ ‫لمؤلف في التاريخ واألدب العربي والثقافة‬ ‫غض البصر‬ ‫اإلسالمية العامة تجاهلها‪ ،‬أو ّ‬ ‫عن أهميتها‪ .‬وقد جاء كتاب «الثقافة العربية‬

‫«تعتز الهند حقا بتراثها الثقافي اإلسالمي‬ ‫واألدبي‪ ،‬إذ نجد أنه ما من مجال من مجاالت‬ ‫األدب العربي والعلوم اإلسالمية‪ ،‬إال وقد‬ ‫ترك فيها العلماء الهنود آث��ارا ال يستهان‬ ‫بها‪ ..‬ومن كافة ضروب المعرفة‪ ،‬ال يوجد لها‬ ‫شبيه في أي بلد آخر خارج العالم العربي‪.‬‬ ‫وال يخفى أن الصلة بين العرب والهند ترجع‬ ‫إل��ى ما قبل اإلس�لام ب��ق��رون‪ ،‬وم��ن الثابت‬ ‫تاريخيا أن العرب ومن قديم الزمان كانوا‬ ‫يقصدونها من أجل التجارة‪ ،‬وعندما جاء‬ ‫اإلس�لام واتسعت رقعة الدولة اإلسالمية‪،‬‬ ‫دخلها كثير من المُحَ دّثين والفقهاء والعلماء‬ ‫واألدب���اء ال��ع��رب‪ ،‬واختلطوا بسكان الهند‬ ‫ومواطنيها‪ ،‬وتركوا فيهم مؤلفات وأفكارا‬ ‫عظيمة ملموسة في مجاالت العلم‪ ،‬واللغة‬ ‫والثقافة العربية واإلسالمية»‪ .‬ونتيجة لذلك‬ ‫نرى أن المنطقة «الهندية‪-‬الباكستانية» قد‬ ‫أنجبت لفيفا من العلماء واألدباء والشعراء‬ ‫المتضلعين ف��ي اللغة العربية الحائزين‬ ‫على نصيب وافر في كل درب من دروبها‪،‬‬ ‫وفي كل فن من فنونها؛ فأسسوا المدارس‬ ‫اإلسالمية في عدد من المدن الهندية‪ ،‬التي‬ ‫تخرَّج منها مئات المفسرين والمحدثين‬

‫دراس �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��ات ون �ق �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��د‬

‫العربية في العالم‪ ،‬فهي تضم اليوم مئات‬ ‫المعاهد والمدارس التي تقوم بتعليم اللغة‬ ‫العربية وآدابها‪ ،‬وتدريس العلوم اإلسالمية‬ ‫وتراثها‪ ،‬إل��ى جانب الجامعات الحكومية‬ ‫والمؤسسات الرسمية العديدة التي تعنى‬ ‫بالبحوث اإلسالمية‪ ،‬والثقافة العربية في‬ ‫شتى مناحيها‪.‬‬

‫في الهند» كصورة مصغرة‪ ،‬أو لقطة مكثفة‬ ‫لتلك البنية الثقافية‪ ،‬موزعا على خمسة‬ ‫أبواب‪ ،‬ينبثق عنها عدد من العناوين الفرعية‬ ‫التي تأتي في سياق الموضوع‪ ،‬وتنير جوانبه‬ ‫بالشرح أو التعريف بفحوى هذا الباب أو‬ ‫ذاك‪ ،‬فنجد ف��ي مستهل ال��ب��اب األول من‬ ‫الكتاب‪ ،‬حديث أح��د مؤلفي ه��ذا السفر‬ ‫المهم‪ ،‬قوله‪:‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪35 )2015‬‬


‫القائمين بأعمال الدعوة والتبليغ‪ ،‬والفقهاء‬ ‫األج�ل�اء واألدب����اء ف��ي العربية وال��ش��ع��راء‬ ‫واللغويين والصحفيين والسياسيين‪ .‬وقد‬ ‫ترك ه��ؤالء المفكرون تراثا عظيما وثروة‬ ‫في كافة العلوم اإلسالمية واللغة العربية‪،‬‬ ‫فوضعوا كتبا في كل علم وفن‪ ،‬ما بين كبير‬ ‫وصغير‪ ،‬في التفسير وأصوله‪ ،‬وعلوم القرآن‬ ‫وال��ح��دي��ث‪ ،‬وش���روح ف��ي صحيح البخاري‬ ‫ومسلم وال��ت��رم��ذي‪ ،‬وف��ي التراجم والسير‬ ‫والتاريخ‪ ،‬واللغة بمختلف فروعها‪.‬‬ ‫ف��ي ال��ب��اب الثاني م��ن الكتاب يتحدث‬ ‫المؤلفون‪ ،‬عن إسهامات الهند المتنوعة‬ ‫في مجاالت اللغة العربية وآدابها‪ ،‬وضروبها‬ ‫المتشعبة السيما في الصحافة التي انتشرت‬ ‫وذاع صيتها وارتفع ذكرها ونالت في البالد‬ ‫العربية رواجا الئقا وحظوة طيبة‪ ،‬وهي التي‬ ‫ع�رّف��ت مسلمي الهند إل��ى العالم العربي‬ ‫تعريفا صحيحا‪ ،‬وهي التي نفت عن قلوب‬ ‫العرب شكوكهم المتعلقة بمسلمي الهند؛ ما‬ ‫جعل أدباء العرب وعلماؤهم يكيلون المديح‬ ‫لنظرائهم الهنود‪ ..‬والثناء على اطالعهم‬ ‫الواسع‪ ،‬وتبحّ رهم في مكنونات هذه اللغة‬ ‫أدب���ا وف��ن��ا‪ ،‬واع��ت��رف��وا بفضلهم ف��ي ه��ذه‬ ‫الجوانب من كافة نواحيها المتنوعة‪.‬‬

‫‪36‬‬

‫إال أن الصحافة العربية في الهند لم تبرز‬ ‫على منصة الوجود الفعلي إال منذ برهة من‬ ‫ال��زم��ان‪ ،‬ول��م تزدهر إال في القرن التاسع‬ ‫عشر الميالدي وما تاله‪ ،‬والذي شهد ظهور‬ ‫العديد من المطبوعات الصحفية كمجلة‬ ‫الضياء‪ ،‬ومجلة البعث اإلسالمي‪ ،‬وصحيفة‬ ‫الرائد وغيرها كثير‪ .‬وما كدنا نخلص إلى‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫الربع األخير من القرن التاسع عشر والعقد‬ ‫األول من القرن الحالي‪ ،‬ال��ذي يعد عصر‬ ‫ازدهار الصحافة العربية في الهند وتطورها‬ ‫فنيا ومضمونا‪ ،‬فوصلت إل��ى غاية رقيها‬ ‫وانتشارها في كل ربوع الهند‪ ،‬وأدت البعثات‬ ‫التعليمية إلى الدول العربية‪ ،‬شخصية كانت‬ ‫أم حكومية‪ ،‬إلى تطور تعلم اللغة العربية‬ ‫ونشرها وتعليمها في الهند‪ ،‬والذي أدى إلى‬ ‫ظهور الكثير من المجالت والجرائد العربية‬ ‫التي ال تقل عن مثيالتها في البالد العربية‬ ‫في أي شيء‪ ،‬ناهيك عن الطباعة الجيدة‬ ‫التي تتميز بها تلك الدوريات‪.‬‬ ‫ث��م يستعرض ال��ك��ت��اب أه���م المؤلفات‬ ‫العربية للهنود في أدب األطفال‪ ،‬هذا النوع‬ ‫األدبي المشتمل على عدة أساليب في النثر‬ ‫والشعر‪ ،‬وموجهه لمن هم دون سن المراهقة‪،‬‬ ‫والغرض منه الترويح والتهذيب والتثقيف‬ ‫والتعليم‪ ،‬وتقديم معلومات جديدة في قالب‬ ‫جذاب مشوق ممتع‪ ،‬وله أشكال متنوعة بما‬ ‫فيها القصة والحكاية واألناشيد‪.‬‬ ‫وفي الباب نفسه نجد حديثا مسهبا عن‬ ‫تطور علم التفسير في الهند‪ ،‬وعن أعالمة‬ ‫من الكتّاب‪ ،‬وأهم المؤلفات التي وضعت في‬ ‫هذا المجال‪ ،‬ثم يتناول مسألة الشعر التي‬ ‫ظهرت منذ مطلع شمس اإلسالم وسطوعها‬ ‫في آفاق شبه القارة الهندية‪ ،‬وبروز العديد‬ ‫م���ن ال��ش��ع��راء م���ن أم���ث���ال‪ :‬ع��ب��دال��م��ق��ت��در‬ ‫الدهولي‪ ،‬ال��ذي وض��ع «المية الهند» التي‬ ‫عارض بها «المية العجم» للطغرائي‪ ،‬وهي‬ ‫دليل باهر على اقتداره في اللغة العربية‪،‬‬ ‫وتذوقه الشعر العربي‪ ،‬وتمييز الغث منه‬


‫دراس �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��ات ون �ق �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��د‬

‫والسمين‪ ،‬وف��ي استهالل القصيدة حذا‬ ‫الشاعر ح��ذو ش��ع��راء الجاهلية‪ ،‬ف��ي ذكر‬ ‫األطالل والوقوف على الديار‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫يا سائق الظعن في األسحار واألصل‬ ‫سلم على دار سلمى فابك ثم سل‬ ‫ع��ن ال �ظ �ب��اء ال �ت��ي م��ن أب �ه��ا أب��دا‬ ‫صيد األسود بحسن الدل والنجل‬ ‫وع��ن م�ل��وك ك��رام ق��د م�ض��وا ق��ددا‬ ‫حتى يجيبك عنهم ش��اه��د طلل‬ ‫ثم يتطرق الشاعر إلى بيان وصف النبي‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬واستعراض شمائله‬ ‫قائال‪:‬‬

‫م �ح �م��د خ �ي ��ر خ �ل ��ق اهلل ق��اط �ب��ة‬ ‫هو ال��ذي جل عن مُ ثل وع��ن مَ ثل‬ ‫ل ��ه ال� �م ��زاي ��ا ب�ل�ا ن �ق��ص وال ش�ب��ه‬ ‫ل� ��ه ال� �ع� �ط ��اي ��ا ب�ل��ا م� ��ن وال ب ��دل‬ ‫ل��ه ال�م�ك��ارم أبهى م��ن نجوم دجى‬ ‫له العزائم أمضى من قنا البطل‬ ‫من هنا‪ ،‬نجد أن اللغة العربية هي بمثابة‬ ‫ال��ع��روة الوثقى ال��ت��ي تجمع بين الشعوب‬ ‫العربية واإلس�لام��ي��ة ف��ي ال���دول األخ��رى‪.‬‬ ‫كما ورد في مقال‪ :‬اللغة العربية في الهند‬ ‫ومشاكلها وتحدياتها‪ ،‬التي أشير إليها في‬ ‫أك��ث��ر م��ن م��وض��ع ف��ي س��ي��اق ه��ذا الكتاب‬ ‫الموسوعة‪ ،‬الغزير ف��ي م��ادت��ه الغني في‬ ‫محتواه‪..‬‬ ‫ويتناول الكتاب في الباب الثالث‪ ،‬مناهج‬ ‫التعليم العربي وهياكله التربوية والعلمية‪،‬‬ ‫وتدريس اللغة العربية في الجامعات الهندية‬

‫بين الواقع والمأمول‪.‬‬ ‫وه���ذا ال��ب��اب ي��ع��د ام���ت���دادا ل��دراس��ات‬ ‫كثيرة كتبت في ه��ذا ال��م��وض��وع‪ ..‬السيما‬ ‫في السنوات القليلة الماضية‪ ،‬إضافة إلى‬ ‫العديد من الندوات العلمية التي عقدت في‬ ‫جامعة (دلهي) وجامعة الكويت‪ ،‬والجامعات‬ ‫العالمية في «ماليزيا» مثال‪ ،‬وقد تطرقت‬ ‫تلك الندوات في مواضيعها‪ ،‬إلى تأسيس‬ ‫أول م��درس��ة تعلم طالبها باللغة العربية‬ ‫إلى جانب اللغة الهندية األم‪ ،‬وعن إنشاء‬ ‫دار العلوم «ديوبند» في العام ‪1866‬م‪ .‬وبعد‬ ‫عدة عقود من السنين وبالتحديد في العام‬ ‫‪1898‬م‪ ،‬أ ُنشئت مدرسة «دار ندوة العلماء»‪.‬‬ ‫وف��ي ال��ع��ام ‪1924‬م‪ ،‬أ ُس��س��ت جامعة «دار‬ ‫السالم» بعمر أباد جنوبي الهند‪ ،‬والتي تعد‬ ‫أول جامعة عربية في البالد‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪37 )2015‬‬


‫ثم ي��ورد الكتاب الكثير من اآلراء حول‬ ‫ت��دري��س اللغة العربية ف��ي تلك المراكز‬ ‫التربوية والتعليمية‪ ،‬وإي���راد المالحظات‬ ‫التوجيهية ح��ول��ه��ا‪ ،‬وإل��ق��اء ال��ض��وء على‬ ‫مشاكلها كاألخطاء الشائعة في اإلمالء عند‬ ‫الطالب الهنود وغيره‪ ،‬وعن مناهج تعليم‬ ‫اللغة القرآنية وصعوبتها وتحدياتها‪ ،‬وعن‬ ‫مستقبلها في الهند‪ ،‬وما إلى ذلك من ثغرات‬ ‫يمكن معالجتها بالمثابرة والتصميم‪.‬‬

‫‪38‬‬

‫م��ن العربية إل��ى الهندية‪ .‬ون��ظ��را ألولوية‬ ‫ه��ذا الموضوع وض��رورت��ه بالنسبة للعالم‬ ‫العربي أيضا‪ ،‬أطلقت الحكومة المصرية‬ ‫مشروع ترجمة الكتب الهندية إلى العربية‪،‬‬ ‫وبإشراف مباشر من وزارة الثقافة‪ ،‬وكذلك‬ ‫«دارة الملك عبدالعزيز» بالرياض‪ ،‬بدأت‬ ‫مشروع الترجمة من اللغات الهندية في‬ ‫العام ‪2010‬م‪ .‬واختارت الكثير من الكتب‬ ‫ذات المحتوى الملتزم وترجمتها للعربية‪،‬‬ ‫وم��ا ي���زال العمل ج��ار ب��ه��ذا االت��ج��اه إلى‬ ‫اليوم‪ .‬ومؤخرا بدأت هيئة أبو ظبي للثقافة‬ ‫وال��س��ي��اح��ة ف��ي أب���و ظ��ب��ي تنفيذ م��ش��روع‬ ‫لترجمة مجموعة من المؤلفات الهندية ذات‬ ‫الطابع الخاص الذي يضيف جديدا ومفيدا‬ ‫إلى الثقافة العربية‪.‬‬

‫مع العلم إن هذه التحديات ليست وليدة‬ ‫الساعة‪ ،‬بل هي قديمة قدم الوجود العربي‬ ‫نفسه‪ ،‬في هذه البالد المترامية اإلطراف‬ ‫المتباعدة األرك��ان؛ لكن‪ ،‬وعلى الرغم من‬ ‫كل ذلك‪ ،‬تمكنت اللغة العربية من الصمود‬ ‫واالستمرار‪ .‬وال شك أن القرآن الكريم الذي‬ ‫تكفّل اهلل سبحانه وتعالى بحفظه كان هو‬ ‫ومن هنا‪ ،‬نجد إن هذا التالقح الثقافي‬ ‫العامل األول في صون العربية وبقائها في بين الهند والعرب‪ ،‬قد أفرز نتاجاً علمياً في‬ ‫هذه الديار‪.‬‬ ‫مختلف االتجاهات الفكرية؛ كعلم الفلك‪،‬‬ ‫وفي الباب الرابع يستعرض الكتاب وعبر والرياضيات‪ ،‬والهندسة‪ ،‬والطب‪ ،‬واألدب‪،‬‬ ‫صفحاته عدة عناوين ومناقشتها ومعالجة والفلسفة وغيرها‪ ،‬وب��ذل��ك يمكن القول‪:‬‬ ‫ف��ح��واه��ا‪ ،‬ب��أس��ل��وب رائ���ق س��ل��س ال يشعر إن ال��ع��رب والهنود ق��د أدوا أدوارا رائ��دة‬ ‫القارئ معه بملل‪ ..‬أو يداخله سام‪ ،‬لجدتها في التفاعل الثقافي والعلمي واالجتماعي‬ ‫وج���ودة ط��رح��ه��ا‪ ،‬وه��ي تتحدث ع��ن اللغة والديني‪ ،‬وإبراز هذه األبعاد من خالل أهمية‬ ‫العربية وتعزيز الحوار والتواصل الثقافي‪ ،‬اللغة العربية التي شكّلت حلقة وصل في‬ ‫بين ال��ك��وادر الثقافية ف��ي الهند والبالد تقريب وجهات النظر بين الطوائف الهندية‬ ‫العربية‪ ،‬من خالل العالقات الودية بينهم‪ ،‬ذاتها‪ ،‬وعلى اختالف مشاربها وعقائدها‪،‬‬ ‫في ضوء ما يترجم من اللغة الهندية إلى وأدت إلى االنسجام الطائفي بين تلك الفرق‬ ‫العربية وبالعكس؛ وقد نالت هذه الناحية المتعددة‪ ،‬من خالل كون معظمها يتكلم اللغة‬ ‫أهمية كبيرة السيما بعد استقالل الهند؛ «األردي��ة» التي تصنف في المرتبة الثالثة‬ ‫فقد قامت بعض المنظمات الهندية بترجمة عالميا‪ ،‬بعد اللغة الصينية واإلنجليزية‪ ،‬وقد‬ ‫مئات الكتب والبحوث قديمها وحديثها‪ ،‬انبثقت «األردي���ة» عن خليط من اللهجات‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫هذا وقد أدى المجلس الهندي للعالقات‬ ‫الثقافية دورًا رائدًا في نشر الثقافة الهندية‬ ‫بالعربية‪ ،‬وترجمة األدب العربي إلى اللغة‬ ‫الهندية‪ .‬فأصبحت اللغة العربية بمثابة‬ ‫الحامي للهوية اإلسالمية في الهند‪ ،‬التي‬ ‫تعني بحقيقتها االنتماء إل��ى اهلل ورسوله‬ ‫وال��ى الدين اإلس�لام��ي‪ ،‬وعقيدة التوحيد‬ ‫التي أكمل اهلل لنا بها هذا الدين وأتم علينا‬ ‫بها نعمته‪ ،‬وجعلنا بها األمة الوسط‪ ،‬وخير‬ ‫امة أخرجت للناس‪ ،‬وصبغنا بفضلها بخير‬ ‫صبغة‪:‬‬

‫«صبغة اهلل ومن أحسن من اهلل صبغة‬ ‫ونحن له عابدون» البقرة‪138:‬‬ ‫وج��اء ف��ي ال��ب��اب الخامس م��ن الكتاب‪،‬‬ ‫الحديث عن علماء الهند وم��ا قدموه من‬ ‫خ��دم��ات جُ �لّ��ى أس��دوه��ا للغة العربية في‬ ‫الهند‪ ،‬وعن أقدم المؤلفات المطبوعة التي‬ ‫أحرزت قصب السبق في هذا المجال؛ ما‬ ‫يؤكد إن حركة الطباعة للمؤلفات العربية‬ ‫كانت مبكرة في هذه الديار‪ ،‬كما يتبين من‬ ‫خالل دراسة مجلدات الفهارس التي احتوت‬

‫دراس �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��ات ون �ق �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��د‬

‫الهندية البسيطة‪ ،‬المتأثرة باللغة العربية‬ ‫من حيث رموز حروفها الكتابية‪ ،‬التي تتشابه‬ ‫كثيرا ورم��وز األبجدية العربية‪ ،‬من حيث‬ ‫أص��وات ح��روف العلة واإلع��راب‪ ،‬إذ يوجد‬ ‫ثالثون حرفا مشتركا بين هاتين اللغتين‬ ‫ومطابقتها في التعبير واألص��وات‪ ،‬إضافة‬ ‫إلى سبعة أحرف معدلة وهي‪ :‬ب ت ج د ر‬ ‫ز ك‪ ..‬التي هي باألردية‪ :‬به‪ -‬جه –ته‪ -‬ده‪-‬‬ ‫ره‪ -‬زه‪ -‬كه‪..‬‬

‫على عناوين وتواريخ طباعة الكتب العربية‬ ‫والمترجم منها إلى اللغة الهندية‪ ،‬التي من‬ ‫أهمها شروح اإلم��ام البخاري في الحديث‬ ‫الشريف‪ ،‬الذي يعد المصدر الثاني للتشريع‬ ‫اإلس�لام��ي بعد ال��ق��رآن الكريم‪ ،‬وم��ن هنا‬ ‫تواصل اهتمام علماء الهند بجمعه وتنقيته‪،‬‬ ‫ليصل إلى يد القارئ وعقله صافيا من كل‬ ‫شائبة‪.‬‬ ‫وانطالقا من هذا الهدف النبيل‪ ،‬نشط‬ ‫مجمع الفقه اإلسالمي في الهند بالقيام‬ ‫بعقد الندوات العلمية المتالحقة التي تدور‬ ‫حول اللغة العربية وآدابها المتنوعة‪ ،‬التي‬ ‫كانت تجري على مدرجات جامعة «همدرد»‬ ‫في نيو دلهي‪ ،‬وكانت تتناول المحاور التالية‪:‬‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫•تاريخ انتشار اللغة العربية في الهند‪.‬‬ ‫•المؤلفات الهندية الصادرة بالعربية‬ ‫عبر التاريخ‪.‬‬ ‫•الشعر العربي في الهند‪.‬‬ ‫•المناهج والكتب المدرسية لتعلم‬ ‫اللغة العربية‪.‬‬ ‫•تأثير اللغة العربية على اللغات‬ ‫الهندية‪.‬‬ ‫•وغيرها الكثير‪ ،‬والكثير جدا‪.‬‬

‫ثم يتناول هذا الباب بعد ذلك الحديث‬ ‫عن علماء «كشمير» تحديدا‪ ،‬وما قدموه من‬ ‫خدمات للغة العربية‪ ،‬وعالقاتهم الوطيدة مع‬ ‫العرب‪ ،‬التي بدأت فعليا في العام ‪645‬هـ‪،‬‬ ‫عندما ب��دأ ال��ع��ال��م الكشميري الشهير‪:‬‬ ‫الشيخ فتح اهلل‪ ،‬بترجمة القرآن الكريم إلى‬ ‫عدة لغات شرقية‪ ،‬منها اللغتان «األردي��ة»‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪39 )2015‬‬


‫والفارسية‪ ،‬ومن أدباء كشمير أيضا‪ ،‬الشيخ تعريفي مبسط يمهد الطريق للدخول إلى‬ ‫ال��م��ج��دد‪« :‬يعقوب ال��ص��رف��ي» ال��ذي وضع دراس��ات أعم وأشمل وردت على صفحات‬ ‫العديد م��ن التآليف الدسمة والضخمة هذا الكتاب‪ ،‬وتأتي في صلب مادة المحاور‬ ‫في علم التفسير والحديث والسِّ يَر‪ ،‬إلى التي تناولها‪.‬‬ ‫جانب كتابته للنثر وقرض الشعر‪ ،‬وكان في‬ ‫وال شك والحالة هذه‪ ،‬أن القائمين على‬ ‫كالهما رصين العبارة متين الطرح؛ وهذا‬ ‫إن دل على شيء‪ ،‬إنما يدل على رسوخه في الكتاب والمُسهمين في تأليفه وترجمته‬ ‫الشعر وتضلعه في النثر‪ ،‬ومن شعره المعتبر ونشره‪ ،‬يستحقون كل التقدير والثناء على‬ ‫نقتطف هذه األبيات‪:‬‬ ‫ه��ذه ال��ب��ادرة الطيبة‪ ،‬التي م��ن شانها أن‬ ‫ال جديد ًة من العلم‪ ،‬وتوسع آفاق‬ ‫تفتح سب ً‬

‫بس ِّر الوحي أنت أعلم‬ ‫يــــــــــــــــــــــــــا من ِ‬ ‫ق��د ج��اءن��ا منك الكتاب المحكم الفكر وال��ن��ظ��ر‪ ،‬وتلقي ال��ض��وء على رسم‬ ‫خطط استشرافية مستقبلية أرحب‪ ،‬والتي‬

‫يا من بفيض كامل خصصت من‬ ‫علمته ما لم يــــــــــــــكن هو يــــــــــــــــــــــــــــعلم من شانها أن تتطور إلى األفضل في الهند‬ ‫الحاضر والمستقبل‪ ،‬وأن تنير الطريق‬

‫مـــــــــــــــــــــــــــــا في كتـــــــــــــاب منزل لنبينا‬ ‫محض الهدى متشابه أو محكم للخطوات القادمة التي بدورها يمكن أن‬ ‫تسهم ف��ي وض��ع آل��ي��ات وأدوات حقيقية‬

‫ويلقي هذا الباب أيضا‪ ،‬نظرة عابرة على‬ ‫أبرز مؤلفات المسلمين الهنود الصادرة باللغة إلضافات علمية ج��ادة‪ ،‬ما ت��زال تكمن في‬ ‫العربية‪ ،‬وعن أهم كتب العلوم الشرعية واألدبية الموروث الهندي التليد‪ ،‬خاصة فيما يتعلق‬ ‫وغيرها‪ ،‬وع��ن أع�لام وكتاب وش��ع��راء وق��راء باللغة العربية وتفرعاتها‪ ،‬ومعرفة السبل‬ ‫هنود‪ ،‬كان لهم إسهامات واضحة في خدمة التي تسهل لمسلمي الهند كيف يؤدون دوراً‬ ‫اللغة العربية ونشرها بين الطبقات الهندية‪ ..‬أكبر وأفضل‪ ،‬نحو خدمة هذه اللغة المباركة‬ ‫السيما المثقفة منها‪ ،‬فكان لها أطيب األثر في تلك األصقاع البعيدة‪ ،‬واهلل الهادي إلى‬ ‫على مستوى المجتمع الهندي ككل‪..‬‬ ‫سواء السبيل‪.‬‬ ‫وبعد‪ ،‬فالموضوع كبير ومهم‪ ،‬ومتعدد‬ ‫ال��ج��وان��ب وال��ج��ه��ات‪ ،‬وم��ت��ن��وع ال��ص��ف��ات‪،‬‬ ‫الشاعر العربي القديم‪ ،‬قوله‪:‬‬ ‫وليست ه��ذه الكلمات المتواضعة التي‬ ‫اقتطفت جلها من وحي موضوعات الكتاب‪ ،‬ك� � �ت � ��اب ل� � ��و ي� � �ب � ��اع ب� � ��وزن� � ��ه ذه� �ب ��ا‬ ‫ل� � �ك � ��ان ال� � �ب � ��ائ � ��ع ه� � ��و ال� �م� �غ� �ب ��ون‬ ‫إال غيضا من مجموع فيضه‪ ،‬وبمثابة مدخل‬ ‫وف��ي الختام ال يسعني إال الترديد مع‬

‫ * باحث من سوريا مقيم في السعودية‪.‬‬

‫‪40‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫ق� � � � � � �ص � � � � � ��ص ق� � � � �ص� � � � �ي � � � ��رة‬

‫طريقان‬ ‫‪ρρ‬ألباب كاظم*‬

‫في أح��د الحقول المفعمة بالنضارة والبهاء‪ ،‬المليئة بما يأسر النفس من‬ ‫الخضرة والرياحين والغدائر والساقيات والهواء العليل‪ ..‬تصاحب أرنبان لطيفان‬ ‫على المودة واإلخالص‪ ..‬فتغنى بصحبتهما المكان‪ ،‬وراح يشدو لبريق المعاملة‬ ‫الحسنة الذي يشعُّ منهما صافي ًا بهيجاً‪..‬‬ ‫كان األرنبان يروحان ويجيئان معاً‪ ،‬كما ت��روح الموجة وتجيء على صفحات‬ ‫المياه‪ ،‬ارتبط الواحد باآلخر ارتباط الشجرة بالتربة‪ ،‬والكرم بالخير‪ ،‬والفضيلة‬ ‫بالجمال‪ .‬ال يفرّق بينهما شيء!‬ ‫يحيطهما م�ل�اك ال��س��ع��ادة‪ ،‬وينثر ومذاق حلو‪..‬‬ ‫بسماته على وجهيهما النيرين‪.‬‬ ‫بدأ شبح الحيرة يغزو رأس األرنبين‪،‬‬ ‫ذات ي��وم‪ ،‬وهما يمشيان ي��داً بيد‪ ،‬وأخذا يتساءالن أياً منهما سنسلك؟!‬ ‫ضاقت بهما الطريق‪ ،‬حتى وصال عند‬ ‫حتى قرر األرنب األول سلوك الطريق‬ ‫نقطة‪ ،‬تفترق فيها الطريق لطريقين السهلة المريحة‪ ،‬عندها حذرّه صاحبه‬ ‫مختلفين‪ ،‬اقتربا منها‪ ،‬كانت الطريق كونها مجهولة المصير‪..‬‬ ‫األول��ى مكتوباً عليها‪ ،‬سهلة‪ ،‬مريحة‪،‬‬ ‫فر ّد عليه‪« :‬وما يدريك ما المجهول‬ ‫فيها متعة ومجهولة المصير‪ ..‬والطريق الذي ينتظرنا قد يكون جميالً‪.»..‬‬ ‫األخ���رى كتب عليها مرهقة‪ ،‬صعبة‪،‬‬ ‫لكن صاحبه رفض اختياره وعاتبه‪:‬‬ ‫مشحونة بالعقبات‪ ،‬تنتهي بنكهة طيبة «األخ�����رى نهايتها م��ع��روف��ة ف��ل��م ت��رد‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪41 )2015‬‬


‫المخاطرة من أجل راحة آنية؟ أنا سأسلك‬ ‫الطريق األخرى وأحب أن تكون معي»‪.‬‬

‫عمره وأيامه المنصرمة‪ ،‬لو ترفق به الحياة‪،‬‬ ‫لو يحنو عليه الزمن! يتذكر صديقاً له سلك‬ ‫الطريق الصحيحة‪ ،‬وه��و ال ب��د ينعم اآلن‬ ‫بنهاية طيبة النكهة‪ ،‬حلوة المذاق‪ ،‬كما كان‬ ‫المكتوب والمقرر!‬

‫الريح ت��ه��بُّ ‪ ..‬وف��ي صوتها نبرات حزن‬ ‫وانكسار الفتراق الصاحبين؛ والطيور تردد‬ ‫ما قاله األرنب األول وهو يفترق عن صاحبه‪:‬‬ ‫«بعد أن أفرغ من طريقي السهلة والمريحة‬ ‫بينما انتهى األرنب اآلخر‪ ،‬وهو يلعق طعم‬ ‫سأرجع من جديد أللحق بك‪ ،‬في طريقك اج��ت��ه��اده‪ ،‬وتعبه‪ ،‬وصعوبات طريقه! بلذّة‬ ‫المعقدة! انتظرني»‪.‬‬ ‫كبيرة! وفرح غامر! يقف على قمّته مرفوع‬ ‫افترقا يجتران جزاء اختيارهما‪ ،‬وانتهى القامة‪.‬‬ ‫األرنب األول انتهاء ذرة الغبار في الفضاء‪،‬‬ ‫والطيور باتت ت��ردد‪« :‬ال أح��د يستطيع‬ ‫صغيراً ال شأن له وال ذكراً‪ ،‬بعد فناء متعة الرجوع لنقطة البداية‪ ،‬فالطريق تفضي إلى‬ ‫العاجلة‪ ،‬منزوياً في ركن ما‪ ،‬متمنياً استعادة طريق أخرى‪ ..‬دائماً»‪.‬‬

‫‪42‬‬

‫* قاصة من السعودية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫ق� � � � � � �ص � � � � � ��ص ق� � � � �ص� � � � �ي � � � ��رة‬

‫قصص قصيرة جدا‬ ‫‪ρρ‬سمية البوغافارية*‬

‫عهد جديد‬ ‫أحس باللفيح يلهب ظهره‪.‬‬ ‫خرج على الجماهير‪ ،‬يعلن عن فتح صفحة‬ ‫جديدة‪.‬‬ ‫ظاهرها أبيض ناصع‪.‬‬ ‫داخ��ل��ه��ا أس���ود مخطط ب��األح��م��ر القاني‬ ‫المعتاد‪.‬‬ ‫تطاير الشرر يحرق كل صفحات تاريخه‬ ‫الممتد‪.‬‬ ‫الكرسي‬ ‫أخيرا‪ ،‬أخلدتُ للراحة مثلهم‪.‬‬ ‫سأنام نومتي الهادئة‪.‬‬ ‫في مقبرتهم‪ ،‬استفقتُ مفزوعا مرعوبا‪.‬‬ ‫هياكلهم العظمية تتجاذب هيكلي‪.‬‬

‫رائحة عطنة‬ ‫رأى سمكة حيّة‬ ‫تراوغ‪،‬‬ ‫تقتحم األغوار‪،‬‬ ‫تسكن جسدها البراكين‪،‬‬ ‫عندما تهجس خطر القبض عليها‪.‬‬ ‫فغثت نفسه من السمكة الميتة التي تسكنه‪.‬‬ ‫الحلزون‬ ‫بيته فوق ظهره مثل الهودج العمالق‪.‬‬ ‫يتزلزل‪ ،‬ويكاد يسقط ويتدحرج إلى األسفل‪.‬‬ ‫فقاعات الزبد تتراكم ح��ول فمه من شدة‬ ‫العطش وح ِّر الظهيرة‪.‬‬

‫عجيب أمر زوجتي‪!!..‬‬ ‫مذ هفا قلبها لي وهي تدعو لي‪ :‬ربنا يحقق‬ ‫إلى حبيبتك‪.‬‬ ‫لك أغلى آمانيك‪.‬‬ ‫تحققت أغلى أماني‪ ،‬رأتها مرأى العين تتقلب غسل وجهي بزبد فمه‪ ،‬واستأنف طريقه‬ ‫بثبات‪.‬‬ ‫في الفراش بجانبي فصرخت وولولت‪!!..‬‬ ‫نصحته ساخرا‪ :‬اهجر بيتك لتغدو خفيفا‬

‫ * قاصة من المغرب‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪43 )2015‬‬


‫عصفور الصخر‬ ‫‪ρρ‬محمد أحمد عسيري*‬

‫ه��ذا اليوم استيقظ سالم قبل الفجر عم ًال بنصيحة صديقه أده��م‪ ،‬حتى ال‬ ‫تفوته عربة النقل التي تأتي مطلع كل أسبوع لجمع الشباب الراغبين في العمل‪.‬‬ ‫نظر لوجهه في المرآة وكأنه يعاتب أيامه وحظه‪ .‬منذ أكثر من سنة وهو يبحث‬ ‫عن عمل يستطيع من خالله توفير العيش الكريم ألمه وإخوته الصغار‪ ،‬بعد أن‬ ‫رش وجهه ببعض الماء البارد‬ ‫سرقت الحرب بصر والده واقتلعت إحدى قدميه‪َّ .‬‬ ‫وهو يشتم الفقر والحياة وتلك الشظية التي لم تجد غير رأس والده لترتطم به‪.‬‬ ‫ارت���دى م�لاب��س بالية ك��ان��ت مكومة‬ ‫خلف باب غرفته‪ ،‬وخرج مسرعاً ليحشر‬ ‫جسده الصغير بين أكوام الواقفين على‬ ‫الرصيف‪ ،‬بحثاً عن مكان قريب يُمكنه‬ ‫من الصعود أوال‪ ..‬وبقايا دفء تخلفه‬ ‫ع��رب��ة م��ك��ش��وف��ة‪ ..‬أرض��ه��ا قاسية‪..‬‬ ‫األجساد‪.‬‬ ‫تحمل رك��ام الكادحين لمكان بعيد ال‬ ‫العربة تقترب عبر الطريق الضيق‪ ،‬يعرفه غير السائق السمين الذي ال يكف‬ ‫يسبقها ضجيج محركها ال���ذي يمأل عن توزيع الشتائم‪ .‬عربة بطيئة‪ ،‬أفنت‬ ‫سكون الفجر‪ ..‬ودخانها األسود الخانق‪ .‬عمرها ف��وق ط��ري��ق ج��اح��د يتمدد بال‬ ‫وقبل أن يخطو خطوته األولى ‪ ..‬تتدافعه رحمة‪ ،‬لم يفكر يوماً أن يختصر مسافته‬ ‫األكتاف بقسوة ليجد نفسه ملقى كطائر من أجلها‪ .‬من تحت األقدام ينظر سالم‬ ‫مكسور الجناح‪ .‬السائق السمين يصرخ للسماء التي ب��دت للتو تغسل عتمتها‪.‬‬ ‫ب��ه‪ :‬انهض أيها العصفور النحيل وإال يتذكر أم���ه‪ ..‬إخ��وت��ه ال��ص��غ��ار‪ ..‬قطته‬ ‫تركتك تكمل ن��ه��ارك وح��ي��داً ف��وق هذا الرمادية‪ ..‬ووالده الكسير الذي يشعر أن‬ ‫الرصيف لتتبول عليك الكالب الضالة‪ .‬هزيمته أكبر من هزيمة كل الحروب التي‬ ‫ينهض مرتبكاً من تلك النظرات التي‬ ‫ك��ادت أن تخطف قلبه‪ ..‬يقفز للعربة‬ ‫ليحشر جسده مجدداً‪ ،‬ولكن هذه المرة‬ ‫تحت األقدام‪.‬‬

‫‪44‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫بالية‪ .‬يركض مع الرفاق متوجهاً نحو حجارة‬ ‫متراكمة‪ .‬الرجل األسمر يصرخ بهم مجدداً‪:‬‬ ‫هيا أيها األوغاد اشتغلوا‪ ،‬كسِّ روا هذه الحجارة‬ ‫لننقلها قبل غروب الشمس‪ ،‬لقد أحضرناكم‬ ‫من أج��ل ه��دم ه��ذا الجبل ال من أج��ل لمس‬

‫ق� � � � � � �ص � � � � � ��ص ق� � � � �ص� � � � �ي � � � ��رة‬

‫تقتات على األجزاء الضعيفة من هذا العالم‪ ) ...( .‬أيها البؤساء‪ ،‬نحن ندفع لكم كي تقطعوا‬ ‫ب��ه��دوء يمسح دم��وع��ه ق��ب��ل أن يشاهده الصخور فقط‪.‬‬ ‫يرفع سالم معوله ويبدأ بضرب أول صخرة‬ ‫أحدهم‪ .‬هناك ال مكان للدموع والذكريات‪،‬‬ ‫لموال حزين‪ ،‬لصوت ناي ي��ص��ادف��ه��ا‪ ،‬ولكنها تدفعه فيسقط كغصن‬ ‫ٍ‬ ‫كل الصور تتحول‬ ‫ي��اب��س‪ .‬م��ن الخلف يركله ال��رج��ل األس��م��ر‪..‬‬ ‫يشق الصدر‪.‬‬ ‫وهو يمطر أمه بشتائم مؤلمة‪ .‬ينهض متألماً‬ ‫في الطريق يلفت نظر سالم كشك صغير‬ ‫ليضرب الصخرة بقوة‪ ..‬كان ألمه كبيراً وهو‬ ‫ضائع في تلك المساحة من الفراغ‪ ..‬وبعض‬ ‫يسمع تلك الشتائم تلوث صورة أمه ورائحتها‬ ‫ك��راس يدوية الصنع‪ ،‬وط���اوالت رث��ة يجلس‬ ‫ٍ‬ ‫الزكية التي لم تفارق روح��ه‪ .‬سالم يتشبث‬ ‫عليها أبناء الطرق‪ ..‬يأكلون ومن ثم يختفون‪.‬‬ ‫بالمعول بشدة وكأنه يخشى السقوط‪ .‬يضرب‬ ‫كان صوت المذياع يأتي منخفضاً يقرأ القرآن‬ ‫الحجارة بوحشية كبيرة‪ ،‬وكأنه ينتقم من كل‬ ‫ب��ص��وت عبدالباسط عبدالصمد‪ ،‬ورائ��ح��ة‬ ‫ش��يء‪ ..‬من غربته‪ ،‬قسوة البرد‪ ،‬شوقه ألمه‬ ‫فالفل طازجة ألهبت معدته الجائعة‪ .‬ينحني‬ ‫الذي جعل منه مخلوقاً ضعيفاَ‪ ،‬الحرب التي‬ ‫بقسوة ليطوي بطنه‪ ،‬بينما كان الفراغ يبتلع‬ ‫أطفأت بصر وال��ده‪ ،‬ومن ذلك الرجل الذي‬ ‫الكشك حتى بدا كنقطة سوداء‪.‬‬ ‫أهانه‪ .‬كان حزنه وألمه يرافقانه دائما‪ ..‬بين‬ ‫بعد أكثر من سبع ساعات من السير المؤلم الصخور‪ ،‬وأثناء األكل‪ ،‬وعند النوم أيضا‪ .‬هذا‬ ‫عبر طريق صحراوي بائس‪ ،‬تقف العربة أمام األلم الذي تحوّل مع األيام لكتلة جامدة تسكن‬ ‫جبل كبير‪ ،‬وم��ع��دات متناثرة حوله‪ ،‬وأن��اس قلبه‪.‬‬ ‫بمالمح ق��اس��ي��ة‪ ،‬كأنهم تماثيل تشبه تلك‬ ‫بعد شهور أصبحت مالمح سالم أكثر حدة‪،‬‬ ‫الصخور التي يعكفون على تكسيرها بشراهة‪.‬‬ ‫وضرباته أقوى‪ ..‬وكأنه يقطع بمعوله رغيف‬ ‫ما إن توقفوا حتى بدأ رجل أسمر البشرة خبز يابس‪ .‬لم يعد يفكر بغير العمل لمدة‬ ‫بالصراخ‪ :‬أَنزلوهم سريعاً‪ ،‬ليبدأوا العمل‪ ..‬أط��ول‪ ،‬وجمع م��ال أكثر‪ ،‬ليبتعد بعدها عن‬ ‫يجب أن تصل الحجارة قبل الغروب‪ ،‬ال مكان هذا المكان الذي حوّله لشبح أسود‪ .‬الرجل‬ ‫للكسالى هنا‪ ،‬إما العمل‪ ..‬وإم��ا أن تذهبوا األسمر يقف قريباً منه‪ ،‬ال ليركله هذه المرة‪،‬‬ ‫لتموتوا في هذه الصحراء‪.‬‬ ‫ولكن ليربت على كتفه‪ :‬أحسنت يا سالم‪..‬‬ ‫يسقط ج��س��د س��ال��م م��ن ال��ع��رب��ة ك��ورق��ة عملك يتحسن‪ ،‬سأزيد أجرك قريباً‪ ..‬استمر‪.‬‬ ‫سالم لم يبتسم‪ ،‬حاول‪ ،‬ولكنه لم يستطع‪.‬‬ ‫يرفع يده الخشنة ليتأكد من وجهه الذي بلله‬ ‫بالماء يوم نهض مسرعاً ذات صباح‪ .‬ولكنه لم‬ ‫يجده‪ ،‬تحول وجهه لجماد‪ ،‬لقطعة صخر من‬ ‫المحجر‪.‬‬

‫* قاص من السعودية و(النص من مجموعة ‪ /‬رقصة الغجر)‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪45 )2015‬‬


‫نصوص قصيرة‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫نائمة في األسنان‬ ‫قضمة‬ ‫‪ρρ‬عبداهلل السفر*‬

‫�ض اللغ َم المخبوء‬ ‫تحيّة تخالها وعداً‪ ،‬لكنّها ليست لك‪ .‬أورَى لها الزند وع� َّ‬

‫تذهب إلى نافذةٍ بعيدة ٍ‬ ‫ويد صغيرة تكبر منذ المنديل؟‬ ‫في التلويح‪ .‬ال أحد يأتي‪ .‬ال أحد يمر‪.‬‬

‫الظ ُّل المخبوط في كوب الشاي شعش َع‬

‫مرآتك؛ فانتهبتْكَ اللسعة‪.‬‬

‫***‬ ‫منذ متى وقُبلتك‪ ،‬تلك‪ ،‬معلّقة في‬

‫السماء؟ لماذا هي هناك؟‬

‫عذابي الصغير القديم وزفيري الذي‬

‫ينساهُ الليل‪.‬‬

‫***‬ ‫قضم ٌة منسيّة عند «بوفيه األمانة»‬

‫منذ الروائحِ األولى والبللِ الذي ال يبلى‬

‫‪46‬‬

‫القضم ُة النائمة ف��ي األس��ن��ان مَن‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫***‬ ‫االلتفاتُ ع��زاء‪ .‬يدّخ ُر في العينين‬

‫بخا َر نظرةٍ أخيرة‪.‬‬

‫***‬ ‫لماذا ه��ذه النظرة تم ّر ُغ األف � َق وال‬

‫تذعن؟‬

‫***‬ ‫ال��ذي ال يعبر يتخ ّم ُر ف��ي النظرة‪.‬‬

‫تتك ّف ُل به جرا ُر العين‪.‬‬

‫***‬ ‫كتاب الفجر‪،‬‬ ‫«صغيرون» لم يخرج من ِ‬


‫بقدم‬ ‫ٍ‬ ‫�ض ف��ي ح��ب��ري‬ ‫«ص��غ��ي��رون» وت��رك� ُ‬ ‫جائعة‪.‬‬

‫***‬ ‫الي ُد في الدم‪ .‬الفريسة سكنتْ إال‪.‬‬

‫«صغيرون»‪...‬‬ ‫‪ ...‬وأضعتُ الخيط‪.‬‬

‫***‬ ‫زُرق ٌة واهنة‪ ،‬ويوسُ ف يعبثُ بالقميص‪.‬‬

‫تقريب مرآةٍ تلتم ُع فيها النهاية‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ف ّك َر في‬ ‫الشهوةُ بزغت ك��أوض��ح م��ا ت��ك��ون‪ .‬رفرفت‬ ‫ال��رائ��ح� ُة ف��ي ه���واءٍ قليل ث � ّم ه��م��دت‪ .‬عي ٌن‬ ‫جاحظة سمّرتْها المرآة‪.‬‬

‫***‬ ‫عي ٌن ذاهلة في رمادِ نظرتِها‪ .‬قاربٌ منسيٌّ‬ ‫يغوص في طينِ الجَ زْر‪ ..‬ليس هناك أحد‪.‬‬ ‫ُ‬

‫***‬ ‫يعكف معه على تجميعِ أعوادِ‬ ‫ُ‬ ‫«البخنق»‬

‫ق� � � � � � �ص � � � � � ��ص ق� � � � �ص� � � � �ي � � � ��رة‬

‫وما فاهت باسمِ هِ األغنية‪.‬‬

‫الساحرةُ تتوارى وفي العين أحال ٌم لم تُروَ‪.‬‬

‫***‬ ‫كِ سرةُ الضوءِ تمضي‪ .‬ي � ُدهُ مطو ّي ٌة على‬ ‫��رف ال��س��ي��اج‪ .‬يمكثُ ه��ن��اك‪ ،‬ر ّب��م��ا يم ُّر‬ ‫ح� ِ‬ ‫الحصادون فترشدُهم حارس ُة الليلِ إلى ٍيد‬ ‫ّ‬ ‫نضجت‪ ،‬وقريباً يمحوها السياج إ ْن لم يبادر‬

‫رؤوسها في عينِ قطعةِ الحجر المنجل‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الثقاب وفر ِْك‬ ‫الصغيرة‪ .‬يض ُع المسما َر ويقرّب قطع َة أكبر‪.‬‬

‫طلم تسع ْف ُه اللياق ُة الريفيّة‪ .‬اختطفت‬

‫ُ‬ ‫ينزالنِ على الكبريت‪.‬‬ ‫تطيش نا ٌر ورائحة‪ .‬ال��ص��ورةُ فمَه‪ .‬العدس ُة الخائنة ثبّتتْ ُه في‬ ‫ونضبتْ ُه من الحركة‪ .‬يغم ُرهُ الظل‬ ‫م����ذّاك و«ال��ب��خ��ن��ق» ح��م��ام�تُ� ُه ال��ت��ي في مشتهاها ّ‬ ‫قدميه‪.‬القميص م��ق��دو ٌد‬ ‫ُ‬ ‫رأس���هِ ح� ّت��ى‬ ‫م��ن ِ‬

‫الدُّخان‪.‬‬

‫***‬

‫والعين لم تستر ّد نظرتَها‪.‬‬

‫***‬

‫لم تكن في مثل هذه الوداعةِ قط‪ .‬ته ّز‬ ‫المنديل كمن تحتّ غباراً قديماً‪ .‬نظرتي‬ ‫العالق ُة بين الخيوط تنزل ُق طافيةً‪.‬‬

‫***‬ ‫* قاص من السعودية‪.‬‬

‫ي��ف��رك الكلمة بين ي��دي��ه حتى يصطبغ‬ ‫السرب‬ ‫ِ‬ ‫بفوحها‪ .‬الظالل حولَ ُه تتفشّ ى‪ ،‬وفي‬ ‫ِ‬ ‫حمام ٌة تائهة‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪47 )2015‬‬


‫البداية األخيرة‬ ‫‪ρρ‬نادية أحمد محمد*‬

‫فى عينيه رأيت غيم ًا كثيفاً‪ ،‬انتبهت لرياح غضب تجتاح محيّاه‪ ،‬حدّ ق في وجهي‬ ‫متسائ ًال كيف‪ ..‬وابتلع بقية الحروف‪ ،‬صمت قليال ً‪ ،‬وسأل‪ :‬لماذا؟ وعاود الصمت‬ ‫ثانية محاو ًال السيطرة على نيران الرفض المتأججة فى صدره وهو يقول‪ :‬ال‪.‬‬ ‫الحجرة تتسع ساحتها لكلماته‪ ،‬تمتص جدرانها ال�ح��روف‪ ،‬تتشربها وتعيدُ‬ ‫بوقع أكبر‪ ،‬ورنين أعلى وأعمق يهز قلبي هزاً‪.‬‬ ‫دفعها ٍ‬ ‫أدي�����ر وج���ه���ي ع���ن���ه‪ ،‬اب��ت��ع��د إل��ى‬

‫اقترب من أحدهما‪ ،‬مقعدي األثير‪،‬‬

‫رك��ن ن� ٍ�اء بجوار الشرفة‪ ،‬اتطلع إلى أجلس راجية أن يقترب ويشغل مكانه‬ ‫المعتاد‪ ،‬يظل مقعده شاغراً‪ ،‬أشعر‬ ‫مقعدين وس��ط العتمة يطالن على‬ ‫بمزيد م��ن العتمة يجتاح ص��دري‪،‬‬ ‫أن��وار الطريق‪ .‬المقعدان فى فراغ‬ ‫أَنْ�دَفِ � ُع عائد ًة ألمأل بعضا من فراغ‬ ‫الشرفة يشكوان فراغاً ودوائر صمت‬ ‫الحجرة من جديد‪ ،‬إلى حيث مقعدينا‬ ‫ال تغيب‪ ،‬بينهما تمتد مساحة تسكنها أم���ام ال��ت��ل��ف��از‪ ،‬ال��م��ق��ع��دان ش��اغ��ران‬

‫‪48‬‬

‫برودة المساء‪،‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫أيضا‪ ،‬والتلفاز شاشته يمألها فيلم‬


‫أم��ا محمود فدائم النسيان‪ ،‬عليّ أن‬

‫أ ُح���دّ ق باسطة نسيم عيني إل��ى غيم أسجل فى هاتفه مرات أنني اتصلت ولم‬ ‫عينيه‪ ،‬ال بدّ من النقاش والمحاورة‪ ،‬أن يرد‪ ،‬لكي يتذكر ويتصل‪ ،‬ويقسم إنه لم ير‬ ‫نجلس معاً‪ ،‬نعاود التواصل ليذوب هذا هاتفه ‪ -‬فى كل مرة ‪ -‬إال اآلن‪ ،‬ويطالبني‬ ‫الغمام‪ ،‬لكن ليس اآلن‪ ..‬وهو على هذه‬ ‫بالكف عن القلق ال��ذي ال يجدي‪ ،‬أشكو‬ ‫ِّ‬ ‫الحالة‪ ،‬لو تركته قليالً‪ ،‬ستهدأ النيران له من برودة البيت ومرارة الصمت‪ ،‬ومن‬ ‫وي��ت��ح �وّل ال��غ��ي��م ل��س��ح��اب��ات ُو ٍّد تسمح أبيه ال��ذي يخرج باكراً وال يعود إال بعد‬ ‫بالحوار‪ ،‬عندها أعرف كيف أقنعه‪ ،‬اتسلل ذه��اب شمس النهار‪ ،‬وأن مقعدانا في‬ ‫إل��ى عقله‪ ،‬أح��اوره بالمنطق كما تعوّدنا الشرفة ‪-‬أو أمام التلفاز‪ -‬لم يعودا كما‬ ‫منذ سنين‪ ،‬هو يرفض دوماً االقتراحات كانا يجمعانا لنطل سوياً على الكون‪ ،‬وأن‬ ‫المفاجئة‪ ،‬وق��د ينثر حوله كلمات ذات أبيه يخرج كل صباح وهو يقسم أنه سيعود‬ ‫وقع ثقيل‪ ،‬وربما غادر المكان زاف��راً من بأسرع ما يستطيع‪ ،‬وتمر الدقائق والثواني‬ ‫رئتيه أكواماً من الضيق والغضب‪ ،‬لكنه واللحظات وه��و بعيد‪ ،‬يتركني ألحاديث‬ ‫عادة في نهاية األمر‪-‬بالمجادلة واإلقناع‪ -‬الصور والغرف الخالية‪ ،‬وعجلة الذكريات‬ ‫يستجيب‪.‬‬ ‫التي ال تهدأ‪ ،‬إلى أن كان اليوم‪ ..‬ووجدت‬

‫ق� � � � � � �ص � � � � � ��ص ق� � � � �ص� � � � �ي � � � ��رة‬

‫رومانسي قديم لم يعد مناسباً للعرض‬ ‫اآلن‪.‬‬

‫‪ -‬متى تعودون؟‬

‫ال مدرّسة بنات في مدرسة قريبة من‬ ‫يدق الهاتف النقال على المائدة بعد عم ً‬ ‫ص��م��ت ط���ال‪ ،‬أه����رول ن��ح��وه راج��ي��ة أن البيت‪ ،‬شرحت لزوجي األم��ر‪ ،‬رأي��ت فى‬ ‫يكون المتصل منال أو محمود‪ ،‬وحشني عينيه غيماً كثيفاً وهو يقول ال‪..‬‬ ‫صوتهما كثيراً‪ ،‬طالبتهما مراراً أن يكون‬ ‫بهدوء‪ ..‬رأيتني أحدق فى عينيه باسطة‬ ‫االتصال كل يوم مرتين‪ ،‬مرة في الصباح ك��ف ال���ود‪ ،‬راج��ي��ة منه ال��ح��وار ب���دالً من‬ ‫حين تصافح أعينهما النهار‪ ،‬ومرة قبل أن الصد‪ ،‬قال إنه يخشى البقاء وحيداً فى‬ ‫يسلما نفسيهما للنوم‪ ،‬دون جدوى‪.‬‬ ‫غيابى محاصراً بصمت وبرودة ولحظات‬ ‫منال تفعلها م��رة أو مرتين‪ ..‬وتعاود مغسولة بالفقد‪ ،‬بدأت الكالم واثقة أنه‬ ‫النسيان‪ ،‬تقول إن أوالده���ا ال يعطونها يرفض دوماً االقتراحات المفاجئة‪ ،‬لكنه‬ ‫ف��رص��ة ل��ش��يء‪ ،‬أه��م��س ب��أح��رف باكية عادة في نهاية األمر ‪-‬بالمجادلة واإلقناع‪-‬‬ ‫يستجيب!!‬ ‫الرنين‪:‬‬ ‫* قاصة من مصر‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪49 )2015‬‬


‫«ضاعت منّ ي»‬ ‫‪ρρ‬محمد مباركي*‬

‫وكزني صديقي قائال‪:‬‬ ‫ستنظمه جمعيتنا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫السرد الذي‬ ‫ تجهّ ز ليوم ّ‬‫رددت عليه‪:‬‬ ‫ أدع لنا ربّك بالتّوفيق‪.‬‬‫واستمتعت بها‪ ،‬لكنّها‬ ‫ُ‬ ‫قصة قصيرة جميلة بعنوان أجمل‪ .‬قرأتها مرّات عدّ ة‬ ‫وكتبت ّ‬ ‫ُ‬ ‫فت كثيرا على‬ ‫وتأس ُ‬ ‫ضاعت منّي‪ ..‬ابتلعها الحاسوب‪ .‬وعجزتُ عن استردادها منه‪ّ .‬‬ ‫ضياعها‪..‬‬ ‫المنصة دون‬ ‫ّ‬ ‫وليس معناه هذا أيّها الفضالء أيّتها الفضليات أنّي سأنزل من هذه‬ ‫أن أقرأ على مسامعكم ما فكّ رت فيه قبل مجيئي إلى هنا‪.‬‬ ‫أنتم تعلمون أ ّن آخر أعمالي السّ ردية أقول الحقيقة‪ ،‬وال داعي ألن أقسم لكم‬ ‫الطّ ويلة‪ ،‬كانت رواية؟ لكنّ الذي ال تعلمونه على م��ا أق���ول‪ ،‬أل ّن الحقيقة ال يُقسم‬ ‫هو كوني قد بعتُ منها مليو َن نسخة في عليها‪ .‬هكذا تعلّمتُ ‪..‬‬ ‫األس��ب��وع األوّل م��ن ص��دوره��ا‪ .‬ونفدت‬ ‫تناقلت ك ّل وسائل اإلعالم المسموعة‬ ‫طبعتها األولى في األسبوع الثّاني‪..‬‬ ‫وال��م��رئ��ي��ة خ��ب��ر ص����دور رواي���ت���ي‪ ..‬لم‬ ‫أرأي��ت��م؟ إ ّن��ك��م تضحكون م � ّن��ي‪ ..‬أنا تتوقّف رنّات هاتفي النّقال‪ ..‬اتّصلت بي‬ ‫أسمع ب��ـ «ال��م��خ��اط��رة» م��ا تقولونه في‬ ‫الصحافة المكتوبة‪ ،‬واإلذاع��ات الوطنية‬ ‫ّ‬ ‫دواخلكم اآلن‪ ..‬الذي كان منكم رحيما والدّولية لمحاورتي‪ .‬وتهافتت عليّ دور‬ ‫بي قال‪« :‬إنّه يتباهى»‪.‬‬ ‫النّشر إلع��ادة طبع رواي��ت��ي‪ ،‬ورشّ حوني‬ ‫والذي كان منكم قاسيا عليّ قال‪« :‬إنّه لنيل جائزة «نوبل» لآلداب‪.‬‬ ‫يفتري»‪.‬‬ ‫أنا أقول الحقيقة‪ ،‬وال أريد أن أقسم‬

‫‪50‬‬

‫ال‪ ،‬أيّها األع��زاء أيّتها العزيزات أنا لكم‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫ألقى المندوبون ورؤساء الجمعيات ورئيس‬ ‫المجلس البلدي كلمات التّهاني والتّبريك‪،‬‬ ‫وأمطرني الجميع بالجوائز والهدايا القيّمة‬ ‫التي ل��م أك��ن أنتظرها ب��ص��راح��ة‪ ..‬أهداني‬ ‫رئيس المجلس البلدي دارا فخمة على شاطئ‬ ‫نطقت الفتاة باسمها الجميل جمال وجهها‪.‬‬ ‫البحر‪ ،‬وأه��دان��ي مندوبو ال����وزارات سيارة‬ ‫فارهة‪ ،‬اشتركوا في شرائها‪ .‬وأهدتني إحدى وقّعتُ لها نسختها بهذه الكلمات‪:‬‬ ‫وكاالت السّ ياحة تذكرة سفر إلى اسطنبول‪..‬‬ ‫«إل��ى الجميلة التي تحمل اسما جميال‪.‬‬ ‫ّعك بفصول روايتي كما متّعتني‬ ‫وفي نهاية ذلك الحفل البهيج‪ ،‬مررت إلى أتمنّى أن أمت ِ‬ ‫توقيع روايتي والدّنيا ال تسعني من الفرح‪ .‬بجمالك»‪.‬‬ ‫ب��دأتُ التّوقيع مع السّ اعة السّ ادسة مسا ًء‬ ‫والقصاصين والشّ عراء‬ ‫ّ‬ ‫على الرّوائيين‬ ‫وأنهيته مع السّ اعة الثّانية صباحا‪.‬‬ ‫والزّجّ الين والمسرحيين وك ّل الكتّاب أن يوقّعوا‬ ‫أغلبكم لم يصدّق كالمي‪ .‬إنّي أقرأ ذلك إصداراتهم بمثل هذه الكلمات الجميالت‪.‬‬ ‫في أعينكم‪.‬‬ ‫ووقّعتُ باألحرف األولى السمي الثّالثي‪،‬‬ ‫ال‪ ،‬أ ّي��ه��ا األع���زاء أيّتها ال��ع��زي��زات أن��ا ال لكنّ الفتاة الجميلة احتجّ ت عليّ في غنج‬ ‫أك��ذب‪ .‬صدّقوني حين أق��ول لكم إ ّن الذين قائلة‪:‬‬ ‫اقتنوا روايتي وقفوا في طابور وصل طوله‬ ‫ لن آخذ منك نسخة الرّواية إ ّال إذا كتبتَ‬‫إل��ى كيلومتر‪ .‬ل��م أق��ل لكم ق��د وص��ل طوله‬ ‫إلى كيلومتر ونصف‪ .‬أنقصتُ نصف كيلومتر اسمك كامال‪.‬‬ ‫متعمّدا‪..‬‬ ‫رددتُ عليها قائال‪:‬‬ ‫الحضور الكريم‪ ،‬أنا أحبّ الجميالت‪ .‬وحبّي‬ ‫للجميالت المستيقظات أكثر بكثير من حبّي‬ ‫«للجميالت النّائمات»‪ .‬أنا لستُ «إيغوشي»‬ ‫اللّعين‪ .‬أنا أكره هذا العجوز‪.‬‬

‫كانت في أوّل الطّ ابور فتاة رائعة الجمال‪.‬‬ ‫غار منها ك ّل مَن كان خلفها لكونها ستحصل‬ ‫على أوّل نسخة أوقّعها‪ .‬انحنت عليّ حتّى‬ ‫شممتُ رائحة عطرها الباريسي‪ .‬أوه أيّها‬

‫ق� � � � � � �ص � � � � � ��ص ق� � � � �ص� � � � �ي � � � ��رة‬

‫ت��ع��اون��ت ف��ي ال��ج��ه��ة ال��ت��ي أن��ت��م��ي إليها‬ ‫مجموعة من الجمعيات الثّقافية والمندوبيات‬ ‫ودار البلدية وكلية اآلداب‪ .‬ونسّ قت فيما بينها‪،‬‬ ‫وأقامت لي حفال باذخا‪ .‬كنتُ مسرورا وفرحا‬ ‫وج���ذالنَ‪ ،‬حتّى خنقتني ال� َع�بَ�رَاتُ وأن��ا ألقي‬ ‫كلمتي بتلك المناسبة السّ عيدة‪.‬‬

‫ حاضر يا آنستي‪.‬‬‫وكتبتُ اسمي كامال‪:‬‬ ‫«غابرييل غارسيا ماركيز»‪.‬‬

‫* قاص من المغرب‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪51 )2015‬‬


‫المطر العاصي‬ ‫‪ρρ‬عقل الضميري*‬

‫يا مطرً ا يهطل فوق الماء!‬ ‫يا مطرً ا يهطل مكروهً ا عند الغرب كل مساء!‬ ‫يا مطرً ا يهطل فوق الشرق في كل بهاء!‬ ‫يا مطرً ا‪..‬‬ ‫هل تعلم أن غيابك أبقانا دوما صحراء؟!‬ ‫ ‬ ‫يا مطرً ا‪..‬‬ ‫هل تسمع أو تبصر لهفتنا بين األحياء؟!‬ ‫****‬ ‫يا مطرً ا ال يأتي‪!..‬‬ ‫يا مطرً ا غائب‪!..‬‬ ‫يا مطرً ا يغرق في البحر!‬ ‫في قلبي شوق‪..‬‬ ‫ ‬ ‫وفي أرضي نخلٌ وطيور‪!..‬‬ ‫في عمري حلم‪...‬‬ ‫ ‬ ‫وفي زرعي أمل بسنابل‪!..‬‬ ‫واعتذر البئر‪..‬‬ ‫واعتذر الساقي‪..‬‬ ‫عطش يعقبه عطش‪!...‬‬ ‫ ‬ ‫األرض تكشف عورتها‪!...‬‬ ‫يا أرض‪..‬‬ ‫أين الستر‪..‬؟!‬ ‫ ‬ ‫أين الورقة‪..‬؟!‬ ‫أين التين‪..‬؟!‬ ‫تبكي األرض بال دمع ‪..‬‬ ‫فيها حرقة‪..‬‬ ‫ ‬ ‫كي ال تترك عذرا للغيمة‪!!..‬‬ ‫***‬

‫‪52‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫ش� � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � �ع � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��ر‬

‫وتمر الغيمة مسرعةً إن جاءت‪..‬‬ ‫كي ال تسمع‬ ‫صوت النخل‬ ‫ ‬ ‫ودعاء الراعي‪..‬‬ ‫ ‬ ‫وتدور األيام ببطء حتى ينغرس اليأس في كل الطرقات‪..‬‬ ‫فيقوم المفتي‬ ‫والشاعر‬ ‫ ‬ ‫واألطفال‬ ‫وزرّاع القمح‪..‬‬ ‫ويصلي الناس‬ ‫قيام ًا ‪ ..‬وقعوداً‪ ..‬وسجوداً‪..‬‬ ‫والمطر العاصي‪ ..‬يا قاسي‪..‬‬ ‫هل أكشف رأسي‪..‬؟!‬ ‫هل أقسم؟‬ ‫كي تعلم أن النخل والزرع يقاسي‪..‬‬ ‫وأنَّ الرعد المرعب والبرق الخاطف يطربنا ‪..‬‬ ‫كي تعلم‪..‬‬ ‫كي تأتي‪..‬‬ ‫كي تسرع‪!!..‬‬ ‫***‬

‫آه‪..‬‬ ‫ال خب َر في نشرة أحوال الطقس!‬ ‫وال التقويم يواسي‪..‬‬

‫***‬

‫وسنبقى نؤمن أنَّ اهلل له األمر‬ ‫هنا وهناك‪..‬‬ ‫من قبل‪..‬‬ ‫ومن بعد‪..‬‬ ‫له األمر‪.‬‬ ‫* كاتب من السعودية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪53 )2015‬‬


‫َ‬ ‫راح؟‬ ‫الج َ‬ ‫وكيف َأ ُل ُّم ِ‬ ‫‪ρρ‬حنان بيروتي*‬

‫القابع في عراءِ الدفء‬ ‫ِ‬ ‫ِخلسةً تتسللُ إلى قلبه‬ ‫أمنيات أخيرةٍ‬ ‫ٍ‬ ‫باقات‬‫ِ‬ ‫مهل‬ ‫وتجمعُ ‪ -‬على ٍ‬ ‫وحين يتضوعُ حضورُها بين أضل ُِع الحنين‬ ‫توصدُ خلفها بابَ الغياب‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫***‬

‫‪54‬‬

‫ربما كان «تشرين» امرأة ًعاشق ًة تحترفُ الحروفُ ‪ ،‬وتناثرتْ عالماتُ االعراب مثل‬ ‫البكاء‪،‬‬ ‫سرب مذعور‪..‬‬ ‫ٍ‬ ‫ال عاشقاً يتق ُن الكذب!‬ ‫و«نيسان» رج ً‬ ‫***‬ ‫وأنت توص ُد بقلبك بابَ الحنين حاذ ْر على‬ ‫***‬ ‫أصابعِ الذكريات‪..‬‬ ‫فنجا ُن القهو ِة ينتظ ُر‬ ‫وأنام ُل قلبي تس ّر ُح شَ ع َر الوقت‬ ‫***‬ ‫لو تدري‪...‬‬ ‫أب��ح��ث ب��ي��ن س��ن��اب��ل ال��ص��ب��اح ع��ن قمر‬ ‫الدهشة‪ ،‬وأعلق على جداره لوحة فرح ال‬ ‫***‬ ‫تكتمل بلون عينيك!‬ ‫بغيابك‬ ‫تذبل اﻷزاهير على شرفة الروح‬ ‫***‬ ‫تنوس الدهشة‬ ‫الحلم الذي يبس على دالية الروح‬ ‫تسكن الفوضى مساحة القلب‪،‬‬ ‫أورق حين رآك‪..‬‬ ‫يغيبُ الفرح‬ ‫***‬ ‫وتخلع اﻷماكن ألقها‪،‬‬ ‫حين أكونك‪..‬‬ ‫تعشش عناكبُ الوحد ِة في زوايا الوقت‪ ..‬أبعث ُر نظ َم األماني‪،‬‬ ‫بغيابكَ تغيبُ الحياة‪..‬‬ ‫أعي ُد صو َغ الحروف‪،‬‬ ‫مث َل شجرةٍ في براري الروح أور ُق مزهو ًة‬ ‫***‬ ‫وحين أغيبُ يعاتبني مثل طفل وحيد‪ ..‬بعمري‪،‬‬ ‫لكنه البوح كما الربيع‬ ‫قلبي‪.‬‬ ‫يقتله انتظا ُر المطر‪..‬‬ ‫***‬ ‫***‬ ‫فاصطكت‬ ‫ِ‬ ‫كأ َّن اللغة بغيابك لسعها البرد‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫***‬

‫قال لها‪ :‬وجهك حبيبتي يشبه يقظة المطر من‬ ‫صحوته‬ ‫رج ُع الصدى ال يكذب‪..‬‬ ‫بكما يتبلل قلبي!‬ ‫صرختْ ذات جرح‪ :‬نسيتُكَ ‪..‬‬ ‫***‬ ‫ردّد الصدى‪ ..:‬نسيتُ ‪!..‬‬ ‫لستُ أنا‪..‬‬ ‫***‬ ‫َ‬ ‫ابحث عن امرأةٍ أخرى تقبل أن‬ ‫تغمس حضورَها ك��ي ال تنسى ك��م يبكيها‪ ،‬ف��ك��رتْ أن تسمّي‬ ‫ُ‬ ‫بظالل أخرى‪ ..‬وتمد حبا َل حنانكَ ‪..‬‬ ‫وتركض الدمعات‪..‬‬ ‫لعينيها بنبضك‪..‬‬ ‫لكنها األسماء تتوه في مسارب القلب لحظة‬ ‫لست أنا‪..‬‬ ‫تراه!‬ ‫ابحثْ عن امرأةٍ ترتضي أن تكونها معها‬ ‫***‬ ‫وأن أموت بك مرتين!‬ ‫* الزهرةُ التي قطفتَها كي تهدينيها‪ ..‬ذاتَ ربيع‬ ‫***‬ ‫بكتْ في يدي قسوتك‪ ،‬قبل أنْ‪ ..‬نذبل معاً!‬ ‫أنا ﻻ أشبهني حين تغيب‪ ..‬ﻻ أجدني معك‪،‬‬ ‫***‬ ‫أيني إذاً؟‬ ‫القلب قصيرة لك ّن جراحَ ه طويل ُة األمد‪.‬‬ ‫* ذاكرةُ ِ‬ ‫***‬

‫***‬

‫ش� � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � �ع � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��ر‬

‫وحدةُ قياس المسافة‪ ..‬درج ُة الحنين‪.‬‬

‫وهي تصعد درج القلب تعثرت بطيف المرأة‬ ‫اﻷخرى فأسرعت‪ ..‬بالصعود‪..‬‬

‫***‬

‫غيابك يحضرني‪ ..‬وحضورك يغيبني!‬ ‫* بين شيخوخةِ الدالية وايناعها‪ ..‬قطرةُ مطر‬ ‫***‬ ‫القلب وإيراقه‪ ..‬كلم ُة حب!‬ ‫جفاف ِ‬ ‫ِ‬ ‫الحب الحقيقي أن تزر َع بأصابع مجرحة وروح وبين‬ ‫* أحتا ُج في اليومِ عمراً‬ ‫تنزف قلبَك بهيئة وردة‪ ..‬في روح اﻵخر‪...‬‬ ‫كي أعتذ َر عن انشغالي عنكَ ‪ ..‬بك!‬ ‫***‬ ‫الحوار بين المخرز والعين‪ ..‬ممكن!‬ ‫الحوار بين قلبي ونسيانك‪ ..‬مستحيل!‬

‫***‬

‫أتنفس عمري بعدك؟‬ ‫ُ‬ ‫كيف‬ ‫وأرمم قلبي المنكسر‬ ‫***‬ ‫ال���وداع ليس أصعب كلمة‪ ،‬مكابدة اﻵت��ي هو وك��ي��ف أل��� ُّم ال��ج��راح بخيط ال��س��ك��وت وبعض‬ ‫األنين؟‬ ‫الوجع اﻷصعب من كل الكلمات‪..‬‬ ‫***‬

‫***‬

‫هي تحصي خسارات القلب‪ ،‬تذكرت كم تكبدت * أخ��افُ غيابَك‪ ..‬لكن ذاك الحنين المؤجل‬ ‫للحضور‪ ..‬أخافه أكثر!‬ ‫من عذابه العذب‪ ،‬فأعادت الحساب‪..‬‬ ‫* كاتبة وشاعرة من األردن‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪55 )2015‬‬


‫اإلنسان يعلن عن ذاته‬ ‫‪ρρ‬سليمان العتيق*‬

‫بأنك عالـ َمٌ‬ ‫َ‬ ‫شجني بتذكاري وأشعاري‪..‬‬

‫الشمس ِ‬ ‫ِ‬ ‫الريح‪ ،‬مثلَ‬ ‫ِ‬ ‫مثلَ‬

‫يا أيها اإلنسانُ ‪ ..‬تـُز ِْهرُ في حدائـِقهِ‬

‫مثل النخلةِ الهدباءِ ‪ ..‬واقفة ً‬

‫ُباك في باحة ِ الذكرى‪ ..‬لبـُستان ٍ هـُنا‪،‬‬ ‫أنشود ُة اآلمال ِ واألجيال‪ ،‬تـَنـْبـ ُ​ُت في ر ْ‬ ‫وعواصف األحقادِ واألضدادِ‬ ‫ُ‬

‫نضبـ َْت‬ ‫أسقا ُه جدي من دالءٍ ‪ ،‬بئرُ ها ُ‬

‫واآلالم ِ واألسقامِ ‪..‬‬

‫خريف‪..‬‬ ‫ٍ‬ ‫ذاتَ‬

‫رؤاك‬ ‫ُجهش في ْ‬ ‫تـ ُ‬

‫ثم أسقانا حنيناً‪ ،‬من تعشقهِ ‪.‬‬ ‫***‬

‫هي خفقة ُالطين ِ التي ن ُِـفخَ ْت بروح اهللِ ‪..‬‬ ‫ثم تأرجَ حَ ْت‬

‫شجني بتذكاري وأشعاري‬

‫ِ‬ ‫بين السماء وبين طين‬ ‫الكائنات تب َرجـ َْت‬ ‫ِ‬ ‫األرض‪ ..‬في أدنى بأن‬ ‫تـَخـَلـ ُِقهِ‬

‫تحدثت عن ذاتِ ها‬ ‫ْ‬ ‫كلُ الذوات‬ ‫***‬

‫‪56‬‬

‫قد أعلنت عن سرِ ها‬

‫كائن‬ ‫بأنك ٌ‬ ‫َ‬ ‫شجني‪ :‬بتذكاري وأشعاري‪..‬‬

‫روحها‬ ‫عن ِ‬

‫يا أيُ ها اإلنسانُ ‪ ،‬مثلَ الماءِ‬

‫الكون‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫يصب في عرصات هذا‬ ‫ُ‬ ‫عما‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫ومن تالفيف الجمال ِ‬

‫ورا َح يستجدي النجو َم‬

‫يفيض من سبحات ِ رونقهِ‬ ‫ُ‬

‫وجد‪ ،‬ويمنحـُنا‪..‬‬ ‫يبثنا وجد ًا على ٍ‬

‫الماءُ يحفر دربـ َه‬

‫رجوى ونجوى‪ ..‬في ترفّ قه‬ ‫***‬

‫متدفق ًا مترفق ًا‬ ‫ينساب أنهار ًا وأودية ً‬ ‫ُ‬

‫أس � �م ��ي س � �ل � �ي � �م ��انُ ‪ ..‬وه � � ��ذي ال � ��ري � ��حُ م��ا‬

‫وحين يمرُ يعلن ُعن تدفقهِ‬

‫امتثلت‪ ..‬أمري‬ ‫ْ‬

‫الممسوس ُ‬ ‫ُ‬ ‫والريحُ هذا الكائنُ‬

‫وهذا الهدهدُ المفقودُ ‪..‬‬

‫هفهفت‪ ..‬أو ولولـ َْت‬ ‫ْ‬ ‫لمّ ا‬

‫قد هج َر الخمائلْ‬

‫عصفت بأردان ٍ ‪..‬‬ ‫ْ‬

‫أنا لم أقل عند العشية ِ ‪،‬‬

‫على نخل ٍ ‪ ،‬على شجر‪،‬‬

‫عند حومات الجهادِ ‪:‬‬

‫لتلهـُو في تعانقه ِ‬

‫الصافنات لكي أقاتلْ‬ ‫ِ‬ ‫بأن تردوا‬

‫والشمس يا إشراقة َالدنيا‪ ،‬ويا أ َم البهاءِ‬ ‫ُ‬ ‫تمرُّ باألحياءِ ‪ ،‬واألشياءِ ‪ ،‬تغزلُ يومَ ها‪..‬‬ ‫قالت‪ :‬بأني لم أزلْ‬ ‫ْ‬

‫ش� � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � �ع � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��ر‬

‫من روح الكمال ِ ‪..‬‬

‫وسجى على كل التخوم ِ‬

‫إني ألني يا ديا َر مراتعي‬ ‫ويا شمسي‪ ،‬ويا نخلي‬ ‫ويا منحنيات أيامي‪..‬‬

‫أجلو جمالَ الكائنات ِ ‪ ..‬وأشتري لفتاتكم وهذا الظلُ زائلْ‬ ‫أرش لقابل األيام أشعاري‬ ‫سوف ُ‬ ‫وأذوب في خطراتـِكم‬ ‫ُ‬

‫الفسيح‪ ،‬وعند مشرقهِ ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫في مغرب ِ الكون‬ ‫والبد ُر يسري في السهوب كظبيةٍ‬ ‫شفها‪..‬‬ ‫تـ َرعى مرات َع ِخ ِ‬ ‫فوق الرياض الخضرِ ‪..‬‬ ‫وفي التالل العُ ـفـ ْرِ‬

‫وأكتب في تفاصيلي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وأحبّر األشواقَ ‪..‬‬

‫لإلنسان‪ ،‬لإليمان‪ ،‬لألشجان‪..‬‬ ‫في أغلى الرسائلْ‬ ‫***‬

‫السمّ ا َر في النجوى‬ ‫ينادمُ ُ‬

‫أسمي سليمانُ ‪:‬‬

‫ويسقي الوالهينَ صبابة‪،‬‬

‫وهذي صورتي ممهورةٌ ‪:‬‬

‫في واهج الشكوى‪..‬‬

‫بتتابع األيام واألعوام ِ‬

‫وفي نشوى تشوقهِ ‪.‬‬

‫واألفراح واألتراح‪ ..‬إنسانٌ ‪،‬‬

‫والليلُ ‪ :‬هذا الليلُ ‪ ،‬خبأ س َر ُه‬

‫تـَعـ ٌِب‪ ،‬يَمُ رُ على رصيف هذا الدهرِ ‪..‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪57 )2015‬‬


‫ويحتسي‪..‬‬

‫في رنّة ِ الذكرى‪ ،‬لسدر نابت ٍ ‪..‬‬

‫كاسات أسمارٍ وأكدارٍ ‪،‬‬ ‫ِ‬

‫تحت َظالل العرش‪ ..‬فوقَ الفرش ِ‬

‫ويحمل فوق عاتقه الحمائل‪.‬‬

‫من نفح الجنان ِ ‪ ..‬ونعمة ِ الرحمن ِ ‪..‬‬

‫***‬

‫أنا أحمدُ اهللَ‪ :‬الذي‪..‬‬ ‫أعطاني في هذا الوجود إرادتي‪..‬‬ ‫ومشاعري‪ ،‬وخواطري‬ ‫أعطاني إيماني‬ ‫وأعطاني الحنـيـنَ لجنّةٍ ‪،‬‬ ‫غادرتـُها‪ ..‬لكنّي لم أجد ِ البدائـِلْ ‪.‬‬ ‫ولسوف أصبرُ ‪ ،‬سوف أحفـُرُ‬ ‫َ‬ ‫وتوجدي‬ ‫ّ‬ ‫أكف تجلّدي‬ ‫في ِّ‬ ‫وتصبـُّري وتدبـُّري‬ ‫ومطامحي‬ ‫ِ‬ ‫وتسامُ حي‬ ‫ومهاجـِعي ومواجـِعي‪..‬‬ ‫وبظل أِ شواقي‪ ،‬وظل ِ صبابتي‬ ‫تلك المنازلْ‬ ‫عَ ودي إلى َ‬ ‫***‬

‫أنا سوف أحملُ فوق كتفي سـِدر ًة‬

‫إذ يغشاه ما يغشى‪.‬‬ ‫فهناك ال كد ٌر‬ ‫وال خطرٌ‬ ‫نص ٌب‬ ‫وال َ‬ ‫وص ٌب‬ ‫وال َ‬ ‫وال فقدٌ ألحبابي‬ ‫هناك ما أخشى‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وليس‬ ‫***‬

‫أنا ال أسيغُ تدفقي وتدافعي‬ ‫في حومة األحقادِ واألضداد‬ ‫وال أسيغُ ولو َغ منهوم ٍ‬ ‫يعب من عفن الحياة ِ ‪..‬‬ ‫ُّ‬ ‫المسلك األعشى‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وال أسيغُ‬ ‫آهٍ ٍ من الذكرى‪..‬‬ ‫من النجوى‬

‫خ �ض ��راءَ‪ ،‬ق��د س�ج��ع َال �ح �م��امُ ع�ل��ى رِ ق ��اق وآهٍ من عنا روحي‬ ‫اآلهات في بَوحي‬ ‫ِ‬ ‫آهٍ من‬ ‫غُ ـصونِ ها‬

‫‪58‬‬

‫الصبا‬ ‫َوشوشت‪ ،‬ريحُ َ‬ ‫ْ‬ ‫وتـ‬

‫ومن عـقبات دربي‬

‫ِيك الجدائلْ‬ ‫من بين هاتـ َ‬

‫آهٍ من اآلالم في كربي‬

‫والسد ُر يقرعُ خاطري‬

‫آهٍ من الكأداء ِ في الممشى‪.‬‬

‫* شاعر من السعودية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫ش� � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � �ع � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��ر‬

‫ُ‬ ‫رأسه‬ ‫الشمس من‬ ‫تأكل‬ ‫الذي‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬

‫(المعتمد بن عباد)‬ ‫‪ρρ‬أحمد هالل*‬

‫الحذاءُ بعيدٌ‬

‫أصابعهُ كالجراد‪ ِ،‬ففي كل شبرٍ نرى‬

‫وأقدامُ مهجورةٌ‬

‫اآلن‬

‫علَّقَ الصوتَ من شحمتي أذنيهِ‬

‫سبابةً ثم وسطى على شكل دلتا‬

‫البيت‬ ‫ِ‬ ‫على حائط‬

‫وبينهما ليس نهرٌ‬

‫ثم انصرف‬

‫يُ نَفض عنه غبا َر المسافةِ‬

‫الطريق‬ ‫ِ‬ ‫في‬

‫يخلع أعضاءَه‬

‫يسيرُ ويقعدُ‬

‫أي مغسلةٍ‬ ‫لم يجد َّ‬

‫يسقط منه ذراعٌ‬ ‫ُ‬

‫يستقر قليال‬

‫وينسى حقائبَهُ‬

‫فينشرُ أعضاءَه فوق سفح مخيمهِ‬

‫ِ‬ ‫مثلما نسي الغيمُ قهوته في‬ ‫الصباح يتذكرُ ‪:‬‬ ‫فعاقبَ أبناءه بالهجيرِ‬ ‫ليس لنا اآلن أن نتهيأَ‬ ‫ومالَ على ظلِّهِ‬

‫للعرس‬ ‫ِ‬

‫فجأ ًة‬

‫سوف نعد الفطو َر‬

‫هربَ الظلُّ منه‬

‫وننتظر الشمس حتى تغيبَ‬

‫حواليه‬

‫لكي ال تُح ِّرقَنا‬

‫أبناؤُ ه‬

‫حين ننقل هذي السما َء‬

‫نجمتان وألقاهما الكونُ‬

‫يلملم أعضاءَه‬

‫العصف‬ ‫ِ‬ ‫في ساعة‬

‫ثم يلبسها مثلما يلبس الليلُ‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪59 )2015‬‬


‫لون النهارِ‬

‫ثم يسقط ظلُّ البنايات‬

‫ويمشي‬

‫البنايات‬ ‫ِ‬ ‫من فوق سطح‬

‫يقولُ ‪:‬‬

‫قلت أُغَ يِّرُ نعلي‬

‫البيت‬ ‫ِ‬ ‫ابتعدت كثيرً ا عن‬ ‫ُ‬

‫لعل الطريق تغيرُ‬

‫مربوطتان‬ ‫ِ‬ ‫نعاله‬

‫تأخذ أوجاعها معها‬

‫كخيل‬ ‫ٍ‬

‫والمرايا التي تتناثر فيها الوجوه‬

‫األرض‬ ‫ِ‬ ‫�ارس�ه��ا ص��و ُت��ه المتعلق م��ن شحمتيّ على‬ ‫وح� ُ‬

‫‪60‬‬

‫أذنيه‬

‫قلت ألملمها‬ ‫ُ‬

‫ويشرب كوبًا من الماءِ‬

‫يدي‬ ‫ثم أحملها في ّ‬

‫يكملُ‬

‫ولكن أحرفها‬

‫كان أبي ملكً ا‬

‫ومالمح تلك الوجوه التي سكنتها‬

‫َعارك كلُّ النسورِ‬ ‫في الصباح ت ُ‬

‫يدي‬ ‫جعال من ّ‬

‫على كتفيهِ‬

‫شوار َع‬

‫النسور التي قد جعلت لها الرأس مائد ًة‬

‫ينظرُ نحو السماءِ‬

‫ودمي المستباح لها عنبًا‬

‫لعل هنالك معجز ًة‬

‫طارت اآلن من كتفيّ‬

‫تسقط‬ ‫ُ‬ ‫سوف‬

‫وكان أبي ملكً ا‬

‫يربط حول خواصره غيمتين‬

‫عرشه زمنان وماء‬

‫المحاريث‬ ‫ُ‬ ‫وفوقهما قمرٌ في يديه‬

‫صولجاناته النهرُ‬

‫والفأس‬ ‫ُ‬

‫خطوته مدنٌ‬

‫الغيم‬ ‫ِ‬ ‫لكنه الرملُ يطلع في‬

‫ناسا‬ ‫كان ينفخ في األرض ينبت ً‬

‫كان أبي ملكا‬

‫ومملكةً‬

‫كنت أسكن في حضن جاريةٍ‬

‫وأنا اآلن مملكتي‬

‫أسحق الطيب تحت أصابعها‬

‫وجناحان‬ ‫ِ‬ ‫شارعٌ‬

‫وأصب الورو َد على وجنتيها‬ ‫ُّ‬

‫الممالك‬ ‫ِ‬ ‫ريشهما يتناثر فوق رؤوس‬

‫وأندلس‬ ‫ٌ‬ ‫فينبت نهرٌ‬

‫الرصيفان‬ ‫ِ‬ ‫كم يتعرّى‬

‫والمسافة ممطرة بيننا‬

‫الخيول التي فقدت صوتها‬ ‫ِ‬ ‫مثل‬

‫والوسائد من تحتنا كالمراكب‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫آه يا زمن ًا يتكسر مثل المرايا‬

‫أوزعها في سطور القصيدة‬

‫يسير‬

‫أو في األ َِسرة للشعراءِ‬

‫ويسقط‬

‫وصاحبتي قد زرعت لها فوق صدري‬

‫يحلمُ‬

‫نخيل‬

‫ثم يفيق‬

‫ولكنه اآلن يسعلُ‬

‫وكان أبي ملكا‬

‫الحرب‬ ‫ِ‬ ‫من أثر‬

‫في الصباح يوزع قبالته‬

‫هذي المحلية الصنع‬

‫ثم تلسعها الشمس‬

‫ثم يلملم أشالءه‬

‫قمحا‬ ‫تخرج ً‬

‫العربات تسيرُ‬

‫وساق صبايا‬

‫تشيخ مالمحهُ‬

‫الليل‬ ‫ِ‬ ‫ويجلس في‬ ‫ُ‬

‫والحذاءُ البعيدُ‬

‫يرمي لهم من تحياته أنجمً ا‬

‫بعيدٌ‬

‫وفضاءً‬

‫وأقدامُ مهجورةٌ‬

‫مخيلةً للكتابةِ‬

‫ورق وهواءٍ‬ ‫فبعكازتي ٍ‬

‫يبسط كفيه‬

‫يسيرُ‬

‫الناس فوقهما‬ ‫ُ‬ ‫كي يصعد‬

‫وتهرب عكازتا ُه‬ ‫ُ‬

‫للذراعين‬

‫فيسقط‬ ‫ُ‬

‫كي يكتبوا‪:‬‬

‫في لوحةٍ‬

‫وكان أبوه الرصاصةُ‬

‫في مزادٍ‬

‫الحرب‬ ‫ُ‬ ‫أجدادُ ه‬

‫لتكتمل الصور ُة‬

‫واالنتصا ُر‬

‫اآلنَ‬

‫وأبناؤه قطع الشطرنج‬

‫ما بين فكيّ أرانبَ‬

‫ملك لم يكن لي من اسمي‬ ‫أنا ٌ‬

‫تنهشها‬

‫الناي‬ ‫ِ‬ ‫سوى أنَّة‬

‫يضحك‬ ‫ُ‬ ‫وهو‬

‫في ذروة الجملة العاطفيةِ‬

‫حتى تسي َر الحيا ُة ببطء‪..‬‬

‫ش� � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � �ع � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��ر‬

‫والشرفات فضاء‬

‫ِملك يميني النجومُ‬

‫ * شاعر من مصر‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪61 )2015‬‬


‫قصيدتان‬ ‫‪ρρ‬أحمد متساح*‬

‫حالة‬ ‫وجعي أنا بالضلوع يميل‬ ‫علمّ ني أيها الشيخ‬ ‫أم يصعد كالنخيل‬ ‫أن أدوخ‬ ‫يموت واقفاً‪ ،‬راقداً‪ ..‬ال فرق‬ ‫أرحل‬ ‫غيبي يا أمي‬ ‫أجازف‬ ‫غيبي في الما بين‪ ...‬للرمل طواحين‬ ‫وبقلب العارف معارف‬ ‫الظمأ‬ ‫شوق رقراق كالندى‪ ..‬وتآلف‬ ‫وللبحر مخالب الغرق‬ ‫علمّ ني أن أعبر ظامئا‪..‬‬ ‫غرق‬ ‫بيداء الرمال‬ ‫غرق‬ ‫أسكن في حلق السؤال‬ ‫غيبي‬ ‫أفقأ عين المحال‬ ‫تموت األشواق كمد ًا‬ ‫علمّ ني‬ ‫ولألرض أحالمها الثكلى‬ ‫أن أشتهى الحقيقة كلها‬ ‫صبّوا عليها الوجع‬ ‫أحرث غيطان الجوى‬ ‫ُ‬ ‫فأين التاج واأللق؟‬ ‫ثم أذوب عشقاً‪ ..‬وأصعد‬ ‫أصعدُ في آخر الليل – نخيل التجلّي أين الشراع من الصهيل؟‬ ‫وأختلى بالودع‪ ..‬ووداع� ًا أيها الحلم وجعي أنا كالقتيل‬ ‫فاسألوا أنات األرامل‬ ‫البعيد‬ ‫النار يأكلها الجليد‬ ‫عظم الفتى في المراجل‬ ‫سأذوب‬ ‫ُ‬ ‫والنهار يرحل بالشفق‬ ‫الدروب‬ ‫ِ‬ ‫يا وج َع‬ ‫غرق‬ ‫وليلى لها ما تريد‬ ‫غرق‬ ‫بأرض النبع والغزالن‬ ‫غيبي يا أمي‬ ‫غيبي في مسام الورق‬ ‫غياب‬ ‫وفي دهاليز األرق‬ ‫غيبي يا أمي‬ ‫أنا مازلت ألوك أحرفي‪..‬‬ ‫غيبي في أنات الطلق‬ ‫والحلم شمعة‪..‬‬ ‫وللحسك أن يتغلغل في دمي‬ ‫ويسد الحلق‬ ‫لكن في آخر النفق‪..‬‬

‫‪62‬‬

‫ * شاعر من مصر‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫‪ρρ‬محمد محمد عيسى*‬

‫َصوْ ٌت‬

‫َصاحَ‪..‬‬ ‫قَالَ ‪ :‬كَالمً ا‬ ‫يَفْ هَمُ هُ مَ نْ يَعْ رِ ُف حَ ا َل ْه‬ ‫مَ نْ ي َْسبُرُ أَغْ وَا َر ْه‬ ‫غَ نَّى‪،‬‬ ‫أ َْشجَ ى كُ لَّ الْمَ ا َّر ْة‬ ‫غَ نَّاهُ مْ‬ ‫أ َْضحَ كَهُ مْ حَ تَّى أَعْ يَاهُ مْ‬ ‫لَكِ نَّ المَ ا َّر َة قَدْ جَ ِهلُوا‬ ‫َاظ َترَاهُ مْ !!‬ ‫أل ْلف َ‬ ‫أَنَّ ا َ‬ ‫كَ المٌ َعرَ ِب ٌّي‬

‫َبوْحٌ عرَبِ ٌّي‪ :‬جَ زْمُ َك‬ ‫أَنَّ ِجيَا َد ُجدُ ودِ َك‬ ‫يك‬ ‫َت ْتبَعُ خَ ْطو َ​َك أَ ْو ت َْح ِم ْ‬ ‫َبوْحٌ عرَبِ ٌّي‪:‬‬ ‫يك‪،‬‬ ‫الهن ِْد يُ َصافِ َ‬ ‫أَنَّ حَ دي َد ِ‬ ‫َوأَنَّ فرَاسَ َة‬ ‫أ َْشي َِاخ الزَّ مَ ِن الفَائِ ْت‬ ‫يك‪،‬‬ ‫ أَبَدً ا ‪ -‬تَكْ ِف َ‬‫الصي ِْد‬ ‫َوأَنَّ حَ ِديثً ا عَ نْ أَيَّامِ َّ‬ ‫ * شاعر من مصر‪.‬‬

‫َاك‬ ‫ْك قُ و ْ‬ ‫يَرُ دُّ إِ َلي َ‬ ‫َق َد ٌر عَ رَبِ ٌّي أَنَّ ِغيَاب َ​َك‬ ‫َاك!!‬ ‫ض هَ و ْ‬ ‫مَ ْح ُ‬ ‫الشارِ عُ‬ ‫َّ‬

‫َاس‬ ‫الشارِ عِ كُ لُّ األ َْجن ِ‬ ‫فِ ي َّ‬ ‫َاسي‬ ‫الْحَ انِ ي‪ ،‬وا ْلق ِ‬ ‫مُ هْ تَزُّ ا ْل َه ْيبَةِ ‪ ،‬والرَّ ِاسي‬ ‫َالشارِ عُ ت َْحكُ مُ هُ الْهُ وَّ ةْ‪،‬‬ ‫و َّ‬ ‫الطينُ القُ وَّ ةْ‪،‬‬ ‫وسَ ِ‬ ‫َّاس‬ ‫وَمَ اليِ ينُ الن ِ‬

‫وسَ تَعْ رِ فُ هَا‬ ‫دُ ونَ عَ نَاءٍ‬ ‫�اك‬ ‫مَ ��ا َل ��مْ ُت� ْ�خ� ِ�ط��يءْ َق� �دَمَ � َ‬ ‫الدَّ ربَ !‬

‫ش� � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � �ع � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��ر‬

‫َق َص ِائد‬

‫‪2‬‬

‫أَوَّلُ خَ ي ِْط الدَّ هْ شَ ةِ‬ ‫آخرُ ُس ْن ُبلَةٍ‬ ‫ِ‬ ‫ين ا ْل َفر َِح ا ْل َكوْنِ يِّ‬ ‫فِ ي تَدْ ِش ِ‬ ‫‪3‬‬

‫السهْ مُ الْمَ ارِ قُ ِمنْ جَ عْ بَتِ هِ‬ ‫َّ‬ ‫***‬ ‫ال ي َْح ِملُ تَفْ ِسيرً ا آخَ َر‬ ‫الشارِ َع‬ ‫لَكِ نَّ َّ‬ ‫ال يَعْ رِ ُف َل ْونًا آخَ َر‬ ‫َاس!!‬ ‫أَوَّلُ مَنْ أ َْجرَى دَقَّ األ َْجر ِ‬ ‫السهْ مُ الْمَ ارِ قُ ِمنْ جَ عْ بَتهِ‬ ‫َّ‬ ‫قَدْ يُ ْس ِق ُط هَ دَفً ا آخَ َر‬ ‫ات‬ ‫مُ فَ ارَ قَ ٌ‬ ‫‪1‬‬

‫يس ِسوَى‬ ‫مَ ا كَا َن إلِ يزِ َ‬ ‫أَنْ تُقْ بِ لَ ن َْح َو َت َدر ُِّجهَا‬ ‫يس‬ ‫مَ ا كَا َن إلِ يزِ َ‬ ‫َاحدْ !!‬ ‫ِسوَى َدر ٍْب و ِ‬ ‫***‬

‫‪4‬‬

‫ات ا ْلقَفْ زِ‬ ‫مَ رَّ ُ‬ ‫بِ مَ ا لَمْ يُ مْ كِ نْ إِ ْشعَا َر ُحدُ ودِ ْه‬ ‫الظلِّ إِ لَى‬ ‫وج َك َصوْبَ ِّ‬ ‫و َُخرُ ُ‬ ‫الرُّ وحْ‬ ‫ُك دُ ونَ ُجرُ وحْ !!‬ ‫وَإِ يَاب َ‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪63 )2015‬‬


‫ضريح‬ ‫‪ρρ‬حمدي هاشم حسانني*‬

‫وحدي وينكرني البنفسج‬ ‫أستحم مع المساء‬ ‫دفاتري السلوى‬ ‫وشكواي الغياب‬ ‫قرأت سفر الدهشة الكبرى‬ ‫انفعلت مع الغمام‬ ‫تمددت روحي كثير ًا‬ ‫غادرتني‪،‬‬ ‫فاستراح البوح‬ ‫وانسكب الحنين‪..‬‬ ‫على مداد الوقت‬ ‫أقطن‬ ‫منزلي الوجع المعبأ‬ ‫بالظنون‬ ‫الموت‬ ‫كرسي يجوب الحرف‬ ‫أغنية‬ ‫وكوب من نعاس‬ ‫إذ أنا أرتاح في شفقي‬ ‫وأنزف بالدخان‬ ‫فيصطفيني الشدو‬ ‫ألتهم البكاء‬ ‫وحين تسكر أدمع النعناع‬ ‫ترتحل العيون‬ ‫فمن يعير القلب منسأة‬ ‫وظال‬ ‫‪....‬‬ ‫فكرت لو أغدو غماما‬ ‫كي أسافر في مدار الريح‬ ‫حاصرني الجنون‬ ‫فطرت‬ ‫آهٍ‬ ‫إذ تشبث بي حضور فراشة‬ ‫أواه أحلم‬

‫‪64‬‬

‫ * شاعر من مصر‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫كيف للصب المهاجر‬ ‫يمس الحزن‬ ‫أن َّ‬ ‫يستجدى الرحيل‬ ‫تنفسي يا دعد‬ ‫بُوحي‬ ‫فالقرنفل في مواسمه األخيرة‬ ‫ال يوزع طيبه‬ ‫قُ ومي‬ ‫فإني في ركاب الوجد‬ ‫في الصف األخير‬ ‫على جواد الماء‬ ‫قامتيّ النسيم‬ ‫ورجع أغنيتي الرياح‬ ‫وعازفات الورد ال يعرفن بيتي‬ ‫والهوى ما عاد سهال‪.‬‬ ‫‪...‬‬ ‫نادمت أقراني‬ ‫السعال‬ ‫الوحدة الهدباء‬ ‫قاموس الفراغ‬ ‫الريح والليل المخبّأ‬ ‫بين طيات القصيدة‬ ‫وارتجافي حين يرشفني الهوى‬ ‫شيئ ًا فشيئ ًا‬ ‫حين أختزل المداد‬ ‫برعشتين‬ ‫تغير العصفور في وجهي‬ ‫تساقط ريشه‬ ‫شاخت أمانيه‬ ‫استقال من البراح‬ ‫فكيف أسرق من عيون حبيبتي‬ ‫وردا‬ ‫ونسرينا‬ ‫وفالً؟!‬


‫ش� � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � �ع � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��ر‬

‫قوس البهجة األولى‬ ‫‪ρρ‬أحمد منر اخلطيب*‬

‫أبطأت عن حقلي فخلتُ ِك نائي ْة‬ ‫ُ‬

‫وعزفت عن ريحي وجئتُ ك ثاني ْة‬ ‫ُ‬

‫ت �ع �ل��و أم ��ام ��ي ح� ّ�ج �ت��ان ودول � ��ةٌ‬

‫ف �ي �ه��ا غ� �ب ��ا ٌر ي �س �ت �ق �ي��مُ ل ��راوي� � ْة‬

‫�ص�ن� ًا‬ ‫وأم� � ��ام م ��رآت ��ي أرى م�ت�ح� ّ‬

‫ف�ي�ه��ا ع �ي��ون � ًا م��ا وَهَ �ي ��نَ لثاني ْة‬

‫ف �ي �ه��ا وش � ��اي � ��ةُ ح � �ي� ��رةٍ ع � �رّاف� ��ةٍ‬

‫وم� � ��زاجُ أن �ث��ى وال� �ت� �م ��اعُ اآلن �ي � ْة‬

‫وك��ذل��ك ال� � ّرم ��انُ ي �ص �ب��غُ ك��فّ �ه��ا‬

‫عوض ًا عن اإليقاع تحت الدالي ْة‬

‫�أت ال تعليلَ ع��ن أسبابها‬ ‫أب �ط� ُ‬

‫إذ ينبني للشعرِ روح الخابي ْة‬

‫هيَ أو أنا‪ ،‬والريحُ تقطرُ محوَها‬

‫سقوط الساري ْة‬ ‫ُ‬ ‫والمحوُ منبعُ هُ‬

‫نجمان وانعتقا لبعض حنينها‬ ‫ِ‬

‫تخيط وعاءها في يائي ْة‬ ‫ُ‬ ‫فبدتْ‬

‫�أت أص�لاب��ي ك��أنّ حضورها‬ ‫وم�ل ُ‬

‫س��ردٌ ي��داع� ُ�ب طفلتين وج��اري� ْة‬

‫تتكلّمُ الفصحى ونح َو حوارِ ها‬

‫يمشي الندى مُ تعلِّق ًا بالهاوي ْة‬

‫ت �ت �ح��مّ ��لُ األوزا َر ال وِ ز ٌر ه�ن��ا‬

‫شرفتان لشمسها المتواري ْة‬ ‫ِ‬ ‫بل‬

‫وكليمةً للماءِ دا َر بها الصدى‬

‫فاختزلت القافي ْة‬ ‫ُ‬ ‫حولَ القوافي‬

‫قوس البهجةِ األولى على‬ ‫ليم ّر ُ‬

‫أش �ج��اره��ا إذ ال ت � ��روقُ ل�ن��ائ�ي� ْة‬

‫ * شاعر من األردن‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪65 )2015‬‬


‫الصباح األنيق‬ ‫‪ρρ‬عبداهلل أحمد األسمري*‬

‫بِطَلَّةِ الورد‬

‫يا زهرة الفلِّ‬

‫جاء الصباحُ األنيقُ‬

‫هل حان وقت القطاف؟‬

‫ودقَّ ت ساعةٌ‬

‫للسفين بلوغ الضفاف؟‬ ‫وهل َّ‬

‫رف عتيق‬ ‫فوق ٍّ‬ ‫الشمس؛‬ ‫ُ‬ ‫متى تطلع‬ ‫تعلو طريق المدارس‬ ‫الضياء‬ ‫وترمي على األفق شالَ َّ‬ ‫وتحنو على األوجه المتعبةِ‬ ‫***‬

‫تجمع القمحَ يوم الحصاد‬ ‫ويا قمر ًا‬ ‫يستريحُ على حافة التلِّ عند المساء‬ ‫النعاس‬ ‫ُ‬ ‫وكل الورود تمكّ نَ منها‬

‫أراك حشد ًا من العطر‬

‫المصابيح‬ ‫ِ‬ ‫وضوءُ‬

‫أغصانُه من زهور الطريق‬

‫في حجرات المنازل تخبو‬

‫ونهر ًا من الشيح‪.‬‬

‫رويداً‪ ..‬رويد ًا‬

‫***‬

‫* شاعر من السعودية‪.‬‬

‫‪66‬‬

‫ويا وجه فالحة‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫عند هطول المساء‪.‬‬


‫‪ρρ‬شاهر ذيب*‬

‫�ات‬ ‫هلل أ َّي�ـ��ام�ـ��يَ ال��خَ ��ال�ي�ـ� ِ‬ ‫سَ �ـ� َق�ـ�ـ��ى ا ُ‬

‫مَ � � َع ال� ِ�ح� ِّ�ب فِ ��ي أ َْض � ُل� ِ�ع��ي َب��اقِ � َي��ة‬

‫�ات‬ ‫�راف ُح� �ل � ٍ�م بِ � �ـ ��هِ ذك �ـ��ري �ـ� ٍ‬ ‫وأَط� � �ـ � � َ‬

‫ب� ِ�ح � ْل� ِ�م ال��نُّ � َه��ى َت�ن� َت�ش��ي طَ ��اغ� َي��ة‬

‫بِ �ه��ا ال�ق�ل� ُ�ب إ ْذ ن �ـ� َ�ا َم َي�ـ� ْر ُن�ـ��و إلِ � ْي�ـ��هِ‬

‫�ام � َي��ة‬ ‫و َي �ـ �رْقُ �ـ �ـ � ُ�ب فِ �ـ �ـ � ْت �ن � َت �ـ��هُ ال� َّ�س �ـ� ِ‬

‫ك �ـ �ـ �أَنَّ ا ُأل ُن �ـ��وث �ـ �ـ � َة ِح �ـ �ي �ـ �ـ��نَ َي �ن �ـ� َ�امُ‬

‫َت � �ط � �و ُْف عَ � �ل ��ى و َْج � � ِ�ه � ��هِ ز َِاه � � َي� ��ة‬

‫�وق إل �ـ��ى و َْج �ن � َت � ْي��هِ‬ ‫و ُت �ـ �ه �ـ� ِ�دي بِ �ش �ـ� ٍ‬

‫أزاه� � �ي� � � َر فِ � �ـ ��ي ِط� � ِّل� � َه� �ـ ��ا حَ ��انِ � َي �ـ��ة‬

‫َو َن�ه�ـ��رٍ ِم�ـ��نَ ا َّل�ل�ي� ِ�ل مُ �رْخَ ��ى عَ ليْهِ‬

‫يُ ��سَ �ـ��اف �ـ��رُ فِ �ـ �ـ��ي هَ � � �ـ � ��دْ أةٍ هَ ��انِ � َي �ـ��ة‬

‫وَيُ � ْ�خ� ِ�ف�ـ��ي عَ لـى َص� ��دْ رِ هِ جَ َّن َتي ِـن‬

‫قُ �ـ� ُ�ط �ـ �ـ��وفُ �ـ �ه �ـ � َـ��ا َي �ـ ��انِ �ع �ـ ��ةٌ دَان �ـِ � َي �ـ ��ة‬

‫وَأزرا َر َورْدٍ سَ � � � �رَى َض� �وْعُ � �ه ��ا‬

‫عَ �ـ �ل �ـ��ى أُمِّ �ـ �ه �ـ ��ا َت �ن � َت � ِ�ش ��ي رَابِ � � َي� ��ة‬

‫َف��أمْ � ِ�ض�ـ�ـ��ي بِ � ُل��جِّ ُب� ُ�ح �ـ��ورِ ال � َب � َه �ـ��اءِ‬

‫وأَ ْرك � �ـ � �ـ� � ُ�ب أَم � �ـ ��واجَ � �ـ ��هُ ال � َع��اتِ �ي �ـ��ة‬

‫ليس ِم��نْ ذا الوُ جودِ‬ ‫َ‬ ‫ـعشق َل��هُ‬ ‫بِ ٍ‬

‫ومَ �ـ �ـ��ا َب �ع �ـ � َد أ َْش � َي �ـ��ائِ �ـ��ه ال � َف��انِ � َي �ـ��ة‬

‫وح غَ � ِ�ش�ي� َه�ـ��ا ال� َّ�س�ن��اءُ‬ ‫َك� �ـ ��رُ وْح مَ � �ـ ��رُ ٍ‬

‫و َت� �ـ ��ا َق� �ـ � ْ�ت ل �ـ � َه��ا جَ � � َّن� �ـ ��ةٌ عَ �ـ��ال � َي �ـ��ة‬

‫الضيَـاءِ‬ ‫َف َتغـدُ و لتَلقَـى مَ ـعيْـنَ ِّ‬

‫و َت �ن � َه ��لَ ِم �ـ ��نْ عَ � ْي ��نِ ��هِ ال� َّ�ص��افِ �ي��ة‬

‫�ات‬ ‫ُأح�ـ�ـ��بُّ �ـ� ِ�ك فلتسـألـي ال�ـ�ـ��ذَّ اري�ـ� ِ‬

‫سَ لِ ي فِ ��ي ال��دُّ جَ ��ى غَ يمَ ةً سَ ��ارِ َي��ة‬

‫َضا َء‬ ‫�وت يَجو ُْب الف َ‬ ‫سَ لي كُ لَّ َص� ٍ‬

‫�ظ أكْ � �ـ ��وا َن� �ـ ��هُ ال �ـ � َغ �ـ��اف � َي �ـ��ة‬ ‫ل �ـ �ي �ـ�ُ�وق �ـِ� َ‬

‫�اث النُّ ـجـومِ‬ ‫ُأح�ـ��بُّ �ـ� ِ�ك م�ـ ِ�ث��لَ ا ْن �ب � َع� ِ‬

‫وَروع� � �ـ � ��ةِ أ َْض� ��وائِ � �ه� ��ا ال � َب �ـ��اه � َي��ة‬

‫�األرض ِح �ي �ـ��نَ َت�م�ـ��و ُر‬ ‫ِ‬ ‫أ ُِح �ـ��بُّ � ِ�ك ك� �ـ �‬

‫�ام � � َه� ��ا ال ��رَّ ِاس� �ي ��ة‬ ‫َو َرج � �ـ � �ف� ��ةِ أَعْ �ل� ِ‬

‫�س كَـمــا َتبـ َتغـيـنَ‬ ‫أ ُِح �ـ��بُّ �ـ� ِ�ك ل�ـ�ـَ�ي� َ‬

‫�واه� � ّي ��ة‬ ‫و َت �ـ � ْب� ِ�غ �ـ��ي أ َْج� �س ��ادُ َن� �ـ ��ا ال � ِ‬

‫َفيض‬ ‫الضوءِ ِحينَ ي ُ‬ ‫و َُحبِّي كَمَ ا َّ‬

‫ُت �ـ �ع �ـ��ان �ـ �ق �ـ��هُ َل �ـ �ح �ـ �ظ �ـ ��ةٌ َب��اق �ي �ـ��ة‬

‫َك � َن �ـ� ْ�ج �ـ� ٍ�م يُ �ـ�س��اف�ـ��رُ ال َيسـتـكيـنُ‬

‫�وب َل�ي��ال��ي ال��دُ ج��ىً النائية‬ ‫َي� ُ�ج� ُ‬

‫أ ُِح ��بُّ � ِ�ك َك ��م قُ �ل��تُ �ه��ا َل �س� ُ�ت أَدري‬

‫وح� ��ي بِ � َه��ا َل� ��مْ َت��كُ ��ن و َِاع �ي��ة‬ ‫َف� ��رُ ِ‬

‫�ف اعْ � َت��راهَ ��ا ال َهيَامُ‬ ‫َو َل��م َت��درِ َك�ي� َ‬

‫و َل� � ��مْ َت� � ��درِ ِس� ��رَّ هَ � ��ا أو مَ � ��ا ه � َي��ه‬

‫ش� � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � �ع � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��ر‬

‫حب ِك فلتسألي َّ‬ ‫اريات‬ ‫الذ‬ ‫ِ‬ ‫ُأ ُّ‬

‫ * طبيب في مستشفى األمير متعب بن عبدالعزيز في سكاكا‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪67 )2015‬‬


‫تجربة عبدالرحمن الدرعان‬ ‫بين «نصوص الطين» و «رائحة الطفولة»‬ ‫‪ρρ‬إعداد‪ :‬محمود الرمحي وتركية العمري‬

‫عبدالرحمن إسماعيل الدرعان‪ ..‬ولد في حي الوادي بمدينة سكاكا في منطقة‬ ‫مثقف متعدد المواهب‪ ،‬عُ رِ فَ قاص ًا وشاعر ًا وفنان ًا ينثر لوحاته الفنية‬ ‫ٌ‬ ‫الجوف‪،‬‬ ‫من خالل قَصِّهِ وشِعرِه‪ ،‬وقد كانت إحداها غالفا لمجموعته القصصية الثانية‪..‬‬ ‫م��ال ك �ث �ي��ر ًا إل��ى ال �س��رد ال�ق�ص�ص��ي ف��أص��در م�ج�م��وع�ت��ه القصصية األول��ى‬ ‫«نصوص الطين» التي طلب من ناشره أن يحرقها!! إال إنه لم ينفذ طلبه‪ ،‬فيما‬ ‫تبين الحقا؛ أما مجموعته القصصية الثانية «رائحة الطفولة» فقد صدرت عن‬ ‫مؤسسة عبدالرحمن السديري‪.‬‬ ‫كتب عن مجموعاته القصصية وعن نصوصه الشعرية والقصصية والفنية‬ ‫العديد من النقاد والمثقفين‪ ..‬فقد اعتبرت الناقدة اللبنانية «هدال القصار» أن‬ ‫القاص الدرعان الذي يرضع طفولته من حقائبه القصصية السردية هو «إدكار‬ ‫ألن بو السعودي» حيث شق هذا المبدع طريقه في مجال السرد القصصي بديال‬ ‫عن الشعر‪.‬‬ ‫وق��د خصته الجوبة بهذا المحور ال��ذي تناوله فيه ع��دد من الكتّاب والنقاد‬ ‫قراء ًة وتحليال‪..‬‬

‫‪68‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫م� � � � � � � � � � � � � � � �ح � � � � � � � � � � � � � � ��ور خ � � � � � � � � � � � ��اص‬

‫األديب الدرعان‬ ‫الذي أحرق أفكاره‬ ‫‪ ρρ‬عيسى مشعوف األملعي ‪ -‬قاص وروائي من السعودية‬

‫من هنا بدأت التنقيب في أوراق األديب عبدالرحمن الدرعان‪ ،‬فوجدت بعض ًا من ما أفاء‬ ‫اهلل عليّ من بعض المعلومات القديمة‪ ..‬لكني من خاللها تعرفت إلى المبدع الحقيقي‬ ‫محفور ًا في ذاكرة األدب السعودي‪.‬‬ ‫بعد أن أح��رق األدي��ب وال�ق��اص السعودي عبدالرحمن ال��درع��ان مجموعته القصصية‬ ‫«نصوص الطين» التي ص��درت في العام ‪1990‬م‪ ،‬بسبب الشعور باإلحباط؛ نتيجة انقسام‬ ‫المثقفين العرب على إثر الغزو العراقي للكويت‪ ،‬رجع بعد عشر سنوات ليصدر مجموعته‬ ‫القصصية (رائحة الطفولة)‪.‬‬ ‫يتحدث الدرعان أيضا عن أسباب التدفّق‬ ‫اإلب��داع��ي ال��ذي شهدته الساحة الثقافية‬ ‫السعودية مؤخرا؛ ويرجع ذل��ك إل��ى غياب‬ ‫ال��رق��اب��ة ووف���رة وس��ائ��ل االت��ص��ال وات��س��اع‬ ‫هامش الحرية؛ كما يعتقد أن المؤسسات‬ ‫الثقافية تجاوزت حالة الركود التي شهدتها‬ ‫ع��ل��ى م���دى ال�����ـ‪ 30‬ع��ام��ا ال��م��اض��ي��ة‪ ،‬وأن‬ ‫الجهود التي تقودها وزارة الثقافة واإلعالم‬ ‫والقيادات الثقافية قادرة على تفعيل دور هذه‬ ‫المؤسسات‪ ،‬وتحويلها إلى مؤسسات مجتمع‬ ‫مدني‪ ،‬تعمل بعيدا عن التوجيه الرسمي‪.‬‬

‫الدرعان بأسلوب مخاطبة القارئ إلشاعة‬ ‫أك��ب��ر ق���در م��ن ال��ت��داخ��ل م��ع��ه‪ ،‬وتقليص‬ ‫المسافات بين المحكي عنه والمتلقي‪ ،‬وهي‬ ‫سمة من سمات كتابات المؤلف عرفت عنه‬ ‫في مجموعته األولى «نصوص الطين»‪.‬‬

‫وال��درع��ان يكتب بعفوية كما ي��ق��ول‪ :‬ما‬ ‫أعرفه أنني كتبت بعفوية ال أتقصد فيها‬ ‫اختيار المادة التي أعتمد عليها في كتابتي‪،‬‬ ‫وأظن أن الطفولة مخزن كبير‪ ،‬خصوصا في‬ ‫المدن الصغيرة واألرياف‪ ،‬ولم يكن يهمني أن‬ ‫أحاكي تجارب عالمية بقدر ما كنت أريد أن‬ ‫ت��زخ��ر المجموعة ب��ح��ك��اي��ات يسردها أكتب ما أتقن كتابته وحسب‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪69 )2015‬‬


‫تتكثّف اللغة الشعرية عند الدرعان مع‬ ‫قدرة على سرد التفاصيل والغوص في حياة‬ ‫شخوصه واستنطاقها في نصوص مكثّفة‪،‬‬ ‫وعميقة التجربة‪ .‬كما تقترب النصوص‬ ‫من عالم بيئة القاص‪ ،‬بتداخالت النسيج‬ ‫االجتماعي عبر الحوارات المثقلة بحموالتها‬ ‫الداللية‪ ،‬مستفيدة من ترميزات الحكاية‬ ‫الشعبية‪ ،‬ثم تقتطع منها ما يُسهم في إثراء‬ ‫نسيج القص‪ ،‬دون الوقوع في نمطية طغت‬ ‫على نصوص كثير من كتاب القصة السعودية‬ ‫في تعاملهم مع البيئة االجتماعية‪ ،‬خالل‬ ‫نصوص تبدو وجدانية رومانسية‪ ،‬تنشغل‬ ‫كثيرا بالحنين إل��ى الماضي على حساب‬ ‫تقنيات الكتابة‪.‬‬ ‫يتحدث ال��درع��ان ع��ن ال��ن��ق��د‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫«ربما كان النقد مشغوال بالشعر أكثر من‬ ‫الفنون السردية لوقت طويل في السعودية‪.‬‬ ‫وانصراف النقاد كان حقاً يسبب لي امتعاضاً‬ ‫في البدايات‪ ،‬غير أنني أدركت فيما بعد أنه‬ ‫يتعين عليَّ أن أكتب‪ ،‬وهنا ينتهي دوري‪ ،‬فما‬ ‫عُدت بعد ذلك أهتم كثيرا للنقد»‪.‬‬

‫‪70‬‬

‫ث��م ي��ش��رح ال���درع���ان م��ا ح��ص��ل م��ن أث��ر‬ ‫السياسة على األدب فيقول‪« :‬في ذلك العام‬ ‫حدثت االنقسامات السياسية في العالم‬ ‫العربي على أثر الغزو العراقي للكويت‪ ،‬ولكن‬ ‫األس��وأ أن تلك االنقسامات طالت الشارع‬ ‫الثقافي‪ ،‬وت��ح �وّل كثير م��ن المثقفين إلى‬ ‫جوقة في عُهدة رجال السياسة؛ األمر الذي‬ ‫كان بمثابة الصاعقة لكاتب غ ّر ال يزال يشق‬ ‫طريقه في ميدان اإلب��داع‪ .‬ولم أجد آنذاك‬ ‫تعبيرا أفضل عن موقفي أكثر من إحراق‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫مجموعتي القصصية التي تزامن صدورها‬ ‫مع تلك الكارثة‪ ،‬ولم يكن في نيتي العودة إلى‬ ‫عالم الكتابة‪ .‬كنت أفضل أن أعيش درويشاً‬ ‫نقياً بعيداً عن كل ش��يء‪ ،‬ولكن هذا األمر‬ ‫لم يكن خاضعاً لقرار شخصي‪ ،‬ول��م يكن‬ ‫ليحدث بهذه السهولة‪.‬‬ ‫وس��ي��رة ال��درع��ان ال��م��ب��دع لمن أراد أن‬ ‫يعرفه‪ :‬هو عضو نادي الجوف األدبي‪ ،‬وهو‬ ‫من مواليد سكاكا شمالي السعودية عام‬ ‫‪1962‬م‪ ،‬أص��در مجموعة قصصية بعنوان‬ ‫«ن��ص��وص ال��ط��ي��ن» ع���ام ‪1989‬م ع��ن دار‬ ‫الشروق‪ ،‬لكنه أحرقها عام ‪1990‬م‪ .‬ثم أصدر‬ ‫مجموعة قصصية بعنوان «رائحة الطفولة»‪،‬‬ ‫نشرتها مؤسسة عبدالرحمن السديري‬ ‫في الجوف‪ .‬وقد افتتح المؤلف مجموعته‬ ‫بمقطع من «قسطنطين كفافي» منه‪:‬‬ ‫«وتقول لنفسك‪ :‬سوف أرحل‪ ،‬إلى بالد‪،‬‬ ‫إلى بحار أخرى‪ ،‬إلى مدينة أجمل من مدينتي‬ ‫هذه‪ ،‬لن تجد أرضا جديدة‪ ،‬وال بحارا أخرى‪،‬‬ ‫فالمدينة ستتبعك‪ ،‬وستطوف في الطرقات‬ ‫ذاتها‪ ،‬وتهرم في األحياء نفسها‪ ،‬وفي البيت‬ ‫نفسه سوف تشبّ وتموت»‪.‬‬


‫ُ‬ ‫السردي في تجربة القاص عبدالرحمن الدرعان‬ ‫الصوت‬ ‫خصوصية‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬

‫م� � � � � � � � � � � � � � � �ح � � � � � � � � � � � � � � ��ور خ � � � � � � � � � � � ��اص‬

‫الكتابة الواقعية وانفتاح النص‬ ‫‪ρρ‬أسماء صالح الزهراني‪ -‬السعودية‬

‫يمكن م�ق��ارب��ة ت�ج��رب��ة ال �ق��اص ع�ب��دال��رح�م��ن ال��درع��ان القصصية م��ن ع��دة زواي ��ا؛ لكن‬ ‫التوظيف الخاص للواقعية‪ ،‬يبدو لي أب��رز ما يميز نصوصه تقنياً‪ ،‬وجمالياً‪ .‬فالواقعية‬ ‫تُدرس في السرد من جانبين‪ :‬يتمثل أحدهما في التزام الكاتب بعرض تفاصيل تبرز عالم‬ ‫الشخصية‪ ،‬وفضاء الحدث؛ ويتمثل اآلخر في اختيار الكاتب شخصياته من عالم واقعي‪،‬‬ ‫قابل ل�ل�إدراك بمنطق العالم التجريبي‪ ،‬إذ ينحاز الكاتب لمعالجة موضوعات واقعية‪،‬‬ ‫بواسطة أدوات المنطق الواقعي‪ .‬ويبدو أن القاص عبدالرحمن الدرعان يتمثل الواقعية‬ ‫بجانبيها كليهما‪ ،‬فهو ينحاز لمناقشة أزم ��ات ال ��ذات اإلن�س��ان�ي��ة‪ ،‬ال��واق�ع�ي��ة‪ ،‬ف��ي مواجهة‬ ‫الطبيعة اإلشكالية للمجتمع الحديث‪ ،‬كما يلتزم بعرض أدق التفاصيل حول الشخصية‪.‬‬ ‫تجربة القاص عبدالرحمن الدرعان‪ ،‬إذ تأتي‬ ‫الواقعية ‪-‬بخالف التوظيف الكالسيكي لها‪-‬‬ ‫لتكون أداة إلطالق طاقات النص الجمالية‪،‬‬ ‫من خ�لال فك الرابط ‪-‬التقني‪ -‬بين حشد‬ ‫التفاصيل‪ ،‬وبين الرؤية المتعالية‪ ،‬التي تغيِّب‬ ‫رؤي��ة الشخصيات‪ ،‬وتحيّد القارئ‪ ،‬فتفرض‬ ‫عليه ما يجب أن يعرفه‪ ،‬دون أن تترك مجاالً‬ ‫ألي نشاط استداللي‪ ،‬جمالي‪.‬‬

‫ترتبط الواقعية ‪ -‬في الجانبين كليهما‪-‬‬ ‫بانغالق الرؤية السردية‪ ،‬التي تأتي من حشد‬ ‫التفاصيل بما ال ي��دع م��ج��االً لحركة رؤي��ة‬ ‫الشخصيات‪ ،‬وال لنشاط رؤية القارئ الجمالية‪.‬‬ ‫ويعود ذلك الرتباط سرد التفاصيل ‪-‬غالبا‪-‬‬ ‫بصوت الراوي العليم أو البطل‪ ،‬اللذين يتيح‬ ‫لهما موقعهما‪ ،‬وعالقتهما بالقصة‪ ،‬االطالع‬ ‫على التفاصيل‪ ،‬برؤية متعالية‪ ،‬تمتد لإلحاطة‬ ‫بوعي الشخصيات‪ ،‬وتغييب صوتها؛ سواء من‬ ‫وع��وض��اً ع��ن ال��رؤي��ة المتعالية‪ ،‬يختار‬ ‫جانب موضوعي‪ ،‬فيما يتعلق بالراوي العليم‪ ،‬القاص الدرعان أن يجسّ د الواقعية‪ ،‬بواسطة‬ ‫أم من جانب ذاتي‪ ،‬فيما يتعلق بالراوي البطل‪ .‬رؤية محدودة‪ ،‬يؤديها صوت الراوي الشاهد‪،‬‬ ‫وه��ن��ا ب��ال��ت��ح��دي��د ي��م��ك��ن ل��م��س اخ��ت�لاف ال��ذي ال يملك من موقعه وعالقته بالقصة‪،‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪71 )2015‬‬


‫سوى سرد مشاهداته‪ ،‬دون التطفل على وعي‬ ‫الشخصيات؛ ما يمنحها االستقالل‪ ،‬لتعيش‬ ‫أزم��ات��ه��ا ال��خ��اص��ة‪ .‬وي��أت��ي ال��وص��ف المشبع‬ ‫بالتفاصيل بصوت الراوي الشاهد‪ ،‬ما يسلبها‬ ‫صفة الحسم‪ ،‬ويجعلها مجرد مشاهدات‪،‬‬ ‫قابلة لتأويل القارئ‪ ،‬بل إنها بحاجة لنشاط‬ ‫استداللي‪ ،‬لفهم دالالتها‪ ،‬وهي بذلك تكتسب‬ ‫تعدداً في الدالالت؛ إذ يربطها كل قارئ بعالمه‬ ‫الخاص‪ ،‬ويفسرها في ضوء مرجعية خاصة‪،‬‬ ‫وهذا هو ما لبّ النشاط الجمالي للقراءة‪.‬‬ ‫وي��أت��ي اخ��ت��ي��ار ال����راوي ال��ش��اه��د م��ب �رَّراً‪،‬‬ ‫ليعوض عجز الشخصيات المؤسلبة الصوت‪،‬‬ ‫ع��ن س��رد قصصها‪ ،‬بحيث يقدمها ال��راوي‬ ‫ال��ش��اه��د وي��ب��س��ط ق��ص��ت��ه��ا‪ .‬ي��ض��ع ال��ق��اص‬ ‫شخصياته تحت الضغط في مواقف تبرر‬ ‫عل ّو النبرة الفردية للشخصية‪ ،‬وحركتها على‬ ‫خط االختالف والخصوصية الحادّين‪ ،‬اللذين‬ ‫يميزان الشخصية في القصة القصيرة‪ .‬هذه‬ ‫الحدّية ف��ي اخ��ت�لاف الشخصية‪ ،‬تبرز في‬ ‫شخصيات مؤسل َبة ال��ص��وت‪ ،‬يمتد عجزها‬ ‫إلى صوتها‪ ،‬فتتولى سرد قصصها أصوات‬ ‫أخ��رى (ش��اه��دة)‪ ،‬شخصيات مثل شخصية‬ ‫األم العروس‪ ،‬في قصة «العرس»‪ ،‬إذ هي بطلة‬ ‫صامتة‪ ،‬يتولى سرد أزمتها ابنها الطفل‪ ،‬الذي‬ ‫حرم منها بحيث ال يعرفها‪ .‬وشخصية «لوليتا»‪،‬‬ ‫الخادمة األجنبية التي ال يمكنها الحكي عن‬ ‫نفسها‪ ،‬فيروي قصتها االبن المعاق للعائلة‪،‬‬ ‫وشخصية األب الغائب عن الوعي في قصة‬ ‫«شمس مبكرة» ويروي قصته ابنه‪.‬‬

‫‪72‬‬

‫تكريم الدرعان بحضور‬ ‫عبدالعزيز السبيل وكيل وزارة الثقافة واإلعالم سابقاً‬ ‫وإبراهيم الحميد رئيس النادي األدبي بالجوف سابقاً‬

‫توظيف تقنية أكثر إقناعا‪ ،‬عبر تتبع تفاصيل‬ ‫خ��ارج��ي��ة‪ ،‬تجعل ال��ق��ارئ ي��ص��ل الن��ف��ع��االت‬ ‫الشخصية بطريق االستدالل‪ ،‬وتتطلبه اتخاذ‬ ‫مواقع متعددة ليكون أكثر تفاعال مع أزمة‬ ‫الشخصية‪ ،‬عوضاً عن أن تُقدَّ م إليه مباشرة‬ ‫راو عليم‪ ،‬وهذا‬ ‫بصوت الشخصية أو بصوت ٍ‬ ‫ما ينشط القراءة الجمالية لنصوص الدرعان‪.‬‬ ‫وتتمثل الميزة األخ���رى الختيار ال��راوي‬ ‫الشاهد‪ ،‬قدرة هذا النوع من الرواة على سرد‬ ‫تفاصيل دقيقة ال يمكن للشخصية اإلحاطة‬ ‫بها‪ ،‬إذ تكون خ��ارج محيط رؤيتها‪ ،‬كوصف‬ ‫حاالت األب المريض فاقد الوعي‪ ،‬في قصة‬ ‫«شمس مبكرة»‪ ،‬أو وصف سمات الشخصية‬ ‫بتمثيل وقعها على اآلخر‪ ،‬كتمثيل حزم األب‬ ‫م��ن خ�لال وق��ع��ه على ال���راوي ف��ي طفولته‪:‬‬ ‫«رمقتُه بامتعاض يوم أن تركني أرتجف في‬ ‫حجرة المدير بعدما وضع ملفي األخضر في‬ ‫الدوالب»‪.‬‬

‫هذا المزج بين العلم المحدود للشاهد‪،‬‬ ‫يتجاوز القاص ‪ -‬باختياره الراوي الشاهد‪ -‬والغياب الصوتي للشخصية‪ ،‬يجعل من سرد‬ ‫في قصصه استبطان الشخصية المباشر‪ ،‬إلى التفاصيل –بوصفها تقنية واقعية‪ -‬وسيلة‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫م� � � � � � � � � � � � � � � �ح � � � � � � � � � � � � � � ��ور خ � � � � � � � � � � � ��اص‬ ‫من اليمين‪ :‬عبدالرحمن الدرعان‪ ،‬د‪ .‬إبراهيم الدهون‪ ،‬زياد السالم أثناء أمسية بالنادي عام ‪2011‬م‬

‫ال ألن‬ ‫لفتح النص على ق���راءة نشطة جماليا‪ ،‬إذ بانفتاحه على نشاط القارئ‪ ،‬إذ يظل قاب ً‬ ‫ينطوي النص على موقعين رؤيويين‪ ،‬يمنحان ينكتب من جديد مع كل قراءة‪.‬‬ ‫النص حوارية وتعددية في األصوات‪ :‬أولهما‬ ‫الطفل ال��م��ح��روم م��ن وال��دت��ه‪ ،‬ف��ي قصة‬ ‫م��وق��ع ال����راوي ال��ش��اه��د‪ ،‬ب��م��ش��اه��دات��ه غير «العرس» أكثر قدرة على إبراز تجدُّد حرمانه‬ ‫المحسومة دالليا؛ ألن الشاهد فيها يتحدث منها في يوم عرسها‪ ،‬سيما أنه يصف هذا‬ ‫نيابة ع��ن شخصية مغيّبة صوتيا‪ ،‬عاجزة الحرمان دون وعي منه‪ ،‬في وصفه مظاهر‬ ‫عن النطق؛ فيظل حديثه في نطاق التفكير حزن والدته‪ ،‬وعائلتها ألجله‪ .‬وكذلك الراوي‬ ‫راو مثالي‪،‬‬ ‫وال��ح��دس‪ ،‬المفتوح على مشاركة ال��ق��ارئ‪ .‬المعاق في قصة «لوليتا»‪ ،‬وه��و ٍ‬ ‫وثاني الموقعين هو موقع الشخصية المؤسل َبة لمأساة البطلة‪ ،‬فهو يملك القدرة الذهنية‬ ‫بأزمتها‪ ،‬المغيَّبة بصوتها‪ ،‬وهو موقع يضفي على التقاط خصوصية أزم���ة الشخصية‪،‬‬ ‫الشكّ على منظور ال��راوي الشاهد‪ ،‬ويدخل وعجزها‪ ،‬من منظور أزمته الخاصة‪ ،‬ليبرز‬ ‫معه ف��ي ح���وار‪ ،‬تكتسب الشخصية صوتها ق��س��وة المجتمع ف��ي ال��ت��ع��ام��ل م��ع اإلن��س��ان‬ ‫فيه على مستوى القراءة‪ ،‬إذ يمنحها القارئ العاجز‪ .‬وهو يروي من دون تحليل‪ ،‬مظاهر‬ ‫صوتها باستدالالته‪ ،‬ويدخل كطرف ثالث‪ ،‬في ال يفهمها‪ ،‬وتتطلب استدالل القارئ على أزمة‬ ‫حوارية النص السردي‪.‬‬ ‫الشخصية‪ ،‬ما يبرز خصوصية اختيار الرواة‬

‫ويضيف تحديد شخصيات ال���رواة ‪-‬من كشهود محايدين‪ ،‬ال يملكون غالبا القدرة على‬ ‫حيث صفاتها وظ��روف��ه��ا وعالقاتها داخ��ل تحليل رؤيتهم‪ ،‬ليكون للقارئ كلمته ورؤيته‪،‬‬ ‫القصة‪ -‬ميزة أخ��رى إل��ى نصوص القاص‪ ،‬التي يشارك بها في كتابة نصوص الدرعان‪.‬‬ ‫وع��ب��ر ه���ذا ال��ت��ح��دي��د ل��ش��خ��ص��ي��ات ال����رواة‬ ‫وقد يوظّ ف الكاتب في عدد من نصوصه‪،‬‬ ‫استطاع القاص تحويل الكتابة الواقعية من ضمير المخاطب‪ ،‬ليجسِّ د الشخصية‪ ،‬واضعا‬ ‫المخاطب؛‬ ‫ِ‬ ‫أسلوب لغلق النص ل��دى كتاب آخرين‪ ،‬إلى الصوت السارد في الطرف المقابل‪،‬‬ ‫أسلوب لبناء نص مفتوح‪ ،‬يكتسب استمراريته فهل يمكن التعامل مع ضمير الخطاب كحضور‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪73 )2015‬‬


‫ل��ل��ق��ارئ؟ أم ه��و ت��ح��وي��ل ص��وت��ي ع��ن ضمير ليصبحا تحويلين لموقع ال���راوي الشاهد‪،‬‬ ‫المتكلم للراوي البطل؟ أو ضمير الغياب للراوي بميزاته التي تناولتها القراءة سابقا‪.‬‬ ‫العليم؟ يبدو أن االحتمال األخير هو األقرب؛‬ ‫هكذا يأتي هذا المونولوج من قصة «ربابة‬ ‫ألن تبديل ضمير المخاطَ ب إل��ى المتكلم أو‬ ‫م��ش��ع��ان»‪« ،‬أن���ت على ال��رغ��م منك تظل ابن‬ ‫الغائب ال يُحدِ ث فرقاً‪ ،‬على المستويين اللغوي‬ ‫القرية تخاف من األبواب التي تنفتح من تلقاء‬ ‫والمنطقي‪ .‬يعمل ضمير المخاطب على إدخال‬ ‫نفسها في فنادق الدرجة الممتازة والمطارات‬ ‫حوارية بين البطل ال��راوي وذات��ه؛ واألسلوب‬ ‫والمستشفيات الكبيرة‪ ،‬تتلفت كثيرا توقعا‬ ‫الخطابي هنا بمثابة مونولوج يمنح الراوي فيه‬ ‫للمباغتة كأن أحدا يتتبع خطواتك‪ ،‬وال تحسن‬ ‫ذاته بعدا تأويليا؛ إذ يضع مسافة بينه وبين‬ ‫قيافة مالبسك‪ ،‬وعندما جربت أن ترتدي‬ ‫ذات��ه‪ ،‬وكأنه يتأملها‪ ،‬ويحلل سلوكها‪ ،‬مانحا‬ ‫البدلة كنت تتملى جسدك في المرايا كما لو‬ ‫الصالحية ذات��ه��ا ل��ل��ق��ارئ‪ ،‬ومُضفيا حوارية‬ ‫كنت عاريا‪ ،‬وتدس يدك في جيبك لتع ّد نقودك‬ ‫صوتية على الخطاب السردي‪.‬‬ ‫بطريقة اللمس كالعميان»‪ .‬ويضع الراوي ذاته‬ ‫ه��ذا هو الحال في المونولوج التالي من‬ ‫في هذا المونولوج موضع السؤال‪ ،‬حتى إن لم‬ ‫قصة «دم الجمعة»‪( ،‬ج��راح كثيرة استطعت‬ ‫يأت السؤال بصيغة صريحة‪ ،‬إنه يواجه الذات‬ ‫أن ت��ت��ج��اوزه��ا ب��م��رور ال��وق��ت‪ ،‬م��وت عاهل‪،‬‬ ‫المخاطَ بة‪ ،‬ويعرض األزمة التي تعانيها‪ ،‬جراء‬ ‫إهانات إخفاق‪ ،‬وحرمان‪ ،‬تحكي تفاصيلها اآلن‬ ‫التحول من بيئة القرية‪ ،‬لضياع المدينة‪ ،‬في‬ ‫بحياد كأنك تستدينها من ذم��ة الزمان على‬ ‫صورة جمل مفتوحة على الدهشة‪ ،‬فاألبواب‬ ‫سبيل الوفاء فقط‪ ،‬بيد أنها لم تعد تخصك‪.‬‬ ‫التي تنفتح من تلقاء نفسها‪ ،‬تظل لغزا في‬ ‫فقد تعلمت بالوراثة أن تصدق كل الشائعات‬ ‫ال وعي الشخصية‪ ،‬مهما طال به المقام في‬ ‫التي كان أهل قريتك يروجون لها مثل مبدأ‬ ‫«أن الصعوبات التي تذل اإلنسان ويعجز عن المدينة‪ ،‬ومثلها ك��ل مظاهر المدينة التي‬ ‫تتناقض مع روحه‪.‬‬ ‫التصدي لها تتكفل بمحوها األيام»)‪.‬‬

‫‪74‬‬

‫وال يغيب التوظيف الواقعي للسرد‪ ،‬عن هذه‬ ‫المونولوجات؛ فالراوي يستدعي فيها تفاصيل‬ ‫الطفولة‪ ،‬وتفاصيل الحاضر‪ ،‬وتفاصيل القرية‪،‬‬ ‫وتفاصيل المدينة‪ ،‬وتفاصيل مادية‪ ،‬وتفاصيل‬ ‫نفسية‪ ،‬لكنه يحشدها ليضاعف مساحة‬ ‫األسئلة‪ ،‬ال ليغلق اإلجابات‪ ،‬يسجّ لها من موقع‬ ‫محايد‪ ،‬إذ يسلب القاص الراوي العليم والبطل‬ ‫ميزاتهما الرؤيوية‪ ،‬في السرد من موقع رؤية‬ ‫متعالية‪ ،‬تاركاً لهما صالحية التساؤل فحسب‪،‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫وختاما‪ ،‬ال يفوت القارئ لنصوص القاص‬ ‫ال��درع��ان‪ ،‬والمتتبع ل��ح��وارات��ه الصحفية‪،‬‬ ‫توجهه للتجريب‪ ،‬والخروج عن التقليدية‪ ،‬في‬ ‫نصوصه‪ ،‬التي تعكس بدورها هذا التوجه‪،‬‬ ‫بخصوصية تجعل لكل نص عالمه الخاص‪.‬‬ ‫ومن الملفت تصريح القاص في أكثر من لقاء‬ ‫صحفي عن طموحه لتقديم تجربة مختلفة‪،‬‬ ‫ق��ادرة على إث��ارة أسئلة النقد السردي‪ ،‬ال‬ ‫مجرد حضور تراكمي‪.‬‬


‫‪ρρ‬جبير املليحان‪ -‬قاص وكاتب من السعودية‬

‫وأنا أراه أول مرة مقبال؛ بعينيه الذكيتين‪ ،‬الباسمتين‪ ،‬الحييّتين‪ ،‬قلت هذا هو الرجل‬ ‫اآلشوري‪ .‬كان البتسامته وقع صداقة قديمة؛ ال يمكن إال أن يبتسم قلبك‪ ،‬وتمتلئ نفسك‬ ‫بالمودة وأنت تصافحه‪ .‬هو عبدالرحمن الدّ رعان‪.‬‬ ‫يا عبدالرحمن الدرعان‪ :‬هل كنت تبحث في عيون الناس‪ ،‬وخطواتهم في ممرات العشب‪،‬‬ ‫عن أحالمهم التي سقطت قسرا‪ ،‬وهم يجهدون راكضين في تعب الحياة! حياة (أدوماتو)‬ ‫التي تعج بالحروب‪ ،‬واألط�م��اع؟ وكيف كنت تسجل يومياتك لملكاتِ ك العربيات كزبيبة‪،‬‬ ‫وطايو‪ ،‬وشمسي‪ .‬هل كنّ ملكات حق ّا يقُ دْ َن شعوبهن إلى انتصارات كبيرة‪ ،‬أم مجرد نسوة‬ ‫يثرثرن كرجال هذا الزمان! ما الذي تحمله لنا‪ ،‬ولم تقله حتى اآلن‪ ،‬وأنت خبير بكل أسرار‬ ‫الصمت! بل حدثنا عن عودتك من تلك األزمنة البعيدة التي غُ طيت بنسيان متعمد‪ ،‬بحيث‬ ‫تندهش العقول عند ذك��ره��ا‪ ،‬وكأننا نتلو طالسم الجن‪ .‬هي (دوم��ة الجندل) التي كانت‬ ‫عاصمة عربية في القرن الثامن قبل الميالد‪ ،‬حيث كانت ضمن ممتلكات قبيلة (قيدار‬ ‫اإلسماعيلية العربية)‪ ،‬وعاصمة لعدد من ممالك لملكات عربيات مثل(تلخونو‪ ،‬وتبؤه‪،‬‬ ‫وتاربو‪ ،‬وأياتي) وما ذكر أعاله‪.‬‬

‫م� � � � � � � � � � � � � � � �ح � � � � � � � � � � � � � � ��ور خ � � � � � � � � � � � ��اص‬

‫ٌ‬ ‫الصمت‬ ‫أسرار‬ ‫رجل لديه‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬

‫أن��ت يا عبدالرحمن ال��درع��ان تسكن اآلن في غير الملكة العربية (زنوبيا) ذات القول المشهور‪:‬‬ ‫بيت طينه من طين قصور تلك الملكات‪ ،‬ولعل قرط (تمرد م��ارد وع��ز األب��ل��ق)‪ .‬فماذا قالت لك هذه‬ ‫إحداهن‪ ،‬أو بعض أساورهن‪ ،‬ما زالت تلتصق في الملكة؟‬ ‫إحدى زوايا بيتك‪ .‬ولنا أن نسألك‪ :‬وآخر الليل يضم‬ ‫إن ما قالته ذات ابتسامة منك‪ ،‬في ذات لقاء‪:‬‬ ‫وحدتك‪ ،‬هل تصلك همساتهن‪ ،‬وهن يصرفن أركان أنها أحست بخيبة كبيرة وه��ي ترتد عاجزة عن‬ ‫الملك‪ ،‬والحاشية‪ ،‬وآخ��ر الخدم‪ ،‬ثم يدلفن إلى اقتحام قلعة م��ارد الحصينة في دوم��ة الجندل‪.‬‬ ‫مخادعهن‪ .‬ما الذي كان يدور هناك من ٍ‬ ‫همس؟ هل وال شك عندي أنك صافحت الملك العربي امرؤ‬ ‫يرتبن برنامج يوم جديد لتقديم المنافع لشعوبهن‪ ،‬القيس وهو في طريقه إلى ملك الحيرة‪ .‬فهل قال‬ ‫أم يخططن لغزوة جار‪ ،‬أو ملك آخر جا َر على ناسه؟ أبياتا لك لم نسمعها‪.‬‬ ‫أي��ه��ا ال��ع��ارف ب��دف��ائ��ن ال��ت��اري��خ‪ ،‬والمسكوكة‬ ‫مالمحه من تفاصيل تلك األزمنة البعيدة‪ ..‬قل لنا‬ ‫يا عبدالرحمن؛ فنحن جياع إلى معرفة ما كان يُدار‬ ‫تحت تلك البيوت‪ ،‬وما الذي جرى‪ ،‬وكيف هبّت رياح‬ ‫الزمن مسقطة القالع‪ ،‬نحن‪ ،‬أو بعضنا ال يعرف‬

‫أن��ت ف��ي قلب ال��ت��اري��خ المنسي م��ن قبلنا يا‬ ‫عبدالرحمن‪ ،‬ففي مدينتك كانت سوق مشهورة‪،‬‬ ‫والباحث الكبير ج��واد علي (المفصل في تاريخ‬ ‫العرب قبل اإلس�لام‪ )1() ،‬ذكر أن أهل دومة كانوا‬ ‫يقرأون ويكتبون‪ ،‬وأن أحدهم علّم أهل مكة ذلك‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪75 )2015‬‬


‫الدرعان محاضراً في لقاء األربعاء للقراءة بنادي الجوف األدبي عام ‪2011‬م‬

‫ثم أتى مكة في بعض شأنه‪ ..‬وتزوج الصهباء بنت‬ ‫حرب بن أمية بن عبدشمس القرشي أحد رؤساء‬ ‫أهل مكة قبل اإلسالم‪ ،‬إذ رآه سفيان بن أميه بن‬ ‫عبدشمس وأب��و قيس بن عبدمناف بن زه��ره بن‬ ‫كالب يكتب‪ ،‬فسأاله أن يعلمهما الخط‪ ..‬فعلمهما‬ ‫الهجاء‪ ،‬ثم أراهما الخط فكتبا‪ ،‬وأزعم أن السؤال‬ ‫المقلق ك��ان يش ّع من عينيك‪ ،‬وأن��ت تقف منصتا‬ ‫لما يقوله هذا الشمالي للرجلين‪ ،‬ثم تركض إلى‬ ‫البيت‪ ،‬وتأخذ قصبة‪ ،‬وتبدأ الكتابة بخطك األزرق‬ ‫الجميل(‪.)2‬‬

‫‪76‬‬

‫ليس منطقة الجوف‪ ،‬بل وتعداها إلى مناطق أخرى‪،‬‬ ‫وال أنسى أسبوع استضافتكم ألسرة نادي المنطقة‬ ‫الشرقية‪ ،‬وتشاركنا األنشطة أسبوعا كامال‪ ،‬كنت‬ ‫أنت القائد‪ ،‬وكان معك من رفاقك األغنياء بالثقافة‬ ‫وال��ف��ن‪ ،‬وال���ود والتهذيب‪ ،‬م��ا جعل ن��ادي منطقة‬ ‫الجوف إحدى العالمات البارزة في مسيرة تحديث‬ ‫األن��دي��ة األدب��ي��ة في عهد وزي��ر الثقافة واإلع�لام‬ ‫األسبق‪ ،‬األستاذ إياد مدني‪ ،‬ووكيل الوزارة للشؤون‬ ‫الثقافية السابق‪ ،‬الدكتور عبدالعزيز السبيّل‪.‬‬ ‫يا صديقي عبدالرحمن الدرعان‪ :‬أنت َغ ِن ٌي غِ نَى‬ ‫األرض بما فيها من تاريخ ضخم ومبهر؛ ال ينحصر‬ ‫في ممرات األقدام بين صخور ومفازات الصحاري‪،‬‬ ‫أو بقايا صيحات النصر‪ ،‬ون����داءات (ال��ف��زع��ة)‪،‬‬ ‫ومواويل العشق‪ ،‬واألمل والغناء‪ ،‬وأصوات الربابة‪،‬‬ ‫وهديل قطرات المطر وهي تبلل أجنحة الطير‪.‬‬ ‫بل مسيرة أمم وحضاراتها ما تزال تتنفس تحت‬ ‫النسيان‪ ،‬قابعة حزينة‪.‬‬

‫أما وأنت في سوق دومة الجندل‪ ،‬فكنت تصغي‬ ‫إلى غناء القوم بأوجهه الثالثة‪ :‬النصب‪ ،‬والسناد‪،‬‬ ‫والهزج‪ .‬وكما نقل لنا التاريخ‪ :‬فاألول غناء الركبان‬ ‫والفتيان والقينات‪ ،‬وأما السناد فثقيل ذو ترجيعات‬ ‫كثير النغمات والنبرات‪ ،‬وأما الهزج فالخفيف الذي‬ ‫يرقص عليه‪ ،‬وينشد بالدف والمزمار‪ ..‬أعرف أنك‬ ‫كنت تسمع‪ ،‬وربما غنيت‪ ،‬ربما قلت شعرا ُغنِيَ ‪،‬‬ ‫ربما ما زلت تتذكر صدى تلك األصوات‪ ،‬وربما وهو‬ ‫ي��ا صديقي‪ :‬لذلك أن��ت دائ��م اإلش���راق بتلك‬ ‫(‪)3‬‬ ‫ما ال استبعده كنت واقفا عند أحد (الرجاجيل) االبتسامة المطمئنة‪ ،‬والخطو المتمهل‪ ،‬فأنت‬ ‫تنظر كيف يدورون‪ ،‬وينشدون‪ ،‬وهم يقدمون النذور‪ .‬شاهد حي‪ ،‬وكأنك تقول لمن يرفع صوته زاعقا‬ ‫وه��ا أن��ت تمسك بنا‪ ،‬وتعود محلقا إل��ى وقتنا بخطوه‪ ،‬أو سيارته‪ ،‬أو ماله‪ ،‬أو منصبه‪ ،‬أو نسبه‪ ،‬أو‬ ‫الحاضر‪ ،‬ومع بوابة النادي األدبي بمنطقة الجوف‪ ،‬خوائه‪ ...‬؛ تمهلّ! فأنت ال تعرف أنك فوق فردوس‬ ‫تجلسنا في بهو األدب والفن‪ ،‬الذي شعَّ‪ ،‬وأضاءَ‪ ،‬ثمين‪ .‬خفف وطأك‪ ،‬واقرأ عالمات األرض‪ ،‬أن كنت‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫ن��ح��ن أص���دق���اؤك ننتظر م��ن��ك ب��ع��ض ك��ن��وزك‬ ‫المخبأة (رس��م‪ ،‬وأنت ترسم‪ ،‬شعر‪ ،‬وأنت شاعر‪،‬‬ ‫وقصص وحكايات‪ ،‬وأن��ت من يجيد خياطتها من‬ ‫أثواب التاريخ والذكريات المتفرقة في ثنايا الزمن‬ ‫واألرض)؛ ذلك أنك تعيدنا إلى حقيقة نفوسنا‪،‬‬ ‫وترينا بعض مالمح وجوهنا الغائبة في زمن يركض‬ ‫ويأخذنا بـ (عَجَّ تِه) دون أن نعرف الجهات‪ .‬نريد أن‬ ‫نرى سماواتنا مفتوحة للحياة‪ ،‬ال يظللها غير غيوم‬ ‫المحبة‪ .‬خفف يا صديقي من العبء الثقيل الذي‬ ‫واحك لنا حكاياتنا التي طمست‪ ،‬وأسمعنا‬ ‫ِ‬ ‫تنوء به‪،‬‬ ‫بعض غنائنا الذي ال تعرفه اآلن حناجرنا‪ .‬قل هل‬ ‫لنا صوت لنغني غداً؟ و ِل َم توقف اإلنسان فقط عن‬ ‫الغناء‪ ،‬وبقيت الذئاب تعوي في فالءاتها‪ ،‬والحمام‬ ‫يسجع‪ ،‬والطيور تغرد؟ هل بقي فينا أمل نتحرّى‬ ‫فيه بروق الفرح‪.‬‬

‫ولما رفع الموظف قبضته عن الجواز‪ ،‬ومهره‬ ‫بتوقيع أشبه بمراغة حمار‪ ،‬تنفست الصعداء‪،‬‬ ‫واعترتني وعكة أمان لذيذة‪ ،‬ودافئة‪ .‬صحت‪ ،‬لقد‬ ‫انتهينا أخيراً‪.‬‬

‫م� � � � � � � � � � � � � � � �ح � � � � � � � � � � � � � � ��ور خ � � � � � � � � � � � ��اص‬

‫راشدا‪ .‬تقول لهم ذلك‪.‬‬

‫الجمال الهامل‪ .‬ينتظرون إجازاتهم بفارغ الصبر‪،‬‬ ‫ك��ان اهلل ف��ي ع��ون��ه��م‪ ،‬أل��س��ت م��وظ��ف�اً؟ ب��ل��ى‪ .‬هل‬ ‫سيعتقلون الشاب برأيك؟! أبداً‪ ،‬ففي هذا المكان‬ ‫ادفع بالتي هي أحسن‪ ،‬وتوكل على اهلل‪ .‬حسناً وأنت‬ ‫ألم تعطهم النقود بعد؟ بلى‪ ،‬ولكن هل تريدهم أن‬ ‫يعتبرونا دبلوماسيين ويفتحون لنا الطريق من أجل‬ ‫دراهم قليلة!‬

‫وك��ان الليل يمضي‪ ..‬وري��ح موغلة في البرودة‬ ‫تعانقنا بعد أن ه��دأ المطر‪ ،‬ونحن نعتل المتعة‬ ‫الجاثمة تحت المرآب الطويل في انتظار المفتش‪.‬‬ ‫أحد األوالد أغراه القفص وجاء يداعب الببغاء التي‬ ‫يا صديقي عبدالرحمن‪:‬‬ ‫نفشت ريشها هلعا وجعلت تتأرجح في يدي‪ ،‬بينما‬ ‫نحن ما نزال نلتفت شماال‪ ،‬ونرى وجهك يشب ُههُ‪،‬‬ ‫رحت أحدق تارة في غيمة نساء سوداء تختفي في‬ ‫حتى وأن��ت في الجوف‪ ،‬فإننا نتخاطر معك في‬ ‫األوتوبيس‪ ،‬وتارة في البيرق الذي يخفق في الريح‬ ‫ال��ود‪ ،‬والهم‪ ،‬والسرد‪ ،‬ونبض التاريخ‪ ،‬في فيافي‬ ‫كغراب مصفد من مخلبيه‪.‬‬ ‫صحارينا الواسعة‪.‬‬

‫اشتريت تبغاً‪ ،‬وجرائد بسعر مضاعف‪ ،‬وانشغلت‬ ‫***‬ ‫بأناقة المالبس‪ ،‬وعند ركوبنا طرحت بحساب‬ ‫مقطع من نص (ليلة الحشر)(‪:)4‬‬ ‫ذهني ثمن الرشوة‪ ،‬ومصاريف الطريق‪ ،‬وثمن التبغ‬ ‫أليس غريباً هذا الزحام في البرد؟‬ ‫والجرائد‪ ،‬ق��ال لي صاحب التاكسي على سبيل‬ ‫إنه برد الجمارك‪ ،‬يا حبيبي‪ ،‬فهناك ستمل من النصيحة‪ :‬إن وراءك أعماالً ال نستطيع إنجازها‬ ‫الدفء‪.‬‬ ‫إال بدفع النقود‪ ،‬كما يجب أال تنسى حساب تسديد‬ ‫أعني أنه ليس موسم سياحة!‬ ‫المخالفات (!!)‪ ،‬وكانت عناقيد الضحى تغمر األفق‬ ‫كل ما في األم��ر أن الناس بعد رمضان مثل األزرق فلم أعد بحاجة إلى معرفة الوقت‪.‬‬

‫(‪ )1‬المجلد الثامن‪ ،‬ص ‪163‬‬ ‫(‪ )2‬عبدالرحمن خطه اليدوي فائق الجمال‪.‬‬ ‫(‪ )3‬أعمدة الرجاجيل موقع أثري في منطقة الجوف في ضاحية قارة‪ ،‬جنوبي سكاكا يتكون الموقع من‬ ‫خمسين مجموعة من األعمدة الحجرية المنتصبة‪.‬‬ ‫(‪ )4‬موقع القصة العربية‪ ،‬عبدالرحمن الدرعان‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪77 )2015‬‬


‫العشق!‬ ‫متجدد‬ ‫شمالي‬ ‫الدرعان‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫‪ρρ‬خالد أحمد اليوسف‬

‫في الوقت الذي أنتظر فيه رسالة من عبدالرحمن الدرعان يخبرني فيها عن كتابته شهادة‬ ‫عن تجربته القصصية‪ ،‬وقد وعد بذلك منذ سنتين مضت‪ ،‬تأتيني الدعوة لكتابة شهادة عنه‬ ‫بما ارأه أو أعرفه أو قرأته عنه!‬ ‫صراحة ضحكت وصدمت وتألمت! كيف لي أن أكتب عن صديق يماطل أو يراوغ أو يهمل‬ ‫سجل حياته الثقافي؟ ورأي��ت ذل��ك بنفسي م��ن خ�لال تواصلي واتصالي ب��ه ملحا ومطالبا‬ ‫بالكتابة‪ ،‬كيف لي أن أكتب عن من بدأ حياته القصصية بحرق مجموعته األولى؟ وتأكد هذا‬ ‫من األخبار ثم التصريح الصريح منه‪ ،‬كيف لي أن أكتب عن مبدع حقيقي ال يهتم بإبداعه؟‬ ‫وكيف وكيف وكيف؟ أسئلة تترنح أمامي عن عبدالرحمن الدرعان المثقف التربوي اإلداري‬ ‫األديب المبدع‪ ،‬خصوصا أننا نقترب الخطى والمسيرة في السرد القصصي‪ .‬إال أن الدرعان‬ ‫شاعر ًا نثريا جميال‪ ،‬وله الكثير من القصائد التي اغتالها ولم تصدر في ديوان‪ ،‬على الرغم من‬ ‫نشره كثير منها في صحافتنا المحلية‪ ،‬والحديث نفسه مع قصصه القصيرة التي لم يحتفل‬ ‫بها إال في مجموعتين قصصيتين‪ ،‬وهو صاحب التاريخ الطويل في القصة القصيرة!؟‬ ‫س���أع���ود ل��ل��درع��ان ف���ي ظ���اه���رة اإله��م��ال يا عبدالرحمن ال يرحم ويطوي سجالته طياً‪..‬‬

‫والنسيان‪ ،‬وهي ظاهرة متفشية بين عدد كبير أتمنى ‪ -‬وتعرف مكانتك عندي ‪ -‬أن تعيد ترتيب‬

‫من المبدعين‪ ،‬ومن هذه الظاهرة ينبثق السؤال‪ :‬نفسك وأوراقك لتُخرج إلينا كل ما كتبته؛ ألنه‬

‫ال ‪ -‬عبداهلل نور أديبا وناقدا ذاكرة إبداعية ال يمكن أن تُنسى‪ ،‬وهي المثال‬ ‫لو لم نعرف ‪ -‬مث ً‬ ‫في صحافتنا فكيف لنا أن نعرف ذلك وهو مثال الرائع إلبداعنا‪ ،‬وهي المثال المتكامل لسردنا‬ ‫اإلهمال ألعماله التي لم تجمع في كتاب؟ لو لم المتميز‪ ،‬ألن��ك م��ن أميز كتابنا السعوديين‪،‬‬

‫تجمع قصائد حمد الحجي بعد وفاته فكيف لنا ووج��ه الشمال األول في السرد‪ ،‬وقت لم يكن‬

‫أن نصل إليها؟ هل أبحث في ذاكرتي عن كل في الشمال إال بعض الشعراء وكتاب المقالة‪،‬‬ ‫تنس أن من يحب‬ ‫األسماء السعودية؟ وعبدالرحمن الدرعان يسير وأنت العاشق شماال للوطن ال َ‬ ‫في دربهم ألن��ي شخصياً طلبت منه نصوصاً كتاباتك ينتظرك بشوق في كتاب جديد‪ ،‬وأعتذر‬

‫‪78‬‬

‫كثيرة ويخبرني أنه ال يعلم أين ذهبت! التاريخ عن قسوتي األخوية!!‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫تأت إال حب ًا‬ ‫عفواً‪ ،‬ال ِ‬

‫‪ρρ‬تركية العمري‪ -‬شاعرة وقاصة ومترجمة من السعودية‬

‫م� � � � � � � � � � � � � � � �ح � � � � � � � � � � � � � � ��ور خ � � � � � � � � � � � ��اص‬

‫عـبدالرحمن الدرعان‬

‫أيها المتدثر بالصمت‪،‬‬ ‫إنني أؤم��ن بأنك لو خلعت عباءة نرجسية صمتك‪ ،‬وفتحت عطور الصبايا‪ ،‬النطلقت‬ ‫حكاياتهن الندية‪ ،‬وسكتت الريح‪ ،‬واخترقت ينابيع م��اء وج��ه الصحراء المتشقق‪ ،‬ويمم‬ ‫العشاق صبابة خطاهم نحو ضفة من شمال ال تُغنِّي إال للحب‪.‬‬ ‫وأؤم��ن لو تتبعت مواعيد عاشقات الفرح اللؤلوية‪ ،‬ورص��دت لهفة أقراطهن بلقاء من‬ ‫تحب‪ ،‬ألورقت في كل الجهات مواعيد قرمزيه‪.‬‬ ‫وأؤمن بأنك وحدك أيها البعيد‪ ،‬القريب‪،‬‬ ‫ووح��دك تسامرك حكايات ذاك العاشق‬ ‫م��ن ت��ع��رف أغ��ن��ي��ات س��ي��دات البنفسج‪ ،‬في البدوي‪.‬‬ ‫ماسكات شعورهن‪ ،‬وتتسع‬ ‫ٍ‬ ‫لحظات تتغنج‬ ‫أيها المدثر بليل الغياب‪،‬‬ ‫مراياهن وتصبح كل الكون‪.‬‬ ‫ق��م‪ ،‬واك��ت��ب لنا حكايات وم�لاح��م عشق‪،‬‬

‫وأؤم��ن بأنك وح��دك تسمع حديث غيرة لتثير فينا م��واس��م الحياة‪ ،‬وتحرضنا على‬ ‫األساور‪ ،‬وتبتسم‪ ،‬وتبتسم‪.‬‬ ‫إشعال شموع وجدنا كل مساء‪ ،‬وتجعلنا نلتصق‬ ‫وأؤمن بأنك تشم عن بٌعد رائحة الياسمين بأغنية الفيروز (حبيتك تنسيت النوم)‪ ،‬لننسى‬ ‫المخبأ في يد عاشقة من حبيبها النبيل األنيق‪ .‬النوم‪.‬‬ ‫وأؤمن بأنك تتذكر متيمة رقيقة ترى مالمح‬ ‫حبيبها الغائب في وجوه أصدقائه‪ ،‬وتبكي‪.‬‬

‫أيها المدثر بالريح‪،‬‬

‫قـم وأمطرنا غيث لغتك الفاتنة‪ ،‬وعبِّ ء لنا‬ ‫ووح���دك تعبر ب��ك مالمح أن��ث��ى‪ ،‬عرشها من حقولك اليانعة‪ ،‬ســالل قصائد‪ ،‬وخجل‬ ‫الماء‪ ،‬وتحكي لك تاريخ نبض كلماتها‪ ،‬تلك قبل‪ ،‬وضع في أيدينا باقات اشتياق وفرح‪،‬‬ ‫األنثى التي شقت كل الوصايا‪ ،‬ولوّحت لحبيبها لنزداد يقينا نحن النساء بـوجود حب يـدلل‬ ‫الفالح الصعب بقلبها‪.‬‬ ‫مساءات شرائط ليلكنا‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪79 )2015‬‬


‫النفسي الكفكاوي‬ ‫الواقع‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬

‫والمعنى الوجودي في «نصوص الطين»‬ ‫‪ρρ‬د‪ .‬هويدا صالح ‪ -‬القاهرة‬

‫الحلم ظ��اه��ر ٌة من ظواهر النفس البشريَّة‪ ،‬وكثيرا ما ينصت الناس ألحالمهم‪ ،‬فهي‬ ‫تمثل صوت الالوعي وتخبر عن الكامن في الالشعور‪ ،‬وربما يعدها بعضهم أنها تخبر عن‬ ‫المستقبل وما يمكن أن يحدث في حياة اإلنسان‪ .‬إن األحالم هي تلك األصوات التي تخبرنا‬ ‫عن ذواتنا العميقة بتفاصيلها المدهشة‪ ،‬وهي تحمل ق��درا كبيرا من الرمزية وال��دالالت‬ ‫تجسد أفكار الناس‬ ‫التي تحتاج لقراءة متأملة‪ ،‬فتفكك شفرات ه��ذه األح�لام التي ربما ّ‬ ‫ومشاعرهم‪ ،‬مستعينة بتلك اللغة الصورية الرمزية الفريدة‪ ،‬المتحررة من المنطق ومن‬ ‫قيود الحقائق المفككة دون الخضوع لمنطق الزمان والمكان‪ ،‬بل قد تتداخل فيها األزمنة‪،‬‬ ‫وقد يحضر فيها أشخاص ما كانوا ليحضروا في الواقع‪.‬‬ ‫ومثلما حظيت األحالم باهتمام البشرية عبر عصور التأريخ كلها؛ استقطبت األحالم‬ ‫اهتمام كتّاب القصة‪ ،‬وبات العديد منهم مأخوذين بها‪ ،‬وحملهم ذلك على تصويرها في‬ ‫قصصهم وتوظيفها توظيفـًا يطوعون به دالالتها اإليحائية والرمزية ؛ لخدمة مضامينهم‪،‬‬ ‫ولتشييد بنائهم القصصي‪.‬‬

‫‪80‬‬

‫ويعد توظيف الحلم في القصة القصيرة‬ ‫تقنية سردية مغايرة تحتاج لقدرات إبداعية‬ ‫وج��م��ال��ي��ات فنية‪ ،‬حتى يستطيع ال��ك��ات��ب أن‬ ‫يستخدمها تقنية سردية في بنائه الفني‪ .‬لكن‬ ‫األمر يحتاج لمهارة خاصة نظراً لصعوبة هذه‬ ‫البنية الحلمية وصعوبتها‪ ،‬وجماليتها في الوقت‬ ‫نفسه‪ ،‬واستخدام المخيال الحلمي يسهم في‬ ‫تحرير السرد وإط�لاق ال�لاوع��ي‪ ،‬كما يساعد‬ ‫على كتابة ال�لام��ق��ول والمقصى م��ن ال��ذات‬ ‫المبدعة؛ لذا تتوفر لألحالم كطرائق سردية‬ ‫على العديد من الدالالت والشفرات التي تحتاج‬ ‫إلى وعي إبداعي حاد من القارئ ليتمكن من‬ ‫فك شفراتها‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫وقد استطاع القاص عبدالرحمن الدرعان‬ ‫في مجموعته «نصوص الطين» أن يفيد من‬ ‫هذه التقنية بمهارة ووع��ي لمنطقها الخاص‪.‬‬ ‫وقد أصدر الدرعان هذه المجموعة القصصية‬ ‫عام ‪1989‬م عن المركز العربي للتوزيع ببيروت‪،‬‬ ‫وكعادة الحالمين من المبدعين‪ ،‬أحرق الدرعان‬ ‫مجموعته القصصية! كنوع من االحتجاج الصارخ‬ ‫على موقف المثقفين من الحرب العراقية على‬ ‫الكويت‪ ،‬وذلك االنقسام الحا ّد الذي حدث بين‬ ‫المثقفين العرب‪ ،‬وع��دم وض��وح رؤي��ة وموقف‬ ‫للمثقف العربي م��ن ق��ي��ادة بلد عربي تعتدي‬ ‫على بلد عربي شقيق‪ .‬قام الدرعان في رد فعل‬ ‫يوتوبي بإحراق المجموعة‪ ،‬وتوقّف عن الكتابة‬


‫تتكون المجموعة م��ن ع��دد م��ن النصوص‬ ‫القصصية التي تفيد معظمها من تقنية الحلم‪،‬‬ ‫وتصور هواجس الذات وقلقها الوجودي تجاه‬ ‫العالم؛ ل��ذا‪ ،‬نجد أنفسنا أم��ام مجموعة من‬ ‫المشاهد السيريالية ال��ت��ي تعيشها ال��ذات‬ ‫الساردة‪ ،‬عبر لغة بسيطة وإيقاع سردي يُراوح ما‬ ‫بين البطء والسرعة؛ كما لو أننا في حلم طويل‬ ‫تتكاثر فيه االنتقاالت والتحوالت‪ ،‬وتتداخل فيه‬ ‫األماكن واألزمنة والشخوص دون تعيين واضح‬ ‫لوقائع األماكن والشخوص‪« :‬وقفوا على حافة‬ ‫بئر مهجورة ومنتنة‪ ،‬وكان العالم يتخذ مكانه في‬ ‫الصمت ويهدأ إال من صراخي‪ ،‬وضحك الرجال‬ ‫على حافة أقدم بئر‪ ...‬اختلفوا‪ ،‬وجسمه يتدلى‬ ‫بين أيديهم‪ ،‬على الطريقة التي يجب أن تنتزع‬ ‫بها روحه أشد االنتزاع‪ ،‬ثم اعتقوه لماء البئر‪..‬‬ ‫صرخت فيهم‪ :‬اتركوني‪ ،‬اتركوني‪ ،‬وكأنه أنا‬ ‫واهلل‪ ،‬أريد أن أنام‪ ،‬أريد أن أنام م م‪ ..‬صحوت‬ ‫مبتال بالماء والخوف والقنوط‪ ،‬ووجدت لوزتي‬ ‫الملتهبتين تلتصقان ف��ي ال��ط��رف السفلي‬ ‫للوسادة‪ ..‬ابتلعتهما بنفس الطريقة اليومية‪،‬‬ ‫وفي قرارة نفسي أسأل كيف ابتلع هذا العالم»‪.‬‬

‫ينهض العمل على وش��ائ��ج ورواب���ط تربط‬ ‫ه��ذه النصوص بجانب توظيف تقنية الحلم‪،‬‬ ‫فالسارد بضمير األنا واحد في كل النصوص‪،‬‬ ‫وغالبا يستدعي أمه أو حبيبته فاطمة‪ ،‬كما أن‬ ‫التفاصيل والمناخات السردية متقاربة‪ ،‬كذلك‬ ‫تفاصيل األماكن الحلمية‪ ،‬وهذه الوشائج تجعل‬ ‫القارئ يعيش أجواء أقرب ألجواء الرواية‪ ،‬في‬ ‫نص «حديث عبدالسالم القروي» نجد الراوي‬ ‫ال��ذي قدمه المؤلف في بداية النص ليروي‬ ‫حكاياته‪ ،‬ذلك الذي يكره األسئلة ويرغب في‬ ‫االستمرار في كالمه يواصل حكاياته التي غالبا‬ ‫ما نفهم من سياق النص أنها حدثت ذات حلم‬ ‫أو حتى كابوس‪ ،‬فهو يحلم بكل شئ‪ ،‬حتى زواجه‬ ‫من حبيبته فاطمة التي يهددها أنه سيطلقها‬ ‫ويتزوج غيرها‪ ،‬لكن المفاجأة تحدث في كل‬ ‫مرة‪« :‬صدمني الحائط‪ ،‬استيقظت فعال‪ ،‬فإذا‬ ‫بي أب��دو واضحا مثل الساعة ال��واح��دة ظهرا‬ ‫هذه‪ :‬أعزب بغرفة واح��دة تشبه الممر‪ ،‬تتخذ‬ ‫في مجموعة «نصوص الطين» نجد السارد شكال نهائيا من الفوضى أغلب األوق��ات‪ ،‬ينام‬ ‫الذي يتحدث بضمير األنا‪ ،‬فنجد األنا في حالة صاحبها بحذائه حين يكون هذا مهما بالنسبة‬ ‫أقرب إلى المتاهة‪ ،‬تبحث عن لحظات تحققها‪ ،‬له‪ ،‬ال أوالد‪ ،‬وال غرفة أوالد وال يحزنون»‪.‬‬ ‫لكنها في النهاية ال تصل؛ ألن منطق الحلم‬ ‫ورغ���م اع��ت��م��اد ال��ك��ات��ب على تقنية الحلم‬ ‫يخالف غالباً منطق الواقع‪ .‬في بداية النصوص إال أنه يحاول في نصوصه أن يعالج القضايا‬ ‫ي��دف��ع ال��ك��ات��ب ع��ن نفسه شبهة السيرذاتية االجتماعية‪ ،‬حتى يقترب م��ن مفهوم األدب‬ ‫في ال��س��رد‪ ،‬فيخبر قارئه أن ثمة س��ارد آخر الواقعي‪ ،‬لكن الواقعية عنده تغير مفهومها‪،‬‬ ‫لقصصه خارج ذاته هو المؤلف‪« :‬رجعت إلى فلم تعد خارجيةً‪ ،‬مرجعها العالم الخارجي‪ ،‬بل‬

‫م� � � � � � � � � � � � � � � �ح � � � � � � � � � � � � � � ��ور خ � � � � � � � � � � � ��اص‬

‫عشر سنوات قبل أن يصدر مجموعته الثانية‬ ‫«رائحة الطفولة»‪ .‬ورغم فداحة الحدث الذي‬ ‫اجتاح العالم العربي وما نزال نجني ثماره حتى‬ ‫اآلن‪ ،‬إال أن الدرعان حرم مجموعته المميزة من‬ ‫مقروئية تُمكن القارئ العام والقارئ المتخصص‬ ‫من رصد جمالياتها وتقنياتها الفنية‪.‬‬

‫البيت متسخا ومريضا وجاهزا للهزيمة‪ .‬رجعت‬ ‫واهنا ومريضا؛ ولو فكر لعابي أن يسيل في هذه‬ ‫اللحظة لما استطعت أن أتحكم به‪ ..‬ال أدري‬ ‫وقد كنت دخلت على هذا النحو‪ ،‬وكان الماعز‬ ‫اليومي يتقدم في الفراغات ويحثو الرمل األسود‬ ‫في خانة هذا اليوم الجمعة‪ ،‬الجمعة األخيرة في‬ ‫شهر صفر‪ ،‬وأما لماذا الجمعة وليس أي يوم‬ ‫آخر فهذا شأن بطل القصة‪ ،‬الذي يكره األسئلة‬ ‫ويرغب في أن يستمر في كالمه كما يلي‪.» ...‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪81 )2015‬‬


‫باطني ًة نفسية‪ ،‬مرجعُها ال��ذات اإلنسانية وما‬ ‫يحكمها من قوى الواعية‪ ،‬تتمثل فيها الحقيقة‬ ‫التي تعتمد على أن الفعل الواعي وحده مصدراً‬ ‫لمعرفة النفس‪ ،‬ما أدّى إلى أن الكاتب اعتمد‬ ‫على ما يمكن تسميته بالقوى النفسية غير‬ ‫الواعية‪ ،‬حيث تتمثل ذواتنا الحقيقية وكل ما هو‬ ‫جوهري أصيل من شخصياتنا‪:‬‬ ‫«قلت لها يا فاطمة! قالت بفارغ الصبر نعم!‬ ‫وقد انطفأت قسماتها‪ ..‬تنطفئ بشكل مذهل‪،‬‬ ‫فكرت أنه من األحسن أال تالحظ ما الحظت‪،‬‬ ‫وعليّ أن أستأنف الحوار بهدوء بدون أن أتوقف‬ ‫عند هذا الفارق‪ .‬واصلتْ ‪ :‬أعرف أنهم يحلمون‬ ‫بالفطائر والفشفاش‪ ،‬وي��ب��ذرون ف��ي حياتهم‬ ‫تبذيرا‪ ..‬لكن الشمس يا فاطمة ال تزال تثقب‬ ‫سترة الليل من أجلهم ومن أجل الفقراء‪ ،‬فينفذ‬ ‫فيتامين (‪ ،)A‬وس��وف يستطيعون أن يقاوموا‬ ‫ك��ل أش��ك��ال ال��ك��س��اح‪ ،‬ويمشون وي��ك��ب��رون مثل‬ ‫أطفال الجيران‪ ...‬وهنا‪ ،‬وضعت أصابعها في‬ ‫آذانها‪ ،‬وجعلت تتمعر وكرة رأسها تترجرج في‬ ‫االتجاهات‪ ...‬كشفوا الغطاء عن وجهي‪ ،‬قبلوني‬ ‫قبالت بطيئة وأع��ادوا الغطاء مرة أخ��رى‪ ،‬لم‬ ‫أرم���ش‪ ،‬تخيلتني ميتا وه��م ي��ج��ن��زون جثتي‪،‬‬ ‫ويتحدثون عن الموت ويتباعدون‪ ..‬اعتقدت‬ ‫أنني ميت بالفعل‪ .‬عينا جثتي تتقادحان وتنزفان‬ ‫بسخاء‪ ،‬وفيما عدا أصوات تعزق صدري‪ ،‬كما‬ ‫لو أن جاري في المكتب يتمخط‪ ،‬فقد تخيلتني‬ ‫ميتا فعال‪ ،‬إنه ال شئ يدل على الحياة غير ذلك‬ ‫السيد العظيم‪ :‬الموت»‪.‬‬

‫‪82‬‬

‫وبناء على ذلك «ال يكون الواقع موجوداً في‬ ‫الذهن وحسب‪ ،‬بل إن��ه تحت رحمة األمزجة‬ ‫والنزوات في ذلك الذهن يتمدد ويتقلص مع‬ ‫درجة نشاط الوعي»‪ .‬إنه الواقع الموجود في‬ ‫ه��ذه النصوص‪ ،‬ال��ذي يتفتت إل��ى ذرات بفعل‬ ‫الذاتية المفرطة لوجهة نظر ال��راوي وزاوي��ة‬ ‫الرؤية التي يرى بها العالم‪ ،‬ليس الراوي فقط‪،‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫بل من ورائه المؤلف‪ ،‬فتصير الواقعية إفساداً‬ ‫للواقع‪« :‬ها أنت تستأنف النهار‪ ..‬تسحب نصف‬ ‫اللفافة‪ ..‬تجرح القلب ثانية‪ ..‬تلمس وجهك‬ ‫فتحس بقطرات الزيت التي ستندلق وتضيء‬ ‫ّ‬ ‫للغريب عورتك وأساس بيتك المهترئ‪ ،‬سجائرك‬ ‫القديمة‪ ،‬وجهك الفقري‪ ،‬تتوخّ ى رجال طيبا‪،‬‬ ‫تتأثم‪ .‬تسبل على باطنك لبوس السر يزعجك‬ ‫المونولوج‪ ،‬تستعرض الكثيرين قبل أن تقع على‬ ‫رجل طيب‪ ،‬تسر له بعالمات العاهة‪ ،‬تروي له‬ ‫حكايات الرجل النائم في غرفة زوجتك‪ .‬تسحب‬ ‫بطانة جيوبك كطفل‪ .‬تسدل ذراعيك إلى نفسك‬ ‫مكانهما بالضبط في أسفل سافلين وهكذا‬ ‫تتذكر أنه لم يكن رجال‪ ،‬ولم يقتله أحد!!»‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬يمضي الدرعان في نصوصه الطينية‬ ‫ليكشف لنا كيف تشكّلت الحياة بالنسبة للراوي‪،‬‬ ‫ال‬ ‫لكنه تش ّك ٌل نفسي يدور في ذهنه‪ ،‬وليس تشك ً‬ ‫واقعياً اجتماعياً‪ .‬إن هذه النصوص المتواشجة‬ ‫والتي تقترب من شكل المتوالية السردية أقرب‬ ‫ما تكون لألجواء الكفكاوية التي تصور العوالم‬ ‫النفسية‪ ،‬فتصيب ال��ق��ارئ بكثير م��ن الكآبة‬ ‫المفرطة‪ ،‬لكنها تجعله يفكر في جدوى الحياة‪،‬‬ ‫حس‬ ‫وعبثية الوجود‪ .‬إنها نصوص تحتوي على ٍّ‬ ‫وجوديٍّ مُفرط‪.‬‬


‫‪ρρ‬إبراهيم احلجري ‪ -‬ناقد من املغرب‬

‫السعودي‪ ،‬في العقود‬ ‫شهد (ويشهد) المشهد القصصي ّ‬ ‫األخ� �ي ��رة‪ ،‬ط �ف��رة م�ت�م�ي��زة ع�ل��ى م�س�ت��وى ت��دب�ي��ج ال�ع��وال��م‬ ‫السردية القصصية بالخصوص‪ ،‬في زم��ن يُشاع أن��ه زمن‬ ‫ال��رواي��ة بامتياز‪ .‬فقد تنبّه الكتّاب إل��ى الحركية الدؤوبة‬ ‫والمتواصلة التي تعرفها األج�ن��اس األدب�ي��ة وس��ط زحمة‬ ‫االنفالت األدبي من المعايير الثابتة والقيود االشتراطية‬ ‫ل�ل�ج�ن��س األدب� � ��ي‪ ،‬ف ��راح ��وا ي �ج �ت �ه��دون ب�ح�ث��ا ع ��ن أش �ك��ال‬ ‫جديدة وأدوات صوغ طريفة تمنح للجنس القصصيّ فرصته للنّهل من خضمّ هذا التّحول‬ ‫واالنزياح على مستوى األشكال والتّداخل على مستويات األنماط الفكرية واألدبية التي‬ ‫باتت تتجاور وتتضافر وتتنافر‪ ،‬حتّى ال يظل جنس ًا محاصرً ا ضمن أدبيّات تقليدية تحدّ‬ ‫من التفاعل معه وتداوله على غرار باقي األجناس التي باتت تجتهد لتجد لها أفقا رحيبا‬ ‫ضمن خانة األنماط الساعية إلى إغناء هويتها اإلبداعية بما يستجدّ في الساحة العالمية‬ ‫من متغيّرات‪.‬‬ ‫ول��م يتوقف ح��رص القاصين السعوديين‬ ‫عند حدود البحث عن أشكال وقوالب جديدة‬ ‫لفن القص‪ ،‬بل باتوا‪ ،‬بالقدر نفسه‪ ،‬منشغلين‬ ‫بتناول موضوعات متجددة‪ ،‬ومتنوعة تنسجم‬ ‫مع الخطاب المعاصر‪ ،‬وتُنصت إل��ى اإلنسان‬ ‫في صراعه مع يومه‪ ،‬وتظل لصيقة به ما أمكن‪،‬‬ ‫لتعبّر عن مطامحه وأسئلته المؤرقة‪.‬‬ ‫لكن الخاصية المميزة للخطاب القصصي‬ ‫السعودي بصفة عامة‪ ،‬وعند ال��درع��ان بصفة‬ ‫أخص‪ ،‬هو كون االجتهاد على المستويين الشكلي‬ ‫(الخطاب) والمتني (الحكاية‪ -‬الموضوعة)‪،‬‬ ‫يسير في اتجاه الحرص على االنسجام والتوازن‪،‬‬

‫م� � � � � � � � � � � � � � � �ح � � � � � � � � � � � � � � ��ور خ � � � � � � � � � � � ��اص‬

‫«رائحة الطفولة» للدرعان‬ ‫تجديد الجنس القصصي بين األداة والموضوع‬

‫حتى ال يكون هناك تغليب لجانب على اآلخر‪،‬‬ ‫بما يُخ ّل بالمظهر الجمالي العام للنص‪ ،‬أو يكون‬ ‫هناك نشاز محتمل جراء االنتصار لمكو ٍّن على‬ ‫حساب مكو ٍّن آخر‪.‬‬ ‫‪ -1‬تجديد الجنس من الداخل‬ ‫تتميز ال��م��ج��م��وع��ة ال��ق��ص��ص��ي��ة ال��ت��ي بين‬ ‫يديّ ‪ ،‬والموسومة بـ «رائحة الطفولة»‪ -‬العنوان‬ ‫المغري الداعي إلى اإلبحار القرائي الكتشاف‬ ‫خصوصيات هذه الطفولة‪ -‬بكونها ال تعصف‬ ‫بالمتعاليات النصية الجامعة لفن القص كما‬ ‫حددتها المرجعيات األدبية والنقدية‪ ،‬بل تحرص‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪83 )2015‬‬


‫م��ا أم��ك��ن على حفظ الخصوصية الجنسية‪ ،‬الدقيق‪ ،‬الكثافة‪ ،‬التمركز حول شخصيّة معيّنة‪،‬‬ ‫واإلب��ق��اء على الثوابت الهيكلية الكبرى التي تبئير ال�رّؤي��ة وزاوي���ة النّظر‪ ،‬شخصنة الواقع‬ ‫بدونها ال يتأسس الجنس مثل السّ رد (حتى وإن ومساءلته‪ ،‬ترتيب المتواليات السردية‪ ،‬بناء عالم‬

‫‪84‬‬

‫اشتركت فيه القصة مع أجناس أخرى)‪ ،‬الوصف متكامل‪ ،‬االلتزام بذكر الفضاء الذي تتفاعل فيه‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫وال يعني هذا؛ أن المجموعة بكافة نصوصها‪،‬‬ ‫تجنح إلى التقليد وإعادة النموذج المعياري‪ ،‬بل‬ ‫بالعكس م��ن ذل���ك‪ ،‬تسعى إل��ى خلخلة البنية‬ ‫النموذجية لفن القص‪ ،‬لكن من الداخل وليس‬ ‫من الخارج؛ أي أن التجريب المؤسس هنا يبني‬ ‫نموذجا متناسال م��ن داخ��ل اإلط���ار الموجود‬ ‫والناظم للجنس األدبي‪ ،‬دون أن يهيل التّراب على‬ ‫األعمدة التي يجب أن تبقى شامخة ألنّها مهيكلة‬ ‫لفعل االبتكار‪ ،‬محدّدة التّخوم بين نمط كتابيّ‬ ‫القاص الدّرعان‬ ‫ّ‬ ‫وآخر‪ .‬وهذا دليل قاطع على أ ّن‬ ‫يعي اختياراته الفنية وأدوات اشتغاله اإلبداعيّ ‪،‬‬ ‫ويعمل على توظيفها بالشكل ال��م��وازي للوعي‬ ‫بالفكرة وال �دِّالل��ة المستضمرة في الخطاب‪،‬‬ ‫ناهيك عن انشغاله العميق بتوفر التناغم بين‬ ‫الشكل والموضوعة‪ ،‬وبين العبارة والمفهوم‪ ،‬وبين‬ ‫األداة والوظيفة‪ .‬فهو يعمل على توصيل خطاب‬ ‫قصصي عام‪ ،‬وال يرتب قالبا فارغا من الكلمات‪.‬‬ ‫ك ّل مفردة وانتقال من عبارة إلى أخرى يكون على‬ ‫المقاس الواعي بتشكل الخطاب ونشوئه‪ .‬وهذا‬ ‫القصاصين‪.‬‬ ‫قلّما يحصل مع ّ‬

‫م� � � � � � � � � � � � � � � �ح � � � � � � � � � � � � � � ��ور خ � � � � � � � � � � � ��اص‬

‫الشخصيات‪.)...‬‬

‫تحكي وتبوح كاختيار فنيّ له مصداقيته في‬ ‫تشخيص بواطن ذات ال���راوي؛ وال��وص��ول إلى‬ ‫عمق الشّ خصية أكثر من غيره‪ ،‬واقتحام العوالم‬ ‫الحكائية دون مقدمات‪ ،‬االرتقاء بمستوى اللغة‬ ‫أحيانا‪ ،‬إلى ح ّد يجعلها في قمة الشّ عرية‪ ،‬ترك‬ ‫النهايات مفتوحة‪ ،‬تشغيل المتلقي في ترتيب‬ ‫العوالم وملء بعض الفجوات التي تترك فارغة‬ ‫مع سبق اإلصرار والترصد‪ ،‬النزوع إلى التلميح‬ ‫بدل التصريح س��واء في بناء الجملة السردية‬ ‫أو في توصيف المقامات واألفضية‪ ،‬انسجاما‬ ‫م��ع روح ف��نّ القصة ال��ذي يميل إل��ى الكثافة‬ ‫واالختصار واإلشارة واالستعارة واإليجاز‪...‬‬ ‫‪ -2‬انشغال بالذات وبالطفولة‬ ‫يبدو من خالل تأمل أول عتبة في المجموعة‪،‬‬ ‫وهي العنونة‪ ،‬أن السرد سيقتفي أثر الماضي‬ ‫الساكن في أعماق الشخصية‪ -‬ال���راوي‪ ،‬على‬ ‫سبيل ما يعرف بالمحكي الذاتي‪ ،‬وهو محكي‬ ‫ال يتهيأ إال بحوار عميق‪ ،‬وإنصات أعمق للذات‬ ‫في شفافيتها‪ ،‬وفي نبضها الهادئ‪ ،‬وتقليب لوجع‬ ‫الماضي‪ ،‬وأرشيف ال��ذاك��رة بمشاهده الحلوة‬ ‫والمرة‪ ،‬انسجاما مع مقولة بالنشو الذي يرى‬ ‫أن الماضي يأتي في الكتابة للتدليل على أننا‬ ‫إزاء فنٍّ للحكي‪ ،‬وأن الكاتب قد قبل هذا الزمن‬ ‫المسترسل والمنطقي ال��ذي هو السرد الذي‬ ‫بتوضيحه لمجال الصدفة‪ ،‬يفرض طمأنينة‬ ‫قصة محصورة‪ ،‬القصة التي بما أنها لها بداية‪،‬‬ ‫فهي تتوجه حتما‪ ،‬إلى غبطة النهاية‪ ،‬وإن كانت‬ ‫هذه النهاية حزينة(‪.)1‬‬

‫القاص الدرعان الجنس القصصي‬ ‫ّ‬ ‫لم يهدم‬ ‫من ال��خ��ارج عبر مهاجمته ل�لأرك��ان واألعمدة‬ ‫األساسية للمعيار الجنسي المحدد سلفا‪ ،‬على‬ ‫غرار ما يفعل الكثير من رواد النزعة التجريبية‬ ‫الجديدة التي تعمل على محو الحدود األجناسية‪،‬‬ ‫وطمسها؛ بل ظل محافظا‪ ،‬كما أسلفت القول‪،‬‬ ‫على ه��ذه األرك��ان وال��س��واري المشيدة للنمط‬ ‫الكتابيّ العريق المسمّى «قصة»‪ ،‬وانصبّ اجتهاده‬ ‫ولمحكي الطفولة خاصة‪ ،‬والماضي عموما‪،‬‬ ‫على مالمسة الجوانب الحركية فيه‪ ،‬حيث نوع‬ ‫من مستويات وجهات النظر (التبئير بتعبير ما يبرره في اختيار القاص لمادته وشخصياته‪،‬‬ ‫جيرار جنيت)‪ ،‬وتعمّد تغيير الضمائر الموظفة حيث تكون لهذه المحكيات‪ ،‬برغم انصرامها‪،‬‬ ‫في السرد‪ .‬كما أعطى فرصة للشخصية كي حالوة في اللسان‪ ،‬وسالسة في الروح‪ ،‬بقدر ما‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪85 )2015‬‬


‫تكون أيضا‪ ،‬في كثير من األحيان‪ ،‬شفاء للذات‪،‬‬ ‫وهرب نفسي من جحيم األنا والهنا‪ ،‬إذ تحس‬ ‫األنا بنكوص عام‪ ،‬وكأن الذاكرة الطفولية التي‬ ‫تحتفظ للفرد بتلك الهوية المتحللة من سلطة‬ ‫االلتزامات‪ ،‬وقهر المسافات‪ ،‬وضيم اللحظات؛‬ ‫بما أن الشخص (الطفل) غالباً ما يحون تحت‬ ‫حماية مؤسسة األسرة‪ ،‬ودفئها األثير‪ ،‬وحضنها‬ ‫الدافئ‪( ،‬وك��أن الذاكرة) مالذا خصبا‪ ،‬وسندا‬ ‫قويا‪ ،‬تلجأ إليهما بحثا عن بديل حصنيّ يقوّيها‪،‬‬ ‫ويسندها على تحمّل ما عجزت واقعيا عن التغلب‬ ‫عليه‪ .‬إذ نجد الدرعان هنا يتضامن مع القاص‬ ‫المغربي أحمد بوزفور الذي يقول‪« :‬يولع كتّاب‬ ‫القصة باألطفال كشخصيات أدبية‪ ،‬يصعدونهم‬ ‫إلى خشبة القصة‪ ،‬ويدعونهم يحلمون ويلعبون‬ ‫وينظرون إل��ى الكبار م��ن منظورهم الخاص‪،‬‬ ‫ويؤولون بطريقتهم الخاصة عالم الكبار الجاد‬ ‫وال��ع��اب��س وال��وق��ور‪ ،‬ي��داورون��ه وي��ش��دون ثيابه‬ ‫وينتفون لحيته ويهربون وه��م يتضاحكون‪...‬‬ ‫ال��ذاك��رة هي محبرة القصة‪ ،‬هي «جيب بابا»‬ ‫العميق الذي نغرف منه دون حساب‪ ،‬ودون أن‬ ‫نعرف كيف يعود فيمتلئ من جديد‪.)2(» ...‬‬

‫‪86‬‬

‫ي��ع��ود ال��ك��ات��ب إل��ى ذاك��رت��ه ليسائلها حول‬ ‫الموضوعات والشخصيات واألم��اك��ن التي ما‬ ‫ت��زال تحفل بها‪ ،‬وتحتفظ بذكرياتها‪ .‬فيحفر‬ ‫عن أثر الشخوص الطريفة التي كانت تستأثر‬ ‫باهتمام األطفال‪ ،‬وهم يتسلقون عالم الطفولة‬ ‫مسنودين بشيطنتهم البريئة‪ .‬إن هذا االحتفاء‬ ‫ب��ال��ذاك��رة‪ ،‬وتخصيصا ذاك���رة ال��ص��ب��ا‪ ،‬بشكل‬ ‫حيادي‪ ،‬له ما يبرره سيكولوجيا‪ ،‬على اعتبار‬ ‫أن الكاتب يصبح في اللعبة السردية واحدا من‬ ‫شخوصها في كثير من المناسبات‪ ،‬وتحديدا لما‬ ‫يستعمل ضميري المتكلم والمخاطب اللذين‬ ‫يُعدان وجهين لعملة واحدة‪ .‬فقد جعل الدرعان‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫من ذاكرته الطفولية نبراسا اهتدى به على طول‬ ‫المجموعة القصصية‪ ،‬معتمدا في تشكيل ذلك‪،‬‬ ‫على السرد المتسلسل والرؤية المصاحبة التي‬ ‫جعلت السارد عنصرا مشاركا وفعاال في بناء‬ ‫ال��ح��دث ال��س��ردي؛ فضال ع��ن كونه يلجأ‪ ،‬في‬ ‫أغلب القصص‪ ،‬إلى الحكي عن ذاته بالرجوع‬ ‫إلى لحظات من حياته‪ ،‬خاصة الطفولية‪ ،‬وكذا‬ ‫رجوعه إلى ذاكرته‪ ،‬والنهل منها(‪.)3‬‬ ‫الشخصيات‪ :‬تحضر األم برمزيتها المثقلة‬ ‫بالحن ّو وال��ل��ي��ن وال��ت��س��ام��ح‪ ،‬مثلما تغيب‪ ،‬في‬ ‫المقابل‪ ،‬شخصية الوالد المرتبطة في المتخيل‬ ‫الطفولي بالسلطة والقسوة‪ ،‬إذ يتم اإلشارة إلى‬ ‫ذلك في أكثر من موقع في المجموعة‪ ،‬لتظل‬ ‫األس��رة معادال موضوعيا يُ���راوح بين السلطة‬ ‫والهيمنة وال��ح��ن� ّو وال��س��ن��د‪ .‬يقول مستحضرا‬ ‫ص��ورة األم‪« :‬ف��ي ه��ذه اللحظة (لحظة أل��م)‪،‬‬ ‫احتلت أمه بيداء ذاكرته‪ ،‬ونفذت رائحة الديرم‬ ‫من ختم شفتيها على خده حنائها إلى أقصى‬ ‫الشعيرات الدموية‪ ...‬ورمته في حضنها الدافئ‬ ‫صبيا تنفضه حمّى البرد حين كانت تنسل في‬ ‫صقيع الليالي الشمالية لكي تدثره جيدا‪ ،‬وتكفنه‬ ‫ب��ال��م�لاءات‪ ...‬وب��ع��د أن تخفق ف��ي هدهدته‪،‬‬ ‫تحذره أن يكشف أط��راف��ه من تحت األغطية‬ ‫لئال تزدردها الحيّة السوداء التي تستيقظ في‬ ‫أخريات الليل عند ما يهجع الجميع‪ ...‬وتأكل‬ ‫النجوم واألقمار تاركة بعد أن تأرز إلى بيتها مع‬ ‫زرقة الفجر سماء صلعاء»(‪.)4‬‬ ‫وال نعدم حضور تلك المرأة المخبولة التي‬ ‫تحضر ف��ي ذاك���رة ال��ك��ات��ب‪ ،‬كمعادل للمصير‬ ‫القاسي لإلنسان الذي ليس باستطاعته التحكم‬ ‫فيه‪ ،‬ما جعله يخصص لها نصا بكامله تحت‬ ‫�أس وأل� ٍ�م‬ ‫عنوان «رس��ال��ة»‪ .‬يقول ال���راوي في ت� ٍّ‬ ‫وحنين‪ ،‬مستحضرا بورتريه تلك المرأة البائسة‬ ‫ٍ‬


‫الموضوعة‪ :‬وتربط المجموعة عالم الطفولة‬ ‫المستعادة بالقسوة واألل���م‪ ،‬ف��ذاك��رة البطل ال‬ ‫تحتفظ إإل بالمشاهد المؤلمة التي ما تزال‬ ‫آثارها عالقة بالجسد والروح معا‪ .‬وهذا يؤكد‬ ‫ما ذهبنا إليه سابقا‪ ،‬في كون السرد االستعادي‬ ‫للماضي يكون أحيانا كثيرة بقصد التخلص من‬ ‫بعض الندوب المورقة التي تستقر في النفوس‪،‬‬ ‫وتقرفص عليها‪ ،‬محدثة أرقا وقلقا مستديمين؛‬ ‫فتكون بذلك‪ ،‬أفعال الكتابة وال��ب��وح والحكي‬ ‫أشكاالً مستبطنة لالستشفاء والتطهر‪ ،‬وتنقية‬ ‫ال��دواخ��ل من العتمات‪ .‬يحكي ال���راوي متأثرا‬ ‫س��ي��رة ال��ج��راح واآلالم ف��ي كثير م��ن مفاصل‬ ‫المحكي القصصي‪ ،‬وم��ن ذل��ك ن��ورد المقطع‬ ‫اآلتي‪« :‬جراح كثيرة استطعت أن تتجاوزها بمرور‬ ‫الوقت‪ ،‬موت عاهل‪ ،‬إهانات إخفاق‪ ،‬وحرمان‪،‬‬ ‫تحكي تفاصيلها اآلن بحياد كأنك تستدينها من‬ ‫ذمة الزمان على سبيل الوفاء فقط‪ ،‬بيد أنها لم‬ ‫تعد تخصك‪ ،‬فقد تعلمت بالوراثة أن تصدق كل‬ ‫الشائعات التي كان أهل قريتك يروجون لها مثل‬ ‫مبدأ (أن الصعوبات التي تذل اإلنسان ويعجز‬ ‫عن التصدي لها تتكفل بمحوها األيام)»(‪.)6‬‬

‫م� � � � � � � � � � � � � � � �ح � � � � � � � � � � � � � � ��ور خ � � � � � � � � � � � ��اص‬

‫التي ك��ان أط��ف��ال ال��ح��ارة يتسلون بمشاغبتها‬ ‫والسخرية منها‪« :‬أما اآلن‪ ،‬فهي تشكو للبقال‬ ‫ال��ذي يهبها بعض المعلبات التي أوشكت أن‬ ‫تتعفن ب��دال من أن يرميها‪ ،‬من الناس الذين‬ ‫ب���دأوا يضعون األق��ف��ال على أب���واب منازلهم‪،‬‬ ‫ومن تحرشات العمال‪ ،‬وعبث المراهقين الذين‬ ‫يخترقون الساحة الترابية بغرض التفحيط‬ ‫حولها إل��ى أن تختفي ف��ي زوب��ع��ة ال��غ��ب��ار‪ ،‬بل‬ ‫وحتى من رجال رصينين ومتشابين يتعقبونها‬ ‫في أوقات محددة ويأمرونها أن تحتشم بعد أن‬ ‫بلغت من العمر عتيا»(‪.)5‬‬

‫متكرر‪ ،‬فضاء القرية ال��ذي يجعل منه السّ رد‬ ‫بؤرة مقاميّة تدور حولها باقي األفضيّة‪ ،‬المكان‬ ‫اآلسر الذي بات يقرفص على ذات الباث حتى‬ ‫ف��ي أب��ه��ى لحظات ح��ض��ور ال��ف��ض��اء النقيض‬ ‫(المدن الكبرى والعواصم الممتدة األط��راف)‪،‬‬ ‫يقول ال���راوي في نصوص المجموعة واصفا‬ ‫تخوّفه اآلب��د من المدن الكبرى ومن مفردات‬ ‫ال��م��دن��ي��ة ال��س��م��ج��ة‪« :‬أن���ت ع��ل��ى ال��رغ��م منك‪،‬‬ ‫تظل ابن القرية تخاف من األبواب التي تنفتح‬ ‫من تلقاء نفسها في فنادق ال��درج��ة الممتازة‬ ‫والمطارات والمستشفيات الكبيرة‪ ،‬تتلفت كثيرا‬ ‫توقعا للمباغتة كأن أح��دا يتتبع خطواتك‪ ،‬وال‬ ‫تحسن قيافة مالبسك‪ ،‬وعندما جرّبت أن ترتدي‬ ‫البدلة‪ ،‬كنت تتملّى جسدك في المرايا كما لو‬ ‫كنت عاريا‪ ،‬وتدس يدك في جيبك‪ ،‬لتعد نقودك‬ ‫بطريقة اللمس كالعميان»(‪.)7‬‬ ‫السرد بين التّ كثيف والتّ فصيل‬ ‫‪ّ -3‬‬ ‫يجمع ال��ق��اص ال��درع��ان ف��ي متنه «رائ��ح��ة‬ ‫يخص‬ ‫ّ‬ ‫الطفولة» بين التكثيف والتفصيل‪ ،‬في ما‬ ‫عرض المادة السّ ردية‪ .‬فهو حينا‪ ،‬يجد مبررا‬ ‫مشروعا لتفصيل القول‪ ،‬وإيراد معطيات إضافية‪،‬‬ ‫خاصة فيما يتعلق بتوصيف الشخصيات أو‬ ‫األمكنة لما ينسجم ذلك مع استقصاء األعماق‪،‬‬ ‫وتنوير الداللة العامة للحدث السردي‪ ،‬والعكس‬ ‫صحيح‪ ،‬يستعين بالعبارة المركزة وأفعال الحكي‬ ‫الدالة اإليحاء في المناسبات التي يجد فيها‬ ‫ذلك ضروريا ليتناغم القول مع إطار الخطاب‬ ‫القصصي‪ .‬وف��ي ك�لا الحالتين‪ ،‬يستند ذلك‬ ‫العمل إلى وعي شامل بتشكل البناء السردي في‬ ‫القصة‪ ،‬ويخضع للشرط الفكري والجمالي‪.‬‬

‫ويلعب التكثيف‪ -‬بوصفه مكوّناً جمالياً يع ّد‬ ‫ال��ف��ض��اء‪ :‬وي����ر ُد ع��ل��ى ال��خ��ص��وص‪ ،‬وبشكل م��ن أب���رز خصائص ال��ف��ن القصصي بالنظر‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪87 )2015‬‬


‫إل��ى طبيعتها ال��ت��ي ت��ف��رض عليها االن��ص��راف‬ ‫إل��ى جوانب ثانوية من حياة اإلن��س��ان محاولة‬ ‫إض��اءة شخصيته أو معالجة لحظة أو موقف‬ ‫عبر استشفاف أعماقه النفسية(‪ -)8‬دورين على‬ ‫األقل‪:‬‬

‫أم��ا لحظة ال��ع��رض التفصيلي‪ ،‬فهي تغني‬ ‫حاجة في نفس الباثّ إلى تقديم معطى جاهز‬ ‫للقارئ‪ ،‬ومعرفة واضحة بعوالم النص‪ ،‬وهنا‬ ‫تكمن الخصوصية في السرد‪ ،‬ذاك أن الفاعل‬ ‫على مستوى الحكي يكون دوما‪ ،‬مؤرقا بمعرفة‪،‬‬ ‫ومهجوسا بقلق وج���ودي يريد أن يخففه من‬ ‫خالل فعل الكتابة أو فعل السرد‪ ،‬وال يليق به‬ ‫إال أن يكون مفصال أم��ام المتلقي حتى يتأتّى‬ ‫له مشاركته إياه هذا الوجع المضني الذي قد‬ ‫يشكل بنزين العملية اإلبداعيّة‪.‬‬

‫أولهما سيكولوجي يبعث على االنكماش‪،‬‬ ‫ممّا يحدث من مشاهد قد تكون خيالية‪ ،‬لكنها‬ ‫ف��ي بعدها ال��ع��ام‪ ،‬ترتبط بالسياقات العامة‬ ‫القاص‪ ،‬من‬ ‫ّ‬ ‫المحيطة بالباث والمتلقي‪ ،‬إذ يعمد‬ ‫خالل هذا المعطى الخاطف لغويا‪ ،‬إلى شحن‬ ‫لحظته وشحذها بما يتفاعل بداخله من مشاعر‬ ‫لقد توفّق الدرعان ‪ -‬عبر هذه المجموعة‬ ‫وأحاسيس‪.‬‬ ‫القصصية بلغتها الشامخة‪ ،‬وأسلوبها الشجي‬ ‫وثانيهما ج��م��ال��ي؛ يتعلق بمسألة ال��وع��ي اآلسر‪ ،‬وارتباطها ِب ُكنْه اإلنسان‪ -‬في تشخيص‬ ‫التجريبي بأساليب الصياغة وتشكيل الخطاب مرحلة مستعادة من الزمن‪ ،‬ومن الحياة‪ ،‬التي‬ ‫ال��ق��اص‪ ،‬ع��ن قصد‪ ،‬بفعل حياديتها السردية‪ ،‬تصير زمنا منفلتا من‬ ‫ّ‬ ‫ال��ق��ص��ص��يّ ؛ حيث ي���روم‬ ‫تركيز المضمون‪ ،‬وإغ��ن��ائ��ه ب��ال�لّ��وام��ع الحبلى الذات‪ ،‬مرتبطا بالمشترك الجمعيّ ‪ ،‬الذي يسعى‬ ‫بفرص التأويل والدالالت المستبطنة‪ ،‬مدعومة في الوقت ذاته‪ ،‬إلى تخليص الذات من عتمات‬ ‫بالبياضات والفراغات والقفزات على مستوى قلقة‪ ،‬وإلى ترميم صدع تجربة بشرية طالتها‬ ‫ورود الوقائع السردية‪ ،‬ليتاح للباثّ في النص‪ ،‬الكثير من الشوائب والعثرات والنكسات التي‬ ‫تشغيل متلقيه‪ ،‬وجعله يكون شريكا في عملية بقدر ما يكبر الفرد ال يستطيع التنصل منها‪،‬‬ ‫ب��ن��اء ال��ع��وال��م وتركيبها‪ ،‬ف��ي س��ي��اق م��ا يسمّى حيث استقرّت في غيابات النّفس واستقرّت في‬ ‫أغوار الالشعور‪.‬‬ ‫بالقراءة الخالقة للعمل األدبي‪.‬‬ ‫‪ 1‬‬ ‫ ‪2‬‬ ‫‪ 3‬‬ ‫ ‪4‬‬ ‫‪ 5‬‬ ‫‪ 6‬‬ ‫‪ 7‬‬ ‫‪ 8‬‬

‫‪88‬‬

‫موريس بالنشو‪ :‬أسئلة الكتابة‪ ،‬ترجمة عبدالسالم بنعبد العالي ونعيمة بنعبد العالي‪ ،‬دار توبقال للنشر‪،‬‬ ‫الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة األولى‪2004 ،‬م‪ ،‬ص‪.40 .‬‬ ‫أحمد بوزفور‪ :‬الزرافة المشتعلة‪ ،‬دار المدارس‪ ،‬البيضاء‪ ،‬المغرب‪ ،‬الطبعة األولى‪2000 ،‬م‪ ،‬ص‪.13 -12 .‬‬ ‫عبدالكريم الفزني‪ :‬القصة القصيرة بالمغرب‪ ،‬دراسات في المنجز النصي‪ ،‬كتاب جماعي من إعداد‬ ‫جمال بوطيب‪ ،‬منشورات التنوخي‪ ،‬سلسلة الورشة النقدية‪ ،‬أسفي (المغرب)‪ ،‬الطبعة األولى‪2008 ،‬م‪،‬‬ ‫ص‪.22 .‬‬ ‫عبدالرحمن الدرعان‪ :‬رائحة الطفولة‪ ،‬من قصة «األبواب»‪.‬‬ ‫الدرعان‪ :‬رائحة الطفولة‪ ،‬مقطع من قصة «رسالة»‪.‬‬ ‫الدرعان‪ :‬رائحة الطفولة‪ ،‬من قصة «دم الجمعة»‪.‬‬ ‫الدرعان‪ :‬رائحة الطفولة‪ ،‬من قصة «ربابة مشعان»‪.‬‬ ‫جاك فوازين‪ :‬ما األقصوصة؟ ت‪ .‬عبدالنبي ذاكر‪ ،‬دار تينمل‪ ،‬مراكش‪ ،‬المغرب‪ ،‬ط‪1995 ،1 .‬م‪( ،‬مقدمة‬ ‫المترجم)‪ ،‬ص‪.10 .‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫في «نصوص الطين»‬

‫‪ρρ‬إبراهيم الكراوي‪-‬املغرب‬

‫م� � � � � � � � � � � � � � � �ح � � � � � � � � � � � � � � ��ور خ � � � � � � � � � � � ��اص‬

‫السردي‬ ‫طاب‬ ‫ِّ‬ ‫عري ُة ِ‬ ‫ِش َّ‬ ‫الخ ِ‬

‫تستهدف ه��ذه ال��دراس��ة للمجموعة القصصية «ن�ص��وص ال�ط�ي��ن» ألح��د رواد الكتابة‬ ‫القصصية في المشهد السعودي عبدالرحمن الدرعان‪ ،‬الكشف عن تجليات شعرية األلم‬ ‫في المحكي السردي داخل المجموعة‪ ،‬وذلك من خالل الحفر في آليات اشتغال خطاب‬ ‫القصة القصيرة ومكوناته ومختلف تجلياته‪ ،‬الذي يقوم على ما أسميناه التمفصل السردي‬ ‫المزدوج؛ وهو ما سيسمح حسب «تود روف» االنتقال من دراسة الجنس بوصفه مجموعة‬ ‫قواعد مغلقة إلى خطاب األجناس الذي يتناول النص كنسق منفتح‪ ،‬وبالتالي «التقابل‬ ‫بين ما هو أدبي وغير أدبي سيترك أمر دراسته لتيبولوجيات الخطابـ«(‪.)1‬‬ ‫إن أب��رز ما يميز اإلنتاج القصصي في تعيشه الذات العربية‪ ،‬وتنطلق من المحكي‬ ‫نصوص عبدالرحمن الدرعان هو تفاعلها القصصي كنافذة تفتح أفقا إلث��ارة أسئلة‬ ‫مع ال���ذات‪ ،‬ورص��د اللحظة السردية التي الواقع وجماليات الحكي‪.‬‬ ‫تحاول اإلمساك بالحلم وكوابيس الواقع‪ ،‬ثم‬ ‫هكذا يفتح العنوان والعناوين الفرعية‪ ،‬أفق‬ ‫الحفر في تفاصيل اليومي‪ .‬وهو ما يظهر هذه التشكالت الجمالية والهواجس واألسئلة‬ ‫جليا من خالل المؤشرات الزمانية والمكانية التي تؤثث فضاء المجموعة‪ .‬فالعنوان نفسه‬ ‫وأسماء األعالم والقرائن اللفظية التي تحيل «نصوص الطين» يكشف عن هاجس الكتابة‬ ‫على العالم النفسي‪ ،‬للذات السارد الذي بوصفها ممارسة تنبثق عن الذات وتشكال‬ ‫يروي بضمير المتكلم؛ لكن ما يثير االنتباه وج��ودي��ا‪ ،‬كما يظهر خ�لال نسق العالمات‬ ‫ع��ل��ى م��س��ت��وى أن��س��اق ال��ك��ت��اب��ة ه��و انفتاح «نصوص» «طين»‪ ،‬والعالمة هنا حسب بارث‬ ‫الخطاب القصصي على مفهوم اإلبداعية «ليست مجرد موضوع للمعرفة ولكن أيضا‬ ‫الذي نستلهمه هنا من لسانيات تشومسكي موضوع يحمل رؤي��ة»(‪ ،)2‬فكلمة «النص» في‬ ‫ل��ن��دل ب��ه على تشكالت ال��خ��ط��اب‪ ،‬ونحثه العنوان تؤشر على مبدأ االنفتاح أما «الطين»‬ ‫لرؤية إبداعية تروم خلق رؤية جمالية جديدة فيرتبط ب��ال��م��دل��ول ال���وج���ودي «اإلن��س��ان»‬ ‫للكتابة في ظل اإلرهاصات والمخاض الذي و«الخلق» و«األص���ل»؛ وبالتالي فالنصوص‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪89 )2015‬‬


‫القصص كما ورد في غالف الكتاب‪ ،‬تنبع القروي‪ ،‬إبراهيم عساف) أو قرائن تحمل‬ ‫من عمق الذات وتفاعلها مع العالم‪ .‬وتترسخ رم��زي��ة دال���ة ع��ل��ى أس��م��اء األع��ل�ام ذات��ه��ا‬ ‫هذه الداللة من خالل عناوين النصوص التي (القرين‪ ،‬الظل‪ ،‬سير بطل صغير‪ ) ...‬وفضال‬

‫‪90‬‬

‫يهمين عليها أسماء األع�لام (عبدالسالم عن ذلك تفتتح المجموعة بنص عن حديث‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫شعرية األلم وتنميط الخطاب‬ ‫القصصي السردي‬ ‫ل��ق��د ع���رف اإلن��ت��اج القصصي العربي‬ ‫تراكما كميا وكيفيا أضحى معه ج��زءاً من‬ ‫الثقافة العربية المعاصرة‪ ،‬وذلك رغم ندرة‬ ‫المقاربات النقدية في هذا اإلطار‪ ،‬وكذلك‬ ‫ت��ج��ذر م��ا أ ُس��م��ي��ه ال��ن��زع��ة القصصية في‬ ‫الثقافة العربية والعالمية‪ .‬فمنذ إبداعات‬ ‫اإللياذة‪ ،‬وهوميروس‪ ،‬وأسطورة جلجامش‪،‬‬ ‫وقصص عنترة‪ ،‬وأخبار األغاني‪ ،‬ومقامات‬ ‫الهمذاني‪ ،‬ومخلفات ظاهرة االنتحال في‬ ‫الشعر العربي‪ ،‬وحكايات الصعاليك‪ ،‬وسجع‬ ‫الكهان الموسوعات والكتب والمصنفات التي‬ ‫تتناول أخبار العرب وأنسابهم وسير األبطال‬ ‫والقبائل واألمكنة وكتب الرحالة العرب‬ ‫وغ��ي��ره��ا‪ ..‬م��ا فتئ النقاد غربيون وعربا‬ ‫ينبهون إلى نزعة القصة القصيرة وجذورها‬ ‫في ه��ذا اإلن��ت��اج‪ .‬يقول أح��د الباحثين في‬ ‫هذا اإلط��ار‪« :‬بدأ مسار الدراسات األدبية‬ ‫ي��ع��ت��رف ب��وج��ود ال��ف��ن القصصي العربي‬ ‫وبجذوره الضاربة في أعماق التاريخ العربي‬ ‫واإلسالمي على السواء»(‪ .)3‬غير أن سيرورة‬

‫م� � � � � � � � � � � � � � � �ح � � � � � � � � � � � � � � ��ور خ � � � � � � � � � � � ��اص‬

‫البطل عبدالسالم‪ ،‬وتختتم بقصة المحكي‬ ‫الذي سقط سهوا عن عبدالسالم الشخصية‬ ‫ذاتها‪ .‬ولعل الخيط الناظم لهذه المجموعة‬ ‫ه��و ترسبّات األل��م التي تهيمن على زمن‬ ‫الحكي المرتبط بصورة الموت والحفر في‬ ‫اليومي‪ ،‬وهواجس ال��ذات والقلق الوجودي‬ ‫ال��ذي يكشف ع��ن اللحظة القصصية في‬ ‫سعيها لمحاكاة الحالة النفسية للسارد‬ ‫والفرد الهامش الذي يصارع من أجل البقاء‪.‬‬

‫األج��ن��اس وت��م��ث�لاث العصر عبر التاريخ‬ ‫والزمن‪ ،‬أفرزت لنا تنميطا يحمل ما يمكن‬ ‫أن نسميه سمات الخطاب القصصي‪ .‬هذا‬ ‫م��ا يمكن أن نستخلصه م��ن ق���راءة قصة‬ ‫«حديث عبدالسالم القروي»‪ .‬واألمر يتعلق‬ ‫هنا بمعاناة عبدالسالم مع المرض‪ ،‬ولكن‬ ‫يظهر من خ�لال مجموعة من المؤشرات‬ ‫السردية أنها معاناة نفسية تستوعبها القصة‬ ‫في شكل حالة نفسية تشتغل على تكثيف‬ ‫المحكي الذي يتقاطع فيه اليومي بالهواجس‬ ‫وسيكولوجية ال��ذات «القروي» في مواجهة‬ ‫واقع ووضعية جديدة‪« :‬كان األلم يشتد عليّ‬ ‫أكثر من ذي قبل‪ ،‬أو هذا ما يبدو لي اآلن‬ ‫على األقل‪ ،‬والعالم بكامل مخلوقاته يشتد‬ ‫ويضغط عليّ ‪ ..‬والمرض والهواجس تفتك‬ ‫بي كل يوم»(‪.)4‬‬ ‫«أصبحت انطوائيا‪ ...‬سئمت نفسي‪» ..‬‬ ‫«ي��ج��ب أن أذه���ب إل���ى غ��رف��ت��ي وأم���وت‬ ‫(‪)5‬‬ ‫بهدوء»‬ ‫وتكاد نصوص المجموعة كلها تعكس هذه‬ ‫اللحظة فـ «الشكل الفني للقصة القصيرة ما‬ ‫هو إال انعكاس إلحدى الحاالت النفسية‪..‬‬ ‫وف��ي اللحظة التي يتم فيها تصور قصة‬ ‫قصيرة أو قراءتها‪ ،‬تظهر بوضوح شديد‬ ‫الوظائف النفسية المتمثلة ف��ي الفضول‬ ‫وع��دم الصبر والترقب والخفقان والتخيل‬ ‫والذاكرة واالستهجان والرغبة والخوف»(‪.)6‬‬ ‫إن الهواجس والضغوط وقلق ال���ذات في‬ ‫ظل عالم التناقض والمفارقة يحمل الذات‬ ‫ال��س��ارد إل��ى محاولة التقاط ه��ذه الحالة‬ ‫النفسية واللحظة المرعبة الموسومة بصورة‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪91 )2015‬‬


‫الموت وهي تتراءى لعبد السالم‪ ،‬فهناك خلل‬ ‫في العالم يدركه السارد ويؤثر عليه بدءاً من‬ ‫التناقض ال��ذي يسم ال��واق��ع‪ ..‬فـ «القطط‬ ‫أصبحت تأكل المعكرونة وتشرب الكابتشينو‬ ‫وت��ف��ت��ح ح��س��اب��ات ض��خ��م��ة ف��ي ال��ب��ن��وك‪..‬‬ ‫والصيدليات تبيع وع��ودا مؤجلة بالموت‪..‬‬ ‫وث��م��ة م��وظ��ف��ون يبتسمون ب��وج��ه��ك ألنهم‬ ‫يتقاضون مكافآت من عرق أسنانهم‪.)7(»..‬‬

‫‪92‬‬

‫أم��ا الزمن فهو زم��ن رتيب ينعكس على‬ ‫ال���ذات وع��ال��م الغرفة ال��ح��زي��ن‪ .‬وي��ب��دو أن‬ ‫من سمات آليات الخطاب القصصي عند‬ ‫الدرعان هو رصد المفارقة داخل اللحظة‬ ‫القصصية والتناقض داخل الواقع‪ .‬ففي نص‬ ‫«االختزال» تنبني اللحظة السردية على بعد‬ ‫زمني يختزل العالم في دقيقة‪ ..‬كما يتبين‬ ‫من خالل الجملة السردية التي تفتح الحكي‬ ‫في هذا النص‪ ،‬لينغلق على اإليقاع الداللي‬ ‫نفسه لحالة نفسية تعاني وت��ؤرخ للحظات‬ ‫ال���ذات ف��ي عالقتها بالعالم ال��ذي يعيشه‬ ‫السارد «ع��ام ‪1988‬م ثقيل ج��دا‪ ،‬وسيكون‬ ‫محمال بالموتى والمالئكة ولن يمر!»(‪ .)8‬إنه‬ ‫ثقل اللحظة الذي ترزخ تحت ثقلها الذات‬ ‫السارد‪ .‬ويصل ثقل اللحظة التي يرصدها‬ ‫ال��س��ارد م��داه في نص «سير طويلة لبطل‬ ‫صغير» بفعل ضغوط اليومي؛ م��ا سيولّد‬ ‫غرابة الوقائع والمحكي‪ ،‬ويضع السارد في‬ ‫حالة نفسية قوامها األلم والمعاناة‪ ،‬وبالتالي‬ ‫يتلقح السرد الواقعي واليومي بالتخييل‪.‬‬ ‫فالسارد يترجم عالقته بعشيقته المرأة‪،‬‬ ‫وي��ص��ور لحظة العشق ال��م��وش��وم��ة باأللم‬ ‫«أحبك‪ ،‬أقول لها‪ ...‬وأكون طول الليل أبكي‬ ‫مما ران على صدري من البازلت‪ ..‬أعطس‪،‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫تتناثر أعضائي ومالبسي‪ .‬أج��رب المشي‬ ‫على أربع‪ .‬وتبدو لي فكرة أن أكون رجال آليا‬ ‫مثابة وأمنا من األسياد‪ .)9(» ..‬لكن ذروة األلم‬ ‫تبلغ مداها حين يتخيل السارد نفسه أنه قد‬ ‫مات بعد أن قرأ الخبر (النكتة) في جريدة‬ ‫المساء‪ ،‬وه��و يعيدنا إل��ى مكون السخرية‬ ‫بوصفه يكشف عالقة الذات المتوترة بالعالم‬ ‫والتناقض والمفارقة بين بنية الواقع وبنية‬ ‫المتخيل‪ ،‬أي بين تفاصيل اليومي وبين الحلم‬ ‫وكشف لعالمه‬ ‫ٍ‬ ‫كامتداد رم��زي لواقع ذات‪،‬‬ ‫النفسي‪.‬‬ ‫شعرية الحلم والقصة وأفق التمفصل‬ ‫السردي المزدوج‬ ‫ت��ظ��ه��ر غ��راب��ة ال��وق��ائ��ع ال��س��ردي��ة في‬ ‫مجموعة قصص «نصوص الطين» من خالل‬ ‫بنية الحلم باعتبارها جزءاً من ذاكرة السارد‬ ‫وواقعه النفسي‪ ،‬وه��ذا ما يظهر من خالل‬ ‫ن��ص «ال��رؤي��ا» ال���ذي يكشف ع��ن األع��م��اق‬ ‫النفسية الحبلى ب��ال��ص��راع م��ن خ�لال ما‬ ‫أسميناه التمفصل السردي المزدوج‪ ،‬الذي‬ ‫يؤسّ س لشعرية األلم ويشكل النسيج السردي‬ ‫للخطاب‪ .‬فبينما تعيش الذات السارد لحظة‬ ‫األل��م‪ ،‬وت��ؤرخ لتفاصيل هوامش اليومي‪..‬‬ ‫تنخرط في اآلن نفسه في سرد وقائع تعتبر‬ ‫بمثابة التفاصيل التي تنسج الحكي‪ ،‬كما هو‬ ‫األم��ر بالنسبة لرحلة الطريق إل��ى البيت‪،‬‬ ‫وذكرى موت الصديق‪ .‬إننا نجد أنفسنا من‬ ‫خالل التمفصل السردي المزدوج الذي يسم‬ ‫خطاب القصة القصيرة أمام واقعة سردية‬ ‫جوهرية تؤسس لسردية القصة باعتبارها‬ ‫حلم رؤيا تنفتح على وقائع اليومي والذاكرة‪،‬‬


‫م� � � � � � � � � � � � � � � �ح � � � � � � � � � � � � � � ��ور خ � � � � � � � � � � � ��اص‬

‫والواقع بتمثيالته وسردياته المؤلمة وهوما‬ ‫يجر السارد لسرد تفاصيل أشبه بالهذيان‪.‬‬ ‫فالسارد يترقب لحظة موته ويتربص بها في‬ ‫معظم اللحظات السردية‪ .‬إن الحلم يتمثل‬ ‫في خطاب القصة باعتباره «الوسيلة التي‬ ‫تستثمر من خاللها ال��ذات الرغبة الكامنة‬ ‫في ال�لاوع��ي»(‪ .)10‬فعالقة السارد بالطبيب‬ ‫في «الخلند» عالقة رمزية تؤشر إلى رغبة‬ ‫كامنة في الوع��ي ال��ذات‪ ،‬وهي الشفاء من‬ ‫هموم الواقع وأمراضه اليومية‪ .‬إن الوظيفة‬ ‫األبرز للحلم ومشتقاته في هذه المجموعة‬ ‫وبشكل عام‪ ،‬هو الكشف عن الوعي الذات‬ ‫السارد وذاكرته الموشومة باأللم (العالقة‬ ‫مع األب مثال‪ ،‬العالقة مع فاطمة‪ ،‬العالقة‬ ‫مع شخوص فضاء العمل‪ ،‬العالقة مع الكتابة‬ ‫كممارسة‪ ..‬والعالقة مع العالم التي تختزل‬ ‫في دقيقة‪ ..‬إننا ننتقل في نص «ال��رؤي��ا»‬ ‫من فضاء اليومي وتفاصيل الواقع ورتابة‬ ‫الزمن‪ ،‬إلى فضاء أكثر رحابة يتسم بالغرابة‬ ‫التي أفرزتها الحالة النفسية التي ترصدها‬ ‫اللحظة القصصية‪ ،‬وه��ي تكثيف المحكي‬ ‫السردي في وح��دة داللية‪ ،‬فـ «الكاتب في‬ ‫إط���ار ه��ذه األس���س ال��ت��ي نسميها «جنس‬ ‫القصة القصيرة» إنما يرتب مادته بنفس‬ ‫درجة الحرية التي يمارسها أي فرد عندما‬ ‫يتهيأ للكالم»(‪ .)11‬ومن تجليات ذلك توظيف‬ ‫اللغة الشعرية في بناء الوقائع السردية‪ ،‬ثم‬ ‫االنتقال إل��ى عوالم سردية متباينة تُ��راوح‬ ‫بين المحكي الواقعي واليومي؛ فالسارد‬ ‫ينتقل بنا في ه��ذا النص من عالم الحلم‬ ‫وكوابيس الواقع إلى عالم الرؤيا الذي يشكل‬ ‫العالم الجوهري للقصة‪ ،‬فهو يرى مخلوقا‬

‫ضخما‪ ،‬ما سيخلق االنزياح السردي من لغة‬ ‫رحلة اليومي والواقعي‪ ،‬ويخلخل بنية حكي‬ ‫الواقع اليومي‪ .‬ويستمر السرد في النمو‬ ‫لنجد أنفسنا أم���ام س���ارد يعيش كوابيس‬ ‫وأحالم‪ ،‬فاللحظة السردية التي كان يرويها‬ ‫السارد مجرد حلم‪ .‬وقد أكدنا في دراسة‬ ‫قيد اإلن��ج��از التوأمة العميقة بين القصة‬ ‫القصيرة والحلم‪ ،‬وكالهما يختزل العالم في‬ ‫لحظة ألم وكثافة‪ ،‬وهو حلم مشبع برمزية‬ ‫كوابيس ومعاناة الذات السارد مع المرض‬ ‫وأوه���ام ورداءة ال��واق��ع‪ .‬ففي نص «الظل»‬ ‫يلقي ال��م��رض بثقله على ص��در ال��س��ارد‪..‬‬ ‫وك��أن��ه ال��م��وت يبسط رم��زي��ة المعاناة مع‬ ‫الواقع واليومي‪ ..‬كما هو شأن الرجل الذي‬ ‫يتربص بالسارد ليمارس عليه نوعا خاصا‬ ‫من التعذيب النفسي‪ ،‬يؤشر إلى ما يمارسه‬ ‫ال��واق��ع من ضغط نفسي‪« :‬ولكنني فكرت‬ ‫بالقتل هذه المرة؛ ألن الرجل المذكوركان‬ ‫يريق الماء على وجهي‪ ،‬ثم يهرب‪ ،‬وفي النهاية‬ ‫صحوت على صوتي وفراشي يرشح بالعرق‪،‬‬ ‫وعلى وجهي طفح أحمر‪ ..‬وأنام باذال جهدي‬ ‫لمواصلة الحلم الذي انقطع‪ .)12(»..‬فاللحظة‬ ‫السردية القصصية تكاد تماثل الحلم في‬ ‫تشكله الرمزي والغريب والنفسي‪ .‬إن القصة‬ ‫القصيرة في حد ذاتها تنهض على الرمزية‬ ‫الدالة كما أشرنا سابقا‪ ،‬وحضور موضوع‬ ‫الموت في هذه المجموعة مشبع بدالالت‬ ‫رمزية ترتبط باأللم والخوف والرعب الذي‬ ‫يمارسه ال��واق��ع واليومي والتناقض داخل‬ ‫الواقع‪ .‬ففي نص «الخلند» أضحى الحلم‬ ‫ال��ذي ي��راود ال��ذات السارد بالعالم كابوسا‬ ‫مرعبا فرضته الحالة النفسية والهواجس‪،‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪93 )2015‬‬


‫وهو ما يؤشر إلى غرابة المحكي وانزياحه‬ ‫ع��ن ال��م��أل��وف‪ ،‬لكنه وعلى غ��رار م��ا يميز‬ ‫شعرية الخطاب القصصي يأتي محمال‬ ‫برمزية تكشف عنها الوحدات اللغوية كما‬ ‫يؤشر إلى ذلك العنوان نفسه «الخلند»‪« ،‬قلت‬ ‫إن حيوانا يمأل نصف غرفتي يربض على‬ ‫صدري وبطني أراه وكأني يقظان‪.)13(»..‬‬

‫العالقة بين ال��س��ارد والمسرود ل��ه‪ ،‬والتي‬ ‫تظهر في المجموعة على عكس المتوقع‬ ‫عالقة حميمة‪ ،‬عالقة السارد الذي يعاني‬ ‫م��ن م��رض يمكن أن نسميه رت��اب��ة الواقع‬ ‫مع المسرود له الطبيب المفترض‪ ،‬عالقة‬ ‫تفاعل‪ .‬وهذا يتضح جليا في نص «الخلند»‪..‬‬ ‫إن السارد هو المريض النفسي المفترض‬ ‫ال��ذي يرصد لحظة السرد ويتلقى العالج‬ ‫في محترف الكتابة ليقاوم الموت الرمزي‪.‬‬ ‫يظهر جليا أن القصة القصيرة تسعى من‬ ‫خالل مبنى الخطاب والحكاية إلى مقاومة‬ ‫الرتابة واليأس والموت‪ ،‬كما يظهر من خالل‬ ‫عالقة الذات بشبح الموت‪ ،‬الذي يخيم على‬ ‫محكي السارد في هذه المجموعة‪ .‬هناك‬ ‫سعي حثيث من قبل سارد القصة القصيرة‬ ‫إلى مقاومة الموت الرمزي وبعث اللحظة‬ ‫بوصفها نبض الحياة الذي يدق‪ ،‬فنحن نكاد‬ ‫نجد كل نص طيني (نسبة إلى العنوان) نبض‬ ‫من نبضات حكي اللحظة النفسية المؤلمة‬ ‫التي يعيشها السارد‪ .‬لذا فأزمة التواصل التي‬ ‫نتحدث عنها أو تخفيها سطور النصوص هي‬ ‫أزمة التواصل مع العالم‪« :‬فالصيدليات تبيع‬ ‫وعودا مؤجلة بالموت»(‪.)14‬‬

‫وهكذا يشتغل الخطاب القصصي من‬ ‫خالل مبدأي االنفتاح واالنغالق باعتبارهما‬ ‫يختزالن لحظة وج��ود ال���ذات بين جدلية‬ ‫الموت والحياة‪ .‬وما بين االنفتاح واالنغالق‬ ‫الواقع والمتخيل‪ ،‬ينمو الخطاب استنادا إلى‬ ‫ما نسميه التمفصل السردي المزدوج‪.‬‬

‫وال��س��ارد يحس تغيرا سلبيا من حوله‪.‬‬ ‫وفي مقطع سردي آخر يرغب في الصراخ‬ ‫لكنه ال يستطيع ذلك‪ ،‬والفقراء في مقطع‬ ‫آخ��ر يعيشون على الهامش المؤلم‪ ...‬لذا‬ ‫يلجأ إلى إعادة بناء العالم من خالل العودة‬ ‫إلى األصل «الطين» وتقاسم لحظات الكتابة‬ ‫مع المسرود له‪ .‬إن السارد يظهر أنه منشغل‬ ‫بهذه العالقة ويتطلع إلى الذهاب بعيدا من‬ ‫خالل كسر أفق توقع المسرود له وإيهامه‬

‫إن بناء ال����دّا ّل داخ��ل الخطاب موسوم‬ ‫بالنزعة الرمزية التي يوظفها ال��س��ارد من‬ ‫أجل تعرية العالم الداخلي النفسي للشخوص‬ ‫المستوحاة م��ن اليومي‪ ،‬وكثيرا م��ا يتحول‬ ‫ال��م��ح��ك��ي ال��ق��ص��ص��ي إل���ى م��ص��ب��اح يضيء‬ ‫عتمات النفس ودهاليزها والواقع من خالل‬ ‫اإلغراق في التفاصيل التي تشكل ما نسميه‬ ‫خطاب السرد القصة القصيرة‪ .‬فنجد السارد‬ ‫يلتقط لحظة العتمات ودهاليز اليومي بكل‬ ‫دقة وبأسلوب اإليجاز القصصي‪ .‬ففي نص‬ ‫«الوجه» تحضر الحمولة الرمزية التي تؤشر‬ ‫لهذا الجزء من جسد المذيع خ�لال لحظة‬ ‫تناول العشاء في أحد المطاعم‪ ،‬غير أن هذه‬ ‫اللحظة ستتمدد سرديا بالمعنى السيميوطيقي‬ ‫لتضيء لنا عتمات وجوه أخرى لزبائن المطعم‬ ‫مثال‪ ،‬ثم رصد تفاصيل المكان‪.‬‬

‫السارد وأزمة التواصل‬ ‫إن أزم����ة ال��ت��واص��ل ال ن��ع��ن��ي ب��ه��ا هنا‬

‫‪94‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫م� � � � � � � � � � � � � � � �ح � � � � � � � � � � � � � � ��ور خ � � � � � � � � � � � ��اص‬

‫بواقعية المحكي‪« :‬وهنا أود أن ألفت نظر الكتابة‪ .‬فبواسطة كافة هذه الطرق يتشكل‬ ‫ال��س��ادة ال��ذي��ن سيقرأون ه��ذه القصة إلى معنى العمل على نحو ج��دي��د باستمرار‬ ‫أن هذا الذي يجلس اآلن ليحتسي الشاي‪ ،‬نتيجة تضافر عنصرين‪ :‬أفق التوقع الذي‬ ‫وي��دخ��ن مثل خليفة عباسي ه��و أن��ا‪ ،‬حتى‬ ‫يفترضه العمل‪ ،‬وأفق التجربة الذي يكمله‬ ‫ال ي��ت��وه��م��وا»(‪ .)15‬إن��ه ميثاق س��رد الواقعية‬ ‫(‪)17‬‬ ‫المتلقي» ‪.‬‬ ‫الجديدة‪ ،‬إذ يدعو السارد المسرود له إلى‬ ‫الرغبة الجامحة التي تراود السارد في كتابة‬ ‫إن أفق االنتظار في مجموعة «نصوص‬ ‫تفاصيل ال��واق��ع وه��واج��س��ه وت��ب��ادل هموم ال��ط��ي��ن» ينبني على أس���اس ح��ض��ور بُنية‬ ‫الكتابة «إن قناعات الجماهير بالكتاب طرف‬ ‫الحلم وتجلية الواقع الكابوسي‪ ،‬والمفاجأة‬ ‫اصبع على صفيح ساخن‪ ،‬وأي كلمة تقال‬ ‫والخوف والهذيان وحرية الحكي والتوغل‬ ‫ضدهم تصبح مؤثرة‪.)16(»...‬‬ ‫في التفاصيل وتكثيف الحكي واإليجاز‪ ،‬كما‬ ‫ولعل التفاعل يبلغ ذروته حين يقدم السارد‬ ‫يتضح من خالل المقاربة‪ ،‬وهي المكونات‬ ‫اعتذاره في نص «الوجه»؛ لعدم تمكّنه من‬ ‫كاف لمشهد ال��ت��ي ي��ك��ش��ف ع��ن��ه��ا ال��ت��م��ف��ص��ل ال��س��ردي‬ ‫وصف ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وجهة نظره من تقديم‬ ‫المطعم‪ .‬ويظهر هنا أن المنتج ف��ي ح ِّد المزدوج باعتباره أحد معالم تشكل خطاب‬ ‫ذاته «هو أيضا ودائما متلق حين يشرع في القصة القصيرة‪.‬‬ ‫ ‪1‬‬ ‫‪ 2‬‬ ‫‪ 3‬جماعة من المؤلفين‪ .‬األدب العربي تعبير عن الوحدة والتنوع‪ .‬بحوث تمهيدية‪ .‬مركز دراسات الوحدة‬ ‫العربية‪ .‬بيروت‪1987 .‬م‪ .‬ص‪89:‬‬ ‫‪ 4‬عبدالرحمن الدرعان‪ .‬نصوص الطين‪ .‬المركز العربي لتوزيع المطبوعات‪ .‬بيروت‪1987 .‬م‪ .‬ص‪7 :‬‬ ‫‪ 5‬المرجع نفسه‪ .‬ص‪7:‬‬ ‫‪ 6‬إنريكي أندرسون إمبرت‪ .‬القصة القصيرة‪:‬النظرية والتقنية‪ .‬ت‪ :‬إبراهيم علي منوفي‪ .‬مراجعة‪ :‬صالح‬ ‫فضل‪ .‬المجلس األعلى للثقافة والنشر‪2000 .‬م‪ .‬القاهرة‪ .‬ص‪32 :‬‬ ‫‪ 7‬الدرعان‪ .‬المرجع السابق نفسه‪ .‬ص‪.10 :‬‬ ‫‪ 8‬المرجع السابق نفسه‪ .‬ص‪25 :‬‬ ‫‪ 9‬المرجع السابق نفسه‪.‬‬ ‫‪Jean bellemin Noel. vers l’inconscient du texte. Ed:puff .. paris. 1979. p :7 10‬‬ ‫‪ 11‬جماعة من المؤلفين‪ .‬مرجع سابق‪ .‬ص‪:20:‬‬ ‫‪ 12‬المرجع نفسه‪ .‬ص‪52 :‬‬ ‫‪ 13‬المرجع نفسه‪ .‬ص‪48 :‬‬ ‫‪ 14‬المرجع نفسه‪ .‬ص‪9 :‬‬ ‫‪ 15‬المرجع نفسه‪ .‬ص‪11:‬‬ ‫‪ 16‬المرجع نفسه‪ .‬ص‪80:‬‬ ‫‪ 17‬هانس روبيرت ياوس‪ .‬جمالية التلقي‪ .‬تقديم وترجمة‪ :‬رشيد بن حدو‪ .‬مطبعة النجاح الجديدة‪ .‬الدار‬ ‫البيضاء‪2003 .‬م‪ .‬ص‪131:‬‬ ‫‪Tzeftan. todorov . les genres du discours . Ed:seuil . paris . 1978 . p:25‬‬

‫‪Roland . Barthes. Essais critiques. Ed:minuit. P :208‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪95 )2015‬‬


‫اللغة والطفولة والبساط السحري‪!!..‬‬ ‫رموز في عالم الدرعان‬ ‫‪ρρ‬عمر بوقاسم‬

‫رم��وز نثرها ف��ي «ق�ص��ة» ال�ق�ص�ي��دة‪ !..‬وه��ي تحيل إل��ى عالم يسكنك فجأة ل�ت��درك أنك‬ ‫محاصرٌ بالشعر‪ ..‬فتفتح لك نافذة باتجاه الشعر‪!..‬‬ ‫أه��م أداة ل�ل�ص�ع��ود‪ !..‬ال ب��د للشعر أن يصعد ب��ال�ق��ارئ ب�ع�ي��د ًا ع��ن ال��واق��ع ال��ذي يعيشه‬ ‫�أدوات عدة‪ ،‬وأهم‬ ‫قصد ب� ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ويستوعبه بحواسه‪ ..‬الشعر يهبه عالم ًا آخر يرسمه الشاعر عن‬ ‫أداة للصعود هي اللغة‪ ..‬اللغة التي تخلق وليست التي تمحو‪ ،‬اللغة التي تصل بك إلى‬ ‫عمق الحلم‪ ..‬إلى عمق الذاكرة‪ ..‬إلى عمق االتجاهات!! ولك أن تتخيل معي بأن اللغة هي‬ ‫ُحت به لنفسي وأنا أكمل قراءة قصيدتَيْ (نسيان –‬ ‫بساط الريح السحري‪ !..‬أيضاً‪ ،‬هذا ما ب ُ‬ ‫القرين) ِل «عبد الرحمن الدرعان» األديب والقاص والشاعر‪ ..‬ولو َقرَأنا مع ًا نص «نسيان»‪..‬‬ ‫فقد نتفق أن اللغة هي بالفعل البساط السحري للشاعر عبد الرحمن الدرعان‪..‬‬

‫‪96‬‬

‫ذهبت‬ ‫فتذكرت قبعة الطفل‬ ‫حمراء ذاهبة اليدين‬ ‫وهابطة من أصابع حائكها‬ ‫مذهّ بة‪ ،‬وموشاة‬ ‫إلى أن هوت قمر ًا‬ ‫فوق رأس الفتى المتفتح للتو‪:‬‬ ‫وجه طري‬ ‫وعينان مرسلتان إلى نجمة في الضحى‬ ‫يهب األرض بيت ًا من الطين‬ ‫ناسي ًا أن قبعة لعقتها المياه‬ ‫ولكنني‬ ‫سوف أنسى التي ذهبت‬ ‫سوف أنسى مع الطفل‬ ‫قبعتي وسمائي‬ ‫وأنسى مع الطفل نسيانها ثم أنسى‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫الذروة الشعرية‪!..‬‬ ‫قصيدة ال يتذوقها القارئ إال إذا تعرف بالطفل‬ ‫وعينيه والقبعة والبيت الطيني والسماء الخاصة‬ ‫بذاكرة الطفل‪ ،‬هذه كلها رموز نثرها الدرعان في‬ ‫«قصة» القصيدة‪ !..‬وهي تحيل إلى عالم يسكنك‬ ‫فجأة لتدرك أنك محاص ٌر بالشعر‪ ..‬فتفتح لك‬ ‫نافذة باتجاه «ال��ق��ري��ن»‪ ..‬وه��ي القصيدة التي‬ ‫رافقتني لالنتشاء والوصول للذروة الشعرية‪..‬‬

‫كل يوم أراه‪،‬‬ ‫كلما أراه‪،‬‬ ‫وفي ساعة يرجم القلب فيها‬ ‫يجيء قبل الرماة‪،‬‬ ‫في المقاهي البعيدة‬ ‫وال ��دورة ال��دم��وي��ة ف��ي ال��رأس ح��ول أس��وار من‬ ‫فضة وخفوت‬ ‫إذا أغطش الليل صبح البيوت‪،‬‬


‫الدرعان يجيب‪!..‬‬

‫«الطفولة» قوته األبدية‪!..‬‬ ‫ه��ذا م��ا يؤمن ب��ه عبدالرحمن ال��درع��ان‪..،‬‬ ‫وأوقفتني جملة في إجابته «‪ ..‬ف��إذا استطعت‬ ‫أن ألعب باللغة فلماذا يكون ذل��ك على حساب‬ ‫النص؟!!»‪ ،‬مفردة «ألعب» حضرت هنا ليس من‬ ‫باب المصادفة‪ ،‬فأنا أثق أن الشاعر يعي قيمة‬ ‫ه��ذه المفردة هنا‪ ،‬ويعي بالطفل ال��ذي يشغل‬ ‫حيزاً كبيراً من ذاكرته كإنسان وكمبدع؛ فالطفولة‬ ‫ليست مجرد مرحلة يتجاوزها اإلن��س��ان‪ ..‬بل‬ ‫على العكس تماماً‪« ،‬الطفولة» قوته األبدية في‬ ‫الحياة والمغامرة‪ !..‬يلجأ إليها دائماً بوعي وبال‬ ‫وعي؛ فالدرعان يوظف الطفل كرمز للحياة في‬ ‫قصيدته ن��س��ي��ان‪« ..‬ف��وق رأس الفتى المتفتح‬ ‫للتو‪ :‬وجه طري‪ /‬وعينان مرسلتان إلى نجمة في‬ ‫الضحى‪ /‬يهب األرض بيتاً من الطين»‪ .‬وكما جاء‬ ‫في مجموعته القصصية «رائحة الطفولة»‪ ،‬وهو‬ ‫يرسم خصوصية ذاكرته ليس في الطفل الذي‬ ‫يسكن ذاكرته بل يذهب للطفولة‪ ،‬وكما فعل في‬ ‫قصيدته االحتفائية «ديما»‪..‬‬

‫م� � � � � � � � � � � � � � � �ح � � � � � � � � � � � � � � ��ور خ � � � � � � � � � � � ��اص‬

‫وزلزلت الكرة األبجدية زلزالها‬ ‫في الصباح الذي شد أزر العصافير‬ ‫فانتشرت خيمة حول نأي الرعاة‬ ‫في الليالي التي ال تجيء‬ ‫وقارعة لم يطأها سواه‬ ‫المرايا قضت نحبها في قتامة عزلته‬ ‫فإذا حضر الماء‬ ‫كانت بديل المرايا المياه‪،‬‬ ‫ربما أمس لن نلتقي والتقينا غد ًا‬

‫أن العناية باللغة مطلب ينبغي أن يتوفر خصوصا‬ ‫في مجال اإلبداع بدون أي تصنع‪ ،‬وأعتقد أنني‬ ‫اخترت لغتي كبحّ ار يغوص في البحر الختيار‬ ‫أفضل الآللئ‪.»..‬‬

‫ال��درع��ان مغامر‪ ..‬كمبدع‪ ،‬فهو متصالح مع‬ ‫قرينه في كل حاالته‪ !..‬ولذا‪ ،‬أريد أن أوثّق هنا‬ ‫إجابة لعبد الرحمن ال��درع��ان على س��ؤال كان‬ ‫قد طرح عليه ضمن حوار سابق نشر بالمجلة‪..‬‬ ‫ك��ان ال��س��ؤال‪« ..‬يالحظ القارئ في مجموعتك‬ ‫القصصية رائحة الطفولة‪ ،‬احتفا ًء كبيراً باللغة‪،‬‬ ‫حتى أن بعض ال��ن��ق��اد أش���ار إل��ى أن االحتفاء‬ ‫باللغة كان على حساب الحبكة القصصية؟!»‪،‬‬ ‫قال الدرعان‪« :‬أنا ال أدري لماذا يقف الكثير من‬ ‫النقاد وأحيانا بعض الكتاب موقفًا أشبه ما يكون‬ ‫عدائيًا من اللغة‪ ..‬وأستغرب ذل��ك‪ .‬على سبيل‬ ‫المثال في ميدان الشعر هناك من يتهم القصيدة‬ ‫بالغنائية‪ ،‬وأكثر مَن وجهت له هذه التهمة محمود‬ ‫دروي���ش؛ ف��إذا ك��ان الشعر يخرج ع��ن أن يكون‬ ‫غنائيا‪ ..‬وطبعا ليس بالمعنى البسيط للغنائية‪.‬‬ ‫وهي تهمة تعتبر لصالح الشاعر ولصالح القاص‪« ،‬ل�ق��د ب��دا ال�ب��در ف��ي أع�ل��ى منازله‬ ‫وع��ان �ق �ت��ه س� �م ��اء ش �م �س �ه��ا دي �م��ا»‬ ‫فالكاتب إذا اعتنى باللغة فهو يعتني بأدواته التي‬ ‫يستخدمها كما يستخدم النجار أدواته‪ .‬واالحتفاء‬ ‫حتى يصل في منتصف القصيدة ليبوح بسره‬ ‫باللغة أم� ٌر طبيعي ألنها في نظري توفر جانب‬ ‫المتعة؛ ف��إذا استطعت أن ألعب باللغة‪ ،‬فلماذا «قد كنت مثلك طف ًال شعره در ٌر‬ ‫فجاءك اليوم يهديك (المالليما)»‬ ‫يكون ذلك على حساب النص؟! إنني أصر على‬ ‫ * كاتب وشاعر‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪97 )2015‬‬


‫عبد المحسن بن فالح اللحيد‬ ‫ول��د في مدينة سكاكا بمنطقة الجوف‪ ،‬أمضى فيها م��دارج الطفولة وريعان‬ ‫ال�ش�ب��اب ح�ت��ى ت�خ��رج م��ن ال�ث��ان��وي��ة ال�ع��ام��ة‪ ،‬ث��م ال�ت�ح��ق بجامعة غ��رب متشجان‬ ‫بالواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬ون��ال درج��ة الدكتوراه في إدارة ال�م��وارد البشرية‬ ‫وتنميتها‪ ،‬عاد بعدها إلى المملكة‪ ،‬وعمل في معهد االدارة العامة في الرياض‬ ‫أكاديميا ومحاضرا وإداريا‪ ،‬ليصبح فيما بعد مدير ًا عام ًا لمركز البحوث‪ ،‬ويشارك‬ ‫في العديد من نشاطات المعهد واالستشارات اإلدارية لألجهزة الحكومية‪.‬‬ ‫المؤهل العلمي‬

‫‪ -‬مدير عام االستشارات بالمعهد‪.‬‬

‫دكتوراه في إدارة الموارد البشرية ‪ -‬مدير إدارة االستشارات اإلدارية‬ ‫وتنميتها– جامعة غ��رب ميتشجان – ‪ -‬مدير وحدة دعم الجودة‪.‬‬ ‫الواليات المتحدة األمريكية‪.‬‬

‫‪ -‬مدير عام تصميم وتطوير البرامج‪.‬‬

‫الخبرات العملية اإلدارية‬

‫‪ -‬مدير عام إدارة تقييم البرامج ‪.‬‬

‫‪ -‬م��دي��ر ع��ام م��رك��ز ال��ب��ح��وث بمعهد ‪ -‬منسق قطاع الموارد البشرية‪ .‬‬

‫‪98‬‬

‫اإلدارة العامة‬ ‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫‪ -‬مدير عام الطباعة والنشر‪.‬‬


‫ قدّم عددا من االستشارات‬‫اإلدارية لألجهزة الحكومية‬ ‫وم���ن���ه���ا‪ :‬وزارة ال��خ��دم��ة‬ ‫ال��م��دن��ي��ة‪ ،‬وزارة ال��ش��ئ��ون‬ ‫االجتماعية‪ ،‬وزارة العمل‪،‬‬ ‫وزارة ال��ت��رب��ي��ة والتعليم‪،‬‬ ‫ال���ح���رس ال��وط��ن��ي‪ ،‬وزارة‬ ‫ال��دف��اع وال��ط��ي��ران‪ ،‬وزارة‬ ‫المالية‪ ،‬وزارة الداخلية‪،‬‬ ‫إم�����ارة م��ن��ط��ق��ة ال���ري���اض‪،‬‬ ‫ال��رئ��اس��ة ال��ع��ام��ة ل��رع��اي��ة‬ ‫ال����ش����ب����اب‪ ،‬األك���ادي���م���ي���ة‬ ‫ال��س��ع��ودي��ة ف��ي واش��ن��ط��ن‪،‬‬ ‫المنظمة العربية للتنمية‬ ‫الصناعية وال��ت��ع��دي��ن في‬ ‫المغرب‪.‬‬ ‫ اشترك في دراسات اللجنة‬‫ال��وزاري��ة للتنظيم اإلداري‬ ‫لعدد‬ ‫ٍ‬ ‫بوصفه رئيس فريق‬ ‫من الدراسات منها‪ :‬دراسة‬ ‫قطاع القوى العاملة‪ ،‬دراسة‬ ‫ن��ظ��ام الموظفين‪ ،‬دراس��ة‬ ‫ه��ي��ئ��ة ال��س��ي��اح��ة‪ ،‬دراس���ة‬ ‫نظام التقاعد والتأمينات‪،‬‬ ‫دراسة تنظيم وزارة العمل‪،‬‬ ‫ووزارة الشئون االجتماعية‪،‬‬ ‫وغيرها‪.‬‬ ‫ ال��م��ش��ارك��ة ف���ي ع���دد من‬‫ال���م���ؤت���م���رات وال����ن����دوات‬

‫ ت��ح��ري��ر وم��راج��ع��ة كتاب‬‫أوراق عمل في التنمية اإلدارية‬ ‫م���ع آخ�����رون‪ -‬ال���ص���ادر عن‬‫معهد اإلدارة العامة ‪1430‬هـ‪.‬‬

‫س � � � � � � � � � � �ي� � � � � � � � � � ��رة وإن � � � � � � � � � � �ج� � � � � � � � � � ��از‬

‫األنشطة العملية والعلمية‬

‫والحلقات العلمية في المملكة‪،‬‬ ‫والواليات المتحدة األمريكية‪،‬‬ ‫وبريطانيا‪ ،‬ومصر‪ ،‬واألردن‪،‬‬ ‫وس��وري��ا‪ ،‬ول��ب��ن��ان‪ ،‬واإلم���ارات‬ ‫ال��ع��رب��ي��ة ال��م��ت��ح��دة‪ ،‬ومملكة‬ ‫البحرين‪.‬‬

‫ االش���ت���راك ف���ي ترجمة‬‫كتاب مؤلفات كالسيكية في‬ ‫االدارة ال��ع��ام��ة‪ ،‬ال��ص��ادر عن‬ ‫معهد اإلدارة العامة‪.‬‬ ‫ م��راج��ع��ة ت��رج��م��ة ع��دد‬‫من الكتب الصادرة في معهد‬ ‫االدارة العامة‪.‬‬ ‫ االش����ت����راك ف���ي ت��أل��ي��ف‬‫ك��ت��اب «ال��ق��ي��ادة اإلداري����ة في‬ ‫المنظمات الحكومية – األدوار‬ ‫والتوقعات» الصادر عن معهد‬ ‫اإلدارة العامة ‪1436‬هـ‪.‬‬ ‫ إعداد بحث «دور البحث‬‫العلمي في تحديد ومعالجة‬ ‫قضايا التنمية اإلداري���ة» في‬ ‫المؤتمر العلمي الثاني لمعاهد‬ ‫اإلدارة العامة والتنمية اإلدارية‬ ‫في دول مجلس التعاون‪ .‬محرم‬ ‫‪1434‬هـ ديسمبر ‪2012‬م‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪99 )2015‬‬


‫العالج بالقراءة‬

‫علم الببليوثيرابيا (‪)Bibliotheraphy‬‬ ‫‪ρρ‬مرسي طاهر*‬

‫عالم الكتب والقراءة والمكتبات‪ ،‬عالم كبير يزخر باألسرار والمعلومات عن كل‬ ‫شيء‪ ،‬وهو عالم ال يستغني عنه مثقف أو دارس‪ ،‬بل كل شخص يلتمس علم ًا ألداء‬ ‫مهمة ما في حياته‪.‬‬ ‫والمتتبع لحركة التاريخ اإلنساني والحضارة البشرية‪ ،‬يدرك بشكل واضح أن‬ ‫القراءة ومصادر الحصول على المعلومات‪ ،‬وأبرزها الكتاب‪ ..‬تمثل رافد ًا حضاري ًا‬ ‫مهما اغتنمت منه العقول وصقلت به المواهب‪ ،‬وتلتقي فيه كل مفاصل الحياة‬ ‫البشرية‪ ،‬ي��روي تاريخ الحضارات والشعوب المتعاقبة‪ ،‬ومن ذل��ك‪ ،‬التاريخ الذي‬ ‫يروى أن بالد المسلمين بفضل شيوع حب القراءة وتنامي اإلقبال على العلم في‬ ‫إحدى الحقب الزمنية‪ ،‬أصبحت دون منازع رائدة في التقدم المعرفي‪ ،‬وأضحت‬ ‫البعثات العلمية تقصدها من كل حدب وصوب‪ ،‬للتزوّد من كنوز جامعاتها الزاخرة‬ ‫بنفائس العلوم والمعارف‪.‬‬ ‫القراءة إذاً هي بوابة العلم وغذاء مثل الجاحظ مات تحت ركام الكتب‪..‬‬ ‫ال��ع��ق��ل‪ ،‬ودواء يقي الفكر م��ن مرض فكان شهيد القراءة‪.‬‬ ‫الشيخوخة ال��م��ب��ك��رة‪ .‬ال���ق���راءة حياة‬ ‫التاريخ اإلنساني أثبت أن القراءة‬ ‫م��ت��ج��ددة يكتسبها اإلن���س���ان‪ ،‬ت��وسّ ��ع هي طريق األمم للرقيّ ؛ أما عن واقعنا‬ ‫م��دارك��ه‪ ،‬وتصقل مواهبهُ‪ .‬سئل يوماً ف���ح���دّث وال ح����رج‪ ،‬أص��ب��ح��ن��ا نعاني‬ ‫الكاتب الكبير عباس محمود العقاد عن العزوف عن ال��ق��راءة؛ أي العزوف عن‬ ‫سبب حبّه للقراءة‪ ،‬فقال «ألنني أحب ال��رق��يّ ‪ ،‬وال��س��ب��ب ف��ي ذل��ك مجموعة‬ ‫أن أعيش أكثر م��ن ح��ي��اة‪ ،‬وك��ل كتاب من المتغيّرات االجتماعية والسياسية‬ ‫جديد لي حياة جديدة»‪ .‬ويذكر تاريخنا واالقتصادية التي مرت وال تزال تمر بها‬ ‫العربي واإلسالمي أن القراءة وإدمانها كافة مجتمعاتنا العربية واإلسالمية‪.‬‬ ‫ال عال ٌم ولست هنا في معرض الحديث عنها‪،‬‬ ‫كان دأب العلماء والعظماء‪ ،‬فمث ً‬

‫‪ 100‬اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫وسأحاول في هذا المقال أن أحلّق في‬ ‫الثقافة الغربية المرتبطة بموضوع القراءة؛‬ ‫ألحمل منها ما قد يستطيع جناح الطائر‬ ‫لا لواقعنا‬ ‫المحلق حمله‪ ،‬وأقتبس منها ح� ً‬ ‫المؤسف في القراءة‪ ،‬ألبين كيف يمكن أن‬ ‫تكون القراءة منها َج حياة‪ ،‬وحلوال لمشكالت‬ ‫تعجز كل وسائل التقنية الحديثة عن حلها‪.‬‬

‫وعلم الببليوثيرابيا كما جاء في قاموس‬ ‫وبستر أنه «استخدام مواد قرائية مختارة‬ ‫كمُعينات عالجية في الطب البشري والطب‬ ‫النفسي‪ ،‬وأيضاً كإرشاد في حل المشاكل»‪.‬‬

‫ن � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��واف � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��ذ‬

‫ف��ق��د ت��ن��اول��ت��ه��ا ال��ع��دي��د م��ن األط���روح���ات‬ ‫الجامعية المتخصصة‪ ،‬وثقلت بها رفوف‬ ‫المكتبات‪ ،‬وقد تكون للقارئ زخماً ال طائل‬ ‫منه‪ ،‬والحلول التي تقدمها ه��ذه األبحاث‬ ‫قد تكون عميقة وشاملة‪ ،‬وأحيانا تبعد عن‬ ‫الواقع والتطبيق‪.‬‬

‫بتطور الخدمات المكتبية في المستشفيات‪،‬‬ ‫وخاصة مستشفيات األم��راض العقلية في‬ ‫الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬ثم ما لبث أن‬ ‫تطور هذا المفهوم حتى أصبح أمراً معترفاً‬ ‫به من جانب علماء النفس ومؤسسات العالج‬ ‫األخرى‪ ،‬جنباً إلى جنب مع العالج الطبي‪،‬‬ ‫سواء بالعقاقير أم الجراحة‪.‬‬

‫وعليه فإن متطلبات العالج بالقراءة كعلم‬ ‫هي‪:‬‬

‫ف��ي ه��ذا السياق أحمل لكم م��ا يسمى ‪ -‬عناصر بشرية‪ ،‬تشمل (مريض‪ -‬طبيب‪-‬‬ ‫بالعالج ب��ال��ق��راءة‪ ،‬أو علم الببليوثيرابيا‬ ‫ممرضة‪ -‬أمين مكتبة)‪.‬‬ ‫‪ ،Bibliotheraphy‬ومصطلح الببليوثيرابيا‬ ‫يتألف من مقطعين يونانيين‪ :‬األول (ببليون) ‪ -‬تحليل دقيق لحالة المريض‪ ،‬ثم تحليل‬ ‫الحتياجاته من جانب الهيئة الطبية‪.‬‬ ‫بمعني كتاب و(أوباتيد) بمعني عالج‪ .‬وقد‬ ‫استبدل العالم األمريكي صمويل ماك كروثر ‪ -‬وصفة للقراءة من جانب الهيئة الطبية‪.‬‬ ‫الكلمة الثانية اليونانية بالكلمة اإلنجليزية ‪ -‬مجموعة ك��اف��ي��ة وم��ت��ن��وع��ة م��ن الكتب‬ ‫لتصبح ال��ك��ل��م��ة ال���واح���دة ال��ج��دي��دة هي‬ ‫ومصادر المعلومات الموجودة بالمكتبة‪.‬‬ ‫ببليوثيرابيا‪.‬‬ ‫ وض���ع ت��ق��اري��ر دق��ي��ق��ة م��ن ج��ان��ب أمين‬‫وللعالج بالقراءة تاريخ طويل‪ ،‬فقد سجلت‬ ‫المكتبة‪ ،‬يرفعها إلى الطبيب عن الحالة‪،‬‬ ‫المصادر أن المصريين القدماء هم أول من‬ ‫حتى يستطيع استخدام القراءة للعالج‪.‬‬ ‫أدركوا القوة العالجية للكتاب‪ ،‬سواء بالسلب‬ ‫أو اإليجاب‪ ،‬وقد أخذ اإلغريق عن المصريين ‪ -‬إنشاء عالقة وثيقة بين أمين المكتبة‬ ‫والمريض‪ ،‬حتى يثق المريض في أمين‬ ‫ه��ذا العمل؛ فيذكر أن أف�لاط��ون ق��ال إن‬ ‫المكتبة‪ ،‬ويقبل على استخدام الكتب‪،‬‬ ‫الفن بصفة عامة‪ ،‬يؤثر تأثيرا عميقاً في‬ ‫ويستمع لنصائحه ويتبعها‪.‬‬ ‫الجانب العقلي من الطبيعة اإلنسانية‪ ،‬كما‬ ‫قال أرسطو بالتأثير العالجي للفن واألدب‪ - .‬كتابة تقارير دورية عن استجابة المريض‬ ‫وفي العصر الحديث ارتبط العالج بالقراءة‬ ‫وردود أفعاله‪ ،‬تسلم للهيئة الطبية أوالً‬ ‫منذ مطلع القرن التاسع عشر الميالدي‬ ‫بأول‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪101 )2015‬‬


‫وبعد أن أصبح هناك علم الببليوثيرابيا‪،‬‬ ‫وبعد ق��رن كامل من ظهور أول مقالة في‬ ‫هذا الموضوع عام ‪1851‬م‪ ،‬بدأ التجريب‬ ‫وال��دراس��ات الميدانية لتطبيق هذا العلم‪،‬‬ ‫وكانت هناك دراس��ة عام ‪1948‬م‪ ،‬لدراسة‬ ‫تأثير الكتب على الصحة العقلية‪ ،‬وظهر‬ ‫بعدها العديد م��ن ال��دراس��ات ال��ت��ي تبين‬ ‫فلسفة وخطوات العمل في الببليوثيرابيا‬ ‫في كثير من المجاالت والحاالت المرضية‪،‬‬ ‫كما ظهر العديد من أنماط العالج بالقراءة‬ ‫تم تجريبها‪ ،‬وأثبتت نجاحاً قاطعاً‪ ،‬وكانت‬ ‫تتضمن آليات محددة للعالج‪ ،‬تنطوي على‬ ‫كل أو بعض مما يأتي‪:‬‬ ‫ ‬‫‪ -‬‬

‫ ‬‫ ‬‫‪ -‬‬

‫ك��ل ه���ذه اآلل��ي��ات ت��م اس��ت��خ��دام��ه��ا في‬ ‫العديد من الدراسات باستخدام مواد قرائية‬ ‫متنوّعة‪ ،‬منها ما استخدم كتب الشعر‪ ،‬ومنها‬ ‫ما استخدم القصص األدبية والخيال العلمي‪،‬‬ ‫ومنها ما استخدم كتب التراجم وسير األنبياء‬ ‫وغيرها‪ .‬ومن هذه الدراسات دراسة بيّنتْ‬ ‫أن قراءة األدب عموماً والقصص خصوصاً‪،‬‬ ‫قد قلل من مستوى الضغط العصبي لدى‬ ‫ال��م��رض��ى المصابين ب��م��رض ضغط ال��دم‬ ‫المرتفع‪ ،‬وكذلك استخدم هذا العلم كأداة‬ ‫لتغيير السلوك‪.‬‬

‫كما حقّق علم العالج بالقراءة نجاحات‬ ‫إت��اح��ة الفرصة للمريض ليتحدث عن‬ ‫متميزة في العديد من الدراسات التجريبية‪،‬‬ ‫مشكلة معينة‪.‬‬ ‫ال��ت��ي أج��ري��ت ف��ي المجال ال��ت��رب��وي‪ ،‬وحل‬ ‫إتاحة الفرصة إلقامة عالقة شخصية‬ ‫المشكالت الدراسية والتربوية‪ ،‬وكذلك في‬ ‫ط��ب��ي��ع��ي��ة ن��س��ب��ي�اً ب��ي��ن��ه وب��ي��ن ال��م��ع��ال��ج‬ ‫حل بعض المشكالت االجتماعية‪ ،‬مثل إدمان‬ ‫والمكتبي‪.‬‬ ‫المخدرات وغيرها‪.‬‬ ‫إم��داده بأنماط من السلوك أو التفكير‬ ‫وأخ��ي��راً‪ ،‬يهبط الطائر المحلق سريعاً‬ ‫البنّاء‪.‬‬ ‫تدعيم األن��م��اط االجتماعية والثقافية ع��ل��ى أرض ع��ال��م��ن��ا ال��ع��رب��ي واإلس�لام��ي‬ ‫المعاصر‪ ،‬وع��ل��ى أح��د جناحيه يحمل ما‬ ‫السوية في المريض‪.‬‬ ‫إم���داد المريض بنسيج تعليمي ق��د ال يسمى بعلم الببليوثيرابيا‪ ،‬أو م��ا يسمى‬ ‫يحل المشكلة في الحال‪ ،‬ولكنه يساعد العالج بالقراءة‪ ،‬والجناح األخ��ر يحمل ما‬ ‫في تحسين الثقة بالذات‪ ،‬ورفع مستوى يسمى بمرض الببليومانيا أو الجنون بحب‬ ‫احترام الذات وتقديرها‪.‬‬ ‫ال متى تستخدم مجتمعاتنا‬ ‫الكتب‪ ..‬متسائ ً‬

‫ إم��داد المريض بنسيج ترفيهي تتقدم العربية واإلسالمية علم الببليوثيرابيا لعالج‬‫م��ن خ�لال��ه ع���ادة ال��ق��راءة واالس��ت��رخ��اء األصحاء أو األسوياء وليس المرضى كما في‬ ‫والترويح‪.‬‬ ‫الغرب؟ ومتى يصاب أهل هذه المجتمعات‬ ‫ إمداد المريض بنوع من الوقاية الذاتية بهذا المرض؛ مرض الببليومانيا أو الجنون‬‫يستخدمها عند اللزوم‪.‬‬ ‫بحب الكتب؟!‬

‫‪ 102‬اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫ن � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��واف � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��ذ‬

‫الكتابة َ‬ ‫الش ِّيق َّ‬ ‫والشاق‬ ‫عم‬ ‫َ‬ ‫َط ُ‬ ‫الرقمية‬ ‫عالقة الكتابة بالموجة‬ ‫ّ‬

‫‪ ρρ‬أحمد الدمناتي ‪ -‬املغرب‬

‫«الكتابة كينونة وجودية تختار ضحاياها بأناقة جديرة بالتأمل واإلنصات»‬ ‫قبل أن يستوي النص‪ /‬العالم هناك تشطيب‪ ،‬وحذف‪ ،‬وإضافة‪ .‬الكتابة ليست‬ ‫استسهاال‪ ،‬أو نزهة؛ الكتابة ذه��اب إل��ى ح��دود الحرب والقلق؛ ح��رب ضد بياض‬ ‫يتفرّسك بشراسة ف��ادح��ة‪ ،‬وي��دع��وك لمحاورته واإلن �ص��ات إل�ي��ه‪ ،‬أو اإلط��اح��ة به‬ ‫سريعا؛ قلق وتوتر وعصبية‪ ،‬وأن��ت تحاول تفجير اللغة العصية على االمتثال‬ ‫لشروط الطاعة‪ ،‬واللذة التي تخفي ألمها بصمت‪ ،‬والشهوة التي تجعلك مدينا‬ ‫النتصارات هناك أو إخفاقات هنا‪ .‬بين االنتصار واإلخفاق مسافة تقطعها الذات‬ ‫المبدعة بفورانها‪ ،‬بغضبها‪ ،‬بعصبيتها‪ ،‬بأناقتها‪ ،‬بهدوئها‪ ،‬بشراستها‪.‬‬ ‫في الكتابة تنكتب ال��ذات‪ ،‬وتفضح تأشيرة وال ج��واز سفر‪ .‬هل ما تزال‬ ‫تحس بطعم الكتابة الشيق والشاق كما‬ ‫ّ‬ ‫اللغة العالم‪ .‬ه��ذا ال��س��ؤال ط��رح على‬ ‫مجموعة من الشعراء والكتّاب‪ ،‬فكانت آمنت به في أول األمر؟!‬ ‫األج��وب��ة متنوعة مثل خرائط الكتابة‬ ‫الهدف هنا تكوين منظور شامل لواقع‬ ‫ذاتها‪.‬‬ ‫الكتابة اإلبداعية اليوم‪ ،‬ال من حيث أنها‬

‫م��اذا يعني ل��ك أن تكون كاتبا(ة)‪/‬‬ ‫ش���اع���را(ة)؟ اآلن‪ ..‬ف��ي ظ��ل الموجة‬ ‫الرقمية الهائلة التي أصبح العالم نقرة‬ ‫أصبع خفيفة‪ ،‬أو فأرة سوداء أو ملوّنة‬ ‫تسافر في كل اتجاهات الدنيا بدون‬

‫نتاج عملية فكرية وفنية فحسب؛ بل من‬ ‫حيث الحافز البدئي ال��ذي ُو ِل��� َد لدى‬ ‫األدب��اء والشعراء في بداية مسيراتهم‬ ‫الفنية في زمن غياب الشبكة العنكبوتية‬ ‫وجعلهم ينتجون‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪103 )2015‬‬


‫إبراهيم زولي‬ ‫شاعر من السعودية‬ ‫ال�������ت�������ج�������ارب‬ ‫الشعرية الجديدة‬ ‫ف�������ي ال���م���ش���ه���د‬ ‫الثقافي المحلي‪،‬‬ ‫س������ي������م������ا ج����ي����ل‬ ‫ال��ت��س��ع��ي��ن��ي��ات وم��ا‬ ‫ت����ل���اه‪ ،‬ل�����م ت��ج��د‬ ‫مكانها الالئق في ظل سطوة الراديكاليين‪،‬‬ ‫الذين احتكروا اإلع�لام التقليدي ردحا‬ ‫من الزمن‪ ،‬وصاحب ذلك نقد لم يواكب‬ ‫منجزنا الشعري‪ ،‬نقد ظل مرابطاً كما‬ ‫يرابط جندي بائس على الجبهة‪ ،‬فيما‬ ‫جيشه قد ترك مواقعه وانسحب‪.‬‬

‫وال��ف��ك��ري‪ ،‬ت��ن �وّع يشير بإصبعه لتعدد‬ ‫غير قابل للجدل والمواربة‪ .‬ذهبوا بعيداً‬ ‫حيث السياق مختلف‪ ،‬والحراك له نكهة‬ ‫أخرى‪ ،‬والمشهد أكثر نبالً‪ ..‬هناك‪ ،‬قريباً‬ ‫من الحافة‪.‬‬ ‫ف��ي ف��ض��اء مختلف ك��ه��ذا‪ ،‬ال يدّ عي‬ ‫الشاعر بطولة‪ ،‬وال ي��د ّل��س بصباحات‬ ‫م��زوّرة على أحد‪ .‬فقط‪ ،‬يمشي مخفورا‬ ‫ب��ال��ب��رق وال��م��ط��ر‪ ،‬وي��ح��اول ج��اه��دا أال‬ ‫يصطدم بصخرة الفناء‪ ،‬متيمّماً برمل‬ ‫المحو‪ ،‬يسعى للقفز على جدران المذبحة‬ ‫وال��خ��راب‪ ،‬غايته‪ ..‬أن ي���ورِّث لألطفال‬ ‫عدوى األغنيات‪.‬‬

‫ت��وي��ت��ر وال��ف��ي��س ب���وك ق��دّ م��ا الكتابة‬ ‫س��اخ��ن��ة وط����ازج����ة‪ ،‬ب��ع��ي��دا ع���ن تلك‬ ‫اﻷعمال المحفوظة والمبرّدة في ثالجة‬ ‫ن��ع��م‪ ،‬م��ا ان��ف��ك بعض ال��ن��ق��اد‪ ،‬يلوك المستندات واﻷوراق الصفراء‪.‬‬ ‫أسماء أكل الدهر عليها وشرب‪ ..‬وربما‬ ‫أج���ل‪ ،‬ه��ن��اك م��ن ح��ظ��ي ف��ي م��واق��ع‬ ‫نام أيضاً‪ ،‬وراح أغلبهم يتمترس متواريا‬ ‫خلف سديم النظرية‪ ،‬فيما جيل جديد ال��ت��واص��ل‪ ،‬بشهرة‪ ،‬ومقروئية أكثر من‬ ‫وظ��لٌّ‬ ‫ب���دأ يكتب بلغة ط��ازج��ة‪ ،‬ج��ي��ل منفتح منجزه‪ ،‬غير أن��ه بريق مستعار‪ِ ،‬‬ ‫على ك��ل التجارب العالمية م��ن سينما عابر‪ ،‬ووه��ج آني ومرحلي‪ ،‬والمستقبل‬ ‫وم��س��رح‪ ،‬وع��ل��ى ك��ل األج��ن��اس األدب��ي��ة؛ كفيل بغربلة الكثير من هذه األص��وات‪.‬‬ ‫سواء شعر أو قصة أو رواية‪ ،‬ولم يرتهن ال��ت��اري��خ رج���ل ال ي���رح���م‪ ،‬ف���ي طريقه‬ ‫يرف‬ ‫للسائد وال��م��أل��وف؛ جيل ج��اء متجاوزا سيدهس الطارئين‪ ،‬بقدميه‪ ،‬دون أن ّ‬ ‫ال أنّ التعدّ د غنى‪ ،‬ونجاة من‬ ‫للنقد المعلّب والتنظيرات‪ ،‬ما جعل أكثر له جفن‪ .‬إ ّ‬ ‫المبدعين ي��ش��دّ ون حقائبهم ويذهبون الردى الواقف قبالتنا برباطة جأش‪.‬‬ ‫أال تكفي ه��ذه الفردانية والواحدية‬ ‫ص��وب عالم افتراضي‪ ،‬عالم ليس فيه‬ ‫دور للمحسوبية وال��ع�لاق��ات ال��ع��ام��ة في كلّ ما يحيط بنا‪ ،‬هذه الفرديّة ذات‬ ‫والتسويق غير األخ�لاق��ي للنصوص‪ ..‬اللون الواحد‪ ،‬والطعم الواحد‪ ،‬والرائحة‬ ‫فضاء النت‪ ،‬والميديا‪ ،‬وشبكات التواصل‪ ،‬ال��واح��دة‪ ،‬ستسمّم ال���روح وال��ب��دن على‬ ‫وب����دا واض���ح���اً ه���ذا ال��ت��ن��وع ال��ث��ق��اف��ي حدّ سواء‪ ،‬طريق واحد ال يكفي لهزيمة‬

‫‪ 104‬اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫بسبب ه��ذه الشبكات المعلوماتية‬ ‫والفضاء اإللكتروني‪ ،‬صار بإمكان المرء‬ ‫في أيّ ركن من أركان المعمورة‪ ،‬التواصل‬ ‫مع أخيه اإلنسان «االفتراضي» في الجهة‬ ‫األخرى من العالم‪ ،‬صوتا وصورة وكتابة‪.‬‬

‫ما يحسب لإلعالم الجديد وشبكات‬ ‫لم تعد األخ �وّة في اللون أو الدين أو‬ ‫التواصل أن أف���رادا م��ن منازلهم باتوا‬ ‫العرق‪ ،‬كما تعارف الناس‪ ،‬بل تبدّ لت إلى‬ ‫ي��زع��ج��ون ك��ي��ان��ات إع�لام��ي��ة ضخمة‪،‬‬ ‫وجديد لم يكن مألوفا من قبل‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫معنىً آخر‬ ‫وينازعونها سلطتها التاريخية‪.‬‬ ‫عالم افتراضي‪ ،‬أصدقاء افتراضيّون‪،‬‬ ‫بيد أننا كعرب‪ ،‬لم ندخل بجدّ ية عالم‬ ‫وهكذا‪.‬‬ ‫الثورة الرقمية‪ ،‬ولم نتعامل مع اإلعالم‬ ‫شك في أنّ هذه الشبكات‪ ،‬باتت‬ ‫ما من ّ‬ ‫الجديد إال بوصفه وعاء استهالكيا‪ ،‬بكل‬ ‫تشكّل حضورا طاغيا في حياة الناس‪،‬‬ ‫ما يعنيه مفهوم االستهالك من سطحية‬ ‫بمختلف أطيافهم وشرائحهم‪ .‬لم ين ُج من‬ ‫ونفعية آنية‪ ،‬وال نزال نقدم مادة رخيصة‬ ‫ذلك أحد؛ فقراء وأغنياء‪ ،‬ملونون وغير‬ ‫وبضاعة رديئة‪ ،‬بذهنية متخلّفة ورجعية‪.‬‬ ‫ملونين‪ ،‬وسقطتْ تصنيفات كثيرة‪ ،‬فلم‬ ‫والعزاء لنا «نحن أبناء القرى» في هذا‬ ‫نعد نميّز بين الشيخ والمريد‪ ،‬والمعلم‬ ‫اللحظة التاريخية‪ ،‬كلنا نسكن قرية واحدة‬ ‫وتلميذه‪.‬‬ ‫في هذا الفضاء اإللكتروني‪ ،‬هذا الفضاء‬ ‫ه���ذه ال��ه��دي��ة ال��ك��ون��ي��ة م��ن اق��ت��ص��اد‬ ‫ال��ذي أسقط معادلة المتن والهامش‪،‬‬ ‫ال��م��ع��رف��ة ل��م ت���أت ح��ك��را ع��ل��ى النخب‬ ‫وهشّ م نظرية المركز واألط��راف‪ .‬لذلك‬ ‫وطبقات األنتلجنسيا الذين احتكروا ردحا‬ ‫عندما يشعر الكاتب‪ ،‬أيّ كاتب أن النص‬ ‫من الزمن المعلومة ومصدرها‪ ،‬الكتاب‬ ‫ق��ال ما لديه‪ ،‬عليه أن يرفع قلمه إلى‬ ‫ومؤلّفه‪ ،‬البحث ومحتواه‪ ،‬وبالتالي كانوا جيبه‪ ،‬أو يرميه جانبا‪ ،‬بفعل اإلي��ق��اع‬ ‫يهبون أو يمنحون ‪ -‬ال فرق ‪ -‬الثقافة لمن السريع للعصر‪ ،‬وبسبب المتلقّي‪ ،‬المتلقّي‬ ‫شاءوا‪ ،‬وكيف شاءوا‪.‬‬ ‫الذي لم يعد لديه صبر ووقت كاف لقراءة‬ ‫ذلك عهد ولّى وانقضى إلى غير رجعة‪ ،‬المالحم والمعلقات‪.‬‬ ‫زمن أضحى في سلة الذكريات‪ ،‬زمن غير‬ ‫وربما أحسن تويتر صنعا‪ ،‬أن جعل‬ ‫مأسوف عليه‪.‬‬ ‫التغريدات (‪ )140‬حرفا‪ .‬وأقول مطمئ ّناً‪:‬‬ ‫حتى وإن بدا أن بعض هؤالء المفكرين إن تويتر بذلك أعاد للغة العربية بالغة‬ ‫والفالسفة لم يبرحوا أبراجهم العاجية‪ ،‬اإليجاز!‬

‫ن � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��واف � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��ذ‬

‫الوحش‪.‬‬

‫مقيمين في صوامع مكتباتهم الصفراء‪،‬‬ ‫التي بالتأكيد سيداهمها سيل الخراب‬ ‫وفيالق ال��دود‪ ،‬وسيصيب أركانها الوهن‬ ‫عاجال أم آج�لا‪ ،‬م��ا ل��م يفطنوا مبكّرا‬ ‫إل��ى ه��ذا الطوفان الرقمي‪ ،‬واالنفجار‬ ‫المعلوماتي‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪105 )2015‬‬


‫هيــثـم البــوســعيــدي‬ ‫كاتب من سلطنة عمان‬ ‫(‪)1‬‬ ‫العصر اإللكتروني‬ ‫ب����م����ا ي����ح����وي����ه م��ن‬ ‫أدوات مثل اإلنترنت‬ ‫واألق���راص المدمجة‬ ‫والمواقع اإللكترونية‪،‬‬ ‫و ّل������دت ل����دي ن��ش��وة‬ ‫االس����ت����م����راري����ة ف��ي‬ ‫عشق الكتابة وال��ش��وق نحو تفريغ المشاعر‬ ‫والشحنات المكبوتة التي تختلج في أعماق‬ ‫النفس‪ ،‬لتُترجم على صورة مقاالت وخواطر‬ ‫وقصص‪.‬‬

‫وفتح قنوات اتصال دائمة معهم‪ ،‬إذ أصبح‬ ‫للمغيبين ‪ -‬وأنا منهم ‪ -‬دو ٌر وتأثي ٌر في مسرح‬ ‫الكتابة‪ ،‬عبر مواقع اإلنترنت المنتشرة في‬ ‫الشبكة العنكبوتية‪.‬‬ ‫إذاً‪ ،‬م��ا تميزت ب��ه الموجة الرقمية من‬ ‫مميزات وتقنيات ومواقع إلكترونية ساعدت‬ ‫في زرع الثقة في نفوسنا ككتّاب‪ ،‬أضف إلى‬ ‫ذلك تنامي اإلحساس بوجودنا‪ ،‬وأننا ذوو قيمة‬ ‫وهدف ورسالة خالدة إلى األبد‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫مؤثرات التكتولوجيا أنعشت نشوة الكتابة‬ ‫لديَّ ‪ ،‬وأذاقتني طعم الحرية والشعور بالزهو‪،‬‬ ‫وأسهمت في صقل مهاراتي الكتابية والتعبيرية‪،‬‬ ‫م��ن خ�لال االس��ت��ف��ادة م��ن خ��ب��رات وم��ق��درات‬ ‫وأسهمت في سرعة تبادل المعرفة‪ ،‬وسهلت‬ ‫اآلخرين‪ ،‬أصحاب الخبرة الطويلة في مجال‬ ‫الحصول على األفكار الالزمة لصناعة الكتابة‬ ‫الكتابة والنقد‪ ،‬عندما أصبحت هناك قنوات‬ ‫بشتى أشكالها‪ ،‬ما مهّد األم��ر نحو توزيع ما‬ ‫اتصال قوية ومباشرة مع هؤالء عبر اإلنترنت‪.‬‬ ‫خطته يداي من جمل‪ ،‬وما فكّر به عقلي من‬ ‫لكن‪ ،‬في المقابل‪ ،‬فإن فضاءات اإلنترنت‬ ‫ق��ض��اي��ا‪ ،‬عبر ق��ن��وات م��ت��ع��ددة وب��ي��ن مختلف‬ ‫مكَّنتنا ككتاب من االنفتاح أمام أع��داد كبيرة‬ ‫ش��رائ��ح ال��ق��راء؛ ب��ل أصبح ب��م��ق��دوري عرض‬ ‫من القراء والكتاب الذين يصعب إرضاؤهم أو‬ ‫إنتاجي المتواضع ف��ي العديد م��ن المواقع‬ ‫كسب ثقتهم؛ ما يصعِّب مهمة الكتابة‪ .‬كما أن‬ ‫والمنتديات اإللكترونية‪.‬‬ ‫الكتابة في عهد اإلنترنت ستتطلب مستقبال‬ ‫واألكثر أهمية من ذل��ك‪ ،‬تناول الكثير من ‪ -‬ف��ي خضم ال��ت��ط��ورات المتالحقة‪ -‬تقديم‬ ‫ال��م��واض��ي��ع ف��ي ظ��ل غ��ي��اب م��ق��ص ال��رق��ي��ب نصوص وأعمال أدبية‪ ،‬تلعب التقنية دوراً مهماً‬ ‫وال��ح��س��اب��ات وال��ق��ي��ود ال��ت��ي تفرضها دوائ��ر في إيصالها للجمهور؛ إذ سيطلب من الكاتب‬ ‫ال��رق��اب��ة والسلطة والمسئولين ع��ن الكتابة اإللمام بالكثير من برامج الحاسوب وتقنياته‪..‬‬ ‫الورقية‪ ،‬وبذلك تحققت األمنيات في طرح مثل برامج الفوتوشوب؛ وه��ذا بالطبع ليس‬ ‫الكثير من المواضيع‪ ،‬وفي أمنية الوصول إلى سهال‪ ،‬فليس المطلوب من الكاتب مستقبال‬ ‫قراء وكتاب ونقاد في مختلف البلدان والدول‪ ،‬بالغة وفصاحة لغة ودقة الكلمات فقط‪.‬‬

‫‪ 106‬اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫ال���ك���ت���اب���ة ع��ال��م‬ ‫منفتح على اتجاهات‬ ‫بال مديات‪ ،‬تحدها‬ ‫ه�ل�ام ي��أخ��ذن��ي في‬ ‫دوام���ة ب�لا ق���رار‪ .‬ال‬ ‫أت��ص��ور ال��ح��ي��اة بال‬ ‫ك��ت��اب��ة‪ ..‬ألن ال��ف��أرة‬ ‫ال��س��وداء بنقرتها الخفيفة ت��ؤك��د حقيقة‬ ‫االتصال؛ إنها إعصار «تسونامي» ال تحتسبه‬ ‫التنبؤات‪ .‬إنها مالصقة روح��ي في جلجلة‬ ‫تستفز ش��وك��ة تسقط على ح��ب��ات فاضت‬ ‫من سقف ذاكرتي‪ ،‬ال أتمالك جذوري حين‬ ‫تزحف على نوافذ أصابعي‪.‬‬ ‫يتلبّد األف��ق بأساطير الجنيات لتنمو‬ ‫مثل صرخة مبللة تحت ثوب الضلوع‪ .‬أشيع‬ ‫هيجان االضمحالل حتى تزدهر النشوة‪..‬‬ ‫ن��ت��ق��اس��م م��ش��اه��د ت��س��ع��ى ل�لإط��اح��ة بكل‬ ‫األشكال الهندسية‪..‬‬ ‫ال يمكن لها أن تخبئ المربعات ألنها‬ ‫تنشد مزامير تستنشق عتمة االرتواء‪..‬‬ ‫أمطار تتشبث مشاعر مقلقة‪ ،‬لتنهض مع‬ ‫رشقات الفجر‪ ..‬ربما صخب يوقظ نبوءه‪!..‬‬ ‫تتعب المخيّلة‪ ،‬ويتحاشى ال��ص��دم��ة‪..‬‬ ‫نتقاسم ع��ادات أدمنت ال��خ��راب‪ ،‬لنستعيد‬ ‫صورة تفتح ذراعيها؛ لتأوي طين األرصفة‪،‬‬ ‫لتشيد طريق الحجر‪..‬‬ ‫ح � ّم��ى عصافير تسعل ب���دون اع��ت��ذار‪،‬‬ ‫تكسر حاجز جرف ينخفض بضجر‪ ،‬يتصارع‬ ‫بازدراء‪.‬‬ ‫يغمر نسيج ال��ه��دوء‪ ،‬ليولّد محنة تفتح‬ ‫عينيها بخجل‪..‬‬

‫شاعر وصحفي وروائي ومترجم من العراق‬

‫ما هو أهم عندي‬ ‫ب���وص���ف���ي ك���ات���ب���ا‪،‬‬ ‫ص��ح��ف��ي��ا‪ ،‬مترجما‬ ‫وش��اع��را ه���و‪ :‬م��اذا‬ ‫أكتب؟ وكيف أكتب؟‬ ‫ولمَن؟‬ ‫كما أنني أجد من‬ ‫المهم بمكان لي أن أتأقلم مع المتغيّر ال أن‬ ‫أنكره؛ طالما أن خطابه سار في الواقع‪ .‬في‬ ‫ضوء إيماني بما تقدم‪ ،‬نعم ما أزال أحس‬ ‫بطعم الكتابة الشيق والشاق كما تذوقته أول‬ ‫مرة‪ ،‬وأنا لم تكتمل عندي بعد أدوات الكتابة‬ ‫الناضجة‪ .‬المهم ع��ن��دي‪ -‬مهما تطورت‬ ‫وسائل االتصال والتواصل وتوسعت‪ -‬هو‬ ‫أنني ما أزال ملتصقا بالجوهر؛ فالكتابة‬ ‫ع��ن��دي ت��م��ام��ا خ���ارج ال��ت��رف‪ ،‬وت��م��ام��ا في‬ ‫قلب التجربة اإلنسانية‪ ،‬مع إيمان مرافق‬ ‫ب��االخ��ت�لاف ع��ب��ر ن��س��ف ال��س��ي��اق��ات التي‬ ‫تحوّلت إلى نوع من الخرافة‪ ،‬نتعامل معها‬ ‫من حيث أنها خرافة ال أكثر‪ .‬وس��واء أكان‬ ‫تمظهر كتاباتي يتبدى على ورق أو شاشة‪،‬‬ ‫فإنها تمثل (أف��ع��ال��ي) ف��ي مسار التاريخ‪،‬‬ ‫بوصفها إضافات ال نسخ؛ ما يبعدني هذا‬ ‫المفهوم عن دائرة الذين يتعاملون مع التطور‬ ‫التكنولوجي على أنه عقبة وتحدٍّ في وجه‬ ‫األدي��ب والمثقف‪ .‬وأعتقد أن من محاسن‬ ‫الموجة الرقمية الهائلة أننا صرنا نحيط‬ ‫علما بما يجري على الساحات الثقافية‬ ‫األدبية والفكرية في العالم‪ ،‬ونقدم لها نتاج‬ ‫ساحتنا؛ وهذا في حد ذاته هو األهم ما دام‬ ‫األدب والفكر في جوهره إنساني ال فئوي‪.‬‬

‫ن � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��واف � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��ذ‬

‫القاص صالح جبار محمد‬ ‫العراق ‪ /‬بغداد‬

‫بشار عبداهلل‪ -‬جريدة الزمان الدولية‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪107 )2015‬‬


‫موسى حوامدة‬ ‫شاعر فلسطيني‪ -‬األردن‬ ‫لست معنيا بذلك‪،‬‬ ‫ول��م أف��ك��ر بالسؤال‬ ‫ع��ل��ى ه���ذا ال��ش��ك��ل‪،‬‬ ‫ل��ك��ن��ي م��ن��ذ خلقت‬ ‫أس����ع����ى ل���ت���روي���ض‬ ‫الفاجعة‪ ،‬كما حدث‬ ‫في غزة بعد أن كتبت‬ ‫هذه اإلجابة‪ .‬نعم‪ ،‬هذا ما أفعله‪ ،‬ولو لم أفعل‬ ‫ذلك لكنت ميتا منذ زمن بعيد؛ إذ إن الكتابة‬ ‫حمتني من قتل نفسي بطريقة غير مباشرة‪،‬‬ ‫فلو لم أجد مهربا بها عما بي‪ ،‬لدفعت نفسي‬ ‫إلى شالل الموت‪ .‬وحين كنت صغيرا‪ ،‬كنت‬ ‫أسعى لذلك‪ ،‬أدفع بنفسي في كل مواجهة‬ ‫ومظاهرة مع جيش االحتالل اإلسرائيلي؛‬ ‫وحينما اكتشفت قدرتي على إعادة صياغة‬ ‫الجملة والواقعة والحادثة‪ ،‬صرت أخفف من‬ ‫اندفاعي للموت بقدمي‪ ،‬وحتى اليوم أهرب‬ ‫للكتابة من كل ضغط عصبي‪ ،‬أو هزيمة‪،‬‬ ‫أو فاجعة‪ ،‬وق��د وج��دت في الشعر م�لاذا‪،‬‬ ‫ومطهّرا من شرور نفسي‪.‬‬

‫طا َر مني شرٌ قديم‬ ‫طا َر من رأسي وجعُ التاريخ‬ ‫وانتبذت روح ًا خفيّة‬ ‫ُ‬ ‫حَ مَ لتني إلى بيت لحم‬ ‫هناك جانبَ المَ ذْ وَد‪،‬‬ ‫َ‬ ‫لترتيب األسطورة‬ ‫ِ‬ ‫قمت‬ ‫ُ‬ ‫َلعب بشعر الفتى‪.‬‬ ‫وجدت الهوا َء ي ُ‬ ‫ُ‬

‫أدمر نفسي كي أعيد بناءها‪ ،‬وهكذا اختلط‬ ‫التدمير بالتعمير‪ ،‬والدمار بالعمار‪ ،‬فلم أعد‬ ‫أم� ّي��ز بين ال��س��واد والظلمة‪ ،‬أو بين النور‬ ‫والنهار‪ ،‬أحتاج أن أذهب في التيه أكثر كي‬ ‫أجد علة وجودي‪.‬‬ ‫ال أخشى التطور التكونولوجي‪ ،‬أو التغير‬ ‫المعرفي‪ ،‬ال أخشى شيئا‪ ..‬أتوقع أن تذوب‬ ‫الكرة األرضية كحبة اآليس كريم‪ ،‬أو كبرجي‬ ‫التجارة الدوليين‪ ،‬وأتوقع أن تطير الكرة‬ ‫األرضية إلى شرفة الفضاء البعيد ويختفي‬ ‫منها ال��ب��ش��ر‪ ..‬كما ال أت��ف��اج��أ ل��و ص��ارت‬ ‫سرعة انتقال اإلنسان من رقعة جغرافية‬ ‫إلى ثانية بلمحة البصر‪ ،‬ولم أستغرب قصة‬ ‫ملكة سبأ في القرآن الكريم‪ ،‬فربما حدثت‬ ‫قصص أسرع منها‪ ،‬وستحدث أغرب منها‪..‬‬ ‫لن أضيع وقتي في الخوف من القادم‪ ،‬ولم‬ ‫أفاجأ بسرعة التغير التكنولوجي‪ ،‬والثورة‬ ‫التي اجتاحت العالم‪ ،‬ولم أفقد إحساسي بما‬ ‫اكتب؛ لكني فقدت الوقت الطويل الستقبال‬ ‫ردات الفعل‪ ،‬فقد وفرها لنا اإلنترنت وصار‬ ‫بمقدوري أن أرى تأثير ما أكتب على نفسي‪،‬‬ ‫بعد وصول النص للكثيرين‪ .‬لم تعد مشاعري‬ ‫محايدة تجاه م��ا اك��ت��ب‪ ..‬ص��ار إحساسي‬ ‫بالزمن أوض���ح وبالتغيير أس���رع؛ وك��ل ما‬ ‫يجري عملية تدميرية بيني وبين نفسي‪،‬‬ ‫تأتي لها أحيانا موجات كهرومغنيطيسة من‬ ‫قبل آخرين يشاركونني مهمة التدمير‪.‬‬

‫ذلك ما يفعله الشعر وما تفعله الكتابة‪،‬‬ ‫ولست طامعا لما هو أكثر من متعة التدمير‬ ‫هكذا‪ ،‬أنهض من هزيمتي‪ ،‬ألرى نفسي الذاتية والتطهير التي تمارسها القصيدة‬ ‫مجددا في واقع يحتاج للتغيير‪ ،‬ألجأ للكتابة‪ ،‬علي وفيَّ ‪ ،‬كما لو أنها جالدي وأنا ضحيتها‪.‬‬

‫‪ 108‬اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫الكتابة شيءٌ يحدث أثناء الكتابة!‬ ‫‪1‬‬

‫«كنت أعرف أننى مقتول»‪.‬‬ ‫مقاولة ه��دم وب��ن��اء‪ ،‬نعم‪ ..‬الكتابة هدم‬ ‫بهذه العبارة بدأتُ آخر العام ‪2005‬م أول وبناء‪.‬‬ ‫سطر في روايتي «ل��ذَّ ات سرِّية»‪ .‬الكلمات‬ ‫الكتابة التي خبرتها في «لذَّ ات سرِّية» هي‬ ‫األرب����������ع ده���س���ت‬ ‫سوق صاخبة‬ ‫ٍ‬ ‫عزلة كاتب يسكن غرفة في‬ ‫رأس�������ي وع���ق���ل���ي‪،‬‬ ‫أربعاً وعشرين ساعة‪ ..‬وحدة ووحشة روائي‬ ‫ك���ع���ج�ل�ات ق���ط���ار‪،‬‬ ‫يحاول دراس��ة عالقة بشر الجيزة القدماء‬ ‫وت��رك��ت��ن��ي مشتعل‬ ‫بالعالم‪ ،‬بالسلطة والخوف‪ ،‬والقهر والرعب‬ ‫الدماغ نحو عامين‬ ‫من الغد‪ ،‬ومحاولة إنتاج رواية عن هذا كله‪.‬‬ ‫ون���ص���ف ال����ع����ام‪..‬‬ ‫كتابة تحاول إخضاع الصخب والضجيج‪،‬‬ ‫أطاردها وأفصلها‪ ،‬أشخصها‪ ،‬وأمشهدها‪ ،‬الكثرة والتناقض والصراع لمنطقها الفني‬ ‫حتى ظننت أنني أتيت على ظاهرها وباطنها؛ الخاص‪ ،‬وألسئلتها الجمالية المتمحورة حول‬ ‫جسّ دت معانيها القريبة والبعيدة في آالف «الزمن الروائي» بشكل خاص‪.‬‬ ‫الكلمات القابعة في عشرات الملفات ومئات‬ ‫بالقرب م��ن ذات��ي وال��وج��ود ف��ي المكان‬ ‫الصفحات ومجلد واح��د‪ .‬خريف ‪2007‬م‪،‬‬ ‫الواقعي ألحداث الرواية‪ ،‬مع خرائط الشوارع‬ ‫ال‬ ‫س��اف��رت إل��ى أمريكا لثالثة أشهر حام ً‬ ‫واألزق��ة ومنحنيات ذاكرتي المكتظة بناس‬ ‫كل ه��ذا‪ ،‬كتبت هناك ع��دة فصول أخ��رى‪،‬‬ ‫الجيزة وحياتي معهم وبينهم‪ ،‬بتأمل عالم‬ ‫استبعدتها كلها عندما عدت إلى الجيزة‪،‬‬ ‫التعدد والكثرة هذا‪ ،‬والحركة المستمرة من‬ ‫نهاية الشتاء‪.‬‬ ‫داخل الذات إلى العالم الخارجي من حولي‬ ‫ف��ي رب��ي��ع ‪2008‬م‪ ،‬اعتكفت بحجرتي والعكس؛ بكل ه��ذا‪ ،‬أض��اءت روي���دًا روي �دًا‬ ‫أمام الكمبيوتر األشهر الستة األخيرة من المساحات المظلمة في الواقع الموضوعي‬ ‫عمر كتابة الرواية‪ ،‬معتزال العالم في سجن الخارجي‪ ،‬وفي واقع الرواية الخيالي الفني‪،‬‬ ‫اختياري؛ لمواصلة الشغل على المخطوط بشح وب��طء وهبني الواقع من حولي بعض‬ ‫الضخم ال��ذي كتبته ب���دأب‪ ،‬وصبر عجوز أس����راره ول���ذَّ ات���ه‪ ،‬بعض ح��ي��وات��ه المخفية‬ ‫عنيد‪ ،‬ينحت حجر جرانيت‪ ،‬محاوالً إخضاع والمستورة تحت قشرة سيالنه الدائم‪ ،‬تحت‬ ‫المادة‪ ،‬الغفل‪ ،‬لشكل فني‪ ،‬ال يوجد سواه ازدحامه وصخبه وصفقاته السرّية والعلنية‪،‬‬

‫ن � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��واف � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��ذ‬

‫حمدي الجزار‬

‫في رأسه‪ .‬ستة أشهر من عزلة الناسك في‬ ‫قاليته‪ ،‬وعمل مجرم محكوم عليه باألشغال‬ ‫الشاقة‪ ،‬عقابه وعذابه تكسير جبل وإقامة‬ ‫آخر!‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪109 )2015‬‬


‫وب��ح��دة وإص����رار وص��ب��ر ال��ع��ج��وز استطاع الصدق والكذب‪ ،‬الجميل والدميم‪ ،‬وما يكفى‬ ‫أزميل النحات أن يفرض الشكل الفني على من المتعة واألل��م والتجارب والخبرات‪..‬‬ ‫المضمون‪ ،‬وأن يحل سؤال الزمن‪ ،‬قوام البناء وخارجها يصير العالم محض عدم!‬ ‫الروائي وأسمنت عمارة الرواية‪ ،‬وخضعت‬ ‫بعد أن أستيقظ‪ ،‬أغتسل تحت تيار ماء‬ ‫«اللغة» للثوب الذي أردته‪.‬‬ ‫غ��زي��ر‪ ،‬وأواص���ل العمل والتدخين‪ .‬ببرود‬

‫الكتابة كتأمل قوامه المزج بين الخيالي‬ ‫والواقعي‪ ،‬ومظهره ووسيلته الوحيدة اللغة‪،‬‬ ‫تستلزم القلب الميت والعقل اليقظ‪ ،‬اليد‬ ‫القوية التي ال ترتعش‪ ،‬وانطالق الالوعي في‬ ‫ذات الوقت‪ ،‬وال تحيا بغير قسوة الكاتب على‬ ‫كلماته وعمله‪ ،‬وبتر ما يجب بتره بال رحمة‪.‬‬ ‫هذا ما حاولته جالسً ا في حجرة صغيرة‬ ‫بصمت مطبق وأكواب متتابعة من شاي قليل‬ ‫السكر‪ ،‬ودخان سجائر ال ينقطع‪ .‬لو حدث‬ ‫حريق في البيت‪ ،‬واشتعلت أبوابه ونوافذه‬ ‫وسقط ف��وق رأس��ي السقف ما سمعت وال‬ ‫دري���ت! أعمل باستغراق كامل ف��ي عالمي‬ ‫الخيالي‪ ،‬االفتراضي؛ أشتغل ببطء وهدوء‬ ‫وت��رك��ي��ز وع��ي��ون م��ف��ت��وح��ة‪ .‬وح��ي��ن ال يعود‬ ‫باستطاعتي فتح عينيّ لرؤية الكلمات على‬ ‫شاشة الكمبيوتر‪ ،‬وتتيبس أصابعي فوق‬ ‫«الكي بورد»‪ ،‬تسقط رأسي فوق حافة المكتب‬ ‫وأغفو‪ ،‬وفى نومي تأتيني شخصياتي‪ .‬أرى‬ ‫مشاهد وأح���دا ًث���ا‪ ،‬وأك��ت��ب ف��ق��رات طويلة‬ ‫أنساها عندما أصحو‪ ،‬وال تفلح محاوالتي‬ ‫لمطاردتها وتذكرها‪.‬‬

‫قاتل أح��ذف مئات الصفحات التي كتبتها‬ ‫خالل أشهر طويلة‪ .‬بدأت الحذف بالعبارة‬ ‫التي منحتني كل الرواية‪« :‬كنت أعرف أنني‬ ‫مقتول»‪ .‬محوتها غير آسف عليها‪ ،‬فالعبارة‬ ‫التي بدأت منها لم يعد لها ضرورة فنية؛ ألنها‬ ‫تحيا في كل العمل على مستوى أرقى كثيرًا‬ ‫من مجرد الوجود‪ ،‬كجملة في كتاب‪ ،‬تحيا‬ ‫مختفية وظاهرة‪ ،‬دانية وبعيدة‪ ،‬تعيش وتوجد‬ ‫في جسد الرواية كلها‪ ،‬كحياة األكسجين في‬ ‫مكونات الهواء والماء‪.‬‬ ‫التيمة الفنية التي حاولت مقاربتها في‬ ‫«ل���ذَّ ات س�رِّي��ة» هي تيمة ال��خ��وف‪ ،‬الجزع‪،‬‬ ‫الرعب من القتلة وسفاكي الدماء القادرين‪،‬‬ ‫والذعر من المجهول اآلتي‪ ،‬الخوف من القتل‬ ‫وال��م��وت ال���ذي يجسده أح��د الشخصيات‬ ‫الرئيسة في الرواية وراويها‪.‬‬

‫ببساطة وتبسيط‪ ،‬الحكاية عن ربيع الحاج‬ ‫مذيع نشرة األخبار باإلذاعة الذي ال يطيق‬ ‫زوجته المتزمتة‪ .‬يقع في غرام امرأة نادرة‬ ‫الجمال والشخصية‪ ،‬اسمها نشوى‪ .‬ربيع‬ ‫يكتشف أنها ام��رأة ضابط غائب ومهيمن‬ ‫الكتابة عالم مستمر يستولى عليّ في ب��ح��ض��وره على ك��ل ش���يء‪ ،‬وال��رواي��ة أربعة‬ ‫اليقظة والمنام‪ ،‬أحيا فيها ومعها الحقيقي أقسام‪ ،‬واحد وثالثون فصالً‪ ،‬تتقصى تاريخ‬ ‫والوهمي‪ ،‬أصادف الدر واأللماس والصفيح‪ ،‬ال��رع��ب وال��خ��وف المصري المتأصل من‬

‫‪ 110‬اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫ك��ش��أن ال��رواي��ات ال��ت��ي أحبها واستمتع‬ ‫بقراءتها مرات عديدة‪ ،‬مكتشفًا جديدًا كنت‬ ‫قد حُ رِ مت منه في قراءتي األولى‪ .‬حاولت أن‬ ‫أجعل من روايتي امرأة عميقة الغور‪ ،‬نبيلة‪،‬‬ ‫ال تمنح نفسها بكليتها لمغازل متعجل أو‬ ‫عابر فوق الكلمات وإن لم يعدم منها طرف‬ ‫نظرة؛ فالقارئ يستحق أن يحترم ويثمن‬ ‫بوصفه اآلخر الذي يهب النص الحياة‪ ،‬وهو‬ ‫شريك الكاتب الذي يعيد تركيب العمل الفني‬ ‫وتأويله‪ ،‬وبدونه يصير العمل عدما‪ ،‬جثة!‬

‫ن � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��واف � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��ذ‬

‫السلطة‪ ،‬كل السلطات بمظاهرها وصورها‬ ‫ورموزها‪ ،‬تجسد وتفصل وتمشهد التاريخ‬ ‫الشخصي لمعظم أب��ن��اء جيلي المنتمين‬ ‫ل��ش��رائ��ح مختلفة م��ن الطبقة المتوسطة‬ ‫اآلفلة‪ .‬الجيل الذي ولد في ظالل النكسة‬ ‫والهزيمة وبعدها‪ .‬األطفال الذين ارتدوا على‬ ‫صدورهم فانالت مطبوع عليها وجه «بطل‬ ‫ال��ح��رب وال��س�لام» يحيطه غصنا زي��ت��ون‪،‬‬ ‫وقضوا صباهم ومراهقتهم وشبابهم في‬ ‫ظل السلطة الخالدة المخلدة التي امتطت‬ ‫الحكم عقب مصرع السادات‪.‬‬

‫الجيزة كلها‪ ،‬بميدانها وساحاتها‪ ،‬بشوارعها‬ ‫ومعمارها وأزقتها وناسها‪ ،‬النيل ونفق الهرم‬ ‫وكوبرى عباس‪ .‬عالم يحتاج إلى تأمل وتبصر‬ ‫وإمعان نظر لكشف جوهره وإع��ادة بنائه‪.‬‬ ‫هذا ما حاولت أن أفعله طيلة سنوات حياتي‬ ‫في الجيزة‪ ،‬وما حاولت تجسيده في كتابتي‪.‬‬

‫أن��ا ول��دت بعد يومين من جنازة جمال‬ ‫عبدالناصر ‪ 28‬سبتمبر ‪1970‬م‪ .‬احتفظ‬ ‫أبى بكل الجرائد التي صدرت أيام الجنازة‬ ‫وال��ح��داد‪ ،‬ووضعها في ي��دي عندما بدأت‬ ‫أستطيع القراءة وقال «لتعرف في أي ظلمة‬ ‫جئت‪ ،‬وم��اذا جاءنا مع خروجك للحياة‪..‬‬ ‫‪2‬‬ ‫لتعرف أنك وجه شؤم!» والشؤم كله موجود‬ ‫كيف ت��ب��دأ رواي���ة م��ا ف��ي العبث بدماغ‬ ‫في «لذَّ ات سرِّية» بكثافة وتقطير وفى صور‬ ‫صاحبها؟‬ ‫عديدة‪.‬‬ ‫الروائيون ليسوا بشعراء ليحدثوا قراءهم‬ ‫عن اإللهام ووادي عبقر وجنيّهم المبدع! هذا‬ ‫الوهم في نظرية الشعر ال يناسب الروائي‬ ‫وطموحه لكتابة رواية تدَّ عي امتالك بعض‬ ‫الحقيقة‪.‬‬

‫أردت أن تكون «لذَّ ات سرِّية» عمل مركب‬ ‫بمصطلحات الفن التشكيلي‪ ،‬جدارية متعددة‬ ‫الشخصيات وغزيرة التفاصيل‪ ،‬عالم مرئي‬ ‫باألساس يخاطب البصر أوالً‪ ،‬والبصيرة بعد‬ ‫ذلك‪ ،‬فيلم سينمائي فيه شخصيات كثيرة‪،‬‬ ‫فيه ال��ح��دث وال��س��رد وال��دي��ك��ور‪ ،‬الواقعي‬ ‫أيوجد مثير‪ ،‬حافز‪ ،‬خطوة أولى يبدأ منها‬ ‫والخيالي والموسيقى التصويرية المصاحبة‪ ،‬الطريق الطويل؟‬ ‫�ض��ا‪ -‬حاسة الشمّ! عمل‬ ‫فيلم ال يهمل ‪-‬أي� ً‬ ‫ف��ي ح��ال��ت��ي‪ ،‬وه���ذا ك��ل م��ا أستطيع أن‬ ‫شبه ملحمي ومحدد المكان‪ ،‬فيه منطقة‬ ‫أدع��ي��ه ع��ن ه��ذه العملية ش��دي��دة التعقيد‪،‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪111 )2015‬‬


‫أبدأ من جملة عابرة‪ ،‬ولع بمكان‪ ،‬شخصية‬ ‫شبه واقعية‪ ،‬صورة بصرية تتقافز أمامي‪،‬‬ ‫أو مشهد صغير‪ ،‬أو من هناك‪ ،‬من داخل‬ ‫الذاكرة التي تباغتني بتذكر ما مضى من‬ ‫الَ‪ ،‬من العجوز ضئيل الجسد‪،‬‬ ‫حياتي‪ .‬مث ً‬ ‫حائط‬ ‫ٍ‬ ‫الجالس على دك��ة‪ ،‬يركن ظهره إلى‬ ‫متداع‪ ،‬يخيط كفنًا أبيض بإبرة طويلة‪ ،‬قفزت‬ ‫ٍ‬ ‫رواية «سحر أسود» إلى رأسي‪ .‬ظلت تراودني‬ ‫وأراودها عن نفسها ثالث سنوات متواصلة‪،‬‬ ‫كل ليلة أجلس إليها‪ ،‬أحاول أن أعرف قصتها‬ ‫وحكايتي أنا معها‪ ،‬أصارع الصور والكلمات‪،‬‬ ‫أروّض اللغة وأصارعها حتى تحقق الصورة‬ ‫الذهنية ال��ت��ي ال ي��ع��رف عنها أح��د شيئًا‬ ‫س���واي‪ .‬وبين األل��م الناجم م��ن استعصاء‬ ‫المادة «اللغة» الكلمات والمتعة الناشئة من‬ ‫اإلمساك ب��روح شخصية‪ ،‬وترويض اللفظ‬ ‫لينطق بالمعنى الذي أريده‪ ،‬قضيت شهوري‬ ‫الطويلة في كتابة وإعادة كتابة «سحر أسود»‬ ‫حتى وصلت للخالص‪ :‬ثالثون ألف كلمة فيها‬ ‫تجسّ دت قصة المصور التليفزيوني «ناصر‬ ‫عطا اهلل»‪ ،‬ال��ذي يقع في غ��رام فاتن التي‬ ‫تكبره بنحو عشرين عامًا‪ ،‬وفيها الولع بالعالم‬ ‫الداخلي للشخصية الرئيسة التي كنت أخاف‬ ‫أن تقترب مني أكثر مما يجب‪.‬‬ ‫روايتي األولى «سحر أس��ود»‪ ،‬أفلتت من‬ ‫مصير مخطوطي روايتين قبلها‪ ،‬واحدة عن‬ ‫بنات شارعنا‪ ،‬وأخرى عن سنوات دراستي‬ ‫للفلسفة بجامعة ال��ق��اه��رة‪ ،‬التهمت النار‬ ‫هذين المخطوطين؛ ألنني لم أرد أن أخجل‬ ‫من كتابتهما أمام نفسي واآلخرين‪.‬‬ ‫‪ 112‬اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫«سحر أسود»‪ ..‬منحتني بعد كفاح طويل‬ ‫مرير الثقة في فني الروائي‪ ،‬وتحقيق أمنية‬ ‫قديمة الزمتني منذ كنت في الثانية عشرة‬ ‫من عمري‪ ،‬أن أصبح كاتبًا من طراز الكتاب‬ ‫الذين أحبهم‪ .‬أن أنتج يومًا ما عمال ينتمي‬ ‫إل��ى دائ��رة األعمال التي سلبت لبي صبيًا‬ ‫ومراهقًا وش��ا ًب��ا‪ .‬أقصد أعمال كزنزاكس‬ ‫وهيرمان هسه‪ ،‬واألمريكي الملعون هنرى‬ ‫ميللر‪.‬‬ ‫‪3‬‬ ‫«ل��س��تُ مثل مثقفي ال��ي��وم‪ ،‬أت��ح��دث عن‬ ‫ال��س��ي��اس��ة وال��ف��اق��ة واألزم����ة االق��ت��ص��ادي��ة‬ ‫والفساد‪ ،‬والديكتاتورية والعولمة والقطب‬ ‫ال���واح���د‪ ،‬واإلره�������اب‪ ،‬وإح���س���اس ال��ن��اس‬ ‫بالهزيمة والفشل واإلحباط‪ ،‬ونجوم شبابيك‬ ‫السينما ال���ج���دد‪ ،‬وال���ه���وس ب��االس��ت��ه�لاك‬ ‫والسعادة والفردية؛ وال أنا أتكلم عن األشياء‬ ‫الصغيرة‪ ،‬والتفاصيل الحميمة‪ ،‬والجسد‬ ‫والجنس‪ ،‬وموت القضايا الكبرى‪ ،‬وسقوط‬ ‫األيديولوجيات‪ ،‬وحياد النصوص‪ ،‬والكتابة‬ ‫الباردة‪ .‬األجدى لي أن أتحدث عن الحرب‬ ‫والقتل والعنف وال��م��وت‪ ،‬ألنني ال أتحدث‬ ‫س��وى ع��ن ال��ع��ش��ق‪ .‬العشق فحسب‪ .‬م��اذا‬ ‫يسمي الناس هذا الشخص الذي يصر على‬ ‫التشبث بالخطأ مقابل كل اآلخرين‪ ،‬مقابل‬ ‫العالم كله‪ ،‬وك��أن أمامه األبدية ليخطىء؟‬ ‫يسمونه مغفالً‪ ،‬ساذجاً‪ ،‬أهطل‪ .‬أنا اسميه‬ ‫باسمي‪ ،‬فمن امرأة ألخرى‪ ،‬من وجه آلخر‪،‬‬ ‫أكف عن العشق‪ ،‬وال أكف‬ ‫من ناس آلخرين ال ّ‬


‫ن � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��واف � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��ذ‬

‫عن السقوط‪ ،‬السقوط المريع من ال��دور لدرجة ال تحتمل‪ .‬إنه األلم الصرف المزمن‬ ‫الثالثين على اإلسفلت العاري‪ ،‬أسقط دون الثابت ال��ذي يغزو معدتي‪ ،‬ويجعل حلقي‬ ‫أن يقاسمني أحد‪ ،‬دون أن يراني أحد‪ .‬دون ج��اف�اً وم���راً؛ ال طعم للسيجارة‪ ،‬وال طعم‬ ‫أن يعرف أحد‪.‬‬ ‫ال وعجزاً‬ ‫للطعام والفاكهة التي أدحرجها مل ً‬ ‫أنا في حالتي هذه أشبه الشاطح األكبر‪ ،‬فوق طاولة الكتابة والوجبات‪.‬‬ ‫ال شخص غير مقبول‪ ،‬مرفوض‬ ‫الحالج مث ً‬ ‫ربما ألنها ش��يء يحدث بفاعلية الجر‪،‬‬ ‫من ناسه وأهله ومجتمعه‪ .‬أن��ا ال أعترض‬ ‫على شيء‪ ،‬وال أتحاور مع أجهزة السلطة‪ ،‬بينما ما أح��اول أن أصفه هو تجلط الدم‬ ‫وكهنة الفكر وأهل األدب والعلم واإلدارة‪ ..‬وانسياله وفورانه وهديره‪ .‬دم ينزف من رقبة‬ ‫لستُ بالضرورة حيواناً آبقاً أو طائراً شارداً مطعونة بمطواة (سكين) ذات نصل بالغ‬ ‫من السرب‪ ،‬انحرافي هو أنني ال أ ُث��ار‪ ،‬ال الحدة والصالبة والرهافة‪ .‬البعد بين الحبر‬ ‫أ ُس��ت��ف��ز‪ ...‬إن��ن��ي معلق‪ ،‬ف��ق��ط‪ ،‬ب��ع��ي��داً عن والدم هو البعد بين ما يحدث‪ ،‬وما أحاول‬ ‫األشياء والعالقات اإلنسانية بقرار تفاهة‬ ‫أن أكتبه‪ .‬همتي ورغبتي فيها شبه معدومة‪،‬‬ ‫ضمني‪ ،‬ال أنتمي ألي قائمة‪ ،‬وال ألي مأوى‪»..‬‬ ‫ميتة‪ .‬وكل ما أحاول أن أكتبه سيظل دائماً‬ ‫ه��ذا ص��وت ناصر عطا اهلل الشخصية‬ ‫شيئاً فجاً تافهاً وسطحياً‪ ،‬ال غ��ور له وال‬ ‫الرئيسة ف��ي «س��ح��ر أس���ود» وه���ذه رؤيته‬ ‫امتداد وال قاع‪ ،‬تماماً مثل هذه القاذورات‬ ‫وحالته‪.‬‬ ‫الملقاة في سلة الزبالة في ركن غرفتى»‪.‬‬ ‫إلى أي حد ألتزم أنا نفسي‪ ،‬ككاتب‪ ،‬بهذا‬ ‫وم���ع ك��ل ه����ذا‪ ،‬وب��ال��رغ��م م��ن ك��ل ذل��ك‬ ‫المانفستو؟‬ ‫أع��رف أنني على العكس من ذل��ك كله؛ فالكتابة هي الفرار الوحيد الممكن‪ ،‬هي‬ ‫منغمس ف��ي ك��ل م��ا نفاه ناصر عطا اهلل‪ .‬ال��ت��ي ت��ه��ب األم���ل ف��ي ذروة ال��ي��أس‪ .‬عند‬ ‫وأحاول أن أكتب هذا كله‪ ،‬ولكن كيف تكتب تمام اليأس يوجد ضوء ضعيف يتسلل إلى‬ ‫أيضا‪ ،‬وتبدأ اليد في‬ ‫هذا؟ السؤال يعني أن يكون الفن وحده هو المكان‪ ..‬فيتغيرالزمان ً‬ ‫الوسيلة والغاية والحكم‪.‬‬ ‫ضرب (الكيبورد) بسرعة‪ ،‬تحاول مالحقة‬ ‫‪4‬‬

‫ما يجرى هناك في منطقة الظلمة‪ ،‬ظلمة‬

‫«الكتابة مؤلمة‪ .‬الكتابة مرّة في حلقي‪ ،‬الدماغ والنفس وما نسميه ال��روح‪ ،‬الكتابة‬ ‫أم ّر من أدوية تليّف الكبد التي كنت أذوقها تخلق‪ ..‬لكن ليس من ع��دم‪ ،‬وتهب ن��ورًا ما‬ ‫ٍ‬ ‫وأضعها في فم أبي‪ .‬الكتابة عمل شاق‬ ‫مضن للكاتب نفسه‪ ،‬وبالضرورة للقراء‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪113 )2015‬‬


‫كريم رضي‬ ‫يسمح بهذا الترف البطيء‪ .‬مطلوب منك‬ ‫شاعر من البحرين‬ ‫أن تتخذ قرارا سريعا بإرسال المادة للنشر‪،‬‬ ‫وحالما تفعل‪ ..‬تكون قد اتخذت ق��رارا قد‬ ‫ف�����ي ال��ح��ق��ي��ق��ة‬ ‫تندم عليه‪ ..‬لكن لن تستطيع إلغاء نفاذه‪.‬‬ ‫ث���ار ال���س���ؤال نفسه‬ ‫لكني سعيد جدا بتعرفي على هذه التقنيات‪.‬‬ ‫تقريبا غداة اكتشاف‬ ‫لدي أصدقاء جميلون‪ ،‬آسف لعدم قدرتهم‬ ‫المطبعة‪ ..‬حين شعر‬ ‫على استخدام اإليميل أو الكتابة في المواقع‪.‬‬ ‫ي��وم��ه��ا ال��خ��ط��اط��ون‬ ‫يذكروني بمن ظلوا يستخدمون الدراجات‬ ‫وال��ك��ت��اب أن سرعة‬ ‫ال���ط���ب���اع���ة م���دع���اة‬ ‫ال��ه��وائ��ي��ة ب��رغ��م زح��ف ال��س��ي��ارات‪ .‬أحيانا‬ ‫لضعف الموهبة‪ ،‬وفقدان الكتابة عمقها‪ .‬أع��رض عليهم ص��ف مطبوعاتهم وإرس��ال‬ ‫وهو سؤال طالما شغل البشرية؛ كيف يجمع موادهم باإليميل‪ .‬لكني إجماال أشعر أن لذة‬ ‫اإلن��س��ان بين ال��ج��ودة والسرعة في الوقت الكتابة اآلن تفوق ماضيها كثيرا‪.‬‬ ‫نفسه؟ وأس����ارع إل��ى ال��ق��ول إن ه��ذا ليس‬ ‫أذك��ر أنني خ�لال فترة استخدام القلم‬ ‫س��ؤال اإلب��داع والشعر وح��ده‪ ،‬بل كل شيء‬ ‫ت��خ��ش��ن��ت م��ن��ط��ق��ة ال��م��ق��دم��ة ف���ي إصبعي‬ ‫تقريبا‪ .‬شخصيا‪ ،‬ومنذ تعوّدت على استخدام‬ ‫ال��وس��ط��ى بسبب ضغط ال��ق��ل��م؛ ألن��ي كنت‬ ‫الكومبيوتر بما يكفي لكتابة مقالة أو قصيدة‪،‬‬ ‫لم أعد راغبا في استخدام القلم إطالقا‪ ،‬كثير الكتابة‪ .‬ما زلت أتحسس هذه المنطقة‬ ‫وحتى مسودات القصائد والمقاالت أكتبها وأجدها أخشن نسبيا من باقي األصابع‪ .‬هذا‬ ‫مباشرة على الحاسوب‪ ،‬وال أفعل كما يفعل وسامي الذي أعتز به‪ ،‬كما يعتز الجندي بأثر‬ ‫بعضهم بكتابة مسودة بالقلم قبل االنتقال طلقة في ذراعه أو ساقه‪ .‬كما يعتز الفالح‬ ‫إلى الكيبورد‪ .‬أعتقد أن سرعة انتقال المادة بأثر رفش في قدمه‪ ،‬والميكانيكي بأثر مفك‪،‬‬ ‫والبناء بأثر ساق المطرقة في راحة يده‪ .‬لكن‬ ‫بكبسة فأرة محفّز أكبر للكتابة‪.‬‬ ‫هذا االعتزاز ال يجعلني أحمل نوستالجيا‬ ‫الموجة الرقمية شيء جميل حقا‪ .‬بالطبع‬ ‫س��ؤال الجودة يكون هنا أخطر‪ .‬فبضغطة العودة إلى القلم‪ .‬بالعكس أشعر أني تأخرت‬ ‫صغيرة تكون قد وضعت نتاجك أمام أعين كثيرا في التعرف على هذا العالم العجيب‪.‬‬ ‫اآلخ��ري��ن‪ ،‬س���واء على اإلي��م��ي��ل أو الموقع أحسد كثيرا شعراء أكبر مني سنا‪ ..‬لكنهم‬ ‫اإللكتروني‪ .‬التراجع صعب‪ .‬لو كنت ستنشر سبقوني للتكنولوجيا قبل أن أتعرف عليها أنا‬ ‫آنئذ‪.‬‬ ‫ورقيا كتابا أو م��ادة للصحافة‪ ..‬لربما كان الذي اعتبرت نفسي بالنسبة لهم شابا ٍ‬ ‫هناك مجال أكبر للتراجع‪ ،‬وذلك متاح حتى اللذة إذاً موجودة‪ .‬فقط أحافظ أال تتلفها‬ ‫تسقط المادة في صندوق البريد‪ ،‬أو حتى السرعة‪ .‬تماما كشبق نهم يريد أن يشبع‬ ‫تدور آلة الطباعة في المطبعة‪ ،‬تظل قادرا عطش جسده‪ ..‬لكن يريد أيضا أن يبطيء‬ ‫على مراجعة نفسك ونصك قبل أن يقرأه ارت��واءه لتشرب ال��روح أيضا‪ ...‬فللروح حق‬ ‫اآلخ���رون‪ .‬لم يعد وق��ت العالم اإللكتروني معلوم من جسدها‪.‬‬

‫‪ 114‬اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫القاصة السورية‪ :‬وزنة حامد‬

‫ه��ذا الضمير إل��ى فيافي العالم بوسائل‬

‫مما الشك فيه أن‬

‫التطور الجاري اليوم‬ ‫ف���ي ال��ع��ال��م أج��م � َع‬

‫وعلى صعيد التقنية‬ ‫وال���م���ع���ل���وم���ات���ي���ة‪-‬‬

‫الخاصة منها شبكة‬

‫صحيحة وحضارية في ذات الوقت لتأخذ‬ ‫المواقع الجادة على عاتقها وبرغبة جامحة‬ ‫منها‪ ،‬أن تقوم بهذه الفاعلية‪ ..‬ومن خالل‬ ‫ما تنشره على صفحاتها من م��واد ثقافية‬ ‫وإبداعية‪ ،‬وجدنا من خالل هذه المواقع أن‬

‫ن � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��واف � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��ذ‬

‫الش ِي ِق والشاق‬ ‫تابة َ‬ ‫الك ِ‬ ‫طعْ ُم ِ‬

‫قبل الضمير اإلنساني‪ ،‬كما أوصلت اإلنترنت‬

‫الفكر والثقافة الحقيقين تريدان الخروج من‬

‫اإلن��ت��رن��ت‪ -‬ه��ي بالنسبة للجميع وخاصة حالتهما الراكدة هذه‪ .‬يقول جل جالله‪( :‬ألم‬ ‫الكتاب والقراء سالح ذو حدين‪:‬‬ ‫ال كلمة طيب ًة كشجرة‬ ‫ترى كيف ضرب اهلل مث ً‬ ‫األول ي��م��ك��ن اس��ت��خ��دام ه���ذه التقنية طيبة‪ ،‬أصلها ثابت وفرعها في السَّ ماء‪ .‬تؤتي‬

‫ألغ��راض سيئة أنانية انتقامية‪ ،‬وبالتالي أكلها كل حين بإذن ربها)‪[ .‬إبراهيم‪]25-24:‬‬ ‫ينعكس على الزائر سلبا‪ ،‬وهنا يقوم باإلسهام ومن هنا فإن هذه المواقع قد فتحت المجال‬

‫في العملية التدميرية والتهديم الموجهة أم��ام ال��رأي وال��رأي اآلخ��ر على مصراعيه‪،‬‬ ‫للثقافة الحقيقية‪ ..‬ربما على مساحتها فمن الممكن جدا أن يستقطب كل الطاقات‬

‫الواسعة‪.‬‬

‫الخالقة والحيوية الموجودة على الخريطة‬

‫بينما الجانب اإليجابي والمفيد منه‪ ،‬الثقافية المبعثرة‪ .‬وهنا نود من القائمين‬ ‫هو استخدامه في خدمة الفكر والثقافة عليه التواصل والتفاعل مع كل المبدعين‬

‫اإلنسانية‪ .‬لذلك‪ ،‬فنحن الكتاب والزائر معاً والكتاب والمثقفين؛ ألننا اليوم بحاجة إلى‬ ‫علينا أن نعي وندرك الجانب اإليجابي منها‬ ‫آرائهم أكثر من أي وقت مضى‪ .‬ومن هنا‪،‬‬ ‫بدقة وبانتباه شديدين‪ .‬ألن هذه التقنية ‪-‬أي‬ ‫نشكر كل القائمين على المواقع اإلنترنتية‬ ‫اإلنترنت‪ -‬كسرت بالنسبة لنا نحن الكتاب‬ ‫ع��ل��ى تعبهم ف��ي إح��ي��اء ال��ت��راث والثقافة‬ ‫الكثير من الحواجز والقيود السائدة اليوم‬ ‫واألدب والفكر‪ ،‬وإيصاله إلى اآلخر ‪-‬سواء‬ ‫على مجتمعاتنا الشرقية‪ ،‬التي م��ا ت��زال‬ ‫مفروضة علينا نحن الكتاب ومنذ وقت بعيد‪ .‬أكان ثقافيا أم سياسياً أم اجتماعياً‪ -‬بقوة‪،‬‬ ‫وعلى الرغم من وسائلهم القوية‪ ..‬إال أن ورغما عن الحواجز‪ .‬لكن المأخذ على هذه‬ ‫اإلنترنت بقوة وسواعد التقنيين واإلعالميين المواقع‪ ،‬قد يصبح جداراً يعلق عليه ما هبَّ‬ ‫ودب‪ ..‬وهذا ما ال يريده أحد مطلقا‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫الشرفاء أوصلت الكلمة إلى اآلخر المعني من‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪115 )2015‬‬


‫الكتابة التكنولوجية‬ ‫محمد اشويكة‬ ‫قاص وناقد سينمائي (المغرب)‬ ‫(‪)1‬‬ ‫جاء التغير‪ ..‬يلزم‬ ‫ال��ت��غ��ي��ر‪ ..‬اإلن��س��ان‬ ‫ف���ي م��واج��ه��ة ذات���ه‬ ‫وال���م���س���ت���ج���دات‪..‬‬ ‫يعني الوعي‪.‬‬ ‫بهذه المقدمة الموجزة أستطيع أن أجد‬ ‫لنفسي مدخال مالئما‪ ،‬لإلسهام في مناقشة‬ ‫مسألة الكتابة في زمن التكنولوجيا‪ .‬من بين‬ ‫المفاهيم المهمة التي نحتتها الفلسفة مفهوم‬ ‫اإلنسان التكنولوجي «‪،»Homo Technologicus‬‬ ‫وهو رصد للقدرة الكامنة في اإلنسان على‬ ‫الخلق التكنولوجي ورصده ومتابعته إلى درجة‬ ‫لم يعد يستطيع معها االنفكاك عن مباهجها‬ ‫ونكدها أيضا‪ ..‬ولعله في ذلك ينفتح عن ذاته‬ ‫وعن الطبيعة‪ ،‬من خالل عالقة دياليكتيكية‬ ‫بينهما؛ ألن الجسد اإلنساني كما الطبيعة‬

‫(‪)2‬‬ ‫غيرت الكتابة اإللكترونية الكثير من‬ ‫المفاهيم المتداولة حول الكتابة والقراءة‬ ‫والتلقي وال��ن��ش��ر‪ ..‬فأصبح ال��ح��دي��ث عن‬ ‫اإلبداع االفتراضي أو الرقمي أو التفاعلي‪..‬‬ ‫وش���اع ال��ن��ق��اش ح��ول ال��ق��راءة اإللكترونية‬ ‫وال��ق��ارئ الرقمي وال��م��ح��اض��رة المرئية‪..‬‬ ‫وت��غ��ي��رت الكتابة شكال ومضمونا جعلنا‬ ‫بالفعل نلج زمن الكتابة التكنولوجية بمعناها‬ ‫األكثر اتساعا‪:‬‬ ‫على مستوى التأليف والنشر‪:‬‬ ‫أسهمت المواقع والمدونات اإللكترونية في‬ ‫تغيير أنماط الكتابة وانتشارها بين الناس؛‬ ‫م��ا زاد م��ن ره��ان��ات الكاتب ال��ي��وم‪ ،‬ال��ذي‬ ‫أصبح من الواجب عليه أن يتسلح بالمعرفة‬ ‫التكنولوجية الحديثة لتجاوز كبوات الجمود‬ ‫ال��م��ع��رف��ي‪ ..‬ف��ال��ع��ال��م ال��ي��وم ف��ض��اء ممكن‬ ‫للتواصل فكريا وأدب��ي��ا‪ ..‬و َم��ن يوجد على‬ ‫م��ح��رك��ات ال��ب��ح��ث‪ ..‬ي��ع��رف بثقافته أكثر‪،‬‬ ‫خصوصا وأن الثقافات المحلية تحاصر‬ ‫بفعل سيطرة الدول الكبرى‪ ،‬وعدم اهتمام‬ ‫مؤسساتها وأف��راده��ا باالنتشار الثقافي‬ ‫اإللكتروني‪.‬‬

‫على مستوى ال��ق��راءة والتلقي‪:‬‬ ‫التي ينتمي إليها أيضا‪ ،‬يزخر بالكثير من‬ ‫التقنيات ال��ظ��اه��رة والكامنة التي حولها أسهمت أج��ه��زة الحاسوب واإلن��ت��رن��ت في‬ ‫ظهور عادات وطرق تلقّي مختلفة‪ ،‬إذ أصبح‬ ‫اإلنسان إلى تكنولوجيا‪.‬‬ ‫ال��ق��ارئ اليوم يحل مشاكل النص مباشرة‬ ‫أسوق هذا الحديث ألقول بأن التكنولوجيا عبر اإلنترنت‪ ،‬ب��دءاً بالمشاكل المعجمية‬ ‫ووص��والً إلى إمكانات البحث عن األصول‬ ‫ظاهرة إنسانية خالصة‪.‬‬

‫‪ 116‬اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫التأطير التربوي أو الديداكتيتي‪.‬‬

‫(‪)4‬‬

‫لقد زاد من أهمية انتشار ثقافة اإلنترنت‬ ‫اكتفاؤها بذاتها‪ ،‬فالمتلقي يمكن أن يحل‬ ‫مشاكله ع��ن ط��ري��ق ال��ب��ح��ث اإلل��ك��ت��رون��ي‪،‬‬ ‫واللجوء إلى طرق التحميل السهلة‪ ،‬وطرح‬ ‫األسئلة من خ�لال المنتديات اإللكترونية‬ ‫الخالصة‪ ..‬واأله��م من ذل��ك‪ ،‬سهولة ولوج‬ ‫البرمجيات الجديدة وت��واف��ر الكثير منها‬ ‫إن مفهوم النص قد تغيّر بشكل جذريّ ‪،‬‬ ‫مجانا‪.‬‬ ‫وأصبح مفتوحا على المزيد من المفاجآت‬ ‫إن الخطير في الثقافة اإللكترونية اليوم‪ ،‬التي قد ال يستسيغها بعض الزاهدين في‬ ‫التعامل معها واستهالكها كتسلية بعيدا عن الورق‪ ..‬الذين نقول لهم‪ :‬رأفة بنقار الخشب‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫ن � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��واف � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��ذ‬

‫والمرجعيات وإمكانات التناص‪.‬‬

‫م��ت��ع��ددة ال��وس��ائ��ط‪ ،‬ق��د نطلق عليه نصا‬ ‫وسائطيا ‪ Texte hypermédia‬غالبا ما قد تكون‬ ‫صورا ثابتة أو متحركة أو سمعية بصرية‪..‬‬ ‫ألن الميلتيميديا مجموع تقنيات تواصلية‬ ‫تتيح للمستخدم استعمال عدة أنماط من‬ ‫المعلومات الرقمية‪ ..‬سواء كانت نصية أم‬ ‫مسموعة أم مرئية‪.‬‬

‫إن التفكير في تأثير التكنولوجيا اليوم‬ ‫على الكتابة أم��ر بالغ التعقيد‪ ،‬وال يمكن‬ ‫تناوله من زاوية تقنوية محضة؛ ألن الكثيرين‬ ‫من المهتمين بالمجال يتحدثون عن الوسائل‬ ‫التقنية التي تتداخل والكتابة (ش��اش��ات‪،‬‬ ‫حواسيب‪ ،‬مستهلكات رق��م��ي��ة‪ ،)...‬وكأنهم‬ ‫مُسَ وِّقِ ي َن لها أو وك�لاء تجاريين‪ ،‬فالكثير‬ ‫منهم لم يستطع القفز إلى عمق األسئلة بل‬ ‫ظل يستعرض المزايا والسلبيات‪ ،‬وكأنه يقرأ‬ ‫المطوية (‪ )Prospectus‬المرافقة للمنتوجات‬ ‫التقنية حرفيا‪..‬‬

‫أسهمت تكنولوجيا المعلوميات اليوم‬ ‫في تغيير اللغة ذاتها‪ ،‬فاللغة لم تعد جامدة‬ ‫وتقعيدية‪ ،‬ب��ل ت��م اختراقها على مستوى‬ ‫رَسْ مِ هَا‪ ،‬أوال؛ ودخلت إليها األرق��ام‪ ،‬ثانيا؛‬ ‫وك��ث��ف��ت ت��ق��ن��ي��ات ال��ت��ح��ري��ك وال��ت��ل��وي��ن من‬ ‫حموالتها الداللية‪ ،‬ثالثا‪ ..‬إذ أصبحت جل‬ ‫اللغات تقريبا مستباحة لالستعمال وفق‬ ‫أهواء مستعمليها واجتهادات كتابها‪ ..‬وهذا‬ ‫أم��ر يثير أكثر م��ن س���ؤال‪ :‬م��ا معنى اللغة‬ ‫ال��ي��وم؟ هل هي حقيقة األش��ي��اء فعال؟ هل‬ ‫يعني اختراق قواعدها اإلمالئية يحيل إلى‬ ‫م��ن المتفق عليه اآلن‪ ،‬أن لكل تقنية‬ ‫نسبية القواعد أيضا؟‬ ‫إيجابيات وسلبيات‪ ،‬ولكن السؤال اليوم ما‬ ‫لم نعد نتحدث عن النص ككتلة متراصة دام يطرحه كاتب أو باحث يجب أن يقفز‬ ‫من الحروف والكلمات والجمل والفقرات إل��ى متغيرات الكتابة‪ ،‬وإل��ى م��آزق الكتابة‬ ‫الحاملة للمعنى‪ ،‬بل أصبح النص ترابطيا وال��ت��ق��ن��ي��ة‪ ،‬وت��ح��ل��ي��ل ال��م��واق��ف المتنافرة‬ ‫‪ Texte hypertextuel‬وحامال ألشياء أخرى تجاهها‪ ..‬فالكثير من المنشغلين بسؤال‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪117 )2015‬‬


‫الكتابة في العالم العربي يعدون اإلنترنت‬ ‫مجرد وسيلة للعولمة‪ ..‬نعم‪ ،‬إن األمر كذلك‪.‬‬ ‫ل��ك��ن م��ا ال��ع��م��ل؟ ه��ل ي��ج��ب أن ن��س��د على‬

‫أنفسنا متعللين بالرفض؟ أظن أن المسألة‬

‫والشاق‬ ‫ّ‬ ‫طعم الكتابة الشيّ ق‬ ‫عبد الغني فوزي ‪ -‬شاعر‪ /‬المغرب‬ ‫ال ي���م���ك���ن أن‬

‫أخطر من ذلك‪ .‬العالم اليوم تشوبه فوضى ننكر ونتنكر اليوم‪،‬‬ ‫منظمة وراءه���ا أدمغة وأم���وال وخطاطات ل������دور اإلن���ت���رن���ت‬ ‫لوجيستيكية جبارة‪ ،‬فالعالم اليوم يحكمه كحلقة من حلقات‬ ‫التقنيون بامتياز‪ ،‬لذلك ال بد من ممارسة التطور التكنولوجي‬ ‫ن���وع م��ن ال��م��ق��اوم��ة ال��ت��ي ت��م��ارس��ه��ا ثقافة والعلمي‪ ،‬ال��ه��ادف‬

‫العولمة بوصفها ثقافة ذات بعد واحد‪ ،‬تتميز إل��ى تكسير ال��ح��دود الجمركية ضمن‬ ‫بالشمولية وتحاول تدجين الناس وتسليعهم‪ ،‬اق��ت��ص��اد ال��س��وق وال��ت��ب��ادل ال��ح��ر‪ .‬وفي‬ ‫عن طريقة تقنيات التواصل الحديثة ووسائل المقابل‪ ،‬أصبح الحديث في هذا الخضم‬ ‫االتصال الجماهيرية ونشر ثقافة التسلية‪ .‬عن رأس المال المعرفي اآلتي من مجموع‬

‫إن ول��وج ع��وام اإلنترنت اليوم مقاومة من الخبرات واألنماط للهويات الثقافية؛ وقد‬ ‫يتم الرقي بها لمجتمع المعرفة الذي ال‬ ‫داخل المنظومة ال من خارجها‪ .‬فالمثقف‬ ‫يتوقف عند ال��ت��داول التقليدي للثقافة‬ ‫َم��ن يعرف كيف يمتلك األس��ل��وب والتقنية‬ ‫والمعرفة‪ ..‬بل إنتاجها وتسويقها بالمعنى‬ ‫لتمرير خطابه‪ ،‬فمَن له وسيلة واح��دة في‬ ‫الرمزي‪.‬‬ ‫ظل ثقافة العولمة‪ ،‬مصيره الموت البطيء‪.‬‬ ‫ف��ي ه���ذا ال��س��ي��اق‪ ،‬وض��م��ن المجال‬ ‫(‪)5‬‬ ‫األدب����ي‪ ،‬ظ��ه��رت م��واق��ع ثقافية ضمن‬ ‫لذلك‪ ،‬عندما أمارس الكتابة في ظل هذه الشبكة اإللكترونية‪ ،‬تمتص اإلبداعات‬ ‫المتغيرات‪ ،‬أ ُع � ُّد األم��ر أكثر تحديا وأكثر على اختالف أشكالها؛ من شعر وقصة‬ ‫مغامرة‪ :‬كيف أستطيع تحويل م��ا اعتاده ورواي���ة‪ ..‬وه��و ما أسهم حقا في توفير‬ ‫الناس تسلية ووسيلة إلى ُممْكِ ٍن إبداعي؟ مساحة حرة دون رقيب ولو أدبيا أحيانا‪.‬‬ ‫هل أستطيع أن أصمد أمام أهوال اإلنترنت فأصبح األدب منسابا كبحيرة في جزيرة‬

‫الجارفة‪ ،‬أم أنني أقاوم ضد المجهول؟‬

‫م���ا‪ ،‬ض��م��ن واق���ع ي��ح��اص��ر المساحات‬

‫تلكم بعض من أسئلة الكتابة التكنولوجية‪ ..‬الثقافية وي��ط��ارده��ا ن��ظ��را لألعطاب‬ ‫وه��ي بدورها تتوفر على كل توابل المتعة الكثيرة المعروفة‪.‬‬

‫والمغامرة‪.‬‬

‫‪ 118‬اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫فالشبكة ه���ذه‪ ،‬ال تكتفي بالعرض‬


‫ف��ي ه��ذا ال��س��ي��اق‪ ،‬بالنسبة ل��ي‪ ،‬قد‬ ‫استفدت من هذه النافذة على مستويين‪:‬‬ ‫ع��ل��ى امل��س��ت��وى ال��ث��ق��ايف ال��ع��ام‪:‬‬ ‫االضطالع على تجارب إبداعية متعددة‬ ‫ال��م��رج��ع��ي��ات وال�����رؤى؛ وب��ال��ت��ال��ي يغدو‬ ‫التفاعل طريا وآنيا‪ ،‬ينعكس بشكل من‬ ‫األشكال على مناحي التجربة اإلبداعية‬ ‫ال��خ��اص��ة‪ .‬ل��ك��ن ذل���ك ال ينفي العالقة‬ ‫بالواقع العربي في تمفصالته وتجلياته‬ ‫المختلفة‪.‬‬

‫ن � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��واف � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��ذ‬

‫فقط‪ ،‬بل خلق نوع من الحوار المباشر معه المالمح تماما‪ .‬وعليه‪ ،‬أع ُّد اإلنترنت‬ ‫حول اإلبداعات‪ ،‬وهو ما أدى إلى تفاعل مجرد وسيلة لإليصال والتواصل‪ ،‬وليس‬ ‫مباشر‪ ،‬دفع الكثير من النوافذ اإليصالية غاية لنقيم فيه كغثاء‪.‬‬ ‫إلى تطوير تأثيثها الداخلي قصد سهولة‬ ‫وفي نفس اآلن‪ ،‬أقول إن هذه الموجة‬ ‫االس��ت��خ��دام وإث���ارة المشاهد جماليا‪.‬‬ ‫وبالتالي‪ ،‬فالصفحة على اإلنترنت تتصف الرقمية‪ ،‬ال تضيف لجوهر الكتابة شيئا‪،‬‬ ‫ليس فقط بعرض وطول‪ ،‬بل برحابة وعمق الكتابة كطريقة في االشتغال والرؤيا‬ ‫الداخل‪ .‬فبدأ هذا الواقع اإللكتروني ينتج ل��ل��ذات وال��ع��ال��م‪ .‬وبالتالي فاإلحساس‬ ‫آلياته التواصلية وخصوصية تلقيه‪.‬‬ ‫بطعم الكتابة ينبع من الداخل‪.‬‬ ‫الكاتب السعودي‬

‫فهد العتيق‬

‫ف����ي ظ����ل ث����ورة‬ ‫الميديا‬

‫الحديثة‪،‬‬

‫أص��ب��ح��ت ال��ق��راءة‬ ‫أك�������ث�������ر ج����م����اال‬ ‫وس���ه���ول���ة‪ ،‬بسبب‬ ‫سهولة الوصول إل��ى النصوص العربية‬ ‫والعالمية‪ ،‬القليلة المبدعة والرفيعة التي‬

‫على مستوى التجربة اخلاصة‪ :‬تحرضك على الكتابة‪ ..‬كما أن متعة‬ ‫أع��ت��رف ف��ي ال��ب��دء أن اإلن��ت��رن��ت أسهم الكتابة ما تزال كما هي بعد التعود على‬ ‫ف��ي ال���ت���داول ل��م��ا نكتب ع��ل��ى مستوى ممارستها من خالل شاشة الكمبيوتر‪..‬‬ ‫واسع‪ ،‬وبالتالي االنفتاح على منابر عدة‬ ‫أظن أن متعة الكتابة الحقيقية تتحقق‬ ‫(ورقية وإلكترونية)‪ .‬وهو ما يجعلني أكثر‬ ‫في األساس‪ ،‬من خالل مدى قدرة الكاتب‬ ‫مسؤولية أمام ما أكتب‪ .‬من هنا‪ ،‬نقر أن‬ ‫على محاولة كتابة نص مختلف ومتجدد‪،‬‬ ‫الكتابة اآلن‪ ،‬تعني البحث عن حيز من‬ ‫البياض‪ ،‬يحمل بصمتك الخاصة بين وبلغة سهلة وسلسلة غير متكلفة‪ .‬هنا‪،‬‬ ‫تعدد األصوات والتجارب التي تصل على تتحقق متعة ال يعرف أس��راره��ا إال من‬ ‫حد المسخ والتشابه البارد‪ ،‬الذي تنتفي حاول الوصول إلى هذه المنطقة‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪119 )2015‬‬


‫الناقد عبدالقادر فيدوح‬ ‫‪ρρ‬حاوره الناقد‪ :‬سعيد بـوعيطة*‬

‫عبدالقادر فيدوح‪ ،‬أستاذ النقد والدراسات السيميائية‪ ،‬وله اهتمامات فلسفية‪،‬‬ ‫ويعد م��ن األص ��وات ال �ب��ارزة ف��ي المشهد الثقافي ال�ع��رب��ي‪ .‬عمل بجامعة وه��ران‬ ‫بالجزائر‪ ،‬وانتقل إلى جامعة البحرين‪ ،‬واآلن في جامعة قطر‪.‬‬ ‫أولى أعماله النقدية كتاب (االتجاه النفسي في نقد الشعر العربي)‪ ،‬كما صنّف‬ ‫كتابه المهم (دالئلية النص األدبي) عام ‪1991‬م‪ ،‬وهو من أولى الكتب العربية التي‬ ‫تناولت النصوص الشعرية من خالل المنهج السيميائي‪ .‬له العديد من األعمال‬ ‫النقدية األخ ��رى‪ :‬إرادة ال�ت��أوي��ل وم ��دارج معنى الشعر‪ ،‬ال��رؤي��ا وال�ت��أوي��ل‪ ،‬القيم‬ ‫الفكرية والجمالية في شعر طرفة بن العبد‪ ،‬ومعارج المعنى في الشعر العربي‬ ‫الحديث‪ ،‬ونظرية التأويل في الفلسفة العربية اإلسالمية‪ ،‬وشعرية القص‪...‬إلخ‪.‬‬ ‫محكّ م في العديد من الدوريات‪ ،‬كما عمل على تأسيس أخرى‪ ،‬نذكر منها مجلة‬ ‫ِسمَات ‪.SEMAT‬‬ ‫يتعذر أن نختزل عبدالقادر فيدوح في بضع سطور‪ .‬لكن محاورته‪ ،‬ستفتح‬ ‫لنا بعض مغالق النقد األدب��ي العربي‪ ،‬وإض��اءة قضايا ع��دة في النقد واإلب��داع‬ ‫العربيين‪ ،‬وبعض المعضالت المحورية التي يعرفها النقد العربي‪.‬‬ ‫¦ ¦إل��ى أي حد عمل الخطاب النقدي‬ ‫العربي في تجربتيه‪ ،‬على استيعاب‬ ‫ت �ج��رب��ة ال �ن �ق��د ال �غ ��رب ��ي وت �م � ّث �ل �ه��ا‪،‬‬ ‫واالرتباط في الوقت نفسه بجذوره‬ ‫التراثية؟‬

‫النقدي ف��ي تراثنا العربي بنظرة‬ ‫خاطفة؛ لمعرفة حقيقة الفرق بين‬ ‫مرجعية نقادنا القدامى الثقافية‪،‬‬ ‫ومحاولة إدراكنا ما يستوجب فهمه‬ ‫من ممارساتنا النقدية‪.‬‬

‫‪ρ ρ‬دعني أبِين لك ما أش��رتَ إليه في‬ ‫ط��رح إشكالية ال��ت��ج��ارب النقدية‬ ‫العربية التي ابتنتها األجيال‪ ،‬ألْمِ ح‬ ‫من خاللها مبررات تأسيس الوعي‬

‫وقبل ذل��ك‪ ،‬لعل جميعنا ي��درك أن‬ ‫السمة الداللية للتحوّل المعرفي‬ ‫من جيل إلى آخر‪ ،‬هي ترجمة لتبدل‬ ‫مواقع الوجود من حالة إل��ى حالة‬

‫‪ 120‬اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫م� � � � � � � � � � � � � � � � ��واج � � � � � � � � � � � � � � � � �ه� � � � � � � � � � � � � � � � ��ات‬

‫أخ���رى‪ ،‬ال تتكرر صفات ال��واح��دة في‬ ‫األخرى‪ ،‬بل كل واحدة تستقل بماهيتها‪،‬‬ ‫وت��ك��ون سببا ف��ي خ��ل��ق ال��ث��ان��ي��ة؛ وف��ق‬ ‫التحوالت الطارئة على الصورة األولى‬ ‫بفعل وساطة معينة‪ ،‬حتى تصبح ُمعَدة‬ ‫للتحول إل��ى ص��ورة أخ��رى ليست ثابتة‬ ‫على وجه اليقين‪.‬‬ ‫والممكن دوما بحاجة إلى تجديد في كل‬ ‫ٍآن وزمان‪ ،‬ويتشكل بشكل ما يحاذيه من‬ ‫الخلق واالبتكار‪ ،‬من ال��ذات وليس من‬ ‫اآلخ��ر‪ ،‬على النحو ال��ذي بنى أسالفنا‬ ‫حضارتهم الماجدة‪ ،‬وعندما دخل اآلخر‬ ‫قسريا لزم خروج هذا البناء والتشييد‬ ‫عن جادة الصواب؛ الستمداد حضارتنا‬ ‫بما دخلها م��ن غيرها‪ ،‬فتحول وعينا‬ ‫الفكري م��ن ص��ورت��ه ب��ذات��ه إل��ى ص��ورة‬ ‫م��ن دون ذات���ه‪ ،‬وعلى ه��ذا النحو يكون‬ ‫الخفاء والظهور في كل ش��يء؛ ألن كل‬ ‫حياة تتجاذبها صفتا الصيرورة‪ ،‬مما كان‪،‬‬ ‫والسيرورة‪ ،‬مما يفترض أن يكون‪ ،‬وفق‬ ‫نظام أس��رار الكون‪ ،‬ويجعلها قابلة لكل‬ ‫ما هو جديد بتجديد نفسها على الدوام‪.‬‬ ‫ولعل موقع الفكر دوم��ا في تحوّل بين‬ ‫عرشي الصيرورة والسيرورة‪ ،‬بين التطور‬ ‫والتطوير‪ ،‬للقيام بدور ما‪ ،‬سلبا أو إيجابا‪،‬‬ ‫وفي هذا استجابة لقانون العلة والمعلول‪.‬‬ ‫وإذا ك��ان دارس��ون��ا القدامى قد نظروا‬ ‫إلى اآللية اإلبداعية بما هو حاصل في‬ ‫المرجعية الثقافية في الصورة المتجلية‪،‬‬ ‫وبما هو ناتج من الالوعي في الصورة‬

‫الخفية‪ ،‬فإن راهن وعينا الفكري موزع‬ ‫ذهنيا بين ص��ورت��ي ال���ذات واآلخ���ر‪ ،‬أو‬ ‫باألحرى االنغماس في ذات اآلخر كليا‪.‬‬ ‫ وقبل الوصول إلى أثر تجربة النقد‬ ‫الغربي في ثقافتنا النقدية العربية‪ ،‬حري‬ ‫بنا أن نُطل إطاللة سريعة عن عالقتنا‬ ‫بذاتنا‪ ،‬وبمرجعيتنا النقدية على وجه‬ ‫التحديد؛ لنشير إل��ى أن هناك قطيعة‬ ‫ت��ام��ة م��ع ت��راث��ن��ا ال��ن��ق��دي‪ ،‬ول��ع��ل لهذه‬ ‫القطيعة مبررات كثيرة؛ منها على سبيل‬ ‫المثال‪ :‬إسهامات بداية النهضة الفكرية‬ ‫في الوعي العربي بمحاولة االنعتاق من‬ ‫التقهقر ال��ذي س��اد ثقافتنا منذ القرن‬ ‫السابع الهجري‪ ،‬أو ربما قبل ذلك؛ أي‬ ‫منذ «فصل المقال فيما بين الحكمة‬ ‫والشريعة من االتصال» مع ابن رشد‪ ،‬أو‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪121 )2015‬‬


‫تحديدا بعد سقوط بغداد (اإلمبراطورية‬ ‫العباسية) ‪1258‬م‪ ،‬إذ استُبدِ ل الوعي‬ ‫الديني‪ /‬الفقهي بالوعي الفكري‪ ،‬وتحول‬ ‫اإلدراك من الرغبة في معرفة الوجود بما‬ ‫هو موجود إلى ارتكان العقل باالكتساب‪،‬‬ ‫والحرص على الثوابت‪ .‬ومن هنا‪ ،‬حضر‬ ‫عقل الرواية وغاب عقل الدراية‪ ،‬وركز‬ ‫التفكير الناقد في ه��ذه المرحلة على‬ ‫السماع بدل النظر؛ فتعطل الفهم وتَبَطَّ ل‬ ‫إنتاج المعنى‪ ،‬على الرغم من المحاوالت‬ ‫الجادة من رواد النهضة العربية الذين‬ ‫سعوا إلى إحياء التراث الفكري واألدبي‪،‬‬ ‫والدعوة إلى اإلص�لاح‪ ،‬ب��دءًا من رفاعة‬ ‫ال��ط��ه��ط��اوي ‪1873-1801‬م‪ ،‬واألم��ي��ر‬ ‫عبدالقادر ‪1883-1808‬م‪ ،‬وخير الدين‬ ‫ال� ّت��ون��س��ي ‪1890-1820‬م‪ ،‬واألف��غ��ان��ي‬ ‫‪1897-1838‬م‪ ،‬م���رورا بمحمد عبده‬ ‫‪1905-1849‬م‪ ،‬وغيرهم من رواد النهضة‬ ‫الذين ح��اول��وا بناء فكر تأسيسي قائم‬ ‫على التنوير المعرفي والسياسي؛ إلى أن‬ ‫دخلنا في نهضة بداية القرن العشرين مع‬ ‫طه حسين وغيره من دعاة التجديد‪ ،‬ثم‬ ‫تحولت أحوالنا إلى صراع مع ما أطلق‬ ‫عليه فكر تقدمي‪ /‬وفكر رجعي‪ ،‬بخاصة‬ ‫بعد ثورة ‪ 23‬يوليو ‪1952‬م في مصر‪ ،‬والتي‬ ‫ج��رَّت ال��وع��ي الثقافي والسياسي إلى‬ ‫ما نحن عليه‪ ،‬باسم «الحركة المباركة»‬ ‫والدعوة إلى «التقدم وتعزيز القومية»‪،‬‬ ‫فضاع التوفيق ف��ي المجال المعرفي‪،‬‬ ‫ودخ��ل��ن��ا ف���ي م��رح��ل��ة ع��ب��ث ال��ت��ج��دي��د‪،‬‬ ‫وسُ ��دَى التطوير واالزدراء ب��ه‪ ،‬وامتهان‬

‫‪ 122‬اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫التعليم‪ ،‬واب��ت��ذال��ه‪ ،‬والعبث بالضمائر‬ ‫(ضمير الهوية‪ ،‬وضمير القومية‪ ،‬وضمير‬ ‫العروبة‪ ،‬وضمير الوعي‪ ) ،‬بدعوى البناء‬ ‫والتشييد‪ ،‬ثم اإلصالح المز َدرَى به‪ ،‬إلى‬ ‫أن وصلنا فيما نحن عليه‪ ،‬إلى الهدم في‬ ‫كل ش��يء‪ ،‬وأخضعنا العقل المكوَّن إلى‬ ‫بعيد عن التفكير الناقد‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫عقل مؤدلج‬ ‫ولعل في كتابات عبداهلل العروي‪ ،‬على‬ ‫يوضح مبررات غياب‬ ‫سبيل المثال‪ ،‬ما ّ‬ ‫المرحلة األن��واري��ة‪ ،‬المفترضة‪ ،‬للفكر‬ ‫العربي المعاصر‪ .‬والحال‪ ،‬كيف نطلب‬ ‫من الوعي العربي المعاصر أن يواكب‬ ‫مستجدات العصر‪ ،‬أو أن يكون له فيها‬ ‫رأي‪ ،‬وقبل ذلك كيف نريد منه أن يصقل‬ ‫الفكر الناقد‪ ،‬وهو مكبَّل بإعاقة التثبيط‪،‬‬ ‫واإلقصاء‪ ،‬واإلحباط‪ ،‬وال��ردع‪ ،‬والصدِّ‪،‬‬ ‫والتنكيل بالضمائر‪.‬‬ ‫أم��ا ال��ش��ق اآلخ���ر م��ن ال��س��ؤال المتعلق‬ ‫باستيعاب وتمثّل تجربة النقد الغربي‪،‬‬ ‫ف��ال��ح��دي��ث ع��ن��ه ش��ائ��ك‪ ،‬وال��ن��ظ��ر إليه‬ ‫مشكل‪ ،‬واإلج���راء منه دليله من غيره‪،‬‬ ‫ب��ال��ن��ظ��ر إل���ى س���وء ف��ه��م ال��م��ن��اه��ج في‬ ‫سياقها االبستيمولوجي التي أثرت في‬ ‫الرعيل األول من نقادنا منذ بداية القرن‬ ‫العشرين الذين تأثروا بالغرب‪ ،‬وتصوراته‬ ‫النقدية النابعة من المفاهيم الخاصة‬ ‫بهم‪ ،‬والتفكير فيها بموضوعية‪ ،‬والرغبة‬ ‫في التوغل فيما وصلنا من هذه مفاهيم‪،‬‬ ‫أرادوا من خاللها تغيير الوعي النقدي‬ ‫إل��ى م��ا يمكن إدراج���ه ضمن االهتمام‬ ‫بالترابط والتواصل؛ لتمكين ال��ذات من‬


‫م� � � � � � � � � � � � � � � � ��واج � � � � � � � � � � � � � � � � �ه� � � � � � � � � � � � � � � � ��ات‬

‫توطين النظريات وتقريب المعارف إلى‬ ‫كل ما من شأنه أن يعاضد حلم المشروع‬ ‫القومي‪ ،‬ويناصره؛ والحال إذا كان نقدنا‬ ‫الحديث ق��د حاكى النقد الغربي من‬ ‫منطق نظرية االن��ع��ك��اس بخاصة مع‬ ‫المناهج السياقية‪ ،‬ال��واردة‪ ،‬التي عنيت‬ ‫باستجالء الغوامض وبلورة مالمح النص‬ ‫م��ن حيث االت��ج��اه الواقعي أو االتجاه‬ ‫النفسي‪ ،‬أو التاريخي؛ فإن راهن النقد‬ ‫مع جيل األلفية الثالثة تجاوز حمل الراية‬ ‫اإليديولوجية التي اعتمدت بنية الخلل‬ ‫االجتماعي مظهرًا لها‪ ،‬كما تجاوزت‬ ‫ال��ب��ط��اق��ة االس��ت��ن��ط��اق��ي��ة‪/‬االس��ت��ب��اري��ة‬ ‫واالستخبارية للذات المبدعة بوصفها‬ ‫علبة س��وداء تساعدنا على استكشاف‬ ‫عبقرية الواعية الفردية والجماعية‪ .‬وقد‬ ‫ذكرت في كتابي «دالئلية النص األدبي»‬ ‫يوضح أن التحوّل الذي وقع في النقد‬ ‫ما ّ‬ ‫ال��ع��رب��ي ال��ح��دي��ث ي��ح��اول ال��ك��ش��ف عن‬ ‫مضامين ال��ذات في رؤاه��ا االحتمالية‪،‬‬ ‫والتطلع إل��ى كل ما هو أسمى‪ ،‬ضاربا‬ ‫بذلك الزمة االنكفاء على واحدية التصور‪،‬‬ ‫متخذًا سبيل االنفتاح كقوة داللية لتفجير‬ ‫مكبوت الذات الواهنة التي استضعفتها‬ ‫المؤسسات المعنية بمشاريعها الذليلة‪،‬‬ ‫وبتصوراتها الوضيعة؛ ومن ثم فإن الرؤية‬ ‫النقدية‪ ،‬عندنا‪ ،‬وفق هذا المنظور كانت‬ ‫خاضعة بغير إرادة منها لظاهرة الواحدية‬ ‫في كل شيء‪ ،‬تبعا لفكرة «احترام النظام‬ ‫السائد» وال مجال لالجتهاد مادام فقه‬ ‫الرأي وعدًا ناجزًا بالكفالة‪.‬‬

‫ومع تطور العلوم‪ ،‬وتنامي وسائل الحصول‬ ‫على المعارف بشتّى السبل من خالل‬ ‫تكنولوجيا المعلومات‪ ،‬على وجه التحديد‪،‬‬ ‫ت��غ��ي��ر ال��وض��ع ب��ف��ع��ل ال��ت��أث��ي��ر المتنوع‬ ‫والتواصل السريع‪ ،‬وانتقلت المعرفة من‬ ‫تحليل الكتابة التي تُبْنَى على المداخل‬ ‫النمطية الخطِّ ية إلى كتابة إبداع متفاعل‬ ‫بين الذات والواقع‪ ،‬تلحّ على طرح السؤال‪،‬‬ ‫وتنظر إلى الواقع بوصفه نسقًا يستهدف‬ ‫تغييب الحقيقة‪ ،‬هذا الواقع المتساوق‬ ‫مع الحياة غير القابلة للفهم‪ .‬وإذا كان‬ ‫الخطاب النقدي الغربي يقدم نفسه في‬ ‫إطار تساؤل فلسفي نتيجة إبهام الحياة‬ ‫ولغز المفاهيم‪ ،‬ومن خالل تفكيك قوامه‬ ‫الكشف عن الشذوذ الذي تمارسه الذات‬ ‫المطوَّقة بكل ما يُعَمَّ ى من الوجود‪ ،‬فإن‬ ‫تمثل تجربتنا من تجربة النقد الغربي‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪123 )2015‬‬


‫على حد تعبير ألفين توفلر‬

‫حاصلة فيه‪ ،‬ونتيجة منه‪ ،‬اعتقادا منا‬ ‫أن المرجعيات الثقافية العربية الحديثة‪¦ ¦ ،‬إذا كان الناقد العربي قد استوعب تجربة‬ ‫متوارية في اإلجراءات والمفاهيم الغربية‪،‬‬ ‫النقد الغربي بشكل صحيح (على سبيل‬ ‫ومستجيبة لمكوناتها‪ ،‬وخاضعة لمصادر‬ ‫االف �ت��راض)‪ .‬فهل يمكن ال�ق��ول ب��أن هذا‬ ‫تأسيسها‪ ،‬بوصفها تبعية خالصة‪ ،‬وكأنها‬ ‫ال �ن �ق��د ال �غ��رب��ي ه ��و ال �م �ف �ت��اح ال�س�ح��ري‬ ‫تشكّل وسيلة وغ��اي��ة ف��ي ال��وق��ت ذات��ه‪،‬‬ ‫لمقاربة النص العربي؟‬ ‫ومعيارا حقيقيا يستوجب منا االستناد‬ ‫إليه بحذافيره‪ ،‬وكأن النقد عندنا معني ‪ρ ρ‬مع تقديري لوجهة النظر هذه‪ ،‬وعطفًا‬ ‫على ما ذكرته سابقا‪ ،‬لست من الذين‬ ‫بما يقع في المرجعية الثقافية الغربية‬ ‫يميلون إلى إن النقد العربي قد استوعب‬ ‫ويهتم بسياقاتها‪ ،‬وبخلفياتها االجتماعية‪،‬‬ ‫ال��ن��ق��د ال��غ��رب��ي بشكل ص��ح��ي��ح‪ ،‬وإن��م��ا‬ ‫وأن��س��اق ت��وازن��ات��ه��ا‪ ،‬بصرف النظر عن‬ ‫المرحلة التأثرية‪ ،‬ضمن سياق التبعية‪ ،‬ما‬ ‫الصلة بواقع المكونات الذاتية‪ ،‬واألخذ‬ ‫تزال متغلغلة بالفطرة الطفيلية‪ .‬ومعنى‬ ‫بمقتضيات العلة والمعلول‪ ،‬وم��ن دون‬ ‫ذل��ك أن نقدنا المعاصر ل��م يصل بعد‬ ‫النظر في التطلع وحسن التقدير لواقعنا؛‬ ‫إلى االستقاللية‪ ،‬وقبل ذلك إلى مرحلة‬ ‫وم���ن ث��م أص��ب��ح اس��ت��ق��ط��اب النظريات‬ ‫التعليل‪ ،‬وقبل ذل��ك أيضا لم يصل في‬ ‫الغربية بحذافيرها يعكس صورة زائفة‬ ‫عمومه إل��ى مرحلة الفهم ال��م��ؤدي إلى‬ ‫لواقعنا‪ ،‬ويسهم في تخفّي الحقيقة عن‬ ‫إمكانية تغير ما هو غير مناسب‪ ،‬من‬ ‫سوء فهم‪.‬‬ ‫اآلخر‪ ،‬إلى ما يمكن أن يناسب ظروفنا‬ ‫إن اإلخالص بالوفاء للنظريات الغربية‬ ‫وحياتنا اليومية؛ ألن قدرتنا على الفهم‬ ‫ينتمي إل��ى ن��وع َم��ن يفكر ف��ي اإلخ�لال‬ ‫تدفع بقدرتنا على التفكير‪ ،‬وباتحادهما‬ ‫بمعرفة حقيقة منجَ ز ال��ذات‪ ،‬ومخالفة‬ ‫تنشأ المعرفة الذاتية‪ ،‬أو كما قيل الرأي‬ ‫قيمها‪ ،‬ومن ثم فإن ممارسة التفكير الناقد‬ ‫حجة على صاحبه م��ا ل��م يؤيدها بما‬ ‫في ثقافتنا المعاصرة مصدره المحاكاة‬ ‫يحقق أه��داف��ه‪ ،‬ويعبر ع��ن ذات���ه‪ .‬وإذا‬ ‫وال��زي��ف‪ ،‬محاكاة ال��غ��رب‪ ،‬ال��وص��ول إلى‬ ‫ك���ان ه��ن��اك م��ن دور للفهم ف��ي تفعيل‬ ‫نتيجة زي��ف ال��واق��ع؛ ألن معايير النقد‬ ‫المعارف‪ ،‬فهو أولى (أي الفهم) بتوطين‬ ‫الغربي أضعفت فينا قيمة اإلدراك‪ ،‬وفقا‬ ‫النظريات والمفاهيم‪ ،‬وإمكانية إع��ادة‬ ‫لمقتضيات عالقة الهيمنة؛ األمر الذي‬ ‫إنتاجها بما يتالءم ومستلزمات التنمية‬ ‫حول اإلجراءات النقدية عندنا إلى قول‬ ‫المحلية‪ ،‬ولعل البعد عن الفهم يعد مبعثا‬ ‫ك��ل ش��يء ف��ي أي ش��يء‪ ،‬امتثاال للواقع‬ ‫على ال��ذع��ر ال��ذي تمارسه مؤسساتنا‬ ‫ال��ذي بات يستنزف طاقته لالستهالك‬ ‫التعليمية‪ ،‬وخ��ط�رًا مهوالً على أجيالنا‬ ‫بمفهومه العام الذي يعني «رمي كل شيء»‬

‫‪ 124‬اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫‪Alvin Toffler‬‬


‫م� � � � � � � � � � � � � � � � ��واج � � � � � � � � � � � � � � � � �ه� � � � � � � � � � � � � � � � ��ات‬

‫وثقافتنا ال��وط��ن��ي��ة‪ .‬وإذا ك��ان اإلن��ت��اج‬ ‫معرفي مرهونا بإمكان تحققه‪ ،‬فإن هذا‬ ‫التحقق مشروط بإدراك المفاهيم على‬ ‫حقيقتها بعد بناء تصور قائم على الواقع‬ ‫المعاش‪ ،‬حتى يسهم هذا الفهم في خلق‬ ‫المبادرة بدافع كشف المتغيرات لرؤيتنا‬ ‫المرتقبة‪ ،‬أو المتوقع حدوثها‪ .‬وال أحد‬ ‫يختلف في أن النقد العربي المعاصر‬ ‫يراوح مكانه بمنظور سَ رمدي‪.‬‬ ‫¦ ¦إن األخ ��ذ م��ن ال �غ��رب (ع �ل��ى المستوى‬ ‫ال �م �ع��رف��ي)‪ ،‬ي�ج��ب أال ي�ل�غ��ي ال �ه��وي��ة أو‬ ‫ال �خ �ص��وص �ي��ة ال �ع��رب �ي��ة‪ .‬ل �ك��ن اإلف� ��راط‬ ‫ف��ي اع�ت�م��اد ال�ن�ظ��ري��ة ال�ن�ق��دي��ة الغربية‬ ‫(وبعض الترجمات التي قد تشوّه العمل‬ ‫األصلي أكثر من استيعابه)‪ .‬جعل الكثير‬ ‫م��ن الباحثين ي ��رون ب��أن ال�ن�ق��د العربي‬ ‫اليوم يعيش أزمة‪.‬‬ ‫ه��ل ت��ؤك��د ل�ن��ا ه ��ذه األزم � ��ة‪ ،‬أم ه��ي أزم��ة‬ ‫مصطنعة فقط؟‬ ‫‪ρ ρ‬أعتقد أن النقد في مؤسساتنا الثقافية‬ ‫ي��ع��ي��ش ف���ي أزم����ة ح��ق��ي��ق��ي��ة‪ ،‬وتتشعب‬ ‫أزمته إلى عدة اتجاهات‪ ،‬منها اإلفراط‬ ‫ف��ي اعتماد النظرية النقدية الغربية‪،‬‬ ‫ومنها التمسك بالمرجعية «الفقهية»‬ ‫ف��ي إص���دار األح��ك��ام ال��ج��اه��زة‪ ،‬ومنها‬ ‫اإلسراف في المنحى االنطباعي‪ ،‬ومنها‬ ‫غياب الوسائط المعرفية الجادة لتقريب‬ ‫المفاهيم من ثقافة المصدر إلى ثقافة‬ ‫الهدف‪ ،‬ومنها خلق نمط جديد يمكن أن‬ ‫نطلق عليه «تجارة الثقافة»‪ ،‬وهي الثقافة‬

‫ال��ت��ي تحترف ال��ت��ج��ارة بعد أن أصبح‬ ‫الكثير ممن كان يعول عليهم من النقاد‬ ‫البارزين‪ ،‬ومن األسماء النوعية ‪-‬إلى حد‬ ‫كبير ‪ -‬رهن مطالب السوق‪ ،‬تحت مسمى‬ ‫العرض والطلب‪ ،‬بتقديم ثقافة ناعمة‪،‬‬ ‫بتحويل ثقافتنا إل��ى س��ل��ع‪ ،‬وأصبحوا‬ ‫مربوطين بكل ما هو (تجاراتي)‪ ،‬بخاصة‬ ‫أول��ئ��ك ال��ذي��ن أصبحوا مرتهنين لهذه‬ ‫المجلة أو تلك بدافع الرغبة في الوصول‬ ‫السريع (م��ادي��ا ومعنويا)‪ ،‬أو من وفرة‬ ‫وسائل اإلع�لام الثقافية البراقة التي‬ ‫باتت تحترف صناعة مضمون ثقافي‬ ‫تحت الطلب‪ ،‬ومستعدة للدفع بشكل‬ ‫سخيّ مقابل الترويج ألهدافها‪ .‬بإضافة‬ ‫إلى ظهور كائنات ثقافية جديدة‪ ،‬والتي‬ ‫يمكن أن نطلق عليها الكائات المتلونة‪،‬‬ ‫ممن يستعملون المجال االف��ت��راض��ي‪،‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪125 )2015‬‬


‫النقدية الغربية‪ ،‬ستظل الحركة النقدية‬ ‫العربية رهينة ما نستورده من الغرب‪،‬‬ ‫دون القدرة أحيانًا على فرز الناجع من‬ ‫الضار‪ ،‬المبتذل من البليغ‪ ،‬والبيِّن من‬ ‫الملتبس‪ ،‬واألكثر من ذلك‪ ،‬دون إمكانية‬ ‫الحفاظ على الروح القومية لثقافتنا؛ ما‬ ‫يعني أننا أصبحنا عاجزين عن احتواء‬ ‫المعارف بصورة جيدة حتى نتمكن من‬ ‫بلورتها‪ ،‬وإعادة إنتاجها بما يضمن معيار‬ ‫مكانتنا العلمية وتعزيز تجاربنا الخاصة‪.‬‬

‫وينتجون م��ا يسمى بالثقافة الوقتية؛‬ ‫بالج ََّدة والجَ دِّية‪،‬‬ ‫وهم بذلك أقل اهتماما ِ‬ ‫ول��ك��ن��ه��م ش��غ��وف��ون ب��خ��ل��ق ن��م��ط جديد‬ ‫لمعرفة جديدة‪ ،‬وحب الظهور عندهم هو‬ ‫ما ينبغي االحتساب له؛ األمر الذي ما‬ ‫جعلهم يحولون الثقافة إلى سلعة‪ .‬وإذا‬ ‫كان التسوق في مجال االستهالك المادي‬ ‫مقبوال؛ لظروف حتمية‪ ،‬فإن ما هو غير‬ ‫مقبول‪ ،‬أن تكون ثقافتنا بجميع مكوناتها‬ ‫سلعة مدفوعة الثمن نتسلى بها‪ ،‬بغرض‬ ‫تأمين الوصول السريع ال��ذي من شأنه ¦ ¦س ��واء ث�م��ة أزم ��ة أم ل��م ت�ك��ن‪ ،‬ف��إن�ن��ا نجد‬ ‫أن يغذي نشوة النصر بالتملك‪ ،‬والسعادة‬ ‫م �ج �م��وع��ة م� ��ن األع � �م� ��ال (ال ن ��ري ��د أن‬ ‫بالتميز ليس إال(‪ .)...‬إن��ه التمرّغ في‬ ‫نذكرها)‪ ،‬توغل في الجانب النظري وال‬ ‫ممارسة االحتراف النقدي غير المسئول‪،‬‬ ‫ت�خ��دم ال�ن��ص اإلب��داع��ي (س ��واء ال�س��ردي‬ ‫وم��ا عبثية الحركة النقدية المسلوبة‬ ‫وظ �ف��ت‬ ‫أو ال � �ش � �ع ��ري‪ ...‬إل� � ��خ)‪ .‬وأخ� � ��رى ّ‬ ‫اإلرادة إال صورة حقيقية للتبعية الغربية‪،‬‬ ‫م�ج�م��وع��ة م��ن ال�م�ف��اه�ي��م ب�ش�ك��ل آل ��ي ال‬ ‫ومن ثم كيف نريد لثقافتنا أن تنتج رأيا‬ ‫يخدم ب��دوره النص اإلب��داع��ي في شيء؛‬ ‫نقديا يحمل بصمته‪.‬‬ ‫م��ا ج �ع��ل ال �ع�لاق��ة ب �ي��ن اإلب � ��داع وال�ن�ق��د‬ ‫أمام هذه المحطات المتقلبة والمتباينة‬ ‫غير سليمة‪ .‬فاختل ال�ت��وازن بينهما‪ .‬إن‬ ‫ليس ألي منا إال أن يقر بوجود أزمة في‬ ‫النقد اللساني (على سبيل المثال) على‬ ‫النقد العربي الحديث‪ ،‬ال لشيء إال ألن‬ ‫ال��رغ��م م��ن ج��دت��ه وأه�م�ي�ت��ه‪ ،‬ل��م يستطع‬ ‫هذه التقلبات التي ط��رأت على ثقافتنا‬ ‫أن يفيد النقاد والدارسين العرب كثير ًا‬ ‫النقدية‪ ،‬لم تسهم‪ ،‬في خلق خلفية معرفية‬ ‫في معاينة النص‪ .‬بقدر ما مهّ د السبيل‬ ‫نابعة م��ن مرجعيتنا الثقافية؛ لتكوِّن‬ ‫أمام بالغة شكلية جديدة‪ .‬فكتاب خطاب‬ ‫مفاهيم تعكس واقعنا‪ ،‬وف��ي مثل هذه‬ ‫ال�ح�ك��اي��ة ل �ج �ي��رار ج�ي�ن�ي��ت‪ ،‬ع�ل��ى ال��رغ��م‬ ‫الحال ليس غريبا أن يبقى النقد العربي‬ ‫من أهميته‪ ،‬قد أورث النقد العربي هم ًا‬ ‫سجين الممارسات النقدية الغربية‪.‬‬ ‫ثقي ًال بما قدمه من تصنيفات شكلية ال‬ ‫تفرق في األغلب بين نص وآخ��ر‪ ،‬مهما‬ ‫وف���ي ظ��ل ع���دم تحقيق رؤي���ة متبلورة‬ ‫يكن البون بينهما واسعاً‪.‬‬ ‫مستقلة بهويتنا العربية‪ ،‬وفي ظل العجز‬ ‫عن كيفية االستفادة النوعية من المناهج‬

‫‪ 126‬اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫ف �ه��ل ي �م �ك��ن‪ ،‬إذاً‪ ،‬ال �ق��ول ب ��أن م �ث��ل ه��ذه‬


‫م� � � � � � � � � � � � � � � � ��واج � � � � � � � � � � � � � � � � �ه� � � � � � � � � � � � � � � � ��ات‬

‫األعمال هي التي صنعت هذه األزمة؟‬ ‫‪ρ ρ‬أعتقد أن معظم النقاد من الجيل الجديد‬ ‫يوظف اإلجراءات النقدية بالسياق الذي‬ ‫وردت فيه‪ ،‬وبما يحمله رصيدها الثقافي‪،‬‬ ‫بعض تجاربها‪،‬‬ ‫من دون إمكانية توطين ٍ‬ ‫وإذا كان هناك من حَ ��ا َد عن المفاهيم‬ ‫التي حددها المصطلح‪ ،‬فمن باب سوء‬ ‫الفهم لهذا المنهج أو تلك النظرية؛ وفي‬ ‫كلتا الحالين‪ ،‬فالنقد العربي الحديث‬ ‫مدين لتيارات النقد الغربية سواء من‬ ‫حيث ال��ج��ان��ب ال��ن��ظ��ري‪ ،‬أو م��ن حيث‬ ‫الوجهة الروحية للمنهج المتبع باالستناد‬ ‫إلى المعايير المألوفة‪ ،‬ولَكَ أن تتفحص‬ ‫المسار النقدي العربي لتتعرف إلى كُنه‬ ‫المقصد من التوغّ ل المفرط في الجانب‬ ‫النظري؛ ولعل أسوأ‪ ،‬وأعظم‪ ،‬بالء عندما‬ ‫نعلم طالبنا طريقة الفصل في منهجية‬ ‫البحث بين النظري والتطبيقي‪ ،‬ودائما ما‬ ‫يكون حديثي مع الطالب مدار اختالف‬ ‫بالنظر إلى ما تلّقوه من غيري‪ ،‬فيما عدا‬ ‫بعض االستثناءات القليلة جدا‪ ،‬ولَكَ أن‬ ‫تتأمل في نتائج البحوث األكاديمية التي‬ ‫فصلت النظري عن العمل التطبيقي‪،‬‬ ‫ستجد في ذلك رؤية مغايرة لعدم ترابط‬ ‫ال��ن��ص اإلب���داع���ي ب��اس��ت��ع��م��ال األدوات‬ ‫اإلجرائية‪ ،‬بالنظر إلى عدم وضوح مجال‬ ‫التفكير في استثمار الخطوات المنهجية‪،‬‬ ‫ومن ثم فإن صلة النص بالمجال النظري‬ ‫صفة مالزمة في حقل الخطاب التحليلي؛‬ ‫لمعرفة كنه الدالئل من خالل القوانين‬

‫التي تحكمها نظريا‪ ،‬ومنهجيا‪.‬‬ ‫أم��ا أن توظف مجموعة م��ن المفاهيم‬ ‫بشكل آليّ فإن ذلك أيضا ال يخدم بدوره‬ ‫النص اإلب��داع��ي ف��ي ش��يء‪ .‬وأزع���م أن‬ ‫ميل بعض الباحثين إلى هذا التوجه له‬ ‫م��ب��ررات كثيرة‪ ،‬لعل أهمها هو صعوبة‬ ‫بعض الدارسين في القدرة على تحليل‬ ‫النص بما يربط تحديد مقاصد النظرية‬ ‫بالسؤال الذي يشغلهم في النص؛ وفي‬ ‫اعتقادي أن الباحث مطلوب منه التعامل‬ ‫م��ع م��ا يُ��ع��د مفهوما ف��ي النظرية بما‬ ‫يفترض أن يستوفي ما ينبغي توضيحه‬ ‫في النص‪ ،‬سواء من حيث تحديد نتيجة‬ ‫ما تريده النظرية‪ ،‬أو من حيث البحث‬ ‫عن نتيجة سؤال النص من خالل عملية‬ ‫االس��ت��دالل‪ .‬وف��ي تقديرنا ال توجد أي‬ ‫نتيجة م��ن تحليل النص إال م��ن خالل‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪127 )2015‬‬


‫الحاجة إلى المفهوم الذي من شأنه أن‬ ‫يحدّد مسار الرؤية التحليلية‪ ،‬بعيدا عن‬ ‫العشوائية‪ .‬وإذا كانت النظرية في سياقها‬ ‫التأملي تعني التركيب الكلي الذي يسعى‬ ‫إل��ى تفسير ع��دد م��ن المفاهيم؛ فإن‬ ‫العالقة التي تجمع النظرية بالتطبيق‬ ‫تتجاوز ح���دود ال��وص��ف إل��ى خلق فكر‬ ‫تأملي يربط النتائج بالمبادئ على حد‬ ‫تعبير الالند ‪ ،André Lalande‬وكل محلل‬ ‫في تقديرنا ملزم بربط التحليل بإمكانية‬ ‫توقعات المفاهيم المستند إليها‪ ،‬ومرته ٌن‬ ‫بتوضيح عوامل الظواهر المشتركة بين‬ ‫النظرية‪ ،‬والمنهج‪ ،‬والنص‪ ،‬والمحيط‪،‬‬ ‫وال مجال لفصل واحدة من هذه الظواهر‬ ‫عن األخ��رى‪ .‬وكل محاولة نقدية بعيدة‬ ‫ع��ن ه��ذا التصور ف��ي تقديري ه��ي في‬ ‫موضع عسر تترقب مخاضا قسريًا بعد‬ ‫المأزق الذي وصلت إليه‪.‬‬ ‫¦ ¦إذا كانت الترجمة (خاصة اآللية منها)‬ ‫من بين األسباب التي صنعت أزمة النقد‬ ‫ال �ع��رب��ي‪ ،‬ف�ث�م��ة إش�ك��ال�ي��ة أخ� ��رى ترتبط‬ ‫أس ��اس ��ا ب��ال �م �ص �ط �ل��ح ال� �ن� �ق ��دي‪ .‬ب�ح�ي��ث‬ ‫يختلف هذا األخير من بلد عربي ألخر‪.‬‬ ‫ب��ل م��ن ن��اق��د ألخ��ر داخ ��ل ال�ب�ل��د العربي‬ ‫ال ��واح ��د؛ م��ا ج �ع��ل ال �ن �ق��د ال �ع��رب��ي (ف��ي‬ ‫غالب األحيان) يعيش نوعا من االغتراب‬ ‫على مستوى المصطلح ال�ن�ق��دي‪ .‬فهل‬ ‫ه ��ذا االغ� �ت ��راب ح�ق�ي�ق��ة أم وه� ��م‪ ،‬حسب‬ ‫تصوركم؟‬ ‫‪ρ ρ‬حقيقة‪ ،‬هذا السؤال في غاية األهمية‪،‬‬

‫‪ 128‬اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫ولكن قبل التطرق إل��ى جوهر السؤال‬ ‫المتعلق بالمصطلح‪ ،‬يجدر بنا أن نقف‬ ‫وقفة متأنية مع دور الترجمة في تأزيم‬ ‫النقد‪ .‬وقبل ذلك فإن الترجمة بوصفها‬ ‫علما أسهمت في تنامي المعرفة التي‬ ‫بمقتضاها تتالقح األف��ك��ار‪ ،‬أض��ف إلى‬ ‫ذل��ك أن الترجمة ف��ي منظور السياق‬ ‫الثقافي المعاصر‪ -‬كما كل عصر‪ -‬تتجاوز‬ ‫حدود النقل بين لغتي المصدر والهدف‬ ‫على النحو الذي رسمها السياق المتعامل‬ ‫ب��ه م��ع ت��رج��م��ة ن��ص��وص اآلخ����ر ال��ذي‬ ‫اختزلها المترجم في نقل معلومة بين‬ ‫نصين مختلفين؛ وهذا ما يفسر قصور‬ ‫النهج المتبع مع الترجمة في ثقافتنا‬ ‫العربية‪ .‬ولعل الترجمة في تقديرنا هي‬ ‫نمط تفكير يضاف إلى النص المصدر‪،‬‬ ‫وشكل من أشكال التفاعل بين حضارتين‬ ‫مختلفين في االتصال الثقافي الذي من‬ ‫شأنه أن يسهم في خلق لبنات حوارية؛ ألن‬ ‫مجرد نقل نص لثقافة أخرى يعني نقل‬ ‫تجربة تؤدي إلى إمكانية ربط التعايش‬ ‫مع تلك التجربة‪ ،‬كما يفترض أن ترمي‬ ‫إلى تعزيز الثقافة المنقول إليها‪ .‬ومن‬ ‫ثم فهي نقل نسق ثقافي إلى نسق ثقافي‬ ‫آخ��ر‪ .‬ومجرد إدراك ذلك من المترجم‬ ‫يعني أن عليه مسئولية ربط الصلة بين‬ ‫سياقين حضاريين‪ ،‬يستوجبان بدرجة‬ ‫متفاوتة فكرة التفاعل في جميع مرامات‬ ‫التثاقف‪ .‬والحال‪ ،‬أ َّن��ى للفعل الترجُ مي‬ ‫في ثقافتنا من هذا التصور؟ وهل قرَّبت‬ ‫الترجمة عندنا المعارف بين الحضارات؟‬


‫ما يسمى بالنهضة العربية‪ ،‬وبخاصة مع‬

‫م ��ن خ�ل��ال م ��ا س� �ب ��ق‪ ،‬ه ��ل ي �ن �ط �ب��ق ه��ذا‬

‫ل��ن أط��ي��ل ف��ي تفصيل م��ب��ررات راه��ن‬ ‫الترجمة عندنا؛ ألن في ذل��ك تشعبات‬ ‫لمشارب مختلفة‪ ،‬ولكن حسبي في ذلك‬ ‫أن أشير إل��ى عاملين أساسيين‪ ،‬ننظر‬ ‫إليهما بنظرة ارتياب‪ ،‬بوصفهما أسهما‬ ‫في تأزيم التفكير الناقد في مجاالت‬ ‫شتى من المعرفة‪.‬‬

‫م� � � � � � � � � � � � � � � � ��واج � � � � � � � � � � � � � � � � �ه� � � � � � � � � � � � � � � � ��ات‬

‫وقبل ذلك كيف جعلت الترجمة من اللغة‬ ‫وسيطا لنقل الفكرة مع مراعاة روح نص‬ ‫ال��م��ص��در‪ ،‬واالح��ت��ف��اظ بخاصية اللغة‬ ‫المنقول منها واللغة المنقول إليها؟‬

‫تكنولوجيا المعلومات في األلفية الثالثة‪،‬‬ ‫وم��ا بين م��ا ق��ام ب��ه بيت الحكمة التي‬ ‫ازدهرت فيها الترجمة في عهد الخليفة‬ ‫العباسي المأمون‪ ،‬حين وصلت إلى أوج‬ ‫عظمتها‪ .‬أضف إلى ذلك أن الثقافة التي‬ ‫ترعاها (األساليب التجاراتية) ربما يكون‬ ‫م��وض��وع االس��ت��ه�لاك فيها ه��و األن��ج��ع‪،‬‬ ‫وأه��م وسيلة للوصول السريع‪ ،‬حتى لو‬ ‫كان ذلك على حساب مبادئ الهوية‪ ،‬على‬ ‫النحو الذي بدأت فيه ثقافتنا تفقد فيه‬ ‫منزلتها نظير السلعة المادية المستجلبة‬ ‫ب���ال���ح���اوي���ات‪ ،‬ف���ي م��ق��اب��ل ال��ن��ص��وص‬ ‫المستبعدة من العقول الخاويات‪ ،‬خالية‬ ‫الوفاض‪.‬‬

‫األول امتهان االفتراء؛ أي ممن امتهنوا‬ ‫حرفة الترجمة اآللية‪ ،‬بتقديم نصوص‬ ‫مشوّهة تنتمي إلى نوعية استحالة فهمها‬ ‫وإذا ك���ان األم���ر ع��ل��ى ه���ذا ال��ن��ح��و مع‬ ‫أو استثمار ما فيها من معارف مفيدة‪،‬‬ ‫الترجمة فالوضع سيان مع المصطلح‪،‬‬ ‫وإذا كان سوء الفهم سيد الموقف‪ ،‬فألن‬ ‫ولعل تفشي اختالف المصطلح من بلد‬ ‫سوء الترجمة تربعت على عرش الوهم‪،‬‬ ‫إلى آخر‪ ،‬أو من باحث إلى آخر‪ ،‬في البلد‬ ‫ومن ثم ضاعت حقيقة النص‪ ،‬وضاعت‬ ‫نفسه‪ ،‬م��ردّه ت��أزّم الترجمة في ثقافتنا‪،‬‬ ‫معها إمكانية إنتاج معرفة موازية للنص‬ ‫بالنظر إلى غياب االستناد إلى مرجعية‬ ‫ال��م��ص��در‪ ،‬أو إع���ادة إنتاجها‪ ،‬ول��ن��ا في‬ ‫المنحى الثقافي للمصطلح‪ .‬وم��ن دون‬ ‫ذل��ك أمثلة كثيرة‪ ،‬م��ن ال��ذي��ن أعرفهم‪،‬‬ ‫معرفة خلفية وج��ود المصطلح يصعب‬ ‫ليس المجال هنا لذكر األسماء لوفرتها‬ ‫علينا توظيفه لتوليد المفاهيم‪ ،‬أو إنتاج‬ ‫ممن يحترفون الترجمة اآللية باالستعانة‬ ‫سياق داللي جديد‪.‬‬ ‫بالموسوعات والمعاجم‪ ،‬أو من خالل‬ ‫استبدال لفظ بلفظ‪ ،‬أو جملة بجملة من ¦ ¦ثمة تشبيه وصفي بليغ عند اإلنجليز هو‬ ‫اللغة المصدر إلى اللغة الهدف‪.‬‬ ‫وض��ع العربة أم��ام الحصان‪ ،‬والمقصود‬ ‫ه��و وص ��ف األوض � ��اع ح �ي��ن ت�ن�ق�ل��ب فيها‬ ‫الثاني اختفاء الصائن‪ ،‬في إش��ارة إلى‬ ‫عالقة طرفي أي معادلة طبيعية‪ .‬فتعطي‬ ‫غياب مطلق للمؤسسة الراعية للمعرفة‪،‬‬ ‫التابع مكانة وأهمية القائد المتبوع‪.‬‬ ‫وشتان ما بين ما قام به المترجمون منذ‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪129 )2015‬‬


‫أو بما يكون انبعاثا أو انكشافا‪ ،‬لرؤية‬ ‫ثقافتنا‪ .‬وال��وض��ع س��ي��ان ب��ي��ن اإلب���داع‬ ‫واإلجراء النقدي‪ ،‬بخاصة في الدراسات‬ ‫السردية‪.‬‬

‫التشبيه على اإلب��داع والنقد العربيين‪.‬‬ ‫بحيث يكون هاجس الناقد هو النظرية‬ ‫ال �ن �ق��دي��ة (خ ��اص ��ة ف ��ي ال �ن �ق��د ال �س��ردي‬ ‫مثال)‪ ،‬وليس النص اإلب��داع��ي ال��ذي هو‬ ‫محور العملية النقدية؟‬ ‫¦ ¦سعى أغلب النقاد العرب إلى التنقل بين‬ ‫االتجاهات النقدية المختلفة فيما يشبه‬ ‫‪ρ ρ‬تشبيه بليغ حقيقة‪ ،‬بالنظر إلى اهتمام‬ ‫القفزات أو الحركات البهلوانية‪ .‬ويبدو‬ ‫الكثير من دارسينا بالنظريات أكثر من‬ ‫أن ه��ذا التنقل ليس ص ��ادرًا ع��ن اقتناع‬ ‫أصحابها‪ ،‬كمن يدافع عن المَلك ومن‬ ‫م�ب��دئ��ي ب �ق��در م��ا ه��و أش �ب��ه ب��ال�ه��وس في‬ ‫معه أكثر مما يدافع الملك عن نفسه‪،‬‬ ‫تتبع خطوط الموضة في عالم النقد؛‬ ‫على رأي المثل الشائع‪ .‬ولعل الشاهد‬ ‫إذ يتم التنقل بين البنيوية والسيمائية‬ ‫هنا ه��و المبالغة المفرطة ف��ي جلب‬ ‫والتفكيكة وص ��و ًال إل��ى ال�ن�ق��د الثقافي‬ ‫الكثير من تفاصيل بعض النظريات التي‬ ‫ع��ام��ة‪ .‬ب��ل ت �ك��ون ال�ق�ف��زة ب�ت�ج��اوز النقد‬ ‫أثقلت كاهل نقدنا العربي‪ ،‬أقول أثقلت؛‬ ‫األدبي الذي يتعامل مع النص الجمالي‬ ‫ألنها في معظم األحيان تخرج عن سياق‬ ‫إلى نقد مفارق‪ .‬ولم يسأل هؤالء النقاد‬ ‫ثقافتنا‪ ،‬وقد ال تفهم إال في دائرة منبتها‪.‬‬ ‫أنفسهم عن السبب ال��ذي يجعل ظاهرة‬ ‫ومن هنا‪ ،‬تكون مرجعية النظرية مشوهة‬ ‫معينة شعبية جماهيرية ون��ص أدب��ي ال‬ ‫حين تنزع من قيمتها‪ ،‬ومن دالالتها التي‬ ‫ت �ت��داول��ه إال ال�ن�خ�ب��ة‪ .‬ق��د ت �ك��ون ح�ض��ارة‬ ‫وضعت فيه‪ ،‬خاصة حين يسيء تحديد‬ ‫معينة أرست منجزاتها‪ .‬وأدّت بمجموعة‬ ‫مدلول النظرية في بنية اللغة والثقافة‬ ‫أو نخبة إل��ى ت�ب� ّن��ي ش�ك��ل معين يناسب‬ ‫العربية‪ ،‬وفي هذه الحال تأتي الدراسة‬ ‫ذوق�ه��ا وينسجم م��ع لحظتها المترفة‪.‬‬ ‫عندنا غير واضحة‪ ،‬ويغلب عليها اإلبهام‪،‬‬ ‫ول�ك��ن ح �ض��ارة ت �ص��ارع م��ن أج��ل الحرية‬ ‫وال سبيل إل��ى ذل��ك إال االس��ت��ن��اد إلى‬ ‫وال �ع��دال��ة وال �ق �ي��م اإلن �س��ان �ي��ة وال��رغ�ي��ف‬ ‫التحليل الشكلي‪ ،‬والتوظيف العشوائي‬ ‫(ش��أن حضارتنا العربية) في حاجة إلى‬ ‫لكثير م��ن المفاهيم‪ ،‬نظرا إل��ى غياب‬ ‫أن يقترن الجمالي بالحياتي والفكري‬ ‫أسانيد هذه المفاهيم؛ األمر الذي ينتج‬ ‫ب��ال��واق �ع��ي؛ ل �ي �ك��ون ال �ن��ص أك �ث��ر شعبية‬ ‫منه تغريب بعض الدارسين عندنا إلى‬ ‫وج�م��اه�ي��ري��ة‪ .‬ول�ي��س صحيح ًا أن األدب‬ ‫ه��وي��ة ثقافة م��ص��در ه��ذه النظرية‪ ،‬أو‬ ‫اس�ت�ن�ف��د أغ ��راض ��ه ف��ي ب�ي�ئ�ت�ن��ا ال�ع��رب�ي��ة‪.‬‬ ‫تلك‪ ،‬من دون رجعة‪ ،‬أي من دون استثمار‬ ‫ب � ��ل األدق أن ع� ��ال� ��م ال � �ي � ��وم والس �ي �م ��ا‬ ‫هذه النظريات فيما يفيد ثقافتنا؛ إلثراء‬ ‫م ��ا اس �ت �ج��د ف ��ي م �ن �ظ��وم��ة االت� �ص ��االت‬ ‫طريقة التفكير بما يالئم ما نسعى إليه‪،‬‬ ‫الحديثة واإلع�ل�ام ال��رق�م��ي‪ ،‬يحتاج إلى‬

‫‪ 130‬اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫هل يمكن القول بأن هذا التصور (إن كان‬ ‫�اس��ا على ضيق‬ ‫صحيحا ف�ع�لا)‪ ،‬ي��دل أس� ً‬ ‫األف� ��ق ال �ن �ق��دي ال �ع��رب��ي ب �ص��ورة ع��ام��ة؟‬ ‫وف�ق��دان جوهر العملية اإلب��داع�ي��ة لدى‬ ‫أغ�ل��ب المبدعين ال �ع��رب؟ ك�م��ا أن��ه ناتج‬ ‫ب��ال�ض��رورة ع��ن ضيق هامش الحرية في‬ ‫المجتمع العربي عمومً ا‪ .‬وبعدم مراس‬ ‫اإلن� �س ��ان ال �ع��رب��ي وت �م � ّرس��ه ب��األس��ال �ي��ب‬ ‫الديمقراطية في الجدل والحوار؟‬ ‫‪ρ ρ‬لقد سبق أن ذك��رت ف��ي م��واق��ف كثيرة‬ ‫أن وعينا المعرفي يعتريه دَخَ �نٌ‪ ،‬أو كما‬ ‫يطلق عليه بمصطلح الفساد‪ ،‬وذك��رت‬ ‫أن ثقافتنا ال يحكمها نسيج واح��د من‬ ‫أج��ل ال��وص��ول إل��ى نتيجة معينة‪ ،‬وهذا‬ ‫يعني أننا ال نملك مشروعا ثقافيا‪ ،‬وأن‬ ‫ال���دارس ف��ي وعينا المعرفي كحاطب‬ ‫ليل‪ ،‬ال يدري ما الذي يمسكه‪ ،‬ويجمعه‬ ‫بين يديه‪ .‬وكما ذكرت أيضا أن الخطاب‬ ‫النقدي في معظمه عبارة عن نص جاهز‬ ‫يتسلط عليه الحكم البرهاني‪ ،‬في حين‬ ‫أن الحركة اإلبداعية الفاعلة هي التي‬

‫أم���ا م���وض���وع ف���ق���دان ج��وه��ر العملية‬ ‫اإلبداعية لدى أغلب المبدعين العرب‪،‬‬ ‫فذلك في تقديري ناتج مما ط��رأ على‬ ‫الحياة الثقافية في السنوات األخيرة‬ ‫م��ن ت��غ� ّي��ر ج���ذري ف��ي وس��ائ��ل اإلع�ل�ام‬ ‫واالتصال والتواصل الجماهيري‪ ،‬وتطور‬ ‫نظم المعلومات في العالم ككل؛ ما ترتب‬ ‫عليه حدوث تغيرات في البنية الفكرية‪،‬‬ ‫وازدي��اد الميل إلى االنحراف في جميع‬ ‫المجاالت‪ ،‬وظهور إب��داع من نوع جديد‬ ‫ك��ال��ن��ص ال��ش��ب��ك��ي ‪ Cybertext‬وال��ن��ص‬ ‫المترابط ‪ Hypertext‬والنص المفتوح‪،‬‬ ‫وغير ذل��ك م��ن الموضوعات الجديدة‬ ‫التي باتت من صانعي ال��ذوق الجديد‪،‬‬ ‫هذا الذوق الذي بات يبتكر موضوعات‬ ‫وتجارب مدفوعة الثمن‪ ،‬أو ما يمكن أن‬ ‫ندخله ضمن سياق «التجارة الثقافية»‬ ‫حسب رغبات الزبون‪ ،‬بدافع الرغبة في‬

‫م� � � � � � � � � � � � � � � � ��واج � � � � � � � � � � � � � � � � �ه� � � � � � � � � � � � � � � � ��ات‬

‫ج��رأة حقيقية من النقاد في رف��ض أدب‬ ‫الطالسم والمعميات‪ ،‬واللغة المتعالية‬ ‫لكتابة ن�ص��وص تحتكم إل��ى ل�غ��ة األدب‬ ‫ب �ك ��ل خ �ص��وص �ي �ت �ه��ا‪ .‬وي �م �ك ��ن ق ��راءت �ه ��ا‬ ‫وتأويلها وتفسيرها لتنهض بذوق القارئ‬ ‫وفكره وخبرته وتجربته‪ ،‬وال تصبح مجرد‬ ‫صيحة في واد‪ .‬وليس ممكنًا أن نقبل أن‬ ‫لا ص��دى ل�ع��ال��م داخ�ل��ي‬ ‫ي�ك��ون ال�ش�ع��ر م�ث� ً‬ ‫وحسب‪ ،‬ليس له صلة بالحياة العامة‪.‬‬

‫تسوغ للمتلقي استجابة من نوع متميز‪.‬‬ ‫وليس غريبا باالستناد إلى آراء كثير من‬ ‫النقاد في موقفهم من الحركة النقدية‬ ‫عندنا أن نقول إن المسار النقدي عندنا‬ ‫يقوم على تعزيز فرادة اللغة الدائرية في‬ ‫البنى التركيبية‪ ،‬من حيث كونها فاعلة‬ ‫في عالقتها بالحضور؛ معنى ذل��ك أن‬ ‫حاضر المنطوق اللفظي واف��ر ومعزز‬ ‫في التحليل؛ األمر الذي أدى إلى إهمال‬ ‫جمال النص في تقبله لخلوه من استجابة‬ ‫توقعات المشروع النظري‪ ،‬ولعل من يعود‬ ‫إلى كتابي «الرؤيا والتأويل» يجد ما يبرر‬ ‫مسوغات ضيق األفق النقدي بوجه عام‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪131 )2015‬‬


‫الوصول السريع‪ ،‬وه��ي ثقافة أصبحت‬ ‫فيها الحدود ضبابية؛ األمر الذي حوّل‬ ‫الممارسة اإلبداعية إلى « الكل ماشي» أو‬ ‫«رمي كل شيء» على طريقة رمي معلبات ‪ρ ρ‬بطبيعة الحال‪ ،‬ووجهة نظرنا السالف‬ ‫االستهالك‪ ،‬بحسب تعبير منظّ ري ما بعد‬ ‫ذكرها‪ ،‬ال تنفي أن هناك مساع حثيثة‪،‬‬ ‫الحداثة‪.‬‬ ‫ونتائج مرضية‪ ،‬وت��ج��ارب ناجحة في‬ ‫نقدنا العربي الحديث‪ ،‬على الرغم من‬ ‫أم��ا م��وض��وع ضيق هامش الحرية في‬ ‫قلتها‪ ،‬ولكنها تعد نماذج يحتذى بها ‪-‬‬ ‫المجتمع العربي عمومًا هذا صحيح إلى‬ ‫وأن��ا هنا أتفادى ذك��ر األسماء حتى ال‬ ‫حد م��ا‪ ،‬ضمن ه��ذا السياق ولكن عبر‬ ‫أنسى أح �دًا‪ -‬وق��د استطاع ه��ذا النوع‬ ‫مر العصور نلمس مثل هذه التعلّة‪ ،‬وال‬ ‫م��ن ال��ن��ق��اد أن يتعرف إل��ى المفاهيم‬ ‫أتصور أنها الحجة الوحيدة في مساعي‬ ‫والنظريات بعمق‪ ،‬ويقربها منا بسالسة‪.‬‬ ‫تنامي العملية اإلب��داع��ي��ة‪ ،‬وق��د وجدنا‬ ‫والناقد في واقع األمر صلة وثيقة بينه‬ ‫مبدعين مورست ضدهم أشكال اإلقصاء‬ ‫وبين اآلخ��ر‪ ،‬أي��ا ك��ان ن��وع ه��ذا اآلخ��ر‪،‬‬ ‫والتهميش‪ ،‬ولكنهم في األخير استطاعوا‬ ‫وباتحادهما تتوحد ال��رؤي��ا المعرفية‪،‬‬ ‫أن ي��م��رروا شفراتهم م��ن خ�لال رؤاه��م‬ ‫غير أن طموحنا أك��ب��ر م��ن ه���ؤالء في‬ ‫الكشفية التي تبحث في عالقتنا بالكون‪،‬‬ ‫تقريبنا من صياغة أسئلة تخص هويتنا‪،‬‬ ‫وتقرب صلتنا بطموحات الواقع‪ ،‬صحيح‬ ‫رغبة في إيجاد حلول من ذاتنا‪ ،‬حتى ال‬ ‫أن ع��دم تمرسنا من معايير األساليب‬ ‫نكون في غيبة من أمرنا‪ ،‬وما يجري من‬ ‫ال��دي��م��ق��راط��ي��ة ح���ال دون ت��ق��ري��ب ه��ذه‬ ‫حولنا‪ .‬صحيح أنه طموح عسير المنال‪،‬‬ ‫الصلة أكثر؛ لكن ليس في اإلمكان أبدع‬ ‫وليس ذلك ممتنع التحقق قطعا‪ ،‬مادام‬ ‫مما كان؛ أي ليس بإمكان أحد اختراق‬ ‫في عمر الهُوية بقية‪.‬‬ ‫مؤسسة «أنا وال أحد بعدي»‪ ،‬وال تجاوز‬ ‫تفسير ال��ن��ص بحسب الحقيقة ال��ذي ¦ ¦ع � ��رف ال� �ن� �ق ��د ال� �غ ��رب ��ي م �ج �م��وع��ة م��ن‬ ‫يعيش في أفياء حكم الظاهر‪ ،‬والمسرف‬ ‫االتجاهات والمدارس النقدية‪ .‬تنطلق‬ ‫في المنحى االنطباعي‪.‬‬ ‫م��ن أس��س معرفية وم��رج�ع�ي��ات خاصة‪.‬‬ ‫ف �ه��ل ت � ��رون أن م �ث��ل ه� ��ذه األع � �م� ��ال ق��د‬ ‫تكون الضالة الحقيقية للنقد العربي‬ ‫الحديث؟‬

‫¦ ¦ث �م��ة م �ج �م��وع��ة م ��ن األع� �م ��ال ال�ن�ق��دي��ة‬ ‫ال �ع��رب �ي��ة ال� �ت ��ي زاوج � � ��ت ب �ي��ن ال �ن �ظ��ري��ة‬ ‫والتطبيق‪ ،‬فكانت (ول��و نسبيا) نتائجها‬ ‫إيجابية‪ .‬س��واء في نقد السرد أو الشعر‬ ‫أو غيرهما‪.‬‬ ‫‪ 132‬اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫لكن في عالمنا العربي‪ ،‬يشكل كل ناقد‬ ‫اتجاها معينا (يصرح بهذا مجموعة من‬ ‫النقاد)‪ .‬وه��ي ميزة تنطبق كذلك على‬ ‫مجموعة من الكتاب والمبدعين‪.‬‬ ‫فأين تكمن حسب تصوركم‪ ،‬أسباب هذه‬


‫مترام‪ ،‬والبحث‬ ‫ٍ‬ ‫‪ρ ρ‬إن الفارق بيِّن‪ ،‬والتباين‬ ‫ف��ي ع��وام��ل ال��ت��ق��ارب بينهما كالبحث‬ ‫في أوج��ه التقارب بين الثرى والثريّا؛‬ ‫ولعل مرّد ذلك إلى سلطة كل مرجعية‬ ‫ثقافية التي من شأنها أن تعين كل اتجاه‬ ‫على تحديد اإلج��راء المتبع في الفهم‬ ‫والتحليل‪ ،‬م��ن منظور أن المرجعية ¦ ¦ي�ش�ي��ر ال� �ق ��اص زك ��ري ��ا ت��ام��ر ف ��ي إح ��دى‬ ‫ح��وارات��ه (مجلة كتابات المغربية عدد‬ ‫الثقافية وح��ده��ا ق����ادرة ع��ل��ى توجيه‬ ‫‪ ،)8‬إل ��ى أن األدب ال �ع��رب��ي ال�م �ع��اص��ر‪،‬‬ ‫وإرش����اد المفكر‪ ،‬وال��ع��ا ِل��م بالمعرفة‪،‬‬ ‫يتصف بقلة األصيلين وكثرة األدعياء‬ ‫وكلما تطورت المرجعية الثقافية كلما‬ ‫ال�م��زي�ف�ي��ن‪ .‬وم��ا دام ال�ن�ق��اد ال يقومون‬ ‫تمتع الباحث بإشباع تطلعاته المعرفية‪،‬‬ ‫ب �م �ه �م �ت �ه��م وه� � ��ي اإلس � � �ه� � ��ام ف � ��ي ط ��رد‬ ‫وتوقعات رؤاه‪ ،‬وهذا ال يعني أن المفكر‬ ‫األدع �ي��اء‪ ،‬ب��ل إن�ه��م أنفسهم يحتاجون‬ ‫يبقى حبيس سلطة هذه المرجعية أو‬ ‫إلى تقويم ونقد صارم‪.‬‬ ‫تلك‪ ،‬وإنما تشبّعه منها يؤهله الختراق‬ ‫ه��ل يشكل ه��ذا ال�ت�ص��ور ب��ؤرة م��ا يعرفه‬ ‫األفكار المتحجّ رة‪ ،‬ومحاولة التحرر من‬ ‫النقد واإلبداع العربيين من معضالت؟‬ ‫سلطة المرجعية السرمدية هو شغله‬ ‫�ررات‬ ‫الشاغل‪ ،‬ومسعاه الحثيث إلى الرغبة في ‪ρ ρ‬ه��ذا صحيح‪ ،‬غير أن ل��ذل��ك م��ب� ٍ‬ ‫تنامي المعرفة‪ ،‬وشتان ما بين استمداد‬ ‫تعتريها ع��وام��ل التفكيك والتشظي‬ ‫الطاقة المعرفية من الثقافتين الغربية‬ ‫للوعي المعرفي بوجه ع��ام؛ إذ نعيش‬ ‫والعربية‪ ،‬ف��إذا ك��ان الغرب ينطلق من‬ ‫م���س���ارا ث��ق��اف��ي��ا ف���ي م��ع��ظ��م األح��ي��ان‬ ‫بيئته‪ ،‬فإن المعرفة في ثقافتنا العربية‬ ‫غير قابل للفهم‪ ،‬بالنظر إل��ى غموض‬ ‫ينتابها الضبابية‪ ،‬ويكتنفها الغموض‪،‬‬ ‫المفاهيم‪ ،‬بخاصة في وعينا العربي‪،‬‬ ‫بالنظر إلى مالحقة المرجعية الثقافية‬ ‫ولعل هذا شيء طبيعي من منظور أن‬ ‫الغربية‪ ،‬ونقلها حرفيا‪ ،‬وحتى عندما‬ ‫كل شيء تغير في فكر ما بعد الحداثة‪،‬‬ ‫تصل‪ ،‬يكون الزمن قد تخطاها في كثير‬ ‫وهو ما يستوجب التعامل مع معطيات‬ ‫من األحيان‪ ،‬ويبدو أن دور المترجم هنا‬ ‫المعرفة ال��ج��دي��دة بما يقتضيه وعي‬ ‫وصي‪ ،‬وأمام مسئولية هذه الوصاية‪ ،‬فهو‬ ‫العصر وال��ت��ط��ورات ال��ت��ي ط���رأت على‬ ‫إما خاذل عن نصرة هويته‪ ،‬أو فاشل في‬ ‫الثقافة الجديدة في مراماتها‪ ،‬وتنوّع‬ ‫مواقفها الفكرية المتحررة من كل القيود‬ ‫نقل األمانة العلمية‪ ،‬أو باهت في طرح‬

‫م� � � � � � � � � � � � � � � � ��واج � � � � � � � � � � � � � � � � �ه� � � � � � � � � � � � � � � � ��ات‬

‫المفارقة إن وجدت؟‬

‫المفاهيم في وضعها الحقيقي‪ ،‬أو ضئيل‬ ‫في تقديره الدور المنوط به‪ ،‬أو عاجز‬ ‫بما يحتويه وعيه الضامر‪ ،‬أو واهن في‬ ‫االستهانة بدور الترجمة الفاعل‪ ،‬وبين‬ ‫هذه وتلك غابت على األقل فكرة تطويع‬ ‫مفاهيم النظريات الغربية بما ينسجم‬ ‫مع مرتكزاتنا ومقوماتنا الثقافية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪133 )2015‬‬


‫التقليدية‪ ،‬وهو ما أشار إليه المفكرون‬ ‫الغربيون م��ن أن الفكر الجديد يميل‬ ‫إل��ى التشكيك فيما يسمى بالحكايات‬ ‫الثقافية العليا‪ ،‬أو ما وراء الحكايات‬ ‫ال��م��ت��وارث��ة‪ ،‬وت��ج��اوز المبادئ الثقافية‬ ‫المتعارف عليها‪ ،‬التي باتت تسيطر على‬ ‫الوعي الثقافي الجديد بما فيه الوعي‬ ‫اإلبداعي‪ ،‬وفي هذا الشأن يستند الجيل‬ ‫الجديد إلى مقولة أن «هوية الفرد دائمة‬ ‫التبدل والتشكل‪ ،‬تبعا للتغير الدائم الذي‬ ‫ب��دأ يفرضه نظام البراديغم الجديد‬ ‫‪Paradigme‬؛ وف��ي ه��ذه الحالة يسعى‬ ‫أصحاب التجديد إلى ممارسة التعدد‪،‬‬ ‫والتمدد‪ ،‬والتنوع في ال���رؤى‪ ،‬مادامت‬ ‫الحقائق نسبية‪ ،‬والتصورات الجديدة‬ ‫مرغوب فيها في نظرهم‪ .‬ومن ثم فإن‬ ‫المعضلة ال��ت��ي ن��راه��ا بين األصيلين‬ ‫والمزيفين تكمن ف��ي ه��ذا البراديغم‬ ‫الجديد ال��ذي صنع جيال محترفا في‬ ‫تقويض ك��ل ش��يء‪ ،‬ويعمل على إخفاء‬ ‫المدار الذي تسبح فيه فرضيات النماذج‬ ‫العليا‪.‬‬ ‫¦ ¦هل من كلمة أخيرة تود توجيهها؟‬ ‫‪ρ ρ‬تنوير الفكر‪ ،‬توحيد ال���رؤى‪ ،‬التأهيل‬ ‫ال��م��ائ��ز‪ ،‬دع���م ال��ب��ح��ث ال��ع��ل��م��ي‪ ،‬وق��اي��ة‬ ‫الخصوصية‪ ،‬الفكر النافع‪ ،‬التطبيق‬ ‫الجيد‪ ..‬هذا هو أملنا‪ ،‬والسبيل األنجع‬ ‫للخالص من ك ِّم أزماتنا المعقدة‪ .‬أضف‬ ‫إلى ذلك أن الثقافة ال تُمنَح‪ ،‬بل تُحدد‬ ‫ * ناقد ومترجم من المغرب‪.‬‬

‫‪ 134‬اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬

‫وت��ع�رَّف بوساطة ذوي��ه��ا‪ ،‬ومهمة الفكر‬ ‫الناقد تكمن في أن نجعل من براعمنا‬ ‫تنمو نموا طبيعيا‪ ،‬ومن طيورنا تحلق في‬ ‫الفضاء؛ لكي يقوموا بإنتاج المعرفة‪،‬‬ ‫بدال من أن نقطف زهرها قبل أن تتفتح‪،‬‬ ‫أو أن ننتف ريشها‪.‬‬ ‫علينا أن نحمي الجيل الواعد من التشبع‬ ‫بالمعلومة المسمومة؛ ألن ذل��ك يؤدي‬ ‫بالضرورة إل��ى انغالق األف��ق وانسداد‬ ‫الرؤية‪ ،‬وحصر البصيرة في خانة ضيقة‬ ‫بتوجيه من الجهل إلى العنف‪ ،‬وكل ما‬ ‫ي��دور في فلكه من ارت���دادات جارحة‪.‬‬ ‫المحصلة من وراء إهمال طرائق‬ ‫ّ‬ ‫ولعل‬ ‫التعليم الحديثة‪ ،‬أننا جعلنا من باحثينا‬ ‫يحترفون س��رق��ة ال��ب��ح��وث ف��ي الحرم‬ ‫األكاديمي‪ ،‬وفي ما ال يح ّل انتهاكه‪ ،‬كما‬ ‫جعلنا من براعمنا عصافير خشبية ال‬ ‫تقوى على ال��ط��ي��ران؛ ألن التلميذ في‬ ‫مؤسساتنا التعليمية لم يزوّد باللغة التي‬ ‫تمكّنه من التحصيل العلمي‪ ،‬والتحصين‬ ‫الثقافي‪ ،‬والتحليق في اإلبداع‪ ،‬واإلمساك‬ ‫عوض اإلمساك بالعصا‬ ‫َ‬ ‫بالريشة الفنية‪،‬‬ ‫اآللة الفتاكة؛ لذا‪ ،‬فهو بحسب رأي أحد‬ ‫الباحثين أشبه ما يكون بالطائر الخشبي‬ ‫العاجز عن الحركة‪ ،‬أو الطائر الجارح‬ ‫المسلوب الروح واإلرادة‪ .‬فما الذي حول‬ ‫طيورنا الجميلة إلى طيور خشبية‪ ،‬أو‬ ‫طيور جارحة؟‬


‫ق � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��راءات‬

‫سلسلة تعليم اللغة العربية‬ ‫للناطقين بغيرها‬ ‫امل�ؤلفون ‪� :‬أ‪ .‬د‪ .‬حممود �إ�سماعيل عمار‪،‬‬ ‫د‪ .‬حممود علي �شرابي‪،‬‬ ‫د‪ .‬علي عبداملح�سن احلديبي‬ ‫النا�شر ‪ :‬مركز امللك عبداهلل بن عبدالعزيز الدويل‬ ‫خلدمة اللغة العربية ‪2015‬م‪.‬‬

‫أولى مركز الملك عبداهلل بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية مسار تعليم اللغة‬ ‫العربية للناطقين بغيرها عنايته الخاصة‪ ،‬وفي هذا السياق يقدم المركز ضمن سلسلة‬ ‫(األدل��ة والمعلومات)‪ ،‬ثالثة إص��دارات تعالج موضوعا واح��دا هو ‪ -‬تعليم اللغة العربية‬ ‫للناطقين بغيرها ‪ -‬وتختلف في زاوية النظر إليه‪ ،‬وهذه اإلصدارات تحمل العنوانات اآلتية‪:‬‬ ‫‪ -1‬دليل معلم اللغة العربية للناطقين بغيرها‪ :‬ويتوجه في المقام األول إلى المشتغلين‬ ‫بتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها‪ ،‬مرشدا وموجها لهم‪ ،‬وذلك بمناقشة عدة محاور‬ ‫هي‪ :‬استراتيجيات وطرائق تعليم اللغة العربية‪ ،‬وتعليم مهارات اللغة وعناصرها‪،‬‬ ‫وصعوبات وحلول‪ ،‬ومهارات ومتطلبات‪ ،‬والمستويات المعيارية لمعلم اللغة العربية‬ ‫للناطقين بلغات أخرى‪ ،‬وبرامج تأهيل المعلمين وتدريبهم في الجامعات السعودية‪.‬‬ ‫‪ -2‬دليل متعلمي العربية للناطقين بغيرها‪ :‬ويتوجّ ه في المقام األول إلى الطالب متعلمي‬ ‫اللغة العربية الناطقين بغيرها‪ ،‬مرشدا وموجها لهم وذلك بمناقشة عدة محاور هي‪:‬‬ ‫أهمية العربية ومرجعيات تعلمها‪ ،‬واستراتيجيات وطرائق تعلم العربية‪ ،‬وإشارات نحو‬ ‫الثقافة العربية‪.‬‬ ‫‪ -3‬دليل ثقافة اللغة العربية للناطقين بغير العربية‪ :‬ويتوجه إلى الناطقين بغير اللغة‬ ‫العربية كافة‪ ،‬مرشدا وموجها لهم وذلك بمناقشة عدة محاور أهمها‪ :‬العربية تاريخا‬ ‫وانتشارا‪ ،‬والعربية جماال وجالال‪ ،‬والعربية كتابة وفنا‪.‬‬ ‫وقد عمل في المركز على تهيئة هذه السلسلة وإنجازها ومراجعتها فريق متخصص في‬ ‫تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها تحت إشراف المركز‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪135 )2015‬‬


‫الكتاب ‪ :‬الطائر املهاجر(ديوان �شعر)‬

‫الكتاب ‪ :‬جملة احلوار الوطني (العدد ‪)18‬‬

‫امل�ؤلف ‪ :‬حممود عبداهلل الر حمي‬

‫امل�ؤلف ‪ :‬مركز امللك عبدالعزيز للحوار الوطني‬

‫النا�شر ‪ :‬مركز الرحمانية الثقايف عام ‪2015‬م‬

‫النا�شر ‪ :‬مركز امللك عبدالعزيز للحوار الوطني‬

‫صدر أخيرا عن مركز الرحمانية الثقافي‬

‫مجلة «ال��ح��وار» مجلة فكرية ثقافية‬

‫دي��وان «الطائر المهاجر» للشاعر محمود (ف��ص��ل��ي��ة) ت���ص���در ع���ن م���رك���ز ال��م��ل��ك‬ ‫ال��رم��ح��ي‪ ..‬وال���ذي ع���دّه األدي���ب وال��ق��اص عبدالعزيز للحوار ال��وط��ن��ي‪ ،‬ف��ي إط��ار‬

‫عبدالرحمن ال��درع��ان ‪-‬ال���ذي ق��دم لهذا‬ ‫الديوان – بمثابة سيرة ذاتية للشاعر‪ ..‬وقد‬

‫ج��اء ال��دي��وان في (‪ )84‬صفحة من القطع‬

‫جهوده لنشر ثقافة الحوار‪ ،‬ويشارك فيها‬ ‫نخبة من المثقفين وأصحاب الرأي‪ ،‬وقد‬

‫المتوسط‪ ..‬نقتطف منه‪ ،‬في نهاية قصيدته‪ :‬ص��در منها حتى تاريخه ثمانية عشر‬ ‫عددا‪.‬‬ ‫«الحمامة المشرّدة»‪:‬‬ ‫لهفي على تلك الحمامة مذ ر�أت‬

‫يهدف المركز من إصدار هذه المجلة‬

‫ك�������ل ال������ع������ي������ون ت���������س����ل����ط����ت ن����ظ����رات����ه����ا الفكرية الثقافية إل��ى فتح أف��ق جديد‬ ‫�������ش وال���ب���ي�������ض م��ع��ا‬ ‫�������ش‪ ..‬ب����ل ل���ل���ع ّ‬ ‫ل���ل���ع ّ‬

‫ل��ل��ت��واص��ل‪ ..‬ق��وام��ه االت��ص��ال ال��ح��واري‬

‫ل����ك�����أن دن���ي���ان���ا ت�����ض��ي��ق ب���أه��ل��ه��ا الثقافي م��ع مختلف ال��ش��رائ��ح‪ .‬وه��ذا‬ ‫فغدت تهجر بي�ضها‪� ..‬أين‪� ..‬إلى‪..‬‬

‫األفق مفتوح للجميع للتعبير عما يجيش‬

‫اهلل �أع���ل���م م���ا ي������ؤول م�صيرها في أذهانهم من رؤى وأفكار وتصورات‪.‬‬ ‫ق���ارن���ت ح��ال��ي وال����دي����ار �سليبة‬

‫وهو منبر فكري لتالقح اآلراء واألطياف‬

‫فوجدت حالي ن�سخة من حالها الثقافية والفكرية المتعددة‪.‬‬

‫‪ 136‬اجلوبة ‪ -‬خريف ‪1437‬هـ (‪)2015‬‬


‫من إصدارات اجلوبة‬


‫صدر حديث ًا عن برنامج النشر في‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.