اليد الواحدة

Page 1





‫اليد الواحدة‬ ‫تأليف‪ :‬عبدالباسط أبوبكر محمد‬ ‫© جميع الحقوق محفوظة‬ ‫مجلة‬ ‫أسبوعية سياسية شاملة‬ ‫طبع في مايو ‪2015‬‬ ‫مطابع األهرام‬ ‫جمهورية مصر العربية‬ ‫المدير الفني وتصميم الغالف‪ :‬سامح الكاشف‬ ‫اإلخراج الفني والتنفيذ‪ :‬أحمد نجدي‬


‫إلى تلك القصائد‬

‫التي ظلت تلح بمعاودة القراءة‬ ‫مر ًة تلو المرة‬

‫إلى أن كان هذا الكتاب‪.‬‬



‫المحتويات‬ ‫ـ مدخل أول‪9............................................................................‬‬

‫ٍ‬

‫ـ مدخل ثان ‪11.............................................................................‬‬

‫ـ مقدمة ‪13...................................................................................‬‬

‫ـ قصيد ٌة أم شاعر ؟! ‪19................................................................‬‬

‫ٍ‬

‫ٍ‬ ‫أفكار على الشجرة مقابل فكرة في اليد ‪29........................‬‬ ‫عشر‬ ‫ـ ُ‬

‫نصوص ُملبد ٌة بالغيوم ‪41...........................................................‬‬ ‫ـ‬ ‫ٌ‬ ‫ـ عباء ُة اآلنا أو حاالت الذات ‪55..................................................‬‬

‫ِ‬

‫ن الذات الوثير‪67...............................................................‬‬ ‫ـ حض ُ‬ ‫مدخل ‪69..........................................................................‬‬

‫ـ السر ُد المحموم‪77.....................................................................‬‬ ‫مدخل ‪79..........................................................................‬‬

‫ـ ُمغامرة التجريب ‪87...................................................................‬‬ ‫مدخل ‪89..........................................................................‬‬

‫ـ القصيد ُة بلحاف األنثى ‪97.........................................................‬‬

‫ـ تعريف بالكاتب ‪105....................................................................‬‬



‫مدخل �أول‬ ‫وإلى أن تصبح الخوذة‬ ‫خط االستواء‬

‫ويصير المدفع الرشاش إنجيال‬

‫وتظل المشنقة‬

‫ويظل السيد الجالد‬

‫والقاضي‬

‫وحفار القبور‬

‫أبجديات على الفتة الموت‬

‫وتبقى الكلمات الصادقة‬

‫ً‬ ‫يحفر قبر الصادقين‪.‬‬ ‫معول‬ ‫ُ‬

‫‪...‬‬

‫الشاعر (محمد الشلطامي)‬ ‫‪9‬‬



‫ثان‬ ‫مدخل ٍ‬ ‫لم تكن هذه القراءات إال محاولة صغيرة لمواكبة هذه التجربة‬ ‫الشعرية المتدفقة بقوة عبر مسارب النشر الورقي واإللكتروني‪.‬‬

‫هي نتيجة مكثفة لقراءات متواصلة لبعض التجارب الشابة في‬ ‫تجربة الشعر الليبي الحديث‪ ،‬كنت أحاول أن أتوقف عند كل صوت‬ ‫ً‬ ‫صرا على القول أن هذه التجربة‬ ‫محاول رسم مسار تجربته الصغيرة‪ُ ،‬م ً‬ ‫ٍ‬ ‫بشكل ما تجربة الشعر الليبي الحديث‪ ،‬نتيج ًة لحضورها‬ ‫تُلخص‬ ‫المبهر على الفضاء اإللكتروني وانفتاحها على تجارب اآلخرين بقوة‪.‬‬

‫هذه القراءات الصغيرة‪ ،‬كنت مدفو ًعا لها في ظل غياب النقد الذي‬ ‫ظل بعيدً ا عن هذه التجارب لفترة طويلة‪.‬‬ ‫كانت المقالة األولى التي تحمل عنوان (اليد الواحدة) ونشرت‬ ‫في صحيفة العرب اللندنية خالل عام ‪.2003‬‬

‫من خالل نقاش مكثف مع الصديق الشاعر (عبدالدائم أكواص)‬ ‫الذي كان على تواصل يومي معي تلك الفترة‪.‬‬ ‫‪11‬‬


‫كانت هذه القراءات تترصدُ مجموعة النصوص الشعرية التي‬ ‫تنشر عبر المواقع اإللكتروني والصحف والمجالت التي تصدر‬ ‫تلك الفترة‪ ،‬قبل أن تترصد حضور المجموعات الشعرية األولى‬ ‫للشعراء الشباب‪.‬‬

‫‪12‬‬


‫مقدمة‬ ‫تنساب أي تجربة شعرية عبر مجموعة من الروافد تتشكل عبرها‬ ‫ومن هذه الروافد تبرز مؤثرات التراث والمؤثرات الغربية (التي‬ ‫ً‬ ‫مهما في أي تجربة شعرية)‬ ‫أصبحت تشكل‬ ‫هامشا ً‬ ‫وتأتى تجربة الشاعر الذاتية كشيء ملح ومهم في رسم أبعاد‬ ‫التجربة الشعرية عند أي شاعر‪.‬‬

‫تجربة الشعر الليبي التي نتلمسها اآلن تجيء عبر جزئيات‬ ‫متفاوتة‪ ،‬لقد ظلت وعلى امتداد هذه الفترة الزمنية تجربة أصوات‬ ‫منفردة‪ ،‬كل صوت يغرد بطريقته‪ ،‬ويوظف تأثراته وقراءاته وتجاربه‬ ‫بالكيفية التي يراها تناسبه‪ ،‬ويتضح في التجربة الليبية عمو ًما عدد‬ ‫كبير من المؤثرات (العربية والعالمية) وتتفاوت هذه المؤثرات‬ ‫ٍ‬ ‫شاعر إلى آخر‪.‬‬ ‫من‬

‫هذه التجربة التي تشكلت عبر تنوعات مختلفة منها القومية‬ ‫والوطنية والذاتية وعبرت كل تجربة عن الفترة التي عايشتها‪ ،‬كما‬ ‫‪13‬‬


‫علق الشاعر (مفتاح العماري) في كتابه (فعل القراءة والتأويل)‪:‬‬ ‫(كانت تجربة الستينات على مستوى الموضوع والفكرة محمولة‬ ‫بهموم وطنية وقومية مع قلق وجودي مستتر وتحت تأثير مقوالت‬ ‫كبيرا في الممارسة الشعرية‪،‬‬ ‫االلتزام احتلت الموضوعية ً‬ ‫حيزا ً‬ ‫مما قلص مسألة االهتمام بتحديد أنساقها الفنية وبصورة خاصة‬ ‫تشكالتها اللغوية‪،‬وبدت تأنس إلى أنظمة شكلية جاهزة) ‪.‬‬

‫مع خلو تجربة الستينات من ٍ‬ ‫تميز فعال ـ حيث إنها خرجت في‬ ‫أغلبها من تحت تأثيرات األجواء العربية المشرقية وتحت تأثير‬ ‫وسطوة الهم القومي‪ ،‬حيث ظالل (السياب) و(البياتي) حاضرة‬ ‫وبقوة في أواخر الستينات‪ ،‬وحيث حضور(القصيدة القومية) عبر‬ ‫شعر (درويش) و(سميح القاسم) في أوائل السبعينات‪.‬‬

‫هذا التأثير القومي بدأ يخف في أواخر السبعينات‪ ،‬وتحت ضغط‬ ‫ظواهر مختلفة بدأت أصوات شعرية متميزة تنساب بهدوء له حضوره‬ ‫الخاص على صعيد التجربة الشعرية عمو ًما‪ ،‬ونجد هنا أصوات‬ ‫متميزة استطاعت أن تواكب عقود قادمة منها‪( :‬محمد الفقيه صالح)‬ ‫و(الجيالني طريبشان) و(السنوسي حبيب)‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫بمخاض عنيف وتحت طائلة صنع حالة‬ ‫عقد الثمانينات‪ ،‬جاء‬ ‫متميزة تنفر من أي تأثرات (عربية أو غربية) ضاعت أغلب هذا‬ ‫األصوات في دائرة بحثها عن تميز لكنها بدأت تتجانس عبر‬ ‫مجموعة المعطيات إلى تنظيرات (أدونيس) وقصيدة (الماغوط)‬ ‫خصوصا في ظل‬ ‫حتى أن قراءتها للتراث انطلقت من هذا الباب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫‪14‬‬


‫غياب مرجعية تراثية لقصيدة النثر‪،‬وفي غياب حركة نقدية تحدد‬ ‫مسار تجربة كاملة ولهذا جاء نضج أغلب هذا األصوات (التي‬ ‫استمرت) عبر عقد التسعينات‪ ،‬حيث بدأت الحالة الشعرية لدى‬ ‫ً‬ ‫شكل‬ ‫أغلب األصوات التي ظهرت في الثمانينات تتناسق وتأخذ‬ ‫مناس ًبا‪ ،‬بل إنها قبضت في بعض األحيان على نمطية خاصة بها‬ ‫(تميز كل صوت عن اآلخر) باإلضافة إلى حضور أصوات رائدة‬ ‫حضورا وتختلف أسلو ًبا ورؤية‪ ،‬وتظل هناك‬ ‫في درجات تتماثل‬ ‫ً‬ ‫خصوصية عند تجربة (مفتاح العماري) و(سالم العوكلي) في‬ ‫تقاربهما أسلو ًبا واختالفهما رؤية‪.‬‬

‫بل إن بعض األصوات ومنها (تجربة الشاعر على صدقي‬ ‫قادرا على خلق حالته الخاصة وعبر امتداد زمن‬ ‫عبدالقادر) ظل ً‬ ‫هائل وبزخم غير عادي من النتاج المتغير‪ ،‬زادها في ذلك انفتاحها‬ ‫على التجربة الشعرية اإلنسانية‪ ،‬وغايتها خلق حالة من الخصوصية‬ ‫في مسار تجربة الشعر الليبي‪ ،‬لذلك لم تستقر هذه التجربة في وضع‬ ‫نمطي معين إال في نهاية التسعينات‪.‬‬

‫وعبر هذه السلسلة من التباينات جاءت األصوات الشعرية‬ ‫الجديدة‪ ،‬يحمل كل صوت منها تفاعالته و تأثراته وأرائه الخاصة‪،‬‬ ‫وأيضا لم تكن‬ ‫كذلك فإن هذه التجربة لم تكن مقفلة على ذاتها‪ً ،‬‬ ‫كثيرا‪ ،‬كانت تحاول قراءة ذاتها عبر استنطاق‬ ‫منفتحة على الغير ً‬ ‫الغير‪.‬‬ ‫ويتضح أن الساحة الليبية غنية باألنواع الشعرية‪ ،‬فنقرأ القصيدة‬ ‫‪15‬‬


‫العمودية بأصوات شعراء شباب‪ ،‬ونجد التفعيلة بنغمها الطافح والتي‬ ‫تركن إلى مؤثرات تراثية وعربية كثيرة‪ ،‬ونجد كذلك قصيدة النثر‬ ‫أيضا يستمد حضوره من عدة أرضيات‬ ‫كمنجز شعري آخر وهو ً‬ ‫محلية وعربية وعالمية‪.‬‬ ‫من خالل استنطاق هذه التجربة تبرز السمات التالية‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ هذه األصوات أصوات منفردة‪ ،‬ليس بينها أي قواسم مشتركة‬ ‫أو رؤية واحدة‪ ،‬لكنها تتلمس طريقها كل على حده‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ سعي كل صوت ليشكل بعدً ا في هذه التجربة‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ تلمس الواقع من خالل بوابة الذات ـ في ٍ‬ ‫زمن باتت تسحقه‬ ‫مظاهر العولمة‪ ،‬واضطهاد الفرد تحت نير الحاجة‪ ،‬لذلك‬ ‫يرجع نكوصها إلى الداخل كأمر بديهي ال يحمل الكثير من‬ ‫األفكار الكبيرة بل هو تعبير عن كيان إنساني صغير‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ يتقاطع كل صوت مع عدد من المؤثرات الفكرية والتراثية‪،‬‬ ‫فحالة البحث لديهم محمومة لخلق تجربة لها خصوصيتها‪.‬‬

‫لذلك يظل اإللمام بخصوصية كل صوت أمر له محاذيره وله‬ ‫مخاطره‪ ،‬بل وتظل أي قراءة في نصوص معدودة للشاعر الواحد في‬ ‫ٍ‬ ‫أمرا ال يخلو من تناقض واضح‪ ،‬وتظل هذه القراءة‬ ‫مجموعة شعرية ً‬ ‫نو ًعا من االجتهاد‪ ،‬وليس من أهدافها وضع معايير جاهزة إليجاد‬ ‫قواسم مشتركة بين كل صوت وآخر‪.‬‬ ‫ظلت تجربة الشعر الليبي ك ٍ‬ ‫(يد واحدة) ال تحدث أي صوت‬ ‫‪16‬‬


‫وتتابع نتاجها والتفاعل‬ ‫نتيج ًة لقصور النقد على ترصد خطواتها‬ ‫ُ‬ ‫معها‪.‬‬

‫كانت هذه القراءات بمثابة الصوت النقدي الغائب (اليد األخرى)‬ ‫التي تحدث صوتًا‪ ،‬وتحاول أن تكمل عمل اليد األخرى (النتاج‬ ‫اإلبداعي)‪.‬‬

‫‪17‬‬



‫ٌ‬ ‫ق�صيدة �أم �شاعر ؟!‬



‫قراري‪ :‬أال أتخلى عن ذاتي أبدً ا‪ ،‬أن أمضي إلى أقصى حدود‬

‫زيفت نفسي!!‬ ‫ذاتي‪ ،‬ماذا يفيدني ساعة موتي‪ ،‬أن أكون قد‬ ‫ُ‬ ‫هنري دو مونترالن‬

‫ما يعنينا في هذا الكالم هو خصوصيته‪ ..‬هو هذا التلبس‬ ‫بالذات إلى أبعد الحدود‪ ،‬خصوصيته في هذا التمسك بالذات‬ ‫إلى اللحظة األخيرة‪.‬‬

‫من هذا المدخل الصغير نحاول أن نقدم قراءة ولو صغيرة‬ ‫نوعا من‬ ‫نوعا ما‪ ..‬إال إنها تحاول أن تخلق بكالمها عن العموم ً‬ ‫ً‬ ‫الشمول!!‬ ‫* * *‬

‫ٍ‬ ‫بشكل جيد‪،‬‬ ‫القصيدة الحديثة في ليبيا تتكيف حال ًيا مع الذات‬ ‫ٍ‬ ‫لمجموعة كبيرة من التجارب التي تنطوي‬ ‫الذات هنا قاسم مشترك‬ ‫تحت سقف الشعر الليبي‬ ‫إ ًذا القصيدة في ليبيا قصيدة ذات‪ ..‬ذات مرهقة‪ ..‬ذات منتهكة‪،‬‬ ‫‪21‬‬


‫لكنها على الرغم من ِّ‬ ‫كل ذلك فهي ذات ساطعة الحضور عند الجميع‪،‬‬ ‫مركزا للعالم‪ ،‬القصيدة هنا تعلن انحيازها‬ ‫تحاول أن تجعل الذات‬ ‫ً‬ ‫دائما إلى خصوصيتها‪.‬‬ ‫ً‬

‫ربما ألن كثيرين من شعراء هذه التجربة دخل باب الشعر‬ ‫مسكونًا بهم التجريب‪ ،‬فإن كيان القصيدة كان الكيان األصعب‬ ‫على الدوام‪.‬‬

‫بينما ظل شعراء القصيدة العمودية والتفعيلة يراوحون بين عدة‬ ‫مستويات من التأثرات المختلفة‪ ..‬وظل صدى اآلخر يتردد على في‬ ‫قصائدهم على طول الخط‪.‬‬

‫ظل شعراء قصيدة النثر (هذا النص المشاكس) يراوح بين مجموعة‬ ‫المؤثرات العربية واألجنبية‪ ،‬كان النص النثري يستنسخ نفسه‪ ..‬مخل ًفا‬ ‫إر ًثا شاس ًعا من نتاج متشابه في الكثير من الوجوه النمطية التي توفرت‬ ‫في هذه القصيدة في إحدى مراحلها‪ ،‬فقصيدة النثر في ليبيا كتبت‬ ‫ٍ‬ ‫بروح واحدة وبأصوات متعددة‪،‬‬

‫لذلك أختار هؤالء الشعراء أن يقدموا قلوبهم الخفاقة التي تعبر‬ ‫كثيرا !!‬ ‫عن ذواتهم دون أن يعنوا باإلطار ً‬ ‫* * *‬

‫(إن المتتبع لسياق التجربة الشعرية الشابة في ليبيا سيالحظ أحيانًا‬ ‫فتنتها الشديدة إزاء مغامرة التجريب‪ ،‬وأحيانًا تبدو كأنها تكتفي بنفسها‬ ‫وف ًقا لمتطلبات لحظتها وشروطها المحلية بحساسية خاصة)‬ ‫‪22‬‬


‫ُيالحظ في تجربة الشعر الليبي إنها في حالة مخاض مستمر‪،‬األمر‬

‫الذي يتطابق مع كالم الشاعر (مفتاح العماري) هنا‪.‬‬

‫منبهرا بتجارب‬ ‫إذ كان النص الشعري الليبي في بدايته‬ ‫ُ‬ ‫كثيرا ـ ً‬ ‫يجنح ً‬ ‫غيره ـ نحو انفعاله الزائد‪ ..‬كانت فترة الثمانينيات ُ‬ ‫تكبل النص أكثر‬

‫خصوصا في تجربة القصيدة النثرية ـ لذلك بدأ‬ ‫مما تطلق له العنان ـ‬ ‫ً‬ ‫يركن في بداية التسعينيات إلى هدوءه وبساطته‪ ..‬واقترابه أكثر من‬ ‫اليومي والمعاش‪ ..‬نستطيع أن نقول أنه أصبح يركن إلى الذات أكثر‬ ‫من اهتمامه باألشياء األخرى‪ ..‬هذا االنهماك سخر للشاعر أن يقولب‬

‫عالقة هذه الذات بغيرها من األشياء‪.‬‬

‫نالحظ هنا تجربة الشاعر (على صدقي عبدالقادر) تجربة‬

‫استطاعت أن تكرس نفسها عبر امتداد زمني هائل‪ ..‬وتركن في‬ ‫ٍ‬ ‫بطفولة مطلقة‬ ‫بداية التسعينات على نمطي شعري متميز يصوغ الذات‬ ‫وبأسلوب يتقرب من اللعب اللذيذ‪.‬‬

‫كبيرا‬ ‫ونالحظ كذلك أن نتاج شاعر مثل (مفتاح العماري) كان ً‬

‫جدً ا قبل أن يركن في أواخر الثمانينيات إلى خطوته الواثقة األولى‬

‫(قيامة الرمل) ليتوج ببساطة تجاربه الذاتية في مجموعة من الدواوين‪.‬‬ ‫مرورا بتجارب شعراء فاعلين في التجربة كانت فترة نضجهم‬ ‫ً‬

‫مرحلة التسعينيات‪ ،‬وإن صح لنا القول هنا فإن تجربة الشعر الليبي‬

‫كانت تحاول إنتاج خصوصية من خالل إنتاج عالمات فارقة في‬

‫مسارها‪.‬‬

‫‪23‬‬


‫ونظرا (لخصوصية قصيدة النثر) كشكل شعري مغاير عند أغلب‬ ‫ً‬ ‫هؤالء الشعراء‪ ،‬فإن هذه القصيدة ظلت المعيار الدائم لقياس الحركة‬ ‫الشعرية في ليبيا رغم وجود قامات في شعر (التفعيلة والعمودي)‪،‬‬ ‫خاصا لها في ظل‬ ‫فإن قصيدة النثر هنا ظلت تحاول أن تصنع إر ًثا ً‬ ‫غياب مرجعية تراثية ً‬ ‫أول‪ ..‬وفي ظل حضور تجارب شعراء معاصرين‬ ‫مغايرا ثان ًيا‪.‬‬ ‫(عرب) حاولوا أن يجعلوا قصيدة النثر كيانًا‬ ‫ً‬

‫نالحظ هنا أن قصيدة النثر التي بدأت متعثرة في بداية الثمانينيات‬ ‫صنعت في منتصف التسعينيات تما ًما رصيدً ا مناس ًبا من التجربة‪ ،‬ونتاج‬ ‫نستطيع أن نقول عنه أنه ينتمي إلى خصوصية ليبية‪.‬‬ ‫شعر التسعينيات الليبي يركن إلى ٍ‬ ‫قلق لطيف‪ ،‬يحاول يطرح التخبط‬ ‫الذي صاحبه خالل عقد الثمانينات‪.‬‬

‫بينما يظل شعراء القصيدة الحديثة العمودية يبحثون عن‬ ‫ٍ‬ ‫شاعر بحجم كبير جدً ا‪ ،‬يعطي التجربة غنى ضروري هي في‬ ‫أمس الحاجة إليه‪ ،‬على الرغم من توفر الثقافة العالية والتمكن‬ ‫اللغوي والفكري العالي المستوى عند أغلب شعراء القصيدة‬ ‫العمودية الشباب‪.‬‬ ‫نحاول في ختام هذه المقدمة الصغيرة أن نلخص بعض سمات‬ ‫القصيدة الحديثة الليبية‪:‬‬ ‫ً‬ ‫أول‪ :‬انفتاح الشعر الليبي على التجارب الشعرية العربية الرائدة‪،‬‬ ‫أعطاها االتساع ولم يعطيها العمق‪ ،‬فهي أخذت من الشعر‬ ‫‪24‬‬


‫العربي العديد من المزايا‪ ،‬وحاولت القفز على العيوب‪،‬‬ ‫دائما ضفاف للتجربة العربية‪،‬‬ ‫فتجربة الشعر الليبي ظلت ً‬ ‫ولم تشارك في رسم الخطوط الرئيسية لها‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬القصيدة الحديثة في ليبيا ال تركن إلى أساطير ذات‬ ‫خصوصية ليبية‪ ،‬وال تستند على مخزون أسطوري كبير‪،‬‬ ‫لذلك نالحظ تناثر اإلشارات األسطورية المستوردة من‬ ‫أساطير عربية (‪ ...‬لقد تأثر شعراءنا بشعراء الشرق حد‬ ‫التناص سوا ًء على مستوى النصوص‪ ،‬وفي نهاية الستينات‬ ‫يكتب أحد النقاد أن الشعر في ليبيا بعد انفلت خارج حدود‬ ‫الوزن والصورة الشعرية العربية تحول إلى شعر(نواقيس‬ ‫وصلبان)‪)....‬‬

‫شاعرا‪ ،‬أي بمفهوم‬ ‫ثال ًثا‪ :‬الشعر في ليبيا‪ ..‬ينتج قصيدة وليس‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫متكامل‪،‬‬ ‫مشروعا شعر ًيا‬ ‫الشاعر الظاهرة‪ ،‬الذي يتبنى‬ ‫ً‬ ‫فالغالب في شعراء ليبيا هو ممارسة الشعر ببعض النزق‪،‬‬ ‫فالغالب يظل في خانة الموهوب في تعامله مع نصه دون‬ ‫أن يدخل مرحلة االحتراف‪.‬‬

‫راب ًعا‪ :‬القصيدة الحديثة (قصيدة الشباب) تتنوع بتنوع األصناف‬ ‫األدبية‪ ،‬فالشعر العمودي موجود بجوار شعر التفعيلة‬ ‫وقصيدة النثر‪ ،‬من هنا فالشعر يتجاور بكل أصنافه‪ ..‬وتتداخل‬ ‫مع بعضها‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬في الشعر الليبي تنعدم التيارات واألجيال الشعرية التي‬ ‫ً‬ ‫‪25‬‬


‫تستمد شرعيتها من واقع ثقافي متقارب‪،‬فتجربة الشعر‬ ‫شاعرا‪،‬‬ ‫الليبي تجربة تنتج نصوص أكثر من كونها تنتج‬ ‫ً‬ ‫كذلك تظل تجربة الشعر الليبي تجربة انقطاع وليس‬ ‫اتصال‪ ،‬فاألجيال الحالية التي تمارس كتابة الشعر‪ ،‬لم‬ ‫تستفيد من تجربة الجيل السابق‪ ،‬بل تظل المؤثرات العربية‬ ‫هي الغالبة عند جميع األجيال‪ ،‬فمن تأثيرات (السياب‬ ‫ونازك المالئكة‪ ،‬والبياتي) على شعراء الستينات‪ ،‬نجد‬ ‫خصوصا‬ ‫تأثر شعراء قصيدة النثر الليبيين بدرجات متفاوتة‬ ‫ً‬ ‫في بداية تعاطيهم للكتابة الشعر برواد قصيدة النثر في‬ ‫المشرق العربي‪.‬‬

‫كثيرا‬ ‫سادسا‪ :‬القصيدة العمودية الحديثة في ليبيا‬ ‫ُ‬ ‫تقترب من الذات ً‬ ‫ً‬ ‫األمر الذي يجعل من أغراض الشعر العمودي السابقة‬ ‫تختفي وراء سطوع الذات الواضح‪ ،‬وبالتالي تختفي‬ ‫بعض أغراض الشعر العمودي التقليدي (هجاء‪ ،‬مديح‪،‬‬ ‫رثاء‪ ،)..،‬نتيجة قرب التجربة الذاتية الكلي من المبدع‪.‬‬ ‫ساب ًعا‪ :‬تسعينات القرن العشرين‪ ،‬كانت مرحلة تطور نوعي في‬ ‫النص الليبي‪ ،‬فبالدرجة األولى دخلت أصوات شابة‬ ‫جديدة مجال الكتابة الشعرية مسكونة بنشاط محموم‪،‬‬ ‫كذلك لوحظ نشاط ملحوظ ألصوات شعرية من عقود‬ ‫السبعينات والثمانينات توجت مشوارها الشعري خالل‬ ‫هذا العقد‪.‬‬ ‫‪26‬‬


‫ثامنًا‪ :‬النص الشعري الليبي الحالي نص ذاتي متناهي الشفافية‬ ‫ٍ‬ ‫بصورة مدهشة‬ ‫ال يركن إلى الغموض‪ ،‬بل يقترب من المتلقي‬ ‫صرا على التفاعل مع اليومي‪ ،‬وقصيدة المشاهدات التي‬ ‫ُم ً‬ ‫تحاكي الواقع‪.‬‬ ‫هوام�ش‬ ‫(‪ )1‬من كتاب (فعل القراءة والتأويل)‪ ،‬مفتاح العماري‪.‬‬ ‫(‪ )2‬من مقالة (قصيدة النثر في ليبيا)‪ ..‬رامز النويصري‪ ..‬صحيفة المشهد‪.‬‬ ‫(‪ )3‬من مقالة (خارج السرب) قراءة في القصائد العمودية الحديثة في الشعر‬ ‫الليبي الحديث ـ عبدالباسط أبوبكر محمد‪ ،‬مجلة غزالة الليبية‪.‬‬

‫‪27‬‬



‫فكرة في اليد‬ ‫ُ‬ ‫ع�شر �أفكا ٍر على ال�شجرة مقابل ٍ‬ ‫(قريبا من ناصية البئر والتحول)‬ ‫قراء ٌة في ديوان‬ ‫ً‬ ‫للشاعر (صالح عجينة)‬



‫في ٍ‬ ‫كثير من األحيان أحاول أن أصل في اللغة إلى صيغة‬ ‫أفترض أنها األقدر على التوصيل وإنها األجمل‪ ،‬لست‬ ‫حريصا على جمالية اللغة كهيكل أو قيمة مستقلة‪ ،‬لكن‬ ‫ً‬ ‫أحاول أن أفرغها من جمالها الذي يجب أن تتمتع به‬ ‫الروائي (عبدالرحمن منيف)‬

‫الكالم هنا‪ ..‬وإن كان يتكلم عن خصوصية اللغة عند الروائي‪..‬‬ ‫فإننا وبنظرة صغيرة نرى تطابق هذا الكالم على مختلف األصناف‬ ‫األدبية‪..‬إنه يستهدف الوصول إلى لغة تقدر على إيصال الفكرة‬ ‫إلى المتلقي‪ ،‬ألنها في رأيه هي األجمل‪ ،‬من هذا المفتتح نحاول‬ ‫الغوص هنا في ديوان الشاعر (صالح عجينة)(*) (قري ًبا من ناصية‬ ‫البئر والتحول)‪ ،‬فالديوان ال يخلو من محاولة التوصل إلى لغة يراها‬ ‫ٍ‬ ‫درجة‬ ‫الشاعر مناسبة جدً ا إليصال تجربته الشعرية‪ ،‬وكذلك يراها على‬ ‫من المغايرة واالختالف‪.‬‬ ‫بداي ًة أحب أن أشير إلى نقطتين مهمتين‪:‬‬

‫ً‬ ‫كثيرا عن غموضه وارتباكه‬ ‫أول‪ :‬الشعر الليبي الحديث تخلى ً‬ ‫‪31‬‬


‫في مقابل تجليه وسطوعه‪ ،‬الشعر الليبي اآلن يتعامل مع‬ ‫اللغة بحذر شديد‬

‫كثيرا إلى تجارب الرواد السابقة‪،‬‬ ‫ثان ًيا‪ :‬الشعراء الشباب لم يركنوا ً‬

‫ولهذا نجد أن تأثير التجربة الليبية على جيل الشباب ضئيل‬ ‫جدً ا‪ ،‬في مقابل التجربة العربية بكل غناها‬

‫أيضا ممتلئة بارتباك‬ ‫قصيدة الشباب مسكونة بحيرتها‪ً ،‬‬

‫طافح تجاه كل شي‪ ،‬االرتباك هو عنصرها األساسي‪،‬‬ ‫فالدخول في أفق النص الشعري يظل مخاطرة في حد‬

‫ذاته‪ ،‬فالقصيدة مسكونة بالقلق ابتدا ًء من الفكرة التي‬

‫تبدو غير واضحة إلى اللغة التي يمارس الشاعر تجاهها‬

‫كل أساليب التجريب‪.‬‬ ‫خ�صو�صية ليبية‬

‫نقر ُأ في الديوان قصيدة (قصائد ليبية) لنرى بوضوح خصوصية‬

‫هذه القصيدة التي جعلت الشاعر يقدمها على أغلب القصائد‪:‬‬

‫‪1‬ـ ‪1‬القصيدة تمارس خصوصية ليبية صميمة من خالل تعاملها مع‬ ‫رموز ليبية لها وضعها االجتماعي أو والجغرافي والتاريخي‬

‫(سيدي الشعاب‪ ،‬صخور تبستي‪ ،‬ماركوس‪ ،‬سبتموس)‬

‫‪2‬ـ ‪2‬القصيدة تنهض على أقدام فكرة غير واضحة‪ ،‬فهي تبد ُأ‬ ‫‪32‬‬


‫ٍ‬ ‫درجة‬ ‫بخصوصية ذاتية صرفة‪ ،‬وتتشعب إلى شمول على‬

‫عالية من الغموض‬

‫لذلك تركن أغلب قصائد الديوان إلى ُمغامرة بالفكرة داخل إطار‬

‫األلفاظ‪ ،‬فهي هنا تشذ على الشعر الليبي الحديث الذي يركن كما‬

‫قلنا لبساطته‪ ..‬لنقرأ م ًعا‪:‬‬

‫انتزعيني من دمع الجداول‬

‫وأثالم األرض القاحلة‬ ‫وتفردي بي في محراب شهوتك‬ ‫ألكتنه لذتك في صخور تبستي‬

‫ِ‬ ‫عيناك حين تباع قافل ُة العبيد‬ ‫جاحظ ٌة‬ ‫وحين تأتي السفن بالرقيق‬

‫جاحظ ٌة‪ ..‬ويتمتم ِ‬ ‫فمك بالنشيد‬ ‫غير أن الوقت ثدياه لم َيدُ َّرا الحروف بعد‪...‬‬

‫يتضح من هنا أن الفكرة الغير واضحة هي التي تلقي بظاللها‬

‫على النصوص‪ ،‬دون أن تتوقف عند مؤشر صغير يقود إلى‬ ‫وضوح‪..‬ال يشذ عن هذه القصائد إال قصيدة (حالمان) التي‬

‫تصوغ تفاصيلها الذاتية الصغيرة‪ ..‬ويعطيها انسياب السرد‬

‫وضوحا مناس ًبا‪:‬‬ ‫ً‬

‫‪33‬‬


‫على صراط الوجع‬

‫تحلمان‪ ،‬تحتسيان القهوة‬

‫ونادلة القهوة الوافدة‬

‫ٍ‬ ‫سؤال وتوجس‬ ‫تبحث في غربتكما في‬

‫ال تنتبهان‪ ..‬تضحك نهديها‬

‫ال تنتبهان‪..‬‬

‫تجعل أنوثتها قيامة‪...‬‬

‫من هنا تظهر جراءة استخدام اللغة في مقابل هذا الغموض الذي يلقي‬ ‫بحيرته على القصائد‪ ..‬فالقصائد تنتفض على اللغة الشاعرية الرقيقة التي‬ ‫تستعمل عاد ًة في أغلب القصائد‪ ..‬لذلك يواجهك قاموس شعري مغاير‬ ‫(دمامل‪ ،‬ضفادع‪ ،‬قمل‪ ،‬الجراد‪ ،‬برغوث‪ ،‬البصق‪ ،‬أذناب‪)....‬‬

‫ُّ‬ ‫كل هذا ُيفقدُ القصيدة الكثير من بريقها‪ ..‬ويقودها إلى ضبابية‬ ‫ت ُ‬ ‫خطرا على أغلب قصائد الديوان‪،‬لذلك عندما ننظر إلى أغلب‬ ‫ُشكل ً‬ ‫النصوص التي كتبت بحرفية عالية‪ ..‬نرى االنفراج الذي يحدث في‬ ‫النصوص على مستوى الفكرة واللغة‪..‬تحت هذا البند يضع (صالح‬ ‫عجينه) مجموعة القصائد التي يسميها (كتاب الجدل) اللغة هنا من‬ ‫البساطة في مختلف النصوص مقارن ًة بالقصائد األخرى‪ ،‬فهي تركز‬ ‫على صياغة عالئق جديدة بين األشياء‪ ،‬أو وضع تعاريف جديدة‪،‬‬ ‫وتركز على تفاعل الكلمات مع بعضها‪:‬‬ ‫‪34‬‬


‫الحب رغبة‬

‫تحتجز قبضة الضوء‬

‫الحلم رغبة الضوء‬

‫في جدائل الفصول‬

‫الحب خيط ضوء‬

‫وتراكم اللذة باألفق امتزاج‬

‫الحلم يتأبط الحب‬

‫الحب امتزاج‬

‫الحلم انصهار‪......‬‬

‫هكذا ينهض نص متشابك‪ ..‬يتولد من خالل تشابك لفظي‬ ‫وفكري‪ ..‬لذلك يغلب على هذه النوعية من النصوص تفعيل دور‬ ‫ُ‬ ‫تشكل وحدة مستقلة تحاول أن تعطي للقصيدة‬ ‫الجملة الشعرية التي‬ ‫نوع من المغايرة‪.‬‬ ‫بعدً ا فيه ٌ‬ ‫اللغة ال�صوفية‬

‫من هنا يتضح دور الجدل الذي أطلقه الشاعر على مجموعة هذه‬ ‫القصائد‪ ..‬هذا الجدل الذي يدلل له الشاعر بكالم (صالح ستيتيه)‪:‬‬ ‫(كثيرون هم أبناء األرض الذين يفكرون بأن اللغة الحقة لم تنشأ‪،‬‬ ‫وبأن اللغة لم يتحدثها أحد بعد)‪.‬‬ ‫‪35‬‬


‫من هنا (فالتلقي حاسة األذن والحقيقة مغامرة العين ـ الشعرية‬ ‫قانون النظر والغنائية طموح األذن ـ كائنات الضوء قصائد وكائنات‬ ‫السمع ٍ‬ ‫أغان)‪.‬‬ ‫هنا وبإضافة حرف العطف (واو) نرى كم هي مثقلة الجملة‬ ‫ٍ‬ ‫بحساسية خاصة‬ ‫السابقة بحشو فالعالقة بين الكلمات ظلت‬ ‫تمنح الجمل السابقة راب ً‬ ‫طا يغنيها عن حروف العطف أو أي‬ ‫زوائد أخرى‪.‬‬ ‫هنا يتضح أسلوب مناسب جدً ا في الكتابة‪ ..‬بل يكاد يكون‬ ‫وضوحا في ديوان الشاعر‪..‬أال وهو االستفادة من‬ ‫األسلوب األكثر‬ ‫ً‬ ‫اإلرث اللغوي الصوفي في تحريك اللغة الشعرية يتضح ذلك في‬ ‫ٍ‬ ‫بشكل خاص‪.‬‬ ‫(كتاب الجدل)‬ ‫التقمص حالة يكتبها التاريخ‬ ‫فضاء االختالف في التاريخ‬ ‫فوضى في السياق‬

‫الفضاء تحرير المفردة بين (إلى) و (نحو)‪.‬‬

‫هنا يظهر المنجز اللغوي النغمي الذي استمده الشاعر من‬ ‫واضحا‪..‬وتعامل معها بأسلوب مقارب حتى على‬ ‫الكالم الصوفي‬ ‫ً‬ ‫المستوى الفكري‬ ‫كتاب الجدل ديوان لوحده‪ ..‬يخلق الشاعر من خالله ً‬ ‫جدل بين‬ ‫‪36‬‬


‫الكلمات ويحاول أن يقرأ الحياة بمغايرة مختلفة كل ًيا‪( :‬شيمة المعنى‬ ‫عبث‪ ..‬المعنى دون إسناد عبثي‪ ..‬جمود)‬ ‫ال�شكل في ق�صيدة النثر‬

‫أمر آخر يبرز بشكل واضح‪ ،‬هو تعامل الشاعر مع شكل قصيدته‪،‬‬ ‫فشكل الكتابة في قصيدة النثر أمر يخص الشاعر وحده‪ ..‬فتنسيق‬ ‫القصيدة يختلف من شاعر إلى آخر‬

‫نأخذ هنا تقطيع الجمل في قصيدة النثر كإحدى الجزئيات المهمة‬ ‫التي يعتمد عليها الشاعر إليصال فكرته‪،‬كونها ترسم ً‬ ‫خاصا بكل‬ ‫شكل ً‬ ‫شاعر (وتقنية تقطيع الجمل هي أحد آليات قصيدة النثر في خلق إيقاعها‬ ‫أو خلقها نو ًعا من التواتر‪ ،‬فإيقاع قصيدة النثر ينتج عن وحدات إيقاعية غير‬ ‫منتظمة وليس بينها أي عالقة‪ ،‬إنها تنتج إيقاعها من مجرد تواتر األسطر‬ ‫في شكل الجمل الموزعة‪ ،‬وما تحققه المفردات من تواتر‪.)1()...‬‬ ‫ٍ‬ ‫كجزء من‬ ‫إضافة إلى الكالم السابق الذي يتبنى تقطيع الجمل‬ ‫إنتاج اإليقاع في قصيدة النثر‪ ،‬فإننا هنا نتناول تقطيع الجمل كإحدى‬ ‫دالالت إكمال المعنى في القصيدة‪ ،‬لذلك يظل الشكل الخاص بكل‬ ‫مهما في الكتابة‪ ..‬لنقرأ م ًعا‪:‬‬ ‫أمرا ً‬ ‫شاعر ً‬ ‫الشعرية‬

‫حالة تكافؤ بين جزئيات‬

‫اللغة والحياة‬

‫‪37‬‬


‫اللغة والشعرية‬ ‫أسلوبان‬

‫األول تعبيري‬

‫الثاني تفسيري‬

‫اللغة المحملة بأساليب قالب‬ ‫الشعرية في التصوف‬

‫هامش‬

‫المتن انفعال الكينونة في كائن اللغة‬

‫التصوف في الشعرية‬

‫استدعاء‪.‬‬

‫شكل يراه الشاعر ُي ُ‬ ‫الشكل الوارد هنا كما جاء في الديوان‪ٌ ،‬‬ ‫كمل داللة‬ ‫ساهم مساهم ًة كبيرة في خلق رد فعل مناسب عند القارئ‪ ،‬لذلك‬ ‫المعنى‪ ،‬بل ُي ُ‬ ‫فإن نهاية كل سطر تقود إلى بداية السطر اآلخر‪ ،‬وهكذا تحقق القصيدة نو ًعا‬ ‫من التكامل اللفظي‪ ،‬ينتجه الشكل كإحدى الجزئيات المناسبة‪ ..‬فالكالم‬ ‫الوارد جاء بتقطيع مناسب‪ ،‬إال أن ً‬ ‫خالل يظهر في إحدى الشطرات وهي‬ ‫(اللغة المحملة بأساليب قالب) فتنتج للوهلة األولى معنى غير المراد‬ ‫ولو كتبها الشاعر بهذا الشكل‪:‬‬ ‫اللغة المحملة بأساليب‬ ‫قالب‬

‫‪38‬‬


‫تب ًعا لشكل الجملة السابقة فإن المعنى الذي أراده الشاعر سيظهر‬ ‫جل ًيا من القراءة األولى‪ ،‬الذي يرتبك نو ًعا ما لو اتصلت الجملة مع‬ ‫بعضها في ٍ‬ ‫سطر واحد‪.‬‬ ‫وبعد‪:‬‬

‫واضحا أن اللغة مهزومة مع إيقاعها العصري‪ ،‬ولم‬ ‫(هنا يبدو‬ ‫ً‬ ‫تشهد أي مغامرة أو خطاب بالمستوى الذي ما من شأنه يمكن‬ ‫أن يقدم مدلوالت وترميز يتماشى وضرورات الواقع المعيشي‬ ‫واليومي)(‪.)2‬‬

‫جزئياتها‪،‬وأيضا‬ ‫إذا القصيدة عند (صالح عجينة) مغامرة في جميع‬ ‫ً‬ ‫فيها مساحات واسعة من التعاطي مع الواقع بعيون مختلفة إال أن‬ ‫مساحة التجريب الواسعة التي يقترحها الشاعر في ديوانه تظل مسكونة‬ ‫ببذور ارتباكها وتظهر كجزء واضح في أغلب تفاصيله‪.‬‬

‫أيضا جرأ ٌة على مستوى تعامل الشاعر مع لغة القصيدة‪..‬‬ ‫هنا نلمس ً‬ ‫فاللغة التي كتب بها الشاعر يراها األقدر على إيصال فكرته‪ ،‬بل ويراها‬ ‫تصنع ُخصوصية مناسبة لقصيدته‬ ‫ُ‬

‫الشاعر ُي ُ‬ ‫همل الفكرة المتاحة التي تقدمها القصيدة‪ ،‬بل يظل‬ ‫ٍ‬ ‫دائما في حالة كتابة القصيدة‪ ،‬األمر‬ ‫مسكون‬ ‫بأفكار قصائد أخرى ً‬ ‫ٍ‬ ‫بشكل عام‪.‬‬ ‫الذي يضعف أفكار قصائده‬ ‫الديوان يذكرني بدواوين رواد الحداثة األوائل‪ ،‬حيث تم التعاطي‬ ‫مع الصنف الجديد ببعض االرتباك سوا ًء على مستوى اللغة أو‬ ‫‪39‬‬


‫األفكار‪ ،‬ويظل أقرب إلى الشاعر (شوقي أبي شقرا)‪،‬حيث القصيدة‬ ‫الغير براقة التي تحتوي على مغامرة على جميع المستويات‬ ‫الشاعر (صالح عجينة)في ديوان (قري ًبا من ناصية البئر والتحول)‬ ‫ً‬ ‫ومهمل فكر ًة ُمتاح ًة‬ ‫دائما أن ُيطارد عشرة أفكار على الشجرة‬ ‫يصر ً‬ ‫ُ‬ ‫في اليد!!‬

‫هوام�ش‬ ‫(*) شاعر وكاتب ليبي‪.‬‬ ‫(‪ )1‬رامز النويصري‪( .‬حدود الشعر‪ ،‬حدود القصة) مجلة المؤتمر‪ .‬العدد‬ ‫السابع عشر‪.‬‬ ‫(‪ )2‬مقالة (بطاقة تعارف تسعينية) للشاعر صالح عجينة‪ .‬صحيفة الشمس‬ ‫العدد ‪.3184‬‬

‫‪40‬‬


‫ن�صو�ص ُم ٌ‬ ‫لبدة بالغيوم‬ ‫ٌ‬ ‫قراء ٌة في (زقزقةِ الغراب فوق رأس الحسين)‬ ‫للشاعر خالد درويش‬



‫مأخوذ ٌة بالبريد المكتوم‬

‫ُ‬ ‫توشك النصوص أن تتلبد ُغ ُيومها‬

‫تنوح ريشة الصائغ في هدأة العريشة‬ ‫ُ‬ ‫تضرع تحت شبابيك القرائن‬ ‫ُ‬

‫منعطفات القرب وحانة النسل‪...‬‬

‫المنجز الذي وصلت إليه قصيدة النثر عبر تجربتها القصيرة نسب ًيا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مجال واس ًعا للتجريب والمغامرة‪.‬‬ ‫منح الشعراء المتعاملين معها‬

‫وعمو ًما ُ‬ ‫تظل األفضلية التي تمنحها قصيدة النثر للشاعر هي هذا‬

‫المقيد‪ ،‬الواسع الضيق على كافة المستويات‪ ،‬األمر الذي جعل‬ ‫التحرر ُ‬ ‫ٍ‬ ‫دائما ملبدة بأفكار قاتمة تجعل القصيدة‬ ‫نصوص النثر‬ ‫بشكل عام ً‬ ‫تراوح بين الشرعية واإلنكار‪.‬‬

‫الشاعر (خالد درويش) يتواصل هنا عبر مجموعة من النقاط‬

‫المهمة كاآلتي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ الشكل السردي الطويل الغالب في هذا الكتاب‪.‬‬ ‫‪43‬‬


‫‪ 2‬ـ التنوع الفني في التعبير مع غلبة قصيدة النثر‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ الكتاب جاء خال ًيا من أية إشارة أن كاتبه شاعر بالدرجة األولى‪.‬‬

‫وعبر النقاط الرئيسية السابقة نبدأ مناقشة الديوان كاآلتي‪:‬‬ ‫� ً‬ ‫أول‪ :‬داللة العنوان‬

‫ُ‬ ‫يحمل العنوان دالالت متنوعة‪ ،‬فالعنوان يقحمك في‬ ‫شخصيتين تاريخيتين‪ ،‬األولى هي شخصية الغراب الذي ع ّلم‬ ‫أبناء آدم كيفية الدفن‪ ،‬ويكمل هذه الصورة اإلهداء الذي جاء‬ ‫ٍ‬ ‫بشكل مباشر إلى هذه الشخصية‪( :‬إلى الغراب‪ ..‬معلم‬ ‫موجها‬ ‫ً‬ ‫البشرية األول الذي علمنا كيف نطمر الدم وندس الجريمة‪ ،‬فكان‬ ‫شاهدً ا على أول جرم ارتكبته البشر‪ ،‬فأهنا أيها الشاهد األول بما‬ ‫رأيت يا معلم)‬ ‫والشخصية الثانية‪ :‬شخصية الحسين‪ ..‬وهي شخصية بمحاذير‬ ‫مختلفة‪ ..‬وتعتبر أكثر الشخصيات التاريخية حير ًة فيما يتعلق بتعامل‬ ‫المؤرخين معها‪.‬‬

‫ُ‬ ‫ملخصا لمجموعة من األفكار واآلراء‬ ‫يجعل الديوان‬ ‫األمر الذي‬ ‫ً‬ ‫يتعلق بالهامش المقموع‪.‬‬ ‫خصوصا فيما‬ ‫تجاه التاريخ العربي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬

‫وضمن هذا اإلطار الذي يرسمه العنوان للكتاب‪ ،‬يختار (درويش)‬ ‫أن يبدأ الكتابة‪ ..،‬الكتاب ُة إ ًذا ستكون في طريق شائك ممتلئ بالفخاخ‬ ‫واألشواك‪ ،‬والكثير من القراءات الناقصة‪.‬‬ ‫‪44‬‬


‫ثان ًيا‪ :‬ال�شكل الإخراجي‬

‫ٍ‬ ‫كجزء حيوي ومهم في تأكيد الشكل الفني‪،‬‬ ‫تبرز الطباعة الحديثة‬ ‫ُ‬ ‫فالكتاب عمو ًما جاء في (‪ )6‬مقطوعات تمتاز بالطول النسبي‪،‬‬ ‫فأقصرها جاء في أربع صفحات‪ ،‬وأطولها جاء في عشر صفحات‪.‬‬ ‫يقترب من الشكل الذي تكتب به الروايات‬ ‫وشكل الكتابة‬ ‫ُ‬ ‫والقصص القصيرة كأسلوب غالب في كتابة النصوص‪ ،‬األمر الذي‬ ‫يوحي بأن النصوص تحتوي جرعة هائلة من التدافع سوا ًء على‬ ‫مستوى الفكرة أو األلفاظ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪� :‬أفكار الن�صو�ص‬

‫وكما هو الحال في نصوص (درويش) النثرية الطويلة‪ ،‬فإن األفكار‬ ‫دائما بعيدة عن المتلقي‪ ،‬فالشاعر يناوئ القارئ بأفكاره‪ ،‬فأفكار‬ ‫ً‬ ‫يغلب عليها االرتباك أمام الكم الهائل من التدافع اللفظي‬ ‫القصائد‬ ‫ُ‬ ‫والنغمي والتاريخي‪.‬‬ ‫فليس هناك فكرة واضحة تجمع االتساع اللغوي‪ ،‬الفكرة ضبابية‬ ‫أساسا‪ ..‬أو انه يبحث عن‬ ‫ومتناثرة وكأن الشاعر يبحث عن الفكرة‬ ‫ً‬ ‫نص يؤكد خصوصيته ككاتب‪ ..‬األمر الذي جعل الفكرة تفلت من‬ ‫أيض ًا‪.‬‬ ‫يد الكاتب وتفلت من القارئ ً‬

‫المثال األول‪ :‬النص المعنون ب (زقزقة الغراب فوق رأس‬ ‫يطلق أي دالالت مؤثرة في النص‪ ،‬فكل‬ ‫الحسين) نرى الشاعر ال ُ‬ ‫‪45‬‬


‫إطارا عا ًما للقصيدة كتعليق على الحدث‪ ،‬وينتبه القارئ‬ ‫همه أن يرسم ً‬ ‫إلى قول الحسين قبل موته‪(:‬أما بعد‪ ،‬أيها الناس فانسبوني‪ ،‬فانظروا‬ ‫من أنا‪ ،‬ثم أرجعوا إلى أنفسكم‪ ،‬هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي‬ ‫ٍ‬ ‫بقتيل منكم قتلته أو ٍ‬ ‫وسبي بناتي‪ ،‬أتطلبونني ٍ‬ ‫كداللة‬ ‫مال لكم استهلكته)‬ ‫على أن القصيدة تتناول شخصية الحسين‪ ،‬دون أن يكون لباقي النص‬ ‫أي لمسة فنية ذات داللة في توصيل الفكرة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫مقبرة يوقنون)‪ :‬وفي‬ ‫المثال الثاني‪ :‬نص (حكايا ابن جبير أو بأي‬ ‫هذا النص يضعنا الشاعر أمام الحادثة الشهيرة المتمثلة في (ليس‬ ‫لمستكرة طالق)‪ ..‬ويظل باقي النص حالة تعليق خاصة بالشاعر‬ ‫ُ‬ ‫يحوي رؤيته الفنية تجاه الحدث‪.‬‬ ‫هذه الخيوط المتناثرة داخل النصوص هي التي تجعل للفكرة‬ ‫بعض الصلة بالنص‪ ،‬رؤية الشاعر في نصوصه أكثر حيرة تجاه حوادث‬ ‫التاريخ العربي‪.‬‬

‫أيضا هامش ومتن‪ ،‬حيث المتن هو الحادثة كما أوردتها كتب‬ ‫هنا ً‬ ‫التاريخ‪ ،‬والهامش هو التعليق الفني الخاص بالشاعر‪.‬‬ ‫األمر الذي يستدعي السؤال‪ :‬ماذا يريد الكاتب أن يقول؟!‬

‫هل يريد محاكمة التراث والتاريخ العربي عبر استنطاق مجموعة‬ ‫من الحوادث التاريخية المعروفة والتي تبدو واضحة في الكتاب؟!‬ ‫هل يريد الكاتب أن يعيد فهم واقعه في ضوء تراث معبد بالقمع‬ ‫وقطع الرؤوس وسفك الدماء؟!‬ ‫‪46‬‬


‫ال تخلو النصوص من أسئلة منتفخة‪ ،‬تراوح بين واقع يكشر عن‬ ‫وتكرارا‪ ،‬وبين تاريخ ال يخلو‬ ‫مرارا‬ ‫ً‬ ‫أنيابه ويجبر الكاتب على العودة ً‬ ‫من هموم ومؤامرات ودسائس ويجبره على إمعان النظر والقراءة‬ ‫ٍ‬ ‫بشكل مختلف‪.‬‬ ‫وضوحا هو غرام الكاتب بالهامش الضيق الصغير‬ ‫الشيء األكثر‬ ‫ً‬ ‫الذي هربته كتب التراث (الهامش المتن) على حد قوله‪.‬‬

‫نتوقف مع سؤال صغير‪ :‬هل يفيد هذا االنهماك المسترسل‬ ‫النصوص الموجودة في الديوان؟!‬

‫نرى أن الشاعر تعامل مع اللغة بسخاء‪ ،‬لم يقيد نفسه بقيود معينة‪،‬‬ ‫لم يستلهم الفكرة لتقييد اللغة الفاتنة‪ ،‬بل ذهب وراء إغواء اللغة بعيدً ا‪.‬‬

‫كأن النصوص في مجملها تمارين خاصة للكتابة‪ ،‬األمر الذي‬ ‫نتج عنه اختالط التعليق على الحدث التاريخي بالحدث في أغلب‬ ‫النصوص‪ ..‬وكأن الشاعر شاهد معاصر للحدث فقد تركيزه نتيج ًة‬ ‫لهول الحادثة‪.‬‬ ‫راب ًعا‪:‬الر�ؤية الفنية للتاريخ‬

‫جاءت أغلب النصوص في تعامل واضح مع التراث والتاريخ‬ ‫ٍ‬ ‫وخصوصا فيما يتعلق باألحداث المنتفخة والممتلئ‬ ‫بشكل مباشر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫باألسئلة‪ ،‬وعمو ًما جاء التعامل مع التراث والتاريخ العربي عبر‬ ‫أسلوبين مهمين‪:‬‬ ‫‪47‬‬


‫األسلوب األول‪ :‬استفاد الشاعر من المخزون اللغوي والنغمي‬ ‫ٍ‬ ‫بشكل عام عبر مجموعة‬ ‫الذي يمنحه التراث‬ ‫من الحكايات والقصص واألمثال واألقوال‬ ‫المأثورة التي مازالت تحتفظ بتنو ٍع نغمي ساحر‬ ‫يمكن توظيفه‪.‬‬ ‫األسلوب الثاني‪ :‬استفاد من األحداث التاريخية‪ ،‬أو األحداث‬ ‫التي ألبسها المؤرخون نو ًعا من األسطورة في‬ ‫تحميل القصيدة بمجموعة من األسئلة التي‬ ‫تحاكي الواقع‪.‬‬

‫فاألسلوب األول تمثل في مجموعة من االستلهمات النغمية‬ ‫لمجموعة من القرآن الكريم األقوال المأثورة واألمثال والشعر‬ ‫العربي مثل‪:‬‬ ‫ال غالب إال أنت‪.‬‬

‫قذى بالعين وعوار بالقلب‪.‬‬

‫قال كبيرهم الذي علمهم السحر‪.‬‬

‫بيدي ال بيد عمرو‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫أبك مثل النساء ملكًا مضا ًعا لم تحافظ عليه مثل الرجال‪.‬‬

‫اللهم أحصهم عد ًدا‪ ،‬واقتلهم بد ًدا وال ِ‬ ‫تبق منهم أحدً ا‪.‬‬

‫من يعيرني عينه أبكي بها‪.‬‬

‫‪48‬‬


‫ويستفيد الشاعر من أسلوب النثر العربي الذي تطور في العصر‬ ‫العباسي‪ ،‬في تفعيل مستوى النغم وعرض الفكرة كما في نص‬ ‫ٍ‬ ‫مقبرة يوقنون)‪( :‬بلغني أيها الملك‬ ‫(حكايا ابن جبير أو بأي‬ ‫السعيد أن األقداح غدرت بالمؤنة‪ ،‬وان األسماء أمحت من‬ ‫حجارة النفور‪ ،‬فارتدت لغة كسيحة الصلوات‪ ،‬مدانة بين‬ ‫دفتيها دافقة‪).‬‬ ‫واألسلوب الثاني تمثل في مناقشة مجموعة من الحوادث‬ ‫التاريخية التي تشكل نقاط منتفخة قي التاريخ العربي مثل‪:‬‬

‫حادثة موت الحسين‪.‬‬

‫سقوط غرناطة وما تبعها من حوادث‪.‬‬

‫ويعجز الشاعر هنا في استنطاق الحوادث‪ ،‬األمر الذي يجعل‬ ‫نوعا من الرؤية المعتمة الحائرة تجاه‬ ‫الحوادث تحتوي ً‬ ‫خصوصا فيما يتعلق بنص (سفر غرناطة أو ما‬ ‫الحوادث‪،‬‬ ‫ً‬ ‫حدث بعد بيعة المفاتيح)‬

‫فالنص يحتوي فكرة مشوشة‪ ،‬وتعامل الشاعر مع بعض‬ ‫ً‬ ‫مباشرا األمر الذي جعل‬ ‫تعامل‬ ‫الحوادث الفرعية داخل النص‬ ‫ً‬ ‫النص يحتوي حوادث تاريخية دون رؤية فنية مثل قوله‪(:‬كان‬ ‫واضحا بمنع الزواج بين المسلمين والنصارى واعتبار‬ ‫القرار‬ ‫ً‬ ‫أيضا ال يتزوج من‬ ‫وكفرا‪ ،‬وأنه من تنصر من العرب ً‬ ‫ذلك هرقطة ً‬ ‫نصارى اإلسبان‪ ،‬وكان قرار القسيس (فرانسيسكو خمينيس)‬ ‫‪49‬‬


‫الذي اقنع الملكة بضرورة تنصير أهالي غرناطة‪ ،‬وأنه ال مجال‬ ‫سرا‪)....‬‬ ‫للتهاون مع الذين يمارسون هرقطاتهم ً‬

‫ً‬ ‫جمال من حيث التعامل الفني‪ ،‬واقعة‬ ‫وتظل أكثر وقائع التاريخ‬ ‫حلم المهدي التي أوردها الطبري‪( :‬حلم المهدي ذات ليلة‬ ‫أنه أعطى البنيه قضيبين‪ ،‬فأورق أحدهما‪ ،‬ولم ُيورق اآلخر‪،‬‬ ‫فقام فز ًعا)‬ ‫والتي ينجح (درويش) في التعامل معها أحسن تعامل‪ ،‬ويعلق‬ ‫أعطيت لهذا سي ًفا من نار‪ ،‬ولهذا در ًعا من‬ ‫على الحادثة‪( :‬كأني‬ ‫ُ‬ ‫ثلج‪ ،‬أيهما يصل الشاطئ‪ُ ،‬‬ ‫يورق أخوان بفرعين‪ ،‬ويكسر ثلج‬ ‫األحزان بنيران الصلح‪)...‬‬

‫خام�سا‪ :‬الواقع القريب‬ ‫ً‬

‫تجاه الواقع يظل الشاعر أكثر حيرةً‪ ،‬حيث الوقائع الدامية المنقولة‬ ‫مباشرةً‪ ،‬التي تحتوي قل ًقا وفجيعة مركزة‪ ،‬فواقع الشاعر أكثر حير ًة ودموية‬ ‫ٍ‬ ‫وعن ًفا من التاريخ‪ ،‬لذلك كان تعامل الشاعر مع واقعه ً‬ ‫بدرجة ثانية‪،‬‬ ‫تعامل‬ ‫وكأن التعامل مع التاريخ كان نو ًعا من الهروب المبتكر وإن كان الهروب‬ ‫مسكونًا بدموية التاريخ ففيها نوع من الكشف ولذة والمتعة‪.‬‬

‫ويبرز الواقع القريب للشاعر في نص (مفتتح أخير لحشرجة‬ ‫الموت)‪ ،‬والنص يحتوي نو ًعا من المرونة والبساطة دون أن يكون‬ ‫لعبء استرجاع التاريخ أي تأثير مباشر على النص‪ ،‬األمر الذي يجعل‬ ‫النص يحتوي شفافية ساحرة ذات وقع خاص‪.‬‬ ‫‪50‬‬


‫�ساد�سا‪ :‬الذات المفتتة‬ ‫ً‬

‫ُ‬ ‫تطل عبر هذا النص الطويل والمسترسل‪ ،‬ذات خجولة قلقة‪ ،‬تنجو‬ ‫من مخالب الفكرة العامة المسيطرة‪ ،‬لتتسرب عبر ثنايا النص‪ ،‬لغة‬ ‫هذه الذات بسيطة‪ ،‬وهي أكثر داللة من نصوص (درويش) المغلقة‪،‬‬ ‫دائما في شعر درويش‪.‬‬ ‫وهذه القطع الصغيرة هي ما يتوهج ً‬ ‫ـ (ترى أأستطيع بمفردي أن اشق البحر‪ ،‬أن امخر أحشاءه‪ ،‬أتستطيع‬ ‫سمكة صغيرة‪ ..‬ناتئة التضاريس أن تلعن البحر بجبروته وعنفه‬ ‫وجالوزته)‬

‫ـ (هنالك مدن كالنساء‪ ..‬تهزمك أسماؤها مسب ًقا‪ ..‬تغريك‪،‬‬ ‫تربكك‪ ،‬تملؤك‪ ،‬تفرغك‪ ،‬وتجردك ذاكرتك من كل مشاريعك‪،‬‬ ‫ليصبح الحب كل برنامجك‪ ،‬هنالك مدن لم تخلق لتزورها‬ ‫بمفردك)‬

‫ـ (كان موعدنا المطر‪ ،‬كل مطر وأنت بخير‪ ،‬كل مطر وأنت حبيبتي‪،‬‬ ‫كل مطر وجمالك أروع‪ ،‬يا سحر الممالك‪ ..‬وذبالة الروح‪،‬‬ ‫تفوحين داخلي كأنك أنت‪ ..‬وتشرقين في سمائي كأني احبك)‬ ‫ندي وآسر ‪ /‬هو حضورك ‪ /‬وكما االبتسامة روح‬ ‫ـ (وكما البوح ٌّ‬ ‫الغض ‪ /‬ويفتك‬ ‫ترفرف ‪ /‬ذاك القميص وهو يداعب الجسد َّ‬ ‫بالبشرة البضة)‬

‫هذه الذات الصغيرة هي التي تنجو من النصوص الكبيرة‬ ‫الطويلة المستغرقة في قراءة التاريخ العربي الممتلئ بسفك الدماء‬ ‫‪51‬‬


‫واالغتياالت والحروب والقتل الجماعي‪ ،‬وهي أكثر دف ًئا من ِّ‬ ‫كل‬ ‫النصوص األخرى‪ ،‬وتعكس صورة مدهشة للشاعر‪.‬‬

‫�ساب ًعا‪ :‬ال�شكل العام‬

‫ُ‬ ‫نصا واحدً ا‪ ،‬فالنصوص‬ ‫مجموع ُة النصوص في مجملها‬ ‫تشكل ً‬

‫متقاربة في اللغة والصور واالستلهمات النغمية واللفظية من التراث‬

‫تأخذ ً‬ ‫العربي‪،‬وكذلك الصياغة الفنية األمر الذي يجعلها ُ‬ ‫شكل أقرب‬

‫إلى نص طويل تتوزعه عدة مقطوعات‪.‬‬

‫تسيطر عليه فكرة واحدة حاول الشاعر أن‬ ‫أمر آخر‪ :‬النصوص‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬

‫يستوعبها وهي فكرة القمع في التاريخ العربي‪ ،‬األمر الذي يجعل‬

‫نسيجا متماسكًا‪ ،‬وينجح الشاعر‬ ‫النصوص قريب ًة من بعضها وتشكل‬ ‫ً‬ ‫هنا في إعطاء الكتاب وحدة ساحرة ومدهشة‪.‬‬ ‫وبعد‬

‫(يصنع المر ُء القول ثم ينظر فيه‪ ،‬فال يفيق من أثره‪ ،‬يعجب‬ ‫ُ‬

‫كيف أوتي هذه القدرة‪ ،‬وبخيل إليه أنه رهين ما أبتدعه‪ .‬يظن أنه‬

‫يسيطر على القول‪ ،‬ولكن القول يعود فيقتص لنفسه أو يسيطر على‬ ‫صاحبه)(‪)1‬‬

‫الكال ُم هنا ُ‬ ‫يأخذ جه ًة مغايرة‪ ،‬هي فتنة القول (الكتابة) وهو السؤال‬

‫إلحاحا في تاريخ األدب العربي يعود للظهور مجد ًدا عند‬ ‫األكثر‬ ‫ً‬ ‫‪52‬‬


‫(درويش)‪ُ ،‬م ً‬ ‫تمثل في فتنة التاريخ هو ما يجعل الفكرة تخفي رأسها‬

‫خلف ركام الوقائع المختلفة‪.‬‬

‫دائما ؟!‬ ‫سؤال آخر‪ :‬هل يصلح التاريخ والتراث للتناول فن ًيا ً‬

‫(يلهث المبدع الكتشاف ذلك الواقع المستتر الرمزي الذي‬

‫يخفيه الواقع الظاهري الواقع اليومي وعندما يعجز ال يجد غير‬

‫الفرار إلى التاريخ وخيار التاريخ ليس غايته تحقيق بعد في زمان‬

‫ومكان تشترطها طبيعة العمل اإلبداعي ولكن اللجوء إلى حرم‬

‫التاريخ يكمن في سحر التاريخ وسحر التاريخ مستعار من ينابيع‬

‫الوطن األسطوري والوصول إلى ينابيع الوطن األسطوري هو‬

‫غاية المبدع)(‪)2‬‬

‫نستند هنا على كالم الروائي (إبراهيم الكوني) مع االختالف‬

‫الواضح بين الجنسين األدبيين (الرواية والشعر) في مالحظة هاجس‬

‫التاريخ المسيطر‪.‬‬

‫يظل هم (خالد درويش) األكبر هو جاذبية التاريخ ووقعها‬ ‫ُ‬ ‫يفضل أن يتخلى عن توهج نصه‬ ‫المدهش في النفوس‪ ،‬لهذا‬ ‫مقابل سحر وجاذبية التاريخ‪ ،‬لكن الكتاب يظل النقاش الشعري‬

‫الليبي األول ـ حسب علمي ـ للتاريخ العربي وحوادثه رغم كل‬

‫ما يقال عنه‪.‬‬

‫البحث المتواصل عن مجال للكتابة‪ ..‬هو ما يجعل النصوص‬ ‫‪53‬‬


‫ٍ‬ ‫بشكل عام تحمل داخلها عبء هذا البحث‪ ،‬فاغلب النصوص مصابة‬

‫بلوثة البحث عن موضوع وملبدة بأفكار قاتمة‪ ،‬مما يجعلها بعيدة كل‬ ‫البعد عن المتلقي الذي يبحث قبل أي شيء أخر عن فكرة كاملة‬ ‫السطوع‪.‬‬ ‫هوام�ش‬ ‫(‪ )1‬محاورات النثر العربي‪ ،‬د‪ .‬مصطفى ناصف‪.‬‬ ‫(‪ )2‬شهادة الروائي إبراهيم الكوني في مؤتمر الرواية العربية في القاهرة ‪.1998‬‬

‫‪54‬‬


‫عباء ُة الآنا �أو حاالت الذات‬ ‫قراءة في ديوان (جدوى المواربة)‬ ‫للشاعرة‪ :‬سميرة البوزيدي‬



‫أرى حالتين لنفسي‪:‬‬ ‫أنا حين أبكي أنا‪..‬أو أنا‬ ‫أنا ـ ال أنا ـ حين تبكي السطور‬ ‫(عبدالدائم أكواص)‬

‫ما يفسره (أكواص) هنا من حاالت الذات عنده‪ ،‬سيكون مفتاح الولوج‬ ‫في حديثنا عن ديوان (جدوى المواربة) للشاعرة (سميرة البوزيدي)‬

‫نتطرق في حديثنا هنا‪ ،‬عن الكيفية التي تناولت بها الشاعرة الذات‪،‬‬ ‫وإن كان مفتتح (أكواص) جاء غن ًيا بدالالته الشعرية‪ ،‬إال أنه تضمن‬ ‫حالتين نحاول أن ن َ‬ ‫ُحيط بهما قبل الكالم عن الديوان‪:‬‬ ‫اآلنا بصورتها المباشرة وتفاصيلها القريبة الحميمة (أنا حين أبكي أنا)‬ ‫اآلنا بصورته األخرى الغير المباشرة وفي أطوارها المختلفة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫داللة‬ ‫السطور) ُمتور ًطا في نفيها‪ ،‬في‬ ‫(أنا ـ ال أنا ـ حين تبكي‬ ‫ُعبر عنه‪ ،‬وكأنه يقدم ً‬ ‫واضحا عنها‪.‬‬ ‫تنازل‬ ‫ً‬ ‫منه على أنها ال ت ُ‬ ‫* * *‬ ‫‪57‬‬


‫ُ‬ ‫تحمل داخلها أغلب األبعاد‬ ‫الذات حسب رؤية الشعر الحديث‬ ‫ُ‬ ‫كثيرا في‬ ‫الشعرية‪ ،‬من هنا فالشاعر الحديث يعول على هذه الذات ً‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫درجة عالية من‬ ‫تناوله لموضوعاتها الخاصة أو لمشاكل أخرى على‬ ‫العموم والشمول‪.‬‬

‫فالذات أصبحت بوابة للعبور إلى كافة الموضوعات الشعرية‪،‬‬ ‫تحاول أن تأقلم نفسها‪ ،‬حسب تحوالت الشعر المختلفة (عمودية‪،‬‬ ‫تفعيلة‪ ،‬وقصيدة نثر) بل أصبحت ت ً‬ ‫ُشكل التنوع األكبر في خارطة‬ ‫الشعر العربي كونها البراح األكثر قر ًبا للشاعر‪.‬‬ ‫أكتب أحدً ا‪:‬‬ ‫ال‬ ‫ُ‬

‫ٍ‬ ‫درجات‬ ‫تهتم (سميرة البوزيدي) في ديوانها هذا بالذات على‬ ‫ُ‬ ‫متنوعة‪ ،‬وعلى قدر هذا االهتمام يأتي التنوع في القصائد ففي قصيدتها‬ ‫(جدوى المواربة) تقول‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫منذ قريب‬

‫كنت ال أكتب أحدً ا‬

‫ألتف بعباءة أناي‬

‫وأنظر بنصف عين‬

‫إلى حزن رفيق‬

‫واآلن عن ماذا أتحدث ؟!‬

‫ٍ‬ ‫كبراح أول للقصيدة‪ ،‬لذلك تعيدنا بسؤالها‬ ‫تقترح اآلنا‬ ‫هي هنا‬ ‫ُ‬ ‫األخير إلى حاالت (عبدالدائم أكواص)‬ ‫‪58‬‬


‫تظهر في‬ ‫أيضا نستطيع تتبع حاالت الذات التي‬ ‫من هذه النقطة ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫تتشكل في الحاالت التالية‪:‬‬ ‫الديوان وهي‬ ‫الحالة الأولى‪ :‬الذات المكتفية‬

‫وهي ذات همها األوحد الغوص في التفاصيل القريبة الحميمة‪،‬‬ ‫وال تعنى بأي شيء آخر‪ ،‬فهي ال ُتفعل الجهات األخرى‪ ،‬غايتها‬ ‫دائما بصيغة المفرد‪.‬‬ ‫الوحيدة الذات‪،‬لذلك تأتي ً‬ ‫ٍ‬ ‫بهدوء خجول عن ٍ‬ ‫ذات ُمتأهبة‪..‬‬ ‫القصيد ُة في هذه الحالة تُعل ُن‬ ‫تهتم برصد تفاصيل‬ ‫المكتفية ُ‬ ‫ُمتحفزة‪ ،‬لذلك فإن أغلب هذه النصوص ُ‬ ‫كثيرا من‬ ‫الذات‪ُ ،‬منغمسة كل االنغماس في مراقبة شؤونها‪ ،‬تقترب ً‬ ‫صوفية شفافة ساحرة‪:‬‬ ‫هذا امتالئي‬

‫أواسيه بجبل من األخطاء‬ ‫ٍ‬ ‫بسخرية متحفزة‬

‫بستائر وردية‬

‫أو‪:‬‬

‫تتطاير مثل أشباح مرحة !!‬ ‫أكتفي بي‬

‫أمنح دفئي‬ ‫ُ‬ ‫‪59‬‬


‫لبعضي‬

‫وأعلن واهم ًة‬

‫أن الوقت متسع‪.‬‬

‫ُلخص هذه الذات المكتفية وتمنح‬ ‫وتظهر هنا (ياء المخاطبة) التي ت ُ‬ ‫النص إيقاعها الذاتي الخاص جدً ا‬

‫ٍ‬ ‫بشكل آخر هنا‪ ،‬اآلنا التي تعتمد على البوح‬ ‫تظهر اآلنا المكتفية‬ ‫ُ‬ ‫الذاتي المسترسل المتضخم بوجود كلمة (أنا) في القصيدة باإلضافة‬ ‫إلى وجود (ياء المخاطبة)‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫بسكون‬ ‫أنا الضاجة‬ ‫ال يشبهني‬

‫أزرر ثوب المعنى‬

‫على احتشاد الصفات‪....‬‬

‫الحالة الثانية‪ :‬الذات الجماعية‬

‫الشاعرة في بعض قصائد الديوان تتنازل جزئ ًيا عن الذات كغاية‪،‬‬ ‫لتصوغ قصيدة بهم جماعي‪ ،‬تحاول أن تصنع من خاللها حالة جديدة‪،‬‬ ‫وإبهارا من الحالة السابقة ألنها تتكلم بلسان‬ ‫وإن كانت أقل دهشة‬ ‫ً‬ ‫الجماعة‪.‬‬ ‫الذات هنا بصيغة الجمع‪ ،‬لكن هذه الذات الجماعية تخفي ذاتًا‬ ‫ُ‬ ‫‪60‬‬


‫مرهف ًة‪ ،‬مرهقة‪ ،‬ويبدو أن الشاعرة هنا اتخذت من صيغة الجمع أداة‬ ‫تعبير عن حالة مغايرة لذاتها‪ ،‬فاإلطار التعبيري تغير نو ًعا ما‪ ،‬لكن‬ ‫المحتوى ظل يحتفظ بإيقاعه السابق‪:‬‬ ‫نضر ُم الحكاية‬

‫في بياض الليلة‬

‫ونتبادل كؤوس‬

‫االبتسامات الغابرة‬ ‫فمن يعيرنا‬

‫سمع قلبه؟!‬

‫نسير أو نتوقف‪ ..‬ال فرق‪...‬‬

‫وتستخدم الشاعرة هنا الفعل المضارع بصيغة الجماعية (نضرم‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫محاولة منها إلضفاء بعض الشمول على‬ ‫نتبادل‪،‬نسير‪ ،‬نتوقف) في‬ ‫قصيدتها‪.‬‬

‫وقد تستخد ُم الشاعرة في بعض القصائد (نا الدالة على الفاعلين)‬ ‫في محاولة منها لتنويع هذه الحالة‪:‬‬ ‫يباغتنا المطر‬

‫ويعترينا الخصب‬

‫ولو يغيب ً‬ ‫قليل‬

‫‪61‬‬


‫يذيبنا الفقد‬ ‫وتمزقنا األسئلة‬ ‫عال ًيا ينثر فجيعتنا‬ ‫حين يخبر عنا‬

‫الشجون القديمة‪....‬‬ ‫ُ‬ ‫الم�شاهدة‬ ‫الحالة الثالثة‪:‬‬ ‫الذات ُ‬

‫وهذه الحالة أقل من الحاالت السابقة وتتوزع كشذرات متفرقة‬

‫تلعب دور المشاهد وال تشارك في‬ ‫في أرجاء الديوان‪ ،‬وهذه الذات‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫مسار القصيدة‪ ،‬همها الوحيد هو رسم صورة أو نقل مشهد‪،‬‬ ‫صياغة‬ ‫الذات هنا محايدة‪:‬‬

‫مثل األغاني القديمة‬ ‫جاء شار ًدا‬

‫يزجي ضحك ًة مبتورة‬ ‫ويبعث بمعجزاته الصغيرة‬ ‫عصا ضريرة‪.....‬‬

‫نالحظ هنا أن حضور الذات كان لغرض النقل (نقل مشهد أو‬

‫صورة شعرية) فقط دون أن تتورط في تماس مباشر مع النص‪.‬‬ ‫‪62‬‬


‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫حالة أخرى داخل هذه الحالة تتجسد في‬ ‫تلجأ إلى‬ ‫لكنها قد‬ ‫الكالم عن الذات من خالل ضمير الغائب محاول ًة نقل الذات إلى‬ ‫ٍ‬ ‫حالة مغايرة أو تغيير مجال الرؤية‪:‬‬ ‫ولما نأت الشقة‬ ‫بينها وبينها‬

‫صار التلكؤ‬

‫خطوها‬

‫والنبض القافز‬

‫مجالها الحيوي‪...‬‬

‫�إح�صائية الحاالت‬

‫جاء الديوان في ثمانية عشر قصيدة توزعت حسب التصنيف‬ ‫السابق كاآلتي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ الذات المكتفية‪ :‬وردت في الديوان في خمس قصائد هي‬ ‫(مراكب‪ ،‬إيقاع الدخان‪ ،‬مهجة البلور‪ ،‬جدوى المواربة‪،‬‬ ‫أخطاء الئقة)‬

‫‪ 2‬ـ الذات الجماعية‪ :‬وردت في خمس قصائد هي (قيامة الهراء‪،‬‬ ‫وكأن السحاب صديقه‪ ،‬الحكاية‪ ،‬خرائب رقمية‪ ،‬وماال نقوله)‬ ‫ٍ‬ ‫قصيدة واحدة هي (القصيدة)‬ ‫المشاهدة‪ :‬وردت في‬ ‫‪ 3‬ـ الذات ُ‬ ‫‪63‬‬


‫جاءت بعض القصائد محتوية على تنوعات في حاالت الذات‬ ‫ولم ترد كل حالة في قصيدة بمفردها وهي كاآلتي‪:‬‬

‫المشاهدة‪ :‬وردت في ثالث قصائد‬ ‫‪ 4‬ـ الذات المكتفية ‪ +‬الذات ُ‬ ‫هي (ظل‪ ،‬هل يصغي أحد‪ ،‬أشياء الشرود)‬ ‫‪ 5‬ـ الذات المكتفية ‪ +‬الذات الجماعية‪ :‬وردت في الديوان في‬ ‫محتجا)‬ ‫قصيدتين (قوارب‪ ،‬النهار يصرخ‬ ‫ً‬

‫المشاهدة‪ :‬وردت‬ ‫المكتفية ‪ +‬الذات الجماعية ‪ +‬الذات ُ‬ ‫‪ 6‬ـ الذات ُ‬ ‫في قصيدتين (بحر‪ ،‬في قبو الذاكرة)‬ ‫ال�شكل العام‬

‫ً‬ ‫مشتمل‬ ‫الديوان على ما به من تنوع في حاالت الذات جاء‬ ‫مجموعة من النقاط‪:‬‬

‫يرسم حالة إنسانية عامة‪ ،‬ويبتعدُ عن كونه ً‬ ‫تمثيل لحالة‬ ‫‪ 1‬ـ الديوان‬ ‫ُ‬ ‫ترسم ذاتًا‬ ‫األنثى عند الشاعرة‪ ،‬فالقصائد على امتداد الديوان‬ ‫ُ‬ ‫عامة أكثر من كونه يتحدث عن حالة أنثوية خاصة‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ في القصائد التي تمتزج فيها حاالت الذات الثالثة‪ ،‬نالحظ‬ ‫تقترب من كونها‬ ‫هنا أن الزمام يفلت من الشاعرة‪ ،‬فالقصيدة‬ ‫ُ‬ ‫قطع مزركشة مجتمعة تحت إطار القصيدة‪ ،‬لذلك فالقصيدة‬ ‫عندها أقرب إلى لوحات شعرية متنوعة‪ ،‬ويظل الرابط بين‬ ‫هذه اللوحات ضعي ًفا جدً ا‪.‬‬ ‫‪64‬‬


‫‪ 3‬ـ في أغلب قصائد الديوان تأتي الصورة على حساب الفكرة‬ ‫ُ‬ ‫يربك أفكار‬ ‫(حالة عامة في الشعر الحديث) األمر الذي‬ ‫ٍ‬ ‫بصفة عامة‪ ،‬وإن كان يمنح القصائد زخرف ًة مناسبة‬ ‫الديوان‬

‫نوعا ما‪ ،‬إال أنه يضر بسالسة وتسلسل الفكرة في القصائد‪،‬‬ ‫ً‬ ‫لذلك يرتبك المعنى في بعض القصائد‪ ،‬وإن كان في بعض‬ ‫قصائدها مثل (قيامة الهراء‪ ،‬خرائب رقمية‪ ،‬وإيقاع الدخان)‬ ‫تتناول حالة شعرية تتكامل فيها جميع العناصر (فكر ًة‬ ‫وطرحا)‬ ‫ً‬

‫‪ 4‬ـ الشاعرة ترصدُ القصيدة كشأن مهم من شؤونها‪ ،‬وتراها‬ ‫حالة إنسانية مهمة جدً ا‪،‬من هذه القصائد (جدوى المواربة‪،‬‬ ‫كأن السحاب صديقه‪ ،‬القصيدة‪ ،‬ماال نقوله) ففي قصيدة‬ ‫(ما ال نقوله) ً‬ ‫تقف عند خصوصية الشكل الشعري الذي‬ ‫مثل ُ‬ ‫تكتب به وهو(قصيدة النثر)‬ ‫وبعد‬

‫التنوع الذي تصنعه الشاعرة في حاالت الذات لديها يمر من خالله‬ ‫عمق تجربتها‪ ،‬التي ال تخلو من هم وثقافة شعرية عالية نراها واضحة‬ ‫في عناية الشاعرة بنصوصها من ناحية اللغة والصور‪.‬‬ ‫أمرا بخطورة متعاظمة‬ ‫لكن الذات كحالة شعرية عامة يظل ً‬ ‫فالقصيدة الذاتية تستدير أحيانًا على قائلها‪ ،‬فالقصيدة الحديثة‬ ‫ربما تكون أكثر عن ًفا من أي قصيدة أخرى إال أنها تظل خلي ًطا من‬ ‫‪65‬‬


‫الطالسم واأللغاز تأتي في الغالب معجون ٌة بمجموعة متنوعة من‬ ‫المؤثرات‪،‬فالذات هنا ليست نقية نقا ًء تا ًما‪ ،‬بل ذات منصهرة تجتمع‬ ‫فيها عدة عوالم وتفقد بنا ًء على ذلك الكثير من تلقائيتها وسطوعها‬ ‫وأيضا الكثير من براءتها !!‬ ‫ً‬

‫‪66‬‬


‫ُ‬ ‫الذات الوثير‬ ‫ح�ضن‬ ‫ِ‬ ‫قراء ٌة في ديوان (آثار طفل في الرمال)‬ ‫للشاعر (عبدالدائم أكواص)‬



‫مدخل‬ ‫وجدت اآلخرين‬ ‫فتشت عن نفسي‬ ‫وكلما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فتشت عنهم لم أجد فيهم‬ ‫وكلما‬ ‫ُ‬ ‫سوى نفسي الغريبة‬ ‫هل أنا الفر ُد الحشو ُد ؟!‬

‫(الشاعر محمود درويش)‬

‫بهذا المقطع من جدارية الشاعر (محمود درويش) الذي يضعه‬ ‫الشاعر في بداية الديوان‪ ،‬يضعنا الشاعر (عبدالدائم أكواص) في‬ ‫الجزئية التي أريد مناقشتها في هذه الدراسة‪.‬‬

‫لعل أغلب الشعراء يبحث عن هذه التميمة السحرية التي يقترحها‬ ‫مفتتحا لديوانه‪،‬‬ ‫(درويش) في جداريته‪ ،‬ويفضل (أكواص) أن يضعها‬ ‫ً‬ ‫دائما خيار بين اآلنا واآلخرين‪ ،‬لكن أغلب الشعراء ُيفضل أن‬ ‫هناك ً‬ ‫يذيب اآلخرين في قصيدته الذاتية البسيطة أو يجعل من ذاته الصغيرة‬ ‫‪69‬‬


‫ٍ‬ ‫بشكل عام‬ ‫ملجأ لآلخرين‪ ،‬تبدو هذه الجزئية هي الفكرة المسيطرة‬ ‫على أغلب قصائد الديوان‪.‬‬

‫وأحب أن أشير ً‬ ‫يكتب قصيدة التفعيلة وبحرفية‬ ‫أول إلى أن الشاعر‬ ‫ُ‬ ‫عالية جدً ا وبتواتر منسجم مع أغلب القصائد العربية والليبية في هذا‬ ‫أثما في زمن طوفان قصيدة النثر‪،‬‬ ‫الخصوص‪ ،‬لذلك فهو‬ ‫ُ‬ ‫يرتكب ً‬ ‫والرهان على الصور الشعرية‪ ،‬زمن القفز على مختلف األطر‪.‬‬ ‫ويفضل (عبدالدائم أكواص) أن يضعنا في اتجاهين عامين للديوان‬ ‫كاآلتي‪:‬‬ ‫االتجاه الأول‬

‫حاور الشاعر مجموع ًة‬ ‫وهو االتجاه القريب جدً ا من ذات الشاعر‪ُ ،‬ي ُ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫مشغول بهمومه‪ ،‬بعيدً ا عن أي‬ ‫مشاغله واهتماماته الخاصة جدً ا‪،‬‬ ‫من‬ ‫ٍ‬ ‫بهدوء كبير هذه المشاغل في إطار نغمي‪،‬‬ ‫شعارات جوفاء‪ ،‬يصو ُغ‬ ‫ٍ‬ ‫وبلغة بسيطة‪ ،‬وبأفكار واضحة‪ ،‬بل بصور غاية في الدهشة والسالسة‪:‬‬ ‫فلتسرعي‬

‫عمري وعمرك للتآكل‬

‫ناضجا‬ ‫ولتحضري خبز التشوق‬ ‫ً‬

‫ولتنثري ملح التواصل بيننا‬

‫ملح التواصل‬ ‫ولتهتفي‪ :‬مرحى لنا ُ‬ ‫‪70‬‬


‫الجب‬ ‫ولتجهري بالحب ملء‬ ‫ِّ‬

‫ملء أسماع القبائل‪...‬‬

‫نظرا‬ ‫ونالحظ هنا أن قصائد هذا االتجاه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يغلب عليها البساطة ً‬ ‫لتعبيرها عن ذاته البسيطة واقترابها من شؤونه الخاصة‪ ،‬لذلك فهي‬ ‫ٍ‬ ‫بشكل عام بنغم وصور غاية في الوضوح‪.‬‬ ‫قصائد مزركشة‬ ‫خاصا عنه كشاعر رومانسي بالدرجة األولى‪،‬‬ ‫وهي تعطي انطبا ًعا ً‬ ‫متمكن من قصيدة التفعيلة‪.‬‬

‫ويتضح هذا االتجاه في مجموعة من القصائد‪( :‬ساكن حدس‬ ‫الهواء‪ ،‬مالك‪ ،‬ثالثية الصعود‪ ،‬أنا أسير‪ ..‬أنا أسير‪ ،‬يا زرقة البوح‬ ‫ُ‬ ‫يخجل منه المدُّ ‪ ،‬أطيافها‪ ،‬نشيد الهطول‪،‬‬ ‫الجميل‪ ،‬وبر البراءة‪ ،‬طموح‬ ‫نسيت‬ ‫أحالم كائن ماضوي‪ ،‬مزق الحنين‪ ،‬اسحب سماءك والجدار‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قلبي حولك‪ ،‬قصيدة اإلصغاء‪ ،‬نزهة الغبار بين فوهات الدموع‪ ،‬ترك‬ ‫الغريق حذاءه‪ ،‬ابتهالية البرتقال العصي‪ ،‬نزيف النفق)‬ ‫ويغلب على هذه القصائد صيغة المخاطب واآلنا‪ ،‬حيث الشاعر‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يستغرق في قراءة ذاته وشؤونه ـ كما قلنا ـ‬ ‫يا مهج ًة تهفو إليها مشاعري‬

‫يا شرف ًة منها ُّ‬ ‫أطل على المدى‬

‫وعلى عيوبي‬

‫يسكن خافقي‬ ‫النصل‬ ‫ُ‬ ‫‪71‬‬


‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫النشوب‬ ‫والشوق محتمل‬ ‫أنزف ماض ًيا‬ ‫اآلن‬ ‫ُ‬

‫اآلن تفضحني ندوبي‪.‬‬

‫ويشذ عن هذه المجموعة قصيدة (نزهة الغبار بين فوهات الدموع)‪،‬‬ ‫رغم قربها من الشاعر وعدم سيطرة أفكار كبيرة على النص‪ ،‬إال أنها‬ ‫نظرا لهدوء المسيطر عليها‪،‬‬ ‫قصيدة تندرج تحت االتجاه السابق ً‬ ‫وبساطة فكرة النص واأللفاظ‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫يصطاف الغبار‬ ‫الصمت‬ ‫في‬ ‫ُ‬ ‫ُيلقي عباءته الثقيلة فوق وجه الماء‪ ،‬ويمضي‬

‫لخلوته الحميمة حاف ًيا‪،‬‬

‫ُيهدي قذاه لكل ٍ‬ ‫عين ال تنام‪ُ ..‬يعيدُ توزيع الزُّحار‬ ‫ُ‬ ‫احتفاء يمتطيها‪..‬‬ ‫تصهل الريح‬ ‫ً‬

‫ويلف بين أزقة الرغبات‪ ..‬في لغة الشكوك‪.‬‬

‫كذلك قصيد (اسحب سماءك والجدار) التي تأتي بصيغة األمر‪،‬‬ ‫لكنها ال تبتعد عن دائرة الذات القريبة‪ ،‬فالشاعر في هذه القصيدة‬ ‫يتوجه باألمر إلى نفسه قبل أي أحد آخر‪:‬‬ ‫أشهر غيابك في وجوه الصامتين‪ ،‬وال تمر‬ ‫ٍ‬ ‫مهجورة‪ ..‬أو ال تمر‬ ‫كالغيم فوق مدين ًة‬ ‫‪72‬‬


‫ماء على جذب الحكاية‪ ،‬وانحدر‬ ‫ً‬

‫في درب نفسك سيدً ا‪ُ ..‬ح ًرا وحر‬

‫واسحب جدارك من ظالل الميتين‬

‫وتظل في هذا االتجاه (قصيدة اإلصغاء) التي ُي ُ‬ ‫فعل الشاعر خاللها‬

‫فعل (أصغي) في كتابة القصيدة‪ ،‬حيث يختارها لبداية المقاطع في‬

‫كل مرة‪ ،‬وكأن القصيدة قصيدة دائرية ورغم أن ا االتجاه الذاتي هو‬ ‫الطاغي في القصيدة‪ ،‬إال أن الشاعر هنا يحاول أن ال يكون محايدً ا‬ ‫على الدوام‪ ،‬حتى وإن كان في موقف المتفرج‪ ،‬هو مشغول بقضايا‬ ‫أخرى يصغي إليها بهدوء‪:‬‬

‫أصغي ألطفال التجارب‬

‫ٍ‬ ‫جيش نائ ٍم‬ ‫وأللف‬

‫من ألف عا ٍم لم يحارب‪.‬‬ ‫االتجاه الثاني‬

‫ويغلب على االتجاه اهتمام الشاعر بقضايا غيره‪ ،‬قضايا خارج‬ ‫ُ‬

‫نطاق ذاته القريبة جدً ا‪ ،‬الشاعر في هذا االتجاه يضع نفسه في إطار‬ ‫جماعي‪ ،‬يحاول أن يجد سياق له داخل الجماعة‪ُ ،‬ي ُ‬ ‫حاول أن يكون‬ ‫على صله بقضايا أمته المعاصرة‪ ،‬لذلك نجده يضحي بكثير من توهج‬

‫القصيدة مقابل هذا الحضور‪:‬‬

‫‪73‬‬


‫(عادوا إلى جبل النبؤة وادعين‪ ،‬متعمدين‪ ،‬ملمعين نيوبهم‪ ،‬مستنسخين‬ ‫دروبهم من طين حاضرنا‪ ،‬ما سر حرف الشين في أسمائهم ؟ قال العجوز‪:‬‬ ‫«ألنهم كانوا شهو ًدا في شفير شقاقنا أو أنهم كانوا شواهد رمسنا»)‬ ‫ٍ‬ ‫مجموعة من القصائد وهي (سفر الرجوع‪،‬‬ ‫ويظهر هذا االتجاه في‬ ‫ُ‬ ‫كتاب التثاؤب‪ ،‬سفر الرماد)‬ ‫القصائد هنا تتشكل عبر هم جماعي‪ ،‬يريد الشاعر من خاللها بيان‬ ‫يغلب على هذه القصائد عدم‬ ‫درجة انشغاله بمجموعة من القضايا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫بشكل عام‪ ،‬األمر الذي يلفها بدرجة من الغموض‪،‬ويغلب‬ ‫وضوح أفكارها‬ ‫على هذه القصائد الخطاب الجماعي‪ ،‬وصيغة الفعل الماضي‪:‬‬ ‫ناموا لكيال يجرحوا إحساس قاتلهم‪ ..‬وناموا‬

‫ليبرروا في نومهم مأساة (جلجامش)‬

‫أو ر ّبما ناموا لكي يتأكدوا من صحو كذبتهم !!‬

‫القصيدة في هذا االتجاه تظل على حالة تواصل مع مجموعة من‬ ‫االستدعاءات التاريخية لمجموعة من الشخوص الدينية واألسطورية في‬ ‫ٍ‬ ‫محاولة من الشاعر لخلق نص مختلف يتحاور من خالله الواقع والتاريخ‪.‬‬ ‫ويمكن تلخيص الرموز المستخدمة في هذا االتجاه في‪( :‬طير‬ ‫الفنيق ـ إيزيس ـ يوسف ـ العزيز ـ الهكسوس ـ جلجامش ـ قابيل ـ‬ ‫نابليون ـ إيفا أدولف ـ السامري ـ رومل ـ لورانس ـ االوشفيتيز)‬ ‫ومن خالل هذا االستدعاءات لهذه الرموز‪ ،‬ترتبك و تغيب أغلب‬ ‫‪74‬‬


‫أفكار النصوص رغم غطاء النغم الطافح‪ ،‬فالقصيدة ال تقدم تجربة‬ ‫ذاتية بسيطة‪ ،‬بل تقدم قضايا كبيرة تحوى الكثير من األفكار والتشعبات‬

‫التي تحتاج في صياغتها إلى مستوى متمكن‪.‬‬

‫وكذلك ما يصاحب هذه الرموز األسطورية من جوانب يكون‬

‫حاضرا عند الشاعر األمر الذي يحدث إرباكًا‬ ‫أغلبها غائ ًبا عن القارئ‬ ‫ً‬

‫كبيرا في فهمها‪.‬‬ ‫ً‬

‫وتظهر في هذا االتجاه قصيدة (سفر الرماد) حيث تمتلئ بالرموز‬ ‫ُ‬

‫ويسيطر على القصيدة فكرة عامة مشوشة‪:‬‬ ‫ومن الرماد إلى الرماد‬

‫(لورانس) أمضى ليله متقل ًبا‪ ،‬لما يقم‬

‫لم تنفجر سكك الحديد‪ ..‬وال جديد‪:‬‬ ‫(بيروت) تسجن نفسها في أمسها‬ ‫(عمان) تدفن أمسها في نفسها‬ ‫(بغداد) تحت االنتداب‪..‬‬

‫من اليباب إلى اليباب‬

‫ُ‬ ‫ُالحظ هنا قلة القصائد في هذا االتجاه مقابل االتجاه السابق‪،‬‬ ‫ون‬

‫دائما أكثر قر ًبا للشاعر من‬ ‫وربما يرجع ذلك إلى أن قصائد الذات ً‬ ‫غيرها‪ ،‬لذلك ُي ُ‬ ‫فضل الشاعر التعاطي معها بكثرة‪.‬‬ ‫‪75‬‬


‫الديوان في �إطاره العام‬

‫ويظهر‬ ‫هناك اهتمام واضح عند الشاعر لكتابة القصيدة الملحمة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ذلك جل ًيا في تعامله مع أغلب القصائد‪ ،‬وباألخص القصائد الطويلة‬ ‫نو ًعا ما‪ ،‬حيث يفضل الشاعر أن يصنع حوار واضح داخل النص (عالقة‬ ‫أخذ وعطاء) ويتجلى ذلك بوضوح في قصائد (سفر الرجوع‪ ،‬ابتهالية‬ ‫العصي‪ِ ،‬سفر الرماد‪ ،‬نزيف النفق) لذلك تظهر القصائد موشاة‬ ‫البرتقال‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫درجة عالية من الكثافة والنضج‪.‬‬ ‫بمجموعة من الصور التي تأتي على‬ ‫ٍ‬ ‫يشكل مباشر‬ ‫اهتمام الشاعر واضح بقصائده‪ ،‬األمر الذي ينعكس‬ ‫على أفكار القصائد من حيث وضوحها‪ ،‬كذلك على عنايته بصور‬ ‫أغلب القصائد‪.‬‬ ‫يغلب عليها اإليقاع‪ ،‬كذلك تنطبق أغلب أفكار‬ ‫قصائد الديوان‬ ‫ُ‬ ‫القصائد على األلفاظ بدون أي حشو أو زوائد‪.‬‬

‫ختا ًما‬

‫على الرغم من أن الحضن الذي يفضله الشاعر هو حضن الذات‪،‬‬ ‫وثيرا من خالل معالجة الشاعر الفخمة ألغلب قصائده‬ ‫الذي يبدو ً‬ ‫الذاتية‪ ،‬كذلك من خالل الصور المدهشة الذاتية التي ينسجها بهدوء‪،‬‬ ‫إال أن الشاعر أحيانًا ُي ُ‬ ‫فضل أن ُيحلق خارج هذا الحضن !!‬

‫‪76‬‬


‫ال�سر ُد المحموم‬ ‫ُ‬ ‫تهطل في القلب)‬ ‫قراء ٌة في ديوان (أراك‬ ‫للشاعرة نعيمة الز ّني‬



‫مدخل‬ ‫طالما أنك ال تستطيع أن تلغي األنا الملعون‪ ،‬أقم على‬ ‫األقل عالقة أنيقة معه‬ ‫رافايل أرغو ّلول‬

‫قد تكون العالقة األنيقة هنا قصيدة‪ ،‬القول هنا ٌ‬ ‫تسأل كبير عن‬ ‫ٍ‬ ‫بشكل عام‪،‬‬ ‫وخصوصا في التجربة اإلبداعية‬ ‫جدوى تجربة الذات‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الذات هي الوجه األبرز واألقرب للمبدع في كل أحواله وحاالته‪،‬‬ ‫تتلبس ذات الشاعر) قد ال نقول جديدً ا‪،‬‬ ‫لذلك عندما نقول‪( :‬قصيد ٌة‬ ‫ُ‬ ‫لكن عندما تكون القصيدة مسكونة بك ٍم هائل من التداعيات الذي‬ ‫ُي ُ‬ ‫فعل قصيدة محمومة بسرد ذاتها إلى أبعد الحدود‪ ،‬فإنها تكون قصيدة‬ ‫متلبسة بالذات‪ ،‬لذلك فالقصيدة انهمار طويل ومتواصل متوتر‪ ،‬وهي‬ ‫كذلك ال تتوقف عند نقطة معينة‪ ،‬وال تنشغل بنسج عالقات وروابط‬ ‫بين أجزاء القصيدة‪ ،‬حتى وإن وردت مقاطع صغيرة وسط القصيدة‬ ‫الكبيرة فإن تدافع السرد ُيعطيها طابع النسيج الواحد‪:‬‬ ‫‪79‬‬


‫ُ‬ ‫يدخل من النافذة‬ ‫الغيم‬ ‫ُ‬

‫الحلم في خاصرة المدينة‬ ‫يغيب‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫يابسا عن ضحكتي‬ ‫يصبح‬ ‫ُ‬ ‫المساء ً‬ ‫ُ‬ ‫صباح أبله ما عاد يوقظني‬ ‫ٌ‬

‫يتسع لعيني‬ ‫وليل فضفاض ال ُ‬

‫فهل ُيحييك لي الله رصي ًفا آخر ؟!‬

‫قصيدة متداخلة فهي تقع تحت طائلة بوحها‪..‬وخاص ًة أن عنوان‬

‫كثيرا عندما تقترح‬ ‫القصيدة (أنا) لكنها في المقابل تطوع هذه األنا ً‬ ‫تقترح البداية مرتبك ًة‬ ‫إطارا واس ًعا للبوح وهو هنا المدينة‪ ،‬لذلك فهي‬ ‫ُ‬ ‫ً‬

‫ً‬ ‫قليل ال تنبئ بما سيكون بعدها‪ ،‬لكنها عندما تتخلص من البداية تركن‬

‫إلى األنا المشغولة بالتفاصيل‪ ،‬تدرك أن المدينة تستوعب الشاعرة‬ ‫ٍ‬ ‫كحالة للبوح‪ ،‬فهي عندما تقول‪( :‬فهي يحييك لي الله رصي ًفا آخر)‬

‫فإنها ترضى بالمدينة كبديل عن هذا الشخص‪ ،‬المدينة إ ًذا حالة‬

‫أخرى للبوح‪:‬‬

‫فالليل ُة تختمر في القلب آخر القصائد‬ ‫ليتلعثم الهواء‬ ‫ألمتطي نزقي وأذهب‬ ‫لترتبك الشوارع بخطاي الواهية‪...‬‬ ‫‪80‬‬


‫تتميز قصيدة (نعيمة الزني) بقصر الجمل المكونة للقصيدة‪..‬‬ ‫من هنا فهي ت ُ‬ ‫ُفعل مساحة األفعال في بحث محموم عن صورة‬ ‫ُ‬ ‫كثيرا على اقتراح‬ ‫تسع حالة البوح الهائلة‪ ..‬لذلك فهي‬ ‫تعول ً‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫يعول عليه‬ ‫كمساحة حقيقة للقصيدة‪( ..‬هذه الخاصية‬ ‫األفعال‬ ‫خصوصا شعراء قصيدة النثر‪ ..‬األمر الذي‬ ‫الكثير من الشعراء‬ ‫ً‬ ‫يعطي القصائد صفة التشابه) قصيدة (نعيمة) ال تخرج عن‬ ‫ٍ‬ ‫كمساحة للبوح‬ ‫هذا اإلطار‪ ،‬لذلك فهي عندما تقترح الفعل‬ ‫نوعا من الحركية أو الحياة في‬ ‫فهي تعطي الصور المستحدثة ً‬ ‫داخلها لنقرأ م ًعا‪:‬‬ ‫شيء يفقدُ شاعريته‬ ‫ٌ‬

‫يفقدُ جماله‪ ..‬يرتمي في الالشيء‬

‫تخرج من عيونه عناكب‬ ‫ُ‬

‫وتسبح في فمه حكايات قديمة‬ ‫ُ‬

‫يرقدُ على قفاه‬

‫ُم ِ‬ ‫شر ًعا صدره آلالف النجوم‬

‫فاتحا قنينة البحر‬ ‫ً‬

‫ساك ًبا ألوانه الزرقاء في جدران الغرفة‬

‫يراقص ليلته العنيدة‪....‬‬ ‫خاط ًفا بهجة فجر‬ ‫ُ‬

‫وهكذا تتوالي حركة األفعال في القصيدة محدث ًة نو ًعا من اللهاث‬ ‫‪81‬‬


‫الجميل خلف التفاصيل‪ ،‬ونالحظ في المقطع السابق إنه حتى وإن‬ ‫فاتحا‬ ‫(مشرعا‬ ‫غابت األفعال فمساحة الفعل مقترحة من خالل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ساك ًبا خاط ًفا)‬

‫نقطة أخرى للنقاش في قصيدة نعيمة مساحة االختزال غير واردة‪،‬‬ ‫وحتى وإن وجدت مقاطع فهي مقاطع تخرج عن إطار االختزال لتقع‬ ‫تحت طائلة السرد‪ ،‬الشاعرة مشغولة بإنجاز ذات مغايرة فضفاضة‬ ‫مترهلة إلى أبعد الحدود‪.‬‬ ‫فالمقاطع المختزلة لها سياق مغاير‪ ،‬نجد قصيدة بعنوان (قصائد)‬ ‫وهي قصيدة مرتبة في مقاطع ُّ‬ ‫كل مقطع بعنوان مختلف‪ ،‬لكنها في‬ ‫ُ‬ ‫نسيجا واحدً ا‪ ،‬وبالنظر إلى المقاطع نجد أن الطول‬ ‫تشكل‬ ‫عمومها‬ ‫ً‬ ‫يغلب عليها‪ ،‬عكس القصائد الحديثة المختزلة التي ُي ُ‬ ‫شكل اإليجاز‬ ‫جوهرها‪ ،‬وبقراءة المقاطع تتشكل القصيدة كقصة‪:‬‬ ‫ذات صباح بلون الورد‬ ‫َّ‬ ‫أطل وجهه البريء‬

‫غامضا‪ً ..‬‬ ‫مبلل بالشجن‬ ‫كان‬ ‫ً‬

‫وضعت يدي على قلبي‬ ‫ونظرت في عينيه‬ ‫ُ‬

‫شموسا‪ ..‬ومدنًا ُمع َّلقة‬ ‫رأيت‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وأطفال !!‬

‫‪82‬‬


‫هذا هو المقطع هو بداية القصيدة وهو بعنوان (لجوء)‪ ،‬ننظر إلى‬ ‫المقطع الثاني الذي حمل عنوان (زهرة)‪:‬‬ ‫في عينيه‬

‫دمع ٌة بحجم العشق‬

‫وفضاء يتسع لجنوني‬ ‫ٌ‬

‫قدمت له زهرة‬ ‫ُ‬ ‫فتردد‬

‫ثم‪ ..‬التقطها بيده المرتعشة‬

‫فأزهرت يدي بستانًا‪.‬‬

‫نجد أن المقطع الثالث وهو بعنوان (اقتراب) يبد ُأ هكذا‪:‬‬ ‫يقترب‬ ‫أخذ‬ ‫ُ‬

‫قارب ُ‬ ‫يغرق في اليم‬ ‫كما‬ ‫ٌ‬ ‫يقترب‬ ‫ُ‬

‫الضجيج يبتعدُ ‪...‬‬ ‫تختنق‪..‬‬ ‫المساف ُة‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫صغيرا بعنوان (خاتمة) وهذا‬ ‫وتضع في ختام هذه القصيدة مقط ًعا‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫المقطع يلخص المقاطع السابقة ويأتي بدرجة من الدرجات ليعطي‬ ‫ُ‬ ‫تشكل كيانًا واحدً ا‪.‬‬ ‫االنطباع على أن المقاطع السابقة‬ ‫يتضح سياق القصيدة كقصة‪ ،‬قصة تدور في فلك (اآلخر)‬ ‫هكذا‬ ‫ُ‬ ‫‪83‬‬


‫الذي يستقطب الكالم‪ ،‬وتوجه إليه الشاعرة كالمها‪ ،‬فالذات هنا رغم‬ ‫كل ما تحمله القصيدة الحديثة من تعدد الدالالت هي ذات محايدة‬ ‫ما يعنيها هو المخاطب دون سواه‪ ،‬وما يستقطبنا هو تعامل الشاعر مع‬ ‫هذا الذات‪،‬الشاعرة هنا حلقة صغيرة في سلسلة طويلة من الشعراء‪،‬‬ ‫تحاول أن تنجز عبر تجربتها صياغ ًة أخرى لتجربة الذات الشعرية‪ ،‬لكن‬ ‫هذه القصيدة تظهر مستوى الشاعرة الحقيقي في تعاملها مع القصيدة‬ ‫كسياق للفكرة‪ ،‬وكيفية تعامل الشاعر مع فكرتها أعطى القصيدة ً‬ ‫شكل‬ ‫ُ‬ ‫يحمل بذور اختالفه‪.‬‬ ‫ال نقول عنه إنه جديد‪ ،‬لكنه‬ ‫القلب)(*)‬

‫ُ‬ ‫تهطل في‬ ‫في قصيدة أخرى وهي بعنوان (أراك‬ ‫وهي القصيدة التي ظهرت كعنوان للديوان‪ ،‬تقترح نفس الخاصية‬ ‫ونفس سياق الطرح‪ ،‬ومن خالل هذه القصيدة تظهر المدينة مر ًة‬ ‫أخرى كجانب مهم وفعال في القصيدة‪ ،‬إنها تتعامل مع المدينة‬ ‫ً‬ ‫حذرا لكنه مسكون بقلقه ونالحظ هنا أن (المدينة) تعادل‬ ‫تعامل ً‬ ‫المخاطب تما ًما‪:‬‬

‫عند أول منعطف‬

‫ألمح مدينتي‬ ‫ُ‬

‫تهرب من سريرها‬

‫تتمشى على أطراف أصابعها‬

‫لتقابل عاش ًقا يقف هناك‬

‫يرتجف من البرد والعسس‪.‬‬ ‫‪84‬‬


‫ختا ًما‬

‫قصيدة (نعيمة الزني) مسكون ٌة بهاجس السرد‪ ،‬سرد محموم تُفعل ُه‬ ‫وينسجم معها انسجا ًما تا ًما‪ ،‬القصيدة هنا آلية للبوح المتسع‪،‬‬ ‫الذات‬ ‫ُ‬ ‫وأيضا الكثير من‬ ‫تُجاهر الشاعرة من خالله بعواطفها و همومها‪ً ،‬‬ ‫تمردها !!‬ ‫هوام�ش‬ ‫(*) ديوان (أراك تهطل في القلب)‪ ،‬مجلس الثقافة العام‪،‬عام ‪.2006‬‬

‫‪85‬‬



‫ُمغامرة التجريب‬ ‫قراءة في ديوان‬

‫(التأويل الوردي لبياض الكوكب)‬ ‫للشاعر صالح قادربوه‬



‫مدخل‬ ‫فالمغامرة الشعرية ليست اقترا ًبا من الرؤيا بل هي اقتراب من‬

‫الحياة ومن روح اللعبة‪ ،‬من السخرية العظيمة التي صنعت‬ ‫أرسطو فانيس وستصنعني‪ ..‬الشعر هو كتابة كل واحد لنفسه‬

‫لكن بأدوات الحياة‪ ..‬ليس هناك رؤيا‪ ..‬فالشاعر ليس نب ًيا‬

‫وال عرا ًفا‪ ،‬إنّه العب وحسب(‪)1‬‬

‫إلى إي حد يتطابق كالم الشاعر (صالح قادربوه) هنا مع‬

‫تجربته الشعرية ؟!‬

‫ومرورا‬ ‫ابتدا ًء من ديوانه (اشتهاء مستحيل) الصادر في عام ‪2002‬‬ ‫ً‬

‫بديوانه (تراتيل أسفل شرفة الوعد) الصادر ‪ 2004‬وانتها ًء بديوانه‬

‫(التأويل الوردي لبياض الكوكب) الصادر في ‪.2006‬‬

‫نتوقف عند تجربة الشاعر(صالح قادربوه) الشعرية التي تمتلئ‬

‫بمجموعة من اإلشارات القوية على وجود مساحة هائلة من التجريب‪،‬‬ ‫‪89‬‬


‫واضحا بمتابعة الخط الواصل بين المجموعات األربعة‬ ‫ويبرز ذلك‬ ‫ً‬ ‫وعبر فترة زمنية ثابتة نسبية‪.‬‬ ‫فمن النزعة الرومانسية الحالمة في ديوانه (اشتهاء مستحيل) حيث‬ ‫ٍ‬ ‫بشكل‬ ‫تسيطر الذات بأفقها القريب‪ ،‬إلى االقتراب من األفق الصوفي‬

‫من األشكال في ديوانه (تراتيل أسفل شرفة الوعد)‬

‫وانتها ًء بمساحة هائلة يرى الشاعر أنها متاحة للتجريب في ديوانه‬ ‫(التأويل الوردي لبياض الكوكب)‬ ‫ومرورا باإلهداء (إلى اللون‪ ..‬دون ريب)‪،‬‬ ‫ابتدا ًء من العنوان‬ ‫ً‬ ‫والمدخل الذي يستنطق الشاعر فيه مقولة من مقوالت الشاعر‬ ‫(اوكتافيو باث)‬ ‫نرى هنا بوضوح سعى الشاعر إلنتاج نص بمذاق خاص‪ ،‬ربما ما‬ ‫يستدعى االنتباه هو توقف الشاعر عند جزئيات معينة منها‪:‬‬ ‫ً‬ ‫أول‪ :‬تخلى الشاعر نهائ ًيا عن اإليقاع الذي كان بصورة واضحة‬ ‫ٍ‬ ‫بشكل مخفف في ديوانه الثاني‪.‬‬ ‫في ديوانه األول‪ ،‬وظهوره‬ ‫ثان ًيا‪ :‬تعامل الشاعر مع ذاته القريبة‪ ،‬تعامل فيه الكثير من التعالي‬ ‫لم يغص في شؤون ذاته‪.‬‬

‫ثال ًثا‪ :‬اهتمام الشاعر بصياغة قصيدته عبر إنتاج مجموعة من‬ ‫المغيب‪.‬‬ ‫الصور‪ ،‬لتحل محل اإليقاع ُ‬

‫(قصيدة الغريب) هي أولى القصائد التي يتوقف عندها‪ ،‬ويالحظ‬ ‫‪90‬‬


‫القارئ أن الشاعر يتوقف عند لفظة (الغريب) ويفعل القصيدة من‬ ‫خاللها‪:‬‬ ‫الغريب الذي تلتف حوله مداخل الشوارع‬

‫الغريب الذي تلتف حوله أبواق العربات الباردة‬

‫الغريب الذي تلتف حوله واجهات الفنادق‬

‫الغريب الذي تلتف حوله صائدات العابرين‬ ‫‪...........................................‬‬

‫والمالحظ على هذه القصيدة أن القصيدة هنا جرعة واحدة متصلة‪،‬‬ ‫غير قابلة للتجزئة‪ ،‬فاكتمال فكرة النص مقرون باكتمال قراءة النص ً‬ ‫كامل‪.‬‬

‫ونالحظ هنا أن الشاعر يستهويه هذا الشكل في الكتابة فنراه يكرره‬ ‫مر ًة أخرى في قصيدة (ممنوع االبتسام)‪:‬‬ ‫رائحة فاصوليا مطبوخة‬ ‫رائحة ماء قديم‬

‫رائحة زنزانة مجهولة النزالء‬

‫رائحة صوت بليد‬

‫رائحة قصة صغيرة مسحوقة على سكة حديد صدئة‬

‫رائحة نكتة ال تقال أمام العائلة‬

‫‪..............................‬‬ ‫‪91‬‬


‫يمكن أن نقف عند تجارب أخرى معاصرة‪ ،‬لنرى إن (قادربوه)‬ ‫يتوقف عند أغلب التجارب العربية في محاولة لمواكبتها وتجاوزها‪،‬‬ ‫لنقرأ لشاعر تستهويه نفس هذه الطريقة في الكتابة‪ ،‬أنه الشاعر (سعدي‬ ‫يوسف) في قصيدته (صباح الخير أيها العرب)(‪:)2‬‬ ‫صباح الخير لألوالد‬ ‫صباح الخير للجالد‬

‫تنقلب‬ ‫صباح الخير للثورات‬ ‫ُ‬

‫صباح الخير للطقات مكتومة‬ ‫صباح الخير للرايات‬ ‫عشرا‬ ‫صباح الخير ً‬

‫للوحول تلطخ الرايات‬ ‫صباح الخير للشمراء‬

‫صباح الخير للرقباء‬

‫‪....................‬‬

‫نتوقف عند قصيدة (إيهام) لنرى أن الشاعر يعمد إلى صياغة‬ ‫ٍ‬ ‫بشكل فيه الكثير من التمويه من خالل تفعيل كلمتين (صوت)‬ ‫القصيدة‬ ‫و (بل) من ليكمل ليصل في النهاية إلى عنوان النص‪:‬‬ ‫صوت طرقات أصابعك على خشب الخزانة‬ ‫‪92‬‬


‫صوت انزالق من أسفل إلى فوق‬

‫بل‬

‫صوت طرقات نقودك على خشب الخزانة‬

‫صوت انزالق أصابعك من أسفل إلى فوق‬

‫بل‬

‫صوت طرقات الخشب على نقود الخزانة‬ ‫صوت انزالق أسفل أصابعك إلى فوق‬

‫ثالثة احتماالت إللغاء وهم االستدراك‬

‫بل لإليهام باإللغاء‬ ‫‪..................‬‬

‫نرى هنا أن الشاعر ذهب بعيدً ا للوصول إلى شيء قريب جدً ا منه‪،‬‬ ‫إنه يمارس اللعب بل هو مفتون جدً ا بهذا اللعب‪ ،‬معتمدً ا على تبديل‬ ‫العالقات بين األلفاظ‪ ،‬وتعتبر هذه القصيدة المثال األبرز هنا على‬ ‫ٍ‬ ‫كفكرة لها خصوصيته‪.‬‬ ‫تعامل الشاعر مع التجريب‬

‫نتوقف كذلك عند قصيدة (جرد سريع ألوهام المخيلة) لنرى‬ ‫أن الشاعر هنا يوقظ كلمة (نتصافح) ليدخل من خاللها إلى النص‪:‬‬ ‫نتصافح بالقرب من تقلب الماء‬

‫من تصادم نملتين على حبل العطش‬ ‫‪93‬‬


‫نتصافح بالقرب من أكذوبة الصوت الخفيض‬ ‫وننتزع أصابع التقاليد في دوخة المصافحة‬ ‫ثم نتهيأ للجلوس على فكرة الفأر والمصيدة‬ ‫‪...........................................‬‬ ‫نرى أن الشاعر يعتمد هذه الطريقة في أغلب نصوص الديوان‪،‬‬ ‫ً‬ ‫محاول التعاطي مع هذا الشكل في الكتابة أكثر من مرة‪ ،‬ويمكن‬

‫مالحظة هذا األسلوب في قصيدة (المشبوهون) وقصيدة (أحالم‬ ‫ال تخص فرويد)‬

‫ويمكن النظر إلى قصيدتين‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ قصيدة (التأويل الوردي لبياض الكوكب)‪ :‬ويعتمد فيها الشاعر‬ ‫على مدخلين كونيين (حسب اقتراح الشاعر) والقصيدة‬

‫تبلغ ذروة التعقيد‪ ،‬وأرى أنها تبلغ ذروة التجريب (حسب‬

‫اعتقادي) لذلك اختارها الشاعر عنوانًا لديوانه‪ ،‬على الرغم‬ ‫من مغامرة الشاعر بفكرة النص (وهي سمة ظاهرة في هذا‬ ‫ٍ‬ ‫بشكل عام)‪.‬‬ ‫الديوان‬

‫‪ 2‬ـ قصيدة (اسمك)‪ :‬وهي حسب اعتقادي تعتبر من رصيد‬ ‫الشاعر السابق من عدة وجوه‪ ،‬أو أنها كتبت بروح الدواوين‬ ‫السابقة‪ ،‬وهذه القصيدة تشذ عن قصائد الديوان األخرى من‬

‫حيث وضوح الفكرة وترابطها وكذلك قربها من ذات الشاعر‪.‬‬ ‫‪94‬‬


‫ختا ًما‬

‫الشاعر دائم الشطب سوا ًء على مستوى التجربة ككل من خالل‬ ‫إعالن إنكاره لتجاربه وإصدارته الشعرية السابقة‪ ،‬أو من خالل ردته‬ ‫ٍ‬ ‫دائما الشطب‬ ‫على الشكل الشعري القديم‬ ‫بشكل عام‪ ،‬الشاعر ً‬ ‫أيضا ً‬ ‫لنفسه من خالل كل قصيدة‪ ،‬حيث كل قصيدة هي عبارة عن تجاوز‬ ‫دائما وشطب متكرر‪ ،‬الشاعر كذلك ال يرى نفسه ابن لتجربة الشعر‬ ‫ً‬ ‫الليبي التي يراها متواضعة من جميع الوجوه لذلك فهو يشطب‬ ‫الجميع !!‬

‫ديوان (التأويل الوردي لبياض الكوكب) مغامرة يراها الشاعر‬ ‫أساسا‬ ‫(صالح قادربوه) ضرورية في سياق تجربته الشعرية التي تقوم ً‬ ‫على القفز على جميع تجاربه السابقة دون النظر إلى الوراء‪،‬القصيدة‬ ‫في نظره لعبة مفتوحة على التجريب إلى أبعد الحدود‪،‬وعلى جميع‬ ‫االتجاهات!!‬ ‫السؤال هنا‪ :‬ماذا أضافت مغامرة التجريب لتجربة (قادربوه)‬ ‫الشعرية ؟!‬ ‫هوام�ش‬ ‫(‪ )1‬حوار للشاعر‪ ،‬أجراه الشاعر وليد الزريبي‪.‬‬ ‫(‪ )2‬الشاعر سعدي يوسف‪ ،‬األعمال الكاملة‪.‬‬

‫‪95‬‬



‫الق�صيد ُة بلحاف الأنثى‬ ‫قراءة في ديوان لحاف الضوء‬ ‫للشاعرة أم الخير الباروني‬



‫أتسلل خلف الحلم‬ ‫ألعانق ولعي بك‬ ‫يدركنا الصحو‬ ‫أرتبك‪..‬‬

‫تتوقف القصيدة الحديثة عند مفترقات كثيرة‪ ،‬لعل أبرزها الوقوف‬

‫كثيرا على بوابة الذات‪ ،‬ومحاولة صياغتها بأكثر من صيغة‪.‬‬ ‫ً‬

‫ديوان (لحاف الضوء) للشاعرة (أم الخير الباروني) يحتوي على‬

‫(‪ 21‬قصيدة) كتبت قصائده عبر فترة امتدت من ‪ 1987‬إلى ‪.2001‬‬ ‫ما يعنينا عبر هذه القراءة هو اإلجابة على سؤال‪:‬‬ ‫كيف تعاملت ال�شاعرة مع كيان الأنثى عبر ق�صائدها ؟‬

‫القصيدة في ديوان (لحاف الضوء) تقع على مقربة من تفاصيل‬

‫الشاعرة األنثى‪ ،‬الشاعرة هنا تصوغ حياتها عبر القصيدة‪.‬‬ ‫‪99‬‬


‫ُ‬ ‫تهطل بأغواري‬ ‫بال غيم‬

‫بال سحب‬

‫تهطل!!‬

‫فالقصيدة بداية ال تتشكل عبر إطار معين‪ ،‬فهي تمتلئ بالخروقات‬ ‫مهما‬ ‫كثيرا على الفكرة التي تشغل ً‬ ‫حيزا ً‬ ‫لكن الشاعرة هنا تعول ً‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫بانفعال خاص‪،‬‬ ‫مسكون‬ ‫الذات‬ ‫خطاب‬ ‫حيث‬ ‫في قولبة القصيدة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ومخاطبة بصيغة اآلخر أو بصيغة الجمع في محاولة من الشاعرة‬ ‫وأيضا القصيدة ال تركن إلى منجز‪ ،‬فهي‬ ‫لصهر نفسها مع اآلخرين‪ً ،‬‬ ‫دائما‪ ،‬إضافة إلى اهتمامها بالتفاصيل إلى أبعد‬ ‫تقترح فضا ًء جديدً ا ً‬ ‫الحدود‪ ،‬لذلك تداهمك الصور المنجزة وكأن الحياة تتجدد في‬ ‫كل قصيدة‪:‬‬ ‫تنتصب هياكل ونهارات‬

‫كانت منزوية ما بين ضفتي دفتر‬

‫يقلبه طفل حافي القدمين‬

‫يحصي الصفحات البيضاء ويفتتها‬

‫قوتًا لطيور تنقر أفكاره‪.‬‬

‫وال ندعي أن القصيدة لديها حالة استثنائية‪ ،‬لكنها حالة تسلك‬ ‫طريق الشعر الحديث عامة‪ ،‬تحمل قلقها وإحساسها المختلفة بالحياة‪،‬‬ ‫‪100‬‬


‫ترتكب محاولة بحث المحمومة للخروج بحالة تميز‪ ،‬لكنها تظل‬

‫محتفظة بمخاوفها ساطعة متوهجة وطازجة‪:‬‬ ‫غيما‪ ..‬تمطر بأعماقي‬ ‫أتفيأك ً‬

‫فتخصب بكرو ٍم ونخيل وخمائل غبطة‬

‫فيما الظل يشخص‪ ..‬يتشخص‬

‫يتخلل بصري‪.‬‬

‫ال تمضي بعيدً ا في أفكارها‪ ،‬تميز القصيدة في وضوح فكرتها إنها ال تخاتل‬ ‫كثيرا‪ ..‬إنها تسلك أقصر طريق للوصول‪ ،‬لنقرأ هذا المقطع الذي‬ ‫القارئ ً‬ ‫يفيض بدهشته الصغيرة المستحدثة‪:‬‬

‫تحت وسادتي‬

‫حلم وشاطئ !!‬ ‫القصيدة التي تكتبها الشاعرات في ليبيا تنضح بكثير من ردود‬

‫الفعل الصغيرة المشاكسة‪ ،‬لذلك تتميز هذه القصائد بتفجرها الجميل‪،‬‬

‫تحمل وقع اليوم في كثير من الدهشة‪ ،‬وال تحمل الكثير من المفارقات‬ ‫كثيرا‪،‬‬ ‫اللغوية‪ ،‬بعكس القصيدة التي يكتبها الشعراء‪ ،‬إنها تميل للتعقيد ً‬

‫وتدخل من باب فكري عميق‪ ،‬لذلك نراها تحسن التعبير عن نفسها‬ ‫كثيرا‪:‬‬ ‫جيدً ا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وتتمترس بالذات ً‬ ‫البارحة‬

‫بعدما غادرتني‬ ‫‪101‬‬


‫وعلي غير عادتي‬

‫لم أقرب الماء‪ ..‬لم أشرب‬

‫خفت‪ ..‬خفت أن‪ ..‬أنطفئ !!‬

‫الفكرة الواضحة تمنح القصيدة قوة اإليجاز‪..‬لذلك تتجلى‬

‫القصيدة قدر اإلمكان في االقتصاد اللفظي‪،‬حيث الفكرة تشعل‬

‫أيضا عند (أم الخير‬ ‫النص بمقدار مناسب من الوقع الجميل‪ ،‬الذات ً‬

‫الباروني) تنكشف بلطف‪ ،‬وتتسرب من خالل لحظة البوح هذه‬ ‫هموم الشاعرة بشفافية حادة ومصحوبة بك ٍم هائل من الصور التي‬

‫تراها الشاعرة تخد ُم القصيدة مترافقة مع جرأة محببة ال تختفي‬

‫تحت قناع‪:‬‬

‫هذا المساء‬

‫ثرثار عجوز‬ ‫والمطر ٌ‬ ‫ُ‬ ‫يهمهم في خفوت‬

‫اشتهاء ألن نكون م ًعا‬ ‫يملؤني‬ ‫ً‬

‫وأنت بعيد‬

‫بعيدٌ كالغد‬

‫قريب كهمس الذكريات‬ ‫ٌ‬ ‫‪........................‬‬

‫‪102‬‬


‫نتوقف هنا لنرى كيف تعاملت الشاعرة مع قصيدتها‪ ،‬ونرى أنها‬ ‫تعاملت في خطين متوازيين‪:‬‬ ‫الخط األول‪ :‬ويمكن تسميته (خط التداعي) وتعول الشاعرة هنا‬ ‫كثيرا‪.‬‬ ‫على جملة سردية تقتضب فيها ً‬

‫الخط الثاني‪ :‬ويمكن تسميته (خط الصور) وتتوقف الشاعرة عند‬ ‫مجموعة من الصور التي تدعم الخط األول‪ ،‬ونالحظ هنا اهتمام‬ ‫بصياغة مفارقة مدهشة بين من خالل إنجاز الصور‪ ،‬األمر الذي يعطي‬ ‫القصيدة قدرة على المشاكسة‪:‬‬ ‫ويغلق نوافذه‬ ‫النوم يفرك نعاسه‬ ‫ُ‬ ‫السعة‬

‫تتدثر بلحافها وتضيق‬

‫الليل‬

‫يبكي معزوفة المطر‬ ‫فامضي‬

‫امتطي وهج الصبح‬ ‫واركض‬

‫فيسقط الغد من شرفة ذاكرتي‬

‫ً‬ ‫حقل من رماد‪..‬‬

‫‪................‬‬ ‫‪103‬‬


‫أيضا في إطارها الحديث قصيدة قلق متعاظم‪ ،‬وتتوقف‬ ‫القصيدة ً‬ ‫كثيرا عند هذه النقطة‪ ،‬ربما هو جزء من إحساسها الخاص‬ ‫الشاعرة ً‬ ‫بقلق كبير عصري يراه الشعراء كل من زاويته‪:‬‬ ‫هدهدة طحن العمر الماضي‬ ‫تلجم خيول الزمن اآلتي‬

‫وأنا متعبة‬

‫أنيني متحجر‬

‫عند بوابات صدئة‬

‫لمدائن الفرح‬

‫تصدني فأدير وجهي‬

‫واركض‪..‬‬ ‫‪..........‬‬

‫قصيدة (أم الخير الباروني) في الغالب ترسم في الغالب حدودها‬ ‫أيضا قصيدة هادئة‪ ..‬هامسة تختبئ وراء ذات‬ ‫ومحيطها كأنثى‪ ،‬وهي ً‬ ‫غير منجزة‪ ..‬تراها الشاعرة كل ٍ‬ ‫مرة بشكل مغاير !!‬

‫‪104‬‬


‫تعريف بالكاتب‬ ‫ـ عبدالباسط أبوبكر محمد‪.‬‬

‫ـ مواليد ‪ ،1975‬الجبل األخضر‪.‬‬

‫�صدر له‬

‫ديوان (في متناول القلب) مجلة المؤتمر‪.2005‬‬

‫ديوان(أوقات خارج الوقت) مجلس الثقافة العام ‪.2008‬‬ ‫كتاب (خارج الحبر) وزارة الثقافة عام ‪.2014‬‬

‫له مخطوطات‬

‫ديوان (بأكثر من وجه)‪.‬‬

‫ديوان (الوقت جهة خامسة)‪.‬‬

‫كتاب (تمارين شعرية)‪.‬‬

‫كتاب (جغرافيا الروح)‪.‬‬

‫البريد الألكتروني للكاتب‪:‬‬ ‫‪Ttfasel@yahoo.com‬‬





Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.