منفى

Page 1

‫يوزع هذا الكتاب مجان ًا‬ ‫مع العدد (‪ )6‬من مجلة املستقل‬





‫المنفى‬ ‫شعر‬

‫تأليف‪ :‬عمر الكدي‬ ‫© جميع الحقوق محفوظة‬ ‫مجلة‬ ‫أسبوعية سياسية شاملة‬

‫طبع في مارس ‪2015‬‬ ‫مطابع األهرام‬ ‫جمهورية مصر العربية‬ ‫المدير الفني وتصميم الغالف‪ :‬سامح الكاشف‬ ‫اإلخراج الفني والتنفيذ‪ :‬أحمد نجدي‬


‫المحتويات‬ ‫منفى ‪7.......................................................................................‬‬

‫بحراألطالل‪65...........................................................................‬‬ ‫ُ‬ ‫بحرالحياة ‪73..............................................................................‬‬ ‫ُ‬

‫بحر الكبرياء ‪79..........................................................................‬‬

‫بحر الظالم‪85.............................................................................‬‬



‫منفى‬ ‫ها أنت ذا تخرج إلى المنفى‬ ‫ال تحمل من بالدك إال حقيبة‬ ‫وعلى كتفيك أربعون عاما‬ ‫من القسوة والريبة‬ ‫وتحمل معك أحبابك‬ ‫وما تبقى من طفولتك البعيدة‬ ‫تركت خلفك كل شيء‬ ‫أيامك الحزينة وتلك السعيدة‬ ‫لماذا ترحل في الشتاء؟‬ ‫‪7‬‬


‫مثلما يرحل الثلج إلى بالدك الجديدة‬

‫لماذا ترحل في رمضان؟‬

‫أال أنه يأتي من منفاه مرة كل عام؟‬ ‫أم ألنه يشيخ بسرعة‬

‫فيبدأ بهالل وينتهي بهالل؟‬

‫أم ألن أمك ماتت مثل أمها في الخامس من رمضان؟‬ ‫ربما ألن العسس يغفون في فجره‬ ‫فتنسل من بالدك هار ًبا‬

‫مثلما يختفي الظل في الظالم‬

‫* * *‬

‫ها أنت ذا تصرخ في المطارات‬

‫وتطرق أبواب قوم ال يعرفونك‬ ‫أنا الجيء فاقبلوني‬

‫تنام في عنابر مع الجئين عابرين‬

‫وتسمع أحالمهم وكوابيسهم بكل لغات األرض‬

‫أفغان وصوماليون وعراقيون من كل الملل‬ ‫‪8‬‬


‫وسودانيون ونيجيريون يدعون أنهم سودانيون‬ ‫ومن التبت والبوسنة وسيراليون وليبيريا‬

‫إيرانيون وأكراد وخليط من يوغسالفيا السابقة‬

‫ومن كل بالد الطغاة وما أبقته الحروب‬ ‫وسط هذه الجوقة أنت الليبي الوحيد‬

‫في معسكر الالجئين حيث وضعت عصاك‬ ‫ينادونك بعمر الليبي‬

‫عندها تتذكر أنك سليل الجئين‬

‫لم تفقد فقط بالدك‬

‫لقد ضاعت قبلها األندلس‬

‫في أصيلة انتظر أجدادك عودتهم إلى غرناطة‬

‫وهم يغزلون صوف غربتهم‬

‫وينسجون عباءة العودة دون جدوى‬

‫ومن هناك جاء جدك ليزرع نسله في قريتك‬

‫وها أنت ذا تعود مرة أخرى إلى الضفة القديمة‬ ‫* * *‬ ‫‪9‬‬


‫تذكر دائما أن العودة مستحيلة‬ ‫ستموت هنا مثلما يموت الغرباء‬ ‫بال مأتم وال بكاء‬ ‫مثلما يموت الفيل بعيدً ا عن القطيع‬ ‫تخرج من الزحام إلى الزحام‬ ‫حتى صارت لك غرفة‬ ‫تسكن فيها وحيدً ا‬ ‫وتصطحب هات ًفا ال يرن‬ ‫وإذا رن يرن الفجيعة‬ ‫هكذا وصل نعي الجيالني‬ ‫عندما مات ساجدً ا‬ ‫وهو يطلب من ربه أن يقبضه‬ ‫كفاني مما ابتليت‬ ‫أيها الواهب خذ وديعتك‬ ‫عندها تذكرت صرخته‬ ‫‪10‬‬


‫«ما الذي جئت تفعله في بالد‬ ‫لست تعرف فيها أحد؟»‬ ‫هل كنت قبل مماتك‬ ‫ح ًيا أم ميتًا؟‬

‫رأيتك مرة تضع إبهامك في النار وال تتأوه‬

‫وكم رأيتك تغدو بين العقل والجنون‬ ‫سأشرب نخبك وحيدا‬ ‫أخيرا نلت ما طلبت طويل‬ ‫ً‬ ‫وآن لك أن تستريح‬

‫* * *‬ ‫يطرق المطر نافذتي‬ ‫وأحيانًا يصفعها الثلج‬ ‫أرفع الستارة فتطالعني سماء مكفهرة‬ ‫وفي قلبي يهطل الرماد‬ ‫سأروضك أيتها الكآبة بعزمي وصبري‬ ‫‪11‬‬


‫وسأجعلك رفيقتي الوحيدة‬ ‫تنهض كل يو ٍم من الرماد‬ ‫ُ‬ ‫لتخطو إلى يوم جديد‬ ‫تتعلم كيف تكسب األصدقاء‬ ‫دائما‬ ‫وتعود مثلما كنت ً‬

‫مشج ًبا يعلق عليه اآلخرون أحزانهم‬

‫وبئرا عميقة لألسرار‬ ‫ً‬

‫تنظف المراحيض يوما‬ ‫ويوما توزع الجرائد‬ ‫وأحيانا تنقل األنقاض‬

‫أو تغلف الورود والنباتات‬ ‫وتطبخ ليأكل معك اآلخرون‬ ‫وألنك وحيد وكتوم‬ ‫تزورك النساء خلسة‬ ‫تطعمك حواء قات الصومال‬ ‫‪12‬‬


‫وتسقيك أم عادل من حزن العراق‬ ‫وال تدري ماذا أحبت فيك الفتاة البوسنية‬ ‫هل ألنك تضحكها حتى حدود الشبق‬ ‫أم ألنك تشبه أباها القتيل؟‬ ‫في غياب شعبك‬ ‫استمتع ولو برهة‬ ‫برفقة عابرة‬ ‫* * *‬ ‫يدعوك السودانيون للعب الورق‬ ‫وللكسرة والمالح والونسة‬ ‫ويدعوك الصوماليون لجلسات القات‬ ‫وهم يؤبنون وطنًا من رماد‬ ‫ويدعوك العراقيون للمواويل الحزينة‬ ‫متناسين لبرهة حروب الطوائف‬ ‫ويدعوك اإليرانيون لجلسات الشاي‬ ‫‪13‬‬


‫وهم يحلمون بأيام الشاه والسافاك‬ ‫ويدعوك البوسنيون للخمر‬ ‫وللنكات الفاحشة‬ ‫وتبقى وسط الزحام وحيدا‬ ‫تتذكر بالدك مثلما تتذكر أمك الغائبة‬ ‫تبدو من بعيد أحيانا حانية‬ ‫وغالبا ما تبدو ذئبة ضارية‬ ‫تفتقد األصدقاء واألماكن األثيرة‬ ‫تفتقد رحلة البحث عن الكمأ‬ ‫وتين أجدادك األخضر واألسود‬ ‫تمر األيام بال قمر يطل عليك‬ ‫تفتقد الجبال والغيوم الشحيحة‬ ‫أنت المولود في الجبال‬ ‫يكون منفاك في بلد بال جبل‬ ‫معظمه تحت سطح البحر‬ ‫‪14‬‬


‫وتفتقد بحرك األزرق‬ ‫ناعسا مثل زيت في الخابية‬ ‫أو هو يرغي ويزبد‬ ‫* * *‬ ‫يستلقي المهاجر‬ ‫فال يمكنه أن يوقف‬ ‫نزيف الذاكرة‬ ‫يعود إلى حياته السابقة‬ ‫ويفترض بدايات جديدة‬ ‫ال تفضي به إلى منفى‬ ‫يعود إلى طفولته البعيدة‬ ‫ماذا لو أن أباك لم يطلق أمك‬ ‫وأنت في الثالثة؟‬ ‫ماذا لو لم ينتزعك منها‬ ‫ويرحل بك إلى طرابلس؟‬ ‫‪15‬‬


‫ماذا لو لم يمت‬

‫وانت في التاسعة؟‬

‫ماذا لو ماذا لو‬

‫ولكن تكتشف أن كل االفتراضات‬

‫تنتهي بك إلى المنفى‬

‫ألنك سارق النار من اآللهة‬

‫وتحاول أن توقد شمعة‬ ‫في بالد الظالم‬

‫وليس أمامك إال الموت‬

‫والسجن أو المنفى‬

‫وفي كل االفتراضات‬

‫لم تتخل عن الشمعة‬

‫ها هي ال تزال في يدك‬ ‫واهنة راجفة‬

‫لكنها تنير درب الكلمة‬ ‫* * *‬ ‫‪16‬‬


‫ال شيء في بحر الشمال‬ ‫يبعث على االبتهاج‬

‫وال جبال في هولندا‬

‫تفجر فيك الحنين‬

‫بالد مسطحة تشقها القنوات‬

‫كأن الله لم يخلقها‬

‫وترك أمرها للمساحين والمهندسين‬

‫هناك تعلمت كيف تنهض أمة تحارب الماء‬ ‫وتكيف طواحين الهواء للمياه الغزيرة‬ ‫وكيف يختلسون األرض من البحر؟‬

‫تنمو الوحشة في ظالم صدرك‬

‫مثلما ينمو الفطر في غياب الشمس‬

‫تنمو عش ًبا أسود يرتوي من دمك‬

‫ومع ذلك ال تزال تضحك ضحكتك المدوية‬

‫وتنشر عدوى ضحكتك من حولك‬

‫يتعلق بك األطفال ويبحثون في جيوبك عن الحلوى‬ ‫‪17‬‬


‫يأتي إليك المسنون من أجل مساعدتهم في الترجمة‬ ‫يأتي إليك الهولنديون ألنك تجيد حل المشاكل‬ ‫حتى صرت وسيطا بينهم وبين الالجئين‬ ‫تنظم شؤون المقهى والمكتبة‬ ‫وتقلل من عنف أججته الحروب‬ ‫ألم تكن كذلك دائما؟‬ ‫أنت لست غريبا هنا بقدر ما كنت هناك‬ ‫هنا ستعرف أن الغربة مرض مزمن‬ ‫ال تداويه الهجرة والمنفى‬ ‫* * *‬ ‫ها أنت ذا تنتظر وتنتظر‬ ‫كأنك عند باب الله‬ ‫تنتظر قراره‬ ‫أن يسمح لك بهذه الجنة الصغيرة‬ ‫أو يعيدك إلى جهنم‬ ‫‪18‬‬


‫كأنك على الصراط تمشي‬ ‫وتخشى أن تسقط في الجحيم‬ ‫تمر الفصول وأنت تنتظر‬ ‫يأتي الصيف بمباهجه‬ ‫وأنت تنتظر‬ ‫يأتي الخريف فتتعرى األشجار‬ ‫تسقط أوراقها البنية في الشوارع‬ ‫تطيرها الريح في السماء وتختفي‬ ‫وأنت تنتظر‬ ‫يأتي الشتاء بزوابعه‬ ‫يتساقط الثلج في عيد الميالد‬ ‫وأنت تنتظر‬ ‫يأتي الربيع وعيد الملكة‬ ‫يصلب المسيح‬ ‫ويقوم من موته‬ ‫‪19‬‬


‫في عيد القيامة‬

‫وأنت تنتظر‬

‫يعود التوليب من منفاه‬

‫ويشتعل مثل ألسنة النار في أبريل‬ ‫يبدو مثل عمامة السلطان‬

‫مثل فنجان الشاي‬

‫ومثل جرس مقلوب‬

‫والتوليب قوس قزح‬

‫زهرة خجولة لكنها‬

‫تكفي إلعالن الحب‬

‫وعند حقولها ينتشي‬ ‫وينهض الفرح‬

‫فمتى يا أيها المنفي‬

‫تقوم من انتظارك الطويل‬

‫قبل أن تغرق في الندامة؟‬

‫* * *‬ ‫‪20‬‬


‫ال تين وال زيتون في هولندا‬ ‫وال طور سنين‬ ‫ال نخل وال رمان‬ ‫وال لوز يبشر زهره بالربيع‬ ‫وال خوخ سوى خوخ البنات‬ ‫يهتز في الطريق‬ ‫ال دالية تنام تحتها‬ ‫والعناقيد سقف‬ ‫تلقاها في األسواق‬ ‫براقة ندية ولكن بال طعم‬ ‫أفرح حين أرى القراص والخبيز‬ ‫على قارعة الطريق‬ ‫وأبحث عن ثمار الصبار‬ ‫عن التين الشوكي دون كلل‬ ‫أكله بنهم فتنغرز أشواكه في أصابعي‬ ‫‪21‬‬


‫وعندها اتذكر أشواك بالدي‬ ‫وطفولتي الحافية‬ ‫* * *‬ ‫ها أنت ذا توزع المشروبات والحلويات‬ ‫والجميع يبارك لك حصولك على قرار اللجوء‬ ‫يودعك الهولنديون بحفلة صغيرة‬ ‫سيفتقدونك عندما تنشب الخالفات بين الالجئين‬ ‫سيفتقدون حنكتك في ترويض المتخاصمين‬ ‫وكل ما تعلمته وأنت تتوسط بين قبائل سريعة الصهيل‬ ‫وسيودعك الالجئون بالدموع‬ ‫بعد عامين صارت لك عائلة كبيرة‬ ‫وها أنت ذا تعود مرة أخرى يتيما‬ ‫* * *‬ ‫ها أنت ذا في شقة صغيرة بمدينة دلفت‬ ‫تدخلها في نفس اليوم الذي يوارى فيه‬ ‫‪22‬‬


‫األمير كالوس الثرى‬ ‫هناك خلف شقتك في الكنيسة الجديدة‬ ‫في اليوم التالي تجد في بريدك‬ ‫رسالة من الملكة تعتذر لك عن اإلزعاج‬ ‫بسبب جنازة زوجها‬ ‫أه ليس هناك أقسى من الظلم إال اللطف المفاجيء‬ ‫يعود الرماد فيهطل في قلبك‬ ‫يعود السحاب األسود يتجمع خارج شقتك‬ ‫تعود الوحشة لتعرش في ظالم صدرك‬ ‫انت اآلن وحيد مثل جمرة تخبو‬ ‫وكأنك حبل مشيمة رموه بعيدا عن الوالدة والمولود‬ ‫أنت اآلن بعيد مثل ثقب أسود‬ ‫تصرخ فال يعود إليك الصدى‬ ‫تمشي تحت مطر داعر‬ ‫لعل التعب يهدك‬ ‫‪23‬‬


‫فيطير من ليلك األرق‬

‫تبدأ مرة أخرى من نقطة الصفر‬

‫أو ربما أعلى قليل‬

‫ال تبتئس حتى بالدك تبدأ‬ ‫دائما من نقطة الصفر‬

‫أو أعلى قليل‬

‫هي جينات في وطن الرمال‬ ‫والرمل يشبهنا حين يستقر‬

‫وحين يهاجر‬

‫* * *‬

‫ها أنت ذا تتعلم لغة مليئة بالخاءات‬ ‫حتى كدت تختنق بها‬

‫لغة تمتليء بكلمات التصغير‬

‫كل شيء في هذه البالد صغير‬

‫البيوت صغيرة والغرف صغيرة‬

‫واللقيمات صغيرة وكذلك كؤوس البيرة‬ ‫‪24‬‬


‫حتى أنك تذكرت لغة أمك‬

‫وهي تصر على تصغير كل شيء‬ ‫تجلس في فصل به تسع نساء‬ ‫والعاشرة هي المعلمة‬ ‫تركية تلتحق بزوجها‬

‫وبرازيلية تجرب حظها‬

‫وأسبانية خمرية اللون دموية المزاج‬

‫وسورينامية تجيد الهولندية وتنقصها الشهادة‬ ‫وفرنسية تدلكك وكأنك طفلها الوحيد‬

‫ومغربية تتعمد الجلوس بجوارك‬

‫حتى تذكرها بما فاتها‬

‫وطبيبة بلغارية تداويك بعينيها الواسعتين‬

‫وهندية وقع في غرامها سائح هولندي‬ ‫ونيبالية حشرت بين الصين والهند‬

‫ففرت إلى بالد جديدة‬

‫* * *‬ ‫‪25‬‬


‫تتعرف إلى أقباط يبيعون الشاورما‬ ‫فيعاملونك وكأنك مرقص الليبي وهو يبشرهم بالمسيح‬ ‫ينتظرون مرورك فينفجرون ضاحكين‬ ‫يتساءلون من أي أتيت بكل هذه النكات؟‬ ‫وبهذه المقالب اللذيذة؟‬ ‫تتعرف على مغاربة تاهوا بين جذورهم وجنسيتهم الجديدة‬ ‫يعاملهم الهولنديون كمغاربة منبوذين‬ ‫وفي عطالتهم يعاملهم المغاربة كسواح هولنديين‬ ‫ها أنت ذا تعمل في مطعم كبير‬ ‫به رواق مغربي‬ ‫وركن ياباني‬ ‫وبار أمريكي‬ ‫تبدو بشاربك الكث‬ ‫مثل طباخ برتغالي‬ ‫هناك قدمت لهم الشوربة الليبية‬ ‫‪26‬‬


‫والبطاطس المحشو باللحم المفروم‬ ‫وقدمت لهم المكرونة الليبية‬ ‫واألرز المطهو على البخار‬ ‫وأطلقوا عليك لقب ملك السلطات‬ ‫وأخيرا تتحصل على شهادة فتصبح طباخا هولنديا‬ ‫ها أنت ذا تعمل في كافيتريا‬ ‫ملحقة بسوق لألشياء المستعملة‬ ‫يأتي اليك الزبائن من أماكن بعيدة‬ ‫ليحتسوا الشوربة التي يطفو على سطحها النعناع‬ ‫* * *‬ ‫يأتيك نعي األحبة مفاجئا‬ ‫كنصل يغوص في القلب‬ ‫فتبكيهم وحدك واحدا واحدا‬ ‫مثل سحابة تمطر فوق البحر‬ ‫لم يبق لك في بالدك إال القبور‬ ‫‪27‬‬


‫فما الفرق بين أن تعود وأن تبقى؟‬ ‫لن تجد هناك ما تركت‬ ‫وستكون غريبا مثلما أنت هنا‬ ‫والغربة في بالدك أمر‬ ‫* * *‬ ‫كنت أحب الشتاء هناك‬ ‫ُ‬ ‫ولكن هنا الشتاء ال يحبني‬ ‫أعددت له معطفا وشاال وقفازين‬ ‫وفي وجهه رفعت مظلتي‬ ‫أعود دائما مبتال ألقهره بالنبيذ‬ ‫حتى صارالنبيذ صديقي الوحيد‬ ‫أحببته ألنه منبوذ مثلي‬ ‫وأسمه مشتق من النبذ‬ ‫حتى صار دمي ً‬ ‫نبيذا أحمر‬ ‫أحببته ألنه مهاجر مثلي‬ ‫‪28‬‬


‫كان ذات يوم عنقود عنب غاف تحت شمس‬ ‫قطفته يد وسكبته في زجاجة مثل جن‬ ‫وها أنا أخرجه من سجنه فيشع شمسا حمراء في كأسي‬ ‫* * *‬ ‫يأتي الصيف فأدفن أحزاني‬ ‫وأخرج لكرنفال الحياة‬ ‫فيورق الشجرالعاري‬ ‫وتتعرى البنات إال من الورق‬ ‫يا بنات حواء ترفقن بي‬ ‫أخشى من الغواية فاطرد مرة أخرى من عدن‬ ‫أمضي إلى الغابات وإلى البحيرات‬ ‫حيث أستأنس بالطيورالمهاجرة‬ ‫هي مثلي تخرج إلى المنفى وتعود إلى أوطانها‬ ‫غيرأني باق هنا ال أعود‬ ‫يوم األحد أطعم البط والبجع‬ ‫‪29‬‬


‫بما تبقى من خبزي‬ ‫وأجلس تحت الشجرة الوحيدة‬ ‫التي تنحدر أغصانها إلى النهر‬ ‫أخترتها ألنها وحيدة‬ ‫لعلي أنا الغريب أؤنس وحدتها وتؤنسني‬ ‫كالنا مهاجر أيتها الشجرة‬ ‫أنت جئت من جزيرة جاوا‬ ‫وأنا انحدرت من جبل‬ ‫* * *‬ ‫في الصيف تعود الزهور‬ ‫والورود والزنابق من منافيها‬ ‫فتبتسم الحياة بعد تجهم‬ ‫فتتذكر ربيعك هناك‬ ‫وأنت تصعد روابي الشيح‬ ‫وتهبط روابي الزعتر‬ ‫‪30‬‬


‫ومن شدة سعادتك‬ ‫تطير الكآبة من صدرك‬ ‫ويحط في صدرك الرضا والشكر‬ ‫سيحتجب عنك الشعر‬ ‫حتى تغدو صحراء‬ ‫تحت سماء الجدب‬ ‫لماذا تخليت عني أيها الشعر؟‬ ‫ألست أنت من أوصلني إلى هنا؟‬ ‫تتوسل إليه أن يعود دون جدوى‬ ‫يا لوحدتك حتى الشعر ال يطيق المنافي‬ ‫لم تكتب إال المراثي‬ ‫وكأنك حانوتي يدق المسامير في النعش‬ ‫كنت أعلم أنك ستهجرني لما خرجت‬ ‫لو ُ‬ ‫والشعر نحنحة وحمحمة‬ ‫وسعلة وعطسة‬ ‫ُ‬

‫‪31‬‬


‫والشعر صرخة وهمسة‬ ‫والشعر تنهيدة وآهة‬ ‫وكل ما يخرج من األعماق وينفجر‬ ‫ها أنا محروم حتى من األنين‬ ‫والشعر حادي واأليام قافلة‬ ‫وأنا أحدو أيامي بالصمت‬ ‫والشعر نبع يفيض باألحزان والغبن‬ ‫تسطرها على الورق فال يبقى في أعماقك حزن‬ ‫كيف أعيش بال شعر يؤنسني‬ ‫وما عرفت أنيسا أبر من الشعر‬ ‫يا للخيانة حين تحتاجه يرحل ويتركك لليتم‬ ‫مثلما مات أبي وأمي‬ ‫لكن صحراءك أعشبت بالسرد‬ ‫سخرت من الطغاة ومن حراس الجحيم‬ ‫وضحكت منهم لكنه ضحك يبكي‬ ‫‪32‬‬


‫وما السخرية إال مرآة سوداء‬ ‫ترى فيها صبحك ليال‬ ‫وترى العالم مقلوبا‬ ‫فتنكشف لك عورات الطغاة‬ ‫وتغدو الذكريات سيال‬ ‫منفي لكنك حر فأكتب ما يحلو لك‬ ‫ال رقيب يحصي أنفاسك‬ ‫وال سجان وال سجن‬ ‫* * *‬ ‫ودلفت مقبرة الملوك‬ ‫وخزافة زرقاء‬ ‫ومتحف ومرسم وجامعة‬ ‫لكنيستها الجديدة مهابة قوطية‬ ‫أمامها نحتفل بالعام الجديد‬ ‫وفي منتصف الليل يحتضن الغرباء بعضهم‬ ‫‪33‬‬


‫بينما تشتعل السماء بالضوء والصخب‬ ‫دائما تتحاشى المرور‬ ‫من تحت برج الكنيسة القديمة المائل‬ ‫إال عندما تمر مترنحا‬ ‫في برزخ ما بين الحياة والموت‬ ‫هناك اكتشفت مواطنك يوهانس فيرمير‬ ‫الذي سبقك إليها بثالثة قرون‬ ‫في الحي الكاثوليكي زرت بيته‬ ‫عندما كانت الطوائف معزولة عن بعضها‬ ‫ورأيته في غرفته يرسم لوحة الفتاة ذات القرط‬ ‫وتتساءل لماذا هذه البالد غنية بالرسامين‬ ‫وفقيرة بالفلسفة والشعر؟‬ ‫وأكبر أدباءهم ال يزال يكتب عن آخر حرب‬ ‫هل ألن الخوف من الغرق‬ ‫أجبرها على النظر إلى األرض؟‬ ‫‪34‬‬


‫أم أن هشاشة األرض تخشى من الخيال المجنح؟‬ ‫في ساحة الكنيسة الجديدة‬ ‫تقف أمام تمثال هوغو دي خروت‬ ‫مؤسس القانون الدولي‬ ‫فتكتشف العقلية العملية لشعبك الجديد‬ ‫شعب يبني السدود ويردم البحر‬ ‫ليجعلك تطوف البالد على دراجة‬ ‫اقتصادي حتى النخاع‬ ‫ينفق بحساب ال يفهمه عقلك‬ ‫وال يكثرت باألناقة المسرفة‬ ‫ويداري بالدبلوماسية الجبابرة من حوله‬ ‫* * *‬ ‫ال شعر في هولندا يحلق في السماء‬ ‫الشعر على األرض يتفتح ليلكا‬ ‫الشعر في المروج الخضر‬ ‫‪35‬‬


‫وفي امتالء ضروع البقر‬ ‫وفي العيون الخضر والزرق‬ ‫وفي النهد العاري على الشط‬ ‫وفي القرميد األحمر الالمع تحت الشمس‬ ‫وفي القطارات الصفراء وهي تشق الحقول‬ ‫والقنوات المائية يسبح فيها البجع‬ ‫وفي الجسور حين تغلق وتنفتح‬ ‫وفي المباني القديمة‬ ‫وهي تتأمل قامتها في الماء‬ ‫وفي أرضية الخشب‬ ‫في الضوء والظل‬ ‫وفي الورق األحمر المتساقط‬ ‫من أشجار الخريف‬ ‫في األرصفة الحجرية‬ ‫في سنابل القمح وهي تتماوج في الريح‬ ‫‪36‬‬


‫وفي التفاح والكمثرى والكرز‬ ‫وفي غابة الكستناء‬ ‫وشجر البلوط والسرو‬ ‫في صمت المتاحف‬ ‫وأجراس الكنائس تدق من بعيد‬ ‫في جفلة الحمام حين يطير فجاءة‬ ‫وفي نعيق طائر العقعق‬ ‫في وميض الثلج تحت الشمس‬ ‫وفي طاحونة الهواء‬ ‫وهي تدور في حقل من الزنبق‬ ‫وفي األغاني الحزينة‬ ‫وهي تنعي بحارا ابتلعه البحر‬ ‫وشراعا تاه بين زرقتين‬ ‫في مذاق الجبن األصفر‬ ‫ولمعة األسماك في النهر‬ ‫‪37‬‬


‫ربما لهذا مات في قلبك الشعر‬ ‫واستيقظ من غفوته السرد‬ ‫* * *‬ ‫هم مثلنا يبنون أحياءهم حول الكنيسة والسوق‬ ‫هم مثلنا كانوا يسورون المدن‬ ‫ويبنون األبراج من حولها‬ ‫هم مثلنا يتعصبون لمسقط الرأس‬ ‫ويحتفلون في األعياد بصخب‬ ‫هم مثلنا ال يزالون يحتفلون بمولد نبيهم‬ ‫وموته وعودته إلى األرض‬ ‫حتى الذين ال يؤمنون به يحتفلون بصخب‬ ‫هم مثلنا يحرثون ويزرعون‬ ‫ويخشون الفقر والمرض والموت‬ ‫هم مثلنا يعشقون ويكرهون‬ ‫ويدمنون الشراب وكرة القدم‬ ‫‪38‬‬


‫هم مثلنا ينقسمون إلى علمانيين وأصوليين‬ ‫وبعضهم يذهب إلى الكنيسة يوم األحد‬ ‫ويطالب بعودة النساء إلى البيوت‬ ‫غير أن قبائلهم اندثرت‬ ‫ولم يبق منها إال اللقب‬ ‫* * *‬ ‫تسير جنب الحياة‬ ‫ال تقطف منها إال ما هو يانع‬ ‫وكأن الحياة نهر يجري‬ ‫وأنت على ضفته لقلق‬ ‫يقف على ساق واحدة‬ ‫ليخطف من الماء سمكة‬ ‫أو مثل عنكبوت ينسج شباكه في الركن‬ ‫وينتظر الفريسة‬ ‫فتاة أطاح بها الخمر والليل‬ ‫‪39‬‬


‫تقع في شباكك‬ ‫تضاجعها وكأنها آخر امرأة على األرض‬ ‫وتعض جيدها المرمري‬ ‫مثل ذئب يلعق جرح الفريسة‬ ‫فتغرز أظافرها في ظهرك‬ ‫كالكما جريح وجارح‬ ‫وفي الصباح تختفي‬ ‫تنساك في محطة القطار‬ ‫وتذكرك عندما ترى آثار أسنانك‬ ‫في مرآتها فترفع ياقتها‬ ‫وتنساك إلى األبد‬ ‫وتعود ذئبا يعوي‬ ‫وحشته في الليل‬ ‫ويطارد الطرائد‬ ‫* * *‬ ‫‪40‬‬


‫وطني في األغاني‬ ‫في بحة الزكرة‬ ‫وفي أنين النأي‬ ‫في حشرجة المزمار‬ ‫وفي نحيب المرسكاوي‬ ‫في صوت الغيطة وهي تدرج العريس‬ ‫في المألوف حين تسكره الدفوف‬ ‫في أغاني النساء وأغاني العبيد‬ ‫في صوت الطبل والزل‬ ‫في الحضرة حين تحلق هائمة‬ ‫فوق دخان البخور‬ ‫في أغاني الحصاد والهدهدة‬ ‫في أهازيج الحرب في الزغاريد‬ ‫في حمحمة الخيل‬ ‫في الدرابيك حين يلتصق بها التمر‬ ‫‪41‬‬


‫في صرخة المكلوم في البكاء‬ ‫في أغاني العلم وفي أغاني الختان‬ ‫وفي صالة االستسقاء ودعاء الفجر‬ ‫في خرير الماء وهدير الموج‬ ‫* * *‬ ‫وطني في السكايب‬ ‫في البالتوك والفيس بوك‬ ‫وطني عالم افتراضي‬ ‫أدخله في المساء‬ ‫بأسمائي المستعارة‬ ‫ولقبي الوحيد‬ ‫منفيون هاربون من القهر‬ ‫وأسرى في حروب خاسرة‬ ‫ومعارضون وطحالب‬ ‫ومهاجرون أفلسوا في بالدهم‬ ‫‪42‬‬


‫ومغامرون وجواسيس‬ ‫وسجناء سابقون‬ ‫منهم من جاء في الطائرات‬ ‫ومنهم من حملته القوارب‬ ‫من نيوزيلندا إلى األرجنتين‬ ‫ومن فلندا إلى جزر المحيط الهاديء‬ ‫عصبيون وضاحكون وساخرون‬ ‫مكتئبون وغاضبون وراضون‬ ‫بالقدر الذي أنجبهم في ليبيا‬ ‫وحملهم إلى أقصى المنافي‬ ‫فأكون وفرج ستة‬ ‫وحميد ورحيل معمر فرج‬ ‫الغرياني والفزاني والبرقاوي‬ ‫دعاة الملكية والعودة إلى الدستور‬ ‫إخوان وجهاديون وملحدون‬ ‫‪43‬‬


‫علمانيون وليبراليون وانفصاليون‬ ‫وثمة من يمجد الطاغية‬ ‫فيطردونه من الوطن االفتراضي‬ ‫إلى غرف األمن والجوسسة‬ ‫تستمع إليهم لتروض وحشتك‬ ‫ولتكتشف عقد شعبك‬ ‫غير أنك تدرك‬ ‫أن حرية بال ضفاف‬ ‫ستغيرهم وتمنحهم حق الكالم‬ ‫سيصرخون أوال‬ ‫ألنهم لم يصرخوا من قبل‬ ‫ثم يتعلموا اإلنصات إلى اآلخر‬ ‫ستولد ثورة في غرف الدردشة‬ ‫تنمو مثل جنين كل يوم‬ ‫وتخرج من رحم الشاشات‬ ‫‪44‬‬


‫إلى شوارع الحياة‬ ‫لتحقق المعجزة‬ ‫وتزلزل الزلزلة‬ ‫* * *‬ ‫هولندا جنة الطيور‬ ‫حمامها يمشي على األرض‬ ‫أكثر مما يطير‬ ‫ومن كثرة الماء‬ ‫هجرت النوارس الشطآن والمرافيء‬ ‫وتوغلت في األرض‬ ‫استقالت من وداع المبحرين‬ ‫ولم تعد بشارة للعائدين‬ ‫وأصبحت تثقب بمناقيرها أكياس القمامة‬ ‫لتأكل ما تجد‬ ‫أصبحت متسولة‬ ‫‪45‬‬


‫تزاحم البط واألوز والبجع‬ ‫وتلتقط في الهواء ما يرميه العابرون‬ ‫طيور طيورطيور‬ ‫بعضها ال أسماء لها في لغتي‬ ‫وبعضها متغطرس‬ ‫يزاحمك في محطة القطار‬ ‫يمشي مثل عسكري روسي‬ ‫ويأكل ما يساقط من المسافرين‬ ‫ويرمقك بنظرة غاضبة‬ ‫كأن البشر راحلون يوما وهو باق‬ ‫غير أنك تغرم بمالك الحزين‬ ‫وتغرم باللقلق‬ ‫فهو حزين مثلك ووحيد‬ ‫يقف طوال النهار‬ ‫على ساق واحدة وال يمل‬ ‫‪46‬‬


‫وهو يهاجر إلى الشمال مثلك‬ ‫ويعشعش مثلك قرب السماء‬ ‫ويهجم على النار‬ ‫حين تشتعل الحرائق‬ ‫وليس مثلك يفر‬ ‫* * *‬ ‫تحب دائما أن تراقبه‬ ‫تتعجب من صبره األيوبي‬ ‫ومن مآقي حزنه‬ ‫لماذا تقف على ساق واحدة أيها اللقلق؟‬ ‫لقد انقضى النهار‬ ‫وأنت تنظر في الماء‬ ‫هل أنت نرجسي‬ ‫إلى هذا الحد؟‬ ‫أم أن حظك اليوم عاثر؟‬ ‫‪47‬‬


‫فلم تصب ما يكفي‬ ‫من السمك‬ ‫يتجاهلك كأنك لم تكن‬ ‫كأنك شبح ال يراه‬ ‫وعندها تعظم وحدتك‬ ‫فاللقلق مهاجر مثلك إلى الشمال‬ ‫غير أنه ال يراك‬ ‫وال يسمعك‬ ‫وال يعنيه من هجرته‬ ‫إال السمك‬ ‫* * *‬ ‫أينما وليت وجهك ثمة ماء‬ ‫أيها الماء يا روح الحياة‬ ‫كم شكلاً لك وكم جسد؟‬ ‫ماء مياه غيث ومطر‬ ‫‪48‬‬


‫بخار وثلج وقطر وبرد‬ ‫ضباب سحاب ندى وموج‬ ‫والماء روح اإلله‬ ‫ها هو من فوق السحاب‬ ‫يبرق ثم يرعد‬ ‫والماء خالد ال يموت‬ ‫يصعد إلى السماء‬ ‫لكنه ابدً ا يعود‬ ‫والماء حين يحاصره‬ ‫الجفاف يهاجر‬ ‫يطير فوق أجنحة السحاب‬ ‫ويهبط فوق الغابات والجبال‬ ‫والمروج الخضر‬ ‫والبحر يبدأ بقطرة واحدة‬ ‫يشربها الملح‬ ‫‪49‬‬


‫والماء مثلنا يرضى ويغضب‬ ‫وبين خرير وهدير‬

‫لماذا أيها الماء‬ ‫أنت غزير هنا‬

‫وقليل في بالد الرمل؟‬

‫إال أن الحضارة تبدأ بالماء‬

‫وتنتهي في الماء؟‬

‫تبدأ بالنهر وبالشالل‬ ‫وتنتهي بالنوافير‬

‫وسجع الحمام‬ ‫والماء يأسن‬

‫حين يستقر في القعر‬

‫لذلك يرحل دائما‬

‫وإذا لم يجد أين يهطل‬

‫يبكي فوق البحر‬

‫* * *‬ ‫‪50‬‬


‫والرمل يشبهنا‬ ‫يستقر مثلنا ويرحل‬ ‫خلف الماء والمطر‬ ‫يمتطي صهوة الريح‬ ‫وإذا وجد الماء‬ ‫يهبط ليشرب‬ ‫والواحة تبدأ بالنبع‬ ‫بقطرة ماء وذرة رمل‬ ‫وعندها تعشب األرض‬ ‫ويخرج من بذرته الشجر‬ ‫يحمل األعشاش والتغريد‬ ‫وعندها ينام الرمل في الظل‬ ‫ال وطن للماء والرمل‬ ‫الكون هو الوطن‬ ‫وأنت يا أيها الغريب‬ ‫‪51‬‬


‫حيث تكون حرا‬ ‫حيث تكون أنت‬ ‫يكون لك وطن‬ ‫* * *‬ ‫والمنفى سجن باذخ‬ ‫لكنك فيه وحيد‬ ‫والمنفى مكان حائر‬ ‫بين الوجود والعدم‬ ‫والمنفى مكان مترع‬ ‫بالرضا أو بالندم‬ ‫والمنفى بذرة‬ ‫يذرها الريح في السماء‬ ‫فإذا تركها تسقط‬ ‫تخرج نبتا جديدا‬ ‫تستهوي الدارسين‬ ‫‪52‬‬


‫أو يقتلعها محراث عجول‬ ‫قد تندثر أو تخرج نسال جديدا‬ ‫الطيور واألسماك والحيوانات‬ ‫تهاجر وكذلك البشر‬ ‫تمضي ال توقفها التماسيح‬ ‫بين الضفتين‬ ‫وال توقفها الوحوش في السهول‬ ‫وال الرياح تنهك الجناح‬ ‫وال عواصف الثلج‬ ‫توقف هجرة البطريق‬ ‫ال منحدرات الصخر وال الدب‬ ‫يوقف سمك السلمون من العودة‬ ‫ويهاجر األنبياء خوفا على الدعوة‬ ‫ويعودون ليسقطوا األصنام‬ ‫تهاجر فتجاهر بالرفض‬ ‫‪53‬‬


‫وال تبقى في الوطن سجينًا‬ ‫وإذا كان الوطن هو المنفى‬ ‫يصبح المنفى هو الوطن‬ ‫* * *‬ ‫أمستردام عشرها مبغى‬ ‫وربعها متاحف‬ ‫والربع متاجر تبيع الحشيش‬ ‫وفطر الهلوسة‬ ‫وتسمح باإلجهاض‬ ‫والموت الرحيم‬ ‫هناك تتعرف على رامبرانت‬ ‫وهو يرسم وجهه السمين‬ ‫وتتعرف على فان خوخ‬ ‫وهو يرسم لوحة عباد الشمس‬ ‫ال تزال أزهارك ندية‬ ‫‪54‬‬


‫كأنها قطفت اليوم‬ ‫تتأمل وجهه الضامر‬ ‫لحيته الحمراء‬ ‫وعينيه الضيقتين‬ ‫حيث يسكن الجنون والصرع‬ ‫وحيث المنافي تسطع‬ ‫منفي في بالدك يا فان خوخ‬ ‫ومنفي في مصحة قرب باريس‬ ‫ومنفي مثل ليلتك الساطعة بالنجوم‬ ‫مثل حقل الذرة والغربان‬ ‫ومثل لوحة الحزن‬ ‫لماذا قطعت أذنك؟‬ ‫لماذا اطلقت الرصاص‬ ‫على رأسك؟‬ ‫كأنك تقول‬ ‫‪55‬‬


‫إذا اجتمع عليك الجنون والمنفى‬ ‫فالموت هو الحل‬ ‫* * *‬ ‫تمضي في الشوارع المزدحمة‬ ‫فال يراك أحد‬ ‫تدخل إلى المقهى‬ ‫تشرب قهوتك على مهل‬ ‫فال ينظر إليك أحد‬ ‫وال يكلمك أحد‬ ‫تدخل إلى الحانة‬ ‫تشرب كأسك في صمت‬ ‫تسمعهم يتهامسون‬ ‫وأحيانا يصخبون‬ ‫ولكن ال ينظر إليك أحد‬ ‫يتجاهلك الساقي‬ ‫‪56‬‬


‫تشير إليه من بعيد‬ ‫فيحضر كأسا أخرى‬ ‫وينسحب في صمت‬ ‫وأنت في الركن وحيد‬ ‫تمضي فتسلمك الشوارع للشوارع‬ ‫وال يكلمك أحد‬ ‫ال الشرطي يوقفك‬ ‫ويطلب منك أوراقك‬ ‫وال العاهرات يوقفنك‬ ‫توقفك فقط إشارات المرور‬ ‫فتعبر تحت الرذاذ‬ ‫إلى حيث ال أحد ينتظرك‬ ‫كأنك ميت وروحك‬ ‫علقت بين السماء واألرض‬ ‫* * *‬ ‫‪57‬‬


‫ها أنت ذا في إذاعة هولندا‬ ‫تبدو خلف شاشتك مبتسما وواثقا‬ ‫لكن خيطا رفيعا من األسى‬ ‫اليزال منقوشا على جبينك‬ ‫من عينيك يشع الرضا‬ ‫وكأنك لم تعبر الجحيم وحيدا‬ ‫صار لك صديقات وأصدقاء‬ ‫يتفقدون غيابك‬ ‫يرن هاتفك بإلحاح‬ ‫حين تغيب وتمرض‬ ‫ال تغب عنا ففي غيابك وحشة‬ ‫لنا ضحكتك المدوية‬ ‫ولنا سحرك الغامض‬ ‫تدخل إلى بيوتهم صاخ ًبا‬ ‫وتخرج صاخ ًبا‬

‫‪58‬‬


‫تنبح كالبهم مرحبة‬ ‫وأنت ال تزال في أول الشارع‬ ‫عندما ترن الجرس‬ ‫تسمع لهاث الكالب‬ ‫وهي تخمش الباب‬ ‫تقفز عليك حين ينفتح الباب‬ ‫وتلعق وجهك‬ ‫تعرفك من رائحة وحشتك‬ ‫تعرفك من حزن وجهك‬ ‫وتشم قلقا‬ ‫يشتعل فيك ويخبو‬ ‫وعندها تدرك أنك أهلكت الكآبة‬ ‫وروضتها وروضتك الغربة‬ ‫* * *‬ ‫باروخ سبينوزا أيها المنفي‬ ‫‪59‬‬


‫من شوارع بالدك‬ ‫يا نبي العقل واألنوار‬ ‫ها أنا أزورك‬ ‫في آخر بيت اختبأت به‬ ‫في فوربورخ قرب الهاي‬ ‫أتوقف أمام تمثالك البرونزي‬ ‫عيناك تسطعان بحزن البرتغال‬ ‫وبمنافي اليهود‬ ‫أتوقف أمامك وأمام عظمة العقل‬ ‫وكيف غصت في النصوص‬ ‫فكشفت زيفها‬ ‫اآلن اسمك موجود في كل مكان‬ ‫في الشوارع والساحات‬ ‫على المباني العامة‬ ‫وعلى الجوائز الرفيعة‬ ‫‪60‬‬


‫بينما اختفى الحاخام‬ ‫الذي طردك من ملكوت جهله‬ ‫وال أحد يذكر اليهودي األرثوذكسي‬ ‫الذي طعنك في عنقك‬ ‫فعشت ما تبقى من حياتك‬ ‫وأنت مختف في بالدك‬ ‫لكنك لم تنهزم‬ ‫كتبت كل ما يكفي‬ ‫لتشعل األنوار في قارة الظالم‬ ‫ما جرى قبل ثالثة قرون‬ ‫يجري اآلن في بالدي‬ ‫نفس الوجوه القديمة يا باروخ‬ ‫تحاول أن تطفيء األنوار‬ ‫وبالقرب منك في اليدن‬ ‫مات نصر حامد أبوزيد منف ًيا‬

‫‪61‬‬


‫لم يقل مثلك كل شيء‬ ‫لكنه قال ما يكفي‬ ‫ليشعل األنوار ويرحل الظالم‬ ‫* * *‬ ‫سيثور شعبك‬ ‫وستعرف لون معدنه األصيل‬ ‫سيهتز عرش الطاغية‬ ‫وستسيل الدماء غزيرة‬ ‫سيشرب الورد حتى يرتوي‬ ‫وهو يزهو فوق القبور‬ ‫وستشرب شقائق النعمان‬ ‫ما يكفي لتزهر في ألف ربيع‬ ‫سينتصر شعبك‬ ‫ويذل الطاغية مثلما اشتهيت‬ ‫ويرمي كل ما تركه في القمامة‬ ‫‪62‬‬


‫منتصرا‬ ‫وستعود إلى بالدك‬ ‫ً‬

‫لكنك لن تجد البالد هي البالد‬ ‫ستجد البنات الصغيرات‬ ‫اللواتي ترعرعن في حضنك محجبات‬ ‫وستجد أندادك وقد شاخوا في غيابك‬ ‫وتجد أصدقاءك قد رحلوا من القهر‬ ‫فتدرك أن أقسى أنواع المنافي‬ ‫هو المنفى في الوطن‬ ‫وتكتشف أنك صرت‬ ‫غريبا إلى األبد‬

‫‪63‬‬



‫بحرالأطالل‬ ‫ُ‬ ‫إلى أمريء القيس‬ ‫ال أبكي على األطالل‬ ‫وإنما أبكي حياة‬ ‫قبل أن تزهر ُ‬ ‫تذبل‬ ‫ب الماء والكأل‬ ‫أتع َق ُ‬ ‫وقبري كلب يقتفي أثري‬ ‫عضني‬ ‫فإذا ماسقطت في الطريق َ‬ ‫في هذه الفيافي الموحشة‬ ‫‪65‬‬


‫مامن أح َبة في انتظارك‬

‫يمضون تطويهم دروب‬ ‫وخلفهم على الرمال أثر‬ ‫أبكيه قبل أن تأتي الرياح‬ ‫فتُخمد مابقى من نبضه‬ ‫لما رأى الدرب دونه‬ ‫«بكى صاحبي َ‬ ‫وأيقن أنَا الحقان بمن» طوى‬ ‫فقلت له‪ :‬إنما األطالل مرآة‬ ‫نرى فيها حتفنا آت ًيا‬

‫نفس تموت سو َية‬ ‫«فلو أنها ُ‬ ‫أنفسا»‬ ‫ولكنها ُ‬ ‫نفس تُساقط ً‬

‫كنت التستطيع دفع منيتي‬ ‫«فإذا َ‬ ‫فدعني أبادرها بما ملكت يداي»‬ ‫«لكي يعلم الناس أنني امرؤُ أتيت الفتوة من بابها»‬ ‫أنا س َيد الصحراء‬

‫‪66‬‬


‫ولكن ليس لي وطن‬ ‫الشتاء ضيف في ثياب الصيف‬ ‫والربيع ُ‬ ‫برق يوقظ من غفوته الكمأ‬ ‫مدبرا فيعود إلى نومه‬ ‫يبصره ً‬

‫حمى عمياء وفراشة تدنو من لهب‬ ‫نهاري َ‬

‫وليلي عاشق متَيم تواسيه النجوم الباكيات‬ ‫ويشكو للقمر سجنه الفسيح‬

‫تحت خيمة زرقاء تشدَ ها إلى األرض حبال األفق‬ ‫هذه ليست حياتي‬ ‫وإنما هي أيا ُم مسرعات‬

‫أزرع في رحمهن قولي وفعلي‬ ‫فإذا ماطواني الردى ُيزهر في حقلهن َذكري‬

‫وت ُ‬ ‫ُورق على الشفاه أيامي البائدات‬

‫لمات‬ ‫خالدً ا إذاما أحاطت‬ ‫الم َ‬ ‫بقومي ُ‬ ‫َ‬ ‫وح ًَيا إذا ما جلسوا للسمر‬

‫‪67‬‬


‫وطني بين ضلوعي وحيث تضطرم ناري‬ ‫تُبدَ د وحشة القلب وال َليل‬ ‫والمتعب‬ ‫وتدعو من أقصى القفار الجائع ُ‬ ‫أنحر راحلتي لضيوفي ينامون متخمين‬

‫أتضور‬ ‫وبقربهم أغفو جائعا‬ ‫َ‬ ‫فما غدُ إالَ يو ًما آخر‬

‫شدَ لجامه بذيل اليوم‬

‫وحيد في الفيافي وعشيرت يظ َلي‬

‫َ‬ ‫والذل‬ ‫أتقدمهم لكل غبار وأصدَ دونهم الردى‬ ‫الرماح‬ ‫فإذا ماطالت قلبي‬ ‫ُ‬

‫محر ُم»‬ ‫«فال تقبروني إن قبري َ‬

‫ولكن في بطن النسور أثوى‬ ‫بعضا منها‬ ‫ل َعلي أكون ً‬

‫حين تعلو على الكائنات تح َلق‬ ‫السلف‬ ‫أنا سيد الصحراء وعبد لوصايا َ‬ ‫‪68‬‬


‫«إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد»‬ ‫أخاف َ‬ ‫الذل والعار‬ ‫ُ‬ ‫أموت والقنا في يدي‬ ‫ودون عرضي‬ ‫ُ‬ ‫لذلك أدفن طفلتي الباسمة‬ ‫وهي تنفض التراب عن لحيتي‬ ‫وطن أم مفازة؟‬ ‫غير أن به «منأى للكريم عن األذى‬ ‫وفيه لمن طلب المروءة موطن»‬ ‫السراب‬ ‫صحراء يرتع فيها‬ ‫ُ‬

‫الحجر‬ ‫ويبكي تحت سوطها‬ ‫ُ‬

‫«فما أطيب العيش لو أن الفتى حجر»‬ ‫«أفرق جسمي في جسوم كثيرة»‬ ‫وينكرني إناءي إن جئته وحدي‬ ‫«وتستحي يميني وبينها وبين فمي»‬

‫دجى ظالم أعمى وأبكم‬ ‫‪69‬‬


‫غير أني أتصيد َ‬ ‫اللذات إذا ماوردن منهلي‬ ‫متسترا بالليل مثل الحلم‬ ‫وأنفذ إليه َن‬ ‫ً‬

‫أتزود أليامي الصائمات‬ ‫َ‬

‫من كل ضامر البطن وافر الردف والصدر‬

‫أدس همومي في األسود الفاحم‬ ‫ووجها صبح يضيء ليل الكحل‬ ‫على نحرها يدركني سيل‬ ‫فأغرق وهي قراري‬ ‫وتغرق وأنا موجها المندفع‬ ‫ُ‬ ‫الخالخل تحتي‬ ‫إذا رنَت‬ ‫وتخضر‬ ‫تنتشي أيامي‬ ‫َ‬ ‫إليها أمضي ال أهاب المنايا‬ ‫سهما‬ ‫منذ أن رمت بعينيها ً‬ ‫فأصاب في فؤادي مقتل‬

‫أنشد شعري للدهر‬ ‫‪70‬‬


‫الدهر أيامي‬ ‫سيلتهم‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫وينجو شعري‬

‫صحراء موحشة كل َ‬ ‫خل فيها عارض‬

‫سوى ناقتي وفرسي وسيفي‬

‫‪71‬‬



‫بحرالحياة‬ ‫ُ‬ ‫إلى أبي نواس‬ ‫في بغداد ما من أطالل تستوقف الباكي‬ ‫واألفق الذي حجبته المباني‬ ‫ُ‬ ‫َسع في الخيال‬ ‫يت ُ‬ ‫وبغداد فانوس سحري‬ ‫اتسع لحكمة العالم‬ ‫تحت ضوئه احتضرت البوادي‬ ‫وعند نهرها أنهت صيامها الصحرا ُء‬ ‫‪73‬‬


‫هذه هي حياتي‬ ‫وما الخمر إال قنا ًعا‬ ‫من خلفه أرى دهري وليس يراني‬ ‫إنما العنب جسد فان روحه الخمر‬ ‫ومذ رأيت جسدي فان ًيا‬

‫تعاطيت روح العنب‬ ‫ُ‬

‫لتبقى روحي ُمعتَقة في دنان الدهر‬

‫وكأنني مار ُد في ُقم ُقم‬

‫متى ما أزيح غطاءه‬

‫عاد من جوف الردى‬ ‫ح ًَيا ُ‬ ‫يرزق‬

‫هذه هي حياتي‬ ‫وما قبلها إالَظلمة الرحم‬ ‫«فال جف دمع الذي يبكي على حجر‬ ‫والصبا قلب من يصبو إلى وتد»‬ ‫‪74‬‬


‫فدع الخالء للصدى‬ ‫للضب‬ ‫ودع الصحراء‬ ‫َ‬

‫وتعالى إلى حيث الربيع‬ ‫خالدً ا ال يرحل‬ ‫رسما في العراء‬ ‫«فال تبك ً‬

‫يقاسي الريح والمطر»‬

‫وأبك إن بكيت أيامك الظامئات‬ ‫وأبك شبابك إن ولى بتول‬ ‫لم تُورقه شقاوة النهد‬ ‫والشاب تحت العناقيد‬ ‫فاسقني اسقني ألنسى دائي‬ ‫نسيت‬ ‫واسقني ألذكر ما‬ ‫ُ‬ ‫تمر صائمة‬ ‫فكل لحظة َ‬

‫خطوة عمياء في طريقها قبر‬ ‫الصبا‬ ‫وإذا كانت في َ‬

‫‪75‬‬


‫حياتُك عذراء‬ ‫عانسا حين تهرم‬ ‫فستجدها ً‬

‫والخمرة بنت الشمس والدهر‬

‫ُ‬ ‫يسرق أيامي‬ ‫رأيت الدهر‬ ‫ومذ ُ‬ ‫اغتصبت أبنته‬ ‫ُ‬ ‫عجوزا‬ ‫اغتصبتُها‬ ‫ً‬ ‫كلما شابت ازدادت ص ًبا‬

‫«ودب في طينها الحلم»‬ ‫َ‬ ‫تركت لذتي في شعري‬ ‫ُ‬

‫وتركت شعري حاد ًيا للدهر‬ ‫ُ‬

‫كلما التقى كأسان‬

‫ُ‬ ‫العقل‬ ‫وانفلت من عقاله‬ ‫تُح َلق روحي فوق المكان‬ ‫ويبعث شعري من لحده‬ ‫حياتي خمر ُمعتَقة‬

‫‪76‬‬


‫يفض ختمها‬ ‫ال َ‬

‫إالَ من كسر قيوده وانعتق‬

‫لقد استعرت من الزمان ربيعه‬ ‫ونفخت الحياة في األشياء‬ ‫ُ‬ ‫مجازا‬ ‫جعلت من الخمر‬ ‫ُ‬ ‫ً‬

‫وجعلت من شعري حياتي‬ ‫سكرت فليس بخمركم‬ ‫فإذا‬ ‫ُ‬

‫إنما بخمر االستعارات‬

‫حرمة‬ ‫ألفاظي صحراء ُم َ‬

‫تحجب غابات من حالل المعاني‬ ‫فيا الئمي في صحوي وسكري‬ ‫«صر في الجنان ودعني أسكن النار»‬

‫«إنما ديني لنفسي ودين الناس للناس»‬

‫‪77‬‬



‫بحر الكبرياء‬ ‫إلى أبي الطيب المتنبي‬ ‫ُ‬ ‫العراق وال الشا ُم وال مصر‬ ‫ال‬

‫استحملت طموحي وأحالمي‬ ‫رمتني الدنيا باألرزاء حتى‬

‫توهمت أنها من خيالي‬ ‫ُ‬ ‫علي بشوشة‬ ‫وأقبلت َ‬

‫حتى شربت من الغمام‬ ‫أنادم حينًا أقوى ملوك األرض‬ ‫‪79‬‬


‫وحينًا تسلمني المنافي للمنافي‬ ‫أنام حينًا على عواء الذئب‬ ‫وحينًا يوقظني ُ‬ ‫هديل الحمام‬ ‫أمضيت عمري فوق سرج سابح‬ ‫سيفي في يدي وقدمي في الركاب‬ ‫رنوت إلى المجد غير آبه‬ ‫فأكثرت من عواذلي وحسادي‬ ‫ُ‬ ‫انبتوا لألكاذيب أجنحة‬ ‫ليحولوا دون مقاصدي ومرامي‬ ‫ونسوا أنني شاعر‬ ‫تتفصدالقصائد من مسامي‬ ‫مدحت ملكًا اسبقه بفخري‬ ‫إذا‬ ‫ُ‬

‫ٍ‬ ‫قواف‬ ‫لي الصدر وله ما تبقى من‬ ‫مدحت من جعلني در ًة في تاجه‬ ‫ُ‬ ‫وهجوت من حاصرني بكالبه‬ ‫ُ‬ ‫‪80‬‬


‫تدعوني الملوك من كل حدب‬ ‫فاختار منهم من لقامتي يداني‬ ‫فإذا برز لي منهم خصيم‬ ‫بدلتهم كما أبدلها نعالي‬ ‫ألطوي «الفالة بال دليل‬ ‫ووجهي والهجير بال لثام»‬ ‫ال الغواني كبلنني‬ ‫وال بهرني بريق الذهب‬ ‫أكلت في الصحراء مخ النعام‬ ‫وشربت في القصور من كأس الذهب‬ ‫التعلل ال ُ‬ ‫ُ‬ ‫وطن‬ ‫«بما‬ ‫أهل وال ُ‬

‫كأس وال‬ ‫سكن»‬ ‫ُ‬ ‫نديم وال ُ‬ ‫وال ُ‬ ‫ولدت في زمن وضيع‬ ‫ُ‬

‫أبيع فيه من يشتري الكالم‬ ‫إذا اجتمع الشعراء للصالة‬ ‫‪81‬‬


‫فأنا المؤذن واإلمام‬ ‫أشير للمعاني فتركع تحت يراعي‬ ‫وغيري يحفر صخرها باألظافر‬ ‫إذا مدحت ملكًا إلى الثريا أرفعه‬ ‫وأمر ُغ خصومه في التراب‬ ‫«وما الدهر إال من رواة قصائدي‬ ‫الدهر منشدً ا»‬ ‫شعرا أصبح‬ ‫ُ‬ ‫إذا قلت ً‬

‫«وللسر عندي موضع ال يناله نديم‬ ‫وال يفضي إليه الشراب»‬

‫أحصيت جراحي وحين تفشت أهملتها‬ ‫«فصرت إذا أصبتني سها ُم‬ ‫ُ‬

‫ُ‬ ‫النصال على النصال»‬ ‫تكسرت‬ ‫أموت من أجل بيت واحد‬

‫وأنا على سرجي أقاتل‬ ‫ويموت غيري نائما في فراشه‬ ‫‪82‬‬


‫سيخلدني شعري وتقتلني قصائدي‬

‫وسيذكرني الناس كلما ُذكر‬

‫السيف والرمح والقرطاس والقلم‬

‫‪83‬‬



‫بحر الظالم‬ ‫إلى أبي العالء المعري‬ ‫ظال ُم هي الدنيا ظالم‬

‫أراها بالبصيرة والبنان‬ ‫أزجرها حين تستيقظ‬

‫وأتأملها حين تنام‬ ‫وكأنني قمر‬ ‫ينير دجاها وهو ال يراها‬ ‫ذهبت إلى بغداد طل ًبا للعلى‬

‫‪85‬‬


‫فعدت منها باألسى‬ ‫وبما يكفكف دمعتي‬ ‫وما عيناي إال ثقبين أبيضين‬ ‫منهما ينحدر الدمع‬ ‫وكأنني أصبت بالعمى‬ ‫من كثرة البكاء في رحم أمي‬ ‫ولما ال أبكي؟‬ ‫هل سأخشى من دمعي على بصري؟‬ ‫لم أملك في هذه الفانية‬ ‫سوى محراب في معرة النعمان‬ ‫في الليل مضجع راهب‬ ‫وفي النهار درس عالم‬ ‫وأقفلت بابي دون العالمين‬ ‫سوى لطالب علم‬ ‫أو أديب ينادم‬ ‫‪86‬‬


‫«أراني في الثالثة من سجوني‬ ‫فقد ناظري ولزوم بيتي‬ ‫وكون النفس في الجسد الخبيث»‬ ‫أغوص في ظالمي وفي حزني وغمي‬ ‫وحيد أعانيها بغير عيال‬ ‫فلم يقبل وجهي المجدور غير أمي‬ ‫حتى شكرت الله على العمى‬ ‫مثلما شكره المبصرون على البصر‬ ‫وما جسدي إال قبرا لروحي‬ ‫أعذبه بالصيام لعله يهلك فتصعد روحي‬ ‫وببصيرتي رأيت ما خلف الحجب‬ ‫وجدت الحظ في الدنيا مثل أعمى‬ ‫يرى بأنامله في الزقاق‬ ‫يصيب أحدهم فيغنى‬ ‫ويدفع الباقين إلى اإلمالق‬ ‫‪87‬‬


‫وما خيرتني الدنيا الختار‬ ‫سوى أن أعاشرها بالطالق‬ ‫وما الدنيا إال قضاء وجبر‬ ‫وحاكم ومحكوم‬ ‫وقهر وظلم‬ ‫وما الموت إال أعمى بالسيف يضرب‬ ‫فيقتل من أصاب‬ ‫ويرجي الناجين إلى حين‬ ‫مرا‬ ‫وإذا كان طعم الموت ًَ‬

‫أمر من طعم الحياة‬ ‫فليس َ‬

‫نشربها حتى الثمالة‬ ‫ظلما وقهرا وذل‬

‫وفي قطرتها األخيرة‬ ‫نذوقه ويذوقنا الموت‬ ‫وما الحب إال أعمى‬ ‫‪88‬‬


‫يغشى القلوب بال بصر‬ ‫فإذا أبصر يتحول إلى بغض وحقد‬ ‫يدَ ب الموت فينا منذ أن نولد‬ ‫كما يدَ ب الدو ُد في األرض‬ ‫فإذا غشانا نعود مرة أخرى‬ ‫إلى األرض والدود‬ ‫«فخفف الوطء فما أظن أديم األرض‬ ‫إال من هذه األجساد»‬ ‫حرمت أكل اللحوم وأكلتمما نبت‬ ‫وكل ظالم أغوص فيه‬ ‫أضيئه بسقط زندي‬ ‫وما فكرت في أمر عظيم‬ ‫إال وفككته تحت ظنوني وشكي‬ ‫ومن شدة ُزهدي في الحياة‬ ‫زهدت حتى في النشور والحشر‬ ‫‪89‬‬


‫لم أر من األلوان إال لونًا واحدً ا‬ ‫فكأنني في جهنم الحمراء نُشرت‬ ‫وإذا «فنيت بيض األماني‬ ‫فهذا الظالم ليس بفان»‬ ‫أمنت بالله الواحد األحد‬ ‫وكفرت بغيره‬ ‫لم أعبده إال بعقلي وصومي‬ ‫خفيف الظل مشكور الخصال‬ ‫كبير العقل قليل حاسدي‬ ‫انتظرت موتي دون رجاء‬ ‫وفاجأني وأنا في السن طاعن‬ ‫لم يبق تحت أسمالي سوى جلدي وعظمي‬ ‫كثيرا‬ ‫فقلت له تأخرت ً‬ ‫فمرحبا بك يا قاتلي‬

‫أرحني من هذا الظالم‬ ‫‪90‬‬


‫وأرحني من سود خواطري‬ ‫تمنيت أن تحرق جثتي‬ ‫فال يبقى بعدي ال قبر وال لحد‬ ‫لم أترك ورائي أرملة ولم أترك ولد‬ ‫علي‬ ‫«هذا ما جناه أبي َ‬

‫وما جنيت على أحد»‬

‫‪91‬‬





Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.