حبر المنفى

Page 1

‫‪ ..‬وبعد أي��ام قليلة من خطف رئيس احلكومة سربت رسالة من احلكومة موجهة إلى‬ ‫مفتي الديار الليبية الشيخ الصادق الغرياني‪ ،‬تقول الرسالة التي حتمل رقم ‪« 0501‬بعد‬ ‫التحية‪ ..‬باالشارة لكتابكم للسيد رئيس ال��وزراء رقم ث‪ .‬ث ‪ 2389‬امل��ؤرخ ‪2013 /4 /2‬‬ ‫م�ي�لادى بخصوص تنظيم استيراد امل�لاب��س الداخلية النسائية‪ ،‬ورص��دك��م لظاهرة‬ ‫استيراد مالبس داخلية تتعدى الغرض الشرعى لها‪ ،‬وطلبكم السماح ل��دار االفتاء‬ ‫بالرقابة على استيراد املالبس النسائية‪.‬‬ ‫نفيدكم برأينا القانونى بعدم اختصاص رئاسة الوزراء بإعادة تنظيم استيراد املالبس‬ ‫ويطلب من دار االفتاء مخاطبة املؤمتر الوطنى العام باخلصوص»‪.‬‬

‫يوزع هذا الكتاب مجان ًا مع العدد (‪ )2‬من مجلة املستقل‬





‫حبرالمنفى‬ ‫تأليف‪ :‬عمر الكدي‬ ‫© جميع الحقوق محفوظة‬ ‫مجلة‬ ‫أسبوعية سياسية شاملة‬ ‫طبع في يناير ‪2015‬‬ ‫مطابع األهرام‬ ‫جمهورية مصر العربية‬


‫المحتويات‬ ‫الموجة األخيرة للنظام المغلق ‪7.......................................................‬‬

‫ليبيا وهشاشة الكيان ‪15....................................................................‬‬

‫هل البداوة ظاهرة عابرة أم ثابتة في العالم العربي؟ ‪19............................‬‬ ‫سيف اإلسالم يتعلم أصول اإلستبداد الشرقي في كازاخستان ‪25..............‬‬ ‫مصراته التائهة بين الحرب والتجارة ‪29...............................................‬‬

‫ثورة فبراير ليست السيناريو األمثل للتغيير‪33........................................‬‬ ‫مالمح حرب أهلية تلوح في األفق‪37..................................................‬‬ ‫خطط اإلسالميين للسيطرة على ليبيا ‪41...............................................‬‬

‫العصيان المدني على الطريقة الليبية‪45................................................‬‬

‫العودة إلى المعارضة ‪49...................................................................‬‬ ‫انقالب عسكري بمساعدة مصراته ومباركة المفتي ‪53............................‬‬

‫طرابلس بين البدو واالنكشاريين‪57....................................................‬‬

‫مقوالت القذافي تتحقق بعد رحيله ‪61.................................................‬‬ ‫تأمالت في اللغة الداعشية ‪65............................................................‬‬ ‫مصراته تعود إلى رشدها‪69...............................................................‬‬

‫المالبس الداخلية في السياسة الليبية‪73...............................................‬‬


‫ليبيا بين قبعة الجنرال وعمامة أمير المؤمنين ‪77.....................................‬‬

‫من أين أتى قادة ليبيا‪ ،‬ومن أين سيأتون؟ ‪81..........................................‬‬ ‫الربيع العربي‪ ..‬العسكر أو اإلخوان ‪89................................................‬‬

‫ليبيا ليست ببعيدة عن مصر ‪93...........................................................‬‬

‫المصالحة على الطريقة الليبية‪99........................................................‬‬

‫تفكيك المنظومات األمنية والعسكرية للقذافي ‪105.................................‬‬

‫العودة اإلجبارية إلى الماضي‪115.................................................... ...‬‬

‫أمريكا وقبائل الشرق األوسط‪123........................................................‬‬

‫العرب يكررون نفس األخطاء ‪129.......................................................‬‬ ‫بعد خمس سنوات على الغزو‪ ..‬العراق ليس اليابان ‪133..........................‬‬

‫معارضة المعارضة ‪137.....................................................................‬‬ ‫هل العرب على شفا عصر التنوير؟ ‪141.................................................‬‬

‫شكرا بيل غيتس وجه أمريكا المشرق ‪145.............................................‬‬ ‫الطربوش ‪ ..‬القبعة ‪ ..‬والحجاب ‪149...................................................‬‬

‫الغيبة الصغرى لسيف اإلسالم ‪153.......................................................‬‬

‫المصالحة على صفحة قديمة ‪159........................................................‬‬ ‫علي صدقي قرر أن يموت يوم الفاتح ‪165..............................................‬‬

‫أزمة المكان لدى المؤتمر الوطني ‪173..................................................‬‬

‫لماذا عاد أهالي الجبل الغربي في ليبيا للكهوف ؟‪177..............................‬‬ ‫نهاية طاغية وبداية طغاة جدد ‪185.........................................................‬‬ ‫علي زيدان كما عرفته‪189...................................................................‬‬

‫دعوة لمحاربة الكائنات الفضائية‪193....................................................‬‬ ‫لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ ‪197.............................................‬‬ ‫عسكر سوسة‪..‬جينات ليبيا تتقاتل ‪201..................................................‬‬ ‫إصدارت أخرى للمولف ‪204..............................................................‬‬


‫الموجة الأخيرة للنظام المغلق‬ ‫في هذا العام تكون قد مرت ستة قرون كاملة على وفاة عبد الرحمن‬ ‫بن خلدون‪ ،‬ذلك العبقري الفذ الذي اكتشف بالهام عجيب النظام‬ ‫الذي عاشت في ظله كل األمم التي استوطنت الصحراء الكبرى‪،‬‬ ‫وما يعرف بالشرق األوسط‪ ،‬وشمال أفريقيا‪ ،‬وأيضا في وسط آسيا‪،‬‬ ‫وهي األمم الوحيدة في العالم التي لم تتمكن من طرد القبلية خارج‬ ‫تاريخها‪ ،‬ولم تستطع حتى اآلن إرسال الطاغية الشرقي إلى جحيمه‬ ‫التاريخي‪ ،‬وحتى اآلن ال تستطيع هذه األمم من التحول إلى الحداثة‬ ‫بكل مفاهيمها السياسية والثقافية واالجتماعية والعلمية‪.‬‬

‫ليست عبقرية أبن خلدون هي التي طفت على سطح التاريخ‬ ‫وتمكنت من اإلبحار من القرن الرابع عشر حتى مطلع القرن الحالي‪،‬‬ ‫وإنما االنغالق الشديد للنظام الذي درسه ابن خلدون في مقدمته‬ ‫الشهيرة هو الذي تمكن من مراوغة التاريخ‪ ،‬واالنبعاث من الرماد‬ ‫مثل طائر الفينيق‪ ،‬حتى كارل ماركس الذي جاء بعد ابن خلدون‬ ‫بخمسة قرون تحاشى دراسة هذا النظام الغريب‪ ،‬ولم يجد له مكانا‬ ‫‪7‬‬


‫في نظريته‪ ،‬فأطلق عليه اسم «االستبداد الشرقي» وابتدأ من النظام‬ ‫اإلقطاعي‪.‬‬

‫في النظام المغلق تظهر الدول وتختفي بنفس الطريقة التي وصفها‬ ‫ابن خلدون‪ ،‬وذلك بتحالف بين الدعوة الدينية والعصبية القبلية‪.‬‬ ‫الدعوة الدينية مهمتها تحويل الوالء القبلي إلى والء أكثر سموا‪،‬‬ ‫فمن المستحيل توحيد قبائل متصارعة دون تحويل وجهتهم إلى‬ ‫السماء‪.‬هكذا فعل اخناتون الذي كان أول من نادى بالتوحيد‪ ،‬وعبادة‬ ‫اله واحد‪ ،‬والذي في عهده توحدت مصر التي عاشت مقسمة قبله‬ ‫بزمن طويل‪ ،‬ولهذا تميزت كل الديانات التي ظهرت في المنطقة‬ ‫بعقيدة التوحيد ثم اختلفت في التفاصيل األخرى‪ ،‬بينما لم تتوقف‬ ‫الديانات التي ظهرت في بيئات أخرى أمام مبدأ التوحيد طويال‪.‬‬

‫ووفقا لما الحظه ابن خلدون فان هذا النظام يدور في حلقة‬ ‫مغلقة‪ ،‬ففي كل مرة تصل فيها موجة جديدة من الصحراء‪ ،‬وتتمكن‬ ‫من إسقاط الدولة المركزية‪ ،‬فإنها تبدأ بتدمير كل شيء‪ ،‬ثم تشرع في‬ ‫إعادة بناء ما تم هدمه‪ ،‬وخالل خمسة أجيال تتحول الموجة الجديدة‬ ‫إلى الحضارة والعمران‪ ،‬وتتالشى عصبيتها‪ ،‬وعندها تكون موجة‬ ‫أخرى قد انتهت من بناء دعوتها الدينية حول قبيلة مركزية‪ ،‬فتأتي‬ ‫مثل ريح عاصف وتدمر كل شيء‪ ،‬وهذا بالضبط ما حدث مع كل‬ ‫الدول التي ظهرت في المنطقة‪ ،‬ويتساوى في هذا العرب واألمازيغ‬ ‫والنوبة‪ ،‬واألفارقة شمال الصحراء‪ ،‬واألكراد والترك‪ ،‬وشعوب آسيا‬ ‫الوسطى بما في ذلك المغول‪ ،‬وبالتالي فان هذا النظام ليس له القدرة‬ ‫‪8‬‬


‫على االستفادة من التراكم كما حدث في أوروبا‪ ،‬فكل ما تبنيه وتشيده‬ ‫إحدى الدول يكون عرضة للدمار والهدم على يد الدولة التي ستعقبها‪.‬‬

‫الغريب أن هذا النظام يشبه دورة حياة البدوي‪ ،‬الذي يعيش في‬ ‫دائرة مغلقة يبدأ من حيث سينتهي‪ ،‬وينتهي من حيث بدأ‪ ،‬وتتطابق‬ ‫حياته مع حياة جده األول الذي وجد نفسه مجبرا على هذا النظام‬ ‫ليتكيف مع الصحراء‪ ،‬فالبدوي ليس له تاريخ‪ ،‬ألنه ال يستطيع‬ ‫المراكمة‪ .‬التراكم فقط هو الذي يصنع التاريخ‪ ،‬ومكان التراكم هو‬ ‫المدينة‪ ،‬التي تعيش خلف أسوارها خوفا من البدوي‪ ،‬الذي أجبرها‬ ‫على االنصياع لنظامه‪ ،‬وفقدت قدرتها من االستفادة من جهود السلف‬ ‫ألنه سيصبح ركاما وليس تراكما خالل خمسة أجيال‪.‬‬

‫مثلما أن النظام السياسي مغلق كذلك الحال مع النظام االقتصادي‪،‬‬ ‫الذي يعرف باالقتصاد ألريعي‪ ،‬أو االقتصاد ألخراجي‪ ،‬وهو نظام‬ ‫يسعى إلنتاج ما يحفظ الرمق‪ ،‬فالفالح في ظل هذا النظام يدفع عشر‬ ‫اإلنتاج إلى الدولة دون أن تكون الدولة ملزمة بتوفير أي نوع من‬ ‫الخدمات له‪ ،‬ويدفع عشر اإلنتاج األخر إلى القبائل المسلحة التي‬ ‫تتكفل على األقل بحمايته‪ ،‬وخاصة في مناطق الواحات‪ ،‬أما ما تبقى‬ ‫من اإلنتاج فبالكاد يكفي لكي ال يموت جوعا‪ ،‬ويستخدم الفائض‬ ‫لمبادلته بسلع أخرى ال يستطيع إنتاجها‪ ،‬فمثال يتبادل فالحو فزان مع‬ ‫فالحي الجبل الغربي التمور بزيت الزيتون والتين الجاف والشعير‪،‬‬ ‫ومع سكان مدن الساحل الشاي والسكر ولوازم اإلنتاج‪ ،‬وفي نهاية‬ ‫األمر لن يجد أي من هؤالء الفالحين فائضا يستخدم لتطوير اإلنتاج‪،‬‬ ‫‪9‬‬


‫أو زراعة أرض جديدة‪ ،‬أي أن النظام االقتصادي غير قادر على‬ ‫المراكمة أيضا‪ ،‬في حين نجح النظام اإلقطاعي في ذلك‪ ،‬وهكذا‬ ‫كان هناك فائض في اإلنتاج تحول إلى رأس مال استثمر من أجل‬ ‫تطوير اإلنتاج‪ ،‬فتحول النظام اإلقطاعي إلى الرأسمالية في أوروبا‬ ‫واليابان بينما بقى النظام المغلق يكرر نفسه‪ ،‬ألنه ال يستطيع كسر‬ ‫الحلقة المغلقة من داخله مهما كانت الظروف‪.‬‬ ‫يستند النظام المعرفي بمجمله على وجود نموذج قديم جاهز يتم‬ ‫الرجوع إليه للمقارنة‪ ،‬فما وافق هذا النموذج يتم قبوله‪ ،‬وما خالفه‬ ‫يتم رفضه‪ ،‬وهو النظام الذي أطلق عليه الفيلسوف الفرنسي ميشيل‬ ‫فوكو في كتابه الكلمات واألشياء «نظام التشبيه»‪ ،‬والذي عرف في‬ ‫الفقه بقياس الشاهد على الغائب‪.‬في هذا النظام المعرفي المغلق‬ ‫يعود البدوي إلى جده األول كلما صادفته مشكلة‪ ،‬من خالل منظومة‬ ‫هائلة من األمثال والحكم والقصائد‪ ،‬وانعكس عصر التشبيه على كل‬ ‫شئ‪ ،‬لذلك كان الشعراء الجاهليون يستهلون قصائدهم بالبكاء على‬ ‫األطالل‪ ،‬وعاد اللغويون والنحاة إلى البدو إلقعاد النحو العربي‪،‬‬ ‫فعندما سؤل الخليل بن أحمد من أين أتيت بعلمك هذا؟ فقال من‬ ‫نجد وتهامة‪.‬حتى العلوم خضعت للتشبيه‪ ،‬فجابر بن حيان مؤسس‬ ‫علم الكيمياء كان يعمل في الخيمياء‪ ،‬التي كان هدفها تحويل المعادن‬ ‫الخسيسة إلى ذهب‪ ،‬وفجأة حدث انقطاع معرفي جزئي تمثل في‬ ‫تحول أبن حيان إلى الكيمياء‪ ،‬والتي تخضع إلى ناظم معرفي آخر‬ ‫هو االستعارة‪ ،‬أي المقارنة بين شيئين من أجل اكتشاف االختالف‬ ‫‪10‬‬


‫بينهما وليس التشابه بينهما‪ ،‬وعلم الكيمياء هو أفضل مثال على ذلك‪.‬‬ ‫هذا يعني أن النظام المغلق شهد انفتاحا جزئيا من داخله بتأثير من‬ ‫الترجمات اليونانية وخاصة في الفلسفة‪ ،‬ومنذ ذلك الحين اندلع‬ ‫الصراع بين الفالسفة والفقهاء‪ ،‬وبين العقل والنقل‪ ،‬أي بين نظام‬ ‫التشبيه ونظام االستعارة‪ ،‬والذي انتهى بقمع التمرد الفلسفي والعقلي‬ ‫بانتصار الغزالي مدعوما من السلطة الحاكمة على الفيلسوف أبن رشد‪،‬‬ ‫فانحدرت حضارة عظيمة أهم انجازاتها في كل الحقول ولدت تحت‬ ‫سماء االستعارة وليس سماء التشبيه‪ ،‬إلى عصر الظلمات‪ ،‬وتحولت‬ ‫حواضر عظيمة كانت مركز الدنيا إلى مجرد بادية شاسعة تلوك ما قاله‬ ‫الجد األول‪.‬‬ ‫مع حملة نابليون بونابرت واحتالله مصر انتبه النظام المغلق‬ ‫للمرة إلى تفوق األوروبيين‪ ،‬وحاول محمد علي بناء مشروع طموح‬ ‫مستلهما النموذج األوروبي في كل شئ ما عدا الركائز الحقيقية التي‬ ‫يقف عليها النموذج األوروبي‪ ،‬وأنهار المشروع بسرعة ألن الطاغية‬ ‫الشرقي كان في قلب المشروع‪ ،‬ومع موجة االستعمار بدأ التصدع‬ ‫في واجهة النظام المغلق‪ ،‬ألنه وللمرة األولى في التاريخ صار في‬ ‫اإلمكان هزيمة الصحراء بالتكنولوجيا الوافدة‪ ،‬ولم يعد الحل الذي‬ ‫اخترعه البدوي بالخضوع إلى الصحراء هو الحل النهائي والوحيد‪،‬‬ ‫ومع ظهور النفط في قلب النظام المغلق أصبح باإلمكان اإلنفاق على‬ ‫أسرع رحلة في التاريخ‪ ،‬وذلك باالنتقال مباشرة من القرون الوسطى‬ ‫إلى القرن العشرين‪ ،‬غير أن النظام المغلق وهو يحتضر كان أكثر مكرا‬ ‫‪11‬‬


‫ودهاء وتعنتا‪ ،‬فتمكن من التسلل إلى القرن العشرين تحت أقنعة‬ ‫عديدة‪ ،‬وإذا نظرنا إلى الحركات واألحزاب العربية التي ظهرت منذ‬ ‫ما يسمى بعصر النهضة‪ ،‬نجدها قد بدأت بشعارات خالبة‪ ،‬وانتهت‬ ‫إلى الطغيان‪.‬في هذه البراري الشاسعة جربنا كل شيء‪ ،‬من الحكم‬ ‫القبلي العائلي‪ ،‬الملكيات والسلطنات واإلمارات والجمهوريات‬ ‫والجماهيريات‪ ،‬ولم نحصد إال الخيبة‪ ،‬من الليبرالية إلى العلمانية‪،‬‬ ‫من الماركسية الستالينة‪ ،‬والقومية العلمانية إلى األنظمة األوتوقراطية‬ ‫الدينية ‪ ،‬ولم نحصد إال الحنظل‪ ،‬من الشيخ شخبوط حاكم ابوظبي‬ ‫الذي رفض بناء مصرف توضع فيه األموال‪ ،‬إلى الحبيب بورقيبة‬ ‫المدني الوحيد بين كل هؤالء الطغاة‪ ،‬والذي امتصه النظام المغلق‬ ‫فتحول إلى رئيس مدى الحياة‪ ،‬والى المجاهد األكبر شاطبا بجرة‬ ‫قلم على كل رفاقه الذين شاركوا في الكفاح من أجل االستقالل‪.‬‬ ‫ظهور النفط أعاد مجتمعات كانت في طريقها إلى الرأسمالية إلى‬ ‫نظام االقتصاد الخراجي‪ ،‬وخاصة بعد التطبيقات االشتراكية‪ ،‬ألن‬ ‫النفط صناعة تحتاج إلى شريحة صغيرة من المجتمع تشرف على‬ ‫استخراج وتصدير النفط‪ ،‬أما األغلبية العظمى فتحولت إلى مجرد‬ ‫موظفين عند صاحب الدولة‪ ،‬متى يرضى يمنحهم من عطاياه ومتى‬ ‫غضب يحجب عنهم العطاء‪ ،‬مثلما كان يحدث في زمن األمويين‬ ‫والعباسيين‪.‬كان النفط نقمة تاريخية أتاحت لنظام التشبيه المغلق‪،‬‬ ‫وللنظام الخراجي‪ ،‬وللطاغية الشرقي أن يكون أقوى وأغنى من كل‬ ‫المجتمع فيبقى في السلطة حتى يموت ليورثها ألحد أبناءه‪.‬‬ ‫‪12‬‬


‫لم يتغير شئ ولهذا ال نزال نحتفي بابن خلدون وكأنه كتب المقدمة‬ ‫منذ ستة أعوام وليس منذ ستة قرون‪ ،‬كل ما في األمر أن الشروط التي‬ ‫وضعها ابن خلدون تغيرت أسماؤها فقط‪ ،‬فحلت االيدولوجيا محل‬ ‫الدعوة الدينية‪ ،‬وحلت القوات المسلحة محل العصبية القبلية‪ ،‬أو‬ ‫القبيلة المركزية‪ ،‬ثم انتهت كل هذه األنظمة إلى الطغيان‪ .‬صدام حسين‬ ‫بدأ بعثيا علمانيا وانتهى في أحضان قبيلته‪ ،‬كذلك فعل األسد الذي‬ ‫قبل أن يموت مهد الطريق لتوريث ابنه كما في السعودية والمغرب‬ ‫وغيرهما من الدول الملكية‪ ،‬أما ألقذافي الذي كان يصف نفسه بأنه‬ ‫يسار اليسار فقد انتهى في يمين اليمين‪ ،‬أصبحت قبيلته هي القبيلة‬ ‫الحاكمة بالضبط مثلما كان يحدث في ليبيا منذ عشرة األف عاما‪ ،‬وكما‬ ‫يقول ابن خلدون فان هدف البدوي هو التحضر‪ ،‬فقد أنفق ألقذافي‬ ‫فقط على نثرات الفضة من أجل األمطار الصناعية في سماء سرت‬ ‫ما يكفي لبناء أكثر من مدينة‪ ،‬وفعال حول سرت من مفازة رملية إلى‬ ‫مدينة حديثة تحيطها الغابات‪ ،‬وفي نفس الوقت قطع كل الغابات‬ ‫التي كانت تحيط طرابلس‪ ،‬حتى صار باالمكان مشاهدة الزوابع‬ ‫الرملية الصغيرة في ميدان الشهداء‪ ،‬وأهمل بنغازي العريقة حتى‬ ‫تحولت إلى مجرد سبخة عطنة‪.‬انه النظام المغلق مرة أخرى ولكن‬ ‫هذه المرة أكثر شراسة من أي وقت مضى‪ ،‬ألنه يعلم أنه يمثل الموجة‬ ‫األخيرة‪ ،‬التي تلخص بشكل عجيب كل أعراض هذا النظام لدرجة‬ ‫أنني ال أستطيع التوقف عن اكتشاف حاالت من التشابه الغريب بين‬ ‫ألقذافي وأوالده‪ ،‬وطاغية ليبيا في القرن التاسع عشر يوسف القره‬ ‫مانللي وأوالده‪ ،‬وألن ما يجري اآلن هو اضمحالل الموجة األخيرة‬ ‫‪13‬‬


‫للنظام المغلق‪ ،‬والوالدة العسيرة لنظام مفتوح لديه القدرة على صنع‬ ‫التراكم واالستفادة منه‪ ،‬فان الموجة األخيرة شرسة بشكل ال يوصف‪،‬‬ ‫فالقدرة على التدمير والتخريب التي تمتلكها هذه األنظمة وهي‬ ‫تذوي‪ ،‬أكثر فعالية من قدرتها على التدمير عندما وصلت إلى السلطة‪،‬‬ ‫فكل ما صنعه العراق منذ استقالله ذهب أدراج الرياح‪ ،‬وكذلك كل‬ ‫ما صنعته ليبيا‪ ،‬ذلك أن الزمن في القرن الواحد والعشرين يتحرك‬ ‫بسرعة كبيرة جدا مقارنة بزمن عبد الرحمن بن خلدون‪ ،‬والذي حدد‬ ‫نهاية كل دولة بخمسة أجيال‪ ،‬اآلن يكفي جيل واحد للقيام بنفس‬ ‫المهمة‪.‬هل نحن على استعداد للتفكير منذ اآلن في مرحلة ما بعد‬ ‫ألقذافي بمرها قبل حلوها؟‪ .‬هذا ما أدعو الجميع للتفكير به‪ ،‬وإعداد‬ ‫العدة لذلك‪ ،‬فإذا لم نتمكن بعد ألقذافي من طرد النظام المغلق بكل‬ ‫تجلياته من التاريخ فإنني أبشركم منذ اآلن بطاغية جديد‪.‬‬

‫‪14‬‬


‫ليبيا وه�شا�شة الكيان‬ ‫على خالف جارتيها مصر وتونس تبدو ليبيا دائما هشة الكيان‪،‬‬ ‫والسبب الرئيسي هو هيمنة الصحراء على تضاريس البالد‪ .‬ال يوجد‬ ‫بليبيا نهر مثل النيل يجذب السكان إليه بعيدا عن الصحراء التي‬ ‫تحيط به‪ ،‬وايضا يعمل على تشكيل السلطة ثم الدولة في فترة مبكرة‬ ‫من التاريخ‪ ،‬وليبيا ليست خضراء مثل تونس التي تعج بالمدن على‬ ‫ساحلها‪ ،‬تلك المدن التي تحولت إلى قاطرة تجر البالد من عمقها‬ ‫الصحراوي إلى أفق البحر المتوسط‪.‬‬

‫ثمة مسافات شاسعة بين أقاليم ليبيا‪ ،‬كما أن عدد المدن على‬ ‫ساحلها أقل بكثير من بقية الدول المغاربية باستثناء موريتانيا‪ ،‬والمدينة‬ ‫هي المكان الوحيد الصالح للتراكم‪ ،‬وهي المكان الوحيد الذي تذوب‬ ‫فيه الهويات الجهوية من أجل هوية أكبر‪ ،‬لهذا السبب ظلت القبلية‬ ‫حية ترزق في ليبيا‪ ،‬بينما اختفت بالكامل في مصر وتونس‪ ،‬وحتى‬ ‫في حال وجودها فهي موجودة في األطراف وليس في المركز‪ ،‬مثل‬ ‫قبائل شبه جزيرة سيناء والصحراء الغربية‪ ،‬وقبائل أقصى الجنوب‬ ‫‪15‬‬


‫التونسي‪ ،‬أما في ليبيا فالقبيلة قاومت االنقراض ودخلت إلى المدن‬ ‫الكبرى مثل طرابلس وبنغازي‪.‬‬

‫هشاشة الكيان تستدعي وجود هويات متعددة في البلد الواحد‪.‬‬ ‫الهوية األولى هي الهوية الجامعة‪ ،‬فجميع السكان ليبيون بغض‬ ‫النظر عن خلفياتهم العرقية والمذهبية‪ ،‬ولكن الهوية الجامعة سرعان‬ ‫ما تختفي عندما تسقط السلطة المركزية‪ ،‬أو عندما يبدأ الصراع على‬ ‫الغنيمة‪ ،‬وهذا ما كشفت عنه ثورة السابع عشر من فبراير‪ ،‬فالذي كان‬ ‫يعتقد أن الطاغية هو العقبة الوحيدة أمام الشعب الليبي‪ ،‬تفاجأ بأن‬ ‫العقبات أصبحت أكثر عندما غاب الطاغية‪ ،‬وكأن دور الطاغية أي‬ ‫طاغية هو ضمان وجود الهوية الجامعة‪ ،‬وتأجيل النظر في الهويات‬ ‫الفرعية التي سرعان ما تتضخم في غياب الهوية الرئيسية‪.‬‬

‫من ينظر إلى الخارطة الليبية اليوم سيجد أكثر من كيان وأكثر من‬ ‫هوية‪ .‬األقاليم أصبحت أكثر وضوحا من ذي قبل‪ ،‬وأخذت تتجرأ‬ ‫على الحكومة والدولة وتتحداهما حتى في االختصاصات األصيلة‬ ‫لها‪ ،‬مثل احتكار القوة المسلحة‪ ،‬واإلشراف على الثروات السيادية‬ ‫مثل الحقول والموانيء النفطية‪ ،‬بحجة أن هذه الحقول والموانيء‬ ‫توجد على أراضيها‪ ،‬كما أن الهوية العرقية لدى األقليات تقدمت‬ ‫على الهوية الجامعة‪ ،‬ويشعر المراقب أن طريقة وخطاب نشطاء‬ ‫األقليات في طرح مطالبهم أشبه بما تطرحه الشعوب المستعمرة‬ ‫على االستعمار من مطالب‪ ،‬أما األقاليم الجغرافية فقد أصبحت‬ ‫مستقلة عن سلطة الدولة‪ ،‬ويمكن مالحظة ذلك في كل أنحاء البالد‪،‬‬ ‫‪16‬‬


‫عندما تحولت الحكومة إلى مجرد وسيط بين هذه األقاليم‪ ،‬ففقدت‬ ‫هيبتها وسلطاتها‪.‬‬ ‫في مثل هذه المجتمعات تبدأ المطالب القبلية والجهوية بشكل‬ ‫شبه موحد‪ ،‬ولكن عندما تصل إلى الغنيمة تنتهي عند عدد محدود‬ ‫من سكان اإلقليم أو رجال القبيلة‪ .‬في البداية يبدو اإلقليم شبه‬ ‫موحد في مطالبه‪ ،‬ثم يبدأ التنافس بين بعض زعامات اإلقليم على‬ ‫من يمثل السكان أكثر‪ ،‬وهكذا يصبح للمطلب الواحد عدة رؤوس‬ ‫ال تستطيع التنسيق بينها‪ ،‬وغالبا ما ينتهي األمر بينها إلى التناحر‪،‬‬ ‫خاصة إذا لم يوجد منافس من خارج اإلقليم عادة ما يوحد الجميع‪،‬‬ ‫الخطر القطيع‪.‬‬ ‫مثلما يوحد‬ ‫ُ‬ ‫في األربعين عاما الماضية حدثت تغيرات كبيرة في التركيبة‬ ‫السكانية للمدن الليبية‪ ،‬بحيث أصبح السكان األصليون لهذه المدن‬ ‫أقلية أمام الوافدين الجدد‪ ،‬وحدثت ظاهرة عجيبة نادرة الحدوث‪،‬‬ ‫وهي إضفاء طابع الريف والبادية على المدينة‪ ،‬وبداية تحول الوافدين‬ ‫الذين عادة ما يأتون من الريف والبادية إلى التطبع بعادات المدينة‪،‬‬ ‫ومن ينظر إلى تركيبة سكان طرابلس مثال‪ ،‬سيجد أن أغلب سكانها‬ ‫جاءوا من خارجها‪ ،‬وهم غالبا يحملون هويتين‪ .‬الهوية الجديدة‬ ‫باعتبارهم من سكان العاصمة‪ ،‬وهوية المكان الذي وفدوا منه‪،‬‬ ‫ومعظمهم يملك بيتا وأراض ويزور باستمرار مسقط رأسه‪ ،‬وفي‬ ‫هذه الحالة سيفضل هؤالء التعامل مع المكان الجديد باعتباره‬ ‫مجرد محطة‪ ،‬فعندما تتعرض المدينة ألخطار يفضلون مغادرتها‪،‬‬ ‫‪17‬‬


‫أو يتصرفون بسلبية تجاه من يحدث فيها من انتهاكات‪ ،‬طالما ان‬ ‫هذه االنتهاكات لم تصل إليهم‪ ،‬أما عندما تنهار السلطة في طرابلس‬ ‫فيحدث ما حدث طوال القرون السابقة‪ ،‬حيث تسيطر القبائل المحيطة‬ ‫بالمدينة سواء القادمة من شرقها أو غربها أو جنوبها على مقرات‬ ‫الدولة‪ ،‬التي تصبح فجأة مجرد غنيمة‪ ،‬وهو ما يؤكد عمق هشاشة‬ ‫الكيان الذي انتبه إليه مبكرا الكاتب الراحل عبد الله القويري‪ ،‬عندما‬ ‫أصدر كتابه «معنى الكيان»‪ ،‬والذي عاد إلى البالد عام ‪ 1958‬من‬ ‫مصر‪ ،‬وحتى وفاته عام ‪ 1992‬كان ال يزال متأثرا باللهجة المصرية‪،‬‬ ‫وربما لهذا السبب انتبه إلى هشاشة الكيان الليبي أكثر من الكتاب‬ ‫الذي ولدوا ونشأوا في ليبيا‪.‬‬ ‫ال أقول إن هذا القدر لن تستطيع ليبيا الفكاك منه‪ ،‬ولكن األمر‬ ‫مرهون بالزمن والقدرة على المراكمة‪ ،‬وإذابة الجميع في المدن‬ ‫التي تتضخم باستمرار‪ ،‬في حالة ما نجح المجتمع في أمرين‪ ،‬وهما‬ ‫التنمية الشاملة‪ ،‬واالعتراف بالهويات الفرعية والسماح لها بالتعبير‬ ‫عن نفسها‪ ،‬من أجل الهوية الجامعة التي وحدها يمكنها أن تبدد هذه‬ ‫الهشاشة‪ ،‬وتقوي الكيان الذي سيكون كيانا جديدا بحجارة قديمة‪.‬‬

‫‪18‬‬


‫هل البداوة ظاهرة عابرة �أم ثابتة في العالم العربي؟‬ ‫لماذا لم يختف البدو من البلدان العربية‪ ،‬بالرغم من اختفائهم‬ ‫في معظم بالد العالم؟ ولماذا ال تزال البداوة بعصبيتها القبلية تقاوم‬ ‫التحديث‪ ،‬وفي بعض األحيان ترفض الوالء للدولة المركزية؟ هذا‬ ‫ما نالحظه في دارفور حيث تسببت القبائل البدوية الرحل‪ ،‬التي‬ ‫تعتمد في معاشها على اإلبل في األزمة المستحكمة‪ ،‬وخاصة‬ ‫بعد الجفاف التي شهدته المنطقة‪ ،‬مما جعل رعاة اإلبل يتوغلون‬ ‫مسافات أطول‪ ،‬وهو ما جعلهم في مواجهة مباشرة مع الفالحين‬ ‫المستقرين في القرى‪ .‬في سيناء تتسبب القبائل البدوية في العديد‬ ‫من المشكالت األمنية للدولة‪ ،‬وخاصة فيما يتعلق بتهريب السالح‪،‬‬ ‫البشر‪ ،‬وحتى المخدرات‪ ،‬ومن حين إلى آخر يتبادل رجال هذه‬ ‫القبائل النار مع رجال األمن‪ ،‬وفي كثير من األحيان ال يعتقد‬ ‫المصريون الذين يعيشون على وادي النيل أن هؤالء مصريون‪،‬‬ ‫أما في إسرائيل فقد حوصر البدو في صحراء النقب‪ ،‬وبالرغم من‬ ‫اإلجراءات التعسفية التي تمارسها السلطات اإلسرائيلية على البدو‪،‬‬ ‫‪19‬‬


‫إال أنها تقبلهم في صفوف قواتها المسلحة‪ ،‬بينما تمنع بقية العرب‬ ‫من ذلك‪ ،‬وهو ما يعكس أزمة والء لدى البدو‪.‬‬ ‫البدو في البرلمان‬

‫في الكويت واألردن تسلل البدو إلى البرلمان‪ ،‬وتسببوا في‬ ‫الكثير من األزمات بسبب التمسك بمصالحهم كقبائل‪ ،‬وعدم‬ ‫الموازنة بين هذه المصالح ومصالح البلد بشكل عام‪ ،‬كما أن‬ ‫الكثير من االنقالبات العسكرية‪ ،‬والدعوات اإليديولوجية التي‬ ‫ظهرت في البالد العربية في األربعين سنة األخيرة‪ ،‬ال يمكن‬ ‫تفسيرها بمعزل عن الصراع بين الحضر والبدو‪ ،‬أو بين البادية‬ ‫والمدينة‪ ،‬وخاصة في ليبيا‪ ،‬موريتانيا‪ ،‬واليمن‪ ،‬وكان الباحث‬ ‫العراقي علي الوردي أول من أشار لهذه الظاهرة‪ ،‬وهو ما يجعلنا‬ ‫نتفهم هذا النكوص العجيب الذي يشهده العراق‪ ،‬حيث تحول‬ ‫من أكثر الدول الواعدة بعد االستقالل‪ ،‬إلى مجرد رجل مريض‪.‬‬ ‫أما في اليمن فيخشى من انهيار الدولة المركزية وانقسامه إلى‬ ‫عدة كيانات قبلية‪ ،‬على غرار ما حدث في الصومال وأفغانستان‪،‬‬ ‫وهو ما قد يحدث أيضا في السودان‪ .‬وعلى خالف بقية البدو في‬ ‫العالم‪ ،‬مثل شعب البوشمان‪ ،‬في جنوب إفريقيا وناميبيا‪ ،‬وقبائل‬ ‫االسكيمو‪ ،‬وسكان أستراليا األصليين الذين لم يعودوا قادرين‬ ‫على الوقوف في وجه الدولة المركزية‪ ،‬تستطيع القبائل البدوية‬ ‫في المنطقة العربية التسبب في مشاكل حقيقية للدولة والمجتمع‪،‬‬ ‫‪20‬‬


‫فإذا أهملت في محيطها الجغرافي تتحول مع الوقت إلى خطر‬ ‫داهم كما حدث في دارفور‪ ،‬أما إذا وصلت إلى السلطة من خالل‬ ‫االنقالبات العسكرية فيمكنها أن تعكس مسار المجتمع بالكامل‪،‬‬ ‫وتتسبب في تقويض المدن التاريخية‪ ،‬لتبني على حسابها مدنها‬ ‫الخاصة‪ ،‬وفقا للتفسير الخلدوني لهذه الظاهرة‪.‬‬ ‫التغيير طال الق�شور فقط‬

‫عالم االجتماع الليبي د‪ .‬مصطفى التير‪ ،‬يرى في حديث‬ ‫إلذاعتنا أن التغير الذي حدث في البلدان العربية‪ ،‬هو تغير طال‬ ‫السطح فقط‪ ،‬وهو ما يطلق عليه بالتغير االجتماعي السريع‪،‬‬ ‫أما الجوهر فلم يطاله التغيير‪ ،‬ويضيف الدكتور التير قائال‪« :‬كثير‬ ‫من المجتمعات العربية‪ ،‬وخصوصا غير المستقرة منها‪ ،‬أو غير‬ ‫الزراعية‪ ،‬تتميز بقوة القبيلة‪ ،‬والبداوة فيها قوية أيضا‪ ،‬كما أن‬ ‫النفط ظهر في المناطق البدوية الفقيرة باستثناء العراق‪ ،‬ومكنهم‬ ‫النفط من القيام بعملية تحديث‪ ،‬ولكن التحديث طال المحيط‬ ‫فقط‪ ،‬المباني‪ ،‬المدارس‪ ،‬المستشفيات‪ ،‬والطرق‪ ،‬وما يتبعها من‬ ‫استخدام التقنية الحديثة‪ ،‬لكن العقلية لم تتغير كثيرا‪ ،‬طبعا من‬ ‫استقر منهم في المدن لسنوات طويلة‪ ،‬يبدو أنهم تغيروا مقارنة‬ ‫بمن لم يستقروا‪ ،‬وإن حملوا معهم الكثير من الخصائص البدوية‪،‬‬ ‫أما البلدان التي لم يظهر فيها النفط فحافظ فيها البدو على انتمائهم‬ ‫القبلي‪ ،‬واستمرت العداوات القديمة بين القبائل‪ ،‬واالنتماء يكون‬ ‫‪21‬‬


‫للقبيلة وليس للدولة‪ ،‬وإن كانت مسألة االنتماء يعاني منها كل‬ ‫العرب حتى المستقرين في المدن‪ ،‬ففي أغلب األحوال ال يزال‬ ‫انتمائهم القبلي أقوى من انتمائهم للدولة‪ ،‬ألن فكرة المواطنة‬ ‫نفسها لم تتبلور في الكثير من البالد العربية»‪.‬‬ ‫الوالء للنظام القائم‬

‫يشير الدكتور التير في هذا الخصوص إلى الباحث العراقي‬ ‫الدكتور علي الوردي‪ ،‬باعتباره أول من كتب عن هذه الظاهرة‪،‬‬ ‫مؤكدا أنه في حالة وجود نظام صارم يحكم المجتمع‪ ،‬يؤجل‬ ‫ظهور الحقائق على السطح‪ ،‬وعندما يزول هذا النظام تنفجر‬ ‫الحقائق المخفية دفعة واحدة‪ ،‬وهو ما حدث للعراق‪ ،‬فعودة القبلية‬ ‫بقوة بعد نهاية نظام صدام حسين‪ ،‬يؤكد أن التغيير طال القشور‬ ‫فقط‪ ،‬ويضيف التير قائال‪« :‬كما أن األنظمة العربية لم تطور فكرة‬ ‫المواطنة‪ ،‬فظل الوالء لألسرة وللعشيرة وللقبيلة‪ ،‬بينما في الدولة‬ ‫الحديثة يفترض أن الوالء للوطن‪ ،‬ولهذا ظل الوطن لدينا مرتبطا‬ ‫بسلطة بعينها‪ ،‬ففي الدولة العربية الحديثة الوالء للنظام القائم‪،‬‬ ‫وعندما يتغير النظام يتغير الوالء‪ ،‬ولكن المفروض هناك شيء ثابت‬ ‫في المجتمع‪ ،‬فالعراق مثال هو العراق‪ ،‬ومصر هي مصر‪ ،‬وهكذا‬ ‫يكون هناك شيء أوسع ممن هو يحكم العراق في تلك الفترة»‪.‬‬ ‫لماذا ال تزال نظرية ابن خلدون صالحة لتفسير جوانب كثيرة من‬ ‫الواقع العربي؟ هل هذا بسبب عبقرية أبن خلدون؟ أم بسبب ثبات‬ ‫‪22‬‬


‫الواقع؟ يرى الدكتور التير أن عبقرية أبن خلدون وثبات الواقع‬ ‫يجيبان على السؤال مضيفا‪« :‬أبن خلدون هو أبو االمبريقية‪ ،‬وهي‬ ‫البحث العلمي القائم على ما هو موجود‪ ،‬وليس على ما هو في‬ ‫الذهن أو ما يتمناه اإلنسان‪ ،‬وطبيعي أن جزء كبير من الواقع الذي‬ ‫درسه أبن خلدون لم يتغير‪ ،‬فنحن بالفعل لم نتغير كثيرا عن عصر‬ ‫أبن خلدون‪ ،‬ولكن هناك أفكارا كثيرة ألبن خلدون ال تزال حية‬ ‫من غير حتى موضوع البدو»‪.‬‬ ‫عدم القدرة على الو�صول �إلى الحداثة‬

‫ال يرى الدكتور التير أن البيئة هي السبب في عدم اختفاء البداوة‬ ‫من المنطقة العربية‪ ،‬وإنما عدم قدرة هذه المجتمعات من الوصول‬ ‫إلى الحداثة‪ ،‬أي إلى مستوى تغيير الفكر مضيفا‪« :‬ففي البالد‬ ‫العربية ال تزال المؤسسات ضعيفة‪ ،‬ليس هناك مأسسة للعالقات‬ ‫وللمؤسسات‪ ،‬وما لم تتقوى المؤسسات فسيظل الوالء القبلي‬ ‫أقوى‪ .‬في يوم من األيام كان العالم كله يتكون من قبائل‪ ،‬ولكن‬ ‫التغير أدى إلى حلول نظام مكان نظام آخر‪ ،‬ولكننا نحن لم نفعل‬ ‫ذلك‪ ،‬نحن فقط استوردنا أنظمة أخذنا منها جزء وتركنا الباقي‪،‬‬ ‫بما في ذلك نظام الدولة الحديثة»‪ .‬ينفي الدكتور التير أن تكون‬ ‫هناك طبقة وسطى حقيقة في البلدان العربية‪ ،‬مثل الطبقة التي‬ ‫ساهمت في تغيير مجتمعاتها في الغرب‪ ،‬كانت الطبقة الوسطى‬ ‫مجرد بدايات وسرعان ما انتكست‪ ،‬بسبب االنقالبات العسكرية‪،‬‬ ‫‪23‬‬


‫ومعظمها قادها أبناء الطبقات الفقيرة‪ ،‬والشرائح البدوية أكثر من‬ ‫الشرائح الحضرية‪ ،‬بالرغم من أن المنطقة العربية هي أول من شهد‬ ‫ظهور المدن في العالم‪ ،‬ولكن وفقا للتير انتقلت المدينة إلى أماكن‬ ‫أخرى حيث قادت العالم‪ ،‬وبقت هذه المنطقة مرهونة لصراعاتها‬ ‫المزمنة بين البدو والحضر‪.‬‬

‫‪24‬‬


‫�سيف الإ�سالم يتعلم �أ�صول الإ�ستبداد ال�شرقي‬ ‫في كازاخ�ستان‬ ‫فجأة وصل سيف اإلسالم القذافي إلى كازاخستان‪ ،‬واجتمع برئيسها‬

‫مدى الحياة‪ ،‬نور سلطان نزارباييف‪ .‬وفقا لصحيفة قورينا التابعة لسيف‬

‫اإلسالم فإنه ذهب إلى هناك لتعزيز «العالقات التاريخية بين الشعبين»‪،‬‬ ‫وهو ما أثار دهشة المراقبين فال وجود لعالقات ال تاريخية وال حتى‬

‫طبيعية بين الشعبين‪ ،‬منذ وقبل انفصال كازاخستان عن االتحاد السوفيتي‪.‬‬ ‫ماذا يفعل سيف اإلسالم في كازاخستان؟ خاصة وأنه غربي‬

‫الهوى‪ ،‬ومنذ تصديه لإلصالح في بالده يتحاشى زيارة بلدان‬

‫يعشعش فيها االستبداد‪ ،‬فما بالك بزيارة كازاخستان األكثر غموضا‬

‫من جماهيرية أبيه‪ ،‬وهكذا انفتح المجال واسعا لالجتهاد‪ ،‬فثمة من‬ ‫يقول إن القذافي أرسل أبنه ليدعو نزارباييف لتكون بالده عضوا في‬

‫الجامعة العربية‪ ،‬طالما أنه يترأس قمة هذا الجامعة‪ ،‬فما الفرق بين‬ ‫كازاخستان وهذا الجمع بين المحيط والخليج؟‬ ‫‪25‬‬


‫لعله ذهب إلى هناك ليتعلم من األمين العام للحزب الشيوعي‬ ‫الكازاخستاني السابق‪ ،‬كيف يحكم هذه البالد بالرغم من أنه يذهب‬ ‫إلى االنتخابات ويفوز بنسبة ‪ ،90%‬وعدل الدستور عدة مرات‪،‬‬ ‫حتى أصبح الرئيس مدى الحياة‪ ،‬وجمع بين يديه كل السلطات‬ ‫والصالحيات‪ ،‬وهو ما لم يكن القذافي في حاجة له منذ أن سلم‬ ‫السلطة للشعب على الهواء مباشرة عام ‪ ،1977‬وأنصرف ليحرض‬ ‫من لم يستلم السلطة والثروة والسالح على استالمها في أقرب وقت‪،‬‬ ‫ولكن كسل الشعب الليبي جعله يواظب على التحريض دون جدوى‪.‬‬ ‫ثمة بعض التشابه بين أبطال القصة في ليبيا وكازاخستان‪ ،‬فإذا كان‬ ‫القذافي قد كتب الكتاب األخضر‪ ،‬والفرار إلى جهنم‪ ،‬وتحيا دولة‬ ‫الحقراء‪ ،‬والقرية القرية األرض األرض وانتحار رائد الفضاء‪ ،‬وهي‬ ‫الكتب التي أنفقت عليها ليبيا من الميزانية العامة أكثر مما أنفقت‬ ‫البشرية على طباعة الكتب المقدسة‪ ،‬فإن نزارباييف ال تنقصه الموهبة‬ ‫األدبية‪ ،‬فكتب هو أيضا على غرار صدام حسين كتبا لم يقرأها أحد‪،‬‬ ‫ولكن الشركات النفطية الغربية‪ ،‬التي سأل لعابها لكميات النفط‬ ‫والغاز تحت تاسع أكبر دولة مساحة في العالم‪ ،‬سارعت إلى ترجمة‬ ‫كتب نزارباييف وتوزيعها مجانا‪ ،‬وكلفت كبار األساتذة في الجامعات‬ ‫األمريكية‪ ،‬وبعض أعضاء مجلس النواب والشيوخ بكتابة مقدمات‬ ‫لهذه الكتب‪ ،‬وكانت تهديه النسخة األولى ليوقع معها على الفور عقدا‬ ‫جديدا‪ ،‬وأثبت أنه أكثر حرصا على المال العام مقارنة بالقذافي‪ ،‬الذي‬ ‫كلف البحرية الليبية بنقش الكتاب األخضر على الرخام بكل لغات‬ ‫‪26‬‬


‫العالم‪ ،‬ورمي الرخام في كل محيطات وبحار الكرة األرضية‪ ،‬فلعل‬ ‫الحضارة البشرية الحالية تفنى‪ ،‬وعندما تقوم حضارة جديدة لن تبدأ‬ ‫من الصفر‪ ،‬وإنما من الحلول النهائية لكافة المشاكل كما لخصها‬ ‫الكتاب األخضر‪ .‬على خالف نزارباييف كلف القذافي كتابا ليبيين‬ ‫وعرب بكتابة مقدمات لكتبه‪ ،‬ولكنها تنشر في آخر الكتاب‪ ،‬مما‬ ‫جعل البعض يتندر على من تنال مقدمته إعجاب القذافي قائلين له‬ ‫لقد استمتعنا بقراءة مؤخرتك األخيرة‪.‬‬

‫أما التشابه الثاني فهو بين سيف اإلسالم‪ ،‬وأكبر بنات نزارباييف‬ ‫دراجينا‪ ،‬فإذا كان سيف اإلسالم يقود المعارضة الداخلية ضد نظام‬ ‫أبيه‪ ،‬فقد فعلت دراجينا نفس الشيء في انتخابات عام ‪ ،2004‬عندما‬ ‫أسست حزبا وخاضت االنتخابات ضد والدها‪ ،‬بشعار يقول «ال يوجد‬ ‫بديل للرئيس الحالي»‪ ،‬وانتزعت من حزب والدها ‪ % 40‬من مقاعد‬ ‫البرلمان‪ ،‬ومثل سيف اإلسالم الذي يدير شركة الغد اإلعالمية‪،‬‬ ‫تفرغت دراجينا لسنوات عديدة إلدارة وكالة األنباء الوحيدة في البالد‪،‬‬ ‫ولكن على خالف القذافي الذي رزق بسبعة أوالد وابنة واحدة‪ ،‬رزق‬ ‫نزارباييف بثالث بنات‪ ،‬مما يعني أن خليفته األرجح ستكون دراجينا‪،‬‬ ‫التي طلقت من زوجها بعد إبعاده سفيرا في استراليا‪ ،‬ثم طلب من‬ ‫االنتربول القبض عليه بعدة تهم‪ ،‬عندما اكتشف نزارباييف أن صهره‬ ‫لديه طموحات أكبر من طموحات زوج الملكة اليزابيت‪ ،‬وأيضا‬ ‫زوج مارغريت تاتشر‪.‬‬ ‫ثمة من يرى أن زيارة سيف اإلسالم ال عالقة لها بكل هذا‬ ‫‪27‬‬


‫االستبداد الشرقي‪ ،‬وإنما لها عالقة بثأر عائلة القذافي من سويسرا‪،‬‬ ‫فإذا أقنع سيف اإلسالم عمه نزار باييف بسحب ملياراته من سويسرا‪،‬‬ ‫والتي ال يعرف على وجه اليقين كم تبلغ‪ ،‬باستثناء من نشرته مجلة‬ ‫فوربس عن أموال ابنته دينارا‪ ،‬والتي تقول المجلة أنها تبلغ ‪2.1‬‬ ‫مليار دوالر‪ ،‬وهو نفس المبلغ الذي يملكه زوجها‪ ،‬ويبقى السؤال‬ ‫كم سينفق القذافي ليقنع هذا الطاغية وعائلته بمقاطعة سويسرا؟ يبدو‬ ‫أن معركة سويسرا ستعيد ليبيا كما كانت إلى صندوق كبير من الرمال‪.‬‬

‫‪28‬‬


‫م�صراته التائهة بين الحرب والتجارة‬ ‫كلما سقطت الدولة في طرابلس تستقل مصراته‪ .‬حدث ذلك عدة‬ ‫مرات في تاريخ ليبيا‪ ،‬ففي عام ‪ 1795‬تمكن علي الجزائرلي المعروف‬ ‫بعلي برغل من االستيالء على طرابلس بفرمان عثماني مزور‪ ،‬ولجأت‬ ‫األسرة القرمانلية إلى تونس‪ ،‬وعلى الفور استقلت مصراته التي‬ ‫اعترفت بعلي برغل‪ ،‬ولمدة ثالث سنوات كان أغا مصراته يرسل‬ ‫التموين لبرغل عن طريق البحر‪ ،‬قبل أن يستعيد القرمانليون طرابلس‬ ‫بمساعدة باي تونس‪.‬‬

‫في عام ‪ 1832‬ثار غرب ليبيا على يوسف باشا‪ ،‬وحاصر الثوار‬ ‫مدينة طرابلس‪ ،‬وطالب الثوار يوسف باشا بالتنازل لحفيده محمد‬ ‫الذي كان على رأس الثوار‪ ،‬لكنه تنازل ألبنه علي‪ ،‬وعلى الفور‬ ‫استقلت مصراته التي تولت تموين الباشا الجديد عن طريق البحر‪،‬‬ ‫كما أرسلت مقاتليها لفك الحصار عن المدينة‪ ،‬لكنهم فشلوا في‬ ‫الوصول إلى المدينة‪ ،‬حيث تصد لهم أهل تاجوراء والمنشية الذين‬ ‫حفروا الخنادق وكبدوهم خسائر كبيرة‪.‬‬ ‫‪29‬‬


‫في عام ‪ 1835‬بعد أن استولى األتراك مرة أخرى على طرابلس‪،‬‬ ‫رفضت مصراته االعتراف بالوضع الجديد‪ ،‬وفشل الوالي التركي‬ ‫الجديد في اقتحامها‪ ،‬وبعد مفاوضات مضنية دخلها سلميا‪ ،‬وبعد‬ ‫معركة القرضابية يوم ‪ 29‬أبريل ‪ 1915‬غنم رمضان السويحلي‬ ‫خمس آالف بندقية وكمية كبيرة من الذخيرة والعتاد‪ ،‬وفيما بعد‬ ‫فرض السويحلي سطوته على المنطقة الوسطى والجنوبية‪ ،‬وجمع‬ ‫الضرائب من سرت وفزان‪ ،‬وبلغ به الغرور أن حاول اغتيال عبد‬ ‫النبي بلخير في بني وليد يوم عيد األضحى التي يعرفها جيدا‬ ‫حيث لجأ إليها عامي ‪ 1909‬و‪ 1910‬بعد أن قتل منافسه على‬ ‫حكم مصراته بالقاسم المنتصر‪ .‬كل هذا يؤكد عمق العالقة بين‬ ‫مصراته وطرابلس القديمة‪ ،‬فالقرار الذي تتخذه طرابلس تدعمه‬ ‫مصراته دون تحفظ‪ ،‬وبعد سقوط نظام القذافي استقلت مصراته‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬وتحولت إلى إقليم كونفدرالي تدخله بتأشيرة وتعبره‬ ‫بتأشيرة‪.‬‬ ‫ثمة وجهان لمصراته إحدهما التفوق التجاري زمن السلم‪ ،‬والثاني‬ ‫التفوق العسكري زمن الحرب‪ ،‬ولكن التفوق الثاني عكس األول يتم‬ ‫بأكبر قدر من الغطرسة والنرجسية‪ ،‬ويبدو أن ذلك نشأ بسبب العزلة‬ ‫والتركيبة العرقية لمصراته‪ ،‬فقبل غزو الطليان إلى ليبيا كان ال يمكن‬ ‫العثور على مدينة مسورة من مصراته إلى بنغازي‪ ،‬ومن مصراته إلى‬ ‫طرابلس‪ ،‬فهي على الدوام مكتفية بذاتها بسبب وجود ميناء كبير‪،‬‬ ‫كما أن مساحتها تقارب نصف مساحة لبنان‪.‬‬ ‫‪30‬‬


‫أعطت هذه المدينة الكثير لليبيا وأخذت أيضا الكثير‪ ،‬ومنها جاء‬ ‫كبار المفكرين والكتاب والساسة والقادة العسكريون‪ ،‬وكبار رجال‬ ‫األعمال والتجارة‪ ،‬ولكنها أيضا أنجبت كبار المتغطرسين والطامعين‬ ‫في كل شيء‪ ،‬وشتان بين أبناءها األوفياء أمثال حسن األمين وجمعة‬ ‫عتيقة‪ ،‬وسالم جحا وأبناءها غير المتبصرين أمثال عبد الرحمن‬ ‫السويحلي وصالح بادي‪ ،‬فاألخيرين يصران على عزلة مصراته‬ ‫وكأنهما ال يزاالن متأثرين باالنكشاري الذي جاء من تركيا ليسكن‬ ‫مصراته‪ ،‬ويحاول فرض سطوته على الجميع‪.‬‬

‫أحسن مجلس مصراته المحلي صنعا بسحب مليشياته من‬ ‫طرابلس‪ ،‬ولكن تجميد عضوية نواب مصراته ووزراءها يشي بأن‬ ‫مصراته مقبلة على عزلة قد تؤخر إعادة بناء الدولة‪ ،‬وشتان بين‬ ‫هذه األيام الكالحة‪ ،‬وأيام االستقالل التي قاد فيها محمود المنتصر‬ ‫المصراتي أول حكومة في العهد الملكي‪ ،‬لدرجة أن البيان الصادر‬ ‫عن مجلس مصراته تناسى حتى تقديم العزاء لعائالت الشهداء‪،‬‬ ‫واالعتذار نيابة عن أبناءها الذين اطلقوا النار على المسالمين دون‬ ‫رحمة‪.‬‬ ‫توقعاتي بأن حراكا كبيرا سيحدث في مصراته لتصحيح مسار‬ ‫الثورة فيها بعد عودة مقاتليها إليها‪ ،‬ويبدو أن الذين اختطفوا‬ ‫طرابلس اختطفوا أيضا مصراته‪ ،‬وكمم سفهاؤها حكماءها بقوة‬ ‫السالح‪ ،‬والدليل هو ردة فعل مجلسها المحلي والعسكري‬ ‫ومجلس الشورى‪ ،‬والثابت تاريخيا أن مصراته عندما يحكمها‬ ‫‪31‬‬


‫آل المنتصر تكشف عن وجهها المشرق‪ ،‬فتمد ذراعيها إلى جيرانها‬ ‫وتنتعش المدينة وتزدهر‪ ،‬وعندما يحكمها آل السويحلي تكشف‬ ‫عن وجهها المظلم‪ ،‬فتخبو المدينة تحت شيفونية مقيتة وانكشارية‬ ‫متغطرسة‪.‬‬

‫‪32‬‬


‫ثورة فبراير لي�ست ال�سيناريو الأمثل للتغيير‬ ‫نحتفل اليوم بالذكرى الثالثة لثورة فبراير وسط إخفاق شديد في‬ ‫تحقيق أهداف الثورة‪ ،‬فبعد إعالن التحرير اتضح أن اللحمة الوطنية‬ ‫والروح الوهاجة التي ميزت الليبيين خالل الثورة سرعان ما اختفت‪،‬‬ ‫وحل محلها تنافس شديد على الغنائم والمناصب واالستحواذ على‬ ‫السالح‪ ،‬كما تفجرت الخالفات القبلية القديمة لتحسم هذه المرة‬ ‫بسطوة السالح‪ ،‬وفي شرق ليبيا تناسلت الجماعة اإلسالمية المتشددة‪،‬‬ ‫لتنشر رعب االغتياالت والتفجيرات في درنة وبنغازي‪ ،‬بينما استباح‬ ‫المهربون وتنظيمات القاعدة والهجرة غير الشرعية جنوب البالد‪ ،‬وفي‬ ‫غرب البالد استفحلت الخالفات القبلية والمناطقية‪ ،‬كما انتشرت‬ ‫عصابات الخطف وقطاع الطرق‪ ،‬وفتحت سجون غير شرعية ارتكب‬ ‫فيها فظاعات شديدة‪.‬‬ ‫ولم يسجل نجاح واحد خالل ثالث سنوات سوى نجاح انتخابات‬ ‫المؤتمر الوطني العام‪ ،‬وتشكيل حكومة مؤقتة‪ ،‬وها هي الجماهير‬ ‫الغاضبة تخرج كل جمعة مطالبة برحيل المؤتمر الذي انتخبته‪ ،‬ويتوقع‬ ‫‪33‬‬


‫أن تواجه الحكومة أزمة في المرتبات والميزانة‪ ،‬بعد أن أغلقت‬ ‫مليشيا لها مطامح انفصالية ثالثة موانيء نفطية في شرق البالد‪ ،‬في‬ ‫الوقت الذي ضعف فيه النسيج االجتماعي‪ ،‬مع وجود عشرات آالف‬ ‫النازحين في الداخل‪ ،‬ووجود مئات آالف المهجرين في الخارج‪،‬‬ ‫ومعظمهم يعاني ظروفا سيئة بشكل استثنائي‪.‬‬

‫هل الذين حرضون على الثورة وخرجوا إلى الشوارع من أجل‬ ‫نصرتها‪ ،‬ورابطوا في الجبهات من أجل إسقاط الطاغية راضون‬ ‫على هذه النتائج المآساوية؟ أحد المسئولين في المكتب التنفيذي‬ ‫السابق قال لي بأنه كان يفضل الدخول في صفقة مع القذافي‪ ،‬وأن‬ ‫هذا السيناريو أفضل من سيناريو فبراير‪ ،‬خاصة وأن الواليات المتحدة‬ ‫عرضت على القذافي في شهر يونيو مقترحا لتأمينه ونقله خارج البالد‪،‬‬ ‫وتشكيل حكومة من أعوان القذافي ومعارضيه‪ ،‬واقترح االمريكان‬ ‫أحد أبناء القذافي في حكومة الوحدة الوطنية‪ ،‬إال أن القذافي تأخر في‬ ‫الموافقة على المقترح حتى شهر أغسطس‪ ،‬وعندها قال له األمريكان‬ ‫ال فائدة اآلن فالثوار أصبحوا على أبواب العاصمة‪.‬‬ ‫لست متأكدا من أن االقتراح االمريكي كان سينجح‪ ،‬خاصة وأن‬ ‫الكراهية وعدم الثقة بين فريقي الحكومة كان سيعجل بسقوطها‪،‬‬ ‫وسيعود السالح ليحسم الصراع بين الطرفين‪ ،‬وثمة من يرى أن‬ ‫سيناريو التوريث كان األفضل للبالد‪ ،‬فالوريث سيف القذافي‬ ‫يمكن التخلص منه خالل عشر سنوات عن طريق االنتخابات‪،‬‬ ‫وسينفق معظم وقته في الصراع مع اشقاءه‪ ،‬وهو ما عبر عنه شخصيا‬ ‫‪34‬‬


‫في أكثر من مناسبة‪ ،‬ولكن كيان الدولة سيبقى سليما مقارنة بما‬ ‫هو عليه اآلن‪.‬‬

‫قبل بداية الثورة بأسبوع وفي غرفة بالبالتوك يشرف عليها حسن‬ ‫األمين‪ ،‬رفضت عسكرة الثورة وحذرت من عواقبها‪ ،‬ودعوت الشباب‬ ‫إلى الخروج في مظاهرات سلمية للمطالبة بمطالب يستطيع النظام‬ ‫تحقيقها فورا‪ ،‬وهكذا تتحول المطالب إلى إعادة بناء دولة عادية تشبه‬ ‫تونس ومصر‪ ،‬وعندما يصبح في البالد جيش محترف‪ ،‬ومؤسسات‬ ‫مجتمع مدني‪ ،‬ودستور يمكن المنادة بإسقاط النظام‪ .‬طبعا الكثر‬ ‫مما كانوا في الغرفة رفضوا مقترحي‪ ،‬وهناك من اتهمني بالعمل على‬ ‫تقويض الثورة وخيانتها‪ ،‬إال أن األيام اثبتت صحة توقعاتي‪ ،‬فليبيا بلد‬ ‫استثنائي ال يشبه جيرانه‪ ،‬وال يملك من التراكم ما يكفي ليؤسس عليه‪،‬‬ ‫دائما يعود إلى نقطة الصفر‪ ،‬مثل أي بدوي ال تاريخ له‪ ،‬يكرر فقط‬ ‫ما فعله جده ووالده ليبقى حيا في تلك المفازة‪ ،‬لذلك يعود الليبيون‬ ‫إلى عام ‪ 1951‬باعتباره نقطة الصفر‪ ،‬بينما يعود المصريون والتوانسة‬ ‫إلى آخر دستور صاغوه‪.‬‬ ‫ثمة من يتحجج بالوقت وأن السيناريو الذي اقترحته يحتاج إلى‬ ‫عقد كامل لبناء الدولة العصرية الديمقراطية‪ ،‬والتخلص من القذافي‬ ‫وأبناءه‪ ،‬وهذا صحيح‪ ،‬ولكن السؤال األهم هو كم نحتاج اآلن من‬ ‫وقت وفي ظل هذه الفوضى لبناء الدولة العصرية الديمقراطية؟‬

‫‪35‬‬



‫مالمح حرب �أهلية تلوح في الأفق‬ ‫أدت مجموعة من القرارات والتصرفات غير الحكيمة إلى زيادة‬ ‫احتمال قيام حرب أهلية في ليبيا‪ ،‬ومن هذه القرارات قرار المؤتمر‬ ‫الوطني بإقالة رئيس الحكومة علي زيدان‪ ،‬وقرار رئيس المؤتمر‬ ‫«‪ »42‬بتحرير الموانيء النفطية‪ ،‬وقبل ذلك شحن الناقلة الغامضة‬ ‫مورنينغ غلوي بالنفط بطريقة غير شرعية‪ ،‬مما أدى إلى تحشيد قوات‬ ‫مصراته في سرت‪ ،‬وتحشيد قوات برقة في الوادي األحمر‪ ،‬وقد تنجح‬ ‫مجالس الحكماء المجتمعة في بنغازي من تجنيب البالد من حرب‬ ‫أهلية طاحنة‪ ،‬خاصة بعد احتجاز البحرية األمريكية لناقلة النفط قرب‬ ‫قبرص‪ ،‬مما سيؤدي إلى إضعاف موقف الجضران‪ ،‬ويكشف الكثير‬ ‫من األمور الغامضة التي ساعدت الناقلة على دخول ميناء السدرة‬ ‫والخروج منه‪.‬‬

‫وإذا قامت الحرب األهلية فلن تكون حربا جهوية بين الشرق‬ ‫والغرب‪ ،‬أو الغرب والجنوب‪ ،‬وهي سمة الحروب األهلية في تاريخ‬ ‫ليبيا‪ ،‬فعندما تتمرد أي منطقة وتخرج عن سيطرة باشا طرابلس‪ ،‬يرسل‬ ‫‪37‬‬


‫حملة تتولى السيطرة على المنطقة المتمردة ومعاقبة قادتها وشيوخ‬ ‫قبائلها‪ ،‬ولكن هذه المرة ستتخذ الحرب بعدا أيديولوجيا ممزوجا‬ ‫ببعد قبلي‪.‬‬

‫موقف الزنتان الرافض لتحرير الموانيء النفطية بالقوة العسكرية‬ ‫منع تقسيم ليبيا بين غرب وشرق‪ ،‬ويساند هذا الموقف معظم قبائل‬ ‫الغرب باستثناء المناطق المحسوبة على اإلسالميين‪ ،‬وفي مقدمتها‬ ‫مصراته ومناطق شرق طرابلس‪ ،‬وبعض المليشيات في الزاوية وزوارة‪.‬‬

‫سيتجنب أمازيغ الجبل هذه الحرب إال إذا اقتربت من مناطقهم‪،‬‬ ‫بينما ستشارك فيها زوارة في صف اإلسالميين‪ ،‬خاصة وأن رئيس‬ ‫المؤتمر المتحالف مع اإلسالميين ينحدر من زوارة‪ ،‬وستجد قبائل‬ ‫النوايل والصيعان التي خاضت اشتباكات مع زوارة مجبرة على‬ ‫الوقوف مع التيار المدني ضد اإلسالميين‪ ،‬كما ستقف قبائل ورفلة‪،‬‬ ‫ترهونة‪ ،‬ورشفانة مع الزنتان مثلها مثل كل قبائل الجبل ماعدا قبيلة‬ ‫المشاشية المعادية للزنتان‪ ،‬إال إذا تدخلت بقية القبائل وضغطت من‬ ‫أجل المصالحة بينها وبين الزنتان‪.‬‬

‫ستقف القبائل في زليتن والخمس والساحل على الحياد‪ ،‬خوفا‬ ‫على مصالحها وهي المحصورة بين مصراته وشرق طرابلس‪ ،‬وغالبا‬ ‫ستكون طرابلس هي ميدان المعركة الكبرى‪ ،‬حيث ستقسم مثل‬ ‫بيروت بين طرابلس الغربية وطرابلس الشرقية‪ ،‬وسيكون خط التماس‬ ‫قريبا من شارع بن عاشور وزاوية الدهماني وعين زارة‪ ،‬ولهذا السبب‬ ‫لم تسلم الزنتان مطار طرابلس ألنه سيكون الرئة التي تتنفس من‬ ‫‪38‬‬


‫خاللها طرابلس الغربية‪ ،‬وستقف سوق الجمعة ومعيتيقة وفشلوم‬ ‫وتاجوراء مع اإلسالميين‪.‬‬

‫إذا تحركت قوات درع المنطقة الوسطى المحسوبة على مصراته‬ ‫شرقا ستكون المعركة بينها وبين قوات برقة في الوادي األحمر‪،‬‬ ‫وقد تصل المعارك إلى سرت واجدابيا‪ ،‬وستكون مدينة بنغازي‬ ‫مسرحا لمعارك بين قوات الصاعقة وقوات حفتر المتمركزة في المرج‬ ‫وكتيبة حسين الجوفي المتمركزة في شحات‪ ،‬ضد أنصار الشريعة‪،‬‬ ‫وراف الله السحاتي‪ ،‬وكتيبة ‪ 17‬فبراير‪ ،‬وستقف قبائل برقة جميعها‬ ‫ضد اإلسالميين من المغاربة غربا إلى العبيدات شرقا‪ ،‬التي سيقع‬ ‫عليها العبء في تحرير درنة من أنصار الشريعة وتنظيم القاعدة‪،‬‬ ‫وهكذا ستضرر أهم المدن الليبية وهي طرابلس وبنغازي ودرنة من‬ ‫هذه الحرب أكثر من غيرها‪.‬‬

‫ستتردد قبيلة الزوية في إعالن موقفها فهي منافسة لقبيلة المغاربة‬ ‫التي ينتمي إليها الجضران‪ ،‬ومعادية لقبيلة التبو التي تحالفت مع‬ ‫الجضران‪ ،‬ولكنها وبسبب خالفات تاريخية ستكون أقرب إلى‬ ‫اإلسالميين‪ ،‬وهو نفس الموقف الذي ستتخذه قبيلة أوالد سليمان‬ ‫المعادية للتبو‪ ،‬أما بقية قبائل فزان والجفرة فعلى األرجح ستقف‬ ‫ضد اإلسالميين‪.‬‬

‫ستجتذب هذه الحرب جميع القوى اإلقليمية وحتى بعض القوى‬ ‫الدولية‪ ،‬وستكون مصر وتونس والجزائر مساندة للتيار المدني‪،‬‬ ‫وقد تعود طائرات الناتو إلى سماء ليبيا بقرار من مجلس األمن‬ ‫‪39‬‬


‫أو استنادا على القرار السابق بالتدخل في ليبيا لحماية المدنيين‪،‬‬ ‫وخاصة الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬التي أرسلت رسالة واضحة‬ ‫إلى بريطانيا بأن ليبيا من حصتها وتقع في مجال نفوذها‪ ،‬بعد سيطرة‬ ‫البحرية األمريكية على الناقلة «مورنينغ غلوري»‪.‬‬

‫‪40‬‬


‫خطط الإ�سالميين لل�سيطرة على ليبيا‬ ‫لم يفصح رئيس الوزراء المقال علي زيدان في لقاءه مع قناة‬ ‫«ليبيا لكل األحرار» عن كل األسرار التي في جعبته‪ ،‬باستثناء حديثه‬ ‫عن مساعي اإلسالميين الممثلين في «اإلخوان المسلمين»‪ ،‬و«كتلة‬ ‫الوفاء لدماء الشهداء» التي يقودها عبد الوهاب قايد الذي كان في‬ ‫أفغانستان‪ ،‬وشقيق أبو يحيى الليبي مساعد أسامة بن الدن‪ ،‬و»كتلة‬ ‫الجبهة الوطنية إلنقاذ ليبيا»‪ ،‬باإلضافة إلى بعض المستقلين‪ ،‬للسيطرة‬ ‫على الحكم في ليبيا‪ .‬كما كشف زيدان ألول مرة الظروف التي يعمل‬ ‫بها رئيس المؤتمر الوطني العام نوري أبو سهمين‪ ،‬والذي وصفه‬ ‫زيدان بأنه أسير بيد اإلسالميين‪.‬‬

‫ومن خالل حديث زيدان يمكننا تصور الخطة التي وضعها‬ ‫اإلسالميون للسيطرة على ليبيا‪ ،‬منذ أن نجحوا في تمرير قانون العزل‬ ‫السياسي‪ ،‬وإبعاد رئيس المؤتمر السابق الدكتور محمد المقريف‪.‬‬ ‫وقد وافق أعضاء حزب المقريف أنفسهم على قانون العزل السياسي‬ ‫الذي كان من شأنه أن يطيحه‪ ،‬وفي مقدمة هؤالء كان رئيس الحزب‬ ‫‪41‬‬


‫محمد عبد الله‪ ،‬وصهره إبراهيم صهد‪ ،‬ومحمد التومي رئيس لجنة‬ ‫صياغة قانون العزل السياسي‪ ،‬بعدما اكتشفوا أن المقريف ال يمكن‬ ‫السيطرة عليه‪ .‬وبعد عزل المقريف انت ِ‬ ‫ُخب نوري أبو سهمين رئيسا‬ ‫للمؤتمر‪ ،‬وهو الذي ال يمتلك أي خبرة سياسية‪ ،‬وال قبيلة كبيرة لتحميه‬ ‫فأصبح أسيرا لإلسالميين‪ ،‬خاصة بعد أن قبض عليه في فشلوم في‬ ‫قضية لم يحقق فيها حتى اآلن‪.‬‬

‫بعد سيطرتهم على المؤتمر في ظل ذوبان كتلة تحالف القوى‬ ‫الوطنية‪ ،‬التي اشتروا بعض أعضائها ومارسوا اإلرهاب لدفع البعض‬ ‫اآلخر إلى االستقالة‪ ،‬بدأ اإلسالميون التخطيط للتخلص من رئيس‬ ‫الحكومة علي زيدان‪ ،‬ولكنهم فشلوا في ذلك عدة مرات‪ .‬وهنا لجأوا‬ ‫إلى ترهيب زيدان بخطفه عن طريق مليشيات متحالفة معهم مثل‬ ‫«غرفة عمليات ثوار ليبيا»‪ ،‬وأخيرا تمكنوا من إقالته وكان يمكنهم‬ ‫التنكيل به بعدها لوال مغادرته البالد على وجه السرعة‪.‬‬

‫ماذا بعد؟ ماذا سيفعل اإلسالميون بعد نجاحهم في إقالة زيدان؟‬ ‫سيبدأون في اليسطرة على مفاصل الدولة‪ ،‬وعلى الوزارات السيادية‪،‬‬ ‫وهم يسيطرون بالفعل على وزارة الدفاع‪ ،‬بسبب وجود وكيلين لها‬ ‫ينتميان إلى «الجماعة اإلسالمية المقاتلة»‪ ،‬وقد يعينوا خالد الشريف‬ ‫وزيرا للدفاع‪ .‬كما سيسعون للسيطرة على وزارة الداخلية‪ ،‬ووزارة‬ ‫الخارجية بعد تعيين رئيس جديد للوزراء بدال من عبد الله الثني‪.‬‬ ‫وغالبا سيكون رئيس الحكومة الجديد محسوبا عليهم‪ ،‬وقد يكون‬ ‫عمر الحاسي أو محمد بوكر‪ .‬كما سيسعون للسيطرة على رئاسة‬ ‫‪42‬‬


‫األركان وتعليق فشل احتجاز ناقلة النفط الكورية في رقبة جاد الله‬ ‫العبيدي‪.‬‬

‫سيحاول اإلسالميون التمديد للمؤتمر الوطني‪ ،‬في ظل حكومة‬ ‫يسيطرون عليها‪ ،‬وعندها سيطلبون من وكالئهم في بنغازي ودرنة‬ ‫التخفيف من عمليات االغتيال والتفجير والخطف‪ .‬وهو التكتيك‬ ‫نفسه الذي لجأت إليه حركات إسالمية في دول أخرى‪ ،‬كانت تحتكر‬ ‫ممارسة العنف‪ ،‬وعندما تصل إلى السلطة تمتنع عن ممارسة العنف‪،‬‬ ‫وتفرض األمن في البالد‪.‬‬

‫وحتى يتمكنوا من السيطرة بالكامل على السلطة سيفرضون‬ ‫خطابهم المتشدد من على منابر المساجد‪ ،‬ويستبعدون كل الخطباء‬ ‫الذين ال يتجاوبون معهم‪ ،‬وذلك باالستعانة بدار االفتاء والمفتي‬ ‫شخصيا‪ .‬وستكون معركة االنتخابات الرئاسية هي المحك الحقيقي‬ ‫لشعبيتهم في البالد‪ ،‬إذا أجريت االنتخابات بطريقة نزيهة وآمنة‪.‬‬ ‫وإذا خسروا انتخابات الرئاسة فسيضعون كل العراقيل أمام الرئيس‬ ‫القادم وحكومته‪ ،‬وسيتحولون لممارسة أقصى أنواع العنف إذا‬ ‫عاقبهم الناخبون وأقصوهم من كل المواقع التي يسيطرون عليها‪.‬‬ ‫عندها يمكن أن تتحول ليبيا إلى ما يشبه أفغانستان أو الصومال‪،‬‬ ‫وستتحول طرابلس مثل بنغازي ودرنة‪ ،‬وستلعب القوات العسكرية‬ ‫غير الخاضعة لهم والموجودة في الغرب والشرق والجنوب الدور‬ ‫الحاسم في إنقاذ البالد منهم‪.‬‬

‫إذا كان التخلص من اإلخوان المسلمين في مصر تم بتدخل‬ ‫‪43‬‬


‫القوات المسلحة‪ ،‬وتحجيمهم في تونس عن طريق الضغط الشديد‬ ‫عليهم‪ ،‬فإن التخلص منهم في ليبيا سيكون من خالل حرب أهلية‪،‬‬ ‫وبمساعدة عربية ودولية‪.‬‬

‫‪44‬‬


‫الع�صيان المدني على الطريقة الليبية‬ ‫فجاءة وصل مصطلح العصيان المدني إلى ديارنا‪ ،‬ووجد تربة‬ ‫خصبة لينمو بطريقة مشوهة‪ ،‬فتحول من عمل سلمي عقالني واع‪،‬‬ ‫إلى عمل عنيف يتنافي مع العقالنية والوعي‪ ،‬بالرغم من أن العصيان‬ ‫المدني كما طبق في عدة بلدان نجح في آخر األمر في تغيير الواقع‪،‬‬ ‫فالعصيان المدني الذي قاده المهاتما غاندي في الهند في أواخر‬ ‫أربعينيات القرن الماضي نجح في حصول الهند على استقاللها‪،‬‬ ‫عندما قرر غاندي وأتباعه مقاطعة المصانع البريطانية في الهند‪،‬‬ ‫وخاصة مصانع النسيج وجلس الهنود يحيكون مالبسهم بمغازلهم‪،‬‬ ‫ووصل العصيان المدني إلى ذروته عندما اصطحب غاندي عنزا‬ ‫يحلبها ليقاطع حتى حليب االستعمار‪.‬‬ ‫وفي أمريكا دفع القس مارتن لوثر كينغ حياته من أجل إنجاح‬ ‫العصيان المدني‪ ،‬احتجاجا على القوانيين العنصرية‪ ،‬التي ال تساوي‬ ‫بين السود والبيض‪ ،‬وهو ينشد جملته الشهيرة «لدي حلم»‪ ،‬كما نجح‬ ‫العصيان المدني في جنوب افريقيا في إلغاء نظام الميز العنصري‪،‬‬ ‫‪45‬‬


‫والذي قاده مانديال من أعماق سجنه‪ ،‬وحتى عندما يأخذ العصيان‬ ‫المدني طابعا عنيفا‪ ،‬فهو ال يتجاوز الهدف الذي نظم من أجله‪ ،‬ففي‬ ‫عام ‪ 2004‬هاجم محتجون في فرنسا حقوال للذرة المعدلة وراثيا‬ ‫واقتلعوها‪ ،‬ولكنهم لم يتجاوزا ذلك لتعطيل مظاهر الحياة العامة‪.‬‬

‫بدأ العصيان المدني في طرابلس عندما نزل مسلحون إلى شوارع‬ ‫األحياء الغربية للمدينة‪ ،‬وهم يطلقون النار في الهواء‪ ،‬ويضعون‬ ‫اإلطارات المشتعلة في الطرق‪ ،‬ويطلبون من طلبة المدارس مغادرتها‪،‬‬ ‫إال أن العاصمة أكبر من أن يرهبها مجموعة مسلحة تدعي تنظيمها‬ ‫للعصيان المدني‪ ،‬والسالح والعنف يتنافى مع مفهوم العصيان‬ ‫المدني‪ ،‬وفي بنغازي انقسم الناس بشدة‪ ،‬فمنهم من حاول فرض‬ ‫العصيان المدني بالقوة‪ ،‬ومنهم من قاومه بالقوة‪ ،‬حتى أصبحت‬ ‫المدينة على شفا حرب أهلية‪.‬‬ ‫أما في الزاوية فقد تجاوز العصيان المدني كل المقاييس‪ ،‬عندما‬ ‫أغلق المسلحون الطريق الساحلي‪ ،‬كما أغلقوا مصفاة النفط‪ ،‬فتكدست‬ ‫السيارات في طرابلس عند محطات الوقود‪ ،‬كما أرسل المسلحون‬ ‫رسائل تهديد إلى مدراء المدارس‪ ،‬ومدراء المصانع والمؤسسات‬ ‫األخرى بضررورة قفل مؤسساتهم‪ ،‬وإال ستكون حياتهم في خطر‪.‬‬

‫لماذا كلما استوردنا مفهوما نشوهه حتى ينكره المصدرون؟ من‬ ‫حق الجميع القيام بالعصيان المدني‪ ،‬ولكن لهذا المفهوم جوانب‬ ‫أساسية منها أن يكون عمال سلميا بالكامل‪ ،‬وأن تتم مقاطعة كل‬ ‫مؤسسات الدولة وموظفيها‪ ،‬والتوقف عن دفع الضرائب‪ ،‬وفواتير‬ ‫‪46‬‬


‫الكهرباء والماء‪ ،‬ومحاولة عرقلة كل مؤسسات الدولة‪ ،‬ما عدا‬ ‫المؤسسات الدولة ما عدا المؤسسات الحيوية‪ ،‬مثل المستشفيات‪،‬‬ ‫ومصادر الطاقة والماء‪ ،‬والموانيء والمطافيء‪ ،‬ولكن في ليبيا تم‬ ‫تعطيل هذه المؤسسات بالرغم من غياب الدولة‪.‬‬ ‫الذين يحتجون على استمرار المؤتمر الوطني العام‪ ،‬كان عليهم‬ ‫محاصرة مقر المؤتمر‪ ،‬ومحاصرة كل األماكن البديلة له مثل فندق‬ ‫المهاري‪ ،‬ومنع أعضاء المؤتمر من الوصول إلى المقر‪ ،‬وكل ذلك‬ ‫يتم بشكل سلمي‪ ،‬ومنع وسائل اإلعالم من الوصول إلى المؤتمر‪،‬‬ ‫وعليهم أن يصبروا أياما حتى يتحقق مطلبهم‪.‬‬

‫استمر المؤتمر في عقد جلساته بالرغم من العصيان المدني‪ ،‬حتى‬ ‫أن بعض أعضاءه شكلوا كتلة جديدة‪ ،‬بينما توقفت الرحالت الداخلية‬ ‫في مطار بنغازي‪ ،‬وانتظر الركاب في المطارات التركية عدة أيام في‬ ‫انتظار وصول طائرتهم من بنغازي‪ ،‬ولم يجد حتى الذين اقتنعوا‬ ‫بالعصيان المدني وقودا كافيا إلعالن العصيان في طرابلس‪ ،‬لدرجة‬ ‫أنني أعتقدت أن تمرد السجناء في سجن الرويمي هو جزء من حركة‬ ‫العصيان المدني‪ ،‬بالرغم من سقوط قتيلين‪ ،‬وإصابة آخرين‪ ،‬ولكن‬ ‫عدد الضحايا يظل أقل من عددهم خارج السجن‪.‬‬ ‫ألسنا في عصيان مدني منذ بداية الثورة؟ فالعصيان المدني‬ ‫يهدف إلى مقاطعة الدولة بالكامل‪ ،‬وحتى اآلن ليست هناك دولة‬ ‫في بالدنا‪ ،‬وتقريبا جميع الناس تستلم مرتباتها وهم يقاطعون العمل‪،‬‬ ‫باستثناء أصحاب المشاريع الخاصة‪ ،‬وتقريبا الجميع ال يدفع فواتير‬ ‫‪47‬‬


‫الكهرباء والماء‪ ،‬وال أحد يدفع مخالفات شرطة المرور‪ ،‬حتى أعضاء‬ ‫المؤتمر الوطني أعلنوا العصيان المدني‪ ،‬فأستقال الكثر منهم‪ ،‬وتغيب‬ ‫اآلخرون‪ ،‬حتى صوتوا على تكليف عبد الله الثني بتولي رئاسة‬ ‫الحكومة ب‪ 45‬صوتا‪ ،‬أي أن نصف أعضاء المؤتمر اختفوا أو لعلهم‬ ‫انخرطوا في صفوف العصيان المدني‪.‬‬

‫‪48‬‬


‫العودة �إلى المعار�ضة‬ ‫عاد علي زيدان إلى منفاه‪ ،‬وقبله عاد الدكتور محمد المقريف‪،‬‬ ‫وفي الوقت الذي صمت فيه األخير‪ ،‬أعلن زيدان معارضته المؤتمر‬ ‫الوطني العام‪ ،‬خاصة لكتلة الوفاء لدماء الشهداء‪ ،‬وكتلة العدالة والبناء‪،‬‬ ‫وكان زيدان يحرص على الصمت عندما كان في السلطة‪ ،‬ولكنه اليوم‬ ‫كمعارض أفشى معظم أسرار الكتلتين‪ ،‬وأساليبهما في السيطرة على‬ ‫المؤتمر وعلى الميليشيات التي تتبعهما‪ ،‬وما فعله بعض أعضاء‬ ‫اإلخوان المسلمين‪ ،‬وعلى رأسهم وزير الشباب والرياضة السابق‬ ‫عبدالسالم غويلة‪ ،‬عندما هربوا إرهاب ًيا ليب ًيا من جنوب أفريقيا على‬ ‫متن طائرة البعثة الرياضية الليبية‪ ،‬بعد فوز المنتخب الليبي بكأس‬ ‫أفريقيا للمحليين‪.‬‬ ‫كل هذا يستدعي المقارنة بين «الفاتح من سبتمبر»‪ ،‬وثورة ‪17‬‬

‫فبراير‪ ،‬فانقالب القذافي العام ‪ 1969‬استقبلته الغالبية العظمى في ليبيا‬ ‫بالترحاب‪ ،‬ولم يعارضه إال قلة قليلة أخذت تتعاظم مع مرور الوقت‪،‬‬ ‫واستغرق القذافي سنوات طويلة حتى تمكن من االنفراد بالسلطة‬ ‫‪49‬‬


‫كاملة‪ ،‬وهو ما تحاوله كتلتا الوفاء لدماء الشهداء‪ ،‬والعدالة والبناء‪،‬‬ ‫في البداية تخلص القذافي من المنفذين الحقيقيين لالنقالب‪ ،‬وفي‬ ‫مقدمتهم المقدم آدم الحواز‪ ،‬والمقدم موسى أحمد‪ ،‬ثم تخلص من‬ ‫«أعضاء مجلس قيادة الثورة» المشاكسين‪ ،‬بعد خطاب زوراة العام‬ ‫‪ ،1973‬ليفرض قمعه وبطشه على الحركة الطالبية العام ‪ ،1976‬ثم‬ ‫يلغي التجارة العام ‪ ،1978‬وليؤسس اللجان الثورية‪ ،‬وقبل ذلك‬ ‫بعام أعلن «النظام الجماهيري»‪ ،‬قبل أن يصل إلى مرحلة البارانويا‬ ‫العليا في نهاية حكمه‪ ،‬وينفصل كل ًيا عن الواقع‪ ،‬تاركًا أبناءه وأعوانه‬ ‫يديرون «دولته الحقيرة»‪.‬‬ ‫ما جرى مع القذافي يتكرر مرة أخرى‪ ،‬ولكن هذه المرة بسيناريو‬ ‫مختلف؛ حيث تسعى كتلة الوفاء لدماء الشهداء‪ ،‬المحسوبة على‬ ‫الجماعة اإلسالمية المقاتلة‪ ،‬وكتلة العدالة والبناء المحسوبة على‬ ‫اإلخوان المسلمين‪ ،‬باإلضافة إلى حلفائهما من تنظيم القاعدة‪،‬‬ ‫وأنصار الشريعة إلى فرض رؤيتهم بقوة السالح وباإلرهاب‪ ،‬حتى‬ ‫يتمكنوا في نهاية المطاف من االنفراد بالسلطة‪.‬‬

‫ستقبل الجماعة اإلسالمية المقاتلة باآللية الديمقراطية على الرغم‬ ‫من عدم قناعتها بها‪ ،‬وقد انقسمت الجماعة ظاهر ًيا إلى قيادات تقبل‬ ‫باالنتخابات والعمل الديمقراطي السلمي‪ ،‬وقواعد ترفض ذلك‬ ‫فورا‪ ،‬خاصة القواعد في شرق ليبيا‪ ،‬ولكن‬ ‫وتنادي بتطبيق الشريعة ً‬ ‫القيادات يظهرون عكس ما يبطنون‪ ،‬هم في الحقيقة قبلوا باآللية‬ ‫الديمقراطية‪ ،‬ما داموا ممثلين في المؤتمر والحكومة‪ ،‬وسيتحولون إلى‬ ‫‪50‬‬


‫اإلرهاب بمجرد خروجهم من المؤتمر والحكومة‪ ،‬وهذا ما ستؤكده‬ ‫االنتخابات القادمة‪.‬‬

‫ليس من صالح هؤالء بناء الجيش والشرطة‪ ،‬ألن غياب هاتين‬ ‫المؤسستين يقربهم من أهدافهم‪ ،‬وتحاول الكتلتان من خالل إصدار‬ ‫القرار رقم «‪ »33‬القاضي بعودة الميليشيات إلى طرابلس‪ ،‬السيطرة‬ ‫الكاملة على أي حراك في العاصمة‪ ،‬فهم يعلمون أن من يحكم العاصمة‬ ‫يحكم البالد طوال تاريخها‪ ،‬وستكون معركة السيطرة على العاصمة‬ ‫قاسية‪ ،‬خاصة إذا خرج سكان المدينة للتظاهر ضد عودة الميليشيات‪،‬‬ ‫والمطالبة برحيل المؤتمر المنتهية واليته‪ ،‬وال يبدو أن المعارضة داخل‬ ‫المؤتمر قادرة على مواجهة الكتلتين‪ ،‬فمعظم المعارضين داخل المؤتمر‬ ‫ال يتمتعون بحماية كافية‪ ،‬وقد يتعرضون للخطف واالنتهاك‪.‬‬

‫معارضو القذافي سيجدون أنفسهم مرة أخرى يعارضون السلطة‬ ‫الجديدة‪ ،‬المختفية تحت جالبيب ولحى أعضاء الكتلتين‪ ،‬وهم‬ ‫يدركون أنهم استغرقوا وقتًا أطول الكتشاف القذافي‪ ،‬من اكتشافهم‬ ‫الديكتاتور الجديد‪ ،‬معولين على التناحر الذي سيحدث بين‬ ‫اإلسالميين عندما ينفردون بالسلطة‪ ،‬ألنهم تعلموا أن ظهور طاغية‬ ‫جديد يستدعي إراقة دماء كل من أوصله إلى قمة السلطة‪.‬‬

‫هدرا‪ ،‬وأن‬ ‫سيكتشف الليبيون عما قريب أن كل تضحياتهم ذهبت ً‬ ‫دماء الشهداء ذهبت هباء‪ ،‬وأنهم لم يتعلموا شي ًئا من عهد القذافي‪،‬‬ ‫حاضرا بسطوة في تاريخهم‪ ،‬كل ما في األمر أنهم‬ ‫فالطاغية ال يزال‬ ‫ً‬ ‫استبدلوا‪ ،‬طاغية ال يزال يتشكل في الظالم بطاغية يعرفونه جيدً ا‪.‬‬ ‫‪51‬‬



‫انقالب ع�سكري بم�ساعدة م�صراته ومباركة المفتي‬ ‫انقالب عسكري كامل قام به أحمد‬ ‫ما جرى يوم االثنين الماضي‬ ‫ٌ‬

‫ومهد لالنقالب بتسريبات يوم‬ ‫معيتيق على حكومة عبدالله الثني‪ّ ،‬‬ ‫األحد‪ ،‬أكد فيها معيتيق َّ‬ ‫أن الثني وافق على تسليم السلطة له يوم‬

‫االثنين‪ ،‬ثم خرج المفتي الشيخ الصادق الغرياني ليضفي مباركته‬ ‫على االنقالب‪ ،‬ومن الواضح ّ‬ ‫أن معيتيق استبق قرار المحكمة‬ ‫الدستورية العليا المتو ّقع يوم الخميس‪ ،‬بشأن دستورية انتخابه‬

‫رئيسا للوزراء‪.‬‬ ‫ً‬

‫لماذا وقع االنقالب اآلن بينما بنغازي تشتعل؟ الجواب هو‬

‫َّ‬ ‫أن اإلسالميين الذين سيطروا على مفاصل الدولة في طرابلس‪،‬‬

‫وعززوا سيطرتهم العسكرية في شرق البالد‪ ،‬يخشون من الذهاب إلى‬ ‫االنتخابات تحت إشراف حكومة الثني‪ ،‬وهم يعلمون أنّهم لن يحققوا‬ ‫أي نتائج في االنتخابات القادمة‪ ،‬مثلما لم يح ّقق نتائج مرضية في‬ ‫انتخابات المجالس البلدية‪ ،‬وانتخابات لجنة الستين‪.‬‬ ‫‪53‬‬


‫ومن الواضح َّ‬ ‫أن حكومة معيتيق التي كان برنامجها اقتصاد ًيا بحتًا‬ ‫وتحول بعد االنقالب‬ ‫عندما قدّ م برنامجه أمام المؤتمر الوطني العام‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لمحاربة اإلرهاب‪ ،‬لها جدول أعمال سري‪ ،‬في مقدّ مته بيع القطاع‬ ‫العام لإلسالميين بثمن بخس‪ ،‬وتزوير االنتخابات‪ ،‬وتمكين ‪3400‬‬ ‫إسالمي من مفاصل الدولة‪ ،‬معظمهم سيتم تعيينهم في الوزارات‬ ‫واإلدارات العامة‪ ،‬بحيث يصعب التخ ُّلص منهم فيما بعد‪ ،‬وسيشكّلون‬ ‫ما ُيعرف بالدولة العميقة‪ ،‬فإذا لم ينجحوا في تزوير االنتخابات سيجد‬ ‫أسيرا لهذه الدولة‪ ،‬مثلما حدث‬ ‫رئيسا للحكومة نفسه ً‬ ‫من ينتخب ً‬ ‫لمحمد مرسي في مصر‪ ،‬عندما لم يجد معه الجيش والشرطة والقضاء‬ ‫واإلعالم‪ ،‬فتحول إلى رئيس فاشل سرعان ما غ ّير المصريون رأيهم‬ ‫فيه‪ ،‬وخرجوا بالماليين يطالبون بإسقاطه‪.‬‬ ‫يخشى اإلسالم ُّيون فقدان السيطرة على ليبيا بعد انحسار مدهم‬ ‫في تونس ومصر‪ ،‬لذلك سارعوا بالسيطرة على مفاصل الدولة في‬ ‫وعززوا قواتهم العسكرية في برقة على اختالف تنويعاته‪،‬‬ ‫طرابلس‪ّ ،‬‬ ‫وخصوصا قاعدة‬ ‫عززوا وجودهم العسكري في شرق طرابلس‪،‬‬ ‫كما ّ‬ ‫ً‬ ‫معيتيقة الجوية وتاجوراء وسوق الجمعة وحي األكواخ‪ ،‬وغرفة‬ ‫عمليات ثوار طرابلس‪ ،‬باإلضافة إلى استدراج دروع مصراته من‬ ‫خالل النفخ في طموحات عبدالرحمن السويحلي‪ ،‬وضرب الدفوف‬ ‫يتحول إلى عيساوي بمجرد سماع دوي أول‬ ‫لصالح بادي الذي‬ ‫ّ‬ ‫طلقة‪ ،‬ومن المفارقات العجيبة أن تدعم قبيلة بدوية محاربة مثل‬ ‫الزنتان التيار المدني‪ ،‬بينما تدعم مدينة مصراته العريقة مخططات‬ ‫‪54‬‬


‫اإلسالميين‪ ،‬وال شك فإن مصراته التي فقدت زعماءها التاريخيين‬ ‫ستتضرر من هذا الخيار المد ّمر‪ ،‬بعد أن كانت بيضة القبان في تحقيق‬ ‫ّ‬ ‫التوازن في البالد‪.‬‬

‫معيتيق القادم من مصراته استعان بدرع الوسطى للسيطرة على‬ ‫مقر الحكومة‪ ،‬وسينظر إليه معظم الليبيون بما في ذلك قسم كبير‬ ‫من مصراته بأنّه غير شرعي‪ ،‬وسنرى يوم الجمعة القادم المظاهرات‬ ‫الرافضة لالنقالب‪ ،‬وبدأ االنقالب منذ جلسة انتخاب معيتيق‪ ،‬وأكّدت‬ ‫لي مصادر مسؤولة في المؤتمر الوطني والحكومة أن بعض أعضاء‬ ‫المؤتمر الذين ُأ ْح ِضروا من منازلهم تقاضوا ‪ 740‬ألف دينار للتصويت‬ ‫لمعيتيق‪ ،‬وعندما سألتهم من أين أحضروا هذه األموال‪ ،‬أكدوا لي‬ ‫َّ‬ ‫أن مدير إحدى الشركات العامة‪ ،‬كان يخشى على فقدان منصبه‬ ‫منح هيثم التاجوري عقو ًدا بماليين الدينارات‪ ،‬وأن صفقة واحدة‬ ‫للتاجوري ربح فيها ‪ 30‬مليون دينار‪ ،‬كما أن عبدالرؤوف كارة استلم‬ ‫أسلحة أميركية بينها دروع خرجت في رتل طويل من الميناء إلى‬ ‫قاعدة معيتيقة‪.‬‬ ‫وبالرغم من َّ‬ ‫أن مدير مكتب إعالم دروع الوسطى يقول إنّهم َق ِدموا‬

‫إلى هناك لتأمين تسليم واستالم السلطة من الثني إلى معيتيق‪ ،‬إال َّ‬ ‫أن‬ ‫الثني ووزراءه لم يكونوا بالمقر‪ ،‬ولم يحدث تسليم واستالم‪ ،‬كما‬ ‫أكّد لي وزير في حكومة الثني بأنهم سيرفضون هذا االنقالب‪ ،‬إال إذا‬ ‫قررت المحكمة الدستورية شرعية انتخاب معيتيق‪ ،‬وسيواصلون‬ ‫عملهم من أي مكان في البالد‪ ،‬ويخطط معيتيق لتأجيل االنتخابات‬ ‫‪55‬‬


‫أطول فترة ممكنة‪ ،‬وسنرى قري ًبا مدى االعتراف الدولي به‪ ،‬خاص ًة‬ ‫َّ‬ ‫أن أربعة وزراء في حكومة الثني قابلوا اليوم الثالثاء رئيس الوزراء‬ ‫المصري إبراهيم محلب في القاهرة‪ ،‬في إطار توضيح حكومة الثني‬ ‫ما يجري في ليبيا لدول الجوار‪.‬‬

‫‪56‬‬


‫طرابل�س بين البدو واالنك�شاريين‬ ‫منذ مئات السنين وطرابلس تتقلب بين سطوة االنكشاريين والبدو‪،‬‬ ‫وفي كل صباح كان سكان المدينة ينظرون نحو قلعتها القديمة ليعرفوا‬ ‫من استيقظ أوال من االنكشاريين ليحكمها‪ ،‬أما عندما تلوح أشرعة‬ ‫القراصنة في األفق فيخشى سكانها من البدو الذين هبوا لحمايتها‬ ‫من خلف أسوارها أكثر من خشيتهم من الغزاة‪ ،‬وفي كل مرة يقتحم‬ ‫البدو أسوارها بحجة حمايتها كان أهالي المدينة يجمعون األموال‬ ‫القناع البدو بضرورة الرحيل عن مدينتهم‪.‬‬

‫كان على أحمد باشا مؤسس الدولة القرهمانللية أن يذبح أكثر‬ ‫من ‪ 300‬انكشاري في ليلة واحدة ليتسنى له حكم البالد‪ ،‬وكان عليه‬ ‫أن يتحالف مع مجموعة من القبائل البدوية في مقدمتهم المحاميد‬ ‫وأن يعفيهم من دفع الضرائب‪ ،‬من أجل أن يخرجوا مع الجيش‬ ‫االنكشاري ليفرضوا الضرائب على بقية سكان ليبيا‪ ،‬وعندما عاد‬ ‫األتراك لحكم ليبيا فيما يعرف بالعهد العثماني الثاني ألغوا االمتيازات‬ ‫الممنوحة للمحاميد‪ ،‬وطالبوهم بدفع الضرائب وعندها قامت ثورة‬ ‫‪57‬‬


‫غومة المحمودي‪ ،‬التي لم تكن ثورة لتحرير ليبيا من األتراك‪ ،‬وإنما‬ ‫ثورة على دفع الضرائب‪.‬‬

‫حتى بعد االستقالل وبناء الدولة الحديثة لم يتغير شيء‪ ،‬تربص‬ ‫البدو بالدولة الوليدة وتمكنوا من اختراقها عن طريق الجيش‪ ،‬ويمكن‬ ‫اعتبار حكم معمر القذافي الطويل بأنه انتقام ممنهج من طرابلس وبقية‬ ‫المدن العريقة في البالد‪.‬‬ ‫في البداية رفع شعارات براقة بعضها عروبي وبعضها إسالمي‬ ‫وبعضها أممي‪ ،‬ولكنه انتهى مثلما ينتهي أي طاغية بدوي‪ ،‬عندما‬ ‫تخلى عنه الجميع وبقى من حوله أبناء عمه بالقرب من مسقط رأسه‪.‬‬ ‫اليوم لم يتغير شيء هبط البدو من جبالهم واستولواعلى كل شيء‬ ‫في طرابلس‪ ،‬وجاء االنكشاريون من شرقها ليستولوا على ما تبقى‪.‬‬ ‫زحفوا على فيالت غرغور ولم يتركوها إال بعد أن ارتكبوا مجزرة‬ ‫مرعبة‪ .‬استولوا على المطار ورفضوا مغادرته وتسليمه للدولة‪ ،‬بينما‬ ‫استولى االنكشاريون على قاعدة معيتيقة ورفضوا مغادرتها‪.‬‬ ‫أخذ الطرفان أمواال طائلة من الدولة على شكل رواتب‪ ،‬كما‬ ‫هربوا من خالل المطار والقاعدة تقريبا كل شيء‪ .‬واليوم لن يخسر‬ ‫الطرفان أي شيء وهما يتقاتالن في طرابلس‪ ،‬فأي قذيفة عشوائية‬ ‫لن تسقط في الزنتان أو مصراته‪ ،‬وإنما ستسقط على بيت طرابلسي‪،‬‬ ‫وال يبدو أن المهاجمين يسعون للسيطرة على المطار وطرد الزنتان‬ ‫منه‪ ،‬وإنما هدفهم الحقيقي هو تدمير المطار وجميع المنشآت الحيوية‬ ‫في المدينة‪ ،‬لتنتقل العاصمة إلى مصراته‪.‬‬ ‫‪58‬‬


‫ال أصدق أن المعركة بين اإلسالميين والتيار المدني‪ ،‬أو أنها‬ ‫معركة بين قوى إقليمية للسيطرة على ليبيا‪ ،‬ولكنها بكل وضوح هي‬ ‫معركة بين أشرس أعداء المدينة وهما البدو واالنكشاريين‪ ،‬واالثنان‬ ‫ال يؤمنان بالحوار أو التوافق‪ ،‬وهما ال يستفيدان من قيام الدولة‬ ‫التي ستنهي سطوتهما وستعيد البدو إلى جبالهم‪ ،‬واالنكشاريين‬ ‫إلى ظالم أحالمهم المستحيلة‪ ،‬ما مصلحة الزنتان في قيام الدولة‬ ‫وهم يسيطرون على مطار طرابلس والمنطقة الغربية من المدينة‪،‬‬ ‫وما مصلحة انكشاريي مصراته في قيام الدولة وهم يسيطرون على‬ ‫المنطقة الشرقية من المدينة؟‬ ‫سيتقاتل البدو واالنكشاريون في المدينة حتى آخر طرابلسي‪،‬‬ ‫وعندها سيتوافقان على اقتسام الغنائم‪ .‬أنظروا إلى هذه الوجوه‬ ‫القبيحة التي تخلو رؤوسها من أي حكمة‪ .‬هل يمكن أن ينظم حوار‬ ‫بين عبد الله ناكر ومختار األخضر ومليقطة من جهة وصالح بادي‬ ‫وعبد الرحمن السويحلي وهيثم التاجوري وغنيوة وكارة من جهة‬ ‫أخرى؟ نجح البدو واالنكشاريون في إرغام أهالي طرابلس على‬ ‫الهروب منها‪ ،‬أو البقاء فيها صامتين‪ ،‬وآن األوان لتنظيم الصفوف‬ ‫وطرد البدو واالنكشاريين من مدينة ال تستريح إال في ظل المدنية‬ ‫والتحضر‪.‬‬

‫‪59‬‬



‫مقوالت القذافي تتحقق بعد رحيله‬ ‫كثير من مقوالت القذافي بعد رحيله‪ ،‬بالرغم من عدم‬ ‫تحقق ٌ‬ ‫تحققها أثناء حكمه‪ ،‬وفي مقدمة هذه المقوالت «الشعب المسلح»‪،‬‬ ‫فمنذ منتصف السبعينات مع بداية تدريب الطلبة‪ ،‬وعسكرة المؤسسات‬ ‫المس َّلح‪ ،‬دون نجاح ُيذكر‬ ‫التعليمية والقذافي يتحدث عن الشعب ُ‬ ‫على اإلطالق‪ ،‬فتدريب الطلبة كان الهدف منه إطفاء جذوة الثورة في‬ ‫نفوسهم‪ ،‬خاصة بعد خروج الطلبة في تظاهرات في جامعتي طرابلس‬ ‫وبنغازي‪ ،‬واألحداث الدموية في السابع من أبريل‪.‬‬ ‫ُوجه إلى الطالب‬ ‫التدريب العسكري العام وما يرافقه من إهانات ت َّ‬ ‫كان الرد القاسي على تظاهرات الطالب‪ ،‬عندما وجدوا أنفسهم في‬ ‫طابور أمام جندي لم يكمل تعليمه اإلعدادي يوبخهم ويصفعهم‪،‬‬ ‫وفي مطلع التسعينات طلب القذافي من كل الليبيين دفع ثمن بندقية‬ ‫كالشينكوف من رواتبهم‪ ،‬وحاولت مجلة «ال» معرفة أين ذهبت أموال‬ ‫البندقية‪ ،‬حتى وصلت إلى رئيس الوزراء عمر المنتصر‪ ،‬الذي أكد أن‬ ‫األموال لم تأت إلى الحكومة‪ ،‬وال وجود لها في خزينة الدولة‪ ،‬ومع‬ ‫‪61‬‬


‫ذلك وفي ليلة الغارة وجدت فقط خمس بنادق وخمس طلقات مع‬ ‫كل الجنود الموجودين بمعسكر الفرناج في طرابلس‪.‬‬

‫بعد ثورة فبراير تحققت مقولة القذافي عن «الشعب المسلح»‬ ‫كاملة‪ ،‬بل إن عدد قطع السالح التي كانت مع كل ليبي زادت عن‬ ‫خمس قطع‪ ،‬بينما يملك‬ ‫حصة الفرد في اليمن‪ ،‬حيث يملك كل مواطن‬ ‫َ‬ ‫الفرد الليبي عشرين قطعة‪ ،‬بما في ذلك األسلحة المتوسطة والثقيلة‪.‬‬

‫أما المقولة األخرى التي تحققت بعد رحيل القذافي فتخص‬ ‫«الرياضة الجماهيرية»‪ ،‬وفي الفصل الثالث من الكتاب األخضر‪،‬‬ ‫تساءل القذافي لماذا يلعب ‪ 22‬الع ًبا كرة القدم بينما يتفرج عليهم‬ ‫اآلالف من «المغفلين»‪ ،‬ودعا المتفرجين إلى النزول إلى الملعب‬ ‫ومزاحمة الالعبين‪ ،‬واليوم تُجرى مباريات كرة القدم في المالعب‬ ‫الليبية في غياب الجمهور‪ ،‬وهو ما كان القذافي يتمناه‪ ،‬فقد اختفى‬ ‫«المغفلون» وبقى الالعبون‪.‬‬

‫كما تحققت مقولته «األرض ليست ملكًا ألحد»‪ ،‬بعد أن وضعت‬ ‫المجموعات المسلحة أيديها على أراضي الدولة‪ ،‬خاصة في «الجبل‬ ‫أشجارا عمرها مئات السنين‪،‬‬ ‫األخضر» فتحركت البلدوزرات لتجرف‬ ‫ً‬ ‫باإلضافة إلى احتالل مقرات كانت تابعة للدولة‪ ،‬يرفض المسلحون‬ ‫الخروج منها‪.‬‬

‫تحققت مقولة «األمن الشعبي المحلي»‪ ،‬عندما شكَّل سكان‬ ‫األحياء في بنغازي وطرابلس لجانًا لحفظ األمن‪ ،‬ومراقبة الغرباء‬ ‫الذين يدخلون أحياءهم‪ ،‬وتحققت مقولة «البيت لساكنه» عندما‬ ‫‪62‬‬


‫اجتاحت الميليشيات طرابلس‪ ،‬وسيطرت على حي غرغور وبيوت‬ ‫واستراحات كبار المسؤولين في نظام القذافي‪ ،‬باإلضافة إلى مطار‬ ‫طرابلس وقاعدة معيتيقة‪.‬‬

‫كما تحققت مقولة «السود سيسودون العالم» عندما ُفتحت‬ ‫الحدود‪ ،‬ودخل البالد مئات األلوف من األفارقة‪ ،‬الذين مكَّنهم‬ ‫تجار البشر من ركوب قوارب متهالكة نحو شواطئ أوروبا‪ ،‬وتحققت‬ ‫مقولة «الدجاجة تبيض والدينار ال يبيض»‪ ،‬عندما تراجع سعر الدينار‬ ‫الليبي‪ ،‬وارتفعت أسعار البيض ولحم الدجاج والخضراوات‪ ،‬كما‬ ‫تحققت مقولة « َمن تحزب خان»‪ ،‬عندما سيطر اإلسالميون على‬ ‫المؤتمر الوطني العام‪ ،‬بسبب سطوة ميليشياتهم وليس بسبب عددهم‬ ‫داخل المؤتمر‪ ،‬وأخذوا يصدرون قرارات يرفضها أغلب الشعب‪ ،‬وها‬ ‫هم اليوم بعد خسارتهم في انتخابات مجلس النواب يضعون العراقيل‬ ‫أمام البرلمان المنتخب‪ ،‬بحجة أنه في طبرق وليس في بنغازي‪ ،‬وكأن‬ ‫طبرق مدينة ليست ليبية‪.‬‬ ‫كان األفضل للقذافي في األيام األولى من ثورة فبراير أن يلقي‬ ‫مغايرا لخطاب زنقة زنقة‪ ،‬يقول فيه إن مقوالته ستتحقق‬ ‫خطا ًبا‬ ‫ً‬ ‫أخيرا وصل إلى عصر الجماهير‬ ‫بالكامل‪ ،‬وبالتالي فإن الشعب الليبي ً‬ ‫وسلطة الشعب‪ ،‬وآن له أن يستريح بعد اثنين وأربعين عا ًما من تحريضه‬ ‫للشعب على استالم السلطة‪ ،‬ولكن تظل مقولة «تحيا دولة الحقراء»‬ ‫أكثر مقوالته تحق ًقا‪.‬‬

‫‪63‬‬



‫ت�أمالت في اللغة الداع�شية‬ ‫على الرغم من أن اللغة الداعشية تطورت عن اللغة العربية‪ ،‬إال أنها‬ ‫تتكون من أربعة وعشرين ً‬ ‫داعشا؛ حيث ألغي حرف الذال‪ ،‬والظاء‪،‬‬ ‫والسين‪ ،‬والكاف‪ ،‬فمث ً‬ ‫ال تنطق كلمة سمك «سمش» مثلما تنطق في‬ ‫اللهجة العراقية‪ ،‬مما ترتب عليه تغيير اسم أمير تنظيم «داعش» من‬ ‫أبوبكر البغدادي إلى أبو بشر البغدادي‪.‬‬

‫إلغاء حرف السين جعل الداعشيين يطلقون السالم بصيغة‬ ‫مختلفة فيقولون «الشالم عليكم»‪ ،‬بعد استبدال حرف السين‬ ‫أخبارا مثل‪:‬‬ ‫بحرف الشين‪ ،‬وفي نشرة أخبار «داعش» تسمع‬ ‫ً‬ ‫الدولة اإلشالمية في العراق والشام تندد بالقصف األمريشي‬ ‫على البوشمال‪ ،‬بينما تسمع الخبر نفسه في اإلذاعات األخرى‪،‬‬ ‫وهو يقول‪ :‬الدولة اإلسالمية في العراق والشام تندد بالقصف‬ ‫خبرا في إذاعة «داعش»‬ ‫األميركي على البو كمال‪ ،‬وأحيانًا تسمع ً‬ ‫يقول «قطع رأش رهينة أمريشي وآخر شويشري»‪ ،‬كما أدى حذف‬ ‫هذه الحروف واستبدالها بأخرى إلى سوء فهم خاصة في األسواق‬ ‫‪65‬‬


‫بين العامة‪ ،‬عندما يطلب أحدهم من البائع «زيت الشمشم»‪،‬‬ ‫أو «شعش» أي كعك‪ ،‬أو «شيلو خش» أي كيلو خس‪« ،‬وربطة‬ ‫بقدونش»‪ ،‬ولم يؤد حذف حرف الذال إلى كثير من سوء الفهم‪،‬‬ ‫ففي معظم اللهجات المحلية ينطق الذال داالً‪.‬‬

‫وفي النحو الداعشي تتكون الجملة من اسم ودعش أي فعل‪،‬‬ ‫وتجمع أدعاش‪ ،‬وإذا بدأت الجملة بداعش وإخوانه يرفع االسم‬ ‫وينصب الخبر‪ ،‬مثلما في كان وأخواتها‪ ،‬فالداعش يرفع االسم بحد‬ ‫مسلحا للخبر‪ ،‬أما داعشة وأخواتها فتنصب‬ ‫السيف‪ ،‬وينصب كمينًا‬ ‫ً‬ ‫االسم وترفع الخبر‪ ،‬تنصبه على خازوق وترفعه على المشنقة‪.‬‬

‫وكما في العربية التي يوجد بها أسماء مصروفة وأخرى ممنوعة‬ ‫من الصرف‪ ،‬فتوجد في اللغة الداعشية مثل هذه القاعدة‪ ،‬ولكن يطلق‬ ‫عليها «أشماء منطوقة وأخرى ممنوعة من النطق»‪ ،‬وتشمل األسماء‬ ‫الممنوعة من النطق «الديمشراطية‪ ،‬والليبرالية‪ ،‬واالنتخابات‪ ،‬والتفشير‬ ‫أي التفكير‪ ،‬وحقوق اإلنشان‪ ،‬وحرية‪ ،‬والمشاواة بين النشاء والرجال»‪.‬‬

‫كما تخلو اللغة الداعشية من نون النسوة‪ ،‬وتكتب التاء المربوطة‬ ‫مفتوحة‪ ،‬كما ألغيت األلف المقصورة‪ ،‬ويوجد بهذه اللغة ال النافية‬ ‫للجنس والحب والحياة‪ ،‬باإلضافة إلى ال النافية للتفكير والتأمل‪،‬‬ ‫ويشير فقهاء اللغة الداعشية إلى أن األصل في «ال» هو نفي كل‬ ‫شيء‪ ،‬كما توجد بهذه اللغة كلمة «دعشة» وهي تشبه كلمة «فد» في‬ ‫اللهجة العراقية‪ ،‬أو كلمة «الهني» في لهجة شرق ليبيا‪ ،‬وهي كلمة‬ ‫لها استخدامات كثيرة‪ ،‬ويتغير إعرابها حسب استخدامها‪ ،‬لدرجة أن‬ ‫‪66‬‬


‫أكبر فقهاء اللغة الداعشية «دعشويه» قال «أموت وفي نفشي شيء‬ ‫من دعشة»‪.‬‬

‫كبيرا من متطوعي داعش جاءوا من أوروبا خاصة‬ ‫وألن عد ًدا ً‬ ‫فرنسا وال يجيدون اللغة الداعشية‪ ،‬فقد سمح لهم باستبدال حرف‬ ‫الراء بحرف الغين‪ ،‬فيقول أحدهم وهو يتذكر باريس ومرسيليا «سنفتح‬ ‫باغي ومغسيليا ديكوغ»‪.‬‬

‫ومن المقوالت الرائجة في اللغة الداعشية «داعش في شل‬ ‫مشان»‪ ،‬و«ال داعشية من دون مؤتمرات دعشية»‪ ،‬و«من لم يتدعش‬ ‫خان»‪ ،‬و«الطفل تربيه داعش»‪ ،‬و«داعشة تحيض وداعش ال يحيض»‪،‬‬ ‫و«الدجاجة تبيض ودعشار ال يبيض»‪ ،‬والدعشار هو عملة داعش‬ ‫وكل دعشار يساوي نصف ليرة سورية‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من منع الغناء والموسيقى في دولة داعش‪ ،‬إال أن‬ ‫أمير الدولة أبو بشر البغدادي سمح ألم دعوش بالغناء لمساهمتها‬ ‫الكبيرة في جهاد النكاح‪ ،‬خاصة بعد أن اشتهرت أغنيتها «هات‬ ‫عينيش تسرح بدنيتهم عيني»‪ ،‬كما سمح لشعبوال بمواصلة غنائه‬ ‫خاصة أغنيته «بأحب داعش وباكره إسرائيل»‪ ،‬ومن بين األسماء‬ ‫التي منعت في دولة داعش «عبد الرسول‪ ،‬عبدالنبي‪ ،‬عبدالحسين‪،‬‬ ‫سحر‪ ،‬فتنة‪ ،‬بوسي‪ ،‬وناهد»‪.‬‬

‫في دولة داعش غيرت جميع أسماء األشهر وأصبحت على النحو‬ ‫اآلتي‪ :‬دعشاير‪ ،‬دعراير‪ ،‬دعمارش‪ ،‬دعريل‪ ،‬دعشايو‪ ،‬دعشونيه‪،‬‬ ‫دعشوليو‪ ،‬دعطشطش‪ ،‬دعشمبر‪ ،‬دعشوبر‪ ،‬دعفنبر‪ ،‬ديشمبر‪.‬‬ ‫‪67‬‬



‫م�صراته تعود �إلى ر�شدها‬ ‫عجلت جلسة حوار غدامس في عملية الفرز بمصراته‪ ،‬حيث‬

‫وافق أغلب نواب مصراته المقاطعين لجلسات مجلس النواب في‬

‫طبرق على الذهاب إلى غدامس‪ ،‬بينما قاطعه عبد الرحمن السويحلي‬

‫وعلي أبو زعكوك وعبد الرؤوف المناعي‪.‬‬

‫في البداية نظر المراقبون إلى ما جرى على أنه محاولة لتقسيم‬

‫نواب مصراته إلى صقور وحمائم‪ ،‬فما قد ال تحصل عليه الحمائم في‬

‫جلسات الحوار‪ ،‬يحصل عليه الصقور من خارجها‪ ،‬إال أن التطورات‬

‫الالحقة أكدت أن حراكًا حقيق ًّيا شهدته مصراتة‪ ،‬جعل معظم أبنائها‬

‫يقررون االبتعاد عن عملية «فجر ليبيا»‪ ،‬خاصة بعد البيان الذي أصدره‬

‫«درع الوسطى»‪ ،‬أكد فيه أن بيان «فجر ليبيا» الرافض لمجلس النواب‬ ‫ال يمثله‪ ،‬كما أن «إفتاء مصراتة» أصدرت بيانًا يتعارض مع بيان دار‬

‫االفتاء التي يترأسها الصادق الغرياني‪.‬‬

‫ومن مصادر خاصة علمت أن مصراته أصبحت ممثلة بجناحين‪،‬‬ ‫‪69‬‬


‫جناح يقوده عبد الرحمن السويحلي وصالح بادي‪ ،‬والجناح اآلخر‬ ‫وأيضا‬ ‫يقوده فتحي باشاغا‪ ،‬ويدعمه جمعة عتيقة وفوزي عبد العال‪ً ،‬‬ ‫الشخصيات التي رشحها عبد الله الثني في التشكيلة الحكومية‬ ‫الموسعة التي رفضها مجلس النواب‪.‬‬

‫وباألمس تبين أن هناك اختال ًفا بين السويحلي وبادي‪ ،‬حيث رفض‬ ‫بادي الحوار جملة وتفصيالً‪ ،‬وقال إن َمن يريد محاورتنا عليه أن يأتي‬ ‫إلى أبوشيبة‪ ،‬حيث تتمركز قواته‪ ،‬ووصف النواب المقاطعين الذين‬ ‫ذهبوا إلى غدامس بـ«الخونة»‪ ،‬بينما وافق السويحلي على الحوار‬ ‫بشروط‪ ،‬خالل لقائه بالمبعوث البريطاني جونثان باول‪ ،‬وهو ما يعني‬ ‫تنسيق بين السويحلي وبادي‪.‬‬ ‫أنه ليس هناك‬ ‫ٌ‬

‫أخيرا أن اإلخوان المسلمين استخدموها‬ ‫ويبدو أن مصراته أدركت ً‬ ‫لتحقيق مآربهم‪ ،‬ثم تركوها تواجه مصيرها وحيدة‪ ،‬وكأنهم قرد يمتطي‬ ‫ظهر أسد ويوجهه إلى حيث يريد‪ ،‬خاصة بعد أن تبين لمصراتة إصرار‬ ‫المجتمع الدولي على االعتراف فقط بمجلس النواب‪ ،‬وبدالً من أن‬ ‫حكيما بعد انتصار الثورة‪ ،‬وهي تحظى بإجماع‬ ‫خيارا‬ ‫ً‬ ‫تنتهج مصراتة ً‬ ‫جميع الليبيين على أنها المدينة التي صمدت في وجه القذافي وأفشلت‬ ‫خيارا أحرق بسرعة جميع‬ ‫مخططه لتقسيم ليبيا‪ ،‬فقد اختارت مصراتة ً‬ ‫تلك المكاسب‪ ،‬وجعلها مكروهة في الغرب والشرق والجنوب‪.‬‬ ‫خالل زيارة األمين العام لألمم المتحدة بان كي مون لطرابلس‪،‬‬ ‫وجه رسالة مزدوجة لجميع الفرقاء الليبيين‪ ،‬األولى رفضه القاطع‬ ‫مقابلة نوري أبو سهمين وعمر الحاسي‪ ،‬وكل َمن له عالقة بالمؤتمر‬ ‫‪70‬‬


‫الوطني المنتهية واليته‪ ،‬واكتفى بمقابلة النائب األول لرئيس مجلس‬ ‫النواب محمد شعيب‪ ،‬ومنسق النواب المقاطعين فتحي باشاغا‪ ،‬في‬ ‫حين تولى رئيس بعثة الدعم في ليبيا برناردينو ليون توجيه الرسالة‬ ‫الثانية‪ ،‬وهي أن حل األزمة في ليبيا سياسي وليس قانو ًّيا‪ ،‬أي أن شرعية‬ ‫مجلس النواب ال تكفي وحدها لقبول كل ما يصدر عنه‪ ،‬والبد من‬ ‫الحوار والتوافق على أساس سياسي للوصول إلى المصالحة‪.‬‬

‫يكمن حل األزمة في ليبيا في ضرورة الفصل بين مصراتة واإلخوان‬ ‫المسلمين‪ ،‬أمثال بشير الكبتي ومحمد صوان والمناعي وأبو زعكوك‬ ‫وعلي الصالبي وشقيقه إسماعيل الصالبي ومحمد الزهاوي ووسام‬ ‫بن حميد‪ ،‬وهؤالء جميعهم من مصراته وجميعهم من أتباع التيارات‬ ‫السياسية بمختلف مشاربها‪.‬‬

‫من الواضح أن بادي يحاول كسب نصر سريع على قوات الزنتان‬ ‫بعد أن اجتاح ورشفانة‪ ،‬ولهذا صعد عسكر ًّيا‪ ،‬بينما الجميع يستعد‬ ‫مؤخرا يؤكد أنه لن يحصل‬ ‫للذهاب إلى الحوار‪ ،‬وما جرى في ككلة‬ ‫ً‬ ‫على انتصار سريع يفرض األمر الواقع في الميدان‪ ،‬فإذا استغرق‬ ‫أكثر من أربعين يو ًما إلجبار قوات الزنتان على االنسحاب من مطار‬ ‫طرابلس‪ ،‬فكم سيحتاج ليسيطر على الزنتان؟‬

‫سيستمر الحوار في غدامس أو في غيرها‪ ،‬وسيستمر التصعيد‬ ‫العسكري‪ ،‬وسيضطر المجتمع الدولي لفرض عقوبات على أمراء‬ ‫الحرب‪ ،‬وعلى كل الرافضين للحوار‪ ،‬وسيخسر جميع َمن رفضوا‬ ‫مالحقين دول ًّيا وفي بالدهم‪.‬‬ ‫الحوار وسيصبحون‬ ‫َ‬ ‫‪71‬‬



‫المالب�س الداخلية في ال�سيا�سة الليبية‬ ‫خالل األسبوعين الماضيين احتلت المالبس الداخلية حيزا كبيرا‬ ‫في السياسة الليبية‪ ،‬فبعد اإلفراج عن رئيس الحكومة المؤقتة علي‬ ‫زيدان صرح بأن الذين اختطفوه سرقوا من غرفته كل شيء‪ ،‬بما في‬ ‫ذلك مالبسه الداخلية‪ .‬كان يتحدث بدون نظارته المعهودة دون أن‬ ‫يذكر شيئا عن النظارة المسروقة‪ ،‬وعندها تساءلت لماذا يسرقون‬ ‫المالبس الداخلية لرئيس الوزراء؟ وهي غالبا مالبس مستعملة‪،‬‬ ‫ولكنني أدركت فيما بعد أن قواعد التمشيط تستدعي ذلك‪ ،‬فعندما‬ ‫يتم إقتحام أي مكان البد أن يختفي كل شيء خالل دقائق معدودة‪،‬‬ ‫وفيما بعد يتم فرز الغنائم وتوزيعها‪.‬‬ ‫ذكرتني الحادثة باشتراكية القذافي في الثمانينات‪ ،‬عندما توزع‬ ‫الجمعيات االستهالكية المالبس‪ ،‬حيث يتم وضع المالبس في‬ ‫األكياس كيفما اتفق‪ ،‬وعندما يشتد الزحام على الجمعيات يستلم‬ ‫الناس أكياسا ال يعلمون ما بها‪ ،‬فيجد الشيخ المسن الذي يعيش مع‬ ‫زوجته المسنة مالبس سباحة‪ ،‬ومالبس داخلية لنساء شابات باإلضافة‬ ‫‪73‬‬


‫إلى مالبس أطفال‪ ،‬وهو يريد بدلة عربية وفستان ورداء لزوجته‪ ،‬وعندها‬ ‫يجلس بجانب الجمعية ويبحث عن من يبادله كيسه بكيس آخر فيه‬ ‫ما يحتاج إليه‪ .‬في تلك األيام كانت المالبس الداخلية سلعة نادرة‬ ‫للنساء وللرجال‪ ،‬وثمة من يرتدي مالبس داخلية مهترئة وبها ثقوب‪،‬‬ ‫وكل من يسافر يوصونه بإحضار مالبس داخلية أكثر من أي شيء آخر‪.‬‬ ‫وبعد أيام قليلة من خطف رئيس الحكومة سربت رسالة من‬ ‫الحكومة موجهة إلى مفتي الديار الليبية الشيخ الصادق الغرياني‪،‬‬ ‫تقول الرسالة التي تحمل رقم ‪« 0501‬بعد التحية‪ ..‬باالشارة لكتابكم‬ ‫للسيد رئيس الوزراء رقم ث‪ .‬ث ‪ 2389‬المؤرخ ‪ 2013 /4 /2‬ميالدى‬ ‫بخصوص تنظيم استيراد المالبس الداخلية النسائية‪ ،‬ورصدكم لظاهرة‬ ‫استيراد مالبس داخلية تتعدى الغرض الشرعى لها‪ ،‬وطلبكم السماح‬ ‫لدار االفتاء بالرقابة على استيراد المالبس النسائية‪.‬‬

‫نفيدكم برأينا القانونى بعدم اختصاص رئاسة الوزراء بإعادة تنظيم‬ ‫استيراد المالبس ويطلب من دار االفتاء مخاطبة المؤتمر الوطنى‬ ‫العام بالخصوص»‪.‬‬

‫وعندها تأكدت بأن هناك هوسا بالمالبس الداخلية تخطى حدود‬ ‫الخيال‪ ،‬فما الفرق بين المالبس الداخلية الشرعية وغير الشرعية؟‬ ‫وطالما أن فضيلة المفتي طلب فصل البنات عن البنين في المدارس‪،‬‬ ‫وأن تتنقب المعلمات إذا كن يعلمن طلبة من الذكور‪ ،‬فلماذا التدقيق‬ ‫في مالبسهن الداخلية‪ ،‬طالما أنها تحت أكوام من المالبس الشرعية‬ ‫التي تغطي كامل الجسد؟‬ ‫‪74‬‬


‫هل كانت النساء المسلمات في القرن السابع الميالدي يرتدين‬ ‫مالبس داخلية؟‪ ،‬حتى يحدد الفقهاء نوع المالبس الداخلية الشرعية‪،‬‬ ‫ويحرمون المالبس الداخلية غير الشرعية‪ ،‬وما حكم امرأة محجبة‬ ‫ومنقبة ولكنها ال ترتدي مالبس داخلية؟ أليس كل جداتنا كنا ال يعرفن‬ ‫وال يلبسن المالبس الداخلية مثلهن مثل أزواجهن؟ وبعد ظهور النفط‬ ‫ووصول شحنات الدقيق التي طبع عليها ثالثة أصفار أخذ الرجال‬ ‫يخيطون منها مالبس داخلية‪ ،‬وخاصة عندما يذهبون للسباحة‪.‬‬

‫لم يذكر رئيس الحكومة بعد أن أعاد إليه الخاطفون ما سلب منه‪،‬‬ ‫أنهم أعادوا أيضا مالبسه الداخلية‪ ،‬وعندها شككت أنهم ربما عرضوا‬ ‫المالبس على المفتى فأفتى بأن المالبس غير شرعية‪.‬‬

‫‪75‬‬



‫ليبيا بين قبعة الجنرال وعمامة �أمير الم�ؤمنين‬ ‫تشهد ليبيا اليوم أول حرب أيديولوجية في تاريخها‪ ،‬وهي في ظرف‬

‫سياسي واجتماعي يشبه إلى حد كبير ما جرى في إسبانيا العام ‪،1936‬‬

‫عندما لم يعرف الجمهوريون والملكيون كيف يتوافقون‪ ،‬بعد أن نجح‬ ‫الجمهوريون في تشكيل أول حكومة يسارية‪ ،‬وبعد قيام الحرب‬

‫األهلية بكل فظاعاتها تقدم الجنرال فرانكو بفيلقه المغربي واستولى‬

‫على السلطة لمدة أربعين عا ًما‪ ،‬قبل أن يعيد الملكية الدستورية إلى‬

‫البالد العام ‪.1975‬‬

‫تمكن المتشددون اإلسالميون في شرق ليبيا من السيطرة على‬

‫مدينة درنة وجزء كبير من بنغازي‪ ،‬ولم يبق من الجيش الليبي الذي‬

‫دمر عمدً ا في تشاد إال قوات الصاعقة في بنغازي‪ ،‬التي وقع عليها‬

‫عبء محاربة الجماعات المتشددة‪ ،‬وهي غير مؤهلة للعمل البوليسي‬

‫بعد حرق وتفجير معظم مراكز الشرطة‪ ،‬وبعد إجبار رجال البحث‬

‫الجنائي للعمل داخل معسكر قوات الصاعقة ببوعطني ببنغازي‪.‬‬ ‫‪77‬‬


‫أما في درنة التي كان جميع رجال الشرطة فيها من خارجها فقد‬ ‫مبكرا في قبضة تنظيم القاعدة وأنصار الشريعة‪ ،‬وتحولت‬ ‫سقطت‬ ‫ً‬ ‫إلى إمارة إسالمية على ساحل المتوسط‪ ،‬وفي طرابلس تمكن‬ ‫اإلسالميون ممثلين في كتلة الوفاء لدماء الشهداء‪ ،‬وكتلة العدالة‬ ‫والبناء‪ ،‬والجبهة الوطنية من السيطرة على المؤتمر الوطني‪ .‬وبعد‬ ‫إقالة علي زيدان تمكنوا من السيطرة على الحكومة‪ ،‬وبذلوا جهدً ا‬ ‫كبيرا لتأجيل االنتخابات البرلمانية وهم يدركون أنهم سيخسرون هذه‬ ‫ً‬ ‫رئيسا للحكومة الجديدة‪،‬‬ ‫االنتخابات‪ ،‬وذلك باختيار أحمد معيتيق ً‬ ‫والذي سيكون دوره بيع القطاع العام إلى اإلسالميين‪ ،‬وعندها‬ ‫سيزاوجون بين سيطرتهم على السالح مع سيطرتهم على المال‪،‬‬ ‫وهي السلطة الحقيقية في أي مجتمع‪.‬‬ ‫تحرك اللواء حفتر جاء قبل يومين من منح الثقة لحكومة معيتيق‬ ‫في المؤتمر الوطني‪ ،‬أما تحرك حلفائه في طرابلس فجاء ليمنع‬ ‫المؤتمر من االنعقاد مرة أخرى‪ ،‬وف ًقا للبيان الذي تاله آمر الشرطة‬ ‫العسكرية العقيد فرنانة‪ ،‬وحتى اآلن تمكن حفتر من محاصرة كتيبة‬ ‫‪ 17‬فبراير وكتيبة راف الله السحاتي وكتيبة أنصار الشريعة‪ ،‬وقطع عنها‬ ‫اإلمدادات وخاصة القادمة من درنة‪ ،‬بينما حافظ على خطوطه الخلفية‬ ‫وخطوط إمداداته القادمة من المرج ومعسكر الرجمة‪ ،‬واستطاع هذه‬ ‫المرة تجييش قبائل شرق ليبيا مثل قبيلة العبيدات أكبر القبائل الليبية‪،‬‬ ‫التي فقدت اللواء عبدالفتاح يونس واثنين من مرافقيه‪ ،‬كما انضمت‬ ‫إليه قبائل البراعصة والعواقير والعرفة‪ ،‬باإلضافة إلى كتيبة حسين‬ ‫‪78‬‬


‫الجوفي‪ ،‬والمنطقة العسكرية بطبرق بقيادة العقيد سالم الرفادي‪ ،‬ومن‬ ‫البداية كان معه أولياء الدم الذين فقدوا أبناءهم في حملة االغتياالت‪،‬‬ ‫كما انضم إليه الناشطون في الحراك الفيدرالي‪ ،‬وستتولى قوات‬ ‫إبراهيم الجضران تأمين الخطوط الخلفية لقواته‪.‬‬

‫المفاجأة الكبرى هي عدم جر مصراتة ودروع المنطقة الوسطى‬ ‫إلى المعركة في طرابلس‪ ،‬ويبدو أن مصراتة أعادت دراسة الموقف؛‬ ‫فوصول قواتها إلى طرابلس يعني بداية الحرب األهلية‪ ،‬التي ستقسم‬ ‫طرابلس بين شرقية وغربية‪ ،‬وسيكون طريق المطار هو الفاصل بين‬ ‫القوتين‪.‬‬

‫حتى اآلن ال يعرف مكان اختباء رئيس المؤتمر نوري أبو سهمين‪،‬‬ ‫ومن غير المرجح أن ينجح المؤتمر في عقد جلسة واحدة وسط هذه‬ ‫الظروف‪ ،‬ويبدو أن عبدالله الثني رئيس الحكومة الموقتة على علم‬ ‫مسبق بهذه التحركات‪ ،‬وتعمل حكومته على التخلص من المؤتمر‬ ‫الوطني‪ ،‬ويرجح انضمام رئيس األركان عبدالسالم جاد الله العبيدي‬ ‫إلى اللواء حفتر‪ ،‬بعد ضغوط شديدة من قبيلته‪ ،‬وعندها سيتكامل‬ ‫االنقالب خاصة إذا سلمت مهام المؤتمر إلى لجنة صياغة الدستور‬ ‫حتى االنتخابات البرلمانية‪ ،‬ولكن هذا ال يعني عودة الهدوء إلى‬ ‫البالد‪ ،‬إذ أن اإلسالم ّيين سيقاومون وخاصة في طرابلس‪ ،‬مثلما‬ ‫يقاوم اإلخوان المسلمون الجيش المصري‪ ،‬إال أن وجودهم السياسي‬ ‫والشرعية التي اكتسبوها من خالل المؤتمر الوطني أصبحت في خبر‬ ‫كان‪.‬‬ ‫‪79‬‬


‫سيعتمد حفتر على التأييد اإلقليمي والدولي‪ ،‬وتدفع إيطاليا بشدة‬ ‫االتحاد األوروبي وحلف الناتو لدعم تحرك حفتر‪ ،‬خاصة إذا اكتفى‬ ‫حفتر بمهمة المنقذ ولم يتطلع إلى السلطة‪ ،‬وإذا قضى على المتشددين‬ ‫في بنغازي فستنتظره معركة أكبر في درنة‪ ،‬وسيختم سيسي ليبيا أو‬ ‫فرانكو ليبيا حياته العسكرية بمعركة أهم من كل حرب تشاد‪ ،‬وأهم‬ ‫من دوره كقائد عسكري لقوات المعارضة الليبية‪.‬‬

‫‪80‬‬


‫من �أين �أتى قادة ليبيا‪ ،‬ومن �أين �سي�أتون؟‬ ‫عندما غزت القوات اإليطالية ليبيا في أكتوبر عام ‪ 1911‬وجدت‬ ‫أمامها قيادات حقيقية صنعتها سنوات طويلة من االستقرار والفرز‪.‬‬ ‫ففي المنطقة الشرقية تمكنت الحركة السنوسية من إذابة القبائل‬ ‫البدوية‪ ،‬سواء كانت قبائل السعادي المسيطرة أو قبائل المرابطين في‬ ‫بوتقة جديدة‪ ،‬قلبت الهرم االجتماعي الذي كان سائد ًا‪ ،‬والذي يجعل‬ ‫من قبائل السعادي في قمة الهرم‪ ،‬وقبائل المرابطين في أسفل الهرم‪،‬‬ ‫وفجأة أصبحت الكفاءة هي المعيار الوحيد للقيادة من خالل التجربة‪،‬‬ ‫وهكذا أصبح عمر المختار ابن قبيلة المنفة المرابطة القائد العام‬ ‫للقوات السنوسية‪ ،‬بينما يساعده زعماء قبائل السعادي والمرابطين‪،‬‬ ‫مثل زعيم قبيلة العواقير عبد الحميد العبار‪ ،‬وزعيم واحة أوجلة‬ ‫األمازيغية الفضيل بو عمر‪ ،‬وزعيم قبيلة المسامير يوسف بورحيل‪.‬‬ ‫لم تؤسس الحركة السنوسية قيادات عسكرية‪ ،‬بل أسست قيادات‬ ‫سياسية شهد لها الجميع بالحنكة والقدرة على االستبصار‪ ،‬وفي مقدمة‬ ‫هؤالء الشارف الغرياني‪ ،‬الذي رأى أنه ال جدوى من مقاومة الطليان‪،‬‬ ‫‪81‬‬


‫وأن مفاوضتهم النتزاع بعض الحقوق أفضل من مقاومتهم وضياع‬ ‫كل شيء‪ ،‬وهو ما حدث بالفعل بعد استشهاد المختار‪.‬‬

‫تحاشت الحركة السنوسية المدن ألن نظرية ابن خلدون تتحقق‬ ‫فقط في الفضاء البدوي‪ ،‬فلم ينضم للحركة السنوسية زعماء بنغازي‬ ‫«الحضور» وال زعماء مدينة درنة‪ ،‬وبعد تحرير ليبيا من الطليان على‬ ‫يد القوات البريطانية برز دور هؤالء الزعماء‪ ،‬وهم جميع ًا من الكوادر‬ ‫التي تأهلت في العهد العثماني الثاني‪ ،‬مثل عائلة الكيخيا من بنغازي‪،‬‬ ‫والكيخيا منصب في العهد العثماني يعادل منصب رئيس الوزراء‬ ‫وخاصة في بالط األسرة القرامانلية‪.‬‬ ‫القائم مقام‬

‫في غرب ليبيا استقرت القيادة لكل من وصل إلى منصب قائم‬ ‫مقام‪ ،‬فبعد النزاع المرير بين عائلة المنتصر وعائلة السويحلي‪ ،‬تمكن‬ ‫رمضان السويحلي من حسم الصراع‪ ،‬بينما تزعم ورفلة (وسط جنوب‬ ‫ليبيا) قائم مقامها عبد النبي بالخير‪ ،‬وبالرغم من أن أصول بالخير تعود‬ ‫إلى قبائل الصيعان في أقصى غرب ليبيا‪ ،‬وحتى اآلن ال تزال قبيلته‬ ‫في ورفلة تحمل اسم قبيلة الصيعان‪ ،‬إال أنه تمكن بذكاء شديد من‬ ‫تزعم قبائل ورفلة‪ ،‬بعد أن أسس زاوية دينية هناك‪ ،‬ثم شهد له الجميع‬ ‫بالحنكة السياسية والقدرة االستثنائية على القيادة‪.‬‬

‫بينما تزعم غريان (‪ 75‬كم جنوب طرابلس) قائم مقامها‬ ‫الهادي كعبار‪ ،‬بالرغم من أنه من أصول تركية‪ ،‬مثله مثل بقية‬ ‫‪82‬‬


‫زعماء غريان أمثال برشان والخوجة واآلغا‪ ،‬وبرهن كعبار على‬ ‫حنكته الشديدة‪ ،‬وخاصة بعد خسارة المجاهدين لمعركة جندوبة‬

‫(‪ ،)1913‬فأصبحت الطريق ممهدة لدخول غريان من ناحية‬ ‫األصابعة (‪ 25‬كم جنوب غريان)‪ ،‬وهنا تقدم كعبار بأكبر تضحية‬

‫يقدم عليها قائد مهزوم‪ ،‬ففاوض الطليان على تسليم نفسه والحكم‬ ‫عليه باإلعدام‪ ،‬بشرط ضمان العفو عن جميع سكان غريان‪ ،‬وهذا‬

‫ما حدث بالفعل‪.‬‬

‫كما برهن أحمد المريض قائد قبائل ترهونة‪ ،‬وبن قدارة قائد‬

‫زليطن‪ ،‬وسالم بن عبد النبي قائد الزنتان‪ ،‬وفكيني قائد الرجبان‪،‬‬

‫ومحمد بن حسن المشاي قائد المشاشية‪ ،‬وعون سوف قائد المحاميد‪،‬‬

‫ومحمد بن عبد الله البوسيفي قائد أوالد أبوسيف عن حنكة ومهارة‬

‫في القيادة‪ ،‬والبحث عن قواسم مشتركة بالرغم من الخالفات القبلية‬

‫الشديدة بينهم‪ ،‬وخاصة في مؤتمر إعالن الجمهورية الطرابلسية (في‬ ‫الفترة ‪ 1919 - 1918‬دامت ستة أشهر ونصف فقط)‪.‬‬

‫بينما قاد األمازيغ سليمان الباروني بثقافته الواسعة ومستواه‬

‫العلمي الرفيع‪ ،‬في حين تركزت الزعامة في نالوت في‬

‫عائلة بن عسكر‪ ،‬وقاد زوارة عائلة بن شعبان‪ ،‬واختارت مدينة‬

‫الزاوية فرحات الزاوي العضو في البرلمان العثماني‪ ،‬فيما بقيت‬ ‫القيادة في المنطقة الوسطى والجنوبية حكر ًا على عائلة سيف النصر‬

‫التي تقود قبيلة أوالد سليمان‪.‬‬

‫‪83‬‬


‫زعامة جماهيرية جديدة‬

‫خالل مرحلة النضال من أجل االستقالل برزت زعامة جديدة من‬ ‫طراز مختلف‪ ،‬ففي الشرق بايعت كل القبائل إدريس السنوسي أمير ًا‬ ‫على برقة‪ ،‬ولم يكن إدريس غر ًا في عالم السياسة‪ ،‬فقد شهد كل من‬ ‫كان مقرب ًا منه على دهاء شديد‪.‬‬

‫فعندما عاد إلى ليبيا (‪ 1944‬بعد خروج إيطاليا) عين قجة عبد الله‬ ‫وهو تشادي األصل حاكما على اجدابيا (‪ 160‬كم جنوب غرب‬ ‫بنغازي)‪ ،‬وأمره بسجن زعيم قبيلة المغاربة صالح الطيوش‪ ،‬وزعيم‬ ‫قبيلة الزوية الهتش‪ ،‬تعبير ًا عن فرض سلطته المطلقة على هذين‬ ‫الزعيمين البدوييين‪ ،‬فرضخ االثنان ألمر األمير إدريس‪.‬‬

‫أما في غرب ليبيا فقد برز زعيم جديد صنع جماهيرية واسعة‬ ‫بسرعة شديدة‪ ،‬هو زعيم حزب المؤتمر بشير السعداوي‪ ،‬الذي كان‬ ‫قائم مقام بلدة جزين اللبنانية المسيحية‪ ،‬ومستشار ًا للعاهل السعودي‬ ‫عبد العزيز آل سعود‪ ،‬وكانت لديه رؤية مختلفة لليبيا عن تلك التي‬ ‫تبناها الملك إدريس‪ ،‬لكنه تنازل عن رؤيته من أجل أن تستقل ليبيا‬ ‫موحدة (أعلن االستقالل في ‪ 24‬ديسمبر ‪ ،)1951‬وقدم درس ًا بليغ ًا‬ ‫في إمكانية التوافق والتنازل من أجل المصلحة العامة‪.‬‬ ‫القذافي والنفخ في نار القبائل‬

‫عندما وصل القذافي إلى السلطة (‪ )1969‬حاول منذ البداية تمزيق‬ ‫النسيج االجتماعي الليبي‪ ،‬فقرب البدو وأبعد الحضر‪ ،‬وحاول بدونة‬ ‫‪84‬‬


‫المدينة عن طريق إنشاء روابط شباب القبائل بها‪ ،‬ونجح في بنغازي‬ ‫في دفع القبائل لتكون مجالسها داخل المدينة‪ ،‬بينما فشل في طرابلس‬ ‫بالرغم من وجود الفتة في طريق الفالح كتب عليها «رابطة شباب‬ ‫قبيلة الزنتان في طرابلس»‪.‬‬

‫ثم تمرس القذافي في تأليب القبائل ضد بعضها‪ ،‬وخاصة بعد‬ ‫محاولة العقيد مفتاح قروم (وهو من قبيلة ورفلة) االنقالبية عام‬ ‫‪ ،1993‬فاستعدى مصراتة على ورفلة‪ ،‬كما استعدى المقارحة‬ ‫على الحساونة‪ ،‬وكان يوسع ويضيق مؤتمراته الشعبية (البلديات‬ ‫أو المحافظات)‪ ،‬فأحيانا يجعلها على مستوى المحلة فتنقسم‬ ‫القبيلة على قسمين‪ ،‬وأحيانا يضم في المؤتمر قبيلتين فتسري‬ ‫العداوة بينهما‪.‬‬

‫وعندما الحظ الحلف التاريخي بين الزنتان والرجبان (في جبل‬ ‫نفوسة أقصى غرب ليبيا) جمعهما في مؤتمر واحد‪ ،‬كانت جلساته‬ ‫تبث على الهواء مباشرة‪ ،‬ومنذ الجلسة األولى اختلفوا على تسمية‬ ‫المؤتمر‪ ،‬الزنتان أوال أم الرجبان أوال‪.‬‬

‫في عهد القذافي اضمحلت القيادة التقليدية السابقة‪ ،‬وحلت‬ ‫محلها قيادات جديدة‪ ،‬فالمقارحة كانوا يلجؤون إلى ابنهم عبد الله‬ ‫السنوسي (رئيس جهاز االستخبارات العسكرية)‪ ،‬وأوالد سليمان‬ ‫كانوا يلجؤون إلى أبنائهم عبد السالم الزادمة وعبد الله منصور‬ ‫(ضباط مقربون من القذافي)‪.‬‬ ‫بينما لجأ أبناء قبيلة المنفة إلى الطيب الصافي والمغاربة إلى مبارك‬ ‫‪85‬‬


‫الشامخ‪ ،‬وورفلة إلى عمران أبو كراع‪ ،‬وهؤالء لم يبرهنوا يوما أنهم‬ ‫قادة‪ ،‬فقد صمموا منذ البداية ليكونوا أتباع ًا للقذافي‪.‬‬ ‫الت�صحر ال�شامل‬

‫بعد اثنين وأربعين عام ًا من التصحر الشامل تعاني ليبيا اليوم من‬ ‫أزمة قيادة‪ ،‬تجلت منذ األيام األولى لثورة فبراير‪ ،‬عندما رضي الجميع‬ ‫باختيار مصطفى عبد الجليل رئيس ًا للمجلس الوطني االنتقالي‪ ،‬ثم‬ ‫تأكد الجميع أن الرجل ال يملك أي موهبة قيادية‪ ،‬سوى موهبته في‬ ‫قيادة فريق نادي األخضر (فريق كرة القدم الذي كان يلعب ضمن‬ ‫صفوفه)‪.‬‬ ‫أما محمود جبريل الذي ترأس المكتب التنفيذي فقد قاد مكتبه‬ ‫بالهاتف والريموت كنترول من الدوحة‪ ،‬مثلما يقود تحالفه اآلن‬ ‫من دبي‪ ،‬ثم كانت الطامة الكبرى بعد انتخابات المؤتمر الوطني‪،‬‬ ‫فإذا بمعظم أعضائه ال يعرفون حتى كيف يطلبون الكلمة‪ ،‬واختلط‬ ‫الحابل بالنابل قبل أن يكشف عبد الرحيم الكيب (أول رئيس حكومة‬ ‫بعد الثورة في أحد خطاباته) عن وجود قوة عليا تحكم المؤتمر‬ ‫والحكومة‪ ،‬اكتشفنا فيما بعد أن قادة المليشيات هم هذه القوة العليا‪.‬‬ ‫من �أين �أتى قادتنا الجدد؟‬

‫اختفى القادة الحكماء وحل السفهاء محلهم‪ ،‬فباستشهاد الشيخ‬ ‫محمد المدني (أثناء الثورة ‪ )2011‬فقدت الزنتان زعيمها الحقيقي‪،‬‬ ‫‪86‬‬


‫وهو يشبه محمد بن عبد الله البوسيفي زمن الكفاح ضد الطليان‪،‬‬ ‫الذي جمع بين القيادة الروحية والقيادة العسكرية‪.‬‬

‫وبالرغم من أن الزنتان كان لهم نظام يسمى «العمرة»‪ ،‬وهو مجلس‬ ‫للحكم تتخذ فيه القرارات المصيرية‪ ،‬ولكن قادة الزنتان اليوم هم‬ ‫مجموعة عجيبة من أشخاص ال يملكون أية كفاءات‪ ،‬فمث ً‬ ‫ال عبد الله‬ ‫ناكر (قائد ميداني ورئيس حزب القمة) كان يصلح األجهزة المرئية‬ ‫في محل بشارع الكندي بطرابلس‪ ،‬بينما كان مختار األخضر (قائد‬ ‫ميداني آخر) يطبخ المأكوالت التقليدية في األعراس‪ ،‬في حين كان‬ ‫هاشم بشر (رئيس اللجنة األمنية العليا بطرابلس) يبيع العصائر‪ ،‬وهيثم‬ ‫التاجوري (قائد كتيبة مسلحة) يقود سيارة أفيكو (باص نقل عام) من‬ ‫سوق الجمعة إلى ذات العماد وسط طرابلس‪.‬‬

‫أما عبد الغني الككلي (آمر إحد سرايا اللجنة األمنية العليا) فكان‬ ‫فتوة في حي أبوسليم‪ ،‬وكان عبد الرؤوف كارة (آمر سرايا اإلسناد‬ ‫والدعم بطرابلس) عاط ً‬ ‫ال عن العمل في سوق الجمعة‪ ،‬في حين‬ ‫كان محمد الكيالني (عضو المؤتمر الوطني العام عن مدينة الزاوية)‬ ‫يدرس األطفال في الصباح ويبيع الماشية في المساء‪.‬‬ ‫في المنطقة الشرقية كان زعيم أنصار الشريعة محمد الزهاوي من‬ ‫عاشقي المرسكاوي (فن شعبي ليبي)‪ ،‬وإذا حضر حفلة للمرسكاوي‬ ‫يرقص حتى يسقط مغشي ًا عليه‪ ،‬بينما كان أحمد أبو ختالة (المسؤول‬ ‫في تنظيم أنصار الشريعة والمقبوض عليه حالي ًا بتهمة اغتيال السفير‬ ‫األمريكي ببنغازي) مقاوالً صغير ًا يبني البيوت‪.‬‬ ‫‪87‬‬


‫وكان بوكا العريبي (واسمه ابراهيم العريبي أحد قيادات ميليشيا‬ ‫درع ليبيا) يعمل في تغيير زيوت السيارات‪ ،‬وألنه طوال الوقت كان‬ ‫يتواجد في حفرة تحت السيارات سمي بوكا وهو االسم اإليطالي‬ ‫للحفرة‪ ،‬والخبرة الوحيدة التي اكتسبها سفيان بن قمو (أحد قيادات‬ ‫الجماعات المتطرفة في درنة) هي قيادة سيارات بن الدن‪.‬‬

‫والمحصلة أن القيادات السابقة للدولة استُبعدت بالكامل ومن‬ ‫بينهم من يمتلك الكفاءة والخبرة إلعادة بناء الدولة‪ ،‬بينما جاءت‬ ‫معظم القيادات الجديدة من السجون ومن المنفى‪ ،‬أو من الهامش‬ ‫وفرضوا أنفسهم بقوة السالح‪ ،‬وطبع ًا من كان في السجن أو في‬ ‫المنفى سنوات طويلة ال يمكنه فهم الواقع الذي غاب عليه طويالً‪.‬‬

‫ستستمر لغة القوة في ليبيا وسيخسر الجميع ويكتوي بالنار‪،‬‬ ‫قبل أن يتعلم الليبيون الجلوس على مائدة الحوار‪ ،‬وتقديم تنازالت‬ ‫متبادلة‪ ،‬مثلما تفعل جميع الشعوب‪ ،‬التي مرت بهذه التجربة وتعلمت‬ ‫منها‪ ،‬فالديمقراطية أصعب األنظمة على اإلطالق وليس أسهلها كما‬ ‫يتوهم الكثيرون‪ ،‬ورؤية األوروبيين وهم يبتسمون في طوابير االقتراع‪،‬‬ ‫تحجب سنوات طويلة من العنف والقتال والبغض الشديد‪.‬‬

‫‪88‬‬


‫الربيع العربي‪ ..‬الع�سكر �أو الإخوان‬ ‫في ذروة انتصار الثورات الشعبية في تونس‪ ،‬مصر‪ ،‬ليبيا واليمن‬

‫لم يكن هناك أحد يتخيل أن تكون نتائج الربيع العربي بهذه الحدة‪.‬‬ ‫اإلخوان المسلمون أو العسكر‪ ،‬ومع ذلك ففي كل بلد تبدو النتائج‬ ‫متفاوتة وليست متطابقة‪.‬‬

‫في تونس‪ ،‬البلد الذي عاش في ظل نظام علماني منذ االستقالل‪،‬‬

‫انحاز الجيش التونسي بشكل إيجابي إلى جانب المتظاهرين‪ ،‬وتصرف‬

‫بمهنية عالية وهو يحميهم من قوات األمن‪ ،‬ثم ابتعد عن االستقطاب‬ ‫السياسي وانصرف لتنفيذ مهامه‪ ،‬وهي حماية التراب الوطني‪ ،‬وحماية‬

‫السلم االجتماعي والدستور‪ ،‬لذلك تبدو الحالة في تونس أكثر صحية‬

‫من جميع البلدان التي عصفت بها رياح التغيير العنيف‪.‬‬

‫في مصر انحاز الجيش إلى جانب المتظاهرين بشكل سلبي‪،‬‬

‫فلم يبذل جهدا واضحا في حماية المتظاهرين من قوات األمن ومن‬ ‫البلطجية‪ ،‬وعندما رأى أن النظام سينهار حتما أصدر بيانه األول‪،‬‬ ‫‪89‬‬


‫وضغط على حسني مبارك من أجل التنحي‪ ،‬وكان الجيش يرى أنه‬ ‫من األفضل التضحية بالرئيس من أجل إنقاذ النظام‪ ،‬وليس ذلك‬ ‫بمستغرب من جيش تورط في السياسة منذ عام ‪ ،1952‬ولم يتخل‬ ‫عن السلطة منذ ذلك الحين‪ ،‬وحتى إذا فصلنا بين مؤسسة الرئاسة‬ ‫التي يعتليها عسكري سابق‪ ،‬والمجلس األعلى للقوات المسلحة‪،‬‬ ‫الذي استلم السلطة بعد رحيل مبارك‪ ،‬فإن المصالح االقتصادية‬ ‫واالستراتيجية المتراكمة‪ ،‬وخاصة منذ اتفاقية كامب ديفيد‪ ،‬وبداية‬ ‫المعونات العسكرية األمريكية للجيش المصري‪ ،‬أصبح لهذا الجيش‬ ‫مصالح اقتصادية واستثمارية كبيرة جدا‪ ،‬تجعله أشبه بدولة داخل‬ ‫الدولة‪ ،‬وهي مصالح تجبره على التدخل في كل الشؤون أيا كان‬ ‫من يقوده‪ ،‬إن كان محمد طنطاوي أو عبد الفتاح السيسي أو أي‬ ‫جنرال آخر‪.‬‬ ‫في ليبيا لم يكن هناك جيش محترف ليتدخل بشكل إيجابي أو‬ ‫سلبي‪ ،‬منذ أن تعمد القذافي تدمير ذلك الجيش في تشاد‪ ،‬بعد سيل‬ ‫من المحاوالت االنقالبية‪ ،‬وعندما تشكلت كتائب الثوار خالل‬ ‫التحرير أو بعده‪ ،‬حاولت كل التيارات السياسية في البالد أن يكون‬ ‫لها اليد العليا على هذه الكتائب المسلحة‪ ،‬وأخيرا وصلت إلى حالة‬ ‫من توازن الرعب وخاصة في طرابلس‪ ،‬أما في شرق ليبيا فقد تمكنت‬ ‫الجماعات اإلسالمية من فرض سيطرتها‪ ،‬وجعلت التيارات المدنية‬ ‫التي أشعلت الثورة تحت رحمتها‪ ،‬وبالرغم من خسارة جماعة‬ ‫اإلخوان المسلمين لالنتخابات لصالح تحالف القوى الوطنية‪ ،‬إال أن‬ ‫‪90‬‬


‫أذرعها العسكرية‪ ،‬وتحالفاتها مع المستقلين داخل المؤتمر جعلت‬ ‫من فوز تحالف القوى الوطنية مجرد فوز رمزي‪.‬‬

‫في مصر تصرف اإلخوان بغباء شديد في أول فرصة لهم لحكم‬ ‫البالد منذ ظهورهم عام ‪ ،1928‬فبدال من العمل على طمأنة جميع‬ ‫القوى المناوئة‪ ،‬عملوا دون هوادة على إقصاء الجميع واالستئثار‬ ‫بكل مفاصل السلطة‪ ،‬وهم يعلمون أن الدولة العميقة التي تركها‬ ‫مبارك خلفه ستقاومهم بشدة‪ .‬نسوا القوات المسلحة بكل جبروتها‬ ‫ومصالحها المتشابكة‪ .‬نسوا قوات األمن التي لم تنفذ أمرا واحدا‬ ‫أصدره الرئيس المنتخب محمد مرسي‪ ،‬ونسوا جهاز القضاء بتقاليده‬ ‫البيروقراطية العجيبة‪ ،‬وفي النهاية استعدوا جميع السلطات الحقيقية‪،‬‬ ‫واحتفظوا بسلطة رمزية ممثلة في رئيس منتخب‪ ،‬وحكومة غير فعالة‬ ‫ألن كل قراراتها تحولت إلى حبر على ورق‪.‬‬ ‫كان األفضل لإلخوان أن يتخلوا عن االنتخابات الرئاسية‪،‬‬ ‫ويدعموا مرشحا من خارج صفوفهم حتى وإن كان قريبا لهم من‬ ‫الناحية اإليديولوجية‪ ،‬لكنهم كانوا أشبه بالصائم دهرا ينتظر آذان‬ ‫المغرب منذ عام ‪ ،1928‬كما أن اإلخوان لم يتخلوا عن نظرة المؤسس‬ ‫حسن البنا‪ ،‬ولم يجروا أي تحديث في منظمتهم التي تحولت إلى‬ ‫ما يشبه المحفل الماسوني‪ ،‬أكثر من كونها منظمة سياسية لها رؤية‬ ‫محددة وبرنامج سياسي واضح‪.‬‬ ‫ومع ذلك لن تستطيع القوات المسلحة إلغاء اإلخوان‪ ،‬مثلما‬ ‫لم يستطع الجيش التركي إبعاد اإلسالميين بالكامل عن السياسة‬ ‫‪91‬‬


‫بالرغم من انقالباته الثالثة‪ ،‬وقد تكون نتيجة االنقالب العسكري‬ ‫في مصر أشبه بآخر انقالب في تركيا‪ ،‬يعجل بإبعاد العسكريين عن‬ ‫السياسة‪ ،‬ولكنه سيجبر أيضا التيارات اإلسالمية على القبول بلعبة‬ ‫السلطة والديمقراطية‪ ،‬وقد تجبر هذه الضربة الموجعة شباب اإلخوان‬ ‫عن االنشقاق عن شيوخهم‪ ،‬وتأسيس حزب يشبه حزب أردوغان في‬ ‫تركيا‪ ،‬الذي ال يكف عن تذكير الجميع بأنه حزب علماني‪ ،‬بينما يدفع‬ ‫العسكريين إلى األبد نحو ثكناتهم‪.‬‬

‫‪92‬‬


‫ليبيا لي�ست ببعيدة عن م�صر‬ ‫ثمة تأثيرات متبادلة بين الجارتين مصر وليبيا منذ قديم الزمان‪،‬‬ ‫فالصحراء الليبية دفعت عشرات اآلالف من سكانها العطشى نحو نهر‬ ‫النيل‪ ،‬حتى أن الفراعنة شكلوا قوات أشبه بقوات حرس الحدود اليوم‪،‬‬ ‫لمنع تدفق المزيد من المهاجرين‪ ،‬ومع ذلك لم يصل المهاجرون‬ ‫فقط إلى النيل وإنما وصلوا إلى قمة السلطة‪ ،‬عندما تمكن العسكري‬ ‫شيشنق ابن مهاجر ليبي من تأسيس األسرة الثانية والعشرين عام ‪950‬‬ ‫قبل الميالد‪.‬‬

‫واليوم تعيش في مصر عدة ماليين من أصول ليبية مثل قبائل أوالد‬ ‫علي والجوازي التي طردت من ليبيا في عهد يوسف باشا القره مانللي‪،‬‬ ‫ويمكن القول بأنه من الحدود الليبية حتى االسكندرية تسمع لهجات‬ ‫ليبية أكثر من اللهجة المصرية‪ ،‬كما أن عدد ًا من السياسيين المصريين‬ ‫وغيرهم يحمل ألقابا ليبية مثل رئيس الوزراء األسبق كمال الجنزوري‪،‬‬ ‫ورئيس هيئة صياغة الدستور حسام الغرياني‪ ،‬ومع ذلك فإن التأثيرات‬ ‫المصرية في ليبيا هي الحاسمة وخاصة في العصر الحديث‪.‬‬ ‫‪93‬‬


‫في عام ‪ 1949‬عندما كان إدريس السنوسي أمير ًا على برقة‪ ،‬لجأ‬ ‫عضوان من جماعة اإلخوان المسلمين إلى ليبيا هرب ًا من حملة‬ ‫اعتقاالت في صفوف الجماعة بتهمة التآمر على الملك فاروق‪،‬‬ ‫وتمكن األثنان من الوصول إلى األمير إدريس الذي لم يتردد في‬ ‫إجارتهما بالرغم من معارضة البريطانيين‪ ،‬الذين كانوا يديرون كل‬ ‫شيء في ليبيا قبل االستقالل‪ ،‬وعلى يدي هذين الالجئين تأسست‬ ‫جماعة اإلخوان المسلمين في ليبيا‪ ،‬وبعد انقالب عبد الناصر تأثرت‬ ‫ليبيا بشدة بتوجهات وخطابات الزعيم الجديد‪ ،‬وخاصة بين الشباب‬ ‫الذين مهدوا النقالب سبتمبر المشؤوم‪ ،‬ومنذ ذلك الحين عين‬ ‫القذافي نفسه خليفة لعبد الناصر‪ ،‬و»أمينا للقومية العربية»‪.‬‬

‫لم تكن شخصية عبد الناصر وحدها كافية إلحداث مثل هذا‬ ‫التأثير في الجمهور الليبي‪ ،‬وإنما كان هناك جيش من المعلمين‬ ‫والعمال وتقريبا جميع التخصصات‪ ،‬باإلضافة إلى األفالم‪ ،‬واألغاني‪،‬‬ ‫والمسلسالت التلفزيونية‪ ،‬واليوم ال يزال هذا التأثير قائما‪ ،‬خاصة ان‬ ‫الليبيين انتظروا قيام المصريين بثورتهم على حسني مبارك‪ ،‬قبل أن‬ ‫يقوموا بثورتهم على القذافي‪.‬‬ ‫االنتخابات‬

‫اختالف نتائج االنتخابات الليبية عن نتائج االنتخابات المصرية‬ ‫والتونسية ال يعني نهاية هذا التأثير‪ ،‬حيث نجح في البلدين المجاورين‬ ‫اإلسالميون بنسبة كبيرة‪ ،‬بينما حصل حزب العدالة والبناء الذراع‬ ‫‪94‬‬


‫السياسي لجماعة اإلخوان المسلمين على سبع عشرة مقعد ًا فقط‬ ‫في المؤتمر الوطني العام‪ ،‬فيما تحصل تحالف القوى الوطنية على‬ ‫تسعة وثالثين مقعد ًا‪ ،‬ومع ذلك تمكن اإلسالميون بالتحالف مع بعض‬ ‫المستقلين من استبعاد محمود جبريل لصالح مصطفى أبو شاقور‪،‬‬ ‫قبل أن يتوافقوا في نهاية األمر على علي زيدان كرئيس للوزراء‪.‬‬

‫في مصر يبدو االستقطاب حاد ًا جد ًا بعد إعالن الرئيس محمد‬ ‫مرسي إعالنه الدستوري المثير للجدل‪ ،‬وعادت المظاهرات المليونية‬ ‫إلى سابق عهدها‪ ،‬وال يبدو ثمة حل في األفق‪ ،‬وإذا استمر هذا‬ ‫االستقطاب وخرجت المظاهرات عن السيطرة فقد تشهد مصر‬ ‫بوادر حرب أهلية‪ ،‬قد تجبر القوات المسلحة على التدخل وإقصاء‬ ‫مرسي بالقوة‪ ،‬وهكذا ستعود البالد إلى نقطة الصفر‪ ،‬وستمتص الدولة‬ ‫العميقة كل ما حققته ثورة الخامس والعشرين من يناير‪ ،‬قبل أن تجرى‬ ‫انتخابات جديدة ستكون نتائجها ليس في صالح اإلخوان المسلمين‪،‬‬ ‫خاصة إذا دفع الليبراليون بمرشح واحد مثل حمدين صباحي‪ ،‬بدالً‬ ‫من عدة مرشحين مثل عمرو موسى ومحمد البرادعي‪.‬‬ ‫بالتأكيد ال يمكن إقصاء جماعة مثل اإلخوان المسلمين التي‬ ‫تأسست عام ‪ ،1928‬وستكون مؤثرة سوا ًء بقيت في الحكم أم في‬ ‫المعارضة‪ .‬إذا نجحت في البقاء في الحكم غالب ًا سينجح اإلسالميون‬ ‫في الهيمنة على ليبيا‪ ،‬وسيكون هناك تنسيق بين دول الربيع العربي‬ ‫الثالث‪ ،‬وإذا نجحت الثورة السورية في إسقاط األسد فسينجح‬ ‫اإلخوان المسلمون في السيطرة على مقاليد السلطة‪ ،‬وعندها يكون‬ ‫‪95‬‬


‫اإلخوان قد سيطروا على المنطقة الممتدة من تركيا إلى المغرب‪ ،‬أما‬ ‫إذا فشلوا في االحتفاظ بالسلطة في مصر وتونس‪ ،‬فغالبا ما سيفقدون‬ ‫سيطرتهم في ليبيا لصالح تيارات سياسية أكثر انفتاح ًا‪.‬‬ ‫ت�أثير متبادل‬

‫حتى اآلن ما حدث في ليبيا يؤثر سلب ًا على مصر من الناحية األمنية‪،‬‬ ‫وبالرغم من الجهود المكثفة من قوات األمن المصرية وحرس‬ ‫الحدود‪ ،‬إال أن الصواريخ المتوسطة المدى التي كانت موجودة في‬ ‫مخازن القذافي وصلت إلى سيناء وغزة‪ ،‬وإذا تحول االستقطاب‬ ‫السياسي في مصر إلى مرحلة عنيفة فلن تتمكن قوات األمن من‬ ‫وقف تهريب األسلحة‪ ،‬ولكن هذه المرة ستستخدم بين الفرقاء‪ ،‬مما‬ ‫يهدد كامل المنطقة باالنهيار وانتشار العنف واإلرهاب‪ ،‬وعندها لن‬ ‫يستطيع أحد في ليبيا من فرض األمن واالستقرار‪.‬‬

‫أي اضطراب يحدث في مصر يهدد ليبيا المضطربة ليس فقط‬ ‫من الناحية األمنية‪ ،‬بل حتى من الناحية االقتصادية واالجتماعية‪،‬‬ ‫عندما يلجأ إلى ليبيا الماليين من الالجئين‪ ،‬حتى إذا كان وصولهم‬ ‫إلى ليبيا مجرد محطة مؤقتة للهجرة عبر البحر إلى أوروبا‪ ،‬وهو‬ ‫ما سيشكل ضغط ًا على الحكومة الليبية التي ال تزال عاجزة عن‬ ‫إرضاء المجموعات المسلحة‪ ،‬والجرحى الذين ال يجيدون االعتصام‬ ‫إال أمام مصفاة الزاوية لتكرير النفط‪ ،‬فتتوقف السيارات في طوابير‬ ‫طويلة أمام محطات البنزين في طرابلس‪.‬‬ ‫‪96‬‬


‫هذه المرة ال يتدفق الليبيون إلى مصر من أجل الوصول إلى‬ ‫نهر النيل‪ ،‬وإنما سيتدفق المصريون نحو ليبيا بالماليين‪ ،‬فاآلفاق‬ ‫االقتصادية في مصر ال تبشر بنتائج جيدة على المدى القصير‪ ،‬وتحتاج‬ ‫البالد إلى المزيد من االستثمارات األجنبية لتجني ثمارها على المدى‬ ‫المتوسط‪ ،‬والمستثمرون يشترطون توفر األمن واالستقرار‪ ،‬وهي‬ ‫معادلة تظل أطرافها غائبة طالما أن الماليين معتصمون في ميدان‬ ‫التحرير وأمام جامع القائد إبراهيم‪.‬‬ ‫ال شك أن مصر بها إمكانيات كبيرة وإذا استقرت األوضاع من‬ ‫الممكن البدء في تنمية شاملة‪ ،‬واستقطاب االستثمارات األجنبية‬ ‫قد ينقل البالد نقلة نوعية‪ ،‬وقد تستطيع الديمقراطية المصرية تعقب‬ ‫التجربة الماليزية والتركية وحتى الكورية الجنوبية‪ ،‬وعندها سيكون‬ ‫التأثير المصري على كل المنطقة وليس ليبيا فقط‪ ،‬ولكن المشكلة‬ ‫أن الفرقاء المصريين ال ينظرون لصالح البلد بقدر نظرتهم لمصالح‬ ‫جماعاتهم وتياراتهم‪ ،‬وهم أشبه بمسافرين يتشاجرون فوق سفينة‬ ‫بما في ذلك الربان وبقية المالحين‪.‬‬

‫ثمة خوف شديد في صفوف التيارات المدنية من اإلسالميين‬ ‫واستفرادهم بالسلطة‪ ،‬خاصة بعد أن أصبح الرئيس مرسي إثر‬ ‫إعالنه الدستوري يحتكر السلطة التشريعية والتنفيذية في البالد‪،‬‬ ‫وهو ما يؤكد‪ ،‬وبالرغم من عراقة جماعة اإلخوان المسلمين أنهم‬ ‫يجيدون المعارضة‪ ،‬التي عاشوا في صفوفها منذ ظهورهم وال يجيدون‬ ‫الحكم‪ ،‬كما أن تجربة األحزاب المدنية معهم كانت مريرة‪ ،‬ألن‬ ‫‪97‬‬


‫اإلخوان يرفضون العمل مع أي تيار آخر أو حتى الدخول في حوار‬ ‫معه‪ ،‬وتسريبات حديث راشد الغنوشي مع السلفيين تؤكد ذلك‪،‬‬ ‫وتوحي بأنهم في نهاية األمر سيقصون الجميع ويستفردون بالسلطة‪.‬‬

‫لم تأت الديمقراطية إلى الشعوب على طبق من ذهب وإنما على‬ ‫أشالء هذه الشعوب‪ ،‬هذا ما حدث في الدول الديمقراطية وعلينا‬ ‫التعلم من هذا التاريخ‪ ،‬وأن نقلل من عدد الضحايا‪ ،‬طالما أن التيارين‬ ‫وبعد صراع عنيف وانشقاقات هنا وهناك سيتعلمان كيف يتوافقان‪،‬‬ ‫وليبيا تمر بنفس التجربة وقد تتمخض على نفس النتائج‪ ،‬لكن ما‬ ‫يميز ليبيا أن اإلسالميين المعتدلين أقرب إلى التيار المدني‪ ،‬وبرهن‬ ‫التياران على التوافق بسرعة عندما صوتا لعلي زيدان‪ ،‬ويبقى الخطر‬ ‫كامن ًا من التيارات اإلسالمية المتشددة‪ ،‬مثل السلفيين والجماعات‬ ‫القريبة من فكر القاعدة‪.‬‬

‫إذا اجتازت مصر هذا المخاض بسالم فذلك ما سينعكس إيجابي ًا‬ ‫على ليبيا‪ ،‬أما إذا تحول االستقطاب الحاد إلى استقطاب دموي‪ ،‬فإن‬ ‫الجماعات المتشددة ستُقصي الجميع عن السلطة‪ ،‬وعندها سنرى‬ ‫مناطق ملتهبة وأخرى مستقرة مثلما حدث في الصومال‪ ،‬حيث الشمال‬ ‫مستقر في ظل حكومة أرض الصومال وبالد بونت‪ ،‬وجنوب ملتهب‬ ‫تحكمه حركة المحاكم حينا وحركة الشباب أحيانا أخرى‪.‬‬

‫‪98‬‬


‫الم�صالحة عـلى الطريقة الليبية‬ ‫بعد سنوات االنتظار الطويلة والمملة‪ ،‬تقلبت ليبيا على جنبها‬ ‫الثاني‪ ،‬وهو أمر لم يحدث منذ أن اختارت الجنب األول لتنام عليه‪،‬‬ ‫أي منذ عام ‪ ،1977‬وهو العام الذي اعتمدت فيه ما يسمى بسلطة‬ ‫الشعب كنظام سياسي‪ .‬لم يفشل نظام سلطة الشعب فحسب‪ ،‬وإنما‬ ‫تفسخ بالكامل وأصبح عبئا على الجميع‪ ،‬حتى على الذي فرضه‬ ‫بقوة السالح‪ ،‬ليصبح الحاكم المطلق في البالد‪ ،‬حيث ال حدود‬ ‫لصالحياته‪ ،‬وال وجود لتوقيعاته‪ ،‬فالمسئولية مسئولية الشعب الذي‬ ‫يحكم‪ ،‬ونظريا كان «قائد الثورة» مجرد مرشد أعلى لهذا النظرية‬ ‫العجيبة‪ ،‬التي احتكر صياغتها وتطبيقها وتعديلها كلما راق له ذلك‪،‬‬ ‫وفي السنوات األخيرة سحبت الصالحيات مما يسمى باللجنة الشعبية‬ ‫العامة‪ ،‬وتحول الوزراء الذين «صعدوا» في مؤتمر الشعب العام‪ ،‬إلى‬ ‫مجرد موظفين ينفذون أوامر ضابط كبير مكلف باإلشراف على هذا‬ ‫القطاع‪ ،‬أو تلك الوزارة‪.‬‬ ‫إذا سمحت سلطة الشعب للقذافي بحكم ليبيا بصالحيات‬ ‫‪99‬‬


‫لم يحلم بها شاه إيران‪ ،‬وبول بوت‪ ،‬ومحمد عمر زعيم طالبان‪،‬‬ ‫فإنها اآلن ال تنفع أبنه ألن سلطة الشعب ال تورث‪ .‬لذلك ظلت هذه‬ ‫السلطة موجودة في مسودة الدستور‪ ،‬ولكن إلى جانبها توجد هياكل‬ ‫أخرى ال يملك فيها الشعب أي سلطة‪ ،‬ولها صالحيات لم يحلم‬ ‫بربعها الشعب منذ أن استلم سلطته وثروته وسالحه‪ ،‬وهي الهياكل‬ ‫التي سيعبر من خاللها االبن إلى سلطة «مشروطة» هذه المرة‪ ،‬أي‬ ‫ألول مرة يتم تحديد الفترة الزمنية التي سيبقى فيها رئيس القيادة‬ ‫االجتماعية في السلطة‪.‬‬ ‫المخا�ض اال�صطناعي‬

‫في األيام القليلة الماضية حدث حراك في ليبيا لم يحدث منذ‬ ‫منتصف السبعينات‪ ،‬وثمة مؤشرات أن هذا الحراك يتم التحكم فيه‬ ‫عن بعد وعن قرب‪ ،‬وهو أقرب إلى المخاض االصطناعي‪ ،‬الذي‬ ‫يعطيه طبيب الوالدة للسيدة التي على وشك اإلنجاب‪ ،‬إذا تأخر‬ ‫مخاضها الطبيعي‪ ،‬ولكن ليبيا أنجبت بعد المخاض االصطناعي‬ ‫عدة توائم‪ ،‬من بينهم الدستور‪ ،‬قانون الصحافة‪ ،‬والمنابر‪ ،‬جميعهم‬ ‫خرجوا من بويضة واحدة‪ ،‬ولكن كل من هذه التوائم ال يشبه اآلخر‪،‬‬ ‫وفي تقديري أن أول من سيتعلم المشي والكالم هو بالتأكيد التوأم‬ ‫المعروف باسم المنابر‪ ،‬أما الدستور فسيتأخر في القدرة على الكالم‪،‬‬ ‫حتى يشتبه في إصابته بالبكم والخرس‪ .‬وأتوقع أن تسخن المنابر في‬ ‫الفترة القادمة‪ ،‬والتي ستكون بالتأكيد قبل ‪ 20‬أغسطس حيث تعود‬ ‫‪100‬‬


‫سيف اإلسالم‪ ،‬قائد اإلصالحيين إلقاء بيانه األول الذي قسمه على‬ ‫عدة سنوات‪ ،‬وفي كل سنة يقرأ مقطعا منه‪ .‬وتقديري أن مقطعه القادم‬ ‫سيكون على المصالحة في ليبيا‪.‬‬ ‫م�صالحة بدون �إن�صاف‬

‫بعد أن تراشق «الثوريون» واالصالحيون في المنابر‪ ،‬وعلى‬ ‫صفحات الصحف‪ ،‬حيث هدد الثوريون بالعودة إلى الكالشنكوف‪،‬‬ ‫وهي الوسيلة الوحيدة التي يجيدون الحوار بها‪ ،‬خففوا من لهجتهم‪،‬‬ ‫وخاصة في محاضرة «مفتي الثوريين» رجب أبودبوس‪ ،‬الذي أقر بحق‬ ‫الناس في أن يكون لهم دستور‪ ،‬وأن الدستور ليس مناقضا لسلطة‬ ‫الشعب في «المذاهب األربعة»‪ ،‬وأيضا محاضرة المهدي امبيرش‪،‬‬ ‫خطيب مثابة المدينة‪ ،‬والذي اصطحب معه المحامي محمد سالم‬ ‫دراه‪ ،‬الذي قال أنه ما كان يستطيع حضور هذه المحاضرة لوال أن‬ ‫امبيرش وعده بأنه سيكون في حماه‪ .‬تحاول المنابر التأكيد من يوم‬ ‫مولدها بأنها جزء من سلطة الشعب‪ ،‬بينما يعلم الجميع بأن المنبر‬ ‫عندما يشب على الطوق سوف يصبح اسمه الحزب‪ ،‬وهو ما ال يستطيع‬ ‫المفتي وخطيب المثابة القول بأنه ليس مناقضا لسلطة الشعب‪ ،‬ويبدو‬ ‫أن المنابر ستتحول إلى مساحة حوار بين الجالدين والضحايا‪ ،‬وفي‬ ‫المدة القريبة القادمة‪ ،‬وقد يتطور األمر ليتحول إلى حوار على شاشة‬ ‫التلفزيون‪ ،‬حيث سنرى السجناء السابقين وهو يسألون أحد هؤالء‬ ‫الثوريين عن سبب سجنهم‪ ،‬ومثلما تحاور الجالد والضحية في‬ ‫‪101‬‬


‫جنوب إفريقيا‪ ،‬والمغرب بعد تأسيس لجنة اإلنصاف والمصالحة‪،‬‬ ‫ستحدث مصالحة في ليبيا ينجو منها المجرم من العقاب‪ ،‬بمساعدة‬ ‫حاسمة من ضحيته‪ ،‬وقد تدفع تعويضات مادية للضحية مثلما دفعت‬ ‫في المغرب‪ ،‬حتى ال تستطيع الضحية فتح هذا الملف في المستقبل‪.‬‬ ‫ا�ستدراج الإ�سالميين �إلى المنابر‬

‫من المهم أن يتواجد في هذه الفترة التياران «الثوري» واإلصالحي‪،‬‬ ‫ليس فقط من اجل إتمام المصالحة‪ ،‬وإنما حتى ال يشتط أحدهما‪،‬‬ ‫فيتم تهديده باآلخر‪ ،‬فمثال إذا رفض االصالحيون مسودة الدستور‬ ‫وقانون الصحافة‪ ،‬فسيتربص بهم الثوريون ليرضوا في آخر األمر‬ ‫بالسقف المتاح‪ ،‬وليس السقف المطلوب‪ ،‬وإذا اشتط الثوريون في‬ ‫عرقلة «اإلصالحات» فستخرج ملفات فسادهم من األدراج المقفلة‪،‬‬ ‫وستضاف إليها ملفات جديدة وخاصة خالل جلسات المصالحة‪،‬‬ ‫وهو ما يعني أن النجاح الذي حققه النظام في سيناريو التوريث‪،‬‬ ‫جعله يطور التفاصيل الصغيرة ليستفيد بأكبر قدر من سيناريو كان‬ ‫يشك في نجاحه في بداية األمر‪ ،‬وإذا كان سيف اإلسالم هو أكبر‬ ‫ضمانة لمكونات النظام القديمة‪ ،‬من العائلة‪ ،‬القبيلة‪ ،‬إلى اللجان‬ ‫الثورية‪ ،‬فإن سيف نفسه أصبح الضمانة الوحيدة لإلصالحيين الذين‬ ‫استظلوا جميعا بظله‪ ،‬ليتحول التوريث من رغبة فوقية‪ ،‬إلى مطلب‬ ‫شعبي تتقدمه النخبة اإلصالحية‪ ،‬والحرس القديم الذي سيكفر عن‬ ‫أخطاءه باالعتذار‪ ،‬بينما يخرج مبتكر وصانع سلطة الشعب من كل‬ ‫‪102‬‬


‫هذه المعمعة‪ ،‬وفقا للبند الرابع في الدستور الذي سيقبله الجميع‬ ‫مثلما قبلوا جميعا بسيف اإلسالم‪ .‬فإذا ضمن الثوريون سالمتهم‬ ‫وكل ما سرقوه‪ ،‬فسيراهن االصالحيون على أنهم وضعوا البالد على‬ ‫سكة جديدة قد تقودها إلى مصير مختلف‪ ،‬وهو ما يستطيعون القيام‬ ‫به اآلن وسط كل تلك األلغام المزروعة منذ أربعين عاما‪ .‬وخاصة‬ ‫وأن التوقيت الذي تم اختياره لبرنامج المصالحة ال يلبي استعجاال‬ ‫داخليا‪ ،‬لبلد انتظر أكثر من ‪ 31‬سنة وهو يدرك أن سلطة الشعب تقوده‬ ‫إلى كارثة‪ ،‬وإنما االعتبارات الخارجية هي التي ال تنتظر‪ ،‬فال نعرف‬ ‫من سيصبح رئيس أمريكا بعد بوش‪ ،‬الذي طوى قبل خروجه ملفات‬ ‫التعويضات‪ ،‬ولم يبق إال إقناع الديمقراطيين إذا فاز أوباما بأن الليبيين‬ ‫متفقون جذريين وإصالحيين‪ ،‬وأنه ال يمكن إال الجمع بينهما وإال فإن‬ ‫البالد ستنقسم مثلما حدث في العراق‪ ،‬فلسطين‪ ،‬ولبنان‪ ،‬وخاصة إذا‬ ‫تم استدراج اإلسالميين إلى المنابر فخطابهم كفيل بجعل حتى أوباما‬ ‫يتردد في رفع سقف صمم منذ البداية ليعيش تحته شعب من القصر‪.‬‬

‫‪103‬‬



‫تفكيك المنظومات الأمنية والع�سكرية للقذافي‬ ‫حتى نتمكن من تفكيك المنظومات األمنية والعسكرية للقذافي‪،‬‬

‫علينا أوال أن نفهم تركيبتها‪ ،‬وأن نفهم أيضا السياقات االجتماعية‬

‫والثقافية التي استندت عليها‪ ،‬بما في ذلك االختالفات الواضحة‬ ‫في منظومة القيم بين الليبيين‪ ،‬واختالف المستوى الحضاري بين‬

‫السكان‪ ،‬نتيجة لتفاوت عالقات اإلنتاج تاريخيا‪ ،‬ويمكن أن نبدأ من‬ ‫كتيبة سحبان والمنطقة التي كلفت بالسيطرة عليها‪.‬‬

‫تأسست كتيبة سحبان في مطلع الثمانينات‪ ،‬وسميت بهذا االسم‬

‫على اسم قائدها المبروك سحبان المقرحي‪ ،‬شقيق عبد السالم‬

‫سحبان أحد قادة الجيش الليبي في تشاد‪ ،‬والذي وقع في األسر‬ ‫ورفض االنضمام إلى المعارضة‪ ،‬فقتل في نفس اليوم الذي هرب‬

‫فيه حسين حبري من انجامينا‪ ،‬بعد دخول الرئيس الحالي لتشاد‬

‫إدريس ديبي على رأس قواته إلى المدينة‪ ،‬وال يعرف من قام بتصفية‬

‫عبد السالم سحبان‪.‬‬

‫‪105‬‬


‫تدمير الجي�ش‬

‫وجاء تأسيس هذه الكتيبة بالتزامن مع خطة القذافي التخلص‬ ‫المنهجي من الجيش الليبي‪ ،‬الذي كان مصدرا لكل المحاوالت‬ ‫االنقالبية‪ ،‬وذلك بزجه في أتون حرب تشاد‪ ،‬ونظرا لألهمية‬ ‫اإلستراتيجية لمدينة غريان‪ ،‬التي من خاللها يمكن الوصول إلى‬ ‫الجنوب أسرع من أي طريق آخر‪ ،‬فقد اختيرت مقرا للكتيبة عند‬ ‫المدخل الجنوبي للمدينة‪ ،‬على الطريق المؤدية لمصنع الخزف‪.‬‬

‫في البداية كانت الكتيبة صغيرة ثم أخذت تنمو باطراد مع الوقت‪،‬‬ ‫وبالمقارنة مع الرقعة الواسعة التي تتحرك فيها الكتيبة هذه األيام‪،‬‬ ‫يمكن تقدير حجمها‪ ،‬حيث تتحرك من غريان إلى جميع أنحاء الجبل‬ ‫الغربي‪ ،‬بما في ذلك مدينة مزدة‪ ،‬وتتحرك شماال حتى مدينة الزاوية‪،‬‬ ‫كما أن للكتيبة استثمارات كبيرة في المنطقة‪ ،‬حيث توجد محالت‬ ‫تجارية بجوار الكتيبة تعرف بدكاكين سحبان‪ ،‬باإلضافة إلى سيطرته‬ ‫الكاملة على مشروع جندوبة الزراعي‪ ،‬ومشروع أعالي الجبل الغربي‪.‬‬

‫وإلى جانب هذه الكتيبة كانت تتمركز بغريان كتيبة أخرى تعرف‬ ‫باسم الكتيبة الثامنة‪ ،‬ولكنها ال تتبع سحبان وإنما تتبع الجيش الليبي‪،‬‬ ‫ويعمل بها عدد من الضباط الشباب القادمين من طرابلس‪ ،‬مصراته‪،‬‬ ‫الزاوية‪ ،‬وصبراته‪ ،‬والذين ارتبطوا بصداقات واسعة مع شباب المدينة‪،‬‬ ‫حيث كانوا يلعبون كرة القدم مع الشباب‪ ،‬ولهم فريق يشارك في‬ ‫المنافسات المحلية‪ ،‬على خالف ضباط كتيبة سحبان الذين لم يتقبلهم‬ ‫مزاج المدينة‪ ،‬كما توجد بالمدينة حامية غريان‪ ،‬في المعسكر القديم‪،‬‬ ‫‪106‬‬


‫ولكنها كانت حامية ضعيفة‪ ،‬تتولى تدريب المنتسبين لدورات تجييش‬ ‫المدن‪ ،‬والمقاومة الشعبية‪ ،‬كما يتبعها المعلمون العسكريون في‬ ‫المدارس‪ ،‬وهي الحامية التي انضم منتسبوها إلى األهالي عندما‬ ‫أعلنوا الثورة يوم ‪ 19‬فبراير‪ ،‬ورفعوا العلم الدستوري على مقر البلدية‪.‬‬ ‫عالقات القرابة‬

‫يتكون معظم ضباط وجنود كتيبة سحبان من قبائل المقارحة‪،‬‬ ‫األصابعة‪ ،‬المشاشية‪ ،‬عكارة‪ ،‬الساللمة‪ ،‬الجعافرة‪ ،‬والحرارات‪،‬‬ ‫وهي القبائل التي كانت تصنف ضمن بدو غريان‪ ،‬واستغل القذافي‬ ‫الحساسيات الثقافية التي كانت قائمة في إضعاف غريان‪ ،‬وذلك بتقوية‬ ‫البدو الرحل الذين كانوا يمتهنون حرفة الرعي‪ ،‬ولكن مع الوقت‬ ‫تحولوا إلى أغلبية داخل المدينة‪ ،‬حتى أنهم في منتصف التسعينات‬ ‫انتزعوا من سكان المدينة األصليين كل األمانات‪ ،‬باإلضافة إلى أمانة‬ ‫المؤتمر‪ .‬يذكر أن والدة القذافي عائشة بو النيران من قبيلة الساللمة‪،‬‬ ‫التي ينتمي لها األخوان الراحالن جمعة ومنصور بو النيران‪ ،‬األول‬ ‫كان مديرا لشركة نفطية تعمل لعائلة القذافي‪ ،‬والثاني شغل منصب‬ ‫آمر االستخبارات العسكرية حتى وفاته‪ ،‬وهذا ما يفسر الحظوة التي‬ ‫كانا يتمتعان بها‪ ،‬كما أن القذافي أطلق على غريان لقب «البلد األم»‪،‬‬ ‫ألن جده «قذاف الدم»‪ ،‬مارس حرفة الرعي لصالح قبيلة الكميشات‬ ‫بالقواسم‪ ،‬فزوجوه إحدى األرامل والتي أنجب منها بطون القذاذفة‪،‬‬ ‫وعندما توفي دفن في جبل غان‪.‬‬ ‫‪107‬‬


‫حدود غريان‬

‫تنقسم غريان التي تمتد من محلة أبو غيالن شماال‪ ،‬إلى محلة‬ ‫الكليبة جنوبا‪ ،‬إلى أربعة أقسام إدارية‪ ،‬وهي القواسم ومركزها‬ ‫المديرية‪ ،‬والتي تمتد من جبل أبو غيالن‪ ،‬إلى جبل طبي‪ ،‬وبني داوود‬ ‫ومركزها مدينة غريان‪ ،‬التي كانت تعرف باسم تغسات‪ ،‬باإلضافة إلى‬ ‫السقايف‪ ،‬أوالد بن يعقوب‪ ،‬الدياسير‪ ،‬أوالد حزام‪ ،‬بن يحي البراشيش‬ ‫والبرج‪ ،‬أما المنطقة الثالثة فتعرف باسم بني نصير‪ ،‬ومركزها قرية‬ ‫تغرنة‪ ،‬وتشمل وأدي األرباع‪ ،‬القحاصات‪ ،‬الزوية‪ ،‬بوعياد‪ ،‬بن يحي‪،‬‬ ‫دنون‪ ،‬اليعاقيب كمون‪ ،‬والكشالفة‪ ،‬والربع الرابع يعرف باسم بني‬ ‫خليفة‪ ،‬ومركزه قرية أبو زيان‪ ،‬ويشمل باإلضافة إلى بوزيان‪ ،‬أوسادن‪،‬‬ ‫الجحيشة‪ ،‬قباع‪ ،‬شعتان‪ ،‬كعام‪ ،‬المغاربة‪ ،‬بني وزير‪ ،‬تبادوت‪ ،‬الكليبة‪،‬‬ ‫وشمسة‪ ،‬ويبدو أن أسماء هذه المناطق األربع جاء من أسماء المدراء‬ ‫الذين تم تعيينهم إلدارة هذه المناطق زمن العهد العثماني األول‪ ،‬أو‬ ‫في عهد الدولة القرهمانلية‪.‬‬ ‫أما كل ما يقع خارج هذه األرباع األربعة ال يعتبر من غريان‪ ،‬بما في‬ ‫ذلك األصابعة التي ال تفصلها عن آخر بلدة في غريان إال أربعة كيلو‬ ‫مترات‪ ،‬ويبدو أن السبب في ذلك يعود إلى االختالف في عالقات‬ ‫اإلنتاج بين غريان واألصابعة‪ ،‬فأهل غريان حضر يقيمون في قرى‬ ‫حجرية‪ ،‬قبل أن ينزلوا تحت األرض ويعيشوا في بيوت محفورة‪،‬‬ ‫وذلك بسبب استهالك البيوت الحجرية للكثير من الخشب‪ ،‬لتحويل‬ ‫التربة الجيرية إلى جبس يقوم مقام االسمنت في وقتنا الحالي‪ ،‬وأيضا‬ ‫‪108‬‬


‫بسبب سهولة وسرعة انتشار مرض الطاعون في القرى الحجرية‪،‬‬ ‫كما يعتمدون على الزراعة البعلية‪ ،‬لذلك تمتد أراضي غريان جنوب‬ ‫الجبل‪ ،‬في منطقة قطيس‪ ،‬ووادي الميت‪ ،‬ويجاورون قبائل ورشفانة‬ ‫والزاوية‪ ،‬أما من ناحية الجنوب فتمتد أراضيهم لتصل إلى القضامة‬ ‫واألجباب‪ ،‬ليتجاوروا مع أوالد أبوسيف‪ ،‬والجعافرة‪ ،‬والبدو الرحل‬ ‫في طبقة وفوار غني‪.‬‬ ‫�أخوة الجد‬

‫خالل الثمانينات نشط القذافي بين القبائل فأرسل خليفة حنيش‪،‬‬ ‫الذي أقام بعض الوقت في منطقة القضامة‪ ،‬وتفرغ في الظاهر لتنمية‬ ‫مشروع زراعي‪ ،‬حيث أشترى تقريبا جميع حمير المنطقة‪ ،‬ولكنه‬ ‫في الواقع كان يخطط لتفكيك األقاليم الغربية‪ ،‬مثل غريان‪ ،‬ورفلة‪،‬‬ ‫مصراته‪ ،‬ترهونه‪ ،‬ورشفانة‪ ،‬الجبل الغربي‪ ،‬ومنطقة القبلة‪ ،‬ومعظم هذه‬ ‫األقاليم تتكون من قبائل صغيرة وحدتها جغرافية اإلقليم والمصلحة‬ ‫المشتركة‪ ،‬ونجح حليفة احنيش من خالل خرافة «خوة الجد» في‬ ‫إبرام عدد من االتفاقيات في فوار غني‪ ،‬وهي االتفاقيات التي خلدتها‬ ‫قصيدة الحارس الذي كان يحرس الفوار‪ ،‬من خالل قصيدة «خوتك‬ ‫داروا خوت جدد تالقوا ما حد عرف حد»‪ ،‬والتي رد عليها حسين‬ ‫شكال بقصيدة يلوم فيها احنيش عندما أبرم اتفاقا من النوايل‪ ،‬على‬ ‫حساب ورفلة‪.‬‬ ‫في غريان وجد خليفة احنيش من يتجاوب مع خرافته‪ ،‬حيث‬ ‫‪109‬‬


‫نسق عبد المجيد القعود الذي ينتمي لقبيلة القحاصات‪ ،‬مع محمد‬ ‫بالقاسم الزوي إلقناع القذافي أن القحاصات أخوة القحوص‪ ،‬ولم‬ ‫يكن القذافي في حاجة لالقتناع فهم ينفذون مؤامرته بطرق أفضل‪،‬‬ ‫بينما أدعت قبيلة بو عياد أنهم مقارحة‪ ،‬وبالمثل فعلت بعض العائالت‬ ‫في قبيلة أوالد حزام‪ ،‬أما قبيلة الزوية فقد تذكرت أنها تنتمي إلى قبيلة‬ ‫الزوية في اجدابيا‪ ،‬ووادي الشاطئ وواحة الكفرة‪ ،‬ومنذ ذلك الوقت‬ ‫أصبح ممثلوها يعقدون اجتماعات سنوية كل مرة في أحد األمكنة‬ ‫المذكورة‪ ،‬وهكذا حظوا بنفوذ واسع وانفتحت أمامهم كل األبواب‪،‬‬ ‫من خالل اتصالهم بشخصيات نافذة في النظام من نفس القبيلة‪ ،‬مثل‬ ‫عبد الرحمن الصيد‪ ،‬وأحمد محمود الزوي‪ ،‬ومحمد بالقاسم الزوي‪.‬‬ ‫الفالح والراعي‬

‫ونظرا لقرب غريان من طرابلس فقد تعود أهاليها السفر والعمل‬ ‫في طرابلس‪ ،‬لذلك ال تزال حتى اآلن توجد في المدينة القديمة‬ ‫بطرابلس حومة تسمى حومة غريان‪ ،‬كما امتلكوا أشجار نخيل في‬ ‫الزاوية وجنزور‪ ،‬وكانوا يرحلون في الخريف لجني الثمار‪ ،‬بينما‬ ‫يرحلون في الربيع جنوبا ليتفقدوا أغنامهم التي أودعوها للرعاة الرحل‬ ‫الذين كانوا ومازالوا يقيمون في البادية الفاصلة بين غريان ومزدة‪.‬‬

‫وحتى يتمكن أهالي غريان من الجمع بين الزراعة وتربية‬ ‫الحيوانات‪ ،‬لجئوا إلى نظام مشاركة مع البدو الرحل‪ ،‬حيث يودع‬ ‫الغرياني حيواناته فترة من السنة مع أحد الرعاة‪ ،‬الذين يقيمون‬ ‫‪110‬‬


‫جنوب غريان‪ ،‬أو تحت الجبل في المنطقة الممتدة بين الرقيعات‬ ‫وبئر الغنم‪ ،‬ويسميه «صاحبي»‪ ،‬يتقاسم معه اإلنتاج‪ ،‬ويبني معه عالقة‬ ‫ثقة صارمة‪ ،‬حتى أن زوجة الراعي ال تتحرج من الخروج للتسليم على‬ ‫الصاحب‪ ،‬وكذلك تفعل زوجة الغرياني التي ال تخفي وجهها في‬ ‫حضور الصاحب‪ ،‬واستمر هذا النظام حتى مطلع السبعينات‪ ،‬واآلن‬ ‫يعتمد أهالي غريان على رعاة من تشاد ودارفور للقيام بهذه المهمة‪،‬‬ ‫إال أن تلك العالقة الصحية بين الحضري والبدوي اختفت بالكامل‪.‬‬

‫فقد لجأ القذافي إلى تعبئة الرعاة سابقا الذين تحسن وضعهم‬ ‫فجأة‪ ،‬عن طريق المناصب العسكرية واألمنية التي اكتسبوها‪ ،‬وكان‬ ‫يقول لهم إن أهل غريان كانوا يستغلونهم‪ ،‬وهكذا بدأت الفجوة‬ ‫تتسع بالرغم من أن الفوارق التي كانت قائمة اختفت بسبب السرعة‬ ‫في التحديث‪.‬‬

‫خرافة النقاء العرقي‬

‫تتنوع األصول العرقية لسكان غريان‪ ،‬فهم ليسوا قبيلة واحدة‪،‬‬ ‫وإنما مجموعات عرقية شتى وحد بينهم اإلقليم الجغرافي والمصالح‬ ‫المشتركة‪ ،‬ومن خالل التسميات التي ال تزال سائدة‪ ،‬مثل تغسات‪،‬‬ ‫تغرنة‪ ،‬البراشيش‪ ،‬تبادوت نالحظ أن األصل في غريان هو أمازيغي‬ ‫بال جدال‪ ،‬ولكن األمازيغ استعربوا بالكامل‪ ،‬نتيجة لوفود مهاجرين‬ ‫عرب‪ ،‬تمسك بهم األهالي نظرا لندرة السكان‪ ،‬وخاصة بعد موجات‬ ‫الطاعون‪ ،‬التي أهلكت معظم سكان القرى الحجرية‪ ،‬ومن األمازيغ‬ ‫‪111‬‬


‫أخذ العرب كل تسميات الوديان‪ ،‬والهضاب واألراضي‪ ،‬وهو ما يعني‬ ‫أن التعايش كان سلميا وبالتراضي‪ ،‬كما تعود أصول الكثير من سكان‬ ‫غريان إلى الكوراغلية‪ ،‬واألتراك‪ ،‬باإلضافة إلى األوروبيين القادمين‬ ‫من البلقان‪ ،‬ونالحظ ذلك بسهولة وخاصة في تغرنة‪ ،‬بسبب وجود‬ ‫سحنات شقراء بعيون خضراء وزرقاء‪ ،‬أما العرق األفريقي فهو أقل‬ ‫انتشارا قياسا ببقية األعراق‪ .‬في عام ‪ 1911‬عندما غزت إيطاليا ليبيا‪،‬‬ ‫كان يحكم غريان عائلة تركية‪ ،‬هي عائلة كعبار المقيمة في تغرنة‪،‬‬ ‫وقد دفع الهادي بي كعبار قائم مقام غريان حياته ثمنا لسالمة غريان‬ ‫بعد خسارة المجاهدين لمعركة جندوبة‪ ،‬فشنق في المدينة في نفس‬ ‫اليوم‪ ،‬ومع ذلك قاوم شقيقه مختار‪ ،‬ومعه عسكري تركي يسمى‬ ‫الحاج عبد الله التامسكت‪ ،‬على رأس مفرزة من المجاهدين كمنوا‬ ‫للطليان في خرمة أصبيح بين بوزيان‪ ،‬والكشالفة‪.‬‬ ‫�ألغام القذافي‬

‫كيف نفكك كتيبة سحبان؟ تكمن اإلجابة على هذا السوأل في‬ ‫كيفية تفكيك األلغام التي زرعها القذافي في الجبل الغربي‪ ،‬ومناطق‬ ‫أخرى في ليبيا‪ ،‬ومحاولة إعادة اللحمة بين المكونات االجتماعية لهذه‬ ‫المناطق‪ ،‬خاصة وأن مظاهر االختالف في عالقات اإلنتاج اختفت‬ ‫بالكامل‪ ،‬أما إذا بقي الوضع على ما هو عليه‪ ،‬فإن المصلحة القبلية‬ ‫سترجح على المصلحة الوطنية‪ ،‬ونعود إلى نفس المربع األول‪،‬‬ ‫عندما كان يستعين باشا طرابلس بقبائل الصيعان والنوايل النتزاع‬ ‫‪112‬‬


‫الضرائب من بقية المناطق‪ ،‬نظير إعفائها من دفع الضريبة‪ ،‬وهو‬ ‫ما فعله القذافي الحقا‪ ،‬ولكن من خالل أدوار عسكرية وأمنية لهذه‬ ‫القبائل‪ ،‬ومن أهم الخطوات التي ينبغي اتخاذها بأقصى سرعة‪ ،‬هي‬ ‫طمأنة هؤالء في مرحلة ما بعد القذافي‪ ،‬وبناء تنمية شاملة ال يحرم‬ ‫منها أحد‪ ،‬وعدم استبعاد أحد من العملية السياسية بما في ذلك قبيلة‬ ‫القذاذفة وحلفاءها‪ ،‬وإال فإننا سنعيد إنتاج قذافي آخر في ظرف وجيز‪،‬‬ ‫وسيصعب التخلص منه مرة أخرى‪ ،‬ولعل فترة حكم القذافي وهي‬ ‫األطول في تاريخ ليبيا‪ ،‬ووحشيته المتناهية‪ ،‬وغرابة أطوارها يعكس‬ ‫هذا الشرخ الحقيقي في الوجدان الليبي‪.‬‬

‫من المهم جدا في ليبيا ما بعد القذافي أن نفتح صفحة جديدة مع‬ ‫الجميع‪ ،‬وأن نبني مؤسسات ال تعتمد على عالقات القرابة‪ ،‬وأن نبدأ‬ ‫في تهميش القبلية كوسيط بين المواطن والدولة‪ ،‬وهو ما كان يعتمده‬ ‫القذافي‪ ،‬ولتبقى القبيلة عائلة كبيرة توفر لألفراد الغطاء االجتماعي‪،‬‬ ‫قبل أن تختفي كما اختفت في بقية أنحاء العالم المتحضر‪ ،‬عندما‬ ‫تمكنت التكوينات الحديثة‪ ،‬مثل الشارع والحي‪ ،‬النقابة والرابطة‬ ‫واالتحاد والجمعية‪ ،‬وهي مؤسسات المجتمع المدني التي تعامل‬ ‫الفرد كذات مفردة حرة‪ ،‬وليس وفقا لجيناته الوراثية‪ ،‬ففي المرة األولى‬ ‫يبقى مواطنا حرا‪ ،‬وفي الثانية يتحول إلى مجرد فرد وسط القطيع‪.‬‬

‫‪113‬‬



‫العـودة الإجبارية �إلى الما�ضي‪...‬‬ ‫هـولندا والتعـددية الثقافية (*)‬

‫لم تكن مسألة التعددية الثقافية مطروحة للنقاش في المجتمع‬

‫الهولندي مثلما هي عليه اآلن‪ ،‬فقد تصالح الهولنديون بعد معارك‬

‫طاحنة على اختيار العلمانية إطارا يجمعهم‪ ،‬كما اختاروا أن يكون‬

‫البرلمان هو ميدان الصراع‪ ،‬وهو الذي أوصد أبوابه في وجه كل‬

‫ما له عالقة باليوم اآلخر‪ .‬أسست كل مجموعة مؤسساتها التي‬

‫عاشت متجاورة‪ ،‬يفصلها خيط دقيق من التسامح المبني على‬ ‫التواطؤ بعدم رؤية اآلخر‪ ،‬وإلى اليوم ال تزال هوية المجموعات‬ ‫الرئيسية في المجتمع واضحة بداية من المدارس إلى الصحف‪،‬‬

‫هكذا تأسس المجتمع الهولندي على أربعة أعمدة رئيسية‪ ،‬وهي‬

‫البروتستانت‪ ،‬الكاثوليك‪ ،‬اليهود‪ ،‬واالجتماعيين‪ ،‬والمجموعة‬

‫األخيرة هي أكبر المجموعات وأكثرها أهمية‪ ،‬وتتكون من كل‬ ‫من وضع الدين وراء ظهره‪.‬‬

‫‪115‬‬


‫اغتراب مزدوج‬

‫عندما وصل المهاجرون الجدد بعد نهاية الحرب العالمية‬ ‫الثانية‪ ،‬للمساهمة في إعادة اعمار البالد‪ ،‬لم يجد الهولنديون‬ ‫مكانا لهؤالء الوافدين‪ ،‬فلجئوا إلى حيلتهم القديمة ربما ألنهم‬ ‫لم يستطيعوا تطبيق نظام «اآلبرتايد» عليهم‪ ،‬والذي طبقوه بحزم‬ ‫على سكان البالد األصليين في جنوب إفريقيا‪ ،‬عندما كان‬ ‫الهولنديون هم المهاجرون وليس األفارقة‪ ،‬وكانت الحيلة الجديدة‬ ‫القديمة هي في تجاهل حضورهم‪ .‬افعلوا ما يحلوا لكم واتركونا‬ ‫نفعل ما يحلوا لنا‪ .‬كانت الحيلة ناجحة لبعض الوقت‪ ،‬خاصة وأن‬ ‫المهاجرين كان ينظر لهم كضيوف طارئين‪ ،‬سرعان ما يغادرون‬ ‫البلد بعد االنتهاء من إعادة اعماره‪ ،‬وأيضا بسبب جهل القادمين‬ ‫بحقوقهم‪ ،‬فقد اقتضت حكمة الملك الحسن الثاني عندما طرق‬ ‫الهولنديون بابه سألين جاللته عن يد عاملة رخيصة‪ ،‬أن أرسل‬ ‫لهم فقراء الريف المغربي‪ ،‬الذين كانوا بالنسبة له مشكلة عويصة‬ ‫ليس لها حل إال باختفاء بعضهم من المملكة‪ ،‬وهكذا وصل إلى‬ ‫أمستردام وروتردام وأوترخت رجال لم يشاهدوا في حياتهم‬ ‫الرباط والدار البيضاء‪ .‬كانوا أميين وأغلبهم ال يجيد أي لغة أخرى‬ ‫باستثناء األمازيغية كما تنطق في منطقة الريف شمال المغرب‪،‬‬ ‫وليست بقية اللهجات األمازيغية مثل الشلحية والسوسية‪ ،‬وكان‬ ‫عدد قليل منهم يتحدث العربية‪ .‬بينما كان المجتمع الهولندي‬ ‫يبحر نحو ليبرالية متقدمة‪ ،‬وقد واتته رياح هبت على أوروبا الغربية‬ ‫‪116‬‬


‫بعد خروجها من رماد الحرب العالمية الثانية‪ ،‬حيث تفجرت‬ ‫ثورة الجنس والطالب‪ ،‬واستقام «الضلع األعوج» لينتزع حقوقه‬ ‫المؤجلة منذ الخروج المخزي من الجنة لوالدي البشرية‪ .‬عندها‬ ‫قرر العمال الضيوف البقاء في البالد‪.‬‬ ‫الحياة في الهام�ش‬

‫على عكس الجالية المغربية جاء األتراك من المدن التركية‬ ‫الكبرى‪ .‬بمستوى تعليمي أفضل‪ ،‬وبتقاليد اجتماعية أرسخ في‬ ‫التضامن‪ ،‬وهكذا بنوا بسرعة مظلة اجتماعية لجاليتهم‪ ،‬وحتى‬ ‫اآلن ال تجد غير األتراك يعملون في المحالت التركية‪ ،‬وال يزال‬ ‫األتراك يستعملون لغتهم في عملهم وبيوتهم‪ ،‬بينما انشطر المغاربة‬ ‫بين ثقافتين‪ ،‬وبين هويتين ال يعترف لهم اآلخرون بأي منهما‪.‬‬ ‫فهم هولنديون عندما يعودون في عطلة الصيف إلى المغرب‪،‬‬ ‫وهم مغاربة مهما عاشوا في هولندا‪ .‬بقاء العمال الذين رحب‬ ‫بهم أرباب العمل‪ ،‬ألنهم يرحبون بأرخص يد عاملة على ظهر‬ ‫الكوكب‪ ،‬استدعى حضور الزوجات واألطفال‪ ،‬وهنا بدأ‬ ‫الهولنديون يالحظون الفوارق الثقافية بينهم وبين هؤالء الذين‬ ‫يعيشون معهم‪ .‬رؤية رجل مكفهر الوجه تسير زوجته على بعد‬ ‫خطوتين خلفه لفت انتباه الهولنديين بقوة‪ ،‬وحوله إلى مصدر‬ ‫للسخرية‪ ،‬ولكن لم يستدع دق ناقوس الخطر‪ ،‬إال بعد ذلك الوقت‬ ‫بزمن طويل‪ ،‬عندما أصبح الجيل الثالث يدب في شوارع المدن‬ ‫‪117‬‬


‫الهولندية الكبرى‪ ،‬وهو ال يجيد غير اللغة الهولندية‪ ،‬ولكن ال أحد‬ ‫في المجتمع يعترف له بهويته الهولندية‪ ،‬ولم يسمح له ببناء عموده‪،‬‬ ‫الذي سيكون العمود الخامس بين أعمدة المجموعات األربع‬ ‫الرئيسية في المجتمع‪ .‬هذا التجاهل أجبر الجاليات على تأسيس‬ ‫مؤسساتها وفقا لمصالحها ووعيها‪ .‬األتراك بنوا مساجد كبيرة‬ ‫بقباب ومآذن‪ ،‬تلقى فيها خطب الجمعة باللغة التركية‪ ،‬وتخضع‬ ‫لرقابة رؤساء الجالية‪ ،‬الذين هذبتهم السطوة العلمانية اآلتاتوركية‪،‬‬ ‫بينما اختار المغاربة األفقر‪ ،‬واألقل تنظيما أي مكان تسمح به‬ ‫البلدية ليصبح مسجدا‪ ،‬ومع وصول مهاجرين جدد من أفغانستان‪،‬‬ ‫العراق‪ ،‬الصومال‪ ،‬ودول إسالمية أخرى‪ ،‬تحولت تلك المساجد‬ ‫الصغيرة‪ ،‬التي كان يكتفي فيها المهاجرون بالتعبد بعيدا عن إباحية‬ ‫مجتمعهم الجديد‪ ،‬الذي حرصوا أن ال يتسرب ألبنائهم من خالل‬ ‫المدارس أي «دنس» يهدد «طهريتهم»‪ ،‬ويبعدهم عن جنة عرضها‬ ‫السماء واألرض‪ ،‬وهكذا وبسبب هذه الهوية المتشظية‪ ،‬واالغتراب‬ ‫المزدوج‪ ،‬وصعود الخطاب السلفي في أرض األجداد‪ ،‬بدأ الشباب‬ ‫في رحلة البحث عن جذورهم بعيدا عن مجتمعات القرن الواحد‬ ‫والعشرين‪ ،‬وداخل غيتوهاته في نفس الوقت‪.‬‬ ‫جر�س الإنذار‬

‫أول من دق جرس اإلنذار بقوة هو الكاتب واألستاذ الجامعي بول‬ ‫سخيفر في مقال نشر عام ‪ 2000‬تحت عنوان «دراما التعدد الثقافي»‪،‬‬ ‫‪118‬‬


‫ومنذ ذلك الوقت ارتفع غبار من النقاش لم يهدأ حتى اآلن‪ ،‬وانتقل‬ ‫من األحاديث اليومية‪ ،‬والمقاالت الصحفية‪ ،‬ليفرض نفسه بقوة‬ ‫في البرلمان‪ ،‬الذي كان قد أقفل أبوابه منذ زمن بعيد في وجه‬ ‫كل الخطابات الدينية‪ ،‬ولم يبق من تلك الحقبة البعيدة إال اسم‬ ‫الحزب األكبر» الحزب الديمقراطي المسيحي»‪ ،‬وحزب االتحاد‬ ‫المسيحي‪ ،‬وأيضا حزب صغير لم ينجح إال في احتالل ثالثة‬ ‫مقاعد من مقاعد البرلمان البالغة مائة وخمسين مقعدا‪ ،‬وهو‬ ‫الحزب البروتستانتي المتشدد‪ ،‬الذي يسعى دون هوادة أو كلل ‪،‬‬ ‫لتطبيق اإلنجيل‪ ،‬والذي يؤمن أن على النساء العودة إلى البيت‪،‬‬ ‫ولكن في نفس البرلمان يحتل حزب تخصص فقط في حقوق‬ ‫الحيوانات ثالثة مقاعد أيضا‪ ،‬وهو ال يؤمن بأي دين من األديان‬ ‫السماوية أو األرضية‪ ،‬وهو أول حزب من نوعه في العالم يدخل‬ ‫أي برلمان‪ ،‬كما حاول دخول البرلمان حزب يحاول أن يخفض‬ ‫سن الممارسة القانونية للجنس من سن ‪ 16‬سنة إلى سن ‪12‬‬ ‫سنة‪ ،‬والذي أقرت المحكمة العليا حقه في تأسيس حزب‪ ،‬ولكنه‬ ‫لم يتمكن من دخول البرلمان‪.‬‬ ‫التحذير القوي الذي بادر به بول سخيفر أصبح يصم اآلذان‬ ‫وخاصة بعد أن تحققت توقعاته بمقتل السياسي الشعبوي اليميني بيم‬ ‫فورتاون‪ ،‬ثم بمقتل المخرج السينمائي ثيو فان خوخ‪ ،‬انتهاء بمقتل‬ ‫شاب مغربي خالل شهر نوفمبر الماضي‪ ،‬في مركز للشرطة بحي‬ ‫سلوترفارت في أمستردام‪ ،‬بعد أن اقتحم المركز مسلحا بسكين‪،‬‬ ‫‪119‬‬


‫طعن به شرطية طعنتين‪ ،‬كما طعن شرطيا في عنقه وظهره‪ ،‬وتمكنت‬ ‫الشرطية الجريحة من أن تطلق عليه النار‪ ،‬وترديه قتيال‪.‬‬

‫في عام ‪ 2000‬قال بول سخيفر إن‪« :‬التقليد القديم بتجنب الصراع‬ ‫ليس حال لمشكلة الهجرة‪ ».‬وكانت خالصة مقاله تقول‪«:‬فشلت‬ ‫عملية اندماج المهاجرين‪ ،‬ألن الهولنديين يغضون النظر عن المشاكل‬ ‫وال يجرؤون على تسميتها‪».‬‬

‫اليمين والي�سار والإ�سالم‬

‫هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي جاءت بعد عام من مقال‬ ‫سخيفر أجبرت الهولنديين على النظر إلى المشكلة وتسميتها‪ ،‬وهنا‬ ‫اختلفوا بشكل كبير‪ .‬اليمين بقيادة بيم فورتاون قال أن اإلسالم هو‬ ‫المشكلة‪ ،‬ألنه دين «مغلق» ال يمكنه تقبل الديمقراطية‪ ،‬والتعددية‬ ‫الثقافية وحقوق اإلنسان‪ ،‬أما خليفته في قيادة اليمين المتطرف خيرت‬ ‫فيلدرز زعيم حزب الحرية اليميني‪ ،‬الذي له تسعة مقاعد في البرلمان‬ ‫الهولندي‪ ،‬فقد طالب علنا بإلغاء الجزء األكبر من القرآن ليسمح‬ ‫للمسلمين بالبقاء في البالد‪ ،‬ووعد ناخبيه بقفل باب الهجرة أمام‬ ‫المسلمين‪ ،‬بينما يحاول تيار اليسار التمييز بين «المسلم الجيد»‬ ‫من «المسلم السيئ»‪ ،‬وخاصة حزب العمال المشارك في االئتالف‬ ‫الحاكم‪ ،‬الذي يحظى تقليديا بدعم عدد كبير من مسلمي البالد‪ ،‬ولكنه‬ ‫يلعب لعبة محفوفة بالمخاطر‪ ،‬فهو من جهة يحاول أن يرضي ناخبيه‬ ‫المسلمين‪ ،‬وأغلبهم من المسلمين التقليديين الذين اختاروه ألنه‬ ‫‪120‬‬


‫يجيد الدفاع عن حقوق العمال‪ ،‬وفي نفس الوقت يحاول الحزب من‬ ‫خالل ذلك أن يكون متوافقا مع القيم الليبرالية التي يؤمن بها‪ ،‬بينما‬ ‫يضيق ذرعا أغلب اليساريين من هذه العودة المباغتة إلى الماضي‪،‬‬ ‫فهم من جهة يقفون دائما مع حقوق األقليات والمهاجرين‪ ،‬ولكنهم‬ ‫يستشعرون الخطر من اإلسالم األصولي‪ ،‬ليس فقط ألنه معاد لقيمهم‪،‬‬ ‫ولكنه يفزعهم من تذكر حقب بعيدة من تاريخهم قدموا فيها الضحايا‬ ‫على مذبح الحرية‪ ،‬في مواجهة اليمين الذي يستغل هذه األزمة لزيادة‬ ‫عدد مقاعده في البرلمان‪ ،‬والعودة لمناقشة مواضيع تم حسمها‬ ‫وصارت من المبادئ الراسخة‪ ،‬مثل وضع المرأة‪ ،‬حرية االعتقاد‪،‬‬ ‫الحرية الجنسية‪ ،‬وحرية التعبير‪.‬‬ ‫الركوب الق�سري لقطار العولمة‬

‫هولندا لم تعد هي نفسها هولندا فهي ال تمثل ثقافة سكانها‬ ‫األصليين الذين يطلق عليهم «االوتوختون» أي المواطن األصلي‪،‬‬ ‫وال الوافدين الذين يطلق عليهم « االلختون»‪ ،‬ومن العجيب أن‬ ‫هاتين الكلمتين تستخدمان في هذا البلد الليبرالي بشكل واسع من‬ ‫البرلمان إلى أصغر مقهى في البالد‪ ،‬مع أن التسمية تشير إلى جذور‬ ‫بعيدة في نفي اآلخر‪ ،‬وعدم االعتراف به‪ ،‬ومن الواضح أن العلمنة‬ ‫قد عصفت بالجميع على عكس ما كان متوقعا في البداية‪ ،‬حيث‬ ‫كان يخشى الضعفاء من هيمنة األقوياء‪ ،‬وها هي العلمنة تجتاح‬ ‫كل أركان الكوكب‪ ،‬مجبرة المتخلفين على اللحاق بالركب‪ ،‬ولو‬ ‫‪121‬‬


‫اقتضى ذلك تقريعهم‪ ،‬وإجبارهم على نسيان اعتقادات ظلت راسخة‬ ‫بسبب العزلة‪ ،‬ولكن العولمة في نفس الوقت تجبر الذين سبقوا على‬ ‫االنتظار‪ ،‬وااللتفات بقوة باتجاه أسئلة وقضايا‪ ،‬كانوا يعتقدون أنهم‬ ‫صارت جزءا من الماضي البعيد‪.‬‬

‫‪122‬‬


‫�أمريكا وقبائل ال�شرق الأو�سط‬ ‫بعد أربع سنوات من احتاللها العراق‪ ،‬أدركت الواليات المتحدة‬ ‫أنها استدرجت إلى فخم لن تستطيع اإلفالت منه بسهولة‪ .‬كان احتاللها‬ ‫الخاطف السريع للعراق مسكرا في البداية‪ ،‬حيث لم يواجههم إال وزير‬ ‫اإلعالم محمد سعيد الصحاف‪ ،‬الذي تجاهلوه حتى أنهم لم يبحثوا‬ ‫عنه‪ ،‬أو يعتقلوه‪ ،‬بينما كان على الهواء مباشرة ينفي ضاحكا احتاللهم‬ ‫لمطار بغداد الدولي‪ ،‬وكانوا على عجلة من أمرهم‪ ،‬حتى أنهم نسوا‬ ‫ماذا سيفعلون بعد االحتالل‪ .‬حرسوا وزارة النفط‪ ،‬وتركوا بلدا كامال‬ ‫ينهبه شعبه دون رحمة‪ ،‬وعندها اكتشفوا أن هذا البلد غير جاهز‬ ‫لديمقراطيتهم التي نجحوا في تسويقها إلى اليابان وكوريا الجنوبية‪،‬‬ ‫ولكنها من الواضح ال تناسب الشرق األوسط‪.‬‬

‫تأكد األمريكيون أخيرا‪ ،‬بعد ثمن باهظ أن تغيير الحكام العرب‪،‬‬ ‫أشبه بنزع السدادة من الزجاجة التي يعيش داخلها المارد‪ ،‬وأن سبب‬ ‫وجودهم وبقاءهم الطويل على كراسي السلطة‪ ،‬يعود إلى خلل في‬ ‫النظام الثقافي‪ ،‬خاصة وأن الجميع فشلوا في حل مشاكل بلدانهم‬ ‫‪123‬‬


‫المتفاقمة‪ ،‬باستثناء الدول الخليجية الغنية بالنفط‪ ،‬والقليلة السكان‪،‬‬ ‫وأحيانا يتحول النفط إلى نقمة عجيبة في بلدان مثل العراق‪ ،‬ليبيا‪،‬‬ ‫والجزائر‪ ،‬وحتى النجاحات االقتصادية التي وصلت إليها بلد ال ينتج‬ ‫النفط مثل تونس يعود ليس فقط إلى علمانية أبورقيبة‪ ،‬وإنما لجاهزية‬ ‫المجتمع التونسي لمبادئ العلمانية‪ ،‬وما تتطلبه الحياة المعاصرة من‬ ‫تأقلم وتكيف‪ ،‬بالرغم من أن هذا النجاح محروس بحزم بوليسي‪،‬‬ ‫يخفي قبضته تحت قفاز أنيق‪.‬‬ ‫سيبقى في نهاية األمر األمريكيون لوحدهم في فخهم الذي قادهم‬ ‫إليه بوش ورامسفيلد‪ ،‬والمعارضة العراقية التي اختفت من المشهد‪،‬‬ ‫عندما استيقظت الطوائف من نومها الطويل‪ ،‬لتستأنف معركة صفين‪،‬‬ ‫عندها تأكد األمريكيون أن أي تغيير سيحدث في أي بلد عربي سيكون‬ ‫في صالح اإلسالميين‪ ،‬وسيكون أتباع رجل دين صغير مثل مقتدى‬ ‫الصدر أكثر من أعضاء الحزب الشيوعي‪ ،‬والبعث اللذين تنافسا‬ ‫بدموية ميزت التاريخ العراقي للسيطرة على البالد‪.‬‬

‫كانت كل النظريات السياسية واأليديولوجيات قد فشلت في‬ ‫هذه البلدان‪ ،‬وأن األنظمة الملكية واألميرية والسلطانية هي األكثر‬ ‫تناغما مع مجتمعاتها‪ ،‬واألكثر استقرارا‪ ،‬بينما تحولت األنظمة الثورية‬ ‫بسبب خلل ما إلى أنظمة وراثية استبدادية‪ ،‬أما الفساد المتفاقم في‬ ‫هذه البلدان‪ ،‬وارتفاع أعداد الشباب العاطل واليائس فقد يقودها إلى‬ ‫كارثة محيقة‪ ،‬وأن اتساع التشدد اإلسالمي هو دليل نكوص حاد إلى‬ ‫غياهب الالمعقول‪.‬‬ ‫‪124‬‬


‫هذا النظام الثقافي الذي نشأ في الصحراء الكبرى وعلى تخومها‬ ‫يؤكد أن الطاغية لن يختفي من المشهد‪ ،‬إذا لم يتغير النظام‪ ،‬والذي‬ ‫يميل إلى الخضوع لمنطق الصحراء‪ ،‬حيث التباعد والتناثر‪ ،‬والقبائل‬ ‫التي أكد أبن خلدون أنها ال تخضع إال لقوة سامية مثل الدعوة‬ ‫الدينية‪ ،‬أو لقوة وجبروت الحاكم‪ .‬عندما تنمو الطبقة الوسطى تحدث‬ ‫التغييرات النوعية ألنها تفقد صلتها بالقبيلة‪ ،‬وألنها تمنح لمفهوم‬ ‫المواطنة بعدا أكبر من االنتماء القبلي أو الجهوي أو الطائفي‪ .‬هذا‬ ‫ما يؤكده التاريخ األوروبي الذي تطلب زمنا طويال‪ ،‬وصراعا شرسا‬ ‫للوصول إلى هذا المفهوم‪ ،‬الذي ازداد رسوخا بتطور معظم العالم‬ ‫على نفس النسق‪ ،‬ولم يبق خارج هذا النسق إال هذه المساحة المترامية‬ ‫من أفغانستان إلى موريتانيا‪ .‬ليس مصادفة أن القبيلة ال تزال تعيش في‬ ‫قلب هذه المجتمعات‪ ،‬وهي ال تزال قادرة على لعب دورها أكثر من‬ ‫األحزاب‪ ،‬ومنظمات المجتمع المدني‪ ،‬حتى أنه ال يمكن تفسير بعض‬ ‫األحداث إال من خالل هذا المنظور‪ ،‬ولم أستغرب عندما علمت أن‬ ‫حرب اليمن عام ‪ ،1994‬لم تكن حربا بين الشمال والجنوب‪ ،‬وال‬ ‫كانت بين الحزب االشتراكي الماركسي‪ ،‬وحزب الرئيس صالح‬ ‫الرأسمالي‪ ،‬بقدر كونها حربا بين األشراف الذي ينتمي لهم كبار قادة‬ ‫الحزب االشتراكي‪ ،‬والذين جاء منهم حكام اليمن‪ ،‬والقبائل العادية‬ ‫التي ينتمي لها الرئيس صالح‪ ،‬والتي كان يأتي منها التجار والجنود‪.‬‬ ‫في هذا النظام ال يوجد مكان للدولة بمفهومها الواسع الحديث‪،‬‬ ‫إال على شكل جنيني في األقاليم التي تعودت الدولة المركزية على‬ ‫‪125‬‬


‫جباية الضرائب منها‪ ،‬والتي يتغير مكانها مع كل موجة بدوية جديدة‪،‬‬ ‫قادمة من الصحراء لتبني على أنقاض الدولة السابقة دولة جديدة‪.‬‬ ‫في المغرب يسمون هذه المنطقة «المخزن» تمييزا لها عن «البالد‬ ‫السائبة» التي يصعب جمع الضرائب منها‪ ،‬وإن كانت تخضع اسميا‬ ‫لسلطة الدولة المركزية‪ ،‬على خالف ما حدث في أوروبا حيث تولى‬ ‫سكان المدن المسورة‪ ،‬والمحمية بالقالع المحصنة سن القوانين‬ ‫بالتراضي‪ ،‬وتكوين الدولة بتوحد المدن التي أسقطت أسوارها عندما‬ ‫غادر الجميع قبائلهم نحو المواطنة الجامعة‪.‬‬ ‫في هذا النظام تفتخر القبائل بسرقة الدولة‪ ،‬ألنها كيان معاد في‬ ‫تصورهم‪ ،‬وفي العادة تستأثر قبيلة الحاكم بأكبر حصة من الغنائم‪،‬‬ ‫وخاصة عندما يسقط الحاكم مع تقادمه كل األقنعة الحديثة التي‬ ‫واضبط على استخدامها سنوات طويلة‪ ،‬مثل االشتراكية والديمقراطية‬ ‫والشعبية‪ ،‬وأحيانا العظمى‪ ،‬عندها تكون قبيلته قد احتلت كل مفاصل‬ ‫الدولة‪ ،‬وعلى الفور يحلبون البقرة بهرج عجيب‪ ،‬بينما تمارس القبائل‬ ‫األخرى نفس النشاط بصمت‪ .‬في بلدي رأيت الناس تسرق البالط‬ ‫األرضي‪ ،‬وبالط الجدران‪ ،‬واألبواب والنوافذ‪ ،‬وأحواض الحمامات‬ ‫والمطابخ‪ ،‬والمصابيح والتوصيالت الكهربائية‪ ،‬والمواسير المدفونة‬ ‫في األرض‪ ،‬من بيوت شعبية كانت تبنيها الدولة لصالح القرية‪،‬‬ ‫لذلك لم أندهش عندما رأيت العراقيين ينهبون بالدهم أمام عدسات‬ ‫التلفزيون‪.‬‬ ‫لم يكن المحافظون الجدد على معرفة جيدة بهذا الواقع المفارق‪،‬‬ ‫‪126‬‬


‫ولكن أيضا تنظيم القاعدة فشل في فرض نموذجه‪ ،‬فقد تعرفت‬ ‫القبائل في نهاية األمر على مصالحها‪ ،‬التي يعرضها تنظيم القاعدة‪،‬‬ ‫والمليشيات المعادية له إلى خطر كبير‪ ،‬واألهم من ذلك بدأت قيادات‬ ‫الطوائف في خوض حوار إيجابي قد يفضي إلى بداية جديدة لبناء‬ ‫دولة جديدة‪ ،‬وبعد أن كانت الشعارات هي محور الصراع‪ ،‬حيث‬ ‫يتقاتل الناس لمجرد أن بعضهم يؤمن بالماركسية‪ ،‬وغيرهم يؤمن‬ ‫بأفكار ميشيل عفلق‪ ،‬أصبح الصراع حول المصالح اليومية في مدن‬ ‫وقرى العراق‪ ،‬وهي البداية الحقيقية لتكوين أي دولة‪.‬‬

‫‪127‬‬



‫العـرب يكررون نف�س الأخطاء‬ ‫كان هناك دائما سوء فهم للعالم‪ ،‬وللسياسة الدولية‪ ،‬من طرف‬ ‫كل الذين حكموا البالد العربية‪ ،‬منذ استقاللها عن الدولة العثمانية‪.‬‬ ‫وتحديدا منذ الشريف حسين‪ ،‬الذي وعده مكماهون بدولة تمتد من‬ ‫الجزيرة العربية إلى الهالل الخصيب‪ ،‬ولكنه مات منفيا في قبرص‪،‬‬ ‫ولم يبق من مملكته التي وعد بها‪ ،‬إال األردن باإلضافة إلى العراق‬ ‫الذي تربع على عرشه فيصل بن الشريف حسين‪ ،‬والذي منح له‬ ‫تعويضا عن فقده لسورية التي احتلها الفرنسيون عام ‪ ،1921‬قبل أن‬ ‫يلغي الملكية عبد الكريم قاسم عام ‪.1958‬‬

‫ثمة من وضع البيض كامال في سلة األلمان خالل نفس الحرب‪،‬‬ ‫وأيضا في الحرب العالمية الثانية‪ ،‬مثل مفتي فلسطين أمين الحسيني‪،‬‬ ‫ورئيس وزراء العراق في مطلع األربعينات رشيد عالي الكيالني‪،‬‬ ‫اللذين راهنا على انتصار المحور في الحرب العلمية الثانية‪ ،‬وعندما‬ ‫خسر المحور خسرا معه كل شيء‪ .‬المشكلة أن التيار البديل الذي‬ ‫راهن على انتصار الحلفاء لم يكن موجودا‪ ،‬وإن وجد فهو على‬ ‫‪129‬‬


‫األطراف وليس في المركز‪ ،‬مثل الملك إدريس األول‪ ،‬ملك ليبيا‬ ‫السابق‪ ،‬الذي أسس جيشا في منفاه بمصر‪ ،‬وقاتل مع البريطانيين‬ ‫ضد األلمان واإليطاليين‪ ،‬وهكذا ربح رهانه‪ ،‬فسمي أميرا على برقة‪،‬‬ ‫ثم ملكا على ليبيا‪.‬‬

‫خالل الحرب الباردة توزع العرب بين القطبين‪ ،‬فراهن حلفاء‬ ‫بريطانيا سابقا على الواليات المتحدة‪ ،‬أما العسكريون الذين وصلوا‬ ‫إلى السلطة منذ بداية الخمسينات فقد وجدوا أنفسهم مجبرين على‬ ‫التحالف مع السوفييت‪ .‬لم تكن هناك نظرة إستراتيجية تركز على‬ ‫مصلحة العرب من هذه التحالفات‪ ،‬ومع الوقت انعكست حالة العداء‬ ‫بين الحلفين‪ ،‬إلى عداء سافر بين ممثليهما في المنطقة‪ ،‬إلى درجة‬ ‫أن هذه العداوة حجبت األخطار المحدقة بهذه الكيانات‪ ،‬وخاصة‬ ‫بعد ظهور إسرائيل‪.‬‬

‫على خالف العرب استثمر اليهود كل إمكانياتهم بالرغم من‬ ‫قلة عددهم‪ ،‬ويتضح ذكاء اليهود في النظر إلى مصلحتهم بالدرجة‬ ‫األولى‪ ،‬على حساب عالقتهم مع إي حليف‪ .‬استثمروا وجودهم‬ ‫المميز في الحركة الشيوعية العالمية‪ ،‬وهكذا نظر اإلتحاد السوفيتي‬ ‫إلى إسرائيل كتجربة اشتراكية‪ ،‬تستحق تصدير اليهود الذين يعيشون‬ ‫على أراضيه‪ ،‬إلى أرض الميعاد التوراتية‪ ،‬بينما تكفل اليهود الذين‬ ‫عاشوا في الغرب بحلب الغرب‪ ،‬لتمويل مشروع الدولة القومية‬ ‫لليهود‪ ،‬مستغلين عقدة الذنب بسبب الهولكوست‪.‬‬ ‫لم تجد القوة الدولية التي عبرت المنطقة أمة واحدة‪ ،‬مثلما وجدت‬ ‫‪130‬‬


‫اليابان‪ ،‬الصين‪ ،‬والهند‪ .‬كانوا في الحقيقة كيانات مختلفة تتحدث لغة‬ ‫واحدة‪ ،‬ولها العديد من السمات المشتركة التي تؤهلها ألن تكون‬ ‫أمة‪ ،‬ولكن ليس بعد‪ ،‬ووفرت مصالح هذه الكيانات المتعارضة حتى‬ ‫بذل الجهود إلقناعها بجدوى العالقة مع هذا القطب‪ ،‬أو ذاك القطب‪،‬‬ ‫وخاصة وأن النفط ظهر في مناطق صحراوية ال توجد بها كثافة‬ ‫سكانية‪ ،‬تؤهلها حماية هذه الثروة‪ ،‬وتخشى من خطر اجتياحها من‬ ‫أقرب جيرانها‪ ،‬لذلك كان مجرد حماية الغرب لهذه الدول‪ ،‬كما حدث‬ ‫بعد احتالل العراق للكويت‪ ،‬يعتبر العائد األفضل لهذه العالقة‪ ،‬بينما‬ ‫لم تستفد مصر‪ ،‬سورية‪ ،‬وليبيا في حماية أنفسها بسبب تحالفها مع‬ ‫السوفييت‪ ،‬فقد احتلت سيناء والجوالن‪ ،‬وقصفت الواليات المتحدة‬ ‫ليبيا‪ ،‬دون أن تهتم بالسوفييت‪ .‬حتى صدام حسين الذي قاتل اإليرانيين‬ ‫نيابة عن الغرب‪ ،‬لم يستفد من هذه التضحيات‪ ،‬بل جعلوه أمثولة لمن‬ ‫ال يقرأ التاريخ بشكل دقيق‪ ،‬ومن يلهو في العالقات الدولية‪.‬‬ ‫اليوم لم يتغير شيء‪ ،‬بالرغم من انهيار أحد القطبين‪ .‬ال يزال العرب‬ ‫أضعف طرف‪ ،‬دوليا وإقليميا‪ .‬في الحقيقة لقد أصبحوا رهائن أقطاب‬ ‫إقليمية‪ ،‬وخاصة في اللعبة القاسية بين إيران وإسرائيل‪ ،‬والتي انقسم‬ ‫العرب كعادتهم‪ ،‬ليكون بعضهم مع إيران‪ ،‬والبعض اآلخر مع القطب‬ ‫الثاني‪ ،‬خاصة وأن المعركة تجري على أرضهم‪ ،‬في العراق‪ ،‬لبنان‪،‬‬ ‫وفلسطين‪ ،‬وإذا حدثت مواجهة مع إيران‪ ،‬فسيكون الخليج بكامله‬ ‫أرض المعركة الكبيرة‪.‬‬

‫ليست األنظمة الحاكمة بحكم مصالحها الضيقة من يتحمل‬ ‫‪131‬‬


‫مسئولية ذلك‪ ،‬وإنما أيضا المعارضة‪ ،‬التي تحالف بعضها مع أحد‬ ‫القطبين اإلقليميين‪ ،‬دون أن تنتبه للمصلحة اإلستراتيجية العليا‪.‬‬ ‫ما يجري اآلن يؤكد أن العرب ال يملكون القدرة على االستفادة من‬ ‫أخطائهم‪ ،‬مثلهم مثل األمم التي انقرضت من التاريخ‪.‬‬

‫‪132‬‬


‫بعـد خم�س �سنوات عـلى الغـزو‪ ..‬العـراق لي�س اليابان‬ ‫من الصعب المقارنة بين االحتالل األمريكي لليابان والمانيا من‬

‫جهة‪ ،‬ونفس االحتالل للعراق من جهة أخرى‪ .‬بعد خمس سنوات‬ ‫من سقوط بغداد يوم ‪ 9‬أبريل ‪ ،2003‬يبدو البون شاسع ًا بين االحتالل‬ ‫الذي ال يزال يشكل خطرا على كيان العراق‪ ،‬وبين االحتالل الذي‬

‫ساهم بشكل أو بأخر في جعل اليابان ثاني أكبر قوة اقتصادية في‬ ‫العالم‪ ،‬وجعل المانيا عمالق أوروبا االقتصادي دون منازع‪.‬‬

‫بالرغم من أن االحتالل األمريكي للبلدين شكل صدمة ثقافية‬

‫وخاصة في اليابان‪ ،‬حيث أضطر اإلمبراطور هيروهيتو الذي كان‬

‫مؤلها‪ ،‬ومحجوبا عن العامة‪ ،‬إلى النزول بنفسه ليوقع وثيقة استسالم‬ ‫اليابان أمام الجنرال األمريكي مكارثر‪ ،‬وهو ما دفع الروائي الياباني‬

‫كينزا بورو إلى القول «إن االحتالل األمريكي لليابان أنزل اإلمبراطور‬

‫من السماء إلى األرض‪ ،‬وهذا ربح صاف للسياسة والديمقراطية‪».‬‬

‫المتعالي في أي ثقافة ال يمكن إنزاله من السماء‪ ،‬إال من خالل‬ ‫‪133‬‬


‫التجارب األليمة‪ ،‬والتي يأتي الغزو واالحتالل في مقدمتها‪ ،‬ولكن هل‬ ‫تحقق شيئا من هذا في العراق‪ ،‬بعد غزوه بخمس سنوات؟ لم يهبط‬ ‫اإلمبراطور في اليابان من سمائه المتعالية فحسب‪ ،‬بل أحيلت طبقة‬ ‫الساموراي بكل جذورها البعيدة في الثقافة اليابانية‪ ،‬إلى التقاعد‬ ‫التاريخي المبكر‪ ،‬بالرغم من محاولة الروائي يوكيو ميشيما إعادة‬ ‫االعتبار لهذه الطبقة‪ ،‬عندما انتحر في ميدان عام‪ ،‬غارزا السيف في‬ ‫أحشائه‪ .‬لكن بعد خمس سنوات من الوقوف المذل لإلمبراطور اإلله‬ ‫أبن الشمس‪ ،‬أمام الجنرال المتعجرف مكارثر‪ ،‬الذي لم يهتز له جفن‪،‬‬ ‫وهو يقصف مدينتي هيروشيما وناجازاكي بالقنابل الذرية‪ ،‬تمكنت‬ ‫اليابان من العثور على طريقها‪ ،‬وهي تنفض ذل الهزيمة‪.‬‬ ‫لقد قبل اليابانيون الدستور الذي أحضره مكارثر دون تغيير‪ ،‬وهم‬ ‫الذين انقسموا بشدة حول إصالحات اإلمبراطور الميجي «المستنير»‬ ‫في مطلع القرن التاسع عشر‪ .‬كان الدستور الذي صاغه األمريكيون‬ ‫بشكل كامل‪ ،‬يهدف إلى إحداث تغييرات بنيوية تهدف إلى القضاء‬ ‫على أي تهديد ياباني في المستقبل‪ ،‬وذلك باستئصال جذور النزعة‬ ‫القومية العسكرية‪ ،‬وثقافة التعصب في المجتمع الياباني‪ ،‬وهو أمر‬ ‫شديد الصعوبة‪ ،‬بسبب تطور اليابان في عزلة عن العالم‪ ،‬لدرجة أن‬ ‫كلمة نحن في اللغة اليابانية تعني اليابانيين فقط‪ .‬مع ذلك فقد استفاد‬ ‫اليابانيون من هذه التغييرات‪ ،‬التي حدثت قسرا‪ ،‬فقد أخفوا العسكريين‬ ‫الذين خسروا الحرب‪ ،‬وتوقفوا عن صنع السالح وشرائه‪ ،‬وانصرفوا‬ ‫بكل همة ونشاط لتنمية بالدهم‪ ،‬فتحولت اليابان من مجتمع إقطاعي‬ ‫‪134‬‬


‫يعمل فيه ‪ 50%‬من سكانه في الزراعة‪ ،‬إلى بلد يعمل فيه فقط ‪ % 10‬من‬ ‫السكان في الزراعة بحلول عام ‪ ،1980‬وبعد نهاية الحرب العالمية‬ ‫الثانية تضاعف إنتاج اليابان كل سبع سنوات‪ ،‬بحيث ارتفع إجمالي‬ ‫الدخل القومي من ‪ 39‬مليار دوالر عام ‪ ،1960‬إلى ‪ 2.3‬تريليون دوالر‬ ‫عام ‪ .1987‬بعد خمس سنوات من احتالل اليابان ارتفع معدل العمر‬ ‫إلى ‪ 64‬سنة للذكور و‪ 68‬سنة لإلناث‪ ،‬بينما يتراوح حاليا في حدود‬ ‫‪ 82‬سنة وهو األعلى عالميا‪.‬‬

‫على عكس غزو اليابان‪ ،‬ساهم الكثير من العراقيين في غزو بلدهم‪،‬‬ ‫بعضهم لمجرد التشفي في الطاغية ولو دمر العراق‪ ،‬وبعضهم لم يجد‬ ‫طريقة أخرى للتخلص من الطاغية‪ ،‬ولكن في مجمل األحوال كان‬ ‫معظم الناس يترقب سقوط نظام صدام حسين بكثير من الشغف‪،‬‬ ‫خاصة وأن المحافظين الجدد صوروا غزو العراق على أنه نزهة‬ ‫سريعة‪ ،‬وأن العراقيين سيستقبلون الجنود بالورود‪ .‬فجأة اختلط‬ ‫الحابل بالنابل‪ ،‬حتى أننا لم نعد نرى نجوم المعارضة الذين أيضا‬ ‫صوروا لجنراالت البنتاغون الغزو على أنه مناورة بذخيرة غير حية‪،‬‬ ‫وحل محلهم قادة جاءوا مباشرة من غبار الفتنة الكبرى‪ ،‬وما كان أحد‬ ‫سيصدق أن مقتدى الصدر وتياره سيصبحان رقما صعبا‪ ،‬بالنسبة‬ ‫للحكومة التي جاء معظم وزرائها مع الغزاة‪.‬‬ ‫كان ثمة سوء فهم صححته الوقائع بقوة ومرارة‪ ،‬وهو أن التنوير‬ ‫وتصدير الحداثة إلى اليابان وألمانيا‪ ،‬ليس مثل تصديرهما إلى الشرق‬ ‫األوسط‪ ،‬فالجينات الثقافية المسئولة على إنجاب الطاغية واالستبداد‪،‬‬ ‫‪135‬‬


‫ال تزال تعمل بكفاءة بعد رحيله‪ ،‬وأن تحول الشرق األوسط نحو‬ ‫الديمقراطية هو معركة داخلية قبل أن يكون معركة خارجية‪ .‬هل يعني‬ ‫هذا أن العراق ميئوس منه؟ كال‪ ،‬اعتقد أن العراق يتقدم بالرغم من‬ ‫كل شيء‪ ،‬ولكنه يحتاج إلى زمن أطول من اليابان والمانيا‪ ،‬ربما ألنه‬ ‫وجد نفسه رهين لعبة إقليمية لم تحسم بعد‪ ،‬وان مكوناته العرقية‬ ‫والطائفية أكثر هشاشة من مكونات اليابان والمانيا‪.‬‬

‫ال بدّ أن تجربة العراق دفعت وتدفع المعارضين من بلدان عربية‬ ‫مشابهة‪ ،‬إلى إعادة الحسابات في عالقة الداخل والخارج‪ ،‬ومدى‬ ‫فاعلية الرهان على التدخل الخارجي‪ .‬لذلك سعدت بنتائج المؤتمر‬ ‫الوطني الثاني للمعارضة الليبية الذي عقد في أواخر شهر مارس‬ ‫في العاصمة البريطانية‪ ،‬والذي أعلن فيه ألول مرة‪ ،‬أن المعارضة‬ ‫الخارجية سند للمعارضة الداخلية‪ ،‬مما يعني أن الرهان ليس على‬ ‫الخارج بعد اآلن‪ ،‬وإنما على الداخل‪ ،‬على عكس االدعاءات السابقة‬ ‫التي تمني الليبيين بقرب ساعة الخالص على سواعد الخارج‪ ،‬كما أن‬ ‫رمزية استخدام صندوق االقتراع‪ ،‬النتخاب القيادة الجديدة للمؤتمر‪،‬‬ ‫أفضل من كل بيانات المؤتمر‪ ،‬خاصة وأن احد الحاضرين اعترف‬ ‫أنه للمرة األولى في حياته يقف أمام صندوق اقتراع‪.‬‬

‫‪136‬‬


‫معـار�ضة المعـار�ضـة‬ ‫مثلما يختفي عن األنظار القادة العرب بالموت‪ ،‬القتل‪ ،‬أو بانقالب‬ ‫عسكري ناجح‪ ،‬يختفي قادة األحزاب العربية المعارضة بطريقة‬ ‫مشابهة‪ .‬لم يتقدم أحد منهم باالستقالة إال خالد محي الدين األمين‬ ‫العام السابق لحزب التجمع المصري‪ ،‬الذي تنحى وترك القيادة‬ ‫لجيل جديد يمثله رفعت السعيد‪ ،‬وأيضا محمد اليوسفي الوزير‬ ‫األول السابق للمغرب‪ ،‬ولكنه اعتزل العمل السياسي بعد أن فقد‬ ‫منصب رئيس الحكومة‪ .‬أما بقية قادة المعارضة العربية‪ ،‬فبعضهم‬ ‫مثل الصادق المهدي زعيم حزب اآلمة السوداني ورث األمانة عن‬ ‫جده‪ ،‬وهو الذي جرب االثنين‪ .‬نعيم السلطة‪ ،‬وجحيم المعارضة‪.‬‬ ‫ال عالقة لألمر بالجينات الوراثية لطائفتي المهدية والختمية‪ ،‬ففي هذا‬ ‫األمر يتشابه الجميع‪ ،‬حتى محمد إبراهيم نقد األمين العام للحزب‬ ‫الشيوعي السوداني بقى في منصبه منذ إعدام سلفه عبد الخالق‬ ‫محجوب عام ‪ ،1971‬وبالرغم من أن المكان الذي احتله نقد ليس‬ ‫مريحا‪ ،‬فقد اضطر خالل أزمات السودان المتعاقبة من االختفاء‬ ‫‪137‬‬


‫تحت األرض‪ ،‬سنوات تزيد عن السنوات التي عمل فيها من تحت‬ ‫قبة البرلمان‪ ،‬ولكن لسبب ما أغفل الرفاق مالحظة التشابه المريع‬ ‫بين النظام الحاكم‪ ،‬وأكثر أحزاب المعارضة تميزا نوعيا‪.‬‬

‫يروي ميشيل كيلو ـ فك الله أسره ـ وهو يكتب عن الياس مرقص‪،‬‬ ‫كيف هز هذا القادم من فرنسا بركة خالد بكداش الراكدة‪ ،‬الذي كان‬ ‫يمجده أتباعه من أعضاء الحزب الشيوعي السوري‪ ،‬مرددين بأن‬ ‫الرفيقين ستالين وماوتسي تونغ يستشيران الرفيق خالد بكداش في‬ ‫كل كبيرة وصغيرة‪ ،‬وأنهما يتساءالن دائما» ماذا لو لم يقيض للحركة‬ ‫الشيوعية العالمية قائدا مثل الرفيق خالد بكداش»‪ .‬ظل بكداش أمينا‬ ‫عاما للحزب‪ ،‬حتى وافاه األجل المحتوم‪ ،‬وترك األمانة لزوجته‪،‬‬ ‫ولعله بهذا االختيار قد تميز على الجميع‪ ،‬فقد ترك في نهاية األمر‬ ‫امرأة في هذا الشرق الذكوري‪ .‬نعم ثمة نماذج شيوعية مختلفة‪،‬‬ ‫ويبدو أن الرفاق في سوريا كانوا يستلهمون النموذج األلباني بقيادة‬ ‫الرفيق أنور خوجا‪.‬‬

‫ولكن األزمة التي حدثت في حزب الوفد المصري ـ أعرق‬ ‫األحزاب المصرية ـ بعد انتخاب أمين عام جديد للحزب خلفا‬ ‫لنعمان عاشور‪ ،‬الذي من حسن الحظ لم تكن بحوزته أسلحة الجيش‬ ‫المصري‪ ،‬فقد ضبط معه ومع الرجال الذين كان يقودهم‪ ،‬وأغلبهم من‬ ‫أقاربه‪ ،‬مسدسين‪ ،‬وقنابل مولتوف‪ ،‬وسالح أبيض‪ ،‬بعد أن هاجموا‬ ‫مقر الحزب‪ ،‬وحاولوا طرد األمين العام المنتخب من مقر الحزب‪،‬‬ ‫الذي حاول نعمان بيعه‪ ،‬عندما شعر أن العرش يهتز تحته‪.‬‬ ‫‪138‬‬


‫نسيت أن أذكر أن الدكتور محمد المقريف األمين العام السابق‬ ‫للجبهة الوطنية إلنقاذ ليبيا قد استقال منذ عدة سنوات‪ ،‬تاركا القيادة‬ ‫لصهره إبراهيم صهد‪ ،‬ويبدو أن اإلخوان المسلمين في مصر قد‬ ‫اختاروا الوسط مرة أخرى‪ ،‬فقد واظبوا دون كلل على اختيار أكبرهم‬ ‫سنا لمنصب المرشد العام‪ ،‬وهكذا ضمنوا مرشدا جديدا كل عدة‬ ‫سنوات‪ .‬في هذا األمر ال فرق بين السنة والشيعة‪ ،‬واألباظية‪ ،‬وال يوجد‬ ‫فرق يذكر بينهم وبين كل الملل والنحل التي تعيش معهم‪ ،‬فبعد إصابة‬ ‫عبد العزيز الحكيم زعيم المجلس األعلى للثورة اإلسالمية بالعراق‬ ‫بمرض السرطان‪ ،‬تولى ابنه القيادة‪ ،‬مثلما توالها هو نفسه بعد مقتل‬ ‫أخيه‪ ،‬ومثلما تولى مصدق الصدر قيادة تياره بعد وفاة أبيه‪ .‬ال يختلف‬ ‫األمر كثيرا عند األخوة األكراد‪ ،‬حتى حزب العمال الكردستاني‬ ‫الماركسي لم يتردد في اختيار شقيق عبد الله أوجالن عندما ألقي‬ ‫القبض على أوجالن الكبير‪ ،‬أما قادة الطوائف في لبنان فقد اختلفوا‬ ‫في كل شيء ماعدا هذه الميزة الرائجة‪ .‬آل الجميل يتوارثونها كابر‬ ‫عن كابر‪ ،‬مثل آل الحريري‪ ،‬وآل جنبالط‪ ،‬وسالم والسعد والصلح‪،‬‬ ‫وآل إده‪ ،‬وشمعون‪.‬‬ ‫لعل حركة حماس هي أكثر حركة معارضة عربية غيرت قادتها‬ ‫على اإلطالق‪ ،‬ولكن إسرائيل هي من تولى ذلك بعمليات االغتيال‬ ‫المتوالية‪ ،‬لذلك اضطرت حماس إلى إرسال خالد مشعل رئيس‬ ‫المكتب السياسي إلى دمشق بعيدا عن يد إسرائيل‪ .‬أال يجعلنا هذا‬ ‫األمر نفكر في معارضة المعارضة؟‬ ‫‪139‬‬



‫هـل العـرب عـلى �شفا عـ�صر التـنوير؟‬ ‫إذا كان سيغموند فرويد قد ركز على الالوعي الفردي‪ ،‬فإن تلميذه‬ ‫كارل يونغ ركز على الالوعي الجمعي‪ .‬ويميز يونغ في نظريته بين‬ ‫تكون من‬ ‫نوعين من الالوعي‪ :‬الالوعي الفردي الفرويدي‪ ،‬الذي ّ‬ ‫خالل الخبرة الشخصية‪ ،‬بما في ذلك الخبرة المنسية‪ ،‬مثل األحداث‬ ‫المؤثرة في طفولتنا المبكرة‪ ،‬والتي نسيناها‪ ،‬لكنها في الحقيقة ظلت‬ ‫محفورة في مكان ما ال نعي وجوده‪ ،‬ما يفسر خوف البعض المرضي‬ ‫من شيء ما‪ ،‬أما النوع الثاني فهو الالوعي الجمعي الذي يشمل كل‬ ‫موروثنا ومعتقداتنا التي وصلت إلينا من أسالفنا البعيدين‪ ،‬والتي تنتقل‬ ‫وتتجذر في نفوسنا من خالل التربية والثقافة واللغة‪ .‬وهي بهذا ليست‬ ‫موروثا جينيا‪ ،‬البد أن يظهر تأثيره حتى عندما يولد المرء ويعيش في‬ ‫مجتمع آخر له الوعيه الجمعي المختلف‪.‬‬ ‫وإذا كان الالوعي الفردي مبهما‪ ،‬يحتاج إلى سنوات طويلة ليكشف‬ ‫نفسه‪ ،‬فإن الالوعي الجمعي يملك كل وسائل التعبير التي تعينه على‬ ‫إبراز نفسه بوضوح شديد‪ .‬لكن ليس كل شخص يستطيع اكتشاف‬ ‫‪141‬‬


‫الوعيه الجمعي‪ ،‬إال إذا كان قادرا على التحديق في هذا الوعي ونقده‪.‬‬ ‫وحتى يحدث ذلك‪ ،‬فالبد له من أن يتشبع من هذا الالوعي‪ ،‬وأن يفهمه‬ ‫من خالل سياقاته التاريخية‪ ،‬وأن يتمكن من تحليله بطريقة إبداعية‪،‬‬ ‫وليست طريقة نقلية‪ ،‬سواء كان هذا النقل عن طريق تجلي تاريخي‬ ‫ينتمي لهذا الوعي‪ ،‬مثل الرجوع إلى ابن خلدون وابن رشد وغيرهما‬ ‫في الثقافة العربية‪ ،‬أو عن طريق استخدام النظريات الحديثة كما طبقت‬ ‫على مجتمعات أخرى يختلف وعيها الجمعي‪.‬‬ ‫ثمة الوعي جمعي إنساني تشترك فيه كل البشرية‪ ،‬مثل تحريم‬ ‫أكل البشر‪ ،‬حتى إن حدث أن أكل بعض البشر لحوم بعض‪ ،‬وتحريم‬ ‫نكاح المحارم‪ ،‬حتى إن لم يختف هذا السلوك في أرقى المجتمعات‪،‬‬ ‫وأيضا الخوف من الزواحف حتى إن لم نشاهد في حياتنا أفعى‬ ‫واحدة‪ ،‬لكن الذي يقصده يونغ دون غيره‪ ،‬هو الالوعي الذي يستند‬ ‫على النظام الثقافي‪ ،‬والذي يجعل العربي يختلف على السويدي أو‬ ‫الياباني‪ ،‬وهو الالوعي الذي ال يزال يفعل فعله في المجتمعات التي‬ ‫لم تصل إلى عصر التنوير بمفهومه األوروبي‪ .‬لقد سمي ذلك العصر‬ ‫بعصر التنوير واألنوار ألنه تمكن من كشف منابع الالوعي الجمعي‬ ‫األوروبي‪ .‬لم تكن التجربة سارة‪ ،‬كانت مؤلمة بشكل ال يطاق على‬ ‫الصعيدين الفردي والجمعي‪ .‬في الحقيقة‪ ،‬تمثل أهم مكتشفات هذا‬ ‫العصر جروحا نرجسية ال تزال واضحة في الوجدان األوروبي‪ .‬من‬ ‫علم الفلك إلى التاريخ الطبيعي‪ .‬في البداية اكتشف العقل األوروبي‬ ‫أن األرض ليست مركز الكون‪ ،‬وأن اإلنسان يشبه القرد في الكثير‬ ‫‪142‬‬


‫من التفاصيل الدقيقة‪ ،‬حتى رجح دارون أن يكونا أقرب األقارب بين‬ ‫كل حيوانات الكوكب‪ .‬لكن المجال األكثر صخبا‪ ،‬هو تحليل أصول‬ ‫اعتقاداتنا الدينية‪ ،‬وأوهامنا العرقية‪ ،‬ومحاولة تفسير السلوك العجيب‬ ‫لتاريخ األمم والثقافات‪ ،‬ولماذا تنهض وتنهار األمم‪.‬‬ ‫من كان يتوقع مثال بعد كل تلك االنطالقة المبكرة لمصر أن تكبو‬ ‫على هذا النحو العجيب‪ ،‬بينما بدأت نهضتها قبل اليابان‪ ،‬لدرجة أن‬ ‫هذه األخيرة أرسلت بعثة لمصر لدراسة تجربة محمد علي في إيفاد‬ ‫أول بعثة دراسية لطالب مصريين إلى فرنسا؟ ربما يعود سبب الفشل‬ ‫إلى أن البعثة المصرية لم تهتم إال بالجانب الفني والتكنولوجي من‬ ‫التدريب‪ ،‬ولم تكن لها القدرة على معرفة األسباب التي جعلت‬ ‫الفرنسيين أكثر تقدما من المصريين‪ .‬حتى رفاعة الطهطاوي‪ ،‬الذي‬ ‫رافق البعثة األولى كمرشد ديني للطلبة‪ ،‬اكتفى بالسطح دون أن يكون‬ ‫مؤهال للغوص في األعماق‪ ،‬وتحدث باستفاضة عن النظام السياسي‪،‬‬ ‫وغطى كل الجوانب المهمة من فرنسا مطلع القرن التاسع عشر‪ .‬كان‬ ‫الطهطاوي متشبعا بهذا الشرق‪ ،‬ويكاد يكون ممثله بامتياز‪ ،‬ليس فقط‬ ‫لكونه مصريا‪ ،‬وإنما رجل دين كانت مهمته األساسية حراسة الالوعي‬ ‫الجمعي الذي يحمله هؤالء الطلبة‪ .‬وبالتأكيد فإن األغلبية المسلمة‬ ‫الحاكمة في مصر لم تكن تحبذ أن يعود من أوفد من المسلمين‬ ‫مسيحيا‪ ،‬لكن الطهطاوي كان أكبر من هذه المهمة الصغيرة‪ ،‬وكان‬ ‫ذكاؤه الحاد‪ ،‬ورهافة حسه‪ ،‬وطبعه الجسور المقتحم جعله يعكس في‬ ‫كتابه « تلخيص اإلبريز في محاسن باريز»‪ ،‬واحدة من أكثر التجارب‬ ‫‪143‬‬


‫انبهارا ورعبا في التاريخ العربي الحديث‪ ،‬والتي كانت تعني أن العرب‬ ‫والمسلمين اكتشفوا من خالله أنهم متخلفون‪.‬‬

‫أما رحلة البحث عن األسباب فلم تنته بعد‪ ،‬فمن سؤ حظنا أن‬ ‫الالوعي الجمعي محمي بأنظمة ال تخلو من تعقيد‪ ،‬وعندما يشعر أنه‬ ‫يتعرض للخلخلة‪ ،‬أو حتى للتفحص‪ ،‬يدافع عن نفسه بشراسة عجيبة‪،‬‬ ‫ليس فقط في الثقافة العربية‪ ،‬وإنما في كل الثقافات‪ .‬إنه ال يدافع فقط‬ ‫على نفسه من خالل رموز التاريخية‪ ،‬التي تركت تجربتها ليس فقط‬ ‫في بطون الكتب‪ ،‬وإنما في سلوك يومي محدد‪ ،‬بالطقوس والعادات‬ ‫والتقاليد‪ ،‬وفي أسوأ مراحل استحضار هذا الالوعي الجمعي‪ ،‬تعود‬ ‫لحظات تكون هذا الالوعي المبكرة‪ ،‬والتي تنتمي إلى قرون وحقب‬ ‫تاريخية بعيدة‪ ،‬إلى االنبعاث من جديد‪ ،‬لتمشي في شوارع هذا القرن‪،‬‬ ‫والشيء الوحيد الذي يميزها عن لحظة ميالدها البعيدة‪ ،‬هي تماهيها‬ ‫التكنولوجي والسياسي مع العصر الحديث‪.‬‬ ‫لم يعد رفاعة الطهطاوي ضروريا للسفر مع طلبة هذا العصر‪ ،‬ففي‬ ‫مدينة مثل لندن في هذا اليوم‪ ،‬يمكنك رؤية كل أسالفنا في ميدان‬ ‫البيكاديلي‪ .‬إن األمر أبعد من فشل أنظمة بائسة مفلسة‪ ،‬فشلت حتى‬ ‫في إطعام شعوبها الخبز الحاف‪ ،‬لذلك يبدو األمر مؤلما وبشعا بشكل‬ ‫ال يطاق‪ .‬حتى في أوروبا اآلن ال يزال النظام القديم يحتل هامشا ما‬ ‫على ناصية الشارع‪ ،‬ويجلس على مقاعد معزولة في البرلمانات‪.‬‬ ‫بعض هؤالء ال يذكرني فقط بأسالفي البعيدين‪ ،‬وإنما أيضا بأسالفي‬ ‫الذين يعيشون معنا هذه األيام‪.‬‬ ‫‪144‬‬


‫�شكرا بيل غيت�س وجه �أمريكا الم�شرق‬ ‫أخيرا قرر بيل غيتس التقاعد المبكر‪ ،‬وهو في ذروة مجده‪ .‬لألسف‬ ‫الشديد تقاعد هذا العبقري‪ ،‬الذي استفادت معظم البشرية من خدماته‬ ‫العظيمة‪ ،‬حتى أولئك الذين لو أمكنهم الوصول إلى سياتل حيث يقيم‪،‬‬ ‫لما ترددوا في المرور عليها بغزوة تاريخية‪ ،‬قبل أن يتقاعد جورج‬ ‫بوش االبن‪ ،‬الذي لن يترك ما يفخر به‪ ،‬ليس في كل أنحاء العالم وإنما‬ ‫حتى في وطنه‪ .‬ألمريكا وجوه عديدة بعضها شديد القبح‪ ،‬وأخرى‬ ‫تربطك بها وشائج حميمة‪ ،‬مهما كان عرقك‪ ،‬أو لونك‪ ،‬أو المكان‬ ‫الذي ولدت به‪ ،‬وتكاد أمريكا تنفرد بهذه االزدواجية الصارخة‪ ،‬أكثر‬ ‫من أي مكان في العالم‪ ،‬ففي الوقت الذي تكتشف فيه أن جورج بوش‬ ‫االبن‪ ،‬غير مؤهل لحكم حتى بلدية صغيرة في تكساس‪ ،‬تكتشف أن‬ ‫بيل غيتس هو في الحقيقة نبي ورسول هذا العصر‪ ،‬وقد فعل ذلك‬ ‫بتبتل عجيب‪ ،‬وكأنه لم يخلق إال ليجلس خلف جهاز الكمبيوتر‪ ،‬كما‬ ‫يفعل كل المؤمنين به‪ ،‬من كل األديان‪ ،‬األعراق‪ ،‬واأللوان‪.‬‬ ‫في سن مبكرة تمكن بيل غيتس ورفيق مسيرته بول آلن من السيطرة‬ ‫‪145‬‬


‫على لغة البيسك‪ ،‬وهي اللغة التي كان يفهمها الكمبيوتر عام ‪،1964‬‬ ‫عندما كان حجمه في حجم غرفة كبيرة‪ ،‬وكان يحتاج إلى طاقة إضافية‬ ‫من أجل تبريده‪ ،‬ومن حسن حظ البشرية أن هذا الكمبيوتر العجيب‬ ‫كان في متناول بيل غيتس‪ ،‬وبول آلن عندما كانا ال يزالن في المدرسة‬ ‫اإلعدادية‪ ،‬ويمكن القول أنهما اكتشفا مبكرا أن هذه الهواية الغريبة‪،‬‬ ‫ستدر عليهما الكثير من األموال‪ ،‬وفي سن مبكرة كانا يترجمان‬ ‫للشركات المبهورة لغة البيسك التي أتقناها‪ ،‬ولكن رؤية بيل غيتس‬ ‫المبكرة بتحويل هذا الجهاز الضخم إلى مجرد شاشة صغيرة فوق‬ ‫طاولة‪ ،‬سيدخل معظم بيوت األرض‪ ،‬وسيصبح الرفيق األقرب إلى‬ ‫كل شخص خالل هذه الحياة الفانية‪ .‬بل أن هناك حاالت إدمان‬ ‫لم يكن يتوقعها فرويد‪ ،‬مرتبطة بهذا العالم االفتراضي والذي سيصبح‬ ‫تخصصا يتسع باستمرار‪.‬‬

‫إذا احتل جورج بوش العراق وأفغانستان‪ ،‬وجعل حياة شعبيهما‬ ‫جحيما ال يطاق‪ ،‬وهو يدعي أنه يقدم لهما الديمقراطية والرخاء‪،‬‬ ‫فإن بيل غيتس قدم ما وعد به‪ ،‬وجعل شعوب األرض أكثر حرية في‬ ‫الحصول على المعلومات‪ ،‬وأقدر على التواصل والحوار‪ ،‬وربط‬ ‫من خالل اختراعاته بين مصائر بشرية كثيرة‪ ،‬ومكن الذين اجبروا‬ ‫على مغادرة أوطانهم من التواصل مع أحبابهم‪ ،‬غصبا عن كل تلك‬ ‫األنظمة المضحكة التي لم تفكر إال في تكميم األفواه‪ ،‬ومنع الجميع‬ ‫من الهمس‪.‬‬ ‫صحيح أصبح بيل غيتس أغنى أغنياء األرض‪ ،‬ولكن ال يوجد‬ ‫‪146‬‬


‫أحد ال يقر بحق هذا العبقري في هذه الثروة‪ ،‬ولكنه ذات يوم كان‬ ‫فقيرا لدرجة أنه عندما وصل مع بول آلن إلى مقر شركة ميتس ليعرضا‬ ‫عليها البرنامج الذي سيشغل أجهزة الكمبيوتر التي تنتجها الشركة‪،‬‬ ‫اضطرا إلى االستدانة من الشركة لدفع نفقات الفندق‪ ،‬فقد استهلكت‬ ‫الرحلة الجوية كل ما معهما من دوالرات‪ .‬في العشرين من عمره‬ ‫أسس مع آلن شركة مايكروسفت‪ ،‬ومنذ البداية اختار غيتس الروح‬ ‫ورفض الجسد‪ ،‬حيث ركز على روح ولغة هذا الكائن الجديد‪ ،‬وترك‬ ‫غيره يهتم بالجسد‪ .‬كانت الشركات األخرى‪ ،‬مثل جنرال اليكتريك‬ ‫العمالقة‪ ،‬قد وقعت عقدا مع مايكروسوفت لتزويدها بالبرنامج الذي‬ ‫يشغل أجهزتها‪ ،‬والذي أصبح برنامج ويندوز أشهر برنامج لتشغيل‬ ‫أجهزة الكمبيوتر في العالمي‪ ،‬والذي تعمل به أكثر من ‪ % 90‬من‬ ‫أجهزة الكومبيوتر على وجه األرض‪ ،‬وهو يعني أن بيل غيتس أثر‬ ‫في البشرية أكثر من أي شخص سبقه على وجه األرض‪ ،‬وفتح عالما‬ ‫سيجعله مجرد المؤسس أما آفاقه فال يمكن التنبؤ بها على اإلطالق‪،‬‬ ‫وربما نحن في طفولتها المبكرة‪.‬‬

‫من حسن الحظ أن غيتس تذكر فقره‪ ،‬عندما خصص معظم أمواله‬ ‫للعمل الخيري‪ ،‬وشجع آخرين من أثرياء مسيرته لالنضمام إليه‪ ،‬ويقدر‬ ‫رأس مال جمعيته الخيرية بحوالي ‪ 37‬مليار دوالر‪ ،‬وهذا يعني أنه‬ ‫روبن هود‪ ،‬وعروة ابن الورد تنكر في عصر الكمبيوتر بمالمح شديدة‬ ‫البراءة‪ ،‬من حسن حظ اإلنسانية‪.‬‬

‫‪147‬‬



‫الطربو�ش ‪ ..‬القبعـة ‪ ..‬والحجاب‬ ‫تبدو المعركة حول الحجاب في تركيا بين حزب العدالة والتنمية‬ ‫الحاكم‪ ،‬والحزب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك معركة مبتذلة‪،‬‬ ‫فقد زج اإلسالميون بقضية الحجاب قبل أن يسيطروا على بلد‪،‬‬ ‫يحكمه مصطفى كمال أتاتورك من قبره‪ ،‬بينما لم ينظر العلمانيون إلى‬ ‫نجاحات اإلسالميين في االقتصاد‪ ،‬وقدرتهم على وضع حد للفساد‪،‬‬ ‫وهو مرض مستوطن في تلك البالد‪ ،‬وتمسكوا بقضية الحجاب مثل‬ ‫امرأة عمياء تتمكن من القبض على لص‪ ،‬بالرغم من أن أتاتورك نفسه‬ ‫لم يفرض الحجاب‪ ،‬الذي فرض على طالبات الجامعات في سنوات‬ ‫التسعينات‪ ،‬وبسب هذا القرار منعت عشرات اآلالف من النساء‬ ‫التركيات من مواصلة دراستهن في الجامعة‪ ،‬وهو أمر يتناقض مع‬ ‫روح العلمانية كما تتجسد في العديد من البلدان الديمقراطية‪ ،‬ولكن‬ ‫تركيا تختلف في هذا الشأن‪ ،‬فالعلمانية التركية علمانية شمولية‪ ،‬وضع‬ ‫أسسها عسكري حقيقي أنتصر في معارك شرسة‪ ،‬وتمكن من تحرير‬ ‫التراب التركي كامال خالل ثالث سنوات‪ ،‬وأسس جيشا لم يخض‬ ‫‪149‬‬


‫حروبا إال ضد األكراد‪ ،‬والقبارصة اليونانيين‪ ،‬بينما قام بأربعة انقالبات‬ ‫على حكومات منتخبة‪.‬‬

‫منذ أيام استوقفتني صورة رأيتها على إحدى صفحات الجرائد‪.‬‬ ‫يظهر فيها مصطفى كمال أتاتورك‪ ،‬مؤسس الدولة التركية الحديثة‪،‬‬ ‫وخلفه يسير جمع من الرجال‪ ،‬وإلى جانبه تسير سيدة قصيرة القامة‪،‬‬ ‫تضع على رأسها حجابا يخفي كل رأسها‪ ،‬وينسدل على كتفيها‪،‬‬ ‫بينما كان وجهها سافرا‪ ،‬تنم مالمحه على سيدة ال تقل شخصيتها‬ ‫قوة عن شخصية زوجها األسطورية‪ ،‬التي كانت ترتجف منها تركيا‬ ‫من األناضول إلى البوسفور‪ .‬الذي استوقفني أن حجاب لطيفة هانم‬ ‫زوجة مصطفى كمال أتاتورك‪ ،‬أكثر تزمتا من حجاب خير النساء‪،‬‬ ‫زوجة الرئيس التركي عبد الله غل‪.‬‬

‫بعد إلغاء الخالفة فرض أتاتورك على شعبه نزع الطربوش وارتداء‬ ‫القبعة األوروبية‪ ،‬كما فرض عليهم أن يختاروا ألقابا‪ ،‬وفي آخر األمر‬ ‫استبدل الحرف العربي بالحرف الالتيني‪ ،‬أما اآلذان فقد أصبح باللغة‬ ‫التركية‪ ،‬وإذا تحمست أنقرة واسطنبول لهذه التغييرات الرمزية‪ ،‬فقد‬ ‫شعرت مدن وقرى األناضول باإلهانة‪ ،‬ومنذ ذلك الوقت لم يغفروا‬ ‫ألتاتورك هذا التسلط‪ ،‬حتى أنهم يرفضون مناداته بلقب أتاتورك الذي‬ ‫يعني أبو األتراك‪ ،‬ويتحينون الفرصة للثأر للطربوش من القبعة‪ ،‬وذلك‬ ‫بإعادة االعتبار إلى الحجاب بعد سبعين عاما من وفاة أتاتورك‪.‬‬ ‫ثمة شرخ عميق بين معظم شعوب الشرق األوسط‪ ،‬يظهر تارة‬ ‫على شكل صراع أبدي بين البدوي والحضري‪ ،‬وكأنه يؤكد أن‬ ‫‪150‬‬


‫ما حدث بين هابيل وقابيل ال يزال يحدث اليوم‪ ،‬وتارة يظهر على‬ ‫شكل اختالف حاد بين الريف والمدينة‪ ،‬وهو الصراع الذي يحكم‬ ‫تركيا المعاصرة‪ .‬لم يبق الصراع على شكله القديم‪ ،‬بين ريف بعيد‪،‬‬ ‫ومدينة حديثة مترفعة‪ ،‬تنظر إلى هؤالء الذين دفعهم الفقر والجفاف‬ ‫إلى هجرة قراهم‪ ،‬إال كما ينظر األوروبيون إلى المهاجرين‪ ،‬ولكن‬ ‫الطفرة االقتصادية التي شهدتها تركيا في العقود األخيرة‪ ،‬جعل‬ ‫هؤالء الريفيين جزءا من الطفرة‪ .‬زادت ثروتهم‪ ،‬وتحسن تعليمهم‪،‬‬ ‫وولدوا وعاشوا في المدن التي كانت تلعنهم‪ ،‬فكشفوا عن وجههم‬ ‫الحقيقي‪ ،‬الذي أخفوه عندما دخلوا المدينة‪ ،‬وآن األوان الحتاللها‬ ‫من الداخل‪.‬‬

‫تؤكد اإلحصائيات أن ثلتي نساء تركيا يرتدين شكال من أشكال‬ ‫الحجاب‪ ،‬يتراوح بين الحجاب التقليدي الذي ترتديه القرويات‬ ‫في األناضول‪ ،‬وحجاب متزمت أقرب إلى البرقع‪ ،‬كالذي ترتديه‬ ‫المتشددات في كبرى المدن‪ ،‬وهذا يعني أن ذلك الدستور الذي‬ ‫وضعه أتاتورك في منتصف عشرينات القرن الماضي‪ ،‬ال يعكس الواقع‬ ‫كما هو عليه اليوم‪ ،‬وأن ذلك الشعب البدوي القادم من أعماق آسيا‬ ‫ليحتل ما يعرف اليوم بآسيا الصغرى‪ ،‬يمر بلحظة مفارقة في تاريخه‪،‬‬ ‫قد تنتهي إلى مصالحة تاريخية‪ ،‬وقد تنتهي بانقسام عميق‪.‬‬ ‫وبالرغم من احتالل األتراك لمعظم العالم اإلسالمي لمدة خمسة‬ ‫قرون متعاقبة‪ ،‬إال أنهم لم يتركوا خلفهم ما يفخرون به‪ .‬في الحقيقة‬ ‫تركوا جيشا من الحريم‪ ،‬وجيشا من االنكشاريين‪ ،‬من يستيقظ منهم‬ ‫‪151‬‬


‫أوال يمارس السلطة‪ ،‬ولكن هذه المرة علينا أن نتعلم من األتراك‪،‬‬ ‫وخاصة أن اإلسالميين فيها برهنوا أنهم األذكى‪ ،‬واألعقل‪ ،‬واألطول‬ ‫نفسا‪ ،‬بينما برهن العلمانيون أنهم مجرد انكشاريين يسيطرون على‬ ‫الجيش‪ ،‬والمحكمة الدستورية‪.‬‬

‫‪152‬‬


‫الغـيبة ال�صغـرى ل�سيف الإ�سالم‬ ‫أعلن سيف اإلسالم القذافي في خطاب ألقاه أمام جمهور حاشد‬ ‫من الشباب‪ ،‬يوم ‪ 20‬أغسطس الماضي‪ ،‬في مدينة سبها‪ ،‬أنه قرر عدم‬ ‫التدخل في شئون الدولة‪ ،‬وأنه سيعمل فقط على تنمية المجتمع‬ ‫المدني واالقتصاد الليبي‪ ،‬والعمل الخيري‪ ،‬وقال «لم تعد لي معارك‬ ‫كبرى ولكن موقفي أصبح محرجا»‪ .‬وبالرغم من أنه لم يوضح كيف‬ ‫أصبح موقفه محرجا‪ ،‬إال أنه برر تدخل في السابق في شئون الدولة‬ ‫بسبب غياب المؤسسات‪ ،‬ونظام إداري فعال‪ ،‬وكأنه يقول أنه ينسحب‬ ‫بعد أن أصبحت في البالد مؤسسات قوية‪ ،‬ونظام إداري متطور‪،‬‬ ‫وهو ما لم يحدث على اإلطالق‪ ،‬وقال سيف اإلسالم أنه نجح في‬ ‫كل الملفات والقضايا التي تدخل فيها‪ ،‬وأنه تمكن من وضع البالد‬ ‫التي شبهها بقطار على السكة الصحيحة‪ ،‬وقال بالرغم من أن القطار‬ ‫لم يصل إلى محطته األخيرة‪ ،‬ولكنه حتما سيصل ذات يوم‪ ،‬وهذه‬ ‫المحطة هي «ليبيا الغد»‪ ،‬حيث «ال مظلوم وال مغبون وال محروم»‪،‬‬ ‫مؤكدا أن ليبيا لن تتحول إلى الملكية أو دكتاتورية‪ ،‬وكأنها بلد في‬ ‫‪153‬‬


‫منتهى الديمقراطية‪ ،‬وأشار إلى أن البالد ستحكم بواسطة عقد‬ ‫اجتماعي «دستور»‪ ،‬ولكنه شدد على أن والده ال يزال «خط أحمر»‪،‬‬ ‫وأن الدستور سيؤكد على هذا الخط األحمر‪ ،‬وأن االمتيازات التي‬ ‫يتمتع بها العقيد القذافي غير قابلة لالنتقال أو التوريث‪.‬‬

‫غيبة سيف اإلسالم تبدو هي «الغيبة الصغرى»‪ ،‬وهي الفترة‬ ‫الممتدة منذ مولد اإلمام المهدي‪ ،‬إلى وفاة والده اإلمام العسكري‪،‬‬ ‫أما الغيبة الكبرى فهي الغيبة التي تستمر حتى عودته في آخر الزمان‪،‬‬ ‫ليمأل األرض عدال‪ ،‬ولعلنا نكون منصفين إذا حللنا ما يجري في‬ ‫عالم السياسة‪ ،‬بمصطلحات ومفاهيم عالم الالهوت والغيب‪ ،‬إذا كان‬ ‫الرئيس اإليراني محمود أحمدي نجاد‪ ،‬يردد في كل المحافل أنهم في‬ ‫إيران يجهزون البالد لعودة المهدي المنتظر من غيبته الكبرى‪ ،‬فإنه من‬ ‫المنطقي أن يتم تجهيز ليبيا لعودة سيف اإلسالم من غيبته الصغرى‪.‬‬

‫ال يمكن فهم قرار سيف اإلسالم باالنسحاب من شئون الدولة‪،‬‬ ‫إال من خالل التطورات السياسية التي شهدها العالم‪ ،‬والتي كانت‬ ‫ليبيا طرفا فيها‪ ،‬حيث تراجع العقيد القذافي بكل وضوح عن سياسة‬ ‫«االستسالم الوقائي»‪ ،‬التي انتهجها منذ عام ‪ ،2003‬عندما اتضح له‬ ‫أن األمريكان فشلوا في العراق‪ ،‬وأن برنامجهم لفرض الديمقراطية في‬ ‫الشرق األوسط‪ ،‬استبدل بسياسة األمر الواقع‪ ،‬وخاصة بعد أن انتهت‬ ‫بالفعل مرحلة انفراد الواليات المتحدة بكونها القطب األوحد‪ ،‬وبعد‬ ‫أن أخذ التنين الصيني يجرب الطيران‪ ،‬وينفث اللهب من فمه‪ ،‬بينما‬ ‫استيقظ الدب الروسي من سباته الشتوي‪ ،‬ليلتهم جورجيا‪ ،‬في حين‬ ‫‪154‬‬


‫لم يستطع الغرب هذه المرة إال التنديد‪ ،‬ولم يجرد بوش الصغير‪ ،‬كما‬ ‫فعل والده حملة دولية لطرد الروس من جورجيا‪ ،‬على غرار ما فعل‬ ‫والده في العراق عندما اجتاح الكويت‪ ،‬في الوقت الذي تتعقب فيه‬ ‫الهند خطوات جارها الصيني‪ ،‬ولم تعد أمريكا الالتينية حديقة خلفية‬ ‫للواليات المتحدة ة‪ ،‬وعندها قرر القذافي مقاطعة االتحاد من أجل‬ ‫المتوسط‪ ،‬وأيد التدخل الروسي في جورجيا‪ ،‬وبالتالي فإنه لم يعد‬ ‫بحاجة إلى ابنه ولعالقاته الدولية‪ ،‬التي كونها منذ أن كان مسئوال‬ ‫على ملف لوكربي‪ ،‬وحتى التوقيع النهائي على التسوية الشاملة مع‬ ‫األمريكان‪ ،‬ودفع كل التعويضات التي يرفعها البعض لتصل إلى‬ ‫‪ 20‬مليار دوالر‪ ،‬ويخفضها البعض لتصل إلى ‪ 16‬مليار دوالر‪ ،‬وقد‬ ‫انعكس هذا التغيير على الداخل‪ ،‬حيث بدأ التضييق على اإلصالحيين‬ ‫من أتباع سيف اإلسالم‪ ،‬بعد اختطاف المحامي ضو المنصوري‪،‬‬ ‫مؤسس مركز الديمقراطية‪ ،‬الذي ألغته الحكومة‪ ،‬وبعد رفع قضية‬ ‫ضد أستاذ العلوم السياسية‪ ،‬الدكتور فتحي البعجة‪ ،‬وعودة اللجان‬ ‫الثورية إلى خطابها القديم‪ ،‬والتهديد باللجوء إلى السالح‪ ،‬والتصفية‬ ‫الجسدية‪ ،‬وهي تطورات قد يحتاجها سيف اإلسالم خالل غيبته‬ ‫الصغرى‪ ،‬ليحشد من حوله مزيدا من اإلصالحيين‪ ،‬وليكون البديل‬ ‫إذا أضطر النظام مرة أخرى للعودة إلى سياسة «االستسالم الوقائي»‪.‬‬ ‫من الغريب أن فكرة المهدي المنتظر التي ظهرت في العراق‪ ،‬زمن‬ ‫الخالفة العباسية‪ ،‬لم تنجح إال في شمال إفريقيا‪ ،‬عندما أسس عبيد الله‬ ‫المهدي الدولة الفاطمية‪ ،‬وعندما تمكن محمد أحمد المهدي من‬ ‫‪155‬‬


‫تأسيس الدولة المهدية في السودان أواخر القرن التاسع عشر‪ ،‬وهاهي‬ ‫الفكرة ستتحقق مرة أخرى في ليبيا‪ ،‬وخاصة وأن العقيد القذافي هدد‬ ‫في أكثر من مناسبة بتأسيس الدولة الفاطمية الثانية‪ ،‬ويبدو أن الفكرة‬ ‫هذه المرة ستتمحور حول انصراف سيف اإلسالم عن الدولة الليبية‪،‬‬ ‫واهتمامه فقط بالمجتمع المدني‪ ،‬بحيث سيكون جاهزا الستالم‬ ‫السلطة إذا غاب والده ألي سبب‪ ،‬ولكن هذه المرة من خالل «ثورة»‬ ‫علنية‪ ،‬يترقبها الشعب بفارغ الصبر‪ ،‬حيث سيكون لسيف اإلسالم‬ ‫«معارك صغرى» هذه المرة‪ ،‬ضد الدولة العجيبة التي أسسها والده‪،‬‬ ‫وضد «القطط السمان»‪ ،‬ولصوص المال العام‪ ،‬الذين أفقروا البلد‪،‬‬ ‫وكلما توسع سيف اإلسالم في تأسيس منظمات المجتمع المدني‪،‬‬ ‫كلما كان أقدر على جمع أكبر عدد من الليبيين من حوله‪ ،‬وبالتالي‬ ‫سيحول التوريث إلى مطلب شعبي‪ ،‬قد يموت كثيرون من أجله‪ ،‬وبعد‬ ‫أيام من «انسحابه» شنت صحيفة أويأ التابعة لشركة الغد التي أسسها‬ ‫سيف حملة تكالب بعودة سيف اإلسالم‪ ،‬ألنه ليس ملك نفسه‪ ،‬وإنما‬ ‫هو ملك الشعب‪ ،‬والغريب أن اللجان الثورية فعلت نفس الشيء‪،‬‬ ‫ومن المفترض أنه ستتضرر مصالحها بشدة إذا تحقق برنامج سيف‪،‬‬ ‫وطالب أعضاء اللجان الثورية في تجمع حاشد العقيد القذافي بإقناع‬ ‫ابنه بالعودة عن قراره‪ ،‬بينما وجد أحد قادة اللجان مخرجا لقضية‬ ‫التوريث في الفقه الثوري الجماهيري‪ ،‬ووصف سيف اإلسالم بأنه‬ ‫القائد «الموقفي»‪ ،‬ولكنه نسى أن يشير إلى التشابه العجيب بين «ثورة‬ ‫وتوريث»‪ .‬ولكن هل سيضمن سيف اإلسالم السلطة لنفسه من بعد‬ ‫والده حقا؟ بينما يسيطر شقيقه المعتصم على القوات المسلحة‪ .‬إنني‬ ‫‪156‬‬


‫شخصيا أرى أن ما حدث بين أبناء علي باشا القرهمانللي في القرن‬ ‫الثامن عشر سيتكرر مرة أخرى‪ ،‬إال إذا نجح سيف اإلسالم في حشد‬ ‫الناس من حوله‪ ،‬باإلضافة إلى دعم دولي‪ ،‬يرى أن ليبيا ستتحول إلى‬ ‫دولة ناجحة على يديه‪ ،‬وعندها يمكنه هزيمة العسكريين من أشقاءه‪،‬‬ ‫ولكن في المحصلة النهائية‪ ،‬فإن معمر القذافي حكم ليبيا مثلما حكم‬ ‫اليابان إمبراطور إله‪ ،‬وسيتركها ألحد أبناءه من بعده‪ ،‬الذي ينجح‬ ‫في إقصاء اآلخرين من خالل مساعدة الشعب‪ ،‬وهي لعمري نتيجة‬ ‫عجيبة ال تتطابق مع القصص التي تبدأ بالمظالم‪ ،‬وتنتهي بانتصار‬ ‫الحق والعدل‪.‬‬

‫‪157‬‬



‫الم�صالحة على �صفحة قديمة‬ ‫يحاول سيف اإلسالم القذافي لملمة كل الجرائم التي ارتكبها‬ ‫نظام أبيه‪ ،‬على طريقة الرز والعصبان أو البازين واللحم‪ ،‬وكل تلك‬ ‫الطقوس البدوية‪ ،‬التي تبدأ بصخب‪ ،‬وتنتهي بالصالة على النبي‪،‬‬ ‫وتقبيل الرؤوس‪ ،‬وعودة المياه إلى مجاريها بين الخصوم‪ ،‬حتى إذا‬ ‫لم يتحقق العدل‪ ،‬وتعود الحقوق إلى أصحابها‪.‬‬

‫قد تكون هذه الطقوس مالئمة لمجتمع النجوع‪ ،‬ولكنها ليست‬ ‫مالئمة لكل الليبيين إذا أرادوا مثلما يتوقون بالفعل أن يبنوا دولة‬ ‫جديدة‪ ،‬تستند إلى المؤسسات الراسخة‪ ،‬وحكم القانون‪ ،‬والفصل‬ ‫بين السلطات‪ ،‬وليس ألعراف وعادات القبائل‪ .‬يبدو الهوس بطي‬ ‫صفحة الماضي بأقصى سرعة ممكنة واضحا في كل كلمة وحركة‬ ‫صدرت عن سيف اإلسالم‪ ،‬خالل كلمته األخيرة عن المصالحة‪ ،‬حتى‬ ‫أنه لم ينتظر يوم ‪ 20‬أغسطس‪ ،‬كما عود الليبيين على ذلك في السنوات‬ ‫األخيرة‪ .‬في هذه الكلمة تحاشى التطرق إلى أسباب القمع الذي‬ ‫تعرض له الليبيون في العقود الماضية‪ ،‬منذ انقالب سبتمبر‪ ،‬وفي بعض‬ ‫‪159‬‬


‫الجرائم برأ النظام من أية مسئولية‪ ،‬واتهم أشخاصا طبيعيين بتلك‬ ‫الجرائم‪ ،‬مثل جريمة اغتيال الشيخ البشتي البشعة‪ ،‬أما الذين سجنوا‬ ‫من السياسيين فقد برر ذلك ب»عمالتهم» لقوى خارجية‪ ،‬فجعل‬ ‫اإلسالميين عمالء للسعودية‪ ،‬والبعثيين عمالء للعراق‪ ،‬والشيوعيين‬ ‫عمالء لموسكو‪ ،‬وهو ما يعني عدم قدرة سيف اإلسالم ومن يقف‬ ‫وراءه على التفرس في الحقيقة‪ ،‬وأنهم ال يرغبون في االعتذار‪ ،‬وهو‬ ‫المدخل الصحيح ألي مصالحة‪.‬‬

‫قد يقبل البعض التعويض المادي‪ ،‬وخاصة بعد أن وصل الضغط‬ ‫االقتصادي على معظم سكان ليبيا درجة غير مسبوقة‪ ،‬وهو أمر دبر‬ ‫بتأني وخالل سنوات طويلة‪ ،‬ليقود إلى هذه النتيجة‪ ،‬ولكن بالتأكيد‬ ‫ال أحد يقبل أن يسجن كل هذه السنوات‪ ،‬ألنه كان عميال لدولة‬ ‫أخرى‪ ،‬وليس ألن الوالد سرق السلطة من حكومة شرعية‪ ،‬ليورثها‬ ‫إلى ابنه الطيب والمتزن‪ ،‬ولم يسلمها لألوالد اآلخرين‪ ،‬الذين نسى‬ ‫أحدهم أنه في سويسرا‪ ،‬مقولة «خدم المنازل رقيق العصر الحديث»‪،‬‬ ‫و»البيت يخدمه أهله»‪.‬‬ ‫عندما تحدث سيف كانت خلفه الفتة كبيرة مكتوب عليها كلمة‬ ‫«الحقيقة من أجل ليبيا للجميع» بخط كبير‪ ،‬ولكنه حاول طوال‬ ‫كلمته تجنب الحقيقة‪ .‬ال يمكن الوصول إلى مصالحة حقيقية دون‬ ‫معرفة الحقيقة‪ .‬في معظم الحاالت ال يسعى الضحايا إلى الثأر من‬ ‫الجاني‪ ،‬ولكنهم بالتأكيد يسعون للعدل واإلنصاف‪ ،‬وإعادة االعتبار‬ ‫لكل مظلوم‪.‬‬ ‫‪160‬‬


‫يقول سيف اإلسالم للمنفيين الذين عاشوا في المنفى أكثر مما‬ ‫عاش المنفيون الليبيون‪ ،‬في جزر البحر االدرياتيكي زمن االستعمار‬ ‫اإليطالي‪« .‬عودوا إلى بالدكم وعليكم األمان»‪ ،‬دون أن يستعرض‬ ‫حتى االستعراض أسباب خروجهم إلى المنفى‪ ،‬ومن حقنا أن نعرف‬ ‫الحقيقة‪ ،‬فقد يكونوا هم أيضا عمالء للبلدان التي يعيشون بها‪ ،‬وبعد‬ ‫أسابيع من خطف وتعذيب ضو المنصوري‪ ،‬يقول سيف اإلسالم أن‬ ‫اللجان الثورية ال تحمل السالح‪ ،‬وهي ال تملك أي نفوذ‪ ،‬في الوقت‬ ‫الذي ال نعرف فيه أسباب قدرة سيف اإلسالم على جمع كل هذه‬ ‫الشخصيات أمامه‪ ،‬بما في ذلك وزير العدل‪ ،‬و»صديقي وأخي»‬ ‫التهامي خالد‪ ،‬بالرغم من أنه رئيس مؤسسة تهتم بحقوق اإلنسان‪.‬‬ ‫لماذا يتحاشى سيف اإلسالم مخاطبة الليبيين على أنه خليفة أبيه؟‬ ‫وأنه يريد ترتيب دولته على مزاجه‪.‬‬ ‫قد ال يستطيع أحد اآلن الوقوف في وجه السيناريو الوحيد‪،‬‬ ‫ولكن من الخطأ الجسيم إضفاء أي إجماع على هذا السيناريو‪ ،‬ومن‬ ‫أكبر األخطاء القفز في حضن سيف اإلسالم بهذه السرعة‪ ،‬وكأن‬ ‫السيناريو سيمضي كما رسم له‪ ،‬وأن نجاحه مرهون في الضغط‬ ‫العنيف والناعم على كل األطراف للقبول به‪ ،‬وإذا كان اإلصالحيون‬ ‫في الداخل مجبرين على القبول بما هو متاح‪ ،‬فليس من الحكمة أن‬ ‫يوافق المنفيون على هذا السقف المتاح‪ ،‬وان يرفضوا فتات مصالحة‬ ‫ال ترمي إال إلى مزيد من اإلذالل والغطرسة‪.‬‬ ‫كان من األجدر أن تغضب الدولة الليبية ألي انتهاك يحدث ألي‬ ‫‪161‬‬


‫مواطن ليبي في أي مكان في العالم‪ ،‬ولكنها لم تغضب إال من أجل‬ ‫هانيبال‪ ،‬حتى ولو عرضت مصالح الليبيين للمخاطر‪ ،‬وهو ما يعني‬ ‫أن المصالحة تعني أن تعتذر للقذافي وعائلته عن أي كلمة قلتها في‬ ‫حقهم‪ ،‬حتى يتاح لك العودة إلى وطنك قبل أن يسرقه منك هؤالء‬ ‫اللصوص‪ ،‬الذين يريدون إذاللك مرتين‪ ،‬مرة عندما خرجت من‬ ‫بالدك دون أن ترغب في ذلك‪ ،‬وأخرى عندما تعود صاغرا معتذرا‪،‬‬ ‫دون أن تحقق شيئا من تلك األهداف التي خرجت من أجلها‪ .‬قد‬ ‫تكون المصالحة على أساس طي صفحة الماضي‪ ،‬وذلك بفتح‬ ‫صفحة جديدة‪ ،‬ولكنني ال أرى صفحة جديدة‪ .‬يبدو أن سيف اإلسالم‬ ‫استخدم صفحة قديمة‪ ،‬أو أنه نسى صفحة الكربون على الصفحة‬ ‫الجديدة‪ ،‬فنسخت دون أن يدري الصفحة القديمة‪.‬‬ ‫قد تكون المصالحة كما جرت في عمان‪ ،‬بين ثوار ظفار والسلطان‬ ‫قابوس هي أفضل ما يصلح لليبيين‪ ،‬فالمصالحة على طريقة جنوب‬ ‫إفريقيا هي مصالحة بين غزاة وأهل البلد‪ ،‬أما المصالحة على الطريقة‬ ‫المغربية‪ ،‬فكانت صورية حتى أنه يتم التراجع عن مكتسباتها بسرعة‪،‬‬ ‫ولكن ما كان للمصالحة العمانية أن تنجح لو لم يختف والد السلطان‬ ‫قابوس من على المسرح السياسي‪ ،‬ويسلم كل الوزارات التنفيذية‬ ‫لمعارضيه ليعيدوا بناء البلد على أسس أكثر ثباتا ومتانة‪ ،‬وهاهي كل‬ ‫الوقائع تؤكد أن ما حدث في عمان كان مفيدا للجميع‪ ،‬وهو أمر ممكن‬ ‫تكراره في ليبيا إذا طرح الموضوع بأكبر قدر من الشفافية والوضوح‪،‬‬ ‫وليس كما يتم طرحه اآلن بهذه الطريقة المضحكة‪ ،‬وغير الناضجة‪،‬‬ ‫‪162‬‬


‫والتي تخلط األوراق عن عمد‪ ،‬وبنية سيئة‪ ،‬وهو أمر قد ال يؤجل‬ ‫االنفجار‪ ،‬والذي يرجح أن يكون وخيما على الجميع‪ .‬فإذا لم يعامل‬ ‫أي ليبي كما عومل هانيبال بعد عودته من سويسرا‪ ،‬فإن ذلك الوطن‬ ‫لن يكون سوى قطعة من جحيم‪ ،‬سواء بقى القذافي‪ ،‬أو حل محله‬ ‫أحد أبناءه فسيلتهم الجحيم الجميع‪.‬‬ ‫من المهم أن نبدأ بوضوح من رغبة «العائلة الملكة» في أن يتولى‬ ‫ابنها سيف مقاليد األمور بعد أبيه‪ ،‬وليس بهذه المتاهة التي ستعيدنا‬ ‫إلى نفس الخيمة‪ ،‬واألفضل أن ينصرف الجميع عن هذا البازار بكل‬ ‫روائح توابله‪ ،‬وبخوره الشرقية‪ ،‬وليس علينا أن نصفق لكل سجين‬ ‫يفرج عنه سيف اإلسالم‪ ،‬بعد أن نساه والده كل هذه السنوات‪ ،‬وليس‬ ‫من اإلنصاف أن نتحاور مع مجرمين‪ ،‬يجب أن يحاكموا أوال‪ ،‬قبل‬ ‫أن نقتنع أن ليبيا انتقلت من األمس إلى الغد دون أن تمر بهذا اليوم‪،‬‬ ‫واقترح على قوى اإلصالح في الداخل أن تخرج من هذا الدهليز‬ ‫بأقل خسائر ممكنة‪ .‬فهذا النفق يقود إلى انتحار جديد‪ .‬دعوا من عقد‬ ‫هذه العقدة أن يفكها بأسنانه‪ ،‬وراهنوا على دوركم المحوري في أي‬ ‫تغيير‪ ،‬وانسحابكم من هذه المسرحية سيجبر مخرجها على سحبها‪،‬‬ ‫وإال فليأتي المعتصم ويأخذها بالقوة مثلما فعل أبيه‪ ،‬وهو الجزء‬ ‫الثاني أو االحتياطي من هذه المسرحية‪ ،‬فاألفضل دائما أن نواجه‬ ‫النظام بشكله الطبيعي‪ ،‬وليس بكل هذه المساحيق‪ ،‬التي كشفها ضو‬ ‫المنصوري‪ ،‬وإدريس أبوفايد ورفاقه‪ ،‬وقبلهم فتحي الجهمي‪ ،‬واآلن‬ ‫الدكتور فتحي البعجة‪ ،‬وأخيرا الشاعر مفتاح العماري‪ ،‬الذي تولت‬ ‫‪163‬‬


‫إيطاليا اإلنفاق على عالجه‪ ،‬بينما فشلت ليبيا من خالل سفارتها في‬ ‫إيطاليا تأمين إيجار غرفة يعيش بها خالل فترة العالج الكيماوي‬ ‫واإلشعاعي‪ ،‬في الوقت الذي يقول فيه سيف اإلسالم عودوا إلى‬ ‫بالدكم‪ ،‬ويوزع والده أموال الليبيين يمينا وشماال‪ ،‬ويهدد بمعاقبة‬ ‫سويسرا‪ ،‬ألن شرطتها تجرأت على اعتقال ولد ال يرى أنه سيكون‬ ‫الوريث‪ ،‬لذلك لم يضطر للتنكر‪ ،‬واستخدام المساحيق‪ .‬ومن ينتظر‬ ‫أربعين عاما يمكنه أن ينتظر أطول‪ ،‬طالما أن الطرف اآلخر ينتظر‪ ،‬فقد‬ ‫ال تستعيد حقك وأنت حي‪ ،‬إذا أعددت من يأتي بعدك ليستعيد حقك‬ ‫وحقه‪ ،‬ألم يمت محمود درويش‪ ،‬دون حتى أن يدفن في مسقط رأسه‪،‬‬ ‫ولكنه على أي حال دفن فوق رابية تطل على القدس‪ ،‬وهي مسافة‬ ‫تبرر كل تلك التضحيات‪ ،‬ففي الحقيقة نحن جميعا بكل شعاراتنا‬ ‫السياسية واإليديولوجية نصارع نفس العدو‪ ،‬الذي قد يبدو غاصبا‬ ‫أجنبيا في بعض األحيان‪ ،‬وفي معظم األحيان يبدو غاصبا وطنيا‪،‬‬ ‫وبالتأكيد أخطر وأكثر قسوة من العدو الخارجي‪ ،‬ومثلما استمع‬ ‫القذافي طوال سنوات لوكربي لقصيدة «اشتدي أزمة تنفرجي» يمكننا‬ ‫أن نستمع لنفس القصيدة‪ ،‬بينما يمور المجتمع بشدة‪ ،‬ويتغير العالم‬ ‫بسرعة‪ ،‬أو أن نردد ما قاله محمود درويش لإلسرائيليين «أيها المارون‬ ‫بين الكلمات العابرة خذوا أسمائكم وانصرفوا»‪.‬‬

‫‪164‬‬


‫عـلي �صدقي قرر �أن يموت يوم الفاتح‬ ‫قرأت شعر علي صدقي عبد القادر في المرحلة االبتدائية‪ ،‬كانت‬ ‫له قصيدة مقررة في منهج االبتدائي‪ ،‬وذات يوم في مطلع السبعينات‬ ‫في شارع أول سبتمبر ( ‪ 24‬ديسمبر سابقا)‪ ،‬أمام مدرسة الفنون‬ ‫والصنائع‪ ،‬أشار أحد معلمينا إلى رجل قصير القامة‪ ،‬يتأبط مجموعة‬ ‫من الجرائد والمجالت‪ ،‬يمشي بخطوات نشطة‪ ،‬وما يميزه عن‬ ‫جميع الناس اآلخرين في الشارع‪ ،‬ربطة عنقه التي تبدو على شكل‬ ‫فراشة‪ ،‬ووردة حمراء علقها في جيب سترته المقلمة‪ ،‬وقال هذا‬ ‫شاعر الشباب‪ ،‬علي صدقي عبد القادر المحامي‪ .‬انتبهت على الفور‬ ‫إلى غرابة أطواره‪ ،‬مقارنة مع تلك المدينة اآلخذة في التصحر على‬ ‫نحو سريع‪ ،‬والتي تخلت عن شواطئها والتفتت فجاءة إلى بداوتها‬ ‫البعيدة‪ ،‬وحتى ذلك الحين لم أكن أدرك تمام اإلدراك العالقة الوثيقة‬ ‫بين الشعر وغرابة األطوار‪.‬‬ ‫بعد سبعة عشر عاما من ذلك اليوم‪ ،‬كنت مع مفتاح العماري‪،‬‬ ‫ومجاهد البوسيفي نعد ملفا عن الشاعر علي صدقي عبد القادر لمجلة‬ ‫‪165‬‬


‫الفصول األربعة‪ .‬كانت المجلة قد نشرت ملفا عن التليسي‪ ،‬وآخر‬ ‫عن المصراتي‪ ،‬فتطوعنا لكتابة ملف عن علي صدقي عبد القادر‪.‬‬ ‫لم نكن أبرياء من وراء هذا االختيار‪ .‬فقد كنا ندافع من خالله عن‬ ‫قصيدة النثر‪ ،‬وعن السوريالية‪ ،‬وعن الفن خارج أية اشتراطات أخرى‪،‬‬ ‫وخاصة أن شاعرنا عامله النقاد أيضا على أن نصوصه غريبة األطوار‪،‬‬ ‫ولم يعترفوا إال بقصائده األولى في ديوانه أحالم وثورة‪ ،‬وقصائده‬ ‫المقفاة‪ ،‬التي يهاجم فيها االستعمار واإلمبريالية‪ ،‬ومن بينها تلك‬ ‫القصيدة التي حفظتها في طفولتي‪ ،‬تجنبا لعصا معلم اللغة العربية‪،‬‬ ‫ثم نسيتها بالكامل في العام التالي‪.‬‬ ‫كان علي صدقي عبد القادر أسعد الناس بذلك العدد‪ ،‬حتى أنه‬ ‫أهدأ لكل واحد منا ربطة عنق‪ ،‬ولكنها كانت ربطات عنق عادية‪،‬‬ ‫وألتشبه تلك التي يخيل إلي انه كان ينام بها‪ .‬أخرج ربطات العنق‬ ‫من صندوق سيارته البيجو‪ ،‬بينما كنا نقف أمام فندق باب المدينة‪،‬‬ ‫وتمنى لنا حياة طويلة مديدة ملئها الحب والسعادة واإلبداع‪.‬‬

‫كتب العماري عنه دراسة بعنوان السوريالي األخير‪ ،‬أما مجاهد‬ ‫فكتب عنه دراسة بعنوان االسم الحركي للوردة‪ ،‬وكتبت بدوري‬ ‫دراسة بعنوان شاعر العودة إلى الرحم‪ .‬كما أجرينا معه حوارا طويال‪،‬‬ ‫وجمعنا ما اتفقنا على أنه من أجود شعره‪ ،‬كما جمعنا مجموعة من‬ ‫الشهادات‪ ،‬وحاولنا أن يكون الملف نقديا بالدرجة األولى‪ ،‬وليس‬ ‫احتفائيا‪ ،‬وتقبل رئيس تحرير المجلة‪ ،‬األستاذ يوسف الشريف‪ ،‬وجهة‬ ‫نظرنا بكل رحابة صدر‪ ،‬طورت عالقتنا به إلى صداقة وطيدة‪ ،‬ولكن‬ ‫‪166‬‬


‫العدد أثار حفيظة بعض األساتذة الذين رأى بعضهم أننا قمنا بحملة‬ ‫دعائية ل»معلمكم األكبر»‪.‬‬

‫بعد ذلك ارتبطنا معه بعالقة ودودة‪ ،‬لم يتخل فيها مرة واحدة عن‬ ‫مخاطبتنا بلقب أستاذ‪ ،‬ولم ننجح مرة واحدة في استدراجه للحديث‬ ‫عن مواضيع أخرى غير مواضيعه المفضلة‪ ،‬وكانت مواضيع محدودة‬ ‫جدا‪ ،‬ال تزيد عن الشعر واإلبداع والحب والتشبث بالحياة‪ ،‬حتى‬ ‫أنه أعلن في منتصف التسعينات‪ ،‬أثناء مهرجان المدينة الثقافي‪،‬‬ ‫في قاعة أحمد رفيق المهدوي ببنغازي‪ ،‬أنه لم يعد هناك شيئا اسمه‬ ‫الموت منذ اآلن‪ ،‬وأننا سنلتقي في هذه القاعة بعد مليون سنة‪ .‬شكرنا‬ ‫األستاذ علي على بيانه‪ ،‬وتقبل شكرنا بابتسامته الدائمة‪ ،‬والتي تخفي‬ ‫اغترابا مزمنا عن كل ما حوله‪ ،‬ولكنني صدقت أنه بالفعل يعود إلى‬ ‫رحمه‪ ،‬ليس فقط من خالل احتفاءه الشخصي بالحياة‪ ،‬وإنما أيضا‬ ‫من خالل نصوصه المسكونة بطفولة مزمنة‪ ،‬وبهذا التوق إلى فاطمة‬ ‫أمه وحبيبته وملهمته‪.‬‬ ‫لم يكن يصر األستاذ علي كثيرا على هذه المقوالت‪ ،‬عندما يتعلق‬ ‫األمر بالسفر‪ .‬لسبب ما كان األستاذ علي يرحب بشدة بالخروج من‬ ‫تلك البالد التي جعلها بلد الطيوب‪ ،‬لبعض الوقت على األقل‪ .‬وعندما‬ ‫ال يجد مكانا له ضمن وفد رابطة الكتاب‪ ،‬يقول وكم تبقى لي‪ ،‬انتم‬ ‫ال تزالون شبابا ويمكنك االنتظار‪ ،‬لكنه كان دائما ما يجد وسيلة أو‬ ‫أخرى‪ ،‬لحضور ذلك المؤتمر‪ ،‬أو ذاك المهرجان‪ .‬في مؤتمر التحاد‬ ‫الكتاب العرب في عمان تركناه في طرابلس‪ ،‬وفجاءة ظهر متألقا في‬ ‫‪167‬‬


‫فندق فيالدلفيا‪ .‬لم يجد اتحاد كتاب األردن مفرا من إنزاله في الفندق‪،‬‬ ‫وعندما ازدحم الفندق طرقوا على بابه طالبين منه أن يسكنوا شخصا‬ ‫آخرا معه في الغرفة‪ ،‬فقال لهم أنا ال أسكن مع أحدا‪ ،‬وال أحد يسكن‬ ‫معي‪ ،‬فشطبوا اسمه من قائمة الشعراء الذين سيلقون قصائدهم خالل‬ ‫المهرجان‪ ،‬وعندها تحول األستاذ علي إلى طفل لحوح‪ ،‬إلى درجة‬ ‫أنني وعدته بأننا سننسحب من المؤتمر إذا أصروا على موقفهم‪ .‬في‬ ‫اليوم الثاني فاتحني أحد أعضاء اتحاد كتاب األردن في صوت ليبيا‬ ‫خالل االنتخابات على منصب األمين العام‪ ،‬فقلت له هذا سيتقرر‬ ‫بعد أن يلقي علي صدقي عبد القادر قصائده‪ ،‬فلم يجد معه إال قلم‬ ‫رصاص كتب به اسم علي صدقي عبد القادر في نهاية القائمة المعلقة‬ ‫أمامنا‪ ،‬ولكن األستاذ علي رفض تصديق هذه الحيلة مستشهدا بقلم‬ ‫الرصاص‪ ،‬األمر الذي دفعني لمغافلته وكتابة اسمه بقلم الحبر‪،‬‬ ‫وعندها انفردت أساريره‪ ،‬وعاد لتألقه من جديد‪.‬‬

‫يحب األستاذ علي الحياة الجميلة الناعمة والطرية‪ ،‬ويأكل بشهية‬ ‫عجيبة حتى في شيخوخته‪ ،‬ولكن من سؤ حظه وحظنا تراجعت تلك‬ ‫المدينة التي أحبها كما لم يحب بقعة أخرى في الوجود‪ ،‬وبدال من‬ ‫أن تتطور كما هو متوقع لها‪ ،‬تراجعت لتصبح مجرد مكب للنفايات‪،‬‬ ‫ومرتعا للبدو المتجهمين الذين يحقدون بضراوة عجيبة على كل‬ ‫ما هو جميل في تلك المدينة‪.‬‬ ‫في السبعينات كان يطيب للقذافي أن يلتقي من حين إلى آخر‬ ‫بالمثقفين الليبيين‪ ،‬كان يطلب أن تكتب أسمائهم حسب ترتيبهم‬ ‫‪168‬‬


‫في الجلسة‪ ،‬حتى يمكنهم مخاطبة أي واحد باسمه عندما يعرف‬ ‫اسمه من ترتيبه في الورقة المفتوحة أمامه‪ ،‬وكان أحيانا يخيفهم‪.‬‬ ‫ذات مرة وجدوه في خيمته وقد علق في عمود الخيمة بندقيتين‪،‬‬ ‫وبحركة استعراضية أنزل البندقية القديمة التي قاتل بها المجاهدون‬ ‫الليبيون‪ ،‬وقال لهم بمثل هذه البندقية صمد الليبيون عشرين عاما‬ ‫أمام إيطاليا‪ ،‬ثم أنزل البندقية الثانية من نوع كالشنكوف‪ ،‬وسحب‬ ‫األقسام فجاءة‪ ،‬موجها البندقية نحوهم‪ ،‬وقال لهم وبمثل هذه‬ ‫البندقية نصفي أعداء الثورة‪ .‬لكنه على الفور أخرج علي صدقي‬ ‫عبد القادر من أي تصنيف‪ .‬كان يستمع إلى قصائد علي صدقي‬ ‫عبد القادر هو يبتلع نصف عباءته من شدة الضحك‪ .‬ذات مرة‬ ‫حضر األستاذ علي عشاء دعا إليه العقيد الكتاب في باب العزيزية‪.‬‬ ‫لم يكن لألستاذ رغبة في الحضور‪ .‬كان يدرك أنهم سيجلسون‬ ‫على األرض‪ ،‬ويحضرون تلك القصاع‪ ،‬وسيجلس ليأكل بيديه‬ ‫مع خمسة أو ستة من الزمالء‪ ،‬ولكنه ال يستطيع التخلف عن حفل‬ ‫جاء ضابط كبير بمالبس كاكي إلى مكتبه ليدعوه إلى عشاء العقيد‪.‬‬ ‫ذات مرة لم يحضر معه األستاذ شيئا ليقرأه على العقيد‪ ،‬فكلف‬ ‫العقيد سائقه ليوصل األستاذ علي إلى بيته حتى يحضر شيئا يقرأه‪،‬‬ ‫ومن شدة عجلة األستاذ أحضر أول كتاب له وجده في البيت‪،‬‬ ‫وكان الكتاب جديدا لم يقرأ على اإلطالق من قبل‪ ،‬فقد كانت‬ ‫صفحات الكتاب ال تزال ملتصقة‪ ،‬وتحتاج إلى مقص أو مسطرة‬ ‫قبل قرأتها‪ ،‬وعندما وقف األستاذ أمام العقيد ليقرأ ذلك الكتاب‪،‬‬ ‫ولم يجد حوله شيئا يعينه على فتح الكتاب‪ ،‬أخذ ينظر من بين‬ ‫‪169‬‬


‫الصفحات‪ ،‬وهو يباعد ما بينها‪ ،‬رافعا الكتاب ألعلى‪ ،‬حتى يتاح‬ ‫له أكبر قدر من الرؤية‪ ،‬في ليل باب العزيزية‪ ،‬بينما كان القذافي‬ ‫يتقلب في كرسيه من شدة الضحك‪.‬‬

‫في هذه المدينة وتحت هذا الجبروت عاش علي صدقي‪ ،‬ولكنه‬ ‫لم يتردد لحظة واحدة في التطوع للدفاع عن أولئك الشباب الذين‬ ‫سبقونا بعقد واحد‪ ،‬عندما زجوا بهم في السجون‪ .‬لم يتحدث علي‬ ‫صدقي عبد القادر مرة واحدة معي في أي موضوع سياسي‪ ،‬ولم يعبر‬ ‫عن أي توجه أيديولوجي‪ ،‬حتى عندما كنت أوجه له سؤاال مباشرا‬ ‫كان يتملص منه بطريقته الخاصة واللبقة‪ ،‬حتى قررت عدم إزعاجه‬ ‫بأي سؤال من خارج أبجديته الخاصة‪ ،‬ولكنه عندما وجد أولئك‬ ‫الكتاب الشباب الذين تعرف عليهم في جريدة األسبوع الثقافي‪ ،‬وقرأ‬ ‫نصوصهم هنا وهناك‪ ،‬يحكمون باإلعدام ثم المؤبد‪ ،‬ختم مرافعته وهو‬ ‫يقول‪ ،‬إذا سجنتم هؤالء فاسجنوا الشمس‪ ،‬والقمر‪ ،‬والنجوم‪ .‬اسجنوا‬ ‫الطيور والفراشات والورود‪ .‬اسجنوا الجبال والبحار والسماء‪ ،‬وهو‬ ‫ما حدث بالفعل‪.‬‬ ‫هذا الشاعر الذي انتبه إلى الحداثة مبكرا‪ ،‬ونشر قصائد من الشعر‬ ‫الحر في أول الخمسينات‪ ،‬لم يكن يشبه أحدا‪ ،‬ولم يشبهه أحد‪ .‬كان‬ ‫نسيجا نادرا ال يمكن مصادفته كل يوم‪ .‬مزيج من تمدن مرهف‪،‬‬ ‫وحفاوة نادرة بكل ما هو متعلق بالحرية والحب والتمدن‪ .‬ليس‬ ‫غريبا أن تكون شقيقته خديجة عبد القادر أول ليبية تذهب للدراسة‬ ‫في بريطانيا بمفردها‪ ،‬وتكتب عن تجربتها كتابا بعنوان «ليبية في بالد‬ ‫‪170‬‬


‫االنجليز»‪ .‬هناك من يشبه األستاذ علي بجاك برفيير‪ ،‬ولكني أرى أن‬ ‫الفارق في القدر‪ ،‬فجاك برفيير ظهر بينما تمر ثقافته وبالده في أبهى‬ ‫تجليها‪ ،‬بينما قدر علي صدقي أن يظهر إلى الوجود وبالده وثقافته‬ ‫تدخل بداوتها المزمنة‪.‬‬

‫لم تكن تنقصه سرعة البديهة عندما يتجلى‪ .‬ذات مرة شن رسام‬ ‫فاشل في فندق باب البحر هجوما على القصيدة الحديثة‪ ،‬وأحتج بأن‬ ‫حتى جدته ال تستطيع فهم هذه القصائد‪ ،‬فالتفت إليه األستاذ علي‬ ‫وقال له وهل تفهم جدتك قصائد أمريء القيس؟‬

‫عندما خرجت إلى المنفى جمعت مالبسي على عجل وحشرتها‬ ‫في حقيبة‪ ،‬وعندما وصلت إلى هولندا اكتشفت أنني لم أحضر إال ربطة‬ ‫عنق واحدة‪ ،‬كان األستاذ علي قد أهداني إياها ذات يوم بعيد أمام‬ ‫فندق باب البحر‪.‬‬

‫عندما سمعت بوفاته أدركت أنه استسلم‪ ،‬ولم يقو على مقارعة‬ ‫الموت‪ .‬فجاءة شعر أن الموت هو أفضل طريقة للخالص‪ .‬لم يحدث‬ ‫أبدا أن قعد عاجزا في كرسي أو سرير‪ ،‬كما عاش أشهره األخيرة‪،‬‬ ‫وهو ينتظر أن تعالجه الدولة‪ ،‬بينما وصلت نفقات عالجه في مصحة‬ ‫خاصة بطرابلس إلى مبالغ كبيرة‪ .‬كان دائب الحركة والنشاط‪ ،‬مثل‬ ‫نحلة تتجول في أجمل ما تبقى من طرابلس‪ ،‬مصرا على أن يكون أنيقا‬ ‫مبتسما مهما تكالبت المحن‪ ،‬وألنه قرر الموت فقد اختار يوم الفاتح‬ ‫من سبتمبر‪ ،‬الذي يصادف ذكرى انقالب القذافي قبل ‪ 39‬ربيعا من‬ ‫عمر الشاعر‪ ،‬كأفضل طريقة لالحتجاج على ذلك الطاغية الذي كان‬ ‫‪171‬‬


‫يضحك من شعره‪ .‬سنرى ولو بعد مليون عاما‪ ،‬في قاعة أحمد رفيق‬ ‫تحديدا من الذي سيعيش أطول‪ .‬هذا الشاعر النادر‪ ،‬أم ذلك الطاغية؟‬ ‫الذي رأينا أمثاله كثيرا غير أننا ال نتذكر كل ما حدث في المليون سنة‬ ‫الماضية‪.‬‬

‫‪172‬‬


‫�أزمة المكان لدى الم�ؤتمر الوطني‬ ‫منذ انتخابه مر المؤتمر الوطني المنتهية واليته بأزمة مكان‪ ،‬فبالرغم من‬

‫أن فندق ريكسوس هو مقره الرسمي‪ ،‬إال أنه اضطر إلى اللجوء إلى أماكن‬

‫أخرى خوفا من اعتداءات متكررة على مقره الرسمي‪ ،‬فمرة يضطر لعقد‬ ‫جلساته في فندق المهاري‪ ،‬ومرة يهرب باتجاه نادي الفروسية‪.‬‬

‫المكان والزمان مترابطان ال ينفصالن ألنهما شكالن رئيسيان لوجود‬

‫المادة كما يؤكد الفالسفة‪ ،‬إال أن للمؤتمر الوطني رأيا آخر‪ ،‬فقد عاد‬ ‫إلى مكانه في ريكسوس‪ ،‬بالرغم من انتهاء زمانه‪ ،‬بحجة أن مجلس‬

‫النواب المنتخب غ َّير مكانه وعقد جلساته في طبرق بدال من بنغازي‪،‬‬

‫وألنه احتل طرابلس المكان الذي توجد به المحكمة العليا والمصرف‬ ‫المركزي‪ ،‬والمؤسسة الوطنية للنفط وتقريبا كل أجهزة الدولة‪ ،‬التي‬

‫راكمها القذافي قريبا من باب العزيزية‪ ،‬حتى يتمكن أحمد رمضان‬ ‫وبشير حميد من تبليغ توجيهاته إلى هذه الجهات بأسرع ما يمكن‪.‬‬

‫وألن المؤتمر عاد من زمن آخر واحتل المكان المتخم بالوزارات‬ ‫‪173‬‬


‫والمؤسسات‪ ،‬حاول من خالل حكومة عمر الحاسي خنق حكومة‬ ‫الثني في البيضاء‪ ،‬ومجلس النواب في طبرق‪ ،‬وآخر تقليعات المؤتمر‬ ‫الوطني رفضه االنضمام إلى الحوار الوطني في جنيف بحجة المكان‬ ‫أيضا‪ ،‬مطالبا بعقد الحوار في غات كشرط النضمامه‪.‬‬ ‫ترى لماذا اختار المؤتمر غات؟ وهو يعلم أنها مدينة منكوبة‪،‬‬ ‫ينقصها الوقود والكهرباء والمواد الغذائية واألدوية‪ ،‬كما أنه يعلم أن‬ ‫سبب نكبتها رفضها للمساومة‪ ،‬عندما طلب منها الحاسي االعتراف‬ ‫بحكومته قبل أن يزودها بما تحتاجه‪ .‬ربما يريد المؤتمر االنتقام من‬ ‫مدينة أعلن منها عبد الله الثني الحرب على اإلرهاب‪.‬‬

‫بمجرد ما سمع عبد الله الثني باختيار المؤتمر الوطني مدينة غات‬ ‫كمكان للحوار الوطني‪ ،‬استقل طائرته وهبط على أعيانها الجوعى‪،‬‬ ‫ليبشرهم بقرب وصول اإلغاثة إلى المدينة‪ ،‬ولكنه لم يخبرهم أنه‬ ‫زارهم نكاية في المؤتمر الوطني‪ ،‬الذي سيغير رأيه ويطالب باختيار‬ ‫مكان آخر لعقد جلسات الحوار‪.‬‬

‫اختيار غات بدال من جنيف عقاب جماعي للذين ذهبوا للحوار‬ ‫في جنيف‪ ،‬فبعد أن شاهدوا بحيرة جنيف سيشاهدون بحيرة السراب‬ ‫في غات‪ ،‬ولن يجدوا فندقا يضاهي الفندق الذي أقاموا فيه في جنيف‬ ‫على حساب األمم المتحدة‪ ،‬وعندها ستنتقل عدوى المكان إلى‬ ‫أعضاء مجلس النواب المشاركين في الحوار‪.‬‬

‫إذا اختار مجلس النواب طبرق كمكان مؤقت بسبب الحالة‬ ‫األمنية المتردية في بنغازي‪ ،‬فقد اختار المؤتمر الوطني غات كمقر‬ ‫‪174‬‬


‫لجلسات الحوار‪ ،‬ومع ذلك يؤكد المؤتمر أن قرار مجلس النواب غير‬ ‫دستوري‪ ،‬وفي تقديري فإن المؤتمر اختار غات ليفشل الحوار‪ ،‬ألن‬ ‫المتحاورين سيصابون بالسأم وسيفضلون العودة بسرعة من حيث‬ ‫جاءوا على أن ينجح الحوار‪.‬‬

‫ثمة أزمة أخرى يعانيها المؤتمر الوطني وهي أزمة المثنى‪ ،‬فرئيسه‬ ‫يلقب بأبو سهمين وليس سهما واحدا‪ ،‬بينما يلقب المتحدث الرسمي‬ ‫باسم المؤتمر بحميدان وليس حميدا واحدا‪ ،‬وفي المقابل يلقب‬ ‫رئيس الحكومة الشرعية بالثني‪ ،‬وهي كلمة تشير إلى اثنين‪ ،‬وقبله‬ ‫ترأس الحكومة زيدان وليس زيدا واحدا‪ ،‬وتتوالى الثنائيات فأثناء‬ ‫الهجوم على طرابلس سميت العملية بقسورة ثم تغيرت إلى فجر‬ ‫ليبيا‪ ،‬قبل أن تتجه شرقا وتعرف باسم الشروق‪ ،‬وفي بنغازي تسمى‬ ‫القوات التي تقاتل مع اللواء حفتر أحيانا بالقوات الخاصة وأحيانا‬ ‫بالصاعقة‪ ،‬ربما بسبب هذه الثنائيات انقسمت البالد بين حكومتين‬ ‫وبرلمانيين‪ ،‬وربما لهذا السبب رقي حفتر رتبتين دفعة واحدة‪ ،‬فمن‬ ‫رتبة عقيد رقي إلى لواء في انتظار ترقيته إلى فريق أول‪ ،‬وعندها‬ ‫سيكون بحاجة إلى فريق ثان لتكتمل الثنائيات‪ ،‬لذلك اقترح أن تعقد‬ ‫جلسات الحوار في مدينة أو مكان يشير إلى المثنى مثل صرمان أو‬ ‫خلة الفرجان أو حتى إيران‪ ،‬وأن يشرف على الحوار ليس ليون واحد‬ ‫وإنما ليونان‪ ،‬فاسم ليون في اللغات األوربية يعني األسد‪ ،‬فالبأس‬ ‫من االستعانة ببشار األسد وماهر األسد اللذين عرفا بقدرتهما على‬ ‫التوسط بين المتخاصمين‪.‬‬ ‫‪175‬‬



‫لماذا عاد �أهالي الجبل الغربي في ليبيا للكهوف ؟‬ ‫في مطلع الثمانينات ساهم باحث ليبي كان يعد رسالة الدكتوراة‬ ‫في الهندسة المعمارية‪ ،‬في جامعة بنسلفانيا بمدينة فيالدلفيا األمريكية‬ ‫في إماطة اللثام عن لغز استعصى لبعض الوقت عن الباحثين‪ .‬وخالل‬ ‫حلقة دراسية نظمت حول عمارة الكهوف‪ ،‬اكتشف البروفسور‬ ‫المشرف على الحلقة أن الباحث الليبي ولد في أحد تلك البيوت‬ ‫المحفورة تحت األرض‪ ،‬فطلب منه أن يكون رئيس الحلقة الدراسية‪،‬‬ ‫ألنه يعرف عن هذا النمط من العمارة أكثر مما يعرف زمالؤه وزميالته‪،‬‬ ‫الذين ولدوا فوق سطح األرض‪ .‬كانت الحلقة الدراسية مخصصة‬ ‫لإلجابة عن السؤال الرئيسي‪ ،‬وهو لماذا تراجع سكان الجبل الغربي‬ ‫في ليبيا‪ ،‬ومنطقة مطماطة في تونس‪ ،‬ومنطقة ثالثة في شمال غرب‬ ‫الصين‪ ،‬عن العمارة التقليدية‪ ،‬التي تعتمد على الحجارة والجص‪،‬‬ ‫وبناء األقواس والنوافذ واألسقف المتعددة‪ ،‬حيث كانت المباني في‬ ‫القرى القديمة تتكون من أكثر من طابق واحد‪ ،‬وفجأة ترك السكان‬ ‫تلك القرى المبنية على رؤوس الجبال والهضاب‪ ،‬وفضلوا حفر‬ ‫‪177‬‬


‫مساكن جديدة تحت األرض؟‪ ،‬تتميز بالتقشف الشديد في استخدام‬ ‫الحجر والخشب‪ ،‬وتنتمي مساكنهم الجديدة إلى مرحلة عمارة‬ ‫الكهوف‪ ،‬التي سبقت تاريخيا عمارة القرى المبنية من الحجر‪.‬‬ ‫المجتمع االكتفائي‬

‫كان السؤال الرئيسي يفترض أن الحضارة تتجمد مكانها إذا‬ ‫تعرضت إلى كوابح تمنعها من التطور‪ ،‬ولكنها ال تتراجع إلى‬ ‫مستوى يسبق المستوى الذي وصلت إليه‪ ،‬ولهذا البد أن سكان‬ ‫تلك المناطق قد تعرضوا إلى ظرف استثنائي منعهم أجبرهم على‬ ‫التراجع‪ .‬وهنا أخذ الدارسون يفترضون هذه الظروف القاهرة‪،‬‬ ‫فافترض أحدهم أن الحرفيين الذين كانوا يبنون البيوت الحجرية‬ ‫القديمة قد داهمهم وباء وانقرضوا جميعا‪ ،‬وهكذا لم يبق في المنطقة‬ ‫من يجيد بناء البيوت الحجرية متعددة الطوابق‪ .‬كان على الباحث‬ ‫الليبي الذي خبر المكان الذي ولد فيه أن يصحح من غلو هذه‬ ‫االفتراضات‪ ،‬ففي مجتمع الجبل الغربي ومطماطة‪ ،‬كان الجميع‬ ‫يجيد البناء‪ ،‬وجميع طرق اإلنتاج‪ ،‬كما هي طبيعة المجتمعات‬ ‫االكتفائية‪ ،‬التي بطبيعتها ال تعتمد على متخصصين إال في بعض‬ ‫المجاالت الضيقة‪ ،‬مثل الطب الشعبي‪ ،‬وتحويل األشجار من نوع‬ ‫إلى آخر‪ ،‬أو من صنف إلى صنف ينتمي إلى نفس النوع‪ ،‬أو بعض‬ ‫النساء اللواتي تفوقن في العمل كقابلة‪ ،‬أو اللواتي برعن في نصب‬ ‫المسدى‪ ،‬الذي تصنع من خالله البطاطين والعباءات‪ .‬وخالف هذه‬ ‫‪178‬‬


‫االختصاصات الضيقة فإن أفراد المجتمع االكتفائي يجيدون كل‬ ‫شئ‪ ،‬من الحرث إلى الحصاد‪ ،‬وحفر اآلبار وغيرها من األعمال‬ ‫التي يتعلمها الصغار من الكبار بشكل متوارث‪.‬‬ ‫البيوت الحجرية �أكثر �أمنا‬

‫كان االفتراض الثاني هو الحالة األمنية التي قد تكون أجبرت‬ ‫السكان على مغادرة قراهم الحجرية‪ ،‬والهبوط إلى السهول الطينية‬ ‫حيث حفروا مساكنهم الجديدة‪ ،‬ولكن كل الشواهد تدل على أن‬ ‫القرى الحجرية كانت محصنة ضد الغزو‪ ،‬وذلك ألنها كانت تبنى‬ ‫فوق مناطق عالية محمية بشكل طبيعي بسبب المنحدرات الحادة من‬ ‫ثالث جهات‪ ،‬وتتولى األسوار والخندق حماية الجهة الرابعة‪ ،‬كما‬ ‫كانت القرى مزودة بجسر يصنع من جذوع شجر الزيتون‪ ،‬يتم سحبه‬ ‫إلى الداخل بعد غروب الشمس‪ ،‬ولم ينس السكان بناء قصبة يتولون‬ ‫منها مراقبة المحيط من حولهم بشكل تناوبي‪ ،‬للتحذير من غزو قادم‪،‬‬ ‫والستخدام البوق لتنبيه كل من يوجد خارج األسوار بضرورة العودة‬ ‫على وجه السرعة إلى القرية‪ ،‬كما يمكنهم جعل المهاجمين تحت‬ ‫رحمة طلقاتهم إذا اقتربوا من األسوار‪.‬‬ ‫الموت عط�شا‬

‫بينما ال تلبي البيوت المحفورة تحت األرض هذه االحتياطيات‬ ‫األمنية الشديدة‪ ،‬بل أنها عملت على عزل السكان عن بعضهم بسبب‬ ‫‪179‬‬


‫المساحة الكبيرة نسبيا التي يحتاجها البيت الجديد‪ ،‬مقارنة بالمساحة‬ ‫األصغر في القرية الحجرية‪ ،‬التي تستغل المساحة العمودية أيضا‪.‬‬ ‫بل أن اآلبار توجد خارج هذه البيوت‪ ،‬بينما توجد داخل األسوار‬ ‫في القرى الحجرية‪ ،‬وهكذا يمكن حصار السكان وإجبارهم على‬ ‫االستسالم بسبب العطش‪ ،‬كما أن اللصوص يستطيعون سرقة الماشية‬ ‫الموجودة على عمق حوالي ‪ 12‬مترا من سطح األرض‪ ،‬وذلك بإنزال‬ ‫شبكة عليها أعشاب الستدراج الماشية نحو الشبكة ثم رفعها إلى‬ ‫أعلى‪ ،‬وهو ما يكاد يكون مستحيال في القرى الحجرية‪.‬‬ ‫ال�سر يكمن في �أ�شجار الزيتون‬

‫لم يجد الباحثون سببا لهذا النكوص المعماري سوى بالعودة‬ ‫إلى دراسة القرى الحجرية نفسها‪ ،‬ففيها يكمن الجواب‪ ،‬ذلك أنه‬ ‫قبل ظهور األسمنت كان الناس يعتمدون على الجص‪ ،‬ولصناعة‬ ‫الجص ليكون بمثابة أسمنت‪ ،‬كانوا يجمعون التربة الجيرية البيضاء‪،‬‬ ‫ويضعونها في فرن لتتحول بعد الحرق إلى مادة قادرة على تثبيت‬ ‫األحجار مثل األسمنت‪ ،‬ولكن لبناء غرفة واحدة كانوا في حاجة لكمية‬ ‫كبيرة من الخشب‪ ،‬وهنا بدأ السر الغامض يتضح‪ .‬تتميز المناطق الثالثة‬ ‫في الجبل الغربي بليبيا‪ ،‬ومطماطة بتونس‪ ،‬ومنطقة في شمال الصين‪،‬‬ ‫بالتشابه الشديد في البيئة‪ ،‬ومعدل سقوط األمطار‪ ،‬وهي مناطق تعتمد‬ ‫على الزراعة العلية لصعوبة الوصول إلى المياه الجوفية بتقنية ذلك‬ ‫الزمان‪ ،‬ومن أهم األشجار التي تنمو في هذه البيئة أشجار الزيتون‬ ‫‪180‬‬


‫والتين واللوز والكروم‪ ،‬ويعتبر شجر الزيتون أهم هذه األشجار‬ ‫كوقود‪ ،‬ولكن تحتاج أشجار الزيتون إلى سنوات‪.‬‬

‫طويلة من العناية الفائقة لتثمر‪ ،‬وبالرغم من أنها من األشجار‬ ‫المعمرة التي تعيش آالف السنين‪ ،‬إال أن فقد شجرة واحدة يصعب‬ ‫تعويضها في جيل‪ ،‬ويعتقد أن السيد المسيح استظل بشجرة زيتون في‬ ‫فلسطين ال تزال قائمة حتى اليوم‪ ،‬ولهذا يطلق سكان الجبل الغربي‬ ‫على شجر الزيتون المعمر اسم الزيتون الفرعوني لقدمه الشديد‪ ،‬ولبناء‬ ‫غرفة واحدة أو غرفتين في القرية الحجرية قد يكلف صاحبها شجرة‬ ‫زيتون معمرة ال أحد يعرف من غرسها‪ ،‬لهذا خاف السكان أن يفقدوا‬ ‫غطائهم النباتي وشجر زيتونهم الحيوي الذي أبقاهم أحياء في جبل‬ ‫بارد في الشتاء‪ ،‬وفي نهاية األمر فضلوا التضحية بقراهم الحجرية عن‬ ‫التضحية بشجر الزيتون والخروب والبطم وغيرها‪.‬‬ ‫بيت على �شكل رحم‬

‫تتميز البيوت الجديدة بتقشف شديد في استخدام الخشب‪ ،‬فهي‬ ‫عبارة عن فناء مفتوح على السماء‪ ،‬بعمق حوالي من ‪ 12‬إلى ‪ 15‬مترا‬ ‫تحت سطح األرض‪ ،‬ويصل طول ضلعه ما بين ‪ 10‬إلى ‪ 15‬مترا‪،‬‬ ‫ويمكن الدخول إلى البيت من خالل القوس الذي يوجد على سطح‬ ‫األرض‪ ،‬والذي يقود إلى سقيفة طويلة تنحدر بالتدريج حتى تصل إلى‬ ‫الباب الرئيسي المصنوع من شجر الزيتون‪ ،‬كما يستخدم الخشب في‬ ‫سقف القوس الخارجي الذي يمتد إلى مسافة متر أو مترين‪ ،‬باإلضافة‬ ‫‪181‬‬


‫إلى أبواب الغرف التي عادة تصنع من خشب أقل سمكا من الباب‬ ‫الرئيسي‪ ،‬الذي يفتح على فناء محفور في الطين يسمى «المدور»‬ ‫إلمكانية دوران الحيوانات به وخاصة ذات الحجم الكبير مثل اإلبل‬ ‫والحمير والخيل‪ ،‬وهو مخصص للحيوانات وخاصة األغنام والماعز‪،‬‬ ‫ويقود المدور إلى الفناء‪ ،‬الذي يتوسطه « الحفير»‪ ،‬وهي حفرة مغطاة‬ ‫بالكامل بالخشب العادي غير خشب الزيتون‪ ،‬ويوضع بها الملح‬ ‫المتصاص مياه المطر التي تهطل مباشرة على الفناء‪ ،‬الذي تفتح عليه‬ ‫الغرفة‪ ،‬التي يتجنب عند حفرها الجهة التي تأتي منها الرياح والمطر‪،‬‬ ‫وهي جهة الشمال والغرب‪ ،‬لذلك فأغلب الغرف تفتح نحو الجنوب‬ ‫والشرق‪ ،‬وتمتد الغرفة التي يكون سقفها محدبا‪ ،‬حيث يطلقون عليه‬ ‫«ظهر الحمار» مسافة خمسة إلى ستة أمتار‪ ،‬ويمكن حفر غرف صغيرة‬ ‫داخل الغرفة الرئيسية‪ ،‬أهمها غرفة األطفال التي ترتفع مسافة نصف‬ ‫متر عن سطح الغرفة‪ ،‬وغرف صغيرة لتخزين المحاريث والمعاول‪،‬‬ ‫وفي نهاية الغرفة توجد مصطبة مصنوعة من الطين تعزل بستار عن‬ ‫بقية الغرفة باعتبارها سرير الزوجين‪ ،‬وتطلى الغرف بالجير‪ ،‬وتتولى‬ ‫النساء صيانة البيت كلما سببت األمطار ببعض األضرار‪ ،‬وذلك‬ ‫بخلط الطين مع التبن وتعويض األجزاء المفقودة‪ ،‬كما يوجد بالبيت‬ ‫مطبخ صغير تحتمي فيه النساء من البرد والمطر أثناء الطبخ الذي‬ ‫كان يتم على الحطب‪ ،‬وتجلب المياه من آبار خارج البيت‪ ،‬بينما يتم‬ ‫التخلص من الفضالت اآلدمية والحيوانية في المزبلة‪ ،‬التي يستخدم‬ ‫زبلها كسماد‪ ،‬وللتنبيه وخاصة في الظالم على وجود بيت محفور‬ ‫أمام العابرين‪ ،‬يترك تراب الحفر ليحيط بفناء البيت من الخارج من‬ ‫‪182‬‬


‫الجهات األربع‪ ،‬وتسمى كل واحدة منها»الكدوة»‪ ،‬بينما يتم تصريف‬ ‫مياه المطر التي تقترب من فتحة الفناء‪ ،‬من خالل مجرى يحيط بفناء‬ ‫البيت من الخارج يسمى « الوني»‪ ،‬وتتميز هذه البيوت بالدفء شتاء‪،‬‬ ‫وبالبرودة صيفا‪ ،‬وهو ما يوفر مزيدا من الحطب‪ ،‬ويحافظ على البيئة‪،‬‬ ‫وعلى األشجار المثمرة‪ ،‬ويجعل اإلنسان يلتصق بمسقط رأسه مهما‬ ‫كانت الظروف صعبة‪ ،‬ويمكن دراسة هذا المثال كنموذجي ابتكره‬ ‫ناس ال يملكون شيئا من التقدم العلمي والتقني‪ ،‬على كيفية قدرة‬ ‫اإلنسان على التكيف مع البيئة وليس كمسيطر على البيئة‪.‬‬

‫‪183‬‬



‫نهاية طاغية وبداية طغاة جدد‬ ‫يستقبل الليبيون الذكرى الثالثة لمقتل القذافي وهم منقسمون‬ ‫أشد االنقسام‪ ،‬فالكثير منهم الذين ساندوا ثورة ‪ 17‬فبراير يشعرون‬ ‫اليوم بالندم حتى أنهم توقفوا عن وصفها بالثورة‪ ،‬أما الذين ال يزالون‬ ‫يساندون هذه الثورة ويستخدمون شعاراتها للوصول إلى مآربهم‪،‬‬ ‫فهم غالبا من رجال المليشيات التي تسيطر على بعض المدن هنا‬ ‫وهناك‪.‬‬

‫بعض الليبيين وخاصة المهجرين في الخارج ال يزالون يتعلقون‬ ‫بالقذافي‪ ،‬وبعضهم ال يصدق أنه قتل‪ ،‬ويقارنون عهده بالعهد‬ ‫المضطرب الذي تمر به ليبيا‪ ،‬وينفون أنه كان طاغية نكل بالليبيين‬ ‫طوال أكثر من أربعة عقود‪ .‬في الذكرى الثالثة لمقتل الطاغية يدرك‬ ‫أغلب الليبيين أن رحيل الطاغية ال يعني نهاية الطغيان‪ ،‬فظهور القذافي‬ ‫وتحوله إلى طاغية يؤكد أن الطغيان متجذر في الثقافة والبيئة الليبية‪،‬‬ ‫وحتى إذا استبدلنا القذافي بأي ليبي آخر فحتما سيظهر الطاغية‪ ،‬مثلما‬ ‫ظهر في كل تاريخ ليبيا‪ ،‬والدليل على ذلك هو كل هؤالء الطغاة الذين‬ ‫‪185‬‬


‫تعج بهم البالد‪ ،‬بعد أن سيطروا على السالح‪ ،‬الذي أصبح خطابهم‬ ‫الوحيد في وجه الجميع‪.‬‬ ‫ال أحد يدعي بأنه فجر ثورة فبراير‪ ،‬إال إذا اعتبرنا النساء المسنات‬ ‫اللواتي كن يتظاهرن كل يوم سبت في بنغازي‪ ،‬مطالبات بالكشف‬ ‫عن مصير أبنائهن الذين قتلوا في مجزرة سجن أبو سليم‪ ،‬هن من‬ ‫فجر الثورة‪ ،‬كما أننا يجب أن نأخذ بعين االعتبار التصحر الذي صنعه‬ ‫القذافي في المجتمع والدولة الليبية‪ ،‬بحيث ينهار كل شيء عندما‬ ‫يغادر المسرح‪ ،‬وهذا ما حدث بالفعل‪ .‬فالقذافي انتقم من الليبيين‬ ‫وهو حي‪ ،‬وانتقم منهم وهو ميت‪ ،‬فبعد مقتله اكتشفنا أنه لم يترك‬ ‫جيشا وطنيا يحمي التراب الوطني والسلم االجتماعي‪ ،‬كما أنه‬ ‫لم يترك دولة بالمفهوم الحديث للدولة‪ .‬فبمجرد اقتراب الثوار من‬ ‫طرابلس اختفى القذافي واختفى معه رجال الخيمة‪ ،‬ودخلت البالد‬ ‫إلى مرحلة من الفوضى غير المسبوقة‪ .‬وكان على الليبيين أن يبدوأوا‬ ‫من الصفر‪ ،‬فالتراث الذي تركه العهد الملكي اختفى بالكامل في عهد‬ ‫القذافي‪ ،‬واإلدارات المستقلة اختفت منذ أن نصب القذافي خيمته‬ ‫في باب العزيزية‪ ،‬وأصبح يوجه الجميع بالهاتف ومن خالل قسم‬ ‫المعلومات و»قلم القائد»‪ .‬ثمة من يرى أن سيناريو التوريث كان‬ ‫أفضل السيناريوهات للتغيير في ليبيا‪ ،‬فبعد أن يبني سيف اإلسالم‬ ‫القذافي يمكن التخلص منه خالل عقد واحد‪ ،‬ولكن البعض اآلخر‬ ‫يرى أن سيناريو التوريث سيفضي إلى نزاعات دموية بين أبناء القذافي‪،‬‬ ‫وستنقسم ليبيا مثلما هي منقسمة اليوم وسيسيل الدم مثلما يسيل اليوم‪.‬‬ ‫‪186‬‬


‫وألننا ال نستطيع تغيير التاريخ فعلينا أن نعمل على إخراج البالد‬ ‫من عنق الزجاجة‪ ،‬بدال من الترحم على عهد الطاغية‪ ،‬أو استخدام‬ ‫ثورة فبرابر‪ ،‬مثلما استخدم القذافي «ثورة سبتمبر» فشنق باسمها وقتل‬ ‫ونفى وسجن كل معارض‪.‬‬

‫‪187‬‬



‫علي زيدان كما عرفته‬ ‫تعرفت على السيد علي زيدان في المنفى عام ‪.2008‬كان يقيم‬

‫في المانيا‪ ،‬وينشط في الرابطة الليبية لحقوق اإلنسان ومقرها في‬

‫جنيف‪ ،‬والتي كان قد أسسها مع الدكتور سليمان أبو شويقير سفير‬

‫ليبيا الحالي في سويسرا قبل سنوات من مغادرتي لليبيا‪.‬‬

‫أول مرة اتصل بعلي زيدان كانت من إذاعة هولندا العالمية ألجري‬

‫معه لقا ًء حول آخر التطورات في ليبيا‪ ،‬ثم توطدت العالقة بيني وبينه‪،‬‬

‫وبيني وبين الدكتور أبو شويقير‪ ،‬فكان يبعثان إلى بآخر بيانات الرابطة‪،‬‬ ‫وفي نفس العام طلبا مني أن أمثل الرابطة في مؤتمر حول حرية اإلعالم‬

‫والتعبير بالدار البيضاء في المغرب‪.‬‬

‫وفي عطلة نهاية األسبوع سافرت إلى هناك‪ ،‬حيث وجدت‬

‫ممثلين لمنظمات تمثل الدول المغاربية الخمس‪ .‬بعد نجاح ذلك‬

‫المؤتمر دعاني مرة أخرى للسفر إلى مدينة الجديدة بالمغرب‪،‬‬

‫حيث يعقد تجمع كبير لمنظمات المجتمع المدني المغاربية‪ .‬عندما‬ ‫‪189‬‬


‫وصلت وجدت ازدحاما كبيرا في جامعة الجديدة‪ ،‬وخليطا متنافرا‬ ‫من اإلسالميين والماركسيين والليبراليين‪ ،‬ووسط ذلك الزحام اقترب‬ ‫مني رجل يضع على عينيه نظارة سميكة‪ ،‬ويتظاهر بأنه يقرأ صحيفة‪،‬‬ ‫وعندما وصل إلى جانبي قال لي‪ :‬أنت عمر الكدي؟ التفت إليه‬ ‫فوجدت السيد علي زيدان وهو يهم باحتضاني‪ .‬انتبهت مبكرا لحذره‬ ‫األمني‪ ،‬وقبل أن ألتقي به وجها لوجه‪ ،‬كانت صلتي الوحيدة به هي‬ ‫فقط المكالمات الهاتفية‪ ،‬ولم أجد صورة واحدة له على االنترنت‪،‬‬ ‫بينما كانت صوري متوفرة‪ ،‬ومن خالل هذه الصور تمكن من التعرف‬ ‫علي بسهولة وسط تلك الجوقة الغريبة في جامعة الجديدة‪.‬‬ ‫بدأ علي زيدان حياته العملية كدبلوماسي في وزارة الخارجية‪،‬‬ ‫وسرعان ما أرسل إلى السفارة الليبية في الهند‪ ،‬وعندما انشق الدكتور‬ ‫محمد المقريف بينما كان يشغل منصب سفير ليبيا في الهند انشق‬ ‫معه‪ ،‬وساهم معه في تأسيس الجبهة الوطنية إلنقاذ ليبيا‪ ،‬خالل‬ ‫تلك الرحلة الطويلة ُعرف علي زيدان بمهامه األمنية أكثر من أي‬ ‫دور آخر‪ ،‬فكان يستطيع جمع معلومات مؤكدة من ليبيا‪ ،‬في وقت‬ ‫لم يكن فيه أنترنت أو هواتف محمولة‪ ،‬وكانت جميع المكالمات‬ ‫الخارجية مسجلة‪ ،‬كما أشرف على الترتيبات األمنية ألمين عام‬ ‫الجبهة‪ ،‬عندما يذهب للقاء شخصيات ليبية من الداخل‪ ،‬أو ضباط‬ ‫من أجهزة المخابرات التي تعاملوا معها‪ ،‬فكان يسبق األمين العام إلى‬ ‫مكان االجتماع ويؤمنه‪ .‬عام ‪ 1993‬حدث انشقاق كبير في صفوف‬ ‫الجبهة الوطنية إلنقاذ ليبيا‪ ،‬وكان علي زيدان من ضمن المنشقين‪ ،‬بعد‬ ‫‪190‬‬


‫فشل المحاولة االنقالبية التي قادها العقيد مفتاح قروم‪ ،‬الذي اتصل‬ ‫بالجبهة طالبا تأمين االتصال مع ضباط من السي أي أيه ليعرف مدى‬ ‫قبول األمريكان النقالبه‪ ،‬وبعد عودته إلى ليبيا بدأت االعتقاالت في‬ ‫صفوف االنقالبيين‪ ،‬وثمة من حمل الجبهة مسئولية ذلك‪ ،‬وعندها‬ ‫اتهمت الجبهة علي زيدان بـأنه على صلة بالمخابرات الليبية بسبب‬ ‫دقة معلوماته‪ .‬بالرغم من غيابه الطويل عن ليبيا منذ عام ‪ 1981‬إال أنني‬ ‫لم أجد منفيا ليبيا يعرف التطورات اليومية في ليبيا مثل علي زيدان‪،‬‬ ‫فهو قادر على الحديث بلغة مشفرة مع مصادره داخل البالد‪ ،‬بحيث‬ ‫ال ينتبه من يراقب المكالمة لحجم المعلومات التي يحصل عليها‪.‬‬ ‫في مؤتمر الجديدة عام ‪ 2009‬وجدت عددا كبيرا من أعضاء اللجان‬ ‫الثورية‪ ،‬ومن أعضاء جهاز األمن الخارجي والداخلي يشاركون في‬ ‫المؤتمر‪ ،‬وكنا فقط ثالثة علي زيدان والدكتور أبو شويقير وأنا‪ ،‬وعندما‬ ‫بدأت الجلسات دعي علي زيدان لقراءة تقرير الرابطة الليبية لحقوق‬ ‫اإلنسان‪ ،‬وبمجرد جلوسه خلف المنصة‪ ،‬اندفع أعضاء اللجان الثورية‬ ‫والمخابرات ومنعوه من قراءة التقرير‪.‬‬ ‫ووقفت فوق الكراسي وأخذت‬ ‫انفعلت‬ ‫كان هادئا جدا بينما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أخاطب الحاضرين بأعلى صوتي وأنا أصرخ «انظروا ثقافة اللجان‬ ‫الثورية والمخابرات‪ .‬يمنعونه من قراءة تقرير وهو في المغرب‪ .‬فماذا‬ ‫سيحدث له لو عاد إلى ليبيا»‪ .‬بعد أن عدت إلى مقعدي‪ ،‬اكتشفت‬ ‫أن عددهم أصبح كبيرا‪ ،‬وأنهم استدعوا الطلبة الليبيين الدارسين في‬ ‫المغرب‪ ،‬وعندها خشيت على سالمته فقفزت باتجاه المنصة ووقفت‬ ‫‪191‬‬


‫خلفه‪ ،‬وقلت له‪ :‬اقرأ التقرير‪ .‬لكنه أخذ يماطل بذكاء‪ ،‬فيهم بقراءة‬ ‫التقرير وعندما يراهم يندفعون نحو المنصة يتوقف‪ ،‬وأخيرا قال لهم‪:‬‬ ‫طيب ال تريدونني قراءة التقرير لن أقرأه‪ .‬وهنا انفعلت بشدة طالبا منه‬ ‫قراءة التقرير‪ ،‬فرد علي بهدوء قائال‪ :‬وماذا يوجد في التقرير؟ أليس ما‬ ‫حدث اآلن أمام كل هؤالء الشهود أفضل من كل التقارير؟‬

‫بعد الثورة اتصلت به عدة مرات باعتباره ممثل المجلس الوطني‬ ‫االنتقالي في االتحاد األوروبي‪ ،‬وذات مرة اتصل بي المناضل الراحل‬ ‫محمد بن حميدة‪ ،‬والذي كان يقيم في المانيا وله عالقة جيدة مع وزارة‬ ‫الخارجية األلمانية‪ ،‬فقال لي إنه رتب مع وزارة الخارجية األلمانية‬ ‫الجتماع بين موظف كبير في الوزارة‪ ،‬ورئيس المكتب التنفيذي الدكتور‬ ‫محمود جبريل‪ ،‬ويريدني أن أخبر جبريل بذلك‪ ،‬فقلت له جبريل‬ ‫سيرفض هذا اللقاء إذا لم يكن مع وزير الخارجية األلماني نفسه‪ ،‬فسألني‬ ‫وما الحل‪ ،‬فقلت له سأتصل بعلي زيدان ليقابل الموظف الكبير ويمهد‬ ‫للقاء بين جبريل ووزير الخارجية األلماني‪ ،‬تمهيدا العتراف المانيا‬ ‫بالمجلس الوطني االنتقالي‪ ،‬وعندما اتصلت به رد على الفور‪ ،‬وقال‬ ‫لي إنني في قصر االليزيه‪ ،‬سأتصلك بك بعد نهاية اللقاء مع الرئيس‬ ‫ساركوزي‪ ،‬وفعال اتصل بي وعندما شرحت له األمر قررفورا السفر‬ ‫إلى المانيا‪ .‬هذا هو زيدان كما عرفته‪ .‬ذكي وعملي‪ ،‬وحكيم وبعيد‬ ‫النظر‪ ،‬ولكنه في نفس الوقت ضعيف وسط هذه المليشيات‪ ،‬وال يجيد‬ ‫استخدام القوة حتى عندما تتوفر له‪ ،‬وعندما اختير رئيسا للوزراء قلت‬ ‫ألصدقائي إذا لم يخرجنا زيدان من هذه الورطة فلن يخرجنا أحد‪.‬‬ ‫‪192‬‬


‫دعوة لمحاربة الكائنات الف�ضائية‬ ‫طغى على أخبار األسبوع الماضي خبر وجود كائنات فضائية‬

‫بين البشر منذ آالف السنين‪ ،‬وفقا لتصريحات بول هالير وزير الدفاع‬ ‫الكندي السابق في مقابلة تلفزيونية‪ ،‬حيث أكد وجود هذه الكائنات‬

‫على كوكب األرض‪ .‬قائال‪« :‬هناك اتحاد للكائنات الفضائية يراقب‬

‫ما يقوم به البشر‪ ،‬لكنه ال يتدخل في شؤوننا»‪ .‬وأكد الوزير أنه شخصيا‬

‫اجتمع مع مسؤولي هذا االتحاد الفضائي فأعربوا له «عن خيبة أملهم‬

‫من البشر»‪.‬‬

‫بالتأكيد ال يمكن تجاهل هذه التصريحات التي قالها مسؤول سابق‬

‫عرف بالجدية واإلطالع الواسع‪ ،‬لوال أنه بلغ الحادية والتسعين وهو‬ ‫ما يشكك قليال في صدق تصريحاته‪ ،‬إال بعد إجراء كشف عن قواه‬ ‫العقلية والنفسية‪.‬‬

‫وكالة أنباء فارس اإليرانية تلقفت الخبر وأضافت له المزيد‪ ،‬حيث‬

‫جعلت من هذه الكائنات متحالفة مع هتلر في الحرب العالمية الثانية‪،‬‬ ‫‪193‬‬


‫بالرغم من خسارة هتلر للحرب‪ ،‬وأنها فرت من المانيا إلى أمريكا‬ ‫على متن غواصة المانية اتجهت بهم إلى صحراء نيفادا‪ ،‬األمر الذي‬ ‫جعلني أتساءل لماذا تهرب الكائنات الفضائية في غواصة وليس‬ ‫في طائرة‪ ،‬ولماذا الغواصة تبحر إلى نيفادا التي ال تطل على البحر؟‬ ‫هل توجد كائنات فضائية على كوكب األرض؟ وهل توجد حياة‬ ‫في الكواكب األخرى؟ سؤال ال يزال اإلنسان يحاول سبر أغواره‪،‬‬ ‫وما الحضارة البشرية إال في أولى خطواتها بالرغم من التقدم الكبير‬ ‫الذي أحرزته حتى اآلن‪ ،‬ولكني متأكد من وجود مثل هذه الكائنات‬ ‫في ليبيا‪ ،‬قبل ثورة السابع عشر من فبراير وبعدها‪ ،‬وهي كائنات شريرة‬ ‫البد من محاربتها والقضاء عليها‪ ،‬من أجل مصلحة ليبيا الموحدة‬ ‫واآلمنة والمسالمة والساعية إلى التقدم‪.‬‬

‫من يتأمل القذافي سيجد فيه مالمح كائن فضائي حطت به مركبته‬ ‫في صحراء سرت‪ ،‬ومن هناك أخذ يفكر في االستيالء على السلطة‬ ‫في البالد‪ ،‬حيث تمكن من التأثير في بعض التالميذ األغبياء أمثال‬ ‫أبو بكر يونس جابر‪ ،‬وعبد السالم جلود‪ ،‬والخويلدي الحميدي‬ ‫للقيام باالنقالب العسكري‪ ،‬والدليل على ذلك هو حنينه إلى الفضاء‬ ‫الخارجي من خالل قصته «انتحار رائد الفضاء»‪.‬‬ ‫شخصيا اعتبر جميع أعضاء أنصار الشريعة كائنات فضائية‪،‬‬ ‫جاءوا من كوكب متخلف ال يزال سكانه يعيشون في القرن السابع‬ ‫الميالدي‪ ،‬ويحاولون إعادة كوكب األرض إلى ذلك القرن البعيد‪،‬‬ ‫وهم المسئولون عن االغتياالت في بنغازي ودرنة‪ ،‬كما أن الذي‬ ‫‪194‬‬


‫خطف الطفل رضوان محمد المزوغي ثم أفرج عنه مقابل ربع مليون‬ ‫دينار كائن فضائي‪ ،‬ومن أطلق قذيفة ار بي جي على بيت الصحفي‬ ‫محمود المصراتي كائن فضائي أيضا‪.‬‬

‫إبراهيم الجضران ومن معه كائنات فضائية جاءت من كوكب بعيد‬ ‫لتستغل النفط الليبي‪ ،‬والدليل أن عبد ربه البرعصي نجا من محاولة‬ ‫اغتيال‪ ،‬بينما فشل غيره من النجاة من مئات االغتياالت‪ ،‬يمكنني‬ ‫إضافة بعض أعضاء المؤتمر الوطني إلى قائمة الكائنات الفضائية‪،‬‬ ‫وخاصة الذين فرضوا قانون العزل السياسي بالقوة‪.‬‬

‫تصنيف هؤالء ككائنات فضائية يسهل التخلص منهم‪ ،‬ومن‬ ‫خطرهم على مستقبل ليبيا‪ ،‬وعندما أقول محاربتهم ال أقصد استخدام‬ ‫السالح لقتالهم‪ ،‬وإنما استخدام كل السبل بما في ذلك سالح النكتة‬ ‫التي منعها القذافي بقرار‪ ،‬وهو ما يؤكد أن الكائنات الفضائية تكره‬ ‫النكتة‪ ،‬كما أنها تكره السخرية منها واحتقارها ونبذها اجتماعيا‪،‬‬ ‫وفقا لتصريحات نعمان بن عثمان الذي كان ذات يوم كائنا فضائيا‪.‬‬

‫‪195‬‬



‫لماذا ت�أخر الم�سلمون وتقدم غـيرهم؟‬ ‫منذ أن سأل شكيب أرسالن سؤاله الشهير في كتابه «لماذا تأخر‬ ‫المسلمون وتقدم غيرهم؟»‪ ،‬ومحاوالت اإلجابة عن هذا السؤال‬ ‫تتوالى‪ ،‬دون أن تصل إلى ذلك الجواب الشافي‪ .‬ويبدو أن ذلك عائد‬ ‫إلى تغليب األيديولوجي على المعرفي في معظم هذه اإلجابات‪،‬‬ ‫خاصة أن المسلمين انقسموا أمام هذا السؤال إلى ثالثة تيارات‪ :‬تيار‬ ‫يقول إن العودة إلى جذور اإلسالم‪ ،‬ومحاكاة ما فعله السلف‪ ،‬الطريق‬ ‫الوحيدة إلى التقدم‪ .‬فيما يدعو التيار الثاني إلى محاكاة الغرب في كل‬ ‫شيء‪ ،‬بما في ذلك تجربته في فصل الدين عن الدولة‪ .‬بينما يرى التيار‬ ‫الثالث أن أفضل طريق للتقدم هي محاكاة الغرب في تقدمه المادي‪،‬‬ ‫ومحاكاة السلف في ما يخص الجانب المعنوي‪ .‬ومنذ ذلك الحين‬ ‫تم تجريب التيارات الثالثة دون تحقيق نتيجة تذكر‪.‬‬ ‫على الصعيد السياسي‪ ،‬تم تجريب جميع أنواع األنظمة السياسية‬ ‫منذ أن استقلت الدول العربية واإلسالمية‪ ،‬وانتهت جميعها إلى‬ ‫فشل ذريع‪ .‬بدأت بعض الدول بالبحث عن ملك من قريش‪ ،‬وإذا‬ ‫‪197‬‬


‫لم يتوافر محليا يتم استيراده من أقرب بلد‪ .‬هذا ما حدث مع سوريا‬ ‫التي استعارت الملك فيصل من الحجاز‪ ،‬وعندما احتل الفرنسيون‬ ‫سوريا بعد معركة ميسلون‪ ،‬استدعى العراقيون الملك فيصل على‬ ‫الفور‪ ،‬ونصب األردنيون شقيقه عبدالله ملكا عليهم‪ ،‬بينما حاول‬ ‫المصريون اإلجابة عن السؤال في ظل حكم أحفاد األلباني محمد‬ ‫علي‪ ،‬ورضي الليبيون بحفيد مهاجر جزائري ملكا عليهم‪.‬‬

‫من الواضح أن هذه الشعوب لجأت إلى هذا الحل تهربا من‬ ‫االنقسامات الحادة ذات الطابع الطائفي‪ ،‬والجهوي‪ ،‬والقبلي‪ .‬ومنذ‬ ‫ذلك الحين أخفيت هذه االنقسامات‪ ،‬ومنعت من الظهور العلني‪.‬‬ ‫وهكذا ولدت الدولة القطرية وهي تحمل بذور موتها‪ ،‬خاصة بعد‬ ‫أن اكتشف العسكر أنهم أقوى طرف في الدولة‪ ،‬فاستولوا على‬ ‫السلطة بالقوة‪ ،‬وساهموا في إخفاء االنقسامات القديمة تحت سطوة‬ ‫القوة‪ ،‬والخيار األيديولوجي الذي تبناه الزعيم‪ .‬وبدال من مناقشة‬ ‫االختالفات المذهبية والعرقية والقبلية بين المواطنين‪ ،‬أصبح اإلعالم‬ ‫الرسمي يناقش انهيار االتحاد السوفييتي أو الواليات المتحدة‪ ،‬ونصرة‬ ‫الشعوب المحبة للعدل والسالم‪.‬‬ ‫ربما لهذا السبب اندهش المراقبون من تفجر الخالف بين السنة‬ ‫والشيعة في العراق‪ ،‬ووصوله إلى هذا الحد من البشاعة‪ ،‬ألنه منذ‬ ‫البداية لم يبن العراق على أساس مكوناته الواقعية‪ ،‬ليس فقط ألن‬ ‫البريطانيين اختاروا السنة لحكم البلد‪ ،‬ولكن ألن جيل االستقالل‬ ‫قصد تجاهل الواقع حفاظا على وحدة وطنية كانت فقط محروسة‬ ‫‪198‬‬


‫بالسالح‪ ،‬ولم تنشأ من خالل تعاقد الناس على صيغة تجمعهم‪،‬‬ ‫وتحفظ مصالحهم‪ .‬واكتفى هذا الجيل بكون الملك فيصل من‬ ‫آل البيت‪ ،‬وهو ما يريده الشيعة‪ ،‬وبالتالي فهو من قريش كما يريد السنة‪.‬‬

‫يبدو أن كل ما حدث منذ االستقالل أشبه ما يكون ـ وفقا للغة‬ ‫المسرحية ـ بـ «بروفا جنرال»‪ .‬وحتى الدساتير التي حكمت من‬ ‫خاللها هذه المجتمعات لم تنبثق منها‪ ،‬وكانت في األغلب مستوردة‪،‬‬ ‫أو صاغها موظفون يعملون في األمم المتحدة‪ .‬ولم يكن الناس على‬ ‫وعي بهذه الدساتير‪ ،‬طالما أنهم يحلون خالفاتهم عن طريق منظومة‬ ‫موازية من التقاليد واألعراف العشائرية والقبلية‪ ،‬لدرجة أن أحدا‬ ‫لم يأسف على اختفاء هذه الدساتير عندما ألغاها االنقالبيون‪ .‬ومنذ‬ ‫ذلك الحين ظلت هذه الدساتير تتغير بالجملة والقطاعي‪ ،‬وثمة بلدان‬ ‫تعيش منذ أربعين عاما بدون دستور‪ ،‬طالما أن كل ما يقوله الزعيم‬ ‫يرقى إلى حكم الدستور‪.‬‬

‫كان شكيب أرسالن عندما طرح سؤاله المهم عام ‪ 1939‬يقصد‬ ‫بالغير «الغرب» وليس بقية العالم‪ .‬فاالحتكاك مع الغرب هو الذي‬ ‫جعل العالم اإلسالمي يدرك تأخره‪ .‬ومنذ ذلك الحين تحول الغرب‬ ‫إلى طرف أساسي في المعادلة باالنحياز له أو االنحياز ضده‪ ،‬وال أدري‬ ‫لماذا هذا اإلصرار على الغرب‪ ،‬طالما أن هناك تجارب ناجحة في‬ ‫آسيا‪ ،‬وأميركا الالتينية تستحق الدراسة والتأمل‪ ،‬خاصة أن هذه‬ ‫المجتمعات تشبه المجتمعات اإلسالمية أكثر من الغرب‪ ،‬ومرت‬ ‫تقريبا بنفس األطوار؟‬ ‫‪199‬‬



‫ع�سكر �سو�سة‪..‬جينات ليبيا تتقاتل‬ ‫في العام ‪ 1795‬ساعد باي تونس األسرة القراهمانللية في استعادة‬ ‫عرشها في طرابلس‪ ،‬بعد ثالث سنوات وهي في المنفى التونسي‪،‬‬ ‫عندما تمكن علج مغامر يدعى علي برغل من االستيالء على المدينة‬ ‫بفرمان عثماني مزور‪ ،‬ولم يكن باي تونس يفكر في التدخل‪ ،‬لوال‬ ‫مغامرة علي برغل المكلفة عندما احتل جزيرة جربة‪ ،‬فجرد باي تونس‬ ‫حملة عسكرية تجمعت في مدينة سوسة الساحلية‪ ،‬لذلك أطلق سكان‬ ‫طرابلس على أولئك العسكر الذين ارتكبوا الفظائع في طرابلس اسم‬ ‫عسكر سوسة‪ ،‬خاصة أن علي القراهمانللي لم تكن لديه األموال‬ ‫لمكافأة «عسكر سوسة»‪ ،‬وقوات القبائل البدوية التي التحقت بالحملة‬ ‫على طول الطريق إلى طرابلس‪ ،‬فقرروا استباحة المدينة لمدة ثالثة‬ ‫أيام‪ ،‬نهبوا فيها البيوت والمتاجر واغتصبوا النساء وسلبوا حليهن‪،‬‬ ‫وقتلوا وعذبوا ونكلوا‪ ،‬وحتى مطلع السبعينات من القرن العشرين‬ ‫كانت عبارة «عسكر سوسة» ال تزال رائجة بين سكان المدينة‪ ،‬ولكنها‬ ‫تحولت إلى شتيمة‪ ،‬تطلق على كل من يتصرف تصر ًفا غير الئق‪.‬‬ ‫‪201‬‬


‫اليوم يعود عسكر سوسة ليستبيحوا طرابلس‪ ،‬ولكن هذه المرة‬ ‫لم يأتوا من تونس‪ ،‬وإنما جاءوا من «المدن المنتصرة والمهزومة»‪،‬‬ ‫وبحجة أنهم الثوار وغيرهم لم يثوروا‪ ،‬وإنما مجرد «أزالم» وقفوا‬ ‫مع الطاغية حتى النهاية‪ ،‬وتقدر بعض التقارير عدد ميليشيات عسكر‬ ‫سوسة اليوم بنحو ‪ 1700‬ميليشيا‪ ،‬أما عدد أفرادها فيتراوح ما بين ‪200‬‬ ‫ألف و‪ 250‬أل ًفا حسب تقرير برلماني صدر العام ‪ ،2013‬معظم هذه‬ ‫الميليشيات ميليشيات قبلية أو جهوية‪ ،‬وبعضها ميليشيات مؤدلجة‬ ‫ترتبط بتنظيم اإلخوان المسلمين والجماعات اإلسالمية المتطرفة‪،‬‬ ‫ولكن جميعها ال تريد تسليم سالحها‪ ،‬وال تسليم ممتلكات الدولة‬ ‫التي سيطرت عليها باعتبارها غنائم حرب‪.‬‬

‫عندما دخل مقاتلو الزنتان ومصراتة إلى طرابلس كانت المدينة‬ ‫محررة بالكامل‪ ،‬الزنتان اختاروا مطار طرابلس الدولي بحجة‬ ‫حمايته‪ ،‬ولم يخرجوا منه بعد‪ ،‬اكتفوا بمسرحية اصطحبوا فيها‬ ‫مصطفى عبدالجليل إلى المطار‪ ،‬وأعلنوا أنهم سلموا المطار للدولة‪،‬‬ ‫واختفى مختار األخضر بعمامته السوداء من المطار‪ ،‬وحل محله أوالد‬ ‫عمه‪ ،‬أما مقاتلو مصراتة فاختاروا حي غرغور ومراكز حيوية أخرى‪،‬‬ ‫واضطروا للخروج من غرغور بعد أن ارتكبوا مجزرة دموية قتلوا فيها‬ ‫متظاهرين مسالمين أكثر مما قتلت قوات القذافي من المتظاهرين‬ ‫الذين خرجوا في طرابلس يوم ‪ 20‬فبراير ‪.2011‬‬

‫بعد أكثر من ثالث سنوات يتصارع الطرفان على جبهتين سياسية‬ ‫وعسكرية‪ ،‬الزنتان اختاروا التيار الليبرالي بقيادة محمود جبريل‪،‬‬ ‫‪202‬‬


‫ووفروا له الحماية الكاملة واألموال التي نهبوها من الدولة ومن‬ ‫أسيرا لهم مثل سيف اإلسالم‪،‬‬ ‫التهريب عبر المطار‪،‬‬ ‫وأخيرا أصبح ً‬ ‫ً‬ ‫أما مصراتة فاختاروا التيار اإلسالمي ألسباب غير مفهومة ربما ألن‬ ‫الزنتان سبقوهم على التيار الليبرالي‪ ،‬أو ألن محمود جبريل من‬ ‫ورفلة‪ ،‬وهاهم يسعون لتدمير طرابلس فوق رؤوس ساكنيها‪ ،‬بينما‬ ‫المفتي يشرع لهم ذلك‪ ،‬المفتي نفسه الذي أفتى بعدم شرعية مقاتلة‬ ‫اإلسالميين في بنغازي‪.‬‬ ‫وعلى الصعيد السياسي يسعى نواب مصراتة وحلفاؤهم إلفشال‬ ‫مجلس النواب‪ ،‬بحجة أنه اجتمع في طبرق وليس في بنغازي‪ ،‬وهم‬ ‫يعلمون أن المجلس إذا اجتمع في بنغازي سيكون تحت سطوة‬ ‫كتائب اإلسالميين التي تحتل بنغازي‪ ،‬مثلما وقع المؤتمر الوطني‬ ‫تحت سطوة دروع مصراتة في طرابلس‪ ،‬فأجبروه على سن قانون‬ ‫العزل السياسي‪ ،‬وعلى تكليف الدروع بحماية طرابلس‪ ،‬وهي الدروع‬ ‫نفسها التي تقصف اليوم طرابلس بشكل عشوائي‪.‬‬

‫لن يكون هناك منتصر في هذه الحرب‪ ،‬ستخسرها الزنتان مثلما‬ ‫ستخسرها مصراتة‪ ،‬وستعرف طرابلس كيف تخرج من هذه المحنة‬ ‫وتطرد عسكر سوسة خارجها‪ ،‬وسيتذكر سكانها مثلما تذكر أسالفهم‬ ‫عسكر سوسة‪ ،‬وهم مثل الجراد يأكلون األخضر واليابس‪ ،‬ولكنهم‬ ‫مجرد ذكرى مثل كابوس مزعج يكفي ليوقظ صاحبه من نوم عميق‪.‬‬

‫‪203‬‬


‫إصدارت أخرى للمولف‬ ‫ـ صدر له «بالد تحبها وتزدريك» أربع مجموعات شعرية‬ ‫في كتاب عن وزارة الثقافة والمجتمع المدني عام ‪2013‬‬

‫ـ كما صدر له أيضا عن وزارة الثقافة والمجتمع المدني‬ ‫مجموعة قصصية بعنوان «حراس الجحيم» ورواية بعنوان‬ ‫«حروب ماريش وثوراتها الثالث عام ‪2013‬‬

‫ـ وصدر له عن دار الفرجاني عام ‪ 2013‬رواية «حوليات‬ ‫الخراب»‬

‫ـ وله تحت الطبع مجموعة شعرية بعنوان «منفى»‪.‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.