¦رائدات عربيات في الفن التشكيلي. ¦كورونا وراء ظهورنا. وحيدا. ً ¦قراءات :توقف عن البقاء ¦تنمية شخصية الطالب الجامعي. ¦مواجهات. ¦نصوص شعرية: أحـــمـــد قــــــران ،عــمــر بــوقــاســم، عبدالرحمن موكلي ،أحمد البوق، مـــازن الــيــحــيــا ،مسفر الــغــامــدي، محمد الحرز ،عبدالوهاب العريض، غسان الخنيزي ،علي الحازمي.
القصيدة الحديثة في المملكة العربية السعودية الكتابة ..الوجود ..المعنى
75
الئحة برنامـج نشر الدراسات واإلبداعـات األدبية والفكرية ودعم البحوث والرسائل العلمية يف مركز عبدالرحمن السديري الثقايف -1نشر الدراسات واإلبداعات األدبية والفكرية
يهتم بالدراسات ،واإلبداعات األدبية ،ويهدف إلى إخراج أعمال متميزة ،وتشجيع حركة اإلبداع األدبي واإلنتاج الفكري وإثرائها بكل ما هو أصيل ومميز. ويشمل النشر أعمال التأليف والترجمة والتحقيق والتحرير. مجاالت النشر: أ -الدراسات التي تتناول منطقة الجوف ومحافظة الغاط في أي مجال من المجاالت. ب -اإلبداعات األدبية والفكرية بأجناسها المختلفة (وفقاً لما هو مب ّين في البند « »٨من شروط النشر). ج -الدراسات األخرى غير المتعلقة بمنطقة الجوف ومحافظة الغاط (وفقاً لما هو مب ّين في البند « »٨من شروط النشر). شروطه: -١أن تتسم الدراسات والبحوث بالموضوعية واألصالة والعمق ،وأن تكون موثقة طبقاً للمنهجية العلمية. -٢أن تُكتب المادة بلغة سليمة. -٣أن يُرفق أصل العمل إذا كان مترجماً ،وأن يتم الحصول على موافقة صاحب الحق. -٤أن تُق ّدم المادة مطبوعة باستخدام الحاسوب على ورق ( )A4ويرفق بها قرص ممغنط. -٥أن تكون الصور الفوتوغرافية واللوحات واألشكال التوضيحية المرفقة بالمادة جيدة ومناسبة للنشر. -٦إذا كان العمل إبداعاً أدبياً فيجب أن يتّسم بالتم ّيز الفني وأن يكون مكتوباً بلغة عربية فصيحة. -٧أن يكون حجم المادة -وفقاً للشكل الذي ستصدر فيه -على النحو اآلتي: الكتب :ال تقل عن مئة صفحة بالمقاس المذكور. البحوث التي تنشر ضمن مجالت محكمة يصدرها المركز :تخضع لقواعد النشر فيتلك المجالت. الكتيبات :ال تزيد على مئة صفحة( .تحتوي الصفحة على « »250كلمة تقريباً). -٨فيما يتعلق بالبند (ب) من مجاالت النشر ،فيشمل األعمال المقدمة من أبناء وبنات منطقة الجوف ،إضافة إلى المقيمين فيها لمدة ال تقل عن عام ،أما ما يتعلق بالبند (ج) فيشترط أن يكون الكاتب من أبناء أو بنات المنطقة فقط. -٩يمنح المركز صاحب العمل الفكري نسخاً مجانية من العمل بعد إصداره ،إضافة إلى مكافأة مالية مناسبة. -١٠تخضع المواد المقدمة للتحكيم.
-2دعم البحوث والرسائل العلمية
يهتم بدعم مشاريع البحوث والرسائل العلمية والدراسات املتعلقة مبنطقة اجلوف ومحافظة الغاط ،ويهدف إلى تشجيع الباحثني على طرق أبواب علمية بحثية جديدة يف معاجلاتها وأفكارها. (أ) الشروط العامة: -١يشمل الدعم املالي البحوث األكادميية والرسائل العلمية املقدمة إلى اجلامعات واملراكز البحثية والعلمية ،كما يشمل البحوث الفردية ،وتلك املرتبطة مبؤسسات غير أكادميية. -٢يجب أن يكون موضوع البحث أو الرسالة متعل ًقا مبنطقة اجلوف ومحافظة الغاط. -٣يجب أن يكون موضوع البحث أو الرسالة جدي ًدا يف فكرته ومعاجلته. -٤أال يتقدم الباحث أو الدارس مبشروع بحث قد فرغ منه. -٥يقدم الباحث طل ًبا للدعم مرف ًقا به خطة البحث. -٦تخضع مقترحات املشاريع إلى حتكيم علمي. -٧للمركز حق حتديد السقف األدنى واألعلى للتمويل. -٨ال يحق للباحث بعد املوافقة على التمويل إجراء تعديالت جذرية تؤدي إلى تغيير وجهة املوضوع إال بعد الرجوع للمركز. -٩يقدم الباحث نسخة من السيرة الذاتية. (ب) الشروط اخلاصة بالبحوث: -١يلتزم الباحث بكل ما جاء يف الشروط العامة (البند «أ»). -٢يشمل املقترح ما يلي: توصيف مشروع البحث ،ويشمل موضوع البحث وأهدافه ،خطة العمل ومراحله،واملدة املطلوبة إلجناز العمل. ميزانية تفصيلية متوافقة مع متطلبات املشروع ،تشمل األجهزة واملستلزماتاملطلوبة ،مصاريف السفر والتنقل والسكن واإلعاشة ،املشاركني يف البحث من طالب ومساعدين وفنيني ،مصاريف إدخال البيانات ومعاجلة املعلومات والطباعة. حتديد ما إذا كان البحث مدعو ًما كذلك من جهة أخرى.(ج) الشروط اخلاصة بالرسائل العلمية: إضافة لكل ما ورد يف الشروط اخلاصة بالبحوث (البند «ب») يلتزم الباحث مبا يلي: -١أن يكون موضوع الرسالة وخطتها قد أق ّرا من اجلهة األكادميية ،ويرفق ما يثبت ذلك. -٢أن يُق ّدم توصية من املشرف على الرسالة عن مدى مالءمة خطة العمل. الجـوف 42421ص .ب 458هاتف 014 6245992 :فاكس014 6247780 : هاتف 016 4422497 :فاكس016 4421307 : الغــاط 11914ص.ب 63 الرياض 11614ص .ب 94781هاتف 011 4999946 :جوال055 3308853 : 0553308853
016 4422 497
Alsudairy1385
info@alsudairy.org.sa www.alsudairy.org.sa
www.alsudairy.org.sa | info@alsudairy.org.sa
مجلس إدارة مؤسسة عبدالرحمن السديري
رئيسً ا فيصل بن عبدالرحمن السديري عضوًا سلطان بن عبدالرحمن السديري د .زياد بن عبدالرحمن السديري العضو المنتدب عضوًا عبدالعزيز بن عبدالرحمن السديري عضوًا د .سلمان بن عبدالرحمن السديري عضوًا د .عبدالواحد بن خالد الحميد أ .د .خليل بن إبراهيم المعيقل عضوًا أ .د .مشاعل بنت عبدالمحسن السديري عضوًا سلمان بن عبدالمحسن بن محمد السديري عضوًا طارق بن زياد بن عبدالرحمن السديري عضوًا سلطان بن فيصل بن عبدالرحمن السديري عضوًا
ملف ثقايف ربع سنوي يصدر عن مركز عبدالرحمن السديري الثقافي هيئة النشر ودعم األبحاث
رئيسً ا د .عبدالواحد بن خالد الحميد عضوًا أ .د .خليل بن إبراهيم المعيقل أ .د .مشاعل بنت عبدالمحسن السديري عضوًا عضوًا د .علي دبكل العنزي عضوًا محمد بن أحمد الراشد أسرة التحرير
قواعد النشر
إبراهيم بن موسى احلميد محررا محمود الرمحي ً محررا محمد صوانة ً اإلخراج الفني :خالد الدعاس
املشرف العام
-1أن تكون املادة أصيلة . -2لم يسبق نشرها ورق ًيا أو رقم ًيا. -3تراعي اجلدية واملوضوعية. -4تخضع املواد للمراجعة والتحكيم قبل نشرها. -5ترتيب املواد يف العدد يخضع العتبارات فنية. -6ترحب اجلوبة بإسهامات املبدعني والباحثني والكتّاب ،على أن تكون املادة باللغة العربية.
هاتف)+966()14(6263455 : املراســــــالت: فاكس)+966()14(6247780 : ص .ب 458سكاكا اجلـوف -اململكة العربية السعودية www.alsudairy.org.sa aljoubahmag@alsudairy.org.sa ردمد ISSN 1319 - 2566
سعر النسخة 8رياالت -تطلب من الشركة الوطنية للتوزيع ريال واملؤسسات ً 60 االشتراك السنوي لألفراد ً 50 ريال
«اجلوبة» مناألسماءالتيكانتتُطلقعلىمنطقةاجلوفساب ًقا.
املقاالت املنشورة ال تعبر بالضرورة عن رأي املجلة والناشر.
يُعنى املركز بالثقافة من خالل مكتباته العامة يف اجلوف والغاط ،ويقيم املناشط املنبرية الثقافية، برنامجا للنشر ودعم األبحاث والدراسات ،يخدم الباحثني واملؤلفني ،وتصدر عنه مجلة ويتبنّى ً ً (أدوماتو) املتخصصة بآثار الوطن العربي ،ومجلة (اجلوبة) الثقافية ،ويضم املركز كل من( :دار العلوم) مبدينة سكاكا ،و(دار الرحمانية) مبحافظة الغاط ،ويف كل منهما قسم للرجال وآخر للنساء .ويتم متويل املركز من مؤسسة عبدالرحمن السديري اخليرية.
0553308853
1385
Alsudairy
العدد - ٧٥ربيع ١٤٤٣هـ (٢٠٢٢م)
6.......................... القصيدة الحديثة في المملكة الكتابة ....الوجود ....المعنى
98............................. 98 ............................. الناقد األدبي د .محمد بن مريسي الحارثي: «الثقافة السعودية ثقافة كونية إلهية
الـمحتويــــات االفتتاحية ٤ ............................................................................. القصيدة الحديثة في المملكة العربية السعودية6 .................................... اإلنصات إلى حفريات نصوص علي الدميني -د .هويدا صالح 7 ................... التجربة الشعرية عند علي الدميني -محمود قنديل 12 .............................. علــي الدمينــي ..الكوكــب العاشــق للوطــن الــذي مضــى لفضــاءات الحريــة -د. 16 سميرة الكناني الزهراني.... تأويــل مــا لــم يُكْتــب للشــاعر أحمــد قـرّان الزهرانــي روح الحداثــة وصــدق المعنــى.. 19 ليس ثمّة نهاية للشعر - ..د .هناء بنت علي البواب.... الشاعر السعودي علي الحازمي رثاء للوجود ومعناه -محمد العامري23 ............. عمر بوقاسم شاعر بين الوزن والنثر الحداثوي -د .أحمد العماري27 ............... سؤا ُل األَنسنة في الشّ عر السّ عودي -د .خلدون امنيعم29 ............................. أحمد البوق ...شاعر الموسيقى -د .انتصار عشا32 ................................. الحداثة وعتبة العنوان عند عبدالوهاب العريض -د .سناء العزة 34 ................. الصوت في القصيدة الحديثة في نصوص عبدالرحمن موكلي -أ .د .محمد البشير36 ....... الرمزية :الصوت الخفي الحقيقي للشاعر -مالك الخالدي38 ....................... القصيدة السعودية تتخفّف من عبء الثرثرة ..مسفر الغامدي أنموذجً ا -د .مهدي العلمي40 ...... القصيدة الحداثية السعودية بين التأثير والتأثر عند الشاعر مازن اليحيا -د .فاطمة الشيد42 ...... أحمد المال :بين الشعر والسينما -أ .د .حسين عبدالبصير44 ...................... الشاعر عبداهلل الصيخان :ثنائية البداوة والوطن -د .يوسف حسن العارف 46 ..... غسان الخنيزي ...القلبُ الذي حكى السر -د .مجد الشمري 50 .................... تأويل ما لم يُكتب -أحمد قران الزهراني ٥٢ .......................................... خياالت ..ليست مؤذية -عمر بوقاسم٥٤ .............................................. األشباه -عبدالرحمن موكلي٥٥ ........................................................ الج َّن ُة أسْ مَى -أحمد إبراهيم البوق ٥٦ ................................................ فو َر ما خطوتُ خارجا -مازن اليحيا ٥٧ ............................................... هذه األيام -مسفر الغامدي ٥٨ ........................................................ اإلبرة والقاع -محمد الحرز ٦٠ ........................................................ اللي ُل نشوةٌ هاربة -عبدالوهاب العريض ٦١ ........................................... القلبُ الذي حكى السر -غسان الخنيزي ٦٢ .......................................... تُلقي بحزنكَ صخر ًة في الماء -علي الحازمي ٦٥ .....................................
دراسات ونقد :نِساء طُ روادة ديستوبيا كارهة للنساء -بسمة عالء الدين ٦٧ ............ تمثالت صورة الرجل في الكتابة النسائية -د .إيمان عبدالعزيز المخيلد71 ......... وادي قنديل أطياف الذاكرة المستعارة -وحيد غانم78 ...............................
نصوص :الـحـلـوة -عبداهلل محمد العبدالمحسن81 ..................................... الفستان -دنيا علوي 88 ................................................................ طفولة طارئة -هشام بنشاوي 91 ......................................................
107............................. 107 رائدات عربيات في الفن التشكيلي
119............................ 119 ............................ كورونا وراء ظهورنا
مواجهات :حوار مع الشاعر واألديب شعبان يوسف -نور سليمان94 .................... حوار مع الناقد األدبي د .محمد بن مريسي الحارثي -عمر بوقاسم98 .............
نوافذ :رائدات عربيات في الفن التشكيلي -إعداد :صبحة بغورة107 .................... عبداهلل العلي النعيم مواقف وقصص -محمد بن عبدالرزاق القشعمي114 ........... كورونا وراء ظهورنا -محمد علي حسن الجفري 119 ................................... الخبــرة األكاديميــة والممارســة الثقافيــة فــي األســبوعية -أ .د.عبــداهلل بــن 126 عبدالرحمن الحيدري ... في الحاجة إلى المعارك الثقافية -صخر المهيف130 .................................
قراءات :توقف عن البقاء وحيدا -صفية الجفري 136 .................................... روايــة ثانويــة موســى لعقــل الضميــري :أفــكار ومدلــوالت إنســانية -غــازي خيــران ١٤٠ الملحم.
الصفحة األخيرة :تنمية شخصية الطالب الجامعي -د .جميل الحميد ١٤٤ .............
■ إبراهيم بن موسى احلميد
يُ َعبِّر الشاعر عن الحالة اإلبداعية ،فقوته تُ َعبِّر عن قوة اللغة والثقافة فيه ،وهو كذلك انعكاس
منابع ،واستمرارية تدفق ينابيعها ..وتتخذ القصيدة ٍ لقوة الثقافة وعبقريتها المستمرة في تفجير أشكال متعددة وألوانًا مختلفة ،منها ما يلتزم بالوزن العروضي ،ومنها ما يتحرر منه ،وقد رسّ خ ً
كثير من الشعراء أنفسهم في المشهد الشعري ..منهم مَن اتخذ قصيدة النثر هوية له ،ومنهم مَن التزم بالعروض أو التفعيلة مع أهمية التركيز على اللغة القادرة على نسج رؤيا الشاعر وتصوره؛ ألن الشكل الفني للقصيدة ليس هو ما يحكم جودة النص ،وإنما قدرة الشاعر على االستخدام الشعري
المناسب للشكل الفني..
كثير من األحيان عبئًا على وإذ يبدو اإليقاع الخارجي «الوزني» في القصيدة العربية القديمة في ٍ
حركية القصيدة وديناميتها ،كما يقول د .محمد البشير ،فإن اإليقاع الصوتي أو ما يصطلح عليه
أحيانا «اإليقاع الداخلي» ،هو ما يتولى مهمة بناء التشكيل االيقاعي في قصيدة النثر..
وحين تتحدث عن الشعر السعوديّ ،فإن فكرة القصيدة التقليدية يجب أن تبتعد من رأسك وذهنك
تمامًا ،وذلك ألن المشهد اختلف كل ّي ًة في العشرين سنة األخيرة ،وتحولت القصيدة السعودية إلى قصيدة رشيقة تمامً،ا كما يقول د .مهدي العلمي..
وإذا كان الشعر في المملكة يرتكز إلى مرجعيات بعيدة وعميقة بكوْن الشعر الجاهلي ينتمي
إلى الجزيرة العربية؛ فإننا نرى تراكم الفعل الشعريّ بامتداداته وتجلّياته؛ فبدت بوادر الشعر عدد من الرواد من أمثال :محمد السعودي بإدخال السرد إلى القصيدة ،أو بترك عمود الشعر لدى ٍ الثبيتي ،وفوزية أبو خالد ،ومحمد جبر الحربي ،وعلي الدميني ،وسعد الحميدين ،وخديجة العمري،
وعبداهلل الصيخان ،..كما يقول الباحث محمد العامري ،فهم قد فتحوا الطريق أمام جيل قصيدة النثر ،من أمثال :أحمد المال ،وإبراهيم الحسين ،وغسان الخنيزي ،ومحمد الدميني ،وعلي العمري، وعبداهلل السفر ،وحمد الفقيه ،وأحمد كتوعة ،وعلي الحازمي..
4
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
افتتاحية
إنَّ الحاجة إلى البوح بمكنونات النفس هي التي تملي على الشاعر أغراضه ،وتبعث فيه الروح الشعرية التي تعطي للنص وللقصيدة معناهما وصداهما ،وقد يرى بعض النقاد في القصيدة الحديثة شيئًا من الغموض ،وهذا ما جعل الشاعر عبداهلل الصيخان «ال يدعو إلى الغموض الشعري المجاني ..والذي يسعى لإلبهام والضبابية ،ولكنه يوصي بالغموض الشفيف ،الغموض الذي ال ينكشف إال للذي لديه بصيرة قرائية جادة.».. وهو ما يؤكده الشاعر أحمد قران الزهراني في نصوصه التي تتسم بالبساطة« ..ألن البساطة في الشعر أصعب من التعقيد ..فمن السهل أن يكون الشاعر معقدًا في عباراته ..لكن من الصعب أن يكون بسيطا »..وهذا ما تعده د .هناء البواب روح الحداثة وصدق المعنى. تحول مدهشً ا يجعل ً باستمرار ٍ يتحوّل مفهوم قصيدة النثر في كل مرحلة من مراحلها المتطورة وأصيل باستمرار ،فقد نقلت الحداثة الشعرية العربية القصيدة إلى ً وفاعل ً منه مفهومًا صالحً ا مغاير ،وأسهمت في تغيير الذائقة الشعرية ،وهذا ما يؤكده د .أحمد العماري.. ٍ مناخ ٍ وفي سؤال األنسنة في الشعر السعودي ،يج ُد د .خلدون منيعم أن في نص الشاعر مازن اليحيا «فور ما خطوت خارجً ا» ،رؤية تمجد الوجود ،ليس بوصفه قيمة في ذاته ،بل بقيمة موجوداته؛ فكانت األمكنة على عمومها وتباينها ..موجودات ال تؤثث لوجود اللوحة فحسب ،بل تتشكل بوصفها نصا ناجزًا فنيًا وموضوعيًا صيَغًا متنوعة تبادلية وتشاركية في قيمتها ..فهو يرى أن نص الشاعر ً في رؤية فلسفية ذات طابع ثقافيّ . وفي قصيدة «وردة في جدار» تعرف أنك أمام شاعر يجيد العزف على األوتار ،وهو الذي يمتلك لغة قصيدة النثر والموزون ،وهو المخاطر بكل ما تحمله روحه ليكتب على جدار اسمنتي ليخرج روح النصوص المبعثرة كما تقول د .انتصار عشا ،التي تضيف ،ونحن نقرأ الشاعر البوق ..نعرف أننا أمام لغة عبرت عن حداثة مختلفة..
الشاعر علي الدميني إذا كان الشاعر علي الدميني -رحمه اهلل -قد وافته المنية في رمضان الماضي ،فإنه قد ترك بصمته وإرثه اإلبداعي والثقافي وفكره المشع ..كأحد أبرز الشعراء والمثقفين ،وقد خلّدت تجربته الكثير من الشعر والرواية والنقد ومحبة الناس. وبالرغم من تعدد أشكال القصيدة واالبداع لديه ،إال أنها جميعا تحيل إلى توقه الدائم إلى الحرية ،وحبه الكبير للوطن الذي بات غراسه فيه شامخً ا بعالقاته الطيبة مع مثقفي الوطن ،فأنتج أشكال من اإلبداع الذي جعل منه رمزًا ثقافيًا رفيعًا ،فاحتضنه الوطن وصحافته األدبية وملتقياته ً الشعرية ،وكان شاعرنا علي الدميني االسم البارز في عالم الشعر والرواية والنقد ،حيث تعتبر د .هويدا صالح أن المتأمل لتجربة الراحل الدميني يدرك ظالل تلك المقولة التي وصفته بأنه "خرج بالقصيدة من الشكل الكالسيكي إلى الشكل الحداثي" ،حيث تعتبر أن الحداثة التي جلبها للقصيدة لم تكن على مستوى الشكل فقط.
افتتاحية
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
5
القصيدة الحديثة في المملكة العربية السعودية الكتابة ..الوجود ..المعنى
الحداثة كمفهوم عام ،هي المشاركة واإلسهام في التحوّل الكبير الذي تشهده اإلنسانية ،كما َع ّ َر َفهَا أهل االختصاص .وكون مفهوم الشعر وماهيته ما تزال محل نقاش بالمحاولة الدائمة في كسر قيود التقليد، والذوبان في كيان التجديد الذي َت َم ّ َث َل في حداثة شعرية سائلة ،جمعت بين الجودة والرداءة؛ فإنّ الملف محل للدراسة والبحث ،وكانت تطلّع لعرض بعض النماذج للشعراء السعوديين الذين كانت أصواتهم ّ الكتابة عندهم تشكّ ل الوجود الحقيقي للقصيدة الحداثية ،وكــان المعنى متجسّ دا في نص يجعلك تتوقف كثيرا أمامه. فالحداثة في األدب العربي ،ما هي إال فرع من فروع الحداثة الفكرية؛ الفكر الذي استمد أبجدياته الحداثية من الفكر الغربي بعد الثورة الفرنسية ،من خالل تمرّد رواد النهضة األوروبية آنذاك على كل المفاهيم والقيم الدينية ،بما هي قيود جاثمة على صدر الفكر والعقل! في جلسة تمعن يمكن القول إن الحداثة األدبية باختصار ،تكمن في «تذوق اإلنسان للكلمة ،وتُخلصه من األيدولوجية المقيتة ،وإخالصه للجمال المحسوس والملموس. فعلينا االعتراف أن قصيدة الحداثة الشعرية العربية ،بشكل عام ،لم تصعد إلى أبراج شعرية عاجية الهم ولم تصل إلى انفالتات الالوعي التي أسست لها النزعة السريالية ،بل بقيت -إلى حد كبير -قريبة من ِ ّ اإلنساني ،ولواعج الذات المجروحة ،وانكسارات الواقع السياسي واالجتماعي والثقافي؛ هذا الهم الذي لم يصعد بطريقة مباشرة ،بل كان يمثل النسغ الداخلي ،أو األرضية التي ينهض عليها الخطاب الشعري الحداثي ،وبخاصة في المملكة العربية السعودية التي سعى كثيرون من رواد الحداثة والتفجير الشكلي والضمني للنص أن يتمسّ كوا بروح القرابة التي بينهم وبين المتلقي. و ُيـعــدّ الــراحــل ،علي الدميني ،مــن أبــرز وجــوه شـعــراء الـحــداثــة المجددين فــي الـسـعــوديــة ،واستمرت إسهاماته األدبية حتى وفاته ،وشارك بفاعلية في تأسيس الحركة الشعرية الحديثة في السعودية ،وهي التي جعلته عنوانًا بارزًا لمشروع الحداثة؛ ليعيش بسببها غريبًا كما قال «صارت السنوات تغرد في متن الغربة» ،وهو الشاعر القائل: «ما تبقّ ى من العمر إال يسيرًا يقود يسيرًا»! تطل مع المرض وأنــت في الرابعة والسبعين من وها قد انقضى اليسير يا عليّ ،بعد معاناة لم ُ عمرك .كان الدميني شاعرًا حقيقيًا مؤسسً ا لرمز شعري مميز في السعودية. تعد النماذج المطروحة مــن خــال الملف صــورة معبّرة لحركة شعرية مهمّ ة لمجموعة كبيرة في المملكة العربية السعودية.
6
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
محور خاص
اإلنصات إلى حفريات نصوص علي الدميني ■ د .هويدا صالح*
إن المتأمل لتجربة الشاعر العربي السعودي الراحل ،علي الدميني ،يدرك ظــال تلك المقولة التي وصفته بأنه «خــرج بالقصيدة السعودية مــن الشكل الكالسيكي إلــى الشكل الـحــداثــي» ،والـحــداثــة الـتــي جلبها الدميني للقصيدة السعودية لم تكن على مستوى الشكل فقط ،إذ يُعدُّ من رواد كتابة شعر التفعيلة في سبعينيات القرن الماضي ،بل حداثة الــرؤيــة للتراث العربي الــذي استعاره جاعل منه مفجرً ا لشالالت المعاني وظاللها ً ليدخله فضاءات شعرية مغايرة؛ وحــراكـهــا ،عبر أزمـنــة ليست بــالـضــرورة «أزمـنــة بيضاء»؛ فلم يقع فــي فــخ تبجيل التراث وتقديسه ،وال في فخ السخرية من التراث ،ورفضه جملة وتفصيال؛ بل كان واعيًا أن المبدع الحقيقي ال يمكن له أن يتجرد من تاريخه الجمالي الواعي والالوعي ،ليدخل إلى الحداثة دون عمق ورؤية؛ بل وعى الدميني أين يضع قدمه ما بين التراث والحداثة! وهذا الوعي جعله يجيد اإلنصات إلى الذات الجمعية الكامنة في الالوعي منذ قرون وقرون ،وفي الوقت نفسه ينصت للذات اآلنية التي تعاني ارتباكً ا في الهوية النفسية والثقافية؛ فال هي أفــادت من تراثها ،وال هي دخلت لعصرنة عولمية تناهض اإلرث الحضاري لألمم .لــذا ،عرف الدميني أن يضع قدمه بحساسية مفرطة مكّ نته مــن الــغً ـرْف مــن آبــارٍ عميقة للتراث بغية االشتغال الجمالي في نصه الراهن: م ــرورًا بالمتنبي وأبــي تمام وغيرهم من
«سأبدأ من «غسل» معجمي الجاهلي شعراء؛ ليطرح أسئلته على العالم «فال شيء وخيمتي البدوية بالضوء ممتلئا بالحقيقة مثل السؤال». أصغي إليَّ قليال وأصغي إليكم كثيرا المعجم التراثي لم يجلبه الشاعر كحلى فال شيء ممتلئا بالحقيقة مثل السؤال» لفظية تساعده على تفجير ينابيع معانيه،
فها هو معجم الشاعر التراثي يحتاج إلى بل هي نصوص غائبة تسربت إلى الوعي قارئ يصغي إليه ،ينصت لمسيرة ارتحال الــنــصــوص الماثلة ومــقــوالتــهــا الضمنية؛ المعاني ،منذ طرفة بن العبد وامرئ القيس ،لينهض تفاعل نــصــيّ بين الــنــص الماثل
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
7
والنص الغائب؛ فالبحث في حفريات النصوص الباحثة عن مساحات الحرية والجمال والعمق التي أفاد فيها الشاعر من جملة من مستويات تدرك أن: التناص ،ســواء كان أدبيًا أم دينيًا وتاريخيًا أم «ما تبقى من العمر إال بياض الصبايا يلوح شعبيًا أم أسطوريًا يمكن القارئ من اإلحاطة للطير، بتجربة ثرية على المستويين الجمالي والداللي .أن اهبطي من عل وهــذه الــتــرددات للمعاني التراثية التي وظفها واشربي باقيات يقيني الشاعر في معظم دواويــنــه ،وبخاصة« :بياض ما تبقى سوى رعشة الثوب في بدني، األزمــنــة» تكشف عــن عمق التجربة الشعرية واختالج األعنة فوق جوادي، التي تــحــررت مــن الــمــوروث الشكلي للقصيدة وكأس حنيني». الكالسيكية ،وحــفــرت عميقًا فــي السياقات فــي قصيدة «بـــروق الــعــامــريــة» مــن «بياض الثقافية التي أنتجت تلك القصيدة؛ لتحدث تناصا أدبـ ًيــا مــع قصيدة ً تفاعل في سياقات آنية واستشرافية؛ فهو يرتحل األزمــنــة» نجده يقيم ً المنخل اليشكري ،الشاعر الجاهلي الذي أحب بالنص التراثي من الماضي للغد: المتجردة زوجة النعمان بن المنذر وكانت سببًا «لخولة أطالل ،أجوس خاللها ،ببرقة ثهمد فــي قتله ،يبدأ الدميني قصيدته بشطرة من إذا أفردتني األرض جاوزت للغد قصيدة المنخل ،ويجعلها مفتتحً ا للقصيدة ،ثم أبوح بطعم الحب أقتات موعدي بمعان ال تفارق ٍ يواصل الحديث عن محبوبته أعاتب أحبابي ،بالدي بفيئها كثيرًا ما طرحه شعراء الغزل في المحبوبة التي وأهلي وإن جاروا علي فهم يدي» (ديوان رياح كانت رمزًا أحيانًا ومحبوبة حقيقية أحيانًا أخرى، المواقع). يقول الدميني: والوعي بآليات التفاعالت النصية وموجات «ال نبع في الصحراء إال وجهها يروي عشياتي التناص إنما يدل على وعي جمالي وفكري امتلكه ويجلو راكدات البيد في قلبي، شاعر صاحب رؤيــة وتجربة وقضية؛ فالشعر وال ظل سوى أغصانها تنحل لدى علي الدميني لم يكن مجرد جرعة جمال ما بين المدار إلى المدار» للترويح عن النفس أو التعبير عن ال ــذات ،بل ثم يجعل الشطرة الثانية من بيت المنخل كان رؤية للعالم لروح شاعرة تنتقل عبر األزمنة لتُعبِّر عن أزمات الذات والعالم ،بحثًا عن بياض مفتتحً ا جديدًا لجزء من ذات القصيدة الطويلة لألزمنة ،ربما وجده في لحظات ارتحال المعنى حيث يقول: من النصوص السابقة للماثلة .الشعر كان بالنسبة «وتحب ناقتها بعيري»، إليه صرخة الحرية المتمردة ،فال يخفى على يــا تـهــامــة اطـلـقــي األع ــراف مــن كـبــد الــرمــال، الــقــارئ المتابع أن الشاعر كــان صاحب رؤيــة وسيّجيّ بالزار رقصتها «أحل لها المبيت على متحررة ،وداعمًا للحقوق اإلنسانية ،فتلك الروح حصيري
8
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
محور خاص
في القصيدة ذاتها نجد الشاعر يتناص مع النص الــمــقــدس ،فالعاشق لليلى العامرية أو للمتجردة أو للمرأة الرمز ،يسير في جنة ،لكن جنته ليست عرضها السماء واألرض كما النص المقدس ،إنها جنة عرضها عيونه ،هنا يوظف الشاعر لغة القرآن ،لكنه ال يتناص مع معانيه، إنما يتناص مع لغته فقط ،وال يوجد شاعر تقريبا لم يتناص مع لغة النصوص المقدسة الثالثة، يقول الدميني:
«يا ساريًا في جنة عرضها عيني وبعض الماء في راحتي هب لي رمادًا خاشعً ا فأنا أحييه من جمري ومن رعشتي إني وجدت الدهر في حجرها غاف فأمنني على وحشتي ٍ وحرر األمشاج من غيها حتى تساوى الخلق في حضرتي» (ص.)7 يــواصــل الــشــاعــر مــنــاداة الحبيبة الغائبة مستخدمًا ليلى العامرية التي صارت إحدى رموز العشق العربي:
« أيتها العامرية يا أخت يحيى ،لك الشدو من عتبات الحناجر حين يصير الحنين يمامً ا على الكف ،والراقصون مدائن ال تقفل الليل أبوابها ،والصباح» (ص.)8
هــنــا ،تتحول الــمــرأة إلــى رمــز عــام لضياع المعاني والحنين إلــى كل ما يمكن أن يفتقده الــشــاعــر .ومــمــا يــرشــح ،أن الــعــامــريــة هنا هي رمــز لكل أنثى حبيبة .في المقطع التالي من القصيدة نفسها ،يناجيها بأنها أخت حواء ،وأنها ترمز للخير والجمال المفتقد في الحياة ،يقول
محور خاص
علي الدميني
الدميني:
«أيتها العامرية، يا أخت حواء، رايتنا في الهجوع ورايتنا في بكاء الزمان يا نهارًا تنام الظهيرة تحت قناديله ويسيل المكان ي ــا مـهـفـهـفــة ال ـن ــار والـ ـن ــور ،وال ـع ـيــن وال ـح ــور، والطيلسان بيننا طفلة ويدان وأغان مسوّمة برقيق الحسان» ثــم تتحول الــمــرأة الــرمــز إلــى رمــز للوطن، بعضا؛ ألن المحبوبة فالميادين تفضي لبعضها ً صارت رمزية للوطن:
«أيتها الشجرية :نسعى لكي ال يضج القريبون منا 75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
9
وكي ال يفر البعيدون عنا وكي نتساوى في الخارطة أيتها العامرية إنا وجدنا الميادين تفضي إلى بعضها والشرايين تبحث عن نبضها، فرسا من دمٍ ، فمزجنا لها ً وقبابًا على الماء تنحلُّ فيها األباريق من فضة خالصة» (بياض األزمنة).
األزمنة). يواصل الدميني تفاعالته النصية ،فيتناص مع شخصية أحمد الزعتر التي كتبها محمود درويش ،ومن خاللها يستحضر الدميني القضية الفلسطينية التي استنهضت أطفال الحجارة:
«وأتيت أبحث أبحث ف السؤال عن اإلجابة لمن الطرائد في مدينتنا ،ومن غسل الكرى عن جفن أحمد ،واستهل به خطابه؟ لمن الصبا يرعى منبته ويستدني العواصف ثم يختتم القصيدة الملحمية (بروق العامرية) في رقائقها، بمناجاة الذات في تناص قرآني ،تناص مع لغة ويمنح غزة الكبرى مدائحها، النص المقدس ،إذ يقول: وللقدس البهية عرسها القاني ،وللدنيا رفيف األرض «لك ما تشتهي أيها الولد واإلنسان والوطن المحرر والكتابة؟ أنت حل بهذا البلد أنت حل بهذا البلد» (بياض األزمنة). ينهي قصيدته بأسئلة تكشف عن زاوية الرؤية
في قصيدة أخــرى بعنوان« :لــك ..كما أنت» لديه ،كيف يرى اله َّم القومي ،كيف يرى ضياع يتفاعل الدميني نصيًا مــع واقــعــة تاريخية لن فلسطين: ينساها التاريخ ،وهي «انتفاضة أطفال الحجارة»« ،أهذه الحسناء جنتنا التي أفنى الفلسطيني التي قام بها أطفال فلسطين قبل ثالثة عقود ،عترته لتبقى، هنا التناص ليس ً تناصا لغويًا وأدبيًا ،إنما تناص والفدائيون بهجتهم لترقى؟ تاريخي يوظف فيه هذه االنتفاضة ،لكي ننظر من هكذا يلقى المحب فتاته في الحبس! خالل القصيدة إلى رؤيته للقضايا العربية ،وزوايا ت ــأس ــره وي ــأس ــره ــا فـيـنـفـطــر ال ـح ــدي ــد مـســرة الرؤية التي يرى منها هذا الحدث الفيصلي في للعشق /أوطانا تغيم عمر القضية الفلسطينية: ودول ـ ــة ت ـب ـنــى ب ــأص ــداف الـ ـحـ ـج ــارة» (ب ـيــاض
«فاجأتك العواصم بالمقصلة أربكتنا الحجارة باألسئلة الجليل مثلثها، والبالد دوائرها والذي علّ من يأسه ظمأ قد رأى صبيًا يغتوي كأسه المقبلة» (بياض
10
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
األزمنة).
كــذلــك فــي قصيدة «األش ــب ــاه» يــأتــي تناص تاريخي ،إذ يوظف الشاعر حادثة مقتل عثمان ابــن عــفــان .فــي هــذه القصيدة يطرح الشاعر كل عذاباته ،وخلط الهم الخاص بالعام ،يأسى لــســنــوات ضــيــاع األم ــة مــع ســنــوات ضــيــاع ذاتــه
محور خاص
الشاعرة ،يحمل قصة مقتل عثمان دالالت هذا الضياع العام يقول:
«من سنوات أعد الحصى في الخطى وأبدل جلد الشوارع بالرمل أثقب في البحر نارا فيبتل وجهي بأشباهه القزحية.. بين كفيّ تنحل أشباهك األزلية في قميصك عثمان في بردتيك علي جمالية ،وأرسى قيمًا عميقة للجمالية الشعرية وف ـ ــي غ ـل ــس ال ـص ـب ــح م ـن ــك أم ـ ـيـ ــة» (ب ـي ــاض التي تجمع اإلنسانية وال تفرقها ،رحل بعد أن بقي األزمنة). «وحيدً ا أنا أب َد الدهرِ تك لي لغةٌ تتجرأ يومً ا على رسْ مِ قُ بل ْه وكأن الشاعر يعود بكل خيبات الذات الشاعرة ،لم ُ وَه ّم الخاص والعام إلى البدء ،المبتدأ إلى زمن وال ضحكةٌ تتراقص في خدّ طـِفْ لة. الفتنة الــكــبــرى الــتــي أضــاعــت األم ــة وشرخت وحيدً ا ،بال امرأةٍ تستبيني بأوصافها وحدتها فأُجنُّ عليها تتشظى لشوقي إليها بال فرحٍ في الوالدة َّ كما يتناص في موضع آخر من الديوان مع بال امرأةٍ الشاعر المخضرم تميم بن أُبَي: أو جزَعٍ في المماتْ . مللت الوقوفَ على طلل األمك َن ْة ُ ْش َلـ ْو أَنَّ ال َفتَى حَ جَ رٌ َمــا أ َْطـ َيــبَ ال َعي َ مللت احتفاظي بأسرارِ كمْ ُ َت ـ ْن ـ ُب ــو ال ـ ــحَ ـ ــوادِ ثُ َعـ ـ ْن ــهُ وَهْ ـ ـ ـ ـ َو َم ـ ْل ــمُ ــو ُم وسالالت أسالفكمْ والغبارْ». ِ فيقول الدميني: رح ــل مشتكيا ع ــدم اإلنــصــات إل ــى جملته «يا قلب» لو أن الفتى حجر» ألسبلت األصابع الشعرية ،هامسً ا في آذان اإلنسانية الصماء: في دمي
وأت ـيــت مختضا بـمـكـنــون ال ـح ـجــارة» (بـيــاض األزمنة).
لكنه يرحل تــار ًكــا إرثًــا مبدعً ا تنوّع ما بين الشعر والــســرد والمقاالت الثقافية والنقدية، رحل أو تحرر فقد ناهض كتابة ال موقف لها وال
«مثلما يحدث في الموت إذا غادرت للخارج ،فاضت رحمة األرشيف والذكرى وغطت صورتي! !ظل الجرائد».
* كاتبة -مصر.
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
11
التجرب ُة الشعريَّ ُة عند علي الدميني ■ محمود قنديل*
ُيقَاس نجاح المبدع عامةً بسعة ثقافته ،وعميق إدراكه ،وقدرته على توظيف َم َلكَاته الخاصة لخدمة مشروعه األدبي ،وشاعرنا الراحل العظيم «علي الدميني» نصوص لها مذاقها ٍ أدوات في هذا الصدد؛ بُغْ يَة صياغة استثمر كل ما يملكه من ٍ الخاص ،وعبيرها المُ ْختَلِ ف؛ األمر الذي منح لنتاجه الشعري القدرة على عبور جغرافية موطنه (السعودية) إلــى سائر بقاعنا العربية ،لـيــروق ذائـقــة المُ َتيَّم بحرفه المائز. فــي منتصف الــربــيــع ع ــام 1948م، استقبلت منطقة «الباحة» وليدها الجميل، طفل يانعًا، ً ليشُ بَّ فــي الــوطــن الحبيب ويالحظ أهل ُه وأترابُه حُ بَّه للقراءة ،وعشقه للتأمل ِلمَا يدور من حوله.
التجديد ،والرنو إلى الحرية والحداثة في العالم كله ،مثلما أراني في بالدنا واحدًا ممن مضوا في هذا الدرب الطويل ،الذي امتد من العواد إلى حسن القرشي وغازي القصيبي إلى محمد العلي ،وجيلي الذي أنتمي له».
وإيقاع العصر؛ لذا فقد سعى طيلة مسيرته إلى تقديم نصوص ال تشبه غيرها؛ فهو أيضا أن المبدع الحقيقي ال ينبغي أن يؤمن ً يكون امتدادًا لغيره.
وككل الشعراء الحقيقيين ،يرى عتمة الــمــشــهــد ،ودجـ ــى األيــــام الــجــاثــمــة فــوق الصدور ،ومالمح االنكسار تطل علينا من خلف النوافذ ،واألحالم التي ُو ِئدَتْ لم تجد مَن يبكي عليها ،وبهجتنا التليدة ضاعت في زحام التَّرقُّب والتَن َُّصت.
يَعبُر شاعرنا طور الطفولة إلى عتبات وألنه يعرف قدر الكلمة وتأثيرها؛ فقد مسجل خواطرَه، ً الشباب ،فيمسك بالقلم ومدوِ نًا لرؤاه ،وشيئًا فشيئًا ينضج «عليٌّ » ،كتب إهدا ًء لصديقه الناقد السعودي الكبير فيكتب القصائد ،ويرسل بها إلى الصحف «أحمد بوقري» يدعوه فيه إلــى الحفاظ والمجالت ،فتشرق الصفحات بنور كلماته .على استمرارية المعنى كنصل في األفق كــان يؤمن بحركة التطور اإلبــداعــي( ،أحمد ..مانقوله اآلن واقفين ..نرجو أن ويرى في التجديد ضرورة لمواكبة الحداثة يبقى مستمرًا كالنصل في األفق)!
وفي هذا الشأن ،يقول الدميني بكل ثقةٍ وتــواضـ ٍـع« :إذا أتينا إلى حقل الشعر تحديدًا ،فإنني أع ّد نفسي غُصنًا في شجرة
12
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
يقول علي الدميني« :يمكن لي أن افتح
محور خاص
الشباك اآلن على سنوات العمر ،ولكن يلزمني والجغرافيا على اآلتي القريب (المستقبل). فغطى الناس؟ الكثير من الوقت ،والكثير من العباءات السوداء طرفة هل أتى جَ ر ٌَب ّ ألقيم الــحــداد عليها .أمــا اذا اضــطــررت إلى أم رحمتك صحراء البالد بدفئها في البرد؟ اإلنصاف فأستدرك بالقول إنها لم تكن خاوية إن الــدهــر غاشية ،ووج ــهُ الـشــارع الخلفيّ ال إلــى ذلــك الــحــد ،ولكنها كانت مــأى بأجنحة يشفيك من د َِرن التفرّدِ والبداو ْة األحالم المنكسرة والمتع المجهضة والحكايات هذا نها ٌر أنت ترمقه ،وهذي حارة في األرض. الكبرى المتكئة على كراسي ال مقاعد لها؟». ويــعــيــش حــالــة مــن الــتــعــاطــف مــع «طــرفــة» إنه بكلماته هذه يرسم اللوحة كما هي ممهورة وكأنهما واحـــدًا ،ال يمكن ألحدهما أن يحيا بإخفاقات يبصرها مُدوية ،لعل هناك من يصغي بمعزل عن اآلخر ،فثمَّة ترابط إذًا مع الجذور: ٍ إليه وينصت له ،ويعمل على محو بُقع السَّ واد من وذي الصحراء أجمع طيرها في القلب التحف السماء وأشرب األيام كل مساحات المشهد.
أعصر منحنى األوجاع وفي أشهر قصائده (الخبت) يتخذ من بادية تفردني الصحراء مسرحً ا لرؤاه ،فيقول: فأعشقها أنشدت للرعيان ثوب قصيدةٍ في البر وتلمسني عاقرني الفؤاد على النوى فأقربها وتنحسر العداوة وتباعدت نوق المدينةِ عن شياهي لخولة أطاللٌ ،أجوس زواياها ،ببرقة ثهمد آخيت تشرابي األمور بنخلة إذا افردتني األرض جاوزت للغد وغرست في الصحراء زهو مناخي أبوح بطعم الحب أقتات موعدي.
ويبدو شاعرنا محتفيًا بالمكان متيمًا به، وبرغم قسوة الواقع وفظاظته ،إال إنه ال يكمن ً ومحتفل بجذوره العربية األصيلة ،ووفيًا لتراثه عدا ًء ألحد ،وال يضمر كراهية لوطن ،فما يزال رابضا يقيه من قيظ التشظي: ظل ً وحضارته ،لذا نراه يستدعي إلى أجواء قصيدته في بالده ً «طرفة بن العبد» (الشاعر العربي /الجاهلي أع ـ ــات ـ ــب أح ـ ـبـ ــابـ ــي ،بـ ـ ـ ــادي ب ـف ـي ـئ ـهــا المعروف) ،ويذكر حبيبته (خولة):
ألق إليّ أدوية البعير فإنني يا ابنَ العبد ِ
وأهـ ـل ــي وان جـ ـ ــاروا ع ـل ــيّ ف ـهــم يــدي
وتتواصل روائــع شاعرنا مستعينًا بعد اهلل سأنسقُ األورا َم بمفردات بيئتنا العربية القديمة ،وأخرى صوفية؛ أستلُ الجراح من التفرد والزهادة محاوالت ناجحة ،رغب ًة في المزج بين ما هو ٍ في وأض ـ ــمّ هـ ــودج خــولــة ال ـقــاســي ،أز ّي ـ ــن وحـشــة َاصر: أصيل وما هو ُمع ِ
الممشى قم من الليل ،يا البس الخيل كيما ترى عقد بِ ٍ أفقً ا أو قالدهْ. ناسكً ا ونهارًا طهورا هــو يــشــاهــد فــي الــمــاضــي عــاقــة وثيقة إن قلبي ينوس وحيدً ا وقد فارقته البواكير مــع الحاضر واآلن ــي ،ومــدى مــؤثــرات التاريخ واستخلفته
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
13
ورأيت الذي لم ير األولون وال علم اآلخرون إذ سقيت بــوادي القرى شربةً مست العظم حتى اكتوى واغتوى القلب من غيه ما اغتوى. أما قصيدة «صالة الغائب» فتعلو فيها نبرة التشاؤم والوجع ،بفعل واقع فرض نفسه علينا، ولم نفرضه نحن على ذواتنا ،ويُطَ وُّع «الدميني» ونبض حي ،ليخاطب البالد ٍ بحس فني الرمز ٍ في صــورة إمــرأة /حبيبة ،تربص بها األعــداء، مقتل ً فنالوا منها ومن قداستها؛ ليُ َمثِّل هذا واستشهادًا ،لذا فقد دعا إقامة صالة الغائب:
السالم عليها كأن الجنازات خنجرها ،وكأنا نسير إلى وحشة من دمانا، فمن دلَّ إبرهة الحبشي على باب «بكة»، من قاد أفياله في الصخور، وأدخل «أجناده» في البالد سوانا؟ ....................... األساطير وهو مقتلنا الئذا» بالمعاني، ينزف ماء الزمان على الساعة الجامد ْة فلتصل علينا صالة الغياب ،وإني واحدة أؤم الجماعة تعب العشيّات حتى شربنا كانت السنوات ّ مرتعشا ً على ظمأٍ . في وفي قصيدة الهودج ،يبدو احتفاؤه بمَجمَع مكاني.
الــصــحــراء ،وذلــك مــن خــال الــعــنــوان وسطور النص ،كما تبدو عالقته الطيبة جلية بثقافته اإلسالمية ،فقد استعان بمفردات تؤكد ذلك األمــر ،ليفتح أفضية الشعر كي يقول لعشاق حرفه ومتابعيه ودارس ــي إبــداعــه :إن مساحة الشعر تتسع لكل المُحَ ِّصالت الثقافية ،وإن العِ بْرة في كل األحوال تتبدى في مقدرة الشاعر على كيفية توظيف أدواته لخدمة النصوص.
وقصيدة «صورة جانبية» تظهر فيها الصور وانزياحات تهدف أول ما تهدف ٍ الفنية عبر رموز إلى تأجيج اللحظة الشعرية:
أذكر يوم قادتني لغرب النهرِ رصاصها َديْني، ُ وكان النسيان ِ سكنت في ُ وحين ضاع طريقها مني ،وغرّبني زماني، فاشهدوا أنني ظمأي أنا ،وحصانُ هودجها حصاني، قد تحملت من وجد عشاقها ما تنوء به الذاريات! ها إنني أصفو؛
14
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
محور خاص
فأخرجها من التابوت، ُ جرسا من الساعات!ِ نبضها ً أنحت َ ويؤنسن شاعرنا (الــزمــان) بعبقرية فنية، ليقيم ثنائية معه؛ فها هو الزمان يطيعه تارة، ويتمرد عليه تارة أخرى ،وها هو يسخر منه مرةً، ويشاركه في كل مفردات حياته طيلة الوقت:
الزمان الذي كان لي خاشعً ا كان يضحك مثلي، ويمشي ورائي، والزمان الذي صرته راكعً ا يتقدّ مني في الزيارات، يلبس ثوبي، ويشرب كوبي، وحين يرى أصدقائي، يقبّلهم واحدً ا واحدً ا، ثم يلعنهم واحدً ا واحدً ا، ثم يبكي بكائي!
علي الدميني
وكلها تنم عن شاعر مائز ،اختار لنفسه منذ سبيل مخت ِلفًا ،ومع َّبدًا ً بداياته وحتى رحيله لــرؤاه الفنية ،لم يسع إلى تقليد أحـ ٍـد ،وال إلى التوكؤ على أفكار غيره.
هو في حقيقة األمر أراد أن يقدم شاعريته إلى الذائقة العربية بطرائق تروق القارئ في مفردات ٍ طويل أمام ً وكما حضر «طرفة بن العبد» في نصوص كل بقاعنا ،ليقف المتلقي أيضا «ابن حزم» ،وهو حضور اختارها بكل دقــةٍ وذك ــاء ،ولغةٍ تمثل عربيتنا شاعرنا؛ حَ َض َر ً يؤكد على ارتباط الجذور العربية باإلسالمية الراقية. فــي األنــدلــس والتمسك بــهــا ،كما يــؤكــد على شق مبدعنا سيرته ومسيرته األدبية وسط تواصل حلقات التاريخ العربي /اإلسالمي بغير ظروف غائمة ،ومشاهد يغلفها الضباب ،وتخوم انفصام: تخفي وراءها المجهول.
كان « ابن حزم « يظلني بقميصه و رياحه، و ذهابه ِ في العشق متكئًا على ما تصنع األوصاف.
ورغــم ذلــك ،لــم يَـ ِـحــد أح ـ ٌد مــن عــزمــه ،ولم شخص على حسر المد اإلبداعي لديه، ٌ يسْ ِطع نابضا ،وحرفه مشرقًا. فقد ظل قلمه ً
والدارس لشعر «علي الدميني» يتبين للوهلة األولــى تفرُّد عناوين دواويــنــه (ريــاح المواقع، بياض األزمنة ،بأجنحتها تدق أجراس النافذة، خــرز الــوقــت ،إشــراقــات رعوية لجسد الماء)،
وستظل سماء ثقافتنا العربية تنير بكواكب شعره الجميل ،وسيظل اســم الــراحــل العظيم «علي الدميني» في الذاكرة ما بقيت الحياة على كوكبنا األرضي.
*
كاتب -مصر.
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
15
ُ العاشق للوطن الكوكب علي الدميني .. ُ الذي مضى لفضاءات الحريَّة ■ د .سميرة الكناني الزهراني*
ـس ألجــوبـتــي المعلّقة فــي هــذا ال ــوُ ُج ــودِ إجــابــة ت ــوازي الحَ قيقةٌ المُ ْطلقة َل ـ ْيـ َ لل َموْت.. والشمْ ُس َيتْبعها القَمر؛ والحيا ُة َنعَم إنَّها طَ بيعةُ الحياة؛ فالنها ُر يَعْ قبه ال َّليْلُ َّ ، ورأس كلِّ ذلك حَ يا ٌة حرٌّ و َبرْد ،حَ ر ٌْب وسَ الم ،سَ ائِ لٌ وبُخارِ ،ص َّحةٌ و َمرَضِ ،غنَى وفَقْ ر؛ ُ و َموْت. وإني ألستعير من عبارة الدميني «ما تبقّ ى من العمر إال يسيرً ا يقود يسيرً ا» لب ِمنْ هذه الحَ ياة أن لمقاربةُ فِ كْ رَة ال َموْت ،واستحالَة استِ مْ رار الحَ يَاة ،فمن ي َْط ْ السرَاب: يطلب الما َء من َّ ْ تَدو َم كمَنْ
غ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ــرُ مُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْـج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍـد ف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي ِمـ ـ ـ ـ ـ ِّلـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ــي واعْ ـ ـ ـ ـ ــتِ ـ ـ ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـ ــادي ـاك وال َتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرنُّ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم ش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــادِ ي َن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوْحُ ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ وشَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ ــهٌ َص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو ُْت ال ـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ـ ــيِّ إذا قِ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـوت الـ ـ ـ ـ ـ َب ـ ـ ـ ـ ْـشـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ــر ف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي كـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــلّ نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــادِ ي س ب ـ ـ ـ ـ ـ ـصـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ َ ـاح هَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذي قُ ـ ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ـ ــو ُرنـ ـ ـ ـ ــا َتـ ـ ـ ـ ــمْ ـ ـ ـ ـ ــأ الـ ـ ـ ـ ـ ــرُ ْحـ ـ ـ ـ ـ ــبَ َص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ فـ ـ ـ ـ ـ ـ ــأيـ ـ ـ ـ ـ ـ ــنَ الـ ـ ـ ـ ـ ـ ــقُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُبـ ـ ـ ـ ـ ـ ــور م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن عَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــهْ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــادِ خَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــفِّ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْـف الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو َْط َء م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا أظ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّـن أَدِ يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َم ()١ ألرْض إ َّال ِم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــنْ ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذه األ َْج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــادِ ا َ فــبــوفــاة الــدمــيــنــي تــفــقــد القصيدة
وليس الــعــزاء إال ألنفسنا ..أنفسنا
الحداثية فــي العالم العربي ،والخليج المسلمة بقضاء اهلل ،لكن قــدرنــا أن بشكل خاص -واحدًا من روادها الكبار نستعين بالكلمات على مقاومة الشعورالــذيــن أســهــمــوا فــي تــطــويــر الــخــطــاب بــالــاجــدوى مــن كــل ش ــيءٍ ،سيصل إلى الشعري وأتاحوا لنمط جديد من الكتابة نهايته المحتومة دائمًا؛ وإن أدركْنا أنَّ أن يكون(.)٢
16
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
َدم مَحْ ض ،وال فَناء ِصرْف. الموتَ ليس بع ٍ
محور خاص
انطلقت روح الدميني مِ ــن أَسْ ــرِ هــا لتَف َد رضها السَّ مَواتُ إلى ربٍّ كَريم ،يَجو ُد بجن ٍَّة عَ ُ واألَرْض ،اللهم ممن قلت فيهم ﴿وسيق الذين ات ـقــوا رب ـهــم زمـ ــرً ا حـتــى إذا ج ــاءوه ــا وفتحت أبوابها وقــال لهم خزنتها ســامٌ عليكم طبتم فادخلوها خالدين﴾ الزمر.73 : ويستحيل حصر رحلة الدميني واكتشافها فــي ســويــعــات ،واخــتــزال هــذا الــتــاريــخ وهــذه التجربة في بضع وريقات ،فعلى الرغم من اختالف محطاتها الشاقّة في نهاياتها ،غمس علي الدميني قامته في عبق التاريخ ،وخرج جمر منه إلــى صخب الحاضر ،قــافـزًا على ٍ مستعر تحت رماد أبيض. ٍ
ذلك الحد ،ولكنها كانت مآلى بأجنحة األحالم المنكسرة ،والمتع المجهضة ،والحكايات الكبرى المتكئة على كراسي ال مقاعد لها»، وربما لهذا رفض أن تكون رحلته منتهية بأي خيار.
شاء اهلل لعلي الدميني أال يرحل إال بعد في عالم الدميني الشعري كانت ولسنوات ترك أثره الكبير الذي يُرى وال يزول ،كعادته عديدة قصيدة التفعيلة معركته األولــى مع مفصل من مفاصل حياته. ٍ عند كل سجال وكتابة ،حتى كادت ً البنية المحافظة؛ ولم تش ّذ حياة علي الدميني عمن ارتادوا أن تغدو قضية التزام وتحزّب. درب النضال الوطني والحقوقي ،ومسارات كان للدميني دوره المهم في إقامة الجسور النص الجديد ،وهموم الكتابة بك ّل خياراتها التثاقفية مع مستجدات اإلب ــداع ،ومــدارس المنحازة للتجريب والتجديد. النقد األدبي بين الداخل والخارج ،إذ فتحت ولم يكن شاهد أدل وأصدق من خط يمينه الــصــفــحــات األدب ــي ــة فــي الــصــحــف أبــوابــهــا في كتابه الخالد «زمن للسجن ..أزمنة للحرية» لفاعلية تأثيره العميق الــذي نعده تأسيسً ا ما يروي تفاصيل رحلته الشاقّة بين السجن لحياتنا الثقافية المعاصرة ،وللوفاء ..فإن والحرية وتسنّمه أفقها ،فــأراد البقاء حـ ّرًا الدميني سافر رمـزًا في الثقافة من المكان دائمًا ،حتى خارج أسوار القصيدة. ليكون عضوًا في إدارة النادي األدبي بالرياض، *** عــنــوا ًنــا واس ـ ًمــا لملحق (الــمــربــد) الثقافي، لم تكن سنوات ُعمْر الدميني وحياته إال ومؤسسً ا لمجلة (النص الجديد) الشهيرة.
كما استدركها في قوله «إنها لم تكن خاوية إلى
محور خاص
وقــد ط ـوّف الدميني في سياقات الشعر 75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
17
العربي الحديث كــلــه ،فهو كثير التجريب، متعدد الطرائق التعبيرية ،منفتح في قصائده
التركيبية على األص ــوات المختلفة (الشعر الشعبي ،مقاطع عمودية ،مقاطع نثرية ،تعابير انتقال متمكنًا بين البحور ،غنائية ً يومية) شفافة وقدرة على هضم األفكار والشعارات
والمصطلحات السياسية وجعلها عناصر منسجمة مع شعرية الــنــص( ،)٣وما أدل على ذلك من رائعته «الخبت»:
فمسها، «ال تقرب األشجار ،غافلني الفؤاد ّ وهبطت، من عالي شيوخ قبيلتي أرعى جراحي.. هذا بياض الخبت ،أهمزُ مهرتي للبحر أرسنها إلى قلبي ،فتجتاز المسافة يعقد حــوارًا معها ،وأن يصغي إلى األصوات التي تتقاطع داخلها ،وأن يستحضر النصوص حجرٌ على رمل المسيرة ،هودجٌ ِ ،حملٌ ، التي استدعتها والرموز التي وظفتها(.)٤ وأغصانٌ من الرمان ،هل تقفز؟» ب ــدت قــصــيــدة الــدمــيــنــي لــلــوهــلــة األول ــى
مستعصية عــلــى األف ــه ــام ،ال تستسلم إلــى
قارئها بيسر وسماحة ،ألنها من القصائد التي تقتضي من القارئ التخلي عن الفهم التقليدي
للشعر ،كما تقتضي منه أن يبذل جهدًا تأويليًا
اكــتــشــف عــلــي الــدمــيــنــي عــالــمــه فتأمله ليفهمه ..فإذا به يحبه؛ اكتشف ثراء التجربة اإلنسانية ،وأدرك الشعور ،وفهمه للمكان طاقة إبداعية شديدة التدفق ،وحالة شعرية شديدة التفرد ،فبلغ بعض مأمله.
كبيرًا حتى يستوعب رموزها ،ويُدرك غامض رحمه اهلل رحمة واسعة ..ال تكفيه سطور أقنعتها ،وبسبب هذا ،وجب على القارئ أن وقد كان عالَما بمفرده. * كاتبة سعودية. ( )1شرح سقط الزند ألبي العالء المعري ،تحقيق :مصطفى السقاف وعبدالسالم هرون وآخرون ،إشراف طه حسين ،مركز تحقيق التراث ،الطبعة الثانية ،الهيئة المصرية للكتاب1406 ،هـ ،ص.971 ( )2محمد الغزي ،علي الدميني اجترح لغة جديدة ووسع أفق الحياة بالشعر ،مقال منشور ،اندبندت عريبة، 2022م. ( )٣علي الدميني ،لست وصيًا على أحد ،التحوالت الشعرية ،جهة الشعر ،مقال منشور ،بتصرف. ( )٤محمد الغزي ،مرجع سابق.
18
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
محور خاص
ُ تأويل ما لم ي ُ ْ كتب للشاعر أحمد قرّان الزهراني وص ُ ثمة نهاية للشعر.. دق المعنى ..ليس ّ رو ُح الحداثة ِ ■ د .هناء بنت علي البواب*
اكتب كما لم تستطع من قبْلُ ، ْ الكلمات، ِ تترك حديثً ا عاب َر ْ ال الحروف فوارقَ المعنى، ِ دعْ بين وع ّز ْز من حضورِ َك في الكتابة. الـشــاعــر ال ـس ـعــودي ،أحـمــد قـ ـرّان الــزهــرانــي ،مــن الــذيــن فـهـمــوا الــدافــع الـفـنــي لـضــرورة التحديث وأسسوا له ،وتبنوا انطالقته الحداثوية ،فهو ابن اللغة وصانع مفرداته الخاصة التي استخدم حروفها من العربية فقط ،ولم يرتكز على غيره ،بل كان صاحب فكرة في تعميق المضمون وتفعيل محتواه ،بحيث ال يتناقض أو يتعاكس مع المضمون القومي واإلنساني للقصيدة العربية .يدوّن لنا خبرته الكتابية في نصه « تأويل ما لم يكتب» ،والذي يرتكز فيه على لعبة التشكيل الصادم للمتلقي:
التنصيص، ِ قالت :تركتُ ك تستبينُ عالم َة المعجم الحرفيِّ ؟ ِ أين مكانُها في تقص ِد النجوى، ال تستخدم التأويلَ دون ُّ القول، ِ وخلِّ الساع َة األولى لمن يهوى افتعالَ رت ّْب ما تراه مناسبا في صفحةِ األسماءِ ، أي كتابةٍ ال تحملُ السلوى فليس لر َْس ِمها الوقعُ المؤثرُ في الخريطةْ. ُّ حين تم ّر بنصوص الزهراني تتذكّر اتخذ الزهراني الشكل الشعري ساحة رحبة لإلبداع ،فنجح أيما نجاح في تجديد إشكالية المتلقي ،والتي ظهرت حين عاتب الشكل والمضمون معًا ،ويكفي لنستدل أحدهم قديمًا الشاعر أبو تمام قائال: لماذا تقول ما ال يفهم؟ عــلــى مــا نــذهــب إلــيــه مــن رأي أن نقرأ
تجربته الكاملة ،إلى أن نصل إلى آخر ما فأجابه أبو تمام :ولماذا ال تفهم أنت ما يُقال؟! يكتبه دون تأويل.
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
19
الحديث، ِ وجهتَ بوصل َة ال تبالي أينما ّ الفعل يختصرُ المساف َة عنوةً، ِ بعض َ لعلَّ قالت :تنبّه حينما تكتب، فثمَّ الحزنُ يسكنُ فيك، ال تعب ْر إلى أقصى القصيدة! لنتأمل قليال بعض نصوص الزهراني ،ثم
نستذكر أن بودلير أستاذ الحداثيين في كل مكان ،وعميد الرمزية بعد إدغار ،ويعد هو
الخطوة األولى للحداثة من الناحية األدبية على األقــل ،وهو الذي نادى بالفوضى في ـس والــفــكــر واألخــــاق؛ وه ــذا مــا كان الــحـ ِّ
يتناسب مع طبيعة القيم السائدة في الفكر
ف ــاالرت ــق ــاء بــالــمــتــلــقــي إلـ ــى مــاهــيــة الغربي ،ومخرجات الثورة الفكرية في ذلك
النصوص األدبية وبخاصة الشعرية منها ،الــوقــت ،بعيدًا عن قداسة الكنيسة ،وهو
وتطوير ذائقته ،ليس بالسهولة المعروفة؛ العبثي في حياته األدبية خاصة ،نجد جزءًا بل يكون بإحداث ثورة فكرية ،وبناء وعي من تلك الفوضى الحسية تتخلّق لدى القارئ سليم مــن خــال خلق فــضــاءات فكرية بعد انتهائه من كل نص من نصوص الشاعر. عديدة ومتجددة ،تلك اللغة المصقولة ثم نجد إدغار يقول: الــتــي يستخدمها الــزهــرانــي تــعــد نــوعً ــا
ما مخففة من نافل الــقــول ..فهو يتميز بالبساطة وليس بالتعقيد؛ ألن البساطة
«على األدب أن يكون كاشفً ا للجمال».
هــنــا نــتــفــق مــعــه ونــتــبــنــى ذلـ ــك ،ولكن
في الشعر أصعب من التعقيد؛ فمن السهل أن يقول« :وأن يكون ال عالقة له بالحق أن يكون الشاعر معقدًا في عباراته ،لكن واألخ ــاق»!؟ هنا نطرح عالمة االستفهام من الصعب أن يكون بسيطً ا.
والتعجب؛ التفسير الوحيد لهذا تجده في
رجل مفلسً ا سلوكيًا ً مخفي تتبع سيرته ،فقد كان ٌّ الحب ِّ قالت :يُ ِعيبُك أنَّ صــوتَ واجتماعيًا ،وانعكس ذلك على فكره وأدبه عن األضواءِ ، بشهادة المؤرخين. لم تعمدْ على إشهارهِ ،
نفسك، ِ مكنون ِ تستنكف اإلفصا َح عن ُ وكأنّما
20
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
لــذلــك ،تــرتــســم نــصــوص الــزهــرانــي
محور خاص
ضمن الجزء األول من مقولته ،فنصوص تــدرك أنه يتيح للمُتلقي أن يقوم بإعادة الزهراني تمثّل األدب الكاشف للجمال إنتاج دالالت جديدة للنص؛ وهذا ال يأتي ولــإحــســاس الــمــرتــفــع ،وهـــو الــشــاعــر للقصيدة لمجرد أنها حداثية وحسب؛ بل
الحداثي الــذي يعيد ترسيم الــواقــع من من اللغة الشاعرية التي يحرص عليها خالل عينيه اللتين تصوّران واقعه تصويرًا الــشــاعــر ،كــواحــدة مــن تقنيات إبــداعــه
مغايرًا مضيفًا وخالقًا؛ وفى الوقت نفسه قبل أن تكون واحــدة من عناصر الطرح يحمل في قناعاته جرأة رحّ الة مغامر؛ بل الحداثي ذاته ،لذلك هو يخلق باللغة نصه؛ ويمكن القول :إنّه متهور أحيانًا! فمن أجمل ثوابت هذه التجربة الشعرية لدى الشاعر الزهراني ..أن تجربته برمتها ثورة واثقة للتغيير؛ والغريب فيها أنك ال تستطيع أن تلحظ فيها أنها تجربة طافت ولو على استحياء على أي تجربة شعرية، ظل لشاعر آخر ،إنه يمتلك ولم يكن يومًا ّ صوتا متف ّردًا في األداء.
موغل في الحزن: ٍ قالت بلهجةِ ْ تنس التفاصيلَ الصغير َة في الحوارِ ، ال ْ عينيك لن تنساه إال َ فكلُّ وجــهٍ مرَّ في برهةً ، َك في الغوايةِ ، فاكتب شبيه َ ْ سجن خفيٍّ ، ٍ سير َة الشعراءِ في عن روائيين في المنفى، اللغوي، ّ التغريب من مفهومهِ ِ عن يكترث بالبردِ ، ْ بائع لم ٍ رحلةِ عن أنثى تساو ُر وقتَها المحمومَ، عن شغف الحكاية.
بل هو في حقيقة األمر يعيد الخلق ذاته
للكلمة ،ويسبح بها لمناطق بالضرورة هي غير مأهولة ،يعيد ترسيم وظيفة جديدة للمألوف والمعتاد منها .هنا ،تعرف فقط أنك أمام صوت شعري متمرد ،ومتمرس على خلق الــروح الجديدة للنص ،وربما هــذا الــذي يُفسر سـ ّر الثراء الالمحدود لنصوص الــزهــرانــي؛ إذ تظل اللغة على الــدوام وأدوات الشاعر الفاعلة ومضات مضيئة لتفسيرات آنية ومُستقبلية للنص الشعري ،تتوالد لدى المُتلقي مع تناوب القراءة على النص. ولذلك ،ال بد أن نعترف أن الزهراني ربما كان ممن يؤمنون بأن الشعر العربي الحديث وجد ضالته ،بعد إرهاصات مبكرة شهدها النصف األول من القرن العشرين فــي قصيدة «الــشــعــر الــحــر» ،أو قصيدة التفعيلة ،على أيدي رواد الحداثة الشعرية، وربما وجد هذا الشعر فرصته األكبر في تنميطات القصيدة الستينية وتجاربها
وأنــت تقرأ أي جــزء من أجــزاء نصه ،وكشوفاتها ،سواء في إطار قصيدة التفعيلة،
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
21
أم «قصيدة النثر» ،أم في القصيدة المدوّرة ،عن حمّ ى الغواية.
وقصيدة النص المفتوح ،وقصيدة البنيات
المجاورة -بتعبير كمال أبــو ديــب -حيث االنفتاح األجناسي على أنــواع وأصناف موضوعية وغير غنائية ،وهي كلها كانت
تمثل هاجسً ا أو نــزوعً ــا لتحقيق لــون من التجريب الذي يفضي إلى بنيات وأنساق
الواضح بجالء في بنائية القصيدة عنده هو أن يظل المُهمش ،واليومي والتفاصيل البسيطة والــعــاديــة ج ــزءًا ال يتجزأ من عناصر بنيتها. إنّ أوجــز مــا يمكن قوله فــي نصوص
وألــوان وتقنيات شعرية متجددة؛ إذ تبدأ الزهراني هو ولوعه بالتفاصيل ،والتي فعل في رحلة الكلمات مع الزهراني وهو يواصل بنا قد تبدو بسيطة ..ولكنها مؤثرة ً
تأويل كل ما لم يكتبه:
خدمة القصيدة.
ِ أكتب سوى ابتدأت ولم ْ ْ الرحلةُ تكتب، ْ سطرين قالت :تركتُ َك حين لم نص الروايةِ ، من ِّ فهي طقسَ ك الروحيّ ، الرفاق المحبطين، ِ بعض أسماءِ ِ أحالمك الكبرى، َ شف من خذْ ما َّ العنوان، ِ الترقيم في ِ عالمةِ ـك دون أن تُلقي وداعً ــا ـرك مـكــا َنـ َ وال تـتـ ْ العامل النفسي، ِ قانون حقّ ِ تعديل على ٍ ـدي ه ــزي ـ ٍـل ال ي ـع ــي م ــا ال ـل ـغ ــزُ فــي الئقً ا بكتابةٍ أخرى جـ ـن ـ ٍّ منعطف النهاية. ِ تزُ فُ َّك نحو اإلعالن، ِ سجالت الشكاوى، ِ أكتب ْ لم لذلك ،ال بد من االعتراف بأن الشعر درس النحوِ ، غادرت َ ُ ذكرياتي حينما رؤيــا وموقف من العالم ،وسلوك شعري ل ــم أكـ ـت ـ ْـب سـ ــوى م ــا ل ــم ت ـق ـ ْل ــهُ َ ص ــبِ ـ ّي ــةُ قبل أن يكون تقنية أو نزعة أسلوبية، المقهى، وهذا يتمثل فيما عبر عنه إليوت بمقولة قديم دون أن يُ لقي ٍ سوق غريب م ّ َر من ٍ ٍ «الهروب من الذات» ،فبعد أن ظ ّل الشعر، سالمً ا عابرً ا، وبــخــاصــة خ ــال الــمــرحــلــة الرومانسية بالحكْ ِم، قاض تلعث َم ناطقً ا ُ ٍ ملتصقًا بالذات ،بدأ يهرب منها ويتجه أكتب نبوءاتي الهزيلةَ، ْ لم إلى لون من الشعر الموضوعي. تمثال بوذا، ِ للبحث عن ِ رحلتي عن قواميس المرُ سكيين، لذلك ليس ثمة من نهاية للشعر. * كاتبة -األردن.
22
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
محور خاص
الشاعر السعودي علي الحازمي رثاء للوجو ِد ومعنا ُه ٌ ■ محمد العامري*
ينتظم األدب السعودي في سياقات ال تختلف كثيرً ا عن هواجس كتّاب العالم العربي، بل تتجاوزه ربما بأكثر من ذلك بكون السعودية قِ بلة المسلمين ،وهذا يتطلب التزامات من شكل خاص يتماشى مع الكتاب والسنة؛ لكن الكاتب السعودي يحمل في أنفاسه هواجس العالم من تأثر وتأثير ،ويعود الشعر في تلك المنطقة إلى عصر ما قبل اإلسالم وما تركوه واندهاشا. ً لنا من تحف شعرية ما نزال نرددها إعجابًا فالمملكة العربية السعودية ،تركز على مرجعيات بعيدة وعميقة فيما يخص الشعر بكون الشعر «الجاهلي» ينتمي إليها زمانيًا ومكانيًا ،بذلك نرى على تراكم الفعل الشعري بامتداداته وتجلياته اإلنسانية ،إذ يعد شعر ما قبل اإلسالم من أزهى العصور في مراحل أدب الجزيرة العربية. ومـ ــع ظــهــور بـــــوادر قــصــيــدة الــنــثــر في الثمانينيات من القرن الفائت ،والتي أحدثت خلخلة فــي مفاهيم الشعر الــذي قــام على الغنائية المفرطة ،القصيدة الطربية التي ـوصــا تتمثل الــســرد الــشــعــري، واجــهــت نــصـ ً والقفز إلى مفاهيم المعاني والرسائل التي تريد إيصالها للقارئ ،بذلك أعفيت القصيدة الحداثوية من مفاهيم الذم والمديح وانتصرت لهموم اإلنسان. واجهت القصيدة النثرية مواقف ليست بالسهلة من قبل النقاد ،فقد وضعت في الظل نقديًا؛ ما أدى بشكل غير مباشر إلى تعطيلها مشهديًا؛ لكنها كانت تفور في هواجس كتّابها، بل تكاد تكون قد حُ ذِ فت من النقد األكاديمي، كما لو أنها أيدولوجيًا مناكفة لما هو موجود من غنائية شعرية طاغية.
محور خاص
فبدت بوادر الشعر السعودي الجديد إذا تحول باتجاه كسر عمود الشعر ً جازت التسمية أحيانًا ،وأحايين أخــرى إدخــال السرد إلى القصيدة ،أمثال محمد الثبيتي ،ومحمد جبر الحربي ،وعلي الدميني ،وسعد الحميدين، وفوزية أبو خالد ،وخديجة العمري ،وعبداهلل الصيخان ،كما لو أنهم فتحوا الطريق لجيل كان متحفزًا للولوج إلى تجريبية تمتلك حرية عالية في طرح قضايا الكون ،جيل قصيدة النثر أمثال أحمد المال ،وإبراهيم الحسين، وغسان الخنيزي ،ومحمد الدميني ،وعلي العمري ،وحمد الفقيه ،وأحمد كتوعة ،وعلي الحازمي وغيرهم ،وظهرت محاوالت مهمة الختبار قصيدة النثر من قبل عبداهلل سفر أسهمت في إشاعة القصيدة وامتداداتها في األجيال الالحقة ،وانطوت تلك الكتابات على 75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
23
دهشة االنطباع والتفسير في سياق تأويلي أقرب إلى الذاتوية. ل ــم يــكــن خـ ــوض ال ــح ــداث ــة س ــه ــا ،في الهواجس األولى ،بل محاطً ا في نسق ثقافي يتحرك ضمن رعاية األشكال المتكلسة لشكل القصيدة العربية عامة ،والسعودية بخاصة؛ فــالــشــاعــر عــلــي الــحــازمــي ،أصـــدر دواويـــن شعرية بلغات مختلفة ،من أبرزها اإلسبانية، والفرنسية ،واإلنجليزية ،والرومانية ،والتركية، والصربية ،وفاز بجائزة أفضل شاعر دولي عام 2018م. ففي قصيدته «تُلقي بحزنكَ صخر ًة في الماء» عتبة لقراءة هذا الشاعر الذي يجعل من حزنه دوائــر متوالدة بال نهايات ،فحين يلقي بصخرة حزنه في الماء سيكون الحزن أكبر من وجوده ليتموضع في الذات الجمعية ممثلة بذات الشاعر الذي يتقاطع مع العالم وبؤسه. يقول:
النبع ِ في األَربعينَ هناك قربَ يأخذُ كَ الحنينُ إلى ِظباءٍ ُ
24
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
علي الحازمي
لم تَعدْ تُصغِ ي لشدوِ كَ كلما آنستَ الكلمات ِ ُخطوتَها وغر َد طائرُ وحيد بالفؤاد، ٍ صن من غُ ٍ ُتل ِْقي بحزنِ َك صخر ًة في الماءِ تُبصرُ بد َر وجهِ َك قد تَشَ َّظى أوجاعهَا ِ جحيم اللحظةِ الثكلى ومن ِ من فهو يتمثل فلول الزمن ،إذ تقضم األربعين حلمه األرعــن ،ليدخل في حالة التفكر بما جاء به العمر من مواقف تتكرر في المنطق الوجودي للشاعر ،كما لو أنه يتلبس المعنى لــوجــوده ،ويتوهمك بالقفز على سحابة ،فهو يبحث عــن قصيدة إنسانية تتوافق ووجـــوده المليء بالتناقضات الحياتية؛ فهي جملة شعرية خارجة من تأوهات األلم، وسـ ــؤال ال ــوج ــود ،وعــنــاه البعيد، متجاوزة حــدود وسيطها اللغوي، باحثًا بذلك عــن منطقة تنسجم مع الذات المعاصرة بكونه محاطً ا
محور خاص
بموروث قوي من الشعرية الطربية؛ فــســؤالــه مــتــجــاوزًا للشكل الشعري ونازحً ا نحو تعبيرية قوية تحك األشياء حتى الجص .ويسعى الشاعر من خالل هذا النص الكشف عــن أزم ــان مختلفة تتصاعد نحو النهايات المفزعة في الوجود ،وهذا األمــر هو من منجزات ما تحتمله القصيدة الــجــديــدة لما تمتلكه من حرية في التعبير عن فكرة معاصرة من آالم وهواجس ذاتوية وعامة متشابكة مع ما يشعر به العالم نصا كونيًا ،فهي مكابدات الشاعر بوصفها ً الذي يُحبّر في محيط مليء بالهباء والقسوة. يقول في مقطع آخر:
ْك الريحُ أَوزا َر الحكايةِ مُ ذْ وقفتَ حَ مَّ َلت َ بباب أَمْ ِس َك مُ وثَقَ القدمين، ِ النشيد ِ أهداب ِ ال العمرُ َير ِْجعُ صوبَ الفاتنات يَعُ دْ َن ُ الصبايا وال َ من شجرِ الطفولةِ نح َو حقلِ َك باسمات.
هواجس وأفكار.
لم يتخل الشاعر الحازمي عن اختباراته للزمن الممثل بعمر األربعين ،ففي قصيدته يندب تقدم العمر السريع تجاه حياة مستقبلها مرهون بالغموض والــخــوف ،فتصبح الــروح مسورة بهموم الدنيا وتداعياتها القاسية التي ندرك عبر هذا المقطع تأكيد الشاعر على ال تنبئ عن أمل في القادم.. سؤال الزمن ،وما تركه الوجود في روحه من يقول: رحلة محسومة باتجاه الكهولة ،فلم يعد العمر يرجع ،وال الصبايا كذلك ،إذ ولّت الطفولة في في األَربعينَ ،وأنتَ مشدودٌ بداياتها الموحشة. الموشح ِ النايات في شَ ِال ِ إلى شعور متحقق للخيبات التي تعيش مع الشاعر في سؤاله الكوني بما يخص الوجود ومعناه البعيد.
الهديل يمامةً ِ ِجــدْ لمعناكَ المسافرِ في منسيةً ، الرهيف َ ُره ِق اللحنَ ال ت ِ الذكرى استدارت آهات من ِ ٍ بجمرِ كالسوار. روح َك ِّ حولَ ِ
فالشاعر الــحــازمــي يــحــرر قصيدته من المتطلبات التقليدية لعمود الشعر ذاهبًا فــالــزمــان والــمــكــان فــي الفضاء الشعري إلى تمجيد الفكرة والمعنى ،والتي تعبر عن الخط الفكري والنفسي بما يُشغِ ل الشاعر من لدى الحازمي مرهون بإحساسه الذاتي بما
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
25
وهذا يعني أن الزمكانية الشعرية تدخل في مسارات المتخيل الفني والمجازي ،من خالل تفعيل الرؤية الشعرية في مرموزات النص نفسه ،وتكثيف الفضاء الجمالي للقصيدة، لتتنامى كثافتها ،وفاعليتها التعبيرية ،وفق تأثيرية فاعلة.
يقع عليه من خيبات وانكسارات متتالية ،إذ وثقيل ،ال يمكن تفاديه ً يصبح الزمن صلدًا إال عبر الكتابة والتعبير عنه بألم ،وهو ما يقدمه فيما يخص الفكرة نازحً ا نحو جوهر الفكرة واختبارها بجروح التركيب القوي ،بما تحمله الجملة من رؤى شعرية متحققة في ثنايا النص وطيّاته ،محققًا التالحم ،الرؤية يقول الحازمي: الزمكانية والجمالية معًا ،إذ تتشكل اللحظة الذكرى «اآلنية» في إدراك المركب الماضوي ،كما في األَربعين َ،تزوركَ امرأةٌ من ِ تسائل ً لو أنه يرثي الوجود عبر موضوعه الشخصي فال تقسو على نَاياتِ ها مُ َمس نجواها البعيد، عن أ ِ الذي يتقاطع مع إنسان العصر.
الطرقات ِ في األَربعينَ ،اآل َن في اللك كلما لن تحتا َج أَن تطوِ ي ِظ َ باه ِج الدنيا لتبل َغ يممتَ صوبَ َم ِ ُك التذكرُ ِضفَّ ةً في التِ يهِ ،يسأل َ عن مرايا ُحل ِْم َك الباقي متى كنتَ ارتبكتَ النسيان آخ َر مَ رةٍ ؟ ِ بحضرةِ ماضيك المسالِ َم إنْ وقفتَ َ ما َضرَّ التح َّي َة بباب طيبتِ هِ وأَلقيتَ ِ ِ الءات ٍ عابرً ا مُ تخففً ا من ِع ْبءِ طش ال َهبَاء. ينيك ِمن عَ ِ َروَتْ عَ َ
تعالَ ُخذْ هَ ا السراب و ُردَّهَ ا ِ طواحين ِ من لربيع بهجتِ ها األثيرِ وزهرِ هِ ِ ُوحها المنسيِّ اهتمَّ أَن تُصغِ ي لطائرِ ر ِ في شَ جرِ الغياب كُ نْ قُ ْربَها مَطرً ا حريريًا ارتبكت ْ إذا ابتسمت ْ وكُ نْ وتَرً ا مجازيًا إذا وكُ نْ شغفً ا وجوديًا التفتت ْ إذا ولكن، حرائقها المديدةِ ِ حين تدنو من ال تكن غي َر الرماد.
فــبــزوغ مــفــردات تتحرك فــي رثــاء العالم والزمن معًا ،منها» عبء ،والهباء ،والنسيان، ـراب، والــمــاضــي ،والــظــال ،وطــواحــيــنِ الــسـ ِ وال ــح ــرائ ــق ال ــم ــدي ــدة ،والـــرمـــاد والــغــيــاب والذكرى» وغيرها من المفردات التي تدلنا على الموضوع المأسوي الــذي يتكلم عنه الشاعر ،بوصفه نقطة تثوير للوجود ومعانيه،
ال يمكن تــجــاوز هــذا الــنــص المبدع في اخــتــبــارات الــقــصــيــدة الــســعــوديــة ،خــاصــة، والقصيدة العربية ،عامة؛ فهي من النصوص التي تقدم الوجود بمعناه اإلنساني المعاصر، ومــا يقدمه من قسوة أصبحت عــادة يومية لحياتنا؛ فقد حقق الشاعر رؤيــتــه للوجود بقسوة رومانسية باكية!
يقول:
* كاتب -االردن.
26
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
محور خاص
عمر بوقاسم شاعر بين الوزن والنثر الحداثوي ■ د .أحمد العماري*
لو نظرنا إلى الشعريّة العربيّة ،وحاولنا أن نعاين مراحل تطوّرها ،لقلنا إنّ الشعريّة العربيّة في زمن «قصيدة الوزن» -التي استمرّت متسيدة أكثر من أربعة عشر قرنًا -خضعت الشعري العربيّ بطريقة ّ وختمت على ال ــذوق ْ لنمطيّةٍ ضاغطةٍ ،س ــادتْ على نحوٍ كبير، تقديسيّة عالية اإلكراه. جيوش جرّار ٌة ٌ ثم ولدت «قصيدة التفعيلة» -في هذا الحصار الرهيب الذي كانت تقوده مــن دفــاعــات «قصيدة ال ــوزن» -والدة قيصريّة ،كأنّها والد ٌة مـحـ ّرمــةٌ تــدافــع عــن خطيئتها، بعضا من أنفاسها ،وتحرّرتْ أدواتُها وفعاليّاتُها في استقبال التقطت فيها الشعريّةُ العربيّةُ ً ْ الشعري العربيّ عن إمكانات خفيّة ما ّ وتكش َف العقلُ هواء جديد مُ ملّح ومُ بهّ ر على نحوٍ ماّ . وطرقت ْ كان لها أن تُكتشف لوال هذه االنتفاضة الشعريّة التي أزاحت الغشاوة عن العيون، عال تلك األبواب الحديديّة التي أقفلها حما ُة الديار وأضاعوا مفاتيحها في معركة بصوت ٍ ٍ ال نجاة منها. وبين كــل ذلــك تظهر الــحــداثــة الضاربة بعرض الحائط كــل القوانين وكــل األوزان لتقول للشعر نحن هنا ،ونحن نتمرد للكلمة الحقيقية ،فيظهر الشاعر السعودي عمر بوقاسم فــي قصيدته الحديثة بين الــوزن والنثر متنبئا بوجه جديد للقصيدة الحداثية السعودية ،لذلك تمكنت القصيدة الحداثية انتزاع الرياح العاتية اآلتية من منطقة التنوير المحصنة ّ الطليعيّ ،وانتزعتْ قداسة القلعة من جذورها ،وأهلكتْ حرّاسها المدجّ جين باألسلحة التقليديّة القاتلة ،وفتحت األبواب والنوافذ وك ّل ما هو قابل للفتح على مصاريعها الستقبال هواء ونكهات مختلفة.
الشمس تسقط في البحر،
محور خاص
بمعنى أن الشمس تغرب، وأن الظالم يخرج من تحت أوراق األشجار الكبيرة ذات األغصان الطويلة، األغ ـصــان الـتــي تتسلقها الشمس صباح اليوم التالي وهي مبللة بنهارها الجديد..، خياالت طفل ،نعم، خياالت طفل، خياالت واضحة وليست مؤذية، ترافق الطفل إلى مدرسته، تنسيه ربطة حذائه الرياضي، تنسيه العالم، ي ـش ـطــب ال ـك ـث ـيــر م ــن ال ـج ـم ــل ال ـخــاط ـئــة والصحيحة المكتوبة في دفتره، وعند عودته من المدرسة يقف أمام البيت 75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
27
جزء مهم من الذائقة الشعريّة العربيّة التي نامتْ على وســادة واحــدة ،ال بديل لها أكثر من أربعة عشر قــر ًنــا ،من دون أن تعترض أو تحتجّ أو تتمرّد .وصار الشاعر العربيّ ال يخجل أن يبكي ويتوسّ ل ويعبّر عن هزيمته وضــعــفــه وهــشــاشــتــه وخــســاراتــه الصغيرة والكبيرة ،والشاعرة العربيّة هي األخرى تبكي على فقدان حبيبها ،وعلى خيبتها من تجربة حبّ فاشلة ،وعلى أنوثتها التي تتسرّب كالماء النادر من بين يديها ،بال أيّ إحساس بالدونيّة والضآلة واالنحسار اإلنسانيّ .
المهجور الذي يتوسط الطريق!.. يتأمل الباب الخشبي والنوافذ والجدار وبيت عنكبوت ممزق، يقترب من الجدار ويضع أذنه ربما يسمع بقايا مــن أص ــوات الــذيــن عــاشــوا فــي هذا البيت، هناك الكثير من األصوات تسكن في جدار البيت المهجور ،ولكن ال يمكن أن يسمعها إال ب ـخ ـيــاالتــه ،خ ـي ــاالت واض ـح ــة وليست مؤذية.. في البحر الشمس تسقط ،نعم ،الشمس تسقط في البحر، بمعنى أن الشمس تغرب. نقلت هــذه الــحــداثــة الــشــعــر ّيـ َة العرب ّي َة القصيدة إلى مناخ مُغاير ،على الرغم من أنّها تأخرت كثيرًا جدًا ،لكنّها وصلت أخيرًا على أ ّيــةِ حــال؛ وأ ْن تص َل متأخرًا خي ٌر من أن ال تصل أبـدًا كما يقولون .وأسهمتْ في تغيير
لم يبق من جــذوة هــذا الــنــزاع المترامي األطراف سوى أ ّن قصيدة النثر في نصوصها النوعيّة العالية المستوى -على ندرتها -ظلّتْ ساطعة في سماء الشعريّة العربيّة الحديثة، غير مكترثة كثيرًا بمن دافع ،ومن هاجم ،ومن وقف وقفته الحائرة على منتصف السلّم ،وقد أضــاع بوصلة الصعود مثلما أضــاع بوصلة الهبوط ،وبقيت صورة المفهوم تتغيّر وتتحوّل لضمان استمراريّة حضور هــذه القصيدة بأعلى درجات الشعريّة والبهجة والتألّق. يتحوّل مفهوم قصيدة النثر في ك ّل مرحلة تحول ً مــن مراحلها الــمــتــطـوّرة بــاســتــمــرار وفاعل ً مدهشً ا يجعل منه مفهومًا صالحً ا بسهولة ٍ وأصيل باستمرار ،لكنّه ال يتحوّل ً ويُــسـ ٍـر وقَــدَريّــة مفروضة مــن خــارجــه أل ّنــه يحتاج إلى إمكانات هائلة ال تُتاح إال للعارفين الضالعين المغموسين بقوّة في لُجّ ة هذا الفضاء المشتبك ،حين يكون بوسعهم اقتراح فرضيّات التحوّل ضمن إستراتيجيّة قادرة على استيعاب فلسفة الفكر الشعريّ في أوج تموّجه وعنفوانه ،وبحثه عن مصير جديد.
* كاتب -سلطنة عمان.
28
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
محور خاص
سؤال األَنسنة في ّ ُ السعودي الشعر ّ ■ د .خلدون امنيعم*
ليس من السهل الحفر في عوالم الشعر السعودي ،وبناه وأرضياته المعرفية والفنية َ والجمالية ،واكتناه أسئلته المتنوعة التي اندرجت في أفعال وتمظهرات متنوعة وغنية؛ فمنذ اشـتـغــال الـشــاعــر سعد الحميدين على نصه المغاير والمختلف عــن الـســائــد في الستينيات وما أعقبها على مدار عقود ،شكلت تجربته حالة اختراقية حداثيّا للتصورات القارة للشعرية العربية ومفهومها في السعودية والخليج عمومً ا ،وهي تجربة أخذت على عاتقها «مسؤولية كتابة النص الحديث» وفق رؤية عبداهلل الغذامي ،متوازية مع مسارات شعرية ناضجة وراسخة في المشهد الشعري السعودي ،من مثل :بدر بن عبدالمحسن، وغ ــازي القصيبي ،ومحمد العلي ،ومحمد الثبيتي وغيرهم؛ لكنّ الذائقة الشعرية في السعودية انفتحت على خـيــارات بنائية ومعرفية متنوعة فــي مفهوم الشعرية العربية ذاته ،مع اإلحاطة التامة بمفاهيم المثاقفة ومؤثراتها؛ فكان ثمة أصوات شعرية رسخت نفسها في المشهد الشعري السعودي والخليجي والعربي ،من مثل :جاسم الصحيح ،وزكي الصدير ،وأحمد قران الزهراني وغيرهم؛ لتنفتح التجربة الشعرية على آفاق قصيدة النثر وعوالمها الغنية مع أحمد المال ،وعماد العمران ،وإيمان الطنجي ،وسمر الشيخ ،وهدى المبارك وغيرهم. غير أن السؤال المهيمن ،الذي استقى وجوده مــن مــشــارب ثقافية وفلسفية وجمالية متنوعة أســهــمــت المثاقفة فــي إبـ ــرازه وتــطــويــر أدوات مقاربته وتلقيه ،في التجارب الشعرية الحداثية في السعودية ،تمثَّل في ســؤال األنسنة ،بوصفه سؤاال شعريّا وجوديّا وكيانيّا ،ال تمتثل التّجربة الشعرية لشروط انفتاحها على األنا واآلخــر إال باستيعابه من جهة ،وتمثله ثقافيّا وشعريّا من جهة أخــرى ،من ذلــك ،قــراءة السؤال في تجربة الشّ اعر السّ عودي مــازن اليحيا ،في مجموعتين شعريتين بارزتين« :شياطين» ،و«رســام علمني»، لكننا سنحصر الــقــراءة فــي قصيدته « َف ـ ـ ْو َر ما خَ طَ وْتُ خارِ جً ا» الستجابتها لشرط األنسنة :أنسنة الكائنات والــمــوجــودات ،بوصف اإلنــســان إحدى
محور خاص
كيفيات الوجود ،التي تجاور أنويات أخرى تقاسمه الوجود ،وليس مركزها ومحورها ،انطالقًا من كون قيمة وجودي اإلنسي مستمدة من تلك الموجودات وقيمتها. عتبة النص سؤال التزامن محمول زمنيًا لحظيًا، ً يتشكل العنوان بوصفه قوامه التزامن :الظرفية الزمانية «فــور» ،و«ما» المصدرية الظرفية الزمانية وفعلها «خطوت»، والظرفية المكانية «خــارجً ــا»؛ كما يتشكل ،في دال يتجاوز حامل دالليًا ،بوصفه ً ً الوقت نفسه، اإلبالغ واإلغراء ،إذ ينبني العنوان على خلق مسافة توتر عالية ألفــق االنتظار :ما الــذي حــدث فور خطوتَ خارجا؟ ثمة حدث جلل ينبئ عنه العنوان 75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
29
المعلق في أفق الزمن :زمن البنية وزمن الداللة. إ ّن طاقة الحب للبونسيانا بوصفها إحــدى لك ّن العنوان يتحلّل من إهاب غموضه ،نصيّا ،كيفيات الــوجــود أو صيغه ،كما اإلنــســان بذاته، لينكشف على فاعلين دالليين مترابطين :اإلشراق ،ترتبط بفعل المشي ،وهــو فعل مشحون بداللة الحركة المستمرة ،إنه فعل ينطوي في حركيته على واإلدهاش ،بقوله في مفتتح النص: التمهّل ،والتأمل ،واالكتشاف ،والحياة ،ويقترن في شمسها! «أش َرقَت ُ نص الشاعر على فلسفة اللوحة ،بقوله:
قلت :أمشي في شارعِ العليا، ُ أرسمُ الشبّاكَ والزجاجَ» وفي مقطع آخر، «أدهش السما َء فيَّ زرق ًة َ أدهشَ ني: ّاك بين يديَّ تشكّ لَ». شب ٌ
تزامنت لحظة الخروج في مفتتح النص مع فعل اإلشــراق «أشرقت شمسها» ،غير أن اإلحالة في الضمير «ها» في قوله« :شمسها» إشكالي ،فال يحيل على اسم تقدمه ،فهل يدل على أنثى بعينها، أم على كوكب األرض ،أم على شجرة البونسيانا؟
«قلت: ُ أمشي في شارعِ العليا، أرسمُ الشبّاكَ والزجاجَ»، فالمشي فــي مخيلة الشاعر محاولة جــادة إلعادة تشكيل الوجود رسمًا. ليكشفَ فع ُل المشي ،بما هو حركة انفتاح على الموجودات واألمكنة :البرج ،والمقهى ،والمدارس، والهيئة ،وشارع أنس؛ تأنسنَها في اللغة الشعرية بوصفها فواعل في تشكيل صيغ الوجود وكيفياته وتأكيدها ،ويقترن في الوقت ذاتــه بفعل الرسم (أرســم الشباك والزجاج) ،بما هو حركة تحرير للمخيلة التي ترمم الوجود وتبني موازيات لونية ونصية له وفيه.
إن اإلحالة رغم غموضها ذاهبة نحو التأنيث: األرض ،الشجرة ،األنثى ،غير أن سطرًا شعريًا يأخذ اإلحــالــة صــوب الشجرة بونسيانا ،بقوله مخاطبا« :بونسيانا! بونسيانا! (أحبك ،تمشين عمري مــعــي)» ،في تشاركية فاعلة ل ــأدوار ،إذ والرسم في المقطع األول نصيّا ،يمثّل الدّال تمشي الشجرة بتزامن مع الشاعرِ عمرِ ه ،ما يعمق الحاض َن لتشكّلِ المدلول ونضوجه في المقطع ٍ مشهدية األنسنة بوصف الشجرة والشاعر كيفيات الثاني: في هذا الوجود. خارجا من باب بيتي، ً «فو َر ما خطوتُ
أدهشَ ني: ّاك بين يديَّ تشكّ لَ»، شب ٌ
وك ــأن فعل المشي أنــفــذ مشيئة الــرســم فــي لــوحــة فنية تشكل فيها الــشــبــاك دون مــســاس مــن الشاعر، ليكون فعل المشي« :خطوةً ،فخطوةً، ثانيةً ،بثانيه» تعبير رمــزي لضربات الــفــرشــاة والــخــطــوط واأللـ ــوان؛ غير أن الظرفية المكانية (خارجً ا) تشكل
30
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
محور خاص
حاضنة الــداللــة وموئلها ،حيث يكشف النّص (خروجَ ه) من أين بدأتَ ،وإلى أين تعود ،بقوله:
«فو َر ما خطوتُ خارجا من باب بيتي/ ً وها إنني في غرفتي بعد عودتي»، ليكون البيت ،الغرفة الــرحــم ،التي تشكلت فيه إحدى بذور الوجود والمعنى :وجود اإلنسان ومعناه ،وليس المشي إال حركية الكائن المقترنة بزمن محدد من الــوالدة إلى الموت :بين ذهاب وإيــاب ،وخــروج ودخــول ،والمسافة بينهما ،تلك المسافة الــتــي تتيح لــإنــســان فــرصــة مشاركة د .غازي القصيبي الموجودات كياناتها في تشاركية وتبادلية ،وتقر بقطعية المعنى :للوجود صيغه التي تستمد قيمتها فعل المشي ،لتتشكل الصورة السردية عبر سلسلة بعضا. من بعضها ً الدوال الفعلية المضارعة في فضاء محكوم برؤية النصي ّ األنسنة وسياقها إنسية وإنسية مغايرة ،تحتفي بمفردات الخلق، انبنى النص ،إذًا ،على رؤية تمجد الوجود ،ليس وتمجدها ،لتكون الشجرة في الوجود صنو الشجرة بوصفه قيمة بذاته ،بل بقيمة موجوداته ،فكانت في اللوحة ،هي الحبيبة التي يخاطبها الشاعر: األمكنة على عمومها وتنوعها وتباينها :مدارس «(أحبك ،أحبُّ تمشين عمري معي) ،إنه خطاب ِ األطفال األهلية ورجل األمن ،الشارع ،والرصيف ،الكائن المتفرد في محبته ،يمنح الشجرة مجازًا الهيئات ،كل أولئك مــوجــودات ال تؤثث الوجود خيار المشي معه ،بوصفها الرفيقة والحبيبة، اللوحة فحسب ،بل تتشكل بوصفها صيغًا متنوعة ،فالرؤيا النصية متعالية في إنسانيتها ،وتبرؤ من تبادلية وتشاركية في قيمتها ،وارتــكــزت سردية ظالمية األنــســاق الثقافية المتحكمة في صوغ الدوال على بنية المضارعة الفعلية على مساحة الرؤى واألفكار. النص ،لتؤكد هذه الثيمة األنسنة ،من مثل :أمشي، إ ّن نص الشاعر مازن اليحيا ،نص ناجز فنيًا ألتف ،سأحيَّي، أشف ،أرسم ،أدري ،أعلم ،أصلّ ، سأمشي ،سأقطع؛ ليكون فعل التزامن متعالقًا وموضوعيًا ،يستضيف المفردات والمشاهدات واألفــعــال اليومية ،ليس لتمرير فكرة أو معنى، دالليًا مع فضاء األنسنة. غير أن األنسنة فــي تجليها النصي العميق بل لتصبح بذاتها كيانات فاعلة في نص خصيب، ارتــكــزت على فاعلين دالليين :الشجرة شجرة نسميه مــجــازًا وط ـ ًنــا ،لكنه فــي حقيقته شع ٌر صاف وخالص ونقي ،يقوم على رصيد كبير من ٍ بونسيانا ،واللوحة من خالل دالّي« :أرس ُم الشبّاكَ والــزجــاجَ» و«أدهشَ ني :شبّاكٌ بين يــديَّ تش ّكلَ»؛ المشاهدات والــمــألــوفــات واليوميات فــي رؤيــة فهما فاعالن ينهضان على جذر فعل واحــد ،هو فلسفية ذات طابع ثقافي. * كاتب -األردن.
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
31
شاعر ُ الموسيقى أحمد البوق.. ِ ■ د .انتصار عشا*
يختلف شاعر قصيدة النثر اختالفً ا جوهريًا كبيرً ا عن شاعر قصيدة ال ــوزن ،وعــن شاعر قصيدة التفعيلة أيـ ًـضــا ،ليس في نــوع القصيدة -وهــو أمــر أســاس وجــوهــريّ -فحسب ،بل في طريقة التعامل البالغة الخصوصيّة مع اللغة ،ومع مفهوم الشعر ،وأسلوبيّة األداء ،وطريقة التعبير ،وأفــق التشكيل .إذ يخوض شاعر قصيدة النثر تجربة نوعيّة خطيرة ،فاللغة التي يتحرّى شاعر قصيدة النثر استثمار طاقاتها هي لغة ثانية غير اللغة الشعريّة المتعارف عليها. ومن بين المخاطرين والمتمردين كان هذا الشاعر الذي ولد في المدينة ،وبدأ أسفاره مع جده وخاله إلى الرياض ،ثم الجامعة في جدة؛ ثم عاد إلى المدينة .الشاعر السعودي أحمد البوق، وهو الشاعر الذي يمتلك اللغة الشعريّة الفخمة المشحونة بطاقات بالغيّة هائلة خرجت من اصطلح عليه «األغراض الشعريّة» حين يبدأ قصيدته ( الجنة أسْ مى): ر َِحمِ ما ُ
وفي الفصل الثّاني دو ُر الوردة!؟ تكتب،.. ماذا ُ كي تتح َّو َل هذي الكلماتُ َفرَاشَ ا نقائض َ ذاك ألنَّ اهلل أو َد َع فيكَ يتطاي ُر من شَ فتيكَ الحبِّ تتأرجَ حُ بين ُ إلى ُأذُنيْها؟ وبين الحَ ر ِْب ستحصدُ من حقلِ الشِّ عرِ ُ كيْف حرف الرَّاءِ انزلق الشِّ ع ُر ومن ِ سب َع سناب َل هاك طريقَ الجنَّةِ تُهْ دِ يها من أحببت وك محفُ وفً ا بالشَّ ِوق وبالشَّ ِ ْ الضج ُر النابتُ كي يتآكل هذا َّ فأمض حافِ ي القدمين ِ القلب وبين الرُّ وح؟ بين ِ روحك حق َل ورودٍ حتى تتحوَّل كلَّ ُج ِ ذات فِ قهٍ فالج َّن ُة أسْ مى تشتغل هذه القصيدة على مناط َق لغويّةٍ ِ شعريّ محفوف باألمان والعنفوان والفخر والكبرياء من أن تدخلها بكل أناقتك الشعرِ يَّة باب خلْفِ يٍّ والبالغة والعلوّ ،لغة تسكن في السماء وال يح ّق لها من ٍ
الهبوط على سطح األرض ألنّها تفقد بذلك شعريّتها فعال ..الجنة أسْ مى ،واللغة السامية عند الشاعر مختلطة بكالم العامّة ،وأنت تتابع ما يقوله في بقية مختلفة تمامًا عن كل ما يمكن أن تتوقعه عند غيره، النص ذاته: هذه اللغة تبالغ في االرتفاع مخترق ًة طبقات السماء وكُت َل غيومها وزرق ـ َة هيبتها اللونيّة بأعلى درجات كيف على مسرح شفتيْك الترفّع والفصاحة والغرور ،فأنتجتْ على مساحة تلعب ذاتُ الكلمةِ ُ الفصل األو ِّل دو ُر السِّ كِّ ين في ْ هائل حظي بقيمة تقديس شعريّة قصيرة ك ّمًا شعريًا ً
32
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
محور خاص
عبَّ حتى تدلَّى ثم عبَّ وطار َراش عليها م َّر ِسربُ ف ٍ مارس الحبَّ في ِسحرها َ الحبَّ مارس ُ َ بين نورٍ ونار َيقظ الشَّ وقَ في ق َِطرهِ والنَّدى أ َ أن يشمَّ الشَّ ذا ويضمَّ العَرار ورد ُة حاصرتها الرِّياح فلم تقتلِ عها مرعِ بة ال يمكن مقاومتها ..ألنها قصيدة حديثة من واستطال النُّواح أرض صحراوية وتربية كالسيكية للتذوق الشعري .فما زاد فيها طول المدارِ فتنتقل إلى نص آخر للشاعر بعنوان :وردةُ في غي َر ِ وحبِّ الدِّ يار جِ دار ورد ُة إن أعجبتهم ورد ٌة في ِجدار فكَّ روا أن يقطعوها كلَّما حاصر األسمنتُ ألوانَها وإن هدَّ دتهم أوغلت في النَّهار أن يقتلوها ورد ُة في إطار األحوال أن يشتموها ِ أحسن ِ وفي من جحيمٍ يطلب مِ نها اعتذار! ُ ثمَّ وطين ٍ تعرف اآلن أنك أمــام شاعر يجيد العزف على وقار األوتار ،وهو الذي يمتلك لغة قصيدة النثر والموزون، يا لهذا اإلطار وهو المخاطر بكل ما تحمله روحه ليكتب على جدار ورد ُة ظلُّها.. اسمنتيّ ،ليخرج روح النصوص المبعثرة ،ليمكث آه من ِظلِّها! الحس ّ الصوت الشعريّ على هذا النحو قريبًا من مستبدً ا ..آسرًا حزن كثيرٍ البشريّ العفويّ البسيط وهو يتو ّز ُع بين ٍ كاسرًا للحصار قليل ال يكا ُد يُرى. وفرح ٍ ٍ تحب الكالم ورد ُة ال ُّ عطرُها جارحُ لذلك ،ونحن نقرأ الشاعر البوق نعرف أننا أمام واضحُ ُحسنُها ِ لغةٍ عبّرتْ عن حداثة مختلفة ومغايرة ال تشبه غيرها فاضحُ على الرغم من قلّـتها الشديدة ،أل ّن المتون األصيلة يستخف الوقار ُّ في ك ّل زمان ومكان ال ب ّد أن تكون قليلة جدًا كي تكون ورد ُة يسك ُر النحلُ في سرِّها مثال يُحتذى ،وطريقًا يُسلَك ،ومنهجً ا يُعتمَد. ً * كاتبة -فلسطين.
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
33
الحداث ُة وعتب ُة العنوان عند عبدالوهاب العريض ■ د .سناء العزة*
تعدّ عتبة العنوان إحــدى أهم األســس التي يشتغل عليها الشاعر ،بوصفها لغة أساس تحرك المسيرة الشعريّة التالية للقصيدة ،وفي ظلّ شيوع فلسفة العنونة وتداولها على نقدي خصب ،صارت عتبة العنوان هي ّ نطاق واسع بعد تحوّل موضوع العتبات إلى مجال النص األدبيّ الحديث بمختلف النقدي لكثير من الدراسات الحديثة ،في مقاربة ّ ّ المفتتح أجناسه وأنــواعــه ،وصــار المبدع بعد ذلك يولي عناية فائقة لهذه العتبة ،ولم تعد مج ّر َد نصه كيفما جاء ،وكلّما كانت هذه العتبة مضاءة على نحو حاصل يضع فيه عنوان ّ ٍ تحصيل ِ كاف ،انعكس هذا إيجابيًا على عموم النص بما يعزّز طاقة التنوير اإلبداعيّ الخالق إبداعي ٍ النص األدبيّ وتفاصيله وتحوّالته. في أجزاء ّ من نص الشاعر عبدالوهاب الذي اختار عنوان شاهق في العتمة وهو الليل ،لذلك له عنوانا :اللي ُل نشوةٌ هاربة ،يشدك ألن توصف عتبة العنوان لدى أكثر النقاد بأنّها نص صغير يمثّل النص الكبير، عبارة عن ّ تستمع للنشوة الهاربة وهو يقول: وبما أنّه يحت ّل أصغر مساحة كتابية ممكنة بياض يحدقُ فِ ي و َْج ِهي ٌ النص ّ كي يكون بليغًا ومع ّبرًا بقوّة عن داللة ويعكس انطفا َء النهارِ ُ عمومًا ،فقد أواله الكتّاب والشعراء منهم للحارس اللَّيلَي بتحيةِ المساءِ ِ َهمس أ ُ خاص عناية بالغة بوصفه األساس ّ على نحو ريق الط ِ صف قَهوتِ ي فِ ي َّ أسكب نِ َ ُ النص ،وهي لحظة التنوير الفنيّ األبرز ّ في الفنجان ِ كَي ال أُثْ ِقلَ عَ لى التي تحشد ما لديها من طاقة ضوء كي *** تــكــون ب ــؤرة تركيز مشعّة داللــيًــا ،تنتقل جنون ٍ ذات ُ شظاياها ويــتــوزّع إشعاعها على طبقات ُرج َه العَالِ ي أخرجت ذاكِ رَتِ ي ِمنْ ب ِ ُ ـص كاملة بحيث يبقى نــورهــا يضيء الــنـ ّ فتحت النافذ َة ُ النص وعتماته وظالله وبطاناته كلّها. ّ زوايا هَ رَّ بْتُ هَا فيكمل نصه:
باح الص ِ أَو َقفَنِ ي أَنِ ينُ َّ شموخا ً يَشهقُ الجبلُ وحينَ يَصلُ إلَى قِ مَّ تِ هِ يفاجئك بأن النص يبدأ بالبياض بعد ِ
34
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
محور خاص
سيكتشف أنَّه كانَ وحيدً ا ُ ***
صدرِ ي ُسعاله يثقلُ َ رحي ُالمس ُج ِ ُ وجههَا ت ِ َجاعيدُ ت ِ صباح ٍ زالت كُ لَّ والمطفأ ُة ال ْ التفاح ِ تُعلِّقُ سجائِ رَهَ ا كأزهارِ ***
وج ِهي بينَ راح َت ْيهَا أخذت ْ ْ تعاويذ خبيثةٍ ِ هَ مسَ ْت بِ أحبك يا مالكِ ي َ وقالت: ***
كقنديل يُ ضئُ البيتَ بِ سجادتِ هِ ٍ َّاب يَفْ تَرِ ُش الغي ِ ويُ ْشعِّ لُ فِ ي صدرِ الدَّ هشَ ةِ أُمنيةٌ ثم يرحل.. ***
الليلُ نشوةٌ هاربةٌ الحبيب ِ بينَ كَفَّ ي َسقط الوهْ مُ ي ُ فَيُ عانِ قُ كَأسَ هُ يَفرِ ُش حَ بَّاتَ َثل ِْجهِ ويدخل كهوف الكلمات ***
الشتاءُ ..؟! زن فِ ي هَ ذا ِّ أي ُح ٍ ُّ بالطين؟ ِ أقدامٌ ملطخةٌ أصدقاءٌ منْ المسبحةِ ا ْن َفر َُطوا؟ صيف؟ ِ تناثرت عَ لى الرَّ ْ وجوهٌ زالت تنتظرُ ؟ أ ْم ُطفولةٌ ال ْ
عتبة عــنــوان النص كانت صــادمــة لما بعده ،ولكنها دوما هي المفتاح الذي ننتظر مــن بعده الــدخــول لعمق النص وفكرته، والسيّما حين يقوم المعنى هنا بتقويض تراث شعري هائل ،نهض أساسً ا على إثبات لغة الشاعر وقــدراتــه في نقل اإلحساس للمتلقي. لذلك ،دومــا في القصيدة الحديثة لم يكن الموضوع وحده هو ما يؤسّ س للقصيدة ُخلص التي تسعى إلى تمثيل تجربة نوعيّة ت ُ لصاحبها وتستجيب لمقولتها ،بل ال بدّ مصاحبة ِ من عناصر تشكيل وتعبير حيويّة تلتقط جوهر الموضوع وتمضي فيه على طريقة الصدمة للمتلقي ،كي يكون بوسعها بناء سلسلة من الدهشة تنتشر على مساحة القصائد بأسلوبيّة ِحرَفيّة عارِ فة وقادرة على احتواء حركيّة الوجدان ،وحساسيّة الرؤية ،وأفق الفكر وإبداع الشاعر.
* كاتبة -مصر.
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
35
الصوت في القصيدة الحديثة ُ في نصوص عبدالرحمن موكلي ■ أ .د .محمد البشير*
تشكيل إيقاعيًا ضاربًا في شعريّة الشاعر ً ال يمكن للقصيدة أن تتنازل عن «الصوت» بوصفه وتركيزه ،وإذا كانت القصيدة العربية التقليديّة «قصيدة الوزن» تقوم في جزء جوهري على أساس من أجزاء تشكيلها على بنية الصوت/اإليقاع الخارجيّ ؛ فإنّ «قصيدة النثر» تستعين بنغمة صوتيّة أخرى خارج قوس البحور الشعريّة كي تؤلّف إيقاعها الصوتي األصيل .ولكل قصيدة نثر نظامها اإليقاعي الخاص النابع من طبيعة تجربتها وحساسيتها ،وال تشبه أيّة قصيدة أخرى على هذا النحو. وإذ يبدو اإليقاع الخارجيّ «الوزنيّ » في وم ــن ذل ــك الــنــمــط ،الــشــاعــر الــســعــودي عبدالرحمن موكلي ،صاحب الصوت المميز القصيدة العربيّة القديمة في كثير من األحيان عبئًا على حركيّة القصيدة وديناميتها ،فإنّ في قصيدة « األشباه»: اإليقاع الصوتيّ أو ما يُصطلح عليه أحيانًا كتابي ّْ وجهك في َ رسمت ُ «اإليقاع الداخليّ » ،هو مَن يتولّى مهمة بناء فتقاط َر األشبا ُه التشكيل اإليقاعيّ في قصيدة النثر ،ويتحرّك كل.. في أفق هذه القصيدة من دون أيّة إكراهات ابي بصورته يِ َص ّْ واشتراطات مسبقة؛ ألنّه ال يقوم على نظام .... إيقاعي ضابط بوساطة تفعيالت منتظمة ال وجهك َ رسمت ُ يمكن اإلخالل بها ،وك ّل تلك المحاوالت التي عذابي ّْ وكنتَ ساعتَها عكفت على تطوير قضية الفكرة العروضية كم فاضت الفرشا ُة من نورٍ في الزحافات والعلل ،أو تداخل البحور ،أو ال ال.. تنويع القوافي ،أو غيرها. والماء استوى بِ ّْي
رسمت وجهَك دونما ُح ُج ٍب ُ من بعدما ذهبت بك األحالمُ محتفل ً ونظرت في المرآةِ ملك؟ هو أينا ٌ اب. الخ َض ِ متناسيا يَوم ِّ
36
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
في القصيدة الموسومة «األشباه» يتحرّى الــمــوكــلــي تــوظــيــف مجموعة منتخبة من األصوات الممتلئة باإليقاع االبداعي لنسج بنية إيقاعيّة دالليّة ،تًحرّك الفضاء الشعريّ تجاه إطــاق الــصــوت ،عــن طريق لقطات
محور خاص
شعريّة تنضوي تحت لواء ك ّل كلمة منها. من نص:
كن كن جابر الكلمات تغشى الليالي بنومهن وتغيب في سكراتهن وإذا جرحن فيك أغنية سناك َ أحلى تقاسمهم ............................ رضاك َ كن حبيبا للذي يَنشدْ َاسط قريبًا من مداك ب ْ يوما إذا ضل المجاز طريقه أو غاب.. تبسط على المعنى هواك
ال ــح ــدي ــث ــة؛ ف ــي ــت ــحــوّل ال ــص ــوت إلـ ــى مــشــهــد ل ــه م ــرك ــز ص ـ ــوري ّ، ولــه ظــال إيقاعيّة ،ويشتغل الــصــوت في مجال الخفاء والتجلي بين حساسيّة االنتظار والخروج.
يتحرّك اإليــقــاع الــشــعــريّ الــداللــيّ في لذلك ،تصرخ القصيدة الحديثة بصوت سياق صوتين مختلفين متمايزين للقصيدة مختلف ،ضمن حدود اللغة الشعرية الحديثة.
* كاتب -السودان.
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
37
الحقيقي للشاعر الخفي الصوت الرمزية: ُ ُّ ُّ أنموذجا «قراءة انطباعية» قصيدة «اإلبرة والقاع» لمحمد الحرز ً ■ مالك اخلالدي*
لم يكن ظهور الشعر الحديث انعتاقً ا من القيود الشكلية التي يفرضها القالب العمودي الكالسيكيّ فحسب ،بل انعتاقً ا من سطوة القيود الثقافية واأليدولوجية واالجتماعية التي كانت تُحكم سيطرتها على الحراك األدبي ،في منتصف القرن العشرين. لقد وجــد بعض الـشـعــراء فــي القصيدة الحديثة برمزيتها وات ـســاع فـضــاءاتـهــا مــاذًا لمشاعرهم المتقدة ،وأفكارهم الجديدة ،وانكساراتهم الخفيّة .فسبروها وخاضوا غمارها دون ذاكرة مفزوعة من تابوهات النسق ،وبجسارةٍ أسقطت أقنعة الذات النفسية .فلقد كثُ رت نمطا جديدً ا لدى روّاد الشعر الحديث ،أمثال :نازك الرمزية في الشعر الحديث ،وشكّ لت ً المالئكة ،وبدر شاكر السياب ،وأدونيس. فثمة تيار جنح بالرمزية نحو الغل ّو إلى القارئ إلى «االنكسار الحاد» الذي يموج
حدّ اإلبهام والغموض ،ما جعل مـن الرّمز بالقصيدة .فــاإلبــرة تحيلنا إلــى «األلــم» جــدارًا قو ًيّا عالياَ صعب االرتــقــاء.إال إن و«الـــحـــدة» ،و«الـــقـــاع» ،حــيــث االنــكــســار
هناك تيارًا آخر جعل من الرمز لغة خصبة والرضوخ والنهاية. لمعان ٍ مــواربــة ،ذات دالالت وإيــحــاءات يوارب الشاعر حالة التشظي واالنكسار أخرى غير مباشرة ،يرغبها الشاعر .وهذا التي يمر بها برمزية عالية ،إذ يقول: ما نجده لدى عديد من شعراء القصيدة حررت اإلبرة ُ الحديثة اآلن ،إذ إن اللغة ذات رمزية كثيفة «
سحبت من الثقب ُ شفيفة يكسرون من خاللها كل قيودهم حين النفسية والثقافية واأليدولوجية .وهذا ما آخر خيط نجده في قصيدة «اإلبرة والقاع» للشاعر في البكرة» محمد الــحــرز ،ال ــذي يجعل مــن الرمز
االنعتاق الصعب الذي حدث للشاعر،
مسرحً ا يسرج فيه فكرته ورغبته بلغة كـــان ح ـ ــادًا ودق ــيــ ًق ــا ،لــكــن ل ــم يــكــن من هادئة ومخاتلة في ٍآن واحد. اختياره ،فلقد كان الخيط األخير في بكرة فــهــا ه ــو يــصــافــحــنــا بــعــنــوان يُــحــيــل المحاوالت.
38
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
محور خاص
«كان عليك أن ال تمكث قرب الضرير الذي علمك كيف تطرز الغياب؟ يُحيلنا الشاعر إلى اختياره الذي عاشه طويل حتى تمكّن منه ،إال أنه يعي أنه كان ً خيارًا خاطئًا. ثم يختم بقوله: ثم يقول:
«أشياء كثيرة ال تصل إلى أماكنها: صباحك يتكوم على العتبة ثم يذوب كالثلج»
«أعد الخيط إلى اإلبرة فالشقوق وصلت قاع حياتك» يُحيلنا الشاعر للحالة الميؤس منها التي وصــل إليها ،فالثقوب تمكنت منه، وعليه أن يعيد المحاوالت حتى وإن كانت
كأنه يــريـ ُد أن يقول إن هــذا الحبيب غير صالحة أو نفدت! المفقود كــان مــنـ ُه ولـ ـهُ ،لكن ليست كل إن كــل المعاني التي تالمس القارئ األشياء تصل إلى أماكنها! تسرّبت إليه كشعور خافت أو فكر ًة تحم ُل ويقول:
«ليليك يهتز مثل رقّ اص الساعة ودربك موقد صغير ال ترى منه سوى خطوط يديك»
معان تسربت إلى ذهنه عبر لغة شعرية ذات ٍ خلقة( .انكسار ،تشظي ،استغراق أوجه ّ في الغي ،اهتراء مالمح ،ارتباك ،انكفاء). كلها أحال إليها الشاعر بلغة رمزية ذات دالالت وأوجه كثيرة تُثري مُخيلة القارئ، وتوقد فيها عــددًا من االحتماالت الثريّة
في «رقاصة الساعة» و«خطوط اليد» دون غموض مستغلق. إشــــارات إلــى حــالــة االرتــبــاك الشديدة الــرمــزيــة الكثيفة فــي هــذه القصيدة والتوحد مع الذات واالستغراق فيها. الحديثة كالرداء الجميل الذي يبرز مفاتن وفي قوله:
الحقيقة بشكل صارخ وأنيق!
* قاصة وشاعرة وكاتبة سعودية.
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
39
القصيد ُة السعوديَّ ُة تتخ ّف ُ ف من ِعبء الثرثرة.. أنموذجا مسفر الغامدي ً ■ د .مهدي العلمي*
حين تتحدث عن الشعر السعودي ،فــإنّ فكرة القصيدة التقليدية يجب أن تبتعد عن رأسك ،وذهنك تمامً ا؛ وذلك ،ألن المشهد اختلف كليةً في العشرين سنة األخيرة ،وتحولت القصيدة السعودية إلى قصيدة رشيقة تماما .والرشاقة المقصودة هنا ،هي رشاقة اللغة التي تنحو منحى التقشف والــزهــد في الثرثرة التي تخرج بالقصيدة من إطــار الجمال والشعرية العالية ،وهو ما يقع فيه كثير من الشعراء والشاعرات لألسف .وإضافة إلى رشاقة اللغة ،هناك رشاقة المحتوى الوجودي؛ فالشاعر ال يكون شاعرً ا بالكراهية ،وعندما يتعاضد اللغوي بالحياتي والــوجــودي نجد الشاعر مسفر الغامدي يتخلّص من كل ذلك بامتالء القصيدة ،ورشاقة محببّة وقوية رصينة ،فال يمكن أن نتجاوز كلماته التي يقول فيها:
أدرب نفسي على الصمت: أال أقول شيئا دون شعور بالذنب أو أستمع إلى أحد إال خائفً ا وزائغ العينين أال أصافح أحدً ا أو أشتاق إلى أحد أن أغلق األبواب والنوافذ بإحكام أقبض على نفسي جيدً ا َ وراء قضبان غليظة وأسوار عالية أن أكون سجينًا وسجانًا ،متهمً ا وبريئا وأن أتخذ مسافة آمنة من الجميع.
قد تستغرق شهورًا طويلة ففي هذا المقطع الكثير من الشعر والمعاني التي يمكن متابعتها في هذا التكثيف والتقطير لعطر القصيدة الحقيقي ،وهذه القصيدة بعنوان: « هذه األيام» يمكن أن تكون سيرة شعرية لإلنسان. ففي أقصى درجات التعب ومعانيه ينبثق الشعر، أو كما يقول الغامدي عن نفسه في نصه ،ولكنه يفاجئك بأنه يبحث عن الحقد ويدرب نفسه عليه حين يقول في القصيدة ذاتها:
تشعر بأنه يقول كل ما تريد قوله ،ويرسم كل أدرب نفسي على الحقد: ما تريد أن يكون منك أمام الناس ،ففي النص ذاته أن أشك في اآلخرين ،أزدريهم ،أكرههم.. يتحرر من كل قيود المشهد المعتم ،ليقول: وبالذات أولئك األصدقاء اللعينين أحاول أن أكتب الشعر ،أقرأه ،ألقيه بصوت عال الذين كانوا ينقلون إليّ صنوفً ا من الميكروبات على كائنات كثيرة تحيط بي دون أن أراها.. والفيروسات على األقل: دون أن أوبخهم على ذلك ولو لمرة واحدة.. ألتقطه من األغاني وأفكر :ماذا لو عادت الحياة إلى طبيعتها.. ألنه لقاح مجرب ضد الكآبة كيف أهدم كل هذي الجدران التي بنيتها من وال يحتاج إلى تجارب سريرية حولي؟!
40
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
محور خاص
وم ــا يمكن مــاحــظــتــه فــي ه ــذه الــقــصــيــدة، وينطبق على الكثير من قصائد الغامدي وشعره ما يسمى بالمشهدية ،والعرض البصري لعناصر القصيدة؛ ما يؤهلها لتكون سردًا دراميًا مترابطً ا منسجمًا ومتناغمًا ،فكيف لشاعر رقيق مثله أن يمتلك الدربة على الحقد ،والكراهية ،وليس ذلك لألعداء ،إنما المفاجأة أن يكون لألصدقاء هذا الكره ،هنا تنبثق فكرة الحداثة الصادمة التي تجعلك تــخــرج عــن كــل مفهوم تقليدي تعلمناه وسمعناه .فالشاعر صاحب لغة مختلفة عن غيره، وليس لغيره أن يكون سواه.
د .مهدي العلمي
ونــراه في قصيدة أخــرى بعنوان :لي ٌل يغادر قصيدة عالية من الشعر العربي الحديث تمثل المقهى ...يقول: معان ال يصلها إال وقد طواف اإلنسان بحثًا عن ٍ فقد الغاية األصلية من السعي والتطواف .ومع ليلٌ يمشي على الرصيف ذلك فإن اإلنسان الشاعر يجد وسيلة لتخفيف يمسك في يده رجال األلم وتطبيبه بالشعر وبالجمال. ويدخالن في مقهىً جانبي..
الرجل في آخر السهرة يتململ في مكانه ينهض ويجلس مرارًا وكأنه يريد منه أمرً ا ما: كأنْ يعيد له قصة حب ضائعة كأنْ يبقى معه لمدة أطول
ينقض الشاعر سريعا على مــفــردات اللغة ّ ويمسك بها ناصحً ا لنفسه أنه سيصل سريعًا إلى ما يريد،
يغادر الليل ُالمقهى وحيدً ا يمشي على الرصيف وظهره إلى الخلف يختفي رويدً ا رويدا تاركً ا البيوت والشوارع والناس.. تاركا المدينة عاريةً تماما! يعطينا مشهدًا من العمر لذلك الرجل في عدة أسطر فقط. جيل بأكمله هنا تتأكد ،وأنــت تقرأ له بــأن ً استطاع أن يتحرر مــن قــيــود الــوصــف الطويل ليختزل لنا دهرًا في أبيات!
* كاتب -مصر.
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
41
القصيد ُة الحداثيَّ ُة السعوديَّ ُة بين التأثير والتأثر ،عند الشاعر مازن اليحيا ■ د .فاطمة الشيد*
ونحن نبدأ القراءة لشاعر حداثي سعودي ،مثل الشاعر مازن اليحيا ،ندرك مباشرة أننا أمــام أنموذج جديد للشعر السعودي ،تنقلنا عالقة شعره بالمؤثرات األجنبية إلــى حقل المثاقفة مباشرةً .وتدعونا للبحث عن تمظهرات للمؤثر األجنبي ،وملمسية نصية في تفحص كيفية تمثُّ ل المؤثِّر ،والصلة الثالثية بين القصيدة العربية .لكنها ال تمنع من ّ عناصر عملية المثاقفة كلها؛ وهي :المؤثِّر -عملية التأثير -التأثر.
كنت أدري مسبقً ا بما أمرُّ ،وأعلمُ : ُ رصيف للراجلين والدارجين، ٍ سأمشي على على ام ـت ــدادهِ ازدرعـ ــوا «الـلـهــبَ األصـف ـرَ» شجرا بونسيانا! بونسيانا! أحب تمشين عمري معي) (أحبكُّ ، ِ سأقطَ عُ عن يميني بر َج «تمكين» يهف من شرفةِ المقهى عن يساري ُّ ّفات الباردُ هواءُ المكي ِ فمبنى هيئةِ المحاسبين فمدارس األطفال األهلية َس» أللت ََّف عائدً ا وقبل ما أصل «أن َ ســأح ـ َّيــي رجـ ــلَ األم ـ ـ ِـن ع ـنــد مـبـنــى هيئة العقار فأنا أدرى بمشواري ومشيتي (ألنني أمشيهِ كلَّ يومٍ في الشتاءِ والربيع)
نصا إذا كان األول من تلك العملية الشعرية ًّ أو متنًا ومستندًا ثقافيًا أو مرجعيًا مسمىً ،
فإن تمثلَّه واالتصال به يتم من خالل عملية وصول إلى نص جديد هو ً التأثير والمثاقفة، مظهر متعين وملموس للتأثير ،أو انعكاس
نصي للتأثر :حدوده وكيفياته.
وهذا يظهر كثيرًا عند شعراء القصيدة
الحداثية فــي المملكة العربية السعودية وبدل عن استقصاء المؤثر األجنبي والغربي ً خــاصــة ،كــمــا دأبـ ــت الـــدراســـات النقدية
والمقارنية أن تحدد ،نحاول فحص مقولة
التأثير ذاتها للعثور على الكيفيات المنجَ زة والممكنة فنيًا للصلة بالمؤثر ،وهو ما يمكن أن نجده عند الكثير من الشعراء ،وبخاصة
نصا عند شاعرنا اليحيا الذي ما إن تمسك ً
له حتى تتأكد أنه يركّز على فكرة التأثير في المتلقي ،وما يتسلل من النص إلى المستمع.
من خالل هذا المقطع من نص له ترى أنه إذ إننا نالحظ ،وهــذا ما سوف نتبينه من
42
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
محور خاص
خـــال ق ـ ــراءة نــصــوصــه وجــــود نظريتين
متقاطعتين في مسألة المؤثر:
تنطلق األولى من روح (استشراقية) تعرّف
المنجز الشعري الحديث في شعرنا العربي
محصول من تأثرنا بالغرب تمامًا؛ لذا ً بكونه فهو في نصوصه يبحث دومًا عن مرجعيات
غربية لألجناس واألنواع واألشكال ،وأفراد أيضا .وانسياقًا وراء النصوص وجزئياتها ً مــركــزيــة الــغــرب الثقافية وإشــعــاعــه على
المحيط والهوامش والحواشي الحافّة بمتنه بصورة لطيفة.
وتنطلق الثانية من أفق مضاد تمامًا ال
بالتحصن من تلك الروح االستشراقية، ّ يكتفي
بل يدعو إلى ردّها .وهذا الشيوع أو التشارك اإلنساني يجعل البشر يتقاسمون الهموم
ويعبّرون عنها بكيفيات مختلفة ،دون شك، في الثقافة الواحدة وفي الثقافات المختلفة، بآلية المثاقفة ذات الصيغة الوحيدة الممكنة كما سنرى من خالل تجربة الشاعر المكتملة والتي تتضح من خالل رؤيته للعالم من حوله:
وها إنني في غرفتي بعد عودتي المعجزات ِ أفنّدُ خطو ًة فخطوةً، ثانيةً ،بثانيه.
إننا حين نبحث عن المقارنات بما يتعلق ذاتــهــا ،والحلم والــقــلــق ،والــخــوف واألم ــل؛ بأخالقيات الكتابة وأعراف القراءة وميدان تحقيق النصوص ،فإننا بذلك نبعد الموازنات المجردة المحتكمة إلــى المعيار الشعري ـدل عنها نركن إلــى الموازنات الــراســخ .وبـ ً القائمة على المشترك بين النصوص ،وفق الباعث اإلنساني والفني الــذي تقوم عليه المثاقفة ،واألثر العام والمؤثر المقصود في عملية المثاقفة. لذلك ،علينا أن نقبل بالنص الشعري كما فاضت به مشاعر اليحيا الذي يرى نفسه في مركزية الكون التي ال ب ّد أن ندور حولها.
* كاتبة -سلطنة عمان.
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
43
أحمد المال :بين الشعر والسينما ■ أ .د .حسني عبدالبصير*
أن يكون الشاعر سينمائيًا ومبدعً ا ،فهنا تختلف قصة الشعر بأكملها ،أحمد المال شاعر وسينمائي سعودي ،ولد في األحساء عام 1961م ،ويعد أحد رواد صناعة تأسيسا وإدارة (مهرجان أفالم السعودية) ً السينما في المملكة العربية السعودية أيضا رئيس مبادرة مركز األرشيف الذي انطلق في نسخته األولى عام 2008م .وهو ً الوطني لألفالم في السعودية .وهو الشاعر المتمثل في روح قصيدته التي يرسم فيها أغالل الكلمات المتقنة ،والعبارات الواضحة بخفة المعنى ورشاقة الروح؛ فهو الفنان التشكيلي الــذي يرسم لوحته بالقصيدة ،وهــو الشاعر الــذي يضع كلمته في مشهد سينمائي ،يصعب على غيره أن يكون كما يريد.. مآلى بالمعنى ،بل أن تنهض وتسمي األي ــام بــأفـعــال ترتكبها عـنــوة ،وليس أس ـمــاء ورثـتـهــا ،أو صـفــات استعرتها من السابقين). هــنــا ،مشهد سينمائي مــن لغة
مختلفة يصعب على كاميرة من طراز
حديث وصفها ،أو التقاطها ،فالشاعر المجيد حين وصف النهوض لألسماء
والمعاني الممتلئة بالحياة ،فهو أمسك الشاعر أحمد المال
«يا له من يوم هائل»
عدسة الحياة التي تمكنت من التقاط مشهد معبّر في روحه ليكمل نصه:
«عليك أن تنحت ما تريد برغبة ال
(ب ـ ـ ـهـ ـ ــذه ال ـ ـ ـع ـ ـ ـبـ ـ ــارة ،أو ب ـ ــاألح ـ ــرى بمعناها ،عليك أن تنهي اليوم ،وكل تقل مـهــارة عــن صائغ يعالج الذهب بالنار والمخرز. يوم... أن تنهض وتسمي األي ــام بأسماء
44
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
وال تلتفت أبــدا ،فيداهمك الوقت
محور خاص
ويـمــرق مــن بين جنبيك كــأفـعــوان ،إمض نواقصه ،وزوائـــده ،ومــن لحظات حياته ب ـش ـهــوة ال ـم ـش ـتــاق قـبـيــل الـ ـم ــوت ،واف ـتــرع الــمــخــصــوصــة ،بــمــا هــي مــوضــوع أثير اللحظات بشجاعة الخائف على عياله ،للشعر ،ومادة لصوغ أسطورتها؛ ولذلك، انتهبها كأنها كأسك األولــى بعد صحراء يعد صاحب ملكة مميزة حين جمع بين خــالـيــة ،وتجرعها كما قــرصــان فــي بحره الفن التشكيلي والسينمائي وطوعهما في األخير». الشعر. لــتــعــرف مــن خ ــال الــنــحــت أن ــه فنان تشكيلي يتقن ما يريد.
«قم واركل غطاء يعزل رغباتك ويرتبها في أدراج مؤجلة ،هكذا يوهمك بمعطف
مــن خ ــال نــصــه تــعــرف أن الشاعر ل ـل ـب ــرد ،ب ـم ـظ ـلــة ح ـي ــن ت ـم ـطــر وب ـم ــروح ــة يضرب على وتر التلقين ،وتكوين ذاتيته الصيف ،وكأنك خانع له ،وال تحلم عاريا الشعرية ،على السبل المفارقة للبالغة تحت مطر غــزيــر ،أو تلعب بالنار فــي عز والنظم التقليديين ،فهو شاعر حداثي الشتاء ،أو تقضم الثلج كلما عنَّ للشمس بحساسية أن تدهمك ..قل لي من علمك؟ هل سئلت ٍ يعبر عن القصيدة الحداثية هي خليط بين الرومانسية الملتبسة أو ي ــوم ــا إن أردت ال ـس ـبــت س ـب ـتــا أو األحـ ــد، المزاجية ،وبين طرافة الــوجــود وخفته وهكذا».. وعبثه أحيانًا .وإذا الشعر لديه أقرب ما
مَن علمك يا أِحمد أن الشعر هنا صورة
يكون إلى محاكاة الكائن العائش وسط القلب التي تمتلكنا ،وتطير بنا معك حرفًا العالم ،وتدوين بنيان كيانه وعالمه ،من حرفًا. * كاتب -مصر.
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
45
الشاعر عبداهلل الصيخان:
البداوة والوطن ثنائي ُة ِ ■ د .يوسف حسن العارف*
في هذه المقالة ،نتعرف على رمز من رموز الشعر الحداثيّ في السعودية ،ومدى تثاقفه وتعالقه مع المنجز المعرفي والشعري الحداثوي ،من خالل بعض إنجازه الشعري. عبداهلل الصيخان الــذي فتح عينيه على بيت عاشق لــأدب ومهتم بــه ،كانت األمهات يغرسن الشعر في نفوس أطفالهن من خالل أغاني المهد وإيقاعها اآلسر الذي «يبدأ من قلب األم وإليه يعود» ،فـ»األمومة والطفولة منجمان مشعان بالشعر»! كما يقول. الوحيدة المحلية التي تصل إلى تبوك! وفي مسار تثاقفي جديد ،كان الوالد مدخله إلى الحياة العامة ،واللقاء بالناس ،وتشرب األفكار والصراعات والصداقات ،وكان الشارع مسرحً ا لأللعاب والخصومات وتفريغ الطاقات الكامنة، وتنمية المهارات وتوسيع المدارك الحياتية. د .يوسف حسن العارف
في تلك الطفولة ،كان السفر من تبوك إلى حائل مفتاح معرفة للشعر وموسيقاه ،ومن خالل صوت السائق الذي كان يتغنى بـ (الهيجنة) من أغــانــي حــداة القوافل والجمالة ،وت ــرداد األب بصوت مسموع لهذه األصوات الغنائية.
وفي هذه المرحلة المتقدمة ،يأتي الكتاب - كمصدر تثاقفي جديد -وقــراءة الشعر خاصة لتتكون المعرفة الشعرية ،وتتنامى الموهبة الفطرية ويصبح الشعر أنــيــس الــوحــدة الــذي يوصله إلى قناعة حياتية وثقافية قوامها «القراءة وقود الكتابة ..كلما قرأت استطعت أن تحافظ على شعرك صافيًا رقراقًا متجددًا» .ومع التنامي الحياتي والمعرفي ،أصبح الشعر مبتغاه ،والشعر ثقافته ،والشعر كينونة تثاقف معه وعليه.
وفي السادسة من عمر الطفولة ،كان انتقال األســرة إلى عمَّان األردن وعن طريق ال تسلكه والصيخان ال يدعو إلــى الغموض الشعري إال الشاحنات ،فكان الطريق مثار تفكُّر وتعرُّف المجاني ،وال ــذي يسعى لــإبــهــام والضبابية، رُسمت خيوطه ومعالمه في ذهنيته. ولكنه يوصي بالغموض الشفيف ،الغموض الذي وفي تبوك -بعد العودة من األردن -بدأت ال ينكشف إال للذي لديه بصيرة قرائية جادة، ثقافته القرائية من خالل الصحف والمجالت إن أجمل الشعر ما لم يمنحك يديه من القراءة ً التي تصل مع الشاحنات غامضا -نعم -وال تكن ً فضل عن الجريدة األولى! -كما يقول -كن
46
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
محور خاص
مبهمًا فالنص الشعري المبهم يتكئ على ثقافة الشعري المضيء ..وإذا كانت معارك الشكل هشة ال يعطى مفاتيحه للقارئ ..بينما النص أخذتنا في بداياتنا إلى الالمجدي في العملية الغامض يقوم على ثقافة أعمق ووعي أشمل! الشعرية إال إننا عدنا لنكتشف أن المضمون هو ومــن أســاســات المثاقفة المهمة لصناعة الشعر»! الشاعر -كما يقول الصيخان -العودة إلى النص ونتوقف هنا مــع إحــدى نصوص الصيخان القرآني كمرجعية تبني وتهذب اللغة الشعرية :الشعرية التي شكلت حداثته وصورتها أجمل فــالــقــرآن الكريم «زاد بياني وبــاغــي يتثاقف تصوير وهي بعنوان« :هواجس في طقس الوطن». عليه الشاعر بعد أن يستكمل أدوات ــه اللغوية القصيدة في ثالثة مقاطع ،في المقطع األول والبالغية» .وهنا يؤكد« :كلما وهنت لغتي ،ذهبت انحاز الشاعر إلى النص الشعري /العمودي/ إلى القرآن الكريم ،وكلما خفت إيقاعي ذهبت إلى الخليلي ،وفي هذا داللة على مثاقفة الشاعر مع القرآن ألستمد من سحرية اإليقاع الكامن فيه ما التراث التقليدي /الكالسيكي للشعرية العربية، يعوض خفوتي وقلة حيلتي اللغوية». مع التجديد المفرداتي وال ــدالالت اإليحائية. ومن مثاقفاته النقدية والشعرية والمعرفية ويــقــود الــقــارئ عبر ثمانية أبــيــات عمودية في يصل الصيخان إلى فهم أعمق للشعر وتعاريفه حــواريــة مــع الــوطــن ،تقوم على ثالثة معطيات التي يتبناها وهي مقولة قدامه بن جعفر ،ومقولة داللية وهي: القيرواني بــأن الشاعر يشعر بما ال يشعر به معطى التشكّي واالعــتــذار ،ويشمل البيتينغيره،ويستطيع التعبير عنه.وهذا ما تبناه الناقد األولين. اإلنجليزي /إليوت «إنــه الشيء الــذي تفكر فيه بإبداع ،ولكنك ال تستطيع التعبير عنه بالدرجة -معطى األســئــلــة االســتــفــهــامــيــة الحقيقية/ التقريرية حــول العالقة بينه وبين الوطن. ذاتها من اإلبداع». ويشمل البيتين الثالث والرابع. ويسجل الصيخان دور الحداثة والتراث في
تكوينه الشعري وتثاقفاته المعرفية فيقول« :في -وأخيرًا ،معطى االعتراف والتأكيد على مدى التجدد والتنامي في هذا الوطن .ويشملها بداياتي أدارت رأسي حداثة الشعر ،لكن وبفعل األبيات األربعة األخيرة. تراكمي وجدت أن الحداثة تتجلى أكثر في تراثنا
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
47
وه ــل لـصـ ـ ـ ـ ــدرك أن يـحـنــو فيمنحني وس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاد ًة ح ـل ـ ـ ـ ـمــا ف ــي ق ـي ـظــه شـجـ ــر الــغــريــب هــنــا أن الــشــاعــر لــم يــضــع عالمة االستفهام (؟) وكــأنــه يلمح إلــى أنها تساؤالت شعرية ال تنتظر من القارئ إجابة وال من الوطن إال مــا ساقه مــن مطالب وتــبــريــرات ،هــو يريد الراحة واالستراحة مما تشكَّى منه قبال ،وهو يريد أن يتحول (الــوطــن) إلــى سحابة ممطرة غيثًا ورحمة وحنوًا وأحالمًا ،وحماية من (قيظ) المعاناة بالشجر المخضر المتنامي! عبداهلل الصيخان
وعبر هذه المعطيات يتضح للقارئ /الناقد أن الوطن بتشكالته النفسية والمعنوية والثقافية ،ال بتشكالته الجغرافية أو التاريخية هي المسيطرة على هــذا الجزء العمودي /البيتي من النص، ولكنه (وطن) ينتمي له الشاعر عندما أضافه إلى نفسه (يا وطني).
ق ــد ج ـئــت م ـع ـتــذرا م ــا ف ــي ف ـمــي خبر رجـ ــاي أثـقـبـهــا الـتــرحـ ـ ـ ــال والـسـ ـ ـفــر م ـل ــت ي ـ ـ ــداي تـ ـب ــاري ــح األس ـ ـ ــى ووعـ ــت ع ـي ـن ـ ـ ـ ــاي قــائ ـلـ ـ ـهــا م ــا خــانـ ـ ـهــا بـصـ ـ ـ ــر
ثم يصل الشاعر إلى معطى االعتراف ،وذلك بالتأكيد على (وطنيته) مستخدمًا أساليب النداء ـازل في دمــي) ليبين للقارئ مــدى التجذر (يــا نـ ً واالنتماء والكينونة الوطنية المتغلغلة في ذات (نازل في دمي)،والقدرة على األخذ باليد الشاعر ً وجمع الشتات الــكــام /القولي (واجــمــع شتات فمي) وتحويل المواجع واآلالم إلى قصائد وأنغام. وهو بهذه االعترافات يجعل من الوطن مالذا للغربتين الذاتية والنفسية ،يتأمل واحاته المأمولة المنتظرة ،ويــرســم خــطً ــا موضوعاتيًا للنص/ القصيدة بكاملها وحسب مقاطعها الثالث يظهر فيها تقاطعاته مع (الوطن) وتأمالته الماضوية وعالقاته األنية وطموحاته المستقبلية ،وهو ما سنعرفه في المقاطع التالية.
هــنــا ،تــبــدو االعــتــذاريــة (قــد جئت معتذرًا) المشوبة بالتشكي :الرجالن تعبت من الترحال والسفر ،اليدان ملّت من تباريح األسى ،العينان في المقطعين الثاني والثالث تبدو سمات عرفت ووعت قائلها! الحداثة وسيمائها وتشكالتها ،إذ اختار الشاعر ثم تبدأ األسئلة المبدوءة بـ (هــل) -إحدى مفارقة النص العمودي /الخليلي والتمرد عليه، أدوات االستفهام -وفيها االعــتــراف باالنتماء بعد أن تعاطاه في المقطع األول ليبدو المقطعان للوطن ،إذ نماه لنفسه (يا وطني) وفيها المبررات وكأنهما جسران منفصالن على مستوى الشكل المأمولة لهذا االستفهام وكلها فــي سياقات والجنس الشعريلكنهما متآزران متالحمان على المستوى المضموني والموضوعاتي. إبداعية وبالغية مائزة: ينتمي المقطع الثاني -وكذلك الثالث -إلى أن ج ـئــت ي ــا وط ـن ــي ه ــل ف ـيــك متسع كـ ــي ن ـس ـت ــري ــح وي ـه ـم ــي ف ــوق ـن ــا مـطــر النص التفعيلي والنص الحر /النثري والكتابة
48
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
محور خاص
السطرية وهذه من مثاقفات المرحلة الحداثية البحر والوزن والقافية الهائية ثم الكافية: وحموالتها التجديدية ،وانتماء الشاعر لهذه وطني واقف ويدي مشرعة ً المرحلة إرثًا وتواصل معرفيًا ومجايلة حداثوية .وأنت الشهادة فيمن هلك
في هذا المقطع الثاني تبدو القرية /البادية وحموالتها ،ودالالتها ورمزيتها من خالل اللغة والمسميات البدوية /القروية مثل( :الخيمة، الرمال ،الشعيب ،النشامى ،،الراكة ،المطاريش، ذهــبــوا ،الغضي ،الــوســم) وكــل هــذه المفردات الموظفة في سياق شعري حداثي تتفاعل فيما بينها لتعطينا داللة على تشكل (الوطن) وتخلقه المنتظر من هــذه األيقونة الشعبوية /البدوية والتي تمثل «النشامى يعودون في الليل» ..و«ال أحد غير رمل الجزيرة» و«ال نجمة يستدل بها في السرى غير قلب المحب» ثم تبدأ الكينونة المندمجة في (الوطن) المأمول( :الوطن المتعالي بها مات األجداد /المستبد لهفة وهوى /المتحفز في الدم /المتوزع في كل ذراتنا) واإلفصاح عن المطالب واآلمال:
«أعطنا بصرً ا كي نراك» جميل» ً «أو وردة كي تمر بنا /فيه نلقى مساء «قرنفلة في عرى ثوبك األبيض» «خذ يدينا ..إذا صفنا ..وأقم يا إمام الرمال صالة التراويح فينا» «ثــم أعطنا جــذوة حية في الـفــؤاد الخلي كي نصطفيك» ليصل في ختام المقطع إلى الوطن المنتظر والمأمول الذي سيظل «شامخً ا كالنخيل الذي ال يموت /واضحً ا كالطفولة /كالشمس.»... ثــم نصل إلــى المقطع الــثــالــث ،ال ــذي يؤكد حداثة النص ،وحداثة الشاعر ،وفيه تأكيد على انتمائية الشاعر للوطن ،عبر عودته الموسيقية من النثرية الشعرية إلى العمودية التفعيلة ،حيث
ثم عودة نحو االعتذارية التي بدأ بها القصيدة:
«إنني واقف خلف ظهرك مفتتحا وجعي باعتذار المحبين ً حين يطول النوى /خاشعً ا في محياك»... مؤكدا على ثنائية البداوة التي تشكل هوية الشاعر ،والوطن المنتظر:
وطنًا تتعالى به غيمنا إذ يجف بنا الورد سلوتنا في مساء التغرب رغيف الفقير فضاء البياض سماء لنا الضوء إذ يستدير الحلك أما الشاعر ،فصورته اإليجابية تتبدى من هذه األوصاف:
واقف خلف ظهرك خاشعا في محياك القلب لك متكأ والغمام فلك! بــهــذه الــثــنــائــيــة الــشــاعــر /ال ــوط ــن ،تتنامى القصيدة /النص في حداثية المعاني ،حداثة التناول ،حداثة اللغة .وكلها دالــة ومشيرة إلى مثاقفات الشاعر واستكناه الجديد في معالجة االنتماء للوطن عبر عنوان دال ومثير( :هواجس في طقس الوطن) ،حيث التأكيد على ما يمور من مشاعر وأحاسيس في نفس الشاعر ،وما يتشكل أرضا وسكانًا حيث منه الوطن جغرافيًا ومناخيًاً ، ماض وحاضر (الطقس) المتقلب المتحول بين ٍ ومستقبل.
* كاتب سعودي.
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
49
غسان الخنيزي... ُ السرَّ القلب الذي حكى ِ ■ د .مجد الشمري*
شاعر مختلف في مسيرته الشعرية ،وعبر مجموعتين ،اختار الخنيزي أن ينقل كلمته إلى ساحة الشعر في العام 1995م ،أتبعها عابرً ا بقصائده ونصوصه إلى نافذة الشعر الحديث مرة ،ومرة كـ «محتال» كما يصفه جمهور ذواقة القصيدة، بعد أن سرّب أبيات الشعر األجنبية وترجمها إلى العربية بلغة شاعرية! باتت الحرية هي عنوان القصيدة الجديدة في السعودية مع انتشار المدونات والمواقع اإللكترونية ووســائــل التواصل االجتماعي، حــيــث الــفــضــاء الــمــفــتــوح الـ ــذي ال يخضع للرقيب ،والمجال الكبير لتعدّد مرجعيّات الكتابة؛ فتعدَّتْ الكتابَ الورقي إلى اللوحة الفنية ،والصورة الفوتوغرافية ،والموسيقى، والــســيــنــمــا! وم ــن هــنــا ،تــطــورت القصيدة السعودية ووصلت الى رقم قياسي يصعب معه غسان الخنيزي التحليل األعمق لها؛ ألنها تمكنت من تجاوز اإلنــســان واإلنــســان إلــى عالقة مباشرة مع فكرة النقد التقليدي. الطبيعة المصطنعة ،بعيدًا من «اآلخر» ،ومن نقرأ للخنيزي في قصيدته« :القلب الذي ثــم ،فــإن جدلية الــذات والموضوع اختزلت حكى السر»: إلــى ثنائية بين مــوضــوع وآخ ــر ،ليعلن نعي
ال ـ ـخـ ــريـ ـ ُـف ك ـف ـي ــل بـ ـحـ ـس ــمِ مـ ــا بـ ـق ــيَ مــن التفاصيل نقصدُ ما ظ ّ َل منها على األغصانِ ـري بـفـ ِ ّـك اآلص ــرةِ الـتــي خلقَها انتظا ُر ح ـ ٌ معجزت ـِه وتـهــدئــةِ انـتـظــارنِ ــا النـحـســارٍ أخ ـيــرٍ لــورقــةٍ أخيرة. بــقــدر م ــا تــعــاظــمــت إم ــك ــان ــات الــتــقــدم الصناعي والتكنولوجي ،تحولت العالقة بين
50
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
اإلنساني ،والحميمي ،ولتتحول الحداثة إلى نقيضها ،أي إلى «ما بعد الحداثة» .وبذلك تتحلل العالقات االجتماعية ،ويفسح المجال للثقافات المهمشة التي تسعى إلى التعبير عن نفسها بالضرورة ،وبالقوة إن لزم األمر؛ األمر الــذي يوجد تعددية ثقافية ،يدعمه رفض ما بعد الحداثة للفصل بين الثقافة الراقية وثقافة الجماهير ،وهــذا ما يظهره المبدع الشاعر السعودي الــذي تمكن من اختراق
محور خاص
نجمة التقليد ،ليصل إلى عمق أكبر بكثير من قدرة الوعي الجمعي الذي أصبح مقلّدا لتلك الحداثة ،إذ إن الفكر ما بعد الحديث ال يقبل أبدًا وضع اإلنسان إزاء العالم ،بل يراه ويعيد إنتاجه في صور؛ ذلك ألنه -كما يرى آالن تورين -يضع اإلنسان في العالم من دون مسافة. ونرى في القصيدة نفسها:
في المُ حَ ّ َصلةِ بعضها: الغرف ك ُلّها تشابِ ُه َ ُ أخالط من اإلسمنت والفيزياء ٌ قوانين ِ ومعاهدات بين ٍ لخرائط َ كل ذلك ِطبقً ا ُّ الطبيعةِ والعناصر ـاف إليها َمـكــرٌ أس ــودُ ،أو حكمةٌ زرق ــاءُ ،في مـضـ ٌ القلوب العديدةِ للكائن ِ «ال ـق ـل ــوبُ ال ـت ــي ح ـكــت ال ـ ـس ـ ـ َرّ» ،وال تـ ـم ــوتُ ،في مدافنِ ـها الجدارية. ـرف شـهــو ُد الطبيعةِ على سَ ــحَ ــرةٍ ثــم أطـ ّبــا َء الـغـ ُ وضجةٍ عظيمة عال ّ بصوت ٍ ٍ يتحدّ ثو َن «النبض اآلتي من قلبِ ه» ُ كي ال يُسمَـ َع ذلك ري الس ِ ّ كانوا قد دفنو ُه كما دفنوا آبا َء هذا الِ مزاجِ ِ الذي يجمعُ نا المذبح الذي شه َد ك ّ َل العُ هودِ التي تبادلناها ِ في يافِ عَين. ذهول َحض ٍ ثم إن عم َر الكهولةِ كا َن م َ ميع ُة الصبا لم تُفارِ قْنا، ـراط ش ــيء م ــن ال ـتــرقـ ِـق ق ــد وَسَ ـ َم ـن ــا ج ـ ـ ـ َرّا َء ان ـف ـ ِ األسئلةِ ،والتردّدِ ،والحَ يْرةِ التي سمّ يْناها :تأمّ ل. لقد تمرد جيل ما بعد الحداثة على مركزية اإلنــســان ،وأنــزلــوه مــن عليائه ،لــم يعد هــو مركز الوجود ،كما لم يعد هو الذي يتحكم في الموجودات والطبيعة حــولــه .كما لــم يعد دور الــفــن تصوير
الطبيعة بقدر ما صار يهدف إلى االمتزاج بالحياة؛ ومــن ثَ ـمَّ ،تساوى اإلنــســان بالموجودات األخــرى، وأصبح جــزءًا من دورة الحياة اليومية .وقد ينتج عن ذلك كله أن الشعر ينزل من عليائه ،ويصير شكال مختلفا عن اإلحساس الجمهوري أو الكلمة الحماسية .وهذه هي ميزة النص الحداثي الذي يبدعه الشاعر ويتقبله المتلقي. يبدو الخنيزي وكأنه يخبر القارئ عن مجمل النصوص ،هذا الشاعر الذي يخبر ق ـرّاءه بمعنى
الشعر ،فيقول في أحــد نصوصه« :الـشـعــر كــام قليل ،يـكــون لــك متى استيقظت مــن غفوتك، أيها الشفاف في المنام ،المعتم في اليقظة»، ثم يتبع ذلك الوصف« :هو كالم قليل يقال في الـتــرحــاب ،ال ــذي تقوله أيـهــا الـنــاطــق ،للجموع اآلت ـيــة مــن تــاريــخ مـخـيـلـتــك ،للجماهير التي تـحـيــا فــي ال ـكــذب األب ـي ــض ،ال ــذي تــوارث ـتــه من ساللتك».
* كاتب -العراق.
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
51
ُ كتب تأويل ما لم ي ُ ْ ρأحمد قران الزهراني*
-1-
اكتب كما لم تستطع من قبْلُ ، ْ الكلمات، ِ تترك حديثً ا عاب َر ْ ال الحروف فوارقَ المعنى، ِ دعْ بين وع ّز ْز من حضورِ َك في الكتابة. -2-
التنصيص، ِ قالت :تركتُ ك تستبينُ عالم َة المعجم الحرفيِّ ؟ ِ أين مكانُها في تقص ِد النجوى، ال تستخدم التأويلَ دون ُّ القول، ِ وخلِّ الساع َة األولى لمن يهوى افتعالَ رت ّْب ما تراه مناسبًا في صفحةِ األسماءِ ، أي كتابةٍ ال تحملُ السلوى فليس لر َْس ِمها الوقعُ المؤثرُ في الخريطةْ. ُّ -3-
مخفي عن األضواءِ ، ٌّ الحب ِّ قالت :يُ عِ يبُك أنَّ صوتَ لم تعمدْ على إشهارهِ ، نفسك، ِ مكنون ِ تستنكف اإلفصا َح عن ُ وكأنّما الحديث، ِ وجهتَ بوصل َة ال تبالي أينما ّ الفعل يختصرُ المساف َة عنوةً، ِ بعض َ لعلَّ قالت :تنبّه حينما تكتب، فثمَّ الحزنُ يسكنُ فيك، ال تعب ْر إلى أقصى القصيدة. -4 -
اكتب كما لم تستطعْ من قبلُ ، ْ المنافح عن قضيتهِ ، ِ ال ترتدَّ عن دورِ الشعري، ِّ المنطق ِ ُك كي تُعي َد كتاب َة األشياءِ وفقَ فهذا اآلن دور َ تكتب خيان َة وردةٍ في الظلِّ ، ْ ال منح قُ بْلتها، تمارس طقسَ ها في ِ َ دعْ ها هاهنا حتى األلوان، ِ تكتب موارب َة الفراشةِ في عالقتِ ها مع ْ وال واكتب عن طفولتِ َك الحميمة. ْ
52
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
محور خاص
-5-
موغل في الحزن: ٍ قالت بلهجةِ ْ تنس التفاصيلَ الصغير َة في الحوارِ ، ال ْ عينيك لن تنساه إال برهةً ، َ فكلُّ وجهٍ مرَّ في َك في الغوايةِ ، فاكتب شبيه َ ْ سجن خفيٍّ ، ٍ سير َة الشعراءِ في عن روائيين في المنفى، اللغوي، ّ التغريب من مفهومهِ ِ عن بائع لم يكترثْ بالبردِ ، رحلةِ ٍ عن أنثى تساو ُر وقتَها المحمومَ، عن شغف الحكاية. -6-
نص الروايةِ ، سطرين من ِّ ِ أكتب سوى الرحلةُ ابتدأتْ ولم ْ الرفاق المحبطين، ِ بعض أسماءِ ِ العنوان، ِ الترقيم في ِ عالمةِ العامل النفسي، ِ قانون حقّ ِ تعديل على ٍ اإلعالن، ِ هزيل ال يعي ما اللغزُ في ٍ جندي ٍّ سجالت الشكاوى، ِ أكتب لم ْ درس النحوِ ، غادرت َ ُ ذكرياتي حينما أكتب سوى ما لم تقلْهُ َصبِ يّةُ المقهى، لم ْ قديم دون أن يُ لقي سالما عابرً ا، ٍ سوق غريب م ّ َر من ٍ ٍ بالحكْ ِم، قاض تلعث َم ناطقً ا ُ ٍ أكتب نبوءاتي الهزيلةَ، لم ْ تمثال بوذا، ِ للبحث عن ِ رحلتي عن قواميس المرُ سكيين، عن حمّ ى الغواية. -7-
تكتب، ْ قالت :تركتُ َك حين لم فهيء طقسَ ك الروحيّ ، أحالمك الكبرى، َ شف من خذْ ما َّ تترك مكان ََك دون أن تُلقي وداعً ا الئقً ا بكتابةٍ أخرى ْ وال منعطف النهاية. ِ تزُ فُ َّك نحو * شاعر سعودي.
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
53
ً مؤذية خياالت ..ليست ٌ ρعمر بوقاسم*
الشمس تسقط في البحر، بمعنى أن الشمس تغرب، وأن الظالم يخرج من تحت أوراق األشجار الكبيرة ذات األغصان الطويلة، األغصان التي تتسلقها الشمس صباح اليوم التالي وهي مبللة بنهارها الجديد.. خياالت طفل ،نعم، خياالت طفل، خياالت واضحة وليست مؤذية، ترافق الطفل إلى مدرسته، تنسيه ربطة حذاءه الرياضي، تنسيه العالم، يشطب الكثير من الجمل الخاطئة والصحيحة المكتوبة في دفتره، وعند عودته من المدرسة يقف أمام البيت المهجور الذي يتوسط الطريق!.. يتأمل الباب الخشبي والنوافذ والجدار وبيت عنكبوت ممزق، يقترب من الجدار ويضع أذنه ربما يسمع بقايا من أصوات الذين عاشوا قي هذا البيت، هناك الكثير من األصوات تسكن في جدار البيت المهجور ولكن ال يمكن أن يسمعها إال بخياالته ،خياالت واضحة وليست مؤذية.. في البحر الشمس تسقط ،نعم ،الشمس تسقط في البحر ،بمعنى أن الشمس تغرب.. * كاتب وشاعر سعودي.
54
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
محور خاص
األشباه ρعبدالرحمن موكلي*
كتابي ّْ وجهك في َ رسمت ُ فتقاط َر األشباهُ، كلٌ ، ابي بصورته يِ َص ّْ .... وجهك َ رسمت ُ عذابي ّْ وكنتَ ساعتَها كم فاضت الفرشا ُة من نورٍ ال ال.. والماء استوى بِ ّْي رسمت وجهَك دونما ُح ُج ٍب ُ من بعدما ذهبت بك األحالمُ محتفل ً ونظرت في المرآةِ ملك؟ هو أينا ٌ اب الخ َض ِ متناسيً ا يَوم ِّ ............................ وجهك َ رسمت ُ الغروب ِ ما همني ظَ لُّ األوقات ِ يسيل منحدرًا على وشى بِ ّْي وال َضاللَك كمْ َّ كن كن جابر الكلمات تغشى الليالي بنومهن
وتغيب في سكراتهن وإذا جرحن فيك أغنية أح ـ ـ ـلـ ـ ــى تـ ـق ــاسـ ـمـ ـه ــم سناك َ ................. كـ ـ ــن حـ ـبـ ـيـ ـ ًب ــا ل ـل ــذي رضاك َ يَنشدْ َاسطا قريبًا من مداك ب ْ يوما إذا ضل المجاز طريقه أو غاب.. تبسط على المعنى هواك ....................... فدى ..يفدى كن ً وصالة من بلغوا سماك هدى ..يُ هدى ً كن عساك النور تسبقنا خطاك ......... حجتنا كن مَ َّ إ َّال ومَ جمعُ وقتنا تَراك أول سعينا؟ لو ضاعْ .. سنضيع يا جاب ْر معاك!
* شاعر سعودي.
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
55
مى الجنَّ ُة ْ أس َ
ρأحمد إبراهيم البوق*
تكتب؛ ُ ماذا الكلمات َفرَاشَ ا ُ كي تتحوَّ لَ هذي فتيك َ يتطايرُ من شَ إلى أُذُ نيْها؟ الشعرِ حقل ِّ ستحصدُ من ِ ُ كيْف سب َع سنابلَ تُهْ ِديها من أحببت؛ النابت ُ الضجرُ كي يتآكل هذا َّ القلب وبين الرُّ وح؟ ِ بين كيف على مسرح شفتيْك ذات الكلمةِ ؛ تلعب ُ ُ السكِّ ين، الفصل األو ِّل دو ُر ِّ ْ في وفي الفصل الثّاني دو ُر الوردة؟! نقائض َ فيك ذاك ألنَّ اهلل أو َد َع َ الح ِّب، تتأرجَ حُ بين ُ وبين الحَ ر ِْب، الشعرُ ! حرف الرَّ اءِ انزلق ِّ ومن ِ هاك طريقَ الجنَّةِ، وك، وبالش ِ َّ وق بالش ِ محفُ وفً ا َّ ْ فأمض حافِ ي القدمين، ِ روحك حقلَ ورودٍ حتى تتحوَّ ل كلَّ ُج ِ أسمَ ی فالجنَّةُ ْ من أن تدخلها بكل أناقتك الشعرِ يَّة باب خل ِْفيٍّ .. من ٍ * شاعر سعودي.
56
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
محور خاص
خطوت خارجا فور َ ما ُ ρمازن اليحيا*
شمسها! ُ أش َرقَت يبسمُ كأنَّ كوكبًا نحن فيهِ ِ قلت :أمشي في شارعِ العليا ،أرسمُ ُ ّاك والزجاجَ ،عَ لّني الشب َ واضحا ومنظرا ً ً ِأش ُّف صدرًا ثابتً ا، يتغيّرُ ..
غير أنّي، ـارجــا ـوت خـ ً ف ــو َر مــا خـطـ ُ من باب بيتي ـش ال ـس ـم ــا َء فــيَّ أدهـ ـ ـ َ زرقةً أدهشَ ني: يدي تشكّ لَ ّاك بين َّ شب ٌ
كنت أدري مسبقً ا بما أمرُّ ،وأعلمُ : ُ ينشئُهُ )! رصيف للراجلين والدارجين( ،كأنَّ غيري ،بلذّ ةٍ ِ ، ٍ سأمشي على على امتدادهِ ازدرعوا «اللهبَ األصفرَ» شجرً ا حملتُ هُ ،بدَرفَتيهِ المشرَعَ ه، بونسيانا! بونسيانا! ومشيت مشواري.. أحب تمشين عمري معي) (أحبكُّ ، ِ ....... سأقطَ عُ عن يميني بر َج «تمكين» يهف من شرفةِ المقهى عن يساري ُّ ّفات البارد ُ، هواءُ المكي ِ فمبنى هيئةِ المحاسبين، فمدارس األطفال األهلية.. َس»** أللت ََّف عائدً ا وقبل ما أصل «أن َ األمن عند مبنى هيئة العقار؛ سأحيَّي رج َل ِ فأنا أدرى بمشواري ومشيتي (ألن ـنــي أمـشـيــهِ ك ــلَّ ي ــومٍ فــي الـشـتــاءِ والربيع)
....... ....... وها إنني في غرفتي بعد عودتي، المعجزات؛ ِ أفنّدُ خطوةً، فخطوةً، ثانيةً ،بثانيه.
* شاعر سعودي. ** أنس :شارع أنَس بن مالك -شارع شمال الرياض يقطعها من شرقيها لغربيها.
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
57
األيام هذه ُ ρمسفر الغامدي*
أدرّب نفسي على الصمت: أال أقول شيئا دون شعور بالذنب، أو أستمع إلى أحد إال خائفا وزائغ العينين، أال أصافح أحدً ا أو أشتاق إلى أحد، أن أغلق األبواب والنوافذ بإحكام.. أقبض على نفسي جيدً ا، َ وراء قضبان غليظة ،وأسوار عالية.. أن أكون سجينًا وسجانًا ،متهمً ا وبريئًا وأن أتخذ مسافة آمنة من الجميع.. عال أحاول أن أكتب الشعر ،أقرأه ،ألقيه بصوت ٍ على كائنات كثيرة تحيط بي دون أن أراها.. على األقل: ألتقطه من األغاني ألنه لقاح مجرّب ضد الكآبة، وال يحتاج إلى تجارب سريرية قد تستغرق شهورًا طويلة.. أدرب نفسي على الحقد: أن أشك في اآلخرين ،أزدريهم ،أكرههم! وبالذات أولئك األصدقاء اللعينين.. الذين كانوا ينقلون إليّ صنوفا من الميكروبات والفيروسات دون أن أوبّخهم على ذلك ولو لمرة واحدة.. وأفكر :ماذا لو عادت الحياة إلى طبيعتها، كيف أهدم كل هذي الجدران التي بنيتها من حولي؟!
58
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
محور خاص
ليلٌ يغادر المقهى.. ليلٌ يمشي على الرصيف رجل يمسك في يده ً ويدخالن في مقهىً جانبي.. الرجل في آخر السهرة يتململ في مكانه ينهض ويجلس مرارًا.. وكأنه يريد منه أمرً ا ما: كأنْ يعيد له قصة حب ضائعة كأنْ يبقى معه لمدة أطول كأنْ ... لكنه ال يبدو مقتنعً ا؛ ألنه ما إن يستسلم الرجل لمقعده، ويبدأ صوته في الخفوت، حتى ينهض الليل يلملم أشياءه: قصصا لحبو األغاني ً والخيانات ِ والدسائس َ الوشايات ِ األحال َم والكوابيس، النجو َم البعيد َة والخافتة.. يلملمها في حقيبة سوداء ضخمة، ويخرج تاركً ا الرجل خلفه ،وقد تحول إلى رماد!.. يغادر الليل المقهى وحيدً ا يمشي على الرصيف وظهره إلى الخلف، يختفي رويدً ا رويدً ا تاركً ا البيوت والشوارع والناس.. تاركً ا المدينة عاريةً تمامً ا! * شاعر سعودي.
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
59
اإلبر ُة والقاع ρمحمد احلرز*
حررت اإلبرة ُ سحبت من الثقب ُ حين آخر خيط في البكرة. وجهك يبتعد الخطوات تتهشم اللمسات ترتعش النظرات تعوم هائجة.. أشياء كثيرة ال تصل إلى أماكنها: صباحك يتكوّم على العتبة ثم يذوب كالثلج ليليك يهتز مثل رقّ اص الساعة ودربك موقد صغير ال ترى منه سوى خطوط يديك وأيامك الالحقة ضباب كثيف في الممر
وصـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـت ـ ـ ــك الـ ـ ـ ـ ــذي يتمدد ح ـ ـيـ ــن تـ ـض ــرب ــه بحجر يصبح شاهقا مثل جبل كان عليك أن تحدّ ق طويال في وجوه كثيرة انفرطت من عقدة الخيط قبل أن تختبئ في ثياب الهواء. كان عليك أن ال تمكث قرب الضرير الذي علمك كيف تطرز الغياب؟ األيدي العاطلة عن الحياكة تقول: أعد الخيط إلى اإلبرة فالشقوق وصلت قاع حياتك.
* ناقد وشاعر سعودي.
60
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
محور خاص
ُ الليل نشو ٌة هاربة ρعبدالوهاب العريض*
بياض يحدقُ فِ ي و َْجهِ ي ٌ ويعكس انطفا َء النهارِ ُ للحارس اللَّيلَي بتحيةِ المساءِ ِ َهمس أ ُ ريق الط ِ صف قَهوتِ ي فِ ي َّ أسكب نِ َ ُ الفنجان ِ كَي ال أُثْ ِقلَ عَ لى **
جنون ٍ ذات ُ ُرج َه االعَالِ ي أخرجت ذاكِ رَتِ ي ِمنْ ب ِ ُ فتحت النافذ َة ُ هَ رَّ بْتُ هَا باح الص ِ أَو َقفَنِ ي أَنِ ينُ َّ **
شموخا ً يَشهقُ الجبلُ وحينَ يَصلُ إلَى قِ مَّ تِ هِ ِ سيكتشف أنَّه كانَ وحيدً ا ُ **
ُسعالِ َه يثقلُ َصدرِ ي رحي ُالمس ُج ِ وجههَا ت ُ َجاعيدُ ِ ت ِ صباح ٍ زالت كُ لَّ والمطفأ ُة ال ْ التفاح ِ تُعلِّقُ سجائِ رَهَ ا كأزهارِ **
وجهِ ي بينَ راح َت ْيهَا أخذتْ ْ تعاويذ خبيثةٍ ِ هَ مسَ ْت بِ أحبك يا مالكِ ي َ وقالت: **
كقنديل يُ ضئُ البيتَ بِ سجادتِ هِ ٍ َّاب يَفْ تَرِ ُش الغي ِ ويُ ْشعِّ لُ فِ ي صدرِ الدَّ هشَ ةِ أُمنيةً ثم يرحل.. **
الليلُ نشوةٌ هاربةٌ الحبيب ِ بينَ كَفَّ ي َسقط الوهْ مُ ي ُ فَيُ عانِ قُ كَأسَ هُ يَفرِ ُش حَ بَّاتَ َثل ِْجهِ ويدخل كهوف الكلمات **
الشتاءُ ؟! زن فِ ي هَ ذا ِّ أي ُح ٍ ُّ بالطين؟ ِ أقدامٌ ملطخةٌ أصدقاءٌ منْ المسبحةِ ا ْن َفر َُطوا؟ صيف؟ ِ وجوهٌ تناثرتْ عَ لى الرَّ زالت تنتظرُ ؟ أ ْم ُطفولةٌ ال ْ **
حزن.. ذات ٍ ُ حَ ِملَ دُ مو َع قِ ن ِْديلَه وجابَ الشوارع بحثً ا عنْ الشيءْ مجهول ٌ صوت ٌ استَو َقفَهُ ْ فهرولَ َس بَينَ نَهْ َد ْيهَا اِ ْند َّ ي َْسكُ ُب أَنِ ينَهُ كأسا تلو األخرى.. ً **
الشفا ُه الملتهِ بَةُ فِ ي فَمِّ ي أيَّتُ هَا ِّ أيَّتُ هَا اللَّحظَ ةُ الغافِ يَّةُ فِ ي ذاكرتِ ي َرحي تُعلِ نُ مَ و َتهَا َجاعي َد ف ِ دَعِّ ي ت ِ َالحبُّ و فقدْ خَ انَنِ ي العُ مْ رُ والـوَقْ ـ ُـت و ُ الدَّ ر ُْب.
* صحافي وشاعر سعودي.
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
61
القلب الذي حكى السر َ ُ ρغسان اخلنيزي*
«بأثر من إدغار آالن بو وتميم بن مقبل» ٍ
بحسم ما بقيَ من التفاصيل ِ الخريف كفيلٌ ُ األغصان ِ ظل منها على نقصدُ ما ّ َ بفك اآلصرةِ التي خلقَها انتظا ُر معجزت ـِه حري ِ ّ ٌ وتهدئةِ انتظارنِ ا النحسارٍ أخيرٍ ،لورقةٍ أخيرة.
في المُ حَ ّ َصلةِ، بعضها: َ الغرف ك ُلّها تشابِ هُ ُ أخالط من اإلسمنت والفيزياء ٌ قوانين الطبيعةِ والعناصر ِ ومعاهدات بين ٍ لخرائط َ كل ذلك ِطبقً ا ُّ القلوب العديدةِ للكائن. ِ مضاف إليها مَ كرٌ أسودُ ،أو حكمةٌ زرقاءُ ،في ٌ تموت ،في مدافنِ ـها الجدارية. ُ القلوب التي حكت الس َرّ» ،وال ُ « وضجةٍ ّ عال بصوت ٍ ٍ الغرف شهودُ الطبيعةِ على سَ حَ رةٍ ثم أطبّا َء يتحدّ ثونَ ُ عظيمة «النبض اآلتي من قلبِ ه» ُ كي ال يُ سمَ ـ َع ذلك ري الذي يجمعُ نا الس ِ ّ مزاج ِ كانوا قد دفنو ُه كما دفنوا آبا َء هذا الِ ِ كل العُ هودِ التي تبادلناها يافِ عَين. المذبح الذي شه َد ّ َ ِ في ذهول ٍ حض ثم إن عم َر الكهولةِ كانَ مَ َ ميعةُ الصبا لم تُفارِ قْ نا، انفراط األسئلةِ ،والتردّدِ ،والحَ يْرةِ التي ِ الترقق قد وَسَ مَ نا جـ َرّا َء ِ شيء من سمّ يْناها :تأمّ ل. الثواب إذً ا، ُ االنخراط في الطبيعةِ ُ هو االنضمامُ إليها كحجرٍ ، تمثال ،للفتى. ٍ أو فتى،أو
62
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
محور خاص
خطـ ُْف انتباهة
األشياءُ ك ُلّها مُ ضمَ رةٌ في انتباهةِ الفتى األشياءُ ال تُسمّ ى ،كأن تكونَ جزير ًة ال نهتدي إليها تكشفُ ها.. وال من أشعّ ةٍ كونيّةٍ ِ يض أو مردةٍ ماطرين لثيران بِ ٍ ٍ الفورية ِّ لكننا ننظرُ إلى السماءِ بحثً ا عن القوةِ واألرض صفحةُ كتابةٍ ،خضراء. ُ ألي ِْدي الموجُ يمسحُ ما كتبتْهُ ا َ حض اتّجاهٍ لما هو ُجوّاني يد ،مَ ُ خفّ ةُ ٍ ِ درك الفتى أنّ السواحلَ فارغةٌ ليُ َ األوراق لحظ َة ِ الطريق ،تكون عــاريــةً من ِ نتصف ِ والشجر َة الوحيد َة في مُ وصولِ ه. الرغبات ِ كان القصدُ أنْ يركِ نَ إليها في مُ ـتَـنز ٍّل من الصوت الذي يأتي ُصحب َة األفكارِ ِ يجلس منصتً ا إلى َ والنيّةُ أن للتعب الذي هو عُ نوانُ ما يحدُ ث ِ ويكونُ أحيانًا موسيقى تصويريةً مؤثرات صوتيةٌ لموجةٍ تمسحُ كفرشاةٍ ،ما ينقش على الرمال. ٌ أو التعط ِف باليدين ّ مر ًة أخرى نُطبِ قُ على يسقط الفتى في هُ َوّةِ ال ُل ِّج َ مخاف َة أن برسم االنتظار. ِ األبد ِ حيث زَبانيةُ الحظوظ وتتشابَهُ حينَ تنصهرُ الخامةُ ،التي هي بشرٌ ،في ُ هكذا إذً ا تميلُ انتباهةٍ خاطفة. كل متوحدةٌ ،أو غرفةٌ لها حديقةٌ ،هي بحرٌ في ِ ّ ّ كأن السعادةَ ،جزيرةٌ يقولونَ ّ : مرمى للنظر والفتى لمّ ا يزلْ في الحديقةِ كل األشياءِ التي ،ال اس َم لها. ضمرُ ّ َ يُ ِ
محور خاص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
63
كأنهم ماجدون ،وأوفياء
في الضي ِّق من األماكن ،بين هديرِ مراجل تصطك ساع َة الفيض.. ّ وعتالت جبارة، ٍ واتساق نجومٍ في القبة. ِ حظ، سمعنا صدفةً ما بدا لنا كضربةِ ٍ ِ ثم إننا استرقنا السمع بعدها متتبعين النجوى بين توأمين في األرحام أو هكذا ُخيّل لنا: بعض كالمٍ عما يعترش ويتدانى، ُ الشجيرات الصغيرةِ ،التي يتدفق الماء من تحتها. ِ وعن محض عطش، ُ ين أو يسير أو إنه وكنا ،بفعل إلهامٍ ليس بهّ ٍ نرى أنفسنا عصافي َر البحث عن االرتواء. ُ لهْ وُ ها ،وشقاؤها، القليل منا بالكادِ تذكّر األصل ملعبًا لخلّين وفيين، ِ الروض الظليل كان في َ أن استشف من األستار َّ يغمران البِ طاح بما والمظالت أوراقُ الشجر، ُ حيث ِسترٌ في عراءٍ ، يدوزنان طاق َة التذكر يقوالن األشيا َء بأقل قدرٍ من التفاصيل والحدة ألنها مبهمةٌ ورحيمة انغراسها في الحواس. ِ في لم يدركا أن االشيا َء التي ال نراها قد ترانا بحجم األثير. ِ وأن النجوى ،فاضحةٌ كموسيقى والعالمات كلها أنبأتنا بما سيأتي استكانت محض دربكةٍ لألقدار وقد ْ َ ليست خروجا عمّ ا في السرائر. ً وليست ألجيال ال نعرف عددها، ٍ اليوم ستذكرُ هُ ما أيدينا التي حملتهما واأليدي ستورق أفكارًا -بل فكرة واحدة ،وعميمة تشبه التشظي الذي نسميه عيدً ا أو مهرجان.. حيث نُشهر أيقونات الطمأنينة ،وطالس َم التمني ويُ سمع وقعُ خطىً ألشباهٍ لنا يرتحلون دائمً ا، ثم إننا نعود إلى البدء، وكأننا ،كأنهم ،ماجدون ،وأوفياء. * مترجم وشاعر سعودي.
64
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
محور خاص
َ ً صخرة في الماء بحزنك تُلقي ρعلي احلازمي*
الجناح ِ في األَربعينَ وأَنتَ مقصوص الطيران ثانيةً ِ ِّض المعنى على تُحر ُ بالفعل أَنْ تخطو ِ َّك قاد ٌر كأَن َ درب السحابةِ من جديد على ِ
***
يه َك ماض لِ تِ ِ ٍ ْك الريحُ أَوزا َر الحكايةِ مُ ذْ وقفتَ حَ مَّ َلت َ بباب أَمْ ِس َك مُ وثَقَ القدمين، ِ النشيد ِ أهداب ِ ال العمرُ َير ِْجعُ صوبَ الفاتنات يَعُ دْ نَ ُ الصبايا وال َ من شجرِ الطفولةِ نح َو حقلِ َك باسمات
***
النبع ِ في األَربعينَ هناك قربَ يأخذُ َك الحنينُ إلى ِظباءٍ ُ ُصغي لشدوِ َك كلما آنستَ لم تَعدْ ت ِ الكلمات ِ ُخطوتَها وغر َد طائرُ وحيد بالفؤاد، ٍ صن من غُ ٍ ُتل ِْقي بحزنِ َك صخر ًة في الماءِ وجه َك قد تَشَ َّظى تُبصرُ بد َر ِ أوجاعهَا ِ جحيم اللحظةِ الثكلى ومن ِ من ***
في األَربعينَ وأنتَ مشدودٌ الموشح ِ النايات في شَ ِال ِ إلى الهديل يمامةً منسيةً ، ِ لمعناك المسافرِ في َ ِجدْ الرهيف َ ُره ِق اللحنَ ال ت ِ الذكرى استدارت آهات من ِ ٍ بجمرِ كالسوار روح َك ِّ حولَ ِ ُك الماضي في األَربعينَ يخال َ ناك حدائقهِ وأَنتَ هُ َ ِ قريبًا من عالق، ٌ المخيلَةِ يد ِ في بِ ِ
محور خاص
***
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
65
لم تكترثْ حينَ ارتحلتَ بشوك أَسئلةٍ ِ التماع َك في المجازِ ِ إلى بعيد في ُخطى َقدَمَ يك يُ حدِّ قُ من ٍ الطرقات ِ في األَربعينَ اآلنَ في اللك كلما لن تحتا َج أَن تطوِ ي ِظ َ باه ِج الدنيا لتبل َغ يممتَ صوبَ مَ ِ ُك التذكرُ ِضفَّ ةً في التِ يهِ ،يسأل َ عن مرايا ُحل ِْم َك الباقي متى كنتَ ارتبكتَ النسيان آخ َر مَ رةٍ ؟ ِ بحضرةِ ماضيك المسالِ َم إنْ وقفتَ َ ما َضرَّ التح َّي َة ِ بباب طيبتِ هِ وأَلقيتَ ِ الءات ٍ عابرً ا مُ تخففً ا من ِع ْبءِ طش ال َهبَاء ينيك ِمن عَ ِ َ َروَتْ عَ
***
***
الذكرى تزورك امرأةٌ من ِ َ في األَربعينَ تسائل ً فال تقسو على نَاياتِ ها مُ َمس نجواها البعيد، عن أ ِ تعالَ ُخذْ هَ ا السراب و ُردَّهَ ا ِ طواحين ِ من لربيع بهجتِ ها األثيرِ وزهرِ هِ ِ ُوحها المنسيِّ ُصغي لطائرِ ر ِ اهتمَّ أَن ت ِ في شَ جرِ الغياب كُ نْ قُ ْربَها مَ طرً ا حريريًا ارتبكت ْ إذا ابتسمت ْ وكُ نْ وتَرً ا مجازيًا إذا وكُ نْ شغفً ا وجوديًا التفتت.. ْ إذا ولكن، حرائقها المديدةِ، ِ حين تدنو من ال تكن غي َر الرماد ! * شاعر سعودي.
66
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
محور خاص
ء ُ طروادة ِنسا ُ ديستوبيا كارهة للنساء ■ بسمة عالء الدين*
عادت بات باركر مجددًا إلى الــوراء في التاريخ إلى األسطورة؛ لتواصل إعادة تقييم قصص الـمــرأة في التاريخ ،بروايتها العميقة لحرب ط ــروادة من منظور ضحاياها من اإلناث بعنوان «نساء طروادة» الصادرة مؤخرً ا في أغسطس 2021م، السـتـكـشــاف الـفـظــائــع ح ــول ديستوبيا الكالسيكيات الـقــديـمــة ،وســردهــا الغني والصريح للقصص ،اللذين يعكسان تشابه العالم القديم مــع الـقــرن الحادي والـعـشــريــن؛ لـتـصــوغ اإلي ـقــاع الــزمـنــي بـيــن الشخصيات واألم ــاك ــن والتغيير إلــى امتدادات ترتد بين الماضي والحاضر؛ ما تجعل الحدثين كحدث واحد ،لتربط باركر بين ما تعرضت له النساء في الحروب القديمة والحديثة. الكاتبة البريطانية الحائزة على جائزة لتنتقل من الحرب إلى ما بعدها. بوكر الشهيرة بثالثيتها التجديدية، كان إعادة كتابة لمؤامرة اإللياذة في والــمــرشــحــة لــجــائــزة 30,000جنيه «صمت الفتيات» من وجهة نظر الملكة إسترليني لروايتها «صمت الفتيات»، األسيرة ،بريسيس ،التي سقط أجامنون التي تحكي قصة بريسيس ،األميرة التي وأخــيــل على حيازتها ،لــم تكن المهمة صنعت عبدًا ألخيل ،الرجل الذي قتل زوجها وإخوتها ،كما يتم سرد األسطورة السهلة التي حددتها باركر بنفسها ،من الــيــونــانــيــة ك ــأس ــط ــورة أودي ــس ــي ــوس الصعب تهميش أخيل -المرعب ،صاحب هوميروس ،أما هنا ..فهي ترِ وي القصة الكاريزما العالية والمحكوم عليه بالموت من منظور الملكة المأسورة بريسيس ،المبكر ،من خالل عيون بريسيس.
دراسات ونقد
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
67
مع إعادة تخيّلها لتداعيات حرب طروادة، اتخذت بات باركر قصة عمرها 3000عام وجعلتها تبدو جديدة وعصرية ،تم الكشف فيها عــن القاعدة اليونانية التي يسكنها مقاتلون من الرجال والنساء األسيرات ،على أنها «معسكرات «لالغتصاب» .ولكن ،كما الحظت بريسيس نفسها« ،األغنية ليست جديدة لمجرد أن صوت المرأة يغنيها». بقيت القصة واحــدة بشكل رئيس حول الرجال ،لكن في هذا الجزء الثاني ،تحررت باركر من التقليد الملحمي الذكوري ،والنساء، كما يشير العنوان السردي المركزي للقصة وهي تجلب الحياة إلى شخصياتها المختلفة، مع التركيز على تأثير البيئة الداللية للمكان التي أعتادت الملحمة القديمة على تقديمة بصور أخرى ،في رواية باركر الحديثة تركت اإللياذة وراءها ،ووضعت أساس روايتها عن مجد الحرب ورثائها ،واعتمادها على «نساء
68
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
طــروادة» بشكل أســاس ،وال تــزال بريسيس الراوي ،بالتركيز على مصادر مختلفة تمامًا منها مأساة يوربيديس ،لتجعل من الحبكة الــروائــيــة تداعيات وتــطــورات دراماتيكية، بينما تنتظر النساء حتى يتم اختطافهن إلى اليونان ،نــرى حياتهن كسجينات ،ونتعرف على ذكرياتهن :نهب وحرق طروادة ،مذبحة مواطنيها بما فــي ذلــك األطــفــال وأسرهم واستعبادهم. كانت بــاركــر تتفحص الحطام البشري للحرب منذ عقود ،في التجديد المنصوص عليها في جناح لــأمــراض النفسية خالل الحرب العالمية األولــى ،وقالت إنها نظرت إلى الضرر النفسي بنظرة أعمق مما سبق، حتى أصبح خروجها للحيز المكاني بالعودة إلــى الماضي ح ـرًا ومفتوحً ا على التجريد شكل ومضمونًا حتى االنسالخ ً والتجديد إلى السرديات الكبرى للقصة.
دراسات ونقد
المؤلفة بات باركر
كشفت نساء طروادة عن الجروح المروعة
يحتل موضوع االعتداء الجنسي المرتبة
في الوجوه التي تم من خاللها تمييز الجنود الثانية فــي الــروايــة بعد االســتــرقــاق ،لغة ٍ السابقين .على الرغم من أنها مهتمة بشكل باركر في هذا الكتاب الجديد واضحة ،فجّ ة
ٍ أساس في هذه الرواية الجديدة بالنساء في وحديثة ،تُقال بوضوح وببساطة ،مع عدم الجانب الخاسر ،إال إنها على قيد الحياة وجود غموض في المفردات أو التلميح ،تُقرأ ً أيضا بــاإلرث الــذي ينقله المنتصرون إلى هذه الرواية أحيانًا كإعادة سرد لألطفال أطفالهم. ألسطورة تُروى ،لكن استنتاجاتها للبالغين -
في باالس أثينا" :حارس المدن؟ هل هذه بال رحمة ،مجردة من الجمال المعزي ،عندما مزحة؟ دعونا نأمل أال تحرس هذه المدينة تتحدث الشخصيات عن الطريقة التي قام
إال بــالــدم" .في حفل زفــاف بريسيس على بها المحاربون اليونانيون ،باغتصاب امرأة ألكيمس :مــاءة ملطخة بالسائل المنوي طروادة على المذابح لتدنيس معابد طروادة ملفوفة حول كتفي ،فتات الخبز في شعري ،من حين آلخر ،ينهار األمر في الحمامات، أشعر بالغثيان ،ورائحة الجنس على هيلين ،تبكي بريسيس مرة واحــدة فقط ،ليس في نبيل ،كما ً وقالدة الكدمات التي أعطاها لها مينيلوس :لحظة درامــا فاضحة أو حزنًا
ليخنقها.
دراسات ونقد
حدثت عندما أشار بريسيس إلى أن العبيد 75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
69
المراهقين في مجمع بيرهوس «اجتمعوا معًا الرفيع. كمجموعة» ،كما لو كانوا يتحدثون عن خطة لــيــس مــن ال ــض ــروري أن يتطابق تتابع اللعب لفريق كرة السلة على حد وصفها ،مع ذلك ،فإن فظاظتها تولد طاقة من الغضب األح ــداث فــي النص الــروائــي مــع الترتيب الــمــألــوف التقليدي ألحــداثــهــا كما أثبتت لدى القاريء ..هذه حرب طـــــــروادة لــيــســت فقط ال ـ ــدراس ـ ــات الــبــنــيــويــة مــجــردة مــن األســطــورة، لــلــنــص ،إذ بـ ــدأت هــذه ولكنها ج ـ ـرّدت مــن كل الــروايــات كعالج خيالي بقايا األبطال الزائفين أو الغــــتــــصــــاب اإلبــــــــادة النبالء. الجماعية ،كانت باركر تـــــــــيـــــــــروي ســـقـــط تكتب للتوعية بعشرات محاربوها ،حتى أطفالها اآلالف من النساء الالتي الــذيــن لــم يــولــدوا بعد، ماتوا جميعًا .ترك الجثة ت ــع ــرض ــن لــاغــتــصــاب المشوهة لملك المدينة خالل الصراع البوسني، المنهوبة ،بــريــام ،ملقاة لتتناول الزمن بمستوياته، على الكثبان الرملية من وتمثيل الــمــدة الزمنية قبل المعسكر اليوناني، ال ــت ــي عــاشــتــهــا الـ ــذات نتنة ومغطاة بالكامل -كما توصف بات بــاركــر بشكل مرعب منظر الجثة بـــ آالف اإلنسانية للنساء تحت وطأة االستعمار من الذباب يغطيها ..مثل زغب من الشعيرات وجهة نظر الكاتبة بالنسبة لهن ،واسترجاع السوداء. الوقائع الماضية المنقضية ،كما بالنسبة يتناسب هــذا النوع من اللغة الصريحة لنساء طروادة ،لترتبط عناصره بعامل الزمن والوحشية مــع النية التي تشاركها باركر الــذي يشكل البنية الخطية للعمل ،لم يكن والــمــتــحــدث بــاســمــهــا ،بــريــســيــس ،إلخــبــار االعتداء على أجسادهن فحسب ،بل على الحقائق عن العنف والعبودية دون التركيز على جمال دراما األزياء أو الزينة المخصصة أمتهن ..ليشير بريسيس إلــى أن اإلغريق بالمرأة كما يهدينا دائمًا األسلوب األدبي «يقصدون محو شعب بأكمله». * كاتبة -مصر.
70
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
دراسات ونقد
تمثالت صورة الرجل ُ في الكتابة النسائية ■ د .إميان عبدالعزيز املخيلد*
مدخل لقراءة الخطاب في الرواية
اختلف النقاد فــي تعريفهم لـلــروايــة النسوية؛ هــل هــي الــروايــة التي تكتبها المرأة ،أم الرواية التي تقدم رؤية نسوية تنحاز للمرأة ولقضاياها ،بصرف النظر عن كاتبها ،ســواء أكانت امــرأة أم رجــا؟ واستمر هذا الجدل كثيرً ا إلى أن حسم األمر من قبل المدرسة النسوية الفرنسية التي أكدت أن األمر يتوقف على نوع رجل كان أم امرأة. الخطاب ،بصرف النظر عن منتجه ً وق ــد فــن ـدّت الــنــاقــدات النسويات الرجال ،أو حتى تكتبها بعض النساء ،ال الخطاب الذكوري في الرواية ،وكيف تفارق تلك الصور النمطية والتي تجعل صوّر هذا الخطاب المرأة واختصرها من المرأة موضوعا للكتابة وليست ذاتًا في صور نمطية مكررة؛ ال تخرج عن فاعلة. صورة المرأة المغوية ،التي تجعل من ويحتج بعضهم على كتابات النساء إغواء الرجل هدفها ،والمرأة المخادعة التي تحاول أن تخرج على قيم المجتمع وخطابهن الــنــســوي ،الــذي يــحــاول أن من أجل اإليقاع بهذا الرجل ،والمرأة ينتصر للمرأة ،بأن هناك من الرجال من الضعيفة التابعة التي تستحق ما يقع أوقفوا مشروعهم اإلبداعي على المرأة، بطل لهذه المشاريع عليها من قهر وغبن ،والعين الفاحصة وأن المرأة كانت ً والمدققة لهذه الــروايــات التي يكتبها اإلبداعية ،ويحتجون بكتابات نزار قباني
دراسات ونقد
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
71
وإحسان عبدالقدوس .من هنا ،يمكن الرد عليهم أن هذين النموذجين الشهيرين اتخذا من المرأة موضوعً ا للكتابة ،ولم تأت النساء في إبداع نزار قباني أو إحسان عبدالقدوس أو كل من سار على نهجهما في الكتابة من الكتّاب المعاصرين ،لم تأت المرأة ذاتًا ،إنما جاءت موضوعا للكتابة ليس إال ،وكان الرجل يحصر هــذا الموضوع (الــمــرأة) في صور نمطية مهما تعددت وتنوعت؛ لتؤكد نظرته الذكورية لوجودها. لكن حينما انتقلت الــمــرأة مــن وضعية (الموضوع) إلــى وضعية (ال ــذات) الفاعلة المبدعة ،وبدأت تمارس الكتابة ،قامت بثورة عارمة ضد الصورة التي رسمها لها الرجل، وتجلى تمرد المرأة في الكتابة بأن جعلت المرأة /الــذات هي البطل الرئيس؛ فتقوم باألحداث وتُ َع ُّد بؤرة وجودها ،ومن ثم أصبح الــرجــل هــو الــظــل ..صــار الــرجــل شخصية ثــانــويــة ،أم ــا الــنــســاء فــجــئــن فــي نصوص الكاتبات فاعالت منتجات للخطاب.
الذكورية ،وتحليل هذه الثقافة وانتقادها بوصفها ثقافة تهمش وتنال من وضعيتها االجتماعية .ونتيجة لهيمنة الثقافة ونيلها من النساء وتقزيم وضعياتهن االجتماعية وتهميشهن ..بدأ ينمو لدى النساء الكاتبات وعيًا نسويًا ضدًا لتلك الثقافة.
في قراءة رواية «أنثى العنكبوت» لقماشة الصورة الضد في «أنثى العنكبوت» العليان ،سترصد الكاتبة التصورات الذهنية سأطبّق على رواية من الروايات النسوية عن الرجل ،كما ترصد التصورات الذهنية لتستجلي صورة الرجل في كتابات النساء، عن الذوات األنثوية في الرواية. مــن ناحية ،ومــن ناحية أخ ــرى تبحث في منذ العتبات األولى للنص ،يتجادل وعي صورة المرأة وتصورها عن ذاتها .حين تبدل الحال؛ فأصبحت المرأة تُق ِّد ُم شخصياتها الكاتبة بخصوصية الوضعية االجتماعية وبطالتها األنثوية في صورة إيجابية نامية للمرأة مــع الثقافة الــذكــوريــة التي تعيش خاصا بذواتهن فيها ،إذ يمكن قراءة المقدمة الغيرية التي متطورة ،تجعلهن يمتلكن وعيًا ً وبتاريخهن االجتماعي ،وبعالقاتهن بالثقافة وضعتها دار الكفاح التي نشرت الــروايــة
72
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
دراسات ونقد
الرجل وقيوده الذكورية؛ فالرواية العربية المعاصرة تكشف عن مآسي النساء ،كما تكشف قهر الرجال لهن ،ودور الفكر الذكوري الذي يستغل وضعية المرأة الستعباد النساء، ودأبت الروائيات على تحليل عالقة المرأة، وتصبح كتابات النساء صرخة ضد ثقافة االستعباد التي يمارسها الرجل الذي يتبنى الثقافة الذكورية التي تهمش النساء ،تصبح كتابات النساء صرخة من أجل الحرية .في مفتتح «أنثى العنكبوت» تطرح العليان سؤال الكتابة ال ــذي يــؤرقــهــا ،إنــه س ــؤال الحرية فتتساءل :ما الحرية؟
لتؤكد على مناهضة الخطاب السردي الذي سوف تقدمه قماشة العليان لقيم المجتمع ال ــذك ــوري ،بــل يصل األم ــر بالناشر (دار الكفاح) بأن يرى أن هذه الرواية «تحاكي أحــام المرأة السعودية ،وترصد لحظات السعادة العفوية ت ــارة ،ولحظات االنهيار تــارة أخــرى ،إذ كــان ال بد للمرأة أن تجثو على ركبتيها أمــام الــرجــل ،وبــقــدر اإلثــارة المضطربة التي أحاطت تفاصيل الرواية بأسلوب سلس وتلقائي وغير متوقع ،فإنها تصلح أن تكون بوابة لدراسة الحياة اليومية النسائية فــي منطقة الخليج والمنطقة العربية» (قماشة العليان ،أنثى العنكبوت، أتساءل عن معنى تلك الكلمة الساحرة دار الكفاح1431 ،هـ). الرائعة الحارقة ،أنا المكبّلة باألغالل وقيود والسؤال الذي يجب أن تجيب عنه الباحثة ال ترى ،وقضبان تحيطني من كل الجهات، من خالل قراءتها لرواية «أنثى العنكبوت» هو هل الحرية هي السعادة ،االنطالق ،التحرر كيف صوّرت قماشة العليان الرجل؟ وكيف من كل شيء وأي شيء ،أم هي حرية الرأي، وحرية الكلمة ،وحرية التفكير؛ أم تراها الثورة صورت عالقة المرأة به؟ إن ال ــق ــارئ لــلــروايــة الخليجية بعامة على التقاليد ،واألحكام البالية المتوارثة من والــســعــوديــة بخاصة ،يمكن لــه أن يرصد آالف السنين؟» (المصدر نفسه ،ص.)9
الصور المغرقة في السلبية ،والتي تتنوع ما بين الرجل القاسي الــذي يمارس قهره ضد النساء دونما منطق ،والرجل المهووس بالجنس الذي ال يرى في المرأة سوى جسدًا يُنتهك ،والرجل الخانع الذي ال يتمكن من حماية أســرتــه ،والــرجــل المقهور مــن قبل السلطة وال ــذي ال يتمكن مــن مواجهتها. وعــمــدت الــروائــيــات ،ومنهن العليان ،إلى مواجهة سلطة الرجل للهروب من قهره ،كما عمدن إلى اختبار وسائل عدة لتكسير سلطة
دراسات ونقد
إنّ تحليل الخطاب السردي للمرأة الكاتبة يُمكِّن الــقــارئ االفتراضي من قــراءة كيف تــرى المرأة العالم ،كيف تعبّر عن رؤيتها لهذا العالم ،كيف تعبر عن مخاوفها وقلقها وهواجسها ،كيف تعبر كذلك عن تطلعاتها وآمالها وطموحاتها .وتتبع صورة الرجل في الرواية النسوية؛ لبيان حضور الرجل وتمثله في المتخيل النسوي يطرح عدة تساؤالت أول عن :كيف نظرت الروائية- -كساردة ً وامرأة ثانيًا -من خالل نصوصها المتخيلة 75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
73
إلــى الــرجــل؟ وهــل كتبت ذاتها من خالله؟ هل تجلى الرجل كفاعل ذكوري في مجتمع سلطوي أم بقي مجرد تشكيل سرديّ يحكمه التخييل داخــل البنية السردية ذاتــهــا؟ إن قضية «صورة الرجل في المتخيل النسوي» تستدعي بــالــضــرورة رصــد تمثّل حضور الرجل في الرواية النسوية التي يمكن أن تتنوع ما بين :الرجل المتسلط ،المقهور، العابث ،اإليجابي ،الرجل الحلم. تفتتح قماشة العليان في «أنثى العنكبوت» سردها بقصة بدرية أخت الساردة أحالم، التي تريد الطالق من زوجها الذي يقهرها، لكن األب يرفض ذلك ،بل يجبرها على أن تعيش رغما عنها« :أبــي كــان رده صاعقًا حاسمًا ومباغتًا ،وجوده ألجم األفــواه حتى أنني توقفت عن بكائي .قال بلهجته الواثقة: «ليس عندنا مطلقات في العائلة ،ولن يكون، ستعيشين مــع زوج ــك وتتحملين معه كل الصعوبات ،ثم تموتين معه ،فبناتي الالتي أزوّجهن ال يعدن أبدًا إلى بيتي ،هيا ..هيا انهضي؛ لتعودي إلى زوجك .تجمدت مالمح بدرية ،وفتحت فاها أكثر من مرة ،لكنها ال تنطق أبدا ،وألن كلمة أبي ال ترد أبدا ،فقد نهضت إلــى حجرتها تجمع أشياءها وهي تبكي ،تبكي بحرقة وألم ...عادت بدرية إلى بيت زوجها مطأطأة الــرأس ذليلة ليمارس عليها شتى صنوف القهر واإلهانة واإلذالل وسحق الكرامة» (المصدر نفسه ،ص.)14
والتي تأثرت ثقافتهم بقيم المجتمع ،ورؤية الكاتبة لهذا السلوك ،ومدى أثر هذا الكشف على الحدث الروائي ،تتشوه صورة كل الرجال في نظر الساردة وشخصياتها النسوية ،تقول: أنس ألبي موقفَه هذا ،وال موقفه مني «لم َ بعد ذلك بشهور ،حين تعرضت ألبشع موقف تتعرض له طفلة في مثل سني وظروفي، حينما حــاول جارنا أن يغتصبني رغــم أن االغتصاب لم يتم ،والمحاولة أجهضت في بدايتها لعناية اهلل ورحمته ،إال إنــه ترك نقطة س ــوداء فــي حياتي ،وأثـ ـرًا ال يمحى على م ّر الزمن ،اهتزت معه كل المبادئ أمام نظري ،واختلت القيم واضطربت المرئيات، فبت أرى من خالل هذا الرجل المتوحش الذي يغافل زوجته؛ ليخدش براءة طفلة في سن ابنته أن الرجال على مختلف أعمارهم وألوانهم سواء في الخبث أو المكر والغدر، وأنه ال أمان مع رجل كائنًا من كان بدءًا بأبي وانتها ًء بأي رجل آخر على وجه البسيطة»! (المصدر نفسه ،ص.)14 شخصية األب في النص نتيجة لقسوته المفرطة تسهم فــي تشويه الشخصيات تقصدت الكاتبة أن تكشف مدى نفسيًا ،لذا ّ التشوه في نظرة النساء للرجال ،ذلك التشوه ال ــذي تحدثه الثقافة الــذكــوريــة القاهرة للنساء.
توظّ ف الكاتبة عناصر النص الروائي وجمالياته؛ لتكشف من خاللها تصورها عن تــعــمــد الــكــاتــبــة إلــــى رصــــد الــمــامــح الــرجــال ،ال تترك عنصرًا إال وأفــادت منه السيكولوجية ألنماط الرجال في الرواية في رسم صور وأنماط الرجال في النص،
74
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
دراسات ونقد
األمكنة الروائية تجسيدًا لهذا األثر ،وأصبح تأثير المدينة على تغير تــصــورات الرجل ومفاهيمه أكثر تجليًا ،فحين انتقلت أحالم من المدينة (الــريــاض) للعمل مدرس ًة في قرية من القرى البعيدة عن المدينة ،بدأت تتنازعها المخاوف والهواجس من نظرة أهل القرى لفتيات المدينة ،إذ تعمد الكاتبة عبر صوت ساردتها أحالم إلى كشف المسكوت عنه في النظر إلى فتيات المدينة ،واعتبار هامش الحرية الضئيل الــذي يتمتعن به خروجً ا عن النسق القيمي للثقافة الذكورية: «ماذا يظن بي هذا الشاب؟ ترى هل يعتقد أنني فتاة مستهترة من بنات المدن الوقحات الخليعات الالتي يعاكسن الشباب بسهولة ويسر كما يشربن الماء؟ ترى هل يعتقد أنني فتاة الهية ضائعة تستجيب ألول رجل يطرق بابها؟ كال يجب إفهامه الحقيقة ،وتعريفه ح ـ ًقــا مــن هــي أحـــام وم ــن هــو والــدهــا». (المصدر نفسه ،ص.)67
فيصبح للرجل تأثيرًا أســاسً ــا في تشكيل إحساس الشخصية األنثوية نحو الزمن، وذلك من خالل التوقف الزمني النفسي؛ إذ تلون إحساسها به ،نتيجة لعالقتها بالرجل غيابًا وحضورًا؛ وبذلك يتوازى وعيها بالرجل مع وعيها بالزمن ،ليغدو الرجل هو الزمن، أي إنــه كلما كــان الرجل غائبًا عن النص فإن اإلحساس بالزمن يختفي ،بعد تعرض الــســاردة في طفولتها لمحاولة اغتصاب، ال يثور األب على جارهم الــذي حــاول أن يغتصب ابنته ،بل يلوم الصغيرة ،ويتهمها بسوء األخــاق ،ويضربها بعنف ،وتقع األم فريسة للمرض النفسي ،وتدخل المستشفى، ويتزوج األب وينتقل إلى بيت جديد تاركا الفتيات الصغيرات وحــيــدات يرتعبن من مــرور الزمن ببطء عليهن« :حينما أجتمع وأخوتي في إحدى الغرف ترتعد فرائصنا عما يمكن أن يحدث لنا في اللحظة التالية، وتــطــول الــلــحــظــات والــدقــائــق والــســاعــات والــخــوف يضخم األوه ــام وينفخها بروحه تمثالت الكاتبة لصورة الرجل ليغدو كل شيء مجسمًا مخيفًاـ فحركة الرياح يمكن رصد تمثالت قماشة العليان لصورة هــي مجموعة لــصــوص سيقتحمون علينا البيت ،وشجار القطط هو رجــال ُم َقنّعون الرجل في متخيلها السردي في عدة صور: ابــتــدأوا يكسرون أبوابنا ،وقطرات المطر ص ـ ــورة األب الــمــتــســلــط ال ـ ــذي يقهر هي خطوات أحــد المجرمين المسلحين» الشخصية الروائية ،بل وكــل الشخصيات (المصدر نفسه ،ص.)17 النسائية في الرواية ،شخصية األب الذي للمكان جمالية ساعدت في الكشف عن قهر بدرية وألزمها أن تعود لزوجها ،وهو الرجل وموقعه الثقافي واالجتماعي ،وأثر يعلم أنه سيذيقها الــذل والــهــوان ،هو ذاته الرجل على المرأة في نظرتها نحو المكان الذي قهر أحالم وهي طفلة صغيرة ،واستمر إيــجــا ًبــا وســلـ ًبــا ،وج ــاءت المدينة مــن أكثر القهر حتى حينما كــبــرت وتحصلت على
دراسات ونقد
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
75
شــهــادة عالية مــن الجامعة تؤهلها لتعمل مدرس ًة في المدارس اإلعدادية ،ومع ذلك ظل يذيقها الــذل والهوان ألوانًا وأصنافًا، ومن خالل شخصية األب ،تكشف الكاتبة المسكوت عنه في الثقافة الذكورية التي مـ ّكــنــت الــرجــل مــن الــســيــطــرة عــلــى أرواح النموذج الثاني لصور الرجال في النص، النساء" :وجدت أبي يتحدث في الهاتف ...هو الزوج ،الذي يحتل المساحة الثانية في بك؟". سألني بحدة :ما ِ قهر النساء؛ فالزوج في الرواية يأتي قاهرًا رويت له ما حدث لي بصوت متهدج وأنا أو أنانيًا ،أو خائنًا! وقد ألقت العليان الضوء أنشج بين كل كلمة وأخــرى ،وما إن انتهيت على مــدى الهامشية التي تعانيها الزوجة من روايتي حتى فوجئت بصفعته المدوية والعالقة المتوترة مع الزوج. في ثالثة أنماط من الرجال :النمط األول، هو األب ،الذي يعد أول رجل في حياة المرأة وهو النموذج التي تحدد في ضوء عالقتها معه تصوراتها ورؤيتها للرجل في مستقبل حياتها.
على صدغي ،تلتها صفعة أخرى ،ثم صفعات وصفعات وهو يدمدم بكلمات متقطعة: لقد انهارت األخالق ،سوء تربية ،البنت كبرت وانحرفت ،ليس في بيتي من تكون ساقطة األخالق ،جذبني صديقي األكبر من بين يديه بصعوبة وهو يتابع صرخاته: لن تخرج هذه البنت من البيت أبدا أبدا، سأحبسها حتى تتعلم كيف يــكــون األدب واألخالق .هيا اغربي عن وجهي» (المصدر نفسه ،ص.)15
بدرية أخت أحالم الكبرى تعاني من زوج ال يقل بشاعة وتحكمًا عن أبيها ،ومع ذلك ال تتمكن من أن تنال حريتها ،ترسم الكاتبة التجلي الثاني لصورة الرجل ،الــزوج الذي يمثل الصورة الثانية من صور القهر الذي يمارس ضد النساء« :إن بدرية ليست سعيدة فــي زواجــهــا ،زوجــهــا سكير وعربيد ،دأب على ضربها طوال حياتها معه ،حتى حملت وأجهضت ،ثم عادت إلى بيتنا باكية طالبة االنفصال عن زوجها مفجرة كل ما اختزنته من أحزان طوال عام كامل هو عمر زواجها. أمي التزمت الصمت كعادتها ،ال كلمة وال رأي ،ال إحساس وال حتى تعبير عن الوجود» (المصدر نفسه ،ص.)13
وج ــاءت شخصية األب رمـ ـزًا للمجتمع الذكوري ،رمزًا للسلطة ،ألنه صاحب القرار والمرجع الذي يحدد الواجبات التي يخضع لها الجميع في األسرة ،فاألب في النص ذو تتكرر الــصــورة السلبية لــلــزوج ،وتتكرر بعد قمعي مضطهد ،ركزت العليان في رسم المواقف التي تكشف مــدى قسوة صــورة مالمحه لتصور رفضها مظاهر العنف التي الرجل في الرواية« :حادثت شقيقتي الكبرى يمارسها اآلباء على أبنائهم. بدرية ،ورجوتها أن تبيت معنا هذه الليالي وتتنوع تمثالت صورة الرجل في الرواية فقط ،لكنني سمعت زوجها على الطرف
76
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
دراسات ونقد
اآلخر وهو يصرخ ويسب ويشتم» (ص .)17يقول :أنا ال أريد الزواج إال من واحدة فقط بل إن السرد يُفتتح منذ أن نجحت «أحالم» يا أبي». في قتل زوجها ،طلبًا للحرية ،ثم تعود عبر صعق! هل هناك من يجرؤ ذُهل أبي ،بل ُ الفالش باك ،لتستجلي حياتها عبر الذاكرة على معارضته في شيء ،أو التصدي له في االسترجاعية ،تعود للحظة والدة أحالم في أي أمر من األمور؟! فوجئت بصفعة مدوية مستشفى األمراض العقلية ،حيث كانت األم تردد صداها في بيتنا المفجوع من أبي على تحتجز هناك؛ لمرضها العقلي! ثم يتتابع صدغ أخي ،وهو يهدر بصوته القوي: السرد لنعرف أن زمن القصة تقريبًا يستغرق ستتزوج ابنة عمك شئت ذلك أم أبيت ،فقد ثالثين عامًا ،منذ زواج أحالم وقتلها لزوجها اتفقت مع عمك على ذلك ،ولن تكسر كالمي. ورجوعً ا بالفالش باك. وض ــع صــالــح ي ــده عــلــى مــكــان الصفعة ثم تأتي الصورة الثالثة للرجل ،متمثلة في وهّ ـــم أكــثــر مــن م ــرة بفتح فــمــه؛ ليتكلم، صورة األخ ،الذي يمثل في مجتمعنا العربي لــيــنــاقــش ،لــيــصــرخ أو يــعــتــرض ،لــكــنــه لم وجهًا آخر من أوجه العنف الذي تعاني منه يستطع ،وال استطعنا نحن ،وال أمي تفوهت النساء؛ فهو السلطة الثانية داخل األسرة، بكلمة»(المصدر نفسه ،ص.)21 ينصب فيحل محل األب فــي غيابه ،وقــد ّ وهكذا ،عبّرت الكاتبة عن تمثالتها لصورة نفسه كثيرًا الرقيب المسؤول عن تصرفات أخته ،إذ تلعب التنشئة االجتماعية دورًا الــرجــل الــتــي حملت الكثير مــن السلبية، مهمًا فــي تشكيل مــامــح شخصية االبــن فلم تقدم قماشة العليان في روايتها «أنثى سلبًا أو إيــجــا ًبــا؛ فيحق لــه فــرض سلطته العنكبوت» صــورة إيجابية واحــدة للرجل! على األصغر منه تأهيال لتوليه السلطة بعد للتأكيد على رؤية المجتمع النسوي للمجتمع ورفضا لخطاب األخير اإلقصائي ً والده ،لكن األخ في «أنثى العنكبوت» نتيجة الذكوري، لسلطة األب المفرطة والمبالغة في القهر ،للمرأة ،سواء أكانت امرأة كاتبة ومثقفة أم يرسم بصورة سلبية ال حول له وال قوة ،بل امــرأة عادية؛ فكال النموذجين يقع عليهما قد يتعرض للقهر مثله مثل النساء في النص :قهر المجتمع الــذكــوري ،وكــا النموذجين «أخي صالح أجبره أبي إجبارًا على الزواج عرضة الضطهاد هــذا المجتمع ،وحينها من ابنة عمه رغم ارتباطه بقصة حب مع امتلكت المرأة /الكاتبة الفرصة الحقيقية ابنة الجيران ووعده لها بالزواج ..وقف أبي للتعبير عن مكنون ذاتها وكل الذوات األنثوية يرتجف من رأسه حتى أخمص قدميه وهو في مقاومة القهر والتهميش واإلقصاء. * كاتبة سعودية.
دراسات ونقد
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
77
وادي قنديل ُ أطياف الذاكرة المستعارة ρوحيد غامن
تتلكأ ثريا لــوكــاس فــي إحــدى المقابر وريقات غيم حداد ،هي (الناجية) والباحثة شــمــالــي لــبــنــان ،يحيطها صــمــت األســى عــن ذاك ــرة وهــويــة ابتلعهما البحر الــذي وال ــخ ــواء ،لنستعيد مــعــهــا ،مــع أفــكــارهــا اختطف ذويها ولفَظها. المبعثرة ،أحداثًا تنتهي في أيلول من سنة 2034م ،حيث تبدأ الــحــروب وال تنتهي،
إذ تكون لها حياتها الوحشية الخاصة؛ وللمفارقة ،هــي حــيــاة حفيظة وريــقــات،
شخصية حميمة.
هكذا تبدأ رواية (وادي قنديل) للكاتبة
نسرين أكــرم خــوري (منشورات المتوسط 2017-م).
ثريا لوكاس التي هي طــرف من روايــة
تشكلت ،عبر قراءتها ألوراق غيم حداد
الــتــي دونــتــهــا عــن حياتها وحبيبها أنس عبدالرحيم ،االثــنــان مــن حمص احتميا
برفقة بعض األصدقاء بسقف شاليه في القرية التي حملت الرواية اسمها ،خالل الحرب األهلية السورية.
تحاول لوكاس مالمسة قدرها من خالل
78
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
تبدأ الرواية عند أكثر من تاريخ ،تنفلت من وعي لوكاس أحيانًا ،ثمة ضبابية تخلقها اللغة ،تبدأ في 2011م خالل الكريسماس رمز الحياة -وعبق رائحة األطعمة فيمطبخ جورجيت أم غيم «في عيد القديسة بربارة ..جورجيت تسلق القمح ،ترش على وجهه السكر المطحون وجوز الهند ،تزيّنه بالمكسّ رات وحبيبات الحلوى الملوّنة -ص .»-19 وب ــي ــن ق ــف ــر ومـــــــوات ال ــم ــق ــب ــرة (ف ــي المستقبل) ونــكــهــة أف ــاوي ــه ال ــوج ــود في الماضي -الحاضر ،وهو كرنفال يضمر خداعً ا وبوحً ا أخرس عن حوادث قاسية. تقول غيم «أخبرتكم أنني فتاة صامتة -ص ،»-19الفتاة الصامتة ستحل المأساةُ عقدة لسانها فتستوي على أرجوحة يومياتها بين المستقبل والــمــاضــي ،لعبة الــمــوت الــذي
دراسات ونقد
يسبق الحياة ،ويدير دواليبها.
هي ككاتبة متخفّية ،إنها تتخفّى من سرديّة
غيم حــداد هي محور العمل وموجّ هه ،الــحــرب الصريحة الــقــاســيــة ،بحواراتها تخلق أطيافها من ذاكرتها التي تهيم في الفضفاضة ،تبلغها األشــيــاء واألحـــداث أحياء حمص ،ودمشق العتيقة ،والالذقية ،والشخوص جاهزة في مبناها ،وهو مبنى وال تشاركها فــي لعبة التذكر ســوى ثريا مفكك في داخلها بعدما زال االرتكان إلى لوكاس ،فيما يفترض أن يكون حضورها قيمة موضوعية أو شخصية محدّ دة .نراها معادل موضوعيًا ،إال إنها معادلة تفتقر تخاطب حبيبها« :حتى أنت لم تنج مني، ً لمساحة متوازنة ،فالجميع ترنّحه رقصة اتهيّب صدور سلوك عنك ال يالئم معايير اغــتــراب وانــهــيــار داخــلــي ،انــهــيــار الــذات دقيقة وضعتها لحبيب البطلة ،تخيل! تأتي أهميتك فقط من كونك حبيبي ،كل والهوية واألمكنة والزمن الخاص والقيم. األمــور األخــرى المتعلقة بشخصك أركنها ب ــدءًا مــن حــادثــة اختطافها وخالصها فوق الرفوف مثل طقم أواني ثمينة -ص الهويّاتي ،مسيحية -كاثوليكية -سنية- « -125إال إن فكرتها عن الفن ال تمنحها شيعية -اســم األب وتخومها المناطقية، مرورًا بالرحيل صحبة شلة من األصدقاء الطمأنينة ككاتبة» ربما كانت فكرة الحروب دك الذاكرة ،األمر الذي حمّل ه ــرو ًب ــا مــن خــطــر الــحــرب األهــلــيــة إلــى قائمة على ّ الالذقية ،وعبر استعادات متكرّرة تغوص في الفنون بأدواتها البسيطة عــبء النهوض ركام سنوات الثمانينيات من القرن الماضي بتلك الذاكرة -ص »-57خالصة تأمالت وفيما تالها ،لتضيء مراحل من صباها تــدفــع بــهــا إل ــى نــكــران ذلـــك ،والتشكيك وتجاربها وحياة المدينة وأناسها ،حيوات بقدرتها على مواجهة الموت .في مواجهة متعايشة كيفما اتفق؛ أحيانا منصهرة دون مخاوفها تعاود أعباق المطبخ ،هذه المرّة رغبة ،أو شغوفة حتى الجنون ،دخيلة على فــي الــشــالــيــه ،بــاالنــتــشــار ،شحيحة مثل وهش في آن معًا ،مــؤونــتــهــم المتناقصة ،وحــاضــرة ضــد ال ّ ذاكرتها ،حضورها صلب لكنها ستكون المادة الخام لما اخفقت في حسّ ية الفقدان. جعله خالصها فيما بعد. تلتقط نسرين خ ــوري ألــفــاظ اللهجة تــتــورط غــيــم ح ــداد فــي الــكــتــابــة ألنها السورية واختالفاتها المناطقية ،تحاول بالضبط الفتاة الصامتة ،صمت الكتابة إضــافــة نكهة حميمة وبسيطة ،جــداالت وعزلتها عن الحياة تصبح معيارًا للنجاة .االختالف في وجهات النظر حول الثورة تبدأ بحشر األشياء والشخوص بما فيهم ومآالتها والــحــرب األهلية ،ثــرثــرات غيم حبيبها أنس عبدالرحيم ضمن معاييرها وأنس ومناكفات اآلخرين وطباعهم وميولهم
دراسات ونقد
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
79
ومخاوفهم ،أنس الذي يبدو مسلوب اإلرادة ،واألحفاد ،وهو تبرير يقف عاجزًا ضد مجاز
لكنه مع ذلك يوفّر لها نوعً ا من االطمئنان أكبر احتوى كل شيء. العاطفي .تتأمل غيم حداد عالقتها بأنس تنتهي الــروايــة كما بــدأت ،ثريا لوكاس واآلخرين عبر منظورين ،حضورهم الواقعي تبحث عــن قرينتها غيم ح ــداد ،ذاكرتها المفترض في حياتها ،وتذهّ نها ككاتبة، االفتراضية التي يكرّسها وجــود أنس في (دون إغــفــال أننا ننظر لكل شــيء بعيني ثريا لوكاس) وهي تنتقل بصورة مريرة بين وجدانها -وجدان المرأتين -وغيابه بالتالي
المتوازيين اللّذيْن يبدو أنهما لن يلتقيا إال عن حياتها ،عبر حبّ يائس .يذكّرها خيال أنس عبدالرحيم بعضو مبتور من الجسد في انتحارها. مجد ،إلى ما يزال اإلحساس به قائمًا وغي ٍ في سردها ،تدفع الفجيعة بالمؤلفة الى بسوار إلكتروني، ٍ مواجهة الواقع أو محاولة وصفه وتصنيفه ،حد أنها توثق نفسها إليه باستعارات وتشبيهات» أجابني بتؤدة مختصو يطبق على معصمها طوال الوقت ،على أمل الدعم النفسي الذين تكاثروا في الحرب أن تلتقط إشارة لوجوده ،لكنها تكتشف في كمرض غامض سريع االنتشار -ص .»-125النهاية أنها إشارة موت ،فاألعضاء المبتورة
الحياة والحبّ استعارة غير مناسبة أحيانا ،تغدو خياال ً كابوسيًا بعد حين. وفي مواجهة الفجيعة تحتمي اللغة بقناع ـضــا باستعادة غيم وتنتهي الــروايــة أيـ ً شــاعــري (أو عاطفي) ،األلــم نفسه يكبح لسرديتها الخاصة فــي رســالــة انتحارها يأسه المتهكم من خالل التقاط تشبيهات المفاجئ ،غير المبرّر ..لكن المعقول تمامًا، تحيط األجساد واألشياء وتختصر وجودها، صور أبناء الحي /األحياء والموتى منهم ،المعنونة إلى حبيبها ،استعادة عنيفة ،تنتحر جثوم الكابوس متربّعا على حجارة بيوتهم لتكون هي ذاتها «الفتاة الصامتة» دون ذاكرة القديمة وأنقاضها ،إشراقة شمس النهارات اآلخــريــن ،تصبح ج ــزءًا مــن مكان شفّاف في صبا غيْم نفسها.
كانت تأمل بوجوده ،وكأنها تفارق شيئًا من
الشخصيات نفسها خُ لقت فــي النص تاريخ مدينة حمص الثقيل ،ولم يكن موتها ال ــروائ ــي لــكــي تــواجــه اســتــعــارة وجــودهــا لينقذها ،فهو جزء تجمّد في الماضي وبات
وتــبـرّره ،رائحة المطبخ والقهوة واألغاني طرفًا من مستقبل يقع خارج وعيها سترثه وبائع الكاسيتات والشوارع والمقابر واآلباء ثريا لوكاس. * روائي وقاص من العراق.
80
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
دراسات ونقد
الـحـلـوة ■ عبداهلل محمد العبداحملسن*
انتهى معرض فرانكفورت الدولي للكتاب ،الذي كان شعاره (مَن يقرأ ال يهزم) وانتهت فعالياته الثقافية .إنها المرة األولى التي يحضر فيها باسل هذا المعرض، حضور ناجح بكل المعايير ألهم المعارض التي زارها حتى اآلن .إنه ممتن ومقدر للجنة المعارض التي رشحته ،فهو خير مَن تسند له مثل هذه المهمة ،لقد ظفر بفرصة قيّمة كان يحلم بها ،ليشاهد أعرق معرض كتاب في العالم ،عمره يناهز خمسة قرون. جَ ـ ْد َو َل بدقة ،كعادته ،وقته ليستغل إذ تتزاحم فــوق مكتبه قوائمها ،من أيام المعرض استغالال مثمرا .حرص أبرز تلك الدور بالك ويل ،وماكميالن عــلــى حــضــور نـ ــدوات ثقافية وأدبــيــة وبنجوين وغيرها .طاف بها ليجمع ما وحلقات نقاش شــارك فيها مفكرون هو جديد ومهم من قوائم إصداراتها ومــبــدعــون مــن الــعــالــم ،فــي مختلف التي تعنى بها المكتبة .اختيار باسل المجاالت المعرفية والفكرية .هذا ليمثل المكتبة في هذا المعرض اختيار المعرض ليس سوقًا يعرض عشرات مــوفــق ،لقد اختير الــرجــل المناسب اآلالف من الكتب فقط ،بل تظاهرة للمعرض المناسب ،فهو األكــفــأ بين ثــقــافــيــة عــالــمــيــة رفــيــعــة الــمــســتــوى .زمالئه لتمثيل المكتبة عامة ،وإدارة المحظوظ مَن ينال فرصة لحضورها .التزويد خاصة في مثل هذا المعرض زار أجنحة كبار دور النشر العالمية ،الدولي المهم ،بوصفه على درجة رفيعة وبخاصة التي تتعامل معها المكتبة ،من الثقافة واللباقة ،ومتمكن من اللغة عرفها من خالل عمله بإدارة التزويد ،اإلنجليزية ،وعالقته بالكتاب وهذا هو
نصوص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
81
األهم ،عالقة العارف المطلع ،عالقة وطيدة والنظريات االجتماعية ،تخرّج فيه رجال نشبت بالكتب مبكرا منذ تعلم القراءة في لهم أثر كبير على الحضارة الغربية. المدرسة االبتدائية ،وتوطدت في المراحل متع هــذه الــجــوالت لــم تغنه عــن متعة الدراسية الالحقة .يبحث عن الجيد منها التسوق التي خصص لها الــيــوم األخير، فــي المكتبات ،يتلقف تلك التي تتخطى اختار من بين المجمعات التجارية سوق زيل الــحــدود ،مــتــواريــة فــي شــاحــنــات الفواكه جاليري ،جذبته إلى هذا السوق هندسته والخضار ،القادمة من بالد الشام واألردن! الرائعة التي أحالته تحفة معمارية مدهشة والكتب هي أهم ما يحرص على إحضاره وفريدة تستحق أن تشاهد .قصد المجمع كلما سافر. الــتــجــاري الــبــاذخ ليشتري بعض الهدايا
متعة حــضــوره التظاهرة الثقافية في معرض فرانكفورت للكتاب انقضت بسرعة، فقرر باسل أن يتبعها بجولة يزور فيها معالم المدينة الثقافية ،ومرافقها السياحية ،بدأ برحلة نهرية ،رحلة استرخاء ليبدد تعب المعرض ،أكملها بــزيــارة حديقة النخيل. وجود النخيل في غير موطنه أثار اهتمام ابــن النخل .كيف تنمو شجرة الــدفء في المناطق الباردة..؟! وجد النخلة هنا مدللة محاطة برعاية وعناية أكثر مما تحظى في موطنها ،شُ يّدت لها بيوت زجاجية عمالقة يــا لها مــن صــدفــة جميلة! صــدفــة من توفر لها الضوء والدفء. تلك التي خير من ألف ميعاد ،كما يقال. اليوم التالي ،خصصه للثقافة ،ابتدأه لــم يتوقع ولــم يخطر لــه على بــال قــط أن بــزيــارة منزل الكاتب والشاعر جــوتــه ،ثم يلتقي بالحلوة هنا في بالد الغربة .ما أحلى المكتبة الوطنية ،وقضى نحو نصف نهاره لقاء األحبة في الغربة ومن غير ميعاد! لقاء فــي متحف شــتــادل ،ليشاهد روائ ــع الفن يجيش في النفس حنينا إلى مرابع الطفولة التشكيلي ،الفن الذي يحظى باهتمامه ،وله والشباب ،لقاؤهما هنا في فرانكفورت له فيه أعمال قيمة .وختم يومه بزيارة خاطفة وقــع أقــوى من اللقاء في قريتهما ،هناك لمدرسة فرانكفورت ،ذلك المعلم الثقافي ،قلما يتبادالن نظرات هيام كالتي يتبادالنها الذي قرأ عن تأثيره على الثقافة والفلسفة اآلن .أألنها هنا أشد إثارة وإغراء ،أم ألنها الــتــذكــاريــة لمن يــعــزون عليه .فــي مدخل المجمع قبل أن يتفرع المدخل إلى ممرات تصطف على جوانبها المحالت الباذخة، وقف يتأمل المكان ،قبل أن يقرر بأي منها يبدأ جولته .اعترضت طريقه الحلوة ،وعلى الرغم من تنكرّها وظهورها في زي مختلف عن الذي ألفها فيه إال إنه عرفها من أول نظرة .مالمحها ال تخفى عليه ،مهما تنكّرت يعرفها ،كما يعرف خطوط يــده .كيف ال يعرفها وقد نشآ معا!
82
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
نصوص
هنا أكثر أناقة وتبرجً ا ،ولها ألق أقوى من
ألقها في موطنها الجوف .يبدو أنها تعلمت في الغرب كيف تتأنق! وكيف تتبرج لتبدي فتنتها! شدّ ته ..فاقترب منها أكثر تسبقه
إليها ابتسامة ُو ٍّد وحنين ،هذا ما تشي به
نــظــرات اشتهاء تسددها عيناه النهمتان إليها ،إنه يكاد يأكلها بنظرات شرهة غريبة على باسل المهذب ،نظرة ساهمة كأنما
سلبته لبه! دون أن يشعر تلمظت شفاهه،
وكأنه يه ّم بها ،سال لعابه عليها ،تشهى أن يعلكها كقطعة حلوى متلذذًا حتى تذوب في
فمه ،بصراحة اشتهاها اشتهاء ال يقاوم، فاقترب منها منقادًا عازمًا أال يعود إلى
الفندق إال برفقتها ،ليجدد الوصل .لو لم أن يجتنيه ،أو كانت تمرات كالعقيق األسود يمنعه التهذيب المعهود عنه وخلقه الرفيع ذات بريق سقطت عند عكرة النخلة ،لم لمد يده ليالمس تضاريسها. يلتفت لها القط جائع. تسمّر مكانه يتأمل فتنة تجلّت له ،وكأنه حــيــا الــبــائــعــة الــواقــفــة أمـ ــام كشكها، يرى بشائرها تلوح في عذق بجمّارة نخلة سامقة تتمايل فــي الـ ــوادي ،أو تــمـرًا في
سلة بمجلس والده يقدمها مدبّسة مغمورة ٍ
بدبسها مــع القهوة لضيوفه .لــو بحوزته ألوان وفرشاة لوقف لحظة اإللهام هذه مثل الفنانين العظام ،ليبدع لها لوحة تجسد
سماتها ومعانيها وتبرز فتنتها األخاذة .بادر اللتقاط صورة لها ،وهي في هذه الوضعية
المثيرة ،لقد استبدت الحلوة وتجبرت منذ شخصا وقع في حبائلها .ما كان ً أدركت أن
سيحدث له مثل هذا لو كانت رطبًا أحمر يتوهج في عذق تزدان به نخلة غفل فالحها
نصوص
واستأذنها أن يلتقط صــورة لعلبة التمر، فهشت مرحبة وابتعدت قليال لتتيح له أن يصور ما يشاء ،قد يكون في ذلك ترويجً ا لبضاعتها ،راح كمصور محترف يلتقط الصور من زوايا مختلفة مشدوهً ا يفكر ما الــذي جــاء بالحلوة إلــى هنا! كيف قطعت الــمــســافــات مــن الــجــوف شمالي المملكة وحطت هنا! هل نبتت لها أجنحة لتحلق من وادي عجرم ،أو وادي نفاخ؟ بعد أن أنجز مهمة التصوير ،حمل برقة وحنان علبة بين يديه ،وكأنه يحمل شيئًا مقدسً ا مترنمًا بما ترنم به شاعرها عابد الجالل متشببا 75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
83
بمحاسن حلوة الجوف:
لي جالك اللي يشتهـون التعـاليل مــن حـلــوة الـجــوبــه نقلط قــدوعــه أحلى من الشهد المصفى محاليل الذاقـ ـه ــا ال ـج ـي ـعــان يـضـيــع جــوعــه غمرته سعادة ال توصف ،تفوق سعادة
حضوره معرض الكتاب ،إن حضورها هنا
شفاف يبرز فتنتها ،محزّمة بشريط أسود كأنه اصطبغ بلونها يضفي عليها مهابة وأناقة ،معروضة وسط فواكه مجففة ،وكأنها واسطة العقد :مشمش تركي ،تين إيراني. أط ــال النظر مــبــهــورًا فــخــورًا بحضورها، فقطرّت عن بعد في فمه عصارة من دبسها المشتهى بمذاق الشهد محفور كحليب األم في ذاكرته ،ازدرد رضابًا امتأل به فمه.
أهم وأقوى لتمثيل الوطن من جناح للمكتبة استأذن البائعة ليأخذ علبة ،فهشت له في معرض مؤقت .كم هو سعيد برؤيتها! برأسها موافقة ،و ّد أن يخبرها باعتزاز كيف ال يكون األسعد وهي بضعة منه ،وهو وفخار: بضعة منها .لقد حضر الوطن في بضع هذا من نخلة كالتي في فناء بيتهم تمد تــمــرات س ــوداء ذات بريق أخــاذ مصفوفة الظل الوارف ،وتمأل ساللهم بالرطب ،وفي في علب ذهبية أنيقة ،مغطاة بغشاء رقيق الوادي مئات النخيل من ساللتها المبجلة، كان وهو صغير تنبت له أطراف مثل كائن خــرافــي ،تجعله يــهــرول مــغــام ـرًا صــاعـدًا جذعها الشاهق المبحر في السماء دون سلّم ،وبال كرّ ،لكي يستأثر ببشائر الرطب الشهي ،ذاك الذي تشهت مريم العذراء مثله حين فاجأها الــمــخــاض ،وال ــذي أدهشت حالوته الليدي آن بلنت الرحالة اإلنجليزية، فــأقــرت إنــهــا تــذوقــت أشــهــر الــحــلــويــات، ولم تذق مثل طعم حلوة الجوف .برشاقة يتنقل بين العذوق ليمأل جوفه وجيوبه ،ثم يسترخي فوق ذاك السمو ليسمع ما تقوله الريح للنخيل ،ويسرح ناظريه في الخضرة المدهشة ،التي يمدها النخل على مرمى البصر. قلب العلبة باحثًا عن ملصق البيانات
84
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
نصوص
المتعلقة بمحتوى الحلوة لــيــزداد انتشاء،
ويقرأ على مسامع المتسوقين كمعلن ما تكتنزه الحلوة فيها مــن فــوائــد .كــم نسبة الحديد والفركتوز والمغنسيوم والفيتامينات
واألحماض األمينية .إنها سلة غذاء غنية بالعناصر الغذائية الكثيرة جعلتها وجبة متكاملة اعتمدت على حياة أهلها .بضع
تــمــرات منها تقيم أود إنــســان .إنها خير ما يدخر من زاد ،إذا وجــدت ال فاقة وال
مسغبة ،إنها اكتفاء .راح يقرأ لعل من ضمن
البيانات نبذة عن سيرتها النبيلة ،والبستان الذي جنيت من نخيله ،والفالح الذي اعتنى
بها ،فتش عن موطن المنشأ ليزداد فخارًا.
بقدر ما أسعده حضورها الالفت هنا آذاه
أن بريقها األخاذ هنا أشد لمعانًا من بريقها
نصوص
في موطنها ،هل مصدره أضــواء المجّ مع؟ أم حظيت بعناية فائقة من لدن المسوقين المحترفين ،أكثر مما تحظى بها عند من غرسوا نخلتها وسقوها بعرقهم .ربما ألنها عند أهلها عزيزة ولو كان رفة ،لذيذة مشتهاة ولو غلفها الغبار ،ال يلزمها أن تتأنق وتتبرج كي توقعهم في حبائلها ،يحبونها متقشفة زاهـــدة ،فهو مــثـ ًـا يهيم فيها س ــواء كانت في سلة من الخوص ،أو مغلفة بالسلفان في متجر ،يحبها إن قدمت مع كــأس لبن صرف ،أو فنجان قهوة .هو كأهله لها في قلوبهم ومجالسهم مكانة .يتمنى أن يعرف قومُها قــدرهــا ،ويعدونها كما كانوا فخرا أيضا لهم ،يمتازون بها على اآلخرين ،يتمنى ً أن يتعلموا من الغريب كيف يوظفوا فتنتها لترويجها ،لو عرفوا فن التسويق لتغيرت 75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
85
حالهم ،ولما كــان بينهم فقير .ولــصـدّرت حلوتهم مباشرة مــن الــجــوف إلــى أســواق العالم ،بدال من وسيط غير مرغوب فيه. تداعت في الحال صور ومشاهد لها فيها حضور .صور محتشدة في ذاكرته لنتاجها في أطواره من طلع نضيد في األكمام ،وهو مغر يتوهج حمرة ،ثم خالل أخضر ،ثم بسر ٍ تمر أسود كالعقيق في سلة في مجلس والده يقدمها لرجال من الجيرة مع القهوة التي تعد على شرفها بالهيل والزعفران ،لتبقى رمز الكرم وحسن الضيافة. فكر ..لم ال تكون الحلوة هي الهدية ألهله عوضا عن الشوكوالتة البلجيكية! إنها أثمن ً ما يهدى .سيكتب على العلب بخطه الجميل األنيق :تمرتكم ردت إليكم .فجأة وقع نظره أسفل البيانات على ما جعل األرض تميد به ،أفقده توازنه ،صار يترنح ،كأنما هوى من أعلى نخلة ،وارتطم بصخرة صلبة من صخور ال ــوادي .لم يتوقع يومًا أن تحمل الحلوة سمة أخــرى غير حلوة الجوف ،لم يبلغه قط أنها هاجرت من موطنها األصلي، وتعدت حدود موطنها األصلي دون علم من أهلها .سمع من عمه أبو فالح أن خالص األحــســاء ي ــزرع فــي كاليفورنيا ،وقــد أكل منه ،وبرحي البصرة يستنبت في استراليا والهند .رمق البائعة بنظرة استغراب :هل تنبت هذه في فلسطين؟
دبــلــومــاســيــة وال تــجــاريــة ،فكيف حلوتهم تعبأ هناك ،وتصدر للعالم بضاعة عليها اســم إسرائيل .أضافت البائعة ما كشف الغموض :متعهد أردني يوردها من السعودية إلسرائيل. اآلن زال غموض يكتنف ملصقًا قدمت لــه سيدة قبل ســنــوات فــي ســوق الخضار والفواكه القديمة بكارديف ،تقف معها ثالث سيدات متشحات بالكوفية الفلسطينية، يوزعن ملصقا كتب عليه :قاطعوا البضائع اإلسرائيلية .أخــذ عــدة نسخ ليوزعها ،ما يــزال يحتفظ بــواحــد منها .عليها صــورة برتقال يافا وأفوكادو وتمرة ســوداء طويلة تشبه حلوة الجوف ،لم يشغل البال حينها، الموقف الشريف لتلك السيدات هــو ما شغله حينها.
يخشى أن تكون حلوة الجوف تعرضت للسطو ،كما تعرضت التبولة والحمص والــفــافــل الــتــي أصــبــحــت م ــن المطبخ والمذاق اإلسرائيلي ،كما أصبحت الكوفية الفلسطينية زيًا موحدًا لمضيفات طيران العال ،والدّ حة رقصة بدو شمال المملكة واألردن وصحراء النقب ،والدبكة والميجانا الــشــامــيــة ،وخــطــر غــصــن الــقــنــا اليمنية، وال ــم ــوروث الشعبي الفلسطيني لتصبح مسجل في اليونسكو ً موروثًا شعبيًا للكيان ردت البائعة :تعلّب في إسرائيل! باسم السارق ،بلغت الوقاحة أن يسطوا على كيف يحدث هــذا! أهلها لم يُطبّعوا مع أغاني السيدتين أم كلثوم وفيروز ،لم يكتفوا الــكــيــان ،ليس بينهم وإســرائــيــل عــاقــة ال بسرقة األلحان فقط ،وإنما حتى الكلمات
86
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
نصوص
أوسيكثين الذي اعتذر لسليمان« :يصعب ترجمت للعبرية. لقد اشتدت حمى السطو لديهم بعد أن على نفسيتي العاطفية ان تعترف بذلك، أحبطهم علم اآلثار الذي علقوا عليه اآلمال ،وأمل ان يغفر لي سليمان». وأعلن عجزه ويأسه أن يعثر لهم في أرض وأق ّر بهذه النتيجة الموجعة عالم اآلثار فلسطين على أثر .يعرف باسل هذا السطو المستقل يــونــي مــزراحــي أيــضــا بسخرية ليس بجديد ،إنه ديدنهم موغل في القدم ،الذعة: فــوصــايــاهــم الــعــشــر مــنــقــولــة من لــم أعــثــر حتى على الفتة كتاب الموتى الفرعوني مكتوب عليها «مرحبا في الــدور الموسوي بـ ــكـ ــم فـ ـ ــي قــصــر الثاني ،وشريعتهم داود». نــــقــــل حـــرفـــي هذا ما شهد كــوقــع الحافر بــه عــلــمــاء من عــلــى الــحــافــر أهــلــهــا ،ينقله ع ـ ــن شــريــعــة باسل ،بأمانة. حـــــمـــــورابـــــي، ش ــه ــادة مــو ّثــقــة ح ـ ــت ـ ــى ن ــج ــم ــة مــنــشــورة فــي كتب داوود رمزهم هي قيمة ،ليست ادعاءات نجمة القائد الفرعوني م ــل ــف ــق ــة م ـ ــن خــصــومــهــم جــالــوت الــتــي تــرمــز لإلله المتهمين بمعاداة السامية سلفا ،ألّفها آمــون ،غنمها داوود عندما اغتال جالوت بــالــمــقــاع والــحــجــر ،كــمــا ورد فــي كتبهم علماء من ذوي االختصاص منهم ،ويدرّسون في أكبر جامعاتهم ،وهي متاحة لمن يود المقدسة. باسل ال يدعي زورا وبهتانا ،ولم يكن يوما االطالع ،ومترجمة ألكثر من لغة .من يريد فريّا .إن ما أشار إليه تؤكده حقائق التاريخ ،االطــاع سيدله باسل عليها للعلم ،وأخذ هذا عالم اآلثار اليهودي فينكلشتاين الذي الحيطة والــحــذر ،لحماية حــلــوة الجوف نقب تحت األقصى وحائط المبكى ،وقلب والدحة رقصة بدو الشمال من االستالب، أرض فلسطين رأســـا عــلــى عــقــب يفجر سيحث كونه قارئا نهما ومكتبيا ملما على قنبلة زلزلت الكيان بأنه لم يعثر على أي القراءة مستشهدا بشعار معرض فرانكفورت أثر للهيكل ،وال لقومه ،وأيــده البروفيسور للكتاب :من يقرأ ال يهزم.
* كاتب سعودي.
نصوص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
87
الفستان ■ دنيا علوي*
منذ سنوات وأنا أختنق تحت هذا الغطاء ،معلقً ا إلى خشب ميت يسميه البشر بالشماعة .كثيرً ا ما أشتاق لكتفي السيدة التي كنت في الماضي أرافقها وأعيش معها أجمل اللحظات وأبهاها .لو أنني فقط أعرف ما الذي حلَّ بها! لو أنها تأتي يومً ا للبحث عني! آه كم أتمنى ذلك! منذ سنوات ،وأنا قابعٌ هنا ،في خزانة مالبس تفوح منها رائحة الكافور ،تحيط بي خرقٌ ال تعرف شيئًا عن تاريخي .ومن وقت آلخر ،تأتي يدٌ لتسحبني من هنا، ويد أخرى ،ألجد نفسي في مكان بارد ،حيث ال تتوانى أعين ليد أخرى ٍ وتمررني ٍ بحشد من الــزوار الذين ٍ بعض المتطفلين عن التحديق بي .ثم يمتلئ المكان يحلو لهم أن يحوموا حولي قبل أن تنطلق تعليقاتهم دون أي تحفظ: -إنه الفستان ،هل رأيته؟
شيئًا تافهًا أو صغيرًا ،وأنا الذي لوالي
-بالفعل،
لما اكتمل كثير األحــداث الكبرى في
وأيــا كانت اللغة ،فــإن تعليقاتهم تبدأ بالطريقة نفسها دائمًا ،دونما أي
حياة السيدة ،مالكتي السابقة. أتذكر وهــج تلك الليالي بمسارح
احترام لي .ال أعرف من الذي سمح الــعــالــم الــمــآى بــحــشــود مــن الــنــاس لهم بــاالقــتــراب مني هــكــذا والنطق ينظرون تجاهي أنــا وح ــدي .أتذكر
باسمي دون أية ألقاب ،كما لو كنت أمسيات ال تنسى ،حين تزينت باريس
88
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
نصوص
بكامل أنوارها لي وحدي.
أمامي وحدي.
أتذكر مصابيح الفالش
أتذكر مديري محالّ
يحصى مــن ماكينات
الذين كانوا يطلبون
والكاميرات ،وعــددًا ال الــتــصــويــر ،وأت ــذك ــر قبل ذلــك حامليها الذين كانوا يلهثون ويــتــدافــعــون باألكتاف
الــتــنــظــيــف بــالــجــاف الــمــســتــحــيــل من
مــــوظــــفــــيــــهــــم
ويحصلون عليه،
فقط ألحافظ أنا على
والزنود بغية االقتراب مني
أَلَقي ورونقي .ولم يكن
واألعـ ــنـ ــاق الــمــشــرئــبــة،
ليمنع حــصــولــي على
وحـــدي .أتــذكــر الــزهــور،
ألي طـــارئ مهما كــان
واأليــــــــادي ال ــم ــم ــدودة
الرعاية الواجبة لي؛
ب ــم ــلء م ــا فــيــهــا إلــى
تحرص على حملي
الــمــرتــجــفــة ،الساعية لمسي أنا وحدي.. أت ــذك ــر عــبــارات اإلطــــــراء يطلقها بسخاء رجال في غــايــة الــوســامــة وال ــت ــه ــذي ــب ،وقــد نــســيَ كــل منهم أو تناسى
ألن مــالــكــتــي كــانــت إلـــــى كــــل م ــك ــان، تمامًا كما يحرص الـــمـــلـــوك عــلــى أخذ أختامهم
أيــنــمــا حــلــوا
وارتحلوا.
ثم يأتي بعد ذلك كله من
ذراع المرأة الحسناء المشتبكة بذراعه .يتكلم عني دون ذكر أي صفة من صفات ً أتــذكــر رج ـ ًـا، بطل شعبيًا ،أتــذكــر هذا العظمة والشموخ الواجبة في حقي ،وكأنه
الملهم الذي كانت ترنو إليه عيون شعب رأى أو عاش نصف ما عشت ورأيت .كأنه
بكامله ،ولم يكن هو ينظر إلى سواي .هذا حضر مثلي إلى تلك المأدبات التي كان
الخطيب الفذ الذي تلهب كلماته الماليين يتحلق حولها ســادة عصرهم ،فخورين
وتحركها كيف شاء ،هذا المفاوض الشرس بوجودي معهم على المائدة نفسها .أتذكر
الذي انهار أمامه الكثيرون يتسمر منبهرًا عمالقة كانوا ينحنون أمامي على الرغم من
نصوص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
89
أنني لم أتخلَّ يومًا عن تواضعي وبساطتي .فقط ألعــود إلى مرافقة السيدة ولو في أتذكر صيحات الموضة التي كانت تظهر جولة واحدة .لكنني في أحد األيام ،بينما وتختفي ألبقى أنا في الصدارة دائمًا. ـروضــا فــي قاعة كبيرة ،سمعت كنت مــعـ ً نعم ،لقد كانت مالكتي دائمة اإلخالص زائرتين ،في أثناء حديثهما تنطقان اسم لي ،ربما ألن حسها الريفيّ السليم علّمَها مالكتي عــدة م ــرات .وبــعــد ذلــك تنهدت
أن قيمة الكتاب ليست في شكل غالفه! ذكاؤها الحاد وسرعة بديهتها كانا سالحها في رد التعليقات السخيفة على أصحابها.
إحداهما وقالت: -نعم ،لقد رحلت السيدة العظيمة!
أتذكر النظرات الحائرة في البداية للنقاد
ولكن أال تحتاج السيدة لفستان في
ترتديني وحــدي لتنطبع تقاطيعي بصمة
الفستان! يا لقلة التهذيب ،كيف يجرؤون
من أنصار الزوال الجمالي ،ثم استسالمهم المكان الــذي توجد فيه اآلن؟ وبينما أنا ومدحهم لي ،بعد أن يفهموا أن أصالتي أح ــدث نفسي بــهــذا ،اســتــدارت الــزائــرة أكثر صالبة بكثير من أية نزوة عابرة. األخرى وهتفت مستغربة: فعندما كان آخرون يتحولون على الدوام أنظري ،إنه الفستان!تناغم مع العصر ،كانت الفنانة ٍ ليبقوا على خالدة في سجل الزمن .ففي طياتي يختبئ على ذكر اسمي هكذا ،وهم يدركون تمام سر األيام العظيم؛ ألن السيدة حين كانت اإلدراك أن ملحمة السيدة التي يسمونها ترفع ذراعيها أمام الميكروفون ،لتبرز ما خفي على الناظرين مني ،كانت في الوقت نفسه تكشف ألوان الحياة المختلفة .كانت تعرف جيدًا أن بمقدور القلب أن يعزف األلحان كلها وهو يلتحف الفستان نفسه. وفي خزانة المالبس هذه ،حيث أختنق
بالعظمة كانت ملحمتي أيضا؟! عيونهم المصوّبة نحوي قــد تشعرني بالخجل، ولكن ألسنتهم أبـدًا لن تقطع ما يربطني بالفنانة .فليستمروا ،إذًا ،في الحديث عني بهذه الطريقة! ألنــي ال أنــدم على شيء؛
اليوم ،أفتقد حضورها حين كانت تتأرجح وفيم يفيد الندم من عاش ألف ليلة وليلة بي من اليسار إلى اليمين ومن اليمين إلى على كتفي أم كلثوم ليبقى شامخً ا مهما اليسار .مستعد ألجود بأغلى قطعة مني دارت عليه األيام. * قاصة -المغرب.
90
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
نصوص
طفول ٌة طارئ ٌة ■ هشام بنشاوي*
مــا يشبه البكاء يتجدد ،يندلع مــرة أخــرى مــن ذلــك المخبأ الـســري ..يقلب أي كان ،لتكنس بقايا ذلك الحزن، كيانك ،يدفعك إلى الرغبة في الحديث مع ٍّ الــذي ال يريد أن يذبل ،كأنما آثــر ذلــك الحقد القديم أن يداهم ليل طفولتك البهيم ،ويحول حياتك إلى هديل نشيج صامت ..تلك الطفولة الثكلى ،التي ما تزال تسكنك في عالم جاحد ،يتنكر للطفولة ،و البراءة ،والمشاعر الصادقة. وكمن يسوس خيول الريح ،تغادر طــاولــة اعــتــدتَ الجلوس إليها ،في المقهى المجاور لمقر عملك ..ذلك المتجر ال ــذي تتحرر مــن أس ــره - قليال -فــي صباحات األحــد فقط، وقــد ألفت بساطة المكان ،كما لو كان جــزءًا من ذلك الماضي البعيد أمــس الحاجة ِّ والبسيط .كنت فــي إلى من يُنصت إليك؛ أن تذرف بين يديه تلك الدموع المؤجلة كلمات.. أن تغادر قوقعة وحشتك ،وبعد أن تتخلص شاحنة قلبك مــن حمولة األس ــى الــفــائــض ،وتــســتــرد دموعك غربتها ..تتغنى بعزلتك الفارهة.
نصوص
ينهمر حنان الشمس على جدران بيوت الناصية األخــرى من الشارع، شبه الساكن في هذا الصباح الشتوي، ومــن مكانك القابع في الظل ،ترنو إلى قط يتمطط قرب محل البقالة، مستمتعًا بهدوء عطلة نهاية األسبوع، غير عابئ بالمشهد الصاخب عاطفة بالقرب منه ،فيوقظ هذا الضجيج األبوي ،الممعن في حنوه مدينة آهلة باألحزان في أعماقك. ت ــداه ــم طــفــولــة ط ــارئ ــة فــنــجــان قهوتك ،وتسرق طعم البن ،الذي ترشو به خاليا جسمك ،حتى تتحايل على 75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
91
أبويك ،لم تجرب ابتزاز عاطفتهما.. كان األب يتوسل إليه ،أشار إليه بيده أن يأتي ،ووعده بأال يؤذيه ،بينما كانت األم تقف مدججة بسكونها ورباطة جأشها .لم تعرف لم كنت تحس أنها أكبر سنًا من زوجها ..كلما رأيتها .كانت تبدو جادة أكثر مما ينبغي ..دومًا ،بينما زوجها يمعن في طفولته وصخب ضحكه.. أشـــار إلــيــه بــيــده ،فــتــقــدم نــحــو أبــيــه، ونظرات األم مثل طلقات رصاص .اقترب الصغير ،طوق خصر األب بذراعيه ،ربت البقال على رأس ابنه ،ولف ذراعه اليسرى حول كتفه األيمن ،وألنك بعيد ،لم تسمع ما دار بين األبوين في تلك اللحظة ،لكن خيّل إليك أنك رأيت الفرح يرقص في عيني طفل ،لم يتجاوز ربيعه العاشر .خمنت أن األم جــاءت تشتكيه إلى أبيه ..لكنها بقايا نوم ما تزال تطالب به كل الخاليا ..عادت خائبة المسعى ،وقد خذلها األب، تقف الــزوجــة قبالة زوجــهــا البقال ،ثم غادرا سوية ،وانسحبا من المشهد ،بعد أمــام دكــان بال زبائن .تشي وقفة المرأة أن بذرا في تربة القلب المعطوب طعنة بغضبها ،وهي تنادي على طفلها ،الذي إضافية.. لم تكن تعرف لماذا لم تــروِ يد أبيك آثر أن يختبئ خلف سارية مبنى مجاور، مبال بنداء أمه .كنت تراه ،وهو يطل ظمأ نبتة قلبك في شتاء طفولتك ،وال غير ٍ برأسه ،متابعًا المشهد في صمت .كنت تتذكر أن نبرات صوته غازلها فرح ما، تــود أن تستعيد طفولتك ،التي ما تزال حتى في األعياد ،،فلم ترفرف عصافير تستوطنك ،فتشي بالصغير ،عبر إشارة البسمة حول شجرة وجهه العابس دومًا، يدك إلى مكانه المقابل لك .لكن صوتًا لكنك تتذكر ِس َّن ُه الفضيّة في فكه العلوي، ما ألحَّ عليك أن تتابع الحدث في صمت .وال تنسى حديثًا قديمًا عن سطل المالط تذكرت أنك لم تلعب مثل هذه اللعبة مع الحديدي ،الــذي رمــاه جــدك ألبيك من
92
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
نصوص
ف ــوق الــســقــالــة .ذل ــك الــســطــل ال ــذي لم يــتــوقــف ســقــوطــه المتتالي ف ــوق عشب طفولة غضة .ها أنت تقترب من عقدك الخامس ،وابنتك البكر في مثل عمر ذلك الفتى ،لكن ندوب ارتطام ذلك السطل المتكرر لم تندمل بعد ،فغمر صقيع أبــدي حــجــرات قلبك المهجورة، وعشت اليتم بشكل آخر! احــتــســيــت آخـــر قــطــرة بن بال طعم ،وذهبت إلــى السوق القريب ،كمن يبحث عن الحنان في مكان آخر ،مكان ما على هذه األرض .كنت ترغب فــي الحديث مع أي شخص .وقفت خارج المحل، وانتظرت أن تغادر المرأة ،التي كانت تتحدث مع البقال الشاب ،الذي يسرف في ثرثرته مع ربــات البيوت ،وألن تلك اللحظة جرفها سيل طفولة جريحة ،ما تــزال تــنــزف ..لم تــدرك كيف وال متى تطفلت على حــوارهــمــا ،وأنــت مشحون بكل جموح الرغبة في البوح ،وهي تتحول إلى مجرد كالم ،حتى لو كان تافها ،حتى تتخلص من اإلحساس بأنك وحيد ،منبوذ وبال أصدقاء..
لن تطأ عتبة محله مرة أخرى ،حاول أن يؤكد لك أنه كان يقصد أن يلفت انتباهك إلــى الوقت ،لكي تفتح محلك التجاري، أشـــارت إلــيــه إنــهــا الــمــرة الــثــانــيــة ،التي
تبضع أي ش ــيء ،وفي يتصرف فيها معك بهذا الجفاء الغريب، ّ غـــادرت ،دون قلبك يهطل الــنــحــيــب ،بــعــد أن ب ــادرت بينما ال ينتبه إلــى حيل بعض زبوناته، باالعتذار ،وأنــت تصد جفاء آخــر ،أكثر وهن يقطعن شجرة الصمت ،ويصنعن من قسوة ..اعتذرت للبقال ،وأقسمت له أنك خشب ثرثرتهن أريكة سالمهن الداخلي. *
كاتب -المغرب.
نصوص
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
93
الشاعر واألديب شعبان يوسف:
هناك بعض الدول ضعفت فيها اللغة العربية بشكل واضح ومعيب! حي ،ينمو ويتطور كما اللغة كائن اجتماعى ّ تتطور جميع الظواهر الحيّة كاتب ،وشاعر ،وناقد ،وباحث مصري ،ومؤسس منتدى «ورش ــة الــزيـتــون األدب ـي ــة» ومـجـلــة «ك ـتــابــات» .ول ــد في الـســابــع مــن إبــريــل عــام ١٩٥٥م ،نـشــر سبعة دواوي ــن ومسرحية ،إضافة إلى العديد من الكتب النقدية رأس تحرير سلسلة «كـتــابــات جــديــدة»، والبحثيةَ ، الـ ـص ــادرة ع ــن الـهـيـئــة الـمـصــريــة ال ـعــامــة لـلـكـتــاب، وكتب لكثير من الصحف والمجالت ،مثل جريدة «التحرير» و«أخبار األدب» .لعب دورًا بــارزًا في الكشف عن شعراء وكاتبات مهمشين ومجهولين. لدى يوسف العديد من اإلسهامات في مجال اإلنتاج اإلعالمي، إذ شارك في إعداد برامج تلفزيونية ،وتقديمها ،كـ«عصير الكتب» ،و«سور األزبكية» ،و«المقهى الثقافي» ،هو اآلن نائب لتحرير مجلة «عالم الكتاب» ،ويعمل على نشر كتاب جديد عنوانه: «الثقافة المصرية ..سيرة أخرى» ■ حاوره :نور سليمان
¦هل تــرى أن اللغة العربية تأخذ مكانها الالئق في العالم اليوم ،وهل تستطيع أن تنافس اللغات األخــرى فى ظل العولمة والسماوات المفتوحه؟ ρالــلــغــة الــعــربــيــة تــقــوى ويــشــتــد عــودهــا، إذا اشتد عــود اإلبــداع وتعددت طرقه،
94
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
وتنوعت جوانبه اإلنسانية ،ولدينا تجربة مع الكاتب العظيم نجيب محفوظ ،الذى اســتــطــاع أن يــواصــل اإلبـ ــداع أكــثــر من خمسين عامًا ،أبدع وأنتج فيها روايات وقصصا واكبت كافة األشكال والطرق ً اإلبداعية الحديثة ،وكــان دائمًا سبّاقًا ومــجــر ًبــا مــع عــدم إغــفــال سمة اإلمتاع
مواجهات
الفائقة لقارئه ،كما أنه كان مواكبًا لألحداث االجتماعية والسياسية فى دقة شديدة ،فبعدما فرغ من نشر روايته «بين القصرين» بأجزائها الثالثة في منتصف الخمسينيات ،وتابع فيها تاريخ البالد من الحرب العالمية األولى حتى ثــورة يوليو ،انتقل إلــى مرحلة أخــرى ،بدأها بروايته «أوالد حارتنا» ،ثم راح يستجوب الحياة السياسية واالجتماعية بعد ثورة يوليو ،وهكذا، فعل كل ذلك دون أن يتنازل عن األبعاد الفنية المتطورة دائمًا. وعندما حــاز على جائزة نوبل عــام 1988م، وازدادت معدالت ترجمة روايــاتــه إلــى جميع اللغات الحية ،لفت النظر إليه بقوة فى العالم كله ،وبالتالى ازداد عدد التائقين لكي يتعلموا اللغة التي يكتب بها نجيب محفوظ ،وأزعم أن موقع اللغة العربية فى العالم أصبح مختلفًا بعد فوز محفوظ بنوبل .وبالطبع انفتح العالم على لغتنا العربية بشكل أوسع ،للدرجة التى أصبحت اللغة العربية تزاحم اللغات األخرى بثقة أكبر من قبل ذلك. ¦ما سبب ضعف اللغة العربية في بعض البالد العربية؟ من وجهة نظرك؟ وهل ضعف الدول وقوتها له عالقة باللغة؟
مواجهات
ρهناك بعض الدول ضعفت فيها اللغة العربية بشكل واضح ومعيب في الوقت نفسه ،وكانت اللغة العربية هي اللغة الثانية ،وذلك ألسباب كلنا نعرفها مــن احــتــال وغــيــره حتى مطلع عقد الستينيات في القرن العشرين ،وبالتالي كانت لغة التعبير على كافة المستويات لغة غير عربية ،ورغم كافة أشكال المقاومة أثناء االحتالل ،وكافة أشكال استعادة اللغة بعد طرد المستعمر من هذه الدول ،إال إن اللغة العربية مــا تــزال عندهم فــى وضــع حــرج ،ومــا يــزال هناك أدباء يكتبون إبداعهم باللغة الفرنسية. وغيرها! ¦للّغة العربيّة أهم ّي ًة كبير ًة في الثّقافة والتّراث واألدب ال ـعــربــيّ ؛ أل ّن ـهــا ُت ـعــد جـ ــزءً ا مـهـمــا من الحضارة العربيّة .كيف ترى ذلك؟ ρبالطبع هناك مخزون ال حصر له فى جماليات اللغة يكمن فــي الــتــراث األدب ــي والفلسفي على مدى التاريخ العربي ،منذ امرئ القيس والعصر الجاهلي ،مــرورًا بالعصر العباسي؛ وقد تــأألت أسماء عبقرية في سماء الفكر واإلبداع مثل أبو الطيب المتنبي ،وأبو العالء المعري ،والــجــاحــظ ،وأبــو ن ــواس ،وغيرهم، ودائمًا ما تكون هناك مآزق فى االستفادة من تلك الكنوز الكامنة في التراث العربي ،وهي
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
95
سوء التعليم لدى بعضهم ،ولذا تسير عملية التعليم بطرق غير قويمة ،وبالتالي ال يتم تدريب القارئ على قراءة التراث العربي ،ربما يكون المعلّم القديم ،والــذي كان منتشرًا في الكتاتيب والمدارس األولية ،عندما كان ذلك المعلم ي ــدرّس النصوص بنطقها الصحيح، ومعانيها المراوغة ،وبناء الجملة المنضبط، ومن هنا ال بد من ذلك المعلم الصبور والقادر على إيقاظ أسرار اللغة وكنزها. ¦ ُتـعــد اللّغة العربيّة لغة العديد مــن الشّ عوب والـقـبــائــل ،مثل ثـمــود ،وع ــاد ،وغـيــرهــا ،وأسهم ذلك في انتشارها في الجزيرة العربيّة وبالد الـ ــشّ ـ ــام ..ه ــل م ــا تـ ــزال ال ـل ـغــة ال ـعــرب ـيــة سـيــدة الموقف كما كانت؟ ρاللغة التي كانت ،لم تعد كما كانت ،فهناك أشكال من التطور الذي طرأ على المفردات والتركيب األسلوبي ،والبناء عمومًا ،فاللغة ككائن حي اجتماعي ،ينمو ويتطور كما تتطور جميع الظواهر الحية؛ وبالتالي هناك متروكات من األلفاظ التي لم تعد فاعلة ،وهى ألفاظ أصبحت متحفية ،أكثر منها فاعلة ،وبالتالي أصبحت ألفاظً ا تاريخية ،ال تقوم بأي دور في العصر الحديث ،وال يستطيع القارئ الحديث أن يستوعب« :أيطال ظبي» ،أو «مك ٍّر مفرِّ» ،إلى
96
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
آخر المفردات المتروكة والتي أصبحت شديدة الخشونة ،ومستغلقة تمامًا ،واستخدامها ال يعني سوى توقيف الزمن عند مرحلة متروكة تمامًا ،ال تصلح إال للدرس التاريخي .وجدير بالذكر أن األدب واإلبداع عمومًا يسهمان في تطوير اللغة واستخداماتها المتعددة؛ ولكن هناك األدب الهابط ،الذي ال يفعل سوى تشويه اللغة ،كما أن الدراما الهابطة كذلك ال تفعل سوى تطويع الناس لكي تلوك مفردات ركيكة، وبالطبع هناك معركة شرسة بين اللغة الهابطة واللغة الراقية ،تحدث في المجتمعات العربية كــافــة ،وآمــل أن تتدخل المؤسسات العلمية ومجامع اللغة لضبط أدوات ذلــك الصراع لصالح تطوير اللغة وعدم تشويهها. ¦مــا هــي األس ـبــاب الـتــي تجعل الـجـيــل الحالي يفضل استخدام اللغات األجنبية في حديثه الـيــومــي .هــل مــن ب ــاب التحضر أم أنـنــا نلقي اللوم على الميديا واإلعالم وغيره؟ ρهــنــاك رصــيــد ال نــهــايــة لــه مــن المعلومات والخبرات والفنون مطروحة باللغات األخرى، وعلى وجه الخصوص اإلنجليزية والفرنسية، هــذه الخبرات والمعلومات والفنون ناقصة بشكل فــادح فى اللغة العربية ،وعلى سبيل المعلومات ما تزالت كليّات الطب والهندسة تستخدم اللغة اإلنجليزية فى تعليم الطالب، وبالطبع انتشار م ــدارس اللغات ،والسينما األوروبية المتقدمة بشكل خرافي ،تلك السينما التي تجذب الشباب وكل األجيال الحديثة ،كل هــذه العناصر تعمل على إضعاف استخدام اللغة العربية بشكل واســع وسليم ،وبالطبع هناك وهــم التحضر الــذى يعتقده الكثيرون فــي أن اســتــخــدام اللغات األوروبــيــة هــو نوع من الرقيّ ؛ لذا ،ال بُ ّد من إنتاج معرفي وفني ومعلوماتي واسع وشائق ومؤثر باللغة العربية حتى يجذب الشباب وكافة األجيال القادمة.
مواجهات
بشكل عــام هي كالمرآة التي نَشعُ ر من ٍ ¦اللغة خــالـهــا ب ـج ـرَس األل ـف ــاظ ،و َن ـغ ـمــات التعبير، وص ـفـ ِـات شخصيات أصحاب وطــريـقــةِ األداءِ ، ومالمحها ،كيف نشرح ذلك للقارئ؟ ِ اللغة ρطبعا اللغة مرآة ،ويستطيع مستخدمها ومتلقيها وكاتبها أن يشعروا بها جميعًا ،عبر الفنون المسموعة والمرئية والمقروءة ،فالشاعر الذى يلقي قصيدته بشكل جيد ،يعمل على إشعار سامعه في كل فقرة بروح اللغة ،وكذلك المعلم، وفنان الدراما ،وممثل المسرح؛ كما أن الفنون المكتوبة مثل القصة والرواية من الممكن أن تفعل ذلك ،لو كانت مكتوبة بشكل جيد ،وبطرق فنية متطورة ومنضبطة. ¦مـ ــا رأي ـ ــك فـ ــي ال ـح ـم ـل ــة الـ ـش ــرس ــة لـتـشـجـيــع اللهجات العامية؟ وهل لهذا تأثير على اللغة العربية الفصحى؟ ρليست هناك حملة شرسة بالمعنى المتعارف عليه ،لكن هناك توسع في استخدام اللغة الدارجة في الكتابة األدبية بشكل عــام ،فى الشعر والمسرح على وجه الخصوص ،وهناك رواي ــات كتبت كاملة باللغة الــدارجــة ،منها رواية «قنطرة الذي كفر» لمصطفى مشرفة، وهناك لهجات وسيطة ،تجمع بين الفصحى
مواجهات
والدارجة ،ومن المعروف أن الشعراء صالح جاهين وفــؤاد حــداد وعبد الرحمن األبنودى وسيد حجاب وغيرهم ،كتبوا باللغة الدارجة، وقوبلت نصوصهم بترحيب شــديــد ،وبحب جـ ــارف ،وك ــان عــبــدالــرحــمــن األب ــن ــودى يقيم أمسيات فى البالد العربية كلها ،وكانت تلك األمسيات تحقق نجاحات كبيرة ،ومن ثم ال توجد حرب أو حملة شرسة ،ألن اللغة العربية الرسمية مــوجــودة وقائمة وفاعلة فــي كافة التعامالت الرسمية ،ولن يضيرها استخدام اللغة الدارجة فى الشعر وخالفه ،شرط أن يكون ذلك االستخدام منضبطً ا وغير منفلت لــدرجــة السوقية التي نلمسها فــي كثير من المسرحيات الهابطة ،واألشعار الركيكة. كما أن هناك اللغة التى يستخدمها الناس في عموم حياتهم ،وهناك اللغة التي يكتب بها الشعراء والمسرحيون وكـ ّتــاب الــدرامــا، ومــن الطبيعى أن تــكــون هــنــاك أشــكــال من التنافس ،وإذا اســتــطــاع الــكـ ّتــاب والــشــعــراء واألدباء أن يبدعوا فنّونا وآدابًا راقية ،نستطيع أن نضمن حياة لغوية راقية وقويمة ،بعيدًا عــن تلك االســتــخــدامــات الــفــجــة ،ولــذلــك ال توجد صراعات بين اللغة العربية الرسمية، واللهجات العربية الدارجة.
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
97
الناقد األدبي د .محمد بن مريسي الحارثي:
«الثقاف ُة السعودية ثقافة كونيّة إلهية مصدرها السماء ومحركاتها االعتدال في النظرة البشرية إلى الحياة»
الــدك ـتــور محمد بــن مــريـســي ال ـحــارثــي ،أسـتــاذ النقد األدبي في قسم الدراسات العليا بجامعة أم الـقــرى .ولــد فــي قــريــة «ال ـصــور» بني الـحــارث ال ـتــاب ـعــة ل ـمــدي ـنــة ال ـط ــائ ــف ،درس االب ـتــدائ ـيــة ب ـمــدرســة ال ـص ــور ،درس الـمـتــوسـطــة وال ـثــانــويــة ب ــدار التوحيد بــالـطــائــف ،التحق بكلية الشريعة اإلسالمية -قسم اللغة العربية -فرع جامعة الملك عبدالعزيز بمكة المكرمة ،ثم تلتها العديد من المحطات العملية إلى أن حصل على الدكتوراه ،وكانت أول رسالة تُناقش في جامعات المملكة في اللغة العربية عامة وفي تخصص النقد خاصة .وهو أحد أهم الــرواد في األدب والثقافة والفكر ،وقد أثرى المكتبة بخمسة عشر مؤلفا ،وله الكثير من الدراسات األدبية والنقدية التي تركت أث ـرًا في الساحة الثقافية محليًا وعربيًا ،وأيـ ًـضــا الكثير من المشاركات في الندوات والمؤتمرات والملتقيات الثقافية محليًا وعربيًا. ■ حاوره :عمر بوقاسم
كدت أنسى بعض صور!.. ¦حظيت الساحة الثقافية بعدد من الكتب المهمة التي قدمها الدكتور محمد بن مريسي الحارثي ،ومنها
98
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
«االتجاه األخالقي في النقد األدبي حتى نهاية القرن السابع الهجري»، و«ات ـ ـ ـ ـجـ ـ ـ ــاهـ ـ ـ ــات نـ ـ ـق ـ ــد الـ ـ ـشـ ـ ـع ـ ــر ف ــي الـعـصــر الـعـبــاســي األول» ،و»جــدلـيــة الــواقــع والـمـتـخـ ّيــل ،ق ــراءة فــي شعر
مواجهات
ب ــاش ــراح ـي ــل» ،و«عـ ـم ــود ال ـش ـعــر ال ـعــربــي، النشأة والمفهوم» ،و«في أصول الحداثة العربية» ،و«فــي دي ــوان البالغة العربية» و«في ديوان الثقافة العربية» و«في ديوان الشعر السعودي» و«الثقافة الكونيّة في ال ـق ــرآن ال ـع ـظ ـيــم» ..وغ ـيــرهــا مــن الكتب القيمة ،إضــافــة إلــى عديد مــن األبحاث والــدراســات والمقاالت ،وبمشوار يتجاوز األرب ـعــة عـقــود مــن ال ـع ـطــاء ،هــل نحظى ب ـبــوح خ ــاص مـنــك ب ـشــأن ه ــذه التجربة الثرية؟ ρذكرت بعض أسماء مؤلفاتي التي تحمل رؤية المثقف المنتمي ،والباحث الجامعي المتنوع ،وكأنك تعرض أمام ناظري صورًا أقلعت عنها وهبطت إليها وتركت أثرًا من ذلك في كل محطة أويت إليها ،أو أقلعت منها ،وقد كدت أنسى بعض صور تلك المحطات التي لم تذكرها. لوال ما بقي من حبال الذاكرة التي لم يطوها شيء من النسيان ،أذكر من ذلك الذي لم يذكر هنا (عبدالعزيز الرفاعي أديبًا ،والمنهج البياني في تأويل النص، وكــن مسلمًا ليبراليًا وال تكن لبراليًا مسلمًا ،فــي دي ــوان النقد األدبـــي ،ابن قتيبة ناقدًا ،أما كتاب الثقافة الكونية في القرآن العظيم فهو في مرحلة الطبع وسيخرج قريبًا ،بإذن اهلل). وكثرة الـتأليف مما يحمل رؤيــة ثقافية واحدة ال يعني أفضلية الكاتب على غيره من أصحاب الصنعة .فالمفيد من الثقافة ـرئ ما بعضا ،وقيمة كل امـ ٍ يقوّم بعضه ً يُحسن .وقد تعلّمت مصادر العلم األولية
مواجهات
قبل دخولي إلى مدرّجات الجامعة وذلك في مرحلة التعليم الثانوي؛ فقد عملت وراقًا بمكتبة المعارف بالطائف لصاحبها الشيخ محمد سعيد كمال .في اإلجازات الصيفية وكان بينه وبين والدي -رحمهما اهلل -ألفة ،فتعلمت طرق الوصول إلى معرفة الكتاب. فحظيت بمكافآت علمية بعضها ما يزال بمكتبتي ،إضافة إلى المكافآت المالية الــتــي كــنــت أحــصــل عليها لــقــاء عملي بالمكتبة. وكنت أرغــب فــي حصولي على شهادة الــدراســة االبتدائية كــي أتــخــرج معلمًا بعد ثالث سنين بعد االبتدائية فرُفِ ضت رغبتي لصغر سني وقتها .فوجّ هت إلى دار التوحيدـ فارتسمت خارطتي التعليمية بــمــا ال أشــتــهــي وقــتــهــا ،ويــمــمــت صــوب التعليم طويل األمد .وكان ذلك العمل ال يكون سابقًا على التعلم ،فإذا أردت أن تعمل فتعلم .وخريطة النجاح في العمل (تعلّم واعمل واحصل على المخرجات بما ترغب أن تكون عليه المخرجات من التقدم والفضل). د .محمد بن مريسي الحارثي: رؤية 2030تحمل في مشاريعها الحضارية تأصيل هوية الوطن وفق روابط الدين واللغة والقيادة .ومشتركات العالم المتحضر ،وانفتاح مشروع الثقافة الجديد بإنشاء وزارة مستقلة ما هو إال دليل الغايات الكبرى التي يهيئ لها وزير الثقافة طرق المسيرة الثقافية المتنوعة. 75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
99
بدأت الكتابة بعد تهيئة تعليمية طويلة امتدت من التعليم الثانوي حتى تخرّ جت في الجامعة سنة تسعين بعد األلف وثالثمئة للهجرة ،قرأت ما له عالقة بمناهج التعليم من قريب أو من بعيد!.. امتداح الجودة والحسن في عمل المرأة أو الرجل راجع إلى قيمة الفعل وليس إلى رجل كان أم امرأة!.. شخص الفاعل ً والــعــمــل الــجــامــعــي ل ــم يــقــف بــنــا عند ح ــدود ومــشــارف التعلم ،إن لــه سطوة ذاتية داخلية يشعر بها المتعلم القادر على تهيئة ذات ــه مــن التعلم المنهجي إلــى غير المنهجي ،مما تتطلبه وجــوه الحياة .وكان لمواجهة التعليم الجامعي المتخصص هيبة عظيمة في البحث عن الوسائل والغايات واالستعانة بأي شيء يعينك على المواجهة العلمية والعملية. وللعمل الجامعي عــادات وتقاليد ال بد من معرفتها قبل الدخول فيها ،والعمل بموجبها .والدقة في العمل ال تقتصر على العمل في الجامعة ،إنه أمر مطلوب شــأن تمارسه جامعيًا أم غير ٍ فــي كــل جامعي. واألســتــاذ الجامعي بين الــتــزام يحركه لتقديم األدق واألفضل منطلقًا من ذاته الباحثة عن االكتمال ما أمكن بمتطلبات الــجــامــعــة ،وه ــذا طــريــق الــنــجــاح .وبين اإللــزام من الخارج ،إلــزام بالتنفيذ دون وعي لمكامن مخرجات العمل ،والملزم في المسيرة التعليمية والبحثية الجامعة. أرضا قطع وال ظهرًا أبقى! ال ً
100
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
الضابط لحركة األستاذ الجامعي!.. ¦العمل األكاديمي يتميز بالدقة وااللتزام العلمي ،وحتما ال يخلو العمل األكاديمي من المفاجآت والتميز والخصوصية ،د. محمد بن مريسي الحارثي ،حتمً ا ،لديه الكثير ليقوله في هذا االتجاه..؟ ρالعمل الجامعي عمل مؤسساتي يتم وفق منظومة عمل متجانسة تذوب فيها الفردية وتحل محلها المجتمعية واللوائح اإلدارية والتعليمية هما الضابط لحركة األستاذ الجامعي .وقــد مارست العمل اإلداري بالجامعة ،والعمل التعليمي مدة ثالثة عشر عامًا .وهــذه المدة الطويلة جاهدت فيها كثيرًا إلحــداث مواءمة ما بين المهمة العملية ،واألخــرى العلمية. وأحــســب أنني نجحت إلــى حــدٍّ مــا في مسؤوليات تلكما المهمتين .بمعونة من مجموعة من اإلداريين ،والمتخصصين من منتسبي الجامعة فيما يتعلق بشبكة األهداف والغايات التي تنشدها الجامعة، ومجالسها الكثيرة القارة والطارئة. الحس األمين، ّ وكان استشعار مسؤولية وخــدمــة جــوانــب عظيمة مــن تطلعات لخدمة الوطن ،والمحافظة على مقدراته الحضارية هي ديــدن األستاذ الجامعي تخطيطً ا ،وإعدادًا ،وتنفيذًا .هذا ما نتطلع إليه في شخصية األستاذ الجامعي .وال يمكنك أن تحقق شيئًا من هذا الثالثي الــذي تتمحور حوله نجاحات أي عمل مؤسساتي .أما ما يواجهه األكاديمي من متاعب العمل ،فهذا إحساس مشترك بين كل ذي عمل .لكن النجاحات تطفئ
مواجهات
تكريم الدكتور محمد مريس الحارثي في حفل تدشين كتابه في ديوان البالغة
المتاعب. الخطة اإلستراتيجية الوطنيّ ة للثقافة!.. ¦أن ـ ــت ع ـض ــو ب ـم ـج ـلــس إدارة نـ ـ ــادي مـكــة ال ـث ـق ــاف ــي ،ورئـ ـي ــس ت ـحــريــر م ـج ـلــة مكة ال ـث ـقــاف ـيــة ،ال ـت ــي ت ـص ــدر ع ــن نـ ــادي مكة الثقافي ،ما تقييمك للدور الذي تؤديه األندية األدبية بالمملكة ثقافيً ا وأدبيً ا، في بدايتها وحتى اآلن ،وبخاصة ونحن نشهد الكثير من المتغيرات التي تعمقت ف ــي ال ـف ـض ــاء اإلع ـ ــام ـ ــي ..ف ــي وســائ ـلــه وأدواره؟ ρإذا عــرفــنــا مكاننا مــن الــعــالــم عرفنا ـادل موقفنا مــن الثقافة الــتــي تعد مــعـ ً موضوعيًا للحياة عند كل الحضارات، والثقافة في المملكة العربية السعودية ذات جذور دينية ،وتاريخية ،واجتماعية، وقــومــيــة ،ووطــنــيــة ،وإنسانية .هــذه من أبرز مصادر الثقافة العربية ،وفي بحث
مواجهات
األنــديــة األدبــيــة فــي المملكة العربية الــســعــوديــة عــن إســتــراتــيــجــيــة ثقافية. وتشكيل بعض اللجان؛ كتبت تص ّورًا عن تلك اإلستراتيجية في اثنتين وأربعين صفحة ،عنوانه (الخطة اإلستراتيجيّة الوطنيّة للثقافة) ،أفكار قابلة للمناقشة نشرتها في كتابنا (فــي ديــوان الثقافة العربية) .استوحيت فيها ما كنا نعمله في نادي مكة الثقافي األدبــي .وكنت وقتها مندوبًا للنادي لمناقشة األفكار المقدّمة لتصحيح مسار النادي ،وهل تبقى أندية أدبية ،أم مراكز ثقافية .وإبّان عملي بإدارة نادي مكة الثقافي األدبي عضوًا ،رأست تحرير مجلة مكة الثقافية .كنا نصدر منها أربعة أعداد في العام الواحد .كانت مجلة علمية محكّمة يحصل الكاتب بها على مكافأة مالية .وقــد اعــتــذرت عن مواصلة الركض بالنادي ،والتفرّغ كل ّيًا إلخراج مؤلفاتي قبل فوات األوان. وكانت األنــديــة األدبــيــة قد أنشئت منذ 75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
101
أواخــــر الــقــرن ال ــراب ــع عــشــر الــهــجــري النــتــشــال الــثــقــافــة مــن الــتــشــتــت الــذي كــان يجري مــن دون روابـــط ،ورعــايــات مؤسسية .وكانت مبادرات صاحب السمو الملكي األمير فيصل بن فهد -رحمهما اهلل -وسيلة إنــقــاذ فاعلة فــي تأسيس مقرات األندية األدبية التي أدّت دورًا كبيرًا في نشر الثقافة بالمملكة وما تزال تؤدي تلك األدوار ،وستبقى كذلك. العمل الجامعي عمل مؤسساتي يتم وفق منظومة عمل متجانسة تذوب فيها الفردية وتحل محلها المجتمعية واللوائح اإلدارية!.. عرّ فتني مكتبة المعارف على بعض العلماء والكتّ اب ،والمثقفين .أمثال محمد حسن الساسي ،واألستاذ علي عوّ اد ،وعبد السالم ّ العبّ ادي ،وعبد الحي كمال .وكتبت بحث التخرج في الجامعة عن األستاذ محمّ د حسن عوّ اد!..
وقــد بــدأت الكتابة بعد تهيئة تعليمية طويلة امتدت من التعليم الثانوي حتى تخرّجت في الجامعة سنة تسعين بعد األلــف وثالثمئة للهجرة ،قــرأت مــا له عالقة بمناهج التعليم من قريب أو من بعيد ،وعرفتني مكتبة الــمــعــارف على بعض العلماء والكتّاب ،والمثقفين .أمثال محمد حسن عوّاد ،وعبدالسالم السّ اسي، واألستاذ علي العبّادي ،وعبد الحي كمال. وكتبت بحث التخرج في الجامعة عن األستاذ محمّد حسن عوّاد بعد إهدائي من لدنه مجموعة دراســاتــه المتوافرة لديه .وبدأت أتطلع إلى الكتابة بالصحف المحلية على استحياء للتعرض قبل األوان .وكانت االنطالقة الكتابيّة الجريئة بالصحف المحليّة فــي أواخـــر القرن الرابع عشر حين التحقت بالدراسات العليا العربيّة بجامعة أم القرى ،ورسمت خريطة الطريق للتخصص بقسم البالغة والنقد .وحصلت على درجة الماجستير
من حفل تدشين كتاب (في ديوان البالغة)
102
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
مواجهات
عــن مــوضــوع (ابــن قتيبة نــاق ـدًا) ،وعن رسالة الدكتوراه (اتجاهات نقد الشعر في العصر العباسي األوّل) .والرسالتان مطبوعتان .وكانتا أوّل بحثين علميين في النقد األدبي بالمملكة العربية السعودية دون تخطيط للوصول إلى هذه األوّلية، بل توفيق من اهلل ومنّه .وكــان موضوع (ابن قتيبة ناقدًا) .عن جهود ابن قتيبة في كتاب الشعر والشعراء .دون غيره من مؤلفات ابن قتيبة. أما موضوع رسالة الدكتوراه (اتجاهات نقد الشعر العصر العباسي األوّل) فقد أخذ وقتًا ،وجهدًا كبيرين في التخطيط، واإلعــــداد ،والتنفيذ .تــأ ّلــف مــن أربعة أبــواب تناولت االتجاه اللغوي ،واالتجاه األدب ــي ،ثــم التوفيقي ،والــرابــع االتجاه العقالني .وامتد زمن الدراسة إلى آخر القرن الرابع عشر تقريبًا .وكــان الذي دفعني إلى هذا الموضوع تلك اإلشــارة القيّمة التي أشار إليها األستاذ المرحوم طه إبراهيم في كتابه (تاريخ النقد األدبي عند العرب من العصر الجاهلي حتى القرن الرابع الهجري) ،تحدّث فيها عن ذهنيّات عربيّة مختلفة اشتركت في تطور النقد األدب ــي .اتسعت بعد ذلــك حدود الــرؤيــة النقدية فــي أعمالي فأخرجت االتجاه األخالقي في النقد حسب الرؤية الملتزمة بقيم االعتدال الفكري المنتمي يقينًا .وبمناسبة تكريم معالي األستاذ عبدالعزيز الرفاعي بنادي ج ـدّة كتبت بهذه المناسبة (عبدالعزيز الرفاعي أدي ـ ًبــا) ،وكــان الجامع النقدي العظيم الــذي نشرته عن (عمود الشعر العربي
مواجهات
النشأة والمفهوم .)-استنفد من وقتيوجهدي ثالث سنين متتالية ال يفصل بين أيامها يوم واحــد ،وقد جاء فيما يقرب من ستمئة صفحة .كنت أطمح أن أحقق فيه بعض األفكار التي تسهم في رسم النظرية النقدية، ولــم أخــرج على ما ذكــره المرزوقي في مقدمة الحماسة من أبواب عمود الشعر العربي عند العرب ،سماه بعضهم نظرية النظم وهــو ليس كذلك .ومــن القضايا التي تناولها أكثر مــن كتاب مــن كتبي (مــفــهــوم الــحــداثــة) ال ــذي أصــلــنــاه إلــى المعرفة القرآنية .وكتاب (كــن مسلمًا ليبراليًا وال تكن ليبراليًا مسلمًا) في رسم طرق الحرية الفردية والجماعية إلى البحث في مسارات النقد واألدب من الوجهتين التاريخية والنقدية .واستعمالنا لــفــظ (ال ــدي ــوان) مــحــل لــفــظ (الــمــلــف) لبعض مؤلفاتنا .وتقديمنا بعض األفكار الجديدة لبعض اآلراء المبتكرة الجديدة كالحداثة القرآنية ،والعوربة وغيرها. انفتاح مشروع الثقافة الجديد!.. ¦وزارة ال ـث ـقــافــة ب ـبــرام ـج ـهــا الـتـطــويــريــة وتحت مظلة رؤية 2030تستوعب الكثير مـ ــن األنـ ـشـ ـط ــة وال ـف ـع ــال ـي ــات ال ـث ـقــاف ـيــة ال ـت ــي ل ـه ــا دور م ـه ــم ف ــي ت ـش ـك ـيــل هــويــة الوطن ،وهــذا ما أكــد عليه وزيــر الثقافة األم ـي ــر ب ــدر ب ــن ع ـب ــداهلل ب ــن ف ــرح ــان آل سعود وتوثيقا الهتمام خــادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده محمد بن سلمان -حفظهما اهلل .وف ــي تـصــريــح ســابــق ل ـس ـمــوه« :إنـنــا 75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
103
الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه اهلل. وولي عهده الشاب المثقف ،وقد اختير من يقود سفينة الثقافة باقتدار سمو األمــيــر ب ــدر بــن عــبــداهلل بــن فــرحــان. وعلى رأس مخرجات الثقافة تحقيق الرؤية 2030التي تحمل في مشاريعها الــحــضــاريــة تأصيل هــويــة الــوطــن وفق روابط الدين واللغة والقيادة .ومشتركات العالم المتحضر وانفتاح مشروع الثقافة الجديد بإنشاء وزارة مستقلة ،ما هو إال دليل الغايات الكبرى التي يهيئ لها وزير الثقافة طرق المسيرة الثقافية المتنوعة. الثقافة السعودية ..ثقافة كونية!.. سـنـعـمــل ف ــي الـ ـ ــوزارة عـلــى نـهــج تـشــاركــي مــع المبدع الـسـعــودي ،فهو رأس الـمــال، وسنذهب بعيدً ا لخلق بيئة تدعم اإلبداع وتسهم في نموه ،وسنفتح نوافذ جديدة ل ـل ـطــاقــة اإلب ــداعـ ـي ــة ع ـنــد ال ـس ـعــودي ـيــن، وستظل الثقافة السعودية نخلة سامقة في عالمنا» .وأنت يا دكتور كناقد ومبدع، كيف تقرأ المشهد الثقافي العام الذي يمنحنا فضاء له خصوصية وأصالة؟ ρالثقافة اسم جامع لكل قول وفعل ،وكل مخلوق منفوس مثقّف بما يحسن من نوع أو جنس ثقافي .هذا إذا كنا نبحث عن الثقافة الكونية في عمومها ،وخصوصها. وعلى هذا قل ما شئت ،وافعل ما تريد فــأنــت مثقف .وه ــذا الــفــضــاء العالمي للثقافة المعادل للحياة جعل الهم الثقافي ال يدانيه أوســعــهــم .وجعل ذلــك محط أنظار القيادة الرشيدة ،إذ أضحت من أولويات اهتمام خادم الحرمين الشريفين
104
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
¦ ...م ــن ضـمــن م ــا يـمـيــز ف ـضــاء الــدكـتــور مـحـمــد ب ــن مــري ـســي ال ـح ــارث ــي ،ح ـضــوره المميز والكبير في الكثير من الندوات وال ـف ـعــال ـيــات الـثـقــافـيــة ع ـلــى الـمـسـتــوى المحلي والـعــربــي وه ــذا مــا يــدعــونــي أن أسألك ،ما الذي يميز الساحة الثقافية السعودية عن الساحات األخرى؟ ρلكل مخلوق منفوس ثقافة ،ولكل أمة ثقافة .والثقافات تتعارض فيما بينها. والذي يميز الثقافة السعودية أنها ثقافة كونية إلهية مصدرها السماء ،ومحركاتها االعتدال في النظرة البشرية إلى الحياة. التقليل من شأنها تقليل من شأن الرجل.. ¦رب ـم ــا كـ ــان ح ـض ــور ال ـ ـمـ ــرأة ي ـت ـف ــاوت من مجتمع آلخر ،قد يكون أحد أسباب هذا التفاوت التكوين المجتمعي ،ولكن من المالحظ أن حضور الـمــرأة في المنابر
مواجهات
اإلع ــام ـي ــة وال ـث ـقــاف ـيــة وم ـشــارك ـت ـهــا في الفعاليات في تزايد اآلن ،ما رأيك؟ ρالمرأة خلق بشري مكلف ،عاقل ،والحكمة من الخلق العبادة .وهذا التكليف ال ينفرد بــه المذكر عــن المؤنث إال فــي حــاالت الرّخص العبادية التعبدية .ودور المرأة في إقامة الحياة السويّة ال يحتاج إلى دليل لبعده عن حقائق الخلق؛ فالمرأة هــي األم ،واألخ ــت ،والبنت ،والــزوجــة، والعاملة ،وصاحبة الفعاليات االجتماعية الكبيرة ،والتقليل من شأنها تقليل من شــأن الرجل ،ولــن تكون في حاجة إلى سرد ما تؤديه المرأة في وجوب الحياة. واإلشــارات التي تُثار حول مكانة المرأة من مجتمع إلى آخر ليس لمصادرة دور المرأة في الحياة ،وإنما لفروق في طبيعة الحياة بين المجتَمعَين .ولو ضربت أمثلة حول حضور المرأة من عدمه على منابر الثقافة ألمكنك إعــادة النظر في بعض تصوراتك عن المرأة ،فهل كل الرجال كانوا يحضرون منابر الثقافة؟ وهــل ارتكاب الخروج على السنن من فعل المرأة أو من فعل الرجل ،أو منهما جميعًا؟ وهل هيأت العمل المناسب للمرأة والرجل على حدٍّ سواء؟ وهل األجود في اإلنتاجية في عمل الرجل دون المرأة؟ وهل ..وهل..؟ أسئلة كثيرة ينبغي أن تجيب عنها قبل أن تصدر آراءك لتضع األمور من المرأة في مكانها الــصــحــيــح .واعــلــم أن امــتــداح الــجــودة والحسن في عمل المرأة أو الرجل راجع إلى قيمة الفعل وليس إلى شخص الفاعل رجل كان أم امرأة. ً
مواجهات
من أسباب الحصول على الجوائز!.. ¦ت ـ ــم ت ـك ــري ـم ــك م ـ ــن عـ ـ ــدة ج ـ ـهـ ــات ك ـب ــرى «وزارة الثقافة واإلع ــام ،اثنينية الشيخ ع ـبــدالـمـقـصــود خ ــوج ــة ،جــام ـعــة األزه ــر ف ــي مــؤت ـمــرهــا ال ـع ـل ـمــي ال ـث ــان ــي» ،فضال لحصدك لجوائز على المستوى المحلي وال ـعــربــي ،وأي ـضــا مـشــاركــاتــك فــي ن ــدوات ومــؤت ـمــرات ،ودورات تــدريـبـيــة ،الـتـكــريــم، تـ ـق ــدي ــر م ـس ـت ـح ــق وت ــوثـ ـي ــق ل ـل ـم ـج ـهــود خاصا والتميز للكاتب ،إضافة أن له وقعً ا ً في نفس الكاتب ،د .محمد بن مريسي الحارثي ،ماذا يقول..؟ ρالحصول على التكريم المعنوي أو المادي أم ٌر مرغوب فيه من قبل المكرَّم بالفتح، أو المكرِّم بكسر الراء .ويأتي على شكل شهادات تقدير مصحوبة أحيانًا بمكافآت مالية .ومثل هذا الصنيع بال شك يزيد من توثيق العالقات بين المبدعين الثقافيين من جهة ،وبين المانح للجائزة والحاصل 75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
105
عليها من جهة أخرى .وهذه قضيّة عالميّة مقدّرة بقدرها .وأنا لم أكتب بحثًا واحدًا متطلعًا إلى جائزة قد تأتي بعد الفراغ من العمل ،وهذا ما كان من أسباب الحصول على الجوائز التي تشعرك بحضورك في المشهد الثقافي .وتشعرك بحسن الثناء على ما قدمته ،وجميل التقدير مهما كان مستوى التقدير ومكانه وقيمته .ومن ال يشكر الــنــاس ال تجد مــن يشكره .ومن ـور اجتماعية التكريم مــا يــأتــي فــي ص ـ ٍ كاإلحسان الذاتي للضيف ،وللزائر ،وبذل الــمــعــروف لمن يستحقه .وأن ــت تعرف ضرب المثل (ال حُ َّر بــوادي عوف) فقد ُ المثل لمكانة عوف بن محلّم الشيباني مجمع اإلحسان لكل أحد:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبَهم لطالما استعبد اإلحـســان إنسانا يسيران جنبً ا إلى جنب!.. ¦بـ ـ ــرأيـ ـ ــك ،مـ ـ ــا م ـ ـ ــدى مـ ـن ــافـ ـس ــة الـ ـكـ ـت ــاب اإللكتروني للكتاب الورقي «التقليدي»؟ منفذ تستطيع الحصول منه على ٍ ρأي إعانتك في نشر نشاطك العلمي سيكون قبلة االتجاه إليه لإلفادة .وقد تطورت طرائق النشر في عصرنا ،وهي تسير إلى زيادة تطوير كلما م ّر زمن جديد وأجيال جديدة .لكن ليس كل جديد يلغي اإلفادة من كل قديم .وسيبقى النشر الورقي، والنشر اإللكتروني يسيران جنبًا إلى جنب. ال علم لي بأسماء النوافذ!.. ¦«تويتر ،فيس بوك ،كيك ،،وغيرها» ،نوافذ
106
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
للتواصل االجتماعي المهمة والمنتشرة ع ـل ــى ال ـش ـب ـك ــة ال ـع ـن ـك ـب ــوت ـي ــة ،مـ ــا م ــدى اهتمامك بهذه النوافذ؟ ρأح ــف ــادي عــلــى مــعــرفــة جــيّــدة بــنــوافــذ ال ــت ــواص ــل االج ــت ــم ــاع ــي اإللــكــتــرونــي
والتقليدي ،ومعرفتي بنوافذ التواصل االجتماعي أميّة اليد واللسان! فال علم
لي بأسماء النوافذ ،ووظائفها التعليمية
والعملية.
كنوز مكتبتي!.. ¦هـ ــل لـ ـلـ ـق ــارئ أن ي ـق ـت ــرب مـ ــن ع ــال ـم ــك، ويتعرف على محتوى مكتبتك؟ ρمكتبتي عامرة ،وهلل الحمد بمجموعة كبيرة من المصادر والمراجع التراثية والجديدة .وترتيب محتوياتها اآلن غير مريحة ،وتحتاج إلى تهيئتها ،لتعود كما كــانــت حــتــى ت ــؤدي دورهـ ــا كــمــا ينبغي.
وكنت قد بدأت باقتناء كنوز مكتبتي منذ مــراحــل الــدراســة الثانوية ،وزرت أكبر
معارض الكتب ،ودفعت أغلى األثمان في
موجوداتها.
«كالم في كالم»!.. ¦وماذا عن جديدك؟ ρالــجــديــد إعــــادة الــنــظــر فــيــمــا نــشــرت. واستكمال طباعة كتاب (الثقافة الكونية في الــقــرآن العظيم) واستكمال إعــداد
كتاب جديد عنوانه (كالم في كالم).
مواجهات
رائدات عربيات التشكيلي في الفن ّ ■ إعداد :صبحة بغورة*
لم يكن الفن التشكيليّ العربي باألنامل الناعمة ،حديث العهد في الساحة الفنية ،وإنما يعود بروزه بشكل أكاديمي ومحترف إلى أوائل القرن الماضي بعد ظهور نخبة من الفنانات بالفطرة ،عشقن اللون في صغرهن ،فكان بمثابة حبهن الحقيقي ،وتمكنّ مــن ثقل موهبتهن بالمزيد مــن الثقافة والعلم والمعرفة، فتملكن ناصية التعبير الفني عن جماليات الكون بعدما أدركن حقيقة الطبيعة وأسرار الكائنات ،وانجذبن أكثر إلى هذا العالم وسط عاصفة ال تؤمن بالهدوء في عشق األلــوان ،ووقفن في غمرة التأمل مشدوهات عن ما حولهن ،يتلقين صدق وحيه وإلهامه ،فأبدعن في استخدام الرمز وتأويلية المعاني ،وحملت لوحاتهن حــوارًا للتاريخ ودعــوة لالنغماس في التأمل والتعلم بقوة األشـيــاء ،ونجحن في الجمع بين فخامة الفن التشكيلي وأناقة لمسات الريشة وتألق روح الفنان ،في أعمال ً أخاذة تجسد لوحات فنية تشرق ألوانها وتزدحم بحركات زاهية ،وأشكال ّ فنية عالية الدقة ،وفي منتهى االحترافية ،تبرز في هندستها قوة الرسائل ،ومهارة التعبير ،ونبل المعاني. لقد استوحت الفنانة التشكيلية العربية برائحة الحياة والحركة الدائمة ،يشعر بموهبتها صــورًا من واقعها االجتماعي الناظر إليها بعبق اللوحات يخرج من وبيئتها األصيلة ،وترجمتها بمقدرة فنية الصورة ليمأل البصر باأللوان المختلطة، إلــى لوحات غاية في الجمال ،مفعمة فأصبح التجول بين اللوحات الفنية يعد
نوافذ
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
107
بمثابة رحلة مجانية إلــى األعــمــاق ،وكأنما أرادت الفنانة من خاللها الخوض بتجربتها اإلبداعية في اإليحاءات الداخلية عبر األلوان والهندسة المتناسقة ،لتجسيد أعمال جذابة تخاطب الروح وتكشف عن رؤيتها الروحية.
الفنانة المصرية جاذبية سـري (2021 1925م)
لوحة حديث الحمامة
أكدت األعمال الفنية للتشكيليات العربيات ثــوابــت الــهــويــة واألصــالــة الــعــربــيــة ،وأغنت الساحة الفنية بــمــدلــوالت ثقافية خالصة حفظتها من تأثيرات دعاة العولمة في الفنون، فحسم فنهن الهوية لصالح الثقافة الوطنية؛ ألن لكل جماعة بشرية ثقافتها الخاصة، وبالتالي تأكدت مكانة الهوية الثقافية كاعتبار ثابت ومتحرك فــي الــوثــق نفسه ،يمكن أن يتطور وينتقل بفعل الهجرات الكبيرة. وفيما يلي نــمــاذج لبعض رائـ ــدات الفن التشكيلي الالئي أثّرن في الحركة التشكيلية العربية والعالمية. التشكيلية المصرية جاذبية حسن سري: فنانة امتلكت حسً ا فنيًا رهيفًا ،واغترف فنها موضوعاته مــن ينبوع الــتــاريــخ ،وارت ــوى من الواقع المعاش ،فعطرت ما رسمته بإحساس صادق من نبع فؤادها.
من أعمال الفنانة جاذبية سري
108
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
اهــتــمــت جــاذبــيــة حــســن ســـري الــفــنــانــة التشكيلية المصرية منذ نشأتها بحي بوالق الشعبي في القاهرة كثيرًا بالتأمل في طبيعة السلوكيات اليومية للشعب المصري ،انطالقا من خصائص بيئتها الشعبية التي ترعرعت فيها وتأثرت بها ،فأبرزت مالمح مجتمعها األصيلة في إطار فني تشكيلي مميز ،وذلك بعد أن اتجهت بــدءًا من مرحلة الستينيات الماضية من التعبير الزخرفي إلى التعبير
نوافذ
الواقعي ،وذلك قبل أن تبدأ في مرحلة أخرى مهمة من حياتها الفنية إلــى رســم الطبيعة وإبراز المناظر البيئية الجميلة .حلّقت الفنانة بفرشاتها وألوانها األنيقة في سماء الفن، فسجلت بأعمالها الرائعة التي امتدت عبر عقود من الزمان تفاصيل الحياة المصرية التي تفاعلت معها بحماس على اختالف ظروفها السياسية واالجتماعية والثقافية .عشقت التفاصيل وذابت في السالسل البشرية التي تموج بها األحياء الشعبية ،فقامت برحلة بحث في قلب الحارة الشعبية ،وراحت تستقي من ساكنيها المعرفة ،وتتعرف من خاللهم على تفاصيل الــحــيــاة؛ فترسم النساء والــرجــال واألطفال في لوحات واقعية ،كما أن إيمانها بحرية اإلنسان المقرونة بالعدالة االجتماعية جعلها تتفاعل مع الثورات التحررية ،فترسم عن المقاومة الشعبية ودوره ــا الباسل في حرب بورسعيدـ وترسم عن ثورة يوليو 1952 "أغنية الثورة".
الفنانة الجزائرية باية محي الدين (1998-1931م)
ألوان تنبض بالحياة
وهــكــذا ،تــواصــل عــطــاؤهــا وتفاعلها مع المجتمع خالل ثورة يناير 2011م وما تالها من موجات ثورية أدت إلــى تغيرات جذرية في المجتمع المصري ،فآثرت أن تتحدث بإبداعاتها عن األمل المتجدد دائمًا.. عكست في أعمالها الفنية صــوت الحياة بشكلها اإلنساني فأحدثت الدهشة .تمتلك القدرة على رســم صــورة المشاعر وتلوينها، وتستوحي بموهبتها صورًا تترجمها إلى لوحات فنية غاية في الجمال ،مفعمة برائحة الحياة. التشكيلية الـجــزائــريــة بــايــة محي الــديــن: واســمــهــا فــاطــمــة حـ ــداد ،زوج ــة الموسيقار
نوافذ
صورة نادرة للفنانة باية بلباسها األمازيغي 75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
109
محفوظ محي الدين ،فنانة تشكيلية جزائرية، عاشت يتيمة األبوين منذ والدتها ،بدأت في صغرها بتشكيل تماثيل لحيوانات مختلفة وأخ ــرى لشخصيات مــن خيالها ،ثــم بــدأت الرسم في سن 13عامًا ،وفي أربعينيات القرن العشرين ،استطاعت باية في سن 17عامًا من عمرها جذب انتباه كبار الفنانين في العالم ،إذ قدمت رسومات باهرة األلوان ،تخلو غالبا من الرجال ،وتمتلئ بالنساء والطبيعة والحيوانات.
اهــتــم بــهــا الــنــحــات الــفــرنــســي بيريساك وشجعها وع ــرض رسوماتها على المؤلف ومنتج األفــام الشهير إيمي مايجت ،وكان أن تم عرض أعمالها ألول مرة على الجمهور الفرنسي بباريس عام 1947م ،واهتم بفنها الــفــنــان بابلو بيكاسو ،وطــلــب منها رفقته لتعليمها أكثر أصــول الرسم ،التقت الفنانة باية بأحد مؤسسي المدرسة التكعيبية.. الفنان بيراك ،ونالت أعمالها نجاحً ا كبيرًا، وصارت من أهم رموز السريالية في عصرها في عام 1963م اشترى المتحف الجزائري أعمالها ليتم عرضها في أكبر المناسبات، وواصلت باية محي الدين الرسم ،وتم عرض جميع أعمالها في الجزائر وباريس والعالم الــعــربــي ،والكثير منها محفوظ فــي لــوزان بسويسرا .تعد الفنانة الراحلة باية محي الدين واحدة من أشهر الرسامين ،واألغزر إنتاجا.
الفنانة العراقية مديحة عمر (2006-1908م)
لوحة للفنانة العراقية مديحة عمر
110
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
امتدت مسيرتها المهنية على مدى ستة عقود ،وأصبحت فنانة محورية في تشكيل الحداثة الفنية المتميزة بشمالي إفريقيا، إذ مزجت في رسوماتها بين األبعاد األصيلة لهويتها العربية واألمازيغية وثقافتها الفرنسية، ويعد كبار الفنانين أعمالها الفنية بالرسومات ذاتية التعلم؛ ألنها فنانة فطرية لم تدخل المدرسة ،إال إنها نجحت في االنفتاح على العالم انطالقًا من تمسكها التلقائي بالمنابع األصلية كمصادر تستقبل من خاللها إلهامها الجمالي بعد أن انفتحت بموهبتها على خيال المرئيات في بالدها ،وكانت تستعيد وهي ترسم ذكرياتها البصرية فمثلت رسوماتها تعبيرًا صادقًا منها عن نفسها.
نوافذ
الفنانة الفلسطينية سامية الحلبي (1936م)
ال ـت ـش ـك ـي ـل ـي ــة الـ ـع ــراقـ ـي ــة م ــديـ ـح ــة حـســن تحسين :ابتكرت الرسامة العراقية مديحة حسن تحسين زوجة الدبلوماسي ياسين عمر أسلوبها الفني الخاص باستحضار الحرف العربي في أعمالها الفنية ،فأخذت الريادة فــي مــجــال الكشف عــن جماليات الحرف العربي في اللوحة. اشتهرت بدمج الخط مع الفن التجريدي، فكانت بذلك مقدمة لحركة «الــحُ ـرَف» وسمح ارتباطها بعمل زوجها الدبلوماسي العراقي - والــذي كان يتنقل من دولة الى أخــرى -منحها فرصة االط ــاع على فنون وتقاليد وثقافات مختلفة في الكثير من المجتمعات غير العربية، ومــن ضمنها الــحــركــات الفنية الحديثة في أوربا ،مثل :السريالية ،والتكعيبية ،والتجريدية، وغيرها ،وتأثرت بها خاصة وإنها عاشت ظروف بــدايــة انطالقها وب ــروز اتجاهاتها الفكرية؛ وبالتالي فقد شكلت لها مصادر عطاء وينابيع إبداع ..فاندفعت النتزاع الحروف من وظيفتها اللغوية إلى استخدامها كعنصر جمالي ،أو صور من عالم الفنتازيا واألحالم أو السريالية ،فقد
نوافذ
جعلت أحرفها تسبح في فضاء اللوحة واكسبتها عمقًا روحيًا ولونيًا ورمزيًا .تؤكد الفنانة مديحة أن الخط العربي لــه مــعـ ٍـان جمالية ،وهــو في جــوهــره رم ــزي؛ لــذا ،فمن الخطأ النظر اليه بوصفه مجرد أبعاد وأشــكــال هندسية فقط، وهي بذلك قد أعطت صورتين للخط العربي، األولــى أنــه له شخصية شكلية جمالية رائعة، والثانية هي صــورة صوتية مــقــروءة لها أبعاد رم ــزي ــة؛ وق ــد ربــطــت بــعــض األحــــرف ببعض الكائنات الحية ،مثال الياء تشبه األفعى ،والميم تشبه المفتاح ،والالم تشبه السلم ،وهكذا أعطت للحرف أبعادًا مجازية رمزية .ونجحت الفنانة مديحة عمر في أن تحرر الحروف من صمتها الشكلي متأثره بالخطوط العربية المتشابكة على مــداخــل المساجد والــمــدارس القرآنية التي أوحت لها بالكثير من المعاني حين وقوع الحرف على اللوحة ،وهي المعاني التي شكلت واقعًا تصويريًا تتخلى فيه كلماته عن وظائفها اللغوية لتجعله في خدمة الوظيفة الجمالية. لقد أسهمت الفنانة مديحة عمر ببحثها الدؤوب بإبراز الحرف العربي عبر الفن التشكيلي. كان لظهور السريالية تأثيرًا كبيرًا في إثارة الخيال لــدى مديحة عمر وبخاصة أعمال الفنان األسباني خوان ميرو ،والفنان الفرنسي أندريه ماسون. التشكيلية الفلسطينية ســامـيــة حلبي: فنانة تشكيليّة وباحثة فلسطينيّة /أمريكيّة تقيم في نيويورك .تُعد أحد الرموز الرائدة عالميًا في الفن التجريدي وفن الديجيتال الــحــركــي ،فــقــد كــانــت لــهــا تــجــارب تــعــاون مشتركة مع عازفين موسيقيين قامت بتحويل موسيقاهم إل ــى لــوحــات فــنـ ّيــة باستخدام 75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
111
لوحة للفنانة الفلسطينية سامية الحلبي
الحاسوب أمام الجمهور مباشرة. تتّسم لوحاتها بكبر حجمها وبالمربعات والنقاط والــدوائــر والمثلثات زاهية اللون، وضربات الريشة السلسة التي تجذب الناظر بــصــر ًيــا مــع ألـ ــوان األرج ــوان ــي والــمــرجــانــي والــفــيــروزي والفوشيا المشبعة؛ وتوصفت لوحاتها بأنها مفرحة ومتفائلة ،تحمل أعمالها أحيانًا تلميحات مجازية ،وتبرهن السمفونية البصرية التي تتمتّع بها أشكالها وألوانها على مهارتها التقنية كفنانة مزجت مغامرة حياتها الشخصية بقوة الخلق اإلبداعي في عملية االبتكار ،كان هاجسها هو قضية شعبها المصيرية من خالل أكثر تقنيات التصوير الرقمي ديجيتال حداثة ظل إلهامها مشرقيا برغم أنها نشأت فنيًا بالغرب ،مثلت تجاربها في الفن التفاعلي بمثابة إعالن عن انفصالها عن كل مفهوم تقليدي للفن ،كما ظل موقفها السياسي مشحونا بطاقة غامضة تقدم الجمال المنتهك على الهتافات ،لتؤكد بذلك أنها فنانة قضية شعب تقيم في الفن ،إنها ابنة خيالها التجريدي الجامح الذي يحرك في أعماقها ذائقة جمالية أبقتها ميزانًا في
112
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
التعرف على الحقيقة ،فهي ما تزال ال ترى مصيرها فــي المنفى األمــريــكــي إال معلقًا بديل ً بين طرفي معادلة لن يكون أحدهما عن اآلخر ،الوطن والفن ،القضية والجمال، والحقيقة أنها تعيش الفن باعتباره وطنًا، وتمارس صنع الجمال اعتباره قضية ،وفي الحالتين تبقى فلسطين حاضرة في مفهومي الفن والجمال .عندما يلتبس عليها األمر كونها فلسطينية تكابد هاجسها الداخلي حيث يمتزج فيه الحنين مع األلم ،وهي عالمية من جهة أخرى بمشروعها الفني الذي أضفى على تجربتها الفنية نوعً ا من األلم المصحوب بلذة الكشف عن مفردات ذاكرتها التي تبعث في كل لحظة رسم ،ترى بين األمرين نفسها رسولة جمال من نــوع خــاص تعيشه خياليًا وهــي تتلمس طــريـ ًقــا فــي الحلم إلــى وطن حقيقي بعد أن احتواها الفن في وطن آخر شمولي وشاسع كادت أن تنزلق فيه إلى الكف عن البحث عن وطن بديل. التشكيلية السعودية صفية بن زقر :فنانة تشكيلية سعودية ،ولدت في عام 1940م ،من رائدات الفن التشكيلي في السعودية ومنطقة تهامة ،تمتلك صفية بن زقــر دارًا في جدة أسستها بهدف توثيق التراث السعودي. المحافظة على التراث االجتماعي والفولكلور هو ما تميزت به الفنانة في رسوماتها كمبدأ، وتقدم من خــال الــدار ورش عمل لألطفال والكبار ،ودورات تدريبية ،ومحاضرات عن الفن التشكيلي .لديها العديد من المؤلفات الفنية ،وشاركت في نشاطات ثقافية كثيرة ،كما خاصا بها مثل معرضها ً معرضا ً أنها أقامت الشخصي في باريس بجاليري دورون ،وتعرض
نوافذ
يستوقف جمال المشاهد في لوحاتها كل متأمل في أعمالها الفنية ،ليتأكد من حقيقة موهبتها في الرسم الذي ما إن يقرأ المرء تفاصيله حتى يــدرك أنها أقــرب ما تكون إلى الشعور؛ فهي فنانة ترسم الرقة في هدوء ودقة .تنبهت في المراحل األولى لعالقتها بالفن إلى التغيير الكبير في صور الحياة اليومية التقليدية؛ ما حفزها على الفنانة السعودية صفية بن زقر االهتمام بتوثيق التراث عبر لوحاتها الفنية التي كرستها لهذا الــهــدف ،محددة بذلك مسارها الفني الذي تمضيه في االغتراف مــن مــاضــي الــنــاس لــتــغــذي بــه حاضرهم ومستقبلهم ،واختارت لهذا المسار أسلوب الــتــأثــيــريــة الــصــادقــة ،إذ تُــظــهــر لوحاتها بتفصيل ودقة فنية الجوانب المتعددة للحياة االجتماعية في محيطها وبيئتها المحلية، وه ــذه هــي الــمــادة األســـاس لموضوعاتها الفنية .وتطور في خالل ذلك أسلوبها الفني، لوحة للفنانة السعودية صفية بن زقر وتأثر بأساليب كبار الفنانين التأثيريين أو االنطباعيين التشكيليين ،كما ظهر تأثير فن شرقي آسيا في التلوين على لوحاتها مثل لوحة «امرأة بدوية» ،ولكنها نجحت تدريجيًا في التخلص من هذا التأثر حتى أصبح لها أسلوبها المستقل الذي جعلته يتناسب مع التراث المستوحى في لوحاتها .وتنوع صفية أدواتــهــا الفنية بتنوع موضوعاتها ،وتلجأ لوحة للفنانة السعودية صفية بن زقر إلــى الــرســوم األولــيــة السريعة مــن الصور أعمالها في عدة دول ،منها :الواليات المتحدة ،الضوئية ..فأثرت بلوحاتها مسار الريادة واليابان ،والسويد ،وإسبانيا ،ولبنان ،وإنجلترا ،الناعمة ،منطلقة من المحلية إلى العالمية وتستخدم عادة في لوحاتها الباستيل واأللوان بخطوات واثقة ،وبمقدرة فائقة على التحكم في المادة الخام لتطويعه في العمل الفني. الزيتية واأللوان المائية. * كاتبة -الجزائر.
نوافذ
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
113
عبداهلل العلي النعيم مواقف وقصص ■ محمد بن عبدالرزاق القشعمي*
التقيت الشيخ عبداهلل العلي النعيم ،ألول مرة ،في الملحقية الثقافية السعودية بالرباط ،إذ صادف أن أقيم األسبوع الثقافي السعودي بالمملكة المغربية ،وكنت وقتها أعمل مديرً ا لمكتب الرئاسة العامة لرعاية الشباب باألحساء ،وشاركت سكرتيرً ا للوفد ،وكان برئاسة الدكتور صالح أحمد بن ناصر؛ وكيل وزارة اإلعالم وقتها ،وضمن برنامج زيارة الوفد للمؤسسات الرسمية جرى زيارة الملحق الثقافي محمد العبدالسالم ،وصــادف أن كان يُعقد بالرباط المؤتمر الخامس لمنظمة المدن العربية مطلع عام 1977م ،وقد شارك معالي األستاذ عبداهلل العلي النعيم في المؤتمر بصفته أمينًا لمدينة الرياض. وقد استأثر معاليه بالحديث ،وكانت يحيى بــن جنيد عالقة و ّد واحــتــرام،
األســئــلــة واإلج ــاب ــة مــنــه عــن الــريــاض فكلفني بــمــهــمــة بــرنــامــج جــديــد هو ونظافتها؛ إذ كان حديث عهد في تولّي (تسجيل الــتــاريــخ الشفهي للمملكة) أمانتها ،فأعجبت بحيويته ونشاطه وبــدأنــا بالتسجيل مــع كبار السن من وسرعة بديهته وثقته بنفسه. تــاريــخ 1415/4/20هــــــــ مــع األســتــاذ
وعند تقاعدي من العمل بالرئاسة الــراحــل عبدالكريم الجهيمان ،وذلك تعاقدت مع مكتبة الملك فهد الوطنية ،بــأن يُــدعــى الضيف لــزيــارة المكتبة
وكان النعيم يشغل وظيفة رئيس مجلس والتجول في أهم أجنحتها ،ثم يتوجه أمنائها ،وكانت تربطني بأمينها الدكتور إلــى االستديو ويــجــري التسجيل معه
114
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
نوافذ
األستاذ عبداهلل العلي النعيم
بالصوت والــصــورة لمدة ال تقل عن ثالث ساعات ،ليحفظ ضمن مقتنيات المكتبة، وبعد الظهر ،يقام حفل غداء في استراحة المكتبة يشارك فيه الضيف والمسؤولون.. وهكذا.
فــقــال :مــن ضيفك الــيــوم؟ فــأجــبــتــه :أنــت ضيفي ،فحاول االعتذار والتأجيل ،ولكني أصرّيت ،فاشترط أال يزيد اللقاء معه عن ساعة ونصف ،فوعدته بذلك ،ولكن حديثه أو المحطات المهمة في حياته ال تنتهي، فاتفقت معه على موعد جديد ،وكل شهر أذكــره ،ولم يتسنَّ لنا اللقاء إ ّال بعد عشرة أش ــه ــر ،إذ صــلــيــنــا الــظــهــر وكـ ــان مسجد المكتبة بجوار االستديو ،وكان أول من يقوم من المسجد ،فقمت وســددت أمامه باب المصعد ،وطلبتُ منه بشيء من الحدة أن يفي بوعده ويكمل ما بدأنا ،فضحك وقال :أمري هلل ،وسجلت معه مثل ما سبق ،ومع ذلك لم نأت على نهاية ذكرياته ،فت ّم ذلك بلقاء ثالث ِ بعد سبعة أشهر بتاريخ 1420/5/18هـ.
أصــبــح الشيخ النعيم يتابع مــا يجري ويشجع باالستمرار ويقترح بعض األسماء، وك ــان مــوعــد حــضــوره للمكتبة يــوم األحــد من كل أسبوع ،ويصادف بعد التسجيل مع الضيف أن أدعوه لزيارة أمين المكتبة ،وإذا كان يوم األحد أدعــوه لزيارة رئيس مجلس األمناء ،وكان يستبشر ويرحب بي ويسألني: عــســاك خــرفــتُــه؟ بــضــم ال ــت ــاء وباللهجة القصيمية المحببة ،وك ــان الــحــرص على استقبال بعض الضيوف مثل المشايخ محمد قــال إنــه وُل ــد بعنيزة فــي شهر شعبان السبيل ،وعبداهلل العقيل ،والدكاترة عبداهلل 1350هـ ـــ ديسمبر 1931م ،وتعلم ب ُكتَّاب عمر نصيف ،ومحمود طيبة ،وتركي بن خالد الــدامــغ -ضعيف اهلل ،-ثم مدرسة صالح السديري وغيرهم. بن صالح التي تشبه الــمــدارس النظامية، وفي يوم 1419/2/23هــــ زرتــه صباحً ا ،وبعد السنة الخامسة انقطع عن الدراسة
نوافذ
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
115
لعدم وجود سنة سادسة ،فبدأ يدرس على أيدي المشايخ بالمسجد وذكر منهم :محمد المطوع وعبدالرحمن العودان وعبدالرزاق عفيفي وعبدالرحمن بن سعدي ،رحمهم اهلل ،وكــان يساعد والــده بالبيع والــشــراء، فتحمّس وأخذ بضاعة إلى مكة (تمر وقرع) وباعها ،ثم انتقل منها إلى الرياض ،ثم إلى المنطقة الشرقية ،فعمل في محطة بنزين مسؤول عن تعبئة ً لدى التاجر علي التميمي الــســيــارات بــالــوقــود ،فحصل أن نــام أثناء العمل ،فجاء أحدهم فعبأ سيارته وأخبر رئيسه ففصله عن العمل ،فذهب إلى مقاول خط البترول من رأس تنورة إلى حدود األردن (خط التابالين) ،فعمل في حفر مواقع م ّد األنابيب ووضع عالمات عليها ،وبعد سنة ونصف جمع مبلغ أربعمئة ريــال ،فعاد إلى عنيزة ليسلمها لوالده ويتزوج (أم علي) التي رافقته ألكثر من سبعين سنة رحمها اهلل. بعد أسبوعين من زواجه اتصل به أستاذه صالح بن صالح الذي أصبح يدير المدرسة العزيزية طالبًا منه االلتحاق بالمدرسة أستاذًا وليس طالبًا كما كان. وفي العام التالي 1371هـ افتُتِح المعهد العلمي ،فالتحق بــه مــراق ـ ًبــا ،وك ــان يُدفع للطالب مئتا ريال مكافأ ًة شهريّة؛ مما أغرى بعض طــاب المدرسة الثانوية بااللتحاق بالمعهد ،فخشي أن ينقص طالب المدرسة الثانوية ،فانتقل إلى المدرسة وتنقّل بين المدرسة والمعهد ليشجع الطالب على عدم ترك المدرسة ،وأغرى بعض طلبة المعهد
116
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
بالعودة إليها ،فشكاه مدير المعهد ،فعاد وكيل لها ،وخالل عمله ً للثانوية مدرّسً ا ثم أنشأ مع زمالئه ناديًا ثقاف ّيًا له كيان مستقل، ناد ينشأ في نجد ،صارت تقام وقيل إنه أول ٍ به الحفالت والندوات ،ويدعى بعض األدباء الستضافتهم إللقاء محاضرات ،ونظّ م مع الطلبة زيــارة للرياض فالمنطقة الشرقية، وركبوا ألول مرة القطار ،وجرت زيارة شركة (أرامكو) وزيارة أمير المنطقة األمير سعود بن جلوي الذي احتفى بهم وأقام لهم حفل غداء. ثم وشى به بعض المتعصبين وقالوا :إنه يحمل أفــكــارًا هـدّامــة ،فأمر الملك سعود بإرسال لجنة من المشايخ برئاسة محمد بن جبير ،فحققوا معه وثبتت براءته ،ومع ذلك وكيل للمدرسة الثانوية ً نُقل إلى جده ،فعيّن النموذجية ،وبعد سنة زار الرياض فعرض عليه المسؤولون أن يكون مــدي ـرًا لمعهد المعلمين ،وبعد سنوات أصبح مديرًا عا ّمًا للتعليم في منطقة نجد 1378-77هـ .انتقل بعدها للعمل أمينًا لجامعة الملك سعود، وكان وقتها ال يحمل إال الشهادة االبتدائية، فأحدثت الوزارة نظامًا لكبار موظفي الدولة ألخــذ شهادة المرحلة المتوسة والثانوية أسموه (نظام الثالث سنوات) فالتحق به، وكان يشترط أن يكون المتقدم قد أمضى خمس سنوات منذ حصوله على االبتدائية، وحتى اليتّهم بمجاملة من سيختبره على اعتباره رئيسه ،انتقل ألداء االمتحان في األحساء ،وحصل على التوجيهية ،وبعدها
نوافذ
انتسب بكلية اآلداب في قسم التاريخ وحصل على شــهــادة البكالوريوس بثالث سنوات بمرتبة الشرف.
جنيد (الساعاتي) بتجميع الكتب واألوقاف والمكتبات الــخــاصــة والــعــامــة وفهرستها وتصنيفها حتى ينجز المبنى الجديد ،وتولى الشيخ النعيم رئاسة مجلس أمنائها ألكثر من خمس عشرة سنة.
واص ــل دراســتــه العليا فــقــرر أن يلتحق بجامعة لندن ،وعمل في الملحقية الثقافية أذك ــر أنــنــي سألته عند التسجيل معه مشرفًا على طالب الدراسات العليا بالمملكة المتحدة ،وحصل على الماجستير في تاريخ (التاريخ الشفهي) عن األعمال التي يضطلع بها والمسؤوليات المكلف بها ،فــرد علي الجزيرة العربية. بلهجته المحببة :أخاف (تنحتن) يا محمد؛ وقدم لنيل الدكتوراه ،وعند زيارته للرياض يعني ال تحسدني ..خوفًا من العين. أثناء أزمــة الغاز طلبوا منه تولي مسؤولية قــال إنــه يشرف على بعض المؤسسات حلّها ولو لبضعة أشهر ،فانتقل إلى جده ومكة والظهران لتسهيل أمور وصول األسطوانات اإلنــســانــيــة ،ومــنــهــا :مــركــز األمــيــر سلمان وسهولة تسليمها ،فاستعان بالجيش لنقل االجتماعي ،وهــو جمعية خيرية ،ورئيس البراميل من الظهران إلى مناطق المملكة ،مجلس مــركــز صــالــح بــن صــالــح الثقافي فعيّن مديرًا عامًا للشـركة ،وفي عام 1396هـ واالجتماعي بعنيزة ،وإدارة المعهد العربي كلّف بالعمل أمينًا ألمانة مدينة الرياض ،إلنماء المدن ،وشركة الغاز ،والمكتبة ،فتجده واستمر بها حتى عام 1411هـ ،وحقّق الكثير يوزع أيام األسبوع على هذه الهيئات بكل ج ّد من اإلنــجــازات؛ إذ فتح فروعً ا لألمانة في رغم بلوغه الثمانين من عمره المديد. مدينة الرياض ،وتولت شركات متخصصة تحدث أثناء التسجيل عن بعض المواقف نظافة المدينة ،ولعله مــن المناسب ذكر والقصص التي تــروى ،ومنها ضربه طالب بعض ما سعى له وحققه بتوجيه ومــؤازرة مدرسة اليمامة الثانوية عندما كان مديرًا ـضــربــون سمو أمــيــر منطقة الــريــاض ،وعــنــد تولي للتعليم؛ إذ ســمــع ب ــأن الطلبة ُمـ ْ (الملك) فهد -رحمه اهلل -المُلك قرر رجال ورافــضــون دخــول قاعة االمــتــحــان ،فذهب األعمال بالرياض إقامة حفل بالمناسبة ،لهم وكانوا محتجين على امتحان مادة اللغة وكان الملك وقتها بالمنطقة الغربية فعرضوا الفرنسية ،فــحــاول معهم بالحسنى حتى عليه ذلك فاعتذر ،وطلب تخصيص المبالغ اليعدّوا راسبين في المادة ،وكانوا متضامنين المعدة للحفل لمشروع ينفع البلد .فاستقر فيما بينهم رافضين االنصياع ،فشعر بحرج ال ــرأي على أن ينشئ فــي الــريــاض مكتبة مــن الــمــوقــف فــاضــطــره إلــى رمــي مشلحه عامة تحولت فيما بعد إلــى مكتبة الملك وأخذ عقاله وانهال على أقرب الطلبة إليه فهد الــوطــنــيــة ،فكلف الــدكــتــور يحيى بن بــالــضــرب ،فضرب األول والــثــانــي فتدافع
نوافذ
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
117
المسؤول إلصــاح الخلل فــورًا ،وكــان يتابع ما ينشر في الصحف من مقاالت وصور وكاريكاتير ،فيصورها ويشرح عليها توجيهه أو تساؤله عن الموضوع ومعالجته. أقام مركز صالح بن صالح حفل تكريم له حافل ً في المركز في 1423/2/17هـ .وكان بالعواطف ،حضره أمناء دول الخليج العربي وغيرهم من الوزراء والمسؤولين في المملكة وغيرها ،وقد وقّع الكتاب الذي أعده الدكتور إبــراهــيــم الــتــركــي بــعــنــوان (عــبــداهلل العلي النعيم ..اإلدارة باإلرادة) .وله لقاء أسبوعيّ بمنزله لالجتماع بأصدقائه وأقــاربــه مع مواصلته للقاءات التي تجري أسبوع ّيًا مع أصدقائه وزمــائــه ،مثل لقاء الجمعة مع البقية إلى قاعة االختبار وانتهى األمر .يقول الدكتور عبدالعزيز الخويطر -رحمه اهلل- فجاء أحد الطلبة وقال له أنت ضربتني ،وأنا ولقاء الخميس واالثنين مع األستاذ محمد أه ّم بالدخول ولست من المحرضين ،فأخذ الفريح وغيرهما. قائل :اضربني بدل ضربي عقاله وسلمه له ً أصدر مؤخرًا كتابه (بتوقيعي ..حكايات لك ،فانتهى الموقف بالضحك. من بقايا السيرة) وفوجئت بوصوله لمنزلي يــحــضــرنــي مــا قــالــه الــمــهــنــدس يوسف رغــم جائحة كــورونــا ،وقــد أكرمني بإهداء نصه« :سعادة األخ العزيز الزميل الذكير ،مدير فــرع األمانة بالروضة ،قال بخطّ ه هذا ّ فــي مقابلة صحفية بمجلة الــيــمــامــة :إنّ محمد عبدالرزاق القشعمي المحترم رمز النعيم يقول لنا ال تناموا إال بجوار النافذة ،محبة واحــتــرام وتقدير للزمالة ولجهودك وأخرجوا أيديكم ..وبمجرد إحساسكم ببدء الكبيرة في التسجيل الشفهي لشخصيات المطر عليكم باإلسراع إلى مواقع عملكم كــثــيــرة لحفظها فــي مكتبة الــمــلــك فهد الميداني! الــوطــنــيــة الــتــي عملنا فيها كــزمــاء فترة وكـــان يــذهــب لــلــحــارات ويــتــفــقــد أوجــه طويلة منذ التأسيس .أخوكم ،توقيع» بتاريخ الــقــصــور واألخ ــط ــاء ،وفــي المكتب يرسل 1442/3/25هـ.
* كاتب سعودي.
118
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
نوافذ
كورونا وراء ظهورنا ■ محمد علي حسن اجلفري*
قبل بضع سنوات ،استقبل أحد رجــال القانون المعتبرين في جدة أصدقاءه مازحا :ال أحب بعد غياب مثير لألشواق ،وعند اللقاء كان يتجنب العناق ويقول ً العناق مع ذوي الشوارب .لم يكن يدري أحد وقتئذ ما يخبئه لنا قادم األيام من حظر العناق ،بل وصل األمر إلى درجة عدم المصافحة باليد. فقد هجمت الجائحة الكورونية المؤذنين لرفع األذان ،ويضيفون بعد على الكون ،وواجهناها داخل المملكة ندائهم «حي على الفالح» النداء (أال بكل اإلجــراءات الحكومية والشعبية صلُّوا في بيوتكم) وبعضهم ينادون والطبية الممكنة .والتزم الماليين (أال صلوا في رحالكم) ،ثم يقفلون ـال ونساء وكــبــارًا وصــغــارًا بلبس المساجد حتى يأتي اإلشعار بفتحها. رجـ ً الكمامات .وحمل العابدون سجاداتهم ،وكانت أطول فترة تعليق الصالة في فكنت ترى المصلين إذا أذن المؤذن المساجد نحو 73يوما حتى عدنا يحملون سجاجيدهم الشخصية إلى فــي 23يونيو 2020م الــمــوافــق 8 المساجد .ثم تفاقم الخوف ،فمرت شوال 1441هـ .فقضينا عيد الفطر علينا فترات اجتناب الصالة جماعة وكذا رمضان محجورين داخل بيوتنا. والتزام الصالة في البيوت .وال يدخل وتنادى أهل األدب والثقافة بضرورة المساجد خالل تلك الفترات سوى العزلة .ف «في العزلة سالمة» كما
نوافذ
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
119
جاء في المأثورات عن السلف الصالح .وتحملت تكاليف باهظة لتجنب انتشار والــتــزم الجميع بــقــرارات حظر التجول الوباء .ثم ذكر مثاال يدلل على كالمه أن
فــي الفترات التي قررتها المملكة ،بل شركة الطيران األلمانية لوفتهانزا تقدر حتى عدم االنتقال من مدينة إلى أخرى خسائرها بسبب الجائحة بمليون يورو في في فترات معينة .وأخــذ جرعات حقن الساعة الواحدة. المناعة األولــى ،والثانية ،وحتى الثالثة.
ولقد ضربت الجائحة الدول المتقدمة
ومن جاء من الخارج فعليه المكوث في أكثر من غيرها .فقد نشأت في الصين.
فندق للحجر عدة أيام قبل أن يرجع إلى وجاءتني رسالة طريفة من قريب لي في منزله.
اإلمارات العربية المتحدة في 16نوفمبر
وحققت المملكة بحمد اهلل تقدمًا 2020م يقول فيها: عــالـ ًيــا على عــشــرات الـــدول المتضررة بــالــكــورونــا .وخــســرت شــركــات الطيران مليارات الــريــاالت .وقد ورد إلى جوالي من صديق من كينيا مقال كتبه في ألمانيا البروفسور حسين التوي (أستاذ بجامعة
عيد ميالد سعيد يا كورونا االسم الكامل :كوفيد 19 تاريخ الميالد 2019/11/17م مكان الميالد :الصين. ولكن نالت الهند مــن ألواه ــا نصيب
دار ماشتات بألمانيا) قال فيه :إن ألمانيا األسد .وقد سألت اثنين من رجال التعليم رغم أنها دولة صناعية أوقفت مصانعها ،في الهند عن الوفيات نتيجة وباء كورونا
120
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
نوافذ
فــوجــدت النتيجة واح ــدة رغــم أنهما ال بعضا .ومصدرهما بال ً يعرفان بعضهما شــك وزارة الصحة الهندية .وذك ــر لي األستاذ فضل اهلل ميرالبي وكيل جامعة دار السالم الهندية أن العدد اإلجمالي للموتى شخصا من بين 43مليون ممن ً 522000 أصيبوا بكورونا في داخــل الهند .ودلل على كالمه بــإحــصــاءات المصابين في الواليات الهندية التي تعرضت للجائحة. وأرسل الصديق م .مانهبالن أستاذ اللغة العربية بإحدى جامعات كيراال (يقال إن اسمها األصلي خير اهلل) الرقم نفسه خالل الفترة الماضية حتى إبريل 2022م. بدأت كورونا في المملكة فعليا في 7 رجب 1441هـــ الموافق 2مارس 2020م حسب مصادر وزارة الصحة السعودية وبلغت الوفيات حتى شهر أبريل 2022 في المملكة 9043وفــاة .وفــي منتصف ذي القعدة 1441هـ قررت المملكة إيقاف الحج من الخارج بسبب كورونا واقتصار
وتــم منع صــاة الجنازة على الموتى
الحج على نحو 50000حاج من الداخل داخــل المساجد ،بــل تكون الــصــاة في
ومع احترازات وقائية .وقبل ذلك بشهر المقبرة المقرر الدفن فيها مع اقتصار في احتجت إلى مقاالت من جرائد قديمة ،عدد المشيعين .وتم اقتصار المدعوين في فذهبت إلــى مكة المكرمة لتصويرها حفالت الزواج على 50فردًا .ويتفق أهل
من مكتبة الحرم المكي الشريف بحي العرس على عــدد ضيوف محدد يقرره النسيم بمكة ،ولكن الحراس منعوني من أهــل العروسين ،ضمن العدد المسموح
دخول المبنى ،إذ إنه لم يكن من المسموح به فقط .وال يستبعد أن بعضهم وهو في الدخول إال للعاملين بالمكتبة فقط.
نوافذ
غاية اإلحــراج قام بترتيب برنامج
zoom
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
121
لمن لم يُسمح له بالحضور شخصيًا من الرجال أو النساء .وقد بلورت الجائحة «الحاجة أم االختراع» بال منازع. لكننا نستطيع القول باطمئنان إن هذه الجائحة رجعت القهقرى كثيرا وبخطى متسارعة ،وذلك إلى درجة إلغاء التباعد بين المصلين في الصفوف بالمساجد في 3شعبان 1443هـ الموافق 6مارس 2022م. فصاروا يصلون كتفا إلى كتف كما كانوا في مسيرة 1400عام منذ أن افترض اهلل الصالة على المسلمين في رحلة اإلسراء والمعراج .وظهر النصر المبين في توافد أكثر من مليوني عابد وناسك إلــى بيت اهلل الحرام ليلة ختم القرآن الكريم في 28رمضان 1443هـــ الموافق 29إبريل 2022م .وأما في المدينة المنورة ،فقد قــال لــي األســتــاذ أحمد محمود ،رئيس تحرير جريدة المدينة األسبق وهو من أهل المدينة أن عدد العابدين والعاكفين بغير عد وال حد ،وأنه ُمنِع الدخول إلى المسجد النبوي بعد العصر (ليلة السبت 28رمــضــان ليلة خــتــم ال ــق ــرآن) ورجــع كثيرون إلى مساجد أخرى .وذكر لي مدير مدرسة في المدينة المنورة أن جمهور الحاضرين فــي تلك الليلة بلغ مليوني مصل مع الساحات .ولك أن تتصور هذه الحشود الهائلة تحتاج إلى طعام السحور ولــم تتوقع محالت األطعمة نصف هذا
122
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
نوافذ
الزحام فباعت كل ما لديها وبقي عشرات األلوف ممن لم يخطر ببالهم شدة الوطأة ال بد أنهم صاموا طاوين .مثلهم مثل ابن كريمتي وأمه اللذين وقعا في زحام مكة المكرمة في العشر األواخــر من رمضان هذا العام فتسحرت األم على كأس فيمتو، لم تجد سواه ،وتسحر ابنها على كاس ماء زمزم فحسب. ولمواجهة هــذا الوضع الكظيظ فإن الــدولــة أيــدهــا اهلل جندت ثمانية آالف فرد لتنظيم الحشود في المسجد الحرام وحده ..وإال ألدى الزحام إلى فوضى قاتلة بين مئات األلوف .ويحق للمملكة وقادتها أن يفخروا بتوفيق اهلل لهم في إدارة هذه الحشود بكل نجاح. أذكــر ذلك ألنه مفصل محوري جديد يجب تسجيله في عداد السنوات المتميزة في تاريخ المدينتين المكرمتين المنورتين.
نوافذ
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
123
وتبخر الرعب الذي أصاب المجتمع من وصل إليه تأثير الكورونا على األسواق. أي شخص يعطس .وكنا قد عشنا زمنا إذا ولما سكنا في الفندق بالمدينة المنورة حلت نوبة عُطاس بأحد فإن الذين بجواره كــانــت أجـ ــرة شــقــة ذات غــرفــتــيــن 170 يلتمسون أي عذر لالنفضاض من حوله ،ريــاال .فلما انجلت الغمة سافر ابني مع ويفرون من المزكوم «فرارك من األسد» .والدته في 19رمضان 1443هـــ الموافق وأصـــــاب ك ــورون ــا الــتــجــارة بــالــركــود 2022/4/20م بــعــد انــجــاء الجائحة والــجــمــود ..فلقد سافرت من جــدة إلى واستأجروا الغرفتين ذاتهما بما يقارب
المدينة المنورة عصر األحــد 7محرم ثالثة أضعاف القيمة التي دفعناها قبل 1443هـ .ووصلنا في نصف الطريق تقريبا ثمانية أشهر. إلى مطعم وجدناه بصعوبة تناولنا فيه ما
وقد أبلت وزارة الصحة السعودية ،وكذا
تيسر مــن طعام شهي .وعند الحساب بقية الجهات الحكومية السعودية بالء دفعت ورقة 500ريال للعامل الباكستاني حسنا في مواجهة الوباء ،وعلى الوتيرة
فقال إنه لم ير هذه الورقة منذ سنتين نفسها س ــارت الصحافة السعودية إذ وليس عنده صرف! قامت بدور بناء في االصطفاف الوطني كلمة هذا العامل الباكستاني لخصت ما ضد كوفيد 19ومتحوالته.
124
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
نوافذ
وأسهمت مجلة «الجوبة» في أكثر من عدد بمناقشة سبل المناعة من جائحة كــورونــا .ووقــفــت واســتــوقــفــت «الــجــوبــة» قراءها بشهادات ونصوص بهذا الخصوص في العدد 68الصادر في صيف 1441هـ (2020م). وشاركت الصحافة وهي ثماني صحف يومية والمجالت األسبوعية والشهرية والفصلية فــي توعية الــنــاس بالعزلة، والــكــمــامــات ،والتطعيم ،وغير ذلــك من االحــتــرازات لمواجهة انتشار الفيروس. وقــد بلغت المواد الصحفية في وسائل اإلعـــام الــســعــودي مــن أخــبــار وتقارير وتعليقات حول كورونا ما يقدر باألالف.. وبــعــد ان ــج ــاء الــغــمــة فــقــد حــضــرت الحاجة لنشر أجــواء الفرح .فافرحوا يا حملة القلم ،وزغردن يا نساءنا ،وتفاءلوا يا معشر التجار فقد أصبحت الكورونا وراء ظهورنا. لقد انصرم من حياتنا زمن حزين ونحن آت زين ..وليس عندي شك أن على أبواب ٍ النادل الباكستاني في المطعم على طريق المدينة المنورة ســوف يجري بين يديه الكثير من ورقات البنكنوت أم 500ريال. إن مع العسر يسرا .إن مع العسر يسرا. * نائب مدير مركز معلومات عكاظ سابقا. مترجم.
نوافذ
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
125
الخبرة األكاديمية والممارسة الثقافية في األسبوعية ■ أ .د.عبداهلل بن عبدالرحمن احليدري*
تتميز بلدنا المملكة العربية السعودية بوجود الصالونات األدبية أو الثقافية في معظم المدن الكبرى ،وغير الكبرى؛ بل نجدها في مدن صغيرة أو مراكز صغيرة ،وهذه الظاهرة الفتة ،وتدل على شـغـ ٍـف بــالـثـقــافــة والـمـعــرفــة فــي مجتمعنا ،إذ لم تستطع الـمــؤسـســات الثقافية الرسمية أن تلبي رغباته كاملة ،فكان أن ولــدت ظــاهــرة الصالونات الثقافية ،أو المنتديات ،أو المجالس ،أو سمها ما ملموسا منذ عقود ً شئت ،المهم أنها أصبحت واقعً ا مضت تزيد عن الستة بوالدة خميسية عبدالعزيز الرفاعي رحمه اهلل بالرياض، وما تالها بعد ذلك من مجالس ومنتديات ،مثل :اثنينية عبدالمقصود خوجة في جدة ،ومجلس حمد الجاسر في الرياض ،وثلوثية د .محمد المشوّح في الرياض، ومجلس أوراف األدبي في الرياض ،وأحدية أحمد المبارك في األحساء ،وصالون ســارة الثقافي فــي الـخــرج ،وغـيــرهــا؛ وأضـحــت هــذه األمــاكــن غير الرسمية رديفً ا للمؤسسات الثقافية الرسمية ،ولها تأثيرها وحضورها الالفت. بل إن هناك كتبًا تصدت للتأريخ لهذه كتابه «الصالونات األدبية في المملكة المجالس على مستوى المملكة ،ومنها الــعــربــيــة الــســعــوديــة :رص ــد وتــوثــيــق»، ما ألفه سهم بن ضاوي الدعجاني في (1427هـ2006/م) ،وأحمد الخاني في
126
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
نوافذ
كتابه «الصالونات األدبية في المملكة العربية السعودية»1427( ،هــــــ2006/م) ،والطبعة الثانية عام (1433هـ ـــ2012/م) ،وما صدر عن اثنينية عبدالمقصود خوجة من رصد لها ولألندية األدبية ،وحمل الكتاب عنوان «المنتديات واألنــديــة األدبــيــة في المملكة العربية الــســعــوديــة»1430( ،هـــــــ2009/م)، إضافة إلى كتاب الدكتور عالي بن سرحان الــقــرشــي ال ـ ــذي اقــتــصــر عــلــى الــتــأريــخ للمنتديات في منطقة مكة المكرمة ،وعنوان كتابه «المنتديات الثقافية في منطقة مكة الــمــكــرمــة» ،وص ــدر عــن دار االنــتــشــار في بيروت عام 2021م. ومن بين هذه المجالس الراقية «أسبوعية األستاذ الدكتور عبدالمحسن القحطاني» التي انطلقت فعالياتها عام 1433هـ2012/م فــي مدينة ج ــدة ،وهــي مدينة عريقة في الثقافة ،ومكان له عبقه الثقافي وصيته، ثم إن مؤسس األسبوعية رجل يحمل خبرة أكاديمية طويلة في الجامعة ،ويحمل خبرة واسعة في الممارسة الثقافية الرسمية ممثلة في إدارته الناجحة لواحد من أعرق األندية األدبية وأهمها وأكثرها حراكًا ،وهو النادي األدبي الثقافي في جدة ،وإضافة إلى المكان الذي تتوافر فيه عوامل النجاح ،والمؤسس وعميد المجلس الذي يملك العلم والخبرة والــمــمــارســة ،فــإن الــدكــتــور عبدالمحسن القحطاني شخصية لها ثقلها في الوسط الثقافي ،وله عالقات واسعة جدًا بشرائح المثقفين ،بل إن عــددًا منهم من تالميذه؛ ومن هنا ،كانت مهمته في التنظيم والترتيب لفعاليات األسبوعية ميسرة وسلسة ساعدته
نوافذ
على أن تنتظم المناشط وتتنوع ،وأن تكسب أسماء كبيرة من كل جهات الوطن. وقــد رســم الدكتور القحطاني بخبرته األكاديمية خطة لتوثيق كل الفعاليات في كتب تصدر تباعً ا عن مركز ثقافي يحمل 75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
127
هنا غدت مجلدات األسبوعية الثمانية هذه مراجع يعتد بها ،في حين أن بعض المجالس األدبية تراخت وتساهلت في مسألة التوثيق، ففقدت العديد من الفعاليات ،ولَم تستطع أن تعوض ذلك. وقـ ــد كـ ــان ل ــي شـ ــرف الــمــشــاركــة في األسبوعية بمحاضرة فــي عــام ١٤٣٨ه ـــ/ ٢٠١٦م ،وهــذا يعني أن عميد األسبوعية الدكتور عبدالمحسن القحطاني لم يقتصر على الضيوف القريبين مكانًا في جدة أو مكة المكرّمة أو الطائف ،بل سعى إلى أن يكون هناك ضيوف ومشاركون من خارج منطقة مكة المكرّمة.
اسمه ،وهو «مركز عبدالمحسن القحطاني للدراسات الثقافية» ،فصدرت عن المركز ثمانية أجزاء وثقت فعاليات عشر سنوات، وفــــي نــحــو ث ــاث ــة آالف صــفــحــة ،وهــي محاضرات لشخصيات المعة في المجتمع، ومتنوعة في تخصصاتها واهتماماتها ،ومن
128
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
وكـــان أن طــلــب أن أخــتــار أي مــوضــوع مــنــاســب ،فــاخــتــرت الــحــديــث عــن معجم المطبوعات العربية في المملكة العربية السعودية للدكتور علي جواد الطاهر ،وعنوان المحاضرة بالتحديد «منجز لــم يُنصف: معجم المطبوعات للطاهر نموذجً ا» ،وكانت سعادتي غامرة بأن قدم للمحاضرة واحد ممن لهم قدم راسخة في األدب وله مكانة في قلبي ،وهو األستاذ محمد علي قدس، كما حظيت الفعالية بحضور نوعي أثرى المحاضرة بالتعقيب واإلضافة واالستدراك، وهــو مــا أفــادنــي فيما بعد حينما حوّلت المحاضرة إلــى كتاب عنوانه «علي جواد الــطــاهــر وجــهــوده فــي الــتــأريــخ ل ــأدب في المملكة العربية السعودية» ،وصدر في عام ١٤٤٢هـ٢٠٢٠/م عن دارة الملك عبدالعزيز في مئة وعشر صفحات. كما كان لهذه المحاضرة في األسبوعية
نوافذ
نصيب فــي الــتــوثــيــق ،فــنــشــرت كــامــلــة مع ال ــم ــداخ ــات ف ــي ال ــج ــزء الـــســـادس من محاضرات األسبوعية. كما أن مــزايــا هــذه األســبــوعــيــة ثقافة مــؤســســهــا ،ومــعــرفــتــه الــتــامــة بــضــيــوفــه، ومنجزاتهم ،ومؤلفاتهم ،وسيرهم الذاتية؛ لذا ،فالضيف يحظى بكلمة نوعية مركزة من عميد المجلس تقدمه خير تقديم للحضور، وتجعلهم على مسافة قريبة مــن حياته وأعماله واهتماماته. وبــعــد ،فتعد الــصــالــونــات الثقافية في المملكة ظاهرة حضارية ،وتدل على الشغف
بالثقافة والمعرفة في بلدنا الغالي ،وهي رواف ــد مهمة للعمل الثقافي المؤسسي، وأرى أنها كيانات يجب أن نحافظ عليها وأن ندعمها؛ إذ هي محاضن ثقافية مهمة، كيان واحـ ٍـد له مجلس ويمكن تنظيمها في ٍ إدارة ينتخب من بين أصحاب الصالونات أنفسهم ،وترسم لها خطة بأن تهتم باحتواء الــشــبــاب وتنمية مــواهــبــهــم وحفظهم من الــتــيــارات المتطرفة والمنحرفة ،وتكريم الفاعلين في المجتمع في كل المجاالت ،وأن تسعى مجتمعة إلى توثيق فعالياتها وتقريبها لجمهور القرّاء.
* أستاذ األدب والنقد في جامعة اإلمام محمد بن سعود اإلسالمية.
نوافذ
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
129
في الحاجة إلى المعارك الثقافية! ■ صخر املهيف*
يعرف المغرب منذ عقود قليلة ظاهرة غريبة جدً ا تتمثل في االنتقال الهادئ والسلس في أطواره الثقافية أثناء تبني أشكال تعبيريّة جديدة ،أو عند تبني تيار جديد من تلك التيارات التي عرفها هذا الشكل التعبيري أو ذاك. لقد شهدت حقبة ثمانينيات القرن الماضي ظهور جماعة مــن الشعراء الشباب ،تخلت عن عروض الفراهيدي فــي كتابة القصيدة ،فــي إطــار موجة معركة ٍ عارمة ،بيد أن ذلك لم يثر أي بين المؤيدين والمعارضين من شأنها أن تغني الخزانة الثقافية المغربية والعربية ،وتدفع بالسؤال المعرفي إلى األمام. لــقــد خــدمــت الــمــعــارك الـ ّثــقــافــيــة الــتــي عرفتها مــصــر فــي عشرينيات وثالثينيات الــقــرن الــمــاضــي الثقافة المصرية والعربية بشكل عام ،واشتد
130
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
أوار هذه المعارك لما أصدر طه حسين كتابه الشهير «في األدب الجاهلي» ،ثم كتب سلسلة مقاالت يدافع فيها عن مشروعه الثقافي التنويري ضد هجمات خصومه اإليديولوجيين المحافظين، وأهــمــهــم مصطفى ص ــادق الــرافــعــي، على صفحات جريدة السياسة .وقد جمع طه حسين مقاالته في كتاب شيق عنوانه «حديث األربعاء» ،وهو الكتاب ال ــذي مــا ت ــزال طبعاته تــتــوالــى حتى الساعة؛ ألن القضايا التي أثارها ما تزال رائجة ،على الرغم من أن مياها كثيرة جرت تحت الجسر الثقافي منذ ذل ــك الــحــيــن إل ــى اآلن ،وبــخــاصــة أن
نوافذ
معركة طه حسين مع الرافعي كانت معركة سياسية في العمق بين مشروعه الليبرالي ومشروع صــادق الرافعي التقليدي الحالم برجعة الــخــافــة وأمــجــادهــا ال ــذي تزامن تاريخيًا مع نشأة اإلسالم السياسي بالعالم العربي ،وصعود اليمين المتطرف في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا ،غير أنها معركة لبست ردا ًء ثقافيا بعث الدفء في أوصال الثقافة العربية الجامدة.
من جهة أخرى ،لعبت المعركة الشرسة
التي خاضها أعضاء الديوان الثالثة :المازني
والعقاد وشكري في مواجهة رمــوز حركة البعث الشعري الكالسيكية ،شوقي وحافظ وم ــط ــران ،دورًا مــهـ ًمــا فــي حــركــة تجديد
الشعر العربيِّ ،ومهَّدت لظهور الالحق من الــتــحــوالت الــتــي ســتــطــرأ عــلــى القصيدة
العربية بــدءًا من الشعر الرومنسي ،مرورًا
بالقصيدة الحرة على يد فرسانها العراقيين الثالثة :بلند الحيدري وبدر شاكر السيّاب
ونازك المالئكة ،قبيل مت ِّم أربعينيات القرن الماضي ،وانتها ًء بقصيدة النثر التي حمل
لواءها شعراء «مجلة شعر» التي تأسست سنة 1957م ببيروت ،وبرز فيها شعراء كبار من أمثال أنسي الحاج وأدونــيــس ومحمد الماغوط ،وهو ما بشر بميالد معركة ثقافية
بين الجديد والقديم ،بين تيار ينتصر للتحرر من قيود العمود وعروض الخليل والجاهز من
مصطفى صادق الرافعي
القوالب ،وتيار آخر تحرر من كل قيود الوزن
والقافية ،فبحث للقصيدة عن إيقاع داخلي
يخرج بها عن التقليد ،ومن ثم اشتعل نقاش فكريٌّ وأيديولوجيٌّ بين أنصار التيارين رفع مستوى المعرفة بالشعر إلى أعلى ،وأسهم في إغناء البحث األكاديمي في الجامعة
العربية ،على الرغم من أعطابها المختلفة.
كــانــت الــســاحــة الثقافية المغربية قد
شــهــدت بــعــض الــمــنــاوشــات فــي ستينيات
طه حسين
نوافذ
القرن الماضي حركتها حساسيات سياسية وأيديولوجية ،فلبست لبوسً ا ثقافيًا كنظيرتها 75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
131
المشرقية ،هذه المناوشات أغنت المشهد الثقافي المغربي المعاصر وهو في طفولته
بأسئلة طرحت رهانات فكرية مستجدة ال تنأى عن الواقع الــذي فرضها ،ومن أمثلة ذلــك ،أن األســتــاذ عبدالكريم غــاب طرح
روايته «دفنّا الماضي» في األكشاك سنة 1966م ،فــأســالــت مـ ــدادًا كــثــيـرًا مــن نقاد
المرحلة ،منهم إدريس الناقوري الذي رأى في مضمون الرواية انتصارًا لألرستوقراطية
الفاسية بوصفها الفئة التي طردت االستعمار
عبدالكريم غالب
وقادت المغرب إلى االستقالل ،والذي اتهم الروائي الراحل عبدالكريم غالب بتهميش
دور جيش التحرير المغربي المنحدر أغلب منتسبيه من البوادي والجبال ،أما األديب
والديبلوماسي الراحل عبدالمجيد بن جلون..
فقد الحظ في مقال صدر له بجريدة العلم سنة 1967م أن صــورة الكفاح الوطنيّ في
الرواية لم يمثلها إال أفراد قالئل ،فقد غاب
كفاح الشعب المغربي بكل طبقاته وفئاته عن األحداث ،كما سجل غياب أي إشارة لكفاح
عبدالقادر المازني
المرأة المغربية ضد الفرنسيين.
مــن جهة أخ ــرى ،أشــار أحمد اليايوري وتلخيصها طغى على تصوير األحــداث من فــي مقال آخــر بجريدة العلم ،صــدر سنة داخــل األبطال ،وكأنما اضطر الكاتب إلى 1968م ،إلــى أن عبدالكريم غــاب اختزل إتمام روايته في ظرف وجيز.
أحداث الفصول المتأخرة من الرواية لكونه
وقد رد األستاذ عبدالكريم غالب على
لم يتطرق إلى الحياة العامة بالمغرب إبان منتقديه أو ناقديـه بكـل أريحية في مقاالت
الحماية الفرنسية ،وذهــب األستاذ محمد صدرت بجريدة العلم سنتي 1967و1968م، بــرادة من جانبه ،في ملتقى أدبــاء المغرب وهي الجريدة التي كان يرأس هَ يْئ َة تحريرها. العربي سنة 1969م ،إلى أن تسجيل األحداث وكان لهذا الحراك الثقافي -إن جاز القول-
132
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
نوافذ
ال ــذي خــا مــن التجريح والتقريع صــدىً اتجاه تحصين المواقع والدفاع عنها ،ومن عميقًا في المشهد الثقافي المغربي في ثم توطيد أطروحات إيديولوجية محافظة، السنوات الالحقة ،حين كان النقد المغربي ما يعكس بنيات نصية تعاني شقاء الوعي ما يزال يحبو ،قبل أن يتمأسس في الجامعة حسب العياشي أبو الشتاء دائمًا.
المغربية ويشتد عوده.
ولم تخل حقبة سبعينيات القرن الماضي
مــن بــعــض الــمــمــاحــكــات الــفــكــريــة ،كانت
ساحتها المالحق الثقافية بما هي واجهة لــصــراع سياسي وإيديولوجي بين اليسار
والمحافظين ورموزهما الفكرية؛ وفي هذا مقال ً الــصــدد ،نشر العياشي أبــو الشتاء
معنونًا بتحديث المصطلح النقدي على
ساعتئذ ٍ صفحات يومية المحرر الناطقة بلسان حــزب االتــحــاد االشــتــراكــي للقوات الشعبية في 5ديسمبر 1978م ،وجاء المقال ردًا على الــروائــي عبدالكريم غــاب أحد
الوجوه البارزة في حزب االستقالل ،وأحد أعمدة يومية العلم الناطقة باسمه ،وردًا
على الشاعر حسن الطريبق المحسوب على تيار المحافظين سياسيًا وفكريًا ،وقد
أشار العياشي أبو الشتاء إلى وظيفة اللغة وطبيعتها لدى غالب والطريق مشددًا على
أن المصطلح النقدي في لغة حسن الطريبق وعبد الكريم غالب قاصر عن إنتاج المعنى؛
ألن لغتهما لغة هدر وهذيان وأحالم كابوسية
غير ذات معنى ،باعتبار أن نظرية االنعكاس اللغوي تقدم اللغة بما هي تجليات للواقع وعاكسة له ،وهو ما دفع الراحل عبدالكريم غــاب ومحمد الطريبق إلــى تكريسها في
نوافذ
وعــلــى النقيض مــن ذل ــك ،كــان الــراحــل عبدالسالم المؤذن قد رد على بعض األفكار الــــواردة فــي كــتــاب «نــقــد العقل الــعــربــي»، للمفكر المغربي الراحل محمد عابد جابري، في مقال ضمّنه كتابه -إلى جانب مقاالت أخرى -تحت عنوان مقاالت من بعيد ،حيث انتقد النسق الناظم لألفكار ال ــواردة في نقد العقل العربي ،في الشق المتعلق بنشأة مذاهب السنة والشيعة وبنياتهما الفكرية، ع ـ ــا ّدًا فــكــرتــه مــغــالــطــة منهجية اقترفها الجابري فــي مؤلفه الشهير ،وكــان حر ّيًا بالجابري أن يــر َّد على المؤذن في مقال؛ لتتحول المساجلة إلى قيمة فكريّة مضافة، إال إنه فضل الصمت على عادته مع النقود التي تناولت مشروعه الفكري ومنها نقد جورج طرابيشي ،فضيّع بذلك على الثقافة المغربية والعربية فرصة ال تُعوّض. وفـــي الــصــدد نــفــســه شــهــدت الــســاحــة الثقافية ،فــي أواســـط تسعينيات القرن المـاضي ،ميالد جماعة قصصي ٍَّة أطلق عليها مؤسسوها اسم الكوليزيوم القصصيّ ،وكان من بين أعضائها محمد أمنصور ،وأنيس الرافعي ،وعلي الوكيلي ،وقد أصدرت هذه الجماعة بياناتها في محاولة منها لتأسيس خطاب قصصي يجعل من التجريب ورشة 75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
133
صة المغربية وتبشر بتوّجه فنيٍّ ترقى بالقِ ّ
متساوق مع التحوالت الطارئة على الساحة اإلبداعية والثقافية بشكل عام ،بيد أن هذه البيانات لم تلق استجابة من طرف الفاعلين فــي القصة المغربية ب ــردود تغني الحقل
الثقافي وتطرح ســؤال الكتابة في أبعاده
المختلفة ،فووجهت بيانات هؤالء الشباب (الذين لم يعودوا شبابا اآلن) بصمت رهيب،
باستثناء رد صاغه الناقد واألديب واألستاذ الــحــبــيــب ال ــدائ ــم رب ــي فــي ســيــاق دع ــوات
التجديد التي نادى بها عدد من كتاب القصة
الحاملين ألسئلة جمالية جديدة.
فالديمير بروب مؤلف موروفولوجيا الحكاية
فــي الــمــقــابــل ،كــان فــادمــيــر ب ــروب قد
ألف كتابه الشهير «مورفولوجيا الحكاية» -بــالــروســيــة علم تشكل الــحــكــايــة ،ونشره
سنة 1928م ،وهو الكتاب الذي أصبح من الكتب المثيرة لإلعجاب في عالم الدراسات الفولكلورية ،وقــد تــرجــم إلــى اإلنجليزية
سنة 1958م ألول مــرة ،ثم إلــى اإليطالية سنة 1966م ،وإلــى لغات أخــرى كاأللمانية
والبولونية بين سنتي 1966و1968م ،ولم يترجم إلى العربية إال في سنة 1986م على
يد األستاذ إبراهيم الخطيب اعتمادًا على الترجمة الفرنسية الثانية الــصــادرة سنة 1970م ،إذ ترك هذا المؤلف بصمة راسخة
في النقد األدب ــيِّ المعاصر في كل أنحاء العالم ،وقد أثارت ترجمته اإلنجليزية انتباه
كلود ليفي ستراوس (شتراوس) عالم العرق
البنياني الشهير صاحب مؤلف «التحليل
134
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
ليفي شتراوس
البنياني لــأســطــورة» سنة 1955م ،الــذي انشغل باألساطير خالفا لبروب الذي انشغل في مؤلفه بالخرافات والحكايات ،وقد انبرى ستروس للرد على بــروب في مقال معنون بـــ« :البنية والشكل ،تأمالت في مؤلف ل فالدمير بــروب» ،وترجم إلى اإليطالية في سبيل إلحاقه بالترجمة اإليطالية لكتاب «علم
نوافذ
تشكل الحكاية» ،وقد دعا الناشر اإليطالي «جُ ــلـيُــو إيــنــودي» إلــى ال ــرد على ســتــروس، فاستجاب بروب ورد عليه بمقال معنون بـ: «البنية والتاريخ في دراسة الحكاية؛ ولتكتمل هــذه الوليمة الثقافية ،دعــا الناشر نفسه ستروس للرد على بروب فكانت الحاشية، وظهر للوجود كتاب كلود ليفي ستراوس وفالدمير ب ــروب« :مساجلة بصدد تشكل علم الحكاية» الذي ترجمه األستاذ محمد معتصم إلى العربية في طبعة أولى عن دار عيون المقاالت بالدار البيضاء سنة 1988م، ويشير محمد معتصم في توطئته للترجمة ـرضــا ألهم إلــى أن مــقــال ســتــروس قــدم عـ ً األفكار ال ــواردة في كتاب بــروب وناقشها: إما بإثباتها أو بانتقادها في إطار إشكالية عامة في الخالف بين البنيانية والشكالنية، بينما قام بروب في مقاله بالرد على ما يعده اتهامًا ،معيدًا التعريف بالشكالنية ،ولم يفته أن يصف نفسه بالبنياني مؤكدًا على أنه «يمكن لمساجلة من هذا القبيل ،أن تنطوي على فــائــدة علمية عــامــة» ،ولقد أسهمت هــذه المساجلة القيمة فــي تحقيق تراكم بترحاب ٍ في مجال السرديات ،واستقبلت كبير في مختلف مناطق العالم في األوساط ٍ األكاديمية.
التيارات والمذاهب والمشارب الفكرية، كانت أبرزها تلك المعارك التي دارت رحاها بين المعتزلة وخصومهم مــن المتكلمين وأص ــح ــاب ال ــم ــذاه ــب ،وبــيــن الــفــاســفــة والمتكلمين وبين الفالسفة أنفسهم ،وقد ـال فكرية تركت بصماتها أثمر ذلــك أعــمـ ً راسخة في الفكر اإلنسانيِّ كله ،لعل أشهرها رد اإلمام الغزالي على الفالسفة في كتابه «تهافت الفالسفة» ،ثم رد ابــن رشــد على الغزالي بكتابه الشهير «تهافت التهافت»، الذي ترك أثرًا عميقًا في التفكير الفلسفي األوروبـ ـ ــي الــقــروســطــوي إل ــى حــد ظهور مفكرين أوروبيين يُدعَ ون بالرُّشديي َن فرض نفسه بقوة في الحياة الفكرية األوربية إبان عصر النهضة.
السؤال الذي يفرض نفسه بحدة :لماذا غــابــت الــمــعــارك الثقافية عــن (مشهدنا) الثقافي؟ وهــل يتعلق ذلــك بغياب ثقافة االختالف؟ ما مــر ّد هذا الغياب إن تحقق فــعــا؟ لــمــاذا يتجنب الكتاب والمفكرون والباحثون المغاربة خوض المعارك الثقافية ألســبــاب ذاتــيــة؟ أه ــي العقلية المغربية والمزاج المغربي الذي يرى في كل مساجلة فكرية خصومة شخصية؟ أم أن انفراط عقد الــســرديــات الكبرى للقرن العشرين ال بد أن نشير بالمناسبة إلى أن التاريخ لصالح اإليديولوجيا االستهالكية قد أدى العربي اإلسالمي عرف مساجالت ومعارك مفعوله فــي الــحــقــل الــثــقــافــي وجــعــل من فكر َّي ًة على امــتــداده الطويل بين مختلف المهادنة شعارًا عاما يرفعه الجميع؟ * كاتب -المغرب.
نوافذ
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
135
توقف عن البقاء وحيدا ■ صفية اجلفري*
تمتلك صــداقــات قديمة ســرت معها في دروب األمــل واأللــم معً ا ،صــداقــات ال حرجا في مكاشفتها بما يقلقك أو يكدرك ،صداقات تتبادل معها حكايات تجد ً الفرح وقصص الشجن والمعاناة؛ لكنك مع هذا كله تشعر بوحدة وجودية تبعثر دواخلك ،كيف يجتمع هذا وذاك؟
كــيــف يــجــتــمــع ش ــع ــورك ب ــال ــوح ــدة مع صداقات تثق بها وتطمئن إليها؟ ما الذي تفتقر إليه الروح لتسكن؟ قرأت عبارة في رواية «عشر نساء» للكاتبة :مارثيال سيرانو كانت مفتاحً ا لما ظننته جوابًا عن سؤالي المرتبك .تقول مارثيال سيرانو ...« :فقيمة البشر هي في قدرتهم على االنفصال ،على أن يكونوا مستقلين ،أن ينتموا إلى أنفسهم وليس إلى القطيع». هــل ال ــج ــواب يــتــصــل ،إذًا ،ب ــأن نجد (المعنى) الخاص بنا ،وأن نسير في رحلة التحقق بــه؟ ظللت أتلمس جــوا ًبــا لسؤالي في قراءات متنوعة ،وفي تجربتي الذاتية، فوجدت أن جزءًا من جواب سؤال الوحدة، واألس ــاس المتين لسكينتنا الوجودية هو
136
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
أن نعمل على عالقة واعية بأنفسنا ،وأن نمتلك رؤية واضحة حيال رحلة (المعنى) الخاصة بنا ،ألن رحلة الطمأنينة تبدأ من معرفة النفس ،وتقبلها ،وإعطائها حقها من حسن المعاملة ،وتزكيتها ،ثم استكشاف قيمها الذاتية ،وإدراك (المعنى) الخاص بها ،ثم إعادة صياغة قصصنا في ضوئه، ورســم طريقنا في الحياة وفقا لمنطلقاته ومقاصده. وظــلــلــت مــع اإلج ــاب ــة الــنــاقــصــة تأنس بسؤالي ،وآنس بحكمتها ،وأسير في طريق التعلم عن عالمي الداخلي حتى التقيت بكتاب « :توقف عن البقاء وحيدًا» لكيرا أساتريان(.)١ كــانــت رحلتي مــع كــتــاب« :تــوقــف عن
قراءات
البقاء وحيدًا» رحلة تتجاوز ظاهر النص إلى بأنواع األشخاص الذين تجذبهم .هذه معلومات االستنباط ،ووجدت فيه جوابًا عن سؤال الوحدة ممتازة بالنسبة لك وأنت تسعى إلى التقارب مع اآلخرين». في تجليات متنوعة. تحدثت كيرا آساتريان في الفصل األخير من كتابها عن االقــتــراب من النفس ،وضمنته كل اآلليات التي بثتها في باقي فصول الكتاب التي تتعلق باالقتراب من اآلخرين .أظن أن كيرا أرادت أن تحفّز الخيال المتعلق بالذكاء العاطفي للقارئ؛ ليتبنى في عالقته بنفسه كل ما أدركه من معلومات تخلق عالقة جيدة مع اآلخرين.
التقارب تعرّف كيرا آساتريان الوحدة بأنها الحزن الناتج عن المسافة ،وتقول إن كثرة األشخاص حولنا ،بل وتواصلنا معهم ال يحل مشكلة المسافة إن لم نستطع الدخول إلى العوالم الداخلية عبر التقارب بركنيه :المعرفة واالهتمام. لقد قدّمت مقالتي بأكثر صور الوحدة تعقيدًا؛ صداقات ُعمُر ،أو عالقات عائلية مستقرة تحيط بنا ،ونتحدث معها وإليها عن تقلباتنا في الحياة في بوح تصحبه الثقة بمحبتهم لنا ،ومع ذلك نحن نشعر بالوحدة تبعثر دواخلنا!
ما ذكرته كيرا آساتريان في الفصل الخامس عشر واألخير بعنوان« :اقترب من نفسك» يقارب إلــى حد كبير ما قدّمت به جوابي عن سؤال الــوحــدة ،ولــعــل طريقتها فــي عكس الــجــواب، وابتدائها بما هو أساس لبناء عالقة جيدة مع هــذه الــصــورة مــن صــور الــوحــدة تبدو لنا اآلخرين ..هي أقرب إلشراق المعنى في نفس قاسية ،تفتقر إلى انشراح األنــس والطمأنينة، القارئ. كبير عندما لكن قسوتها تخف وطأتها إلى ح ٍّد ٍ تقول كيرا« :بالطريقة ذاتها التي تنجذب بها نبني عالقة حكيمة مع أنفسنا ،ونتحقق بالمعنى بشكل طبيعي إلى صفات معينة لدى اآلخرين ،الخاص بنا؛ أو كما عبّرت كيرا آساتريان عندما فمن المحتمل أن تنجذب إلى صفات معينة في «نقترب من أنفسنا» ،وينجلي عن هذه الصورة نفسك .قد تكون فخورًا بحقيقة أنك تعمل بجد كل أثر للقسوة ،وتكتسي خضرة مبهجة عندما دائمًا .قد ترغب في قدرتك على رؤية الدعابة نتعلم كــيــف تــكــون عالقتنا بــاآلخــريــن مبناها فــي جميع الــمــواقــف لــرؤيــة الجانب المشرق معرفة عوالمهم الداخلية مــن وجــهــة نظرهم من الحياة .قد تشعر بالثقة في أن لديك قلبًا هم ،واالهتمام الصادق والحثيث بأن يكونوا في عقل قادرًا ...تمامًا كما هو الحال مع دافئًا أو ً حال طيبة بالطريقة التي تناسبهم .تقول كيرا ٍ األشــخــاص اآلخــريــن ،فهذه هي األشــيــاء التي آساتريان« :تتطلب العالقة الوثيقة طويلة األمد ترغب في معرفة المزيد عنها ،ويجب عليك مشاركة منتظمة في فعلي المعرفة واالهتمام». متابعتها ..إن التعرّف على عوامل الجذب هذه املعرفة أيضا في خلق التقارب مع اآلخرين؛ مفيد للغاية ً ألنها غالبًا الصفات نفسها التي ينجذب إليها فــي روايــــة« :فــديــتــك يــا لــيــلــى» ليوسف اآلخــرون فيك .إن فهمها سيجعلك أكثر وعيًا السباعي ،نجد هذا النص العميق« :دع كل امرئ
قراءات
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
137
يدبر أمره من وجهة نظره هو ،إنه أدرى بمطالبه ومشاعره ،وهو مسؤول عن حياته ،وعن نتائج أعماله ،وإذا كان ال بد لك من أن تدبّر أمره، فافهم نفسيته ،وقدّر مشاعره ،وليكن تدبيرك ما أمكن من جهة نظره ،وبطريقة تفكيره». تحدثنا كــيــرا آســاتــريــان عــن أن الغوص في العوالم الداخلية لمن نريد أن نقترب منه لنتخلص من وحدتنا ال يمكن إن لم نحاول تبني وجهة نظره في رؤيته لألشياء ،وإحساسه بها: تقول كيرا «إنها القدرة على سرد تجربة شخص آخر عن العالم بكلماته الخاصة» ،وجعل ذلك أساسً ا في سماعنا لحكاياته واألحداث التي يمر بها. تقول كيرا آساتريان« :تختلف طريقة المعرفة هذه اختالفًا جوهريًا عن الطريقة التي نعرّف بها الناس عادة .نميل إلى االعتقاد إلى أننا نعرف شخصا ما عندما تفاعلنا معه كثيرًا وانتهينا ً بصياغة فكرة عامة حوله ،ومن ذلك مثال :آشلي دائما متأخرة ..هذا النوع من المعرفة الكاذبة لن يولّد التقارب ،إنه خطأ؛ ألن الصورة الموضوعية ل «كــيــف تــكــون آشــلــي» غير مــوجــودة ،نحن ال نعرَف آشلي بالفعل حتى يمكننا وصف تجربتها من خالل تأخرها من وجهة نظرها .غالبا ما تتأخر آشلي ألنها تحاول فعل الكثير من األشياء، إنهاء الغسيل ،وكتابة البريد اإللكتروني العاشر، كل ذلك قبل الذهاب لموعدها وهي على أمل اللحاق بــه ،نسختنا مــن القصة :آشلي دائما متأخرة ،ونسختها من القصة« :أحاول دائما فعل الكثير من األشياء» .اهـ بتصرف يسير.
شــر ٌح بدي ٌع لعالقة الشعور بالوحدة بالتقصير في الرعاية واالهتمام ،سواء كان هذا التقصير نتاج غفلة عن الصداقة كأولوية ضرورية أو عن إهمال ،أ ّيًا كان السبب فهذا التقصير إن لم تتم معالجته ،فالعالقة قد تؤول إلى أن تكون سببًا للوجع وقد تموت كزرع أهمل صاحبه سقياه. تقول األغنية:
آه يا سالم سيبنا الوقت يعدي قوام محسبناش اللحظة الجاية ده اسمه كالم عيشنا العمر نربي حمام بس نسينا نقوّم غيه. وما يهمكش عادي اسمع مني الساعة دي مش وقت عتاب أو لوم آه فيها ايه لو نرجع تاني وبدل ما تكون وحداني تسندني معاك وتقوم فاضي شوية نشرب قهوة في حتة بعيدة اع ــزم ـن ــي ع ـلــى نـكـتــة ج ــدي ــدة وخ ـل ــي حـســاب الضحكة عليا.. تتحدث األغــنــيــة بشجن عــن األصــدقــاء الذين تشاركوا كل شيء ،لكنهم نسوا أن يجعلوا لعالقتهم مأوى يحميها عبر الرعاية واالهتمام: «عشنا العمر نربي حمام/بس نسينا نقوّم غيه». تنبهنا كيرا آساتريان إلى أن الرعاية هي فعل يشعر الطرف اآلخر بالتقدير واالحترام ،أنت تهتم به بالطريقة التي تناسبه ،والتي يحبها ،وتهتم به من حيث نظرته لألمور ال من موضع استعالء، أنت تفكر معه وال تفكر عنه ،أنت تقلق معه وال تربكه بالقلق عليه بحيث يشعر بعدم الكفاءة.
كما تنبه كيرا آساتريان إلى أن األمر ينبغي أن االهتمام ً يكون متبادل لكي تنجح العالقة .تقول« :التقارب فــي أغــنــيــة :فــاضــي شــويــة «لــحــمــزة نــمــرة؛ مبدأ بسيط :إنــه تجربة الــوصــول إلــى العالم
138
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
قراءات
ترياق الوحدة
الداخلي لشخص آخر -ولديه إمكانية الوصول إلى عالمك -فإنك تشاركه الشعور بالتقارب.. وبما أن الوحدة هي في األساس حزن ناتج عن المسافة ،كلما زاد وصولك إلى العالم الداخلي لشخص آخ ــر ،قــ ّل شــعــورك بــالــوحــدة ..يعمل التقارب كترياق للوحدة من خالل إبطال المسافة والحزن الذي يصاحبها».
األخــيــرة مــن الكتاب« :نعلم مــا يفترض بنا أن
التكنولوجيا كعقبة
نحظى به في العالقات :التواصل الجيد والثقة
قدمت لنا كيرا آساتريان في كتابها« :توقف عــن البقاء وحــي ـدًا» مفاهيم وقــواعــد وطرائق واضحة وتفصيلية ليشتفي المرء من وحدته، وينشئ عالقات تدفئ روحه ،قالت في السطور
ترى كيرا آساتريان أن التكنولوجيا الشخصية والمرح واالحــتــرام والرحمة ،لكننا ال نعرف ما وضعت عقبات في طريق إنشاء عالقات صحية ،يتعيّن علينا فعله لالقتراب ،وذلك ناتج عن الجهل إذ إنها تجعل التفاعل الوسيط هــو القاعدة ،الجماعي بشأن مــا يجب علينا فعله لتحقيق والــصــواب أن يــكــون وسيلة مــســاعــدة ال تلغي التقارب» .اهـ بتصرف يسير. اللقاءات وجهًا لوجه. وأظن أن كيرا آساتريان نجحت إلى حد كبير تؤمن كيرا آساتريان أنه ال يمكن التعرّف على العوالم الداخلية عبر التواصل المجتزأ ،في هدفها من الكتاب وفقًا للثقافة التي تنتمي لغة الجسد بكل تفاعالتها أس ــاس ،ذلــك أن إليها ،والتي تتقاطع إنسانيًا في كثير من المسائل عملية التعرف على عوالمنا الداخلية هي عملية التي عالجتها مع ثقافتنا االجتماعية والدينية. مستمرة ،وال يؤتي االهتمام ثماره إن لم نولي يقع الكتاب فــي 292صفحة مــن القطع التعرّف العميق المستمر أولوية في العالقات، ألننا نتغير بشكل حتمي ،وهــذا التغير هو نتاج المتوسط ،ويتميز نهجه في التأليف بالخالصات المركزة بعد كل فصل ،وملحق مركز في آخر تغيّر خبراتنا الجسدية والعقلية والنفسية. تنبه كيرا آســارتــيــان أيضا إلــى أن «عقلية الكتاب .وقد نشر بلغته األصلية في عام 2006م،
التكنولوجيا» أث ــرت فــي صياغة ثقافتنا في وقامت بترجمته إلى اللغة العربية دار ملهمون في التقارب ،لقد تعودت عقولنا على سهولة الوصول عام 2021م. إلى ما نريد الوصول إليه تقنيًا عبر الوسائط بقي أن أقــول إني تمنيت أن تكون الترجمة الذكية ،وطرق البحث المتقدمة ،وبتنا نعتقد أن طريق تحقيق التقارب ال يحتاج إلى استكشاف أكثر جودة ،لكن يُحمد للدار هذا االختيار الموفق متأنٍّ وصبور ومتأمل. لموضوع عمت الحاجة إليه. * كاتبة سعودية. ( )١جاء في تعريفها في غالف الكتاب :مدربة عالقات معتمدة توفر تدريبًا فرديًا في سبيل التأقلم مع الحياة ،وتدريبًا على خوض العالقات المشتركة ،والتوسط في النزاعات ،وتدريب األزواج .تقيم اآلن في سان فرانسسيكو.
قراءات
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
139
رواية
ثانوية موسى لعقل الضميري: أفكار ومدلوالت إنسانية ρغازي خيران امللحم
بمتابعة قرائية ال تجارى ،واصلت بمتعة استثنائية عملية المطالعة واالسترسال، بفحوى رواي ــة األدي ــب والــقــاص« :عقل بن مناور الضميري» .ذات المواضيع الجادة بمعظم أفــكــارهــا وواقــعــيــتــهــا ،الــتــي صــاغ المؤلف فصولها القصصية ،ونسق مقاطعها الحوارية ،بظل ذلك العنوان ،الملفت للنظر والفكر معًا« :ثانوية موسى» ،موزعة على 319ص .وتسعة وثالثين فصال من القطع المتوسط ،الصادرة :عن مركز عبدالرحمن السديري الثقافي ،في سكاكا -الجوف.
من أقربائه ومعارفه وأفراد محيطه ،الذي ينتمي إليه ويعيش في وسطه ،ذاك المدرس الــمــتــفــرد صــاحــب الــطــمــوحــات الــكــبــيــرة والنظريات الغوغائية الالمتناهية.
أفــكــار جمة وتــصــورات مختلفة ،بــدأت تداعب مخيلته المضطربة بإلحاح منقطع النظير ،التي ما إن أخذ يبوح بجزء يسير منها لبعض المقربين ،حتى اصطدم بالكثير من المعارضة الفكرية ،التي بدت غريبة ،بل ومستهجنة بالنسبة لغيره من اآلخرين؛ إال إنه مع ذلك ،ما انفك يبوح بمكنونات صدره، سبك الضميري مكنوناتها الــروائــيــة، ومــا يعتل بــه مــن آمـــال ،ويعلنها صراحة وضروبها المترعة بالمواقف المتنوعة ،التي أمامهم ،بكل ثقة من قبله ودونما أدنى تردد تتمحور أحداثها وتتشعب مراميها ،حول أو انتظار. شخصية ذلك المدرس الفذ حسب تصوراته واستمرت به الحال على هذا المنوال، لنفسه ،وما كان يصبو إليه من آمــال ،وما يطمح إلى تحقيقه من أهداف ،يرى فيها من ردحً ا ال يستهان به من الزمن ،يقلب األمور وجهة نظرة طبعًا ،إنها مترعة بالنفع األكيد ،في ذهنه على كافة وجوهها ،مبديا امتعاضه الــذي سيعود على الجميع بالخير العميم ،وتذمره من هذا الوضع الذي يعيشه ،وأشباح
140
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
قراءات
الفقر التي يتوجس انقضاضها عليه في أي لحظة ،وكأنها تحيط بشخصه مباشرة ،على الرغم من دخله المادي المقبول ،الذي يدره عليه محل البقالة الذي يمتلكه ،وذلك طبعًا إلى جانب راتبه الشهري الذي يتقاضاه من عمله اآلخر ،معلّمًا في «ثانوية موسى» .يا سبحان اهلل تعالى ،لقد صدق المثل القائل: «القناعة كنز ال يفنى» ،إال إنه مع األسف، أين صاحبنا من هذا المثل الواقعي السليم؟ إذ إن كــل ذلــك الخير الــذي يحيط به، لم يمأل عينيه الفارغتين من حطام هذه الدنيا ،بمفهومه المذبذب ألساليب الحياة ومسيرتها ،التي ال يمكن لها أن تكتمل حسب جناح آخر لها ،كي تتوازن ٍ رؤيته ،إال بوجود وتنطلق محلقة فــي فــضــاءات هــذه الدنيا الرحبة وتشعباتها الواسعة .وطالما كان يردد بينه وبين نفسه وأثناء خلواته العديدة ،بل وأحيانا على مسمع من اآلخرين ،هذا البيت الشعري للمتنبي ويتمثل معانيه:
ف ــا م ـجــد لـلــدنـيــا ل ـمــن ق ــل مــالــه وال مال في الدنيا لمن قل مجده ثم يتابع «الضميري» مجريات روايته، عندما يأخذ بيدنا مجددًا ويذهب بنا إلى ربوع بطلها العتيد ،حيث نجده مع األسف مستمرًا في تفكيره بذلك االتجاه نفسه، الــذي طالما حلم بــه وداع ــب مخيلته ،ثم متأمل في وضعه ً ال يلبث مطرقًا برأسه، هنيهة مــن الــوقــت ،لــيــعــود يــخــاطــب ذاتــه متسائال بيأس:
قراءات
لكن أنا ،مَن أنا؟ ثم يجيب نفسه بنفسه وهو يحس بكتل من المرارة تنثال في حلقه: ما أنا إال بقايا مــدرّس وكفى ،أيّ مستقبل هــذا ال ــذي ينتظرني؟ وأيّ مجد يمكنني الوصول إليه ،ومطيتي الوحيدة التي ال أجد غيرها ،هذه الوظيفة المتواضعة المحدودة المستقبل؟ ثم يتابع مسترسال: نــعــم ال بــد مــن ال ــوص ــول إل ــى صاحب القرار ،ذاك الذي سينصفني حتمًا عندما يكتشف مــهــاراتــي الثقافية ،ويطلع على قدراتي االستثنائية ،في اإلدارة وغيرها من النشاطات التربوية ،التي حباني اهلل تعالى بها وأعدّني لإلمساك بزمامها ،وسيتمنى من كل قلبه أن أوافــق على المنصب الذي يليق بي ،ويعرضه عليّ ويرشحني عن قناعة لشغله.. وفي سبيل تحقيق هذه اآلمال ،التي باتت أشباحها تطارده ،أينما حل وفي كل مكان يوجد فيه ،وبعد تقليبه لكافة األمــور في ذهنه ،واستعراض وجوهها بكل خلفياتها، وجد أن اقصر السبل إلى ذلك ،هو الورقة والقلم وكتابة المقاالت المختلفة المرامي المتنوعة األهداف ،التي بات لكثرة التكرار فــي تناولها ،يجيد ممارستها لــدرجــة ما وحــيــاكــة نسيجها ،بــأســلــوب مقبول مــرن، ونشر ما وسعه ذلك عبر الصحف اليومية، بأنواعها الورقية واإللكترونية ،موضحً ا فيها سلبيات العمل التربوي وإيجابيته ،وطرق 75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
141
معالجة صعوباته والتغلب عليها ،وضرورة االهتمام بالبناء المدرسي وصيانته ،والعمل على تحديثه وتطويره ،ليليق بالحاضر للتمكن من مواكبة العصرنة ومسايرة هيمنتها ،التي باتت تسطو وبسرعة الصوت ،على الكثير من مفاصل الحياة ومسيرتها اليومية.
142
جديدة البناء والطالب والتجهيزات ،ونحن على أح ّر من الجمر في انتظار إبداعاتك، التي وغرت بها آذاننا ،لكثرة ترديدك إياها على أسماعنا ،ودوّنــت معالمها في الكثير من الوسائل اإلعالمية المختلفة ،ونحن من جانبنا ســوف نوفر لك الدعم والمساندة الكاملة ،مع دعواتنا لك طبعًا بالتوفيق ..هيا أرنا همتك وإنجازاتك.
ثم ينقلنا المؤلف بلمحات فنية سلسة المعاني راقية األسلوب ،ال تخلو من الطرافة الحركية أحيانا ،والمفاجآت غير المتوقعة، وبــاألســلــوب الجمالي ذات ــه ،ال ــذي استهل به مجريات روايته ،عبر أحداثها المكتنزة بشخوصها ومواقفها الجمالية ،إلى موضع آخر ال يقل إثارة عن سابقاته ،عندما تأتي الفرصة على غير انتظار ،وهي تحبو على قدميها ويــديــهــا ،وبشكل غير متوقع من جانبه ،عندما يستدعيه مدير التعليم في أول مــع مجموعة من منطقته ،لتكريمه ً المعلمين المتميزين ،ثــم ليفاجئه عندما يعرض عليه دون غيره ،االضطالع بمهمة إدارة إحدى المدارس ،الكائنة بالقرب من حـ ّيــه ،وقــد أحــدثــت ت ـوًا فــي بلدته ،لدرجة أنه لم يترك له التفكير واإلجابة الحقًا ،بل يواصل مخاطبته قائال:
ويستمر المؤلف بمفاجآته الدرامية تلك، التي تتمحور بمجملها تقريبًا حول شخصية ذاك المدرّس ،وما يالقي أو يتعرض له من مواقف تُراوح بين النجاح والفشل ،والسعادة والقلق ،وكيفية التصدي لها من جانبه ،أو بمساعدة مــن قبل اآلخــريــن مــن معارفه وزمالئه أو المسئولين عنه ،وما يرافق كل ذلك من شئون إحداثية أخرى ،قد يمر بها كل إنسان قيض له الكدح ،في هذه الحياة الفانية وتشعباتها المختلفة.
اســـمـــع ..هـ ــذه فــرصــتــك الــفــضــيــة بل قــل الــذهــبــيــة ،لــارتــقــاء بمستوى الطلبة وتحقيق طموحاتك فــي تطبيق نظريات اإلدارة الحديثة التي طالما أقلقتنا بها وتشدقت بمنافعها حتى أوق ــرت آذانــنــا.. فهذه المدرسة ،على الرغم من أنها تقع في مجمع قديم من أمالك الوزارة ،إال إنها
ويــواصــل صاحبنا عمله مــديـرًا لثانوية موسى العتيدة ،رغم كل المتاعب والعقبات، التي باتت تعرقله أثناء القيام بعمله ذاك، لكن الفاجعة تصل إلــى ذروتــهــا ،عندما يتعرض لمشكلة شديدة التعقيد ،يعقبها إغالق قسري للثانوية ،بشكل مفاجئ ،على أثــر تشكيل فــرق طالبية ،مهمتها مرافقة
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
هــكــذا كــان التكليف المباشر مــن قبل المدير العام بالمنطقة لشخص صاحبنا الكريم ،في القيام بمهام إدارة هذه المدرسة التي تدعى « :ثانوية موسى»..
قراءات
المختصين بالرقابة الميدانية في األسواق والمطاعم ،للكشف عن المخالفات الصحية والنظافة وجودة الطعام وسالمته ،الذي يعد ويقدم لروادها ،من المواطنين وغيرهم من الزوار والمقيمين.
وهكذا وجد ذلك المدرس العتيد ،أحالمه تتالشى وتميد دفعة واحــدة أمــام ناظريه، وتتسرب هــاويــة فــي البعد مــن بين يديه، ويضع ملحً ا على الجرح ،ويرضى بالمقسوم، ويستقر كغيره من الناس ،وأســوة بزمالئه
لكن على الــرغــم مــن استعمال األقنعة المعلمين.. والمالبس الواقية والقفازات ،إال إنه وقع وبهذه الجملة المقتضبة ،ذات المدلول الــمــحــذور ،وهــنــا كــان مكمن الخطر غير اإلنساني بامتياز ينهي األديب« :عقل بن مناور المنتظر ،لدى زيارتهم لسوق اإلبل ومسالخ الرويلي» فصول روايته « :ثانوية موسى» التي البلدية التي تهتم بكافة الذبائح ،إذ كانت عشت مع صفحاتها ردحً ا جميال من الوقت، مشاركة ال تخلو مــن ذلــك الــضــرر ،فوقع الــعــديــد مــن الــطــاب فــي ِشــراكــه ،عندما أثناء تقليب مكنوناته المكتنزة ،ببديع الصور تبين إصابة بعضهم على إثر تلك الزيارات ،الروائية والمحاور اإلحداثية ،التي تأخذ بفيروس جرثومي خطير؛ ما استدعى عزلهم بمجامع القلوب وتبهج النفوس.. فــي إح ــدى الــمــشــافــي ،لمراقبة أحوالهم على الرغم مما تحتويه هذا الرواية ،في الصحية لعدة أيام ،وقد ع َّم القلق بالنسبة بعض فصولها من استطالة في العديد من لألهالي« ،وثانوية موسى» تحديدًا وإدارة الحوارات ،وتكرار بعض الجمل المتشابهة التعليم ،وجهاز البلدية ،إلــى أن قــدر اهلل العبارة ،المتواترة الصور واإلشـــارات؛ ما تعالى شفاءهم جميعًا ،وبدأت حالة الطالب جعل بعض األحــداث على الرغم من قلتها بالتحسن الــدائــم والمستمر؛ ما استدعى باهتة المحتوى ،لــدرجــة الملل فــي بعض وقــف حالة الــعــزل ،طبعًا مــع األخــذ بعين الحاالت.. االعتبار ،االستمرار باالحتياطات العالجية هذه بعض االقتباسات والومضات ،من الالزمة..
لكن هذا األمر لم يمر بسهولة ،بالنسبة رواية« :ثانوية موسى» التي حاولت وسعيت، لمدير الثانوية الذي سارع بتقديم استقالته إلقاء الضوء واالطالع على نماذج ومختارات، للجهات الرسمية المسئولة ،وفــي اليوم من بعض محتوياتها العديدة .لكن ما يزال التالي جاء رد مدير التعليم بعبارة واحدة هناك الكثير من فحواها ،ما يدعو للقراءة ويستحق االطالع. ومختصرة :لقد تم عزلك. * كاتب وباحث -سوريا.
قراءات
75العدد رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
143
الـ ـ ـ ـصـ ـ ـ ـفـ ـ ـ ـح ـ ـ ــة األخ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ــرة
تنمية شخصية الطالب الجامعي د .جميل احلميد
ك ـل ـنــا ي ـ ــدرك أن ال ـح ـي ــاة ال ـجــام ـع ـيــة تـخـتـلــف كل االختالف عن المجتمع المدرسي الذي اعتاد عليه وعايشه الطالب على مدى ( )12سنة مدرسية؛ ومنذ التحاقه بالجامعة يتيقن الطالب أنه انتقل لحياة جديدة ،لها ما بعدها ،ترتّب عليه مسؤوليات كبرى ت ـجــاه نـفـســه ومـجـتـمـعــه؛ وعـلـيــه أن يـجـعــل مــن هــذه الـمــرحـلــة منصة ان ـطــاق للمستقبل .وي ـع ـوّل على الجامعة أن تسهم فــي بـنــاء شخصية الـطــالــب بكل جــوانـبـهــا وب ــدرج ــة كـبـيــرة وفــاع ـلــة شــريـطــة أن يـكــون منسجما متفاعال مع متطلبات حياته.
فالحياة الجامعية للطالب والطالبة تعتبر من أهم محطات العمر الخالدة ،وذلك لطبيعة هذه المرحلة عمريًا وعلميًا .فهي مرحلة النضج واالستقالل على األقل فكريًا ومصيريًا، مسؤول عن نفسه من حيث اختيار التخصص والمسار ً فالطالب أو الطالبة غالبًا ما يكون وأسلوب الحياة بشكل عام .وهنا يكون دور الجامعة الحقيقي في مساعدة الطالب أو الطالبة في تشكيل هذه المرحلة ولو بالحد األدنى .فالطالب أو الطالبة الجامعي عندما يبدأ حياته الجامعية يتوقع أن يعيش في بيئة نوعية تساهم في تحقيق طموحاته وأحالمه ،وهذا في ظني لن يتأتى فقط من خالل المحاضرات المقررة في خطة الجامعة لكل تخصص .بل إن هناك روافد لبناء الطالب الجامعي ال تقل أهمية عن المواد المقررة عليه ،وهي األنشطة الثقافية المختلفة .فمن خالل تلك البرامج الالمنهجية يستطيع الطالب تنمية مهاراته المختلفة ،والتي قد تظهر بشكل واضح من خالل ممارسة ما يتاح من برامج ،مع حرية اختيار تلك األنشطة المتنوعة. الجامعة بمواردها البشرية والمادية لديها القدرة على خلق البرامج التي تحقق بناء الطالب الجامعي بما يتناسب مع ظروف كل مرحلة ،مع اإلبقاء على تنمية الجوانب األساس في شخصية الطالب الجامعي لكي يكون قادرًا على مواجهة المواقف المختلفة خالل حياته، والتعامل معها بطريقة تعكس تلك التجربة المميزة في هذه الجامعة أو تلك ،مما يظهر الفرق بشكل جلي في مخرجات الجامعات على المستوى المحلي والعالمي. ونظرا ألهمية تمكين الطلبة من الوصول إلى حالة الرضا النفسي عن أدائهم األكاديمي وإحساسهم بالتناغم في عالقاتهم مع مجتمع الجامعة والبيئة الجامعية بوجه عام .فإن على الجامعات تنفيذ برامج التوجيه واإلرشاد النفسي واالجتماعي المناسبة للطلبة ،وتفعيل األنشطة الطالبية الهادفة لتعزيز قدراتهم ،ومهاراتهم في حل المشكالت التي قد تواجههم؛ فليس دور الجامعة هو التعليم وحسب؛ بل اإلسهام في بناء شخصية الطلبة ليكونوا قادرين على مواجهة الحياة المستقبلية بجرأة ومرونة وعقالنية. * الملحق الثقافي بسفارة المملكة العربية السعودية لدى دولة الكويت.
144
العدد 75 رب ـي ــع ١٤٤٣ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٢م)
الصفحة األخيرة
من إصدارات اجلوبة
¦ محور خاص :جدلية الوقت والكتابة ¦ نصوص جديدة ونوافذ ¦ رحلة الشتاء بني الدخول وحومل ¦ مواجهات :أحمد فضل شبلول، محمود خيراهلل ،خالد عبدالكرمي احلَمْ د.
ﺑﺮﻋﺎﻳﺔ ﺳﻤﻮ وﻟﻲ اﻟﻌﻬﺪ
ﺳﻤﻮ وزﻳﺮ اﻟﻄﺎﻗﺔ ﻳﻔﺘﺘﺢ ﻣﺸﺮوع ﻣﺤﻄﺔ ﺳﻜﺎﻛﺎ ﻟﻠﻄﺎﻗﺔ اﻟﺸﻤﺴﻴﺔ
71
من إصدارات برنامج النشر في مركز عبدالرحمن السديري الثقافي
مركز عبدالرحمن السديري الثقايف اجلوف :ص .ب854 : الرياض :ص.ب 94781الرياض 11614 الغاط :ص .ب - 63دار الرحمانية info@alsudairy.org.sa 0553308853
هاتف 014 6245992 هاتف 011 4999946 هاتف 016 4422497 |
فاكس 014 6247780 جــوال 055 3308853 فاكس 016 4421307
www.alsudairy.org.sa
Alsudairy1385