..وبعد أي��ام قليلة من خطف رئيس احلكومة سربت رسالة من احلكومة موجهة إلى مفتي الديار الليبية الشيخ الصادق الغرياني ،تقول الرسالة التي حتمل رقم « 0501بعد التحية ..باالشارة لكتابكم للسيد رئيس ال��وزراء رقم ث .ث 2389امل��ؤرخ 2013 /4 /2 م�ي�لادى بخصوص تنظيم استيراد امل�لاب��س الداخلية النسائية ،ورص��دك��م لظاهرة استيراد مالبس داخلية تتعدى الغرض الشرعى لها ،وطلبكم السماح ل��دار االفتاء بالرقابة على استيراد املالبس النسائية. نفيدكم برأينا القانونى بعدم اختصاص رئاسة الوزراء بإعادة تنظيم استيراد املالبس ويطلب من دار االفتاء مخاطبة املؤمتر الوطنى العام باخلصوص».
يوزع هذا الكتاب مجان ًا مع العدد ( )2من مجلة املستقل
حبرالمنفى تأليف :عمر الكدي © جميع الحقوق محفوظة مجلة أسبوعية سياسية شاملة طبع في يناير 2015 مطابع األهرام جمهورية مصر العربية
المحتويات الموجة األخيرة للنظام المغلق 7.......................................................
ليبيا وهشاشة الكيان 15....................................................................
هل البداوة ظاهرة عابرة أم ثابتة في العالم العربي؟ 19............................ سيف اإلسالم يتعلم أصول اإلستبداد الشرقي في كازاخستان 25.............. مصراته التائهة بين الحرب والتجارة 29...............................................
ثورة فبراير ليست السيناريو األمثل للتغيير33........................................ مالمح حرب أهلية تلوح في األفق37.................................................. خطط اإلسالميين للسيطرة على ليبيا 41...............................................
العصيان المدني على الطريقة الليبية45................................................
العودة إلى المعارضة 49................................................................... انقالب عسكري بمساعدة مصراته ومباركة المفتي 53............................
طرابلس بين البدو واالنكشاريين57....................................................
مقوالت القذافي تتحقق بعد رحيله 61................................................. تأمالت في اللغة الداعشية 65............................................................ مصراته تعود إلى رشدها69...............................................................
المالبس الداخلية في السياسة الليبية73...............................................
ليبيا بين قبعة الجنرال وعمامة أمير المؤمنين 77.....................................
من أين أتى قادة ليبيا ،ومن أين سيأتون؟ 81.......................................... الربيع العربي ..العسكر أو اإلخوان 89................................................
ليبيا ليست ببعيدة عن مصر 93...........................................................
المصالحة على الطريقة الليبية99........................................................
تفكيك المنظومات األمنية والعسكرية للقذافي 105.................................
العودة اإلجبارية إلى الماضي115.................................................... ...
أمريكا وقبائل الشرق األوسط123........................................................
العرب يكررون نفس األخطاء 129....................................................... بعد خمس سنوات على الغزو ..العراق ليس اليابان 133..........................
معارضة المعارضة 137..................................................................... هل العرب على شفا عصر التنوير؟ 141.................................................
شكرا بيل غيتس وجه أمريكا المشرق 145............................................. الطربوش ..القبعة ..والحجاب 149...................................................
الغيبة الصغرى لسيف اإلسالم 153.......................................................
المصالحة على صفحة قديمة 159........................................................ علي صدقي قرر أن يموت يوم الفاتح 165..............................................
أزمة المكان لدى المؤتمر الوطني 173..................................................
لماذا عاد أهالي الجبل الغربي في ليبيا للكهوف ؟177.............................. نهاية طاغية وبداية طغاة جدد 185......................................................... علي زيدان كما عرفته189...................................................................
دعوة لمحاربة الكائنات الفضائية193.................................................... لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ 197............................................. عسكر سوسة..جينات ليبيا تتقاتل 201.................................................. إصدارت أخرى للمولف 204..............................................................
الموجة الأخيرة للنظام المغلق في هذا العام تكون قد مرت ستة قرون كاملة على وفاة عبد الرحمن بن خلدون ،ذلك العبقري الفذ الذي اكتشف بالهام عجيب النظام الذي عاشت في ظله كل األمم التي استوطنت الصحراء الكبرى، وما يعرف بالشرق األوسط ،وشمال أفريقيا ،وأيضا في وسط آسيا، وهي األمم الوحيدة في العالم التي لم تتمكن من طرد القبلية خارج تاريخها ،ولم تستطع حتى اآلن إرسال الطاغية الشرقي إلى جحيمه التاريخي ،وحتى اآلن ال تستطيع هذه األمم من التحول إلى الحداثة بكل مفاهيمها السياسية والثقافية واالجتماعية والعلمية.
ليست عبقرية أبن خلدون هي التي طفت على سطح التاريخ وتمكنت من اإلبحار من القرن الرابع عشر حتى مطلع القرن الحالي، وإنما االنغالق الشديد للنظام الذي درسه ابن خلدون في مقدمته الشهيرة هو الذي تمكن من مراوغة التاريخ ،واالنبعاث من الرماد مثل طائر الفينيق ،حتى كارل ماركس الذي جاء بعد ابن خلدون بخمسة قرون تحاشى دراسة هذا النظام الغريب ،ولم يجد له مكانا 7
في نظريته ،فأطلق عليه اسم «االستبداد الشرقي» وابتدأ من النظام اإلقطاعي.
في النظام المغلق تظهر الدول وتختفي بنفس الطريقة التي وصفها ابن خلدون ،وذلك بتحالف بين الدعوة الدينية والعصبية القبلية. الدعوة الدينية مهمتها تحويل الوالء القبلي إلى والء أكثر سموا، فمن المستحيل توحيد قبائل متصارعة دون تحويل وجهتهم إلى السماء.هكذا فعل اخناتون الذي كان أول من نادى بالتوحيد ،وعبادة اله واحد ،والذي في عهده توحدت مصر التي عاشت مقسمة قبله بزمن طويل ،ولهذا تميزت كل الديانات التي ظهرت في المنطقة بعقيدة التوحيد ثم اختلفت في التفاصيل األخرى ،بينما لم تتوقف الديانات التي ظهرت في بيئات أخرى أمام مبدأ التوحيد طويال.
ووفقا لما الحظه ابن خلدون فان هذا النظام يدور في حلقة مغلقة ،ففي كل مرة تصل فيها موجة جديدة من الصحراء ،وتتمكن من إسقاط الدولة المركزية ،فإنها تبدأ بتدمير كل شيء ،ثم تشرع في إعادة بناء ما تم هدمه ،وخالل خمسة أجيال تتحول الموجة الجديدة إلى الحضارة والعمران ،وتتالشى عصبيتها ،وعندها تكون موجة أخرى قد انتهت من بناء دعوتها الدينية حول قبيلة مركزية ،فتأتي مثل ريح عاصف وتدمر كل شيء ،وهذا بالضبط ما حدث مع كل الدول التي ظهرت في المنطقة ،ويتساوى في هذا العرب واألمازيغ والنوبة ،واألفارقة شمال الصحراء ،واألكراد والترك ،وشعوب آسيا الوسطى بما في ذلك المغول ،وبالتالي فان هذا النظام ليس له القدرة 8
على االستفادة من التراكم كما حدث في أوروبا ،فكل ما تبنيه وتشيده إحدى الدول يكون عرضة للدمار والهدم على يد الدولة التي ستعقبها.
الغريب أن هذا النظام يشبه دورة حياة البدوي ،الذي يعيش في دائرة مغلقة يبدأ من حيث سينتهي ،وينتهي من حيث بدأ ،وتتطابق حياته مع حياة جده األول الذي وجد نفسه مجبرا على هذا النظام ليتكيف مع الصحراء ،فالبدوي ليس له تاريخ ،ألنه ال يستطيع المراكمة .التراكم فقط هو الذي يصنع التاريخ ،ومكان التراكم هو المدينة ،التي تعيش خلف أسوارها خوفا من البدوي ،الذي أجبرها على االنصياع لنظامه ،وفقدت قدرتها من االستفادة من جهود السلف ألنه سيصبح ركاما وليس تراكما خالل خمسة أجيال.
مثلما أن النظام السياسي مغلق كذلك الحال مع النظام االقتصادي، الذي يعرف باالقتصاد ألريعي ،أو االقتصاد ألخراجي ،وهو نظام يسعى إلنتاج ما يحفظ الرمق ،فالفالح في ظل هذا النظام يدفع عشر اإلنتاج إلى الدولة دون أن تكون الدولة ملزمة بتوفير أي نوع من الخدمات له ،ويدفع عشر اإلنتاج األخر إلى القبائل المسلحة التي تتكفل على األقل بحمايته ،وخاصة في مناطق الواحات ،أما ما تبقى من اإلنتاج فبالكاد يكفي لكي ال يموت جوعا ،ويستخدم الفائض لمبادلته بسلع أخرى ال يستطيع إنتاجها ،فمثال يتبادل فالحو فزان مع فالحي الجبل الغربي التمور بزيت الزيتون والتين الجاف والشعير، ومع سكان مدن الساحل الشاي والسكر ولوازم اإلنتاج ،وفي نهاية األمر لن يجد أي من هؤالء الفالحين فائضا يستخدم لتطوير اإلنتاج، 9
أو زراعة أرض جديدة ،أي أن النظام االقتصادي غير قادر على المراكمة أيضا ،في حين نجح النظام اإلقطاعي في ذلك ،وهكذا كان هناك فائض في اإلنتاج تحول إلى رأس مال استثمر من أجل تطوير اإلنتاج ،فتحول النظام اإلقطاعي إلى الرأسمالية في أوروبا واليابان بينما بقى النظام المغلق يكرر نفسه ،ألنه ال يستطيع كسر الحلقة المغلقة من داخله مهما كانت الظروف. يستند النظام المعرفي بمجمله على وجود نموذج قديم جاهز يتم الرجوع إليه للمقارنة ،فما وافق هذا النموذج يتم قبوله ،وما خالفه يتم رفضه ،وهو النظام الذي أطلق عليه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في كتابه الكلمات واألشياء «نظام التشبيه» ،والذي عرف في الفقه بقياس الشاهد على الغائب.في هذا النظام المعرفي المغلق يعود البدوي إلى جده األول كلما صادفته مشكلة ،من خالل منظومة هائلة من األمثال والحكم والقصائد ،وانعكس عصر التشبيه على كل شئ ،لذلك كان الشعراء الجاهليون يستهلون قصائدهم بالبكاء على األطالل ،وعاد اللغويون والنحاة إلى البدو إلقعاد النحو العربي، فعندما سؤل الخليل بن أحمد من أين أتيت بعلمك هذا؟ فقال من نجد وتهامة.حتى العلوم خضعت للتشبيه ،فجابر بن حيان مؤسس علم الكيمياء كان يعمل في الخيمياء ،التي كان هدفها تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب ،وفجأة حدث انقطاع معرفي جزئي تمثل في تحول أبن حيان إلى الكيمياء ،والتي تخضع إلى ناظم معرفي آخر هو االستعارة ،أي المقارنة بين شيئين من أجل اكتشاف االختالف 10
بينهما وليس التشابه بينهما ،وعلم الكيمياء هو أفضل مثال على ذلك. هذا يعني أن النظام المغلق شهد انفتاحا جزئيا من داخله بتأثير من الترجمات اليونانية وخاصة في الفلسفة ،ومنذ ذلك الحين اندلع الصراع بين الفالسفة والفقهاء ،وبين العقل والنقل ،أي بين نظام التشبيه ونظام االستعارة ،والذي انتهى بقمع التمرد الفلسفي والعقلي بانتصار الغزالي مدعوما من السلطة الحاكمة على الفيلسوف أبن رشد، فانحدرت حضارة عظيمة أهم انجازاتها في كل الحقول ولدت تحت سماء االستعارة وليس سماء التشبيه ،إلى عصر الظلمات ،وتحولت حواضر عظيمة كانت مركز الدنيا إلى مجرد بادية شاسعة تلوك ما قاله الجد األول. مع حملة نابليون بونابرت واحتالله مصر انتبه النظام المغلق للمرة إلى تفوق األوروبيين ،وحاول محمد علي بناء مشروع طموح مستلهما النموذج األوروبي في كل شئ ما عدا الركائز الحقيقية التي يقف عليها النموذج األوروبي ،وأنهار المشروع بسرعة ألن الطاغية الشرقي كان في قلب المشروع ،ومع موجة االستعمار بدأ التصدع في واجهة النظام المغلق ،ألنه وللمرة األولى في التاريخ صار في اإلمكان هزيمة الصحراء بالتكنولوجيا الوافدة ،ولم يعد الحل الذي اخترعه البدوي بالخضوع إلى الصحراء هو الحل النهائي والوحيد، ومع ظهور النفط في قلب النظام المغلق أصبح باإلمكان اإلنفاق على أسرع رحلة في التاريخ ،وذلك باالنتقال مباشرة من القرون الوسطى إلى القرن العشرين ،غير أن النظام المغلق وهو يحتضر كان أكثر مكرا 11
ودهاء وتعنتا ،فتمكن من التسلل إلى القرن العشرين تحت أقنعة عديدة ،وإذا نظرنا إلى الحركات واألحزاب العربية التي ظهرت منذ ما يسمى بعصر النهضة ،نجدها قد بدأت بشعارات خالبة ،وانتهت إلى الطغيان.في هذه البراري الشاسعة جربنا كل شيء ،من الحكم القبلي العائلي ،الملكيات والسلطنات واإلمارات والجمهوريات والجماهيريات ،ولم نحصد إال الخيبة ،من الليبرالية إلى العلمانية، من الماركسية الستالينة ،والقومية العلمانية إلى األنظمة األوتوقراطية الدينية ،ولم نحصد إال الحنظل ،من الشيخ شخبوط حاكم ابوظبي الذي رفض بناء مصرف توضع فيه األموال ،إلى الحبيب بورقيبة المدني الوحيد بين كل هؤالء الطغاة ،والذي امتصه النظام المغلق فتحول إلى رئيس مدى الحياة ،والى المجاهد األكبر شاطبا بجرة قلم على كل رفاقه الذين شاركوا في الكفاح من أجل االستقالل. ظهور النفط أعاد مجتمعات كانت في طريقها إلى الرأسمالية إلى نظام االقتصاد الخراجي ،وخاصة بعد التطبيقات االشتراكية ،ألن النفط صناعة تحتاج إلى شريحة صغيرة من المجتمع تشرف على استخراج وتصدير النفط ،أما األغلبية العظمى فتحولت إلى مجرد موظفين عند صاحب الدولة ،متى يرضى يمنحهم من عطاياه ومتى غضب يحجب عنهم العطاء ،مثلما كان يحدث في زمن األمويين والعباسيين.كان النفط نقمة تاريخية أتاحت لنظام التشبيه المغلق، وللنظام الخراجي ،وللطاغية الشرقي أن يكون أقوى وأغنى من كل المجتمع فيبقى في السلطة حتى يموت ليورثها ألحد أبناءه. 12
لم يتغير شئ ولهذا ال نزال نحتفي بابن خلدون وكأنه كتب المقدمة منذ ستة أعوام وليس منذ ستة قرون ،كل ما في األمر أن الشروط التي وضعها ابن خلدون تغيرت أسماؤها فقط ،فحلت االيدولوجيا محل الدعوة الدينية ،وحلت القوات المسلحة محل العصبية القبلية ،أو القبيلة المركزية ،ثم انتهت كل هذه األنظمة إلى الطغيان .صدام حسين بدأ بعثيا علمانيا وانتهى في أحضان قبيلته ،كذلك فعل األسد الذي قبل أن يموت مهد الطريق لتوريث ابنه كما في السعودية والمغرب وغيرهما من الدول الملكية ،أما ألقذافي الذي كان يصف نفسه بأنه يسار اليسار فقد انتهى في يمين اليمين ،أصبحت قبيلته هي القبيلة الحاكمة بالضبط مثلما كان يحدث في ليبيا منذ عشرة األف عاما ،وكما يقول ابن خلدون فان هدف البدوي هو التحضر ،فقد أنفق ألقذافي فقط على نثرات الفضة من أجل األمطار الصناعية في سماء سرت ما يكفي لبناء أكثر من مدينة ،وفعال حول سرت من مفازة رملية إلى مدينة حديثة تحيطها الغابات ،وفي نفس الوقت قطع كل الغابات التي كانت تحيط طرابلس ،حتى صار باالمكان مشاهدة الزوابع الرملية الصغيرة في ميدان الشهداء ،وأهمل بنغازي العريقة حتى تحولت إلى مجرد سبخة عطنة.انه النظام المغلق مرة أخرى ولكن هذه المرة أكثر شراسة من أي وقت مضى ،ألنه يعلم أنه يمثل الموجة األخيرة ،التي تلخص بشكل عجيب كل أعراض هذا النظام لدرجة أنني ال أستطيع التوقف عن اكتشاف حاالت من التشابه الغريب بين ألقذافي وأوالده ،وطاغية ليبيا في القرن التاسع عشر يوسف القره مانللي وأوالده ،وألن ما يجري اآلن هو اضمحالل الموجة األخيرة 13
للنظام المغلق ،والوالدة العسيرة لنظام مفتوح لديه القدرة على صنع التراكم واالستفادة منه ،فان الموجة األخيرة شرسة بشكل ال يوصف، فالقدرة على التدمير والتخريب التي تمتلكها هذه األنظمة وهي تذوي ،أكثر فعالية من قدرتها على التدمير عندما وصلت إلى السلطة، فكل ما صنعه العراق منذ استقالله ذهب أدراج الرياح ،وكذلك كل ما صنعته ليبيا ،ذلك أن الزمن في القرن الواحد والعشرين يتحرك بسرعة كبيرة جدا مقارنة بزمن عبد الرحمن بن خلدون ،والذي حدد نهاية كل دولة بخمسة أجيال ،اآلن يكفي جيل واحد للقيام بنفس المهمة.هل نحن على استعداد للتفكير منذ اآلن في مرحلة ما بعد ألقذافي بمرها قبل حلوها؟ .هذا ما أدعو الجميع للتفكير به ،وإعداد العدة لذلك ،فإذا لم نتمكن بعد ألقذافي من طرد النظام المغلق بكل تجلياته من التاريخ فإنني أبشركم منذ اآلن بطاغية جديد.
14
ليبيا وه�شا�شة الكيان على خالف جارتيها مصر وتونس تبدو ليبيا دائما هشة الكيان، والسبب الرئيسي هو هيمنة الصحراء على تضاريس البالد .ال يوجد بليبيا نهر مثل النيل يجذب السكان إليه بعيدا عن الصحراء التي تحيط به ،وايضا يعمل على تشكيل السلطة ثم الدولة في فترة مبكرة من التاريخ ،وليبيا ليست خضراء مثل تونس التي تعج بالمدن على ساحلها ،تلك المدن التي تحولت إلى قاطرة تجر البالد من عمقها الصحراوي إلى أفق البحر المتوسط.
ثمة مسافات شاسعة بين أقاليم ليبيا ،كما أن عدد المدن على ساحلها أقل بكثير من بقية الدول المغاربية باستثناء موريتانيا ،والمدينة هي المكان الوحيد الصالح للتراكم ،وهي المكان الوحيد الذي تذوب فيه الهويات الجهوية من أجل هوية أكبر ،لهذا السبب ظلت القبلية حية ترزق في ليبيا ،بينما اختفت بالكامل في مصر وتونس ،وحتى في حال وجودها فهي موجودة في األطراف وليس في المركز ،مثل قبائل شبه جزيرة سيناء والصحراء الغربية ،وقبائل أقصى الجنوب 15
التونسي ،أما في ليبيا فالقبيلة قاومت االنقراض ودخلت إلى المدن الكبرى مثل طرابلس وبنغازي.
هشاشة الكيان تستدعي وجود هويات متعددة في البلد الواحد. الهوية األولى هي الهوية الجامعة ،فجميع السكان ليبيون بغض النظر عن خلفياتهم العرقية والمذهبية ،ولكن الهوية الجامعة سرعان ما تختفي عندما تسقط السلطة المركزية ،أو عندما يبدأ الصراع على الغنيمة ،وهذا ما كشفت عنه ثورة السابع عشر من فبراير ،فالذي كان يعتقد أن الطاغية هو العقبة الوحيدة أمام الشعب الليبي ،تفاجأ بأن العقبات أصبحت أكثر عندما غاب الطاغية ،وكأن دور الطاغية أي طاغية هو ضمان وجود الهوية الجامعة ،وتأجيل النظر في الهويات الفرعية التي سرعان ما تتضخم في غياب الهوية الرئيسية.
من ينظر إلى الخارطة الليبية اليوم سيجد أكثر من كيان وأكثر من هوية .األقاليم أصبحت أكثر وضوحا من ذي قبل ،وأخذت تتجرأ على الحكومة والدولة وتتحداهما حتى في االختصاصات األصيلة لها ،مثل احتكار القوة المسلحة ،واإلشراف على الثروات السيادية مثل الحقول والموانيء النفطية ،بحجة أن هذه الحقول والموانيء توجد على أراضيها ،كما أن الهوية العرقية لدى األقليات تقدمت على الهوية الجامعة ،ويشعر المراقب أن طريقة وخطاب نشطاء األقليات في طرح مطالبهم أشبه بما تطرحه الشعوب المستعمرة على االستعمار من مطالب ،أما األقاليم الجغرافية فقد أصبحت مستقلة عن سلطة الدولة ،ويمكن مالحظة ذلك في كل أنحاء البالد، 16
عندما تحولت الحكومة إلى مجرد وسيط بين هذه األقاليم ،ففقدت هيبتها وسلطاتها. في مثل هذه المجتمعات تبدأ المطالب القبلية والجهوية بشكل شبه موحد ،ولكن عندما تصل إلى الغنيمة تنتهي عند عدد محدود من سكان اإلقليم أو رجال القبيلة .في البداية يبدو اإلقليم شبه موحد في مطالبه ،ثم يبدأ التنافس بين بعض زعامات اإلقليم على من يمثل السكان أكثر ،وهكذا يصبح للمطلب الواحد عدة رؤوس ال تستطيع التنسيق بينها ،وغالبا ما ينتهي األمر بينها إلى التناحر، خاصة إذا لم يوجد منافس من خارج اإلقليم عادة ما يوحد الجميع، الخطر القطيع. مثلما يوحد ُ في األربعين عاما الماضية حدثت تغيرات كبيرة في التركيبة السكانية للمدن الليبية ،بحيث أصبح السكان األصليون لهذه المدن أقلية أمام الوافدين الجدد ،وحدثت ظاهرة عجيبة نادرة الحدوث، وهي إضفاء طابع الريف والبادية على المدينة ،وبداية تحول الوافدين الذين عادة ما يأتون من الريف والبادية إلى التطبع بعادات المدينة، ومن ينظر إلى تركيبة سكان طرابلس مثال ،سيجد أن أغلب سكانها جاءوا من خارجها ،وهم غالبا يحملون هويتين .الهوية الجديدة باعتبارهم من سكان العاصمة ،وهوية المكان الذي وفدوا منه، ومعظمهم يملك بيتا وأراض ويزور باستمرار مسقط رأسه ،وفي هذه الحالة سيفضل هؤالء التعامل مع المكان الجديد باعتباره مجرد محطة ،فعندما تتعرض المدينة ألخطار يفضلون مغادرتها، 17
أو يتصرفون بسلبية تجاه من يحدث فيها من انتهاكات ،طالما ان هذه االنتهاكات لم تصل إليهم ،أما عندما تنهار السلطة في طرابلس فيحدث ما حدث طوال القرون السابقة ،حيث تسيطر القبائل المحيطة بالمدينة سواء القادمة من شرقها أو غربها أو جنوبها على مقرات الدولة ،التي تصبح فجأة مجرد غنيمة ،وهو ما يؤكد عمق هشاشة الكيان الذي انتبه إليه مبكرا الكاتب الراحل عبد الله القويري ،عندما أصدر كتابه «معنى الكيان» ،والذي عاد إلى البالد عام 1958من مصر ،وحتى وفاته عام 1992كان ال يزال متأثرا باللهجة المصرية، وربما لهذا السبب انتبه إلى هشاشة الكيان الليبي أكثر من الكتاب الذي ولدوا ونشأوا في ليبيا. ال أقول إن هذا القدر لن تستطيع ليبيا الفكاك منه ،ولكن األمر مرهون بالزمن والقدرة على المراكمة ،وإذابة الجميع في المدن التي تتضخم باستمرار ،في حالة ما نجح المجتمع في أمرين ،وهما التنمية الشاملة ،واالعتراف بالهويات الفرعية والسماح لها بالتعبير عن نفسها ،من أجل الهوية الجامعة التي وحدها يمكنها أن تبدد هذه الهشاشة ،وتقوي الكيان الذي سيكون كيانا جديدا بحجارة قديمة.
18
هل البداوة ظاهرة عابرة �أم ثابتة في العالم العربي؟ لماذا لم يختف البدو من البلدان العربية ،بالرغم من اختفائهم في معظم بالد العالم؟ ولماذا ال تزال البداوة بعصبيتها القبلية تقاوم التحديث ،وفي بعض األحيان ترفض الوالء للدولة المركزية؟ هذا ما نالحظه في دارفور حيث تسببت القبائل البدوية الرحل ،التي تعتمد في معاشها على اإلبل في األزمة المستحكمة ،وخاصة بعد الجفاف التي شهدته المنطقة ،مما جعل رعاة اإلبل يتوغلون مسافات أطول ،وهو ما جعلهم في مواجهة مباشرة مع الفالحين المستقرين في القرى .في سيناء تتسبب القبائل البدوية في العديد من المشكالت األمنية للدولة ،وخاصة فيما يتعلق بتهريب السالح، البشر ،وحتى المخدرات ،ومن حين إلى آخر يتبادل رجال هذه القبائل النار مع رجال األمن ،وفي كثير من األحيان ال يعتقد المصريون الذين يعيشون على وادي النيل أن هؤالء مصريون، أما في إسرائيل فقد حوصر البدو في صحراء النقب ،وبالرغم من اإلجراءات التعسفية التي تمارسها السلطات اإلسرائيلية على البدو، 19
إال أنها تقبلهم في صفوف قواتها المسلحة ،بينما تمنع بقية العرب من ذلك ،وهو ما يعكس أزمة والء لدى البدو. البدو في البرلمان
في الكويت واألردن تسلل البدو إلى البرلمان ،وتسببوا في الكثير من األزمات بسبب التمسك بمصالحهم كقبائل ،وعدم الموازنة بين هذه المصالح ومصالح البلد بشكل عام ،كما أن الكثير من االنقالبات العسكرية ،والدعوات اإليديولوجية التي ظهرت في البالد العربية في األربعين سنة األخيرة ،ال يمكن تفسيرها بمعزل عن الصراع بين الحضر والبدو ،أو بين البادية والمدينة ،وخاصة في ليبيا ،موريتانيا ،واليمن ،وكان الباحث العراقي علي الوردي أول من أشار لهذه الظاهرة ،وهو ما يجعلنا نتفهم هذا النكوص العجيب الذي يشهده العراق ،حيث تحول من أكثر الدول الواعدة بعد االستقالل ،إلى مجرد رجل مريض. أما في اليمن فيخشى من انهيار الدولة المركزية وانقسامه إلى عدة كيانات قبلية ،على غرار ما حدث في الصومال وأفغانستان، وهو ما قد يحدث أيضا في السودان .وعلى خالف بقية البدو في العالم ،مثل شعب البوشمان ،في جنوب إفريقيا وناميبيا ،وقبائل االسكيمو ،وسكان أستراليا األصليين الذين لم يعودوا قادرين على الوقوف في وجه الدولة المركزية ،تستطيع القبائل البدوية في المنطقة العربية التسبب في مشاكل حقيقية للدولة والمجتمع، 20
فإذا أهملت في محيطها الجغرافي تتحول مع الوقت إلى خطر داهم كما حدث في دارفور ،أما إذا وصلت إلى السلطة من خالل االنقالبات العسكرية فيمكنها أن تعكس مسار المجتمع بالكامل، وتتسبب في تقويض المدن التاريخية ،لتبني على حسابها مدنها الخاصة ،وفقا للتفسير الخلدوني لهذه الظاهرة. التغيير طال الق�شور فقط
عالم االجتماع الليبي د .مصطفى التير ،يرى في حديث إلذاعتنا أن التغير الذي حدث في البلدان العربية ،هو تغير طال السطح فقط ،وهو ما يطلق عليه بالتغير االجتماعي السريع، أما الجوهر فلم يطاله التغيير ،ويضيف الدكتور التير قائال« :كثير من المجتمعات العربية ،وخصوصا غير المستقرة منها ،أو غير الزراعية ،تتميز بقوة القبيلة ،والبداوة فيها قوية أيضا ،كما أن النفط ظهر في المناطق البدوية الفقيرة باستثناء العراق ،ومكنهم النفط من القيام بعملية تحديث ،ولكن التحديث طال المحيط فقط ،المباني ،المدارس ،المستشفيات ،والطرق ،وما يتبعها من استخدام التقنية الحديثة ،لكن العقلية لم تتغير كثيرا ،طبعا من استقر منهم في المدن لسنوات طويلة ،يبدو أنهم تغيروا مقارنة بمن لم يستقروا ،وإن حملوا معهم الكثير من الخصائص البدوية، أما البلدان التي لم يظهر فيها النفط فحافظ فيها البدو على انتمائهم القبلي ،واستمرت العداوات القديمة بين القبائل ،واالنتماء يكون 21
للقبيلة وليس للدولة ،وإن كانت مسألة االنتماء يعاني منها كل العرب حتى المستقرين في المدن ،ففي أغلب األحوال ال يزال انتمائهم القبلي أقوى من انتمائهم للدولة ،ألن فكرة المواطنة نفسها لم تتبلور في الكثير من البالد العربية». الوالء للنظام القائم
يشير الدكتور التير في هذا الخصوص إلى الباحث العراقي الدكتور علي الوردي ،باعتباره أول من كتب عن هذه الظاهرة، مؤكدا أنه في حالة وجود نظام صارم يحكم المجتمع ،يؤجل ظهور الحقائق على السطح ،وعندما يزول هذا النظام تنفجر الحقائق المخفية دفعة واحدة ،وهو ما حدث للعراق ،فعودة القبلية بقوة بعد نهاية نظام صدام حسين ،يؤكد أن التغيير طال القشور فقط ،ويضيف التير قائال« :كما أن األنظمة العربية لم تطور فكرة المواطنة ،فظل الوالء لألسرة وللعشيرة وللقبيلة ،بينما في الدولة الحديثة يفترض أن الوالء للوطن ،ولهذا ظل الوطن لدينا مرتبطا بسلطة بعينها ،ففي الدولة العربية الحديثة الوالء للنظام القائم، وعندما يتغير النظام يتغير الوالء ،ولكن المفروض هناك شيء ثابت في المجتمع ،فالعراق مثال هو العراق ،ومصر هي مصر ،وهكذا يكون هناك شيء أوسع ممن هو يحكم العراق في تلك الفترة». لماذا ال تزال نظرية ابن خلدون صالحة لتفسير جوانب كثيرة من الواقع العربي؟ هل هذا بسبب عبقرية أبن خلدون؟ أم بسبب ثبات 22
الواقع؟ يرى الدكتور التير أن عبقرية أبن خلدون وثبات الواقع يجيبان على السؤال مضيفا« :أبن خلدون هو أبو االمبريقية ،وهي البحث العلمي القائم على ما هو موجود ،وليس على ما هو في الذهن أو ما يتمناه اإلنسان ،وطبيعي أن جزء كبير من الواقع الذي درسه أبن خلدون لم يتغير ،فنحن بالفعل لم نتغير كثيرا عن عصر أبن خلدون ،ولكن هناك أفكارا كثيرة ألبن خلدون ال تزال حية من غير حتى موضوع البدو». عدم القدرة على الو�صول �إلى الحداثة
ال يرى الدكتور التير أن البيئة هي السبب في عدم اختفاء البداوة من المنطقة العربية ،وإنما عدم قدرة هذه المجتمعات من الوصول إلى الحداثة ،أي إلى مستوى تغيير الفكر مضيفا« :ففي البالد العربية ال تزال المؤسسات ضعيفة ،ليس هناك مأسسة للعالقات وللمؤسسات ،وما لم تتقوى المؤسسات فسيظل الوالء القبلي أقوى .في يوم من األيام كان العالم كله يتكون من قبائل ،ولكن التغير أدى إلى حلول نظام مكان نظام آخر ،ولكننا نحن لم نفعل ذلك ،نحن فقط استوردنا أنظمة أخذنا منها جزء وتركنا الباقي، بما في ذلك نظام الدولة الحديثة» .ينفي الدكتور التير أن تكون هناك طبقة وسطى حقيقة في البلدان العربية ،مثل الطبقة التي ساهمت في تغيير مجتمعاتها في الغرب ،كانت الطبقة الوسطى مجرد بدايات وسرعان ما انتكست ،بسبب االنقالبات العسكرية، 23
ومعظمها قادها أبناء الطبقات الفقيرة ،والشرائح البدوية أكثر من الشرائح الحضرية ،بالرغم من أن المنطقة العربية هي أول من شهد ظهور المدن في العالم ،ولكن وفقا للتير انتقلت المدينة إلى أماكن أخرى حيث قادت العالم ،وبقت هذه المنطقة مرهونة لصراعاتها المزمنة بين البدو والحضر.
24
�سيف الإ�سالم يتعلم �أ�صول الإ�ستبداد ال�شرقي في كازاخ�ستان فجأة وصل سيف اإلسالم القذافي إلى كازاخستان ،واجتمع برئيسها
مدى الحياة ،نور سلطان نزارباييف .وفقا لصحيفة قورينا التابعة لسيف
اإلسالم فإنه ذهب إلى هناك لتعزيز «العالقات التاريخية بين الشعبين»، وهو ما أثار دهشة المراقبين فال وجود لعالقات ال تاريخية وال حتى
طبيعية بين الشعبين ،منذ وقبل انفصال كازاخستان عن االتحاد السوفيتي. ماذا يفعل سيف اإلسالم في كازاخستان؟ خاصة وأنه غربي
الهوى ،ومنذ تصديه لإلصالح في بالده يتحاشى زيارة بلدان
يعشعش فيها االستبداد ،فما بالك بزيارة كازاخستان األكثر غموضا
من جماهيرية أبيه ،وهكذا انفتح المجال واسعا لالجتهاد ،فثمة من يقول إن القذافي أرسل أبنه ليدعو نزارباييف لتكون بالده عضوا في
الجامعة العربية ،طالما أنه يترأس قمة هذا الجامعة ،فما الفرق بين كازاخستان وهذا الجمع بين المحيط والخليج؟ 25
لعله ذهب إلى هناك ليتعلم من األمين العام للحزب الشيوعي الكازاخستاني السابق ،كيف يحكم هذه البالد بالرغم من أنه يذهب إلى االنتخابات ويفوز بنسبة ،90%وعدل الدستور عدة مرات، حتى أصبح الرئيس مدى الحياة ،وجمع بين يديه كل السلطات والصالحيات ،وهو ما لم يكن القذافي في حاجة له منذ أن سلم السلطة للشعب على الهواء مباشرة عام ،1977وأنصرف ليحرض من لم يستلم السلطة والثروة والسالح على استالمها في أقرب وقت، ولكن كسل الشعب الليبي جعله يواظب على التحريض دون جدوى. ثمة بعض التشابه بين أبطال القصة في ليبيا وكازاخستان ،فإذا كان القذافي قد كتب الكتاب األخضر ،والفرار إلى جهنم ،وتحيا دولة الحقراء ،والقرية القرية األرض األرض وانتحار رائد الفضاء ،وهي الكتب التي أنفقت عليها ليبيا من الميزانية العامة أكثر مما أنفقت البشرية على طباعة الكتب المقدسة ،فإن نزارباييف ال تنقصه الموهبة األدبية ،فكتب هو أيضا على غرار صدام حسين كتبا لم يقرأها أحد، ولكن الشركات النفطية الغربية ،التي سأل لعابها لكميات النفط والغاز تحت تاسع أكبر دولة مساحة في العالم ،سارعت إلى ترجمة كتب نزارباييف وتوزيعها مجانا ،وكلفت كبار األساتذة في الجامعات األمريكية ،وبعض أعضاء مجلس النواب والشيوخ بكتابة مقدمات لهذه الكتب ،وكانت تهديه النسخة األولى ليوقع معها على الفور عقدا جديدا ،وأثبت أنه أكثر حرصا على المال العام مقارنة بالقذافي ،الذي كلف البحرية الليبية بنقش الكتاب األخضر على الرخام بكل لغات 26
العالم ،ورمي الرخام في كل محيطات وبحار الكرة األرضية ،فلعل الحضارة البشرية الحالية تفنى ،وعندما تقوم حضارة جديدة لن تبدأ من الصفر ،وإنما من الحلول النهائية لكافة المشاكل كما لخصها الكتاب األخضر .على خالف نزارباييف كلف القذافي كتابا ليبيين وعرب بكتابة مقدمات لكتبه ،ولكنها تنشر في آخر الكتاب ،مما جعل البعض يتندر على من تنال مقدمته إعجاب القذافي قائلين له لقد استمتعنا بقراءة مؤخرتك األخيرة.
أما التشابه الثاني فهو بين سيف اإلسالم ،وأكبر بنات نزارباييف دراجينا ،فإذا كان سيف اإلسالم يقود المعارضة الداخلية ضد نظام أبيه ،فقد فعلت دراجينا نفس الشيء في انتخابات عام ،2004عندما أسست حزبا وخاضت االنتخابات ضد والدها ،بشعار يقول «ال يوجد بديل للرئيس الحالي» ،وانتزعت من حزب والدها % 40من مقاعد البرلمان ،ومثل سيف اإلسالم الذي يدير شركة الغد اإلعالمية، تفرغت دراجينا لسنوات عديدة إلدارة وكالة األنباء الوحيدة في البالد، ولكن على خالف القذافي الذي رزق بسبعة أوالد وابنة واحدة ،رزق نزارباييف بثالث بنات ،مما يعني أن خليفته األرجح ستكون دراجينا، التي طلقت من زوجها بعد إبعاده سفيرا في استراليا ،ثم طلب من االنتربول القبض عليه بعدة تهم ،عندما اكتشف نزارباييف أن صهره لديه طموحات أكبر من طموحات زوج الملكة اليزابيت ،وأيضا زوج مارغريت تاتشر. ثمة من يرى أن زيارة سيف اإلسالم ال عالقة لها بكل هذا 27
االستبداد الشرقي ،وإنما لها عالقة بثأر عائلة القذافي من سويسرا، فإذا أقنع سيف اإلسالم عمه نزار باييف بسحب ملياراته من سويسرا، والتي ال يعرف على وجه اليقين كم تبلغ ،باستثناء من نشرته مجلة فوربس عن أموال ابنته دينارا ،والتي تقول المجلة أنها تبلغ 2.1 مليار دوالر ،وهو نفس المبلغ الذي يملكه زوجها ،ويبقى السؤال كم سينفق القذافي ليقنع هذا الطاغية وعائلته بمقاطعة سويسرا؟ يبدو أن معركة سويسرا ستعيد ليبيا كما كانت إلى صندوق كبير من الرمال.
28
م�صراته التائهة بين الحرب والتجارة كلما سقطت الدولة في طرابلس تستقل مصراته .حدث ذلك عدة مرات في تاريخ ليبيا ،ففي عام 1795تمكن علي الجزائرلي المعروف بعلي برغل من االستيالء على طرابلس بفرمان عثماني مزور ،ولجأت األسرة القرمانلية إلى تونس ،وعلى الفور استقلت مصراته التي اعترفت بعلي برغل ،ولمدة ثالث سنوات كان أغا مصراته يرسل التموين لبرغل عن طريق البحر ،قبل أن يستعيد القرمانليون طرابلس بمساعدة باي تونس.
في عام 1832ثار غرب ليبيا على يوسف باشا ،وحاصر الثوار مدينة طرابلس ،وطالب الثوار يوسف باشا بالتنازل لحفيده محمد الذي كان على رأس الثوار ،لكنه تنازل ألبنه علي ،وعلى الفور استقلت مصراته التي تولت تموين الباشا الجديد عن طريق البحر، كما أرسلت مقاتليها لفك الحصار عن المدينة ،لكنهم فشلوا في الوصول إلى المدينة ،حيث تصد لهم أهل تاجوراء والمنشية الذين حفروا الخنادق وكبدوهم خسائر كبيرة. 29
في عام 1835بعد أن استولى األتراك مرة أخرى على طرابلس، رفضت مصراته االعتراف بالوضع الجديد ،وفشل الوالي التركي الجديد في اقتحامها ،وبعد مفاوضات مضنية دخلها سلميا ،وبعد معركة القرضابية يوم 29أبريل 1915غنم رمضان السويحلي خمس آالف بندقية وكمية كبيرة من الذخيرة والعتاد ،وفيما بعد فرض السويحلي سطوته على المنطقة الوسطى والجنوبية ،وجمع الضرائب من سرت وفزان ،وبلغ به الغرور أن حاول اغتيال عبد النبي بلخير في بني وليد يوم عيد األضحى التي يعرفها جيدا حيث لجأ إليها عامي 1909و 1910بعد أن قتل منافسه على حكم مصراته بالقاسم المنتصر .كل هذا يؤكد عمق العالقة بين مصراته وطرابلس القديمة ،فالقرار الذي تتخذه طرابلس تدعمه مصراته دون تحفظ ،وبعد سقوط نظام القذافي استقلت مصراته مرة أخرى ،وتحولت إلى إقليم كونفدرالي تدخله بتأشيرة وتعبره بتأشيرة. ثمة وجهان لمصراته إحدهما التفوق التجاري زمن السلم ،والثاني التفوق العسكري زمن الحرب ،ولكن التفوق الثاني عكس األول يتم بأكبر قدر من الغطرسة والنرجسية ،ويبدو أن ذلك نشأ بسبب العزلة والتركيبة العرقية لمصراته ،فقبل غزو الطليان إلى ليبيا كان ال يمكن العثور على مدينة مسورة من مصراته إلى بنغازي ،ومن مصراته إلى طرابلس ،فهي على الدوام مكتفية بذاتها بسبب وجود ميناء كبير، كما أن مساحتها تقارب نصف مساحة لبنان. 30
أعطت هذه المدينة الكثير لليبيا وأخذت أيضا الكثير ،ومنها جاء كبار المفكرين والكتاب والساسة والقادة العسكريون ،وكبار رجال األعمال والتجارة ،ولكنها أيضا أنجبت كبار المتغطرسين والطامعين في كل شيء ،وشتان بين أبناءها األوفياء أمثال حسن األمين وجمعة عتيقة ،وسالم جحا وأبناءها غير المتبصرين أمثال عبد الرحمن السويحلي وصالح بادي ،فاألخيرين يصران على عزلة مصراته وكأنهما ال يزاالن متأثرين باالنكشاري الذي جاء من تركيا ليسكن مصراته ،ويحاول فرض سطوته على الجميع.
أحسن مجلس مصراته المحلي صنعا بسحب مليشياته من طرابلس ،ولكن تجميد عضوية نواب مصراته ووزراءها يشي بأن مصراته مقبلة على عزلة قد تؤخر إعادة بناء الدولة ،وشتان بين هذه األيام الكالحة ،وأيام االستقالل التي قاد فيها محمود المنتصر المصراتي أول حكومة في العهد الملكي ،لدرجة أن البيان الصادر عن مجلس مصراته تناسى حتى تقديم العزاء لعائالت الشهداء، واالعتذار نيابة عن أبناءها الذين اطلقوا النار على المسالمين دون رحمة. توقعاتي بأن حراكا كبيرا سيحدث في مصراته لتصحيح مسار الثورة فيها بعد عودة مقاتليها إليها ،ويبدو أن الذين اختطفوا طرابلس اختطفوا أيضا مصراته ،وكمم سفهاؤها حكماءها بقوة السالح ،والدليل هو ردة فعل مجلسها المحلي والعسكري ومجلس الشورى ،والثابت تاريخيا أن مصراته عندما يحكمها 31
آل المنتصر تكشف عن وجهها المشرق ،فتمد ذراعيها إلى جيرانها وتنتعش المدينة وتزدهر ،وعندما يحكمها آل السويحلي تكشف عن وجهها المظلم ،فتخبو المدينة تحت شيفونية مقيتة وانكشارية متغطرسة.
32
ثورة فبراير لي�ست ال�سيناريو الأمثل للتغيير نحتفل اليوم بالذكرى الثالثة لثورة فبراير وسط إخفاق شديد في تحقيق أهداف الثورة ،فبعد إعالن التحرير اتضح أن اللحمة الوطنية والروح الوهاجة التي ميزت الليبيين خالل الثورة سرعان ما اختفت، وحل محلها تنافس شديد على الغنائم والمناصب واالستحواذ على السالح ،كما تفجرت الخالفات القبلية القديمة لتحسم هذه المرة بسطوة السالح ،وفي شرق ليبيا تناسلت الجماعة اإلسالمية المتشددة، لتنشر رعب االغتياالت والتفجيرات في درنة وبنغازي ،بينما استباح المهربون وتنظيمات القاعدة والهجرة غير الشرعية جنوب البالد ،وفي غرب البالد استفحلت الخالفات القبلية والمناطقية ،كما انتشرت عصابات الخطف وقطاع الطرق ،وفتحت سجون غير شرعية ارتكب فيها فظاعات شديدة. ولم يسجل نجاح واحد خالل ثالث سنوات سوى نجاح انتخابات المؤتمر الوطني العام ،وتشكيل حكومة مؤقتة ،وها هي الجماهير الغاضبة تخرج كل جمعة مطالبة برحيل المؤتمر الذي انتخبته ،ويتوقع 33
أن تواجه الحكومة أزمة في المرتبات والميزانة ،بعد أن أغلقت مليشيا لها مطامح انفصالية ثالثة موانيء نفطية في شرق البالد ،في الوقت الذي ضعف فيه النسيج االجتماعي ،مع وجود عشرات آالف النازحين في الداخل ،ووجود مئات آالف المهجرين في الخارج، ومعظمهم يعاني ظروفا سيئة بشكل استثنائي.
هل الذين حرضون على الثورة وخرجوا إلى الشوارع من أجل نصرتها ،ورابطوا في الجبهات من أجل إسقاط الطاغية راضون على هذه النتائج المآساوية؟ أحد المسئولين في المكتب التنفيذي السابق قال لي بأنه كان يفضل الدخول في صفقة مع القذافي ،وأن هذا السيناريو أفضل من سيناريو فبراير ،خاصة وأن الواليات المتحدة عرضت على القذافي في شهر يونيو مقترحا لتأمينه ونقله خارج البالد، وتشكيل حكومة من أعوان القذافي ومعارضيه ،واقترح االمريكان أحد أبناء القذافي في حكومة الوحدة الوطنية ،إال أن القذافي تأخر في الموافقة على المقترح حتى شهر أغسطس ،وعندها قال له األمريكان ال فائدة اآلن فالثوار أصبحوا على أبواب العاصمة. لست متأكدا من أن االقتراح االمريكي كان سينجح ،خاصة وأن الكراهية وعدم الثقة بين فريقي الحكومة كان سيعجل بسقوطها، وسيعود السالح ليحسم الصراع بين الطرفين ،وثمة من يرى أن سيناريو التوريث كان األفضل للبالد ،فالوريث سيف القذافي يمكن التخلص منه خالل عشر سنوات عن طريق االنتخابات، وسينفق معظم وقته في الصراع مع اشقاءه ،وهو ما عبر عنه شخصيا 34
في أكثر من مناسبة ،ولكن كيان الدولة سيبقى سليما مقارنة بما هو عليه اآلن.
قبل بداية الثورة بأسبوع وفي غرفة بالبالتوك يشرف عليها حسن األمين ،رفضت عسكرة الثورة وحذرت من عواقبها ،ودعوت الشباب إلى الخروج في مظاهرات سلمية للمطالبة بمطالب يستطيع النظام تحقيقها فورا ،وهكذا تتحول المطالب إلى إعادة بناء دولة عادية تشبه تونس ومصر ،وعندما يصبح في البالد جيش محترف ،ومؤسسات مجتمع مدني ،ودستور يمكن المنادة بإسقاط النظام .طبعا الكثر مما كانوا في الغرفة رفضوا مقترحي ،وهناك من اتهمني بالعمل على تقويض الثورة وخيانتها ،إال أن األيام اثبتت صحة توقعاتي ،فليبيا بلد استثنائي ال يشبه جيرانه ،وال يملك من التراكم ما يكفي ليؤسس عليه، دائما يعود إلى نقطة الصفر ،مثل أي بدوي ال تاريخ له ،يكرر فقط ما فعله جده ووالده ليبقى حيا في تلك المفازة ،لذلك يعود الليبيون إلى عام 1951باعتباره نقطة الصفر ،بينما يعود المصريون والتوانسة إلى آخر دستور صاغوه. ثمة من يتحجج بالوقت وأن السيناريو الذي اقترحته يحتاج إلى عقد كامل لبناء الدولة العصرية الديمقراطية ،والتخلص من القذافي وأبناءه ،وهذا صحيح ،ولكن السؤال األهم هو كم نحتاج اآلن من وقت وفي ظل هذه الفوضى لبناء الدولة العصرية الديمقراطية؟
35
مالمح حرب �أهلية تلوح في الأفق أدت مجموعة من القرارات والتصرفات غير الحكيمة إلى زيادة احتمال قيام حرب أهلية في ليبيا ،ومن هذه القرارات قرار المؤتمر الوطني بإقالة رئيس الحكومة علي زيدان ،وقرار رئيس المؤتمر « »42بتحرير الموانيء النفطية ،وقبل ذلك شحن الناقلة الغامضة مورنينغ غلوي بالنفط بطريقة غير شرعية ،مما أدى إلى تحشيد قوات مصراته في سرت ،وتحشيد قوات برقة في الوادي األحمر ،وقد تنجح مجالس الحكماء المجتمعة في بنغازي من تجنيب البالد من حرب أهلية طاحنة ،خاصة بعد احتجاز البحرية األمريكية لناقلة النفط قرب قبرص ،مما سيؤدي إلى إضعاف موقف الجضران ،ويكشف الكثير من األمور الغامضة التي ساعدت الناقلة على دخول ميناء السدرة والخروج منه.
وإذا قامت الحرب األهلية فلن تكون حربا جهوية بين الشرق والغرب ،أو الغرب والجنوب ،وهي سمة الحروب األهلية في تاريخ ليبيا ،فعندما تتمرد أي منطقة وتخرج عن سيطرة باشا طرابلس ،يرسل 37
حملة تتولى السيطرة على المنطقة المتمردة ومعاقبة قادتها وشيوخ قبائلها ،ولكن هذه المرة ستتخذ الحرب بعدا أيديولوجيا ممزوجا ببعد قبلي.
موقف الزنتان الرافض لتحرير الموانيء النفطية بالقوة العسكرية منع تقسيم ليبيا بين غرب وشرق ،ويساند هذا الموقف معظم قبائل الغرب باستثناء المناطق المحسوبة على اإلسالميين ،وفي مقدمتها مصراته ومناطق شرق طرابلس ،وبعض المليشيات في الزاوية وزوارة.
سيتجنب أمازيغ الجبل هذه الحرب إال إذا اقتربت من مناطقهم، بينما ستشارك فيها زوارة في صف اإلسالميين ،خاصة وأن رئيس المؤتمر المتحالف مع اإلسالميين ينحدر من زوارة ،وستجد قبائل النوايل والصيعان التي خاضت اشتباكات مع زوارة مجبرة على الوقوف مع التيار المدني ضد اإلسالميين ،كما ستقف قبائل ورفلة، ترهونة ،ورشفانة مع الزنتان مثلها مثل كل قبائل الجبل ماعدا قبيلة المشاشية المعادية للزنتان ،إال إذا تدخلت بقية القبائل وضغطت من أجل المصالحة بينها وبين الزنتان.
ستقف القبائل في زليتن والخمس والساحل على الحياد ،خوفا على مصالحها وهي المحصورة بين مصراته وشرق طرابلس ،وغالبا ستكون طرابلس هي ميدان المعركة الكبرى ،حيث ستقسم مثل بيروت بين طرابلس الغربية وطرابلس الشرقية ،وسيكون خط التماس قريبا من شارع بن عاشور وزاوية الدهماني وعين زارة ،ولهذا السبب لم تسلم الزنتان مطار طرابلس ألنه سيكون الرئة التي تتنفس من 38
خاللها طرابلس الغربية ،وستقف سوق الجمعة ومعيتيقة وفشلوم وتاجوراء مع اإلسالميين.
إذا تحركت قوات درع المنطقة الوسطى المحسوبة على مصراته شرقا ستكون المعركة بينها وبين قوات برقة في الوادي األحمر، وقد تصل المعارك إلى سرت واجدابيا ،وستكون مدينة بنغازي مسرحا لمعارك بين قوات الصاعقة وقوات حفتر المتمركزة في المرج وكتيبة حسين الجوفي المتمركزة في شحات ،ضد أنصار الشريعة، وراف الله السحاتي ،وكتيبة 17فبراير ،وستقف قبائل برقة جميعها ضد اإلسالميين من المغاربة غربا إلى العبيدات شرقا ،التي سيقع عليها العبء في تحرير درنة من أنصار الشريعة وتنظيم القاعدة، وهكذا ستضرر أهم المدن الليبية وهي طرابلس وبنغازي ودرنة من هذه الحرب أكثر من غيرها.
ستتردد قبيلة الزوية في إعالن موقفها فهي منافسة لقبيلة المغاربة التي ينتمي إليها الجضران ،ومعادية لقبيلة التبو التي تحالفت مع الجضران ،ولكنها وبسبب خالفات تاريخية ستكون أقرب إلى اإلسالميين ،وهو نفس الموقف الذي ستتخذه قبيلة أوالد سليمان المعادية للتبو ،أما بقية قبائل فزان والجفرة فعلى األرجح ستقف ضد اإلسالميين.
ستجتذب هذه الحرب جميع القوى اإلقليمية وحتى بعض القوى الدولية ،وستكون مصر وتونس والجزائر مساندة للتيار المدني، وقد تعود طائرات الناتو إلى سماء ليبيا بقرار من مجلس األمن 39
أو استنادا على القرار السابق بالتدخل في ليبيا لحماية المدنيين، وخاصة الواليات المتحدة األمريكية ،التي أرسلت رسالة واضحة إلى بريطانيا بأن ليبيا من حصتها وتقع في مجال نفوذها ،بعد سيطرة البحرية األمريكية على الناقلة «مورنينغ غلوري».
40
خطط الإ�سالميين لل�سيطرة على ليبيا لم يفصح رئيس الوزراء المقال علي زيدان في لقاءه مع قناة «ليبيا لكل األحرار» عن كل األسرار التي في جعبته ،باستثناء حديثه عن مساعي اإلسالميين الممثلين في «اإلخوان المسلمين» ،و«كتلة الوفاء لدماء الشهداء» التي يقودها عبد الوهاب قايد الذي كان في أفغانستان ،وشقيق أبو يحيى الليبي مساعد أسامة بن الدن ،و»كتلة الجبهة الوطنية إلنقاذ ليبيا» ،باإلضافة إلى بعض المستقلين ،للسيطرة على الحكم في ليبيا .كما كشف زيدان ألول مرة الظروف التي يعمل بها رئيس المؤتمر الوطني العام نوري أبو سهمين ،والذي وصفه زيدان بأنه أسير بيد اإلسالميين.
ومن خالل حديث زيدان يمكننا تصور الخطة التي وضعها اإلسالميون للسيطرة على ليبيا ،منذ أن نجحوا في تمرير قانون العزل السياسي ،وإبعاد رئيس المؤتمر السابق الدكتور محمد المقريف. وقد وافق أعضاء حزب المقريف أنفسهم على قانون العزل السياسي الذي كان من شأنه أن يطيحه ،وفي مقدمة هؤالء كان رئيس الحزب 41
محمد عبد الله ،وصهره إبراهيم صهد ،ومحمد التومي رئيس لجنة صياغة قانون العزل السياسي ،بعدما اكتشفوا أن المقريف ال يمكن السيطرة عليه .وبعد عزل المقريف انت ِ ُخب نوري أبو سهمين رئيسا للمؤتمر ،وهو الذي ال يمتلك أي خبرة سياسية ،وال قبيلة كبيرة لتحميه فأصبح أسيرا لإلسالميين ،خاصة بعد أن قبض عليه في فشلوم في قضية لم يحقق فيها حتى اآلن.
بعد سيطرتهم على المؤتمر في ظل ذوبان كتلة تحالف القوى الوطنية ،التي اشتروا بعض أعضائها ومارسوا اإلرهاب لدفع البعض اآلخر إلى االستقالة ،بدأ اإلسالميون التخطيط للتخلص من رئيس الحكومة علي زيدان ،ولكنهم فشلوا في ذلك عدة مرات .وهنا لجأوا إلى ترهيب زيدان بخطفه عن طريق مليشيات متحالفة معهم مثل «غرفة عمليات ثوار ليبيا» ،وأخيرا تمكنوا من إقالته وكان يمكنهم التنكيل به بعدها لوال مغادرته البالد على وجه السرعة.
ماذا بعد؟ ماذا سيفعل اإلسالميون بعد نجاحهم في إقالة زيدان؟ سيبدأون في اليسطرة على مفاصل الدولة ،وعلى الوزارات السيادية، وهم يسيطرون بالفعل على وزارة الدفاع ،بسبب وجود وكيلين لها ينتميان إلى «الجماعة اإلسالمية المقاتلة» ،وقد يعينوا خالد الشريف وزيرا للدفاع .كما سيسعون للسيطرة على وزارة الداخلية ،ووزارة الخارجية بعد تعيين رئيس جديد للوزراء بدال من عبد الله الثني. وغالبا سيكون رئيس الحكومة الجديد محسوبا عليهم ،وقد يكون عمر الحاسي أو محمد بوكر .كما سيسعون للسيطرة على رئاسة 42
األركان وتعليق فشل احتجاز ناقلة النفط الكورية في رقبة جاد الله العبيدي.
سيحاول اإلسالميون التمديد للمؤتمر الوطني ،في ظل حكومة يسيطرون عليها ،وعندها سيطلبون من وكالئهم في بنغازي ودرنة التخفيف من عمليات االغتيال والتفجير والخطف .وهو التكتيك نفسه الذي لجأت إليه حركات إسالمية في دول أخرى ،كانت تحتكر ممارسة العنف ،وعندما تصل إلى السلطة تمتنع عن ممارسة العنف، وتفرض األمن في البالد.
وحتى يتمكنوا من السيطرة بالكامل على السلطة سيفرضون خطابهم المتشدد من على منابر المساجد ،ويستبعدون كل الخطباء الذين ال يتجاوبون معهم ،وذلك باالستعانة بدار االفتاء والمفتي شخصيا .وستكون معركة االنتخابات الرئاسية هي المحك الحقيقي لشعبيتهم في البالد ،إذا أجريت االنتخابات بطريقة نزيهة وآمنة. وإذا خسروا انتخابات الرئاسة فسيضعون كل العراقيل أمام الرئيس القادم وحكومته ،وسيتحولون لممارسة أقصى أنواع العنف إذا عاقبهم الناخبون وأقصوهم من كل المواقع التي يسيطرون عليها. عندها يمكن أن تتحول ليبيا إلى ما يشبه أفغانستان أو الصومال، وستتحول طرابلس مثل بنغازي ودرنة ،وستلعب القوات العسكرية غير الخاضعة لهم والموجودة في الغرب والشرق والجنوب الدور الحاسم في إنقاذ البالد منهم.
إذا كان التخلص من اإلخوان المسلمين في مصر تم بتدخل 43
القوات المسلحة ،وتحجيمهم في تونس عن طريق الضغط الشديد عليهم ،فإن التخلص منهم في ليبيا سيكون من خالل حرب أهلية، وبمساعدة عربية ودولية.
44
الع�صيان المدني على الطريقة الليبية فجاءة وصل مصطلح العصيان المدني إلى ديارنا ،ووجد تربة خصبة لينمو بطريقة مشوهة ،فتحول من عمل سلمي عقالني واع، إلى عمل عنيف يتنافي مع العقالنية والوعي ،بالرغم من أن العصيان المدني كما طبق في عدة بلدان نجح في آخر األمر في تغيير الواقع، فالعصيان المدني الذي قاده المهاتما غاندي في الهند في أواخر أربعينيات القرن الماضي نجح في حصول الهند على استقاللها، عندما قرر غاندي وأتباعه مقاطعة المصانع البريطانية في الهند، وخاصة مصانع النسيج وجلس الهنود يحيكون مالبسهم بمغازلهم، ووصل العصيان المدني إلى ذروته عندما اصطحب غاندي عنزا يحلبها ليقاطع حتى حليب االستعمار. وفي أمريكا دفع القس مارتن لوثر كينغ حياته من أجل إنجاح العصيان المدني ،احتجاجا على القوانيين العنصرية ،التي ال تساوي بين السود والبيض ،وهو ينشد جملته الشهيرة «لدي حلم» ،كما نجح العصيان المدني في جنوب افريقيا في إلغاء نظام الميز العنصري، 45
والذي قاده مانديال من أعماق سجنه ،وحتى عندما يأخذ العصيان المدني طابعا عنيفا ،فهو ال يتجاوز الهدف الذي نظم من أجله ،ففي عام 2004هاجم محتجون في فرنسا حقوال للذرة المعدلة وراثيا واقتلعوها ،ولكنهم لم يتجاوزا ذلك لتعطيل مظاهر الحياة العامة.
بدأ العصيان المدني في طرابلس عندما نزل مسلحون إلى شوارع األحياء الغربية للمدينة ،وهم يطلقون النار في الهواء ،ويضعون اإلطارات المشتعلة في الطرق ،ويطلبون من طلبة المدارس مغادرتها، إال أن العاصمة أكبر من أن يرهبها مجموعة مسلحة تدعي تنظيمها للعصيان المدني ،والسالح والعنف يتنافى مع مفهوم العصيان المدني ،وفي بنغازي انقسم الناس بشدة ،فمنهم من حاول فرض العصيان المدني بالقوة ،ومنهم من قاومه بالقوة ،حتى أصبحت المدينة على شفا حرب أهلية. أما في الزاوية فقد تجاوز العصيان المدني كل المقاييس ،عندما أغلق المسلحون الطريق الساحلي ،كما أغلقوا مصفاة النفط ،فتكدست السيارات في طرابلس عند محطات الوقود ،كما أرسل المسلحون رسائل تهديد إلى مدراء المدارس ،ومدراء المصانع والمؤسسات األخرى بضررورة قفل مؤسساتهم ،وإال ستكون حياتهم في خطر.
لماذا كلما استوردنا مفهوما نشوهه حتى ينكره المصدرون؟ من حق الجميع القيام بالعصيان المدني ،ولكن لهذا المفهوم جوانب أساسية منها أن يكون عمال سلميا بالكامل ،وأن تتم مقاطعة كل مؤسسات الدولة وموظفيها ،والتوقف عن دفع الضرائب ،وفواتير 46
الكهرباء والماء ،ومحاولة عرقلة كل مؤسسات الدولة ،ما عدا المؤسسات الدولة ما عدا المؤسسات الحيوية ،مثل المستشفيات، ومصادر الطاقة والماء ،والموانيء والمطافيء ،ولكن في ليبيا تم تعطيل هذه المؤسسات بالرغم من غياب الدولة. الذين يحتجون على استمرار المؤتمر الوطني العام ،كان عليهم محاصرة مقر المؤتمر ،ومحاصرة كل األماكن البديلة له مثل فندق المهاري ،ومنع أعضاء المؤتمر من الوصول إلى المقر ،وكل ذلك يتم بشكل سلمي ،ومنع وسائل اإلعالم من الوصول إلى المؤتمر، وعليهم أن يصبروا أياما حتى يتحقق مطلبهم.
استمر المؤتمر في عقد جلساته بالرغم من العصيان المدني ،حتى أن بعض أعضاءه شكلوا كتلة جديدة ،بينما توقفت الرحالت الداخلية في مطار بنغازي ،وانتظر الركاب في المطارات التركية عدة أيام في انتظار وصول طائرتهم من بنغازي ،ولم يجد حتى الذين اقتنعوا بالعصيان المدني وقودا كافيا إلعالن العصيان في طرابلس ،لدرجة أنني أعتقدت أن تمرد السجناء في سجن الرويمي هو جزء من حركة العصيان المدني ،بالرغم من سقوط قتيلين ،وإصابة آخرين ،ولكن عدد الضحايا يظل أقل من عددهم خارج السجن. ألسنا في عصيان مدني منذ بداية الثورة؟ فالعصيان المدني يهدف إلى مقاطعة الدولة بالكامل ،وحتى اآلن ليست هناك دولة في بالدنا ،وتقريبا جميع الناس تستلم مرتباتها وهم يقاطعون العمل، باستثناء أصحاب المشاريع الخاصة ،وتقريبا الجميع ال يدفع فواتير 47
الكهرباء والماء ،وال أحد يدفع مخالفات شرطة المرور ،حتى أعضاء المؤتمر الوطني أعلنوا العصيان المدني ،فأستقال الكثر منهم ،وتغيب اآلخرون ،حتى صوتوا على تكليف عبد الله الثني بتولي رئاسة الحكومة ب 45صوتا ،أي أن نصف أعضاء المؤتمر اختفوا أو لعلهم انخرطوا في صفوف العصيان المدني.
48
العودة �إلى المعار�ضة عاد علي زيدان إلى منفاه ،وقبله عاد الدكتور محمد المقريف، وفي الوقت الذي صمت فيه األخير ،أعلن زيدان معارضته المؤتمر الوطني العام ،خاصة لكتلة الوفاء لدماء الشهداء ،وكتلة العدالة والبناء، وكان زيدان يحرص على الصمت عندما كان في السلطة ،ولكنه اليوم كمعارض أفشى معظم أسرار الكتلتين ،وأساليبهما في السيطرة على المؤتمر وعلى الميليشيات التي تتبعهما ،وما فعله بعض أعضاء اإلخوان المسلمين ،وعلى رأسهم وزير الشباب والرياضة السابق عبدالسالم غويلة ،عندما هربوا إرهاب ًيا ليب ًيا من جنوب أفريقيا على متن طائرة البعثة الرياضية الليبية ،بعد فوز المنتخب الليبي بكأس أفريقيا للمحليين. كل هذا يستدعي المقارنة بين «الفاتح من سبتمبر» ،وثورة 17
فبراير ،فانقالب القذافي العام 1969استقبلته الغالبية العظمى في ليبيا بالترحاب ،ولم يعارضه إال قلة قليلة أخذت تتعاظم مع مرور الوقت، واستغرق القذافي سنوات طويلة حتى تمكن من االنفراد بالسلطة 49
كاملة ،وهو ما تحاوله كتلتا الوفاء لدماء الشهداء ،والعدالة والبناء، في البداية تخلص القذافي من المنفذين الحقيقيين لالنقالب ،وفي مقدمتهم المقدم آدم الحواز ،والمقدم موسى أحمد ،ثم تخلص من «أعضاء مجلس قيادة الثورة» المشاكسين ،بعد خطاب زوراة العام ،1973ليفرض قمعه وبطشه على الحركة الطالبية العام ،1976ثم يلغي التجارة العام ،1978وليؤسس اللجان الثورية ،وقبل ذلك بعام أعلن «النظام الجماهيري» ،قبل أن يصل إلى مرحلة البارانويا العليا في نهاية حكمه ،وينفصل كل ًيا عن الواقع ،تاركًا أبناءه وأعوانه يديرون «دولته الحقيرة». ما جرى مع القذافي يتكرر مرة أخرى ،ولكن هذه المرة بسيناريو مختلف؛ حيث تسعى كتلة الوفاء لدماء الشهداء ،المحسوبة على الجماعة اإلسالمية المقاتلة ،وكتلة العدالة والبناء المحسوبة على اإلخوان المسلمين ،باإلضافة إلى حلفائهما من تنظيم القاعدة، وأنصار الشريعة إلى فرض رؤيتهم بقوة السالح وباإلرهاب ،حتى يتمكنوا في نهاية المطاف من االنفراد بالسلطة.
ستقبل الجماعة اإلسالمية المقاتلة باآللية الديمقراطية على الرغم من عدم قناعتها بها ،وقد انقسمت الجماعة ظاهر ًيا إلى قيادات تقبل باالنتخابات والعمل الديمقراطي السلمي ،وقواعد ترفض ذلك فورا ،خاصة القواعد في شرق ليبيا ،ولكن وتنادي بتطبيق الشريعة ً القيادات يظهرون عكس ما يبطنون ،هم في الحقيقة قبلوا باآللية الديمقراطية ،ما داموا ممثلين في المؤتمر والحكومة ،وسيتحولون إلى 50
اإلرهاب بمجرد خروجهم من المؤتمر والحكومة ،وهذا ما ستؤكده االنتخابات القادمة.
ليس من صالح هؤالء بناء الجيش والشرطة ،ألن غياب هاتين المؤسستين يقربهم من أهدافهم ،وتحاول الكتلتان من خالل إصدار القرار رقم « »33القاضي بعودة الميليشيات إلى طرابلس ،السيطرة الكاملة على أي حراك في العاصمة ،فهم يعلمون أن من يحكم العاصمة يحكم البالد طوال تاريخها ،وستكون معركة السيطرة على العاصمة قاسية ،خاصة إذا خرج سكان المدينة للتظاهر ضد عودة الميليشيات، والمطالبة برحيل المؤتمر المنتهية واليته ،وال يبدو أن المعارضة داخل المؤتمر قادرة على مواجهة الكتلتين ،فمعظم المعارضين داخل المؤتمر ال يتمتعون بحماية كافية ،وقد يتعرضون للخطف واالنتهاك.
معارضو القذافي سيجدون أنفسهم مرة أخرى يعارضون السلطة الجديدة ،المختفية تحت جالبيب ولحى أعضاء الكتلتين ،وهم يدركون أنهم استغرقوا وقتًا أطول الكتشاف القذافي ،من اكتشافهم الديكتاتور الجديد ،معولين على التناحر الذي سيحدث بين اإلسالميين عندما ينفردون بالسلطة ،ألنهم تعلموا أن ظهور طاغية جديد يستدعي إراقة دماء كل من أوصله إلى قمة السلطة.
هدرا ،وأن سيكتشف الليبيون عما قريب أن كل تضحياتهم ذهبت ً دماء الشهداء ذهبت هباء ،وأنهم لم يتعلموا شي ًئا من عهد القذافي، حاضرا بسطوة في تاريخهم ،كل ما في األمر أنهم فالطاغية ال يزال ً استبدلوا ،طاغية ال يزال يتشكل في الظالم بطاغية يعرفونه جيدً ا. 51
انقالب ع�سكري بم�ساعدة م�صراته ومباركة المفتي انقالب عسكري كامل قام به أحمد ما جرى يوم االثنين الماضي ٌ
ومهد لالنقالب بتسريبات يوم معيتيق على حكومة عبدالله الثنيّ ، األحد ،أكد فيها معيتيق َّ أن الثني وافق على تسليم السلطة له يوم
االثنين ،ثم خرج المفتي الشيخ الصادق الغرياني ليضفي مباركته على االنقالب ،ومن الواضح ّ أن معيتيق استبق قرار المحكمة الدستورية العليا المتو ّقع يوم الخميس ،بشأن دستورية انتخابه
رئيسا للوزراء. ً
لماذا وقع االنقالب اآلن بينما بنغازي تشتعل؟ الجواب هو
َّ أن اإلسالميين الذين سيطروا على مفاصل الدولة في طرابلس،
وعززوا سيطرتهم العسكرية في شرق البالد ،يخشون من الذهاب إلى االنتخابات تحت إشراف حكومة الثني ،وهم يعلمون أنّهم لن يحققوا أي نتائج في االنتخابات القادمة ،مثلما لم يح ّقق نتائج مرضية في انتخابات المجالس البلدية ،وانتخابات لجنة الستين. 53
ومن الواضح َّ أن حكومة معيتيق التي كان برنامجها اقتصاد ًيا بحتًا وتحول بعد االنقالب عندما قدّ م برنامجه أمام المؤتمر الوطني العام، ّ لمحاربة اإلرهاب ،لها جدول أعمال سري ،في مقدّ مته بيع القطاع العام لإلسالميين بثمن بخس ،وتزوير االنتخابات ،وتمكين 3400 إسالمي من مفاصل الدولة ،معظمهم سيتم تعيينهم في الوزارات واإلدارات العامة ،بحيث يصعب التخ ُّلص منهم فيما بعد ،وسيشكّلون ما ُيعرف بالدولة العميقة ،فإذا لم ينجحوا في تزوير االنتخابات سيجد أسيرا لهذه الدولة ،مثلما حدث رئيسا للحكومة نفسه ً من ينتخب ً لمحمد مرسي في مصر ،عندما لم يجد معه الجيش والشرطة والقضاء واإلعالم ،فتحول إلى رئيس فاشل سرعان ما غ ّير المصريون رأيهم فيه ،وخرجوا بالماليين يطالبون بإسقاطه. يخشى اإلسالم ُّيون فقدان السيطرة على ليبيا بعد انحسار مدهم في تونس ومصر ،لذلك سارعوا بالسيطرة على مفاصل الدولة في وعززوا قواتهم العسكرية في برقة على اختالف تنويعاته، طرابلسّ ، وخصوصا قاعدة عززوا وجودهم العسكري في شرق طرابلس، كما ّ ً معيتيقة الجوية وتاجوراء وسوق الجمعة وحي األكواخ ،وغرفة عمليات ثوار طرابلس ،باإلضافة إلى استدراج دروع مصراته من خالل النفخ في طموحات عبدالرحمن السويحلي ،وضرب الدفوف يتحول إلى عيساوي بمجرد سماع دوي أول لصالح بادي الذي ّ طلقة ،ومن المفارقات العجيبة أن تدعم قبيلة بدوية محاربة مثل الزنتان التيار المدني ،بينما تدعم مدينة مصراته العريقة مخططات 54
اإلسالميين ،وال شك فإن مصراته التي فقدت زعماءها التاريخيين ستتضرر من هذا الخيار المد ّمر ،بعد أن كانت بيضة القبان في تحقيق ّ التوازن في البالد.
معيتيق القادم من مصراته استعان بدرع الوسطى للسيطرة على مقر الحكومة ،وسينظر إليه معظم الليبيون بما في ذلك قسم كبير من مصراته بأنّه غير شرعي ،وسنرى يوم الجمعة القادم المظاهرات الرافضة لالنقالب ،وبدأ االنقالب منذ جلسة انتخاب معيتيق ،وأكّدت لي مصادر مسؤولة في المؤتمر الوطني والحكومة أن بعض أعضاء المؤتمر الذين ُأ ْح ِضروا من منازلهم تقاضوا 740ألف دينار للتصويت لمعيتيق ،وعندما سألتهم من أين أحضروا هذه األموال ،أكدوا لي َّ أن مدير إحدى الشركات العامة ،كان يخشى على فقدان منصبه منح هيثم التاجوري عقو ًدا بماليين الدينارات ،وأن صفقة واحدة للتاجوري ربح فيها 30مليون دينار ،كما أن عبدالرؤوف كارة استلم أسلحة أميركية بينها دروع خرجت في رتل طويل من الميناء إلى قاعدة معيتيقة. وبالرغم من َّ أن مدير مكتب إعالم دروع الوسطى يقول إنّهم َق ِدموا
إلى هناك لتأمين تسليم واستالم السلطة من الثني إلى معيتيق ،إال َّ أن الثني ووزراءه لم يكونوا بالمقر ،ولم يحدث تسليم واستالم ،كما أكّد لي وزير في حكومة الثني بأنهم سيرفضون هذا االنقالب ،إال إذا قررت المحكمة الدستورية شرعية انتخاب معيتيق ،وسيواصلون عملهم من أي مكان في البالد ،ويخطط معيتيق لتأجيل االنتخابات 55
أطول فترة ممكنة ،وسنرى قري ًبا مدى االعتراف الدولي به ،خاص ًة َّ أن أربعة وزراء في حكومة الثني قابلوا اليوم الثالثاء رئيس الوزراء المصري إبراهيم محلب في القاهرة ،في إطار توضيح حكومة الثني ما يجري في ليبيا لدول الجوار.
56
طرابل�س بين البدو واالنك�شاريين منذ مئات السنين وطرابلس تتقلب بين سطوة االنكشاريين والبدو، وفي كل صباح كان سكان المدينة ينظرون نحو قلعتها القديمة ليعرفوا من استيقظ أوال من االنكشاريين ليحكمها ،أما عندما تلوح أشرعة القراصنة في األفق فيخشى سكانها من البدو الذين هبوا لحمايتها من خلف أسوارها أكثر من خشيتهم من الغزاة ،وفي كل مرة يقتحم البدو أسوارها بحجة حمايتها كان أهالي المدينة يجمعون األموال القناع البدو بضرورة الرحيل عن مدينتهم.
كان على أحمد باشا مؤسس الدولة القرهمانللية أن يذبح أكثر من 300انكشاري في ليلة واحدة ليتسنى له حكم البالد ،وكان عليه أن يتحالف مع مجموعة من القبائل البدوية في مقدمتهم المحاميد وأن يعفيهم من دفع الضرائب ،من أجل أن يخرجوا مع الجيش االنكشاري ليفرضوا الضرائب على بقية سكان ليبيا ،وعندما عاد األتراك لحكم ليبيا فيما يعرف بالعهد العثماني الثاني ألغوا االمتيازات الممنوحة للمحاميد ،وطالبوهم بدفع الضرائب وعندها قامت ثورة 57
غومة المحمودي ،التي لم تكن ثورة لتحرير ليبيا من األتراك ،وإنما ثورة على دفع الضرائب.
حتى بعد االستقالل وبناء الدولة الحديثة لم يتغير شيء ،تربص البدو بالدولة الوليدة وتمكنوا من اختراقها عن طريق الجيش ،ويمكن اعتبار حكم معمر القذافي الطويل بأنه انتقام ممنهج من طرابلس وبقية المدن العريقة في البالد. في البداية رفع شعارات براقة بعضها عروبي وبعضها إسالمي وبعضها أممي ،ولكنه انتهى مثلما ينتهي أي طاغية بدوي ،عندما تخلى عنه الجميع وبقى من حوله أبناء عمه بالقرب من مسقط رأسه. اليوم لم يتغير شيء هبط البدو من جبالهم واستولواعلى كل شيء في طرابلس ،وجاء االنكشاريون من شرقها ليستولوا على ما تبقى. زحفوا على فيالت غرغور ولم يتركوها إال بعد أن ارتكبوا مجزرة مرعبة .استولوا على المطار ورفضوا مغادرته وتسليمه للدولة ،بينما استولى االنكشاريون على قاعدة معيتيقة ورفضوا مغادرتها. أخذ الطرفان أمواال طائلة من الدولة على شكل رواتب ،كما هربوا من خالل المطار والقاعدة تقريبا كل شيء .واليوم لن يخسر الطرفان أي شيء وهما يتقاتالن في طرابلس ،فأي قذيفة عشوائية لن تسقط في الزنتان أو مصراته ،وإنما ستسقط على بيت طرابلسي، وال يبدو أن المهاجمين يسعون للسيطرة على المطار وطرد الزنتان منه ،وإنما هدفهم الحقيقي هو تدمير المطار وجميع المنشآت الحيوية في المدينة ،لتنتقل العاصمة إلى مصراته. 58
ال أصدق أن المعركة بين اإلسالميين والتيار المدني ،أو أنها معركة بين قوى إقليمية للسيطرة على ليبيا ،ولكنها بكل وضوح هي معركة بين أشرس أعداء المدينة وهما البدو واالنكشاريين ،واالثنان ال يؤمنان بالحوار أو التوافق ،وهما ال يستفيدان من قيام الدولة التي ستنهي سطوتهما وستعيد البدو إلى جبالهم ،واالنكشاريين إلى ظالم أحالمهم المستحيلة ،ما مصلحة الزنتان في قيام الدولة وهم يسيطرون على مطار طرابلس والمنطقة الغربية من المدينة، وما مصلحة انكشاريي مصراته في قيام الدولة وهم يسيطرون على المنطقة الشرقية من المدينة؟ سيتقاتل البدو واالنكشاريون في المدينة حتى آخر طرابلسي، وعندها سيتوافقان على اقتسام الغنائم .أنظروا إلى هذه الوجوه القبيحة التي تخلو رؤوسها من أي حكمة .هل يمكن أن ينظم حوار بين عبد الله ناكر ومختار األخضر ومليقطة من جهة وصالح بادي وعبد الرحمن السويحلي وهيثم التاجوري وغنيوة وكارة من جهة أخرى؟ نجح البدو واالنكشاريون في إرغام أهالي طرابلس على الهروب منها ،أو البقاء فيها صامتين ،وآن األوان لتنظيم الصفوف وطرد البدو واالنكشاريين من مدينة ال تستريح إال في ظل المدنية والتحضر.
59
مقوالت القذافي تتحقق بعد رحيله كثير من مقوالت القذافي بعد رحيله ،بالرغم من عدم تحقق ٌ تحققها أثناء حكمه ،وفي مقدمة هذه المقوالت «الشعب المسلح»، فمنذ منتصف السبعينات مع بداية تدريب الطلبة ،وعسكرة المؤسسات المس َّلح ،دون نجاح ُيذكر التعليمية والقذافي يتحدث عن الشعب ُ على اإلطالق ،فتدريب الطلبة كان الهدف منه إطفاء جذوة الثورة في نفوسهم ،خاصة بعد خروج الطلبة في تظاهرات في جامعتي طرابلس وبنغازي ،واألحداث الدموية في السابع من أبريل. ُوجه إلى الطالب التدريب العسكري العام وما يرافقه من إهانات ت َّ كان الرد القاسي على تظاهرات الطالب ،عندما وجدوا أنفسهم في طابور أمام جندي لم يكمل تعليمه اإلعدادي يوبخهم ويصفعهم، وفي مطلع التسعينات طلب القذافي من كل الليبيين دفع ثمن بندقية كالشينكوف من رواتبهم ،وحاولت مجلة «ال» معرفة أين ذهبت أموال البندقية ،حتى وصلت إلى رئيس الوزراء عمر المنتصر ،الذي أكد أن األموال لم تأت إلى الحكومة ،وال وجود لها في خزينة الدولة ،ومع 61
ذلك وفي ليلة الغارة وجدت فقط خمس بنادق وخمس طلقات مع كل الجنود الموجودين بمعسكر الفرناج في طرابلس.
بعد ثورة فبراير تحققت مقولة القذافي عن «الشعب المسلح» كاملة ،بل إن عدد قطع السالح التي كانت مع كل ليبي زادت عن خمس قطع ،بينما يملك حصة الفرد في اليمن ،حيث يملك كل مواطن َ الفرد الليبي عشرين قطعة ،بما في ذلك األسلحة المتوسطة والثقيلة.
أما المقولة األخرى التي تحققت بعد رحيل القذافي فتخص «الرياضة الجماهيرية» ،وفي الفصل الثالث من الكتاب األخضر، تساءل القذافي لماذا يلعب 22الع ًبا كرة القدم بينما يتفرج عليهم اآلالف من «المغفلين» ،ودعا المتفرجين إلى النزول إلى الملعب ومزاحمة الالعبين ،واليوم تُجرى مباريات كرة القدم في المالعب الليبية في غياب الجمهور ،وهو ما كان القذافي يتمناه ،فقد اختفى «المغفلون» وبقى الالعبون.
كما تحققت مقولته «األرض ليست ملكًا ألحد» ،بعد أن وضعت المجموعات المسلحة أيديها على أراضي الدولة ،خاصة في «الجبل أشجارا عمرها مئات السنين، األخضر» فتحركت البلدوزرات لتجرف ً باإلضافة إلى احتالل مقرات كانت تابعة للدولة ،يرفض المسلحون الخروج منها.
تحققت مقولة «األمن الشعبي المحلي» ،عندما شكَّل سكان األحياء في بنغازي وطرابلس لجانًا لحفظ األمن ،ومراقبة الغرباء الذين يدخلون أحياءهم ،وتحققت مقولة «البيت لساكنه» عندما 62
اجتاحت الميليشيات طرابلس ،وسيطرت على حي غرغور وبيوت واستراحات كبار المسؤولين في نظام القذافي ،باإلضافة إلى مطار طرابلس وقاعدة معيتيقة.
كما تحققت مقولة «السود سيسودون العالم» عندما ُفتحت الحدود ،ودخل البالد مئات األلوف من األفارقة ،الذين مكَّنهم تجار البشر من ركوب قوارب متهالكة نحو شواطئ أوروبا ،وتحققت مقولة «الدجاجة تبيض والدينار ال يبيض» ،عندما تراجع سعر الدينار الليبي ،وارتفعت أسعار البيض ولحم الدجاج والخضراوات ،كما تحققت مقولة « َمن تحزب خان» ،عندما سيطر اإلسالميون على المؤتمر الوطني العام ،بسبب سطوة ميليشياتهم وليس بسبب عددهم داخل المؤتمر ،وأخذوا يصدرون قرارات يرفضها أغلب الشعب ،وها هم اليوم بعد خسارتهم في انتخابات مجلس النواب يضعون العراقيل أمام البرلمان المنتخب ،بحجة أنه في طبرق وليس في بنغازي ،وكأن طبرق مدينة ليست ليبية. كان األفضل للقذافي في األيام األولى من ثورة فبراير أن يلقي مغايرا لخطاب زنقة زنقة ،يقول فيه إن مقوالته ستتحقق خطا ًبا ً أخيرا وصل إلى عصر الجماهير بالكامل ،وبالتالي فإن الشعب الليبي ً وسلطة الشعب ،وآن له أن يستريح بعد اثنين وأربعين عا ًما من تحريضه للشعب على استالم السلطة ،ولكن تظل مقولة «تحيا دولة الحقراء» أكثر مقوالته تحق ًقا.
63
ت�أمالت في اللغة الداع�شية على الرغم من أن اللغة الداعشية تطورت عن اللغة العربية ،إال أنها تتكون من أربعة وعشرين ً داعشا؛ حيث ألغي حرف الذال ،والظاء، والسين ،والكاف ،فمث ً ال تنطق كلمة سمك «سمش» مثلما تنطق في اللهجة العراقية ،مما ترتب عليه تغيير اسم أمير تنظيم «داعش» من أبوبكر البغدادي إلى أبو بشر البغدادي.
إلغاء حرف السين جعل الداعشيين يطلقون السالم بصيغة مختلفة فيقولون «الشالم عليكم» ،بعد استبدال حرف السين أخبارا مثل: بحرف الشين ،وفي نشرة أخبار «داعش» تسمع ً الدولة اإلشالمية في العراق والشام تندد بالقصف األمريشي على البوشمال ،بينما تسمع الخبر نفسه في اإلذاعات األخرى، وهو يقول :الدولة اإلسالمية في العراق والشام تندد بالقصف خبرا في إذاعة «داعش» األميركي على البو كمال ،وأحيانًا تسمع ً يقول «قطع رأش رهينة أمريشي وآخر شويشري» ،كما أدى حذف هذه الحروف واستبدالها بأخرى إلى سوء فهم خاصة في األسواق 65
بين العامة ،عندما يطلب أحدهم من البائع «زيت الشمشم»، أو «شعش» أي كعك ،أو «شيلو خش» أي كيلو خس« ،وربطة بقدونش» ،ولم يؤد حذف حرف الذال إلى كثير من سوء الفهم، ففي معظم اللهجات المحلية ينطق الذال داالً.
وفي النحو الداعشي تتكون الجملة من اسم ودعش أي فعل، وتجمع أدعاش ،وإذا بدأت الجملة بداعش وإخوانه يرفع االسم وينصب الخبر ،مثلما في كان وأخواتها ،فالداعش يرفع االسم بحد مسلحا للخبر ،أما داعشة وأخواتها فتنصب السيف ،وينصب كمينًا ً االسم وترفع الخبر ،تنصبه على خازوق وترفعه على المشنقة.
وكما في العربية التي يوجد بها أسماء مصروفة وأخرى ممنوعة من الصرف ،فتوجد في اللغة الداعشية مثل هذه القاعدة ،ولكن يطلق عليها «أشماء منطوقة وأخرى ممنوعة من النطق» ،وتشمل األسماء الممنوعة من النطق «الديمشراطية ،والليبرالية ،واالنتخابات ،والتفشير أي التفكير ،وحقوق اإلنشان ،وحرية ،والمشاواة بين النشاء والرجال».
كما تخلو اللغة الداعشية من نون النسوة ،وتكتب التاء المربوطة مفتوحة ،كما ألغيت األلف المقصورة ،ويوجد بهذه اللغة ال النافية للجنس والحب والحياة ،باإلضافة إلى ال النافية للتفكير والتأمل، ويشير فقهاء اللغة الداعشية إلى أن األصل في «ال» هو نفي كل شيء ،كما توجد بهذه اللغة كلمة «دعشة» وهي تشبه كلمة «فد» في اللهجة العراقية ،أو كلمة «الهني» في لهجة شرق ليبيا ،وهي كلمة لها استخدامات كثيرة ،ويتغير إعرابها حسب استخدامها ،لدرجة أن 66
أكبر فقهاء اللغة الداعشية «دعشويه» قال «أموت وفي نفشي شيء من دعشة».
كبيرا من متطوعي داعش جاءوا من أوروبا خاصة وألن عد ًدا ً فرنسا وال يجيدون اللغة الداعشية ،فقد سمح لهم باستبدال حرف الراء بحرف الغين ،فيقول أحدهم وهو يتذكر باريس ومرسيليا «سنفتح باغي ومغسيليا ديكوغ».
ومن المقوالت الرائجة في اللغة الداعشية «داعش في شل مشان» ،و«ال داعشية من دون مؤتمرات دعشية» ،و«من لم يتدعش خان» ،و«الطفل تربيه داعش» ،و«داعشة تحيض وداعش ال يحيض»، و«الدجاجة تبيض ودعشار ال يبيض» ،والدعشار هو عملة داعش وكل دعشار يساوي نصف ليرة سورية. وعلى الرغم من منع الغناء والموسيقى في دولة داعش ،إال أن أمير الدولة أبو بشر البغدادي سمح ألم دعوش بالغناء لمساهمتها الكبيرة في جهاد النكاح ،خاصة بعد أن اشتهرت أغنيتها «هات عينيش تسرح بدنيتهم عيني» ،كما سمح لشعبوال بمواصلة غنائه خاصة أغنيته «بأحب داعش وباكره إسرائيل» ،ومن بين األسماء التي منعت في دولة داعش «عبد الرسول ،عبدالنبي ،عبدالحسين، سحر ،فتنة ،بوسي ،وناهد».
في دولة داعش غيرت جميع أسماء األشهر وأصبحت على النحو اآلتي :دعشاير ،دعراير ،دعمارش ،دعريل ،دعشايو ،دعشونيه، دعشوليو ،دعطشطش ،دعشمبر ،دعشوبر ،دعفنبر ،ديشمبر. 67
م�صراته تعود �إلى ر�شدها عجلت جلسة حوار غدامس في عملية الفرز بمصراته ،حيث
وافق أغلب نواب مصراته المقاطعين لجلسات مجلس النواب في
طبرق على الذهاب إلى غدامس ،بينما قاطعه عبد الرحمن السويحلي
وعلي أبو زعكوك وعبد الرؤوف المناعي.
في البداية نظر المراقبون إلى ما جرى على أنه محاولة لتقسيم
نواب مصراته إلى صقور وحمائم ،فما قد ال تحصل عليه الحمائم في
جلسات الحوار ،يحصل عليه الصقور من خارجها ،إال أن التطورات
الالحقة أكدت أن حراكًا حقيق ًّيا شهدته مصراتة ،جعل معظم أبنائها
يقررون االبتعاد عن عملية «فجر ليبيا» ،خاصة بعد البيان الذي أصدره
«درع الوسطى» ،أكد فيه أن بيان «فجر ليبيا» الرافض لمجلس النواب ال يمثله ،كما أن «إفتاء مصراتة» أصدرت بيانًا يتعارض مع بيان دار
االفتاء التي يترأسها الصادق الغرياني.
ومن مصادر خاصة علمت أن مصراته أصبحت ممثلة بجناحين، 69
جناح يقوده عبد الرحمن السويحلي وصالح بادي ،والجناح اآلخر وأيضا يقوده فتحي باشاغا ،ويدعمه جمعة عتيقة وفوزي عبد العالً ، الشخصيات التي رشحها عبد الله الثني في التشكيلة الحكومية الموسعة التي رفضها مجلس النواب.
وباألمس تبين أن هناك اختال ًفا بين السويحلي وبادي ،حيث رفض بادي الحوار جملة وتفصيالً ،وقال إن َمن يريد محاورتنا عليه أن يأتي إلى أبوشيبة ،حيث تتمركز قواته ،ووصف النواب المقاطعين الذين ذهبوا إلى غدامس بـ«الخونة» ،بينما وافق السويحلي على الحوار بشروط ،خالل لقائه بالمبعوث البريطاني جونثان باول ،وهو ما يعني تنسيق بين السويحلي وبادي. أنه ليس هناك ٌ
أخيرا أن اإلخوان المسلمين استخدموها ويبدو أن مصراته أدركت ً لتحقيق مآربهم ،ثم تركوها تواجه مصيرها وحيدة ،وكأنهم قرد يمتطي ظهر أسد ويوجهه إلى حيث يريد ،خاصة بعد أن تبين لمصراتة إصرار المجتمع الدولي على االعتراف فقط بمجلس النواب ،وبدالً من أن حكيما بعد انتصار الثورة ،وهي تحظى بإجماع خيارا ً تنتهج مصراتة ً جميع الليبيين على أنها المدينة التي صمدت في وجه القذافي وأفشلت خيارا أحرق بسرعة جميع مخططه لتقسيم ليبيا ،فقد اختارت مصراتة ً تلك المكاسب ،وجعلها مكروهة في الغرب والشرق والجنوب. خالل زيارة األمين العام لألمم المتحدة بان كي مون لطرابلس، وجه رسالة مزدوجة لجميع الفرقاء الليبيين ،األولى رفضه القاطع مقابلة نوري أبو سهمين وعمر الحاسي ،وكل َمن له عالقة بالمؤتمر 70
الوطني المنتهية واليته ،واكتفى بمقابلة النائب األول لرئيس مجلس النواب محمد شعيب ،ومنسق النواب المقاطعين فتحي باشاغا ،في حين تولى رئيس بعثة الدعم في ليبيا برناردينو ليون توجيه الرسالة الثانية ،وهي أن حل األزمة في ليبيا سياسي وليس قانو ًّيا ،أي أن شرعية مجلس النواب ال تكفي وحدها لقبول كل ما يصدر عنه ،والبد من الحوار والتوافق على أساس سياسي للوصول إلى المصالحة.
يكمن حل األزمة في ليبيا في ضرورة الفصل بين مصراتة واإلخوان المسلمين ،أمثال بشير الكبتي ومحمد صوان والمناعي وأبو زعكوك وعلي الصالبي وشقيقه إسماعيل الصالبي ومحمد الزهاوي ووسام بن حميد ،وهؤالء جميعهم من مصراته وجميعهم من أتباع التيارات السياسية بمختلف مشاربها.
من الواضح أن بادي يحاول كسب نصر سريع على قوات الزنتان بعد أن اجتاح ورشفانة ،ولهذا صعد عسكر ًّيا ،بينما الجميع يستعد مؤخرا يؤكد أنه لن يحصل للذهاب إلى الحوار ،وما جرى في ككلة ً على انتصار سريع يفرض األمر الواقع في الميدان ،فإذا استغرق أكثر من أربعين يو ًما إلجبار قوات الزنتان على االنسحاب من مطار طرابلس ،فكم سيحتاج ليسيطر على الزنتان؟
سيستمر الحوار في غدامس أو في غيرها ،وسيستمر التصعيد العسكري ،وسيضطر المجتمع الدولي لفرض عقوبات على أمراء الحرب ،وعلى كل الرافضين للحوار ،وسيخسر جميع َمن رفضوا مالحقين دول ًّيا وفي بالدهم. الحوار وسيصبحون َ 71
المالب�س الداخلية في ال�سيا�سة الليبية خالل األسبوعين الماضيين احتلت المالبس الداخلية حيزا كبيرا في السياسة الليبية ،فبعد اإلفراج عن رئيس الحكومة المؤقتة علي زيدان صرح بأن الذين اختطفوه سرقوا من غرفته كل شيء ،بما في ذلك مالبسه الداخلية .كان يتحدث بدون نظارته المعهودة دون أن يذكر شيئا عن النظارة المسروقة ،وعندها تساءلت لماذا يسرقون المالبس الداخلية لرئيس الوزراء؟ وهي غالبا مالبس مستعملة، ولكنني أدركت فيما بعد أن قواعد التمشيط تستدعي ذلك ،فعندما يتم إقتحام أي مكان البد أن يختفي كل شيء خالل دقائق معدودة، وفيما بعد يتم فرز الغنائم وتوزيعها. ذكرتني الحادثة باشتراكية القذافي في الثمانينات ،عندما توزع الجمعيات االستهالكية المالبس ،حيث يتم وضع المالبس في األكياس كيفما اتفق ،وعندما يشتد الزحام على الجمعيات يستلم الناس أكياسا ال يعلمون ما بها ،فيجد الشيخ المسن الذي يعيش مع زوجته المسنة مالبس سباحة ،ومالبس داخلية لنساء شابات باإلضافة 73
إلى مالبس أطفال ،وهو يريد بدلة عربية وفستان ورداء لزوجته ،وعندها يجلس بجانب الجمعية ويبحث عن من يبادله كيسه بكيس آخر فيه ما يحتاج إليه .في تلك األيام كانت المالبس الداخلية سلعة نادرة للنساء وللرجال ،وثمة من يرتدي مالبس داخلية مهترئة وبها ثقوب، وكل من يسافر يوصونه بإحضار مالبس داخلية أكثر من أي شيء آخر. وبعد أيام قليلة من خطف رئيس الحكومة سربت رسالة من الحكومة موجهة إلى مفتي الديار الليبية الشيخ الصادق الغرياني، تقول الرسالة التي تحمل رقم « 0501بعد التحية ..باالشارة لكتابكم للسيد رئيس الوزراء رقم ث .ث 2389المؤرخ 2013 /4 /2ميالدى بخصوص تنظيم استيراد المالبس الداخلية النسائية ،ورصدكم لظاهرة استيراد مالبس داخلية تتعدى الغرض الشرعى لها ،وطلبكم السماح لدار االفتاء بالرقابة على استيراد المالبس النسائية.
نفيدكم برأينا القانونى بعدم اختصاص رئاسة الوزراء بإعادة تنظيم استيراد المالبس ويطلب من دار االفتاء مخاطبة المؤتمر الوطنى العام بالخصوص».
وعندها تأكدت بأن هناك هوسا بالمالبس الداخلية تخطى حدود الخيال ،فما الفرق بين المالبس الداخلية الشرعية وغير الشرعية؟ وطالما أن فضيلة المفتي طلب فصل البنات عن البنين في المدارس، وأن تتنقب المعلمات إذا كن يعلمن طلبة من الذكور ،فلماذا التدقيق في مالبسهن الداخلية ،طالما أنها تحت أكوام من المالبس الشرعية التي تغطي كامل الجسد؟ 74
هل كانت النساء المسلمات في القرن السابع الميالدي يرتدين مالبس داخلية؟ ،حتى يحدد الفقهاء نوع المالبس الداخلية الشرعية، ويحرمون المالبس الداخلية غير الشرعية ،وما حكم امرأة محجبة ومنقبة ولكنها ال ترتدي مالبس داخلية؟ أليس كل جداتنا كنا ال يعرفن وال يلبسن المالبس الداخلية مثلهن مثل أزواجهن؟ وبعد ظهور النفط ووصول شحنات الدقيق التي طبع عليها ثالثة أصفار أخذ الرجال يخيطون منها مالبس داخلية ،وخاصة عندما يذهبون للسباحة.
لم يذكر رئيس الحكومة بعد أن أعاد إليه الخاطفون ما سلب منه، أنهم أعادوا أيضا مالبسه الداخلية ،وعندها شككت أنهم ربما عرضوا المالبس على المفتى فأفتى بأن المالبس غير شرعية.
75
ليبيا بين قبعة الجنرال وعمامة �أمير الم�ؤمنين تشهد ليبيا اليوم أول حرب أيديولوجية في تاريخها ،وهي في ظرف
سياسي واجتماعي يشبه إلى حد كبير ما جرى في إسبانيا العام ،1936
عندما لم يعرف الجمهوريون والملكيون كيف يتوافقون ،بعد أن نجح الجمهوريون في تشكيل أول حكومة يسارية ،وبعد قيام الحرب
األهلية بكل فظاعاتها تقدم الجنرال فرانكو بفيلقه المغربي واستولى
على السلطة لمدة أربعين عا ًما ،قبل أن يعيد الملكية الدستورية إلى
البالد العام .1975
تمكن المتشددون اإلسالميون في شرق ليبيا من السيطرة على
مدينة درنة وجزء كبير من بنغازي ،ولم يبق من الجيش الليبي الذي
دمر عمدً ا في تشاد إال قوات الصاعقة في بنغازي ،التي وقع عليها
عبء محاربة الجماعات المتشددة ،وهي غير مؤهلة للعمل البوليسي
بعد حرق وتفجير معظم مراكز الشرطة ،وبعد إجبار رجال البحث
الجنائي للعمل داخل معسكر قوات الصاعقة ببوعطني ببنغازي. 77
أما في درنة التي كان جميع رجال الشرطة فيها من خارجها فقد مبكرا في قبضة تنظيم القاعدة وأنصار الشريعة ،وتحولت سقطت ً إلى إمارة إسالمية على ساحل المتوسط ،وفي طرابلس تمكن اإلسالميون ممثلين في كتلة الوفاء لدماء الشهداء ،وكتلة العدالة والبناء ،والجبهة الوطنية من السيطرة على المؤتمر الوطني .وبعد إقالة علي زيدان تمكنوا من السيطرة على الحكومة ،وبذلوا جهدً ا كبيرا لتأجيل االنتخابات البرلمانية وهم يدركون أنهم سيخسرون هذه ً رئيسا للحكومة الجديدة، االنتخابات ،وذلك باختيار أحمد معيتيق ً والذي سيكون دوره بيع القطاع العام إلى اإلسالميين ،وعندها سيزاوجون بين سيطرتهم على السالح مع سيطرتهم على المال، وهي السلطة الحقيقية في أي مجتمع. تحرك اللواء حفتر جاء قبل يومين من منح الثقة لحكومة معيتيق في المؤتمر الوطني ،أما تحرك حلفائه في طرابلس فجاء ليمنع المؤتمر من االنعقاد مرة أخرى ،وف ًقا للبيان الذي تاله آمر الشرطة العسكرية العقيد فرنانة ،وحتى اآلن تمكن حفتر من محاصرة كتيبة 17فبراير وكتيبة راف الله السحاتي وكتيبة أنصار الشريعة ،وقطع عنها اإلمدادات وخاصة القادمة من درنة ،بينما حافظ على خطوطه الخلفية وخطوط إمداداته القادمة من المرج ومعسكر الرجمة ،واستطاع هذه المرة تجييش قبائل شرق ليبيا مثل قبيلة العبيدات أكبر القبائل الليبية، التي فقدت اللواء عبدالفتاح يونس واثنين من مرافقيه ،كما انضمت إليه قبائل البراعصة والعواقير والعرفة ،باإلضافة إلى كتيبة حسين 78
الجوفي ،والمنطقة العسكرية بطبرق بقيادة العقيد سالم الرفادي ،ومن البداية كان معه أولياء الدم الذين فقدوا أبناءهم في حملة االغتياالت، كما انضم إليه الناشطون في الحراك الفيدرالي ،وستتولى قوات إبراهيم الجضران تأمين الخطوط الخلفية لقواته.
المفاجأة الكبرى هي عدم جر مصراتة ودروع المنطقة الوسطى إلى المعركة في طرابلس ،ويبدو أن مصراتة أعادت دراسة الموقف؛ فوصول قواتها إلى طرابلس يعني بداية الحرب األهلية ،التي ستقسم طرابلس بين شرقية وغربية ،وسيكون طريق المطار هو الفاصل بين القوتين.
حتى اآلن ال يعرف مكان اختباء رئيس المؤتمر نوري أبو سهمين، ومن غير المرجح أن ينجح المؤتمر في عقد جلسة واحدة وسط هذه الظروف ،ويبدو أن عبدالله الثني رئيس الحكومة الموقتة على علم مسبق بهذه التحركات ،وتعمل حكومته على التخلص من المؤتمر الوطني ،ويرجح انضمام رئيس األركان عبدالسالم جاد الله العبيدي إلى اللواء حفتر ،بعد ضغوط شديدة من قبيلته ،وعندها سيتكامل االنقالب خاصة إذا سلمت مهام المؤتمر إلى لجنة صياغة الدستور حتى االنتخابات البرلمانية ،ولكن هذا ال يعني عودة الهدوء إلى البالد ،إذ أن اإلسالم ّيين سيقاومون وخاصة في طرابلس ،مثلما يقاوم اإلخوان المسلمون الجيش المصري ،إال أن وجودهم السياسي والشرعية التي اكتسبوها من خالل المؤتمر الوطني أصبحت في خبر كان. 79
سيعتمد حفتر على التأييد اإلقليمي والدولي ،وتدفع إيطاليا بشدة االتحاد األوروبي وحلف الناتو لدعم تحرك حفتر ،خاصة إذا اكتفى حفتر بمهمة المنقذ ولم يتطلع إلى السلطة ،وإذا قضى على المتشددين في بنغازي فستنتظره معركة أكبر في درنة ،وسيختم سيسي ليبيا أو فرانكو ليبيا حياته العسكرية بمعركة أهم من كل حرب تشاد ،وأهم من دوره كقائد عسكري لقوات المعارضة الليبية.
80
من �أين �أتى قادة ليبيا ،ومن �أين �سي�أتون؟ عندما غزت القوات اإليطالية ليبيا في أكتوبر عام 1911وجدت أمامها قيادات حقيقية صنعتها سنوات طويلة من االستقرار والفرز. ففي المنطقة الشرقية تمكنت الحركة السنوسية من إذابة القبائل البدوية ،سواء كانت قبائل السعادي المسيطرة أو قبائل المرابطين في بوتقة جديدة ،قلبت الهرم االجتماعي الذي كان سائد ًا ،والذي يجعل من قبائل السعادي في قمة الهرم ،وقبائل المرابطين في أسفل الهرم، وفجأة أصبحت الكفاءة هي المعيار الوحيد للقيادة من خالل التجربة، وهكذا أصبح عمر المختار ابن قبيلة المنفة المرابطة القائد العام للقوات السنوسية ،بينما يساعده زعماء قبائل السعادي والمرابطين، مثل زعيم قبيلة العواقير عبد الحميد العبار ،وزعيم واحة أوجلة األمازيغية الفضيل بو عمر ،وزعيم قبيلة المسامير يوسف بورحيل. لم تؤسس الحركة السنوسية قيادات عسكرية ،بل أسست قيادات سياسية شهد لها الجميع بالحنكة والقدرة على االستبصار ،وفي مقدمة هؤالء الشارف الغرياني ،الذي رأى أنه ال جدوى من مقاومة الطليان، 81
وأن مفاوضتهم النتزاع بعض الحقوق أفضل من مقاومتهم وضياع كل شيء ،وهو ما حدث بالفعل بعد استشهاد المختار.
تحاشت الحركة السنوسية المدن ألن نظرية ابن خلدون تتحقق فقط في الفضاء البدوي ،فلم ينضم للحركة السنوسية زعماء بنغازي «الحضور» وال زعماء مدينة درنة ،وبعد تحرير ليبيا من الطليان على يد القوات البريطانية برز دور هؤالء الزعماء ،وهم جميع ًا من الكوادر التي تأهلت في العهد العثماني الثاني ،مثل عائلة الكيخيا من بنغازي، والكيخيا منصب في العهد العثماني يعادل منصب رئيس الوزراء وخاصة في بالط األسرة القرامانلية. القائم مقام
في غرب ليبيا استقرت القيادة لكل من وصل إلى منصب قائم مقام ،فبعد النزاع المرير بين عائلة المنتصر وعائلة السويحلي ،تمكن رمضان السويحلي من حسم الصراع ،بينما تزعم ورفلة (وسط جنوب ليبيا) قائم مقامها عبد النبي بالخير ،وبالرغم من أن أصول بالخير تعود إلى قبائل الصيعان في أقصى غرب ليبيا ،وحتى اآلن ال تزال قبيلته في ورفلة تحمل اسم قبيلة الصيعان ،إال أنه تمكن بذكاء شديد من تزعم قبائل ورفلة ،بعد أن أسس زاوية دينية هناك ،ثم شهد له الجميع بالحنكة السياسية والقدرة االستثنائية على القيادة.
بينما تزعم غريان ( 75كم جنوب طرابلس) قائم مقامها الهادي كعبار ،بالرغم من أنه من أصول تركية ،مثله مثل بقية 82
زعماء غريان أمثال برشان والخوجة واآلغا ،وبرهن كعبار على حنكته الشديدة ،وخاصة بعد خسارة المجاهدين لمعركة جندوبة
( ،)1913فأصبحت الطريق ممهدة لدخول غريان من ناحية األصابعة ( 25كم جنوب غريان) ،وهنا تقدم كعبار بأكبر تضحية
يقدم عليها قائد مهزوم ،ففاوض الطليان على تسليم نفسه والحكم عليه باإلعدام ،بشرط ضمان العفو عن جميع سكان غريان ،وهذا
ما حدث بالفعل.
كما برهن أحمد المريض قائد قبائل ترهونة ،وبن قدارة قائد
زليطن ،وسالم بن عبد النبي قائد الزنتان ،وفكيني قائد الرجبان،
ومحمد بن حسن المشاي قائد المشاشية ،وعون سوف قائد المحاميد،
ومحمد بن عبد الله البوسيفي قائد أوالد أبوسيف عن حنكة ومهارة
في القيادة ،والبحث عن قواسم مشتركة بالرغم من الخالفات القبلية
الشديدة بينهم ،وخاصة في مؤتمر إعالن الجمهورية الطرابلسية (في الفترة 1919 - 1918دامت ستة أشهر ونصف فقط).
بينما قاد األمازيغ سليمان الباروني بثقافته الواسعة ومستواه
العلمي الرفيع ،في حين تركزت الزعامة في نالوت في
عائلة بن عسكر ،وقاد زوارة عائلة بن شعبان ،واختارت مدينة
الزاوية فرحات الزاوي العضو في البرلمان العثماني ،فيما بقيت القيادة في المنطقة الوسطى والجنوبية حكر ًا على عائلة سيف النصر
التي تقود قبيلة أوالد سليمان.
83
زعامة جماهيرية جديدة
خالل مرحلة النضال من أجل االستقالل برزت زعامة جديدة من طراز مختلف ،ففي الشرق بايعت كل القبائل إدريس السنوسي أمير ًا على برقة ،ولم يكن إدريس غر ًا في عالم السياسة ،فقد شهد كل من كان مقرب ًا منه على دهاء شديد.
فعندما عاد إلى ليبيا ( 1944بعد خروج إيطاليا) عين قجة عبد الله وهو تشادي األصل حاكما على اجدابيا ( 160كم جنوب غرب بنغازي) ،وأمره بسجن زعيم قبيلة المغاربة صالح الطيوش ،وزعيم قبيلة الزوية الهتش ،تعبير ًا عن فرض سلطته المطلقة على هذين الزعيمين البدوييين ،فرضخ االثنان ألمر األمير إدريس.
أما في غرب ليبيا فقد برز زعيم جديد صنع جماهيرية واسعة بسرعة شديدة ،هو زعيم حزب المؤتمر بشير السعداوي ،الذي كان قائم مقام بلدة جزين اللبنانية المسيحية ،ومستشار ًا للعاهل السعودي عبد العزيز آل سعود ،وكانت لديه رؤية مختلفة لليبيا عن تلك التي تبناها الملك إدريس ،لكنه تنازل عن رؤيته من أجل أن تستقل ليبيا موحدة (أعلن االستقالل في 24ديسمبر ،)1951وقدم درس ًا بليغ ًا في إمكانية التوافق والتنازل من أجل المصلحة العامة. القذافي والنفخ في نار القبائل
عندما وصل القذافي إلى السلطة ( )1969حاول منذ البداية تمزيق النسيج االجتماعي الليبي ،فقرب البدو وأبعد الحضر ،وحاول بدونة 84
المدينة عن طريق إنشاء روابط شباب القبائل بها ،ونجح في بنغازي في دفع القبائل لتكون مجالسها داخل المدينة ،بينما فشل في طرابلس بالرغم من وجود الفتة في طريق الفالح كتب عليها «رابطة شباب قبيلة الزنتان في طرابلس».
ثم تمرس القذافي في تأليب القبائل ضد بعضها ،وخاصة بعد محاولة العقيد مفتاح قروم (وهو من قبيلة ورفلة) االنقالبية عام ،1993فاستعدى مصراتة على ورفلة ،كما استعدى المقارحة على الحساونة ،وكان يوسع ويضيق مؤتمراته الشعبية (البلديات أو المحافظات) ،فأحيانا يجعلها على مستوى المحلة فتنقسم القبيلة على قسمين ،وأحيانا يضم في المؤتمر قبيلتين فتسري العداوة بينهما.
وعندما الحظ الحلف التاريخي بين الزنتان والرجبان (في جبل نفوسة أقصى غرب ليبيا) جمعهما في مؤتمر واحد ،كانت جلساته تبث على الهواء مباشرة ،ومنذ الجلسة األولى اختلفوا على تسمية المؤتمر ،الزنتان أوال أم الرجبان أوال.
في عهد القذافي اضمحلت القيادة التقليدية السابقة ،وحلت محلها قيادات جديدة ،فالمقارحة كانوا يلجؤون إلى ابنهم عبد الله السنوسي (رئيس جهاز االستخبارات العسكرية) ،وأوالد سليمان كانوا يلجؤون إلى أبنائهم عبد السالم الزادمة وعبد الله منصور (ضباط مقربون من القذافي). بينما لجأ أبناء قبيلة المنفة إلى الطيب الصافي والمغاربة إلى مبارك 85
الشامخ ،وورفلة إلى عمران أبو كراع ،وهؤالء لم يبرهنوا يوما أنهم قادة ،فقد صمموا منذ البداية ليكونوا أتباع ًا للقذافي. الت�صحر ال�شامل
بعد اثنين وأربعين عام ًا من التصحر الشامل تعاني ليبيا اليوم من أزمة قيادة ،تجلت منذ األيام األولى لثورة فبراير ،عندما رضي الجميع باختيار مصطفى عبد الجليل رئيس ًا للمجلس الوطني االنتقالي ،ثم تأكد الجميع أن الرجل ال يملك أي موهبة قيادية ،سوى موهبته في قيادة فريق نادي األخضر (فريق كرة القدم الذي كان يلعب ضمن صفوفه). أما محمود جبريل الذي ترأس المكتب التنفيذي فقد قاد مكتبه بالهاتف والريموت كنترول من الدوحة ،مثلما يقود تحالفه اآلن من دبي ،ثم كانت الطامة الكبرى بعد انتخابات المؤتمر الوطني، فإذا بمعظم أعضائه ال يعرفون حتى كيف يطلبون الكلمة ،واختلط الحابل بالنابل قبل أن يكشف عبد الرحيم الكيب (أول رئيس حكومة بعد الثورة في أحد خطاباته) عن وجود قوة عليا تحكم المؤتمر والحكومة ،اكتشفنا فيما بعد أن قادة المليشيات هم هذه القوة العليا. من �أين �أتى قادتنا الجدد؟
اختفى القادة الحكماء وحل السفهاء محلهم ،فباستشهاد الشيخ محمد المدني (أثناء الثورة )2011فقدت الزنتان زعيمها الحقيقي، 86
وهو يشبه محمد بن عبد الله البوسيفي زمن الكفاح ضد الطليان، الذي جمع بين القيادة الروحية والقيادة العسكرية.
وبالرغم من أن الزنتان كان لهم نظام يسمى «العمرة» ،وهو مجلس للحكم تتخذ فيه القرارات المصيرية ،ولكن قادة الزنتان اليوم هم مجموعة عجيبة من أشخاص ال يملكون أية كفاءات ،فمث ً ال عبد الله ناكر (قائد ميداني ورئيس حزب القمة) كان يصلح األجهزة المرئية في محل بشارع الكندي بطرابلس ،بينما كان مختار األخضر (قائد ميداني آخر) يطبخ المأكوالت التقليدية في األعراس ،في حين كان هاشم بشر (رئيس اللجنة األمنية العليا بطرابلس) يبيع العصائر ،وهيثم التاجوري (قائد كتيبة مسلحة) يقود سيارة أفيكو (باص نقل عام) من سوق الجمعة إلى ذات العماد وسط طرابلس.
أما عبد الغني الككلي (آمر إحد سرايا اللجنة األمنية العليا) فكان فتوة في حي أبوسليم ،وكان عبد الرؤوف كارة (آمر سرايا اإلسناد والدعم بطرابلس) عاط ً ال عن العمل في سوق الجمعة ،في حين كان محمد الكيالني (عضو المؤتمر الوطني العام عن مدينة الزاوية) يدرس األطفال في الصباح ويبيع الماشية في المساء. في المنطقة الشرقية كان زعيم أنصار الشريعة محمد الزهاوي من عاشقي المرسكاوي (فن شعبي ليبي) ،وإذا حضر حفلة للمرسكاوي يرقص حتى يسقط مغشي ًا عليه ،بينما كان أحمد أبو ختالة (المسؤول في تنظيم أنصار الشريعة والمقبوض عليه حالي ًا بتهمة اغتيال السفير األمريكي ببنغازي) مقاوالً صغير ًا يبني البيوت. 87
وكان بوكا العريبي (واسمه ابراهيم العريبي أحد قيادات ميليشيا درع ليبيا) يعمل في تغيير زيوت السيارات ،وألنه طوال الوقت كان يتواجد في حفرة تحت السيارات سمي بوكا وهو االسم اإليطالي للحفرة ،والخبرة الوحيدة التي اكتسبها سفيان بن قمو (أحد قيادات الجماعات المتطرفة في درنة) هي قيادة سيارات بن الدن.
والمحصلة أن القيادات السابقة للدولة استُبعدت بالكامل ومن بينهم من يمتلك الكفاءة والخبرة إلعادة بناء الدولة ،بينما جاءت معظم القيادات الجديدة من السجون ومن المنفى ،أو من الهامش وفرضوا أنفسهم بقوة السالح ،وطبع ًا من كان في السجن أو في المنفى سنوات طويلة ال يمكنه فهم الواقع الذي غاب عليه طويالً.
ستستمر لغة القوة في ليبيا وسيخسر الجميع ويكتوي بالنار، قبل أن يتعلم الليبيون الجلوس على مائدة الحوار ،وتقديم تنازالت متبادلة ،مثلما تفعل جميع الشعوب ،التي مرت بهذه التجربة وتعلمت منها ،فالديمقراطية أصعب األنظمة على اإلطالق وليس أسهلها كما يتوهم الكثيرون ،ورؤية األوروبيين وهم يبتسمون في طوابير االقتراع، تحجب سنوات طويلة من العنف والقتال والبغض الشديد.
88
الربيع العربي ..الع�سكر �أو الإخوان في ذروة انتصار الثورات الشعبية في تونس ،مصر ،ليبيا واليمن
لم يكن هناك أحد يتخيل أن تكون نتائج الربيع العربي بهذه الحدة. اإلخوان المسلمون أو العسكر ،ومع ذلك ففي كل بلد تبدو النتائج متفاوتة وليست متطابقة.
في تونس ،البلد الذي عاش في ظل نظام علماني منذ االستقالل،
انحاز الجيش التونسي بشكل إيجابي إلى جانب المتظاهرين ،وتصرف
بمهنية عالية وهو يحميهم من قوات األمن ،ثم ابتعد عن االستقطاب السياسي وانصرف لتنفيذ مهامه ،وهي حماية التراب الوطني ،وحماية
السلم االجتماعي والدستور ،لذلك تبدو الحالة في تونس أكثر صحية
من جميع البلدان التي عصفت بها رياح التغيير العنيف.
في مصر انحاز الجيش إلى جانب المتظاهرين بشكل سلبي،
فلم يبذل جهدا واضحا في حماية المتظاهرين من قوات األمن ومن البلطجية ،وعندما رأى أن النظام سينهار حتما أصدر بيانه األول، 89
وضغط على حسني مبارك من أجل التنحي ،وكان الجيش يرى أنه من األفضل التضحية بالرئيس من أجل إنقاذ النظام ،وليس ذلك بمستغرب من جيش تورط في السياسة منذ عام ،1952ولم يتخل عن السلطة منذ ذلك الحين ،وحتى إذا فصلنا بين مؤسسة الرئاسة التي يعتليها عسكري سابق ،والمجلس األعلى للقوات المسلحة، الذي استلم السلطة بعد رحيل مبارك ،فإن المصالح االقتصادية واالستراتيجية المتراكمة ،وخاصة منذ اتفاقية كامب ديفيد ،وبداية المعونات العسكرية األمريكية للجيش المصري ،أصبح لهذا الجيش مصالح اقتصادية واستثمارية كبيرة جدا ،تجعله أشبه بدولة داخل الدولة ،وهي مصالح تجبره على التدخل في كل الشؤون أيا كان من يقوده ،إن كان محمد طنطاوي أو عبد الفتاح السيسي أو أي جنرال آخر. في ليبيا لم يكن هناك جيش محترف ليتدخل بشكل إيجابي أو سلبي ،منذ أن تعمد القذافي تدمير ذلك الجيش في تشاد ،بعد سيل من المحاوالت االنقالبية ،وعندما تشكلت كتائب الثوار خالل التحرير أو بعده ،حاولت كل التيارات السياسية في البالد أن يكون لها اليد العليا على هذه الكتائب المسلحة ،وأخيرا وصلت إلى حالة من توازن الرعب وخاصة في طرابلس ،أما في شرق ليبيا فقد تمكنت الجماعات اإلسالمية من فرض سيطرتها ،وجعلت التيارات المدنية التي أشعلت الثورة تحت رحمتها ،وبالرغم من خسارة جماعة اإلخوان المسلمين لالنتخابات لصالح تحالف القوى الوطنية ،إال أن 90
أذرعها العسكرية ،وتحالفاتها مع المستقلين داخل المؤتمر جعلت من فوز تحالف القوى الوطنية مجرد فوز رمزي.
في مصر تصرف اإلخوان بغباء شديد في أول فرصة لهم لحكم البالد منذ ظهورهم عام ،1928فبدال من العمل على طمأنة جميع القوى المناوئة ،عملوا دون هوادة على إقصاء الجميع واالستئثار بكل مفاصل السلطة ،وهم يعلمون أن الدولة العميقة التي تركها مبارك خلفه ستقاومهم بشدة .نسوا القوات المسلحة بكل جبروتها ومصالحها المتشابكة .نسوا قوات األمن التي لم تنفذ أمرا واحدا أصدره الرئيس المنتخب محمد مرسي ،ونسوا جهاز القضاء بتقاليده البيروقراطية العجيبة ،وفي النهاية استعدوا جميع السلطات الحقيقية، واحتفظوا بسلطة رمزية ممثلة في رئيس منتخب ،وحكومة غير فعالة ألن كل قراراتها تحولت إلى حبر على ورق. كان األفضل لإلخوان أن يتخلوا عن االنتخابات الرئاسية، ويدعموا مرشحا من خارج صفوفهم حتى وإن كان قريبا لهم من الناحية اإليديولوجية ،لكنهم كانوا أشبه بالصائم دهرا ينتظر آذان المغرب منذ عام ،1928كما أن اإلخوان لم يتخلوا عن نظرة المؤسس حسن البنا ،ولم يجروا أي تحديث في منظمتهم التي تحولت إلى ما يشبه المحفل الماسوني ،أكثر من كونها منظمة سياسية لها رؤية محددة وبرنامج سياسي واضح. ومع ذلك لن تستطيع القوات المسلحة إلغاء اإلخوان ،مثلما لم يستطع الجيش التركي إبعاد اإلسالميين بالكامل عن السياسة 91
بالرغم من انقالباته الثالثة ،وقد تكون نتيجة االنقالب العسكري في مصر أشبه بآخر انقالب في تركيا ،يعجل بإبعاد العسكريين عن السياسة ،ولكنه سيجبر أيضا التيارات اإلسالمية على القبول بلعبة السلطة والديمقراطية ،وقد تجبر هذه الضربة الموجعة شباب اإلخوان عن االنشقاق عن شيوخهم ،وتأسيس حزب يشبه حزب أردوغان في تركيا ،الذي ال يكف عن تذكير الجميع بأنه حزب علماني ،بينما يدفع العسكريين إلى األبد نحو ثكناتهم.
92
ليبيا لي�ست ببعيدة عن م�صر ثمة تأثيرات متبادلة بين الجارتين مصر وليبيا منذ قديم الزمان، فالصحراء الليبية دفعت عشرات اآلالف من سكانها العطشى نحو نهر النيل ،حتى أن الفراعنة شكلوا قوات أشبه بقوات حرس الحدود اليوم، لمنع تدفق المزيد من المهاجرين ،ومع ذلك لم يصل المهاجرون فقط إلى النيل وإنما وصلوا إلى قمة السلطة ،عندما تمكن العسكري شيشنق ابن مهاجر ليبي من تأسيس األسرة الثانية والعشرين عام 950 قبل الميالد.
واليوم تعيش في مصر عدة ماليين من أصول ليبية مثل قبائل أوالد علي والجوازي التي طردت من ليبيا في عهد يوسف باشا القره مانللي، ويمكن القول بأنه من الحدود الليبية حتى االسكندرية تسمع لهجات ليبية أكثر من اللهجة المصرية ،كما أن عدد ًا من السياسيين المصريين وغيرهم يحمل ألقابا ليبية مثل رئيس الوزراء األسبق كمال الجنزوري، ورئيس هيئة صياغة الدستور حسام الغرياني ،ومع ذلك فإن التأثيرات المصرية في ليبيا هي الحاسمة وخاصة في العصر الحديث. 93
في عام 1949عندما كان إدريس السنوسي أمير ًا على برقة ،لجأ عضوان من جماعة اإلخوان المسلمين إلى ليبيا هرب ًا من حملة اعتقاالت في صفوف الجماعة بتهمة التآمر على الملك فاروق، وتمكن األثنان من الوصول إلى األمير إدريس الذي لم يتردد في إجارتهما بالرغم من معارضة البريطانيين ،الذين كانوا يديرون كل شيء في ليبيا قبل االستقالل ،وعلى يدي هذين الالجئين تأسست جماعة اإلخوان المسلمين في ليبيا ،وبعد انقالب عبد الناصر تأثرت ليبيا بشدة بتوجهات وخطابات الزعيم الجديد ،وخاصة بين الشباب الذين مهدوا النقالب سبتمبر المشؤوم ،ومنذ ذلك الحين عين القذافي نفسه خليفة لعبد الناصر ،و»أمينا للقومية العربية».
لم تكن شخصية عبد الناصر وحدها كافية إلحداث مثل هذا التأثير في الجمهور الليبي ،وإنما كان هناك جيش من المعلمين والعمال وتقريبا جميع التخصصات ،باإلضافة إلى األفالم ،واألغاني، والمسلسالت التلفزيونية ،واليوم ال يزال هذا التأثير قائما ،خاصة ان الليبيين انتظروا قيام المصريين بثورتهم على حسني مبارك ،قبل أن يقوموا بثورتهم على القذافي. االنتخابات
اختالف نتائج االنتخابات الليبية عن نتائج االنتخابات المصرية والتونسية ال يعني نهاية هذا التأثير ،حيث نجح في البلدين المجاورين اإلسالميون بنسبة كبيرة ،بينما حصل حزب العدالة والبناء الذراع 94
السياسي لجماعة اإلخوان المسلمين على سبع عشرة مقعد ًا فقط في المؤتمر الوطني العام ،فيما تحصل تحالف القوى الوطنية على تسعة وثالثين مقعد ًا ،ومع ذلك تمكن اإلسالميون بالتحالف مع بعض المستقلين من استبعاد محمود جبريل لصالح مصطفى أبو شاقور، قبل أن يتوافقوا في نهاية األمر على علي زيدان كرئيس للوزراء.
في مصر يبدو االستقطاب حاد ًا جد ًا بعد إعالن الرئيس محمد مرسي إعالنه الدستوري المثير للجدل ،وعادت المظاهرات المليونية إلى سابق عهدها ،وال يبدو ثمة حل في األفق ،وإذا استمر هذا االستقطاب وخرجت المظاهرات عن السيطرة فقد تشهد مصر بوادر حرب أهلية ،قد تجبر القوات المسلحة على التدخل وإقصاء مرسي بالقوة ،وهكذا ستعود البالد إلى نقطة الصفر ،وستمتص الدولة العميقة كل ما حققته ثورة الخامس والعشرين من يناير ،قبل أن تجرى انتخابات جديدة ستكون نتائجها ليس في صالح اإلخوان المسلمين، خاصة إذا دفع الليبراليون بمرشح واحد مثل حمدين صباحي ،بدالً من عدة مرشحين مثل عمرو موسى ومحمد البرادعي. بالتأكيد ال يمكن إقصاء جماعة مثل اإلخوان المسلمين التي تأسست عام ،1928وستكون مؤثرة سوا ًء بقيت في الحكم أم في المعارضة .إذا نجحت في البقاء في الحكم غالب ًا سينجح اإلسالميون في الهيمنة على ليبيا ،وسيكون هناك تنسيق بين دول الربيع العربي الثالث ،وإذا نجحت الثورة السورية في إسقاط األسد فسينجح اإلخوان المسلمون في السيطرة على مقاليد السلطة ،وعندها يكون 95
اإلخوان قد سيطروا على المنطقة الممتدة من تركيا إلى المغرب ،أما إذا فشلوا في االحتفاظ بالسلطة في مصر وتونس ،فغالبا ما سيفقدون سيطرتهم في ليبيا لصالح تيارات سياسية أكثر انفتاح ًا. ت�أثير متبادل
حتى اآلن ما حدث في ليبيا يؤثر سلب ًا على مصر من الناحية األمنية، وبالرغم من الجهود المكثفة من قوات األمن المصرية وحرس الحدود ،إال أن الصواريخ المتوسطة المدى التي كانت موجودة في مخازن القذافي وصلت إلى سيناء وغزة ،وإذا تحول االستقطاب السياسي في مصر إلى مرحلة عنيفة فلن تتمكن قوات األمن من وقف تهريب األسلحة ،ولكن هذه المرة ستستخدم بين الفرقاء ،مما يهدد كامل المنطقة باالنهيار وانتشار العنف واإلرهاب ،وعندها لن يستطيع أحد في ليبيا من فرض األمن واالستقرار.
أي اضطراب يحدث في مصر يهدد ليبيا المضطربة ليس فقط من الناحية األمنية ،بل حتى من الناحية االقتصادية واالجتماعية، عندما يلجأ إلى ليبيا الماليين من الالجئين ،حتى إذا كان وصولهم إلى ليبيا مجرد محطة مؤقتة للهجرة عبر البحر إلى أوروبا ،وهو ما سيشكل ضغط ًا على الحكومة الليبية التي ال تزال عاجزة عن إرضاء المجموعات المسلحة ،والجرحى الذين ال يجيدون االعتصام إال أمام مصفاة الزاوية لتكرير النفط ،فتتوقف السيارات في طوابير طويلة أمام محطات البنزين في طرابلس. 96
هذه المرة ال يتدفق الليبيون إلى مصر من أجل الوصول إلى نهر النيل ،وإنما سيتدفق المصريون نحو ليبيا بالماليين ،فاآلفاق االقتصادية في مصر ال تبشر بنتائج جيدة على المدى القصير ،وتحتاج البالد إلى المزيد من االستثمارات األجنبية لتجني ثمارها على المدى المتوسط ،والمستثمرون يشترطون توفر األمن واالستقرار ،وهي معادلة تظل أطرافها غائبة طالما أن الماليين معتصمون في ميدان التحرير وأمام جامع القائد إبراهيم. ال شك أن مصر بها إمكانيات كبيرة وإذا استقرت األوضاع من الممكن البدء في تنمية شاملة ،واستقطاب االستثمارات األجنبية قد ينقل البالد نقلة نوعية ،وقد تستطيع الديمقراطية المصرية تعقب التجربة الماليزية والتركية وحتى الكورية الجنوبية ،وعندها سيكون التأثير المصري على كل المنطقة وليس ليبيا فقط ،ولكن المشكلة أن الفرقاء المصريين ال ينظرون لصالح البلد بقدر نظرتهم لمصالح جماعاتهم وتياراتهم ،وهم أشبه بمسافرين يتشاجرون فوق سفينة بما في ذلك الربان وبقية المالحين.
ثمة خوف شديد في صفوف التيارات المدنية من اإلسالميين واستفرادهم بالسلطة ،خاصة بعد أن أصبح الرئيس مرسي إثر إعالنه الدستوري يحتكر السلطة التشريعية والتنفيذية في البالد، وهو ما يؤكد ،وبالرغم من عراقة جماعة اإلخوان المسلمين أنهم يجيدون المعارضة ،التي عاشوا في صفوفها منذ ظهورهم وال يجيدون الحكم ،كما أن تجربة األحزاب المدنية معهم كانت مريرة ،ألن 97
اإلخوان يرفضون العمل مع أي تيار آخر أو حتى الدخول في حوار معه ،وتسريبات حديث راشد الغنوشي مع السلفيين تؤكد ذلك، وتوحي بأنهم في نهاية األمر سيقصون الجميع ويستفردون بالسلطة.
لم تأت الديمقراطية إلى الشعوب على طبق من ذهب وإنما على أشالء هذه الشعوب ،هذا ما حدث في الدول الديمقراطية وعلينا التعلم من هذا التاريخ ،وأن نقلل من عدد الضحايا ،طالما أن التيارين وبعد صراع عنيف وانشقاقات هنا وهناك سيتعلمان كيف يتوافقان، وليبيا تمر بنفس التجربة وقد تتمخض على نفس النتائج ،لكن ما يميز ليبيا أن اإلسالميين المعتدلين أقرب إلى التيار المدني ،وبرهن التياران على التوافق بسرعة عندما صوتا لعلي زيدان ،ويبقى الخطر كامن ًا من التيارات اإلسالمية المتشددة ،مثل السلفيين والجماعات القريبة من فكر القاعدة.
إذا اجتازت مصر هذا المخاض بسالم فذلك ما سينعكس إيجابي ًا على ليبيا ،أما إذا تحول االستقطاب الحاد إلى استقطاب دموي ،فإن الجماعات المتشددة ستُقصي الجميع عن السلطة ،وعندها سنرى مناطق ملتهبة وأخرى مستقرة مثلما حدث في الصومال ،حيث الشمال مستقر في ظل حكومة أرض الصومال وبالد بونت ،وجنوب ملتهب تحكمه حركة المحاكم حينا وحركة الشباب أحيانا أخرى.
98
الم�صالحة عـلى الطريقة الليبية بعد سنوات االنتظار الطويلة والمملة ،تقلبت ليبيا على جنبها الثاني ،وهو أمر لم يحدث منذ أن اختارت الجنب األول لتنام عليه، أي منذ عام ،1977وهو العام الذي اعتمدت فيه ما يسمى بسلطة الشعب كنظام سياسي .لم يفشل نظام سلطة الشعب فحسب ،وإنما تفسخ بالكامل وأصبح عبئا على الجميع ،حتى على الذي فرضه بقوة السالح ،ليصبح الحاكم المطلق في البالد ،حيث ال حدود لصالحياته ،وال وجود لتوقيعاته ،فالمسئولية مسئولية الشعب الذي يحكم ،ونظريا كان «قائد الثورة» مجرد مرشد أعلى لهذا النظرية العجيبة ،التي احتكر صياغتها وتطبيقها وتعديلها كلما راق له ذلك، وفي السنوات األخيرة سحبت الصالحيات مما يسمى باللجنة الشعبية العامة ،وتحول الوزراء الذين «صعدوا» في مؤتمر الشعب العام ،إلى مجرد موظفين ينفذون أوامر ضابط كبير مكلف باإلشراف على هذا القطاع ،أو تلك الوزارة. إذا سمحت سلطة الشعب للقذافي بحكم ليبيا بصالحيات 99
لم يحلم بها شاه إيران ،وبول بوت ،ومحمد عمر زعيم طالبان، فإنها اآلن ال تنفع أبنه ألن سلطة الشعب ال تورث .لذلك ظلت هذه السلطة موجودة في مسودة الدستور ،ولكن إلى جانبها توجد هياكل أخرى ال يملك فيها الشعب أي سلطة ،ولها صالحيات لم يحلم بربعها الشعب منذ أن استلم سلطته وثروته وسالحه ،وهي الهياكل التي سيعبر من خاللها االبن إلى سلطة «مشروطة» هذه المرة ،أي ألول مرة يتم تحديد الفترة الزمنية التي سيبقى فيها رئيس القيادة االجتماعية في السلطة. المخا�ض اال�صطناعي
في األيام القليلة الماضية حدث حراك في ليبيا لم يحدث منذ منتصف السبعينات ،وثمة مؤشرات أن هذا الحراك يتم التحكم فيه عن بعد وعن قرب ،وهو أقرب إلى المخاض االصطناعي ،الذي يعطيه طبيب الوالدة للسيدة التي على وشك اإلنجاب ،إذا تأخر مخاضها الطبيعي ،ولكن ليبيا أنجبت بعد المخاض االصطناعي عدة توائم ،من بينهم الدستور ،قانون الصحافة ،والمنابر ،جميعهم خرجوا من بويضة واحدة ،ولكن كل من هذه التوائم ال يشبه اآلخر، وفي تقديري أن أول من سيتعلم المشي والكالم هو بالتأكيد التوأم المعروف باسم المنابر ،أما الدستور فسيتأخر في القدرة على الكالم، حتى يشتبه في إصابته بالبكم والخرس .وأتوقع أن تسخن المنابر في الفترة القادمة ،والتي ستكون بالتأكيد قبل 20أغسطس حيث تعود 100
سيف اإلسالم ،قائد اإلصالحيين إلقاء بيانه األول الذي قسمه على عدة سنوات ،وفي كل سنة يقرأ مقطعا منه .وتقديري أن مقطعه القادم سيكون على المصالحة في ليبيا. م�صالحة بدون �إن�صاف
بعد أن تراشق «الثوريون» واالصالحيون في المنابر ،وعلى صفحات الصحف ،حيث هدد الثوريون بالعودة إلى الكالشنكوف، وهي الوسيلة الوحيدة التي يجيدون الحوار بها ،خففوا من لهجتهم، وخاصة في محاضرة «مفتي الثوريين» رجب أبودبوس ،الذي أقر بحق الناس في أن يكون لهم دستور ،وأن الدستور ليس مناقضا لسلطة الشعب في «المذاهب األربعة» ،وأيضا محاضرة المهدي امبيرش، خطيب مثابة المدينة ،والذي اصطحب معه المحامي محمد سالم دراه ،الذي قال أنه ما كان يستطيع حضور هذه المحاضرة لوال أن امبيرش وعده بأنه سيكون في حماه .تحاول المنابر التأكيد من يوم مولدها بأنها جزء من سلطة الشعب ،بينما يعلم الجميع بأن المنبر عندما يشب على الطوق سوف يصبح اسمه الحزب ،وهو ما ال يستطيع المفتي وخطيب المثابة القول بأنه ليس مناقضا لسلطة الشعب ،ويبدو أن المنابر ستتحول إلى مساحة حوار بين الجالدين والضحايا ،وفي المدة القريبة القادمة ،وقد يتطور األمر ليتحول إلى حوار على شاشة التلفزيون ،حيث سنرى السجناء السابقين وهو يسألون أحد هؤالء الثوريين عن سبب سجنهم ،ومثلما تحاور الجالد والضحية في 101
جنوب إفريقيا ،والمغرب بعد تأسيس لجنة اإلنصاف والمصالحة، ستحدث مصالحة في ليبيا ينجو منها المجرم من العقاب ،بمساعدة حاسمة من ضحيته ،وقد تدفع تعويضات مادية للضحية مثلما دفعت في المغرب ،حتى ال تستطيع الضحية فتح هذا الملف في المستقبل. ا�ستدراج الإ�سالميين �إلى المنابر
من المهم أن يتواجد في هذه الفترة التياران «الثوري» واإلصالحي، ليس فقط من اجل إتمام المصالحة ،وإنما حتى ال يشتط أحدهما، فيتم تهديده باآلخر ،فمثال إذا رفض االصالحيون مسودة الدستور وقانون الصحافة ،فسيتربص بهم الثوريون ليرضوا في آخر األمر بالسقف المتاح ،وليس السقف المطلوب ،وإذا اشتط الثوريون في عرقلة «اإلصالحات» فستخرج ملفات فسادهم من األدراج المقفلة، وستضاف إليها ملفات جديدة وخاصة خالل جلسات المصالحة، وهو ما يعني أن النجاح الذي حققه النظام في سيناريو التوريث، جعله يطور التفاصيل الصغيرة ليستفيد بأكبر قدر من سيناريو كان يشك في نجاحه في بداية األمر ،وإذا كان سيف اإلسالم هو أكبر ضمانة لمكونات النظام القديمة ،من العائلة ،القبيلة ،إلى اللجان الثورية ،فإن سيف نفسه أصبح الضمانة الوحيدة لإلصالحيين الذين استظلوا جميعا بظله ،ليتحول التوريث من رغبة فوقية ،إلى مطلب شعبي تتقدمه النخبة اإلصالحية ،والحرس القديم الذي سيكفر عن أخطاءه باالعتذار ،بينما يخرج مبتكر وصانع سلطة الشعب من كل 102
هذه المعمعة ،وفقا للبند الرابع في الدستور الذي سيقبله الجميع مثلما قبلوا جميعا بسيف اإلسالم .فإذا ضمن الثوريون سالمتهم وكل ما سرقوه ،فسيراهن االصالحيون على أنهم وضعوا البالد على سكة جديدة قد تقودها إلى مصير مختلف ،وهو ما يستطيعون القيام به اآلن وسط كل تلك األلغام المزروعة منذ أربعين عاما .وخاصة وأن التوقيت الذي تم اختياره لبرنامج المصالحة ال يلبي استعجاال داخليا ،لبلد انتظر أكثر من 31سنة وهو يدرك أن سلطة الشعب تقوده إلى كارثة ،وإنما االعتبارات الخارجية هي التي ال تنتظر ،فال نعرف من سيصبح رئيس أمريكا بعد بوش ،الذي طوى قبل خروجه ملفات التعويضات ،ولم يبق إال إقناع الديمقراطيين إذا فاز أوباما بأن الليبيين متفقون جذريين وإصالحيين ،وأنه ال يمكن إال الجمع بينهما وإال فإن البالد ستنقسم مثلما حدث في العراق ،فلسطين ،ولبنان ،وخاصة إذا تم استدراج اإلسالميين إلى المنابر فخطابهم كفيل بجعل حتى أوباما يتردد في رفع سقف صمم منذ البداية ليعيش تحته شعب من القصر.
103
تفكيك المنظومات الأمنية والع�سكرية للقذافي حتى نتمكن من تفكيك المنظومات األمنية والعسكرية للقذافي،
علينا أوال أن نفهم تركيبتها ،وأن نفهم أيضا السياقات االجتماعية
والثقافية التي استندت عليها ،بما في ذلك االختالفات الواضحة في منظومة القيم بين الليبيين ،واختالف المستوى الحضاري بين
السكان ،نتيجة لتفاوت عالقات اإلنتاج تاريخيا ،ويمكن أن نبدأ من كتيبة سحبان والمنطقة التي كلفت بالسيطرة عليها.
تأسست كتيبة سحبان في مطلع الثمانينات ،وسميت بهذا االسم
على اسم قائدها المبروك سحبان المقرحي ،شقيق عبد السالم
سحبان أحد قادة الجيش الليبي في تشاد ،والذي وقع في األسر ورفض االنضمام إلى المعارضة ،فقتل في نفس اليوم الذي هرب
فيه حسين حبري من انجامينا ،بعد دخول الرئيس الحالي لتشاد
إدريس ديبي على رأس قواته إلى المدينة ،وال يعرف من قام بتصفية
عبد السالم سحبان.
105
تدمير الجي�ش
وجاء تأسيس هذه الكتيبة بالتزامن مع خطة القذافي التخلص المنهجي من الجيش الليبي ،الذي كان مصدرا لكل المحاوالت االنقالبية ،وذلك بزجه في أتون حرب تشاد ،ونظرا لألهمية اإلستراتيجية لمدينة غريان ،التي من خاللها يمكن الوصول إلى الجنوب أسرع من أي طريق آخر ،فقد اختيرت مقرا للكتيبة عند المدخل الجنوبي للمدينة ،على الطريق المؤدية لمصنع الخزف.
في البداية كانت الكتيبة صغيرة ثم أخذت تنمو باطراد مع الوقت، وبالمقارنة مع الرقعة الواسعة التي تتحرك فيها الكتيبة هذه األيام، يمكن تقدير حجمها ،حيث تتحرك من غريان إلى جميع أنحاء الجبل الغربي ،بما في ذلك مدينة مزدة ،وتتحرك شماال حتى مدينة الزاوية، كما أن للكتيبة استثمارات كبيرة في المنطقة ،حيث توجد محالت تجارية بجوار الكتيبة تعرف بدكاكين سحبان ،باإلضافة إلى سيطرته الكاملة على مشروع جندوبة الزراعي ،ومشروع أعالي الجبل الغربي.
وإلى جانب هذه الكتيبة كانت تتمركز بغريان كتيبة أخرى تعرف باسم الكتيبة الثامنة ،ولكنها ال تتبع سحبان وإنما تتبع الجيش الليبي، ويعمل بها عدد من الضباط الشباب القادمين من طرابلس ،مصراته، الزاوية ،وصبراته ،والذين ارتبطوا بصداقات واسعة مع شباب المدينة، حيث كانوا يلعبون كرة القدم مع الشباب ،ولهم فريق يشارك في المنافسات المحلية ،على خالف ضباط كتيبة سحبان الذين لم يتقبلهم مزاج المدينة ،كما توجد بالمدينة حامية غريان ،في المعسكر القديم، 106
ولكنها كانت حامية ضعيفة ،تتولى تدريب المنتسبين لدورات تجييش المدن ،والمقاومة الشعبية ،كما يتبعها المعلمون العسكريون في المدارس ،وهي الحامية التي انضم منتسبوها إلى األهالي عندما أعلنوا الثورة يوم 19فبراير ،ورفعوا العلم الدستوري على مقر البلدية. عالقات القرابة
يتكون معظم ضباط وجنود كتيبة سحبان من قبائل المقارحة، األصابعة ،المشاشية ،عكارة ،الساللمة ،الجعافرة ،والحرارات، وهي القبائل التي كانت تصنف ضمن بدو غريان ،واستغل القذافي الحساسيات الثقافية التي كانت قائمة في إضعاف غريان ،وذلك بتقوية البدو الرحل الذين كانوا يمتهنون حرفة الرعي ،ولكن مع الوقت تحولوا إلى أغلبية داخل المدينة ،حتى أنهم في منتصف التسعينات انتزعوا من سكان المدينة األصليين كل األمانات ،باإلضافة إلى أمانة المؤتمر .يذكر أن والدة القذافي عائشة بو النيران من قبيلة الساللمة، التي ينتمي لها األخوان الراحالن جمعة ومنصور بو النيران ،األول كان مديرا لشركة نفطية تعمل لعائلة القذافي ،والثاني شغل منصب آمر االستخبارات العسكرية حتى وفاته ،وهذا ما يفسر الحظوة التي كانا يتمتعان بها ،كما أن القذافي أطلق على غريان لقب «البلد األم»، ألن جده «قذاف الدم» ،مارس حرفة الرعي لصالح قبيلة الكميشات بالقواسم ،فزوجوه إحدى األرامل والتي أنجب منها بطون القذاذفة، وعندما توفي دفن في جبل غان. 107
حدود غريان
تنقسم غريان التي تمتد من محلة أبو غيالن شماال ،إلى محلة الكليبة جنوبا ،إلى أربعة أقسام إدارية ،وهي القواسم ومركزها المديرية ،والتي تمتد من جبل أبو غيالن ،إلى جبل طبي ،وبني داوود ومركزها مدينة غريان ،التي كانت تعرف باسم تغسات ،باإلضافة إلى السقايف ،أوالد بن يعقوب ،الدياسير ،أوالد حزام ،بن يحي البراشيش والبرج ،أما المنطقة الثالثة فتعرف باسم بني نصير ،ومركزها قرية تغرنة ،وتشمل وأدي األرباع ،القحاصات ،الزوية ،بوعياد ،بن يحي، دنون ،اليعاقيب كمون ،والكشالفة ،والربع الرابع يعرف باسم بني خليفة ،ومركزه قرية أبو زيان ،ويشمل باإلضافة إلى بوزيان ،أوسادن، الجحيشة ،قباع ،شعتان ،كعام ،المغاربة ،بني وزير ،تبادوت ،الكليبة، وشمسة ،ويبدو أن أسماء هذه المناطق األربع جاء من أسماء المدراء الذين تم تعيينهم إلدارة هذه المناطق زمن العهد العثماني األول ،أو في عهد الدولة القرهمانلية. أما كل ما يقع خارج هذه األرباع األربعة ال يعتبر من غريان ،بما في ذلك األصابعة التي ال تفصلها عن آخر بلدة في غريان إال أربعة كيلو مترات ،ويبدو أن السبب في ذلك يعود إلى االختالف في عالقات اإلنتاج بين غريان واألصابعة ،فأهل غريان حضر يقيمون في قرى حجرية ،قبل أن ينزلوا تحت األرض ويعيشوا في بيوت محفورة، وذلك بسبب استهالك البيوت الحجرية للكثير من الخشب ،لتحويل التربة الجيرية إلى جبس يقوم مقام االسمنت في وقتنا الحالي ،وأيضا 108
بسبب سهولة وسرعة انتشار مرض الطاعون في القرى الحجرية، كما يعتمدون على الزراعة البعلية ،لذلك تمتد أراضي غريان جنوب الجبل ،في منطقة قطيس ،ووادي الميت ،ويجاورون قبائل ورشفانة والزاوية ،أما من ناحية الجنوب فتمتد أراضيهم لتصل إلى القضامة واألجباب ،ليتجاوروا مع أوالد أبوسيف ،والجعافرة ،والبدو الرحل في طبقة وفوار غني. �أخوة الجد
خالل الثمانينات نشط القذافي بين القبائل فأرسل خليفة حنيش، الذي أقام بعض الوقت في منطقة القضامة ،وتفرغ في الظاهر لتنمية مشروع زراعي ،حيث أشترى تقريبا جميع حمير المنطقة ،ولكنه في الواقع كان يخطط لتفكيك األقاليم الغربية ،مثل غريان ،ورفلة، مصراته ،ترهونه ،ورشفانة ،الجبل الغربي ،ومنطقة القبلة ،ومعظم هذه األقاليم تتكون من قبائل صغيرة وحدتها جغرافية اإلقليم والمصلحة المشتركة ،ونجح حليفة احنيش من خالل خرافة «خوة الجد» في إبرام عدد من االتفاقيات في فوار غني ،وهي االتفاقيات التي خلدتها قصيدة الحارس الذي كان يحرس الفوار ،من خالل قصيدة «خوتك داروا خوت جدد تالقوا ما حد عرف حد» ،والتي رد عليها حسين شكال بقصيدة يلوم فيها احنيش عندما أبرم اتفاقا من النوايل ،على حساب ورفلة. في غريان وجد خليفة احنيش من يتجاوب مع خرافته ،حيث 109
نسق عبد المجيد القعود الذي ينتمي لقبيلة القحاصات ،مع محمد بالقاسم الزوي إلقناع القذافي أن القحاصات أخوة القحوص ،ولم يكن القذافي في حاجة لالقتناع فهم ينفذون مؤامرته بطرق أفضل، بينما أدعت قبيلة بو عياد أنهم مقارحة ،وبالمثل فعلت بعض العائالت في قبيلة أوالد حزام ،أما قبيلة الزوية فقد تذكرت أنها تنتمي إلى قبيلة الزوية في اجدابيا ،ووادي الشاطئ وواحة الكفرة ،ومنذ ذلك الوقت أصبح ممثلوها يعقدون اجتماعات سنوية كل مرة في أحد األمكنة المذكورة ،وهكذا حظوا بنفوذ واسع وانفتحت أمامهم كل األبواب، من خالل اتصالهم بشخصيات نافذة في النظام من نفس القبيلة ،مثل عبد الرحمن الصيد ،وأحمد محمود الزوي ،ومحمد بالقاسم الزوي. الفالح والراعي
ونظرا لقرب غريان من طرابلس فقد تعود أهاليها السفر والعمل في طرابلس ،لذلك ال تزال حتى اآلن توجد في المدينة القديمة بطرابلس حومة تسمى حومة غريان ،كما امتلكوا أشجار نخيل في الزاوية وجنزور ،وكانوا يرحلون في الخريف لجني الثمار ،بينما يرحلون في الربيع جنوبا ليتفقدوا أغنامهم التي أودعوها للرعاة الرحل الذين كانوا ومازالوا يقيمون في البادية الفاصلة بين غريان ومزدة.
وحتى يتمكن أهالي غريان من الجمع بين الزراعة وتربية الحيوانات ،لجئوا إلى نظام مشاركة مع البدو الرحل ،حيث يودع الغرياني حيواناته فترة من السنة مع أحد الرعاة ،الذين يقيمون 110
جنوب غريان ،أو تحت الجبل في المنطقة الممتدة بين الرقيعات وبئر الغنم ،ويسميه «صاحبي» ،يتقاسم معه اإلنتاج ،ويبني معه عالقة ثقة صارمة ،حتى أن زوجة الراعي ال تتحرج من الخروج للتسليم على الصاحب ،وكذلك تفعل زوجة الغرياني التي ال تخفي وجهها في حضور الصاحب ،واستمر هذا النظام حتى مطلع السبعينات ،واآلن يعتمد أهالي غريان على رعاة من تشاد ودارفور للقيام بهذه المهمة، إال أن تلك العالقة الصحية بين الحضري والبدوي اختفت بالكامل.
فقد لجأ القذافي إلى تعبئة الرعاة سابقا الذين تحسن وضعهم فجأة ،عن طريق المناصب العسكرية واألمنية التي اكتسبوها ،وكان يقول لهم إن أهل غريان كانوا يستغلونهم ،وهكذا بدأت الفجوة تتسع بالرغم من أن الفوارق التي كانت قائمة اختفت بسبب السرعة في التحديث.
خرافة النقاء العرقي
تتنوع األصول العرقية لسكان غريان ،فهم ليسوا قبيلة واحدة، وإنما مجموعات عرقية شتى وحد بينهم اإلقليم الجغرافي والمصالح المشتركة ،ومن خالل التسميات التي ال تزال سائدة ،مثل تغسات، تغرنة ،البراشيش ،تبادوت نالحظ أن األصل في غريان هو أمازيغي بال جدال ،ولكن األمازيغ استعربوا بالكامل ،نتيجة لوفود مهاجرين عرب ،تمسك بهم األهالي نظرا لندرة السكان ،وخاصة بعد موجات الطاعون ،التي أهلكت معظم سكان القرى الحجرية ،ومن األمازيغ 111
أخذ العرب كل تسميات الوديان ،والهضاب واألراضي ،وهو ما يعني أن التعايش كان سلميا وبالتراضي ،كما تعود أصول الكثير من سكان غريان إلى الكوراغلية ،واألتراك ،باإلضافة إلى األوروبيين القادمين من البلقان ،ونالحظ ذلك بسهولة وخاصة في تغرنة ،بسبب وجود سحنات شقراء بعيون خضراء وزرقاء ،أما العرق األفريقي فهو أقل انتشارا قياسا ببقية األعراق .في عام 1911عندما غزت إيطاليا ليبيا، كان يحكم غريان عائلة تركية ،هي عائلة كعبار المقيمة في تغرنة، وقد دفع الهادي بي كعبار قائم مقام غريان حياته ثمنا لسالمة غريان بعد خسارة المجاهدين لمعركة جندوبة ،فشنق في المدينة في نفس اليوم ،ومع ذلك قاوم شقيقه مختار ،ومعه عسكري تركي يسمى الحاج عبد الله التامسكت ،على رأس مفرزة من المجاهدين كمنوا للطليان في خرمة أصبيح بين بوزيان ،والكشالفة. �ألغام القذافي
كيف نفكك كتيبة سحبان؟ تكمن اإلجابة على هذا السوأل في كيفية تفكيك األلغام التي زرعها القذافي في الجبل الغربي ،ومناطق أخرى في ليبيا ،ومحاولة إعادة اللحمة بين المكونات االجتماعية لهذه المناطق ،خاصة وأن مظاهر االختالف في عالقات اإلنتاج اختفت بالكامل ،أما إذا بقي الوضع على ما هو عليه ،فإن المصلحة القبلية سترجح على المصلحة الوطنية ،ونعود إلى نفس المربع األول، عندما كان يستعين باشا طرابلس بقبائل الصيعان والنوايل النتزاع 112
الضرائب من بقية المناطق ،نظير إعفائها من دفع الضريبة ،وهو ما فعله القذافي الحقا ،ولكن من خالل أدوار عسكرية وأمنية لهذه القبائل ،ومن أهم الخطوات التي ينبغي اتخاذها بأقصى سرعة ،هي طمأنة هؤالء في مرحلة ما بعد القذافي ،وبناء تنمية شاملة ال يحرم منها أحد ،وعدم استبعاد أحد من العملية السياسية بما في ذلك قبيلة القذاذفة وحلفاءها ،وإال فإننا سنعيد إنتاج قذافي آخر في ظرف وجيز، وسيصعب التخلص منه مرة أخرى ،ولعل فترة حكم القذافي وهي األطول في تاريخ ليبيا ،ووحشيته المتناهية ،وغرابة أطوارها يعكس هذا الشرخ الحقيقي في الوجدان الليبي.
من المهم جدا في ليبيا ما بعد القذافي أن نفتح صفحة جديدة مع الجميع ،وأن نبني مؤسسات ال تعتمد على عالقات القرابة ،وأن نبدأ في تهميش القبلية كوسيط بين المواطن والدولة ،وهو ما كان يعتمده القذافي ،ولتبقى القبيلة عائلة كبيرة توفر لألفراد الغطاء االجتماعي، قبل أن تختفي كما اختفت في بقية أنحاء العالم المتحضر ،عندما تمكنت التكوينات الحديثة ،مثل الشارع والحي ،النقابة والرابطة واالتحاد والجمعية ،وهي مؤسسات المجتمع المدني التي تعامل الفرد كذات مفردة حرة ،وليس وفقا لجيناته الوراثية ،ففي المرة األولى يبقى مواطنا حرا ،وفي الثانية يتحول إلى مجرد فرد وسط القطيع.
113
العـودة الإجبارية �إلى الما�ضي... هـولندا والتعـددية الثقافية (*)
لم تكن مسألة التعددية الثقافية مطروحة للنقاش في المجتمع
الهولندي مثلما هي عليه اآلن ،فقد تصالح الهولنديون بعد معارك
طاحنة على اختيار العلمانية إطارا يجمعهم ،كما اختاروا أن يكون
البرلمان هو ميدان الصراع ،وهو الذي أوصد أبوابه في وجه كل
ما له عالقة باليوم اآلخر .أسست كل مجموعة مؤسساتها التي
عاشت متجاورة ،يفصلها خيط دقيق من التسامح المبني على التواطؤ بعدم رؤية اآلخر ،وإلى اليوم ال تزال هوية المجموعات الرئيسية في المجتمع واضحة بداية من المدارس إلى الصحف،
هكذا تأسس المجتمع الهولندي على أربعة أعمدة رئيسية ،وهي
البروتستانت ،الكاثوليك ،اليهود ،واالجتماعيين ،والمجموعة
األخيرة هي أكبر المجموعات وأكثرها أهمية ،وتتكون من كل من وضع الدين وراء ظهره.
115
اغتراب مزدوج
عندما وصل المهاجرون الجدد بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ،للمساهمة في إعادة اعمار البالد ،لم يجد الهولنديون مكانا لهؤالء الوافدين ،فلجئوا إلى حيلتهم القديمة ربما ألنهم لم يستطيعوا تطبيق نظام «اآلبرتايد» عليهم ،والذي طبقوه بحزم على سكان البالد األصليين في جنوب إفريقيا ،عندما كان الهولنديون هم المهاجرون وليس األفارقة ،وكانت الحيلة الجديدة القديمة هي في تجاهل حضورهم .افعلوا ما يحلوا لكم واتركونا نفعل ما يحلوا لنا .كانت الحيلة ناجحة لبعض الوقت ،خاصة وأن المهاجرين كان ينظر لهم كضيوف طارئين ،سرعان ما يغادرون البلد بعد االنتهاء من إعادة اعماره ،وأيضا بسبب جهل القادمين بحقوقهم ،فقد اقتضت حكمة الملك الحسن الثاني عندما طرق الهولنديون بابه سألين جاللته عن يد عاملة رخيصة ،أن أرسل لهم فقراء الريف المغربي ،الذين كانوا بالنسبة له مشكلة عويصة ليس لها حل إال باختفاء بعضهم من المملكة ،وهكذا وصل إلى أمستردام وروتردام وأوترخت رجال لم يشاهدوا في حياتهم الرباط والدار البيضاء .كانوا أميين وأغلبهم ال يجيد أي لغة أخرى باستثناء األمازيغية كما تنطق في منطقة الريف شمال المغرب، وليست بقية اللهجات األمازيغية مثل الشلحية والسوسية ،وكان عدد قليل منهم يتحدث العربية .بينما كان المجتمع الهولندي يبحر نحو ليبرالية متقدمة ،وقد واتته رياح هبت على أوروبا الغربية 116
بعد خروجها من رماد الحرب العالمية الثانية ،حيث تفجرت ثورة الجنس والطالب ،واستقام «الضلع األعوج» لينتزع حقوقه المؤجلة منذ الخروج المخزي من الجنة لوالدي البشرية .عندها قرر العمال الضيوف البقاء في البالد. الحياة في الهام�ش
على عكس الجالية المغربية جاء األتراك من المدن التركية الكبرى .بمستوى تعليمي أفضل ،وبتقاليد اجتماعية أرسخ في التضامن ،وهكذا بنوا بسرعة مظلة اجتماعية لجاليتهم ،وحتى اآلن ال تجد غير األتراك يعملون في المحالت التركية ،وال يزال األتراك يستعملون لغتهم في عملهم وبيوتهم ،بينما انشطر المغاربة بين ثقافتين ،وبين هويتين ال يعترف لهم اآلخرون بأي منهما. فهم هولنديون عندما يعودون في عطلة الصيف إلى المغرب، وهم مغاربة مهما عاشوا في هولندا .بقاء العمال الذين رحب بهم أرباب العمل ،ألنهم يرحبون بأرخص يد عاملة على ظهر الكوكب ،استدعى حضور الزوجات واألطفال ،وهنا بدأ الهولنديون يالحظون الفوارق الثقافية بينهم وبين هؤالء الذين يعيشون معهم .رؤية رجل مكفهر الوجه تسير زوجته على بعد خطوتين خلفه لفت انتباه الهولنديين بقوة ،وحوله إلى مصدر للسخرية ،ولكن لم يستدع دق ناقوس الخطر ،إال بعد ذلك الوقت بزمن طويل ،عندما أصبح الجيل الثالث يدب في شوارع المدن 117
الهولندية الكبرى ،وهو ال يجيد غير اللغة الهولندية ،ولكن ال أحد في المجتمع يعترف له بهويته الهولندية ،ولم يسمح له ببناء عموده، الذي سيكون العمود الخامس بين أعمدة المجموعات األربع الرئيسية في المجتمع .هذا التجاهل أجبر الجاليات على تأسيس مؤسساتها وفقا لمصالحها ووعيها .األتراك بنوا مساجد كبيرة بقباب ومآذن ،تلقى فيها خطب الجمعة باللغة التركية ،وتخضع لرقابة رؤساء الجالية ،الذين هذبتهم السطوة العلمانية اآلتاتوركية، بينما اختار المغاربة األفقر ،واألقل تنظيما أي مكان تسمح به البلدية ليصبح مسجدا ،ومع وصول مهاجرين جدد من أفغانستان، العراق ،الصومال ،ودول إسالمية أخرى ،تحولت تلك المساجد الصغيرة ،التي كان يكتفي فيها المهاجرون بالتعبد بعيدا عن إباحية مجتمعهم الجديد ،الذي حرصوا أن ال يتسرب ألبنائهم من خالل المدارس أي «دنس» يهدد «طهريتهم» ،ويبعدهم عن جنة عرضها السماء واألرض ،وهكذا وبسبب هذه الهوية المتشظية ،واالغتراب المزدوج ،وصعود الخطاب السلفي في أرض األجداد ،بدأ الشباب في رحلة البحث عن جذورهم بعيدا عن مجتمعات القرن الواحد والعشرين ،وداخل غيتوهاته في نفس الوقت. جر�س الإنذار
أول من دق جرس اإلنذار بقوة هو الكاتب واألستاذ الجامعي بول سخيفر في مقال نشر عام 2000تحت عنوان «دراما التعدد الثقافي»، 118
ومنذ ذلك الوقت ارتفع غبار من النقاش لم يهدأ حتى اآلن ،وانتقل من األحاديث اليومية ،والمقاالت الصحفية ،ليفرض نفسه بقوة في البرلمان ،الذي كان قد أقفل أبوابه منذ زمن بعيد في وجه كل الخطابات الدينية ،ولم يبق من تلك الحقبة البعيدة إال اسم الحزب األكبر» الحزب الديمقراطي المسيحي» ،وحزب االتحاد المسيحي ،وأيضا حزب صغير لم ينجح إال في احتالل ثالثة مقاعد من مقاعد البرلمان البالغة مائة وخمسين مقعدا ،وهو الحزب البروتستانتي المتشدد ،الذي يسعى دون هوادة أو كلل ، لتطبيق اإلنجيل ،والذي يؤمن أن على النساء العودة إلى البيت، ولكن في نفس البرلمان يحتل حزب تخصص فقط في حقوق الحيوانات ثالثة مقاعد أيضا ،وهو ال يؤمن بأي دين من األديان السماوية أو األرضية ،وهو أول حزب من نوعه في العالم يدخل أي برلمان ،كما حاول دخول البرلمان حزب يحاول أن يخفض سن الممارسة القانونية للجنس من سن 16سنة إلى سن 12 سنة ،والذي أقرت المحكمة العليا حقه في تأسيس حزب ،ولكنه لم يتمكن من دخول البرلمان. التحذير القوي الذي بادر به بول سخيفر أصبح يصم اآلذان وخاصة بعد أن تحققت توقعاته بمقتل السياسي الشعبوي اليميني بيم فورتاون ،ثم بمقتل المخرج السينمائي ثيو فان خوخ ،انتهاء بمقتل شاب مغربي خالل شهر نوفمبر الماضي ،في مركز للشرطة بحي سلوترفارت في أمستردام ،بعد أن اقتحم المركز مسلحا بسكين، 119
طعن به شرطية طعنتين ،كما طعن شرطيا في عنقه وظهره ،وتمكنت الشرطية الجريحة من أن تطلق عليه النار ،وترديه قتيال.
في عام 2000قال بول سخيفر إن« :التقليد القديم بتجنب الصراع ليس حال لمشكلة الهجرة ».وكانت خالصة مقاله تقول«:فشلت عملية اندماج المهاجرين ،ألن الهولنديين يغضون النظر عن المشاكل وال يجرؤون على تسميتها».
اليمين والي�سار والإ�سالم
هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي جاءت بعد عام من مقال سخيفر أجبرت الهولنديين على النظر إلى المشكلة وتسميتها ،وهنا اختلفوا بشكل كبير .اليمين بقيادة بيم فورتاون قال أن اإلسالم هو المشكلة ،ألنه دين «مغلق» ال يمكنه تقبل الديمقراطية ،والتعددية الثقافية وحقوق اإلنسان ،أما خليفته في قيادة اليمين المتطرف خيرت فيلدرز زعيم حزب الحرية اليميني ،الذي له تسعة مقاعد في البرلمان الهولندي ،فقد طالب علنا بإلغاء الجزء األكبر من القرآن ليسمح للمسلمين بالبقاء في البالد ،ووعد ناخبيه بقفل باب الهجرة أمام المسلمين ،بينما يحاول تيار اليسار التمييز بين «المسلم الجيد» من «المسلم السيئ» ،وخاصة حزب العمال المشارك في االئتالف الحاكم ،الذي يحظى تقليديا بدعم عدد كبير من مسلمي البالد ،ولكنه يلعب لعبة محفوفة بالمخاطر ،فهو من جهة يحاول أن يرضي ناخبيه المسلمين ،وأغلبهم من المسلمين التقليديين الذين اختاروه ألنه 120
يجيد الدفاع عن حقوق العمال ،وفي نفس الوقت يحاول الحزب من خالل ذلك أن يكون متوافقا مع القيم الليبرالية التي يؤمن بها ،بينما يضيق ذرعا أغلب اليساريين من هذه العودة المباغتة إلى الماضي، فهم من جهة يقفون دائما مع حقوق األقليات والمهاجرين ،ولكنهم يستشعرون الخطر من اإلسالم األصولي ،ليس فقط ألنه معاد لقيمهم، ولكنه يفزعهم من تذكر حقب بعيدة من تاريخهم قدموا فيها الضحايا على مذبح الحرية ،في مواجهة اليمين الذي يستغل هذه األزمة لزيادة عدد مقاعده في البرلمان ،والعودة لمناقشة مواضيع تم حسمها وصارت من المبادئ الراسخة ،مثل وضع المرأة ،حرية االعتقاد، الحرية الجنسية ،وحرية التعبير. الركوب الق�سري لقطار العولمة
هولندا لم تعد هي نفسها هولندا فهي ال تمثل ثقافة سكانها األصليين الذين يطلق عليهم «االوتوختون» أي المواطن األصلي، وال الوافدين الذين يطلق عليهم « االلختون» ،ومن العجيب أن هاتين الكلمتين تستخدمان في هذا البلد الليبرالي بشكل واسع من البرلمان إلى أصغر مقهى في البالد ،مع أن التسمية تشير إلى جذور بعيدة في نفي اآلخر ،وعدم االعتراف به ،ومن الواضح أن العلمنة قد عصفت بالجميع على عكس ما كان متوقعا في البداية ،حيث كان يخشى الضعفاء من هيمنة األقوياء ،وها هي العلمنة تجتاح كل أركان الكوكب ،مجبرة المتخلفين على اللحاق بالركب ،ولو 121
اقتضى ذلك تقريعهم ،وإجبارهم على نسيان اعتقادات ظلت راسخة بسبب العزلة ،ولكن العولمة في نفس الوقت تجبر الذين سبقوا على االنتظار ،وااللتفات بقوة باتجاه أسئلة وقضايا ،كانوا يعتقدون أنهم صارت جزءا من الماضي البعيد.
122
�أمريكا وقبائل ال�شرق الأو�سط بعد أربع سنوات من احتاللها العراق ،أدركت الواليات المتحدة أنها استدرجت إلى فخم لن تستطيع اإلفالت منه بسهولة .كان احتاللها الخاطف السريع للعراق مسكرا في البداية ،حيث لم يواجههم إال وزير اإلعالم محمد سعيد الصحاف ،الذي تجاهلوه حتى أنهم لم يبحثوا عنه ،أو يعتقلوه ،بينما كان على الهواء مباشرة ينفي ضاحكا احتاللهم لمطار بغداد الدولي ،وكانوا على عجلة من أمرهم ،حتى أنهم نسوا ماذا سيفعلون بعد االحتالل .حرسوا وزارة النفط ،وتركوا بلدا كامال ينهبه شعبه دون رحمة ،وعندها اكتشفوا أن هذا البلد غير جاهز لديمقراطيتهم التي نجحوا في تسويقها إلى اليابان وكوريا الجنوبية، ولكنها من الواضح ال تناسب الشرق األوسط.
تأكد األمريكيون أخيرا ،بعد ثمن باهظ أن تغيير الحكام العرب، أشبه بنزع السدادة من الزجاجة التي يعيش داخلها المارد ،وأن سبب وجودهم وبقاءهم الطويل على كراسي السلطة ،يعود إلى خلل في النظام الثقافي ،خاصة وأن الجميع فشلوا في حل مشاكل بلدانهم 123
المتفاقمة ،باستثناء الدول الخليجية الغنية بالنفط ،والقليلة السكان، وأحيانا يتحول النفط إلى نقمة عجيبة في بلدان مثل العراق ،ليبيا، والجزائر ،وحتى النجاحات االقتصادية التي وصلت إليها بلد ال ينتج النفط مثل تونس يعود ليس فقط إلى علمانية أبورقيبة ،وإنما لجاهزية المجتمع التونسي لمبادئ العلمانية ،وما تتطلبه الحياة المعاصرة من تأقلم وتكيف ،بالرغم من أن هذا النجاح محروس بحزم بوليسي، يخفي قبضته تحت قفاز أنيق. سيبقى في نهاية األمر األمريكيون لوحدهم في فخهم الذي قادهم إليه بوش ورامسفيلد ،والمعارضة العراقية التي اختفت من المشهد، عندما استيقظت الطوائف من نومها الطويل ،لتستأنف معركة صفين، عندها تأكد األمريكيون أن أي تغيير سيحدث في أي بلد عربي سيكون في صالح اإلسالميين ،وسيكون أتباع رجل دين صغير مثل مقتدى الصدر أكثر من أعضاء الحزب الشيوعي ،والبعث اللذين تنافسا بدموية ميزت التاريخ العراقي للسيطرة على البالد.
كانت كل النظريات السياسية واأليديولوجيات قد فشلت في هذه البلدان ،وأن األنظمة الملكية واألميرية والسلطانية هي األكثر تناغما مع مجتمعاتها ،واألكثر استقرارا ،بينما تحولت األنظمة الثورية بسبب خلل ما إلى أنظمة وراثية استبدادية ،أما الفساد المتفاقم في هذه البلدان ،وارتفاع أعداد الشباب العاطل واليائس فقد يقودها إلى كارثة محيقة ،وأن اتساع التشدد اإلسالمي هو دليل نكوص حاد إلى غياهب الالمعقول. 124
هذا النظام الثقافي الذي نشأ في الصحراء الكبرى وعلى تخومها يؤكد أن الطاغية لن يختفي من المشهد ،إذا لم يتغير النظام ،والذي يميل إلى الخضوع لمنطق الصحراء ،حيث التباعد والتناثر ،والقبائل التي أكد أبن خلدون أنها ال تخضع إال لقوة سامية مثل الدعوة الدينية ،أو لقوة وجبروت الحاكم .عندما تنمو الطبقة الوسطى تحدث التغييرات النوعية ألنها تفقد صلتها بالقبيلة ،وألنها تمنح لمفهوم المواطنة بعدا أكبر من االنتماء القبلي أو الجهوي أو الطائفي .هذا ما يؤكده التاريخ األوروبي الذي تطلب زمنا طويال ،وصراعا شرسا للوصول إلى هذا المفهوم ،الذي ازداد رسوخا بتطور معظم العالم على نفس النسق ،ولم يبق خارج هذا النسق إال هذه المساحة المترامية من أفغانستان إلى موريتانيا .ليس مصادفة أن القبيلة ال تزال تعيش في قلب هذه المجتمعات ،وهي ال تزال قادرة على لعب دورها أكثر من األحزاب ،ومنظمات المجتمع المدني ،حتى أنه ال يمكن تفسير بعض األحداث إال من خالل هذا المنظور ،ولم أستغرب عندما علمت أن حرب اليمن عام ،1994لم تكن حربا بين الشمال والجنوب ،وال كانت بين الحزب االشتراكي الماركسي ،وحزب الرئيس صالح الرأسمالي ،بقدر كونها حربا بين األشراف الذي ينتمي لهم كبار قادة الحزب االشتراكي ،والذين جاء منهم حكام اليمن ،والقبائل العادية التي ينتمي لها الرئيس صالح ،والتي كان يأتي منها التجار والجنود. في هذا النظام ال يوجد مكان للدولة بمفهومها الواسع الحديث، إال على شكل جنيني في األقاليم التي تعودت الدولة المركزية على 125
جباية الضرائب منها ،والتي يتغير مكانها مع كل موجة بدوية جديدة، قادمة من الصحراء لتبني على أنقاض الدولة السابقة دولة جديدة. في المغرب يسمون هذه المنطقة «المخزن» تمييزا لها عن «البالد السائبة» التي يصعب جمع الضرائب منها ،وإن كانت تخضع اسميا لسلطة الدولة المركزية ،على خالف ما حدث في أوروبا حيث تولى سكان المدن المسورة ،والمحمية بالقالع المحصنة سن القوانين بالتراضي ،وتكوين الدولة بتوحد المدن التي أسقطت أسوارها عندما غادر الجميع قبائلهم نحو المواطنة الجامعة. في هذا النظام تفتخر القبائل بسرقة الدولة ،ألنها كيان معاد في تصورهم ،وفي العادة تستأثر قبيلة الحاكم بأكبر حصة من الغنائم، وخاصة عندما يسقط الحاكم مع تقادمه كل األقنعة الحديثة التي واضبط على استخدامها سنوات طويلة ،مثل االشتراكية والديمقراطية والشعبية ،وأحيانا العظمى ،عندها تكون قبيلته قد احتلت كل مفاصل الدولة ،وعلى الفور يحلبون البقرة بهرج عجيب ،بينما تمارس القبائل األخرى نفس النشاط بصمت .في بلدي رأيت الناس تسرق البالط األرضي ،وبالط الجدران ،واألبواب والنوافذ ،وأحواض الحمامات والمطابخ ،والمصابيح والتوصيالت الكهربائية ،والمواسير المدفونة في األرض ،من بيوت شعبية كانت تبنيها الدولة لصالح القرية، لذلك لم أندهش عندما رأيت العراقيين ينهبون بالدهم أمام عدسات التلفزيون. لم يكن المحافظون الجدد على معرفة جيدة بهذا الواقع المفارق، 126
ولكن أيضا تنظيم القاعدة فشل في فرض نموذجه ،فقد تعرفت القبائل في نهاية األمر على مصالحها ،التي يعرضها تنظيم القاعدة، والمليشيات المعادية له إلى خطر كبير ،واألهم من ذلك بدأت قيادات الطوائف في خوض حوار إيجابي قد يفضي إلى بداية جديدة لبناء دولة جديدة ،وبعد أن كانت الشعارات هي محور الصراع ،حيث يتقاتل الناس لمجرد أن بعضهم يؤمن بالماركسية ،وغيرهم يؤمن بأفكار ميشيل عفلق ،أصبح الصراع حول المصالح اليومية في مدن وقرى العراق ،وهي البداية الحقيقية لتكوين أي دولة.
127
العـرب يكررون نف�س الأخطاء كان هناك دائما سوء فهم للعالم ،وللسياسة الدولية ،من طرف كل الذين حكموا البالد العربية ،منذ استقاللها عن الدولة العثمانية. وتحديدا منذ الشريف حسين ،الذي وعده مكماهون بدولة تمتد من الجزيرة العربية إلى الهالل الخصيب ،ولكنه مات منفيا في قبرص، ولم يبق من مملكته التي وعد بها ،إال األردن باإلضافة إلى العراق الذي تربع على عرشه فيصل بن الشريف حسين ،والذي منح له تعويضا عن فقده لسورية التي احتلها الفرنسيون عام ،1921قبل أن يلغي الملكية عبد الكريم قاسم عام .1958
ثمة من وضع البيض كامال في سلة األلمان خالل نفس الحرب، وأيضا في الحرب العالمية الثانية ،مثل مفتي فلسطين أمين الحسيني، ورئيس وزراء العراق في مطلع األربعينات رشيد عالي الكيالني، اللذين راهنا على انتصار المحور في الحرب العلمية الثانية ،وعندما خسر المحور خسرا معه كل شيء .المشكلة أن التيار البديل الذي راهن على انتصار الحلفاء لم يكن موجودا ،وإن وجد فهو على 129
األطراف وليس في المركز ،مثل الملك إدريس األول ،ملك ليبيا السابق ،الذي أسس جيشا في منفاه بمصر ،وقاتل مع البريطانيين ضد األلمان واإليطاليين ،وهكذا ربح رهانه ،فسمي أميرا على برقة، ثم ملكا على ليبيا.
خالل الحرب الباردة توزع العرب بين القطبين ،فراهن حلفاء بريطانيا سابقا على الواليات المتحدة ،أما العسكريون الذين وصلوا إلى السلطة منذ بداية الخمسينات فقد وجدوا أنفسهم مجبرين على التحالف مع السوفييت .لم تكن هناك نظرة إستراتيجية تركز على مصلحة العرب من هذه التحالفات ،ومع الوقت انعكست حالة العداء بين الحلفين ،إلى عداء سافر بين ممثليهما في المنطقة ،إلى درجة أن هذه العداوة حجبت األخطار المحدقة بهذه الكيانات ،وخاصة بعد ظهور إسرائيل.
على خالف العرب استثمر اليهود كل إمكانياتهم بالرغم من قلة عددهم ،ويتضح ذكاء اليهود في النظر إلى مصلحتهم بالدرجة األولى ،على حساب عالقتهم مع إي حليف .استثمروا وجودهم المميز في الحركة الشيوعية العالمية ،وهكذا نظر اإلتحاد السوفيتي إلى إسرائيل كتجربة اشتراكية ،تستحق تصدير اليهود الذين يعيشون على أراضيه ،إلى أرض الميعاد التوراتية ،بينما تكفل اليهود الذين عاشوا في الغرب بحلب الغرب ،لتمويل مشروع الدولة القومية لليهود ،مستغلين عقدة الذنب بسبب الهولكوست. لم تجد القوة الدولية التي عبرت المنطقة أمة واحدة ،مثلما وجدت 130
اليابان ،الصين ،والهند .كانوا في الحقيقة كيانات مختلفة تتحدث لغة واحدة ،ولها العديد من السمات المشتركة التي تؤهلها ألن تكون أمة ،ولكن ليس بعد ،ووفرت مصالح هذه الكيانات المتعارضة حتى بذل الجهود إلقناعها بجدوى العالقة مع هذا القطب ،أو ذاك القطب، وخاصة وأن النفط ظهر في مناطق صحراوية ال توجد بها كثافة سكانية ،تؤهلها حماية هذه الثروة ،وتخشى من خطر اجتياحها من أقرب جيرانها ،لذلك كان مجرد حماية الغرب لهذه الدول ،كما حدث بعد احتالل العراق للكويت ،يعتبر العائد األفضل لهذه العالقة ،بينما لم تستفد مصر ،سورية ،وليبيا في حماية أنفسها بسبب تحالفها مع السوفييت ،فقد احتلت سيناء والجوالن ،وقصفت الواليات المتحدة ليبيا ،دون أن تهتم بالسوفييت .حتى صدام حسين الذي قاتل اإليرانيين نيابة عن الغرب ،لم يستفد من هذه التضحيات ،بل جعلوه أمثولة لمن ال يقرأ التاريخ بشكل دقيق ،ومن يلهو في العالقات الدولية. اليوم لم يتغير شيء ،بالرغم من انهيار أحد القطبين .ال يزال العرب أضعف طرف ،دوليا وإقليميا .في الحقيقة لقد أصبحوا رهائن أقطاب إقليمية ،وخاصة في اللعبة القاسية بين إيران وإسرائيل ،والتي انقسم العرب كعادتهم ،ليكون بعضهم مع إيران ،والبعض اآلخر مع القطب الثاني ،خاصة وأن المعركة تجري على أرضهم ،في العراق ،لبنان، وفلسطين ،وإذا حدثت مواجهة مع إيران ،فسيكون الخليج بكامله أرض المعركة الكبيرة.
ليست األنظمة الحاكمة بحكم مصالحها الضيقة من يتحمل 131
مسئولية ذلك ،وإنما أيضا المعارضة ،التي تحالف بعضها مع أحد القطبين اإلقليميين ،دون أن تنتبه للمصلحة اإلستراتيجية العليا. ما يجري اآلن يؤكد أن العرب ال يملكون القدرة على االستفادة من أخطائهم ،مثلهم مثل األمم التي انقرضت من التاريخ.
132
بعـد خم�س �سنوات عـلى الغـزو ..العـراق لي�س اليابان من الصعب المقارنة بين االحتالل األمريكي لليابان والمانيا من
جهة ،ونفس االحتالل للعراق من جهة أخرى .بعد خمس سنوات من سقوط بغداد يوم 9أبريل ،2003يبدو البون شاسع ًا بين االحتالل الذي ال يزال يشكل خطرا على كيان العراق ،وبين االحتالل الذي
ساهم بشكل أو بأخر في جعل اليابان ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم ،وجعل المانيا عمالق أوروبا االقتصادي دون منازع.
بالرغم من أن االحتالل األمريكي للبلدين شكل صدمة ثقافية
وخاصة في اليابان ،حيث أضطر اإلمبراطور هيروهيتو الذي كان
مؤلها ،ومحجوبا عن العامة ،إلى النزول بنفسه ليوقع وثيقة استسالم اليابان أمام الجنرال األمريكي مكارثر ،وهو ما دفع الروائي الياباني
كينزا بورو إلى القول «إن االحتالل األمريكي لليابان أنزل اإلمبراطور
من السماء إلى األرض ،وهذا ربح صاف للسياسة والديمقراطية».
المتعالي في أي ثقافة ال يمكن إنزاله من السماء ،إال من خالل 133
التجارب األليمة ،والتي يأتي الغزو واالحتالل في مقدمتها ،ولكن هل تحقق شيئا من هذا في العراق ،بعد غزوه بخمس سنوات؟ لم يهبط اإلمبراطور في اليابان من سمائه المتعالية فحسب ،بل أحيلت طبقة الساموراي بكل جذورها البعيدة في الثقافة اليابانية ،إلى التقاعد التاريخي المبكر ،بالرغم من محاولة الروائي يوكيو ميشيما إعادة االعتبار لهذه الطبقة ،عندما انتحر في ميدان عام ،غارزا السيف في أحشائه .لكن بعد خمس سنوات من الوقوف المذل لإلمبراطور اإلله أبن الشمس ،أمام الجنرال المتعجرف مكارثر ،الذي لم يهتز له جفن، وهو يقصف مدينتي هيروشيما وناجازاكي بالقنابل الذرية ،تمكنت اليابان من العثور على طريقها ،وهي تنفض ذل الهزيمة. لقد قبل اليابانيون الدستور الذي أحضره مكارثر دون تغيير ،وهم الذين انقسموا بشدة حول إصالحات اإلمبراطور الميجي «المستنير» في مطلع القرن التاسع عشر .كان الدستور الذي صاغه األمريكيون بشكل كامل ،يهدف إلى إحداث تغييرات بنيوية تهدف إلى القضاء على أي تهديد ياباني في المستقبل ،وذلك باستئصال جذور النزعة القومية العسكرية ،وثقافة التعصب في المجتمع الياباني ،وهو أمر شديد الصعوبة ،بسبب تطور اليابان في عزلة عن العالم ،لدرجة أن كلمة نحن في اللغة اليابانية تعني اليابانيين فقط .مع ذلك فقد استفاد اليابانيون من هذه التغييرات ،التي حدثت قسرا ،فقد أخفوا العسكريين الذين خسروا الحرب ،وتوقفوا عن صنع السالح وشرائه ،وانصرفوا بكل همة ونشاط لتنمية بالدهم ،فتحولت اليابان من مجتمع إقطاعي 134
يعمل فيه 50%من سكانه في الزراعة ،إلى بلد يعمل فيه فقط % 10من السكان في الزراعة بحلول عام ،1980وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية تضاعف إنتاج اليابان كل سبع سنوات ،بحيث ارتفع إجمالي الدخل القومي من 39مليار دوالر عام ،1960إلى 2.3تريليون دوالر عام .1987بعد خمس سنوات من احتالل اليابان ارتفع معدل العمر إلى 64سنة للذكور و 68سنة لإلناث ،بينما يتراوح حاليا في حدود 82سنة وهو األعلى عالميا.
على عكس غزو اليابان ،ساهم الكثير من العراقيين في غزو بلدهم، بعضهم لمجرد التشفي في الطاغية ولو دمر العراق ،وبعضهم لم يجد طريقة أخرى للتخلص من الطاغية ،ولكن في مجمل األحوال كان معظم الناس يترقب سقوط نظام صدام حسين بكثير من الشغف، خاصة وأن المحافظين الجدد صوروا غزو العراق على أنه نزهة سريعة ،وأن العراقيين سيستقبلون الجنود بالورود .فجأة اختلط الحابل بالنابل ،حتى أننا لم نعد نرى نجوم المعارضة الذين أيضا صوروا لجنراالت البنتاغون الغزو على أنه مناورة بذخيرة غير حية، وحل محلهم قادة جاءوا مباشرة من غبار الفتنة الكبرى ،وما كان أحد سيصدق أن مقتدى الصدر وتياره سيصبحان رقما صعبا ،بالنسبة للحكومة التي جاء معظم وزرائها مع الغزاة. كان ثمة سوء فهم صححته الوقائع بقوة ومرارة ،وهو أن التنوير وتصدير الحداثة إلى اليابان وألمانيا ،ليس مثل تصديرهما إلى الشرق األوسط ،فالجينات الثقافية المسئولة على إنجاب الطاغية واالستبداد، 135
ال تزال تعمل بكفاءة بعد رحيله ،وأن تحول الشرق األوسط نحو الديمقراطية هو معركة داخلية قبل أن يكون معركة خارجية .هل يعني هذا أن العراق ميئوس منه؟ كال ،اعتقد أن العراق يتقدم بالرغم من كل شيء ،ولكنه يحتاج إلى زمن أطول من اليابان والمانيا ،ربما ألنه وجد نفسه رهين لعبة إقليمية لم تحسم بعد ،وان مكوناته العرقية والطائفية أكثر هشاشة من مكونات اليابان والمانيا.
ال بدّ أن تجربة العراق دفعت وتدفع المعارضين من بلدان عربية مشابهة ،إلى إعادة الحسابات في عالقة الداخل والخارج ،ومدى فاعلية الرهان على التدخل الخارجي .لذلك سعدت بنتائج المؤتمر الوطني الثاني للمعارضة الليبية الذي عقد في أواخر شهر مارس في العاصمة البريطانية ،والذي أعلن فيه ألول مرة ،أن المعارضة الخارجية سند للمعارضة الداخلية ،مما يعني أن الرهان ليس على الخارج بعد اآلن ،وإنما على الداخل ،على عكس االدعاءات السابقة التي تمني الليبيين بقرب ساعة الخالص على سواعد الخارج ،كما أن رمزية استخدام صندوق االقتراع ،النتخاب القيادة الجديدة للمؤتمر، أفضل من كل بيانات المؤتمر ،خاصة وأن احد الحاضرين اعترف أنه للمرة األولى في حياته يقف أمام صندوق اقتراع.
136
معـار�ضة المعـار�ضـة مثلما يختفي عن األنظار القادة العرب بالموت ،القتل ،أو بانقالب عسكري ناجح ،يختفي قادة األحزاب العربية المعارضة بطريقة مشابهة .لم يتقدم أحد منهم باالستقالة إال خالد محي الدين األمين العام السابق لحزب التجمع المصري ،الذي تنحى وترك القيادة لجيل جديد يمثله رفعت السعيد ،وأيضا محمد اليوسفي الوزير األول السابق للمغرب ،ولكنه اعتزل العمل السياسي بعد أن فقد منصب رئيس الحكومة .أما بقية قادة المعارضة العربية ،فبعضهم مثل الصادق المهدي زعيم حزب اآلمة السوداني ورث األمانة عن جده ،وهو الذي جرب االثنين .نعيم السلطة ،وجحيم المعارضة. ال عالقة لألمر بالجينات الوراثية لطائفتي المهدية والختمية ،ففي هذا األمر يتشابه الجميع ،حتى محمد إبراهيم نقد األمين العام للحزب الشيوعي السوداني بقى في منصبه منذ إعدام سلفه عبد الخالق محجوب عام ،1971وبالرغم من أن المكان الذي احتله نقد ليس مريحا ،فقد اضطر خالل أزمات السودان المتعاقبة من االختفاء 137
تحت األرض ،سنوات تزيد عن السنوات التي عمل فيها من تحت قبة البرلمان ،ولكن لسبب ما أغفل الرفاق مالحظة التشابه المريع بين النظام الحاكم ،وأكثر أحزاب المعارضة تميزا نوعيا.
يروي ميشيل كيلو ـ فك الله أسره ـ وهو يكتب عن الياس مرقص، كيف هز هذا القادم من فرنسا بركة خالد بكداش الراكدة ،الذي كان يمجده أتباعه من أعضاء الحزب الشيوعي السوري ،مرددين بأن الرفيقين ستالين وماوتسي تونغ يستشيران الرفيق خالد بكداش في كل كبيرة وصغيرة ،وأنهما يتساءالن دائما» ماذا لو لم يقيض للحركة الشيوعية العالمية قائدا مثل الرفيق خالد بكداش» .ظل بكداش أمينا عاما للحزب ،حتى وافاه األجل المحتوم ،وترك األمانة لزوجته، ولعله بهذا االختيار قد تميز على الجميع ،فقد ترك في نهاية األمر امرأة في هذا الشرق الذكوري .نعم ثمة نماذج شيوعية مختلفة، ويبدو أن الرفاق في سوريا كانوا يستلهمون النموذج األلباني بقيادة الرفيق أنور خوجا.
ولكن األزمة التي حدثت في حزب الوفد المصري ـ أعرق األحزاب المصرية ـ بعد انتخاب أمين عام جديد للحزب خلفا لنعمان عاشور ،الذي من حسن الحظ لم تكن بحوزته أسلحة الجيش المصري ،فقد ضبط معه ومع الرجال الذين كان يقودهم ،وأغلبهم من أقاربه ،مسدسين ،وقنابل مولتوف ،وسالح أبيض ،بعد أن هاجموا مقر الحزب ،وحاولوا طرد األمين العام المنتخب من مقر الحزب، الذي حاول نعمان بيعه ،عندما شعر أن العرش يهتز تحته. 138
نسيت أن أذكر أن الدكتور محمد المقريف األمين العام السابق للجبهة الوطنية إلنقاذ ليبيا قد استقال منذ عدة سنوات ،تاركا القيادة لصهره إبراهيم صهد ،ويبدو أن اإلخوان المسلمين في مصر قد اختاروا الوسط مرة أخرى ،فقد واظبوا دون كلل على اختيار أكبرهم سنا لمنصب المرشد العام ،وهكذا ضمنوا مرشدا جديدا كل عدة سنوات .في هذا األمر ال فرق بين السنة والشيعة ،واألباظية ،وال يوجد فرق يذكر بينهم وبين كل الملل والنحل التي تعيش معهم ،فبعد إصابة عبد العزيز الحكيم زعيم المجلس األعلى للثورة اإلسالمية بالعراق بمرض السرطان ،تولى ابنه القيادة ،مثلما توالها هو نفسه بعد مقتل أخيه ،ومثلما تولى مصدق الصدر قيادة تياره بعد وفاة أبيه .ال يختلف األمر كثيرا عند األخوة األكراد ،حتى حزب العمال الكردستاني الماركسي لم يتردد في اختيار شقيق عبد الله أوجالن عندما ألقي القبض على أوجالن الكبير ،أما قادة الطوائف في لبنان فقد اختلفوا في كل شيء ماعدا هذه الميزة الرائجة .آل الجميل يتوارثونها كابر عن كابر ،مثل آل الحريري ،وآل جنبالط ،وسالم والسعد والصلح، وآل إده ،وشمعون. لعل حركة حماس هي أكثر حركة معارضة عربية غيرت قادتها على اإلطالق ،ولكن إسرائيل هي من تولى ذلك بعمليات االغتيال المتوالية ،لذلك اضطرت حماس إلى إرسال خالد مشعل رئيس المكتب السياسي إلى دمشق بعيدا عن يد إسرائيل .أال يجعلنا هذا األمر نفكر في معارضة المعارضة؟ 139
هـل العـرب عـلى �شفا عـ�صر التـنوير؟ إذا كان سيغموند فرويد قد ركز على الالوعي الفردي ،فإن تلميذه كارل يونغ ركز على الالوعي الجمعي .ويميز يونغ في نظريته بين تكون من نوعين من الالوعي :الالوعي الفردي الفرويدي ،الذي ّ خالل الخبرة الشخصية ،بما في ذلك الخبرة المنسية ،مثل األحداث المؤثرة في طفولتنا المبكرة ،والتي نسيناها ،لكنها في الحقيقة ظلت محفورة في مكان ما ال نعي وجوده ،ما يفسر خوف البعض المرضي من شيء ما ،أما النوع الثاني فهو الالوعي الجمعي الذي يشمل كل موروثنا ومعتقداتنا التي وصلت إلينا من أسالفنا البعيدين ،والتي تنتقل وتتجذر في نفوسنا من خالل التربية والثقافة واللغة .وهي بهذا ليست موروثا جينيا ،البد أن يظهر تأثيره حتى عندما يولد المرء ويعيش في مجتمع آخر له الوعيه الجمعي المختلف. وإذا كان الالوعي الفردي مبهما ،يحتاج إلى سنوات طويلة ليكشف نفسه ،فإن الالوعي الجمعي يملك كل وسائل التعبير التي تعينه على إبراز نفسه بوضوح شديد .لكن ليس كل شخص يستطيع اكتشاف 141
الوعيه الجمعي ،إال إذا كان قادرا على التحديق في هذا الوعي ونقده. وحتى يحدث ذلك ،فالبد له من أن يتشبع من هذا الالوعي ،وأن يفهمه من خالل سياقاته التاريخية ،وأن يتمكن من تحليله بطريقة إبداعية، وليست طريقة نقلية ،سواء كان هذا النقل عن طريق تجلي تاريخي ينتمي لهذا الوعي ،مثل الرجوع إلى ابن خلدون وابن رشد وغيرهما في الثقافة العربية ،أو عن طريق استخدام النظريات الحديثة كما طبقت على مجتمعات أخرى يختلف وعيها الجمعي. ثمة الوعي جمعي إنساني تشترك فيه كل البشرية ،مثل تحريم أكل البشر ،حتى إن حدث أن أكل بعض البشر لحوم بعض ،وتحريم نكاح المحارم ،حتى إن لم يختف هذا السلوك في أرقى المجتمعات، وأيضا الخوف من الزواحف حتى إن لم نشاهد في حياتنا أفعى واحدة ،لكن الذي يقصده يونغ دون غيره ،هو الالوعي الذي يستند على النظام الثقافي ،والذي يجعل العربي يختلف على السويدي أو الياباني ،وهو الالوعي الذي ال يزال يفعل فعله في المجتمعات التي لم تصل إلى عصر التنوير بمفهومه األوروبي .لقد سمي ذلك العصر بعصر التنوير واألنوار ألنه تمكن من كشف منابع الالوعي الجمعي األوروبي .لم تكن التجربة سارة ،كانت مؤلمة بشكل ال يطاق على الصعيدين الفردي والجمعي .في الحقيقة ،تمثل أهم مكتشفات هذا العصر جروحا نرجسية ال تزال واضحة في الوجدان األوروبي .من علم الفلك إلى التاريخ الطبيعي .في البداية اكتشف العقل األوروبي أن األرض ليست مركز الكون ،وأن اإلنسان يشبه القرد في الكثير 142
من التفاصيل الدقيقة ،حتى رجح دارون أن يكونا أقرب األقارب بين كل حيوانات الكوكب .لكن المجال األكثر صخبا ،هو تحليل أصول اعتقاداتنا الدينية ،وأوهامنا العرقية ،ومحاولة تفسير السلوك العجيب لتاريخ األمم والثقافات ،ولماذا تنهض وتنهار األمم. من كان يتوقع مثال بعد كل تلك االنطالقة المبكرة لمصر أن تكبو على هذا النحو العجيب ،بينما بدأت نهضتها قبل اليابان ،لدرجة أن هذه األخيرة أرسلت بعثة لمصر لدراسة تجربة محمد علي في إيفاد أول بعثة دراسية لطالب مصريين إلى فرنسا؟ ربما يعود سبب الفشل إلى أن البعثة المصرية لم تهتم إال بالجانب الفني والتكنولوجي من التدريب ،ولم تكن لها القدرة على معرفة األسباب التي جعلت الفرنسيين أكثر تقدما من المصريين .حتى رفاعة الطهطاوي ،الذي رافق البعثة األولى كمرشد ديني للطلبة ،اكتفى بالسطح دون أن يكون مؤهال للغوص في األعماق ،وتحدث باستفاضة عن النظام السياسي، وغطى كل الجوانب المهمة من فرنسا مطلع القرن التاسع عشر .كان الطهطاوي متشبعا بهذا الشرق ،ويكاد يكون ممثله بامتياز ،ليس فقط لكونه مصريا ،وإنما رجل دين كانت مهمته األساسية حراسة الالوعي الجمعي الذي يحمله هؤالء الطلبة .وبالتأكيد فإن األغلبية المسلمة الحاكمة في مصر لم تكن تحبذ أن يعود من أوفد من المسلمين مسيحيا ،لكن الطهطاوي كان أكبر من هذه المهمة الصغيرة ،وكان ذكاؤه الحاد ،ورهافة حسه ،وطبعه الجسور المقتحم جعله يعكس في كتابه « تلخيص اإلبريز في محاسن باريز» ،واحدة من أكثر التجارب 143
انبهارا ورعبا في التاريخ العربي الحديث ،والتي كانت تعني أن العرب والمسلمين اكتشفوا من خالله أنهم متخلفون.
أما رحلة البحث عن األسباب فلم تنته بعد ،فمن سؤ حظنا أن الالوعي الجمعي محمي بأنظمة ال تخلو من تعقيد ،وعندما يشعر أنه يتعرض للخلخلة ،أو حتى للتفحص ،يدافع عن نفسه بشراسة عجيبة، ليس فقط في الثقافة العربية ،وإنما في كل الثقافات .إنه ال يدافع فقط على نفسه من خالل رموز التاريخية ،التي تركت تجربتها ليس فقط في بطون الكتب ،وإنما في سلوك يومي محدد ،بالطقوس والعادات والتقاليد ،وفي أسوأ مراحل استحضار هذا الالوعي الجمعي ،تعود لحظات تكون هذا الالوعي المبكرة ،والتي تنتمي إلى قرون وحقب تاريخية بعيدة ،إلى االنبعاث من جديد ،لتمشي في شوارع هذا القرن، والشيء الوحيد الذي يميزها عن لحظة ميالدها البعيدة ،هي تماهيها التكنولوجي والسياسي مع العصر الحديث. لم يعد رفاعة الطهطاوي ضروريا للسفر مع طلبة هذا العصر ،ففي مدينة مثل لندن في هذا اليوم ،يمكنك رؤية كل أسالفنا في ميدان البيكاديلي .إن األمر أبعد من فشل أنظمة بائسة مفلسة ،فشلت حتى في إطعام شعوبها الخبز الحاف ،لذلك يبدو األمر مؤلما وبشعا بشكل ال يطاق .حتى في أوروبا اآلن ال يزال النظام القديم يحتل هامشا ما على ناصية الشارع ،ويجلس على مقاعد معزولة في البرلمانات. بعض هؤالء ال يذكرني فقط بأسالفي البعيدين ،وإنما أيضا بأسالفي الذين يعيشون معنا هذه األيام. 144
�شكرا بيل غيت�س وجه �أمريكا الم�شرق أخيرا قرر بيل غيتس التقاعد المبكر ،وهو في ذروة مجده .لألسف الشديد تقاعد هذا العبقري ،الذي استفادت معظم البشرية من خدماته العظيمة ،حتى أولئك الذين لو أمكنهم الوصول إلى سياتل حيث يقيم، لما ترددوا في المرور عليها بغزوة تاريخية ،قبل أن يتقاعد جورج بوش االبن ،الذي لن يترك ما يفخر به ،ليس في كل أنحاء العالم وإنما حتى في وطنه .ألمريكا وجوه عديدة بعضها شديد القبح ،وأخرى تربطك بها وشائج حميمة ،مهما كان عرقك ،أو لونك ،أو المكان الذي ولدت به ،وتكاد أمريكا تنفرد بهذه االزدواجية الصارخة ،أكثر من أي مكان في العالم ،ففي الوقت الذي تكتشف فيه أن جورج بوش االبن ،غير مؤهل لحكم حتى بلدية صغيرة في تكساس ،تكتشف أن بيل غيتس هو في الحقيقة نبي ورسول هذا العصر ،وقد فعل ذلك بتبتل عجيب ،وكأنه لم يخلق إال ليجلس خلف جهاز الكمبيوتر ،كما يفعل كل المؤمنين به ،من كل األديان ،األعراق ،واأللوان. في سن مبكرة تمكن بيل غيتس ورفيق مسيرته بول آلن من السيطرة 145
على لغة البيسك ،وهي اللغة التي كان يفهمها الكمبيوتر عام ،1964 عندما كان حجمه في حجم غرفة كبيرة ،وكان يحتاج إلى طاقة إضافية من أجل تبريده ،ومن حسن حظ البشرية أن هذا الكمبيوتر العجيب كان في متناول بيل غيتس ،وبول آلن عندما كانا ال يزالن في المدرسة اإلعدادية ،ويمكن القول أنهما اكتشفا مبكرا أن هذه الهواية الغريبة، ستدر عليهما الكثير من األموال ،وفي سن مبكرة كانا يترجمان للشركات المبهورة لغة البيسك التي أتقناها ،ولكن رؤية بيل غيتس المبكرة بتحويل هذا الجهاز الضخم إلى مجرد شاشة صغيرة فوق طاولة ،سيدخل معظم بيوت األرض ،وسيصبح الرفيق األقرب إلى كل شخص خالل هذه الحياة الفانية .بل أن هناك حاالت إدمان لم يكن يتوقعها فرويد ،مرتبطة بهذا العالم االفتراضي والذي سيصبح تخصصا يتسع باستمرار.
إذا احتل جورج بوش العراق وأفغانستان ،وجعل حياة شعبيهما جحيما ال يطاق ،وهو يدعي أنه يقدم لهما الديمقراطية والرخاء، فإن بيل غيتس قدم ما وعد به ،وجعل شعوب األرض أكثر حرية في الحصول على المعلومات ،وأقدر على التواصل والحوار ،وربط من خالل اختراعاته بين مصائر بشرية كثيرة ،ومكن الذين اجبروا على مغادرة أوطانهم من التواصل مع أحبابهم ،غصبا عن كل تلك األنظمة المضحكة التي لم تفكر إال في تكميم األفواه ،ومنع الجميع من الهمس. صحيح أصبح بيل غيتس أغنى أغنياء األرض ،ولكن ال يوجد 146
أحد ال يقر بحق هذا العبقري في هذه الثروة ،ولكنه ذات يوم كان فقيرا لدرجة أنه عندما وصل مع بول آلن إلى مقر شركة ميتس ليعرضا عليها البرنامج الذي سيشغل أجهزة الكمبيوتر التي تنتجها الشركة، اضطرا إلى االستدانة من الشركة لدفع نفقات الفندق ،فقد استهلكت الرحلة الجوية كل ما معهما من دوالرات .في العشرين من عمره أسس مع آلن شركة مايكروسفت ،ومنذ البداية اختار غيتس الروح ورفض الجسد ،حيث ركز على روح ولغة هذا الكائن الجديد ،وترك غيره يهتم بالجسد .كانت الشركات األخرى ،مثل جنرال اليكتريك العمالقة ،قد وقعت عقدا مع مايكروسوفت لتزويدها بالبرنامج الذي يشغل أجهزتها ،والذي أصبح برنامج ويندوز أشهر برنامج لتشغيل أجهزة الكمبيوتر في العالمي ،والذي تعمل به أكثر من % 90من أجهزة الكومبيوتر على وجه األرض ،وهو يعني أن بيل غيتس أثر في البشرية أكثر من أي شخص سبقه على وجه األرض ،وفتح عالما سيجعله مجرد المؤسس أما آفاقه فال يمكن التنبؤ بها على اإلطالق، وربما نحن في طفولتها المبكرة.
من حسن الحظ أن غيتس تذكر فقره ،عندما خصص معظم أمواله للعمل الخيري ،وشجع آخرين من أثرياء مسيرته لالنضمام إليه ،ويقدر رأس مال جمعيته الخيرية بحوالي 37مليار دوالر ،وهذا يعني أنه روبن هود ،وعروة ابن الورد تنكر في عصر الكمبيوتر بمالمح شديدة البراءة ،من حسن حظ اإلنسانية.
147
الطربو�ش ..القبعـة ..والحجاب تبدو المعركة حول الحجاب في تركيا بين حزب العدالة والتنمية الحاكم ،والحزب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك معركة مبتذلة، فقد زج اإلسالميون بقضية الحجاب قبل أن يسيطروا على بلد، يحكمه مصطفى كمال أتاتورك من قبره ،بينما لم ينظر العلمانيون إلى نجاحات اإلسالميين في االقتصاد ،وقدرتهم على وضع حد للفساد، وهو مرض مستوطن في تلك البالد ،وتمسكوا بقضية الحجاب مثل امرأة عمياء تتمكن من القبض على لص ،بالرغم من أن أتاتورك نفسه لم يفرض الحجاب ،الذي فرض على طالبات الجامعات في سنوات التسعينات ،وبسب هذا القرار منعت عشرات اآلالف من النساء التركيات من مواصلة دراستهن في الجامعة ،وهو أمر يتناقض مع روح العلمانية كما تتجسد في العديد من البلدان الديمقراطية ،ولكن تركيا تختلف في هذا الشأن ،فالعلمانية التركية علمانية شمولية ،وضع أسسها عسكري حقيقي أنتصر في معارك شرسة ،وتمكن من تحرير التراب التركي كامال خالل ثالث سنوات ،وأسس جيشا لم يخض 149
حروبا إال ضد األكراد ،والقبارصة اليونانيين ،بينما قام بأربعة انقالبات على حكومات منتخبة.
منذ أيام استوقفتني صورة رأيتها على إحدى صفحات الجرائد. يظهر فيها مصطفى كمال أتاتورك ،مؤسس الدولة التركية الحديثة، وخلفه يسير جمع من الرجال ،وإلى جانبه تسير سيدة قصيرة القامة، تضع على رأسها حجابا يخفي كل رأسها ،وينسدل على كتفيها، بينما كان وجهها سافرا ،تنم مالمحه على سيدة ال تقل شخصيتها قوة عن شخصية زوجها األسطورية ،التي كانت ترتجف منها تركيا من األناضول إلى البوسفور .الذي استوقفني أن حجاب لطيفة هانم زوجة مصطفى كمال أتاتورك ،أكثر تزمتا من حجاب خير النساء، زوجة الرئيس التركي عبد الله غل.
بعد إلغاء الخالفة فرض أتاتورك على شعبه نزع الطربوش وارتداء القبعة األوروبية ،كما فرض عليهم أن يختاروا ألقابا ،وفي آخر األمر استبدل الحرف العربي بالحرف الالتيني ،أما اآلذان فقد أصبح باللغة التركية ،وإذا تحمست أنقرة واسطنبول لهذه التغييرات الرمزية ،فقد شعرت مدن وقرى األناضول باإلهانة ،ومنذ ذلك الوقت لم يغفروا ألتاتورك هذا التسلط ،حتى أنهم يرفضون مناداته بلقب أتاتورك الذي يعني أبو األتراك ،ويتحينون الفرصة للثأر للطربوش من القبعة ،وذلك بإعادة االعتبار إلى الحجاب بعد سبعين عاما من وفاة أتاتورك. ثمة شرخ عميق بين معظم شعوب الشرق األوسط ،يظهر تارة على شكل صراع أبدي بين البدوي والحضري ،وكأنه يؤكد أن 150
ما حدث بين هابيل وقابيل ال يزال يحدث اليوم ،وتارة يظهر على شكل اختالف حاد بين الريف والمدينة ،وهو الصراع الذي يحكم تركيا المعاصرة .لم يبق الصراع على شكله القديم ،بين ريف بعيد، ومدينة حديثة مترفعة ،تنظر إلى هؤالء الذين دفعهم الفقر والجفاف إلى هجرة قراهم ،إال كما ينظر األوروبيون إلى المهاجرين ،ولكن الطفرة االقتصادية التي شهدتها تركيا في العقود األخيرة ،جعل هؤالء الريفيين جزءا من الطفرة .زادت ثروتهم ،وتحسن تعليمهم، وولدوا وعاشوا في المدن التي كانت تلعنهم ،فكشفوا عن وجههم الحقيقي ،الذي أخفوه عندما دخلوا المدينة ،وآن األوان الحتاللها من الداخل.
تؤكد اإلحصائيات أن ثلتي نساء تركيا يرتدين شكال من أشكال الحجاب ،يتراوح بين الحجاب التقليدي الذي ترتديه القرويات في األناضول ،وحجاب متزمت أقرب إلى البرقع ،كالذي ترتديه المتشددات في كبرى المدن ،وهذا يعني أن ذلك الدستور الذي وضعه أتاتورك في منتصف عشرينات القرن الماضي ،ال يعكس الواقع كما هو عليه اليوم ،وأن ذلك الشعب البدوي القادم من أعماق آسيا ليحتل ما يعرف اليوم بآسيا الصغرى ،يمر بلحظة مفارقة في تاريخه، قد تنتهي إلى مصالحة تاريخية ،وقد تنتهي بانقسام عميق. وبالرغم من احتالل األتراك لمعظم العالم اإلسالمي لمدة خمسة قرون متعاقبة ،إال أنهم لم يتركوا خلفهم ما يفخرون به .في الحقيقة تركوا جيشا من الحريم ،وجيشا من االنكشاريين ،من يستيقظ منهم 151
أوال يمارس السلطة ،ولكن هذه المرة علينا أن نتعلم من األتراك، وخاصة أن اإلسالميين فيها برهنوا أنهم األذكى ،واألعقل ،واألطول نفسا ،بينما برهن العلمانيون أنهم مجرد انكشاريين يسيطرون على الجيش ،والمحكمة الدستورية.
152
الغـيبة ال�صغـرى ل�سيف الإ�سالم أعلن سيف اإلسالم القذافي في خطاب ألقاه أمام جمهور حاشد من الشباب ،يوم 20أغسطس الماضي ،في مدينة سبها ،أنه قرر عدم التدخل في شئون الدولة ،وأنه سيعمل فقط على تنمية المجتمع المدني واالقتصاد الليبي ،والعمل الخيري ،وقال «لم تعد لي معارك كبرى ولكن موقفي أصبح محرجا» .وبالرغم من أنه لم يوضح كيف أصبح موقفه محرجا ،إال أنه برر تدخل في السابق في شئون الدولة بسبب غياب المؤسسات ،ونظام إداري فعال ،وكأنه يقول أنه ينسحب بعد أن أصبحت في البالد مؤسسات قوية ،ونظام إداري متطور، وهو ما لم يحدث على اإلطالق ،وقال سيف اإلسالم أنه نجح في كل الملفات والقضايا التي تدخل فيها ،وأنه تمكن من وضع البالد التي شبهها بقطار على السكة الصحيحة ،وقال بالرغم من أن القطار لم يصل إلى محطته األخيرة ،ولكنه حتما سيصل ذات يوم ،وهذه المحطة هي «ليبيا الغد» ،حيث «ال مظلوم وال مغبون وال محروم»، مؤكدا أن ليبيا لن تتحول إلى الملكية أو دكتاتورية ،وكأنها بلد في 153
منتهى الديمقراطية ،وأشار إلى أن البالد ستحكم بواسطة عقد اجتماعي «دستور» ،ولكنه شدد على أن والده ال يزال «خط أحمر»، وأن الدستور سيؤكد على هذا الخط األحمر ،وأن االمتيازات التي يتمتع بها العقيد القذافي غير قابلة لالنتقال أو التوريث.
غيبة سيف اإلسالم تبدو هي «الغيبة الصغرى» ،وهي الفترة الممتدة منذ مولد اإلمام المهدي ،إلى وفاة والده اإلمام العسكري، أما الغيبة الكبرى فهي الغيبة التي تستمر حتى عودته في آخر الزمان، ليمأل األرض عدال ،ولعلنا نكون منصفين إذا حللنا ما يجري في عالم السياسة ،بمصطلحات ومفاهيم عالم الالهوت والغيب ،إذا كان الرئيس اإليراني محمود أحمدي نجاد ،يردد في كل المحافل أنهم في إيران يجهزون البالد لعودة المهدي المنتظر من غيبته الكبرى ،فإنه من المنطقي أن يتم تجهيز ليبيا لعودة سيف اإلسالم من غيبته الصغرى.
ال يمكن فهم قرار سيف اإلسالم باالنسحاب من شئون الدولة، إال من خالل التطورات السياسية التي شهدها العالم ،والتي كانت ليبيا طرفا فيها ،حيث تراجع العقيد القذافي بكل وضوح عن سياسة «االستسالم الوقائي» ،التي انتهجها منذ عام ،2003عندما اتضح له أن األمريكان فشلوا في العراق ،وأن برنامجهم لفرض الديمقراطية في الشرق األوسط ،استبدل بسياسة األمر الواقع ،وخاصة بعد أن انتهت بالفعل مرحلة انفراد الواليات المتحدة بكونها القطب األوحد ،وبعد أن أخذ التنين الصيني يجرب الطيران ،وينفث اللهب من فمه ،بينما استيقظ الدب الروسي من سباته الشتوي ،ليلتهم جورجيا ،في حين 154
لم يستطع الغرب هذه المرة إال التنديد ،ولم يجرد بوش الصغير ،كما فعل والده حملة دولية لطرد الروس من جورجيا ،على غرار ما فعل والده في العراق عندما اجتاح الكويت ،في الوقت الذي تتعقب فيه الهند خطوات جارها الصيني ،ولم تعد أمريكا الالتينية حديقة خلفية للواليات المتحدة ة ،وعندها قرر القذافي مقاطعة االتحاد من أجل المتوسط ،وأيد التدخل الروسي في جورجيا ،وبالتالي فإنه لم يعد بحاجة إلى ابنه ولعالقاته الدولية ،التي كونها منذ أن كان مسئوال على ملف لوكربي ،وحتى التوقيع النهائي على التسوية الشاملة مع األمريكان ،ودفع كل التعويضات التي يرفعها البعض لتصل إلى 20مليار دوالر ،ويخفضها البعض لتصل إلى 16مليار دوالر ،وقد انعكس هذا التغيير على الداخل ،حيث بدأ التضييق على اإلصالحيين من أتباع سيف اإلسالم ،بعد اختطاف المحامي ضو المنصوري، مؤسس مركز الديمقراطية ،الذي ألغته الحكومة ،وبعد رفع قضية ضد أستاذ العلوم السياسية ،الدكتور فتحي البعجة ،وعودة اللجان الثورية إلى خطابها القديم ،والتهديد باللجوء إلى السالح ،والتصفية الجسدية ،وهي تطورات قد يحتاجها سيف اإلسالم خالل غيبته الصغرى ،ليحشد من حوله مزيدا من اإلصالحيين ،وليكون البديل إذا أضطر النظام مرة أخرى للعودة إلى سياسة «االستسالم الوقائي». من الغريب أن فكرة المهدي المنتظر التي ظهرت في العراق ،زمن الخالفة العباسية ،لم تنجح إال في شمال إفريقيا ،عندما أسس عبيد الله المهدي الدولة الفاطمية ،وعندما تمكن محمد أحمد المهدي من 155
تأسيس الدولة المهدية في السودان أواخر القرن التاسع عشر ،وهاهي الفكرة ستتحقق مرة أخرى في ليبيا ،وخاصة وأن العقيد القذافي هدد في أكثر من مناسبة بتأسيس الدولة الفاطمية الثانية ،ويبدو أن الفكرة هذه المرة ستتمحور حول انصراف سيف اإلسالم عن الدولة الليبية، واهتمامه فقط بالمجتمع المدني ،بحيث سيكون جاهزا الستالم السلطة إذا غاب والده ألي سبب ،ولكن هذه المرة من خالل «ثورة» علنية ،يترقبها الشعب بفارغ الصبر ،حيث سيكون لسيف اإلسالم «معارك صغرى» هذه المرة ،ضد الدولة العجيبة التي أسسها والده، وضد «القطط السمان» ،ولصوص المال العام ،الذين أفقروا البلد، وكلما توسع سيف اإلسالم في تأسيس منظمات المجتمع المدني، كلما كان أقدر على جمع أكبر عدد من الليبيين من حوله ،وبالتالي سيحول التوريث إلى مطلب شعبي ،قد يموت كثيرون من أجله ،وبعد أيام من «انسحابه» شنت صحيفة أويأ التابعة لشركة الغد التي أسسها سيف حملة تكالب بعودة سيف اإلسالم ،ألنه ليس ملك نفسه ،وإنما هو ملك الشعب ،والغريب أن اللجان الثورية فعلت نفس الشيء، ومن المفترض أنه ستتضرر مصالحها بشدة إذا تحقق برنامج سيف، وطالب أعضاء اللجان الثورية في تجمع حاشد العقيد القذافي بإقناع ابنه بالعودة عن قراره ،بينما وجد أحد قادة اللجان مخرجا لقضية التوريث في الفقه الثوري الجماهيري ،ووصف سيف اإلسالم بأنه القائد «الموقفي» ،ولكنه نسى أن يشير إلى التشابه العجيب بين «ثورة وتوريث» .ولكن هل سيضمن سيف اإلسالم السلطة لنفسه من بعد والده حقا؟ بينما يسيطر شقيقه المعتصم على القوات المسلحة .إنني 156
شخصيا أرى أن ما حدث بين أبناء علي باشا القرهمانللي في القرن الثامن عشر سيتكرر مرة أخرى ،إال إذا نجح سيف اإلسالم في حشد الناس من حوله ،باإلضافة إلى دعم دولي ،يرى أن ليبيا ستتحول إلى دولة ناجحة على يديه ،وعندها يمكنه هزيمة العسكريين من أشقاءه، ولكن في المحصلة النهائية ،فإن معمر القذافي حكم ليبيا مثلما حكم اليابان إمبراطور إله ،وسيتركها ألحد أبناءه من بعده ،الذي ينجح في إقصاء اآلخرين من خالل مساعدة الشعب ،وهي لعمري نتيجة عجيبة ال تتطابق مع القصص التي تبدأ بالمظالم ،وتنتهي بانتصار الحق والعدل.
157
الم�صالحة على �صفحة قديمة يحاول سيف اإلسالم القذافي لملمة كل الجرائم التي ارتكبها نظام أبيه ،على طريقة الرز والعصبان أو البازين واللحم ،وكل تلك الطقوس البدوية ،التي تبدأ بصخب ،وتنتهي بالصالة على النبي، وتقبيل الرؤوس ،وعودة المياه إلى مجاريها بين الخصوم ،حتى إذا لم يتحقق العدل ،وتعود الحقوق إلى أصحابها.
قد تكون هذه الطقوس مالئمة لمجتمع النجوع ،ولكنها ليست مالئمة لكل الليبيين إذا أرادوا مثلما يتوقون بالفعل أن يبنوا دولة جديدة ،تستند إلى المؤسسات الراسخة ،وحكم القانون ،والفصل بين السلطات ،وليس ألعراف وعادات القبائل .يبدو الهوس بطي صفحة الماضي بأقصى سرعة ممكنة واضحا في كل كلمة وحركة صدرت عن سيف اإلسالم ،خالل كلمته األخيرة عن المصالحة ،حتى أنه لم ينتظر يوم 20أغسطس ،كما عود الليبيين على ذلك في السنوات األخيرة .في هذه الكلمة تحاشى التطرق إلى أسباب القمع الذي تعرض له الليبيون في العقود الماضية ،منذ انقالب سبتمبر ،وفي بعض 159
الجرائم برأ النظام من أية مسئولية ،واتهم أشخاصا طبيعيين بتلك الجرائم ،مثل جريمة اغتيال الشيخ البشتي البشعة ،أما الذين سجنوا من السياسيين فقد برر ذلك ب»عمالتهم» لقوى خارجية ،فجعل اإلسالميين عمالء للسعودية ،والبعثيين عمالء للعراق ،والشيوعيين عمالء لموسكو ،وهو ما يعني عدم قدرة سيف اإلسالم ومن يقف وراءه على التفرس في الحقيقة ،وأنهم ال يرغبون في االعتذار ،وهو المدخل الصحيح ألي مصالحة.
قد يقبل البعض التعويض المادي ،وخاصة بعد أن وصل الضغط االقتصادي على معظم سكان ليبيا درجة غير مسبوقة ،وهو أمر دبر بتأني وخالل سنوات طويلة ،ليقود إلى هذه النتيجة ،ولكن بالتأكيد ال أحد يقبل أن يسجن كل هذه السنوات ،ألنه كان عميال لدولة أخرى ،وليس ألن الوالد سرق السلطة من حكومة شرعية ،ليورثها إلى ابنه الطيب والمتزن ،ولم يسلمها لألوالد اآلخرين ،الذين نسى أحدهم أنه في سويسرا ،مقولة «خدم المنازل رقيق العصر الحديث»، و»البيت يخدمه أهله». عندما تحدث سيف كانت خلفه الفتة كبيرة مكتوب عليها كلمة «الحقيقة من أجل ليبيا للجميع» بخط كبير ،ولكنه حاول طوال كلمته تجنب الحقيقة .ال يمكن الوصول إلى مصالحة حقيقية دون معرفة الحقيقة .في معظم الحاالت ال يسعى الضحايا إلى الثأر من الجاني ،ولكنهم بالتأكيد يسعون للعدل واإلنصاف ،وإعادة االعتبار لكل مظلوم. 160
يقول سيف اإلسالم للمنفيين الذين عاشوا في المنفى أكثر مما عاش المنفيون الليبيون ،في جزر البحر االدرياتيكي زمن االستعمار اإليطالي« .عودوا إلى بالدكم وعليكم األمان» ،دون أن يستعرض حتى االستعراض أسباب خروجهم إلى المنفى ،ومن حقنا أن نعرف الحقيقة ،فقد يكونوا هم أيضا عمالء للبلدان التي يعيشون بها ،وبعد أسابيع من خطف وتعذيب ضو المنصوري ،يقول سيف اإلسالم أن اللجان الثورية ال تحمل السالح ،وهي ال تملك أي نفوذ ،في الوقت الذي ال نعرف فيه أسباب قدرة سيف اإلسالم على جمع كل هذه الشخصيات أمامه ،بما في ذلك وزير العدل ،و»صديقي وأخي» التهامي خالد ،بالرغم من أنه رئيس مؤسسة تهتم بحقوق اإلنسان. لماذا يتحاشى سيف اإلسالم مخاطبة الليبيين على أنه خليفة أبيه؟ وأنه يريد ترتيب دولته على مزاجه. قد ال يستطيع أحد اآلن الوقوف في وجه السيناريو الوحيد، ولكن من الخطأ الجسيم إضفاء أي إجماع على هذا السيناريو ،ومن أكبر األخطاء القفز في حضن سيف اإلسالم بهذه السرعة ،وكأن السيناريو سيمضي كما رسم له ،وأن نجاحه مرهون في الضغط العنيف والناعم على كل األطراف للقبول به ،وإذا كان اإلصالحيون في الداخل مجبرين على القبول بما هو متاح ،فليس من الحكمة أن يوافق المنفيون على هذا السقف المتاح ،وان يرفضوا فتات مصالحة ال ترمي إال إلى مزيد من اإلذالل والغطرسة. كان من األجدر أن تغضب الدولة الليبية ألي انتهاك يحدث ألي 161
مواطن ليبي في أي مكان في العالم ،ولكنها لم تغضب إال من أجل هانيبال ،حتى ولو عرضت مصالح الليبيين للمخاطر ،وهو ما يعني أن المصالحة تعني أن تعتذر للقذافي وعائلته عن أي كلمة قلتها في حقهم ،حتى يتاح لك العودة إلى وطنك قبل أن يسرقه منك هؤالء اللصوص ،الذين يريدون إذاللك مرتين ،مرة عندما خرجت من بالدك دون أن ترغب في ذلك ،وأخرى عندما تعود صاغرا معتذرا، دون أن تحقق شيئا من تلك األهداف التي خرجت من أجلها .قد تكون المصالحة على أساس طي صفحة الماضي ،وذلك بفتح صفحة جديدة ،ولكنني ال أرى صفحة جديدة .يبدو أن سيف اإلسالم استخدم صفحة قديمة ،أو أنه نسى صفحة الكربون على الصفحة الجديدة ،فنسخت دون أن يدري الصفحة القديمة. قد تكون المصالحة كما جرت في عمان ،بين ثوار ظفار والسلطان قابوس هي أفضل ما يصلح لليبيين ،فالمصالحة على طريقة جنوب إفريقيا هي مصالحة بين غزاة وأهل البلد ،أما المصالحة على الطريقة المغربية ،فكانت صورية حتى أنه يتم التراجع عن مكتسباتها بسرعة، ولكن ما كان للمصالحة العمانية أن تنجح لو لم يختف والد السلطان قابوس من على المسرح السياسي ،ويسلم كل الوزارات التنفيذية لمعارضيه ليعيدوا بناء البلد على أسس أكثر ثباتا ومتانة ،وهاهي كل الوقائع تؤكد أن ما حدث في عمان كان مفيدا للجميع ،وهو أمر ممكن تكراره في ليبيا إذا طرح الموضوع بأكبر قدر من الشفافية والوضوح، وليس كما يتم طرحه اآلن بهذه الطريقة المضحكة ،وغير الناضجة، 162
والتي تخلط األوراق عن عمد ،وبنية سيئة ،وهو أمر قد ال يؤجل االنفجار ،والذي يرجح أن يكون وخيما على الجميع .فإذا لم يعامل أي ليبي كما عومل هانيبال بعد عودته من سويسرا ،فإن ذلك الوطن لن يكون سوى قطعة من جحيم ،سواء بقى القذافي ،أو حل محله أحد أبناءه فسيلتهم الجحيم الجميع. من المهم أن نبدأ بوضوح من رغبة «العائلة الملكة» في أن يتولى ابنها سيف مقاليد األمور بعد أبيه ،وليس بهذه المتاهة التي ستعيدنا إلى نفس الخيمة ،واألفضل أن ينصرف الجميع عن هذا البازار بكل روائح توابله ،وبخوره الشرقية ،وليس علينا أن نصفق لكل سجين يفرج عنه سيف اإلسالم ،بعد أن نساه والده كل هذه السنوات ،وليس من اإلنصاف أن نتحاور مع مجرمين ،يجب أن يحاكموا أوال ،قبل أن نقتنع أن ليبيا انتقلت من األمس إلى الغد دون أن تمر بهذا اليوم، واقترح على قوى اإلصالح في الداخل أن تخرج من هذا الدهليز بأقل خسائر ممكنة .فهذا النفق يقود إلى انتحار جديد .دعوا من عقد هذه العقدة أن يفكها بأسنانه ،وراهنوا على دوركم المحوري في أي تغيير ،وانسحابكم من هذه المسرحية سيجبر مخرجها على سحبها، وإال فليأتي المعتصم ويأخذها بالقوة مثلما فعل أبيه ،وهو الجزء الثاني أو االحتياطي من هذه المسرحية ،فاألفضل دائما أن نواجه النظام بشكله الطبيعي ،وليس بكل هذه المساحيق ،التي كشفها ضو المنصوري ،وإدريس أبوفايد ورفاقه ،وقبلهم فتحي الجهمي ،واآلن الدكتور فتحي البعجة ،وأخيرا الشاعر مفتاح العماري ،الذي تولت 163
إيطاليا اإلنفاق على عالجه ،بينما فشلت ليبيا من خالل سفارتها في إيطاليا تأمين إيجار غرفة يعيش بها خالل فترة العالج الكيماوي واإلشعاعي ،في الوقت الذي يقول فيه سيف اإلسالم عودوا إلى بالدكم ،ويوزع والده أموال الليبيين يمينا وشماال ،ويهدد بمعاقبة سويسرا ،ألن شرطتها تجرأت على اعتقال ولد ال يرى أنه سيكون الوريث ،لذلك لم يضطر للتنكر ،واستخدام المساحيق .ومن ينتظر أربعين عاما يمكنه أن ينتظر أطول ،طالما أن الطرف اآلخر ينتظر ،فقد ال تستعيد حقك وأنت حي ،إذا أعددت من يأتي بعدك ليستعيد حقك وحقه ،ألم يمت محمود درويش ،دون حتى أن يدفن في مسقط رأسه، ولكنه على أي حال دفن فوق رابية تطل على القدس ،وهي مسافة تبرر كل تلك التضحيات ،ففي الحقيقة نحن جميعا بكل شعاراتنا السياسية واإليديولوجية نصارع نفس العدو ،الذي قد يبدو غاصبا أجنبيا في بعض األحيان ،وفي معظم األحيان يبدو غاصبا وطنيا، وبالتأكيد أخطر وأكثر قسوة من العدو الخارجي ،ومثلما استمع القذافي طوال سنوات لوكربي لقصيدة «اشتدي أزمة تنفرجي» يمكننا أن نستمع لنفس القصيدة ،بينما يمور المجتمع بشدة ،ويتغير العالم بسرعة ،أو أن نردد ما قاله محمود درويش لإلسرائيليين «أيها المارون بين الكلمات العابرة خذوا أسمائكم وانصرفوا».
164
عـلي �صدقي قرر �أن يموت يوم الفاتح قرأت شعر علي صدقي عبد القادر في المرحلة االبتدائية ،كانت له قصيدة مقررة في منهج االبتدائي ،وذات يوم في مطلع السبعينات في شارع أول سبتمبر ( 24ديسمبر سابقا) ،أمام مدرسة الفنون والصنائع ،أشار أحد معلمينا إلى رجل قصير القامة ،يتأبط مجموعة من الجرائد والمجالت ،يمشي بخطوات نشطة ،وما يميزه عن جميع الناس اآلخرين في الشارع ،ربطة عنقه التي تبدو على شكل فراشة ،ووردة حمراء علقها في جيب سترته المقلمة ،وقال هذا شاعر الشباب ،علي صدقي عبد القادر المحامي .انتبهت على الفور إلى غرابة أطواره ،مقارنة مع تلك المدينة اآلخذة في التصحر على نحو سريع ،والتي تخلت عن شواطئها والتفتت فجاءة إلى بداوتها البعيدة ،وحتى ذلك الحين لم أكن أدرك تمام اإلدراك العالقة الوثيقة بين الشعر وغرابة األطوار. بعد سبعة عشر عاما من ذلك اليوم ،كنت مع مفتاح العماري، ومجاهد البوسيفي نعد ملفا عن الشاعر علي صدقي عبد القادر لمجلة 165
الفصول األربعة .كانت المجلة قد نشرت ملفا عن التليسي ،وآخر عن المصراتي ،فتطوعنا لكتابة ملف عن علي صدقي عبد القادر. لم نكن أبرياء من وراء هذا االختيار .فقد كنا ندافع من خالله عن قصيدة النثر ،وعن السوريالية ،وعن الفن خارج أية اشتراطات أخرى، وخاصة أن شاعرنا عامله النقاد أيضا على أن نصوصه غريبة األطوار، ولم يعترفوا إال بقصائده األولى في ديوانه أحالم وثورة ،وقصائده المقفاة ،التي يهاجم فيها االستعمار واإلمبريالية ،ومن بينها تلك القصيدة التي حفظتها في طفولتي ،تجنبا لعصا معلم اللغة العربية، ثم نسيتها بالكامل في العام التالي. كان علي صدقي عبد القادر أسعد الناس بذلك العدد ،حتى أنه أهدأ لكل واحد منا ربطة عنق ،ولكنها كانت ربطات عنق عادية، وألتشبه تلك التي يخيل إلي انه كان ينام بها .أخرج ربطات العنق من صندوق سيارته البيجو ،بينما كنا نقف أمام فندق باب المدينة، وتمنى لنا حياة طويلة مديدة ملئها الحب والسعادة واإلبداع.
كتب العماري عنه دراسة بعنوان السوريالي األخير ،أما مجاهد فكتب عنه دراسة بعنوان االسم الحركي للوردة ،وكتبت بدوري دراسة بعنوان شاعر العودة إلى الرحم .كما أجرينا معه حوارا طويال، وجمعنا ما اتفقنا على أنه من أجود شعره ،كما جمعنا مجموعة من الشهادات ،وحاولنا أن يكون الملف نقديا بالدرجة األولى ،وليس احتفائيا ،وتقبل رئيس تحرير المجلة ،األستاذ يوسف الشريف ،وجهة نظرنا بكل رحابة صدر ،طورت عالقتنا به إلى صداقة وطيدة ،ولكن 166
العدد أثار حفيظة بعض األساتذة الذين رأى بعضهم أننا قمنا بحملة دعائية ل»معلمكم األكبر».
بعد ذلك ارتبطنا معه بعالقة ودودة ،لم يتخل فيها مرة واحدة عن مخاطبتنا بلقب أستاذ ،ولم ننجح مرة واحدة في استدراجه للحديث عن مواضيع أخرى غير مواضيعه المفضلة ،وكانت مواضيع محدودة جدا ،ال تزيد عن الشعر واإلبداع والحب والتشبث بالحياة ،حتى أنه أعلن في منتصف التسعينات ،أثناء مهرجان المدينة الثقافي، في قاعة أحمد رفيق المهدوي ببنغازي ،أنه لم يعد هناك شيئا اسمه الموت منذ اآلن ،وأننا سنلتقي في هذه القاعة بعد مليون سنة .شكرنا األستاذ علي على بيانه ،وتقبل شكرنا بابتسامته الدائمة ،والتي تخفي اغترابا مزمنا عن كل ما حوله ،ولكنني صدقت أنه بالفعل يعود إلى رحمه ،ليس فقط من خالل احتفاءه الشخصي بالحياة ،وإنما أيضا من خالل نصوصه المسكونة بطفولة مزمنة ،وبهذا التوق إلى فاطمة أمه وحبيبته وملهمته. لم يكن يصر األستاذ علي كثيرا على هذه المقوالت ،عندما يتعلق األمر بالسفر .لسبب ما كان األستاذ علي يرحب بشدة بالخروج من تلك البالد التي جعلها بلد الطيوب ،لبعض الوقت على األقل .وعندما ال يجد مكانا له ضمن وفد رابطة الكتاب ،يقول وكم تبقى لي ،انتم ال تزالون شبابا ويمكنك االنتظار ،لكنه كان دائما ما يجد وسيلة أو أخرى ،لحضور ذلك المؤتمر ،أو ذاك المهرجان .في مؤتمر التحاد الكتاب العرب في عمان تركناه في طرابلس ،وفجاءة ظهر متألقا في 167
فندق فيالدلفيا .لم يجد اتحاد كتاب األردن مفرا من إنزاله في الفندق، وعندما ازدحم الفندق طرقوا على بابه طالبين منه أن يسكنوا شخصا آخرا معه في الغرفة ،فقال لهم أنا ال أسكن مع أحدا ،وال أحد يسكن معي ،فشطبوا اسمه من قائمة الشعراء الذين سيلقون قصائدهم خالل المهرجان ،وعندها تحول األستاذ علي إلى طفل لحوح ،إلى درجة أنني وعدته بأننا سننسحب من المؤتمر إذا أصروا على موقفهم .في اليوم الثاني فاتحني أحد أعضاء اتحاد كتاب األردن في صوت ليبيا خالل االنتخابات على منصب األمين العام ،فقلت له هذا سيتقرر بعد أن يلقي علي صدقي عبد القادر قصائده ،فلم يجد معه إال قلم رصاص كتب به اسم علي صدقي عبد القادر في نهاية القائمة المعلقة أمامنا ،ولكن األستاذ علي رفض تصديق هذه الحيلة مستشهدا بقلم الرصاص ،األمر الذي دفعني لمغافلته وكتابة اسمه بقلم الحبر، وعندها انفردت أساريره ،وعاد لتألقه من جديد.
يحب األستاذ علي الحياة الجميلة الناعمة والطرية ،ويأكل بشهية عجيبة حتى في شيخوخته ،ولكن من سؤ حظه وحظنا تراجعت تلك المدينة التي أحبها كما لم يحب بقعة أخرى في الوجود ،وبدال من أن تتطور كما هو متوقع لها ،تراجعت لتصبح مجرد مكب للنفايات، ومرتعا للبدو المتجهمين الذين يحقدون بضراوة عجيبة على كل ما هو جميل في تلك المدينة. في السبعينات كان يطيب للقذافي أن يلتقي من حين إلى آخر بالمثقفين الليبيين ،كان يطلب أن تكتب أسمائهم حسب ترتيبهم 168
في الجلسة ،حتى يمكنهم مخاطبة أي واحد باسمه عندما يعرف اسمه من ترتيبه في الورقة المفتوحة أمامه ،وكان أحيانا يخيفهم. ذات مرة وجدوه في خيمته وقد علق في عمود الخيمة بندقيتين، وبحركة استعراضية أنزل البندقية القديمة التي قاتل بها المجاهدون الليبيون ،وقال لهم بمثل هذه البندقية صمد الليبيون عشرين عاما أمام إيطاليا ،ثم أنزل البندقية الثانية من نوع كالشنكوف ،وسحب األقسام فجاءة ،موجها البندقية نحوهم ،وقال لهم وبمثل هذه البندقية نصفي أعداء الثورة .لكنه على الفور أخرج علي صدقي عبد القادر من أي تصنيف .كان يستمع إلى قصائد علي صدقي عبد القادر هو يبتلع نصف عباءته من شدة الضحك .ذات مرة حضر األستاذ علي عشاء دعا إليه العقيد الكتاب في باب العزيزية. لم يكن لألستاذ رغبة في الحضور .كان يدرك أنهم سيجلسون على األرض ،ويحضرون تلك القصاع ،وسيجلس ليأكل بيديه مع خمسة أو ستة من الزمالء ،ولكنه ال يستطيع التخلف عن حفل جاء ضابط كبير بمالبس كاكي إلى مكتبه ليدعوه إلى عشاء العقيد. ذات مرة لم يحضر معه األستاذ شيئا ليقرأه على العقيد ،فكلف العقيد سائقه ليوصل األستاذ علي إلى بيته حتى يحضر شيئا يقرأه، ومن شدة عجلة األستاذ أحضر أول كتاب له وجده في البيت، وكان الكتاب جديدا لم يقرأ على اإلطالق من قبل ،فقد كانت صفحات الكتاب ال تزال ملتصقة ،وتحتاج إلى مقص أو مسطرة قبل قرأتها ،وعندما وقف األستاذ أمام العقيد ليقرأ ذلك الكتاب، ولم يجد حوله شيئا يعينه على فتح الكتاب ،أخذ ينظر من بين 169
الصفحات ،وهو يباعد ما بينها ،رافعا الكتاب ألعلى ،حتى يتاح له أكبر قدر من الرؤية ،في ليل باب العزيزية ،بينما كان القذافي يتقلب في كرسيه من شدة الضحك.
في هذه المدينة وتحت هذا الجبروت عاش علي صدقي ،ولكنه لم يتردد لحظة واحدة في التطوع للدفاع عن أولئك الشباب الذين سبقونا بعقد واحد ،عندما زجوا بهم في السجون .لم يتحدث علي صدقي عبد القادر مرة واحدة معي في أي موضوع سياسي ،ولم يعبر عن أي توجه أيديولوجي ،حتى عندما كنت أوجه له سؤاال مباشرا كان يتملص منه بطريقته الخاصة واللبقة ،حتى قررت عدم إزعاجه بأي سؤال من خارج أبجديته الخاصة ،ولكنه عندما وجد أولئك الكتاب الشباب الذين تعرف عليهم في جريدة األسبوع الثقافي ،وقرأ نصوصهم هنا وهناك ،يحكمون باإلعدام ثم المؤبد ،ختم مرافعته وهو يقول ،إذا سجنتم هؤالء فاسجنوا الشمس ،والقمر ،والنجوم .اسجنوا الطيور والفراشات والورود .اسجنوا الجبال والبحار والسماء ،وهو ما حدث بالفعل. هذا الشاعر الذي انتبه إلى الحداثة مبكرا ،ونشر قصائد من الشعر الحر في أول الخمسينات ،لم يكن يشبه أحدا ،ولم يشبهه أحد .كان نسيجا نادرا ال يمكن مصادفته كل يوم .مزيج من تمدن مرهف، وحفاوة نادرة بكل ما هو متعلق بالحرية والحب والتمدن .ليس غريبا أن تكون شقيقته خديجة عبد القادر أول ليبية تذهب للدراسة في بريطانيا بمفردها ،وتكتب عن تجربتها كتابا بعنوان «ليبية في بالد 170
االنجليز» .هناك من يشبه األستاذ علي بجاك برفيير ،ولكني أرى أن الفارق في القدر ،فجاك برفيير ظهر بينما تمر ثقافته وبالده في أبهى تجليها ،بينما قدر علي صدقي أن يظهر إلى الوجود وبالده وثقافته تدخل بداوتها المزمنة.
لم تكن تنقصه سرعة البديهة عندما يتجلى .ذات مرة شن رسام فاشل في فندق باب البحر هجوما على القصيدة الحديثة ،وأحتج بأن حتى جدته ال تستطيع فهم هذه القصائد ،فالتفت إليه األستاذ علي وقال له وهل تفهم جدتك قصائد أمريء القيس؟
عندما خرجت إلى المنفى جمعت مالبسي على عجل وحشرتها في حقيبة ،وعندما وصلت إلى هولندا اكتشفت أنني لم أحضر إال ربطة عنق واحدة ،كان األستاذ علي قد أهداني إياها ذات يوم بعيد أمام فندق باب البحر.
عندما سمعت بوفاته أدركت أنه استسلم ،ولم يقو على مقارعة الموت .فجاءة شعر أن الموت هو أفضل طريقة للخالص .لم يحدث أبدا أن قعد عاجزا في كرسي أو سرير ،كما عاش أشهره األخيرة، وهو ينتظر أن تعالجه الدولة ،بينما وصلت نفقات عالجه في مصحة خاصة بطرابلس إلى مبالغ كبيرة .كان دائب الحركة والنشاط ،مثل نحلة تتجول في أجمل ما تبقى من طرابلس ،مصرا على أن يكون أنيقا مبتسما مهما تكالبت المحن ،وألنه قرر الموت فقد اختار يوم الفاتح من سبتمبر ،الذي يصادف ذكرى انقالب القذافي قبل 39ربيعا من عمر الشاعر ،كأفضل طريقة لالحتجاج على ذلك الطاغية الذي كان 171
يضحك من شعره .سنرى ولو بعد مليون عاما ،في قاعة أحمد رفيق تحديدا من الذي سيعيش أطول .هذا الشاعر النادر ،أم ذلك الطاغية؟ الذي رأينا أمثاله كثيرا غير أننا ال نتذكر كل ما حدث في المليون سنة الماضية.
172
�أزمة المكان لدى الم�ؤتمر الوطني منذ انتخابه مر المؤتمر الوطني المنتهية واليته بأزمة مكان ،فبالرغم من
أن فندق ريكسوس هو مقره الرسمي ،إال أنه اضطر إلى اللجوء إلى أماكن
أخرى خوفا من اعتداءات متكررة على مقره الرسمي ،فمرة يضطر لعقد جلساته في فندق المهاري ،ومرة يهرب باتجاه نادي الفروسية.
المكان والزمان مترابطان ال ينفصالن ألنهما شكالن رئيسيان لوجود
المادة كما يؤكد الفالسفة ،إال أن للمؤتمر الوطني رأيا آخر ،فقد عاد إلى مكانه في ريكسوس ،بالرغم من انتهاء زمانه ،بحجة أن مجلس
النواب المنتخب غ َّير مكانه وعقد جلساته في طبرق بدال من بنغازي،
وألنه احتل طرابلس المكان الذي توجد به المحكمة العليا والمصرف المركزي ،والمؤسسة الوطنية للنفط وتقريبا كل أجهزة الدولة ،التي
راكمها القذافي قريبا من باب العزيزية ،حتى يتمكن أحمد رمضان وبشير حميد من تبليغ توجيهاته إلى هذه الجهات بأسرع ما يمكن.
وألن المؤتمر عاد من زمن آخر واحتل المكان المتخم بالوزارات 173
والمؤسسات ،حاول من خالل حكومة عمر الحاسي خنق حكومة الثني في البيضاء ،ومجلس النواب في طبرق ،وآخر تقليعات المؤتمر الوطني رفضه االنضمام إلى الحوار الوطني في جنيف بحجة المكان أيضا ،مطالبا بعقد الحوار في غات كشرط النضمامه. ترى لماذا اختار المؤتمر غات؟ وهو يعلم أنها مدينة منكوبة، ينقصها الوقود والكهرباء والمواد الغذائية واألدوية ،كما أنه يعلم أن سبب نكبتها رفضها للمساومة ،عندما طلب منها الحاسي االعتراف بحكومته قبل أن يزودها بما تحتاجه .ربما يريد المؤتمر االنتقام من مدينة أعلن منها عبد الله الثني الحرب على اإلرهاب.
بمجرد ما سمع عبد الله الثني باختيار المؤتمر الوطني مدينة غات كمكان للحوار الوطني ،استقل طائرته وهبط على أعيانها الجوعى، ليبشرهم بقرب وصول اإلغاثة إلى المدينة ،ولكنه لم يخبرهم أنه زارهم نكاية في المؤتمر الوطني ،الذي سيغير رأيه ويطالب باختيار مكان آخر لعقد جلسات الحوار.
اختيار غات بدال من جنيف عقاب جماعي للذين ذهبوا للحوار في جنيف ،فبعد أن شاهدوا بحيرة جنيف سيشاهدون بحيرة السراب في غات ،ولن يجدوا فندقا يضاهي الفندق الذي أقاموا فيه في جنيف على حساب األمم المتحدة ،وعندها ستنتقل عدوى المكان إلى أعضاء مجلس النواب المشاركين في الحوار.
إذا اختار مجلس النواب طبرق كمكان مؤقت بسبب الحالة األمنية المتردية في بنغازي ،فقد اختار المؤتمر الوطني غات كمقر 174
لجلسات الحوار ،ومع ذلك يؤكد المؤتمر أن قرار مجلس النواب غير دستوري ،وفي تقديري فإن المؤتمر اختار غات ليفشل الحوار ،ألن المتحاورين سيصابون بالسأم وسيفضلون العودة بسرعة من حيث جاءوا على أن ينجح الحوار.
ثمة أزمة أخرى يعانيها المؤتمر الوطني وهي أزمة المثنى ،فرئيسه يلقب بأبو سهمين وليس سهما واحدا ،بينما يلقب المتحدث الرسمي باسم المؤتمر بحميدان وليس حميدا واحدا ،وفي المقابل يلقب رئيس الحكومة الشرعية بالثني ،وهي كلمة تشير إلى اثنين ،وقبله ترأس الحكومة زيدان وليس زيدا واحدا ،وتتوالى الثنائيات فأثناء الهجوم على طرابلس سميت العملية بقسورة ثم تغيرت إلى فجر ليبيا ،قبل أن تتجه شرقا وتعرف باسم الشروق ،وفي بنغازي تسمى القوات التي تقاتل مع اللواء حفتر أحيانا بالقوات الخاصة وأحيانا بالصاعقة ،ربما بسبب هذه الثنائيات انقسمت البالد بين حكومتين وبرلمانيين ،وربما لهذا السبب رقي حفتر رتبتين دفعة واحدة ،فمن رتبة عقيد رقي إلى لواء في انتظار ترقيته إلى فريق أول ،وعندها سيكون بحاجة إلى فريق ثان لتكتمل الثنائيات ،لذلك اقترح أن تعقد جلسات الحوار في مدينة أو مكان يشير إلى المثنى مثل صرمان أو خلة الفرجان أو حتى إيران ،وأن يشرف على الحوار ليس ليون واحد وإنما ليونان ،فاسم ليون في اللغات األوربية يعني األسد ،فالبأس من االستعانة ببشار األسد وماهر األسد اللذين عرفا بقدرتهما على التوسط بين المتخاصمين. 175
لماذا عاد �أهالي الجبل الغربي في ليبيا للكهوف ؟ في مطلع الثمانينات ساهم باحث ليبي كان يعد رسالة الدكتوراة في الهندسة المعمارية ،في جامعة بنسلفانيا بمدينة فيالدلفيا األمريكية في إماطة اللثام عن لغز استعصى لبعض الوقت عن الباحثين .وخالل حلقة دراسية نظمت حول عمارة الكهوف ،اكتشف البروفسور المشرف على الحلقة أن الباحث الليبي ولد في أحد تلك البيوت المحفورة تحت األرض ،فطلب منه أن يكون رئيس الحلقة الدراسية، ألنه يعرف عن هذا النمط من العمارة أكثر مما يعرف زمالؤه وزميالته، الذين ولدوا فوق سطح األرض .كانت الحلقة الدراسية مخصصة لإلجابة عن السؤال الرئيسي ،وهو لماذا تراجع سكان الجبل الغربي في ليبيا ،ومنطقة مطماطة في تونس ،ومنطقة ثالثة في شمال غرب الصين ،عن العمارة التقليدية ،التي تعتمد على الحجارة والجص، وبناء األقواس والنوافذ واألسقف المتعددة ،حيث كانت المباني في القرى القديمة تتكون من أكثر من طابق واحد ،وفجأة ترك السكان تلك القرى المبنية على رؤوس الجبال والهضاب ،وفضلوا حفر 177
مساكن جديدة تحت األرض؟ ،تتميز بالتقشف الشديد في استخدام الحجر والخشب ،وتنتمي مساكنهم الجديدة إلى مرحلة عمارة الكهوف ،التي سبقت تاريخيا عمارة القرى المبنية من الحجر. المجتمع االكتفائي
كان السؤال الرئيسي يفترض أن الحضارة تتجمد مكانها إذا تعرضت إلى كوابح تمنعها من التطور ،ولكنها ال تتراجع إلى مستوى يسبق المستوى الذي وصلت إليه ،ولهذا البد أن سكان تلك المناطق قد تعرضوا إلى ظرف استثنائي منعهم أجبرهم على التراجع .وهنا أخذ الدارسون يفترضون هذه الظروف القاهرة، فافترض أحدهم أن الحرفيين الذين كانوا يبنون البيوت الحجرية القديمة قد داهمهم وباء وانقرضوا جميعا ،وهكذا لم يبق في المنطقة من يجيد بناء البيوت الحجرية متعددة الطوابق .كان على الباحث الليبي الذي خبر المكان الذي ولد فيه أن يصحح من غلو هذه االفتراضات ،ففي مجتمع الجبل الغربي ومطماطة ،كان الجميع يجيد البناء ،وجميع طرق اإلنتاج ،كما هي طبيعة المجتمعات االكتفائية ،التي بطبيعتها ال تعتمد على متخصصين إال في بعض المجاالت الضيقة ،مثل الطب الشعبي ،وتحويل األشجار من نوع إلى آخر ،أو من صنف إلى صنف ينتمي إلى نفس النوع ،أو بعض النساء اللواتي تفوقن في العمل كقابلة ،أو اللواتي برعن في نصب المسدى ،الذي تصنع من خالله البطاطين والعباءات .وخالف هذه 178
االختصاصات الضيقة فإن أفراد المجتمع االكتفائي يجيدون كل شئ ،من الحرث إلى الحصاد ،وحفر اآلبار وغيرها من األعمال التي يتعلمها الصغار من الكبار بشكل متوارث. البيوت الحجرية �أكثر �أمنا
كان االفتراض الثاني هو الحالة األمنية التي قد تكون أجبرت السكان على مغادرة قراهم الحجرية ،والهبوط إلى السهول الطينية حيث حفروا مساكنهم الجديدة ،ولكن كل الشواهد تدل على أن القرى الحجرية كانت محصنة ضد الغزو ،وذلك ألنها كانت تبنى فوق مناطق عالية محمية بشكل طبيعي بسبب المنحدرات الحادة من ثالث جهات ،وتتولى األسوار والخندق حماية الجهة الرابعة ،كما كانت القرى مزودة بجسر يصنع من جذوع شجر الزيتون ،يتم سحبه إلى الداخل بعد غروب الشمس ،ولم ينس السكان بناء قصبة يتولون منها مراقبة المحيط من حولهم بشكل تناوبي ،للتحذير من غزو قادم، والستخدام البوق لتنبيه كل من يوجد خارج األسوار بضرورة العودة على وجه السرعة إلى القرية ،كما يمكنهم جعل المهاجمين تحت رحمة طلقاتهم إذا اقتربوا من األسوار. الموت عط�شا
بينما ال تلبي البيوت المحفورة تحت األرض هذه االحتياطيات األمنية الشديدة ،بل أنها عملت على عزل السكان عن بعضهم بسبب 179
المساحة الكبيرة نسبيا التي يحتاجها البيت الجديد ،مقارنة بالمساحة األصغر في القرية الحجرية ،التي تستغل المساحة العمودية أيضا. بل أن اآلبار توجد خارج هذه البيوت ،بينما توجد داخل األسوار في القرى الحجرية ،وهكذا يمكن حصار السكان وإجبارهم على االستسالم بسبب العطش ،كما أن اللصوص يستطيعون سرقة الماشية الموجودة على عمق حوالي 12مترا من سطح األرض ،وذلك بإنزال شبكة عليها أعشاب الستدراج الماشية نحو الشبكة ثم رفعها إلى أعلى ،وهو ما يكاد يكون مستحيال في القرى الحجرية. ال�سر يكمن في �أ�شجار الزيتون
لم يجد الباحثون سببا لهذا النكوص المعماري سوى بالعودة إلى دراسة القرى الحجرية نفسها ،ففيها يكمن الجواب ،ذلك أنه قبل ظهور األسمنت كان الناس يعتمدون على الجص ،ولصناعة الجص ليكون بمثابة أسمنت ،كانوا يجمعون التربة الجيرية البيضاء، ويضعونها في فرن لتتحول بعد الحرق إلى مادة قادرة على تثبيت األحجار مثل األسمنت ،ولكن لبناء غرفة واحدة كانوا في حاجة لكمية كبيرة من الخشب ،وهنا بدأ السر الغامض يتضح .تتميز المناطق الثالثة في الجبل الغربي بليبيا ،ومطماطة بتونس ،ومنطقة في شمال الصين، بالتشابه الشديد في البيئة ،ومعدل سقوط األمطار ،وهي مناطق تعتمد على الزراعة العلية لصعوبة الوصول إلى المياه الجوفية بتقنية ذلك الزمان ،ومن أهم األشجار التي تنمو في هذه البيئة أشجار الزيتون 180
والتين واللوز والكروم ،ويعتبر شجر الزيتون أهم هذه األشجار كوقود ،ولكن تحتاج أشجار الزيتون إلى سنوات.
طويلة من العناية الفائقة لتثمر ،وبالرغم من أنها من األشجار المعمرة التي تعيش آالف السنين ،إال أن فقد شجرة واحدة يصعب تعويضها في جيل ،ويعتقد أن السيد المسيح استظل بشجرة زيتون في فلسطين ال تزال قائمة حتى اليوم ،ولهذا يطلق سكان الجبل الغربي على شجر الزيتون المعمر اسم الزيتون الفرعوني لقدمه الشديد ،ولبناء غرفة واحدة أو غرفتين في القرية الحجرية قد يكلف صاحبها شجرة زيتون معمرة ال أحد يعرف من غرسها ،لهذا خاف السكان أن يفقدوا غطائهم النباتي وشجر زيتونهم الحيوي الذي أبقاهم أحياء في جبل بارد في الشتاء ،وفي نهاية األمر فضلوا التضحية بقراهم الحجرية عن التضحية بشجر الزيتون والخروب والبطم وغيرها. بيت على �شكل رحم
تتميز البيوت الجديدة بتقشف شديد في استخدام الخشب ،فهي عبارة عن فناء مفتوح على السماء ،بعمق حوالي من 12إلى 15مترا تحت سطح األرض ،ويصل طول ضلعه ما بين 10إلى 15مترا، ويمكن الدخول إلى البيت من خالل القوس الذي يوجد على سطح األرض ،والذي يقود إلى سقيفة طويلة تنحدر بالتدريج حتى تصل إلى الباب الرئيسي المصنوع من شجر الزيتون ،كما يستخدم الخشب في سقف القوس الخارجي الذي يمتد إلى مسافة متر أو مترين ،باإلضافة 181
إلى أبواب الغرف التي عادة تصنع من خشب أقل سمكا من الباب الرئيسي ،الذي يفتح على فناء محفور في الطين يسمى «المدور» إلمكانية دوران الحيوانات به وخاصة ذات الحجم الكبير مثل اإلبل والحمير والخيل ،وهو مخصص للحيوانات وخاصة األغنام والماعز، ويقود المدور إلى الفناء ،الذي يتوسطه « الحفير» ،وهي حفرة مغطاة بالكامل بالخشب العادي غير خشب الزيتون ،ويوضع بها الملح المتصاص مياه المطر التي تهطل مباشرة على الفناء ،الذي تفتح عليه الغرفة ،التي يتجنب عند حفرها الجهة التي تأتي منها الرياح والمطر، وهي جهة الشمال والغرب ،لذلك فأغلب الغرف تفتح نحو الجنوب والشرق ،وتمتد الغرفة التي يكون سقفها محدبا ،حيث يطلقون عليه «ظهر الحمار» مسافة خمسة إلى ستة أمتار ،ويمكن حفر غرف صغيرة داخل الغرفة الرئيسية ،أهمها غرفة األطفال التي ترتفع مسافة نصف متر عن سطح الغرفة ،وغرف صغيرة لتخزين المحاريث والمعاول، وفي نهاية الغرفة توجد مصطبة مصنوعة من الطين تعزل بستار عن بقية الغرفة باعتبارها سرير الزوجين ،وتطلى الغرف بالجير ،وتتولى النساء صيانة البيت كلما سببت األمطار ببعض األضرار ،وذلك بخلط الطين مع التبن وتعويض األجزاء المفقودة ،كما يوجد بالبيت مطبخ صغير تحتمي فيه النساء من البرد والمطر أثناء الطبخ الذي كان يتم على الحطب ،وتجلب المياه من آبار خارج البيت ،بينما يتم التخلص من الفضالت اآلدمية والحيوانية في المزبلة ،التي يستخدم زبلها كسماد ،وللتنبيه وخاصة في الظالم على وجود بيت محفور أمام العابرين ،يترك تراب الحفر ليحيط بفناء البيت من الخارج من 182
الجهات األربع ،وتسمى كل واحدة منها»الكدوة» ،بينما يتم تصريف مياه المطر التي تقترب من فتحة الفناء ،من خالل مجرى يحيط بفناء البيت من الخارج يسمى « الوني» ،وتتميز هذه البيوت بالدفء شتاء، وبالبرودة صيفا ،وهو ما يوفر مزيدا من الحطب ،ويحافظ على البيئة، وعلى األشجار المثمرة ،ويجعل اإلنسان يلتصق بمسقط رأسه مهما كانت الظروف صعبة ،ويمكن دراسة هذا المثال كنموذجي ابتكره ناس ال يملكون شيئا من التقدم العلمي والتقني ،على كيفية قدرة اإلنسان على التكيف مع البيئة وليس كمسيطر على البيئة.
183
نهاية طاغية وبداية طغاة جدد يستقبل الليبيون الذكرى الثالثة لمقتل القذافي وهم منقسمون أشد االنقسام ،فالكثير منهم الذين ساندوا ثورة 17فبراير يشعرون اليوم بالندم حتى أنهم توقفوا عن وصفها بالثورة ،أما الذين ال يزالون يساندون هذه الثورة ويستخدمون شعاراتها للوصول إلى مآربهم، فهم غالبا من رجال المليشيات التي تسيطر على بعض المدن هنا وهناك.
بعض الليبيين وخاصة المهجرين في الخارج ال يزالون يتعلقون بالقذافي ،وبعضهم ال يصدق أنه قتل ،ويقارنون عهده بالعهد المضطرب الذي تمر به ليبيا ،وينفون أنه كان طاغية نكل بالليبيين طوال أكثر من أربعة عقود .في الذكرى الثالثة لمقتل الطاغية يدرك أغلب الليبيين أن رحيل الطاغية ال يعني نهاية الطغيان ،فظهور القذافي وتحوله إلى طاغية يؤكد أن الطغيان متجذر في الثقافة والبيئة الليبية، وحتى إذا استبدلنا القذافي بأي ليبي آخر فحتما سيظهر الطاغية ،مثلما ظهر في كل تاريخ ليبيا ،والدليل على ذلك هو كل هؤالء الطغاة الذين 185
تعج بهم البالد ،بعد أن سيطروا على السالح ،الذي أصبح خطابهم الوحيد في وجه الجميع. ال أحد يدعي بأنه فجر ثورة فبراير ،إال إذا اعتبرنا النساء المسنات اللواتي كن يتظاهرن كل يوم سبت في بنغازي ،مطالبات بالكشف عن مصير أبنائهن الذين قتلوا في مجزرة سجن أبو سليم ،هن من فجر الثورة ،كما أننا يجب أن نأخذ بعين االعتبار التصحر الذي صنعه القذافي في المجتمع والدولة الليبية ،بحيث ينهار كل شيء عندما يغادر المسرح ،وهذا ما حدث بالفعل .فالقذافي انتقم من الليبيين وهو حي ،وانتقم منهم وهو ميت ،فبعد مقتله اكتشفنا أنه لم يترك جيشا وطنيا يحمي التراب الوطني والسلم االجتماعي ،كما أنه لم يترك دولة بالمفهوم الحديث للدولة .فبمجرد اقتراب الثوار من طرابلس اختفى القذافي واختفى معه رجال الخيمة ،ودخلت البالد إلى مرحلة من الفوضى غير المسبوقة .وكان على الليبيين أن يبدوأوا من الصفر ،فالتراث الذي تركه العهد الملكي اختفى بالكامل في عهد القذافي ،واإلدارات المستقلة اختفت منذ أن نصب القذافي خيمته في باب العزيزية ،وأصبح يوجه الجميع بالهاتف ومن خالل قسم المعلومات و»قلم القائد» .ثمة من يرى أن سيناريو التوريث كان أفضل السيناريوهات للتغيير في ليبيا ،فبعد أن يبني سيف اإلسالم القذافي يمكن التخلص منه خالل عقد واحد ،ولكن البعض اآلخر يرى أن سيناريو التوريث سيفضي إلى نزاعات دموية بين أبناء القذافي، وستنقسم ليبيا مثلما هي منقسمة اليوم وسيسيل الدم مثلما يسيل اليوم. 186
وألننا ال نستطيع تغيير التاريخ فعلينا أن نعمل على إخراج البالد من عنق الزجاجة ،بدال من الترحم على عهد الطاغية ،أو استخدام ثورة فبرابر ،مثلما استخدم القذافي «ثورة سبتمبر» فشنق باسمها وقتل ونفى وسجن كل معارض.
187
علي زيدان كما عرفته تعرفت على السيد علي زيدان في المنفى عام .2008كان يقيم
في المانيا ،وينشط في الرابطة الليبية لحقوق اإلنسان ومقرها في
جنيف ،والتي كان قد أسسها مع الدكتور سليمان أبو شويقير سفير
ليبيا الحالي في سويسرا قبل سنوات من مغادرتي لليبيا.
أول مرة اتصل بعلي زيدان كانت من إذاعة هولندا العالمية ألجري
معه لقا ًء حول آخر التطورات في ليبيا ،ثم توطدت العالقة بيني وبينه،
وبيني وبين الدكتور أبو شويقير ،فكان يبعثان إلى بآخر بيانات الرابطة، وفي نفس العام طلبا مني أن أمثل الرابطة في مؤتمر حول حرية اإلعالم
والتعبير بالدار البيضاء في المغرب.
وفي عطلة نهاية األسبوع سافرت إلى هناك ،حيث وجدت
ممثلين لمنظمات تمثل الدول المغاربية الخمس .بعد نجاح ذلك
المؤتمر دعاني مرة أخرى للسفر إلى مدينة الجديدة بالمغرب،
حيث يعقد تجمع كبير لمنظمات المجتمع المدني المغاربية .عندما 189
وصلت وجدت ازدحاما كبيرا في جامعة الجديدة ،وخليطا متنافرا من اإلسالميين والماركسيين والليبراليين ،ووسط ذلك الزحام اقترب مني رجل يضع على عينيه نظارة سميكة ،ويتظاهر بأنه يقرأ صحيفة، وعندما وصل إلى جانبي قال لي :أنت عمر الكدي؟ التفت إليه فوجدت السيد علي زيدان وهو يهم باحتضاني .انتبهت مبكرا لحذره األمني ،وقبل أن ألتقي به وجها لوجه ،كانت صلتي الوحيدة به هي فقط المكالمات الهاتفية ،ولم أجد صورة واحدة له على االنترنت، بينما كانت صوري متوفرة ،ومن خالل هذه الصور تمكن من التعرف علي بسهولة وسط تلك الجوقة الغريبة في جامعة الجديدة. بدأ علي زيدان حياته العملية كدبلوماسي في وزارة الخارجية، وسرعان ما أرسل إلى السفارة الليبية في الهند ،وعندما انشق الدكتور محمد المقريف بينما كان يشغل منصب سفير ليبيا في الهند انشق معه ،وساهم معه في تأسيس الجبهة الوطنية إلنقاذ ليبيا ،خالل تلك الرحلة الطويلة ُعرف علي زيدان بمهامه األمنية أكثر من أي دور آخر ،فكان يستطيع جمع معلومات مؤكدة من ليبيا ،في وقت لم يكن فيه أنترنت أو هواتف محمولة ،وكانت جميع المكالمات الخارجية مسجلة ،كما أشرف على الترتيبات األمنية ألمين عام الجبهة ،عندما يذهب للقاء شخصيات ليبية من الداخل ،أو ضباط من أجهزة المخابرات التي تعاملوا معها ،فكان يسبق األمين العام إلى مكان االجتماع ويؤمنه .عام 1993حدث انشقاق كبير في صفوف الجبهة الوطنية إلنقاذ ليبيا ،وكان علي زيدان من ضمن المنشقين ،بعد 190
فشل المحاولة االنقالبية التي قادها العقيد مفتاح قروم ،الذي اتصل بالجبهة طالبا تأمين االتصال مع ضباط من السي أي أيه ليعرف مدى قبول األمريكان النقالبه ،وبعد عودته إلى ليبيا بدأت االعتقاالت في صفوف االنقالبيين ،وثمة من حمل الجبهة مسئولية ذلك ،وعندها اتهمت الجبهة علي زيدان بـأنه على صلة بالمخابرات الليبية بسبب دقة معلوماته .بالرغم من غيابه الطويل عن ليبيا منذ عام 1981إال أنني لم أجد منفيا ليبيا يعرف التطورات اليومية في ليبيا مثل علي زيدان، فهو قادر على الحديث بلغة مشفرة مع مصادره داخل البالد ،بحيث ال ينتبه من يراقب المكالمة لحجم المعلومات التي يحصل عليها. في مؤتمر الجديدة عام 2009وجدت عددا كبيرا من أعضاء اللجان الثورية ،ومن أعضاء جهاز األمن الخارجي والداخلي يشاركون في المؤتمر ،وكنا فقط ثالثة علي زيدان والدكتور أبو شويقير وأنا ،وعندما بدأت الجلسات دعي علي زيدان لقراءة تقرير الرابطة الليبية لحقوق اإلنسان ،وبمجرد جلوسه خلف المنصة ،اندفع أعضاء اللجان الثورية والمخابرات ومنعوه من قراءة التقرير. ووقفت فوق الكراسي وأخذت انفعلت كان هادئا جدا بينما ُ ُ أخاطب الحاضرين بأعلى صوتي وأنا أصرخ «انظروا ثقافة اللجان الثورية والمخابرات .يمنعونه من قراءة تقرير وهو في المغرب .فماذا سيحدث له لو عاد إلى ليبيا» .بعد أن عدت إلى مقعدي ،اكتشفت أن عددهم أصبح كبيرا ،وأنهم استدعوا الطلبة الليبيين الدارسين في المغرب ،وعندها خشيت على سالمته فقفزت باتجاه المنصة ووقفت 191
خلفه ،وقلت له :اقرأ التقرير .لكنه أخذ يماطل بذكاء ،فيهم بقراءة التقرير وعندما يراهم يندفعون نحو المنصة يتوقف ،وأخيرا قال لهم: طيب ال تريدونني قراءة التقرير لن أقرأه .وهنا انفعلت بشدة طالبا منه قراءة التقرير ،فرد علي بهدوء قائال :وماذا يوجد في التقرير؟ أليس ما حدث اآلن أمام كل هؤالء الشهود أفضل من كل التقارير؟
بعد الثورة اتصلت به عدة مرات باعتباره ممثل المجلس الوطني االنتقالي في االتحاد األوروبي ،وذات مرة اتصل بي المناضل الراحل محمد بن حميدة ،والذي كان يقيم في المانيا وله عالقة جيدة مع وزارة الخارجية األلمانية ،فقال لي إنه رتب مع وزارة الخارجية األلمانية الجتماع بين موظف كبير في الوزارة ،ورئيس المكتب التنفيذي الدكتور محمود جبريل ،ويريدني أن أخبر جبريل بذلك ،فقلت له جبريل سيرفض هذا اللقاء إذا لم يكن مع وزير الخارجية األلماني نفسه ،فسألني وما الحل ،فقلت له سأتصل بعلي زيدان ليقابل الموظف الكبير ويمهد للقاء بين جبريل ووزير الخارجية األلماني ،تمهيدا العتراف المانيا بالمجلس الوطني االنتقالي ،وعندما اتصلت به رد على الفور ،وقال لي إنني في قصر االليزيه ،سأتصلك بك بعد نهاية اللقاء مع الرئيس ساركوزي ،وفعال اتصل بي وعندما شرحت له األمر قررفورا السفر إلى المانيا .هذا هو زيدان كما عرفته .ذكي وعملي ،وحكيم وبعيد النظر ،ولكنه في نفس الوقت ضعيف وسط هذه المليشيات ،وال يجيد استخدام القوة حتى عندما تتوفر له ،وعندما اختير رئيسا للوزراء قلت ألصدقائي إذا لم يخرجنا زيدان من هذه الورطة فلن يخرجنا أحد. 192
دعوة لمحاربة الكائنات الف�ضائية طغى على أخبار األسبوع الماضي خبر وجود كائنات فضائية
بين البشر منذ آالف السنين ،وفقا لتصريحات بول هالير وزير الدفاع الكندي السابق في مقابلة تلفزيونية ،حيث أكد وجود هذه الكائنات
على كوكب األرض .قائال« :هناك اتحاد للكائنات الفضائية يراقب
ما يقوم به البشر ،لكنه ال يتدخل في شؤوننا» .وأكد الوزير أنه شخصيا
اجتمع مع مسؤولي هذا االتحاد الفضائي فأعربوا له «عن خيبة أملهم
من البشر».
بالتأكيد ال يمكن تجاهل هذه التصريحات التي قالها مسؤول سابق
عرف بالجدية واإلطالع الواسع ،لوال أنه بلغ الحادية والتسعين وهو ما يشكك قليال في صدق تصريحاته ،إال بعد إجراء كشف عن قواه العقلية والنفسية.
وكالة أنباء فارس اإليرانية تلقفت الخبر وأضافت له المزيد ،حيث
جعلت من هذه الكائنات متحالفة مع هتلر في الحرب العالمية الثانية، 193
بالرغم من خسارة هتلر للحرب ،وأنها فرت من المانيا إلى أمريكا على متن غواصة المانية اتجهت بهم إلى صحراء نيفادا ،األمر الذي جعلني أتساءل لماذا تهرب الكائنات الفضائية في غواصة وليس في طائرة ،ولماذا الغواصة تبحر إلى نيفادا التي ال تطل على البحر؟ هل توجد كائنات فضائية على كوكب األرض؟ وهل توجد حياة في الكواكب األخرى؟ سؤال ال يزال اإلنسان يحاول سبر أغواره، وما الحضارة البشرية إال في أولى خطواتها بالرغم من التقدم الكبير الذي أحرزته حتى اآلن ،ولكني متأكد من وجود مثل هذه الكائنات في ليبيا ،قبل ثورة السابع عشر من فبراير وبعدها ،وهي كائنات شريرة البد من محاربتها والقضاء عليها ،من أجل مصلحة ليبيا الموحدة واآلمنة والمسالمة والساعية إلى التقدم.
من يتأمل القذافي سيجد فيه مالمح كائن فضائي حطت به مركبته في صحراء سرت ،ومن هناك أخذ يفكر في االستيالء على السلطة في البالد ،حيث تمكن من التأثير في بعض التالميذ األغبياء أمثال أبو بكر يونس جابر ،وعبد السالم جلود ،والخويلدي الحميدي للقيام باالنقالب العسكري ،والدليل على ذلك هو حنينه إلى الفضاء الخارجي من خالل قصته «انتحار رائد الفضاء». شخصيا اعتبر جميع أعضاء أنصار الشريعة كائنات فضائية، جاءوا من كوكب متخلف ال يزال سكانه يعيشون في القرن السابع الميالدي ،ويحاولون إعادة كوكب األرض إلى ذلك القرن البعيد، وهم المسئولون عن االغتياالت في بنغازي ودرنة ،كما أن الذي 194
خطف الطفل رضوان محمد المزوغي ثم أفرج عنه مقابل ربع مليون دينار كائن فضائي ،ومن أطلق قذيفة ار بي جي على بيت الصحفي محمود المصراتي كائن فضائي أيضا.
إبراهيم الجضران ومن معه كائنات فضائية جاءت من كوكب بعيد لتستغل النفط الليبي ،والدليل أن عبد ربه البرعصي نجا من محاولة اغتيال ،بينما فشل غيره من النجاة من مئات االغتياالت ،يمكنني إضافة بعض أعضاء المؤتمر الوطني إلى قائمة الكائنات الفضائية، وخاصة الذين فرضوا قانون العزل السياسي بالقوة.
تصنيف هؤالء ككائنات فضائية يسهل التخلص منهم ،ومن خطرهم على مستقبل ليبيا ،وعندما أقول محاربتهم ال أقصد استخدام السالح لقتالهم ،وإنما استخدام كل السبل بما في ذلك سالح النكتة التي منعها القذافي بقرار ،وهو ما يؤكد أن الكائنات الفضائية تكره النكتة ،كما أنها تكره السخرية منها واحتقارها ونبذها اجتماعيا، وفقا لتصريحات نعمان بن عثمان الذي كان ذات يوم كائنا فضائيا.
195
لماذا ت�أخر الم�سلمون وتقدم غـيرهم؟ منذ أن سأل شكيب أرسالن سؤاله الشهير في كتابه «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟» ،ومحاوالت اإلجابة عن هذا السؤال تتوالى ،دون أن تصل إلى ذلك الجواب الشافي .ويبدو أن ذلك عائد إلى تغليب األيديولوجي على المعرفي في معظم هذه اإلجابات، خاصة أن المسلمين انقسموا أمام هذا السؤال إلى ثالثة تيارات :تيار يقول إن العودة إلى جذور اإلسالم ،ومحاكاة ما فعله السلف ،الطريق الوحيدة إلى التقدم .فيما يدعو التيار الثاني إلى محاكاة الغرب في كل شيء ،بما في ذلك تجربته في فصل الدين عن الدولة .بينما يرى التيار الثالث أن أفضل طريق للتقدم هي محاكاة الغرب في تقدمه المادي، ومحاكاة السلف في ما يخص الجانب المعنوي .ومنذ ذلك الحين تم تجريب التيارات الثالثة دون تحقيق نتيجة تذكر. على الصعيد السياسي ،تم تجريب جميع أنواع األنظمة السياسية منذ أن استقلت الدول العربية واإلسالمية ،وانتهت جميعها إلى فشل ذريع .بدأت بعض الدول بالبحث عن ملك من قريش ،وإذا 197
لم يتوافر محليا يتم استيراده من أقرب بلد .هذا ما حدث مع سوريا التي استعارت الملك فيصل من الحجاز ،وعندما احتل الفرنسيون سوريا بعد معركة ميسلون ،استدعى العراقيون الملك فيصل على الفور ،ونصب األردنيون شقيقه عبدالله ملكا عليهم ،بينما حاول المصريون اإلجابة عن السؤال في ظل حكم أحفاد األلباني محمد علي ،ورضي الليبيون بحفيد مهاجر جزائري ملكا عليهم.
من الواضح أن هذه الشعوب لجأت إلى هذا الحل تهربا من االنقسامات الحادة ذات الطابع الطائفي ،والجهوي ،والقبلي .ومنذ ذلك الحين أخفيت هذه االنقسامات ،ومنعت من الظهور العلني. وهكذا ولدت الدولة القطرية وهي تحمل بذور موتها ،خاصة بعد أن اكتشف العسكر أنهم أقوى طرف في الدولة ،فاستولوا على السلطة بالقوة ،وساهموا في إخفاء االنقسامات القديمة تحت سطوة القوة ،والخيار األيديولوجي الذي تبناه الزعيم .وبدال من مناقشة االختالفات المذهبية والعرقية والقبلية بين المواطنين ،أصبح اإلعالم الرسمي يناقش انهيار االتحاد السوفييتي أو الواليات المتحدة ،ونصرة الشعوب المحبة للعدل والسالم. ربما لهذا السبب اندهش المراقبون من تفجر الخالف بين السنة والشيعة في العراق ،ووصوله إلى هذا الحد من البشاعة ،ألنه منذ البداية لم يبن العراق على أساس مكوناته الواقعية ،ليس فقط ألن البريطانيين اختاروا السنة لحكم البلد ،ولكن ألن جيل االستقالل قصد تجاهل الواقع حفاظا على وحدة وطنية كانت فقط محروسة 198
بالسالح ،ولم تنشأ من خالل تعاقد الناس على صيغة تجمعهم، وتحفظ مصالحهم .واكتفى هذا الجيل بكون الملك فيصل من آل البيت ،وهو ما يريده الشيعة ،وبالتالي فهو من قريش كما يريد السنة.
يبدو أن كل ما حدث منذ االستقالل أشبه ما يكون ـ وفقا للغة المسرحية ـ بـ «بروفا جنرال» .وحتى الدساتير التي حكمت من خاللها هذه المجتمعات لم تنبثق منها ،وكانت في األغلب مستوردة، أو صاغها موظفون يعملون في األمم المتحدة .ولم يكن الناس على وعي بهذه الدساتير ،طالما أنهم يحلون خالفاتهم عن طريق منظومة موازية من التقاليد واألعراف العشائرية والقبلية ،لدرجة أن أحدا لم يأسف على اختفاء هذه الدساتير عندما ألغاها االنقالبيون .ومنذ ذلك الحين ظلت هذه الدساتير تتغير بالجملة والقطاعي ،وثمة بلدان تعيش منذ أربعين عاما بدون دستور ،طالما أن كل ما يقوله الزعيم يرقى إلى حكم الدستور.
كان شكيب أرسالن عندما طرح سؤاله المهم عام 1939يقصد بالغير «الغرب» وليس بقية العالم .فاالحتكاك مع الغرب هو الذي جعل العالم اإلسالمي يدرك تأخره .ومنذ ذلك الحين تحول الغرب إلى طرف أساسي في المعادلة باالنحياز له أو االنحياز ضده ،وال أدري لماذا هذا اإلصرار على الغرب ،طالما أن هناك تجارب ناجحة في آسيا ،وأميركا الالتينية تستحق الدراسة والتأمل ،خاصة أن هذه المجتمعات تشبه المجتمعات اإلسالمية أكثر من الغرب ،ومرت تقريبا بنفس األطوار؟ 199
ع�سكر �سو�سة..جينات ليبيا تتقاتل في العام 1795ساعد باي تونس األسرة القراهمانللية في استعادة عرشها في طرابلس ،بعد ثالث سنوات وهي في المنفى التونسي، عندما تمكن علج مغامر يدعى علي برغل من االستيالء على المدينة بفرمان عثماني مزور ،ولم يكن باي تونس يفكر في التدخل ،لوال مغامرة علي برغل المكلفة عندما احتل جزيرة جربة ،فجرد باي تونس حملة عسكرية تجمعت في مدينة سوسة الساحلية ،لذلك أطلق سكان طرابلس على أولئك العسكر الذين ارتكبوا الفظائع في طرابلس اسم عسكر سوسة ،خاصة أن علي القراهمانللي لم تكن لديه األموال لمكافأة «عسكر سوسة» ،وقوات القبائل البدوية التي التحقت بالحملة على طول الطريق إلى طرابلس ،فقرروا استباحة المدينة لمدة ثالثة أيام ،نهبوا فيها البيوت والمتاجر واغتصبوا النساء وسلبوا حليهن، وقتلوا وعذبوا ونكلوا ،وحتى مطلع السبعينات من القرن العشرين كانت عبارة «عسكر سوسة» ال تزال رائجة بين سكان المدينة ،ولكنها تحولت إلى شتيمة ،تطلق على كل من يتصرف تصر ًفا غير الئق. 201
اليوم يعود عسكر سوسة ليستبيحوا طرابلس ،ولكن هذه المرة لم يأتوا من تونس ،وإنما جاءوا من «المدن المنتصرة والمهزومة»، وبحجة أنهم الثوار وغيرهم لم يثوروا ،وإنما مجرد «أزالم» وقفوا مع الطاغية حتى النهاية ،وتقدر بعض التقارير عدد ميليشيات عسكر سوسة اليوم بنحو 1700ميليشيا ،أما عدد أفرادها فيتراوح ما بين 200 ألف و 250أل ًفا حسب تقرير برلماني صدر العام ،2013معظم هذه الميليشيات ميليشيات قبلية أو جهوية ،وبعضها ميليشيات مؤدلجة ترتبط بتنظيم اإلخوان المسلمين والجماعات اإلسالمية المتطرفة، ولكن جميعها ال تريد تسليم سالحها ،وال تسليم ممتلكات الدولة التي سيطرت عليها باعتبارها غنائم حرب.
عندما دخل مقاتلو الزنتان ومصراتة إلى طرابلس كانت المدينة محررة بالكامل ،الزنتان اختاروا مطار طرابلس الدولي بحجة حمايته ،ولم يخرجوا منه بعد ،اكتفوا بمسرحية اصطحبوا فيها مصطفى عبدالجليل إلى المطار ،وأعلنوا أنهم سلموا المطار للدولة، واختفى مختار األخضر بعمامته السوداء من المطار ،وحل محله أوالد عمه ،أما مقاتلو مصراتة فاختاروا حي غرغور ومراكز حيوية أخرى، واضطروا للخروج من غرغور بعد أن ارتكبوا مجزرة دموية قتلوا فيها متظاهرين مسالمين أكثر مما قتلت قوات القذافي من المتظاهرين الذين خرجوا في طرابلس يوم 20فبراير .2011
بعد أكثر من ثالث سنوات يتصارع الطرفان على جبهتين سياسية وعسكرية ،الزنتان اختاروا التيار الليبرالي بقيادة محمود جبريل، 202
ووفروا له الحماية الكاملة واألموال التي نهبوها من الدولة ومن أسيرا لهم مثل سيف اإلسالم، التهريب عبر المطار، وأخيرا أصبح ً ً أما مصراتة فاختاروا التيار اإلسالمي ألسباب غير مفهومة ربما ألن الزنتان سبقوهم على التيار الليبرالي ،أو ألن محمود جبريل من ورفلة ،وهاهم يسعون لتدمير طرابلس فوق رؤوس ساكنيها ،بينما المفتي يشرع لهم ذلك ،المفتي نفسه الذي أفتى بعدم شرعية مقاتلة اإلسالميين في بنغازي. وعلى الصعيد السياسي يسعى نواب مصراتة وحلفاؤهم إلفشال مجلس النواب ،بحجة أنه اجتمع في طبرق وليس في بنغازي ،وهم يعلمون أن المجلس إذا اجتمع في بنغازي سيكون تحت سطوة كتائب اإلسالميين التي تحتل بنغازي ،مثلما وقع المؤتمر الوطني تحت سطوة دروع مصراتة في طرابلس ،فأجبروه على سن قانون العزل السياسي ،وعلى تكليف الدروع بحماية طرابلس ،وهي الدروع نفسها التي تقصف اليوم طرابلس بشكل عشوائي.
لن يكون هناك منتصر في هذه الحرب ،ستخسرها الزنتان مثلما ستخسرها مصراتة ،وستعرف طرابلس كيف تخرج من هذه المحنة وتطرد عسكر سوسة خارجها ،وسيتذكر سكانها مثلما تذكر أسالفهم عسكر سوسة ،وهم مثل الجراد يأكلون األخضر واليابس ،ولكنهم مجرد ذكرى مثل كابوس مزعج يكفي ليوقظ صاحبه من نوم عميق.
203
إصدارت أخرى للمولف ـ صدر له «بالد تحبها وتزدريك» أربع مجموعات شعرية في كتاب عن وزارة الثقافة والمجتمع المدني عام 2013
ـ كما صدر له أيضا عن وزارة الثقافة والمجتمع المدني مجموعة قصصية بعنوان «حراس الجحيم» ورواية بعنوان «حروب ماريش وثوراتها الثالث عام 2013
ـ وصدر له عن دار الفرجاني عام 2013رواية «حوليات الخراب»
ـ وله تحت الطبع مجموعة شعرية بعنوان «منفى».