يوزع هذا الكتاب مجان ًا مع العدد ( )7من مجلة املستقل
مفهوم القوّ ة في السياسة الدولية تأليف :خالد الحراري © جميع الحقوق محفوظة مجلة أسبوعية سياسية شاملة طبع في مارس 2015 مطابع األهرام جمهورية مصر العربية المدير الفني وتصميم الغالف :سامح الكاشف اإلخراج الفني والتنفيذ :أحمد نجدي
المحتويات تقديم 7......................................................................................
القوة في السياسة الدولية 11........................................ 1ـ مفهوم ّ
القوة 19....................................................... خصائص مفهوم ّ القوة21......................................................................... قياس ّ
القوة في المجال الدولي42.......................................... توزيع ّ
2ـ عوامل القوة في المجال الدولي 47........................ ومقومات ّ ّ ً أول :العوامل المادية للقوة50................................................
ثان ًيا :العوامل غير المادية للقوة105..........................................
3ـ نظريات ونماذج تحليل العالقات الدولية من خالل مفهوم القوة123........................................................................................ ّ ً أول :نظرية هانز مورجانثاو 124............................................... ثان ًيا :نظرية ريمون آرون 130....................................................
ثال ًثا :النموذج النظري لكارل دويتش145.................................
تقديم تعتبر المفاهيم والنظريات والنماذج اإلطار النظري الذي يتم
من خالله إخضاع الظاهرة االجتماعية للدراسة والبحث ،السيما ً شكل من أشكال الظواهر االجتماعية الظاهرة السياسية التي تم ّثل
التي اختص بدراستها فرع من فروع المعرفة هو علم السياسة أو ميدان
العلوم السياسية.
التصوري في مجال الدراسات واإلطار النظري أو النموذج ّ
المصغرة لواقع سياسي مع ّين أو السياسية يعني تلك الصورة الذهنية ّ للحياة السياسية بشكل عام في بعديها المح ّلي والدولي ،من خالل ٍ بناء ذهني يتشكّل من فرضيات ومفاهيم تم مالحظتها واستقراءها من ذلك الواقع السياسي وإخضاعها ألساليب البحث العلمي للتح ّقق
منها ،ومن ثم اتخاذها أداة لفهمه وتفسيره.
والقوة التي اتفق حولها أغلب الباحثين السياسيين على أنها مركز ّ االهتمام ونقطة االنطالق في الدراسات السياسية تم ّثل المفهوم الذي 7
سيتم توظيفه من خالل هذه الدراسة كمفهوم أساس لتحليل وتفسير الواقع السياسي الدولي خالل مرحلة من مراحله ،بدأت بانتهاء مرحلة قائما على الحرب الباردة وانهيار النظام السياسي الدولي الذي كان ً القطبية الثنائية ،وانتقال الواقع السياسي الدولي إلى ٍ نسق جديد صار يعرف ويسمى بالنظام الدولي الجديد.
في خضم جملة من األحداث والوقائع التي أصابت الواقع الدولي مع بداية العقد األخير من القرن العشرين وبشكل متسارع وفجائي وجذري أحيانًا بدأت مالمح مرحلة جديدة في عمر العالقات الدولية ّ تتكشف شي ًئا فشي ًئا ،ليعتبرها البعض نظا ًما دول ًيا جديدً ا ،بينما ال يرى فيها البعض اآلخر سوى مرحلة انتقالية لنظام دولي لمرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة ال زالت أوضاعه ومالمحه لم تستقر وتتضح بعد.
لقد طرأت تغ ّيرات جوهرية على هيكلية ومضمون النظام الدولي في ثوبه الجديد شملت تغ ّيرات في طبيعة العالقات والتفاعالت بين أطرافه وتغ ّيرات في آليات عمله وتوزيع القوة بين وحداته انعكاسا للتغ ّيرات التي طرأت على الظاهرة السياسية الدولية من ً حيث مضامينها ومن حيث األهمية والدور الذي صار ألي من هذه المضامين. في ظل هذه التغيرات التي طرأت على الواقع الدولي من خالل مضامين جديدة ومتباينة األهمية قد صارت للظاهرة السياسية الدولية.
أحاول هنا أن أرصد السلوك السياسي الدولي والظاهرة السياسية الدولية خالل هذه المرحلة (مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة) 8
والتعرف على خصائصها ومضامنيها من خالل للكشف عن طبيعتها ّ إطارا يقع في التعامل مع أبرز الصور والتراكيب التي صارت تمثل ً نطاقه وفي حدوده السلوك السياسي الدولي وتع ّبر أبعاده عن حقيقة وطبيعة الظاهرة السياسية الدولية في ظل هذا الواقع الدولي الجديد، وذلك من خالل إخضاع هذه الصور والتراكيب للتحليل والتفسير من خالل مفهوم القوة كمفهوم أساس ،في محاولة للتح ّقق من مدى استمرار صالحية القوة كمفهوم أساس لتفسير السلوك السياسي الدولي في ظل هذه التغ ّيرات التي طرأت على الواقع الدولي وفي محاولة لتوضيح الصور واألشكال التي اتخذتها والوسائل واألساليب التي تعبر عنها برغم معطيات الواقع الدولي الراهن التي تضع بين يدي الباحث جملة من التفسيرات والمبررات للسلوك السياسي الدولي، تبدو أن ال عالقة لها بمفهوم القوة وأنها تنتمى لقيم ومفاهيم ذات تتجسد في طابع أخالقي ومثالي ،هذه التفسيرات والمبررات التي ّ شعارات الدفاع عن الحرية وعن حقوق اإلنسان ونشر الديمقراطية ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل ومحاربة اإلرهاب.
9
()1 القوة في ال�سيا�سة الدولية مفهوم ّ القوة من المفاهيم الرئيسية في العلوم االجتماعية يعتبر مفهوم ّ بشكل عام ،ويعتقد البعض ّ أن أي فعل اجتماعي هو في جوهره ممارسة للقوة ،وأن كل عالقة اجتماعية هي في حقيقتها معادلة للقوة، القوة تتخ ّلل كافة التنظيمات والنظم والعالقات ذلك ألن عالقة ّ االجتماعية بد ًءا من األسرة إلى المؤسسة إلى المدرسة إلى الدولة ((( إلى المجتمع الدولي.
وإذا كان األمر كذلك على صعيد الواقع االجتماعي الواسع وضوحا في ذلك الح ّيز من الواقع االجتماعي فإن األمر يكون أكثر ً القوة المرتبط بالسياسة كفعل إنساني واجتماعي يبدأ وينتهي عند ّ كجوهر يع ّبر عن االستعداد الطبيعي لدى اإلنسان لممارسة عالقات األمر والطاعة وعالقات العدو الصديق. ((( فاروق يوسف يوسف ،القوة السياسة( ،القاهرة :مكتبة عين شمس ،)1984ص.7 11
محصلة التفاعل بين السياسات والسياسة الدولية باعتبارها تم ّثل ّ الخارجية لألطراف الدولية وما ينتج عن هذا التفاعل من ظواهر تتخطى في تأثيرها المجتمع السياسي (المحلي) إلى المجتمع القوة كمفهوم ّ يحتل الدولي ،ترتبط أكثر من أي شيء آخر بمفهوم ّ األهم ّية األكبر في فهم السياسات الخارجية لألطراف الدولية ،ومن ثم في فهم السياسة الدولية.
القوة في السياسة الدولية ،إال أنه بالرغم من هذه األهمية لمفهوم ّ ّ المفهوم األكثر إثار ًة للجدل واالختالف في تحديد ماه ّيته وكيفية قياسه في أدبيات العلوم السياسية.
في الفكر اليوناني القديم نجد أرسطو في كتابه السياسة ()politics القوة بأنها :تلك اإلمكانية التي تتو ّفر لبعض يحدّ د خالصة مدرك ّ أفراد المجتمع السياسي ـ المنقسم بالطبيعة إلى حكّام ورعايا ـ لجعل اآلخرين يفعلون ما لم يكونوا فاعليه من تلقاء أنفسهم ،وحتى القوة البد من ممارستها ،فيرضخ اآلخرون لطلب تتضح فعالية هذه ّ القوة وين ّفذون إرادته(((. صاحب ّ أما توماس هوبز في القرن السابع عشر فيشتهر له التعريف للقوة بأنها« :الوسيلة أو الوسائل المتاحة في وقت مع ّين للحصول على خير مستقبلي واضح» دون ّ يتورط في تحديد (الخير الواضح) أن ّ ليعطيه أكبر قدر من االتساع والشمول. ((( علي أحمد عبد القادر ،وكمال منوفي ،النظريات والنظم السياسية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.20 12
القوة بأنها (احتمال قيام شخص ما في عالقات ي ّعرف ماكس فيبر ّ اجتماعية بتنفيذ رغباته رغم مقاومة اآلخرين بغض النظر عن األساس الذي يقوم عليه ذلك االحتمال)((( ،ويالحظ ّ أن هذا التعريف يرتكز على احتمال التأثير وليس على التأثير الفعلي ،ويستند تعريف روبرت دال ـ للقوة ـ على تعريف ماكس فيبر السابق ليشير إلى ّ القوة هي «القدرة أن ّ على جعل شخص آخر يقوم بعمل لم يكن ليقوم به بغير ذلك»(((.
بما يشير إلى ّ القوة هنا يعتمد على درجة التغ ّير في سلوك أن قياس ّ الشخص الواقع عليه التأثير وال ترتبط ـ وف ًقا لهذا التعريف ـ مسألة القوة بإمكانيات الطرف المؤ ّثر. قياس ّ
القوة بأنها« :القدرة على التحكّم في أما هانز مارجنثاو في ّعرف ّ القوة أفكار وأفعال اآلخرين»((( ،في إشارة واضحة إلى عنصري ّ الرئيسيين وهما :اإلمكانيات والفعل. القوة ،ف ّعرفاها واتجه الزويل وكابالن ً اتجاها آخر في تعريف ّ بأنها( :المشاركة في صنع القرارات المهمة في التاريخ) ،والقرار بصفة عامة هو االختيار الواعي بين البدائل بعد دراسة الموقف من أجل تحقيق هدف معين(((. ((( فاروق يوسف يوسف ،القوة السياسية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.13 ((( جوزيف.س.ناي؛ ألبن ،المنازعات الدولية ،ترجمة د .أحمد أمين الجمل ،ومجدي كامل( ،القاهرة :الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية ،)1997 ،ص.82 ((( فاروق يوسف يوسف ،القوة السياسية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.15 ((( المرجع نفسه ،الصفحة نفسها. 13
ويالحظ ّ أن هذا التعريف يتجاهل ال ُبنى السياسية واالجتماعية والركائز األخرى للقوة ويحصرها في (اتخاذ القرار) والذي هو المدخالت ،قد تكون عملية كاملة يدخل في نطاقها عدد كبير من ُ القوة ـ في شكل مقدرات وإمكانيات ـ جز ًء منها ،وتكون مخرجاتها ّ القوة ،تب ًعا تعبيرا عن ّ هي القرار نفسه ،والذي يم ّثل في جانب منه ً لحجم اإلمكانيات والمقدرات التي و ّظفت للوصول إلى هذا القرار.
يتّضح من خالل ما سبق ّ أن المشكلة الجوهرية في تعريف مدرك (القوة) تكمن في احتواء هذا المدرك على عنصرين اثنين متداخلين ّ القوة تقف عند بطريقة مع ّقدة ،مما جعل بعض التعريفات لمفهوم ّ القوة من زاوية معينة حد التعبير عن احدهما دون اآلخر ،يأخذ مفهوم ّ شكل (الغاية) ،بينما يأخذ شكل (الوسيلة) من زاوية أخرى ،ويبدو لمحصلة القدرات المادية والمعنوية في ذات الوقت وكأنه مرادف ّ من جهة ومن جهة أخرى يبدو وكأنه مجرد تعبير عن عالقة إنسانية. ليوضحّ : أن عنصري مدرك ولتفصيل ما سبق يجتهد الباحث ّ القوة المتداخلين هما( :المادة والفعل) ،أو ما يطلق عليه البعض ّ ((( (المقدرات والنفوذ) ،ففي حين ّ القوة من زاوية (المادة) هي أن ّ مجموعة القدرات واإلمكانيات التي تكتسبها الدولة ـ مادمنا بصدد القوة في المجال الدولي ـ وتتيح لها ّ أن تتمتع بوزن نسبي لهذه ّ القدرات مقارنة بغيرها من الدول أو األطراف الدولية األخرى، ((( لويد جنسون ،تفسير السياسة الخارجية ،ترجمة د .محمد بن أحمد مفتي ،ود .محمد السيد سليم (الرياض :عمادة شؤون المكتبات ،)1989 ،ص.238 14
وتتم ّثل هذه اإلمكانيات والقدرات ـ كما سيأتي تفصيله في المبحث التالي ـ في اإلمكانيات المتعلقة بالموقع الجغرافي والسكان والموارد االقتصادية والقدرات العسكرية ،وكذلك المقدرات واإلمكانيات ذات الطابع غير المادي المتمثلة في القيادة السياسية القوة والنظام السياسي والثقافة السائدة وغير ذلك ،وبالنظر إلى ّ من هذه الزاوية يمكن اإلقرار بأن كل دولة هي عبارة عن قوة وإن القوة القوة ،برغم اختالف وزن هذه ّ وجود الدولة متالزم مع وجود ّ القوة قياسا بغيرها من القوى أو الدول ،ومن هذه الزاوية تصبح ّ ً القوة التي تمكّنها غاية ،فكل دولة تحرص على اكتساب مقدرات ّ من البقاء واالستمرار. ومن الزاوية األخرى ،فإن توظيف تلك اإلمكانيات (المادة) يجسده إلحداث عالقة مع طرف آخر تفضي إلى التأثير والتأثر هو ما ّ القوة المتم ّثل في اعتبارها (فعل) ،مما يعطي العنصر اآلخر لمدرك ّ ّ وتتدخل هنا االعتبارات (اإلنسانية) للقوة معنى (العالقة اإلنسانية)، لتع ّقد العالقة بين الفعل والمادة ،وتصبح المسائل المتعلقة باإلدراك، والرغبة ،والخوف ،واإلحساس باألهمية ،وكل ما يتعلق بالجانب مهما في تكوين اإلنساني من إحساس وشعور وفهم وإدراك محدّ ًدا ً (الخلطة) التي تترجم اإلمكانيات إلى فعل تأثير وتأثر ،ويزيد األمر القوة ال يتعلق األمر تعقيدً ا أنه في كل (حالة) من حاالت التعبير عن ّ فقط يصاحب الفعل ،بل يكون الطرف اآلخر الموجه تجاهه الفعل مهما من هذه (الخلطة). جز ًء ً 15
كما ّ أن العالقة بين (المادة) و(الفعل) في هذه الحالة لن تكون عالقة فيزيائية شبيهة بالعالقة بين المادة والفعل في الطبيعة ،حيث ّ أن العالقة (الفيزيائية) بين المادة والفعل حتمية (إلى حد ما) ،بمعنى ّ أن طبيعة المادة تحدّ د وتتحكّم في نوع الفعل ،فكتلة المادة وحجمها
ونوعها تحدّ د (فيزيائ ًيا) الفعل المتعلق بالطاقة والحركة ،وغيرها من األفعال المرتبطة بالمادة فيزيائ ًيا ،األمر مختلف فيما يتعلق بالقوة على الصعيد اإلنساني ،فليس من الحتمي أو الضروري ّ أن يع ّبر تعبيرا (فيزيائ ًيا) عن المادة ،بمعنى ّ أن إمكانيات ومقدرات الفعل ً القوة ـ حتى وإن أمكن قياسها وتحديدها ـ ليس من الضروري ّ ّ أن تؤدي إلى (فعل) محدّ د من حيث التأثير والنتائج ،وهو جانب القوة ـ الذي نحن بصدده ـ درجة عالية آخر يضفي على مفهوم ّ من التعقيد. (القوة لعل معالجة الموضوع من خالل العالقة بين مفهومي ّ والقدرة) يعطي مزيدً ا من التوضيح في هذا الجانب:
في اللغة اإلنجليزية يتم التم ّيز بين لفظين ( )Strengthوالتي (القوة) و( )powerوالتي تقابل في العربية تقابل في العربية ّ القوة في (القدرة) ،وفي اللغة الفرنسية يقابل لفظ ( )Forceلفظ ّ العربية ،بينما يقابل لفظ ( )Puissanceلفظ القدرة ،وهو اللفظ الذي يستعمله الفرنسيون للتعبير عن مقدرة الوحدة السياسية على فرض إرادتها ،بينما يستعملون لفظ Forceللداللة على القوى العسكرية واالقتصادية ،أي مجموع الوسائل التي تع ّبر عن القدرة، 16
وفي اإلنجليزية هناك اتجاهان في شأن مدلول لفظ Powerفي األول ّ القوة ( )Powerهي مجموعة أن ّ المجال الدولي ،يرى االتجاه ّ العوامل المشكّلة لقدرة الدولة ،ويتعامل هذا االتجاه مع عوامل قدرة الدولة باعتبارها عوامل قوتها (السكان ،الموقع الجغرافي، الموارد االقتصادية...الخ) ،أما االتجاه الثاني فيربط القدرة ()Power بفكرة العالقة اإلنسانية ،أي تأثير اإلنسان على عقول وأفكار غيره من الناس ،كما ّ أن هذا االتجاه ال يفك االرتباط بين مفهوم القدرة بمعنى العوامل والعناصر المكونة للقوة ،وفي اللغة العربية برغم (القوة) التي تقابل Strengthفي اإلنجليزية يمكن ّ ّ أن يفهم أن لفظ ّ على أنه داللة على مجموعة اإلمكانيات التي يتمتع بها (القوي)، وأن لفظ القدرة التي تقابل Powerفي اإلنجليزية يفهم على أنه داللة على التأثر أو الفعل المرتبط باإلمكانيات(((ّ ، أن التعامل مع مدرك يتضمن عنصرين هما( :مادته) المتمثلة في مجموعة القوة باعتباره ّ ّ القدرات والعناصر المكونة للقوة و(الفعل) المتمثل في التعبير عن هذه القدرات واإلمكانيات باعتباره عالقة إنسانية يجعل الباحث (القوة) للتعبير عن المعنى المقابل للفظ Power ّ يفضل استعمال لفظ ّ في اللغة اإلنجليزية ،حيث ّ أن هذا المعنى أقدر في التعبير عنه لفظ القوة ـ عرب ًيا ـ عنه فيما إذا استعمل لفظ القدرة للتعبير عنه ،وذلك ّ وف ًقا لالتجاه الثاني ـ في اللغة اإلنجليزية ـ الذي سبق اإلشارة إليه، ((( محمد طه بدوي [وآخرون] ،مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.ص .63-61 17
القوة بالمعنى الذي يستهدفه حيث يبدو األقرب في تصوير مفهوم ّ الباحث(((.
ّ القوة والتي تستوجب التعامل أن الطبيعة المع ّقدة والمركّبة لمفهوم ّ مع هذه المفهوم باعتباره ً (كل) مرك ًبا من مادة وفعل هي التي تمنحه شرعية اعتباره جوهر العملية السياسة وصلبها ،وقد ال نستطيع ّ أن يجسدها نمنحه هذه الشرعية إذا تعاملنا معه على أنه مجرد (وسيلة) ّ القوة ليحدث التأثير (الفعل) المتعلق باستعمال إمكانيات ومقدرات ّ والتأثر ،أو إذا تعاملنا معه على أنه مجموعة المقدرات واإلمكانيات والتي قد ال يكون لها أي معنى في غياب (الفعل) المتعلق بتوظيفها ووضعها موضع االستخدام ،كما ّ أن الطبيعة المع ّقدة والمركّبة لمفهوم القوة هي التي تجعل الباحث ـ أي باحث ـ ال يستطيع السيطرة تما ًما ّ القوة أثناء التحليل ليطغى المعنى المتع ّلق بالقوة باعتبارها على مفهوم ّ مجموعة القدرة واإلمكانيات أحيانًا ،وأحيانًا أخرى المعنى المتعلق بالقوة باعتبارها فعل التأثير والتأثر ،لذلك فإن أي تحليل للقوة البد ّ أن يقر بأنها معقدة تما ًما «وإنك إذا قمت بطمس تعقيداتها فإنك ((( ال يمكن ّ أن تحسن فهمها» . ((( يتفق الباحث في ذلك مع وجهة نظر الدكتور محمد طه بدوي الذي يرى ّ أن لفظ القوة أقدر في تلفظها ـ عرب ًيا ـ على التعبير في نفس الوقت عن القوة من حيث هي مجموعة عوامل (جغرافية ،اقتصادية...الخ) ،وعن القدرة على استعمال عناصر القوة هذه م ًعا ،انظر في ذلك محمد طه بدوي [وآخرون] ،مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.63 ((( روبرت .أ .دال ،التحليل السياسي الحديث ،ترجمة د .عالء أبو زيد( ،القاهرة: مركز األهرام للدراسات ،)1993ص.33 18
القوة خ�صائ�ص مفهوم ّ
من مجموع االعتبارات السابقة يمكن استخالص عدد من الخصائص
القوة كمفهوم يع ّبر عن جوهر العملية التي تحدد اإلطار العام لمفهوم ّ السياسية الس ّيما على المستوى الدولي ،على النحو التالي:
القوة عالقة إدراكية في األساس :فقد تمتلك دولة ما قدرات 1ـ ّ تصرف الدول األخرى كبيرة تمكّنها من فرض إرادتها ،لك ّن ّ
تجاهها سيعتمد على إدراكها لمقدرات الدولة األولى،
وكذلك على إدراكها لرغبة تلك الدولة في استعمال هذه
القدرات ووضعها موضع التنفيذ ،وتستمر عملية اإلدراك األول بشكل استرجاعي لتعتمد (القوة) على إدراك الطرف ّ ّ لمدركات الطرف الثاني تجاهه وهكذا(((.
القوة إال من خالل عالقة القوة مفهوم نسبي :حيث ال تتضح ّ 2ـ ّ أن الدولة (أ) ً أن تقول ّ تفاعل دولي ،فليس باإلمكان ّ مثل دولة قوية وأن الدولة (ب) دولة ضعيفة ،وإنما كل طرف يكتسب
القوة بالنسبة لوزن قوة الطرف اآلخر. درجة من ّ
((( لويدجنسون ،تفسير السياسة الخارجية ،ترجمة د .محمد بن أحمد مفتي ومحمد السيد سليم( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.238 19
القوة مفهوم متغ ّير :فالقوة النسبية للدول في حالة تغير دائم ،لذلك 3ـ ّ فإن حالة االتزان الدولي ما هي إال حالة عارضة ومؤقتة ،وذلك نظرا للحركية الشديدة التي تتسم بها التفاعالت الدولية ،ويرجع ً القوة، مقومات وإمكانيات ّ ذلك إلى حالة التغ ّير المستمر في ّ وكذلك التغ ّير في األهمية النسبية ألي من هذه اإلمكانيات(((.
القوة مفهوم موقفي :تتغ ّير تب ًعا لطبيعة المواقف الدولية التي 4ـ ّ تواجهها الدولة ،فقد تستطيع دولة ّ أن تمارس نفو ًذا أو تستخدم (العنف) تجاه دولة مع ّينة في موقف ما ،بينما ال تستطيع القيام بنفس الفعل تجاه دولة أخرى أو تجاه نفس الدولة في قضية أخرى.
القوة مفهوم متعدد األبعاد :فالقوة القومية للدولة تعتمد على جملة 5ـ ّ من المعطيات والعوامل ،وهذه المعطيات برغم ّ أن بعضها متغ ّير بشكل مستمر إال ّ أن وزن كل منها وأهم ّيته في اإلطار العام لقوة أيضا وبشكل مستمر من فترة زمنية إلى أخرى ،ومن الدولة متغ ّير ً دولة إلى دولة ،ففي حين كان االعتماد على القدرات العسكرية لتوضيح قوة الدولة ـ خالل فترة طويلة من الزمن ـ فإن القدرات االقتصادية والقدرات المتعلقة بالقيادة السياسية صارت تلعب مهما في تحديد حجم ووزن دولة ما ،فاليابان ً مثل ـ والتي دورا ً ً ال تمتلك أي قدرات عسكرية تذكر ـ تمنحها قدراتها االقتصادية
((( محمد طه بدوي [وآخرون] ،مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية( ،مرجع سبق ذكر) ،ص.67 20
القوة يمكّنها من فرض إرادتها بما يح ّقق مصالحها مستوى من ّ القومية التي تأ ّطرت وتبلورت مع ما ينسجم مع هذه القدرة وما ينسجم كذلك مع غياب القدرة العسكرية بالنسبة لها(((. القوة قيا�س ّ
يضع روبرت دال تعري ًفا إجرائ ًيا للقوة حيث يرى ّ أن:
[القوة = قدرة (أ) على دفع (ب) للقيام بالعمل ّ
(س) ـ احتمال قيام (ب) بالعمل (س) بغض
النظر عما فعله (أ)].
برغم هذه المعادلة اإلجرائية للقوة إال ّ القوة أن مشكلة تحديد ّ
القوة. وقياسها تظل المشكلة األصعب في التعامل مع مدرك ّ
تعتمد عملية القياس والتحديد بدرجة أساسية على وجود
مؤشرات ومقاييس للموضوع محل القياس ،وهذا أمر من الصعب ّ القوة لعدد من األسباب واإلشكاليات أن يتأت بخصوص مفهوم ّ
القوة وهي كما يراها روبرت المتعلقة بالطبيعة المع ّقدة لمفهوم ّ دال((( ،تتمثل في:
((( المرجع نفسه ،ص.67 ((( روبرت .أ .دال ،التحليل السياسي الحديث( ،مرجع سبق ذكره) ،الصفحات من 33إلى .40 21
القوة وقياسها البد من أ ) إشكالية التوزيع :حتى يمكن تحديد ّ الوصول إلى وصف للقوة وتوزيعها بين األفراد شبيه بالوصف المتعلق بتوزيع الدخل أو الثروة ،أو التعليم ،أو متوسط عمر اإلنسان ،أو أي من األشياء األخرى من هذا القبيل ،وهو ما يرى ً مستحيل ،ما بالك إذا كان األمر روبرت دال أنه ربما يكون القوة بين جماعات بشرية (منظمات، يتعلق بوصف توزيع ّ مؤسسات ،مجتمعات ،دول).
تصور حد أدنى وحد أعلى ب) إشكالية التراتب :يمكن نظر ًيا ّ للقوة وإن كل األطراف سوا ًء كانوا أفرا ًدا أو جماعات على المستوى الوطني أو أطرا ًفا دولية على المستوى الدولي القوة بين سيقع كل منهم بالضرورة عند مستوى مع ّين من ّ الحد األدنى والحد األعلى ،وهو ما ال يمكن التعبير عنه بقيمة محدّ دة (واحد أو صفر ً مثل) وإنه عندما يتم وضع حد القوة سيحدث فاصل بين كل مستوى وآخر من مستويات ّ نوع من التضليل ،ألن ذلك يعني تجاهل الكثير من التفريعات المطلوب معرفتها. القوة الكامنة والقوة المح ّققة :البد من اإلقرار جـ) إشكالية ّ بأنه ال يوجد من بين المخلوقات من يملك قوة مطلقة غير القوة فإنه يمكن محدّ دة ،وفي محاولة إدراك مستوى أو قدر ّ تصور مستوى نظر ًيا لقوة (س) ً مثل في ظل قوانين الطبيعية ّ والتقنية القائمة والمعرفة اإلنسانية ،ويبقى هذا المستوى 22
مستوى نظر ًيا ،أو ما يمكن ّ (القوة الكامنة) أو أن يطلق عليه ّ القوة الكامنة االفتراضية ،وإذا كان هناك احتمال الوصول إلى ّ أو االفتراضية عند التعامل وف ًقا لقانون الطبيعية (الفيزياء) مع األشياء باعتبار ّ أن المعطيات هنا قابلة للتحديد ،فإنه على القوة النظرية الصعيد اإلنساني من غير المحتمل الوصول إلى ّ نظرا لالعتبارات المتعلقة بالجوانب اإلنسانية مثل الكامنة ً اإلدراك واإلحساس واالنفعال باإلضافة إلى االعتبارات المتعلقة بالجوانب الموضوعية المتمثلة في القيود والقوانين والزمان والمكان واآلخرين ،لذلك فإن (س) سيحاول ت ّعظيم قوته باستمرار للوصول إلى المستوى النظري لها ،والذي ال يمكنه الوصول إليه بشكل تام بل سيصل إلى تحقيق قدر التصور النظري لقوته ،وبرغم صعوبة أو مستوى معينًا من هذا ّ التصور النظري للقوة الكامنة ،فإن الصعوبة تكون أكبر تحديد ّ في تحديد أي من المستويات الذي يمكن ل(س) ّ أن يح ّققه في سعيه باتجاه تحقيق أقصى ما يمكن من قوته الكامنة.
القوة وقياسها د ) إشكالية المحيط والمجال :حتى يمكن تحديد ّ (القوة بالنسبة لمن؟ البد من اإلجابة على السؤال التالي ّ وبخصوص ماذا؟).
القوة :تزداد مشكلة وصف هـ) إشكالية الفردية والجماعية في ّ القوة تعقيدً ا عندما يتع ّلق األمر بالجماعات ،فإذا توزيع ّ كان باإلمكان قياس قوة الفرد بالنسبة لفرد آخر فإن قياس 23
قوة (جماعة) بالنسبة لجماعة أخرى أصعب الحتواء هذه الجماعة على عدد من األفراد ،وقد تحتوي هذه الجماعة على جماعات أخرى أصغر نسب ًيا ،كما هو الحال في الدولة، ومع تحكّم اإلشكاليات السابقة في مسألة قياس قوة الفرد، المكونة من عدد من األفراد ال يكون فإن قياس قوة الجماعة ّ دائما عبارة عن حاصل جمع قوة األفراد المكونين لها ،ألن ً تتولد وتوجد في الجماعة باعتبارها بعض المعطيات للقوة ّ جماعة ،وقد تنتفي تما ًما في حالة التعامل مع أفراد الجماعة بشكل إنفرادي ،كما ّ أن العكس صحيح ،فبعض معطيات (صفرا) إذا محصلتها القوة الموجودة لدى األفراد قد تكون ّ ّ ً تم التعامل مع هؤالء األفراد كجماعة.
و ) إشكالية التحكم في الخيارات :تنبثق هذه اإلشكالية من خالل عدم إمكانية التحكّم في الخيارات المت ّعلقة بالفعل القوة والمترجم لإلمكانيات المرتبطة بها ،ومر ّد المع ّبر عن ّ ذلك إلى ّ خيارا من أن الفعل المع ّبر عن ّ القوة يم ّثل في الواقع ً بين عدد من الخيارات المتاحة ،وإذا كان للفاعل قدرة على االختيار بين المتاح من الخيارات فإنه في الغالب ال يملك القدرة على تحديد الئحة الخيارات المتاحة ،والمثال هنا يشبه حال الطالب الجامعي الذي بإمكانه اختيار عدد من المواد لدراستها في فصل دراسي مع ّين في وقت ال يملك فيه القدرة على تحديد الئحة المواد التي يمكنه االختيار 24
من بينها ،ألن الئحة الخيارات المتاحة تنتجها ُبنى تتمتع باستمرارية نسبية تحدّ د أو تؤثر على األقل في تحديد قيم هامة مثل :المكانة ،النفوذ ،السلطة ،الثروة ،وما شابهها، نظما ثابتة نسب ًيا ،أو منظمات محسوسة وهذه ال ُبنى تتضمن ً ّ مثل األسرة ،األحزاب السياسية ،المؤسسات الدستورية، النظام السياسي ،النظام االقتصادي وما شابه ذلك ،وتخرج تحكم (الفاعل)، هذه ال ُبنى ـ على المدى القصير ـ عن دائرة ّ باعتبار ّ القوة يقع في الغالب في المدى أن الفعل المع ّبر عن ّ القصير زمن ًيا.
ز ) إشكالية الوعي :وهي اإلشكالية التي ترتبط بمسألة اإلدراك للخيارات المتاحة واإلدراك للنتائج المترتبة على تفضيل أحد االختيارات عن اآلخر ،وبما ّ أن عملية اإلدراك هي التي تحدّ د قائما نوع الفعل (المتبع) المع ّبر عن ّ القوة فإن االحتمال يظل ً في إنه (ربما يكون هناك خيار آخر يكون نوع الفعل الناتج عنه أكثر قوة بمقياس النتائج النهائية ،والفاعل لم يستطيع إدراكه)، وهنا كيف يكون القياس؟ للمدرك أم لغير المدرك؟ ،وكيف يمكن قياس غير المدرك؟ وكيف يمكن التأكّد من ّ أن الخيار (الغائب) هو خيار غير مدرك أو هو خيار مدرك ومست ّبعد؟ وتتولد االستفهامات من بعضها لتفضي إلى نتيجة مؤداها: ّ أن إشكالية اإلدراك والوعي تجعل من الفعل المرتبط بالقوة غير قابل للقياس.
25
القوة ،إال ّ أن وبالرغم من اإلشكاليات السابقة المتعلقة بقياس ّ القوة ،فقد اقترح (دوتيش وأدينجو) عد ًدا من الباحثين حاول قياس ّ القوة على أساس تحديد درجة الرضا عن النتائج النهائية قياس ّ للسياسة الخارجية استنا ًدا على مفهوم السويل للقوة ،والذي يرى ّ القوة تحدّ د من يحصل على ماذا وكيف ومتى؟ وفي إطار ذلك أن ّ
قاما بدراسة عدد من القضايا السياسية في عدد من الدول ومن بينها يوضح مدى وطو ًرا مقياسا من ثالث نقاط ّ ألمانيا االتحادية (ساب ًقا) ّ ً الرضا أو عدم الرضا عن القضية محل الدراسة ،وعلى سبيل المثال تب ّين ّ أن األلمان كانوا راضين تما ًما عن اتفاقية باريس عام 1955والتي عضوا من اتحاد غرب بموجبها أصبحت ألمانيا االتحادية (ساب ًقا) ً أوربا وحلف األطلسي بمعدل ( )3 +بينما كان االتحاد السوفيتي معارضا تما ًما لهذه االتفاقية بمعدل (.((()3 - (ساب ًقا) ً القوة في العالقات الدولية أنصبت أغلب المحاوالت في قياس ّ ّ على تطوير ّ القوة الوطنية وبالذات المادية مؤشرات لقياس مكونات ّ كبيرا طور أورجانسكي وفوش منها ،فقد ّ مقياسا للقوة أعطيا فيه وزنًا ً ً لعنصر السكان ،وبنا ًء عليه تو ّقعا ّ أن تصبح الصين الشعبية أقوى دولة في الثمانينيات من القرن العشرين((( ،ومن الواضح ّ أن هذا التو ّقع جانبه الصواب ،ألن إعطاء وزن كبير لعنصر السكان تجاهل الجوانب ((( لويد جنسون ،تفسير السياسة الخارجية ،ترجمة د .محمد أحمد مفتي ود.محمد السيد سليم( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.241 ((( كانت هذه التوقعات خالل فترة أوائل الستينيات من ذات القرن ،المرجع نفسه، الصفحة نفسها. 26
السلبية للتزايد السكاني المتمثلة في الضغط على الموارد الغذائية وعرقلة تراكم رأس المال الالزم لتحقيق التنمية االقتصادية.
كما ّ أن ّ مؤشرات أخرى مثل :الناتج القومي اإلجمالي واستهالك الطاقة وإنتاج الحديد والصلب اتخذت ّ مؤشرات دالة على قوة الدولة برغم ما تزخر به هذه المؤشرات من نقاط ضعفً ، فمثل مؤشر عنصرا من استهالك الطاقة يشكّل نقطة ضعف أكثر من تشكيله ً القوة إذا كان هذا االستهالك مقرونًا باستيرادها من الخارج. عناصر ّ
بيد ّ القوة لم تأخذ في االعتبار العوامل أن أغلب محاوالت قياس ّ القوة الوطنية لالعتراف بصعوبة إخضاع هذا غير المادية لمكونات ّ ّ النوع من العوامل للقياس ،مع عدم استحالته ،فقد يكون باإلمكان قياس درجة االستقرار السياسي أو درجة التأييد للسلطة السياسية من مؤشر استطالعات الرأي العام ً خالل ّ مثل. وإذا عدنا إلى إخضاع العوامل المادية للقوة لعملية القياس فإن الصعوبات قد ظهرت جل ّية في محاوالت القياس للقدرات ،الس ّيما في مسألة قياس القدرات العسكرية النسبية ،فقد اختلف الدارسون للمقدرات العسكرية للدولتين العظمتين (خالل فترة الحرب الباردة) الواليات المتحدة األمريكية واالتحاد السوفيتي حول أي الدولتين تسبق األخرى في ميدان التس ّلح االستراتيجي ،وتنبع هذه االختالفات من اختالف أنظمة التس ّلح االستراتيجي بين الدولتين ،ففي حين تعتمد الواليات المتحدة على حامالت الطائرات وقاذفات القنابل القوة اإلستراتيجية والغواصات القاذفة للصواريخ كوسائط إليصال ّ 27
التدميرية (النووية) إلى الهدف ،يعتمد االتحاد السوفيتي في المقابل نظام الصواريخ األرضية العابرة للقارات ،كما ّ أن السالح اإلستراتيجي السوفيتي لم يكن فقط لمواجهة الواليات المتحدة األمريكية بل كان أيضا لمواجهة الصين الشعبية (الدولة الشيوعية التي خرجت عن طوع ً االتحاد السوفيتي) بعكس الحال بالنسبة للواليات المتحدة األمريكية مخصصة لمواجهة االتحاد السوفيتي فقط، التي كانت قوتها النووية ّ وبذلك كان من الصعب االتفاق على تحديد طبيعة توازن القوى األمريكي ـ السوفيتي خالل تلك الفترة(((.
وال تعني صعوبة قياس القدرات العسكرية اإلستراتيجية (النووية) سهولة قياس القدرات العسكرية التقليدية ،حتى إذا اعتمد في هذا القياس ّ مؤشرات مثل حجم الميزانيات العسكرية المو ّظفة ،أو الحجم البشري للقوة العسكرية ،أو الحجم اآللي لها (دبابات ،طائرات، قائما في ظل مدافع) ،ففي كل هذه المؤشرات يكون االختالف ً اختالف طبيعة الميزانيات العسكرية من دولة إلى أخرى ،وكفاءة توظيف هذه الميزانيات( ،ففي كثير من األحيان يكون مجرد زيادة اإلنفاق العسكري هد ًفا بحد ذاته لما يم ّثله ذلك من رسالة إلى العدو تشير إلى ّ القوة لديها وبالتالي أن الدولة مصممة على زيادة إمكانيات ّ ّ جاهزيتها لرد أي عدوان أكثر مما يع ّبر عن زيادة حقيقة في إمكانيات القوة العسكرية) ،كما ّ أن اختالف طبيعة الحجم البشري والحجم ّ قائما في ظل االختالف في تحديد طبيعة اآللي للقوة العسكرية ً ((( المرجع نفسه ،ص.ص.243 ،242 28
الحجم البشري من حيث أنه قوة فعلية أو احتياطية أو قوة خاصة مع اختالف مستوى الكفاءة والتدريب ،وكل ذلك يجعل مسألة قياس قياسا بقوة أخرى ّ القوة العسكرية التقليدية ومقارنتها لتحديد وزنها ً أمرا ليس باليسير ،إضافة إلى ذلك فإن الوزن سيختلف مقابلة لها ً القوة في حالة هجوم أم في حالة دفاع. بالضرورة فيما إذا كانت ّ القوة ت�صنيفات ونماذج و�صور ّ
القوة في شكلين رئيسيين هما: يصنّف علماء االجتماع السياسي ّ (السلطة والنفوذ) ،فالقوة يمكن ّ أن تمارس في شكل سلطة ناتجة عن قبول مشروع ممنوح من الطرف الذي تمارس عليه السلطة للطرف الممارس لها من أجل تحقيق أهداف جماعية ،بينما يكون النفوذ هو ممارسة للقوة لتحقيق األهداف في غياب الشرعية لهذه الممارسة باستخدام مجموعة من الوسائل تتراوح بين الترغيب والترهيب والسيطرة واإلقناع واإلكراه(((.
القوة تستند على وإذا كانت السلطة السياسية كشكل من أشكال ّ (الشرعية) في ممارستها ،بما يفيد ّ القوة يملك سلطة أن ممارس ّ إصدار القرار اإللزامي تجاه كل األطراف المعنية بدائرة سلطته، وإن أي ممارسة للقوة خارج هذه الدائرة يفقدها طابع السلطة ،فإن القوة كسلطة ال تتح ّقق إال في ظل (النظامية) وهو ما ال يوجد في ّ الساحة السياسية الدولية ،إال إذا استثنينا ما تمتلكه المنظمات الدولية ((( فاروق يوسف يوسف ،القوة السياسية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.17 29
من قوة بحكم طابعها النظامي الذي يمنحها بعض السلطات فوق سلطة األطراف الداخلة فيها والتي في أغلبها ال ترتقي إلى مستوى سلطة اإللزام ،وإذا ارتقت تصتدم بمشكلة تنفيذ هذا اإللزام والذي يقرره أعضاءها ويرغبون ال تمتلكه المنظمة الدولية إال في حدود ما ّ في توظيفه لصالحها ليبدو األمر مرتب ًطا بإرادات مستقلة لألطراف األعضاء ومرهونًا بمصالحها ومواقفها من القرار الصادر عن المنظمة الدولية ،وسيعالج الباحث هذا الموضوع في مبحث مستقل يتع ّلق القوة فيما سيلي. بالشرعية الدولية وعالقتها بمفهوم ّ
ّ أن الوجه اآلخر للقوة ،والذي يطلق عليه علماء واالجتماع القوة على المستوى السياسي اسم (النفوذ) هو ما يعنينا بصدد مفهوم ّ الدولي.
القوة (غير النفوذ كمصطلح أطلقه علماء االجتماع السياسي على ّ والمتجسد في الشرعية) أي غير المستمدة من سلطة رسمية إلزامية ّ التنظيم غير الرسمي في نطاق المجتمع السياسي (المحلي) ،قد القوة على الصعيد الدولي، ال يصلح للتعبير ـ بشكل دقيق ـ عن ّ والتي تنحصر في وجه واحد ـ وف ًقا للتصنيف السابق ـ وهو الوجه الذي ال يع ّبر عن وجود سلطة شرعية لها حق إصدار القرار النهائي تتجسد بشكل واضح القوة على الصعيد الدولي ّ اإللزامي ،وإذا كانت ّ في العنف (كأصل) في التعامل بين األطراف الدولية كنتيجة منطقية لغياب السلطة الشرعية العليا في البيئة الدولية ،فإن العنف أو اإلكراه القوة ُيكتسب ـ وف ًقا لتصنيف علماء االجتماع كصورة من صورة ّ 30
القوة أكثر من اكتسابه السياسي ـ لصالح (السلطة) كوجه من وجوه ّ األول ،فغال ًبا ال يتأت لصالح (النفوذ) كوجه آخر مغاير للوجه ّ للتنظيمات غير الرسمية في نطاق المجتمع السياسي (المحلي) ممارسة العنف أو اإلكراه ،وتعتمد بشكل كبير على اإلقناع واالستمالة والترهيب والترغيب في التعبير عن قوتها ،بينما يتأت للسلطة السياسية (النظامية) ممارسة اإلكراه ألن نظاميتها هي التي تمنحها االحتكار الشرعي ألدوات العنف في المجتمع. يفضل استعمال مصطلح (النفوذ) كأحد من هنا فإن الباحث ال ّ القوة في المجال الدولي ،ويرى ّ أن يتم القوة للتعبير عن ّ تصنيفات ّ
القوة السياسية على الصعيد الدولي كموضوع مستقل التعامل مع ّ يخص المجتمع السياسي (المحلي)، القوة السياسية فيما ّ عن ّ القوة األمر الذي يتيح إيجاد تصنيفات مع ّبرة عن صور ونماذج ّ في البيئة الدولية. القوة في ال�سيا�سة الدولية ت�صنيف ّ
يتفق أغلب علماء السياسة المعاصرون على ّ أن التصنيف األساسي للقوة في الساحة الدولية يعتمد على أنها أم ّ أن تكون قوة ويجسد هذين الوجهين للقوة مفهومي الدبلوماسية إقناع أو قوة إكراهّ ، القوة التي واإلستراتيجية ،وفي حين تعني الدبلوماسية كافة صور ّ تؤدي إلى تحقيق األهداف في البيئة الدولية قبل ّ أن يتم الوصول إلى مرحلة اإلكراه والعنف لتستكمل اإلستراتيجية عملية تحقيق األهداف 31
متجسدة في صورة العنف واإلكراه ،وفي إطار هذين التصنيفين للقوة ّ القوة في الحالتين: يمكن رصد عدد من الصور التي تع ّبر عن ّ القوة من خالل الدبلوماسية: أـ ّ
أساسا على فن اإلقناع ،أي الوصول إلى التأثير تعتمد الدبلوماسية ً على سلوك الطرف اآلخر من خالل إقناعه بجدوى القيام بسلوك ما، واإلقناع يعني االستجابة الطوعية االختيارية من قبل الطرف الثاني األول ،وهو ال يعني بالضرورة ّ أن اقتناع الطرف لما يريده الطرف ّ األول ،أو نتيجة لتأثير الثاني جاء نتيجة (لمنطقية) رغبات الطرف ّ عاطفي أو روحي ،بل يكون ـ في الغالب ـ ناتج عن ارتباط مصلحة األول بعد الطرف الثاني بهذه االستجابة الطوعية إلرادة الطرف ّ حسابه لمعادلة المكاسب والخسائر المح ّققة أو المحتملة ،وتدخل هنا سياسات الترغيب والترهيب كسياسات تعمل على الوصول بالطرف الثاني إلى حالة االقتناع.
مع عدم اإلخالل بارتباط المواقف والسياسيات التي تنتهجها الدولة ـ أي دولة ـ في الساحة السياسية الدولية بمصلحتها القومية ورؤيتها وإدراكها لهذه المصلحة ومن ثم لتحديد استجابتها لتأثير األطراف الدولية األخرى ،فإن (االستجابة) الناتجة عن التأثير العاطفي والروحي والدعائي ال يجدر إهمالها بشكل كامل ـ على وضوحا في صعيد السياسات الدولية ـ من منطلق أنها تبدو أكثر ً عالقات التأثير بين األفراد ،وإنه ال مجال لهذا النوع من التأثير في الساحة السياسية الدولية ،بل ّ أن االعتراف بوجود هذا النوع من التأثير 32
بين األفراد قد يؤدي إلى انتقاله إلى الدول من خالل إمكانيات التأثير (العاطفي والروحي) التي يتمتّع بها بعض الزعماء والقادة السياسيون، كما ّ أن اإلعالم ـ الذي يمكن اعتباره أحد وسائل السياسة الخارجية مهما في الوصول دورا ً للدول مما يقع في نطاق الدبلوماسية ـ يلعب ً إلى نتائج (استجابات) مبنية على عوامل التأثير العاطفي والروحي.
أن اإلقناع كأساس للدبلوماسية ليس شر ًطا ّ ّ أن يع ّبر فقط عن متجسدة األول وإراداته ّ حالة رضى وارتياح في قبول رغبات الطرف ّ في شكل استجابة طوعية لها ،وإنما قد يع ّبر عن قبول قائم على األول وسيطرته وارتباط مصلحة الطرف الثاني بتفوق الطرف ّ االقتناع ّ باالعتراف واالقتناع بهذه السيطرة دون إجبار أو إكراه ،لذلك يمكن اعتبار سياسات السيطرة والهيمنة وما يترتّب عليها من تبعية ضمن دائرة الشكل الدبلوماسي للقوة طالما لم تصل إلى مرحلة (اإلكراه) أي األول ،وهي المرحلة التي تبدأ اإلرغام القسري للقبول بإرادة الطرف ّ القوة االنتقال من حالتها الدبلوماسية إلى حالتها اإلستراتيجية، فيها ّ القوة الدبلوماسية من الوصول وتجدر اإلشارة إلى أنه كلما اقتربت ّ إلى حالتها اإلستراتيجية تبدأ بفقدان مالمحها الدبلوماسية لتكسوها المالمح اإلستراتيجية ليبدأ العد التنازلي في سياسات اإلقناع في ذات الوقت الذي يبدأ فيه العد التصاعدي في سياسات اإلكراه ،لذلك يكون من الصعب في هذه المنطقة (منطقة التداخل بين اإلستراتيجية فعل دبلوماس ًيا أو ً والدبلوماسية) تصنيف الفعل فيما إذا كان ً فعل إستراتيج ًيا ،ولعل المثال على ذلك سياسات الوعيد والتهديد 33
القوة العسكرية ،حيث قد ينشأ االختالف حول ما إذا كان باستخدام ّ هذا الفعل يصنّف على أنه فعل دبلوماسي أم فعل إستراتيجي(((. القوة من خالل اإلستراتيجية: بـ ّ
«الحرب هي متابعة للسياسة الخارجية بأسلوب آخر» ،كما يصفها
ريمون آرون ،لكن الحرب ليست هي الصورة الوحيدة لإلستراتيجية، تعبيرا عن إال إذا أعطينا للحرب مفهو ًما واس ًعا ال يقف عند حد كونها ً
حالة التصادم الذي يأخذ شكل العنف المادي المتبادل بين طرفين
يجسده التصادم العسكري ،أما إذا تخطى مفهوم أو أكثر ،والذي ّ
الحرب هذا المعنى ليشمل كافة صورة اإلرغام واإلكراه والتصادم بين المقدرات مثلما يع ّبر عنه بالحرب االقتصادية أو الحرب النفسية
أو الحرب الباردة (الردع المتبادل) باإلضافة إلى الحرب العسكرية ((( ال يعني الباحث بهذه الفكرة (التي تمثل اجتها ًدا صر ًفا له) ّ أن الدبلوماسية واإلستراتيجية ال تعمل كل منهما إال بمعزل عن األخرى ،وإن اإلستراتيجية ال تبدأ إال عندما تنتهي الدبلوماسية ،وإنهما فقط تتقاطعان في منطقة معينة عند الحد الفاصل بينها ،كما قد يفهم ،وإنما المقصود هنا ما يتعلق بتصنيف فعل محدّ د في كونه دبلوماس ًيا أو إستراتيج ًيا ،ويدرك الباحث ّ أن الدبلوماسية واإلستراتيجية ّ كثيرا ما تعمالن في ذات الوقت في قضية ما ،بمعنى أن الدولة قد تع ّبر عن قوتها ً بصورة دبلوماسية وبصورة إستراتيجية في ذات الوقت تجاه موضوع أو قضية محددة ،وفي هذه الحالة تعمل الدبلوماسية بآلياتها ووسائلها جن ًبا إلى جنب مع آليات ووسائل اإلستراتيجية ،بل ّ أن الغالب في القضايا السياسية الدولية هو هذا الوضع ،فإلى جانب الحرب والتصادم كصور لإلستراتيجية تعمل المفاوضات والوساطة ومحاوالت اإلقناع كأساليب دبلوماسية للوصول إلى الهدف ،وتدعم كل منهما موقف األخرى....الباحث. 34
فإن مفهوم اإلستراتيجية يمكن ّ أن يعتبر مراد ًفا لمفهوم الحرب بهذا
المعنى.
القوة من خالل اإلستراتيجية على أساليب الضغط أو القسر تعتمد ّ
أو اإلجبار بوسائل متعددة ومتباينة من حيث الشدة أو العنف ،قد تبدأ
بالتهديد بفرض العقوبات الدبلوماسية أو االقتصادية ثم تتصاعد إلى
(القوة العسكرية) وتنتهي إلى االستخدام التهديد باستخدام العنف ّ
الفعلي للعنف(((.
ُيالحظ ّ تجسدها اإلستراتيجية تتسم بالتعبير القوة التي ّ أن صور ّ
القوة عن العداء الذي هو أصل في الصراع الدولي ،بينما تع ّبر صور ّ
تجسدها الدبلوماسية في كثير من األحيان عن حالة (التعاون) التي ّ
أو على األقل حالة (الالعداء) ،وفي كلتا الحالتين فإن المصلحة القومية هي المنطلق في تحديد العالقة مع األطراف الدولية األخرى
في خضم دائرة الصراع الدولي من أجل تحقيق المصالح ،والذي
يسمح في كثير من األحيان بقيام نوع من التعاون أو الصداقة بين الدول ارتبا ًطا بمصلحة كل منها ،وبما ال ينفي ّ أن األصل في البيئة الدولية هو العداء ـ وف ًقا لما سبق بيانه.
القوة، للحرب أو اإلستراتيجية صور عديدة بصدد تعبيرها عن ّ
فهي في أوضح صورها تكون استخدا ًما فعل ًيا للعنف إلرغام الطرف ((( محمد طه بدوي [وآخرون] ،مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.69 35
األول ،وتم ّثل اآلخر ـ بقوة السالح ـ على الرضوخ إلرادة الطرف ّ بذلك أقصى درجات الصراع في نطاق البيئة الدولية ،وللحرب بشكل ً وأشكال عديدة يفضل البعض تقسيمها إلى نوعين هما: صورا عام ً الحرب المباشرة والحرب غير المباشرة(((.
أ ) الحرب المباشرة :هي أكثر صور الصراع إثارة للرعب ،وهي لفض النزاع بين المصالح الكبرى عن طريق عبارة عن «عمل سياسي ّ الدم» على حد تعبير كالوزفتز((( ،وقد تكون الحرب عم ً ل عدوان ًيا أو قد تكون ً عمل مشرو ًعا يهدف إلى الدفاع عن النفس ،وبرغم غياب المعايير التي على أساسها يتم تصنيف الحرب أنها عمل عدواني أو عمل مشروع ،سوى بعض االجتهادات التي انص ّبت على فكرة (الحرب العادلة)((( ،والتي وإن حصل االتفاق حولها نظر ًيا، ((( جمال سالمة ،أصول العلوم السياسية( ،القاهرة :دار النهضة العربية،)2003 ، ص.290 ((( المرجع نفسه ،ص.261 المشار إليها ما ذكره القديس أوجستين «بأن الحرب توصف ((( من بين االجتهادات ُ بأنها عادلة إذا كانت تهدف إلى االنتقام من األخطاء ،أو تهدف لعقاب أمة أو دولة رفضت تقويم األخطاء التي ارتكبتها ،بأن ترفض ً مثل إعادة ما اغتصبته» أما سيشرون فيؤكد على ّ أن «الدولة المثالية يجب أال تخوض غمار الحرب إال دفاعًا عن شرفها وسالمتها» ،كما يرى توماس األكويني ّ أن الحرب لكي توصف بأنها أن تتحقق لها ثالثة شروط 1 :ـ ّ عادلة يجب ّ أن يكون الحاكم (ولي األمر) الذي له تقديرا جيدً ا لطبيعة األخطار الخارجية 2 ،ـ ّ أن يكون مقدرا سلطة إعالن الحرب ً ً ّ هناك خطأ قد ارتكب يستحق من ارتكبه شن الحرب عليه عقا ًبا له 3 ،ـ أن تكون نية المحارب مرتبطة بالحق والعدل ،انظر في ذلك جمال سالمة ،أصول العلوم السياسية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.291 36
فإن الواقع (أثناء حدوث الحرب) يجعل االختالف حول طبيعتها كبير لدرجة ّ أن ال أحد من األطراف يعترف بأنه يمارس العدوان، ويتمسك كل طرف بأنه في حالة دفاع عن النفس ،وهو بالفعل في حالة دفاع عن مصالحه ولو بشكل غير مباشر ،وتصبح المسألة هي مدى شرعية هذه المصالح أو ال شرعيتها ،والتي هي األخرى قضية يصعب االتفاق حولها حتى من قبل األطراف األخرى (المحايدة) غير المشاركة في الحرب ،ألنها ستنظر إلى شرعية الحرب من عدمها من المشاركة في الحرب. خالل مصالحها هي وعالقاتها بأحد األطراف ُ في إطار الحرب المباشرة يمكن إيجاد عدد من الصور للحرب منها :الحرب النظامية والتي تكون بين الجيوش النظامية والدول، والتي يمكن ّ أن تكون حر ًبا شاملة أو حر ًبا محدودة ،وحرب العصابات القوة وفي التنظيم ،وعادة التي تكون عادة بين طرفين غير متكافئين في ّ ما يكون أحد الطرفين دولة تملك جيوش وقوة من ّظمة والطرف اآلخر منظمة أو فصيل أو جماعات غير من ّظمة عبارة عن تنظيم مس ّلح أو ّ ً األول (المن ّظم) ،معتمدة أصل تحاول مقاومة ومواجهة الطرف ّ
والتحصن في الغابات على الهجمات الخاطفة والعمليات الفدائية ّ والجبال واألماكن النائية والمعزولة ،والتي يصعب على الطرف اآلخر الوصول إليها.
ب ) الحرب غير المباشرة :وهي تلك األعمال التي يمكن ً أعمال حربية ،ولكنها ال ترقى إلى مستوى التصادم تصنيفها على أنها والمواجهة الفعلية بين الجيوش والقوات العسكرية ،والتي تأخذ عد ًدا 37
القوة المسلحة من الصور واألشكال من بينها أعمال التهديد باستخدام ّ يتجسد أحيانًا في شكل استعراض للعضالت واستفزازات والذي ّ عسكرية من خالل مناورات أو طلعات جوية أو ما شابهها ،وقد يأخذ هذا النوع من الحرب صورة (الحرب الباردة) والتي تع ّبر عن حالة توتّر قائم بين قوتين أو أكثر يقوم فيها كل طرف بتعبئة إمكانياته التسلح وعقد األحالف العسكرية العسكرية من خالل السباق على ّ القوة لدى الطرف اآلخر ،وتستمر هذه الصورة من ورصد إمكانيات ّ الحرب (باردةً) ما دام يتحقق من خاللها ردع متبادل بين الطرفين أو األطراف المعنية ،وهي الحال التي كانت تسود البيئة الدولية خالل فترة الصراع بين القوتين العظميين (الواليات المتحدة واالتحاد السوفيتي) خالل الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
صورة أخرى للحرب غير المباشرة تتم ّثل في الحرب االقتصادية، أي استعمال اإلمكانيات ذات الطابع االقتصادي إلرغام الطرف األول ،مثل عمليات الحصار اآلخر على الرضوخ إلرادة الطرف ّ االقتصادي وتجم ّيد األرصدة المالية ،والمقاطعة االقتصادية أو استخدام سالح النفط (كما حدث في الحرب العربية اإلسرائيلية عام )1973وما شابه ذلك من أعمال من شأنها إرغام الطرف اآلخر أن ما يالحظ ّ األول ،إال ّ أن بعض صور على القبول بإرادة الطرف ّ القوة االقتصادية لتنفيذ اإلرادة وتحقيق المصلحة الوطنية استخدام ّ ً أعمال دبلوماسية وال ترقى إلى مستوى يمكن تصنيفها على أنها أن الباحث يرى ّ األعمال اإلستراتيجية أو الحربية ،إال ّ أن معيار 38
القوة (االقتصادية) الفصل هنا هو مدى وقع استعمال هذا النوع من ّ يجسد اإلرغام على الطرف الموجه ضده الفعل ،فإذا كان وقع الفعل ّ واإلكراه للطرف الواقع عليه الفعل ،كانت ً عمل إستراتيج ًيا ،أم إذا تصنيف هذا اقتصر وقع الفعل على أنه (إقناع) إرادي له ،فإنه يمكن ّ الفعل على أنه عمل دبلوماسي.
الصورة األخرى للحرب غير المباشرة هي ما يطلق عليه (الحرب النفسية) وهذا النوع من الحرب يكون ـ عاد ًة ـ مصاح ًبا للحرب الفعلية ،وقد يكون ضمن مكّونات الحرب الباردة معتمدً ا على مجموعة من الوسائل تتراوح بين الدعاية واإلعالم بشكل يعمل على زعزعة الثقة بالنفس لدى الطرف اآلخر وإحداث شرخ بين القيادة السياسية والشعب عن طريق بث اإلشاعات أو استقطاب المعارضين ً مثل. وقد تأخذ الحرب غير المباشرة صورة النشاط الهدّ ام الذي يستهدف تقويض النظام السياسي واالقتصادي واالجتماعي من خالل دعم الجماعات المتمردة على النظام وزعزعة االستقرار الداخلي أو من خالل القيام بأعمال التخريب والجوسسة واالغتياالت(((.
ّ القوة ـ المتباينة في توزيعها بين الوحدات مقومات وإمكانيات ّ أن ّ الدولية ـ ال تفصح عن نفسها إال من خالل ما تقترن به من تأثير فاعل في سلوكيات األطراف الدولية األخرى في الساحة الدولية ،وفاعلية ((( جمال سالمة ،المرجع نفسه ،ص.ص.299 ،298 39
التأثير يمكن اعتبارها وحدة قياس تجريبية إلدراك الطبيعة المتم ّيزة للقوة في صياغة نموذج السلوك المع ّبر عنها ،ويأخذ السلوك السياسي الخارجي للوحدات الدولية أحد مظهرين كما يشير (هولستي) :فهو إما ّ متأثرا ،وفي كلتا الحالتين يع ّبر مؤثرا أو سلوكًا ً أن يكون سلوكًا ً السلوك عن اإلمكانيات والقدرات لدى كل طرف ،ليكشف في الحالة األولى عن (الفعل) المع ّبر عن هذه اإلمكانيات ويكشف في أيضا ـ عن إمكانيات الحالة الثانية عن االستجابة (رد الفعل) المع ّبر ـ ً وقدرات الطرف الموجه ضده الفعل ،بما يشير إلى ّ أن االستجابة ورد الفعل الذي تبديه الدولة (ب) ً وضوحا مثل ما هي إال المظهر األكثر ً لقوة الدولة (أ) بالقياس مع قوة الدولة (ب)(((. ويأخذ نمط السلوك الناجم عن تأثير الدولة (أ) على الدولة (ب) عد ًدا من األشكال والنماذج يمكن تحديدها في:
يتجسد التأثير هنا في محاولة الوحدة الدولية 1ـ النموذج الم ّقنعّ : إقناع وحدة دولية أخرى باتخاذ موقف ما لما قد يتح ّقق لها من تلمس مكاسب ومصالح لو اتخذت الموقف المطلوب ،ويمكن ّ تتصف هذا المظهر من مظاهر التأثير بين الوحدات الدولية التي ّ العالقات بينها بالتوافق والتفاهم ،ويعتمد هذا النموذج السلوكي على قدرات الدولة ومهارتها في عرض المكاسب والمنافع ومدى إدراك الطرف اآلخر لهذه المنافع والمكاسب(((.
((( عبد القادر محمد فهمي ،النظام السياسي الدولي( ،عمان :دار األوائل ،)1997 ،ص.24 ((( المرجع نفسه ،ص.26 40
2ـ النموذج الرادع :والردع يعني الحيلولة دون قيام المرتدع بعمل ما ،أو دفعه للعدول عن موقف أو قرار ينوي اتخاذه إلدراكه بأن المكاسب التي يتو ّقع الحصول عليها ستكون أقل بكثير من المخاطر التي قد يتعرض لها لو أقدم على الفعل(((. ويتجسد في قيام الدولة باتخاذ موقف أو مباشرة 3ـ نموذج القهرّ : القوة المس ّلطة عليها في شكل سلوك مع ّين ،وهي مجبرة بفعل ّ فعلي أو في شكل تهديدي(((.
أن صياغة سلوك اآلخرين في البيئة الدولية يكشف عن ّ ّ القوة أن ّ التي تتمتع بها الدولة في البيئة الدولية ،إما ّ أن تكون (قوة سلوك) تتم ّثل في إجراءات مباشرة إلجبار الدولة (ب) ً مثل على إتباع نمط سلوكي ينسجم مع أهداف وإرادة الدولة (أ) ،أو ّ أن يكون (قوة هيكلة) بما يعني ّ أن الدولة (أ) ال تقوم بالتأثير المباشر على سلوك الدولة (ب) ،بل تقوم بتعديل الوضع الذي تعمل فيه الدولة (ب) تتصرف كما ترغب الدولة (أ) ،أو قد يكون (قوة بطريقة تجعلها ّ القوة التي تكتسبها وحدة دولية مع ّينة اعتما ًدا وضع القواعد) وهي ّ على قدرتها على وضع القواعد التي يتوجب على اآلخرين التقيد وااللتزام بها(((. ((( المرجع نفسه ،ص.27 ((( المرجع نفسه ،ص.ص.28-27 ((( المرجع نفسه ،ص.ص.29 ،28 41
القوة في المجال الدولي توزيع ّ
القوة ،فإن إذا كانت البيئة الدولية هي بيئة صراع القوى من أجل ّ
لكل قوة من هذه القوى وخالل كل فترة زمنية إمكانيات ومقدرات مختلفة ومتباينة للقوة مع إمكانيات ومقدرات القوى األخرى بما يؤكد
القوة من جهة ،والتغير حقيقتين هما :االختالف والتباين في حجم ّ
القوة من جهة أخرى ،في ظل الصراع المستمر في وزن وحجم ّ
كسمة غالبة على العالقات الدولية فإن الواقع الدولي ـ سوا ًء من
صورا مختلفة منظور تاريخي أو من منظور راهن ـ شهد ويشهد ً
القوة بين وحداته اتفق الباحثون وعلماء السياسة على لتوزيع ّ التعبير عن هذه الصورة بمفهوم( :االنساق الدولية أو النظم الدولية
يتضمن كل نسق دولي تراتبية مع ّينة ،)Political Systemsبحيث ّ القوة بين وحداته ارتبا ًطا بالتأثير الناجم عن سلوك الوحدة لتوزيع ّ
معرضة للتغ ّير الدولية تجاه الوحدات الدولية األخرى ،وهذه التراتبية ّ
القوة لكل بشكل دائم ومستمر تب ًعا للتغ ّير المستمر في إمكانيات ّ
طرف بالنسبة لألطراف األخرى ،لذلك تعدّ دت ـ عبر التاريخ ـ صور
االنساق الدولية بما يع ّبر عن ثبات نسبي في تراتبية توزيع القوى في أن ثبات االنساق الدولية لفترة من الزمن ال ّ إطار كل نسق ،كما ّ يخل القوة لدى األطراف الدولية، بحقيقة التغ ّير المستمر في إمكانيات ّ 42
كما ال ّ القوة داخل النسق الواحد يخل بظاهرة التغ ّير في تراتبية توزيع ّ بقدر ما يع ّبر عن التغ ّير في األوضاع القيادية القطبية في النسق الدولي لينتقل إلى صورة أخرى ،أي إلى نسق دولي جديد ،ويمكن حصر االنساق الدولية التي عرفها تاريخ العالقات الدولية في ثالثة أشكال رئيسة ،وهي :النسق متعدد القطبية ،والنسق ثنائي القطبية ،والنسق أحادي القطب(((. يقودنا ذلك إلى الحديث عن مفهوم آخر يرتبط بشكل كبير القوة في البيئة الدولية وهو مفهوم (توازن القوى) ،وهو بمفهوم ّ المفهوم الذي رغم تعدّ د المعاني واالستخدامات المتع ّلقة به إال أنه ـ كما يرى الباحث ـ يع ّبر أكثر عن الواقع الدولي الناتج عن القوة بين الوحدات الدولية ،ليس فقط في إطار نسق دولي توزيع ّ محدّ د ولكن في إطار كل االنساق الدولية ،ما دام الواقع الدولي لم يصل على حالة الدولة العالمية الواحدة (الحكومة العالمية) أو حالة الفوضى التامة.
يرتبط مفهوم توازن القوى بمفهوم النسق الدولي ،فاألطراف الدولية المكّونة للنسق تتفاعل فيما بينها من خالل عمليات تأثير خضم الصراع الدولي كظاهرة مالزمة للبيئة الدولية بما وتأثر في ّ يح ّقق االتزان الكلي للنسق ،وهو اتزان تلقائي على شاكلة االتزان الميكانيكي الكامن في طبيعة األشياء في عالم الفيزياء وعالم األحياء، ((( محمد طه بدوي ،ليلى أمين مرسي ،أصول العالقات الدولية( ،مرجع سبق ذكره)، ص.162 43
يجسد النظرة الموضوعية (العلمية) لتوازن القوى التي تح ّلل بما ّ عالقات عالم السياسة الدولي من خالل ما هو كائن بالفعل(((.
القوة التي تح ّلل عالقات عالم السياسة أما النظرة النمطية لميزان ّ أن يكون فيمكن ّ الدولي في إطار ما يجب ّ أن نجد لها ما يوافقها من المعاني واالستخدامات المختلفة التي حدّ دها الباحثون لمفهوم القوة ،فقد حصر الباحث األمريكي أرنست هاس Ernst haas ميزان ّ القوة القوة :فقد يكون ميزان ّ ثمانية استخدامات مختلفة لمفهوم ميزان ّ القوة في المجال الدولي ،كما تعبيرا عن أي صورة من صور توزيع ّ ً إنه يمكن ّ القوة، أن يع ّبر عن وضع من أوضاع التعادل والتكافؤ في ّ تعبيرا عن حالة تعبيرا عن الهيمنة أو محاولة تحقيقها ،أو ً أو قد يكون ً االستقرار والسالم الدولي ،وفي ذات الوقت يمكن ّ تعبيرا أن يكون ً عن حالة عدم االستقرار والحرب ،وهو كذلك تعبير عن سياسات وأخيرا يمكن القوة ،أو هو قانون طبيعي لتاريخ العالقات الدولية، ّ ً ((( الموجه لسياسات الدول . استخدامه بمعنى ّ
القوة بين األطراف الدولية في تتجسد عملية التغ ّير في إمكانيات ّ ّ إطار النسق الدولي الواحد في حاالت الالستقرار واالضطراب في عالقات وتفاعالت هذه األطراف بما يحافظ على الهيكل العام لتوزيع القوة ويؤدي إلى استمرار النسق ،وفي حاالت ألالستقرار الشديدة ّ ((( عادل فتحي ثابت ،النظريات السياسية المعاصرة( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.283 ((( محمد طه بدوي [وآخرون] ،مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص 250وما بعدها. 44
والتي تطال فيها التغ ّيرات في توزيع قوة األطراف القيادية أو القطبية في النسق فإنه يتم االنتقال إلى صورة جديدة للنسق الدولي ،كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية بانتقال النسق الدولي من صورته المتعددة األقطاب إلى صورة القطبية الثنائية ،وكما حدث كذلك إثر انهيار االتحاد السوفيتي والكتلة الشيوعية أواخر القرن الماضي حيث انتقل النسق الدولي من القطبية الثنائية إلى األحادية القطبية (بحسب رأي عدد من الباحثين) ،وفي كل هذه الحاالت ليس باإلمكان الحكم قائما ولكن في صورة بانتفاء حالة التوازن الدولي ألن التوازن يظل ً أخرى ووضع جديد طالما لم يصل األمر إلى حالة الفوضى التامة أو حالة الحكومة العالمية ،وما يبدو للمالحظ في المثالين السابقين (الحرب العالمية الثانية ،انهيار االتحاد السوفيتي) من أنه انهيار واختالل في توازن القوى يمكن الحكم بنا ًء عليه بانتفاء حالة التوازن األول (الحرب العالمية الثانية) فيه شيء من مالمح إال ألن الحدث ّ الحالة األولى (الفوضى التامة) والحدث الثاني (انهيار االتحاد السوفيتي) فيه شيء من مالمح الحالة الثانية (الحكومة العالمية) النفراد الواليات المتحدة األمريكية بالقوة األحادية المتم ّيزة مما شبيها بوضع السلطة العليا في العالم. يعطيها وض ًعا ً
45
()2 القوة في المجال الدولي عوامل ومقومات ّ ّ مقومات قوة الدولة في المجال الدولي اختلف الباحثون في تحديد ّ القوة من حيث أنه يعني انطال ًقا من اختالفهم في التعامل مع مفهوم ّ القوة والقدرة القوة كمجموعة من العناصر واإلمكانيات أو أنه يعني ّ ّ معززة م ًعا ،بمعنى مجموعة اإلمكانيات والعناصر المشكّلة لقوة الدولة ّ بالقدرة على استعمالها ألحداث فعل تأثير في البيئة الدولية.
القوة في المجال الدولي في :الجغرافيا، يحدّ د هانزمارجنثاو عوامل ّ السكان ،التقدم الصناعي ،الدبلوماسية ،القدرات العسكرية ،والروح أن ريمون آرون يرى ّ المعنوية ،في حين ّ تتجسد أن عوامل قوة الدولة ّ في الموقع الجغرافي والموارد الطبيعية ،الجيش ،العامل االجتماعي، النظام السياسي والقوة الوطنية(((. ((( محمد طه بدوي [وآخرون] ،مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.101 47
بيدا ّ أن هذا االختالف ال ّ يشكل في الحقيقة اختال ًفا جوهر ًيا
القوة في تحديد ماه ّية اإلمكانيات التي بموجبها تكتسب الدولة ّ في المجال الدولي ،فهناك شبه إجماع على ّ أن هذه اإلمكانيات
إما ّ تتجسد في شكل مقدرات مادية محسوسة يمكن قياسها أن ّ وتحديدها ،أو ّ أن تكون مقدرات وإمكانيات ذات طابع غير مادي
يصعب تحديدها وإخضاعها للقياس الكمي ،وفي الحالين فإن
هناك جملة من هذه اإلمكانيات تتمتّع بثبات نسبي بينما بعضها ذو طبيعة متغ ّيرة من فترة زمنية إلى أخرى ،كما ّ أن أهميتها النسبية
القوة في المجال مقومات ّ متغ ّيرة كذلك ،ومن المفيد التعامل مع ّ الدولي ككل واحد يعتمد بعضها على البعض اآلخر ويكتسب
أهميته من خالل العوامل األخرى ودرجة توظيفها ،مع بعضها ّ االعتراف بأهمية بعض العوامل بشكل نسبي وهو ما دفع عدد من
الباحثين إلى التركيز على عوامل مع ّينة للقوة في المجال الدولي
األهمية األكبر ،بل والتعامل معها في كثير من األحيان وإعطاءها ّ كمحدّ دات (حتمية) لقوة الدولة ،مثلما فعل علماء (الجيوبولتكس)
خالل القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين غافلين بذلك عن
القوة تب ًعا لظروف أهمية أي من عوامل ّ مسألة النسبية التي تحكم ّ القوة، الزمان والمكان وتب ًعا للمتغ ّيرات المتع ّلقة ببقية عوامل ّ ً فمثل لم يعد لإلمكانيات البشرية (العددية) دور يذكر في حسم
الصراعات الدولية في ظل التقدم التقني الهائل في مجال إنتاج
القوة التدميرية الهائلة ،كما لم يعد للعامل الجغرافي السالح ذو ّ 48
دور كما كان له في ظل قدرة التقنية العسكرية الحديثة على تجاوز رغما عن معطيات المسافات الكبيرة والوصول إلى األهداف ً الجغرافيا. تجدر اإلشارة إلى ّ القوة في المجال الدولي تكمن أن بعض عوامل ّ أهميتها في دورها في توظيف اإلمكانيات المحسوسة للقوة وإعطاء فالهوية الثقافية واالجتماعية والسياسية للمجتمع، الفاعلية لها، ّ وطبيعة القيادة السياسية ،ومستوى التقدم التقني والعلمي تم ّثل القوة المادية المتمث ّلة في مقومات ّ محد ّدات لمستوى اإلفادة عن ّ المجال الجغرافي وما يو ّفره من إمكانيات للقوة ،والكم السكاني مقومات وقدرات والمقدرات االقتصادية ،وما يترتب على ذلك من ّ عسكرية ،وكما ّ أن للعوامل غير المادية دور في تحديد أهم ّية ودرجة المقومات والعوامل المادية للقوة ،فإن لكل عنصر االستفادة من ّ القوة في الحالين درجة من االرتباط والتأثير في بقية من عناصر ّ العناصر سوا ًء المشابهة له في طبيعتها المادية أو تلك التي تحمل طاب ًعا غير مادي.
القوة في المجال الدولي إلى يقسم الباحث عوامل ّ انطال ًقا مما سبق ّ نوعين من العوامل هما :العوامل المادية للقوة والتي تشمل :المجال الجغرافي ،السكان ،المقدرات والموارد االقتصادية واإلمكانيات العسكرية ،والعوامل غير المادية للقوة والتي تشمل :الهوية الثقافية واالجتماعية ،النظام السياسي والقيادة السياسية ،مستوى التقدم العلمي والتقني. 49
� ً أول :العوامل المادية للقوة �أ ) المجال الجغرافي
المكونة لقوة المقومات الجغرافية من العوامل الطبيعية تعتبر ّ ّ الدولة ،كما إنها يمكن ّ قياسا بغيرها أن توصف بالثبات والديمومة ً
القوة ،فالمعطيات الجغرافية ألي وحدة دولية هي ذاتها مقومات ّ من ّ ً ومناخا وتضاريسا من حيث أنها تعني موق ًعا جغراف ًيا مع ّينًا ومساح ًة ً ً وشكل معينًا إلقليم الدولة(((.
((( قد تتغ ّير المعطيات الجغرافية لدولة ما عند قيامها بضم أقاليم أخرى لسيادتها، أو انفصال أقاليم عنها ،أو من خالل اتحاد دولتين أو أكثر أو انفصال دولة إلى دولتين أو إلى عدد من الدول (االتحاد السوفيتي ً مثل) وقد ينتج عن هذا التغ ّير ً تغيرا في معطيات القوة األخرى (السكان ،الموارد االقتصادية مثل) ،وفي مثل هذه ًّ الحاالت (األخيرة) فإن الواقع السياسي يشير إلى ظهور دولة أو دول جديدة على حساب اختفاء دولة أو دول من الخريطة السياسية للعالم ،بما ال يفيد معه القول أن المعطيات الجغرافية أللمانيا ً ّ (مثل) قد تغ ّيرت باتحاد األلمانيتين (الشرقية ّ والغربية) إثر انهيار االتحاد السوفيتي ،بل يمكن القول أن الخريطة السياسية للعالم قد تغ ّيرات باختفاء دولتين (األلمانيتين) وظهور دولة ألمانية واحدة ،بقي القول ّ أن التغ ّير في المعطيات الجغرافية ـ مع ثبات الخريطة السياسية للعالم ـ يخص تلك الحاالت المتمثلة في ضم أقاليم معينة أو تغ ّير تبعية بعض األقاليم من دولة إلى أخرى ،أو حسم النزاعات الحدودية بضم مساحات جغرافية لدولة من الدول المتنازعة ،وكل تلك التغ ّيرات ال تترك ـ في الغالب ـ ذلك األثر الكبير في تغير معطيات القوة الباحث. 50
ومع ثبات وديمومة العوامل والمعطيات الجغرافية فإن األهم ّية المتع ّلقة بكل عامل منها يعتريها التغ ّير بشكل مستمر تب ًعا للمتغيرات القوة ،فالموقع الجغرافي كمعطى من التي تطرأ على بقية عوامل ّ القوة الجغرافية للدولة لم تعد له ذات األهم ّية التي كانت له معطيات ّ ساب ًقا في ظل تطور وسائل المواصالت واالتصاالت وتطور تقنيات السالح والتدمير.
يتناول الباحث كل معطى من المعطيات الجغرافية للدولة بشكل مختصر للتعرف على طبيعة هذا المعطى واألهم ّية النسبية له من خالل تأثير بقية المعطيات والعوامل المتعلقة بقوة الدولة عليه ،ومن خالل التعرف على بعض االجتهادات النظرية التي تناولت تحليل قوة الدولة ّ في المجال الدولي من منظور العوامل الجغرافية على النحو التالي: 1ـ الموقع
الموقع بالنسبة للدولة هو اإلقليم الذي تشغله بالنسبة لخطوط الطول ودوائر العرض ،وكذلك بالنسبة للمسطحات المائية المتم ّثلة في البحار والمحيطات والبعد والقرب عن مركز العالم المتم ّثل في منطقة المتوسط وجنوب أوربا(((. بالرغم من التغ ّيرات التي طرأت على التأثير النسبي للعوامل تأثرا الجغرافية بشكل عام على السياسات الخارجية للدول ً
((( محمد طه بدوي [وآخرون] ،مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.96 51
التحضر والتقدّ م التقني ،إال ّ أن من القضايا المسلم بها بتغيرات ّ ّ أن للموقع أهم ّية واضحة في رسم السياسات الخارجية وتحديد طبيعة العالقات والتفاعالت التي تقوم بين الدولة وبقية األطراف الدولية األخرى.
ّ القوة على الصعيد مقومات ّ مقو ًما من ّ يمثل الموقع بالنسبة للدولة ّ الدولي بالنظر إلى عدد من المزايا التي تكتسبها دولة ما ارتبا ًطا بموقعها ،فالدولة التي تشرف على ممرات دولية هامة قد تكتسب القوة بتحكّمها وسيطرتها على هذه الممرات ،مما يجعل شي ًئا من ّ مصالح عدد من األطراف الدولية األخرى مرتبطة بإراداتها ومشيئتها، ومن جهة أخرى قد يكون إشراف الدولة وإطاللتها على ممرات نظرا مائية هامة مصدرا من مصادر الخطر والضعف لهذه الدولة ً ً لجاذبية هذه الممرات في استجالب القوى الدولية التي تحاول السيطرة والتحكّم في هذه الممرات في إطار سعيها لتحقيق مصالحها يفسر سيطرة بريطانيا خالل وخاصة التجارية والعسكرية ،وهو ما ّ فترة من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين على أهم المضائق والممرات المائية العالمية مثل باب المندب ،جبل طارق ،قناة السويس ،الخليج العربي. كذلك فإن الدولة التي تتمتّع بشواطئ مطلة على البحار والمحيطات الهامة يتهيأ لها شيء من النفوذ والقوة قد ال يتو ّفر لغيرها ممن ال تمتلك هذه الشواطئ ،فالدولة التي تمتلك شواطئ يتيسر لها سبل االتصال التجاري بالعالم الخارجي بما يح ّقق بحرية ّ 52
إمكانيات أكبر في المجاالت االقتصادية والتجارية باإلضافة إلى حركة أيسر في المجال العسكري ،كما ّ أن موقع الدولة في شكل جزيرة أو مجموعة جزر تب ًعا لموقع هذه الجزيرة أو الجزر بالنسبة القوة في السياسة مقومات ّ للبحار والمحيطات يمنح الدولة بعض ّ أيضا ـ من حيث قرب الدولة أو الدولية ،ويكتسب الموقع أهم ّيته ـ ً بعدها من القوى الدولية الفاعلة على المسرح الدولي ،وقربها وبعدها من مناطق التوتر والصراعات في العالم.
مما ال شك فيه ّ أن موقع الدولة بالنسبة لخطوط الطول ودوائر العرض يمنح الدولة عد ًدا من الخصائص الجغرافية األخرى المتع ّلقة بالمناخ ودرجة الحرارة والتضاريس بما يهيئ لتأثير ما ارتبا ًطا بما مقومات سكانية واقتصادية تلعب قد ينتج عن هذه الخصائص من ّ القوة للوحدة السياسية في الساحة الدولية، مقومات ّ دورا في تشكيل ّ ً ولعل األثر الواضح النعكاس تأثير الموقع بالنسبة لخطوط الطول ودوائر العرض ّ تقسيما ثنائ ًيا يجسد أن الواقع الدولي المعاصر ّ ً (موقع ًيا) للعالم يتم ّثل في انقسام العالم إلى شمال وجنوب :شمال متحضر يحضى بإمكانيات مختلفة للقوة ويكاد يسيطر على متقدّ م ّ مسرح األحداث في العالم ككل ،بينما جنوب متخلف فقير اقتصاد ًيا ومستضعف ويم ّثل في كثير من األحيان منطقة صراع بين قوى العالم ّ المتحضر أو منطقة نفوذ وهيمنة وتبعية ألي من تلك القوى بما ّ يؤشر ّ إلى تأثير ضئيل في الساحة السياسية الدولية. وبالرغم من ّ أن هذا التقسيم ال يرجع فقط إلى الموقع الجغرافي 53
وأنه تكاثفت عدد من األسباب والعوامل األخرى لتجعل منه واق ًعا دول ًيا ،إال ّ أن تلك األسباب والعوامل األخرى ترتبط ـ في أغلبها ـ بصورة أو بأخرى بالموقع الجغرافي.
ّ «أن من المواقع الجغرافية ما يح ّقق بذاته قيمة سياسية»((( ،تعكس هذه المقولة ل»راتزل» في نهاية القرن التاسع عشر بداية االهتمام بدور القوة في المجال العوامل الجغرافية وخاصة الموقع في إكساب الدولة ّ الدولي ،وعلى يد تيودور راتزل ظهرت نظريات الجيوبوليتيك التي تعتمد على المعطيات الجغرافية كمحدّ د «حتمي» لسياسات الدولة القوة في الساحة السياسية الدولية، الخارجية ومركزها من حيث ّ فقد نبه اإلنكليزي ماكندر ـ وهو من أتباع مدرسة راتزل في الحتمية الجغرافية ـ إلى األهمية اإلستراتيجية للموقع الجغرافي من خالل نظريته المشهورة التي حدّ د بها المراكز الطبيعية للقوة استنا ًدا على فروضها التي تقول «من يحكم أوربا الشرقية (أوراسيا) يحكم قلب األرض ،ومن يحكم قلب األرض يحكم جزيرة العالم (أوربا ،أسيا، ((( مشيرا بذلك أفريقيا) ومن يحكم جزيرة العالم يحكم العالم كله» ً ، إلى ّ أن الغلبة في ظاهرة الصراع الدولي ستكون حتمية للقوة ذات (البرية) مغال ًطا بذلك الواقع الدولي خالل فترة مع ّينة االمتداد القاري ّ والذي تمكنّت فيه بريطانيا ـ وهي ليست دولة قارية ـ من السيطرة ((( محمد طه بدوي وليلى أمين مرسي ،أصول علم العالقات الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.78 ((( المرجع نفسه ،ص.90 54
على أجزاء كبيرة من العالم والظهور كقوة عظمى متم ّيزة في الساحة اتجاها آخر يدعوا إلى ّ أن الغلبة السياسية الدولية ،األمر الذي أوجد ً
«للقوة البحرية» في مسألة تحديد المراكز الطبيعية للقوة ،وكان الفريد ماهان وأتباعه من بعده يم ّثلون هذا االتجاه ،مستندين في ذلك إلى القوة الذي وقائع التاريخ التي تشير إلى المركز المتقدم من حيث ّ نظرا لتركيزها على تنمية وقوتها البحرية باعتبار تمتعت به بريطانيا ً وضعها الجغرافي كمجموعة جزر في حين ّ أن فرنسا أصابها الوهن وجهت سياساتها باتجاه قاري خالل القرنين السابع والضعف عندما ّ عشر والثامن عشر ،كما ّ أن أسبانيا اضمحلت كقوة دولية عظمى عندما أخفقت في بناء قوة بحرية كافية لربطها بمستعمراتها في أمريكا الجنوبية ،ويرجع ذلك حسب رأي ماهان وأتباعه إلى ّ أن البحر طريق القوة الذاتية للدولة، أفضل لالتصال بالشعوب األخرى ولتجديد ّ ومن ثم يكون األفضل للدولة التي تطل على البحر في ّ أن تنمي قوتها البحرية بدل ّ أن تسعى إلى التوسع اإلقليمي(((. 2ـ المناخ والتضاريس
يحدّ د موقع الدولة بالنسبة لدوائر العرض المناخ السائد في اإلقليم من حيث درجة الحرارة والرطوبة وكميات األمطار ،كما ّ أن التضاريس المتمثلة في األنهار والوديان والجبال والمرتفعات والسهول والصحاري تعتمد في بعض مظاهرها على المناخ السائد في اإلقليم ،وباتحاد عنصري المناخ والتضاريس يتحدّ د حجم
((( المرجع نفسه ،ص.ص.91 ،90 55
الكثافة والتواجد البشري مرتب ًطا بمالئمة اإلقليم للحياة البشرية من حيث اعتدال درجات الحرارة وما ينتج عن إتالف عنصري المناخ والتضاريس من إمكانيات طبيعية ذات وجه اقتصادي تمكّن من يفسر تركّز الكثافات السكانية العالية الحياة واالستقرار ،وهو ما ّ في المناطق المعتدلة الحرارة ،وهي في ذات الوقت مناطق غن ّية من حيث الموارد الطبيعية المتم ّثلة في وجود غطاء نباتي ومعدالت أمطار مناسبة لمباشرة النشاط الزراعي الذي يعتمد عليه غذاء اإلنسان بشكل كبير ،باإلضافة إلى التضاريس المناسبة كالسهول المنبسطة واألنهار والوديان باإلضافة إلى الجبال والمرتفعات وبما يم ّثل بعضها حدو ًدا طبيعية فاصلة بين الجماعات البشرية المختلفة. واضحا في تحدّ يد دورا ً إذا كانت عوامل المناخ والتضاريس تلعب ً القيمة االقتصادية والسكانية لإلقليم ،فإن الدور الذي تلعبه كقيمة إستراتيجية وعسكرية ال يقل أهم ّية عن تلك ،فالمناطق ذات المناخ المت ّطرف (القارة القطبية الجنوبية ،الصحاري ،سيبريا) لم تكن في نظرا مهما في الصراع بين القوى الدولية ً يوم من األيام موضو ًعا ً لفقرها ومحدودية االنتفاع بها اقتصاد ًيا وانعدام إمكانية الحياة البشرية المستقرة عليها((( ،إال ّ كثيرا ما م ّثلت أن مناطق (المناخ المت ّطرف) ً منطقة عازلة أمام عدد من الدول في محاوالت االجتياح والسيطرة، ولعل الهزيمة التي منيت بها جيوش نابليون في القرن التاسع عشر ((( إسماعيل صبري مقلد ،العالقات السياسية الدولية( ،القاهرة :المكتبة األكاديمية، ،)1991ص.176 56
عند محاولته غزو روسيا ،وكذلك هزيمة جيوش هتلر في الحرب العالمية الثانية بعد اجتياحها لروسيا ّ مؤشر واضح على إمكانية اعتبار مهما في إكساب الدولة إمكانيات مع ّينة المناخ عنصرا إستراتيج ًيا ً ً للقوة في المجال الدولي. مهما في حماية إقليم الدولة دورا إستراتيج ًيا ً تلعب التضاريس ً من محاوالت االجتياح والغزو الخارجي ،باعتبار ّ أن األنهار والجبال ً فواصل طبيعية يصعب اجتيازها من قبل الجيوش والصحاري تم ّثل المتعرضة الغازية والجاهلة عاد ًة بطوبوغرافية المكان ،مما يتيح للدولة ّ للغزو إمكانيات أكبر في صد هذه المحاوالت ودحرها ،فبالرغم من القوة العسكرية في عدد كبير من الفارق النسبي الهائل في إمكانيات ّ الحاالت التي قامت بها دولة ذات إمكانيات عسكرية كبيرة بمحاولة ً ضئيل من قدرا الغزو والسيطرة على إقليم دولة أخرى ال تمتلك إال ً القوة العسكرية مقارنة باإلمكانيات العسكرية للدولة الغازية ،إال ّ أن ّ أغلب هذه المحاوالت بآت بالفشل والهزيمة للقوة الغازية وفشلت التورط األمريكي في في تحقيق أهدافها ،وأوضح مثال على ذلك هو ّ والتورط الحالي ألمريكا فيتنام (في النصف الثاني من القرن الماضي) ّ وحلفاءها في أفغانستان ،فبالرغم من مرور أكثر من خمس سنوات حتى اآلن على احتالل أفغانستان من قبل الواليات المتحدة األمريكية وحلفاءها إال ّ القوة العظمى الغازية فشلت في تحقيق أهدافها أن هذه ّ والقضاء على تنظيم القاعدة وحركة طالبان والتي ما زال أتباعها يتحصنون في مناطق جبلية وعرة عند الحدود الباكستانية األفغانية ّ 57
ويلحقون خسائر شبه يومية بالقوات المحتلة برغم الفارق الهائل بين الطرفين في حجم اإلمكانيات العسكرية ،مما يشير ـ بغض النظر عن مجموعة من العوامل والمعطيات األخرى ـ إلى األهم ّية البارزة لعامل التضاريس في العمليات اإلستراتيجية والحربية. تجدر اإلشارة إلى عنصر آخر من عناصر التضاريس له األثر البالغ في ظاهرة الصراع الدولي ،وهو األنهار الدولية ،أي تلك األنهار التي تمر عبر إقليم دولة أو أكثر ،فاألنهار باعتبارها تم ّثل المصدر األساسي للمياه المست ّغلة سكان ًيا في أعمال الزراعة القوة من هذا الجانب، مقومات ّ مقو ًما من ّ والصناعة وغيرها تم ّثل ّ باإلضافة إلى استعمالها كسبل للمواصالت لربط أقاليم الدولة ببعضها أو ربطها بإقليم دولة أخرى.
واألنهار الدولية والخالفات والصراعات التي تحدث بشأنها من حيث السيطرة على منابعها وتوزيع مياهها واستغاللها تع ّبر بشكل واضح عما يسمى ب(حرب المياه) في الواقع الدولي الراهن، والتي تشهدها الكثير من مناطق التوتر في العالم ،فالصراع العربي اإلسرائيلي يم ّثل أحد أهم وجوهه محاوالت إسرائيل المستمرة الوصول والسيطرة على مياه األنهار في لبنان وسوريا واألردن، ناهيك عن العقيدة الصهيونية التي ترى في إسرائيل الكبرى امتدا ًدا من النيل إلى الفرات. ويقدم أصحاب نظرية الجيوبولتيك فرضية قوامها «إذا مر نهر ما عبر أراضي أكثر من دولة فإن الدولة األقوى من هذه الدول تعيش 58
في ت ّطلع دائم إلى ضم أقاليم الدول األخرى بغية السيطرة على المورد المائي كله»((( ،ولعل هذه الفرضية تجد العديد من الوقائع التي تصدّ قها عبر تاريخ الصراع البشري منذ محاوالت المصريين ومرورا بمحاوالت فرنسا خالل القدماء السيطرة على وادي النيل ً العهد النابليوني الوصول إلى مصب نهر الراين ،وانتها ًء بالخالفات الحادة بين تركيا وسوريا والعراق فيما يتعلق بمنابع نهري دجلة والفرات ،إلى الصراع العربي اإلسرائيلي الذي تأخذ حرب المياه مهما فيه. بعدً ا ً 3ـ المساحة والشكل والحدود السياسية
تختلف الوحدات الدولية في مساحة ما تشغله من يابس على الكرة األرضية ،ويترتب على ذلك اختالف اآلثار السياسية واالقتصادية واإلستراتيجية لهذه المساحات ،ويم ّثل اتساع مساحة الدولة معطي إيجاب ًيا في كثير من األحيان لصالح قوة الدولة ،ومع األخذ في االعتبار تأثير العوامل األخرى فإن اتساع اإلقليم يعني ـ في الغالب ـ إمكانيات اقتصادية أوفر من حيث األراضي الصالحة للزراعة ومصادر المواد الخام الطبيعة وفرصة أكبر للتوزيع السكاني في مواجهة مشكلة االكتظاظ ،أما من الناحية اإلستراتيجية فإن اتساع اإلقليم يعني فرصة أكبر للتراجع والمناورة وصعوبة السيطرة من قبل األطراف المعتدية، كما يعطي إمكانية لتوزيع المنشآت العسكرية واالقتصادية والصناعية ((( محمد طه بدوي [وآخرون] ،مقدمة على العالقات السياسة الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.107 59
على امتداد مساحة اإلقليم ،مما يص ّعب عملية التدمير واالستهداف لهذه المنشآت من طرف العدو(((.
الخاصية للدول صغيرة المساحة والتي يسهل وال تتوفر هذه ّ أحكام السيطرة عليها إستراتيج ًيا ،لذلك كانت األراضي المنخفضة (هولندا) ضحية مساحتها الصغيرة في الحربين العالميتين األولى والثانية لسهولة تمكن األلمان من اجتياحها والسيطرة عليها.
ً عامل من عوامل الضعف في قوة قد تم ّثل المساحة الشاسعة الدولة ألن اتساع المساحة قد يضعف إمكانيات السيطرة واالتصال بأطراف الدولة ،وينسحب ذلك على البعد االقتصادي والسياسي للسيطرة في أوقات السلم وعلى البعد االستراتيجي أثناء الحرب، لذلك يرى البعض ّ أن أحد أسرار التفوق االقتصادي الياباني يستند على كثافة سكانية عالية على مساحة صغيرة نسب ًيا مما أدى إلى نجاح برامج التنمية االقتصادية في هذه الدولة(((.
وبنظرة سريعة على الخريطة السياسية للعالم نجد ّ أن التفاوت كبير في المساحات التي تشغلها الوحدات الدولية ،فاالتحاد السوفييتي السابق كان يشغل ما يعادل 17مساحة اليابس في العالم ،أي ما يعادل حوالي « 22.402.000كم »2بينما دولة مثل الهندوراس ال تزيد ((( عبد الواحد الناصر ،خصائص الدول في محيط العالقات الدولية( ،الرباط ،ساليما كراف ،)1993 ،ص.103 ((( لويد جنسون ،تفسير السياسة الخارجية ،ترجمة محمد أحمد مفتي ،ومحمد السيد سليم (مرجع سبق ذكره) ،ص.244 60
مساحتها على «118كم »2وتزيد مساحة الصين وكندا والواليات المتحدة على 9ماليين كيلو متر مربع لكل منها.
ويصنف بعض الباحثين الدول من حيث المساحة إلى سبعة ّ تصنيفات هي: ّ 1ـ دول عمالقة :تزيد مساحتها على 5ماليين كم.2 2ـ دول كبيرة جدً ا :مساحتها ما بين 5-2كم.2
3ـ دول كبيرة :مساحتها ما بين 2-1مليون كم.2
4ـ دول متوسطة :مساحتها ما بين 1-0.5مليون كم.2 5ـ دول صغيرة 0.25 :ـ 0.50مليون كم.2
6ـ دول صغيرة جدً ا :من 250.000-50.000كم.2 7ـ دول قزمية تقل مساحتها عن 50.000كم.((( 2
ومن حيث الشكل فإن شكل الدولة يرتبط ببقية السمات الجغرافية المتم ّثلة في المساحة والموقع والتضاريس ،ويؤ ّثر شكل الدولة على تماسكها السياسي واالقتصادي ،فقد يهيئ فرصة أكبر إلمكانية اقتطاع أجزاء من الدولة وانفصالها ،وقد يساعد على وجود حالة من عدم االستقرار السياسي بما يم ّثله من تشجيع على النعرات االنفصالية واالستقالل. ((( كاظم هاشم نعمة ،الوجيز في اإلستراتيجية( ،طرابلس :أكاديمية الدراسات العليا، ،)2000ص.204 61
تجسد خريطة العالم السياسية نماذج ألشكال متعددة للوحدات ّ وتصنيفها ،فمنها المربع والمستطيل والدائري حصرها ّ الدولية يصعب ّ وشبه الدائري وغير ذلك من األشكال ،إال ّ أن أهم ما يقال في هذا (المتطرف) للدولة يم ّثل ً الجانب ّ عامل من عوامل ضعف أن الشكل ّ الدولة ،وأهم أنواع الت ّطرف في شكل الدولة ،فيما إذا كان شكل الدولة كبيرا عبارة عن لسان من األرض يكون التباين بين طوله وعرضه ً (تشيلي ً مثل) ،أو إذا كانت الدولة عبارة عن مجموعة جزر متباعدة أحيانًا ،أو عدد هائل من الجزر في شكل أرخبيل (أندونسيا ً مثل)، أو إذا كان إقليم الدولة يتكون من إقليمين أو أكثر متباعدين جغراف ًيا ويفصل بينهما إقليم دولة أخرى مثلما كان عليه الحال في الباكستان، وهو ما أدى إلى انفصالها إلى دولتين (الباكستان وبنغالديش) خالل ويتجسد المثال األكثر ضع ًفا للشكل الجغرافي للدولة سنة ،1971 ّ في دولة فلسطين المقترحة بما يشمل إقليمين (الضفة الغربية ،قطاع غزة) كإقليمين متباعدين جغراف ًيا تفصل بينها دولة إسرائيل ،ويرى الباحثون في مجال الجغرافيا السياسية ّ أن أفضل األشكال للدولة هو ما كان قري ًبا من الدائرة وتم ّثل العاصمة فيه مركز الدائرة ،لما يو ّفره هذا الشكل من إمكانيات السيطرة واالتصال في حالتي الحرب والسلم، و(المثال عليه فرنسا). الحدود السياسية بما تعنيه من فواصل تقف عندها سيادة دولة ما لتبدأ سيادة دول أخرى تم ّثل معطى جغراف ًيا يرتبط بقوة الدولة وأثرها في البيئة الدولية. 62
ارتبطت الحدود بالكثير من حاالت الصراع الدولي ،فأغلب الدول المتجاورة شهدت أدوار من الصراع بينها وصل في كثير من األحيان إلى الصدام المس ّلح ،ما يعني ّ أن تعدّ د الدول المجاورة لدولة فرصا أكثر للصراع بين الدولة وجيرانها ،وهو في ذات الوقت ما يو َّلد ً يتيح خيارات عديدة أمام الدولة في الصراع مع بعض جيرانها مقابل التحالف والتعاون التام مع دول الجوار األخرى ،بعكس الحال التي عليها الدولة المحاطة بجار واحد فقط ،فليس أمامها إال الصدام مع هذا الجار (عند تعارض المصالح) ،أو الوفاق التام معه والذي قد يصل إلى صورة الهيمنة والتبعية ،خاص ًة إذا كانت الدولة تم ّثل ما القوة بين الطرفين يشبه االحتواء للدولة األخرى ،ويكون مستوى ّ هنا متباينًا غال ًبا. ّ أن لطول الحدود وطبيعتها من حيث التعرجات والتضاريس آثار على قوة الدولة العسكرية واالقتصادية ،فالحدود الطويلة وغير المنيعة جغراف ًيا والمشتركة مع أكثر من دولة تكون مصدر ضعف يستوجب بناء إمكانيات ووضع إستراتيجيات عسكرية تتناسب مع طبيعة هذه الحدود ،كما ّ أن الدولة التي يكون حجم سكانها صغير يتعذر عليها استيطان الحدود ألغراض أمنية واقتصادية ،كما ّ ّ أن
الهوية القومية أو الدينية الواحدة انقسام الجماعات السكانية ذات ّ مصدرا من مصادر بين دولتين أو أكثر بفعل الحدود السياسية يم ّثل ً التوتر والصراع في العالم(((. ((( المرجع نفسه ،ص.208 63
تأثرت الحدود السياسية في رسمها بمجموعة من العوامل السياسية واالقتصادية والطبيعية والبشرية ،فقد وجدت مجموعة من األفكار والنظريات واتخذت كمعايير لرسم الحدود بين الكيانات السياسية ،لعل أبرزها نظرية «الحدود الطبيعية» ،والتي تعني ّ أن الحد الفاصل بين الكيانات السياسية يفترض ّ أن يكون حدً ا طبيع ًيا متم ّث ًل في مظهر من مظاهر التضاريس مثل الجبال واألنهار والصحاري التصور للحدود السياسية ربما يكون والمحيطات والبحار ،وهذا ّ حضورا في الخريطة السياسية الدولية عبر فترات مختلفة من األكثر ً التاريخ البشري ،كما ّ التصور للحدود السياسية مسؤول بشكل أن هذا ّ كبير عن الصراعات التي نشأت عبر فترات مختلفة من التاريخ تحت مبرر الوصول إلى الحدود الطبيعية للكيان السياسي. اعتمدت وجهة نظر أخرى في رسم الحدود السياسية على ما يمكن تسميته ب(النطاق القومي) ،أي ّ أن العامل المحدّ د للحدود بين الكيانات السياسية ال يكمن في البعد الطوبوغرافي لإلقليم ،بل في البعد الديموغرافي ،حيث تقف الحدود عند الحد الفاصل بين تميزها العرقي والثقافي والقومي، الجماعات البشرية من حيث ّ جرت وازدهرت في ظل هذا المعيار ظاهرة (الدولة القومية) والتي ّ ً مبرر النطاق القومي على البشرية أشكال مختلفة من الصراع تحت ّ للدولة الذي يفضي إلى محاوالت ضم أقاليم ومساحات من الدول المجاورة بحجة استكمال البناء القومي للدولة لوجود جماعات بشرية ترتبط بروابط عرقية وقومية مع الدول األخرى. 64
ووجهة نظر ثالثة في رسم الحدود بين الكيانات السياسية لم ت ّلتفت في الواقع ألي من المعيارين السابقين ،تمث ّلت في حاالت
رسم الحدود بين الكيانات السياسية التي كانت واقعة تحت
االستعمار والسيطرة األوربية خاصة في أفريقيا وأسيا وأمريكا
الالتينية (الحدود المصطنعة) ،فالمعيار الوحيد الذي استخدم هو
وحرصها على قيام كيانات سياسية مصالح الدول االستعمارية السابقة ّ
(في الغالب صغيرة أو قزمية من حيث المساحة) ال تمتلك أي مقومات للقوة الجغرافية واالقتصادية والبشرية في ذاتها ،وبوضع ّ
حدودي يهيئ لصراع مستمر ودائم فيما بين الكيانات المتجاورة
منها ،مما يعني حالة ضعف مستديم بالنسبة لها وإمكانية مستديمة
الستفادة الدول االستعمارية السابقة من هذا الوضع في شكل مصدر
للثروات االقتصادية والمواد الخام وسوق للمنتجات الصناعية للدول
االستعمارية ،ومناطق نفوذ وهيمنة وتبعية اقتصادية وسياسية ،مما
جعل من هذه الكيانات السياسية موضو ًعا غير ذي بال في حسابات
القوة للدولة المهيمنة القوة الدولية( ،إال إذا اعتبرت جز ًء من إمكانيات ّ ّ
والمسيطرة عليها) ،ونظرة واحدة على خريطة أفريقيا السياسية كافية
لتأكيد هذه الحقيقة.
للحدود جانب آخر ـ وهو ما يتعلق بوجهة النظر التي ترى في
الكيان السياسي ما يشبه الكائن الحي من حيث حاجته إلى النمو والتمدّ د ،لذلك فالحدود ال يجب ّ أن تكون ثابتة ورقعة الدولة 65
وحدودها يفترض ّ أن تتغ ّير ارتبا ًطا بالحاجة إلى التمدد والنمو(((، بما يشير إلى ّ دائما ـ حسب وجهة النظر تلك ـ في أن التغ ّير يكون ً االتجاه الموجب ،بمعنى الزيادة ،وهو ما ينفي الجانب المنطقي والعلمي في وجهة النظر هذه ،فالزيادة والنمو بالنسبة للكيانات (حتما) على حساب كيانات سياسية أخرى ،فهل السياسية ستكون ً هذه الكيانات األخرى ال تنطبق عليها خصائص الكائن الحي (النمو الزيادة)؟ ،أم تنطبق عليها بشكل سلبي (التقلص واالنكماش)؟. ال شك ّ أن الباحث ـ من خالل ما سبق ـ يشير بشكل صريح إلى ما يسمى بنظرية (المجال الحيوي) ،وهي النظرية التي جاءت وليدة لمدرسة الجيوبولتيك األلمانية ،والتي ال تعدو في الواقع ّ أن تكون مجرد تبرير أيديولوجي استندت عليه ألمانيا النازية في توسعاتها، ولنا عودة إلى ما يتع ّلق بالمجال الحيوي عند تناول السكان كعامل من عوامل قوة الدولة في المجال الدولي. ب) ال�سكان
يتباين توزيع السكان على الوحدات الدولية المختلفة من حيث كبيرا شأنه شأن التباين في المساحات ،فبعض الدول تجاوز الكم تباينًا ً تعداد سكانها المليار نسمة بينما دول أخرى ال يتعدى سكانها بضع العشرات أو المئات من األلوف. ((( عبد الواحد الناصر ،خصائص الدول في محيط العالقات الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.105 66
يبدو للوهلة األولى ّ أن هناك ارتبا ًطا بين الكم البشري للدولة القوة الذي يتح ّقق لها في البيئة الدولية على المستوى ومستوى ّ اإلستراتيجي واالقتصادي ،على اعتبار ّ أن العامل البشري هو العامل األهم في الموضوع االقتصادي وكذلك في الموضوع اإلستراتيجي. ويرى أورجنسكي ـ وهو أحد أكبر علماء العالقات الدولية ـ ّ أن «العنصر البشري يعد أهم عوامل قوة الدولة على اإلطالق»(((، وإذا كان لهذه الفرضية ما يؤيدها في ثنايا الواقع التاريخي للعالقات الدولية ،إال ّ أن الواقع الدولي ـ خاصة الراهن ـ ينطوي على الكثير من الشواهد التي تشكك في صحتها ،بل حتى توقعات أورجنسكي في ّ أن تصبح الصين أقوى قوة دولية في عقد الثمانينيات في القرن العشرين أبطلها الواقع ،ومع ذلك يمكن اإلشارة إلى ّ أن دولة صغيرة أن ّ في عدد سكانها ليس بوسعها ّ تمثل قوة كبيرة ذات أثر في ميزان العالقات السياسية الدولية بنفس القدر الذي تتمتّع به دولة ذات إمكانية سكانية كبيرة(((. استقرا ًء للواقع الدولي يفترض الباحث ّ أن العنصر البشري تأثرا بالعوامل األخرى المحدّ دة لقوة (السكان) هو أكثر العوامل ً الدولة ،فهو بمثابة المتغ ّير التابع لمجموعة العوامل الجغرافية ((( محمد طه بدوي [وآخرون] ،مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.126 ((( علي أحمد عبد القادر ،وكمال منوفي ،النظريات والنظم السياسية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.106 67
كمتغيرات مستقلة تحدّ د الدور واالقتصادية واالجتماعية والعسكرية ّ الذي يلعبه العامل البشري كعامل من عوامل قوة الدولة ،وفي هذا اإلطار يتناول الباحث العامل البشري (السكان) ودرجة األهمية له في ميزان قوة الدولة من خالل التأثير المس ّلط عليه بفعل العوامل األخرى من جهة ،ومن خالل الخصائص المتعلقة به في حد ذاته من جهة أخرى على النحو التالي: 1ـ الكم البشري (العددي)
يرجع التباين في توزيع الكم البشري بين الوحدات الدولية إلى مجموعة من العوامل الطبيعية واالقتصادية والحضارية والثقافية ،وأي ً من هذه العوامل ال يمكن ّ مستقل عن بقية العوامل في دورا أن يلعب ً إخراج صيغة مع ّينة لتوزيع السكان في زمان ومكان مع ّينين. يبدو للمالحظ ّ تتميز بأن هوامشها ذات تمركز القارية ّ أن المناطق ّ سكاني وكثافة عالية عند المقارنة مع األقاليم الداخلية للقارات والتي غال ًبا ما تتسم بالبعثرة السكانية ،كما ّ أن المناطق الجزرية (اليابان بريطانيا ،أندونسيا) تم ّثل مناطق ذات تمركّز سكاني عالي الكثافة نسب ًيا ،لكن من المؤكد ّ أن الجغرافيا ال تحكم وحدها هذه الظاهرة بل كان للمؤثرات والظروف التاريخية واالقتصادية دور في هذه الصورة للتوزيع البشري ،وإذا كان للتضاريس وشكل السطح أثر واضح في التمركز السكاني في المناطق السهلية توزيع السكان ،وذلك بمالحظة ّ مقارنة بمناطق المرتفعات والعروض العليا ،فإن التقدّ م التقني ذ ّلل الكثير من الصعاب المتع ّلقة بالعيش في مناطق المرتفعات واألسطح 68
غير المالئمة ،خاصة وأن مزايا اقتصادية ارتبطت بهذه المناطق وجعلت منها مناطق جذب سكاني بتأثير عامل التقنية والتقدّ م العلمي المتع ّلق باستغالل الثروات المعدنية والطبيعية وقيام نشاط صناعي عليها ،وتذليل عقبة االتصاالت والمواصالت بين هذه المناطق وغيرها(((.
تمركز الكم البشري في المناطق ذات وللمناخ أهمية كبيرة في ّ المناخ المناسب من حيث اعتدال درجات الحرارة ووفرة األمطار، بل ّ أن بعض الباحثين يربطون بين قيام الحضارات اإلنسانية واألمم القو ّية وبين مناطق المناخ المعتدل ،وما من شك في ّ أن مستويات التقدّ م التقني والعلمي التي يشهدها العالم المعاصر أسهمت في تجاوز الكثير من الظروف المناخية كعامل محدّ د للتمركز السكاني.
ومن منظور تاريخي يعتبر العامل االقتصادي أكثر العوامل ارتبا ًطا بتوزيع السكان ،فحيثما كانت هناك إمكانية للنشاط االقتصادي قديما والصناعي حدي ًثا) تواجد كم بشري كبير نسب ًيا، (الزراعي ً قائما ـ إلى حد ما ـ إال ّ وبالرغم من ّ أن أن هذا االرتباط ال يزال ً معطيات التقدّ م التقني والعلمي المعاصر باإلضافة إلى الظروف السياسية واالجتماعية المرتبطة بالحروب والنزاعات ،وكذلك ما تتّبعه بعض الدول (الحكومات) من سياسات تسعى إلى خلق توازن في توزيع السكان على رقعة اإلقليم من خالل تنويع أوجه النشاط ((( كاظم هاشم نعمة ،الوجيز في اإلستراتيجية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.210 69
االقتصادي من جهة والوصول بالخدمات واالحتياجات السكانية لكل المناطق داخل اإلقليم وما تفرضه الضرورات اإلستراتيجية في مسألة توزيع السكان من جهة أخرى ،جعل من االرتباط بين النشاط االقتصادي والتوزيع السكاني ال يمكن التعامل معه على أنه ارتباط حتميً ، فضل عن ذلك فإن مجموعة من الظروف التاريخية كبيرا في توزيع الكم البشري بين الوحدات دورا ً والسياسية لعبت ً الدولية ،فاكتشاف العالم الجديد (األمريكتين واستراليا) أواخر القرن الخامس عشر ترتب عليه خالل الفترات الالحقة حركة هجرة كبيرة من العالم القديم الستيطان قارات العالم الجديد.
عند التعامل مع السكان كعامل من عوامل قوة الدولة في المجال الدولي من منظور عددي (كمي ) البد من األخذ في االعتبار عاملين مهمين هما: ً أول :مدى التناسب بين عدد السكان ومساحة اإلقليم الجغرافي الذي تشغله الدولة ،وهذا التناسب يع ّبر عنه من خالل درجة الكثافة السكّانية ،فكما ّ أن الدول متباينة في توزيع الكم البشري فهي متباينة كذلك في كثافة هذا التوزيع بالنسبة للمساحة الجغرافية ،حيث وصلت الكثافة السكانية إلى 344 إنسان في نطاق الكيلومتر المربع الواحد في هولندا ً مثل، بينما هي في بريطانيا تبلغ /322كم ،2وفي الواليات المتحدة ال تتعدى /24كم ،2لكنها في كندا وليبيا ً مثل ال تتجاوز /2 كم ،2وهذا التباين في توزيع الكثافة السكانية ال يعكس تباينًا 70
في قوة الدولة استنا ًدا على كثافتها السكانية ،لكن استقرا ًء القوة الدولية ـ ارتبا ًطا بمعيار الكثافة السكانية ـ يمكن لواقع ّ أن يح ّقق (دالة) تشير إلى ّ ّ أن الدول ذات الكثافات المتوسطة مقو ًما (الغير متطرفة) هي الدول التي يم ّثل فيها عامل السكان ّ القوة(((. إيجاب ًيا من مقومات ّ
ثان ًيا :مدى التناسب بين عدد السكان وحجم موارد الدولة ،فكلما كان هناك تناس ًبا بين حجم الموارد االقتصادية وعدد السكان كلما كان هناك إمكانية لرفع مستوى المعيشة مما قد ينعكس إيجاب ًيا على قوة الدولة في المجال الدولي ،إال ّ أن حجم الموارد االقتصادية المتناسبة مع الكم العددي للسكان والذي قد يفوق االحتياجات السكانية أحيانًا ليس من الضروري ّ أن يكون ّ مؤش ًرا إيجاب ًيا على قوة الدولة ،ألن ذلك مرهون بعوامل أخرى تتعلق بمدى استغالل وتوظيف هذه الموارد في بناء قوة الدولة المرهون بدوره بمستويات التقدّ م التقني والعلمي من جهة وبطبيعة النظام السياسي واالقتصادي ودرجة الكفاءة في التوظيف والتوزيع للموارد من جهة أخرى بما يكسب الدولة قوة (داخلية) تنعكس على قوتها في المجال الدولي(((. ((( محمد طه بدوي وليلى أمين مرسي ،أصول علم العالقات الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.98 ((( عبد الواحد الناصر ،خصائص الدول في محيط العالقات الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.122 71
ما من شك في ّ القوة العسكرية هو الكم البشري، مقومات ّ أن أحد ّ فهل الكم البشري الكبير للدولة من شأنه ّ أن يهيئ المجال أمامها لبناء جيش قوى وسياسة عسكرية طموحة؟ لإلجابة على هذا السؤال يمكن القولّ : أن أي سياسة عسكرية كبرنامج عمل يستهدف تحقيق القوة للدولة البد لها ّ أن تعتمد على عدد من الوسائل أهمها :مستوى ّ التسليح ،ومستوى إعداد المقاتل وكفاءته وروحه المعنوية ،باإلضافة إلى مستويات التنظيم واإلدارة ،مما يعني ّ أن العنصر البشري في المسألة العسكرية موضوع كيفي أكثر منه كمي ،خاصة في ظل التطور الهائل في تقنيات السالح والتدمير وما يتط ّلبه ذلك من توظيف َّ إلمكانيات اقتصادية ومالية كبيرة بما يمثل عب ًء قد ال تطيقه بعض الدول ،كما ّ أن العدد الكبير للجيش يعني قوة بشرية مع ّطلة اقتصاد ًيا داخل المجتمع((( ،ويقود ذلك إلى القولّ : أن الحضارة اإلنسانية المعاصرة تجاوزت مسألة الكم البشري في الجانب العسكري القوة التدميرية بفعل التطور الهائل في مجال إنتاج السالح وتعاظم ّ لهذا السالح ،فشخص واحد فقط ـ ّ أن جاز التعبير ـ قادر على تدمير دولة بأسرها بمجرد الضغط على أزرار تؤدي إلى إطالق صواريخ نووية تجاهها ،إال ّ أن ذلك ال يعني بحال من األحوال نظرا الختالف طبيعة انتفاء أهمية الكم البشري في الجيوش ،وذلك ً ماهية األطراف الداخلة الصراعات والحروب الدائرة ،واختالف ّ ((( محمد طه بدوي [وآخرين] ،مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.134 72
في هذه الحروب ،فالكثير من الحروب المعاصرة ـ بل والراهنة ـ اعتمدت بشكل كبير على الكم البشري للجيوش((( ،ولعل المثال كبيرا كما بشر ًيا ً الواضح على ذلك (حرب الخليج الثانية) التي تط ّلبت ً من قوات الحلفاء في شكل قوات ّبرية إلرغام القوات العراقية على االنسحاب من الكويت ،كما ّ أن الحروب التي نشبت وتنشب في كثير من األحيان بين الدول اإلفريقية المتجاورة كان عمادها الكم البشري للجيوش.
وفي إطار عالقة الكم البشري بالحروب فإن االحتجاج بالضغط ررا استندت إليه العديد من القوى اإلمبريالية في السكاني كان م ّب ً التوسعية ،فهذا كارل هاوس هوفر أحد أتباع مدرسة تبرير نشاطاتها ّ القوة ال ّبرية ـ وهو في ذات الجيوبولتيك المؤمنين بنظرية ماكنّدر بشأن ّ الوقت أحد مساعدي هتلر ـ يوحي إلى «الفوهرر» بسند أيديولوجي التوسعية أللمانيا النازية يتم ّثل في نظرية (المجال لتبرير الطموحات ّ الحيوي) والتي ظهرت بشكل واضح في كتاب (كفاحي) لهتلر، ومفادها ّ أن الدولة بمثابة كائن حي ينمو ويتسع لتحقيق توازن قادر ونموه من ناحية وبين مساحة اإلقليم على االستمرار بين عدد السكان ّ وقيمته من ناحية أخرى ،وتستند هذه النظرية في فرضياتها على ّ أن (الشعب األلماني ينفرد باالنحدار من الجنس اآلري ،وهو جنس بسموه على ما عداه من األجناس ،لذلك فهو سامي وممتاز يتمتع ّ ((( عبد الواحد الناصر ،خصائص الدول في محيط العالقات الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.92 73
الوحيد المؤهل لحمل رسالة الحضارة اإلنسانية ،ومن ثم البد ّ أن
تتهيأ له أسباب البقاء ولو كان ذلك على حساب شعوب األرض قاطبة)(((.
واستنا ًدا إلى هذه النظرية باإلضافة إلى االعتقاد بنظرية ماكندر
التوسعية القوة ال ّبرية بدأت ألمانيا النازية في إشباع طموحاتها بشأن ّ ّ واالمبريالية على حساب شعوب شرق ووسط أوربا.
ّ أن االحتجاج بالضغط السكاني لتبرير التوسع األلماني النازي
لم يكن إال مجرد تبرير واهي لطموحات ونزعات إمبريالية أقل مما يمكن دحضها به هو ّ أن معدالت التزايد السكاني في ألمانيا خالل تلك الفترة كانت من بين أقل معدالت التزايد السكاني في المناطق األوربية(((.
القوة االستعمارية الوحيدة التي ّبررت لم تكن ألمانيا النازية ّ
نشاطها التوسعي بحجج الضغط السكاني ،فالسياسات التوسعية
اإليطالية ـ حتى قبل العهد الفاشي ـ كانت تربط باستمرار بين فكرة التوسع السكاني والتوسع اإلقليمي ،وليس خاف ًيا ّ أن أحد مبررات
الغزو اإليطالي لليبيا سنة 1911كان البحث عن مناطق استيعاب
للفائض السكاني في إيطاليا.
((( محمد طه بدوي [وآخرون] ،مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.117 ((( المرجع نفسه ،ص.108 74
جـ) نمط التركيب ال�سكاني
من الجوانب المهمة في تقييم دور الكم البشري (السكان) في ميزان قوة الدولة النظر إلى طبيعة التركيب السكاني في الدولة من حيث نسبة الذكور إلى اإلناث ،ونسبة الشباب إلى األطفال والشيوخ، دورا في إعطاء التركيب وتلعب ـ هنا ـ مجموعة من العوامل األخرى ً وأهمية نسبية لكل صيغة من صيغ السكاني لدولة ما صيغة معينّة ّ التركيب السكاني.
األهمية النسبية مهما في ّ دورا ً العامل الثقافي واالجتماعي يلعب ً للتركيب السكاني من حيث نسبة الذكور إلى اإلناث ،ففي المجتمعات المتقدمة يكون للمرأة عاد ًة دور اجتماعي وسياسي واقتصادي يقترب من دور الرجل في القيام بالواجبات والمهام الحياتية بشكل عام في ظل شعارات المساواة ومشاركة المرأة للرجل ،بينما يكاد ينعدم هذا الدور في المجتمعات المتخلفة التي تعتمد على الرجل في القيام باألدوار االجتماعية الهامة في السياسة واالقتصاد والحرب، مما يعني ّ القوة البشرية للسكان مع ّطل أو قليل الفعالية في أن نصف ّ أحسن األحوال ،كما ّ تتعرض لها بعض أن الظروف التاريخية التي ّ المجتمعات في صورة حروب وهجرات تؤثر بشكل واضح في نمط التركيب السكاني ،باعتبار ّ أن هذه الظواهر التاريخية ـ وخاصة الحروب ـ تستهدف بشكل أكبر الذكور والشباب منهم على وجه تحمل خوض غمار الحرب الخصوص« ،فالشباب هم األقدر على ّ وتضحياتها ً فضل عن سرعة استجابتهم لألفكار الثورية والتغيرات 75
التوسعية التي تدخل بها الدولة حلبة الصراع الجذرية والخطط ّ الدولي ،نتيجة لحماسهم واندفاعهم وق ّلة خبرتهم ،بعكس الشيوخ الذين يميلون إلى االحتكام إلى العقل والتجربة فيشك ّلون قطا ًعا محاف ًظا في مواجهة االندفاع نحو سياسة العنف الموجهة إلى الخارج»((( ،لذا كان من الطبيعي ّ أن تؤدي الحروب إلى تغ ّير في النسبة العددية بين الجنسين ،فقد كان عدد النساء في ألمانيا عام 1946م حوالي 30.5مليون مقابل 29مليون رجل ،كما تؤدي الحروب إلى تغ ّيرات في تركيبة الهرم السكاني نتيجة النخفاض نسبة الذكور في سن الشباب والرجولة ،فقد كان عدد الرجال الذين تتراوح أعمارهم من 20إلى 40سنة يم ّثل في عام 1937م في ألمانيا ما نسبته % 33 من العدد الكلي للسكان فأصبح بعامل الحرب يم ّثل في عام 1947 ما نسبته ال تزيد عن .((( % 25 ينعكس نمط التركيب السكاني على الواقع االقتصادي للدولة ومستويات التنمية بها ،فالدولة (الهرمة) والتي ّ يختل فيها التوزيع السكاني لصالح الشيوخ تفتقد الطاقة البشرية الالزمة لتحريك عجلة االقتصاد بما يحقق مستويات مناسبة من التنمية ،كما ّ أن عجلة التنمية تتحرك ببطء عندما يكون التوزيع السكاني لصالح األطفال ما دون سن اإلنتاج مما يعني قطا ًعا واس ًعا من القوى البشرية غير المنتجة ((( جمال سالمة ،أصول العلوم السياسية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.268 ((( محمد طه بدوي وليلى أمين مرسي ،أصول علم العالقات الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.111 76
اقتصاد ًيا ،ويزيد األمر سو ًء إذا كان الواقع الثقافي واالجتماعي يضع المرأة ضمن هذا القطاع ،وفي المقابل فإن الدولة (الفت ّية) والتي يميل فيها ميزان التوزيع السكاني لصالح الشباب تكون أقدر من النموذجين اآلخرين في توظيف الكم السكاني باتجاه إحداث التنمية والتقدم االقتصادي ،ومن ثم الدعم اإليجابي لقوتها في المجال الدولي. أن نشير إلى ّ بقي ّ أن بعض السياسات التي تنتهجها الدول في مجال الحد من النسل والتشجيع عليه في مواجهة التضخم السكاني ومحدودية الموارد االقتصادية تترك بصماتها على نمط التركيب السكاني للمجتمع بتأثيرها المباشر على معدالت النمو السكاني. 3ـ درجة التجانس السكاني
ّ أن أهم مصادر الصراع في داخل المجتمعات السياسية يرجع بشكل كبير إلى طبيعة التركيبة السكانية لهذه المجتمعات ،فعندما يع ّبر واقع المجتمعات السياسية عن خليط من القوميات واألعراق واألديان واللغات لعدد من الجماعات البشرية تبرز مظاهر الصراع بين هذه الجماعات في الداخل ويصير النظام السياسي يعاني (أزمة هوية) سلبي، القوة على الصعيد الدولي بشكل تنعكس على إمكانياته في ّ َّ خاصة وأن الكثير من هذه الصراعات ترتبط بقوى خارجية تعمل على تغذيتها وإذكاءها من منطلق ارتباطها بأي من هذه الجماعات عرق ًيا أو دين ًيا ،أو من منطلق تحقيق مصالحها على حساب إضعاف الدولة األخرى وزعزعة استقرارها.
تنتهج الدولة عادة واحدة من هذه السياسات ـ في إطار 77
محاولتها ـ الحفاظ على تماسكها وقوتها :إما التسليم بهذه التعددية وتبني سياسات حكيمة من شأنها جعل هذه الجماعات تشعر بالرضاء والوالء للدولة ،وإما ّ أن تنتهج الدولة سياسة العنف والبطش ضد الجماعات التي تطالب بحقوق مع ّينة قد يؤدي اإلذعان لها إلى تفتيت الدولة والقضاء على هيبتها ،وإما ّ أن تقوم بعملية تهجير قسرى ً مدخل جديدً ا لهذه الجماعات إلى خارج حدودها مما قد يشكّل للصرع مع أطراف دولية أخرى ،وإما ّ أن تتّبع ما يمكن تسميته بسياسة (تحويل االنتباه) ،أي تحويل األنظار إلى صراعات خارجية ونقل مشاكلها خارج حدودها بالبحث عن عدو خارجي تجمع عليه هذه الجماعات العرقية أو الدينية ،ألن اإلجماع على عدو خارجي من شأنه ّ أن يمتّن أواصر الوحدة الوطنية أو على األقل يخ ّفف من حدة الصراعات الداخلية(((. ّ أن أهم القضايا التي تع ّبر عن حاالت الالتجانس السكاني تنطلق في الغالب من ثالث مصادر رئيسية هي اللغة والعرق والدين :االختالف في اللغة ال يعين على التجانس ،وتعتمد األنظمة السياسية طرائق شتى الهوية الخاصة باللغة ،فقد لخلق وحدة ثقافية مع الحفاظ على معالم ّ تأخذ بعض الفئات من االختالف في اللغة وسيلة للتم ّيز والدعوة إلى االنفصال ،ولعل الهند كبلد يتكلم مواطنوه عشرات اللغات واللهجات مثال يعكس المشاكل المترتبة على االختالف في اللغة. كما ّ أن موضوع العرق أو الساللة من المواضيع التي تس ّبب مشاكل
((( جمال سالمة ،أصول العلوم السياسية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.269 78
سياسية بين الدول ،وحيث أنه من النادر وجود كيان سياسي يضم داخل حدوده عر ًفا واحدً ا فإن الصدامات والصراعات بقدر ما تع ّبر كثيرا ما انعكست في شكل صراعات دولية عن نفسها داخل ًيا نجدها ً بحجة الدعوة لتوحيد الشعب الواحد تحت سلطة سياسية واحدة، فقد كان هتلر ينادي بضم األلمان في النمسا وتشيكوسلوفاكيا وبولندا إلى الرايخ األلماني. حضورا تبدو مسألة العرف في الدول األفريقية الموضوع األكثر ً في حاالت الصراع التي نشبت وتنشب بين هذه الدول ،وفي المقابل فإن هناك ً دول أفلحت في خلق التجانس السكاني برغم التباين العرقي والقومي في تركيبتها السكانية كسويسرا ً مثل التي تجمع شعو ًبا من أعراق مختلفة.
من منظور تاريخي يبدو الدين كأحد العناصر الرئيسة في تماسك السكان وتجانسهم ،ومظهر ذلك ّ أن الصراع بين األمم والوحدات السياسية ـ تاريخ ًيا ـ كان في الغالب صرا ًعا دين ًيا ،فقيام اإلمبراطورية العربية واإلسالمية بد ًء من دولة الخلفاء الراشدين وانتها ًء بالدولة محصل ًة لصراع ديني مع أمم وشعوب أخرى ،كما ّ أن العثمانية كان ّ الحروب الدينية في أوربا خالل القرنين السادس عشر والسابع عشر انتهت إلى صيغة سياسية جديدة في أوربا منذ وستفاليا سنة 1648م باإلضافة إلى الوجه اآلخر لهذه الحروب الدينية (خارج أوربا) تجسد في الحروب الصليبية مع الشرق العربي خالل الفترة والذي ّ التي سبقت تلك. 79
المالحظ ومنذ الحرب العالمية األولى ّ أن العوامل الدينية أصبحت أقل سب ًبا في النزاعات اإلقليمية والخالفات الداخلية تأثيرا في ظاهرة الصراع الدولي ،باستثناء حالة الصراع وبالتالي أقل ً العربي اإلسرائيلي (إذا جاز الحكم على هذا الصراع بأنه صراع ديني) ،إال أنه منذ انهيار االتحاد السوفيتي وانتهاء مرحلة الحرب الباردة برزت من جديد مشكالت التماسك االجتماعي والعرفي والديني على سطح الصراعات الداخلية في المجتمعات السياسية وخاصة فيما يسمى بدول العالم الثالث ،فتصاعدت وتيرة التصادم العرقي والديني في بقاع مختلفة من العالم في الهند والفلبين والسودان والصومال والكونغو ،وظهرت في بقاع جديدة من العالم لم تكن تعرف هذا النوع من الصراعات ـ منذ الحرب العالمية الثانية على األقل ـ مثل جمهوريات االتحاد اليوغسالفي السابقة في البوسنة والهرسك وكوسوفو وفي بعض جمهوريات االتحاد السوفيتي السابق (الشيشان ً مثل) ،وتفاقمت بعض هذه الصراعات الداخلية لتأخذ طاب ًعا دول ًيا من خالل تدخل قوى خارجية بشكل انفرادي أحيانًا وتحت مظلة األمم المتحدة أحيانًا أخرى أو في ظل الحلف األطلسي كما حدث في كوسوفو ،ويالحظ أنه منذ انتهاء الحرب الباردة أصبحت الصراعات العرقية والدينية من أعقد القضايا التي يصعب السيطرة عليها وإيجاد حلول مرضية لها ،لذلك بدأ الباحثون السياسيون والمفكرون اإلستراتيجيون يدفعون باتجاه بناء الكيان السياسي القائم على إمكانية التعدد الثقافي كبديل عن الوجه السياسي (الذي كان يعتبر مثال ًيا) للمجتمعات السياسية وهو الدولة القومية 80
من خالل إدارة مشكلة التماسك السكاني للدولة بوسائل جديدة، غير تلك الوسائل التقليدية المعتمدة على العنف السياسي كما هي الحال في أيرلندا وأسبانيا والشيشان ،لذلك فإن البديل األفضل هو التوجه نحو صيغة دستورية وتنمية اقتصادية اجتماعية ووحدة أهداف مشتركة لتعزيز الوحدة الوطنية(((.
«من منظور إستراتيجي شامل يضع صمؤيل هنتنغتون أطروحته في الصراعات اإلستراتيجية للقرن الواحد والعشرين على أساس القوة الثقافية والحضارية والدينية ،فهو ال يرى ّ أن الصراع من أجل ّ القوة هو مصدر الصراع ،وليس المعطيات الجيوبولتيكية هي العوامل ّ القوة (الثقافية ـ بولتيكية) هي العامل الرئيس القوة ،وإنما ّ الحاسمة في ّ القوة التي تتسم بالتماسك الديني والثقافي على الصعيد العالمي ،وأن ّ ستكون أفضل في موقع التنافس مع القوى األخرى»(((. د ) الإمكانيات والموارد االقت�صادية
يرتبط االقتصاد ارتبا ًطا وثي ًقا بالسياسة اعتما ًدا على ّ أن الموارد القوة للوحدة السياسية ،وعلى غرار مقومات ّ االقتصادية هي أحد أهم ّ الحتمية الجغرافية هناك من يقول بالحتمية االقتصادية أو باألحرى «الحتمية التجارية» ،على أساس ّ انعكاسا التفوق السياسي ليس إال أن ّ ً القوة مرتبط بالميزان التجاري، للتفوق التجاري ،ومن ثم فإن ميزان ّ ّ ((( كاظم هاشم نعمة ،الوجيز في اإلستراتيجية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.215 ((( المرجع نفسه ،ص.216 81
لذلك كان المفكرون التجاريون ـ في القرن السابع عشر ـ يرون ّ «أن من
يحكم المحيط يحكم تجارة العالم ،ومن يحكم تجارة العالم يحكم ثروة العالم ،وأن من يسيطر على ثروة العالم يحكم العالم كله»(((.
يتناول الباحث اإلمكانيات والموارد االقتصادية للدولة باعتبارها
عامل من عوامل قوتها في المجال الدولي من خالل ثالثة جوانب محركًا لظاهرة الصراع الدولي ،األهمية النسب ّية تتم ّثل في :اعتبارها ّ
القوة االقتصادية ألي من اإلمكانيات والموارد ،مؤشرات قياس ّ
للدولة.
كمحرك لظاهرة الصراع الدولي 1ـ الموارد االقتصادية ّ
في الجماعات البدائية ذات الموارد االقتصادية الجامدة كانت الحروب والصراعات تنشأ ارتبا ًطا بالجوع والقحط الناجم عن عجز
الموارد الطبيعية عن تمكين الجماعة من الحياة واالستقرار ،فتغير
على الجماعات األخرى للحصول على ما يسد رمقها ،لذلك كان
المظهر السائد للصراع بين الجماعات البدائية هو الحروب من أجل
الكالء والماء ،ومن هنا يمكن االعتراف ـ إلى حد ما ـ بفكرة (حتمية القحط) التي تعني االرتباط بين ظاهرة الصراع (الحروب) وبين
المعطى االقتصادي في الجماعات البدائية ذات االقتصاد الجامد، لكن في المقابل ال يمكن ّ أثرا حتّم ًيا للظاهرة أن تكون ظاهرة الحرب ً ((( محمد طه بدوي [وآخرون] ،مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.138 82
المتحضرة التي تتسم اقتصادياتها بكثير من االقتصادية في الجماعات ّ المرونة بما يو ّفر بدائل في الموارد وفي مستويات إشباع الحاجات بما يجنبها «القحط»(((.
في جماعات االقتصاد المرن الحديثة حيث الوفرة االقتصادية الناجمة عن النشاط االقتصادي الصناعي والتجاري ،وحيث تكاليف تقنيات الحرب الحديثة باهظة بما يعني ضرورة تو ّفر فائض من الموارد ليست الجماعة بحاجة إليه الستمرار الحياة والستعماله في اإلعداد للحرب ،جعل ظاهرة الحروب الحديثة في بعدها االقتصادي هي (حروب الوفرة) في مقابل حروب القحط في الجماعات البدائية، يضاف إلى ذلك عامل نفسي يتم ّثل في إحساس أصحاب الثراء والوفر بالتفوق على اآلخرين ومن ثم التعالي واالحتقار لهم، االقتصادي ّ لذلك نتج عن (الوفر االقتصادي) في الجماعات األوروبية الحديثة ما يسمى بالظاهرة اإلمبريالية ،والتي تعني السلوك السياسي ـ بصورتيه الدبلوماسية واإلستراتيجية ـ الذي تسعى من خالله وحدة سياسية إلى إخضاع شعوب أخرى لسلطانها ،مما يعني ّ أن اإلمبريالية االقتصادية هي تلك السياسة التوسعية التي تستهدف تحقيق مكاسب اقتصادية. ّ أن التحوالت الكبيرة التي شهدتها المجتمعات األوربية خالل الفترة من القرن الثالث عشر وحتى القرن الثامن عشر (عصر النهضة األوربية ،حركة الكشوف الجغرافية ،الثورة الصناعية) أنتجت في البداية صورة من صور اإلمبريالية االقتصادية تمث َّلت في اإلمبريالية ((( المرجع نفسه ،ص.116 83
التجارية ،حيث ارتبطت التجارة بالتوسع اإلمبريالي األوربي، وما كانت اإلمبراطورية البريطانية ً مثل في البداية إال من عمل
التجار ،ثم جاءت مسألة تأمين طرق المواصالت التجارية لتتدخل
األساطيل الحربية لتأمين هذه الطرق وتنشأ القواعد العسكرية ،ثم
االحتالل الكامل والمباشر لبعض المناطق بذريعة الحماية للمصالح التجارية(((.
الثورة الصناعية كحدث مفصلي في تاريخ أوربا الحديث والذي يرجع في جانب منه إلى ازدهار التجارة (اإلمبريالية التجارية) بما يم ّثله من توفر فائض في رؤوس األموال تزامن مع حركة تقدم علمي ـ خالل
تجسد في عدد من االكتشافات واالختراعات القرن السابع عشر ـ ّ العلمية قاد فيما بعد إلى الثورة الصناعية في أوربا ،وما ترتب عنها
ملحة لعنصرين أساسيين هما :مصدر للمواد الخام األولية من حاجة ّ وسوق لتصريف المنتجات الصناعية ،فشهد العالم موجة تط ّلع
للتوسع اإلمبريالي (االستعماري) األوربي للسيطرة المباشرة على كافة قارات العالم تقري ًبا ـ خارج أوربا ـ بهدف تأمين أكبر قدر من
الموارد الطبيعية والمواد األولية الالزمة للصناعة وفتح أسواق
لتصريف المنتجات الصناعية في تلك البقاع(((.
((( محمد طه بدوي [وآخرون] ،مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.142 ((( محمد طه بدوي وليلى أمين مرسي ،أصول علم العالقات الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.126 84
الصورة األخرى من صور اإلمبريالية االقتصادية تتمثل في اإلمبريالية المالية ،حيث تراكم رؤوس األموال الفائضة الناتجة عن التقدم التجاري والصناعي الذي أسهم فيه التوسع االستعماري سيؤدي إلى البحث عن مجاالت الستثمار األموال الفائضة في الخارج مما يكسب مزيدً ا من التوسع اإلمبريالي ،وأصبح رأس المال ـ في يد القوى اإلمبريالية ـ ً القوة السياسية للضغط شكل من أشكال ّ السياسي واالقتصادي على الدول الفقيرة والمحتاجة إلى استثمار هذه األموال بها ،أو المحتاجة إلى هذه األموال في شكل مساعدات ومنح وقروض ،مما أدى إلى تكييف خياراتها السياسية واالقتصادية مظهرا وف ًقا لمصالح القوى صاحبة رأس المال وهو ما يمكن اعتباره ً جديدً ا لالستعمار بعد ّ أن انحسر الشكل القديم للظاهرة االستعمارية.
يتح ّقق من خالل «اإلمبريالية المالية» االستخدام الدبلوماسي لإلمكانيات االقتصادية لتحقيق أهداف السياسية الخارجية ،وكان واضحا خالل الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية في ذلك ً اعتماد الدبلوماسية األمريكية والسوفيتية على األداة االقتصادية لتحقيق المصالح واألهداف ،فقد قدّ م األمريكيون مساعدات اقتصادية ومالية هائلة لدول غرب أوربا ـ الخارجة منهكة اقتصاد ًيا بعد الحرب ـ في شكل مشروع مارشال عام ،1947والذي أسهم في تثبيت دعائم النظم الليبرالية في دول غرب أوربا في مواجهة شبح الشيوعية الذي كان يتهددها. في المقابل فإن االتحاد السوفيتي (ساب ًقا) ـ على الرغم من ضعف 85
إمكانياته االقتصادية مقارنة بالواليات المتحدة األمريكية ـ عمل على تحقيق أهداف سياسته الخارجية من خالل تقديم المساعدات (التي غال ًبا ما كانت تأخذ شكل المساعدات الفنية والخبراء) إلى الدول الشيوعية ولألنظمة السياسية والدول التي كانت على خالف مع أمريكا والغرب ،وقام بإنشاء منظمة التعاون االقتصادي بين الدول االشتراكية (الكوميكون) عام 1947لتمتين العالقات االقتصادية والتجارية بينه وبين الدول الشيوعية في شرق أوربا(((.
يشهد الواقع الدولي الراهن ممارسات عديدة الستخدام األداة االقتصادية لفرض إمالء سياسات ومواقف سياسية على عدد كبير من الدول تتوافق مع مصالح القوى الدولية الكبرى المتمثلة بشكل أساسي في الواليات المتحدة األمريكية والدول الصناعية الغربية أخيرا ،أو ما يطلق عليه مجموعة الثمانية ()1+7 واليابان وروسيا ً من القوى الكبرى اقتصاد ًيا على الساحة الدولية ،وتتراوح عمليات االستخدام لألداة االقتصادية بين ممارسة سياسة الحصار والمقاطعة تجاه بعض الدول عقا ًبا لها على موافق وسياسات أتبعتها (الحصار الذي تفرضه الواليات المتحدة على كوبا ،الحصار الذي كان مفروضا على ليبيا ،العقوبات االقتصادية التي فرضت على كوريا ً الشمالية ،التلويح بفرض عقوبات اقتصادية على إيران بسبب أنشطتها النووية) ،وبين سياسات الدعم والمنح االقتصادية وتقديم القروض ((( محمد طه بدوي وآخرون ،مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.144 86
تجاه عدد آخر من الدول من باب المكافأة واالستمالة لها لدفعها لممارسة سياسات أو القيام بأدوار سياسية لخدمة مصالح وأهداف الدول المانحة ،وتجدر اإلشارة إلى ّ أن المنظمات والمؤسسات الدولية تقوم بدور ملحوظ كأدوات تخدم مصالح الدول الكبرى، حيث عادة ما يتم فرض الحصار والعقوبات االقتصادية من خالل قراءات صادرة عن مجلس األمن ،وتمنح المساعدات والمنح من خالل المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي وغيره، وفي كال الحالين يكون األمر عبارة عن ترجمة لمصالح الدول الكبرى وأهدافها. 2ـ األهم ّية النسبية لمختلف الموارد االقتصادية
كان من أبرز مظاهر قوة الدولة االقتصادية خالل فترات تاريخية يتجسد في درجة اقترابها من حالة (االكتفاء سبقت الحضارة الحديثة ّ الذاتي) ،أي ّ أن الدولة األكثر قوة اقتصاد ًيا وبالتالي سياس ًيا هي تلك الدولة التي تعتمد على مواردها الذاتية في إشباع حاجاتها من السلع والخدمات المختلفة ،إال ّ أن واقع الحال تغ ّير في ظل التحضر البشرية المعاصرة والتي عرفت تعدّ ًدا وتنّو ًعا في مستويات ّ االحتياجات االقتصادية جعل من الصعوبة بمكان تحقيق التكامل االقتصادي داخل المجتمع السياسي الواحد بالقدرة على إنتاج وتوفير كافة االحتياجات االقتصادية من السلع والخدمات للمجتمع وبما يجعله في غير حاجة إلى التكامل مع االقتصاديات األخرى، ّ وحل (االعتماد المتبادل) محل االكتفاء الذاتي كحالة اقتصادية 87
تحكم قوة االقتصاديات الوطنية ،فما تملكه وتتجه الدولة من موارد وإمكانيات اقتصادية تب ًعا لوزنه وأهم ّيته في دائرة االعتماد المتبادل مع القوة التي تكتسبها االقتصاديات األخرى هو المعيار المحدّ د لدرجة ّ الوحدة السياسية من منظور اقتصادي. نظرا أكسبت الثورة الصناعية مجموعة الموارد الطبيعية أهم ّيتها ً ألن التقدم الصناعي اعتمد بشكل أساسي على مجموعة من الموارد الطبيعية التي اختلفت أهم ّيتها النسبية من فترة إلى أخرى ومن ظروف األول دولية إلى أخرى ،وتأتي الثروات المعدنية الطبيعية في المقام ّ القوة االقتصادية. في حسابات ّ
يعتبر الفحم والحديد من الموارد الطبيعية المعدنية التي قامت اعتما ًدا عليها بدايات الثورة الصناعية في أوربا في القرن الثامن عشر مصدرا للطاقة ومادة أولية للصناعة خالل تلك الفترة، باعتبارها ً وبقدر إنتاج وتعدين الفحم والحديد ازدهرت الصناعة في الدول الغنّية بهذين المعدنين.
تضاءلت األهمية النسبية للفحم كمصدر للطاقة بعد اكتشاف النفط والغاز كمصادر جديدة للطاقة أقل تكلفة من الفحم ،ترتب على ذلك األهمية اإلستراتيجية للمناطق الغنّية بالنفط والغاز ،وأصبحت ارتفاع ّ الدول التي تتمتع بوجود كميات من النفط والغاز في أقاليمها ،إما ّ أن ترتقي في مستوى القوى االقتصادية ،أو ّ أن تستهدف كمناطق سيطرة ونفوذ للقوى الكبرى التي تمتلك إمكانيات اإلنتاج واالستغالل لهذا المورد الطبيعي ،وألن أوربا بشكل عام تعتبر فقيرة في النفط كمورد 88
طبيعي ،وألنها في ذات الوقت تم ّثل الدول التي بمقدورها إنتاج القوة واستغالل الموارد النفطية؛ باإلضافة إلى امتالكها إلمكانيات ّ العسكرية واالقتصادية (التجارية والصناعية) ،جعل منها باإلضافة إلى الواليات المتحدة األمريكية القوى المسيطرة على أهم المناطق النفطية في العالم في شكل احتالل استعماري مباشر في البداية ثم في شكل هيمنة وتسلط على األنظمة السياسية في تلك المناطق، أو في شكل نفوذ وتحكّم من خالل شركاتها المكتشفة والمنتجة والمصنّعة للنفط. مصدرا أساس ًيا تم ّثل المنطقة العربية والشرق األوسط عمو ًما ً لتزويد الدول الصناعية والدول األخرى بالنفط ،باإلضافة إلى أنها تم ّثل مخزونًا احتياطيا عالم ًيا ،األمر الذي انعكس على هذه المنطقة انعكاسا ذو طبيعتين :احدهما (إيجابية) تم ّثلت في التقدم الصناعي ً واإلنماء االقتصادي والتطور الحضاري الذي شهدته بفضل وجود القوة لدى بعضها بقدرتها على استخدام النفط بها ،وتنامى إمكانيات ّ النفط كأداة لتحقيق بعض مصالحها السياسية ،فالقدرات المالية التي تتمتع بها بعض دول المنطقة (السعودية ً مثل) مكنّتها من كسب المواقف والخيارات السياسية لصالحها وخاصة على الصعيد اإلقليمي وعلى صعيد دول العالم الثالث من خالل سياسات المنح والقروض والمساعدات ،أم الطبيعية األخرى (السلبية) فتم ّثلت في االستهداف المستمر من قبل القوى اإلمبريالية الكبرى لهذه ّ والتدخل السياسي أحيانًا والتسلط المنطقة لممارسة سياسة الهيمنة ّ 89
والعسكري أحيانًا أخرى بما يضمن لهذه القوى الكبرى استمرار حصولها على نفط المنطقة والتحكّم في إنتاجه وتوزيعه وأسعاره عن طريق شركاتها وأدواتها االقتصادية المختلفة.
يؤكد الواقع الدولي الراهن ـ خاصة بعد انهيار االتحاد السوفيتي األهمية اإلستراتيجية للنفط وانتهاء مرحلة الحرب الباردة ـ على ّ كمصدر من مصادر الطاقة ،وبالتالي موضو ًعا للصراع الدولي الذي تتوخى القوى الكبرى في إطاره السيطرة على المناطق التي تم ّثل مصدرا للنفط والغاز ،فمنذ حرب الخليج الثانية أصبحت القوى ً الكبرى تعتمد استراتيجيات يعتبر النفط محد ًدا أساس ًيا لها ،تراجعت أمامه المحددات األخرى المتم ّثلة في حسابات المكاسب والخسائر التقليدية وحسابات اإلجماع الدولي والشرعية الدولية وتبريرات عدم القيام بفعل صارم ،كل تلك المحدّ دات تهاوت أمام النفط كمحدّ د استراتيجي كفيل بتفسير اإلستراتيجيات الراهنة ـ وخاصة األمريكية ـ خالل مرحلة ما بعد الحرب الباردة(((.
«وبالرغم من تذبذب حركة األسعار للنفط صعو ًدا وهبو ًطا، وبالرغم من التقدم في ميدان صناعات الطاقة البديلة النووية والشمسية واإلنفاق المالي الكبير على هذا الجانب ،فإن النفط يبقى على عنصرا ها ًما في إستراتيجيات الدول كافة فالقوى المدى المنظور ً الرئيسة بحاجة إليه للحفاظ على مكانتها الدولية سياس ًيا واقتصاد ًيا وعسكر ًيا ،والدول المصدرة له تعتمد عليه كمصدر أساسي في
((( كاظم هاشم ،الوجيز في اإلستراتيجية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.222 90
اقتصادها وتنميته ،والدول األخرى تتأثر بأسعاره وتتق ّيد سياساتها االقتصادية واالجتماعية بذلك»(((.
تم ّثل الثروات الطبيعية المعدنية األخرى (الذهب ،النحاس، مقومات قوة مقو ًما من ّ الماس ،الفوسفات ...الخ) ،بشكل عام ّ لماهية هذه الموارد ومدى وجودها بكميات الدولة االقتصادية تب ًعا ّ اقتصادية وتجارية باإلضافة إلى توفر القدرة الفنية والمالية الستغاللها لينعكس ذلك على وزنها في الثقل العام لقوة الدولة االقتصادية ،أو فيما إذا ترتب على وجودها حاالت تحكم وسيطرة من قبل قوى أجنبية تسهم في إضعاف الدولة سياس ًيا واقتصاد ًيا من خالل هيمنة الشركات المنتجة والمستغلة لهذه الموارد أو من خالل الهيمنة عن طريق رؤوس األموال المستثمرة أو المنح والقروض األجنبية.
الموارد الزراعية نوع آخر من الموارد االقتصادية للدولة ،وحيث ّ أن الزراعة ترتبط بغذاء اإلنسان ،فإن تأمين الموارد الغذائية للمجتمع السياسي يم ّثل األولوية في كافة المجتمعات السياسية ،وكلما كانت الدولة قادرة على تحقيق (األمن الغذائي) لرعاياها كلما اكتسبت وكثيرا ما القوة على الصعيد الدولي، مقومات ّ مقو ًما إيجاب ًيا من ّ ّ ً م ّثلت السلع الرئيسة الغذائية (القمح ً سالحا إستراتيج ًيا ف ّع ًال مثل) ً في ظاهرة الصراع الدولي. بالرغم من صعوبة تحقيق االكتفاء الذاتي كحالة اقتصادية في
((( المرجع نفسه ،ص.223 91
االقتصاد الوطني ألي مجتمع إال ّ أن أغلب الوحدات الدولية تسعى إلى االقتراب قدر اإلمكان من حالة االكتفاء الذاتي فيما يخص الغذاء ،وبالقدر الذي يح ّققه اإلقليم من إمكانيات جغرافية إلنتاج الغذاء بقدر ما تشعر الدولة بشيء من األمن الغذائي ،وتعمل كافة بمقومات الدول على تطويع التقنية العلمية والصناعية في االرتقاء ّ اإلقليم الطبيعية والجغرافية للوصول إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه في إنتاج الغذاء في خدمة الوصول إلى اإلحساس باألمن الغذائي، وفي الحاالت التي ّ يتعذر فيها االعتماد على إمكانيات اإلقليم الذاتية في إنتاج الغذاء لسكانه تتجه سياسات الدول نحو تنمية القطاعات األخرى للت ّعويل عليها في توفير الغذاء من خالل االعتماد المتبادل، عجزا في توفير الغذاء حريصة أكثر من مما جعل الدول التي تعاني ً التورط في صراعات إقليمية أو دولية تهدّ د أمنها غيرها على عدم ّ الغذائي ،أو يدفعها ذلك لالرتباط سياس ًيا واقتصاد ًيا بوحدات دولية أخرى لتأمين غذائها سوا ًء كان ذلك في شكل تنظيمات أو ترتيبات إقليمية أو في شكل الخضوع لهيمنة وسيطرة قوة دولية كبرى في مقابل أمنها الغذائي(((. بالرغم من ّ أن الثورة الصناعية قد بدأت منذ القرن الثامن عشر في أوربا إال ّ أن السمة الغالبة على االقتصاد العالمي الزالت هي السمة ومتحضر بالقدر يصنف على أنه اقتصاد متين ّ الصناعية ،وكل اقتصاد ّ
((( عبد الواحد الناصر ،العالقات الدولية( ،الدار البيضاء :منشورات المستقبل، ،)1991ص.94 92
تنوع وإنتاجية صناعية واسعة((( ،لذلك يالحظ ّ أن الذي يح ّقق فيه ّ العالقة بين المستوى الصناعي للدولة وبين تأثيرها السياسي في البيئة الدولية عالقة وثيقة ،كما ّ أن العالقة بين الصناعة ومستوى القوة العسكرية بالمنتجات الصناعية القوة العسكرية وثيقة الرتباط ّ ّ الحربية ،فالدول الصناعية الكبرى هي الدول األقدر على إنتاج واقتناء التفوق في المجال تقنيات عسكرية عالية في مجال التسليح تمكّنها من ّ العسكري والذي صار يعتمد بشكل كبير على تقنية السالح أكثر من اعتماده على الكم البشري ـ كما سبق اإلشارة.- تستحوذ القوى الرئيسة في العالم على النصيب األكبر من الصناعات األساسية التي تحدّ د مستوى التقدم التقني والصناعي والمتم ّثلة في صناعة الحديد والصلب والصناعات الهندسية والصناعات الكيماوية والبتروكيماوية والصناعات الغذائية ،باإلضافة إلى الصناعات الحربية ،وتم ّثل هذه الصناعات ٍ األساسية ركيزة التقدم الصناعي مما جعل الكثير من الدول النامية ودول العالم الثالث تحاول بناء اقتصادياتها الصناعية بتنشيط هذه الصناعات الرئيسة(((. 3ـ ّ القوة االقتصادية للدولة مؤشرات ّ
يم ّثل الناتج القومي اإلجمالي أهم ّ القوة االقتصادية مؤشرات ّ للدولة ،فهو يكشف عن معدالت النمو االقتصادي المح ّققة في ((( عبد الواحد الناصر ،خصائص الدول في محيط العالقات الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.127 ((( كاظم هاشم ،الوجيز في اإلستراتيجية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.236 93
الدولة ومدى التذبذب أو التصاعد في هذا النمو بالمقارنة مع الدول األخرى ،كما يكشف عن مستوى المعيشة المح ّقق لصالح األفراد عند احتساب نصيب الفرد من الدخل القومي تب ًعا لعدد السكان.
ّ أن معدالت إنتاج واستهالك الطاقة ّ تؤشر ـ كذلك ـ باتجاه القابلية الصناعية للدولة وبالتالي باتجاه قوتها االقتصادية ،مع مالحظة ّ أن التفاوت بين اإلنتاج واالستهالك الذي تعاني منه بعض الدول يع ّبر عن الضعف الذي تعانيه في مجال الطاقة ،ففي الوقت الذي تنتج فيه بعض الدول النفطية طاقة أكثر مما تستهلك فإن ً دول أخرى ـ كاليابان ً مثل ـ تستهلك طاقة أكثر مما تنتجه ،وفي مثل هذه الحاالت ّ المؤشر بشكل مستقل للتعبير فإنه ليس باإلمكان االعتماد على هذا عن قوة الدولة االقتصادية. إنتاج الحديد والصلب يعتبره االقتصاديون واإلستراتيجيون مهما من ّ ّ نظرا ألنه يم ّثل حجر مؤشرات قوة الدولة االقتصاديةً ، مؤش ًرا ً األساس في الصناعات المدنية والحربية وعليه تستند الصناعة في عدد من الميادين األخرى ،وتتقدّ م الدول العظمى والكبرى الدول األخرى في هذا الميدان بما يسد احتياجاتها الوطنية وما يغطي جان ًبا كبيرا من احتياجات الطلب العالمي على المنتجات ذات الصلة ً ((( بصناعة الصلب . مؤشر آخر من ّ وتجدر اإلشارة إلى ّ القوة االقتصادية مؤشرات ّ
((( المرجع نفسه ،ص.236 94
للدولة وهو المتم ّثل في نسبة األيدي العاملة في الصناعة وما يرتبط بهذه النسبة من إنتاجية وكفاءة ،فالكم الكبير من األيدي العاملة في المجال الصناعي في ظل مستويات عالية من الكفاءة واإلنتاجية بفضل التحديث والميكنة والتعليم الصناعي من شأنه ّ أن يعني دف ًعا القوة االقتصادية للدولة من هذه الزاوية. إيجاب ًيا باتجاه ّ 4ـ القدرات العسكرية
وضوحا في التعبير تم ّثل القدرات العسكرية للدولة الصورة األكثر ً القوة العسكرية للدولة عن قوتها في المجال الدولي ،ويتحدّ د حجم ّ باعتبارين هماً : أول :طبيعة سياسة األمن القومي المعتمدة ،فيما إذا كانت الدولة تعتمد على إمكانياتها الذاتية في تحقيق أمنها القومي أو أنها تعتمد على تحالف عسكري أو اتفاقية دفاع مشتركة ،وفي الحالة الثانية فإن الدولة لن تو ّظف إمكانيات مالية وبشرية كبيرة في بناء قوات مس ّلحة.
وثان ًيا :نوع السياسة المتبعة في بناء القوات المسلحة ،فيما إذا الجوية لهذه كانت هذا البناء يرتكز على السمة ال ّبرية أو البحرية أو ّ القوات ،فبريطانيا ً مثل في أوج عظمتها االستعمارية اعتمدت سياسة بحرية في الدفاع عن مصالحها االستعمارية وامتلكت بذلك أساطيل بحرية ضخمة في حين ّ صغيرا بالمقارنة مع أن جيشها ال ّبري كان ً الجيوش ال ّبرية للدول األوربية األخرى ،بينما حرصت روسيا واالتحاد السوفيتي (ساب ًقا) على بناء قوات مسلحة يكون الصنف ال ّبري هو السائد فيها ،في وقت تحرص إسرائيل كمثال آخر على 95
تكوين قوة عسكرية تعتمد بشكل كبير على القوات الجوية ،وفي كل هذه الحاالت فإن العوامل الجيوبولتيكية المتع ّلقة بالمساحة وعدد السكان وموقع الدولة ،باإلضافة إلى اإلمكانيات المالية واالقتصادية مهما في اختيار الوحدة الدولية لنوع دورا ً ومستوى التصنيع تلعب ً السياسة المتع ّلقة ببناء قوتها العسكرية.
وفي ظل التطور الهائل في تقنيات األسلحة والتكاليف الباهظة لبناء قوات مسلحة ف ّعالة اتجهت معظم الدول إلى البحث عن طريقة تؤمن األمن القومي بكلفة غير باهظة من خالل االعتماد على األحالف ومعاهدات الدفاع المشترك من جهة واالتجاه نحو تقليص حجم القوات المسلحة الن ّظامية والتركيز على الجيوش غير النظامية (االحتياط ،القوات الخاصة) من جهة أخرى وذلك في ظل سياسات دفاعية تتط ّلب أعدا ًدا أقل نسب ًيا((( ،وتم ّثل المعطيات المتعلقة بالقوة التسليحية (النارية) والدور المناط بالجيش غير النظامي (االحتياط) وأسلوب توزيع القوات داخل البالد ،ومدى قابلية القوات للنفير في حاالت األزمة والحرب ،باإلضافة إلى المعطيات المتع ّلقة بالكفاءة والتنظيم واالنضباط أهم العوامل المؤثرة في قيمة القوات العسكرية للدولة أثناء الحرب. 1ـ سياسة األمن القومي من خالل األحالف والمعاهدات الدفاعية
تتفاوت القيمة الفعلية للعوامل العسكرية في الحساب العام ((( كاظم هاشم ،الوجيز في اإلستراتيجية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.237 96
لقوة الدولة تب ًعا لألحالف العسكرية والمعاهدات التي ترتبط بها والدور الذي يمكن ّ أن تلعبه الدولة في نطاق السياسات الدفاعية للحلف بشكل عام ،فبينما يعتمد الحلف األطلسي بشكل أساسي القوة المسلحة األمريكية ،كما ّ وارسو (ساب ًقا) على إمكانيات ّ أن حلف ّ كانت القوات العسكرية السوفيتية تم ّثل الركيزة األساسية له ،إال ّ أن األعباء العسكرية الملقاة على عاتق كل دولة من دول الحلف مختلفة باختالف موقعها من خطوط المواجهة ،لذلك نرى في مثال حلف األطلسي ّ أن فرنسا لبعدها الجغرافي عن خطوط المواجهة تمتعت بشيء من الحرية في صياغة سياستها الدفاعية وبناء قواتها المسلحة بالمقارنة مع ألمانيا (الغربية) والتي تعتبر في قلب خط المواجهة (وف ًقا للواقع الدولي خالل فترة الحرب الباردة) ،ومن ثم خضعت بشكل محكم لفلسفة السياسة الدفاعية األمريكية الركيزة األساسية في الحلف. من جانب آخر فإن عدد الدول الداخلة في الحلف أو المعاهدة العسكرية يؤ ّثر بشكل واضح على طبيعة االلتزامات الدفاعية كبيرا كلما الخارجية ،فكلما كان عدد الدول الداخلية في الحلف ً ّ تعذر تحقيق التنسيق بين القوات المسلحة لألطراف الدولية في نطاق الحلف أو المعاهدة ،وخير مثال على ذلك ّ أن معاهدة الدفاع
العربي المشترك لم تدخل مرة ح ّيز التنفيذ الفعلي منذ التوقيع عليها تعرضت له األقطار العربية ما حاالت عدوان عديدة من برغم ما ّ نظرا للخالفات السياسية قبل قوى خارجية على الكثير منها ،وذلك ً 97
من جهة واختالف سياسات بناء القوات المسلحة في كل قطر تب ًعا الختالف منظومات األسلحة ومصادرها من جهة أخرى ،ويشهد حلف األطلسي كذلك خالفات من هذا النوع ،إال ّ أن معيار األمن مبررا المح َّقق أو الممكن تحقيقه للدولة الداخلة في الحلف يبقى ً لاللتزامات الخارجية العسكرية الملقاة على عاتقها بموجب هذه االتفاقيات(((. القوة العسكرية وخاص ّية الردع 2ـ ّ
من الخطأ االعتقاد بأن بناء قوة عسكرية ضخمة وف ّعالة يعني ّ أن الغاية هي الدخول في الحرب ،فطبيعة العالقات الدولية القائمة على العداء كأصل في البيئة والدولية ـ لغياب السلطة العليا اإللزامية ـ هي القوة في التعامل الدولي والذي تتجلى أبرز مظاهره التي فرضت منطق ّ دائما حالة الحرب القوة العسكرية ،لكن منطق ّ في ّ القوة ال يعني ً والصدام المس ّلح بين األطراف الدولية ،ففي الوقت الذي تلعب مهما في عمليات فيه عوامل وإمكانيات ّ دورا ً القوة (غير العسكرية) ً القوة (العسكرية) والمعد التفاعل والتعامل الدولي فإن هذا النوع من ّ ً أيضا للقيام بدور غير تصادمي (حربي) أصل للتصادم والحرب مهيأ ً القوة العسكرية كقوة القوة في البيئة الدولية من خالل دور ّ في معادلة ّ ردع تجنّب الوحدات الدولية الحرب المباشرة بما تعنيه من دمار وقتل ،وبما ال ينفي حالة الصراع بينها انطال ًقا من الفرضية التي تقول: أن الرغبة في تحقق السالم تبدأ ً ّ أول باالستعداد للحرب. (((كاظم هاشم ،الوجيز في اإلستراتيجية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص 237وما بعدها. 98
الردع هو الوجه اآلخر للقوة العسكرية الذي يشير إلى مدى فاعليتها في (إقناع) الطرف اآلخر ّ «أن تكلفة العمل العدائي الذي يراد القيام به ستفوق بأي حال من األحوال النتائج التي قد تترتب عليه»(((.
وتلعب المسائل المتع ّلقة باإلدراك لحجم قوة الطرف اآلخر العسكرية الدور األساسي في فعالية الردع ،وتحرص كافة الوحدات الدولية على بناء قواتها العسكرية بما يؤهلها كقوة (ردع) تمنع وقوع العدوان العسكري عليها أكثر من بناءها كقوة (قمع) لصد العمل العسكري المضاد أثناء وبعد وقوعه ،وألن ذلك يعني ضرورة إدراك اآلخرين لحجم وإمكانيات قوتها العسكرية نجد الدولة ـ كل دولة ـ تحرص على توجيه رسائل معينة بغية حصول هذا اإلدراك ،مثل القيام باستعراض قواتها العسكرية وتخصيص مبالغ مالية كبيرة لإلنفاق العسكري في ميزانياتها ،نشر جانب من المعلومات المتع ّلقة بإمكانياتها العسكرية ونوعية وحجم أسلحتها وإتاحتها إلطالع اآلخرين مع حرصها على اإلبقاء على جانب آخر من المعلومات العسكرية وخاصة المتعلقة بالخطط العسكرية وبعض األسرار العسكرية األخرى غير متاح إلطالع اآلخرين للحفاظ على شيء من النفوق تحت غالف [المجهول والمفاجأة] ،بما يدعم إمكانيات الردع ّ بالنسبة لها ،لذلك جاءت ظاهرة (الجوسسة) في محاولة للوصول إلى أقصى درجة من اإلدراك لحجم قوة الطرف اآلخر العسكرية. ((( مصطفى عبد الله خشيم ،موسوعة علم العالقات الدولية( ،سرت :الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع واإلعالن ،)1995 ،ص.111 99
يبرز الردع كسالح ف ّعال يمكّن من تحقيق األهداف عند التعامل معه من خالل أسلحة الدمار الشامل (وخاصة األسلحة النووية).
ّ أن االنعطاف الكبير الذي حدث بعد الحرب العالمية الثانية في القوة التدميرية الوصول بتقنيات السالح إلى إنتاج السالح النووي ذي ّ تطور في تقنيات إطالقه من صواريخ وقاذفات الهائلة وما تبع ذلك من ّ قنابل إستراتيجية وغواصات أعطى للقوة العسكرية المضمون المتم ّثل في كونها قوة ردع ً وأخيرا أكثر من أي وقت مضى بالنظر إلى أول ً دورا تصور ّ حجم الرعب الناتج عن ّ القوة النووية كقوة قمع تؤدي ً فعل ًيا في المواجهات والصراع بين األطراف الدولية ،بما يعني ذلك من دمار شامل وفناء مؤكد للبشرية أو جزء كبير منها (إذ قبلنا بأن هناك إمكانية لما يسمى بالحرب النووية المحدودة ،أو االشتباك المحدود باألسلحة الذرية التكتيكية).
القوة إذا كانت العالقات بين الدول قد ظ ّلت تستند إلى ّ القوة ،أو فإن أسلحة الدمار الشامل قد بدّ لت شروط استخدام ّ باألحرى الظروف واألوضاع التي يعمل فيها التهديد باستخدام القوة ويوضع موضع التنفيذ ،لتتحكّم ثالثة معطيات جديدة في ّ العالقات الدولية في ظل الرعب النووي ،متم ّثلة فيً : القوة أولّ : التدميرية الهائلة للسالح النووي ّ (أن القدرة االنفجارية لقنبلة نووية واحدة تفوق مجموع القدرة االنفجارية لكافة الذخائر المستخدمة في الحروب الماضية ،بما في ذلك الحربين العالميتين األخيرتين، كما ّ أن المخزون القائم من السالح النووي كفيل بتدميره الحياة 100
على الكرة األرضية كل ًيا مرات عديدة) ،ثان ًيا :الطابع شبه الفوري والدائم للخطر النووي ،فالوقت في ظل الخطر النووي لم يعد يكفي لتعبئة القوات والقيام بالهجمات المعاكسة ،برغم ما يقولوه اإلستراتيجيون بأن الهجوم باألسلحة النووية قد ال يحول دون قيام دولة (من الدرجة النووية األولى) بالرد االنتقامي الرهيب على المعتدي ،إال ّ متأخرا ،وإذا نجح الهجوم أن هذا العمل سيكون ً األول في تدمير جانب كبير من وسائط الرد االنتقامي للضحية ّ يكون من العبث القيام بالرد االنتقامي ،ألن ذلك يعني المضي حتى أخر الشوط في عملية التدمير المتبادل ،ثال ًثا :من المعطيتين السابقتين نصل إلى المعطية الثالثة المتعلقة بنتيجة الصراع المتمثلة في النصر أو الهزيمة ،حيث ّ أن االنتصار المطلق في الحروب ـ يعرف في السابق ـ هو تجريد العدو من سالحه لدرجة كما كان ّ يستطيع المنتصر ّ أن يفعل ما يشاء بالمهزوم ويقرر مصيره بالصورة التي يريدها ،أما اآلن فقد أصبح من الممكن إبادة شعب بكامله قبل انتهاء الحرب ،مما ال يعطي معنى للهزيمة أو النصر من منظور تحقيق أهداف السياسة الخارجية(((. مما سبق يمكن اإلقرار بأن القيمة الحقيقية للسالح النووي تكمن في خاص ّية الردع المرتبطة به ،وهذه الخاص ّية تؤدي دورها بغض القوة النووية لكل طرف ،ويبقى األمر في النظر عن حجم وإمكانيات ّ
((( ريمون آرون ،الجدل الكبير حول اإلستراتيجية الذرية ،ترجمة اللواء محمد سميح السيد( ،دمشق :دار طالس للدراسات والترجمة والنشر ،)1984 ،ص.ص.81 ،80 101
وجهة نظر الكثير من اإلستراتيجيين مرهونًا بدرجة الرشد والعقالنية للقيادات السياسية لدى األطراف الدولية التي تمتلك السالح النووي، كما هو مرهونًا باعتبارات الصدفة والخوف وسوء التقدير ،في االنتقال بالسالح النووي من حالة الردع إلى حالة االستخدام الفعلي له ،بما في ذلك تأثير هذه االعتبارات على احتماالت الوصول إلى المواجهة النووية من مدخل تصعيد المواجهة باألسلحة التقليدية ،لذلك يرى البعض ّ أن السالم النسبي الذي ساد العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية يعود الفضل فيه إلى المقدرة الردعية لألسلحة النووية ،وبما ال ينفي استمرار احتماال نشوب حرب نووية لالعتبارات السابق اإلشارة إليها(((. ّ أن امتالك عدد من األطراف الدولية لألسلحة النووية منذ الحرب العالمية الثانية إلى اآلن لم ينه أو يقلل من مخاطر نشوب الحرب، فخالل الفترة التي شهدت سبا ًقا للتس ّلح بين القوتين العظميين (الواليات المتحدة واالتحاد السوفيتي) ،والتي أخذ فيها الردع النووي صورة الردع المتبادل بين القطبين محتو ًيا القدرات النووية التي صارت تمتلكها أطراف دولية أخرى ،لم تنته الحرب ،ولم تنتهي مخاطر نشوبها ،فهل فعالية الردع النووي خالل هذه الفترة وفعالية الردع بشكل عام لم تفلح في تجنيب البشرية مخاطر الحرب؟ وما عالقة الردع النووي والتقليدي بحاالت الحرب التي شهدتها البشرية ((( جوزيف ،س .االبن ،المنازعات الدولية ،ترجمة أحمد أمين الجمل ،ومجدي كامل( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.ص 182ـ .183 102
عبر تاريخها المعاصر على األقل؟ ..تحاول مجموعة من الدراسات
بهذا الخصوص اإلجابة على بعض هذه التساؤالت(((.
توضح دراسة حاالت الردع الناجح خالل فترات تاريخية سابقة ّ القوة ال تشكّل في حد ذاتها شر ًطا كاف ًيا لمنع الحرب، أن ضخامة ّ ففي دراسة ع ّينة لعشرين فترة تاريخية تع ّبر عن ثقافات مختلفة عبر آالف السنين ،تم الوصول إلى هذه النتيجة ،وتب ّين في دراسة عن حروب القرنين التاسع عشر والعشرين ّ خمسا من بين الحروب أن ً التسعة التي شنّت ضد القوى الكبرى خالل تلك الفترة كانت الدولة
المعتدية أضعف من الدولة المعتدي عليها.
أثبتت دراسة أخرى ّ القوة العسكرية تؤدي إلى اإلقالل أن ضخامة ّ من احتماالت الحرب ،ولكن بمجرد ّ أن يبدأ الصراع الحادبين القوة ال تصبح ً عامل كاف ًيا لمنع تصاعد الصراع إلى األطراف فإن ّ
درجة المواجهة العسكرية.
وفي دراسة قام بها ميهالكا حول الخصائص المشتركة بين
الداخلين في أزمات تم ّيزت بفشل الردع وبالتالي أفضت إلى حروب
في تحليله الذي شمل 264أزمة دولية خالل الفترة من 1816م حتى 1970م ،أوضحت ّ أن 99أزمة من تلك األزمات أسفرت عن حروب، وعندما م ّيز الباحث بين القوى الكبرى والقوى الصغرى اتضح ّ أن
((( لويدجنسون ،تفسير السياسة الخارجية ،ترجمة محمد أحمد مفتي ،ومحمد السيد سليم( ،مرجع سبق ذكره) ،ص 152وما بعدها. 103
33.8%فقط من األزمات كانت فيها القوى الكبرى هي البادئة، بينما ارتفعت النسبة إلى 87.5%من األزمات التي كانت فيها القوى الصغرى هي البادئة.
توضح دراسة للتدخالت العسكرية في الفترة من 1948حتى عام ّ 1967أنه كلما زادت قدرة الدولة على مقاومة التدخل الخارجي ق ّلت احتماالت التدخل الخارجي في تلك الدولة ،مما يعني ّ أن لزيادة اإلنفاق العسكري وأساليب إقناع األطراف األخرى بفداحة خسائرها إذا أقدمت على الحرب قيمة ردعية مهمة.
توضح دراسة بيانات مقارنة للفترة من عام 1850م إلى 1966م ّ أنه في بداية كل حرب تكون فرصة الجانب األقوى في الكسب أكبر من فرصة الجانب األضعف ،غير ّ أن هناك حاالت عديدة انتصر فيها الجانب األضعف عند بداية الحرب ،كذلك أوضحت الدراسات التاريخية ّ أن الدول التي تبدأ الحروب غال ًبا ما تخسرها ،فقد انتهت أربعة أخماس الحروب التي حدثت في فترة ما بين 1815إلى 1910 لصالح الدولة البادئة ،بينما انتهت ثالث أخماس الحروب التي حدثت في الفترة ما بين 1910إلى 1965لصالح الدولة المعتدى عليها. القوة بعد الحروب الكبرى ّ أن ّ وتوضح دراسة امبريقية لموازين ّ القوة بشكل جذري حيث سرعان الحروب لم تؤد إلى تغ ّير موازين ّ ما تعود تلك الموازين إلى ما كانت عليه قبل نشوب الحرب. وفي تحليل لحوالي 215حالة استعملت فيها الواليات المتحدة القوة أو هدّ دت باستعمالها أوضح ّ أن نتائج التدخل األمريكي كانت ّ 104
تميل إلى صالح الواليات المتحدة في الحاالت التي لم يكن فيها حاسما خالل فترة الحرب الباردة. التفوق األمريكي العسكري ً
في دراسة ألثر األسلحة العسكرية النووية على ردع الحروب
أجريت على خمسة عشر أزمة دولية خالل الفترة من 1946ـ ،1975
حاولت فيها الواليات المتحدة األمريكية تحقيق أهدافها عن طريق القوة اإلستراتيجية النووية والتقليدية اتضح أنها التهديد باستعمال ّ
تمكّنت من تحقيق أهدافها في كل تلك األزمات تقري ًبا خالل ستة
شهور من بدأ التلويح بالتهديد ،بينما اقتصرت على ثالثة أرباع تلك
األزمات خالل الثالث سنوات التالية لتلك الفترة ،مما يدل على تناقص الكفاءة الردعية للتهديد النووي خالل الفترة التي بدأ فيها ميزان
القوة اإلستراتيجي النووي يميل لصالح الطرف المقابل (االتحاد ّ
السوفيتي) وانعكس ذلك على تضاءل القدرة على تحقيق األهداف. ثان ًيا :العوامل غير المادية للقوة
القوة التي يمكن ّ أن تكتسبها الدولة يتصل هذا النوع من عوامل ّ
وبالتالي تدخل في الحساب اإلجمالي لقوتها في المجال الدولي
باإلرادة اإلنسانية ،حيث ترتبط بالسلوك البشري سوا ًء كان ذلك على
المستوى الفردي أو المستوى الجماعي ،وما يترتّب على السلوك
واإلرادة البشرية من عالقات مع األشياء والبشر ،وما ينتج تب ًعا لذلك
من قيم وأفكار ونظريات ونظم تقع في مجموعها في الجانب غير 105
المادي بالنسبة لإلدراك البشري ،لذلك كان من الصعب في أغلب القوة إخضاع هذا النوع من اإلمكانيات والعوامل محاوالت قياس ّ للتحديد والقياس.
القوة غير المادية للوحدة الدولية في :الهو ّية تتم ّثل إمكانيات ّ الثقافة واالجتماعية للمجتمع السياسي ،طبيعة النظام السياسي ودور القيادات السياسية وصنّاع القرار ،مستوى التقدّ م التقني والعلمي، وتحدّ د هذه العوامل درجة االستفادة والتوظيف للعوامل واإلمكانيات ذات الطابع المادي لتصنع منها وزنًا مع ّينًا لقوة الدولة في المجال القوة والفعالية الذي تع ّبر عنه اإلمكانيات الدولي ،لذلك فإن مستوى ّ غير المادية هو ما سينعكس على بقية العوامل ليمنحها أهم ّيتها ودورها في اإلطار العام لقوة الدولة في المجال الدولي. �أ ) الهو ّية الثقافية واالجتماعية للوحدة الدولية
لكل مجتمع من المجتمعات السياسية خصائص اجتماعية وثقافية وحضارية تم ّيزه عن غيره من المجتمعات األخرى ،وترتبط هذه الخصائص بمجموعة من القيم الثقافية واالجتماعية التي تلعب مهما في تحريك الجماعة البشرية في نطاق المجتمع السياسي دورا ً ً باتجاه الفعل االجتماعي العام بكل صوره السياسية واالقتصادية والثقافية وغيرها. ّ تكون الجماعات السياسية هو ارتباطها بإقليم جغرافي أن أساس ّ مع ّين ،ويعمل التاريخ (الزمن +األحداث والتجارب) على إضفاء 106
طاب ًعا قيم ًيا على هذا االرتباط يجعل لهذه الجماعة البشرية هو ّية وطنية تتجسد في االنتماء لوطن واحد ،وهو ما ُيفترض ّ أن يترجم واحدة ّ (نظر ًيا) الحب لهذا الوطن والوالء واإليمان بالخيارات السياسية واالقتصادية واإلحساس بالتآلف والترابط بين األفراد ،والرغبة وعلوه ،والحماس عزته الجماعية في النهوض بالوطن وتحقيق ّ ّ للدفاع عنه في وجه الطامعين واألعداء ،وغير ذلك من القيم التي الهوية الوطنية لجماعة بشرية مع ّينة. تع ّبر عن ّ
الشك ّ أن هذه الصورة المثالية للجماعة البشرية في نطاق كيان سياسي مع ّين من شأنها ّ القوة مقومات ّ مقو ًما إيجاب ًيا من ّ أن تم ّثل ّ السياسية لهذه الجماعة ،وكلما كانت الهو ّية الوطنية للجماعة السياسية قريبة من هذه الصورة المثالية تناسب ذلك طرد ًيا مع معنويات هذه الجماعة ،فالروح المعنوية ترتبط بمدى فعالية ووجود مجموعة من القيم الوطنية ،إال ّ التصور المثالي ليس هو في الحقيقة ما تعيشه أن هذا ّ المجتمعات البشرية في إطاراتها السياسية ،ألن هناك مجموعة من المتغيرات والعوامل تؤ ّثر في الروح المعنوية للمجتمع السياسي من منطلق غياب بعض هذه القيم أحيانًا ،وعدم إمكانية تحقيقها ،أو من منطلق التأثير في فعالية بعضها بفعل عوامل داخلية في ذات الجماعة السياسية ،أو بفعل عوامل خارجية ،وهو ما يعطي (للمعنويات) في أي مجتمع من المجتمعات طابع التغ ّير المتواصل والحرك ّية المستمرة تب ًعا للتحديات واألزمات التي تعصف بالمجتمع السياسي ،مع التأكيد على ّ أن جمل ًة من القيم المعنوية ـ فيما إذا توافرت في أي مجتمع 107
من المجتمعات ـ من شأنها ّ أن تم ّثل ركائز ثابتة نسب ًيا في حسابات القوة السياسية له، الروح المعنوية للمجتمع ،وبالتالي في حسابات ّ لعل أبرزها اإليمان بالوحدة الوطنية واإليمان بالخيارات السياسية واالقتصادية واالجتماعية للمجتمع واإليمان بعدالة وشرعية قضية ما أو هدف ما ،وألن الطلب على المعنويات يشتد في أوضاع األزمات والحروب فإن الثقة في شرعية األهداف تخلق االستعداد لتقديم وتحمل التكاليف التضحيات والمثابرة على الوصول إلى الهدف، ّ واألعباء الناتجة عن ذلك ،وفي غياب المعنويات ّ يتعذر مواصلة المواجهة في ظل األزمات والحروب ،لذلك يعتمد الصراع بين القوى السياسية أثناء الحروب واألزمات على (الحرب النفسية) التي تستهدف إحداث شرخ في معنويات الطرف المقابل وزعزعة ثقته بنفسه(((.
تعتمد المعنويات في أي مجتمع على مجموعة القيم السياسية والثقافية والدينية واإليديولوجية والحضارية السائدة وتتأثر بها، محركًا ف ّع ًل فالعقائد الدينية والسياسية ـ على حد سواء ـ تعتبر ّ لألفراد باتجاه تأكيدها وترسيخها والدفاع عنها والدعاية لها ،كما ّ أن الحضارة والثقافة بما تم ّثله من مكاسب وإنجازات ـ تاريخية أو راهنة ـ تم ّثل داف ًعا نحو الحفاظ على هذه المكاسب والتضحية من أجلها، ومحاكاة األقدمين (اآلباء واألجداد) في الحفاظ على أمجادهم والسير على دربهم وتحقيق المزيد من المكاسب واإلنجازات، ((( كاظم هاشم ،الوجيز في اإلستراتيجية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.242 108
وتلعب عملية التنشئة السياسية بما تمثله من بناء وترسيخ للقيم االجتماعية والسياسية من جهة ،والقيادة السياسية باعتبارها الرمز بارزا دورا ً والصورة المع ّبرة عن الجماعة السياسية من جهة أخرى ً في توظيف مجموعة هذه القيم في خدمة الروح المعنوية ألفراد المجتمع السياسي.
يعتبر التجانس القومي في أي مجتمع من المجتمعات أهم رافد مصدرا للقوة السياسية باتجاه من روافد الوحدة الوطنية ،وبالتالي ً إيجابي ،فالتجانس القومي بما يع ّبر عنه من وحدة عرقية ودينية ولغوية وما يرتبط بذلك من وحدة التاريخ والمصير واآلمال والتطلعات المشتركة للجماعة يجعل من هذه الجماعة كتلة سياسية واحدة وصلبة في مواجهة األزمات وفي السعي لتحقيق األهداف والتطلعات ،وقد جسدت هذه الصورة للتكامل السياسي فكرة «الدولة القومية» التي ّ بدأت الدعوة إليها في القرن التاسع عشر باعتبارها أرقى صور الحبك السياسي في الداخل وأقدرها على تحقيق قوة الوحدة السياسية في الخارج. تح ّققت الوحدات القومية لألمم األوربية في القرن التاسع عشر وتخ ّلصت الكيانات السياسية من عوامل التناقض التي كانت تتسم بها شعوب اإلمبراطوريات القديمة ،فانطلقت (األمم األوربية) فعل ًيا القوة في المجال الدولي. من تكاملها القومي إلى سياسات ّ المتصور ّ أن يكون لهذا التكامل السياسي القومي أثره كان من ّ اإليجابي في الخالص من النزعات العدوانية التي كانت تتسم بها 109
اإلمبراطوريات القديمة أو الحد منها على األقل ،استنا ًدا على ّ أن كل أمة ما دامت قد تحققت لها وحدتها السياسية القومية ستحترم ذاتية واستقالل غيرها من الوحدات السياسية فيعمل ظهور الدولة (افتراضا) على تحقيق المجتمع الدولي الهادي تب ًعا لقيامه القومية ً على وحدات قومية هادئة(((.
غير ّ أن الواقع الدولي ـ إثر ذلك ـ خالف هذه االفتراضات ،فقد إحساسا لدى شعوب الدول القومية بالعظمة خلق الواقع الجديد ً ً مدخل جديدً ا للتوسع والعدوانية تجاه واإلدعاء بالسمو مما كان الجماعات السياسية األخرى وبالتالي استمر الواقع الدولي يعاني التوترات والصراعات والحروب ،بل ّ تعمق أكثر أن مفهوم الحرب ّ في ظل الدولة القومية (ففيما مضى كانت الحرب هي حرب الحكام واألباطرة فيما بينهم فإذا بها تصبح في ظل الدولة القومية حرب األمم والشعوب). بلغت حروب العزة القومية ذروتها في أوائل القرن العشرين بقيام الحربين العالميتين األولى والثانية مما أظهر ّ أن صورة التنظيم السياسي للمجتمعات في شكل قومي ال تقل عدوانية عن الصورة السابقة للتنظيم السياسي المتمثل في اإلمبراطوريات ّ أن لم تتجاوزها، ويقود ذلك إلى تساؤل مهم ،فيما إذا كان هناك أثر للطباع القومية في السلوك الخارجي للدولة القومية الجديدة؟ وهل هناك سياسات ((( محمد طه بدوي وليلى أمين مرسي ،أصول علم العالقات الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص 16ـ .17 110
خارجية ثابتة تب ًعا لثبات تلك الطباع؟ فيما إذا سلمنا بأن لألمم والشعوب طباع ُا ثابتة(((.
ّ أن تحديد طباع األمم مسالة في حد ذاتها موضوع خالف من حيث الميدان المعرفي المعني بتحديد هذه الطباع فيما إذا كان علم النفس أو علم األنثربولوجيا أو عن طريق المالحظة الشخصية التجاهات وسلوك الجماعات القومية ،ومن حيث موضوعيتها في ظل غياب الضمانات في ّ أن الذي يصدر أحكا ًما على طباع األمم التي ال ينتمي إليها ال يتأثر في أحكامه بطباع قومه! ،بالرغم من ذلك فإن هناك مجموعة من الخصائص يكاد يجمع عليها الباحثون والمالحظون بالنسبة للكثير من الشعوب ،فالفرنسيون ً مثل يتسمون بالنزعة الفردية والروح االستقاللية ،واإلنجليز محافظون بطبعهم بعيدون عن االنفعال العقلي وميالون لالحتكام للتجربة ،بينما األلمان معروفون باإليمان بالزعامات والخضوع للسلطة((( ،وفي التراث العربي يع ّبر كتاب عمرو بن العاص إلى الخليفة عمر بن الخطاب بعد ّ أن أتم فتح مصر يصف فيه أرض مصر وأهلها بأن «ماءها عذب وأرضها خصب ونسائها ُل ُعب ورجالها ت ّب ٌع لمن غلب» عن بعض من طباع أهل مصر في تلك الفترة. استند عدد من الباحثين والمفكرين على مجموعة الدوافع
((( المرجع نفسه ،ص.138 ((( محمد طه بدوي وليلى أمين مرسي ،أصول علم العالقات الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.140 111
السلوكية لإلنسان لإلقرار بوجود خصائص سلوكية لألفراد وبالتالي طباع لألمم من شأنها ّ أن تؤ ّثر في عالقة هذه الجماعات (األمم)
بالجماعات األخرى سوا ًء كانت هذه الدوافع في صورة غريزة داخل
اإلنسان أو في صورة عوامل نفسية يكتسبها اإلنسان عبر مراحل حياته. ميكافللي يرجع أسباب الصراع بين الجماعات البشرية للطبيعة
األنانية للبشر ،فاإلنسان شرير بطبعه ـ حسب اعتقاده ـ وهو يجنح
للتعبير عن هذه الطبيعة الشريرة كلما سنحت له الفرصة لتظهر أنانيته التي تدفعه إلى السعي الدؤوب لالستحواذ على المزيد ،وهو ما
يؤدي إلى الصراع.
أما فرويد فيرجع أسباب الصراع بين البشر إلى الغريزة العدوانية
داخل اإلنسان ،والتي تظل كامنة في داخل اإلنسان بانتظار استفزازها شأنه في ذلك شأن الحيوان فتتحرك تلك الغريزة تلقائ ًيا كلما سنحت لها الفرصة ،ومن ثم فإن الصراعات والحروب تم ّثل ظرو ًفا وفرصة مناسبة إلظهار تلك الغرائز والدوافع ،ويعتبر فرويد ّ أن تفنن اإلنسان
في صناعة األسلحة لقتل أفراد جنسه دليل على الطبيعة العدوانية
لإلنسان(((.
في المقابل يرى فولبرايت((( ّ أن المنازعات والحروب بين
الدول ال تستند إلى الطموحات االقتصادية أو العوامل التاريخية أو
((( إسماعيل صبري مقلد ،العالقات السياسية الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.225 ((( رئيس لجنة العالقات الخارجية بمجلس الشيوخ األمريكي ساب ًقا. 112
محصلة دوافع مع ّينة تستند إلى اآلمال توازن القوى بقدر ما تع ّبر عن ّ والمخاوف العادية للعقل البشري ،وهو ما أطلق عليه فولبرايت نوعا من الخلط القوة» ،فالدولة القوية عاد ًة ما تعيش ً «غطرسة ّ بين قوتها وفضائلها ،وتميل إلى االعتقاد بأنها مختارة من العناية اإللهية لنشر الفضائل والخير والحضارة التي تتمتّع بها إلسباغها على المجتمعات األخرى ،بما ّ دائما يغذي اإلحساس لديها بأنها ً يتجسد فيها فقدان الثقة األفضل واألقوى من باقي الدول في صورة ّ القوة العظيمة بالقوة الالمحدودة والمسؤولية بالنفس من خالل خلط ّ الكبيرة بالمسؤولية الك ّلية ،وعدم االعتراف بارتكاب األخطاء والسعي لكسب كل الجوالت مهما كانت تافهة(((.
إال ّ أن االعتماد على العوامل السلوكية كمحدّ دات للطباع القومية لألمم أمر يحظى بقليل من المصداقية والثقة ،ألن التفاعل بين الجماعات البشرية في شكل صراع أو تعاون يخضع لجملة من العوامل االجتماعية والبيئية المختلفة والمتباينة التأثير ،ربما يكون تأثير العوامل النفسية من بينها ضئيل جدً ا ّ أن لم يكن معدو ًما أحيانًا، كما ّ أن استنتاج السلوك البشري من السلوك الحيواني ـ كما يرى فرويد ـ أمر مشكوك في صحته ،وكذلك استنتاج السلوك الجماعي من السلوك الفردي ،باإلضافة إلى ّ أن الدوام النسبي للخصائص البشرية واستمراريتها كطباع لألمم أمر مست ّبعد انطال ًقا من ّ أن هذه الخصائص يصح الكالم عن استمرارها باستمرار الجنس، ليست بيولوج ّية حتى ّ ((( جمال سالمة ،أصول العلوم السياسية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.274 113
فالبيئة والطبيعة والثقافة والحضارة هي مصادر اكتساب هذه الطباع، وطباع األمس ليست بالضرورة طباع اليوم ألي أمة أو شعب من الشعوب ،وبالتالي فإن السلوك الخارجي للدول هو عملية في غاية التعقيد بعيدة تما ًما عن ّ أن تكون مجرد أثر مباشر للطباع القومية. ب) طبيعة النظام ال�سيا�سي ودور القيادة ال�سيا�سية
يع ّبر مفهوم «النظام السياسي» بالمعنى الواسع له عن مجموعة العالقات ذات الطابع السياسي والقيم والنظم والقواعد التي تحدّ د وتحكم هذه العالقات والتفاعالت في نطاق المجتمع السياسي، بينما يعبر مفهوم «نظام الحكم» عن أداة صنع القرار السياسي داخل المجتمع من حيث طبيعة السلطة السياسية وهياكلها ومؤسساتها.
وكما تختلف وتتباين أنظمة الحكم في المجتمعات المختلفة تتباين وتختلف أنظمتها السياسية ،وال يرى الباحث ّ أن هناك حاجة للتطرق إلى أشكال النظم السياسية ونظم الحكم وأنواعها للوصول ّ إلى أي من هذه األشكال واألنواع يم ّثل معطى إيجاب ًيا من معطيات قوة الدولة ـ فال شك ّ أن لكل نوع وشكل منها جوانب سلبية وأخرى إيجابية ـ لكنّه سيعالج الموضوع من زاوية أخرى للوصول إلى النموذج األمثل للنظام السياسي والذي كلما اقتربت المجتمعات القوة المطلوبة في السياسية منه كلما كانت أوفر ح ًظا في تأمين ّ المجال الدولي من خالل قوة النظام السياسي كمعطى من معطيات قوة الدولة. 114
ترتبط ـ المعالجة ـ بموضوع التخلف والتنمية في األنظمة السياسية ،فدرجة التنمية السياسية هي المعيار الذي يمكن ّ أن يحدّ د
درجة االقتراب من الصورة المثلى للقوة المرتبطة بقوة النظام السياسي ،بافتراض ّ أن أكثر األنظمة السياسية قوة هي تلك التي تقع في المراتب العليا من سلم التنمية السياسية. يحدد لوسيان باي عد ًدا من األزمات للحكم على النظام السياسي ّ فيما إذا كان نام ًيا سياس ًيا أو متخل ًفا بالقدر الذي تغيب فيه هذه األزمات قادرا على تجاوزها فيما إذا عرضت له في تاريخه. أو يكون ً
من بين هذه األزمات أزمة الهوية :فالنظام السياسي القادر على المكونة للمجتمع خلق الوالء له لدى كل األفراد والجماعات ّ الهوية القومية الواحدة للجماعة السياسي ،أي القادر على خلق ّ اإلنسانية بما يؤكد تألفها وتماسكها وإيمانها بخياراتها السياسية هوية واالقتصادية واالجتماعية هو النظام السياسي الذي ال يعاني أزمة ّ وبالتالي ال مجال فيه للنزعات االستقاللية والصراعات الداخلية، كذلك أزمة الشرعية التي تنشأ ارتبا ًطا يجري قدرة النظام السياسي على إقرار سلطة ومسؤولية حكومية مركزية وحيدة تحتكر االستعمال المشروع للقوة. من بين هذه األزمات كذلك ما يسمى أزمة المشاركة السياسية: فكلما كان النظام السياسي مع ّب ًرا عن درجة عالية من المشاركة السياسية في صنع القرار السياسي الذي يع ّبر عن تطلعات الجماعة السياسية وأهدافها وتحدّ د مصيرها على مستوى السياسات الداخلية 115
والخارجية كلما كان ذلك مفض ًيا إلى قوة النظام السياسي ،وذلك بغض النظر عن آليات عمل نظام المشاركة السياسية من خالل أحزاب سياسية أو جماعات مصلحية أو رأي عام أو أي شكل وأسلوب من شأنه ّ أن يفضي في النهاية إلى درجة عالية من المشاركة السياسية أو يفضي حتى إلى غياب المشاركة السياسية ومحدوديتها في ظل غياب الطلب عليها ً أصل أو الرضى والقبول بمحدوديتها (حتى ال تستبعد في هذا التحليل الواقع التاريخي لعدد من األنظمة السياسية لم تكن تعاني أزمة مشاركة سياسية في ظل أنظمة حكم لم تكن ديمقراطية بالمعنى المعروف حدي ًثا للديمقراطية).
األزمة األخرى من األزمات التي تم ّثل خصائص األنظمة السياسية المتخلفة هي أزمة التوزيع ،فلكل مجتمع سياسي بالضرورة ثروة اقتصادية ناتجة عن النشاط االقتصادي ألفراده والمرتبط بالمقدرات االقتصادية لإلقليم وطبيعة النظام السياسي وما يتبعه من نظام اقتصادي والمعنى باإلجابة على السؤال المتع ّلق بالثروة االقتصادية والمتم ّثل في (من يتحصل على ماذا وكيف؟) وبقدر اإلجابة العادلة والمقنعة التي يحققها النظام السياسي على هذا السؤال بقدر ما يكون بعيدً ا عن أزمة التوزيع وبالتالي تتح ّقق التنمية السياسية في أحد جوانبها وتنعكس على قوة النظام السياسي. والنوعين اآلخرين من هذه األزمات هما أزمتي االختراق واالندماج والمتعلقتين بمدى قدرة النظام السياسي على بناء األجهزة والهياكل والمؤسسات التي تمكّن من أداء كافة الوظائف 116
السياسية بفعالية عالية ،سوا ًء ما يتع ّلق منها بمدخالت أو مخرجات
النظام السياسي ،وكذلك تتعلق أزمة االندماج بصعوبات إدماج
النشاط السياسي للجماهير في حلقات وظيفية قادرة على إعطاء ً متالئما مع متطلبات استمرارية وتوجها شكل المطالب المحددة ً ً
النظام السياسي(((.
ّ أن أي نظام سياسي ال يعاني هذه األزمات هو النظام السياسي المح ّقق لتنمية سياسيه بصورة مثالية. بيد ّ أن هذه الصورة المثالية ليست هي الواقع السياسي لألنظمة
السياسية ،فأي من النظم السياسية (واقع ًيا) يعاني من واحدة أو أكثر
من هذه األزمات على األقل وبدرجات متفاوتة ،مما يعني تباينًا في
مواقعها في مراتب التنمية السياسية قر ًبا أو بعدً ا عن الصورة المثالية
القوة السياسية المرتبطة للتنمية السياسية ،وبالتالي تباينها في اكتساب ّ بقوة النظام السياسي كعامل من عوامل قوة الدولة في المجال الدولي.
وفي الجانب المتع ّلق بدور أنظمة الحكم والقيادات السياسية في
إكساب الدولة قوة داخلية تنعكس على قوتها في المجال الدولي،
يمكن االنطالق من مفهوم المصلحة القومية للمجتمعات السياسية
معيارا ثابتًا أو متغ ّي ًرا بتغ ّير نظم الحكم والقيادات في اعتبار مضمونها ً السياسيةّ : أن (التراث القومي) للوحدة السياسية بما يكسب النظام ((( بيرترأندبادي ،التنمية السياسية ترجمة محمد نوري المهدوي( ،طرابلس :تالة للطباعة والنشر ،)2001 ،ص 64ـ .65 117
السياسي من قيم سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وأيديولوجية وموج ًها للمصلحة القومية من خالل إطارا عا ًما محدّ ًدا ّ غال ًبا ما كان ً تصور النظام السياسي للعالم الخارجي وموقفه من هذا العالم ،ويكون ّ ووضوحا في األنظمة هذا اإلطار العام للمصلحة القومية أكثر تحديدً ا ً السياسية ذات البعد األيديولوجي ،وفي نطاق هذا اإلطار العام تكون هناك مساحة للحركة ألنظمة الحكم والقيادات السياسية في وضع تفاصيل وأولويات وسياسات تحقيق المصلحة القومية ،وكلما كانت ً رسوخا وإحكا ًما داخل مجموعة القيم المرتبطة بالنظام السياسي أكثر المجتمع السياسي كلما ضاقت مساحة الحركة أمام أنظمة الحكم والقيادات السياسية في رسم السياسيات المع ّبرة عن المصلحة القومية وتنفيذها ،لذلك ففي األنظمة السياسية ذات األبعاد األيديولوجية يكون مفهوم المصلحة القومية أكثر ثباتًا وتحديدً ا ،مما يملي على أنظمة الحكم والقيادات السياسية بها سياسات وآليات عمل في البيئة تصور محدّ د ومسبق لهذه البيئة ال يكون فيه في الدولية من خالل ّ الغالب دور كبير ألنظمة الحكم والقيادات السياسية بالمقارنة مع وحدات دولية أخرى يظهر فيها بوضوح دور أنظمة الحكم والقيادات السياسية في عملية التصور للعالم الخارجي والموقف منه(((. ويرى بعض الباحثين أنه كلما كانت أنظمة الحكم أنظمة مطلقة كلما تمتّعت بمرونة أكبر في التكتيك لرسم أهداف السياسة الخارجية ووسائل تحقيقها بالنظر إلى أنها ال تخضع لقيود دستورية حقيقية
((( عبد الواحد الناصر ،العالقات الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.104 118
وال إلى ضغوط فعلية من جانب المحكومين ،وفي المقابل فإن
األنظمة العقائدية (اإليديولوجية) في الوقت الذي تحدّ د فيه االتجاه العام لسياساتها الخارجية فإنها تمنح قيادتها وأنظمتها الحاكمة ً مجال أكبر في التكتيك والتحرك السياسي لتحقيق أهداف السياسة الخارجية
بالمقارنة مع األنظمة البرلمانية النيابية المق ّيدة عادة بمسؤوليات
والمعرضة للتسلط (الديمقراطي) عليها سياسية محدّ دة دستور ًيا ّ
من خالل المعارضة وسلطة الرأي العام(((.
ّ أن الدور المرتبط بالقيادة السياسية باعتبارها األداة الم ّعنية باختيار
الوسائل التي من شأنها خدمة أهداف السياسة الخارجية في نطاق األداتين المتكاملتين للسياسة الخارجية (اإلستراتيجية والدبلوماسية) يشير إلى ّ أن نظام الحكم وقيادته السياسية هي (اآللة) المعنية بصهر
القوة المتاحة للوحدة السياسية في بوتقة واحدة لتوجيهها كافة عوامل ّ
نحو المصلحة القومية من أقرب طريق وبأقل التكاليف والتضحيات
في ضوء التقدير الصائب لما تؤهله لها قوة الدولة من وضع في سلم
القوة الدولي ،والتقدير واإلدراك الصائب كذلك لحقيقة قوة الطرف ّ
اآلخر أو األطراف األخرى التي تتعامل معها في كل موقف من
المواقف التي تعرض لها في البيئة الدولية(((.
((( محمد طه بدوي وليلى أمين مرسي ،أصول علم العالقات الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.147 ((( محمد طه بدوي وآخرون ،مقدمة إلى العالقات السياسية الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.148 119
ّ أن جهاز الدولة السياسي بمكوناته الرئيسية الثالث [المؤسسات، ً النظم والقواعد ،األفراد] يشكّل ً متكامل في التعبير عن الفعالية كل وبالتالي عن قوة الدولة ارتبا ًطا بمستويات الكفاءة والخبرة والبيروقراطية ،باإلضافة إلى المهارة والفطنة والتجربة التي يتمتّع بها وخاصة في المستويات العليا األفراد في كافة مستويات هذا الجهاز، ّ منه ،حيث صنّاع القرار المباشرين من زعماء وقادة ورؤساء بالدرجة األولى وكبار رجال الدولة من وزراء ومستشارين وما شابههما فكثيرا ما تنعكس اإلمكانيات الشخصية للقادة بالدرجة الثانية، ً وكثيرا ما كانت والزعماء على فعالية الجهاز السياسي في الدولة، ً أدوارا محددة وواضحة في رسم لشخصية الزعيم أو القائد السياسي ً السياسات ووضع وسائل وأساليب تحقيق األهداف في السياسة الخارجية ،والتاريخ المعاصر مليء بالشواهد الكثيرة على زعماء سياسيين غ ّيروا مجرى التاريخ السياسي لبلدانهم على الصعيد الدولي واستطاعوا ّ أن يبرمجوا المصالح القومية لدولهم في سياسات خارجية قوية استنا ًدا على ما يتمتعون به من إمكانيات شخصية. بدت ّ جـ) م�ستوى التقدم التقني والعلمي
ينعكس مستوى التقدم التقني والعلمي في أي دولة بشكل مباشر على فعالية الكم البشري (السكان) وعلى فعالية العوامل االقتصادية وضوحا برغم ّ أن كافة عوامل قوة الدولة تتأثر بشكل كبير بشكل أكثر ً بمستويات التقدم التقني والعلمي الذي تشهده الدولة ،وكلما ارتقت 120
الوحدة السياسية في األخذ بأسباب العلم والتقنية كلما مكّنها ذلك من توظيف إمكانياتها المختلفة أحسن توظيف.
باإلشارة إلى ما تم عرضه بخصوص تأثير المستوى العلمي القوة األخرى والتقني في قوة الدولة السياسية عند تناول عوامل ّ ودرجة ارتباطها وتأثرها بمستويات العلم والتقنية في ثنايا هذا المبحث ،فإن الباحث يكتفي بذلك مع التأكيد على ّ أن مستوى مقومات قوة الدولة يكتسب أهم ّية التقدم التقني والعلمي كمقوم من ّ ّ ومؤثرا في فعالية أي من العوامل األخرى ،لذلك في كونه محدّ ًدا ً معيارا لقياس قوة الدولة من خالل انعكاسه على مستوى كثيرا ما اتخذ ً ً المعيشة والرفاه االجتماعي ومستويات التعليم ،والدور الذي تلعبه المؤسسات العلمية والثقافية واإلعالمية في رفع مستوى الوعي كثيرا في تجاوز السلبيات المتع ّلقة االجتماعي والسياسي ّ المعول عليه ً القوة األخرى ،فقد أمكن لمجتمعات سياسية كثيرة تجاوز بعوامل ّ السلبيات المتعلقة بفقدان التجانس العرقي والقومي في نطاقها ـ ً مثل ـ اعتما ًدا على مستوى عال من الثقافة والعلم وبالتالي مستوى عال من الوعي بالمصلحة العليا للجماعة السياسية.
121
()3 نظريات ونماذج تحليل العالقات الدولية القوة من خالل مفهوم ّ يختار الباحث عد ًدا من النظريات والنماذج النظرية التي تناولت تحليل العالقات الدولية في إطار النظرية العامة للعالقات الدولية القوة كمفهوم اعتما ًدا على ارتباط هذه النظريات والنماذج بمفهوم ّ أساسي ينطلق منه التحليل للكشف عن خصائص النشاطات السياسية الدولية ،كما يجمع بين هذه النظريات والنماذج استخدام أصحابها لمفهوم (النسق) كأداة تحليل ذهنية لتحليل الواقع الدولي ،مع ربط هذا المفهوم (النسق) بشكل أساسي بحالة االتزان التي تع ّبر عن عالقات مجموعة من القوى (الدول) في مجال دولي مع ّين ،باعتبار ّ أن االتزان في االنساق الدولية هو جوهرها المع ّبر عن طبيعتها كصورة منتظمة للعالقات الدولية تظل قائمة طالما لم تصل هذه العالقات إلى حالة الفوضى التامة أو حالة الحكومة العالمية(((. ((( محمد طه بدوي وليلى أمين مرسي ،أصول علم العالقات الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.165 123
القوة ،ويع ّبر هذا المفهوم توصف حالة االتزان عاد ًة بميزان ّ القوة) عن دالالت ومعاني مختلفة ـ كما سبق اإلشارة ـ يتع ّلق (ميزان ّ تفسيرا موضوع ًيا، بعضها بالواقع السياسي عند التعامل معه بتفسيره ً ويتع ّلق بعضها اآلخر بالفلسفة السياسية معن ًّيا بتحليل عالم السياسة الدولي في إطار ما يجب ّ أن يكون ،ويشير ذلك إلى اتجاهين في التحليل :اتجاه موضوعي للتحليل الواقعي في إطار ما هو كائن بالفعل ،واتجاه فلسفي للتحليل النمطي للعالقات الدولية في إطار ما يجب ّ أن يكون(((.
يتناول الباحث كل من نظرية هانزمارجنثاو ونظرية ريمون آرون القوة كنوع من نظريات االتزان التلقائي المع ّبرة عن مفهوم ميزان ّ بمدلوله العلمي (الموضوعي) وكل من النموذج النظري لكابالن والنموذج النظري لكارل دويتش كنوع من النظريات المع ّبرة عن القوة من خالل مدلوله النمطي. مفهوم ميزان ّ � ً أول :نظرية هانز مورجانثاو
القوة في مدلوله الموضوعي يعني (ما عليه عالقات مفهوم ميزان ّ القوى الدولية من اتزان يتح ّقق تلقائ ًيا بعامل قانون الفعل ورد الفعل، أي ّ أن االتزان يتح ّقق تلقائ ًيا للنسق الدولي بمنأى عن ضمائر الدول الداخلية فيه ،من خالل انتظام ذاتي في توزيع القوى بما يؤكّد استمرار ((( عادل فتحي ثابت ،النظرية السياسية المعاصرة( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.283 124
النسق ،وهو بذلك يكون على شاكلة االتزان والتعادل التلقائي الذي يقع داخل الكائن الحي وفي الطبيعة)(((.
تستند نظرية مورجانثاو على عدد من الخطوط الرئيسية في تحليل واقع السياسة الدولية ،ويلتقي في ذلك مع ريمون آرون القوة كواقع مستهدف بالتفسير ومع آخرين ممن تعاملوا مع ميزان ّ الموضوعي(((. وتتم ّثل هذه الخطوط الرئيسية في:
1ـ النظر إلى عالم العالقات الدولية باعتباره عالم عالقات القوى التي تعمل في غياب سلطة عليا إلزامية وتتفاعل مع بعضها البعض بموجب قانون الفعل ورد الفعل بما يهيئ التزانها ميكانيك ًيا.
2ـ التعامل مع مفهوم النسق الدولي الستخدامه في تصوير الواقع الدولي متى تو ّفر في هذا الواقع شرطان أساسيان: القوة على رأسها أ ) وجود مجموعة من القوى المتدرجة في ّ عدد صغير من القوى القطبية.
ب) ّ أن االتزان يتح ّقق في مجموعة القوى باتزان قواها القطبية. ((( محمد طه بدوي [وآخرون] ،مقدمة إلى العالقات الدولية( ،مرجع سبق ذكره)، ص.263 ((( عادل فتحي ثابت ،النظرية السياسية المعاصرة( ،مرجع سبق ذكره) ،ص 285إلى ص.291 125
1ـ ّ أن ظاهرة الصراع الدولي هي نتاج حتمي لطبيعة البيئة الدولية التي تتم ّيز بتعدّ د القوى وبالتالي تعدّ د مراكز اتخاذ القرار اإللزامي ،وإن الحرب هي المظهر األساسي لهذا الصراع باعتبارها الملجأ األخير لغرض اإلرادة ،ومن ثم يكون هذا القوة هي الدافع القوة وتكون ّ الصراع هو صراع من أجل ّ من وراء النشاطات السياسية الدولية بصفة عامة والصراع بصفة خاصة.
2ـ ّ أن هناك إمكانية لتقدير قوة الدول على أساس كمي.
أودع مورجانثاو نظريته التي أراد بها تفسير واقع عالم السياسة الدولي في كتابه (السياسة بين األمم ) Politics amang Natiains الذي نشر في عام ،1948مستخد ًما المنهج العلمي التجريبي ومرتب ًطا (القوة) كمفهوم أساسي لتحليل عالم السياسة الدولي ،مضي ًفا بمفهوم ّ بعدً ا سلوك ًيا على تحليله ،وبذلك يكون من الرواد الذين وضعوا الدعائم األساسية لعلم العالقات الدولية كعلم مم ّيز(((.
انطلق مورجانثاو من التأمل في تجربة الحربين العالميتين ،مع محاولته ّ أن يكون بمثابة (الواعظ) للسياسة الخارجية األمريكية كواحدة من القوى العظمى التي يقع عليها مسؤولية إرساء سالم عالمي في عالم يقوم على توازن القوى بين محورين عظيمين ،ولكن ليس على طريقة الليبراليين الطوباويين الذين يرون أنه من الممكن ((( المرجع نفسه ،ص.296 126
بلوغ نظام سياسي عالمي يقوم على األخالق والعقل ،بل استنا ًدا على ّ أن العالم ال يتسم بالكمال ،وأن ثمة جملة من العوامل الظاهرة والباطنة في الطبيعة اإلنسانية تجعل العالم غير كامل ،وأن الخالص يأتي من خالل إدراك وتحليل وتفسير وفهم هذه العوامل ،بالتعامل معها وليس بالوقوف في وجهها(((.
يعرض مورجانثاو عد ًدا من العوامل التي تعطي للسياسة الدولية حقيقتها (واقعيتها) لتم ّثل اإلطار الفكري العام لنظريته في العالقات الدولية على النحو التالي: للتكهن بأن السلوك السياسي يتّبع العقل 1ـ هناك إمكانية ّ والمنطق ،ألن السياسة تحكمها قوانين موضوعية يمكن من خاللها الت ّثبت والتأكّد من عقالنية السلوك السياسي. 2ـ المصلحة هي المفهوم األساسي لفهم السياسة الدولية، القوة ،وفي نطاق المصلحة المرتبطة والمصلحة تُفهم بدالة ّ بالقوة يقع جوهر كل سياسة خارجية للدولة.
القوة ،وفي حين ّ القوة تتغ ّير أن ّ 3ـ السياسة هي صراع من أجل ّ مع الزمان والمكان فإن المصلحة تبقى مفهو ًما متماسكًا.
4ـ المبادئ األخالقية قد تؤ ّثر في األفعال والسلوكيات ،لكنها وكثيرا ما تتخذ ليست محدّ ًدا للسلوك السياسي للدولة، ً ((( كاظم هاشم نعمة ،نظرية العالقات الدولية( ،طرابلس :أكاديمية الدراسات العليا، ،)1999ص.54 127
المبادئ األخالقية كستار وواجهة لتبرير األفعال ،فيما تبقى المصلحة هي المعيار المحدّ د للفعل السياسي والموجه له(((.
القوة كمفهوم يحدد سلوك الدول في المجال الدولي انطال ًقا من ّ يشير مارجنثاو إلى ثالثة نماذج من السياسات الدولية التي تستوعب وتوضح كافة نماذج السلوك الدولي: ّ أ ) قد تنتهج الدولة سياسة تستهدف الحفاظ على الوضع القائم، بأن تعمل على إبقاء توزيع القوى على ما هو عليه ،وخاصة تحول جذري في توزيع فيما يتع ّلق بالتغ ّير الذي يؤدي إلى ّ القوى على المستوى الدولي.
توسعية تستهدف قلب الوضع القائم ب) قد تنتهج الدولة سياسة ّ بالعمل على إحداث تغير في توزيع القوى في النسق الدولي وتتجسد هذه السياسة القائم بما يتفق مع مصلحتها الوطنية، ّ في محاولة تحقيق تفوق محلي أو إقامة إمبراطورية قارية أو هيمنة عالية ،وفي حالة نجاح هذه السياسة تتمكّن الدولة القوة في مقابل ضعف قوة أطراف من اكتساب المزيد من ّ دولية أخرى.
جـ) قد تسعى الدولة إلى تحقيق النفوذ والمكانة الدولية ،بحيث القوة تستهدف الدولة التأثير على الدول األخرى من خالل ّ التي تمتلكها ،أو تعتقد أنها تمتلكها ،أو يعتقد اآلخرون بأنها ((( كاظم هاشم نعمة ،نظرية العالقات الدولية( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.54 128
تمتلكها ،وبما يؤدي إلى دفع الدول األخرى لالستجابة ألهدافها ومصلحتها الوطنية باستخدام وسائل تتراوح بين الدبلوماسية الرسمية والتلويح باستعمال العنف(((.
حصر مورجانثاو العوامل التي تمنح الدولة موقعها في سلم القوى في المجال الدولي في عدد من العوامل المادية واالجتماعية التي تفضي إلى حجم مع ّين لقوة الدولة يحدّ د إمكانياتها في التأثير على سلوك الدول األخرى ،والتي تتم ّثل في( :المجال الجغرافي، الموارد الطبيعية ،القدرة الصناعية ،االستعداد العسكري ،السكان، الخصائص القومية والروح المعنوية)(((.
«القوة»« ،المصلحة»« ،الصراع» اعتمد مورجانثاو على مفاهيم ّ كأدوات ذهنية في بناء نظريته في العالقات الدولية ،فالصراع ـ القوة والتي يحرك اإلنسان دو ًما من أجل ّ عنده ـ دافع غريزي ّ هي ظاهرة بشرية خالدة في الزمان والمكان ،والواقع السياسي القوة، في بعديه (المحلي والدولي) هو واقع الصراع من أجل ّ القوة هي الهدف المباشر لهذا الصراع وهي في بحيث تصبح ّ ذات القوت وسيلته ،والمصلحة الوطنية ـ كما يراها مورجانثاو ـ قانونًا تخضع له عالقات الوقت في المجتمع الدولي ،فالقوة هي روح الدولة التي يتحقق بها االستقرار واالستمرار ،والمصلحة ((( جيمس دورتي وروبرت بالتسغراف ،النظريات المتضاربة في العالقات الدولية، ترجمة :وليد عبد الحي (عمان :مركز أحمد ياسين ،بدون تاريخ) ،ص.ص.72 ،71 ((( عادل فتحي ثابت ،النظرية السياسية المعاصرة( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.298 129
القوة وإنماءها ،ومن ثم فإن الوطنية تتجسد في الحفاظ على ّ ّ المصلحة والقوة مترادفان متالزمان بما يجعل فكرة المصلحة القوة. الوطنية مرتبطة تما ًما بسياسة ّ
ورغم ّ أن مورجانثاو اعتمد على مفهومي المصلحة والقوة في بناء نظريته إال أنه اعترف بأنهما مفهومان غير مستقرين ،لذلك أكّد ـ فيما بعد ـ على الصورة القصوى للمصلحة الوطنية المتمث ّلة في الحفاظ وتصورات على البقاء القومي بما يجعلها تتجاوز اإليديولوجيات ّ تبريرا للسياسات العدوانية القادة ،حتى ال تكون المصلحة الوطنية ً التوسعية بما يزيد من تفاقم ظاهرة الصراع الدولي في إطار سعي ّ الدول لتحقيق مصلحتها الوطنية (غير الحيوية) أي تلك التي ال ترتبط بمسألة الحفاظ على البقاء القومي(((. ثان ًيا :نظرية ريمون �آرون
ترتكز أفكار المفكّر الفرنسي ريمون آرون الذي عاش خالل ٍ أبعاد الفترة من 1904إلى 1983في دراسته للواقع الدولي على أربع أساسية :البعد النظري ،البعد السوسيولوجي (االجتماعي) ،البعد التاريخي ،البعد التطبيقي. يتعلق البعد النظري بعملية تنظيم المعلومات واختيار المشكالت والمتغ ّيرات ويعتمد على مجموعة من المفاهيم في تصوير وتطوير
((( المرجع نفسه ،ص.302 130
افتراضاته النظرية من بينها مفاهيم :اإلستراتيجية ،الدبلوماسية، القوة ،التوازن ،نظم القطبية الثنائية والقطبية المتعدّ دة ،والنظم طبيعة ّ المتجانسة وغير المتجانسة.
ّ مفص ًل لجوهر الظاهرة أن النظرية ـ من وجهة نظره ـ تقدم ً عرضا ّ والعوامل المؤثرة التي يسعى الباحث من خاللها إلى تحديد أسباب والتعرف على السبب الرئيسي من بينها. الظاهرة ّ وفي إطار البعد السوسيولوجي (االجتماعي) اهتم ريمون آرون بالعوامل الرئيسية التي تقف وراء السلوك السياسي الدولي منطل ًقا من
المشكالت المتعلقة باإلقليم والسكان والمصادر الطبيعية وجذور الحروب ،باإلضافة إلى المشكالت المتع ّلقة بما أطلق عليه «األمة والمدن ّية واإلنسانية» كتراكيب اجتماعية تؤ ّثر على السلوك في المستوى الدولي.
ومن خالل البعد التاريخي سعى ريمون آرون إلى ّ أن يربط يتصوره وبين النظام الدولي منذ بين نظريته وعلم االجتماع كما ّ عام 1945م.
وفي إطار البعد التطبيقي حاول آرون اشتقاق سلسلة من القواعد للسلوك الدولي من خالل تطبيق إطاره التحليلي على التاريخ المعاصر(((. ((( جيمس دودتي وروبرت بالتسغراف ،النظريات المتضاربة في العالقات الدولية، ترجمة وليد عبيد الحي( ،مرجع سبق ذكره) ،من ص 80إلى ص.90 131
أنطلق ريمون آرون في تحليله لعالم السياسة الدولي من البحث عن مفهوم أساس يرتبط بطبيعة البيئة الدولية التي تتسم بتعدّ د مراكز اتخاذ القرار النهائي في غياب حكم أعلى ،مما يعطي الحق لكل عضو فيها في االلتجاء إلى العنف ،ومع اعترافه بأن الصراع المميزة للبيئة الدولية وأن أداة الصراع ووسيلته هي هو الطبيعة ّ «القوة» كمفهوم أساسي ينطلق منه في تحليل القوة ،إال أنه رفض ّ ّ الواقع الدولي لما في هذا المفهوم من ميوعة ـ كما يرى ،-لذلك راح يبحث عن مفهوم أساس ينبع من طبيعة البيئة الدولية التي ترتكز إلى ظاهرة تعدّ د مراكز القوى التي تسعى كل منها لتحقيق مصالحها في مواجهة ما عداها من القوى استنا ًدا على قوتها الذاتية وفي ظل االحتكام إلى المصلحة الوطنية كقانون يحكم هذا الصراع الجدلي وينتهي بالعالقات بين القوى إلى إحدى حالتين ،الحرب أو السالم ،فحقيقة عالم السياسة الدولي هي حقيقة واحدة ذات وجهين هما الحرب والسالم ترتسم مالمحها من خالل التعامل والتفاعل بين القوى الدولية في صورة تعامل دبلوماسي أو تفاعل إستراتيجي ليصل ريمون آرون إلى مفهوم «وحدة السياسة الخارجية» بوجهيها اإلستراتيجية والدبلوماسية كمفهوم أساس لتحليل الواقع الدولي. اإلستراتيجية والدبلوماسية كأداتين للسياسة الخارجية كفن للتعامل مع الدول األخرى احتكا ًما للمصالح الوطنية تعني ّ أن اإلستراتيجية فن اإلكراه وتعني الدبلوماسية فن اإلقناع كوسيلتين 132
لهدف واحد هو إخضاع الوحدات السياسية األخرى إلرادة الوحدة السياسية بما يح ّقق مصلحتها الوطنية.
وتجدر اإلشارة إلى ّ مفصل المفاهيم أن الباحث قد تناول بشكل ّ الرئيسية التي اعتمد عليها ريمون آرون في بناء نظريته في وحدة السياسة الخارجية وهي مفاهيم «جدلية الصراع ،اإلستراتيجية، الدبلوماسية» في مكان آخر ـ في إطار إثبات ارتباط نظرية ريمون آرون القوة كمفهوم أساسي برغم رفضه لهذا المفهوم واالستعاضة بمفهوم ّ عنه بمفهوم وحدة السياسة الخارجية كمفهوم أساس. لذا سيكتفي الباحث بما تمت اإلشارة إليه بخصوص هذه المفاهيم الرئيسية الثالثة في نظرية ريمون آرون لينتقل لتناول مجموعة من المفاهيم األخرى التي تضمنتها نظريته على النحو التالي:
«القوة» من خالل ّ أن قوة تعامل ريمون آرون في نظريته مع مفهوم ّ الوحدة السياسية ومركزها بين القوى السياسية األخرى يتحدّ د بالموارد المادية والبشرية التي تخصصها لممارسة السلوك الدبلوماسي أو اإلستراتيجي على الصعيد الدولي في ظل مستوى التوظيف لهذه الموارد وفي ظل األهداف التي ينشدها القادة السياسيون ،كما يؤكد على ّ القوة كغاية في حد ذاتها أن الوحدات السياسية ال تسعى المتالك ّ وإنما كوسيلة لتحقيق بعض األهداف كالسالم أو المجد من أجل التأثير في النظام الدولي(((. ((( المرجع نفسه ،ص.91 133
يخص المفاهيم التي استخدمها ريمون آرون والمتع ّلقة وفيما ّ بالنظم الدولية «االنساق الدولية» فقد م ّيز بين النظم الدولية من حيث طبيعتها إلى «نظم متجانسة» و«نظم غير متجانسة» ،ومن حيث توزيع ليقسمها إلى «نظام متعدد األقطاب» و«نظام القوى بين وحداتها ّ ثنائي القطبية».
ونظما نظما متجانسة ً فمن حيث طبيعة النظم الدولية في كونها ً غير متجانسة فيرى ريمون آرون ّ أن النظام المتجانس هو النظام الذي يحتوي مجموعة من الدول التي تشترك في قيم ومبادئ واحدة ترتكز عليها في كيانها االجتماعي واالقتصادي والسياسي ،وفي النظام المتجانس يحصل االتفاق على األهداف األساسية للنظام وبما يجعل الصراع الذي يحدث داخل هذا النظام ال يستهدف تغيير النظام نفسه ،بينما النظام غير المتجانس الذي يقوم على مجموعة من الدول تنتمي في نظمها الداخلية إلى أيديولوجيات متباينة ومتصادمة ،فإن الصراع يجري على طبيعة النظام الدولي نفسه وليس على أهداف في إطار النظام(((.
ويجسد ريمون آرون النظام المتجانس في نظام القطبية المتعددة ّ الذي شهده الواقع الدولي (األوربي) خالل الفترة من نهاية الحروب يجسد النظام الدينية 1648م وحتى قيام الثورة الفرنسية 1798م ،بينما ّ غير المتجانس في نظام القطبية الثنائية الذي عرفه العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. ((( عادل فتحي ثابت ،النظرية السياسية المعاصرة( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.323 134
ومن حيث توزيع القوى فإن كال النظامين (المتعدد القطبية ويوضح آرون آل ّية التوازن في النظام ثنائي والثنائي) به آل ّية للتوازن، ّ القطبية من خالل القاعدة الرئيسية للتوازن والتي تتم ّثل في ّ أن الدولة التي تتزايد قوتها يجب ّ أن تتو ّقع االنشقاق لبعض حلفائها وانضمامهم للمعسكر اآلخر بهدف تحقيق التوازن ،وفي المقابل فإن القانون العام للتوازن في نظام القطبية المتعدّ دة هو ّ أن هدف األطراف الرئيسية هو الحيلولة دون حصول طرف واحد على عناصر قوة تفوق ما لدى اآلخرين(((.
بالرغم من ّ أن الصراع هو واقع البيئة الدولية كما يقرر ريمون آرون ،إال أنه يرى ّ أن هناك إمكانية لتحقيق السالم من خالل ثالثة أوضاع أو نماذج للعالقات بين القوى الدولية:
ً أول :من خالل «التوازن» بين القوى القطبية من حيث توزيع القوة في كل من النسق أو النظام المتعدد أو النسق الثنائي، ّ ففي النسق المتعدد األقطاب فإن أية قوة قطبية داخل النسق تحاول التفوق على ما عداها من القوى القطبية ،األمر الذي يستدعي رد فعل تلقائي من جانب القوى القطبية القوة التي تحاول التفوق األخرى بوقوفها في وجه تطلعات ّ واإلخالل بالتوازن ،وفي حالة النسق ثنائي القطبية فإن آل ّية التوازن تعمل من خالل سعي كل من القطبين إلى التفوق
((( جيمس دورتي وروبرت بالتسغراف ،النظريات المتضاربة في العالقات الدولية، ترجمة وليد عبد الحي( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.92 135
على اآلخر وفي ذات الوقت وقوفه في وجه سعي الطرف اآلخر للتفوق(((.
ثان ًيا :يمكن ّ أن يتحقق السالم من خالل «الهيمنة» عندما تتمكن إحدى القوى الدولية من الحصول على إمكانية قوة تفوق القوى األخرى وال ينازع تفوقها أي من الوحدات السياسية األخرى ،في حين ال تسعى تلك الوحدات الدولية األخرى إلى تغيير الوضع القائم(((.
ثال ًثا :نموذج «اإلمبراطورية العالمية» حيث تسعى الوحدة الدولية إلى ابتالع الوحدات الدولية األخرى وإلغاء وجودها ككيانات سياسية ذات سيادة ـ كما حاول نابليون ّ أن يفعل في بداية القرن التاسع عشر ـ والسالم الممكن في ظل اإلمبراطورية العالمية يتح ّقق كنتيجة لقيام هذه اإلمبراطورية وليس أثناء فترة السعي لقيامها وتحقيقها، فمن الطبيعي ّ أن تكون تلك الفترة هي األعنف في الصراع والحروب(((.
استند كابالن بدرجة كبيرة على نظرية المباريات وعلى أفكار «كارل دويتش» بشأن نظرية االتصال في بناءه لنموذجه النظري، ((( عادل فتحي ثابت ،النظرية السياسية المعاصرة( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.325 ((( جيمس دورتي وروبرت بالتسغراف ،النظريات المتضاربة ،ترجمة وليد عبد الحي، (مرجع سبق ذكره) ،ص.93 ((( المرجع نفسه ،ص.94 136
كما استند على مفهوم «النسق» المرتبط بالضرورة بمفهومي بتصور ستة أوضاع ممكنة لعالقات القوى «القوة» و«التوازن» ّ ّ في المجال الدولي في ظل حالة التوازن (النمطي) بين هذه القوى في كل وضع من تلك األوضاع بما ينتج ستة أشكال لألنساق الدولية اعتبرها كابالن تتمثل في :نسق توازن القوى، نسق القطبية الثنائية الرخو ،نسق القطبية الثنائية المحكم ،النسق العالمي ،النسق الدولي التصاعدي (الهيراركي) ،نسق الوحدة المعترضة (الفيتو). يرى كابالن ّ أن هناك مجموعة من المتغ ّيرات المترابطة والمتداخلة تحكمها في عملية التفاعل بين التي تتحكّم في كل نسق من خالل ّ وحدات النسق الدولي ،وبالتالي فإن تحليل التأثير المتبادل بين هذه المتغ ّيرات هو أداة الوصول إلى معرفة الكيفية التي يتم بها اتزان القوة بين النسق الدولي واستقراره والتعرف على خصائصه وتوزيع ّ ّ والتعرف على التغ ّيرات التي وحداته ،وكيف ّية تحقيق االتزان داخله ّ تحول النسق من وضع ّية إلى تطرأ على هذا االتزان بما قد يؤدي إلى ّ وضع ّية أخرى(((.
تتم ّثل المتغ ّيرات التي أشار إليها كابالن في خمس مجموعات ((( أساسية هي: ((( المرجع نفسه ،ص.332 ((( جيمس دورتي وروبرت بالتسغراف ،النظريات المتضاربة ،ترجمة وليد عبد الحي، (مرجع سبق ذكره) ،ص.126 137
أ ) المتغ ّيرات الرئيسية :وهي رئيسية ألنها بمثابة قواعد أساسية واجبة التطبيق للحافظ على التوازن داخل النسق.
ب) المتغ ّيرات التحويلية :وهي مدخالت في النسق (النظام) ال تعتبر ضرورية للتوازن داخل النسق ولكن من خاللها يمكن الكشف عن التغ ّير الذي يطرأ على أداء النسق بما قد يؤدي إلى انتقاله إلى شكل آخر من أشكال النسق الدولي. جـ) المتغ ّيرات التصنيفية :وهي المتغ ّيرات المعنية بتبيان الخصائص البنائية (الهيكلية) ألطراف النسق ومن خاللها يتم تصنيف األطراف الفاعلة في النسق إلى قطبية وغير قطبية. د ) متغ ّيرات القدرة :وتتع ّلق بحجم وإمكانيات القوى القطبية القوة المختلفة المتو ّفرة لدى في النسق من حيث عناصر ّ هذه األطراف القطبية وخاصة فيما يتع ّلق بمستويات التسليح والتقدّ م التقني.
هـ) المتغ ّيرات اإلعالمية :وتتم ّثل في مستويات ودرجات االتصال داخل النسق.
التعرف بشيء من التفصيل على األشكال الستة التي ويمكن ّ تصورها كابالن لألنساق الدولية ،مع مالحظة ّ أن شكلين فقط من ّ ً تاريخا وهي (نسق توازن القوى ونسق تلك األشكال قد تحق ّقت القطبية الثنائية الرخو) ،بينما بقية األشكال األربعة األخرى لم تتجاوز 138
كونها أنسا ًقا افتراضية ،يرى كابالن أنها من الممكن ّ أن تتحقق الح ًقا في الواقع الدولي(((. 1ـ ن�سق توازن القوى
ويجسد هذا الشكل من األنساق الدولية توازن القوى األوربي ّ خالل القرن التاسع عشر ،حيث تم ّيز النسق الدولي في تلك الفترة بتعدّ د القوى القطبية التي كانت تسعى بحماية وتحقيق مصالحها في مواجهة بعضها البعض ،وقد كان أسلوب التحالف من أهم أساليب تحقيق االتزان في إطار هذا النسق ،وتتم ّثل مجموعة القواعد األساسية التي تتحكّم في سلوكيات القوى القطبية المتعددة داخل هذا النسق في: أ ) كل طرف يسعى إلى زيادة قدراته مع تقديم (التفاوض) على القوة. (القتال) في إطار الصراع من أجل زيادة ّ ب) على كل طرف (العب) اللجوء إلى القتال ً بدل من تفويت الفرصة لزيادة قدراته. جـ) يتوقف القتال إذا كان سيؤدي إلى إخراج طرف رئيس من (الملعب).
د ) التصدي لكل محاولة فردية أو جماعية (حلف) تستهدف الهيمنة والتسلط على بق ّية األطراف. ((( عادل فتحي ثابت ،النظرية السياسية المعاصرة( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.335 139
هـ) يتم الكبح والتصدي لكل طرف يسعى إلى وجود منظمات فوق قومية.
و ) العمل على إعادة الالعبين الرئيسيين إلى صفوف الالعبين الكبار بعد هزيمتهم ،مع إمكانية إدخال العبين غير رئيسيين كالعبين رئيسيين(((. 2ـ ن�سق القطبية الثنائية الرخو
ويجسده النسق الدولي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ّ بحيث تتوزع القوى على كتلتين كبيرتين مع وجود أطراف دولية (هامة) غير مرتبطة بأي من الكتلتين في شكل وحدات دولية (دول) مثل ،أو في شكل منظمات دولية (األمم المتحدة ً كالهند ً مثل)، ويكتسب هذا النسق رخويته (تهلهله) ارتبا ًطا بطبيعة العضوية في التكتل ،فإذا كانت العضوية صارمة بما يعني ّ أن الدول غير الملتزمة بأي من الكتلتين هي وحدها التي يمكن ّ أن تغ ّير التحالفات من خالل (محكما)، انضمامها إلى أي من الكتلتين ،ويكون بذلك هذا النسق ً أما إذا كان هناك إمكانية أكثر للتنقل بين التحالفات باإلضافة إلى تهلهل التدرج الهيراركي للقوة داخل كل كتلة (أي ّ القوة أن توزيع ّ محكما في تدرجها كقوى كبرى ثم متوسطة داخل الكتلة يكون غير ً رخوا. ثم صغيرة) فإن النسق في هذه الحالة يكون نس ًقا ً ((( جيمس دورتي وروبرت بالتسغراف ،النظريات المتضاربة ،ترجمة ولدي عبد الحي (مرجع سبق ذكره) ،ص.126 140
يخص القواعد األساسية التي تحكم سلوك األطراف في وفيما ّ هذا النسق القطبي الثنائي الرخو فقد وضعها كابالن على النحو التالي:
أ ) كل كتلة تسعى إلى تصفية الكتلة المنافسة عبر سلسلة متدرجة من التكتيكات ،تبدأ ً أول بالتفاوض ثم التقاتل في شكل حرب محدودة ثم اللجوء إلى الحرب الشاملة والكبرى إذا فشلت في التخ ّلص من المنافس. ب) ّ تفضل القوة ّ أن أطراف الكتلة غير المحكمة في تدرجها في ّ التفاوض عن القتال لزيادة قوتها مع عدم استبعاد الحرب كوسيلة لتحقيق األهداف. جـ) الحيلولة دون ّ مركزا مهيمنًا باالستعداد أن تحقق الكتلة المنافسة ً للجوء للحرب حتى ال يتحقق ذلك.
د) أطراف كل كتلة يعملون على إخضاع األطراف العالمية (األمم المتحدة) ألهدافهم الذاتية.
هـ) يتمثل دور األطراف العالمية في العمل على تقليل االحتكاك بين الكتلتين والعمل على توظيف الدول غير المنخرطة في التكتل لمواجهة أي انحراف خطير من أحد أعضاء كتلة مع ّينة.
3ـ ن�سق القطبية الثنائية المحكم
وهو نموذج افتراضي لشكل العالقات الدولية لم يتح ّقق تاريخ ًيا، وهو يتشابه في جوانب كثيرة مع النسق ثنائي القطبية الرخو ،على 141
أساس ّ القوة، أن العالقات داخل كل كتلة تتسم بالتدرج الهراركي في ّ كما ّ أن العضوية في إحدى الكتلتين جامدة حيث ال إمكانية لتغير حجم العضوية مما يشير إلى نوع من التكامل الوظيفي بين األطراف داخل الكتلة الواحدة ،وحيث ال مشاركة من أي كتلة أخرى أو العبين عالميين في التحكّم في مصير عالقات القوى داخل النسق ،ويتحقق التوازن من خالل توازن الكتلتين. أما بالنسبة للقواعد التي تحكم سلوك األطراف الدولية داخل هذا النسق فهي ذاتها القواعد التي تحكم سلوك األطراف في النسق ثنائي القطبية الرخو باستثناء ما يتع ّلق بالقواعد المترتبة على وجود أطراف عالية ،حيث ال إمكانية لوجود هذه األطراف وأداءها ألدوار في إطار النسق ثنائي القطبية المحكم(((. 4ـ الن�سق العالمي
ويمكن ّ أن يتح ّقق هذا النسق االفتراضي ـ حسب رأي كابالن ـ إذا تم اتساع وتدعيم الدور المناطق بالطرف العالمي (األمم المتحدة)، حيث تتح ّقق درجة عالية من االتصال والتكامل بين وحدات النسق تطور وتش ّعب األدوار التي تضطلع بها المنظمة الدولي من خالل ّ الدولية كطرف دولي (عالمي) داخل النسق الثنائي القطبية الرخو مع افتراض ّ أن كافة األطراف الدولية (الالعبين) يستخدمون الطرق السليمة لتحقيق أهدافهم ومصالحهم مع التزامهم بالتق ّيد بالقواعد ((( عادل فتحي ثابت ،النظرية السياسية المعاصرة( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.ص.343 ،342 142
السياسية الرسمية التي تقرها المنظمة الدولية ،ويدور في فلك هذه االفتراضات مجموعة القواعد الرئيسية التي حددها كابالن لتحكم سلوك األطراف الدولية في هذا النسق ومنها: أ ) كل األطراف يجب ّ أن يسعوا إلى زيادة مكافآتهم وقدرتهم على الوصول إلى مرافق النسق «المنظمة الدولية».
ب) كل األطراف يعملون على زيادة الموارد وتفعيل نشاط المنظمة الدولية (جوهر النسق). جـ) عند التعارض بين القاعدة (أ) و(ب) فإن (أ) تخضع ل(ب).
سليما لتحقيق أهدافهم. د ) كل األطراف يسلكون سلوكًا ً
هـ) األفراد الذين يعملون في أجهزة النسق (أجهزة المنظمة الدولية) يتخذون قراراتهم طب ًقا لمصلحة النسق الدولي ككل(((.
5ـ الن�سق الدولي الت�صاعدي (الهيراركي)
ويقوم هذا النسق على أساس وظيفي وليس على أساس سياسي أو إقليمي ،حيث تكون التنظيمات عبر القومية وجماعات الضغط موج ًها هي األطراف األساسية في هذا النسق ،وقد يكون هذا النسق ّ موجه ،بمعنى أنه قد يوجد تحت ظروف النظم السلطوية أو غير ّ ((( جيمس دورتي وروبرت بالتسغراف ،النظريات المتضاربة ،ترجمة وليد عبد الحي، (مرجع سبق ذكره) ،ص.130 143
والدكتاتورية ،أو تحت ظروف المنافسة الحرة بما يتماشى مع قواعد النظم الديمقراطية((( ،ويرى كابالن ّ أن هذا النوع من األنساق الدولية نظرا ألن التقسيم الوظيفي واالعتماد المتبادل يكون أكثرها استقرارا ً ً نظرا في المجاالت الحيوية يجعل من الصعب انسحاب أي طرف منه ً للخسارة الفادحة التي ستلحق به نتيجة النسحابه ،ويتم ّيز هذا النسق بأنه أكثر األنساق الدولية تحقي ًقا لالتصال والتكامل والتضامن(((. 6ـ ن�سق الوحدة المعتر�ضة (الفيتو)
يحدّ د كابالن شر ًطا أساس ًيا واحدً ا لهذا النسق وهو ّ أن يكون لدى كل طرف من األطراف الدولية الداخلة في النسق القدرة على تدمير أي طرف آخر ،مع امتناع كل طرف من األطراف عن القيام بهذا السلوك في ظل خاص ّية الردع المتبادل التي من شأنها تحقيق توازن النسق واستقراره ،لكن كابالن يرى أنه قد يطرأ نوع من التغ ّير يحوله إلى النسق التصاعدي وذلك إذا نجح طرف على هذا النسق ّ في ابتزاز األطراف األخرى بما يؤدي إلى تناقص عدد األطراف الرئيسية في النسق ويهيئ لالعب واحد إمكانية الوصول إلى قمة سلم القوى داخل النسق(((. تم ّثل جهود كابالن المهمة األصعب في مجال البحث السياسي
((( المرجع نفسه ،الصفحة نفسها. ((( المرجع نفسه ،ص.131 ((( عادل فتحي ثابت ،النظرية السياسية المعاصرة( ،مرجع سبق ذكره) ،ص.346 144
مجسدة في «نظم المعني بدراسة الواقع الدولي بواسطة نماذج ّ وعملية» « »Process and Systemsباستخدام المعلومات التاريخية إلجراء مقارنة مع النموذج النظري للنسق ،ثم اختبار مدى االتساق في النماذج من خالل استخدام األدوات الرياضية والحاسوب وبما يؤدي إلى تنظيم المعلومات وإعطاءها دالالت تسهم في بناء نظرية على المستوى الكلي(((. ً ثالثا :النموذج النظري لكارل دويت�ش
(((
اعتمد كارل دويتش في تحليله للعالقات الدولية في نموذجه النظري (نظريته) الذي قدمه من خالل كتابه الذي يحمل عنوان (تحليل العالقات الدولية) على مفهومي «االتصال الدولي» المحصلة و«التكامل الدولي» ،حيث يعتبر التكامل الدولي النتيجة ّ بفعل الجهود المبذولة لتحقيق االتصال بين األطراف الدولية.
يستمد مفهوم االتصال الدولي ـ عند دويتش ـ داللته من مفهوم «االتصال االجتماعي» ،الذي يرى فيه أنه المسؤول عن بلورة الطابع القومي (الشخصية القومية) مما قاد المجتمعات السياسية ((( جيمس دورتي وروبرت بالتسغراف ،النظريات المتضاربة( ،مرجع سبق ذكره)، ص.132 ((( اعتمد الباحث بشكل أساسي على كتاب عادل فتحي ثابت ،النظرية السياسية المعاصرة( ،مرجع سبق ذكره) ،في التعريف بالنموذج النظري لكارل دويتش وبعض االنتقادات التي وجهت إليه في الصفحات من 350إلى .378 145
إلى ظاهرة «الدولة القومية» وذلك من خالل عملية التنشئة االجتماعية والسياسية المرتبطة بنمو واستمرار وتكثيف عملية االتصال بين أفراد المجتمع الواحد ،واستدعى قيام الدولة القومية ظهور المجتمع يخص المتميزة عن المجتمعات المح ّلية فيما الدولي بخاص ّيته ّ ّ غياب السلطة العليا اإللزامية وانتظام العالقات في شكل نسق (نظام) تلعب مسألة التوازن فيه الدور األكبر في الحفاظ عليه واستمراريته، وفي إطار النسق الدولي تحدث التغ ّيرات في القدرات واإلمكانيات دورا ف ّع ًال في واإلستراتيجيات ويلعب هنا االتصال بين الدول ً إحداث نوع من االنسجام في أهداف السياسة الخارجية للدول في إطار السعي نحو تحقيق التكامل الدولي. بدأ دويتش بتوضيح وسائل وأدوات وقنوات االتصال بين الدول والتي أصبحت بفعل (ثورة االتصاالت) أحد أهم أسس اتخاذ القرار في السياسة الخارجية ،وقد حدّ د قنوات االتصال الرئيسية بين األطراف الدولية في اإلعالم والمواصالت والعالقات االقتصادية والدبلوماسية ،ويرى ّ أن االتصال والتفاعل بين الدول هو الذي أ ّطر العالقات الدولية في اتجاهين هما الصراع والتكامل ،حيث يسود الصراع بين الدول عند تعارض القيم والمصالح ويحدث التكامل بفعل ضرورات االعتماد المتبادل ،وهنا يفترض دويتش وجود (تحكم ذاتي) في جهاز اتخاذ القرار في كل دولة يعمل على استبعاد العوامل والمعطيات المؤدية إلى الصراع والناتجة عن تعارض المصالح القوة ،وهذا (التحكم الذاتي) قادر ـ حسب رأي واختالل موازين ّ 146
دويتش ـ على تغيير احتماالت العالقة الدولية في ّ أن تكون صرا ًعا ً تكامل. أو
يتصور دويتش وفي توض ّيحه آلل ّية عمل جهاز (التحكم الذاتي) ّ أن بإمكان الدولة ّ ّ أن تتحكّم في سلوكها الدولي ـ أي في قراراتها في مجال السياسة الخارجية ـ من خالل عملية معالجة للمعلومات المراجعة Feed Backلجهاز اتخاذ القرار الخارجي بما ينسجم مع المصلحة الوطنية ،حيث يكون مصدر المعلومات الراجعة البيئة المتوفرة لدى صانع الدولية والبيئة الوطنية ،وفي ظل الخبرة والمهارة ّ القرار الخارجي وفي ظل فعالية أجهزة االستقبال وقنوات االتصال لهذه المعلمات تتم عملية المراجعة المعنّية بتحديد السلوك الالحق للدولة على ضوء نتائج السلوك السابق ،وتكون هذه العملية (االتصال في ظل التحكم الذاتي) هي السبيل لعدم تصعيد الصراع الدولي، وحين تفشل هذه العملية ويحتّم تعارض المصالح تصاعد الصراع فإن دويتش يرى أنه البد ّ أن تحافظ الدولة على قدر من التحكّم الذاتي مهما كان نوع الصراع للتخفيف من حدّ ة الصراع مع الطرف اآلخر. �أ�شكال ال�صراع عند دويت�ش
يصنف دويتش درجات الصراع إلى ثالثة صور طب ًقا لدرجة ضبط النفس والسيطرة المتبادلة من طرفي الصراع على النحو التالي: ً أول :المناظرات
ويأخذ الصراع صورة التفاوض والجدل بين الطرفين المعنيين 147
في محاولة كل منهما تغيير موقف الخصم تجاه المشكلة المطروحة ،وتلعب مهارات وقدرات المفاوضين من دبلوماسيين مهما في حسم هذا النوع من الصراع لصالح طرف دورا ً أو غيرهم ً وتتجسد المهارات والقدرات التفاوضية في قدرة كل دون اآلخر، ّ طرف على الت ّعرف على و فهم األسس التي عن طريقها يمكن دورا إقناع الطرف اآلخر بوجهة النظر ،وتلعب مسألة الوقت هنا ً مهما ،حيث عاد ًة ما يطول وقت المفاوضات وبمرور الزمن قد ً التصور عند تتغ ّير أهداف ومصالح أطرف النزاع ،ويقوم هذا ّ دويتش على افتراض ضبط النفس والسيطرة الذاتية المتبادلة بين األطراف المتنازعة. ثان ًيا :المباريات
إلى جانب نظرية االتصال يعتمد دويتش في تحليله للعالقات الدولية على نظرية «المباراة» والتي تستند على تشبيه حالة الصراع تتضمن متنافسين الدولي بمباراة في لعبة من األلعاب الرياضية حيث ّ أو أكثر وقواعد للحركة واللعب متعارف أو متفق عليها ،ونتائج للمنافسة ،بحيث يمكن تطبيق نماذج المباريات الرياضية التنافسية على الدبلوماسية والحرب كأداتين لتنفيذ السياسة الخارجية للدولة من خالل أساليب رياضية تعتمد بدرجة كبيرة على ما يعرف بنظرية االحتماالت.
يفترض دويتش ّ أن كل العب (دولة) لديه درجة معقولة من السيطرة الذاتية على تحركاته الالحقة ولديه إمكانية الحتمال (تو ّقع) 148
النتائج المترتبة ألي حركة يختارها ،مع األخذ في االعتبار حركة الخصم المحتملة ،حيث يجب على كل العب ّ أن يحدّ د ماذا يريد؟ وأن يدرك إمكانياته وإمكانيات الخصم وأن يبني حركاته على أساس واقعي (موضوعي) وليس على مجرد التخمين ،ويرى دويتش ّ أن كل العب (في الساحة السياسية الدولية) يجب ّ أن يكون له نوعان من الحركات :حركات قصيرة األجل وهي ما يعرف بالتكتيكات وحركات طويلة األجل وهي ما يسمى باإلستراتيجية ،بحيث تحتوي اإلستراتيجية وتتضمن الحركات التكتيكية ،وأفضل اإلستراتيجيات هي تلك التي تزيد صافي األرباح إلى الحد األقصى أو تلك التي تق ّلل الخسائر إلى الحد األدنى. ً وأشكال للمباريات في الساحة الدولية على صورا يقدم دويتش ً النحو التالي: أ ) مباريات القيمة المحدّ دة أو القيمة صفر
وفي هذا النوع من المباريات فإن أي ربح يحققه العب يعتبر نموذجا للصراع الشديد على شاكلة وتجسد بذلك خسارة لآلخر، ً ّ الصراع اإليديولوجي الذي كان بين الواليات المتحدة األمريكية واالتحاد السوفيتي إبان مرحلة الحرب الباردة ،وترجع شدة الصراع إلى جمود المصالح والدوافع بالنسبة لالعبين (أطراف الصراع) بما يفضي إلى استمرارية الصراع بشكل دائم ،وهنا يقدم دويتش ً وحلول يمكن ّ أن تجنّب العالقات الدولية هذا النوع إستراتيجيات من الصراع ،لعل أهمها ـ كما يرى دويتش ـ إستراتيجية «الحل 149
الوسط» ،حيث يختار الالعب نو ًعا من اإلستراتيجية التي بإمكانها تقليل خسارته إلى الحد األدنى وبالتالي تقليل أرباح منافسة إلى الحد األدنى في ظل فرضية القبول والرضى بأقل األرباح الممكنة ،فهو أن يختار أفضل البدائل السيئة المتاحة أو ّ إما ّ أن يختار أسوأ البدائل النافعة المتاحة ،إلى ّ أن تلتقي نتائج المباراة في النهاية عند نقطة واحدة لالعبين يجتمع فيها الحد األدنى من الحدود القصوى لالعب مع الحد األقصى من الحدود الدنيا لمنافسه. ب) مباريات القيمة المتغ ّيرة
وهي الصورة األكثر شيو ًعا في مجال العالقات الدولية مقارن ًة بمباراة القيمة صفر أو القيمة المحدّ دة ،حيث ال تحديد لقيمة مع ّينة فقد يربح أحد الالعبين شي ًئا من العب آخر وفي نفس الوقت يمكن لالعبين أساسيين ّ أن يربحوا من العب غير أساسي بطريقة جماعية أو قد يخسرون ،حيث تختلط الدوافع بالنسبة لالعبين األساسيين، فقد يحاول أحدهم ّ ينسقون فيما بينهم، أن يكسب من اآلخر وقد ّ ويأتي الربح والخسارة تب ًعا للقدرة على التنسيق (مثال ذلك تكوين التحالفات الدولية) ،وبذلك يرتبط هذا النوع من المباريات بما ويتجسد في صور وأشكال عديدة يسميه دويتش (الدافع المختلط)، ّ ّ من بينها:
1ـ مباريات التهديدات المتبادلة :حيث تكون المواجهة مباشرة بين قطبين أو كتلتين يهدد أحدهما اآلخر بالحرب النووية الشاملة ،وتكون إستراتيجية الالعبين في هذه الحالة هي 150
واحدة من إستراتيجيتين هما :إما التعاون مع الطرف اآلخر بالتراجع تجن ًبا للتصادم ،وإما االستمرار في الصراع مع احتمال تراجع أحدهما.
2ـ مباريات التهديدات والوعود :وتتحقق في ظل إستراتيجيتين هما :التعاون على إيجاد ثقة متبادلة أو االرتداد عن هذا التعاون وفي ظل هاتين اإلستراتيجيتين يكون هناك عدد ال حصر له من االحتماالت.
3ـ مباريات البقاء :وتكون عند تطور الصراع بين خصمين (نوويين) إلى أقصى مراحله بعد عدة جوالت متتابعة ،فيختار كل منهما االرتداد عن التعاون وتكون نهاية العالم كنتيجة لليأس الكامل وترك اللعبة ،ويرى دويتش ّ أن النجاح في هذا النوع من المباريات يتم ّثل في االستمرار في اللعب من خالل اختيار أفضل إستراتيجية نسبية للفوز الكامن في االستمرار في اللعب ،وتتخذ مباريات البقاء هنا صورة مباراة التهديد والردع كنوع من مباريات الدافع المختلط ،حيث في ظل التهديد والردع يحتفظ الطرفان بمصلحة مشتركة تزداد مع زيادة تكلفة تنفيذ التهديد.
ثال ًثا :القتال
وفي هذه الصورة يدور الصراع بين الالعبين بشكل شبه آلي، نظرا لتضاءل ضبط النفس (التحكم الذاتي والسيطرة المتبادلة) ً بين أطراف الصراع ،وتنتهي األمور إلى بدأ القتال على أوسع 151
نطاق ،ورغم الوضع شبه اآللي لعمليات الصراع القتالي فإن دويتش يضع احتمالين عند نشوب الحرب ،أولهما :احتمال زيادة السرعة في تحركات األطراف المتحاربة ،وثانيهما :احتمال عرقلة األول وتقليل سرعة تحركات األطراف المتحاربة ،وفي االحتمال ّ تتضاءل عمليات السيطرة المتبادلة وضبط النفس إلى ّ أن ينتهي األمر بتدمير أو انهيار أحد األطراف ،وفي االحتمال الثاني تؤدي الضغوط السياسية واالقتصادية والمعارضة الداخلية والرأي العام العالمي ومثل هذا النوع من العوامل إلى زيادة ضبط النفس والسيطرة بمعدّ ل أسرع من عوامل تصعيد الصراع ،لذلك يرى دويتش ّ أن معرفة العوامل التي تساعد على ضبط النفس بالنسبة للدول المتصارعة وتدعيمها وتقويتها يمكّن من التحكّم في الطابع اآللي للصراع والتغلب عليه. أن يعرض دويتش صور وأنواع الصراع يشير إلى ّ بعد ّ أن الصراعات القائمة فعل ًيا في الواقع الدولي غال ًبا ما تكون خلي ًطا من المناظرات والمباريات والقتال مع تفاوت في سيطرة هذا النوع أو ذاك تب ًعا للتغيرات في الزمان والمكان والظروف المحيطة في كل حالة من حاالت الصراع ،وتجدر اإلشارة إلى ّ أن كارل دويتش عايش واقع البيئة الدولية المتم ّثل في نسق القطبية الثنائية عند تقديمه لنظريته في تحليل العالقات الدولية ،وانطلق من هذا الواقع المهدّ د للحياة البشرية بوجود أسلحة الدمار الشامل ليقدّ م معالجة لسلوك القوى القطبية والسلوك الدولي بشكل عام من أجل الوصول إلى تحقيق 152
أقصى قدر من التكامل الدولي ،بحيث يتم تكييف سلوك بما يتالئم مع متطلبات التكامل ،وإال فإن الجنس البشري مهدّ د بالفناء التام إذا نشبت حرب نووية ،ويضع دويتش مجموعة من القواعد العامة للسلوك الدولي في ظل هذا الوضع منها: أ ) تدعيم وتنمية االعتماد المتبادل بين الدول بما يكيف عالم العالقات الدولية نحو تحقيق الهدف (التكامل).
ب) ضرورة االلتزام بقواعد القانون الدولي ،فبالرغم من ّ أن دويتش يرى ّ أن القانون الدولي (الحالي) هو أكثر أشكال التنظيم الدولي عالمية وأكثرها تحديدً ا ،إال ّ أن ما يعيبه أنه جهازا ثابتًا يعمل على تطبيق قواعد هذا القانون، ال يملك ً كما ّ أن األمم المتحدة ـ كشكل من أشكال التنظيم الدولي ـ غير قادرة بوضعها الحالي على تحقيق التكامل الدولي ،ألنها ال تمتلك سلطة سيادية فوق سلطة أعضاءها. نظرا لهذا القصور في القانون الدولي والمنظمة العالمية جـ) ً (األمم المتحدة) دعا دويتش ّ أن تتجه الدول إلى المنظمات اإلقليمية.
د ) دعا دويتش ـ كذلك ـ إلى إيجاد ثقافة عالمية متماثلة حتى يتم وركز في هذا الجانب على التجاوب واالنسجام بين الدول ّ أهم ّية االتصال الدولي في خلق هذه الثقافة. يالحظ الباحث ّ أن أفكار كارل دويتش هذه قد وجدت ـ إلى 153
حد ما ـ طري ًقا للتنفيذ بعد انهيار نظام القطبية الثنائية وانتهاء مرحلة الحرب الباردة ،حيث صار الواقع الدولي في الفترة األخيرة ـ كما يرى متسما بسمات ومالمح تؤكد تقد ًما إيجاب ًيا في االستجابة الباحث ـ ً (لدعوات) كارل دويتش بخصوص أنماط من السلوك الدولي من شأنها تكييف سلوك الدول بما يتالئم مع متطلبات التكامل الدولي مقارنة بالمالمح والسمات المتعلقة بمستويات التكامل الدولي خالل الفترة السابقة (مرحلة الحرب الباردة) حيث:
1ـ مستويات وأدوات وقنوات االتصال الدولي تنامت بشكل ملحوظ وازداد االعتماد عليها والدور المناط بها فعالية في تحديد سياسات الدول الخارجية بالقياس مع الفترة السابقة. 2ـ درجة االعتماد المتبادل بين األطراف الدولية تسير باتجاه تصاعدي وتتناسب طرد ًيا مع مستويات التحضر اإلنساني والتقدم التقني ،ويمكن مالحظة حجم التنامي في ظاهرة االعتماد المتبادل بين الدول بوضوح خالل الفترة التي تلت مرحلة الحرب الباردة. 3ـ منذ انهيار نظام القطبية الثنائية وانتهاء مرحلة الحرب الباردة يالحظ اختالف في الدور الذي صارت تلعبه األمم المتحدة في العالقات الدولية ،باإلضافة إلى الدعوات وبرامج العمل التي صارت تستهدف إصالح المنظمة الدولية كظاهرة برزت بوضوح خالل الفترة األخيرة. 154
4ـ التنظيمات اإلقليمية في شكل منظمات أو فضاءات أو أحالف وضوحا وفاعلية خالل الواقع وبروزا بشكل أكثر شهدت تنام ًيا ً ً الراهن للحياة السياسية الدولية.
5ـ مسألة الثقافة العالمية الواحدة وصراع الثقافات والحضارات مسائل صارت مطروحة بشدّ ة أكثر من أي وقت مضى في الساحة السياسية الدولية الراهنة.
155
صدر في هذه السلسلة 1ـ (قراءات في السلم والحرب) ،عبدالمنعم المحجوب. 2ـ (حبر المنفى) ،عمر الكدي.
3ـ (خاليا نائمة) ،محمود البوسيفي. 4ـ (أوراق تاريخية) ،مختار الجدال.
5ـ (ما وراء الحجاب) ،فتحي بن عيسى. 6ـ (منفى) ،ديوان شعر ـ عمر الكدي.