مفهوم القوة

Page 1

‫يوزع هذا الكتاب مجان ًا‬ ‫مع العدد (‪ )7‬من مجلة املستقل‬





‫مفهوم القوّ ة في السياسة الدولية‬ ‫تأليف‪ :‬خالد الحراري‬ ‫© جميع الحقوق محفوظة‬ ‫مجلة‬ ‫أسبوعية سياسية شاملة‬ ‫طبع في مارس ‪2015‬‬ ‫مطابع األهرام‬ ‫جمهورية مصر العربية‬ ‫المدير الفني وتصميم الغالف‪ :‬سامح الكاشف‬ ‫اإلخراج الفني والتنفيذ‪ :‬أحمد نجدي‬


‫المحتويات‬ ‫تقديم ‪7......................................................................................‬‬

‫القوة في السياسة الدولية ‪11........................................‬‬ ‫‪ 1‬ـ مفهوم ّ‬

‫القوة ‪19.......................................................‬‬ ‫خصائص مفهوم ّ‬ ‫القوة‪21.........................................................................‬‬ ‫قياس ّ‬

‫القوة في المجال الدولي‪42..........................................‬‬ ‫توزيع ّ‬

‫‪ 2‬ـ عوامل‬ ‫القوة في المجال الدولي ‪47........................‬‬ ‫ومقومات ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫أول‪ :‬العوامل المادية للقوة‪50................................................‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬العوامل غير المادية للقوة‪105..........................................‬‬

‫‪ 3‬ـ نظريات ونماذج تحليل العالقات الدولية من خالل مفهوم‬ ‫القوة‪123........................................................................................‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫أول‪ :‬نظرية هانز مورجانثاو ‪124...............................................‬‬ ‫ثان ًيا‪ :‬نظرية ريمون آرون ‪130....................................................‬‬

‫ثال ًثا‪ :‬النموذج النظري لكارل دويتش‪145.................................‬‬



‫تقديم‬ ‫تعتبر المفاهيم والنظريات والنماذج اإلطار النظري الذي يتم‬

‫من خالله إخضاع الظاهرة االجتماعية للدراسة والبحث‪ ،‬السيما‬ ‫ً‬ ‫شكل من أشكال الظواهر االجتماعية‬ ‫الظاهرة السياسية التي تم ّثل‬

‫التي اختص بدراستها فرع من فروع المعرفة هو علم السياسة أو ميدان‬

‫العلوم السياسية‪.‬‬

‫التصوري في مجال الدراسات‬ ‫واإلطار النظري أو النموذج‬ ‫ّ‬

‫المصغرة لواقع سياسي مع ّين أو‬ ‫السياسية يعني تلك الصورة الذهنية ّ‬ ‫للحياة السياسية بشكل عام في بعديها المح ّلي والدولي‪ ،‬من خالل‬ ‫ٍ‬ ‫بناء ذهني يتشكّل من فرضيات ومفاهيم تم مالحظتها واستقراءها من‬ ‫ذلك الواقع السياسي وإخضاعها ألساليب البحث العلمي للتح ّقق‬

‫منها‪ ،‬ومن ثم اتخاذها أداة لفهمه وتفسيره‪.‬‬

‫والقوة التي اتفق حولها أغلب الباحثين السياسيين على أنها مركز‬ ‫ّ‬ ‫االهتمام ونقطة االنطالق في الدراسات السياسية تم ّثل المفهوم الذي‬ ‫‪7‬‬


‫سيتم توظيفه من خالل هذه الدراسة كمفهوم أساس لتحليل وتفسير‬ ‫الواقع السياسي الدولي خالل مرحلة من مراحله‪ ،‬بدأت بانتهاء مرحلة‬ ‫قائما على‬ ‫الحرب الباردة وانهيار النظام السياسي الدولي الذي كان ً‬ ‫القطبية الثنائية‪ ،‬وانتقال الواقع السياسي الدولي إلى ٍ‬ ‫نسق جديد صار‬ ‫يعرف ويسمى بالنظام الدولي الجديد‪.‬‬

‫في خضم جملة من األحداث والوقائع التي أصابت الواقع الدولي‬ ‫مع بداية العقد األخير من القرن العشرين وبشكل متسارع وفجائي‬ ‫وجذري أحيانًا بدأت مالمح مرحلة جديدة في عمر العالقات الدولية‬ ‫ّ‬ ‫تتكشف شي ًئا فشي ًئا‪ ،‬ليعتبرها البعض نظا ًما دول ًيا جديدً ا‪ ،‬بينما ال يرى‬ ‫فيها البعض اآلخر سوى مرحلة انتقالية لنظام دولي لمرحلة ما بعد‬ ‫نهاية الحرب الباردة ال زالت أوضاعه ومالمحه لم تستقر وتتضح بعد‪.‬‬

‫لقد طرأت تغ ّيرات جوهرية على هيكلية ومضمون النظام الدولي‬ ‫في ثوبه الجديد شملت تغ ّيرات في طبيعة العالقات والتفاعالت‬ ‫بين أطرافه وتغ ّيرات في آليات عمله وتوزيع القوة بين وحداته‬ ‫انعكاسا للتغ ّيرات التي طرأت على الظاهرة السياسية الدولية من‬ ‫ً‬ ‫حيث مضامينها ومن حيث األهمية والدور الذي صار ألي من هذه‬ ‫المضامين‪.‬‬ ‫في ظل هذه التغيرات التي طرأت على الواقع الدولي من خالل‬ ‫مضامين جديدة ومتباينة األهمية قد صارت للظاهرة السياسية الدولية‪.‬‬

‫أحاول هنا أن أرصد السلوك السياسي الدولي والظاهرة السياسية‬ ‫الدولية خالل هذه المرحلة (مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة)‬ ‫‪8‬‬


‫والتعرف على خصائصها ومضامنيها من خالل‬ ‫للكشف عن طبيعتها‬ ‫ّ‬ ‫إطارا يقع في‬ ‫التعامل مع أبرز الصور والتراكيب التي صارت تمثل ً‬ ‫نطاقه وفي حدوده السلوك السياسي الدولي وتع ّبر أبعاده عن حقيقة‬ ‫وطبيعة الظاهرة السياسية الدولية في ظل هذا الواقع الدولي الجديد‪،‬‬ ‫وذلك من خالل إخضاع هذه الصور والتراكيب للتحليل والتفسير‬ ‫من خالل مفهوم القوة كمفهوم أساس‪ ،‬في محاولة للتح ّقق من مدى‬ ‫استمرار صالحية القوة كمفهوم أساس لتفسير السلوك السياسي‬ ‫الدولي في ظل هذه التغ ّيرات التي طرأت على الواقع الدولي وفي‬ ‫محاولة لتوضيح الصور واألشكال التي اتخذتها والوسائل واألساليب‬ ‫التي تعبر عنها برغم معطيات الواقع الدولي الراهن التي تضع بين يدي‬ ‫الباحث جملة من التفسيرات والمبررات للسلوك السياسي الدولي‪،‬‬ ‫تبدو أن ال عالقة لها بمفهوم القوة وأنها تنتمى لقيم ومفاهيم ذات‬ ‫تتجسد في‬ ‫طابع أخالقي ومثالي‪ ،‬هذه التفسيرات والمبررات التي‬ ‫ّ‬ ‫شعارات الدفاع عن الحرية وعن حقوق اإلنسان ونشر الديمقراطية‬ ‫ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل ومحاربة اإلرهاب‪.‬‬

‫‪9‬‬



‫(‪)1‬‬ ‫القوة في ال�سيا�سة الدولية‬ ‫مفهوم ّ‬ ‫القوة من المفاهيم الرئيسية في العلوم االجتماعية‬ ‫يعتبر مفهوم ّ‬ ‫بشكل عام‪ ،‬ويعتقد البعض ّ‬ ‫أن أي فعل اجتماعي هو في جوهره‬ ‫ممارسة للقوة‪ ،‬وأن كل عالقة اجتماعية هي في حقيقتها معادلة للقوة‪،‬‬ ‫القوة تتخ ّلل كافة التنظيمات والنظم والعالقات‬ ‫ذلك ألن عالقة ّ‬ ‫االجتماعية بد ًءا من األسرة إلى المؤسسة إلى المدرسة إلى الدولة‬ ‫(((‬ ‫إلى المجتمع الدولي‪.‬‬

‫وإذا كان األمر كذلك على صعيد الواقع االجتماعي الواسع‬ ‫وضوحا في ذلك الح ّيز من الواقع االجتماعي‬ ‫فإن األمر يكون أكثر‬ ‫ً‬ ‫القوة‬ ‫المرتبط بالسياسة كفعل إنساني واجتماعي يبدأ وينتهي عند ّ‬ ‫كجوهر يع ّبر عن االستعداد الطبيعي لدى اإلنسان لممارسة عالقات‬ ‫األمر والطاعة وعالقات العدو الصديق‪.‬‬ ‫((( فاروق يوسف يوسف‪ ،‬القوة السياسة‪( ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة عين شمس ‪ ،)1984‬ص‪.7‬‬ ‫‪11‬‬


‫محصلة التفاعل بين السياسات‬ ‫والسياسة الدولية باعتبارها تم ّثل‬ ‫ّ‬ ‫الخارجية لألطراف الدولية وما ينتج عن هذا التفاعل من ظواهر‬ ‫تتخطى في تأثيرها المجتمع السياسي (المحلي) إلى المجتمع‬ ‫القوة كمفهوم ّ‬ ‫يحتل‬ ‫الدولي‪ ،‬ترتبط أكثر من أي شيء آخر بمفهوم ّ‬ ‫األهم ّية األكبر في فهم السياسات الخارجية لألطراف الدولية‪ ،‬ومن‬ ‫ثم في فهم السياسة الدولية‪.‬‬

‫القوة في السياسة الدولية‪ ،‬إال أنه‬ ‫بالرغم من هذه‬ ‫األهمية لمفهوم ّ‬ ‫ّ‬ ‫المفهوم األكثر إثار ًة للجدل واالختالف في تحديد ماه ّيته وكيفية‬ ‫قياسه في أدبيات العلوم السياسية‪.‬‬

‫في الفكر اليوناني القديم نجد أرسطو في كتابه السياسة (‪)politics‬‬ ‫القوة بأنها‪ :‬تلك اإلمكانية التي تتو ّفر لبعض‬ ‫يحدّ د خالصة مدرك ّ‬ ‫أفراد المجتمع السياسي ـ المنقسم بالطبيعة إلى حكّام ورعايا ـ‬ ‫لجعل اآلخرين يفعلون ما لم يكونوا فاعليه من تلقاء أنفسهم‪ ،‬وحتى‬ ‫القوة البد من ممارستها‪ ،‬فيرضخ اآلخرون لطلب‬ ‫تتضح فعالية هذه ّ‬ ‫القوة وين ّفذون إرادته(((‪.‬‬ ‫صاحب ّ‬ ‫أما توماس هوبز في القرن السابع عشر فيشتهر له التعريف للقوة‬ ‫بأنها‪« :‬الوسيلة أو الوسائل المتاحة في وقت مع ّين للحصول على‬ ‫خير مستقبلي واضح» دون ّ‬ ‫يتورط في تحديد (الخير الواضح)‬ ‫أن ّ‬ ‫ليعطيه أكبر قدر من االتساع والشمول‪.‬‬ ‫((( علي أحمد عبد القادر‪ ،‬وكمال منوفي‪ ،‬النظريات والنظم السياسية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.20‬‬ ‫‪12‬‬


‫القوة بأنها (احتمال قيام شخص ما في عالقات‬ ‫ي ّعرف ماكس فيبر ّ‬ ‫اجتماعية بتنفيذ رغباته رغم مقاومة اآلخرين بغض النظر عن األساس‬ ‫الذي يقوم عليه ذلك االحتمال)(((‪ ،‬ويالحظ ّ‬ ‫أن هذا التعريف يرتكز على‬ ‫احتمال التأثير وليس على التأثير الفعلي‪ ،‬ويستند تعريف روبرت دال ـ‬ ‫للقوة ـ على تعريف ماكس فيبر السابق ليشير إلى ّ‬ ‫القوة هي «القدرة‬ ‫أن ّ‬ ‫على جعل شخص آخر يقوم بعمل لم يكن ليقوم به بغير ذلك»(((‪.‬‬

‫بما يشير إلى ّ‬ ‫القوة هنا يعتمد على درجة التغ ّير في سلوك‬ ‫أن قياس ّ‬ ‫الشخص الواقع عليه التأثير وال ترتبط ـ وف ًقا لهذا التعريف ـ مسألة‬ ‫القوة بإمكانيات الطرف المؤ ّثر‪.‬‬ ‫قياس ّ‬

‫القوة بأنها‪« :‬القدرة على التحكّم في‬ ‫أما هانز مارجنثاو في ّعرف ّ‬ ‫القوة‬ ‫أفكار وأفعال اآلخرين»(((‪ ،‬في إشارة واضحة إلى عنصري ّ‬ ‫الرئيسيين وهما‪ :‬اإلمكانيات والفعل‪.‬‬ ‫القوة‪ ،‬ف ّعرفاها‬ ‫واتجه الزويل وكابالن‬ ‫ً‬ ‫اتجاها آخر في تعريف ّ‬ ‫بأنها‪( :‬المشاركة في صنع القرارات المهمة في التاريخ)‪ ،‬والقرار‬ ‫بصفة عامة هو االختيار الواعي بين البدائل بعد دراسة الموقف من‬ ‫أجل تحقيق هدف معين(((‪.‬‬ ‫((( فاروق يوسف يوسف‪ ،‬القوة السياسية‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.13‬‬ ‫((( جوزيف‪.‬س‪.‬ناي؛ ألبن‪ ،‬المنازعات الدولية‪ ،‬ترجمة د‪ .‬أحمد أمين الجمل‪ ،‬ومجدي‬ ‫كامل‪( ،‬القاهرة‪ :‬الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية‪ ،)1997 ،‬ص‪.82‬‬ ‫((( فاروق يوسف يوسف‪ ،‬القوة السياسية‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫((( المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة نفسها‪.‬‬ ‫‪13‬‬


‫ويالحظ ّ‬ ‫أن هذا التعريف يتجاهل ال ُبنى السياسية واالجتماعية‬ ‫والركائز األخرى للقوة ويحصرها في (اتخاذ القرار) والذي هو‬ ‫المدخالت‪ ،‬قد تكون‬ ‫عملية كاملة يدخل في نطاقها عدد كبير من ُ‬ ‫القوة ـ في شكل مقدرات وإمكانيات ـ جز ًء منها‪ ،‬وتكون مخرجاتها‬ ‫ّ‬ ‫القوة‪ ،‬تب ًعا‬ ‫تعبيرا عن ّ‬ ‫هي القرار نفسه‪ ،‬والذي يم ّثل في جانب منه ً‬ ‫لحجم اإلمكانيات والمقدرات التي و ّظفت للوصول إلى هذا القرار‪.‬‬

‫يتّضح من خالل ما سبق ّ‬ ‫أن المشكلة الجوهرية في تعريف مدرك‬ ‫(القوة) تكمن في احتواء هذا المدرك على عنصرين اثنين متداخلين‬ ‫ّ‬ ‫القوة تقف عند‬ ‫بطريقة مع ّقدة‪ ،‬مما جعل بعض التعريفات لمفهوم ّ‬ ‫القوة من زاوية معينة‬ ‫حد التعبير عن احدهما دون اآلخر‪ ،‬يأخذ مفهوم ّ‬ ‫شكل (الغاية)‪ ،‬بينما يأخذ شكل (الوسيلة) من زاوية أخرى‪ ،‬ويبدو‬ ‫لمحصلة القدرات المادية والمعنوية‬ ‫في ذات الوقت وكأنه مرادف‬ ‫ّ‬ ‫من جهة ومن جهة أخرى يبدو وكأنه مجرد تعبير عن عالقة إنسانية‪.‬‬ ‫ليوضح‪ّ :‬‬ ‫أن عنصري مدرك‬ ‫ولتفصيل ما سبق يجتهد الباحث ّ‬ ‫القوة المتداخلين هما‪( :‬المادة والفعل)‪ ،‬أو ما يطلق عليه البعض‬ ‫ّ‬ ‫(((‬ ‫(المقدرات والنفوذ) ‪ ،‬ففي حين ّ‬ ‫القوة من زاوية (المادة) هي‬ ‫أن ّ‬ ‫مجموعة القدرات واإلمكانيات التي تكتسبها الدولة ـ مادمنا بصدد‬ ‫القوة في المجال الدولي ـ وتتيح لها ّ‬ ‫أن تتمتع بوزن نسبي لهذه‬ ‫ّ‬ ‫القدرات مقارنة بغيرها من الدول أو األطراف الدولية األخرى‪،‬‬ ‫((( لويد جنسون‪ ،‬تفسير السياسة الخارجية‪ ،‬ترجمة د‪ .‬محمد بن أحمد مفتي‪ ،‬ود‪ .‬محمد‬ ‫السيد سليم (الرياض‪ :‬عمادة شؤون المكتبات‪ ،)1989 ،‬ص‪.238‬‬ ‫‪14‬‬


‫وتتم ّثل هذه اإلمكانيات والقدرات ـ كما سيأتي تفصيله في المبحث‬ ‫التالي ـ في اإلمكانيات المتعلقة بالموقع الجغرافي والسكان‬ ‫والموارد االقتصادية والقدرات العسكرية‪ ،‬وكذلك المقدرات‬ ‫واإلمكانيات ذات الطابع غير المادي المتمثلة في القيادة السياسية‬ ‫القوة‬ ‫والنظام السياسي والثقافة السائدة وغير ذلك‪ ،‬وبالنظر إلى ّ‬ ‫من هذه الزاوية يمكن اإلقرار بأن كل دولة هي عبارة عن قوة وإن‬ ‫القوة‬ ‫القوة‪ ،‬برغم اختالف وزن هذه ّ‬ ‫وجود الدولة متالزم مع وجود ّ‬ ‫القوة‬ ‫قياسا بغيرها من القوى أو الدول‪ ،‬ومن هذه الزاوية تصبح ّ‬ ‫ً‬ ‫القوة التي تمكّنها‬ ‫غاية‪ ،‬فكل دولة تحرص على اكتساب مقدرات ّ‬ ‫من البقاء واالستمرار‪.‬‬ ‫ومن الزاوية األخرى‪ ،‬فإن توظيف تلك اإلمكانيات (المادة)‬ ‫يجسده‬ ‫إلحداث عالقة مع طرف آخر تفضي إلى التأثير والتأثر هو ما ّ‬ ‫القوة المتم ّثل في اعتبارها (فعل)‪ ،‬مما يعطي‬ ‫العنصر اآلخر لمدرك ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتتدخل هنا االعتبارات (اإلنسانية)‬ ‫للقوة معنى (العالقة اإلنسانية)‪،‬‬ ‫لتع ّقد العالقة بين الفعل والمادة‪ ،‬وتصبح المسائل المتعلقة باإلدراك‪،‬‬ ‫والرغبة‪ ،‬والخوف‪ ،‬واإلحساس باألهمية‪ ،‬وكل ما يتعلق بالجانب‬ ‫مهما في تكوين‬ ‫اإلنساني من إحساس وشعور وفهم وإدراك محدّ ًدا ً‬ ‫(الخلطة) التي تترجم اإلمكانيات إلى فعل تأثير وتأثر‪ ،‬ويزيد األمر‬ ‫القوة ال يتعلق األمر‬ ‫تعقيدً ا أنه في كل (حالة) من حاالت التعبير عن ّ‬ ‫فقط يصاحب الفعل‪ ،‬بل يكون الطرف اآلخر الموجه تجاهه الفعل‬ ‫مهما من هذه (الخلطة)‪.‬‬ ‫جز ًء ً‬ ‫‪15‬‬


‫كما ّ‬ ‫أن العالقة بين (المادة) و(الفعل) في هذه الحالة لن تكون‬ ‫عالقة فيزيائية شبيهة بالعالقة بين المادة والفعل في الطبيعة‪ ،‬حيث‬ ‫ّ‬ ‫أن العالقة (الفيزيائية) بين المادة والفعل حتمية (إلى حد ما)‪ ،‬بمعنى‬ ‫ّ‬ ‫أن طبيعة المادة تحدّ د وتتحكّم في نوع الفعل‪ ،‬فكتلة المادة وحجمها‬

‫ونوعها تحدّ د (فيزيائ ًيا) الفعل المتعلق بالطاقة والحركة‪ ،‬وغيرها من‬ ‫األفعال المرتبطة بالمادة فيزيائ ًيا‪ ،‬األمر مختلف فيما يتعلق بالقوة‬ ‫على الصعيد اإلنساني‪ ،‬فليس من الحتمي أو الضروري ّ‬ ‫أن يع ّبر‬ ‫تعبيرا (فيزيائ ًيا) عن المادة‪ ،‬بمعنى ّ‬ ‫أن إمكانيات ومقدرات‬ ‫الفعل‬ ‫ً‬ ‫القوة ـ حتى وإن أمكن قياسها وتحديدها ـ ليس من الضروري‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن تؤدي إلى (فعل) محدّ د من حيث التأثير والنتائج‪ ،‬وهو جانب‬ ‫القوة ـ الذي نحن بصدده ـ درجة عالية‬ ‫آخر يضفي على مفهوم ّ‬ ‫من التعقيد‪.‬‬ ‫(القوة‬ ‫لعل معالجة الموضوع من خالل العالقة بين مفهومي‬ ‫ّ‬ ‫والقدرة) يعطي مزيدً ا من التوضيح في هذا الجانب‪:‬‬

‫في اللغة اإلنجليزية يتم التم ّيز بين لفظين (‪ )Strength‬والتي‬ ‫(القوة) و(‪ )power‬والتي تقابل في العربية‬ ‫تقابل في العربية‬ ‫ّ‬ ‫القوة في‬ ‫(القدرة)‪ ،‬وفي اللغة الفرنسية يقابل لفظ (‪ )Force‬لفظ ّ‬ ‫العربية‪ ،‬بينما يقابل لفظ (‪ )Puissance‬لفظ القدرة‪ ،‬وهو اللفظ‬ ‫الذي يستعمله الفرنسيون للتعبير عن مقدرة الوحدة السياسية على‬ ‫فرض إرادتها‪ ،‬بينما يستعملون لفظ ‪ Force‬للداللة على القوى‬ ‫العسكرية واالقتصادية‪ ،‬أي مجموع الوسائل التي تع ّبر عن القدرة‪،‬‬ ‫‪16‬‬


‫وفي اإلنجليزية هناك اتجاهان في شأن مدلول لفظ ‪ Power‬في‬ ‫األول ّ‬ ‫القوة (‪ )Power‬هي مجموعة‬ ‫أن ّ‬ ‫المجال الدولي‪ ،‬يرى االتجاه ّ‬ ‫العوامل المشكّلة لقدرة الدولة‪ ،‬ويتعامل هذا االتجاه مع عوامل‬ ‫قدرة الدولة باعتبارها عوامل قوتها (السكان‪ ،‬الموقع الجغرافي‪،‬‬ ‫الموارد االقتصادية‪...‬الخ)‪ ،‬أما االتجاه الثاني فيربط القدرة (‪)Power‬‬ ‫بفكرة العالقة اإلنسانية‪ ،‬أي تأثير اإلنسان على عقول وأفكار غيره‬ ‫من الناس‪ ،‬كما ّ‬ ‫أن هذا االتجاه ال يفك االرتباط بين مفهوم القدرة‬ ‫بمعنى العوامل والعناصر المكونة للقوة‪ ،‬وفي اللغة العربية برغم‬ ‫(القوة) التي تقابل ‪ Strength‬في اإلنجليزية يمكن ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن يفهم‬ ‫أن لفظ‬ ‫ّ‬ ‫على أنه داللة على مجموعة اإلمكانيات التي يتمتع بها (القوي)‪،‬‬ ‫وأن لفظ القدرة التي تقابل ‪ Power‬في اإلنجليزية يفهم على أنه داللة‬ ‫على التأثر أو الفعل المرتبط باإلمكانيات(((‪ّ ،‬‬ ‫أن التعامل مع مدرك‬ ‫يتضمن عنصرين هما‪( :‬مادته) المتمثلة في مجموعة‬ ‫القوة باعتباره ّ‬ ‫ّ‬ ‫القدرات والعناصر المكونة للقوة و(الفعل) المتمثل في التعبير عن‬ ‫هذه القدرات واإلمكانيات باعتباره عالقة إنسانية يجعل الباحث‬ ‫(القوة) للتعبير عن المعنى المقابل للفظ ‪Power‬‬ ‫ّ‬ ‫يفضل استعمال لفظ ّ‬ ‫في اللغة اإلنجليزية‪ ،‬حيث ّ‬ ‫أن هذا المعنى أقدر في التعبير عنه لفظ‬ ‫القوة ـ عرب ًيا ـ عنه فيما إذا استعمل لفظ القدرة للتعبير عنه‪ ،‬وذلك‬ ‫ّ‬ ‫وف ًقا لالتجاه الثاني ـ في اللغة اإلنجليزية ـ الذي سبق اإلشارة إليه‪،‬‬ ‫((( محمد طه بدوي [وآخرون]‪ ،‬مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.‬ص ‪.63-61‬‬ ‫‪17‬‬


‫القوة بالمعنى الذي يستهدفه‬ ‫حيث يبدو األقرب في تصوير مفهوم ّ‬ ‫الباحث(((‪.‬‬

‫ّ‬ ‫القوة والتي تستوجب التعامل‬ ‫أن الطبيعة المع ّقدة والمركّبة لمفهوم ّ‬ ‫مع هذه المفهوم باعتباره ً‬ ‫(كل) مرك ًبا من مادة وفعل هي التي تمنحه‬ ‫شرعية اعتباره جوهر العملية السياسة وصلبها‪ ،‬وقد ال نستطيع ّ‬ ‫أن‬ ‫يجسدها‬ ‫نمنحه هذه الشرعية إذا تعاملنا معه على أنه مجرد (وسيلة) ّ‬ ‫القوة ليحدث التأثير‬ ‫(الفعل) المتعلق باستعمال إمكانيات ومقدرات ّ‬ ‫والتأثر‪ ،‬أو إذا تعاملنا معه على أنه مجموعة المقدرات واإلمكانيات‬ ‫والتي قد ال يكون لها أي معنى في غياب (الفعل) المتعلق بتوظيفها‬ ‫ووضعها موضع االستخدام‪ ،‬كما ّ‬ ‫أن الطبيعة المع ّقدة والمركّبة لمفهوم‬ ‫القوة هي التي تجعل الباحث ـ أي باحث ـ ال يستطيع السيطرة تما ًما‬ ‫ّ‬ ‫القوة أثناء التحليل ليطغى المعنى المتع ّلق بالقوة باعتبارها‬ ‫على مفهوم ّ‬ ‫مجموعة القدرة واإلمكانيات أحيانًا‪ ،‬وأحيانًا أخرى المعنى المتعلق‬ ‫بالقوة باعتبارها فعل التأثير والتأثر‪ ،‬لذلك فإن أي تحليل للقوة البد‬ ‫ّ‬ ‫أن يقر بأنها معقدة تما ًما «وإنك إذا قمت بطمس تعقيداتها فإنك‬ ‫(((‬ ‫ال يمكن ّ‬ ‫أن تحسن فهمها» ‪.‬‬ ‫((( يتفق الباحث في ذلك مع وجهة نظر الدكتور محمد طه بدوي الذي يرى ّ‬ ‫أن لفظ‬ ‫القوة أقدر في تلفظها ـ عرب ًيا ـ على التعبير في نفس الوقت عن القوة من حيث هي‬ ‫مجموعة عوامل (جغرافية‪ ،‬اقتصادية‪...‬الخ)‪ ،‬وعن القدرة على استعمال عناصر‬ ‫القوة هذه م ًعا‪ ،‬انظر في ذلك محمد طه بدوي [وآخرون]‪ ،‬مقدمة إلى العالقات‬ ‫السياسية الدولية‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.63‬‬ ‫((( روبرت‪ .‬أ‪ .‬دال‪ ،‬التحليل السياسي الحديث‪ ،‬ترجمة د‪ .‬عالء أبو زيد‪( ،‬القاهرة‪:‬‬ ‫مركز األهرام للدراسات ‪ ،)1993‬ص‪.33‬‬ ‫‪18‬‬


‫القوة‬ ‫خ�صائ�ص مفهوم ّ‬

‫من مجموع االعتبارات السابقة يمكن استخالص عدد من الخصائص‬

‫القوة كمفهوم يع ّبر عن جوهر العملية‬ ‫التي تحدد اإلطار العام لمفهوم ّ‬ ‫السياسية الس ّيما على المستوى الدولي‪ ،‬على النحو التالي‪:‬‬

‫القوة عالقة إدراكية في األساس‪ :‬فقد تمتلك دولة ما قدرات‬ ‫‪1‬ـ ّ‬ ‫تصرف الدول األخرى‬ ‫كبيرة تمكّنها من فرض إرادتها‪ ،‬لك ّن ّ‬

‫تجاهها سيعتمد على إدراكها لمقدرات الدولة األولى‪،‬‬

‫وكذلك على إدراكها لرغبة تلك الدولة في استعمال هذه‬

‫القدرات ووضعها موضع التنفيذ‪ ،‬وتستمر عملية اإلدراك‬ ‫األول‬ ‫بشكل استرجاعي لتعتمد‬ ‫(القوة) على إدراك الطرف ّ‬ ‫ّ‬ ‫لمدركات الطرف الثاني تجاهه وهكذا(((‪.‬‬

‫القوة إال من خالل عالقة‬ ‫القوة مفهوم نسبي‪ :‬حيث ال تتضح ّ‬ ‫‪2‬ـ ّ‬ ‫أن الدولة (أ) ً‬ ‫أن تقول ّ‬ ‫تفاعل دولي‪ ،‬فليس باإلمكان ّ‬ ‫مثل دولة‬ ‫قوية وأن الدولة (ب) دولة ضعيفة‪ ،‬وإنما كل طرف يكتسب‬

‫القوة بالنسبة لوزن قوة الطرف اآلخر‪.‬‬ ‫درجة من ّ‬

‫((( لويدجنسون‪ ،‬تفسير السياسة الخارجية‪ ،‬ترجمة د‪ .‬محمد بن أحمد مفتي ومحمد‬ ‫السيد سليم‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.238‬‬ ‫‪19‬‬


‫القوة مفهوم متغ ّير‪ :‬فالقوة النسبية للدول في حالة تغير دائم‪ ،‬لذلك‬ ‫‪3‬ـ ّ‬ ‫فإن حالة االتزان الدولي ما هي إال حالة عارضة ومؤقتة‪ ،‬وذلك‬ ‫نظرا للحركية الشديدة التي تتسم بها التفاعالت الدولية‪ ،‬ويرجع‬ ‫ً‬ ‫القوة‪،‬‬ ‫مقومات وإمكانيات ّ‬ ‫ذلك إلى حالة التغ ّير المستمر في ّ‬ ‫وكذلك التغ ّير في األهمية النسبية ألي من هذه اإلمكانيات(((‪.‬‬

‫القوة مفهوم موقفي‪ :‬تتغ ّير تب ًعا لطبيعة المواقف الدولية التي‬ ‫‪4‬ـ ّ‬ ‫تواجهها الدولة‪ ،‬فقد تستطيع دولة ّ‬ ‫أن تمارس نفو ًذا أو تستخدم‬ ‫(العنف) تجاه دولة مع ّينة في موقف ما‪ ،‬بينما ال تستطيع القيام‬ ‫بنفس الفعل تجاه دولة أخرى أو تجاه نفس الدولة في قضية‬ ‫أخرى‪.‬‬

‫القوة مفهوم متعدد األبعاد‪ :‬فالقوة القومية للدولة تعتمد على جملة‬ ‫‪5‬ـ ّ‬ ‫من المعطيات والعوامل‪ ،‬وهذه المعطيات برغم ّ‬ ‫أن بعضها متغ ّير‬ ‫بشكل مستمر إال ّ‬ ‫أن وزن كل منها وأهم ّيته في اإلطار العام لقوة‬ ‫أيضا وبشكل مستمر من فترة زمنية إلى أخرى‪ ،‬ومن‬ ‫الدولة متغ ّير ً‬ ‫دولة إلى دولة‪ ،‬ففي حين كان االعتماد على القدرات العسكرية‬ ‫لتوضيح قوة الدولة ـ خالل فترة طويلة من الزمن ـ فإن القدرات‬ ‫االقتصادية والقدرات المتعلقة بالقيادة السياسية صارت تلعب‬ ‫مهما في تحديد حجم ووزن دولة ما‪ ،‬فاليابان ً‬ ‫مثل ـ والتي‬ ‫دورا ً‬ ‫ً‬ ‫ال تمتلك أي قدرات عسكرية تذكر ـ تمنحها قدراتها االقتصادية‬

‫((( محمد طه بدوي [وآخرون]‪ ،‬مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكر)‪ ،‬ص‪.67‬‬ ‫‪20‬‬


‫القوة يمكّنها من فرض إرادتها بما يح ّقق مصالحها‬ ‫مستوى من ّ‬ ‫القومية التي تأ ّطرت وتبلورت مع ما ينسجم مع هذه القدرة وما‬ ‫ينسجم كذلك مع غياب القدرة العسكرية بالنسبة لها(((‪.‬‬ ‫القوة‬ ‫قيا�س ّ‬

‫يضع روبرت دال تعري ًفا إجرائ ًيا للقوة حيث يرى ّ‬ ‫أن‪:‬‬

‫[القوة = قدرة (أ) على دفع (ب) للقيام بالعمل‬ ‫ّ‬

‫(س) ـ احتمال قيام (ب) بالعمل (س) بغض‬

‫النظر عما فعله (أ)]‪.‬‬

‫برغم هذه المعادلة اإلجرائية للقوة إال ّ‬ ‫القوة‬ ‫أن مشكلة تحديد ّ‬

‫القوة‪.‬‬ ‫وقياسها تظل المشكلة األصعب في التعامل مع مدرك ّ‬

‫تعتمد عملية القياس والتحديد بدرجة أساسية على وجود‬

‫مؤشرات ومقاييس للموضوع محل القياس‪ ،‬وهذا أمر من الصعب‬ ‫ّ‬ ‫القوة لعدد من األسباب واإلشكاليات‬ ‫أن يتأت بخصوص مفهوم ّ‬

‫القوة وهي كما يراها روبرت‬ ‫المتعلقة بالطبيعة المع ّقدة لمفهوم ّ‬ ‫دال(((‪ ،‬تتمثل في‪:‬‬

‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.67‬‬ ‫((( روبرت‪ .‬أ‪ .‬دال‪ ،‬التحليل السياسي الحديث‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬الصفحات من‬ ‫‪ 33‬إلى ‪.40‬‬ ‫‪21‬‬


‫القوة وقياسها البد من‬ ‫أ ) إشكالية التوزيع‪ :‬حتى يمكن تحديد ّ‬ ‫الوصول إلى وصف للقوة وتوزيعها بين األفراد شبيه بالوصف‬ ‫المتعلق بتوزيع الدخل أو الثروة‪ ،‬أو التعليم‪ ،‬أو متوسط عمر‬ ‫اإلنسان‪ ،‬أو أي من األشياء األخرى من هذا القبيل‪ ،‬وهو ما يرى‬ ‫ً‬ ‫مستحيل‪ ،‬ما بالك إذا كان األمر‬ ‫روبرت دال أنه ربما يكون‬ ‫القوة بين جماعات بشرية (منظمات‪،‬‬ ‫يتعلق بوصف توزيع ّ‬ ‫مؤسسات‪ ،‬مجتمعات‪ ،‬دول)‪.‬‬

‫تصور حد أدنى وحد أعلى‬ ‫ب) إشكالية التراتب‪ :‬يمكن نظر ًيا ّ‬ ‫للقوة وإن كل األطراف سوا ًء كانوا أفرا ًدا أو جماعات على‬ ‫المستوى الوطني أو أطرا ًفا دولية على المستوى الدولي‬ ‫القوة بين‬ ‫سيقع كل منهم بالضرورة عند مستوى مع ّين من ّ‬ ‫الحد األدنى والحد األعلى‪ ،‬وهو ما ال يمكن التعبير عنه‬ ‫بقيمة محدّ دة (واحد أو صفر ً‬ ‫مثل) وإنه عندما يتم وضع حد‬ ‫القوة سيحدث‬ ‫فاصل بين كل مستوى وآخر من مستويات ّ‬ ‫نوع من التضليل‪ ،‬ألن ذلك يعني تجاهل الكثير من التفريعات‬ ‫المطلوب معرفتها‪.‬‬ ‫القوة الكامنة والقوة المح ّققة‪ :‬البد من اإلقرار‬ ‫جـ) إشكالية ّ‬ ‫بأنه ال يوجد من بين المخلوقات من يملك قوة مطلقة غير‬ ‫القوة فإنه يمكن‬ ‫محدّ دة‪ ،‬وفي محاولة إدراك مستوى أو قدر ّ‬ ‫تصور مستوى نظر ًيا لقوة (س) ً‬ ‫مثل في ظل قوانين الطبيعية‬ ‫ّ‬ ‫والتقنية القائمة والمعرفة اإلنسانية‪ ،‬ويبقى هذا المستوى‬ ‫‪22‬‬


‫مستوى نظر ًيا‪ ،‬أو ما يمكن ّ‬ ‫(القوة الكامنة) أو‬ ‫أن يطلق عليه‬ ‫ّ‬ ‫القوة الكامنة‬ ‫االفتراضية‪ ،‬وإذا كان هناك احتمال الوصول إلى ّ‬ ‫أو االفتراضية عند التعامل وف ًقا لقانون الطبيعية (الفيزياء) مع‬ ‫األشياء باعتبار ّ‬ ‫أن المعطيات هنا قابلة للتحديد‪ ،‬فإنه على‬ ‫القوة النظرية‬ ‫الصعيد اإلنساني من غير المحتمل الوصول إلى ّ‬ ‫نظرا لالعتبارات المتعلقة بالجوانب اإلنسانية مثل‬ ‫الكامنة ً‬ ‫اإلدراك واإلحساس واالنفعال باإلضافة إلى االعتبارات‬ ‫المتعلقة بالجوانب الموضوعية المتمثلة في القيود والقوانين‬ ‫والزمان والمكان واآلخرين‪ ،‬لذلك فإن (س) سيحاول ت ّعظيم‬ ‫قوته باستمرار للوصول إلى المستوى النظري لها‪ ،‬والذي‬ ‫ال يمكنه الوصول إليه بشكل تام بل سيصل إلى تحقيق قدر‬ ‫التصور النظري لقوته‪ ،‬وبرغم صعوبة‬ ‫أو مستوى معينًا من هذا ّ‬ ‫التصور النظري للقوة الكامنة‪ ،‬فإن الصعوبة تكون أكبر‬ ‫تحديد ّ‬ ‫في تحديد أي من المستويات الذي يمكن ل(س) ّ‬ ‫أن يح ّققه‬ ‫في سعيه باتجاه تحقيق أقصى ما يمكن من قوته الكامنة‪.‬‬

‫القوة وقياسها‬ ‫د ) إشكالية المحيط والمجال‪ :‬حتى يمكن تحديد ّ‬ ‫(القوة بالنسبة لمن؟‬ ‫البد من اإلجابة على السؤال التالي‬ ‫ّ‬ ‫وبخصوص ماذا؟)‪.‬‬

‫القوة‪ :‬تزداد مشكلة وصف‬ ‫هـ) إشكالية الفردية والجماعية في ّ‬ ‫القوة تعقيدً ا عندما يتع ّلق األمر بالجماعات‪ ،‬فإذا‬ ‫توزيع ّ‬ ‫كان باإلمكان قياس قوة الفرد بالنسبة لفرد آخر فإن قياس‬ ‫‪23‬‬


‫قوة (جماعة) بالنسبة لجماعة أخرى أصعب الحتواء هذه‬ ‫الجماعة على عدد من األفراد‪ ،‬وقد تحتوي هذه الجماعة‬ ‫على جماعات أخرى أصغر نسب ًيا‪ ،‬كما هو الحال في الدولة‪،‬‬ ‫ومع تحكّم اإلشكاليات السابقة في مسألة قياس قوة الفرد‪،‬‬ ‫المكونة من عدد من األفراد ال يكون‬ ‫فإن قياس قوة الجماعة‬ ‫ّ‬ ‫دائما عبارة عن حاصل جمع قوة األفراد المكونين لها‪ ،‬ألن‬ ‫ً‬ ‫تتولد وتوجد في الجماعة باعتبارها‬ ‫بعض المعطيات للقوة ّ‬ ‫جماعة‪ ،‬وقد تنتفي تما ًما في حالة التعامل مع أفراد الجماعة‬ ‫بشكل إنفرادي‪ ،‬كما ّ‬ ‫أن العكس صحيح‪ ،‬فبعض معطيات‬ ‫(صفرا) إذا‬ ‫محصلتها‬ ‫القوة الموجودة لدى األفراد قد تكون‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫تم التعامل مع هؤالء األفراد كجماعة‪.‬‬

‫و ) إشكالية التحكم في الخيارات‪ :‬تنبثق هذه اإلشكالية من‬ ‫خالل عدم إمكانية التحكّم في الخيارات المت ّعلقة بالفعل‬ ‫القوة والمترجم لإلمكانيات المرتبطة بها‪ ،‬ومر ّد‬ ‫المع ّبر عن ّ‬ ‫ذلك إلى ّ‬ ‫خيارا من‬ ‫أن الفعل المع ّبر عن ّ‬ ‫القوة يم ّثل في الواقع ً‬ ‫بين عدد من الخيارات المتاحة‪ ،‬وإذا كان للفاعل قدرة على‬ ‫االختيار بين المتاح من الخيارات فإنه في الغالب ال يملك‬ ‫القدرة على تحديد الئحة الخيارات المتاحة‪ ،‬والمثال هنا‬ ‫يشبه حال الطالب الجامعي الذي بإمكانه اختيار عدد من‬ ‫المواد لدراستها في فصل دراسي مع ّين في وقت ال يملك‬ ‫فيه القدرة على تحديد الئحة المواد التي يمكنه االختيار‬ ‫‪24‬‬


‫من بينها‪ ،‬ألن الئحة الخيارات المتاحة تنتجها ُبنى تتمتع‬ ‫باستمرارية نسبية تحدّ د أو تؤثر على األقل في تحديد قيم‬ ‫هامة مثل‪ :‬المكانة‪ ،‬النفوذ‪ ،‬السلطة‪ ،‬الثروة‪ ،‬وما شابهها‪،‬‬ ‫نظما ثابتة نسب ًيا‪ ،‬أو منظمات محسوسة‬ ‫وهذه ال ُبنى‬ ‫تتضمن ً‬ ‫ّ‬ ‫مثل األسرة‪ ،‬األحزاب السياسية‪ ،‬المؤسسات الدستورية‪،‬‬ ‫النظام السياسي‪ ،‬النظام االقتصادي وما شابه ذلك‪ ،‬وتخرج‬ ‫تحكم (الفاعل)‪،‬‬ ‫هذه ال ُبنى ـ على المدى القصير ـ عن دائرة‬ ‫ّ‬ ‫باعتبار ّ‬ ‫القوة يقع في الغالب في المدى‬ ‫أن الفعل المع ّبر عن ّ‬ ‫القصير زمن ًيا‪.‬‬

‫ز ) إشكالية الوعي‪ :‬وهي اإلشكالية التي ترتبط بمسألة اإلدراك‬ ‫للخيارات المتاحة واإلدراك للنتائج المترتبة على تفضيل أحد‬ ‫االختيارات عن اآلخر‪ ،‬وبما ّ‬ ‫أن عملية اإلدراك هي التي تحدّ د‬ ‫قائما‬ ‫نوع الفعل (المتبع) المع ّبر عن ّ‬ ‫القوة فإن االحتمال يظل ً‬ ‫في إنه (ربما يكون هناك خيار آخر يكون نوع الفعل الناتج عنه‬ ‫أكثر قوة بمقياس النتائج النهائية‪ ،‬والفاعل لم يستطيع إدراكه)‪،‬‬ ‫وهنا كيف يكون القياس؟ للمدرك أم لغير المدرك؟‪ ،‬وكيف‬ ‫يمكن قياس غير المدرك؟ وكيف يمكن التأكّد من ّ‬ ‫أن الخيار‬ ‫(الغائب) هو خيار غير مدرك أو هو خيار مدرك ومست ّبعد؟‬ ‫وتتولد االستفهامات من بعضها لتفضي إلى نتيجة مؤداها‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫أن إشكالية اإلدراك والوعي تجعل من الفعل المرتبط بالقوة‬ ‫غير قابل للقياس‪.‬‬

‫‪25‬‬


‫القوة‪ ،‬إال ّ‬ ‫أن‬ ‫وبالرغم من اإلشكاليات السابقة المتعلقة بقياس ّ‬ ‫القوة‪ ،‬فقد اقترح (دوتيش وأدينجو)‬ ‫عد ًدا من الباحثين حاول قياس ّ‬ ‫القوة على أساس تحديد درجة الرضا عن النتائج النهائية‬ ‫قياس ّ‬ ‫للسياسة الخارجية استنا ًدا على مفهوم السويل للقوة‪ ،‬والذي يرى‬ ‫ّ‬ ‫القوة تحدّ د من يحصل على ماذا وكيف ومتى؟ وفي إطار ذلك‬ ‫أن ّ‬

‫قاما بدراسة عدد من القضايا السياسية في عدد من الدول ومن بينها‬ ‫يوضح مدى‬ ‫وطو ًرا‬ ‫مقياسا من ثالث نقاط ّ‬ ‫ألمانيا االتحادية (ساب ًقا) ّ‬ ‫ً‬ ‫الرضا أو عدم الرضا عن القضية محل الدراسة‪ ،‬وعلى سبيل المثال‬ ‫تب ّين ّ‬ ‫أن األلمان كانوا راضين تما ًما عن اتفاقية باريس عام ‪ 1955‬والتي‬ ‫عضوا من اتحاد غرب‬ ‫بموجبها أصبحت ألمانيا االتحادية (ساب ًقا)‬ ‫ً‬ ‫أوربا وحلف األطلسي بمعدل (‪ )3 +‬بينما كان االتحاد السوفيتي‬ ‫معارضا تما ًما لهذه االتفاقية بمعدل (‪.((()3 -‬‬ ‫(ساب ًقا)‬ ‫ً‬ ‫القوة في العالقات الدولية‬ ‫أنصبت أغلب المحاوالت في قياس ّ‬ ‫ّ‬ ‫على تطوير ّ‬ ‫القوة الوطنية وبالذات المادية‬ ‫مؤشرات لقياس مكونات ّ‬ ‫كبيرا‬ ‫طور أورجانسكي وفوش‬ ‫منها‪ ،‬فقد ّ‬ ‫مقياسا للقوة أعطيا فيه وزنًا ً‬ ‫ً‬ ‫لعنصر السكان‪ ،‬وبنا ًء عليه تو ّقعا ّ‬ ‫أن تصبح الصين الشعبية أقوى دولة‬ ‫في الثمانينيات من القرن العشرين(((‪ ،‬ومن الواضح ّ‬ ‫أن هذا التو ّقع‬ ‫جانبه الصواب‪ ،‬ألن إعطاء وزن كبير لعنصر السكان تجاهل الجوانب‬ ‫((( لويد جنسون‪ ،‬تفسير السياسة الخارجية‪ ،‬ترجمة د‪ .‬محمد أحمد مفتي ود‪.‬محمد‬ ‫السيد سليم‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.241‬‬ ‫((( كانت هذه التوقعات خالل فترة أوائل الستينيات من ذات القرن‪ ،‬المرجع نفسه‪،‬‬ ‫الصفحة نفسها‪.‬‬ ‫‪26‬‬


‫السلبية للتزايد السكاني المتمثلة في الضغط على الموارد الغذائية‬ ‫وعرقلة تراكم رأس المال الالزم لتحقيق التنمية االقتصادية‪.‬‬

‫كما ّ‬ ‫أن ّ‬ ‫مؤشرات أخرى مثل‪ :‬الناتج القومي اإلجمالي واستهالك‬ ‫الطاقة وإنتاج الحديد والصلب اتخذت ّ‬ ‫مؤشرات دالة على قوة الدولة‬ ‫برغم ما تزخر به هذه المؤشرات من نقاط ضعف‪ً ،‬‬ ‫فمثل مؤشر‬ ‫عنصرا من‬ ‫استهالك الطاقة يشكّل نقطة ضعف أكثر من تشكيله‬ ‫ً‬ ‫القوة إذا كان هذا االستهالك مقرونًا باستيرادها من الخارج‪.‬‬ ‫عناصر ّ‬

‫بيد ّ‬ ‫القوة لم تأخذ في االعتبار العوامل‬ ‫أن أغلب محاوالت قياس ّ‬ ‫القوة الوطنية لالعتراف بصعوبة إخضاع هذا‬ ‫غير المادية‬ ‫لمكونات ّ‬ ‫ّ‬ ‫النوع من العوامل للقياس‪ ،‬مع عدم استحالته‪ ،‬فقد يكون باإلمكان‬ ‫قياس درجة االستقرار السياسي أو درجة التأييد للسلطة السياسية من‬ ‫مؤشر استطالعات الرأي العام ً‬ ‫خالل ّ‬ ‫مثل‪.‬‬ ‫وإذا عدنا إلى إخضاع العوامل المادية للقوة لعملية القياس فإن‬ ‫الصعوبات قد ظهرت جل ّية في محاوالت القياس للقدرات‪ ،‬الس ّيما‬ ‫في مسألة قياس القدرات العسكرية النسبية‪ ،‬فقد اختلف الدارسون‬ ‫للمقدرات العسكرية للدولتين العظمتين (خالل فترة الحرب الباردة)‬ ‫الواليات المتحدة األمريكية واالتحاد السوفيتي حول أي الدولتين‬ ‫تسبق األخرى في ميدان التس ّلح االستراتيجي‪ ،‬وتنبع هذه االختالفات‬ ‫من اختالف أنظمة التس ّلح االستراتيجي بين الدولتين‪ ،‬ففي حين‬ ‫تعتمد الواليات المتحدة على حامالت الطائرات وقاذفات القنابل‬ ‫القوة‬ ‫اإلستراتيجية والغواصات القاذفة للصواريخ كوسائط إليصال ّ‬ ‫‪27‬‬


‫التدميرية (النووية) إلى الهدف‪ ،‬يعتمد االتحاد السوفيتي في المقابل‬ ‫نظام الصواريخ األرضية العابرة للقارات‪ ،‬كما ّ‬ ‫أن السالح اإلستراتيجي‬ ‫السوفيتي لم يكن فقط لمواجهة الواليات المتحدة األمريكية بل كان‬ ‫أيضا لمواجهة الصين الشعبية (الدولة الشيوعية التي خرجت عن طوع‬ ‫ً‬ ‫االتحاد السوفيتي) بعكس الحال بالنسبة للواليات المتحدة األمريكية‬ ‫مخصصة لمواجهة االتحاد السوفيتي فقط‪،‬‬ ‫التي كانت قوتها النووية‬ ‫ّ‬ ‫وبذلك كان من الصعب االتفاق على تحديد طبيعة توازن القوى‬ ‫األمريكي ـ السوفيتي خالل تلك الفترة(((‪.‬‬

‫وال تعني صعوبة قياس القدرات العسكرية اإلستراتيجية (النووية)‬ ‫سهولة قياس القدرات العسكرية التقليدية‪ ،‬حتى إذا اعتمد في هذا‬ ‫القياس ّ‬ ‫مؤشرات مثل حجم الميزانيات العسكرية المو ّظفة‪ ،‬أو الحجم‬ ‫البشري للقوة العسكرية‪ ،‬أو الحجم اآللي لها (دبابات‪ ،‬طائرات‪،‬‬ ‫قائما في ظل‬ ‫مدافع)‪ ،‬ففي كل هذه المؤشرات يكون االختالف ً‬ ‫اختالف طبيعة الميزانيات العسكرية من دولة إلى أخرى‪ ،‬وكفاءة‬ ‫توظيف هذه الميزانيات‪( ،‬ففي كثير من األحيان يكون مجرد زيادة‬ ‫اإلنفاق العسكري هد ًفا بحد ذاته لما يم ّثله ذلك من رسالة إلى العدو‬ ‫تشير إلى ّ‬ ‫القوة لديها وبالتالي‬ ‫أن الدولة‬ ‫مصممة على زيادة إمكانيات ّ‬ ‫ّ‬ ‫جاهزيتها لرد أي عدوان أكثر مما يع ّبر عن زيادة حقيقة في إمكانيات‬ ‫القوة العسكرية)‪ ،‬كما ّ‬ ‫أن اختالف طبيعة الحجم البشري والحجم‬ ‫ّ‬ ‫قائما في ظل االختالف في تحديد طبيعة‬ ‫اآللي للقوة العسكرية ً‬ ‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.‬ص‪.243 ،242‬‬ ‫‪28‬‬


‫الحجم البشري من حيث أنه قوة فعلية أو احتياطية أو قوة خاصة مع‬ ‫اختالف مستوى الكفاءة والتدريب‪ ،‬وكل ذلك يجعل مسألة قياس‬ ‫قياسا بقوة أخرى‬ ‫ّ‬ ‫القوة العسكرية التقليدية ومقارنتها لتحديد وزنها ً‬ ‫أمرا ليس باليسير‪ ،‬إضافة إلى ذلك فإن الوزن سيختلف‬ ‫مقابلة لها ً‬ ‫القوة في حالة هجوم أم في حالة دفاع‪.‬‬ ‫بالضرورة فيما إذا كانت ّ‬ ‫القوة‬ ‫ت�صنيفات ونماذج و�صور ّ‬

‫القوة في شكلين رئيسيين هما‪:‬‬ ‫يصنّف علماء االجتماع السياسي ّ‬ ‫(السلطة والنفوذ)‪ ،‬فالقوة يمكن ّ‬ ‫أن تمارس في شكل سلطة ناتجة عن‬ ‫قبول مشروع ممنوح من الطرف الذي تمارس عليه السلطة للطرف‬ ‫الممارس لها من أجل تحقيق أهداف جماعية‪ ،‬بينما يكون النفوذ هو‬ ‫ممارسة للقوة لتحقيق األهداف في غياب الشرعية لهذه الممارسة‬ ‫باستخدام مجموعة من الوسائل تتراوح بين الترغيب والترهيب‬ ‫والسيطرة واإلقناع واإلكراه(((‪.‬‬

‫القوة تستند على‬ ‫وإذا كانت السلطة السياسية كشكل من أشكال ّ‬ ‫(الشرعية) في ممارستها‪ ،‬بما يفيد ّ‬ ‫القوة يملك سلطة‬ ‫أن ممارس ّ‬ ‫إصدار القرار اإللزامي تجاه كل األطراف المعنية بدائرة سلطته‪،‬‬ ‫وإن أي ممارسة للقوة خارج هذه الدائرة يفقدها طابع السلطة‪ ،‬فإن‬ ‫القوة كسلطة ال تتح ّقق إال في ظل (النظامية) وهو ما ال يوجد في‬ ‫ّ‬ ‫الساحة السياسية الدولية‪ ،‬إال إذا استثنينا ما تمتلكه المنظمات الدولية‬ ‫((( فاروق يوسف يوسف‪ ،‬القوة السياسية‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.17‬‬ ‫‪29‬‬


‫من قوة بحكم طابعها النظامي الذي يمنحها بعض السلطات فوق‬ ‫سلطة األطراف الداخلة فيها والتي في أغلبها ال ترتقي إلى مستوى‬ ‫سلطة اإللزام‪ ،‬وإذا ارتقت تصتدم بمشكلة تنفيذ هذا اإللزام والذي‬ ‫يقرره أعضاءها ويرغبون‬ ‫ال تمتلكه المنظمة الدولية إال في حدود ما ّ‬ ‫في توظيفه لصالحها ليبدو األمر مرتب ًطا بإرادات مستقلة لألطراف‬ ‫األعضاء ومرهونًا بمصالحها ومواقفها من القرار الصادر عن المنظمة‬ ‫الدولية‪ ،‬وسيعالج الباحث هذا الموضوع في مبحث مستقل يتع ّلق‬ ‫القوة فيما سيلي‪.‬‬ ‫بالشرعية الدولية وعالقتها بمفهوم ّ‬

‫ّ‬ ‫أن الوجه اآلخر للقوة‪ ،‬والذي يطلق عليه علماء واالجتماع‬ ‫القوة على المستوى‬ ‫السياسي اسم (النفوذ) هو ما يعنينا بصدد مفهوم ّ‬ ‫الدولي‪.‬‬

‫القوة (غير‬ ‫النفوذ كمصطلح أطلقه علماء االجتماع السياسي على ّ‬ ‫والمتجسد في‬ ‫الشرعية) أي غير المستمدة من سلطة رسمية إلزامية‬ ‫ّ‬ ‫التنظيم غير الرسمي في نطاق المجتمع السياسي (المحلي)‪ ،‬قد‬ ‫القوة على الصعيد الدولي‪،‬‬ ‫ال يصلح للتعبير ـ بشكل دقيق ـ عن ّ‬ ‫والتي تنحصر في وجه واحد ـ وف ًقا للتصنيف السابق ـ وهو الوجه‬ ‫الذي ال يع ّبر عن وجود سلطة شرعية لها حق إصدار القرار النهائي‬ ‫تتجسد بشكل واضح‬ ‫القوة على الصعيد الدولي ّ‬ ‫اإللزامي‪ ،‬وإذا كانت ّ‬ ‫في العنف (كأصل) في التعامل بين األطراف الدولية كنتيجة منطقية‬ ‫لغياب السلطة الشرعية العليا في البيئة الدولية‪ ،‬فإن العنف أو اإلكراه‬ ‫القوة ُيكتسب ـ وف ًقا لتصنيف علماء االجتماع‬ ‫كصورة من صورة ّ‬ ‫‪30‬‬


‫القوة أكثر من اكتسابه‬ ‫السياسي ـ لصالح (السلطة) كوجه من وجوه ّ‬ ‫األول‪ ،‬فغال ًبا ال يتأت‬ ‫لصالح (النفوذ) كوجه آخر مغاير للوجه ّ‬ ‫للتنظيمات غير الرسمية في نطاق المجتمع السياسي (المحلي)‬ ‫ممارسة العنف أو اإلكراه‪ ،‬وتعتمد بشكل كبير على اإلقناع واالستمالة‬ ‫والترهيب والترغيب في التعبير عن قوتها‪ ،‬بينما يتأت للسلطة السياسية‬ ‫(النظامية) ممارسة اإلكراه ألن نظاميتها هي التي تمنحها االحتكار‬ ‫الشرعي ألدوات العنف في المجتمع‪.‬‬ ‫يفضل استعمال مصطلح (النفوذ) كأحد‬ ‫من هنا فإن الباحث ال ّ‬ ‫القوة في المجال الدولي‪ ،‬ويرى ّ‬ ‫أن يتم‬ ‫القوة للتعبير عن ّ‬ ‫تصنيفات ّ‬

‫القوة السياسية على الصعيد الدولي كموضوع مستقل‬ ‫التعامل مع ّ‬ ‫يخص المجتمع السياسي (المحلي)‪،‬‬ ‫القوة السياسية فيما‬ ‫ّ‬ ‫عن ّ‬ ‫القوة‬ ‫األمر الذي يتيح إيجاد تصنيفات مع ّبرة عن صور ونماذج ّ‬ ‫في البيئة الدولية‪.‬‬ ‫القوة في ال�سيا�سة الدولية‬ ‫ت�صنيف ّ‬

‫يتفق أغلب علماء السياسة المعاصرون على ّ‬ ‫أن التصنيف‬ ‫األساسي للقوة في الساحة الدولية يعتمد على أنها أم ّ‬ ‫أن تكون قوة‬ ‫ويجسد هذين الوجهين للقوة مفهومي الدبلوماسية‬ ‫إقناع أو قوة إكراه‪ّ ،‬‬ ‫القوة التي‬ ‫واإلستراتيجية‪ ،‬وفي حين تعني الدبلوماسية كافة صور ّ‬ ‫تؤدي إلى تحقيق األهداف في البيئة الدولية قبل ّ‬ ‫أن يتم الوصول إلى‬ ‫مرحلة اإلكراه والعنف لتستكمل اإلستراتيجية عملية تحقيق األهداف‬ ‫‪31‬‬


‫متجسدة في صورة العنف واإلكراه‪ ،‬وفي إطار هذين التصنيفين للقوة‬ ‫ّ‬ ‫القوة في الحالتين‪:‬‬ ‫يمكن رصد عدد من الصور التي تع ّبر عن ّ‬ ‫القوة من خالل الدبلوماسية‪:‬‬ ‫أـ ّ‬

‫أساسا على فن اإلقناع‪ ،‬أي الوصول إلى التأثير‬ ‫تعتمد الدبلوماسية ً‬ ‫على سلوك الطرف اآلخر من خالل إقناعه بجدوى القيام بسلوك ما‪،‬‬ ‫واإلقناع يعني االستجابة الطوعية االختيارية من قبل الطرف الثاني‬ ‫األول‪ ،‬وهو ال يعني بالضرورة ّ‬ ‫أن اقتناع الطرف‬ ‫لما يريده الطرف ّ‬ ‫األول‪ ،‬أو نتيجة لتأثير‬ ‫الثاني جاء نتيجة (لمنطقية) رغبات الطرف ّ‬ ‫عاطفي أو روحي‪ ،‬بل يكون ـ في الغالب ـ ناتج عن ارتباط مصلحة‬ ‫األول بعد‬ ‫الطرف الثاني بهذه االستجابة الطوعية إلرادة الطرف ّ‬ ‫حسابه لمعادلة المكاسب والخسائر المح ّققة أو المحتملة‪ ،‬وتدخل‬ ‫هنا سياسات الترغيب والترهيب كسياسات تعمل على الوصول‬ ‫بالطرف الثاني إلى حالة االقتناع‪.‬‬

‫مع عدم اإلخالل بارتباط المواقف والسياسيات التي تنتهجها‬ ‫الدولة ـ أي دولة ـ في الساحة السياسية الدولية بمصلحتها القومية‬ ‫ورؤيتها وإدراكها لهذه المصلحة ومن ثم لتحديد استجابتها لتأثير‬ ‫األطراف الدولية األخرى‪ ،‬فإن (االستجابة) الناتجة عن التأثير‬ ‫العاطفي والروحي والدعائي ال يجدر إهمالها بشكل كامل ـ على‬ ‫وضوحا في‬ ‫صعيد السياسات الدولية ـ من منطلق أنها تبدو أكثر‬ ‫ً‬ ‫عالقات التأثير بين األفراد‪ ،‬وإنه ال مجال لهذا النوع من التأثير في‬ ‫الساحة السياسية الدولية‪ ،‬بل ّ‬ ‫أن االعتراف بوجود هذا النوع من التأثير‬ ‫‪32‬‬


‫بين األفراد قد يؤدي إلى انتقاله إلى الدول من خالل إمكانيات التأثير‬ ‫(العاطفي والروحي) التي يتمتّع بها بعض الزعماء والقادة السياسيون‪،‬‬ ‫كما ّ‬ ‫أن اإلعالم ـ الذي يمكن اعتباره أحد وسائل السياسة الخارجية‬ ‫مهما في الوصول‬ ‫دورا ً‬ ‫للدول مما يقع في نطاق الدبلوماسية ـ يلعب ً‬ ‫إلى نتائج (استجابات) مبنية على عوامل التأثير العاطفي والروحي‪.‬‬

‫أن اإلقناع كأساس للدبلوماسية ليس شر ًطا ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن يع ّبر فقط عن‬ ‫متجسدة‬ ‫األول وإراداته ّ‬ ‫حالة رضى وارتياح في قبول رغبات الطرف ّ‬ ‫في شكل استجابة طوعية لها‪ ،‬وإنما قد يع ّبر عن قبول قائم على‬ ‫األول وسيطرته وارتباط مصلحة الطرف الثاني‬ ‫بتفوق الطرف ّ‬ ‫االقتناع ّ‬ ‫باالعتراف واالقتناع بهذه السيطرة دون إجبار أو إكراه‪ ،‬لذلك يمكن‬ ‫اعتبار سياسات السيطرة والهيمنة وما يترتّب عليها من تبعية ضمن‬ ‫دائرة الشكل الدبلوماسي للقوة طالما لم تصل إلى مرحلة (اإلكراه) أي‬ ‫األول‪ ،‬وهي المرحلة التي تبدأ‬ ‫اإلرغام القسري للقبول بإرادة الطرف ّ‬ ‫القوة االنتقال من حالتها الدبلوماسية إلى حالتها اإلستراتيجية‪،‬‬ ‫فيها ّ‬ ‫القوة الدبلوماسية من الوصول‬ ‫وتجدر اإلشارة إلى أنه كلما اقتربت ّ‬ ‫إلى حالتها اإلستراتيجية تبدأ بفقدان مالمحها الدبلوماسية لتكسوها‬ ‫المالمح اإلستراتيجية ليبدأ العد التنازلي في سياسات اإلقناع في ذات‬ ‫الوقت الذي يبدأ فيه العد التصاعدي في سياسات اإلكراه‪ ،‬لذلك‬ ‫يكون من الصعب في هذه المنطقة (منطقة التداخل بين اإلستراتيجية‬ ‫فعل دبلوماس ًيا أو ً‬ ‫والدبلوماسية) تصنيف الفعل فيما إذا كان ً‬ ‫فعل‬ ‫إستراتيج ًيا‪ ،‬ولعل المثال على ذلك سياسات الوعيد والتهديد‬ ‫‪33‬‬


‫القوة العسكرية‪ ،‬حيث قد ينشأ االختالف حول ما إذا كان‬ ‫باستخدام ّ‬ ‫هذا الفعل يصنّف على أنه فعل دبلوماسي أم فعل إستراتيجي(((‪.‬‬ ‫القوة من خالل اإلستراتيجية‪:‬‬ ‫بـ ّ‬

‫«الحرب هي متابعة للسياسة الخارجية بأسلوب آخر»‪ ،‬كما يصفها‬

‫ريمون آرون‪ ،‬لكن الحرب ليست هي الصورة الوحيدة لإلستراتيجية‪،‬‬ ‫تعبيرا عن‬ ‫إال إذا أعطينا للحرب مفهو ًما واس ًعا ال يقف عند حد كونها ً‬

‫حالة التصادم الذي يأخذ شكل العنف المادي المتبادل بين طرفين‬

‫يجسده التصادم العسكري‪ ،‬أما إذا تخطى مفهوم‬ ‫أو أكثر‪ ،‬والذي ّ‬

‫الحرب هذا المعنى ليشمل كافة صورة اإلرغام واإلكراه والتصادم‬ ‫بين المقدرات مثلما يع ّبر عنه بالحرب االقتصادية أو الحرب النفسية‬

‫أو الحرب الباردة (الردع المتبادل) باإلضافة إلى الحرب العسكرية‬ ‫((( ال يعني الباحث بهذه الفكرة (التي تمثل اجتها ًدا صر ًفا له) ّ‬ ‫أن الدبلوماسية‬ ‫واإلستراتيجية ال تعمل كل منهما إال بمعزل عن األخرى‪ ،‬وإن اإلستراتيجية‬ ‫ال تبدأ إال عندما تنتهي الدبلوماسية‪ ،‬وإنهما فقط تتقاطعان في منطقة معينة عند‬ ‫الحد الفاصل بينها‪ ،‬كما قد يفهم‪ ،‬وإنما المقصود هنا ما يتعلق بتصنيف فعل محدّ د‬ ‫في كونه دبلوماس ًيا أو إستراتيج ًيا‪ ،‬ويدرك الباحث ّ‬ ‫أن الدبلوماسية واإلستراتيجية‬ ‫ّ‬ ‫كثيرا ما تعمالن في ذات الوقت في قضية ما‪ ،‬بمعنى أن الدولة قد تع ّبر عن قوتها‬ ‫ً‬ ‫بصورة دبلوماسية وبصورة إستراتيجية في ذات الوقت تجاه موضوع أو قضية‬ ‫محددة‪ ،‬وفي هذه الحالة تعمل الدبلوماسية بآلياتها ووسائلها جن ًبا إلى جنب مع‬ ‫آليات ووسائل اإلستراتيجية‪ ،‬بل ّ‬ ‫أن الغالب في القضايا السياسية الدولية هو هذا‬ ‫الوضع‪ ،‬فإلى جانب الحرب والتصادم كصور لإلستراتيجية تعمل المفاوضات‬ ‫والوساطة ومحاوالت اإلقناع كأساليب دبلوماسية للوصول إلى الهدف‪ ،‬وتدعم‬ ‫كل منهما موقف األخرى‪....‬الباحث‪.‬‬ ‫‪34‬‬


‫فإن مفهوم اإلستراتيجية يمكن ّ‬ ‫أن يعتبر مراد ًفا لمفهوم الحرب بهذا‬

‫المعنى‪.‬‬

‫القوة من خالل اإلستراتيجية على أساليب الضغط أو القسر‬ ‫تعتمد ّ‬

‫أو اإلجبار بوسائل متعددة ومتباينة من حيث الشدة أو العنف‪ ،‬قد تبدأ‬

‫بالتهديد بفرض العقوبات الدبلوماسية أو االقتصادية ثم تتصاعد إلى‬

‫(القوة العسكرية) وتنتهي إلى االستخدام‬ ‫التهديد باستخدام العنف‬ ‫ّ‬

‫الفعلي للعنف(((‪.‬‬

‫ُيالحظ ّ‬ ‫تجسدها اإلستراتيجية تتسم بالتعبير‬ ‫القوة التي ّ‬ ‫أن صور ّ‬

‫القوة‬ ‫عن العداء الذي هو أصل في الصراع الدولي‪ ،‬بينما تع ّبر صور ّ‬

‫تجسدها الدبلوماسية في كثير من األحيان عن حالة (التعاون)‬ ‫التي ّ‬

‫أو على األقل حالة (الالعداء)‪ ،‬وفي كلتا الحالتين فإن المصلحة‬ ‫القومية هي المنطلق في تحديد العالقة مع األطراف الدولية األخرى‬

‫في خضم دائرة الصراع الدولي من أجل تحقيق المصالح‪ ،‬والذي‬

‫يسمح في كثير من األحيان بقيام نوع من التعاون أو الصداقة بين‬ ‫الدول ارتبا ًطا بمصلحة كل منها‪ ،‬وبما ال ينفي ّ‬ ‫أن األصل في البيئة‬ ‫الدولية هو العداء ـ وف ًقا لما سبق بيانه‪.‬‬

‫القوة‪،‬‬ ‫للحرب أو اإلستراتيجية صور عديدة بصدد تعبيرها عن ّ‬

‫فهي في أوضح صورها تكون استخدا ًما فعل ًيا للعنف إلرغام الطرف‬ ‫((( محمد طه بدوي [وآخرون]‪ ،‬مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.69‬‬ ‫‪35‬‬


‫األول‪ ،‬وتم ّثل‬ ‫اآلخر ـ بقوة السالح ـ على الرضوخ إلرادة الطرف ّ‬ ‫بذلك أقصى درجات الصراع في نطاق البيئة الدولية‪ ،‬وللحرب بشكل‬ ‫ً‬ ‫وأشكال عديدة يفضل البعض تقسيمها إلى نوعين هما‪:‬‬ ‫صورا‬ ‫عام‬ ‫ً‬ ‫الحرب المباشرة والحرب غير المباشرة(((‪.‬‬

‫أ ) الحرب المباشرة‪ :‬هي أكثر صور الصراع إثارة للرعب‪ ،‬وهي‬ ‫لفض النزاع بين المصالح الكبرى عن طريق‬ ‫عبارة عن «عمل سياسي ّ‬ ‫الدم» على حد تعبير كالوزفتز(((‪ ،‬وقد تكون الحرب عم ً‬ ‫ل عدوان ًيا‬ ‫أو قد تكون ً‬ ‫عمل مشرو ًعا يهدف إلى الدفاع عن النفس‪ ،‬وبرغم‬ ‫غياب المعايير التي على أساسها يتم تصنيف الحرب أنها عمل‬ ‫عدواني أو عمل مشروع‪ ،‬سوى بعض االجتهادات التي انص ّبت على‬ ‫فكرة (الحرب العادلة)(((‪ ،‬والتي وإن حصل االتفاق حولها نظر ًيا‪،‬‬ ‫((( جمال سالمة‪ ،‬أصول العلوم السياسية‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار النهضة العربية‪،)2003 ،‬‬ ‫ص‪.290‬‬ ‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.261‬‬ ‫المشار إليها ما ذكره القديس أوجستين «بأن الحرب توصف‬ ‫((( من بين االجتهادات ُ‬ ‫بأنها عادلة إذا كانت تهدف إلى االنتقام من األخطاء‪ ،‬أو تهدف لعقاب أمة أو‬ ‫دولة رفضت تقويم األخطاء التي ارتكبتها‪ ،‬بأن ترفض ً‬ ‫مثل إعادة ما اغتصبته» أما‬ ‫سيشرون فيؤكد على ّ‬ ‫أن «الدولة المثالية يجب أال تخوض غمار الحرب إال دفاعًا‬ ‫عن شرفها وسالمتها»‪ ،‬كما يرى توماس األكويني ّ‬ ‫أن الحرب لكي توصف بأنها‬ ‫أن تتحقق لها ثالثة شروط‪ 1 :‬ـ ّ‬ ‫عادلة يجب ّ‬ ‫أن يكون الحاكم (ولي األمر) الذي له‬ ‫تقديرا جيدً ا لطبيعة األخطار الخارجية‪ 2 ،‬ـ ّ‬ ‫أن يكون‬ ‫مقدرا‬ ‫سلطة إعالن الحرب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫هناك خطأ قد ارتكب يستحق من ارتكبه شن الحرب عليه عقا ًبا له‪ 3 ،‬ـ أن تكون‬ ‫نية المحارب مرتبطة بالحق والعدل‪ ،‬انظر في ذلك جمال سالمة‪ ،‬أصول العلوم‬ ‫السياسية‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.291‬‬ ‫‪36‬‬


‫فإن الواقع (أثناء حدوث الحرب) يجعل االختالف حول طبيعتها‬ ‫كبير لدرجة ّ‬ ‫أن ال أحد من األطراف يعترف بأنه يمارس العدوان‪،‬‬ ‫ويتمسك كل طرف بأنه في حالة دفاع عن النفس‪ ،‬وهو بالفعل في‬ ‫حالة دفاع عن مصالحه ولو بشكل غير مباشر‪ ،‬وتصبح المسألة هي‬ ‫مدى شرعية هذه المصالح أو ال شرعيتها‪ ،‬والتي هي األخرى قضية‬ ‫يصعب االتفاق حولها حتى من قبل األطراف األخرى (المحايدة) غير‬ ‫المشاركة في الحرب‪ ،‬ألنها ستنظر إلى شرعية الحرب من عدمها من‬ ‫المشاركة في الحرب‪.‬‬ ‫خالل مصالحها هي وعالقاتها بأحد األطراف ُ‬ ‫في إطار الحرب المباشرة يمكن إيجاد عدد من الصور للحرب‬ ‫منها‪ :‬الحرب النظامية والتي تكون بين الجيوش النظامية والدول‪،‬‬ ‫والتي يمكن ّ‬ ‫أن تكون حر ًبا شاملة أو حر ًبا محدودة‪ ،‬وحرب العصابات‬ ‫القوة وفي التنظيم‪ ،‬وعادة‬ ‫التي تكون عادة بين طرفين غير متكافئين في ّ‬ ‫ما يكون أحد الطرفين دولة تملك جيوش وقوة من ّظمة والطرف اآلخر‬ ‫منظمة أو فصيل أو جماعات غير من ّظمة‬ ‫عبارة عن تنظيم مس ّلح أو‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫األول (المن ّظم)‪ ،‬معتمدة‬ ‫أصل تحاول مقاومة ومواجهة الطرف ّ‬

‫والتحصن في الغابات‬ ‫على الهجمات الخاطفة والعمليات الفدائية‬ ‫ّ‬ ‫والجبال واألماكن النائية والمعزولة‪ ،‬والتي يصعب على الطرف‬ ‫اآلخر الوصول إليها‪.‬‬

‫ب ) الحرب غير المباشرة‪ :‬وهي تلك األعمال التي يمكن‬ ‫ً‬ ‫أعمال حربية‪ ،‬ولكنها ال ترقى إلى مستوى التصادم‬ ‫تصنيفها على أنها‬ ‫والمواجهة الفعلية بين الجيوش والقوات العسكرية‪ ،‬والتي تأخذ عد ًدا‬ ‫‪37‬‬


‫القوة المسلحة‬ ‫من الصور واألشكال من بينها أعمال التهديد باستخدام ّ‬ ‫يتجسد أحيانًا في شكل استعراض للعضالت واستفزازات‬ ‫والذي ّ‬ ‫عسكرية من خالل مناورات أو طلعات جوية أو ما شابهها‪ ،‬وقد‬ ‫يأخذ هذا النوع من الحرب صورة (الحرب الباردة) والتي تع ّبر عن‬ ‫حالة توتّر قائم بين قوتين أو أكثر يقوم فيها كل طرف بتعبئة إمكانياته‬ ‫التسلح وعقد األحالف العسكرية‬ ‫العسكرية من خالل السباق على ّ‬ ‫القوة لدى الطرف اآلخر‪ ،‬وتستمر هذه الصورة من‬ ‫ورصد إمكانيات ّ‬ ‫الحرب (باردةً) ما دام يتحقق من خاللها ردع متبادل بين الطرفين أو‬ ‫األطراف المعنية‪ ،‬وهي الحال التي كانت تسود البيئة الدولية خالل‬ ‫فترة الصراع بين القوتين العظميين (الواليات المتحدة واالتحاد‬ ‫السوفيتي) خالل الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية‪.‬‬

‫صورة أخرى للحرب غير المباشرة تتم ّثل في الحرب االقتصادية‪،‬‬ ‫أي استعمال اإلمكانيات ذات الطابع االقتصادي إلرغام الطرف‬ ‫األول‪ ،‬مثل عمليات الحصار‬ ‫اآلخر على الرضوخ إلرادة الطرف ّ‬ ‫االقتصادي وتجم ّيد األرصدة المالية‪ ،‬والمقاطعة االقتصادية أو‬ ‫استخدام سالح النفط (كما حدث في الحرب العربية اإلسرائيلية‬ ‫عام ‪ )1973‬وما شابه ذلك من أعمال من شأنها إرغام الطرف اآلخر‬ ‫أن ما يالحظ ّ‬ ‫األول‪ ،‬إال ّ‬ ‫أن بعض صور‬ ‫على القبول بإرادة الطرف ّ‬ ‫القوة االقتصادية لتنفيذ اإلرادة وتحقيق المصلحة الوطنية‬ ‫استخدام ّ‬ ‫ً‬ ‫أعمال دبلوماسية وال ترقى إلى مستوى‬ ‫يمكن تصنيفها على أنها‬ ‫أن الباحث يرى ّ‬ ‫األعمال اإلستراتيجية أو الحربية‪ ،‬إال ّ‬ ‫أن معيار‬ ‫‪38‬‬


‫القوة (االقتصادية)‬ ‫الفصل هنا هو مدى وقع استعمال هذا النوع من ّ‬ ‫يجسد اإلرغام‬ ‫على الطرف الموجه ضده الفعل‪ ،‬فإذا كان وقع الفعل ّ‬ ‫واإلكراه للطرف الواقع عليه الفعل‪ ،‬كانت ً‬ ‫عمل إستراتيج ًيا‪ ،‬أم إذا‬ ‫تصنيف هذا‬ ‫اقتصر وقع الفعل على أنه (إقناع) إرادي له‪ ،‬فإنه يمكن ّ‬ ‫الفعل على أنه عمل دبلوماسي‪.‬‬

‫الصورة األخرى للحرب غير المباشرة هي ما يطلق عليه (الحرب‬ ‫النفسية) وهذا النوع من الحرب يكون ـ عاد ًة ـ مصاح ًبا للحرب‬ ‫الفعلية‪ ،‬وقد يكون ضمن مكّونات الحرب الباردة معتمدً ا على‬ ‫مجموعة من الوسائل تتراوح بين الدعاية واإلعالم بشكل يعمل‬ ‫على زعزعة الثقة بالنفس لدى الطرف اآلخر وإحداث شرخ بين‬ ‫القيادة السياسية والشعب عن طريق بث اإلشاعات أو استقطاب‬ ‫المعارضين ً‬ ‫مثل‪.‬‬ ‫وقد تأخذ الحرب غير المباشرة صورة النشاط الهدّ ام الذي‬ ‫يستهدف تقويض النظام السياسي واالقتصادي واالجتماعي من خالل‬ ‫دعم الجماعات المتمردة على النظام وزعزعة االستقرار الداخلي‬ ‫أو من خالل القيام بأعمال التخريب والجوسسة واالغتياالت(((‪.‬‬

‫ّ‬ ‫القوة ـ المتباينة في توزيعها بين الوحدات‬ ‫مقومات وإمكانيات ّ‬ ‫أن ّ‬ ‫الدولية ـ ال تفصح عن نفسها إال من خالل ما تقترن به من تأثير فاعل‬ ‫في سلوكيات األطراف الدولية األخرى في الساحة الدولية‪ ،‬وفاعلية‬ ‫((( جمال سالمة‪ ،‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.‬ص‪.299 ،298‬‬ ‫‪39‬‬


‫التأثير يمكن اعتبارها وحدة قياس تجريبية إلدراك الطبيعة المتم ّيزة‬ ‫للقوة في صياغة نموذج السلوك المع ّبر عنها‪ ،‬ويأخذ السلوك السياسي‬ ‫الخارجي للوحدات الدولية أحد مظهرين كما يشير (هولستي)‪ :‬فهو‬ ‫إما ّ‬ ‫متأثرا‪ ،‬وفي كلتا الحالتين يع ّبر‬ ‫مؤثرا أو سلوكًا ً‬ ‫أن يكون سلوكًا ً‬ ‫السلوك عن اإلمكانيات والقدرات لدى كل طرف‪ ،‬ليكشف في‬ ‫الحالة األولى عن (الفعل) المع ّبر عن هذه اإلمكانيات ويكشف في‬ ‫أيضا ـ عن إمكانيات‬ ‫الحالة الثانية عن االستجابة (رد الفعل) المع ّبر ـ ً‬ ‫وقدرات الطرف الموجه ضده الفعل‪ ،‬بما يشير إلى ّ‬ ‫أن االستجابة ورد‬ ‫الفعل الذي تبديه الدولة (ب) ً‬ ‫وضوحا‬ ‫مثل ما هي إال المظهر األكثر‬ ‫ً‬ ‫لقوة الدولة (أ) بالقياس مع قوة الدولة (ب)(((‪.‬‬ ‫ويأخذ نمط السلوك الناجم عن تأثير الدولة (أ) على الدولة (ب)‬ ‫عد ًدا من األشكال والنماذج يمكن تحديدها في‪:‬‬

‫يتجسد التأثير هنا في محاولة الوحدة الدولية‬ ‫‪ 1‬ـ النموذج الم ّقنع‪ّ :‬‬ ‫إقناع وحدة دولية أخرى باتخاذ موقف ما لما قد يتح ّقق لها من‬ ‫تلمس‬ ‫مكاسب ومصالح لو اتخذت الموقف المطلوب‪ ،‬ويمكن ّ‬ ‫تتصف‬ ‫هذا المظهر من مظاهر التأثير بين الوحدات الدولية التي ّ‬ ‫العالقات بينها بالتوافق والتفاهم‪ ،‬ويعتمد هذا النموذج السلوكي‬ ‫على قدرات الدولة ومهارتها في عرض المكاسب والمنافع‬ ‫ومدى إدراك الطرف اآلخر لهذه المنافع والمكاسب(((‪.‬‬

‫((( عبد القادر محمد فهمي‪ ،‬النظام السياسي الدولي‪( ،‬عمان‪ :‬دار األوائل‪ ،)1997 ،‬ص‪.24‬‬ ‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.26‬‬ ‫‪40‬‬


‫‪ 2‬ـ النموذج الرادع‪ :‬والردع يعني الحيلولة دون قيام المرتدع‬ ‫بعمل ما‪ ،‬أو دفعه للعدول عن موقف أو قرار ينوي اتخاذه‬ ‫إلدراكه بأن المكاسب التي يتو ّقع الحصول عليها ستكون‬ ‫أقل بكثير من المخاطر التي قد يتعرض لها لو أقدم على‬ ‫الفعل(((‪.‬‬ ‫ويتجسد في قيام الدولة باتخاذ موقف أو مباشرة‬ ‫‪ 3‬ـ نموذج القهر‪ّ :‬‬ ‫القوة المس ّلطة عليها في شكل‬ ‫سلوك مع ّين‪ ،‬وهي مجبرة بفعل ّ‬ ‫فعلي أو في شكل تهديدي(((‪.‬‬

‫أن صياغة سلوك اآلخرين في البيئة الدولية يكشف عن ّ‬ ‫ّ‬ ‫القوة‬ ‫أن ّ‬ ‫التي تتمتع بها الدولة في البيئة الدولية‪ ،‬إما ّ‬ ‫أن تكون (قوة سلوك)‬ ‫تتم ّثل في إجراءات مباشرة إلجبار الدولة (ب) ً‬ ‫مثل على إتباع نمط‬ ‫سلوكي ينسجم مع أهداف وإرادة الدولة (أ)‪ ،‬أو ّ‬ ‫أن يكون (قوة‬ ‫هيكلة) بما يعني ّ‬ ‫أن الدولة (أ) ال تقوم بالتأثير المباشر على سلوك‬ ‫الدولة (ب)‪ ،‬بل تقوم بتعديل الوضع الذي تعمل فيه الدولة (ب)‬ ‫تتصرف كما ترغب الدولة (أ)‪ ،‬أو قد يكون (قوة‬ ‫بطريقة تجعلها‬ ‫ّ‬ ‫القوة التي تكتسبها وحدة دولية مع ّينة اعتما ًدا‬ ‫وضع القواعد) وهي ّ‬ ‫على قدرتها على وضع القواعد التي يتوجب على اآلخرين التقيد‬ ‫وااللتزام بها(((‪.‬‬ ‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.27‬‬ ‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.‬ص‪.28-27‬‬ ‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.‬ص‪.29 ،28‬‬ ‫‪41‬‬


‫القوة في المجال الدولي‬ ‫توزيع ّ‬

‫القوة‪ ،‬فإن‬ ‫إذا كانت البيئة الدولية هي بيئة صراع القوى من أجل ّ‬

‫لكل قوة من هذه القوى وخالل كل فترة زمنية إمكانيات ومقدرات‬ ‫مختلفة ومتباينة للقوة مع إمكانيات ومقدرات القوى األخرى بما يؤكد‬

‫القوة من جهة‪ ،‬والتغير‬ ‫حقيقتين هما‪ :‬االختالف والتباين في حجم ّ‬

‫القوة من جهة أخرى‪ ،‬في ظل الصراع‬ ‫المستمر في وزن وحجم ّ‬

‫كسمة غالبة على العالقات الدولية فإن الواقع الدولي ـ سوا ًء من‬

‫صورا مختلفة‬ ‫منظور تاريخي أو من منظور راهن ـ شهد ويشهد‬ ‫ً‬

‫القوة بين وحداته اتفق الباحثون وعلماء السياسة على‬ ‫لتوزيع ّ‬ ‫التعبير عن هذه الصورة بمفهوم‪( :‬االنساق الدولية أو النظم الدولية‬

‫يتضمن كل نسق دولي تراتبية مع ّينة‬ ‫‪ ،)Political Systems‬بحيث‬ ‫ّ‬ ‫القوة بين وحداته ارتبا ًطا بالتأثير الناجم عن سلوك الوحدة‬ ‫لتوزيع ّ‬

‫معرضة للتغ ّير‬ ‫الدولية تجاه الوحدات الدولية األخرى‪ ،‬وهذه التراتبية ّ‬

‫القوة لكل‬ ‫بشكل دائم ومستمر تب ًعا للتغ ّير المستمر في إمكانيات ّ‬

‫طرف بالنسبة لألطراف األخرى‪ ،‬لذلك تعدّ دت ـ عبر التاريخ ـ صور‬

‫االنساق الدولية بما يع ّبر عن ثبات نسبي في تراتبية توزيع القوى في‬ ‫أن ثبات االنساق الدولية لفترة من الزمن ال ّ‬ ‫إطار كل نسق‪ ،‬كما ّ‬ ‫يخل‬ ‫القوة لدى األطراف الدولية‪،‬‬ ‫بحقيقة التغ ّير المستمر في إمكانيات ّ‬ ‫‪42‬‬


‫كما ال ّ‬ ‫القوة داخل النسق الواحد‬ ‫يخل بظاهرة التغ ّير في تراتبية توزيع ّ‬ ‫بقدر ما يع ّبر عن التغ ّير في األوضاع القيادية القطبية في النسق الدولي‬ ‫لينتقل إلى صورة أخرى‪ ،‬أي إلى نسق دولي جديد‪ ،‬ويمكن حصر‬ ‫االنساق الدولية التي عرفها تاريخ العالقات الدولية في ثالثة أشكال‬ ‫رئيسة‪ ،‬وهي‪ :‬النسق متعدد القطبية‪ ،‬والنسق ثنائي القطبية‪ ،‬والنسق‬ ‫أحادي القطب(((‪.‬‬ ‫يقودنا ذلك إلى الحديث عن مفهوم آخر يرتبط بشكل كبير‬ ‫القوة في البيئة الدولية وهو مفهوم (توازن القوى)‪ ،‬وهو‬ ‫بمفهوم ّ‬ ‫المفهوم الذي رغم تعدّ د المعاني واالستخدامات المتع ّلقة به‬ ‫إال أنه ـ كما يرى الباحث ـ يع ّبر أكثر عن الواقع الدولي الناتج عن‬ ‫القوة بين الوحدات الدولية‪ ،‬ليس فقط في إطار نسق دولي‬ ‫توزيع ّ‬ ‫محدّ د ولكن في إطار كل االنساق الدولية‪ ،‬ما دام الواقع الدولي‬ ‫لم يصل على حالة الدولة العالمية الواحدة (الحكومة العالمية) أو‬ ‫حالة الفوضى التامة‪.‬‬

‫يرتبط مفهوم توازن القوى بمفهوم النسق الدولي‪ ،‬فاألطراف‬ ‫الدولية المكّونة للنسق تتفاعل فيما بينها من خالل عمليات تأثير‬ ‫خضم الصراع الدولي كظاهرة مالزمة للبيئة الدولية بما‬ ‫وتأثر في‬ ‫ّ‬ ‫يح ّقق االتزان الكلي للنسق‪ ،‬وهو اتزان تلقائي على شاكلة االتزان‬ ‫الميكانيكي الكامن في طبيعة األشياء في عالم الفيزياء وعالم األحياء‪،‬‬ ‫((( محمد طه بدوي‪ ،‬ليلى أمين مرسي‪ ،‬أصول العالقات الدولية‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪،‬‬ ‫ص‪.162‬‬ ‫‪43‬‬


‫يجسد النظرة الموضوعية (العلمية) لتوازن القوى التي تح ّلل‬ ‫بما ّ‬ ‫عالقات عالم السياسة الدولي من خالل ما هو كائن بالفعل(((‪.‬‬

‫القوة التي تح ّلل عالقات عالم السياسة‬ ‫أما النظرة النمطية لميزان ّ‬ ‫أن يكون فيمكن ّ‬ ‫الدولي في إطار ما يجب ّ‬ ‫أن نجد لها ما يوافقها من‬ ‫المعاني واالستخدامات المختلفة التي حدّ دها الباحثون لمفهوم‬ ‫القوة‪ ،‬فقد حصر الباحث األمريكي أرنست هاس ‪Ernst haas‬‬ ‫ميزان ّ‬ ‫القوة‬ ‫القوة‪ :‬فقد يكون ميزان ّ‬ ‫ثمانية استخدامات مختلفة لمفهوم ميزان ّ‬ ‫القوة في المجال الدولي‪ ،‬كما‬ ‫تعبيرا عن أي صورة من صور توزيع ّ‬ ‫ً‬ ‫إنه يمكن ّ‬ ‫القوة‪،‬‬ ‫أن يع ّبر عن وضع من أوضاع التعادل والتكافؤ في ّ‬ ‫تعبيرا عن حالة‬ ‫تعبيرا عن الهيمنة أو محاولة تحقيقها‪ ،‬أو ً‬ ‫أو قد يكون ً‬ ‫االستقرار والسالم الدولي‪ ،‬وفي ذات الوقت يمكن ّ‬ ‫تعبيرا‬ ‫أن يكون ً‬ ‫عن حالة عدم االستقرار والحرب‪ ،‬وهو كذلك تعبير عن سياسات‬ ‫وأخيرا يمكن‬ ‫القوة‪ ،‬أو هو قانون طبيعي لتاريخ العالقات الدولية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫(((‬ ‫الموجه لسياسات الدول ‪.‬‬ ‫استخدامه بمعنى‬ ‫ّ‬

‫القوة بين األطراف الدولية في‬ ‫تتجسد عملية التغ ّير في إمكانيات ّ‬ ‫ّ‬ ‫إطار النسق الدولي الواحد في حاالت الالستقرار واالضطراب في‬ ‫عالقات وتفاعالت هذه األطراف بما يحافظ على الهيكل العام لتوزيع‬ ‫القوة ويؤدي إلى استمرار النسق‪ ،‬وفي حاالت ألالستقرار الشديدة‬ ‫ّ‬ ‫((( عادل فتحي ثابت‪ ،‬النظريات السياسية المعاصرة‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.283‬‬ ‫((( محمد طه بدوي [وآخرون]‪ ،‬مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪ 250‬وما بعدها‪.‬‬ ‫‪44‬‬


‫والتي تطال فيها التغ ّيرات في توزيع قوة األطراف القيادية أو القطبية‬ ‫في النسق فإنه يتم االنتقال إلى صورة جديدة للنسق الدولي‪ ،‬كما‬ ‫حدث بعد الحرب العالمية الثانية بانتقال النسق الدولي من صورته‬ ‫المتعددة األقطاب إلى صورة القطبية الثنائية‪ ،‬وكما حدث كذلك إثر‬ ‫انهيار االتحاد السوفيتي والكتلة الشيوعية أواخر القرن الماضي حيث‬ ‫انتقل النسق الدولي من القطبية الثنائية إلى األحادية القطبية (بحسب‬ ‫رأي عدد من الباحثين)‪ ،‬وفي كل هذه الحاالت ليس باإلمكان الحكم‬ ‫قائما ولكن في صورة‬ ‫بانتفاء حالة التوازن الدولي ألن التوازن يظل ً‬ ‫أخرى ووضع جديد طالما لم يصل األمر إلى حالة الفوضى التامة‬ ‫أو حالة الحكومة العالمية‪ ،‬وما يبدو للمالحظ في المثالين السابقين‬ ‫(الحرب العالمية الثانية‪ ،‬انهيار االتحاد السوفيتي) من أنه انهيار‬ ‫واختالل في توازن القوى يمكن الحكم بنا ًء عليه بانتفاء حالة التوازن‬ ‫األول (الحرب العالمية الثانية) فيه شيء من مالمح‬ ‫إال ألن الحدث ّ‬ ‫الحالة األولى (الفوضى التامة) والحدث الثاني (انهيار االتحاد‬ ‫السوفيتي) فيه شيء من مالمح الحالة الثانية (الحكومة العالمية)‬ ‫النفراد الواليات المتحدة األمريكية بالقوة األحادية المتم ّيزة مما‬ ‫شبيها بوضع السلطة العليا في العالم‪.‬‬ ‫يعطيها وض ًعا ً‬

‫‪45‬‬



‫(‪)2‬‬ ‫القوة في المجال الدولي‬ ‫عوامل‬ ‫ومقومات ّ‬ ‫ّ‬ ‫مقومات قوة الدولة في المجال الدولي‬ ‫اختلف الباحثون في تحديد ّ‬ ‫القوة من حيث أنه يعني‬ ‫انطال ًقا من اختالفهم في التعامل مع مفهوم ّ‬ ‫القوة والقدرة‬ ‫القوة كمجموعة من العناصر واإلمكانيات أو أنه يعني ّ‬ ‫ّ‬ ‫معززة‬ ‫م ًعا‪ ،‬بمعنى مجموعة اإلمكانيات والعناصر المشكّلة لقوة الدولة ّ‬ ‫بالقدرة على استعمالها ألحداث فعل تأثير في البيئة الدولية‪.‬‬

‫القوة في المجال الدولي في‪ :‬الجغرافيا‪،‬‬ ‫يحدّ د هانزمارجنثاو عوامل ّ‬ ‫السكان‪ ،‬التقدم الصناعي‪ ،‬الدبلوماسية‪ ،‬القدرات العسكرية‪ ،‬والروح‬ ‫أن ريمون آرون يرى ّ‬ ‫المعنوية‪ ،‬في حين ّ‬ ‫تتجسد‬ ‫أن عوامل قوة الدولة ّ‬ ‫في الموقع الجغرافي والموارد الطبيعية‪ ،‬الجيش‪ ،‬العامل االجتماعي‪،‬‬ ‫النظام السياسي والقوة الوطنية(((‪.‬‬ ‫((( محمد طه بدوي [وآخرون]‪ ،‬مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.101‬‬ ‫‪47‬‬


‫بيدا ّ‬ ‫أن هذا االختالف ال ّ‬ ‫يشكل في الحقيقة اختال ًفا جوهر ًيا‬

‫القوة‬ ‫في تحديد ماه ّية اإلمكانيات التي بموجبها تكتسب الدولة ّ‬ ‫في المجال الدولي‪ ،‬فهناك شبه إجماع على ّ‬ ‫أن هذه اإلمكانيات‬

‫إما ّ‬ ‫تتجسد في شكل مقدرات مادية محسوسة يمكن قياسها‬ ‫أن ّ‬ ‫وتحديدها‪ ،‬أو ّ‬ ‫أن تكون مقدرات وإمكانيات ذات طابع غير مادي‬

‫يصعب تحديدها وإخضاعها للقياس الكمي‪ ،‬وفي الحالين فإن‬

‫هناك جملة من هذه اإلمكانيات تتمتّع بثبات نسبي بينما بعضها‬ ‫ذو طبيعة متغ ّيرة من فترة زمنية إلى أخرى‪ ،‬كما ّ‬ ‫أن أهميتها النسبية‬

‫القوة في المجال‬ ‫مقومات ّ‬ ‫متغ ّيرة كذلك‪ ،‬ومن المفيد التعامل مع ّ‬ ‫الدولي ككل واحد يعتمد بعضها على البعض اآلخر ويكتسب‬

‫أهميته من خالل العوامل األخرى ودرجة توظيفها‪ ،‬مع‬ ‫بعضها ّ‬ ‫االعتراف بأهمية بعض العوامل بشكل نسبي وهو ما دفع عدد من‬

‫الباحثين إلى التركيز على عوامل مع ّينة للقوة في المجال الدولي‬

‫األهمية األكبر‪ ،‬بل والتعامل معها في كثير من األحيان‬ ‫وإعطاءها‬ ‫ّ‬ ‫كمحدّ دات (حتمية) لقوة الدولة‪ ،‬مثلما فعل علماء (الجيوبولتكس)‬

‫خالل القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين غافلين بذلك عن‬

‫القوة تب ًعا لظروف‬ ‫أهمية أي من عوامل ّ‬ ‫مسألة النسبية التي تحكم ّ‬ ‫القوة‪،‬‬ ‫الزمان والمكان وتب ًعا للمتغ ّيرات المتع ّلقة ببقية عوامل ّ‬ ‫ً‬ ‫فمثل لم يعد لإلمكانيات البشرية (العددية) دور يذكر في حسم‬

‫الصراعات الدولية في ظل التقدم التقني الهائل في مجال إنتاج‬

‫القوة التدميرية الهائلة‪ ،‬كما لم يعد للعامل الجغرافي‬ ‫السالح ذو ّ‬ ‫‪48‬‬


‫دور كما كان له في ظل قدرة التقنية العسكرية الحديثة على تجاوز‬ ‫رغما عن معطيات‬ ‫المسافات الكبيرة والوصول إلى األهداف ً‬ ‫الجغرافيا‪.‬‬ ‫تجدر اإلشارة إلى ّ‬ ‫القوة في المجال الدولي تكمن‬ ‫أن بعض عوامل ّ‬ ‫أهميتها في دورها في توظيف اإلمكانيات المحسوسة للقوة وإعطاء‬ ‫فالهوية الثقافية واالجتماعية والسياسية للمجتمع‪،‬‬ ‫الفاعلية لها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وطبيعة القيادة السياسية‪ ،‬ومستوى التقدم التقني والعلمي تم ّثل‬ ‫القوة المادية المتمث ّلة في‬ ‫مقومات ّ‬ ‫محد ّدات لمستوى اإلفادة عن ّ‬ ‫المجال الجغرافي وما يو ّفره من إمكانيات للقوة‪ ،‬والكم السكاني‬ ‫مقومات وقدرات‬ ‫والمقدرات االقتصادية‪ ،‬وما يترتب على ذلك من ّ‬ ‫عسكرية‪ ،‬وكما ّ‬ ‫أن للعوامل غير المادية دور في تحديد أهم ّية ودرجة‬ ‫المقومات والعوامل المادية للقوة‪ ،‬فإن لكل عنصر‬ ‫االستفادة من‬ ‫ّ‬ ‫القوة في الحالين درجة من االرتباط والتأثير في بقية‬ ‫من عناصر ّ‬ ‫العناصر سوا ًء المشابهة له في طبيعتها المادية أو تلك التي تحمل‬ ‫طاب ًعا غير مادي‪.‬‬

‫القوة في المجال الدولي إلى‬ ‫يقسم الباحث عوامل ّ‬ ‫انطال ًقا مما سبق ّ‬ ‫نوعين من العوامل هما‪ :‬العوامل المادية للقوة والتي تشمل‪ :‬المجال‬ ‫الجغرافي‪ ،‬السكان‪ ،‬المقدرات والموارد االقتصادية واإلمكانيات‬ ‫العسكرية‪ ،‬والعوامل غير المادية للقوة والتي تشمل‪ :‬الهوية الثقافية‬ ‫واالجتماعية‪ ،‬النظام السياسي والقيادة السياسية‪ ،‬مستوى التقدم‬ ‫العلمي والتقني‪.‬‬ ‫‪49‬‬


‫� ً‬ ‫أول‪ :‬العوامل المادية للقوة‬ ‫�أ ) المجال الجغرافي‬

‫المكونة لقوة‬ ‫المقومات الجغرافية من العوامل الطبيعية‬ ‫تعتبر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدولة‪ ،‬كما إنها يمكن ّ‬ ‫قياسا بغيرها‬ ‫أن توصف بالثبات والديمومة ً‬

‫القوة‪ ،‬فالمعطيات الجغرافية ألي وحدة دولية هي ذاتها‬ ‫مقومات ّ‬ ‫من ّ‬ ‫ً‬ ‫ومناخا‬ ‫وتضاريسا‬ ‫من حيث أنها تعني موق ًعا جغراف ًيا مع ّينًا ومساح ًة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وشكل معينًا إلقليم الدولة(((‪.‬‬

‫((( قد تتغ ّير المعطيات الجغرافية لدولة ما عند قيامها بضم أقاليم أخرى لسيادتها‪،‬‬ ‫أو انفصال أقاليم عنها‪ ،‬أو من خالل اتحاد دولتين أو أكثر أو انفصال دولة إلى‬ ‫دولتين أو إلى عدد من الدول (االتحاد السوفيتي ً‬ ‫مثل) وقد ينتج عن هذا التغ ّير‬ ‫ً‬ ‫تغيرا في معطيات القوة األخرى (السكان‪ ،‬الموارد االقتصادية مثل)‪ ،‬وفي مثل هذه‬ ‫ًّ‬ ‫الحاالت (األخيرة) فإن الواقع السياسي يشير إلى ظهور دولة أو دول جديدة على‬ ‫حساب اختفاء دولة أو دول من الخريطة السياسية للعالم‪ ،‬بما ال يفيد معه القول‬ ‫أن المعطيات الجغرافية أللمانيا ً‬ ‫ّ‬ ‫(مثل) قد تغ ّيرت باتحاد األلمانيتين (الشرقية‬ ‫ّ‬ ‫والغربية) إثر انهيار االتحاد السوفيتي‪ ،‬بل يمكن القول أن الخريطة السياسية للعالم‬ ‫قد تغ ّيرات باختفاء دولتين (األلمانيتين) وظهور دولة ألمانية واحدة‪ ،‬بقي القول‬ ‫ّ‬ ‫أن التغ ّير في المعطيات الجغرافية ـ مع ثبات الخريطة السياسية للعالم ـ يخص‬ ‫تلك الحاالت المتمثلة في ضم أقاليم معينة أو تغ ّير تبعية بعض األقاليم من دولة‬ ‫إلى أخرى‪ ،‬أو حسم النزاعات الحدودية بضم مساحات جغرافية لدولة من الدول‬ ‫المتنازعة‪ ،‬وكل تلك التغ ّيرات ال تترك ـ في الغالب ـ ذلك األثر الكبير في تغير‬ ‫معطيات القوة الباحث‪.‬‬ ‫‪50‬‬


‫ومع ثبات وديمومة العوامل والمعطيات الجغرافية فإن األهم ّية‬ ‫المتع ّلقة بكل عامل منها يعتريها التغ ّير بشكل مستمر تب ًعا للمتغيرات‬ ‫القوة‪ ،‬فالموقع الجغرافي كمعطى من‬ ‫التي تطرأ على بقية عوامل ّ‬ ‫القوة الجغرافية للدولة لم تعد له ذات األهم ّية التي كانت له‬ ‫معطيات ّ‬ ‫ساب ًقا في ظل تطور وسائل المواصالت واالتصاالت وتطور تقنيات‬ ‫السالح والتدمير‪.‬‬

‫يتناول الباحث كل معطى من المعطيات الجغرافية للدولة بشكل‬ ‫مختصر للتعرف على طبيعة هذا المعطى واألهم ّية النسبية له من خالل‬ ‫تأثير بقية المعطيات والعوامل المتعلقة بقوة الدولة عليه‪ ،‬ومن خالل‬ ‫التعرف على بعض االجتهادات النظرية التي تناولت تحليل قوة الدولة‬ ‫ّ‬ ‫في المجال الدولي من منظور العوامل الجغرافية على النحو التالي‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ الموقع‬

‫الموقع بالنسبة للدولة هو اإلقليم الذي تشغله بالنسبة لخطوط‬ ‫الطول ودوائر العرض‪ ،‬وكذلك بالنسبة للمسطحات المائية المتم ّثلة‬ ‫في البحار والمحيطات والبعد والقرب عن مركز العالم المتم ّثل في‬ ‫منطقة المتوسط وجنوب أوربا(((‪.‬‬ ‫بالرغم من التغ ّيرات التي طرأت على التأثير النسبي للعوامل‬ ‫تأثرا‬ ‫الجغرافية بشكل عام على السياسات الخارجية للدول ً‬

‫((( محمد طه بدوي [وآخرون]‪ ،‬مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.96‬‬ ‫‪51‬‬


‫التحضر والتقدّ م التقني‪ ،‬إال ّ‬ ‫أن من القضايا المسلم بها‬ ‫بتغيرات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن للموقع أهم ّية واضحة في رسم السياسات الخارجية وتحديد‬ ‫طبيعة العالقات والتفاعالت التي تقوم بين الدولة وبقية األطراف‬ ‫الدولية األخرى‪.‬‬

‫ّ‬ ‫القوة على الصعيد‬ ‫مقومات ّ‬ ‫مقو ًما من ّ‬ ‫يمثل الموقع بالنسبة للدولة ّ‬ ‫الدولي بالنظر إلى عدد من المزايا التي تكتسبها دولة ما ارتبا ًطا‬ ‫بموقعها‪ ،‬فالدولة التي تشرف على ممرات دولية هامة قد تكتسب‬ ‫القوة بتحكّمها وسيطرتها على هذه الممرات‪ ،‬مما يجعل‬ ‫شي ًئا من ّ‬ ‫مصالح عدد من األطراف الدولية األخرى مرتبطة بإراداتها ومشيئتها‪،‬‬ ‫ومن جهة أخرى قد يكون إشراف الدولة وإطاللتها على ممرات‬ ‫نظرا‬ ‫مائية هامة‬ ‫مصدرا من مصادر الخطر والضعف لهذه الدولة ً‬ ‫ً‬ ‫لجاذبية هذه الممرات في استجالب القوى الدولية التي تحاول‬ ‫السيطرة والتحكّم في هذه الممرات في إطار سعيها لتحقيق مصالحها‬ ‫يفسر سيطرة بريطانيا خالل‬ ‫وخاصة التجارية والعسكرية‪ ،‬وهو ما ّ‬ ‫فترة من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين على أهم المضائق‬ ‫والممرات المائية العالمية مثل باب المندب‪ ،‬جبل طارق‪ ،‬قناة‬ ‫السويس‪ ،‬الخليج العربي‪.‬‬ ‫كذلك فإن الدولة التي تتمتّع بشواطئ مطلة على البحار‬ ‫والمحيطات الهامة يتهيأ لها شيء من النفوذ والقوة قد ال يتو ّفر‬ ‫لغيرها ممن ال تمتلك هذه الشواطئ‪ ،‬فالدولة التي تمتلك شواطئ‬ ‫يتيسر لها سبل االتصال التجاري بالعالم الخارجي بما يح ّقق‬ ‫بحرية ّ‬ ‫‪52‬‬


‫إمكانيات أكبر في المجاالت االقتصادية والتجارية باإلضافة إلى‬ ‫حركة أيسر في المجال العسكري‪ ،‬كما ّ‬ ‫أن موقع الدولة في شكل‬ ‫جزيرة أو مجموعة جزر تب ًعا لموقع هذه الجزيرة أو الجزر بالنسبة‬ ‫القوة في السياسة‬ ‫مقومات ّ‬ ‫للبحار والمحيطات يمنح الدولة بعض ّ‬ ‫أيضا ـ من حيث قرب الدولة أو‬ ‫الدولية‪ ،‬ويكتسب الموقع أهم ّيته ـ ً‬ ‫بعدها من القوى الدولية الفاعلة على المسرح الدولي‪ ،‬وقربها وبعدها‬ ‫من مناطق التوتر والصراعات في العالم‪.‬‬

‫مما ال شك فيه ّ‬ ‫أن موقع الدولة بالنسبة لخطوط الطول ودوائر‬ ‫العرض يمنح الدولة عد ًدا من الخصائص الجغرافية األخرى المتع ّلقة‬ ‫بالمناخ ودرجة الحرارة والتضاريس بما يهيئ لتأثير ما ارتبا ًطا بما‬ ‫مقومات سكانية واقتصادية تلعب‬ ‫قد ينتج عن هذه الخصائص من ّ‬ ‫القوة للوحدة السياسية في الساحة الدولية‪،‬‬ ‫مقومات ّ‬ ‫دورا في تشكيل ّ‬ ‫ً‬ ‫ولعل األثر الواضح النعكاس تأثير الموقع بالنسبة لخطوط الطول‬ ‫ودوائر العرض ّ‬ ‫تقسيما ثنائ ًيا‬ ‫يجسد‬ ‫أن الواقع الدولي المعاصر ّ‬ ‫ً‬ ‫(موقع ًيا) للعالم يتم ّثل في انقسام العالم إلى شمال وجنوب‪ :‬شمال‬ ‫متحضر يحضى بإمكانيات مختلفة للقوة ويكاد يسيطر على‬ ‫متقدّ م ّ‬ ‫مسرح األحداث في العالم ككل‪ ،‬بينما جنوب متخلف فقير اقتصاد ًيا‬ ‫ومستضعف ويم ّثل في كثير من األحيان منطقة صراع بين قوى العالم‬ ‫ّ‬ ‫المتحضر أو منطقة نفوذ وهيمنة وتبعية ألي من تلك القوى بما ّ‬ ‫يؤشر‬ ‫ّ‬ ‫إلى تأثير ضئيل في الساحة السياسية الدولية‪.‬‬ ‫وبالرغم من ّ‬ ‫أن هذا التقسيم ال يرجع فقط إلى الموقع الجغرافي‬ ‫‪53‬‬


‫وأنه تكاثفت عدد من األسباب والعوامل األخرى لتجعل منه واق ًعا‬ ‫دول ًيا‪ ،‬إال ّ‬ ‫أن تلك األسباب والعوامل األخرى ترتبط ـ في أغلبها ـ‬ ‫بصورة أو بأخرى بالموقع الجغرافي‪.‬‬

‫ّ‬ ‫«أن من المواقع الجغرافية ما يح ّقق بذاته قيمة سياسية»(((‪ ،‬تعكس‬ ‫هذه المقولة ل»راتزل» في نهاية القرن التاسع عشر بداية االهتمام بدور‬ ‫القوة في المجال‬ ‫العوامل الجغرافية وخاصة الموقع في إكساب الدولة ّ‬ ‫الدولي‪ ،‬وعلى يد تيودور راتزل ظهرت نظريات الجيوبوليتيك التي‬ ‫تعتمد على المعطيات الجغرافية كمحدّ د «حتمي» لسياسات الدولة‬ ‫القوة في الساحة السياسية الدولية‪،‬‬ ‫الخارجية ومركزها من حيث ّ‬ ‫فقد نبه اإلنكليزي ماكندر ـ وهو من أتباع مدرسة راتزل في الحتمية‬ ‫الجغرافية ـ إلى األهمية اإلستراتيجية للموقع الجغرافي من خالل‬ ‫نظريته المشهورة التي حدّ د بها المراكز الطبيعية للقوة استنا ًدا على‬ ‫فروضها التي تقول «من يحكم أوربا الشرقية (أوراسيا) يحكم قلب‬ ‫األرض‪ ،‬ومن يحكم قلب األرض يحكم جزيرة العالم (أوربا‪ ،‬أسيا‪،‬‬ ‫(((‬ ‫مشيرا بذلك‬ ‫أفريقيا) ومن يحكم جزيرة العالم يحكم العالم كله» ‪ً ،‬‬ ‫إلى ّ‬ ‫أن الغلبة في ظاهرة الصراع الدولي ستكون حتمية للقوة ذات‬ ‫(البرية) مغال ًطا بذلك الواقع الدولي خالل فترة مع ّينة‬ ‫االمتداد القاري ّ‬ ‫والذي تمكنّت فيه بريطانيا ـ وهي ليست دولة قارية ـ من السيطرة‬ ‫((( محمد طه بدوي وليلى أمين مرسي‪ ،‬أصول علم العالقات الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.78‬‬ ‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.90‬‬ ‫‪54‬‬


‫على أجزاء كبيرة من العالم والظهور كقوة عظمى متم ّيزة في الساحة‬ ‫اتجاها آخر يدعوا إلى ّ‬ ‫أن الغلبة‬ ‫السياسية الدولية‪ ،‬األمر الذي أوجد‬ ‫ً‬

‫«للقوة البحرية» في مسألة تحديد المراكز الطبيعية للقوة‪ ،‬وكان الفريد‬ ‫ماهان وأتباعه من بعده يم ّثلون هذا االتجاه‪ ،‬مستندين في ذلك إلى‬ ‫القوة الذي‬ ‫وقائع التاريخ التي تشير إلى المركز المتقدم من حيث ّ‬ ‫نظرا لتركيزها على تنمية وقوتها البحرية باعتبار‬ ‫تمتعت به بريطانيا ً‬ ‫وضعها الجغرافي كمجموعة جزر في حين ّ‬ ‫أن فرنسا أصابها الوهن‬ ‫وجهت سياساتها باتجاه قاري خالل القرنين السابع‬ ‫والضعف عندما ّ‬ ‫عشر والثامن عشر‪ ،‬كما ّ‬ ‫أن أسبانيا اضمحلت كقوة دولية عظمى‬ ‫عندما أخفقت في بناء قوة بحرية كافية لربطها بمستعمراتها في أمريكا‬ ‫الجنوبية‪ ،‬ويرجع ذلك حسب رأي ماهان وأتباعه إلى ّ‬ ‫أن البحر طريق‬ ‫القوة الذاتية للدولة‪،‬‬ ‫أفضل لالتصال بالشعوب األخرى ولتجديد ّ‬ ‫ومن ثم يكون األفضل للدولة التي تطل على البحر في ّ‬ ‫أن تنمي قوتها‬ ‫البحرية بدل ّ‬ ‫أن تسعى إلى التوسع اإلقليمي(((‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ المناخ والتضاريس‬

‫يحدّ د موقع الدولة بالنسبة لدوائر العرض المناخ السائد في‬ ‫اإلقليم من حيث درجة الحرارة والرطوبة وكميات األمطار‪ ،‬كما‬ ‫ّ‬ ‫أن التضاريس المتمثلة في األنهار والوديان والجبال والمرتفعات‬ ‫والسهول والصحاري تعتمد في بعض مظاهرها على المناخ السائد‬ ‫في اإلقليم‪ ،‬وباتحاد عنصري المناخ والتضاريس يتحدّ د حجم‬

‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.‬ص‪.91 ،90‬‬ ‫‪55‬‬


‫الكثافة والتواجد البشري مرتب ًطا بمالئمة اإلقليم للحياة البشرية من‬ ‫حيث اعتدال درجات الحرارة وما ينتج عن إتالف عنصري المناخ‬ ‫والتضاريس من إمكانيات طبيعية ذات وجه اقتصادي تمكّن من‬ ‫يفسر تركّز الكثافات السكانية العالية‬ ‫الحياة واالستقرار‪ ،‬وهو ما ّ‬ ‫في المناطق المعتدلة الحرارة‪ ،‬وهي في ذات الوقت مناطق غن ّية من‬ ‫حيث الموارد الطبيعية المتم ّثلة في وجود غطاء نباتي ومعدالت أمطار‬ ‫مناسبة لمباشرة النشاط الزراعي الذي يعتمد عليه غذاء اإلنسان بشكل‬ ‫كبير‪ ،‬باإلضافة إلى التضاريس المناسبة كالسهول المنبسطة واألنهار‬ ‫والوديان باإلضافة إلى الجبال والمرتفعات وبما يم ّثل بعضها حدو ًدا‬ ‫طبيعية فاصلة بين الجماعات البشرية المختلفة‪.‬‬ ‫واضحا في تحدّ يد‬ ‫دورا‬ ‫ً‬ ‫إذا كانت عوامل المناخ والتضاريس تلعب ً‬ ‫القيمة االقتصادية والسكانية لإلقليم‪ ،‬فإن الدور الذي تلعبه كقيمة‬ ‫إستراتيجية وعسكرية ال يقل أهم ّية عن تلك‪ ،‬فالمناطق ذات المناخ‬ ‫المت ّطرف (القارة القطبية الجنوبية‪ ،‬الصحاري‪ ،‬سيبريا) لم تكن في‬ ‫نظرا‬ ‫مهما في الصراع بين القوى الدولية ً‬ ‫يوم من األيام موضو ًعا ً‬ ‫لفقرها ومحدودية االنتفاع بها اقتصاد ًيا وانعدام إمكانية الحياة البشرية‬ ‫المستقرة عليها(((‪ ،‬إال ّ‬ ‫كثيرا ما م ّثلت‬ ‫أن مناطق (المناخ المت ّطرف) ً‬ ‫منطقة عازلة أمام عدد من الدول في محاوالت االجتياح والسيطرة‪،‬‬ ‫ولعل الهزيمة التي منيت بها جيوش نابليون في القرن التاسع عشر‬ ‫((( إسماعيل صبري مقلد‪ ،‬العالقات السياسية الدولية‪( ،‬القاهرة‪ :‬المكتبة األكاديمية‪،‬‬ ‫‪ ،)1991‬ص‪.176‬‬ ‫‪56‬‬


‫عند محاولته غزو روسيا‪ ،‬وكذلك هزيمة جيوش هتلر في الحرب‬ ‫العالمية الثانية بعد اجتياحها لروسيا ّ‬ ‫مؤشر واضح على إمكانية اعتبار‬ ‫مهما في إكساب الدولة إمكانيات مع ّينة‬ ‫المناخ‬ ‫عنصرا إستراتيج ًيا ً‬ ‫ً‬ ‫للقوة في المجال الدولي‪.‬‬ ‫مهما في حماية إقليم الدولة‬ ‫دورا إستراتيج ًيا ً‬ ‫تلعب التضاريس ً‬ ‫من محاوالت االجتياح والغزو الخارجي‪ ،‬باعتبار ّ‬ ‫أن األنهار والجبال‬ ‫ً‬ ‫فواصل طبيعية يصعب اجتيازها من قبل الجيوش‬ ‫والصحاري تم ّثل‬ ‫المتعرضة‬ ‫الغازية والجاهلة عاد ًة بطوبوغرافية المكان‪ ،‬مما يتيح للدولة‬ ‫ّ‬ ‫للغزو إمكانيات أكبر في صد هذه المحاوالت ودحرها‪ ،‬فبالرغم من‬ ‫القوة العسكرية في عدد كبير من‬ ‫الفارق النسبي الهائل في إمكانيات ّ‬ ‫الحاالت التي قامت بها دولة ذات إمكانيات عسكرية كبيرة بمحاولة‬ ‫ً‬ ‫ضئيل من‬ ‫قدرا‬ ‫الغزو والسيطرة على إقليم دولة أخرى ال تمتلك إال ً‬ ‫القوة العسكرية مقارنة باإلمكانيات العسكرية للدولة الغازية‪ ،‬إال ّ‬ ‫أن‬ ‫ّ‬ ‫أغلب هذه المحاوالت بآت بالفشل والهزيمة للقوة الغازية وفشلت‬ ‫التورط األمريكي في‬ ‫في تحقيق أهدافها‪ ،‬وأوضح مثال على ذلك هو ّ‬ ‫والتورط الحالي ألمريكا‬ ‫فيتنام (في النصف الثاني من القرن الماضي)‬ ‫ّ‬ ‫وحلفاءها في أفغانستان‪ ،‬فبالرغم من مرور أكثر من خمس سنوات‬ ‫حتى اآلن على احتالل أفغانستان من قبل الواليات المتحدة األمريكية‬ ‫وحلفاءها إال ّ‬ ‫القوة العظمى الغازية فشلت في تحقيق أهدافها‬ ‫أن هذه ّ‬ ‫والقضاء على تنظيم القاعدة وحركة طالبان والتي ما زال أتباعها‬ ‫يتحصنون في مناطق جبلية وعرة عند الحدود الباكستانية األفغانية‬ ‫ّ‬ ‫‪57‬‬


‫ويلحقون خسائر شبه يومية بالقوات المحتلة برغم الفارق الهائل‬ ‫بين الطرفين في حجم اإلمكانيات العسكرية‪ ،‬مما يشير ـ بغض النظر‬ ‫عن مجموعة من العوامل والمعطيات األخرى ـ إلى األهم ّية البارزة‬ ‫لعامل التضاريس في العمليات اإلستراتيجية والحربية‪.‬‬ ‫تجدر اإلشارة إلى عنصر آخر من عناصر التضاريس له األثر‬ ‫البالغ في ظاهرة الصراع الدولي‪ ،‬وهو األنهار الدولية‪ ،‬أي تلك‬ ‫األنهار التي تمر عبر إقليم دولة أو أكثر‪ ،‬فاألنهار باعتبارها تم ّثل‬ ‫المصدر األساسي للمياه المست ّغلة سكان ًيا في أعمال الزراعة‬ ‫القوة من هذا الجانب‪،‬‬ ‫مقومات ّ‬ ‫مقو ًما من ّ‬ ‫والصناعة وغيرها تم ّثل ّ‬ ‫باإلضافة إلى استعمالها كسبل للمواصالت لربط أقاليم الدولة‬ ‫ببعضها أو ربطها بإقليم دولة أخرى‪.‬‬

‫واألنهار الدولية والخالفات والصراعات التي تحدث بشأنها من‬ ‫حيث السيطرة على منابعها وتوزيع مياهها واستغاللها تع ّبر بشكل‬ ‫واضح عما يسمى ب(حرب المياه) في الواقع الدولي الراهن‪،‬‬ ‫والتي تشهدها الكثير من مناطق التوتر في العالم‪ ،‬فالصراع العربي‬ ‫اإلسرائيلي يم ّثل أحد أهم وجوهه محاوالت إسرائيل المستمرة‬ ‫الوصول والسيطرة على مياه األنهار في لبنان وسوريا واألردن‪،‬‬ ‫ناهيك عن العقيدة الصهيونية التي ترى في إسرائيل الكبرى امتدا ًدا‬ ‫من النيل إلى الفرات‪.‬‬ ‫ويقدم أصحاب نظرية الجيوبولتيك فرضية قوامها «إذا مر نهر ما‬ ‫عبر أراضي أكثر من دولة فإن الدولة األقوى من هذه الدول تعيش‬ ‫‪58‬‬


‫في ت ّطلع دائم إلى ضم أقاليم الدول األخرى بغية السيطرة على‬ ‫المورد المائي كله»(((‪ ،‬ولعل هذه الفرضية تجد العديد من الوقائع‬ ‫التي تصدّ قها عبر تاريخ الصراع البشري منذ محاوالت المصريين‬ ‫ومرورا بمحاوالت فرنسا خالل‬ ‫القدماء السيطرة على وادي النيل‬ ‫ً‬ ‫العهد النابليوني الوصول إلى مصب نهر الراين‪ ،‬وانتها ًء بالخالفات‬ ‫الحادة بين تركيا وسوريا والعراق فيما يتعلق بمنابع نهري دجلة‬ ‫والفرات‪ ،‬إلى الصراع العربي اإلسرائيلي الذي تأخذ حرب المياه‬ ‫مهما فيه‪.‬‬ ‫بعدً ا ً‬ ‫‪ 3‬ـ المساحة والشكل والحدود السياسية‬

‫تختلف الوحدات الدولية في مساحة ما تشغله من يابس على الكرة‬ ‫األرضية‪ ،‬ويترتب على ذلك اختالف اآلثار السياسية واالقتصادية‬ ‫واإلستراتيجية لهذه المساحات‪ ،‬ويم ّثل اتساع مساحة الدولة معطي‬ ‫إيجاب ًيا في كثير من األحيان لصالح قوة الدولة‪ ،‬ومع األخذ في االعتبار‬ ‫تأثير العوامل األخرى فإن اتساع اإلقليم يعني ـ في الغالب ـ إمكانيات‬ ‫اقتصادية أوفر من حيث األراضي الصالحة للزراعة ومصادر المواد‬ ‫الخام الطبيعة وفرصة أكبر للتوزيع السكاني في مواجهة مشكلة‬ ‫االكتظاظ‪ ،‬أما من الناحية اإلستراتيجية فإن اتساع اإلقليم يعني فرصة‬ ‫أكبر للتراجع والمناورة وصعوبة السيطرة من قبل األطراف المعتدية‪،‬‬ ‫كما يعطي إمكانية لتوزيع المنشآت العسكرية واالقتصادية والصناعية‬ ‫((( محمد طه بدوي [وآخرون]‪ ،‬مقدمة على العالقات السياسة الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.107‬‬ ‫‪59‬‬


‫على امتداد مساحة اإلقليم‪ ،‬مما يص ّعب عملية التدمير واالستهداف‬ ‫لهذه المنشآت من طرف العدو(((‪.‬‬

‫الخاصية للدول صغيرة المساحة والتي يسهل‬ ‫وال تتوفر هذه‬ ‫ّ‬ ‫أحكام السيطرة عليها إستراتيج ًيا‪ ،‬لذلك كانت األراضي المنخفضة‬ ‫(هولندا) ضحية مساحتها الصغيرة في الحربين العالميتين األولى‬ ‫والثانية لسهولة تمكن األلمان من اجتياحها والسيطرة عليها‪.‬‬

‫ً‬ ‫عامل من عوامل الضعف في قوة‬ ‫قد تم ّثل المساحة الشاسعة‬ ‫الدولة ألن اتساع المساحة قد يضعف إمكانيات السيطرة واالتصال‬ ‫بأطراف الدولة‪ ،‬وينسحب ذلك على البعد االقتصادي والسياسي‬ ‫للسيطرة في أوقات السلم وعلى البعد االستراتيجي أثناء الحرب‪،‬‬ ‫لذلك يرى البعض ّ‬ ‫أن أحد أسرار التفوق االقتصادي الياباني يستند‬ ‫على كثافة سكانية عالية على مساحة صغيرة نسب ًيا مما أدى إلى نجاح‬ ‫برامج التنمية االقتصادية في هذه الدولة(((‪.‬‬

‫وبنظرة سريعة على الخريطة السياسية للعالم نجد ّ‬ ‫أن التفاوت كبير‬ ‫في المساحات التي تشغلها الوحدات الدولية‪ ،‬فاالتحاد السوفييتي‬ ‫السابق كان يشغل ما يعادل ‪ 17‬مساحة اليابس في العالم‪ ،‬أي ما‬ ‫يعادل حوالي «‪ 22.402.000‬كم‪ »2‬بينما دولة مثل الهندوراس ال تزيد‬ ‫((( عبد الواحد الناصر‪ ،‬خصائص الدول في محيط العالقات الدولية‪( ،‬الرباط‪ ،‬ساليما‬ ‫كراف‪ ،)1993 ،‬ص‪.103‬‬ ‫((( لويد جنسون‪ ،‬تفسير السياسة الخارجية‪ ،‬ترجمة محمد أحمد مفتي‪ ،‬ومحمد السيد‬ ‫سليم (مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.244‬‬ ‫‪60‬‬


‫مساحتها على «‪118‬كم‪ »2‬وتزيد مساحة الصين وكندا والواليات‬ ‫المتحدة على ‪ 9‬ماليين كيلو متر مربع لكل منها‪.‬‬

‫ويصنف بعض الباحثين الدول من حيث المساحة إلى سبعة‬ ‫ّ‬ ‫تصنيفات هي‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ 1‬ـ دول عمالقة‪ :‬تزيد مساحتها على ‪ 5‬ماليين كم‪.2‬‬ ‫‪ 2‬ـ دول كبيرة جدً ا‪ :‬مساحتها ما بين ‪5-2‬كم‪.2‬‬

‫‪ 3‬ـ دول كبيرة‪ :‬مساحتها ما بين ‪ 2-1‬مليون كم‪.2‬‬

‫‪ 4‬ـ دول متوسطة‪ :‬مساحتها ما بين ‪ 1-0.5‬مليون كم‪.2‬‬ ‫‪ 5‬ـ دول صغيرة‪ 0.25 :‬ـ ‪ 0.50‬مليون كم‪.2‬‬

‫‪ 6‬ـ دول صغيرة جدً ا‪ :‬من ‪250.000-50.000‬كم‪.2‬‬ ‫‪ 7‬ـ دول قزمية تقل مساحتها عن ‪50.000‬كم‪.((( 2‬‬

‫ومن حيث الشكل فإن شكل الدولة يرتبط ببقية السمات الجغرافية‬ ‫المتم ّثلة في المساحة والموقع والتضاريس‪ ،‬ويؤ ّثر شكل الدولة على‬ ‫تماسكها السياسي واالقتصادي‪ ،‬فقد يهيئ فرصة أكبر إلمكانية اقتطاع‬ ‫أجزاء من الدولة وانفصالها‪ ،‬وقد يساعد على وجود حالة من عدم‬ ‫االستقرار السياسي بما يم ّثله من تشجيع على النعرات االنفصالية‬ ‫واالستقالل‪.‬‬ ‫((( كاظم هاشم نعمة‪ ،‬الوجيز في اإلستراتيجية‪( ،‬طرابلس‪ :‬أكاديمية الدراسات العليا‪،‬‬ ‫‪ ،)2000‬ص‪.204‬‬ ‫‪61‬‬


‫تجسد خريطة العالم السياسية نماذج ألشكال متعددة للوحدات‬ ‫ّ‬ ‫وتصنيفها‪ ،‬فمنها المربع والمستطيل والدائري‬ ‫حصرها ّ‬ ‫الدولية يصعب ّ‬ ‫وشبه الدائري وغير ذلك من األشكال‪ ،‬إال ّ‬ ‫أن أهم ما يقال في هذا‬ ‫(المتطرف) للدولة يم ّثل ً‬ ‫الجانب ّ‬ ‫عامل من عوامل ضعف‬ ‫أن الشكل‬ ‫ّ‬ ‫الدولة‪ ،‬وأهم أنواع الت ّطرف في شكل الدولة‪ ،‬فيما إذا كان شكل الدولة‬ ‫كبيرا‬ ‫عبارة عن لسان من األرض يكون التباين بين طوله وعرضه ً‬ ‫(تشيلي ً‬ ‫مثل)‪ ،‬أو إذا كانت الدولة عبارة عن مجموعة جزر متباعدة‬ ‫أحيانًا‪ ،‬أو عدد هائل من الجزر في شكل أرخبيل (أندونسيا ً‬ ‫مثل)‪،‬‬ ‫أو إذا كان إقليم الدولة يتكون من إقليمين أو أكثر متباعدين جغراف ًيا‬ ‫ويفصل بينهما إقليم دولة أخرى مثلما كان عليه الحال في الباكستان‪،‬‬ ‫وهو ما أدى إلى انفصالها إلى دولتين (الباكستان وبنغالديش) خالل‬ ‫ويتجسد المثال األكثر ضع ًفا للشكل الجغرافي للدولة‬ ‫سنة ‪،1971‬‬ ‫ّ‬ ‫في دولة فلسطين المقترحة بما يشمل إقليمين (الضفة الغربية‪ ،‬قطاع‬ ‫غزة) كإقليمين متباعدين جغراف ًيا تفصل بينها دولة إسرائيل‪ ،‬ويرى‬ ‫الباحثون في مجال الجغرافيا السياسية ّ‬ ‫أن أفضل األشكال للدولة هو‬ ‫ما كان قري ًبا من الدائرة وتم ّثل العاصمة فيه مركز الدائرة‪ ،‬لما يو ّفره هذا‬ ‫الشكل من إمكانيات السيطرة واالتصال في حالتي الحرب والسلم‪،‬‬ ‫و(المثال عليه فرنسا)‪.‬‬ ‫الحدود السياسية بما تعنيه من فواصل تقف عندها سيادة دولة‬ ‫ما لتبدأ سيادة دول أخرى تم ّثل معطى جغراف ًيا يرتبط بقوة الدولة‬ ‫وأثرها في البيئة الدولية‪.‬‬ ‫‪62‬‬


‫ارتبطت الحدود بالكثير من حاالت الصراع الدولي‪ ،‬فأغلب‬ ‫الدول المتجاورة شهدت أدوار من الصراع بينها وصل في كثير من‬ ‫األحيان إلى الصدام المس ّلح‪ ،‬ما يعني ّ‬ ‫أن تعدّ د الدول المجاورة لدولة‬ ‫فرصا أكثر للصراع بين الدولة وجيرانها‪ ،‬وهو في ذات الوقت‬ ‫ما يو َّلد ً‬ ‫يتيح خيارات عديدة أمام الدولة في الصراع مع بعض جيرانها مقابل‬ ‫التحالف والتعاون التام مع دول الجوار األخرى‪ ،‬بعكس الحال التي‬ ‫عليها الدولة المحاطة بجار واحد فقط‪ ،‬فليس أمامها إال الصدام مع‬ ‫هذا الجار (عند تعارض المصالح)‪ ،‬أو الوفاق التام معه والذي قد‬ ‫يصل إلى صورة الهيمنة والتبعية‪ ،‬خاص ًة إذا كانت الدولة تم ّثل ما‬ ‫القوة بين الطرفين‬ ‫يشبه االحتواء للدولة األخرى‪ ،‬ويكون مستوى ّ‬ ‫هنا متباينًا غال ًبا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أن لطول الحدود وطبيعتها من حيث التعرجات والتضاريس‬ ‫آثار على قوة الدولة العسكرية واالقتصادية‪ ،‬فالحدود الطويلة وغير‬ ‫المنيعة جغراف ًيا والمشتركة مع أكثر من دولة تكون مصدر ضعف‬ ‫يستوجب بناء إمكانيات ووضع إستراتيجيات عسكرية تتناسب مع‬ ‫طبيعة هذه الحدود‪ ،‬كما ّ‬ ‫أن الدولة التي يكون حجم سكانها صغير‬ ‫يتعذر عليها استيطان الحدود ألغراض أمنية واقتصادية‪ ،‬كما ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن‬

‫الهوية القومية أو الدينية الواحدة‬ ‫انقسام الجماعات السكانية ذات ّ‬ ‫مصدرا من مصادر‬ ‫بين دولتين أو أكثر بفعل الحدود السياسية يم ّثل‬ ‫ً‬ ‫التوتر والصراع في العالم(((‪.‬‬ ‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.208‬‬ ‫‪63‬‬


‫تأثرت الحدود السياسية في رسمها بمجموعة من العوامل‬ ‫السياسية واالقتصادية والطبيعية والبشرية‪ ،‬فقد وجدت مجموعة‬ ‫من األفكار والنظريات واتخذت كمعايير لرسم الحدود بين الكيانات‬ ‫السياسية‪ ،‬لعل أبرزها نظرية «الحدود الطبيعية»‪ ،‬والتي تعني ّ‬ ‫أن الحد‬ ‫الفاصل بين الكيانات السياسية يفترض ّ‬ ‫أن يكون حدً ا طبيع ًيا متم ّث ًل‬ ‫في مظهر من مظاهر التضاريس مثل الجبال واألنهار والصحاري‬ ‫التصور للحدود السياسية ربما يكون‬ ‫والمحيطات والبحار‪ ،‬وهذا‬ ‫ّ‬ ‫حضورا في الخريطة السياسية الدولية عبر فترات مختلفة من‬ ‫األكثر‬ ‫ً‬ ‫التاريخ البشري‪ ،‬كما ّ‬ ‫التصور للحدود السياسية مسؤول بشكل‬ ‫أن هذا‬ ‫ّ‬ ‫كبير عن الصراعات التي نشأت عبر فترات مختلفة من التاريخ تحت‬ ‫مبرر الوصول إلى الحدود الطبيعية للكيان السياسي‪.‬‬ ‫اعتمدت وجهة نظر أخرى في رسم الحدود السياسية على ما‬ ‫يمكن تسميته ب(النطاق القومي)‪ ،‬أي ّ‬ ‫أن العامل المحدّ د للحدود‬ ‫بين الكيانات السياسية ال يكمن في البعد الطوبوغرافي لإلقليم‪ ،‬بل‬ ‫في البعد الديموغرافي‪ ،‬حيث تقف الحدود عند الحد الفاصل بين‬ ‫تميزها العرقي والثقافي والقومي‪،‬‬ ‫الجماعات البشرية من حيث ّ‬ ‫جرت‬ ‫وازدهرت في ظل هذا المعيار ظاهرة (الدولة القومية) والتي ّ‬ ‫ً‬ ‫مبرر النطاق القومي‬ ‫على البشرية‬ ‫أشكال مختلفة من الصراع تحت ّ‬ ‫للدولة الذي يفضي إلى محاوالت ضم أقاليم ومساحات من الدول‬ ‫المجاورة بحجة استكمال البناء القومي للدولة لوجود جماعات‬ ‫بشرية ترتبط بروابط عرقية وقومية مع الدول األخرى‪.‬‬ ‫‪64‬‬


‫ووجهة نظر ثالثة في رسم الحدود بين الكيانات السياسية لم‬ ‫ت ّلتفت في الواقع ألي من المعيارين السابقين‪ ،‬تمث ّلت في حاالت‬

‫رسم الحدود بين الكيانات السياسية التي كانت واقعة تحت‬

‫االستعمار والسيطرة األوربية خاصة في أفريقيا وأسيا وأمريكا‬

‫الالتينية (الحدود المصطنعة)‪ ،‬فالمعيار الوحيد الذي استخدم هو‬

‫وحرصها على قيام كيانات سياسية‬ ‫مصالح الدول االستعمارية السابقة‬ ‫ّ‬

‫(في الغالب صغيرة أو قزمية من حيث المساحة) ال تمتلك أي‬ ‫مقومات للقوة الجغرافية واالقتصادية والبشرية في ذاتها‪ ،‬وبوضع‬ ‫ّ‬

‫حدودي يهيئ لصراع مستمر ودائم فيما بين الكيانات المتجاورة‬

‫منها‪ ،‬مما يعني حالة ضعف مستديم بالنسبة لها وإمكانية مستديمة‬

‫الستفادة الدول االستعمارية السابقة من هذا الوضع في شكل مصدر‬

‫للثروات االقتصادية والمواد الخام وسوق للمنتجات الصناعية للدول‬

‫االستعمارية‪ ،‬ومناطق نفوذ وهيمنة وتبعية اقتصادية وسياسية‪ ،‬مما‬

‫جعل من هذه الكيانات السياسية موضو ًعا غير ذي بال في حسابات‬

‫القوة للدولة المهيمنة‬ ‫القوة الدولية‪( ،‬إال إذا اعتبرت جز ًء من إمكانيات ّ‬ ‫ّ‬

‫والمسيطرة عليها)‪ ،‬ونظرة واحدة على خريطة أفريقيا السياسية كافية‬

‫لتأكيد هذه الحقيقة‪.‬‬

‫للحدود جانب آخر ـ وهو ما يتعلق بوجهة النظر التي ترى في‬

‫الكيان السياسي ما يشبه الكائن الحي من حيث حاجته إلى النمو‬ ‫والتمدّ د‪ ،‬لذلك فالحدود ال يجب ّ‬ ‫أن تكون ثابتة ورقعة الدولة‬ ‫‪65‬‬


‫وحدودها يفترض ّ‬ ‫أن تتغ ّير ارتبا ًطا بالحاجة إلى التمدد والنمو(((‪،‬‬ ‫بما يشير إلى ّ‬ ‫دائما ـ حسب وجهة النظر تلك ـ في‬ ‫أن التغ ّير يكون ً‬ ‫االتجاه الموجب‪ ،‬بمعنى الزيادة‪ ،‬وهو ما ينفي الجانب المنطقي‬ ‫والعلمي في وجهة النظر هذه‪ ،‬فالزيادة والنمو بالنسبة للكيانات‬ ‫(حتما) على حساب كيانات سياسية أخرى‪ ،‬فهل‬ ‫السياسية ستكون‬ ‫ً‬ ‫هذه الكيانات األخرى ال تنطبق عليها خصائص الكائن الحي (النمو‬ ‫الزيادة)؟‪ ،‬أم تنطبق عليها بشكل سلبي (التقلص واالنكماش)؟‪.‬‬ ‫ال شك ّ‬ ‫أن الباحث ـ من خالل ما سبق ـ يشير بشكل صريح إلى‬ ‫ما يسمى بنظرية (المجال الحيوي)‪ ،‬وهي النظرية التي جاءت وليدة‬ ‫لمدرسة الجيوبولتيك األلمانية‪ ،‬والتي ال تعدو في الواقع ّ‬ ‫أن تكون‬ ‫مجرد تبرير أيديولوجي استندت عليه ألمانيا النازية في توسعاتها‪،‬‬ ‫ولنا عودة إلى ما يتع ّلق بالمجال الحيوي عند تناول السكان كعامل‬ ‫من عوامل قوة الدولة في المجال الدولي‪.‬‬ ‫ب) ال�سكان‬

‫يتباين توزيع السكان على الوحدات الدولية المختلفة من حيث‬ ‫كبيرا شأنه شأن التباين في المساحات‪ ،‬فبعض الدول تجاوز‬ ‫الكم تباينًا ً‬ ‫تعداد سكانها المليار نسمة بينما دول أخرى ال يتعدى سكانها بضع‬ ‫العشرات أو المئات من األلوف‪.‬‬ ‫((( عبد الواحد الناصر‪ ،‬خصائص الدول في محيط العالقات الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.105‬‬ ‫‪66‬‬


‫يبدو للوهلة األولى ّ‬ ‫أن هناك ارتبا ًطا بين الكم البشري للدولة‬ ‫القوة الذي يتح ّقق لها في البيئة الدولية على المستوى‬ ‫ومستوى ّ‬ ‫اإلستراتيجي واالقتصادي‪ ،‬على اعتبار ّ‬ ‫أن العامل البشري هو العامل‬ ‫األهم في الموضوع االقتصادي وكذلك في الموضوع اإلستراتيجي‪.‬‬ ‫ويرى أورجنسكي ـ وهو أحد أكبر علماء العالقات الدولية ـ‬ ‫ّ‬ ‫أن «العنصر البشري يعد أهم عوامل قوة الدولة على اإلطالق»(((‪،‬‬ ‫وإذا كان لهذه الفرضية ما يؤيدها في ثنايا الواقع التاريخي للعالقات‬ ‫الدولية‪ ،‬إال ّ‬ ‫أن الواقع الدولي ـ خاصة الراهن ـ ينطوي على الكثير‬ ‫من الشواهد التي تشكك في صحتها‪ ،‬بل حتى توقعات أورجنسكي‬ ‫في ّ‬ ‫أن تصبح الصين أقوى قوة دولية في عقد الثمانينيات في القرن‬ ‫العشرين أبطلها الواقع‪ ،‬ومع ذلك يمكن اإلشارة إلى ّ‬ ‫أن دولة صغيرة‬ ‫أن ّ‬ ‫في عدد سكانها ليس بوسعها ّ‬ ‫تمثل قوة كبيرة ذات أثر في ميزان‬ ‫العالقات السياسية الدولية بنفس القدر الذي تتمتّع به دولة ذات‬ ‫إمكانية سكانية كبيرة(((‪.‬‬ ‫استقرا ًء للواقع الدولي يفترض الباحث ّ‬ ‫أن العنصر البشري‬ ‫تأثرا بالعوامل األخرى المحدّ دة لقوة‬ ‫(السكان) هو أكثر العوامل ً‬ ‫الدولة‪ ،‬فهو بمثابة المتغ ّير التابع لمجموعة العوامل الجغرافية‬ ‫((( محمد طه بدوي [وآخرون]‪ ،‬مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.126‬‬ ‫((( علي أحمد عبد القادر‪ ،‬وكمال منوفي‪ ،‬النظريات والنظم السياسية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.106‬‬ ‫‪67‬‬


‫كمتغيرات مستقلة تحدّ د الدور‬ ‫واالقتصادية واالجتماعية والعسكرية‬ ‫ّ‬ ‫الذي يلعبه العامل البشري كعامل من عوامل قوة الدولة‪ ،‬وفي هذا‬ ‫اإلطار يتناول الباحث العامل البشري (السكان) ودرجة األهمية له‬ ‫في ميزان قوة الدولة من خالل التأثير المس ّلط عليه بفعل العوامل‬ ‫األخرى من جهة‪ ،‬ومن خالل الخصائص المتعلقة به في حد ذاته‬ ‫من جهة أخرى على النحو التالي‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ الكم البشري (العددي)‬

‫يرجع التباين في توزيع الكم البشري بين الوحدات الدولية إلى‬ ‫مجموعة من العوامل الطبيعية واالقتصادية والحضارية والثقافية‪ ،‬وأي‬ ‫ً‬ ‫من هذه العوامل ال يمكن ّ‬ ‫مستقل عن بقية العوامل في‬ ‫دورا‬ ‫أن يلعب ً‬ ‫إخراج صيغة مع ّينة لتوزيع السكان في زمان ومكان مع ّينين‪.‬‬ ‫يبدو للمالحظ ّ‬ ‫تتميز بأن هوامشها ذات تمركز‬ ‫القارية ّ‬ ‫أن المناطق ّ‬ ‫سكاني وكثافة عالية عند المقارنة مع األقاليم الداخلية للقارات والتي‬ ‫غال ًبا ما تتسم بالبعثرة السكانية‪ ،‬كما ّ‬ ‫أن المناطق الجزرية (اليابان‬ ‫بريطانيا‪ ،‬أندونسيا) تم ّثل مناطق ذات تمركّز سكاني عالي الكثافة‬ ‫نسب ًيا‪ ،‬لكن من المؤكد ّ‬ ‫أن الجغرافيا ال تحكم وحدها هذه الظاهرة بل‬ ‫كان للمؤثرات والظروف التاريخية واالقتصادية دور في هذه الصورة‬ ‫للتوزيع البشري‪ ،‬وإذا كان للتضاريس وشكل السطح أثر واضح في‬ ‫التمركز السكاني في المناطق السهلية‬ ‫توزيع السكان‪ ،‬وذلك بمالحظة ّ‬ ‫مقارنة بمناطق المرتفعات والعروض العليا‪ ،‬فإن التقدّ م التقني ذ ّلل‬ ‫الكثير من الصعاب المتع ّلقة بالعيش في مناطق المرتفعات واألسطح‬ ‫‪68‬‬


‫غير المالئمة‪ ،‬خاصة وأن مزايا اقتصادية ارتبطت بهذه المناطق‬ ‫وجعلت منها مناطق جذب سكاني بتأثير عامل التقنية والتقدّ م العلمي‬ ‫المتع ّلق باستغالل الثروات المعدنية والطبيعية وقيام نشاط صناعي‬ ‫عليها‪ ،‬وتذليل عقبة االتصاالت والمواصالت بين هذه المناطق‬ ‫وغيرها(((‪.‬‬

‫تمركز الكم البشري في المناطق ذات‬ ‫وللمناخ أهمية كبيرة في ّ‬ ‫المناخ المناسب من حيث اعتدال درجات الحرارة ووفرة األمطار‪،‬‬ ‫بل ّ‬ ‫أن بعض الباحثين يربطون بين قيام الحضارات اإلنسانية واألمم‬ ‫القو ّية وبين مناطق المناخ المعتدل‪ ،‬وما من شك في ّ‬ ‫أن مستويات‬ ‫التقدّ م التقني والعلمي التي يشهدها العالم المعاصر أسهمت‬ ‫في تجاوز الكثير من الظروف المناخية كعامل محدّ د للتمركز‬ ‫السكاني‪.‬‬

‫ومن منظور تاريخي يعتبر العامل االقتصادي أكثر العوامل ارتبا ًطا‬ ‫بتوزيع السكان‪ ،‬فحيثما كانت هناك إمكانية للنشاط االقتصادي‬ ‫قديما والصناعي حدي ًثا) تواجد كم بشري كبير نسب ًيا‪،‬‬ ‫(الزراعي‬ ‫ً‬ ‫قائما ـ إلى حد ما ـ إال ّ‬ ‫وبالرغم من ّ‬ ‫أن‬ ‫أن هذا االرتباط ال يزال ً‬ ‫معطيات التقدّ م التقني والعلمي المعاصر باإلضافة إلى الظروف‬ ‫السياسية واالجتماعية المرتبطة بالحروب والنزاعات‪ ،‬وكذلك ما‬ ‫تتّبعه بعض الدول (الحكومات) من سياسات تسعى إلى خلق توازن‬ ‫في توزيع السكان على رقعة اإلقليم من خالل تنويع أوجه النشاط‬ ‫((( كاظم هاشم نعمة‪ ،‬الوجيز في اإلستراتيجية‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.210‬‬ ‫‪69‬‬


‫االقتصادي من جهة والوصول بالخدمات واالحتياجات السكانية‬ ‫لكل المناطق داخل اإلقليم وما تفرضه الضرورات اإلستراتيجية‬ ‫في مسألة توزيع السكان من جهة أخرى‪ ،‬جعل من االرتباط بين‬ ‫النشاط االقتصادي والتوزيع السكاني ال يمكن التعامل معه على أنه‬ ‫ارتباط حتمي‪ً ،‬‬ ‫فضل عن ذلك فإن مجموعة من الظروف التاريخية‬ ‫كبيرا في توزيع الكم البشري بين الوحدات‬ ‫دورا ً‬ ‫والسياسية لعبت ً‬ ‫الدولية‪ ،‬فاكتشاف العالم الجديد (األمريكتين واستراليا) أواخر القرن‬ ‫الخامس عشر ترتب عليه خالل الفترات الالحقة حركة هجرة كبيرة‬ ‫من العالم القديم الستيطان قارات العالم الجديد‪.‬‬

‫عند التعامل مع السكان كعامل من عوامل قوة الدولة في المجال‬ ‫الدولي من منظور عددي (كمي ) البد من األخذ في االعتبار عاملين‬ ‫مهمين هما‪:‬‬ ‫ً‬ ‫أول‪ :‬مدى التناسب بين عدد السكان ومساحة اإلقليم الجغرافي‬ ‫الذي تشغله الدولة‪ ،‬وهذا التناسب يع ّبر عنه من خالل درجة‬ ‫الكثافة السكّانية‪ ،‬فكما ّ‬ ‫أن الدول متباينة في توزيع الكم‬ ‫البشري فهي متباينة كذلك في كثافة هذا التوزيع بالنسبة‬ ‫للمساحة الجغرافية‪ ،‬حيث وصلت الكثافة السكانية إلى ‪344‬‬ ‫إنسان في نطاق الكيلومتر المربع الواحد في هولندا ً‬ ‫مثل‪،‬‬ ‫بينما هي في بريطانيا تبلغ ‪/322‬كم‪ ،2‬وفي الواليات المتحدة‬ ‫ال تتعدى ‪/24‬كم‪ ،2‬لكنها في كندا وليبيا ً‬ ‫مثل ال تتجاوز ‪/2‬‬ ‫كم‪ ،2‬وهذا التباين في توزيع الكثافة السكانية ال يعكس تباينًا‬ ‫‪70‬‬


‫في قوة الدولة استنا ًدا على كثافتها السكانية‪ ،‬لكن استقرا ًء‬ ‫القوة الدولية ـ ارتبا ًطا بمعيار الكثافة السكانية ـ يمكن‬ ‫لواقع ّ‬ ‫أن يح ّقق (دالة) تشير إلى ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن الدول ذات الكثافات المتوسطة‬ ‫مقو ًما‬ ‫(الغير متطرفة) هي الدول التي يم ّثل فيها عامل السكان ّ‬ ‫القوة(((‪.‬‬ ‫إيجاب ًيا من مقومات ّ‬

‫ثان ًيا‪ :‬مدى التناسب بين عدد السكان وحجم موارد الدولة‪ ،‬فكلما‬ ‫كان هناك تناس ًبا بين حجم الموارد االقتصادية وعدد السكان‬ ‫كلما كان هناك إمكانية لرفع مستوى المعيشة مما قد ينعكس‬ ‫إيجاب ًيا على قوة الدولة في المجال الدولي‪ ،‬إال ّ‬ ‫أن حجم‬ ‫الموارد االقتصادية المتناسبة مع الكم العددي للسكان‬ ‫والذي قد يفوق االحتياجات السكانية أحيانًا ليس من‬ ‫الضروري ّ‬ ‫أن يكون ّ‬ ‫مؤش ًرا إيجاب ًيا على قوة الدولة‪ ،‬ألن‬ ‫ذلك مرهون بعوامل أخرى تتعلق بمدى استغالل وتوظيف‬ ‫هذه الموارد في بناء قوة الدولة المرهون بدوره بمستويات‬ ‫التقدّ م التقني والعلمي من جهة وبطبيعة النظام السياسي‬ ‫واالقتصادي ودرجة الكفاءة في التوظيف والتوزيع للموارد‬ ‫من جهة أخرى بما يكسب الدولة قوة (داخلية) تنعكس على‬ ‫قوتها في المجال الدولي(((‪.‬‬ ‫((( محمد طه بدوي وليلى أمين مرسي‪ ،‬أصول علم العالقات الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.98‬‬ ‫((( عبد الواحد الناصر‪ ،‬خصائص الدول في محيط العالقات الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.122‬‬ ‫‪71‬‬


‫ما من شك في ّ‬ ‫القوة العسكرية هو الكم البشري‪،‬‬ ‫مقومات ّ‬ ‫أن أحد ّ‬ ‫فهل الكم البشري الكبير للدولة من شأنه ّ‬ ‫أن يهيئ المجال أمامها لبناء‬ ‫جيش قوى وسياسة عسكرية طموحة؟ لإلجابة على هذا السؤال‬ ‫يمكن القول‪ّ :‬‬ ‫أن أي سياسة عسكرية كبرنامج عمل يستهدف تحقيق‬ ‫القوة للدولة البد لها ّ‬ ‫أن تعتمد على عدد من الوسائل أهمها‪ :‬مستوى‬ ‫ّ‬ ‫التسليح‪ ،‬ومستوى إعداد المقاتل وكفاءته وروحه المعنوية‪ ،‬باإلضافة‬ ‫إلى مستويات التنظيم واإلدارة‪ ،‬مما يعني ّ‬ ‫أن العنصر البشري في‬ ‫المسألة العسكرية موضوع كيفي أكثر منه كمي‪ ،‬خاصة في ظل‬ ‫التطور الهائل في تقنيات السالح والتدمير وما يتط ّلبه ذلك من توظيف‬ ‫َّ‬ ‫إلمكانيات اقتصادية ومالية كبيرة بما يمثل عب ًء قد ال تطيقه بعض‬ ‫الدول‪ ،‬كما ّ‬ ‫أن العدد الكبير للجيش يعني قوة بشرية مع ّطلة اقتصاد ًيا‬ ‫داخل المجتمع(((‪ ،‬ويقود ذلك إلى القول‪ّ :‬‬ ‫أن الحضارة اإلنسانية‬ ‫المعاصرة تجاوزت مسألة الكم البشري في الجانب العسكري‬ ‫القوة التدميرية‬ ‫بفعل التطور الهائل في مجال إنتاج السالح وتعاظم ّ‬ ‫لهذا السالح‪ ،‬فشخص واحد فقط ـ ّ‬ ‫أن جاز التعبير ـ قادر على‬ ‫تدمير دولة بأسرها بمجرد الضغط على أزرار تؤدي إلى إطالق‬ ‫صواريخ نووية تجاهها‪ ،‬إال ّ‬ ‫أن ذلك ال يعني بحال من األحوال‬ ‫نظرا الختالف طبيعة‬ ‫انتفاء أهمية الكم البشري في الجيوش‪ ،‬وذلك ً‬ ‫ماهية األطراف الداخلة‬ ‫الصراعات والحروب الدائرة‪ ،‬واختالف ّ‬ ‫((( محمد طه بدوي [وآخرين]‪ ،‬مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.134‬‬ ‫‪72‬‬


‫في هذه الحروب‪ ،‬فالكثير من الحروب المعاصرة ـ بل والراهنة ـ‬ ‫اعتمدت بشكل كبير على الكم البشري للجيوش(((‪ ،‬ولعل المثال‬ ‫كبيرا‬ ‫كما بشر ًيا ً‬ ‫الواضح على ذلك (حرب الخليج الثانية) التي تط ّلبت ً‬ ‫من قوات الحلفاء في شكل قوات ّبرية إلرغام القوات العراقية على‬ ‫االنسحاب من الكويت‪ ،‬كما ّ‬ ‫أن الحروب التي نشبت وتنشب في‬ ‫كثير من األحيان بين الدول اإلفريقية المتجاورة كان عمادها الكم‬ ‫البشري للجيوش‪.‬‬

‫وفي إطار عالقة الكم البشري بالحروب فإن االحتجاج بالضغط‬ ‫ررا استندت إليه العديد من القوى اإلمبريالية في‬ ‫السكاني كان م ّب ً‬ ‫التوسعية‪ ،‬فهذا كارل هاوس هوفر أحد أتباع مدرسة‬ ‫تبرير نشاطاتها‬ ‫ّ‬ ‫القوة ال ّبرية ـ وهو في ذات‬ ‫الجيوبولتيك المؤمنين بنظرية ماكنّدر بشأن ّ‬ ‫الوقت أحد مساعدي هتلر ـ يوحي إلى «الفوهرر» بسند أيديولوجي‬ ‫التوسعية أللمانيا النازية يتم ّثل في نظرية (المجال‬ ‫لتبرير الطموحات‬ ‫ّ‬ ‫الحيوي) والتي ظهرت بشكل واضح في كتاب (كفاحي) لهتلر‪،‬‬ ‫ومفادها ّ‬ ‫أن الدولة بمثابة كائن حي ينمو ويتسع لتحقيق توازن قادر‬ ‫ونموه من ناحية وبين مساحة اإلقليم‬ ‫على االستمرار بين عدد السكان ّ‬ ‫وقيمته من ناحية أخرى‪ ،‬وتستند هذه النظرية في فرضياتها على ّ‬ ‫أن‬ ‫(الشعب األلماني ينفرد باالنحدار من الجنس اآلري‪ ،‬وهو جنس‬ ‫بسموه على ما عداه من األجناس‪ ،‬لذلك فهو‬ ‫سامي وممتاز يتمتع‬ ‫ّ‬ ‫((( عبد الواحد الناصر‪ ،‬خصائص الدول في محيط العالقات الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.92‬‬ ‫‪73‬‬


‫الوحيد المؤهل لحمل رسالة الحضارة اإلنسانية‪ ،‬ومن ثم البد ّ‬ ‫أن‬

‫تتهيأ له أسباب البقاء ولو كان ذلك على حساب شعوب األرض‬ ‫قاطبة)(((‪.‬‬

‫واستنا ًدا إلى هذه النظرية باإلضافة إلى االعتقاد بنظرية ماكندر‬

‫التوسعية‬ ‫القوة ال ّبرية بدأت ألمانيا النازية في إشباع طموحاتها‬ ‫بشأن ّ‬ ‫ّ‬ ‫واالمبريالية على حساب شعوب شرق ووسط أوربا‪.‬‬

‫ّ‬ ‫أن االحتجاج بالضغط السكاني لتبرير التوسع األلماني النازي‬

‫لم يكن إال مجرد تبرير واهي لطموحات ونزعات إمبريالية أقل مما‬ ‫يمكن دحضها به هو ّ‬ ‫أن معدالت التزايد السكاني في ألمانيا خالل‬ ‫تلك الفترة كانت من بين أقل معدالت التزايد السكاني في المناطق‬ ‫األوربية(((‪.‬‬

‫القوة االستعمارية الوحيدة التي ّبررت‬ ‫لم تكن ألمانيا النازية ّ‬

‫نشاطها التوسعي بحجج الضغط السكاني‪ ،‬فالسياسات التوسعية‬

‫اإليطالية ـ حتى قبل العهد الفاشي ـ كانت تربط باستمرار بين فكرة‬ ‫التوسع السكاني والتوسع اإلقليمي‪ ،‬وليس خاف ًيا ّ‬ ‫أن أحد مبررات‬

‫الغزو اإليطالي لليبيا سنة ‪ 1911‬كان البحث عن مناطق استيعاب‬

‫للفائض السكاني في إيطاليا‪.‬‬

‫((( محمد طه بدوي [وآخرون]‪ ،‬مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.117‬‬ ‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.108‬‬ ‫‪74‬‬


‫جـ) نمط التركيب ال�سكاني‬

‫من الجوانب المهمة في تقييم دور الكم البشري (السكان) في‬ ‫ميزان قوة الدولة النظر إلى طبيعة التركيب السكاني في الدولة من‬ ‫حيث نسبة الذكور إلى اإلناث‪ ،‬ونسبة الشباب إلى األطفال والشيوخ‪،‬‬ ‫دورا في إعطاء التركيب‬ ‫وتلعب ـ هنا ـ مجموعة من العوامل األخرى ً‬ ‫وأهمية نسبية لكل صيغة من صيغ‬ ‫السكاني لدولة ما صيغة معينّة‬ ‫ّ‬ ‫التركيب السكاني‪.‬‬

‫األهمية النسبية‬ ‫مهما في‬ ‫ّ‬ ‫دورا ً‬ ‫العامل الثقافي واالجتماعي يلعب ً‬ ‫للتركيب السكاني من حيث نسبة الذكور إلى اإلناث‪ ،‬ففي المجتمعات‬ ‫المتقدمة يكون للمرأة عاد ًة دور اجتماعي وسياسي واقتصادي يقترب‬ ‫من دور الرجل في القيام بالواجبات والمهام الحياتية بشكل عام في‬ ‫ظل شعارات المساواة ومشاركة المرأة للرجل‪ ،‬بينما يكاد ينعدم‬ ‫هذا الدور في المجتمعات المتخلفة التي تعتمد على الرجل في‬ ‫القيام باألدوار االجتماعية الهامة في السياسة واالقتصاد والحرب‪،‬‬ ‫مما يعني ّ‬ ‫القوة البشرية للسكان مع ّطل أو قليل الفعالية في‬ ‫أن نصف ّ‬ ‫أحسن األحوال‪ ،‬كما ّ‬ ‫تتعرض لها بعض‬ ‫أن الظروف التاريخية التي ّ‬ ‫المجتمعات في صورة حروب وهجرات تؤثر بشكل واضح في‬ ‫نمط التركيب السكاني‪ ،‬باعتبار ّ‬ ‫أن هذه الظواهر التاريخية ـ وخاصة‬ ‫الحروب ـ تستهدف بشكل أكبر الذكور والشباب منهم على وجه‬ ‫تحمل خوض غمار الحرب‬ ‫الخصوص‪« ،‬فالشباب هم األقدر على ّ‬ ‫وتضحياتها ً‬ ‫فضل عن سرعة استجابتهم لألفكار الثورية والتغيرات‬ ‫‪75‬‬


‫التوسعية التي تدخل بها الدولة حلبة الصراع‬ ‫الجذرية والخطط‬ ‫ّ‬ ‫الدولي‪ ،‬نتيجة لحماسهم واندفاعهم وق ّلة خبرتهم‪ ،‬بعكس الشيوخ‬ ‫الذين يميلون إلى االحتكام إلى العقل والتجربة فيشك ّلون قطا ًعا‬ ‫محاف ًظا في مواجهة االندفاع نحو سياسة العنف الموجهة إلى‬ ‫الخارج»(((‪ ،‬لذا كان من الطبيعي ّ‬ ‫أن تؤدي الحروب إلى تغ ّير في‬ ‫النسبة العددية بين الجنسين‪ ،‬فقد كان عدد النساء في ألمانيا عام ‪1946‬م‬ ‫حوالي ‪ 30.5‬مليون مقابل ‪ 29‬مليون رجل‪ ،‬كما تؤدي الحروب إلى‬ ‫تغ ّيرات في تركيبة الهرم السكاني نتيجة النخفاض نسبة الذكور في‬ ‫سن الشباب والرجولة‪ ،‬فقد كان عدد الرجال الذين تتراوح أعمارهم‬ ‫من ‪ 20‬إلى ‪ 40‬سنة يم ّثل في عام ‪1937‬م في ألمانيا ما نسبته ‪% 33‬‬ ‫من العدد الكلي للسكان فأصبح بعامل الحرب يم ّثل في عام ‪1947‬‬ ‫ما نسبته ال تزيد عن ‪.((( % 25‬‬ ‫ينعكس نمط التركيب السكاني على الواقع االقتصادي للدولة‬ ‫ومستويات التنمية بها‪ ،‬فالدولة (الهرمة) والتي ّ‬ ‫يختل فيها التوزيع‬ ‫السكاني لصالح الشيوخ تفتقد الطاقة البشرية الالزمة لتحريك عجلة‬ ‫االقتصاد بما يحقق مستويات مناسبة من التنمية‪ ،‬كما ّ‬ ‫أن عجلة التنمية‬ ‫تتحرك ببطء عندما يكون التوزيع السكاني لصالح األطفال ما دون‬ ‫سن اإلنتاج مما يعني قطا ًعا واس ًعا من القوى البشرية غير المنتجة‬ ‫((( جمال سالمة‪ ،‬أصول العلوم السياسية‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.268‬‬ ‫((( محمد طه بدوي وليلى أمين مرسي‪ ،‬أصول علم العالقات الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.111‬‬ ‫‪76‬‬


‫اقتصاد ًيا‪ ،‬ويزيد األمر سو ًء إذا كان الواقع الثقافي واالجتماعي يضع‬ ‫المرأة ضمن هذا القطاع‪ ،‬وفي المقابل فإن الدولة (الفت ّية) والتي يميل‬ ‫فيها ميزان التوزيع السكاني لصالح الشباب تكون أقدر من النموذجين‬ ‫اآلخرين في توظيف الكم السكاني باتجاه إحداث التنمية والتقدم‬ ‫االقتصادي‪ ،‬ومن ثم الدعم اإليجابي لقوتها في المجال الدولي‪.‬‬ ‫أن نشير إلى ّ‬ ‫بقي ّ‬ ‫أن بعض السياسات التي تنتهجها الدول في‬ ‫مجال الحد من النسل والتشجيع عليه في مواجهة التضخم السكاني‬ ‫ومحدودية الموارد االقتصادية تترك بصماتها على نمط التركيب‬ ‫السكاني للمجتمع بتأثيرها المباشر على معدالت النمو السكاني‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ درجة التجانس السكاني‬

‫ّ‬ ‫أن أهم مصادر الصراع في داخل المجتمعات السياسية يرجع‬ ‫بشكل كبير إلى طبيعة التركيبة السكانية لهذه المجتمعات‪ ،‬فعندما‬ ‫يع ّبر واقع المجتمعات السياسية عن خليط من القوميات واألعراق‬ ‫واألديان واللغات لعدد من الجماعات البشرية تبرز مظاهر الصراع بين‬ ‫هذه الجماعات في الداخل ويصير النظام السياسي يعاني (أزمة هوية)‬ ‫سلبي‪،‬‬ ‫القوة على الصعيد الدولي بشكل‬ ‫تنعكس على إمكانياته في ّ‬ ‫َّ‬ ‫خاصة وأن الكثير من هذه الصراعات ترتبط بقوى خارجية تعمل‬ ‫على تغذيتها وإذكاءها من منطلق ارتباطها بأي من هذه الجماعات‬ ‫عرق ًيا أو دين ًيا‪ ،‬أو من منطلق تحقيق مصالحها على حساب إضعاف‬ ‫الدولة األخرى وزعزعة استقرارها‪.‬‬

‫تنتهج الدولة عادة واحدة من هذه السياسات ـ في إطار‬ ‫‪77‬‬


‫محاولتها ـ الحفاظ على تماسكها وقوتها‪ :‬إما التسليم بهذه التعددية‬ ‫وتبني سياسات حكيمة من شأنها جعل هذه الجماعات تشعر بالرضاء‬ ‫والوالء للدولة‪ ،‬وإما ّ‬ ‫أن تنتهج الدولة سياسة العنف والبطش ضد‬ ‫الجماعات التي تطالب بحقوق مع ّينة قد يؤدي اإلذعان لها إلى‬ ‫تفتيت الدولة والقضاء على هيبتها‪ ،‬وإما ّ‬ ‫أن تقوم بعملية تهجير قسرى‬ ‫ً‬ ‫مدخل جديدً ا‬ ‫لهذه الجماعات إلى خارج حدودها مما قد يشكّل‬ ‫للصرع مع أطراف دولية أخرى‪ ،‬وإما ّ‬ ‫أن تتّبع ما يمكن تسميته بسياسة‬ ‫(تحويل االنتباه)‪ ،‬أي تحويل األنظار إلى صراعات خارجية ونقل‬ ‫مشاكلها خارج حدودها بالبحث عن عدو خارجي تجمع عليه هذه‬ ‫الجماعات العرقية أو الدينية‪ ،‬ألن اإلجماع على عدو خارجي من‬ ‫شأنه ّ‬ ‫أن يمتّن أواصر الوحدة الوطنية أو على األقل يخ ّفف من حدة‬ ‫الصراعات الداخلية(((‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أن أهم القضايا التي تع ّبر عن حاالت الالتجانس السكاني تنطلق في‬ ‫الغالب من ثالث مصادر رئيسية هي اللغة والعرق والدين‪ :‬االختالف‬ ‫في اللغة ال يعين على التجانس‪ ،‬وتعتمد األنظمة السياسية طرائق شتى‬ ‫الهوية الخاصة باللغة‪ ،‬فقد‬ ‫لخلق وحدة ثقافية مع الحفاظ على معالم ّ‬ ‫تأخذ بعض الفئات من االختالف في اللغة وسيلة للتم ّيز والدعوة‬ ‫إلى االنفصال‪ ،‬ولعل الهند كبلد يتكلم مواطنوه عشرات اللغات‬ ‫واللهجات مثال يعكس المشاكل المترتبة على االختالف في اللغة‪.‬‬ ‫كما ّ‬ ‫أن موضوع العرق أو الساللة من المواضيع التي تس ّبب مشاكل‬

‫((( جمال سالمة‪ ،‬أصول العلوم السياسية‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.269‬‬ ‫‪78‬‬


‫سياسية بين الدول‪ ،‬وحيث أنه من النادر وجود كيان سياسي يضم‬ ‫داخل حدوده عر ًفا واحدً ا فإن الصدامات والصراعات بقدر ما تع ّبر‬ ‫كثيرا ما انعكست في شكل صراعات دولية‬ ‫عن نفسها داخل ًيا نجدها ً‬ ‫بحجة الدعوة لتوحيد الشعب الواحد تحت سلطة سياسية واحدة‪،‬‬ ‫فقد كان هتلر ينادي بضم األلمان في النمسا وتشيكوسلوفاكيا وبولندا‬ ‫إلى الرايخ األلماني‪.‬‬ ‫حضورا‬ ‫تبدو مسألة العرف في الدول األفريقية الموضوع األكثر‬ ‫ً‬ ‫في حاالت الصراع التي نشبت وتنشب بين هذه الدول‪ ،‬وفي المقابل‬ ‫فإن هناك ً‬ ‫دول أفلحت في خلق التجانس السكاني برغم التباين العرقي‬ ‫والقومي في تركيبتها السكانية كسويسرا ً‬ ‫مثل التي تجمع شعو ًبا من‬ ‫أعراق مختلفة‪.‬‬

‫من منظور تاريخي يبدو الدين كأحد العناصر الرئيسة في تماسك‬ ‫السكان وتجانسهم‪ ،‬ومظهر ذلك ّ‬ ‫أن الصراع بين األمم والوحدات‬ ‫السياسية ـ تاريخ ًيا ـ كان في الغالب صرا ًعا دين ًيا‪ ،‬فقيام اإلمبراطورية‬ ‫العربية واإلسالمية بد ًء من دولة الخلفاء الراشدين وانتها ًء بالدولة‬ ‫محصل ًة لصراع ديني مع أمم وشعوب أخرى‪ ،‬كما ّ‬ ‫أن‬ ‫العثمانية كان‬ ‫ّ‬ ‫الحروب الدينية في أوربا خالل القرنين السادس عشر والسابع عشر‬ ‫انتهت إلى صيغة سياسية جديدة في أوربا منذ وستفاليا سنة ‪1648‬م‬ ‫باإلضافة إلى الوجه اآلخر لهذه الحروب الدينية (خارج أوربا)‬ ‫تجسد في الحروب الصليبية مع الشرق العربي خالل الفترة‬ ‫والذي ّ‬ ‫التي سبقت تلك‪.‬‬ ‫‪79‬‬


‫المالحظ ومنذ الحرب العالمية األولى ّ‬ ‫أن العوامل الدينية‬ ‫أصبحت أقل سب ًبا في النزاعات اإلقليمية والخالفات الداخلية‬ ‫تأثيرا في ظاهرة الصراع الدولي‪ ،‬باستثناء حالة الصراع‬ ‫وبالتالي أقل ً‬ ‫العربي اإلسرائيلي (إذا جاز الحكم على هذا الصراع بأنه صراع‬ ‫ديني)‪ ،‬إال أنه منذ انهيار االتحاد السوفيتي وانتهاء مرحلة الحرب‬ ‫الباردة برزت من جديد مشكالت التماسك االجتماعي والعرفي‬ ‫والديني على سطح الصراعات الداخلية في المجتمعات السياسية‬ ‫وخاصة فيما يسمى بدول العالم الثالث‪ ،‬فتصاعدت وتيرة التصادم‬ ‫العرقي والديني في بقاع مختلفة من العالم في الهند والفلبين والسودان‬ ‫والصومال والكونغو‪ ،‬وظهرت في بقاع جديدة من العالم لم تكن‬ ‫تعرف هذا النوع من الصراعات ـ منذ الحرب العالمية الثانية على‬ ‫األقل ـ مثل جمهوريات االتحاد اليوغسالفي السابقة في البوسنة‬ ‫والهرسك وكوسوفو وفي بعض جمهوريات االتحاد السوفيتي‬ ‫السابق (الشيشان ً‬ ‫مثل)‪ ،‬وتفاقمت بعض هذه الصراعات الداخلية‬ ‫لتأخذ طاب ًعا دول ًيا من خالل تدخل قوى خارجية بشكل انفرادي‬ ‫أحيانًا وتحت مظلة األمم المتحدة أحيانًا أخرى أو في ظل الحلف‬ ‫األطلسي كما حدث في كوسوفو‪ ،‬ويالحظ أنه منذ انتهاء الحرب‬ ‫الباردة أصبحت الصراعات العرقية والدينية من أعقد القضايا التي‬ ‫يصعب السيطرة عليها وإيجاد حلول مرضية لها‪ ،‬لذلك بدأ الباحثون‬ ‫السياسيون والمفكرون اإلستراتيجيون يدفعون باتجاه بناء الكيان‬ ‫السياسي القائم على إمكانية التعدد الثقافي كبديل عن الوجه السياسي‬ ‫(الذي كان يعتبر مثال ًيا) للمجتمعات السياسية وهو الدولة القومية‬ ‫‪80‬‬


‫من خالل إدارة مشكلة التماسك السكاني للدولة بوسائل جديدة‪،‬‬ ‫غير تلك الوسائل التقليدية المعتمدة على العنف السياسي كما هي‬ ‫الحال في أيرلندا وأسبانيا والشيشان‪ ،‬لذلك فإن البديل األفضل هو‬ ‫التوجه نحو صيغة دستورية وتنمية اقتصادية اجتماعية ووحدة أهداف‬ ‫مشتركة لتعزيز الوحدة الوطنية(((‪.‬‬

‫«من منظور إستراتيجي شامل يضع صمؤيل هنتنغتون أطروحته‬ ‫في الصراعات اإلستراتيجية للقرن الواحد والعشرين على أساس‬ ‫القوة الثقافية والحضارية والدينية‪ ،‬فهو ال يرى ّ‬ ‫أن الصراع من أجل‬ ‫ّ‬ ‫القوة هو مصدر الصراع‪ ،‬وليس المعطيات الجيوبولتيكية هي العوامل‬ ‫ّ‬ ‫القوة (الثقافية ـ بولتيكية) هي العامل الرئيس‬ ‫القوة‪ ،‬وإنما ّ‬ ‫الحاسمة في ّ‬ ‫القوة التي تتسم بالتماسك الديني والثقافي‬ ‫على الصعيد العالمي‪ ،‬وأن ّ‬ ‫ستكون أفضل في موقع التنافس مع القوى األخرى»(((‪.‬‬ ‫د ) الإمكانيات والموارد االقت�صادية‬

‫يرتبط االقتصاد ارتبا ًطا وثي ًقا بالسياسة اعتما ًدا على ّ‬ ‫أن الموارد‬ ‫القوة للوحدة السياسية‪ ،‬وعلى غرار‬ ‫مقومات ّ‬ ‫االقتصادية هي أحد أهم ّ‬ ‫الحتمية الجغرافية هناك من يقول بالحتمية االقتصادية أو باألحرى‬ ‫«الحتمية التجارية»‪ ،‬على أساس ّ‬ ‫انعكاسا‬ ‫التفوق السياسي ليس إال‬ ‫أن ّ‬ ‫ً‬ ‫القوة مرتبط بالميزان التجاري‪،‬‬ ‫للتفوق التجاري‪ ،‬ومن ثم فإن ميزان ّ‬ ‫ّ‬ ‫((( كاظم هاشم نعمة‪ ،‬الوجيز في اإلستراتيجية‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.215‬‬ ‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.216‬‬ ‫‪81‬‬


‫لذلك كان المفكرون التجاريون ـ في القرن السابع عشر ـ يرون ّ‬ ‫«أن من‬

‫يحكم المحيط يحكم تجارة العالم‪ ،‬ومن يحكم تجارة العالم يحكم‬ ‫ثروة العالم‪ ،‬وأن من يسيطر على ثروة العالم يحكم العالم كله»(((‪.‬‬

‫يتناول الباحث اإلمكانيات والموارد االقتصادية للدولة باعتبارها‬

‫عامل من عوامل قوتها في المجال الدولي من خالل ثالثة جوانب‬ ‫محركًا لظاهرة الصراع الدولي‪ ،‬األهمية النسب ّية‬ ‫تتم ّثل في‪ :‬اعتبارها ّ‬

‫القوة االقتصادية‬ ‫ألي من اإلمكانيات والموارد‪ ،‬مؤشرات قياس ّ‬

‫للدولة‪.‬‬

‫كمحرك لظاهرة الصراع الدولي‬ ‫‪ 1‬ـ الموارد االقتصادية‬ ‫ّ‬

‫في الجماعات البدائية ذات الموارد االقتصادية الجامدة كانت‬ ‫الحروب والصراعات تنشأ ارتبا ًطا بالجوع والقحط الناجم عن عجز‬

‫الموارد الطبيعية عن تمكين الجماعة من الحياة واالستقرار‪ ،‬فتغير‬

‫على الجماعات األخرى للحصول على ما يسد رمقها‪ ،‬لذلك كان‬

‫المظهر السائد للصراع بين الجماعات البدائية هو الحروب من أجل‬

‫الكالء والماء‪ ،‬ومن هنا يمكن االعتراف ـ إلى حد ما ـ بفكرة (حتمية‬ ‫القحط) التي تعني االرتباط بين ظاهرة الصراع (الحروب) وبين‬

‫المعطى االقتصادي في الجماعات البدائية ذات االقتصاد الجامد‪،‬‬ ‫لكن في المقابل ال يمكن ّ‬ ‫أثرا حتّم ًيا للظاهرة‬ ‫أن تكون ظاهرة الحرب ً‬ ‫((( محمد طه بدوي [وآخرون]‪ ،‬مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.138‬‬ ‫‪82‬‬


‫المتحضرة التي تتسم اقتصادياتها بكثير من‬ ‫االقتصادية في الجماعات‬ ‫ّ‬ ‫المرونة بما يو ّفر بدائل في الموارد وفي مستويات إشباع الحاجات‬ ‫بما يجنبها «القحط»(((‪.‬‬

‫في جماعات االقتصاد المرن الحديثة حيث الوفرة االقتصادية‬ ‫الناجمة عن النشاط االقتصادي الصناعي والتجاري‪ ،‬وحيث تكاليف‬ ‫تقنيات الحرب الحديثة باهظة بما يعني ضرورة تو ّفر فائض من‬ ‫الموارد ليست الجماعة بحاجة إليه الستمرار الحياة والستعماله في‬ ‫اإلعداد للحرب‪ ،‬جعل ظاهرة الحروب الحديثة في بعدها االقتصادي‬ ‫هي (حروب الوفرة) في مقابل حروب القحط في الجماعات البدائية‪،‬‬ ‫يضاف إلى ذلك عامل نفسي يتم ّثل في إحساس أصحاب الثراء والوفر‬ ‫بالتفوق على اآلخرين ومن ثم التعالي واالحتقار لهم‪،‬‬ ‫االقتصادي‬ ‫ّ‬ ‫لذلك نتج عن (الوفر االقتصادي) في الجماعات األوروبية الحديثة‬ ‫ما يسمى بالظاهرة اإلمبريالية‪ ،‬والتي تعني السلوك السياسي ـ بصورتيه‬ ‫الدبلوماسية واإلستراتيجية ـ الذي تسعى من خالله وحدة سياسية إلى‬ ‫إخضاع شعوب أخرى لسلطانها‪ ،‬مما يعني ّ‬ ‫أن اإلمبريالية االقتصادية‬ ‫هي تلك السياسة التوسعية التي تستهدف تحقيق مكاسب اقتصادية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أن التحوالت الكبيرة التي شهدتها المجتمعات األوربية خالل‬ ‫الفترة من القرن الثالث عشر وحتى القرن الثامن عشر (عصر النهضة‬ ‫األوربية‪ ،‬حركة الكشوف الجغرافية‪ ،‬الثورة الصناعية) أنتجت في‬ ‫البداية صورة من صور اإلمبريالية االقتصادية تمث َّلت في اإلمبريالية‬ ‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.116‬‬ ‫‪83‬‬


‫التجارية‪ ،‬حيث ارتبطت التجارة بالتوسع اإلمبريالي األوربي‪،‬‬ ‫وما كانت اإلمبراطورية البريطانية ً‬ ‫مثل في البداية إال من عمل‬

‫التجار‪ ،‬ثم جاءت مسألة تأمين طرق المواصالت التجارية لتتدخل‬

‫األساطيل الحربية لتأمين هذه الطرق وتنشأ القواعد العسكرية‪ ،‬ثم‬

‫االحتالل الكامل والمباشر لبعض المناطق بذريعة الحماية للمصالح‬ ‫التجارية(((‪.‬‬

‫الثورة الصناعية كحدث مفصلي في تاريخ أوربا الحديث والذي‬ ‫يرجع في جانب منه إلى ازدهار التجارة (اإلمبريالية التجارية) بما يم ّثله‬ ‫من توفر فائض في رؤوس األموال تزامن مع حركة تقدم علمي ـ خالل‬

‫تجسد في عدد من االكتشافات واالختراعات‬ ‫القرن السابع عشر ـ ّ‬ ‫العلمية قاد فيما بعد إلى الثورة الصناعية في أوربا‪ ،‬وما ترتب عنها‬

‫ملحة لعنصرين أساسيين هما‪ :‬مصدر للمواد الخام األولية‬ ‫من حاجة ّ‬ ‫وسوق لتصريف المنتجات الصناعية‪ ،‬فشهد العالم موجة تط ّلع‬

‫للتوسع اإلمبريالي (االستعماري) األوربي للسيطرة المباشرة على‬ ‫كافة قارات العالم تقري ًبا ـ خارج أوربا ـ بهدف تأمين أكبر قدر من‬

‫الموارد الطبيعية والمواد األولية الالزمة للصناعة وفتح أسواق‬

‫لتصريف المنتجات الصناعية في تلك البقاع(((‪.‬‬

‫((( محمد طه بدوي [وآخرون]‪ ،‬مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.142‬‬ ‫((( محمد طه بدوي وليلى أمين مرسي‪ ،‬أصول علم العالقات الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.126‬‬ ‫‪84‬‬


‫الصورة األخرى من صور اإلمبريالية االقتصادية تتمثل في‬ ‫اإلمبريالية المالية‪ ،‬حيث تراكم رؤوس األموال الفائضة الناتجة‬ ‫عن التقدم التجاري والصناعي الذي أسهم فيه التوسع االستعماري‬ ‫سيؤدي إلى البحث عن مجاالت الستثمار األموال الفائضة في‬ ‫الخارج مما يكسب مزيدً ا من التوسع اإلمبريالي‪ ،‬وأصبح رأس المال ـ‬ ‫في يد القوى اإلمبريالية ـ ً‬ ‫القوة السياسية للضغط‬ ‫شكل من أشكال ّ‬ ‫السياسي واالقتصادي على الدول الفقيرة والمحتاجة إلى استثمار‬ ‫هذه األموال بها‪ ،‬أو المحتاجة إلى هذه األموال في شكل مساعدات‬ ‫ومنح وقروض‪ ،‬مما أدى إلى تكييف خياراتها السياسية واالقتصادية‬ ‫مظهرا‬ ‫وف ًقا لمصالح القوى صاحبة رأس المال وهو ما يمكن اعتباره‬ ‫ً‬ ‫جديدً ا لالستعمار بعد ّ‬ ‫أن انحسر الشكل القديم للظاهرة االستعمارية‪.‬‬

‫يتح ّقق من خالل «اإلمبريالية المالية» االستخدام الدبلوماسي‬ ‫لإلمكانيات االقتصادية لتحقيق أهداف السياسية الخارجية‪ ،‬وكان‬ ‫واضحا خالل الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية في‬ ‫ذلك‬ ‫ً‬ ‫اعتماد الدبلوماسية األمريكية والسوفيتية على األداة االقتصادية‬ ‫لتحقيق المصالح واألهداف‪ ،‬فقد قدّ م األمريكيون مساعدات اقتصادية‬ ‫ومالية هائلة لدول غرب أوربا ـ الخارجة منهكة اقتصاد ًيا بعد الحرب‬ ‫ـ في شكل مشروع مارشال عام ‪ ،1947‬والذي أسهم في تثبيت دعائم‬ ‫النظم الليبرالية في دول غرب أوربا في مواجهة شبح الشيوعية الذي‬ ‫كان يتهددها‪.‬‬ ‫في المقابل فإن االتحاد السوفيتي (ساب ًقا) ـ على الرغم من ضعف‬ ‫‪85‬‬


‫إمكانياته االقتصادية مقارنة بالواليات المتحدة األمريكية ـ عمل على‬ ‫تحقيق أهداف سياسته الخارجية من خالل تقديم المساعدات (التي‬ ‫غال ًبا ما كانت تأخذ شكل المساعدات الفنية والخبراء) إلى الدول‬ ‫الشيوعية ولألنظمة السياسية والدول التي كانت على خالف مع‬ ‫أمريكا والغرب‪ ،‬وقام بإنشاء منظمة التعاون االقتصادي بين الدول‬ ‫االشتراكية (الكوميكون) عام ‪ 1947‬لتمتين العالقات االقتصادية‬ ‫والتجارية بينه وبين الدول الشيوعية في شرق أوربا(((‪.‬‬

‫يشهد الواقع الدولي الراهن ممارسات عديدة الستخدام األداة‬ ‫االقتصادية لفرض إمالء سياسات ومواقف سياسية على عدد كبير‬ ‫من الدول تتوافق مع مصالح القوى الدولية الكبرى المتمثلة بشكل‬ ‫أساسي في الواليات المتحدة األمريكية والدول الصناعية الغربية‬ ‫أخيرا‪ ،‬أو ما يطلق عليه مجموعة الثمانية (‪)1+7‬‬ ‫واليابان وروسيا ً‬ ‫من القوى الكبرى اقتصاد ًيا على الساحة الدولية‪ ،‬وتتراوح عمليات‬ ‫االستخدام لألداة االقتصادية بين ممارسة سياسة الحصار والمقاطعة‬ ‫تجاه بعض الدول عقا ًبا لها على موافق وسياسات أتبعتها (الحصار‬ ‫الذي تفرضه الواليات المتحدة على كوبا‪ ،‬الحصار الذي كان‬ ‫مفروضا على ليبيا‪ ،‬العقوبات االقتصادية التي فرضت على كوريا‬ ‫ً‬ ‫الشمالية‪ ،‬التلويح بفرض عقوبات اقتصادية على إيران بسبب أنشطتها‬ ‫النووية)‪ ،‬وبين سياسات الدعم والمنح االقتصادية وتقديم القروض‬ ‫((( محمد طه بدوي وآخرون‪ ،‬مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.144‬‬ ‫‪86‬‬


‫تجاه عدد آخر من الدول من باب المكافأة واالستمالة لها لدفعها‬ ‫لممارسة سياسات أو القيام بأدوار سياسية لخدمة مصالح وأهداف‬ ‫الدول المانحة‪ ،‬وتجدر اإلشارة إلى ّ‬ ‫أن المنظمات والمؤسسات‬ ‫الدولية تقوم بدور ملحوظ كأدوات تخدم مصالح الدول الكبرى‪،‬‬ ‫حيث عادة ما يتم فرض الحصار والعقوبات االقتصادية من خالل‬ ‫قراءات صادرة عن مجلس األمن‪ ،‬وتمنح المساعدات والمنح من‬ ‫خالل المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي وغيره‪،‬‬ ‫وفي كال الحالين يكون األمر عبارة عن ترجمة لمصالح الدول‬ ‫الكبرى وأهدافها‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ األهم ّية النسبية لمختلف الموارد االقتصادية‬

‫كان من أبرز مظاهر قوة الدولة االقتصادية خالل فترات تاريخية‬ ‫يتجسد في درجة اقترابها من حالة (االكتفاء‬ ‫سبقت الحضارة الحديثة ّ‬ ‫الذاتي)‪ ،‬أي ّ‬ ‫أن الدولة األكثر قوة اقتصاد ًيا وبالتالي سياس ًيا هي‬ ‫تلك الدولة التي تعتمد على مواردها الذاتية في إشباع حاجاتها‬ ‫من السلع والخدمات المختلفة‪ ،‬إال ّ‬ ‫أن واقع الحال تغ ّير في ظل‬ ‫التحضر البشرية المعاصرة والتي عرفت تعدّ ًدا وتنّو ًعا في‬ ‫مستويات‬ ‫ّ‬ ‫االحتياجات االقتصادية جعل من الصعوبة بمكان تحقيق التكامل‬ ‫االقتصادي داخل المجتمع السياسي الواحد بالقدرة على إنتاج‬ ‫وتوفير كافة االحتياجات االقتصادية من السلع والخدمات للمجتمع‬ ‫وبما يجعله في غير حاجة إلى التكامل مع االقتصاديات األخرى‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وحل (االعتماد المتبادل) محل االكتفاء الذاتي كحالة اقتصادية‬ ‫‪87‬‬


‫تحكم قوة االقتصاديات الوطنية‪ ،‬فما تملكه وتتجه الدولة من موارد‬ ‫وإمكانيات اقتصادية تب ًعا لوزنه وأهم ّيته في دائرة االعتماد المتبادل مع‬ ‫القوة التي تكتسبها‬ ‫االقتصاديات األخرى هو المعيار المحدّ د لدرجة ّ‬ ‫الوحدة السياسية من منظور اقتصادي‪.‬‬ ‫نظرا‬ ‫أكسبت الثورة الصناعية مجموعة الموارد الطبيعية أهم ّيتها ً‬ ‫ألن التقدم الصناعي اعتمد بشكل أساسي على مجموعة من الموارد‬ ‫الطبيعية التي اختلفت أهم ّيتها النسبية من فترة إلى أخرى ومن ظروف‬ ‫األول‬ ‫دولية إلى أخرى‪ ،‬وتأتي الثروات المعدنية الطبيعية في المقام ّ‬ ‫القوة االقتصادية‪.‬‬ ‫في حسابات ّ‬

‫يعتبر الفحم والحديد من الموارد الطبيعية المعدنية التي قامت‬ ‫اعتما ًدا عليها بدايات الثورة الصناعية في أوربا في القرن الثامن عشر‬ ‫مصدرا للطاقة ومادة أولية للصناعة خالل تلك الفترة‪،‬‬ ‫باعتبارها‬ ‫ً‬ ‫وبقدر إنتاج وتعدين الفحم والحديد ازدهرت الصناعة في الدول‬ ‫الغنّية بهذين المعدنين‪.‬‬

‫تضاءلت األهمية النسبية للفحم كمصدر للطاقة بعد اكتشاف النفط‬ ‫والغاز كمصادر جديدة للطاقة أقل تكلفة من الفحم‪ ،‬ترتب على ذلك‬ ‫األهمية اإلستراتيجية للمناطق الغنّية بالنفط والغاز‪ ،‬وأصبحت‬ ‫ارتفاع‬ ‫ّ‬ ‫الدول التي تتمتع بوجود كميات من النفط والغاز في أقاليمها‪ ،‬إما ّ‬ ‫أن‬ ‫ترتقي في مستوى القوى االقتصادية‪ ،‬أو ّ‬ ‫أن تستهدف كمناطق سيطرة‬ ‫ونفوذ للقوى الكبرى التي تمتلك إمكانيات اإلنتاج واالستغالل لهذا‬ ‫المورد الطبيعي‪ ،‬وألن أوربا بشكل عام تعتبر فقيرة في النفط كمورد‬ ‫‪88‬‬


‫طبيعي‪ ،‬وألنها في ذات الوقت تم ّثل الدول التي بمقدورها إنتاج‬ ‫القوة‬ ‫واستغالل الموارد النفطية؛ باإلضافة إلى امتالكها إلمكانيات ّ‬ ‫العسكرية واالقتصادية (التجارية والصناعية)‪ ،‬جعل منها باإلضافة‬ ‫إلى الواليات المتحدة األمريكية القوى المسيطرة على أهم المناطق‬ ‫النفطية في العالم في شكل احتالل استعماري مباشر في البداية ثم‬ ‫في شكل هيمنة وتسلط على األنظمة السياسية في تلك المناطق‪،‬‬ ‫أو في شكل نفوذ وتحكّم من خالل شركاتها المكتشفة والمنتجة‬ ‫والمصنّعة للنفط‪.‬‬ ‫مصدرا أساس ًيا‬ ‫تم ّثل المنطقة العربية والشرق األوسط عمو ًما‬ ‫ً‬ ‫لتزويد الدول الصناعية والدول األخرى بالنفط‪ ،‬باإلضافة إلى أنها‬ ‫تم ّثل مخزونًا احتياطيا عالم ًيا‪ ،‬األمر الذي انعكس على هذه المنطقة‬ ‫انعكاسا ذو طبيعتين‪ :‬احدهما (إيجابية) تم ّثلت في التقدم الصناعي‬ ‫ً‬ ‫واإلنماء االقتصادي والتطور الحضاري الذي شهدته بفضل وجود‬ ‫القوة لدى بعضها بقدرتها على استخدام‬ ‫النفط بها‪ ،‬وتنامى إمكانيات ّ‬ ‫النفط كأداة لتحقيق بعض مصالحها السياسية‪ ،‬فالقدرات المالية التي‬ ‫تتمتع بها بعض دول المنطقة (السعودية ً‬ ‫مثل) مكنّتها من كسب‬ ‫المواقف والخيارات السياسية لصالحها وخاصة على الصعيد‬ ‫اإلقليمي وعلى صعيد دول العالم الثالث من خالل سياسات المنح‬ ‫والقروض والمساعدات‪ ،‬أم الطبيعية األخرى (السلبية) فتم ّثلت‬ ‫في االستهداف المستمر من قبل القوى اإلمبريالية الكبرى لهذه‬ ‫ّ‬ ‫والتدخل السياسي أحيانًا‬ ‫والتسلط‬ ‫المنطقة لممارسة سياسة الهيمنة‬ ‫ّ‬ ‫‪89‬‬


‫والعسكري أحيانًا أخرى بما يضمن لهذه القوى الكبرى استمرار‬ ‫حصولها على نفط المنطقة والتحكّم في إنتاجه وتوزيعه وأسعاره‬ ‫عن طريق شركاتها وأدواتها االقتصادية المختلفة‪.‬‬

‫يؤكد الواقع الدولي الراهن ـ خاصة بعد انهيار االتحاد السوفيتي‬ ‫األهمية اإلستراتيجية للنفط‬ ‫وانتهاء مرحلة الحرب الباردة ـ على‬ ‫ّ‬ ‫كمصدر من مصادر الطاقة‪ ،‬وبالتالي موضو ًعا للصراع الدولي الذي‬ ‫تتوخى القوى الكبرى في إطاره السيطرة على المناطق التي تم ّثل‬ ‫مصدرا للنفط والغاز‪ ،‬فمنذ حرب الخليج الثانية أصبحت القوى‬ ‫ً‬ ‫الكبرى تعتمد استراتيجيات يعتبر النفط محد ًدا أساس ًيا لها‪ ،‬تراجعت‬ ‫أمامه المحددات األخرى المتم ّثلة في حسابات المكاسب والخسائر‬ ‫التقليدية وحسابات اإلجماع الدولي والشرعية الدولية وتبريرات عدم‬ ‫القيام بفعل صارم‪ ،‬كل تلك المحدّ دات تهاوت أمام النفط كمحدّ د‬ ‫استراتيجي كفيل بتفسير اإلستراتيجيات الراهنة ـ وخاصة األمريكية ـ‬ ‫خالل مرحلة ما بعد الحرب الباردة(((‪.‬‬

‫«وبالرغم من تذبذب حركة األسعار للنفط صعو ًدا وهبو ًطا‪،‬‬ ‫وبالرغم من التقدم في ميدان صناعات الطاقة البديلة النووية والشمسية‬ ‫واإلنفاق المالي الكبير على هذا الجانب‪ ،‬فإن النفط يبقى على‬ ‫عنصرا ها ًما في إستراتيجيات الدول كافة فالقوى‬ ‫المدى المنظور‬ ‫ً‬ ‫الرئيسة بحاجة إليه للحفاظ على مكانتها الدولية سياس ًيا واقتصاد ًيا‬ ‫وعسكر ًيا‪ ،‬والدول المصدرة له تعتمد عليه كمصدر أساسي في‬

‫((( كاظم هاشم‪ ،‬الوجيز في اإلستراتيجية‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.222‬‬ ‫‪90‬‬


‫اقتصادها وتنميته‪ ،‬والدول األخرى تتأثر بأسعاره وتتق ّيد سياساتها‬ ‫االقتصادية واالجتماعية بذلك»(((‪.‬‬

‫تم ّثل الثروات الطبيعية المعدنية األخرى (الذهب‪ ،‬النحاس‪،‬‬ ‫مقومات قوة‬ ‫مقو ًما من ّ‬ ‫الماس‪ ،‬الفوسفات‪ ...‬الخ)‪ ،‬بشكل عام ّ‬ ‫لماهية هذه الموارد ومدى وجودها بكميات‬ ‫الدولة االقتصادية تب ًعا ّ‬ ‫اقتصادية وتجارية باإلضافة إلى توفر القدرة الفنية والمالية الستغاللها‬ ‫لينعكس ذلك على وزنها في الثقل العام لقوة الدولة االقتصادية‪ ،‬أو‬ ‫فيما إذا ترتب على وجودها حاالت تحكم وسيطرة من قبل قوى‬ ‫أجنبية تسهم في إضعاف الدولة سياس ًيا واقتصاد ًيا من خالل هيمنة‬ ‫الشركات المنتجة والمستغلة لهذه الموارد أو من خالل الهيمنة عن‬ ‫طريق رؤوس األموال المستثمرة أو المنح والقروض األجنبية‪.‬‬

‫الموارد الزراعية نوع آخر من الموارد االقتصادية للدولة‪ ،‬وحيث‬ ‫ّ‬ ‫أن الزراعة ترتبط بغذاء اإلنسان‪ ،‬فإن تأمين الموارد الغذائية للمجتمع‬ ‫السياسي يم ّثل األولوية في كافة المجتمعات السياسية‪ ،‬وكلما كانت‬ ‫الدولة قادرة على تحقيق (األمن الغذائي) لرعاياها كلما اكتسبت‬ ‫وكثيرا ما‬ ‫القوة على الصعيد الدولي‪،‬‬ ‫مقومات ّ‬ ‫مقو ًما إيجاب ًيا من ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫م ّثلت السلع الرئيسة الغذائية (القمح ً‬ ‫سالحا إستراتيج ًيا ف ّع ًال‬ ‫مثل)‬ ‫ً‬ ‫في ظاهرة الصراع الدولي‪.‬‬ ‫بالرغم من صعوبة تحقيق االكتفاء الذاتي كحالة اقتصادية في‬

‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.223‬‬ ‫‪91‬‬


‫االقتصاد الوطني ألي مجتمع إال ّ‬ ‫أن أغلب الوحدات الدولية تسعى‬ ‫إلى االقتراب قدر اإلمكان من حالة االكتفاء الذاتي فيما يخص‬ ‫الغذاء‪ ،‬وبالقدر الذي يح ّققه اإلقليم من إمكانيات جغرافية إلنتاج‬ ‫الغذاء بقدر ما تشعر الدولة بشيء من األمن الغذائي‪ ،‬وتعمل كافة‬ ‫بمقومات‬ ‫الدول على تطويع التقنية العلمية والصناعية في االرتقاء ّ‬ ‫اإلقليم الطبيعية والجغرافية للوصول إلى أقصى ما يمكن الوصول‬ ‫إليه في إنتاج الغذاء في خدمة الوصول إلى اإلحساس باألمن الغذائي‪،‬‬ ‫وفي الحاالت التي ّ‬ ‫يتعذر فيها االعتماد على إمكانيات اإلقليم الذاتية‬ ‫في إنتاج الغذاء لسكانه تتجه سياسات الدول نحو تنمية القطاعات‬ ‫األخرى للت ّعويل عليها في توفير الغذاء من خالل االعتماد المتبادل‪،‬‬ ‫عجزا في توفير الغذاء حريصة أكثر من‬ ‫مما جعل الدول التي تعاني ً‬ ‫التورط في صراعات إقليمية أو دولية تهدّ د أمنها‬ ‫غيرها على عدم‬ ‫ّ‬ ‫الغذائي‪ ،‬أو يدفعها ذلك لالرتباط سياس ًيا واقتصاد ًيا بوحدات دولية‬ ‫أخرى لتأمين غذائها سوا ًء كان ذلك في شكل تنظيمات أو ترتيبات‬ ‫إقليمية أو في شكل الخضوع لهيمنة وسيطرة قوة دولية كبرى في‬ ‫مقابل أمنها الغذائي(((‪.‬‬ ‫بالرغم من ّ‬ ‫أن الثورة الصناعية قد بدأت منذ القرن الثامن عشر في‬ ‫أوربا إال ّ‬ ‫أن السمة الغالبة على االقتصاد العالمي الزالت هي السمة‬ ‫ومتحضر بالقدر‬ ‫يصنف على أنه اقتصاد متين‬ ‫ّ‬ ‫الصناعية‪ ،‬وكل اقتصاد ّ‬

‫((( عبد الواحد الناصر‪ ،‬العالقات الدولية‪( ،‬الدار البيضاء‪ :‬منشورات المستقبل‪،‬‬ ‫‪ ،)1991‬ص‪.94‬‬ ‫‪92‬‬


‫تنوع وإنتاجية صناعية واسعة(((‪ ،‬لذلك يالحظ ّ‬ ‫أن‬ ‫الذي يح ّقق فيه ّ‬ ‫العالقة بين المستوى الصناعي للدولة وبين تأثيرها السياسي في‬ ‫البيئة الدولية عالقة وثيقة‪ ،‬كما ّ‬ ‫أن العالقة بين الصناعة ومستوى‬ ‫القوة العسكرية بالمنتجات الصناعية‬ ‫القوة العسكرية وثيقة الرتباط ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحربية‪ ،‬فالدول الصناعية الكبرى هي الدول األقدر على إنتاج واقتناء‬ ‫التفوق في المجال‬ ‫تقنيات عسكرية عالية في مجال التسليح تمكّنها من ّ‬ ‫العسكري والذي صار يعتمد بشكل كبير على تقنية السالح أكثر من‬ ‫اعتماده على الكم البشري ـ كما سبق اإلشارة‪.-‬‬ ‫تستحوذ القوى الرئيسة في العالم على النصيب األكبر من‬ ‫الصناعات األساسية التي تحدّ د مستوى التقدم التقني والصناعي‬ ‫والمتم ّثلة في صناعة الحديد والصلب والصناعات الهندسية‬ ‫والصناعات الكيماوية والبتروكيماوية والصناعات الغذائية‪ ،‬باإلضافة‬ ‫إلى الصناعات الحربية‪ ،‬وتم ّثل هذه الصناعات ٍ‬ ‫األساسية ركيزة التقدم‬ ‫الصناعي مما جعل الكثير من الدول النامية ودول العالم الثالث تحاول‬ ‫بناء اقتصادياتها الصناعية بتنشيط هذه الصناعات الرئيسة(((‪.‬‬ ‫‪3‬ـ ّ‬ ‫القوة االقتصادية للدولة‬ ‫مؤشرات ّ‬

‫يم ّثل الناتج القومي اإلجمالي أهم ّ‬ ‫القوة االقتصادية‬ ‫مؤشرات ّ‬ ‫للدولة‪ ،‬فهو يكشف عن معدالت النمو االقتصادي المح ّققة في‬ ‫((( عبد الواحد الناصر‪ ،‬خصائص الدول في محيط العالقات الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.127‬‬ ‫((( كاظم هاشم‪ ،‬الوجيز في اإلستراتيجية‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.236‬‬ ‫‪93‬‬


‫الدولة ومدى التذبذب أو التصاعد في هذا النمو بالمقارنة مع الدول‬ ‫األخرى‪ ،‬كما يكشف عن مستوى المعيشة المح ّقق لصالح األفراد‬ ‫عند احتساب نصيب الفرد من الدخل القومي تب ًعا لعدد السكان‪.‬‬

‫ّ‬ ‫أن معدالت إنتاج واستهالك الطاقة ّ‬ ‫تؤشر ـ كذلك ـ باتجاه القابلية‬ ‫الصناعية للدولة وبالتالي باتجاه قوتها االقتصادية‪ ،‬مع مالحظة ّ‬ ‫أن‬ ‫التفاوت بين اإلنتاج واالستهالك الذي تعاني منه بعض الدول يع ّبر‬ ‫عن الضعف الذي تعانيه في مجال الطاقة‪ ،‬ففي الوقت الذي تنتج‬ ‫فيه بعض الدول النفطية طاقة أكثر مما تستهلك فإن ً‬ ‫دول أخرى ـ‬ ‫كاليابان ً‬ ‫مثل ـ تستهلك طاقة أكثر مما تنتجه‪ ،‬وفي مثل هذه الحاالت‬ ‫ّ‬ ‫المؤشر بشكل مستقل للتعبير‬ ‫فإنه ليس باإلمكان االعتماد على هذا‬ ‫عن قوة الدولة االقتصادية‪.‬‬ ‫إنتاج الحديد والصلب يعتبره االقتصاديون واإلستراتيجيون‬ ‫مهما من ّ‬ ‫ّ‬ ‫نظرا ألنه يم ّثل حجر‬ ‫مؤشرات قوة الدولة االقتصادية‪ً ،‬‬ ‫مؤش ًرا ً‬ ‫األساس في الصناعات المدنية والحربية وعليه تستند الصناعة في‬ ‫عدد من الميادين األخرى‪ ،‬وتتقدّ م الدول العظمى والكبرى الدول‬ ‫األخرى في هذا الميدان بما يسد احتياجاتها الوطنية وما يغطي جان ًبا‬ ‫كبيرا من احتياجات الطلب العالمي على المنتجات ذات الصلة‬ ‫ً‬ ‫(((‬ ‫بصناعة الصلب ‪.‬‬ ‫مؤشر آخر من ّ‬ ‫وتجدر اإلشارة إلى ّ‬ ‫القوة االقتصادية‬ ‫مؤشرات ّ‬

‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.236‬‬ ‫‪94‬‬


‫للدولة وهو المتم ّثل في نسبة األيدي العاملة في الصناعة وما يرتبط‬ ‫بهذه النسبة من إنتاجية وكفاءة‪ ،‬فالكم الكبير من األيدي العاملة في‬ ‫المجال الصناعي في ظل مستويات عالية من الكفاءة واإلنتاجية‬ ‫بفضل التحديث والميكنة والتعليم الصناعي من شأنه ّ‬ ‫أن يعني دف ًعا‬ ‫القوة االقتصادية للدولة من هذه الزاوية‪.‬‬ ‫إيجاب ًيا باتجاه ّ‬ ‫‪ 4‬ـ القدرات العسكرية‬

‫وضوحا في التعبير‬ ‫تم ّثل القدرات العسكرية للدولة الصورة األكثر‬ ‫ً‬ ‫القوة العسكرية للدولة‬ ‫عن قوتها في المجال الدولي‪ ،‬ويتحدّ د حجم ّ‬ ‫باعتبارين هما‪ً :‬‬ ‫أول‪ :‬طبيعة سياسة األمن القومي المعتمدة‪ ،‬فيما إذا‬ ‫كانت الدولة تعتمد على إمكانياتها الذاتية في تحقيق أمنها القومي‬ ‫أو أنها تعتمد على تحالف عسكري أو اتفاقية دفاع مشتركة‪ ،‬وفي‬ ‫الحالة الثانية فإن الدولة لن تو ّظف إمكانيات مالية وبشرية كبيرة في‬ ‫بناء قوات مس ّلحة‪.‬‬

‫وثان ًيا‪ :‬نوع السياسة المتبعة في بناء القوات المسلحة‪ ،‬فيما إذا‬ ‫الجوية لهذه‬ ‫كانت هذا البناء يرتكز على السمة ال ّبرية أو البحرية أو ّ‬ ‫القوات‪ ،‬فبريطانيا ً‬ ‫مثل في أوج عظمتها االستعمارية اعتمدت سياسة‬ ‫بحرية في الدفاع عن مصالحها االستعمارية وامتلكت بذلك أساطيل‬ ‫بحرية ضخمة في حين ّ‬ ‫صغيرا بالمقارنة مع‬ ‫أن جيشها ال ّبري كان‬ ‫ً‬ ‫الجيوش ال ّبرية للدول األوربية األخرى‪ ،‬بينما حرصت روسيا‬ ‫واالتحاد السوفيتي (ساب ًقا) على بناء قوات مسلحة يكون الصنف‬ ‫ال ّبري هو السائد فيها‪ ،‬في وقت تحرص إسرائيل كمثال آخر على‬ ‫‪95‬‬


‫تكوين قوة عسكرية تعتمد بشكل كبير على القوات الجوية‪ ،‬وفي كل‬ ‫هذه الحاالت فإن العوامل الجيوبولتيكية المتع ّلقة بالمساحة وعدد‬ ‫السكان وموقع الدولة‪ ،‬باإلضافة إلى اإلمكانيات المالية واالقتصادية‬ ‫مهما في اختيار الوحدة الدولية لنوع‬ ‫دورا ً‬ ‫ومستوى التصنيع تلعب ً‬ ‫السياسة المتع ّلقة ببناء قوتها العسكرية‪.‬‬

‫وفي ظل التطور الهائل في تقنيات األسلحة والتكاليف الباهظة‬ ‫لبناء قوات مسلحة ف ّعالة اتجهت معظم الدول إلى البحث عن‬ ‫طريقة تؤمن األمن القومي بكلفة غير باهظة من خالل االعتماد على‬ ‫األحالف ومعاهدات الدفاع المشترك من جهة واالتجاه نحو تقليص‬ ‫حجم القوات المسلحة الن ّظامية والتركيز على الجيوش غير النظامية‬ ‫(االحتياط‪ ،‬القوات الخاصة) من جهة أخرى وذلك في ظل سياسات‬ ‫دفاعية تتط ّلب أعدا ًدا أقل نسب ًيا(((‪ ،‬وتم ّثل المعطيات المتعلقة بالقوة‬ ‫التسليحية (النارية) والدور المناط بالجيش غير النظامي (االحتياط)‬ ‫وأسلوب توزيع القوات داخل البالد‪ ،‬ومدى قابلية القوات للنفير في‬ ‫حاالت األزمة والحرب‪ ،‬باإلضافة إلى المعطيات المتع ّلقة بالكفاءة‬ ‫والتنظيم واالنضباط أهم العوامل المؤثرة في قيمة القوات العسكرية‬ ‫للدولة أثناء الحرب‪.‬‬ ‫‪ 1‬ـ سياسة األمن القومي من خالل األحالف والمعاهدات الدفاعية‬

‫تتفاوت القيمة الفعلية للعوامل العسكرية في الحساب العام‬ ‫((( كاظم هاشم‪ ،‬الوجيز في اإلستراتيجية‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.237‬‬ ‫‪96‬‬


‫لقوة الدولة تب ًعا لألحالف العسكرية والمعاهدات التي ترتبط بها‬ ‫والدور الذي يمكن ّ‬ ‫أن تلعبه الدولة في نطاق السياسات الدفاعية‬ ‫للحلف بشكل عام‪ ،‬فبينما يعتمد الحلف األطلسي بشكل أساسي‬ ‫القوة المسلحة األمريكية‪ ،‬كما ّ‬ ‫وارسو (ساب ًقا)‬ ‫على إمكانيات ّ‬ ‫أن حلف ّ‬ ‫كانت القوات العسكرية السوفيتية تم ّثل الركيزة األساسية له‪ ،‬إال ّ‬ ‫أن‬ ‫األعباء العسكرية الملقاة على عاتق كل دولة من دول الحلف مختلفة‬ ‫باختالف موقعها من خطوط المواجهة‪ ،‬لذلك نرى في مثال حلف‬ ‫األطلسي ّ‬ ‫أن فرنسا لبعدها الجغرافي عن خطوط المواجهة تمتعت‬ ‫بشيء من الحرية في صياغة سياستها الدفاعية وبناء قواتها المسلحة‬ ‫بالمقارنة مع ألمانيا (الغربية) والتي تعتبر في قلب خط المواجهة‬ ‫(وف ًقا للواقع الدولي خالل فترة الحرب الباردة)‪ ،‬ومن ثم خضعت‬ ‫بشكل محكم لفلسفة السياسة الدفاعية األمريكية الركيزة األساسية‬ ‫في الحلف‪.‬‬ ‫من جانب آخر فإن عدد الدول الداخلة في الحلف أو المعاهدة‬ ‫العسكرية يؤ ّثر بشكل واضح على طبيعة االلتزامات الدفاعية‬ ‫كبيرا كلما‬ ‫الخارجية‪ ،‬فكلما كان عدد الدول الداخلية في الحلف ً‬ ‫ّ‬ ‫تعذر تحقيق التنسيق بين القوات المسلحة لألطراف الدولية في‬ ‫نطاق الحلف أو المعاهدة‪ ،‬وخير مثال على ذلك ّ‬ ‫أن معاهدة الدفاع‬

‫العربي المشترك لم تدخل مرة ح ّيز التنفيذ الفعلي منذ التوقيع عليها‬ ‫تعرضت له األقطار العربية ما حاالت عدوان عديدة من‬ ‫برغم ما ّ‬ ‫نظرا للخالفات السياسية‬ ‫قبل قوى خارجية على الكثير منها‪ ،‬وذلك ً‬ ‫‪97‬‬


‫من جهة واختالف سياسات بناء القوات المسلحة في كل قطر تب ًعا‬ ‫الختالف منظومات األسلحة ومصادرها من جهة أخرى‪ ،‬ويشهد‬ ‫حلف األطلسي كذلك خالفات من هذا النوع‪ ،‬إال ّ‬ ‫أن معيار األمن‬ ‫مبررا‬ ‫المح َّقق أو الممكن تحقيقه للدولة الداخلة في الحلف يبقى ً‬ ‫لاللتزامات الخارجية العسكرية الملقاة على عاتقها بموجب هذه‬ ‫االتفاقيات(((‪.‬‬ ‫القوة العسكرية وخاص ّية الردع‬ ‫‪2‬ـ ّ‬

‫من الخطأ االعتقاد بأن بناء قوة عسكرية ضخمة وف ّعالة يعني ّ‬ ‫أن‬ ‫الغاية هي الدخول في الحرب‪ ،‬فطبيعة العالقات الدولية القائمة على‬ ‫العداء كأصل في البيئة والدولية ـ لغياب السلطة العليا اإللزامية ـ هي‬ ‫القوة في التعامل الدولي والذي تتجلى أبرز مظاهره‬ ‫التي فرضت منطق ّ‬ ‫دائما حالة الحرب‬ ‫القوة العسكرية‪ ،‬لكن منطق ّ‬ ‫في ّ‬ ‫القوة ال يعني ً‬ ‫والصدام المس ّلح بين األطراف الدولية‪ ،‬ففي الوقت الذي تلعب‬ ‫مهما في عمليات‬ ‫فيه عوامل وإمكانيات ّ‬ ‫دورا ً‬ ‫القوة (غير العسكرية) ً‬ ‫القوة (العسكرية) والمعد‬ ‫التفاعل والتعامل الدولي فإن هذا النوع من ّ‬ ‫ً‬ ‫أيضا للقيام بدور غير تصادمي (حربي)‬ ‫أصل للتصادم والحرب مهيأ ً‬ ‫القوة العسكرية كقوة‬ ‫القوة في البيئة الدولية من خالل دور ّ‬ ‫في معادلة ّ‬ ‫ردع تجنّب الوحدات الدولية الحرب المباشرة بما تعنيه من دمار‬ ‫وقتل‪ ،‬وبما ال ينفي حالة الصراع بينها انطال ًقا من الفرضية التي تقول‪:‬‬ ‫أن الرغبة في تحقق السالم تبدأ ً‬ ‫ّ‬ ‫أول باالستعداد للحرب‪.‬‬ ‫(((كاظم هاشم‪ ،‬الوجيز في اإلستراتيجية‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪ 237‬وما بعدها‪.‬‬ ‫‪98‬‬


‫الردع هو الوجه اآلخر للقوة العسكرية الذي يشير إلى مدى‬ ‫فاعليتها في (إقناع) الطرف اآلخر ّ‬ ‫«أن تكلفة العمل العدائي الذي يراد‬ ‫القيام به ستفوق بأي حال من األحوال النتائج التي قد تترتب عليه»(((‪.‬‬

‫وتلعب المسائل المتع ّلقة باإلدراك لحجم قوة الطرف اآلخر‬ ‫العسكرية الدور األساسي في فعالية الردع‪ ،‬وتحرص كافة الوحدات‬ ‫الدولية على بناء قواتها العسكرية بما يؤهلها كقوة (ردع) تمنع وقوع‬ ‫العدوان العسكري عليها أكثر من بناءها كقوة (قمع) لصد العمل‬ ‫العسكري المضاد أثناء وبعد وقوعه‪ ،‬وألن ذلك يعني ضرورة إدراك‬ ‫اآلخرين لحجم وإمكانيات قوتها العسكرية نجد الدولة ـ كل دولة ـ‬ ‫تحرص على توجيه رسائل معينة بغية حصول هذا اإلدراك‪ ،‬مثل‬ ‫القيام باستعراض قواتها العسكرية وتخصيص مبالغ مالية كبيرة‬ ‫لإلنفاق العسكري في ميزانياتها‪ ،‬نشر جانب من المعلومات المتع ّلقة‬ ‫بإمكانياتها العسكرية ونوعية وحجم أسلحتها وإتاحتها إلطالع‬ ‫اآلخرين مع حرصها على اإلبقاء على جانب آخر من المعلومات‬ ‫العسكرية وخاصة المتعلقة بالخطط العسكرية وبعض األسرار‬ ‫العسكرية األخرى غير متاح إلطالع اآلخرين للحفاظ على شيء من‬ ‫النفوق تحت غالف [المجهول والمفاجأة]‪ ،‬بما يدعم إمكانيات الردع‬ ‫ّ‬ ‫بالنسبة لها‪ ،‬لذلك جاءت ظاهرة (الجوسسة) في محاولة للوصول‬ ‫إلى أقصى درجة من اإلدراك لحجم قوة الطرف اآلخر العسكرية‪.‬‬ ‫((( مصطفى عبد الله خشيم‪ ،‬موسوعة علم العالقات الدولية‪( ،‬سرت‪ :‬الدار الجماهيرية‬ ‫للنشر والتوزيع واإلعالن‪ ،)1995 ،‬ص‪.111‬‬ ‫‪99‬‬


‫يبرز الردع كسالح ف ّعال يمكّن من تحقيق األهداف عند التعامل‬ ‫معه من خالل أسلحة الدمار الشامل (وخاصة األسلحة النووية)‪.‬‬

‫ّ‬ ‫أن االنعطاف الكبير الذي حدث بعد الحرب العالمية الثانية في‬ ‫القوة التدميرية‬ ‫الوصول بتقنيات السالح إلى إنتاج السالح النووي ذي ّ‬ ‫تطور في تقنيات إطالقه من صواريخ وقاذفات‬ ‫الهائلة وما تبع ذلك من ّ‬ ‫قنابل إستراتيجية وغواصات أعطى للقوة العسكرية المضمون المتم ّثل‬ ‫في كونها قوة ردع ً‬ ‫وأخيرا أكثر من أي وقت مضى بالنظر إلى‬ ‫أول‬ ‫ً‬ ‫دورا‬ ‫تصور ّ‬ ‫حجم الرعب الناتج عن ّ‬ ‫القوة النووية كقوة قمع تؤدي ً‬ ‫فعل ًيا في المواجهات والصراع بين األطراف الدولية‪ ،‬بما يعني ذلك‬ ‫من دمار شامل وفناء مؤكد للبشرية أو جزء كبير منها (إذ قبلنا بأن هناك‬ ‫إمكانية لما يسمى بالحرب النووية المحدودة‪ ،‬أو االشتباك المحدود‬ ‫باألسلحة الذرية التكتيكية)‪.‬‬

‫القوة‬ ‫إذا كانت العالقات بين الدول قد ظ ّلت تستند إلى ّ‬ ‫القوة‪ ،‬أو‬ ‫فإن أسلحة الدمار الشامل قد بدّ لت شروط استخدام ّ‬ ‫باألحرى الظروف واألوضاع التي يعمل فيها التهديد باستخدام‬ ‫القوة ويوضع موضع التنفيذ‪ ،‬لتتحكّم ثالثة معطيات جديدة في‬ ‫ّ‬ ‫العالقات الدولية في ظل الرعب النووي‪ ،‬متم ّثلة في‪ً :‬‬ ‫القوة‬ ‫أول‪ّ :‬‬ ‫التدميرية الهائلة للسالح النووي ّ‬ ‫(أن القدرة االنفجارية لقنبلة نووية‬ ‫واحدة تفوق مجموع القدرة االنفجارية لكافة الذخائر المستخدمة‬ ‫في الحروب الماضية‪ ،‬بما في ذلك الحربين العالميتين األخيرتين‪،‬‬ ‫كما ّ‬ ‫أن المخزون القائم من السالح النووي كفيل بتدميره الحياة‬ ‫‪100‬‬


‫على الكرة األرضية كل ًيا مرات عديدة)‪ ،‬ثان ًيا‪ :‬الطابع شبه الفوري‬ ‫والدائم للخطر النووي‪ ،‬فالوقت في ظل الخطر النووي لم يعد‬ ‫يكفي لتعبئة القوات والقيام بالهجمات المعاكسة‪ ،‬برغم ما يقولوه‬ ‫اإلستراتيجيون بأن الهجوم باألسلحة النووية قد ال يحول دون قيام‬ ‫دولة (من الدرجة النووية األولى) بالرد االنتقامي الرهيب على‬ ‫المعتدي‪ ،‬إال ّ‬ ‫متأخرا‪ ،‬وإذا نجح الهجوم‬ ‫أن هذا العمل سيكون‬ ‫ً‬ ‫األول في تدمير جانب كبير من وسائط الرد االنتقامي للضحية‬ ‫ّ‬ ‫يكون من العبث القيام بالرد االنتقامي‪ ،‬ألن ذلك يعني المضي‬ ‫حتى أخر الشوط في عملية التدمير المتبادل‪ ،‬ثال ًثا‪ :‬من المعطيتين‬ ‫السابقتين نصل إلى المعطية الثالثة المتعلقة بنتيجة الصراع المتمثلة‬ ‫في النصر أو الهزيمة‪ ،‬حيث ّ‬ ‫أن االنتصار المطلق في الحروب ـ‬ ‫يعرف في السابق ـ هو تجريد العدو من سالحه لدرجة‬ ‫كما كان ّ‬ ‫يستطيع المنتصر ّ‬ ‫أن يفعل ما يشاء بالمهزوم ويقرر مصيره بالصورة‬ ‫التي يريدها‪ ،‬أما اآلن فقد أصبح من الممكن إبادة شعب بكامله‬ ‫قبل انتهاء الحرب‪ ،‬مما ال يعطي معنى للهزيمة أو النصر من منظور‬ ‫تحقيق أهداف السياسة الخارجية(((‪.‬‬ ‫مما سبق يمكن اإلقرار بأن القيمة الحقيقية للسالح النووي تكمن‬ ‫في خاص ّية الردع المرتبطة به‪ ،‬وهذه الخاص ّية تؤدي دورها بغض‬ ‫القوة النووية لكل طرف‪ ،‬ويبقى األمر في‬ ‫النظر عن حجم وإمكانيات ّ‬

‫((( ريمون آرون‪ ،‬الجدل الكبير حول اإلستراتيجية الذرية‪ ،‬ترجمة اللواء محمد سميح‬ ‫السيد‪( ،‬دمشق‪ :‬دار طالس للدراسات والترجمة والنشر‪ ،)1984 ،‬ص‪.‬ص‪.81 ،80‬‬ ‫‪101‬‬


‫وجهة نظر الكثير من اإلستراتيجيين مرهونًا بدرجة الرشد والعقالنية‬ ‫للقيادات السياسية لدى األطراف الدولية التي تمتلك السالح النووي‪،‬‬ ‫كما هو مرهونًا باعتبارات الصدفة والخوف وسوء التقدير‪ ،‬في االنتقال‬ ‫بالسالح النووي من حالة الردع إلى حالة االستخدام الفعلي له‪ ،‬بما‬ ‫في ذلك تأثير هذه االعتبارات على احتماالت الوصول إلى المواجهة‬ ‫النووية من مدخل تصعيد المواجهة باألسلحة التقليدية‪ ،‬لذلك يرى‬ ‫البعض ّ‬ ‫أن السالم النسبي الذي ساد العالم منذ انتهاء الحرب العالمية‬ ‫الثانية يعود الفضل فيه إلى المقدرة الردعية لألسلحة النووية‪ ،‬وبما‬ ‫ال ينفي استمرار احتماال نشوب حرب نووية لالعتبارات السابق‬ ‫اإلشارة إليها(((‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أن امتالك عدد من األطراف الدولية لألسلحة النووية منذ الحرب‬ ‫العالمية الثانية إلى اآلن لم ينه أو يقلل من مخاطر نشوب الحرب‪،‬‬ ‫فخالل الفترة التي شهدت سبا ًقا للتس ّلح بين القوتين العظميين‬ ‫(الواليات المتحدة واالتحاد السوفيتي)‪ ،‬والتي أخذ فيها الردع‬ ‫النووي صورة الردع المتبادل بين القطبين محتو ًيا القدرات النووية‬ ‫التي صارت تمتلكها أطراف دولية أخرى‪ ،‬لم تنته الحرب‪ ،‬ولم تنتهي‬ ‫مخاطر نشوبها‪ ،‬فهل فعالية الردع النووي خالل هذه الفترة وفعالية‬ ‫الردع بشكل عام لم تفلح في تجنيب البشرية مخاطر الحرب؟ وما‬ ‫عالقة الردع النووي والتقليدي بحاالت الحرب التي شهدتها البشرية‬ ‫((( جوزيف‪ ،‬س‪ .‬االبن‪ ،‬المنازعات الدولية‪ ،‬ترجمة أحمد أمين الجمل‪ ،‬ومجدي‬ ‫كامل‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.‬ص‪ 182‬ـ ‪.183‬‬ ‫‪102‬‬


‫عبر تاريخها المعاصر على األقل؟‪ ..‬تحاول مجموعة من الدراسات‬

‫بهذا الخصوص اإلجابة على بعض هذه التساؤالت(((‪.‬‬

‫توضح دراسة حاالت الردع الناجح خالل فترات تاريخية سابقة‬ ‫ّ‬ ‫القوة ال تشكّل في حد ذاتها شر ًطا كاف ًيا لمنع الحرب‪،‬‬ ‫أن ضخامة ّ‬ ‫ففي دراسة ع ّينة لعشرين فترة تاريخية تع ّبر عن ثقافات مختلفة عبر‬ ‫آالف السنين‪ ،‬تم الوصول إلى هذه النتيجة‪ ،‬وتب ّين في دراسة عن‬ ‫حروب القرنين التاسع عشر والعشرين ّ‬ ‫خمسا من بين الحروب‬ ‫أن‬ ‫ً‬ ‫التسعة التي شنّت ضد القوى الكبرى خالل تلك الفترة كانت الدولة‬

‫المعتدية أضعف من الدولة المعتدي عليها‪.‬‬

‫أثبتت دراسة أخرى ّ‬ ‫القوة العسكرية تؤدي إلى اإلقالل‬ ‫أن ضخامة ّ‬ ‫من احتماالت الحرب‪ ،‬ولكن بمجرد ّ‬ ‫أن يبدأ الصراع الحادبين‬ ‫القوة ال تصبح ً‬ ‫عامل كاف ًيا لمنع تصاعد الصراع إلى‬ ‫األطراف فإن ّ‬

‫درجة المواجهة العسكرية‪.‬‬

‫وفي دراسة قام بها ميهالكا حول الخصائص المشتركة بين‬

‫الداخلين في أزمات تم ّيزت بفشل الردع وبالتالي أفضت إلى حروب‬

‫في تحليله الذي شمل ‪ 264‬أزمة دولية خالل الفترة من ‪1816‬م حتى‬ ‫‪1970‬م‪ ،‬أوضحت ّ‬ ‫أن ‪ 99‬أزمة من تلك األزمات أسفرت عن حروب‪،‬‬ ‫وعندما م ّيز الباحث بين القوى الكبرى والقوى الصغرى اتضح ّ‬ ‫أن‬

‫((( لويدجنسون‪ ،‬تفسير السياسة الخارجية‪ ،‬ترجمة محمد أحمد مفتي‪ ،‬ومحمد السيد‬ ‫سليم‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص ‪ 152‬وما بعدها‪.‬‬ ‫‪103‬‬


‫‪ 33.8%‬فقط من األزمات كانت فيها القوى الكبرى هي البادئة‪،‬‬ ‫بينما ارتفعت النسبة إلى ‪ 87.5%‬من األزمات التي كانت فيها القوى‬ ‫الصغرى هي البادئة‪.‬‬

‫توضح دراسة للتدخالت العسكرية في الفترة من ‪ 1948‬حتى عام‬ ‫ّ‬ ‫‪ 1967‬أنه كلما زادت قدرة الدولة على مقاومة التدخل الخارجي‬ ‫ق ّلت احتماالت التدخل الخارجي في تلك الدولة‪ ،‬مما يعني ّ‬ ‫أن‬ ‫لزيادة اإلنفاق العسكري وأساليب إقناع األطراف األخرى بفداحة‬ ‫خسائرها إذا أقدمت على الحرب قيمة ردعية مهمة‪.‬‬

‫توضح دراسة بيانات مقارنة للفترة من عام ‪1850‬م إلى ‪1966‬م‬ ‫ّ‬ ‫أنه في بداية كل حرب تكون فرصة الجانب األقوى في الكسب أكبر‬ ‫من فرصة الجانب األضعف‪ ،‬غير ّ‬ ‫أن هناك حاالت عديدة انتصر فيها‬ ‫الجانب األضعف عند بداية الحرب‪ ،‬كذلك أوضحت الدراسات‬ ‫التاريخية ّ‬ ‫أن الدول التي تبدأ الحروب غال ًبا ما تخسرها‪ ،‬فقد انتهت‬ ‫أربعة أخماس الحروب التي حدثت في فترة ما بين ‪ 1815‬إلى ‪1910‬‬ ‫لصالح الدولة البادئة‪ ،‬بينما انتهت ثالث أخماس الحروب التي حدثت‬ ‫في الفترة ما بين ‪ 1910‬إلى ‪ 1965‬لصالح الدولة المعتدى عليها‪.‬‬ ‫القوة بعد الحروب الكبرى ّ‬ ‫أن‬ ‫ّ‬ ‫وتوضح دراسة امبريقية لموازين ّ‬ ‫القوة بشكل جذري حيث سرعان‬ ‫الحروب لم تؤد إلى تغ ّير موازين ّ‬ ‫ما تعود تلك الموازين إلى ما كانت عليه قبل نشوب الحرب‪.‬‬ ‫وفي تحليل لحوالي ‪ 215‬حالة استعملت فيها الواليات المتحدة‬ ‫القوة أو هدّ دت باستعمالها أوضح ّ‬ ‫أن نتائج التدخل األمريكي كانت‬ ‫ّ‬ ‫‪104‬‬


‫تميل إلى صالح الواليات المتحدة في الحاالت التي لم يكن فيها‬ ‫حاسما خالل فترة الحرب الباردة‪.‬‬ ‫التفوق األمريكي العسكري‬ ‫ً‬

‫في دراسة ألثر األسلحة العسكرية النووية على ردع الحروب‬

‫أجريت على خمسة عشر أزمة دولية خالل الفترة من ‪ 1946‬ـ ‪،1975‬‬

‫حاولت فيها الواليات المتحدة األمريكية تحقيق أهدافها عن طريق‬ ‫القوة اإلستراتيجية النووية والتقليدية اتضح أنها‬ ‫التهديد باستعمال ّ‬

‫تمكّنت من تحقيق أهدافها في كل تلك األزمات تقري ًبا خالل ستة‬

‫شهور من بدأ التلويح بالتهديد‪ ،‬بينما اقتصرت على ثالثة أرباع تلك‬

‫األزمات خالل الثالث سنوات التالية لتلك الفترة‪ ،‬مما يدل على‬ ‫تناقص الكفاءة الردعية للتهديد النووي خالل الفترة التي بدأ فيها ميزان‬

‫القوة اإلستراتيجي النووي يميل لصالح الطرف المقابل (االتحاد‬ ‫ّ‬

‫السوفيتي) وانعكس ذلك على تضاءل القدرة على تحقيق األهداف‪.‬‬ ‫ثان ًيا‪ :‬العوامل غير المادية للقوة‬

‫القوة التي يمكن ّ‬ ‫أن تكتسبها الدولة‬ ‫يتصل هذا النوع من عوامل ّ‬

‫وبالتالي تدخل في الحساب اإلجمالي لقوتها في المجال الدولي‬

‫باإلرادة اإلنسانية‪ ،‬حيث ترتبط بالسلوك البشري سوا ًء كان ذلك على‬

‫المستوى الفردي أو المستوى الجماعي‪ ،‬وما يترتّب على السلوك‬

‫واإلرادة البشرية من عالقات مع األشياء والبشر‪ ،‬وما ينتج تب ًعا لذلك‬

‫من قيم وأفكار ونظريات ونظم تقع في مجموعها في الجانب غير‬ ‫‪105‬‬


‫المادي بالنسبة لإلدراك البشري‪ ،‬لذلك كان من الصعب في أغلب‬ ‫القوة إخضاع هذا النوع من اإلمكانيات والعوامل‬ ‫محاوالت قياس ّ‬ ‫للتحديد والقياس‪.‬‬

‫القوة غير المادية للوحدة الدولية في‪ :‬الهو ّية‬ ‫تتم ّثل إمكانيات ّ‬ ‫الثقافة واالجتماعية للمجتمع السياسي‪ ،‬طبيعة النظام السياسي ودور‬ ‫القيادات السياسية وصنّاع القرار‪ ،‬مستوى التقدّ م التقني والعلمي‪،‬‬ ‫وتحدّ د هذه العوامل درجة االستفادة والتوظيف للعوامل واإلمكانيات‬ ‫ذات الطابع المادي لتصنع منها وزنًا مع ّينًا لقوة الدولة في المجال‬ ‫القوة والفعالية الذي تع ّبر عنه اإلمكانيات‬ ‫الدولي‪ ،‬لذلك فإن مستوى ّ‬ ‫غير المادية هو ما سينعكس على بقية العوامل ليمنحها أهم ّيتها ودورها‬ ‫في اإلطار العام لقوة الدولة في المجال الدولي‪.‬‬ ‫�أ ) الهو ّية الثقافية واالجتماعية للوحدة الدولية‬

‫لكل مجتمع من المجتمعات السياسية خصائص اجتماعية وثقافية‬ ‫وحضارية تم ّيزه عن غيره من المجتمعات األخرى‪ ،‬وترتبط هذه‬ ‫الخصائص بمجموعة من القيم الثقافية واالجتماعية التي تلعب‬ ‫مهما في تحريك الجماعة البشرية في نطاق المجتمع السياسي‬ ‫دورا ً‬ ‫ً‬ ‫باتجاه الفعل االجتماعي العام بكل صوره السياسية واالقتصادية‬ ‫والثقافية وغيرها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تكون الجماعات السياسية هو ارتباطها بإقليم جغرافي‬ ‫أن أساس ّ‬ ‫مع ّين‪ ،‬ويعمل التاريخ (الزمن‪ +‬األحداث والتجارب) على إضفاء‬ ‫‪106‬‬


‫طاب ًعا قيم ًيا على هذا االرتباط يجعل لهذه الجماعة البشرية هو ّية وطنية‬ ‫تتجسد في االنتماء لوطن واحد‪ ،‬وهو ما ُيفترض ّ‬ ‫أن يترجم‬ ‫واحدة‬ ‫ّ‬ ‫(نظر ًيا) الحب لهذا الوطن والوالء واإليمان بالخيارات السياسية‬ ‫واالقتصادية واإلحساس بالتآلف والترابط بين األفراد‪ ،‬والرغبة‬ ‫وعلوه‪ ،‬والحماس‬ ‫عزته‬ ‫الجماعية في النهوض بالوطن وتحقيق ّ‬ ‫ّ‬ ‫للدفاع عنه في وجه الطامعين واألعداء‪ ،‬وغير ذلك من القيم التي‬ ‫الهوية الوطنية لجماعة بشرية مع ّينة‪.‬‬ ‫تع ّبر عن ّ‬

‫الشك ّ‬ ‫أن هذه الصورة المثالية للجماعة البشرية في نطاق كيان‬ ‫سياسي مع ّين من شأنها ّ‬ ‫القوة‬ ‫مقومات ّ‬ ‫مقو ًما إيجاب ًيا من ّ‬ ‫أن تم ّثل ّ‬ ‫السياسية لهذه الجماعة‪ ،‬وكلما كانت الهو ّية الوطنية للجماعة السياسية‬ ‫قريبة من هذه الصورة المثالية تناسب ذلك طرد ًيا مع معنويات هذه‬ ‫الجماعة‪ ،‬فالروح المعنوية ترتبط بمدى فعالية ووجود مجموعة من‬ ‫القيم الوطنية‪ ،‬إال ّ‬ ‫التصور المثالي ليس هو في الحقيقة ما تعيشه‬ ‫أن هذا‬ ‫ّ‬ ‫المجتمعات البشرية في إطاراتها السياسية‪ ،‬ألن هناك مجموعة من‬ ‫المتغيرات والعوامل تؤ ّثر في الروح المعنوية للمجتمع السياسي من‬ ‫منطلق غياب بعض هذه القيم أحيانًا‪ ،‬وعدم إمكانية تحقيقها‪ ،‬أو من‬ ‫منطلق التأثير في فعالية بعضها بفعل عوامل داخلية في ذات الجماعة‬ ‫السياسية‪ ،‬أو بفعل عوامل خارجية‪ ،‬وهو ما يعطي (للمعنويات) في أي‬ ‫مجتمع من المجتمعات طابع التغ ّير المتواصل والحرك ّية المستمرة‬ ‫تب ًعا للتحديات واألزمات التي تعصف بالمجتمع السياسي‪ ،‬مع التأكيد‬ ‫على ّ‬ ‫أن جمل ًة من القيم المعنوية ـ فيما إذا توافرت في أي مجتمع‬ ‫‪107‬‬


‫من المجتمعات ـ من شأنها ّ‬ ‫أن تم ّثل ركائز ثابتة نسب ًيا في حسابات‬ ‫القوة السياسية له‪،‬‬ ‫الروح المعنوية للمجتمع‪ ،‬وبالتالي في حسابات ّ‬ ‫لعل أبرزها اإليمان بالوحدة الوطنية واإليمان بالخيارات السياسية‬ ‫واالقتصادية واالجتماعية للمجتمع واإليمان بعدالة وشرعية قضية ما‬ ‫أو هدف ما‪ ،‬وألن الطلب على المعنويات يشتد في أوضاع األزمات‬ ‫والحروب فإن الثقة في شرعية األهداف تخلق االستعداد لتقديم‬ ‫وتحمل التكاليف‬ ‫التضحيات والمثابرة على الوصول إلى الهدف‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫واألعباء الناتجة عن ذلك‪ ،‬وفي غياب المعنويات ّ‬ ‫يتعذر مواصلة‬ ‫المواجهة في ظل األزمات والحروب‪ ،‬لذلك يعتمد الصراع بين‬ ‫القوى السياسية أثناء الحروب واألزمات على (الحرب النفسية)‬ ‫التي تستهدف إحداث شرخ في معنويات الطرف المقابل وزعزعة‬ ‫ثقته بنفسه(((‪.‬‬

‫تعتمد المعنويات في أي مجتمع على مجموعة القيم السياسية‬ ‫والثقافية والدينية واإليديولوجية والحضارية السائدة وتتأثر بها‪،‬‬ ‫محركًا ف ّع ًل‬ ‫فالعقائد الدينية والسياسية ـ على حد سواء ـ تعتبر ّ‬ ‫لألفراد باتجاه تأكيدها وترسيخها والدفاع عنها والدعاية لها‪ ،‬كما ّ‬ ‫أن‬ ‫الحضارة والثقافة بما تم ّثله من مكاسب وإنجازات ـ تاريخية أو راهنة‬ ‫ـ تم ّثل داف ًعا نحو الحفاظ على هذه المكاسب والتضحية من أجلها‪،‬‬ ‫ومحاكاة األقدمين (اآلباء واألجداد) في الحفاظ على أمجادهم‬ ‫والسير على دربهم وتحقيق المزيد من المكاسب واإلنجازات‪،‬‬ ‫((( كاظم هاشم‪ ،‬الوجيز في اإلستراتيجية‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.242‬‬ ‫‪108‬‬


‫وتلعب عملية التنشئة السياسية بما تمثله من بناء وترسيخ للقيم‬ ‫االجتماعية والسياسية من جهة‪ ،‬والقيادة السياسية باعتبارها الرمز‬ ‫بارزا‬ ‫دورا ً‬ ‫والصورة المع ّبرة عن الجماعة السياسية من جهة أخرى ً‬ ‫في توظيف مجموعة هذه القيم في خدمة الروح المعنوية ألفراد‬ ‫المجتمع السياسي‪.‬‬

‫يعتبر التجانس القومي في أي مجتمع من المجتمعات أهم رافد‬ ‫مصدرا للقوة السياسية باتجاه‬ ‫من روافد الوحدة الوطنية‪ ،‬وبالتالي‬ ‫ً‬ ‫إيجابي‪ ،‬فالتجانس القومي بما يع ّبر عنه من وحدة عرقية ودينية ولغوية‬ ‫وما يرتبط بذلك من وحدة التاريخ والمصير واآلمال والتطلعات‬ ‫المشتركة للجماعة يجعل من هذه الجماعة كتلة سياسية واحدة وصلبة‬ ‫في مواجهة األزمات وفي السعي لتحقيق األهداف والتطلعات‪ ،‬وقد‬ ‫جسدت هذه الصورة للتكامل السياسي فكرة «الدولة القومية» التي‬ ‫ّ‬ ‫بدأت الدعوة إليها في القرن التاسع عشر باعتبارها أرقى صور الحبك‬ ‫السياسي في الداخل وأقدرها على تحقيق قوة الوحدة السياسية في‬ ‫الخارج‪.‬‬ ‫تح ّققت الوحدات القومية لألمم األوربية في القرن التاسع عشر‬ ‫وتخ ّلصت الكيانات السياسية من عوامل التناقض التي كانت تتسم‬ ‫بها شعوب اإلمبراطوريات القديمة‪ ،‬فانطلقت (األمم األوربية) فعل ًيا‬ ‫القوة في المجال الدولي‪.‬‬ ‫من تكاملها القومي إلى سياسات ّ‬ ‫المتصور ّ‬ ‫أن يكون لهذا التكامل السياسي القومي أثره‬ ‫كان من‬ ‫ّ‬ ‫اإليجابي في الخالص من النزعات العدوانية التي كانت تتسم بها‬ ‫‪109‬‬


‫اإلمبراطوريات القديمة أو الحد منها على األقل‪ ،‬استنا ًدا على ّ‬ ‫أن‬ ‫كل أمة ما دامت قد تحققت لها وحدتها السياسية القومية ستحترم‬ ‫ذاتية واستقالل غيرها من الوحدات السياسية فيعمل ظهور الدولة‬ ‫(افتراضا) على تحقيق المجتمع الدولي الهادي تب ًعا لقيامه‬ ‫القومية‬ ‫ً‬ ‫على وحدات قومية هادئة(((‪.‬‬

‫غير ّ‬ ‫أن الواقع الدولي ـ إثر ذلك ـ خالف هذه االفتراضات‪ ،‬فقد‬ ‫إحساسا لدى شعوب الدول القومية بالعظمة‬ ‫خلق الواقع الجديد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مدخل جديدً ا للتوسع والعدوانية تجاه‬ ‫واإلدعاء بالسمو مما كان‬ ‫الجماعات السياسية األخرى وبالتالي استمر الواقع الدولي يعاني‬ ‫التوترات والصراعات والحروب‪ ،‬بل ّ‬ ‫تعمق أكثر‬ ‫أن مفهوم الحرب ّ‬ ‫في ظل الدولة القومية (ففيما مضى كانت الحرب هي حرب الحكام‬ ‫واألباطرة فيما بينهم فإذا بها تصبح في ظل الدولة القومية حرب‬ ‫األمم والشعوب)‪.‬‬ ‫بلغت حروب العزة القومية ذروتها في أوائل القرن العشرين‬ ‫بقيام الحربين العالميتين األولى والثانية مما أظهر ّ‬ ‫أن صورة التنظيم‬ ‫السياسي للمجتمعات في شكل قومي ال تقل عدوانية عن الصورة‬ ‫السابقة للتنظيم السياسي المتمثل في اإلمبراطوريات ّ‬ ‫أن لم تتجاوزها‪،‬‬ ‫ويقود ذلك إلى تساؤل مهم‪ ،‬فيما إذا كان هناك أثر للطباع القومية‬ ‫في السلوك الخارجي للدولة القومية الجديدة؟ وهل هناك سياسات‬ ‫((( محمد طه بدوي وليلى أمين مرسي‪ ،‬أصول علم العالقات الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪ 16‬ـ ‪.17‬‬ ‫‪110‬‬


‫خارجية ثابتة تب ًعا لثبات تلك الطباع؟ فيما إذا سلمنا بأن لألمم‬ ‫والشعوب طباع ُا ثابتة(((‪.‬‬

‫ّ‬ ‫أن تحديد طباع األمم مسالة في حد ذاتها موضوع خالف من‬ ‫حيث الميدان المعرفي المعني بتحديد هذه الطباع فيما إذا كان‬ ‫علم النفس أو علم األنثربولوجيا أو عن طريق المالحظة الشخصية‬ ‫التجاهات وسلوك الجماعات القومية‪ ،‬ومن حيث موضوعيتها في‬ ‫ظل غياب الضمانات في ّ‬ ‫أن الذي يصدر أحكا ًما على طباع األمم‬ ‫التي ال ينتمي إليها ال يتأثر في أحكامه بطباع قومه!‪ ،‬بالرغم من‬ ‫ذلك فإن هناك مجموعة من الخصائص يكاد يجمع عليها الباحثون‬ ‫والمالحظون بالنسبة للكثير من الشعوب‪ ،‬فالفرنسيون ً‬ ‫مثل يتسمون‬ ‫بالنزعة الفردية والروح االستقاللية‪ ،‬واإلنجليز محافظون بطبعهم‬ ‫بعيدون عن االنفعال العقلي وميالون لالحتكام للتجربة‪ ،‬بينما األلمان‬ ‫معروفون باإليمان بالزعامات والخضوع للسلطة(((‪ ،‬وفي التراث‬ ‫العربي يع ّبر كتاب عمرو بن العاص إلى الخليفة عمر بن الخطاب‬ ‫بعد ّ‬ ‫أن أتم فتح مصر يصف فيه أرض مصر وأهلها بأن «ماءها عذب‬ ‫وأرضها خصب ونسائها ُل ُعب ورجالها ت ّب ٌع لمن غلب» عن بعض من‬ ‫طباع أهل مصر في تلك الفترة‪.‬‬ ‫استند عدد من الباحثين والمفكرين على مجموعة الدوافع‬

‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.138‬‬ ‫((( محمد طه بدوي وليلى أمين مرسي‪ ،‬أصول علم العالقات الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.140‬‬ ‫‪111‬‬


‫السلوكية لإلنسان لإلقرار بوجود خصائص سلوكية لألفراد وبالتالي‬ ‫طباع لألمم من شأنها ّ‬ ‫أن تؤ ّثر في عالقة هذه الجماعات (األمم)‬

‫بالجماعات األخرى سوا ًء كانت هذه الدوافع في صورة غريزة داخل‬

‫اإلنسان أو في صورة عوامل نفسية يكتسبها اإلنسان عبر مراحل حياته‪.‬‬ ‫ميكافللي يرجع أسباب الصراع بين الجماعات البشرية للطبيعة‬

‫األنانية للبشر‪ ،‬فاإلنسان شرير بطبعه ـ حسب اعتقاده ـ وهو يجنح‬

‫للتعبير عن هذه الطبيعة الشريرة كلما سنحت له الفرصة لتظهر أنانيته‬ ‫التي تدفعه إلى السعي الدؤوب لالستحواذ على المزيد‪ ،‬وهو ما‬

‫يؤدي إلى الصراع‪.‬‬

‫أما فرويد فيرجع أسباب الصراع بين البشر إلى الغريزة العدوانية‬

‫داخل اإلنسان‪ ،‬والتي تظل كامنة في داخل اإلنسان بانتظار استفزازها‬ ‫شأنه في ذلك شأن الحيوان فتتحرك تلك الغريزة تلقائ ًيا كلما سنحت‬ ‫لها الفرصة‪ ،‬ومن ثم فإن الصراعات والحروب تم ّثل ظرو ًفا وفرصة‬ ‫مناسبة إلظهار تلك الغرائز والدوافع‪ ،‬ويعتبر فرويد ّ‬ ‫أن تفنن اإلنسان‬

‫في صناعة األسلحة لقتل أفراد جنسه دليل على الطبيعة العدوانية‬

‫لإلنسان(((‪.‬‬

‫في المقابل يرى فولبرايت((( ّ‬ ‫أن المنازعات والحروب بين‬

‫الدول ال تستند إلى الطموحات االقتصادية أو العوامل التاريخية أو‬

‫((( إسماعيل صبري مقلد‪ ،‬العالقات السياسية الدولية‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.225‬‬ ‫((( رئيس لجنة العالقات الخارجية بمجلس الشيوخ األمريكي ساب ًقا‪.‬‬ ‫‪112‬‬


‫محصلة دوافع مع ّينة تستند إلى اآلمال‬ ‫توازن القوى بقدر ما تع ّبر عن‬ ‫ّ‬ ‫والمخاوف العادية للعقل البشري‪ ،‬وهو ما أطلق عليه فولبرايت‬ ‫نوعا من الخلط‬ ‫القوة»‪ ،‬فالدولة القوية عاد ًة ما تعيش ً‬ ‫«غطرسة ّ‬ ‫بين قوتها وفضائلها‪ ،‬وتميل إلى االعتقاد بأنها مختارة من العناية‬ ‫اإللهية لنشر الفضائل والخير والحضارة التي تتمتّع بها إلسباغها‬ ‫على المجتمعات األخرى‪ ،‬بما ّ‬ ‫دائما‬ ‫يغذي اإلحساس لديها بأنها ً‬ ‫يتجسد فيها فقدان الثقة‬ ‫األفضل واألقوى من باقي الدول في صورة‬ ‫ّ‬ ‫القوة العظيمة بالقوة الالمحدودة والمسؤولية‬ ‫بالنفس من خالل خلط ّ‬ ‫الكبيرة بالمسؤولية الك ّلية‪ ،‬وعدم االعتراف بارتكاب األخطاء والسعي‬ ‫لكسب كل الجوالت مهما كانت تافهة(((‪.‬‬

‫إال ّ‬ ‫أن االعتماد على العوامل السلوكية كمحدّ دات للطباع‬ ‫القومية لألمم أمر يحظى بقليل من المصداقية والثقة‪ ،‬ألن التفاعل‬ ‫بين الجماعات البشرية في شكل صراع أو تعاون يخضع لجملة من‬ ‫العوامل االجتماعية والبيئية المختلفة والمتباينة التأثير‪ ،‬ربما يكون‬ ‫تأثير العوامل النفسية من بينها ضئيل جدً ا ّ‬ ‫أن لم يكن معدو ًما أحيانًا‪،‬‬ ‫كما ّ‬ ‫أن استنتاج السلوك البشري من السلوك الحيواني ـ كما يرى‬ ‫فرويد ـ أمر مشكوك في صحته‪ ،‬وكذلك استنتاج السلوك الجماعي من‬ ‫السلوك الفردي‪ ،‬باإلضافة إلى ّ‬ ‫أن الدوام النسبي للخصائص البشرية‬ ‫واستمراريتها كطباع لألمم أمر مست ّبعد انطال ًقا من ّ‬ ‫أن هذه الخصائص‬ ‫يصح الكالم عن استمرارها باستمرار الجنس‪،‬‬ ‫ليست بيولوج ّية حتى ّ‬ ‫((( جمال سالمة‪ ،‬أصول العلوم السياسية‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.274‬‬ ‫‪113‬‬


‫فالبيئة والطبيعة والثقافة والحضارة هي مصادر اكتساب هذه الطباع‪،‬‬ ‫وطباع األمس ليست بالضرورة طباع اليوم ألي أمة أو شعب من‬ ‫الشعوب‪ ،‬وبالتالي فإن السلوك الخارجي للدول هو عملية في غاية‬ ‫التعقيد بعيدة تما ًما عن ّ‬ ‫أن تكون مجرد أثر مباشر للطباع القومية‪.‬‬ ‫ب) طبيعة النظام ال�سيا�سي ودور القيادة ال�سيا�سية‬

‫يع ّبر مفهوم «النظام السياسي» بالمعنى الواسع له عن مجموعة‬ ‫العالقات ذات الطابع السياسي والقيم والنظم والقواعد التي تحدّ د‬ ‫وتحكم هذه العالقات والتفاعالت في نطاق المجتمع السياسي‪،‬‬ ‫بينما يعبر مفهوم «نظام الحكم» عن أداة صنع القرار السياسي داخل‬ ‫المجتمع من حيث طبيعة السلطة السياسية وهياكلها ومؤسساتها‪.‬‬

‫وكما تختلف وتتباين أنظمة الحكم في المجتمعات المختلفة‬ ‫تتباين وتختلف أنظمتها السياسية‪ ،‬وال يرى الباحث ّ‬ ‫أن هناك حاجة‬ ‫للتطرق إلى أشكال النظم السياسية ونظم الحكم وأنواعها للوصول‬ ‫ّ‬ ‫إلى أي من هذه األشكال واألنواع يم ّثل معطى إيجاب ًيا من معطيات‬ ‫قوة الدولة ـ فال شك ّ‬ ‫أن لكل نوع وشكل منها جوانب سلبية وأخرى‬ ‫إيجابية ـ لكنّه سيعالج الموضوع من زاوية أخرى للوصول إلى‬ ‫النموذج األمثل للنظام السياسي والذي كلما اقتربت المجتمعات‬ ‫القوة المطلوبة في‬ ‫السياسية منه كلما كانت أوفر ح ًظا في تأمين ّ‬ ‫المجال الدولي من خالل قوة النظام السياسي كمعطى من معطيات‬ ‫قوة الدولة‪.‬‬ ‫‪114‬‬


‫ترتبط ـ المعالجة ـ بموضوع التخلف والتنمية في األنظمة‬ ‫السياسية‪ ،‬فدرجة التنمية السياسية هي المعيار الذي يمكن ّ‬ ‫أن يحدّ د‬

‫درجة االقتراب من الصورة المثلى للقوة المرتبطة بقوة النظام‬ ‫السياسي‪ ،‬بافتراض ّ‬ ‫أن أكثر األنظمة السياسية قوة هي تلك التي تقع‬ ‫في المراتب العليا من سلم التنمية السياسية‪.‬‬ ‫يحدد لوسيان باي عد ًدا من األزمات للحكم على النظام السياسي‬ ‫ّ‬ ‫فيما إذا كان نام ًيا سياس ًيا أو متخل ًفا بالقدر الذي تغيب فيه هذه األزمات‬ ‫قادرا على تجاوزها فيما إذا عرضت له في تاريخه‪.‬‬ ‫أو يكون ً‬

‫من بين هذه األزمات أزمة الهوية‪ :‬فالنظام السياسي القادر على‬ ‫المكونة للمجتمع‬ ‫خلق الوالء له لدى كل األفراد والجماعات‬ ‫ّ‬ ‫الهوية القومية الواحدة للجماعة‬ ‫السياسي‪ ،‬أي القادر على خلق ّ‬ ‫اإلنسانية بما يؤكد تألفها وتماسكها وإيمانها بخياراتها السياسية‬ ‫هوية‬ ‫واالقتصادية واالجتماعية هو النظام السياسي الذي ال يعاني أزمة ّ‬ ‫وبالتالي ال مجال فيه للنزعات االستقاللية والصراعات الداخلية‪،‬‬ ‫كذلك أزمة الشرعية التي تنشأ ارتبا ًطا يجري قدرة النظام السياسي‬ ‫على إقرار سلطة ومسؤولية حكومية مركزية وحيدة تحتكر االستعمال‬ ‫المشروع للقوة‪.‬‬ ‫من بين هذه األزمات كذلك ما يسمى أزمة المشاركة السياسية‪:‬‬ ‫فكلما كان النظام السياسي مع ّب ًرا عن درجة عالية من المشاركة‬ ‫السياسية في صنع القرار السياسي الذي يع ّبر عن تطلعات الجماعة‬ ‫السياسية وأهدافها وتحدّ د مصيرها على مستوى السياسات الداخلية‬ ‫‪115‬‬


‫والخارجية كلما كان ذلك مفض ًيا إلى قوة النظام السياسي‪ ،‬وذلك‬ ‫بغض النظر عن آليات عمل نظام المشاركة السياسية من خالل أحزاب‬ ‫سياسية أو جماعات مصلحية أو رأي عام أو أي شكل وأسلوب من‬ ‫شأنه ّ‬ ‫أن يفضي في النهاية إلى درجة عالية من المشاركة السياسية أو‬ ‫يفضي حتى إلى غياب المشاركة السياسية ومحدوديتها في ظل غياب‬ ‫الطلب عليها ً‬ ‫أصل أو الرضى والقبول بمحدوديتها (حتى ال تستبعد‬ ‫في هذا التحليل الواقع التاريخي لعدد من األنظمة السياسية لم تكن‬ ‫تعاني أزمة مشاركة سياسية في ظل أنظمة حكم لم تكن ديمقراطية‬ ‫بالمعنى المعروف حدي ًثا للديمقراطية)‪.‬‬

‫األزمة األخرى من األزمات التي تم ّثل خصائص األنظمة السياسية‬ ‫المتخلفة هي أزمة التوزيع‪ ،‬فلكل مجتمع سياسي بالضرورة ثروة‬ ‫اقتصادية ناتجة عن النشاط االقتصادي ألفراده والمرتبط بالمقدرات‬ ‫االقتصادية لإلقليم وطبيعة النظام السياسي وما يتبعه من نظام اقتصادي‬ ‫والمعنى باإلجابة على السؤال المتع ّلق بالثروة االقتصادية والمتم ّثل‬ ‫في (من يتحصل على ماذا وكيف؟) وبقدر اإلجابة العادلة والمقنعة‬ ‫التي يحققها النظام السياسي على هذا السؤال بقدر ما يكون بعيدً ا‬ ‫عن أزمة التوزيع وبالتالي تتح ّقق التنمية السياسية في أحد جوانبها‬ ‫وتنعكس على قوة النظام السياسي‪.‬‬ ‫والنوعين اآلخرين من هذه األزمات هما أزمتي االختراق‬ ‫واالندماج والمتعلقتين بمدى قدرة النظام السياسي على بناء‬ ‫األجهزة والهياكل والمؤسسات التي تمكّن من أداء كافة الوظائف‬ ‫‪116‬‬


‫السياسية بفعالية عالية‪ ،‬سوا ًء ما يتع ّلق منها بمدخالت أو مخرجات‬

‫النظام السياسي‪ ،‬وكذلك تتعلق أزمة االندماج بصعوبات إدماج‬

‫النشاط السياسي للجماهير في حلقات وظيفية قادرة على إعطاء‬ ‫ً‬ ‫متالئما مع متطلبات استمرارية‬ ‫وتوجها‬ ‫شكل‬ ‫المطالب المحددة‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫النظام السياسي(((‪.‬‬

‫ّ‬ ‫أن أي نظام سياسي ال يعاني هذه األزمات هو النظام السياسي‬ ‫المح ّقق لتنمية سياسيه بصورة مثالية‪.‬‬ ‫بيد ّ‬ ‫أن هذه الصورة المثالية ليست هي الواقع السياسي لألنظمة‬

‫السياسية‪ ،‬فأي من النظم السياسية (واقع ًيا) يعاني من واحدة أو أكثر‬

‫من هذه األزمات على األقل وبدرجات متفاوتة‪ ،‬مما يعني تباينًا في‬

‫مواقعها في مراتب التنمية السياسية قر ًبا أو بعدً ا عن الصورة المثالية‬

‫القوة السياسية المرتبطة‬ ‫للتنمية السياسية‪ ،‬وبالتالي تباينها في اكتساب ّ‬ ‫بقوة النظام السياسي كعامل من عوامل قوة الدولة في المجال الدولي‪.‬‬

‫وفي الجانب المتع ّلق بدور أنظمة الحكم والقيادات السياسية في‬

‫إكساب الدولة قوة داخلية تنعكس على قوتها في المجال الدولي‪،‬‬

‫يمكن االنطالق من مفهوم المصلحة القومية للمجتمعات السياسية‬

‫معيارا ثابتًا أو متغ ّي ًرا بتغ ّير نظم الحكم والقيادات‬ ‫في اعتبار مضمونها‬ ‫ً‬ ‫السياسية‪ّ :‬‬ ‫أن (التراث القومي) للوحدة السياسية بما يكسب النظام‬ ‫((( بيرترأندبادي‪ ،‬التنمية السياسية ترجمة محمد نوري المهدوي‪( ،‬طرابلس‪ :‬تالة‬ ‫للطباعة والنشر‪ ،)2001 ،‬ص‪ 64‬ـ ‪.65‬‬ ‫‪117‬‬


‫السياسي من قيم سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وأيديولوجية‬ ‫وموج ًها للمصلحة القومية من خالل‬ ‫إطارا عا ًما محدّ ًدا‬ ‫ّ‬ ‫غال ًبا ما كان ً‬ ‫تصور النظام السياسي للعالم الخارجي وموقفه من هذا العالم‪ ،‬ويكون‬ ‫ّ‬ ‫ووضوحا في األنظمة‬ ‫هذا اإلطار العام للمصلحة القومية أكثر تحديدً ا‬ ‫ً‬ ‫السياسية ذات البعد األيديولوجي‪ ،‬وفي نطاق هذا اإلطار العام تكون‬ ‫هناك مساحة للحركة ألنظمة الحكم والقيادات السياسية في وضع‬ ‫تفاصيل وأولويات وسياسات تحقيق المصلحة القومية‪ ،‬وكلما كانت‬ ‫ً‬ ‫رسوخا وإحكا ًما داخل‬ ‫مجموعة القيم المرتبطة بالنظام السياسي أكثر‬ ‫المجتمع السياسي كلما ضاقت مساحة الحركة أمام أنظمة الحكم‬ ‫والقيادات السياسية في رسم السياسيات المع ّبرة عن المصلحة القومية‬ ‫وتنفيذها‪ ،‬لذلك ففي األنظمة السياسية ذات األبعاد األيديولوجية‬ ‫يكون مفهوم المصلحة القومية أكثر ثباتًا وتحديدً ا‪ ،‬مما يملي على‬ ‫أنظمة الحكم والقيادات السياسية بها سياسات وآليات عمل في البيئة‬ ‫تصور محدّ د ومسبق لهذه البيئة ال يكون فيه في‬ ‫الدولية من خالل ّ‬ ‫الغالب دور كبير ألنظمة الحكم والقيادات السياسية بالمقارنة مع‬ ‫وحدات دولية أخرى يظهر فيها بوضوح دور أنظمة الحكم والقيادات‬ ‫السياسية في عملية التصور للعالم الخارجي والموقف منه(((‪.‬‬ ‫ويرى بعض الباحثين أنه كلما كانت أنظمة الحكم أنظمة مطلقة‬ ‫كلما تمتّعت بمرونة أكبر في التكتيك لرسم أهداف السياسة الخارجية‬ ‫ووسائل تحقيقها بالنظر إلى أنها ال تخضع لقيود دستورية حقيقية‬

‫((( عبد الواحد الناصر‪ ،‬العالقات الدولية‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.104‬‬ ‫‪118‬‬


‫وال إلى ضغوط فعلية من جانب المحكومين‪ ،‬وفي المقابل فإن‬

‫األنظمة العقائدية (اإليديولوجية) في الوقت الذي تحدّ د فيه االتجاه‬ ‫العام لسياساتها الخارجية فإنها تمنح قيادتها وأنظمتها الحاكمة ً‬ ‫مجال‬ ‫أكبر في التكتيك والتحرك السياسي لتحقيق أهداف السياسة الخارجية‬

‫بالمقارنة مع األنظمة البرلمانية النيابية المق ّيدة عادة بمسؤوليات‬

‫والمعرضة للتسلط (الديمقراطي) عليها‬ ‫سياسية محدّ دة دستور ًيا‬ ‫ّ‬

‫من خالل المعارضة وسلطة الرأي العام(((‪.‬‬

‫ّ‬ ‫أن الدور المرتبط بالقيادة السياسية باعتبارها األداة الم ّعنية باختيار‬

‫الوسائل التي من شأنها خدمة أهداف السياسة الخارجية في نطاق‬ ‫األداتين المتكاملتين للسياسة الخارجية (اإلستراتيجية والدبلوماسية)‬ ‫يشير إلى ّ‬ ‫أن نظام الحكم وقيادته السياسية هي (اآللة) المعنية بصهر‬

‫القوة المتاحة للوحدة السياسية في بوتقة واحدة لتوجيهها‬ ‫كافة عوامل ّ‬

‫نحو المصلحة القومية من أقرب طريق وبأقل التكاليف والتضحيات‬

‫في ضوء التقدير الصائب لما تؤهله لها قوة الدولة من وضع في سلم‬

‫القوة الدولي‪ ،‬والتقدير واإلدراك الصائب كذلك لحقيقة قوة الطرف‬ ‫ّ‬

‫اآلخر أو األطراف األخرى التي تتعامل معها في كل موقف من‬

‫المواقف التي تعرض لها في البيئة الدولية(((‪.‬‬

‫((( محمد طه بدوي وليلى أمين مرسي‪ ،‬أصول علم العالقات الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.147‬‬ ‫((( محمد طه بدوي وآخرون‪ ،‬مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية‪( ،‬مرجع سبق‬ ‫ذكره)‪ ،‬ص‪.148‬‬ ‫‪119‬‬


‫ّ‬ ‫أن جهاز الدولة السياسي بمكوناته الرئيسية الثالث [المؤسسات‪،‬‬ ‫ً‬ ‫النظم والقواعد‪ ،‬األفراد] يشكّل ً‬ ‫متكامل في التعبير عن الفعالية‬ ‫كل‬ ‫وبالتالي عن قوة الدولة ارتبا ًطا بمستويات الكفاءة والخبرة‬ ‫والبيروقراطية‪ ،‬باإلضافة إلى المهارة والفطنة والتجربة التي يتمتّع بها‬ ‫وخاصة في المستويات العليا‬ ‫األفراد في كافة مستويات هذا الجهاز‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫منه‪ ،‬حيث صنّاع القرار المباشرين من زعماء وقادة ورؤساء بالدرجة‬ ‫األولى وكبار رجال الدولة من وزراء ومستشارين وما شابههما‬ ‫فكثيرا ما تنعكس اإلمكانيات الشخصية للقادة‬ ‫بالدرجة الثانية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وكثيرا ما كانت‬ ‫والزعماء على فعالية الجهاز السياسي في الدولة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أدوارا محددة وواضحة في رسم‬ ‫لشخصية الزعيم أو القائد السياسي‬ ‫ً‬ ‫السياسات ووضع وسائل وأساليب تحقيق األهداف في السياسة‬ ‫الخارجية‪ ،‬والتاريخ المعاصر مليء بالشواهد الكثيرة على زعماء‬ ‫سياسيين غ ّيروا مجرى التاريخ السياسي لبلدانهم على الصعيد الدولي‬ ‫واستطاعوا ّ‬ ‫أن يبرمجوا المصالح القومية لدولهم في سياسات خارجية‬ ‫قوية استنا ًدا على ما يتمتعون به من إمكانيات شخصية‪.‬‬ ‫بدت ّ‬ ‫جـ) م�ستوى التقدم التقني والعلمي‬

‫ينعكس مستوى التقدم التقني والعلمي في أي دولة بشكل مباشر‬ ‫على فعالية الكم البشري (السكان) وعلى فعالية العوامل االقتصادية‬ ‫وضوحا برغم ّ‬ ‫أن كافة عوامل قوة الدولة تتأثر بشكل كبير‬ ‫بشكل أكثر‬ ‫ً‬ ‫بمستويات التقدم التقني والعلمي الذي تشهده الدولة‪ ،‬وكلما ارتقت‬ ‫‪120‬‬


‫الوحدة السياسية في األخذ بأسباب العلم والتقنية كلما مكّنها ذلك‬ ‫من توظيف إمكانياتها المختلفة أحسن توظيف‪.‬‬

‫باإلشارة إلى ما تم عرضه بخصوص تأثير المستوى العلمي‬ ‫القوة األخرى‬ ‫والتقني في قوة الدولة السياسية عند تناول عوامل ّ‬ ‫ودرجة ارتباطها وتأثرها بمستويات العلم والتقنية في ثنايا هذا‬ ‫المبحث‪ ،‬فإن الباحث يكتفي بذلك مع التأكيد على ّ‬ ‫أن مستوى‬ ‫مقومات قوة الدولة يكتسب أهم ّية‬ ‫التقدم التقني والعلمي‬ ‫كمقوم من ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومؤثرا في فعالية أي من العوامل األخرى‪ ،‬لذلك‬ ‫في كونه محدّ ًدا‬ ‫ً‬ ‫معيارا لقياس قوة الدولة من خالل انعكاسه على مستوى‬ ‫كثيرا ما اتخذ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫المعيشة والرفاه االجتماعي ومستويات التعليم‪ ،‬والدور الذي تلعبه‬ ‫المؤسسات العلمية والثقافية واإلعالمية في رفع مستوى الوعي‬ ‫كثيرا في تجاوز السلبيات المتع ّلقة‬ ‫االجتماعي والسياسي‬ ‫ّ‬ ‫المعول عليه ً‬ ‫القوة األخرى‪ ،‬فقد أمكن لمجتمعات سياسية كثيرة تجاوز‬ ‫بعوامل ّ‬ ‫السلبيات المتعلقة بفقدان التجانس العرقي والقومي في نطاقها ـ ً‬ ‫مثل‬ ‫ـ اعتما ًدا على مستوى عال من الثقافة والعلم وبالتالي مستوى عال‬ ‫من الوعي بالمصلحة العليا للجماعة السياسية‪.‬‬

‫‪121‬‬



‫(‪)3‬‬ ‫نظريات ونماذج تحليل العالقات الدولية‬ ‫القوة‬ ‫من خالل مفهوم ّ‬ ‫يختار الباحث عد ًدا من النظريات والنماذج النظرية التي تناولت‬ ‫تحليل العالقات الدولية في إطار النظرية العامة للعالقات الدولية‬ ‫القوة كمفهوم‬ ‫اعتما ًدا على ارتباط هذه النظريات والنماذج بمفهوم ّ‬ ‫أساسي ينطلق منه التحليل للكشف عن خصائص النشاطات السياسية‬ ‫الدولية‪ ،‬كما يجمع بين هذه النظريات والنماذج استخدام أصحابها‬ ‫لمفهوم (النسق) كأداة تحليل ذهنية لتحليل الواقع الدولي‪ ،‬مع ربط هذا‬ ‫المفهوم (النسق) بشكل أساسي بحالة االتزان التي تع ّبر عن عالقات‬ ‫مجموعة من القوى (الدول) في مجال دولي مع ّين‪ ،‬باعتبار ّ‬ ‫أن االتزان‬ ‫في االنساق الدولية هو جوهرها المع ّبر عن طبيعتها كصورة منتظمة‬ ‫للعالقات الدولية تظل قائمة طالما لم تصل هذه العالقات إلى حالة‬ ‫الفوضى التامة أو حالة الحكومة العالمية(((‪.‬‬ ‫((( محمد طه بدوي وليلى أمين مرسي‪ ،‬أصول علم العالقات الدولية‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.165‬‬ ‫‪123‬‬


‫القوة‪ ،‬ويع ّبر هذا المفهوم‬ ‫توصف حالة االتزان عاد ًة بميزان ّ‬ ‫القوة) عن دالالت ومعاني مختلفة ـ كما سبق اإلشارة ـ يتع ّلق‬ ‫(ميزان ّ‬ ‫تفسيرا موضوع ًيا‪،‬‬ ‫بعضها بالواقع السياسي عند التعامل معه بتفسيره‬ ‫ً‬ ‫ويتع ّلق بعضها اآلخر بالفلسفة السياسية معن ًّيا بتحليل عالم السياسة‬ ‫الدولي في إطار ما يجب ّ‬ ‫أن يكون‪ ،‬ويشير ذلك إلى اتجاهين في‬ ‫التحليل‪ :‬اتجاه موضوعي للتحليل الواقعي في إطار ما هو كائن‬ ‫بالفعل‪ ،‬واتجاه فلسفي للتحليل النمطي للعالقات الدولية في إطار‬ ‫ما يجب ّ‬ ‫أن يكون(((‪.‬‬

‫يتناول الباحث كل من نظرية هانزمارجنثاو ونظرية ريمون آرون‬ ‫القوة‬ ‫كنوع من نظريات االتزان التلقائي المع ّبرة عن مفهوم ميزان ّ‬ ‫بمدلوله العلمي (الموضوعي) وكل من النموذج النظري لكابالن‬ ‫والنموذج النظري لكارل دويتش كنوع من النظريات المع ّبرة عن‬ ‫القوة من خالل مدلوله النمطي‪.‬‬ ‫مفهوم ميزان ّ‬ ‫� ً‬ ‫أول‪ :‬نظرية هانز مورجانثاو‬

‫القوة في مدلوله الموضوعي يعني (ما عليه عالقات‬ ‫مفهوم ميزان ّ‬ ‫القوى الدولية من اتزان يتح ّقق تلقائ ًيا بعامل قانون الفعل ورد الفعل‪،‬‬ ‫أي ّ‬ ‫أن االتزان يتح ّقق تلقائ ًيا للنسق الدولي بمنأى عن ضمائر الدول‬ ‫الداخلية فيه‪ ،‬من خالل انتظام ذاتي في توزيع القوى بما يؤكّد استمرار‬ ‫((( عادل فتحي ثابت‪ ،‬النظرية السياسية المعاصرة‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.283‬‬ ‫‪124‬‬


‫النسق‪ ،‬وهو بذلك يكون على شاكلة االتزان والتعادل التلقائي الذي‬ ‫يقع داخل الكائن الحي وفي الطبيعة)(((‪.‬‬

‫تستند نظرية مورجانثاو على عدد من الخطوط الرئيسية في‬ ‫تحليل واقع السياسة الدولية‪ ،‬ويلتقي في ذلك مع ريمون آرون‬ ‫القوة كواقع مستهدف بالتفسير‬ ‫ومع آخرين ممن تعاملوا مع ميزان ّ‬ ‫الموضوعي(((‪.‬‬ ‫وتتم ّثل هذه الخطوط الرئيسية في‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ النظر إلى عالم العالقات الدولية باعتباره عالم عالقات القوى‬ ‫التي تعمل في غياب سلطة عليا إلزامية وتتفاعل مع بعضها‬ ‫البعض بموجب قانون الفعل ورد الفعل بما يهيئ التزانها‬ ‫ميكانيك ًيا‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ التعامل مع مفهوم النسق الدولي الستخدامه في تصوير الواقع‬ ‫الدولي متى تو ّفر في هذا الواقع شرطان أساسيان‪:‬‬ ‫القوة على رأسها‬ ‫أ ) وجود مجموعة من القوى المتدرجة في ّ‬ ‫عدد صغير من القوى القطبية‪.‬‬

‫ب) ّ‬ ‫أن االتزان يتح ّقق في مجموعة القوى باتزان قواها القطبية‪.‬‬ ‫((( محمد طه بدوي [وآخرون]‪ ،‬مقدمة إلى العالقات الدولية‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪،‬‬ ‫ص‪.263‬‬ ‫((( عادل فتحي ثابت‪ ،‬النظرية السياسية المعاصرة‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪ 285‬إلى‬ ‫ص‪.291‬‬ ‫‪125‬‬


‫‪1‬ـ ّ‬ ‫أن ظاهرة الصراع الدولي هي نتاج حتمي لطبيعة البيئة الدولية‬ ‫التي تتم ّيز بتعدّ د القوى وبالتالي تعدّ د مراكز اتخاذ القرار‬ ‫اإللزامي‪ ،‬وإن الحرب هي المظهر األساسي لهذا الصراع‬ ‫باعتبارها الملجأ األخير لغرض اإلرادة‪ ،‬ومن ثم يكون هذا‬ ‫القوة هي الدافع‬ ‫القوة وتكون ّ‬ ‫الصراع هو صراع من أجل ّ‬ ‫من وراء النشاطات السياسية الدولية بصفة عامة والصراع‬ ‫بصفة خاصة‪.‬‬

‫‪2‬ـ ّ‬ ‫أن هناك إمكانية لتقدير قوة الدول على أساس كمي‪.‬‬

‫أودع مورجانثاو نظريته التي أراد بها تفسير واقع عالم السياسة‬ ‫الدولي في كتابه (السياسة بين األمم ‪) Politics amang Natiains‬‬ ‫الذي نشر في عام ‪ ،1948‬مستخد ًما المنهج العلمي التجريبي ومرتب ًطا‬ ‫(القوة) كمفهوم أساسي لتحليل عالم السياسة الدولي‪ ،‬مضي ًفا‬ ‫بمفهوم ّ‬ ‫بعدً ا سلوك ًيا على تحليله‪ ،‬وبذلك يكون من الرواد الذين وضعوا‬ ‫الدعائم األساسية لعلم العالقات الدولية كعلم مم ّيز(((‪.‬‬

‫انطلق مورجانثاو من التأمل في تجربة الحربين العالميتين‪ ،‬مع‬ ‫محاولته ّ‬ ‫أن يكون بمثابة (الواعظ) للسياسة الخارجية األمريكية‬ ‫كواحدة من القوى العظمى التي يقع عليها مسؤولية إرساء سالم‬ ‫عالمي في عالم يقوم على توازن القوى بين محورين عظيمين‪ ،‬ولكن‬ ‫ليس على طريقة الليبراليين الطوباويين الذين يرون أنه من الممكن‬ ‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.296‬‬ ‫‪126‬‬


‫بلوغ نظام سياسي عالمي يقوم على األخالق والعقل‪ ،‬بل استنا ًدا‬ ‫على ّ‬ ‫أن العالم ال يتسم بالكمال‪ ،‬وأن ثمة جملة من العوامل الظاهرة‬ ‫والباطنة في الطبيعة اإلنسانية تجعل العالم غير كامل‪ ،‬وأن الخالص‬ ‫يأتي من خالل إدراك وتحليل وتفسير وفهم هذه العوامل‪ ،‬بالتعامل‬ ‫معها وليس بالوقوف في وجهها(((‪.‬‬

‫يعرض مورجانثاو عد ًدا من العوامل التي تعطي للسياسة الدولية‬ ‫حقيقتها (واقعيتها) لتم ّثل اإلطار الفكري العام لنظريته في العالقات‬ ‫الدولية على النحو التالي‪:‬‬ ‫للتكهن بأن السلوك السياسي يتّبع العقل‬ ‫‪ 1‬ـ هناك إمكانية‬ ‫ّ‬ ‫والمنطق‪ ،‬ألن السياسة تحكمها قوانين موضوعية يمكن من‬ ‫خاللها الت ّثبت والتأكّد من عقالنية السلوك السياسي‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ المصلحة هي المفهوم األساسي لفهم السياسة الدولية‪،‬‬ ‫القوة‪ ،‬وفي نطاق المصلحة المرتبطة‬ ‫والمصلحة تُفهم بدالة ّ‬ ‫بالقوة يقع جوهر كل سياسة خارجية للدولة‪.‬‬

‫القوة‪ ،‬وفي حين ّ‬ ‫القوة تتغ ّير‬ ‫أن ّ‬ ‫‪ 3‬ـ السياسة هي صراع من أجل ّ‬ ‫مع الزمان والمكان فإن المصلحة تبقى مفهو ًما متماسكًا‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ المبادئ األخالقية قد تؤ ّثر في األفعال والسلوكيات‪ ،‬لكنها‬ ‫وكثيرا ما تتخذ‬ ‫ليست محدّ ًدا للسلوك السياسي للدولة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫((( كاظم هاشم نعمة‪ ،‬نظرية العالقات الدولية‪( ،‬طرابلس‪ :‬أكاديمية الدراسات العليا‪،‬‬ ‫‪ ،)1999‬ص‪.54‬‬ ‫‪127‬‬


‫المبادئ األخالقية كستار وواجهة لتبرير األفعال‪ ،‬فيما تبقى‬ ‫المصلحة هي المعيار المحدّ د للفعل السياسي والموجه له(((‪.‬‬

‫القوة كمفهوم يحدد سلوك الدول في المجال الدولي‬ ‫انطال ًقا من ّ‬ ‫يشير مارجنثاو إلى ثالثة نماذج من السياسات الدولية التي تستوعب‬ ‫وتوضح كافة نماذج السلوك الدولي‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫أ ) قد تنتهج الدولة سياسة تستهدف الحفاظ على الوضع القائم‪،‬‬ ‫بأن تعمل على إبقاء توزيع القوى على ما هو عليه‪ ،‬وخاصة‬ ‫تحول جذري في توزيع‬ ‫فيما يتع ّلق بالتغ ّير الذي يؤدي إلى ّ‬ ‫القوى على المستوى الدولي‪.‬‬

‫توسعية تستهدف قلب الوضع القائم‬ ‫ب) قد تنتهج الدولة سياسة ّ‬ ‫بالعمل على إحداث تغير في توزيع القوى في النسق الدولي‬ ‫وتتجسد هذه السياسة‬ ‫القائم بما يتفق مع مصلحتها الوطنية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫في محاولة تحقيق تفوق محلي أو إقامة إمبراطورية قارية أو‬ ‫هيمنة عالية‪ ،‬وفي حالة نجاح هذه السياسة تتمكّن الدولة‬ ‫القوة في مقابل ضعف قوة أطراف‬ ‫من اكتساب المزيد من ّ‬ ‫دولية أخرى‪.‬‬

‫جـ) قد تسعى الدولة إلى تحقيق النفوذ والمكانة الدولية‪ ،‬بحيث‬ ‫القوة‬ ‫تستهدف الدولة التأثير على الدول األخرى من خالل ّ‬ ‫التي تمتلكها‪ ،‬أو تعتقد أنها تمتلكها‪ ،‬أو يعتقد اآلخرون بأنها‬ ‫((( كاظم هاشم نعمة‪ ،‬نظرية العالقات الدولية‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.54‬‬ ‫‪128‬‬


‫تمتلكها‪ ،‬وبما يؤدي إلى دفع الدول األخرى لالستجابة‬ ‫ألهدافها ومصلحتها الوطنية باستخدام وسائل تتراوح بين‬ ‫الدبلوماسية الرسمية والتلويح باستعمال العنف(((‪.‬‬

‫حصر مورجانثاو العوامل التي تمنح الدولة موقعها في سلم‬ ‫القوى في المجال الدولي في عدد من العوامل المادية واالجتماعية‬ ‫التي تفضي إلى حجم مع ّين لقوة الدولة يحدّ د إمكانياتها في التأثير‬ ‫على سلوك الدول األخرى‪ ،‬والتي تتم ّثل في‪( :‬المجال الجغرافي‪،‬‬ ‫الموارد الطبيعية‪ ،‬القدرة الصناعية‪ ،‬االستعداد العسكري‪ ،‬السكان‪،‬‬ ‫الخصائص القومية والروح المعنوية)(((‪.‬‬

‫«القوة»‪« ،‬المصلحة»‪« ،‬الصراع»‬ ‫اعتمد مورجانثاو على مفاهيم‬ ‫ّ‬ ‫كأدوات ذهنية في بناء نظريته في العالقات الدولية‪ ،‬فالصراع ـ‬ ‫القوة والتي‬ ‫يحرك اإلنسان دو ًما من أجل ّ‬ ‫عنده ـ دافع غريزي ّ‬ ‫هي ظاهرة بشرية خالدة في الزمان والمكان‪ ،‬والواقع السياسي‬ ‫القوة‪،‬‬ ‫في بعديه (المحلي والدولي) هو واقع الصراع من أجل ّ‬ ‫القوة هي الهدف المباشر لهذا الصراع وهي في‬ ‫بحيث تصبح ّ‬ ‫ذات القوت وسيلته‪ ،‬والمصلحة الوطنية ـ كما يراها مورجانثاو ـ‬ ‫قانونًا تخضع له عالقات الوقت في المجتمع الدولي‪ ،‬فالقوة هي‬ ‫روح الدولة التي يتحقق بها االستقرار واالستمرار‪ ،‬والمصلحة‬ ‫((( جيمس دورتي وروبرت بالتسغراف‪ ،‬النظريات المتضاربة في العالقات الدولية‪،‬‬ ‫ترجمة‪ :‬وليد عبد الحي (عمان‪ :‬مركز أحمد ياسين‪ ،‬بدون تاريخ)‪ ،‬ص‪.‬ص‪.72 ،71‬‬ ‫((( عادل فتحي ثابت‪ ،‬النظرية السياسية المعاصرة‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.298‬‬ ‫‪129‬‬


‫القوة وإنماءها‪ ،‬ومن ثم فإن‬ ‫الوطنية‬ ‫تتجسد في الحفاظ على ّ‬ ‫ّ‬ ‫المصلحة والقوة مترادفان متالزمان بما يجعل فكرة المصلحة‬ ‫القوة‪.‬‬ ‫الوطنية مرتبطة تما ًما بسياسة ّ‬

‫ورغم ّ‬ ‫أن مورجانثاو اعتمد على مفهومي المصلحة والقوة في بناء‬ ‫نظريته إال أنه اعترف بأنهما مفهومان غير مستقرين‪ ،‬لذلك أكّد ـ فيما‬ ‫بعد ـ على الصورة القصوى للمصلحة الوطنية المتمث ّلة في الحفاظ‬ ‫وتصورات‬ ‫على البقاء القومي بما يجعلها تتجاوز اإليديولوجيات‬ ‫ّ‬ ‫تبريرا للسياسات العدوانية‬ ‫القادة‪ ،‬حتى ال تكون المصلحة الوطنية ً‬ ‫التوسعية بما يزيد من تفاقم ظاهرة الصراع الدولي في إطار سعي‬ ‫ّ‬ ‫الدول لتحقيق مصلحتها الوطنية (غير الحيوية) أي تلك التي ال ترتبط‬ ‫بمسألة الحفاظ على البقاء القومي(((‪.‬‬ ‫ثان ًيا‪ :‬نظرية ريمون �آرون‬

‫ترتكز أفكار المفكّر الفرنسي ريمون آرون الذي عاش خالل‬ ‫ٍ‬ ‫أبعاد‬ ‫الفترة من ‪ 1904‬إلى ‪ 1983‬في دراسته للواقع الدولي على أربع‬ ‫أساسية‪ :‬البعد النظري‪ ،‬البعد السوسيولوجي (االجتماعي)‪ ،‬البعد‬ ‫التاريخي‪ ،‬البعد التطبيقي‪.‬‬ ‫يتعلق البعد النظري بعملية تنظيم المعلومات واختيار المشكالت‬ ‫والمتغ ّيرات ويعتمد على مجموعة من المفاهيم في تصوير وتطوير‬

‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.302‬‬ ‫‪130‬‬


‫افتراضاته النظرية من بينها مفاهيم‪ :‬اإلستراتيجية‪ ،‬الدبلوماسية‪،‬‬ ‫القوة‪ ،‬التوازن‪ ،‬نظم القطبية الثنائية والقطبية المتعدّ دة‪ ،‬والنظم‬ ‫طبيعة ّ‬ ‫المتجانسة وغير المتجانسة‪.‬‬

‫ّ‬ ‫مفص ًل لجوهر الظاهرة‬ ‫أن النظرية ـ من وجهة نظره ـ تقدم ً‬ ‫عرضا ّ‬ ‫والعوامل المؤثرة التي يسعى الباحث من خاللها إلى تحديد أسباب‬ ‫والتعرف على السبب الرئيسي من بينها‪.‬‬ ‫الظاهرة‬ ‫ّ‬ ‫وفي إطار البعد السوسيولوجي (االجتماعي) اهتم ريمون آرون‬ ‫بالعوامل الرئيسية التي تقف وراء السلوك السياسي الدولي منطل ًقا من‬

‫المشكالت المتعلقة باإلقليم والسكان والمصادر الطبيعية وجذور‬ ‫الحروب‪ ،‬باإلضافة إلى المشكالت المتع ّلقة بما أطلق عليه «األمة‬ ‫والمدن ّية واإلنسانية» كتراكيب اجتماعية تؤ ّثر على السلوك في‬ ‫المستوى الدولي‪.‬‬

‫ومن خالل البعد التاريخي سعى ريمون آرون إلى ّ‬ ‫أن يربط‬ ‫يتصوره وبين النظام الدولي منذ‬ ‫بين نظريته وعلم االجتماع كما‬ ‫ّ‬ ‫عام ‪1945‬م‪.‬‬

‫وفي إطار البعد التطبيقي حاول آرون اشتقاق سلسلة من القواعد‬ ‫للسلوك الدولي من خالل تطبيق إطاره التحليلي على التاريخ‬ ‫المعاصر(((‪.‬‬ ‫((( جيمس دودتي وروبرت بالتسغراف‪ ،‬النظريات المتضاربة في العالقات الدولية‪،‬‬ ‫ترجمة وليد عبيد الحي‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬من ص‪ 80‬إلى ص‪.90‬‬ ‫‪131‬‬


‫أنطلق ريمون آرون في تحليله لعالم السياسة الدولي من البحث‬ ‫عن مفهوم أساس يرتبط بطبيعة البيئة الدولية التي تتسم بتعدّ د‬ ‫مراكز اتخاذ القرار النهائي في غياب حكم أعلى‪ ،‬مما يعطي الحق‬ ‫لكل عضو فيها في االلتجاء إلى العنف‪ ،‬ومع اعترافه بأن الصراع‬ ‫المميزة للبيئة الدولية وأن أداة الصراع ووسيلته هي‬ ‫هو الطبيعة‬ ‫ّ‬ ‫«القوة» كمفهوم أساسي ينطلق منه في تحليل‬ ‫القوة‪ ،‬إال أنه رفض‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الواقع الدولي لما في هذا المفهوم من ميوعة ـ كما يرى‪ ،-‬لذلك‬ ‫راح يبحث عن مفهوم أساس ينبع من طبيعة البيئة الدولية التي‬ ‫ترتكز إلى ظاهرة تعدّ د مراكز القوى التي تسعى كل منها لتحقيق‬ ‫مصالحها في مواجهة ما عداها من القوى استنا ًدا على قوتها‬ ‫الذاتية وفي ظل االحتكام إلى المصلحة الوطنية كقانون يحكم‬ ‫هذا الصراع الجدلي وينتهي بالعالقات بين القوى إلى إحدى‬ ‫حالتين‪ ،‬الحرب أو السالم‪ ،‬فحقيقة عالم السياسة الدولي هي‬ ‫حقيقة واحدة ذات وجهين هما الحرب والسالم ترتسم مالمحها‬ ‫من خالل التعامل والتفاعل بين القوى الدولية في صورة تعامل‬ ‫دبلوماسي أو تفاعل إستراتيجي ليصل ريمون آرون إلى مفهوم‬ ‫«وحدة السياسة الخارجية» بوجهيها اإلستراتيجية والدبلوماسية‬ ‫كمفهوم أساس لتحليل الواقع الدولي‪.‬‬ ‫اإلستراتيجية والدبلوماسية كأداتين للسياسة الخارجية كفن‬ ‫للتعامل مع الدول األخرى احتكا ًما للمصالح الوطنية تعني ّ‬ ‫أن‬ ‫اإلستراتيجية فن اإلكراه وتعني الدبلوماسية فن اإلقناع كوسيلتين‬ ‫‪132‬‬


‫لهدف واحد هو إخضاع الوحدات السياسية األخرى إلرادة الوحدة‬ ‫السياسية بما يح ّقق مصلحتها الوطنية‪.‬‬

‫وتجدر اإلشارة إلى ّ‬ ‫مفصل المفاهيم‬ ‫أن الباحث قد تناول بشكل ّ‬ ‫الرئيسية التي اعتمد عليها ريمون آرون في بناء نظريته في وحدة‬ ‫السياسة الخارجية وهي مفاهيم «جدلية الصراع‪ ،‬اإلستراتيجية‪،‬‬ ‫الدبلوماسية» في مكان آخر ـ في إطار إثبات ارتباط نظرية ريمون آرون‬ ‫القوة كمفهوم أساسي برغم رفضه لهذا المفهوم واالستعاضة‬ ‫بمفهوم ّ‬ ‫عنه بمفهوم وحدة السياسة الخارجية كمفهوم أساس‪.‬‬ ‫لذا سيكتفي الباحث بما تمت اإلشارة إليه بخصوص هذه المفاهيم‬ ‫الرئيسية الثالثة في نظرية ريمون آرون لينتقل لتناول مجموعة من‬ ‫المفاهيم األخرى التي تضمنتها نظريته على النحو التالي‪:‬‬

‫«القوة» من خالل ّ‬ ‫أن قوة‬ ‫تعامل ريمون آرون في نظريته مع مفهوم ّ‬ ‫الوحدة السياسية ومركزها بين القوى السياسية األخرى يتحدّ د بالموارد‬ ‫المادية والبشرية التي تخصصها لممارسة السلوك الدبلوماسي أو‬ ‫اإلستراتيجي على الصعيد الدولي في ظل مستوى التوظيف لهذه‬ ‫الموارد وفي ظل األهداف التي ينشدها القادة السياسيون‪ ،‬كما يؤكد‬ ‫على ّ‬ ‫القوة كغاية في حد ذاتها‬ ‫أن الوحدات السياسية ال تسعى المتالك ّ‬ ‫وإنما كوسيلة لتحقيق بعض األهداف كالسالم أو المجد من أجل‬ ‫التأثير في النظام الدولي(((‪.‬‬ ‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.91‬‬ ‫‪133‬‬


‫يخص المفاهيم التي استخدمها ريمون آرون والمتع ّلقة‬ ‫وفيما‬ ‫ّ‬ ‫بالنظم الدولية «االنساق الدولية» فقد م ّيز بين النظم الدولية من حيث‬ ‫طبيعتها إلى «نظم متجانسة» و«نظم غير متجانسة»‪ ،‬ومن حيث توزيع‬ ‫ليقسمها إلى «نظام متعدد األقطاب» و«نظام‬ ‫القوى بين وحداتها ّ‬ ‫ثنائي القطبية»‪.‬‬

‫ونظما‬ ‫نظما متجانسة‬ ‫ً‬ ‫فمن حيث طبيعة النظم الدولية في كونها ً‬ ‫غير متجانسة فيرى ريمون آرون ّ‬ ‫أن النظام المتجانس هو النظام الذي‬ ‫يحتوي مجموعة من الدول التي تشترك في قيم ومبادئ واحدة ترتكز‬ ‫عليها في كيانها االجتماعي واالقتصادي والسياسي‪ ،‬وفي النظام‬ ‫المتجانس يحصل االتفاق على األهداف األساسية للنظام وبما‬ ‫يجعل الصراع الذي يحدث داخل هذا النظام ال يستهدف تغيير النظام‬ ‫نفسه‪ ،‬بينما النظام غير المتجانس الذي يقوم على مجموعة من الدول‬ ‫تنتمي في نظمها الداخلية إلى أيديولوجيات متباينة ومتصادمة‪ ،‬فإن‬ ‫الصراع يجري على طبيعة النظام الدولي نفسه وليس على أهداف‬ ‫في إطار النظام(((‪.‬‬

‫ويجسد ريمون آرون النظام المتجانس في نظام القطبية المتعددة‬ ‫ّ‬ ‫الذي شهده الواقع الدولي (األوربي) خالل الفترة من نهاية الحروب‬ ‫يجسد النظام‬ ‫الدينية ‪1648‬م وحتى قيام الثورة الفرنسية ‪1798‬م‪ ،‬بينما ّ‬ ‫غير المتجانس في نظام القطبية الثنائية الذي عرفه العالم بعد انتهاء‬ ‫الحرب العالمية الثانية‪.‬‬ ‫((( عادل فتحي ثابت‪ ،‬النظرية السياسية المعاصرة‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.323‬‬ ‫‪134‬‬


‫ومن حيث توزيع القوى فإن كال النظامين (المتعدد القطبية‬ ‫ويوضح آرون آل ّية التوازن في النظام ثنائي‬ ‫والثنائي) به آل ّية للتوازن‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫القطبية من خالل القاعدة الرئيسية للتوازن والتي تتم ّثل في ّ‬ ‫أن الدولة‬ ‫التي تتزايد قوتها يجب ّ‬ ‫أن تتو ّقع االنشقاق لبعض حلفائها وانضمامهم‬ ‫للمعسكر اآلخر بهدف تحقيق التوازن‪ ،‬وفي المقابل فإن القانون العام‬ ‫للتوازن في نظام القطبية المتعدّ دة هو ّ‬ ‫أن هدف األطراف الرئيسية هو‬ ‫الحيلولة دون حصول طرف واحد على عناصر قوة تفوق ما لدى‬ ‫اآلخرين(((‪.‬‬

‫بالرغم من ّ‬ ‫أن الصراع هو واقع البيئة الدولية كما يقرر ريمون‬ ‫آرون‪ ،‬إال أنه يرى ّ‬ ‫أن هناك إمكانية لتحقيق السالم من خالل ثالثة‬ ‫أوضاع أو نماذج للعالقات بين القوى الدولية‪:‬‬

‫ً‬ ‫أول‪ :‬من خالل «التوازن» بين القوى القطبية من حيث توزيع‬ ‫القوة في كل من النسق أو النظام المتعدد أو النسق الثنائي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ففي النسق المتعدد األقطاب فإن أية قوة قطبية داخل النسق‬ ‫تحاول التفوق على ما عداها من القوى القطبية‪ ،‬األمر‬ ‫الذي يستدعي رد فعل تلقائي من جانب القوى القطبية‬ ‫القوة التي تحاول التفوق‬ ‫األخرى بوقوفها في وجه تطلعات ّ‬ ‫واإلخالل بالتوازن‪ ،‬وفي حالة النسق ثنائي القطبية فإن آل ّية‬ ‫التوازن تعمل من خالل سعي كل من القطبين إلى التفوق‬

‫((( جيمس دورتي وروبرت بالتسغراف‪ ،‬النظريات المتضاربة في العالقات الدولية‪،‬‬ ‫ترجمة وليد عبد الحي‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.92‬‬ ‫‪135‬‬


‫على اآلخر وفي ذات الوقت وقوفه في وجه سعي الطرف‬ ‫اآلخر للتفوق(((‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬يمكن ّ‬ ‫أن يتحقق السالم من خالل «الهيمنة» عندما تتمكن‬ ‫إحدى القوى الدولية من الحصول على إمكانية قوة تفوق‬ ‫القوى األخرى وال ينازع تفوقها أي من الوحدات السياسية‬ ‫األخرى‪ ،‬في حين ال تسعى تلك الوحدات الدولية األخرى‬ ‫إلى تغيير الوضع القائم(((‪.‬‬

‫ثال ًثا‪ :‬نموذج «اإلمبراطورية العالمية» حيث تسعى الوحدة‬ ‫الدولية إلى ابتالع الوحدات الدولية األخرى وإلغاء‬ ‫وجودها ككيانات سياسية ذات سيادة ـ كما حاول نابليون‬ ‫ّ‬ ‫أن يفعل في بداية القرن التاسع عشر ـ والسالم الممكن‬ ‫في ظل اإلمبراطورية العالمية يتح ّقق كنتيجة لقيام هذه‬ ‫اإلمبراطورية وليس أثناء فترة السعي لقيامها وتحقيقها‪،‬‬ ‫فمن الطبيعي ّ‬ ‫أن تكون تلك الفترة هي األعنف في الصراع‬ ‫والحروب(((‪.‬‬

‫استند كابالن بدرجة كبيرة على نظرية المباريات وعلى أفكار‬ ‫«كارل دويتش» بشأن نظرية االتصال في بناءه لنموذجه النظري‪،‬‬ ‫((( عادل فتحي ثابت‪ ،‬النظرية السياسية المعاصرة‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.325‬‬ ‫((( جيمس دورتي وروبرت بالتسغراف‪ ،‬النظريات المتضاربة‪ ،‬ترجمة وليد عبد الحي‪،‬‬ ‫(مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.93‬‬ ‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.94‬‬ ‫‪136‬‬


‫كما استند على مفهوم «النسق» المرتبط بالضرورة بمفهومي‬ ‫بتصور ستة أوضاع ممكنة لعالقات القوى‬ ‫«القوة» و«التوازن»‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫في المجال الدولي في ظل حالة التوازن (النمطي) بين هذه‬ ‫القوى في كل وضع من تلك األوضاع بما ينتج ستة أشكال‬ ‫لألنساق الدولية اعتبرها كابالن تتمثل في‪ :‬نسق توازن القوى‪،‬‬ ‫نسق القطبية الثنائية الرخو‪ ،‬نسق القطبية الثنائية المحكم‪ ،‬النسق‬ ‫العالمي‪ ،‬النسق الدولي التصاعدي (الهيراركي)‪ ،‬نسق الوحدة‬ ‫المعترضة (الفيتو)‪.‬‬ ‫يرى كابالن ّ‬ ‫أن هناك مجموعة من المتغ ّيرات المترابطة والمتداخلة‬ ‫تحكمها في عملية التفاعل بين‬ ‫التي تتحكّم في كل نسق من خالل‬ ‫ّ‬ ‫وحدات النسق الدولي‪ ،‬وبالتالي فإن تحليل التأثير المتبادل بين هذه‬ ‫المتغ ّيرات هو أداة الوصول إلى معرفة الكيفية التي يتم بها اتزان‬ ‫القوة بين‬ ‫النسق الدولي واستقراره‬ ‫والتعرف على خصائصه وتوزيع ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتعرف على التغ ّيرات التي‬ ‫وحداته‪ ،‬وكيف ّية تحقيق االتزان داخله‬ ‫ّ‬ ‫تحول النسق من وضع ّية إلى‬ ‫تطرأ على هذا االتزان بما قد يؤدي إلى ّ‬ ‫وضع ّية أخرى(((‪.‬‬

‫تتم ّثل المتغ ّيرات التي أشار إليها كابالن في خمس مجموعات‬ ‫(((‬ ‫أساسية هي‪:‬‬ ‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.332‬‬ ‫((( جيمس دورتي وروبرت بالتسغراف‪ ،‬النظريات المتضاربة‪ ،‬ترجمة وليد عبد الحي‪،‬‬ ‫(مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.126‬‬ ‫‪137‬‬


‫أ ) المتغ ّيرات الرئيسية‪ :‬وهي رئيسية ألنها بمثابة قواعد أساسية‬ ‫واجبة التطبيق للحافظ على التوازن داخل النسق‪.‬‬

‫ب) المتغ ّيرات التحويلية‪ :‬وهي مدخالت في النسق (النظام)‬ ‫ال تعتبر ضرورية للتوازن داخل النسق ولكن من خاللها‬ ‫يمكن الكشف عن التغ ّير الذي يطرأ على أداء النسق بما‬ ‫قد يؤدي إلى انتقاله إلى شكل آخر من أشكال النسق‬ ‫الدولي‪.‬‬ ‫جـ) المتغ ّيرات التصنيفية‪ :‬وهي المتغ ّيرات المعنية بتبيان الخصائص‬ ‫البنائية (الهيكلية) ألطراف النسق ومن خاللها يتم تصنيف‬ ‫األطراف الفاعلة في النسق إلى قطبية وغير قطبية‪.‬‬ ‫د ) متغ ّيرات القدرة‪ :‬وتتع ّلق بحجم وإمكانيات القوى القطبية‬ ‫القوة المختلفة المتو ّفرة لدى‬ ‫في النسق من حيث عناصر ّ‬ ‫هذه األطراف القطبية وخاصة فيما يتع ّلق بمستويات التسليح‬ ‫والتقدّ م التقني‪.‬‬

‫هـ) المتغ ّيرات اإلعالمية‪ :‬وتتم ّثل في مستويات ودرجات االتصال‬ ‫داخل النسق‪.‬‬

‫التعرف بشيء من التفصيل على األشكال الستة التي‬ ‫ويمكن‬ ‫ّ‬ ‫تصورها كابالن لألنساق الدولية‪ ،‬مع مالحظة ّ‬ ‫أن شكلين فقط من‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫تاريخا وهي (نسق توازن القوى ونسق‬ ‫تلك األشكال قد تحق ّقت‬ ‫القطبية الثنائية الرخو)‪ ،‬بينما بقية األشكال األربعة األخرى لم تتجاوز‬ ‫‪138‬‬


‫كونها أنسا ًقا افتراضية‪ ،‬يرى كابالن أنها من الممكن ّ‬ ‫أن تتحقق الح ًقا‬ ‫في الواقع الدولي(((‪.‬‬ ‫‪ 1‬ـ ن�سق توازن القوى‬

‫ويجسد هذا الشكل من األنساق الدولية توازن القوى األوربي‬ ‫ّ‬ ‫خالل القرن التاسع عشر‪ ،‬حيث تم ّيز النسق الدولي في تلك الفترة‬ ‫بتعدّ د القوى القطبية التي كانت تسعى بحماية وتحقيق مصالحها‬ ‫في مواجهة بعضها البعض‪ ،‬وقد كان أسلوب التحالف من أهم‬ ‫أساليب تحقيق االتزان في إطار هذا النسق‪ ،‬وتتم ّثل مجموعة القواعد‬ ‫األساسية التي تتحكّم في سلوكيات القوى القطبية المتعددة داخل‬ ‫هذا النسق في‪:‬‬ ‫أ ) كل طرف يسعى إلى زيادة قدراته مع تقديم (التفاوض) على‬ ‫القوة‪.‬‬ ‫(القتال) في إطار الصراع من أجل زيادة ّ‬ ‫ب) على كل طرف (العب) اللجوء إلى القتال ً‬ ‫بدل من تفويت‬ ‫الفرصة لزيادة قدراته‪.‬‬ ‫جـ) يتوقف القتال إذا كان سيؤدي إلى إخراج طرف رئيس من‬ ‫(الملعب)‪.‬‬

‫د ) التصدي لكل محاولة فردية أو جماعية (حلف) تستهدف‬ ‫الهيمنة والتسلط على بق ّية األطراف‪.‬‬ ‫((( عادل فتحي ثابت‪ ،‬النظرية السياسية المعاصرة‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.335‬‬ ‫‪139‬‬


‫هـ) يتم الكبح والتصدي لكل طرف يسعى إلى وجود منظمات‬ ‫فوق قومية‪.‬‬

‫و ) العمل على إعادة الالعبين الرئيسيين إلى صفوف الالعبين‬ ‫الكبار بعد هزيمتهم‪ ،‬مع إمكانية إدخال العبين غير رئيسيين‬ ‫كالعبين رئيسيين(((‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ ن�سق القطبية الثنائية الرخو‬

‫ويجسده النسق الدولي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية‬ ‫ّ‬ ‫بحيث تتوزع القوى على كتلتين كبيرتين مع وجود أطراف دولية‬ ‫(هامة) غير مرتبطة بأي من الكتلتين في شكل وحدات دولية (دول)‬ ‫مثل‪ ،‬أو في شكل منظمات دولية (األمم المتحدة ً‬ ‫كالهند ً‬ ‫مثل)‪،‬‬ ‫ويكتسب هذا النسق رخويته (تهلهله) ارتبا ًطا بطبيعة العضوية في‬ ‫التكتل‪ ،‬فإذا كانت العضوية صارمة بما يعني ّ‬ ‫أن الدول غير الملتزمة‬ ‫بأي من الكتلتين هي وحدها التي يمكن ّ‬ ‫أن تغ ّير التحالفات من خالل‬ ‫(محكما)‪،‬‬ ‫انضمامها إلى أي من الكتلتين‪ ،‬ويكون بذلك هذا النسق‬ ‫ً‬ ‫أما إذا كان هناك إمكانية أكثر للتنقل بين التحالفات باإلضافة إلى‬ ‫تهلهل التدرج الهيراركي للقوة داخل كل كتلة (أي ّ‬ ‫القوة‬ ‫أن توزيع ّ‬ ‫محكما في تدرجها كقوى كبرى ثم متوسطة‬ ‫داخل الكتلة يكون غير‬ ‫ً‬ ‫رخوا‪.‬‬ ‫ثم صغيرة) فإن النسق في هذه الحالة يكون نس ًقا ً‬ ‫((( جيمس دورتي وروبرت بالتسغراف‪ ،‬النظريات المتضاربة‪ ،‬ترجمة ولدي عبد الحي‬ ‫(مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.126‬‬ ‫‪140‬‬


‫يخص القواعد األساسية التي تحكم سلوك األطراف في‬ ‫وفيما‬ ‫ّ‬ ‫هذا النسق القطبي الثنائي الرخو فقد وضعها كابالن على النحو التالي‪:‬‬

‫أ ) كل كتلة تسعى إلى تصفية الكتلة المنافسة عبر سلسلة متدرجة‬ ‫من التكتيكات‪ ،‬تبدأ ً‬ ‫أول بالتفاوض ثم التقاتل في شكل حرب‬ ‫محدودة ثم اللجوء إلى الحرب الشاملة والكبرى إذا فشلت‬ ‫في التخ ّلص من المنافس‪.‬‬ ‫ب) ّ‬ ‫تفضل‬ ‫القوة ّ‬ ‫أن أطراف الكتلة غير المحكمة في تدرجها في ّ‬ ‫التفاوض عن القتال لزيادة قوتها مع عدم استبعاد الحرب‬ ‫كوسيلة لتحقيق األهداف‪.‬‬ ‫جـ) الحيلولة دون ّ‬ ‫مركزا مهيمنًا باالستعداد‬ ‫أن تحقق الكتلة المنافسة ً‬ ‫للجوء للحرب حتى ال يتحقق ذلك‪.‬‬

‫د) أطراف كل كتلة يعملون على إخضاع األطراف العالمية (األمم‬ ‫المتحدة) ألهدافهم الذاتية‪.‬‬

‫هـ) يتمثل دور األطراف العالمية في العمل على تقليل االحتكاك‬ ‫بين الكتلتين والعمل على توظيف الدول غير المنخرطة في‬ ‫التكتل لمواجهة أي انحراف خطير من أحد أعضاء كتلة مع ّينة‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ ن�سق القطبية الثنائية المحكم‬

‫وهو نموذج افتراضي لشكل العالقات الدولية لم يتح ّقق تاريخ ًيا‪،‬‬ ‫وهو يتشابه في جوانب كثيرة مع النسق ثنائي القطبية الرخو‪ ،‬على‬ ‫‪141‬‬


‫أساس ّ‬ ‫القوة‪،‬‬ ‫أن العالقات داخل كل كتلة تتسم بالتدرج الهراركي في ّ‬ ‫كما ّ‬ ‫أن العضوية في إحدى الكتلتين جامدة حيث ال إمكانية لتغير‬ ‫حجم العضوية مما يشير إلى نوع من التكامل الوظيفي بين األطراف‬ ‫داخل الكتلة الواحدة‪ ،‬وحيث ال مشاركة من أي كتلة أخرى أو العبين‬ ‫عالميين في التحكّم في مصير عالقات القوى داخل النسق‪ ،‬ويتحقق‬ ‫التوازن من خالل توازن الكتلتين‪.‬‬ ‫أما بالنسبة للقواعد التي تحكم سلوك األطراف الدولية داخل‬ ‫هذا النسق فهي ذاتها القواعد التي تحكم سلوك األطراف في النسق‬ ‫ثنائي القطبية الرخو باستثناء ما يتع ّلق بالقواعد المترتبة على وجود‬ ‫أطراف عالية‪ ،‬حيث ال إمكانية لوجود هذه األطراف وأداءها ألدوار‬ ‫في إطار النسق ثنائي القطبية المحكم(((‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ الن�سق العالمي‬

‫ويمكن ّ‬ ‫أن يتح ّقق هذا النسق االفتراضي ـ حسب رأي كابالن ـ إذا‬ ‫تم اتساع وتدعيم الدور المناطق بالطرف العالمي (األمم المتحدة)‪،‬‬ ‫حيث تتح ّقق درجة عالية من االتصال والتكامل بين وحدات النسق‬ ‫تطور وتش ّعب األدوار التي تضطلع بها المنظمة‬ ‫الدولي من خالل ّ‬ ‫الدولية كطرف دولي (عالمي) داخل النسق الثنائي القطبية الرخو‬ ‫مع افتراض ّ‬ ‫أن كافة األطراف الدولية (الالعبين) يستخدمون الطرق‬ ‫السليمة لتحقيق أهدافهم ومصالحهم مع التزامهم بالتق ّيد بالقواعد‬ ‫((( عادل فتحي ثابت‪ ،‬النظرية السياسية المعاصرة‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.‬ص‪.343 ،342‬‬ ‫‪142‬‬


‫السياسية الرسمية التي تقرها المنظمة الدولية‪ ،‬ويدور في فلك هذه‬ ‫االفتراضات مجموعة القواعد الرئيسية التي حددها كابالن لتحكم‬ ‫سلوك األطراف الدولية في هذا النسق ومنها‪:‬‬ ‫أ ) كل األطراف يجب ّ‬ ‫أن يسعوا إلى زيادة مكافآتهم وقدرتهم‬ ‫على الوصول إلى مرافق النسق «المنظمة الدولية»‪.‬‬

‫ب) كل األطراف يعملون على زيادة الموارد وتفعيل نشاط‬ ‫المنظمة الدولية (جوهر النسق)‪.‬‬ ‫جـ) عند التعارض بين القاعدة (أ) و(ب) فإن (أ) تخضع ل(ب)‪.‬‬

‫سليما لتحقيق أهدافهم‪.‬‬ ‫د ) كل األطراف يسلكون سلوكًا‬ ‫ً‬

‫هـ) األفراد الذين يعملون في أجهزة النسق (أجهزة المنظمة‬ ‫الدولية) يتخذون قراراتهم طب ًقا لمصلحة النسق الدولي‬ ‫ككل(((‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ الن�سق الدولي الت�صاعدي (الهيراركي)‬

‫ويقوم هذا النسق على أساس وظيفي وليس على أساس سياسي‬ ‫أو إقليمي‪ ،‬حيث تكون التنظيمات عبر القومية وجماعات الضغط‬ ‫موج ًها‬ ‫هي األطراف األساسية في هذا النسق‪ ،‬وقد يكون هذا النسق ّ‬ ‫موجه‪ ،‬بمعنى أنه قد يوجد تحت ظروف النظم السلطوية‬ ‫أو غير ّ‬ ‫((( جيمس دورتي وروبرت بالتسغراف‪ ،‬النظريات المتضاربة‪ ،‬ترجمة وليد عبد الحي‪،‬‬ ‫(مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.130‬‬ ‫‪143‬‬


‫والدكتاتورية‪ ،‬أو تحت ظروف المنافسة الحرة بما يتماشى مع قواعد‬ ‫النظم الديمقراطية(((‪ ،‬ويرى كابالن ّ‬ ‫أن هذا النوع من األنساق الدولية‬ ‫نظرا ألن التقسيم الوظيفي واالعتماد المتبادل‬ ‫يكون أكثرها‬ ‫استقرارا ً‬ ‫ً‬ ‫نظرا‬ ‫في المجاالت الحيوية يجعل من الصعب انسحاب أي طرف منه ً‬ ‫للخسارة الفادحة التي ستلحق به نتيجة النسحابه‪ ،‬ويتم ّيز هذا النسق‬ ‫بأنه أكثر األنساق الدولية تحقي ًقا لالتصال والتكامل والتضامن(((‪.‬‬ ‫‪ 6‬ـ ن�سق الوحدة المعتر�ضة (الفيتو)‬

‫يحدّ د كابالن شر ًطا أساس ًيا واحدً ا لهذا النسق وهو ّ‬ ‫أن يكون‬ ‫لدى كل طرف من األطراف الدولية الداخلة في النسق القدرة على‬ ‫تدمير أي طرف آخر‪ ،‬مع امتناع كل طرف من األطراف عن القيام‬ ‫بهذا السلوك في ظل خاص ّية الردع المتبادل التي من شأنها تحقيق‬ ‫توازن النسق واستقراره‪ ،‬لكن كابالن يرى أنه قد يطرأ نوع من التغ ّير‬ ‫يحوله إلى النسق التصاعدي وذلك إذا نجح طرف‬ ‫على هذا النسق ّ‬ ‫في ابتزاز األطراف األخرى بما يؤدي إلى تناقص عدد األطراف‬ ‫الرئيسية في النسق ويهيئ لالعب واحد إمكانية الوصول إلى قمة‬ ‫سلم القوى داخل النسق(((‪.‬‬ ‫تم ّثل جهود كابالن المهمة األصعب في مجال البحث السياسي‬

‫((( المرجع نفسه‪ ،‬الصفحة نفسها‪.‬‬ ‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.131‬‬ ‫((( عادل فتحي ثابت‪ ،‬النظرية السياسية المعاصرة‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬ص‪.346‬‬ ‫‪144‬‬


‫مجسدة في «نظم‬ ‫المعني بدراسة الواقع الدولي بواسطة نماذج‬ ‫ّ‬ ‫وعملية» «‪ »Process and Systems‬باستخدام المعلومات التاريخية‬ ‫إلجراء مقارنة مع النموذج النظري للنسق‪ ،‬ثم اختبار مدى االتساق‬ ‫في النماذج من خالل استخدام األدوات الرياضية والحاسوب وبما‬ ‫يؤدي إلى تنظيم المعلومات وإعطاءها دالالت تسهم في بناء نظرية‬ ‫على المستوى الكلي(((‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ :‬النموذج النظري لكارل دويت�ش‬

‫(((‬

‫اعتمد كارل دويتش في تحليله للعالقات الدولية في نموذجه‬ ‫النظري (نظريته) الذي قدمه من خالل كتابه الذي يحمل عنوان‬ ‫(تحليل العالقات الدولية) على مفهومي «االتصال الدولي»‬ ‫المحصلة‬ ‫و«التكامل الدولي»‪ ،‬حيث يعتبر التكامل الدولي النتيجة‬ ‫ّ‬ ‫بفعل الجهود المبذولة لتحقيق االتصال بين األطراف الدولية‪.‬‬

‫يستمد مفهوم االتصال الدولي ـ عند دويتش ـ داللته من مفهوم‬ ‫«االتصال االجتماعي»‪ ،‬الذي يرى فيه أنه المسؤول عن بلورة‬ ‫الطابع القومي (الشخصية القومية) مما قاد المجتمعات السياسية‬ ‫((( جيمس دورتي وروبرت بالتسغراف‪ ،‬النظريات المتضاربة‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪،‬‬ ‫ص‪.132‬‬ ‫((( اعتمد الباحث بشكل أساسي على كتاب عادل فتحي ثابت‪ ،‬النظرية السياسية‬ ‫المعاصرة‪( ،‬مرجع سبق ذكره)‪ ،‬في التعريف بالنموذج النظري لكارل دويتش‬ ‫وبعض االنتقادات التي وجهت إليه في الصفحات من ‪ 350‬إلى ‪.378‬‬ ‫‪145‬‬


‫إلى ظاهرة «الدولة القومية» وذلك من خالل عملية التنشئة االجتماعية‬ ‫والسياسية المرتبطة بنمو واستمرار وتكثيف عملية االتصال بين أفراد‬ ‫المجتمع الواحد‪ ،‬واستدعى قيام الدولة القومية ظهور المجتمع‬ ‫يخص‬ ‫المتميزة عن المجتمعات المح ّلية فيما‬ ‫الدولي بخاص ّيته‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫غياب السلطة العليا اإللزامية وانتظام العالقات في شكل نسق (نظام)‬ ‫تلعب مسألة التوازن فيه الدور األكبر في الحفاظ عليه واستمراريته‪،‬‬ ‫وفي إطار النسق الدولي تحدث التغ ّيرات في القدرات واإلمكانيات‬ ‫دورا ف ّع ًال في‬ ‫واإلستراتيجيات ويلعب هنا االتصال بين الدول ً‬ ‫إحداث نوع من االنسجام في أهداف السياسة الخارجية للدول في‬ ‫إطار السعي نحو تحقيق التكامل الدولي‪.‬‬ ‫بدأ دويتش بتوضيح وسائل وأدوات وقنوات االتصال بين الدول‬ ‫والتي أصبحت بفعل (ثورة االتصاالت) أحد أهم أسس اتخاذ القرار‬ ‫في السياسة الخارجية‪ ،‬وقد حدّ د قنوات االتصال الرئيسية بين‬ ‫األطراف الدولية في اإلعالم والمواصالت والعالقات االقتصادية‬ ‫والدبلوماسية‪ ،‬ويرى ّ‬ ‫أن االتصال والتفاعل بين الدول هو الذي أ ّطر‬ ‫العالقات الدولية في اتجاهين هما الصراع والتكامل‪ ،‬حيث يسود‬ ‫الصراع بين الدول عند تعارض القيم والمصالح ويحدث التكامل‬ ‫بفعل ضرورات االعتماد المتبادل‪ ،‬وهنا يفترض دويتش وجود (تحكم‬ ‫ذاتي) في جهاز اتخاذ القرار في كل دولة يعمل على استبعاد العوامل‬ ‫والمعطيات المؤدية إلى الصراع والناتجة عن تعارض المصالح‬ ‫القوة‪ ،‬وهذا (التحكم الذاتي) قادر ـ حسب رأي‬ ‫واختالل موازين ّ‬ ‫‪146‬‬


‫دويتش ـ على تغيير احتماالت العالقة الدولية في ّ‬ ‫أن تكون صرا ًعا‬ ‫ً‬ ‫تكامل‪.‬‬ ‫أو‬

‫يتصور دويتش‬ ‫وفي توض ّيحه آلل ّية عمل جهاز (التحكم الذاتي)‬ ‫ّ‬ ‫أن بإمكان الدولة ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن تتحكّم في سلوكها الدولي ـ أي في قراراتها‬ ‫في مجال السياسة الخارجية ـ من خالل عملية معالجة للمعلومات‬ ‫المراجعة ‪ Feed Back‬لجهاز اتخاذ القرار الخارجي بما ينسجم مع‬ ‫المصلحة الوطنية‪ ،‬حيث يكون مصدر المعلومات الراجعة البيئة‬ ‫المتوفرة لدى صانع‬ ‫الدولية والبيئة الوطنية‪ ،‬وفي ظل الخبرة والمهارة‬ ‫ّ‬ ‫القرار الخارجي وفي ظل فعالية أجهزة االستقبال وقنوات االتصال‬ ‫لهذه المعلمات تتم عملية المراجعة المعنّية بتحديد السلوك الالحق‬ ‫للدولة على ضوء نتائج السلوك السابق‪ ،‬وتكون هذه العملية (االتصال‬ ‫في ظل التحكم الذاتي) هي السبيل لعدم تصعيد الصراع الدولي‪،‬‬ ‫وحين تفشل هذه العملية ويحتّم تعارض المصالح تصاعد الصراع‬ ‫فإن دويتش يرى أنه البد ّ‬ ‫أن تحافظ الدولة على قدر من التحكّم الذاتي‬ ‫مهما كان نوع الصراع للتخفيف من حدّ ة الصراع مع الطرف اآلخر‪.‬‬ ‫�أ�شكال ال�صراع عند دويت�ش‬

‫يصنف دويتش درجات الصراع إلى ثالثة صور طب ًقا لدرجة ضبط‬ ‫النفس والسيطرة المتبادلة من طرفي الصراع على النحو التالي‪:‬‬ ‫ً‬ ‫أول‪ :‬المناظرات‬

‫ويأخذ الصراع صورة التفاوض والجدل بين الطرفين المعنيين‬ ‫‪147‬‬


‫في محاولة كل منهما تغيير موقف الخصم تجاه المشكلة‬ ‫المطروحة‪ ،‬وتلعب مهارات وقدرات المفاوضين من دبلوماسيين‬ ‫مهما في حسم هذا النوع من الصراع لصالح طرف‬ ‫دورا ً‬ ‫أو غيرهم ً‬ ‫وتتجسد المهارات والقدرات التفاوضية في قدرة كل‬ ‫دون اآلخر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫طرف على الت ّعرف على و فهم األسس التي عن طريقها يمكن‬ ‫دورا‬ ‫إقناع الطرف اآلخر بوجهة النظر‪ ،‬وتلعب مسألة الوقت هنا ً‬ ‫مهما‪ ،‬حيث عاد ًة ما يطول وقت المفاوضات وبمرور الزمن قد‬ ‫ً‬ ‫التصور عند‬ ‫تتغ ّير أهداف ومصالح أطرف النزاع‪ ،‬ويقوم هذا‬ ‫ّ‬ ‫دويتش على افتراض ضبط النفس والسيطرة الذاتية المتبادلة بين‬ ‫األطراف المتنازعة‪.‬‬ ‫ثان ًيا‪ :‬المباريات‬

‫إلى جانب نظرية االتصال يعتمد دويتش في تحليله للعالقات‬ ‫الدولية على نظرية «المباراة» والتي تستند على تشبيه حالة الصراع‬ ‫تتضمن متنافسين‬ ‫الدولي بمباراة في لعبة من األلعاب الرياضية حيث ّ‬ ‫أو أكثر وقواعد للحركة واللعب متعارف أو متفق عليها‪ ،‬ونتائج‬ ‫للمنافسة‪ ،‬بحيث يمكن تطبيق نماذج المباريات الرياضية التنافسية‬ ‫على الدبلوماسية والحرب كأداتين لتنفيذ السياسة الخارجية للدولة‬ ‫من خالل أساليب رياضية تعتمد بدرجة كبيرة على ما يعرف بنظرية‬ ‫االحتماالت‪.‬‬

‫يفترض دويتش ّ‬ ‫أن كل العب (دولة) لديه درجة معقولة من‬ ‫السيطرة الذاتية على تحركاته الالحقة ولديه إمكانية الحتمال (تو ّقع)‬ ‫‪148‬‬


‫النتائج المترتبة ألي حركة يختارها‪ ،‬مع األخذ في االعتبار حركة‬ ‫الخصم المحتملة‪ ،‬حيث يجب على كل العب ّ‬ ‫أن يحدّ د ماذا يريد؟‬ ‫وأن يدرك إمكانياته وإمكانيات الخصم وأن يبني حركاته على أساس‬ ‫واقعي (موضوعي) وليس على مجرد التخمين‪ ،‬ويرى دويتش ّ‬ ‫أن‬ ‫كل العب (في الساحة السياسية الدولية) يجب ّ‬ ‫أن يكون له نوعان‬ ‫من الحركات‪ :‬حركات قصيرة األجل وهي ما يعرف بالتكتيكات‬ ‫وحركات طويلة األجل وهي ما يسمى باإلستراتيجية‪ ،‬بحيث تحتوي‬ ‫اإلستراتيجية وتتضمن الحركات التكتيكية‪ ،‬وأفضل اإلستراتيجيات‬ ‫هي تلك التي تزيد صافي األرباح إلى الحد األقصى أو تلك التي تق ّلل‬ ‫الخسائر إلى الحد األدنى‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وأشكال للمباريات في الساحة الدولية على‬ ‫صورا‬ ‫يقدم دويتش‬ ‫ً‬ ‫النحو التالي‪:‬‬ ‫أ ) مباريات القيمة المحدّ دة أو القيمة صفر‬

‫وفي هذا النوع من المباريات فإن أي ربح يحققه العب يعتبر‬ ‫نموذجا للصراع الشديد على شاكلة‬ ‫وتجسد بذلك‬ ‫خسارة لآلخر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫الصراع اإليديولوجي الذي كان بين الواليات المتحدة األمريكية‬ ‫واالتحاد السوفيتي إبان مرحلة الحرب الباردة‪ ،‬وترجع شدة الصراع‬ ‫إلى جمود المصالح والدوافع بالنسبة لالعبين (أطراف الصراع)‬ ‫بما يفضي إلى استمرارية الصراع بشكل دائم‪ ،‬وهنا يقدم دويتش‬ ‫ً‬ ‫وحلول يمكن ّ‬ ‫أن تجنّب العالقات الدولية هذا النوع‬ ‫إستراتيجيات‬ ‫من الصراع‪ ،‬لعل أهمها ـ كما يرى دويتش ـ إستراتيجية «الحل‬ ‫‪149‬‬


‫الوسط»‪ ،‬حيث يختار الالعب نو ًعا من اإلستراتيجية التي بإمكانها‬ ‫تقليل خسارته إلى الحد األدنى وبالتالي تقليل أرباح منافسة إلى الحد‬ ‫األدنى في ظل فرضية القبول والرضى بأقل األرباح الممكنة‪ ،‬فهو‬ ‫أن يختار أفضل البدائل السيئة المتاحة أو ّ‬ ‫إما ّ‬ ‫أن يختار أسوأ البدائل‬ ‫النافعة المتاحة‪ ،‬إلى ّ‬ ‫أن تلتقي نتائج المباراة في النهاية عند نقطة واحدة‬ ‫لالعبين يجتمع فيها الحد األدنى من الحدود القصوى لالعب مع‬ ‫الحد األقصى من الحدود الدنيا لمنافسه‪.‬‬ ‫ب) مباريات القيمة المتغ ّيرة‬

‫وهي الصورة األكثر شيو ًعا في مجال العالقات الدولية مقارن ًة‬ ‫بمباراة القيمة صفر أو القيمة المحدّ دة‪ ،‬حيث ال تحديد لقيمة مع ّينة‬ ‫فقد يربح أحد الالعبين شي ًئا من العب آخر وفي نفس الوقت يمكن‬ ‫لالعبين أساسيين ّ‬ ‫أن يربحوا من العب غير أساسي بطريقة جماعية‬ ‫أو قد يخسرون‪ ،‬حيث تختلط الدوافع بالنسبة لالعبين األساسيين‪،‬‬ ‫فقد يحاول أحدهم ّ‬ ‫ينسقون فيما بينهم‪،‬‬ ‫أن يكسب من اآلخر وقد ّ‬ ‫ويأتي الربح والخسارة تب ًعا للقدرة على التنسيق (مثال ذلك تكوين‬ ‫التحالفات الدولية)‪ ،‬وبذلك يرتبط هذا النوع من المباريات بما‬ ‫ويتجسد في صور وأشكال عديدة‬ ‫يسميه دويتش (الدافع المختلط)‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫من بينها‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ مباريات التهديدات المتبادلة‪ :‬حيث تكون المواجهة مباشرة‬ ‫بين قطبين أو كتلتين يهدد أحدهما اآلخر بالحرب النووية‬ ‫الشاملة‪ ،‬وتكون إستراتيجية الالعبين في هذه الحالة هي‬ ‫‪150‬‬


‫واحدة من إستراتيجيتين هما‪ :‬إما التعاون مع الطرف اآلخر‬ ‫بالتراجع تجن ًبا للتصادم‪ ،‬وإما االستمرار في الصراع مع احتمال‬ ‫تراجع أحدهما‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ مباريات التهديدات والوعود‪ :‬وتتحقق في ظل إستراتيجيتين‬ ‫هما‪ :‬التعاون على إيجاد ثقة متبادلة أو االرتداد عن هذا التعاون‬ ‫وفي ظل هاتين اإلستراتيجيتين يكون هناك عدد ال حصر له‬ ‫من االحتماالت‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ مباريات البقاء‪ :‬وتكون عند تطور الصراع بين خصمين‬ ‫(نوويين) إلى أقصى مراحله بعد عدة جوالت متتابعة‪ ،‬فيختار‬ ‫كل منهما االرتداد عن التعاون وتكون نهاية العالم كنتيجة‬ ‫لليأس الكامل وترك اللعبة‪ ،‬ويرى دويتش ّ‬ ‫أن النجاح في هذا‬ ‫النوع من المباريات يتم ّثل في االستمرار في اللعب من خالل‬ ‫اختيار أفضل إستراتيجية نسبية للفوز الكامن في االستمرار‬ ‫في اللعب‪ ،‬وتتخذ مباريات البقاء هنا صورة مباراة التهديد‬ ‫والردع كنوع من مباريات الدافع المختلط‪ ،‬حيث في ظل‬ ‫التهديد والردع يحتفظ الطرفان بمصلحة مشتركة تزداد مع‬ ‫زيادة تكلفة تنفيذ التهديد‪.‬‬

‫ثال ًثا‪ :‬القتال‬

‫وفي هذه الصورة يدور الصراع بين الالعبين بشكل شبه آلي‪،‬‬ ‫نظرا لتضاءل ضبط النفس (التحكم الذاتي والسيطرة المتبادلة)‬ ‫ً‬ ‫بين أطراف الصراع‪ ،‬وتنتهي األمور إلى بدأ القتال على أوسع‬ ‫‪151‬‬


‫نطاق‪ ،‬ورغم الوضع شبه اآللي لعمليات الصراع القتالي فإن‬ ‫دويتش يضع احتمالين عند نشوب الحرب‪ ،‬أولهما‪ :‬احتمال زيادة‬ ‫السرعة في تحركات األطراف المتحاربة‪ ،‬وثانيهما‪ :‬احتمال عرقلة‬ ‫األول‬ ‫وتقليل سرعة تحركات األطراف المتحاربة‪ ،‬وفي االحتمال ّ‬ ‫تتضاءل عمليات السيطرة المتبادلة وضبط النفس إلى ّ‬ ‫أن ينتهي‬ ‫األمر بتدمير أو انهيار أحد األطراف‪ ،‬وفي االحتمال الثاني تؤدي‬ ‫الضغوط السياسية واالقتصادية والمعارضة الداخلية والرأي‬ ‫العام العالمي ومثل هذا النوع من العوامل إلى زيادة ضبط النفس‬ ‫والسيطرة بمعدّ ل أسرع من عوامل تصعيد الصراع‪ ،‬لذلك يرى‬ ‫دويتش ّ‬ ‫أن معرفة العوامل التي تساعد على ضبط النفس بالنسبة‬ ‫للدول المتصارعة وتدعيمها وتقويتها يمكّن من التحكّم في الطابع‬ ‫اآللي للصراع والتغلب عليه‪.‬‬ ‫أن يعرض دويتش صور وأنواع الصراع يشير إلى ّ‬ ‫بعد ّ‬ ‫أن الصراعات‬ ‫القائمة فعل ًيا في الواقع الدولي غال ًبا ما تكون خلي ًطا من المناظرات‬ ‫والمباريات والقتال مع تفاوت في سيطرة هذا النوع أو ذاك تب ًعا‬ ‫للتغيرات في الزمان والمكان والظروف المحيطة في كل حالة من‬ ‫حاالت الصراع‪ ،‬وتجدر اإلشارة إلى ّ‬ ‫أن كارل دويتش عايش واقع‬ ‫البيئة الدولية المتم ّثل في نسق القطبية الثنائية عند تقديمه لنظريته‬ ‫في تحليل العالقات الدولية‪ ،‬وانطلق من هذا الواقع المهدّ د للحياة‬ ‫البشرية بوجود أسلحة الدمار الشامل ليقدّ م معالجة لسلوك القوى‬ ‫القطبية والسلوك الدولي بشكل عام من أجل الوصول إلى تحقيق‬ ‫‪152‬‬


‫أقصى قدر من التكامل الدولي‪ ،‬بحيث يتم تكييف سلوك بما يتالئم‬ ‫مع متطلبات التكامل‪ ،‬وإال فإن الجنس البشري مهدّ د بالفناء التام‬ ‫إذا نشبت حرب نووية‪ ،‬ويضع دويتش مجموعة من القواعد العامة‬ ‫للسلوك الدولي في ظل هذا الوضع منها‪:‬‬ ‫أ ) تدعيم وتنمية االعتماد المتبادل بين الدول بما يكيف عالم‬ ‫العالقات الدولية نحو تحقيق الهدف (التكامل)‪.‬‬

‫ب) ضرورة االلتزام بقواعد القانون الدولي‪ ،‬فبالرغم من ّ‬ ‫أن‬ ‫دويتش يرى ّ‬ ‫أن القانون الدولي (الحالي) هو أكثر أشكال‬ ‫التنظيم الدولي عالمية وأكثرها تحديدً ا‪ ،‬إال ّ‬ ‫أن ما يعيبه أنه‬ ‫جهازا ثابتًا يعمل على تطبيق قواعد هذا القانون‪،‬‬ ‫ال يملك‬ ‫ً‬ ‫كما ّ‬ ‫أن األمم المتحدة ـ كشكل من أشكال التنظيم الدولي ـ‬ ‫غير قادرة بوضعها الحالي على تحقيق التكامل الدولي‪ ،‬ألنها‬ ‫ال تمتلك سلطة سيادية فوق سلطة أعضاءها‪.‬‬ ‫نظرا لهذا القصور في القانون الدولي والمنظمة العالمية‬ ‫جـ) ً‬ ‫(األمم المتحدة) دعا دويتش ّ‬ ‫أن تتجه الدول إلى المنظمات‬ ‫اإلقليمية‪.‬‬

‫د ) دعا دويتش ـ كذلك ـ إلى إيجاد ثقافة عالمية متماثلة حتى يتم‬ ‫وركز في هذا الجانب على‬ ‫التجاوب واالنسجام بين الدول‬ ‫ّ‬ ‫أهم ّية االتصال الدولي في خلق هذه الثقافة‪.‬‬ ‫يالحظ الباحث ّ‬ ‫أن أفكار كارل دويتش هذه قد وجدت ـ إلى‬ ‫‪153‬‬


‫حد ما ـ طري ًقا للتنفيذ بعد انهيار نظام القطبية الثنائية وانتهاء مرحلة‬ ‫الحرب الباردة‪ ،‬حيث صار الواقع الدولي في الفترة األخيرة ـ كما يرى‬ ‫متسما بسمات ومالمح تؤكد تقد ًما إيجاب ًيا في االستجابة‬ ‫الباحث ـ‬ ‫ً‬ ‫(لدعوات) كارل دويتش بخصوص أنماط من السلوك الدولي من‬ ‫شأنها تكييف سلوك الدول بما يتالئم مع متطلبات التكامل الدولي‬ ‫مقارنة بالمالمح والسمات المتعلقة بمستويات التكامل الدولي خالل‬ ‫الفترة السابقة (مرحلة الحرب الباردة) حيث‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ مستويات وأدوات وقنوات االتصال الدولي تنامت بشكل‬ ‫ملحوظ وازداد االعتماد عليها والدور المناط بها فعالية‬ ‫في تحديد سياسات الدول الخارجية بالقياس مع الفترة‬ ‫السابقة‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ درجة االعتماد المتبادل بين األطراف الدولية تسير باتجاه‬ ‫تصاعدي وتتناسب طرد ًيا مع مستويات التحضر اإلنساني‬ ‫والتقدم التقني‪ ،‬ويمكن مالحظة حجم التنامي في ظاهرة‬ ‫االعتماد المتبادل بين الدول بوضوح خالل الفترة التي تلت‬ ‫مرحلة الحرب الباردة‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ منذ انهيار نظام القطبية الثنائية وانتهاء مرحلة الحرب الباردة‬ ‫يالحظ اختالف في الدور الذي صارت تلعبه األمم المتحدة‬ ‫في العالقات الدولية‪ ،‬باإلضافة إلى الدعوات وبرامج العمل‬ ‫التي صارت تستهدف إصالح المنظمة الدولية كظاهرة برزت‬ ‫بوضوح خالل الفترة األخيرة‪.‬‬ ‫‪154‬‬


‫‪ 4‬ـ التنظيمات اإلقليمية في شكل منظمات أو فضاءات أو أحالف‬ ‫وضوحا وفاعلية خالل الواقع‬ ‫وبروزا بشكل أكثر‬ ‫شهدت تنام ًيا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الراهن للحياة السياسية الدولية‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ مسألة الثقافة العالمية الواحدة وصراع الثقافات والحضارات‬ ‫مسائل صارت مطروحة بشدّ ة أكثر من أي وقت مضى في‬ ‫الساحة السياسية الدولية الراهنة‪.‬‬

‫‪155‬‬



‫صدر في هذه السلسلة‬ ‫‪ 1‬ـ (قراءات في السلم والحرب)‪ ،‬عبدالمنعم المحجوب‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ (حبر المنفى)‪ ،‬عمر الكدي‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ (خاليا نائمة)‪ ،‬محمود البوسيفي‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ (أوراق تاريخية)‪ ،‬مختار الجدال‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ (ما وراء الحجاب)‪ ،‬فتحي بن عيسى‪.‬‬ ‫‪ 6‬ـ (منفى)‪ ،‬ديوان شعر ـ عمر الكدي‪.‬‬





Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.