يوزع هذا الكتاب مجان ًا مع العدد ( )6من مجلة املستقل
المنفى شعر
تأليف :عمر الكدي © جميع الحقوق محفوظة مجلة أسبوعية سياسية شاملة
طبع في مارس 2015 مطابع األهرام جمهورية مصر العربية المدير الفني وتصميم الغالف :سامح الكاشف اإلخراج الفني والتنفيذ :أحمد نجدي
المحتويات منفى 7.......................................................................................
بحراألطالل65........................................................................... ُ بحرالحياة 73.............................................................................. ُ
بحر الكبرياء 79..........................................................................
بحر الظالم85.............................................................................
منفى ها أنت ذا تخرج إلى المنفى ال تحمل من بالدك إال حقيبة وعلى كتفيك أربعون عاما من القسوة والريبة وتحمل معك أحبابك وما تبقى من طفولتك البعيدة تركت خلفك كل شيء أيامك الحزينة وتلك السعيدة لماذا ترحل في الشتاء؟ 7
مثلما يرحل الثلج إلى بالدك الجديدة
لماذا ترحل في رمضان؟
أال أنه يأتي من منفاه مرة كل عام؟ أم ألنه يشيخ بسرعة
فيبدأ بهالل وينتهي بهالل؟
أم ألن أمك ماتت مثل أمها في الخامس من رمضان؟ ربما ألن العسس يغفون في فجره فتنسل من بالدك هار ًبا
مثلما يختفي الظل في الظالم
* * *
ها أنت ذا تصرخ في المطارات
وتطرق أبواب قوم ال يعرفونك أنا الجيء فاقبلوني
تنام في عنابر مع الجئين عابرين
وتسمع أحالمهم وكوابيسهم بكل لغات األرض
أفغان وصوماليون وعراقيون من كل الملل 8
وسودانيون ونيجيريون يدعون أنهم سودانيون ومن التبت والبوسنة وسيراليون وليبيريا
إيرانيون وأكراد وخليط من يوغسالفيا السابقة
ومن كل بالد الطغاة وما أبقته الحروب وسط هذه الجوقة أنت الليبي الوحيد
في معسكر الالجئين حيث وضعت عصاك ينادونك بعمر الليبي
عندها تتذكر أنك سليل الجئين
لم تفقد فقط بالدك
لقد ضاعت قبلها األندلس
في أصيلة انتظر أجدادك عودتهم إلى غرناطة
وهم يغزلون صوف غربتهم
وينسجون عباءة العودة دون جدوى
ومن هناك جاء جدك ليزرع نسله في قريتك
وها أنت ذا تعود مرة أخرى إلى الضفة القديمة * * * 9
تذكر دائما أن العودة مستحيلة ستموت هنا مثلما يموت الغرباء بال مأتم وال بكاء مثلما يموت الفيل بعيدً ا عن القطيع تخرج من الزحام إلى الزحام حتى صارت لك غرفة تسكن فيها وحيدً ا وتصطحب هات ًفا ال يرن وإذا رن يرن الفجيعة هكذا وصل نعي الجيالني عندما مات ساجدً ا وهو يطلب من ربه أن يقبضه كفاني مما ابتليت أيها الواهب خذ وديعتك عندها تذكرت صرخته 10
«ما الذي جئت تفعله في بالد لست تعرف فيها أحد؟» هل كنت قبل مماتك ح ًيا أم ميتًا؟
رأيتك مرة تضع إبهامك في النار وال تتأوه
وكم رأيتك تغدو بين العقل والجنون سأشرب نخبك وحيدا أخيرا نلت ما طلبت طويل ً وآن لك أن تستريح
* * * يطرق المطر نافذتي وأحيانًا يصفعها الثلج أرفع الستارة فتطالعني سماء مكفهرة وفي قلبي يهطل الرماد سأروضك أيتها الكآبة بعزمي وصبري 11
وسأجعلك رفيقتي الوحيدة تنهض كل يو ٍم من الرماد ُ لتخطو إلى يوم جديد تتعلم كيف تكسب األصدقاء دائما وتعود مثلما كنت ً
مشج ًبا يعلق عليه اآلخرون أحزانهم
وبئرا عميقة لألسرار ً
تنظف المراحيض يوما ويوما توزع الجرائد وأحيانا تنقل األنقاض
أو تغلف الورود والنباتات وتطبخ ليأكل معك اآلخرون وألنك وحيد وكتوم تزورك النساء خلسة تطعمك حواء قات الصومال 12
وتسقيك أم عادل من حزن العراق وال تدري ماذا أحبت فيك الفتاة البوسنية هل ألنك تضحكها حتى حدود الشبق أم ألنك تشبه أباها القتيل؟ في غياب شعبك استمتع ولو برهة برفقة عابرة * * * يدعوك السودانيون للعب الورق وللكسرة والمالح والونسة ويدعوك الصوماليون لجلسات القات وهم يؤبنون وطنًا من رماد ويدعوك العراقيون للمواويل الحزينة متناسين لبرهة حروب الطوائف ويدعوك اإليرانيون لجلسات الشاي 13
وهم يحلمون بأيام الشاه والسافاك ويدعوك البوسنيون للخمر وللنكات الفاحشة وتبقى وسط الزحام وحيدا تتذكر بالدك مثلما تتذكر أمك الغائبة تبدو من بعيد أحيانا حانية وغالبا ما تبدو ذئبة ضارية تفتقد األصدقاء واألماكن األثيرة تفتقد رحلة البحث عن الكمأ وتين أجدادك األخضر واألسود تمر األيام بال قمر يطل عليك تفتقد الجبال والغيوم الشحيحة أنت المولود في الجبال يكون منفاك في بلد بال جبل معظمه تحت سطح البحر 14
وتفتقد بحرك األزرق ناعسا مثل زيت في الخابية أو هو يرغي ويزبد * * * يستلقي المهاجر فال يمكنه أن يوقف نزيف الذاكرة يعود إلى حياته السابقة ويفترض بدايات جديدة ال تفضي به إلى منفى يعود إلى طفولته البعيدة ماذا لو أن أباك لم يطلق أمك وأنت في الثالثة؟ ماذا لو لم ينتزعك منها ويرحل بك إلى طرابلس؟ 15
ماذا لو لم يمت
وانت في التاسعة؟
ماذا لو ماذا لو
ولكن تكتشف أن كل االفتراضات
تنتهي بك إلى المنفى
ألنك سارق النار من اآللهة
وتحاول أن توقد شمعة في بالد الظالم
وليس أمامك إال الموت
والسجن أو المنفى
وفي كل االفتراضات
لم تتخل عن الشمعة
ها هي ال تزال في يدك واهنة راجفة
لكنها تنير درب الكلمة * * * 16
ال شيء في بحر الشمال يبعث على االبتهاج
وال جبال في هولندا
تفجر فيك الحنين
بالد مسطحة تشقها القنوات
كأن الله لم يخلقها
وترك أمرها للمساحين والمهندسين
هناك تعلمت كيف تنهض أمة تحارب الماء وتكيف طواحين الهواء للمياه الغزيرة وكيف يختلسون األرض من البحر؟
تنمو الوحشة في ظالم صدرك
مثلما ينمو الفطر في غياب الشمس
تنمو عش ًبا أسود يرتوي من دمك
ومع ذلك ال تزال تضحك ضحكتك المدوية
وتنشر عدوى ضحكتك من حولك
يتعلق بك األطفال ويبحثون في جيوبك عن الحلوى 17
يأتي إليك المسنون من أجل مساعدتهم في الترجمة يأتي إليك الهولنديون ألنك تجيد حل المشاكل حتى صرت وسيطا بينهم وبين الالجئين تنظم شؤون المقهى والمكتبة وتقلل من عنف أججته الحروب ألم تكن كذلك دائما؟ أنت لست غريبا هنا بقدر ما كنت هناك هنا ستعرف أن الغربة مرض مزمن ال تداويه الهجرة والمنفى * * * ها أنت ذا تنتظر وتنتظر كأنك عند باب الله تنتظر قراره أن يسمح لك بهذه الجنة الصغيرة أو يعيدك إلى جهنم 18
كأنك على الصراط تمشي وتخشى أن تسقط في الجحيم تمر الفصول وأنت تنتظر يأتي الصيف بمباهجه وأنت تنتظر يأتي الخريف فتتعرى األشجار تسقط أوراقها البنية في الشوارع تطيرها الريح في السماء وتختفي وأنت تنتظر يأتي الشتاء بزوابعه يتساقط الثلج في عيد الميالد وأنت تنتظر يأتي الربيع وعيد الملكة يصلب المسيح ويقوم من موته 19
في عيد القيامة
وأنت تنتظر
يعود التوليب من منفاه
ويشتعل مثل ألسنة النار في أبريل يبدو مثل عمامة السلطان
مثل فنجان الشاي
ومثل جرس مقلوب
والتوليب قوس قزح
زهرة خجولة لكنها
تكفي إلعالن الحب
وعند حقولها ينتشي وينهض الفرح
فمتى يا أيها المنفي
تقوم من انتظارك الطويل
قبل أن تغرق في الندامة؟
* * * 20
ال تين وال زيتون في هولندا وال طور سنين ال نخل وال رمان وال لوز يبشر زهره بالربيع وال خوخ سوى خوخ البنات يهتز في الطريق ال دالية تنام تحتها والعناقيد سقف تلقاها في األسواق براقة ندية ولكن بال طعم أفرح حين أرى القراص والخبيز على قارعة الطريق وأبحث عن ثمار الصبار عن التين الشوكي دون كلل أكله بنهم فتنغرز أشواكه في أصابعي 21
وعندها اتذكر أشواك بالدي وطفولتي الحافية * * * ها أنت ذا توزع المشروبات والحلويات والجميع يبارك لك حصولك على قرار اللجوء يودعك الهولنديون بحفلة صغيرة سيفتقدونك عندما تنشب الخالفات بين الالجئين سيفتقدون حنكتك في ترويض المتخاصمين وكل ما تعلمته وأنت تتوسط بين قبائل سريعة الصهيل وسيودعك الالجئون بالدموع بعد عامين صارت لك عائلة كبيرة وها أنت ذا تعود مرة أخرى يتيما * * * ها أنت ذا في شقة صغيرة بمدينة دلفت تدخلها في نفس اليوم الذي يوارى فيه 22
األمير كالوس الثرى هناك خلف شقتك في الكنيسة الجديدة في اليوم التالي تجد في بريدك رسالة من الملكة تعتذر لك عن اإلزعاج بسبب جنازة زوجها أه ليس هناك أقسى من الظلم إال اللطف المفاجيء يعود الرماد فيهطل في قلبك يعود السحاب األسود يتجمع خارج شقتك تعود الوحشة لتعرش في ظالم صدرك انت اآلن وحيد مثل جمرة تخبو وكأنك حبل مشيمة رموه بعيدا عن الوالدة والمولود أنت اآلن بعيد مثل ثقب أسود تصرخ فال يعود إليك الصدى تمشي تحت مطر داعر لعل التعب يهدك 23
فيطير من ليلك األرق
تبدأ مرة أخرى من نقطة الصفر
أو ربما أعلى قليل
ال تبتئس حتى بالدك تبدأ دائما من نقطة الصفر
أو أعلى قليل
هي جينات في وطن الرمال والرمل يشبهنا حين يستقر
وحين يهاجر
* * *
ها أنت ذا تتعلم لغة مليئة بالخاءات حتى كدت تختنق بها
لغة تمتليء بكلمات التصغير
كل شيء في هذه البالد صغير
البيوت صغيرة والغرف صغيرة
واللقيمات صغيرة وكذلك كؤوس البيرة 24
حتى أنك تذكرت لغة أمك
وهي تصر على تصغير كل شيء تجلس في فصل به تسع نساء والعاشرة هي المعلمة تركية تلتحق بزوجها
وبرازيلية تجرب حظها
وأسبانية خمرية اللون دموية المزاج
وسورينامية تجيد الهولندية وتنقصها الشهادة وفرنسية تدلكك وكأنك طفلها الوحيد
ومغربية تتعمد الجلوس بجوارك
حتى تذكرها بما فاتها
وطبيبة بلغارية تداويك بعينيها الواسعتين
وهندية وقع في غرامها سائح هولندي ونيبالية حشرت بين الصين والهند
ففرت إلى بالد جديدة
* * * 25
تتعرف إلى أقباط يبيعون الشاورما فيعاملونك وكأنك مرقص الليبي وهو يبشرهم بالمسيح ينتظرون مرورك فينفجرون ضاحكين يتساءلون من أي أتيت بكل هذه النكات؟ وبهذه المقالب اللذيذة؟ تتعرف على مغاربة تاهوا بين جذورهم وجنسيتهم الجديدة يعاملهم الهولنديون كمغاربة منبوذين وفي عطالتهم يعاملهم المغاربة كسواح هولنديين ها أنت ذا تعمل في مطعم كبير به رواق مغربي وركن ياباني وبار أمريكي تبدو بشاربك الكث مثل طباخ برتغالي هناك قدمت لهم الشوربة الليبية 26
والبطاطس المحشو باللحم المفروم وقدمت لهم المكرونة الليبية واألرز المطهو على البخار وأطلقوا عليك لقب ملك السلطات وأخيرا تتحصل على شهادة فتصبح طباخا هولنديا ها أنت ذا تعمل في كافيتريا ملحقة بسوق لألشياء المستعملة يأتي اليك الزبائن من أماكن بعيدة ليحتسوا الشوربة التي يطفو على سطحها النعناع * * * يأتيك نعي األحبة مفاجئا كنصل يغوص في القلب فتبكيهم وحدك واحدا واحدا مثل سحابة تمطر فوق البحر لم يبق لك في بالدك إال القبور 27
فما الفرق بين أن تعود وأن تبقى؟ لن تجد هناك ما تركت وستكون غريبا مثلما أنت هنا والغربة في بالدك أمر * * * كنت أحب الشتاء هناك ُ ولكن هنا الشتاء ال يحبني أعددت له معطفا وشاال وقفازين وفي وجهه رفعت مظلتي أعود دائما مبتال ألقهره بالنبيذ حتى صارالنبيذ صديقي الوحيد أحببته ألنه منبوذ مثلي وأسمه مشتق من النبذ حتى صار دمي ً نبيذا أحمر أحببته ألنه مهاجر مثلي 28
كان ذات يوم عنقود عنب غاف تحت شمس قطفته يد وسكبته في زجاجة مثل جن وها أنا أخرجه من سجنه فيشع شمسا حمراء في كأسي * * * يأتي الصيف فأدفن أحزاني وأخرج لكرنفال الحياة فيورق الشجرالعاري وتتعرى البنات إال من الورق يا بنات حواء ترفقن بي أخشى من الغواية فاطرد مرة أخرى من عدن أمضي إلى الغابات وإلى البحيرات حيث أستأنس بالطيورالمهاجرة هي مثلي تخرج إلى المنفى وتعود إلى أوطانها غيرأني باق هنا ال أعود يوم األحد أطعم البط والبجع 29
بما تبقى من خبزي وأجلس تحت الشجرة الوحيدة التي تنحدر أغصانها إلى النهر أخترتها ألنها وحيدة لعلي أنا الغريب أؤنس وحدتها وتؤنسني كالنا مهاجر أيتها الشجرة أنت جئت من جزيرة جاوا وأنا انحدرت من جبل * * * في الصيف تعود الزهور والورود والزنابق من منافيها فتبتسم الحياة بعد تجهم فتتذكر ربيعك هناك وأنت تصعد روابي الشيح وتهبط روابي الزعتر 30
ومن شدة سعادتك تطير الكآبة من صدرك ويحط في صدرك الرضا والشكر سيحتجب عنك الشعر حتى تغدو صحراء تحت سماء الجدب لماذا تخليت عني أيها الشعر؟ ألست أنت من أوصلني إلى هنا؟ تتوسل إليه أن يعود دون جدوى يا لوحدتك حتى الشعر ال يطيق المنافي لم تكتب إال المراثي وكأنك حانوتي يدق المسامير في النعش كنت أعلم أنك ستهجرني لما خرجت لو ُ والشعر نحنحة وحمحمة وسعلة وعطسة ُ
31
والشعر صرخة وهمسة والشعر تنهيدة وآهة وكل ما يخرج من األعماق وينفجر ها أنا محروم حتى من األنين والشعر حادي واأليام قافلة وأنا أحدو أيامي بالصمت والشعر نبع يفيض باألحزان والغبن تسطرها على الورق فال يبقى في أعماقك حزن كيف أعيش بال شعر يؤنسني وما عرفت أنيسا أبر من الشعر يا للخيانة حين تحتاجه يرحل ويتركك لليتم مثلما مات أبي وأمي لكن صحراءك أعشبت بالسرد سخرت من الطغاة ومن حراس الجحيم وضحكت منهم لكنه ضحك يبكي 32
وما السخرية إال مرآة سوداء ترى فيها صبحك ليال وترى العالم مقلوبا فتنكشف لك عورات الطغاة وتغدو الذكريات سيال منفي لكنك حر فأكتب ما يحلو لك ال رقيب يحصي أنفاسك وال سجان وال سجن * * * ودلفت مقبرة الملوك وخزافة زرقاء ومتحف ومرسم وجامعة لكنيستها الجديدة مهابة قوطية أمامها نحتفل بالعام الجديد وفي منتصف الليل يحتضن الغرباء بعضهم 33
بينما تشتعل السماء بالضوء والصخب دائما تتحاشى المرور من تحت برج الكنيسة القديمة المائل إال عندما تمر مترنحا في برزخ ما بين الحياة والموت هناك اكتشفت مواطنك يوهانس فيرمير الذي سبقك إليها بثالثة قرون في الحي الكاثوليكي زرت بيته عندما كانت الطوائف معزولة عن بعضها ورأيته في غرفته يرسم لوحة الفتاة ذات القرط وتتساءل لماذا هذه البالد غنية بالرسامين وفقيرة بالفلسفة والشعر؟ وأكبر أدباءهم ال يزال يكتب عن آخر حرب هل ألن الخوف من الغرق أجبرها على النظر إلى األرض؟ 34
أم أن هشاشة األرض تخشى من الخيال المجنح؟ في ساحة الكنيسة الجديدة تقف أمام تمثال هوغو دي خروت مؤسس القانون الدولي فتكتشف العقلية العملية لشعبك الجديد شعب يبني السدود ويردم البحر ليجعلك تطوف البالد على دراجة اقتصادي حتى النخاع ينفق بحساب ال يفهمه عقلك وال يكثرت باألناقة المسرفة ويداري بالدبلوماسية الجبابرة من حوله * * * ال شعر في هولندا يحلق في السماء الشعر على األرض يتفتح ليلكا الشعر في المروج الخضر 35
وفي امتالء ضروع البقر وفي العيون الخضر والزرق وفي النهد العاري على الشط وفي القرميد األحمر الالمع تحت الشمس وفي القطارات الصفراء وهي تشق الحقول والقنوات المائية يسبح فيها البجع وفي الجسور حين تغلق وتنفتح وفي المباني القديمة وهي تتأمل قامتها في الماء وفي أرضية الخشب في الضوء والظل وفي الورق األحمر المتساقط من أشجار الخريف في األرصفة الحجرية في سنابل القمح وهي تتماوج في الريح 36
وفي التفاح والكمثرى والكرز وفي غابة الكستناء وشجر البلوط والسرو في صمت المتاحف وأجراس الكنائس تدق من بعيد في جفلة الحمام حين يطير فجاءة وفي نعيق طائر العقعق في وميض الثلج تحت الشمس وفي طاحونة الهواء وهي تدور في حقل من الزنبق وفي األغاني الحزينة وهي تنعي بحارا ابتلعه البحر وشراعا تاه بين زرقتين في مذاق الجبن األصفر ولمعة األسماك في النهر 37
ربما لهذا مات في قلبك الشعر واستيقظ من غفوته السرد * * * هم مثلنا يبنون أحياءهم حول الكنيسة والسوق هم مثلنا كانوا يسورون المدن ويبنون األبراج من حولها هم مثلنا يتعصبون لمسقط الرأس ويحتفلون في األعياد بصخب هم مثلنا ال يزالون يحتفلون بمولد نبيهم وموته وعودته إلى األرض حتى الذين ال يؤمنون به يحتفلون بصخب هم مثلنا يحرثون ويزرعون ويخشون الفقر والمرض والموت هم مثلنا يعشقون ويكرهون ويدمنون الشراب وكرة القدم 38
هم مثلنا ينقسمون إلى علمانيين وأصوليين وبعضهم يذهب إلى الكنيسة يوم األحد ويطالب بعودة النساء إلى البيوت غير أن قبائلهم اندثرت ولم يبق منها إال اللقب * * * تسير جنب الحياة ال تقطف منها إال ما هو يانع وكأن الحياة نهر يجري وأنت على ضفته لقلق يقف على ساق واحدة ليخطف من الماء سمكة أو مثل عنكبوت ينسج شباكه في الركن وينتظر الفريسة فتاة أطاح بها الخمر والليل 39
تقع في شباكك تضاجعها وكأنها آخر امرأة على األرض وتعض جيدها المرمري مثل ذئب يلعق جرح الفريسة فتغرز أظافرها في ظهرك كالكما جريح وجارح وفي الصباح تختفي تنساك في محطة القطار وتذكرك عندما ترى آثار أسنانك في مرآتها فترفع ياقتها وتنساك إلى األبد وتعود ذئبا يعوي وحشته في الليل ويطارد الطرائد * * * 40
وطني في األغاني في بحة الزكرة وفي أنين النأي في حشرجة المزمار وفي نحيب المرسكاوي في صوت الغيطة وهي تدرج العريس في المألوف حين تسكره الدفوف في أغاني النساء وأغاني العبيد في صوت الطبل والزل في الحضرة حين تحلق هائمة فوق دخان البخور في أغاني الحصاد والهدهدة في أهازيج الحرب في الزغاريد في حمحمة الخيل في الدرابيك حين يلتصق بها التمر 41
في صرخة المكلوم في البكاء في أغاني العلم وفي أغاني الختان وفي صالة االستسقاء ودعاء الفجر في خرير الماء وهدير الموج * * * وطني في السكايب في البالتوك والفيس بوك وطني عالم افتراضي أدخله في المساء بأسمائي المستعارة ولقبي الوحيد منفيون هاربون من القهر وأسرى في حروب خاسرة ومعارضون وطحالب ومهاجرون أفلسوا في بالدهم 42
ومغامرون وجواسيس وسجناء سابقون منهم من جاء في الطائرات ومنهم من حملته القوارب من نيوزيلندا إلى األرجنتين ومن فلندا إلى جزر المحيط الهاديء عصبيون وضاحكون وساخرون مكتئبون وغاضبون وراضون بالقدر الذي أنجبهم في ليبيا وحملهم إلى أقصى المنافي فأكون وفرج ستة وحميد ورحيل معمر فرج الغرياني والفزاني والبرقاوي دعاة الملكية والعودة إلى الدستور إخوان وجهاديون وملحدون 43
علمانيون وليبراليون وانفصاليون وثمة من يمجد الطاغية فيطردونه من الوطن االفتراضي إلى غرف األمن والجوسسة تستمع إليهم لتروض وحشتك ولتكتشف عقد شعبك غير أنك تدرك أن حرية بال ضفاف ستغيرهم وتمنحهم حق الكالم سيصرخون أوال ألنهم لم يصرخوا من قبل ثم يتعلموا اإلنصات إلى اآلخر ستولد ثورة في غرف الدردشة تنمو مثل جنين كل يوم وتخرج من رحم الشاشات 44
إلى شوارع الحياة لتحقق المعجزة وتزلزل الزلزلة * * * هولندا جنة الطيور حمامها يمشي على األرض أكثر مما يطير ومن كثرة الماء هجرت النوارس الشطآن والمرافيء وتوغلت في األرض استقالت من وداع المبحرين ولم تعد بشارة للعائدين وأصبحت تثقب بمناقيرها أكياس القمامة لتأكل ما تجد أصبحت متسولة 45
تزاحم البط واألوز والبجع وتلتقط في الهواء ما يرميه العابرون طيور طيورطيور بعضها ال أسماء لها في لغتي وبعضها متغطرس يزاحمك في محطة القطار يمشي مثل عسكري روسي ويأكل ما يساقط من المسافرين ويرمقك بنظرة غاضبة كأن البشر راحلون يوما وهو باق غير أنك تغرم بمالك الحزين وتغرم باللقلق فهو حزين مثلك ووحيد يقف طوال النهار على ساق واحدة وال يمل 46
وهو يهاجر إلى الشمال مثلك ويعشعش مثلك قرب السماء ويهجم على النار حين تشتعل الحرائق وليس مثلك يفر * * * تحب دائما أن تراقبه تتعجب من صبره األيوبي ومن مآقي حزنه لماذا تقف على ساق واحدة أيها اللقلق؟ لقد انقضى النهار وأنت تنظر في الماء هل أنت نرجسي إلى هذا الحد؟ أم أن حظك اليوم عاثر؟ 47
فلم تصب ما يكفي من السمك يتجاهلك كأنك لم تكن كأنك شبح ال يراه وعندها تعظم وحدتك فاللقلق مهاجر مثلك إلى الشمال غير أنه ال يراك وال يسمعك وال يعنيه من هجرته إال السمك * * * أينما وليت وجهك ثمة ماء أيها الماء يا روح الحياة كم شكلاً لك وكم جسد؟ ماء مياه غيث ومطر 48
بخار وثلج وقطر وبرد ضباب سحاب ندى وموج والماء روح اإلله ها هو من فوق السحاب يبرق ثم يرعد والماء خالد ال يموت يصعد إلى السماء لكنه ابدً ا يعود والماء حين يحاصره الجفاف يهاجر يطير فوق أجنحة السحاب ويهبط فوق الغابات والجبال والمروج الخضر والبحر يبدأ بقطرة واحدة يشربها الملح 49
والماء مثلنا يرضى ويغضب وبين خرير وهدير
لماذا أيها الماء أنت غزير هنا
وقليل في بالد الرمل؟
إال أن الحضارة تبدأ بالماء
وتنتهي في الماء؟
تبدأ بالنهر وبالشالل وتنتهي بالنوافير
وسجع الحمام والماء يأسن
حين يستقر في القعر
لذلك يرحل دائما
وإذا لم يجد أين يهطل
يبكي فوق البحر
* * * 50
والرمل يشبهنا يستقر مثلنا ويرحل خلف الماء والمطر يمتطي صهوة الريح وإذا وجد الماء يهبط ليشرب والواحة تبدأ بالنبع بقطرة ماء وذرة رمل وعندها تعشب األرض ويخرج من بذرته الشجر يحمل األعشاش والتغريد وعندها ينام الرمل في الظل ال وطن للماء والرمل الكون هو الوطن وأنت يا أيها الغريب 51
حيث تكون حرا حيث تكون أنت يكون لك وطن * * * والمنفى سجن باذخ لكنك فيه وحيد والمنفى مكان حائر بين الوجود والعدم والمنفى مكان مترع بالرضا أو بالندم والمنفى بذرة يذرها الريح في السماء فإذا تركها تسقط تخرج نبتا جديدا تستهوي الدارسين 52
أو يقتلعها محراث عجول قد تندثر أو تخرج نسال جديدا الطيور واألسماك والحيوانات تهاجر وكذلك البشر تمضي ال توقفها التماسيح بين الضفتين وال توقفها الوحوش في السهول وال الرياح تنهك الجناح وال عواصف الثلج توقف هجرة البطريق ال منحدرات الصخر وال الدب يوقف سمك السلمون من العودة ويهاجر األنبياء خوفا على الدعوة ويعودون ليسقطوا األصنام تهاجر فتجاهر بالرفض 53
وال تبقى في الوطن سجينًا وإذا كان الوطن هو المنفى يصبح المنفى هو الوطن * * * أمستردام عشرها مبغى وربعها متاحف والربع متاجر تبيع الحشيش وفطر الهلوسة وتسمح باإلجهاض والموت الرحيم هناك تتعرف على رامبرانت وهو يرسم وجهه السمين وتتعرف على فان خوخ وهو يرسم لوحة عباد الشمس ال تزال أزهارك ندية 54
كأنها قطفت اليوم تتأمل وجهه الضامر لحيته الحمراء وعينيه الضيقتين حيث يسكن الجنون والصرع وحيث المنافي تسطع منفي في بالدك يا فان خوخ ومنفي في مصحة قرب باريس ومنفي مثل ليلتك الساطعة بالنجوم مثل حقل الذرة والغربان ومثل لوحة الحزن لماذا قطعت أذنك؟ لماذا اطلقت الرصاص على رأسك؟ كأنك تقول 55
إذا اجتمع عليك الجنون والمنفى فالموت هو الحل * * * تمضي في الشوارع المزدحمة فال يراك أحد تدخل إلى المقهى تشرب قهوتك على مهل فال ينظر إليك أحد وال يكلمك أحد تدخل إلى الحانة تشرب كأسك في صمت تسمعهم يتهامسون وأحيانا يصخبون ولكن ال ينظر إليك أحد يتجاهلك الساقي 56
تشير إليه من بعيد فيحضر كأسا أخرى وينسحب في صمت وأنت في الركن وحيد تمضي فتسلمك الشوارع للشوارع وال يكلمك أحد ال الشرطي يوقفك ويطلب منك أوراقك وال العاهرات يوقفنك توقفك فقط إشارات المرور فتعبر تحت الرذاذ إلى حيث ال أحد ينتظرك كأنك ميت وروحك علقت بين السماء واألرض * * * 57
ها أنت ذا في إذاعة هولندا تبدو خلف شاشتك مبتسما وواثقا لكن خيطا رفيعا من األسى اليزال منقوشا على جبينك من عينيك يشع الرضا وكأنك لم تعبر الجحيم وحيدا صار لك صديقات وأصدقاء يتفقدون غيابك يرن هاتفك بإلحاح حين تغيب وتمرض ال تغب عنا ففي غيابك وحشة لنا ضحكتك المدوية ولنا سحرك الغامض تدخل إلى بيوتهم صاخ ًبا وتخرج صاخ ًبا
58
تنبح كالبهم مرحبة وأنت ال تزال في أول الشارع عندما ترن الجرس تسمع لهاث الكالب وهي تخمش الباب تقفز عليك حين ينفتح الباب وتلعق وجهك تعرفك من رائحة وحشتك تعرفك من حزن وجهك وتشم قلقا يشتعل فيك ويخبو وعندها تدرك أنك أهلكت الكآبة وروضتها وروضتك الغربة * * * باروخ سبينوزا أيها المنفي 59
من شوارع بالدك يا نبي العقل واألنوار ها أنا أزورك في آخر بيت اختبأت به في فوربورخ قرب الهاي أتوقف أمام تمثالك البرونزي عيناك تسطعان بحزن البرتغال وبمنافي اليهود أتوقف أمامك وأمام عظمة العقل وكيف غصت في النصوص فكشفت زيفها اآلن اسمك موجود في كل مكان في الشوارع والساحات على المباني العامة وعلى الجوائز الرفيعة 60
بينما اختفى الحاخام الذي طردك من ملكوت جهله وال أحد يذكر اليهودي األرثوذكسي الذي طعنك في عنقك فعشت ما تبقى من حياتك وأنت مختف في بالدك لكنك لم تنهزم كتبت كل ما يكفي لتشعل األنوار في قارة الظالم ما جرى قبل ثالثة قرون يجري اآلن في بالدي نفس الوجوه القديمة يا باروخ تحاول أن تطفيء األنوار وبالقرب منك في اليدن مات نصر حامد أبوزيد منف ًيا
61
لم يقل مثلك كل شيء لكنه قال ما يكفي ليشعل األنوار ويرحل الظالم * * * سيثور شعبك وستعرف لون معدنه األصيل سيهتز عرش الطاغية وستسيل الدماء غزيرة سيشرب الورد حتى يرتوي وهو يزهو فوق القبور وستشرب شقائق النعمان ما يكفي لتزهر في ألف ربيع سينتصر شعبك ويذل الطاغية مثلما اشتهيت ويرمي كل ما تركه في القمامة 62
منتصرا وستعود إلى بالدك ً
لكنك لن تجد البالد هي البالد ستجد البنات الصغيرات اللواتي ترعرعن في حضنك محجبات وستجد أندادك وقد شاخوا في غيابك وتجد أصدقاءك قد رحلوا من القهر فتدرك أن أقسى أنواع المنافي هو المنفى في الوطن وتكتشف أنك صرت غريبا إلى األبد
63
بحرالأطالل ُ إلى أمريء القيس ال أبكي على األطالل وإنما أبكي حياة قبل أن تزهر ُ تذبل ب الماء والكأل أتع َق ُ وقبري كلب يقتفي أثري عضني فإذا ماسقطت في الطريق َ في هذه الفيافي الموحشة 65
مامن أح َبة في انتظارك
يمضون تطويهم دروب وخلفهم على الرمال أثر أبكيه قبل أن تأتي الرياح فتُخمد مابقى من نبضه لما رأى الدرب دونه «بكى صاحبي َ وأيقن أنَا الحقان بمن» طوى فقلت له :إنما األطالل مرآة نرى فيها حتفنا آت ًيا
نفس تموت سو َية «فلو أنها ُ أنفسا» ولكنها ُ نفس تُساقط ً
كنت التستطيع دفع منيتي «فإذا َ فدعني أبادرها بما ملكت يداي» «لكي يعلم الناس أنني امرؤُ أتيت الفتوة من بابها» أنا س َيد الصحراء
66
ولكن ليس لي وطن الشتاء ضيف في ثياب الصيف والربيع ُ برق يوقظ من غفوته الكمأ مدبرا فيعود إلى نومه يبصره ً
حمى عمياء وفراشة تدنو من لهب نهاري َ
وليلي عاشق متَيم تواسيه النجوم الباكيات ويشكو للقمر سجنه الفسيح
تحت خيمة زرقاء تشدَ ها إلى األرض حبال األفق هذه ليست حياتي وإنما هي أيا ُم مسرعات
أزرع في رحمهن قولي وفعلي فإذا ماطواني الردى ُيزهر في حقلهن َذكري
وت ُ ُورق على الشفاه أيامي البائدات
لمات خالدً ا إذاما أحاطت الم َ بقومي ُ َ وح ًَيا إذا ما جلسوا للسمر
67
وطني بين ضلوعي وحيث تضطرم ناري تُبدَ د وحشة القلب وال َليل والمتعب وتدعو من أقصى القفار الجائع ُ أنحر راحلتي لضيوفي ينامون متخمين
أتضور وبقربهم أغفو جائعا َ فما غدُ إالَ يو ًما آخر
شدَ لجامه بذيل اليوم
وحيد في الفيافي وعشيرت يظ َلي
َ والذل أتقدمهم لكل غبار وأصدَ دونهم الردى الرماح فإذا ماطالت قلبي ُ
محر ُم» «فال تقبروني إن قبري َ
ولكن في بطن النسور أثوى بعضا منها ل َعلي أكون ً
حين تعلو على الكائنات تح َلق السلف أنا سيد الصحراء وعبد لوصايا َ 68
«إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد» أخاف َ الذل والعار ُ أموت والقنا في يدي ودون عرضي ُ لذلك أدفن طفلتي الباسمة وهي تنفض التراب عن لحيتي وطن أم مفازة؟ غير أن به «منأى للكريم عن األذى وفيه لمن طلب المروءة موطن» السراب صحراء يرتع فيها ُ
الحجر ويبكي تحت سوطها ُ
«فما أطيب العيش لو أن الفتى حجر» «أفرق جسمي في جسوم كثيرة» وينكرني إناءي إن جئته وحدي «وتستحي يميني وبينها وبين فمي»
دجى ظالم أعمى وأبكم 69
غير أني أتصيد َ اللذات إذا ماوردن منهلي متسترا بالليل مثل الحلم وأنفذ إليه َن ً
أتزود أليامي الصائمات َ
من كل ضامر البطن وافر الردف والصدر
أدس همومي في األسود الفاحم ووجها صبح يضيء ليل الكحل على نحرها يدركني سيل فأغرق وهي قراري وتغرق وأنا موجها المندفع ُ الخالخل تحتي إذا رنَت وتخضر تنتشي أيامي َ إليها أمضي ال أهاب المنايا سهما منذ أن رمت بعينيها ً فأصاب في فؤادي مقتل
أنشد شعري للدهر 70
الدهر أيامي سيلتهم ُ ُ
وينجو شعري
صحراء موحشة كل َ خل فيها عارض
سوى ناقتي وفرسي وسيفي
71
بحرالحياة ُ إلى أبي نواس في بغداد ما من أطالل تستوقف الباكي واألفق الذي حجبته المباني ُ َسع في الخيال يت ُ وبغداد فانوس سحري اتسع لحكمة العالم تحت ضوئه احتضرت البوادي وعند نهرها أنهت صيامها الصحرا ُء 73
هذه هي حياتي وما الخمر إال قنا ًعا من خلفه أرى دهري وليس يراني إنما العنب جسد فان روحه الخمر ومذ رأيت جسدي فان ًيا
تعاطيت روح العنب ُ
لتبقى روحي ُمعتَقة في دنان الدهر
وكأنني مار ُد في ُقم ُقم
متى ما أزيح غطاءه
عاد من جوف الردى ح ًَيا ُ يرزق
هذه هي حياتي وما قبلها إالَظلمة الرحم «فال جف دمع الذي يبكي على حجر والصبا قلب من يصبو إلى وتد» 74
فدع الخالء للصدى للضب ودع الصحراء َ
وتعالى إلى حيث الربيع خالدً ا ال يرحل رسما في العراء «فال تبك ً
يقاسي الريح والمطر»
وأبك إن بكيت أيامك الظامئات وأبك شبابك إن ولى بتول لم تُورقه شقاوة النهد والشاب تحت العناقيد فاسقني اسقني ألنسى دائي نسيت واسقني ألذكر ما ُ تمر صائمة فكل لحظة َ
خطوة عمياء في طريقها قبر الصبا وإذا كانت في َ
75
حياتُك عذراء عانسا حين تهرم فستجدها ً
والخمرة بنت الشمس والدهر
ُ يسرق أيامي رأيت الدهر ومذ ُ اغتصبت أبنته ُ عجوزا اغتصبتُها ً كلما شابت ازدادت ص ًبا
«ودب في طينها الحلم» َ تركت لذتي في شعري ُ
وتركت شعري حاد ًيا للدهر ُ
كلما التقى كأسان
ُ العقل وانفلت من عقاله تُح َلق روحي فوق المكان ويبعث شعري من لحده حياتي خمر ُمعتَقة
76
يفض ختمها ال َ
إالَ من كسر قيوده وانعتق
لقد استعرت من الزمان ربيعه ونفخت الحياة في األشياء ُ مجازا جعلت من الخمر ُ ً
وجعلت من شعري حياتي سكرت فليس بخمركم فإذا ُ
إنما بخمر االستعارات
حرمة ألفاظي صحراء ُم َ
تحجب غابات من حالل المعاني فيا الئمي في صحوي وسكري «صر في الجنان ودعني أسكن النار»
«إنما ديني لنفسي ودين الناس للناس»
77
بحر الكبرياء إلى أبي الطيب المتنبي ُ العراق وال الشا ُم وال مصر ال
استحملت طموحي وأحالمي رمتني الدنيا باألرزاء حتى
توهمت أنها من خيالي ُ علي بشوشة وأقبلت َ
حتى شربت من الغمام أنادم حينًا أقوى ملوك األرض 79
وحينًا تسلمني المنافي للمنافي أنام حينًا على عواء الذئب وحينًا يوقظني ُ هديل الحمام أمضيت عمري فوق سرج سابح سيفي في يدي وقدمي في الركاب رنوت إلى المجد غير آبه فأكثرت من عواذلي وحسادي ُ انبتوا لألكاذيب أجنحة ليحولوا دون مقاصدي ومرامي ونسوا أنني شاعر تتفصدالقصائد من مسامي مدحت ملكًا اسبقه بفخري إذا ُ
ٍ قواف لي الصدر وله ما تبقى من مدحت من جعلني در ًة في تاجه ُ وهجوت من حاصرني بكالبه ُ 80
تدعوني الملوك من كل حدب فاختار منهم من لقامتي يداني فإذا برز لي منهم خصيم بدلتهم كما أبدلها نعالي ألطوي «الفالة بال دليل ووجهي والهجير بال لثام» ال الغواني كبلنني وال بهرني بريق الذهب أكلت في الصحراء مخ النعام وشربت في القصور من كأس الذهب التعلل ال ُ ُ وطن «بما أهل وال ُ
كأس وال سكن» ُ نديم وال ُ وال ُ ولدت في زمن وضيع ُ
أبيع فيه من يشتري الكالم إذا اجتمع الشعراء للصالة 81
فأنا المؤذن واإلمام أشير للمعاني فتركع تحت يراعي وغيري يحفر صخرها باألظافر إذا مدحت ملكًا إلى الثريا أرفعه وأمر ُغ خصومه في التراب «وما الدهر إال من رواة قصائدي الدهر منشدً ا» شعرا أصبح ُ إذا قلت ً
«وللسر عندي موضع ال يناله نديم وال يفضي إليه الشراب»
أحصيت جراحي وحين تفشت أهملتها «فصرت إذا أصبتني سها ُم ُ
ُ النصال على النصال» تكسرت أموت من أجل بيت واحد
وأنا على سرجي أقاتل ويموت غيري نائما في فراشه 82
سيخلدني شعري وتقتلني قصائدي
وسيذكرني الناس كلما ُذكر
السيف والرمح والقرطاس والقلم
83
بحر الظالم إلى أبي العالء المعري ظال ُم هي الدنيا ظالم
أراها بالبصيرة والبنان أزجرها حين تستيقظ
وأتأملها حين تنام وكأنني قمر ينير دجاها وهو ال يراها ذهبت إلى بغداد طل ًبا للعلى
85
فعدت منها باألسى وبما يكفكف دمعتي وما عيناي إال ثقبين أبيضين منهما ينحدر الدمع وكأنني أصبت بالعمى من كثرة البكاء في رحم أمي ولما ال أبكي؟ هل سأخشى من دمعي على بصري؟ لم أملك في هذه الفانية سوى محراب في معرة النعمان في الليل مضجع راهب وفي النهار درس عالم وأقفلت بابي دون العالمين سوى لطالب علم أو أديب ينادم 86
«أراني في الثالثة من سجوني فقد ناظري ولزوم بيتي وكون النفس في الجسد الخبيث» أغوص في ظالمي وفي حزني وغمي وحيد أعانيها بغير عيال فلم يقبل وجهي المجدور غير أمي حتى شكرت الله على العمى مثلما شكره المبصرون على البصر وما جسدي إال قبرا لروحي أعذبه بالصيام لعله يهلك فتصعد روحي وببصيرتي رأيت ما خلف الحجب وجدت الحظ في الدنيا مثل أعمى يرى بأنامله في الزقاق يصيب أحدهم فيغنى ويدفع الباقين إلى اإلمالق 87
وما خيرتني الدنيا الختار سوى أن أعاشرها بالطالق وما الدنيا إال قضاء وجبر وحاكم ومحكوم وقهر وظلم وما الموت إال أعمى بالسيف يضرب فيقتل من أصاب ويرجي الناجين إلى حين مرا وإذا كان طعم الموت ًَ
أمر من طعم الحياة فليس َ
نشربها حتى الثمالة ظلما وقهرا وذل
وفي قطرتها األخيرة نذوقه ويذوقنا الموت وما الحب إال أعمى 88
يغشى القلوب بال بصر فإذا أبصر يتحول إلى بغض وحقد يدَ ب الموت فينا منذ أن نولد كما يدَ ب الدو ُد في األرض فإذا غشانا نعود مرة أخرى إلى األرض والدود «فخفف الوطء فما أظن أديم األرض إال من هذه األجساد» حرمت أكل اللحوم وأكلتمما نبت وكل ظالم أغوص فيه أضيئه بسقط زندي وما فكرت في أمر عظيم إال وفككته تحت ظنوني وشكي ومن شدة ُزهدي في الحياة زهدت حتى في النشور والحشر 89
لم أر من األلوان إال لونًا واحدً ا فكأنني في جهنم الحمراء نُشرت وإذا «فنيت بيض األماني فهذا الظالم ليس بفان» أمنت بالله الواحد األحد وكفرت بغيره لم أعبده إال بعقلي وصومي خفيف الظل مشكور الخصال كبير العقل قليل حاسدي انتظرت موتي دون رجاء وفاجأني وأنا في السن طاعن لم يبق تحت أسمالي سوى جلدي وعظمي كثيرا فقلت له تأخرت ً فمرحبا بك يا قاتلي
أرحني من هذا الظالم 90
وأرحني من سود خواطري تمنيت أن تحرق جثتي فال يبقى بعدي ال قبر وال لحد لم أترك ورائي أرملة ولم أترك ولد علي «هذا ما جناه أبي َ
وما جنيت على أحد»
91