ديجالون
املختار اجلدال
ديجالون رواية
ديجالون تأليف :المختار الجدال © جميع الحقوق محفوظة مجلة أسبوعية سياسية شاملة طبع في يونيو 2015 مطابع األهرام جمهورية مصر العربية المدير الفني وتصميم الغالف :سامح الكاشف اإلخراج الفني والتنفيذ :أحمد نجدي
وترويحا تلقيحا للعقول، إن في المحادثة ً ً وتنقيحا لألدب. وتسريحا للهم، للقلوب، ً ً أبوحيان التوحيدي
(اإلمتاع والمؤانسة)
مقدمة تدور أغلب أحداث هذه الرواية في خيال الكاتب ويستوحي بعض من فصولها من سيرة أسرة ليبية تأثرت بأفكار جماعة من المسلمين سموا أنفسهم جماعة التكفير والهجرة ..وهم جماعة إسالمية مغالية ّ نهجت نهج الخوارج في التكفير بالمعصية ،وهم يكفرون كل من ارتكب كبيرة وأصر عليها ولم يتب منها ،وكذلك يك ّفرون الحكام الذين ال يحكمون بما أنزل الله بإطالق ودون تفصيل ،ويك ّفرون المحكومين ألنهم رضوا بحكمهم وأتبعوهم ،ويك ّفرون العلماء ألنهم لم يك ّفروا الحكام والمحكومين ،ويك ّفرون من عرضوا فكرهم عليه ولم يقبله أو قبله ولم ينضم إليهم ومن أنضم إليهم ثم تركهم فهو مرتدّ مستباح الدم. عما قد يتوافق من األحداث مع قصص حقيقية ويعتذر الكاتب ّ ربما وقعت أو يعتقد البعض أنها تتطابق مع الرواية.
المؤلف
طرابلس .31أكتوبر2010 .م 7
()1 كنت في طريقي إلى بنغازي أستعجل الخطى لاللتحاق برحلة
طيران البراق التي ستغادر السادسة مسا ًء من مطار طرابلس ،فالوقت لم يعد يحتمل التأخير أكثر من ذلك .دخلت المطار من باب الخروج
للرحالت الدولية ،قابلتني الساعة ،كانت تشير إلى الخامسة تما ًما
عندما لفتت نظري امرأة في العقد الرابع من العمر .كانت تدفع بعربة
حقائب مملوءة تميل منها حتى ال تكاد تسيطر عليها ،وتمسك بها فتاة صغيرة عرفت فيما بعد أنها ابنتها.
استلمت منها العربة وقلت لها :ممكن أساعدك ،وسألتها :أين
تقصدين ،فردت بسرعة وهي على عجل مثلي :خطوط بنغازي،
دفعت العربة حتى الخطوط الداخلية ووقف في الطابور .لم يكن ً طويل فقد وصلنا في الوقت المناسب إلنهاء إجراءات الرحلة. استلمت بطاقات الصعود حيث منحنا الموظف البطاقات الثالثة
في مقاعد متجاورة ،وسلمت الحقائب لموظف شركة البراق الذي 9
قام بدوره بوضع أرقام عليها ،وطلب منا االلتحاق بالركاب في القاعة العلوية للرحالت الداخلية.
كثيرا على توجهنا إلى األعلى وجلسنا في االنتظار ،شكرتني ً
مساعدتها وسألتني:
ـ أنت من بنغازي؟ ـ أجبتها بالنفي :ال. استطردت في التعريف بنفسي ،وأنني من المنطقة الغربية من
مدينة تدعى العجيالت ،وأقيم في بنغازي منذ فترة.
في هذه األثناء انطلق صوت مذيعة المطار تنادي على رقم رحلتنا
للصعود إلى الطائرة ،فوقفنا في طابور آخر طويل هذه المرة للمباشرة في إجراءات التفتيش.
بعد التفتيش جلسنا في قاعة انتظار أخرى تأهبنًا لالنطالق نحو
الطائرة وهنا قالت لي مرافقتي..
ـ لقد عشت في مثل هذه القاعة ستين يو ًما في مطار كوااللمبور في ماليزيا عام 1997م عندما كنت أنوى الهجرة إلى كندا.
نظرت إليها باستغراب! فهزت رأسها ونظرت إلي بعمق وقالت: ـ نعم ستين يوما لم نستطيع فيها مغادرة المطار أو العودة إلى أبعد من بوابة التفتيش.
10
ـ هذا الموضوع من الممكن أن يتحول إلى رواية لكي يطلع القراء على المعاناة التي يتعرض لها المسافرون الليبيون في
مطارات العالم.
كنت أعتقد إن السبب كان انتمائها إلى هذا الوطن فقط ،وما كنت
أعتقد أبدً ا إن وراء تلك المرأة معاناة قاسية تعرضت لها بسبب األفكار
التي كان يعتنقها زوجها.
جلست في المقعد وأخيرا وصلنا الطائرة وجلسنا في مقاعدنا، ُ ً
المحاذي للشباك وجلت بنظري من خالله إلى ساحة المطار التي
كانت تربض فيها العديد من الطائرات ،لم أحاول أن أباشر حدي ًثا مع المرأة ولكنها بادرت تسألني:
ـ أنت وين بتقضي شهر رمضان؟ ـ كل سنة وأنت طيبة ..في بنغازي إنشاء لله. ـ إنشاء الله ..مبروك عليك. وبدأت الحديث عن قصتها وكيف قضت شهر رمضان في أحد
السجون بماليزيا .نظرت إليها مستغر ًبا! وسألتها: ـ القصة فيها منع من السفر وسجن؟
ـ نعم ..سفر وترحال وعذاب وخوف ورعب وهروب وجوع ودموع.
11
وأخذت تسرد قصتها مع الزمن وأحداثها وكنت أنصت باهتمام، وعندما وصلت الطائرة إلى مطار بنغازي ساعدتها في استالم حقائبها وو ّدعتها على أمل أن نلتقي في أوقات أخرى. تعددت لقاءاتنا بعد ذلك خالل شهر رمضان من ذلك العام.
12
()2 ال أدري ما إذا كان زوجي يعلم إلى أين نحن راحلون ،أم إنه مثلي، يقودونه مثل ما يقودني وابنتي التي جاءت إلى هذه الدنيا قبل ثالثة أشهر.
أذكر إنه قبل الرحلة إلى الجزائر حاول عديد المرات ،خاصة عندما َ الحصول على التأشيرة إلى الواليات المتحدة األمريكية سافرنا إلى تركيا، أو إحدى الدول األوربية ،ولكني وهنا أروي لكم قصتي بصدق ،لم أكن دائما على أن يسافر خارج البالد؟. أعلم إلى أين؟ أو لماذا كان يصر ً
كان على صلة بمجموعة من األصدقاء ،بعضهم رافقنا في الرحلة وبعضهم انظم إلينا فيما بعد في المغرب ،كانوا بين خمسة وعشرين وثالثين ،وأغلبهم من الشباب. الشيخ خليفة ـ الذي كان أكبرهم سنًا ـ وزوجته السيدة الشيخة يبدو أنهما كانا مسئولين عن المجموعة ،فكان هو من يصدر األوامر للتحرك من مكان إلى آخر ،وهو الذي كان يعطي الدروس والمواعظ.
لم يكن لهم هدف معين في رحلتهم سوى الهجرة إلى مكان 13
بعيد عن المجتمع الذي انتموا إليه وولدوا فيه وك ّفروه في أغلب األحيان ،كانوا يبحثون عن مكان يعتقدون إنهم يقومون من خالله بالمحافظة على الدين واالبتعاد عن متع الحياة .لكنهم جمي ًعا كانا ال يعرفون ماذا يفعلون؟ أو إلى أي مكان يتجهون؟ ولم يكونوا منتمين كبيرا ،ولم يجتمعوا أبدً ا ألفكار بعينها ،بل كانوا يعيشون فرا ًغا فكر ًيا ً على رأي واحد حتى في أغلب تفاسيرهم للحديث الشريف أثناء كثيرا ما تنتهي بنزاع ومشادات كالمية ،وكان الشيخ لقاءاتهم ،والتي ً خليفة وزوجته كذلك ،إذ يبدو أن تأثير إقامتهم السابقة في أفغانستان والسودان وتجربتهم في الهجرة لم تمنحهم الثقة في النفس وإظهار بعض التف ّقه في الدين،وفقد حضرت عديد المناقشات التي كانت تجمعهم بالدار البيضاء. تدور بينهم ،خاصة في أثناء ّ أحد الشباب الذين سكنوا معنا في المغرب سألته يو ًما:
ـ لماذا تركت األهل والبيت والوطن؟
قال لي..
ـ «كنت طال ًبا في الثانوية العامة ،وأفتتح مسجد جديد بحينا .كانت فرحتنا كبيرة بالمسجد ،حضرت االفتتاح ودعانا الشيخ الخطيب إلى تعمير المسجد والصالة فيه .لم تكن لدينا خلفية ثقافية عن أي من الحركات الدينية التي عرفناها فيما بعد ..لم نجد من ينصحنا، ق ّلدنا الشيخ في تقصير البنطلون ،ولم ينبت الشعر في وجهي بعد.
لم أكن مقتن ًعا بتقصير البنطلون ،ولكن الشيخ قال لنا ..إن السروال 14
ً طويل وتدخل به إلى الحمام يغطس في المياه المتسخة عندما يكون وغرر بنا شيخ الجامع المكلف بأرضية الحمام ،صدقناه ..كنّا صغارا ّ ً من قبل الدولة.
بعد االمتحانات جاءت سيارة بها أربع أشخاص واقتادوا والدي، لم أكن موجود ولم أعرف لماذا اقتادوه؟ وعندما عرفت إن إيقافه كان بسببي ذهبت إليهم وس ّلمت نفسي و ُأطلق سراحه ..وبعد شهر من التحقيق ُأطلق سراحي ..ولكني لم أترك الصالة في المسجد.
بعضا من الشباب الجيران مضت ستة أشهر تقري ًبا ثم سمعت أن ً على من جديد فسافرت إلى قبض عليهم ،عندها خفت أن يقبض ّ تونس ولم أعد حتى اآلن ..وأنا اآلن ال أعرف لماذا أنا هارب؟ وممن أنا هارب؟». مثله كثيرون خرجوا من بالدهم وال يعرفون لماذا خرجوا؟ وممن هم يهربون؟. أحدهم يدعى خالد سرد لي قصته ً قائل:
ـ «كنت في الشهادة الثانوية عندما التحقت بحركة التجمع اإلسالمي ،كنا نلتقي في بيت أحد األصدقاء لتع ّلم القرآن وتلقى دروس في الشريعة اإلسالمية ،ال يعرف أحد من عائلتي بهذا األمر ،وبعد أن أنهيت امتحانات الشهادة الثانوية وصلتني أخبار بأن بعض الجماعة تم القبض عليهم. شخص ًيا لم يستدعني أحد ،ولم أشعر أن هناك من يراقبني ،ولكني 15
كنت أستعد لمغادرة البالد في أي لحظة ،فقد وفرت مبلغ خمسمائة دوالر وهي كانت في اعتقادي كافية حتى أستقر في مكان آخر. ظهرا ،كنت في البحر، ذات يوم عدت للبيت عند الثانية عشرة ً فقالت والدتي: ـ هناك من سأل عنك.
ـ من؟
ـ ال أعرف.
جهزت حقيبتي وودعت والدتي بنظرات وغادرت إلى محطة سيارات األجرة ،يبدو أن والدتي كانت تريد مغادرتي لم تكلمني ولم تعارض .كانت نظراتها توافق على كل كلمة قلتها لها. أول سيارة متوجهة إلى طبرق ركبتها ومنها إلى الحدود المصرية التي دخلتها عند الثامنة مسا ًء ذلك اليوم الذي الزلت أذكره جيدً ا وأذكر كل الوجوه التي تتفحصني. في اليوم التالي قبض على أخي ونقل إلى طرابلس.
بعد ثالثة أيام كنت وحيدً ا في اإلسكندرية والتقيت أحد األصدقاء ورفيقي في المجموعة الذي أقترح المغادرة إلى سوريا عن طريق األردن وكان ذلك.
شهر فقط ألننا ال نملك في سوريا سكنا في شقة استأجرناها ً سوى إيجار ذلك الشهر ،ثم بحثنا عن عمل وتحصلت على عمل 16
بأحد محالت أشرطة الفيديو حتى حضر أخي الثاني ،وقمت بتزوير جواز سفره واستبدلت الصورة ثم غادرت إلى لندن ضمن ركاب الترنزيت لكي أغادر إلى مكان آخر.
عند نزول الركاب في مطار هيثرو دخلت الحمام ،ومزقت جواز السفر الذي أحمله ووضعته في المرحاض ،وذهبت القطع مع المياه في مجاري لندن ،ومع مغادرة الركاب لم تجد السلطات االنجليزية جواز سفر لدي .وعندما سألني الشرطي أين وضعت الجواز؟ بعد أن قام بتفتيشي ً تفتيشا دقي ًقا ،قلت له في التواليت ،وعندما رافقته إلى هناك وجد آثار الحبر الزالت عالقة بالمرحاض. هز رأسه وحولني للتحقيق لطلب اللجوء اإلنساني ..ال أعرف ّ لماذا غادرت.
أحدهم يدعى عبدالله حكايته تختلف ..قال لي أنه كان أحد الجنود في الجيش الليبي ،وخالل المواجهة مع مصر عام 1977م تم تكليف جنود الكتيبة كفصائل حماية لبعض كتائب الصواريخ وبعض األهداف الحيوية بمدينة طبرق ،وقد كنت ضمن المجموعة التي شاركت في حماية كتيبة الصواريخ سام 6التي كانت حديثة التشكيل ،واحتلت موقعها بميناء الحريقة النفطي جنوب مدينة طبرق. كانت كتيبة الصواريخ تقوم بحراسة خزانات النفط بميناء الحريقة النفطي ،وكانت مجموعة الحراسة تتكون من مجموعة من الجنود. كنت من بينهم حيث قسمنا إلى مجموعات تتناوب الحراسة الليلية فقط ،أما في أثناء النهار فيقوم جنود من الكتيبة نفسها بعملية الحراسة. 17
كنا نقيم في ثالث خيم كبيرة بنيت على أرض جبلية ّ تطل على الوادي بالقرب من مصبه في البحر القريب من موقعنا حيث كان بعض الزمالء يذهبون إلى ساحل البحر للسباحة.
عندما قصفت قاعدة جمال عبدالناصر (العدم ساب ًقا) كنت ظهرا مرت فوقنا طائرتان حاضرا ،ففي تمام الساعة الثانية عشرة ً ً تحمل العلم الليبي ،تحركت الصواريخ ثم توقفت ،وبعد عشر دقائق ومرت فوقنا ثانية وهي تطير باتجاه البحر ،وخرج عادت الطائرتان ّ علينا المالزم آمر الكتيبة فوجدنا نلوح لها بأيدينا ،فقال لنا :هذي طائرات مصرية وقصفت القاعدة.
لم يكن بإمكاننا فعل شيء ،ومثل اليوم األول عندما بدأت المواجهة كنا نجلس في مواقعنا وننتظر ..نستمع إلى أصوات سيارات اإلسعاف وهي تتجه إلى طبرق حاملة الجرحى ،وبعد توقف المواجهة بعضا من أفراد بأسبوع عدنا إلى مقر الكتيبة بمعسكر الجالء فوجدنا ً الكتيبة بالمقر ،وهم يقومون بأعمال الحراسة الليلية على مبان خاوية، وعندما طلبنا إجازة للعودة إلى أهلنا لالطمئنان عليهم لم يوافق الضابط المكلف.
في الصباح الباكر اتفقنا على السفر إلى طرابلس بدون أذن، وخرجنا من الباب الخلفي للمعسكر مصحوبين ببنادقنا والذخيرة المسلمة إلينا في موقع كتيبة الصواريخ ،وقفنا على الطريق الساحلي حتى توقفت سيارات أجرة أخذتنا إلى بنغازي. كانت البالد فوضى ،مررنا بالعديد من بوابات األمن لم يستوقفنا 18
أحد ،ولم يسألني أحد ،فبمجرد أن يشاهدوا الزى العسكري والبنادق يفتحون لنا الطريق حتى وصلنا مطار بنينا.
في المطار حجزنا تذاكر للسفر وتوجهنا لمكتب التسفير العسكري الذي قام بإنهاء اإلجراءات المتبعة لتسفيرنا ،وصعدنا الطائرة ،وعند بوابتها طلب مني المضيف تسليمه المخازن وما يوجد عندي من ذخيرة ،عدّ ها وسلمني ورقة وتسلمتها عند نزولنا في مطار طرابلس.
بعد قضاء أسبوع مع األهل عدت إلى طبرق ،ومن حسن حظي رقما آخر غير رقمي في خانة الغياب، أن آمر الفصيل كان ّ يدون ً وعندما بحثوا عن رقمي لم يجدوا أني تغيبت أي يوم ،بينما عوقب باقي الزمالء الذين تغيبوا معي ورافقوني في رحلتي تلك. ولكن عندما وشى بي أحد العرفاء الذي كان يسهر في غرفتنا ويعرف أنني كنت متغي ًبا عن العمل عوقبت بثالثة أيام حبس ألول مرة في حياتي العسكرية.
تجربة الحبس لثالثة أيام كانت بحق تجربة مريرة .بالرغم من قصر المدة غير أنها كانت قاسية بحق وجرس تنبيه قررت بعده عدم الغياب نهائ ًيا ،وقد خرجت في اليوم التالي عند المساء بعد أن قضيت ذلك اليوم في مهمة تنظيفات بمكتب تحريات الشرطة العسكرية بطبرق زميلي المسجونين اللذين رافقاني إلى تلك والذين أجبروني رفقة ّ المهمة على غسيل مالبسهم الداخلية وجواربهم النتنة. عقدت العزم على مغادرة البالد ،وها أنا أعيش خارجها هار ًبا 19
من الجيش وال أستطيع العودة ،ولكن ال تسألني كيف وصلت هنا؟ فلو عرف أحد من النظام من الذي ساعدني لقتله.
أسأل نفسي أحيانًا لماذا ارتديت الخمار؟ ال أجد إجابة ..ولكن أعود بالذاكرة إلى عام 1986م عندما ارتديت الخمار ألول مرة بعد الزواج ،وأصبحت أرى الناس بوضوح من خلف الخمار ويروني وكثيرا ما أرى نظراتهم تتبعني من الخلف بعد أن وضوحا.. أكثر ً ً أمر بهم ،قد يغضون طرف العين حينما أقابلهم ولكن ما أن يختفي وجهي حتى يلتفتون.
لم يفرض زوجي حكاية الخمار هذه ،بل ارتديته بمحض إرادتي.. ً نزول عند رغبتي وانسجا ًما مع ما أصبحت أحمله من أفكار تدعو إلى تكفير المجتمع الذي أعيش فيه ،لقد أصبحت أعيش مع أفكار جرني إليها؟ أو كيف وصلت إلى إتباعها. ال أفهم اآلن ما الذي ّ ارتديت الخمار في أول رمضان ،كنت أبتغي التميز فقط ،التميز عن المجتمع الذي أصبحت أكره أن أستمر في الحياة وسطه ،فقد كنت أراه يخرج عن تشريع الله وعن تطبيق حدود الله.
كنت أنهيت قراءة كتاب يتحدث عن الخمار ،والدتي كانت ترفض أساسا أن أرتدي حتى الحجاب داخل البيت ،وعندما نخرج ترى والدتي ً بأنه ال بأس من وضع شيء على الرأس ،ولكني لم أسمع كالم والدتي طب ًعا تحت تأثير األفكار التي أصبحت أتجرعها ..جرعة ..جرعة. والدتي كانت تميل إلى االعتقاد في المشايخ وأولياء الله 20
كثيرا ما تصطحبنا إلى ضريح سيدي يونس، الصالحين ،فكانت ً كنت أتركها وأطوف بالضريح ،وأطلب إليه أن يزوجني ً رجل أسمر
دائما في شارعنا. كنت أراه يقف ً
حدث ذات يوم وأنا أتحدث مع والدتي أن صرخت في وجهها:
ـ أنت وأبي حطب جهنم ،فوجودكم حرام ،وحياتكم حرام، كالمكم حرام ،وضحككم حرام ،وكل حركاتكم حرام في حرام ،أنتم ك ّفار.
وعندما وجدتني والدتي أصلي ذات يوم قالت لي:
ـ حتى أنا التي زرت بيت الله وحجيت ال أفعل مثلك ..وتساءلت: ـ أي دين هذا الذي تتبعينه يا بنتي؟.
ربما تأثرت باألفكار التي يحملها زوجي دون أن أدري بالرغم من كثيرا في بيت الزوجية ،فعندما تزوجته كان يعمل في أنني لم أعش معه ً طرابلس بإحدى الشركات ،وكان عمله يقتضي سفره خمسة وعشرون يو ًما ،ويعود ليبقى بالبيت خمسة أيام كان يقضيها مع رفاقه وأذهب لزيارة أهلي يو ًما واحدً ا في كل شهر.
قال لي زوجي ذات يوم إن عقد زواجنا كان ً باطل ،لم أسأله كافرا وهو لماذا؟ ألنني كنت مثله أعتقد ذلك ،كنت أرى المجتمع ً يزور أو يحلف باألولياء ،وأراه كذلك عندما يزور القبور ،ولكن في بعض األحيان لم تكن األفكار تبدو واضحة عندي ..أنا لم أملك زمام أمري ،كنت تابعة أنظر إلى ما يفعلون ألفعل مثلهم. 21
أردت أن أكون أكثر إلما ًما ،قرأت لسيد قطب وهو في السجن، وقرأت لزينب الغزالي «أيام من حياتي» ،وقرأت «كتاب التوحيد» دائما لهذه الكتب. لمحمد عبدالوهاب ،ولكنني لم أرتح ً وجدت نفسي أتبع زوجي في رحلته إلى تركيا وأنا أرتدي الحجاب، ثم في رحلته إلى الجزائر والمغرب ،بالرغم من أنني نزعت الخمار عند وصولنا المغرب ولم يعلق على ذلك أو يسألني لماذا؟
لقد نزعت الخمار عندما سئمته .لم يكن بوسعي تحمل لصلصات العيون المستمرة ،ولم أحتمل حرس البوابات وهم يطلبون مني نزعه فكثيرا ما أتعرض للسؤال :أنت للتأكد من شخصيتي وتعليقاتهم.. ً ال تشبهين الصورة ،أو إن الصورة ال تشبهك. كثيرا ما ق ّيد حركتي المهم أني تخلصت من الخمار الذي كان ً وجعلني عرضة للنقد واالستهزاء ،وعرفت أن الخمار والنقاب يقع في القلب وليس مجرد قطعة قماش تغطي وجهي.
أمي كانت ترتدي الجرد بلون واحد أو الملون ،وكانت تظهر من وجهها عين واحدة تستدل من خاللها على الطريق ،ولم تتعرض يو ًما لالنتقاد ،ألن نسائنا كلهن كن يرتدين الجرد الذي كان من متطلبات ً دخيل عليه. تراثنا وليس
22
()3 صباحا، توجهنا إلى طرابلس بالطائرة كانت الرحلة أقلعت السابعة ً
كنت متوترة وخائفة ،لم أركب الطائرة ألول مرة ،ولكني كان جسمي يرتعش ،وصلناها قبل الظهيرة كنت أنا وزوجي وابنتي ترافقنا امرأة
تدعى الشيخة خديجة وزوجها الشيخ خليفة وربيبها محمود وأطفالها
صالح ومحمد وزهرالدين وابنتها فاطمة وكان معنا بنفس المجموعة
محمود إدريس ورمضان وسليم.
ذهبنا إلى منزل في طرابلس ال أعرف أين يقع أو من يكون صاحبه
إال إن الشيخ خليفة مرافقنا كان على عالقة بصاحبه وهو من ضمن
الجماعة ،وأذكر إن صاحبة البيت كانت مسافرة فقمت أنا بأعداد وجبة الغذاء وبعد قليل من االستراحة أحضروا لنا سيارة أجرة.
صعدنا سيارة األجرة وعبرنا الحدود الليبية التونسية ً ليل وفي
الصباح توقفنا ،أذكر في قابس بالقرب من مسجد ،صلينا الصبح
وتناولنا القهوة واستقلينا السيارة.
23
وصلنا تونس العاصمة في مساء ذلك اليوم وتوجهنا إلى عائلة يعرفها الشيخ خليفة أو إنه يعرف ابنها الذي كان رفيقه عندما كانوا ونظرا ألن الشقة في أفغانستان وأجرنا منهم شقة بالدور العلوي ً ال تتسع لكل المجموعة والشقة كانت قيد اإلنجاز فقد أشارت علينا صاحبة البيت بالسكن معها في غرفة كبيرة سكنتها مع رفيقتنا الشيخة واألوالد وسكن زوجي والشيخ خليفة وباقي المجموعة بالشقة المؤجرة. وأذكر هنا إن األسرة التي أقمنا معها طيلة الفترة في تونس كانت كريمة والسيدة صاحبة البيت ودودة إلى درجة كبيرة ولقينا منها اهتمام فكثيرا ما وفرت لنا بعض االحتياجات وكان زوجي قد أعطاها كبير ً مع اإليجار مبلغ من المال.
قضينا أسبوع في تونس العاصمة وفي نهاية األسبوع توجهنا إلى المطار لنستقل طائرة ال أعرف إلى أين تتجه بنا ولكن الطائرة هبطت في مطار الجزائر العاصمة ونزلنا في صالة الركاب الترانزيت ،وبعد حوالي ثالثة ساعات صعدنا إلى طائرة أخرى ،أقل مستوى من سابقتها ،كانت الكراسي متحركة وغير ثابتة وبعضها نزع من مكانه، سألت الشيخة خديجة ترى إلى أين نحن ذاهبون؟؟ أجابتني :إذا هبطنا في المطار القادم على مهبط معد ال أعرف. أما إذا كان المهبط تراب فسأقول لكي أين نحن ..استمعت بهدؤ ولم أعلق..
بعد حوالي أربع ساعات من الطيران حطت بناء الطائرة في مهبط 24
واضحا من خالل أثار األتربة التي خلفها احتكاك من تراب يبدو ذلك ً
العجالت باألرضية ..نظرت إلي الشيخة ..فقالت نحن في مالي..
عرفت فيما بعد إننا هبطنا في مالي وعرفت إن الشيخة على دراية
بتحركات المجموعة نزلنا من الطائرة وتوجهنا إلى فندق جيد بتنا ً طويل في الفندق حيث سرعان فيه باقي ليلتنا وفي الصباح لم نبقى
ما صعدنا إلى قارب عبر بنا نهر يقود القارب رجالن أسودان بواسطة خشبتين كانا يغرسانها في قاع النهر.
أصابني الفزع والخوف فالنهر كان ملي بالتماسيح التي كانت تسبح بمحاذاة القارب وتتبعنا من الخلف كنت ً فعل خائفة وارتعش
وأضع ابنتي في حضني كان محمود يراقبني بصمت ويسرق النظر
نحوي أحسست إن نظراته واهتمامه يمنحني نوع من اآلمان.
عبرنا النهر وفي الضفة األخرى سكنا فندق أخر أقل مستوى
من السابق وأقمنا فيه لمدة ثالثة أيام كان الرجال خالل تلك األيام
يغادرون الفندق في الصباح ويعودون في المساء ال أعرف أين يذهبون؟ وال ماذا كانوا يعدون؟.
وفي اليوم الرابع نهضنا في الصباح واستقلينا سيارة هي عبارة عن
حافلة صغير كان لونها أحمر وكان يرافقنا في الحافلة باإلضافة للسائق
شخصان آخران أسمران ،وانطلقت بناء ببطء شديد على طريق ترابي تقري ًبا بسرعة ثالثين كيلو متر في الساعة وبعد مسافة قصير توقفت الحافلة وأصيبت بعطل.
25
حاول السائق إصالح العطل ولكن محاوالته ذهبت أدراج الرياح عندها قررت المجموعة دفع الحافلة عبر الطريق ..جلست أنا وابنتي والمرأة وأطفالها في الحافلة ونزل الرجال يدفعون الحافلة وأستمر ذلك لمدة خمسة أيام كاملة لم أغادر خاللها السيارة.. خمسة أيام أجلس على كرسي الحافلة لم أغادره أبدً ا وكنت أضع كثيرا أبنتي في حضني ويجلس بقربي أحد أبناء الشيخة والذي كان ً يتسري ما يتبول ال إيراد ًيا ،ففي كثير من األحيان أحس بسائل ساخن ّ إلي ،ولكني صبرت ولم أحاول أن أنبه والدته لذلك.
كانت تنفث من السيارة رائحة كريهة تجمعت من النفط واألحذية كثيرا ما أحاول والبول والعرق وحرارة الجو وضيق المكان ،وكنت ً االقتراب من النافذة كي أحصل على قدر من الهواء الساخن الذي لفحته حرارة الشمس.
مررنا في الطريق بعديد المستنقعات والبرك ورأيت الناس يشربون منها وهي آسنة وغير صالحة للشرب ،وأصيب زهرالدين بالمالريا عندما شرب من أحدى هذه المستنقعات ولم يشفى منها إال عندما وصلنا إلى الجزائر.
على الطريق كنا قد مررنا على تجمعات سكانية بدائية وفقيرة.. عراة إال من منديل يلف حول الخصر ،وأثارني ما رأيته عندما مررنا بإحدى القرى منظر طفلة صغير في الخامسة من عمرها ،وهي تحتضن طفل صغير ٍ ً عار تماما من المالبس ،لم يمر على والدته إال ساعات قليلة بدليل حبل السرة ا ًلذي الزال عال ًقا على بطن المولود .لقد كان منظرا يثير الشفقة. ً 26
في اليوم الخامس وبينما كان الرجال يدفعون السيارة في طريق وعر وضيق تدحرجت إلى جانب الوادي وخرجنا منها بأعجوبة، حملنا أمتعتنا وسرنا بعض الوقت على أقدامنا ،حتى وصلنا إلى مبنى مهجور وسط قرية صغيرة شوارعها من تراب وبيوتها مبنية من الطين وبعضها مبني بالقش.
دخلنا البيت ال توجد له أبواب ونوافذ ،سكنا البيت ثالثة أيام لم أرى فيها النوم .كنت أحضن ابنتي طول الوقت واحمل شمعة تضئ لي ظلمة البيت المهجور .كانت الحشرات والسحالي تجري على الجدران .أحسست بالخوف وسط الظلمة والبرد الشديد ،وضعت ابنتي في حقيبة معدة للنوم وسط الثلوج كان زوجي قد أحضرها قبل والدتها.
مكثنا في البيت المهجور ثالثة أيام لم نخرج منه فالحرارة في الخارج مرتفعة في النهار وال نعرف إلى أين نذهب ،أصبنا كلنا بإسهال شديد نتيجة تعرضنا لضربة الشمس وعدم توفر وجبات صحية ،باإلضافة إلى شربنا للمياه الملوثة .لقد تناولنا طيلة األيام خبزا لونه أصفر تنفث منه روائح بكتيريا العجين ،وعندما السابقة ً حصلنا على بطيخة تناولنها بشراهة ،ولكن كانت فرحتي كبيرة عندما وجدنا بعض المانجو ،غير أني عجزت عن أكلها أمام الرجال من كثيرا ما يضايقني ،ولعدم توفر سكين أو تحت الخمار الذي كان ً ملعقة أحسست بأني امرأة صابرة ً فعل.
عثر الرجال الذين خرجوا منذ الصباح في هذا اليوم الحار والشمس تلفح أجسادهم ،عثروا على سيارة شاحنة كبيرة وصحراوية وهي 27
متوجهة إلى تامرست في جنوب الجزائر ،صعدنا جميعنًا إلى الصندوق الخلفي بعد أن وضعوا ستارة بين الرجال والنساء ،رافقتنا في رحلة الشاحنة امرأة سمراء ورجلين يحملون سيو ًفا .كانت المرأة السمراء تجلس فوق الصناديق نصف عارية ،ولم تأبه لنظرات الرجال .إنها ستذهب قط ًعا إلى الجحيم ،هذا ما كانت تردده الشيخة على مسامعي، فقلت في نفسي يومها :أن تكون نصف عارية في هذا القيض أفضل من أن ترتدي هذا الخمار األسود الذي ُي ِ لهب درجة حرارة الجسم.
جلس الرجال في الجانب اآلخر وهم يضعون وجوههم إلى الخلف ،كي ال يروا المرأة نصف العارية التي تجلس في األعلى لكي تحصل على قدر كاف من الهواء ،هي قالت لهم ذلك عندما قالوا لها ال تجلسي هكذا سوف تسقطين من فوق الصناديق.
صعودنا إلى الشاحنة كان في غاية الصعوبة ،فالشاحنة كانت عالية ،ولم أستطيع أنا وال المرأة واألطفال الصعود ،فوضعت بعض الحجارة فوق بعضها وأضافوا إليها برميل صعدنا فوقه إلى الشاحنة. قبل أن تنطلق الشاحنة ذبح الرجال خرو ًفا أشتروه من أحد الرعاة، وألول مرة منذ مغادرتنا تونس أكلنا اللحم المشوي ،وحصلنا على وجبة من المكرونة واللحم ..ولكن مع االرتفاع الشديد في درجة الحرارة لم نستطيع األكل ،وعلقوا باقي اللحم في الشاحنة.
كانت الشاحنة الصحراوية محملة بصناديق وحديد ،وكان المكان الذي حجز لنا مكان ضي ًقا .جلسنا فيه محشورين ،أنا وابنتي والشيخة وأوالدها ،وجلس الرجال في الجزء المخصص لهم خلف الستارة. 28
سارت الشاحنة في طريق صحراوي في جو مرتفع الحرارة أثناء النهار ،وفي الليل تنخفض درجة الحرارة إلى ما تحت الصفر.
كانت الشاحنة ً دائما إال عندما قليل ما تتوقف ،فقد كانت تسير ً تتوقف بعض الوقت لنتناول بعض الطعام ،حيث يقوم الرجال بطهي األرز أو المكرونة مستخدمين اللحم الذي أصبح مقد ًدا ،واستمر مسيرنا وسط الصحراء عشرة أيام كاملة ،وعندما استنفذت كمية اللحم أصبحنا نأكل الخبز اليابس ونشرب المياه الساخنة الرديئة الطعم. قلت لزهرالدين :آه لو أجد تفاحة أو موزه ،رد ذك الطفل الصغير الذي لم يتجاوز الخامسة من عمره (يتهايلك توصل غاليك) .كان كلما يراني أبكي يقول :حرام تبكي يا خالتي عيونك سماح.
29
()4 حاولت عدة مرات أن أتذكر ،كيف عبرنا هذه الصحراء التي ليس
لها نهاية ،فبعد أن تجاوزنا مدينة تمبكتو الشهيرة ،وفي محاولة الستعادة شريط المناظر الطبيعة الكئيبة المحاذية لنهر النيجر ونحن بالقرب من
العاصمة المالية باماكو ،غير إن ذلك الشريط ابتلعته تلك األيام العشرون في الصحراء .حتى إني أرى منظر الماء ونحن نعبره بين التماسيح النهمة ألجسادنا أشبه بالمعجزة .لقد ساورني خوف كبير آنذاك.
الصحراء تشكل تحد ًيا ال يمكن االطمئنان إلى إمكانية تخطيه
تكرس في اإلنسان هاجس الخوف والرهبة أو تجاوزه .فالصحراء ّ
كلما مضى في التوغل فيها ،خاصة عندما يستوطنه إحساس بالوحدة
حتى لو كان مع عدد من الناس ،فال أهمية لذلك ما دام لهؤالء الناس حدود يحيطها البصر وقدرة يقيمها العقل.
للصحراء أجواء ال يمكن فهمها إال من خالل المعايشة المستديمة،
كثيرون فقدوا حياتهم عندما اعتقدوا إن لديهم الخبرة الكافية في 31
صحراء ال تحتفظ بخطوط مستقيمة ودالالت ثابتة وتفرقات معروفة للطرق التي تتداخل فيها اآلثار بين األقدام البشرية وأرجل اإلبل والخيل والحيوانات والسيارات. ِ كثيرا ما غطت أعرف إن األجهزة لم تجد في كثير من األحيانً ، هذه الرمال ً ارتال من السيارات المزودة بأحدث األجهزة ومعدات االتصال باألقمار الصناعية. في بعض األحيان تنبعث فينا الحياة ،خاصة عندما تتضح معالم واحة ما وتظهر بيوت مختلف طراز بنائها ،مثل الخيام أو البيوت المبنية من القش على شكل نصف دائرة ،وهي قليلة االرتفاع ويسكنها الفقراء عادة.
الحياة في الصحراء واضحة المعالم محددة التكوين ،فليس هناك أكثر من خمسة أو ستة مجاالت تكون الحياة .االجتماع بعد العشاء وانجاز أعمال الرعي ،وإدارة شؤون البيت من قبل المرأة ،والسقي والنزول إلى مدن قريبة للتسوق ،وهذه العملية تتم في الشهر مرة أو مرتين ومن قبل أفراد متخصصين يمتازون بمعرفة جيدة بأبناء المدن القريبة التي يتسوقون منها .مع أن بعضهم يفضل التسوق من «تمبكتو» برغم إنها بعيدة. إن عالم الصحراء الكبرى ،الممتدة من الساحل الغربي من نهر مرورا بليبيا وتشاد والنيجر والجزائر والمغرب وموريتانيا ومالي النيل ً والسنغال ..هذا العالم المجزأ يعيش سكانه حياة معقدة ،غير إنها في نفس الوقت بسيطة ،ليست هناك صعوبة في توفير احتياجاته ،ألنها ً مبكرا ..قبل شروق مبكرا ،وينتهي أصل بسيطة ،فالليل هنا يبدأ ً ً الشمس يبدأ ضجيج حركة الحيوانات ،مواش وحمير وخيل وإبل. 32
()5 وصلنا بعد عشرة أيام من المسير في صندوق الشاحنة إلى تامرست في األراضي الجزائرية ،بتنا ليلتنا في فندق سياحي وسط العشب، الفندق مبني بسعف النخيل ويحتوي على فرش ردي ومتسخ ،وهو عبارة عن قطع طويلة من األسفنج ،وفي اليوم التالي ذهبنا إلى محطة القطارات في تامرست ،وانتظرنا وصول القطار يو ًما ً كامل جالسين على األرض .في المساء ركبنا القطار إلى الجزائر العاصمة ،و أحببت أن أستريح في أحدى الغرف ،ولكن قالت الشيخة :عيب رجال، ال تنامي أمامهم ..والمفارقة العجيبة هي إن السيدة الشيخة اختارت وأطفالها أحسن الغرف ونامت حتى وصل القطار ،ولكنى نمت وابنتي في غرفة كان يرافقنا فيها كثير من الرجال.
متواضع أنا وزوجي وابنتي وصلنا الجزائر العاصمة ،سكنا فند ًقا ً في غرفة ،والشيخة وزوجها وأبنائها في غرفة ،وباقي الرجال في غرفة أخرى ..مكثنا في الفندق يومين فقط ،وفي اليوم الثالث ذهب زوجي والرجال إلى المسجد فتعرفوا على رجل اسمه محمد ولد سيد الناس، 33
وكان يرافقه شخص آخر ،وعندما عرفوا بقصتنا وأننا مهاجرين في سبيل الله دعانا إلى بيته وبقينا به خمسة عشرة يوم.
عندما انتقلنا إلى البيت الجديد سكنا وسط كرم ال حدود له من قبل سيدة البيت التي تدعى زهرة ،والبيت عبارة عن غرفتين مفتوحتين متصلتان ،تفصلها ستارة .سكنت أنا والشيخة واألوالد في غرفة، وسكن زوجي والرجال في الغرفة المقابلة.
انتقلنا إلى بنسيون بمنطقة باب الواد بالعاصمة الجزائر ،وسكنت في غرفة أول الدرج ،وسكنت الشيخة في الغرفة المجاورة ،وذات شخصا جزائر ًيا غري ًبا يضايقني وينظر إلي باستغراب، يوم شعرت بأن ً أحسست بالخوف ،فجريت مسرعة إلى غرفة الشيخة وأخبرتها بذلك، عندها قامت الشيخة بالنظر من خالل ثقب المفتاح في باب الغرفة، والمثير إنها وجدت ذلك الشخص ينظر من خالل تلك الفتحة، فصرخت بصوت عالي ،وصرخت أنا معها بصوت عالي ،وأخذت أصرخ ،فحضر زوجي والشيخ خليفة وعمال الفندق ،وهنا قالوا لها ما بك ،فأشارت إلي وقالت هي من تصرخ ،استغربت ما فعلته الشيخة نحوي ،ونظر الجميع نحوي باستغراب. في باب الواد تعرفت على مجموعة من الشقيقات ،كن ثال ًثا. إحداهن كانت خطيبة محمد ولد سيد الناس ،ربطتني صداقة متينة كثيرا ما أذهب إلى بيتهم لغرض مع ليندا ،وهي أصغرهن ،كنت ً االستحمام واستبدال مالبسي ،فالبنسيون كان بحمام مشترك ،وهذا كان ال يعجب الشيخة. 34
في البنسيون كان طعامنا عبارة عن خبز وجبن فقط ،ونتناول في جاهزا هو عبارة عن دجاجة محمرة ،وفي كل يوم بعض األحيان طعا ًما ً جمعة كان أصدقاؤنا الجزائريون يحضرون لنا وجبة من الكسكسى خصيصا لنا. أو أي طعام آخر يعدونه ً
35
()6 الشيخة خديجة..لم أر في حياتي امرأة مثلها حقدً ا وحسدً ا وكراهية
للبشر ،وهي تدّ عي الطيبة ريا ًء .كانت امرأة مؤذية في تعاملها معي.
أذكر عندما زارتني أول مرة في بيتي ببنغازي قالت لي ستكونين رفيقة الدرب ،لم أفهم يومها ماذا تعني؟ ولم أكن أعلم ما هو الدرب الذي
سيجمعنا ،حتى عندما سافرنا م ًعا من بنغازي إلى طرابلس ثم إلى
تونس كنت أتوقع إنهم جميعا رفاق طريق وكفى ،وسنفترق عندما
نصل إلى المكان المقصود.
دائما يناديها «ديجالون» ،ولم أعرف خديجة ،التي كان زوجها ً
معناها حتى اآلن ..كانت لهم تجربة الهجرة إلى أفغانستان قبل رحلتنا هذه ،وعاشت هناك فترة طويلة ثم عادت إلى ليبيا بعد إن استقرت
أربع سنوات في سويسرا ،ورافقت زوجها أثناء هجرته إلى السودان. كانت تطلق ابتسامة السخرية مني في كل مناسبة أو حتى بدون
مناسبة ،تجرحني بقولها وفعلها ،وعندما طلبت منها ذات يوم أن تسدد 37
باقي قيمة بعض األدوية التي كنت اشتريتها من الصيدلية المالصقة للفندق في الجزائر ..قالت لي يومها وبصوتها القوي« ..ايوا يا ستي
قولي أنا نصرف عليكم من فلوسي».
لم أكن أعرف أبدً ا إن زوجي هو من جمع هذه األموال التي تصرفها
تصرف في كل ما أملك من ذهب ،وهو ما قدمته كل المجموعة بعد أن ّ له أنا شخص ًيا ..عندما سمعت هذه الكلمات أصابني الغثيان ..إ ًذا هذه األموال هي من مالي أنا ..من ذهبي الخاص ،ولكني الحظت
يتسوق ويحضر لنا كل احتياجاتنا. دائما ّ إنه هو من كان ً
كبيرا من المال ولكن صدمتني حقيقة أعرف إن زوجي جمع مبل ًغا ً
الصرف على اآلخرين الذين يرافقوننا في هذه الرحلة ،والتي الزلت
ال أعرف إلى أين تقودنا وبدأ يساورني الشك في نوايا رفاق الرحلة. أيضا وكان الشيخ خليفة زوج ديجالون وقائد المجموعة واقع هو ً
تحت تأثير سيطرتها القوية .يستمع إليها وإلى شكواها المستمرة مني كثيرا ما يتعرض لي باألهانة ويشكو زوجي ً نقل دون سبب ،وكان ً
عنها.
كنت صغيرة السن .كان عمري ال يتجاوز تسع عشرة سنة .كنت
أحب أن أعيش حياتي كما أنا طفلة ،وكثيرا ما كنت أقوم ببعض األعمال التي أحببتها وأنا صغيرة في بيت أسرتي ،فقد أحببت أن
أقوم بالسير على الساللم محدثة صوتًا عال ًيا من حذائي وأستمتع بهذا الصوت .لكن ذلك ال يروق للشيخة خديجة وزوجها. 38
كثيرا ما يلقيها ذات يوم ونحن نستمع لحلقة الدرس التي كان ً الشيخ خليفة في تفسير القرآن الكريم ،وأثناء الحلقة تغيرت نبرة صوت الشيخ وقال :هناك بعض النساء تجري على الساللم مثل األطفال محدثة صوتًا ال يليق بالمرأة المسلمة المهاجرة التي تحافظ على الدين ..وهنا ابتسمت زوجته ابتسامة صفراء لعينة.
الشيخة قبل أن تهاجر إلى أفغانستان كانت قد أنجبت ً طفل اسمه زهرالدين وطفلة اسمها فاطمة ،وعندما هاجرت تركتهم لجدتهم، والدة والدهم ،فتربوا عندها ولم يعودوا يعرفوا عن أمهم شي ًئا. زهرالدين عمره خمس سنوات وفاطمة تصغره بسنة ،وعندما رافقونا في رحلتنا إلى الجزائر ثم المغرب كان الطفالن ال يميالن لوالدتهما كثيرا ،فهما ال يعرفانها بالقدر الكافي ،بينما كان لديها طفالن أنجبتهما ً في أفغانستان ،أحدهم يدعى صالح والثاني محمد ،وهي تميل لهما أكثر وتهمل اآلخرين.
39
()7 في شهر يونيو 1989م وصلنا الدار البيضاء عبر القطار الذي
استبدلناه في وجدة ،كان يرافقنا باإلضافة إلى الشيخ خليفة وعائلته،
محمود إدريس الذي كان قد عاد من ليبيا ولحق بناء في الجزائر. ونظرا سكنّا فند ًقا ال أذكر اسمه ،ولكنه يقع في شارع درب عمر، ً
الرتفاع سعر اإلقامة انتقلنا لإلقامة في فندق أرخص ،واستمرت إقامتنا لمدة شهر تقري ًبا.
اتصلنا بالشيخ مصطفى الشرقي الذي كنا نحمل توصية له من
أحد األشخاص الذي التقيناهم بالجزائر لالهتمام بناء ،واستقبلنا
الرجل بحفاوة بالغة ،والشيخ مصطفى كان مقرئ قرآن قدير وشيخ ومتزوجا بزوجتين ،ومعرو ًفا دين من طراز رفيع .كان كفيف البصر ً
أيضا اتصلنا باألخ محمد في كل المملكة الغربية بمعارضته للسلطةً ، المر ،وهو من رجال األعمال المغاربة ،وكان ً وشهما كريما رجل ً ً كثيرا فيما بعد. ومضيا ًفا ،وساعدنا ً
41
بواسطة هذان الرجالن انتقلنا للسكن في شقة بحي الصدري، كانت تتكون من ثالث غرف ،سكنت وزوجي غرفة ،والشيخة وزوجها الغرفة الثانية ،أما الثالثة فسكن فيها محمد إدريس .وما لبث أن التحق بناء آخرون ومنهم شخص يدعى فوزي ،وهو ضابط ليبي سابق وصل إلى المغرب بعد أن عبر الحدود الجزائرية المغربية عن طريق البر .وأذكر أنه عندما وصلنا كان يرتدي مالبس داخلية فقط، ويضع فوق جسمه غطاء ،وحالته كانت يرثى لها ،والتحق بناء عبدالله وأيضا خالد أبوقيلة ،وكان مصا ًبا بالصرع، بعد أن تزوج من سالمةً ، وأحمد أبوعجيلة وزوجته كريمة. نقسم السكن بين الرجال والنساء ،فسكنّا عندما كثر العدد أصبحنا ّ نحن النساء غرف ًة ،والرجال غرف ًة ،والغرفة الثالثة استعملت للمبيت العائلي بحيث يتناوب على سكنها عائلة في كل ليلة ،عدا أنا وزوجي لم نسكنها ،ألن زوجي كان كثير السفر والمبيت خارج البيت بسبب كثيرا. اشتغاله بالتجارة بين المغرب والجزائر وكان يغيب ً
وغسالة ألفراد المجموعة الذين تحولت في هذا البيت إلى ط ّباخة ّ ال يخرجون من البيت ،فكنت أطبخ وأغسل المالبس والصحون ،فالشيخة ال تعمل هذه األعمال ،وسالمة ال تعرف الطبخ ،وكريمة انتقلت إلى شقة أخرى وسكنت لوحدها مع زوجها ألنه ال يريدها أن تخدم اآلخرين. قلت للشيخة خديجة يو ًما :لماذا ال تساعديني في طهي وجبة الغذاء؟ فالمجموعة كثيرة وتحتاج إلينا جمي ًعا لكي نقوم بالطهي وتنظيف األواني وغسيل المالبس. 42
فر ّدت أنا ال ألوث يدي ومالبسي بالطهي والصابون وغسيل األواني ..استغربت منها ذلك وقررت أنا نفسي أن أتوقف عن مثل هذه األعمال ..وأخبرت زوجي بما حدث ،ولكنها هي أيضا أخبرت فتقرر عقد جلسة لمناقشة الموضوع ،وتحدثت زوجها الشيخ خليفةّ ، الشيخة وكانت تكذب في سرد ما حدث ،والغريب في األمر تصديقها من قبل زوجي وزوجها ..وقال لي زوجها :لو قيل لي إن أمك تكذب لصدقت ..أم أن يقولوا لي الشيخة تكذب فلن أصدق .عندما وصل األمر به إلى هذا الحد لم أعد أشكو.
عندما كثر العدد تضايق أصحاب الشقة وتخوفوا ألنهم كانوا أيضا ،فطلبوا منا أخالئها بعد خمسة أشهر ،فانتقلنا إلى متدينين هم ً بيت يقع في حي األلفة ،وفي هذا البيت كثرت المشاكل بيننا نحن دائما إما بسبب الطبخ والغسيل أو األوالد، النسوة ،والمشاكل كانت ً وكذلك بعض المشاكل نتيجة الغيبة والنميمة. كثيرا ما تشكوني لزوجي والشيخ خليفة ،وكانوا لقد كانت الشيخة ً جارحا ويبينون لي محاسن دائما يحضروني أمامها ويسمعوني كال ًما ً ً تلك السيدة التي لم أر فيها أي حسنة تذكر ،سوى ما تفعله في حقي من إساءات ..إن كان ذلك حسن ًة في نظرهم.
غادرنا محمد إدريس عائدً ا إلى ليبيا بعد أن سئم الحياة في المغرب ،وتأكد من إنه أصبح غير مطارد في ليبيا ،ففي اعتقادنا دائما إننا لم نفعل شي ًئا ضد النظام ..وعندما أقلعت الطائرة التي ً استقلها محمد إدريس وصلتنا في المساء رسالة من بنغازي تحذرنا 43
من العودة ألنهم يبحثون عنا ،وتم تصنيفنا على أننا زنادقة وخطر على المجتمع ،وأستقبل محمد إدريس في المطار وأودع السجن ولم نلتق به بعد ذلك ،وال أعلم عنه شي ًئا.
الرسالة التي وصلتنا وتحذرنا من التفكير في العودة إلى ليبيا زادت من مشاكلنا النفسية وتخوفنا من إننا أصبحنا مطاردين ً فعل ،قبل أن تصلنا رسالة التحذير والتي ال أعرف مرسلها ،إذ لم توقع باسم شخص بعينه بل كانت مجهولة المرسل ،ومع ذلك أصيب أفراد المجموعة بالرعب والفزع وتألمنا لما انتهى إليه محمد إدريس.
أشار أحد األخوان على زوجي بأن يرحل بي إلى مكان آخر ويترك هذا البيت ،وهنا انتقلت للسكن في فندق من جديد برفقة كريمة وزوجها عبدالله ،أما باقي المجموعة فتم تدبير تذاكر سفر لهم للسفر عن طريق قبرص وكانت خطتهم النزول في قبرص ،وطلب اللجوء. وفي مطار الرنكا حاولوا مغادرة الطائرة ولكن الشرطة القبرصية رفضت نزولهم وتم تسفيرهم إلى بنغازي مباشرة. تم القبض عليهم جمي ًعا وهم الشيخ خليفة وزوجته الشيخة (ديجالون) وأبنائهم وأحمد أبوعجيلة وزوجته سالمة ،وال أذكر من كان معهم ،وصلتنا األخبار من خالل مصطفى قرجي ..عند القبض عليهم تأثرنا جدً ا لما أصابهم خاصة الشيخة بالرغم مما لحقني منها من أذى وبالرغم من العالقة السيئة التي ربطتنا. لقد كان الشيخ خليفة والمجموعة متأكدين من نجاح خطتهم التي وضعوها بترك الطائرة في مطار الرنكا وطلب اللجؤ السياسي 44
أو اإلنساني ،ولكن السلطات القبرصية لم تمكنهم من ذلك ،أو أن هناك من أوشى بهم للسلطات الليبية التي تدخلت لتغيير وجهتهم، غامضا لدينا حتى اآلن. فاألمر ال يزال ً
بقدر ما تألمت لموضوع القبض على الجماعة في قبرص غير أن فرحتي بالقبض على الشيخة كتمته في صدري ولم أستطيع البوح وكثيرا ما كنت أدعوا الله أن نفترق به ألحد ،فالشيخة كانت تؤذيني ً ويخلصني منها.
عدنا للسكن بالشقة في حي األلفة مع سالمة وزوجها عبدالله.. سالمة هذه كانت امرأة طيبة جدً ا وهادية وحقيقة عشت معها أيا ًما لم كثيرا ما كانت الشرطة المغربية تحدث بيننا أي مشاكل ،في هذه الشقة ً تأتي إلينا في أوقات مختلفة وكانوا يطمنوننا بأنه لن يلحقنا األذى ولن يتم تسليمنا إلى ليبيا فنحن في بلد األمان.
ثم سرعان ما انتقلنا للسكن بشقة في حي السالم ،و بدأ يتسلل إلينا بعض األشخاص من جديد ،وأحضروا معهم بعض المال.. كثيرا ما يحضر رجال الشرطة ،وعندما تحضر وفي حي السالم كان ً الشرطة يقفز الرجال من النوافذ ويصيبني الخوف والفزع والرعب، وما أن تذهب الشرطة حتى يعود الجميع إلى أماكنهم.
كانت الوجبات التي نتناولها في المغرب عبارة عن عدس وفول نادرا ما نحصل على وجبه بها لحم ،فظروفنا المادية كانت وأرز ،وكنا ً صعبة ..وأصبحنا نقتصد في الصرف ..والمجموعة كانت كبيرة لذلك حدثت مشاكل بسبب عدد الرجال بين زوجي وعبدالله الذي أنجبت 45
زوجته طفلة ،فانتقلت للسكن بالشقة العلوية مع مجموعة الرجال وبقت سالمة وزوجها في الشقة السفلية.
أنجبت ابنتي الثانية في بداية سنة 1990م وغادرنا جميع أفراد المجموعة ،فمنهم من سافر إلى مصر ومنهم من عاد إلى ليبيا ..المهم بقيت وزوجي فقط ،وهنا بدأ الخوف يدب في أوصالي ،وأصبحت كبيرا. ال أستطيع النوم فسفر المجموعة ترك لدينا فرا ًغا ً
دائما وخاصة عندما أخلو بنفسي أفكر في شخصية الشيخة كنت ً خديجة وكنت أعتقد بأنها ستعطي عنا المعلومات كاملة للسلطات في سبيل مصلحتها ومصلحة زوجها وأبنائها وعشت في خوف ورعب.
46
( )8 ال أعلم كيف وجدت نفسي فجاءه برفقة زوجي وبناتي وعبدالله وزوجته في البرتغال ،فقد سافرنا في طائرة حطت بناء في لشبونة ،وكنا ننوي طلب اللجؤ السياسي هناك غير إن األمن البرتغالي لم يوافق على دخولنا فحجزنا في المطار ،وضعت وبناتي وكريمة في غرفة كبيرة وطويلة جدً ا ،وحجز زوجي وعبدالله مع عدد كبير من الرجال، وبعد خمسة أيام تمت إعادتنا إلى المغرب ،وعند نزولنا في مطار الدار البيضاء سلمت جوازاتنا إلى رجال الشرطة ..أصابني خوف شديد .لقد كانت تربض طائرة ليبية ستقلع بعد ساعة ،كنت أعتقد بأن الشرطة ستضعنا على الطائرة المسافرة إلى طرابلس ،غير إن الشرطة أعادت لنا جوازاتنا ،ولكنهم أعلمونا بالبحث عن حل لمشكلتنا. عدنا إلى السكن بالفنادق هذه المرة .سكنا فند ًقا بوسط الدار البيضاء يطلق عليه لوزان ومكثنا به ثالثة أيام ثم انتقلنا للسكن في شقة بوسط البلد ،كنا قد حملنا أمتعتنا وحقائبنا وانتقلنا إلى الشقة، وال أذكر اآلن الشيء الذي نسيناه بالفندق حتى جعل زوجي يعود 47
إلحضاره ،وعندما كان يهم بمغادرة الفندق التقى بأخي الذي كان يبحث عنا ووصل لتوه للسكن بنفس الفندق كانت صدفة غريبة.
أيضا هي التي جعلت أهلي يعرفون أنني في المغرب، الصدفة ً فبعد مضي سنتين ال يعرفون عنا شي ًئا ،ولم تصلهم أخبارنا ،أرسلت برسالة لم أذكر فيها مكاننا ولكني كنت قد التقطت صورة البنتي وهي ترتدي حذاء (كاويش) له شكل مميز ،وأرسلت الصورة إلى أهلي في بنغازي ..شبيه الحذاء كان يرتديه أحد أطفال جيراننا ،وعندما سألوا والده عن المكان الذي أحضر منه الحذاء عرفوا إنه من المغرب فسافر أخي للبحث عنا.
كان بالنسبة لي شيء رائع أن ألتقي بأحد أفراد أسرتي بعد هذا العناء والسفر الطويل والغربة ،خاصة وأنني لم أعلم بوصول أخي بطريقة سلسة وسهلة ،فقد سمعت كريمة ،وهي تقول لزوجها سوف متوجس ًة ،وحدثتني تموت عندما تعلم ،لقد شعرت بالخوف ،كنت ّ نفسي على إن شي ًئا ما سيحدث ،ربما ستسلمنا السلطات المغربية، أو أن أحدً ا ما من أهلي أصابه مكروه في بنغازي.
دخلت المطبخ وقفلت الباب أنتظر ما سيحدث عندما أعلم، وقفت خلف الباب متكئة ،وعندما بدأ زوجي بدفع الباب من الخارج كنت أدفعه من الداخل ،ولكن عندما فتح الباب وجدت أخي يقف صراخا بصوت ٍ ً عال وأصابتني الدهشة أمامي ،لقد مألت البيت والفرح في آن واحد .لم أستطيع أن أخفي فرحتي باللقاء.
تعرض أهلي لكثير من المتاعب بحجة عندما غادرت بنغازي ّ 48
تعرض انتمائي لجماعة التكفير والهجرة ،وكان شقيقي أكثر من ّ لذلك ،فقد كان يملك شاحنة يعمل بها في نقل البضائع من الميناء.. تصوروا كانوا ال يشحنون البضائع على سيارته بحجة إن شقيقته، والمقصودة طبعا أنا« ..زنديقة» .حتى إن أهلي عندما كنت أتصل بهم كانوا ال يردون على الهاتف ،وأصبح االتصال بهم يجلب عليهم وكثيرا ما تعرضوا لالستدعاء والتحقيق. الكثير من المشاكل، ً
غادرنا شقيقي الخميس ،ولكنه عاد الخميس التالي وبرفقته أيضا ،كنا قد والدتي .شيء رائع آخر هذا الشهر أن أرى والدتي ً استبدلنا الشقة بشقة أكبر منها خالل األسبوع الذي غادرنا فيه شقيقي وعندما عرفت إن والدتي ستزورنا.
كانت الشقة مفروشة في شارع الجيش الملكي في الدور الخامس ووصلت والدتي وشقيقي ووصل قريب عبدالله رفيقنا ،وخالل األيام التي كانت والدتي معنا تتلمسني وتتأكد من أنني الزلت على قيد الحياة لقد كنت بالنسبة لها قد انتهيت.
كانت والدتي تستيقظ ليال لتتأملني وأنا نائمة ،وعندما أشعر بها وأسالها تقول إنها ال زالت ال تصدق بعد ،وتشعر إن ما يحدث مجرد حلم.
غادرتنا والدتي بعد أسبوع فقررنا ترك الشقة المفروشة واالنتقال فكثيرا ما نسمع دقات على إلى مكان آخر .لقد كانت الشقة شبه ًة، ً الباب من قبل كثير من العاهرات وبنات الليل ،فأصابني الخوف والفزع ،لذا انتقلنا إلى فندق البرنس موالي عبدالله ،وسكناه لمدة 49
ثالثة أشهر ،وزارني في هذا الفندق شقيقي األكبر ،وعند زيارته تلك أعطاني مئتي دوالر ..لقد كنت بحاجة ألي مبلغ أساعد به نفسي وبناتي.
في هذا الفندق كنا نشتري الوجبات الجاهزة ،وال نستطيع طهو صغيرا وأدوات طهي ،ولكن الطعام ،بالرغم من أننا اشترينا موقدً ا ً كانت أمورنا تتدبر بطريقة غريبة ،وأعجز اآلن عن معرفة كيف كانت تسير أمورنا المالية.
قرر مختار وزوجته السفر إلى مصر وانتقلنا لإلقامة بفندق آخر، وتعرفنا على عائلة بن جلول الذين عاملونا باحترام شديد وبتميز وساعدونا كثير.
مختار شاب أصله من الزاوية التقيته في الدار البيضاء يحكي قصته ..قال كنت طال ًبا في السنة الثانية ثانوي عندما استدرجني وبعض شرطي كان يلتقي بناء ألخذ بعض الدروس في الدين ..وذات الشباب ّ يوم سمعنا أن الشرطي سرق بندقية وتم القبض عليه ..أصابني الخوف مما يحدث ،التقيت أنا واثنان من الرفاق أن نهرب إلى تونس .تد ّبر كل منّا مبل ًغا من المال ،واشترينا بالمبلغ دوالرات ،وغادرنا إلى تونس وعندما وصلنا ذهبنا الستبدال العملة فوجدنا أنها كانت مزورة ،فعدنا إلى الزاوية وذهبنا إلى تاجر العملة واسترجعنا المبلغ. لم نعد إلى بيوتنا وذهبنا إلى محطة سيارات األجرة في جامع أبورقيبة ،ومن هناك توجهنا إلى بنغازي ومنها إلى مصر ،وعندما وصلنا إلى اإلسكندرية قبضت علينا السلطات المصرية وسلمتنا إلى 50
المخابرات الليبية في طبرق وأودعنا السجن هناك ،وبت ليلة واحدة وفي الليلة الثانية قفزت من السور وذهبت إلى البيضاء.
بقيت في البيضاء عند أحد األصدقاء ،ثم رجعت إلى طرابلس وبقيت في الهضبة عند صديق آخر ،ثم فتحت ً محل لبيع الفواكه والخضروات على ناصية الشارع لمدة سنة ،وعندما جمعت مبل ًغا تزوجت وغادرت إلى تونس ثم إلى المغرب. من المال ّ
ً طويل في هذا الفندق فسرعان ما سكنا شقة بحي لم تستمر إقامتنا الزرقطوني .زارنا في هذه الشقة شقيق زوجي الذي التقى بشخص كثيرا، يدعى منصور إسماعيل .كان على معرفة به وتعلق به زوجي ً ً وفعل فأشار على زوجي بإرسال بضائع إلى ليبيا والعمل بالتجارة أرسل زوجي بضائع هي عبارة عن أوني شاي وأدوات زينة ،ولكن كانت نتيجة هذه التجربة خسارة فادحة مني بها زوجي ،إذ لم يستطيع حتى استرداد رأسمال البضائع فقد حصل منها على مبلغ بسيط فقط. بقينا فترة من الوقت حتى أشار علينا بعض األصدقاء المغاربة بمحاولة الهجرة إلى هولندا وطلب اللجؤ السياسي هناك بالتنسيق مع محا ٍم مقيم بهولندا ،وقمنا بشراء تذاكر السفر وقررنا الرحيل عن المغرب.
51
()9 كنا قبل سنتين وعند وصولنا إلى المغرب قد قدمنا طلب اللجوء إلى منظمة اليونيسيف ،وهي منظمة للطفولة تتبع األمم المتحدة، كثيرا مكتبهم بالدار البيضاء ولكن دون جدوى، غير إننا راجعنا ً وعند تجولنا لشراء بعض الحاجيات لحملها معنا إلى هولندا مررنا بالمكتب بطريق الصدفة ،فقال زوجي لنعرج على المكتب ربما نجد أخبار جديدة ،وعند دخولنا المكتب استقبلتنا المرأة المسئولة دائما بشي عن المكتب بابتسامة عريضة وهي التي كانت تستقبلنا ً كثيرا؟ .كنا من الوجوم وبادرت بالسؤل :أين أنتم؟ لقد بحثنا عنكم ً كثيري التن ّقل وتغيير محل اإلقامة وعجزوا عن الوصول إلينا وإبالغنا.
قالت لنا تلك المرأة ،والتي أعتقد إن اسمها كان مريم جلول :لقد تمت الموافقة بمنحكم حق اللجوء لكم فقط من بين كل الذين تقدموا عبر مكتبنا ..وهنا غمرتنا الفرحة المذهلة ،وأردفت في الحديث، أيضا على تخصص مرتب شهري بقيمة ألف وخمسمائة وقد وافقوا ً درهم مغربي. 53
وأخيرا نستطيع أن نعيش بحرية بعد كل كانت فرحتنا ال تقدر، ً أخيرا نستطيع أن نتنفس هوا ًء نق ًيا ونخرج هذه السنين من الخوفً ، إلى الهواء الطلق متى أحببنا وبال قيود. في الحقيقة لم تكن هناك قيود على تحركاتنا خالل إقامتنا في المغرب، ولكن سيطرت علينا قيود داخلية هي الخوف من كل ما هو غريب ،فقد كنا نتحرك بحذر شديد وننتقل من سكن إلى سكن زيادة في الطمأنينة.
شرحت لنا الموظفة كيف يمكننا أن نستكمل باقي اإلجراءات وإن هذا الحق في اللجوء يتوقف على موافقة إحدى دول العالم على استقبالكم كالجئين سياسيين ،وهذا سوف يأخذ بعض الوقت. لم أستطيع الصبر على شكر السيدة مريم جلول المديرة المسؤلة عن مكتب اليونيسيف التابع لألمم المتحدة ،وذهبت مسرعة إلى محل لبيع أدوات الزينة واشتريت لها زجاجة عطر ثمينة قدمتها لها كهدية وشكر على المجهود الذي قامت به لحصولنا على هذه الموافقة. عدنا يومها إلى البيت وألغينا الرحلة التي كنا نزمع القيام بها إلى هولندا ،فماذا نريد بهولندا ونحن حصلنا على موافقة حق اللجوء ومن منظمة عالمية معترف بها في جميع أنحاء العالم ،وزيادة على ذلك ُخ ّصص لنا مرتب شهري.
انتقلنا للسكن في شقة بحي بيسجور ،وهنا زارنا أهل زوجي ألول مرة منذ مغادرتنا بنغازي وعادت والدتي لتزورني عندما أنجبت ولدي األول في هذا البيت. 54
كثيرا وفتح بيتنا من جديد الستقبال أفراد المجموعة الذين ً ما ترددوا على بيتنا ،وأقام معنا في نفس البيت عبدالرحيم ،وعاد مختار ،كما عاد عبدالله وزوجته وسكن في شقتنا بعد أن سجن بمصر لمدة أربع أشهر. روى لنا عبدالله كيف قبض عليهم األمن المصري الذي اقتحم شقتهم ونقلهم إلى السجن ،ومظاهر التعذيب في السجون المصرية، والتي كانت واضحة على جسد عبدالله.
بعد خمس أشهر من اإلقامة بشقة بيسجور عجزنا عن دفع ونظرا لظروف زوجي ،وكثرة اإليجارات ،كانت إيجاراتها مرتفعة ً المترددين على البيت والمجموعة التي تسكن معنا لم نستطع اإليفاء باإليجارات في الوقت المناسب ،لذا قررنا استبدال الشقة بأخرى أرخص وانتقل معنا للسكن بها ناجي وعبدالرحيم وال أدري أين انتقل عبدالله وزوجته ومختار. استقرينا في السكن بهذه الشقة ،وهي قريبة من حي بيسجور لمدة ثالث سنوات ،عرفنا االستقرار والراحة وبدأ زوجي يعمل بالمقاوالت مع عائلة بن جلول وانتظم أطفالي في مدارس خاصة.
كانت هذه الفترة الوحيدة التي شعرت فيها باألمان ولم أعد أشعر بالخوف من رؤية ليبي يسير وسط شوارع الدار البيضاء ،وأصبحت وكثيرا ما كان يقصدنا حياتنا مستقرة وتحسنت أوضاعنا المادية، ً بعض األخوان من ليبيا لإلقامة فترات قصيرة في بيتنا ،وكنا نستقبل الجميع دون استثناء. 55
زوارنا في تلك الفترة كان ً رجل يدعى علي ،زارنا بسيارته أحد ّ ومكث عندنا فترة يتنقل مع زوجي ،ويوم أن انتوى مغادرتنا طلب مقابلتي للسالم ،وقال إن رؤية هذه السيدة عندي بالدنيا ولكنه لم يرني مع ذلك.
كبيرا من غادرنا وكان زوجي قد وضع تحت كرسي السيارة مبل ًغا ً المال ونسيه ولم يذكره ،حتى وصل األخ علي إلى البوابة الفاصلة بين الجزائر والمغرب ،ويطلق عليها جوز بغال ،أوقفته الشرطة المغربية وعند تفتيشه وجدت المبلغ فصادرته وصادرت السيارة واتهم الرجل بالتهريب.
ذهب زوجي إلى السلطات المغربية وأخبرهم بأن مبلغ المال يخصه ،ولكن دون جدوى فقد صودر المبلغ وصودرت سيارة الرجل. بعد هذه الفترة الطويلة من االستقرار انتقلنا للسكن في حي جميلة 7في شقة أكبر من سابقتها ،كنت على وشك أن أنجب فاخترنا أن ننتقل إلى شقة أوسع حيث سنستقبل األهل من ليبيا.
وأنجبت ابنتي الثالثة وزارنا أهل زوجي من جديد ثم دخلت المستشفى وأجريت لي عملية جراحية على الزائدة الدودية ،وعادت والدتي لتزورني للمرة الثالثة ،وكانت هذه المرة ترافقها شقيقتي الكبرى وألول مرة. كثيرا بالغربة فقد أصبحت أرى أهلي تبا ًعا ،وامتأل لم أعد أشعر ً 56
بيتي بثالث بنات وولد ،وزائرونا من ليبيا .كنت أصاب بالتذمر عندما ال يشاركنا أحد في السكن حتى أننا أصبحنا نبحث عمن يسكن معنا. في أحد األيام أتصل بناء شخص ليخبرنا عن وجود أحد الليبيين ويدعى أحمد وعائلته بمدينة طنجة ،وهم ال يملكون أجرة البيت الذي يسكنونه ،فأرسل له زوجي مبل ًغا من المال سدّ د به اإليجارات المتراكمة وترك البيت وحضر لإلقامة في بيتنا.
57
( ) 10 كثيرا ،بل لم يكن يتر ّدد في ما يفعله ،وهو زوجي كان ال يتكلم ً يتفحصه أو يتأكد منه ،وهذا االستعجال يقدم على فعل الشيء قبل أن ّ كثيرا على حياتنا. بقدر ما هو حسنة فيه فإن ذلك قد أ ّثر ً
كريم ومضياف كان إنسانًا طي ًبا ومثق ًفا ،وهو بدوي بطبيعته.. ٌ ال يهمه أن يصرف كل ما بحوزته دون أن يفكر كيف يعيش بعد ذلك. كان يفتح بيته لكل من يطرق بابه ويجعل كل وقته في خدمة ضيوفه ال يفارقهم أبدً ا حتى أثناء النوم كان ينام مع الضيف الذي يشاركنا بيتنا ،وبعض الضيوف استمرت إقامتهم معنا ألشهر. كان لطي ًفا مع أهله وجيرانه محبو ًبا منهم جمي ًعا إال من جارتهم وهي من حركة اللجان الثورية والتي يعتقد زوجي بأنها المرأة التي كانت سب ًبا في شقائه.
التقى زوجي تلك المرأة في الحج عام 1985م وكان برفقة والدته وبعض النسوة من أقربائه وجيرانه ،وكان يخدمهم جمي ًعا دون استثناء 59
فيوفر لهم حاجيتهم ويعمل على توفير الراحة لهم ..ينقلهم ويطوف بهم ويسأل عنهم ،يحضر لهم الطعام والماء حتى إن النسوة أصبحن يسألن عنه كلما تغيب أو ذهب لقضاء عمل ما مع أحد أصدقائه.
كل ذلك وجارتهم عضو الحركة تراقب ما يقوم به زوجي أثناء مفصل عنه إلى الجهات موسم الحج وعند عودتها قامت بكتابة تقرير ّ المختصة .استدعى زوجي على أثر ذلك للتحقيق وأودع السجن لمدة شهرين أفرج عنه فيما بعد.
في السنة التالية كان زوجي يزمع السفر إلى العمرة وعند ذهابه إلى المطار قبض عليه وأودع التوقيف وتم تكليفه بالسفر إلى سوريا لنقل رسالة إلى أحد الليبيين المهاجرين هناك والمطلوبين من قبل األمن ،وغ ّير زوجي وجهته وسافر إلى دمشق ليحمل تلك الرسالة ولكنه عاد ولم يسلم الرسالة ألنه لم يلتق بالمرسلة إليه.
بدأ زوجي يشعر بالخوف حينئذ وأصبح يبحث عن طريق للهجرة إلى خارج البالد ،فحاول ً أول الهجرة من خالل تركيا التي سافرنا إليها ومكثنا فيها شهرين ونصف دون جدوى.
60
( ) 11 مع بداية عام 1996م بدأت الشرطة المغربية تضايقنا من جديد، وال أعرف سب ًبا لذلك ،فنحن نقيم في المغرب بناء على توصية من منظمة اليونيسيف وهي تسلم لنا رات ًبا شهر ًيا.
كانت الشرطة تتبعنا أينما ذهبنا وتستدعينا للتحقيق ،وطلبوا منا رسم ًيا مغادرة المغرب ،توجهنا إلى السيدة مريم جلول مدير مكتب اليونيسيف في الدار البيضاء فر ّدت علينا بأنها ال تستطيع فعل شيء مع السلطات المغربية ،فالمنظمة التي تتبعها منظمة إنسانية وال تملك أن تجبر أي من الحكومات على قبولنا ،ووعدتنا بمحاولة االتصال وإيجاد حل مناسب.
بدأ األمر يضيق بنا ،والشرطة المغربية تض ّيق الخناق علينا ،ويبدو أن هناك شيء ما يحدث على الساحة السياسية بين البلدين هو الذي حرك أمرنا ،ووجهوا لنا اإلنذار النهائي بالمغادرة أو تسليمنا للسلطات الليبية ،وازداد شعور الخوف ولم نجد أي حل نلجأ إليه سوى محاولة شراء جواز سفر مزور. 61
كانت جوازات السفر التي بحوزتنا ليبية وانتهت صالحيتها وال تحتوي على أسماء األوالد المرافقين ،فقمنا بتزوير إضافتهم لجوازي ،غير إن الجواز منتهي الصالحية فأضفنا له صالحية مزورة ،وعند مغادرتنا المغرب وضعنا فيه مبلغ من المال فسمحوا لنا بالمغادرة دون التأكد من صالحية الجواز من عدمه. أشار علينا أحد األصدقاء بأن هناك شخص ليبي يدعى أبو المهاجر يقوم بتزوير جوازات السفر ويمكنه أن يزور لنا جواز سفر سعودي بملغ ألفي دوالر.
وافقنا على ذلك ولكم أن تعرفوا كم عانينا من الخوف والفزع، فليس أمامنا إال هذه المحاولة ،ولكن اشترطنا على من قام بتزوير الجواز بأننا سندفع له بعد أن نصل إلى الدولة التي نعيش فيها بأمان.
أزداد تضييق الخناق من قبل الشرطة المغربية فكانت تزورنا يوم ًيا تقري ًبا ثم أمرونا بالحضور إلى مركز الشرطة مرة كل أسبوعين لغرض خصيصا للتردد على مركز الشرطة. التوقيع في سجل أعد لنا ً
سئمنا األعمال االستفزازية التي كان يقوم بها رجال الشرطة الذين كانوا يحضرون إلينا دور ًيا ويطلبون منا المغادرة فقررنا مغادرة المغرب ولكن هذه المرة إلى سوريا.
وبعد مغادرتنا بأسبوع تقري ًبا وصل إلى بيتنا في المغرب والد زوجي يطرق على الباب مبعو ًثا من الحكومة الليبية ليطلب منا العودة، وعندما سمعنا بذلك ازداد الشعور بالخوف من المجهول وعرفنا إن الدولة الزالت ً فعل تبحث عنا وتالحقنا. 62
( ) 12 وصلنا مطار دمشق فوجدنا ترحي ًبا منقطع النظير ،ولم ينتبه
األمن السوري لإلضافة المزورة لألبناء ،وكان شخص ليبي يدعى
أبوعبدالله ،وهو اسم حركي ،ينتظرنا في المطار ،ونقلنا على الفور لشقة بحي السيدة زينب ،وكان ح ًّيا شعب ًيا يكثر به أتباع المذهب
الشيعي ،ولكن لم استوعب الخوف والرعب الذي سيطر على
مشاعري منذ وطئت أقدامي مطار دمشق.
استمرت إقامتنا في دمشق ست أشهر لم يتعرض لنا أحد إال في
مناسبتين فقط ..عندما حضر األمن السوري وطرق باب الشقة التي نسكنها وسألنا عن وضع إقامتنا ولكننا أجبناهم بأننا في رحلة سياحية
وسوف نغادر قري ًبا.
أقام معنا في الشقة أحد الليبيين من مدينة طرابلس ،ويدعى عبدالرحمن .كان ً رجل طي ًبا ومتدينًا وذا أخالق حميدة ،ولما لم نسترح في
سوريا وساورنا شعور بالخوف قررنا السفر باستعمال الجواز السعودي. 63
حجزنا تذاكر سفر مستخدمين لندن ترانزيت وعندما نصل إلى لندن نغادر الطائرة ونطلب حق اللجوء السياسي ،وإذا ما فشلنا فسوف نواصل رحلتنا إلى الدار البيضاء المحطة األخرى ،وهناك نتحجج بزيارة بعض األصدقاء والذين تم التنسيق معهم على استقبالنا.
كان يرافقنا عبدالرحمن إلى المطار لتوديعنا ،وعندما بدأنا في إنها اإلجراءات شك األمن السوري في تزوير الجواز فأوقفنا وبدأ معنا التحقيق ،وعاد عبدالرحمن ليخبر الجماعة بأنه قد قبض علينا.
ً طويل فقد وجدنا ضاب ًطا سور ًيا قال لم يستمر التحقيق معنا لزوجي بصوت ٍ عال: ـ هذا الجواز مزور قل أنت من أي بلد؟ وزاد صوته ارتفا ًعا :تكلم أنت من وين؟ تك ّلم؟
وعندما هم زوجي باالعتراف بأنه ليبي ..قال الضابط بصوت خفيض :قل إنك عراقي ..قل إنك عراقي .وقذف بالجواز السعودي المزور نحوه وقال له :أخرج ..أخرج. خرجنا من المطار وعدنا مسرعين إلى المكان الذي كنا نسكنه بحي السيدة زينب فوجدنا عبدالرحمن قد وصل قبلنا بقليل وهو يقف في الشارع ويخبر اآلخرين بأنه ُقبض علينا ولما رآنا ننزل من السيارة أخذ يصرخ ويسجد إلى األرض.
طب ًعا الموضوع هكذا ال يمكن تصديقه أبدً ا ..تقع بين يدي رجال األمن وبحوزتك جواز سعودي مزور ويطلق سراحك بهذه السهولة.. 64
هذا أمر ال يمكن أن يخطر على بال عبدالرحمن وال بال أحد غيره،
غير إن تلك الفترة كان العراقيون فيها يجوبون العالم هرو ًبا من نظام
الحكم عندهم ،وكانت الدول العربية خاصة سوريا متعاطفة معهم ويساعدونهم ،ومن الممكن أن يكون الضابط السوري قد عرفنا إننا
من ليبيا وإن حالتنا شبيهة بما يتعرض له المواطن العراقي ،فهاله حالنا وافتعل حكاية «أنت عراقي» ليطلق سراحنا.
أحرارا بحي السيدة زينب بدمشق ،وجاء شهر المهم أننا عدنا ً
رمضان الذي قضيناه هناك برفقة أبوعبدالله وزوجته التي تدعى أمال،
ومن المفارقات إننا لم نزرهم في بيتهم أبدً ا ،فكانوا هم يحضرون إلينا ،والسبب هو إن أبوعبدالله ال يريد أن يعرف أحد بيته خو ًفا من
اإلبالغ عنه.
انتقلنا إلى شقة أخرى بنفس الحي وبدأ البوليس السوري يزورنا
ويستفسر منا عن إجراءاتنا وإلى متى سوف تستمر إقامتنا ،وكنا نجيبه بأننا سنسافر قري ًبا.
التقينا في دمشق بمجموعة من الليبيين قضينا شهر رمضان
أناسا طيبين ومحترمين ،ومنهم مصطفى وعمر برفقتهم ،وكانوا ً التجمع. وصالح وهم من مجموعة ّ
بعد انقضاء شهر رمضان قررنا السفر إلى كندا عن طريق ماليزيا
باستخدام جواز السفر السعودي ألن المواطن السعودي غير مطالب
بتأشيرة دخول إلى كندا.
65
سافرنا إلى عمان ومن هناك إلى كوااللمبور في ماليزيا .وصلناها الثالثاء وكان في استقبالنا صديق يدعى أحمد نقلنا إلى بيته ،ولما كانت زوجته نزيلة المستشفى في حالة والدة فقد كان البيت يتسعنا جمي ًعا، وقمت بزيارتها في المستشفى.
صباحا توجهنا بقينا في كوااللمبور األربعاء والخميس ،والجمعة ً إلى المطار لمغادرته إلى كندا.
66
( ) 13 بتنا ليلتنا األخيرة في كوااللمبور ننتظر ومغادرتها وتراودنا أحالم
بأن تنتهي مأساتنا في هذا العالم الواسع الذي أصبح يضيق بنا ويحشرنا
في زواياه المظلمة ..نعيش ونحن نفترش حقائب سفرنا ونتكئ على وسائد محشوة بكذبة الحرية وحقوق اإلنسان.
أشرقت شمس صباح الجمعة ،وموعد رحلتنا إلى كندا عند
جاهزا إلتمام إجراءات المغادرة، الظهيرة ،وكل شيء أصبح عندنا ً وال يفصلنا عن الحرية التي ننشدها إال بوابة الخروج وساعات قليلة
من الطيران نستريح بعدها من عناء الترحال والخوف من مجهول خ ّيل لنا إنه يالحقنا أينما نزلنا.
نهرب من مجهول يسيطر على عقولنا وال نراه ،يقيدنا بأفكار بعيده
عن الواقع ،وأتأمل أطفالي من حولي وهم يلعبون وأحدث نفسي ما ذنبهم في كل ذلك يرحلون معنا من مجهول إلى مجهول يطوفون األرض يبحثون عن سقف يمنحهم األمن والطمأنينة واالستقرار. 67
وقفت أتفحص وجه ضابط الجوازات الماليزي وهو يراجع جواز سفر العائلة ،هذا الذي رأيته في الحلم ..هو بالتأكيد ..صورته طبعت في مخيلتي ،واسترجعت حلم تلك الليلة ،الطريق الطويل.. والشيخة ديجالون تحاول القبض علينا ..وسط الغابة ..ومحاولتنا ركوب الدراجة التي تهشمت أمام ذلك الرجل.
قلت لزوجي :إنه هو ..نفس الوجه الذي رأيته في الحلم.. يا سبحان الله. نظر نحوي باستغراب :ماذا تقولين يا امرأة اصمتي ..وابتعدي عن هذا التفكير ..أتصدقين أحالم وتكذبين الحقيقة ..ها نحن نقترب من بوابة الخروج لمغادرة ماليزيا.
عدت أسترجع الحلم المرعب ..قال زوجي :أمسكي األطفال واهتمي بهم .أعرف إنه يحاول أن يطمئن نفسه ويطمئنني. ختم لنا ضابط الجوازات ..وغادرنا بوابة دخول المطار متوجهين إلى بوابة الصعود إلى الطائرة ،وبين هذه وتلك مسافة ليست بالقصيرة، وكنت أكثرت من النظر إلى الضابط والتفت إلى الخلف للتأكد من إنه ال يلحقنا ،إال إن زوجي كان يدفعني نحو بوابة الخروج.
فحصا كانت تجلس في البوابة سيدة تتفحص جوازات السفر ً نهائ ًيا ،فأمسكت بالجواز ..وعند التفاتة مني رأيت الضابط يتجه نحونا مسر ًعا الخطى ،وعلى الفور قالت له تلك السيدة ..أليس هذا الجواز شبيه بنفس جواز أول أمس؟ ،أخذ الجواز ليتفحصه من جديد 68
باستخدام عدسة خاصة هذه المرة ،وطلب تذاكر السفر وبطاقات مزور وال يمكنكم المغادرة بهذا. الصعود ،وقال إن الجواز ّ
كثيرا لقد أصبحنا شبه ًة ،زوجي وأنا لم أحتمل ما يحدث صرخت ً
واألوالد ،نحن لم نفعل شي ًئا ،لم نقتل ..لم نرتكب جريمة ..نحن
خرجنا نبحث عن الحياة.
كنا ننوي التوجه إلى كندا ونطلب اللجوء هناك ،ولكن تأتي الرياح
مزورا ،وكذلك جواز السيد الذي بما ال تشتهي السفن ،فالجواز كان ً تم إيقافه قبل ذلك بيومين والذي قيل لنا إنه غادر المطار ،ولكن عرفنا
فيما بعد إنه قد أكتشف أمره وهو يقبع في سجن المطار.
وبما أن جواز السفر كان سعود ًيا منحنا القوة لنتمسك بحقنا
كسعوديين ،وعندما قيل لنا أنكم لستم سعوديين طلبنا حضور السفير
السعودي للخروج من هذا المأزق ،وفي المساء حضر السفير يرافقه رجل آخر ،واختلوا بزوجي موجهين إليه ً سيل من األسئلة وطلبوا منه االعتراف بتزوير الجواز ،ولما كان لهم ذلك تركونا لمصيرنا
المجهول ،وقمنا بعدة محاوالت إلقناع سلطات المطار لكن
محاوالتنا إلثبات ذلك باءت بالفشل.
كنا نحتفظ برسالة تمنحنا حق اللجوء السياسي من منظمة
اليونيسيف ـ مكتب المغرب ،أبرزنا هذه الرسالة ،وهي الوثيقة الوحيدة
المتبقية لتثبت شخصياتنا بعد أن سحب منا الجواز السعودي ،ولكن
هذه الورقة لم تجد نف ًعا اللهم إال لفت االنتباه إلى إن وراءنا قصة. 69
ال أستطيع وصف تلك المعاناة وص ًفا دقي ًقا ألن ما حدث يبدو لي كحلم وواقع ،ولكم أن تتصوروا العائلة وهي تعيش في صالة االنتظار في أحد المطارات الدولية ليل ونهار ،ويمر بنا المسافرون ذها ًبا وإيابا ،فقد رأيت عديد الوجوه وهي تغادر ثم تعود. غادرت المطار عائلة أردنية إلى أستراليا لتضع الزوجة حملها، شهرا ً كامل أو يزيد ثم عادت فوجدونا الزلنا في صالة االنتظار وغابت ً ننتظر ما يتقرر بشأننا ،ولما كان منظرنا يثير الشفقة فقد وضع ذلك سرورا األردني مبل ًغا من المال في جيب ابنتي األمر الذي بعث فينا ً ال يقدر ،فقد كنا بحاجة ماسة للمال بعد أن نفذ كل ما بحوزتنا. في المطار كنا نقضي كل الوقت على الكراسي وال نستطيع أن جلوسا أو نتمدد على نبرح أماكننا نستعمل كراسي القاعة للنوم ً األرض أحيانا في أوقات متأخرة وعندما ال يكون هناك مغادرون. في اليوم الرابع من إقامتنا في المطار التقينا الكابتن جميل ،عراقي الجنسية ويعمل قبطانًا على الخطوط الماليزية وهو الذي قدم لنا خدمات جليلة طيلة وجودنا في األراضي الماليزية سواء في المطار أو بعد نقلنا إلى السجن.
وجدت إن جسدي قد سيطر عليه التعب من كثرة الجلوس على الكراسي ،وكانت توجد أمام مسجد المطار مجموعة من الكراسي متصلة دون حواجز فيما بينها رغبت أن أمدّ د جسدي ً قليل ،فوقف ونظرا ألنني مرهقة ومتعبة الرجل يسألني عن شبشب الحمام ليتوضأً ، فقد أجبته بعصبية مفرطة وغير الئقة ،جلس الرجل وكان يسرق النظر 70
نحوي ويتأملني بعناية ،وكنت كلما حاولت أن أبتعد عنه بنظري تالحقني نظراته ،كنت أعرف إن الشبشب قد دخل به زوجي إلى الحمام ولكن إجابتي كانت فظة ،وعندما التقي الرجل بزوجي في المسجد حكى له عن قصتنا وما حدث لنا.
يبدو إن العناية اإللهية هي من أرسلت لنا جميل ليخفف عنا متاعبنا ،وأصبحنا بالكاد يمر يوم وال نرى فيه الكابتن جميل ،يمر وكثيرا ما يتدخل لدى سلطات علينا ويوفر لنا احتياجاتنا ويسأل عنا، ً المطار لمساعدتنا.
لقد وفر لنا الكابتن جميل كل احتياجاتنا ،كان يحضر لنا األكل ويحمل مالبسنا لغسلها وكيها ،وعندما يسافر إلى خارج ماليزيا يك ّلف صهره بتوفير كل ما يلزمنا .كان نعم اإلنسان الصادق الودود يحضن جوا من الرعاية أطفالي ويالعبهم يحضر لهم الحلوى ،لقد وفر لنا ً التي كنا بحاجة إليها. قال لي ذات يوم عندما اعتذرت منه من باب اللياقة« :أنا ال يوجد عندي أطفال لقد حرمت منهم فأرسل الله لي هؤالء ليكونوا أبنائي»، كثيرا لموقف هذا الرجل. لقد أشعرني بالخجل لرده هذا وبكيت ً
حدثتني زوجته يو ًما بأنه قال لها« :لقد رأيت في وجه المرأة صورة والدتي ..هناك شيء ما جذبني ألقف كي أتأمل وجه تلك المرأة».
بعد مضي قرابة شهر حاولنا فيه االتصال بعدة شخصيات للتدخل بعضها رفض حتى االستماع إلينا والبعض حاول مساعدتنا ،وقد 71
منحنا الشيخ يوسف القرضاوي المفكر العربي اإلسالمي الكبير مغادرا لمطار خمس دقائق من وقته الثمين لالستماع إلى قصتنا .كان ً كوااللمبور فالتقاه زوجي وجلس معه ولكنه غادرنا دون أن يع ّلق، كثيرا الجهد التي قامت به السيدة المسئولة عن حقوق اإلنسان وأذكر ً في ماليزيا وهي نرويجية قامت بزيارتنا في المطار وتذليل بعض المشاكل.
72
( ) 14 أثمرت الجهود عندما تقرر ترحيلنا إلى إيطاليا كانت فرحتنا عارمة.
أخيرا سنغادر هذا السجن ،وغادرنا كوااللمبور وكنا نأمل في وضع ً
حل لمأساتنا وعند وصولنا إلى روما تم إعادتنا على نفس الطائرة فلم تسمح لنا السلطات اإليطالية بدخول روما وخيرونا بين العودة
من حيث أتينا ،أو تسليمنا إلى السلطات الليبية أو المغربية واخترنا
العودة إلى ماليزيا.
ما يثير التساؤل من خالل معاملتنا من قبل السلطات االيطالية
ما أفادنا به المحقق في مطار روما عندما قال لنا إن إيطاليا هي ليبيا
وليبيا هي إيطاليا ال فرق بينهما ،فأنتم عندما تدخلون األراضي
اإليطالية كأنكم دخلتم ليبيا.
عدنا إلى كوااللمبور وتم إيقافنا بالمطار وبدأت المعاناة من جديد،
وضعنا هذه المرة في قبو المطار في غرفة تقابل مكتب الشرطة،
ال نستطيع الخروج من الغرفة نفترش األرض ،ونأكل ما يقدم لنا من 73
سلطات المطار أو ما كان يحضره لنا صديقنا جميل مهر ًبا من قبل نادرا. عمال النظافة حيث لم يعد يسمح له باالتصال بنا إال ً
لقد أصبحنا مثيري للشفقة لكل من أطلع أو عرف بقصتنا ،حتى الضابط الماليزي رحمان الذي منعنا من مغادرة المطار عندما كان يشاهدنا يبكي لحالنا ،وقدم لنا بعض العاملين بالمطار وجبات ضيافة رأفة بنا.
داخل سجن المطار كنا نقضي الوقت في األحالم فكنت وزوجي أرسم رسومات هندسية لمباني بيتنا في المستقبل وبعد خروجنا من كثيرا ما أخاصمه وأختلف معه ويصل بيننا الخالف السجن ،وكنت ً حدّ القطيعة لعدة أيام ،واألسباب كانت شكل الفيال أو عدد الغرف، ومن سيسكن الغرفة العلوية ،ومن سيرافقنا والدي ووالدتي أم والده ووالدته ،اتجاه الباب ،شكل الباب ،وأشياء كثيرة كانت محل نقاش. تم إبالغنا بأنه سيتم نقلنا إلى خارج المطار لإلقامة بشقة مؤقتًا حتى يتم السماح لنا بمغادرة ماليزيا .سررنا جدً ا لما تقرر لتنتهي مأساتنا ونستطيع أن نعيش بحرية حتى وإن كانت صغيرة كما قيل لنا تتكون من غرفة ومطبخ وحمام.
74
( ) 15 تم نقلنا إلى خارج المطار ،كنا خالل الطريق إلى الشقة التي ُوعدنا بها نأكل ونلهو ،قلت لزوجي وأطفالي :سوف نحتفل، وسأقيم لكم مأدبة من األكل لن تنسوها في حياتكم ،وذهب بناء الخيال بعيدً ا ونحن نرسم أحال ًما تكسرت فجأة عند بوابة سجن «كوال كامب». يبعد السجن عن كوااللمبور مسافة مائة كيلومتر تقري ًبا ،وهو محصن بسياج من األسالك الشائكة وسط غابة كثيفة من األشجار، ويتكون من مجموعة من العنابر الخشبية بدورين ،ويفصل بين سجن الرجال والنساء سياج معدني تعلوه أسالك شائكة. يتكون سجن الرجال من عدد أربع عنابر ،والعنبر الخامس خصص كثيرا ما نشاهد الثعابين للنساء ،وبما أن السجن وسط غابة فقد كنًا ً والعقارب والحشرات.
وضعت وبناتي الثالثة في سجن النساء ،أما زوجي وابني فوضعوا ُ 75
في العنبر المقابل لنا بسجن الرجال وعندما عرفت إننا وضعنا في ً صراخا. السجن مألت المكان
تحلقت حولي السجينات وجلست وبناتي وسطهن أبكي وتصرخ البنات والسجينات يبدو أنهن يتألمن لحالنا وينظرن لبعضهن البعض ويقولن كال ًما لم أفهمه.
كثيرا من البشر بدأت من هنا أكبر معاناة عرفتها في حياتي ،بل إن ً الذين وضعوا في السجون بتهم إجرامية لم يروا ما حل بناء في هذا السجن ..كانت مأساة حقيقية استمرت ستة أشهر كاملة.
عنبر النساء كان يتكون من دورين .نزلنا نحن في الدور العلوي مع النزيالت من النساء الالتي وصل عددهن إلى ثمانمائة في الدور الثاني وتسعمائة وخمسين في الدور األرضي ومن جنسيات مختلفة ودخلن السجن بجرائم مختلفة.
كان السجن عبارة عن تجمع للموقوفين في ماليزيا من غير الماليزيين ،أي من جنسيات أخرى ،وجرائمهم تختلف بين التهريب والدعارة والسرقة ،ومثل حالتنا محاولة عبور ماليزيا إلى أي دولة لطلب اللجوء. توجد عائلة إيرانية الزوج وزوجته وطفل وطفلة ،كما يوجد عراقي أيضا الهروب عبر ماليزيا ،كانت األسرة بسجن الرجال حاول هو ً تنصرت وتركت اإلسالم من أجل الموافقة على لجوئها اإليرانية قد ّ إلى أحدى الدول األوربية. 76
وكانت المرأة اإليرانية تمارس التجارة داخل السجن فهي تبيع الخبز الذي يعطى لها وال يعطى لغيرها من السجينات ،وتتفق مع شرطة السجن الذين يوردون لها البضائع وتعرضها على فراشها بأسعار باهظة.
كما توجد عائالت بأكملها من كمبوديا وفيتنام والصين وبنغالديش ،وهذه العائالت يسمحون لها بلقاء بعضهم البعض بعد كل شهرين أو ثالثة ،وكم كان المنظر حزينًا عندما تلتقي هذه العائالت والتي تعيش في مكان واحد يفصله سياج.
ننام على أرضية من الخشب مليئة بالحشرات التي تنفث منها رائحة كريهة دون فرش أو غطاء ،وتستيقظ السجينات على صوت السجان في الصباح عندما تسمع صوته وهو يصيح (باريس) وهذه تجمع في الساحة المقابلة للعنبر ،وتقدم لنا وجبات الكلمة تعني ّ هي عبارة عن كوب من الشاي وقطعتان من البسكويت عند السابعة صباحا بعد أن يتم إجراء التمام اليومي للسجينات بصفهن خارج ً العنبر قبل عودتهن إليه ،وعند الظهيرة يصطففن من جديد لوجبة الغذاء التي كانت تتكون من صحن من األرز الذي تجري فوقه الحشرات وقطعة سردين برائحة كريهة ،وكان يقدم لهن كوب من الماء الساخن كل يوم ،وفي العشاء تقدم لهن نفس وجبة الغذاء .وأثناء توزيع وجبة الغذاء أو العشاء تصطف السجينات في صف طويل وكل منهن تحمل إنا ًء ستتناول فيه وجبتها ،وأحيانًا تنتظر إحداهن وكثيرا األخرى حتى تنتهي من تناول وجبتها ،ثم تأخذ منها صحنها، ً 77
ما تحدث مشادات وضرب بين السجينات متى تأخرت إحداهن في تناول وجبتها فتتدخل الشرطة لحل النزاعات.
وتستبق السجينات فيما بينهن في الوقوف ً أول في الطابور تحت أشعة الشمس المحرقة ،وفي درجة حرارة عالية ودرجة رطوبة ال تحتمل ،وأحيانا يتدافعن بشدة فيسقط بعضهن.
وبعد أن تتناول السجينات طعام الغذاء أو العشاء يأتي دور طابور غسيل الصحون واألواني وطابور المياه ،فتحمل كل منهن زجاجة من البالستيك المتسخة لتمألها من الصنبور ،وعندما تنقطع المياه تقوم سلطات السجن بإحضار براميل وتقوم إحدى السجانات بتوزيع المياه بحيث تحصل كل سجينة على لتر واحد من الماء ..ترى كيف تغسل وتشرب وتدخل الحمام بلتر واحدة؟ ولمدة أربع وعشرين ساعة.
لم أتناول أي وجبة غذاء داخل السجن ،ولم أقف في الطابور لغرض حضور التمام منذ دخلت .فقد كان الكابتن جميل يزورنا في كل جمعة ويحضر لنا بعض المأكوالت التي كنا نتناولها خالل أسبوع.
شكت السجينات من معاملتنا في إدخال األكل لنا ،فمنعنا من استالم ما يحضره جميل ،فأعلنا إضرا ًبا عن الطعام ،وتدخلت الشرطة إلرغامنا على األكل ،ولكن صمدنا لمدة عشرة أيام كنت خاللها أقوم سرا وذلك بخلط البسكويت بالحليب حتى سمح لنا بتغذية بناتي ً باستالم ما يحضره لنا صديقنا جميل.
أما إذا ما سافر الكابتن جميل فقد كان يرسل لنا صهره جالل ليحضر لنا احتياجاتنا ومبل ًغا من المال إلجراء االتصاالت يوم ًيا مرتين بمنزل 78
جميل ،وكان االتصال يتم من داخل السجن بسرية تامة وباستغالل من قبل أحد السجانين الذي كان يمنحنا هاتفه النقال مقابل مبلغ من مظلما ومغطى في أحدى زوايا السجن لنجري المال ،ويختار لنا مكانًا ً مكالمتنا اليومية لمنزل جميل حتى يطمئن إننا الزلنا أحياء. ال توجد في السجن حمامات بحوائط ،بل كانت مفتوحة على بعضها وبدون سقف حتى تكون تحت نظر رجال الشرطة .كنت أستعمل الحمام ً ليل وكنت أطلب من زوجي أن يقف على شرفة العنبر المقابل لحراستي ،كان ذلك يمنحني بعض االطمئنان ألحتمي من لصلصات عيون رجال الشرطة ،أما الباب فتقف بناتي الثالثة يمسكون به ،وعند االستحمام كنت أستحم بمالبسي كاملة ،ثم أقف وكثيرا ما كانت تنقطع في الشمس ألجفف مالبسي وهي فوق جسمي، ً المياه ولعدة أيام فتخرج من الحمامات روائح كريهة.
كثيرا ما أتحدث مع زوجي من خلف السياج ،وفي مرات عدة كنت ً قمت بفتح السياج المعدني بواسطة آلة قص األظافر ،وكان يسمح وجها لوجه من خلف حائط قصير كل شهرين ،غير إن لنا بااللتقاء ً أبني الصغير كان يتجول بين عنبر الرجال وعنبر النساء.
في أحد األيام كنت أتحدث مع زوجي عبر ثقب صغير في السياج الفاصل بين سجن الرجال والنساء وإذا بأحد الشرطة يمسك بيدي فنفضته نفضه قوية وقلت له باإلشارة سوف أقطع يدك في المرة القادمة ،وفي هذه األثناء جرت بيننا حشرة صغير دهستها برجلي وقلت له وسوف تصبح هكذا ،فهم رجل الشرطة إشارتي وابتعد عني.
كانت أحاديثي مع زوجي تدور حول خروجنا وما نحن فيه من معاناة، 79
كثيرا ما يرفع معنوياتي وبعض األحيان أجده بمعنويات ضعيفة فكان ً فأشد من أزره وأبعث فيه األمل بقرب يوم الفرج والخروج من السجن.
وأحيانًا كنت أحكي معه عن األكل أقول له عندما نخرج من هنا سوف أعد لك وجبات لم تتذوقها من قبل وأعدد له تلك األكالت التي سأقوم بإعدادها .كنت أقول له سوف أعد لك العصبان والبراك والشربة وكثير من األكالت الليبية األخرى ،كان زوجي يستمع باهتمام ويرد :أنت تحلمي.
على ذكر األكالت التي يعدها السجن للسجناء لم أر تنو ًعا في الوجبات ،لم أر غير األرز ،وتحتفظ السجينات باألرز في عنبر النوم، وكثيرا ما كانت تنام السحالي في تلك الصحون ،وعندما ترغب ً السجينات في األكل ما عليها إال أن تزيح السحلية بكل احترام ،وكنت أتسأل دو ًما لماذا؟ وأتعجب!! حتى عرفت إن في ديانة الفيتناميين يعتقدون إن اإلنسان عندما يموت تنتقل روحه إلى السحلية ،لذا تجدهم يحترمونها جدً ا.
في أثناء السجن تورمت رجلي نتيجة لسعة حشرة وأصبح لونها يقرر طبيب السجن نقلي إلى أسود حتى عجزت عن الحركة ،لم ّ المستشفي ،فقد رفض ذلك حتى عندما تحدث معه صديقنا جميل الذي صعق عندما شاهد رجلي وانهمر بالبكاء.
في أثناء مرضي كانت بعض السجينات وخاصة الصينيات تعتني بأطفالي فكانت تنظفهم وتغير مالبسهم وتهتم بهم ،فالسجينات الصينيات ودودات ويحملن أخالق حميدة. 80
وعندما نجحت محاوالتي لنقلي للمستشفي نقلت إليه مكبلة باألصفاد وبقيت طيلة وجودي به مقيدة بالسالسل ولم يفلح األطباء في معالجة المرض ،مكثت في المستشفي تحت الحراسة وكانت دائما مربوطة بالنافذة ،وعدت إلى السجن كما ذهبت ،وقد يدي ً شفيت رجلي فيما بعد. اعترت ابنتي الصغيرة حرارة مرتفعة فذهبت مسرعة إلى مكتب رجال الشرطة ،وعندما دلفت إلى المكتب وجدت السجان منهمكًا في مداعبة امرأة أسبانية وفي وضع غير الئق ،وباإلشارة أخبرته بأن ابنتي تعاني من ارتفاع شديد في الحرارة ،فأشار بيده بمعنى ونقلت وابنتي إلى المستشفى وهناك بعدين ،فصرخت في وجهه ُ ربطوني بالحديد إلى النافذة وقمت برعايتها بيد واحدة طيلة بقائها في المستشفى. كثيرا ما أشاهد أشياء فاضحة بين السجينات ورجال الشرطة، كنت ً وهذا األمر ضايقني جدً ا خاصة وإن بناتي صغيرات وهن يرافقنني دائما أتحاشى أن يرين مثل هذه األشياء. دائما وكنت ً ً
قائد السجن ـ الكومندار ـ ورجال الشرطة كانت معاملتهم لنا قاسية أول األمر ،ولكن بعد مرور فترة من الوقت يبدو إنهم فهموا قصتنا فأبدوا تعاط ًفا معنا غير إنهم ال يستطيعون فعل شيء لمساعدتنا، وكانت لغة الحوار معهم باإلشارات ،ثم أصبحت ابنتي الكبرى تتكلم اللغة الماليزية فكانت تقوم بعملية الترجمة فيما بعد. شرطة السجن قاسية في معاملتها مع اآلخرين ،وقد رأيت بأم 81
عيني عملية قتل أحد السجناء الكمبوديين بضرب رأسه بأخمص بنادق الشرطة عند محاولته الهرب عبر أنبوب المجاري المؤدي إلى الغابة المحيطة بالسجن ،فقد دخل في األنبوب الضيق وفي آخره خرج رأس السجين الكمبودي ولم يستطيع أخراج باقي جسده ،ولما علم رجال الشرطة انهالوا عليه ضر ًبا حتى تكسر رأسه وفارق الحياة ثم دفن بمقبرة السجن. ذات يوم تمرد المساجين من الرجال وهاجموا بوابة الخروج وقفز بعضهم من السياج ووقفنا نشاهد عملية مواجهتهم بإطالق عيارات نارية ،وقطع التيار الكهربائي عن السجن األمر الذي بعث فينا الخوف والفزع وبقينا في الفناء حتى الصباح.
لقد كانت تجربة السجن تجربة قاسية لم أذق طعم النوم ً ليل فقد كنت أسهر مستيقظة حتى الصباح أراقب بناتي ،وفي النهار كنت أحصل على قدر من النوم شرط أن يقف زوجي في شرفة المبنى المقابل يراقبني أثناء النوم وإذا شاهد أحد رجال الشرطة يدخل العنبر كان يطلق صفارة اإلنذار وكنت أرد عليه بالوقوف في النافذة أو ألوح له بقطعة قماش من خاللها.
كبيرا من النساء السحاقيات ،وعند الليل كان السجن يحتوي عد ًدا ً يمارسن هذه العادة بشكل علني وأمام مرأى من رجال الشرطة وبقية السجينات ،كنت أحمل بناتي خارج العنبر أجلس بهن حتى ينمن ثم دائما على أن ال يرين مثل هذه المشاهد الغريبة، أدخلهن ،وكنت أصر ً كثيرا وفي بعض األحيان يمارسن عادتهن تلك عند الظهيرة ،وكنت ً 82
ما أنبه رجال الشرطة لمثل هذا الفعل ألننا مسلمون وال يمكن لبناتي أن يشاهدن هذا ،فتتدخل الشرطة وتضرب الفاعالت. وتنتشر بين السجينات الكمبوديات والفيتناميات عادة غريبة فهن يجلسن على سلم الدرج مشكلين سلسلة بشرية يبحثن عن القمل ً كل في شعر األخرى وكن يقرضن القمل بأسنانهن وعندما ال تجد
أحداهن قمل في شعر التي أمامها تضع هذه القمل الذي حصلت عليه من شعر التي أمامها في كفها لتقوم الجالسة خلفها بلعقه بلسانها ومقزز ولكنه في نظرهم وجبة شهية. منظر غريب ّ
أحيانًا تجد نفسك أمام عادات وتقاليد وأفعال غريبة خاصة وأنت تقيم مع بعض من حثالة تلك الشعوب ،فقد وضعني القدر في السجن الذي تجمعت فيه نساء من عدد كبير من دول العالم ،قد يكون جمعني بهم السجن ولكن ما الذي جمعهم هم مع بعضهم لقد اجتمعوا على طريق الرذيلة ،أغلب السجينات ال يأبهن لما يفعلن ،فقد تربوا فكثيرا ما كنت وعاشوا في بيوت الدعارة ،وهذا األمر ال يروق لي ً أصطدم ببعضهن.
علي مجموعة من النساء الفلبين ّيات ،كان عددهن ذات يوم تهجم ّ سبعة أو ثمانية تقري ًبا واشتبكن معي ال لشيء وإنما للمعاملة التي أصبحت أعامل بها من قبل بعض الشرطيات بعد أن قمنا باإلضراب عن الطعام ،واستمر الصراع ولكن الشرطة فكت االشتباك بيننا عندما علمت ،وأطلقت صفارات اإلنذار ،وسمع زوجي صراخي فقفز من العنبر المقابل ولكن الشرطة أمسكت به وأعادته إلى عنبر الرجال. 83
دخلت السجن امرأة مجنونة أو إنها أرادت أن تكون كذلك حتى تحصل على إذن لنقلها إلى مكان آخر كونها تعاني الجنون ،كانت تلك المرأة تعض النساء الالئي من حوله ،وذات يوم أمسكت بابنتي وحاولت قذفها من الدور الثاني وهدّ دت رجال الشرطة بقذفها غير أصبت بهستيريا عندما تم إنقاذ ابنتي. أن أحد رجال الشرطة أمسكها.. ُ
أشخاصا من السفارة ذات يوم أبلغنا من قبل شرطة السجن بأن ً الليبية في ماليزيا يرغبون في مقابلتنا ،رفضنا وزوجي مقابلتهم أو االستماع لما أرادوا قوله ،وعلمنا أن جالل صهر الكابتن جميل كان قد التقى مجموعة من الطالب الليبيين الدارسين في ماليزيا وأخبرهم عن قصتنا فقاموا بإبالغ السفارة الليبية.
ً أسمال لقد أصبحت أجسادنا نحيلة ومتسخة ،وأصبحت مالبسنا باليه تدعوا إلى الشفقة ،سرقت مالبسنا فلم نعد نجد مالبس نرتديها، وذات يوم خرجت إلى فناء السجن والسير قلي ُ ال وسط بعض األحجار المتناثرة ولم أكن أعرف إنني أسير وسط مقبرة ثم جلست على إحداها وعندما أردت القيام لم أستطيع وترهلت قدماي وأصابتني ارتعاشه. كانت إحدى النساء تراقبني فأسرعت وأمسكت بي قبل أن أسقط على األرض ورشوني بالماء حتى أستفيق ،أعتقد أنني أصبت باألنيميا نتيجة الضعف وعدم األكل ،غير إن نساء السجن يعتقدن إنني جلست على قبر أحد ضحايا السجن الذي دفن هناك منذ وقت قريب.
84
( ) 16 خالل وجودنا رهن االعتقال في ماليزيا جرت عدة محاوالت
وأخيرا ّتوجت بموافقة من جهات دولية إنسانية إلطالق سراحنا، ً
المملكة المتحدة التي منحتنا حق اللجوء السياسي إليها.
عندما أبلغتني بشرى زوجة جميل بخبر الموافقة على ترحيلنا
أخذت أجري داخل العنبر وأصرخ من شدة الفرح ،وسمع زوجي صراخي ،أصابه الفزع وأخذ يصرخ في الجهة المقابلة ماذا بك..
ماذا بك؟ وصرخت بأعلى صوتي لقد وافقوا على ترحيلنا ..كنت
أضحك وأبكي في آن واحد ،لم يصدق زوجي أول األمر ،وظن أني
مصابة بالجنون أو أن أحدى بناتي أصابها مكروه.
بعد إعالمنا بالترحيل مكثنا بالسجن شهرين آخرين حتى إننا نسينا
األمر ،واعتبرنا الموضوع مجرد مزحة ومللنا االنتظار ،قبل أن تبلغني
ريشال وهي ضابط بوليس من أصل هندوسي باإلفراج عنا كانت ابنتي الصغرى ـ عمرها عام ونصف ـ ترتدي حذاء إحدى السجينات 85
وتحمل حقيبة وتشير بيدها وكأنها تودع السجينات ،حضرت ريشال وقالت باإلشارة :أنت ستخرجين اليوم ،رددت عليها بال مباالة وكثيرا ما كانت الشرطيات تمزحن مع وكأني سئمت هذه اإلشارات، ً السجينات وتعطيهن ً أمل الخروج من هذا السجن ،ولكن أمسكتني ريشال بقوة وقالت بلغة خليط بين اإلشارة واالنجليزية والماليزية الركيكة« ..أنت يو قو باك».
لقد صدقتها هذه المرة ،كانت معاملتها معنا رائعة فهي مؤدبة وكثيرا ما تقدم لنا خدمات خاصة ،لذا قلت في نفسي ربما وودودة ً تكون صادقة لقد رأيت الصدق في عينيها ،ورأيت زوجي يجري نحوي يحمل حقائبه ويصرخ سنخرج من السجن ،فنزلت مسرعة واحتضنت زوجي كان يبكي وبكيت من الفرحة.
تجمعت حولنا السجينات مثل أول يوم دخلنا فيه السجن ،ولكن هذه المرة كانت االبتسامة الظاهرة والفرحة من أجلنا ،قد تكون لغاتنا مختلفة وأجناسنا مختلفة ولكن جمعتنا لغة االبتسامة والفرح ،كان الجميع يحضنني ويحضن بناتي ،حتى من كان بيني وبينه سوء فهم نتيجة اللغة أو عدم التوصل إلى ما أقصد.
طلبوا مني عنواني وأرقام هواتفي ،ولكني كنت ال أعلم إلى أين ستكون محطتي القادمة في بريطانيا وال يوجد عندي عنوان ثابت، ولكني أخذت أرقامهم وعناوينهم واحتفظت بها لفترة من الوقت ثم ضاعت مني جميعها. لقد أخذتني الفرحة بالحياة والحرية مما جعلني أنسى االتصال 86
بأولئك الناس الطيبين والذين تعرفت عليهم وعشت معهم فترة من حاجزا دون ذلك. الوقت .غير إن اللغة في اعتقادي هي التي وقفت ً وجها لوجه تعطينا حرية أن نعبر عن طريق االبتسامة فربما لقاءاتنا ً أو اإلشارة أو الحركات األخرى والتي تجعلنا نفهم بعضنا البعض.
جمعت بقايا مالبسنا كانت تبدو أشالء مالبس متهرئة ممزقة تجف وهي كثيرا ما أقف حتى ّ تغير لونها من حرارة الشمس ،فكنت ً نادرا ،وكنت حين أجمع فوق جسدي إذ لم يتسنى لي استبدالها إال ً مالبسي أقذف باألكل وعلب الحليب والشامبو للسجينات ،وقادونا إلى مكان آخر داخل السجن هو عبارة عن غرفة كبيرة بقينا فيها حتى حضرت سيارة نقلتنا إلى شقة وسط العاصمة كوااللمبور.
كانت الشقة عبارة عن محطة انتظار للترحيل النهائي تحت حراسة مشددة جمعنا فيها نحن الذين سيتم ترحيلنا ،وفي اليوم التالي ّ فك أسرنا نقلنا إلى المطار مباشرة ،وفي نفس الصالة التي منعنا من عبورها قبل تسعة أشهر ،والتي عشنا بين جدرانها شهرين عبرنا إلى بوابة الخروج النهائي من ماليزيا ،هذه التي يحكى عنها بأنها جنة الله على األرض والتي لم أر منها إال المطار والسجن والطريق إليه.
وجدنا الكابتن جميل في انتظارنا هذا الرجل الذي سأبقى أكن له كل االحترام والتقدير والمحبة ،الرجل الذي يندر وجوده في هذا ودس في يدي مبلغ الزمن ،تقدّ م منا جميل وودعنا عند بوابة الخروج ّ خمسمائة دوالر والدموع في عينيه ،وعانق زوجي وق ّبل أطفالي واحدا واحدً ا وبدأت الرحلة إلى لندن. 87
صعدنا الطائرة بأشكال غريبة هيئتنا مالبسنا أجسادنا تبدو وكأننا خرجنا للتو من القبور ،ينظر إلينا الركاب بعضهم يشفق لحالنا والبعض اآلخر ال يأبه لنا ،صورتنا تعبر عن مأساتنا التي عشناها في ماليزيا طيلة تسعة أشهر كاملة ..لم نسمع شي ًئا عن العالم الخارجي ،ولم تصلنا أي أخبار ونحن في السجن ،مشدوهين نرى العالم الذي عدنا إليه سرا بأننا كنا خائفين من المجهول بحالتنا الرثة والهزيلة ،وال أخفيكم ً الذي ربما يالحقنا في محطتنا القادمة.
88
( ) 17 وصلنا لندن وكنا نتوقع أن نجد أحدً ا في استقبالنا ،فقد وعدتنا شقيقة زوجي المقيمة بمانشسستر بأنها ستكون في استقبالنا ،وكذلك مقيما بلندن ،غير أننا لم نجد أ ًيا ممن بنينا عليهم ابن عم زوجي كان ً أحالمنا في انتظارنا ،ووقفنا في قاعة المطار ننتظر.
السلطات البريطانية استقبلتنا وخيرتنا بين أن تنقلونا أو أن ننتظر من سيأتي إلينا ،وكانت إجابتنا بأن شقيقة زوجي سوف تحضر بعد قليل ،ولم تأت ولم يأت زوجها ،ولكنه اتصل بابن عم له في لندن وهو من حضر بعد مضي وقت طويل.
ذهبنا إلى بيتهم وكان الوقت متأخر فنمنا بمالبسنا بعد أن تناولنا بعض الطعام ،وفي صباح اليوم التالي نقلنا مضيفنا إلى المحطة التي تنطلق منها السيارات إلى مانشسستر ،ووصلنا متأخرين على انطالق صباحا وجلسنا في المحطة ننتظر الحافلة التالية. حافلة الثامنة ً
بين الثامنة والعاشرة موعد انطالق الحافلة كنت أفكر إلى أين 89
نحن ذاهبون؟ نجري خلف من؟ ..نذهب إلى شقيقة زوجي التي لم تكلف نفسها عنا استقبالنا بعد هذا الزمن الطويل الذي لم ترانا فيه ،وبعد فترة السجن التي قضيناها في كوااللمبور ،لقد كنت أنتظر
أن يستقبلونا بالزهور والموسيقى ولكن هذه الالمباالة جعلتني أعيد
حساباتي فيما بعد.
ركبنا حافلة العاشرة ووصلت إلى مانشسستر في موعدها كان
زوجي يقول لي إن شقيقته سوف تكون في المحطة هي وزوجها،
ولكن عندما نزلنا كانت المفاجأة الثانية إننا لم نجدهم في استقبالنا
بالرغم من علمهم بموعد الوصول ،واتصلنا بهم وحضروا بعد وقت
طويل ،همست لي نفسي حينها بأننا ضيوف غير مرغوب فيهم.
ضيوف غير مرغوب فينا لثالثة أيام كاملة في بيت شقيقة زوجي..
كانت تلك المدة ال تختلف كثيرا عن حياتنا في كوااللمبور ،كنا نرتدي
نفس المالبس وهيئتنا الرثة ال زالت على حالها.
انتقلنا إلى بيتنا الخاص الذي وفرته لنا السلطات االنجليزية مع
كل اإلمكانيات ،وخضعنا لفحص طبي شامل ومنحنا حق اللجوء
السياسي ،وانتظم أطفالي في المدارس وأصبحت حياتنا أكثر سهولة. ولكن بالرغم من حياة الحرية واإلقامة الجيدة إال أنني ال زلت
أشعر بالخوف والرعب .كنت أنام بالقرب من النافذة وعندما أستيقظ
أثناء الليل كنت أمدّ يدي لكي أتحسس البرد للتأكد من برودة الجو وأنني في مكان غير سجن سمنيه كامب. 90
ذات يوم بعد استقرارنا طرق بابنا رجل ال نعرفه وعندما فتحنا الباب قال لنا :أنا «أبو المهاجر» ..وعندي عليكم دين قدره ألفي دينار مقابل تزوير جواز السفر السعودي .سخرنا منه وطردناه من أمام البيت بعد أن هددناه بإبالغ رجال الشرطة.
بمرور األيام استطعنا التأقلم مع البيئة والمحيط الجديد ،وتعلم بعض المصطلحات التي نستطيع بها حل المشاكل التي قد نقع فيها، وبدأ زوجي يعمل وتوفرت لنا مبالغ مالية مما جعلنا نستطيع استقبال أصدقائنا المغاربة الذين جاءوا لزيارتنا. أصبحت الحياة سهلة وحلوة ،وال ينقصها إال رؤية األهل في الوطن العزيز ،وأجلس أفكر ما الذي جعلني أعيش هذه المرارة في الحياة؟ ما الذي أوصلني إلى هنا؟
أسترجع شريط الذكريات منذ خرجت من بنغازي التي الزلت اهتز وارتعش عندما أسمع اسمها ،لقد كان وقع سماع هذه الكلمة دائما عندما أسمعه. عظيما ،وتسقط دموعي ً ً
بعد مضي سنوات على إقامتنا في مانشسستر قررنا أن نخرج لزيارة المغرب ولقاء األصدقاء الذين عشنا معهم طيلة سنوات عندما كنا نقيم بالدار البيضاء .سافرت أنا واألوالد ثم لحق بناء زوجي في األيام الخمسة األخيرة من الزيارة. في المغرب تملكتني الغيرة على زوجي ألول مرة وال أعرف سب ًبا 91
لذلك .ما لفت انتباهي أمر عادي ،فقد اتصلت به وسألته عن مكان وجوده ،وعندما ذهبت إلى المكان لم أجده ،وتكررت هذه الحالة معي فشعرت بأن زوجي ليس طبيع ًيا وأن في األمر شي ًئا ما.
انتابني شعور ما بأن زوجي على عالقة عاطفية في بدايتها ،وتأكد هذا الظن عندما عدنا إلى مانشسستر ،وأصبحت عندما أرد على الهاتف تقفل السماعة ،واكتشفت أن زوجي على عالقة مع امرأة مغربية تبلغ من العمر ثمانية عشرة سنة وكان قد تعرف عليها أثناء زيارتنا للمغرب.
أراد زوجي أن يضعني أمام األمر الواقع .عندما جلست معه للحوار في الموضوع ،قال لي بأنه تزوجها ،وطلبت منه الطالق ألضعه في أمر واقع آخر ،أصررت على طلب الطالق ،ولكنه رفض وأعتذر أمام عدد من األصدقاء الذين تدخلوا لحل المشكلة.
الجرح ال يندمل بسرعة ..انعدمت ثقتي بزوجي ،وأصبحت المشاكل تستفحل يو ًما عن يوم .أنا أضعه في موضع شك ،وهو يحاول أن يريني وجهه اآلخر ،ولكن حياتنا في اعتقادي أصبحت كذ ًبا وخدا ًعا.
مع مرور الوقت أصبح أوالدي وبناتي يكبرون فركزت اهتمامي على تعليمهم ولم يعد وقتي يدعوني لمتابعته ومراقبته فقد تركته لحاله ،حاولت أن أثنيه ولكن دون جدوى ،فقد زرنا مصر بعد أن حدثت المشكلة والتقى بأهله هناك.
92
( ) 18 كان الحنين يشدني إلى الوطن .عندما استلقى للنوم أو للراحة
أجد الوطن أمامي ،واسأل نفسي لماذا كل هذه الغربة الطويلة؟ من أجل من؟ ولماذا؟
عندما ألتفت ألوالدي أشعر بأنهم في حاجة إلى وطنهم .فلماذا
أحرمهم من العودة إليه؟.
اتصلت بالسفارة الليبية بلندن في منتصف سنة 2007وطلبتم
منهم إصدار جوازات سفر للعودة إلى الوطن ،ردت على الهاتف امرأة كلمتني بلكنة سودانية ،كان ردها جل ًفا ومتصل ًفا قالت لي:
تغيبين كل هذا الوقت وتطلبين العودة إلى ليبيا اآلن واستخراج
جوازات في أسبوع!.
ال أخفيكم أنني خفت وانزعجت من رد األخت السودانية ،قلت 93
بيني وبين نفسي :وهل عجزت ليبيا إلى هذا الحد حتى تكلمني سودانية باسم ليبيا وتنهرني وتجرحني؟ فكرت للحظة وبقدر ما كان الجرح عمي ًقا بقدر ما كان التصميم على العودة أكبر وأعمق.
قلت لها أحب أن أتحدث مع أي شخص يكون ليب ًيا ،فتحدثت مع سيد يدعي محمد األسطى ويشهد الله إن هذا الرجل هو من كان وراء عودتي إلى وطني فهو من ذ ّلل لي كل الصعاب حتى العودة. اتصلت بعد فترة فقالوا بأنني ممنوعة من العودة إلى ليبيا ،ولكني أصررت على دخول الوطن وأصبحت المسألة مسألة تحدٍّ .طلبت شخصا مقابلة السفير الليبي ،وتوجهت إلى السفارة وهناك قابلت ً إلى بعض األسئلة. آخر يدعى عادل أبوراس وجه ّ
عرفت إنه تحقيق مبدئي ..أخبرتهم بأن األمر اآلن تغير ،وأن من تبحثون عنهم أصبحوا في خبر كان ،فهم متشردون في شوارع مدن العالم يشربون الخمر في الحانات والخمارات ،ويعودون آخر الليل فكرا ..هذا إذا كان لديهم يتأبطون بنات الليل ،فلم يعودوا يحملون ً في األصل فكر يخيف.
هم اآلن في فراغ مميت فألحقوا بهم وأنقذوهم من براثن الجريمة والمرض والقهر الذي يعيشونه وهم أغلبهم نادمون.
إلي باهتمام كان لكلماتي وقع مؤثر على الرجل الذي أنصت ّ شديد ،ثم نظر نحوي بعمق ،وقال لي :إنشاء الله خير. بعد يومين فقط اتصل زوجي فاخبروه بالرفض ،بكيت بشدة 94
وصرخت ،ولكن بعد عشرة دقائق فقط اتصل بي موظف السفارة
ليعلمني بالموافقة على دخولي ليبيا ،لقد كان في األمر خطأ ما، وطلب مني إحضار األوراق.
ذهبت في اليوم التالي إلى السفارة وكان استقبالهم رائ ًعا
واالبتسامة تعلو وجوههم ،ويبدوا أنهم عرفوا ما كان من السودانية
أو خطأ الموظف في إبالغنا بعدم الموافقة ،فرحت جدً ا بما وجدته
من أعضاء المكتب خاصة القنصل العام (مها عثمان) .كانت امرأة رائعة بمعنى الكلمة .كان حديثها معي رائ ًعا ،وتكلمت معي بطريقة
لبقة وطمأنتني بأنني سوف أعود إلى الوطن قري ًبا.
عندما تحدثت مع األخت السودانية قلت لها :أقسم بالله العظيم
بأنني سأعود للوطن يوم 8 /16لقد حددت هذا التاريخ .ولما سألوني
لماذا هذا الموعد؟ أجبتهم بأنه تاريخ عيد ميالدي ،وأحب أن أكون في ليبيا خالل هذا التاريخ.
ساعدني الجميع في إصدار جوازات سفر جديدة لي والبنتي
الكبرى أما باقي األطفال فاتفقت مع السفارة إنه بإمكانهم زيارة الوطن بجوازاتهم اإلنجليزية ،وسلموني الجوازات وطلبوا من أن
أزغرد فقلت لهم سوف أزغرد في بنغازي.
أعادوا لي المبالغ التي دفعتها كرسوم ،وقالوا هذه هدية من
السفارة .كنت في القنصلية الليبية أصعد مع السلم جر ًيا وأعود جر ًيا.
كنت أصرخ وأبكي وأضحك في آن واحد .كانت الفرحة تغمرني. 95
نظرات الدهشة لموظفي القنصلية كانت تالحقني ،أقول لهم
أنتم ال تعرفون ما حدث لي وال تعرفون قيمة أن تغترب عن وطنك عشرين عا ًما ..ال تعرفون قيمة أن يسمح لك بالعودة إلى بنغازي.
خرجت أحمل الفرحة بين ضلوعي وأحمل جوازات السفر الليبية
في يدي وأحمل ذكرى طيبة من معاملة أعضاء القنصلية الليبية في
لندن ،وفي محطة القطار في طريقي إلى مانشسستر أصبت بالهذيان
كنت أحكي مع المارة ،ومع الباعة المتجولين ،مع كل من يقابلني..
سأعود إلى ليبيا ..سأعود إلى ليبيا ..وأبكي وأصرخ ،كانوا يعتقدون
أنني مجنونة ،وكانوا يضحكون مني.
كنت أبكي بكاء فرح ،ولكن في داخلي كنت خائفة مرتعبة ،أقول
لنفسي بأنني سأدخل ليبيا ولن أخرج منها ،كانت الفرحة والخوف عندي متالزمان ،وإنه ال فرق بين الفرح والخوف.
كنت أخاف من أوالدي أن يصطدموا بثقافة غير الثقافة التي
أفكارا وثقافة جبلوا عليها في المجتمع اإلنجليزي ألنهم يحملون ً
غير األفكار التي يحملها المجتمع الليبي ،هل يا ترى سوف يرى
أبنائي بنغازي؟.
جالت كل هذه األفكار بخاطري طيلة الفترة التي سبقت عودتي
إلى أرض الوطن ،الرحلة عبر الصحراء ،المغرب ،والرفاق ،الشيخ
خليفة والشيخة (ديجالون) وسوريا ،وسجن (كواال كامب) لم أعرف
طعم النوم كنت أرى أحالم مزعجة ،وال أخفي عليكم عشت متوترة. 96
حجزت تذاكر العودة وتجهزت للسفر ،صعدت الطائرة كنت
أرتعش ،لم أتمالك نفسي ،وطالت الرحلة لم أكن أتوقعها بعيده كل هذه المسافة.
حطت الطائرة في طرابلس ..إذن أنا في طرابلس بعد عشرين
عا ًما ..أنهيت إجراءات الدخول بسرعة ،لم يسألني أحد ،لم يوقفني أحد ..أنا في طرابلس ،أبكي وأضحك وأحضن كل من ألتقي به،
أحضن ضابط الجمارك ،وضابط الجوازات ،وأحضن هواء بالدي
التي غادرتها بال معنى ..بال هدف.
وجدت أهلي في مطار طرابلس في استقبالي ،والرحلة إلى بنغازي
في اليوم التالي ذهبنا إلى الفندق في وسط العاصمة ،لم أنم ليلتي تلك كنت طيلة الليل أقف في شرفة الغرفة حتى الصباح ..كان والدي ينام
في الغرفة المجاورة.
في الصباح توجهنا إلى بنغازي ،وبعد ساعة كانت األطول في
حياتي حطت بنا الطائرة ..أبكي وأضحك ..أصرخ وأزغرد ..وعلى أرض المطار سجدت سجدة الشكر لله الذي يسر أمري وأعادني
إلى وطني.
استقبلتنا بنغازي بأهلها وشوارعها وأزقتها ،لم نذق طعم النوم،
ليالي طويلة يزورنا الجيران واألصدقاء ،كنت أفكر بما سيحدث
ألطفالي ،ولكني فوجئت بأنهم يرفضون الخروج من ليبيا والعودة إلى إنجلترا.
97
بين بيت والدي وبيت أهل زوجي عشت أيامي األولى بعد عودتي، ومع مرور الوقت بدأت أشعر بقلق من العبء الذي وضعت فيه أهلي ..فالمصروفات زادت عليهم وأصبحت أراهم يتضايقون حتى وإن لم يصرحوا لي بذلك. صباحا إلنجاز بعض األعمال ولكن كنت أخرج من البيت ً اإلدارية ..تسجيل األوالد غير المسجلين بكتيب العائلة ،وبعض اإلجراءات اإلدارية األخرى.
تقدمت بملف للحصول على بيت بمدينتي التي أحببتها ..ولكن لم تجرى األمور مثل ما كنت أتوقع ،فقد تكسرت األحالم التي بنيتها في مكاتب البيروقراطية وإجراءاتها الطويلة والمعقدة.
وبعد صراع طويل مع اإلجراءات قررنا العودة إلى بيتنا في الغربة.. بيتنا في المهجر بعد أن عجزنا عن إيجاد مأوى في الوطن وبعد أن ذهبت الوعود أدراج الرياح. عدنا إلى مانشسستر وسارت حياتنا طبيعة حتى ّقرر زوجي العودة إلى بنغازي عن طريق مصر ،ورافقته في الرحلة بنتان من بناتنا ،وبقيت أنا في مانشسستر.
98
التكفير والهجرة نشأت جماعة التكفير والهجرة داخل السجون المصرية بعد اعتقاالت 1965م في بادئ األمر ،وبعد إطالق سراح أفرادها تبلورت أفكارها على يد شخص يدعى (شكري مصطفى) ،وهو المؤسس الثاني لها ..أما المؤسس األول فهو (علي إسماعيل) الذي رجع إلى رشده وأعلن براءته من األفكار التي كان ينادي بها ..وأكثر أتباعها في صعيد مصر ،وبين طلبة الجامعات الخاصة ،وهم ينتهجون مبدأ السمع والطاعة ،الذي مارسته معظم الجماعات اإلسالمية بطرق متفاوتة بينها وبين بعضها ،وبصفة عامة يمكن القول أن مبدأ السمع و الطاعة من األسس الفكرية التي قامت عليها معظم الحركات اإلسالمية ،ولكنه ينشط جدً ا ويتمدّ د عند جماعات التكفير و يقل كلما اتجهنا إلى الجماعات السلفية. تعتبر جماعات التكفير أن والية أمير الجماعة هي والية شرعية أخذتها من النصوص الشرعية التي تفيد وجوب وجود أمير لكل زمان ،وأنه البد من وجود البيعة في عنق كل مسلم وإال مات ميتة 99
جاهلية ،كما ذكرت األحاديث النبوية ،ونحن ال نقر ذلك ألن هذه األحاديث النبوية تعلقت بالنظام السياسي للدولة اإلسالمية الذي يرتكز على وجود الخالفة اإلسالمية وتكون فيه البيعة للخليفة ،أي أن جماعة المسلمين والتي ورد ذكرها في حديث حذيفة يقصد بها عامة المسلمين وعليهم إمام أو خليفة كما ذكرت األحاديث النبوية ،وهذا التفسير ليس تفسيري الشخصي بل هي آراء معظم فقهاء المسلمين.
هذا الرأي تجاهلته جماعات إسالمية كبيرة واعتبرت اإلخوان نفسها جماعة المسلمين وليس جماعة من المسلمين ،وهذا هو الخط المشترك األول بين جماعة المسلمين (التكفير والهجرة) واإلخوان المسلمين ،أما الخط المشترك الثاني فهو مبدأ السمع و الطاعة.
كان من العجيب أن يحدث االنشقاق الكبير داخل جماعة التكفير والهجرة بنفس الطريقة التي افترقت عليها أولى مجموعات الخوارج كما يذكر األشعري في كتابه (مقاالت اإلسالميين).
فقد تولى أمر الجماعة بعد إعدام شكري مصطفى محمد األمين عبد الفتاح وكنيته (أبو الغوث) .في هذه اآلونة كان محمود فهمي أمير الجماعة الحالي مازال طال ًبا في كلية الفنون التطبيقية ـ وحدث أن تقدم شاب لخطبة ابنة واحد من أفراد الجماعة ،واستشار أحد أفراد الجماعة وهو وحيد عثمان وأفتاه أنه يجوز أن يزوج ابنته بدون رأي األمير ألن هذا من الشؤون التي ال يشترط أن يستشار فيها األمير وعلم األمير بالفتوى وكانت القاصمة ،وأصر وحيد على رأيه واعتبرها خروجا على الطاعة وأنه البد من موافقة األمير على الزواج لكي األمير ً 100
صحيحا ألنها ابنة واحد من الجماعة ،وتم تزويج الفتاة بدون يكون ً موافقة األمير أبي الغوث فأعلن كفر وحيد ووالد الفتاة وخروجهم من الجماعة ،وكانت الطامة الكبرى داخل الجماعة حيث انحاز عدد من الجماعة إلى فكر وحيد عثمان ورأوا أنه ال يجب استئذان األمير في شئون الدنيا الخاصة مثل الزواج وغيره ،وأعلن من جانب وحيد عثمان أنه أمير جماعة المسلمين الجديد وأن الجماعة األخرى ال تنفذ أحكام الدين الصحيح وبايعه بعض أفراد الجماعة ،أما الخط األصلي للجماعة والذي كان امتدا ًدا لشكري ً ممثل في أبي الغوث فقال إنهم كفار ،وسميت الجماعة الجديدة باسم (جماعة وحيد الخائن). ظل هناك صراع داخلي بسبب الجدل الذي احتدم حول ما إذا كانت جماعة (وحيد الخائن) كفار أم ال؟ وذلك ألن وحيد لم يخالف آراء شكري وال كتبه وظلت الجماعة على نفس األفكار والمفاهيم القديمة ،واستمرت جماعة وحيد «الخائن» في الدعوة والعمل انتشارا من خط أبي الغوث ،وزاد لجماعة المسلمين بشكل أكثر ً من أماكن انتشار الجماعة وتوسع في الهجرة الداخلية للجماعة، وكانت المجموعة التي تم القبض عليها في مطلع 2002تنتمي إلى مجموعة وحيد عثمان ،ولكن ذلك ال يعني أن المجموعة األخرى صحيحا .فقد باشرت الدعوة والهجرة الداخلية قد انتهت فهذا ليس ً ولكنها زادت في الهجرة الخارجية وخاصة إلى الجزيرة العربية سواء إلى السعودية أو إلى اليمن ،كما كان ينصح شكري بالهجرة إلى اليمن لألحاديث الواردة في فضل اليمن ،بل وبدأت الهجرة إلى 101
بعض الدول األوربية ،ولعل هذا مما قد يثير عجب البعض ،فلماذا يهاجرون إلى بالد الكفر؟ ولكن القاعدة التي استندوا عليها هي أن أي بلد تتشابه مع ظروف الحبشة من األمان والحاكم العادل يجوز الهجرة إليها ،حتى أن محمد األمين عبدالفتاح نفسه سافر واستقر في السعودية وساعد كثير من أفراد الجماعة على الهجرة سواء إلى السعودية مثله أو إلى بعض البلدان األوربية. هذه باختصار هي قصة االنشقاق التي حدثت داخل جماعة التكفير علما القراء يحيطون ً والهجرة ،أحببت أن أسردها باختصار ألجعل ّ بخلفية أحداث «ديجالون».
102
صدر في هذه السلسلة 1ـ (قراءات في السلم والحرب) ،عبدالمنعم المحجوب. 2ـ (حبر المنفى) ،عمر الكدي.
3ـ (خاليا نائمة) ،محمود البوسيفي. 4ـ (أوراق تاريخية) ،مختار الجدال.
5ـ (ما وراء الحجاب) ،فتحي بن عيسى. 6ـ (منفى) ،ديوان شعر ـ عمر الكدي.
7ـ (مفهوم القوة في السياسة الدولية) ،خالد الحراري
جو ْك) ،قصائد محكية بلهجة ليبية ،سالم العالم. 8ـ ( َعلى ّ 9ـ (موسوعة الجهل النسبي) ،مقاالت ،الصدِّ يق بودوارة.
10ـ (راهنية التأويل (-)2سؤال الكيان) ،عبد المنعم المحجوب. 11ـ (الدولة البيزنطية في ضوء إصداراتها القانونية) ،خيرية فرج َحفالِش. 12ـ (من الذاكرة) ،حسين نصيب المالكي.
13ـ (اليد الواحدة) ،عبدالباسط أبوبكر محمد. 14ـ (أصحاب المغيب) ،سالم الهنداوي.
15ـ (داعشلوجيا) ،عبدالواحد حركات أبوبكر.
16ـ (ديوان :صالح الشنطة) ،جمع وتحقيق /د .عمر غيث قرميل.
17ـ (زغاريد ودموع ..من حياة النجوع) ،فرج عبد الحميد المسماري. 18ـ (تفاحة البرلمان) ،عبد الرحمن سالمة. 19ـ (سطوة الكالب) ،عوض الشاعري.