خلايا نائمة

Page 1

‫يوزع هذا الكتاب مجان ًا مع العدد (‪ )3‬من مجلة املستقل‬

‫محمود أحمد البوسيفي ‪m_albosifi@aol.com‬‬ ‫> كاتب صحفي ‪ ,‬تولى مواقع إشرافية متعددة في اإلعالم الليبي‬ ‫> أول نقيب للصحفيني الليبيني‪2006-1991‬‬ ‫> األمني املساعد لالحتاد العام للصحفيني العرب ( باالنتخاب ) ‪2008-1996‬‬ ‫> عضو اللجنة التنفيذية لالحتاد العام للصحفيني األفريقيني ‪2000-1996‬‬ ‫> عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة العاملية للصحفيني ‪1997-1994‬‬ ‫> من منشوراته ‪ :‬أبجدية الرمل ‪ -‬أمريكا التى نحب‬ ‫> مخطوطات‪ :‬العطش (رواية) ‪ -‬الوحل (مجموعة قصصية)‬ ‫صورة الغالف‪ :‬الفنان محمد شهدي‬





‫خاليا نا ٔيمة‬ ‫تأليف‪ :‬محمود البوسيفي‬ ‫© جميع الحقوق محفوظة‬ ‫مجلة‬ ‫أسبوعية سياسية شاملة‬ ‫طبع في فبراير ‪2015‬‬ ‫مطابع األهرام‬ ‫جمهورية مصر العربية‬ ‫تصميم الغالف‪ :‬سامح الكاشف‬ ‫اإلخراج الفني والتنفيذ‪ :‬أحمد نجدي‬


‫قال الله تعالى‪:‬‬

‫﴿ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ﴾‬ ‫صدق الله العظيم‬



‫الإهداء‪..‬‬

‫إلى يوسف القويري‬



‫المحتويات‬ ‫أبطال‪11.......................................................................................‬‬

‫الجنرال ‪15...................................................................................‬‬ ‫النفخ فى البالون المثقوب‪ :‬تعليق على سيرة فبراير المزوره ‪19....‬‬ ‫الذئاب ‪65....................................................................................‬‬

‫السؤال ‪67....................................................................................‬‬ ‫الشفرة ‪71.....................................................................................‬‬

‫الفوضى المعقمة بالدماء ‪77.........................................................‬‬

‫القتل ‪85.......................................................................................‬‬ ‫المتاهة ‪89....................................................................................‬‬

‫المحدلة ‪93..................................................................................‬‬

‫تخلف ‪97.....................................................................................‬‬

‫حق العودة‪101...............................................................................‬‬ ‫حقبة‪109........................................................................................‬‬

‫حوار الرصاص ‪113.......................................................................‬‬


‫دار الخالفة ‪119.............................................................................‬‬

‫الخاليا النائمة ‪123.........................................................................‬‬ ‫دراما التاريخ ‪127...........................................................................‬‬

‫دعوة أخرى‪ ..‬للقراءة ‪133..............................................................‬‬

‫دعوة لقراءة ما ال يقرأ ‪139..............................................................‬‬ ‫دعوة للضحك‪143..................................................................... ..‬‬

‫شهقة الغريب ‪147..........................................................................‬‬ ‫عقول في الغياب ‪151.....................................................................‬‬ ‫علبة الهندسة ‪155...........................................................................‬‬ ‫فائض العربدة‪157..........................................................................‬‬

‫فوضى الخالفة‪161........................................................................‬‬

‫في المصطلح ‪165..........................................................................‬‬ ‫في الهوية ‪169................................................................................‬‬ ‫فيلم أمريكي طويل ‪173..................................................................‬‬

‫كراهية قديمة ‪183...........................................................................‬‬

‫نصال تتهشم على نصال‪187..........................................................‬‬

‫ولو صدقوا‪191.............................................................................‬‬


‫�أبطال‬ ‫خلقت األمم أبطالها في السياسة والرياضة والفنون وأسطرت في‬ ‫مراحل تاريخية بعضهم‪ ،‬فنسبتهم لآللهة لتبرير األعمال اإلعجازية‬ ‫لي عنق الطبيعة‬ ‫ألولئك األبطال وقدراتهم األسطورية حتى في ّ‬ ‫ومفاجآتها المدمرة‪ ..‬وظل على الدوام ذلك التنافس بين السياسيين‬ ‫والفنانين والرياضيين في صراع االستحواذ على الظفر بالسبق‪..‬‬ ‫يتجاورون أحيانًا ويتبادلون االصطفاف التراتبي أحيانًا‪ ..‬وهم في‬ ‫األغلب ال يتحاربون إال في حاالت استثنائية تتغول فيها شريحة‬ ‫دائما على استيعاب‬ ‫على غيرها دون وجه حق فالميدان «األمة» قادرة ً‬ ‫قوافل األبطال الذين طرزوا عباءتها بالنجوم‪.‬‬

‫في عقدي الستينيات والسبعينيات كان الوعي القومي والتحرري‬ ‫يغطي مساحة واسعة في الخريطة العربية‪ ،‬فكان جمال عبد الناصر‬ ‫والمقاومة هما البطل عن شريحة السياسيين‪ ،‬وكان األبطال العرب‬ ‫الذين حققوا إنجازات رياضية عالمية يتحولون إلى أبطال تعلق‬ ‫صورهم في غرف الشباب وتنجح بعضها في التسلل إلى دواليب‬ ‫‪11‬‬


‫البنات ومنهم عبد اللطيف أبو هيف قاهر المانش والعداء التونسي‬ ‫محمد القمودي والمغربية نوال المتوكل إلخ‪ ..‬كان الفن صاحب‬ ‫الترتيب األول مكرر مع السياسة في قائمة أبطال العرب في تلك‬ ‫المرحلة المفصلية في التاريخ العربي الحديث‪.‬‬

‫كان عبد الحليم حافظ يقود كتيبة من حدائق وأنهار ومرافئ‬ ‫وما ال يحصى من أشرعة تهوى مغازلة الريح‪ ..‬صالح جاهين وعبد‬ ‫الرحمن األبنودي وكمال الطويل ومحمد الموجي والزوبعة التي‬ ‫لم تهدأ بليغ حمدي‪ ..‬كتيبة من األبطال الحقيقيين الذين ّلونوا أحالم‬ ‫جيلين في الحب والتمرد والثورة والحياة والعمل والتحدي‪..‬‬

‫أخبرني صديق موريتاني أن المشروع القومي الذي قاده عبد الناصر‬ ‫وصل إلى نواكشوط عبر تلك الكتيبة وهي تنسج البهجة ظفيرة تتدلى‬ ‫في خاطر عاشق‪..‬‬ ‫أبطال المقاومة ضد الكيان اإلسرائيلي من شريحة الفنانين أكثر‬ ‫من قدرة البعض فيروز‪ ،‬محمود درويش‪ ،‬ناجي العلي‪ ،‬مارسيل‬ ‫خليفة‪ ،‬أحمد فؤاد نجم‪ ،‬والشيخ إمام‪ ،‬محمد الزواوي‪ ،‬عدلي فخري‪،‬‬ ‫أحمد كعبور‪ ،‬وآالف من الشعراء والموسيقيين والمطربين والرسامين‬ ‫والنحاتين الذين جعلوا للمقاومة مذاق عناق أم إلبنها البعيد‪..‬‬

‫أدرك جمال عبد الناصر أهمية الدور الذي بوسع الفن أن يصنعه‬ ‫بما يليق بالمشروع الذي كان يخطط له‪ ..‬وكان الوزير المثقف التنويري‬ ‫ثروت عكاشة مايسترو اإلبداع والبناء اإلستراتيجي الرافض للحجج‬ ‫والذرائع بندرة اإلمكانيات المادية وغيرها من محاوالت اإلعاقة‪.‬‬ ‫‪12‬‬


‫كان الروائيون والشعراء والرسامون والمطربون في مقدمة قوافل‬ ‫العمال وهم يبدأون الحفر في مشروع السد العالي الذي تحول من‬ ‫مشروع هندسي على مجرى نهر في دولة نامية إلى قصيدة عربية تهطل‬ ‫هفهفة عطرها على قلوب تتوقد للحرية والكرامة‪.‬‬

‫المنتخب الوطني في كرة القدم الذي فاز بالكأس األفريقي‬ ‫عن جدارة هو بطل ليبيا خالل السنوات الثالثة الماضية ألنه رسم‬ ‫بأقدام تعرف الطريق ً‬ ‫أمل نستحقه في أبطال يبتكرون الفرح والسالم‬ ‫والثقة والقدوة‪ ،‬ال يقتلون وال يسرقون وال يعذبون وال يختطفون‬ ‫وال يهجرون وال يكذبون وال يفترون‪ ..‬أبطال من أخالقهم الحياء‪.‬‬

‫‪13‬‬



‫الجنرال‬ ‫كتب في إحدى مذكراته (أن حرب العصابات هي حرب الجماهير‬

‫العريضة في بلد متخلف اقتصاديا ضد جيش عدواني جيد التدريب)‪.‬‬

‫ولخص نظريته في قوله‪ :‬كل واحد من أهل البلد هو جندي‪ ،‬وكل‬

‫قرية هي حصن‪.‬‬

‫لم يتلق تدريبا أكاديميا في المدارس والكليات العسكرية ولم يتنبأ‬

‫أحدٌ عندما ولد وترعرع في ‪ 25‬أغسطس ‪ 1911‬في قرية فالحية‬ ‫بمقاطعة كوناغ بنه بأنه سوف يصبح قائدا فذا في ميادين القتال‪..‬‬

‫درس االقتصاد السياسي في هانوي (شمال فيتنام) وعمل بعد تخرجه‬ ‫معلما للتاريخ واألدب الذي كان يستهويه منذ صغره وذلك في كلية‬ ‫محلية وصحافيا سريا يكتب باسم مستعار لمنشور سري يوزع في‬

‫المقاطعات المجاورة‬

‫قتل الفرنسيون زوجته وإبنه في المعتقل وهو ما أضطره للحاق‬

‫بالعم (هو) في بكين ‪ 1939‬قبل أن يعود معه بعد عامين ليؤسس‬ ‫‪15‬‬


‫في األحراش جيشه الصغير من الفالحين الثوريين‪ ..‬وأيقن وهو‬ ‫يخطط مع رفيقه النحيل للثورة أن تكتيكات الحرب الشعبية (كتب‬ ‫أنه استلهمها من ماو تسي تونغ واألمير عبد القادر وعمر المختار)‬ ‫ال يمكن لها الظفر دون توفر الدعم الشعبي واعتماد أسلوب الكر‬ ‫والفر في منازلة العدو‪ ،‬وبضرورة اإليمان بصالبة اإلرادة والعزيمة‬ ‫القوية لخوض حرب طويلة‪ ..‬وهو ما تحقق بالفعل بعد ثالثة عشر‬ ‫سنة عندما ألحق هزيمة ثقيلة وقاسية ومريرة ومهينة بجحافل القوات‬ ‫الفرنسية االستعمارية في معركة ديان بيان فو ‪ 1954‬التى سجلت‬ ‫خروج االستعمار الفرنسي نهائيا من الهند الصينية بأكملها‪ ..‬وكتب‬ ‫حينها (لقد كانت ديان بيان فو أول هزيمة عظيمة لعنجهية الغرب‬ ‫وهزت أسس االستعمار‪ ،‬وجعلت الناس يقاتلون من أجل حريتهم‪،‬‬ ‫لقد كانت تلك بداية الحضارة اإلنسانية‪ ،‬أن تقاتل من أجل انتزاع‬ ‫حقك في الحرية)‬ ‫األمريكيون الذين ال تاريخ لهم يجهلون قراءة التاريخ (فاقد‬ ‫الشئ ال يعطيه) ولذلك توهموا أنه بمقدورهم وهم (السكارى)‬ ‫بانتصارهم العسكري في الحرب الكونية الثانية الحلول في مواقع‬ ‫فرنسا المنهزمة‪ ،‬ونجحوا باالستخدام المفرط للقوة بواسطة اآللة‬ ‫الحربية الجبارة التى يمتلكونها في اقتطاع مناطق واسعة من جنوب‬ ‫فيتنام والدخول في ‪ 1965‬في حرب مع الشمال الذي تصادف أن‬ ‫العم (هو) ورفيقه المبتسم (جياب) من قادته وأنهما أبعد ما يكون‬ ‫عن (السكر) بنصرهم العظيم قبل عقد من الزمن‬ ‫‪16‬‬


‫كان الجنرال الذي ال يزن أكثر من ‪ 55‬كيلو غراما وال يذكر أنه‬ ‫تذوق طعاما أكثر من األرز والخضراوات والفواكه المحلية يطلق‬ ‫قهقهته العالية وهو يتابع على الخرائط مدى ما يتمتع به األمريكان‬ ‫من غباء وهم ال يتوقفون عن إرسال ال ب ‪ 52‬تلقي بحممها على‬ ‫الغابة الفيتنامية لتفتك بالحيوانات وتخرب المزارع وفخاخ الفالحين‬ ‫التى ينصبونها للثعالب والذئاب‬

‫معركته مع اليانكيين أستمرت عقدا كامال لتنتهي هي األخرى‬ ‫بهزيمة مذلة وقاسية ومريرة وثقيلة في ‪ 30‬أبريل ‪ 1975‬بجحافل‬ ‫القوات األمريكية ويذيقهم مهانة الهروب حيث تابع العالم مشهد‬ ‫السفير األمريكي في سايغون (تغير أسمها بعد النصر الى هوشي‬ ‫منه) وهو يتعلق بسلم المروحية وهي تنتشله من على سطح سفارته‬ ‫وترحل به إلى حاملة طائرات كانت تستعد للفرار من بحر مناوئ‬ ‫للوحل والرداءة‬ ‫عاش الجنرال (فو نغوين جياب) قرنا وعامين‪ ..‬وكتب تلميذ في‬ ‫مدرسة إعدادية في قريته‪ :‬من كان مثله ال يموت أبدً ا‬

‫‪17‬‬



‫النفخ فى البالون المثقوب‬

‫(تعليق على سيرة فبراير المزوره)‬ ‫أكتب هذا التعليق على كتاب إدريس المسماري الذى منحه‬ ‫عنوان (سيرة فبراير‪ ...‬تجربه شخصية)‪ ..‬ليس ألن الكتاب يحتوى‬ ‫على أية قيمة تاريخيه ولو فى حدها األدنى سواء من حيث مضمونه‬ ‫او حتى صياغته التى قام بإعدادها وتصحيحها شاعر مصري عمل‬ ‫سابقا فى مراجعة وتصحيح واإلشراف على مجلة عراجين فى ذات‬ ‫الوقت الذى كان يقوم فيه بتدريس أبناء المسماري ـ لغة عربية ودين‬ ‫وتاريخ ـ!! وذلك أثناء إقامته فى مصر مراف ًقا لزوجته الطالبة فى‬ ‫الدراسات العليا بمنحة على نفقة المجتمع ـ ولكن أمام إلحاح بعض‬ ‫األصدقاء الذين عاصروا الفترة التى يتحدث عنها المسمارى وكانوا‬ ‫شهودا أو على دراية بما يتحدث عليه من وقائع وأحداث وأوجعهم‬ ‫سيل اإلدعاءات وحتى اإلفتراءات التى حفل بها كتابه المذكور‬ ‫وكانوا يسردون لى بعضا ونتفا مما ورد فى الكتاب من تخرصات‬ ‫يعرفون ـ بحكم معايشتهم لبعضها ـ مقدار التزوير فيها ومطالبتهم‬ ‫‪19‬‬


‫لى بضرورة الكتابة كشفا للحقيقه‪ ...‬لم اجد بدا من تحمل ـ كرها ـ‬ ‫وجع مطالعته عبر نسخة أحضرها لى أحد األصدقاء؟؟؟ وبقيت‬ ‫مركونة عندى ألسابيع دون أن افكر فى االقتراب منها‪ ...‬قرأت‬ ‫الكتاب فى جلسة واحده‪ ..‬مألنى خاللها شعور بالغثيان والمرارة‬ ‫أيضا ألن ينحدر كاتب (‪ )....‬ليبى ـ مهما كانت درجة اإلتفاق او‬ ‫االختالف معه ـ إلى هذا الحد من اإلسفاف واالفتراء وحتى التزوير‬ ‫ناهيك أن يكون هذا الكاتب ممن عرفت يوما وربطتنى به صالت‬ ‫متينة وطويلة من المعرفة والتقارب والمودة‪ ...‬لم يؤلمنى فى الكتاب‬ ‫حجم اإلساءات المتعمده وإلى حد الكذب البواح لشخصى (فذلك‬ ‫صار مألوفا عندى ـ على مرارته ـ بعد سيل من اإلساءات وعمليات‬ ‫اإليذاء والعداوة وحتى االستعداء التى مارسها هذا الشخص بحقى)‬ ‫ولكن ما كان موجعا حقا هو ذلك التجني واإلفتراء والتطاول على‬ ‫الحقيقة التى وجب أن يحترمها الجميع ـ ولنختلف بعد ذلك فى‬ ‫تفسيرها أو تحليلها وفقا لموقع وموقف كل واحد منا ـ إثر قراءاتى‬ ‫للكتاب ومكابداتها كان رد فعلى أمران فقط‪:‬‬ ‫األول‪ :‬إتصال بالصديق المثقف الوطنى والشاعر الكبير فعال‬ ‫(محمد الفقيه صالح) تحت وطأة جملة لسعتنى بعمق‬ ‫حين أورد المسمارى فى كتابه أن هذا الشاعر قد أتصل‬ ‫به إثر خروجه من األمن الخارجي وبمنزل الصديق‬ ‫(على الرحيبى) وعلى هاتف الرحيبى وحذره من الرفقة‬ ‫التى هو معها قاصدا البوسيفى والرحيبى حسب تعبير‬ ‫‪20‬‬


‫إدريس‪ ...‬كنت متيقنا أن مثل ذلك ال يصدر عن محمد‬ ‫ولكن ليطمئن قلبى ـ كما يقال ـ وعبر الهاتف أرسلت‬ ‫رسالة بالتحية إليه وفورا أتصل بى‪ ...‬دون مقدمات أخبرته‬ ‫عما وخزنى فع ّبر عن دهشته لما يسمع وأخبرنى أنه اتصل به‬ ‫فعال وكان كل حديثه لألطمئنان أوال وللتنبيه إلى الحرص‬ ‫على أن ال يقدم على شىء يسىء إلى موقفه أو يضعه فى‬ ‫موقف مضاد للشعب (وهذا تحذير عام إذ أن الفقيه لم يلتق‬ ‫إدريس الذى كان قد خرج لتوه من ال علم له بمسألة اإلذاعه‬ ‫والتصريح والمقابلة التى جعلها إدريس معركة تعادل‬ ‫معركة الشباب فى بنغازى مع كتيبة الفضيل ـ والتى سأشرح‬ ‫تفاصيلها فيما بعد) وانتهت المكالمه والفقيه يردد ال حول‬ ‫والقوة اال بالله‪ ...‬التنزعج صديقى فكلنا نعرف ما قدمته‬ ‫للمسمارى وما فعلتم من أجله فى تلك األيام العصيبه‪.‬‬

‫الثانى‪ :‬كتابة تعليق انفعالى قصير على الفيس بوك نفضت به‬ ‫عن نفسى غثيانها ومرارتها منصرفا عن الكتاب والتفكير‬ ‫فيما احتواه‪.‬‬

‫لم يعجب تعليقى األصدقاء ورأوه جملة انفعالية التقدم شيئا على‬ ‫صعيد اجالء ما ينبغى توضيحه من حقائق وجب توضيحها وهذا‬ ‫اإللحاح من األصدقاء جعلنى انتبه لمسالة أخرى تتجاوز الكتاب‬ ‫وصاحبه وتتعلق بشهادة وجبت بحق أشخاص ظلموا عبر سطور هذا‬ ‫الكتاب وعلى رأسهم االستاذ (ابوزيد دورده) الذى كان له الفضل‬ ‫‪21‬‬


‫األول ـ بعد الله ـ فى إنقاذ المسمارى وحمايته من مصير كان يمكن‬ ‫أن يكون مؤلما وفاجعا لواله‪ ...‬وكان ذلك كفيال بأن يولد عندى‬ ‫الرغبة فى الكتابة وأن يمنحنى دافعا قويا للمضى فى ذلك بمعزل‬ ‫عن الكتاب وقيمته‪ ..‬وقد كان للشهادة التى قدمها الشيخ الصالبى‬ ‫فى أبوزيد دورده بكل بموضوعية واإليمان بالحق والواجب شرعا‬ ‫وأخالقا دورا فى نفض تكاسلى واالنبراء لكتابة هذه السطور‪.‬‬ ‫بادرت بالتواصل مع الصديق (على الرحيبى) الذى قاسمنى بطولة‬ ‫هذا الكتاب ـ إن لم يكن أخذ أغلبها‪ ...‬سألته عن رأيه فى الكتاب‬ ‫فأجابنى بأنه لم يقرأه ولكن حدثه عدد من االصدقاء عنه وعن بعض‬ ‫مافيه‪ ..‬فقرر عدم اإلطالع عليه قائال (يكفينا ما تجرعنا من مرارات‬ ‫يا محمود ولم يعد فى الكأس محل لمزيد نختاره) طرحت عليه‬ ‫الزاوية التى أنظر منها للموضوع خصوصا ما يخص االستاذ ابوزيد‬ ‫ودوره الذى لم ينصفه المسمارى‪ ...‬قال إنى أقدّ ر ما تقول لكنى لست‬ ‫مستغربا لما فعل إدريس فهو قد رفض طلب المحامى المكلف بالدفاع‬ ‫عن االستاذ أبوزيد بكتابة شهادة تفيد بما حدث معه أثناء (إقامته)‬ ‫القصيرة باألمن الخارجي‪ ..‬فى الوقت الذى اثبت فيه شهادته كل من‬ ‫الصديق (إدريس ابن الطيب) الذى كان اتصل بأبي زيد طالبا منه (بناء‬ ‫على طلب من المسماري وزوجته) التدخل لحمايتة واستالمه من قبل‬ ‫عناصر األمن الخارجى حتى يفلت من مسعورى اللجان الثورية الذين‬ ‫هاجموا منزله بقيادة ناصر الحسوني ـ والصديق (محمد اسحيم) على‬ ‫قناعة منهما أنها كلمات حق وجب أن تقال‪ ...‬كان الرحيبى فى هذا‬ ‫‪22‬‬


‫التواصل يؤكد تقديره للزاوية التى أنظر منها للمسأله لكنه فى نفس‬ ‫الوقت يع ّبر عن عدم تحمسه للكتابة عن الكتاب معيدً ا على مسامعى‬ ‫ما كان يردده منذ بدأت إساءات البعض تتوالى‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫صوب‬ ‫(وحتى اذا ما اتتنى سهامك من كل‬ ‫فلست أرد عليها بسه ٍم‬ ‫ً‬

‫ألنى سأذكر إنك كنت الرفيق‬

‫وأنك ـ حتى إذا ما اختلفنا اجتهادا ـ‬

‫سنبقى نسير بذات الطريق)‬

‫قلت له ياصديقى ذلك صحيح عندما نكون اختلفنا اجتهادا كما‬ ‫هو الحال مع الكثير من األصدقاء الذين مازلنا نقدر ونحترم‪ ..‬لكننا‬ ‫اآلن أمام كذب وافتراء وتزوير للوقائع‪...‬وظل الرحيبى غير متحمس‬ ‫للكتابة فطلبت منه أن يسجل لى بعض إجاباته على بعض األسئلة‬ ‫التى تتعلق بأحداث حكى لى عنها وكان هو شاهدها خصوصا عندما‬ ‫كان المسمارى فى بيته فوافق على ذلك طالبا أن أرسل له األسئلة‬ ‫المطلوبة واضحة ألنه لم يقرأ الكتاب‪ ...‬وساستعمل إجاباته وشهادته‬ ‫فى ما سيلي بإذن منه‪.‬‬ ‫الغزل المنقو�ض‬

‫فى الصفحه ‪ 134‬من الكتاب يستعرض المسمارى خبرته فى‬ ‫التعامل مع المحففين وجلسات التحقيق مقدما دروبا فى تكتيكات‬ ‫‪23‬‬


‫التعاطي فى مثل هذه المواقف منبها إلى اهمية سرد الوقائع كما هى ـ‬ ‫باستثناء بعض المعلومات المحدوده الواجب اخفائها مؤكدا بان‬ ‫ذلك سيمنح االقوال مصداقية لدى المحقق ويجنب المحقق معه‬ ‫مغبة الوقوع فى االرتباك واالضطراب الذى قد ينشأ من االختالق‬ ‫والكذب فى الوقائع والذى سيكشف تناقضا فى األقوال أمام اعتماد‬ ‫المحققين «كما كنا نشاهد فى األفالم ونقرأ فى الروايات والسير‬ ‫الذاتية وكذا ما كان األصدقاء الذين تعرضوا لهكذا حاالت يخبروننا‬ ‫به ضمن سردهم للمحنة التى مروا بها» على أسلوب طرح السؤال‬ ‫الواحد بصيغ مختلفة وفى جلسات متعددة حيث ينسى المحقق‬ ‫معه عادة الوقائع المختلقة الكاذبة ويتورط فى تقديم وقائع تختلف‬ ‫عما قدمه سابقا فينكشف كذبه وتزداد أساليب التحقيق معه صعوبة‬ ‫وقساوة وشراسة‪...‬‬ ‫لكن هذه الخبرة المدعاة تبدو غائبة تماما عند (إمالء)‬ ‫المسمارى لكتابه فاعتمد أسلوب اختالق األحداث واختراعها‬ ‫وبصياغات لتفاصيل توحى بذاكرة حديدية خارقة حتى أنه يتذكر‬ ‫ما قيل بالنص وبشكل تعابير وجه القائل‪ ...‬إلخ إضافة إلى اجتهاده‬ ‫فى صياغة الوقائع بصورة وكيفيه تخدم غرضه فى تصوير مالمح‬ ‫معركة يقودها ضد القذافى ونظامه فوقع عبر هذا االختالق فى‬ ‫تناقضات فاضحة تجعل ماورد فى صفحات ما يناقضه ما سطر فى‬ ‫صفحات أخرى من ذات الكتاب وعن ذات الحوادث إضافة إلى‬ ‫وقوعه فى أخطاء فادحة حتى فى تاريخ بعض المواقف األساسيه‬ ‫‪24‬‬


‫التى عاشها ‪ ...‬وقد يكون من الالزم هنا أن نورد بعضا من األمثلة‬ ‫على ذلك‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ المسمارى يجعل زيارتى الثانية له أنا والرحيبى يوم ‪ 21‬فبراير ـ‬ ‫ويدعى أنها كانت عقب مقابلته لكل من (التهامى خالد) و(عبد‬ ‫السالم حموده) فى حجرة التحقيق بمقر التوقيف مساء يوم‬ ‫‪ 20‬فبراير (وهو يوم خروج طرابلس فى مظاهرتها المشهورة)‬ ‫كما يقول وبعد أن يستطرد فى تسجيل محاضرة مشتركة‬ ‫بينى وبين الرحيبى (هى تكرار للمحاضرة التى أوردها على‬ ‫ألسنتنا ـ قائال أنه ينقلها بالنص مثبتا قدرة إعجازية فى الحفظ‬ ‫لم يكن أحد يعرفها عنه فى السابق ـ ) تتعلق بتقييمات للربيع‬ ‫العربى والفوضى الخالقة والمؤامرة الغربيه ودور قطر ولم‬ ‫ينس األخوان والقاعده والبيضاء ودرنه والعبيدات والكتيبة‪...‬‬ ‫الخ‪....‬ثم ـ وكأنه اكتشف أن هذه المحاضرة لن تكون سوى‬ ‫تكرار لسابقتها وأن ذلك قد ال يكون منطقيا إذ ال مبرر إطالقا‬ ‫ألن نعيد عليه ما قيل سابقا ـ يختلق حدثا ومشهدا جديدا‬ ‫يصوره فى خروجى للحديث بالهاتف ألعود بعدها ألخبره‬ ‫بخبر جديد يتمثل فى أن (الساعدى سيخطب فى بنغازى بعد‬ ‫شويه) وينسب للرحيبى تعليقا شارحا لهذا الحدث‪(...‬ماهو‬ ‫القائد بعثه غادى يرتب الوضع ويشوف الناس شن تبى)‬ ‫وكل ذلك تمهيدا ألن يتساءل المسمارى بشجاعة (لم تكن‬ ‫هى األخرى معروفة عنه) وأمام الضابط المرافق‪( :‬ما لقاش‬ ‫‪25‬‬


‫يبعثلهم غير الساعدى؟؟؟)‪ .‬وقد فات الخبير فى التحقيقات‬ ‫وفق ما كان ما كان يلقيه من دروس حول عدم االختالق فى‬ ‫الوقائع واألحداث حتى اليقع فى خطيئة الكذب عند تكرارها‬ ‫أن يلتزم بما كان ينصح به‪ ...‬فقد كان يكفى المسمارى أن‬ ‫يلقى نظرة على تاريخ الزياره ـ وفق تقويمه الذى اعتمده ـ‬ ‫وهو يوم ‪ 21‬فبراير ليعرف أنه فى هذا التاريخ كانت كتيبة‬ ‫الفضيل بوعمر قد سقطت وأن نفوذ الدولة قد زال تقريباعن‬ ‫كامل المنطقة الشرقيه وأن الساعدى قد ألقى خطابه منذ أيام‬ ‫وليس (بعد شويه) وأنه قد غادر بنغازى!!!‬ ‫‪ 2‬ـ ذات المأزق يقع فيه المسمارى عندما يحكى فيقول بأنه قد‬ ‫غادر الفندق (الذى توجه إليه غداة خروجه وبعد أن بات‬ ‫بمنزل الرحيبى)متجها إلى مبنى مؤسسة الصحافه ليجدنى‬ ‫مع الرحيبى واألستاذ المحامى سالم دراه‪ ....‬ويذكر أن‬ ‫اليوم كان الخميس وهو يوم عطلة للصحف ألنها التصدر‬ ‫يوم الجمعة لذلك كان المبنى خاليا إال من عدد بسيط من‬ ‫العاملين‪ ...‬ويفوت المسمارى هنا أيضا التدقيق فى تواريخ‬ ‫األيام فهو خرج من السجن اليوم السابق لها والذى كان فيه‬ ‫خطاب القذافى المشهور والذى كان يوم ‪ 22‬فبراير ويوافق يوم‬ ‫الثالثاء من أيام االسبوع وهذا يعنى أن (خميس) المسمارى‬ ‫حسب تقويمه هو فى الحقيقة يوم األربعاء حسب تقويم‬ ‫البشر‪ ...‬وبالتالى كان يوم عمل عادى وكان مبنى المؤسسة‬ ‫‪26‬‬


‫عامرا بالعاملين المتوزعين على أدوارها ويذكر المسمارى‬ ‫فى هذا اللقاء أن الرحيبى قد طرح مبادرة (غصن الزيتون)‬ ‫شارحا لها فى سطور يقدمها كمحاولة إلحالل السالم بين‬ ‫السلطة والجماهير الثائرة؟؟؟ وقد كان ذلك افتراءا بواحا‬ ‫فالمبادرة لم تكن من على الرحيبى إطالقا وإنما كانت من‬ ‫االستاذ المحامى الوطني المرموق محمد سالم دراه ـ وهو‬ ‫حى يرزق أطال الله فى عمره ـ ولم تكن على النحو المشوه‬ ‫الذى يقدمها به المسمارى إطالقا‪ ...‬لقد كان تأسيس هذه‬ ‫الفكرة أصال وليس المبادرة ـ على وجه الدقة ـ على معلومات‬ ‫تفيد بأن النظام قد جهز قوة ضاربة وهى على وشك التحرك‬ ‫من منطقة سرت باتجاه الشرق مستهدفة جموع الشباب الثائر‬ ‫الممتلىء بالحماسة‪ ،‬والذى اندفع نحو البريقه وراس النوف‬ ‫وما بعدهما‪ ...‬وكان تقدير االستاذ محمد أن مذبحة تنتظر‬ ‫هؤالء الشباب يجب العمل لوقفها ويقترح لذلك أن تتشكل‬ ‫مجموعة من النشطاء والمثقفين ومن ينظم إليهم من القيادات‬ ‫المجتمعية المستقلة عن النظام ومن كل المناطق لتتجه ودون‬ ‫أى ارتباط بالنظام بأى وجه بما فيها نفقات التنقل واإلقامة‬ ‫وأن تحمل فى أيديها أغصان الزيتون متجهة إلى حيث خط‬ ‫التماس وتشكيل درع بشرى يفصل بين الفريقين ويمنع نزيف‬ ‫الدم‪ ...‬مع الدعوة لحوار وطنى عام ال يقصى أحدا لتلمس‬ ‫سبل الخروج من حالة الصدام الدامى‪ ...‬وتمت مناقشة الفكرة‬ ‫وكيفية الحصول على إذن للمرور عبر البوابات التى انتشرت‬ ‫‪27‬‬


‫فى كل مكان وخاصة على الطريق الساحلى‪ ....‬ولم يتوفر‬ ‫هذا اإلذن وانتهت الفكرة إلى أن ظهرت ـ بعد أشهر ـ بصورة‬ ‫أخرى وبطريقة وآليات ال عالقة لها بالفكرة األولى والصلة‬ ‫ألحد منا بها ولم يكن أحد ممن ذكر المسمارى مشاركا‬ ‫فيها بأى وجه من الوجوه (وقد قدرنا وقتها أن احدا ما سمع‬ ‫بالفكره عند محاوالت البحث عن طريقة للسماح بالمرور‬ ‫عبر البوابات المنتشره فأعاد صياغتها وإخراجها بالطريقة‬ ‫التى تمت بها)‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ أحتلت قضية المقابلة االذاعية حيزا كبيرا فى السيرة لتشكل‬ ‫إحدى المعارك الكبرى (‪ )....‬التى كان يخوضها المسمارى‬ ‫مع النظام الهادف لتشويهه وحرقه مقدما لى وللرحيبى كأدوات‬ ‫تعمل على ذلك وكان ذلك بمعنى أن يقدم المسمارى فى‬ ‫صورة المؤيد للنظام أو بصيغة المغرر به الذى انتبه‪ ....‬الخ‬ ‫(وقد أشار إلى هذه الصيغة من خالل ما أورده حين تطرق‬ ‫إلى المحقق الذى توعده بإحضار التلفزيون لتسجيل وإذاعة‬ ‫اعترافاته (ص ‪ ...)153‬وقد ذكر أن الرحيبى طرح عليه فكرة‬ ‫الظهور فى التلفزيون عند زيارتنا الثانيه له من أجل أن يتوجه‬ ‫ببيان إلى أهل بنغازى‪ ...‬وعند حديثه عما حدث فى لحظة‬ ‫خروجه ومقابلته ألبوزيد دورده عند التطرق لمسألة خروجه‬ ‫فى التلفزيون يذكر انه قد وضع اطارا وشروطا لما سيقوله‪..‬‬ ‫أوضح أيضا أن دورده وافق على ذلك معتبرا أن المهم‬ ‫‪28‬‬


‫(مانبوش البالد تمشى فى هاويه)‪ ...‬وفى هذا ما يفيد بأن‬ ‫األمر لم يكن مشروطا بكالم محدد يجب على المسمارى‬ ‫قوله حتى وإن كان اليريد قوله‪ ...‬لكن المسمارى حرص‬ ‫على استمرار اعتبار مسألة الخروج فى اإلذاعة شركا تنصبه‬ ‫السلطه وأنا والرحيبى ندفعانه إليه والزالت المعركة مستمرة‬ ‫فى هذا الميدان وفق رواية المسمارى ليحسمها بعد يوم وفق‬ ‫ما يرتضيه من إخراج دونما أن يكلف نفسه عناء التساؤل‬ ‫كيف انتقل األمر من تسجيل قهرى باالعترافات والكالم‬ ‫المطلوب داخل السجن قهرا إلى خروج وفق شروطه؟؟؟‬ ‫ونترك حقيقة كل هذا الغبار لتنجلى من خالل إجابة الرحيبى‬ ‫وروايته لما حدث بهذا الشان باعتباره قد رافق المسمارى‬ ‫إلى اإلذاعة وفقا لما تم من نقاش حول هذا الموضوع بعد‬ ‫توجهنا للمبيت بمنزل الرحيبى وطرح المخاوف من استثمار‬ ‫النظام لهذه المقابلة وجر المسمارى ألن يقول كالما غير‬ ‫ما تم تحديده‪ ..‬وقد أبدى الرحيبى فكرة أن يتطوع ليشارك مع‬ ‫المسمارى فى المقابلة ليتعاونا معا فى مواجهة أى احتمال من‬ ‫ذلك واليتم االستفراد بالمسمارى وحده‪ ...‬ويقول الرحيبى‬ ‫(كما تعلم أخى محمود أنه فى مساء يوم الثالثاء ‪ 22‬فبراير‬ ‫خرجنا من مبنى هيئة االمن الخارجى مصطحبين األخ إدريس‬ ‫المسمارى وقصدنا مبنى هيئة الصحافه ثم اتجهنا إلى منزلى‬ ‫حيث قضينا الليل معا ثالثتنا واعتقد انك تذكر نقاشاتنا تلك‬ ‫الليلة حول ما يجرى وقلقنا وألمنا بشان الدماء التى بدأت‬ ‫‪29‬‬


‫تسيل فى شوارع الوطن‪ ...‬الخ وقد كان من بين ما ناقشناه‬ ‫موضوع خروج إدريس على اإلذاعة وفقا لما تم نقاشه بينه‬ ‫وبين األستاذ ابوزيد‪ ..‬والتخوفات التى أثيرت حول مسألة‬ ‫استغالل اللقاء لتوريط إدريس فى إدانة انتفاضة الشعب أو‬ ‫تأييد اإلجراءات العنيفة فى مواجهتها واتفقنا أن الخطاب يجب‬ ‫أن يكون فى إطار التأكيد على مبرر االحتجاج والتظاهر لدى‬ ‫الشعب وصوابية المطالب باإلصالح وأن تتم الدعوة إلى تأكيد‬ ‫االستقالل الوطنى ورفض التدخل الخارجي والتأكيد على‬ ‫الوجدة الوطنية والتأكيد على نبذ العنف والدعوة إلى الحوار‬ ‫الوطنى الشامل الذى ال يقصى أحدا للوصول إلى صيغ وحلول‬ ‫مشتركة‪ ...‬وكما تذكر بأنه‪ ،‬وخشية أن يتم االستفراد بإدريس‪،‬‬ ‫اتفقنا أن اشترك معه فى هذه المقابلة حتى يتسنى التعاون بيننا‬ ‫فى مواجهة أى محاولة للخروج بها عن اإلطار المتفق عليه‪...‬‬ ‫وكما تذكر فإنه فى الصباح ـ وبناء على رغبة إدريس ـ خرجتم‬ ‫لتوصيل إدريس إلى الفندق على أن نلتقى مساء بمكتبك فى‬ ‫هيئة الصحافة‪ ...‬وحسب ما أذكر فقد جاء إدريس إلى هناك ـ‬ ‫وقد كان قد واجه صعوبة فى الفندق ألنه كان مغلقا وقد حضر‬ ‫هناك شخص ـ لم أكن أعرفه من قبل ـ قدم نفسه بإنه عبد المنعم‬ ‫اللموشى وأنه يعمل بوزارة الثقافه وأنه سيشارك معنا فى‬ ‫المقابلة‪ ..‬ـ وقد كان هذا مربكا إلى حد ما وقد خشيت أن يكون‬ ‫فى حضوره ما سيؤثر على السياق المتفق عليه حول مضمون‬ ‫هذه المقابلة‪ ..‬وأذكر أننى قد انتحيت جانبا باألخ اللموشى‬ ‫‪30‬‬


‫الستفهم منه عن ما يود قوله وأشهد اآلن أنه أفصح عن رأيه‬ ‫بأن تظاهرات الشباب واحتجاجاتهم لها مبرارتها الحقيقية‬ ‫منتقدً ا أداء الدولة وأجهزتها طوال السنوات الماضية وتردى‬ ‫األوضاع الذى أدى لهذا االحتقان كما أشهد أنه أشار إلى أن‬ ‫هذا قد خلق اآلن وضعا يمكن أن يستثمره أعداء البالد لغير‬ ‫صالح الوطن‪..‬وقد اتفق معى على أن الدعوة إلى نبذ العنف‬ ‫والحوار والدفاع عن الوحدة الوطنية واالستقالل الوطنى هى‬ ‫ما يجب أن تتم الدعوة إليه اآلن وخالل هذا الحديث اتفقت‬ ‫معه على أننا يجب أن نشير إلى مبررات هذا االحتقان دونما‬ ‫حاجة لإلشارة إلى جهود أعداء الوطن أو غيرهم ألن هذا قد‬ ‫يؤثر على طبيعة دعوتنا للحوار الوطنى الشامل ونبذ العنف‬ ‫حيث أن مثل هذا الحديث وفى هذا الظرف قد يفهم على أنه‬ ‫إقصاء للبعض‪ ...‬وقد أراحنى موافقته على ذلك‪ ....‬وعند‬ ‫المغرب تقريبا تحركنا أنا وإدريس وعبد المنعم مستقلين سيارة‬ ‫منعم متجهين إلى مقر إذاعة وقناة الليبية‪ ،‬وفى الطريق طلب‬ ‫إدريس التوقف أمام محل لبيع أجهزة الهواتف المحمولة ونزل‬ ‫ليشترى هاتف وشفرة جديدة ـ ألن هاتفه بقى فى السجن ـ ثم‬ ‫وصلنا مبنى اإلذاعة وكانت الحراسات مشددة‪ ،‬وبعد مدة من‬ ‫االستعالم عن األسماء والهويات كنا أمام مشكلة عدم وجود‬ ‫هوية لدى إدريس «بعدها بأسبوع قام السيد دوردة باستخراج‬ ‫بطاقة شخصية إلدريس وعرض عليه أيضا إصدار جواز سفر‬ ‫جديد‪ ..‬وقبل إدريس البطاقة واعتذر عن الجواز بدهاء حتى‬ ‫‪31‬‬


‫ال يخضع للمراقبة فى الحدود إذا عزم على الخروج بعد‬ ‫استالم جواز سفره األصلى المرسل إليه من زوجته عبر مصر‬ ‫وتونس» لكن عبد المنعم اتصل باإلداره التى اعطت تعليماتها‬ ‫بالسماح لنا بالدخول‪ ...‬ودخلنا مبنى االذاعة الذى كان منعم‬ ‫يعرف مسالكه وكذلك إدريس الذى قال لى أنه يعرف الطريق‬ ‫ألنه كان يقدم برنامجا فى القناة الليبية (برنامج الملف والذى‬ ‫قام البوسيفي أثناء إدارته لشركة الغد باالتفاق مع إدريس‬ ‫على إعداده وتقديمه عبر شاشة الليبية»‪ ...‬ووصلنا مكتب‬ ‫شخص نهض من مكتبه ليعانق إدريس بحرارة وقدمه لى‬ ‫إدريس على أنه السيد عبد السالم المشرى مدير اإلذاعة‬ ‫وانخرط إدريس معه فى حديث امتزج بالمزاح والعتاب ذكره‬ ‫فيه بمستحقاته التى لم يستلمها والمتبقية دينا لصالحه بذمة‬ ‫اإلذاعة نظير أعماله وتعاونه معها‪ ...‬وهنا دخل شخص أخر‬ ‫قدم نفسه على أنه ـ موسى إبراهيم ـ وأنه هو من سيدير اللقاء‬ ‫او الندوة‪ ..‬وقد توجه بكالمه إلدريس مستفسرا عما يمكن‬ ‫أن يقال فقال إدريس أنه يريد أن يترحم على الشهداء الذين‬ ‫سقطوا فى هذه األحداث الدامية وأن يدعولوقف العنف وإلى‬ ‫إجراء حوار وطنى شامل من أجل الخروج من هذا الوضع‬ ‫الحرج‪ ...‬وتكلم موسى إبراهيم مشيرا إلى أن األحداث‬ ‫تحمل صيغة المؤامرة التى تقف وراءها قوى خارجية معادية‬ ‫للشعب والوطن باإلضافة إلى العناصر المتطرفة والتى وصفها‬ ‫بالزنادقه‪ ..‬وأذكر أن إدريس أعاد عليه أن الخطاب الواجب‬ ‫‪32‬‬


‫اآلن هو الدعوة لوقف العنف وإلى الحوار الوطنى بلغة وطنية‬

‫المكان فيها لتصنيفات الثورى والرجعى‪ ..‬الخ‪ ..‬ـ وهنا أشهد‬ ‫لله وللحقيقة أن موسى إبراهيم أكد على أن الخطاب يجب‬ ‫أن يكون وطنيا بعيدا عن أى شعارات لها صلة بالتصنيفات‬ ‫السائدة عن الثورية وغيرها ـ ‪ ....‬ثم انتقلنا إلى غرفة أخرى‬

‫حيث تركنا موسى إبراهيم ليعود بعد قليل ليقول أن االستوديو‬

‫مشغول االن وان بقية كاميرات البث المباشر خارج المبنى‬ ‫ويقترح تسجيل الندوه فلم نوافق على التسجيل‪ ..‬وأبدينا رغبتنا‬ ‫أن تكون الندوة مباشرة وعلى الهواء ـ وقد كان ذلك خوفا من‬

‫التصرف فى التسجيل‪ ..‬وعند هذه النقطة اتفقنا على تأجيل‬

‫الموضوع إلى الغد وأن يتم االتصال بنا لتحديد موعد‪...‬‬ ‫وخرجنا من المبنى ثالثتنا‪ ..‬وقد قلت إلدريس ـ جت منك‬

‫ياجامع‪ ...‬سنبقى فى البيت وال اعتقد أنهم سيتصلون بنا ألن‬ ‫األحداث متالحقة وسينشغلون بها‪ ...‬وكان هذا ما حدث‬

‫فعال‪ ...‬حيث أسدل الستار نهائيا عن مسرحية خروج إدريس‬

‫على التلفزيون ولم يطلب أحد ذلك بعد هذه الحادثة)‪...‬‬ ‫وواضح وفق رواية الرحيبى أن محاوالت المسمارى لخلق‬

‫معركة نضالية حول موضوع المقابلة اإلذاعية واستثمار النظام‬

‫له من خاللها ليست إال تخيالت وأوهام يخترعها المسماري‬

‫فى سيرة فبراير التى يسرد حيث لم يقم أى أحد من أية جهة‬

‫حتى باالستفسار عنها‪.‬‬

‫‪33‬‬


‫‪ 4‬ـ يتحدث المسمارى عن قصة هاله المصراتى وتهجمها علي‬ ‫والزج باسم إدريس المسمارى كدليل إدانة ضدى باعتبارى قد‬ ‫قدمت له المساعدة والعون‪ ...‬ويمضى فى سرده زاعما بأن كل‬ ‫هذه العملية كانت مفبركة ومنسوجة بهدف تشويه المسمارى‬ ‫لدى عائلته والمنطقة الشرقية حيث تقدمه موظفا يعمل فى‬ ‫طرابلس مع النظام (‪ ...).....‬واعترف بأن مثل هذا التفكير‬ ‫التآمرى وتفسير األحداث وفقا له يتجاوز بمراحل أى نظرية‬ ‫تتصل بعقلية المؤامرة ونظرياتها‪ ...‬وحيث أن المسمارى‬ ‫كان ليلتها فى بيت الرحيبى أترك المجال إلفادة الرحيبى‬ ‫بالخصوص‪:‬‬ ‫(تسألنى عن ما حدث ليلة مهاجمة هاله فى برنامجها لك‬ ‫فاقول‪ ...‬كنت أنا وإدريس فى الصالون نتنقل بين القنوات‬ ‫حتى رن الهاتف وكلمنى محمود البوسيفى ليقول افتح على‬ ‫الليبية‪ ..‬فانتقلت إليها لنجد هاله تتكلم التقطنا مباشرة اسم‬ ‫محمود البوسيفى الذى يساعد المسمارى ويعينه بالصحافة‪....‬‬ ‫كان إدريس متكئا فاعتدل ليقول‪ ...‬شنو شنو تقول ادريس‬ ‫المسمارى؟؟؟ وكالنا كان مندهشا ولم نعرف سياق الموضوع‬ ‫وأسباب الهجوم ألننا لم نتابع البرنامج من البداية ثم ذهبت إلى‬ ‫فاصل تاركة الدهشة والحيره لدى كلينا‪ ..‬اتصل البوسيفى أثناء‬ ‫الفاصل ليقول أنه سيرد عليها فشجعته على ذلك‪ ...‬عادت هاله‬ ‫بعد الفاصل ليعلو صوتها مطالبة الحرس الشعبى بعدم التوجه‬ ‫‪34‬‬


‫هذه الليلة إلى بيت محمود البوسيفى لتزيد بذلك من ارتباكنا‬ ‫ودهشتنا ثم أتى صوت محمود يرد عليها بعنف ويغلق سماعة‬ ‫الهاتف فى وجهها‪ ...‬لم يغادرنا القلق وتوقعنا أن الحرس‬ ‫الذى تتحدث عنه هاله قد يكون قادما إلينا أيضا‪ ..‬من جهتى‬ ‫ربطت الموضوع بحملة يتعرض لها محمود من قبل عناصر‬ ‫فى أمانة المؤسسة تبذل محاوالت حثيثه إلبعاده متهمة أياه‬ ‫بضبابية موقفه مع النظام وبتوقفه عن الكتابة وقدمت بذلك‬ ‫التقارير والمذكرات وجمعت التوقيعات لهذا الغرض والتى‬ ‫قام أمين الثقافة فى ذلك الوقت بنقلها إلى أمين اللجنة الشعبية‬ ‫العامة وأمين مؤتمر الشعب العام وجهاز الرقابة وبالضرورة‬ ‫إلى جهات أمنية (وهى أمور كنت أحكى تفاصيلها إلدريس‬ ‫أوال بأول وكان على دراية بها) وأن ما تقوم به هاله يندرج‬ ‫فى ذات الموضوع وكان تقديرى أن هاله ومن معها فى هذا‬ ‫الجهد رأوا فى المسمارى وماهو معروف من مساعدة محمود‬ ‫له سهما قد يكون ذا فاعلية أكبر‪ ...‬أطفأنا انوار الصالون‬ ‫تجتاحنا حالة من التوجس واالنتظار لساعات وقد اتصلت‬ ‫السيدة أم العز فى ذلك الليل لالطمئنان حيث تبين أنهم كانوا‬ ‫يتابعون الحلقة فى بنغازى)‪.‬‬ ‫‪ 5‬ـ تحدث المسمارى فى سيرته ليذكر أننى قد زرته عندما كان فى‬ ‫بيت نورى عبد الدايم برفقة الرحيبى ألنقل له رسالة من السيد‬ ‫صالح عبدالسالم تفيد بأن السيد سيف اإلسالم القذافى يريد‬ ‫‪35‬‬


‫االتصال بالسيده أم العز الفارسى ـ زوجة إدريس ـ عبر شخص‬ ‫فى مصر‪ ...‬وبغض النظر عن السياق الذى يريد المسمارى‬ ‫توظيف هذه الواقعة فيه ضمن مراحل معركته (الدونكشوتية)‬ ‫مع النظام أو فصول مسرحيته الهزلية المثيرة لالزدراء‪ ..‬وجب‬ ‫أن أقول بأن السيد صالح عبد السالم قد تحدث معى فى هذا‬ ‫األمر مفصحا بأن السيد سيف االسالم يريد ان يتواصل مع‬ ‫السيدة أم العز (باعتباره يعرفها وسبق له وان ألتقى بها فى‬ ‫ما مضى ليكلفها برئاسة مركزا لحقوق اإلنسان ويكون مقره‬ ‫فى مصر ـ نتيجة ألن السلطات الليبية واللجان الثورية وبدعم‬ ‫من والده بالتأكيد قامت بغلق المركز الذى سعى لفتحه فى‬ ‫طرابلس لذات الغرض ـ وقد سافرت السيدة أم العز إلى‬ ‫مصر لهذا الغرض وقدمت للسيد سيف فى لقاء تم فى أحد‬ ‫مناطق طبرق تصورها لهذا المركز وميزانيته(تردد أن سيف‬ ‫وصفها بالفلكية) التى كانت تتضمن توفير مكان إلقامتها‬ ‫وأسرتها ومصاريف الدراسة إلبنائها وغيره من مصروفات‬ ‫عامة وشخصية‪ ...‬وأذكر أن أم العز قد اشتكت بعدها من‬ ‫أن السيد يوسف صوان الذى كان مديرا تنفيذيا لمؤسسة‬ ‫القذافى واستقال فى األسبوع الثاني من فبراير ‪ 2011‬يعرقل‬ ‫هذا بناء المركز ويحول دون مقابلتها للمهندس ثانية الستكمال‬ ‫المشروع‪ ..‬وكان صالح عبد السالم يعرف أن إدريس موجود‬ ‫لدى الرحيبى وأننى التقيه‪ ..‬فطلب أن نسأل إدريس عن كيفية‬ ‫قيام شخص باالتصال بأم العز عن طريق مصر لترتيب تواصل‬ ‫‪36‬‬


‫ما بينها وبين سيف‪ ...‬وعندما ألتقيت بإدريس أطلعته على‬ ‫ماجرى ليس بغاية تلبية الطلب بقدر ما كان لالتفاق على إجابة‬ ‫يمكن إبالغها للسيد صالح‪ ...‬وأذكر أن إدريس كان منزعجا‬ ‫من هذا الطلب جدا ألنه كان ـ كما قال سيضر بأم العز فى‬ ‫بنغازى إذا ما علم أحد أنها على اتصال بسيف‪ ...‬واتفقنا على‬ ‫أن الرد يجب أن يكون على أساس أن االتصاالت مقطوعة‬ ‫تماما بالمنطقة الشرقية كما يعرف الجميع وأن ال وسيلة لدى‬ ‫إدريس لالتصال بأم العز وال غيرها‪ ...‬وأن هذا يبقى متروكا‬ ‫إلى حين عودة إدريس إلى بنغازى‪ ...‬وهذا ما تم فعال حيث‬ ‫أبلغت السيد صالح عبد السالم بهذا الرد الذى تقبله دون تعليق‬ ‫سوى أن على المهندس أن يجد طريقته لمثل هذا االتصال‬ ‫وليس لدى أى علم إن كان قد وجد هذه الطريقة أم لم يجد‪.‬‬ ‫�شهادة حق واجبة‪ ...‬وما �أ�شهد �إال بما �أعلم‬

‫لقد كان لالستاذ (أبوزيد دورده) دورا محوريا وأساسيا فى قصة‬ ‫المسمارى هذه‪...‬وأعتقد أن المسمارى لم يكن منصفا وال يعطى‬ ‫الرجل حقه سواء من خالل سرده لوقائع ما جرى له وعايشه فعال‬ ‫(ال تخيال واختالقا) أو من حيث تغافله عن وقائع لم يشهدها لكنها‬ ‫رويت له وأصبح على علم بها‪( ..‬وكان من اإلنصاف أن يوردها على‬ ‫لسان غيره كما سمعها وله الحق فى إبداء شكه فيها أو عدم تصديقها‬ ‫أن بدا له ذلك)‪.‬‬ ‫‪37‬‬


‫على كل حال اعترف أننى ال امتلك تلك الذاكرة الخارقة التى‬ ‫يعكسها المسمارى من خالل سرده للحوارات والجمل وتفاصيل‬ ‫المالمح‪ ...‬الخ لكنى كأغلب عباد الله بوسعى تذكر األحداث وما‬ ‫وقع فيها بصورة عامة ومعانى ما دار فيها من كالم دون أن أدعى نقله‬ ‫حرفيا إال فيما ندر من جمل كانت الفته ومهمة إلى حد رسوخها فى‬ ‫الذاكرة كما هى‪ ...‬ولنبدأ الرواية ـ مع منتصف يوم ‪ 16‬فبراير تلقيت‬ ‫اتصاال من السيد خالد الترجمان فحواه أن إدريس المسمارى قد تم‬ ‫القبض عليه فى بنغازى وأنه قد تم نقله إلى األمن الخارجى بطرابلس‬ ‫وذلك بعد مداخالته مع كل من قناة الجزيره والبى بى سى‪ ...‬وأن‬ ‫المطلوب هو بذل ما يمكن من جهد لضمان سالمته والبحث عن‬ ‫مخرج من هذا الموقف‪ ...‬وكنت أرى فعال ذلك واجبا سواء بحكم‬ ‫العالقة الكبيره لى مع إدريس سواء على المستوى الشخصى والعائلى‬ ‫أو على مستوى الهموم واالهتمامات العامه المشتركة وحتى الجهود‬ ‫واألعمال المشتركه التى جمعتنا من خالل ممارسة األنشطة التى‬ ‫تتصل بالصحافة والكتابة واإلعالم‪ ..‬الخ‪.‬‬ ‫أجريت عدد من االتصاالت ببعض األصدقاء بخصوص‬ ‫الموضوع‪ ..‬وكان من بين من اتصلت بهم األخ (على الرحيبى) الذى‬ ‫تربطنى به صالت صداقة فى نفس الوقت الذى كانت تربطه صالت‬ ‫الصداقة والرفقة مع المسمارى وسبق وأن سجنا معا فى القضية التى‬ ‫اشتهرت باسم (قضية االسبوع الثقافى) أواخر السبعينيات من القرن‬ ‫الماضى ومكثا فى السجن أكثر من ‪ 9‬سنوات مع غيرهما من مثقفين‬ ‫‪38‬‬


‫وكتاب وطنيين‪ ...‬وحيث أن الخبر كان يشير إلى وجود المسمارى‬ ‫لدى األمن الخارجى فقد كان الرحيبى ممن يطلب تدخلهم بحكم‬ ‫صلته العائلية والشخصية باالستاذ أبوزيد دورده‪ ...‬أتذكر أن الرحيبى‬ ‫قد أبلغنى فى هذا االتصال بأنه فد تلقى اتصاال مشابها من السيدة‬ ‫ِ‬ ‫يخف قلقه من الموضوع‪...‬‬ ‫(أم العز) ومن صديقين أخرين‪ ...‬ولم‬ ‫وأذكر أنه سألنى (هل المسمارى مراسل للجزيره؟؟؟) واتفقنا على‬ ‫أن نسعى للتأكد من وجود إدريس لدى جهاز األمن الخارجى وليس‬ ‫لدى جهة أخرى‪ ..‬وأن نلتقى فى الغد بمكتبى بمؤسسة الصحافة التى‬ ‫كنت اشغل وظيفة مديرها العام وكان الرحيبى قد انتدب للعمل بها‬ ‫بناء على طلب وإلحاح منى اعتبارا من ‪ 1‬يناير ‪( 2011‬وليس بعد‬ ‫أحداث فبراير ـ كما أدعى المسمارى فى سيرته)‪.‬‬ ‫بعد ظهيرة يوم ‪ 17‬فبراير التقيت بمكتبى مع الرحيبى الذى أبدى‬ ‫قلقه وانزعاجه من مداخلة المسمارى مع الجزيرة فى هذا الظرف‬ ‫المتوتر والذى يستنفر فيه النظام كافة أجهزته األمنية وأذرعه األخرى‬ ‫وأنه قد يقود هذا الفعل إلى أن يطال االعتقال او التحفظ كافة من‬ ‫كانوا معتقلين فى السابق كإجراء احتياطى خاصة وأن هناك الكثير من‬ ‫أعضاء األمن واللجان الثورية يحملون عداء مقيتا تجاههم‪ ...‬وأذكر‬ ‫أن الرحيبى أعاد السؤال عما إذا كان إدريس مراسال للجزيرة؟؟ ولم‬ ‫ِ‬ ‫أخف استغرابى ودهشتى لهذا السؤال مجيبا بالنفى‪ ..‬قال الرحيبى‬ ‫إن هذه الصفة قد تصلح ألن تكون مبررا لالتصال والمداخلة قد ترد‬ ‫بعضا من األسئلة حول لماذا تم االتصال وكيف‪ ..‬الخ قلت له سيبقى‬ ‫‪39‬‬


‫االتصال فى هذا الوقت إتهاما عند الدولة مهما كانت الظروف‪ ....‬ثم‬ ‫أخبرت الرحيبى بأننى قد التقيت قبل قليل بنوري الحميدى الذى كان‬ ‫يشغل منصب (أمين الثقافة والمسؤول عن اإلعالم) وقتها وأن لديه‬ ‫موعدا مع أبوزيد دورده هذا المساء وطلبت منه التدخل لديه بشأن‬ ‫إدريس المسمارى‪« ...‬وكان المسمارى على عالقة جيده بنورى‬ ‫الحميدى وسبق وأن كلفه بتنظيم مشاركة ليبيا فى معرض الكتاب‬ ‫بالقاهره ‪ 2010‬والتى أعجب فيها بأداء إدريس خاصة عندما استجاب‬ ‫لرغبة الحميدى فى منع مشاركة الشاعر والكاتب والدبلوماسي‬ ‫المعروف إدريس ابن الطيب ضمن فعاليات المهرجان وأمسياته‬ ‫الشعريه خشية من أن يلقى إدريس قصائده التى تزعج النظام ومنها‬ ‫قصيدته الشهيره ـ مرافعة السيوف ـ التى كتبها خالل مرحلة السجن‬ ‫ونشرها فى عدة مواقع وشارك بها فى بعض األمسيات (فى ليبيا‬ ‫وخارجها) ولم تخف األجهزة انزعاجها منها ـ ولعل ذلك ما جعل‬ ‫عالقة المسمارى بالحميدى تزداد توطدا وأن يحصل المسمارى‬ ‫على اتفاقات مع أمانة اإلعالم بشأن كتابة ملخصات للكتب الصادرة‬ ‫حديثا فى مصر لمكتبة القائد مقابل خمسمائة دوالر للكتاب وكذا‬ ‫ترشيح عدد من العناوين لكتب تنوي األمانة توريدها لتزويد بعض‬ ‫المكتبات ـ ربما وكما تسرب أن مكتبة القيادة إحداها» إضافة إلى‬ ‫حصوله من الحميدى على تكليفات بطباعة حصة من الكتب التى‬ ‫تقوم األمانة بطباعتها فى الخارج‪ ..‬فاقترح الرحيبى بناء على ذلك‬ ‫ان ننتظر ما يعمل نورى الحميدى وما سيأتي به من معلومات‪ ...‬ثم‬ ‫انخرطنا فى تحليل ما يجرى وتوقعاته وما توفر من معلومات حول‬ ‫‪40‬‬


‫استنفار النظام ألجهزته بمختلف أنواعها وما رشح عن السيناريوهات‬ ‫المعده لمواجهة ما يحدث والتى تنبىء بأن خيار المواجهة بالعنف‬ ‫قائم وبقوة‪ ...‬كرر الرحيبى توقعاته التى سبق وأن أفصح عنها منذ بداية‬ ‫الحديث عن الخروج يوم ‪ 17‬فبراير والتى ترجح خروج الجماهير ـ‬ ‫خاصة فى المنطقة الشرقية ـ لكنه مصر على أن النظام سيرفض ذلك‬ ‫بكل قوة ولن يتردد فى إسالة الدماء خاصة إذا ماشعر بأن هذا الخروج‬ ‫أصبح مهددا لوجوده وكرر تقديراته ـ التى كنا نتندر عليها ـ بأن عدد‬ ‫الضحايا قد يصل الى العشرة آالف‪ ..‬وقد تزيد مالم يحدث ضغط‬ ‫وتدخل دولى محتمل الحدوث وفقا للمعطيات التى أفرزتها الحركة‬ ‫التى سميت بالربيع العربى‪ .....‬وإلى وقت متأخر بقينا فى انتظار‬ ‫التواصل مع السيد نورى الحميدى لمعرفة ما توصل إليه من نتائج لكن‬ ‫هاتفه كان مقفال‪ ..‬وعندما تحصلت على االتصال به متاخرا عرفت‬ ‫منه أنه ذهب إلى أبوزيد وأن إدريس المسمارى عندهم‪ ...‬ووعد أن‬ ‫تكون األمور بخير دون أن يقدم أى تفصيل بالخصوص‪ ...‬قدرنا أنا‬ ‫والرحيبى أن نورى الحميدى لم يفعل شيئا بالخصوص لكننا تأكدنا‬ ‫أن المسمارى موجود لدى الخارجى وليس لدى أى جهة اخرى وهذا‬ ‫بعث قدرا من االطمئنان لدى الرحيبى الذى قال بأنه إذا كان األمر‬ ‫بيد أبوزيد فإنه يرجح أن معاملة إدريس ستكون حسنة وأن األمل فى‬ ‫احتماالت أن نستطيع فعل شىء من أجل خروجه كبيرة‪ ..‬واتفقنا أن‬ ‫نلتقى فى الغد لنرتب االتصال بأبوزيد ومقابلته‪.‬‬ ‫ظهيرة الغد ‪ 18‬فبراير التقيت بالرحيبى فى المكتب كالعادة‪ ..‬قام‬ ‫‪41‬‬


‫الرحيبى بإجراء اتصال بأبوزيد طالبا موعدا للمقابلة فوافق أبوزيد‬ ‫وحدد موعدً ا الساعه الخامسة مساء‪ ...‬فى الخامسه توجهت أنا‬ ‫والرحيبى إلى حيث مقر األمن الخارجى الواقع بعد منطقة الجديده‬ ‫على الطريق المؤدي إلى تاجوراء‪ ..‬على بوابة المدخل اخذت الهويات‬ ‫واألسماء أجرى الحرس اتصاال ثم سمحوا لنا بالدخول‪ ...‬صعدنا‬ ‫الى حيث مكتب االستاذ ابوزيد‪ ..‬طلب منا موظف االستعالمات‬ ‫الجلوس فى حجرة انتظار ثم حضر إلينا ليقتادنا إلى مكتب أبوزيد‬ ‫دخلنا إلى المكتب الواسع كان أبوزيد خلف مكتبه المواجه للباب‬ ‫نهض وتقدم مصافحا‪ ..‬كان هناك شخصان يجلسان على صالون يقع‬ ‫على مسافة أمام مكتبه‪ ،‬اتجهنا للسالم عليهما وأبوزيد يقول معرفا‬ ‫بهما هذا التهامى خالد وهذا عبد السالم حموده‪ ...‬وانتقل ليذكر‬ ‫لهما اسماءنا ثم عاد الى مكتبه طالبا منا الجلوس على كرسيين وضعا‬ ‫بجوار طاولة المكتب‪ ...‬كنا صامتين بسبب وجود هذين الشخصين‬ ‫لكن ابوزيد بادر بالكالم‪ ...‬بصوت مرتفع قليال بما معناه أننا قد جئنا‬ ‫من أجل صاحبنا مشيرا إلى أنه قد ارتكب خطأ باتصاله ذاك خصوصا‬ ‫بوضعه كسجين سابق‪ ..‬وأوضح إن ادريس بن الطيب هو من اتصل‬ ‫به وطلب منه التدخل فى الموضوع بناء على الحاح المسماري‬ ‫وقد استجاب للطلب بالرغم من أن هذه المسائل ال تدخل فى‬ ‫اختصاصات الجهاز وأنه أرسل أشخاصا من الجهاز فى بنغازى إلى‬ ‫منزل المسمارى الذى تعرض للهجوم من أشخاص أخرين وتولى‬ ‫اذى او اعتداء مشيرا إلى‬ ‫عملية نقله إلى طرابلس حتى ال يتعرض ألى ً‬ ‫أنه ال يعرف المسمارى ولم يخف انزعاجه واعتراضه على مداخلة‬ ‫‪42‬‬


‫المسمارى مع الجزيرة‪ ...‬تحدث الرحيبى مدافعا عن المسمارى قائال‬ ‫إذا كنت تعرفنى وتعرف محمود البوسيفى وتعرف ابن الطيب فأنت‬ ‫تعرف المسمارى ألنه مثلنا وال يختلف عنا فى مواقفه من الوطن‬ ‫وقضاياه فهو صاحب مجلة عراجين‪ ...‬قال أبوزيد أنه يعرفها وهى‬ ‫مجلة محترمة وقد سبق وأن أرسل لهم مقالة لكنها لم تنشر بعد‪ ...‬هنا‬ ‫دخل شخصان أخران أنضما إلى التهامى وحموده فى الصالون البعيد‬ ‫نسبيا ومعهما أوراق ـ يبدو أنهما من العاملين بالجهاز وانهمك األربعة‬ ‫فى حديث ونقاش يبدو أن موضوعه تلك االوراق والملف المرفق‬ ‫معها‪ ...‬هنا استثمرنا ذلك االنشغال لنلتفت إلى أبوزيد برجاء االهتمام‬ ‫باألمر‪ ...‬والبحث عن مخرج‪ ...‬قال أبوزيد أنه لم يطلع على كامل‬ ‫تفاصيل التحقيق ويمكنكما زيارته اآلن وأنا أوصيت بشأن معاملته‬ ‫بشكل خاص‪ ...‬ثم أخذ ورقة امامه وتوجه للرحيبى بصوت خافت‬ ‫قليال هناك معلومة عن تبادل ايميالت بين المسمارى وابوزعكوك‬ ‫ينسب إدريس لبعض‬ ‫ـ الموجود ايميل واحد ـ وبعض الكالم الذى ّ‬ ‫االطروحات االقليمية‪ ...‬رد الرحيبى بأنه بالنسبة لموضوع األقليمية‬ ‫فثق أن إدريس أبعد ما يكون عن ذلك ويستحيل أن يكون على صلة‬ ‫باى جهات خارجية أما بخصوص أبوزعكوك فال علم لى بأى تواصل‬ ‫وإن كنت متأكدا بأن إدريس العالقة له بالتوجهات التى يحسب عليها‬ ‫أبوزعكوك والمتعلقة بمناهج وأفكار حركة اإلخوان المسلمين‪...‬‬ ‫عندها قال بوزيد أنه من المهم اآلن أن تبلغ إدريس بهذه المعلومات‬ ‫وإذا ثمة شىء من تصرفاته يمكن أن يستثمر إلتهامه أو لوضعه موضع‬ ‫الشبهة عليه أن يقوله لكما حتى يمكن تدارك األمر ومعالجته ما دام‬ ‫‪43‬‬


‫الملف تحت أيدينا وحتى ال تفاجئنا جهة أخرى بمعلومات النعرفها‬ ‫فيما بعد ويخرج األمر من أيدينا مؤكدا أن الوضع جد دقيق والكل‬ ‫مستنفر وهى فرصة حتى لتصفية الحسابات الشخصية كما تعرفون‪...‬‬ ‫ثم طلب شخصا ليمكننا من الزيارة‪ ..‬عند هذه اللحظه طلبت من‬ ‫األستاذ أبوزيد أن يأذن بأن أطلب السيدة أم العز ـ زوجة ادريس ـ‬ ‫ليكلمها ويطمئنها فالقلق مستبد باألسرة على إدريس ووضعه بهم‬ ‫فوافق وطلبتها وكلمها االستاذ أبوزيد مطمئنا لها‪.‬‬ ‫جاء شخص ليخرجنا معه طلب منا االنتظار فى صالة االنتظار‬ ‫وذهب ليعود بعد قليل ويطلب منا أن نتبعه‪ ..‬تبعناه إلى مكتب فى‬ ‫الناحية األخرى دخلنا لنجد شخصا على مكتبه قال مرافقنا له بإننا‬ ‫من كلمه الرئيس علينا‪ ..‬دعانا الرجل للجلوس جلسنا على الكرسيين‬ ‫الموجودين أمام مكتبه‪ ..‬قال انتظروا قليال حتى يأتى من يأخذكما‪...‬‬ ‫وأمتد الوقت قليال وكان المكتب يزدحم كل مرة بالداخلين لمراجعة‬ ‫الشخص الجالس‪ ..‬استاذنت من الرجل أن نخرج وننتظر فى الصالون‬ ‫حتى يأتى من يكلفه بالذهاب معنا وحتى ال نشغله عن عمله‪ ..‬وخرجنا‬ ‫أنا والرحيبى ونحن نسير فى الممر قال لى الرحيبى أنه يعتقد أن‬ ‫الملف الذى ُأحضر وجلس عليه التهامى وحموده يتناقشان فيه هو‬ ‫ملف ادريس‪ ..‬قلت كيف عرفت رد على قائال بأنه سمع أحدهم يذكر‬ ‫اسم المسمارى عندما مررنا بجنبهم أثناء خروجنا وكلمة التلفزيون‬ ‫لربما كانوا يتحدثون عن مداخلته فى الجزيره‪...‬جلسنا فى الصالون‬ ‫المعد لالنتظار تحدثنا قليال عن كيفية توصيل ما قاله أبوزيد إلدريس‬ ‫‪44‬‬


‫قال الرحيبى اأنه ال مشكلة فى األمر قابلناه منفردين أما إذا كان معنا‬ ‫أحد فلتحاول إشغاله حتى تصل جملة «إذا كان هناك شىء يجب ان‬ ‫تقوله لنا نحن حتى يمكن تداركه»أو أن يحتفظ به حتى يقابل األستاذ‬ ‫أبوزيد ليبحثه معه‪ ...‬حظر الشخص المكلف طالبا أن نتبعه‪ ..‬خرجنا‬ ‫من المبنى وكان الوقت بعد المغرب بنصف ساعه تقريبا‪ ..‬سرنا مسافة‬ ‫بين األبنية وفى طرق متعرجة حتى وصلنا مبنى أرضى مغلق الباب‪..‬‬ ‫طرق الرجل ففتح الباب استقبلنا شخص أخر قادنا إلى حجرة واسعة‬ ‫عارية إال من الفرش وطاولة اجتماعات فى وسطها عليها بعض‬ ‫المقاعد وحزمة أوراق بيضاء‪ ...‬وال اتذكر بقينا واقفين وسريعا ما‬ ‫حضر إدريس الذى انبسطت أساريره عند رؤيتنا جلسنا إلى الطاولة‬ ‫الرحيبى فى الركن ثم إدريس وأنا‪ ..‬وجلس الرجل الذى كان بلباس‬ ‫مدنى أمامنا ممسكا بيديه رزمة األوراق البيضاء‪ ..‬كانت أسئلتنا عن‬ ‫الصحة والحال قلت له أن األسرة بخير وأن أم العز قد تكلمت مع‬ ‫األستاذ أبوزيد وطمأنها‪ ..‬ثم تكلم الرحيبى وفعال سأل إدريس هل‬ ‫أنت مراسل للجزيرة‪ ...‬فأجاب إدريس بالنفي‪ ..‬وأخذ يسرد الحادثه‬ ‫بقوله أنه كان مع (نوري الماقنى وخالد الترجمان) يمران بجوار‬ ‫المظاهرة وكان سكرانا فنزل من السيارة وترك صديقيه ودخل فى‬ ‫الزحام‪ ...‬ثم اتصل بصديق فى مصر (الناشر محمد هاشم) وهو الذى‬ ‫اتصل بالجزيرة وجعلها تتصل بى وكانت تلك المداخلة‪ ...‬الحظت‬ ‫أن الرجل المقابل لنا كان يصغي باهتمام وعلي الرحيبى الحظ ذلك‬ ‫أيضا فاتجه بالحديث وجهة أخرى فذكر إلدريس أن األستاذ أبوزيد‬ ‫يبلغه تحياته وأنه كان يود رؤيته لكن المشاغل حالت دون ذلك وسيراه‬ ‫‪45‬‬


‫قريبا‪ ...‬وفى هذه اللحظة حاولت لفت انتباه الشخص الجالس معنا‬ ‫بسؤاله عن إجراء اتصال بزوجة إدريس لالطمئنان وأننا قد أخذنا‬ ‫اإلذن فى ذلك من األستاذ ووقفت متحركا فى مكانى أطلب الرقم‬ ‫وكأني أحاول أن أجد منطقة تغطية وكان الرحيبى يبلغ إدريس عما‬ ‫سمعناه من أبوزيد عن (ما إذا كان ثمة شىء يمكن أن يقلق حتى يتم‬ ‫تداركه) ويخبره عن اإليميل مع أبوزعكوك الذى أكد إدريس أنه‬ ‫إيميل وحيد يتيم والشىء فيه‪ ..‬أخبره الرحيبى أيضا بمسألة تقارير‬ ‫متعلقة بنشاط أقليمى‪ ...‬فأبدى إدريس دهشته لمثل هذا الكالم قائال‬ ‫أنا أسميت إبنتى ليبيا وأكتب اآلن رواية مؤسسة على روح الوحدة‬ ‫الوطنية وأنتما تعرفوننى‪ ..‬قال الرحيبى نحن بالتأكيد نعرفك دون‬ ‫شك لكن الظرف دقيق وحساس بما يشكل فرصة لتصفية الحسابات‬ ‫واإلدعاءات الكيدية‪ ..‬وندعو الله أن تكون العواقب سليمة‪ ...‬هنا‬ ‫وقف الرجل الجالس أمامنا وشعرنا أنها إشارة بانتهاء الزيارة فوقفنا‬ ‫ونحن نتحرك‪ .‬كان إدريس بيننا والرحيبى يسأل عن وضعية المكان‬ ‫والمعاملة فأكد إدريس أنها جيدة قلت له وتعمدت أن يكون كالمى‬ ‫مسموعا للرجل الذى معنا أن األستاذ أبوزيد قال أنه اليعتبرك متهما‬ ‫بل ضيفا وستخرج قريبا إن شاء الله‪ ...‬سأله الرحيبى ان كان يريد‬ ‫شيئا فطلب سجائر مالبورو (اليت) ومصحفا‪ ..‬وودعنا المسمارى‬ ‫وخرجنا وال اعتقد أن مدة الزيارة منذ وصولنا للمبنى قد تجاوزت‬ ‫العشرة دقائق بأى حال من االحوال‪.‬‬ ‫رجعنا إلى مكتب األستاذ أبوزيد وجدنا شخصا جالسا على‬ ‫‪46‬‬


‫الكرسى بجوار مكتبه وكان التهامى وحموده الزاال فى الصالون‬ ‫وهناك اشخاص أخرين‪ ...‬تقدمنا نحو أبوزيد الذى استفسر عما إذا‬ ‫رأينا صاحبنا أم ال؟ أجبناه باإليجاب قلت جئنا لنقول مع السالمة‬ ‫فوقف وتحرك معنا باتجاه الباب حيث وقفنا وأخبرناه بأن المسمارى‬ ‫يؤكد بأن ال شىء لديه يمكن أن يؤاخذ به سوى هذا االتصال الذى‬ ‫حكمت به الخمر وأنه ليس له أى تواصل مع أبوزغكوك سوى هذا‬ ‫اإليميل اليتيم الذى اليتجاوز مجرد تبادل التحية والسالم‪ ...‬أذكر‬ ‫أن أبوزيد علق ضاحكا (شيطان الشيشه ودر ناس هلبه) ووعد بأن‬ ‫يوصى بأن يزوره الدكتور لالطمئنان على صحته ووضع السكر‬ ‫الذى يعانى منه مؤكدا على أنه سيكون كالضيف لديه‪ ..‬أخبرناه بأنه‬ ‫طلب سجائر ومصحف وبعض االحتياجات فأوضح بأنه ال مانع‬ ‫فى ذلك أبدً ا وأصدر تعليماته إلى مدير المكتب بخصوص السماح‬ ‫بإحضار عدة أشياء وتسليمها له‪ ...‬وخرجنا لنحضر مصحفا وبعض‬ ‫الغيارات والسجائر التى سلمناها إلى حرس البوابة بعد أن أخبرنا‬ ‫بها مدير مكتب أبوزيد‪.‬‬ ‫فى الغد كان ‪ 19‬فبراير‪ ..‬رجعنا إلى مقر األمن الخارجى فى ذات‬ ‫توقيت مجيئنا باألمس تقريبا‪ ...‬ومررنا بذات اإلجراءات حتى دخلنا‬ ‫إلى مكتب األستاذ أبوزيد‪ ،‬كان صالون المكتب مزدحما بعض الشىء‬ ‫بوجوه ال أعرفها ولم أم ّيز منها سوى التهامى وحموده‪ ..‬بمجرد دخولنا‬ ‫إتجه أبوزيد الذى كان معهم إلى مكتبه بعد ان سلم علينا‪ ..‬تبعناه‬ ‫وجلسنا على الكرسيين المحاديين للمكتب قال إن شاء لله خير‪...‬‬ ‫‪47‬‬


‫األمور تسير إلى مزيد من التعقيد وتتطور بشكل خطير وسريع‪ ...‬نظرنا‬ ‫أنا والرحيبى إلى بعضنا وانتابنا شعور بالقلق الحتمال أن يكون هذا‬ ‫الكالم له صلة بوضع المسماري أو ينعكس عليه وكأن أبوزيد شعر‬ ‫بذلك فقال التخافوا على صاحبكم أنا أتكلم على وضع البلد‪ ...‬ثم‬ ‫أخذ ورقة أمامه أراها للرحيبى وهى فى يده فمد الرحيبى يده وأخذها‬ ‫ليقربها من عينيه‪ ...‬ثم أرجعها إليه‪ ..‬سألت أنا هل يمكن لنا أن نزوره ه‬ ‫فقال أبوزيد أن ذلك ممكن وأنه قد أرسل إليه كتبا أحضرها من مكتبته‬ ‫وأن الدكتور زاره وتم توفير الدواء الخ‪ ..‬ثم اتصل بمدير مكتبه ليأمره‬ ‫بترتيب الزيارة‪ ،‬وخرجنا لنمر بنفس الروتين السابق‪ ...‬عند جلوسنا فى‬ ‫الصالون أخبرنى الرحيبى بأن الورقة التى أطلعه عليها بوزيد تتضمن‬ ‫توصية بأن يعرض إدريس على التلفزيون‪ ...‬تساءلت عن معنى ذلك‬ ‫وبأى صورة‪ ...‬قال الرحيبى بمعنى أن يدعو للتهدئة‪ ..‬قلت هذا يعنى‬ ‫أنه سيستخدم‪ ...‬قال الرحيبى الوضع صعب ومن المهم أن (اليريح‬ ‫فيها ادريس) وبتقديرى أن المسألة تعالج ليس من حيث يخرج‬ ‫على التلفزيون أم ال يخرج المهم ماذا سيقال‪..‬؟؟ وعلى كل حال‬ ‫سنخبر إدريس باألمر‪ ..‬وقد طال انتظارنا للرجل الذى سيوصلنا إلى‬ ‫إدريس ألكثر من نصف ساعة الحظت خاللها مرورالمهندس معتوق‬ ‫معتوق ببرنوس أبيض متجها إلى مكتب أبوزيد‪ ...‬ثم جاء الرجل‬ ‫المكلف وانطلقنا وراءه إلى ذات المكان وذات الطاولة‪ ،‬وجلس‬ ‫معنا ذات الرجل‪ ..‬سألنا إدريس عن أحواله وهل جاءه الدكتور فأكد‬ ‫ذلك‪ .‬كانت لدى الرغبة فى نقل اخبار إلدريس‪ ..‬لكن وجود الرجل‬ ‫اليمكن أن يسمح بذلك‪ ،‬كل ما قلته أن األوضاع صعبة واألحداث‬ ‫‪48‬‬


‫متالحقة‪ ...‬كان إدريس متلهفا ألن يسمع‪ ...‬لكن الرحيبى غ ّير دفة‬ ‫الحديث بسؤال إدريس هل التقيت أحدا اليوم‪ ..‬قال المسمارى نعم‬ ‫التقيت مع التهامى خالد وعبد السالم حموده؟؟ سأله الرحيبى ماذا‬ ‫قاال لك؟ أجاب إدريس سأالنى عن الحادثة فسردت لهما القصة‬ ‫التى حكيت لكم‪ ..‬ثم أن التهامى تحدث لى عن تطور فى األجهزة‬ ‫األمنية وأن السجون تحسنت أوضاعها كثيرا فأجبته بأن هذا أمر جيد‪..‬‬ ‫وكانت مقابلة هادئة‪ ...‬سأله الرحيبى ألم يتحدث معك أحد منهما‬ ‫عن الخروج والتحدث فى التلفزيون‪..‬؟؟ فأجاب إدريس بالنفى‪..‬‬ ‫متسائال فى نفس الوقت (شنو قصة التلفزيون) فأوضح له الرحيبى أن‬ ‫ثمة مقترحا بأن تتكلم فى التلفزيون وتوجه كالمك ألهل بنغازى‪...‬‬ ‫تساءل إدريس وماذا سأقول لهم؟؟ ثم أنا منذ أيام معزول عما يجري‪..‬‬ ‫فكيف أعرف ما يجب قوله؟ فقال الرحيبى نعم يجب أن تكون فى‬ ‫الخارج لتتكلم ثم أنّى اعتقد أن ال مشكلة إذا كان الكالم يتعلق بنبذ‬ ‫العنف ووقف الدماء والدعوة للحوار‪ ...‬وقد أجاب المسمارى بأنه‬ ‫إذا كان األمر كذلك فال مشكلة فى الموضوع‪ ...‬ولم يزد الحديث‬ ‫عن ذلك ولم يكن المقام وال المجال ليسمح بأكثر منه وال لتلك‬ ‫المحاضرات التى توهمها المسمارى وانبرى للحديث عنها فى سيرته‬ ‫والتى جعلت من زياراتنا له أشبه بالندوات الفكرية!!!‪ ...‬وكالعاده‬ ‫وقف الرجل ليعلن انتهاء الزياره فودعنا إدريس وخرجنا لنعود إلى‬ ‫مكتب االستاذ أبوزيد الذى وجدناه هذه المره وحده بالمكتب مع‬ ‫عبد السالم حموده وما أن جلسنا حتى أحضر العشاء فطلب ابوزيد‬ ‫أن نبقى للعشاء معهما‪ ..‬جلسنا إلى طاولة االجتماعات؛ جلس‬ ‫‪49‬‬


‫أبوزيد فى ناحية منها وجلس الرحيبى ثم أنا‪ ،‬بينما جلس حموده‬ ‫على الطرف المقابل‪ ...‬سأل بوزيد عن حال إدريس‪ ..،.‬أجبناه بأنه‬ ‫بخير‪ ،‬أضاف أبوزيد ضاحكا (هل طارت السكره؟؟) قال عبد السالم‬ ‫حموده مبتسما (عندما التقيت به أنا والتهامى قال لقد كنت سكرانا‪..‬‬ ‫فاجبته هذى إجابة ما تنجيكش بل تورطك فالمعروف أن السكران‬ ‫يقول اللى فى خاطره) ثم أشار إلى ضعف بنيته وحالته الصحية مردفا‬ ‫أنا من رأيى نطلقوه يروح‪ ...‬فرد أبوزيد (نطلقوه يروح وين بنغازى‬ ‫ماعاد يطولها حد‪ ..‬الطيران واقف والبر مش مضمون) فى هذه اللحظه‬ ‫تدخل الرحيبى قائال (وليش يروح لبنغازى) أجابه أبوزيد (وين‬ ‫بيمشى!ّ؟) قال الرحيبى‪ ..‬يقعد عندى أو عند محمود وأكدت أنا على‬ ‫ّ‬ ‫كالم الرحيبى بالقول ببقائه عندى حيث أن زوجتى من بنغازى أيضا‬ ‫وتربطنا بعائلته صالت اجتماعية‪ .‬وأنه سبق له أن أقام عندي‪ ...‬نظر‬ ‫أبوزيد إلي وإلى الرحيبى بكيفية تشعر بأن ثمة خطأ ما فى ما قلناه‪...‬‬ ‫ثم همس ببطء وهو ينظر إلى السفرة أمامه (أنتم تتكلمون بعواطفكم)‬ ‫ساد صمت انهمكنا فيه باالكل وسرعان ما استأذن عبد السالم حموده‬ ‫وخرج‪ ..‬فالتفت أبوزيد ناحيتنا قائال (كيف يذهب إلى بيتك أنت أو‬ ‫هو‪ ..‬مهابيل أنت وإياه؟! ‪ ...‬فى هالظروف يجوكم اللجان الثوريه‬ ‫والمتشنجين وأصحاب الشر يكسروا روسكم أنتم وياه‪ ...‬اآلن‬ ‫أضمن مكان له وأكثر أمنا هو عندى ما يوصل فيه حد والحمد لله‬ ‫أنتم شفتوا وين قاعد وكيف إقامته‪ ...‬أنا معتبره ضيف وأمانة) وقد‬ ‫بدا لى كالمه مقنعا‪ ..‬لكن الرحيبى أثار نقطة وماذا بخصوص توصية‬ ‫خروجه فى التلفزيون؟؟ تساءل بوزيد (خيرها؟؟) قال الرحيبى إن‬ ‫‪50‬‬


‫ذلك يتطلب أن يكون إدريس فى الخارج‪ ..‬قال أبوزيد إن ذلك ليس‬ ‫ضروريا يمكن أن تأتى اإلذاعة هنا ونجهز لها مكان تجرى فيه مقابله‬ ‫معه إضافة إلى أن الجهاز لديه إمكانيات التصوير ويمكنه القيام‬ ‫بذلك وتسليم الشريط لإلذاعة‪ ...!!..‬قال الرحيبى بأن ذلك خطأ‬ ‫وال ينبغى أن يحدث الن ذلك يبدو وكأنه انتزاع كالم من شخص‬ ‫موقوف‪ ...‬علقت أنا (وخاصة إذا كان الكالم فى صيغة االعتراف‬ ‫بالذنب واالعتذار للقيادة‪ ...‬صرخ أبوزيد بصوت عال (مش ممكن‬ ‫هذا يصير‪ ..‬أنا هذا رفضت يديروه لجماعة المقاتلة وأصريت أن‬ ‫يلغوه‪ )..‬قال الرحيبى أن كان والبد ينبغى أن يكون الكالم فى إطار‬ ‫الدعوة إلى حقن الدماء ونبذ العنف من كل األطراف بما فيها وأولها‬ ‫الدولة والدعوة لحوار وطنى شامل اليقصى أحد‪ ...‬أجاب أبوزيد نعم‬ ‫هذا هو المطلوب اآلن‪ ...‬من الجميع ويجب على إدريس أن يقوله‬ ‫ألنه فى مصلحة الوطن‪ ...‬وعلى كل حال لنترك ذلك إلى وقته‪...‬‬ ‫ثم دعانا لالنتقال إلى الصالون‪.‬‬ ‫جلسنا وأحسست أن الوقت مناسب للحديث معه لمعرفة تقييمه‬ ‫لما يجري وموقفه منه‪( ...‬وقد يكون من الواجب أن أنقل خالصات‬ ‫ما علق بالذاكرة من تلك الجلسة للتاريخ ولألمانة وإلنصاف هذا‬ ‫الرجل)‪ ..‬قلت بالرغم من وجودنا فى هذا المكتب الرسمى‪..‬‬ ‫أريد أن أسألك كأبوزيد المواطن والمثقف السياسى الوطني‪...‬‬ ‫ما رأيك فيما يجري؟؟؟ وقد لخص أبوزيد رأيه بالتعبير عن قناعته‬ ‫بأن االحتجاجات والمظاهرات لها أسبابها الحقيقية ومبرراتها التى‬ ‫‪51‬‬


‫تستند إلى كم هائل من السلبيات والخلل فى بنياننا السياسى وتركة‬ ‫كبيرة جدا من الفساد المالى واإلدارى المتراكم‪ ...‬مؤكدا بأن رأيه‬ ‫هذا ليس اآلن فقط بل هو قديم ومعروف ومعبر عنه علنا فى مواقف‬ ‫عدة وقدم به مذكرات مفصلة لمن يعنيهم األمر صوتا وكتابة منذ‬ ‫سنوات وفى مواقف ومفاصل عدة‪ ...‬لكنه يعتقد أيضا أن أى حدث‬ ‫ما ال يمكن أن نراه فى حدوده الضيقة وبمعزل عن زمانه ومكانه‬ ‫والعوامل المحيطة به‪....‬وبذلك فإنه يعتقد ان التعاطي مع مايجرى فى‬ ‫ليبيا اآلن لن يكون معزوال عما يجرى فى المحيط اإلقليمى خصوصا‬ ‫ما جرى فى تونس ومصر وذلك ما يفيد ـ ووفق معلومات مؤكدة ـ‬ ‫بأن قوى دولية استعمارية متحالفة مع تيارات محلية إقليمية تسعى‬ ‫الستثمار وتوظيف هذه االحتجاجات والمظاهرات وتوجيهها إلنتاج‬ ‫أوضاع تخدم مصالح هذه القوى وال تخدم مصالح الوطن والشعب‬ ‫وهو على أساس هذه القناعة يرى أن وقف العنف وتجنب الصدام‬ ‫الدامي والمحافظة على كيان الدولة واالنطالق فى حوار وطنى عام‬ ‫بغرض تحقيق إصالحات جذرية وحقيقية هو السبيل األنجح لتحقيق‬ ‫مطالب الشعب وهو ما يضمن عدم االنجرار إلى نتائج وخيمة قد‬ ‫تهدد وجود الوطن من أساسه‪ ...‬مشيرا إلى أن وضع ليبيا ككيان هو‬ ‫وضع هش من الناحية االجتماعية الديموغرافية وطبيعة إتساعها‬ ‫الجغرافى وقلة عددها السكانى مما يخلق مسافات كبيرة تفصل‬ ‫بين مراكز التجمعات السكانيه خاصة فى الجنوب وإذا ما أخذنا فى‬ ‫االعتبار مصالح ومطامع الغير فيها؛ إما لثرواتها أو لحجمها الجغرافى‬ ‫ولن تكون خارطة ليبيا هى أول وال آخر خارطة تتغير بل لعلها األكثر‬ ‫‪52‬‬


‫سهولة فى تغييرها‪ ...‬لم نكن محاورين فى هذه الجلسة بقدر ما كنا‬ ‫مستمعين وبرغبة شديده فى التعرف إلى وجهة نظر شخصية لها‬ ‫قيمتها سياسيا ورسميا أيضا واعتقد أن إهتمامى بما قيل وقتها جعل‬ ‫قدرتى على أن اتذكره بكثير من الدقة ممكنا‪.‬‬ ‫مر يوم ‪ 20‬و‪ 21‬فبراير لم نزر المسمارى‪ ...‬ومع ظهر يوم ‪ 22‬كان‬ ‫واضحا أن األمور قد صارت تتجه لمزيد من التأزم بعد انتفاضة الزاوية‬ ‫وما حصل بطرابلس يوم ‪ 20‬ليال‪ ...‬لذلك ساورنى القلق حيال وضع‬ ‫المسمارى وأن ما اعتبرناه مكانا آمنا صار فى ضوء هذه االوضاع‬ ‫مكانا خطيرا إذا ما قرر النظام أو طرف منه تصعيد العنف وقد يكون‬ ‫السجناء أقرب للتصفية فى أى لحظة‪ .....‬إتجهت إلى منزل الرحيبى‬ ‫ألصارحه بهواجسى فوجدته على ذات القدر من القلق والهواجس‬ ‫فقررنا االتصال باألستاذ أبوزيد لطرح فكرة خروج المسمارى إلى‬ ‫بيوتنا مرة أخرى‪ .....‬وفعال قام الرحيبى باالتصال بأبوزيد مستفسرا‬ ‫منه عن حال إدريس‪ ...‬ويبدو أن أبوزيد كان يحمل ذات الفكرة‬ ‫حيث أفادني الرحيبى بأن أبوزيد قد بادر بالقول يمكنكم الذهاب‬ ‫اآلن ليخرج معكم وستجدون عبد السالم حموده فى انتظاركما‬ ‫حيث سأبلغه اآلن بذلك وقد كان أبوزيد خارج الجهاز‪ ...‬وبالفعل‬ ‫توجهنا إلى مكتب عبد السالم حموده الذى وجدناه فى انتظارنا‪....‬‬ ‫وطلب منا الجلوس ريثما يتم إحضار المسمارى‪ ...‬أجرى اتصاال‬ ‫ثم الحظنا عليه الغضب واالنفعال حيث بدأ فى اتصاالت سريعة‬ ‫أخرى سمعنا فيها جمال تعبر عن التأنيب لمن يتصل بهم ويطلب‬ ‫‪53‬‬


‫منهم التحرك السريع والتصرف‪ ...‬كان ذلك كفيال بأن يتملكنا القلق‬ ‫والخوف مما يحدث وأذكر أن الرحيبى وقف من كرسيه هاتفا بعبد‬ ‫السالم حموده (طمنا ياعبد السالم شن اللي صار‪ )...‬قال عبد السالم‬ ‫(هؤالء الحمير طلب منهم البارحة إحالة الموقوفين من الليبيين إلى‬ ‫سجن الرويمى التابع لألمن الداخلي‪ ...‬فاخذوا معهم حتى إدريس‬ ‫دون أن يفطنوا إلى وضعه وعالقته باألستاذ ـ يقصد أبوزيد ـ وشخص‬ ‫أخر ليبى ـ عرفنا فيما بعد أنه األخ محمد سحيم الفتى النقي حقا وقد‬ ‫أمر األستاذ أبوزيد بإطالق سراحه بعد مدة والتقينا به فى طرابلس‬ ‫التى بقي بها إلى ما بعد يوم ‪ 8 /20‬ـ دون ان يكونوا مشمولين باألمر)‬ ‫هنا أذكر أن الرحيبى قال (هل صاحبنا ملحوق ويمكن استعادته؟؟؟)‬ ‫أجاب عبد السالم باإليجاب لكنه أشار إلى أن من بالرويمى سخفاء‬ ‫ومعاملتهم سيئة‪ ....‬وهنا شعرنا بقدر من الراحة‪ ...‬بقينا ننتظر مدة‬ ‫حتى حضر إدريس وعانقناه جميعا واعتذر له عبد السالم حموده‬ ‫شارحا الخطأ الذى حدث‪ ...‬وأذكر أن ادريس كان مبتهجا لنجاته‬ ‫من سجن الرويمى خاصة بعد أن أدرك أننا قد جئنا لكى يخرج‬ ‫معنا‪ ....‬وأخبرنا عبد السالم حموده أن االستاذ أبوزيد فى الطريق وأنه‬ ‫طلب منا االنتظار حتى حضوره‪ ...‬انتقلنا أنا وإدريس والرحيبى إلى‬ ‫غرفة أخرى صغيرة بها صالون جلسنا ولم تمض دقائق حتى حضر‬ ‫أبوزيد‪ ...‬الذى اتجه إلدريس مصافحا معبرا عن أسفه واعتذاره‬ ‫الشديد لما حدث له وأنه قد تم اتخاذ اإلجراء تجاه من ارتكب هذا‬ ‫أصر على بقائنا لتناول وجبة غداء رغم أن الوقت تجاوز‬ ‫الخطأ‪ ...‬ثم ّ‬ ‫العصر تقريبا‪ ....‬وتغدينا م ًعا وجاء شخص أخر قدمه أبوزيد على أنه‬ ‫‪54‬‬


‫نائب مدير الجهاز وهو من بنغازى‪ ...‬وما أن انتهينا من الغداء حتى‬ ‫كانت اإلذاعة قد باشرت نقل كلمة القذافى‪ ...‬التى استمعنا إليها‪....‬‬ ‫ثم انصرفنا‪ ...‬عند خروجنا لحق بى أحد العاملين بمكتب االستاذ‬ ‫أبوزيد وهو األستاذ علي المقطوف «والذى عرفنا أنه يعمل مع األستاذ‬ ‫ابوزيد منذ كان محافظا فى مطلع السبعينيات وانتقل للعمل سكرتيرا‬ ‫خاصا له فى جميع المواقع التى تقلدها»‪ ..‬بيده مظروفا منتفخا به‬ ‫مبلغ مالى ليقول هذا أمر االستاذ بصرفه إلدريس لينفق منه حيث‬ ‫أنه اليستطيع العودة إلى بنغازى بعد أن قطع الطيران‪..‬فقلت له أمام‬ ‫الرحيبي وأمام األستاذ ابوالقاسم حسن الذي كان نقيبا للمعلمين‪،‬‬ ‫وعمل بعدها مديرا لشركة المناطق العشوائية وكان صديقا لدوردة‬ ‫وكان ساعتها يقف بالممر صدفة وتوقف لمصافحتنا‪ ..‬هذا إدريس‬ ‫أمامك وأعطيه أمانته فتساءل إدريس ما هذا فقال له المقطوف هذه‬ ‫إلي وللرحيبي‬ ‫من األستاذ ومد يده بالمظروف السمين فنظر إدريس ّ‬ ‫فأشار له الرحيبي بإيماءة تعنى الموافقة فأخذه ودسه فى جيب بنطلونه‬ ‫الخلفي وهو يتمتم‪:‬أشكر األستاذ من فضلك ماكانش ليه لزوم‪...‬‬ ‫وليس بوسعى تقدير كم كان هذا المبلغ سوى أن المظروف االصفر‬ ‫المتوسط الحجم كاد يكون مستطيال من االمتالء‪( ...‬ولست أدرى‬ ‫لماذا يصر المسمارى على عدم استالمه للمبلغ فى سيرته التى روى‬ ‫وهو يعلم أن استالمه للمظروف كان أمام شهود أحياء)‪.‬‬ ‫بعد مرورنا على مكتبى بالهيئة العامة للصحافة حيث وجدنا السيد‬ ‫نورى الحميدى أمين الثقافة الذى رحب بإدريس وحضور عدد من‬ ‫‪55‬‬


‫الزمالء والصحفيين من بينهم األستاذ عبد الرزاق الداهش الذى‬ ‫سألنى ماذا يفعل هذا هنا‪ ..‬فأجبته هذا صديقي‪ ..‬خرجنا إلى منزل‬ ‫الرحيبى حيث قررنا أن نقضي الليل به‪ ...‬حكى لنا إدريس عن تجربة‬ ‫نقله من الخارجى إلى الداخلى ليال ليبيت هناك فى سجن الرويمى‬ ‫ليلته ويعود بعد ظهر الغد؛ أذكر أنه تكلم عن استيالء السجانين على‬ ‫هاتفه المحمول وعلبة سجائره «المارلبورو» وأنه حجز فى غرفة بها‬ ‫نزيل أسمر البشرة كان يخبط رأسه على الجدار ويصرخ طوال الليل‬ ‫وأنه أثناء دخوله ُصفع على عنقه‪ ...‬لكنه لم يتحدث إطالقا عن تلك‬ ‫األساطير التى يوردها فى سيرته من محاولة‬ ‫الغتصابه؟؟!!!‪ ..‬أذكر أن المسمارى حكى لنا بالتفصيل عن‬ ‫أحداث تلك الليلة التى اتصل فيها بالجزيرة وأنه كان فى وضعية سكر‬ ‫عندما ذهب مع الماقنى والترجمان إلى مكان المظاهرة حيث تملكه‬ ‫الحماس فنزل والتحم بها ثم خطرت عليه قناة الجزيرة فطلب من‬ ‫صديق مصرى فى القاهرة أن يربطه بقناة الجزيرة‪ ...‬كما أذكر أننا قد‬ ‫تحدثنا عن األوضاع وما يجري وما نتوقعه على ضوء خطاب القذافى‬ ‫الهجومي‪ ...‬كرر الرحيبى توقعاته بشأن دموية المشهد وتوقعاته حول‬ ‫الحجم الكبير من الضحايا الذين سيسقطون وتبادلنا النقاش حول‬ ‫أهمية دعم أى توجه نحو الحوار والتعاطي مع العناصر القابلة لذلك‬ ‫فى النظام خاصة وأن األوضاع فى بنغازى بعد سقوط كتيبة الفضيل‬ ‫وانحسار نفوذ النظام عن المنطقة الشرقية من الوطن‪ ...‬تقدم موقعا‬ ‫قويا بدرجة او بأخرى لمثل هذا الحوار‪ ..‬كما أذكر أن المسمارى‬ ‫‪56‬‬


‫لم يكن مخالفا او معترضا على ذلك بأى شكل من األشكال‪ ...‬كما‬ ‫أذكر أن النقاش قد تطرق إلى مسألة اإلذاعة وخروج إدريس عليها‬ ‫وكنا متفقين على أن المسألة ليست فى عملية الظهور على اإلذاعة‬ ‫من عدمه بقدر ما تكون األهمية فى مضمون ما يقال معتبرين أن‬ ‫تجاوز مسألة التسجيل مع إدريس داخل الجهاز يعتبر مكسبا يمنح‬ ‫اآلن فرصة لترتيب ما ينبغى أن يقال وأن يكون لصالح الوطن‪..‬‬ ‫وتم اتفاقنا جميعا على ان صيغة الخطاب لن تكون إال فى حدود‬ ‫نبذ العنف ورفض التدخل األجنبي والتأكيد على الوحدة الوطنية‬ ‫والدعوة إلى الحوار الذى اليستثنى أحدً ا مع اإلشارة إلى وجود‬ ‫يقر‬ ‫المطالب العادلة لدى الجماهير تجاه ما تعيشه من أوضاع متردية ّ‬ ‫بها الجميع بما فيهم قيادات النظام‪ ....‬وخوفا من االنفراد بإدريس‬ ‫فى هكذا موقف تطوع الرحيبى بأن يشترك معه فى هذا اللقاء حتى‬ ‫يتعاونا فى إدرة دفة الحديث وتجنب أى محاولة الستثماره من قبل‬ ‫السلطة‪ ....‬فى صباح اليوم التالى ذهبت ومعى إدريس إلى الفندق‬ ‫حيث طلب أن يقيم فيه وتركته هناك ألذهب إلى مكتبى على أن‬ ‫نلتقى مساء‪( ...‬يروى المسمارى فى سيرته بأنه وجد الفندق مقفال‬ ‫وأنه اتصل بصديقه المصرفي رضا بن موسى الذى سبق وأن حذره ـ‬ ‫كما يروى من رفقته لى وللرحيبى!! لكن السيد رضا لم يحضر إليه‪،‬‬ ‫فاضطر إلى أن ياخذ تاكسى ليأتى إلى مبنى هيئة الصحافة‪ ...‬وهنا‬ ‫قد يجدر التساؤل‪ ...‬مادام المسمارى على حذر منا وقلق من رفقتنا‬ ‫فلم لم يذهب بالتاكسى إلى السيد رضا‪...‬؟؟ على األقل ليناقش معه‬ ‫محاذير رفقته لنا ويبحث سبل االبتعاد عنا‪ ...‬كما فات المسمارى‬ ‫‪57‬‬


‫أن ينتبه إلى أن مايوحى به من كونى أنا والرحيبى مكلفين بمراقبته‬ ‫وإبقائه لدينا كإقامة جبرية اليستقيم مع ذهابه للفندق حسب رغبته؟‬ ‫وكنا أصررنا على أن يبقى فى أحد محبسيه الجبريين عندى أو عند‬ ‫الرحيبي!!!)‪ ...‬على كل حال قد اليكون من المفيد مناقشة تخرصات‬ ‫وتهاويم المسمارى كما وردت فى سيرته‪ ....‬الن تناقضاتها كانت‬ ‫بينة كما تمت اإلشارة فى بعض من هذه السطور‪.‬‬ ‫عند المساء حضر المسمارى إلى الهيئة وحدثت وقائع رحلته أو‬ ‫معركته الكبرى مع اإلذاعة ـ وقد أوضح الرحيبى تفاصيلها فى إفادته‬ ‫ومما يحمد الله عليه أن ثمة شاهد أخر الزال حيا وهو ـ عبد المنعم‬ ‫اللموشى على تلك الوقائع ـ لتنتهى تلك المعركة المسماريه وفق‬ ‫عبارة (مشينا وجينا سالمين) ويبقى المسمارى بعدها شهورا دون أن‬ ‫تبحث عنه أجهزة الدولة لتطالبه بدفع الثمن المتفق عليه مقابل إطالق‬ ‫سراحه (الذى جعله المسمارى فى سيرته صفقة مقابل خروجه فى‬ ‫اإلذاعة)‪ ...‬وأن تلزمه بالخروج على الشاشات‪ ...‬إننى اؤكد هنا بجزم‬ ‫ويقين كامل أن ال أحد فى الدولة الليبيه كان يطارد المسمارى أو يتابع‬ ‫حركته (حتى لقاءه مع محمود السوكنى الذى جعله المسمارى ضابطا‬ ‫فى األمن عند خروجه من منزل الرحيبى كان بمحض الصدفه وقد‬ ‫جاء لمكتبي ليخبرنى بالواقعة وبحضور الرحيبى ولم يكن السوكنى‬ ‫يعلم بوجود المسمارى لدى الرحيبى وكان كل ما يعرفه أنه خرج من‬ ‫السجن ويعتقد أنه غادر طرابلس‪ )....‬لقد كان تخوفنا على المسمارى‬ ‫من أن يلتقى بأحد ممن نعرف ويعرف من عناصر اللجان الثورية الذين‬ ‫‪58‬‬


‫فد يدفعهم الحماس والتشنج الثورى إليذائه أما الدولة على ما نعلم‬ ‫من الوقائع فلم تكن تتابعه أو تود إعادته للسجن ولم يكن اسمه ممن‬ ‫أدرجوا فى قوائم الممنوعين من السفر‪ ...‬بدليل أنه وكما يصرح فى‬ ‫سيرته بأنه قد غادر الحدود وختم جوازه بسالسة ودون أن يعترضه‬ ‫أحد من أجهزة الدولة المتواجدة بالمنفذ برأس جدير وكلنا يعلم‬ ‫كم كانت األجهزة األمنية نشطة ودقيقة فى هكذا مواقع وأنها ألقت‬ ‫القبض على كثيرين خاصة فى تلك االيام الملتهبة‬ ‫تعليق �أخير‬

‫بالرغم من الكثير من سلوكيات وتصرفات إدريس المسمارى بعد‬ ‫توليه مهام مدير هيئة تشجيع ودعم الصحافه لم تدع عندى مجاال‬ ‫للدهشة او االستغراب عما يصدر منه‪ ...‬لكنى لم استطع مغالبة‬ ‫تساؤلى عن األسباب التى تدعوه لتوثيق أكاذيبه وتوهماته فى كتاب‬ ‫سيبقى حجة عليه وليست له على مدى االيام‪...‬؟!!‬

‫كان السؤال مقار حيرة لم تدم طويال فقد بددتها جمل وردت‬ ‫فى تلك السيرة عبرت عنها بشكل جلى تلك السطور الواردة فى‬ ‫الصفحه (‪)274‬حين يسرد مضمون مكالمة هاتفية مع زوجته التى‬ ‫ازعجها كالم هاله المصراتى فى معرض هجومها على البوسيفى‬ ‫وانه قام بتشغيل المسمارى فى هيئة الصحافه‪...‬حيث يقول «كيف‬ ‫انهم يحاولون استخدامى جاهدين‪ ،‬وانا اناور الكسب الوقت النجو‬ ‫بحياتى دون التورط مع نظام خاطرت بحياتى قبل الجميع وكنت‬ ‫‪59‬‬


‫اول من اعلن للمأل خبر خروج الشعب السقاطه)‪ ....‬لن انتبه الى‬ ‫استغراب قد تخلقه سرديات المسمارى لمضمون هاتين المكالمتين‬ ‫وامكانية ان يتهور احد ليقول مثلها فى هاتف خالل تلك االيام وفى‬ ‫اتصال مع بنغازى ومتصال عبر هاتفه بهاتف اخر من نوع الثريا دون‬ ‫ان يحسب حسابا للمراقبه والتعقب خاصة وانه مستمر فى استعمال‬ ‫ذات الهاتف‪...‬؟؟؟!! بقدر ما ساشير الى عبارة (خاطرت بحياتى‬ ‫قبل الجميع وكنت اول‪ )...‬فهذه العبارة تكشف أن المسمارى قد‬ ‫وقع أسيرا لوهم القيادة فهو قبل الجميع وأولهم‪ !!...‬لذلك كان البد‬ ‫أن ينحت ولو بالحبر المزيف مسيرة معاناته (‪ )...‬ولعله يستلهم فى‬ ‫ذلك ما عرف بمسيرة (‪ 4000‬يوم) الشهيرة‪ ...‬وألن االقدار لم تمنح‬ ‫المسمارى وقتا ليوظفه فى مسيرة القائد هذه سوى أقل من ستة أشهر‬ ‫(أى بحدود ‪ 180‬يوما بأقصى تقدير) لم تصل فترة توقيفه فيها حد‬ ‫االسبوع‪ ...‬كان فى أغلبها أشبه بالضيف‪ ...‬فما كان منه إال أن يمطط‬ ‫تلك االيام القليلة ليصبح فى اإلقامة الجبرية لد ينا ويخوض معركته‬ ‫الضارية مع محاوالت النظام إلظهاره عبر اإلذاعة‪ ...‬ولم ينس أن‬ ‫يطعمها فى النهاية بمشهد نضالى أخر تمثل فى إشارته العابرة إلى تردد‬ ‫بعض األصدقاء عليه (دون أن يذكر اسماءهم ربما من باب المحافظة‬ ‫على السرية حتى بعد انتهاء النظام!!) فى منزل نورى عبد الدائم ليحلل‬ ‫لهم األوضاع ويحلل مسارات الثورة ووقائعها ووضع التصورات‬ ‫والخطط لما يمكن القيام به عند انتصار العاصمة وكيفية حماية‬ ‫المناطق الحيوية من الخراب والدمار الذى قد يقوم به النظام حالما‬ ‫يشعر بحتمية وقرب نهايته وأنه رشح مبنى اإلذاعة ومصرف ليبيا‬ ‫‪60‬‬


‫المركزى ومتحف السراى ومؤسسة الصحافة كأهم المناطق التى‬ ‫يجب الحفاظ عليها (ولعل الفضل فى بقاء هذه المؤسسات يعود‬ ‫إلى خطط القائد المسمارى!!!) ويكتب المناشير والتفكير فى كتابة‬ ‫صحيفة يومية على شكل منشور من صفحة واحدة‪ ...‬الخ (صفحه‬ ‫‪ )284‬وقد بدا هذا التفسير ما بدد دهشتى ومنحنى اإلجابة عن دوافع‬ ‫تورط المسمارى فى تدوين مثل هذا الهراء الراشح بالزيف والتزوير‬ ‫واإلدعاء األجوف؟؟؟؟‬ ‫لست مكترثا كثيرا لما أحتوته سيرة المسمارى ومحاولته بناء‬ ‫أساطير نضال وأوهام قيادة يتوهمها ويتخذ من شخصى وشخص‬ ‫الرحيبى وغيرنا سلما إليها عبر تشويه ما حملناه من اجتهاد فى‬ ‫التعاطي مع األحداث التى شهدتها بالدنا ـ وكانت مواقفنا واضحة‬ ‫تماما للمسمارى وغيره يشاركنا فيها أصدقاء وقد شهد المسمارى‬ ‫حوارات حولها ـ حدث بعضها بمنزل الرحيبى ـ مع رفاق يعرفهم‬ ‫المسمارى كانوا يشاطروننا القراءة والتحليل لمايجرى والموقف‬ ‫الذى رأيناه أكثر موضوعية وواقعية ـ بما فيها محاولة تشكيل الجبهة‬ ‫الوطنية الديموقراطية كجسم وطنى ـ معارض يعلن داخل طرابلس‬ ‫ويقدم رؤيته ومقترحاته لحل الصراع على أساس وطنى يتضمن‬ ‫مجمل المشهد السياسى الليبى‪ ..‬وفى سياق موقف واضح من مسالة‬ ‫التدخل الخارجى التى رأيناها تصادر فعالية القوى الوطنية فى رسم‬ ‫مستقبل الوطن ـ حيث أن المسمارى كان على علم بتفاصيله سواء‬ ‫عبر حضوره لبعض الحوارات بمنزل الرحيبى أو غيره وبوجود‬ ‫‪61‬‬


‫أصدقاء ورفاق يعرفهم المسمارى ولم يذكرهم فى كتابه‪ ...‬وكنا‬ ‫نؤكد على الدوام لمن اختلف معنا فى االجتهاد من أصدقاء ورفاق‬ ‫أننا نملك من الشجاعة ما يجعلنا نعترف بخطأ اجتهادنا إذا ما اثبتت‬ ‫األيام قصورنا فى ماذهبنا إليه ولنترك التاريخ وقادم األيام ليحكم‬ ‫فى ما اختلفنا حوله‪ ...‬لكننى لن ُأخفى مقدار المرارة التى أشعر بها‬ ‫عندما أرى إنسانا عرفته يوما يهوى إلى مثل هذا المنحدر من التزوير‬ ‫والتشوه القيمى المقزز‪.‬‬ ‫ومادمت فى إطار التعجب البد من اإلشارة إلى أن المسماري‬ ‫قال فى ندوة عقدت على (شرفه) فى المكتبة الوطنية ببنغازي‬ ‫عقب عودته إليها أنه أضطر خالل إقامته فى طرابلس للعمل راعيا‬ ‫للغنم ومزارعا لسد قوت يومه!! نقل إلي هذا الكالم السيد مختار‬ ‫الجدال عضو المجلس االنتقالي وكان حاضرا فى تلك الندوة‪..‬‬ ‫مثلما نقل إلي أنه حضر جلسة مع السيد امحمد المقريف والسيد‬ ‫عيسى عبد القيوم عرف خاللها أن المقريف كان يرسل أمواال‬ ‫للمسمارى فى القاهرة لدعم مجلة عراجين وأن عبد القيوم نقل‬ ‫بعضها شخصيا له‪ ..‬مصدر التعجب أن المسمارى لم يشر لذلك‬ ‫فى تخرصاته وأوهامه المطبوعة ولعل ذلك يرجع إلى ما يتمتع به‬ ‫وفاء لنورى عبد الدايم الذى اقام بعض الوقت ببيته بمنطقة قمارا‬ ‫بجنزور وكانت لديه معزة وخروفين كانا يفتحان لها الباب للرعي‬ ‫أمام البيت‪ ..‬وكانت لدى عبد الدائم مساحة ال تتجاوز العشرة‬ ‫أمتار داخل فناء البيت يزرعها بالفلفل والبقدونس‪ ..‬وهناك احترف‬ ‫‪62‬‬


‫المسماري مهنة الرعي والزراعة‪ ..‬وهنا فى هذه الكتاب احترف‬ ‫الكذب والبهتان بامتياز ال يضاهى‪.‬‬

‫‪ ....‬ولكن يبقى فى كل االحوال التاكيد بأنى لست نادما ـ‬ ‫واحسب أن أخى وصديقى على الرحيبى كذلك ـ على ما قمنا‬ ‫به من جهد تجاه ضمان سالمة المسمارى وإخراجه من التوقيف‬ ‫واحتضانه فى بيوتنا كأخ وصديق فقد كان ذلك واجبا البد أن نقوم‬ ‫به دون منة او مزايدة‪.‬‬

‫‪63‬‬



‫الذئاب‬ ‫تصطف في الفك العلوي للذئب ستة قواطع‪ ،‬نابين‪ ،‬ثمانية‬

‫طواحن‪ ،‬أربعة أضراس‪ ،‬ويحوي الفك السفلي على نفس القواطع‬

‫والطواحن واألنياب‪ ..‬أما األضراس فيحوي ستة منها‪ ،‬وهو ما يجعله‬

‫يعض بقوة تصل إلى‪ 10,000‬عشرة اآلف كيلو باسكال «‪ 1500‬رطل»‬ ‫وعضته تمزق اللحم وتهرس العظام بشكل أكبر من أسنان أنواع‬ ‫الكلبيات األخرى باستثناء الضباع‪.‬‬

‫يستطيع الذئب البقاء مدة ‪ 17‬يوما دون أكل‪ ،‬ويلتهم فى جلسة‬

‫واحدة ‪ 15‬كيلو غراما من اللحم يبدأها عادة بالكبد والقلب والرئة‬

‫واألمعاء‪.‬‬

‫تخرج الضواري فى الغابات والصحارى والمناطق الجبلية‬

‫والجليدية للصيد عندما تجوع‪ ،‬وتكتفى عادة بفريسة واحدة أو‬

‫أثنتين إذا كان القطيع الجائع كبيرا‪ ،‬غير أن الذئب (وحده) من‬ ‫بين تلك الوحوش الذي يفترس قطيعا كامال من الغنم‪ ..‬يذبحه‬ ‫‪65‬‬


‫بمخالبه ويبقر بطونه بأنيابه الطويلة ويطلق عواءه يمزق سكون‬ ‫المكان ذوذا عن فرائسه من القطعان الذئبية المنافسة واستدعاء‬ ‫لقطيعه األسروي‪.‬‬ ‫ثمة عدد قليل نسبيا من الباحثين يصفونه باإلقدام‪ ،‬فيما يتفق‬ ‫الجميع تقريبا على وصفه بالشراسة والتوحش واعتناق مبدأ القتل‬ ‫للقتل‪ ،‬وربما لذلك أنت ال تشاهده فى حدائق الحيوانات إال وراء‬ ‫حواجز قوية وتأمين ال يتوفر لغيره من الوحوش‪ ..‬ولذلك أيضا أنت‬ ‫ال تشاهده إطالقا فى خيمة السيرك التى يتقافز فيها األسود والنمور‬ ‫واألفيال واألفاعي ويمتثلون لسوط الالعب المطمئن‪.‬‬

‫الذئب حيوان مفترس يعشق الدماء‪ ،‬وال يقيم وزنا ألية معايير‬ ‫فى سبيله إليها‪ .‬يطارد ويالحق ويهجم ويمزق ويقطع ويفتك بغير‬ ‫جنسه من الذئاب‪ ،‬ويحدث أحيانا أن يفعل ذلك بها إذا أقتربت من‬ ‫حوزته أو هددت طريدته‪.‬‬

‫الذئاب كائنات ال تتورع عن صنع ما ال يخطر على بال فقد‬ ‫شوهدت فى المناطق القريبة من التجمعات السكنية تأكل القاذورات‬ ‫من بقايا القمامة وتأكل صغارها إذا أشتد بها الجوع وتتذرع بالنقاء‬ ‫وهي تفتك بالذئاب المريضة أو العاجزة‪.‬‬

‫الذئاب ال تخشى سوى األنسان‪ ،‬وتتجنبه‪ ،‬واإلنسان إذا صار ذئبا‬ ‫فى سلوكه يصبح الذئب مقارنة به كالفراشة الودودة‪.‬‬

‫‪66‬‬


‫ال�س�ؤال‬ ‫ويحكى أن قرو ًيا من الجنوب اإليطالي عاش في العقد األول‬

‫من القرن العشرين‪...‬‬

‫لنقل أن اسمه أنطونيو ً‬ ‫مثل وأنه لم يعش في واقع األمر حياة تليق‬

‫ببني آدم‪.‬‬

‫لم يكن الفقر غري ًبا في جنوب إيطاليا في ذلك الزمن (وهو أحد‬

‫األسباب الرئيسة في جريمة احتالل ليبيا بهدف توطين سكان جنوب‬

‫إيطاليا في شمال ليبيا والتخلص من مشاكلهم)‪ ،‬لكن ما كان يعانيه‬ ‫فضل عن كونه ال يعمل ً‬ ‫جديرا بتوصيف آخر‪ ،‬فهو ً‬ ‫عمل‬ ‫أنطونيو كان‬ ‫ً‬ ‫ثابتًا‪ ،‬يسكن مشاركة مع زوجته وأطفاله الخمسة وأمه وأم زوجته‬ ‫وقطة اختفت ذات شتاء قبل أن يكشف أحدهم عظامها مدفونة في‬

‫أحد زوايا الغرفة المكتظة بالجياع‪ ..‬يتحول سقف الغرفة في الشتاء‬

‫إلى منخل فشلت كل الطرق في وقف إغراقه ألرضيتها وتليين‬ ‫جدرانها‪.‬‬

‫‪67‬‬


‫صباحا‬ ‫وفي ما يشبه االلتزام يخرج سكان الغرفة على تمام الثامنة‬ ‫ً‬ ‫بهدف البحث عن لقمة مغموسة بالضنك‪.‬‬

‫راعي أبرشية القرية كان هو أهم شخصية في القرية‪ ،‬وكان بالتالي‬ ‫دائما من أنطونيو بالشكوى والتذمر والتوسل‪ ..‬وظل‬ ‫المستهدف ً‬ ‫الرجل يستقبل ذلك بإبتسامة تشجع أنطونيو على الصبر وبأن الرب‬ ‫حتما لمساعدته فيما كانت حصة الشك في ذلك تتصاعد‬ ‫سيتدخل ً‬ ‫عند أنطونيو وهو ما أقلق الراهب‪.‬‬

‫ذات ليلة سمع سكان الغرفة‪ ،‬وهم يتكدسون إجها ًدا من عناء يوم‬ ‫ثقيل‪ ،‬طرقات قوية على بابهم المتهالك‪ ..‬هرعت إحدى العجائز‬ ‫لتفتح الباب وتخر مقبلة يدً ا بضه بيضاء‪ ،‬وهي تهتف أبونا‪ ..‬أبونا‪..‬‬ ‫قبل أن يلحق بها الجميع لإلحتفاء بزيارة الراهب األولى لهم‪ ..‬أين‬ ‫أنطونيو سألهم وهو يبتسم‪ ..‬رد أنطونيو من وراء لحاف يفصل ثلث‬ ‫الغرفة‪ ..‬أنا قادم‪ ..‬ظهر‪ ،‬وهو يربط حزام بنطلونه الوحيد‪ :‬سيدي‪..‬‬ ‫أبونا‪ .‬وقبض على اليد الناعمة يمطرها بقبالت ممتنة‪.‬‬

‫وألنه ال مكان بالداخل يليق باستقبال من ينتصب قبالة الباب‬ ‫خارجا وهمس له‪ :‬لقد جئتك في هذا الوقت لسبب واحد‬ ‫اصطحبه‬ ‫ً‬ ‫هو ثقتي الال محدودة بك‪ ..‬أنت وحدك من يحظى بثقتي في هذه‬ ‫القرية البائسة‪ ..‬نعم‪ ..‬قال أنطونيو وهو ال يكاد يخفي توتره‪ ..‬نعم‬ ‫أبونا أنا في خدمتك وفي خدمة الرب‪ ..‬اتسعت ابتسامة الراهب وقال‬ ‫وهو يطرح ذراعه على كتف أنطونيو‪ ..‬لدي أمانة أرغب أن أودعك‬ ‫إياها وأعرف أنك ستحافظ عليها كأحد أبنائك (كان أنطونيو بالكاد‬ ‫‪68‬‬


‫يحفظ أسماءهم)‪ ..‬هذا الكلب المربوط هناك وهو من ساللة معروفة‬ ‫هو األمانة‪.‬‬

‫ضغط الراهب على كتف أنطونيو وودعه وهو يتمتم بالدعاء له‬ ‫ولعائلته المباركة‪.‬‬

‫تكررت زيارات الراهب للغرفة المسكونة بالجياع والرطوبة‪،‬‬ ‫وتكررت معه أماناته التي كان يودعها في عنق أنطونيو‪.‬‬

‫سحب معه مرة معزة وأخرى جرجر بقرة (فشلت العائلة في‬ ‫استحالبها) وثالثة سلحفاة قال وهو يسلمها إنها من فصيلة نادرة‪..‬‬ ‫يحكي الجيران أنهم شاهدوا أنطونيو يشكو همومه لجدار قديم‬ ‫خارج القرية وشاهدوه أكثر من مرة يحدث نفسه وهو يحرك يديه‬ ‫غض ًبا‪.‬‬

‫ذات ليلة أغسطسية تتربع رطوبة قيظها في تفاصيل القرية سمع‬ ‫سكان الغرفة طرقات كانوا يعرفون مصدرها‪ .‬غير أن الراهب اتبعها‬ ‫هذه بنداء ألنطونيو‪ :‬يا ابني يا أنطونيو ليس لدينا الوقت كله‪ ..‬اخرج‬ ‫لي من فضلك الكلب والسلحفاة‪ ..‬صاحبها على وشك الرحيل‪..‬‬ ‫تناهى للراهب وهو يواصل الطرق صوتًا ما يشبه الصغير الذي يعبر‬ ‫عن الفرح قبل أن يفتح الباب والكلب والسلحفاة على عتبته‪.‬‬

‫بعد أسبوع عاد الراهب لالستماع لذلك الصغير المبهج مع تصفيق‬ ‫جذالن وهو يسحب البقرة خارج الغرفة ويتمتم بالدعاء للعائلة‬ ‫السعيدة‪.‬‬ ‫‪69‬‬


‫قبل نهاية األسبوع التالي كانت ابتسامة أنطونيو تنافس ابتسامة‬ ‫الراهب وهو يسلمه المعزة العجفاء‪..‬‬ ‫وقال الجيران إنهم لم يروا أنطونيو سعيدً ا كما رأوه هذه المرة‪..‬‬

‫وكان يغني أغنية مرحة وهو يتقافز كأنه يرقص‪.‬‬

‫‪70‬‬


‫ال�شفرة‬ ‫معذرة للذين ال يؤمنون بنظرية الؤامرة‪ ..‬ودعوة للذين يعتقدون‬ ‫بضرورتها في عالم يحكمه الصراع منذ تشكلت القوميات والدول‬ ‫في القرن الثامن عشر بالتخلي عن األساطير وهم يعيدون قراءة‬ ‫ما يؤمنون بتوفر اشتراطات المؤامرة في مفاصله‪.‬‬ ‫كانت اسرائيل (‪- 1948‬؟) تحصد تأييد الرأي العام الدولي ليس فقط‬ ‫بدعم حكومات الغرب وآلته اإلعالمية الجبارة ولكن بإعتبارها واحة‬ ‫حقيقية للديمقراطية (تداول سلمي للسلطة ‪ +‬الحريات العامة ‪ +‬قضاء‬ ‫مستقل ‪ +‬رقابة مالية) وسط أنظمة ال يمكن لمنظومة الرأي العام الدولي‬ ‫وصفها إال باالستبدادية‪ ..‬كانت إسرائيل تتبجح على العرب بذلك وكان‬ ‫الغرب يتبجح بسطوة الرأي العام في تبرير دعمه المطلق لإلسرائيليين‪.‬‬ ‫هذه واحدة‪..‬‬ ‫العرب الذين رفضوا النزوح عن فلسطين في ‪ 1948‬وقاوموا بعناد‬ ‫أسطوري سياسات التهجير والترحيل (الترانسفير) كانت أعدادهم‬ ‫‪71‬‬


‫ال تتجاوز المائة وخمسين أل ًفا تكدسوا في منطقة الخط األخضر‬ ‫وانتزعوا حق المواطنة الكاملة باعترافهم بالكيان اإلسرائيلي ويحظون‬ ‫اآلن بعد أن وصل عددهم إلى المليون وربع تقري ًبا بأحد عشر‬ ‫مقعدً ا في الكنيست‪ ..‬أدرك اإلسرائيليون أن الخريطة الديموغرافية‬ ‫(السكانية) ليست في صالحهم على المدى الطويل‪ ،‬وتيقنوا بقراءة‬ ‫مؤشرات اإلنجاب العالمية وسط عرب ‪ 48‬وتدني تلك المؤشرات‬ ‫لدى اإلسرائيليين أن رقم األحد عشر مقعدً ا سيتضاعف أربع مرات‬ ‫على األقل خالل الثالثين عا ًما القادمة‪ ،‬وهو ما يعني (ديمقراط ًيا)‬ ‫سيطرة عرب ‪ 48‬في مطلع النصف الثاني من هذا القرن على األغلبية‬ ‫التي تتيح لهم تغيير الدستور والقوانين األخرى‪ ..‬إلخ إلخ‪ ،‬وتحول‬ ‫اإلسرائيليين إلى أقلية ال تملك سوى الصراخ في وسائل إعالم ذلك‬ ‫الوقت وما تيسر من مقاعد قليلة داخل قبة الكنيست‪..‬‬ ‫هذه الثانية‪ ..‬وأنا هنا ال أدعوك لمسايرتي بقدر ما أتمنى أن (توسع‬ ‫ً‬ ‫وصول إلى‬ ‫بالك) وتتابع معي تفحصي التفاصيل ولملمة أطرافها‬ ‫الرؤية الكاملة‪..‬‬

‫بعد فشل الخيار صفر ومشروعات رابين وشامير لترحيل‬ ‫الفلسطينيين إلى األردن أو جنوب العراق أو سيناء أو إغرائهم‬ ‫باإلستيطان في نيوزلندا واستراليا وكندا عثرت إسرائيل وبالتنسيق‬ ‫الكامل مع الواليات المتحدة األمريكية على شفرة الحل للتخلص‬ ‫نهائ ًيا من كابوس اإلنتقال إلى أقلية محكومة بقانون الذوبان في محيط‬ ‫ظل على الدوام في خانة األعداء‪..‬‬ ‫‪72‬‬


‫(يهودية ـ إسرائيل) هما الشفرة‪ ..‬وألن إسرائيل تدرك تما ًما أن‬ ‫الكلمتين تحمالن ً‬ ‫ثقل ال يحتمل (ديمقراط ًيا) وأن العالم لن يقبل‬ ‫اإلعتراف بدولة دينية باستثناء الفاتيكان (كيلو متر مربع ودون جيش)‪.‬‬

‫لجأت في النصف الثاني من عقد التسعينيات إلى تسويق المصطلح‬ ‫عبر مراكز البحوث والجامعات والصحف داخل إسرائيل وفي‬ ‫الواليات المتحدة وأوروبا قبل أن يبدأ المسؤول اإلسرائيلي في طرح‬ ‫األمر في تصريحات انتقلت في النصف األول من القرن الحالي إلى‬ ‫شرط في المفاوضات المتعثرة مع الفلسطينيين‪..‬‬

‫هذه الثالثة‪ ..‬وأنا هنا ال أدعوك لفرك شعر رأسك أو ما تبقى منه‬ ‫فحسب ولكن لمرافقتي إلى الدهليز‪..‬‬

‫في ‪ 2005‬حيث كانت القوات األمريكية تغرق في مستنقعات‬ ‫العراق المحتل وتواصل القتال في جبال أفغانستان وتدس أنفها في‬ ‫محيط اإلتحاد الروسي بدأت اإلدارة األمريكية في طرح نظريتها‬ ‫عن (الفوضى الخالقة) التي تعني ببساطة إسدال الستار عن مرحلة‬ ‫األنظمة الشمولية في منطقتنا العربية وإجبارها (‪ )....‬على التمتع‬ ‫بنعيم الديمقراطية!!‬

‫أيضا خسارة إسرائيل للموقع الذي كانت تتبجح به‬ ‫وهذا يعني ً‬ ‫علينا‪ ..‬وعلى الحجج التي كان الغرب يتذرع بها لتبرير دعمه المطلق‬ ‫قسرا‪..‬‬ ‫للكيان المخلق ً‬ ‫هذه الرابعة‪ ..‬وأنا هنا ال أدعوك إلى أي شيء سوى أن تصلي على‬ ‫‪73‬‬


‫النبي وتتابع‪ ..‬عقب الهجوم على برجي مانهاتن في ‪2001/9/11‬‬

‫وبعد تبخر الصدمة األولى شرع األمريكان في الحوار مع جماعة‬ ‫ً‬ ‫فصيل إسالم ًيا تخلى عن العنف‬ ‫اإلخوان المسلمين بإعتبارها‬ ‫ويمارس التجارة والوساطة التجارية وتم اإلتفاق بين الطرفين كما‬ ‫أصبح معرو ًفا على تسليمهم السلطة في المنطقة العربية إلحراز‬ ‫هدفين في مرمى (الشفرة)‪.‬‬

‫احتاج نحت مصطلح (الفوضى الخالقة) الذي تصدت كونداليزا‬ ‫رايس شخص ًيا لترويجه إلى نحو عشر سنوات في مختبرات البحث‬ ‫األمريكية واإلسرائيلية وتغليفه باأللوان التي تلوح براقة مبتهجة‬ ‫من مرافي الديمقراطية التي البد لنا من السباحة وسط العواصف‬ ‫واألمواج العالية للوصول إليها‪..‬‬

‫البد إ ًذا أن تغرق المنطقة في صراع دموي يتم خالله تسديد ضريبة‬ ‫االنتقال من بؤس االستبداد إلى حدائق الديمقراطية وأن تقفز الجماعة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتغلغل في أوساط األغلبية‪ ،‬وهي هنا اإلخوان‬ ‫وتمويل‬ ‫تنظيما‬ ‫األكثر‬ ‫ً‬ ‫المسلمين‪ ،‬إلى السلطة‪ ،‬كما حدث في بروفة حماس في غزة‪..‬‬ ‫الهدف األول من الصفقة (مقابل استالم السلطة) هو القضاء‬ ‫على الجماعات اإلسالمية المتطرفة إذا فشلت خطط إجبارهم على‬ ‫ترك السالح وارتداء ربطات العنق‪ ،‬وهذا سيتم على أيدي اإلخوان‬ ‫المسلمين بالطرق التي لن تجد من بين الجميع من يرفضها أو‬ ‫يستنكرها‪..‬‬ ‫الهدف الثاني‪ ،‬وهو الهدف القاتل‪ ،‬هو تقديم الهدية لإلسرائيليين‪،‬‬ ‫‪74‬‬


‫وهي الصراخ بأنها تقع وسط محيط إسالمي يمتد من تركيا أردوغان‬ ‫إلى اليمن والسودان جنو ًبا وللضفاف الشرقية والمحيط األطلسي‬ ‫غر ًبا‪ ،‬وهو ما يدفعهم إلى إعالن إسرائيل دولة يهودية وال بأس من‬ ‫التأكيد في دستورها الجديد على مدنية الدولة وديمقراطيتها لكن‬ ‫فقط لليهود‪ ..‬وأن يصبح عرب ‪ 48‬مهما تزايدت أعدادهم مجرد‬ ‫كتلة سكانية تأكل وتشرب إذا توفر لها ذلك دون أية مشاركة في‬ ‫صنع القرار السياسي وحرمانهم بإعتبارهم ليسوا يهو ًدا من حق‬ ‫التصويت والترشح‪..‬‬ ‫الخامسة‪ :‬يا موالنا دعوة صادقة إلعادة القراءة ومحاولة تصفير‬ ‫(الفوضى الخالقة) مع (يهودية إسرائيل)‪ ..‬دون التورط في جرجرة‬ ‫المسألة إلى كون المناخ الديمقراطي السليم هو المعني في هذا‬ ‫المقال‪ ،‬فالجميع في مركب واحد‪ ،‬والجميع يسعى ويحلم بالوصول‬ ‫إلى المرافئ المطمئنة‪ ..‬لكن هذا‬ ‫(إللي صاير)‬

‫‪75‬‬



‫الفو�ضى المعقمة بالدماء‬ ‫دأبت اإلدارات األمريكية وخاصة بعد تفجيرات نيويورك في‬

‫‪ 2001/9/11‬على طرح ما يقترب من شكل المبادرات لما تصفه‬ ‫بدمقرطة الشرق األوسط‪ ،‬والذي يعنى هنا المنطقة العربية بالتحديد‪،‬‬

‫وأطلقت في الخصوص تصريحات تناوب على إلقائها الرؤساء‬ ‫األمريكان ومستشاريهم لألمن القومي ووزراء دفاعهم وخارجيتهم‬

‫ونواب الرئيس‪ ،‬مع إسناد متنوع ومحسوب من السفراء والمبعوثين‬

‫ووسائل اإلعالم‪.‬‬

‫جاءت مبادرة الشرق األوسط الكبير‪ ،‬متساوقة مع االحتالل‬

‫األمريكي للعراق في ‪ 2003‬واشتداد قبضة اإلرهاب الصهيوني في‬

‫فلسطين‪ ،‬وكأنها رسالة للعرب بأن من لم يمت بالسيف مات بغيره‪.‬‬ ‫لم تعد المبادرات األمريكية بعد «الفوضى الخالقة» غامضة‬

‫أو ضبابية‪ ،‬رغم ضجيج الفضائيات ومطابع الصحف وصخب‬ ‫الميكروفونات‪ .. ،‬وحيث لم يعرف عن حكومة أمريكية واحدة‬ ‫‪77‬‬


‫مساندتها لغير االستبداد والدكتاتورية‪ ،‬والنماذج هنا ال تحصى‪،‬‬ ‫فإن األمر يتعدى الشكل الظاهري ليرحل عميقا في جوهر المسألة‪،‬‬ ‫التى لن تتجاوز تجميد الدور األوروبي تماما في المنطقة إال بشروط‬ ‫أمريكية مباشرة وملزمة‪ .‬واعتماد األساليب التى تقود في النهاية إلى‬ ‫تنفيذ المشروع القديم لرئيس الوزراء اإلسرائيلي رابين (السوق الشرق‬ ‫أوسطية) الذي يتم خالله تقسيم أسواق العمل فى المنطقة‪( ،‬مصر‬ ‫مثال‪..‬إلنتاج الكانتالوب والفراولة) بدال من القطن والحبوب وقصب‬ ‫السكر‪ ..‬السعودية للطاقة والسياحة الدينية‪ ..‬العراق للطاقة والسياحة‬ ‫الدينية‪ ..‬ودول للصناعات التحويلية الصغيرة ودول للسياحة وأخرى‬ ‫لاليدي العاملة الخ الخ‪ ..‬على أن يتولى الكيان الصهيوني احتكار‬ ‫إنتاج الصناعات العسكرية وإنتاج البرمجيات المعلوماتية بما يجعله‬ ‫بالتالي القوة األكثر جدارة بالتوجيه وإدارة شؤون المنطقة وقيادتها‪.‬‬ ‫أمريكا ال تعنيها الديمقراطية بأى قدر خارج حدودها‪ ،‬ومن يقرأ‬ ‫مساهمات نعوم تشومسكي البحثية‪ ،‬يكتشف مدى ضخامة الدور‬ ‫التخريبي الذي لعبته واشنطن طوال تاريخها ضد األنظمة المنتخبة‪،‬‬ ‫ودعمها الالمحدود للطغاة في جميع القارات‪.‬‬

‫يروى عن الزعيم السوفياتي األسبق نيكيتا خرتشوف المعروف‬ ‫بميله للدعابة‪ ،‬أنه في زيارته األولى واألخيرة الى بريطانيا وأثناء حفل‬ ‫العشاء الذي اقامته له الملكة اليزابيت في القصر الملكي‪ ،‬قدم له بعد‬ ‫الملكة األمير فيليب باعتباره زوج الملكة‪ ..‬رسم ابتسامة ماكرة وسأل‬ ‫المترجم‪ ..‬ولكن ماذا يصنع بالنهار‪..‬؟‬ ‫‪78‬‬


‫لم يتورع خرتشوف الذي نجح فى اإلجهاز على اإلرث‬ ‫الستاليني القاتم‪ ،‬عن خلع حذائه من على منبر الجمعية العامة لألمم‬ ‫المتحدة واستخدامه كأداة للطرق على المنضدة للداللة على مصير‬ ‫الرأسمالية‪ ..‬وهو األمر الذي أثار جدال واسعا حول سلوك رجل‬ ‫الدولة‪ ،‬ومدى التزامه بما تشترطه المعايير والقيود التى يفرضها‬ ‫الموقع على صاحبه‪ ،‬والتى تحولت الحقا إلى أطواق تحدد حركته‬ ‫بعيدا عن الناس‪..‬‬ ‫وكانت عمليات تهشيم تلك القيود واختراق أسوارها‪ ،‬استثناءات‬ ‫نادرة ومثيرة على الدوام‪ .‬ولم يفلح أحد من أبطال تلك االختراقات‬ ‫من تجنب العقاب األمريكي‪.‬‬

‫شرع خرتشوف الذي نشأ في بيئة عمالية فقيرة‪ ،‬ووصل عبر رحلة‬ ‫قاسية إلى موقع المسؤول األول والوحيد تقريبا عن أمبرطورية‬ ‫شاسعة‪ ،‬شرع في فتح نوافذ موصدة منذ عقود‪ ،‬وأضرم النار في صناعة‬ ‫الخوف واألضرحة‪ ..‬وأعلن وهو يوقد المشاعل في أقبية العتمة‪ ،‬أن‬ ‫الرفيق الوحيد الذي كان حقيقيا في عهد ستالين هو الخوف‪ ..‬الذي‬ ‫كان رفيقا للجميع‪ ..‬وقال أن الخوف ال ينتج إال الخوف وال يقود‬ ‫إال للذل والدونية واالمتثال المرضي‪ ..‬وكافة الصغائر التى يحفل‬ ‫بها قاموس القهر واالستبداد‪.‬‬ ‫أفصح الرجل وهو يعيد صياغة المفاهيم‪ ،‬والفصل بين الثابت‬ ‫والمتحول حيث العقائد ثابتة والسياسة متحركة وفقا لترمومتر‬ ‫المصالح التى تحددها عالقات االنتاج والتراكم والتسويق‪ ..‬أفصح‬ ‫‪79‬‬


‫عن النية في إعادة االعتبار لحقوق األنسان‪ ،‬والبدء في عملية إصالح‬ ‫شامل تطال المفاصل التى توهم البعض بقداستها‪.‬‬ ‫وقال‪ :‬إن األصالحات ستحتاج إلى عشرين عاما من العمل الجاد‪.‬‬ ‫لالنتقال إلى ضفاف التقدم العصري وبناء مجتمع الوفرة والتحرر من‬ ‫ربقة االحتكار بأشكاله كافة ومن االستعباد‪.‬‬

‫لم تغفر أمريكا للرجل الذي نصب صواريخه قبالة سواحلها‬ ‫الشرقية‪ ،‬ومواجهته الباهرة آللة الدعاية األمريكية العمالقة‬ ‫والتى تصور المواطن السوفياتي متجهما‪ ،‬متعجرفا‪ ،‬مكتئبا‪،‬‬ ‫شديد الفظاظة وال يفكر إال في القتل انسجاما مع روح الشر‬ ‫التى تتملكه‪ ..‬ولذلك سارعت فورا باالعتراف بالتغيير السريع‬ ‫الذي أطاحت به ترويكا‪ :‬بريجنيف‪ ،‬بودغورني‪ ،‬كوسيغين‪ ،‬وهي‬ ‫تتهمه بالتحريفية ومااليحصى من مفردات تروق عادة لالنقالبيين‬ ‫وتخريجاتهم اللفظية‪ ..‬وتم إرسال سيد الكرملين الذى كان‬ ‫يداعب حراس مداخله‪ ،‬ويبعث بالحلوى ألطفالهم‪ ،‬واألشرطة‬ ‫الملونة لزوجاتهم وبناتهم‪ ،‬إلى بيت بعيد معدوم االتصاالت مع‬ ‫اآلخرين‪ ،‬ليموت حنقا وقرفا من عودة الستائر الثقيلة وحزمة‬ ‫األقفال والمزاليج‪ ،‬حيث يسود مناخ الذعر والتوجس‪ ..‬فيما عادت‬ ‫الصحف واإلذاعات والنشرات الحزبية لإلدعاء بأن ما يحدث‬ ‫في االتحاد السوفياتي هو األفضل واألجمل واألبهى واألكبر‬ ‫واألعمق‪ ..‬الخ الخ من صيغ أفعال التفضيل التى ال تتجاوز اللفظ‬ ‫فى أفضل األحوال‪.‬‬ ‫‪80‬‬


‫كانت عمليات اإلصالح قد توقفت تماما‪ .‬وارتفع مؤشر اإلنفاق‬ ‫مجددا على التسليح واألمن والفضاء‪ ،‬وهو ما انعكس سلبا على‬ ‫برامج تحقيق الوفرة وتحرير الحاجات‪ ..‬عادت اآللة القاتمة لمطالبة‬ ‫المواطن بالمزيد من الضرائب والجهد لهدف غير منظور‪ ،‬وغير مرئي‪،‬‬ ‫ويكتفي وهو يصطف في الطوابير الطويلة بازدراد حبات البطاطا‬ ‫والبصل وشتم الرأسمالية وأعوانها‪ ..‬متلفتا يمنة ويسرة خشية التورط‬ ‫فى إتهامه بالتقصير في لعن سنسفيل األمبريالية وتمجيد فضائل‬ ‫الحزب ونجاحاته!! عاد التجهم الذي رسمته آلة الدعاية األمريكية‬ ‫للسيطرة على المشهد السوفياتي الذي يلوذ بجدران الردع النووي‬ ‫في صقيع طويل بال قمح وال حطب‪.‬‬

‫خسر االتحاد السوفياتي معركة البقاء بانتصار الرفيق القديم‬ ‫(الخوف) على التجديد والتجدد‪ ..‬عاد الرماد الى إلوان الطالء‪..‬‬ ‫ورحلت األحالم للخزائن الصدئة‪ ..‬ولم تزهر سوى الطواطم‬ ‫واألكاذيب‪.‬‬ ‫جاءت تجربة نيكيتا خرتشوف متصادمة منذ البداية مع قوانين‬ ‫ينخرها السوس على الرغم من مظهرها الفوالذي المضلل‪ ..‬كانت‬ ‫التجربة محاولة اقتحامية ألختراق معاقل كهنة الظالم‪ ،‬حراس األصنام‬ ‫الجامدة‪ ،‬رهبان األضرحة‪ ،‬خدام الخوف والتعاسة‪ ،‬سدنة البؤس‪،‬‬ ‫لكنها كانت مجرد محاولة لم يتم تحصينها بمشاركة الناس في صنع‬ ‫القرار الذي ظل رغم النوايا الطيبة حبيسا فى أروقة الكرملين‪.‬‬ ‫يقول المؤرخون الجدد فى روسيا‪ :‬أن األتحاد السوفياتي كان‬ ‫‪81‬‬


‫سيبقى طويال لو نجح خرتشوف في تطبيق إصالحاته‪ ..‬ويقولون‬ ‫أن غياب الناس عن المشاركة كان تغييبا قسريا من أطراف يهمها‬ ‫ذلك ولذلك أصيبت العملية ومنذ تشكلها بأمراض الهزال والموت‬ ‫السريري‪.‬‬

‫ويقول التاريخ أن جميع مشروعات النهضة كانت تخفق أو تنجح‬ ‫بمدى اقترابها وابتعادها من وعن مضامين وهامش الدور الذي يقوم‬ ‫به الناس في برامج تلك المشروعات«مشروع محمد علي في مصر‬ ‫ومشروع الميجي في اليابان‪ ..‬مثال»‬

‫كان سقوط االتحاد السوفياتي مدويا‪ ..‬ودون إطالق رصاصة‬ ‫واحدة‪ ..‬فأنت ال تستخدم ـ كما تفترض الحكمة الصينية ـ المدفع‬ ‫للقضاء على بعوضة مذعورة‪ ..‬أمريكا لم تقف ضد انقالب بريجنيف‬ ‫ليس ألنها تحبه أو تثق به‪ .‬لكنها كانت وبشكل واضح ترفض أن‬ ‫تصل اإلصالحات التى بدأ خراشوف في تطبيقها إلى مبتغاها‪..‬‬ ‫ولذلك سارعت إلى تأييد ومساندة انقالب يلتسين وقاومت بشراسة‬ ‫محاوالت االنقالب عليه لصالح إعادة بناء االتحاد الذي ينبغي فى‬ ‫عرف أمريكا أن يتفكك‪ ..‬أمريكا لم تغفر لخرتشوف اكتشافه أن‬ ‫ما يشاع أنه عضالت هو مجرد تورم‪ ..‬والبدء في تضميد الجروح‬ ‫ومعالجة القروح وترميم األعطاب‪.‬‬

‫أمريكا كانت ترغب في مزيد من الوقت الكتمال عملية التعفن‬ ‫حتى انفجار األورام داخليا‪ ..‬وخرتشوف أدرك هو األخر ذلك وأراد‬ ‫وقفه‪ ..‬ولذلك تمت األطاحة به‪.‬‬ ‫‪82‬‬


‫المبادرات األمريكية إلصالح منطقتنا هي من نوع اإلصالح‬ ‫المعقم بالدماء‪ ..‬ملفوفة بورق سليوفان مفضض‪ ..‬وهي كما‬ ‫نرى ونتابع «العراق‪ ،‬ليبيا‪ ،‬السودان‪ ،‬اليمن» ال تصلح لالستعمال‬ ‫اآلدمي بقدر صالحيتها لالستخدام مع (الروبوت) مسلوب األرادة‬ ‫والكرامة‪..‬‬

‫‪83‬‬



‫القتل‬ ‫في خريف العام ‪ ،1982‬وبالتحديد في ظهر السادس عشر من‬

‫سبتمبر ‪ /‬أيلول‪ ،‬طوقت قوات جيش الدفاع اإلسرائيلي مخيمي‬ ‫صبرا وشاتيال لالجئين الفلسطينيين وتركت قصدً ا معبرين تدفق‬

‫منهما عناصر تنتمي لتنظيم حزب الكتائب اليميني‪ ،‬وأخرى كانت‬

‫تحمل شارات جيش لبنان الجنوبي (الحر) والذي تم تأسيسه بقرار‬ ‫وتمويل إسرائيلي‪ ..‬تقع قيادة الوحدات اإلسرائيلية التي كانت قد‬ ‫ً‬ ‫شامل لألراضي اللبنانية تحت‬ ‫اجتياحا‬ ‫بدأت قبل نحو ثالثة أشهر‬ ‫ً‬

‫إمرة الجنرال الدموي أرييل شارون فيما تولى السفاح إيلي حبيقه‬ ‫اإلشراف على إدارة الجانب اللبناني في العملية‪..‬‬

‫استمر الذبح ثالثة أيام كاملة أحالت القوات اإلسرائيلية خاللها‬

‫ليل المخيم إلى نهار بالقنابل المضيئة والتصوير الليلي وأحدث‬ ‫أدوات تقنية االتصاالت‪..‬‬

‫كعادته ظل العالم األول المتمدن والمتحضر والديمقراطي صامتًا‬ ‫‪85‬‬


‫ً‬ ‫خجول والعالم الثالث والرابع‬ ‫وتحضرا‬ ‫والعالم الثاني األقل تمدنًا‬ ‫ً‬ ‫والخامس في الغيبوبة‪ ..‬لم يتحرك جفن أحد من ربطات عنق حقوق‬ ‫اإلنسان‪ ..‬وحين قدم ممثل الصليب األحمر تقريره للحكومة اللبنانية‬ ‫قال إن حصر الجثث هو في حدود ال«‪ »328‬ضحية‪ ،‬لكن لجنة‬ ‫التحقيق اإلسرائيلية التي تشكلت تحت ضغط محلي قالت إن العدد‬ ‫هو «‪ »460‬جثة قبل أن تلجأ لتعديل الرقم بالتنسيق مع جهات لبنانية‬ ‫ليصل إلى رقم «‪ »700‬فيما نسب تقرير إلذاعة ‪ BBC‬إلى مصادره هنا‬ ‫وهناك أن العدد يتجاوز رقم ال«‪ ..»800‬ناشطة حقوقية لبنانية أجرت‬ ‫إحصا ًءا استقصائ ًيا بين (‪ )17‬قائمة تفصل أسماء الضحايا لتصل إلى‬ ‫رقم (‪ ،)1300‬فيما أعلن الصحافي البريطاني ذائع الصيت روبرت‬ ‫فيسك ً‬ ‫نقل عن مسؤول في المجموعات اللبنانية المسلحة التي‬ ‫اشتركت في تنفيذ المذبحة (رفض كالعادة الكشف عن اسمه) أن‬ ‫جنوده قتلوا ما ال يقل عن (‪ )2000‬فلسطيني‪ ..‬الصحافي الفرنسي من‬ ‫أصل يهودي أمنون كابيلوك صرح أن الصليب األحمر قام بتسجيل‬ ‫أسماء (‪ )3000‬ضحية في ملفاته‪ ،‬بينما جمع أفراد المليشيات أشالء‬ ‫(‪ )2000‬جثة إضافية‪..‬‬ ‫عثر من بين الضحايا على أكثر من ستمائة طفل أكبرهم في العاشرة‬ ‫غارقين في دمائهم وألف ومائتي امرأة تم إغتصاب نصفهن‪ ،‬وأربعمائة‬ ‫وخمسين ً‬ ‫كهل تجاوزوا السبعين ذبحوا بالسكاكين‪ ،‬ونحو مائتي‬ ‫معتوه وألف من العمال والمدرسين واألطباء‪ ،‬تم إطالق الرصاص‬ ‫على رؤوسهم‪ ..‬وأكثر من مائتي شاب لبناني من المتعاطفين‪..‬‬ ‫‪86‬‬


‫قررت لجنة التحقيق اإلسرائيلي توجيه «اللوم» إلى شارون الذي‬ ‫رفض ذلك وقدم استقالته من الحكومة وشكّل حز ًبا قاده بعد ذلك‬ ‫النتزاع مقعد رئيس الوزراء‪ ..‬اكتفت اللجنة بذلك اللوم المرفوض‪..‬‬ ‫فيما تبادل زعماء العالم األول والثاني والثالث والرابع والخامس‬ ‫ورؤساء الوزارات واألحزاب ومنظمات حقوق اإلنسان ورجال‬ ‫األعمال وجميع وسائل اإلعالم التهاني بقرار اللجنة اإلسرائيلية‬ ‫ووصفوه بالحكيم‪..‬‬

‫مرت قبل أيام «‪ 15‬مايو» الذكرى السادسة والستين لجريمة‬ ‫سرقة عصابة مؤدلجة بفكر تكفيري عنصري ألرض فلسطين وسط‬ ‫ترحيب منقطع النظير من العالم األول وشبه تصفيق من العالم الثاني‬ ‫وغضب خلبي من بقية العوالم‪ ..‬جريمة ما زالت طازجة حتى اليوم‪..‬‬ ‫ما زالت دماء الفلسطينيين التي سالت منذ ال‪ 1948‬حارة‪ ،‬راعفة‬ ‫بالحلم واألمل والتحدي والعناد والثقة‪ ..‬ستظل فلسطين بوصلة‬ ‫القلب وليخسأ التافهون‪.‬‬

‫‪87‬‬



‫المتاهة‬ ‫على الرغم من أن عدد الذين قضوا نتيجة مرض أنفلونزا الطيور‬ ‫وحمى سارز ووباء أيبوال لم يتجاوز حتى اآلن الخمسة آالف فى‬ ‫غرب أفريقيا ومناطق محدودة من جنوب شرق آسيا‪ ،‬اال أن العالم‬ ‫أنقلب رأسا على عقب بمالحقة وسائل األعالم (الصانعة لألخبار)‬ ‫بكافة صنوفها وتشكيالتها لمواقع انتشار‪ ،‬وما يتبعها من تصريحات‬ ‫وتصريحات مضادة‪ ،‬ولقاءات مع أطباء وممرضين وناشطين‬ ‫ومسؤولين ومصابين وأقرباء لهم وصانعي أدوية (‪ )....‬وأصحاب‬ ‫مصانع الكمامات الورقية والمطهرات وشركات اإلعالن عنها وصوال‬ ‫إلى الكيانات السياسية (األتحاد األوروبي واألتحاد األفريقي) واألمم‬ ‫المتحدة‪ ...‬ذعر مبرمج يتم تخصيبه في دهاليز من يصنع األولويات‬ ‫في ساللم الرأي العام العالمي‪ ،‬الذي صار بواسطة الشبكة العنكبوتية‬ ‫والفضائيات كتلة تكاد تكون واحدة على أمتداد القارات‪.‬‬ ‫ال أحد يهتم حقا بمن يقتل يوميا فى ليبيا وسوريا واليمن ومصر‬ ‫وسوريا والعراق بوباء الرصاصة والمهانة‪..‬ال أحد يهتم بمن يفتك‬ ‫‪89‬‬


‫بهم وباء الفقر فى ثالثة أرباع الكوكب‪ ..‬ال أحد يهتم بمن يصرعهم‬ ‫وباء القمع واألضطهاد‪ ..‬ال أحد يهتم بمن يموتون يوميا بتلوث المياه‬ ‫واألدوية الفاسدة واألغذية المنتهية الصالحية وحوادث السيارات‪...‬‬ ‫والجريمة بمختلف أنواعها‪.‬‬

‫قبل وأثناء األعداد لغزو الصومال وأحتالل العراق والحرب‬ ‫على ليبيا عمم صانعو األولويات في ساللم إهتمامات الرأي‬ ‫العام العالمي (الذي يتكئ عليه صانعو االسلحة فى تبرير تصاعد‬ ‫أنتاجهم‪ ،‬وتوزيعه) أشرطة وثائقية أعدت مسبقا وبطرق عالية‬ ‫المستوى عن اقتتال الجوعى فى شوارع مقديشيو‪ ،‬وأضطهاد‬ ‫األكراد والشيعة في العراق‪،‬وفقر الليبيين لحرية التعبير‪ ،‬أشرطة‬ ‫تلفزيونية وهجوم عبر الفضائيات واألنترنت (وصف خبير روسي‬ ‫ما تعرضت له ليبيا من حملة اعالمية قبل العدوان عليها فى ‪2011‬‬ ‫بأنه يشبه هيروشيما إعالمية) تشمل تحليالت مفخخة بالغموض‬ ‫وأخبارا مفبركة بعناية ودقة ومهارة‪ ..‬كل شئ يصبح على استعداد‬ ‫ً‬ ‫لتقبل الخطوة المقبلة فضال عن دعوات من القارات الخمس‬ ‫تطالب وبإلحاح باألقدام عليها وتنفيذها على الفور إنقاذا للحياة‬ ‫فى الصومال وإنقاذا لألكراد والشيعة من بطش صدام حسين وإنقاذا‬ ‫لحرية التعبير من قبضة معمر القذافي‪.‬‬ ‫ثمة من يعبث بعقل العالم‪..‬‬

‫ثمة من يتربح ولعله يتسلى باآلم البشر‪..‬‬

‫أكثر من مليون ونصف قتيل سقطوا في حرب دموية بين قبيلتي‬ ‫‪90‬‬


‫الهوتو والتوتسي فى رواندا قبل أن يتحرك العالم المتحضر المتمدن‬ ‫العطوف لوقف المذبحة‪.‬‬ ‫ثماني سنوات من الحرب الضروس بين العراق وايران أسفرت‬ ‫عن أكثر من مليون ونصف المليون قتيل بين الطرفين ومثلهم من‬ ‫المعاقين والمشوهين والجرحى والمعتوهين‪ ،‬قبل أن توقف مصانع‬ ‫االسلحة وأسواق المال تزويد المحاربين بأدوات القتل‪.‬‬

‫ضحايا حروب تفتيت يوغسالفيا‪ ..‬أدربيجان وأرمينيا‪ ..‬جنوب‬ ‫السودان‪ ..‬جنوب الفلبين‪ ..‬أفغانستان‪ ..‬كمبوديا (بول بوت)‪...‬‬ ‫اليمن‪ ..‬ليبيا‪ ..‬سوريا‪ ..‬العراق‪ ..‬الخ الخ‪ ..‬ناهيك عن صرعي‬ ‫المخدرات والبؤس والمعتقالت‪ ..‬ال أحد يهتم اال بعد امتالء‬ ‫المقابر بالجثث‪.‬‬

‫واآلن يتقاسم إيبوال المشهد مع ظهور (الخطوة المقبلة) ضد تنظيم‬ ‫ضبابي (داعش) توطئة لضرب الجيش العربي السوري في حلب بعد‬ ‫عين العرب كوباني وأماكن أخرى ستخبرنا وسائل األعالم األمريكية‬ ‫فى حينها بحجة لجوء الدواعش اليها وبضرورة مالحقتها‪ ،‬خاصة‬ ‫بعد إقرار واشنطن بأن التنظيم يشكل تهديدً ا للمصالح األمريكية‪.‬‬ ‫صار العالم‪ ،‬بعد انهيار االتحاد السوفياتي وسيطرة القطب الواحد‬ ‫محكوما بالريموت كنترول‪ ،‬يحركه من يصنع األولويات‪ ...‬وبوسعكم‬ ‫التيقن من أن تركيز وسائل األعالم الغربية واألمريكية تحديدا على‬ ‫أية مسألة وتعميمها عالميا هو مجرد خطوة لحدث تستعد الواليات‬ ‫المتحدة األمريكية الرتكابه ضد دولة ما‪.‬‬ ‫‪91‬‬


‫ندرك خطورة األوبئة ونعرف كغيرنا مدى ما تشكله الفيروسات‬ ‫النائمة في المختبرات من شرور‪ ،‬بقدر ما ندرك فداحة الخلل في‬ ‫ساللم األولويات لدى الشعوب‪ ،‬والفزع الذي يسببه اختالطها‪.‬‬ ‫شراسة االستغوال األمريكي وأتباعه (هنا وهناك) أكثر خطرا من‬ ‫سعال وحمى تصنعهما ٍ‬ ‫أياد تعمل في الخفاء‪.‬‬ ‫صار البد من االستيقاظ‪.‬‬

‫‪92‬‬


‫المحدلة‬ ‫األمريكان ال يخجلون‪ ،‬تاريخهم ال يوفر لهم هذا النوع من الترف‪،‬‬

‫يدركون وهم يؤسسون شركتهم العمالقة من شرائح قذفتها شواطئ‬

‫عصرا جديدً ا‪ .‬قاموا‬ ‫إيرلنده وأسبانيا وألمانيا وإيطاليا أنهم يبدأون‬ ‫ً‬

‫بإبادة أمة الهنود الحمر (تمتد األرقام من ‪ 60‬مليونا إلى ‪ 110‬مليونا»‪..‬‬

‫تلتها فترة البناء االستعماري للغرب والكشوفات المنجمية الهائلة‬ ‫وما عاصرها من صراع بين المهاجرين األوربيين‪.‬‬

‫المحطة التالية في برنامج عدم الخجل األمريكي يبدأ من حمالت‬

‫االسترقاق البشري لألفارقة وإخضاعهم لمنظومة السخرة فى حقول‬

‫نبراسكا ونيفادا ومزارع الجنوب‪ ..‬قبل أن يعلن األسطول األمريكي‬

‫الحرب «للمرة األولى فى تاريخ الواليات المتحدة األمريكية» ضد‬

‫ليبيا في ‪ ..1803‬وهو ما يؤسس لبدء عسكرة التجارة الخارجية‬ ‫وتأمينها بقوة عسكرية تمتد من الحماية إلى االستعمار‬

‫أمريكا ال تستحي‪ ..‬فعقب إجبار اليابان على االستسالم بعد كارثة‬ ‫‪93‬‬


‫هيروشيما ونجازاكي أصرت الحكومة األمريكية على ضرورة أن‬ ‫يقوم أمبرطور اليابان شخصيا «وهو التمظهر اآللهي للرب في ديانة‬ ‫اليابانيين» بتوقيع معاهدة االستسالم بدال من رئيس الوزراء الذي‬ ‫يخوله الدستور القيام بذلك‪ ...‬كان األمريكان يرغبون فى إخضاع‬ ‫الروح اليابانية وتلويث تاريخها‪.‬‬

‫فى العراق تبول جنود البحرية األمريكية في مساجد بغداد ومزقوا‪،‬‬ ‫وسط قهقاتهم‪ ،‬نسخ القرآن الكريم‪ ..‬وقبلها كانت المواقع الدينية فى‬ ‫الفيتنام هدفا لضربات الفتيان األمريكان من الطيارين الذين أمتألت‬ ‫أذهانهم بأنهم يحاربون الطواغيث‪.‬‬

‫األمريكان أمة أسسها العالم جميعا‪ ،‬كل الشعوب تجد لها من‬ ‫يمثلها هناك‪ ،‬وهي لذلك تحولت من مكان كان ينبغي أن يسع العالم‬ ‫إلى معدة نهمة ترغب فى التهام كل العالم ومحاولة هضمه وإعادة‬ ‫إنتاجه بما يتفق ومنظومة القيم التى أفرزتها موجات الهجرة األولية‬ ‫التى تقاسم إدارتها‪ :‬الراهب والتاجر والمقاتل‪.‬‬ ‫األمريكان ال يؤمنون باإلنسان‪ ...‬هم شركة تؤمن بالتفوق‪ .‬ال أحد‬ ‫هناك يسأل عن الوسيلة بقدر السؤال عن الهدف‪ .‬البأس أن تدمر‬ ‫وتحرق وتقتل من أجل أن تبنى مزرعة للعجول والثيران أو للخيول‬ ‫وللذرة‪ ..‬قراءة سريعة للتاريخ األمريكي تقودك بالضرورة إلى مرافئ‬ ‫اللصوص حيث تتدلى المسدسات وتنتصب البنادق في الحانات‬ ‫وفوق أسطح المكان مستعدة لإلطالق وسفك الدماء من أجل حفنة‬ ‫من الدوالرات‪.‬‬ ‫‪94‬‬


‫األمريكان ال تاريخ لهم‪ ..‬ولذلك يعملون على صناعة تاريخ جديد‬ ‫ليس لهم وحسب ولكن للعالم‪ ..‬تاريخ يعتمد على القوة‪ ..‬ولك وأنت‬ ‫فى هذا الخندق أن تتسلح بما شئت متناسيا تماما ما تراكم من تاريخ‬ ‫البشرية الذي صنعته أجيال من العلماء والمبتكرين والمخترعين‬ ‫في الحضارات العربية اإلسالمية والرومانية والفرعونية واإلغريقية‬ ‫واألسيوية (الصين والهند)‪..‬‬

‫كانت أمريكا تجتدب اليها كل هذه األمم بما تفسحه من مساحات‬ ‫للصراع وإمكانية التفوق دون حساب ألي معطى آخر‪ ..‬نجح األمر‬ ‫فى تكوين هذه األمريكا العظيمة‪ ..‬بالد ليست كالبالد‪ ..‬وطن ال يمثله‬ ‫كمشترك سوى علم وأسم شائع‪ ..‬ومخالب وأنياب وشراسة ليس‬ ‫كمثلها شئ‪ .‬هذه هي أمريكا‪ ..‬عصابة من بورصات ومصانع أسلحة‬ ‫ومصارف ومافيا تقودها مجموعة من مهووسين متدينين وجنراالت‪..‬‬ ‫وتجار‪.‬‬

‫رفعت أمريكا شعارات كثيرة‪ .‬لكن يظل الشعار األهم فى تاريخها‬ ‫هو‪ :‬من ليس معنا فهو ضدنا‪ .‬وبهذا الشعار أخترعت الذرائع لضرب‬ ‫وصفع وركل الجميع‪.‬‬ ‫أمريكا وباء تاريخي‪..‬‬

‫‪95‬‬



‫تخلف‬ ‫بنهاية القرون األربعة األولى بعد ظهور األسالم في بالد العرب‬

‫الذين أعتنقوا الدين الجديد وبشروا به فتحا معظم بالد العالم القديمة‪..‬‬ ‫أنتهت االندفاعة الهائلة التى أعطت للبشرية حضارة ما زالت شواهدها‬

‫ماثلة حتى اآلن‪.‬‬

‫كان االنفتاح العربي االسالمي على آخر راية ترفرف على مدى‬

‫المساحة التى وصلتها فيالق الفتح‪ ،‬تم التعرف مباشرة على خزائن‬ ‫المعرفة األنسانية لدى بالد فارس وما بين النهرين واألغريق والهند‬

‫والسند والصين الخ دون أية حساسيات تفرضها غلبة القوة‪ ،‬أو‬

‫الشعور باالنبهار‪.‬‬

‫تراصفت علوم الفقه والشريعة واللغة مع علوم الطب والرياضة‬

‫والهندسة والجبر والفلك والترجمة والفلسفة والتاريخ واألدب‪..‬‬

‫تخلص العرب من تجاعيد الصحراء‪ ، .‬ولم يعودوا مجرد بدو‬

‫يقرضون الشعر ويعيشون حياة الكفاف في بادية وثنية قاحلة‪ .‬وظهرت‬ ‫‪97‬‬


‫على أيديهم معارف وعلوم عززت حضارة عظيمة اعترف اآلخر‬ ‫بمشروعية سيادتها على مساحة تمتد من الهند وحدود الصين شرقا‬ ‫إلى شبه الجزيرة اإليبرية غربا‪ ،‬وإلى حدود فيينا شماال‪ ،‬وشرق‬ ‫ووسط أفريقيا جنوبا‪ ،‬وهو ما أكده التمازج الرائع بين العرب الفاتحين‬ ‫وشعوب تلك المناطق‪.‬‬

‫والبد لنا ونحن نحاول استنطاق أسباب التخلف الذي يختنق به‬ ‫العرب اآلن أن نعيد قراءة المشهد‪ ،‬وصوال إلى تلمس تلك األسباب‬ ‫ومحاولة فك شفرة أمتدادها التاريخي ألكثر من عشرة قرون‪.‬‬ ‫البد من القول أوال أن األسالم لم ينتشر فى دوائر فارغة‪ ،‬فالعرب‬ ‫بقوة العقيدة وسماحتها دخلوا إلى بالد ذات حضارات كبرى‪ ،‬وهو‬ ‫ما ساعد كثيرا على تأمين موجبات االحترام المتبادل وبناء مفاصل‬ ‫الثقة‪ ،‬وهو الذي أسهم إلى حد كبير فى اعتناق شبه جماعي لإلسالم‬ ‫بين أبناء تلك المناطق وتضافر الهمم إلرساء دعائم الحضارة العربية‬ ‫األسالمية‪.‬‬

‫كان االعتراف باآلخر واالنفتاح عليه أحد أهم االسباب المؤسسة‬ ‫لتلك الحضارة التى أنتجت مفردات كثير من العلوم الطبيعية‬ ‫واألنسانية‪ ،‬وجاء هذا التوجه انسجاما مع منظومة القيم األخالقية‬ ‫التى بشر بها اإلسالم وألزم بها معتنقيه‪.‬‬ ‫وشكلت تلك المنظومة ما يشبه القانون الذي يحكم مجمل‬ ‫العالقات في الدولة األسالمية الوليدة منذ تبرعمها الجنيني في‬ ‫دولة الخلفاء الراشدين إلى امتداداتها فى الدولة األموية والدولة‬ ‫‪98‬‬


‫العباسية والدولة الفاطمية وما صنعه األمويون فى األندلس‪ ،‬وصوال‬ ‫إلى كيانات الحمدانيين والطولونيين فى حلب ومصر‪ ،‬قبل أن تترهل‬ ‫األرادات وتتكلس الهمم وتسترخي العزائم وتعمد دولة بني عثمان‬ ‫الى اغالق االبواب والنوافذ أمام األجتهاد‪ ،‬فحدث ما كان متوقع من‬ ‫أختناق بفعل العطانة التى تسببها عادة األبواب الموصدة‪.‬‬

‫آخر أنفاس القرون األربعة ظهرت الحقا بمثابة الزفرات التى تسبق‬ ‫صحوة الموت (إبن خلدون‪ ،‬إبن جبير‪ ،‬صالح الدين األيوبي‪ ..‬مثال)‬ ‫ليسدل الستار على حضارة ركلت عنوة منظومتها القيمية‪ ،‬وتعالت‬ ‫بالتالي عن اآلخر لتفسح المجال واسعا أمام كتائب من المشعوذين‬ ‫والجهلة الذين أحكموا وثاق األمة وتخذير إرادتها ودفعها إلى حلكة‬ ‫الغيبوبة‪.‬‬

‫استسلم العرب الذين عرفوا برفض الظلم‪ ،‬للطغاة من الخارج ومن‬ ‫الداخل‪ ،‬وتأبطوا الجهالة وهم الذين دعوا إلى طلب العلم ولو كان فى‬ ‫الصين‪ ..‬وتحولوا بالتدجين الذي يفرضه العوز للقيم ولالنغالق عن‬ ‫اآلخر إلى قطعان من الجبناء الكسالى أضرموا الحرائق فى تاريخهم‬ ‫والذوا بالكهوف والجحور وكأن وباء أصابهم بغتة‪.‬‬

‫استعادة منظومة القيم يوفر مناخا وافرا للثقة ويحفز اإلبداع‪،‬‬ ‫وهو ما يجعل مسألة االعتراف باآلخر دعوة للتضافر‪ ،‬وتؤكد شواهد‬ ‫تاريخنا أنه ينجح عادة فى تأمين اشتراطات البناء الحضاري‪ ،‬وتشكيله‬ ‫لمجتمع الوحدة والتنوع القادر وحده على الحياة في مواجهة‬ ‫أحتدامات الواقع والمحيط‪.‬‬ ‫‪99‬‬


‫ال يحتاج المرء في عمود صحفي إلى سرد االستشهادات لتأكيد‬ ‫أن العرب خسروا عندما جمدوا العمل بمنظومة القيم التى جاء‬ ‫بها اإلسالم فى الحرية والعمل والعلم والعدالة واإلخاء واإليثار‬ ‫والكرامة والتسامح وعدم الغلو والتطرف والتنابذ‪ ،‬ولذلك فقدوا‬ ‫ثقتهم في اآلخر وأوقفوا استجابة للجهل العثماني التعامل مع ذلك‬ ‫اآلخر والتعاون األيجابي معه‪ .‬ويمكن رصد تآكل أطراف الدولة‬ ‫العربية األسالمية بتآكل أطراف تلك المنظومة وتفتتها بتفتت رباط‬ ‫القيم وتفككها بمناوأة األخر واعتباره عدوا‪.‬‬

‫وال يحتاج المرء أيضا فى إطاللة صحفية إلى إحاالت مرجعية فى‬ ‫الخصوص‪ ،‬فالواقع أقوى وشديد السطوة‪ ،‬إلى درجة لم يعد معها‬ ‫من الممكن تداول أسباب التخلف في غياب استعادة القدرة على‬ ‫ضرورة اعتناق ثقافة الحوار واإليمان بحق االختالف‪ ،‬وهي القواعد‬ ‫المفصلية في أية خطط لمواجهة التخلف‪.‬‬

‫ال مناص لألمة‪ ..‬وشعوبها من العودة إلى مقاعد الدراسة‪ ،‬وتهجي‬ ‫المسألة‪.‬‬

‫‪100‬‬


‫حق العودة‬ ‫ظلت اإلهتمامات الداخلية والخاصة تحديدا بخدمات التأمين‬

‫الصحي والتقاعدي والضرائب هي التى تحظى بنصيب األسد فى‬

‫البرامج االنتخابية للمرشحين األمريكيين للوصول إلى البيت األبيض‬

‫بينما ال تحصل االهتمامات األخرى من سياسة خارجية أو تسلح‬

‫أو أمن إال على قدر بسيط فى أجندة أي من المرشحين أو الناخبين‬

‫على حد سواء‪.‬‬

‫نجحت المؤسسة الحاكمة فى الواليات المتحدة األمريكية‬

‫(المجمع الصناعي العسكري) فى حصر إهتمامات الناخب األمريكي‬ ‫ضمن إطار الشأن الداخلي فقط ومقايضته كل أربعة أعوام بوعود‬

‫خدماتية مقابل صوته االنتخابي‪ ..‬حدث استثناء وحيد على هذه‬

‫القاعدة أثناء الضغط على الرأي العام بضرورة المشاركة فى الحرب‬

‫العالمية الثانية وهي قصة طويلة أخرى تتشابك فيها وتتضافر المؤامرة‬

‫والتواطؤ مع حزمة هائلة من المصالح‪.‬‬ ‫‪101‬‬


‫اإلعالم والبنوك وهما من األدوات التى تمتلكها قبضة المجمع‬ ‫الحاكم‪ ..‬يقودان الحمالت االنتخابية وفق منظومة معقدة من األساليب‬ ‫التى ال تدمع إال فى تركيزها الهائل على تفاصيل اإلهتمامات الداخلية‬ ‫للناخب وتكبيله بانشغاالت بعيدة عن المجاالت الحقيقية التى ينفق‬ ‫بها ذلك المجمع ضرائب الناخبين وموارد بالدهم‪.‬‬

‫في العام ‪ 1980‬وصل ممثل سينمائي ثانوي ومخبر للمباحث‬ ‫الفدرالية يدعى رونالد ريغان إلى السلطة على رأس فريق من غالة‬ ‫المحافظين اليمينيين‪ ،‬يرفع شعار استعادة هيبة أمريكا التى أهدرها‬ ‫مزارع الفستق جيمي كارتر الذي يوصف بالمسيحي الطيب على‬ ‫جبال كابول وقندهار وتورا بورا‪ ..‬وصحراء طبس اإليرانية‪.‬‬

‫كان الكيان الصهيوني هو البند االساسي والدائم على أجندة‬ ‫البرامج االنتخابية للمرشحين األمريكيين دعما وتمويال ومساندة‬ ‫وصل إلى التحالف االستراتيجي الذي لم توقعه واشنطن حتى مع‬ ‫حلفائها التاريخيين فى غرب أوروبا وذلك ال يشي اال بأن المجمع‬ ‫الحاكم يرغب فى تأكيد أن وجود إسرائيل وأمنها هو شأن أمريكي‬ ‫داخلي محض‪.‬‬

‫فى العام ‪ 1948‬حاول بعض كبار موظفي الخارجية األمريكية‬ ‫إقناع الرئيس هاري ترومان بعدم أو على األقل تأجيل االعتراف‬ ‫بالكيان الصهيوني تحسبا للغضب العربي وارتباط مصالح أمريكا‬ ‫مع هذا الغضب الخ الخ‪ ..‬لكن ترومان (صاحب الضربة النووية)‬ ‫رفض االستمرار فى مناقشة ذرائعهم بعد أن وجه إليهم سؤاال يقول‪:‬‬ ‫‪102‬‬


‫كم هو عدد الناخبين من أصول عربية فى أمريكا مقارنة مع تزايد النفوذ‬ ‫اليهودي الواضح فى أمريكا؟‬ ‫الدعوة إلى نقل السفارة األمريكية لدى الكيان الصهيوني من‬ ‫تل ابيب إلى القدس‪ ،‬كانت هي الشفرة التى رجحت كفة المرشح‬ ‫الجمهوري جورج بوش األبن في انتخابات ‪ ..2000‬والدعوة التى‬ ‫أطلقها بعد نهاية واليته األولى إللغاء حق العودة كانت هي الرافعة‬ ‫التى أوصلته مجددا لمقعده فى البيت األبيض‬

‫اإلهتمامات الداخلية انحصرت في برامج المرشحين األمريكيين‬ ‫منذ مجئ ريغان الكارثي في الوعود بنظام ضرائبي أكثر مرونة‪ ،‬بينما‬ ‫انتزع برنامج السياسة الخارجية المحمول دائما على زيادة اإلنفاق‬ ‫العسكري ليس على كوكب األرض فحسب ولكم ضمن مشروع‬ ‫خرافي لعسكرة الفضاء‪ ،‬على النصيب األوفر فى البرامج األنتخابية‪.‬‬ ‫مرة أخرى يتولى اإلعالم والبنوك العمل الترويجي لتغيير‬ ‫األولويات والضخ الهائل إلنصاف الحقائق‪ ..‬حيث يظهر الكيان‬ ‫الصهيوني الغاصب دائما فى خانة الضحية التى ال تستحق الشفقة‬ ‫بقدر الحاجة للدعم والمساندة والتمويل والتحالف فى مواجهة أقوام‬ ‫منفرة‪ ،‬متوحشة‪ ،‬مستبدة‪ ،‬تقبض على حصة هائلة من طاقة العالم‪.‬‬ ‫اإلنتاج السينمائي األمريكي كان كفيال لوحده في تخذير األمريكان‬ ‫تجاه أمبروطورية الشر (االتحاد السوفياتي)‪ ،‬فيما كان اإلنفاق األكبر‬ ‫فيما يسمى مكافحة الشيوعية يتم خارجيا وتحت مسميات متعددة‬ ‫ومتحركة‪.‬‬ ‫‪103‬‬


‫تعاظم ذلك اإلنفاق وأخذ أشكاال جديدة بعد انهيار األتحاد‬ ‫السوفياتي‪ ،‬وتحول أمريكا إلى قطب أوحد في عالم يغلي باالضطرابات‬ ‫واحتدام الصراعات وتفريخ األزمات‪ ..‬وشكل تضاعف ميزانيات‬ ‫البنتاغون عقب تفكك االتحاد السوفياتي واصطفاف روسيا فى‬ ‫طابور المتسولين أول المؤشرات على النوايا التى يخطط المجمع‬ ‫الحاكم الرتكابها من موقع القطب األوحد‪ ..‬بدأت بخطوات سريعة‬ ‫في الدفع بتوحيد ألمانيا إلنهاكها وتأخير تفعيل االتحاد األوروبي‪..‬‬ ‫وتشييع جثمان االتحاد اليوغسالفي وتحويله إلى دويالت ال تكاد‬ ‫تكف عن التقاتل والتذابح المروع‪ ..‬وإشعال حرب الخليج األولى‬ ‫للسيطرة على الطاقة واإلعالن عن بدء االنسحاب من أفغانستان التى‬ ‫تتدافع بقوة صوب القرون الوسطى‪.‬‬ ‫بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ‪ 2001‬وسقوط أسطورة‬ ‫الوهم‪ ،‬أصبح بازار االنتخابات األمريكية يقوم ويقعد على مسطرة‬ ‫واحدة تقول أن أمريكا هي الشرطي والقاضي والجالد‪ ،‬وأن‬ ‫اإلهتمامات الخارجية البد لها من السيطرة الكاملة على الناخب‬ ‫وهو يودع صوته في صناديق االقتراع لحماية ساللة الثالوث الذي‬ ‫استوطن أمريكا قبل نحو خمسة قرون‪ :‬الراهب‪ .‬التاجر‪ ،‬الجندي‪،‬‬ ‫وأسس أكبر مقبرة فى التاريخ ألكثر من ستين مليون هندي أحمر‪.‬‬ ‫صارت االنتخابات بعد العام ‪ 1980‬التى جاءت بالممثل المغمور‬ ‫رئيسا ألكبر وأقوى دولة فى العالم‪ .‬بازارا ينفق فيه كل مرشح مئات‬ ‫الماليين من الدوالرات وهو يعد ناخبيه بالمزيد من الجثث والمقابر‪.‬‬ ‫‪104‬‬


‫لدى المجمع الحاكم في أمريكا رؤية في قراءة التاريخ‪ ،‬عيبها‬ ‫الوحيد هو تجاهلها المريع للتاريخ ذاته‪ ،‬واألستناد فقط للذات التى‬ ‫يقول لنا التاريخ في جميع شواهده أنها تتضخم إلى حد االختناق‬ ‫واالنفجار‪.‬‬

‫يتجاهل المرشحون األمريكان لموقع الرئاسة ولعضوية‬ ‫الكونغرس بمجلسيه الشيوخ والنواب الذين يتدافعون اآلن للصراخ‬ ‫تأييدا لألطروحات الصهيونية بإلغاء حق العودة للفلسطينيين‪ ،‬وبحق‬ ‫إسرائيل فى أن تكون دولة يهودية‪ ..‬يتجاهلون أن حق العودة لالجئين‬ ‫الفلسطينيين الذين شردهم وابائهم الغزاة الصهاينة وسيطروا على‬ ‫بيوتهم ومزراعهم وبياراتهم وحقولهم‪ ،‬حق ال يمتلكه أحد‪!..‬‬ ‫ال يملكه أوباما مثلما ال يملكه محمود عباس وال هنية وال البرغوثي‬ ‫وال الدويك وال فتح وال حماس وال الجهاد والشعبية والدبمقراطية‬ ‫والقيادة العامة‪ ..‬هذا الحق النسغي ال تمتلكه الجامعة العربية بالتحديد‬ ‫وال تمتلكه منظمة العالم األسالمى أو منظمة عدم االنحياز‪ ..‬ولذلك‬ ‫لن تجد من يعطيك أياه‪ ..‬حق العودة رعاكم الله يمتلكه حصريا أبناء‬ ‫فلسطين على بكرة أبيهم وأمهم إلى يوم الدين‪ ،‬يوم يرث الله األرض‬ ‫ومن عليها‪ ،‬وهذا يعنى أيضا أن الفلسطينيين اآلن هم أيضا ال يمتلكون‬ ‫هذا الحق وحدهم دون األجيال الفلسطينية النائمة فى أصالبهم‪..‬‬ ‫األجيال الالحقة والمتالحقة إلى يوم القيامة‪ ..‬حق ال يمنح اإلنابة‬ ‫ألحد عن أحد‪.‬‬ ‫يتجاهل المرشحون األمريكان الذين بدأت التسريبات بأسمائهم‬ ‫‪105‬‬


‫لالنتخابات المقبلة والمعروف عنهم انحيازهم المطلق لجماعات‬ ‫الضغط الصهيونية وفى مقدمتها إيباك أن حق العودة ليس بضاعة يمكن‬ ‫أن تباع وتشترى ويمكن بالتالي تعليقها فى بازارات االنتخابات‪..‬‬ ‫فالبضاعة سلعة بوسع فرد أو جماعة امتالكها والتصرف فيها‪..‬‬ ‫وحق العودة مشكلة ال حل لها إال بعودة الالجئين إلى بيوتهم‬ ‫ومزارعهم وحقولهم ومدارسهم وجوامعهم وكنائسهم ومراعي‬ ‫ذكرياتهم وأحالمهم‪ .‬كما أقرت بذلك األديان والشرائع والمواثيق‬ ‫والمعاهدات واالتفاقيات‪ ..‬الكيان الصهيوني الذي يفرخ األزمات‬ ‫(مسرحية الخطف‪ ،‬المستعمرات فى الضفة) للضغط على السلطة‬ ‫الوطنية يرغب فقط فى انتزاع االعتراف بيهوديته وبإلغاء حق العودة‪..‬‬ ‫هذا الكيان ما زال هو الرقم واحد فى سلم أولويات الصداع االنتخابي‬ ‫فى أمريكا باعتباره شأنا فى صميم الداخل األمريكي‪..‬‬

‫األصوات داخل أمريكا التى ترفض هذا التوجه ما زالت صغيرة‬ ‫وهامسة وخائفة‪ ..‬لكن أعدادها وفق آخر التقديرات تتزايد وتتوزع‪..‬‬ ‫ثمة فى أمريكا اآلن أصوات تعلق (رغم التعتيم) أن على دافعي‬ ‫الضرائب التوقف عن مساندة الغزاة‪ ،‬ليس فقط لمجرد كونهم سفاحين‬ ‫قتلة ومؤسس أصيل لإلرهاب والعنف والعنصرية‪ ،‬ولكن ألن دعمهم‬ ‫يتعارض حقا مع مصالح أمريكا‪.‬‬ ‫تقول بعض تلك األصوات الخفيضة حتى اآلن أن أحداث‬ ‫‪ 2001/9/11‬ربما تكون الحلقة األولى لما يمكن أن تتعرض له‬ ‫الواليات المتحدة األمريكية على أرضها من مخاطر مباشرة إضافة‬ ‫‪106‬‬


‫إلى التهديد المحتمل دائما لمصالحها فى الخارج‪ ..‬تتعرض هذه‬ ‫األصوات خاصة وسط هرج البازارات إلى حزمة من التهم أولها‬ ‫معاداة السامية وليس آخرها التشويه الشخصي والفبركة الخ الخ‪..‬‬ ‫الجاليات العربية فى أمريكا مطوقة كأوطانها باالنقسامات‪ ..‬ولذلك‬ ‫ما زال سؤال الرئيس ترومان قبل ستين عاما عن دورهم ونفوذهم‬ ‫قائما حتى الساعة‪ ...‬الجاليات العربية فى أمريكا تدخل البازارات‬ ‫االنتخابية‪ ..‬السوق الضخم‪ ..‬من أبواب المتفرجين‪ ،‬حتى وهم‬ ‫يمتلكون تذاكر تسمح لهم بالغناء‪ ،‬والرقص‪ .. ،‬أو العويل!‬

‫‪107‬‬



‫حقبة‬ ‫إذا جاز تقسيم العصور التى تمر بها األمم والشعوب والدول إلى‬ ‫حقب تميز كل واحدة منها‪ ،‬تحت ظروف تاريخية أو مرحلية ـ قضية‬ ‫أو ظرف تاريخي يفرض أشكاال من السلوك السياسي أو االقتصادي‬ ‫أو حتى االجتماعي الذي يأخذ عادة طرائق مختلفة فى التغير ـ إذا جاز‬ ‫ذلك فمن المؤكد أن المراقب المحايد سوف يقع فى حيرة حقيقية‬ ‫وكأنه يدلف إلى كهف تحكمه العتمة اللزجة وهو يتخير اسما للحقبة‬ ‫التى تمر بها األمة العربية «وأنا هنا أتوقع بعض القراء يتمتمون‪ :‬هي‬ ‫هنا وصياحها فى الوادي‪ ..‬أو شن جاب رأسها لقعرها»‪ ..‬البأس‬ ‫فنحن حقا جزء من هذه األمة‪.‬‬ ‫لم تعد المعارك السياسية ونحن فى العقد الثاني من األلفية الثالثة‬ ‫هي صاحبة التحوالت‪ ،‬وال التغيرات األقتصادية هي الالعب الوحيد‪،‬‬ ‫وأختفت أو تكاد الشعارات الرافضة ألية أصوات تعلو على صوت‬ ‫المعركة‪ ،‬كما لم تعد لقمة العيش ـ وما أصعبها ـ في سعي المواطن‬ ‫العربي وهو يخرج من بيته صباحا إلى حيث ال أين!!‬ ‫‪109‬‬


‫فلسطين صارت برنامجا فى الفضائيات‪ ..‬والعراق في خبر كان‪..‬‬ ‫والسودان سودانان‪ ..‬وسوريا فى قبضة االحتماالت الملوثة بالدماء‬ ‫ووحل المؤامرة‪ ..‬والصومال مجرد ذكرى‪..‬ولبنان على وشك‪..‬‬ ‫وليبيا وما أدراك ما ليبيا‪ ،‬ما بين األمنيات الطيبات واالستغوال‬ ‫والتوحش والروح االنتقامية والحقد والقتل والذبح والفتك والنهب‬ ‫وما ال يحصى من فجائع وفظائع‪ ..‬النفط مجرد رقم فى النشرات‬ ‫االقتصادية ويحتل أهمية أكبر بكثير جدا من الدم البشري‪ ..‬التنمية‬ ‫أكذوبة‪ ..‬والثقافة كماليات ال لزوم لها‪ ..‬والوحدة تاريخ قديم‪.‬‬

‫المراقب المحايد سئ الحظ يتعثر فى عتمة الكهف العطن‪ ،‬ولن‬ ‫تسعفه الذاكرة فى إنارة موطئ قدميه‪ ،‬وسيضطر حتما لتلمس طريق‬ ‫الخروج بحثا عن عون يكفيه مشقة العثور على الكلمة السحرية وسط‬ ‫ركام الثرثرة‪ ...‬الحقبة االستعمارية‪ ..‬الحقبة االستقاللية‪ ..‬الحقبة‬ ‫القومية‪ ..‬الحقبة الثورية‪ ..‬الحقبة السعودية‪ ..‬الحقبة الفلسطينية‪..‬‬ ‫الحقبة الكارثية‪ ..‬حقب متداخلة ضاعت خاللها ثالثة أرباع فلسطين‪،‬‬ ‫واحتالل إسرائيل للبنان‪ ،‬واحتالل أمريكا للعراق‪ ،‬واحتالل إيران‬ ‫لجزر أمارتية‪ ،‬وإضرام الحرائق فى تونس ومصر وليبيا وسوريا‬ ‫واليمن‪ ،‬وهاجرت خاللها آالف العقول‪ ،‬وأنهار التعليم‪ ،‬وتكرست‬ ‫القطرية وتهشمت ثوابت وتبدلت قيم وأهدرت ثروات‪.‬‬ ‫كانت العصبيات في تلك الحقب محمولة على السياسة بتعقيداتها‬ ‫وعقائدها‪ ..‬والمظاهرات والمسيرات والمهرجانات والملتقيات‬ ‫كانت تبدأ وتنتهي وسط أجواء الهتاف السياسي والعقائدي وشعاراته‬ ‫‪110‬‬


‫الملتهبة‪ ..‬األحصائيات والبيانات التنموية العربية كارثية حيث لم‬ ‫ينجح أحد في التغلب على غول األمية‪ ،‬مثلما لم ينجح أحد في‬ ‫القضاء على الفقر أو تحجيم مخاطر األوبئة واألمراض التى تتناسل‪..‬‬ ‫كل هذا يجعل نوايا المراقب شديدة الهشاشة وهو يحاول توصيف‬ ‫الحقبة بأنها تنموية مثال‪ ..‬خاصة وهو يرى رأي العين تصاعد مؤشر‬ ‫االحتقانات على مجمل األوضاع العربية بما يلغي تماما أي داللة‬ ‫لمفهوم االستقرار‪.‬‬ ‫ليس جلدا للذات‪ ،‬ولكنها محاولة لتأطير المشهد المأتمي‬ ‫الذي تعيشه األمة منذ نحو قرن‪ ،‬وهي تتخبط دون بوصلة أو حيث‬ ‫ال جدوى‪ ،‬اللهم اال إذا أعتبرنا المظاهرات الحاشدة التى شهدتها‬ ‫بعض العواصم العربية تأييدا النتزاع أحد المطربين أو المطربات‬ ‫قصب السبق فى المسابقات الغنائية على الشاشات أو فوز أحد‬ ‫الفرق الرياضية فى مسابقة ما‪ ..‬هي المؤشر الواقعي للبوصلة الجديدة‬ ‫وهو يتحرك صوب حقبة جديدة‪ ،‬تفترض مساحة أخرى للفعل يزيح‬ ‫عنوة مشموالت الحقب القديمة ويؤثث مناخاته القادمة ببرامج‬ ‫مختلفة‪ ،‬العواصم العربية التى تتنافس على القنوات الفضائية فى‬ ‫مسابقات الغناء والطرب تشتبك فى معارك طاحنة للظفر بلقب سوبر‬ ‫ستار في نفس الوقت بالتحديد الذي يموت فيه الناس يوميا فى ليبيا‬ ‫وسوريا والعراق وفلسطين ومصروتونس والسودان‪ ..‬في نفس الوقت‬ ‫بالتحديد الذي يتكدس فيه ماليين الشباب على أرصفة العطالة‪ ..‬في‬ ‫نفس الوقت بالتحديد الذي تنتهك فيه القيم وتبتذل األخالق ويفتك‬ ‫‪111‬‬


‫بالهوية‪..‬في نفس الوقت بالتحديد الذي تهاجر فيه عقول األمة وتسرق‬ ‫المقدرات جهارا نهارا وتنهب الثروات‪ ..‬في نفس الوقت بالتحديد‬ ‫الذي تجرجر فيه األمة نحو ٍ‬ ‫مزيد من التبعية واالرتهان‪.‬‬

‫المراقب المحايد وهو يقف مترنحا‪ ..‬متلعثما‪ ..‬مرتبكا‪..‬قبالة‬ ‫الضوء الساطع يغمر مدخل الكهف تحوطه أصوات صادحة بالغناء‬ ‫والرقص‪ ،‬لم يكن بمقدوره للخروج من مآزقه سوى إطالق اسم‬ ‫الحقبة الطربية‪ ..‬الغنائية الراقصة‪ ..‬الموسيقية‪ ..‬الهز وسطية‪..‬‬ ‫الكروية‪ ..‬ويتخلص من الحرج في مواجهة أمة كانت هنا‪ ..‬أمة‬ ‫ضحكت من جهلها األمم‪.‬‬

‫‪112‬‬


‫حوار الر�صا�ص‬ ‫سمها ما شئت‪،‬‬ ‫األزمة الليبية‪ ،‬الفوضى الليبية‪ ،‬المسألة الليبية‪ ،‬أو ّ‬ ‫تدخل الشهر المقبل عامها الخامس مدججة برصيد هائل من الدماء‪،‬‬ ‫والنوايا المفخخة باألحقاد والثأرات‪ ،‬فضال عن االستبسال في‬ ‫التمسك (بما يعتبره كل طرف) حقوقه ومصالحه‪ ..‬وهي حقوق‬ ‫ومصالح ترتبت أصال على األحداث وانعكاساتها بما يستوجب‬ ‫معالجتها خارج هذا التوصيف‪.‬‬

‫الفاعلون المحليون في الشأن الليبي لم يتخطوا بعد أضالع المربع‬ ‫األول‪ ،‬تتجاذبهم‪ ،‬وهم يغوصون فى أوحال الحفر والمستنقعات التى‬ ‫أنتجها الزلزال‪ ،‬كفتان‪ ،‬فالفاعل األجنبى (تركيا وقطر والسودان في كفة‪،‬‬ ‫ومصر والجزائر واألمم المتحدة في كفة أخرى) يحاول العثور على طريقة‬ ‫لتجاوز ذلك المربع‪ ،‬فالفريق األول يوقد مراجل العنف جهارا نهارا‪،‬‬ ‫دفاعا عن ما يعتبرها مصالحه‪ ،‬والفريق الثاني يسعى لتأثيث المناخ لبدء‬ ‫عملية واسعة تقود إلى مصالحة حقيقية تستجيب لرأى الشعب الذي‬ ‫عبر عنه فى االنتخابات‪ .‬وهو ما يعتبره هذا الفريق ينسجم مع مصالحه‪.‬‬ ‫‪113‬‬


‫رتبت األمم المتحدة لقائين لألطراف المتصارعة (مجلس النواب‬ ‫المنتخب والذي يحظى باعتراف دولي مقابل المؤتمر الوطني المنتهية‬ ‫واليته والذي ال يحظى باعتراف أحد) في غدامس ‪ 29‬سبتمبر ‪2014‬‬ ‫والثاني في طرابلس ‪ 21‬أكتوبر من نفس العام‪ .‬وكانت النتيجة المزيد‬ ‫من العنف وتوسع رقعة االشتباكات‪ .‬وجاء الحكم «المثير للجدل»‬ ‫الذي أصدرته الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا في السادس من‬ ‫نوفمبر بمثابة صب البنزين المشبع بالرصاص على الحرائق التى‬ ‫تتناسل‪.‬‬

‫دول الجوار (مصر والجزائر وتونس والنيجر والسودان وتشاد)‬ ‫لجأت تحت وطأة التهديد بانتقال النار إلى حدودها وداخلها إلى‬ ‫تأسيس مجموعة أزمة جرت أجتماعاتها في الجزائر ‪ 28/27‬مايو‬ ‫‪ 2014‬وفي مااليو ‪ 27/26‬يونيو ‪ .2014‬والحمامات بتونس في ‪14‬‬ ‫يوليو ‪ .2014‬وفي القاهرة ‪ 25‬أغسطس ‪ .2014‬وكانت فى جميع‬ ‫هذه االجتماعات تعيد استعراض نفس المسائل بما يستجد عليها‬ ‫من تحوالت على األرض‪ ..‬وكانت الجزائر األكثر ميال في اقترابها‬ ‫من الخنادق الليبية للملف األمني (قدمت مبادرة لجمع كل األطراف‬ ‫وهو ما يبدو الذي عجل فى اختناقها) فيما تركت الملف السياسي‬ ‫للمعالجة المصرية وهو ما انعكس فى تصريحات القيادة المصرية‬ ‫واإلهتمام الذي أظهره الرئيس السيسي في زياراته الخارجية‪.‬‬

‫الفاعل الفرنسي (المستعمر السابق للدول المجاورة لليبيا فى‬ ‫الشرق والجنوب) كان األكثر ميال للتدخل الدولى لوال اصطدامه‬ ‫‪114‬‬


‫بالرفض الجزائري وهو ما أدى إلى تراجعه (مؤقتا على األقل) خاصة‬ ‫بعد اإلتفاق الذي تم فى سبتمبر الماضي بين جماعات التبو المتحالفة‬ ‫مع عملية الكرامة وبين قبائل الطوارق الرافضة للتدخل الفرنسي فى‬ ‫منطقة الساحل‪ .‬وهو ما دفعها إلقامة قاعدة عسكرية متقدمة فى منطقة‬ ‫(ميداما) على الحدود بين ليبيا والنيجر كإجراء احترازي لمنع تسلل‬ ‫المقاتلين عبر المنطقة‪ .‬وإعادة خلط األوراق في هذه الرقعة الهشة‪.‬‬

‫مجموعة دول الساحل والصحراء التى أسستها ليبيا كقاعدة لهرم‬ ‫االتحاد األفريقي (الذي سعت ليبيا أيضا بدور محوري فى قيامه)‪،‬‬ ‫بوركينا فاسو‪ ،‬موريتانيا‪ ،‬مالي‪ ،‬النيجر‪ ،‬تشاد‪ ،‬دعت فى إجتماع قمة‬ ‫فى نواكشوط ديسمبر ‪ 2014‬االتحاد األفريقي واألمم المتحدة لبناء‬ ‫قوة عسكرية للتدخل وإجبار األطراف على الجلوس للحوار‪.‬‬

‫االمريكيون ال يحملون الملف الليبي على محمل الجد‪ ،‬ويعتبرون‬ ‫أن الوقت ما زال مبكرا للتقدم بمبادرات‪ .‬فمصالحهم ليست مهددة‬ ‫بعد أتفاقهم مع فعاليات مصراته على حمايتها‪ ،‬فضال عن أستمرارها‬ ‫في األعتقاد بأن جماعة األخوان المسلمين (رغم الرفض الشعبي‬ ‫الجارف) هم األكثر تأهيال الدارة البالد‪.‬‬ ‫أوروبا‪ ،‬وتحديدا ايطاليا وفرنسا وأسبانيا‪ ،‬تدرك أن ثمة أفعى‬ ‫جريحة جنوب سواحلها‪ ،‬لكنها ال تفعل أبعد من ذلك‪ ..‬تراقب بال‬ ‫ريب وتتوجس ال أكثر وربما ال أقل‪.‬‬ ‫أمميا‪ ،‬ما زالت ليبيا تحت الفصل السابع‪ .‬وهو ما يجعل الباب‬ ‫مفتوحا (متى أراد الكبار ذلك) للتدخل العسكري‪ ،‬خاصة مع رفض‬ ‫‪115‬‬


‫تسليح الجيش الليبي المنضوي تحت الشرعية‪ ،‬رغم مناشدات‬ ‫مجلس النواب المعترف به دوليا وحكومته‪ ،‬مقابل تدفق السالح‬ ‫والمقاتلين والتمويل المالي لخنادق المليشيات الجهوية والمؤدلجة‪.‬‬

‫والسؤال اآلن‪ :‬ماذا سيضيف حوار جنيف؟ وما الذي سوف يفرزه‬ ‫واقع ردود الفعل التى تواترت قبل وأثناء االنعقاد‪.‬؟ كيف يمكن فهم‬ ‫أن يلتقى الليبيون عبر وسيط دولي وليس مباشرة‪.‬؟ وما هي األوراق‬ ‫التى يمتلكها كل طرف على مائدة الحوار عبر األممي‪ ،‬وما هو دور‬ ‫األمم المتحدة‪.‬؟ وما هو دور الطرف األقليمي‪ ،‬والطرف الممول‬ ‫لجماعات مناوئة للحكومة‪.‬؟ ما هي الترتيبات التى سوف تنكعس‬ ‫على فشل الحوار‪.‬؟ وهل سترفع أوروبا كما هددت يدها إذا «أهدرت‬ ‫ليبيا) فرصة جنيف‪.‬؟ هل ستنسحب بعثة األمم المتحدة من اللعبة‬ ‫وترك الليبيين للضباب‪.‬؟‬

‫العناوين الرئيسة للحل‪ ،‬والتى لن يختلف عليها إثنان من العقالء‬ ‫تكمن وتحديدا فى‪:‬‬

‫إعالن العفو العام (إال على الذين تلطخت أياديهم‬ ‫بالدماء‪ .‬ولصوص المال العام)‪.‬‬

‫إلغاء قانون العزل السياسي‪.‬‬ ‫المصالحة الوطنية الشاملة‪.‬‬

‫إقرار دستور توافقى يسمح بتعديله دون المساس‬ ‫بالحريات العامة فى خالل عشرة سنوات‪.‬‬ ‫‪116‬‬


‫اإلتفاق على حكومة وطنية غير مؤدلجة‪.‬‬

‫تخصيص ‪ %25‬من الميزانية كل سنة للتعليم‪.‬‬

‫تشكيل الجيش الوطني على أسس أحترافية ووطنية‪،‬‬ ‫ويؤسس دستوريا ابتعاده عن ممارسة السياسة‪.‬‬

‫بناء قوة أمنية (الشرطة وأجهزة األمن) على نفس النسق‪.‬‬

‫بغير ذلك سنظل وأحداقنا مغمضة‪ ،‬نحفر نفس البحر‪..‬‬ ‫الدموي‪.‬‬

‫‪117‬‬



‫دار الخالفة‬ ‫في تسعينيات القرن الماضي كنت في تركيا ورأيت بأم عيني شبا ًبا‬

‫في عمر الزهور يحتفلون ببهجة دعتني لالستفسار عن سبب ذلك‬ ‫الفرح فقال لي صديقي الصحفي التركي‪ :‬إنهم يحتفلون باإلنخراط‬

‫في الجيش!! وقال هي عادة الشباب التركي حينما يتم استدعاؤهم‬

‫للخدمة الوطنية لمدة عامين يقضون معظمها بعد التدريب في مالحقة‬

‫األكراد‪..‬‬

‫تركيا دولة قامت على صهوات الجياد‪ ..‬مغامرون هبطوا من‬

‫أواسط آسيا ظلوا ألكثر من قرن ونصف يذرعون المنطقة الممتدة‬

‫من شرق البوسفور وحتى عاصمة الخالفة في بغداد التي كانت تعاني‬ ‫وقتها من أمراض الشيخوخة‪ ،‬ونجحوا في التسلل إلى مخادع الخلفاء‬

‫قبل تحويلهم إلى دمى وتحريكهم من خلف الستار قبل أن يقرروا‬ ‫اإلطاحة بآخر عروش العباسيين ونقل الخالفة إلى األستانة‪..‬‬

‫تاريخ طويل من الركض في السهوب والجبال قبل أن يقرر‬ ‫‪119‬‬


‫أحفاد أرطغول االستقرار فيما يعرف اآلن بتركيا والشروع في بناء‬ ‫االسطبالت وصناعة السالح واالندفاع كزوبعة انتشر غبارها في‬ ‫مناطق واسعة من آسيا وأفريقيا وأوروبا‪.‬‬

‫ً‬ ‫احتالل‬ ‫سيطر الغبار العثماني ألكثر من خمسة قرون‪ ..‬كان‬ ‫ٍ‬ ‫ألراض كانت بحوزة الخالفة السابقة في بغداد وازدادت في مساحة‬ ‫الجغرافيا‪ ..‬نهبوا كل شيء‪ ..‬كل ما يمكن السطو عليه من ثروات وآثار‬ ‫وصناع حرفيين وقبل ذلك الشباب كانوا يرسلونهم إلى معسكرات‬ ‫الجيش وللخدمة في القصور واالستراحات‪..‬‬

‫وباستثناء المدن والحواضر التركية لم تشهد أية والية عثمانية‬ ‫أية نهضة في أي مجال إال بعد سيطرة بعض العائالت المختلطة‬ ‫والمحلية على أمور الحكم في بعض تلك الواليات «محمد علي‬ ‫في مصر والقره مانليين في ليبيا والطاهر عمر في الشام‪ً ..‬‬ ‫مثل»‪..‬‬

‫الخازوق كان أهم إنجازاتهم‪ ..‬وسجلوا في تاريخ التعذيب‬ ‫إسهامات شهدت بنتائجها مقابر على إمتداد البصر‪ ،‬وعذابات ما زال‬ ‫أنين وعويل وقهر أصحابها ملتص ًقا على جدران أقبية ومعتقالت‬ ‫وكهوف على إمتداد األمبراطورية‪ ..‬لعله اإلنجاز الوحيد الذي كان‬ ‫بوسعهم المباهاة به‪ ..‬وباسم الدين قتلوا وعذبوا وشردوا واعتقلوا‬ ‫الماليين من البشر من المسلمين والمسيحيين‪..‬‬ ‫الضرائب الباهضة في زمن الضنك والفاقة كانت أقل عقوباتهم‬ ‫على الشعوب المستعبدة‪ ..‬كان اكتشاف البخار في القرن السابع‬ ‫عشر يفتح الباب في أوروبا أمام الثورة الصناعية فيما كانت الواليات‬ ‫‪120‬‬


‫العثمانية تنفق الوقت في الجدل حول جنس المالئكة وهل هي أنثى‬ ‫أم ذكر‪..‬‬

‫أخيرا بعد سيطرة‬ ‫توهم سكان الواليات أن بوسعهم التنفس‬ ‫ً‬ ‫جماعة اإلتحاد والترقي على السلطة في عاصمة الخالفة وإزاحة‬ ‫السلطان عبد الحميد قبل أن يفيقوا على أنهار من الدم تتدفق من‬ ‫مليون ونصف من األرمن فتكت بمن تبقى من أسالفهم الذين تعرضوا‬ ‫لمذابح مماثلة ساب ًقا‪..‬‬ ‫أكثر من مليون ونصف أرمني تمت إبادتهم في ‪ 1915‬بذريعة‬ ‫أنهم طابور خامس لروس‪ ..‬ولم تعترف تركيا التي تخلصت في‬ ‫‪ 1923‬على يد أتاتورك من أسر سطوة التاريخ بالمسؤولية عن تلك‬ ‫األنهار الدموية‪..‬‬

‫ما زال األرمن الذين يحتفلون في الرابع والعشرين من أبريل‬ ‫بذكرى المذابح يطلبون فقط االعتراف واإلعتذار‪ ..‬فقط مجرد‬ ‫االعتراف واإلعتذار‪ ..‬ولم يحصلوا عليه أبدً ا‪.‬‬

‫‪121‬‬



‫الخاليا النائمة‬ ‫يتردد مصطلح (الخاليا النائمة) في األونة األخيرة كثيرا فى األخبار‬

‫والتقارير الصحفية‪ ،‬فضال عن دخوله كمعطى فى األدب السياسي‬ ‫وكأنه أستنطاق للمصطلح القديم (الطابور الخامس) الذي نحته‬

‫الجنرال فرانكو أبان الحرب األهلية فى أسبانيا فى النصف الثاني‬

‫من ثالثينيات القرن الماضي‪.‬‬

‫المصطلح يعنى ببساطة جماعات يتم زرعها فى أوساط الطرف‬

‫اآلخر بأوامر محددة ويتم تحريكها فى أوقات ومواعيد تساعد هذا‬

‫الطرف أو ذاك فى التحريض والتهييج والتخريب‪ ،‬إضافة إلى بث‬

‫الشائعات وإثارة الفتن وصوال إلى التحرك المسلح‪ ،‬ولجأت جميع‬

‫األمم والجماعات المتصارعة عبر التاريخ الى استخدام تلك الخاليا‬ ‫في تأمين المطلوب منها خدمة ألهداف من أرسلها وزرعها‪.‬‬

‫يعكس المصطلح عادة مدى توافق هذه الخاليا مع المصدر‬

‫عقائديا أو سياسيا وال يعنى بالضرورة العمل بمقابل مادي أو مصلحي‬ ‫‪123‬‬


‫إال في أضيق الحدود وفى حاالت نادرة وهنا يقترب من العمل‬ ‫الجوسسي أو العمالة‪ ،‬وتنجح هذه الخاليا فى معظم األحيان فى‬ ‫القيام بأدوارها قبل وأثناء احتدام المعارك وتؤسس قواعد داخل‬ ‫جبهات الطرف المناؤى تعمل على تأمين المستهدف من زرعها‪.‬‬

‫يتم تجنيد تلك الخاليا النائمة على أسس شديدة الدقة‪ ،‬ويتم اختيار‬ ‫عناصرها من األوساط المعدمة واألمية والمهمشة أجتماعيا وسياسيا‪،‬‬ ‫أو تلك التى ليس لديها ما تخسره‪ ،‬خاصة وأن اإلغواء (بالجنة‬ ‫والحوريات فى حالة اإلسالم السياسي‪ ،‬أو بالمناصب والحكم فى‬ ‫حاالت السياسي) يكون فى أغلب األحيان شديد التأثير وتحديدا‬ ‫بين شرائح عمرية صغيرة يحكمها الحماس واالندفاع‪.‬‬ ‫الفقر إذن والجهل والتهميش والقمع واالستبداد والتغول الطائفي‬ ‫أو الجهوي (مع استثناءات قليلة) هم المؤسس األصيل لتلك الخاليا‬ ‫والقاعدة الرئيسة لذلك البناء الذي يقوم بالتخريب المبرمج تمهيدا‬ ‫لالجتياح والتدمير‪ ،‬وهم الفيروس الذي يتسلل للجسد والفتك‬ ‫بنسيجه الداخلي‪ .‬وهم من يعمل وفقا لبرامج محددة على ضرب‬ ‫الجبهة الداخلية وتفتيت تماسكها‪.‬‬

‫كانت المخابرات األمريكية تطلب من خالياها النائمة فى‬ ‫نيكاراغوا بعد أنتصار الثورة السانديانية فى السبعينيات وسقوط‬ ‫الدكتاتور سوموزا أن يعملوا على ترك الحنفيات مفتوحة فى المدارس‬ ‫والمستشفيات والحدائق واإلدارات العامة للدولة وترك األضواء‬ ‫واألبواب مفتوحة وتهشيم مصابيح الشوارع وإغراق الثروة الخشبية‬ ‫‪124‬‬


‫بالماء إلخ إلخ‪ ..‬من عمليات تخريبية تتراكم لخلق حالة االحتقان‪..‬‬ ‫فى حالة أخرى أكتشفت دولة فى شرق أوروبا قبل سقوط الكتلة‬ ‫الشرقية أن أحد أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي الحاكم‬ ‫جاسوسا للمخابرات المركزية األمريكية وراعيا لخاليا نائمة‪..‬‬ ‫في التحقيق معه كشف أن مهمته الوحيدة لم تكن تزويد الوكالة‬ ‫االستخبارتية بالمعلومات ولكنها تنحصر فقط فى عرقلة وصول أي‬ ‫شخصية ذات كفاءة لموقع مهم واختيار األغبياء وشبه المعتوهين‬ ‫لتلك المواقع باعتبارهم أهل ثقة‪.‬‬

‫ومن المفارقات المثيرة في هذا السياق أن نقابات العمال فى‬ ‫بولندا هي التى قادت التمرد والثورة ضد حزب العمال الذي يقود‬ ‫البالد‪ ..‬قبل أن يعرف العالم أن الكنيسة كانت وراء زرع خاليا نائمة‬ ‫من فقراء العمال وسط نقابات عمال الموانئ فى غدانسك‪ ..‬أنتهت‬ ‫بوصول عامل طالء السفن ليش فاليسا إلى رئاسة الجمهورية‪.‬‬ ‫غياب العدالة االجتماعية وغياب التعليم الحقيقي واإلقصاء بأية‬ ‫ذريعة هي األسباب وراء جميع الكوارث التى تعصف بالمجتمعات‬ ‫وتفتك بأساساتها وتدمرها‬

‫‪125‬‬



‫دراما التاريخ‬ ‫يتحسر البعض أحيانا وهم يحلمون على عدم الوجود المادي‬

‫في فترات تاريخية معينة لالشتراك في ما يعتقدون أن أحداثها كانت‬ ‫مثيرة‪ ،‬أو على األقل الحصول على موقع المراقب والوقوف على‬

‫مشاهدة التحوالت التى حفلت بها تلك العصور‪..‬‬

‫يتناسى هؤالء أو لعلهم يتجاهلون‪ ،‬أنهم شهود على أكثر مراحل‬

‫التاريخ أهمية على األطالق‪ ،‬منذ أن انتصبت قامة اإلنسان وشرع في‬ ‫التجمع وتحسس مكامن الطبيعة من حوله‪.‬‬

‫كانت األحداث في المراحل والفترات التاريخية المنصرمة التى‬

‫يتحسر بعضنا على غيابه عنها‪ ،‬ذات تأثير محدود بحكم انعدام‬

‫وسائل األتصال مما يجعل الجغرافيا طلسما‪ ،‬أو عائقا كبيرا في أفضل‬

‫األحوال أمام االنتشار‪ ..‬كان المؤرخون والرحالة والشعراء والكتاب‬

‫هم من نقلوا إلينا قراءة كل واحد منهم لألحداث وهو ما يعكس مدى‬ ‫قربه أو بعده من البالط وحرية القول‪.‬‬ ‫‪127‬‬


‫لن نلجأ الى االستعانة بمدارس التشكيك في حقائق تلك األحداث‬ ‫القديمة‪ ،‬وتفحص مؤشر المبالغات التى كان المؤرخون يخضعون‬ ‫لمناخاتها وهم يسجلون األحداث‪ ..‬وكذا الشعراء والرحالة‪..‬‬

‫عصرنا الحالي حقق علميا وتحديدا منذ بداية النصف الثاني‬ ‫من القرن العشرين قفزات هائلة تفوق بما ال يحصى ما أنجز قبل‬ ‫ذلك التاريخ‪ ،‬ويسجل اليوم اكتشافات مبهرة على األصعدة كافة‪..‬‬ ‫لم ينجح العلم حتى اآلن فى التوصل إلى دواء للرشح مثال‪ ،‬لكنه‬ ‫عرف الطريق لالستنساخ!!‪ ..‬ربما لم تفلح الجهود حتى اآلن في رسم‬ ‫خريطة دقيقة ألحراش األمازون وبعض مجاهل الغابات المطيرة‪،‬‬ ‫لكنه أنجز وبدقة خريطة مجموعتنا الشمسية إضافة إلى القبض على‬ ‫أسرار الخريطة الجينية (الجينيوم)‪ ..‬وتوصل بما كشف عنه من أسرار‬ ‫الهندسة الوراثية إلى تعديل جينات الغذاء‪ ،‬وفتح الصفحة األولى في‬ ‫كتاب الخلود بالتحقيق النظري والمخبري المكانية عزل الجينات‬ ‫المريضة أو المسببة للمرض من تفاصيل الخلية األولى الناتجة عن‬ ‫التحام البويضة المدهشة بالحيوان المنوي‪.‬‬ ‫ثورة االتصاالت والمواصالت ال تتوقف عن التفاعل والتقدم‬ ‫المذهل‪ ،‬ومدى انعكاسات ذلك على تشكيل ذائقة جديدة‪ ،‬متجددة‪،‬‬ ‫أكبر مما نتصور‪ .‬رغم وقوعنا في دوائر التلقي االستهالكي‪..‬‬

‫اقتصاديا‪ ..‬صار بوسع أكثر المراقبين تشاؤما التأكيد على أن حجم‬ ‫التراكم الحاصل من واقع التحوالت المتالحقة حقق قفزات كان‬ ‫توقعها قبل مائة عام مجرد كهانة ال تثير سوى السخرية والهزء‪ ..‬ونحن‬ ‫‪128‬‬


‫هنا ال نتحدث عن منظومة القيم في العدالة والمساواة أوالتوحش‬ ‫الرأسمالي ومدى غطرسته‪.‬‬

‫اجتماعيا‪ ..‬لم يعد الحديث عن المساواة بين الرجل والمرأة مثيرا‬ ‫للجدل‪ ،‬بعد حسمه واقعيا لمصلحة التعايش وصوال إلى التنفس‬ ‫برئتين بدال من الصراع القديم الذي تستعيده الذاكرة وهي في مقام‬ ‫القهقهة‪ ..‬ونحن هنا أيضا ال نتحدث عن ثقافة الكهوف التى ظهرت‬ ‫مؤخرا كتعبير عن األزمة الخانقة التى تعصف ببعض مناطق العالم‪..‬‬ ‫مناطقنا تحديدا‪.‬‬ ‫نحن شهود على أكثر (لحظات) التاريخ أهمية‪..‬‬ ‫نحن أكثر بني الجنس البشري حظا‪..‬‬

‫نحن نقف على أكثر مفاصل التاريخ إثارة‪..‬‬

‫نحن شهود على حربين عالميتين سفكت خاللها دماء الماليين‪..‬‬

‫نحن شهود على نشوب الحرب الباردة‪ ..‬وموتها‪ ..‬ونتابع اآلن‬ ‫مالمح عودتها‪..‬‬ ‫نحن شهود على انتصار الفيتنام في ديان بيان فو على الفرنسيين‬ ‫وفى سايغون على األمريكان‪.‬‬ ‫نحن شهود على توزع قطع سور برلين على المتاحف وجامعى‬ ‫األثار‪..‬‬

‫نحن شهود على والدة إمبرطوريات واتحادات وموتها وتفككها‪..‬‬ ‫‪129‬‬


‫نحن شهود على غزو الفضاء‪..‬‬ ‫ووالدة االتحادات الكبرى‪...‬‬ ‫نحن شهود على اختفاء المارك والفرنك والليرة وظهور اليورو‪..‬‬ ‫نحن شهود على التطور في زراعة األعضاء‪ ..‬واكتشاف شفرة‬ ‫الخاليا الجدعية‪..‬‬ ‫نحن شهود على جيفارا وعمر المختار ومانديال وغاندي وماركيز‬ ‫ونجيب محفوظ وأم كلثوم‪..‬‬ ‫وشهود على ما ال يمكن حصره من حقول حرثها العلم بجسارة‬ ‫الواثق المتيقن‪..‬‬ ‫نحن في منطقة تاريخية تعوزها الرتابة‪..‬‬ ‫مجلدات غينيس التى كانت تصدر متقطعة صارت تتناسل اآلن‬ ‫شهريا معلنة أرقاما ومعلومات تشعل الدهشة في الزجاج‪..‬‬ ‫السينما التفاعلية‪ ..‬النشر األلكتروني‪ ..‬األقراص المرنة‬ ‫والممغنطة‪ ..‬الليزر‪ ..‬الفيمتو ثانية‪ ..‬النانو‪ ..‬النفط الصخري‪ ..‬الطاقة‬ ‫البديلة‪ ..‬رحيل الدكتاتوريات‪ ..‬الحروب الفاحشة‪ ..‬االستقطاب‬ ‫والتجاذب والهيمنة‪ ..‬الرياضة‪ ..‬اإلنترنت وما أدراك ما اإلنترنت‪..‬‬ ‫معرفة برامج الفيروسات‪ ..‬مواجهة األوزون‪ ..‬الهواتف المرئية‬ ‫الجوالة‪ ..‬األزياء‪ ..‬الموسيقا‪ ..‬اإلبداع‪ ..‬الغذاء‪ ..‬األمصال‪ ..‬ارتفاع‬ ‫متوسط االعمار‪..‬مارادونا وميسى ورونالدو‪ ..‬مفردات بأحجام‬ ‫‪130‬‬


‫متفاوتة شكلت بانشطاراتها التاثيرية اإلطار الباهر لما يشهده عصرنا‬ ‫من استحقاق جدير باالنتساب إليه‪..‬‬ ‫ثمة بال ريب انتكاسات كثيرة ومعضالت كان ـ على ما يبدو ـ من‬ ‫الضروري ظهورها لتأكيد الفعل‪ ،‬وكأنها ضريبة للنجاحات المقابلة‪..‬‬ ‫وهنا نصل إلى طرح السؤال المفخخ‪ :‬أين نحن مما يحدث؟‬ ‫ما هو اإلنجاز العلمي الذي قدمه العرب خالل الخمسمائة عام‬ ‫األخيرة‪..‬‬ ‫ما هو األثر األدبي العالمي الذي قدموه‪..‬‬ ‫ما الذي صنعه العرب غير استقبال وتوديع الغزاة‪ ...‬والثرثرة‪..‬‬ ‫ما الذي يميز العربي عن األجناس األخرى التى تسكن الكوكب‬ ‫األزرق‪..‬‬ ‫دور النشر العربية تنتج سنويا نصف ما تنتجه المطابع اإليطالية‬ ‫في أربعة ايام‪..‬‬ ‫لست هنا في مقام جلد الذات مثلما لست في تقدير تقريظها أو‬ ‫حتى تحفيزها‪ ،‬لكنه مجرد تساؤل طرحته على الهنود والصينيين‬ ‫واألوربيين واليابانيين والكوريين والماليزيين والبرازيليين‬ ‫واإليرلنديين واإليرانيين‪ ،‬وغيرهم من األقوام قبل أن أطرحه على‬ ‫نفسي وأبناء عمومتي وأهلي‪.‬‬ ‫الواليات المتحدة األمريكية التى تناصبنا العداء «لله في لله»‬ ‫‪131‬‬


‫حققت موقعها في قيادة العالم باعتمادها مجموعة من األساليب‪ ،‬لعل‬ ‫أهمها في تقديري ما أعلن عنه مؤخرا بأن ميزانية اإلنفاق األمريكي‬ ‫على البحث العلمي تجاوزت المائتي مليار دوالر‪ ..‬وإسرائيل التى‬ ‫تناصبنا ونناصبها العداء تنفق ‪ %8‬من دخلها القومي على البحث‬ ‫العلمي وكذا ماليزيا والهند والبرازيل واليابان بطبيعة الحال إضافة‬ ‫الى أوروبا الغربية‪.‬‬ ‫يقول العارفون في علوم المستقبليات أن أمام العرب للحاق‬ ‫بآخر مركبات قطار الجدارة بالحياة على هذه األرض فرصة واحدة‬ ‫ال غير‪ ..‬الثورة الرقمية هي آخر مركبات القطار‪ ..‬وهي منجز ليس‬ ‫محتكرا حتى نتذرع بصعوبة الحصول عليه‪..‬‬

‫الفرصة األخيرة متحركة‪ ..‬ليست ثابتة‪ ..‬والوصفة ليست كاملة‬ ‫في غياب الوعي بالهوية وأهمية التمسك بها في مواجهة الذوبان‪..‬‬

‫هنا فقط نغادر مرافئ القلق إلى مستقبل ال يصعب التكهن بفداحة‬ ‫الغياب عنه‪..‬‬ ‫وجودنا في هذا العصر ليس مجرد شهادة ميالد صار مشكوكا‬ ‫في بياناتها‪ ،‬لكنه ربما المشهد اآلخير لخروجنا الحقيقي من التاريخ‬ ‫وإسدال الستار عن أمة كانت هنا‪.‬‬

‫الكارثة تطرق بواباتنا‪..‬هل نبدأ بطرح األسئلة الحقيقية‪..‬؟‬ ‫أم نحكم إغالق النوافذ ونخلد‪ ..‬للغيبوبة‪.‬‬

‫‪132‬‬


‫دعوة �أخرى‪ ..‬للقراءة‬ ‫كيف يمكن تفسير سلسلة الهزائم التى تتعرض لها األمة منذ‬

‫قرون‪ ،‬وتحديدا لماذا ينهزم العرب األكثر عددا أمام الصهاينة األقل‬

‫كثيرا (لم نقل المسلمين واليهود!!)‪!..‬؟ ولماذا استمر ويستمر هذا‬ ‫حتى اآلن‪.‬‬

‫ال أزعم هنا أنني أمتلك اإلجابات القاطعة‪ ،‬بقدر ما أدعوكم لقراءة‬

‫التفاصيل والغوص في ما بعد األبواب الموصدة والنوافذ المغلقة‪..‬‬ ‫والبحث في شبكة المفاصل سعيا للمعرفة (أو بعضها على األقل)‬

‫فهي وحدها فيما نعرف من يملك مفاتيح ما أوصد وأغلق وتلغز‬

‫وتطلسم‪..‬‬

‫ثمة أحداث جرت قبل نحو أربعة قرون على شواطئ السواحل‬

‫الشرقية لما يعرف اآلن بدولة الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬تكاد‬

‫تتماثل تماما مع ما يحدث في فلسطين منذ منتصف النصف األول‬

‫من القرن العشرين‪ ..‬ففي أواسط القرن السابع عشر تقريبا كان‬ ‫‪133‬‬


‫الهنود الحمر يعدون مائة مليون نسمة تقريبا‪ ،‬تطوق قبائلهم التى‬ ‫ال تعرف األمراض العضوية مثلما ال تعرف الكذب والحسد والحقد‪،‬‬ ‫معسكرات هشة وضعيفة آلالف من المهاجرين الذين قذفت بهم‬ ‫إيرلندا وهولندا وأنجلترا في أولى موجات الهجرة (غير الشرعية‬ ‫فعال)‪ ..‬كانت ممالك وحضارات أمة الهنود الحمر في األزتيك‬ ‫بالمكسيك واألنكا فى البيرو والمايا‪ ...‬الخ تمتد شماال وجنوبا في‬ ‫فيوض روحية وحضارية يقف العالم حاليا مدهوشا من جاللها‪..‬‬ ‫وشأنها المرموق‪.‬‬ ‫بعد نحو قرنين‪ ،‬وتحديدا في أول إحصاء رسمي يقوم به البيض‬ ‫في ‪ 1929‬وصلت أعداد القادمين فقط من هولندا وبريطانيا إلى‬ ‫ثالثين مليونا مقابل تناقص حاد في تعداد الهنود وصل إلى (فقط)‬ ‫ثالثمائة ألف!!‬

‫لن يكون مفيدا سرد الحكايات التى تفند أكاذيب الحواة في‬ ‫هوليود عن تلك األمة العظيمة‪ ،‬ولكن البد للمتفحص (إن وجد)‬ ‫كما أسلفنا من إدراك طبيعة التفاصيل لبناء إجاباته عن أسئلة لم تعد‬ ‫محيرة‪ ..‬مجموعات صارت تتناسل من المؤرخين األمريكيين أكدوا‬ ‫فى حوليات موثقة أن العدد األجمالي للهنود الحمر الذين فتك بهم‬ ‫البيض خالل ثالثة قرون يفوق الستين مليونا!!‬ ‫ويرصد هوالء أن الهنود الحمر لم يكونوا عدائيين أو متوحشين‬ ‫كما تصورهم روايات السينما األمريكية‪ ،‬ولكنهم كانوا أقرب للود‬ ‫وروح الصداقة وعدم الممانعة فى التعايش‪.‬‬ ‫‪134‬‬


‫تسجل تلك الحوليات األقتراح الذي تقدم به في ‪ 1829‬الرئيس‬ ‫األمريكي الجديد (آندرو جاكسون)‪ ،‬وهو ضابط سابق في الجيش‪،‬‬ ‫وطلب فيه من الكونغرس تخصيص منطقة غرب المسيسيبي للهنود‬ ‫الحمر دون غيرهم‪ ..‬وهو ما تم فعال على األوراق وأختامها وملفاتها‪،‬‬ ‫لكن الواقع أظهر أن البيض المهاجرين لم يحترموا ذلك القرار‪،‬‬ ‫وتابعوا مضايقة الهنود ونزع مبرمج (مقونن) ألراضيهم وقضم‬ ‫أطرافها زحفا‪ ،‬ولم تمض سوى تسعة عشر عاما أخرى حتى أعلن‬ ‫عن اكتشاف الذهب في أراضي كاليفورنيا‪ ،‬وهي من ضمن مناطق‬ ‫األقليم المخصص للهنود غرب المسيسيبي‪ ،‬فقام البيض باجتياح‬ ‫شامل لتلك المناطق والسيطرة عليها بعد حرب إبادة‪.‬‬ ‫كان الغضب في أوساط الهنود الحمر من تحصيل الحاصل‪،‬فأعلنوا‬ ‫االحتجاج والرفض‪ ..‬وهذا بالضبط ما كان ينتظره الجيش األمريكي‬ ‫لبدء عملية وصفها مؤرخ أمريكي من أصول إيرلندية بأنها بمثابة‬ ‫التدشين الفعلي لمصطلح التطهير العرقي‪ ..‬البد أن ذلك المؤرخ‬ ‫أطلع على األمر العسكري الذي أصدره جنراالت الجيش في ‪1862‬‬ ‫والقاضي بذبح الرجال واألطفال من الذكور الهنود أينما وجدوا‬ ‫واسترقاق النساء‪ ،‬يتحدث الكابتن (نيكوالي هوت) عن معركة شارك‬ ‫فيها ضد قبائل (النافاهو) فيقول‪ :‬كان النافاهو رجاال ونساءا وأطفاال‬ ‫وعجائز يركضون في جميع االتجاهات‪ ،‬بينما كان الجنود يلهبون‬ ‫جماجمهم بالرصاص ويطعنون أجسادهم النحيلة بالحراب‪ ..‬رأيت‬ ‫جنديا ـ يضيف الكابتن نيكوالي هوت ـ في شهادته أمام لجنة استماع‬ ‫‪135‬‬


‫داخل وحدته العسكرية‪ ..‬رأيت جنديا يغتال طفلين وإمرأة فصرخت‬

‫فيه أن يتوقف‪ ،‬فنظر إلي ساخرا قبل أن يجهز عليهم‪.‬‬

‫الميجور (أرثر موريسون) تحدث في شهادته عن الكيفية التى‬

‫تم بها حصر واغتيال زعماء الهنود من قبائل (الميسكاليرو) فقال أن‬

‫الكابتن (جيمس جرايدون) أقنعهم بأنه صديق لهم وقدم إليهم مؤونة‬ ‫كبيرة من لحم البقر المقدد والدقيق وكميات كبيرة من الخمر الذي‬

‫دعاهم الحتسائه نخبا للصداقة‪ ..‬وبعد نحو ثالث ساعات من الوليمة‬ ‫الخمرية أعطى أوامره لجنوده المدججين بالبنادق إفراغ مخازنها في‬

‫أجساد الزعماء وهم يترنحون في آمان وطمأنينة‪.‬‬

‫في مطلع القرن العشرين كان اليهود الذين أضطهدتهم أوروبا‬

‫وروسيا القيصرية يتدفقون بتخطيط «مع األعتذار للذين ال يؤمنون‬

‫بنظرية المؤامرة» من بؤر صهيونية مدعومة من رساميل أوروبية إلى‬ ‫فلسطين‪ ،‬ليقيموا معسكرات زراعية (كيبوتسات)‪ ،‬حيث لم يجد‬

‫العمال الفلسطينيون غضاضة في العمل بها دون أية ريبة أو ضغائن‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫أراض كان يمتلكها أتراك ومقيمين من‬ ‫وبدأ التوسع على حساب‬

‫غير الفلسطينيين‪ ،‬تم بيعها لليهود تحت ضغوط مختلفة‪ ،‬واستمر‬

‫ذلك حتى نهاية الحرب الكونية األولى بانكسار إمبرطورية آل عثمان‬

‫وهزيمة تركيا ووضع فلسطين تحت االنتداب البريطاني الذي لم يتأخر‬ ‫كثيرا في إصدار وعد بلفور‪..‬‬

‫بدأت الحكاية هنا‪ ..‬بالضبط مثلما بدأت هناك!!‬ ‫‪136‬‬


‫فالرقعة التى حددها قرار التقسيم (‪ ).....‬كانت مطوقة بعرب‬ ‫فلسطين من أهل البالد الذين واصلوا حرث أراضيهم وزراعتها‬ ‫حول الصهاينة مناطق إحتاللهم‬ ‫بالطريقة القديمة نفسها‪ ،‬في حين ّ‬ ‫إلى تجمعات إنتاجية تعتمد أحدث وسائل التقنية المتوفرة حينها‪..‬‬ ‫وشكل التدفق المالي من يهود أوروبا وأمريكا خلال آخر فى معادلة‬ ‫الصراع الذي تحول قبل النكبة في ‪ 1948/5/15‬إلى حرب خفية‬ ‫تدعمها بريطانيا لترحيل وتهجير الفلسطينيين عن مناطقهم ومدنهم‬ ‫وقراهم وحقولهم‪ ،‬ودفعهم تحت اإلغراء والتلويح بالتهديد للجوء‬ ‫إلى مناطق في قطاع غزة والضفة الغربية‪ ..‬وفي حالة الرفض نفذ‬ ‫الصهاينة جريمتهم المروعة ضد سكان دير ياسين تحت شعار‪:..‬‬ ‫ترحل أو تذبح!‬ ‫تابعوا ـ إذا شئتم بطبيعة الحال ـ قراءة التفاصيل السابقة بوضع‬ ‫أسماء وتواريخ جديدة‪ ،‬لتكتشفوا أن زعماء الحركة الصهيونية كانوا‬ ‫ينفذون تفاصيل حرب اإلحتالل ضد الهنود الخمر بدقة شبه متناهية‪.‬‬

‫هذه دعوة لقراءة مؤشر األمية في الوطن العربي وفي الكيان‬ ‫الصهيوني وكذا فى مخصصات البحث العلمي هنا وهناك‪ ..‬وفي‬ ‫االنتاج الزراعي والصناعي والتقني والعسكري والمعلوماتي الخ الخ‪.‬‬

‫القراءة تقودنا بالضرورة إذا تحرر العقل إلى فك الطالسم‬ ‫واألحاجي‪ ،‬وإيقاد الشموع للخروج من نفق الجهالة والتخلف‪..‬‬ ‫سعيا فقط الستعادة الكرامة المستباحة‪ ..‬والحق فى الحياة أحرارا‪.‬‬ ‫‪137‬‬



‫دعوة لقراءة ما ال يقر�أ‬ ‫احتاج العالم والعلماء إلى آالف األعوام للوصول إلى اكتشاف‬

‫طبيعة األرض قبل االنتقال إلى البحث عن أسرار الفضاء الخارجي‪،‬‬ ‫وأنفق العالم والعلماء مئات األعوام لمعرفة طبيعة الجسد وتفاصيل‬

‫آلياته وهو يسعى للوصول إلى معرفة تفاصيل وأسرار المخ البشري‪.‬‬ ‫كان الصراع هو المنتج األول (منذ فتك قابيل بأخيه هابيل)‪ ،‬قبل‬

‫أن يصرخ أحدهم وسط تقلبات المناخ‪ :‬هذه أنثاي‪ ،‬وهذا قطيعي‪،‬‬ ‫وهذه أرضي‪ ،‬ليحتدم القتال وتنشأ اإلقطاعيات والكيانات وصوال‬

‫إلى قيام اإلمبرطوريات على صهوات الجياد‪ ،‬تمهيدا لظهور األديان‬ ‫في محاولة لكبح جماح اإلنسان وتهذيبه‪.‬‬

‫القارة العجوز (أوروبا) حصدت فى هذا التاريخ الطويل قصب‬

‫السبق فى نهر الدماء‪ ،‬وختمته بحربين كونيتين قبل أن تتفق على‬

‫االحتكام فقط لصناديق االقتراع وإحالة سفك الدماء لآلخرين وقيامها‬

‫هي بتوفير األداوات لذلك من أسلحة ودسائس‪ .‬ال أحد ينسى الصراع‬ ‫‪139‬‬


‫الطويل الذي خاضته هذه القارة بين شعوبها ودوقياتها وممالكها‬ ‫وإمبرطورياتها في سبيل االستحواذ على النفوذ والهيمنة أو في سبيل‬ ‫تفكيك كيانات أخري وتفتيتها‪.‬‬

‫احتاج العالم إلى مليون سنة للوصول إلى صناعة أسلحة الدمار‬ ‫الشامل‪ ،‬فيما لم يصل حتى اآلن لعالج للرشح والزكام (يقول األنجليز‬ ‫أنك تحتاج الى أسبوع للتخلص من الرشح باستخدام الدواء وإلى‬ ‫سبعة أيام للتخلص منه بدون الحاجة للدواء!!)‪ .‬استطاع الغرب‬ ‫فتح ثغرة كبيرة فى الغالف الجوي (األوزون) مما سبب فى ظهور‬ ‫فيروسات قاتلة وخلخلة مكونات الغذاء وتلويث مصادر المياه‪..‬‬ ‫الخ‪ ،‬من كوارث يتساقط الضحايا فيها خارج منظومة الغرب‪.‬‬

‫الغرب المتحضر الذي أسهم فى بناء الحضارة الحديثة هو أيضا‬ ‫من أنتج‪ :‬كاليغوال‪ ،‬نيرون‪ ،‬هتلر‪ ،‬موسوليني‪ ،‬ساالزار‪ ،‬فرانكو‪.‬‬ ‫وعصابات ال ـ مافيا ـ واأللوية الحمراء‪ ،‬وبادر ماينهوف‪ ،‬ميكافيلي‪،‬‬ ‫مالتوس‪..‬وهذا األخير دعا إلى تقليل عدد سكان األرض للسيطرة‬ ‫على مخزون الغذاء والرفاه‪ ،‬والمستهدف بالفناء بطبيعة الحال هم‬ ‫سكان أفريقيا وآسيا وأمريكا الالتينية‪.‬‬

‫وهذه دعوة لقراءة خريطة األحداث فى العقود التى اعقبت الحرب‬ ‫العالمية الثانية‪ :‬حروب الصراع العربي الصهيوني‪ ،‬حروب جنوب‬ ‫شرق آسيا‪ ،‬الحرب اإليرانية العراقية‪ ،‬مجازر رواندا‪ ،‬مجازر تشيلي‬ ‫وكولومبيا‪ ،‬الحرب األهلية في لبنان‪ ،‬احتالل أفغانستان‪ ،‬أحتالل‬ ‫العراق‪ ،‬تدمير ليبيا‪ ،‬تدمير سوريا‪ ،‬تدمير اليمن‪ ،‬تقسيم السودان‪ ،‬العبث‬ ‫‪140‬‬


‫بأمن مصر وتونس والجزائر ومالي‪ ،‬ظهور داعش وجبهة النصرة من‬ ‫تحت عباءة طالبان والقاعدة‪ ،‬الحوثيون‪ ،‬التالعب باسعار الطاقة‪،‬‬ ‫يبحث علم اإلجرام الجنائي وهو يتفحص أية جريمة عن المستفيد‬ ‫منها‪ ،‬فمن يملك القدرة على البحث عن المستفيد من هذه الجرائم‬ ‫التى تعصف بثالث قارات تمتلك ‪ %80‬من ثروات العالم وال تحصل‬ ‫بالمقابل إال على ‪ %7‬من المكاسب‪..‬؟‬

‫‪141‬‬



‫دعوة لل�ضحك‪..‬‬ ‫أعلنت الصين منذ سنوات (وهي بالمناسبة البلد األكثر تعدادا‬ ‫في الكرة األرضية بمليار ونصف نسمة تقريبا) أنها تخطت حاجز‬ ‫االكتفاء الذاتي من القمح واألرز‪ ..‬وأنها شرعت في تصدير‬ ‫الفائض منها‪.‬‬ ‫وفي برلين عاصمة ألمانيا الموحدة (وهي بالمناسبة أكثر الدول‬ ‫أنهارا في العالم بما يقرب من خمسمائة نهر ونهير ومجرى مائي)‬ ‫بدأت منذ سنوات خطة إلعادة تدوير واستخدام مياه التنظيف المنزلي‬ ‫في الصرف الصحي‪.‬‬ ‫وفي بالد الشمس اليابان (وهي بالمناسبة أكثر الدول عوزا للموارد‬ ‫والمواد الخام الطبيعية) تجاوز الدخل السنوي للمواطن السقف الذي‬ ‫حددته األمم المتحدة للرفاه‪.‬‬ ‫وفي السويد (وهي بالمناسبة أكثر مناطق العالم المأهولة صقيعا‬ ‫وعتمة) حقق اإلنتاج الصناعي فائضا تجاوز المعدالت المستهدفة‪.‬‬ ‫‪143‬‬


‫وفي هولندا (ثالثة أرباع أرضها صناعة هولندية بردم البحيرات‬ ‫والمسطحات المائية وبناء السدود العمالقة في ظروف مناخية‬ ‫عاصفة) يحقق إنتاج الحليب ومشتقاته والزهور دخال يتجاوز ثالثة‬ ‫ارباع التريليون دوالر سنويا‪.‬‬ ‫وفي‪ ..‬هنا وهناك مئات التجارب الناجحة (ماليزيا‪ .‬جنوب كوريا‪.‬‬ ‫إيرلندا‪ .‬البرازيل‪ ..‬مثال)‪ ..‬وأنا هنا ال أتحدث عن معجزات خارقة‬ ‫أو عن كائنات فضائية شاركت في صياغة تلك النجاحات الباهرة‪..‬‬ ‫فالمعجزات الكونية يتم تحقيقها في واقع األمر على هذه الرقعة‬ ‫الهائلة من الشقاء‪ ..‬هذا الوطن الممتد من الماء إلى الماء‪ ..‬من‬ ‫الخليج الخائر إلى المحيط العاثر‪..‬‬

‫تجاوز حجم الديون الخارجية والداخلية للدول العربية (وهي‬ ‫بالمناسبة منتجة فى معظمها للنفط والغاز وتحظى بموقع على ثالث‬ ‫بحار ومحيطين ومناخ تتقاسمه الفصول) خمسمائة مليار دوالر‪.‬‬

‫هذا الوطن الكبير‪ ..‬التاريخي‪ ..‬الواسع‪ ..‬الغني‪ ..‬عجز رغم‬ ‫كل ما يمتلكه من إمكانات أسطورية عن تحقيق التنمية وإشاعة‬ ‫الديمقراطية وتحرير األرض المحتلة هنا وهناك‪ ..‬فهو كما يقول‬ ‫مظفر النواب (سجونا متالصقة‪ ،‬سجان يمسك بيد سجان)‪.‬‬

‫الفساد المالي واإلداري في هذا الوطن الخراب من األمور‬ ‫المألوفة التى ال تستدعي الدهشة‪ ،‬وتقلب المعايير وتسرب العطب‬ ‫لمنظومة القيم صارت بمذاق األشياء المستساغة‪ ..‬دول ودويالت‬ ‫هذا الوطن المأساة محكومة بقوانين استثنائية‪ ..‬قبائل تتنفس هواء‬ ‫‪144‬‬


‫القرن الرابع وتنفثه في القرن الواحد والعشرين‪ ..‬عقلية ريعية‪..‬‬ ‫ال تبتغي سوى الغنيمة ومن بعدها الطوفان‪.‬‬ ‫ذهنيات مفارقة ال تفلح إال في اعادة أنتاج البؤس‪..‬‬

‫والمتتبع لمسلسل التخريب الرهيب الذي يعصف بهذا الوطن‬ ‫اآلن يكتشف أن األمر يستحق هذا الدمار‪ ..‬كل شئ هنا مبني على‬ ‫باطل‪ ..‬والعربدة التى تستبد بالخريطة العربية تؤكد أن الوطن األمة‬ ‫يهرول إلى جذر الحضيض‪ .‬وال جدوى من النصائح والمواعظ فالدم‬ ‫(غطى العين) وليس سوى الزمن هو الكفيل بتعزيز الفرز بين من أوقد‬ ‫معركة غير واجبة ومن أوقد شمعة في هذا الليل البهيم‪.‬‬

‫‪145‬‬



‫�شهقة الغريب‬ ‫بوسعك وأنت ترتدي صباحك أن تبتكر معط ًفا وقبعة‪ ،‬وأن تقترح‬

‫ضي ًفا على فنجان قهوة يقاسمك ذكريات دافئة‪..‬‬

‫بوسعك وأنت تتلفع بالظهيرة أن تتوق لالستلقاء ً‬ ‫قليل وسرج‬ ‫ٍ‬ ‫سهوب هاجرها المطر‪.‬‬ ‫جياد المخيلة ترمح في‬ ‫بوسعك وأنت تهرول لعطر المساءات أن تستريح لغيمة تغادر‪،‬‬

‫وضوء يسطع من بعيد‪ ،‬وترحل في لحن يقودك إلى خمارة يرتادها‬

‫الغرباء‪.‬‬

‫ً‬ ‫صغيرا لليل أن توقد شموعك قبل‬ ‫احتفال‬ ‫بوسعك وأنت تصنع‬ ‫ً‬

‫تصف إسطوانات الموسيقا قرب الجهاز األنيق‬ ‫هطول األصدقاء وأن‬ ‫َّ‬

‫عطرا يجعلك قري ًبا من النافذة‪..‬‬ ‫وأن تشيع ً‬

‫بوسعك وأنت تزخر بحقول اللؤلؤ أن تدرك دالالت االبتهال‬

‫وأن ترى الطريق صوب النهر‪ ..‬وأن تستكين‪.‬‬ ‫‪147‬‬


‫يا الله‪..‬‬ ‫بوسعك وأنت تعانق حاسة الشم‪ ،‬والغبش المقدس ُيغرق أحداقك‬

‫في تفاصيل الخيطين أن ترى ما أنت عليه!!‬ ‫أن تراك رأى العين‪..‬‬

‫بوسعك وأنت تصلي أن تنام وتحلم بالمعارف‪ ..‬أن ترى ما ليس‬

‫ُيرى وأن تجهش بالحنين‬ ‫يا الله‪.‬‬

‫بوسعك وأنت تغترف لذائذ الصهوات أن تتذكر رجفة الصبح‬

‫وأن ترعوي‪..‬‬

‫بوسعك أيها البهي األنيق أن تهتدي إلى عذوبة التواشيح قبل أن‬

‫تعرف فضائل الصمت‪..‬‬ ‫يا الله‪..‬‬

‫بوسعك أيها األنا أن تستمتع باألذان يعلن أن ال أحد في مجال‬

‫الرؤيا سواه‪..‬‬ ‫سبحانه‪..‬‬

‫ً‬ ‫توسل أن تفشي سرك‬ ‫وسيكون بمقدورك وأنت تبسط ذراعيك‬

‫وأن تتعرى‪..‬‬

‫دائما أن تتعرى‪..‬‬ ‫سيكون بوسعك ً‬ ‫‪148‬‬


‫يا الله‪..‬‬ ‫بوسعك أن تتهتك‬

‫وأن ترتجي ً‬ ‫سبيل ال يقود‪ ..‬أن بوسعك أيها المفقود أن تموت‬

‫أو تحيا أو كما تشاء‪ ..‬بوسعك اللقاء والجفاء كما يليق بالعشب أو‬ ‫فداحة التبصر‪..‬‬ ‫يا الله‪..‬‬

‫بمقدورك وأنت ترتب حقائبك أن تنظر للخلف وأن تحزن ً‬ ‫قليل‬

‫وأن تذرف دمعة أو دمعتين‪ ،‬وأن تطلق السالم على الغابرين‪..‬‬

‫بمقدورك وأنت تحزم ما تبقى من تصاوير وعناوين وتنهيدات أن‬ ‫قليل‪ً ..‬‬ ‫تتوقف ً‬ ‫قليل‪ ..‬وأن تتسول فرقة صغيرة من كمنجات يطرحن‬ ‫السنابل مالعب بال ُأفق‪..‬‬ ‫بوسعك أيها المغدور أن ترى قاتلك وهو يرميك بسهمه‪ ،‬والقوس‬

‫صفير وعواء‪ ،‬وأن ترى ما ال ُيرى!!‬ ‫لكأنك أنا‪..‬‬

‫يا الله‪ ..‬يا أيها الحقد‬ ‫«تعب الطين‪ ..‬طينك يا الله»‬ ‫مظفر النواب‬ ‫بوسعك وأنت تستضيق أن ترى‬ ‫‪149‬‬


‫أن الحق‪ ..‬حق‪.‬‬ ‫وما أنت عليه‪..‬‬ ‫أنت تعرف من أنت‪..‬‬

‫‪150‬‬


‫عقول في الغياب‬ ‫اإلحصائيات العلمية التى ال تخضع للتحريف هي المؤشر‬

‫األول على صحة الحالة‪ ..‬الجامعة العربية أصدرت مجموعة من‬

‫اإلحصائيات المفزعة عن ظاهرة هجرة العقول العربية‪ ،‬نستعرض هنا‬

‫أبرزها‪ :‬فالوطن العربي يسهم ب ‪ %1,8‬من هجرة الكفاءات العلمية‬

‫من مجموع الدول النامية‪ ،‬حيث يهاجر ‪ %50‬من األطباء و‪ %23‬من‬ ‫المهندسين و‪ %18‬من العلماء الشباب‪ ..‬أضف إلى ذلك أن ‪ %54‬من‬

‫الطالب العرب الذين يدرسون في الخارج ال يعودون إلى بلدانهم‪..‬‬

‫تضيف اإلحصائيات المريعة أن ‪ 450‬ألف عربي من حملة‬

‫الشهادات العليا يقيمون بصورة دائمة في أوروبا الغربية وأمريكا‬ ‫وكندا‪ ..‬من بينهم ‪ %34‬من مجموع األطباء في المملكة المتحدة‪.‬‬

‫تقول اإلحصائيات أن ‪ %75‬من المهاجرين العرب يتوجهون‬

‫إلى أمريكا وكندا وأوروبا مخلفين بذلك خسائر تصل إلى ‪300‬‬

‫مليار دوالر سنويا‪.‬‬

‫‪151‬‬


‫تجنبت الجامعة العربية مجرد اإلشارة إلى األسباب عن هذا‬ ‫النزيف الرهيب في مخزون القدرات والطاقات العربية الذي يتعرض‬ ‫إلى هدر كارثي ومن بينها‪ :‬ضعف أو انعدام البحث العلمي‪ ،‬وعدم‬ ‫تحديث مناهج التعليم‪ ،‬وغياب الحريات‪ ،‬وانخفاض مستويات‬ ‫الدخل‪ ،‬وتعثر البناء الديمقراطي‪ ،‬الفساد اإلداري والمالي‪ ،‬الخ الخ‬

‫الجامعات العربية تخرج سنويا جيوشا من الموظفين ومن‬ ‫العاطلين عن العمل‪ ..‬الحكومات العربية تخنق فرص العمل لكي‬ ‫تفتح المزيد من السجون والمعتقالت‪ ..‬المواطن العربي يصبح‬ ‫ويمسي وهو يحلم باالنسالخ عن مهانة واقعه ومن إهدار كرامته‬ ‫واستباحة حقوقه‪ ..‬يحلم باالنفكاك عن مجتمعات تخلو من تكافؤ‬ ‫الفرص‪ ..‬يحلم بالفرار من صوته المبحوح ورئته الملوثة وعقله‬ ‫المشوش‪.‬‬ ‫اإلحصائيات التى أصدرتها الجامعة العربية تجنبت أيضا اإلشارة‬ ‫إلى مسؤولية األنظمة العربية عن هذه الجرائم البشعة فى حق األمة‬ ‫وأجيالها الطالعة‪.‬‬

‫اإلحصائيات ال ترفع إصبع اإلتهام في وجه أحد‪ ،‬ولكنها ومن‬ ‫حيث ال تدري تفضح وتعري وتكشف بقسوة رقمية تقول وبشكل‬ ‫شديد الوضوح أن االستعمار واألمبريالية‪ ..‬الخ الخ من مصطلحات‬ ‫اإلذاعات العربية ليست هي المسؤولة عن التجهيل الذي تنفته مناهج‬ ‫التعليم‪ ،‬مثلما ليست مسؤولة أيضا عن تحويل أرصدة البحث العلمي‬ ‫صوب بنود أخرى ال ترضي الله وال ترضي الوطن‪ ..‬هي أيضا ليست‬ ‫‪152‬‬


‫المسؤولة عن غياب الحريات العامة والخاصة أو عن تدني مستويات‬ ‫الدخل وأرتفاع مؤشرات البطالة والجريمة‪ ..‬وهذه هي األسباب‬ ‫الرئيسة التى تقف وراء نزوح العقول العربية‪ ..‬من المسؤول؟! ومتى‬ ‫يتوقف هذا العبث‪..‬؟‬

‫‪153‬‬



‫علبة الهند�سة‬ ‫لعلها المعركة الوحيدة التى ال تسفك فيها الدماء‪ .‬بقدر ما تسمح‬ ‫به فى أحايين كثيرة بتقاسم الغنائم بين الخصوم‪ ،‬توشك وأنت تتابع ما‬ ‫يحدث أن ترى المشاركين وهم يحملون علب الهندسة ويفتحونها‬ ‫أثناء المواجهة ويخرجون ما يناسب خططهم وما تفرضه طبيعة‬ ‫المعركة من مساطر ومثلثات وفرجار ومنقلة‪ ..‬يصنعون من شخبطاتها‬ ‫صيحات تطلقها مدرجات مهرجانية‪ ..‬مثلما بوسعهم صناعة صمت‬ ‫ال تجده إال فى المقابر‪ .‬أثنان وعشرون شيطانا يبتكرون معجزة أن‬ ‫تشبك ذراعك بمرفق البهجة‪ ،‬أن تشعر بالرضا‪ ،‬أو أن تعرف داللة‬ ‫الغم ومعنى تزاحم الهموم‪.‬‬

‫ليس أقل من مليار ونصف من عملة اليورو (فرضتها ألمانيا على‬ ‫شركائها فى القارة العجوز) قبل أن تدفعها إلى سلة الدوالر والين‬ ‫واألسترليني‪ ،‬وتحسبا لليوان الصيني الذي يراقب كصقر يتحين‬ ‫فريسته ويتابع كثعلب ال يزعجه الضوء‪ ..‬وبدرجة أقل الروبل الخجول‬ ‫الذي يحتاج ربما إلى حرب ليخرج عن صمته‪ ..‬مليار ونصف يورو‬ ‫‪155‬‬


‫تتكدس فى مالعب خضراء حين يلتقى منتخبان يطمحان للعودة‬ ‫بكأس جول ريميه‪ ..‬بنك تتقاذفه أقدام ذهبية لساعة ونصف‪ ..‬كل‬ ‫العب يساوى ثروة كفيلة بإنقاذ قرية أفريقية من العطش‪.‬‬

‫إلى جانب مجلس األمن والذي عجز حتى اآلن عن توفير األمن‬ ‫لمن يحتاجه فعال (فلسطين‪ ،‬العراق‪ ،‬أفغانستان‪ ،‬ليبيا‪ ..،‬مثال) هناك‬ ‫االتحاد الدولي لكرة القدم الذي تأسس في ‪ 1904‬كمنظمة «وفقا‬ ‫للقانون السويسري» تهدف كما ينص نظامها الداخلي إلى تطوير‬ ‫لعبة كرة القدم‪.‬‬

‫يحق لمجلس األمن المدجج بمالك النووي أن يحرق‪ ،‬رافعا‬ ‫لواء فصله السابع‪ ،‬األخضر واليابس‪ ..‬كرة القدم تحولت من لعبة‬ ‫تقترح البهجة إلى وزارة سيادية فى حكومة العالم تدس أنفها فى‬ ‫تفاصيل الشؤون الداخلية للدول (الصغرى بطبيعة الحال) رافعة‬ ‫مؤشر أرصدتها إلى أكثر من خمسة مليارات يورو‪ .‬بعد أن حولت‬ ‫الالعبين الى عبيد يباعون ويشترون وحولت ماليين البشر إلى عيون‬ ‫زجاجية تصرخ على المدرجات ومتمرسة وراء الشاشات‪.‬‬ ‫تتذكرون ماذا صنع الساحر األرجنتيني مارادونا بفريقه اإليطالي‬ ‫المغمور وفي منتخب بالده‪ .‬وكيف تم اإلجهاز عليه ألنه طالب‬ ‫بتأسيس نقابة تدافع عن الالعبين المحترفين فى مواجهة أنديتهم‬ ‫والفيفا‪ ..‬حاصرته (المافيا) وأرسلته الى الكارثة‪.‬‬

‫‪156‬‬


‫فائ�ض العربدة‬ ‫تحرص وزارة الدفاع األمريكية (البنتاغون) على التأكيد بمناسبة‬ ‫وبدون مناسبة أن بوسع الواليات المتحدة األمريكية خوض أكثر‬ ‫من حرب في وقت واحد‪ ،‬وتقول وكالة المخابرات المركزية‬ ‫(سي آي آ) أنه بمقدورها معرفة تفاصيل العالقات الحميمة بين‬ ‫عائالت النمل!!‪ ..‬وتقول وسائل األعالم األمريكية أن النموذج‬ ‫األمريكي هو األفضل‪ ..‬تقول أمريكا أشياء كثيرة في هذا الصدد‪..‬‬ ‫حتى تكاد تجاهر بقدرتها على ضبط إيقاع التنفس (الشهيق والزفير)‬ ‫لدى البشر‪ ،‬وفرز زفرة الحنق من تأوه المريض من لوعة العاشق!!‪..‬‬ ‫ال تكترث أمريكا بردود أفعال اآلخرين‪ ..‬وظلت منذ خروجها من‬ ‫مجالها الحيوي األطلنطي تعلن سرا وجهرا أن من ليس معها فهو‬ ‫ضدها‪ ..‬جميع سكان المعمورة يعلمون يقينا أن الفيتنام مثال لم تعلن‬ ‫الحرب على أمريكا‪ ..‬ولم يقل أي من قادتها أنهم ضد أمريكا أو‬ ‫معها‪ ..‬كان الشعب الفيتنامي يرمي شتالت األرز في سهوب أرضه‬ ‫ومتدرجاتها الخصبة ويمارس عاداته في المسامرة بطرح األلغاز‬ ‫‪157‬‬


‫الشعرية حين باغتتهم األلة الجهنمية (ب ‪ )52‬تقذف حممها القاتلة‬ ‫فتدمر وتحرق البشر واألكواخ والزرع‪.‬‬

‫لم تقل شعوب كوريا والوس وكمبوديا والفلبين أنها تكره أمريكا‬ ‫أو قللت من شأن جيوشها وأجهزة مخابراتها أو عملتها األسطورية أو‬ ‫السخرية من وسائل اعالمها‪ ..‬كما لم تشكك في مذاق مشروباتها أو‬ ‫ألوان أقالمها أو فنونها‪ ..‬كانت شرائح واسعة من شعوب تلك المنطقة‬ ‫تجهل وجود هذه األمريكا أصال‪ ..‬اللهم إال ما أختزنته ذاكرة البعض‬ ‫عن حرب اإلبادة ضد أمة الهنود الحمر‪ . ..‬غير أن ذلك لم يدفع أمريكا‬ ‫إلى الصفح عنهم وأن تغفر لهم‪..‬‬

‫لم تقل أمريكا التى تتفاخر بأجهزة استخباراتها كيف عجزت هذه‬ ‫الوكاالت األخطبوطية في تقدير حالة االتحاد السوفياتي العدو الرئيسي‬ ‫السابق عشية عقد التسعينيات من القرن الماضي والقطع بانهياره‬ ‫وتفككه!! واعترفت السي آي آ‪ ..‬بذلك التقصير‪ . ..‬وهي التى عجزت‬ ‫أيضا عن تقدير حالة أمبرطورية الشاه فى مطلع العام ‪ 1979‬ولم تتوقع‬ ‫سقوطه بهذه الطريقة التى عصفت بعرشه‪ ..‬واعترفت السي آي آ بذلك‬ ‫التقصير‪ ...‬وهي التى عجزت أيضا في العصور على غرام واحد من‬ ‫مكونات اسلحة الدمار الشامل التى شكلت الذريعة للعدوان على‬ ‫العراق وأحتالله‪..‬اوباما أعترف منذ يومين بتقصير الوكالة وتقليلها‬ ‫من شأن خطر داعش‪ ..‬أمريكا التى شنت حربها الكاملة على حفاة‬ ‫األفغان المسلحين بأسلحة بدائية أمام األلة الحربية األمريكية خاضت‬ ‫في الوقت نفسه حربا على العراق مثلما تفعل اآلن في سوريا والعراق‪..‬‬ ‫‪158‬‬


‫أمريكا التى بوسعها خوض حربين في وقت واحد لم تتجرأ على‬ ‫شمال كوريا أو أيران‪ ..‬وسخرت كل تشدقها المخلبي ضد الضعفاء‪..‬‬ ‫سالم أمريكا األقوى هو الخوف والتخويف والترويع والترهيب‬ ‫والتفزيع بعصاة طويلة وعصا الجبان دائما طويلة‪ ..‬احتلت العراق‬ ‫في ‪ 2003‬وصدعت العالم بنيتها نقله إلى التحضر والرفاه‪ ..‬وعادت‬ ‫اآلن إلى نفس البلد الذي دخل منذ األحتالل الى دهليز معتم ما زال‬ ‫يتخبط داخله حتى اآلن‪ ..‬أمريكا التى تلعب في اليمن وسوريا والعراق‬ ‫وليبيا وفي البحار التى تطل على بلداننا‪ ..‬تقدم رجل وتوخر عشرة‬ ‫أمام ما يحدث في أوكرانيا‪..‬‬

‫أمريكا أقرب إلى شركة عمالقة آمنت بأن تسويق ما لديها يحتاج‬ ‫الى أنياب ومخالب وفحيح‪ ..‬وهي اآلن في طور التراجع أمام‬ ‫ما يشهده العالم من حراك وظهور قوى وأختفاء أخرى‪ ..‬العالم‬ ‫يراقب هذا الكيان وهو ينخره السوس وتعربد في جثته الديدان‪..‬‬ ‫العالم يدرك أن سقوط أمريكا (فقدان مقعد القطب األوحد) سوف‬ ‫ينعكس على كل سنتيمتر على الكرة األرضية‪ ،‬فأمريكا فيروس تسلل‬ ‫الى مفاصل الكوكب وتمكن من زرع قنابل تتفجر وهو يغادرذلك‬ ‫المقعد‪ ..‬العالم مصاب بأمريكا‪ ..‬وباء عام‪..‬يحتاج للشفاء منه لالتفاق‬ ‫ثم االتفاق على مواجهته‪.‬‬ ‫أوال على وجوده ومن َ‬

‫‪159‬‬



‫فو�ضى الخالفة‬ ‫تصريحات السفيرة األمريكية في طرابلس التى أدلت بها‬ ‫لقناة سكاي نيوز في العاشر من أغسطس الجاري «‪ »2014‬تثير‬ ‫جملة من المالحظات بقدر ما تثير عاصفة من الضباب عن الدور‬ ‫األمريكي على الساحة الليبية‪ ،‬تحدثت السفيرة ديبورا جونز عن‬ ‫استحالة التدخل العسكري بتأكيدها أن ذلك سيكون ممكنا فى‬ ‫حالة واحدة وهي اإلجماع الكامل من الشعب الليبي‪ ،‬ولم تشر‬ ‫هنا إلى مجلس النواب باعتباره ممثال للشعب ولكن ألمحت إلى‬ ‫المكونات األجتماعية والمليشيات‪ ،‬وهو ما تعرف هي شخصيا‬ ‫أكثر من غيرها أنه سيكون ممكنا إذا عثرأحد صيادي القوارب‬ ‫على شص صنارته الضائع في أعماق المحيط األطلسي‪ ..‬تحدثت‬ ‫أيضا على أن تفريغ البعثة األمريكية في ليبيا من جميع الموظفين‬ ‫األمريكيين هو مجرد تراجع مؤقت كما وصفته وأن فريقا من‬ ‫الموظفين قد يتم إرساله إلى مالطا وتونس لمتابعة العمل من‬ ‫هناك‪ ،‬وأنها ألتقت في واشنطن برئيس الوزراء ووزير الخارجية‬ ‫‪161‬‬


‫أثناء مشاركتهما فى القمة األفريقية األمريكية وتناقشت معهما‬ ‫فى أساليب وآليات العمل على بناء المؤسسات الحكومية الخ‬ ‫الخ وكأن ليبيا ال تعاني إال من هذه المسألة‪..‬لم تعلن ديبورا جونز‬ ‫موقفا واحدا مما يحدث اللهم إال اقتراحها بإدماج أفراد وعناصر‬ ‫المليشيات فى أجهزة األمن!! وهنا نعرف نحن جميعا أنها تعرف‬ ‫تماما أن الكثير من قادة وعناصر تلك المليشيات هم من خريجي‬ ‫السجون الجنائية ومن الذين تحفل ملفات النيابة بجرائمهم السابقة‬ ‫عن فبراير ‪.2011‬واآلخرين هم من الذين يقصفون المدن والمدنيين‬ ‫وال يبنون إال المقابر منذ ثالث سنوات‪.‬‬ ‫ومن يقرأ التصريحات التى تصدر أيضا عن القادة األوربيين‬ ‫سيجد دون كبير عناء أنها ال تختلف عن تلك التى أدلت بها السفيرة‬ ‫األمريكية‪ ،‬وهي جميعها تصب في خانة (فخار يكسر بعضه) وأن‬ ‫القرارين ‪ 1973/1970‬كانا يخصان منع الطيران ومنع استيراد‬ ‫األسلحة للنظام السابق ومالحقة معمر القذافي وأبنائه وبعض رفاقه‬ ‫والمسؤولين السابقين‪ ،‬وان هذا األمركما قالت جونزيخص مجلس‬ ‫األمن وليس أمريكا!!‬

‫مذكرات هيالري كلينتون وزيرة الخارجية السابقة كشفت أن‬ ‫أمريكا هي من صنع داعش‪ ..‬وطالب السنة األولى في كليات‬ ‫الدراسات السياسية واالقتصادية في جميع جامعات العالم يعرفون‬ ‫تماما أن واشنطن هي أيضا من صنع (القاعدة)‪ ..‬ويعرفون أيضا‬ ‫أن كونداليزا رايس مستشار األمن القومي األمريكي السابقة هي‬ ‫‪162‬‬


‫من روج للفوضى الخالقة التى ستنقل الدول العربية من منافي‬ ‫االستبداد إلى مناخات الربيع الديمقراطي‪ ..‬مثلما يعرفون أن‬ ‫واشنطن بدأت إتصاالتها الرسمية مع جماعة األخوان المسلمين‬ ‫مباشرة عقب انهيار البرجين في نيويورك ‪ 2001/9/11‬وأتفقت‬ ‫معها على تسليمها السلطة فى ‪ .2016‬ويعرف من يتابع منهم‬ ‫األحداث أن واشنطن ال ترى فى داعش التى تحارب في سوريا‬ ‫نفس داعش التى تقترب من أربيل في العراق‪ ..‬ويعرفون كلهم أن‬ ‫واشنطن هي الالعب الرئيس وراء ستارة العراب القطري والعراب‬ ‫التركي وهما يعبثان بتفاصيل النسيج الليبي والسوري والعراقي‪..‬‬ ‫ويعرفون بعض مالمح الضغط األمريكي على مصر والجزائر‬ ‫لمنعهما من تقديم يد العون للجيش الليبي في محاربته لإلرهاب‬ ‫التكفيري في بنغازي وطرابلس‪ ..‬يعرفون أن واشنطن ترغب في‬ ‫إزعاج دائم لمصر والجزائر انطالقا من حدودهما مع ليبيا ومراقبة‬ ‫بؤر التوتر فى المستعمرات الفرنسية في افريقيا‪.‬‬ ‫الفوضى الخالقة التى بشرت بها واشنطن شعوب المنطقة أفرزت‬ ‫فوضى الخالفة‪ ..‬وأكدت حقيقة أن المتغطي باألمريكان عريان‪ ..‬وأن‬ ‫ليبيا لن تعثر على مفاتيح الحل للمختنق الرهيب الذي يعصف بها‬ ‫في دهاليز الخارجية االمريكية أو غيرها من دهاليز هنا وهناك وأن‬ ‫الحل موجود في ليبيا ولن يكون بأيدي غير ليبية‪ ،‬وأنا هنا أعني الحل‬ ‫الوطني الذي يؤسس لدولة مدنية ديمقراطية تكفل حق المواطنة‬ ‫لجميع أبنائها على أساس تكافؤ الفرص واإلتفاق على االكتفاء من‬ ‫‪163‬‬


‫التناحر الدموي ونقل حق االختالف إلى مرتبة االعتناق الجمعي‬ ‫في سياقاته المعروفة‪.‬‬ ‫لن يقبل الليبيون أن تحكمهم مدينة أو قبيلة أو فرد‪ ..‬لن يحدث‬ ‫هذا على األطالق‪ .‬ومن يحاول لن يحصل إال على الخذالن‪.‬‬

‫‪164‬‬


‫في الم�صطلح‬ ‫يعتقد الكثير من الناس أن الثقافة هي األدب‪ ،‬وأن المثقف‪ ،‬بالتالي‪،‬‬

‫البد أن يكون أدي ًبا؛ وهذا الرأي غير الصائب بطبيعة الحال يشبه‬

‫العاشق‪ ،‬وهو يصف محبوبته بأنها كالشمس أو القمر‪ ،‬وأن باقي‬

‫بنات حواء مجرد قناديل!!‬

‫الثقافة منظومة من المكونات‪ ،‬من بينها األدب؛ وثقافة أي شعب‬

‫تتضافر فيها مكونات أنتجها تاريخ االجتماع الطويل وما شهده من‬

‫تفاعل على المستويات االجتماعية واالقتصادية «طبيعة اإلنتاج»‪،‬‬

‫والسياسة «طبيعة الحكم» وما أفرزه ذلك التفاعل من فنون «الشعر‪،‬‬ ‫المسرح‪ ،‬التشكيل‪ ،‬الموسيقى‪ ...،‬إلخ»؛ فالعرب ً‬ ‫مثل كانوا يعيشون‬ ‫قبل البعثة المحمدية حياة البداوة التى فرضت ـ بالضرورة ـ ثقافة‬

‫منظومة القيم البدوية التي تحكم العالقات القبلية الضاغطة في أحد‬

‫مستوياتها على أفراد القبيلة‪ ..‬كان الشعر هو فرس العرب في مضمار‬

‫ثقافة البداوة بعد البعثة وتأسيس الدولة القومية األولى في تاريخ‬ ‫‪165‬‬


‫المسلمين على أيدي األمويين في دمشق واالختالط بالفرس والروم‪،‬‬ ‫واالنفتاح على ثقافات اإلغريق والهند؛ ظهر جنين الفلسفة اإلسالمية‬ ‫في علم الكالم وبروز فرق إخوان الصفا‪ ،‬وخالن الوفاء والمعتزلة‪،‬‬ ‫وقبلهم الخوارج‪ ،‬وإنشقاقاتهم المحمولة على قراءات متطرفة للنص‬ ‫المقدسي‪ ،‬وما شكلته تلك القراءات من إضافة لموسوعة الثقافة‬ ‫الجديدة التي بدأت تطرح عباءتها على مساحة هائلة من األرض‬ ‫الناطقة بالضاد‪.‬‬ ‫العرب‪ ،‬وهم يش ّيعون جثمان اإلمبراطورية الفارسية‪،‬‬ ‫لم يشعر‬ ‫ُ‬ ‫باالستعالء على الفرس بالنص القرآني المقدسي الذي يحملونه‬ ‫معهم؛ وثان ًيا‪ ،‬بالنصر الذي حققه الحفاة من الرعاة وحراس القوافل‬ ‫على جحافل رستم ونشروان المدججة بالتاريخ‪ ..‬كما لم يشعروا‬ ‫بالدونية‪ ،‬وهم يدخلون المدن العظيمة والقصور الفخمة‪ ،‬ويقفون‬ ‫على معاني الرفاه والثراء والتنوع‪.‬‬

‫كان المعتزلة هم مثقفو تلك المرحلة بإطروحاتهم الفكرية التي‬ ‫اعتنقها الخليفة المثقف المأمون‪ ،‬وفرضها على الدولة‪ ،‬وخاض‬ ‫معهم معركة خلق القرآن ضد الحنابلة‪ ،‬وقيام المأمون بسجن‬ ‫اإلمام ابن حنبل؛ وهناك من يقول أنه جلده بالسوط في مجلسه‬ ‫وسط حاشيته‪ ..‬كان المأمون هو نفسه يزن التراجم بالذهب؛ وإذا‬ ‫تخيلنا نوعية الورق في تلك األيام وثقل أصباغ الحبر وجلد الغالف‬ ‫والخيط الذي يربطه‪ ،‬سنعرف تقدير قيمة األموال التي ينفقها الخليفة‬ ‫المستنير على المعرفة‪.‬‬ ‫‪166‬‬


‫كان باب االجتهاد قد أشرع بواباته أمام قوافل من الباحثين في‬

‫الفكر اإلنساني‪ ،‬وربحت العلوم في الطب والرياضيات والكيمياء‬

‫أرضا جديدة‪ ،‬عزز امتدادها وتجذرها‬ ‫والفلك والبحر واللغة ً‬ ‫االنفتاح واعتماد الحوار‪ ،‬واإلتفاق على احترام حق االختالف؛‬ ‫وهو ما جعل الجرأة في تناول أدق الموضوعات‪ ،‬ومن بينها ً‬ ‫مثل‪،‬‬

‫طرحهم لسؤال‪ :‬هل الله ظالم؟!! وهل يمكن أن يضطر للظلم؟!‬

‫وألن اإلجابة ستكون ال بالقطع؛ فالحق تبارك وتعالى العادل‬ ‫الذي ال يظلم إطال ًقا سبحانه‪ ..‬يقول المعتزلة‪ :‬إ ًذا الله ليس على‬ ‫كل شيء قدير!!‬

‫احتاجت اإلجابة على هذا الطرح إلى زمن طويل ظهر فيه اإلمام‬

‫أبو حامد الغزالي ليرد بالفرق بين القدرة واإلرادة؛ فالله يقدر على‬

‫الظلم كأي شيء آخر‪ ،‬لكنه ال يريد أن يظلم‪.‬‬

‫غلق باب االجتهاد وتكفير من يتعاطاه؛ كان أحد إنجازات الخالفة‬ ‫ً‬ ‫وصول إلى‬ ‫العثمانية‪ ،‬وكان السبب الرئيس في تقييد حرية الفكر‪،‬‬

‫تجميده‪ ،‬وتحويل الناس إلى كائنات كسولة سلبية متخاذلة‪.‬‬

‫غلق باب االجتهاد‪ ..‬كان المتدفق أكثر شراسة على المكونات‬

‫الثقافية التي بدأ العرب في امتالكها بعد قيام الدولة‪ ..‬لم تكن صلبة‬

‫وقوية لمواجهة الظالم العثماني؛ استسلمت كشاة ذبيحة‪.‬‬

‫متوفرا على الدوام؛ وشكّل‬ ‫كان األدب‪ ،‬والذي تنوعت أجناسه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫محطات مهمة في مفاصل الثقافة العربية‪.‬‬ ‫‪167‬‬


‫االنحياز للحرية‪ ،‬هو القاطرة التي صنعت الحضارة في أوروبا‬ ‫وأمريكا واليابان والهند‪..‬‬

‫حق إلهي‬ ‫الحرية هي األم الشرعية للعلم‪ .‬وحرية أن يفكر إنسان ٌ‬ ‫ال يحجبه إال مستبد‪.‬‬

‫‪168‬‬


‫في الهوية‬ ‫عرف العرب الترجمة منذ أكثر من ألف ومائتي عام‪ ،‬وكان الخليفة‬

‫العباسي المثقف المأمون يزن مخطوطات الوراقين المترجمة عن‬

‫اليونانية والهندية والفارسية والسريانية بالذهب‪ ..‬كان العرب في‬

‫تلك األزمنة يقرأون بعيون مفتوحة وعقول واعية مجادلة‪ ،‬وذائقة‬

‫تستنطق النصوص المترجمة بأحترام‪ ..‬كان العرب في تلك األزمنة‬

‫يصوغون هويتهم القومية بتعزيز االنفتاح األيجابي‪ ،‬ويتعاملون مع‬ ‫اآلخر بمساواة ممتلئة باألعتداد والعزة‪.‬‬

‫في بداية عصور األنحطاط العربي التقطت أوروبا شروحات‬

‫ابن رشد وتفاسيره المدهشة للعوالم األرسطية‪ ،‬قامت بترجمتها‬

‫وأسست على محاورها قواعد نهضتها‪ ،‬فيما كان العرب يضرمون‬

‫النار فى نفس تلك الشروحات والتفاسير وتكفير صاحبها ومطاردته‬

‫كأنه مجرم‪ ..‬أو وباء‪.‬‬

‫وتحول الخلفاء من الفتح إلى حروب ومالحقات دموية للمناوئين‬ ‫‪169‬‬


‫لسلطانهم‪ ،‬شملت المثقفين الذين أتهمهم السلطان الجائر بأعمال‬ ‫العقل ووجه اليهم التهمة الجاهزة وهي الفتنة وتحريض العامة‬ ‫والزندقة‪ ..‬الحق الخلفاء عقول األمة من كتاب وفالسفة وشعراء‪،‬‬ ‫وتفنن الجالدون فى قتلهم بعد تعذيب وحشي يكشف مدى الشر‬ ‫الذي يستحوذ على الحاكم ومن حوله‪ ،‬وهكذا قتل أبن المقفع‬ ‫والسهروردي وبشار وعبد الحميد الكاتب وأبن مقلة ومات العالمة‬ ‫الموسوعي ابي حيان التوحيدي جوعا‪ ،‬ومات ابي العالء قهرا‪ ،‬ومئات‬ ‫أخرون من أنضج عقول األمة ومبدعيها‪.‬‬ ‫كانت الهوية العربية فى العصر العباسي الثانى (‪ 847‬م) قد تأكد‬ ‫اختراقها من الشعوبيين الرافضين للهيمنة العربية على أدارة الخالفة‬ ‫وجهزوا المكان للطورانيين الذين رأوا األنتقال من على صهوات‬ ‫الجياد الى مخادع القصور هي الخطوة األولى التى باتوا يحلمون‬ ‫بها بعد أستحواذهم على مقاليد الحياة السياسية واالقتصادية في‬ ‫بغداد‪ ،‬قبل نقل مقر الخالفة الى األستانة وبداية الخالفة العثمانية‬ ‫على أنقاض السيادة العربية‪.‬‬

‫توقفت حركة الترجمة المدعومة من السلطة ألسباب أهمها في‬ ‫تقديري هو الخلل الذي أصاب روح الهوية التى الذت باالنعزال‬ ‫والتقوقع في مواجهة تقدم اآلخرين‪ ..‬كانت التحديات قد بدأت فى‬ ‫التموضع والتمظهر‪ ،‬ولكن االستجابة كانت ضعيفة ورخوة‪.‬‬ ‫يترجم العرب اآلن للثرثرة ولتعزيز االستالب‪ ..‬ويدركون‬ ‫وهم يلوكون الكالم ويجترون المصطلحات أن ناقل الصوت‬ ‫‪170‬‬


‫معطوب وأن المتلقين الذين يهزون روؤسهم إنما يضحكون ومنهم‬ ‫يسخرون‪.‬‬

‫الهوية العربية (االنتماء الحصاري) مطعونة في فلسطين‪ ..‬الهوية‬ ‫العربية مصابة في مقتل‪ ..‬اإلحتالالت حتى االستيطانية منها في‬ ‫الجزائر وليبيا وحتى العراق طارئة ومؤقتة‪ ،‬لكن ما يحدث في فلسطين‬ ‫ومنذ أكثر من ستين عاما هو أحد األسباب الرئيسة فى معاناة الهوية‬ ‫العربية‪ ،‬التى ال يمكن لها بأي حال استعادة عافيتها قبل استرجاع‬ ‫فلسطين كاملة ألهلها من العرب بأطيافهم الدينية والثقافية كافة‬ ‫(مسلمون ومسيحيون ويهود)‪.‬‬ ‫فلسطين بوصلة الهوية العربية‪ ،‬ولن يكتب لألمة أن تفك شفرة‬ ‫التخلف والتشرذم قبل وقف المهزلة التى تتم يوميا ومنذ ستة عقود‬ ‫فى مدن وقرى فلسطين‪.‬‬

‫‪171‬‬



‫فيلم �أمريكي طويل)*(‬

‫جاء شتاء العام ‪ 1979‬قاسيا على أفغانستان‪ ،‬حيث تهاطلت الثلوج‬ ‫بغزارة ثقيلة لم تعرفها البالد منذ عقود‪ ،‬متزامنة مع نجاح خطة أمريكية سرية‬ ‫الستدراج الدب الروسي إلى المستنقع األفغاني المجاور للمياه الدافئة‬ ‫التى يحلم الروس منذ رحيل القياصرة ‪ 1917‬بالسيطرة عليها اقترابا من‬ ‫تحقيق مشروع أوراسيا «أوروبا وآسيا» فى مواجهة المشروع الرأسمالي‪.‬‬ ‫وقف زبينغيو بريجنسكي مستشار مجلس األمن القومي األمريكي‬ ‫فى إدارة جيمي كارتر في مطلع العام ‪ 1980‬يذرف الدموع فى بيشاور‬ ‫الباكستانية (كان يحكم الباكستان حينذاك الجنرال ضياء الحق) وهو يسرح‬ ‫البصر على أمتداد حدودها مع أفغانستان معربا عن شديد تأثره البالغ‬ ‫لمعاناة الشعب األفغاني المسلم تحت األحتالل السوفياتي األلحادي‪..‬‬ ‫وتحدث عن اإلسالم وكأنه أمام مسجد وعن المسلمين وكأنه من أحفاد‬ ‫صالح الدين‪.‬‬ ‫)*( فيلم أمريكي طويل‪ :‬مسرحية للفنان زياد رحباني‪.‬‬ ‫‪173‬‬


‫في السابع من مايو ‪ 1250‬رحل الملك (لويس التاسع)‪ ..‬رحل‬ ‫من ميناء دمياط بعد شهر من االعتقال بدار إبن لقمان بالمنصورة‬ ‫عقب خسارته الحربية على ضفافها‪ .‬وبعد تقديم فدية ضخمة له‬ ‫ولزوجته وأبنه الذي ولد أثناء االعتقال ولجنده تقدر بعشرة ماليين‬ ‫من الفرنكات الفرنسية‪ ،‬أتاحت له فترة االعتقال التفكير العميق‬ ‫في أسباب الهزيمة التى مني بها‪ ،‬وخلص الملك إلى تعليقات‬ ‫عرفت بوصية لويس التاسع منها على سبيل المثال ما نصه «إذا‬ ‫أردتم أن تهزموا المسلمين فال تقاتلوهم بالسالح وحده‪ ،‬فقد‬ ‫هزمتم أمامهم في معركة السالح‪ .‬ولكن حاربوهم في عقيدتهم‬ ‫فهي مكمن قوتهم»‪.‬‬

‫أدعو القارئ الكريم إلى التفاعل معي فى ربط األحداث ولضم‬ ‫مفاصلها وصوال إلى قراءة مشتركة تقودنا إلى بناء وعي ال يتوكأ فقط‬ ‫على االعتقاد بنظرية (المؤامرة) ولكن لمواجهتها معرفيا وتأسيس‬ ‫ما يمكن وصفه بمصفحات الهوية التى ال تحتقر اآلخر وال تستجيب‬ ‫لضغوطه السياسية واالقتصادية الخ‪ ..‬هوية منفتحة بقدر اعتزازها‬ ‫بمكونها المرجعي‪ .‬وأتابع معك أيها القارئ الكريم‪..‬‬

‫قليلة هي الكتب والمتابعات التى خصصت للبحث فى كنه وماهية‬ ‫(نادي بيلدربيرغ) وهو أحد المراكز المغلقة التى تبحث بشكل سري‬ ‫تما ًما فى شؤون العالم؛ من بين هذه الكتب ما أصدره األمريكي‬ ‫دانييل إستولين فى النصف األول من األلفية الثالثة (القصة الحقيقية‬ ‫لنادي بيلدربيرغ) وأردفه بالكتاب الثاني (أسرار نادي بيلدربيرغ)‪..‬‬ ‫‪174‬‬


‫ويخلص الكاتب فى متابعاته إلى أن النادي وألكثر من «خمسين عاما‬ ‫من األجتماعات ـ يعقد أجتماعا سنويا ويمكن اجتماعين اضطرارا ـ‬ ‫ولم يحصل أن تسربت ولو معلومة واحدة حول المواضيع والقرارات‬ ‫التى جرى أتخاذها‪ .‬ولكن المراقب لألحداث وتطورها عقب كل‬ ‫أجتماع يقود دائما لالستنتاج الذي ثبتت صحته فى معظم األحيان»‪..‬‬ ‫ومنذ فترة أنشأ النادي موقعا على الشبكة العنكبوتية يجمل بعض‬ ‫المواضيع التى يستعرضها في لقاءاته‪ ..‬ومن بينها الديمقراطية في‬ ‫الشرق األوسط‪ ،‬والتحديات الداخلية فى الصين‪ ،‬االقتصاديات‬ ‫الطالعة بين المسؤليات والوظائف‪ ،‬التطور التقني في االقتصاد‬ ‫الغربي‪ ،‬جمود أو وعود‪ ،‬تحديات األتحاد األوروبي‪ ،‬روسيا بوتين‪..‬‬ ‫عودة القلق‪.‬‬ ‫يتشكل أعضاء النادي من بعض رؤساء الدول (في أوروبا وأمريكا‬ ‫الشمالية) وبعض رؤساء الوزارات ووزراء المالية واألقتصاد ورؤساء‬ ‫الشركات والمصارف العمالقة وعدد من الجنراالت والخبراء‬ ‫واألختصاصيين فى مجاالت مختلفة‪ ،‬وهو حكر على األوربيين‬ ‫واألمريكان فقط‪ ..‬وفي ‪ 1973‬أعلن رئيس مصرف تشيس مانهاتن‬ ‫ديفيد روكلفر‪ ،‬باستشارة ضاغطة زبينغيو بريجنسكي‪ ،‬عن تشكيل‬ ‫ما يعرف بـ«اللجنة الثالثية» ـ أمريكا‪ ،‬أوروبا‪ ،‬اليابان ـ وحدد‬ ‫بريجنسكي أهداف اللجنة بأنها في تنفيذ خطط وبرامج «مجلس‬ ‫العالقات الخارجية األمريكي» لخلق الحكومة العالمية الموحدة‬ ‫أو ما أصطلح على تسمية جنينه الفكري بالعولمة‪ ..‬ويقول فى هذا‬ ‫‪175‬‬


‫الصدد في كتابه «دور أمريكا في عصر التكنولوجيا األلكترونية»‪:‬‬ ‫أن إعالن سيادة السلطة القومية لم يعد مفهوما أو مقبوال‪ ،‬التحرك‬ ‫صوب مجتمع أكبر من قبل األمم المتطورة والمتقدمة‪ ،‬من خالل‬ ‫عدد من الروابط غير المباشرة باإلضافة إلى تجديدات متطورة تتسق‬ ‫مع السيادة القومية‪ ..‬وبالرغم من أن هدف تشكيل مجتمع من األمم‬ ‫المتقدمة هو أقل طموحا من هدف الحكومة العالمية الموحدة ولكنه‬ ‫األكثر امكانية‪.‬‬

‫كان بريجنسكي يقول دائما بعدم جدوى الحرب المباشرة مع‬ ‫السوفيات الذين يعتبرهم العدو األول للغرب‪ .‬وقام بالتنظير فى‬ ‫المواجهة إلى خلق تحديات تواجه الدب الروسي على األطراف وأن‬ ‫تكتفى أمريكا بالدعم اللوجستي والسياسي واألعالمي وهي جالسة‬ ‫على مقاعد المتفرجين‪ ،‬كان يدرك أن الروس هم من صد أكبر ثالث‬ ‫موجات تدميرية (التتار‪ ،‬نابليون‪ ،‬هتلر) وأن أية حرب مباشرة معهم‬ ‫ستكبد الطرف اآلخر خسائر ال يمكن تحديد أرقامها الفلكية‪ ..‬ومن‬ ‫هنا بدأ االستدراج إلى جبال كابول وكهوف قندهار وأنفاق تورا بورا‬ ‫ليبدأ مسلسل التراجع االنهياري فى إتحاد الجمهوريات السوفياتية‪.‬‬ ‫مباشرة تحول النظام العلماني فى إيران إلى نظام أسالمي‪ .‬ونجحت‬ ‫خطة استدراج صدام حسين للصدام مع النظام الجديد فى طهران‪،‬‬ ‫وقبلها أتفاقية كامب ديفيد وتسهيل السادات للجماعات األسالمية‬ ‫الخروج من الظالم إلى النور لمساعدته فى أجتثاث الناصريين واليسار‬ ‫بوجه عام وأنتهت بمصرعه على أيدى من أطلقهم على‬ ‫‪176‬‬


‫الناس‪ ..‬خروج السوفيات من أفغانستان (‪ )1989-1988‬كان‬ ‫األب الشرعي لظهور نقابة تضامن البولندية التى قادها عامل الكهرباء‬ ‫ليخ فاونسا فى ميناء غدانسك البولندي ونجاحها في إسقاط حكم‬ ‫حزب (العمال)‪ ،‬لتكر السبحة في باقي دول المنظومة الشرقية‬ ‫وتتداعى للسقوط فى تمظهر عصري للعبة الدومينو‪.‬‬

‫كان بريجنسكي من األعضاء الفاعلين فى نادي بيلدربيرغ ومن‬ ‫المؤسسين للجنة الثالثية التى نحتت مصطلح الفوضى الخالقة الذي‬ ‫سوقته كونداليزا رايس فى ‪ 2005‬بهدف إشاعة الديمقراطية وحقوق‬ ‫األنسان الخ الخ من شعارات‪ ..‬عملت الواليات المتحدة عبر شبكة‬ ‫منظمات التدريب على تأمين مجموعات كبيرة من شباب الوطن‬ ‫العربي للحصول على تدريب ٍ‬ ‫كاف لمواجهة االستبداد وتكريس‬ ‫الديمقراطية وهو ما أنتج ما يعرف بالربيع العربي‪.‬‬ ‫كان «نادي بليدربيرغ» و«اللجنة الثالثية» بمثابة الحاضنة أو لعله‬ ‫الجنين الذي خلق بعد ظهور مجموعات مماثلة تحظى هي األخري‬ ‫بجدران من السرية‪ ،‬ما يعرف بحركة (المحافظون الجدد) التى‬ ‫تشكلت في نهاية العقد الثامن من القرن الماضي بشكل سري‪،‬‬ ‫سرعان ما ظهر عالنية بعد سيطرته الكاملة على حكومة الواليات‬ ‫المتحدة األمريكية في بوش األب وبوش األبن‪.‬‬

‫رفعت الحركة الجديدة شعارات‪ :‬العولمة والليبرالية والديمقراطية‬ ‫وحقوق اإلنسان وتقرير المصير والجندر‪ ..‬الخ من مفردات تم‬ ‫تسويقها على نطاق واسع وبوسائل اإلعالم والدعاية كافة‪ ،‬فضال‬ ‫‪177‬‬


‫عن فتح مراكز تدريب للفئات العمرية ما بين (‪ )30-18‬من الشباب‬ ‫العربي واألفريقي واآلسيوي‪ ،‬يتلقون خاللها سلسلة من المحاضرات‬ ‫عن تلك الشعارات وكيفية تطبيقها‪ ..‬كان التدريب يشمل صياغة‬ ‫الشعارات المناسبة وكيفية ترتيب التجمعات والمواعيد والمناسبات‬ ‫وتصعيدها‪ ،‬مع التركيز على أنهم (المتدربون) مواطنون شرفاء يرغبون‬ ‫فى تحرير بلدانهم من االستبداد والقمع وأنهم ليسو عمالء أو خونة‪..‬‬ ‫‪ .‬كانوا في واقع األمر تحت سيطرة مباشرة لعقول وخبراء تعمل على‬ ‫تحويلهم إلى بيادق في رقعة الشطرنج‪.‬‬ ‫لم يضم نادي بليدربيرغ أحدً ا من غير األمريكيين واألوربيين‪،‬‬ ‫فيما شملت اللجنة الثالثية التى أسسها روكلفر بنصيحة من‬ ‫بريجنسكي الفضاء األسيوي‪ .‬أما حركة المحافظين‪ ،‬فهي التعبير‬ ‫العملى للقطاع الخاص في بعده العالمي وبهيئته الربوية االحتكارية؛‬ ‫وتهدف‪ ،‬خارج الحكومات‪ ،‬إلى بسط الهيمنة شبه المطلقة على‬ ‫مقاليد العالم والسيطرة الكاملة على ثراوته ومقدراته وخصخصة‬ ‫الحكومات الوطنية بتحويلها إلى مجرد أدوات تتولى تنفيذ‬ ‫ما يطلب منها بدقة‪ .‬واعتمدت الحركة خيارين هما االعتماد على‬ ‫االحتجاجات البرتقالية والتجمهر المتمرد (وفقا لبرامج التدريب)‬ ‫وإسقاط األنظمة بالوسائل السلمية‪ ،‬وفي حالة العجز يتم اللجوء‬ ‫للقوة العسكرية دون الحاجة للذرائع التى يمكن لوسائل اإلعالم‬ ‫فبركتها وتضخيمها وتسويقها ليل نهار حتى تصبح حقائق تستوجب‬ ‫ذلك التدخل التدميري‪.‬‬ ‫‪178‬‬


‫يقول روكلفر في مقال له في مجلة نيوزويك في مارس ‪1980‬‬

‫(ليس لدى الجكومات الوقت للتعمق في المسائل المعقدة واألبعد‬ ‫مدى‪ ،‬وهنا البد حسب المنطق أن يتم دعم شخصيات من المؤهلين‬ ‫الوطنيين من غير الرسميين ليلتقون سو ًيا ويحددون القضايا األساسية‬ ‫التى تؤثر على العالم وتحديد الحدود الممكنة لها)‪.‬‬ ‫في العام ‪ 1995‬أعلن الثري اليهودي األسترالي (جورج‬ ‫سورس) والثري اليهودي الصربي (سيموفيتش) إنشاء لجنة‬ ‫األزمات العالمية‪ ،‬وتضم مجموعات منتقاة من الباحثين الصهاينة‬ ‫القريبين جدً ا من الرؤية األمريكية‪ ،‬وتهدف إلى منع النزاعات‬ ‫الدموية وتسويتها حول العالم من خالل دراسات ميدانية‪،‬‬ ‫وتقديم المشورة والنصح إلى أصحاب القرار األعلى‪ ،‬وتعتبر‬ ‫هي اآلن اللجنة األوسع حضورا ونفو ًذا على مستوى العالم‬ ‫وتقدم تقاريرها إلى األمم المتحدة واالتحاد األوروبي والمصرف‬ ‫الدولي وصندوق النقد الدولى وإلى لجنة روكلفر الثالثية ونادي‬ ‫بليدربيرغ ومجموعات أخرى مماثلة‪ ،‬ويعرف عنها أهتماماتها‬ ‫بالحركات المعارضة فى الوطن العربي كاف ًة وتميل فى تحليالتها‬ ‫إلى أهمية وضرورة دعمها‪ ،‬وتحديدً ا الفرق والجماعات اإلسالمية‬ ‫بتدرجاتها المذهبية والطائفية‪.‬‬ ‫ظهرت فى أعقاب الهزيمة المذلة ألمريكا فى الفيتنام (‪)1975‬‬ ‫طروحات لم ينكر بريجنسكي وقوفه خلفها‪ ،‬تدعو إلى صناعة‬ ‫(األصولية الدينية) أو العمل على أحيائها بأعتبارها الممكن العملي‬ ‫‪179‬‬


‫لألجهاز على ما تصفه األدبيات األمريكية بأمبرطورية الشر (األتحاد‬ ‫السوفياتي) وتأمين حدود إسرائيل بتحويل الوطن العربي إلى ساحة‬ ‫عراك بين أبنائه حول فهم كل منهم للدين‪ ..‬كان بريجنسكي قد طرح‬ ‫تلك الدعوة فى منتصف الستينيات ونجح فى تمريرها بعد عقد من‬ ‫مستشارا لألمن القومي في إدارة الرئيس جيمي‬ ‫الزمن حين أصبح‬ ‫ً‬ ‫كارتر الذي واصل خلفه ريغان العمل بجدية أكثر إلدارة تلك الدعوة‬ ‫وبناء معابدها فى أنفاق مغلقة قبل أن تقذف بها في وجه العالم محمولة‬ ‫بالدماء والضحايا‪.‬‬ ‫طرح زبينغيو بريجنسكي وهو يتقلد موقعه فى البيت األبيض‬ ‫مستشارا لألمن القومي نظريته (الحزام األخضر) التى تلخص‬ ‫رؤيته فى محاصرة األتحاد السوفياتي باقامة أنظمة يكون‬ ‫األسالم قاعدتها تتولى بدعم أمريكي كامل ضرب الجماعات‬ ‫الناصرية والخاليا اليسارية المناصرة للسوفييت واالنتقال بعد‬ ‫ً‬ ‫وصول إلى تشكيل حزام‬ ‫ذلك لضرب المتطرفين اإلسالميين‬ ‫إسالمي حول إسرائيل يمكنها من مطالبة العالم االعتراف بها‬ ‫كدولة يهودية وهو ما يجعلها تتخلص من الثقل الديمغرافي‬ ‫العربي وراء الحزام األخضر «عرب ‪ »48‬ومنعهم‪ ،‬وفقا ليهودية‬ ‫الدولة‪ ،‬من الترشح النيابي أو التصويت‪ .‬وكلها أهداف تصب‬ ‫فى مصلحة الواليات المتحدة سواء فى محاصرة السوفييت أو‬ ‫تأمين إسرائيل داخليا‪.‬‬ ‫كانت الثورة األسالمية في إيران‪ ،‬وانفجار األوضاع فى الجارة‬ ‫‪180‬‬


‫أفغانستان والحرب العراقية اإليرانية هي بداية التمظهر لتلك النظرية‪..‬‬ ‫ليبدأ بعدها النزيف الذي نتابعه اآلن على الهواء مباشرة فى ليبيا‬ ‫وسوريا والعراق واليمن والسودان ومصر وقري ًبا فى مناطق أخرى‪..‬‬ ‫نتابع األسبوع المقبل‪.‬‬

‫‪181‬‬



‫كراهية قديمة‬ ‫أدخل العرب ـ حينما دخلوا أوروبا من طرفيها الغربي (األندلس)‬ ‫والشرقي (حدود فيينا) ـ علوم الرياضيات والجبر والفلك والطب‬ ‫والكيمياء والموسيقا واألدب‪..‬هذا ليس سرا فضال على أنه ليس‬ ‫فى مقام نوستالجيا الماضي‪ ..‬لكنه فقط الستنطاق المسألة بما يليق‬ ‫بها من تبسيط‪..‬‬

‫أدخل العرب إلى أوروبا حين اقتربوا من ضفافها العلوم كافة‪.‬‬ ‫واستقبلوا منها ـ وما زالوا يستقبلون ـ الحروب الصليبية واالستعمار‬ ‫بأنواعه‪ ..‬ونهب للمقدرات والثروات وفرض التقسيم واالحتالل‬ ‫واالرتهان والتبعية والتهميش واالزدراء واإلهانات‪ ..‬وما ال يحصى‬ ‫من مفردات في هذا السياق‪ ..‬مناهج التعليم فى الوطن العربي تتحدث‬ ‫بتوقير (واجب) وافر عن كوبرنكس ومدام كوري ونيوتن وأينشتاين‬ ‫وأرسطو وبتهوفن‪ ..‬وترسم وسائل اإلعالم العربية (عبر وسائط‬ ‫مختلفة) صورة مبهرة للغرب المتقدم في الميادين كافة (بطبيعة الحال‬ ‫دون التورط في مجرد الغشارة الى الديمقراطية والتداول السلمى‬ ‫‪183‬‬


‫للسلطة)‪ ..‬فيما تحفر عقلية الخنوع العربية أخاديد في أذهان األجيال‬ ‫الجديدة تقود مصباتها صوب هذا الغرب سلبا وإيجابا‪.‬‬

‫مناهج التعليم فى الغرب تصور العربي كائنا منفرا وتلصق به‬ ‫في حكايات وأناشيد وقصص مصورة ومقرؤة كل ما يمكن لصقه‬ ‫من دالالت الغدر والخيانة والكذب والحقد الخ الخ «كأنني أسمع‬ ‫بعضهم من ليبيا والعراق وسوريا واليمن والسودان يقولون‪..‬أن هذا‬ ‫صحيح حقا!!!»‪ ..‬تردفها وسائل اإلعالم والسينما بتقارير ودراسات‬ ‫وأفالم ومسلسالت واستطالعات وتقارير أستقصائية وأخبار مفبركة‬ ‫ترسم وفق هندسة إعالمية شديدة التعقيد تجمع على إظهار العربي‬ ‫إال في ما نذر ملوثا بالدونية‪.‬‬

‫كلنا نعرف اآلن كيف نحت (شولتز) في القرن التاسع عشر‬ ‫مصطلح (السامية) وكيف تلقفه اليهود المؤسسون للحركة الصهيونية‬ ‫وصهروه في ذاكرة (الغيتو) ألكثر من قرن ونصف تقريبا قبل استخدامه‬ ‫عقب الحربين العالميتين في أكبر حملة ابتزاز شهدها التاريخ البشري‬ ‫ليحصلوا على أرض ليست لهم وال من حقهم وعلى دعم ال حدود‬ ‫له تقريبا ناهيك عن سيطرتهم بذلك على أذهان وضمائر قارتين على‬ ‫األقل وليس مجرد دول أو أشخاص هنا وهناك‪..‬‬

‫العرب لم يرسلوا طائراتهم ودباباتهم وفرقطاتهم وجنودهم‬ ‫الستباحة أوروبا وأمريكا‪ ،‬ولم يغتصبوا نساءهم ولم يقتلوا أطفالهم‬ ‫ولم يلوثوا مياههم ولم يسرقوا ثرواتهم وعقولهم ويطمسوا هويتهم‪..‬‬ ‫لم يفجر العرب حروبا كونية ولم يثقبوا غالف األوزون ولم يمتلكوا‬ ‫‪184‬‬


‫أسلحة الدمار الشامل ولم يحتكروا المعرفة‪..‬العرب ضحية قديمة‬ ‫للغرب‪.‬‬

‫العرب ومنذ نحو خمسة قرون ضحايا لحقد الغرب وكراهيته‪..‬‬ ‫منذ الحروب الصليبية وحتى تدمير العراق وليبيا‪ ..‬يتعرض العرب‬ ‫منذ ذلك التاريخ القديم لحمالت منظمة من العنف واإلرهاب‬ ‫والتخريب‪ ..‬الغرب يكره العرب‪.‬‬

‫آالف الكتب واألفالم والمسلسالت والبرامج والدراسات (منذ‬ ‫رحالت االستكشاف االستعمارية للبحث عن مواد خام وأسواق‪ .‬بعد‬ ‫اكتشاف البخار) تقول كلها جميعا وعالنية أن الغرب يكره العرب‪.‬‬ ‫وأن المقولة التى أطقلها الروائي والشاعر البريطاني دوريالد كليبينج‪:‬‬ ‫الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا‪ ،‬هي أكثر من حقيقة‪ ..‬وما يفعله‬ ‫الغرب منذ الحروب الصليبية وصوال إلى ما فعله في تمكين االحتالل‬ ‫اإلسرائيلي لفلسطين وتدمير العراق وليبيا واليمن وصناعة القاعدة‬ ‫وداعش الخ من القنابل الذاتية بدال من الدفع بجنود من الغرب‪..‬‬ ‫لم يعد الغرب يخفي برامجه ومخططاته وصار العبث الغربي في الشأن‬ ‫العربي يبث على الهواء مباشرة‪ ..‬صارخا أن الغرب يكره العرب‪..‬‬ ‫تبخيس أسعار الخامات العربية‪ ..‬سرقة العقول والمواهب‪..‬‬ ‫اإلرهاب المباشر وغير المباشر‪ ..‬التلويح الدائم بسيف العقوبات‪..‬‬ ‫فرض التبعية ورهن القرار السياسي‪ ..‬الخ من الشواهد التى تؤكد ان‬ ‫الغرب يكره العرب‪.‬‬ ‫ال أعفي بطبيعة الحال مسؤولية النظام العربي برمته عن القبول‬ ‫‪185‬‬


‫المهين باالرتهان‪ ..‬وهو ما يدعو الى أن يرفع الشعب العربي‬ ‫سالح عدونا ولنقل للغرب (أوروبا وأمريكا) أنتم تكرهون العرب‬ ‫(الساميون)‪ ..‬أنتم عنصريون‪ ..‬أنتم أرهابيون‪ ..‬لتضغط قبائل العرب‬ ‫على حكامها القدماء والجدد ومؤسساتها وإعالمها وجامعاتها‬ ‫والمواطنين لقول ذلك للغرب حكاما ومؤسسات وإعالما وجامعات‬ ‫وأفرادا‪ ..‬ال نمارس االبتزاز مطلقا وال نبتغي حظوة‪ ..‬ما نبتغيه هو‬ ‫وضع النقاط على الحروف‪..‬‬

‫ما نبتغيه هو التوقف عن كوننا كيس مالكمة (ملطشة) للركل‬ ‫واللكم والصفع‪ ..‬البد للمهزلة أن تتوقف‪.‬‬

‫‪186‬‬


‫ن�صال تته�شم على ن�صال‬ ‫رحل االستعمار لكن التشظي ظل قائما ومسورا بالضغائن‬ ‫واألحقاد‪ ،‬وشوفينية رخيصة عمياء تفترض تمايزا بين األشقاء وفروقا‬ ‫حاول بعض الذين في قلوبهم مرض تعميقها خدمة ألهداف ورؤى‬ ‫ترتبط بخيوط صار البد من االعتراف أنها ال تطمئن لغيابها عن‬ ‫تفاصيل المشهد العربي برمته‪ .‬المعادلة أبسط من عملية جمع رقمين‬ ‫في خانة اآلحاد‪ ،‬المعادلة ال تحتاج في واقع األمر آللة حاسبة أو‬ ‫مؤتمرات ولقاءات وورش عمل‪.‬‬

‫المعادلة التى تعربد فى أنهار الدماء العربية أكثر بساطة مما يعتقد‬ ‫أهل الحل والعقد‪ .‬شفرة هذه األحجية تكمن «وبمدرسية فادحة» في‬ ‫القراءة الواعية لتاريخ األمة ال أكثر‪ ..‬وقراءة التاريخ فى هذه المرحلة‬ ‫بالذات تحتاج إلى ما يمكن وصفه بوعي الضرورة‪ ،‬وهو الحرية فى‬ ‫التعاطي مع مفاصل ذلك التاريخ بعيدا عن مأزق االضافات (العنعنات‬ ‫التأريخية) التى تهاطلت من أولئك الذين في قلوبهم مرض‪ ،‬والذين‬ ‫تناسلوا منذ بواكير الفتوحات االسالمية التى قادها العرب ونشروا من‬ ‫‪187‬‬


‫خاللها منظومة القيم التى ارتكزت عليها بعد ذالك مداميك الحضارة‬ ‫العربية االسالمية‪.‬‬

‫البد لنا ـ في تقديري ـ ونحن نتصدى لقراءة هذا السفر العظيم‬ ‫من فرز ما أتفق على وصفه باإلنجازات التراكمية التى حققتها األمة‬ ‫وهي تؤسس لملحمة حضارية فتية ونابضة بالثقة‪ ..‬ملحمة اعترف بها‬ ‫الجميع فى ذلك الوقت‪ .‬البد لنا ونحن نقف أمام مهابة ذلك التاريخ‬ ‫وجالله‪ ،‬أن نطمئن لإلحساس بالعزة وهي تغمرنا ونحن نرحل فى‬ ‫تفاصيل النسيج الذي أبدعه صناع النهضة الحضارية العربية األسالمية‬ ‫وهم يستوعبون حضارات اآلخرين (الفرس والروم والهند واليونان)‬ ‫ويحاولون هضمها وإعادة انتاجها‪ ،‬وفقا لمرجعية تتضافر فيها أسس‬ ‫الدين الحنيف مع االجتهاد المعرفي واالنتماء‪.‬‬

‫ال نحتاج ونحن نلج بوابات تاريخ األمة ألكثر من الوعي الذي‬ ‫يفترض االنفتاح المناوئ لالنفالت‪ ،‬البد أن تكون كل النوافذ مشرعة‬ ‫للهواء يتجدد وللضوء ينير‪ ،‬والبد مما ليس منه بد وهو االتفاق‬ ‫على االنتماء العروبي مثلما ينتمى األلمان والطالينة والبرازيليون‬ ‫والتايلنديون وسكان األسكيمو وأهل التبت ألوطانهم وأممهم‪..‬‬ ‫إنتماء يخلو تماما ونهائيا من أي عنصرية أو شوفينية أو محاولة فرض‬ ‫أي مسألة تضر بالمكونات األخرى التى تؤمن بإنتماء عرقي آخر‪..‬‬ ‫ففي الوطن العربي مثال لألمازيغ والطوارق والتبو واألكراد والذين‬ ‫يؤمنون برسالة موسى عليه السالم واألشوريين كافة الحقوق المترتبة‬ ‫على مبدأ الوحدة والتنوع‪.‬‬ ‫‪188‬‬


‫إن أهمية ذلك تكمن في ضرورة توافر أشتراطات الموضوعية‪،‬‬ ‫والنظر للمسألة من داخلها‪ ،‬برؤية تتوخى التوصل إلى حلول ومفاتيح‬ ‫لما يعصف باألمة حاليا من محن وهوان ومهانة‪.‬‬

‫كان الشاعر العظيم المتنبي وهو يخاطب منازل األحبة يدرك‬ ‫بوعيه العالي مأزق القوم وهم يتخبطون في فهم بساطة المعادلة‬ ‫منذ ذلك الوقت‪ ..‬ويلوذون بدال من ذلك باإلستكانة لمرض يداهم‬ ‫بعضهم في إستعادة لمشهد العجل في سيناء وهو يخور أمام القوم‬ ‫المرتبكين‪ ..‬الخائفين‪ ..‬المشككين‪ ..‬التائهين‪.‬‬

‫كان التشرذم قد تحول الى فلسفة‪ ،‬والهزائم التى جرها تحولت‬ ‫هي األخري الى أثقال تهوي باألمة إلى جب عميق‪ ...‬كان التشرذم قد‬ ‫تحول إلى فيروس يفتك بمنظومة القيم التى تاسس عليها البناء العظيم‪،‬‬ ‫ولم يعد الجسد الذي كان عفيا قادرا على المقاومة‪ ،‬صار أصغر من‬ ‫إحتمال المواجهة أقل شأنا من الذي يواجهه‪ ،‬وعندما وصل التشرذم‬ ‫إلى مرحلة طرد العرب من األندلس غربا‪ ،‬وانتقال دار الخالفة من بغداد‬ ‫إلى األستانة شرقا‪ ،‬صارت المؤامرات الطورانية في قصور الحكام هنا‬ ‫وهناك وجبات يومية من رؤوس ألفا ٍع وعلق ال يرتوي من الدماء‪.‬‬ ‫المعادلة عادلة‪ ،‬وال تحتاج إلى مزيد من الشرح‪ ،‬فكلما كانت‬ ‫الوحدة أقوى كانت األمة قادرة على حماية وصيانة ما تمتلكه‪ ..‬كلما‬ ‫كانت الوحده أقوى كانت األمة أجدر بموقعها في مقام العنفوان‪ ،‬كلما‬ ‫كانت الوحدة أقوى كانت األمة رقما ال يمكن تجاوزه في أستعراض‬ ‫خيارات العالم‪.‬‬ ‫‪189‬‬


‫المعادلة شديدة الوضوح‪ ..‬وال تحتاج إلى عرافين ومنجمين‬ ‫(وبطبيعة الحال لناشطين ومحللين ومراقبين ومتابعين ومن فى‬ ‫حكمهم) وال إلى معرفة حل الطالسم واألحاجي لمعرفة حلها‪ ..‬هي‬ ‫أبسط كثيرا من أفتتاحيات الصحف اليومية وخطب الحكام وتوزيع‬ ‫فرق األندية على جداول الدوري‪..‬‬

‫سحق العرب الغزاة عندما كانت الوحدة واقعا‪ ،‬وسحق الغزاة‬ ‫العرب عندما صارت الوحدة فى متاحف الذاكرة‪ ..‬كان التتار قوة‬ ‫همجية هائلة السطوة على التدمير‪ ،‬سحقت أمما وحضارات قبل‬ ‫أن يكسر العرب تدافعها ويدفعونها عنوة إلى التراجع والنكوص‪..‬‬ ‫كان الصليبيون (هذه تسمية هم من أطلقها) تحالفا يتوكأ على عقائد‬ ‫مفخخة باسطورة الجغرافيا وما تيسر من مشاكل داخلية كان البد‬ ‫من تصديرها تحت راية الدين!! هاجم الصليبيون بعنف قلب األمة‬ ‫التى تمكنت من أستعادة مفاتيح المعادلة وقهرت الغزاة وركلتهم‬ ‫إلى أوطانهم‪..‬كانت األمة تمتلك وهي تصنع الحدث سر المعادلة‪.‬‬

‫أن ما يحدث اآلن فى فلسطين‪ ،‬ليبيا‪ ،‬سوريا‪ ،‬العراق‪ ،‬اليمن‪،‬‬ ‫السودان‪ ،‬يؤكد ليس قوة اآلخر بقدر ما يؤكد ضعف العرب الذين‬ ‫عادوا أعرابا في مفازة القيظ‪ ،‬يتناوبون تالوة تراتيل التقوقع الذي‬ ‫ال يقود في أفضل حاالته إال إلى التحجر والجمود‪ ...‬والموت‪.‬‬

‫‪190‬‬


‫ولو �صدقوا‪..‬‬ ‫ترتفع فى أواخر كل عام ومطلع آخر جديد أسهم المنجمين‬

‫والعرافين والمهتمين باألبراج والتوقعات‪ ،‬وتظهر على الشاشات‬

‫الصغيرة‪ ،‬وصفحات الجرائد والمجالت وأرفف المكتبات‪،‬‬ ‫شخصيات ومتابعات وكتب تطرح تنبؤات بأنفراجات واحتدامات‬ ‫وتوقعات تبدأ بتقدير االحتماالت وال تنتهي عند حد‪.‬‬

‫يتماهي المنجمون مع وسائل اإلعالم فتمتلئ توقعاتهم بأنهيارات‬

‫أرضية وكوارث طبيعية وما اليحصى من ضحايا بزالزل وبراكين‬

‫وتسوناميات وحاالت تمرد وفوضى‪ ،‬ورحيل فنان ومرض فنانة الخ‬ ‫الخ‪ ..‬وعندما يتصادف توافق أحد التوقعات مع حدث حقيقي ينتقل‬ ‫المنجم إلى موقع النجومية ويحصل على بطاقة استضافة إعالمية‬

‫واسعة ودعوة مستقبلية للظهور والحديث عن توقعاته الجديدة‪.‬‬

‫لكن األحداث وبعيدا عن «كذب المنجمون ولو صدقوا» تتجاهل‬

‫تماما تلك التخرصات وتناوئ محاوالتهم الساذجة الستنطاق الغيب‬ ‫‪191‬‬


‫(إال في حالة التسريبات االستخباراتية لبعض هوالء)‪ ..‬فما يشهده‬ ‫العالم من تغييرات مناخية مثال وتقلب حاالت الطقس وشراسة‬ ‫األعاصير هو بسبب األحتباس الحراري‪ ،‬وأن أي متتبع لألخبار من‬ ‫مصادرها سيدرك ومهما كانت درجة تحصيله العلمي أن الصورة‬ ‫المناخية للمستقبل قاتمة‪ ،‬وأن ذلك يحدث وسيحدث بسبب رفض‬ ‫الواليات المتحدة األمريكية التوقيع على إتفاقية كيوتو وتباطؤ‬ ‫الموافقة الصينية وبعض الدول الصناعية الكبرى األخرى على تلك‬ ‫اإلتفاقية‪ .‬وأن األمر ال يحتاج فى واقع األمر اإى قارئ فلكي لألبراج‬ ‫أو منجم وعراف‪.‬‬

‫األحداث السياسية ال تحتاج هي األخرى لمعرفة توقعاتها ألية‬ ‫أوهام من أعمال الكهانة والشعوذة‪ ،‬فمسلسل القتل في ليبيا وسوريا‬ ‫والعراق واليمن وفلسطين مثال هو بال أفق‪ ،‬وبوسع أي طالب فى‬ ‫المراحل المتوسطة أن يؤكد ذلك دون الحاجة الى اللجؤ للتنجيم‪.‬‬

‫إن الدماء العربية ستواصل تدفقها‪ ..‬وأن ذلك يحدث ألن العرب‬ ‫مجرد بيادق‪ ،‬وألن أمريكا (من يحكم أمريكا) يريدون ذلك‪..‬توقعات‬ ‫الكرة البلورية وفناجين القهوة وورق اللعب وخطوط الكف عن موت‬ ‫ملك (تجاوز الثمانين!!) وأزمة صحية يتعرض لها رئيس يقترب‬ ‫من التسعين‪ ..‬ال تثير سوى الضحك‪ ..‬حيث يمكن ألي ممرض في‬ ‫مصحة صغيرة أن يؤكد أن االقتراب من عمر الثمانين يرشح صاحبه‬ ‫للرحيل حتى لو كان يضع على رأسه تاج الملك‪ ..‬أويتوشح بوسام‬ ‫الرئيس‪ ..‬أو حتى أنه يحمل فى خزانته الخاصة الشفرة النووية‪..‬‬ ‫‪192‬‬


‫قراءة ما يحدث في عالم اليوم تحتاج إلى الفطنة والمعرفة‬ ‫والمعلومات وليس للشعوذة‪ ،‬سواء كان ذلك فى السياسة أو الزراعة‬ ‫أو في إنتاج القمح وأسواق المال وأسعار النفط وخطوط األزياء‪..‬‬ ‫خرائط االحتدامات المرشحة لالنفجار تبدو واضحة ألي متتبع‬ ‫للنشرات اإلخبارية العالمية ومراكز البحوث والدراسات المحكمة‪،‬‬ ‫وال تحتاج إلى طالسم تزعم تحسس الغموض وكشف المستور‪.‬‬

‫يحكى أن ليونيد بريجنيف كان وهو يتولى موقع األمين العام‬ ‫للحزب الشيوعي السوفييتي لمدة ‪ 18‬عاما يستعين في إدارة بعض‬ ‫شؤون اإلمبرطورية الحمراء برجل يقرأ له الغيب!! وكان الرئيس‬ ‫األمريكي األسبق رونالد ريغان (دورتان متتاليتان) ال يقدم على‬ ‫إتخاذ أى قرار مهم قبل الحصول على موافقة رجل لم يكن يوما أحد‬ ‫أعضاء مجلس األمن القومي أو أي جهاز حكومي آخر‪ ..‬المثير أن‬ ‫كال الرجلين أصيبا قبل رحيلهما بداء الخرف (الزهايمر) الذي يفترس‬ ‫منطومة الذاكرة ويدفع صاحبه إلى ارتكاب حماقات ال يستبعد العلم‬ ‫أن تكون نتائج بعضها شديدة الفداحة‪ ،‬فيما يكون بعضها اآلخر مدعاة‬ ‫للضحك‪ ..‬والشفقة‪.‬‬ ‫يحفل التاريخ بنماذج من المنجمين في جميع الثقافات‬ ‫والحضارات واألمم‪ ،‬لعل أشهرهم على اإلطالق الكاهن الروسي‬ ‫راسبوتين‪ ،‬الذي أمتدت سطوته من أقبية العربدة الى مخدع القياصرة‬ ‫مرورا بمعتقالت الصقيع في سيبيريا‪ ..‬فيما يغرق البعض (حتى اآلن)‬ ‫في محاوالت لم تتوقف منذ قرون لقراءة وتفسير رباعيات نظمها‬ ‫‪193‬‬


‫(نوسترا داموس)‪ ،‬وهو كاهن مسيحي من أوصول يهودية‪ .‬أعتنقت‬ ‫عائلته المسيحية هربا من محاكم التفتيش‪ ..‬وتصادف أن تماثلت‬ ‫بعض تلك الرباعيات مع أحداث الحقة (لم يكن مستبعدا عدم‬ ‫احتمال حدوثها)‪ ..‬كالكوراث الطبيعية وانقالبات القصور وموت‬ ‫ملوكها أو وصول قس من بالد بعيدة إلى أن يصبح كارديناال يخرج‬ ‫باسمه ذات عشية الدخان األبيض من مدخنة الفاتيكان ويصبح البابا‬ ‫للمسيحيين الكاثوليك‪.‬‬ ‫العالم (بما يزدحم به أحيانا من غموض) يخلو تماما من‬ ‫المعجزات‪ ،‬اللهم إال ما يصنعه العلم من إنجازات باهرة تسجل كل‬ ‫يوم انتصارا للعقل البشري‪ ،‬وتؤكد على جدارته بإدارة أمور الحياة‬ ‫دون تجن على مناطق الوجدان الذي يحمل عبء التوازن وسط‬ ‫شبكة التعقيدات التى تعصف بالعالقات‪ ،‬سواء بين البشر أو بين‬ ‫مصالح الدول‪.‬‬

‫ترتيب التفهم المشترك وأنسنة العالقات بين العقل والوجدان هي‬ ‫بال ريب من حسن التدبير‪ ،‬وهما دعوة لبناء الطمأنينة وتوافر الرضا‬ ‫في مواجهة تنطع الجهالة التى هي األب الشرعي للتطرف المسؤول‬ ‫األول عن جميع االنكسارات التى عانت وتعاني منها البشرية في‬ ‫ملحمة تعميرها لألرض‪.‬‬ ‫التوافق بين العقل والوجدان مسألة يستوجبها اإليمان باستمرار‬ ‫الحياة فوق هذا الكوكب‪ ،‬وأي خلل فى معادلة التوافق لن تقود كما‬ ‫تؤكد كل شواهد التاريخ اال لمصائب يمكن معرفة بداياتها‪ ،‬لكن‬ ‫‪194‬‬


‫ال أحد بمن في ذلك (مافيا) التنجيم يملك القدرة على تحديد شكل‬ ‫تدجاعياتها أو تحديد تاريخ لنهايتها‪.‬‬ ‫إن شبح راسبوتين يفتك بجماجم العجزة من الباحثين عن مصباح‬ ‫عالء الدين األسطوري‪ ،‬أو طاقية اإلخفاء أو بساط الريح‪ .‬يحلمون‬ ‫بتعويذة هي في واقع األمر ال تعكس سوى الخواء والهشاشة‪.‬‬

‫ال تحتاج فلسطين إلى مشعوذ يقول أن االقتتال بين فتح وحماس‬ ‫هو جريمة يشترك في تدبيرها المؤامرة والجهل‪ ..‬بالضبط مثلما‬ ‫ال تحتاج ليبيا والعراق وسوريا واليمن إلى دجال يقول أن القتل‬ ‫اليومي بين األخ وأخيه مستمر الى أن ترضى (البورصة وأسواق النفط‬ ‫وحلم أسرائيل) أو ينهض العقل من بين ركام الجهالة‪.‬‬ ‫كل العالم يعرف تماما أن الغزاة الصهاينة هم أس المشكلة فى‬ ‫فلسطين وأن األمريكان هم أس البالء فى العراق‪ ،‬وأن الغباء والجهل‬ ‫والعمالة هم أصحاب المصلحة في الذي يحدث فى ليبيا وسوريا‬ ‫واليمن‪ ..‬وأن العرب الذين تم تدجينهم بالهزائم والقمع مستمرون في‬ ‫ابتالع المهانة وهضمها وإعادة انتاجها‪ ..‬تطرفا وفضائيات ومهازال‬ ‫وعبث‪ ..‬وغيبوبة هي أقرب للموت‪.‬‬

‫‪195‬‬







Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.