فصلية ثقافية فكرية العدد 5ربيع 2013
لبناناالحوال ال�شخ�صية والتحرك النقابي تونسالثورة مغدورة؟ طوابع بريد لفلسطني الغد رئيف خوري املثقف يف العهد ال�ستاليني شكري بلعيد يريث حسني مروة فريدريك جاميسون اطروحات حول املارك�سية وضاح رشارة يقر�أ حنا بطاطو عن الدولة العربية يعقوب شدراوي عن طانيو�س �شاهني شعارات الثورة السورية فريد االطرش وظلم ّ النقاد
فصلية ثقافية فكرية العدد 5ربيع ٢٠١٣
subscriptions@bidayatmag.com
احل�ساب امل�رصيف
Bidayat sarl Banque Libano Française Agence Gefinor, Beyrouth-Liban Account Number: 169102231 Swift:BLFSLBBX IBAN:35001000000000000169192231LB
Amiry, S. and Tamari, V., The Palestinian Village Home, British Museum � Publications Ltd.,1989ص 53
�أحمد م�صطفى من�صور ,رمزي حيدر© ,جمعية ذاكرة« ،حلظة»� ،أمار� ,2008 ،ص١٠١،١٠٠ � ،AP Photo / Mustafa Karaliص 112 جنى طرابل�سي� ،ص 119
Belting, H., Florence and Baghdad Renaissance Art and Arab Science, Cambridge: Harvard University Press, 2011
�ص ١٢٦ ،١٢٥ ،١٢٢ نوال عبود طرابل�سي� ،ص ١٣٦ -١٣٠ � Visualizing Palestineص ١٤١ -١٣٨ جان لوك غودار ،فيلم «مو�سيقانا»، �ص١٥١،١٥٠،١٤٧-١٤٤
Batatu, H., The Old Social Classes and New Revolutionary Movements of Iraq, London: � Al Saqi books, 2000ص 199-198 ،191
www.bidayatmag.com
بدايات رئي�س التحرير :فواز طرابل�سي رحال االدارة :زهري ّ غ�سان عي�سى االلكرتوين: املوقع ّ �إدارة ف ّنية :جنى طرابل�سي ت�صميم و�إخراجُ :ز ْم َرة زينب ياغي املدير امل�س�ؤول: �شارك يف انتاج هذا العدد: �سليمان تقي الدين ،ع�ساف كفوري، دميا ال�رشيف ،مي�سون �سكّ رية، ر�شا ال�سلطي ،نوبار هوف�سبيان، �سحر مندور ،حممد العطار. ت�صدر عن :بدايات� ،ش.م.ل. �صندوق الربيد،٦٧٧٧/١٣ : (�شوران) بريوت -لبنان التوزيع� :رشكة «نا�رشون» لتوزيع ال�صحف واملطبوعات� ،ش.م.م .بريوت -لبنان. �سعر الن�سخة لبنان ١٠،٠٠٠ل.ل ،.االردن ٥دينار، الكويت ٢،٥دينار ،م�رص ٢٥جنيه، املغرب ٥٠درهم ،فرن�سا ٥يورو. اال�شرتاكات لبنان :افراد ،$٣٥م�ؤ�س�سات ،$٧٥ �إ�شرتاك ت�شجيعي$١٠٠ البلدان العربية :افراد ،$٥٠امل�ؤ�س�سات$١٥٠ اوروبا :افراد ،$٦٠م�ؤ�س�سات $١٨٠ باقي البلدان :افراد ،$٨٠م�ؤ�س�سات $٢٤٠
احلقوق نوال عبود طرابل�سي� ،ص 6 املفكرة القانونية ,ح�سام م�شيم�ش� ,ص17-16 � 25,www.yementimes.comآذار� ،2013ص 31 � ،whitecolonialism.tumblr.comص 43
فالدميري تاتلني ،ت�صميم لن�صب االممية الثالثة، مو�سكو� ،١٩٢٠-١٩١٩ ،ص ٢10
Fani, M., Liban 1880 -1914, Beirut:1995
�ص 223-222
The Revival of Palestinian Traditional � Heritage, Beirut: Inaash, 2001ص227
حاولنا جهدنا العثور على ا�صحاب حقوق الن�رش والت�صوير املن�شورة. الرجاء ممن �أغفل �إ�سمه االت�صال بنا.
المحتويات العدد 5 ربيع 2013
4
فلسطني اآلن اآلن و...غد ًا
8
االحوال الشخصية بني الديين والمدين
�سليمان تقي الدين
12معركة تصحيح االجور يف لبنان: مكاسب رمزية وخاسئر فعلية
حممد زبيب
21ثورة مغدورة؟ االنتفاضة التونسية
ليلى داخلي
50
فلسطني ضد الفلسطينيني :القانون احلديدي ومفارقات شعب َ منكر
ب�شارة دوماين
احلزيب يف المغرب 27الياسر واالحنطاط ّ
156
جار جيور 32اليمنٌ :
161ارسائيل ،امريكا والنفط العريب عام 1948
عبد الإله بلقزيز ب�رشى املقطري
35مقابلة اشملة مع فواز طرابليس عن الثورة واحلرب يف سورية
حممد العطار
« 84احلكم الذايت» يف فلسطني المحتلة:
تطبيقات يف الهندسة النيولربالية المعولمة
20 58أوسلو :السياقات والتداعيات 65االقتصاد السيايس للجيش اإلرسائييل
96االكادمييا يف اشتيال خميم يرزح حتت االجتياح البحيث ّ
ياغيل ليفي
78المنظمات غري احلكومية :بني الكلمات الطنانة واحلركات االجتماعية ّ
توفيق حداد
مي�سون �سكرية
الغالف 1 نوال عبود طرابل�سي الغالف ٢و٣ نادر خري الدين ابو جبني ،تاريخ فل�سطني يف طوابع الربيد، م�ؤ�س�سة الدرا�سات الفل�سطينية ،بريوت ورام الله٢٠١١ ، الغالف 4 مل�صق، نوال عبود طرابل�سي منظمة التحرير الفل�سطينية١٩75 ،
ايرين غندزير
170
شكري بلعيد: جامع الياسر التونيس وهشيده
حممد �صالح عمري
مروة 171شكري بلعيد يريث حسني ّ
ال 186العراق مثا ًال وحنا بطاطو دلي ً
و�ضاح �رشارة
208مخس أطروحات يف الماركسية المعارصة
فريدريك جامي�سون �سالمة كيلة
إهنا أيضا ثورة اجتماعية!
218
يا�سني �سويحة
«الفالح العظيم» ليعقوب الشدراوي:طانيوس اشهني عىل المرسح
مبنية للغياب 109المنازل ّ مبنيون للمجهول وحنن ّ
يعقوب ال�شدراوي
« 117باب الشمس»ّ : كل هذه الرومانسية!
ريا�ض بيد�س
رائد وح�ش
جديت حاجي ّ 224
عالء حليحل
122
230عن انعتاق الكالم: لغة الثورة السورية والثورة يف اللغة
هانس بلتنغ عن ابن الهيثم: فن الهنضة األوروبية والعلوم العربية ّ
حممد العطار
�صونيا مي�شار االتا�سي
127أوسلو وطوابع الربيد الفلسطينية
نور ابو عرفة
130
نوال عبود طرابليس: طوابع بريد لفلسطني الغد
142
«موسيقانا» غودار: الوثائقي حيتاج لعنوان آخر
« 1تصوير فلسطني» 37 جغرافية هنب المياه والفصل العنرصي
غالية �سعداوي
149حممود درويش يف «موسيقانا» «إن شع ًبا بال ِشعر هو شعب مهزوم» 152يف حترير صورة فلسطني
روي ديب
172
أكيفا أور :مؤسس «ماتسبني»، القاطع مع الصهيونية
مو�سى البديري
176رئيف خوري :المثقف الشيوعي يف الزمن الستاليين
�أحمد علبي
213معىن النظرية يف الناشط الثوري
�إ�صالح جاد
106
ال�صياد �أحمد ّ
خليل نخلة
٢٠ 89اوسلو :بناء الدولة النيوليربالية
نوام ت�شوم�سكي
الياسر اليمين بني الغفران والنسيان
240
فــريد األطرش: ظلَ َمه النقد وأنصفه الناس
�سمر حممد �سلمان
فلسطني اآلن اآلن و...غد ًا خ�ص�صنا ملف هذا العدد اخلام�س من «بدايات» الفتتاح م�سارات التفكري النقدي يف فل�سطني احلا�رض وامل�ستقبل وم�ساءلة موقعها من الثورات العربية وموقع هذه منها. واملنا�سبة ي�صعب التغا�ضي عنها :م�ضي ع�رشين عاما على توقيع اتفاق او�سلو بني منظمة التحرير الفل�سطينية والدولة ال�صهيونية. جتمع لدينا من مواد يلقي ال�ضوء على �أوجه خمتلفة ما ّ من التجربة الفل�سطينية يف ظل «ال�سلطة الوطنية» .يفتتح ب�شارة دوماين امللف بن�ص خالق عن تن�صيب فل�سطني يف وجه الفل�سطينيني .ويتتبع نوام ت�شوم�سكي م�سار التخريب اال�رسائيلي لالتفاق منذ توقيعه ،وي�ضيء على الدور اخلبيث للمفاو�ضني النورويجيني م�ؤكدا �أن الواليات املتحدة مل تكن مرة «و�سيطا نزيها» بني الفل�سطينيني واال�رسائيليني بل «�رشيكا» ال�رسائيل .وقد �أولينا �أهمية خا�صة لالقت�صاد ال�سيا�سي لأنه اول ما يجدر ا�ستح�ضاره عند البحث يف القاعدة املادية لال�ستتباع اال�رسائيلي لل�ضفة الغربية .نن�رش ثالثة ن�صو�ص عن االقت�صاد ال�سيا�سي خلليل نخلة وتوفيق حداد ون�صا عن «خ�صخ�صة» اجلي�ش اال�رسائيلي .اىل ذلك بحث نقدي ال�صالح جاد يف ظاهرة املنظمات غري احلكومية ودرا�سة ميدانية ملي�سون �سكّ رية عن ال�سياحة االكادميية يف املخيمات الفل�سطينية. تلون فل�سطني العدد كله .اىل �شهادة عن خميم ّ فل�سطيني يف �سورية حتت الق�صف لرائد وح�ش ،ورواية عالء حليحل لتجربة قرية «باب ال�شم�س» ،نلقى مراجعة نور �أبو عرفة لكتاب عن طوابع الربيد الفل�سطينية وت�صميمات ن��وال طرابل�سي لطوابع بريد من اجل فل�سطني حرة م�ستقلة ،ا�ضافة اىل نقد غالية �سعداوي لفيلم للمخرج الفرن�سي جان لوك غودار عن فل�سطني
6
بدايات
العدد |5ربيع 2013
والفالحية يف جبل لبنان يف القرن التا�سع ع�رش. يف «ذاكرة» يدعو احمد ال�صياد اىل اعادة االعتبار النقدية للي�سار اليمني .ويف «ح�ضور الغياب» ،نحيي الذكرى املائة ل��والدة الكاتب اللبناين الكبري رئيف خوري ،بن�ص الحمد علبي ،ونن�رش ق�صيدة ل�شهيد الي�سار التون�سي �شكري بلعيد يرثي فيها �شهيدا ي�ساريا �آخر هو الناقد والباحث اللبناين ح�سني مروة ،ونودع مع مو�سى البديري �أكيفا �أور ،م�ؤ�س�س «مات�سنب» ،الثوري ال�شمويل، واملنا�ضل الرائد �ضد ال�صهيونية. �أخريا ،يقر�أ حممد العطار عن ثورة اللغة يف �شعارات الثورة ال�سورية .وتوا�صل �سمر �سلمان ابحاثها يف املو�سيقى العربية احلديثة بن�ص عن فريد االطر�ش. قلنا اننا اردن��ا من ملف هذا العدد افتتاح البحث نقدم بع�ض يف فل�سطني احلا�رض وامل�ستقبل .فيما يلي ّ العناوين ملوا�صلة البحث وت�شجيعا على النقا�ش. .١الثورات العربية/فل�سطني .ماذا يتوقع ال�شعب الفل�سطيني من الثورات العربية من نتائج على ق�ضيته وعلى جمرى النزاع العربي اال�رسائيلي؟ واية درو�س تقدمها الثورات العربية لل�شعب الفل�سطيني وحركة حترره بعدما ا�ستوحت هي الكثري من االنتفا�ضات الفل�سطينية؟ .٢ال��ن��زاع الفل�سطيني-اال�رسائيلي /ال��ن��زاع العربي-اال�رسائيلي .احدثت اتفاقية او�سلو �رشخا بني هذين النزاعني وبني ق�ضية فل�سطني واجلماهري العربية .وال�س�ؤال :هل ميكن ان ت�ستعيد ق�ضية فل�سطني ا�ستدعاءاتها للجماهري العربية دون جتديد دورها مبا هي حركة حترر وطني وانخراطها يف الن�ضال العام من اجل العمل واحلرية والعدالة االجتماعية؟ .٣النزعة الع�سكرية اخلال�صية/املفاو�ضات .ت�ستطيع الب�ؤرتان امل�سلّحتان حلركة حما�س وحزب الله ،يف غزة
نقتطف منه حوارا ملحمود دروي�ش عن ال�شعر وفل�سطني. وهنا اي�ضا يكت�شف روي ديب حياة الفل�سطينيني الب�رش ت�شبع من فل�سطني-ال�صورة .ويكتب ريا�ض بعدما ّ جدته .ونن�رش اخريا لي�س �آخرا درا�سة �آيرين بيد�س عن ّ القيمة عن النفط العربي ووالدة دولة ا�رسائيل غندزير ّ يف ال�سيا�سة اخلارجية االمريكية العام .١٩٤٨ ي�رسنا ان ن�ؤدي واجبا من الوفاء والتقدير يف هذا ّ العدد الحد املع البحاثة العرب ،الفل�سطيني االمريكي حنا بطاطو .يقر�أ له و�ضاح �رشارة ،ومن وحيه ،عن الدولة العربية يف قب�ضة جهاز اال�ستيالء الع�صبي والريعي والبريوقراطي .ونوا�صل التعريف بالرتاث الي�ساري اجلديد باطروحات لفريدريك جامي�سون ،اح��د ابرز املارك�سيني اجلدد يف الواليات املتحدة االمريكية .ويب�سط �سالمة كيلة ر�أيه يف دور النظرية يف الثورة. وت�شتمل «من باب اوىل» على مقاالت عن االحوال ال�شخ�صية والتحرك النقابي يف لبنان ل�سليمان تقي الدين وحممد زبيب ،وتت�ساءل ليلى داخلي عما اذا كانت الثورة التون�سية باتت ثورة مغدورة ،وينتقد عبداالله بلقزيز القيادات احلزبية اجلديدة يف املغرب ،وتكتب ب�رشى املقطري عن طرد العمال اليمنيني من العربية ال�سعودية. ونن�رش مقابلة مطولة اجراها حممد العطار مع فواز طرابل�سي عن الثورة ال�سورية. من كتابات ال�شباب اخرتنا يا�سني �سويحة الذي يذكّ ر بالعوامل االجتماعية يف الثورة ال�سورية .ويف «كتاب» مراجعة لكتاب للناقد الفني االملاين هان�س العال العربي ابن الهيثم يف النه�ضة بلتنغ عن م�ساهمة مِ االوروبية .ويف «نون والقلم» حتية للم�رسحي اللبناين الكبري يعقوب ال�شدراوي من خالل ن�رش ف�صل من م�رسحيته عن طانيو�س �شاهني ،قائد االنتفا�ضة العامية
7
بدايات
العدد |5ربيع 2013
وجنوب لبنان ،ال�صمود يف وجه حم��اوالت ت�صفية، وردع ال��ع��دوان ،واملحافظة على مقدار من التعبئة ال�شعبية واملعنوية والرمزية .لكن املقاومة تبقى عاجزة، مبفردها ،عن �إحداث تغيري نوعي يف توازن القوى مع الدولة العربية .اال ي�ستدعي ذلك اعادة ادخال اجليو�ش العربية يف املعادلة ومعها كل و�سائل القوة وال�ضغط االقت�صادية وال�سرتاتيجية التي متتلكها املنطقة؟ ومن جهة اخرى ،هل من مكان ودور لآفاق ن�ضال �سيا�سي و�شعبي خالق جديد ،بديال عن املفاو�ضات امل�صدومة لل�سيد االف��ق ،وعن مبادرة ال�سالم العربية املرهونة ّ االمريكي ولأولوية «حماية امن ا�رسائيل»؟ .٤حل الدولة الفل�سطينية امل�ستقلة/الدولة الواحدة. يبدو ك�أنه ل�سان حال ان�صار «الدولة الواحدة» :ملا كنا عاجزين عن حتقيق احلد االدنى فلنقفز للمطالبة باحلد االق�صى. ول��و افرت�ضنا ج��دال �أن �شعار ال��دول��ة الواحدة قابل للتطبيق ،فهل ميكن تطبيقه بغري قرار ا�رسائيلي التاريخية ،ما يعني االطاحة با�ستكمال احتالل فل�سطني َّ الطوعية ب�أ�سا�س امل�رشوع ال�صهيوين القائم على احلفاظ على �أكرثية يهودية كا�سحة يف فل�سطني؟ اي ما يعادل دعوة الدولة ال�صهيونية اىل االنتحار؟ ثم انه من �أبرز احلجج املقدمة دفاع ًا عن حل الدولة الواحدة ان حل الدولتني �سوف يعني التنازل نهائي ًا عن حق هو ّ العودة ،فهل حل الدولة الواحدة �إطار �صالح لتحقيق حق العودة؟ «بدايات» م�ستمرة .وقد ب��د�أت تتوافد مواد العدد ال�ساد�س وفيها ملف عن الثورة امل�رصية وعدة م�ساهمات يف امل�س�ألة الن�سوية .فاىل اللقاء. «بدايات»
8
االحوال الشخصية بني الديين والمدين
�سليمان تقي الدين
12معركة تصحيح االجور يف لبنان: مكاسب رمزية وخاسئر فعلية
حممد زبيب
21ثورة مغدورة؟ االنتفاضة التونسية
ليلى داخلي
8
بدايات
العدد |5ربيع 2013
احلزيب يف المغرب 27الياسر واالحنطاط ّ
عبد الإله بلقزيز
جار جيور 32اليمنٌ :
ب�رشى املقطري
35مقابلة اشملة مع فواز طرابليس عن الثورة واحلرب يف سورية
حممد العطار
يف ثقافة الأديان هناك اختالف من دين �إىل �آخر يف النظرة �إىل الأحوال ال�شخ�صية ،وكذلك بني فرق ومذاهب الدين الواحد ،ف�ض ً ال عن التطور التاريخي الذي غيرّ الكثري من �أ�شكال التعامل مع هذه امل�س�ألة .ولعل �أنظمة الأح��وال ال�شخ�صية الطائفية يف لبنان تعطي �صورة وا�ضحة عن هذه االختالفات التي تخرج معظم الأحكام يدعيها املعمول بها من دائرة الثبات �أو اجلوهرانية التي ّ القيمون على هذه ال�رشائع .ف�إذا نحن �أ�سقطنا التف�صيلية املتباينة باعتبارها �أحكاما ً �صادرة عن �إرادات �إن�سانية متعددة �أنتجتها ،ف�إن ال�شيء الذي يبقى هو احلقوق الأ�صلية املرتبطة ب�شخ�ص الإن�سان الطبيعي. ولعل هذا الواقع يتج�سد بوجود دول ذات ثقافات دينية خمتلفة وقد �أخ��ذت ب�أنظمة �أح��وال �شخ�صية و�ضعية (مدنية) ولو �أنها لي�ست معزولة عن الف�ضاء الثقايف العام لهذه الدول .بل �إن الأ�شخا�ص �أنف�سهم ميكن �أن يخ�ضعوا طوع ًا �أو كره ًا لأنظمة متعددة يف وقت واحد ب�سبب �إرادتهم �أو ب�سبب اكت�سابهم «جن�سيات» �أو «تبعة» دول خمتلفة يف �آن واحد.
األحوال الشخصية بني الديين والمدين يتميز به الإن�سان عن سليمان تقي الدين الأحوال ال�شخ�صية هي جمموعة ما ّ غريه ،من ال�صفات الطبيعية� ،أو العائلية ،التي يرتب عليها مؤرخ وكاتب ،لبنان القانون �أثر ًا يف حياته االجتماعية مثل كون الإن�سان ذكَ ر ًا �أو �أُنثى� ،أو زوج ًا �أو �أرمل �أو مطلق ًا �أو ابن ًا �رشعي ًا� ،أو كونه تام الأهلية �أو ناق�صها ل�صغر ال�سن �أو العته �أو اجلنون� ،أو لكونه مقيدها ب�سبب من الأ�سباب القانونية. مطلق الأهلية �أو ّ التعريف ال�سابق م�ستقى من حكم ملحكمة النق�ض بت�أثري الثقافة الإ�سالمية التي ربطـــــــــــــــــــــــــــت امل�رصية يف ،1934/6/21وقد ا�ستوحته املحكمة من تاريخي ًا بني احلقوق ال�شخ�صيـــــــــــــــــــــــــــــــــة القانون الفرن�سي الذي يعترب الأحوال ال�شخ�صية «احلالة وبع�ض الإلزامات الدينية �صار لأنظمة وقوانني الأحوال والأهلية» فقط� .إال �أنه وبت�أثري الثقافة الإ�سالمية التي ال�شخ�صيـة مفهوم �أو�سع و�أ�شـــــــــــــــــــــــــــــمل ربطت تاريخي ًا بني احلقوق ال�شخ�صية وبع�ض الإلزامات والوقف الدينية ذات الأثر املادي العيني كالإرث والو�صية كيفما كانت �أحكام الأنظمة والقوانني ،فهي ال ت�ستطيع والهبة ،فقد �صار لأنظمة وقوانني الأحوال ال�شخ�صية تبديل الوقائع الطبيعية ك�أن تقول بحياة �شخ�ص �أو وفاته، ال �أو مفهوم �أو�سع و�أ�شمل .هكذا دخل يف منظومة الواجبات ببلوغه �أو عدم بلوغه ،بكونه ذكر ًا �أو �أُنثى� ،أو بكونه عاق ً واحلقوق الطبيعية والعائلية ،ما هو من الأمور املادية ،معتوه ًا �أو جمنون ًا �أو �أي �شيء من هذا القبيل حتى لو �أجازت و�أ�سند �أو متت �إناطة �أمر النظر فيها للمحاكم ال�رشعية من نظام �إىل �آخر التعامل مع هذه «الوقائع الطبيعية» ب�أ�شكال (الدينية) �أو املدنية التي تطبق قوانني و�أنظمة �رشعية. خمتلفة .لذا تن�رصف الأح��وال ال�شخ�صية ،مهما تبدلت وقد �صار �ضمن منظومة الأح��وال ال�شخ�صية عند قوانينها� ،إىل تنظيم حقوقه وواجباته وعالقاته الإن�سانية امل�سلمني ب�صورة خا�صة :اخلطبة ومفاعيلها ،ال��زواج ولي�س ظروفه املادية اخلارجة عن كيان ال�شخ�ص الطبيعي. ومفاعيله و�أحكامه ،الطالق �أو التفريق �أو البطالن ،واملهر �إن كل فل�سفة حقوق الإن�سان انطلقت من هذا واجلهاز (والدوطة) والنفقة واحل�ضانة �أو (احلرا�سة) و�ضم االعتبار القائم بذاته قبل كل ما يطر�أ على هذا الكيان الفتيان والفتيات �أو �أوليائهم و(الرعاية) والن�سب والوالية الإن�ساين ،وال��ذي هو موجود كقيمة مطلقة يف جميع َ والو�صاية والقيمومة والبلوغ والر�شد واحلجر و�أحكام الثقافات الإن�سانية ولو تعاملت معه ب�أ�شكال خمتلفة. املفقود والو�صية و�إثبات الوفاة وانح�صار الإرث وحترير لذا انطلقت فكرة حقوق الإن�سان من كون النا�س الرتكة والوقف اخلريي والذري و�إدارته والقيم والو�صي .يولدون �أحرار ًا ولهم بهذه ال�صفة احلق يف احلياة واحلرية ال متعلقة بحقوق والكرامة وامل�ساواة الخ ...وميكن لأي نظام �أو قانون �أن يوجد �إن الأح��وال ال�شخ�صية هي �أ�ص ً ال�شخ�ص الطبيعي بحالته و�أهليته ،وما يت�صل بها من حقوق �إلزامات للعالقات االجتماعية لكنه يكون مناق�ض ًا لهذا �أو واجبات مادية هو الأثر الثانوي غري الأ�سا�سي .وعلى املعنى �أو لهذه القيمة الإن�سانية� ،إذا جتاوز احلقوق الطبيعية �أو فر�ض وجود �صلة ع�ضوية بني احلق ال�شخ�صي الطبيعي الفطرية� ،أو تلك امل�ستقلة عن ال�رشوط االجتماعية املتغيرّ ة. واحلق العيني املادي ،فللأول قيمة ا�ستثنائية ملت�صقة بحالة هذا ال�شخ�ص و�أهليته وال ميكن باملبد�أ �أن تخ�ضع لأحكام وطوارئ احلقوق املادية� ،إذ � ّإن احلقوق الطبيعية امللت�صقة ب�شخ�ص الإن�سان ال تقبل التنازل عنها ،بينما احلقوق الطارئة واملكت�سبة ميكن الت�رصف بها والتنازل عنها.
10
بدايات
العدد |5ربيع 2013
�ش�ؤون الأحوال ال�شخ�صية لأحكام قانونهم الوطني. وجاء يف املادة :14 �إن الطوائف التابعة للقانون العادي تنظم �ش�ؤونها وتديرها بحرية �ضمن حدود القوانني املدنية. ويف املادة :15ميكن لهذه الطوائف احل�صول على االعرتاف بها... ويف املادة � : 17إن غري املنتمني �إىل �إحدى الطوائف املذكورة �أو غري املنتمني �إىل �إحدى الطوائف الدينية يخ�ضعون للقانون املدين. كما �أن عقود زواج ال�سوريني �أو اللبنانيني التي جتري وفق طق�س �إحدى الطوائف التابعة للقانون العادي املعرتف بها �أو غري املعرتف بها تعترب �صحيحة. ويف املادة � :25إن عقود الزواج يف بلد �أجنبي تكون خا�ضعة للقانون املدين.. بعد هذا القانون تقدمت بع�ض الطوائف ب�أنظمتها اخلا�صة �إىل املجل�س النيابي ال��ذي �صدق عليها، وبع�ضها الآخر مل تقدم �أنظمتها (الطوائف امل�سيحية) �إىل املجل�س النيابي ولكنها اعتربت ،بح�سب قرار ملحكمة التمييز الهيئة العامة (يف 1955/11/11و ،)1962/2/13م�شاريع الأنظمة تلك �سارية املفعول بكل �أحكامها ما دامت ال تخالف النظام العام اللبناين.
�أنظمة الأحوال ال�شخ�صية يف لبنان �أ�صدرت �سلطات االنتداب الفرن�سي القرار 60ل.ر. يف � 12آذار 1936حتت عنوان نظام الطوائف الدينية .جاء يف هذا القرار �أن الطوائف املعرتف بها بني القانون والواقع تقر نظام �أحوال قانون ًا كطوائف ذات نظام �شخ�صي هي الطوائف مل تنظم الدولة طائفة احلق العادي �أو ّ التاريخية التي ُح ّدد تنظيمها وحماكمها و�رشائعها يف �شخ�صية مدني ًا� .إلاّ �أن ذلك مل يلغ تطبيق هذا الن�ص عرب �صك ت�رشيعي (وفق جدول مرفق) (م.)1 املحاكم املدنية العادية. ويكون لأنظمتها مفعول القانون (م� .)2أما التي مل لقد جرى تف�سري هذا الن�ص وتطبيقه جلهة االعرتاف حتدد بعد �أنظمتها فت�ستفيد من هذا االعرتاف (م )3بعد بالعقود التي جتري خارج لبنان فتم �إخ�ضاعها لقانون �أن تعر�ض للفح�ص على ال�سلطة نظامها (م .)4وجاء الدولة التي جرت يف ظل �أحكامه (مكان العقد) ومت تنفيذها يف امل��ادة (( )10املعدلة بالقرار 146تاريخ 18يف لبنان بو�صفها عقود ًا مدنية وخا�ضعة للمحاكم املدنية. ت�رشين الثاين )1938ما يلي :يخ�ضع ال�سوريون �أم��ا �أبناء اجلماعات غري املعرتف بها ،وهي عدة واللبنانيون املنتمون �إىل الطوائف املعرتف بها ذات جماعات خارج الطوائف التاريخية ،فخ�ضعت كذلك يف الأحوال ال�شخ�صية ،لنظام طوائفهم ال�رشعي يف الأمور لبنان �إىل احلق العادي املدين (هناك طوائف لي�س لها املتعلقة بالأحوال ال�شخ�صية ،ولأحكام القانون املدين �أنظمة وحماكم) .لكن مبا �أن اللبنانيني يخ�ضعون لتنظيم يف الأمور غري اخلا�ضعة لهذا النظام. �أحوالهم ال�شخ�صية �إىل �أنظمة الطوائف وعليه يجري قيد يخ�ضع ال�سوريون واللبنانيون املنتمون �إىل طائفة تابعة وثائقهم يف خانة �إحدى الطوائف ،فهم بذلك يخ�ضعون للحق العادي ،وكذلك ال�سوريون واللبنانيون الذين ال لأنظمتها حكم ًا باعتبار �أن القانون نظّ م �ش�ؤونها .وعليه ينتمون لطائفة ما ،للقانون املدين يف الأمور املتعلقة بالأحوال ال يجيز التقليد ال�سائد عقد زواج بني لبناين ولبنانية ال�شخ�صية� ،أما الأجانب ،و�إن كانوا ينتمون �إىل طائفة معرتف غري منتميني �إىل احدى الطوائف �إلاّ وفق �أنظمة الطوائف بها ذات نظام للأحوال ال�شخ�صية ،ف�إنهم يخ�ضعون يف وحتت �سلطة حماكمها .غري �أن ذلك ال مينع قانون ًا االعرتاف
11
بدايات
العدد |5ربيع 2013
بعقد زواج (مدين) �إذا مت بني �شخ�صني ال ينتميان قانون ًا �إىل �أي من الطوائف املعرتف بها قانون ًا. انطالق ًا من هذا احلق ح�صل عقد زواج ن�ضال دروي�ش وخلود �سكرية مدني ًا بعدما تخلّيا عن انتمائهما قانون ًا (�أي يف دوائر الأحوال ال�شخ�صية) لنظام طائفتهما ال�شخ�صي دون �أن يعني ذلك خروجهما من التزامهما الديني او تخليهما عن �إميانهما .لأن العربة يف التعامل القانوين هي يف قيود وثائق الأحوال ال�شخ�صية الر�سمية ال يف ال�ضمائر. وال جدال قانوني ًا يف �صحة هذا الإجراء ،للأ�سباب التالية: ال :لأن الد�ستور اللبناين يعترب حرية املعتقد مطلقة �أو ً وي�ستطيع �أي لبناين الإعالن �أو عدم الإعالن عن هذا االعتقاد� ،سواء �أكان ارتباط ًا بطائفة �أم خروج ًا منها .وقد ت�أكد ذلك يف القانون الذي يبيح تغيري طائفة �أو مذهب �أي لبناين ب�إرادته املنفردة وموافقة املرجع الطائفي �أو الديني الذي يريد االنت�ساب �إىل طائفته �أو دينه �أو مذهبه. ثاني ًا :لأن هناك خانات يف قيود وثائق الأحوال ال�شخ�صية لفئات من غري املنت�سبني �إىل الطوائف املعرتف بها ،وه�ؤالء يخ�ضعون للحق العادي �أو املدين. ثالث ًا :لأن هناك �إقرار ًا قانوني ًا ب�إخ�ضاع العقود اجلارية يف اخلارج ويجري تنفيذها يف لبنان �إىل القانون املدين. لكن ال�س�ؤال الذي يطرح هو التايل� :إذا كانت العقود التي جتري يف اخلارج تخ�ضع لنظام الأحوال ال�شخ�صية الذي تتم يف ظله ،فهي �إذا انعقدت يف لبنان لي�س هناك نظام يحددها .ف�إىل �أي نظام تخ�ضع؟ واجلواب دون تردد هو �أن �أحكام ومفاعيل هذا الزواج تخ�ضع للنظام الذي يختاره ان العقد �رشعة املتعاقدين). طرفا العقد (باعتبار ّ ف�إذا مل يكن ما مينع من تنظيم عقد زواج مدين يف لبنان كما �أ�رشنا �أعاله ،فلي�س من م�س�ؤولية املتعاقدين ق�ص امل�رشع اللبناين عن و�ضع قانون مدين لأحكام �إذا رَّ ومفاعيل هذا العقد .فالأ�صل يف العقد هو احلرية (الرتا�ضي) والأهلية التي يحددها القانون املدين (ثماين ع�رشة �سنة) فيمكن لطريف العقد تنظيمه يف ما بينهما �رشط عدم �إخالله بالنظام العام والآداب العامة� ،أ�سوة ب�رشوط �أي تعاقد مدين �آخر. النظام العام والآداب العامة �إن النظام العام يف دولة تعترب ال�رشيعة الإ�سالمية مرجع ًا �أ�سا�سي ًا للت�رشيع ال يفرت�ض عدم جواز خمالفة �أحكام ال�رشيعة يف العقود التي جتري خارج ال�سيادة الوطنية. ففي القانون الدويل اخلا�ص تخ�ضع العقود ملكان ن�شوئها
12
بدايات
العدد |5ربيع 2013
وتنفيذها يف دولة الإقامة حتى لو خالفت �أحكام ال�رشيعة. وعلى هذا �سار االجتهاد امل�ستقر يف جميع البلدان ،يف لبنان (حيث ال متثل ال�رشيعة م�صدر ًا للت�رشيع) ويف م�رص حيث متثل ال�رشيعة م�صدر ًا �أ�سا�سي ًا للت�رشيع. وقد ق�ضت حمكمة النق�ض امل�رصية مبا يلي :ال يجوز ا�ستبعاد �أحكام القانون الأجنبي الواجبة التطبيق �إلاّ �أن تكون هذه الأحكام خمالفة للنظام العام �أو للآداب العامة يف م�رص ب�أن مت�س كيان الدولة �أو تتعلق مب�صلحة عامة و�أ�سا�سية للجماعة .وال يدخل يف هذا النطاق اختالف �أحكام القانون الأجنبي عن �أحكام القانون الوطني يف حتديد املقدار الذي جتوز الو�صية فيه بالن�سبة �إىل غري امل�سلمني (د .ه�شام �صادق – درا�سات يف القانون الدويل اخلا�ص – �ص – 246 الدار اجلامعية – ط 1981بريوت). من الوا�ضح �أن��ه ي�ستحيل يف وقتنا احلا�رض جعل ال�رشائع الدينية مطلقة ال�صالحية والتنفيذ ،مهما كان ر�أينا فيها� .أ�صبحت معار�ضة اجلماعات الطائفية لإقرار قوانني مدنية للأحوال ال�شخ�صية جمرد تعقيدات تواجه احلريات العامة والفردية ،وتدفع بالنا�س �إىل «التحايل» على هذه الأنظمة �أو املداورة يف جتاوزها� ،أو اللجوء �إىل القوانني غري الوطنية لتجنب اخل�ضوع لها .ويف الواقع العملي نحن �أمام حالة فو�ضى يف احلرية وتع�سف يف تطبيق مبد�أ امل�ساواة. فحيث ميكن لل�شخ�ص من الناحية املادية �أن يرف�ض تطبيق هذه الأنظمة ي�ستطيع ذلك ،بينما ال ي�ستطيع الآخرون.
3ـ تتخذ الدول التدابري الكفيلة بت�ساوي حقوق الزوجني وواجباتهما لدى التزويج وخالل قيام الزوجية ولدى انحالل الزواج وكذلك حماية الأوالد. وقد �ضمنت اتفاقية الق�ضاء على جميع �أ�شكال التمييز �ضد املر�أة� ،إدماج مبد�أ امل�ساواة يف الد�ساتري بني الرجل واملر�أة (م .)1وتعرتف الدول الأطراف للمر�أة بامل�ساواة مع الرجل �أمام القانون (م )15وين�سحب ذلك طبع ًا على ال عن احلقوق الأخرى .لكن هذه �أحكام منح اجلن�سية ف�ض ً احلقوق ال تلغي طبع ًا حرية االعتقاد ،لذا تقوم الدول ب�إقرار قوانني �أحوال �شخ�صية مدنية توفر ال�ضمانات املذكورة وترتك للأ�شخا�ص ان يختاروا� ،إذا رغبوا قوانني طوائفهم. لكن القبول بالأنظمة الطائفية ال يحول دون تطبيق القوانني التي ت�شكل نظام ًا عام ًا للمجتمع .فالأرجحية والأف�ضلية والأولوية هي للقوانني املدنية العامة ولي�ست للقانون اخلا�ص .وعلى الدولة �أن حتمي هذه احلقوق �إذا تعر�ضت لالنتهاك من قبل الأنظمة اخلا�صة وال�سلطات القائمة على تطبيقها. �إن الد�ستور اللبناين �أكد منذ العام 1926يف املادة 9منه �أن الدولة حترتم حقوق الطوائف ،وهي بالتايل التي تنظم هذه احلقوق ولي�ست الطوائف من يدير وينظم الدولة .ثم جاءت مقدمة الد�ستور املعدل عام 1990 ت�ؤكد التزام لبنان ميثاق حقوق الإن�سان واملواثيق امللحقة، و�ألزمت الدولة تطبيقها يف جميع امليادين .ومن الوا�ضح �أن مقدمة الد�ستور جاءت مبثابة �رشعة وطنية ذات قيمة ال �أكرب من مواد الد�ستور العادية �أو �أية قوانني �أخرى ،ف�ض ً عن �أن لبنان ملتزم مبيثاق حقوق الإن�سان والعهد الدويل اخلا�ص باحلقوق املدنية وال�سيا�سية ،الأمر الذي يوجب عليه �إعطاء مفعول جدي لهذه احلقوق.
حقوق الإن�سان ت�شكل �أنظمة الأحوال ال�شخ�صية الطائفية انتهاكات متعددة حلقوق الإن�سان ،فهي ال ت� ّؤمن امل�ساواة بني املواطنني �أمام القانون .وال حترتم املعايري الدولية للق�ضاء العادل لأن مرجعها الق�ضاء اخلا�ص واال�ستثنائي .وال قيودا على حترتم حرية االعتقاد املطلقة لأنها تفر�ض ً بيئات الزواج ،وال احلق يف احلياة وكرامة و�سلطة الإن�سان على ج�سده ،وتن�شئ �أو�ضاع ًا متييزية بني الذكر والأُنثى وتقيد يف احلقوق الطبيعية كما يف احلقوق املادية العينيةّ ، حرية االختيار يف الزواج ومفاعيله و�آثاره. لذا ن�صت ال�رشعة الدولية حلقوق الإن�سان يف املادة 23منها على: 1ـ الأ�رسة هي الوحدة اجلماعية الطبيعية والأ�سا�سية يف املجتمع ،ولها حق التمتع بحماية املجتمع والدولة. 2ـ يكون للرجل واملر�أة ابتدا ًء من بلوغ �سن الزواج، حق معرتف به يف الزواج وت�أ�سي�س �أ�رسة.
القانون املدين يف احلال اللبنانية كثري ًا ما يقال �إن القانون املدين االختياري للأحوال ال�شخ�صية ي�شكل �أحد عناوين معاجلة امل�س�ألة الطائفية .هذا اخلط�أ ال�شائع يجب �إزالته من الأذهان� .إن القانون املدين االختياري يق�صد منه يف هذا الر�أي ت�سهيل عملية الزواج املختلط بني �أبناء الطوائف املتعددة .مل مينع هذا ولن مينع التداعيات الطائفية ،لأن مئات الآالف من اللبنانيني هم يف حالة زواج خمتلط بني الأديان والطوائف واملذاهب ب�رصف النظر عن القانون املدين. ال �شك يف �أن ثقافة االعرتاف الطائفي بالآخر هي بند من بنود املعاجلة �أو �إجراء ب�سيط من �إجراءاتها .كما
13
بدايات
العدد |5ربيع 2013
�أن التعارف واالختالط والأ�رس املختلطة� ..أمور ت�ساعد وال �شك على �إزالة بع�ض الآثار النف�سية حلاالت اجلهل املتبادل و�إنكار امل�ساواة مع الآخر يف حقوق الزواج. كذلك وجود قانون مدين ومرجعيات ق�ضائية مدنية يخفف من �سلطة رجال الدين وت�أثريهم على النا�س من الناحية االجتماعية .فهناك جمهور من النا�س يلتزم تقاليد اجتماعية معينة وي�صبح �أ�سري ًا لها باعتبارها �سلطة عليا ل�سلوكه حتى لو كان غري قابل بالكثري من �أحكامها واعتباراتها. �إال �أن القانون املدين يكت�سب �أهميته بو�صفه ت�أكيد ًا ل�سلطان الدولة و�سيادة ال�شعب ومرجعية الدولة على �أي �سلطة �أو مرجعية �أخرى وهو ما ميثل ثقافة حمائية ل�سلوك املواطن .ففي هذا الإج��راء اع�تراف بالعالقة املبا�رشة بني املواطن والدولة وتعزيز حلقوق املواطنة على ح�ساب مفهوم رعايا الطوائف. ال لقلب املعادلة القائمة الآن وميثل هذا الإجراء مدخ ً وي�ستمدون حقوقهم على اعتبار الأفراد رعايا يف طوائفهم ّ من حقوقها يف نظام �شامل يت�أكد يف التمثيل ال�سيا�سي وامل�شاركة يف احلياة العامة ،ويف الوظيفة ،وقد ميتد �أحيانا ً �إىل املهنة وجمال العمل .ويف تقدير دعاة القانون املدين االختياري �أو ال�شامل� ،أن وجود كتلة ب�رشية وازنة من غري امل�رصحني عن هويتهم الدينية والطائفية يفر�ض اجتاه ًا معاك�س ًا ملنطق التمثيل ال�سيا�سي الطائفي ويفر�ض ال من علمنة ال�سيا�سة �ضد نظام التمييز والرتاتب �شك ً الطائفي ،وهذا �أمر م�ؤكد و�صحيح. ال يبحث ه�ؤالء عن �صيغة لتكوين طائفة �إ�ضافية م�ستقلة هي طائفة احلق املدين ،بل يريدون �إظهار تناق�ض النظام الطائفي و�أزمته و�رضورة �إبراز الوجه املواطني للبنانيني. فحتى القانون االختياري (غري االلزامي وغري ال�شامل) يخلق كتلة �ضاغطة يف �سبيل تفكيك املنظومات الطائفية التي طغت على احلياة الوطنية ،وجعلت من كل حقوق وحريات الأف��راد جزء ًا من متا�سكها و�صادرت بالتايل احلرية الفردية حل�ساب الوالء الطائفي. ولقد ثبت معنا �أن امل�س�ألة الأ�سا�سية هي موازين القوى يف املجتمع ولي�ست الن�صو�ص ،لأن الن�صو�ص اللبنانية العامة (الد�ستور) �أو اخلا�صة (قانون قيد وقوعات الأحوال ال�شخ�صية و�أحكامها) ت�سمح بو�ضوح ب�إقرار الزواج املدين بني كل الراغبني وميكن اعتبار هذا العقد مبثابة تنازل وا�ضح و�رصيح عن االلتزام بقوانني الأحوال ال�شخ�صية الطائفية. لذا يقت�ضي �أن تنظم الدولة هذا احلق وال �شيء �آخر.
هذه الريوع مئات ماليني الدوالرات �سنوي ًا الناجتة من العامة احتالل نحو 10ماليني مرت مربع من الأمالك ّ على ال�شاطئ والبحر. مل تكن هذه اجلولة حم�صورة مبطالب املعلّمني واملوظفني مهم ًا يف �إدارات الدولة واجلي�ش و�إمنا كانت �أي�ض ًا ف�ص ً ال ّ من ف�صول ال�رصاع على �سبل متويل العجز املتنامي يف املوازنة «االفرتا�ضية» للدولة يف ظل عدم �إقرار �أي قانون لها منذ عام .2006فت�صحيح ال�سل�سلة وزيادة غالء املعي�شة لن ير ّتبا �إنفاق ًا �إ�ضافي ًا �إلاّ بقيمة 868مليار لرية يف هذا العام ،يف حني �أن الإنفاق العام الإجمايل ارتفع من 17.6الف مليار لرية يف عام 2011اىل 20 ويقدر � ْأن يبلغ � 22ألف الف مليار لرية يف عام 2012 ّ مليار لرية يف هذا العام ،بينما جممل الإيرادات ال�رضيبية وغري ال�رضيبية املحققة يف نهاية العام املا�ضي يبلغ 14 �ألف مليار لرية ،ما يعني � ّأن هناك حاج ًة لت�أمني متويل 8 �آالف مليار لرية يف هذا العام ولي�س فقط 868مليار لرية ،وهذا غري متاح يف الأو�ضاع القائمة �إال من خالل طبع النقد ،وهذا ال ين�سجم مع �أهداف ال�سيا�سة النقدية املعتمدة يف لبنان ولذلك هو م�ستبعد حالي ًا� ،أو من خالل زيادة اال�ستدانة �أو زيادة ال�رضائب ،وهنا بيت الق�صيد. ما يح�صل يف ظل هذه «احلاجة» � ّأن الظروف ت�صبح العامة� ،إال �أن م�ؤاتية لإحداث تعديالت يف ال�سيا�سات ّ طبيعة هذه التعديالت وحجمها يخ�ضعان بال�رضورة مليزان القوى القائم ،والوا�ضح جد ًا �أنه ال يزال مييل كثري ًا لناحية تكتالت امل�صالح الريعية ،ال �سيما يف امل�صارف والعقارات العامة و�شبكات التهريب� .صحيح واالحتكارات والأمالك ّ كقوة مقابلة من �أن هيئة التن�سيق النقابية طرحت نف�سها ّ خالل خطابها الداعي اىل فر�ض ال�رضائب على الريوع العامة ومكافحة وجباية الغرامات على احتالل الأمالك ّ والتهرب ال�رضيبي� ،إال �أنها مل تخ�ض هذه املعركة التهريب ّ فعلي ًا ،نظر ًا لنوعية متثيلها الفئوي املح�صور يف القطاع العام والتعليم ،وعدم قدرتها على تو�سيع قاعدة متثيلها يف ظل االنهيار �شبه التام للعمل النقابي يف القطاع اخلا�ص. كان مربر ًا لهيئة التن�سيق النقابية �أن ترفع مطلب ًا وحيد ًا هو �إحالة م�رشوع ال�سل�سلة على جمل�س النواب ،ولكن ال التحركات ال�ضاغطة حول بد من الإقرار �أي�ض ًا ب�أن متحور ّ هذا املطلب وعدم وجود قوى �أخرى جاهزة لالنخراط يف التحركات ورفع �سقف املطالب� ،سمح لأمور كثرية �أن هذه ّ جتمع �أ�صحاب الر�ساميل من حتقيق حت�صل بهدف متكني ّ مكوناته. م�صالح ت�صيب أن � ميكن تعديالت �أهدافه ومنع �أي ّ
معركة تصحيح االجور يف لبنان مكاسب رمزية وخاسئر فعلية
حممد زبيب صحايف وناشط اجتماعي، لبنان
� ...إال ارباح امل�رصفيني والعقاريني! «هيئة التن�سيق النقابية» ،مهما كانت مطالبها ونتائج حتركها ،م ّثلت عالمة فارقة بو�ضوح عن امل�شهد العام القائم ّ واحتماالته ،ورمبا كانت مبثابة مفاج�أة حقيقية ،ال �سيما يف اعت�صامها االخري على طريق بعبدا عندما جنحت يف ال�صمود واملحافظة على وحدتها على الرغم من ال�ضغوط جد ًا التي املرة االوىل منذ فرتة طويلة ّ الهائلة ،لقد كانت ّ عمالية بتجاوز ال�ضغوط الهائلة تنجح فيها حركة نقابية ّ التي مار�سها رئي�س جمل�س النواب نبيه بري لإعالن تعليق هذا االعت�صام من عني التينة ع�شية جل�سة جمل�س الوزراء ال�شهرية يف � 21آذار املا�ضي ،اي اجلل�سة التي ّمت فيها، وبالتزامن ،فرط احلكومة با�ستقالة رئي�سها واتخاذ القرار جمدد ًا ب�إحالة م�رشوع ت�صحيح �سل�سلة الرتب والرواتب ّ ال. على جمل�س النواب «املعطل» �أ�ص ً ك�سبت هيئة التن�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيق النقابية معنوي ًا ب�صمودهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا واالحت�ضان الوا�سع لهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا و�أك�سبت بع�ض الفئات االجتماعيـــــــــــــــــــــــــــة الكثري من املعنويـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات، لكن هذه اجلولة ربحهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا جمدداً تكتل ا�صحاب الر�ســــــــــــــــــــــــــــــــاميل يف الواقع ،ال يزال م�رشوع ال�سل�سلة معلّق ًا ،والهيئة مل حتقق مطلبها فعلي ًا ،بل �إن ا�ضطرار جمل�س الوزراء �إىل اتخاذ خطوة تتيح للهيئة تعليق �إ�رضابها املفتوح ملدة تتجاوز ال�شهر ،كان ينطوي على خداع بعد �صموده ّ كبري� ،إذ �إن ت�أخري �إحالة امل�رشوع على جمل�س النواب منذ ايلول املا�ضي و�إع�لان الإف��راج عنه مع ا�ستقالة
14
بدايات
العدد |5ربيع 2013
احلكومة وع�شية انتهاء والية جمل�س النواب نف�سه ،هي افعال بدت مق�صودة بهدف و�ضع امل�رشوع يف مرتبة �أدنى من مرتبة ت�شكيل احلكومة اجلديدة والتوافق على قانون االنتخاب �أو التمديد و�إعادة بع�ض االنتظام اىل ال. عمل امل�ؤ�س�سات الد�ستورية ...اي تركه م�ؤج ً ك�سبت هيئة التن�سيق النقابية معنوي ًا ب�صمودها واالحت�ضان الوا�سع لها و�أك�سبت بع�ض الفئات االجتماعية الكثري من املعنويات ،لكن للأ�سف ،هذه اجلولة ربحها جمدد ًا تكتل ا�صحاب الر�ساميل ،الذي ا�ستطاع حتى الآن فر�ض كل �رشوطه ،فت�صحيح ميول من ال�رضائب على ارباح امل�صارف ال�سل�سلة لن ّ والفوائد واال�سهم واالرباح العقارية ،بح�سب ما قرره بحجة التمويل جرى تكري�س منافع جمل�س الوزراء ،بل ّ التجمع من خالل خف�ض مكونات هذا هائلة لبع�ض ّ ّ العامة البحرية من 5 الغرامات على احتالل االمالك ّ ا�ضعاف الر�سم الذي ي�سدده �صاحب الرتخي�ص اىل �ضعف واح��د ،وكذلك ال�سماح ا�ستثنائي ًا لل�رشكات واالف���راد ب��إع��ادة تقييم قيمة �أ�صولهم من اال�سهم والعقارات ب�رضيبة خمفو�ضة ت�تراوح ما بني %1.5 و( %3تبع ًا للحاالت) وذلك قبل البدء بتطبيق �رضيبة جديدة على �إيرادات البيوعات العقارية التي ُحددت أعفيت منها ال�رشكات املكلّفة ب�رضيبة بـ %15فقط و� َ الدخل (عملي ًا معظم املتاجرين بالعقارات). امل�رصح اجلدير باال�شارة �أن قيمة البيوعات العقارية ّ عنها يف عام ،2012وبح�سب اح�صاءات وزارة املال، بلغت نحو 9.5مليارات دوالر ،وعلى فر�ضية �أن ثلث البيوعات فقط ال يتم الت�رصيح عنها ،ميكن تقدير قيمة البيوعات العقارية ب�أكرث من 13مليار دوالر ،ن�صفها على الأقلّ �أرباح غري خا�ضعة لأي �رضيبة .وي�ضاف �إىل
15
بدايات
العدد |5ربيع 2013
امل�رصف املركزي« :الأمر يل» بتاريخ ،2013/1/14قرر م�رصف لبنان ،مبوجب ي�ضخ نحو 2200 التعميم الو�سيط رقم � ،363أن ّ مليار لرية من �أمواله يف امل�صارف بفائدة ال تتجاوز .%1 حجته للقيام بهذا العمل «الكبري» هي �إعادة حتفيز النمو ّ احلجة �ست�ستفيد امل�صارف ممّا بهذه ولكن االقت�صادي، ّ ال يقلّ عن 70مليون دوالر �أرباح ًا �إ�ضافية جتنيها هذا العام من خالل �إعادة توظيف هذه املبالغ عرب قرو�ض لزبائنها بفائدة ت�صل اىل .%5.5 لي�س هذا فح�سب ،جرى تخ�صي�ص %60من هذه املبالغ لتمويل القرو�ض ال�سكنية امل�صممة خلدمة العر�ض كما هو قائم� ،أي من دون الت�أثري على نوعيته و�أ�سعاره واجتاهاته! وبالتايل جرى بهذه الطريقة دعم ال من تغرميها ،ومت تفادي تعري�ض امل�ضاربات العقارية بد ً بع�ض زبائن امل�صارف من امل�ضاربني للخ�سائر. تدخل يف قد يبدو للوهلة االوىل � ّأن م�رصف لبنان ّ هذا التوقيت ال�ستباق مفاعيل ت�صحيح �سل�سلة الرتب والرواتب ،ال �سيما �أنه جاء على وقع تهويل ّ منظم بوجود جدية على ثبات �سعر ال�رصف واجتاهات و�شيكة خماطر ّ نحو ت�سجيل منو �سلبي للناجت املحلي االجمايل وانهيار وا�سع مل�ؤ�س�سات �صناعية وجتارية و�سياحية ،وبالتايل جرى التلويح بارتفاع الفوائد وزيادة العجز يف املوازنة وزيادة العامة ...مت �إيقاظ كل تلك املخاوف دفعة واحدة املديونية ّ «ت�رسع» يف ايلول �وزراء � ال جمل�س أن � بذريعة وفج�أة، ّ املا�ضي ب�إقرار م�رشوع قانون م� ّؤجل طيلة 15عاماً. بب�ساطة� ،ضخ م�رصف لبنان 2200مليار لرية من املال العام لدعم �أرباح امل�صارف وامل�ضاربني العقاريني وبع�ض امل�ؤ�س�سات التجارية ،يف الوقت الذي كان فيه جتمع �أ�صحاب الر�ساميل يحذّر من � ّأن نقل 1500مليار ّ العامة اىل مداخيل نحو 250 املوازنة عرب ا �سنوي لرية ً ّ ّ وموظف و�أجري ومتعاقد ومتقاعد ،ي�شكّ لون ثلث الف معلم العاملني ب�أجر� ،ستكون كارثة حقيقية! �أين م�صالح التجار؟ ُيفرت�ض �ألاّ يثري ت�صحيح الأجور بعد جتميدها منذ عام 1996كل هذه املخاطر .وال عالقة لذلك باملعار�ضة التقليدية التي يبديها الر�أ�سماليون ،فمعار�ضتهم لي�ست العن�رص احلا�سم يف اتخاذ القرار عندما يتعلق الأمر بح�سابات �أو�سع ترمي اىل ت�أمني ربح اجمايل يف اقت�صاد ال�سوق� ،أو املفا�ضلة بني امل�صالح تبع ًا مليزان القوى.
فالأجر لي�س عن�رص «كلفة» يف ح�سابات كل م�ؤ�س�سة فح�سب ،و�إمنا هو القناة الرئي�سة لتمويل ا�ستهالك ال�سلع واخلدمات القابلة وغري القابلة للتبادل املنتجة حملي ًا �أو امل�ستوردة .مبعنى � ّأن ت�صحيح الأجور يف القطاع اخلا�ص �أو يف القطاع العام ي� ّؤدي اىل زيادة الطلب اال�ستهالكي، وبالتايل لن ي�ؤ ّثر �سلب ًا على �أكرثية امل�ؤ�س�سات ال�صناعية والتجارية واخلدمية املختلفة ،حتى ولو ترافق الت�صحيح الت�ضخم �أو زيادة ال�رضائب ،ففي هذه احلالة تكون مع ّ امل�ؤ�س�سات قد ّ غطت «الكلفة» من زيادة الأ�سعار �أو زيادة الإنتاجية ،وهذا ميكن �أن يزيد من �أرباح الكثري من هذه امل�ؤ�س�سات ولي�س العك�س ،وال �سيما يف ظل �سوق خا�ضع لالحتكارات والكارتيالت. يف احل��ال��ة اللبنانية ال��واق��ع��ي��ة ،حيث ت�سيطر وتدر �أرباح ًا االحتكارات على ن�صف املبيعات تقريب ًا ّ قدرها البنك الدويل عام 2006بنحو %16من ريعية ّ الناجت املحلي� ،أي ما ي�ساوي اليوم �أكرث من 7مليارات ال للحاجة دوالر �سنوي ًا ،تبدو ح�سابات «ال�سوق» �أكرث مي ً �إىل ت�صحيح الأجور ،لأنها معززة �أي�ض ًا بوقائع �إ�ضافية «ظرفية» �أو «طارئة» ،فالأو�ضاع ال�سائدة يف لبنان واملنطقة عموم ًا �أ�سفرت عن تراجع الطلب اخلارجي
كان ال بد من الر�ضوخ يف النهاية ملطلب هيئة التن�سيق النقابية ب�إحالة م�رشوع ال�سل�سلة اىل جمل�س النواب فال جتمع �أ�صحاب الر�ساميل � ّأن بد يف املقابل من �أن ي�ضمن ّ م�صاحله م�صونة .وهو جنح يف حتقيق ذلك.
احلا�سمة التي كانت تفر�ض االن�ضباط على الالعبني الرئي�سيني ،وهو ما ا�ضطر التجمع الذي ينتحل �صفة «الهيئات االقت�صادية» اىل ت�سلّم الد ّفة من جمل�س الوزراء (الذي ُيفرت�ض �أنه مي ّثل م�صاحله) و�إعالن «الأمر يل» ملنع �إحالة م�رشوع ال�سل�سلة اىل جمل�س النواب منذ �إقراره يف ايلول املا�ضي ،وكان الرهان يقوم بو�ضوح على ا�ستخدام �صناعة «القلق» املعتادة لإيهام فئات وا�سعة ب�أن م�صاحلهم ّ واملوظفني يف الدولة التي تتعار�ض مع م�صالح فئة املعلّمني وجت�سد ال�صور النمطية عن ت�صور دائما ً على �أنها طفيلية َّ ّ الف�ساد والبطالة املق ّنعة والعبء الفائ�ض .وبالتايل كان الهدف عزل هيئة التن�سيق النقابية التي مت ّثل هذه الفئة و�إ�ضعافها متهيد ًا لإخ�ضاعها وزعزعة وحدتها و�ضع�ضعة قاعدتها� ،إال � ّأن ما ح�صل الحق ًا مل يكن متو ّقع ًا ،فهيئة التن�سيق كانت قد ن ّفذت يف عام ،2012باال�ستناد العمال اىل التقرير ال�سنوي للمر�صد اللبناين حلقوق ّ واملوظفني� 14 ،إ�رضاب ًا و 60اعت�صام ًا و 4تظاهرات حا�شدة وم�ؤمترين نقابيني ومقاطعة لالمتحانات الر�سمية... ومل يظهر عليها الوهن بل ظهرت موجة تفاعل الفتة جتمع �أ�صحاب مع خطابها «ال�صدامي» الذي تب ّنته �ضد ّ الر�ساميل مبا�رشة ،وهو ما �سمح لها بتنفيذ �إ�رضاب
�أرباح متويل عجز اخلزينة تدخل يف هذا الوقت لبنان م�رصف يبدو االعتقاد � ّأن ّ لدعم �أرب���اح امل�صارف فقط مفرط ًا يف التب�سيط، خ�صو�ص ًا � ّأن م�رصف لبنان مل يتوقف يوم ًا عن توفري ال عن هذا النوع من الدعم وفق �آليات �أخرى كثرية ،ف�ض ً امل�رصح عنها ارتفعت من �أن �أرباح امل�صارف ال�صافية ّ 1580مليون دوالر يف عام 2011اىل 1620 يقول تقرير جديد �صـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادر اخريا عن البنك الدولــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي ان االقت�صاد اللبنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاين يحتاج اىل ت�أمني وظـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــائف اكرث ب�ستة ا�ضعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاف من الوظـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــائف التي يو ّفرها حاليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا مليون دوالر يف عام ،2012وهي� ،أي امل�صارف ،ال ال خطر تراجع �أرباحها حتى وفق ًا لأ�سو�أ تواجه �أ�ص ً �سيناريوهات «االنهيار» امل�شاعة .فزيادة املديونية التي ت� ّؤدي اىل رفع الفوائد ت�سعد امل�صارف حق ًا ،وهي لي�ست �صادقة �أبد ًا عندما تبدي قلقها يف هذا املجال لأنها فعلي ًا تدر على ا�صحابها وامل�ساهمني وكبار ال تقوم ب�أي وظيفة ّ املودعني كل هذه الريوع الطائلة �إال وظيفة �شفط املال العام .امل�صارف ،بجردة �رسيعة ،حتمل �سندات خزينة بقيمة 46930مليار لرية ،منها 27211مليار لرية ّ موظفة يف �سندات باللرية بفائدة تبلغ ،%6.58 و 19720مليار لرية يف �سندات بالعمالت االجنبية بفائدة تبلغ ،%7.18وهي ّ توظف 23073مليار لرية يف �شهادات الإيداع التي ُي�صدرها م�رصف لبنان المت�صا�ص �سيولتها الفائ�ضة بكلفة تبلغ ،%9.28 وت�ضع ودائع لديه بقيمة ت�صل اىل 79179مليار لرية بفائدة تبلغ .%2.75وباال�ستناد اىل هذه املعطيات العلنية ال�صادرة عن «جمعية م�صارف لبنان» ميكن بب�ساطة االنتباه اىل � ّأن امل�صارف حت�صل على ريوع بقيمة ال تقل عن 7525مليار لرية �سنوي ًا من املال العام عرب
هيئة التن�سيق النقابية طرحت نف�سهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا كقوة مقابلة من خالل خطابهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا ّ الداعي اىل فر�ض ال�رضائب على الريوع وجبايــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة العامــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة لغرامات على احتالل االمالك ّ والتهرب ال�ضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــريبي ومكافحة التهريب ّ ال�سياح واللبنانيني الناجت ب�شكل خا�ص من انفاق ّ املقيمني يف اخلارج و�رشاء العقارات املبنية والت�صدير عرب الرب ...وبالتايل يحتاج االقت�صاد وم�ؤ�س�ساته ب�إحلاح اىل تعوي�ض هذا الرتاجع عرب حتفيز الطلب املحلي، جدية ،وهذا متام ًا ما برر و�إلاّ ف�ستكون هناك م�شكّ الت ّ بالتدخل عرب �ضخ الت�سليفات به م�رصف لبنان خطوته ّ املدعومة اىل امل�صارف ومنها اىل الزبائن .لقد قام جتمع ا�صحاب الر�ساميل بـ»العمل» نف�سه الذي يبذل ّ كل مقاومة ميتلكها ملنع القيام به عرب ت�صحيح االجور و�سل�سلة الرتب والرواتب! تدخل م�رصف لبنان يف هذا ي�صعب التعامل مع ّ عما كان يح�صل على «اجلبهة» ،فالنظام التوقيت مبعزل ّ املتحكّ مني به وغياب «الو�صاية» مرتبك بفعل �رصاعات
16
بدايات
العدد |5ربيع 2013
مفتوح ا�ستمر �أكرث من �شهر و�شمل معظم �إدارات الدولة. م�ستعد ًا كفاية لهذا جتمع �أ�صحاب الر�ساميل ّ مل يكن ّ ال�سياق ،اعتقد يف البداية �أنه �سيواجه جولة �أ�صعب ال من جولة ت�صحيح الأج��ور يف القطاع اخلا�ص قلي ً التي مت فيها �إخ�ضاع االحتاد العمايل العام مل�شيئته. حترك ًا نقابي ًا حقيقي ًا قادر ًا على التفلّت ا�ستبعد �أن يواجه ّ من قب�ضة الزعامات ال�سيا�سية ...عندما بد�أت ال�صورة تتو�ضح يف �أواخر العام املا�ضي� ،سارع م�رصف لبنان ّ جتمع �أ�صحاب الر�ساميل� ،إذ �إن �ضخ اىل ّ التدخل ل�صالح ّ التجمع مزيد ًا من الوقت ال�سيولة يف ال�سوق �سيمنح هذا ّ مكوناته املختلفة بتو�سيع مروحة قبل �أن تبد�أ م�صالح ّ اخليارات على امل�ستوى ال�سيا�سي ،يف جمل�س الوزراء �أو يف جمل�س النواب .الوقت كان ي�شكّ ل هدف ًا ثمين ًا ،ف�إذا
17
بدايات
العدد |5ربيع 2013
متويل العجز يف املوازنة ومراكمة اخل�سائر يف ميزانية م�رصف لبنان! ما يعني �أن الفوائد التي ُتعترب اليوم �أداة �إعادة التوزيع الرئي�سة امل�ستعملة لزيادة تركّ ز الرثوة منوها وتراكمها ،ينتج ّ مبعدالت �أ�رسع و�أكرب بكثري من ّ جزء مهم منها عرب افتعال ال�ضغوط املالية والنقدية التي تتحملها ت� ّؤدي اىل تربير رفع �أ�سعار الفائدة� ،سواء التي ّ يتحملها م�رصف لبنان املوازنة لتغطية العجز �أو التي ّ ل�ضمان ا�ستمرار تثبيت �سعر ال�رصف يف ظل دولرة جد ًا وتكاد تكون �شبه �شاملة. مرتفعة ّ كذلك ،ال تعاين امل�صارف اللبنانية من نق�ص تدخل م�رصف لبنان� ،إذ تفيد يف ال�سيولة ي�ستدعي ّ الإح�صاءات املعلنة حتى نهاية العام املا�ضي ب�أن قيمة ال�سيولة التي بحوزتها تبلغ نحو 44.4مليار دوالر، ومبا �أنها غري ملزمة باالحتفاظ ب�أكرث من %30من ودائعها� ،أي نحو 38.1مليار دوالر ،فهذا يعني � ّأن ال�سيولة الفائ�ضة لديها والقابلة للتوظيف فور ًا تبلغ 6.3مليارات دوالر .وبالتايل كان يجب �أن ُترتك لتقوم بوظيفتها يف متويل القرو�ض للزبائن ب�أكالف مقبولة منهم ال �أن يقوم م�رصف لبنان بهذه الوظيفة عنها. عجز عن خلق وظائف جديدة ي��درك الالعبون الرئي�سيون �أن ت�صحيح الأج��ور �سيح�صل و�سيتكرر ،لي�س فقط لأن هيئة التن�سيق قادرة على ا�ستئناف �ضغوطها حتت هذا العنوان ،بل �أي�ض ًا لأن النموذج االقت�صادي املرتكز كثري ًا على التدفقات اخلارجية لزيادة الودائع ومتويل العجز واال�ستهالك بات حتت �ضغوط هائلة� ،أوال ً ب�سبب نتائجه ال�سلبية الوا�ضحة على �سوق العمل ،وال �سيما على �صعيد ارتفاع البطالة بني ال�شباب اىل �أكرث من ،%34ثم ب�سبب الأو�ضاع القائمة يف املنطقة العربية واملتغريات التي تفر�ضها ،وال �سيما على الدور الذي انغم�س فيه لبنان خلدمة اقت�صاد �إقليمي ريعي مل يعد يحتاج �إليه �إال يف جماالت هام�شية وم�رضة ،تت�ضمن اخلدمات ال�سيا�سية والنفعية وخدمات ّ تبيي�ض االموال ...يقول تقرير جديد �صدر �أخري ًا عن البنك الدويل بعنوان «احلاجة اىل توفري وظائف منا�سبة» �إن االقت�صاد اللبناين يحتاج �إىل ت�أمني وظائف �أكرث ب�ستة �أ�ضعاف من الوظائف التي يو ّفرها حالي ًا ،وذلك على الرغم من �ضعف امل�شاركة االقت�صادية� ،إذ �إن %47فقط من الذين يف �سن العمل ين�شطون فعلي ًا ،وعلى الرغم من الهجرة التي و�صل ر�صيدها يف العقدين املا�ضيني
�إىل �أكرث من 400الف مهاجر� ،أكرثيتهم من العمالة ب�شدة ويخلق توترات املاهرة .لقد بد�أ هذا الواقع ي�ضغط ّ ميت�صها االنق�سام ال�سيا�سي واال�صطفاف املذهبي حتى ّ الآن ،فاالقت�صاد فعلي ًا ال يو ّفر فر�ص العمل املطلوبة وب�أجور مقبولة ،ويرمي ب�أكرث من %50من القوى العاملة يف ن�شاطات غري نظامية يفتقرون فيها �إىل �أي نوع من �أنواع احلماية .لقد منا الناجت املحلي الإجمايل
و�رشوطه �شبه التعجيزية لفئات وا�سعة من العمالة غري املاهرة وفئات من فائ�ض العمالة املاهرة التي تواجه جدية يف احل�صول على الوظائف املتنا�سبة �صعوبات ّ مع التخ�ص�ص �أو احل�صول على الأجور التي تعتربها منا�سبة �أو مقبولة� ،سواء يف القطاع العام �أو يف �رشكات القطاع اخلا�ص �أو يف العمل للح�ساب اخلا�ص (متخرجو اجلامعة اللبنانية مثالً).
�إن ن�سبة ال َأجراء النظــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاميني تدنّت اىل %29فقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــط من القوى العاملـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة، ن�صفهم تقريبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ًـا يعملون يف �إدارات الدولة وم�ؤ�س�ساتهــــــــــــــــــــــا
«الدولة تاجر فا�شل» يف حالتها القائمة ،مل تعد الدولة قادرة على ا�ستيعاب املزيد من «عمالة» ال حتتاج �إليها ،ففي ذروة اجلنوح �إىل توزيع الدولة كغنائم بعد احلرب كان ي�صار �إىل اال�ستعا�ضة عن مهام كثرية ت� ّؤديها الدولة ب�أخرى ت� ّؤديها ال�رشكات اخلا�صة ،وكان ذلك يفر�ض تدمري العامة تدمري ًا منهجي ًا لتربير عجزها عن القيام الإدارة ّ مبهامها .فجرى ترويج و�صف للدولة على �أنها «تاجر ال وا�سع ًا ،وجرى فا�شل» ،وقد القى هذا الو�صف �إقبا ً الت�شكيك بقدرة الدولة على �إدارة وت�شغيل و�صيانة مرافق االت�صاالت والكهرباء واملياه والنقل ومباين ال��وزارات وم�ؤ�س�سات اال�ست�شفاء والتعليم وجمع النفايات ومعاجلتها ،وتنفيذ الأبحاث العلمية و�إقامة املختربات وتخطيط املدن والطرقات و�إن�شاءات البنى العامة من التحتية .لقد ُمنعت الإدارات وامل�ؤ�س�سات ّ تلبية حاجاتها الفعلية ملعاجلة ال�شغور يف مالكاتها ومت ملء جزء من هذا ال�شغور عرب �صيغ التوظيف امل�ؤقتة ومقدمو (� َأج��راء ومتعاقدون وميامون �أو م�ست�شارون ّ خدمات) ،ويف الوقت نف�سه مت نقل اكرثية املهام التي ميكن �أن حتتاج اىل عمالة من هذا النوع �إىل �رشكات من خارج القطاع العام ،وبع�ضها يعتمد على عمالة ال و«النقل اجنبية كثيفة («�سوكلني» و� َأخواتها مث ً امل�شرتك» و�أعمال ت�شغيل و�صيانة معامل الكهرباء وخدمة املباين احلكومية واجلامعة اللبنانية واملواقع الطبيعية والأثرية ..و�آخرها خدمات توزيع الكهرباء املح�صلة� ،ساهم هذا التالزم ،يف ظل واجلباية) .يف ّ املنحى الريعي لالقت�صاد ،يف املزيد من الت�شويه ل�سوق العمل وبنية الأجور فيه و�شجع على التفلّت من تطبيق قوانني العمل وال�ضمان االجتماعي� .إذ يجدر االنتباه اىل �أن ن�سبة الأجراء النظاميني تد ّنت اىل %29فقط من القوى العاملة ،ن�صفهم تقريب ًا يعملون يف �إدارات الدولة وم�ؤ�س�ساتها .وهذا م�ؤ�رش �سلبي بكل املقايي�س
معدل الت�شغيل مل مبتو�سط �سنوي يبلغ � ،%3.7إلاّ � ّأن ّ يرتفع �إال مبقدار %1.1فقط ،وهناك %50من اللبنانيني من دون �ضمان �صحي و %75من دون �ضمان �شيخوخة. ال �شك يف �أن ه��ذه امل ��ؤ��ّش رّ ات �ضاغطة بذاتها، وهي لي�ست جمرد �أرقام ،فال�صيغ ال�سابقة المت�صا�ص �ضغوط �سوق العمل مل تعد قابلة لال�ستدامة ،وال �سيما اعتمدت يف امل�ؤ�س�سات �صيغ التوظيف امللتوية التي ُ العامة والبلديات و�إدارات الدولة ومدار�سها وجامعتها ّ و�أ�سالكها الدبلوما�سية والق�ضائية والأمنية والع�سكرية، �إذ لي�س هناك جدل حول حقيقة � ّأن القوى ال�سيا�سية امل�سيطرة ت�سابقت على �رشاء الوالءات من جماعاتها عرب حتويل وظيفة الدولة �إىل �أداة «توزيع» �ضخمة. للأ�سف هذا ي�شمل «�أجور ًا» و»�إنفاق ًا اجتماعي ًا» ،لكنه ي�شمل �أي�ض ًا «دعم ًا» و»فوائد» ،مبعنى � ّأن ما جرى يف الع�رشين �سنة املا�ضية من تركيز �إ�ضايف هائل للرثوة، وم�صدره الأ�سا�سي ريوع الدولة املعبرّ عنها باملديونية العامة القيا�سية (نحو 70مليار دوالر مبا فيها ديون ّ م�رصف لبنان) ،ما كان لينجح لو مل تواكبه �أمور كثرية، منها امت�صا�ص جزء من منو البطالة بني ال�شباب و�ضبط التوترات االجتماعية و�إطفاء احلاالت النافرة منها. كان ّ مكونات ما مكون ًا �أ�سا�سي ًا من ّ موظفو الدولة ّ ي�سمى بالطبقة الو�سطى �سابق ًا ،فالوظيفة يف الدولة عدة :احل�صانة ومعا�ش التقاعد كانت جتمع بني مغريات ّ ال عن وال�ضمان ال�صحي بعد التقاعد والأج��ر ،ف�ض ً ال .غري � ّأن هذه «االنتفاع» ملن ا�ستطاع �إليه �سبي ً حتولت اليوم �إىل مالذ من جحيم �سوق العمل «الوظيفة» ّ
20
بدايات
العدد |5ربيع 2013
حترك ًا �رسيع ًا حر�ص ًا على قواعد دميومة وبات ي�ستدعي ّ أي�ضا ال عالقة لذلك مبواقف الر�أ�سماليني الذين النظام .و� ً ال يرون م�شكلة يف التعامل مع اقت�صاد ال يحتاج ليعمل اىل «�شعب» .يف الواقع ال ميكن ا�ستبدال كل ال�شعب وال ميكن �رشاء والءات كل من ال ميكن ا�ستبداله ،لي�س هكذا ت�سري االمور عادة ،فلم تبلغ الرا�سمالية بعد هذه املرتبة من «الكفاءة» ،الذي يتمناه ر�أ�سماليو لبنان� ،إال �إذا كانوا يحلمون بالو�صول �إليها عرب التطور جمدد ًا الرق اىل حكم جتربة الواليات املتحدة يف من نظام ّ ا�ستبدال ال�سكان اال�صليني. العمالة الرخي�صة لي�س وا�ضح ًا عدد املقيمني يف لبنان غري اللبنانيني ،لي�س املق�صود هنا الفل�سطينيني ،وهم �أبرز �ضحايا التمييز يف �سوق العمل و�أكرثهم تعر�ض ًا لال�ستغالل ،وال مئات �آالف النازحني من �سورية م�ؤقت ًا لأ�سباب �أمنية و�إن�سانية، بل �آالف الوافدين من بلدان �أكرث فقر ًا ّمت ا�ستقدامهم اىل لبنان ال�ستغاللهم ب�رشوط عمل تتنافى كلي ًا حتى مع �رشوط القوانني اللبنانية التي تعترب منحازة كلي ًا حد �أدنى من ال�ضوابط ال�شكلية... ل�صاحب العمل مع ّ لت�ضخم خدمات لقد �شكّ لت هذه الفر�صة حافز ًا قوي ًا ّ مربحة مل يعد �إنتاجها مكلف ًا يف ظل تنامي ظاهرة اال�ستغالل يف �سوق العمل ،وجل���أت ال�صناعة �إىل تعوي�ض كلفة �إنتاجها املرتفعة ب�إحالل عمالة متدنية لتطور تطورها ومواكبتها الأجر ،وهو ما ّ ّ حد كثري ًا من ّ وتنوعه ،و�صارت الوظائف اجلديدة حاجات اال�ستهالك ّ ترتكز �شيئ ًا ف�شيئ ًا يف ن�شاطات ال حتتاج اىل عمالة كثيفة �أو ماهرة ،ويف احلالتني ميكن التهديد دائم ًا ب�أنه ميكن احل�صول عليها من اخلارج .وهذا ما جعل الن�سبة الأكرب من الوظائف التي تذهب اىل غري املقيمني يف لبنان تتيحها الن�شاطات اال�ستهالكية الأكرث ازدهار ًا �أو تلك املكفولة ريوعها من الدولة ،كالبناء وجتهيز البنى التحتية وال�سياحة واجلن�س والعتالة والتنظيف وحمطات ال عن وظائف جديدة الوقود ومواقف ال�سيارات ...ف�ض ً بن�سبة �أقلّ تتيحها الن�شاطات ال�صناعية والتجارية. ح�صل ذلك يف حلظة القب�ض على االحتاد العمايل العام يف مطلع الت�سعينيات ،مل يكن هناك حركة نقابية مدمرة على كل امل�ستويات ،لذلك عمالية قوية بعد حرب ّ ّ حتوالت جوهرية مع بالتزامن إخ�ضاعها � ال �سه كان ً ّ تعمق البنية مع يف بنية �سوق العمل و�رشوطه متا�شي ًا ّ
21
بدايات
العدد |5ربيع 2013
االحتكارية للتجارة وازده��ار امل�ضاربات العقارية واملالية وتراجع نوعية التعليم وازدي��اد وترية هجرة العمالة املاهرة والر�ساميل ال�صناعية. التدفقات النقدية والنقابات اليوم باتت بنية االقت�صاد ال تولّد فر�ص عمل كافية و�أج��ور ًا مقبولة ،وتعاين من ه�شا�شة بالغة وت�سيطر عليها تكتالت امل�صالح امل�رصفية والعقارية ،غري �أنها عمالية يف الوقت نف�سه ال تبدو مهي�أة لن�شوء نقابات ّ م�ستقلة وقوية وذات قاعدة متثيلية وا�سعة .مل تعد بنية �سوق العمل تب�شرّ بعودة �رسيعة للعمل النقابي ّ املنظم يف �سوق العمل ب�سبب �ضعف االقت�صاد احلقيقي اىل جانب عوامل اال�ستتباع االخرى املمار�سة على امل�ستويني ال�سيا�سي واالجتماعي ،فالأرقام مقلقة يف جمال التعبري الكمي عن م�أزق هذا االقت�صاد ،وبح�سب تقرير للبنك ال��دويل يف �إط��ار ور�شة عمل عقدت يف ب�يروت يف عام ،2011ا�ستقبل لبنان 147مليار دوالر من التدفقات النقدية بني عامي 1992و 2010ذهب اكرث من 121مليار دوالر منها لتمويل عجز امليزان ال ا�ضافي ًا على �أن االقت�صاد التجاري ،وهذا ي�شكّ ل دلي ً اللبناين �صار �أكرث ارتباط ًا مبداخيل غري منتجة يف لبنان تخيلوا فقط مكانة امل�صارف لتمويل ا�ستهالك حمليّ . وح�صة ال�سياحة يف اي حديث عن االقت�صاد ومدى ّ القلق الذي يثريه جمرد التفكري ب� ّأن دول اخلليج النفطية ال عن اجلهد املبذول لت�صوير تنوي معاقبة اللبنانيني ،ف�ض ً ارتفاع �أ�سعار العقارات كما لو �أنه مك�سب لالقت�صاد! قوة نقابات هذا الواقع �ساعد �أي�ض ًا على تقوي�ض ّ العمال عمالية ال ت��زال قائمة ،وال �سيما نقابات ّ العامة التي تخ�ضع لنفوذ وامل�ستخدمني يف امل�ؤ�س�سات ّ القوى ال�سيا�سية امل�سيطرة على الدولة ،ونقابة موظفي امل�صارف التي متكّ نت جمعية امل�صارف من جتاهلها حتى الآن يف مفاو�ضات جتديد عقد العمل اجلماعي املتوا�صلة منذ � 3سنوات ،فالنقابة ت�ضم عدد ًا كبرياً ن�سبي ًا من املنت�سبني يعملون يف امل�صارف ال�صغرية يف حني ان امل�صارف الثالثة الأكرب التي ت�ستحوذ على �أكرث من ن�صف �أرباح القطاع امل�رصيف ( 888مليون دوالر) ّ حتظر على العاملني لديها االن�ضمام اىل �أي نقابة ،وهم حتى الآن يلتزمون بذلك خوف ًا من فقدان الوظائف يف ظل املناف�سة ال�شديدة عليها .وهناك �أي�ض ًا نقابات املهن احل� ّ�رة ،وال �سيما نقابة املهند�سني ،التي بد�أت تواجه
�ضغوط ًا متنامية من املنت�سبني �إليها العاطلني من العمل �أو العاملني ب�أجر ،وهي �ستواجه �ضغوط ًا �أكرب يف ظل احتماالت تراجع فر�ص العمل املتاحة يف اخلارج. حتركات ظهر اخل�ضوع يف القطاع اخلا�ص جلي ًا يف ّ هيئة التن�سيق النقابية� ،إذ مل جتد روابط املعلمني يف املدار�س العامة حليف ًا ع�ضوي ًا واحد ًا لها الر�سمية وموظفي الإدارات ّ اخلا�صة املدار�س يف املعلمني يف القطاع اخلا�ص ،ما عدا نقابة ّ التي علقت م�شاركتها بالإ�رضاب املفتوح بعد �أ�سبوعني من بدء تنفيذه على الرغم من � ّأن املنت�سبني �إليها هم من امل�ستفيدين مبا�رشة من �سل�سلة الرتب والرواتب وهم الفئة ُ قرت الوحيدة التي مل تتقا�ض بعد زيادة غالء املعي�شة التي �أ ّ اعتبار ًا من �شباط عام .2012حتى النقابة الوحيدة من بالتحرك الأخري القطاع اخلا�ص ذات امل�صلحة املبا�رشة ّ مل تكن م�شاركة فعلية فيه ،ور�ضخت يف النهاية ل�ضغوط �أ�صحاب املدار�س اخلا�صة ،وال �سيما الطائفية منها. جتمع �أ�صحاب الر�ساميل عن قلقه من �أن ّ لقد عبرّ ي� ّؤدي انت�صار هيئة التن�سيق النقابية يف معركتها اىل ت�شجيع املطالبة بت�صحيح الأج��ور يف القطاع اخلا�ص بن�سبة ارتفاع م�ؤ�شرّ الأ�سعار يف عام 2012والتي جهز نف�سه ل��و�أد �أي حماولة بلغت �أك�ثر من ّ .%10 عمالية م�ستقلة ،وهو ما ظهر ب�شكل فاقع لت�أ�سي�س نقابات ّ عمال وعامالت �رشكة «�سبيني�س» ومنعهم من يف �إرهاب ّ االن�ضمام اىل نقابتهم بعد فر�ض ترخي�صها مبعركة مكلفة � ّأدت اىل خ�سارة 4م�ؤ�س�سني لعملهم� .إلاّ �أن �أي �شيء يربر هذا القلق مل يح�صل طيلة فرتة الإ�رضاب املفتوح، يعد جناح ًا يف اختبار وال �شك يف �أن حتييد القطاع اخلا�ص ّ قدرة منظومة ال�ضبط على موا�صلة عملها. املعركة م�ستمرة جتمع �أ�صحاب الر�ساميل اليوم من �أجل �إبقاء يقاتل ّ ال�سيطرة التي اكت�سبها يف العقدين املا�ضيني ،فهو يريد �أن تبقى م�س�ألة الأجور خا�ضعة مليزان امل�صالح التي تر�سخت منذ عام � ،1997أي �أن يتعامل معها عندما ّ يكر�س اي �سابقة أن � يريد ال بانتظام. ولي�س فقط ي�ضطر ّ يف هذا املجال تطيح تدريجي ًا املكا�سب التي حققها عندما ُج ِّمدت الأجور من دون جتميد الأ�سعار التي ارتفعت بن�سبة جتاوزت %115حتى نهاية عام ،2012وعندما جمد الإنفاق اال�ستثماري يف املوازنة ،ما �ساهم برتاجع ّ العامة واال�ستعا�ضة عنها ببدائل تزيد من كلفة اخلدمات ّ ملقدميها (كهرباء ،مياه، ولكنها املعي�شة، تدر ريوع ًا كبرية ّ ّ
22
بدايات
العدد |5ربيع 2013
نقل� ،أدوية ،ا�ست�شفاء ،تعليم� ...إلخ) .النتيجة الأ�سا�سية ح�صة الأج��ور من الناجت جت�سدت بتهاوي ّ لكل ذلك ّ املحلي من %35يف عام � 1997إىل �أقل من %25 حالي ًا ،علم ًا �أنها كانت تبلغ يف عقد ال�سبعينيات (ع�شية احلرب) نحو � .%55إال �أن الناجت املحلي نف�سه ارتفع يف الفرتة نف�سها ( )2012 -1997من 16.1مليار دوالر �إىل 42.6مليار دوالر� ،أي �إنه ت�ضاعف مرتني ون�صف تقريب ًا .ومبعنى ما ،مت �شفط 30مليار دوالر يف هذه الفرتة من الأجور اىل الأرباح والريوع. منذ معركة ت�صحيح الأج��ور يف القطاع اخلا�ص ال التي خا�ضها وزير العمل ال�سابق �رشبل نحا�س و�صو ً �إىل معركة هيئة التن�سيق النقابيةُ ،ت�ستكمل املعركة الفعلية الواقعة حول �إعادة توزيع احل�ص�ص يف الناجت املحلي الإجمايل ،غري � ّأن امل�أزق الفعلي يكمن يف � ّأن ال نحو م�صالح التكتالت ميزان القوى فيها ي�ستمر مائ ً العمالية امل�رصفية والعقارية ،لي�س ب�سبب غياب النقابات ّ يف القطاع اخلا�ص القادرة على فر�ض بع�ض التوازن املكون الريعي يف تكوين االرباح بات فح�سب ،بل لأن ّ املكونات االخرى �إىل درجة ُي�صعب معها طاغي ًا على ّ تو ّقع ت�ضارب م�صالح بني �أ�صحاب الر�ساميل �أنف�سهم، وهذا ما يف�سرّ عدم ظهور اي تباين بني من يفرت�ض �أنهم من املنتجني وبني من يفرت�ض �أنهم ريعيون ،يواظب اجلميع موحد من ق�ضايا ا�سا�سية ،كق�ضية على الظهور مبوقف ّ فر�ض ال�رضيبة على الربح العقاري التي تفيد ال�صناعي والتاجر وال ت�رضهما� .إن هذه الغلبة الوا�ضحة جتعل من ال�صعب �أي�ض ًا تو ّقع م�سارعة القوى ال�سيا�سية امل�سيطرة املهمة طوع ًا ،لي�س هناك اي على الدولة اىل القيام بهذه ّ دليل على وجود مثل هذا امليل ،او على االقل هذا ما اثبتته حتى الآن جتربة �سل�سلة الرتب والرواتب وحتييد االحتاد العمايل العام كلي ًا من املعركة بعد �إفقاده �أي �صفة متثيلية للعمال وو�ضعه يف منزلة «اخلائن لطبقته». مل تنته معركة هيئة التن�سيق النقابية ،ورمبا ال تزال يف مراحلها االوىل ،وبالتايل ال تزال الفر�صة �سانحة ملن يرغب يف ا�ستلهامها من اجل تظهري حقيقة ال�رصاع يف لبنان ...لي�س امر ًا طبيعيا �أ ّتا ت�ستولد مالمح بداية حراك جدية لإقامة اطر �سيا�سية حتمل ذات طابع حماوالت ّ م�شاريع تغيري فعلية� .إذا كان هناك جناح حقيقي حققته هيئة التن�سيق النقابية فهو �أن املجتمع اللبناين رمبا بات جاهز ًا لإطالق احلياة ال�سيا�سية جمدد ًا ،ورمبا هذا هو الرد احلقيقي على �صناعة القلق امل�ستمرة من احلرب الأهلية.
ثورة مغدورة؟
االنتفاضة التونسية ،االنتقال الدميقراطي والعنف االجتماعي ليىل داخيل ع�شية ١٤يناير ،٢٠١١كان رجل وحيد يف �شارع بورقيبة ي�صيح «بن علي هرب!» 1معلنا االنت�صار املذهل باحثة يف «المركز لثورة .يف هذه ال�صيحة كان يجب االعجاب بال�شعب والرتحم على املوتى .كان وحيدا يف العتمة، الوطين لالحباث وحب احلرية ّ العلمية» يف فرناس ،يف ذلك ال�شارع الذي �سوف يكت�سحه جمهور غا�ضب آخر مؤلفاهتا «جيل بعد �ساعات قليلة .كان الرجل حماميا ،واحدا بني العديد من المثقفني العرب من املحامني الذين دعموا الثورة بكل قواهم. يف سورية ولبنان ،ي��وم ٨فرباير ،٢٠١٣بعد اك�ثر من �سنتني، »١٩٤٠-١٩٠٨يف مكان �آخر من العا�صمة ،مقربتها الرئي�سة ،وقد تودع ( )٢٠٠٩اجتاحتها اجلموع ،جموع حزينة وغا�ضبة ،جاءت ّ حماميا ثوريا �آخر ،هو �شكري بلعيد ،املعار�ض العنيد الذي اغتيل امام منزله. بني هاتني اللحظتني مل يخرج ال�شعب ليحتفل باحلرية وال ال�رصاخ غ�ضبا ب�صوت واحد .فيما التعبئة تتوا�صل، حطت على البلد موجة من االحباط .تعاي�ش �شعور ب�أن الثورة قد ُغ ِدرت مع االكت�شاف امل�شهود عليه ب�أن امل�سار الثوري ال يزال م�ستمرا .كيف تف�سري هذه املفارقة؟ الق�سم االكرب من املعلقني ر�أوا يف فوز حزب النه�ضة اال�سالمي بانتخابات اكتوبر ٢٠١١وجه اخليانة :ان ثورة �شباب ،مهوو�سني باحلرية والعدالة قد �أجنبت م�سخا ا�سالمويا، حمافظا وكارها للحرية حد القتل .وان االنتخابات الربملانية احلرة حملت اىل ال�سلطة خ�صوم الدميقراطية واحلرية. ولكن يتبينّ من التحليل انه اذا كان ثمة من «غدر» بالثورة ف�إنه ال يقع بال�رضورة يف التعار�ض بني «دينيني حمافظني» و«تقدميني علمانيني» .ان رد الطرفني على اعقابهما ،الذي تعزف على انغامة جوقة اللعبة ال�سيا�سية http://www. 1 احلزبيةّ ، يغطي على ال�صعوبة التي تواجهها جمموع youtube. الطبقة ال�سيا�سية يف اال�ستجابة للمطالب ال�شعبية يف ?com/watch v=k02ZtXNWfRw العدالة االجتماعية.
23
بدايات
العدد |5ربيع 2013
تنا�سي الطابع االجتماعي للثورة :جمتمع منق�سم اذا كانت تظاهرات دي�سمرب ٢٠١٠ويناير ٢٠١١ مبثابة «املفاج�أة» للعديد من املراقبني ،ف�إنها كانت �صدى للحظات قوية من االحتجاج االجتماعي وخ�صو�صا انتفا�ضات احلو�ض املنجمي يف قف�صة العام .٢٠٠٨ هذه احلركة االجتماعية الوا�سعة النطاق التي عب�أت العمال وعائالتهم خالل ا�شهر طويلةِ ، قمعت بعنف و�سط ذو الالمباالة �شبه الكاملة يف �سائر انحاء البلد .وثمة حلظات اخرى من االحتجاج القوي كما يف بنقردان يف اوغ�سط�س ،٢٠١٠ويف منطقة �سيدي بو زيد الزراعية، ويف قا�رسين وثاله يف غرب الو�سط يف دي�سمرب ،٢٠١٠ حتى هذه مل ت�ؤد هي اي�ضا اىل اطالق «عدوى ثورية». ولكن ا�ضطرابات دي�سمرب ٢٠١٠التي انطلقت من املدن املحرومة يف و�سط البالد ،التي اعطت الدفع االول للثورة ال�شعبية ،مل تكن لتختلف كثريا عن �سابقاتها. وهذه تلقى م�صدرها عند التقاطع بني نظام من املح�سوبية والف�ساد وا�سع النطاق واال�ستع�صاءات االجتماعية التي التنعم بحياة كرمية الئقة. متنع االكرثية العظمى من ّ واذا كانت مدن ال�ساحل الكربى (�صفاق�س ،املدينة ال�صناعية ،واي�ضا تون�س العا�صمة) قد ان�ضمت اىل التمرد ،يف �شتاء ،٢٠١١فقد مت ذلك بعد ثالثة حركة ّ ا�سابيع من ال�شغب يف داخل البلد ولأنه يف تلك اللحظة بالذات تقاطعت امل�صالح لتنتج االحظة الثورية التي �شاهدنا .وقد مت االلتقاء ب�ضغط من املنا�ضلني النقابيني (مبا يف ذلك بال�ضد من قياداتهم) وبف�ضل «فاعلني» اقلويني هم :نا�شطون �شباب على االنرتنت ،فنانون واعالميون ومرتجمون ومنا�ضلون جمهولون ،ملتزمون باحلرية والت�ضامن وامل�ساواة -عندما مل يكونوا ملتزمني بالنزعة الفو�ضوية -اىل جانب امل�شاغبني .و�رسعان ما
2وهي مثل تربطها تلك النخب ذاتها بالهوية «التاريخية» لتون�س ،هوية ا�سالم ا�صالحي، قادر على عقد الت�سويات وامل�صاحلات مع «احلداثة»، خ�صو�صا فيما يتعلق بو�ضع املر�أة. 3اذا كان ي�صح القول ان حكومة بن علي جنحت يف الت�سلل اىل املنظمة النقابية، اال انها ا�ستتبعت بالدرجة االوىل القادة وبع�ض فروع االحتاد .على ان معظم الفروع ظلت حمافظة على ا�ستقالها ،وبع�ضها ت�شكلت يف جبهة معار�ضة من مثل نقابة معلمي الثانويني. 4
http://www. kapitalis.com/fokus /62-national/2039tunisie-la-kasbahet-la-kobba-memecombat.html
24
ويوجد الآن اذ ًا غ�ضب اجتماعي ال يهد�أ .واىل هذا الغ�ضب ،الذي ت�صاعد بقوة زمن بن علي ،ين�ضاف م�شهد يزداد �شفافية من الفروقات االجتماعية وامل�صالح املتعار�ضة بني نخبة �ساحلية مدينية وداخ��ل البالد. يف ال�سابق ،توجه هذا الغ�ضب �ضد الدكتاتورية وهو يتوجه الآن �ضد احلكومة القائمة .ان العمال واملياومني والعاطلني من العمل مل يجدوا جوابا على قلقهم وخماوفهم يف ظل االنتخابات وت�شكيل حكومة جديدة. انهم ال يطرحون ا�سئلتهم البتة وفق م�صطلحات تتعلق بالدين وباحلريات وحتى بالد�ستور .بل يتحدثون عن عدالة وحق وم�ساواة .وال تزال امل�س�ألة االجتماعية يف �صلب امل�شكالت املطلوب معاجلتها وهي الدافع للتعبئة ال�شعبية ،تتج�سد بو�ضوح متزايد يف اال�صطدام الراهن بني االحتاد العامل للعمال التون�سيني واحلزب احلاكم، وقد كانت احدى ابرز عالماته الدعوة اىل اال�رضاب العام (الذي جرى تنفيذه على نطاق وا�سع) يف ٨فرباير .٢٠١٣ان دور هذا االحت��اد النقابي يف احلركات
يخيمون على حفظ الفوارق مع �سكان «الق�صبة» الذين ّ يف �ساحة مبنى رئا�سة الوزراء -ومن اجل دعم الغنو�شي، رئي�س الوزراء امل�ستقيل ،الذي اعترب ح�سن النية وقد «رحله» الذين يحتلون حي «الق�صبة». ّ مهما حاولت مقالة يف ال�صحيفة االلكرتونية «كابيتالي�س» االيحاء يف عنوانها «الق�صبة والقبة :معركة واح��دة» ،مل يكن االم��ر يتعلق بانا�س متا�شبهني .يف «الق�صبة» يتحدثون ب�إ�سم ال�شعب ويتوحدون حتت �شعار لرنحل الدكتاتورية» ،اما يف «رحلنا الدكتاتور ،واالن ّ القبة فاحلديث يجري با�سم «االكرثية ال�صامتة» وتتعاىل ّ الدعوات للعودة اىل العمل .هنا العمل والنظافة رمزان ،ما يعرف يف املقابل على انه يجعل ال�شباب الثائر ّ امل�سي�س َّ من العاطلني من العمل ومن قليلي االكرتاث بالنظافة� ،إن مل يعتربوا ك�ساىل وقذرين .وهكذا كنا ن�سمع با�ستمرار يف «القبة» ندا ًء توجهه مكربات ال�صوت يقول« :لقد علّقنا �أكيا�س قمامة عند جذوع النخالت .ال ترموا اي �شيء على االر�ض .يجب ان نظهر للعامل اننا �شعب �سليم نظيف
ان�ضمت اليهم املعار�ضة امل�سماة دميقراطية من منا�ضلي حقوق االن�سان ون�سويني ومثقفني نقديني. �إذذاك تك�شفت اللحظة الثورية اخلاطفة عن �شعب موحد وملتحم .ف�ساد مناخ جديد خالل ب�ضعة ا�سابيع، رغم الذعر واخل��وف اللذين �أ�شاعهما العهد القدمي املتهاوي .على ان التفاوت االجتماعي �رسعان ما انبعث من جديد .ففيما كانت القوى الثورية تطالب بالبدء من البداية وب�إ�سقاط اوىل احلكومات امل�ؤقتة لدفع العملية الثورية اىل املزيد من التقدم (من اعت�صامات الق�صبة وتظاهرات جادة بورقيبة يف فرباير ،التي اف�ضت اىل اع��ادة فر�ض حالة ال��ط��وارىء ،اىل مقتل متظاهرين واغالق جادة بورقيبة على التظاهرات العامة) اخذت �أ�صوات متزايدة تنادي بالتهدئة وامل�ساومة .كان يجب التزام االعتدال ،وال�سري البطيء ،واالمتناع عن رف�ض كل �شيء باجلملة .ما دام الطاغية قد غادر هو و�أقربا�ؤه، يجب املحافظة على لون من اال�ستقرار لعدم اال�ساءة اىل �سمعة البلد واىل ح�سن �سري االعمال ،الخ. ومنا خطاب «انتمائي» حتى يف مزاج التون�سيني الناعم وال�سلمي الذين ق��ادوا «ث��ورة اليا�سمني» ،ثورة العطور اخلطاب ال�صادر عن الربجوازيــــــــــــــــــــــــــــــــة والزهور .فتكاثرت يف تلك الفرتة ،اخلطابات الغا�ضبة �ضد والطبقات الو�سطى املدينية �رسعــــــــــــــــــــــــــان تلك الت�سمية املفوتة ،واخذ اهل الداخل يتحدثون احيانا ما اتخذ لهجة االحتقار االجتماعي جتــــــــــــــــــــــاه ال�صبار) االكرث تواجدا يف مناطقهم جميع الذين ين�صبون خيامهم يف و�سط املدينـــــــــــة. عن ثورة «الهندي» (اي ّ ويتكلمون بلهجة فالحية وا�ضحـــــــــــــــــــــــــــــة من يا�سمني ال�ساحل ،وبالطبع االكرث امتالء باال�شواك. هذا اخلطاب ال�صادر عن الربجوازية والطبقات الو�سطى املدينية �رسعان ما اتخذ لهجة االحتقار وح�ضاري .هذه هي ثورتنا .وهذه هي روحنا .وذلك هو االجتماعي جتاه جميع الذين ين�صبون خيامهم يف و�سط مثاليا للجريان واال�شقاء الذي يحبون بناء الدميقراطية يف 4 املدينة ،عند املدخل ال�ضخم ملدينة تون�س القدمية ،على بالدهم� .سوف نثبت للعامل اجمع اننا �شعب كرمي».. جادتها اجلميلة املر�صوفة باال�شجار ،يتكلمون بلهجة واذا كنت اعود اىل تلك اللحظات املن�سية بع�ض ال�شيء فالحية وا�ضحة .فبعد االعجاب االويل بحدث ١٤يناير من اال�سابيع الثورية التي اعقبت هروب الدكتاتور ،وقد دب احلذر من الثوريني :لعلهم �ضحايا ملن تبدو ثانوية ،مع انها ظلت حا�رضة يف ذاكرة التون�سيني، اال�ستثنائيّ ، يتالعب بهم؛ ويبدو انهم بعيدون جدا عن املثل العلمانية فذلك من اجل اعطاء معنى ملا يجري التعبري عنه الآن يف للنخب املدينية؛�( 2شوهد البع�ض منهم ي�صلّي داخل �شوارع تون�س .ذلك ان ا�صوات االحتجاج االجتماعي اخليم) ،وهم ي�سيئون الت�رصف ،الخ .وعبرّ هذا االجتاه مل ت�صمت ابدا .فقد احتلت �ساحات العا�صمة اىل �شهر ّ «الثوري املعتدل» عن نف�سه يف النقد القا�سي املوجه اىل مار�س ،واعت�صمت يف امل�صانع ،وحا�رصت ال��وزارات، ّ «االحتاد التون�سي العام لل�شغل» ولقادتها ويف االدعاء وعادت الحتالل �شوارع �سيدي بوزيد يف �صيف ،٢٠١٢ ب�أنهم كانوا جميعا يقب�ضون الر�شى من النظام ال�سابق 3.حمتجة ومتحدية هذه املرة ال نظام بن علي وامنا احلكومة يف ٦مار�س انعقد جتمع يف «القبة» ،وهي املدينة الريا�ضية امل�ؤقتة بقيادة حركة النه�ضة .وقد جتمع ه�ؤالء حتت �شعار يف «املنزه» ،احلي الربجوازي يف تون�س العا�صمة ،بعد ب�سيط هو �شعار الثورة ،قبل ان ينطلق �شعار «�إرحل» �سقوط احلكومة املوروثة من عهد بن علي .كان التجمع النهائي« :عمل ،حرية ،كرامة وطنية» وقد كانت بع�ض يحتفل بالثورة ،والت�ضامن الوطني -ولكن مع احلر�ص منوعاته احيانا خالل ف�صل ال�شتاء «خبز ،ماء ،بن علي لأ!». بدايات
العدد |5ربيع 2013
االجتماعية يف العدالة) �إن هي اال خدعة من اخلدع .فبعد انتخابات اكتوبر ٢٠١١التي �شدد فيها اال�سالميون كثريا على اال�ضطهاد الذي تعر�ضوا له يف ظل العهد ال�سابق وعلى تقواهم -املفرت�ض انها تع�صمهم من الف�ساد � -إذا بهم قد فقدوا فج�أة طاقتهم التخريبية: فبعدما تعر�ضوا لال�ضطهاد وبعدما قدموا انف�سهم مبا هم «طاهرون» ،ها هم الآن يف ال�سلطة .وبدال من ان يعتربوا ان الثورة هي التي حملتهم اىل ال�سلطة ي�صح القول ان احلدث الثوري و�ضعهم وجها يف وجه امام الواقع. يوم ١٤يناير ٢٠١١بدا ان املفاج�أة التون�سية ُتخرِ ج حتديدا املنطقة العربية من بديل ثنائي �ساد خالل عقود (وخ�صو�صا منذ احلرب االهلية اجلرائرية): �إما ال�سلطات القائمة و�إما الثورة اال�سالمية .يف تون�س، «البلد الذي ال �ضجيج فيه» ،ح�سب عبارة جو�سلني دخليا اجلميلة ،انهار نظام بني علي حمدثا دويا عاليا .غادر الرئي�س وع�شريته االرا�ضي التون�سية والتج�أ ايل العربية ال�سعودية -وهي منوذج رائع للدميقراطية العلمانية ،لنقل
ال تزال امل�س�ألة االجتماعيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة يف �صلب امل�شكالت املطلوب معاجلتهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا... تتج�سد ...يف اال�صطدام الراهن بني االحتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاد التون�سي العام لل�شــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــغل واحلزب احلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاكم الثورية التون�سية يعاد تقييمه الآن بوا�سطة درا�سات عديدة تبني يف اي مدى كان دعمه اللوج�ستي وح�ضور منا�ضليه يف ال�شوارع حا�سمني منذ البداية. «االنتقال الدميقراطي» يبني ان االخذ بعني االعتبار االنق�سامات االجتماعية ّ ان املجابهة التي اعطيت كل هذه االهمية يف ال�صحافة الفرن�سية بني «علمانيني» و«دينيني» لي�ست يف قلب م�شاغل النا�س .لي�س يف االمر رغبة يف انكارها :ال �شك ان تظاهرات انطلقت حلماية موقع املر�أة التون�سية .وان ثمة ح�ضورا ظاهرا ل�شباب ا�سالميني مت�شددين يف �شوارع تون�س ينوون فر�ض نظام طهراين وا�صويل .على ان قراءة التوتر االجتماعي يف تون�س مب�صطلحات انتمائية، وهو ما يفر�ضه على حد �سواء املدافعون عن العلمانية (مبا هي خ�صو�صية تون�سية ومرياث بورقيبي) واال�سالميون (الذين يخفون بذلك عجزهم عن اال�ستجابة للرغبة
25
بدايات
العدد |5ربيع 2013
ذلك ونوا�صل -فيما اجلمهور يهتف ب�شعار غريب (�إرحل) امام وزارة الداخلية احد رموز ال�سلطة التي كانت اقبيتها م�رسحا ،خمفيا بالطبع ،لأعمال تعذيب عديدة. بعد ا�شهر اعطت االنتخابات احلرة االوىل يف تون�س اال�سالميني اكرثية (ن�سبية) �سمحت لهم الآن بادارة حكومة (انتقالية ائتالفية) بف�ضل اتفاق عقدوه مع حزبني �آخرين (لت�شكيل ما ن�سميه «الرتويكا») .ان املقابلة بني هاتني العالمتني قد تعطي االنطباع ب�أن ثورة ١٤يناير حملت اال�سالميني اىل ال�سلطة .لكن اال�سالميني مل حتملهم الثورة اىل ال�سلطة ،انهم فازوا بال�سلطة يف اطار االنتخابات التي اعقبت الثورة .وقد جنحوا يف الفوز بتلك االنتخابات، �إذ نقلوا النقا�شات اىل ار�ضية الهويات ،فيما الأحزاب االخرى ،وخ�صو�صا احزاب الي�سار ،ف�شلت يف �صياغة ومتفرد يف الفو�ضى التي �سادت .مل تتوقف خطاب م�سموع ّ اخلطوط عن التحرك ،ح�سب املوقع الذي يحتله املرء يف هذا اجلانب او ذلك من «حدود العلمانية» ،والق�ضايا الدولية dégage
(ليبيا� ،سورية ،دول اخلليج )...او موقعه من االمة ومما يحددها (عروبة ،علمانية ،ا�سالم .)...ورمبا كان اجتياح تلك الق�ضايا للنقا�ش الدميقراطي هو مكمن احد ا�شكال «اخليانة». يجب ان نحفر مبزيد من العمق يف اثالم «االنتقال الدميقراطي» ويف تاريخ احلركات ال�سيا�سية التون�سية لفهم البون القائم بني ما كان ميكن م�شاهدته يف ال�شوارع من دي�سمرب اىل مار�س ٢٠١٠ومن ثم اىل مار�س .٢٠١١ وبني التعبري عن االرادة ال�شعبية عن طريق �صناديق االقرتاع يف اكتوبر .٢٠١١فذلك قد ي�ساعدنا على ان نفهم اي�ضا ملاذا مل تتوقف التعبئات وملاذا مدينة �سيدي بوزيد ،خ�صو�صا ،ومدن اخرى عديدة معها (�سيليانا، والكاف )...قد التهبت من جديد يف منا�سبات عدة ،وملاذا احلو�ض املنجمي يف قف�صة ال يزال يف حالة غليان ،الخ.
5عن طريق مدونة االحوال ال�شخ�صية خ�صو�صا واعمال رمزية ا�شهرها حملة «نزع احلجاب» التي مار�ستها الن�ساء التون�سيات علنا يف ١٣اوغ�سط�س ١٩٦٦خالل عيد املر�أة.
26
دور مميز للحركة النقابية ذلك ان هذا البلد ،وهو مهد احلركات اال�صالحية منذ القرن التا�سع ع�رش ،مل ي�شهد جتربة بناء وطني م�ستقل ودميقراطي قبل العام .٢٠١١ومع ذلك فالثورة مل تقع يف حقل اجتماعي بكر او على ورقة بي�ضاء .ان احلركة الوطنية والن�ضال اال�ستقاليل قد ا�سهما يف تكوين نخب �سيا�سية وادارية .ثم ان عهد بورقيبه الطويل مل يقت�رص على االرهاب ومل مينع منو حركة نقابية قوية وحركة ن�سوية ال تزال نا�شطة على الرغم من رفع النظام البورقيبي راية الق�ضية الن�سوية اوال ،ليبني لنف�سه �صورة حمرر البلد وحمرر الن�ساء 5خلفته دكتاتورية بن علي التي وجدت يف تلك الق�ضية عذرا منا�سبا لالرتقاء اىل م�صاف امل�ستبد و�سد �ضد اخلطر اال�سالموي .ان ثراء التعبئة احلداثوي ٌّ وزخم احلركات االجتماعية �شهدا م�صري ًا متفارق ًا :فقد و�سما تون�س احلديثة مبميزات كبرية م�شهودة (خ�صو�صا العلمنة وو�ضع املر�أة) وهما يف الوقت ذاته �ضحايا قمع غالبا ما بقي جمهوال خارج البلد وداخله يف �آن معا. مطلع �سنوات ،١٩٨٠من ج��راء قمع احلركات النقابية الكربى واالحتجاجات الناجمة عن الي�سار اجلذري ،اخذت احلركات اال�سالمية حتتل مكانها ،مبا هي العدو الرئي�سي للنظام (خال فرتة )٨٩-١٩٨٧ولكنها كانت يف الوقت ذاته حاملة نوع من «االمل االجتماعي». فبع�ض ال�سري ،مثل �سرية الزعيم احلايل للحزب ،را�شد غنو�شي ،الذي كان نقابيا يف ال�ستينات من القرن املا�ضي، ونا�رصيا يف �شبابه ،ماثلة لتذكّ رنا ب�إن امل�سارات كانت اكرث تعقيدا مما نظن .مل تكن تلك امل�سارات ثانوية االهمية بدايات
العدد |5ربيع 2013
النها ت�سمح لنا ب�أن نخرِ ج معايري التحليل املعا�رصة من تب�سيطيتها ومن متييزاتها الآلية ،و�أ�شدها ت�أثريا تلك التي جتابه العلمانيني واال�سالميني .ولن�سيان تلك احلقبة القريبة من التاريخ التون�سي ا�سباب عديدة :اوال عنف القمع وات�ساعه الذي �رضب احلركات الي�سارية من ١٩٦٨ اىل ١٩٧٨يف عهد بورقيبه ،والذي ما لبث ان �رضب اال�سالميني؛ والت�أ�سي�س لتعليم «انتقائي» للتاريخ املعا�رص يف املدار�س واجلامعات ،حيث الربوباغاندا تبع بن علي حلّت حمل بروباغاندا بورقيبه؛ اخريا ،يف خارج تون�س، القوة التي اكت�سبتها قراءة تقوم على مفهوم «�صدام تدعم فهما ا�ست�رشاقيا را�سخا احل�ضارات» ج��اءت ّ يهم�ش على نحو متزايد مكان للمجتمعات العربية ّ املجتمع والطبقات االجتماعية واحلركات االجتماعية. �إذ لوحظ «اختفاء» جيل تقدمي منا�ضل (يف او�ساط الي�سار اال�شرتاكي والقوميني العرب) وهو اختفاء كان ج�سديا احيانا ،تب ّنى البع�ض موقفا َق َدريا يعبرّ عن نف�سه كاالتي :ملا كان كل تغيري اجتماعي اليوم يف املغرب او ال�رشق االو�سط ال ميكن ان ي�ؤدي اال اىل ت�سلّم املحافظني لل�سلطة� ،سوف نقلب حجة االلتزام احلداثوي املوايل للغرب لنجعل من العودة اىل تراث مفرت�ض ال�سبيل التمرد واجلذرية الثورية والكرامة الوطنية. الوحيد اىل ّ هذا ينطوي على ا�ستخفاف ب��دور احلركات النقابية والن�ضاالت التقدمية (مبا فيها تلك التي كانت ت�ستوحي الفو�ضوية) يف االنتفا�ضات التي �شهدتها تون�س وم�رص واليمن والتي تتوا�صل يف �سورية (وميكننا ان ن�ضيف يف البحرين ولبنان واالردن وغريها)� .صار هذا اخلطاب م�ألوفا على االقل يف �أو�ساط النخب املثقفة قبل العام ٢٠١١يف تون�س و�سواها من البلدان. منذ العام ،٢٠١١ولفرتة وجيزة ،بدا ك�أن التباعد والالمباالة االجتماعيني قد تبخرا ليعودا بزخم منذ اليوم التايل لهرب بن علي .ثم ان احلملة االنتخابية حلركة النه�ضة وانت�صارها يف االنتخابات انتجت حتويالت اخرى تتجلى خ�صو�صا يف ت�شكيل «ن��داء تون�س»، احلزب الذي يقوده الباجي قايد ال�سب�سي ،رئي�س وزراء ليت�صور املرء مثل هذا التجمع الفرتة االنتقالية .مل يكن ّ للقوى ال�سيا�سية قبل ب�ضع �سنوات ،واحلال ان احلزب �ضم العديد من ان�صار عهدي بن علي وبورقيبه ،مثل ال�سب�سي ذاته ،و�رشيحة من الي�سار بعد ال�شيوعي ،حتت راية الن�ضال �ضد اال�سالميني ومن اجل الدفاع عن الهوية احلديثة لتون�س .نلقى يف هذا احلزب انا�سا كانوا
خ�صوما لفرتة طويلة ،ي�شرتكون يف خطاب يحر�ص حر�ص ًا �شديد ًا على ان ي�ضع نف�سه اىل جانب الهوية الوطنية (خ�صو�صا جتاه اخلارج) و«التقدمية» واحلداثة لكي يتحا�شى اتخاذ املواقف من الق�ضايا االجتماعية ال تزال ال�صحافة �ضعيفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة جدا تكتفي ب�إعطــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء الكالم للفاعلني ال�سيا�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــيني دون تعميق خيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاراتهم. واجلمعيات حا�رضة جدا �إال انـــــــــــــــــــــــــــــــــــه القليل منها ال�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتحوذ على امل�س�ألة الدميقراطيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة واالديولوجية .ي�ضع احلزب نف�سه يف مواجهة حركة النه�ضة مبا هو مر�آتها العاك�سة .ان انبثاق قوة كهذه ،التي ي�صعب التهكن مبا �سوف يكون ن�صيبها من اال�صوات يف االنتخابات النيابية ،ي�ستظهر اثر «اخليانة اال�سرتجاعية» الناجتة من االنتقال من حالة ثورية اىل اطار جديد من الدميقراطية االنتخابية دون ان ت�سنح الفر�صة لتكوين روابط اجتماعية ُتر�سى عليها الدميقراطية� .إذ ال تزال ال�صحافة �ضعيفة جدا تكتفي باعطاء الكالم للفاعلني ال�سيا�سيني دون تعميق خياراتهم .واجلمعيات حا�رضة جدا اال ان القليل منها ا�ستحوذ على امل�س�ألة الدميقراطية
27
بدايات
العدد |5ربيع 2013
بحد ذاتها (رميا با�ستثناء اجلمعيات التي التزمت بخو�ض احلملة االنتخابية). يف الوقت احلا�رض ،وحده العمل النقابي يبدو �أنه يقدم عالمات ا�ستدالل اخرى حيث نلقاه يحتل مكانا متزايد البعد ثوري .يف ٢٥فرباير االهمية يف امل�شهد ال�سيا�سي َ ،٢٠١٢اطلق ال�سيد ح�سني عبا�سي ،االمني العام لالحتاد التون�سي العام لل�شغل ،هذا التحذير اىل حركة النه�ضة: كم ا�صواتنا لكي يقرروا م�صرينا مبفردهم. «انهم يريدون ّ يريدون زرع اخل��وف يف قلوبنا ملنعنا من الدفاع عن ق�ضيتنا وحقوقنا ،ولكننا لن نر�ضح ولن ن�ست�سلم» .اىل ذلك ف�إن النقابة اكدت ا�ستقاللها الذاتي وت�صميمها على الن�ضال «اىل جانب املجتمع املدين وال�شعب التون�سي على تنوعه للدفاع لي�س فقط عن اجلماهري العمالية وامنا اي�ضا وخ�صو�صا عن اجلمهورية وم�ؤ�س�ساتها» .ومل يكن غريبا ان يكون االحتاد التون�سي العام لل�شغل القوة الوحيدة يف ال�ساحة .انه يرتكز على ٥١٧الف ع�ضو، وعلى �شبكة من الفروع تغطي الرتاب الوطني كله وعلى تاريخه .ويبدو انه الوحيد الذي ي�ستطيع �أن يح�شد مثل هذه القوة يف وجه االحزاب احلاكمة. م�ساحات لالبداع واملقاومة ومع ذل��ك ،ال يجوز اهمال امل�ساحات االق��ل ظهورا حيث الإبداع و�إعادة البناء وبلورة املقاومات .انها تقع
6امينة �صبية يف �سن الـ ١٩ن�رشت على في�سبوك �صورة لها عارية ال�صدر مرفقا بكلمات «ج�سدي ملكي ،لي�س �رشف احد» .اجرت معها حمطة «التون�سية» مقابلة يف برنامج �شعبي جدا. فخطفتها ا�رستها يف ال�شارع ومت �إحتجازها يف م�صح عقلي بعد تكبيلها بقمي�ص املجانني وحقنها بالعقاقري وانت�شار خطاب عام (مبا يف او�ساط الن�سويات) عن ه�شا�شتها النف�سانية وان احتجازها يف م�صح عقلي هو «ل�صاحلها» .وقد نظمت حملة من اجل اطالق �رساح امينة وحمايتها من الهجمات املختلفة التي تتعر�ض لها الآن#Free Amina . 7من مقابلة اجرتها �سي�سيل بويك�س مع جمموعة «ابو ن�ضارة» بعنوان «�سينما الطواريء» http://www.
laviedesidees.fr /Un-cinema-durgence.html
28
يف م�ستويات عديدة من املجتمع التون�سي .وباالمكان ان نعدد بب�ساطة الئحة باملبادرات واجلمعيات واملواقع االلكرتونية وال�صحف وانبثاق ا�شكال تعبئة جديدة، الخ .ان الزخم الثوري قد حرر قوى مل يكن احد يتوقع وجودها ،ولكنها ا�صطدمت اوال مبنطق دميقراطي اجرب اجلميع على االختيار ،ولعب دورا كبريا يف االحباط ال�سيا�سي الكبري ،وذلك يف مناخ من ال�سجال والتوتر الدائمني .ان الطبقة ال�سيا�سية ،التي تغرق يف منطق التحالفات وامل�شاحنات ،تزيد تلك اخليبة يوما بعد يوم. وعلى الرغم من دوي ال�شائعات والتخويفات ،ثمة �شيء قد تغيرّ وممار�سة ال�ضغوط القوية على احلكومة القائمة هو احد االدلة عليه .ولكن ما يجب اخذه اي�ضا بعني االعتبار هو ال�شجاعة الفائقة التي يبديها ال�شباب الذي نزل اىل ال�شارع يف دي�سمرب ٢٠١٠واال�سباب اجلوهرية لتلك ال�شجاعة .ان الكبت والغيظ و�إرادة التغيري لدى هذا اجليل مل تطفئها نتائج دورة انتخابية واحدة ،و�إنها لن تخمد مبجرد �صفقة «تر�ضية» مقابل اجراءات �سيا�سية لن ت�أتي على كل حال. ان البعد اجلذري للتمرد ،يف مرحلة ما بعد الثورة، ال ع��دة .ي�ستمر ال�شبان التون�سيون يف يتخذ �أ�شكا ً املجازفة بحياتهم بانتظام :ارادة اخلال�ص من «جلان الدفاع عن الثورة » وتعبرياتها االخرى القريبة من ال�سلطة او من ال�سلفية الوهابية؛ والتطوع يف �سورية يف املعركة �ضد نظام ب�شار اال�سد؛ واملجازفات الكبرية يف عبور املتو�سط بحثا عن حياة بديلة يف اوروبا - اي بحثا عن عمل وعن �أفق �آخر او عن جمرد ال�شعور ب�أنهم غامروا وجنحوا� .إن التغا�ضي عن كل هذا يعني الآن ،كما يف ايام بن علي ،عدم ادراك حجم الهزة االجتماعية الكربى التي نعي�ش. ولكن حتى خارج هذه االلتزامات االكرث جذرية ت�ستمر وتنبني ا�شكال من املقاومة تقول ان ما بعد الثورة يجب ان يكون خمتلفا عما قبلها :مقاومات فنية يف امل�رسح والرق�ص -كما يف مهرجان «درمي �سيتي» [مدينة االحالم] الذي بد�أ قبل الثورة وا�ستمر بعدها يف ا�ستك�شاف ا�شكال فنية جديدة يف الرتاث واملو�سيقى ال�شعبية (وخ�صو�صا «الراپ» واالغاين االحتجاجية التي ظهرت حديثا والتعبئة التي ح�صلت حول حماكمة مغني «الراپ» ِ «ولد الـ»١٥ على اغنيته «بولي�سيا كلب»)؛ وامناط من التحرك ي�شارك الت�رصف كما يحلو لهم فيها يافعون ال يريدون اكرث من ّ (رق�صات «هارليم �شيك�س» ،و«فال�ش موبز»)؛ وا�شكال بدايات
العدد |5ربيع 2013
التعبئة االكرث اخت�صا�صا تتعلق بال�شفافية يف العملية الد�ستورية (امرية يحياوي وجمعيتها «البو�صلة») ويف االعالم (جريدة «نواة» االلكرتونية التي رافقت الثورة، وغريها من من ال�صحف) ويف البيئة (حمالت تنظيف االمكنة العامة والن�صب العامة وال�شواطىء) وتعبئة الن�ساء ال�صماء لدى (و�إن يكن بطرق م�شتتة كما تبني من ردة فعل ّ الن�سويات «التاريخيات» على مبادرة امينة 6خ�صو�صا يف ما يتعلق بالتحر�ش اجلن�سي او حاالت االغت�صاب؛ ا�ضف اىل هذا كله ن�شاطات «الهاكرز» والتعبئة حول ق�ضايا احلريات؛ وحركات را�سمي الغرافيتي وفناين ال�شوارع. وميكن اال�ستمرار طويال يف هذه الالئحة النطباع قوي يتكون عن �أنه تتربعم على كامل الرتاب الوطني اعمال ّ واحتالالت ال جتري مالحظاتها احيان ًا مع �أن لها قوة العدوى الكبرية (مثل رق�صة «هارمل �شيك») قد ت�ؤدي اىل م�صادمات عنيفة جدا (كما يف ق�ضية امينة) ولكنها تتوزع خارج املركز تدريجيا وتبتكر وتعيد بناء نف�سها با�ستمرار. ان هذه امل�ساحات اجلديدة ،املبنية على ا�شكال متنوعة من التعبئة ،هي على �صورة جمتمع ي�ستيقظ ،و�شباب ي�صقل �أدواته املختلفة .ميكنها ان تكون ملتزمة جدا، بل اديولوجية ،تفعل فيها ت�أثريات متعددة بل متناق�ضة، ّ حمط ا�ستلهامات ميكن ت�سميتها ولكنها عادة ما تكون «جتارية متطرفة» (كما يف �صورة مغني «الراپ» يرفلون يف �سيارات �ضخمة ويحملون اال�سلحة ،التي غالبا ما ين�سخها افراد امليلي�شيات اال�سالمية او يف رق�صة «الهارمل �شيك») او يف ا�ستلهامات اخرى اكرث ن�ضالية (دعما لالنتفا�ضة الفل�سطينية ولالخوة ال�سوريني) او حتى روحانية (حركات العودة اىل الدين ،واملجموعات املنعقدة لقراءة القر�آن) .هذه كلها تبلور اخري ًا �أ�شكاال هزلية وا�ستهزائية (على طريقة احلركة الناه�ضة للراهنية situationnistesيف ال�ستينات من القرن املا�ضي) بعيدا عن جدية الطبقة ال�سيا�سية التقليدية واملخاوف الالمتناهية ّ وت�ضخمها و�سائل الإعالم امل�سماة «حرة». تعممها التي ّ ّ وتتخذ هذه �شكل ر�سوم �ساخرة (ويلي�س ،زد ،والعديد غريهما) و�إع��ادة ابتكار ال�سيا�سة يف امل��دن اجلامعية واملدار�س ،م�شاركات من جماعة «�آنونيمو�س» الخ. وكما يقول اع�ضاء املجموعة ال�سورية «ابو ن�ضارة»: «يجب الت�صويب عالي ًا جد ًا :بل يق�ضي الواجب حماية الثورة من القنا�صة والإع�لام فكالهما ي�شرتك يف الت�صويب املنخف�ض جدا».7 ان تون�س الغد مطالبة بالواجب ذاته.
احلزيب يف المغرب الياسر واالحنطاط ّ عبد اإلله بلقزيز أستاذ الفلسفة:
جامعة احلسن الثاين- الرباط ،المغرب. من آخر كتبه
«ثورات وخيبات» ()٢٠١٢
العمران احلزبي املغربي ،يف ال�سنني الأخرية ،بحالٍ من مير ُ ُّ التف�سخ واالهرتاء ال مثيل لها منذ قيام الظاهرة احلزبية يف البالد قبل ثمانني عام ًا .مت َّتع املغرب مب�ؤ�س�سات حزبية ذات �سمع ٍة و�أثر حتى يف فرتات القمع اال�ستعماري يف الأربعينيات واخلم�سينيات ،ويف عهود القمع ال�سيا�سي، بعد اال�ستقالل ،بني �سنوات ال�ستينيات والثمانينيات. أث��ر يف �إ�ضعاف احلياة احلزبية �أو ومل يكن للقمع � ٌ حولها �إىل ريا�ضة فكرية تف�سيخها ،حتى ال نقول �إنه ّ مر على بالدنا و�سلوكية على املبدئية وااللتزام .ولقد َّ ٍ حزب من الأحزاب ني من الدهر كان االنتماء فيه �إىل ح ٌ الوطنية والتقدمية �أ�شبه ما يكون باالنتماء �إىل جمموعة �صاحب ُه �إال بال�شهادة� ،أو ال�سجن، فدائية؛ لأنه ال َي ِع ُد َ �أو املنفى� ،أو الطرد من العمل .ومل تكن هذه العقوبات أنف�سهم هولهاِ ،ل َت َّ امل َن َتظرة ،على ْ فت من عزائم من �أرادوا � َ منا�ضلني ،فلقد كانوا َح َم َل َة ر�سالة (اال�ستقالل الوطني، بناء الدميقراطية ،)...وكان لهم الأُ ْ�س َوة يف قادتهم وما أحد َّممن خا�ض جابهوه ،ب�شجاعة ،من ابتالءات .وما كان � ٌ �صاحب �ش�أنٍ خا�ص �أو م�صلحة؛ فما يف ال�ش�أن العام َ لعاب �سيا�سي ،وال نيابة كانت هناك وزارة ي�سيل لها ٌ برملانية ُي ْق َت َتل عليها بني املنا�ضلني. التف�سري االخالقي ال يكفي م�شهد احلزبية ،اليوم ،يختلف متام ًا عن ذي قبل ،و�إىل عما �إذا كان امل�ستقبل درجة يت�ساءل فيها املرء -يائ�ساّ - وراءنا ال �أمامنا! ف�إىل �أن �أحزابنا -والتقدمية ال�سيا�سي َ منها ب�شكل خا�ص� -ضاق نطا ُقها التنظيمي حتى َ�ض ُمر، معدل ت�أثريها يف َ و�ش َّحت قاعد ُتها اجلماهريية ،وهبط ّ الر�أي العام ،وداخل الطبقة الو�سطى ،وفقدت بري َقها ِ كانت ال�سلطة حت�سب له ح�ساب ًا يف ما م�ضى .فقد الذي
29
بدايات
العدد |5ربيع 2013
افتقرت �إىل امل�رشوع والر�ؤية والربنامج ،حتى بات املرء يربر لها يجهل ما يف�صل زيد ًا عن عمرو بينها ،وما ّ و�صلة! وال ْأد َهى وال َأم ّر �أنها �أَ ْم َ�ست �ساح ًا البقاء من دون ُب َ ف�سيح ًة للحروب الداخلية بني ذوي امل�صالح فيها ،ت�أخذها �إىل ال�شلل ف�إىل احل َْتف ! ال عجب �إن كان متثيلها ال�شعبي قد �أ�سفر عن ف�ضيحة تاريخية يف االنتخابات الت�رشيعية حزب حديث للعام ،٢٠١١وال عجب �إن ا�ستطاع ٌ وحديث العهد بالعمل يف امل�ؤ�س�سات� ،أن يح�صد الن�ش�أة، ُ املروع انت�صار ًا �ساحق ًا يف االنتخابات. ثمرات �سقوطها ِّ مييل ر� ٌأي �شائع ،يف بع�ض النخبة املثقفة وال�سيا�سية، رد ظاهرة االنحطاط احلزبي �إىل عوامل �أخالقية: �إىل ّ ف�ساد النخب احلزبية الناجم من ت ّذوقها الطعوم اللذيذة بالت َبع� ،إىل القول �إن اخلروج باحلياة لل�سلطة .ويذهبَّ ، ال ال�سيا�سية واحلزبية من هذا النفق املظلم ال يكون �إ ّ بـ «تخليق» هذه احلياة احلزبية (عبارة «التخليق» لي�ست منا�سبة لأنها تعني ،يف الل�سان العربي ،توليد ،تفقي�س. والأدق منها ،ا�شتقاق ًا ،الأَ ْخ َل َقة ن�سب ًة �إىل الأخالق) .ومع ت�سليمنا ب�أن بع�ض ًا من هذا التف�سري دقيق و�صحيح� ،إلاّ �أن الأخالق ال تف�سرّ كل �شيء ،وا�ستالم منا�صب يف ال�سلطة ال يف�رس كل �شيء؛ فلقد ت�سلّم قادة احلركة التقدمية والوطنية منا�صب �سامية (ع�لاّل الفا�سي، عبد الله ابراهيم ،عبد الرحيم بوعبيد ،عبد الرحمن اليو�سفي� ،أحمد بو�ستة ،) ...ومل تف�سد �أخالقهم ال�سيا�سية �أو َت ْق ُبح ،وظلوا متم�سكني بثوابت العمل الوطني� .إن الأخالق عامل مقبول للتف�سري فقط �إن هو كان �ضمن جملة عوامل �أخرى مثل :امل�رشوع ال�سيا�سي والر�ؤية ،والكفاءة القيادية التي تنتزع لنف�سها املقبولية تتح�صل من القدرة على وال�رشعية والهيبة ،والتي ال َّ ال َف ْهل َْوة وممار�سة احلَلقية والت� ُآمر على اخل�صوم!
الفراغ «الكارزمي» ال واح��دا من كل هذه العوامل هو الفراغ لن�أخذ عام ً القيادي يف احلزبية املغربية .نعني بهذا الفراغ غياب الرمزية القيادية عن الذين يت�صدرون �أحزابنا اليوم .حني يتذكر املرء �أن قادة احلزبية املغربية كانوا من طراز عالل الفا�سي ،وحممد بلح�سن الوزاين ،وعبد الله �إبراهيم ،وعبد الرحيم بوعبيد ،وعلي يعته ،وعبد الرحمن اليو�سفي، أحممد بو�ستة ،وحممد بن�سعيد ،و�أن من كان �سريث و� ّ بع�ض ه�ؤالء يف القيادة رحل �إىل رحمة الله (املهدي بنربكة ،عمر بنجلون ،عزيز بالل)ُ ،ي�صاب باحل�رسة على امل�آالت وامل�صائر التي انتهت �إليها القيادات احلزبية بعد غياب الر�أ�سمال الكاريزمي ،الذي مل يكن �شيئ ًا �آخر غري ر�أ�سمال الكفاءة واالقتدار وال�صدقية .و�أذكر �أنه
الكاريزمي» لتف�سري ظاهرة انحطاط احلزبية ال�سيا�سية يف املغرب :منتقد ًا املفهوم ،ومفند ًا فر�ضية االنحطاط احلزبي من الأ�سا�س .فالتم�سك مبفهوم الكاريزما-يف ح�سبانه- �سية العقالين والع�رصي ،الذي عليه ن ْق ٌ �ض ملبد�إ امل� ّؤ�س َّ ني �إىل فكرة الزعيم ينبغي �أن يقوم العمل احلزبي ،وحن ٌ ورجم احلياة احلزبية املغربية بتهمة االنحطاط امللهم؛ ُ رف�ض لر�ؤية الدينامية ال�سيا�سية اجلديدة التي �إمنا هو ٌ تتخلَّق وتن�ش�أ يف �أح�شاء الأحزاب ال�سيا�سية ،و ُتنتج �أطرا ً منتخبة من قواعدها بنزاهة ،الخ .هكذا وقيادات جديدة َ النقد �إىل َن ْحر الناقد للقول �إن حال احلزبية املغربية ُي َر ُّد ُ و«التقدمية» منها خا�صة -حالٌ َح َ�س َنة ،متوازنة� ،أو هيولي ْن َظر �إىل النقد وك�أنه تحَ َ ُّي ٌف طبيعية يف �أ�سو�إ تقدير لهاُ ، وم ْغرِ �ض ،غايته التحبيط والتخذيل. ٌ مق�صود ُ
�إن احلياة احلزبية املغربية لــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم تنجب ،من � ٍ أ�سف ،قيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادات بديل قادرة على �إدارة ال�شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ�أن احلزبي ،و�أن دعوة َمن بقي من قيـــــــــــــــــــــــــادات �إىل االعتزال (وكان منهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا، يف ذلك احلني ،اليو�سفي ،يعتــــــــــــــــــــــــــــــــــه، بو�ستة ،بن�سعيد) دعوة �إىل �إدخــــــــــــــــــــــــــــــال امل�ؤ�س�سات احلزبية يف املجهـــــــــــــــــــــــــــــــــول
غياب ثقافة �سيا�سية دميقراطية لن نخو�ض يف �سجال مع هذا االعرتا�ض يف مفهومه للكاريزما ،ويف دح�ضه لفر�ضية االنحطاط احلزبي، بل نكتفي ب�سوق مالحظتني من واقع ما يجري يف بيئة العمل احلزبي يف املغرب. أوله َما� :أن القائد الكاريزمي ال يختفي من امل�شهد � ُ ملجرد الرغبة يف اختفائه ال�سيا�سي (الدولتي �أو احلزبي) ّ املعنوي ،وال من طريق عملية «قتل والتحرر من �سلطانه ّ ُّ الأب» (يف التحليل النف�سي) ،و�إمنا هو يختفي وتنتهي وي ْع ُم ُر عمرا ُنها احلاجة �إليه حني تن�ش�أ امل�ؤ�سَّ �سة فع ً ال َ فراغ مطلق ،وال بالروح امل�ؤ�سَّ �سية .وهذه ال ت�أتي من ٍ �سحري ًا كخروج الأرنب من تخرج �إىل الوجود خروج ًا ّ كُ ِّم احلاوي يف َع ْر ٍ هيئ �ض بهلواين ،و�إنمّ ا ت� ِّؤ�س�سها -و ُت ِّ لها -ثقاف ٌة �سيا�سية دميقراطية ،وتقاليد دميقراطية مرتاكمة يف العمل احلزبي (كما يف الدولة) .وعندي �أن هذه الثقافة ،وهذه التقاليد ،هي اليوم -وحتى �إ�شعارٍ �آخر -يف حكم العدم .بل �إن واقع احلال يف املجتمع احلزبي املغربي يقول -منذ عقدين على الأقل � -إن ملوثة ب�أمرا�ض احللقية ال�ضيقة و�رصاعات البيئة احلزبية َّ امل�صالح ال�صغرى على املقاعد واملنا�صب ،و�إن الثقافة ال�سيا�سية لأحزابنا تنحدر �إىل قعر ال قرار له ،وال تكاد ال بالق�شور ،و�إن حتتفظ من مرياثها يف املا�ضي القريب �إ ّ الفهلوة والتكايد و َتب ِ ييت امل َُب َّيت ،يف ُجنح الظالم ،هي ْ �أخالق �أكرث �أحزابنا ! ومن � ٍ أ�سف �أن معنى امل� ّؤ�س�سية عند ٍ بع�ض َي ْ�ص ُغر ويتق َّزم �إىل حدود و�سائلية �أو �أدواتية: االق�تراع احلزبي! ونحن ن�س�أل هنا :على َمن يقرتع
متربم بالقيادات حني ازدهر ،قبل ع�رشين عام ًا ،حديث ّ التاريخية ،ومدافع عن �رضورة «ت�شبيب» الو�ضع القيادي يف الأحزاب («الت�شبيب» عبارة غري منا�سبة لأن معناها، كتبت ر�أي � ًا يف املو�ضوع يف الل�سان العربي ،ال َغ َزل)، ُ مفاده �أن احلياة احلزبية املغربية مل تنجب ،من � ٍ أ�سف، قيادات بديلة قادرة على �إدارة ال�ش�أن احلزبي ،و�أن دعوة َمن بقي من قيادات �إىل االعتزال (وكان منها ،يف ذلك احلني ،اليو�سفي ،يعته ،بو�ستة ،بن�سعيد) دعوة �إىل �إدخال امل�ؤ�س�سات احلزبية يف املجهول الذي ها نحن ،اليوم، دخلناه من الباب الوا�سع ،باب حيازة مراكز القرار ال ّأول يف �أحزابنا من ِق َبل قيادات جديدة يطعن كثريون -من داخل �أحزابها -يف كفاءتها ،ويف نزاهة بع�ضها ،وي�شك تدخل ال�سلطة لتمكينها من �آخرون يف وجود ب�صمات ُّ الفوز بتلك املواقع يف م�ؤمترات �أحزابها ،وخا�صة «حزب اال�ستقالل» و«االحتاد اال�شرتاكي» ،وقبلها «حزب التقدم واال�شرتاكية» («احلزب ال�شيوعي» �سابق ًا)! تو�سل مفهوم «ال��ف��راغ ثمة م��ن يعرت�ض على ُّ
30
بدايات
العدد |5ربيع 2013
املقرتعون؟ على برامج �أم على �أ�شخا�ص جدد يعرفون من �أين ت�ؤكل الكتف؟! ف�أما الربامج فال وجود لها يف م�شهد اليوم ،و�أما الأ�شخا�ص فلي�سوا من ذوي الكفاءة املعرتف لهم بها من �أحزابهم ،ولي�سوا ممّن يتقنون التجميع والتوحيد ك�إتقانهم للتفرقة والت�شتيت! وثانيهما �أن ظواهر االنحطاط مطروحة على قارعة الطريق ال�سيا�سي ،يراها الذاهب واجلائي ،وال يخلو ِ متجاهلُها �أن يكون على �أحد وجهينْ ّ � :إما جاهلٌ لها لعلم مل َي ْح ُ�صل له ب� ْأمرِ ال�سيا�سة يف املغرب حني كانت ٍ يف ٍ حال من العافية واال�ستقامة ،ربمّ ا ِل ِ�ص َغر �س ّنه وحداثة عهده وظ ِّنه �أن ال�سيا�سة وم�ؤ�س�ساتها �إمنا هي ما يراه ،و� ّإما احلزبي و�صار، مكا ِب ٌر يت�أبى االعرتاف مبا �إليه �آل العملُ ّ لأن يف اعرتافه بذلك قرين َة االتهام بال�ضلوع وال�سَّ هم باحل�صة يف ما �صار �إليه � ْأم� ُ�ر ذلك العمل (احلزبي). ّ و�سيكون من باب الإفا�ضات والنوافل-حتى ال نقول من التزيد يف اال�ستزادة � -أن ن�ستدل على االنحطاط، باب ُّ دب �إىل عمران العمل احلزبي «التقدمي» ،بالفاجعة الذي َّ واحدا هو «حزب االنتخابية الأخرية التي جعلت حزب ًا ً العدالة والتنمية» الإ�سالمي يح�صل على جمموع ما ح�صل عليه ثالثة �أح��زاب وطنية عريقة من املقاعد هي« :حزب اال�ستقالل» و«االحتاد اال�شرتاكي» و«حزب التقدم واال�شرتاكية»! ولي�ست الف�ضيحة ال�سيا�سية هذه، ٍ ل�سل�سلة وهي تاريخية وغري م�سبوقة� ،إال التتمة املنطقية من حل ٍ والرتهل يف البنى ْقات مت�صلة من عوامل التفكك ّ ال�سيا�سية والتنظيمية ،ويف الر�ؤى واخليارات الربناجمية ا�ستقر عليها عمل تلك الأح��زاب والقوى يف التي ّ أخريين ،وخا�صة منذ مطالع هذا القرن. العقدين ال ْ
ِ ت�ضاءلت الفروق بني ِح�ضن ال�سلطة ووزارة الداخلية. ٍ رائحة من بع�ض اجلبهتني حتى كادت �أن متَّحي لوال ُ املا�ضي تنبعث ،بني فينة و�أخ��رى ،فتبعث يف النف�س حنين ًا �أو ح�رس ًة �أو هما مع ًا جمتمعني! كان لدينا ي�سار ،قبل ثالثني عام ًا� ،أطلقنا عليه ا�سم احلركة التقدمية ،متييز ًا �إيديولوجي ًا عن احلركة الوطنية، و�إ�رصار ًا على ر�ؤية م�سا ِئلَ و�آفاق جديدة مل تكن احلركة الوطنية تلْحظها يف �سنوات ال�ستينيات .وكان «االحتاد اال�شرتاكي» قطب الرحى يف ذل��ك الي�سار ،وعلى �أطرافه التنظيمات املارك�سية-اللينينية و«حزب التقدم واال�شرتاكية » ،و� ْإن مل َت ْ�س َت ِقم العالق ُة بني هذه الأطراف دائم ًا� ،أو يف املعظم من �أطوارها التاريخية؛ لأ�سباب وبع�ضها الثاين ذات��ي .لكن هذا مو�ضوعي بع�ضها ُ ُ ّ الي�سار ظل ي�ستطيع ،مع ذلك ،ولفرتة عقدين كاملينْ ، �أن َي ْب ُ�سط �سلطانه الفكري وال�سيا�سي على املجتمع ِ قواه يني واملنظمات ال�شعبية ْ واملهنية .هكذا �سيطرت ُ املَد ّ على املنظمات الطالبية والعمالية والثقافية ،على نحو �سيطرتها على �ساحة ال�صحافة املكتوبة ،وكان له يف ت�رصفه هذه ال�سيطرة الكفاية وال ُغ ْنية؛ لأنها و�ضعت حتت ّ من � ٍ أ�سف �أن معنى امل� ّؤ�س�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــية ٍ �صغُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر عند بع�ض َي ْ ٍ ويتقزم �إىل حدود و�سائليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة َّ �أو �أدواتية :االقرتاع احلزبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي! ونحن ن�س�أل هنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا: على َمن يقرتع املقرتعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون؟ على برامج �أم على �أ�شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــخا�ص جدد يعرفون من �أين ت�ؤكل الكتــــــــــــــــــــــــــف؟!
ي�سار يفقد ر�ؤياه على �أن عامل الفراغ القيادي ،وهو ُي ْط ِلعنا على غياب �شبك ًة هائلة من امل�ؤ�س�سات االجتماعية وال�شعبية ذات ا�ستخدامها يف املعتبرَ ة ،كان َي َ�س ُعه البدائل القيادية وامل�ؤ�سَّ �سية ،قد ال يكفي لتف�سري ظاهرة القوة التمثيلية َ ُ لقواه احلزبية. الفراغ الر�ؤيوي الذي تعانيه احلركة الوطنية والتقدمية ال�رصاع ال�سيا�سي رافد ًا عظيم ًا ُ عدة ك َّفت فيها عن تقدمي ر�ؤى ومن النافل القول �إن ذلك النفوذ الذي كان للي�سار املغربية منذ �سنوات ّ أتاه من دورٍ وبرامج ّ ت�شد �إليها قطاعات من ال�شعب ،وحت�صل على يف هذا املحيط االجتماعي والوطني �إمنا م� ُ ٍ شِ ٍ وبناه على ر�ؤية َتل َْحظ م�ساندتها .وتلك م�س�ألة مل تلتفت �إليها فتعريها انتباه ًا ،ن� ط نه�ض به ،يف ذلك الإبان، ُ ا�ست�صغرت �ش�أنها على نحوٍ يدعو �إىل الغرابة! و�إمنا �أهمية العمل يف الأط��ر االجتماعية الأو�سع بالن�سبة ْ مل يعد للي�سار وقوى احلركة الوطنية يف املغرب �إىل �أية حركة �سيا�سية؛ فالي�سار ،حينها ،كان �صاحب اجتماعي�-سيا�سي م�رشوع اجتماعي�-سيا�سي ،وامل�رشوع هذا كان م�رشوع تتميز به ،وتتمايز ،عن م�رشوع ّ ّ ّ حميطها من الأحزاب ال�سيا�سية الأخرى :ما خرج منها التغيري اال�شرتاكي الدميقراطي لبنى الدولة واملجتمع .وهو حقيقي ًا � َّأداه ،بحما�سة، ونظري ًا فكري ًا �إىل الوجود من رحم املجتمع ،وما �أب�رص النور منها يف م�رشوع كلّفه َجهد ًا ّ ّ ّ
31
بدايات
العدد |5ربيع 2013
مثقفوه و�أط� ُ�ر ُه و�أكادمييوه :الذين و�ضعوا حتت ت�رصفه ر�ؤًى وبرامج عمل يف امل�س�ألة االجتماعية ،ويف التنمية االقت�صادية ،ويف �إدارة امل�ؤ�س�سات املحلية ،ويف الهند�سة الدميقراطية للدولة ،و�سوى ذلك من م�سائل كان ينبغي �أن ُيجاب عنها بربامج قابلة للتحقيق .ومل يكن قليل ال�ش�أن �أن مدار هذا امل�رشوع كان على م�س�ألة احلقوق االجتماعية واالقت�صادية لل�شعب وطبقاته الكادحة والفقرية ،وعلى العدالة يف توزيع الرثوة ،وتقلي�ص الفجوة الطبقية يف املجتمع ،و�إ�صالح القطاع العام وتفعيل �أدواره االقت�صادية ،وتوفري فر�ص العمل للخريجني والعاطلني ،وحماربة الف�ساد املايل والإداري ،و�إجناز الإمناء املتوازن للمناطق واجلهات ،ورفع التهمي�ش والعزلة عن العامل القروي ،و�إعادة االعتبار �إىل القطاعات املنتجة (ال�صناعة والزراعة) على ح�ساب ت�ضخم القطاعات �داره على م�س�ألة احلقوق الطفيلية ،الخ؛ مثلما كان م� ُ ال�سيا�سية واملواطنية لل�شعب ،وعلى وجوب تر�سيخ احلياة الدميقراطية والتمثيلية وتطويرها ،ومقاومة تزييف �إرادة ال�شعب ،و�إلغاء القوانني والظهائر التي تحَ ُ ُّد من العامة وحقوق الإن�سان ،و�إنهاء حالة االعتقال احلريات ّ وجد حامله ال�سيا�سي ال�سيا�سي ،الخ .وهو امل�رشوع الذي َ (احلزبي) وحواملَه االجتماعية الفاعلة ،مبقدار ما �أكْ َ�س َب قواه �رشعي ًة يف بيئات اجتماعية عدة (الطبقة الو�سطى، العمال ،فقراء �أحزمة الب�ؤ�س) ونفوذ ًا ملحوظ ًا. ّ
و«الوطنية» ،من ر�أ�سمال الفكر واملعرفة! و�إىل ذلك ف�إن �سطوة البريوقراطية احلزبية املحرتفة على تقاليد ا�ستتب َع ْت نوع ًا �آخر خمتلف ًا من امل�ؤ�س�سات «الي�سارية» َ كبري احتفال �أو ال�سيا�سة والعمل احلزبي ال يحتفل، َ قدر احتفاله بو�سائل حت�صيل �صغريه ،بالربنامج والر�ؤية ْ
ت�سويغ نظري و� ْأخل َْت مكانها لنقائ�ضها ...حتى من دون ٍ لهذا االنتقال الفجائعي نحو �ضفاف �أخرى! وانتهى عهد العالقة بال�شعب والعمل يف قطاعاته لتحل حملها تقاليد � واخت صرِ املخاطبة الفوقية (يف ع�رص و�سائط االت�صال) ! ُ جمرد مقاعد يف الربملان ما عاد الن�ضال الدميقراطي يف ّ يتحرج يف ا�ستح�صالها باملال ال�سيا�سي و�أعيانه «الي�سار» َّ �أ�سو ًة بغريه من القوى! الي�سار اليوم� ،إن جاز َن ْع ُته بهذا اال�سم ،ذو عقيدة �أخرى خمتلفة :الليربالية االقت�صادية، حزب «الأطر» ورجال والليربالية ال�سيا�سية ،وهو بات َ الأعمال ال حزب اجلماهري ،وحزب الرباغماتية ال�سيا�سية املنفلتة من � ّأي ِع َقال! ال جمال ،بعد هذا ،لل�س�ؤال عن �أ�سباب ا�ضمحاله و�أفوله وميل م�ؤ�س�ساته �إىل ال�صريورة كائنات ميكرو�سكوبية!
الي�سار اليوم� ،إن جـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاز ن َْع ُته بهذا اال�سم ،ذو عقيدة �أخرى خمتلفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة: الليربالية االقت�صاديـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة، والليربالية ال�سيا�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــية، وهو بــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات حزب «الأطر» ورجال الأعمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــال َ ال حزب اجلماهري ،وحزب الرباغماتيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة ال�سيا�سية املنفلتة من � ّأي ِع َقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــال!
هجرة املثقفني ما عاد يخامرنا �شك ،منذ زمن غريِ ي�سري ،يف �أن واحد ًا من � ْأظهرِ �أ�سباب الفقر الر�ؤيوي والربناجمي لدى َّ املنظم التهمي�ش الي�سار واحلركة التقدمية يف املغرب َ ٍ انف�صال نكد بني ا�ستج َّر ُه ذلك من للمثقفني فيه ،وما َ الفكر وال�سيا�سة ،بني النظرية واملمار�سة .لي�س هنا مقام التحوالت التي كان اجل�سم احلزبي املغربي احلديث يف ّ ميدان ًا لها ،يف العقود الثالثة الأخرية ،والتي �أف�ضت �إىل تغيرُّ ٍ هائل يف طبيعة القوى والنخب ال�سيا�سية فيه،
ح�صته من ال�سلطة ،حتى �أن ن�شاط «الي�سار» اقت�رص، �أو كاد �أن يقت�رص ،على االنتخابات الت�رشيعية واملحلية! من الطبيعي �أن ال يجد املثقفون مكان ًا لهم يف مثل هذه البيئة النابذة ،فيهجروها �أو -على الأقل -يقيمون معها بع�ض امل�سافة ال�رضورية التي حتفظ لهم ا�ستقالليتهم حر ونقدي .ولقد كان َي َ�سع �أحزابنا ،حتى مع ك�أهل ر� ٍأي ٍّ حتمل �أدوارهم فيها� ،أن ُي ْب ُقوا على برمها باملثقفني وعدم ّ ٍ أ�شكال من ال�صلة غريِ املبا�رشة بهم ،ولو من طريق الإفادة � من املنتوج الفكري الذي ينتجونه يف ال�ش�أن العام :يف م�سائل الدولة وال�سلطة ،واالقت�صاد والتنمية ،واالجتماع الأهلي وال�سيا�سي ،وامل�س�ألة الدينية والثقافية ،وامل�س�ألة االجتماعية و�سواها مما يتناولونه بالدر�س يف عملهم الأكادميي �أو بالر�أي يف الدوريات اليومية والأ�سبوعني. غري �أن �شيئا من ذلك مل يح�صل ،من � ٍ أ�سف ،على �شدة حاجة امل�ؤ�س�سة احلزبية �إليه؛ فكانت التلفيقية الفكرية وال�سيا�سية ،واالنتقائية الرباغماتية ،والعموميات اللفظية ال�سمات الأطغى على اخلطاب احلزبي «الي�ساري» بعد � ِأن ا ْف َر ْن َق َع املثقفون عن امل�ؤ�سَّ �سة احلزبية مكْ َرهني ال خمتارين. مع ذل��ك ،مل تكن الهجرة اال�ضطرارية للمثقفني املغاربة من �أح��زاب الي�سار وتنظيماته -امل ُْعلَن منها وامل�سكوت -هجر ًة من ال�سيا�سة وال�ش�أن العام �أو طالق ًا؛ فال�صلة بينها وال�سيا�سة ما انقطعت ،وال انقطع لديهم ار ُهم يف �أح�سن حال. الرجاء والأم��ل يف �أن يروا َي َ�س َ ٍ �شكوك يف قدرة على ما كان يحا�رص ذلك الأمل من �أويل الأم��ر» من «ق��ادة الي�سار» على اج�تراح حلول
الي�سار ظل ي�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتطيع. كاملي �أن َي ْب ُ�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــط لفرتة عقدين نْ �سلطانه الفكري وال�سيا�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي يني واملنظمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات على املجتمع املَ ِد ّ واملهنيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة. ال�شعبية ْ هكذا �ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيطرت قوا ُه على املنظمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات الطالبية والعمالية والثقافيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة جمرد ذكرى مل َي ْب َق من ذلك كلِّه �إلاّ الأطالل ،بل ّ بالتح�سرُّ ! ك�أن الذي يف�صل تبعث يف النف�س ال�شعور َ الي�سار عن ما�ضيه القريب لي�س ثالثة عقود فح�سب ،بل ريحه! أذهب ْت َ ثالثة قرون نه�شت يف تراثه ومكت�سباته و� َ املرء �أن يطالع ،اليوم� ،أدبياته ال َّ نتزيد يف ما نقول ،يكفي َ هول ما انتهت �إليه �أحواله: و«براجمه» ليقف ،بالعيان ،على ْ تبخ ِ رت اال�شرتاكية وخياراتها االجتماعية-االقت�صادية، َّ
32
بدايات
العدد |5ربيع 2013
والتفتت .ولقد ومعاجلات لظواهر بالغة البالء كال�ضمور ُّ كان ذلك احلر�ص يف �أ�سا�س �إقدام جمموعة من مثقفي الي�سار ،م�ستقلني ومنتمني ،على �صوغ وثيقة فكرية- �سيا�سية مو�سَّ عة حملت عنوان «بيان من �أجل وحدة الي�سار» ،وذ ُِّيل َْت بتوقيع �ستة و�أربعني �شخ�صية من �أَ ْظ َهر
لكنها منا�سبة للقول �إن املثقفني ما عادوا يحتلون املكانة عي َنها التي كانت لهم يف مراكز القرار والتنفيذ يف امل�ؤ�س�سات احلزبية لأ�سباب ال تعود-قطع ًا � -إىل عزوفهم عن ال�سيا�سة و�إبائهم تقل َّد امل�س�ؤوليات احلزبية ،على نحو يروج َمن يعالنوهم اخل�صوم َة داخل الأحزاب ،و�إمنا ما ّ لأ�سباب �أخرى لي�س �أقلّها �أن ر�أ�سمال املال والوجاهة بات �أدع��ى �إىل الطلب يف احلياة احلزبية «التقدمية»
33
بدايات
العدد |5ربيع 2013
الرموز الثقافية التقدمية يف املغرب ،ورام مو ّقعوها توفري مادة فكرية�-سيا�سية مرجعية لعمل الي�سار يف املرحلة القادمة ،وفتح نقا�ش عمومي يف امل�سائل التي �أثار ْتها، ٍ ملراجعة نظرية حا�سمة اقرتحتها ماد ًة ويف العناوين التي ْ ِ اعتقدت �أن على الي�سار �أن ُي ْقدم عليها بجر�أة يف �أفق املتذررة .ومع �أن �إعادة بناء �أو�ضاعه ،وتوحيد تنظيماته ِّ الوثيقة ن�شرِ ت منذ خريف العام ،٢٠١٢يف جريدة «�أخبار اليوم » ،و�أعادت مواقع الكرتونية عدة ن�رشها، مثلما �أعادت جملة «النه�ضة» ن�رشها يف عددها الثاين ال�صادر حديث ًا� ،إال �أن جه ًة من �ساحة الي�سار مل ت�أبه لها، �صحفي ًا ،وك�أنها �صادرة من جهة وال حتى تهتم ب�أمرها ّ جمهولة ،وك�أن لدى الي�سار من الوثائق والر�ؤى ما يغنيه عنها! لقد �أح�سن املثقفون املو ّقعون على الوثيقة الظن ٍ بحوار وجهدهم بي�سارهم ،فتوقعوا منه �أن يبادل مبادرتهم َ يفتحه يف م�ؤ�س�ساته الداخلية� ،أو يف �صحافته ،ملناق�شة ما ورد فيها من �أفكار و�أطروحات و�أ�سئلة .لكن ظنهم خاب؛ �إذ كلٌّ يف ٍ فلك ي�سبحون ،وامل� ّؤ�س�سة ما عادت تطيق ر�أي ًا يحا�سبها على تق�صريٍ ال ترى فيه تق�صري ًا ،وهي ال تقبل كيل املدائح لها (على ماذا؟!). من املثقفني �سوى ْ �إن امل�ؤ�س�سة التي ال عقل لها ال ميكنها �أن تنجب غري الفجائع؛ الفهلو ُة ،و»ال�شعبوية» ،وا َ حللَقية ال تبني �سيا�سة فكيف تبني ي�سار ًا ،وتهمي�ش املثقفني و�إق�صا�ؤهم من يحرر �أفكارهم و�أل�سنتهم من قيودها امل�رضوبة امل�ؤ�س�سة قد ّ ِ أهم مواردها وي�أخذها �إىل عليهم ولكنه ُي ْفقر امل�ؤ�سَّ �سة من � ّ ولكن �أكرث النا�س ال َي ْعلمون. املتاهة ال�سيا�سوية، ّ
الثورة اليمنية العاتية خا�صة و�أن روح هذه الثورة كان يتعدى �شعار ا�سقاط النظام �إىل ا�سرتداد الكرامة اليمنية التي عمل نظام �صالح على جتريفها كما جرف الأرا�ضي اليمنية يف اتفاقية الطائف .كانت الكرامة اليمنية ُ�صلب الهتاف احلي الذي يطالب ب�سيادة القرار ال�سيا�سي يف اليمن و�سيادة حق هذا ال�شعب يف تقرير م�صريه وف ًقا حلرية كاملة وغري م�رشوطة .لكن النظام ال�سعودي ونتيجة خلربة متمر�سة يف امت�صا�ص كل اهتزازات املنطقة العربية ،كان عليه هذه املرة �أن يبدو طيب ًا و�أن ي�ستخدم ورقة �أخرى وهي ورقه حتالفه التاريخي مع نظام �صالح والقبائل املرتبطة به وبع�ض القوى ال�سيا�سية امل�شرتاة باملال .لذا ا�ستطاع النظام ال�سعودي فر�ض «املبادرة اخلليجية» كت�سوية �سيا�سية مقبولة يف نظره ليبقى اليمن رهينة ل�رصاع مراكز النفوذ القبلية اليمنية وليظل يف حالة �سقم متوا�صلة يف انتظار يد اجلار العطوفة.
جار جيور اليمنٌ : برشى المقطري �أفكر بهذا اجلار ال�ضخم و�أذاه العابر للحدود� .أذى قدمي يالحقك على �شكل عقال مهرتئ يخنق رئتك ومينعك كاتبة وناشطة ،من التنف�س و�أنت حتاول اال�ستكانة جلار �ضخم يتفنن يف تعزّ -اليمن ,ام�ساكك من الرقبة كلما متل�صت من االرتهان ملزاجيته آخر أعمالها رواية العابثة يف التعامل مع �أخالقية اجل��وار وا�ستغاللها «خلف الشمس» والذي البد �أن يح�رشك يف نفق �ضيق كلما وجد حيلة ( )٢٠١٢لت�أكيد ابتزازه التاريخي. االبتزاز التاريخي لهذا اجلار قدمي اي�ض ًا ف�أنت ال ت�ستطيع التنب�ؤ ب�سلوكه حيالك �أبد ًا ،و�أنت ترى تدخله املفرط يف �ش�ؤونك الداخلية والتل�ص�ص على حياتك من نافذة مثقوبة ليملي عليك �أفعالك وطريقة حياتك ،ولي�س عليك �أن تعرت�ض وتبدي قلة احليلة والعجز يف �صد هذا الأذى املتق�صد بل عليك ويف كل حلظة وجودية تعي�شها كيف �إبداء ا�ستعدادك القانع لتقبل هذا اجلوار الأبدي و ُت ّ نف�سك مع �رشوط مجُ حفة للقوة. القوة للنفط ��شروط القوة كانت دائ��م� ًا ل�صالح اجل��ار -النظام ال�سعودي -لي�س لأ�سباب التفوق البيولوجي كما يعتقد البع�ض بقدر ما هو تفوق النفط يف ر�سم معادلة القوة يف واقع يعتمد على ميزان ال�سوق وخ�ضوع النظام يف اليمن الهتزازات كثرية منذ قيام اجلمهورية اليمنية عام ١٩٦٢وحتى اللحظة وتدخل هذا النظام لفر�ض امالءات ال حترتم عالقة اجلوار و�إمنا تنطلق من �أر�ضية ال الأمن القومي للنظام ال�سعودي وكيف يرو�ض مث ً جاره ال�ضعيف �سيئ الرتبية .لذا عليه �أن ي�ستخدم كل الأوراق يف جعل هذه اجلار مري�ضا وبحاجة لعملية انعا�ش متوا�صلة �أو يف حالة موت �رسيري حتى ال ي�شعر النظام ال�سعودي ب�أي تهديد ي�أتي من هذا اجلار
34
بدايات
العدد |5ربيع 2013
دائما على ظهره .لذلك تنوعت �أوراق القوة امل�ستلقي ً التي ي�ستخدمها النظام ال�سعودي واختلفت باختالف الظروف املحيطة .ففي كل مرحلة هناك ورقة جاهزة لك�رس الرقبة .وهنا تربز �أهم ورقة يجيد لعبها النظام ال�سعودي وهي ق�ضية العمالة التي يلج�أ �إليها لي�س فقط حلب�س �أنفا�س اليمن و�إمنا كل بلد يحاول ممار�سة ا�ستقالليته ال�سيا�سية بعيد ًا عن امالءاته .فالأعمال العدائية التي انتهجها �ضد العمالة العربية حتتاج ملقاربات كثرية ال�ستقراء هذه الذهنية يف التعاطي مع الآخر املختلف املقيم يف �أرا�ضيه والتي تكفل له كل ال�رشائع االن�سانية والديانات ال�سماوية العي�ش الكرمي لكن ذهنية النظام ال�سعودي ظلت ت�ستخدم العمالة العربية ورقة للتدخل يف ال�ش�ؤون الداخلية لهذه البلدان وجتيريها ل�صالح هذه العقلية املنغلقة التي تكر�س مبد�أ انتهاك الآخر العربي والأ�سيوي والأفريقي ّ وكل جن�سية طارئة قادمة من وراء حدود النفط ومل ي�ستثن �أحد ًا من هذا العدوان اليومي. ا�ستخدم النظام ال�سعودي ورقة العمالة �ضد البلدان العربية قبل ثورات الربيع العربي ،وكانت هناك �أزمات متوا�صلة بلغت �إىل حد رف�ض هذا االمتهان و�إغالق ال�سفارات ال�سعودية يف م�رص قبل �أع��وام وكذلك يف ليبيا وغريها من البلدان .وحني قامت الثورات يف البلدان العربية وج��د النظام ال�سعودي نف�سه �شبه معزول وعليه �أن يخلق خطط ًا ذكية المت�صا�ص الغ�ضب العربي من تدخالته التي ال تنتهي ،وهنا وجد نف�سه احلار�س الوحيد ل�صد رياح التغيري عن �شباكه بل وتغيري دفة هذه الرياح يف بلدان الثورات وتعديل قوتها ،و�أحيانا حب�سها يف قنينة كما فعل مع ثورة البحرين .وبالدرجة ذاتها كان عليه �أن ي�صد رياح
ترحيل ٢٠٠الف واعتقال ٢٥٠٠ ظلت �صورة اجلار العطوف والراعي الطيب للمبادرة اخلليجية هي امل�سيطرة على م�شهد العالقات ال�سعودية اليمنية اثناء املرحلة االنتقالية ،واختفت ورقة العمالة ال من الوقت لتظهر من جديد �أثناء احلوار اليمنية قلي ً الوطني اليمني ليعود النظام ال�سعودي اىل حيلته القدمية واللعبة التي يتفنن فيها الذالل احلكومة اليمنية ليد�شن هذه املرة حملة اجلوازات ومطاردة العمالة ال�سائبة على حد و�صفه� ،أو حملة تطهري البالد كما اطلق عليها بع�ض املثقفني ال�سعوديني املتع�صبني ،لتتزامن هذه احلملة مع تعدت فر�ض قانون العمل عملية (فجر )٣الأمنية التي ّ ال�سعودي اجلديد على العمالة اليمنية �إىل مالحقتهم يف �أرزاقهم و ُق ْوتهم اليومي وم�صادرة الإقامات ومتزيق كثري منها .لت�صل هذه احلملة الهوجاء املعادية لكل ميني مقيم يف ال�سعودية �إىل ترحيل �أكرث من مائتي �ألف ميني دون جنحة �أو �إخالل بالقوانني ال�سعودية ،بالإ�ضافة �إىل حملة اعتقاالت وا�سعة حيث و�صل عدد ال�سجناء اليمنيني يف ال�سجون ال�سعودية لأكرث من ٢٥٠٠ميني ح�سب �إح�صائيات بع�ض املنظمات احلقوقية اليمنية، لتتوج هذه املمار�سات ببناء �سياج عازل على طول احلدود اليمنية ال�سعودية والتي ت�صل �إىل �أكرث من ١٤٥٠كيلومرت ك�أطول �سياج عازل يف العامل. �أدرك النظام ال�سعودي �أن هذه الورقة املُملة –
35
بدايات
العدد |5ربيع 2013
مطاردة العمالة � -ستجلب له كثري ًا من احلرج لي�س �أمام �شعبه بل �أمام املنظمات احلقوقية الدولية التي بد�أت الآن تقتفي �أثر االنتهاكات ال�سعودية .وجد النظام ال�سعودي نف�سه يبحث عن حيلة �أخرى �أكرث رواج ًا وعاطفية تقوم على ا�ستثارة امل�شاعر الطائفية عند ال�سعوديني واخلليجيني ،لي�صبح النظام ال�سعودي هذه ال�سنة يف مواجهة املرة هو النظام البطل حامي حمى ُ التمدد الإيراين ال�شيعي يف املنطقة الذي يريد �رش ًا بال�سنة ويريد �إحراقهم واخراجهم عن طائفتهم .فالنظام ّ االيراين وفق هذا املنطق يقوم حالي ًا ب�أعمال عدائية �ضد النظام ال�سعودي عرب ا�ستخدام املغرتبني اليمنيني داخل الأرا�ضي ال�سعودية وكذلك الأفارقة املت�سللني. وهو ما روجت له كتابات عديد من مثقفي ال�سلطة يف �إىل متى �ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتظل ورقة العمالـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة اليمنية والعربيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة والآ�سيويــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة ع�صى غليظة ت�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتخدم �ضد �شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــعوب الله الفقيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرة امل�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت�ضعفة. اخلليج ،ونذكر منها ما كتبه الكويتي الدكتور عبد الله النفي�سي الذي ا�ست�أ�سد مع النظام ال�سعودي يف حملته �ضد اليمنيني ،وبرر ذلك ب�أن �إيران ا�ست�أجرت جزيرة (دهلك) اليمنية فيها �آالف اليمنيني والأفارقة لتدريبهم ع�سكري ًا ا�ستعداد ًا ليوم الف�صل بدعم من الفئة ال�ضالة (احلوثيني) على حد و�صفه .وهنا يربز ده��اء النظام ال�سعودي يف اعتماده على هذه احلجة الواهية ،وهي التخندق الطائفي ،كونها الطريقة الوحيدة يف الدفاع ال�ساذج عن �أنظمة تنتهك حقوق �شعوبها وحقوق ال�شعوب الأخرى بالبحث عن عدو خارجي .عدو ال يختلف يف العقيدة و�إمنا يختلف يف الطائفة وي�ستمد الكراهية من تاريخ موغل يف ال�رصاع الطائفي املنهك، خ�صو�ص ًا �أن هذه الورقة جنحت يف حتجيم ثورات الربيع العربي وحتويلها من ثورات �شعوب حية تطيح الأنظمة الفا�سدة �إىل ثورات حروب الطوائف .وما يحدث يف �سورية والبحرين وم�رص واليمن اليوم دليل على انت�صار عقلية الطائفة على عقلية الوطن.
36
بدايات
العدد |5ربيع 2013
عذر املذهبية فعقلية الطائفة املباركة �أو الطائفة املُختارة �أو الطائفة الناجية من النار جعلت من النظام ال�سعودي درع ال�س ّنة الأخ�يرة يف مواجهة النظام االي��راين ،الدرع احل�صينة لل�شيعة ،اللذين ي�شرتكان يف القبح ذاته ويف العقلية الدينية الأ�صولية ون�رش الكراهية لل�سيطرة على ثورات فقدت هي الأخرى اختبار �صالبتها يف احلفاظ على امل�شرتك الإن�ساين. ال ل�ست �ضد �أن يبني اجلار ال�سعودي جدا ًرا عاز ً ُ يف�صل بني ي�أجوج اليمني وم�أجوج ال�سعودي ،ليبلغ هذا اجل��دار العازل �سقف ال�سماء ال�سابعة �إذا كان هذا اجلدار العازل �سيحقق الأمن الواهي لهذا النظام املذعور من الآخر ويجعله نظام ًا م�ستقر ًا يحقق الرفاه ل�شعبه ويحرتم حقوق رعاياه .لكن هناك مع�ضلة �أخالقية ت�ستقيم يف ر�أ�سي كحديد �صدئ وجتعلني �أت�ساءل هنا :ما مقدار اله�شا�شة التي ي�شعر بها هذا النظام والأنظمة اخلليجية من الآخر املختلف؟ و�إىل متى �ستظل ورقة �إيران ويوم الف�صل �صاحلة املفعول يف الذهنية ال�سعودية واخلليجية املنكفئة على ذاتها وجتعله �سبب ًا ملح ًا يف ا�شعال حروب طائفية يف البلدان الأخ��رى التي كانت تنعم ب�سلم اجتماعي بعيد ًا عن م�سمى الطائفة والديانة؟ �إىل متى �ستظل ورقة العمالة اليمنية والعربية والآ�سيوية ع�صى غليظة ت�ستخدم �ضد �شعوب الله الفقرية امل�ست�ضعفة؟ للأ�سف ما زال ال�شعب اليمني م�ست�ضعف ًا حتى بعد ثورة ١١فرباير التي �أطاحت �صالح .و�سبب ال�ضعف اليمني ال يرجع �إىل ا�ستكانة هذا ال�شعب لتجاوزات جار متبجح، بل امل�شكلة تقبع يف ر�أ�س ال�سلطة اليمنية التي ما زالت والءاتها عابرة للحدود ترتكز على الرباغماتية واخل�ضوع حتتج احلكومة اليمنية على ما لإمالءات اجلار القوي .فلم ّ يطال املغرتبيني اليمنيني يف ال�سعودية من تنكيل و�إهدار لكرامتهم بل �صمتت يف حماولة المت�صا�ص الغ�ضب ال�شعبي يف الداخل .والأنكى من ذلك �أن بناء اجلدار احلدودي العازل كان مبوافقتها وفق ًا لت�رصيح �أمري ع�سري. وهنا ما الذي على اليمني �أن يفعله �أمام ا�ستمرار الأذى واالبتزاز التاريخي؟ ما الذي عليه �أن يفعله جتاه حكومة خانعة ال متلك �أي قرار �سيادي ينت�رص ل�شكاوى اليمني احلزين؟ رمبا ال �شيء حتى الآن �سوى �أن نظل نبكي روح ال�شهيد ابراهيم احلمدي ذلك الرجل الطيب الذي كان �صلب ًا يف مواجهة جار �سيئ.
مقابلة اشملة مع فواز طرابليس عن الثورة واحلرب يف سورية حممد العطار مرسحي وناشط سوري
اخت��ذ ف��واز طرابليس المفكر والكاتب اللبناين والمناضل ال��ي�ساري العتيد ،م��واق��ف واض��ح��ة يف دع��م ال��ث��ورات ال ،توج هذا يف كتابه «الدميقراطية ث��ورة» ( .)2012وقد شغل طرابليس، العربية ،فواكهبا ُمتابع ًا وكاتب ًا حُ ومل ً األس��ت��اذ اجلامعي وال��م��ؤرخ ،موقع المثقف الفاعل ال المراقب فحسب يف حلظات مفصلية يف ت��ارخي المنطقة المعارص من لبنان إىل اليمن .من مؤلفاته« :عن أمل ال شفاء منه ،دفاتر حصار بريوت» « .1982الماركسية وبعض قضايانا العربية» « .1985وعود عدن – رحالت مينية» « .2000تارخي لبنان احلديث» .2008وله عدد القيمة جلون ريد وأنطونيو غراميش وجون برجر وإدوارد سعيد .الأشن السوري يشغل احلزي األ كرب من الرتمجات ّ من ه��ذه المقابلة ،مبا يف ذل��ك األدوار الدولية واإلقليمية المتداخلة يف الملف ال��س��وري ،وع�لى رأهس��ا طبيعة ال��دور األمريكي ،إضافة إىل أداء المعارضة السياسية .احل��وار يتطرق أيض ًا للعالقة الاشئكة اليت تربط أطراف ًا لبنانية خمتلفة بالثورة السورية .إضافة إىل رصد موقع الياسر من الثورات العربية والثورة السورية عىل وجه اخلصوص ،وكذلك دور المثقفني وموقعهمُ .أجري احلوار يف بريوت.
حممد العطار :مع اقرتاب الثورة ال�سورية من �إمتام عامها الثاين ،يف ظل ت�صعيد العنف ب�شكل غري م�سبوق من قبل �آلة النظام الع�سكرية املنفلتة من كل عقال، ويف املقابل هناك ا�شتداد لذراع املقاومة الع�سكرية للمعار�ضة ،لكن دون �أن يلوح يف الأفق القريب �أي قدرة على ح�سم ع�سكري� .أما امل�شهد ال�سيا�سي ،فلم يبد يوم ًا �أ�شد تعقيد ًا مما يبدو عليه اليوم .كيف تقر�أ الو�ضع ال�سوري الراهن وتطوراته املُحتملة؟ فواز طرابل�سي :من البداهة القول �أن الأزمة ال�سورية الدموية �شديدة التعقيد .لكن التعقيد ال يعني ا�ستحالة التفكري فيها وتفكيكها �إىل عنا�رصها الأولية وحماولة ر�صد اجتاهات تطورها .يف العام املن�رصم ،الذي مل يختلف كثري ًا عن العام الذي �سبقه ،وحتديد ًا منذ اندالع االحتجاجات ال�سلمية التي طالبت ب�إ�صالحات حمدودة، �أبرزها �إلغاء حالة الطوارئ ،كانت �إجابة النظام ومنذ البدء هي نف�سها .بداي ًة رف�ض النظام االعرتاف بوجود ق�ضايا داخلية يجب عالجها .جاءت املقاربة الأمنية الأوىل �رصيحة ومبا�رشة .ا�س ُتبدلت حالة الطوارئ
37
بدايات
العدد |5ربيع 2013
بقانون مكافحة الإرهاب ،قبل �أن ُتتوج املقاربة الأمنية مبجزرة �ساحة ال�ساعة يف حم�ص ،يف نية وا�ضحة ملنع تكرار ما ح�صل يف تون�س وم�رص وحتى اليمن من احتالل حركات االحتجاج لل�ساحات العامة. وهنا يجب الت�أكيد �أن قانون الإرهاب كان موجه ًا ال ،يف ا�ستمرار النهج نف�سه الذي للواليات املتحدة �أو ً اعتمده الطغاة العرب والقائم على التودد للأمريكيني عرب ر�سالة ُمكررة فحواها �أنهم م�ساهمون يف احلرب العاملية �ضد الإرهاب ،على �أمل تر�سيخ �رشعيتهم اخلارجية �ضد �شعوبهم .ولي�س من قبيل امل�صادفة �أن يلقى هذا التوجه ترحيب ًا عظيم ًا �أي�ض ًا لدى االحتاد الرو�سي بهواج�سه جتاه جمهوريات �آ�سيا الو�سطى وحروبه الدموية يف ال�شي�شان .تال ذل��ك النظر �إىل حركات االحتجاج اجلماهريية مبا هي حرب تتطلب ردود ًا ع�سكرية ،ولي�س جمرد عمليات �أمنية .مل يتغري هذا اخليار �إىل الآن .هي حرب وما زالت حرب ًا ،و�إن حتولت م�ؤخر ًا �إىل حرب �ضد «تنظيم القاعدة» ،بعد �أن كانت حرب ًا �ضد «املجموعات التخريبية» .واملالحظ �أن هذه احلرب املُعلنة ترافقت
مع وعود احل�سم واالنت�صار .مل يحدث ذلك بالطبع، بالرغم من االرتقاء النوعي بالعمل الع�سكري عن طريق االعتماد املتزايد على �سالح الطريان .وهو رغم كل �شيء �سالح ذو حدين .ف�إن كان يعلن �أن النظام لن يتورع عن �أي �شيء لإحداث �أفدح اخل�سائر الب�رشية و�أو�سع الدمار وموجات النزوح� ،إال �أن اللجوء �إىل الطريان احلربي يعلن �إفال�س �سيا�سة احل�سم .فال ميكنك تدمر قدر ما يحلو ك�سب املعارك فقط ب�سالح اجلو .قد ّ لك ولكن لن ت�سيطر على الب�رش �إال �إذا �سيطرت على ال .وهذا بات يف حكم امل�ستحيل اليوم ،وقد الأر�ض �أو ً خ�رس جي�ش النظام ال�سيطرة على الق�سم الأكرب من �أطراف و�ضواحي املدن .ويف ظل تعذر ذلك ،لن يتحقق «احل�سم املوعود» .ذلك �أن املعار�ضة امل�سلحة ت�ستطيع �أن تخ�رس معارك دون �أن تكون �أي معركة منها هي املعركة الفا�صلة بالن�سبة �إليها. االقانيم االربعة لل�سيا�سة االمريكية الوجه الأول لهذه الأزمة �إذ ًا هو رف�ض النظام االعرتاف بوجود �أزمة داخلية مركبة ،مرتافقة مع �أزمة يف موقع النظام من �رصاعات املنطقة ،ترتاكم منذ �أربعة عقود من الزمن قبل �أن ت�ؤدي �إىل االنفجار .والوجه الثاين هو �إمعان النظام يف ممار�سة ما �سميته �سابق ًا «خورجة الأزمة»� ،أي حتميلها �سلف ًا لأطراف خارجية� .أكان ذلك بادعاء �أنها محُ ّركة من �أطراف خارجية �أو باللجوء �إىل تو�سيط �أط��راف خارجية يف النزاع بينه وبني �أجزاء �أ�سا�سية من �شعبه .دعنا نتذكر �أن �أول خورجة هي تعريف ال�رصاع على انه يف امتداد «احلرب العاملية �ضد الإرهاب» .من جهة �أخرى ،متثلت اخلورجة بت�سليم تركيا الو�ساطة يف احلل ،قبل �أن يكت�شف الأتراك الحق ًا �أنهم ا�س ُت ِ خدموا فقط ل�رشاء الوقت على �أمل حتقيق ح�سم ع�سكري مل يتحقق .حدث هذا التو�سيط مع القطريني �أي�ض ًا الذين نقلوها مع ال�سعوديني �إىل جامعة الدول العربية .قبِل النظام مبادرة اجلامعة العربية ،وا�ستخدمها للغر�ض ذاته ،منحه املزيد من املهل على �أمل احل�سم الع�سكري .و�أخ�ير ًا ُنقلت الأزم��ة ال�سورية �إىل الأمم املتحدة وجمل�س الأمن ،حيث جنح النظام يف احل�صول على غطاء رو�سي و�صيني .وتولدت يف نف�س الوقت �رشاكة تناف�سية �أمريكية /رو�سية حول الأزمة ال�سورية عبرّ ت عنها مهمتا كويف �أنان والأخ�رض الإبراهيمي. يف مقابل ذلك ،مت �إلغاء غري م�سبوق ل�شعب كامل مع
38
بدايات
العدد |5ربيع 2013
عن الأمن واال�ستقرار على احلدود ال�شمالية لفل�سطني املُحتلة .فلي�س �صدفة �أن تكرر ال�سيا�سة الأمريكية تطبيق الرت�سيمة �إياها التي جرت حماوالت تطبيقها يف تون�س وم�رص واليمن :دعوة الرئي�س �إىل التنحي لنائبه لإنقاذ النظام بتعديالت طفيفة .يف حده الأدنى ،كان على البديل لذلك النظام �أن ي�ستطيع الإم�ساك باجلي�ش لغر�ض املهمة اجليوا�سرتاتيجية �إياها :حفظ الأمن واال�ستقرار على احلدود ال�شمالية لإ�رسائيل وان ي�ستطيع يف الوقت ذاته �ضبط حزب الله ،الذي يتم التعامل معه يف الدوائر الغربية مبا هو قوة ع�سكرية غري نظامية ،حتتاج �إىل دولة م�س�ؤولة عنها ،وهذه الدولة كانت وال تزال الدولة ال�سورية .من هنا �إن �أردنا تف�سري اال�ستنكاف الأمريكي عن التدخل الع�سكري يف �سوريا ،فهو عدم وجود بديل جاهز لتلك املهمات� .أ�ضف �إىل هذا �أن الإدارة الأمريكية �أفادت من جتربة العراق من حيث �سلبيات حل اجلي�ش فباتت حري�صة على بقاء اجلي�ش ال�سوري متما�سكا ،كما عبرّ عن ذلك وزير الدفاع بانيتا غري مرة. من جهة ثانية ،لو افرت�ضنا �أن املخططات الأمريكية والغربية ترمي �إىل تدمري �سوريا برمتها وجتزئتها� ،شعب ًا �إن مل يكن كيان ًا ،كما يقول �أ�صحاب نظرية «امل�رشوع الأمريكي الإ�رسائيلي» و«ال�رشق الأو�سط اجلديد»، فقد توىل النظام بذاته هذه املهمة وقد فاقت خميلته يف القتل والتدمري �أكرث العقول ال�رشيرة يف وا�شنطن. ال من �أن ال�س�ؤال :ملاذا مل يت�صالح النظام مع �شعبه بد ً يعترب معار�ضيه عمالء للخارج؟ ملاذا مل يقطع الطريق على اخلارج؟ ملاذا ي�ؤثر �أن يفاو�ض �أ�سياد �شعبه املنتف�ض يف اخلارج؟ ل�سائل �أن ي�س�أل :وكيف تف�سرّ واحلالة هذه ال�رضبة الإ�رسائيلية؟ �إنها بداية التدخل يف ال�رصاع ال�سوري ب�أهداف وا�ضحة� :إ�ضعاف القدرة القتالية ال�سورية ،وال�سعي للق�ضاء على ما متتلكه �سوريا من �سالح كيميائي و�أ�سلحة �صاروخية متطورة ،وهذه قوة ردع ال ي�ستهان بها ،وطبع ًا وقف �إمداد حزب الله بال�سالح .وميكن �أن ي�ضاف �إىل ذلك من قبيل اال�ستباق، جمابهة منو القوى اجلهادية داخل املعار�ضة امل�س ّلحة (بناء �رشيط مكهرب على احلدود). باخت�صار� ،أعتقد �أن وهم احل�سم قد انتهى مع �أفول العام وف�شل �سيا�سة التدمري املنتظمة بوا�سطة الطريان. يف املقابل ت�سهم املعار�ضة امل�سلحة بثبات يف تقوي�ض القوة الع�سكرية للنظام ،ولكنها ال متلك الأ�سلحة الكافية لقلب موازين القوى ل�صاحلها .ووا�ضح �أن ال�سيا�سات
مطالبه ،وما ترافق مع تعليل العامل ب�إ�صالح وعد به النظام �شهور ًا ،قبل �أن يتفتق عن د�ستور يع ّزز من ال�سلطات اال�ستبدادية الدكتاتورية لرئي�س الدولة. ال تف�صيلي ًا تتناول م.ع� :أذكر �أنك كتبت يف حينه مقا ً فيه الد�ستور اجلديد. ذكرت ف.ط :نعم هناك �شيء مذهل لدى قراءته. ُ حينها �أن �صالحيات الرئي�س ال�سوري املن�صو�ص عليها يف الد�ستور اجلديد ال تقل ا�ستبدادية عن �صالحيات �أمري قطر .عودة �إىل مو�ضوع العامل اخلارجي يف الثورة ال�سورية� .أريد �أن �أتوقف عند املوقف الأمريكي .املعلوم �أن املعار�ضة ال�سورية قد انق�سمت حول التدخل اخلارجي. فهناك طرف قد رحب بالتدخل اخلارجي �أو حتى طالب به �رصاح ًة ،وطرف �آخر رف�ضه� .إال �أن الطرفني يتحمالن امل�س�ؤولية اليوم لتقدمي تف�سري حول هذا اخلالف ،على اعتبار �أن اخليار الليبي مل يكن للحظة مطروح ًا .حقيقة الأمر �أن الأمريكيني امتلكوا موقف ًا وا�ضح ًا وواحد ًا منذ بداية الثورات يف العامل العربي ،يف م�رص دعموا تنحي مبارك ل�صالح نائبه ،ف�أف�شل ال�شعب الثائر ذلك وقطع الطريق على عمر �سليمان .يف تون�س ُترك املو�ضوع للفرن�سيني .يف احلالتني رف�ض اجلي�ش التدخل الدموي �ضد ال�شعب ،وجرى الت�ضحية بالرئي�س على �أمل �إنقاذ النظام .يف اليمن ،ال�سفري الأمريكي قاد احلل الذي �صاغته املبادرة اخلليجية ،عرب تن�صيب نائب علي عبد الله �صالح بالبيعة ،وبقاء قطاعات �أ�سا�سية من القوات امل�سلحة بقيادة �أبناء �صالح �أو �أقاربه بحجة �أنها حتارب املت�رسعة لتكرار تنظيم القاعدة .باعتقادي �أن القراءة ّ ال�سيناريو الليبي �أغفلت الفارق بني احلالة الليبية و�سائر احلاالت� .إن قوام �سيا�سة الواليات املتحدة يف املنطقة هي الأمن :امن �إ�رسائيل ثم �أمن النفط ثم تغليب الأمن على كل اعتبار �آخر من خالل فر�ض «احلرب العاملية �ضد الإرهاب» �أولوية مطلقة على العامل �أجمع ،و�أخري ًا ولي�س �آخ��ر ًا :ا�ستكمال فر�ض التعديالت الهيكلية النيوليربالية على املنطقة ح�سب �إم�لاءات �صندوق النقد الدويل والبنك الدويل. هذه الأقانيم الأربعة هي التي حتكمت بال�سيا�سات الأمريكية جتاه �سوريا .وكانت وال تزال تلك ال�سيا�سات تت�أرجح بني الرغبة يف �إ�ضعاف وتفكيك احللف الإيراين- ال�سوري وبني احلفاظ على الأو�ضاع القائمة على احلدود ال�شمالية لدولة �إ�رسائيل .فالنظام ال�سوري ما زال يعترب ال عن بلدين (�سورية ولبنان) وهو م�س�ؤول �أي�ض ًا م�س�ؤو ً
39
بدايات
العدد |5ربيع 2013
الغربية ال تزال ترف�ض تزويد املعار�ضة امل�سلحة بالأ�سلحة النوعية لتحقيق ذلك الغر�ض .هنا �أرغ��ب بالتحذير من منطق تقدمي التنازالت وبيع املواقف ،وقد طغى على مواقف بع�ض قيادات املعار�ضة على �أمل اقتنا�ص �رشعية �أمريكية بوا�سطة تنازالت ذات وجهني .هناك احلديث عن ا�ستعادة اجلوالن املحتل وامل�ضموم بالطرق ال�سيا�سية مب�ساعدة «�أ�صدقائنا الأمريكان والفرن�سيني» وك�أن النظام �سعى ال�ستعادتها بالو�سائل الع�سكرية! يجري بذلك التخلي عن حق ال�شعب ال�سوري يف ا�سرتداد �أر�ضه املحتلة وامل�ضمومة بوا�سطة ال�سالح وهو حق تكفله كل املواثيق الدولية وقرارات جمل�س الأمن. ويجري توهيم النف�س والآخرين ب�أن �إ�رسائيل نتنياهو وليربمان وامل�ستوطنني �سوف تتنازل عن اجلوالن �إذا ما �أزيح نظام البعث واحلكم الفردي .وثمة ن�سخة معكو�سة للرواية ذاتها هي الن�صائح التي ي�سديها املحافظون العرب اجلدد ،واللبنانيون منهم خ�صو�ص ًا� ،إىل املعار�ضة تقدم املزيد من التنازالت بالن�سبة للجوالن ال�سورية ب�أن ّ على اعتبار �أن هذا من �ش�أنه ت�شجيع الإدارة الأمريكية على التدخل ع�سكريا �إىل جانبها. م.ع :ولكن �أال تعتقد �أن عموم ال�سوريني ممن طالبوا بالتدخل اخلارجي ،بحكم �أنهم كانوا مدفوعني بت�أثري التجربة الليبية ،قد وعوا الحق ًا �أن هذا اخلارج ال يحمل عموم ًا نيات �صادقة ،وبالتحديد الواليات املتحدة ،التي بد�أت الأ�صوات تعلو النتقاد دورها ال�ضبابي؟ ال دعنا نتفاهم .ال يوجد �شيء ا�سمه «عموم ف.ط� :أو ً ال�سوريني» .ثم �إين �أ�ساجل �أعاله �ضد فكرة النيات ال�صادقة لدى «اخلارج» .ال يوجد نيات .توجد م�صالح. تفهمها وتعمل مبوجبها ،ولي�س يعني ذلك �أن متا�شيها �أو تر�ضخ لها� ،أو تف�شل يف التقاطها� .أما اعتبار النيات ال�صادقة هي التدخل الع�سكري يف ثورة �أجزاء كبرية من ال�شعب ال�سوري �ضد نظامه ،ف�أجد �أنها اقرب �إىل الكارثة ال �إىل ال�صدق .مع ذلك ف�أنا �أتفهم متام ًا معاناة ال�شعب ال�سوري والثوار �أمام الأهوال .و�أتفهم اال�ستنجاد بالعامل اخلارجي للإنقاذ ولو بوجهه الع�سكري ،و�أفهم التب�سيط الذي يفهم الأمر بناء على القيا�س بالتجربة الليبية ،ولكني �أفكر بالقيادة ال�سيا�سية ،التي �أظنها قادرة على طرح ال�س�ؤال الأ�صلي عن الفارق بني احلالتني الليبية وال�سورية قيا�س ًا �إىل قراءة �صحيحة مل�صالح و�سيا�سيات الإدارة الأمريكية .ويف ظني �أي�ضا �أنها تلقت �أجوبة وا�ضحة �أو على الأقل م�ؤ�رشات وا�ضحة
ب�صدد عدم وجود نية للتدخل الع�سكري ،فكان عليها بالتايل �أن تبني على ح�سابات �أو�ضح. م.ع :منذ فرتة وم�صطلح «الثورة ال�سورية» مل يعد هو الرائج يف �أدبيات ال�صحافة العاملية ،وال حتى م�صطلح «الأزم��ة ال�سورية» ،هناك ا�ستخدام وا�سع مل�صطلح «احلرب الأهلية» .وم�ؤخر ًا يرتافق هذا اال�ستخدام مع الرتكيز على البعد الطائفي لل�رصاع. ذكرت الأمم املتحدة ذلك يف تقرير �أخري .يف املقابل هناك �شعور باملرارة لدى ق�سم كبري من ال�سوريني وهم ي�شهدون كيف يختزل خما�ضهم يف هذه التو�صيفات. كيف تنظر �إىل هذا الأمر؟ ف.ط :الأكيد عندي �أن ما يجري يف �سوريا و�سواها من الأقطار العربية هو ثورة .ثورة ُتعرب عن �أزمة عميقة يف املجتمعات املعنية اقت�ضت نزول ماليني �إىل ال�شارع للمطالبة بالتغيري وا�ستدعت ا�ستعدادات �ضخمة حتمل للت�ضحية من �أج��ل هذا التغيري و�صو ً ال �إىل ّ م�س�ؤولية «�إ�سقاط الأنظمة» .وهي ثورة لأنها تعرب عن ا�ستحالتني :هناك حكام مل يعد ب�إمكانهم اال�ستمرار يف احلكم .وهناك �شعوب مل تعد تطيق حكمهم .ول�سنا نتكلم هنا عن �أفراد بل عن منظومة �سلطة .ناهيك عن �أنها ثورات ال تخفي �أ�سبابها :البطالة ،اال�ستبداد ،الفوارق االجتماعية ،االمتهان لكرامة املواطن والإن�سان. وهي جتهر ب�أهدافها يف املقابل« :عمل ،حرية ،عدالة اجتماعية ،كرامة �إن�سانية». اال�ستبداد والنيوليربالية والثورات رد على م�أزق �أنظمة اال�ستبداد العربية كلها ملكية �ساللية �أو جمهورية -لأن �رشعيتها اخلارجيةمهتزة و�رشعيتها الداخلية مفقودة .مل تعد ت� ّؤمن جلمهورها احلد الأدن��ى من اخلدمات و�أمن��اط التوزيع االجتماعي التي كانت ت�ؤمنها �سابقا ،وقد فقدت �إىل ذلك �رشعياتها امل�ستمدة من �أدوارها يف التحرر الوطني قلت �سابقا و�أك��رر �أن والنزاع العربي الإ�رسائيلي. ُ عظمة ال�شعب ال�سوري تكمن يف �أنه مل يخطئ وطني ًا. فهو مل يرث على نظامه حني كان النظام والبلد مهددين �أثناء الغزو الأمريكي على العراق .ثار بعدما ان�سحبت جيو�ش �أمريكا وحلفائها من العراق .ترافق االن�سحاب الأمريكي من العراق مع ف�شل النظام ال�سوري يف �أن يكون له موطئ قدم داخل النظام اجلديد بالتعاون مع ال�سعودية وتركيا عن طريق ترئي�س �إياد عالوي وكتلته
40
بدايات
العدد |5ربيع 2013
املهاجرة� ،شاركت ب�أ�شكال خمتلفة يف احلراك� .إال �أن الطابع ال�شعبي العميق هو ال يزال ي�سم الثورة ال�سورية. م.ع :لكن هناك فئات وا�سعة من جمهور الثورة ال�سورية ،يرف�ض ت�صنيفها بكونها ثورة �أطراف ،وب�شكل خا�ص يرف�ض �إخ�ضاعها لقراءة ت�ستند �إىل ال�رصاع الطبقي� ،أو كونها ثورة حمركها بالأ�سا�س اقت�صادي. ودعنا نتذكر �أن عموم ال�سوريني يف�ضلون ذكر ثورتهم على �أنها «ثورة الكرامة» ،ال بل �إن هناك �شعارات عدة مت رفعها يف الأيام الأوىل ،ويف �ضواحي املدن والأرياف حتديد ًا ،تذكر ب�أنها لي�ست ثورة جياع� ،أو لي�ست انتفا�ضة ال�رصاع الطبقي يف الثورة قائمة على متطلبات اقت�صادية .كان هناك رف�ض مبكر وهذا ما بد�أ يطل يف �سيا�سات جبهة الإنقاذ امل�رصية ال عندما يدعو عمرو مو�سى �إىل االتفاق مع الرئي�س لأي تر�ضيات اقت�صادية� .أذكر هذا لي�س فقط تعقيب ًا مث ً على تو�صيفك الأخري ،ولكن لأنك �أ�سهبت يف �رشح هذا حممد مر�سي على منع الإ�رضابات العمالية وتقييد يف حتليل �سابق لك عن مناه�ضة النيوليربالية بو�صفها احلقوق العمالية والنقابية .وا�سمح لنف�سي هنا بهذا املحرك الأ�سا�س يف احلراك ال�شعبي. اال�ستطراد عن حقوق الإن�سان .ملاذا ترتجم تلك احلقوق قلت يف يف بالدنا فقط مبا هي حقوق فردية و�شخ�صية؟ �أقول ذلك ف.ط :لن �أجادل يف مو�ضوع الأولوياتُ . البدء �إن هناك اهرتاء يف ال�رشعيتني الداخلية واخلارجية وكلي �إعجاب بهذا القطاع من اجلمعيات غري احلكومية للأنظمة ،وهذا عامل �سيا�سي باملقام الأول. وقلت �أي�ض ًا الذي حقق اجن��ازات فعلية خالل ربع القرن الأخري. ُ �إن هذه �أنظمة ارتفع من�سوب اال�ستبداد فيها تعوي�ض ًا لكن يبقى ال�س�ؤال :من منطق الكرامة الإن�سانية ،طاملا عن اهرتاء �رشعيتها الوطنية واالجتماعية .ح�صل ذلك هذا هو املو�ضوع� ،ألي�س العمل وال�سكن واملاء النظيفة ال�ضطرارها �إىل �أن تر�ضخ �أو تقبل امالءات �صندوق وال�صحة والبيئة ال�سليمة من حقوق الإن�سان �أي�ضا؟ �أم النقد الدويل والبنك ال��دويل .كان عهد ب�شار الأ�سد �أن هذه القطاعات لي�ست ترد يف ترنيمة معظم ور�شات عهد �إع��ادة الهيكلة النيوليربالية وتفكيك ر�أ�سمالية وبيانات وم�ؤمترات وندوات وتدريبات حقوق الإن�سان، الدولة (عهد �أبيه) وتقدمي تنازالت �أ�سا�سية يف تركيب لأن املنطق النيوليربايل ي�شاء �أن تكون هذه القطاعات، االقت�صاد ال�سوري بنا ًء على توجيهات �صندوق النقد وقد كانت من مهمات الدولة ،معرو�ضة للخ�صخ�صة الدويل .ويف ظله ،انتقل االقت�صاد ال�سوري من قاعدته والت�سليع و�إخ�ضاعها لر�أ�س املال ومبد�أ الربح. الزراعية ال�صناعية �إىل اخلدماتية املالية والعقارية �أعلم �أن ال�رصاع الطبقي لي�س مو�ضوع ًا على املو�ضة واال�ستريادية واملافيوية ترتبع على ر�أ�سها طغمة من هذه الأي��ام .واعرف �أن كثري من املثقفني ،وخ�صو�ص ًا الأقارب واملح�سوبني� .أعتقد �أن هذا كاف لتف�سري بروز الق�سم الأك�بر من مثقفي الي�سار يهملون العامل البطالة وانهيار الزراعة ومنو الفوارق الطبقية وانت�شار االقت�صادي ،هكذا ترفع ًا عن امل�صالح كما ُيقال .و�أكاد �أمناط من اال�ستهالك املرئي يف املدن ،وبالتايل �أعتقد �أن �أقول �إن ال�شطارة الفكرية عندهم تكمن يف �إثبات �أن ما حدث يف �سورية ال يختلف بهذا املعنى عما ح�صل كل ما يحدث �إما �أنه �سيا�سي و�إما انه ثقايف .ناهيك يف م�رص وتون�س واليمن. باجليوا�سرتاتيجي واجليوبوليتيكي .لهذا ال�سبب تنت�رص دعني �أع ّلق على ثورة الكرامة� .أفهم كلي ًا �أن يعلو االمربيالية وحكامها املحليني والطبقات املرتبطة بها ال و�أخ�ير ًا� .أال يوجد �رصاع طبقي يف هذا امل�صطلح بعد �أربعة عقود من االمتهان اليومي باالقت�صاد �أو ً للكرامة الإن�سانية يف تعاطي نظام مع �شعبه .ال تزال الثورة ال�سورية؟ قل يل� :أبناء �أرياف حلب امل�سلحون يف عبارات« :وله»، ترن يف �أذن �شعب اجلي�ش احلر والتنظيمات اجلهادية الذين اجتاحوا املدينة و«كر» ،و«حمار» ّ ّ ب�أكمله وقد عانى منها جمهور من اللبنانيني هم �أي�ض ًا �أال ميار�سون مقادير علنية وخفية من انتقام الفالحني خالل عهد االنتداب ال�سوري على لبنان .ولكن �أريد واملزارعني من املدينة ،وهي موطن مالك الأرا�ضي �أن �أت�صور �أن ثورة الكرامة انت�رصت ،فما هو برنامج والتجار واملرابني؟ �ألي�س هذا من وجوه ال�رصاع بني املعار�ضة حلل م�شكالت ال�شعب ال�سوري بنا ًء على وحدانية الكرامة؟ �ألي�ست البطالة امتهان ًا لكرامة الأفراد واجلماعات �أي�ضا؟ وماذا عن الفقر والإفقار، هل يتعاي�شان مع الكرامة؟ ثم �ألي�س ان�سداد الأفق �أمام ال�شباب ذروة التحقري للقيمة الإن�سانية للإن�سان؟ ولنتفاهم .هل �شعار «احلرية» يعني �أي�ض ًا احلرية االقت�صادية؟ حينها ن�ستطيع �أن نطمئن �إىل �أن النخب البديلة �سوف تكرر �أ�سباب الثورات ال غري.
على جمل�س ال��وزراء .ق�ضت ت�سوية �أمريكية �إيرانية بالتجديد لنوري املالكي وحتالف �أح��زاب ال�شيعية ال�سيا�سية التي ميثل. ومن معامل اهرتاء �رشعية النظام ال�سوري �أي�ضا انتهاء دور �سوريا مبا هي زعيمة جبهة الرف�ض العربية، ومل يكن �صدفة �أن يجدد النظام اعرتافه بحل الدولتني لفل�سطني قبل �أن يفك االرت��ب��اط بحركة حما�س، وتنظيمات جبهة الرف�ض الفل�سطينية� .إن م�أزق النظام ال�سوري هنا هو امل�أزق الذي انتهت �إليه مرحلة كاملة من النزاع العربي الإ�رسائيلي ،وهي مرحلة احللول الثنائية .ال �أريد اال�ستخفاف با�ستمرار التناق�ض حول التحالف الإيراين ال�سوري والدعم حلزب الله .ولكن �ألفت �إىل �أن التناق�ض الغربي مع هذا احللف يعلو ويهبط ح�سب وترية التفاو�ض بني اجلمهورية الإ�سالمية والقوى الغربية حول ملفها النووي. هذه �أنظمة ا�ستبدادية زاد من�سوب قمعها مع �سطوة العوملة وفر�ض النيوليربالية تدريجي ًا على املنطقة وتق ّل�ص ما تقدمه ل�شعوبها يف املجال االجتماعي. لذلك �أ�سمي الثورات «املوجة الثالثة من املقاومة هبت املوجة الأوىل يف نهاية العربية للنيوليربالية»ّ . ال�سبعينات وبداية الثمانينات ،وابرز معاملها انتفا�ضة اخلبز يف م�رص وانتفا�ضة «احليطيني» ،ال�شباب العاطل عن العمل ،يف اجلزائر .والثانية يف الت�سعينات ومنها االنتفا�ضات املغربية والأردنية والتون�سية وامل�رصية وانتفا�ضات اخلبز يف املدن اليمنية ،الخ .يف هذه املوجة الثالثة ،الآن ،ال يوجد بلد عربي واحد حترك يف �إطار الثورات اجلارية �إال وانطلق من معار�ضة رفع الدعم على املحروقات وال�سلع الغذائية� ،أو �ضد ارتفاع كلفة املعي�شة �إىل �أن و�صل احلراك ،نظر ًا لردود فعل ال�سلطات القائمة� ،إىل طرح التغيري ال�سيا�سي اجلذري بوا�سطة �إ�سقاط النظام .لعلنا ن�ستثني احلالة ال�سورية، حيث احل�ضور الأمني الكا�سح مل ي�سمح بالتعبري الوا�ضح عن االحتجاج االجتماعي بل بد�أ ب�أب�سط احلقوق واحلريات الدميقراطية� :إلغاء حالة الطوارئ .مل مينع ذلك من �أن تكون الثورة ال�سورية ،عميقة املحتوى الطبقي واالجتماعي بو�صفها ثورة �سكان الأطراف واملهم�شني و�أبناء ال�ضواحي الفقرية والريفيني والفقراء َ حول املدن الرئي�سة .منها انطلقت الثورة وانتقلت �إىل املدن والعا�صمة .دون �شك ف�إن فئات وا�سعة من الطبقة الو�سطى ومن ال�شباب عموم ًا ،ومن الربجوازية
41
بدايات
العدد |5ربيع 2013
الريف واملدينة وبني الفقراء واملي�سورين؟ وعندما يقول رئي�س الدولة ال�سورية ملرافقيه وزواره انه ال ب�أ�س من تدمري �ضواحي دم�شق ف�سوف يبني لهم مدنا حديثة مكانها� ،أال ميار�س اال�ستعالء الطبقي بل اال�ستئ�صالية الطبقية �ضد الفقر والفقراء با�سم احلداثة والنظافة؟ و�ضعت العوامل االقت�صادية يف كل الأح��وال �أنا ُ واالجتماعية يف موقعها ويف عالقتها من ال�سيا�سة وامل�س�ألة الوطنية بل والأدوار الإقليمية� .أعتقد �أن اهرتاء �رشعية هذه الأنظمة يف ال�ش�أن الوطني ويف ما كانت تقدمه من خدمات اجتماعية (وهذا يبد�أ من ال�سعودية، حيث ٪٤٠من ال�سكان م�صنفون يف عداد الفقراء، وال ينتهي يف �سوريا!) دفع �إىل الواجهة م�أ�ساة جيل ال�شباب ،يف منطقة حتمل رقمني قيا�سيني عامليني� :أعلى ن�سبة بطالة ،و�أعلى ن�سبة من ال�شباب بالن�سبة �إىل ال�سكان ،وما ي�ستتبعه ذلك من �أعلى ن�سبة من البطالة بني ال�شباب .هذا املو�ضوع يف�رس بر�أيي احل�ضور الوازن لل�شباب يف الثورات .وال �أعني فقط ال�شباب املتعلم، و�إن كانت ن�سب البطالة بني اخلريجني عالية جد ًا� .إذن يدور البحث على م�ستوى ع�رشات املاليني من فر�ص املتوفرة حالي ًا .وال�س�ؤال الكبري العمل املتوقعة وغري َ هنا هو� :أي اقت�صاد من �ش�أنه ت�أمني ذلك؟ قطع ًا لي�س االقت�صاديات احلالية .وال�س�ؤال الأكرب� :أي ثورة �سوف تفتح الآفاق لل�شباب؟ جلوء املعار�ضة لل�سالح مل يكن خياراً املعار�ضة ال�سورية ،تقف على �أعتاب مرحلة جديدة قد ت�ضعها �أو فئات منها يف ال�سلطة .فحري بها �أن تنظر حولها جيد ًا وتراقب ما هو معد لها وما ُطبق �أو ُيطبق يف بلدان �أخرى .والأهم من ذلك �أن �أي فريق ي�ستلم ال�سلطة يف مرحلة جديدة� ،رسعان ما �ستقوم النا�س �ضده وتعاود االحتجاج عليه حتديد ًا ب�سبب املو�ضوع االقت�صادي. انظر كيف ا�ستقبل النا�س الرئي�س املرزوقي يف �سيدي ْ بوزيد .بالأحذية!! �أما يف ما يخ�ص �أولوية الدميقراطية، ف�أنا ال �أجد معنى للدميقراطية ال�سيا�سية �إن هي مل تنه احتكار قب�ضة �صغرية للقرار وتعطي القرار ال�سيا�سي ومن خالله القرار االجتماعي واالقت�صادي لأو�سع �رشيحة من اجلماهري معرب ًا عنها مببد�أ اختيار النا�س حلكامهم وحما�سبتهم لهم وا�ستبدالهم عند احلاجة. فالرد على �شعار «خبز وحرية» ،بالقول �أننا نحتاج حرية ولي�س خبز ًا� ،سذاجة ا�ستثنائية .حتى ال �أقول انه تعبري
42
بدايات
العدد |5ربيع 2013
م.ع :من متابعتك للواقع العياين ،هل كان بالإمكان أ�صال جتنب اللجوء �إىل املقاومة امل�سلحة ،مع العلم � ً امل�سبق ببع�ض نتائجها ال�سلبية؟ ف.ط :مل يكن اخليار الع�سكري خيار ًا ،كان رد ًا على احلرب التي �ش ّنها النظام على ال�شعب املنتف�ض ال عند مفهوم ال�سلمية. �سلمي ًا .لكن دعني �أتوقف قلي ً يف �سوريا ،كما يف �سواها من البلدان الثائرة ،نزلت �أعداد غفرية من ال�سوريني �إىل ال�شوارع ويف عموم البلد ،ت�ستخدم قوتها� ،أي قوة العدد ،لتفر�ض مطالبها. يف حاالت نادرة �إىل الآن ،ا�ستجاب احلاكم �أو النظام ملثل تلك ال�ضغوط .املغرب مثال على ذلك ،بغ�ض النظر عن ر�أينا بحدود تلك الإ�صالحات .ولنتذكر �أن ممار�سة �ضغط اجلماهري بالقوة العددية قد ي�ستدعي االعتقاالت وال�صدامات مع قوى الأمن ،قد تتطور ليحاول النظام الزج باجلي�ش ،كما حدث يف م�رص ،ولكن اجلي�ش يف م�رص توقف عند حدود وا�ضحة ،لها عالقة مب�صاحله ال ،فالنظام نظام ع�سكري يف نهاية املطاف ،وكانت �أو ً ال على خالف �شديد مع الرئي�س حول قيادته �أ�ص ً مو�ضوع التوريث ،فاختار اجلي�ش الت�ضحية بالرئي�س يف حماولة لإنقاذ مكانة اجلي�ش ودوره يف االقت�صاد وال�سيا�سية ،و�إنقاذ النظام عموم ًا. ح�رضت قوة جماهريية هائلة مل يحت�شد يف �سوريا ْ مثلها يف تاريخها احلديث ،متت مواجهتها بحل �أمني ثم ع�سكري ،فانتقلت قطاعات وا�سعة من قوى االحتجاج ال�سلمي �إىل ال�ضغط بوا�سطة ال�سالح .جندي رف�ض �إطالق النار على متظاهرين ،مت �إعدامه ميداني ًا ،ان�شق وفروا وكونوا جمموعات م�س ّلحة مقاومة وهم ٌ رفاق له ّ املهددون مبوت حتمي .ويف احلراك املدين ،بعد �أربعة �أو خم�سة �أفواج من كوادر التن�سيقيات قد اعتقلت وزجت وتعر�ضت للتعذيب ،بع�ضهم حد املوت، يف ال�سجون ّ خري يل �أن يقول �أحدهم ممن مل يعتقل �أو يقتل بعدٌ : �أموت و�أنا �أقاتل على املوت حتت التعذيب� .إذن الع�سكرة هي وليدة قرار النظام الرد على ال�ضغط ال�شعبي بالعنف ال�سلطوي ،ما ا�ستدرج العنف الأهلي املقابل .لي�س على الثوار ال�سوريني الإعتذار من �أحد وال ت�ضييع الوقت بالتربير حول �إهمال ال�سبل الأخرى .علم ًا �أن هذا ال�شعب العظيم ال يزال يتظاهر كلما �سنحت له الفر�صة لي�ؤكد ح�ضوره وا�ستعداده ال�سلمي .ال�شيء الوحيد الذي يحتاج �إىل تف�سري هو املوقف من التمويل والدعم اخل��ارج��ي .من عا�ش الظروف التي عا�شها
عن موقع طبقي يريد متويه احلاجات املادية واحلقوق االجتماعية للمواطنني� .أما �أن تكون اجلماهري الفقرية يف الأرياف واملدن تريد احلرية ،وقد �أثبتت ذلك بالدماء والت�ضحيات الغالية ،على عك�س النظريات القائلة بارتباط الدميقراطية بالطبقات الو�سطى املدينية ،فلأنها هي املدخل الرئي�س لكي تتدخل تلك اجلماهري يف احلياة العامة ولتقرير م�صريها بنف�سها وفر�ض مطالبها االقت�صادية واالجتماعية .التحدي الأك�بر للثورات ولقواها الب�رشية الآن هي اجلهود املبذولة �إقليمي ًا ودولي ًا ال�ستبدال نخب ع�سكرية-ليربالية بنخب ع�سكرية متحالفة مع «ر�أ�سمالية م�ؤمنة» وليربالية .ووا�ضح �أن قطاعات وا�سعة من النا�س تقاوم تلك املحاوالت. م.ع� :أعود ل�س�ؤايل عن الثورة ال�سورية ،و�رصاع امل�صطلحات حول تو�صيفها .كيف تراها �أنت؟ ف.ط� :أكرر :هي ثورة لأنها تطمح �إىل تغيري جذري يف ال�سلطة ويف املجتمع ،لأنها تعبرّ عن م�آزق �شاملة يف هذين املجالني وعن تفويت كل فر�ص الإ�صالح. وهي تقول بو�ضوح� :إن املدخل �إىل �أي تغيري يبد�أ بتغيري النظام ال�سيا�سي بالقوة والعنف �إن مل ينجح ال�ضغط ال�سلمي .وهي ثورة تقدم �أ�سبابها و�أهدافها يف ذات الوقت ،فهي تنادي بالعمل واحلرية والعدالة االجتماعية والكرامة الإن�سانية .وهذه هي املرة الأوىل التي تواجه فيه املعار�ضات العربية م�س�ألة العمل والبطالة على النحو ال�شامل واحل��اد ،وقد �أهملتها طويال �إىل �أن انفجرت يف وجوه اجلميع .لكن البحث يف التعريفات يتعقد ب�سبب النقا�ش حول مو�ضوع ثنائية �سلمية/ع�سكرية .تع�سكرت الثورة ال�شعبية ال�سلمية يف �سوريا ل�سبب رئي�س هو جلوء النظام �إىل القمع الأمني ثم احلرب الع�سكرية �ضدها� .أتفهم اخل�شية من االعرتاف ب�أنها تتحول �إىل حرب �أهلية .هذا ٍ م�رشوع العتبار الطرفني املتقاتلني رف�ض ناجم عن ٍ ع�سكري ًا مت�ساويني يف امل�س�ؤولية عن العنف ما يعني تنا�سي احلرب التي ي�شنها النظام على �شعبه ورف�ضه �أي تنازل �أو �إ�صالح �أو حوار ،وبالتايل طم�س الأ�سباب الفعلية لالحتجاج ال�شعبي والثورة .لكن احلقيقة �أن هناك �سوريني يقتلون بع�ضهم البع�ض .وهي حقيقة م�ؤ�سفة بل فاجعة ال ميكن نكرانها .واالعرتاف ب�أن ما يجري يف �سوريا هو حرب �أهلية ي�صطدم بعقبة ثانية. فاالعرتاف بوجود حرب �أهلية يعني القبول ب�أن الطابع الغالب عليها هو الطابع الطائفي.
43
بدايات
العدد |5ربيع 2013
املواطن واملواطنة ال�سورية ،و�شهد كل هذا القهر والقتل فا�ضطر �إىل حمل ال�سالح� ،سيبحث عن ال�سالح يف كل االجتاهات .والنظام الذي دفع ال�سوريني �إىل حمل ال�سالح هو من دفعهم �إىل القبول بتمويل العمل امل�س ّلح. ولي�س �رس ًا � ّأن الثورات امل�سلحة تلزمها كلفة مالية ال عالقة لها بالإمكانات الداخلية لل�شعب املعني. ال�س�ؤال احليوي يف وجه املعار�ضة ال�سورية هو كيف متد الثورة وحماولة ميكن تلقي الدعم من امل�صادر التي ّ الإبقاء على القرار الوطني ال�سوري امل�ستقل يف �آن مع ًا؟ هي معادلة �صعبة ولكنها لي�ست م�ستحيلة� .إذ يجب النظر �إىل تلك الأموال مبا هي ديون للت�أثري الحق ًا بال�سلطة ال�سورية اجلديدة حتى ال نقول ال�سرتهانها. ال �شك �أن الو�ضع يف �سوريا �أ�صعب من حيث تدخل القوى اخلارجية .لكن ه��ذا ُم�برر �أك�بر لأن تت�شدد املعار�ضة وطني ًا ،و�أن ال تعترب نف�سها مديونة ،فاحلقيقة �أنها هي الدائنة لأن احلكام الذين ي�ساندونها يفعلون ذلك ملنع الثورات يف بالدهم ،ومنع انتقال العدوى الثورية �إىل جماهري بالدهم ،ولن مينعونها .واحلاكم الذي ميول االحتجاجات �أو الثورات امل�سلحة �إمنا يفعل ليحول ّ دون قيام دميقراطيات وطنية فعلية فيها ،ومن اجل تعميم منوذج �أوحد للحكم يف املنطقة وهو النموذج الر�أ�سمايل الريعي الإ�سالمي التبعي بجناحيه ال�سلفي والإخواين. م.ع :هل تنتهي الثورة متام ًا حني تتحول يف �أحد �أوجهها �إىل ��صراع �أهلي؟ وبر�أيك تو�صيف احلرب الأهلية الذي بات �شائع ًا يف �أدبيات امليديا وحتديد ًا الغربية منها ،وكذلك امل�ؤ�س�سات ومراكز البحث الغربية، هل هو تو�صيف مو�ضوعي لواقع احلال؟ وبخا�صة �أن هذا اال�ستخدام لي�س وليد اليوم ،البع�ض د�أب على ا�ستخدامه منذ �شهو ٍر م�ضت. ف.ط :كال ،ال تنتهي الثورة حني تتحول يف �أحد م�ساراتها �إىل اقتتال �أهلي .معظم الثورات �أف�ضت �إىل حروب �أهلية� ،أحببنا ذلك و مل نحب .يجب اال�ستدراك بالقول� :إن عدم ا�ستخدام م�صطلح حرب �أهلية ال يعني �إنكار وجود فريقني ع�سكريني يتقاتالن لينت�رص واحدهما على �آخر� ،أو لي�ستنزفه فينتهي بهما الأمر �إىل ت�سوية ما. يف امل�س�ألة الطائفية ما �أخ�شاه هو �أن ت�سري الأمور يف �سوريا باجتاه حل من النمط الطائفي� ،إذ �إن معظم القوى اخلارجية املتدخلة تت�شارك يف رواية طائفية ،علنية �أو م�ضمرة،
للت�سوية واحلل .هنا اخلطر الكبري� .أثارت فكرة تنحي الرئي�س واملرحلة االنتقالية البحث يف الهوية املذهبية وهلم جرا .وذلك للرئي�س وتلك التي لرئي�س الوزراء ّ ال من �أن يكون البحث يف م�ؤمتر ت�أ�سي�سي و�إعادة بد ً �صياغة للد�ستور وطبيعة النظام والقوانني بنا ًء على ما ظهر من م�شكالت حقيقية .فاملحور ال�سعودي ال ب�أنها معركة اخلليجي ،ال يرى الأمور ومل يرها �أ�ص ً دميقراطية بل يرى فيها غلبة مذهبية وحرب ًا �ضد �إيران ّ يف �سوريا .و�أما الرواية الأمريكية ،فقائمة �أ�صال على الإثنيات والأقليات والنيوليربالية .لنتذكر مطلب ال�سيدة كلينتون من الرئي�س مر�سي :حقوق الأقباط والن�ساء .وال�سيا�سة الأمريكية مل تغيرّ عادتها يف توريط الليرباليني بالأوهام والتخلي دوما عنهم ل�صالح الإ�سالميني� .أي��ن ذهبت الفزاعة الإ�سالمية اليوم؟ تتذرع ال�سيا�سة الأمريكية بالإ�سالميني الذين يتقلدون ال�سلطة على اعتبار �أن الإ�سالم الو�سطي حاجز �ضد الإ�سالم املتطرف واجلهادي. م .ع :هل ترى احتماالت حلرب طائفية يف �سوريا؟ ف .ط :كال ،ما �أخ�شاه هو حلول ذات �صبغة طائفية. لكن قبل ذلك �أريد �أن �أتوقف عند كلمة طائفي ،ويل يف هذا خالف مع الأ�صدقاء ال�سوريني وغري ال�سوريني. �أعتقد �أن �إنكار الطائفية قيد التنفيذ هو �أف�ضل طريقة الطائفية على �أنها �آفة ولوثة لتكري�سها .الت�رصف مع ّ ودليل تخ ّلف وفتنة ال نحب الكالم عنها ون�ضع املفردة ذاتها بني مزدوجني ،يعني �أن ننكرها وال نف�رسها� .أما ن�سبة الطائفية دوم ًا �إىل الآخر اخلارجي واعتبارها دائم ًا جريرة الآخر ،فهذا لن ي�سمح مبعاجلتها .حقيقة الأم��ر هو �أن��ه توجد م�س�ألة طائفية ،عندما ت�شتبك مواقع جماعات ،مبا هي جماعات ،يف مواقع االمتياز �أو احلرمان من احلياة ال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية والثقافية .وال �أعرف يف التاريخ وال يف الواقع الراهن حالة ت�شكلت فيها م�س�ألة طائفية �أو مذهبية �أو جهوية �أو قومية �أو �إثنية �أو قبلية� ،أي جرت اال�ستعانة بهذه الرتكيبات الأهلية �أو االرتداد �إليها �أو �إعادة �إنتاجها �إال وتغذت تلك امل�سارات من تفاوت �أو متايز �أو امتيازات �أو حرمان تتعلق ب�ستة جماالت �أوجزها هنا مبا هي ر�ؤو�س �أقالم للقيا�س فقط : �أوال :التفاوت بني جماعات من حيث املوقع من ال�سلطة ال�سيا�سية� ،أي من التحكم بعالقات القوة والقرار يف املجتمع.
44
بدايات
العدد |5ربيع 2013
45
بدايات
العدد |5ربيع 2013
ثاني ًا :التفاوت يف الإم�ساك بال�سلطة الأمنية والع�سكرية (قرار ا�ستخدام العنف) �أو احل�ضور فيها مبا يفي�ض �أو يق�صرّ عن ن�سبة اجلماعة �إىل ال�سكان. ثالثا :التفاوت والتمايز ،وما يقابلهما من حرمان ،يف املوقع من موارد الدولة ومن خدماتها ووظائفها. رابعا :التمايز والفروق بني الطوائف من حيث �آليات توزيع الرثوة. خام�سا :التفاوت املناطقي بذاته ،خ�صو�ص ًا عندما تكون للمناطق �ألوان طائفية حمددة. �ساد�سا :التفاوت يف توزيع ر�أ���س امل��ال الثقايف وفر�ص حت�صيل العلم. �إذا �صح ذلك ،فالأحرى مقاربة هذه امل�س�ألة من زوايا �إلغاء االمتيازات ولكن وفق معادلة �صعبة هي ت�رشيع مل�ساواة اجلميع يف الفر�ص واحلقوق ال�سيا�سية والقانونية .وهذا يجب �أن يرتافق مع التمييز الإيجابي للجماعات التي كانت �ضحية احلرمان واملظلومية من جهة و�إيجاد �آليات و�ضوابط حلماية من �ستلغى امتيازاته .يف املقابل ،ما ن�شاهده ون�شعر �أنه قيد التداول يف �سوريا هو �سيناريو قريب من النموذج اللبناين حول حما�ص�صة طائفية .وجدير باملالحظة �أن احلل اليمني، عو�ض القائم على املبادرة اخلليجية واملرعي �أمريكي ًاّ ، عن تنحي الرئي�س بتربئته من ثالثة وثالثون �سنة من القتل والإهدار والف�ساد. م .ع :هذا يقودين �إىل �س�ؤالك عن عقدة تواجه الثورة اليوم ،هناك دعوات ومطالبات بتطمني الأقليات، ويف املقابل الثورة يجب عليها �أن ت�سعى �إىل دولة حقوق ومواطنة ال تقوم على املُحا�ص�صة وال تعد �سلف ًا ب�أي امتيازات خارج دولة املواطنة املن�شودة هذه� .أال يتعار�ض الأمران؟ ف .ط :يف احلقيقة مل �أ�سمع ومل � َأر و�ضوح ًا كبري ًا يتعلق بكيفية جذب الأقليات فعلي ًا يف �سورية� .صحيح على م�ستوى ال�شارع كانت ال�شعارات اجلامعة حا�رضة، ال�سيا�سية. ولكن مل يكن الأمر كذلك على م�ستوى القوى ّ ال�سيا�سية �أن تعك�س هذا بو�ضوح .مل ينجح على القوى ّ التعبري ال�سيا�سي يف �إقناع ق�سم كبري من الأكراد ،مثال ً، حتى لو كانوا حياديني من الثورة ،بحل عادل لق�ضيتهم �ضمن �سوريا امل�ستقبل .فلج�أ الق�سم الأكرب من قواهم ال�سيا�سية �إىل خيار فر�ض الأمر الواقع .هناك بع�ض احلوارات يف العمق يف امل�س�ألة ولكنها حم�صورة بني املثقفني .فيما قيادات �سيا�سية ووجوه خم�رضمة ت�ؤجل
46
بدايات
العدد |5ربيع 2013
(رب بحيث �سوف تحُ َرم َ لعب دور دولة الرعاية للبنان ُ �ضار ٍة نافعة) .يف املقابل ي�صعب توقع �أن ينت�رص طرف ويخ�رس طرف ب�شكل وا�ضح يف لبنان ،ج��راء ذلك. ال نن�سى ب�أن لبنان نظام برملاين غريب ،مع �أن قانون االنتخاب فيه يحدد �سلف ًا نتائج االنتخاب .ولأقل مبا�رشة� ،أنا املواطن اللبناين ل�ست �أرى �إي اجناز �إذا تغريت الأك�ثري��ة النيابية فحل مع�سكر ١٤حمل مع�سكر � ٨آذار وغلب يف ت�شكيل احلكومة .اختربنا االثنني ومل نح�صد �إال الكوارث من حيث اب�سط احلقوق الإن�سانية واملواطنية. يف ما يخ�ص مو�ضوع حزب الله و�سالحه� .إن جوهر املو�ضوع باعتقادي يتعلق بطبيعة الدولة ال�سورية القادمة و�سيا�سات حكوماتها .هل �ستنتهي حالة العداء بينها وبني �إ�رسائيل مبعاهدة �سالم ت�ستعيد فيها اجلوالن �أو بع�ضه؟ لو افرت�ضنا ذلك -وهو افرتا�ض �شبه م�ستحيل بعد الذي جرى يف �سورية وبعد هيمنة امل�ستوطنني على ال�سيا�سة الإ�رسائيلية � -سوف يكون مطلوب ًا من احلكومة ال�سورية� ،إقليمي ًا ودولي ًا� ،أن ُت�رشك لبنان معها يف الت�سوية .خال ذلك ،ال �أرى �أي �سبب لوجود حكومة �سورية لي�ست تتم�سك بجي�شها وبتنمية قدراتها يف وجه �إ�رسائيل� .ألن يكون لها م�صلحة واحلالة هذه ب�أن يوجد �إىل جانب �سورية لبنان قوي بوجه �إ�رسائيل؟ �أما �إذا كان االفرتا�ض ب�أن ال�سلطة املقبلة يف �سورية �ستنتقم من حزب الله ،فل�ست اعتقد �أن نوازع االنتقام حتدد �سيا�سات ،حتى يف بالدنا العربية� ،أجيب �أنها لن ال الإمكانية الفعلية لذلك .يبقى احتمال وقف متلك �أ�ص ً و�صول ال�سالح حلزب الله مفتوحا .علم ًا �أن حزب الله يف كل الأحوال قد دفع وهو ال يزال يدفع ثمن ًا باهظ ًا من �شعبيته ونفوذه لوقوفه �إىل جانب النظام ال�سوري، على كافة ال�صعد يف لبنان و�سورية واخل��ارج .وقد انعك�س ذلك حتى على دوره يف مقاومة �إ�رسائيل .فيما يخ�ص �سالح حزب الله ،ال �أرى موقف وطني �سوري يعترب �أن �إ�ضعاف القدرة الدفاعية للبنان فيه �أي دعم وطني ل�سورية .لأول مرة قي تاريخ العالقات اللبنانية الإ�رسائيلية هناك قوة رادعة لبنانية بوجه �إ�رسائيل، هل هذا �ضد م�صلحة �سورية املقبلة؟ احلزب الآن قوة ُم�سلحة ال متار�س العمل امل�س ّلح ،و�إىل �أن ن�صل �إىل حل يقوم على وحدة قوتي الدفاع الوطني� ،إي اجلهاز الع�سكري للحزب واجلي�ش اللبناين� ،سوف �أظل اعترب
املو�ضوع ملا بعد «االنت�صار»� .أو تنكره با�سم الأولويات، �أو با�ستهجان ت�سمية املنطقة الكردية يف �سوريا بـ«كرد�ستان الغربية». م .ع :هناك من يقول �إن �أف�ضل طريقة لطم�أنة بع�ض هذه املجموعات ،يكمن يف االنخراط املبا�رش وال�رصيح يف الثورة .لعل هذا هو الطريق الأق�رص؟ ف .ط� :أنا ل�ست مع �صيغة التطمني .و�أفهم من يقول رد ًا على ذلك :كيف تطلب مني �أن �أطم ِئن َمن يذبحني؟ ال�س�ؤال هو كيف نخرج من هذا املنطق خروج ًا �سيا�سي ًا. ال توجد �أجوبة �أو حلول جاهزة .لكن بالت�أكيد ف�إن الفكر القومي االختزايل ال�سائد قد انتهى زمنه .ومنطق �إنكار يجر الكوارث. امل�سائل الطوائفية ّ تع ّلمنا من التجربة اللبنانية ال�صعبة درو�س ًا عن احلاجة �إىل �إحقاق حقوق املواطنة بعد �أن جرى �إطغاء حقوق اجلماعات وحدها .علم ًا �أن خم�س ع�رشة �سنة من احلروب فر�ضت على الد�ستور اللبناين اجلديد التوفيق بني منطي التمثيل الفردي واجلمعي ،من خالل الدعوة �إىل قيام جمل�سني ،واحد للمواطنني دون قيد طائفي ،وثان وهو جمل�س ال�شيوخ تنتخبه اجلماعات الطائفية مبا هي طوائف .ولي�س من قبيل ال�صدفة �أن الطبقة احلاكمة يف لبنان حتول دون تطبيق هذه املواد الد�ستورية منذ �إقرارها العام .١٩٩٠ ال �أعتقد �أن دعوة الأقليات �إىل االن�ضمام للثورة ال هو اجل��واب الكايف .على الثورة �أن تعرتف بهم �أو ً وبالأ�سا�سي من حقوقهم .وهذه لن تكون بالأ�صولية الدميقراطية التي تريد ق�رس النا�س �ضمن حقوق املواطنة وحدها دون ت�صحيح املظلوميات التاريخية ودون االحتياط لعدم تولد مظلوميات جديدة .لهذا �أ�شعر ب�أن قدم على �أنها محُ رمات ب�شعة امل�س�ألة الطائفية ال تزال ُت ّ ومخُ يفة يف حني �أنها �أ�شكال من االمتيازات واحلرمان قابلة للعالج �إذا مت االعرتاف بها .والدعوة �إىل حرية ممار�سة كل مكون من مكونات ال�شعب ال�سوري لثقافته بحرية ،الذي يرد يف برامج املعار�ضات ال�سورية ،مق�صرّ عن حقيقة االمتيازات واحلرمانات يف غري موقع. م .ع :كيف ترى ت�أثريات الو�ضع ال�سوري على لبنان، يف �ضوء االنق�سامات اللبنانية الداخلية من الثورة ال�سورية؟ ف.ط :يف البدء �أعتقد �أننا بحاجة لتبديد فكرة العالقة ال�سببية الأتوماتيكية .ثم �إن �سورية الدولة واملجتمع �سوف تكون ُمدماة ومعطوبة مبا فيه الكفاية
47
بدايات
العدد |5ربيع 2013
�أن �أ�سلحة حزب الله ،خ�صو�ص ًا الثقيلة ،منها هي �أ�سلحة للدفاع عن لبنان. لكن دعني �أختم هنا بالقول �إن جميء نظام جديد �إىل �سورية رمبا مينح دفعا و�أمال لفئة من اللبنانيني الذين �سئموا االنق�سام العبثي الفا�شل والعاجز بني 8و 14 �آذار وقد تعاقبا على احلكم باملقادير نف�سها من الف�ساد والهدر والعجز .وهي منا�سبة لإعالن الغ�ضب الكبري على انحياز �أو�ساط متزايدة من املعار�ضة ال�سورية �إىل �صف مع�سكر � ١٤آذار مبا ي�ستفز قوى وا�سعة لي�ست من�ضوية يف هذا املع�سكر وال ُتختزل قطع ًا مبع�سكر ٨ �آذار هو الآخر .ومع ذلك اعتقد �أن هذه القوى لن تي�أ�س من املعار�ضة ال�سورية ولن تبني مواقفها جتاهها فقط انتقاما منه. ا�ستناد ًا لهذا االنحياز� .أو ً م.ع :لكن كيف تف�رس هذا الإ�رصار من قبل فريق � ٨آذار على دعم النظام ال�سوري حتى اللحظة؟ رغم �أنه بات جلي ًا �أن �سوريا لن تعود �إىل ما قبل � ١٥آذار ،٢٠١١ومهما كانت نتائج املخا�ض الراهن .هل يعقل �أنها �سذاجة �سيا�سية؟ تعرتيني الده�شة من هذا الإ�رصار، وك�أن ال �شيء تغري بالفعل �أو ميكن �أن يتغري يف �سورية. ف.ط :يجب طرح ال�س�ؤال على حزب الله وحلفائه. امل�س�ألة لي�ست م�س�ألة وعي� .إنه القبول بنظرة خارجية لل�رصاع على انه بني مع�سكرين �إقليميني ودوليني واعتبار مت�سك حزب الله منتمي ًا �إىل احدهما� .أ�ضف �إىل هذا �أن ّ حزب الله بتعويذة املقاومة يتزايد مع �ضعف دور املقاومة عملي ًا ومع ا�ضطرار احلزب �إىل قيمة ُم�ضافة يتم�سك بها تغطية النتمائه اخلائب يف ال�سيا�سات الداخلية �إىل النظام الطوائفي ،ودوره يف جتديده و«تثقيله» ،ناهيك عن دوره يف التغطية على ال�سيا�سات االقت�صادية املعادية للنا�س وحقوقهم االجتماعية الأولية وغ�ضه النظر عن �أنواع �شتى من الف�ساد. م.ع :هل تعتقد �أن تغيري هذا املوقف م�ستحيل؟ حتى ال؟ لو كان يف هذا الأمر م�صلحة للبنان �أو ً ف.ط :الأ�صح القول �إن من م�صلحة لبنان و�سوريا مع ًا �أن ال يتدخل الطرفان اللبنانيان يف الأزمة ال�سورية. فتدخل قوى � ١٤آذار كبري �أي�ض ًا ،ماليا وعلى م�ستوى الت�سليح .وحزب الله مت�س ّلم جبهتني على الأقل عرب احلدود ال�سورية يف منطقتي الزبداين والق�صري. نت قد انتقدت بيان ًا �أ�صدره مثقفون �سوريون م.عُ :ك َ ولبنانيون بعد اندالع الثورة ب�شهور ،و�س�ؤايل لك اليوم، كيف ترى الطريقة الأمثل لبناء عالقات بني البلدين
تقوم على االحرتام والثقة املُتبادلة وحتقق �أي�ض ًا نوع من التكامل االقت�صادي؟ ف.ط :عار�ضته لأنه ينطوي على معادالت غري مقنعة تنتمي �إىل «الإيديولوجية اللبنانوية» -اال�ستقالل للبنان والدميقراطية ل�سورية -الذي ي�ضع ا�ستقالل لبنان يف مواجهة �سورية وحدها والعتباره �أن م�س�ألة الدميقراطية يغيب مواجهة يف لبنان متحققة .وعار�ضته لأنه بذلك ّ �إ�رسائيل .وعار�ضته �أي�ض ًا النحيازه �إىل طروحات فريق واحد هو فريق � ١٤آذار .يف �إعالن بريوت دم�شق ،الذي �أعتز ب�أين �شاركت يف �صياغته ،ورد �أن هناك طريقني ال ي�صح امل�ضي يف كليهما :الهيمنة ،واالنف�صال .هناك ميل لبناين انف�صايل مبعنى �أن نقفز عن �سورية لنلتقي ب�سائر العامل .فيما كانت الهيمنة �سمة ممار�سة النظام ال�سوري عرب ثالثني �سنة من ال�سيطرة على لبنان� .أعتقد �أن هناك جماالت كثرية للت�شارك ،هناك ال�سيا�سات امل�شرتكة يف مواجهة �إ�رسائيل .وهناك جماالت وا�سعة مل�شاريع م�شرتكة .وباملنا�سبة ،ف�إن فر�صة اللبنانيني من اال�ستفادة هي �أكرب ،فهناك يف �سورية �سوق �ضخمة. باخت�صار يجب �إع��ادة و�صل العالقات على �أُ�س�س من ال�رضورات الوطنية ،و�إمكانية التكامل والتعاون االقت�صاديني ولكن ل�صالح ال�شعبني ولي�س امل�رصفيني وامل�ستوردين وامل�ضاربني العقاريني يف البلدين. م.ع :قبل الو�صول �إىل ذل��ك ،هناك الكثري من املنغ�صات حالي ًا� ،أ�شياء قد يبدو جتاوزها �صعب الحق ًا، ك�أن ي�رصح وزير يف احلكومة احلالية ،ب�أن ت�ضييق اخلناق على الالجئني و�إقفال احلدود يف وجههم هو فعل وطني بقيا�س امل�صلحة اللبنانية! �ألي�س هذا �أمر ًا يثري الده�شة قبل احلنق؟ ف.ط :توجد عن�رصية �ضد الفل�سطينيني وال�سوريني يف لبنان ،هذا �أمر ال �شك فيه� .شارك بذلك كل الإطراف مبا يف ذلك احلرب على املخيمات الفل�سطينية .وهذه العن�رصية تتفاقم مع ت��ردي الأو���ض��اع االقت�صادية واالجتماعية .لكن هذا ال يخفف من هول الت�رصيحات الأخرية للتيار الوطني احلر وال حزب الكتائب .هناك بني �أن�صار الثورة ال�سورية الآن �سيا�سيون و�أحزاب تدين بنفوذها ،حتى ال نقول بوجودها ذاته ،للهيمنة ال�سورية، وبينهم من حلل قتل العمال ال�سوريني ،ومن قتلهم فعال، بعد اغتيال الرئي�س رفيق احلريري. م.ع� :أنت املنا�ضل واملثقف الي�ساري العتيق� ،أثرت �أكرث من مرة مو�ضوع الي�سار ودوره ومواقفه خالل الربيع
48
بدايات
العدد |5ربيع 2013
املرتد ،الذي انتقل �إىل املوقع النقي�ض وهو الي�ساري ّ خجول من موقعه اجلديد ،ولي�س منطق الي�ساري الذي يريد االع�تراف ب�أخطائه ليتعلم منها .ثم �إن املدر�سة العقائدية الوحيدة التي متار�س النقد الذاتي هي الي�سار. وترجمته العملية �إما مهمة نقد ذاتي م�ؤجلة دائم ًا �أو مطروحة دائم ًا على الآخر ،و�إما اجللد الذاتي العدمي. متيز ومتايز با�سم انتهاء هنا �أي�ض ًا يجري �إعدام كل ّ الأيديولوجيات .علم ًا �أن الي�سار يفرت�ض انه كان ميلك نظرية ،ال �أيديولوجيا ،لإنتاج املعارف عن الواقع من اجل تغيريه .ثم ا�سمح يل �أن �أقهقه لق�صة نهاية الأيديولوجيات هذه .يف زمن تتحول فيه عبادة ال�سوق �إىل ديانة جديدة ،والنزعة الثقافوية حتب�س الب�رش يف هويات وانتماءات متعادية ،وتتحول الديانات ذاتها �إىل م�سوغات لل�سيطرة واال�ستغالل والقتل ،يريدوننا �أن ّ ن�صدق �أن الي�سار واملارك�سية يحتكران ...الأيديولوجيا. النقد الذاتي هذا من �إنتاج الو�سو�سة الرهابية ال�ستالينية ،التي �أودت مباليني ال�شيوعيني �إىل املنايف والقتل ،لي�ضافوا �إىل ع�رشات املاليني من مواطني االحتاد ال�سوفياتي� ،ضحايا االرهاب ال�ستاليني .وفق ال ودائم َا ،حتى �أكرث من ال�ستالينية ،ال�شيوعي مذنب �أو ً املواطن العادي ،لأنه هو امل�ؤمن ،مقابل املواطن العادي اجلاهل �أو «اجلاهلي» ،مثله يف ذلك مثل امل�ؤمن يف الأديان ال�سماوية .لذلك ف�إن ال�شيوعي امل�ؤمن عر�ضة للخطيئة والت�شكك يف �إميانه ،حتديدا لأنه م�ؤمن ،فمن باب �أوىل �أن يظل دوم ًا قيد االختبار واحليطة واحلذر بل الريبة من ميله الع�ضوي هذا �إىل االنحراف العقائدي والكفر. ال�ثراء الذي متلكه النظرية املارك�سية كامن يف �أنها نظرية املمار�سة ويف �أنها تدعو �إىل التعلم من املمار�سة. ال، ف�إن مل ن�ستوعب ونتعلم من التجربة ال�سوفياتية ،مث ً فما الذي ينفع كل هذا الهذر عن النقد الذاتي! وللتعلم من املمار�سة ال بد من امتالك الأدوات النظرية لذلك. نقر�أ كثري ًا يف هذه الأيام من بع�ض الي�سار �أنه «ال توجد ث��ورة»� ،أو «بئ�س هذا الربيع امللطخ بالدماء». كثريون يريدون ثورة ت�شبه �أمنياتهم ،وين�سبون ثورات الأماين هذه �إىل منوذج لثورة غري موجودة يف التاريخ. ال ثورة دون قوة �أو عنف .ويتحدد من�سوبها وفق منط ردود فعل القوى امل�ضادة للثورة .الع�رشة �أيام التي ه ّزت العامل يف ثورة �أكتوبر البل�شفية برو�سيا افتتحت �أربع �أو خم�س �سنوات من حروب التدخل واالقتتال الأهلي واملجاعات والكوارث وتركت �أعطابا كبرية على
قمت بانتقاد ما ا�سميته العربي .يف �إحدى مقاالتك، َ «ي�سار ًا داعم ًا لال�ستبداد بحجة امل�س�ألة الوطنية» .كما ُ حتمل الثورات العربية �إىل الي�سار مزيج ًا من ذكرت كيف َ التحدي الوجودي والفر�صة التاريخية .يف �ضوء املواقف املتخبطة للي�سار يف ال�ش�أن ال�سوري حتديد ًا هل تعتقد فوت هذه الفر�صة؟ �أن «بع�ض الي�سار»،على الأقلّ ، ف.ط :الق�سم الأك�بر من الأح���زاب ال�شيوعية واال�شرتاكية ،يف م�رص وتون�س واليمن ،ان�ضوت ب�صفتها «معار�ضة �صاحبة اجلاللة»� .أ�صبحت جزء ًا من الرتكيبة اجلديدة ولكنها هي الطرف ال�ضعيف فيها .وهذا الطرف ال�ضعيف م�شكلته �أنه يواجه خ�صم بقوة الإ�سالميني ميلك ر�ؤية كاملة للحياة .الي�سار م�صاب بغياب الر�ؤية و�رشطها الأول حتقيق ا�ستقالله الفكري والربناجميعن �سائر الأطراف من �أ�صدقاء وخ�صوم -وهذه هي امل�شكلة الكربى ،عدا عن �أن ثقل ما�ضي ممار�سة دكتاتورية احلزب الأوح��د� ،أو التهليل لها ،والرتبية الكارهة للدميقراطية على اعتبارها «برجوازية» ،كا�سح الوط�أة على الي�سار .مع ذلك ال �أزال �أقول �إن ثمة موقع ًا ودور ًا ميكن �أن يحتلهما الي�سار .فهو القادر افرتا�ضي ًا على الأقل على اجلمع بني امل�س�ألة الوطنية وم�س�ألتي الدميقراطية والعدالة االجتماعية .ولكن ال�رشط تقيده مبقيا�س ب�سيط هو الأول لهذا املوقع والدور هو ّ �أن ينحاز �إىل ال�شعب .وهذا يعني التحرر من النزعة النخبوية الطليعية الرتبوية جتاه ال�شعب ،وهو تراث م�شرتك بني الأح��زاب ال�شيوعية والقومية يقوم على «�سلطان الكلمة» .والكلمة عندما ت�صري ُمقد�سة ،بها يقا�س الإميان والكفر ،تتولد تكفريية علمانية �أورثتنا �إياها الأنظمة اال�ستبدادية ال�شمولية .وهذه النزعة ت�سوغ بدورها اال�ستبداد والدكتاتورية لأنها التكفريية ّ ت�ؤ�س�س عالقة تربوية بني الطليعة وال�شعب ،فال�شعب جاهل مب�صاحله وبالتايل فمهمة «الأنبياء ال�صغار» �أن يتولوا �إر�شاده وقيادته. م.ع :هل تعتقد �أن النقد الذاتي هو ال�سبيل لت�صويب موقف بع�ض القوى وال�شخ�صيات الي�سارية� ،أم �أن ال�سبيل الأف�ضل للتواجد الفعال هو االنخراط الفعلي يف كافة �أوجه الثورات احلالية؟ ف.ط� :أ�صارحك �أين زهقت فكر ًا وج�سد ًا من النقد الذاتي� .أعتقد �أن مثقفي الي�سار عموم ًا ي�شرتكون مبطلب واحد هو وجوب ممار�سة النقد الذاتي� .أ�شبه الأمر ُبع�صاب ديني قائم على �شعور عميق بالذنب .وهو �أي�ضا منطق
49
بدايات
العدد |5ربيع 2013
التجربة ال�سوفياتية ذاتها .ثم انه ال يوجد ثورة تنجح ال .ثورة ربيع ١٩٦٨ ال كام ً بالكامل �أو تف�شل ف�ش ً الطالبية يف فرن�سا و�سائر العامل غيرّ ت م�صائر �شعوب ّ ب�أكملها وتركت ب�صماتها على احل�ضارة الإن�سانية يف نواحي عديدة ومع ذلك ف�إنها مل تنت�رص �سيا�سي ًا ب�أي معنى من املعاين .و�أول ثورة دميقراطية قامت يف التاريخ كانت العام ١٦٤٠يف بريطانيا .فلنق�س كم اقت�ضى الأمر من الوقت حتى ي�صري جمل�س العموم الربيطاين ال�سلطة الراجحة �ضد �سلطة جمل�س ال��ل��وردات الوراثية؟ ماذا عن الثورة الفرن�سية؟ جمموعة �أندية وبروليتاريا نا�شئة انتهت بتعادل يف القوى وباقتتال بني القادة والتكتالت ما لبثت �أن �أتت بدكتاتور ،ومن ثم العودة �إىل احلكم امللكي .وقامت ثالث ثورات بعدها، ت�ستمد �رشعيتها من ادعاء حتقيق �أهداف الثورة الأوىل �أو الأ�صلية ،قبل �أن ي�ستتب الأمر للنظام اجلمهوري الدميقراطي مطلع القرن الع�رشين. حتدثت عن عدم قناعتك ب�أن املثقف هو م.ع :لطاملا َ الذي يتعاطى بالثقافة العليا ،كما �أنك تذكر الت�أثري العميق لغرام�شي عليك ،وتتحدث عن عبقرية �شعبية يتجاهلها عادة املثقفون العرب .بر�أيك ،هل ين�سحب هذا التجاهل ليف�رس �أي�ض ًا �ضعف انخراط بع�ض املثقفني يف الثورات احلالية� ،أو على مواقف بع�ضهم املرتددة بل وامل�شككة �أحيان ًا بالقدرة على �إجناز �أي تغيري؟ �أم رمبا هو حمك مل نعرفه من قبل لإعادة تعريف املثقف؟ ودوره؟ ف.ط� :إن نقدي يدور �أي�ض ًا حول قيمة ُم�ضافة ُتعطى للمثقف يف بالدنا ،مبا هو مثقف ،ل�ست �أعلم �إن كانت موجودة يف �أي مكان �آخر يف العامل .وهي �أن ين�سب �إليه الوعي والذكاء وال�ضمري والرتفع عن امل�صالح واال�ستقامة .يف هذا الر�أي انتحال امتياز وقيم تنطوي على مقدار كبري من الع�صبية املهنية ومن اال�ستعالء غري املربر .ثم انه ي�سهل االنزالق من املثقَف (بالفتحة على القاف) �إىل املث ِقف (بالك�رسة حتت القاف) ما ي�سهل �إعطائه تلك ال�سلطة الرتبوية الفكرية على النا�س. املثقفون فئة اجتماعية متتهن العمل الذهني �ضمن تق�سيم العمل االجتماعي .واحتاللهم ذلك املوقع الذهني يف توزيع العمل �رضب من االمتياز يعفيهم من العمل اليدوي .وهي فئة وا�سعة -ال تقت�رص على ما ميكن ت�سميتهم املثقف العام �أو الأديب �أو الفنان - تخ�ضع يف �رشوط معي�شتها لقوانني و�آليات لغريها من حتول نوعية الفئات .وهنا يجب التنبه �إىل �أننا يف مرحلة ّ
ن�رشت يف موقع «م�ؤ�س�سة هرني�ش بول» ويف موقع «جدلية» باالتفاق مع الكاتب.
50
يف نوع املثقف .فقد انتهى �إىل حد بعيد منوذج املثقف مبا هو �أ�ستاذ املدر�سة يف الريف �أو املمار�س لإحدى املهن احلرة ،العامل على نقل احلداثة والتقدم �إىل النا�س. يحل حمله الآن الإعالمي والباحث والأ�ستاذ اجلامعي واخلبري واالخت�صا�صي يف جماالت العلوم املختلفة واملهند�س االلكرتوين ،الخ .ولهذا التحول م�ستتبعات كثرية �إن من حيث الدور �أو املهمة النقدية �أو حتى من حيث القدرة �أو عدم القدرة على �إنتاج املعارف .يف الثورات ،مقيا�س احلكم على املثقفني هو يف �أي موقع يقفون :مع ال�شعب �أو مع الأنظمة؟ م.ع :هناك من يقول �إننا بحاجة مل�سافة زمنية ونقدية من احلدث ت�سمح بالإ�سهام الثقايف �أو املعريف. يف مقدمة كتابك «الدميقراطية ثورة»ُ ،تفند هذه املقولة، وتقول �إن الإ�سهام �أثناء الأزمنة اال�ستثنائية عرب �إبداء الر�أي وحماولة الت�أثري �رضورة. ف.ط� :أعترب الثورات حدث ًا معرفي ًا املطلوب ا�ستخراج معانيه و�إعادة تقدميه .واملق�صود بامل�سافة النقدية �أنها ذهنية ولي�ست زمنية .ال ميكن ت�أجيل هذه املهمة لأن الثورات �أحداث تاريخية نادرة وجذرية تقلب �أح�شاء ال�سلطة واملجتمع ر�أ�س ًا على عقب وت�سمح ب�إلقاء نظرات نادرة داخل �آليات ت�شغيلهما .ولكن امل�سافة النقدية لي�ست نقي�ض االلتزام بالثورات .من يرى �أن م�ساهمته الرئي�سية هي يف جمال الإنتاج الفكري ،واملثقف النقدي تخ�صي�ص ًا ،مطالب ب�أن يتعاطى مع الثورات مبا هي ذاتها عملية نقدية لربع قرن من االيدولوجيا املتعوملة املفرو�ضة علينا وما رافقها من �أوهام وخرافات و�أن�صاف حقائق ومفاهيم فجة وم�سطحة ،ومن اال�ستكانة والركود واالمتثال الفكري �أو التبعية. م.ع :و�أنت ال�شديد الريبة باملوقف الأمريكي من الثورات العربية قاطبة ،ومن الأزمة ال�سورية ب�شكل خا�ص ،وكذلك الأمر مبا يتعلق مبواقف الرو�س وحلفاء النظام .كيف ترى ال�سبيل �إىل حتقيق ال�سوريني ،يف وحدتهم القا�سية هذه ،لأهداف ثورتهم الأ�سا�سية يف احلرية والكرامة والعدالة االجتماعية؟ ف.ط :ال توجد حركة حترر بالعامل �أجنزت �أهدافها دون ِ امل�ستعمر� ،أو يف منظومة الهيمنة �أن تحُ دث �أثرا لها يف البلد العاملية التي يرتبط بها ذلك البلد .فيت�شكل فيه تيار يرى امل�ستعمر، �أن الر�ضوخ للأمر الواقع والقبول با�ستقالل البلد َ ِ امل�ستعمر نف�سه .مل تنل اجلزائر بات من م�صلحة البلد اال�ستقالل ،رغم فداحة الت�ضحيات� ،إال بعد �أن ا�ستولدت بدايات
العدد |5ربيع 2013
يف فرن�سا تيار ًا مثلته الديغولية ،فاو�ض على اال�ستقالل و�إنهاء االحتالل على اعتبارها باتت �رضورة فرن�سية. قد تلتقي م�صالح حركة حترر �أو حركة ثورية مع موقف �أمريكي �أو غربي يف مرحلة تاريخية معينة� .أو قد تفيد حركات التحرر والثورات من حياد �أو �إهمال ال�سيا�سة الأمريكية لتقتن�ص انت�صارا لها .لي�س هذا هو احلال عندنا .ما تقوم به الواليات املتحدة هو حماولة �إنقاذ الأنظمة بتجديد جزئي للنخب .والتجديد اجلزئي بالن�سبة لها مزيج من النخب القائمة ،مبا فيها النخب الع�سكرية ،ومن النخب الر�أ�سمالية امل�ؤمنة الإ�سالموية. بعد �أربعني �سنة وت�ضحيات �ضخمة ،بالكاد جنحت ب�ضعة بلدان يف تغيري ر�ؤ�سائها وبع�ض قوانينها دون الأ�سا�سي يف �أنظمتها. من هنا يجب �أن نتحلى باحلذر ال�شديد من �صيغ احلل ال�سيا�سي يف �سورية .فبدون �إنهاك هذا النظام وفر�ض تنازالت كبرية عليه ،ف�أنت �أمام خلطة بعثية ع�سكرية �إ�سالمية قادمة مفرو�ضة عليك برعاية �أمريكية خليجية. هاج�سي الآخر هو ال�شباب� .أين وماذا �سيكون دور ال .ها هم يعودون ب�أ�شكال ال�شباب؟ هذه ثورة �شباب �أو ً احتجاجية �أو تنظيمية خمتلفة يف اليمن وتون�س وم�رص، الأمر الذي يجعلنا نرتقب موجة ثانية من الثورات� .آن الأوان للمعار�ضة غري الإ�سالمية �أن تبلور ر�ؤيتها مل�ستقبل �سورية وان متيزه متييز ًا وا�ضحا عن املعار�ضة الإ�سالمية. من غري املقنع القول« :عندما ن�صل �إىل ال�سلطة ،نفكر يف الأمر »� .أمتنى على املعار�ضة ال�سورية �أن ت�ستفيد من كم الدرو�س التي نراها يف الثورات الأخرى ،و�أن جتد طريقة تتجاوز فيها احل ّلني اللبناين واليمني .و�أن تبتكر طريقة بناء على حكم الأكرثية ال�سيا�سية لت�أمني حقوق الأفراد ً ولأخذ حقوق اجلماعات والأقليات باالعتبار يف �آن مع ًا. ال مهرب من هذه اال�ستحقاقات .وغري �صحيح باملرة �أن ننكر وجود م�س�ألة طائفية يف �سورية ملجرد �أنها كانت مكبوتة ومدفونة بالإنكار واالدعاء العلماين� .أ�ضف �إىل ذلك �أن احلرب والقتال والعنف ولاّ دة هويات وع�صبيات قاتلة .وال يكفي الإفادة من التجربتني اللبنانية واليمنية. هناك التجربة العراقية ب�أمثولتها الوا�ضحة .طائفة عوقبت جماعيا بجريرة نظام ،فلج�أ بع�ض �أهلها ،من ع�سكريني وغري ع�سكريني� ،إىل القتال بكل الطرق، و�أحيان ًا �أب�شعها ،للر ّد على التهمي�ش والعقاب اجلماعي. هذا در�س �آخر للأخذ بعني االعتبار.
50
فلسطني ضد الفلسطينيني :القانون احلديدي ومفارقات شعب َ منكر
ب�شارة دوماين
« 84احلكم الذايت» يف فلسطني المحتلة:
تطبيقات يف الهندسة النيولربالية المعولمة
خليل نخلة
20 58أوسلو :السياقات والتداعيات
٢٠ 89اوسلو :بناء الدولة النيوليربالية
65االقتصاد السيايس للجيش اإلرسائييل
96االكادمييا يف اشتيال خميم يرزح حتت االجتياح البحيث ّ
نوام ت�شوم�سكي ياغيل ليفي
78المنظمات غري احلكومية :بني الكلمات الطنانة واحلركات االجتماعية ّ
�إ�صالح جاد
توفيق حداد
مي�سون �سكرية
فلسطني ضد الفلسطينيني
القانون احلديدي ومفارقات شعب َ منكر باشرة دوماين ان ن�شوء «�سلطتني» فل�سطينيتني يف العام ٢٠٠٧ يف منطقتني خمتلفتني � -سلطة حركة حما�س يف غزة مؤرخ ،استاذ يف و�سلطة حركة فتح يف ال�ضفة الغربية -زاد يف احلاح جامعة براون� ،س�ؤال �أ�صلي :من هم الفل�سطينيون؟ من ينطق با�سمهم؟ الواليات المتحدة .ماذا يريدون؟ باي معنى ي�شكلون جمتمعا �سيا�سيا؟ يعمل باشرة دوماين وكيف لهم ان يحققوا تطلعاتهم؟ بنوع خاص عىل التارخي ان املثابرة العنيدة لهذه اال�سئلة خالل ما يقارب االجتماعي ,له كتاب القرن من الزمن ي�شدد على بع�ض القوانني احلديدية «الفالحون والتجار يف واملفارقات يف التاريخ الفل�سطيني احلديث التي ت�ستحق نابلس .»١٩٠٠-١٧٠٠ ،املعاجلة يف نقا�شات عن ا�سباب املحنة احلالية و�آثارها وعن الكيفية التي بها ن�ستطيع ان نبتكر ا�سرتاتيجيات خالقة لتحقيق احلرية وال�سلم والعدالة .اق�صد بـ«قوانني حديدية» القوى التاريخية التكوينية التي نتجت من التفاوت الكا�سح يف عالقات القوى الذي �سجن الفل�سطينيني يف فق�ص من حديد .1واعني بـ«مفارقات» تخرب ال�رسديات القومية عن �سخريات التاريخ التي ّ املا�ضي .واين �أحاجج ان القوانني احلديدية واملفارقات هذه ت�ستدعي اعادة تقييم نقدية للعالقة بني مفهومي «فل�سطني» و«فل�سطينيني» لكما العادة تقييم نقدية للم�رشوع املتمركز حول الدولة الذي رافق حقبات متتالية من احلركة الوطنية الفل�سطينية.
بديال عن ان يوجد تطابق طبيعــــــــــــــــــــــــــــــي وجِ د وال يزال يوجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد توتر ناجت من «مناكفة زمنيـــــــــــــــــــــــــــــــــــة» بني فل�سطني والفل�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــطينيني، ك�أمنا الواحد منهما ال يوجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد اال على ح�ساب الآخـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر
عن مفارقات وقوانني حديدية ان الدينامية املركزية او القانون احلديدي للنزاع على فل�سطني منذ ان بد�أ يف اواخ��ر القرن التا�سع ع�رش، متحورا حول الرف�ض القاطع الذي واجهت به اعتى قوتني يف ذلك النزاع -احلركة ال�صهيونية (والحقا وداعميها الرئي�سيني ،بريطانيا احلكومة اال�رسائيلية) َ اوال وال��والي��ات املتحدة تاليا -االع�تراف بوجود
لوجودهم كجماعة �سيا�سية بعد العام ١٩٤٨كما عبرّ ت عنه العبارة �سيئة الذكر لرئي�سة الوزراء غولدا مئري يف العام « ١٩٦٩ال�شعب الفل�سطيني غري موجود» .2وقد ا�ستمر الو�ضع على هذا املنوال مع العبارة احلديدية «ال تفاو�ض مع منظمة التحرير الفل�سطينية االرهابية» من حرب ١٩٦٧اىل اتفاق او�سلو العام ١٩٩٣و�صوال اىل تر�سيمة «لن نفاو�ض يا�رس عرفات» يف فرتة ما بعد
1
Rashid Khalidi, The Iron Cage: The Story of the Palestinian Struggle for Statehood (Boston, Mass. 2006).
2
Sunday Times (London) 15 June, 1969, p.12.
52
بدايات
العدد |5ربيع 2013
الفل�سطينيني مبا هم جماعة �سيا�سية او ال�سماح بذلك. وقد �سمح عدم االع�تراف هذا لطاقتي الدفع لذلك النزاع -اال�ستيالء على االر�ض واالجالء ال�سكاين للفل�سطينيني من ارا�ض اجلدود -ان ت�ستمرا دون توقف خالل ما يقارب القرن .وهذا باملنا�سبة ما يف�سرّ الر�سالة املركزية للعالقات العامة اال�رسائيلية ،التي هي ،يف واقع احلال ،النقي�ض عن احلقيقة .اعني ان املطلوب االعرتاف به هو حق ا�رسائيل يف الوجود. ان للقانون احلديدي �سالالت طويلة متتد من �شعار اخلال�صيني امل�سيحيني يف اواخر القرن التا�سع ع�رش - «ار�ض بال �شعب ل�شعب بال ار�ض» -اىل املحو ال�سيا�سي الد�ؤوب لل�سكان اال�صليني يف كلمات «وعد بلفور» يف العام ١٩١٧ويف «وثيقة االنتداب على فل�سطني» ال�صادرة عن «ع�صبة االمم» و�صوال اىل االنكار ال�صفيق
3مقابلة مع �آري �شاڤيت ،ها�آرت�س، ٨ت�رشين االول، .٢٠٠٤
53
او�سلو و�صيغة «حممود عبا�س �ضعيف جدا لنتحدث ال نهاية للمفارقات التي جنمت عن ذلك التوتر اليه» ،قبل انتخابات العام .٢٠٠٦وقد ّ خل�ص دوڤ «املحايث» .ت�ستحق اربع مفارقات منها ان نوليها اهتماما فاي�سغال�س ،امل�ست�شار ال�سيا�سي لرئي�س الوزراء �آريل خا�صا لأن كل واحدة منها تعينّ منعطفا من املحو والوالدة �شارون ،هذا الن�سق يف التعامل كما يلي: للهوية او لالر�ض ،ولكن لي�س لكليهما معا. «لقد جنحنا ،من خالل املعاجلة املنا�سبة ،ان نزيح م�س�ألة العملية ال�سيا�سية عن جدول االعمال .وقد املفارقة بني الهوية واالر�ض �سميت «فل�سطني» م ّثلت ثقّفنا العامل كي يفهم انه ال يوجد احد لنتحدث اليه .املفارقة االوىل هي ن�شوء دولة ّ ي�سمون ولقد نلنا �شهادة «ال وجود الحد نتحدث اليه» ...ولن هزمية ماحقة للتطلعات ال�سيا�سية للذين �سوف ّ �سحب هذه ال�شهادة اال عندما يحدث كيت وكيت -اي الحقا ال�شعب الفل�سطيني .فاىل العام ،١٩٢٠كان ُت َ 3 عندما ت�صري فل�سطني هي فنلندا» . ان�شاء كيان �سيا�سي م�ستقل يف جنوب �سورية اخليار بعبارة اخرى -ان هذا لن يح�صل ابد ًا .على االقل االق��ل حظوة بالت�أييد عند الذين يعبرّ ون عن �آراء لي�س قبل ان تكون الديناميات اال�سا�سية مل�صادرة �سيا�سية حمددة يف العقود االخرية من احلكم العثماين االر�ض ولالجالء ال�سكاين قد اخذت جمراها مبا ير�ضي (مع االعرتاف ب�أنهم كانوا اقلية). النخبة اال�رسائيلية احلاكمة ،ما ي�سمح ال�رسائيل ب�أن املفارقة الثانية هي ان ان�شاء بريطانيا لدولة تعلن عن حدودها اخري ًا. فل�سطينية بذاتها من خالل «ع�صبة االمم» ارتكز على واملفارقة يف االمر هنا ان االنكار العنيد للفل�سطينيني انكار م�شغول بعناية لوجود الفل�سطينيني مبا هم جماعة مبا هم جماعة �سيا�سية ،او حتى حموهم ،هو نتاج قوى �سيا�سية .وهكذا فاملفاو�ضات الطويلة بني احلكومة فكرية ومادية �سابقة على وجود الفل�سطينيني مبا هو الربيطانية وقادة احلركة ال�صهيونية التي �سبقت وعد �شعب يف املعنى احلديث للكلمة ،اي مبا هم جماعة بلفور ( )١٩١٧حول موقع «غري اليهود» (وقد كانوا يفرت�ض اع�ضا�ؤها وج��ود تطابق وا�ضح عندهم بني ٪ ٩٠من ال�سكان) نتجت منه �صيغة �سمحت له�ؤالء الهوية واالر�ض ،حيث التعبري احلتمي عن ذاك التطابق بحقوق مدنية ودينية فقط ،فيما جرى االعرتاف جهارا ي�سمون انف�سهم باحلقوق ال�سيا�سية لليهود .وقد � ِ أدخلت هذه ال�صيغة هو �سيادة الدولة .هذا ال يعني ان الذين ّ لالرا�ضي اال�صليني اليوم فل�سطينيني لي�سوا ال�سكان بحرفيتها يف «وثيقة االنتداب» حيث ال ذكر �إطالقا التي �صارت فل�سطني االنتدابية العام .١٩٢٢االحرى لكلمة «عرب» وحيث ت ِرد كلمة «فل�سطيني» مرة واحدة انه يعني بديال من ان يوجد تطابق طبيعي وجِ د وال (ومن �سخرية االقدار انها وردت يف �صدد الدعوة اىل يزال يوجد توتر ناجت من «مناكفة زمنية» بني فل�سطني ت�سهيل ح�صول اليهود على «اجلن�سية الفل�سطينية»). والفل�سطينيني ،ك�أمنا الواحد منهما ال يوجد اال على و�إن التع ّنت الربيطاين �ضد ال�سماح للفل�سطينيني ح�ساب الآخر .ان �سمة مميزة من �سمات هذا الو�ضع ب�أن ي�شكلوا امل�ؤ�س�سات ذاتها التي ك ّلفهم االنتداب هي تخلف زمني يق�ضي على الفل�سطينيني ب�أن يكونوا بتطويرها ،ي�ضاف اليه عجز القيادات املحلية عن ت�صور ثقافة �سيا�سية ،قد حتجرت ب�سبب قرون مبوجبه مت�أخرين بخطوة او خطوتني اىل ال��وراء ،ولذا اعادة ّ ّ عاجزين بانتظام عن التحكم بقواعد اال�شتباك .فقبل من ال�سيطرة االمرباطورية العثمانية ،ت�ستطيع ان جتابه ان يتمكنوا من ذلك بوقت طويل ،كانت تلك القواعد بفاعلية احلكم الربيطاين وامل�رشوع ال�صهيوين ،ع ّزز تتطلب وعيا قوميا �سائدا يف كل ذهن و�شهادة ا�ستمالك من التوتر بني الهوية واالر�ض الذي الزم الفل�سطينيني ويرجح لهذا التوتر ان ي�ستمر طاملا لالر�ض مبنية على م�سوح عقارية مم�سوكة يف كل يد منذ بداية النزاع. ّ ك�رشوط م�سبقة للحق يف ادعاء ملكية االر�ض ،واحلق ان احلركة الوطنية الفل�سطينية حبي�سة اال�سا�س النظري يف الكالم ،واحلق يف نيل االعرتاف بهم مبا هم جماعة التي ر�سمته احلركة ال�صهيونية والقوى االمربيالية التي �سيا�سية .وكان قبول الفل�سطينيني تلك ال�رشوط امل�سبقة ان�ش�أت نظام الدولة احلديثة يف ال�رشق االو�سط. يعني اخلو�ض يف �سباق لن ي�ستطيعوا الفوزبه ابدا ،اما اما املفارقة الثالثة فهي تدمري فل�سطني ذاتها مبا هي رف�ضة فكان يعني طردهم خارج العملية ال�سيا�سية دولة يف العام ١٩٤٨الذي اعلن حلظة االنعطاف يف الر�سمية (اي �صيغة «ال يوجد احد نتحدث اليه»). عملية ت�شكل الفل�سطينيني مبا هم �شعب .فمن امل�ؤكد بدايات
العدد |5ربيع 2013
ان تغليب الهوية الوطنية الفل�سطينية على ا�شكال اخرى متوافرة من الهويات كان ينمو بوترية مت�سارعة منذ ت�شكيل الدولة الفل�سطينية ُبعيد احلرب العاملية االوىل ،وما من �شك يف ان الثورة الكربى خالل االعوام � ١٩٣٩-١٩٣٦ضد احلكم الربيطاين جعلت من عملية الت�شكل هذه عملية ال ارتداد عنها .على الرغم من ذلك ،ف�إن الذاكرات امل�شرتكة عن �صدمة اقتالع جمتمعهم وجتارب احلرمان ،واللجوء ،وفقدان الدولة، �صارت العالمة الفارقة لـ«احلالة الفل�سطينية» خالل احلقبة الثانية من احلركة الوطنية الفل�سطينية .وميكن ان نذكر هنا مفارقتني اقل اهمية :االوىل هي ت�أ�سي�س «منظمة التحرير الفل�سطينية» يف العام ١٩٦٤بوا�سطة «جامعة الدول العربية» مببادرة من الرئي�س جمال عبد النا�رص قد ح�صل حتديدا لتقدي�س فل�سطني ومنع الفل�سطينيني من ان «ميتلكوا» انف�سهم مبا هم جماعة �سيا�سية؛ والثانية ،ان اعرتاف العرب واالمم املتحدة مبنظمة التحرير الفل�سطينية مبا هي املمثل ال�رشعي الوحيد لل�شعب الفل�سطيني ،العام ،١٩٧٤قد قام على ا�سا�س تخلي منظمة التحرير وتبنيها، الفل�سطينية عن هويتها مبا هي حركة حترر وطني ّ بدال من ذلك ،هوية دولة يف املنفى ت�سعى اىل حكم االرا�ضي املحتلة بعيد حرب حزيران .١٩٦٧ املفارقة الرابعة هي تلك التي تتجلى امام ناظرينا الآن حيث يجري «تبليع» الفل�سطينيني دولة (او دولتني) بالقوة �ضد ارادتهم بعد عدة عقود من مطالبتهم بدولة ،واقول �ضد ارادتهم النه ي�صعب تخيل فل�سطينيني يوقعون على �صفقة تلغي حقهم يف العودة ،ويف القد�س ال�رشقية ون�صف ال�ضفة الغربية يف مقابل دولة غري حمددة احلدود ،وال جتاور جغرايف وال �سيادة وال جدوى اقت�صادية وال و�سائل دفاع عن النف�س وال �سيطرة على املوارد .باخت�صار �صار ان�شاء دولة فل�سطينية ،مثلما ينادي بها ر�ؤ�ساء الواليات املتحدة االمريكية ور�ؤ�ساء الوزراء اال�رسائيليون ،الو�سيلة التي مبوجبها يجري قطع الطريق على حق ال�شعب الفل�سطيني يف تقرير امل�صري ،عو�ض ًا عن حتقيقه. هل للفل�سطينيني �صوت؟ الالفت للنظر كثريا الآن انه ال تزال م�س�ألة من ينطق با�سم الفل�سطينيني م�س�ألة قيد البحث بعد قرن كامل من الزمن. ويعود ذلك ،اىل حد بعيد ،اىل حقيقة ان التوتر بني االر�ض وال�شعب الذي يخرتق تلك املفارقات هو توتر �سابق ي�سمون انف�سهم على الع�رص احلديث .فمن حظ الذين ّ
56
بدايات
العدد |5ربيع 2013
�صوتهم اخلا�ص ،كلما ازداد النظر اليهم كقوة تخريبية. لهذا ات�سمت �سيا�سات االنظمة العربية بنهج تقدي�س فل�سطني يف اللغو وقمع الفل�سطينيني يف املمار�سة ،ما يعزز التوتر القائم ا�صال بني ار�ض و�شعب. يعود الف�ضل اىل قادة منظمة التحرير الفل�سطينية، وخ�صو�صا اىل يا�رس عرفات ،يف اع��ادة بناء احلركة الوطنية الفل�سطينية ومنحها �صوتا .لكن منظمة التحرير الفل�سطينية ،وقيادتها التي ت�سيطر عليها حركة فتح ،مبا هي حركة وطنية حمكومة باملنفى ،فقد كانت مهتمة بوجود عمالء ال �رشكاء .فلم ت�أبه للفل�سطينيني الذين بقوا فيما �صار دولة ا�رسائيل ،وال هي اعتنت كثريا يف االرا�ضي املحتلة من العام ١٩٦٧اىل ما بعد االجتياح اال�رسائيلي للبنان العام ١٩٨٢بكثري. ويف كل االحوال ،ف�إن االجناز العظيم املتمثل يف ان�شاء عنوان �سيا�سي اوحد للفل�سطينيني قد جرى التخلي عنه عند توقيع اتفاقات او�سلو على مرجة البيت االبي�ض يف ايلول .١٩٩٣وهاكم حلظة ا�ضافية حبلى باملفارقة: ف ��إن «اع�لان امل��ب��ادئ» -ال��ذي يفرت�ض ان��ه اعرتف مبنظمة التحرير الفل�سطينية مبا هي تنظيم ميثل ال�شعب الفل�سطيني كما اعرتف مببد�أ االر�ض مقابل ال�سالم -قد ادى مبا�رشة اىل الق�ضاء عمليا على منظمة التحرير الفل�سطينية واىل خلق وقائع جديدة على االر�ض جعلت من قيام دول��ة فل�سطينية قابلة للحياة �أمرا م�ستحيال .وبعد مرور كل هذه ال�سنوات من عمر «عملية ال�سالم» ،بات من الوا�ضح ان الفل�سطينيني قد ف�شلوا، رغم الت�ضحيات اجل�سام ،يف خلق قيادة متثيلية فعالة قادرة على ان تقودهم نحو بناء الدولة ،حتى ال نتحدث عن العودة وامل�ساواة واالزدهار.
فل�سطينيني (او من �سوء حظهم) انهم �سكان م�ساحة تقد�سها ثالث ًة ديانات �صغرية ن�سبي ًا وهام�شية ً اقت�صاديا ّ توحيدية يف العامل وت�شكل ج�رس ًا ار�ضي ًا يربط بني القارتني االفريقية والآ�سيوية .ف�إن ال�سكان الذي فلحوا احلقول وبنوا املدرجات وكاروا يف حوانيت احلواري لهم بالتايل عالقة ف�صامية باملكان الذي ي�سمونه بيتا لهم. فهم من جهة �صاغوا عرب القرون �شبكة متينة من العالقات املخ�صو�صة واحلميمة باالر�ض تتحكم بوجودهم ذاته ،من العي�ش اىل الكرامة .ومن جهة اخرى، فتلك امل�ساحة املقد�سة واال�سرتاتيجية ميالة للتجريدات والرغبات االديولوجية -اعني اىل اال�ستحواذ عليها با�سم الله واحل�ضارة -من قوى اعتى قوة من �سكانها. فاذا ا�ستثنينا احلمالت ال�صليبية ،فاللحظة احلا�سمة يف اال�ستحواذ االوروبي على تلك االر�ض عانت يف القرن التا�سع ع�رش عندما جرى حتويل جمموعة من املقاطعات التابعة لل�سلطنة العثمانية اىل «االر���ض املقد�سة» املعينة واخلريطة امل�سيطر عليها اوروبيا ،ذات احلدود ّ املر�سومة بحذافريها .فمن خالل البعثات االكادميية ال�سري على والدينية املتنوعة ،التي تطلبت الكثري من َ االق��دام واعمال امل�سح واحلفر والبناء ،جرى ت�أمني االر�ض وا�ستعادتها (و�إن املوا�صلة ال�شغوفة للن�شاطات ذاتها من قبل احلركة ال�صهيونية والدولة اال�رسائيلية �إن هو اال ا�ستمرار لذلك النهج) .هكذا حتولت التجريدات والرغبات اىل �شبكة من العالقات املميزة باالر�ض على ح�ساب ما هو موجود ا�صال من �شبكات .وهكذا ف�إن انتاج «االر�ض املقد�سة» قد ار�سى اال�س�س الثقافية واملادية النكار حق الفل�سطينيني يف الوجود حتى قبل و�ضمن جناح احلركة ال�صهيونية حتى ان ي�صريوا �شعباَ ، قبل ان تبد�أ تلك احلركة يف التعبري عن نف�سها. م��ا معنى االنت�ساب اىل اجلماعة ال�سيا�سية الفل�سطينية؟ وكيف يرى الآخ��رون اىل هذا االنتماء؟ ازداد تعقيد هاتني امل�س�ألتني بعد اختفاء فل�سطني يف .١٩٤٨فما دام احتالل االر���ض الوا�سع النطاق واالج�لاء ال�سكاين اللذين ت�سببت بهما النكبة كانا جم��رد حلقات يف �سل�سلة من عمليات املحو ،فال عجب ان تنجح احلكومة اال�رسائيلية واملجتمع الدويل، م�ؤقتا على االقل ،يف حتويل الن�ضال الفل�سطيني من اجل اال�ستقالل وتقرير امل�صري اىل «ق�ضية الجئني» ان�سانوية لكنها ال�سيا�سية .وهكذا ومبا ان الفل�سطينيني جماعة خلقها الفقدان ،فكلما اقرتبوا من العثور على
فر�صة ام كارثة؟ ثالثة احداث مف�صلية -اجالء امل�ستوطنات اال�رسائيلية من غزة (الذي اجنز يف �سبتمرب )٢٠٠٥واالنت�صار االنتخابي الكا�سح حلركة حما�س (يناير )٢٠٠٦وف�شل االجتياح اال�رسائيلي للبنان (يوليو-اوغ�سط�س )٢٠٠٦ ا�س�ست ملرحلة جديدة يف تاريخ الن�ضال الفل�سطينيمن اجل تقرير امل�صري الوطني. واذا ما و�ضعنا تلك االحداث على خلفية التدخل الع�سكري االمريكي يف العراق وافغان�ستان ،وت�صعيد احلملة االمريكية لعزل ايران ورمبا اجتياحها ،واعادة �صياغة اللغة ال�سيا�سية بناء على خطوط طوائفية او اثنية
57
بدايات
العدد |5ربيع 2013
(وخ�صو�ص ًا الثنائية ال�سنة ال�شيعية) ف�إنها -االحداث تطرح حتديا غري م�سبوق النظمة احلكم يف ال�رشقاالو�سط التي ظهرت بعيد احلرب العاملية االوىل ،كما لبع�ض الهويات الوطنية التي تبلورت على امتداد القرن الع�رشين .واملفارقة هنا ان الدولة الفل�سطينية قد تولد يف وقت يبدو فيه ان ا�سا�سات هذا النظام قد تهاوت. �آ َذ َن اجالء م�ستوطنات غزة ب�أن النقا�ش الطويل داخل احلركة ال�صهيونية بني املتطريف يف م�س�ألة االر�ض واملتطريف يف م�س�ألة ال�سكان قد جرت ت�سويته تقريبا. ب�رسعة وبت�صميم ،ها هي ا�رسائيل تفر�ض «�رضبتها القا�ضية» على ترتيبات احلل النهائي ،مبا فيها تلك املتعلقة برت�سيم احلدود .فمن ِ�شبه امل�ؤكد الآن ان بع�ض االرا�ضي الفل�سطينية لن تكون جزءا من ا�رسائيل وانه ال� ،سوف يبقى ن�صف ال�شعب يف امل�ستقبل القريب ،اق ً الفل�سطيني تقريبا -املحروم من دولة ومن احلرية - �ضمن حدود فل�سطني كما كانت زمن االنتداب. ان االنت�صار ال�ساحق الذي حققته حركة حما�س يف االنتخابات النيابية الفل�سطينية يف يناير ،٢٠٠٦ و�سيطرتها الع�سكرية على غزة يف يونيو ،٢٠٠٧ ختمت احلقبة الثانية من احلركة الوطنية الفل�سطينية و�آذن��ت ب��والدة حقبة جديدة جمهولة االم��د �سيكون اال�سالم ال�سيا�سي جزءا ع�ضويا منها �إذا مل نقل انه اجلزء املهيمن عليها .فهذه احلقبة -وهي جزء من تيار اقليمي او�سع ي�شهد ال�صعود اال�سالمي يف تركيا ويف تون�س وم�رص بعد «الربيع العربي » -تعيد طرح ال�س�ؤال عن الكيفية التي �سوف يحقق بها الفل�سطينيون تقرير امل�صري واي جمتمع يطمحون اىل بنائه. هنا تواجه حركة حما�س مع�ضلة .فهي ،من جهة، �سمحت للعديد من الفل�سطينيني ان يتجاوزوا العجز واحلرمان ب�أن يدجموا يف لغة �سيا�سية واحدة �أجندات اجتماعية و�أخالقية و�سيا�سية ووفرت البناء التحتي لتحقيق تلك االجندات على امل�ستوى املحلي .لكن من جهة ثانية، تثري نظرتها للعامل وتكتيكاتها ال�سيا�سية م�شكلة رئي�سة على معظم حركات املجتمع املدين والت�ضامن الدويل (نقابات ،حركات ن�سوية ،جمعيات حقوق ان�سان ،الخ). التي تلتزم مبادئ االن�سانية العلمانية والالعنف. وما دام الفل�سطينيون لن ي�ستطيعوا حتقيق احلرية وتقرير امل�صري ب�أنف�سهم ،فمن ال�رضوري ان يجدوا و�سائل لتحقيق الطاقات التقدمية الكامنة يف القانون الدويل ومبادئ حقوق االن�سان دون ان يلتزموا على
نحو غري نقدي باال�س�س الفل�سفية لتلك املبادئ (وهي، التاريخ املعا�رص ،تتجذر فيها العن�رصية كما يعلمنا ُ والتو�سع االمرباطوري واال�ستغالل الكولونيايل والتطهري العرقي واالبادة اجلمعية) .وعليهم اي�ض ًا ان يجدوا و�سائل االعرتاف بالطاقات التقدمية الكامنة يف تقاليدهم الثقافية والدينية املوروثة ،وان يغرفوا منها ،دون جتميدها يف دروع دفاعية حما ِفظة تعزز من الرتاتبات الداخلية. التاريخي الفا�صل الثالث فهو ف�شل ا�رسائيل اما احلد ّ يف حربها �ضد حزب الله يف حرب يوليو .٢٠٠٦ فاذا كان العام ١٩٦٧مبثابة الذروة يف قوة ا�رسائيل الع�سكرية يف املنطقة ،فالعام ٢٠٠٦يعلن اخف�ض م�ستوى يف تلك القوة .وقد بد�أت عملية االنحدار مع حرب اال�ستنزاف التي �شنتها م�رص بعيد العام ،١٩٦٧ رغم املكا�سب اال�رسائيلية الظاهرية ،م��رورا بحرب ١٩٧٣واجتياح لبنان ،١٩٨٢واالن�سحاب االجباري من جنوب لبنان ٢٠٠٠واعادة احتالل املنطقة «الف» من االرا�ضي الفل�سطينية املحتلة يف ابريل .٢٠٠٢ كل هذه االحداث ت�شري اىل حقيقة ب�سيطة :ان ا�ستخدام العنف لفر�ض وقائع جديدة على االر�ض ي�ؤدي اىل نتائج اقل فاقل فاعلية .يف العراق وافغان�ستان ،كما يف فل�سطني ولبنان ،تتزايد وتت�ضخم الكلفة التي تتكبدها الواليات املتحدة وا�رسائيل للحفاظ على م�ستوى عال من القمع. وال يتجلى ذلك يف ت�صاعد املقاومة �ضدهما وح�سب وامنا اي�ضا يف الفروقات االجتماعية واالقت�صادية التي ت�ؤدي اىل تذمر حملي جدي يف تلك املناطق .ان هجمات ١١ �سبتمرب � ٢٠٠١سمحت بعقد زواج النيوليربالية مع املغامرات الع�سكرية ،على ان �شهر الع�سل قارب نهايته. فعاجال او �آجال� ،سوف يتجذر م�سار املفاو�ضات ال�سيا�سية احلقيقية .واهم االلتزامات ال�سيا�سية طويلة املدى التي ميكن للفل�سطينيني ان يتعهدوا بها هو التحويل الدميقراطي وت�صور لنظام التمثيل الذاتي تبعهم ،وت�شييد بنية قيادية ّ طرائق خالقة جديدة للتح�ضري لتلك املفاو�ضات وت�أطريها بحيث ال يكررون اخطاء او�سلو. فيما يتعدى تر�سيمة «الهوية-االر�ض-ال�سيادة» يروق للعديد منا ان يعتقد ان القانون الدويل �سوف يجري االلتزام به ،يف نهاية املطاف ،وان حتقيق تقرير امل�صري يف ع�رص التحرر من اال�ستعمار حتمي قدر حتمية االلتزام بالقانون الدويل وان العدالة �سوف ت�سود يف نهاية املطاف. على ان هذه املعتقدات لي�ست قوانني حديدية وال هي
58
بدايات
العدد |5ربيع 2013
املجابهة ال�سيا�سية مع ال�صهيونية وترقى غالب ًا اىل موقع ال�ضحية االخالقي الرفيع فيما هي تتعامى عن التناق�ضات الداخلية .لهذه اال�سباب ،فا�سلوبا ال�رسد كالهما عاجز عن ار�ساء اال�س�س للغة تعبئة جديدة تتغذى من احل�سا�سية للممار�سات االجتماعية والثقافية التي تنتج معنى ان يكون املرء فل�سطينيا وحتوله املعنى حتويال يف الآن ذاته. ان نقا�شا نقديا لرت�سيمة «الهوية-االر�ض-ال�سيادة» ي�صوب نحو �آف��اق جديدة .ف��اوال ،يجب على ميكن ان ّ الفل�سطينيني ان يت�شكلوا مبا هم جماعة �سيا�سية ويجعلوا �صوتهم م�سموعا من خالل م�ؤ�س�سات �سيا�سية دميقراطية مرتكزة اىل مطالب االق�سام الثالثة من ال�شعب الفل�سطيني اليوم :حق العودة خلم�سة ماليني يف ال�شتات الذي ي�شكلون اكرب واقدم جماعات من الالجئني يف العامل؛ احلرية لنحو ٣،٨ماليني يف القد�س ال�رشقية وال�ضفة الغربية وقطاع غزة يعي�شون يف ظل احتالل ع�سكري �رش�س منذ اربعة عقود من الزمن؛ واحلقوق املت�ساوية لـ ١،٢مليون فل�سطيني هم املواطنون الفل�سطينيون يف ا�رسائيل. ثانيا ،من ال�رضوري ربط وتفعيل هذه االهداف الثالثة ان نقا�شا نقديا لرت�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيمة (املتناق�ضة واملتوازية طبعا) من خالل ا�سرتاتيجيات خالقة «الهويــــــــــــــــــــة-االر�ض-ال�ســــــــــــــــــــيادة» طويلة املدى قادرة على اعادة ر�سم قواعد اللعبة وك�رس ميكن ان ي�صوّ ب نحو �آفــــــــــــــــــــــــــــــاق جديدة القانون احلديدي .فمن �شبه امل�ستحيل ان نت�صور كيف ميكن للفل�سطينيني ان يحققوا ذلك دون حتويل «ال�سلطة ال�سباب متنوعة ،اوىل العامل اهتمام ًا متزايد ًا لهذا يحول مثل الوطنية» و«حكومة حما�س » اىل كيانات توفر اخلدمات النزاع اكرث منه الي نزاع �آخر يف التاريخ .وقد ّ ودون اال�ستثمار ،يف الوقت ذاته ،يف تنمية قيادات �سيا�سية هذا االهتمام �ضعف الفل�سطينيني اىل م�صدر قوة ويقل يف امل�ؤ�س�سات العليا املمثلة لكافة التيارات الرئي�سية داخل التوتر الناجم عن مناكفة زمنية بني الهوية واالر�ض �إرها�صا اجل�سم ال�سيا�سي الفل�سطيني. ب�آفاق �سيا�سية جديدة .ان القانون احلديدي الذي يتحكم ثالثا ،ال ميكن للفل�سطينيني ان يتخلوا عن امل�ستوى بهم ومفارقات تاريخهم قد جعلت من الفل�سطينيني رمزا االخالقي الرفيع باللجوء اىل العنف الع�شوائي ،والتع�صب خ�صيبا للوجه املظلم من احلداثة ،وق�ضية ّ حتتل مكانا بارزا الديني ،او املواقف القومية ال�شوفينية .ان الفل�سطينيني لدى احلركات التقدمية عرب العامل .جميع الذين خربوا يتمتعون باحلق يف ا�ستخدام القوة من اجل انهاء االحتالل احلداثة ال مبا هي تقدم وازده��ار او مبا هي تقرير م�صري االجنبي ح�سب القانون الدويل .لكن هذا بعيد كل البعد عن وخال�ص ،وامنا مبا هي احتالل ا�ستعماري وجتزئة اقليمية تقدي�س الكفاح امل�سلح وعن اال�ستهداف املتعمد للمدنيني واجالء �سكانيا ،ميكن ان يتعرفوا اىل �أنف�سهم يف التجربة ّ ال�سباب �سيا�سية .فاي نوع من املجتمع ميكننا ان نبني على الفل�سطينية .على ان ت�سخري الطاقات ال�سيا�سية اجلبارة مثل تلك االفعال؟ وكيف ميكن ت�شجيع التعبئة القاعدية اذا للجماعات الفل�سطينية والن�صارها عرب العامل يتطلب كان االهتمام واملوارد مكر�سة للميلي�شيات ،خ�صو�صا عندما ت�أ�سي�س كيان متثيلي ي�ستطيع ان ينطق بو�ضوح مبا يريده تكون هذه عاجزة عن الت�صدي للع�سكرية اال�رسائيلية ،الفل�سطينيون ،و�سبب ذلك ،وحدود الفعل اال�سرتاتيجي. وترتد للتناحر يف ما بينها او ترتد �ضد جمتمعها؟ ثم ان ا�ستنباط ا�سرتاتيجيات خمتلفة وو�سائل حتقيقها ان كل ما ورد اع�لاه يدعو ايل اع��ادة التفكري يف يت�ضمنام بدورهما القدرة على تخيل م�ستقبالت خمتلفة تر�سيمة «الهوية/االر�ض/ال�سيادة» ،ابتداء باحلقيقة البدهية والتحرك باجتاه ثقافة �سيا�سية ت�ستطيع ان ترى ما يتجاوز التي تقول �إن اال�رسائيليني باتوا ي�شكلون الآن امة يف تر�سيمة «الهوية/االر�ض/ال�سيادة». ال فل�سطني وان النزاع الفل�سطيني-اال�رسائيلي لي�س �شاغ ً فل�سطيني ًا او ا�رسائيلي ًا فقط .ال ميكن لـ«االر�ض املقد�سة» ان يحتكرها طرف واحد ابدا ،واالحتالل الكولونيايل لفل�سطني مو�ضع اهتمام دويل منذ وثيقة «ع�صبة االمم » يف العام ١٩٢٢وقرار التق�سيم يف العام ١٩٤٧و�صوال اىل احلكم الذي ا�صدرته «املحكمة الدولية» عن عدم مفر من �رشعية «جدار الف�صل» يف العام .٢٠٠٤وال ّ التدويل ،على االقل مبا هو مرحلة انتقالية ،وهذا يتطلب امل�ساومات على البعد االقليمي او ال�سكاين وعلى ال�سيادة باملعنى التقليدي ال�سائد عند اال�رسائيليني والفل�سطينيني على حد �سواء .اىل هذا ،عندما ي�صل الفل�سطينيون اىل التمتع مبقدار كاف من القوة ،يجوز ان ال يعود امتالك دولة هو ال�شكل الوحيد او حتى اف�ضل �شكل لتقرير امل�صري يف عامل يزداد عوملة وت�شابكا ،مثلما ان القومية قد ال تعود هي ال�شكل االجدى لتحقيق العدالة وامل�ساواة واحلرية جلماعات تربط بينها هوية واحدة.
حتى توقعات واقعية بال�رضورة .انها جمرد نتاج اجتاه يوجه املمار�سة .ال حتمية نظري و�ضعي وموقف اخالقي ّ يف خال�ص الفل�سطينيني� .صحيح انهم جنحوا يف البقاء واملقاومة اطول مما توقع معظم املراقبني .على ان هذه اجلهود ٍ المبال امل�ضنية كان ثمنها الت�شجيع على منو تيار ريفي ومتمحور على الذات يف ثقافة �سيا�سية فل�سطينية ت�أبى النقد الذاتي .وهكذا فالفل�سطينيون قد حتملوا قيادات متناوبة مت ترفيعها من فوق [دون انتخاب] ارتكبت وت�رصف اخطاء ا�سرتاتيجية وتواط�أت مع قواعد �سلوك ّ م�صممة عن ق�صد لقطع الطريق على تقرير م�صري جدي. بعبارة ب�سيطة ،ال حرية او عدالة دون تعيني وا�سع ملاهية «ال�سيا�سي» بحيث يعطي من االهمية للفل�سطينيني قدر ما يعطيه لفل�سطني بادراجه امل�سائل االجتماعية والثقافية يف االجندة الوطنية؛ او دون عقد حتالفات عرب احلدود الدولية والنف�سية مبا يت�ضمن حكم ًا اعادة النظر فيما يعنيه تقرير امل�صري وما تعنيه ال�سيادة. ادرك ب�أن حتليال «بعد وطني» للتاريخ احلديث ل�شعب من ال�شعوب ،مل يحقق بعد طموحاته الوطنية ،يط�أ ار�ضا مفهومية/نظرية وعرة ،حتى ال نقول انه ي�سري يف حقل من الغام �سيا�سية .ان الت�سا�ؤل عن املدى االقليمي لالعرتاف بالفل�سطينيني ك�شعب وعن معاين ال�سيادة فيما النزاع ال يزال «حارا» ميكن ان يفهمه البع�ض على انه حتد حلق الفل�سطينيني يف فل�سطني اىل كونه ين�سف لغة ٍّ تقرير امل�صري ال�سيا�سية التي تقع يف �صميم الن�ضال الوطني الفل�سطيني .وهذه لي�ست مب�شاغل نافلة .يتمتع امل�ؤرخون اال�رسائيلون املراجعون ترف تفكيك اال�ساطري ال�صهيونية القومية حتديدا النه توجد �رسدية تاريخية ا�رسائيلية نامية جدا ميكن ا�ستهدافها ولأن ا�رسائيل هي القوة العظمى يف ال�رشق االو�سط ذات امل�ستوى الرفيع من الثقة بالنف�س ومن االجناز .يف املقابل ،فالفل�سطينيون هم الطرف اال�ضعف جدا يف النزاع امل�ستدام .ثم ان تراثهم املادي والثقايف ،من االمكنة اىل ا�سماء االمكنة ،كان وال يزال عر�ضة لعملية حمو منهجية و�إ�سكات التعبري باال�ضافة اىل غياب م�ؤ�س�سات وطنية واىل �سل�سلة متوالية من االنقطاعات القا�سية يف العام ١٩٤٨تف�رس ملاذا ال�رسديات الوطنية الفل�سطينية مبعرثة تدور يف معظهما حول ثنائية :املحو/الت�أكيد؛ اال�ستعمار/املقاومة .الثنائية االوىل مهوو�سة ب�سيا�سات الهوية وغالبا ما تفرت�ض ا�شياء حتتاج اىل تف�سري ،من مثل كيف ا�صبح الفل�سطينيون �شعبا وما عالقتهم باملكان .اما الثنائية الثانية ،فقد ا�ستوعبتها
59
بدايات
العدد |5ربيع 2013
الدولة الفل�سطينية» جنب ًا �إىل جنب مع �إ�رسائيل .وكان �إعالن منظمة التحرير الفل�سطينية ،الذي حظي بالإجماع الدويل ال�ساحق القا�ضي ب�إيجاد حل دبلوما�سي ،هو نف�سه عملي ًا م�رشوع القرار الذي قدمته «دول جبهة التحدي» (م�رص و�سوريا والأردن) يف كانون الثاين/ ّ يناير � 1976إىل جمل�س الأمن الدويل .وهو م�رشوع قرار واجهته الواليات املتحدة بالفيتو جمدد ًا يف العام .1980ويف غ�ضون 35عام ًا ،قامت الواليات املتحدة ب�إعاقة الإجماع الدويل ،وهي ال تزال متار�س ذلك ،هذا �إن و�ضعنا املجامالت الدبلوما�سية جانب ًا. وبحلول العام ،1988بات من ال�صعب احتمال املوقف الأمريكي الرف�ضي .ويف كانون الأول/دي�سمرب من ذلك العام ،كانت الإدارة املنتهية واليتها للرئي�س ريغن قد �أ�ضحت مبثابة �أ�ضحوكة العامل من ناحية جهودها املتزايدة اليائ�سة لالدعاء �أنها الوحيدة يف العامل غري القادرة على اال�ستماع �إىل اقرتاحات منظمة التحرير الفل�سطينية وال��دول العربية .فقررت وا�شنطن ،على مدعي ًة ب�أن منظمة التحرير على م�ض�ض�« ،إعالن الن�رص»ّ ، الأقل ا�ضطرت على �أن تنطق بـ«العبارات ال�سحرية» لوزير اخلارجية الأمريكية يف حينها جورج �شولتز، والإعراب عن نيتها ا ّتباع امل�سلك الدبلوما�سي .ومثلما يو�ضح �شولتز يف مذكراته ،كان الهدف من ذلك ت�أمني احلد الأق�صى من الإذالل ملنظمة التحرير ،من خالل اعرتافها ب�أن عرو�ض �إحالل ال�سالم ال ميكن التعامل معها مبزيد من الرف�ض .لقد �أبلغ �شولتز الرئي�س ريغن � ّأن عرفات كان يقول ن�صف الكالم املطلوب قوله يف مكانٍ ، والن�صف الآخر يف مكان ثانٍ ،مو�ضح ًا �أن عرفات مل يكن ال ،معرب ًا عن خ�ضوعه الكامل جاهز ًا ليقول الكالم كام ً وفق منط متوا�ضع متوقع �إزاء الأوامر الدنيا. مبوجب ذل��ك� ،ستكون املحادثات ذات امل�ستوى املنخف�ض مع منظمة التحرير الفل�سطينية م�سموحة، لكن على �أ�سا�س �أنها �ستكون بال معنى .وقد مت الت�شديد على منظمة التحرير للتخلي تخ�صي�صا عن مطلبها بتنظيم م�ؤمتر دويل ،وذلك لكي حتافظ الواليات املتحدة على �سيطرتها على العملية. يف �أيار/مايو ،1989ر ّدت احلكومة الإ�رسائيلية، حزبي الليكود والعمال ،ر�سمي ًا القائمة على حتالف َ ّ على املوافقة الفل�سطينية على حل الدولتني ،معلن ًة �أنه لن يكون بالإمكان �إقامة «دولة فل�سطينية �إ�ضافية» بني ال دولة الأردن و�إ�رسائيل (على اعتبار �أن الأردن هي �أ�ص ً
20أوسلو
السياقات والتداعيات
نوام تشومسكي قريب ًا ّ تطل علينا الذكرى الع�رشون للتوقيع على اتفاقيات ربت ب�شكل عام �آن��ذاك مبثابة اخرتاق �أو�سلو ،التي اع ُت َ عالِم لغوي وفيلسوف تاريخي نحو طريق ّ حل النزاع الإ�رسائيلي ــ الفل�سطيني، وناشط سيايس .إختري بينما ي�سود االع�تراف اليوم ب�أنها فا�شلة ،يف �أح�سن «المثقف اال كرث نفوذا الأحوال� ،أو رمبا خطوة بعيدة عن �إيجاد ّ حل لهذا ال�رصاع. يف القرن العرشين» .بات الوقت منا�سب ًا لتقومي معنى تلك الأحداث و�أبعادها يف النص جزء من كتاب �إطار بحثنا عن طريق امل�ستقبل انطالق ًا من ذلك. اخري له عن اتفاق يف �أيلول�/سبتمرب � ،1993أ�رشف الرئي�س كلينتون اوسلو .على م�صافحة بني رئي�س احلكومة الإ�رسائيلية �إ�سحاق رابني، ورئي�س منظمة التحرير الفل�سطينية يا�رس عرفات يف حديقة حد و�صف اخللفية وال�سياق البيت الأبي�ض ــ يف اختتام «يوم الرهبة» ،على ّ إطالق � املنا�سبة و�سائل الإعالم لذلك احلدث بخ�شوع .كانت بهدف تقدير طبيعة ومعنى اتفاقيات �أو�سلو ،والتداعيات «�إعالن املبادئ» للحل ال�سيا�سي لل�رصاع الإ�رسائيلي ــ التي نتجت منها ،من املهم فهم اخللفية وال�سياق اللذين الفل�سطيني ،وهو الإعالن الذي نتج من اجتماعات �رسية ظ ّلال مفاو�ضات مدريد و�أو�سلو� .س�أبد�أ با�ستعرا�ض �أبرز ُعقدت يف �أو�سلو برعاية احلكومة الرنويجية. حددت �سياق املفاو�ضات ،ثم اخللفيات املبا�رشة التي ّ جرت مفاو�ضات م�ستقلة بني �إ�رسائيل والفل�سطينيني �أنتقل �إىل «�إع�لان املبادئ» وتداعيات عملية �أو�سلو منذ ت�رشين الثاين/نوفمرب � ،1991أر�ستها الواليات املمتدة حتى يومنا هذا ،ثم �أ�ضيف ب�ضعة كلمات حول املتحدة خ�لال ن�شوة النجاح التي �شعرت بها بعد الدرو�س التي يجدر ا�ستخال�صها. حرب العراق الأوىل ،والتي كر�ست مبد�أ «ما نقوله كانت منظمة التحرير الفل�سطينية و�إ�رسائيل (الأمريكيون) ي�رسي» بح�سب العبارة االنت�صارية وال��والي��ات املتحدة قد �أعلنت مواقف ر�سمية حول للرئي�س جورج بو�ش الأب .ولقد اف ُتتحت املفاو�ضات الق�ضايا الأ�سا�سية املو�ضوعة على ج��دول �أعمال ُدمت مواقف منظمة التحرير خالل م�ؤمتر مقت�ضب يف مدريد ،وتوا�صلت يف ظل مفاو�ضات مدريد و�أو�سلو .ق َ ال�سلطة الأمريكية العليا (وتقني ًا االحتاد ال�سوفياتي الفل�سطينية يف �إعالن املجل�س الوطني الفل�سطيني ذات الذي كان يحت�رض ،وذلك بهدف ت�أمني وهم «الرعاية ت�رشين الثاين/نوفمرب ،1988الذي ت�ضمن �سل�سلة امل�شكل من طويلة من املبادرات الدبلوما�سية التي �أُ َ َّ ال��دول��ي��ة») .وك��ان الوفد الفل�سطيني، �سقطت ،مع �شخ�صيات فل�سطينية من داخل الأرا�ضي املحتلة (باتوا الدعوة �إىل �إن�شاء دولة فل�سطينية على الأرا�ضي التي ي�سمون منذ تلك الفرتة «فل�سطينيي الداخل») ،يقوده احتلتها �إ�رسائيل يف العام ،1967ومطالبة جمل�س حيدر عبد ال�شايف ،ال�شخ�صية الفل�سطينية املكر�سة الأمن الدويل بـ«و�ضع و�ضمان �إجراءات تكفل الأمن َّ وغري الفا�سدة ذات امليول الي�سارية القومية ،وهو قد وال�سالم بني جميع الدول املعنية يف املنطقة ،من �ضمنها يكون ال�شخ�صية التي كانت حتظى يف تلك الفرتة بالقدر الأعلى من االحرتام يف فل�سطني .وقد ّمت ا�ستبعاد «فل�سطينيي اخلارج»� ،أي منظمة التحرير الفل�سطينية التي كانت تتخذ من تون�س مقر ًا لها برئا�سة يا�رس ّ للمنظمة مراقب غري ر�سمي هو عرفات ،رغم �أنه كان في�صل احل�سيني .وكذلك ّمت ا�ستبعاد العدد الهائل من الالجئني الفل�سطينيني عن املفاو�ضات ب�شكل كامل ،ومل ت�ؤخذ حقوقهم بعني االعتبار ،حتى تلك املعقودة لهم مبوجب قرارات اجلمعية العامة للأمم املتحدة.
60
بدايات
العدد |5ربيع 2013
61
بدايات
العدد |5ربيع 2013
فل�سطينية وفق الإمالء الإ�رسائيلي ،بغ�ض النظر عما قد يكون ر�أي الأردنيني والفل�سطينيني) ،و�أنه «لن يطر�أ �أي تغيري على و�ضعية يهودا وال�سامرة (ال�ضفة الغربية) وغزة �إال مبا يتوافق مع املبادئ التوجيهية الأ�سا�سية للحكومة الإ�رسائيلية»� .أكرث من ذلك� ،شدد الر ّد الإ�رسائيلي على �أن �إ�رسائيل لن تخو�ض مفاو�ضات مع منظمة التحرير الفل�سطينية ،لكنها قد ت�سمح بتنظيم «انتخابات حرة» خا�ضعة للحكم الع�سكري الإ�رسائيلي ،بينما جزء كبري من القادة الفل�سطينيني مطرودون من بالدهم �أو يقبعون توجه لهم تهم. يف ال�سجون من دون �أن َّ لقد � ّأيدت �إدارة بو�ش الأب هذه الر�ؤية الإ�رسائيلية من دون اي �رشوط يف كانون الأول/دي�سمرب ّ 1989 (خطة بايكر) .فكانت تلك هي املواقف الثالث ع�شية مفاو�ضات مدريد ،يف ّ ظل ت�أدية وا�شنطن دور «الو�سيط النزيه». عندما ذهب عرفات �إىل وا�شنطن للم�شاركة يف «يوم الرهبة» يف �أيلول�/سبتمرب ،1993كان املو�ضوع الرئي�سي يف �صحيفة «نيويورك تاميز» عبارة عن احتفال �ستحول بامل�صافحة على اعتبار �أنها «�صورة دراماتيكية ّ ال�سيد عرفات �إىل رجل دول��ة و�صانع �سالم» ،وهو الذي نبذ �أخري ًا العنف حتت الو�صاية الأمريكية .ويف نهاية املقال ،كتب �صاحب العمود� ،أنطوين لوي�س، �أنه حتى تلك اللحظة ،كان الفل�سطينيون «يرف�ضون امل�ساومة» .بالطبع ،كانت الواليات املتحدة و�إ�رسائيل هما َمن يرف�ض الدبلوما�سية ،ومنظمة التحرير كانت هي َمن يعر�ض الت�سوية على امتداد �سنوات ،لكن �أن يقلب لوي�س للأدوار والوقائع كان �أمر ًا طبيعي ًا يف تلك ال�صحيفة ومل يتعر�ض لأي مراجعة نقدية. كذلك �شهدت �سنوات ما قبل مفاو�ضات مدريد و�أو�سلو تطورات خطرية �أخرى .ففي كانون الأول/دي�سمرب ،1987اندلعت االنتفا�ضة يف غزة وانت�رشت ب�رسعة يف جميع �أنحاء الأرا�ضي املحتلة .تلك االنتفا�ضة املن�ضبطة ذات القاعدة اجلماهريية العري�ضة� ،شكلت مفاج�أة ملنظمة التحرير يف تون�س ،بقدر ما فاج�أت ق��وات االحتالل الإ�رسائيلي بنظامها الع�سكري و�شبه الع�سكري القائم على املراقبة وزرع املتعاونني معها .مل تكن االنتفا�ضة موجهة �ضد االحتالل وحده ،كانت �أي�ض ًا ثورة اجتماعية داخل املجتمع الفل�سطيني ،ك�رست �أمناط خ�ضوع الن�ساء ال �أخرى من الهرمية والهيمنة. و�سلطة االقطاع وا�شكا ً رغم � ّأن توقيت االنتفا�ضة كان مفاجئ ًا� ،إال �أن فعل االنتفا�ضة مل يكن مفاجئ ًا ،على الأقل بالن�سبة للذين
تنبهوا للعمليات الع�سكرية الإ�رسائيلية املدعومة ّ �أمريكي ًا داخل الأرا�ضي املحتلة .كان ال بد �أن يحدث حتمل الو�ضع .لقد �شيء ما .ق ّلة فقط من النا�س ميكنهم ُّ عانى الفل�سطينيون يف ال�سنوات الع�رشين املا�ضية حتت االحتالل الع�سكري ،القمع ال�شديد ،والعنف والإذالل الوح�شي ،يف حني كانوا ي�شاهدون ب�أم العني �أن ما تبقى لهم من بلدهم يتال�شى يف ّ ظل تنفيذ �إ�رسائيل لربامج �زودة ب�شبكة هائلة من البنى التحتية اال�ستيطان ،امل� ّ الهادفة �إىل دمج �أجزاء كبرية من الأرا�ضي الفل�سطينية يف دولة �إ�رسائيل ،مبوازاة �رسقة املوارد وتدابري �أخرى ملنع ع�سكريا التنمية امل�ستقلة .كل ذلك بدعم �أمريكي حا�سم، ً واقت�صادي ًا ودبلوما�سي ًا ا�ضافة اىل دعم ايديولوجي للت�أثري على الكيفية التي �صيغت من خاللها الق�ضايا.
1
Raz, The Bride and the Dowry, Yale, 2012.
2ه�آرت�س23 ، ت�رشين الأول/ �أكتوبر .1991 حول امل�صادر هنا و�أدناه حيث ال ذكر لها� ،إقر�أ: ت�شوم�سكي، World Orders Old
and New (Columbia University), 1994.
62
أمية كعقاب» «ال ّ ال عن �إحدى احلاالت التي مل ُترث �أي قلق فلن�أخذ مثا ً يف الغرب .قبل اندالع االنتفا�ضة بوقت ق�صري ،قُت َلت طفلة فل�سطينية ُتدعى انت�صار العطار بر�صا�صة وهي يف باحة مدر�ستها يف غزة على يد �أحد �سكان م�ستوطنة يهودية قريبة من املكان .كان الرجل واحد ًا من بني عدة �آالف من امل�ستوطنني الإ�رسائيليني الذي ذهبوا �إىل غزة متمتعا مب�ساعدات مالية كبرية ،يف ظل حماية جي�ش هائل ،م�ستحوذين على اجلزء الأكرب من الأر�ض ومن ال للقطاع ،ليقيموا «ب�سخاء يف ٢٢ املياه النادرة �أ�ص ً م�ستوطنة و�سط 1.4مليون فل�سطيني معوز» ،بح�سب و�صف الباحث الإ�رسائيلي �آيف راز.1 ّمت توقيف قاتل الطفلة� ،شمعون يفراه ،لكن �أُفرج عنه بكفالة �رسيع ًا عندما ر�أت املحكمة �أن «�سلوكه مل تربر» مذكرة اعتقاله .وقد �أ�شار يكن بالق�ساوة التي ِّ القا�ضي يف تعليقه �إىل � ّأن يفراه مل يكن يق�صد �سوى ترويع الطفلة عرب �إطالق النار عليها يف بهو مدر�ستها، ومل يكن يق�صد قتلها ،بالتايل «ل�سنا �أمام حالة �شخ�ص جمرم جتدر معاقبته وردع��ه وتلقينه در�س ًا من خالل �سجنه» .لقد ُحكم على يفراه بال�سجن مع وقف التنفيذ ملدة � 7أ�شهر ،على وقع احتفال امل�ستوطنني رق�ص ًا وغنا ًء داخل قاعة املحكمة .بعدها �ساد ال�صمت املعتاد .يف نهاية املطاف ،كان الأمر ًا روتيني ًا. هكذا كان .بعدما �أُفرج عن يفراه ،ك�شفت ال�صحافة الإ�رسائيلية عن قيام �آلية ع�سكرية ب�إطالق النار على باحة مدر�سة داخل خميم لالجئني يف ال�ضفة الغربية، بدايات
العدد |5ربيع 2013
ممّا كانوا يتم ّتعون به :ال�سيطرة على اخلدمات املحلية... و�ستتوا�صل م�شاريع اال�ستيطان الإ�رسائيلية.
ما ت�سبب ب�إ�صابة خم�سة �أطفال ،وذلك «بهدف ترويعهم فح�سب» .مل ت�صدر �أية �أحكام بحق مرتكبي هذا العمل، ومل يلفت احلدث االنتباه جمدد ًا .كانت تلك جمرد حادثة �أخرى يف برنامج «الأمية كعقاب» ،بح�سب ال�صحافة الإ�رسائيلية ،وقد �شمل هذا الربنامج �إغالق املدار�س، وا�ستخدام قنابل الغاز ،و��ضرب التالمذة ب�أعقاب البنادق ،ومنع امل�ساعدات الطبية عن ال�ضحايا .و�أبعد من املدار�س� ،ساد عهد من العنف الأكرث ق�ساوة ،حتى �أنه �أ�صبح �أكرث وح�شية خالل االنتفا�ضة حتت �أوامر وزي��ر الدفاع �إ�سحاق راب�ين .وبعد عامني من العنف ال�ساديني� ،أبلغ رابني م�س�ؤويل حركة «ال�سالم والقمع ّ يتعر�ضون ل�ضغط الآن» � ّأن «�سكان الأرا�ضي املحتلة ّ ع�سكري واقت�صادي ٍ �سيتم ك�رسهم»، قا�س .يف النهاية، ّ و�سيقبلون بال�رشوط الإ�رسائيلية .متام ًا مثلما فعلوا عندما ا�ستعاد عرفات ال�سيطرة من خالل عملية �أو�سلو. توا�صت مفاو�ضات مدريد بني �إ�رسائيل وفل�سطينيي ابتداء من العام ،1991لأن الداخل دون نتائج حا�سمة ً متدد امل�ستوطنات الإ�رسائيلية. أ�رص على وقف ُّ عبد ال�شايف � ّ كررته ال�سلطات جميع امل�ستوطنات غري قانونية ،وهو ما ّ الدولية ،من بينها جمل�س الأمن الدويل (من بني القرارات يف هذا ال�ش�أن ،قرار جمل�س الأمن رقم ،446الذي �صوتت ل�صاحله 12دولة يف مقابل امتناع كل من ّ الواليات املتحدة وبريطانيا والرنوج عن الت�صويت) .ويف ثبتت حمكمة العدل الدولية عدم قانونية وقت الحقّ ، امل�ستوطنات .وقد نالت اعرتاف ال�سلطات الإ�رسائيلية الق�ضائية العليا واحلكومية يف �أواخر عام ،1967مع بدء م�شاريع اال�ستيطان .وقد �شمل امل�رشوع الإجرامي و�ضم القد�س الكربى ،يف خرق �رصيح التمدد الكبري ُّ ّ للقرارات املتكررة ملجل�س الأمن الدويل. ّ خل�ص ال�صحايف الإ�رسائيلي داين روبن�شتاين بدقّة املوقف الإ�رسائيلي ال�سائد مع بداية م�ؤمتر مدريد ،وهو �أحد �أف�ضل املحللني املتخ�ص�صني بق�ضايا الأرا�ضي املحتلة .2كتب روبن�شتاين � ّأن ال��والي��ات املتحدة و�إ�رسائيل قد توافقان يف مدريد على �إعطاء بع�ض «احلكم الذاتي» للفل�سطينيني مبوجب ما تفر�ضه اتفاقيات «كمب دايفيد» املوقّعة يف العام ،1979لكن «هذا احلكم الذاتي �سيكون �شبيه ًا بذلك املمنوح ملخيمات �أ�رسى احلرب ،حيث يتمتع الأ�رسى بـ«اال�ستقاللية» يف حت�ضري وجباتهم وتنظيم منا�سباتهم الثقافية من دون �سجانهم»� .سيتم منح الفل�سطينيني �أكرث بقليل تدخل ّ
لتجميد اال�ستيطان ،فقد «�ساعدته مادي ًا �أكرث من حكومة �شامري حتى» ،من خالل تو�سيع امل�ستوطنات «يف كل ال�ضفة الغربية ،حتى يف �أكرث البقع ا�ستفزازي ًة» .وقد ا�ستمر تطبيق هذه ال�سيا�سات يف ال�سنوات الالحقة ،وهي ت�شكل الأ�سا�س للم�شاريع احلالية حلكومة نتنياهو .وهي �سيا�سات تهدف �إىل ال�سماح لإ�رسائيل ب�إحكام �سيطرتها على حواىل � 40إىل 50يف املئة من ال�ضفة الغربية� ،أما الباقي فيكون مق�سم ًا �إىل كانتونات داخل �سجن ،بينما ت�سيطر �إ�رسائيل على غور الأردن ،ب�شكل منف�صل عن قطاع غزة ،وذلك يف خرق �رصيح التفاقيات �أو�سلو ،فت�ضمن بالتايل �أن �أي كيان فل�سطيني حمتمل لن يكون له �أي منفذ �إىل العامل اخلارجي.
ت�رسيع اال�ستيطان والقد�س الكربى فيما كانت مفاو�ضات مدريد واملفاو�ضات ال�رسية يف �أو�سلو ت�سري على قدم و�ساقّ ،مت تو�سيع م�شاريع اال�ستيطان ب�شكل �رسيع ،يف املرحلة الأوىل يف ظل عهد �إ�سحاق �شامري ،وبعدها مع �إ�سحاق رابني الذي �أ�صبح رئي�س ًا للحكومة يف العام ،1992و«تباهى ب�أنه ّمت خالل عهده بناء منازل ا�ستيطانية يف الأرا�ضي الفل�سطينية �أكرث مما ُبني منذ العام � .»1967رشح رابني امل�سي ب�شكل موجز« :املهم هو ما يتواجد داخل مبد�أه رِّ احلدود ،ومكان تواجد احلدود هو �أمر �أقل �أهمية ،طاملا االنتفا�ضة و�رصاع الداخل مع اخلارج � ّأن الدولة (الإ�رسائيلية) ّ تغطي معظم «�أر�ض �إ�رسائيل» املبادرون باالنتفا�ضة هم فل�سطينيو الداخل .حاولت منظمة (فل�سطني التاريخية) ،وعا�صمتها القد�س». التحرير الفل�سطينية فر�ض بع�ض ال�سيطرة على الأحداث، عمقت م�شاريع مطلع وبح�سب تقارير باحثني �إ�رسائيليني ،كان هدف لكن من دون جناح كبري .وقد ّ حكومة رابني تو�سيع «منطقة القد�س الكربى اخلا�ضعة الت�سعينيات ،حني كانت املفاو�ضات جارية ،غربة فل�سطينيي لل�سيطرة الإ�رسائيلية» ب�شكل جذري ،لت�ضم املنطقة الداخل عن قيادة منظمة التحرير املقيمة يف اخلارج. ال �إىل حدود ويف ظل هذه الظروف ،مل يكن مفاجئ ًا �أن يبحث املمتدة من رام الله حتى اخلليل و�صو ً معاليه �أدوميم بالقرب من �أريحا ،و«الإنتهاء من خلق عرفات عن و�سيلة لإعادة فر�ض �سلطة منظمة التحرير. الدوائر اال�ستيطانية اليهودية املجاورة يف منطقة وقد �سنحت له الفر�صة لفعل ذلك من خالل املفاو�ضات مقو�ض ًا بذلك القد�س الكربى ،وذلك بهدف حما�رصة املجموعات ال�رسية بينه وبني �إ�رسائيل برعاية نرويجيةِّ ، الفل�سطينية ،واحلد من تطورها ،ومنع �أي �إمكانية لأن القيادة املحلية يف الداخل .وفيما انتهت هذه املفاو�ضات تكون القد�س ال�رشقية عا�صمة فل�سطينية»� .أكرث من ال�رسية يف �آب�/أغ�سط�س ،1993ف� ّإن التباعد املتزايد ذلك ،فقد «و�ضعت �شبكة طرقات وا�سعة النطاق قيد (بني الداخل واخلارج) كان ما ّدة لكتابات ملي�س �أندوين، الت�شييد ،لتكون العمود الفقري مل�سار اال�ستيطان». تابعن بدقّة �إح��دى ال�صحافيات القليالت اللواتي َ مت تو�سيع م�شاريع اال�ستيطان ب�رسعة بعد اتفاقيات تطورات الفل�سطينيني الواقعني يف ظل االحتالل ويف ّ �أو�سلو ،ومن �ضمن هذه امل�شاريع ت�شييد م�ستوطنات خميمات اللجوء يف الدول املجاورة. جديدة و«تد�شيم» م�ستوطنات قدمية ،وتقدمي �إغراءات �أ�شارت �أندوين �إىل �أن منظمة التحرير الفل�سطينية جدد ،وو�ضع م�شاريع طرقات «تواجه �أزمتها الأ�سو�أ منذ ت�أ�سي�سها� ،إذ �إن املجموعات خا�صة جلذب م�ستوطنني ُ �رسيعة لتحويل الأرا�ضي الفل�سطينية اىل كانتونات .الفل�سطينية ــ با�ستثناء حركة «فتح» ــ وامل�ستقلني �آخذة با�ستثناء القد�س ال�رشقية ،ات�سعت عمليات البناء بن�سبة يف االبتعاد عن منظمة التحرير ،يف ّ ظل تق ُّل�ص املجموعة 40يف املئة بني 1993و ،1995بح�سب درا�سة املحيطة بيا�رس عرفات»� .أكرث من ذلك ،تلفت �أندوين �إىل �أجرتها حركة «ال�سالم الآن». �أن «�أرفع ع�ضوين يف اللجنة التنفيذية ملنظمة التحرير زاد التمويل احلكومي الإ�رسائيلي للم�ستوطنات يف الفل�سطينية ،ال�شاعر حممود دروي�ش و�شفيق احلوت، الأرا�ضي الفل�سطينية بن�سبة 70يف املئة عام � ،1994أي ا�ستقاال من اللجنة التنفيذية ملنظمة التحرير» ،على وقع يف العام الذي تال تاريخ التوقيع على االتفاقيات .و�أفادت عر�ض املفاو�ضني الفل�سطينيني تقدمي ا�ستقاالتهم .وحتى « ُدڤار» �صحيفة حزب العمال احلاكم حينها �أن حكومة رابني التنظيمات التي ظ ّلت من�ضوية يف منظمة التحرير ،ف�إنها حافظت على �أولويات حكومة �شامري اليمينية املتطرفة اخذت تن�أى بنف�سها عن عرفات .ويف ال�سياق ،دعا م�س�ؤول تدعي ال�سعي حركة «فتح» يف لبنان عرفات �إىل اال�ستقالة ،فيما كانت التي خلفتها .ففيما كانت حكومة «العمال» ّ
63
بدايات
العدد |5ربيع 2013
وترية املعار�ضة املوجهة �ضد عرفات و�ضد ف�ساد منظمة التحرير وت�س ّلطها تتزايد يف الأرا�ضي املحتلة .وجنب ًا �إىل «التف�سخ ال�رسيع للتنظيم الأ�سا�سي ،وخ�سارة جنب مع ُّ عرفات للدعم داخ��ل �صفوف حركته ...ف �� ّإن التف�سخ ال�رسيع مل�ؤ�س�سات منظمة التحرير والت�آكل الثابت للقاعدة اجلماهريية للمنظمة قد يجعالن �أي انفراج يف حمادثات ال�سالم من دون �أي معنى». والحظت �أندوين �أ ّنه «مل ي�سبق �أن و�صلت املعار�ضة للقيادة الفل�سطينية ولعرفات �شخ�صي ًا �إىل هذا امل�ستوى على امتداد تاريخ منظمة التحرير الفل�سطينية ،بينما، وللمرة الأوىل ،ي�سود �شعور متعاظم ب�أن احلفاظ على احلقوق الوطنية الفل�سطينية مل يعد يتوقف على الدفاع عن دور منظمة التحرير الفل�سطينية .وبات كثريون يعتقدون تدمر امل�ؤ�س�سات �أن �سيا�سات تلك القيادة هي التي ّ وتعر�ض احلقوق الوطنية الفل�سطينية للخطر». الفل�سطينيةّ ،
3لالطالع على مف�صل عن حتليل َّ مواقف رو�س� ،إقر�أ نورمن فنكل�ستني، «ديني�س رو�س وعملية ال�سالم: �إخ�ضاع احلقوق الفل�سطينيني لالحتياجات الإ�رسائيلية»، جملة الدرا�سات الفل�سطينية، .2007
64
النتيجة النهائية للعملية هي �إر�ساء «حل دائم مبني على ق��رارات جمل�س الأمن الدويل رقم 242و.»338 يجدر بالأ�شخا�ص املتابعني للدبلوما�سية املتعلقة بال�رصاع الإ�رسائيلي ــ الفل�سطيني� ،أن يفهموا �رسيع ًا ماذا يعني ذلك .ال يت�ضمن القراران 242و 338بتات ًا �أي كالم حول احلقوق الفل�سطينية ،ما عدا اال�شارة �إىل «حل عادل مل�شكلة الالجئني» ،وهي اال�شارة التي ظ ّلت مبهمة .وحتيل القرارات الدولية الالحقة �إىل احلقوق جتاهل هذه القرارات الوطنية الفل�سطينية ،لكن ّمت ُ يف «�إعالن املبادئ»� .إن كان الهدف النهائي لـ«عملية ن�ص عليه «�إعالن املبادئ» �رصاح ًة، ال�سالم» هو مثلما ّ ف�إ ّنه يجدر بالفل�سطينيني توديع �آمالهم بتح�صيل بع�ض حقوقهم الوطنية يف فل�سطني التاريخية. وتتكفّل البنود الأخرى من «�إعالن املبادئ» بالك�شف عن ذلك بو�ضوح �أكرب .فتن�ص هذه البنود على �أن تب�سط ال�سلطة الفل�سطينية �سيطرتها على «�أرا�ضي ال�ضفة الغربية وقطاع غزة ،با�ستثناء امل�سائل التي �سيتم التفاو�ض حولها يف مفاو�ضات احلل النهائي� ،أي :القد�س ،امل�ستوطنات، املواقع الع�سكرية وال�سكان الإ�رسائيليني» .وهو ا�ستثناء ي�شمل كافة الق�ضايا� .أكرث من ذلك ،تن�ص تلك البنود على �أنه «بعد االن�سحاب الإ�رسائيلي� ،ستبقى �إ�رسائيل م�س�ؤولة عن الأمن اخلارجي والداخلي وعن النظام العام للم�ستوطنات وال�سكان الإ�رسائيليني .وب�إمكان القوات الع�سكرية الإ�رسائيلية واملدنيني موا�صلة ا�ستخدام بحرية داخل قطاع غزة ومنطقة �أريحا»� ،أي الطرقات ّ تعهدت �إ�رسائيل باالن�سحاب منهما يف املنطقتني اللتني ّ نهاية املطاف .باخت�صار ،لن يكون هناك تغيريات جذرية يتطرق بعد تطبيق هذه البنود .كما �أن «�إعالن املبادئ» مل ّ ّ حتتل مكان ًا رئي�سي ًا بكلمة �إىل م�شاريع اال�ستيطان التي يقو�ض التو�سيع الكبري مبوجب يف ال�رصاع ،حتى قبل �أن ّ عملية �أو�سلو احتماالت واقعية ب�إمكانية حتقيق تقرير م�صري فل�سطيني ذات معنى. ي�سمى �أحيان ًا باخت�صار ،فقط عن طريق اخل�ضوع ملا ّ «التجاهل الدويل» ،ميكن للمرء ت�صديق � ّأن عملية �أو�سلو حتولت كانت خطوة باجتاه ال�سالم .غري � ّأن تلك املعزوفة ّ �إىل دوغما افرتا�ضية بني املع ّلقني واملفكرين الغربيني.
مقرب ًا من تدريجي ًا» .حتى في�صل ح�سيني ،الذي كان ّ عرفات ،قال �إن اتفاقيات �أو�سلو «لي�ست حتم ًا البداية التي كان �شعبنا ي�أملها» .بدوره ،انتقد حيدر عبد ال�شايف قيادة منظمة التحرير الفل�سطينية ملوافقتها على االتفاق الذي ي�سمح لإ�رسائيل مبوا�صلة اال�ستيطان ،وم�صادرة و�ضمها» �إىل منطقة القد�س الأرا���ض��ي «وتهويدها ّ الفل�سطينيني مددتها و�سيطرت عليها ،وب�إخ�ضاع التي ّ ّ لـ«الهيمنة االقت�صادية الإ�رسائيلية» .وقد رف�ض عبد ال�شايف امل�شاركة يف احتفال التوقيع على االتفاق يف حديقة البيت الأبي�ض .وبح�سب ما كتب يو�سف �إبراهيم يف �صحيفة «نيويورك تاميز» ،ف�إنه بالن�سبة لكثريين ،كان «ال�سلوك الدينء لقيادة منظمة التحرير الفل�سطينية ،مبا يف ذلك ال�سري مب�سار يتجاهل الفل�سطينيني الذين عانوا طيلة 27عام ًا من االحتالل الإ�رسائيلي مل�صلحة فل�سطينيني مقيمني يف املنفى �أتوا من تون�س لال�ستيالء على ال�سلطة»، مقزز ًا .و�أ�ضاف �إبراهيم � ّأن ممثلي منظمة التحرير �أمر ًا ِّ «ر�شقوا باحلجارة على يد �شبان فل�سطينيني الفل�سطينية ُ عندما كانوا يف الآليات الع�سكرية الإ�رسائيلية يف طريقهم �إىل �أريحا» .وقد ك�شفت الالئحة امل�ؤقتة التي «م�صمم على ملئها أعدها عرفات لأ�سماء �أفراد �سلطته �أنه � ّ ّ مبوالني له ،وبعنا�رص من ال�شتات الفل�سطيني» ،بح�سب ما كتب جوليان �أوزان من القد�س يف �صحيفة «فاينان�شال تت�ضمن �سوى تاميز» الربيطانية ،علم ًا � ّأن الالئحة مل ّ ا�سمني فل�سطينيني «من فل�سطينيي الداخل» ،هما في�صل احل�سيني وزكريا الآغا ،وكالهما من املوالني لعرفات� .أما باقي الأ�سماء ،فكانوا من الف�صائل ال�سيا�سية املوالية لعرفات من املقيمني خارج الأرا�ضي املحتلة.
«او�سلو» تغ ّلب اخلارج على الداخل لهذه الأ�سباب� ،أ�شارت �أن��دوين �إىل �أن عرفات كان يوا�صل ال�سري بخيار �أريحا ــ غزة ال��ذي �أتاحه له اتفاق �أو�سلو ،وهو اخليار الذي �أمل عرفات �أن يع ّزز �سلطة منظمة التحرير ،خ�صو�ص ًا و�سط م�ؤ�رشات تفيد ب�أن احلكومة الإ�رسائيلية قد تخطو اخلطوة الباقية من خالل احلديث مبا�رشة مع منظمة التحرير ،وبالتايل �إنقاذ ال�رشعية التي تخ�رسها املنظمة داخلي ًا. ّ �شك كانت ال�سطات الإ�رسائيلية م��درك��ة ب�لا حتمل للتطورات اجلارية داخل الأرا�ضي الفل�سطينيةُ ، وي َ �أن تكون قد خل�صت �إىل نتيجة �إيجابية يف ما يتعلق «يدمرون بتقوميها لالتفاق الذي عقدته مع ه�ؤالء الذين ّ امل�ؤ�س�سات الفل�سطينية ويعر�ضون احلقوق الوطنية «االحتياجات» مقابل «املطالب» ّ الفل�سطينية للخطر» ،قبل �أن ي�سعى املواطنون �إىل حتقيق وتك�شف النظرة �إىل امل�ضامني احلالية التفاقيات �أو�سلو �أهدافهم وحقوقهم الوطنية بو�سائل �أخرى. �أن مثل ردود الفعل تلك كانت مفرطة يف التفا�ؤل. كانت ردة الفعل على اتفاقيات �أو�سلو بني الفل�سطينيني كان «�إعالن املبادئ» �رصيح ًا جد ًا يف �إر�ضاء املطالب داخل الأرا�ضي املحتلة متفاوتة .لقد انتاب البع�ض �أمل الإ�رسائيلية ،ويف املقابل تغا�ضى عن احلقوق الوطنية كبري ،فيما مل يجد �آخرون �أ�سبابهم لالحتفال باالتفاقيات .الفل�سطينية .وكان مطابق ًا للمفهوم الذي �صاغه ديني�س ور�أت ملي�س �أندوين �أن «بنود االتفاق �أ�شعرت حتى �أكرث رو�س ،امل�ست�شار الرئي�سي لبيل كلينتون واملفاو�ض يف ال باخلطر والقلق �إزاء احتمال �أن تع ّزز كامب ديفيد عام ،2000وهو الذي تولىّ يف عهد �أوباما الفل�سطينيني اعتدا ً هذه االتفاقيات ال�سيطرة الإ�رسائيلية على الأرا�ضي الحق ًا من�صب امل�ست�شار الرئي�سي �أي�ض ًا .وبح�سب �رشح الفل�سطينية» .وقد ع ّلق �صائب عريقات ،وهو مفاو�ض رو�س ،ف� ّإن لإ�رسائيل «احتياجات» ،يف املقابل فلي�س ال« :يبدو �أن هذا االتفاق يهدف للفل�سطينيني �سوى «مطالب» من الوا�ضح �أنها �أقل �ش�أنا. 3 فل�سطيني رئي�سي ،قائ ً �إىل �إعادة تنظيم االحتالل الإ�رسائيلي ،ولي�س �إنهائه وين�ص البند الأول من «�إع�لان املبادئ» على �أن بدايات
العدد |5ربيع 2013
او�سلو ٢ي�رشعن اال�ستيطان لقد ّمت �إحل��اق اتفاقيات �إ�ضافية ُعقدت بني عرفات/ منظمة التحرير الفل�سطينية مع �إ�رسائيل باتفاقيات
65
بدايات
العدد |5ربيع 2013
�أو�سلو .االتفاق اال�ضايف الأول والأهم من بني جميع هذه االتفاقيات ،كان «�أو�سلو »2يف العام ،1995 قبل فرتة ق�صرية من اغتيال رئي�س احلكومة الإ�رسائيلية �إ�سحق رابني ،الذي ّ �شكل مقتله حدث ًا م�أ�ساوي ًا بال �شك، �إال � ّأن الأوهام التي حتاك حول «رابني �صانع ال�سالم» ال ميكن �أن ت�صمد �أمام التحليل. وميكن اعتبار اتفاق «�أو�سلو »2مبثابة ن�ص �صاغته جمموعة طالب قانون �أذكياء مت تكليفهم مبهمة و�ضع ن�ص يتيح لل�سلطات الأمريكية ــ الإ�رسائيلية خيار ّ فعل ما يحلو لها مع ترك املجال مفتوح ًا لتحقيق نتائج �أكرث �إيجابية لها �أي�ض ًا .ويف حال مل تتحقّق هذه النتائج، �سيكون بالإمكان �إلقاء اللوم يف ذلك على «املتطرفني» الذين نكثوا بوعودهم. ولتو�ضيح ال�صورة ،ف� ّإن اتفاق «�أو�سلو »2ين�ص على �أن امل�ستوطنني الإ�رسائيليني (ب�شكل غري �رشعي طبع ًا) يف الأرا�ضي املحتلة �سيظ ّلون خا�ضعني للقانون والق�ضاء الإ�رسائيليني .وبح�سب امل�صطلحات الر�سمية للن�ص« ،حتتفظ احلكومة الإ�رسائيلية الع�سكرية (يف الأرا�ضي املحتلة) بال�سلطات الت�رشيعية والق�ضائية والتنفيذية وبامل�س�ؤوليات ،مبا يتوافق مع القانون الدويل» الذي لطاملا قامت الواليات املتحدة و�إ�رسائيل بتف�سريه مثلما يحلو لهما ،يف ظل موافقة �أوروب��ي��ة �ضمنية. وي�ضمن املنطق نف�سه لهذه ال�سلطات فر�ض فيتو فعلي على الت�رشيع الفل�سطيني .وين�ص االتفاق املذكور على �أن �أي «ت�رشيع من �ش�أنه تعديل �أو �إلغاء قوانني موجودة (تفر�ضها �إ�رسائيل) �أو قرارات ع�سكرية ...لي�س له �أي وي َ بطل من �أ�سا�سه �إن كان يتجاوز الت�رشيع مفعول ُ املو�ضوع من قبل املجل�س الوطني الفل�سطيني» (الذي مل يكن ميتلك �أية �سلطة يف معظم الأرا�ضي املحتلة، و�أي �سلطة له يف �أي مكان �آخر م�رشوطة باملوافقة الإ�رسائيلية)« ،و�إال ف�سيكون ذلك الت�رشيع متعار�ض ًا حتدده مع هذا االتفاق �أو مع غريه»؛ يف التطبيق مثلما ّ الواليات املتحدة و�إ�رسائيل. �أك�ثر من ذل��ك ،ي�شري اتفاق «�أو�سلو� »2إىل � ّأن «على الطرف الفل�سطيني اح�ترام احلقوق القانونية للإ�رسائيليني (م��ن �ضمنهم ال����شرك��ات اململوكة من �إ�رسائيليني) املرتبطني ب��أرا�� ٍ�ض تقع يف مناطق خا�ضعة للوالية القانونية االقليمية للمجل�س الوطني الفل�سطيني» ،وذلك يف املناطق املحدودة حيث كان يجدر بال�سلطات الفل�سطينية �أن تفر�ض عليها ت�رشيعها
4وايج« ،هوام�ش �أو�سلو :لغز امللفات الرنويجية املفقودة»، جملة الدرا�سات الفل�سطينية، خريف .2008 ال �إدوارد � 5إقر�أ مث ً �سعيد« ،اتفاق عرفات»The Nation ، (� 20أيلول/ �سبتمرب ،)1993 ومقال نوام ت�شوم�سكي «اتفاق عرفات و�إ�رسائيل»، ،Zmagazineت�رشين الأول�/أكتوبر .1993
66
امل�رشوط باملوافقة الإ�رسائيلية .واحلقوق القانونية امل�ضمونة للإ�رسائيليني هي خ�صو�ص ًا حقوقهم امل ّت�صلة �سمى «قانون الغائب» ،وهو ن�ص قانوين باحلكومة ومبا ُي ّ معقَّد يتم مبوجبه فعلي ًا نقل �أرا�ضي الفل�سطينيني الغائبني عن �أرا�ضيهم التي ا�ستولت عليها �إ�رسائيل، نقلها �إىل الت�رشيع الإ�رسائيلي .وت�شكل هاتان الفئتان الأخريتان ال�سواد الأعظم من املنطقة ،رغم �أن حكومة تقدم �إ�رسائيل ،التي ت�ضع حدودها ب�شكل �أحادي ،مل ّ بيانات ر�سمية عن ذلك .ونقلت ال�صحف الإ�رسائيلية �أن «�أرا�ضي الدولة غري امل�أهولة» بلغت نحو ن�صف م�ساحة ال�ضفة الغربية ،وجمموع �أرا�ضي الدولة بلغت م�ساحتها حوايل 70يف املئة. بالتايل� ،ألغى اتفاق «�أو�سلو� »2إقرار معظم دول العامل افرتا�ضي ًا ،ومعهم جميع ال�سلطات القانونية يحق لإ�رسائيل املطالبة بالأرا�ضي ذات ال�صلة ،ب�أنه ال ّ التي احتلتها يف العام ،1967و�أن امل�ستوطنات غري قانونية .ومبوجب هذا االتفاق ،اعرتف الطرف الفل�سطيني ب�رشعية امل�ستوطنات� ،إىل جانب اعرتافه بحقوق قانونية حمددة للإ�رسائيليني يف الأرا�ضي املحتلة، �أخرى غري َّ من بينها يف «املنطقة �أ» و«املنطقة ب» (اخلا�ضعتني لل�سيطرة الفل�سطينية امل�رشوطة) .لقد غر�س اتفاق «�أو�سلو »2ب�شكل �أعمق ،الإجناز الرئي�سي لـ«�أو�سلو:»1 مت �إلغاء جميع ق��رارات الأمم املتحدة ذات الأثر على احلقوق الفل�سطينية ،ومن �ضمنها القرارات التي تت�صل بال �رشعية امل�ستوطنات ،وبو�ضعية القد�س ،وحق العودة ّ ال�سجل بجرة قلم افرتا�ضية، لالجئني .وقد �ألغى ذلكّ ، الكامل للدبلوما�سية ال�رشق �أو�سطية ،ما عدا الن�سخة املطبقة يف م�سار «عملية ال�سالم» الذي قادته الواليات َّ املتحدة .لي�ست الوقائع الأ�سا�سية خارج التاريخ يف ال�رسدية الأمريكية فح�سب ،بل باتت ر�سمي ًا مقتلعة ا�ستمرت هذه احلال حتى يومنا هذا. �أي�ض ًا .هكذا ّ بع�ض وثائق او�سلو مفقودة! مثلما مت ذكره �أع�لاه ،كان متوقع ًا �أن يحاول عرفات اال�ستفادة من الفر�صة لتقوي�ض القيادة الفل�سطينية الداخلية ،ولإعادة فر�ض �سلطته الآخذة يف الرتاجع لكن م�س�أل ًة �أخ��رى مهمة داخ��ل الأرا�ضي املحتلة. ّ يجدر التوقف عندها ،وهي ما الذي كان املفاو�ضون الرنويجيون يظنون �أنهم ينجزون؟ ان الدرا�سة العلمية الوحيدة التي �أجريت حول هذا املو�ضوع ،على حد بدايات
العدد |5ربيع 2013
علمي ،هي تلك التي �أجرتها هيلدي هرنيك�سن وايج، التي ك ّلفتها وزارة اخلارجية الرنويجية ب�إجراء بحث حول هذه امل�س�ألة ،ولهذه الغاية ُ�سمح لها بالو�صول �إىل ملفّات داخلية ،لتخرج باالكت�شاف الالفت� ،أال وهو �أن ّ ال�سجل التوثيقي لهذه املرحلة احلا�سمة ،مفقود.4 تالحظ وايج � ّأن اتفاقيات �أو�سلو كانت بالت�أكيد نقطة حت��ول يف التاريخ ال����صراع الإ��سرائ��ي��ل��ي ــ كر�ست �أي�ض ًا �أو�سلو كـ«عا�صمة الفل�سطيني ،التي ّ ال�سالم يف العامل» .كان «متوقع ًا من عملية �أو�سلو �أن لكن جتلب ال�سالم �إىل ال�رشق الأو�سط» ،بح�سب وايجّ ، «بالن�سبة للفل�سطينيني ،نتج من هذه العملية تقطيع �أرا�ضي ال�ضفة الغربية ،وم�ضاعفة �أعداد امل�ستوطنني ّ ي�شل احلياة ،و�إر�ساء الإ�رسائيليني ،وبناء جدار ف�صل نظام �إقفال حمكم للأرا�ضي الفل�سطينية ،وف�صل غري م�سبوق بني قطاع غزة وال�ضفة الغربية» .وكانت التوقعات املتفائلة ،غري واقعية للأ�سباب املذكورة جلية �آنذاك ومتّت مناق�شتها �أعاله ،وهي �أ�سباب كانت ّ 5 ملي ًا ،لكن لي�س يف و�سائل الإعالم املهيمنة . وتخل�ص وايج بكفاءة �إىل �أنه «ميكن اعتبار عملية در�س عن عيوب» منوذج و�ساطة طرف �أو�سلو حالة ُت َّ ثالث تقوم بها دولة �صغرية يف �رصاعات غري متنا�سبة يف موازين القوى» ،وت�شري ب�شكل �صارخ �إىل �أن «عملية �أو�سلو جرت وفق املنطق الإ�رسائيلي ،وقد ت�رصفت يف لدى �إ�رسائيل» .وكتبت وايج �أن الرنوج كموظف و ّ «الرنويجيني اعتقدوا �أنه من خالل احلوار وبناء تدريجي للثقة ،ميكنهم خلق دينامية �سالم ال عودة عنها ،ودفع العملية ق ُُدم ًا للو�صول �إىل ّ حل .لكن امل�شكلة يف كل هذه املقاربة هي �أن امل�س�ألة لي�ست ق�ضية ثقة ،لكن ق�ضية موازين قوى� .إن تي�سري العملية يحجب الواقع .يف النهاية ،ف� ّإن النتائج التي قد يتم اجنازها على يد طرف �ضعيف ثالث و�سيط ،لي�ست �أكرث مما �سي�سمح الطرف الأقوى ب�إجنازها ...ال�س�ؤال الذي يجدر طرحه هو عما �إذا كان هذا النموذج من الو�ساطة ميكن �أن يكون منا�سب ًا». جيد وجدير بالت�أمل ،متام ًا مثلما يتبنى �إنه ل�س�ؤال ّ الر�أي العام الغربي املثقف اليوم الفر�ضية ال�سخيفة التي تفيد ب�أن مفاو�ضات �إ�رسائيلية ــ فل�سطينية ذات معنى ميكن �أن جتري جدي ًا برعاية الواليات املتحدة، كـ«و�سيط نزيه» ،وهي فعلي ًا �رشيك لإ�رسائيل خلم�سة وثالثني عام ًا يف �إقفال الباب �أمام احللول الدبلوما�سية التي حتظى مبوافقة العامل كله تقريب ًا.
االقتصاد السيايس للجيش اإلرسائييل ياغيل ليفي دائرة اإلدارة
والسياسة العامة،
جامعة بن غوريون، فلسطني المحتلة
67
يف 12متوز ،2006وبعد ب�ضع �ساعات من خطف حزب الله جلنديني �إ�رسائيليني على احلدود بني ا�رسائيل ولبنان� ،شنت تل �أبيب حرب لبنان الثانية ب�أهداف وا�سعة، حمورها نزع �سالح حزب الله .بعد �شهر من القتال، كانت ا�رسائيل جمربة على قبول اتفاق وقف �إطالق النار ال�صادر عن جمل�س الأمن الدويل ،الذي حلظ �إبعاد حزب الله عن احلدود ون�رش اجلي�ش اللبناين ،بدعم من قوة متعددة اجلن�سيات ،وذلك على طول احلدود التي كان قد �أبعد عنها يف احلرب الأهلية عام .١٩٧٦للوهلة الأوىل� ،أ�شارت احلرب �إىل وجود �رشخ يف العالقة بني جي�ش الدفاع واملجتمع الإ�رسائيليني .فاالنحدار البارز يف �إميان املواطنني باجلي�ش عك�س خيبة الأمل لدى خمتلف اجلماعات من �أداء اجلي�ش الإ�رسائيلي يف احلرب (بن دور و�آخرون .)2007وقد قل�ص �شعور اخليبة ذاك من قيمة �أي �إجناز ا�سرتاتيجي زعمت احلكومة حتقيقه (ماكوف�سكي ووايت .)2006 ،مع ذلك ،لطاملا كان هناك اعرتاف من قبل باحثني �إ�رسائيليني ب�أزمة يف العالقة بني الع�سكر واملجتمع (انظر على �سبيل املثال «بريي».)2001 ، لذا ف�إن للأمر �صلة يف البحث اجلاري حول كيفية ا�شارة احلرب �إىل ح�صول تغيري حقيقي يف مكانة اجلي�ش �أو ال من ذلك ،توجهات �سابقة �أكرث �إىل �أي مدى دفعت بد ً هيكلية وتنظيم ًا� ،ساهمت يف �إنتاج الف�شل� .أما الأمر الأكرث ح�سا�سية فهو درا�سة الآثار املحتملة للحرب على العالقات بني اجلي�ش ،املجتمع ،واحلياة ال�سيا�سية. و�رسعت ميكن القول ب�أن حرب لبنان الثانية عك�ست َّ ح�صول تغيري �أو�سع يف طريقة الإ��شراف امل��دين على اجلي�ش .هذا التغيري ميكن و�صفه ب�أنه حتول من «ال�سيطرة اجلمهورية» �إىل «�سيطرة ال�سوق» على اجلي�ش .فنموذج اجلندي ــ املواطن التاريخي الذي بوا�سطته كان املجتمع بدايات
العدد |5ربيع 2013
ال�سيا�سي ي�رشف على اجلي�ش من خالل املجموعات االجتماعية التي تخدم يف اجلي�ش ومن خالل ال�شبكات االجتماعية التي برزت منه ،حلت حمله �سيطرة ال�سوق� .إذ تت�سم �سيطرة ال�سوق باملراقبة ذات التوجه التجاري لن�شاط اجلي�ش ،والنا�شئة من التغيري يف تركيبته االجتماعية ،وت�أثري اجلو التناف�سي على غرار ال�سوق الذي يجرب اجلي�ش على ت�سويق خدماته عن طريق ال�سماح باالخرتاق الإعالمي واحلوار مع ال�شعب مبا�رشة ،و«ت�سليع» اخلدمة الع�سكرية كجزء من عملية االح�تراف .هذا النوع من ال�سيطرة له ت�أثري متناق�ض على حرية اجلي�ش بالعمل :تتوافر للجي�ش حرية عمل �أكرب يف �إدارة ال�سيا�سات احلربية ،وذلك عائد �إىل التغيريات يف تركيبته االجتماعية �إىل حد كبري ،لكنه باملقابل ميتلك موارد �أقل �أي�ض ًا لتمويل هذه ال�سيا�سات، ب�سبب انتقادات م�ضخمة �صادرة عن اجتاه ال�سوق. يقدم الق�سم الأول من هذه الورقة النظرية التي حتدد �أ�سا�س �سيطرة ال�سوق .وي�ستعر�ض الق�سم الثاين حالة ا�رسائيل كمثال لهذه النظرية� .أما الق�سم الثالث ف�سريكز على حرب لبنان الثانية و�آثارها. املفاهيم النظرية تاريخي ًا ،كان النمط اجلمهوري لل�سيطرة على القوات امل�سلحة متج�سد ًا يف من��وذج اجلندي ــ املواطن الذي بوا�سطته ُنقلت ال�سيادة من احلاكم �إىل جمتمع املواطنني العاملني يف اجلي�ش وامل�سيطرين عليه �سيا�سي ًا .فكلما اعتمدت اجليو�ش على �أ�س�س جماهريية �أكرث ،كانت الدول �أكرث ا�ستجابة للم�ساومة مع جماعات تتحكم باملوارد الب�رشية واملادية ال�رضورية ل�شن حرب .وح�صل تبادل يف امل�ساهمة الع�سكرية مقابل ال�سيطرة ال�سيا�سية على اجلي�ش عرب توطيد �أ�س�س امل�ؤ�س�سات التمثيلية و�أ�شكال �أخرى
من احلقوق ال�سيا�سية واالجتماعية (تيلي،1997 ، ال عن ذل��ك ،وحيث �إن الدولة .)215-193ف�ض ً احلديثة ربطت امل�شاركة الع�سكرية بامل�شاركة ال�سيا�سية، فقد كان الذهاب للحرب م�رشوط ًا بدعم املجتمع املحلي، حتديد ًا بدعم �أولئك الذين يقع على �أكتافهم مبا�رشة عبء احلرب وكذلك جمموعات املواطنني الذين يوفرون الطاقة الب�رشية للجي�ش لأداء تلك املهمة .مبعنى �آخر ،كان اجلي�ش مراقب ًا ،بطريقة غري مبا�رشة ،من قبل هذه ال�شبكات يكونون �صفوفه .كان هذا االجتماعية من ال�شباب الذين ّ النموذج اجلمهوري لل�سيطرة ال�سيا�سية .جتدر الإ�شارة �إىل �أن م�صطلح «ال�سيطرة املدنية» يعود �إىل الرتتيبات املدنية امل�شرتكة الهادفة �إىل تقييد قدرة اجلي�ش على العمل امل�ستقل من خالل جمموعة وتركيبة من الآليات امل�ؤ�س�ساتية وغري الر�سمية (كالإعالم وجماعات امل�صالح/ االحتجاجات)� .إن ال�سيطرة الفعالة تعني �أن املدنيني قادرون على و�ضع حدود وقيود على حرية اجلي�ش بالعمل ب�أ�سلوب يتوافق والأه��داف ال�سيا�سية التي ير�سمها ال�سيا�سيون بنحو م�ستقل ،و�أن اجلي�ش �سيلتزم بهذه التوجيهات املدنية منذ ال�سبعينيات� ،شهدت املجتمعات الغربية ،وب�شكل ال �أ�سا�سي ًا للمواطنة عن اجلندية ،الأمر الذي تدريجي ،ف�ص ً �أ�ضعف الدافع لدى الطبقة الو�سطى للخدمة يف اجلي�ش. هذا الدافع للخدمة انحدر ب�شكل بارز عندما �أ�صبحت الطبقة الو�سطى قادرة على حتقيق �إجنازات مل تعد تعتمد بعد اليوم على اخلدمة الع�سكرية (بورك .)1995 ،عندها �أ�صبح اجلي�ش موظف ًا بكل ما للكلمة من معنى� .إذ مل يعد الأ�شخا�ص العاملون يف اخلدمة يتبعون ا�ستدعاء ما و�إمنا �أ�صبحوا منخرطني يف مهنة (مو�سكو�س .)1977 وا�سرتعت اجليو�ش املهنية اهتمام الطبقة الو�سطى الأدنى، الأقليات الإثنية ،والن�ساء ،الذين �شغلوا الفراغ الذي تركته جمموعات الطبقة الو�سطى (�إنلوي .)2003 ،بنا ًء على حتول من منط املواطن ــ اجلندي التاريخي ذلك ،ح�صل ّ امل�سيطر �سيا�سي ًا �إىل ما ميكن و�صفه «ب�سيطرة ال�سوق على القوات امل�سلحة» ،حتول ميكن ر�سمه وقولبته كالتايل. املراقبة ذات التوجه ال�سوقي على حد تعبري امل�ؤرخ برو�س بورتر�« ،إن �أكرث ما يكون �صوت النا�س م�سموع ًا هو عندما حتتاج احلكومات �إما �إىل �أموالهم و�إما �إىل �أج�سادهم دفاع ًا عن الدولة» (بورتر، � ،1994صفحة .)10مع ذلك ،فقد و َّلدت �إعادة التنظيم احتجت االجتماعي للجيو�ش منوذج تعبري متمايز ًا :فقد ّ
68
بدايات
العدد |5ربيع 2013
املبا�رشة وغري املبا�رشة املو�ضوعة على م�ؤ�س�سات �سيا�سية، مع تركيز على موارد اجلي�ش.
الطبقة الو�سطى ،تدريجي ًا ،على «ت�ضحيتها املالية» ،ما يعني ،العبء املايل ال�ستعدادات احلرب ،وتب ّنت انتقاد ًا للجي�ش ذا توجه �سوقي ،ما قاد �إىل تقلي�ص حجمه و�إىل «امل�ضحون تقبل ّ فر�ض قيود موازنة عليه .يف الوقت نف�سهّ ، ب�أج�سادهم» خ�سارتهم �إما ب�سبب القيمة االجتماعية التي عزوها للخدمة الع�سكرية و�إما ب�سبب عجزهم عن �إطالق احتجاج ٍ جت�سد خ�صائ�صه جمد قابل للتطبيق ،وهو عجز ّ الطبقة الو�سطى الأدن��ى .يف ظل هذه الظروف ،بقيت الأ�س�س نف�سها للتفكري الع�سكري ال اعرتا�ض عليها.
انتقال ال�سيطرة ال�سيا�سية يف ا�رسائيل منذ بداياتها ،كانت املراقبة ال�سيا�سية جلي�ش الدفاع الإ�رسائيلي تتزايد وبثبات .وللمفارقة ،كلما ازدادت ع�سكرة املجتمع الإ�رسائيلي واحلياة ال�سيا�سية فيه ــ مبعنى �أن ي�صبح ا�ستخدام القوة �أمر ًا م�رشوع ًا ــ كان ال�سيا�سيون �أكرث جناح ًا يف م�أ�س�سة ال�سيطرة الفعالة على جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي� .إن غر�س مبد�أ �إخ�ضاع القوات امل�سلحة للم�ؤ�س�سة ال�سيا�سية يف الأذهان خالل الفرتة املمتدة ما قبل الدولة و�أوائل عمر الدولة �أدى �إىل متهيد الطريق �أمام بناء قيود ر�سمية وغري ر�سمية على العمل الع�سكري امل�ستقل خالل الفرتة املمتدة من اخلم�سينيات وحتى ال�سبعينيات (ليفي.)1997 ، منذ حرب � ،1973أ�صبحت املراقبة امل�ؤ�س�ساتية (من قبل الأجهزة املدنية) �أقوى بكثري ،وكانت مدعومة بوا�سطة �آليات مراقبة م�ؤ�س�ساتية عامة .ودخلت احلركات االجتماعية ال�ساحة ،بدء ًا بحركة « ال�سالم الآن» يف ال �إىل حركة «عدالة» (منظمة احلقوق ال�سبعينيات و�صو ً املدنية للفل�سطينيني الإ�رسائيليني) يف العقد الأخري من القرن املا�ضي ،وا�ستخدمت و�سائل عامة وقانونية لتقييد جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي .كانت هذه اجلهود متف�شية ج��د ًا بحيث ت�آكلت اال�ستقاللية الذاتية االحرتافية للجي�ش �إىل درجة �أن جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي ات�سم ب�صفة «اخل�ضوع املبالغ فيه» للم�ؤ�س�سات املدنية (كوهني، � .)2006أما الق�ضايا التي متكنت من الإف�لات من نظر العامة فهي مراقبة الآن ب�سبب عمل هذه احلركات وال�ضغوط التي فر�ضتها على م�ؤ�س�سات الدولة. على �سبيل املثال ،كانت مناق�شة املوازنة الأمنية حت�صل علن ًا منذ الثمانينيات .وكان الأداء العملي جلي�ش الدفاع الإ�رسائيلي مراقب ًا منذ «اخلط�أ الفادح» حلرب � .1973إ�ضافة �إىل ذلك ،وبعد حادث التدريب يف قاعدة «تزيليم» يف �صحراء النقب يف العام 1991التي قتل فيها خم�سة جنود بوا�سطة �صاروخ ــ حادثة �أ�شعلت تظاهرات غري م�سبوقة من قبل الأهايل ــ كان يجري التدقيق باحلوادث الع�سكرية بنحو روتيني .يف الوقت نف�سه� ،أ ّدت التظاهرات �ضد التوزيع غري العادل للعبء الع�سكري �إىل حماوالت ت�رشيعية للحد من �سلطة جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي با�ستدعاء االحتياط� .أخري ًا ،جنحت
التناف�س على غرار ال�سوق منذ الثمانينيات ،كان على اجليو�ش �أن تتناف�س للح�صول على مواردها الب�رشية واملادية .لقد دفعت التناف�سية اجليو�ش الغربية �إىل ن�رش خالفاتها علن ًا مع ال�سيا�سة الر�سمية بغر�ض النقا�ش وجتنيد حلفاء .وقد �أ�شار املحلل الع�سكري �سام �رسكي�سيان �إىل �أن اجليو�ش ال ميكنها البقاء �رشيك ًا �سلبي ًا ،بل عليها التحرك واالقرتاب �أكرث من النظام ال عن ذلك� ،إن اجليو�ش تقوم ال�سيا�سي ( .)2002ف�ض ً بالتحاور مبا�رشة مع ال�شعب ب�أ�سلوب �أدى �إىل تعديل العالقات الع�سكرية ــ الإعالمية يف «ع�رص ما بعد احلداثة» من طريقة احتكار اجلي�ش للإعالم (�ضمن �إجراء تبادل للقيود الإعالمية يف مقابل الو�صول �إىل املعلومات)� ،إىل طريقة جديدة يجري فيها «التودد» لو�سائل الإعالم من قبل اجلي�ش ،الذي تبنى �أ�ساليب العالقات العامة (مو�سكو�س، .)2000هذا التغيري يعني ،من بني جملة �أمور� ،أن حوار ًا ويعدل ،النموذج مبا�رش ًا بني اجلي�ش وال�شعب قد ي�ؤثر يفِّ ، �سابقا التقليدي لل�سيطرة املدنية التي كان قد تو�سط بها ً ال�سيا�سيون (انظر جون�سون وميتز.)1995 ، الت�سليع �إن النموذج التقليدي لـ«املواطن ــ اجلندي» ،املبني على �أ�سا�س ال�سيطرة ال�سيا�سية ،يحل حمله ،تدريجي ًا ،منوذج جديد هو �سيطرة ال�سوق .فاملراقبة ذات التوجه ال�سوقي للجي�ش� ،إخ�ضاع اجلي�ش لتناف�س ال�سوق ،وت�سليع اخلدمة الع�سكرية ــ مع الآثار ال�سيا�سية املرتتبة على ذلك ــ كلها جت�سد خ�صائ�ص نوع ال�سيطرة اجلديدة. ويف حني �أن النموذج اجلمهوري يت�سم بامل�شاركة ال�سيا�سية املبا�رشة تتو�سطها م�ؤ�س�سات �سيا�سية تهدف �إىل ت�شكيل �سيا�سات تتعلق بال�سلم واحلرب من خالل مراقبة اجلي�ش ،ف�إن �سيطرة ال�سوق تت�سم بال�ضغوط
69
بدايات
العدد |5ربيع 2013
اجلماعات املهم�شة من املثليني جن�سي ًا والن�ساء يف �إزالة القيود املوجودة على ترقياتهم داخل اجلي�ش. يج�سد جوهر هذا النموذج اخلارج عن امل�ؤ�س�ساتية ّ ال�سيطرة اجلمهورية .فمعظم اجلماعات االجتماعية املنخرطة يف عملية املراقبة هذه كانوا من �أهايل جنود االحتياط واملجندين الذين دعموا وعززوا م�شاركتهم الع�سكرية وهم ي�ضحون للتعبري عن مزاعمهم ب�أ�سلوب ي�ؤثر يف �أداء جي�ش ّ الدفاع الإ�رسائيلي لوظيفته .وقد ك�شف الع�رص الذهبي للجمهورية عن نف�سه� ،إىل حد ما ،بعد حرب لبنان الأوىل عام .1982فبعد عدة �أ�سابيع من اندالع احلرب ،برزت حركات احتجاج ،حمورها حركة «ال�سالم الآن» الرا�سخة �أكرث من غريها (�أ�س�ست عام ،)1978للتظاهر �ضد حتول احلرب يف لبنان من عملية �رسيعة �إىل حماولة لت�شكيل «نظام جديد» ،والذي و�صل �إىل ذروته يف ح�صار بريوت. وعن طريق املطالبة ببديل للطريقة الع�سكرية املقبولة، و�سعت هذه احلركات نطاق انتقادها ال لي�شمل فقط طريقة َّ عمل اجلي�ش و�إمنا هدفه نف�سه (انظر هيلمان.)1999 ، �أما الأمر املحوري يف هذا النقا�ش فكان تعريف احلرب كـ«حرب خيار» ،املتميز عما كان يو�صف به �سابق ًا� ،أي حرب الالخيار» ،وبالتايل غر�س مفهوم البديل للعدوانية. مع هذا التغيري� ،أ�صبحت املراقبة امل�ؤ�س�ساتية خمولة ال�صالحيات ،بدجمها قيم ًا جديدة يف الأ�سلوب الذي كانت ت�سيطر به على اجلي�ش �سيا�سي ًا .عملي ًا ،ومنذ حرب ،1982ت�آكلت ا�ستقاللية الدولة الداخلية يف توجيه وتنفيذ ال�سيا�سات الع�سكرية .وو�صلت هذه الظاهرة �إىل ذروتها يف �أواخر الت�سعينيات مع حركة «الأمهات املكونة بغالبيتها من �أمهات اجلنود الذين الأرب��ع»، ّ خدموا يف لبنان اللواتي تظاهرن �ضد ما اعتربنه ت�ضحية ال معنى لها يف احلرب اجلارية يف لبنان .وكانت تظاهرة «الأمهات الأربع» احد العوامل التي دفعت احلكومة �إىل اتخاذ قرار ب�سحب اجلي�ش الإ�رسائيلي �أحادي ًا من لبنان يف العام ،2000بعد 18عام ًا من احلرب. مع ذلك ،ورغم القيود امل�ؤ�س�ساتية على جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي ،ورغم التحدي للع�سكرة الثقافية ،ا�ستعاد الفكر الع�سكري تفوقه على الفكر املدين .وبالتايل ،فقد �صيغ اتفاق �أو�سلو كاتفاق ع�سكري ،مع ت�أكيد �أكرب على الأمن منه على االقت�صادات والقدرة ال�سيا�سية على �إدارة الدولة (مايكل، .)٢٠٠٧الحق ًا ،وعندما اندلعت انتفا�ضة الأق�صى، �أملى اجلرناالت �أوامرهم برد هجومي على ال�صدامات مع الفل�سطينيني يف الوقت الذي ظل فيه ال�سيا�سيون �صامتني
(ب�يري .)٢٠٠٦ ،وب��ال��ت��ايل كانت ترتيبات الإ��شراف امل�ؤ�س�ساتي على امل�ستوى ال�سيا�سي �أقل �أهمية عندها. وللمفارقة� ،ساهمت ع�سكرة احلياة ال�سيا�سية ،و�إىل حد كبري ،مبراقبة اجلي�ش ،ولي�س العك�س .لقد رفعت وعي اجلي�ش و�إدراكه ل�رضورة �إبراز نف�سه كم�ؤ�س�سة �شاملة� ،سيا�سية تقوم مبناق�صات احلكومة ،وخلقت اعتماد ًا على ال�صف ال�سيا�سي ب�صفته م�صدر املوارد للجي�ش واملزود له (ليفي.)١٩٩٧ ، تلخ�ص حرب لبنان الثانية املرحلة الثالثة يف تطور ال�سيطرة ال�سيا�سية ،بعد املراحل امل�ؤ�س�ساتية واخلارجة ميزت العملية االنتقالية من عن امل�ؤ�س�سات التي َّ ال�سيطرة اجلمهورية �إىل �سيطرة ال�سوق. �سيطرة ال�سوق خالل احلرب وبعدها �أ ّث��رت العنا�رص املت�أ�صلة يف �أعرا�ض �سيطرة ال�سوق يف الأ�سلوب الذي كانت تدار به احلرب كما �أ ّثرت يف العالقات الع�سكرية ــ االجتماعية الحق ًا على غرار النماذج الثالثة يف الق�سم النظري :املراقبة ذات التوجه ال�سوقي ،التناف�س على غرار ال�سوق ،والت�سليع. �إن التعديل االجتماعي جلي�ش الدفاع الإ�رسائيلي مثال ممتاز عن التمييز بني «الت�ضحية باملال» و«الت�ضحية اجل�سدية».فمنذ حرب ،١٩٨٢كانت طبقة الأ�شكيناز العلمانية الو�سطى ــ اجلماعة االجتماعية املهيمنة التي �أ�س�ست جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي ،و�شغلت �أعلى املراتب فيه وعرفت ب�إجنازاتها يف اجلي�ش ــ تن�أى بنف�سها تدريجي ًا عن اخلدمة الع�سكرية وترف�ض اجلي�ش ك�سبيل وم�سار وظيفي .وقد �ساهم ال�ضعف الذي �أثبته اجلي�ش يف حرب ،١٩٧٣والذي ت�ضخم الحق ًا يف لبنان ويف االنتفا�ضة الأوىل ( )١٩٩٣-١٩٨٧بت�آكل هيبة اجلي�ش والدافع �إىل اخلدمة الع�سكرية. ا�شتدت هذه العملية مع اخرتاق العوملة االقت�صادية والثقافية للمجتمع الإ�رسائيلي بدء ًا من منت�صف الثمانينيات، والتغيريات البنيوية يف االقت�صاد يف روح العقيدة الليربالية اجلديدة التي مت تقدميها �آنذاك .لقد عززت العوملة �أخالقيات اقت�صاد ال�سوق بخطابه احلامل للخ�صائ�ص الليربالية والذي حتدى الرموز وااللتزامات اجلماعية ال�سابقة (رام، ال يف الدور � .)2005أما النتيجة الإجمالية فكانت ت�آك ً التاريخي للجي�ش يف تعريف وحتديد الهرمية االجتماعية لإ�رسائيل التي بوا�سطتها حتولت املكانة الع�سكرية �إىل مكانة اجتماعية مدنية وحمددة اجلماعات االجتماعية املهيمنة والهام�شية� .أما الآن ،ف�إن قيمة م�ساهمة املرء يف
70
بدايات
العدد |5ربيع 2013
هذا التوجه من ال�صعود املثري حلزب «ال�شينوي» لطبقة الأ�شكيناز الو�سطى يف انتخابات .2003فقد �شدد برنامج «ال�شينوي» على �سيا�سات حت�سني م�ستوى العي�ش لناخبيه ،حتديد ًا اجلنود ال�سابقني من الطبقة الو�سطى ــ العليا .وك��ان حزب «ال�شينوي» متحم�س ًا ب�سبب العبء املزدوج لدى ناخبيه ،امل�ؤلف من العبء ال�رضيبي واخلدمة الع�سكرية ــ خا�صة يف �صفوف االحتياط ،حيث الطبقة الو�سطى ــ العليا كانت ال تزال مفرطة التمثيل. وحتى عندما كان اجلي�ش يخو�ض حرب ًا �ضد الفل�سطينيني، فقد عادت االنتقادات ملوارده �إىل الظهور بطريقة �أ�شد و�أكرث كثافة ،وظهرت يف الهجوم على �رشوط التوظيف التي يتمتع بها �أ�شخا�ص يف اخلدمة املهنية واحلزمات التقاعدية املالئمة لهم .بالتوازي مع ذلك� ،صادقت احلكومة على اقتطاع يف املوازنة الع�سكرية ،يف الوقت نف�سه الذي توفر فيه �إعانة �رضيبية ل�صالح الطبقة الو�سطى وما فوق .هنا �أي�ض ًا كانت املوازنة الع�سكرية خا�ضعة ملبادئ الليربالية اجلديدة «حلكومة �صغرية» والقوة ال�رشائية العامة القوية ،برغم انخراط جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي يف املناو�شات وال�صدامات اجلارية (على �سبيل الأمثلة ،انظر بلوكر.)2003 ، عندها ال عجب �أن يكون جنود االحتياط املر�سلون �إىل املعركة خالل حرب لبنان الثانية قد وجدوا �أنف�سهم مبعدات وجتهيزات متدنية من دون جهوزية ويقاتلون ّ ال عن ف�ض .)53-51 النوعية (جلنة فينوغراد� ،صفحة ً «امل�ضحون باملال» ذلك ،وكما ك�شفت احلرب ،فقد حتدى ّ الفكر الع�سكري ،ب�شكل رئي�س ،عن طريق الت�سا�ؤل حول م��وارده .وقد جتنبت احلكومة حتى الإع�لان عن حالة طوارئ كو�سيلة لتجنب التعوي�ض على ال�سكان وامل�صالح التجارية عن الأ�رضار املالية الناجمة التي ت�سببت فيها احلرب ،و�إحلاق ال�رضر بالت�صنيف االئتماين لإ�رسائيل يف الأ�سواق املالية العاملية (انظر �شهادة الوزير رايف �إيتان يف جلنة فينوغراد� ،صفحة .)25ومل تغب قيود املوازنة عن نظر احلكومة �إطالق ًا ،حتى خالل احلرب. الحق ًا� ،أجرى �سيفر بلوكر ،وهو حمرر �صحايف يف �صحيفة يديعوت �أحرونوت� ،أكرث ال�صحف الإ�رسائيلية ال حول مكا�سب احلرب وكلفتها كو�سيلة �شعبية ،حتلي ً لتحدي قرار احلكومة واالعرتا�ض على قرار زيادة موازنة الدفاع بعد احل��رب .واحت�سب بلوكر �أن مقتل 250 ال حلزب الله (العدد الذي ذكرته املنظمة يف تقاريرها) مقات ً ي�ساوي �إنفاق 3.5مليارات دوالر ،ما يعني �أن قتل �إرهابي واحد ك ّلف �إ�رسائيل 14مليون دوالر .وي�ؤكد
الدولة من خالل اخلدمة الع�سكرية مل تعد بال�رضورة املعيار الذي يحدد توزيع ال�سلع االجتماعية ويربر الهيمنة االجتماعية ملجموعة على ح�ساب �أخرى .لقد حل الإجناز الفردي مكان اختبار امل�ساهمة الوطنية (�شافري وبيليد، .)2002وفاقم اتفاق �أو�سلو (1993ـ��ـ )1999من هذا التوجه ،و�أ ّدت «�أزمة الدافع» الناجمة عنها �إىل هبوط �أكرب يف عدد اجلماعات العلمانية من الطبقة الو�سطى يف الوحدات القتالية (انظر نيفو و�شور.)2002 ، خالل الت�سعينيات ،ملأت الفراغ الذي �أحدثه تراجع الطبقة الو�سطى العلمانية جمموعات كانت ُت�سند �إليها �سابق ًا �أدور هام�شية يف اجلي�ش: مزراحيم (املهاجرون من بلدان عربية) يف �أقل ال؛ القطاعات تنق ً الأ�شكيناز املتدينون ــ الوطنيون ،حتديد ًا ال�شباب املتدينني غري احلريدمي (املتدينون املت�شددون) ،بع�ضهم ممن كانوا طالب مدار�س دينية؛ املهاجرون يف الآونة الأخ�يرة ،حتديد ًا من االحتاد ال�سوفياتي ال�سابق و�إثيوبيا؛ ال��دروز والبدو ،الذين هم جزء من الأقلية غري اليهودية يف �إ�رسائيل؛ الن�ساء ،رغم �أن ذلك كان يح�صل ب�شكل تدريجي (البحث يف �إعادة التنظيم االجتماعي م�ستمد من ليفي، � ،2007صفحة .)90-77 هذا التغيري ملأ اجلي�ش مبجموعات موالية للطريقة الع�سكرية� .إذ جاهدت هذه املجموعات اجلديدة لبناء هويتها املحاربة الفريدة ملواءمتها مع قيمة الدفع قدم ًا بـ«ال�صالح العام» ،الذي كان يعترب قيمة بحد ذاته .فالرغبة بالنجاح يف اجلي�ش جعلت التوجهات ال�سيا�سية وحتى الأخالقية ال�سابقة تبدو �ضبابية .وكما �أ�شاد عدد من �أفرادها بالقيم الوطنية ،فقد اعتربت هذه املجموعات اخلدمة الع�سكرية مبثابة و�سيلة لتحقيق قيمها الإيديولوجية عن طريق حماية حدود «�إ�رسائيل الكربى» يف مقابل العامل العربي العدائي على ما يبدو. ب�سبب الرتكيبة اجلديدة جلي�ش الدفاع الإ�رسائيلي، �أ�صبحت الت�ضحية «باجل�سد» يف مقابل الت�ضحية «باملال» متمايزتني ومل تعودا متداخلتني ،تغيري كان له �آثاره بالن�سبة �إىل ال�سيطرة ال�سيا�سية على جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي. «امل�ضحني باملال» هم املعنيون غالب ًا مبوارد اجلي�ش �إن ّ كدافعي ال�رضائب و�أولئك الذين يتحملون العبء الأكرب للتباط�ؤ االقت�صادي يف زمن احلرب .وال �شيء �أو�ضح يف
71
بدايات
العدد |5ربيع 2013
بلوكر� ،أنه كان ب�إمكان �إ�رسائيل �رشاء تقاعد 2000 من مقاتلي حزب الله مبليار دوالر ــ وتوفري مبلغ 2.5 مليار دوالر على االقت�صاد .و�أن هذا الأمر «كان ليح�صل من دون حرب .»...مع ذلك ،ويف �ضوء جو الطوارئ الذي �أعقب احلرب ،ومع التوقعات بوقوع جولة �أخرى من الأعمال العدائية ،ظلت الأ�صوات ذات التوجه ال�سوقي �صامتة م�ؤقت ًا ،لكن بذور ان�شقاقها كانت قد زرعت. عينت احلكومة جلنة خا�صة وبعد �أ�شهر قليلة من احلربّ ، (جلنة بروديت )2007 ،لدر�س موازنة الدفاع .ووجدت اللجنة بع�ض ال�شوائب الهامة يف الإدارة االقت�صادية جلي�ش الدفاع الإ�رسائيلي وانتقدته ب�سبب ق�صفه غري الفعال للقذائف والقنابل ،وانتقدت هيكلية الرواتب غري الفعالة، االفتقار حل�سابات الكلفة املجدية ،اال�ستخدام غري ال�سليم اله�ش ،و�أمور ًا وغري املفيد للموارد املوجودة ،بناء القوة ّ �أخرى �أي�ض ًا .عملي ًا ،دعت اللجنة �إىل �إخ�ضاع �إدارة جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي �إىل قيود اقت�صاد ال�سوق .وقد �أ�شارت هذه التو�صيات� ،إىل حد ما� ،إىل انت�صار «امل�ضحني باملال». «امل�ضحون باجل�سد» ،الذين من جهة �أخرى ،التزم ّ ت�شكل اجلماعات الدينية الوطنية ع�صبهم ،بالنموذج التقليدي للمواطن ــ اجلندي اجلمهوري .ووفق هذا النموذج ،ينبغي �أن ي�رشف على اجلي�ش اجلنو ُد الذين ي�شكلون �صفوفه� ،إن مل يكن مبا�رشة (كما يف جنود االحتياط) ،فعلى الأقل بطريقة غري مبا�رشة من خالل �شبكاتهم االجتماعية .وع�شية فك االرتباط الأحادي عن قطاع غزة �صيف ( 2005ال��ذي �شمل �إخالء امل�ستوطنات اليهودية) ،ك�شف منوذج ال�سيطرة ال�سيا�سية ه��ذا عن نف�سه يف حم��اوالت املع�سكر الديني كبح االن�سحاب عن طريق ت�شجيع اجلنود على ع�صيان �أوامر الإخالء .ولأنه كان مقيد ًا بهذه املحاولة من قبل جمموعة عدل جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي بارزة يف اجلي�ش ،فقد َّ ا�سرتاتيجيته للإخالء (ليفي� ،2007 ،صفحة -245 .)279وخالل احلرب على لبنان ،ت�صاعد هذا االلتزام اجلمهوري وق��اد بع�ض اجلنود املتدينني ،من بينهم م�ستوطنون� ،إىل التهديد برف�ض القتال �إال �إذا تراجع رئي�س الوزراء �أوملرت عن �إعالنه ب�أن نتائج احلرب يف لبنان �ستعزز« خطة االلتقاء» ،حتديد ًا خطة االن�سحاب �أحادي ًا من جزء من ال�ضفة الغربية (وي�س وحداد، .)2007بالواقع ،لقد امتثل �أوملرت لهذا الإنذار ،الذي اثبت مدى فاعلية ال�سيطرة والتحكم «من الداخل». «امل�ضحون باجل�سد» للدولة مع ذلك ،فقد �سمح ّ
با�ستعادة ا�ستقالليتها الداخلية يف املجال الع�سكري، كما تثبت طريقة االحتجاجات. ما �إن و�صل اال�صطفاف االجتماعي جلي�ش الدفاع الإ�رسائيلي �إىل ذروته يف �أواخ��ر الت�سعينيات ،حتى ا�ستعادت الدولة كثري ًا من قوتها و�سلطتها امل�ستقلة لإدارة �سيا�ساتها الع�سكرية .وعلى عك�س حرب 1982واالنتفا�ضة الأوىل (،)1993-1987 كانت حركة ال�سالم خالل انتفا�ضة الأق�صى( من العام � )2000صامتة متام ًا تقريب ًا ،ومل يكن ملنظمة عامة للجنود �أو لأهاليهم �أي ت�أثري هام يف ال�ساحة ال�سيا�سية. بعد حرب لبنان الثانية ،كان جنود االحتياط �أول من تظاهر �ضد الأداء املتوا�ضع جلي�ش الدفاع الإ�رسائيلي. مع ذلك ،فقد تركت الرتكيبة املتغرية للجي�ش ب�صمتها على جنود االحتياط ،الذين وظف الناطقون با�سمهم لهجة �أكرث �صقورية من املا�ضي .لقد برروا احلرب لكنهم انتقدوا �إدارتها التي قادت �إىل ف�شل مت�صور .ومل يطرح التربير للحرب خالل حرب لبنان الثانية .وفق ًا لذلك، وبدعم من العائالت الثكلى� ،أحلت املنظمات التابعة جلنود االحتياط على ت�أ�سي�س جلنة م�ساءلة حكومية للتحقيق ب�إدارة احلرب ،مطلب متت تلبيته جزئي ًا. ويف �أ�سلوب خمتلف ،ارتفعت امل�ساومة بني اجلي�ش وحركته االجتماعية �إىل م�ستوى جديد .فحتى ذلك احلني ،كانت امل�ساومة جتري حول �رشوط اخلدمة على امل�ستويني ،الفردي واجلماعي� ،أو حول الطبيعة ال�سيا�سية للمهمات امل�صادق عليها من قبل ال�صف ال�سيا�سي .يف كل الأحوال ،ومبا يتعلق بعمل اجلي�ش و�أدائه ،فقد كانت مقيدة بق�ضايا خارجة عن �صلب عمل اجلي�ش امل�ساومة ّ و�أدائه ،كاحلوادث �أو التحر�شات اجلن�سية .رغم ذلك فقد متت امل�ساومة على الأ�سا�س االحرتايف للجي�ش الآن ،ال �سيما �أدا�ؤه يف احلرب .فبالن�سبة �إىل االحتياط على �أقل ّ تقدير ،كانت هذه امل�ساومة على ا�ستعدادهم لتلبية النداء عند اال�ستدعاء للخدمة يف امل�ستقبل م�رشوطة �ضمني ًا بالتح�سينات يف الإدارة املهنية واالحرتافية جلي�ش الدفاع الإ�رسائيلي .وكانت العوائق التي ميكن امل�ساومة عليها �أدنى مما كانت عليه يف املا�ضي. �إن الرتكيبة اجلديدة جلي�ش الدفاع الإ�رسائيلي لي�ست املو�ضوع الوحيد الذي له �صلة بالطريقة اجلديدة لالحتجاجات و�إمنا الرتكيبة االجتماعية �أي�ض ًا ل�ضحايا اجلي�ش يف القتال .فقد هبطت خ�سائر اجلي�ش خالل حرب لبنان الثانية من الطبقة الو�سطى العلمانية (الأ�شكيناز
72
بدايات
العدد |5ربيع 2013
التناف�س على غرار ال�سوق غي جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي كونه عمل يف بيئة تناف�سيةَ ،رّ طريقة عمله .ففي �ضوء التوقعات يف �أو�ساط دافعي ال�رضائب املدنيني ب�أنه ينبغي حتميل امل�س�ؤولية واملحا�سبة ملن يوفر الأمن ،دخل كبار العاملني يف اجلي�ش امل�ساومة املبا�رشة مع مواطنيه ــ الزبائن كطريقة تناف�س على املوارد وال�رشعية .وبالكاد يكون م�ستغرب ًا� ،إذ ًا� ،أن يكون ر�ؤ�ساء هيئة الأركان يف العقد الأخري من القرن املا�ضي قد رعوا مفهوم ًا جديد ًا لدورهم وعززوه .لقد بد�أوا بالنظر �إىل �أنف�سهم على �أنهم مدينون بالف�ضل لل�شعب ،ولي�س ي�شددون على هذه النقطة يف تعليقات للحكومة ،حتى �أنهم ّ عامة علنية معينة .وفق ًا لذلك ،تعر�ض ه�ؤالء لالنتقاد ب�سبب كونهم «ر�ؤ�ساء هيئة �أركان �سيا�سيني» (انظر على �سبيل املثال مقاربة ال�ضباط يف ندوة موثقة من قبل نيفو و�شور، .)2003يف كل الأحوال ،مل يكونوا خمتلفني بذلك عمن �سبقوهم بالطريقة التي �أداروا فيها ال�ش�ؤون الع�سكرية، و�إمنا فقط يف البيئة التي نقلوا ر�سائلهم بها من خاللها. كذلك قاد حوارهم مع العامة ر�ؤ�ساء اجلي�ش �إىل تقا�سم �آرائهم غري املعاجلة ،بالدرجة الأوىل ،من دون االعتماد على و�ساطة �سيا�سيني (على �سبيل املثال ،ت�رصيحات رئي�س هيئة الأرك���ان مو�شيه يعالون ح��ول خماطر االن�سحاب الأحادي من قطاع غزة) .لقد ا�صطدم حق ال�شعب باملعرفة مع �أ�س�س الإ�رشاف التقليدية على اجلي�ش، ومع الأ�س�س التي تتجه نحو خلق تق�سيم ،ومو�ضعة �آليات الو�ساطة ال�سيا�سية بني قادة اجلي�ش وال�شعب و�إلغاء حقوق اجلنود باالختالف علن ًا مع من هم �أرفع منهم �سيا�سي ًا. مع هذا النموذج من الوالء املبا�رش جتاه العامة ،ابتعد اجلي�ش �أي�ض ًا عن عالقته امل�ترددة مع الإع�لام وتب ّنى عالقات �أكرث قرب ًا منها بكثري� ،إىل درجة الت�سويق للجي�ش ب�شكل فاعل ونا�شط من خالل الإعالم .وميثل ال من التالعب �إىل املغازلة بح�سب حترك كهذا انتقا ً تعبري مو�سكو�س .وقد انت�رشت الفكرة اال�ستهالكية لـ«الت�سويق املبا�رش» �إىل القطاع الع�سكري. خالل حرب لبنان الثانية ،لعب الإعالم دور ًا �أكرب يف ك�شف الث َغر والإخفاقات الت�شغيلية ب�شكل منهجي، كا�صطدام املروحيات ،االفتقار للدفاعات الإلكرتونية على منت �سفينة �صواريخ والذي �أدى �إىل �رضبها بوا�سطة �صاروخ� ،شكاوى جنود االحتياط مبا يتعلق مب�ستوى تدريبهم وجتهيزاتهم ،االحتكاكات بني اجلرناالت� ،إىل ما هنالك .وقد و�صل االخرتاق الإعالمي للجي�ش �إىل
العلمانية وامليزراحيم املتنقلة) من � %70إىل %54ن�سبة �إىل الأ�سبوع الأول من حرب ،1982وهذا انحدار �أكرب وال ب�أ�س به من االنخفا�ض الن�سبي يف هذا الوزن الدميغرايف لهذه الطبقة الو�سطى .وقد ملأت اجلماعات الدينية والهام�شية هذه الفجوة (ليفي� ،2007 ،صفحة .)232-229هذا التغيري االجتماعي انعك�س يف �إعادة ت�شكيل الأخالقيات امل�سلوبة التي كانت منعك�سة �أ�سا�س ًا يف انتفا�ضة الأق�صى ،من تظاهرة ت�ساءلت �إن كانت احلرب عادلة (على منط حرب لبنان الأوىل)� ،إىل تظاهرة تتقبل الت�ضحية وحتى ا�ستعرا�ض الفخر والعزة وحد االحتجاجات باجلانب الفعال لأداء بهذه الت�ضحيةَّ ، جي�ش الدفاع (� ،ibidصفحة .)131-128 ال عن ذلك� ،ساهمت احلرب يف ك�رس املحرمات ف�ض ً ويف كون الرتكيبة االجتماعية لل�ضحايا لي�ست على الأجندة العامة .فللمرة الأوىل ،بحث اخلطاب العام التمثيل الطبقي ــ الأخالقي لل�ضحايا .هذا اخلطاب معينة �ضد ترافق مع تعليقات �شائكة �أطلقتها جمموعات ّ النخبة ال�سابقة يف اخلدمة الع�سكرية الذين هم ب�أ�سا�سهم من الأ�شكيناز العلمانيني ــ تعليقات من حركة الكيبوتز ب�شكل رئي�س (الذين زادوا من ح�صتهم بني ال�ضحايا) وقيادة اجلماعات املتدينة وامل�ستوطنني .كانت هذه هي خلفية االنتقاد الذي وجهه رئي�س مديرية �ش�ؤون املوظفني يف جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي ،اجلرنال �أليعازر ال من عائالت املتطوعني يف تل �سترين ،ومفاده �أن �أطفا ً �أبيب ،قلب الطبقة الو�سطى ــ العليا ،مل يكونوا ممثلني يف عداد وفيات جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي ،ما حفز بالتايل على �إث��ارة جدل عام .رداً على ذلك�ُ ،سمعت �أ�صوات تعب عن الطبقة الو�سطى ــ العليا وهي تقول ب�أن «تل رِّ �أبيب» ترمز �إىل طريقة بديلة من امل�ساهمة املدنية �إزاء املجتمع� ،أو حتى ت�صنع م�ساهمة ع�سكرية ال تهدد احلياة يف القطاعات التقنية للجي�شّ . �شكل هذا النقا�ش ُبعد ًا �آخر خلطاب الفجيعة اجلديد الذي رفع من �ش�أن اخل�سارة ال من �أن تكون م�صدر وا�ستفاد منها كم�صدر فخر وقوة بد ً طاقة �سيا�سية م�ستخدمة لنزع ال�رشعية عن حالة احلرب. «امل�ضحني باملال» يف �أو�ساط الطبقة � ّإن ال مباالة ّ الو�سطى ،والقاعدة ال�ضيقة «للم�ضحني باجل�سد» من لـ«امل�ضحني باجل�سد» �أمور بينهم ،والتوجه القومي ّ عملت كلها على تو�سيع حرية اجلي�ش بالعمل� .أما قيود «امل�ضحني هذه احلرية فيمكن �أن تربز فقط من حماوالت ّ باملال» خلف�ض موارد اجلي�ش.
73
بدايات
العدد |5ربيع 2013
م�ستوى مل ي�صله من قبل خالل حالة طوارئ ،وبذلك فقد جرى انتقاده علن ًا ب�سبب افتقاره للح�س الوطني ال عن ذلك ،لقد �شجع اجلي�ش، (وميان .)2007 ،ف�ض ً بحد ذاته ،على االخرتاق الإعالمي عن طريق ال�سماح بالتغطية الإعالمية من دون و�ضع قيود هامة. قدمها ًّ مثل الدور الذي لعبه الإعالم املفارقة التي ّ كوهي :ل��دى الإع�لام و�سائل �أك�ثر لتدار�س اجلي�ش تفوق الفكر الع�سكري ال يزال مهيمن ًا. والتدقيق فيه� ،إال � ّأن ّ املوجه للأداء ،وقف الإعالم ،ب�شكل ال و�إ�ضافة �إىل النقد ّ لب�س فيه ،وراء الأجندة الع�سكرية .وكان النقد حمدود ًا ب�أداء اجلي�ش (تقرير كي�شيف .)2007 ،وللمفارقة ،هذا هو نوع النقد الذي يكر�س تفوق التفكري الع�سكري ،لأنه ال ع�سكري ًا مل�شاكل �سيا�سية ،حل يعزز الإميان ب�أن هناك ح ً بالإمكان تنفيذه �إذا ما ا�ستطاع اجلي�ش الأداء مب�ستوى ال عن ذلك ،وعلى امتداد احلرب ،ان ُتقد القادة منا�سب .ف�ض ً ال�سيا�سيون ال�سابقون ل�سماحهم حلزب الله ب�أن ي�صبح �أقوى ،ما يعني ،لعدم �شنهم حرب ًا ا�ستباقية .نتيجة لذلك، مت دفع البحث عن بدائل �سيا�سية للحرب جانب ًا .وتعاي�ش اخل�ضوع الزائد للجي�ش والع�سكرة مع بع�ضهما جمدد ًا. ال �إىل طابع املواجهة بالإمكان تقفّي هذه املفارقة و�صو ً بني اجلي�ش والإع�ل�ام .فمع النظام ال�سوقي للإعالم الإ�رسائيلي منذ الت�سعينيات (مع انحدار ال�صحافة احلزبية ومنو �سيطرة ال�رشكات على الإعالم) ،أ� ّثرت مقاربة الأخبار، كما لو �أنها �سلعة ،يف هذا املجال �أي�ض ًا� .إنها مواجهة بني موا�صلة الإعالم لأخبار قابلة للت�سويق وملوا�صلة اجلي�ش ال�رشعية .نتيجة لذلك ،ف�إن �إلقاء ملحة خاطفة على ال�صحافة منذ الت�سعينيات وحتى العقد الأخري من القرن املا�ضي يك�شف عن �أنه برغم تكثيف الإعالم تدقيقه باجلي�ش وجتاوزه على الدوام عوائق تقليدية كالرقابة الع�سكرية ،ف�إن ق�ضايا هام�شية ن�سبي ًا كانت ت�شكل ب�ؤرة الرتكيز لديه .فاحلوادث والإخ��ف��اق��ات الع�سكرية ،ال�رصاعات داخ��ل اجلي�ش والنزاعات بني �شخ�صيات ع�سكرية و�سيا�سيني ،والإخفاقات يف �سيا�سات املوارد الب�رشية كانت من بني الق�ضايا التي غطاها الإعالم .وقد اجتذب انتقا ُد اجلي�ش كتاب الأعمدة االقت�صادية يف ال�صحف �أي�ض ًا ،حيث كان الرتكيز على ق�ضايا الأداء غري الفعال اقت�صادي ًا .يف كل الأحوال ،كانت الق�ضايا املو�ضوعية املت�صلة بدور الفكر الع�سكري يف ت�شكيل ال�سيا�سات الإ�رسائيلية مهملة (انظر دور2004 ، حول انتفا�ضة الأق�صى) .وباحلديث عن الناحية الهيكلية، �أدى الإفراط يف التعر�ض واالنك�شاف لل�صحافة �إىل توجه
هذه الأخ�يرة للتعامل مع احل��وادث ال�صغرية يف الوقت الذي تهمل فيه ال�صورة ال�شاملة .واملثري لل�سخرية هو �أنه ال توفرت معلومات �أقل ،فرمبا كانت ال�صحافة �أكرث مي ً لو َ لإطالق بحث ونقا�ش حول الق�ضايا ال�سيا�سية الكلية. �أحدث احلوار املبا�رش مع ال�شعب بو�ساطة الإعالم «ن�رش دعاية» للقيادة العليا .ففي كانون الثاين ،2007 وعندما كان التحقيق الذاتي الذي �أج��راه اجلي�ش عن احلرب على و�شك االنتهاء ،ا�ستقال رئي�س هيئة الأركان دان حالوت�س من من�صبه .وكان حالوت�س �أول رئي�س هيئة �أركان يتنحى عن من�صبه بداعي ال�ضغوط ال�شعبية� ،إذ تقاعد اجلرنال ديفيد �آليعازر بعد حرب ،1973لكن ذلك كان رد ًا على تو�صية من جلنة التحقيق احلكومية، ولي�س ب�سبب ال�ضغط ال�شعبي ،والتي كانت توجهها يف ذلك احلني القيادة ال�سيا�سية ولي�س اجلي�ش .يف املا�ضي، كانت ُت�سمع الأ�صوات الداعية �إىل ا�ستقالة رئي�س هيئة الأركان فقط عندما كان ينظر �إليه على �أنه ينفذ �سيا�سات مثرية للجدل �سيا�سي ًا ،ولي�س عند انتقاد �أدائه املهني. ال عن ذلك ،كان �سلوك حالوت�س منذ نهاية احلرب ف�ض ً يوجهه مبد�أ وجوب �إعادة اجلي�ش تر�سيخ ثقة ال�شعب به، وهو �سبب في�ض التحقيقات التي جرت يف اجلي�ش والتي ن�رشت نتائجها للعلن بكميات غري م�سبوقة .هذه ال�شفافية كانت مظهر ًا وتعبري ًا عن احل��وار املبا�رش بني القيادة الع�سكرية وال�شعب ،حوار يتجاوز القيادة ال�سيا�سية. مل ي�ستقل حالوت�س لأن القيادة ال�سيا�سية دفعته لذلك، و�إمنا لأنه كان قد ا�ستوعب احلقيقة ب�أن ثقة ال�شعب به �أ�صبحت يف احل�ضي�ض ،ما جعل من ال�صعب عليه العمل، وت�سبب �أي�ض ًا يف ت�آكل الثقة به داخل امل�ؤ�س�سة الع�سكرية. كان االنتقاد ال�شعبي العلني للجي�ش بعد احلرب ال عن �إ�ضعاف �آليات الو�ساطة �أكرث بني ال�شعب م�س�ؤو ً وكبار �ضباط اجلي�ش ،و�أ�شار �إىل مرحلة �أخرى يف العملية التي �أ�صبح فيها اجلرناالت عبارة عن �شخ�صيات عامة. ويف غياب ن�شاط هام من جانب القيادة ال�سيا�سية لتعزيز �سلطتها على اجلي�ش �أو متثيل م�صاحلها يف ال�ساحة العامة ،ويف �ضوء واقع تراجع احلكومة عن البدء بتغيري يف قيادة اجلي�ش بداية احلرب ،بل وعدم تقدميها م�ساندة كاملة للم�ؤ�س�سة الع�سكرية ،وقف اجلرناالت وحيدين يف اخلطوط الأمامية للحوار مع ال�شعب ،و�أخفقوا. ال عن ذلك ،تفاقمت الدعاية ب�سبب االحتجاجات ف�ض ً العلنية جلرناالت متقاعدين ،انتقدوا �أداء اجلي�ش امل�شوب بالعيوب ودعوا �إىل ا�ستقالة حالوت�س .ويف حترك غري
74
بدايات
العدد |5ربيع 2013
بنف�سه ،الأم��ر ال��ذي قد يقلل من الكلفة ال�سيا�سية النت�شاره .وقد ّبينت العمليتان الكبريتان اللتان �شُ نتا يف جنوب لبنان يف الت�سعينيات �ضد دولة م�صغرة نا�شئة يديرها حزب الله النموذج اجلديد ــ عملية ت�صفية احل�ساب وعملية عناقيد الغ�ضب .هنا ،دعا الرد الع�سكري �إىل «مكافحة النريان» ،ما يعني االعتماد ال�شديد على الهجمات اجلوية من دون ا�ستخدام قوات برية اقتحامية. وقد �شملت املقاربة اجلديدة ا�ستخدام ذخائر دقيقة وطويلة املدى هدفت �إىل ال�ضغط على ال�سكان املحليني لتقييد ن�شاطات حزب الله� .أما يف حرب لبنان الثانية، فقد و�صلت هذه املقاربة �إىل ذروتها مع االعتماد الكامل تقريب ًا على �سالح اجلو خالل الأيام الأوىل من احلرب. �إن االعتماد على التكنولوجيا جنب ًا �إىل جنب مع الت�سليع جعل �سالح اجلو «جي�ش ًا احرتافي ًا �ضمن جي�ش». فطيارو �سالح اجلو يجمعون اخلدمة الإلزامية مع اخلدمة املهنية .ويف �أوائل العقد الأخري من القرن املا�ضي ،مت �إ�ضفاء الطابع املهني واالحرتايف �أكرث على �سالح اجلو وذلك بتمديد فرتة اخلدمة من � ٥سنوات �إىل � ١٢سنة ،مبا يف ذلك التدريب والدرا�سات الأكادميية .وقد قلل ت�سليع هذا النموذج من اعتماد �سالح اجلو على جنود االحتياط، عموده الفقري �سابق ًا .وبالتايل ،فقد �أ�ضعف النموذج اجلديد �إمكانية الرف�ض يف �أو�ساط الطيارين يف االحتياط ،وهي ق�ضية �أ�سا�سية برزت بعد دعم عدد من كبار الطيارين يف االحتياط للتحرك الراف�ض يف انتفا�ضة الأق�صى ب�سبب �رضب املدنيني الأبرياء .ويف �ضوء احل�سا�سية �إزاء اخل�سائر يف حرب لبنان الثانية ــ التي ثبتت بعد اخرتاقات على نطاق �صغري انتهت بعدد مرتفع ن�سبي ًا من اخل�سائر وال�ضحايا ــ ميكن املرء �أن يرى �سبب �سحب اجلنود الذين مت ن�رشهم من �سالح اجلو .ف�إطالة احلرب مع العجز عن حتقيق �أهداف ع�سكرية معينة كان فقط ،هو الذي زاد من الدور الذي لعبته القوات الربية .مع ذلك ،مل تكن فقط العملية الربية هي التي مت ت�أجيلها لبع�ض الوقت ب�سبب احل�سا�سية من �إمكانية �سقوط �ضحايا ،ولي�س فقط �أنه مت ا�ستدعاء االحتياط يف وقت مت�أخر ب�سبب الثمن ال�سيا�سي لتعبئتهم ،و�إمنا مت تنفيذ العملية نف�سها برتدد �أي�ض ًا .لقد �أعاد الت�سليع الن�صفي ــ �سالح اجلو ولي�س القوات الربية ــ ت�شكيل ن�شاطات احلرب. بالواقع ،لقد �أر�ست احلرب �أ�س�س ت�رسيع التحول �إىل جي�ش حمرتف .وبذلك قد يكون الت�سليع امتد �إىل القوات الربية �أي�ض ًا ،وهذا حمتمل.
م�سبوق ،اختار جرناالت متقاعدون احلوار العام العلني وتخلوا عن القنوات الأكرث حميمية امل�ستخدمة �سابق ًا يف وج�سد ال�شبكة االجتماعية يف حاالت النقا�ش امل�شابهة. ّ مظهر هذا االحتجاج نف�سه خرق ًا يف ال�شبكة االجتماعية املتما�سكة لأ�شخا�ص ع�سكريني حاليني و�سابقني� ،شبكة تدفع مب�صاحلهم امل�شرتكة قدم ًا (انظر ب��اراك و�شيفر، .)2006وكان انتقاد اجلرناالت للقيادة العليا �سبب ًا لأن يك�رس �صورة امل�ؤ�س�سة نف�سها �أكرث حتى ،تلك امل�ؤ�س�سة التي كانوا ينالون مكاف�آتهم منها ،رمزي ًا ومادي ًا .وهذا ي�ستتبع القول ب�أن �أعمالهم تعك�س ا�ستيعابهم الداخلي للإقرار ب�أن �صورة اجلي�ش قد و�صلت �إىل درجة من االنحطاط بحيث �إنها بررت ح�صول احتجاج غري م�سبوق حتديد ًا من قبل �أولئك الذين كانت مكاف�آتهم مرتبطة بتلك ال�صورة. يحول �إن حتويل اجلرناالت �إىل �شخ�صيات عامة ال ّ ت��وازن القوى بينهم وبني ال�سيا�سيني ل�صالح �ضباط اجلي�ش فح�سب ،بل ميكنه �أي�ض ًا تعزيز االفتقار للو�ضوح ال��ذي يت�سم به اجلي�ش �أ�سا�س ًا يف جمتمع ال�سوق ــ احلدود املبهمة بني التنفيذ ال�صحيح وال�سليم ملتطلبات املهنية الع�سكرية من جهة ،وت�سويق احلاجات من جهة �أخرى .فاجلي�ش الذي يقاتل لأجل مكانته العامة بو�ساطة �سيا�سية �ضعيفة ،مييل للت�أكيد على االجنازات احلربية لتربير موارده وبالتايل لتعزيز الثقة العامة به� .إن جي�ش ًا كهذا من ال�صعوبة مبكان تقييده �سيا�سي ًا. بالإجمال� ،إن احل��وار املبا�رش ،االنك�شاف �أم��ام الإعالم الذي �أبعد ال�صحافيني عن الت�سا�ؤل حول الفكر الع�سكري ون�رش الدعاية عن القيادة الع�سكرية� ،أمور عملت كلها ،جمدد ًا ،على تو�سيع جمال عمل اجلي�ش عن طريق تعزيز الفكر الع�سكري. الت�سليع والتكنولوجيا خال�صة القول ،لعبت م�س�ألة �إعادة التنظيم (اال�صطفاف) االجتماعي جلي�ش الدفاع الإ�رسائيلي التي و�صلت �إىل ذروتها يف �أواخر الت�سعينيات دور ًا هام ًا يف التقليل من القاعدة االجتماعية لالحتجاجات .يف كل الأحوال ،مل تكن �إعادة التنظيم (اال�صطفاف) الو�سيلة اال�سرتاتيجية الوحيدة التي �ساعدت جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي على زيادة ا�ستقالليته بالعمل .يف الوقت نف�سه ،بد�أ جي�ش الدفاع بزيادة ا�ستخدامه للأ�سلحة ذات التكنولوجيا الكثيفة املتقدمة والتي تبقي املحارب بعيد ًا عن �ضحيته، وبالتايل تب ِّلد وعيه ال�سيا�سي والتقليل من املخاطرة
75
بدايات
العدد |5ربيع 2013
ال وقبل كل �شيء� ،أبطل النموذج احلايل للتجنيد �أو ً الإلزامي ،املبني على فرتات ق�صرية اخلدمة الإجبارية ونظام االحتياط .لقد ك�شفت احلرب الفجوة املتقل�صة بني الأداء االحرتايف جلنود جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي وبني رجال امليلي�شيات اللبنانية ،لأن احلرب اندلعت نتيجة جناح حزب الله يف خطف اثنني من جنود االحتياط .مبعنى �آخر ،لقد متركز رجال امليلي�شيا ،وب�شكل دائم ،على جبهة معينة �سادوا فيها على جنود االحتياط الذين ينفذون خدمتهم لفرتة زمنية ق�صرية فقط كل عام .هذا الف�شل للقوات الربية �أ�شعل حرب ًا ك�شفت امل�ستوى املتدين للياقة القتالية جلنود االحتياط .وفق ًا لذلك ،فقد كان الدر�س الرئي�س امل�ستخل�ص من هذا الإخفاق هو زيادة م�ستوى التدريب .زيادة العبء الذي ينتج الت�سليع. نظري ًا ،ميكن ت�صور اجلنود يف منظومتي مكاف�آت يف �آن مع ًا :مكاف�آت مادية ومكاف�آت رمزية نابعة من املكانة وال�رشف العائدين للخدمة الع�سكرية واملرتجمتني باملكانة االجتماعية .فاملكاف�آت الرمزية املخففة ،عموم ًا، تزيد توقع مكاف�آت مادية �أكرب ،كنوع من �سد �أو ا�ستبدال التعوي�ض( ليفي.)2007 ، يف �إ�رسائيل �أي�ض ًا� ،أ ّدت املكانة العالية جلي�ش الدفاع الإ�رسائيلي وال��دور ال��ذي �شغله يف حتديد الهرمية االجتماعية للمرء �إىل متكني الدولة من جتنيد اجلنود مقابل �أجر متدن .يف كل الأح��وال ،ومنذ الت�سعينيات، عانى جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي من الت�آكل يف مكانته االجتماعية ،مع الت�آكل املتالزم يف املكاف�آت الرمزية. وب�شكل �أكرث حتديد ًا ،خ�رس جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي منذ حرب ،1982تدريجي ًا وب�شكل منهجي ،ثقة خمتلف املجموعات :طبقة الأ�شكيناز الو�سطى ــ العليا يف حرب 1982امل�ستمرة �سيا�سي ًا ويف االنتفا�ضة الأوىل ،كما خ�رس جزء ًا من املجموعات الدينية الوطنية يف م�س�ألة فك االرتباط( عن غزة) .و�أ�ضافت حرب لبنان الثانية اجلنود االحتياط من الطبقة الو�سطى �إىل القائمة. عندما اندلعت احلرب ومتت تعبئة فرق االحتياط برتدد ،و�أُر�سلوا وهم غري جاهزين للقتال لأهداف غام�ضة، �أ�صبح وا�ضح ًا �أن جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي قد انتهك، «عقْده ال�سيكولوجي» مع جنود االحتياط. وبب�ساطةَ ، ووفق ًا مل�صطلحات هذا العقد ،ف��إن جنود االحتياط م�ستعدون دائم ًا لال�ستدعاء ،يف حني ي�ضمن جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي �أن املجند �أو املجندة �سيتلقى التدريب ،ويتم جتهيزه باملعدات واال�ستفادة منه وا�ستخدامه جيد ًا .لذا،
من املنطقي االفرتا�ض ب�أنه يف بداية احلرب� ،سوف يجعل ت�آكل الثقة م�س�ألة �سحب وتفعيل عمل االحتياط يف امل�ستقبل �أمر ًا �أكرث �صعوبة .وعانى املجندون من ت�أثري م�شابه ،والذي عزز «�أزمة الدوافع» ،حيث �أ�ضعفت احلرب ثقتهم بقدرة اجلي�ش على حماية �أرواحهم عن طريق ن�رشهم ب�شكل فعال يف مهمات حيوية. �أدى انحدار املكاف�آت الرمزية �إىل رفع ال�ضغوط للح�صول على مكاف�آت مادية ،عملية كانت قيد امل�ساومة بني اجلي�ش وجمنديه ،جنود االحتياط ب�شكل رئي�س .هذه امل�ساومة قادت احلكومة يف عامي 2005و 2006 �إىل امل�صادقة على �إ�صالحات يف نظام التجنيد مبنية على �أ�سا�س تق�صري فرتة اخلدمة الع�سكرية ،التقليل من حجم اجلي�ش ،زيادة االنتقائية ،وتقدمي مكاف�آت حم�سنة، خا�صة لأولئك الذين يخدمون فرتات زمنية ممددة .يف كل الأح��وال� ،إن االنتقائية املتزايدة ترفع ال�ضغوط لأجل املكاف�آت املادية ،ومن املنطقي التكهن �أن يقوم جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي بتقدمي مكاف�آت �أف�ضل لتجنب النق�ص يف فريق العمل امل�ؤهل ،جزء منها �سيكون ب�شكل تبادل اخلدمة املمددة مقابل تعوي�ضات حم�سنة� .إن زيادة املكاف�آت املادية �ستزيد االنتقائية جمدد ًا .لذا ،وخلف�ض رواتب اجلي�ش �سيكون هناك اعتماد متزايد على جي�ش �صغري ن�سبي ًا �إمنا لديه مكاف�آت جيدة� .أما النتيجة النهائية لهذه العملية ف�ستكون احرتافية متزايدة للجي�ش. بالإجمال� ،إن اجلمع ما بني تزايد �سوء «العجز الرمزي» ال�سابق مع تزايد االنتقائية خللق جي�ش �أ�صغر �إمنا مدرب ب�شكل �أف�ضل� ،سيو ّلد ت�سليع اجلي�ش ،ما يعني، اخلدمة مقابل الدفع .من جهة �أخرى� ،إن عجز املوازنة ي�ضع قيود ًا على قدرة اجلي�ش على تقدمي مكاف�آت مادية للمجندين من الطبقة الو�سطى .ولهذا ال�سبب ،ف�إن املجندين الأرخ�ص �أجر ًا ــ �أولئك الذين دافعهم حمنة اقت�صادية� ،أو� أمر ايديولوجي ــ ع�سكري� ،أو م�صلحة يف حراك اجتماعي والذين تعترب البدائل املقدمة لهم من قبل �سوق العمل املدين �أقل جاذبية ــ هم جتمع املتوفر ،املثايل جليو�ش مهنية. املر�شحني الرئي�س َ قد تكون االحرتافية مف�ضلة �أي�ض ًا من قبل جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي وال�سيا�سيني كو�سيلة ال�ستعادة اال�ستقاللية الع�سكرية .فجنود االحتياط هم «مدنيون معب�أون» يح�رضون معهم قيمهم املدنية �إىل خدمة ّ االحتياط ،ومن وجهة النظر تلك ،ف�إنهم ي�ساومون مع اجلي�ش حول طبيعة خدمتهم وظروفها و�رشوطها .وعند
78
بدايات
العدد |5ربيع 2013
للع�صيان ،وهذا طبيعي .فالت�سليع �سي�ضعف التوقعات ال�سيا�سية يف �أو�ساط كل من املجندين واجلماعات االجتماعية املدنية الآتني منها ،وبالتايل يخف�ض احلافز على املراقبة ال�سيا�سية للجي�ش «من الداخل» .ثاني ًا، �سينعك�س الت�سليع �أي�ض ًا يف تقل�ص الأ�س�س االجتماعية للتجنيد .وكما �أظهر حتليل خطاب الفجيعة يف �ضوء التغيريات يف تركيبة ال�ضحايا ،وكما يعر�ض التمايز بني «الت�ضحية باجل�سد» و«الت�ضحية باملال» ،ف�إن انحدار م�ستويات امل�شاركة الع�سكرية ينطوي على قوة م�ساومة بالن�سبة �إىل امل�شاركة ال�سيا�سية يف مقابل الدولة بهدف مراقبة �سلوك اجلي�ش .هذا االنحدار �سيزيد من حدة فتور النخبة �إزاء اجلي�ش ،مع عواقب من ال�صعب حلها بالن�سبة �إىل ال�سيطرة الدميقراطية عليه. بالتايل ،بالإمكان ن�رش جي�ش احرتايف ب�شكل �أ�سهل لأداء مهمات حمل جدل �سيا�سي ًا� .إن احرتافية اجلي�ش قد ت�ستفيد من التغيري ،لكن الت�سليع قد يجعل النموذج التقليدي لل�سيطرة ال�سيا�سية يت�آكل.
عودتهم �إىل حياتهم الطبيعية ،يكون ه��ؤالء عر�ضة لرتجمة جتربتهم يف اخلدمة الع�سكرية يف طاقة �سيا�سية، م�ستغلني قدرتهم على تنظيم وتفعيل �شبكات اجتماعية (انظر بن �آري و�آخرين.)2004 ، تع ّلم اجلي�ش هذا الدر�س عندما ر�أى الدور الذي �أ ّداه االحتياط يف التظاهرات واالحتجاجات املنظمة. وكونه تعلم هذا الدر�س ،فقد قرر اجلي�ش �أن يبني احلرب امل�ستمرة على قاعدة القوات الربية ،ما يعني �إدارتها بعيد ًا عن نظر العامة (تامري،11-10 ،2005 ، .)274كذلك الأمر مت رمي جنود االحتياط يف قلب القتال �ضد الفل�سطينيني يف االنتفا�ضة ،خالل «عملية الدرع الدفاعي» ( )2002ب�شكل رئي�س ،فقط بعد تثبيت م�رشوعية هذه احلرب يف القتال الذي قام به اجلنود النظاميون .وخالل حرب لبنان الثانية ،كان الثمن ال�سيا�سي ال�ستدعاء جنود االحتياط مفهوم ًا من قبل احلكومة ،والقيادة الع�سكرية كجزء من ذخرية يرجع اليها تعلموها من خالل التجربة املرتاكمة منذ حرب ( ١٩٨٢انظر جلنة فينوغراد� ،٢٠٠٧ ،صفحة .)٩٨ وبذلك ف�إن الرتدد ال�سيا�سي ب�سحب االحتياط و�إر�سالهم يف عمليات برية �ضخمة خلق االنطباع ب�أن اجلي�ش قد ف�شل بتحقيق �أهدافه .يف الوقت نف�سه ،ف�إن �أولئك الذين مت ا�ستدعا�ؤهم قاموا ب�إ�شعال تظاهرات الحق ًا ، كما ف�صلنا �آنف ًا .لذا ،ف�إن �إ�ضفاء االحرتافية على نظام االحتياط �سي�ضمن نزع الطابع ال�سيا�سي عنه �أي�ض ًا. الت�سليع يو ّلد الت�شدد والقتال .فبقدر ما ير�سخ اجلي�ش اعتماده على املجندين الهام�شيني واملتدينني املدفوعي الأجر ،ف�إنه �سيتبنى توجه ًا �أكرث ولع ًا بالقتال. �إن وزن الطبقة الو�سطى �سينحدر ل�صالح جماعات �أكرث قومية وت�شدد ًا يف املجتمع ،نظر ًا للعالقة املتبادلة ال بني التطلعات ال�سيا�سية وموقع الطبقة الإثنية .ف�ض ً عن ذلك ،ويف جي�ش غري متوازن �سيا�سي ًا� ،ستتو�سع حرية العمل للقيادة العليا مبا �أنها تتحرر من الهواج�س املتعلقة بتق�سيم ال�صفوف عن طريق توظيف تكتيكات حمل جدل �سيا�سي ًا. هناك م�س�ألتان مرتبطتان بالت�سليع ت�ساهمان �أي�ض ًا ال بهذه امل�شكلة .الأوىل هي �أن خدمات ال�رشاء املالية ،بد ً من اجلنود املجندين �إداري ًا ،حترف التوقعات عن جمال املكاف�آت الرمزية (كاالعرتاف بايديولوجية �سيا�سية) �إىل توقعات مبكاف�آت مادية .عندها �ستكون اخلدمة الع�سكرية ال غري م�سي�سة ،مبا �أن اجلندي املحرتف لي�س ميا ً
ا�ستنتاجات و�رسعت ح�صول تغيري عك�ست حرب لبنان الثانية، َّ �أو�سع يف طريقة الإ�رشاف املدين على اجلي�ش ،وحتديد ًا، التحول من ال�سيطرة اجلمهورية �إىل �سيطرة ال�سوق .ومع انح�سار النموذج اجلمهوري التقليدي ل�سيطرة املواطن ــ اجلندي ،احتلت الآليات ذات التوجه ال�سوقي ال�صدارة. ات�سم النموذج اجلديد الذي ازده��ر يف جمتمعات غربية وكذلك يف �إ�رسائيل بثالث �سمات رئي�سة: • مراقبة للجي�ش ذات توجه �سوقي نا�شئة من التمييز بني الت�ضحية املالية /اجل�سدية؛ • جو تناف�سي على غرار ال�سوق يحكم املمار�سات الع�سكرية ويجرب اجلي�ش على ت�سويق خدماته عن طريق ال�سماح باالخرتاق الإعالمي وباحلوار مبا�رشة مع ال�شعب ،وبالتايل حتويل اجلرناالت �إىل �شخ�صيات عامة؛ • ت�سليع اخلدمة الع�سكرية ،ما يف�سد املبادئ اجلمهورية للم�شاركة الع�سكرية التي من خاللها ميكن للمجتمع ال�سيا�سي ت�شكيل م�صريه اخلا�ص به ،مع القرار بامل�ضي �إىل حرب يف قلب هذه امل�شاركة. هذه العملية كان لها ت�أثري متناق�ض على حرية العمل للجي�ش :فاجلي�ش تتوافر له حرية عمل �أو�سع يف �إدارة ال�سيا�سات احلربية ،وذلك عائد ،و�إىل حد كبري، �إىل التغيري يف تركيبته واالحرتاف التدريجي لأفراده.
79
بدايات
العدد |5ربيع 2013
ويتطابق جمال العمل الأو�سع مع رغبة اجلي�ش بعر�ض قدرته �أكرث كو�سيلة لتعزيز �رشعيته يف بيئة تناف�سية. يف الوقت نف�سه ،لدى اجلي�ش موارد �أقل لتمويل هذه ال�سيا�سات ،ب�سبب النقد ذي التوجه ال�سوقي الذي ليعدل طريقة العمل وفق متطلبات ال�سوق .ونظر ًا يقيده ّ ّ حلاجته �إىل التناف�س مع م�ؤ�س�سات �أخرى يف ال�سوق وعامل التجارة ،ف�إن �سيا�سات اجلي�ش حمكومة بال�سوق على نحو متزايد� .إن حرية العمل لي�ست متماثلة ومتنا�سبة مع م��وارد اجلي�ش املتقل�صة .وقد �أعطيت للحكومة القدرة على �شن حرب بني ع�شية و�ضحاها لكن مل تعط لها القدرة على حتمل حرب مكلفة. هذا التناق�ض ك�شف عن نف�سه يف احلرب .ونظر ًا للتغيري يف الرتكيبة االجتماعية للوحدات امليدانية وت�أثريه على خطاب الفجيعة ،مل تواجه احلكومة مقاومة كبرية لقراراتها ال من جنودها وال من �شبكاتهم االجتماعية .مبعنى �آخر، لقد �أثبت النموذج اجلمهوري لل�سيطرة عدم فاعلية .يف قيدت مناذج �أخرى منت خارج اخل�ضوع الوقت نف�سهَّ ، التدريجي جلي�ش الدفاع الإ�رسائيلي لقوى ال�سوق اجلي�ش. فقد ترددت احلكومة يف �إعالن حالة الطوارئ لتجنب ت�أثري �سلبي على املوازنة .وقاد االعتماد على �سالح اجلو الذي �أ�صبح �سلعة �إىل تردد يف تفعيل القوات الربية� .أخري ًا ،لقد جعل تعر�ض جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي للتدقيق والفح�ص التطفلي من قبل الإعالم و�شبح املحا�سبة العامة ال�ضباط مرتددين عند �إ�صدار الأوامر. �أ�صبحت �آليات ال�سوق ،بالتايل ،الآليات الأكرث تفوق الفكر الع�سكري عن فاعلية التي ميكنها حتدي ّ طريق تقييد امل�ؤ�س�سة مادي ًا .مع ذلك ،تثبت �سيطرة ال�سوق فاعليتها فقط عندما ت�صبح كلفة احلرب مرتفعة جد ًا ن�سبة �إىل املكا�سب ال�سيا�سية واالقت�صادية غري املبا�رشة ،ما يعني �أن الن�شاط الع�سكري املتدين الكلفة الذي ال ي�ؤثر على معي�شة الطبقة الو�سطى ــ العليا وم�صاحلها اجلوهرية ،ميكن �أن ي�أخذ جمراه دون عوائق. فقد ف�شلت ال�سيا�سات الإ�رسائيلية يف تطوير �آليات �سيا�سية وثقافية فاعلة ميكنها �أن حتقق التوازن للتفوق الع�سكري ،رغم تعزيز و�سائل الإ�رشاف على امل�ؤ�س�سة الع�سكرية .يف كل الأحوال� ،إن ال�سيطرة على امل�ؤ�س�سة الع�سكرية لي�ست �صعبة� ،أو ت�شكل حتدي ًا ،كال�سيطرة على التفكري الع�سكري .وتلعب �آليات ال�سوق دورها يف حتقيق هذا التحدي� ،إال �أن احلاجة �إىل �إع��ادة ت�أهيل الآالت اجلمهورية تعترب �صحيحة اليوم �أكرث من �أي وقت م�ضى.
المنظمات غري احلكومية
الطنانة واحلركات االجتماعية بني الكلمات ّ إصالح جاد مقدمة �إن انت�شار املنظمات غري احلكومية (�إن جي �أوز) ظاهرة ال على �ضعف الأحزاب ال�سيا�سية مديرة مؤسسة عاملية .وعادة ما ُتعترب دلي ً الدرااست النسوية الأيديولوجية وان�سحاب الدولة من ت�أمني اخلدمات واستاذة اجلندر وامل�س�ؤوليات االجتماعية ب�سبب �سيا�سات التعديالت والتنمية يف جامعة الهيكلية املفرو�ضة على معظم بلدان العامل الثالث من بري زيت ،فلسطني .قبل البنك الدويل و�صندوق النقد الدويل وحتت �ضغط نرشت عدة مؤلفات �سيا�سات الإ�صالح النيوليربايل (هان 1996؛ �إدوارد عن ماشركة الناسء وهيوم 1995؛ �أومفيت .)1994يرى البع�ض �أن معتمد نتاج لل�سيا�سات النيوليربالية، ٌ الفلسطينيات الـ«�إن جي �أوز» ٌ ٍ والعربيات مالي ًا على م�صادر نيوليربالية ومنغم�س ب�شكل مبا�رش يف يف السياسة ،مناف�سة احلركات االجتماعية-ال�سيا�سية على والء القادة وعن االسالم املحليني وجماعات النا�شطني (بيرتا�س .)1997فيما والـ«ان جي اوز» .يعتربها �آخرون � ّألي ِ ين �سخرة لـ «خلق ات ُم ّ جمتمع مد ّ ٍ اخلارجي» (�سام�سون -121 :1996 عرب التدخل ّ يل بني الـ«�إن جي �أوز» ،)42م�شريين �إىل الدمج الإ�شكا ّ عدد من الدرا�سات على واملجتمع املد ّ ين بحد ذاته .ويركّ ز ٌ ال�سلبي للـ«�إن جي �أوز» على احلركات االجتماعية الأثر ّ (بيرتا�س ،1997هان ،)1996الكت�شاف �أثر ما �سي�صطلح على ت�سميته بـ «التنجيز»�( 1ألفاريز )1998 ُ االجتماعي. والفعل احلراك على ّ كثري من الباحثني �أن انت�شار الـ«�إن جي �أوز» ويرى ٌ مدين ناب�ض يف ال�رشق الأو�سط �إ�شار ٌة �إىل وجود جمتمع ٍّ مغدم باحلياة (نورتون 1995؛ �إبراهيم 1995؛ َّ .)1997فالـ«�إن جي �أوز» ال ترتافق مع �سمات «دمقرطة» االجتماعي بحد ين فح�سب ،بل مع احلراك املجتمع املد ّ ّ ٌ ذاته كذلك :ترابط ي�سعى هذا املقال لطرحه للم�ساءلة� .إذ لتتبع �أثر انت�شار الـ«�إن جي �أوز» على �إن جهد ًا قلي ً ال ُبذل ّ ترجمة: تدعي الـ«�إن يزن احلاج تر�سيخ احلركات االجتماعية املختلفة التي ّ
80
بدايات
العدد |5ربيع 2013
أكيد جي �أوز» متثيلها يف هذه املنطقة .كما مل يكن ثمة ت� ٌ على جناحها يف ح�شد اجلماعات املختلفة على تر�سيخ درا�سات معدود ٌة حول حقوقها .وبالقدر ذاته ،ركّ زت ٌ ال�رشق الأو�سط على كيفية ت�أثري وربط الـ«�إن جي �أوز» ٍ أ�شكال �أخرى من التنظيمات االجتماعية� ،سواء كان مع � ذلك على �شكل احتادات� ،أحزاب �سيا�سية �أو حركاتٍ ال. اجتماعية ت�ضم طالب ًا ،ن�ساء �أو عما ً يف ه��ذا امل��ق��ال� ،س�أعمد �إىل البحث الكت�شاف الفطري للـ«�إن جي �أوز» يف فل�سطني عواقب االنت�شار ّ وخ�صو�ص ًا تنجيز احلركات االجتماعية الفل�سطينية� .إذ ٍ اجلمعي الهم كعملية �أرى �أن التنجيز ّ يتحول من خاللها ّ ّ ٍ يتم تطبيقها بحيث العام ال�سياق عن منعزلة �إىل م�شاريع ّ دون �أخذ العوامل االقت�صادية واالجتماعية وال�سيا�سية امل�ؤثرة على هذه امل�شاريع بعني االعتبار ،مل تظهر نتائج تو�صل بحثي �إىل �أن تر�سيخه بعد .وبالتوازي مع ذلكّ ، الأجندة امل�ستندة اىل احلقوق للـ«�إن جي �أوز» الن�سائية �سلبي على طاقة التعبئة ملنظمات املر�أة كان له �أثر ٌّ نت اجلماهريية ،الأمر الذي خلق ،ب��دوره ،ف�سح ًة مكّ ْ ٍ �سلطوية اجلماعات الإ�سالموية من تثبيت نف�سها كقو ٍة الفل�سطيني. ين ومهيمنة يف املجتمع املد ّ ّ الـ«�إن جي �أوز» الفل�سطينية :تاريخ موجز �إن الدور الذي لعبته الـ«�إن جي �أوز» الفل�سطينية قبل اتفاقية �أو�سلو يختلف ب�شدة عن دورها يف مرحلة ما بعد �أو�سلو .فقبل ت�شكيل ال�سلطة الفل�سطينية ،كان املجتمع ّ الفل�سطيني َّ واملنظمات منظما داخل الأحزاب ال�سيا�سية ّ القاعدية اجلماهريية وحولها .وارتبطت الـ«�إن جي �أوز» ّ بتلك الأح��زاب حتت مظلة منظمة التحرير الفل�سطينية �شجعت الأحزاب واملنظمات التابعة لها (م ت ف) التي ّ
1التنجيز :NGOisationي�شري هذا امل�صطلح احلديث �إىل قدرة املنظمات غري احلكومية «�إن جي �أوز» على تفريغ خطاب وممار�سات احلركات االجتماعية من م�ضمونها ال�سيا�سي .وقد ّ ا�ستخدم عدد قليل من الك ّتاب هذا امل�صطلح ،لعل �أبرزهم الروائية والنا�شطة الهندية �أرونداتي روي حتدثت يف التي ّ ٍ منا�سبات متعددة عن «تنجيز ال�سيا�سة»، وبالأخ�ص «تنجيز مفهوم املقاومة»؛ �إ�ضاف ًة �إىل �سونيا �ألفاريز (املُ�شار �إليها يف هذا املقال) والتي ت�شغل حاليا من�صب ً �أ�ستاذ كر�سي لينارد هورويتز ل�سيا�سات �أمريكا الالتينية يف جامعة ما�سات�شو�ست�س �أمهري�ست. (املرتجم)
81
وقدمت لها الدعم املايل .وفيما ّمت منع (م ت ف ) و�أحزابها حد ما ،للمنظمات ال�سيا�سية من ِقبل �إ�رسائيل�ُ ،سمح� ،إىل ٍّ ٍ منظمات لت�أمني اخلدمة التابعة لها بالعمل� ،إذ ّمت اعتبارها العامة .ويف الفرتة بني نهاية انتفا�ضة 1987و�أو�سلو ،كان قطاع الـ«�إن جي �أوز» ُي�ستخدم باعتباره القناة الأ�سا�سية للم�ساعدات الأجنبية ،الأمر الذي ا�سهم يف ت�أمني اخلدمات وت�ضمن هذا الأمر العيادات واملدار�س �إىل عموم ال�سكان. ّ املدرة للدخل .فكانت النتيجة وريا�ض الأطفال وامل�شاريع ّ �أن مم ّثلي هذه الـ«�إن ج �أوز» �أ�صبحوا مهمني وحازوا على ٍ �سلطة �أكرب حتى من �أحزابهم الأم. حتول دور الـ«�إن جي �أوز» يف ال�ضفة الغربية وقطاع ولقد ّ غزة بت�أثريٍ من عملية بناء الدولة التي بد�أت �إثر م�ؤمتر مدريد عام .1991وتعد �آثار ديناميكيات بناء الدولة يف الأ�شكال ين هام ًة لفهم حقيقة املختلفة من التنظيم يف املجتمع املد ّ عملية كبح حراك املر�أة الفل�سطينية� .إذ �إن الديناميكيتني املزدوجتني لبناء الدولة والتنجيز �أدتا �إىل ٍ ّ الت�شظي مزيد من والكبح لكل احلركات االجتماعية .فدورة احلياة املحدودة �سماه تارو لـ«امل�شاريع» �أدت �إىل الت�شظي بد ً ال من خلق ما ّ يتم احلفاظ ( )1994بـ «الربط ال�شبكي امل�ستدام» ،حيث ّ ّ على الروابط بني االقت�صاد واملنظمات ٍ اعتيادي. بدفق ّ تعد ال��ـ«�إن جي �أوز» الن�سائية يف العامل العربي ّ بالن�سبة للبع�ض عوامل فاعلة هامة للتنمية والدمقرطة وبالتايل التحديث (قنديل .)1995ومع ذلك ،وبحكم تقدم �أجندة غربية اعتمادها على «عامل التمويل» ،فهي ّ وتكون مم ِّثلة لنخبة من الن�ساء (�شلبي 2001؛ حمامي 1995؛ حنفي وطرب ،)2002ويف ما يخ�ص الثقافة االجتماعي ) تقوم الـ«�إن جي �أوز» ،بح�سب (والتغيري ّ
�إذ �إن التنجيز ،بحد ذاته ،ميلك بعد ًا ثقافي ًا وقيم انت�شارٍ ت�شجع على االتكالية ،واالفتقار اىل االعتماد على الذات، والرتويج لنماذج جديدة لال�ستهالك .فمن ال�شائع �أن تقر�أ ٍ ن�شاطات اجتماعية يف �إعالنات ال�صحف الفل�سطينية عن جماعية َّ منظمة من قبل جمموعات من ال�شباب ،مثل تنظيف ال�شوارع وزراعة الأ�شجار والر�سم على اجلدران مذيل ًة ب�شعار �صغري ي�شري �إىل ا�سم املتربع وما �إىل ذلكّ ، يالحظ �أن كثري ًا من �أن�شطة كما امل�شاريع. مول هذه َ الذي ّ الـ«�إن جي �أوز» ُتعقد يف فنادق فارهة ،التي تقدم � ٍ أطعمة باذخة ،وتوزع مواد ّبراقة ،وت�ستعني ب�شباب «مت�أنقني» للم�ساعدة يف تنظيم احلدث �أو الن�شاط ،الأم��ر الذي التدريجي لل�صورة «القدمية» للنا�شط �أدى �إىل االختفاء ّ االعتيادي بلهجته ومظهره القرويني. ّ ٍ ب�شكل �أكرب بالأبعاد مهتم املقال هذا حال، أية � وعلى ٌّ ال�سيا�سية للتنجيز مبا هو عملية ِ تدخل اي�ضا تغيريات يف تكوين احلركات الن�سائية النخبوية (غويتز .)1997ففي احلالة الفل�سطينية ُيعترب بروز الـ«�إن ج �أوز» وعملية التنجيز ٍ النتقال يف عالقات القوة :من «متكني» الن�ساء م�سببان �أنهما ِّ ِ عليهن من قبل على م�ستوى القاعدة �إىل «اال�ستقواء» ّ النخبة اجلديدة (جاد .)2004ومع اعتبار الـ«�إن جي �أوز» والـ«ت�شاركي» بني الداعمني ذوي النوايا للـ«التقدمي» مرادف ًا ّ ّ احل�سنة للـ«�إن جي �أوز» الدولية املعروفة ،فهذا الرتابط جمرد ووهم يف �أ�سوئها. تفكري متفائل يف �أف�ضل الأحوال ٌ ن�شوء «جمتمع مدين» فل�سطيني جديد تمُ ِّيز الـ«�إن جي �أوز» ،التي انت�رشت يف مرحلة ما بعد �أو�سلو ،نف�سها عن الأ�شكال الأقدم التي كانت تندرج
ّمت اختطاف الأجندة الوطنيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة بعد االنتفا�ضة الثانيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة من قبل الـ«�إن جي �أوز» الدوليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة والدول االجنبية واملانحني الأجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــانب الذين ركّ زوا على جمموعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة حمددة من الق�ضايـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا تخ�ص بناء عملية ال�سالم وت�سوية النزاعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات ّ البع�ض ،ب�إعادة �إنتاج البنى االجتماعية البطريركية ال من تغيريها (جوزيف .)1997وقد ال والع�شائرية بد ً تكتفي الـ«�إن جي �أوز» بالإ�سهام يف كبح العنا�رص الأقل «ت�شاركية» يف الثقافة االجتماعية وال�سيا�سية القائمة، بدايات
العدد |5ربيع 2013
حتت اجلمعيات اخلريية �أو الأطر اجلماهريية ،التي كانت لها بني ٌة ،وخطاب وقادة وم�شاريع و�شبكات خمتلفة كلي ًا (تركي 1989؛ �شلبي .)2001كانت املنظمات اجلماهريية الأق��دم بنى منفتحة ذات �أجندات �شعبية
2منا�ضل طائرة اجلت Jet-setting Militants:
ظهر م�صطلح «�أنا�س طائرة اجلت» للداللة على امل�شاركني الدائمني يف الن�شاطات وامل�ؤمترات الباذخة، وعلى جماعة الأغنياء املوجودين ٍ كتجمعات دو ًما يف تلك امل�ؤمترات (حيث يتنقّلون عرب الطائرة اخلا�صة من اجتماع لآخر). ٍ وقد دخل هذا امل�صطلح �إىل التداول كبديلٍ عن امل�صطلح الأقدم «جمتمع املقهى»
Café Society.
(املرتجم)
82
ٍ ممكنة من الطالب والعمال ت�سعى حل�شد �أكرب �رشيحة والن�ساء وال�شباب يف تنظيمات تخدم كل هذه القطاعات (هلرتمان ،)1990فيما تن�شط املنظمات الأحدث يف املدينية وتكون املدن وتديرها نخبة من الطبقة الو�سطى ّ ٍ كيانات �أ�صغر من �سابقاتها تعتمد على متويل �أجنبي. القاعدية اجلماهريية منذ بداية بد�أ انهيار املنظمات ّ الت�سعينيات ،حيث كان مرتبط ًا بانهيار ما ت�سميه فيفيان (« )2004ال�سيا�سات امل�ؤ�س�ساتية»� ،أي ال�سيا�سات ار�س من خالل م�ؤ�س�سات كاالحتادات النقابية التي تمُ َ والأح��زاب .و�أطلقت عملية ال�سالم عملية بناء الدولة التي �أ�صبحت فيها �أجندة اجلندر بيدق ًا بيد الباحثني عن �أ�سا�س جديد لل�رشعية بعد انق�سام �أحزابهم بني الراغبني ٍ ت�شكيل تلفيقي يف بناء جمهور جديد لهم والراغبني يف ٍ ٍ جديدة بني العموم عرب االدعاء �أن الدولة �ست�ستند لف�سحة َ املواطنة وحقوق املر�أة .ومع �أوا�سط الت�سعينيات ،مل اىل لت ر�ؤية جندرية متما�سكة. تكن حركة حما�س قد �شكّ ْ ومع ذلك ،عرب توجيه نريانها اىل �أية جماعة �أو منظمة ميكن �أن تزعم تغيري ال�رشيعة ،اطلقت احلركة حملة َّ منظمة لال�ساءة اىل �سمعة املنظمات الن�سائية التي ّتتبع منهج االعتماد على احلقوق ،واىل نزع �رشعيتها، ومعها كل املنظمات الن�سائية الأخرى .يف تلك الأثناء، كانت الـ«�إن جي �أوز» اجلديدة تنازع الأ�شكال القدمية للمنظمات القاعدية اجلماهريية على ال�رشعية واملوارد والف�ضاء يف االماكن العامة. مل يكن االنتقال من تب ّني الأجندة اجلندرية �إىل االهتمام املتجدد بالأجندة الوطنية معتمدا على ارتباط م�ستمر باجلماهري الفل�سطينية �أو ب�أي انغما�س يف الن�شاط الوطني ،بل كان ذلك ب�سبب الـ«�إن جي �أوز» الدولية وغريها من الالعبني الدوليني الذين كان �وري يف اختيار نظرائهم الفل�سطينيني لهم دور حم� ٌّ ممّن انتقوهم بعناية للتحدث با�سم امل�صلحة الوطنية الفل�سطينية .ولقد ّمت اختطاف الأجندة الوطنية ب�شكل فعلي ،بعد االنتفا�ضة الثانية ،من قبل الـ«�إن جي �أوز» الدولية وال��دول االجنبية واملانحني الأجانب الذين تخ�ص بناء ركّ زوا على جمموعة حمددة من الق�ضايا ّ عملية ال�سالم وت�سوية النزاعات وق�ضايا مماثلة �أخرى. ولقد خلقوا جمهورا يتكون من جماعات ب�أكملها باتت هي املحاورة للوكاالت الدولية. ترافقت احلاجة لالخت�صا�صيني – �أو «املخت�صني» املحلي – مع تنامي �شاطات املنظمات بح�سب اال�صطالح ّ بدايات
العدد |5ربيع 2013
ٍ بحاجة �إىل الن�سائي الن�سائية .وكان النا�شطون يف املجال ّ ٍ ٍ اخت�صا�صية «لدفع عملنا اىل امام» :ولقد مبهارات �أ�شخا�ص ّمت تزويد االخت�صا�صيني يف جمال�س الإدارة ويف الإدارات مب�صالح خمتلفة ور�ؤية بديلة .و�شهدت الفرتة بني عامي الن�سوية .وطرح 1988و 1994انت�شار ًا للمنظمات ّ العدد املتنامي للم�ؤ�س�سات خطاب ًا جديد ًا بخ�صو�ص ومكانتهن ،ولكن يف اطار من االنهيار امل�ستمر الن�ساء ّ «االخت�صا�صي» الن�سائي .وكان التمايز بني للحراك ّ ّ و«ال�سيا�سي» �أحد العوامل التي �أ�ضعفت �أنواع املبادرات ّ التي كانت موجود ًة يف ما �سبق بني املنظمات الن�سائية يف فل�سطني .و�أدى التخ�ص�ص �إىل دفع امل�س�ؤولية نحو الأعلى ال نحو الأ�سفل؛ نحو الإق�صاء ال االحتواء؛ كما �أن «الت�سل�سل الهرمي» يجلب البريوقراطية معه .وكما يالحظ فريدمان ،فبالنتيجة «ت�سعى ال�سلطة لالنتقال نحو الأعلى ،في�سود التخ�ص�ص (الذي يكون نازع ًا لل�سلطة ب�شكل دائم تقريب ًا)» (.)142 :1992 يف تلك الفرتة ،ك��ان ثمة طلب متزايد من قبل ٍ �صوت منظمات املر�أة وحقوق الإن�سان الدولية لت�ضمني فل�سطيني يف ن�شاطاتها .وقد �أدى هذا �إىل ما يدعوه ٍّ الفل�سطينيون بـ«منا�ضلي احلقيبة» �أو «منا�ضلي طائرة ال كثريٍ ًا اجلت» . 2وفيما �شهدت االنتفا�ضة الأوىل انف�صا ً من القادة الن�ساء عن املنظمات القاعدية اجلماهريية يل (عرب امل�شاركة يف كثريٍ من ل�صالح املجتمع ال��دو ّ الن�شاطات وامل ��ؤمت��رات) �شهدت االنتفا�ضة الثانية
تنجيز الأجندة الوطنية الن�سائي منغم�سني ب�شكل كبري كان النا�شطون يف املجال ّ يف احلركة الوطنية الفل�سطينية منذ البداية .ولقد �سعوا العربي �إىل حتريك الر�أي العام� ،سواء كان ذلك يف العامل ّ �أو يف عموم العامل ،لدعم حقوقهم الوطنية يف اال�ستقالل الذاتي .ومتت ا�ستعادة هذا الدور يف ما بعد عرب واحلكم ّ ٍ أ�سا�سي خارج ب�شكل � االحتاد العام للمر�أة الفل�سطينية ٍّ الأرا�ضي املحتلة .وخالل االنتفا�ضة الفل�سطينية الأوىل وانتقال مركز ال�رصاع �إىل الأرا�ضي املحتلة ،حملت احلركات الن�سائية الفل�سطينية على عاتقها هذا الدور ٍ جمهز ًة ب�شكل كبري ،حيث كانت يف الأرا�ضي املحتلة َّ ٍ اليومي يف ظل ب�شكل �أمثل للتعبري عن معاناتها وواقعها ّ إ�رسائيلي. ال�سيا�سات التي متار�سها قوات االحتالل ال ّ وعلى �أية حال ،فابتدا ًء من الت�سعينيات ،بد�أت �آثار بالتو�ضح �ضمن ت�شكيل الأجندة الوطنية .وقد التنجيز ّ كانت هذه املكانة مقبول ًة لأن بع�ض �أكرب ممويل الـ«�إن ٍ «�رشوط اللياقة ال�سيا�سية» جي �أوز» الفل�سطينية �أكدوا يف حماولة لف�صل هذه املنظمات عن ال�سيا�سة .وجمدد ًا، �سيكون احلديث جمرد �إفراط يف التب�سيط فيما لو اعتربنا الـ �إن جي �أوز متل ّقني �سلبيني ،وب�أن املمولني ،بكل ب�ساطة، يتبعون �أو ينفذون �سيا�سات حكوماتهم .ودار جدلٌ ب�أن ّ
كان خطـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاب الـ �إن جي �أوز يُ�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتخدم خللق ف�ضا ٍء يف املجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــال العام على ح�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاب املنظمات القاعديّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة اجلماهريية القدميــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة
ُت�ؤخذ كثري من القرارات ال�سيا�سيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة املتعلقة بق�ضايا حموريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة ترتبط بالالجئني ،القد�س� ،أ�شكــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــال املقاومة ،و�شكل الدولة امل�ستقبليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة يف امل�ؤمترات يف املجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــال الدويلّ دون ا�ست�شارة �أحد يف البـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالد
ال �إىل قادة «�إن جي �أوز» ممثلني ل�صوت «املجتمع انتقا ً الفل�سطيني .ومن خالل حتليل هذا االنتقال، ين» املد ّ ّ ي�سميانه بروز «نخبة ُمعوملة» ي�شري حنفي وطرب �إىل ما ّ ٍ فل�سطينية �أكرث ارتباط ًا بالفاعلني الدوليني �أي الـ«�إن جي �أوز» واملمولني باملقارنة مع ال�رشائح االنتخابية املحلية، حيث متيزوا بكونهم تابعني لأجند ٍة دولية ،داعمني لعملية ال�سالم ،مدنيينّ واخت�صا�صيني (حنفي وطرب .)2002 وقد لوحظ ب�أن «النخبة املعوملة» �أ�سقطت النخبة القدمية
الـ«�إن جي �أوز» املحلية ،عالو ًة على املمولني الدوليني، متلك ف�سح ًة للتفاو�ض على عالقاتهم املتبادلة .فعلى �سبيل املثال ،يقول كوهني وكوماروف ب�أن الـ«�إن جي �أوز» «ال ٍ عالقات من خالل �إقناع تلبي حاج ًة ،بل ُتفاو�ض على ّ الأطراف الأخرى ،اي املنظمات ،الأحداث والعمليات تت�رصف ك�سما�رسة للمعاين» (كوهني وكوماروف [ ]...ب�أنها ّ مقتب�س يف هلهور�ست .)191 :2003 َ 88 :1976 ٍ وبغية �صياغة � ٍ أ�سا�س جديد لل�رشعية ـ متمايزٍ عن ذاك
(اجلمعيات اخلريية والأن�شطة القاعدية الن�سائية) ،من ٍ التنظيمي. و�سباق عل اال�ستمرار خالل عملية تناف�س ّ
83
بدايات
العدد |5ربيع 2013
املكت�سب من خالل م�شاركة القادة القاعديني للحركات الوطني � -أفرط النا�شطون اجلدد الن�سائية يف الن�ضال ّ (قادة املنظمات غري احلكومية) يف ا�ستخدام لغة «اخلربة ّ املطلعة» ويف ارتباطاتهم مع املتربعني الدوليني .و�أ�صبح من املعتاد �أن ت�سمع ،يف هذه اللقاءات ،عن عدد ممثلي الدول املهمني ووكاالت الأنباء الذين التقوا به�ؤالء القادة الن�سائيني اجلدد ،وعن عدد اجلوائز الدولية التي نالوها وتقدم املر�أة .ورغم بف�ضل جهودهم يف «عملية ال�سالم» ُّ قابل ذلك ،مل تكن هذه اللغة مقنع ًة للقادة القدماء ،بل و ُت َ �أحيان ًا بال�سخرية ،على حد تعبري �أحد القادة «القدماء»: «حني كنا ّ ننظم املظاهرات ،كانوا يوقفون �سياراتهم �أمام ويخرجون �شعاراتهم ويقفون يف ال�صف التظاهراتُ ، الأول ليتم ت�صويرهم .لعل مبقدورهم ت�سويق هذا للخارج، ي�صدق ذلك يف الداخل». ولكن مل يكن ثمة من ّ م�رشوع االجتماعي �إىل حتولت الدعوة للتغيري ٍ لقد ّ ّ ٍ ٍ وميزانية حمدود ٍة ينبغي �أن زمني، وجدول زي وخطة، ّ ٍ متويل �أكرب. يكون «مملوك ًا» بهدف الرتويج له وت�أمني ويتفاقم هذا الأمر مع «متالزمة الر�صا�صة ال�سحرية» (فيفيان :)1994الر�أي املنت�رش بني �أع�ضاء الـ«�إن جي �أوز» امل�س�ؤولني عن ت�صميم و�إنتاج وترويج امل�شاريع ب�أن عليهم �إثبات جناحهم فيما لو �أرادوا احلفاظ على متويلهم. وثمة الزم ٌة مرتافق ٌة مع متالزمة الر�صا�صة ال�سحرية هي مبالغ جناح نزع ٌة لتمويه الأخطاء وتقدمي امل�رشوع كق�صة ٍ ٍ ناق�ص بها� .إن التف�سري املعتمد ح�رصي ًا على �ضغط املتربع ٌ
على �أية حال� ،إذ ميكن اعتبار الـ«�إن جي �أوز» �إ�سهام ًا يف ق�ص�ص جناح املمولني .وحني يكون املمولون ُمنقادين مبنطق فعالية �أموالهم ،فالـ«�إن جي �أوز» منقاد ٌة ب�رضورات التخ�ص�ص والرتويج� .إنه «منطق امل�رشوع» �إذ ًا ،وتنجيز االجتماعي وامل�شاركة ال�شعبية، الق�ضايا املرتبطة بالتغيري ّ و�ضع تكون فيه هذه ما ينبغي التدقيق فيه .ولي�س ثمة ٌ احلالة يف �أق�صاها �أكرث مما يتعلق بالن�شاطات املرتافقة بـ«ال�سالم» يف هذه املنطقة.
يكون االخت�صا�صيون املحليون على م�ستوى التوقعات، االفرتا�ضي» تتزايد فر�صهم لي�صبحوا جزء ًا من «املجتمع ّ (كا�ستيلز )1996الذي يخلق طريقا للمهنة قامت ب�ش ّقه تلك املنظمات ذات التوجهات الإن�سانية التي ت�صوغ ثقافتهم ونظام �إميانهم .ويت�ضمن هذا النظام �إميانا ً الب�رشي يف م�س�ؤولية احلكومات مبركزية التنمية للتقدم ّ عن ترويجها ،يف احلاجة للم�ساعدة التنموية الدولية لدعمها ،يف تعريف التنمية بح�سب ال�رشوط «الإن�سانية» ال االقت�صادية (�أو ال�سيا�سية) (ت�شابوت .)1999وبذا، ال تكون ال�صلة مع املانحني الدوليني طريق ًا باجتا ٍه واحد، ٍ �شبكة من بل يتفاعل املانحون واملمثلون املحليون يف العالقات الأكرث تعقيد ًا من جمرد فر�ض طرف ما �إرادته على الآخ��ر .هذا ال يعني ب�أن للطرفني ال�سلطة ذاتها، ٍ إ�شكالية يف ال�صالت بينهم لتت�ضمن بل ملجرد �إيجاد � امل�صالح ال�شخ�صية ٍ لكل من املانح واملتل ّقني مما يعطيهم ال�سلطة لتحديد ما ينبغي الأخذ به وما ينبغي تركه.
نظام احلكم العاملي .وتقول ب�أن ه�ؤالء املمثلني الدوليني ٍ متزايد على دور أكيد قاموا بتطوير «خطاب ٌ تنمية ،فيه ت� ٌ العوامل اخلارجية يف التنمية الوطنية ،ويقوم ،يف الوقت ٍ ف�ضاء الذاتي للدولة وخلق ذاته ،بتحقيق اال�ستقالل ّ للمثلني غري املرتبطني بالدولة يف التنمية» (.)238:1999 واين �أجادل ب�أنهم ،عالوة على قدرتهم على �إقناع املتربعني الدوليني ب�أهمية عملهم ،ينغم�س «نا�شطو ال�سالم» ،بالقدر ذاته ،يف هذه العملية مدفوعني مب�صاحلهم الذاتية .وارى ان اال�شتغال يف ن�شاطات «عملية ال�سالم» قبل كثريٍ من ال��ـ«�إن جي �أوز» ،بعيد ًا عن ق�ضية من َ ح�صولها على التمويل ،يدعم رغبتها باكت�ساب املزيد من ال�سلطة وال�رشعية� ،إذ قد ي�سهم ن�شاط «عملية ٍ �سلطة لنخبة ال�سالم» ،يف نهاية الأمر ،يف ت�شكيل قاعدة الـ«�إن جي �أوز» للو�صول �إىل مواقع �صنع القرار �سواء يف ال�سلطة الفل�سطينية �أو يف قيادة احلركات الن�سائية الفل�سطينية وغريها من احلركات الأخرى.
املربمج مب�شاريع ال�سالم َ الب�رصي لـ «عملية ال�سالم» (امل�صافحة بني ترافق املظهر ّ رابني وعرفات يف حديقة البيت الأبي�ض عام )1993 بغزار ٍة مع امل�شاريع املتمحورة حول ت�سوية النزاع، معايري بناء ال�سالم ،بناء الثقة« ،توليد عملية ال�سالم»، ٍ ممولة من متربعني دوليني .وعاد ًة و«املفاو�ضات املوازية» ٍ ٍ ما تت�ضمن هذه امل�شاريع ،املكتوبة ب�إنكليزية تقنية عالية، نا�شطني يف �ش�ؤون امل��ر�أة يف م� ٍ ؤمترات ب�أوروبا �أو يف اللقاءات الأمريكية مع �إ�رسائيليني ،بهدف حتطيم احلواجز النف�سية ،دفع الن�ساء �إىل �صنع القرار ،وتقوية املفاو�ضات املوازية املعتمدة على اجلندر .ويف معظم احلاالت كان اختيار النظراء املحليني يقع على عاتق املمثلني الدوليني. ُت�ؤخذ كثري من القرارات ال�سيا�سية املتعلقة بق�ضايا حمورية ترتبط بالالجئني ،القد�س� ،أ�شكال املقاومة ،و�شكل يل دون الدولة امل�ستقبلية يف امل�ؤمترات يف املجال الدو ّ ا�ست�شارة �أحد يف البالد .قد يجادل البع�ض بعدم وجود نظري لال�ست�شارة .قد يكون هذا �صحيح ًا ،وبالفعل ف�إن كثري ًا من املمثلني الذكور يف املجال الدو ّ يل ال ي�ست�شريون االخت�صا�صيون اجلدد �أح��د ًا «يف البالد» .ولكن االختالف يف ن�شطاء الـ«�إن لقد �أنتج اجل َْمع بني التعليم وخ�برة العمل ك��ادر ًا من جي �أوز» الفل�سطينية هو �أنهم غري مدعومني من � ّأي ممث ٍل االخت�صا�صيني الدوليني يف التنمية ممن يق�ضون جلّ �رشعي يف ال�سلطة الفل�سطينية �أو املجتمع �سيا�سي املدين ،حياتهم العملية يف �سل�سلة من التكليفات يف العوا�صم ٍّ ٍّ ّ ٍ ٍ ٍ حزب أو � انتخابية �رشيحة أية � إىل � ينتمون ال �إذ هم �سيا�سي الكربى العاملية وعوا�صم البالد منخف�ضة الدخل .وتقرتح ٍّ وادعاء امل�ؤهالت والتخ�ص�صات الن�سوية هو كارابيكو �أن ه�ؤالء االخت�صا�صيني �أ�صبحوا منف�صلني �أو منظماتّ . املعيار ال ال للم�شاركة يف بدرجة ما عن بالدهم الأ�صلية؛ �إذ قد تكون �آرا�ؤه��م أ�سا�سي لكي يكون املرء م� ّؤه ً ّ ٍ وقنوات ، فية بحر املكتوبة التقارير وتعد ؤمترات. هذه امل� امل�رشعني واملواطنني م�صالح عن ا كلي ة خمتلف وم�صاحلهم ً ً ّ َ ميولون منظمات التنمية الدولية. التوا�صل ال�سهلة والفعالة هام ًة يف هذا ال�سياق .وعلى االعتياديني الذين ّ مموليهم ،يجدون �أية حال ،ف�إن بع�ض نخب هذه الـ«�إن جي �أوز» يفتقرون ومع احلفاظ على تلك امل�سافة عن ّ ٍ ٍ للتدريب �شخ�صية إغ��راءات فريد ًة ملمار�سة امتيازات ال�سيا�سي كقاد ٍة نا�شطني ،الأمر الذي ي�ؤثر ،يف فر�ص ًا و� ّ كثريٍ من الأحيان ،على �رشعيتهم يف البالد. واخت�صا�صية� .إن ه�ؤالء االخت�صا�صيني ،ال ال�سيا�سيني �أو �إن انت�شار �أنواع حمددة من امل�شاريع يرتبط عاد ًة الدبلوما�سيني الوطنيني ،هم من �أ�س�س اخلطاب التنموي م�سودات وكت َب تقارير الأمم املتحدة ،وو�ضعو ب�سلطة جماعة املتربع يف الإمالء �أو الت�أثري على �أجندات الدويلَّ ، ّ و�صمم اال�سرتاتيجيات الـ �إن جي �أوز املحلية (كوينربت و�سنغر 1996؛ الت�رصيحات يف امل ��ؤمت��رات، ّ ويدعي البع�ض �أن تدفق الالحقة للم�ؤمترات و�ساعد ال��دول-الأمم اجلديدة على بنتو-دو�شين�سكي ّ .)1991 مثل هذه امل�شاريع ال يعك�س بال�رضورة �سيا�س ًة ممنهج ًة تغيري �سيا�ساتها التنموية الوطنية (كارابيكو .)2002 من قبل الـ«�إن جي �أوز» واملتربعني الدوليني .فمجتمع ومع حيازتهم ل�سلطة الـ«�إن جي �أوز» الدولية ،قد ٍ املتربع الدو ّ متويل يل لي�س متناغم ًا ،بل مرتبط مب�صالح ،ر�ؤى ،يظن املرء �أن مبقدور بع�ض هذه ال�سلطة تقدمي ّ و�سيا�سات متباينة .وعلى �سبيل املثال ،تقرتح ت�شابوت مقطر ومزيد من النفوذ لالخت�صا�صيني املحليني «للقيام االخت�صا�صي»� ،أي �إجن��از خطة امل�رشوع، ( )1999ب�أن ثمة اخت�صا�صيني دوليني يف التنمية بالعمل ّ ا�ستخدموا م�صاحلهم ال�شخ�صية ،املختلفة عن م�صالح والرتويج والتقييم ،على الأر�ض .وتتزايد قوة العالقات االخت�صا�صي .ومبقدار ما املمول مبقدار جودة العمل مموليهم ،لتحقيق دورٍ �أكرب للـ«�إن جي �أوز» الدولية يف مع ّ ّ
84
بدايات
العدد |5ربيع 2013
مالحظات ختامية ٍ يف التحليل ال�سابق� ،أجادل ب�أن التخ�ص�ص ،كجزء من ٍ م�شاركة �أكرب لـ«اجلماعات عملية التنجيز ،قد ال يقود �إىل امل�ستهدفة» �أو م�ستوى القاعدة اجلماهريية .فـ«منطق َ امل�رشوع» يدفع ُق ُدم ًا نحو الأعلى باجتاه امل�شاركة العمودية ،ال نحو الأ�سفل باجتاه امل�شاركة الأفقية ،وقد يقود �إىل تركيزٍ �أكرب لل�سلطة يف يد الإداريني .وي�ؤدي االجتماعي �إىل التنجيز �إىل حتويل الدعوة للتغيري ّ ٍ م�رشوع ٍ زمني ،وميزانية حمدودة يكون بخطة ،جدول ّ «مملوكا» للرتويج ،وي�ستخدم لأغرا�ض امل�س�ؤولية وجها ً لوجه مع املمولني .وقد ي�ؤدي تركيز ال�سلطة هذا �إىل كبح ٍ حاجة م�ستمرة الرتباط اجتماعي يكون يف انت�شار حراك ّ يومي ال�شبكي ،الت�أنيّ ،واحل�شد ،ويعتمد على ات�صال ّ ٍّ ٍ و�صالت �شخ�صية� .إن عملية االنت�شار هذه م�سته ِلكة ٍ زمني ،ال �سيما جدول للزمن و�صعبة على االحتواء يف ّ يف الو�ضع دائم التغيرّ يف فل�سطني .ويف هذا ال�سياق، قام التخ�ص�ص ومنطق امل�رشوع بتقدمي قاعدة �سلطة جديد ٍة لنخب الـ«�إن جي �أوز» النتقاء ق�ضايا املر�أة التي ينبغي دفعها �أمام االهتمام العام .وي�ؤدي نق�ص الوعي عند اخت�صا�صيي الـ«�إن جي �أوز» يف القوى الفاعلة ين واملجال العام �إىل املجازفة ب�إ�ضعاف يف املجتمع املد ّ ٍ ٍ الدعوات �إىل عالقات جندرية �أكرث اتزان ًا ،وتر�سيخ ين. املزيد من املمثلني املحافظني يف املجتمع املد ّ
85
بدايات
العدد |5ربيع 2013
وغالب ًا ما يتم تقدمي الـ «�إن جي �أوز»كمتل ّقني �سلبيني اخلارجي ،حتت رحمة ميول املتربعني .ولكن حتليل للت�أثري ّ الـ «�إن جي �أوز املعتمدة على التربعات» يف فل�سطني يو�ضح الدرجة التي و�صل �إليها ممثلو الـ«�إن جي �أوز» يف امتالك ال�سلطة للتالعب� ،إعادة التفاو�ض ،و�شرَ ْ َع َنة �أجندات املتربعني ،م�ستخدمني املبالغ املخ�ص�صة لل�سالم لتو�سيع �أجنداتهم اخلا�صة� .إنهم جزء من «نخبة معوملة» وبذلك يكونون مرتبطني بالالعبني الدوليني وتابعني لأجندات دولية .وقد �أثبتت هذه ال�صالت حمورية حمول ًة دورها يف «تنجيز» الأجندة الوطنية يف فل�سطنيِّ ، ٍ ودولة ذات �سيادة الذاتي �إياها من ن�ضال لتحقيق احلكم ّ ٍ خا�ضعة لتمويل املتربع ،بحيث يلعب �إىل «م�شاريع» املتربعون دور ًا حموري ًا يف انتقاء نظرائهم املحليني. ٍ كنتيجة ل�صعود ال��ـ«�إن جي �أوز» ككلمة وما نراه ط ّنانة تنموية هي نزعة لتخطئة � ّأي وكلّ منظمة تتبنى هذا امل�صطلح العتبار نف�سها تقدمية ودميقراطية .ويف حالة فل�سطني ،كان خطاب الـ«�إن جي �أوز» ُي�ستخدم خللق ٍ القاعدية ف�ضاء يف املجال العام على ح�ساب املنظمات ّ اجلماهريية القدمية .وقد �أعادت �صياغة الأ�سا�س «القدمي» لل�رشعية القائم على املقاومة والت�ضحية ك� ٍ أ�سا�س لتبعية الكلي ال يف ال�سياق املر�أة وعزلها .وقد �ساهمت قلي ً ّ وال�سيا�سي باملقارنة مع رغبات االقت�صادي االجتماعي، ّ ّ ّ املتربعني والنخب الذين كانوا ي�سعون لدفع النمو ّ املت�سارع لهذه املنظمات يف هذا الو�ضع .ومبواجهة هذه اخللفية� ،أ�ؤمن ب�أن الـ«�إن جي �أوز» الن�سائية واخلطابات اجلديدة التي جلبوها �إىل الف�ضاء العام قد عملت–و� ْإن ٍ متعمد – لنزع ال�سلطة ،وتقوي�ض ال�رشعية ب�شكل غري ّ ّ ين والت�سبب يف ت�شظي املمثلني العلمانيني للمجتمع املد ّ ّ وحركاتهم يف فل�سطني. ومبواجهة كل االفرتا�ضات املنت�رشة يف دوائر التنمية الدولية القائلة ب�أن الـ«�إن جي �أوز» �أقرب اىل «ال�شعب»، ق��ادرة على خماطبة اجلماهري على م�ستوى القاعدة وحمرك للدمقرطة والتنمية ،تبدو احلالة الفل�سطينية مثل منب ٍه �شديد للحاجة �إىل الذهاب �أبعد من الكلمة الط ّنانة ِّ ٍ طويلة وحاد ٍة �إىل ما يحدث بحد ذاتها ،والت�أمل بنظر ٍة ّ طرحت هنا ،مبا �أن تنجيز احلركات الن�سائية فعلي ًا .وكما ُ الفل�سطينية وا�ستخدام الـ«�إن جي �أوز» الن�سائية كعملة تروجه الـ«�إن جي �أوز» الدولية قد يف احلديث الذي ّ �ساهم يف تنامي ال�سلطة وال�رشعية للإ�سالمويني ،فمثل هذه النتيجة كافي ٌة ليكون هذا االحرتاز �رضوري ًا.
فالواقع هو �أن «عملية �أو�سلو» �أع��ادت �إنتاج فئات طبقية جديدة من النخب الإقت�صادية -ال�سيا�سية - االجتماعية املفرغة من امل�ضمون ال�سيا�سي الوطني، والتي �أ�صبح دورها الأ�سا�س يتمثل يف تر�سيخ الوهم اجلماعي ب�أننا ن�سري على طريق حترير الأر�ض ونحو هدف التحرر االقت�صادي .وما �أحدثته هذه العملية من مفارقات هو ن�شوء حتالف ثالثي غري ر�سمي م�شكل من ( )1النخب ال�سيا�سية الر�أ�سمالية الفل�سطينية امل�ستحدثة ( )2املنظمات الفل�سطينية «التنموية» غري احلكومية ( )3الدعم ال�سيا�سي اخلارجي (الغربي) الذي توفره وك��االت امل�ساعدات العابرة للحدود القومية (�أو ما ي�سمى املانحني). ال ميكنني ان �أزعم �أن هذا التحالف هو بال�رضورة حتالف واع لذاته� ،أي �أنه حتالف خمطط له م�سبق ًا من قبل الأط��راف الثالثة املعنية .لكن ،وبا�ستمرار قبول الو�ضع الراهن الذي بني على فر�ضية داخلية مت الرتويج لها ،ومفادها عدم وج��ود �أي تناق�ض بني االحتالل اال�ستيطاين و«تنمية» املجتمع ،بل �أكرث من ذلك ،ب�أن هذه «التنمية املتخيلة» ال ميكن �أن حتدث �إال بقبول ا�ستمرارية هذا االحتالل كظاهرة طبيعية ،والتطبيع معها ،ي�صبح هذا التحالف الثالثي هادف ًا ومتعمد ًا .فكلما ازداد التقارب بني �أطراف هذا التحالف الثالثي �أ�صبحت ادع��اءات التنمية الر�سمية �أكرث �أ�سطورية وخداع ًا، �أي بعبارة �أخرى ،ي�صبح هدفها الأ�سا�سي هو تهمي�ش �أكرب عدد ممكن من النا�س. ما مييز هذا اال�ستعمار اجلديد حتت �سلطة «احلكم الذاتي الفل�سطيني» هو �أنه ال مييز فل�سطني املحتلة 1967عن باقي املناطق يف العامل التي �أخ�ضعت لهذا النوع من اال�ستعمار اجلديد ،ابتدا ًء من ال�سبعينيات من القرن املا�ضي ،و�ضمنت ا�ستدامته من خالل هيمنة قيادات حملية (تو�صف بالوطنية)� ،أفرزتها هذه العملية كمقوم �أ�سا�سي لنجاحها .وبالتايل ا�ستبدلت هذه «القيادات» رموز احلكم اخلارجي .ومبا �أن فل�سطني ما زال��ت فعلي ًا حتت قب�ضة اال�ستعمار اال�ستيطاين ال�صهيوين ،من املهم ،لفهم هذا التطور ب�شكل �أعمق ال ،حول و�أ�شمل� ،إعادة قراءة �أعمال فرانز فانون مث ً الدول امل�ستعمرة تقليدي ًا يف �أفريقيا ،والبلدان التي مت �إنهاء اال�ستعمار الأ�صلي ر�سمي ًا فيها ،لرنى �أن هذه التطورات فيها ،ت�شابه ب�شكل مذهل التطورات اجلارية حالي ًا يف فل�سطني املحتلة 1967يف القرن
«احلكم الذايت» يف فلسطني المحتلة تطبيقات يف الهندسة النيولربالية المعولمة
خليل خنلة يف كتابي اجلديد «فل�سطني :وطن للبيع»� ،1أتطرق �إىل نهج وعملية ت�سويقية �شاملة ،مت�شابكة ومتدحرجة ،تعم كاتب وباحث مناطق ما ي�سمى «احلكم الذاتي» الفل�سطيني ،يرتابط فلسطيين مستقل من فيها ال�سيا�سي واالقت�صادي والوطني ،من خالل النخب اجلليل يقيم يف رام ال�سيا�سية والر�أ�سمالية «الأو�سلوية» ،والفل�سطيني والعربي الله .مؤلفه األخري ،وال�صهيوين والغربي ،حملي ًا و�إقليمي ًا ودولي ًا .وبد�أ يظهر فلسطني :وطن للبيع هذا النهج ،يف جوانبه العملية و�إ�سقاطاته الفعلية ،على ( )2011الأقل منذ االجتياح الإ�رسائيلي الع�سكري للبنان يف العام ،١٩٨٢ abusama@palnet.comحني متخ�ضت الهجمة ال�صهيونية الأمريكية الإ�رسائيلية عن تقوي�ض منظمة التحرير الفل�سطينية وم�ؤ�س�ساتها ،وتفريغها وجتويفها من م�ضمونها الن�ضايل التحرري ،وحتويلها �إىل بريوقراطية �إدارية. وترجم هذا النهج فعلي ًا على الأر�ض ،قبل نحو ع�رشين وقعت منظمة التحرير الفل�سطينية مع الكيان عام ًا ،عندما ّ ال�صهيوين اتفاقات �أو�سلو ،وما حلقها من اتفاقات فرعية. وبهذا �أ�سهمت منظمة التحرير ،فعلي ًا يف ب�سط ا�ستعمار جديد على فل�سطني املحتلة .1967و�أ�صبح هذا اال�ستعمار اجلديد ممكن ًا حتت مظلة النيوليربالية املعوملة، التي فر�ضت بقوة على جمتمعات دول اجلنوب من خالل 1نخلة ،خليل، مراكز الر�أ�سمال الغربي وامل�ؤ�س�سات التمويلية العابرة «فل�سطني :وطن للبيع» ،رام الله: للحدود القومية ،وعلى وجه اخل�صو�ص� ،صندوق النقد م�ؤ�س�سة روزا �سوقا النيوليربالية بقوة يف الدويل والبنك الدويل اللذان ّ لوك�سمبورغ، .٢٠١١ �أواخر ال�سبعينيات و�أوائل الثمانينيات من القرن املا�ضي يف دول وجمتمعات �أمريكا اجلنوبية و�أفريقيا وال�رشق 2قرم ،جورج، حكم «العامل اجلديد :الأو�سط .وكما يقول جورج قرم يف كتابه اجلديد 2عن الإيديولوجيات، ّ منظري نيوليربالية ميلتون فريدمان من جامعة �شيكاغو البنى وال�سلطات «فمنذ ال�سبعينيات يعيث جي�ش من «اخل�براء» الدوليني املعاك�سة»، بريوت :ال�رشكة ف�ساد ًا يف كل مكان تقريب ًا ،نا�رشين الفقر والبطالة بوا�سطة العاملية للكتاب، � ،٢٠١٣ص .٤٠الو�صفات التي حملوا حكومات عديدة على تبنيها» .هذه
86
بدايات
العدد |5ربيع 2013
عملية ا�ستعمار جديد اقت�صادي -اجتماعي تتغلغل يف املجتمعات من خالل خ�صخ�صة اخلدمات االجتماعية الأ�سا�سية كال�صحة والتعليم والرعاية االجتماعية ،ورهن �شعوب هذه املجتمعات من خالل ت�سهيل احل�صول على القرو�ض وزيادة وتنويع �أمناط اال�ستهالك اال�ستعرا�ضي، وبالتايل زيادة م�ستويات املديونية والبطالة .ي�ؤدي ذلك �إىل زيادة �إفقار ال�شخ�ص العادي ،وخ�ضوع �أغلبية املجموعات ال�سكانية للنخب ال�سيا�سية واالقت�صادية املعوملة التي تتحكم بجل املوارد ال�سيا�سية واالقت�صادية ،بعيد ًا عن �أي تدخل للدولة يف املجال االقت�صادي. هذا هو «االختبار» ال��ذي ن�سري يف كنفه يف �إطار «احلكم الذاتي» ،كما �سارت فيه �شعوب �أخرى يف اجلنوب حتت م�سميات متنوعة ،م�رسورين ومتلهفني للو�صول �إىل «التنمية املتخيلة» يف ظل االحتكارات واال�ستغالل االقت�صادي� ،ساعني ،وللمفارقة� ،إىل الت�أكد كل �شهر من �أ�شهر ال�سنة «�إذا الراتب نزل على البنك»! ومن هنا ينبع قلقي العميق على م�ستقبل وطننا فل�سطني كب�ؤرة متململة قد ت�ضيق بنف�سها وتنفجر كجزء من وطننا العربي العري�ض .و�إذا كان لرتاكم اخلربات على مدى ال�سنني ،وترجمة درو�سها وحتويلها �إىل م�ستوى جمد من الفعل ال�شعبي التحرري� ،أية فائدة، فجاء كتابي هذا بالأ�سا�س لينحل من هذه اخلربات العرب التي قد ت�ساعدنا يف توجيه وتر�شيد فعلنا الن�ضايل للحفاظ على هذا الوطن و�صيانته. اال�ستعمار اجلديد يف كنف «العملية ال�سيا�سية الأو�سلوية» :كيف يعمل؟ �أناق�ش هنا ب�أن ادعاءات التنمية الر�سمية الفل�سطينية �أ�صبحت ادع���اءات جم��ت��ز�أة وم�شوهة وم�ست�أطرة.
87
بدايات
العدد |5ربيع 2013
الواحد والع�رشين .من هذا املنطلق الهام ،ال ميكن ان يقت�رص التحليل احل��ايل على فل�سطني «ال�ضفة والقطاع» كنموذج فريد من نوعه .حتليل هذه الظاهرة يجب �أن يكون ذا نطاق �أو�سع� :إنه حتليل للمظهر الذي �سيظهر به «االقت�صاد ال�سيا�سي لل�شعوب املقموعة»، �أو «االقت�صاد ال�سيا�سي لل�شعوب املحتلة» يف القرن احلادي والع�رشين املعومل ،لي�س فقط يف دول «اجلنوب» بل يف تلك «الرقع» من «اجلنوب» املتداخلة واملع�ش�شة يف دول «ال�شمال» الر�أ�سمالية. وي�ضطرنا هذا النهج ،بحكم التعريف� ،إىل تناول ال ،من جتربة الدرو�س الهامة التي ميكننا تعلمها ،مث ً جنوب �أفريقيا املمتدة منذ عام .1994حينها ا�ستبدل نظام الف�صل العن�رصي املنحل بفئة اجتماعية نخبوية من ال�سيطرة والقمع االجتماعي ،وبنظام لال�ستغالل ممار�س من قبل القيادة ال�شعبية لل�سكان الأ�صليني. ن�صبت نف�سها الحتالل هذا املوقع بدعم �صوري قيادة ّ واع من من ال�سكان املحليني ،وبت�شجيع وتخطيط ٍ م�ؤ�س�سات مراكز الر�أ�سمال العاملية املهيمنة .ومن مميزات هذين االختبارين يف التحول «التحرري» املزعوم: �إح�لال هيمنة خارجية ا�ستغاللية ب�أخرى داخلية ا�ستغاللية ،ولكنها مغ ّلفة ب�رسدية «حملية ن�ضالية وطنية» �أو «عرقية» ،نتاج ًا لعملية ن�ضال متوا�صلة؛ واملوجه من م�ضمونه الن�ضايل وجتويف امليثاق الناظم ّ التحرري من القمع واال�ستبداد االقت�صادي .ومثال على ذلك مترير م�سخ ميثاق منظمة التحرير الفل�سطينية بدفع من الواليات املتحدة الأمريكية وحتت �إ�رشاف رئي�سها، لت�سهيل قبول الكيان ال�صهيوين كظاهرة طبيعية ،و�إعادة هيكلة بنود «ميثاق احلرية» للحزب الوطني ) (ANCيف جنوب �أفريقيا لت�سمح بت�سلط الر�أ�سماليني ال�سود على املوارد االقت�صادية. التحديات التنموية املجتمعية: غياب ال�سيادة ال�سيا�سية واالقت�صادية والغذائية بعيد ًا عن الأ��شراك امل�ضللة واخلادعة� ،أو الت�سميات الت�سويقية املتمثلة بـ«احلكم ال��ذات��ي» و«احلكومة» و«ال����وزارات» و«ال�برمل��ان» �إل��خ ،ما زلنا نعي�ش يف ظل و�ضع تغيب فيه ب�شكل تام ال�سيادة ال�سيا�سية واالقت�صادية والغذائية احلقيقية ال املزعومة .وبعبارة �أخ��رى ،نحن نعي�ش اليوم يف حالة من الإذع��ان �إىل نظام م�ستمر من االحتالل الع�سكري -االقت�صادي،
�سواء كان مفرو�ض ًا ب�شكل مبا�رش من قبل قوة االحتالل اال�ستعمارية نف�سها� ،أو من خالل نظام ال�سيطرة املبني على التعاقد من الباطن املمار�س من قبل الفل�سطينيني �أنف�سهم .لذا ف�إن الق�ضاء على االحتالل اال�ستيطاين والف�صل العن�رصي ،الطبقي واالجتماعي ،املبا�رش منه واملتعاقد عليه ،ي�صبح �رشطا ً �رضوري ًا لتحقيق التنمية. يف الواقع ،يبدو �أكرث و�أكرث �أنه مت اخرتاع �سلطة احلكم الذاتي الفل�سطينية لتكون منوذج ّ حتكم للتجريب و�إعادة الهند�سة .ويبدو �أن جوهر هذه التجارب يدور حول ال�س�ؤال التايل :كيف ميكن �إعادة ت�شكيل وقولبة «دولة وطنية» ملفقة ومنزوعة ال�سيادة لت�صبح بحجم �رشكة حديثة �صغرية ميكن ال�سيطرة عليها ويديرها كبار املديرين التنفيذيني «ال�سيا�سيني» ( )CEOsوفئة املنظمات غري احلكومية التي �أعيد ت�سيي�سها وت�صميمها ،وينظمها ويحافظ على بقائها جهاز �أمن جيد التدريب.
و 3مليارات دوالر �أمريكي ،منها الديون الداخلية للم�صارف املحلية وغريها ،والديون اخلارجية ب�شكل ق��رو���ض لل�رشكات التي التزمت ال�سلطة نحوها ال عن و�ستتكبد �أجيالنا امل�ستقبلية عبء دفعها ،ف�ض ً مديونية الفرد الفل�سطيني جتاه امل�ؤ�س�سات املالية املحلية التي ت�شمل الإ�سكان ،والأعمال التجارية، الخ، واملواد اال�ستهالكية ،والتعليم العايل ،وال�صحة، �إعادة تعريف وتوجيه وعينا اجلماعي والآخذة بالتعاظم خ�صو�ص ًا يف الآونة الأخرية .ومن وفهم االجتاهات العاملية التي ت�ؤثّر فينا امل�ؤ�رشات عدم قدرة ال�سلطة على دفع رواتب موظفيها ،من الوا�ضح �أنه توجد �أمامنا م�س�ؤوليات ج�سيمة يف والت�سارع يف ن�سب البطالة (التي تفوق 45باملئة مواجهة هذه التحديات� ،إذا كنا فعال ن�سعى �إىل حترير بني جمموعات متخرجي اجلامعات وم�ؤ�س�سات التعليم العقل والوطن .وميكنني تلخي�ص نهج جمابهة هذه العايل) ،و�رشذمة الن�سيج االجتماعي. التحديات يف بع�ض الأمور التالية: عر�ضي كذلك ميكن مالحظة الظواهر التالية التي �أفرزها ال ميكن اعتبار ما يحدث لنا جمرد تطور َ النظام اال�ستعماري اجلديد: جاء نتيجة بنية ال ترحم من االحتالل الع�سكري ـــــ ا�ستعي�ض عن معار�ضتنا الإبداعية التاريخية الثورية االقت�صادي الإ�رسائيلي والأيديولوجيات العن�رصية �ضد الظلم واالحتالل بـ«معار�ضة حمكمة» ،ي�سارية ،غري املرتبطة بهذه االجتاهات العاملية .الأمر الذي دفعني ومدجنة؛ ممولة جيد ًا، �إىل التفكري يف بلدنا فل�سطني خالل ال�سنوات الع�رشين ّ �أ�صبحت املنظمات غري احلكومية «التنموية» املهنية �أو اخلم�سني املقبلة؛ و�أية «فل�سطني» �ستكون؟ كذلك والإداري��ة غري امل�سي�سة ،واملعاد ت�سيي�سها ،والتي مت ح ّثني هذا الت�أمل على االبتعاد عن املطالبات الر�سمية �إخرتاعها وا�ستدامتها من قبل وك��االت امل�ساعدات والتقليل من �ش�أن االدع��اءات الر�سمية واالن�شغال احلكومية العاملية ،بديال من القاعدة ال�شعبية ال�شاملة الفل�سطيني العام واملتوا�صل ب�إقامة «الدولة القومية» امل�سي�سة؛ واحلركات االجتماعية واالقت�صادية غري القابلة لال�ستدامة ،ذات التبعية ،واملنقو�صة ال�سيادة. َّ للقيا�س والقابل الكمي �أ�صبح النمو االقت�صادي الآيل وكل هذا فقط لتكون مدرجة يف �سجل الأمم املتحدة ال من التنمية املرتكزة على النا�س وعلى الإنتاج؛ ومن دون توفري احلرية والعدالة بال�رضورة ل�شعبها بدي ً �أ�صبح االعتماد على رواتب وظائف القطاع العام ،التي ـــــ �شعبي �أنا ـــــ الذي كافح وعانى طويال من �أجل مت ا�صطناعها ،بديال من القطاع الإنتاجي الذي يو ّلد حتقيقهما� .إنني مقتنع متاما ب�أنه ينبغي لنا �إعادة تعريف فر�ص عمل م�ستدامة؛ وتوجيه وعينا اجلماعي حول ماهية «امل�صلحة الوطنية �أ�صبحت اال�ستثمارات الر�أ�سمالية يف احتكارات الفل�سطينية العليا» من خالل ن�ضالنا ،والرتكيز عو�ض ًا اال�ستهالك واخلدمات املقبولة لدى االحتالل واملعتمدة عن ذلك على خلق وطن قابل للحياة وغري حمدود، على التعاون معه ،بديال من امل�ؤ�س�سات ال�صغرية جوهره جمتمع فل�سطيني حمرر ذاتي ًا ومرن وحيوي. الإنتاجية الأ�صلية امل�ستدامة؛ فالقلق املفرط حيال �إن�شاء «الدولة القومية» هو ،يف ا�ستبدل ما ن�ستطيع القيام به مبهاراتنا ومواردنا وخرباتنا ر�أيي� ،أمر م�ضلل وقد عفا الزمن عليه وم�ضى� .إن االجتاه الفنية الأ�صلية بالأموال التي نحتاج اليها ،وح�شدها من العاملي هو نحو ابتكار عامل ت�سيطر عليه �رشكات تتحايل وكاالت امل�ساعدات اخلارجية؛ وهذا ي�ؤدي �إىل نظام معياري وتقو�ض مفهوم القرن التا�سع ع�رش «للدولة القومية»، ّ �سائد يحرتم امل�شاريع املمولة خارجيا ،عو�ض ًا عن تلك التي لتحل مكانها هيكليات �إقليمية (�إن مل تكن عاملية) من ت�ستهلها الطاقات التطوعية واملوارد املحلية. ال�رشكات �أو التكتالت االقت�صادية وال�سيا�سية املعوملة �أ�صبحنا ن�ستهلك بفخر واعتزاز ما ال ننتج ،ون�أكل ما ذات امل�صالح املتماهية .لتحقيق ذلك ،نحن بحاجة �إىل ّ عدونا �أو ي�سمح لنا با�سترياده. ت�شكل فهم االجتاهات العاملية التي ت�ؤثر بنا �أو التي ّ ي�صدره لنا ّ كما �أ�صبح من البذخ الفكري �أي اقرتاح لتوجيه بنحو مبا�رش �أ�سا�س ن�ضالنا .ما هي هذه االجتاهات وما تركيزنا على الإنتاج الزراعي الغذائي ،والتقليل من الذي علينا فعله لإحتوائها وعك�سها؟
غري احلكومية «التنموية» النا�شئة حديث ًا �سوى وكالء حمليني ومقاولني من الباطن و�سما�رسة ملراكز ر�أ�س املال الغربي ووكاالت التمويل املعوملة.
اال�ستهالك اال�ستعرا�ضي املعتمد بنحو �شبه على الدين واالقت�صاد الريعي ،والرتكيز على املجهودات التطوعية الذاتية والتكافل املجتمعي ،والإفادة من درو�س تاريخنا وخرباتنا ودرو�س املجتمعات امل�ستعمر الأخرى ،بهدف مواجهة هذه التحديات.
االعتماد املطلق على امل�ساعدات الدولية الغربية هناك تناق�ض كامن بني االعتماد الفل�سطيني املطلق على امل�ساعدات الدولية الغربية ،والتوقع الر�سمي ب�أن ت�ؤدي هذه امل�ساعدات املالية ،وم�صدرها الأ�سا�سي احلكومات والوكاالت الغربية� ،إىل تطوير وحترير ال�شعب واملجتمع الفل�سطيني و�إنت�شاله من الفقر والإفقار الذي �صنعه نظام االحتالل اال�ستيطاين املفرو�ض على هذا ال�شعب ،وهو النظام نف�سه الذي يتم دعمه و�ضمان ا�ستمراريته من قبل هذه امل�صادر نف�سها� .إنها م�ساعدات �سيا�سية بامتياز تقدم للفل�سطينيني بهدف الإذعان واخل�ضوع لأجندة وبرنامج �سيا�سي مفرو�ض عليهم� .إنها بالت�أكيد لي�ست م�ساعدات تهدف �إىل حتفيز وزي��ادة القدرات الإبداعية املحلية واملنتجة ،بل تركز على اال�ستهالك وعلى جعل النا�س
الطبقة الر�أ�سمالية الفل�سطينية وجتارة التنمية املعوملة �إن الطبقة الر�أ�سمالية الفل�سطينية بجناحيها ،املغرتبني (فل�سطينيو ال�شتات) وفل�سطينيي الداخل (�أبناء البلد)� ،إن ما يجري الت�أ�سي�س له ،منذ ال�شـــــــــــــــــــــــــروع التي �أعيد تكوينها يف �إطار �أو�سلو ،هي بطبيعتها طبقة مبفاو�ضات �أو�سلو ،لي�س �أكرث من جتارة تنميـــــــــــــة، غري ملتزمة ،وغري معنية وغري قادرة على «تطوير» نوع و�صناعة تنمية ،و�رشكات تنمية قاب�ضـــــــــــــــــــــة من املجتمع املتما�سك الالزم ملقاومة االحتالل والتخل�ص همها الأ�سا�سي هو �إطالق امل�شاريع الر�أ�سمالية رهائن� .إنها م�ساعدات معادية للإنتاجية والتحرر. منهّ � .إن ّ اال�ستهالكية والإبقاء عليها والتو�سع فيها� ،أي ثقافة ن�سبة «االعتمادية على امل�ساعدات» يف مناطق �سلطة اال�ستهالك ،وذلك بالتعاون مع هياكل االحتالل (املادية «احلكم الذاتي» الفل�سطينية �أخذت بالتزايد تدريجي ًا والب�رشية واالقت�صادية) ،وبالتايل ،امل�ساعدة واقعي ًا على منذ عام � .1999إال �أن��ه على ال�صعيد املحلي ،من تر�سيخ االحتالل ولكن حتت م�سميات خمتلفة .االدعاءات حيث الإدراك وال�سلوك ،يبدو � ّأن ثمة اعتماد ًا كليا ً على يقو�ض �أية مبادرة للعمل املحلي، العلنية واملتكررة ب�أن الر�أ�سماليني الفل�سطينيني هم امل�ساعدات اخلارجية ّ «دعائم» التنمية ،و�أن ا�ستثماراتهم املالية والتكنولوجية �صغرت �أو كربت .ولقد مت ال�سماح لوكاالت الدعم العاملية، هي «حمركها» ،لي�ست �سوى �رضب من اخليال� .إن ما خا�صة الوكاالت احلكومية (مثال )USAIDب�أن تتمتع مبا ي�شبه يجري الت�أ�سي�س له ،منذ ال�رشوع مبفاو�ضات �أو�سلو� ،سلطة ال�سيطرة اال�ستبدادية ،وبالتايل اخل�ضوع مل�صادر لي�س �أكرث من جتارة تنمية ،و�صناعة تنمية ،و�رشكات هذه امل�ساعدات ،لكونها امل�صدر الرئي�س يف تغطية رواتب تنمية قاب�ضة (حمدودة ال�ضمان)! انه االندفاع للمذهب حواىل 170000من موظفي ال�سلطة ،من مدنيني التجاري وقمة ن�شاطه هو التفاعل بني ر�أ�س املال ،والنخب وع�سكريني .ونظر ًا �إىل �أن دول االحتاد الأوروبي والواليات ال�سيا�سية واملنظمات غري احلكومية والتمويل الدويل� .إنه املتحدة واليابان ت�شكل امل�صدر الرئي�س للم�ساعدات برنامج «جتارة تنمية معوملة» ي�شق طريقه وي�ستخدم يف اخلارجية ،فمن ال�سهل علينا �أن نرى حينها مدى اخلنوع هذه املرحلة املناطق الفل�سطينية املحتلة ،1967مركز ًا الكبري ومدى مديونية �سيا�سات ال�سلطة الفل�سطينية جتاه له وحالة لالختبار .يف «جتارة التنمية املعوملة» هذه ،ال هذه الكتلة من الدول الر�أ�سمالية. ميثل الر�أ�سماليون الفل�سطينيون وبريوقراطية �أو�سلو يف ظل هذا النمط من اال�ستعمار اجلديد ،هناك ال�سيا�سية (والفكرية امل�رشعنة لها) ،وهياكل املنظمات م�ؤ�رشات مقلقة :تراوح مديونية ال�سلطة الآن بني 2.5
88
بدايات
العدد |5ربيع 2013
89
بدايات
العدد |5ربيع 2013
�أ�شعر ب�أنه ال بد من مناق�شة بع�ض الأبعاد املعينة لفهم كيفية ت�أثري نظام احلكم العاملي النا�شئ علينا ،وبالتحديد: نزعة املديونية للأنظمة املالية التابعة لل�رشكات العاملية املعوملة العابرة للحدود القومية ،الفجوة املتزايدة بني الأغنياء والفقراء ،ف�شلنا� ،أو عدم رغبتنا ،يف التعلم من بع�ض الأمثلة يف بع�ض الدول «املحررة» التي قامت بخيانة م�صالح �شعوبها ،وكيف �أ�صبحنا ،ب�سبب م�ساعدات وكاالت الدعم العاملية ،مرهونني ،وكيف جرت �إعادة ت�سيي�سنا وا�ستعمارنا وخ�صخ�صتنا؟
3الإ�شارة هنا �إىل «املنظمات غري احلكومية» �إحدى املكونات الأ�سا�سية للمجتمع املدين.
90
�إعادة هند�سة البيئة االجتماعية والثقافية ال�سائدة حتت طغيان متويل ال�رشكات الغربية ،تدهورت املكونات الهامة والقابلة للحياة للمجتمع املدين 3بل و�أم�ست �شبه بائدة .ا�ستنادا �إىل التحليل يف الأجزاء املختلفة من كتابي الأخ�ير (امل�شار ليه �سابقا) ،التي ركزت على الكيفية التي عملت فيها م�صادر التمويل اخلارجي على انت�شار املنظمات غري احلكومية «التنموية» على ح�ساب احلركات امل�سي�سة� ،أ�صبح وا�ضح ًا �أين يكمن التحدي. اجلماهريية ّ بغية ت�سهيل عملية ت�شكيل بيئة التنمية التحررية املرتكزة على النا�س ،ينبغي �أن يكون هدفنا �إعادة �صياغة وتفعيل وهند�سة حركة جماهريية �سيا�سية واقت�صادية واجتماعية مبنية على الع�ضوية وقابلة للحياة .وينبغي �أن تت�ضمن عنا�رصها الرئي�سة الأحزاب ال�سيا�سية الي�سارية املجددة، ونقابات العمال الإنتاجية ،وال�صحافة املحلية امل�ستقلة، واحلركة الطالبية ،واحلركة ال�شبابية ،وائتالفات من خمتلف جمموعات العمل التطوعي. بعد �إنهاء انتفا�ضة 1987من خالل احتوائها بوعد خادع يف و�ضع حد لل�رصاع بالو�سائل ال�سيا�سية ،وبعد �أن تبني بو�ضوح �أن الوعد ب�إيجاد حل عادل كان وعد ًا كاذب ًا وم�ضلال ،بد�أت البيئة االجتماعية والثقافية باالنزالق يف تهالك تدريجي .وقد مت توجيه �أ�سلوب العمل اليومي من خالل جمموعة قيم ثقافية متنافرة �صممت خ�صي�صا لتحل حمل نظام القيم التقليدي القائم .ويف �سياق �سيطرة املح�سوبية الر�أ�سمالية ،والزبائنية ال�سيا�سية الفا�سدة ،و�إ�ساءة ا�ستعمال ال�سلطة واالمتياز ،والتعاون وتطبيع العالقات مع هياكل االحتالل ،وغياب الأمن ال�شخ�صي ،وتزايد الفقر والبطالة� ،أ�صبح من الوا�ضح �أن جوهر العمل قد ا�ستند اىل دوافع الربح ال�رسيع والوفري ،واال�ستعداد للقيام بكل ما هو �رضوري للح�صول على �أموال من املنظمات غري احلكومية ووكاالت الدعم العاملية ،وغياب الت�ضامن االجتماعي بدايات
العدد |5ربيع 2013
اجلماعي وامل��ب��ادرات التطوعية ،وتثبيت االهتمامات وامل�صالح ال�شخ�صية بدال من العناية بامل�صالح املجتمعية واجلماعية .وفّر هذا الو�ضع �أر�ضية للخال�ص ال�شخ�صي ولل�سيطرة والنجاح من خالل الو�صول �إىل �أ�صحاب النفوذ من النخب ال�سيا�سية واالقت�صادية احلاكمة (املحلية واملعوملة) والوالء ال�شديد لها. �أجنبت هذه العملية طبقات جديدة مهجنة ال عالقة لها بو�سائل �أو عملية الإنتاج على غرار طبقة املنظمات غري احلكومية ،طبقة «�أجهزة الأمن» والطبقة «البريوقراطية»، وما �إىل ذلك ،والتي ال ت�شكل �سوى احدى تفريعات عملية �أو�سلو ،والتي وظيفتها تر�سيخ هذه العملية. علينا �أن نتذكر دائم ًا �أن �شعبنا هو �أكرب و�أهم �أ�صولنا. وال ميكن لهذه الأ�صول �أن تكون فاعلة ما مل تتوحد بت�صميم واقتناع ب�أن جمتمعنا الفل�سطيني يحتاج �إىل دعمنا .فنحن منتلك يف ما بيننا خمزونا �ضخما من املوارد املحلية ون�سيطر على هذا املخزون وميكننا جتديده وو�ضعه لال�ستخدام متام ًا كما فعلنا ب�شكل رائع خالل االنتفا�ضة الأوىل .فقد ا�ستخدمت هذه املوارد ب�شكل فعال يف ذلك احلني ال كم�صادر ممولة من قبل وكاالت خارجية و«جهات مانحة» ،بل لأن النا�س متاهوا مع احتياجات جمتمعاتهم؛ �آمنوا بقوتهم اجلماعية الكامنة ،وحولوا االلتزام الداخلي بن�ضال �ضد �سلطة احتالل قمعية ،وعزموا على و�ضع حد لها .ال تزال �سلطة االحتالل والقمع نف�سها ت�سيطر علينا ولكن ب�شكل تدمريي كبري ،من خالل اال�ستخدام املبا�رش لبع�ض من �شعبنا ،ما ي�سمى بقيادتنا ،و�رشطتنا، و�أ�صحاب ر�ؤو�س الأموال وغريهم ،ت�ستخدمهم كوكالء من الباطن لإحكام قب�ضة �سيطرتها. كذلك علينا �أن ندرك ،على م�ستوى �آخر� ،أننا قد كنا يف فرتات معينة من تاريخنا ،ال�سلة الغذائية للمنطقة. �أما الآن فلي�س لدينا �أمن غذائي وال �سيادة غذائية يف معظم الأمور الأ�سا�سية التي نحتاج �إلينا ل�صحتنا ورفاهنا .ينبغي لنا �أن نعود �إىل زراعة �أرا�ضينا ب�أف�ضل ال�سبل التي نعرفها ،وتطوير هذه الزراعة عرب الطرق التي ال تعتمد على املدخالت اخلارجية .وللقيام بذلك ،يتعني علينا �أن ن�ستثمر كل مواردنا املالية والب�رشية يف �إطعام �شعبنا ،ولي�س يف االعتماد على الآخرين ،وال �سيما �أعدا�ؤنا ،لت�أمني الغذاء لنا .ال ميكننا اال�ستمرار يف ال�سماح لإ�رسائيل وهيكلها االحتاليل مبوا�صلة ال�سيطرة على �أكرث �أرا�ضينا الزراعية خ�صوبة ،كما ال ميكننا اال�ستمرار با�ستهالك ما ال ننتج ك�أنه ظاهرة طبيعية!
٢٠اوسلو
بناء الدولة النيوليربالية توفيق حداد ي�صادف عام 2013مرور ع�رشين عام ًا على توقيع اتفاق �أو�سلو .متيل االجنازات الزمنية املماثلة �إىل توليد �أ�شكال كاتب وناشط من االنعكا�سية ال�سيا�سية ال يتمتع الكاتب ،باعرتافه، سيايس فلسطيين .باحل�صانة �ضدها .عندما يحل �شهر �أيلول� /سبتمرب، يعد اطروحة ذكرى توقيع اتفاقية �إعالن املبادئ (�أو اتفاقية �أو�سلو) يف ال من املواد التي ُن�شرِ َ ت دكتوراه عن بناء الدولة حديقة البيت الأبي�ض ،ترقبوا �سي ً الفلسطينية يف «كلية و�أُذيعت ملحاولة تف�سري �سبب ف�شل عملية ال�سالم و�رشح الدرااست الرشقية كيفية تطور النزاع وما يعنيه ذلك كله بالن�سبة �إىل �إمكانية واالفريقية» يف لندن �إقامة الدولة الفل�سطينية البعيدة املنال. tawfiq-haddad@yahoo.comمن ال�صعب جد ًا فهم احلالة الراهنة لل�ش�ؤون الوطنية الفل�سطينية بالنظر �إىل الو�ضع املعقد الذي ن�ش�أ منذ عام ،1993والأ�سلوب املحدد الذي تبد�أ فيه تلقائي ًا حماوالت تو�صيفه ب�إثارة ت�سا�ؤالت حول كيفية و�ضع �إطار للأحداث وحول امل�صطلحات التي ينبغي ا�ستعمالها .يف النهاية ،ما الذي يربر ا�ستمرار «عملية �سالم» يعني ٍ أ�شخا�ص خمتلفني� .أوباما ،بو�ش، �أ�شياء كثرية خمتلفة ل كلينتون ،رابني ،بري�س ،باراك ،نتانياهو ،عرفات ،عبا�س، االحتاد الأوروبي ،البنك الدويل – كل واحد من ه�ؤالء �أراد �أو يريد «ال�سالم»« ،عملية �سالم» ،و«عودة �إىل طاولة املفاو�ضات» – مع ذلك ي�سود اال�ستعمار اال�ستيطاين واالحتالل والف�صل العن�رصي وفورات العنف الرهيبة وي�سمى ذلك ب�شكل ُم َّ لطف «جمود ًا». والدورية ُ اىل الآن مل ُيكتب �رشح مقنع وحقيقي ملا ح�صل خالل ال�سنوات الع�رشين املا�ضية وهو �أمر بعيد املنال �أي�ضا .غري �أ ّنه بخ�صو�ص ما ُيقال عن تلك احلقبة ،التحديات حتليلية �أكرث بكثري مما هي اعالمية .ثمة حاجة ملحة على �صعيد النقد ال�سيا�سي واملطبوعات االكادميية �إىل حتليل ي�سعى �إىل فهم االقت�صاد ال�سيا�سي لعملية ال�سالم بحد ذاتها والتعامل معه :ما الذي �أنتجه ،كيف متت املحافظة عليه ،وكيف يرتبط
91
بدايات
العدد |5ربيع 2013
ذلك كله بفهم ت�صوري �أكرث و�أو�سع نطاق ًا لهياكل ال�سلطة امل�سيطرة التي تنظم و�ضع العامل واملنطقة اليوم وت�ؤثر فيه. يف النهاية ،ما ح�صل على م�رسح ال�رصاع اال�رسائيلي - الفل�سطيني على مر ال�سنوات الع�رشين املا�ضية مل يهبط من ال�سماء ،ومل يحدث مبن�أى عن الت�أثريات �أو ال�سوابق الفكرية �أو ال�سيا�سية �أو ذات املنحى ال�سيا�سي. �أرى � ّأن «عملية ال�سالم» حجبت جمموعة من املمار�سات الرامية �إىل حتقيق �سل�سلة من امل�صالح الإمربيالية الأمريكية .يف �إطار ال�سعي �إىل حتقيق هذه امل�صالح� ،أ�صبحت الأرا�ضي الفل�سطينية املحتلة �أحد �أهم املختربات التي ُتعنى بتطوير �أحدث التقنيات ،ال على �صعيد االختبار امليداين للتجهيزات الع�سكرية و«مكافحة التمرد» وح�سب ،بل والأهم من ذلك ،على �صعيد اجلهود ال�رصيحة املبذولة للتو�صل �إىل هند�سة اجتماعية لأ�شكال من املوافقة ال�سيا�سية .من ال�رضوري جد ًا فهم هذه الديناميكيات الأخرية ،التي تت�أثر ب�شدة بالنيوليربالية وبت�صورها للدولة ،لأنه عو�ض ًا عن اجلوانب الع�سكرية التي تعتمد على العنف املبا�رش والتي تعترب بالتايل بديهي ًا اكراهية ،تعتمد �سيا�سات الهند�سة االجتماعية على الأطراف املحلية وديناميكيات ال�سوق والعالقات البنيوية. وترتتب على ا�ستيعاب هذه الديناميكيات انعكا�سات هامة على �صعيد فهم طبيعة القوى التي تقمع ال�شعب الفل�سطيني ،ولها من باب �أوىل داللة بالن�سبة �إىل الأطراف ال�سيا�سية التقدمية التي حتاول بناء البدائل. بناء الأ�سا�س ينبغي ا�ستهالل �أي نقا�ش من هذا القبيل بر�سم نطاق امل�صالح الأ�سا�سي .غني عن القول �أن الواليات املتحدة، ب�صفتها القوة املهيمنة الوحيدة يف العامل ،واملهند�س
الأ�سا�سي لعملية ال�سالم واملدافع عنها ،تعتمد ا�سرتاتيجي ًا على منفذ �آمن �إىل االحتياطات وال�شبكات النفطية يف ال�رشق الأو�سط .ال تفعل امريكا ذلك دفاع ًا عن م�صلحتها اال�ستخراجية اخلا�صة ،بل لل�سيطرة على �أطماع مناف�سيها اي�ضا – االحتاد الأوروب��ي ،اليابان والآن ،القوة ال�صاعدة ّ التحكم ا�سرتاتيجية لل�صني .تاريخي ًا ،كان ال�ضمان ملثل هذا تق�ضي بدعم الأنظمة الديكتاتورية العربية املوالية للواليات املتحدة من جهة (الدول العربية امل�سماة «معتدلة») والدولة يف �إطار ال�سعي �إىل حتقيق امل�صــــــــــــــــــــــــــالح الإمربيالية الأمريكيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة، �أ�صبحت الأرا�ضي الفل�سطينية املحتلـــــــــــــــــــــــة �أحد �أهم املختربات التي تُعنـــــــــــــــــــــــــــــــــــى بتطوير �أحدث التقنيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات اال�رسائيلية اال�ستعمارية اال�ستيطانية من جهة �أخرى ،وهي الدولة التي تعتمد ب�شكلٍ �أ�سا�سي على دعم امربيايل كغطاء �سيا�سي لأجندتها ال�صهيونية .من خالل الدعم الدبلوما�سي والع�سكري واملايل (عند احلاجة) لكال الطرفني – رغم منح ا�رسائيل التفوق املطلق على �صعيد التنفيذ – �أُ ِ خم َدت احلما�سة الدميقراطية يف املنطقة العربية بنجاح ومت ا�ستخراج النفط وحماية ال�شبكات النفطية واحلفاظ على الهيمنة العاملية ،وت�ستمر عملية اعادة ر�سكلة البرتودوالرات اخلليجية اىل البور�صات الغربية .هذا هو نهج االمرباطورية االمريكية. يف هذا االطار ،ظهرت احلاجة �إىل التحكم بالطموحات الوطنية الفل�سطينية وتقوي�ضها ورمبا ن�سفها من اال�سا�س، بالنظر �إىل ارتباط امل�س�ألة الفل�سطينية بطريف اال�سرتاتيجية االمربيالية :ذلك ان الروابط ال�سيا�سية واجلغرافية التاريخية واالخالقية بني ال�شعب الفل�سطيني واملحيط العربي تعيد البحث يف �أ�شكال خمتلفة من اال�ستعباد االمربيايل الغربي للمنطقة با�ستمرار .بالتوازي مع ذلك ،مل تتوقف يوم ًا املقاومة الفل�سطينية عن مواجهة الوجود اال�ستعماري اال�ستيطاين اال�رسائيلي ،على الرغم من التطهري العرقي ملعظم الفل�سطينيني من وطنهم عام .١٩٤٨ ويف حني مالت الواليات املتحدة تاريخي ًا �إىل �إالنكار القاطع لوجود ال�شعب الفل�سطيني و�رشعية قيادته، عودت الأو�ساط ال�سيا�سية ف�إن �سل�سلة من الأحداث ّ الأمريكية يف نهاية املطاف على التفكري يف مقاربات بديلة ملعاجلة امل�س�ألة الفل�سطينية .عند توقيع اتفاقات �أو�سلو عام ،١٩٩٣كانت «القومية العربية املتطرفة» قد ُكب َِحت �إىل
92
بدايات
العدد |5ربيع 2013
حد كبري �أو ُهز َِمت (حرب حزيران /يونيو ،١٩٦٧تل الزعرت ( ،)١٩٧٦كامب ديفيد ( ،)١٠٧٩حرب اخلليج ()١٩٩١-١٩٩٠؛ واختفى التناق�س االقليمي بني القوى العظمى على املنطقة (البريي�سرتويكا)؛ و�أُ�ض ِعفَت الوطنية الفل�سطينية �إىل حد كبري (الرتحيل من لبنان عام ١٩٨٢؛ «هزمية» منظمة التحرير الفل�سطينية يف حرب اخلليج ،وظهور قيادة بديلة حمتملة يف الأرا�ضي الفل�سطينية املحتلة بعد اندالع االنتفا�ضة الأوىل). من هذا املنطلق ،تطلبت رغبة الواليات املتحدة يف �إقامة «نظام عاملي جديد» ،خا�ضع لهيمنتها على اال�سواق ،حل النزاعات االقليمية وو�ضع ترتيبات �أمنية �سيا�سية اقليمية .ا�ستبعت تلك ال�سيا�سات تطبيع الوجود االقليمي اال�رسائيلي و�إدماجه يف املنطقة ،وتو�سيع رقعة توغل ال�سوق الأمريكية يف العامل العربي يف الآن ذاته. كذلك ارتبط �أحد مكونات هذه الديناميكيات بتطورات حمددة �ضمن الطبقة الر�أ�سمالية اال�رسائيلية ب�شكل خا�ص. منذ ت�أ�سي�سها عام ١٩٤٨واحت�ضانها من قبل �أجهزة الدولة اال�رسائيلية ،ف�سعت الر�أ�سمالية اال�رسائيلية �أكرث ف�أكرث �إىل نعت من التو�سع خارج حدودها يف ع�رص «العوملة» ،لكنها ُم َ ذلك ب�سبب االنتفا�ضة الفل�سطينية الأوىل والتكاليف املبا�رشة املرتتبة عليها واملقاطعة العربية والعوائق احلمائية املحلية �أمام اال�ستثمار الأجنبي .دفع ذلك جمموعات على غرار رابطة ال�صناعيني يف ا�رسائيل ،وهي منظمة تتمتع بالنفوذ وال�سلطة وت�ضم �صناعيني حمليني مرتبطني بحزب العمل� ،إىل املطالبة بت�سوية مع الفل�سطينيني يف مطلع ت�سعينات القرن املا�ضي، بدون ا�ستبعاد فكرة اقامة دولة فل�سطينية. ي�برر ذل��ك الدافع وراء عملية ال�سالم ب�شكلها الأ�سا�سي التي بد�أت يف مطلع ت�سعينات القرن املا�ضي. تتبدل امل�صالح .ما تبدل هو االفرتا�ضات واملقاربات مل ّ التي ت�ساعد يف حتقيق هذه الأهداف. املراحل الثالث تق�سم «عملية ال�سالم» �إىل ثالث مراحل منف�صلة: ميكن �أن ّ املرحلة الأوىل ()2000–1993 متيزت بافرتا�ض مفاده �أن الواليات املتحدة و�إ�رسائيل ّ حظيتا مبا اعتقدتا �أ ّنه «�رشيك م�ستعد» لتطبيق الر�ؤية �دة منذ وق��ت طويل ال�صهيونية «الرباغماتية» املُ��ع� ّ للفل�سطينيني واملعروفة بـ«خطة �ألون» .دعت هذه اخلطة
�أ�سا�س ًا �إىل حكم الفل�سطينيني من خالل �سلطة �سيا�سية و�سيطة (م�رص؟ الأردن؟ روابط القرى؟) ،يف �إطار تنظيم منزوع ال�سالح �أ�شبه بـ«بانتو�ستان» ،مق�سم جغرافي ًا، ت�سيطر ا�رسائيل على �أر�ضه ،دون �أن يحظى الفل�سطينيون برقابة دولية على احلدود� ،أو ي�ستعيدوا القد�س ،ودون االعرتاف بحق عودة لالجئني� ،أو حتقيق ان�سحابات كبرية من امل�ستوطنات .وقد ُن ِ�سب اىل وزير الدفاع اال�رسائيلي ال�سابق يغال �ألون قوله عام « :1977بالت�أكيد� ،إذا كفت
الأحوال كانت التجارة بني بلدان املنطقة حمدودة يف ال�رشق الأو�سط ،يف حني � ّأن التجارة لو متت ،ل�صبت يف الغالب يف م�صلحة ا�رسائيل بالنظر �إىل التفاوت يف تقريبا، حجم الأ�سواق ( 5ماليني م�ستهلك ا�رسائيلي ً ابتداء من مطلع مقارنة بـ 240مليون م�ستهلك عربي، ً ال عن ذلك� ،ساهم التوجه الكبري الت�سعينات) .ف�ض ً لالقت�صاد اال�رسائيلي نحو االنفاق الع�سكري و«احلرب امل�ستمرة» يف �إعاقة االنتقال �إىل ال�سالم.
من خالل الدعم الدبلوما�سي والع�سكري واملالــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي �أُخمِ دَ ت احلما�سة الدميقراطيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة يف املنطقة العربية بنجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاح؛ ومت ا�ستخراج ال�شبكات النفطيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة وحمايتها واحلفاظ على الهيمنة العامليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة
1ذكر ذلك يف كتاب جيلبري �أ�شقر «ال�صهيونية وال�سالم :من خطة �ألون �إىل اتفاق وا�شنطن»، ()2004 ويف كتاب «اال�ضطرابات يف ال�رشق اال�سالم، افغان�ستان، فل�سطني والعراق عرب املر�آة املارك�سية» من�شورات بلوتو، لندن.
93
منظمة التحرير الفل�سطينية عن كونها منظمة التحرير حتول النمر الفل�سطينية� ،سنكف عن اعتبارها كذلك� .أو �إذا ّ �إىل ح�صان ،ميكننا �أن منتطيه .يف تلك اللحظة ،ن�ستحق �أن ُتكتب بع�ض مان�شيتات ال�صحف ل�صاحلنا .»1وقد غذى توقيع عرفات اتفاق �أو�سلو االعتقاد ب� ّأن ا�رسائيل «رو�ضت» الأ�سد وهو على و�شك �أن ي�سمح لها بامتطائه. ّ مل تف�شل هذه احلقبة وافرتا�ضاتها لي�س فقط ل ّأن عرفات رف�ض منح م�صادقته «النهائية» يف مفاو�ضات كامب دايفيد العام 2000وح�سب ،بل �أي�ض ًا ل ّأن ا�رسائيل �شعرت �أ ّنه بعد �أن حققت �رشيحة كبرية مما �أرادت حتقيقه من خالل عملية ال�سالم (ك�رس املقاطعة العربية من الدرجتني الأوىل والثانية ،التنازل للفل�سطينيني عن �أ�شكال من ال�سيطرة املبا�رشة او امل�س�ؤولية) زال احلافز لتقدمي املزيد ال عن ذلك ،تبني � ّأن االفرتا�ض ال�ضمني من التنازالت .ف�ض ً عن «عائدات �أو مكا�سب ال�سالم» قد تظهر و ُتو َّزع من خالل التجارة االقليمية مل يكن غري ت�صور خاطئ. كان التكامل على �صعيد ال�سلع القابلة للتداول بني االقت�صاد اال�رسائيلي واقت�صادات الدول العربية �ضعيف ًا، مع انتاج ا�رسائيل �سلع ًا ا�ستهالكية مزودة بتقنية متطورة لن تهتم �إال دول اخلليج العربي الرثية ب�رشائها (لكن ميكن �رشا�ؤها من �أي مكان �آخر يف �شتى الأح��وال)، يف حني مل تقدم الدول العربية �إال القليل مما قد ترغب ا�رسائيل يف �رشائه ،با�ستثناء النفط ،الذي كان متاح ًا يف ال�سوق وقد مت �ضمان احل�صول على جزء منه يف اتفاقات كامب دايفيد التي دعمتها الواليات املتحدة .يف �شتى بدايات
العدد |5ربيع 2013
�أ�ضف �إىل ذلك كله ،العائق ال�سيا�سي املت�أ�صل واملتمثل يف العقيدة ال�صهيونية بحد ذاتها ،التي تطالب باحلق التاريخي احل�رصي بامتالك الأر�ض ،مع تعريف ا�رسائيل عن نف�سها باعتبارها دولة اليهود يف العامل، ولي�س اليهود يف �إ�رسائيل وح�سبّ � .إن �أي اقرار مبطالبة وطنية مناف�سة بحق امتالك االر�ض �أو حتى بتقا�سم احلد الأدنى منها يف اطار ت�سوية �سالم من �ش�أنه تقوي�ض �رشعية كامل امل�رشوع والتربير الذاتي ال�صهيوين. لهذه الأ�سباب ،ف�ضلت ا�رسائيل �أن ت�ستعمل عملية ال�سالم ل�ضمان ت�سوية تندمج يف �إط��اره��ا الأم��وال اال�رسائيلية يف الأ�سواق الدولية (عو�ض ًا عن الأ�سواق االقليمية) ،وبذلك ميكن �رشاء الوقت ملوجة ثانية من اال�ستيطان اال�ستعماري للأرا�ضي الفل�سطينية املحتلة. كذلك �أتاحت عملية ال�سالم اجناز اتفاق �أكرث «فعالية» مع الفل�سطينيني يف الأرا�ضي الفل�سطينية املحتلة الذين باتوا خارج نطاق امل�س�ؤولية اال�رسائيلية ،حتت الإدارة الأمنية واملدنية لل�سلطة الفل�سطينية مبوجب اتفاق التق�سيم ،يف حني مت �إق�صا�ؤهم عن �أ�سواق العمل اال�رسائيلية بف�ضل ا�ستقدام اليد العاملة الأقل كلفة (الأكرث �أمن ًا من الناحية ال�سيا�سية) الوافدة من �آ�سيا �أوروبا ال�رشقية .بذلك ،بات الفل�سطينيون الآن مف�صولني عن العمل ،مع ت�صوير �أي حم��اوالت م�ستمرة يف ما بينهم للتم�سك بالروح الوطنية� ،ضمن �إطار جبهة التحرير الفل�سطينية �أو غريها، كتهديد مبا�رش حمتمل للم�صالح الر�أ�سمالية واجلغرافية اال�سرتاتيجية للواليات املتحدة وا�رسائيل.
لهذا ال�سبب ،كان «العر�ض ال�سخي» الذي قدمه ايهود بارك يف كامب ديفيد ُمعد ًا ليف�شل ،مما �سي�ؤدي �إما �إىل ا�ست�سالم فل�سطيني «ر�سمي»� ،أو ير�سي الأ�س�س لتو�صيف الفل�سطينيني ب�أنهم «راف�ضون» ،وبذلك يبد�أ التح�ضري للمرحلة التالية من «ت�أديبهم» وتقوي�ض قدرتهم على تهديد امل�صالح اال�رسائيلية الأمريكية ب�شكلٍ دائم.
ب�إمكانية ت�شكيل ديناميكيات تتعزز وتتوالد ذاتي ًا ميكن ت�صويرها باعتبارها ت�سعى �إىل التنمية «الوطنية» والنمو االقت�صادي .ب�سهولة كبريةُ ،ك�شف النقاب عن االتفاق الفردي ال�سابق باعتبار �أنه ميثل تعاون ًا وجني ارباح ب�أ�سلوب انتهازي كما �أنه يفتقر �إىل �إطار �سيا�سي /وطني حقيقي ٍ عندئذ عن كيفية ت�صميم اتفاق لل�رشعية .ف�أ�صبح ال�س�ؤال مماثل فعال �أقله على املدى الطويل.
واعتماد ال�سيا�سية الأ�سا�سية التي تق�ضي برتهيب املدنيني من خالل قتل وجرح ع�رشات الآالف� ،إىل جانب تدمري الأرا�ضي الزراعية ،واحل�صار و«جتويع غزة» �إلخ. بدعم من جتدر اال�شارة �إىل � ّأن كل ما ذُكر �آنف ًا �أُجنِز ٍ دعم مل يظهر من الواليات املتحدة واالحتاد الأوروبيٌ ، خالل ال�سيا�سيات ال�سلبية املطبقة يف هذه الدول والتي تق�ضي باالفالت من العقاب �أو ادانة ا�رسائيل وح�سب، �إمنا �أي�ض ًا من خالل مكاف� ٍآت ودع� ٍ�م ع�سكري ومايل ودبلوما�سي فعال.
املرحلة الثانية انتفا�ضة الأق�صى ()2005 – 2000 ج�سدت الفرتة التي �سعت فيها الواليات املتحدة ّ وا�رسائيل �إىل �إعادة تنظيم احلركة الوطنية الفل�سطينية املرحلة الثالثة و�إعادة ت�شكيلها من خالل االخ�ضاع اجل�سدي املح�ض. «بناء الدولة» ( 2005حتى الآن) وقد مت ّثل الهدف يف �سحق النا�س ومعاقبتهم على انبثقت هذه املرحلة من االعتقاد �أ ّنه مبجرد �أن ت�سحق �صمودهم الوطني ،الذي جت�سد يف النهاية من خالل ا�رسائيل نوع ًا ما احلركات الوطنية ،ينبغي بذل اجلهود يف رف�ض عرفات لكامب ديفيد ،و�إ�ضعاف �آمالهم بتوقع �أي �سبيل اعادة بناء القيادة الفل�سطينية وال�شعب الفل�سطيني �شيء �أف�ضل� .سعت �إ�رسائيل �إىل الك�شف عن � ّأن مقاوة واعادة ت�شكيلهما وفق ًا ملعتقدات جديدة ميكن �أن حت�صد الأهداف ال�صهيونية املرتبطة بفل�سطني ال طائل منها ،القبول ال�سيا�سي والهدوء املن�شود� ،أقله على املدى الطويل. و� ّأن الوطنية الفل�سطينية مبعناها التاريخي والتحريري جتدر اال�شارة هنا ،كما هي احلال عامة� ،إىل � ّأن الواليات و�صلت �إىل حائط م�سدود .خالل االنتفا�ضة ،مل يكن املتحدة� ،إىل جانب الدور الثانوي لالحتاد الأوروبي ،هي الفل�سطينيون يتفاو�ضون على �رشوط ا�ست�سالمهم (كما التي حتدد يف النهاية املعايري ال�سيا�سية العامة ملتابعة يف كامب ديفيد) ،بل على �رشوط بقائهم ،مثال ما �إذا ال�سعي وراء اتفاق �سيا�سي «توافقي» مع الفل�سطينيني. �سي�سمح بانتقال علبة طماطم من منطقة �إىل �أخرى ،فيما ت�سعى �إ�رسائيل وال�صهيونية يف الأ�سا�س �إىل كان ُ ما �إذا كانوا �سيتمكنون من الو�صول �إىل امل�ست�شفى �أو طرد /ترحيل الفل�سطينيني من فل�سطني التاريخية ب�سبب املدر�سة �إلخ .متثل الهدف من ذلك على حد تعبري مو�شيه ق�صتهما الوطنية التاريخية املتنازع عليها« ،تردع» الكتلة الغربية ا�رسائيل عن حتقيق هذا الهدف ب�شكلٍ مبا�رش تبني �أنّ االفرتا�ض ال�ضمنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي ب�سبب «التوازن» الذي ينبغي �أن ُتبقي عليه هذه القوى �أنّ «عائدات �أو مكا�سب ال�ســـــــــــــــــــــــــــــــالم» للحفاظ على عالقاتها مع كتلة «الدول العربية املعتدلة»، ُوزع من خالل التجارة االقليميــــــــــــــــة بخا�صة ال�سعودية� ،أقله طاملا � ّأن النفط يبقى مبدئ ًا تنظيمي ًا قد تظهر وت َّ لي�س �إال ت�صورا خاطـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــئ ًا رئي�س ًا يف احلياة واالقت�صادات املعا�رصة� .أكرب طموحات ً ا�رسائيل ال�صهيونية هي من �أولوياتها اخلا�صة ،لكن هذه يعلون ،رئي�س �أركان اجلي�ش اال�رسائيلي يف ذلك احلني ،القوى تف�سح رغم ذلك املجال �أمام حتقيقها ببطء من خالل يف زرع الهزمية يف الوعي الفل�سطيني. عمليات التو�سع اال�ستعمارية� ،ضمن احلدود «امل�سموح َّ تركز التوجه الأ�سا�سي يف هذه املرحلة على تعزيز بها» يف �إطاراللعبة التي ت�رشف عليها الواليات املتحدة. �شبكة املراقبة حول الفل�سطينيني (بناء اجلدار الفا�صل ،يف �شتى الأحوال ،تختلف هذه املرحلة اختالف ًا نوعي ًا ال عن عن املرحلة الأوىل من عملية ال�سالم لناحية جوانب �أ�سا�سية �إقامة مئات نقاط التفتي�ش و�أبراج املراقبة )...ف�ض ً ت�صفية �أبرز القادة امليدانيني الع�سكريني وال�سيا�سيني ،عدة .عو�ض ًا عن االعتماد على قادة رمزيني �أفراد ورجال الذين ا�ستمروا يف دع��م الوفاق الوطني الأ�سا�سي �أقوياء للتوقيع يف النهاية على اتفاق ما وتنفيذه (اتفاق ميكن ن�صت املقاربة اجلديدة على �رضورة ت�شكيل واال�صطفاف حوله .بالتايل ،مت باخت�صار اعتماد �سيا�سة دائم ًا انتهاكه)ّ ، «الأر�ض املحروقة» والتهدئة الع�سكرية وذلك من خالل فئة �سيا�سية واجتماعية فل�سطينية �أكرث ا�ستقرار ًا وجدارة اغتيال مئات النا�شطني البارزين ،و�سجن �آالف �آخرين ،بالثقة ،مبا يرتبط مع اتفاق �أو�سلو ويتما�شى معه .فئة وعدت
94
بدايات
العدد |5ربيع 2013
عليهم مالي ًا) حماولة بناء اتفاقات عليها ت�ؤدي يف النهاية �إىل ن�سيج طبقي من�سجم مع جممل الأهداف الإمربيالية للغرب. جرى يف املرحلة الأوىل من عملية ال�سالم �إخماد حماوالت احل�صول على دعم النخب بوا�سطة الأ�سلوب ال�سيا�سي ال�شخ�صي املعتمد من قبل عرفات نف�سه الذي اختار بعناية من بني امل�ستفيدين يف �صفوف امل�س�ؤولني الأمنيني والنخب االقت�صادية الأ�شخا�ص الذين �سي�ستفيدون من االتفاقات التي تتوخى الربح �أثناء حقبة عملية ال�سالم .واجلدير بالذكر �أن هذا الأ�سلوب هو بال�ضبط ت�صوره لقيادة و�سيطة فل�سطينية، ما �أراده املجتمع الدويل يف ّ �أي �سيا�سة «الزعيم» ،مع ح�صول عرفات وم�ست�شاره
النيوليربالية ومفهوم «بناء الدولة» هنا تربز �أهمية فهم دور املفاهيم النيوليربالية و«بناء الدولة». فمن جهة� ،أُدر َِج��ت النيوليربالية يف الت�صميم الأ�سا�سي قومت بنية عالقات ال�سيطرة لعملية ال�سالم ،بحيث �إ ّنها ّ والقبول� ،أو �أعادت تنظيمها .فقبل عملية ال�سالم (�أي قبل �أتاحت عملية ال�سالم اجناز اتفـــــــــــــــــــــــــــــــاق عام ،)1993كان «القبول» يرتبط �رصاح ًة ب�رضب �أكرث «فعالية» مع الفل�سطينيني يف الأرا�ضـــــــــــــــي القوات الإ�رسائيلية الفل�سطينيني باملعنى احلريف للكلمة الفل�سطينية املحتلة الذين باتــــــــــــــــــــــــــــــــوا و�سيطرتها بريوقراطي ًا على الأرا�ضي املحتلة وذلك خالل خارج نطاق امل�س�ؤولية اال�ســــــــــــــــــــــــــــرائيلية االنتفا�ضة الأوىلّ � .أما «بعد» اتفاق �أو�سلو ،فقد �أن�شئت �سلطة فل�سطينية لتكون و�سيط ًا بني االحتالل الإ�رسائيلي وال�شعب االقت�صادي حممد ر�شيد �شخ�صي ًا على كامل ال�صالحية املح َتل ،وا�ضطلعت مبهام مماثلة :احلفاظ على «�أمن �إ�رسائيل» من املجتمع الدويل و�إ�رسائيل (عرب ح�سابات م�رصفية (بالأحرى و�ضع حد لأعمال املقاومة) وحكم الفل�سطينيني �رسية لأرب��اح اتفاقات االحتكار ،دفع �أجر امل�س�ؤولني �إداري��� ًا ،ولو يف مناطق حم��ددة هذه امل��رة .ان�سجم هذا الأمنيني نقد ًا� ،إلخ ).لإبقاء ال�شارع الفل�سطيني من�ضبط ًا. متيزت بتغيري يف املقاربة .فعو�ض ًا االتفاق مع املنطق النيوليربايل املهيمن يف ثمانينات القرن لكن حقبة ما بعد عرفات ّ معينني (امل�س�ؤولني الع�رشين ويف مطلع الت�سعينات ،الذي ي�ؤمن ب�أن املقاولة عن االعتماد على «زعيم» �أو «زعماء» ّ من الباطن �رضورية ل�سال�سل الإنتاج العاملية .كان عبارة الأمنيني والفاعلني االقت�صاديني املختارين) ،تط ّلع بناة عن تلزمي انتقائي لأكرث موجبات االحتالل �إرهاق ًا و�أعالها الدول العامليون �إىل «طبقة حازمة» كونها مالذ ًا �أكرث وثوقا كلف ًة (حفظ النظام� ،إدارة اخلدمات االجتماعية ،حت�صيل للقيم التي �سعوا �إىل ن�رشها .وقد تط ّلب ذلك دعم �إن�شاء هذه معينة يف جهاز ال�سلطة الفل�سطينية ال�رضائب) ،وذلك عرب توظيف العمالة الفل�سطينية (قيادة الطبقة عرب تدخالت ّ املقو�ضة وجهازها الإداري) «ال�شبيه بالدولة» .وعليه كان ال بد من تقوية الربجوازية منظمة التحرير الفل�سطينية ّ وبتمويل كبري من املكلفني بال�رضائب الأوروبيني واليابانيني ،الفل�سطينية وجعلها تتماهى بكل وعي مع بنية ال�سلطة ال عن برتودوالرات اخلليج .كان هذا االتفاق يحاكي الفل�سطينية ،من دون حم�سوبيات كما يف زمن عرفات، ف�ض ً معينة يف بحجة �أن ذلك �شكل من �أ�شكال ت�أهيل «الأ�سواق احلرة». �أي�ض ًا ميل النيوليربالية �إىل �إن�شاء �أنظمة اقت�صادية ّ مناطق �إقليمية ال�ستقاء الربح و�إعادة تنظيم الإنتاج ،وو�ضع هنا ،كان املجتمع الدويل ي�ستخدم مبا�رش ًة جمموعة من �إطار جديد للأرا�ضي ،وال�شعب ،واحلقوق والواجبات. املفاهيم النيوليربالية التي ميكن �أن تلبي احلاجات املطروحة. على امل�ستوى امل�ص ّغر� ،أتاحت هذه ال�سلطة �أي�ض ًا الر�أ�سمالية ،يف نظر النيوليرباليني ،لي�ست جمرد نظرية الفر�صة الجراء االختبارات عرب حماولة و�ضع الت�صميم عن بناء الرثوة الفردية ،و�إمنا هي جزء �أ�سا�سي من احلرية القيمون ال�سيا�سية نف�سها .تو�صف «احلرية االقت�صادية» ب�أنها بعد من تخيلها ّ االجتماعي لأ�صناف الفل�سطينيني كما ّ على «عملية ال�سالم» .كان َ ينظر �إىل ال�سلطة الفل�سطينية �أبعاد «احلرية» ُيفهم على نطاق �أو�سع وهو بالتايل مربر على ال عن ذلك ،تعتقد النظريات النيوليربالية القائمة اليوم هيكلي ًا بني ال�شعب املح َتل من جهة ،و�إ�رسائيل نحو وا�ضح .ف�ض ً واملجتمع الدويل من جهة �أخرى ،كخلفية ميكن لبناة الدول ب�أنه �إن منحت «الأ�سواق احلرة» ،عو�ض ًا عن احلكومات، الدوليني (التي كانت ال�سلطة الفل�سطينية بحد ذاتها تعتمد القدرة على معاجلة جمموعة احلاجات الب�رشية ،عندئذ
95
بدايات
العدد |5ربيع 2013
�سيكون من املمكن �صون احلرية بحد ذاتها وحمايتها لأن اخليار الفردي له الكلمة الف�صل ،ولي�س ال�سلطة ال�سيا�سية القهرية .ويف هذا الإطار ،يرى �سليل النيوليربالية ميلتون فريدمان �أن الأ�سواق ت�ؤدي دورا حمددا يف �إلغاء الت�سيي�س: «ي�ؤدي اال�ستخدام الوا�سع االنت�شار لل�سوق �إىل تخفيف ال�ضغط على الن�سيج االجتماعي عرب جعل االمتثال لأي من الن�شاطات التي ت�شملها غري �رضوري .فكلما ا ّت�سع نطاق الن�شاطات الذي ت�شمله ال�سوق ،ق ّلت امل�شاكل التي يطلب اتخاذ قرارات �سيا�سية �رصيحة ب�ش�أنها والتي يجب كلما تق ّل�صت امل�شاكل بالتايل االتفاق حولها .باملقابلّ ، التي يجب االتفاق حولها ،زاد احتمال التو�صل �إىل اتفاق مع احلفاظ يف الوقت عينه على جمتمع حر».2 ّ تفك الأ�سواق ،بح�سب النيوليرباليني ،روابط «االمتثال» التي حتافظ عادة على حلمة ال�شعب .ففي حال فتحت الأ�سواق كبديل عن احلكومات لتلبية طيف كامل من احلاجات الب�رشية ،ينتفي حينئذ ال�رشط ال�رضروي ملعظم املمار�سات ال�سيا�سية و�صناعة القرار .فت�صبح امل�شاكل ال�سيا�سية واحلاجات االجتماعية مبثابة �سلع ،وتتفكك �إىل م�شاكل �صغرى ميكن معاجلتها ب�شكل فردي ،فني ًا ،وعرب القيمني على القطاع اخلا�ص �أرباح ال�سوق من دون توزيع ّ احلاجة اىل قرار �سيا�سي ،او هكذا يكون الزعم .لقد اتخذت معنى جديد ًا وهو القدرة على جعل الفرد ميار�س «احلرية» ً خياره يف ال�سوق وذلك عرب القدرة ال�شخ�صية على ال�رشاء جمرد كونها مفهوم ًا مرتبط ًا ب�أ�شكال من �أو البيع ،بد ً ال من ّ ال�سيطرة البنيوية واحلقوق الفردية �أو اجلماعية.
2فريدمان ،م:)1962( . «الر�أ�سمالية واحلرية» ،مب�ساعدة روز د .فرايدمان، �شيكاغو :من�شورات جامعة �شيكاغو.
96
«بناء الدولة النيوليربالية» على �أر�ض الواقع تلك هي بال�ضبط الأفكار التي ر�أى املجتمع الدويل نف�سه يطبقها على الأرا�ضي املحتلة من خالل مليارات الدوالرات التي قدمها كم�ساعدات لبناء الدولة ،والتي انطلقت بعد االنق�سام ال�سيا�سي بني ال�ضفة الغربية وغزة �أثناء املرحلة الثالثة من عملية ال�سالم .وبينما امتنع املجتمع الدويل ،الذي �شارك يف دعم عملية ال�سالم ،عن ا�ستخدام عبارة «الدولة» يف «املرحلة الأوىل» من عملية ال�سالم حر�ص ًا منه على عدم «�إهانة» �إ�رسائيل ،خرجت فكرة الدولة الفل�سطينية �إىل العلن بعد وفاة عرفات واالنتفا�ضة الثانية .لكن كان لهذه الدولة مفهوم حمدد بالن�سبة �إىل املجتمع الدويل� ،أال وهو دولة نيوليربالية تتمتع ببنية حتتية �إدارية قادرة على �إدارة موجباتها املدنية والأمنية مبهارة ،وتوجيه هواج�سها التنموية نحو منو حملي وعاملي على حد �سواء ،حمفّز من القطاع اخلا�ص. بدايات
العدد |5ربيع 2013
لكن الرياء املنظم جت ّلى يف �أن الواقع على الأر�ض مل يعك�س ال�رشوط ال�رضورية لعمل «الأ�سواق احلرة» .ويف حرة البتة يف ظل اختيار �إ�رسائيل احلقيقة ،مل تكن الأ�سواق ّ والغرب للجهة املتلقية للم�ساعدات ال�سخية التي كانت تقدم لل�سلطة الفل�سطينية من اجل بناء الدولة .فازدهرت الأ�سواق حيث ُ�س ِمح لها بذلك� ،أي يف نطاق عقود ال�سلطة الفل�سطينية ،والتجارة ،والعقارات يف املنطقة «�أ» ،وكل ذلك على ح�ساب قطاعات �إنتاجية مثل الزراعة وال�صناعة �أو اقت�صادات املقاومة� .ساعد املجتمع الدويل «ب�سخاء» �أو هو عر�ض امل�ساعدة يف �سن القوانني املالية والتنظيمية الفل�سطينية (امل�صارف ،الرهون العقارية ،التمويل والإيجار، الت�أمني ،معا�شات التقاعد ،اال�ستثمارات ،التجارة� ،إلخ) �ساعي ًا �سعي ًا حثيث ًا �إىل تلبية م�صالح القطاع اخلا�ص على ح�ساب احلاجات االجتماعية والبيئية ،وقوانني العمل العادلة ،ناهيك عن الأولويات الوطنية .كل ذلك حتت �شعار بناء م�ؤ�س�سات دولة فل�سطينية م�ستقبلية� .إال �أن ذلك كان يف الواقع حماولة لإحكام القب�ضة النيوليربالية على حركة حترير وطنية ،وهو مثال غري اعتيادي عن اخل�صخ�صة ما
حيث العر�ض والطلب متفاوتان ب�سبب االحتالل ،وغالب ًا من خالل خطط �رشاكة بني بناة دول دوليني وبنوك حملية �أو �إقليمية لت�أمني القرو�ض البخ�سة (للرهون العقارية �أو ال�رشكات) .لكن مبا �أن منطق الر�أ�سمالية قائم على الربحية ،ولي�س على احلاجة االجتماعية (ناهيك عن املعايري الوطنية) ف�إن هذه اخلطط م�صممة للمراهنة �ضد قرار �سيا�سي عادل� ،أو قوى تقاتل ملكافحة الظلم. يف هذا الإطار ،ف�إن �إطالق ال�سيا�سات املتطرفة امل�ستوحاة من النيوليربالية على امتداد املنطقة املحتلة ويف ظل اال�ستيطان ،ال يتمحور حول الهند�سة االجتماعية فح�سب، و�إمنا هو �سالح اجتماعي م�صمم للتجريد من احلقوق من خالل قوى ال�سوق او التبعيات البنيوية اوالعالقات الطبقية حيث العنف الإكراهي الذي متار�سه �إ�رسائيل بقي حمدود ًا. �سبق �أن �شهدنا القوة املدمرة ملقاربة النيوليربالية ال�ساخرة التي ت�سعى وراء الربح وتتالعب بالأزمة يف �إطار �أزمات تطبق الآليات والأفكار نف�سها عرب الإ�سكان العاملية .انها ّ الأرا�ضي املحتلة اليوم ،وهي تبدو كقنبلة موقوتة جاهزة لالنفجار عند تهيئة الظروف املواتية لذلك. ال خطط ًا لت�أمني فقد و�ضع بناة الدول الدوليون مث ً الرهون العقارية والكفاالت اخلا�صة بالقرو�ض ت�ستهدف املوظفني يف القطاع العام يف ال�سلطة الفل�سطينية ،اولئك الذين يعتمدون بدورهم ب�شكل مبا�رش على ال�سلطة الفل�سطينية (وخطها ال�سيا�سي) لقب�ض م�ستحقاتهم. تهدف اخلطط اخلا�صة بالرهون من جهة �إىل ا�سرت�ضاء النظام يف ال�سلطة الفل�سطينية اقت�صادي ًا و�إ�ضفاء الطابع ال�رشعي عليه ،وذلك عرب ت�شجيع الإقرا�ض امل�رصيف وعمليات �رشاء املنازل مبا يعزز قاعدة الدعم لديه .هذا من جهة .توجد من جهة �أخرى الظروف التي قد جتعل من �سكن �آالف املوظفني ولقمة عي�شهم يف م�ؤ�س�سات ال�سلطة الفل�سطينية �ضحية ارغام تلك ال�سلطة على اعتماد خط �سيا�سي معينّ لقاء ا�ستمرار ح�صولها على متويل دويل. وهذا يفر�ض �ضغط ًا كبري ًا على ال�سلطة الفل�سطينية ذاتها. تكر�سها بوا�سطة �آليات ال�سيطرة وال�ضغط هذه التي ّ مبادئ «ال�سوق احلرة» ،يجني بناة الدول الدوليون ربح ًا �سيا�سي ًا على ح�ساب القيادة واملجتمع الفل�سطينيني. وبغ�ض النظر عن هذه امل�س�ألة ،بد�أت املخاطر املعروفة للمنطق النيوليربايل ،التي جتلت م�سبق ًا يف �ساحات �أخرى حول العامل ،تظهر �أي�ض ًا على امتداد الأرا�ضي املحتلة، بحيث ميكن ر�ؤية الزيادة الكبرية يف تركز الرثوات ويف انعدام امل�ساواة ،وارتفاع ن�سبة البطالة والعمالة الزائدة،
«بعد» اتفاق �أو�سلو� ،أن�شــــــــــــــــــــــــــــــــــــــئت �سلطة فل�سطينية لتكون و�ســــــــــــــــــــــــــــــيط ًا بني االحتالل الإ�رسائيلي وال�شـــــــــــــــــعب املحتَل، وا�ضطلعت مبهام احلفاظ علـــــــــــــــــــــــــــــــــــى «�أمن �إ�رسائيل» وحكم الفل�سطينيني �إداريـــــــــــــــــــ ًا قبل مرحلة بناء الدولة �أ ّدى �إىل �إفراغ مفهوم التحرير من الكثري من قيمه �إذ �إنه يف جميع الأحوال لن يكون هناك ما يجب «حتريره» لأن تلك املهمة قد ك ّلف بها القطاع اخلا�ص. غني عن القول �أن هذه امل�سارات ت�ستمر باالنك�شاف بوترية بطيئة يف �أنحاء الأرا�ضي املحتلة ك�أ�شكال من الهند�سة االجتماعية بينما ت�ساهم حتم ًا يف ظهور �أقلية حاكمة من اال�ستغالليني مرتبطة با�ستمرار الو�ضع احلايل ومن�سجمة معه .كذلك ن�ش�أت طبقة فقرية وا�سعة من املحرومني متث ّلت فعلي ًا يف امل�ضطهدين واملحا�رصين يف العمال «التايالنديني» امل�ستغ ّلني �إىل حد كبري يف غزة �أو ّ �شمال ال�ضفة الغربية الذين ي�أتون �إىل رام الله بحث ًا عن تبخرت ،والزراعة مل تعد عمل لأن الوظائف الإ�رسائيلية ّ تدر الأرباح ،وعليهم �إطعام الأفواه اجلائعة. ت�شجع الر�أ�سمالية ،املحفّزة يف ظل ال عن ذلك، ف�ض ً ّ االحتالل ،اال�ستثمارات يف مناطق عقيمة وغري م�ستقرة
97
بدايات
العدد |5ربيع 2013
وتزايد اجلرائم يف الوقت الذي تتزايد فيه �أعداد ال�رشطة وال�سجون وامل�رشدين واملت�سولني ،والتقوي�ض الوا�ضح للم�سارات الدميقراطية و�أ�ساليب املحا�سبة ،واالنخفا�ض املخيف يف التكافالت االجتماعية. ال �شك يف � ّأن على الالعبني ال�سيا�سيني درا�سة هذه امل�شاكل بعناية ،والبدء ب�صياغة حلول ملواجهتها ،مع �إدراج حتليل العوامل الطبقية واالقت�صاد ال�سيا�سي يف درا�ستهم .لطاملا اعتمد اال�ستيطان على �أطر عمل ،وخطابات ،وتبعيات بنيوية وعالقات طبقية بني امل�ستعمرين لتحقيق هدفه .لذا حان الوقت للرد على َ ذلك عرب �إدراج مفاهيم م�ضادة يف منطقنا وممار�ساتنا. يعني ذلك �أنه ينبغي دح�ض خرافة التنمية االقت�صادية يف ظل االحتالل ور ّده��ا .كذلك يجب حماية ال�سلع، واخلدمات ،واملوارد العامة و�/أو ت�أميمها (الأر�ض ،احلجر، املاء ،الكهرباء ،االت�صاالت ال�سلكية والال�سلكية ،ال�صحة، ال من �أن ت�صبح �ضمن �سيطرة القطاع اخلا�ص. والتعليم) بد ً يجب الرتكيز �أي�ض ًا على حماية القطاعات الإنتاجية (ال�صناعة والزراعة) ودعمها وتطبيق ذلك عرب الو�سائل املحدودة التي ميلكها الفل�سطينيون .من ال�رضوري كذلك �أن ت� ِّؤمن بنى احلوافز ال�شاملة للقرارات واالتفاقات االقت�صادية احلماية لتوزيع ع��ادل للرثوات ،وتعتمد م�سارات ل�صناعة ق��رارات تهدف �إىل تعزيز الت�ضامن االجتماعي والت�صدي اجلماعي للجهود الإ�رسائيلية والدولية الرامية �إىل زرع الفرقة بينهم و�إخ�ضاعهم. ال عن ذلك ،يجب الت�صدي التفاق �أو�سلو بكل ف�ض ً تركيبته ،ما يعني رف�ض الدور التلزميي لل�سلطة الفل�سطينية كو�سيط بني االحتالل وفل�سيطينيي الأرا�ضي املحتلة. والأه��م رف�ض كامل االتفاق الذي ي�ضمن االنق�سام مكونات ال�شعب الفل�سطيني (فل�سطينيو اال�صطناعي بني ّ الأرا�ضي املحتلة ،فل�سطينيو الـ ،48وفل�سطينيو ال�شتات) والذي ي�سمح لإ�رسائيل وللكتلة الغربية بالرتكيز على ال. �إحداث االنقا�سمات يف او�ساط �شعب منق�سم �أ�ص ً لن يتمكن الفل�سطينيون من احلفاظ على وحدتهم، �أو جمابهة املحور الغربي -ال�صهيوين ومنطقه وك�رسهما �إال عرب �إيجاد و�سائل لتجنيد مواردهم اجلماعية بطرق م�ستدامة وعادلة .باخت�صار� ،إن قدرة الفل�سطينيني على �شن حملة مقاومة فعالة للح�صول على حقوقهم رهن بقدرتهم على احلفاظ على م�صلحتهم اجلماعية ال الفردية وتر�سيخها ،وهو �أمر واظبت االقت�صادات النيوليربالية و�سيا�سات بناء الدولة على حموه.
�صورة له على ال ّ تريه؟ تف�ضلي فهو أقل .هل تريدين �أن ْ ال يزال مك�سور ًا .هم ي�س�ألون ثم يذهبون و ال يتغيرّ �شيء ــ بيجوا وبريوحوا وكل �شي ب�ضل عا حالو ــ ». ال يخفي �أه��ل املخيم وم�س�ؤولوه ،مثل موظفي خميم �شاتيال ،ظنونهم حول املنظمات غري احلكومية يف ّ العالقة بني االزدياد املطرد يف عدد االبحاث املقامة يف حت�سن ملمو�س يف الظروف املخيم من جهة ،وعدم ح�صول ّ ّ للمخيم من جهة �أخرى« .بينما االقت�صادية واالجتماعية ّ
األ كادمييا يف اشتيال
خميم يرزح حتت االجتياح البحيث ّ ميسون سكرية «يلال بل�شنا ناق�صنا بعد بحث جديد وباحثة جديد ة باملخيم» ،قال خليل -وهو ا�سم م�ستعار كباقي الأ�سماء استاذة جامعية ،لبنان ال���واردة يف الن�ص -عندما اخرجت دف�تري ملقابلة جمموعة �شباب ون�ساء يف خميم �شاتيال .وكنت قد كلفت من «م�ؤ�س�سة الدرا�سات الفل�سطينية» ب�إجراء بحث حول احلقوق املدنية للفل�سطينيني يف لبنان .ل�ست ادري ملاذا قررت �أنا �أي�ضا البدء ب�شاتيال ولي�س بكوالي�س �صنع القرار يف لبنان .تابع خليل بالتوجه اىل ال�شباب قائال: (يتذمر) �أكرث من غريه؟»� .ضحك ينق «يلال �شباب مني بدو ّ ّ اجلميع ودار الكالم لعدة دقائق حول االبحاث والباحثني يف �شاتيال .وما بد�أ بحث ًا عن احلقوق املدنية انتهى بهذه الورقة عن ال�سياحة ال�سيا�سية والبحثية يف املخيم. ملاذا �شاتيال؟ خميمات ال�شتات الفل�سطيني خميم �شاتيال هو الأ�شهر بني ّ ّ تعر�ض للبحث والدرا�سة .رمبا م خمي أكرث � و االرجح على ّ ّ ب�سبب تعر�ض املخيم للتدمري و�إعادة البناء عدة مرات املخيم وتعر�ضه للمجزرة يف الـ ١٩٨٢وب�سبب �صالت ّ التاريخية مبنظمة التحرير الفل�سطينية وموقعه بني منطقة و�سط بريوت ومطارهاّ � .إن بحث ًا ب�سيط ًا يف �أر�شيف مكتبة م�ؤ�س�سة الدرا�سات الفل�سطينية يف بريوت ،يعطينا حوايل ٢٢٣٢ورقة �أكادميية و ١٢٨كتاب ًا و خمطوطات حول املخيم املذكور باال�ضافة اىل �آالف املقاالت االعالمية ّ املوجودة والكثري من الأفالم الوثائقية والريبورتاجات والأفالم الوثائقية .كل هذا جعل املخيم وجهة الباحثني من �ش ّتى �أ�صقاع االر�ض اىل ان �أ�صبحوا جزء ًا يومي ًا املخيم .فالكثري من الأهايل مل يعد يذكر من حياة �أهل ّ عدد املقابالت التي �أجراها مع الباحثني وال�صحافيني. خميمات الالجئني الفل�سطينيني االخرى ويف املقابل ف� ّإن ّ
98
بدايات
العدد |5ربيع 2013
«كرثت الأبحاث و�أ�صــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبحت م�شكلة جديدة بعد هزميـــــــــــــــــــــــــــــة 1982 وطرد منظمة التحرير الفل�ســــــــــــــــــــــــــــطينية من لبنان» ،يقول خليل ،وي�ضيــــــــــــــــــــــــــــــف: «تخل�صنا من االجتياح اال�ســــــــــــــــــــــــــــرائيلي اتانا االجتياح البحثــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي»
تنزع اىل اجتذاب انتباه � ّ أقل بكثري ،ففي مكتبة م�ؤ�س�سة ال الدرا�سات الفل�سطينية على �سبيل املثال 17 ،مقا ً املخيم خميم برج الرباجنة ،وهو �أكادميي ًا فقط حول ّ ّ الرئي�سي الآخ��ر يف ب�يروت .و�أخ�ير ًا ف� ّإن الفل�سطيني ّ خميم نهر البارد عام ،٢٠٠٧القريب من مدينة تدمري ّ طرابل�س يف �شمال لبنان� ،أ ّدى اىل اجتياح بحثي متزايد. يحبون الدماء، فح�سب �أحد �سكان املخيم« :الباحثون ّ ّ فتعر�ض �أي خميم للم�آ�سي كفيل واملوت والدمار… ّ باجتذاب الباحثني ــ بدك ت�شدي باحثني ل�شي حمل بعتيلو دبابات يدمروا بيهوجوا عليه».
املخيم تزداد �أعداد الباحثني الوافدين �إلينا ،ف� ّإن م�شاكل ّ تزداد �أي�ض َا» تقول ملى ذات االربعة والع�رشين ربيع ًاّ � .أما خليل ،فيوافق على ما �سبق ويزيد «هناك دوم ًا درا�سات للمخيم ،لكن ال �شيء يتغيرّ .ل�ست حول الظروف ال�صعبة ّ ّ �أدري ملاذا قد يحتاج املرء اىل كل تلك الدرا�سات من �أجل حت�سني ظروف الآخرين ــ ما ال�شغلي وا�ضحة كل يظن الكثريون من ّ املخيم �سكان هالأد بدها �أبحاث!»ّ . ّ �أن ه�ؤالء الباحثني ال يريدون يف الواقع حت�سني الظروف املعي�شية يف املخيم ،وال�سبب كما يعتقد �أحمد «� ّأن هدفهم الرئي�سي هو �إبقاء الو�ضع على ما هو عليه .وهذه قناعة حت�سن الو�ضع «�شو بدهن يعملوا كل الأهايل» ،ف�إذا ما ّ بينقطع رزقهم» .ي�شتكي �آخرون �أي�ض ًا من أ� ّنه لو ّمت �رصف االموال التي خ�ص�صت للمواد البحثية عرب ّ كل العقود للمخيم ،الختفت اليوم التحتية املتتالية على تنمية البنية ّ ّ امل�شاكل التي ت�ستقطب الباحثني. وربط الأبحاث يف املخيم بتح�سني ظروف �ساكنيه االجتماعية واالقت�صادية يت�أتى مبا�رشة من الوعود املعطاة لهم من قبل الباحثني و(م .غ.ح) يف �شاتيال. تروي على �سبيل املثال باحثة تعمل يف مركز ع�صام فار�س ،حادثة ح�صلت لها مع طفلة تبلغ الثامنة من عمرها� ،شكت لها فيها هذه االخرية خالل ور�شة عمل لليوني�سيف قائلة «ب�أنهم (الباحثني) يقومون بزيارتنا مرار ًا وتكرار ًا وبطرح اال�سئلة ،لكن ال �شيء يتغيرّ .ملاذا �إذ ًا تكملني بحثك يف املخيمات؟» .فلم جتد الباحثة اال �أن
عن البحث واملنظمات غري احلكومية بـ«ق�صة الباب أبحاث بد�أت �أم �أحمد احلديث عن ال ّ املخلوع» قائل ًة« ،لقد قامت رئي�سة «منظمة غري حكومية» ــ م غ ح ــ مركزها خميم «�شاتيال» بزيارتي ملرات عديدةّ . مرة كانت ت�أتي فيها كانت ت�صطحب كل ّ معها باحثني من �أجل �أخذ �صور فوتوغرافية .يف �أول زيارة كنت على و�شك االختناق .مل �أكن حينها �أملك تخيلت � ّأن احلديث مع زواري �سيكون �شيئ ًا من املال و ّ التنفي�س املالئم .ف�شة خلق وف�ضف�ضة ــ .ا�ستقبلتها مع الباحثني وتكلمت معهم ب�صدق وبكيت ،كما �سمحت لهم ب�أخذ �صور للمنزل .لكان باب املطبخ خملوع ًا. وتكررت بعدها الزيارات بانتظام .كانت ت�أتي ثم تذهب �آخذ ًة �صور ًا فوتوغرافية .هكذا م�ضت ال�سنة االوىل ثم الثانية ف�شهر رم�ضان ثم �شهر رم�ضان �آخر ،حتى ال�سنة املا�ضية .لقد م�ضت � 5سنوات من املقابالت ال و�أخذ ال�صور لبابي املخلوع» .ويعقّب ابن � ّأم احمد قائ ً «الأمر كما قالت �أمي ،فلقد م�ضى على الباب املك�سور � 5سنوات ،ول�ست �أبالغ بالقول �أنه ّمت التقاط 100
99
بدايات
العدد |5ربيع 2013
تر ّد على الطفلة قائل ًة «نحن نكتب من �أجل اليوني�سيف ونتائج الور�ش �ستعطى لهذه االخرية التي �ستعمل على ّ املخيم � ّإن الباحثني عادة حل امل�شاكل» .ويقول �سكان ّ يكررون عبارات مثل «خدمة الق�ضية الفل�سطينية» ما ّ ك�سبب رئي�سي لدفع النا�س �إىل امل�شاركة يف الأبحاث، لكن هذا مل يعد يقنع الأهايل يقول �أحمد وي�ضيف: «�آخر باحث زار حم ّلي ،قال �إ ّنه يعمل فيلم ًا خلدمة الق�ضية الفل�سطينية .قلت له حينها � ّإن فل�سطني ع ّلمتنا �أ ّننا عندما نزرع �أ�شجار ًا ف� ّإن ما يجب �أن نح�صده هو الثمار� .ساعدين لكي �أ�ساعدك .يريدون مني � ّأن �أترك حم ّلي و�أعمل معهم طوال النهار! ومن �أجل ماذا؟ لأنهم ي�ساعدون فل�سطني! ي�أتون ليعبثوا معي على �أ�سا�س يهتمون �إذا ما فقدت عملي ومورد فل�سطينيتي وال ّ ّ بالق�ضية جتارة كفى فل�سطني. أمر ل يهتمون هم ن لك رزقيّ ، ّ الفل�سطينية .ما نحنا فل�سطني». ّ وحتاول «م.غ.ح» ــ ويعزو اليهم مفاتيح املخيم ــ ، �إقناع الأهايل بامل�شاركة يف االبحاث من �أجل «�إي�صال الفل�سطينيني، ال�صوت» و «تغيري النظرة» اىل الالجئني ّ لكن خليل يهز�أ من ذلك غا�ضب ًا وبالتايل حت�سني ظروفهمّ . «لو يقولون يل �إ ّنهم يقومون ب�أبحاثهم لأنها م�صدر رزقهم و ال يعدونني ب�شيء �أو يذكرون الق�ضية الفل�سطينية لكنت ّ ال «كنت يف ما م�ضى �سعيد ًا �ساعدتهم». يتذكر خليل قائ ً ن�صدق � ّأن بامل�ساعدة يف الأبحاث .لقد جعلتنا م .غ .ح ّ �سيح�سنون و�ضع الالجئني يف املخيمات ،و�أ ّنهم الباحثني ّ �سيكونون �صوتنا يف اخلارج» .يزيد �سمري على ذلك ،وهو �أي�ض ًا من ّ ال «كنت �أهبل ــ �ساذج ًا ــ من �سكان املخيم ،قائ ً ّ قبل ،وكنت �أ�صدق �أ ّنه كلما زادت الأبحاث زاد اخلري .مل �أعد �أهبل وال رومن�سي ًا يف هذه امل�س�ألة كما كنت .يعني اذا دبينا ال�صوت بريك�ضوا �أهل اخلري للنجدة». املخيم �إن كرثة الأبحاث يقول كثريون من �أه��ل ّ والباحثني من جهة وتزايد م�شاكل املخيم وم�آ�سي �أهله من جهة �أخرى ،ق ّلال احلما�سة للم�شاركة يف الأبحاث اجلارية اليوم .فبعد �سنوات من الكالم حول و�ضعها وا�ست�ضافتها قررت لباحثني ،يقومون بت�صوير باب مطبخها املخلوعّ ، �أخري ًا � ّأم �أحمد التوقّف عن ا�ستقبالهم« .لقد �أتت رئي�سة ٍ باحث اىل هنا ،فقلت لها �شكر ًا ،ال �أريد� .أنت م.غ.ح مع ولدي �أطفال ولهم كرامتهم .هل تف�ضحينني .انا �إن�سانة ّ انت �سعيدة بكونك ت�أتني اىل هنا وت�ساعدين الباحثني لأخربهم ق�صتي فتف�ضحيني؟ من �أجل ماذا؟ ليقولوا � ّإن هذه العائلة ال متلك �شيئ ًا و�إ ّنها معدومة؟ ماذا فعلت
وحت�سني يل و�ضعي؟ �أنا لن �أ�ساعد باحثيك لت�ساعديني ّ بعد اليوم .لقد �أتت رئي�سة م.غ.ح لت�أخذ �صور ًا فوتوغرافية مرات عديدة .مل �أ�ستفد منهم ب�شيء .وال وت�ساعد الباحثني ّ يزال الباب خملوع ًا .تعايل وانظري». بالرغم من الغ�ضب لكرثة الباحثني والأبحاث ،يعتقد لكن بع�ض الأهايل � ّأن هناك موا�ضيع يجب درا�ستهاّ ، الباحثني ال يلتفتون �إليها كاحلقوق املدنية وت�ستتبع لي�س فقط درا�سة الالجئني الفل�سطينيني بالذات بل امل�ؤ�س�سات ّ تتحكم مب�صائرهم« .ملاذا يجب احلكومية والدولية التي درا�سة الفل�سطينيني من �أجل فهم فقدان حقوقهم؟» املخيم« .ملاذا ال تقام الأبحاث ت�س�أل رندا وهي فتاة من ّ على املجتمع الدويل واحلكومة اللبنانية ،امل�س�ؤولني عن قيمة مبقدار ما تتع ّلق حرماننا هذه احلقوق؟» .فالأبحاث ّ بتغيريات اجتماعية ملمو�سة ون�ضال �سيا�سي وا�سع. ومن املفارقة مبكان ،يقول البع�ض� ،أنه عندما كانت هناك املخيم ،كان هنالك القليل حركة اجتماعية وا�سعة يف ّ جد ًا من االبحاث التي كانت جترى يف �شاتيال �أو يف � ّأي خميم �آخر .لقد «كرثت الأبحاث علينا و�أ�صبحت م�شكلة ّ جديدة لنا بعد هزمية 1982وط��رد منظمة التحرير الفل�سطينية من لبنان» .يقول خليل «خل�صنا من اجتياح «بت �أعتقد الإ�رسائيلية اجانا االجتياح البحثي» ويكمل ّ اليوم �أن �صوت ال�شعب الفل�سطيني و�صل اىل العامل ب�سبب االنتفا�ضات والن�ضاالت ال�شعبية الفل�سطينية أ�صدقهم». ولي�س ب�سبب الباحثني� .أنا مل �أعد � ّ العديد من الباحثني ال يتكلّمون العربيـــــــــــــــــــــــة ويتّكلون على املرتجمني املحليني ومعــــــــــــــــرفتهم املحدودة باللغة االنكليزيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة، ي�شكك ال�سكان يف ما يكتبه البـــــــــــــاحثون ولذلك ّ خالل املحاورات واملقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــابالت ارتياب حول ممار�سات الباحثني و�أجنداتهم يتخوف �أهايل �شاتيال من ازدياد الأبحاث �أو ما بات يعرف املخيم، باالجتياح البحثي .فروال مثال ً ،وهي من �سكان ّ تقرر خارج املخيمات ولي�س تقول «� ّإن موا�ضيع الباحثني ّ يد لهم يف تقرير موا�ضيع املخيمات ال َ بداخلها ،و� ّإن �سكان ّ ال � ّإن «معظم الأبحاث البحث» .يوافق �سمري على ذلك قائ ً �إنمّ ا هي موا�ضيع م�شهورة يف اجلامعات الغربية فقط ،فيتبنى نظريات دارجة يف اجلامعات حماولني �إثباتها الباحثون ّ بدرا�سات ميدانية يف املخيح حتى ولو كانت النظريات
100
بدايات
العدد |5ربيع 2013
املخيم يف �أخالقيات وي�شكك الكثري من �سكان ّ املخيم الباحثني .فبالرغم من �شكاوي العديد من �أهل ّ من التعب من الإجابة على �أ�سئلة الباحثني ف� ّإن �أولئك املخيم �أ ّنهم ال يعودون اىل �شاتيال .ويعتقد الكثري من �أهل ّ يهتمون �سوى مب�صلحتهم ال�شخ�صية وي�سعون دائم ًا خلف ي�ستمرون ب�إجراء ترويج �أنف�سهم ،فيت�ساءل خليل «ملاذا ّ املقابالت؟» ،ويجيب ل ّأن الفل�سطينيني يبيعون .نحن نبيع: مركبان ومعقّدان ــ و�شعب معقّد كمان. وق�ضية ن�ضال ّ ّ ّ الكل يريد درا�سة االمر من �أجل يف �أغلب الأحيان ،ف� ّإن الذاتية .هم يعلمون �أن الق�ضية الفل�سطينية تبيع م�صاحله ّ ومن �أجل ذلك يدر�سوننا .لكي ينجحوا يف اجلامعة. يتذمر ال�سكان من � ّأن الباحثني يتالعبون بالعالقات ّ املخيم املخيم .بينما يقومون بالأبحاث يف االجتماعية يف ّ ّ حملية ويعدون ب�أ ّنهم �سيبقون على يعقدون �صداقات ّ املخيم� .إال �أ ّنه وما ا ّت�صال مع النا�س حتى بعد مغادرتهم ّ �أن يغادر ه�ؤالء «حتى ال يعودوا ير ّدون حتى على الر�سائل االلكرتونية التي نر�سلها اليهم .نر�سل لهم �سالم ًا فال ير ّدون ال. اال وداع ًا ــ «منق ّلهم هاي بيقولوا باي» .يت� ّأ�سف �أحدهم قائ ً ّ بالإ�ضافة اىل ّ ال�سكان ي�شكون من � ّأن الباحثني كل ذلك ف� ّإن ال ي�شاركون الأهايل يف �أبحاثهم وال ي�ست�شريونهم ال حني ال «دائم ًا �أ�س�أل الباحثني كتابتها وال بعدها. يتذمر �سمري قائ ً ّ أت�رضع ب�أن ير�سلوا يل درا�ساتهم �أو املخرجني �أفالمهم و� ّ اليهم عرب الر�سائل االلكرتونية لكي �أح�صل عليها ،وعادة ما يح�صل هذا عندما يريدون العودة لإجراء بحث جديد! يعني ملا يعوزوين مرة تانية» .ويقول الأهايل ب� ّأن الباحثني يتوقّعون منهم �أن يجيبوا عن �أ�سئلة ال ميكن للباحثني توجه �إليهم« :يريدون معرفة كيف �أنام الأبحاث على �أنواعها �أنف�سهم �أن يقبلوا ب�أن ّ خميم �شاتيال مع مع زوجي وعلى � ّأي جنب برتاح .اىل هذه الدرجة التدخل دخلت �أنواع جديدة من االبحاث اىل ّ املرات �س�أل �أحد الباحثني الذي بدء الألفية الثانية .وهي �أبحاث ي�شار اليها ب�شكل او بحياتنا؟ �أق�سم إ� ّنه يف احدى ّ كان يقوم ببحث حول العالقات الزوجية عن �أمور حمرجة ب�آخر على �أ ّنها ت�شاركيةَ .ت ِعد هذه االبحاث ّ املخيم �سكان ّ للغاية .احلقيقة �أ ّنه ال ميكن اقت�صار و�صف الأمر باملقرف بفر�ص للتع ّلم والتمكني عرب م�شاركتهم يف العملية ويرحب بهذه الأ�شكال اجلديدة من الأبحاث أ�صح القول �إنه مل يبق �شيء لدرا�سته .كفى .البحثية. ّ فقط .بل ال ّ حق ًا كفى .نحن نا�س عنا كرامة كمان»ّ � .أما روال فتقول � ّإن كونها بدت �أ ّنها تتجنب ثغر م�شاكل الأبحاث ال�سابقة. ّ ي�ستمرون لكن الباحثني «النا�س يف تتذكر رانيا ــ وهي �شابة من �شاتيال كانت يف ما م�ضى املخيم متعبون للغاية» ّ ّ ّ ال للتجارب». املخيم: تعمل يف منظمة غري حكوميةيف يف التعامل معهم «ب�صفتهم حق ً ّ وي�شك اهايل املخيم يف الأجندة ال�سيا�سية للباحثني «ا�ستح�سنت االمر يف البداية .على ال ّ أقل ك ّنا �سنح�صل وخ�صو�ص ًا القادمني منهم من بالد كالواليات املتحدة على �شيء ما مقابل اال�شرتاك بالأبحاث .فنحن دائم ًا ما االمريكية وبريطانيا .وبح�سب �أحمد «ما امل�صادفة يف � ّأن ن�ساعد الباحثني ثم يذهبون و ال �أحد منهم ي�ساعدنا يف البلدان ال�صديقة ال�رسائيل هي التي ترغب بدرا�ستنا � ّأي �شيء ،و هم ال ّ يتذكرون �أننا �ساعدناهم على � ّأية حال. وينظر للباحثني يف املخيم على �أ ّنهم جوا�سي�س عندما �أتى مدير احدى الـ(م.غ.ح ) ا ّ يل ،كنت قد �ضقت ذرع ًا ّ بحق الله»ُ . ال ،ب� ّأن بع�ض وتعترب �أ�سئلتهم م�شبوهة .ويقول �سمري مث ً ه�ؤالء «يقوم ب�أبحاث تبدو ل ّأول وهلة �إن�سانية الطابع، ولكنها ت�ستعمل يف احلقيقة لأغرا�ض �سيا�سية» .وتوافق رندا على ذلك قائلة �إن «الدرا�سات ت�ساعد على فهم مواطن ال�ضعف واملنافذ التي ميكن من خاللها اخرتاق املجتمع الفل�سطيني وجعله ين�سى حقوقه ال�سيا�سية». املخيم من � ّأن الباحثني ي�س�ألونهم مرار ًا وي�شتكي �سكان ّ عن ر�أيهم يف حق العودة على �سبيل املثال ،ويحاولون يتبدد يوم ًا ما البحث عن �أد ّلة تثبت � ّأن تع ّلقهم بالعودة قد ّ يخف .وبر�أي �سمري ف� ّإن ا�ستطالعات الباحثني قد تهدف او ّ اىل توجيه وت�شكيل وعي النا�س من جهة ،وجتهيلهم من توجه الآن للرتكيز على الفل�سطينيني جهة �أخرى .هناك ّ لي�س ك�شخو�ص �سيا�سية بل كب�رش .هذا هراء� .أنا ال �أقول �إنا ل�سنا بحاجة للرتكيز على امل�شاكل ال�شخ�صية ولكن هناك ما ي�شبه اجلهود املر ّتبة حلرف االنتباه بعيد ًا عن امل�سائل ال�سيا�سية باجتاه الأطر ال�شخ�صية والفردية وهنا يكمن اخلطرّ . ممولة وال ت�أتي كل هذه امل�شاريع والدرا�سات ّ جمرد ابحاث بريئة». من فراغ ،وهي لي�ست ّ �أما رندا فتقول �إن الباحثني عدميو النزاهة« :يف بع�ض الأحيان ي�ضعون يف مناذج اال�ستبيانات التي يو ّزعونها بع�ض اال�سئلة التي قد تكون م�ؤذية جد ًا ،وال عالقة لها باملو�ضوع الذي يدور البحث حوله .هناك �أي�ض ًا �أ�سئلة وت�سجل على تطرح على هام�ش البحث وهي تكتب ّ يتم كيف أوراق؟ �أوراق �أخرى� .إىل �أين تذهب تلك ال ّ حتليل النتائج؟ ال �أحد يعلم».
قد �أنتجت بعد درا�سة متت يف باري�س� .أ�سئلتهم ال تنبع من الّ � ،أن الباحثني ي�سايرون واقع املخيمات» .يالحظ �أحمد مث ً املو�ضة ،و�أنهم جميعهم يعملون على نف�س املوا�ضيع يف ال «هناك موا�ضيع تتناول نف�س الوقت .يع ّلق على ذلك قائ ً الب�رش قد جتلب ال�شهرة للباحث ،لكن ينق�ضي االمر يف ّ ويركز النهاية .ت�صبح هناك موا�ضيع جديدة هي الرائجة، اجلميع �آنذاك على تلك الأخرية» .ح�سب ّ املخيم ف� ّإن �سكان ّ ّ و«حل املوا�ضيع الرائجة هذه الأيام ،هي ال�شباب والن�ساء املخيم أهل النزاعات» و«حقوق الإن�سان» .وبالرغم من �أن � ّ ال يرون �أي �أهمية لهذه املوا�ضيع؛ ف�إنهم يعون � ّأن التمويل أهم يف حتديد موا�ضيع البحث. امل� ّؤ�س�ساتي يلعب الدور ال ّ ماهية الأبحاث ولي�س تقرر ّ تقول ملى «� ّإن االموال هي التي ّ اهتمام الباحثني الأخالقي والإن�ساين باملخيمات». ميتد اىل درجة لكن القلق حول الأبحاث يف املخيم ّ ّ ّ �أعمق بكثري من الإح�سا�س بانف�صال الأبحاث عن واقعهم وانعدام �صلتها بحياتهم اليومية .ففي املرتبة الأوىل ،يعبرّ الكثريون من ّ يرونه نق�ص ًا املخيم عن قلقهم حول ما ْ �سكان ّ ال�رضوري لدى الباحثني ،مما يف التح�ضري واملعرفة والفهم ّ م�ستوى متدنٍ من الأبحاث .فيتململ �سمري، قد ي�ؤدي اىل ً املخيم ،ل ّأن الباحثني يعودون دوم ًا اىل كغريه من قاطني ّ املخيم وي�س�ألون اال�سئلة نف�سها مرار ًا وتكرار ًا .عندما ّ ال: �س�ألته ملاذا يعتقد ب� ّأن ذلك يح�صل؟ ر ّد قائ ً [كثريون منهم] باحثون �شباب وال يقر�أون ما ُكتب املخيمات قبل �أن ي�أتوا �إلينا� .ألتقي �أحيان ًا �أفراد ًا حول ّ ي�ستن�سخون �أبحاث ًا ُمنجزة �سابق ًا لك ّنهم مل يكلفوا �أنف�سهم عناء قراءتها .مل �أعد �أفهم تالميذ الدكتوراه ه�ؤالء� .إ ّنهم ال يقومون بواجباتهم .هذا يعني �أ ّنهم ال يتوقّفون عن تع ّلم الفل�سطينية� .إ ّنهم ال يعرفون �أبجدية املخيمات بديهيات ّ ّ الق�ضية الفل�سطينية .هذا خميف حق ًا ومتعب لل�سكان. تت�ساءل ملى قائل ًة «�إ ّنهم يقومون باملقابالت مع اال�شخا�ص ذاتهم طوال الوقت .ال �أعرف ما هم ب�صدد اكت�شافه .ملاذا ال ي�ستعملون املقابالت التي اجنزت من قبل الباحثني ال�سابقني؟» .والعديد من الباحثني الذين ي�أتون املخيم ال يتك ّلمون العربية ،وبالتايل فهم ي ّتكلون على اىل ّ املرتجمني املحليني .ولبع�ض ه�ؤالء معرفة حمدودة باللغة ّ فان ّ ي�شككون املخيم �سكان االنكليزية.من �أجل ذلكّ ، ّ يف ما يكتبه الباحثون من خالل املحاورات واملقابالت املخيم .فبح�سب خليل «هم �أغبياء يف التي جتري يف ّ ّ معظم االحيان حيث �إ ّنهم ال يتكلمون العربية ونحن يف معظم الأحيان نتم�سخر عليهم».
101
بدايات
العدد |5ربيع 2013
املرة بالأبحاث .اال �أ ّنه قال يل � ّإن االمر �سوف يكون هذه ّ �شبيه ًا باملدر�سة و�ستتعلمني �أ�شياء .و�إنهم يقومون بور�ش ت�شاركني فيها و هم يكتبون عن متارينهم .كنت عاطلة من العمل وقتها� .أنت تعلمني كيف من�ضي ّ كل وقتنا يف الأزقة. �أنا بحب الع ّلم .فقلت لنف�سي َ مل ال ا�شارك يف تلك الور�ش؟». ولكن مع مرور الوقت ،ا�ستنتج العديد من ال�سكان � ّأن االنواع امل�ستحدثة من الأبحاث لي�ست ب�أف�ضل من ّ فال�سكان �سابقاتها ،بل هي يف الكثري من الأحيان �أ�سو�أ. ال يد لهم يف تقرير املوا�ضيع البحثية ،وهم ي�شعرون باالغرتاب يف ح�رضة املوا�ضيع التي يختارها الباحثون و«الت�رصف االر�سايل» الذي ويتململون من «اجلهل» ّ ميار�سه الكثري من الباحثني: نت�رصف �إزاء م�شاكلنا. «ي�أتون الينا لتعليمنا كيف ّ والله انهم �أغبياء ال يعلمون �شيئ ًا عن الفل�سطينيني و�صفات جاهزة وتاريخهم يف لبنان .يريدون تعليمنا ْ كتلك التي يقر�أونها يف الكتب .هبل للغاية .بع�ض املوا�ضيع ال عالقة لنا بها .ي�أتي الكثري من باحثي ال ،لتعليمنا النظافة وينتابنا �شعور ال�صحة العامة مث ً ّ ب�أ ّنهم يعتقدون ب�أننا و�سخون .ما �ساقوله لي�س بق�صد
والت�صوير ال�سينمائي وتدليلها ،وكذلك من انانية الباحثني ونزعتهم امل�صلحية� ،إذ ال يعريون انتباه ًا حلاجات �أو �آثار ثم التخ ّلي عنهم .لقدانتهت حتويل االطفال اىل جنوم ومن ّ مدة �صالحية �سلمى النجمة و ّمت بعدها ت�صنيع جنوم جدد ّ حتى انتهت مدة �صالحية ه�ؤالء كذلك� .إنها دورة بالفعل. ثم ي�ستغ ّلك الباحثون اىل �أن تنتهي �صالحيتك متام ًا ّ يرمونك لهمومك يف املخيم ت�صارعها وحيدا». وي�سهب �أحمد يف الكالم حول الآثار العامة للبحوث ال« :مت حتويل بع�ض االطفال اىل ابطال. على االطفال قائ ً أح�س الأطفال حينها ب�أ ّنهم يتلقّون االنتباه بال حدودّ � . ال .ي�أتي يوم ينتهي يح ّلقون فوق الغيم .ويعطونهم �أموا ً مدة �صالحية ه�ؤالء الأبطال ــ النجوم متام َا مثل الطعام فيه ّ املع ّلب .وعندما يكربون ويكفّون عن كونهم اوالد ًا �صغار ًا مه�ضومني؛ ينتقل البحث اىل �أوالد �صغار مه�ضومني جدد! املخيم .النا�س وهكذا يقتلونهم ويرتكونهم جمدد ًا لأزقّة ّ هنا ترثي حلال ه�ؤالء االطفال .وهذه عملية ا�ستغالل �أب�شع من عمالة الأطفال التي يعملون على ايجاد حلول لها .اذا ال ،فما هو �إذ ًا؟». مل يكن الأمر ا�ستغال ً تقول ملى التي �أ�صبحت حمور ًا النتباه الباحثني عندما كانت طفلة «عندما كنت جنمة كنت �أح�صل على مقابلتني خالل اليوم ،على ال ّ أقل» .تخربنا بعدها كيف �أ�صبحت ت�شعر باملرارة وخيبة الأمل جتاه الباحثني« :عندما كنت جنمة كنت �سعيدة لأنني �شعرت ب� ّأن الباحثني �أ�صبحوا ي�أتون اىل من �أجلي انا ك�شخ�ص لأنني مثرية لالهتمام املخيم ومل يبقوا على وذكية» .لكن عندما غادر الباحثون ّ أحترق غ�ضب ًا وحزن ًا وانزعاج ًا». ات�صال معها «�رصت � ّ ادرك��ت ملى يف ما بعد � ّأن الباحثني كانوا يهتمون بها خميم». «ب�سبب �أبحاثهم فقط ولأنني بنت ّ
مرة واحدة فيلقي �أ�سئلته عليك ثم يغادر .قد ال�شخ�ص ّ ترغبني بامل�ساعدة بذلك بالفعل .يف �أحيان �أخرى هم يلتم�سون منك اج��راء مقابالت للمتابعة .يف البحث الت�شاركي ،نعلق حتى ينتهي الباحث من جميع الور�ش. تعد تلك الور�ش �أحيان ًا �أكرث من ع�رشين �شخ�ص ًا .وهي ّ ت�أخذ الكثري من الوقت ونحن جمربون على املجيء ل ّأن الـ(ج.غ .ح) يجربوننا على متابعتها حتى النهاية». والهويات �آثر الإفراط البحثي يف العالقات االجتماعية ّ حي �سكني مثل �شاتيال الجتياح من قبل عندما ّ يتعر�ض ّ والهويات املحلية الباحثني تت�أثر العالقات االجتماعية ّ ّ املخيم .فالباحثون مييلون اىل الرتكيز على داخ��ل ّ جمموعات و�أ�شخا�ص حمددين يف املخيم بينما يتجاهلون ان�صب اهتمام الباحثني �آخرين بنحو تام .فعلى �سبيل املثال ّ لوقت طويل وب�شكل ح�رصي على جيل ١٩٤٨وجتربة النكبة ،و ّمت باملقابل جتاهل الهموم احلا�رضة ون�ضاالت االجيال االخرى .بعدها جرى الرتكيز على �أحوال الن�ساء وال�شباب والأطفال .ولكن يف ّ كل تلك احلاالت ،الرتكيز �دده املو�ضات و�أجندات على الفئات االجتماعية حت� ّ
تقول رانيا «منازلنا نظيفة و�أهالينا مهو�سون بالنظافــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة. لذلك �أنا ال �أعرف ملاذا ي�أتون لتعليمنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا كيف نغ�سل البندورة وكلّ هذا الهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــراء. نحن نظيفون وال نحتاج ملن يعلّمنا هذه االمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــور. �إنّ يف الأمر احتقاراً كبرياً لنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا» املخيم .رغم �أننا ال الإ�شادة فقط ولكن تعلمني كيف هو ّ منلك ما ًء وما �شابه ،اال � ّأن منازلنا نظيفة دائم ًا و�أهالينا مهوو�سون بالنظافة .لذلك �أنا ال �أعرف ملاذا ي�أتون لتعليمنا كيف نغ�سل البندورة ّ وكل هذا الهراء .نحن نظيفون وال نحتاج ملن يع ّلمنا هذه االمور .يف الأمر احتقار كبري لنا». ويتململ البع�ض الآخر ل ّأن هذه اال�شكال اجلديدة من الأبحاث متط ّلبة منهم �أكرث بكثري من املناهج البحثية ال�سابقة .يقول �سامي ــ وهو �شاب ال يزال يعمل يف منظمة غري حكومية يف �شاتيال ــ � ّإن «الأمر �أ�صبح �أكرث تعذيب ًا لأ ّنك ما �إن تبدئني حتى ت�صبحي جمربة على املتابعة �إىل �أن تنتهي كل الور�ش .ي�شعر املرء بامل�س�ؤولية نحو الباحثني الذين ي�أتون للتعليم هنا ،وال ميكن �أن ترتكيهم يف منت�صف الطريق» .تبدي رانيا نف�س املالحظة «�رصت �أعتقد الآن � ّأن االمر ازداد �سوء ًا ،لأنك يف االبحاث العادية تلتقني
104
بدايات
العدد |5ربيع 2013
ّ ّ ويركز الباحثون على ال�سكان �أنف�سهم. الباحثني ولي�س افراد من �ضمن تلك الفئات ،الذين يعتربونهم مناذج لبحوثهم وب�صفهم �أهايل املخيم بـ«النجوم» و�أن عملية ت�صنيع النجوم «دورة كاملة» .قد تكون هذه احللقة مريرة ق�صة �سلمى ،التي للنجوم �أنف�سهم وللأهايل .يروي �أحمد ّ �أ�صبحت بعمر احلادية ع�رشة ،حمور اهتمام فيلم وثائقي املخيم .لكن ماذا ح�صل بعد عر�ض الفيلم؟: حول ّ «�صارت �سلمى جنمة .مقابالت معها يف ّ كل مكان. اخذوها اىل امل�سارح واجلميع دللها .و�أ�صبحت فج�أة مركز اهتمام اجلميع .بقيت احلال هكذا اىل �أن ّمت اجناز فيلم �آخر حول �شاتيال .فج�أة ،مل تعد �سلمى هي النجمة� .صارت ت�رصفاتها� ،إذ �إ ّنها �أرادت �أن تبكي طوال الوقت وتبالغ يف ّ جتلب االنتباه اليها من جديد� .شعرنا اننا مل نعد نعرفها. �رصنا نفكر انها جمنونة .كان هذا من ت�أثري املقابالت
«مفاتيح» املخيم وجهة النظر هذه لي�ست ال�سائدة بني كل الأهايل .فهناك تروجان للأبحاث وت�ستفيدان منها .ت�شغل جمموعتان ّ املخيم هاتان املجموعتان وظيفة االت�صال بني �سكان ّ وباحثي اخلارج ،وي�شري اليهم الأهايل بـ«مفاتيح املخيم». املجموعة الأوىل تتكون ممن يعملون يف منظمات غري مهم لهم حكومية وينظرون اىل االبحاث كمجالٍ دعائي ّ وم�صدر لالموال التي يتقا�ضونها مقابل م�ساعدة الباحثني. املخيم «�شبكة م�صالح» بني هناك �إذ ًا ما ّ ي�سميه بع�ض قاطني ّ الباحثني يف اخلارج ومنظمات غري حكومية حملية تتكفل خميم بتوفري التجاوب مع الباحثني .ومبا � ّأن العديد من �سكان ّ
105
بدايات
العدد |5ربيع 2013
�شاتيال ي ّتكلون على املحلية من �أجل اخلدمات وامل�ساعدات املادية لزيادة دخلهم ،ف�إ ّنهم ي�شعرون ب�أنهم جمربون على امل�شاركة يف االبحاث ،وهم بالتايل ال ي�شعرون ب� ّأن لديهم خيار ًا حقيقي ًا برف�ض االن�صياع لطلبات الباحثني .فهم يعلمون ب�سوابق ح�صلت يف �شاتيال حيث توقفت منظمات غري حكومية عن ت�أمني خدماتها و�أموالها وللأفراد غري املتعاونني .وي�شعر العديد من ال�سكان ب� ّأن امل�ؤ�س�سات املحلية والباحثني من اخلارج يتواط�أون يف تعظيم الآثار ال�سيئة الناجتة من العي�ش يف املخيمات ،ويرون � ّأن الأمر وتهجم ًا على �إح�سا�سهم ي�صبح ت�صوير ًا �سيئ ًا ل�شاتيال ّ بالكرامة ال�شخ�صية .يقول �أمين وهو من �سكان �شاتيال: املخيم يف حالة �سيئة «تزعم املنظمات غري احلكومية� ّأن ّ يحب للغاية لأ ّنها الطريق لي�ستح�صلوا فيها على االموالّ . الباحثون �أي�ض ًا �أخبار الب�ؤ�س ،مما يعني � ّأن يف الأمر م�صلحة م�شرتكة ،لذلك ُن�س�أل دوم ًا عن م�شاكلنا فقطّ � ... أتذكر �أنني ال كنت �أ�شعر باملرارة الكبرية جتاه احلياة عندما كنت طف ً يف املخيمات .وكانت منظمة غري حكومية والباحثون يحبون ذلك .والآن �أ�ضحك عندما �أتذكر كيف كان موظفو ّ علي ما يجب قوله .على �سبيل املثال ،كان لون ؤ�س�سات امل� يمُ ّ العامل االجتماعي يف املنظمة غري احلكومية ي�أتي بالباحثة لتقابلني فيقول يلّ : «قل لها كيت و كيت» و«�أخربها عن هذا وذاك» .وكان الأمر يدور دائم ًا حول القرف من حياتنا و�صعوبتها هنا… يف بع�ض االحيان �أجل�س وحدي و�أ�ضحك .ل�ست مت�أكدا ً انني كنت �أقول احلقيقة ،اال �أ ّنهم علي .و�أعتقد �أنني قد قبلوا ما �أخربتهم به و�شعروا بال�شفقة ّ �أحببت ذلك حينهاُ .طلب مني حينها �أن �أ�ستجلب �شفقة الباحثني لكنني حتم ًا لن اقبل ذلك بعد اليوم». ال «ه�ؤالء يجعلوننا نظهر ب�شكل ي�شتكي �أحمد قائ ً �سيئ»� .أحمد كغريه من �شباب �شاتيال ممن هم يف الع�رشينيات من العمر ،ام�ضى �سنوات عمره يف التعاطي مع الباحثني منذ �أن كان �صبي ًا يف مقتبل العمر .يقول: مبنى «لقد �سئمت وتعبت منهم للغاية ..ك ّلما ر�أوا ً مدمر ًا �أخذوا �صور ًا عنه .االمر يف غاية االذالل .يريدون �أن يلتقطوا �صور ًا لأطفال فل�سطينيني فيذهبوا اىل احلرج حيث الغجر .يلتقون هناك ب�أطفال عراة ويزعمون � ّأن املخيم عراة. ه�ؤالء هم فل�سطينيون .مل � َأر يف حياتي �أطفال ّ ويذهبون �أي�ض ًا اىل احلرج من �أجل ت�صوير منازل التنك يدعون �أ ّنها جزء من املخيم .ل�ست �أتكبرّ على من ثم ّ ّ لكن يعي�شون يف بيوت التنك .لكن ملاذا الكذب؟ �أنا فقري ّ ملنزيل �سقف ًا كما ّ املخيم». لكل منازل ّ
و�أ ّنهم ّ ي�شكون يف كون ه�ؤالء جوا�سي�س اال �أنها ما زالت ت�شعر ب� ّأن «الباحثني يخدموننا فهم يعطوننا خيار ًا» .و ت�رشح رندا �أ ّنها تقبل فقط بالعمل مع باحثني حول املوا�ضيع التي املخيم .لك ّنها تعرتف ب�أ ّنها نادر ًا ما ت�شعر ب�أنها مل�صلحة �أهل ّ ترى ما يفعله الباحثون واملرا�سلون باملعطيات البحثية التي يجمعونها�« :أخاف من ر�ؤية النتيجة ،فحينها قد �أتوقّف عن العمل وعن م�ساعدة ه�ؤالء النا�س .و�أنا بحاجة للعمل».
«مل��اذا ال يكتب النا�س عن املواهب املوجودة يف ال «�إذا ا�ستمروا يف املخيم؟» ي�س�أل خليل .ويكمل قائ ً الكالم عن امل�شاكل ب�شكل ح�رصي ف� ّإن الغرب �سيقول، ه�ؤالء ال ي�ستطيعون معاجلة م�شاكل املخيمات فكيف ي�رض �سيتو ّلون �أمر بلد �إذا عادوا �إليه؟ �أعتقد � ّأن ذلك ّ بالق�ضية وال ي�ساعدها على االطالق». الفئة الأخ��رى من «مفاتيح املخيم» والتي تقوم بالرتويج لالبحاث واال�ستفادة منها مكونة من �أ�شخا�ص على قدر ال ب�أ�س به من التعليم ،يتك ّلمون اللغتني العربية خامتة واالنكليزية ويعتربون البحوث فر�صة ممتازة لزيادة يف اخلامتة ،من املهم اال�شارة اىل � ّأن ّ املخيم لي�سوا �سكان ّ ال �أدوار ًا كمرتجمني ،وك ّتاب ،و�أدلاّ ء جمرد �ضحايا االجتياح البحثي .فلي�ست املنظمات غري دخلهم .يجدون �إجما ً ّ املخيم من يحاول املخيم وما ي�سمى مبفاتيح للباحثني ،فيقومون برتتيب املقابالت واللقاءات البحثية احلكومية يف ّ ّ ال ب� ّأن فر�ض �أجندته ،بل � ّإن من جترى املقابالت معهم من ّ �سكان مع الأهايل .ويع ّلق �أ�سامة ،احد �سكان املخيم قائ ً «هذه ظاهرة حديثة ن�سبي ًا انت�رشت خالل العقد املا�ضي». املخيم يعملون من جهتهم على �إجناز العملية البحثية ،كائن ًا ّ يف البداية كان اجلميع م�ستعد ًا ليبذل الوقت واجلهد ما كان م�صدر الأخرية .يقول �أحمد« :يكذب الباحثون أمر جيد للمخيم وللق�ضية .لكن بعد معظم االحيان .و�أكذب عليهم يف املقابل .مل�صاحلي املت�أ ّتية ّ جمان ًا ،معتقدين ب� ّأن ذلك � ٌ جمرد �أ�شخا�ص من االبحاث .نختلق الق�ص�ص من �أجلهم يف بع�ض فرتة �ساد اعتقاد عام يف املخيم ب� ّأن الباحثني ّ خميمنا ب�إ�سماعهم ما نرغب ب�إ�سماعه �أنانيني ي�سعون وراء م�صاحلهم اخلا�صة .حينها تبد�أ بالتربير االحيان ونحمي ّ علي �أن �أ�ساعدهم من دون مقابل؟». يتعجبون «�آه، وكتابته ،حتى لو كان ذلك غري �صحيح .هم ّ لنف�سك قائال« :ملاذا ّ رغم � ّأن ّ �سكان املخيم يتفهمون مدى حاجة البع�ض مثري لالهتمام» .لديهم م�صالح �شخ�صية بينما م�صاحلنا ّ �إىل املال ،ف� ّإن بع�ضهم الآخر يعبرّ عن قلقه حول الطرق جماعية� ..أنا ال �أر ّد على � ّأي �شخ�ص ي�س�أل عن اال�سلحة، التي يجري بها ت�سليع االبحاث يف املخيم .يقول �سمري :الدعارة �أو املخدرات �أو �شيء من هذا القبيل». ّ املال يتقا�ضى كونه من «ال يخجل �أحد مفاتيح املخيم وبالرغم من ذلك ،ال يزال الأهايل ي�شكون من قلقهم ال« :يجب �أن حول ظاهرة االفراط البحثي و�أثر البحوث والباحثني يف مقابل م�ساعدة الباحثني .ف�سرّ يل االمر قائ ً ّ تفكر باالمر على �أ ّنه عمل» .ل�ست مرتاح ًا لذلك� ،إذ �إنني ال حياتهم ال�شخ�صية وحياة عائالتهم واملخيم بنحو عام. املخيمات �أريد �أن �أكون عبد ًا للباحثني ،لكنني ال �أحب فكرة كوين ل�سنوات عديدة ،طالب �أف��راد ومم ّثلو ّ رجل �أعمال و�أعي�ش على ح�ساب �شعبي .بع�ض النا�س الفل�سطينية يف لبنان الباحثني بوقف �أبحاثهم يف ال ّ يفكرون اال باملال .هذه نتيجة �سيئة �أخرى لالجتياح املخيمات .ففي عام � ،٢٠٠٨أطلق مركز ع�صام فار�س ّ البحثي ،فهي تخلق طفيليات يف املخيم ..لقد �أ�صبح االمر يف اجلامعة االمريكية يف بريوت برناجم ًا ينفّذ على عدة ّ خميمات الالجئني الفل�سطينيني يف لبنان نكت ًة يف احلقيقة ،فهم يقولون �أحيان ًا للنا�س ما يجب �أن يقال �سنوات ،حول ّ للباحث. يت�رصفون كمر ّتبات الأعرا�س ،ي�أخذون الباحثني واالردن و�سورية وفل�سطني .ويف معظم ندوات املركز ّ الفل�سطينيون ب�إنهاء الربنامج البحثي اىل العائالت نف�سها كل الوقت ويقول لهم ما يجب قوله» .طالب امل�س�ؤولون ّ رندا فتاة من ّ �سكان املخيمات متعبون من تطفّل املخيم ي�أتي معظم دخلها من املال لأنهم �شكوا من � ّأن «اهايل ّ ّ ّ عرب ترتيب املقابالت والرتجمة الكتابية والفورية ونقل الباحثني»( .موظف يف مركز ع�صام فار�س ،مقابلة خا�صة). حما�رض لقاءات الباحثني اخلارجيني مع �سكان املخيم .و�أُ طلقت نداءات م�شابهة من قبل الالجئني الفل�سطينيني ْ ّ تنهي حوايل ١٠م�شاريع بحثية يف ال�سنة� ،ش�أنه ك�ش�أن يف اجتماعات اليوني�سيف عام ٢٠١٠ومنظمة العمل الكثريين من �أ�ساتذة الدكتوراة ،طالب املاج�ستري وتالميذ الدولية يف لبنان عام ،٢٠١١لكن يبدو �أنه ال حياة ملن الدكتوراة ،باال�ضافة اىل ال�صحافيني والباحثني الذين ي�أتون تنادي .فك�أن الطريقة الوحيدة لرد االجتياح البحثي هي من م�ؤ�س�سات و�ضع ال�سيا�سات ومدرعات التفكري .ورغم «حتويل املخيم اىل ال�شانزيليزيه ــ عمرك �سمعت عن �شي ّ خميم �شاتيال قد م ّلوا من الباحثني ،باحث بال�شانزيليزيه؟» ،على قول �أحدهم. �أن رندا تعرف � ّأن �سكان ّ
106
بدايات
العدد |5ربيع 2013
106
إهنا أيضا ثورة اجتماعية!
يا�سني �سويحة
مبنية للغياب 109المنازل ّ مبنيون للمجهول وحنن ّ
رائد وح�ش
« 117باب الشمس»ّ : كل هذه الرومانسية!
عالء حليحل
هجرة ريفية وبطالة وع�شوائيات نالت الأرياف واقت�صادها الزراعي القدر الأكرب من الهجمة إفقارية التي و�سمت حقبة «اقت�صاد ال�سوق اﻻجتماعي». ال ّ ف��أوىل خطوات ان�سحاب الدولة من دوره��ا يف �ضمان اﻻجتماعية �أتت من درب �سحب دعم القطاع العدالة ّ الزراعي ،ال �سيما مع قراري �سحب الدعم عن �أ�سعار املحروقات والأ�سمدة ،ما �أدى الرتفاع �أ�سعارها ما بني %400-200دفعة واحدة ،وجعل �أغلب املحا�صيل غري جمدية اقت�صادي ًا .يف تلك احلقبة ،كان عبدالله الدردري، نائب رئي�س الوزراء االقت�صادي ،ﻻ يتوقف عن الإ�شارة
إهنا أيضا ثورة اجتماعية! ياسني سوحية اجلدل الذي �شغل الن�صف الأول من �آذار هذا العام احليز نف�سه العام املا�ضي -يف �أو�ساط �أهل و�شغل ّال�سورية دار حول اليوم ال��ذي انطلقت فيه صحفي وناشط سوري الثورة ّ الثورة وانطوى على تو�صيف لل�رشائح االجتماعية- االقت�صادية املنخرطة يف الثورة واملنا�رصة لها. ّ اخلام�س ع�رش من �آذار كان يوم مظاهرة الع�رشات من ال�شبان وال�شابات اجلامعيني �أو اخلريجني حديث ًا، رفق ًة بالعديد من الن�شطاء ال�سيا�سيني واحلقوقيني املخ�رضمني ،يف �شوارع دم�شق القدمية .يف حني كان تفجر غ�ضب مدينة الثامن ع�رش من ال�شهر نف�سه يوم ّ درعا وريفها �إثر اعت�صام �أهايل ال�صبية املعتقلني لدى امل�رصية أمنية ب�سبب كتابتهم �شعارات الثورة ّ الأجهزة ال ّ على اجل��دران .كالهما يحمل مناه�ضة لقمع ال�سلطة والتحدي ملمنوعاتها عنوان ًا رئي�سي ًا عري�ض ًا .وكالهما ّ التاريخية القادمة من تون�س اللحظة مع ا من�سجم �أتى ً ّ وم�رص .هنا تنتهي امل�شرتكات �إذ ﻻ تن�سيق كان بني علم الواحدة بوجود االخرى .واﻻختالف ال احلركتني �أو ٌ يعني ،بطبيعة احلال ،التناق�ض بني حراك ن�شطاء ومثقفني وطالب الطبقة الو�سطى يف العا�صمة-املركز وانفجار طرفية وريفها. غ�ضب �شعبي عارم يف مدينة ّ حيتان «اقت�صاد ال�سوق االجتماعي» ال�شعبية هي ابنة الثامن ع�رش من �آذار ،يوم االنتفا�ضة ّ درعا ،يوم الغ�ضب الذي انتقلت �رشارته �رسيع ًا �إىل بانيا�س ،و�إىل حم�ص وريفها ،و�أري��اف دم�شق وحلب وحماة وادلب ودير الزور .يف رف�ض القمع اال�ستفزازي عنوان املُمار�س والعنف البنيوي لدى النظام ال�سوري ٌ �أكيد ،لكنه لي�س وحيد ًا ،كما �أنه ﻻ يكفي ل�رشح �أ�سباب التو�سع الأفقي ال�رسيع يف املدن ال�صغرية والأري��اف ّ
108
بدايات
العدد |5ربيع 2013
كيف يك�سب ه�ؤﻻء الهاربون من القطاع الزراعي رزقهم؟ قد تفيد اح�صائية ن�رشها البنك العاملي يف الإجابة على هذا ال�س�ؤال� ،إذ �أعلن �أن ن�سبة اليد العاملة ال�سورية املنخرطة يف «االقت�صاد غري الر�سمي» قد ّ ال�سورية ،وهنا الثورة اندالع قبل %82 إىل � و�صلت ّ املدربني الذين انتقلوا �أثر مئات الآالف من العمال غري ّ للعمل كمياومني حيثما ا�ستطاعوا :البناء ،رعاية احلدائق املتجول ،الخ .دون حقوق عمل وﻻ اخلا�صة ،العتالة ،البيع ّ �ضمان اجتماعي من �أي نوع .امللفت للنظر �أن اجلهة التي ن�رشت هذه الإح�صائية ،البنك العاملي ،كانت اجلهة الأكرث
ن�سبة البطالة ملن هم دون الثالثني قُدّ رت قـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبل اندالع الثورة بـ ،%48وقُدّ ر �أي�ضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ًا �أن %40-30من خريجي اجلامعات العاملني قد عجزوا عن �إيجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاد فر�صة عمل يف جمال اخت�صا�صهم الدرا�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
و�أحزمة املدن الكربى .ولي�س �صدف ًة �أن مراكز �رشكة «�سريياتل» تلقّت هجمات اجلموع الغا�ضبة �أ�سو ًة باملراكز الأمنية و�أق�سام ال�رشطة يف درعا ،و«�سريياتل» هي العالمة الأبرز لرثوة رامي خملوف ونفوذه ،ابن خال الرئي�س ال�سوري و�أغنى رجال الأعمال �سوريا ،والذي ُينقل عنه تباهيه ب�سيطرته على %60من االقت�صاد أقرت له و�سائل الإعالم الدائرة يف فلك ال�سوري .وقد � ّ النظام ال�سوري برثوة قدرها 59مليار لرية (�أكرث من مليار دوالر ح�سب �سعر �رصف اللرية حينها) رغم �أن تقدر ب�أ�ضعاف هذا املبلغ .وهي ثروة ظهرت ثروته الفعلية ّ ّ فج�أ ًة وت�ضاعفت ب�رسعة دون �أدنى جهد ل�رشح م�صدرها، ولو يف �سبيل الربوباغندا ،مثلها مثل ثروات الع�رشات يف�ضلون «ريادة من �أبناء م�س�ؤويل النظام ،الذين باتوا ّ حتول الأعمال» على وراثة �آبائهم يف املنا�صب بالتوازي مع ّ االقت�صاد ال�سوري �إىل «اقت�صاد ال�سوق اﻻجتماعي». النيوليربالية يف ُبنية التحوالت هكذا ُ�س ّميت جمموعة ّ ّ االقت�صاد خالل الأعوام الع�رشة الأخرية ،والتي �أتت كد�سة خالل عقود النهب ،عن طريق لتوظيف الرثوات املُ ّ املنا�صب الع�سكرية واحلكومية واالداري��ة ،يف ادارة م�شوهة ومر�سومة على مقا�س حيتان الظاهرة اقت�صادية ّ ّ املخلوفية ورغبتها .وحقبة «اقت�صاد ال�سوق االجتماعي» ّ هي �أي�ض ًا زمن تر ّدي �أو�ضاع الطبقة الو�سطى ،وانهيار �سوية حياة الطبقات الأفقر ،ﻻ �سيما يف الأرياف وحميط �سبب ال�شتعال �رشارة درعا يف هذه املدن الكربى .هنا ٌ والتوح�ش الأو�ساط يفوق مقاومة اال�ستبداد ال�سيا�سي ّ حل�سا�سية أهمية ،دون �أن يعني هذا التف�ضيل نفي ًا الأمني � ّ ّ ال ل��دور العنف املفرط �ضد الديكتاتورية ،وﻻ �إهما ً ّ املُمار�س يف زيادة �إ�شعال الغ�ضب وجتذيره بداي ًة ،ثم دفعه نحو املقاومة امل�س ّلحة تالي ًا.
�إىل �رضورة االلتفات �إىل القطاعات اخلدمية وال�سياحية قر واملالية يف «اال�صالحات» بدل الزراعة ،رغم �أنه كان ُي ّ تباع ًا بتزايد حجم الكتلة العاملة التي تركت العمل الزراعي وتوجهت للبحث عن العمل يف قطاعات �أخرى .وهي كتلة ّ و�صل حجمها ،ح�سب تقديراته� ،إىل � 600ألف مزارع عام قدمتها أرقام �أخرى ّ ،2010رغم �أن الواقع املرئي ،كما � ٌ ال�سورية والهيئات الدولية املتعاملة معها ،تثبت �أن احلكومة ّ الرقم الفعلي �أكرب من هذا بكثري. اﻻقت�صادية ،لكن تلقى كامل الريف ال�سوري ال�رضبة ّ ال�سورية (احل�سكة ،دير الزور، حالة حمافظات اجلزيرة ّ الرقة) ،واخلارجة ب�أغلبيتها العظمى عن �سيطرة النظام اليوم، ّ كانت الأكرث م�أ�ساوية بامتياز ،وقد ع ّللت ال�سلطة حينها هذا الواقع مبوجة اجلفاف ،دون �أن ت�ضيع وقت ًا يف تبيان ُ الري يف نفع 15مليار دوالر �أنفقت -نظري ًا -على �أنظمة ّ حو�ض نهر الفرات .خالل الن�صف الثاين من العقد الأول ال�سورية وبرنامج الغذاء من القرن ،وح�سب بيانات احلكومة ّ العاملي التابع للأمم املتحدةَ ،ف َق ََد 1,3مليون مواطن (من �أ�صل حوايل 4ماليني هم تعداد �سكان املحافظات الثالث) م�صدر رزقهم ،وو�صل �أكرث من � 800ألف مواطن �إىل حالة «فقر مدقع» ح�سب تعبري وكالة الأمم املتحدة .تكفّل برنامج الغذاء العاملي ب�إطعام � 190ألف مواطن ،ووزع ح�ص�ص وقدرت احلكومة غذائية م�ساعدة على � 110آالف �آخرينّ ، ال�سورية �أن عدد العائالت التي هجرت املنطقة �إىل حميط ّ املدن الكربى يرتاوح بني � 80-50ألف عائلة.
109
بدايات
العدد |5ربيع 2013
االقت�صادية» �إ�صدار ًا للآراء الإيجابية حول «الإ�صالحات ّ للحكومة ال�سورية ما بني .2010-2005 يف التزايد املتعاظم لظاهرة ال�سكن الع�شوائي �إ�شارة �إىل االمكنة التي انتقل للعي�ش فيها الالجئون من كوارث ومفقّرو املدن .فقد �أعلنت وزارة الإ�سكان قبل الزراعة ُ اندالع الثورة بعا ٍم واحد �أن عدد مناطق «املخالفات» يف دم�شق وريفها وحلب قد و�صلت �إىل 115منطقة ،وكان املكتب املركزي للإح�صاء ،يف بحثه الأخري عن الظاهرة العام ،2007قد �أعلن �أن %50من ال�سكن الإجمايل يف �سورية ع�شوائي ،و�أن %45من �سكان دم�شق يقيمون يف مناطق ع�شوائيات ،ي�ضاف �إليهم %35من �سكان حلب ،و «اال�سرتاتيجية م�سودة %42من �سكان حم�ص ،كما �أعلنت ّ ّ الوطنية لال�سكان» ،ال�صادرة عن برنامج الأمم املتحدة الب�رشية� ،أن منو ال�سكن الع�شوائي بني عامي للم�ستوطنات ّ 1994و 2010جتاوز .%220 ُي�ضاف على الأرق��ام ال�سابقة تو�ضيح �أن ن�سبة البطالة ملن هم دون الثالثني ق ُّدرت قبل اندالع الثورة ُ��در �أي�ض ًا �أن %40-30من خريجي بـ ،%48وق ّ اجلامعات العاملني قد عجزوا عن �إيجاد فر�صة عمل يف جمال اخت�صا�صهم الدرا�سي. املعار�ضة وحتدي العدالة االجتماعية مل تكن �صدف ًة� ،إذ ًا� ،أن تكون الأرياف و�أحزمة املدن الكربى مبا فيها من مناطق ع�شوائيات ،احلا�ضنة الكربى
ال�شعبية بداي ًة ،ومنطلق ًا للعمل امل�س ّلح لالحتجاجات ّ �ضد العنف املفرط للنظام .كما مل تكن �صدف ًة �أن تتلقى هذه املناطق �أكرب قدر من ّ كل �أنواع العنف من قبل النظام و�أجهزته ،لي�س القمع الأمني والبط�ش الع�سكري وحده ،و�إمنا �أي�ض ًا بالعنف الرمزي والتحري�ض امل�سكوب من قبل و�سائل الإعالم ال�سلطوية واملوالية ،ك�أن تظهر �سخرية متكررة على �شا�شات التلفزيون ال�سوري من (جالبية وكال�ش)� ،أو �أن تقرر مظهر املتظاهرين الريفي ّ �صحيفة «الوطن» اململوكة لرامي خملوف �أن امل�شاركني يف مظاهرة خرجت يف جامعة حلب كانوا مد�سو�سني «�ﻷن ثيابهم الر ّثة تف�ضح �أنهم لي�سوا جامعيني»� ،أو الفا�شية �ضد الع�شوائيات اخلطاب املمنهج املوغل يف ّ و�أهلها ،والذي بد�أ من الربط بني ال�سكن يف الع�شوائيات والإج��رام وتعاطي املخدرات واﻻنحالل الأخالقي الوطنية» و«اال�ستعداد للعمالة» يف عدد كبري و«�ضعف ّ من املقاالت والتحقيقات ال�صحفية يف �إعالم ال�سلطة والإعالم اخلا�ص املتحالف معه ،وو�صل عند هيام علي، مديرة موقع «�سرييا�ستيب�س»� ،إىل املُطالبة مب�سح مناطق باملدفعية الثقيلة بعد �أن املخالفات هذه من الوجود ّ عبرّ ت عن ا�شمئزازها من كل ما �سبق ،و�أ�ضافت �إليه الروائح الكريهة املنبعثة من هذه املناطق .يبقى القول �إن ع�رشات املناطق الع�شوائية قد ُم�سحت من الوجود ال. باملدفعية فع ً ال�سورية، البعد االجتماعي -االقت�صادي للثورة ّ ٍ غائب عن خطاب التعبري بجوهريته و�أ�سا�سيته� ،شبه ال�سورية اليوم ،والتي تكتفي ال�سيا�سي للمعار�ضة ّ احلرية والكرامة ،وﻻ تذكر من باحلديث العمومي عن ّ ال�ضيق. إفقارية �إال الف�ساد مبعناه ممار�سات النظام ال ّ ّ لي�س احلديث عن هذا البعد اﻻجتماعي -االقت�صادي أكيد على حاج ًة تعبريية عن واقع �أليم فح�سب ،بل هو ت� ٌ ّ الوطنية اليوم� ،أو ﻻ انت�صار للثورة �أن ﻻ خمرج للأزمة ّ ال�سورية دون �أن مت�ضي الأم��ور يف طريق ر ّد املظامل ّ لأهلها ،واملظامل مل تكن فقط ذات طابع �سيا�سي�-أمني، اقت�صادية �أي�ض ًا� .سيا�سيو اليوم والغد جمربون بل كانت ّ اﻻجتماعية، التجهز للإجابة على مع�ضالت العدالة على ّ ّ وعلى �إعادة النظر بالعالقات املت�أزمة بني املدينة والريف، وبني املركز والأطراف ،وبني املدن الكربى ومدن الأطراف طريق والبلدات .هذا م�سلك �إجباري يف طريق املُواطنة، ٌ الطائفية ومن ت�سبب ﻻ يكفي يف امل�شي فيه احلديث عن ّ وكيفية التخ ّل�ص منها. بظهورها ّ
110
بدايات
العدد |5ربيع 2013
مبنيون للمجهول مبنية للغياب وحنن المنازل ّ ّ رائد وحش اشعر فلسطيين، يقيم يف سورية،
آخر اعماله «عندما لم تقع احلرب» ()٢٠١٢
111
1
البدوية التقليدية ،حيث يجل�س اجلميع ،كبار ًا و�صغار ًا، ون�ساء ،نكت�شف �أننا فعلنا الأ�شياء ذاتها ،الأجداد ال رجا ً ً والآباء والأحفاد ،جميعنا فعلنا الأ�شياء التي جتعلنا من عمر واحد ،وها �إننا نلتقي لنتحدث عن � ّأولنا ،فما من لثبت �أقدامه �أحد منا �إال وال يزال هناك ،وها �إنه ّ يتحدث ّ يف الـ «هناك» ،يف الأول.
ُعدنا اىل البداوة �صب �أبي فنجان القهوة الأول� ،رشبه بتلذّذ ثم راح ين�شد ّ يف مديح القهوة العربية وهي تدور علينا .انفتحت القرائح على ال�شعر فتحول املجل�س �إىل ما ي�شبه مبارزة بالكلمات. عدنا بدو ًا على غفلة منا ،وعاد البيت م�ضاف ًة َت ْعمر كل ليلة بالعائلة والأقارب والأ�صحاب والنازحني. عدنا بدو ًا جتمعنا القهوة وقنديل الكاز يف ع�شيات �أولنا املخيم واخلان وال�شيح حكائية. ا�سما مقدود ًا من و�صف املكان. �أولنا خميم خان ال�شيح ً أ�سي�سا �أ�سطوري ًا فدونك املاء .ها هو النهر، أردت ت� ً كل يوم ن�شعر �أنها التعليلة الأخ�يرة ،فالعا�صفة �إذا � َ وا�سم ُه و�ص ُف ُه. تقرتب �أكرث و�أكرث ،لذا �أخذ امل�رسح �شكله الأق�صى :النهر الأعوج، ُ ُ لفرح �أقرب �إىل الهبل ليل ٌة ندبك فيها يف الغرفة على لأننا من �أ�صول بدوية اعت�صمنا بالنهر .القبائل التي ٍ خيمت على �ضفة النهر خلوف «كا�سيت» عر�س قدمي ،وليلة حلزن متوح�ش ال يوفر هاجرت من فل�سطني املنكوبة ّ حتى لهب القنديل ،فرناه ميعن يف حمو وجوهنا� ،إىل دفني يف ذاكرة القوم من غياب املاء ،من عدم الثقة بال�سماء، َ جتعلك تظن �أنك ت�ساهر الظالل. درجة على عك�س الفالحني الذين ي�ؤمنون ب�أنها لن تن�ساهم �أينما حلّوا ،بينما نحن الذين ن�ؤمن بالأر�ض ومباء الأر�ض �سكنا أعوج نحاكيه� .أهل البداوة القبائل التي هــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاجرت هنا .حل�سن احلظ �أ ّنا وجدنا نهر ًا � َ من فل�سطني املنكوبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة ال يعرفون خط ًا م�ستقيم ًا ،وب�شفاعة اعوجاج النهر �شوارعنا خيّمت على �ضفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة كلها عوجاء .ما من �شارع ي�ستقيم لأكرث من ثالث بيوت. فرغنا النهر خلوف دفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــني ماء �أع��وج ملكان دهليزي .لكننا وا�ضحونّ . يف ذاكرة القوم من غيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاب االعوجاجات الداخلية ليكون لنا داخلٌ ٍ خال من كل عوج. املاء ،من عدم الثقة بال�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــماء. املخيم النار تكتب ّ �آه� .رسعان ما كربنا� ،رسعان ما منا ال�شَّ عر �أ�سود اخلان القدمي فقد وظيفته كمحطة بني الآ�ستانة ومكة ،ومل ال� ،أو يبق منه غري هيكله اخلارجي .بقي كذلك كداللة للمكان فاحم ًا على وجوهنا ال�سمراء .ك�أمنا نكرب لن�صري لي ً ال بعيد ًا ،م�ضِ ي الأيام يجعله يقرتب الفل�سطيني امل�ؤقت. �أن يف الأعمار لي ً ِ جلب َبت املكان ،قلّت �إىل �أكرث ف�أكرث لت�أتي النهاية على �شكل لطخة �سوداء كاملة .ال�شيح ،النبتة الربية التي َ �سمائية �سوداء ،من يدري؟ رمبا يبد أ� الأمر يف لطخة حفنات ال تكفي قطيع ًا. ّ يف م�ضافتنا الدميقراطية ،على خالف امل�ضافات املخيم رغم كل التحوالت ،من تهمي�شه بعد انتقال بدايات
العدد |5ربيع 2013
ال تعرف من �أية درجة من درجات الإغماء جاءت« :حتى لدي ديون». يف املريخ ّ ِ كل �شيء ُي�شعركَ �أن تزاحم النا�س �أم��ام دكانة ِّ وي�شعر الأبناء �أنهم يف خ�ضم الزمن مي�شي �إىل الوراءُ ، ق�ص�ص �آبائهم التي لطاملا متلملوا منها ،ولطاملا اعتربوها نوع ًا من املغاالة ،لوال هذه الأيام التي جعلت الق�ص�ص واقع لدى الأبناء، كلها ق�صة واحدة ،حيث ذاكرة الآباء ٌ وحيث البقال ذلك برجاوي الذي يطوف بب�ضاعته على حمارٍ بني ديار البدو.
الثقل الفل�سطيني �إىل داخل الأر�ض املحتلة حيث غابت ال�شعارات الثورية عن جدرانه ،و�صار التغيري وا�ضح ًا يف ثقافة ت�سمية حمالته التجارية التي انتقلت من الأ�سماء الوطنية �إىل الأ�سماء الدينية ،وتو�سعه الكبري خارج الدائرة التي ر�سمتها «الأون��روا» ،املخيم رغم كل ذلك ال يزال خميم ًا ،لي�س كمكان ،ال ،فهو بهذا املعنى مثل ع�شوائيات املدينة و�ضواحيها .ال يزال خميم ًا على ال�صعيد الب�رشي. �رسدت لك املخيم �أكمل حتوله من مكان �إىل �إن�سان .لو ُ احلنونية ،مريومة، الأ�سماء� :أبو في�صل ،الفرن�سي ،الكوبي، ّ حازم� ،ستجدهم كلهم واح��د ًا .هذا الواحد هو خال�صة البداية التي نتعلل عليها بالقهوة و�ضوء القنديل ،وال �سيما يف الوقت الذي ير�شحنا جميع ًا للموت .ثم �إن موتية ،فنحن نعبرّ بـ«حتت النهر» �أو «فوق فمويتنا ال�شيحية ّ ّ الطريق» دون �أن نعني الغرق �أو الده�س ،فهي جمرد �أ�سماء حملية للجهات� :رشق النهر وغرب الطريق. نوعي ًة يف جوهر احلياة، التحول يخفي نقلة لكن هذا ّ ّ ّ فمنذ غابت ال ّنار وحلّت حملّها الكهرباء يف البيوت أحيائي جديد بالتكاثر كالبكترييا، وال�شوارع �أخذ نوع � ّ وجتلى خطر هذا النوع �أكرث ما جتلّى يف تب�شريه الكا�سح حمو باال�ستغناء عن ال�شم�س ،وا�ستطاعته ،يف الآن ذاتهَ ، الليل .مل يعد �أكل الطعام املكهرب ،وتن ّف�س الأوك�سيجن املكهرب ،والعي�ش يف نهار طويل ومل ّفق �أمر ًا خطري ًا ،بل �إن اخلطر يف تلك الكائنات الكهربائية التي ال ميكن �أن ترى �إليها �إال كبطاريات باقية ما بقي فيها كربون قابل لل�شحن .منذ عادت النار �إىل وظائفها يف الإنارة والتدفئة، الب�رشي ح�س ًا وعاطف ًة وفكر ًا.. يف ح�ضور قوة الإلهي يف ّ منذها ،مع ا�ستعادة �أهم عنا�رص اخللق ،عدنا �إىل �أولنا ،املخيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم عدنا ناريني جد ًا ،وما لهب القنديل �إال عالمة يف التحول �أكمل حتولــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه الكبري .فمثلما فعلت النار يف التاريخ� ،إذ مل تكتف بتقدمي من مكــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان النور و�إن�ضاج الطعام ،بل قدمت تطويع املعادن ،ها هي �إىل �إن�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان تطوع معدن اخلوف ،ومعدن الألفة ،كي ال ذي نار القنديل ّ ك��ان م��رة ب�صبحة �صديق يف �إح��دى ق��رى جبل ت�سمح للجحيم ب�أن يكون جحيم ًا. النار وحدها كتبت بداية املخيم ،ووحدها �ستكتب ال�شيخ ،ويف طريق العودة الليلي امل�ضبب كيوم مبكّ ر من �أيام اخللق انزاحت ال�سيارة عن الطريق العام لتخرتق نهايته �أي�ض ًا. جدار �أحد املنازل ،ومل يكن ذعر تلك الأ�رسة من ذلك االقتحام ال�شيطاين يعادل ذعر الأب من ر�ؤية دائنه 2 دكانة �صبحي يف غرفة املعي�شة� .صبحي ،بني ال�صحو والإغماء� ،س�أل أ�شد ا�ستعادت ال ِب َقالة �ألقها .ازدهرت دكانة �صبحي من جديد� .صديقه ال�سائق�« :أين نحن؟ » ،ف�أجابه من �إغماء � ّ كان �صبحي �آخر من حافظ على �رشف املهنة ،فب�سبب من ال�صحو« :يف املريخ» .يف هذه اللحظة اقرتب رب عقليته املتحجرة ظل يرف�ض كل �أ�شكال التخ�ص�ص الأ�رسة من �صبحي يتو�سله �أن ي�ؤجل دينه ،فقال ،بن�شوة حني باتت هناك حمالت للمواد الغذائية ،و�أخرى ملواد حتمل التنظيف ،وثالثة للأقم�شة .لأكرث من ع�رشين �سنة ّ �شح الزبائن وقلة الطلب حتى مات مكمود ًا ،ليت�سلّم ت�شبه ًا به ،ليبقي تقاليد الوالد الدكان �أحد اكرث �أبنائه ّ كما هي ،منذ افتتاح جتارته قبل ن�صف قرن. ال تزال الأدوي��ة على رفوفها :م�سكِّ ن «�ساريدون»، بر�شام للزكام ،دواء �أحمر «ا�سمه الطبي ميكروفروم ،وقد �ألغي عاملي ًا» ،دواء القمل مع امل�شط الأبي�ض املخ�ص�ص ل�سحب تلك الطفيليات ،كا�سات الهوا ،الأبر �صينية ملر�ضى الأع�صاب ،قطران للجرب� ،إىل جانب بودرة قتل ال�رصا�صري. تتجدد ،فلدى �صناعها العناد ال تزال احللويات القدمية ّ ذاته الذي لدى البائع :برازق بعجوة القطعة الواحدة تكفي لقتل رجل .هري�سة ت�صمد يف كل ظروف املناخ. و�ش َّبة. حاجيات الن�ساء :كحل وح ّناء َ اللوازم املدر�سية بجوار الأكفان. ٍ بخي�ش مبلول باملاء كرف�ض قاطع �ألواح الثلج امللفوفة ونهائي الخرتاع �شهري ا�سمه الثالجة. امل��ازوت ،زيت الكاز� ،أ�سطوانات الغاز والبوابري والقناديل� ..إلخ. بقالية �صبحي هي ثالث بقالية يف املنطقة ،و�آخر واحدة باقية ،فالأخريان اخفتهما التحوالت الع�رصية. يف �أيام ع ّز جتارته كانت ديونه على النا�س تعادل بنك ًا. حتى �أن الفقراء يتندرون به ،فالذاهب �إىل املرحا�ض يقول: أ�سد �صبحي» .املديونون يرونه بالوع ًة ال ت�شبع، «ذاهب ل ّ ولأجل الإمعان يف حتقري ج�شعه يجعلونه بالوعة مرحا�ض.
112
بدايات
العدد |5ربيع 2013
3
حلظات االحتدام �أنه ال يزال كما كان قبل وجود الله. على �ضوء القنديل امل�شتعل جواتك تبحث عن خارجك فال تعرف �شيئ ًا .غياب اخل��ارج غيابك� .ضوء اخلارج و�ضوحك. هذا الظالم لي�س جماز ًا ،هو احلقيقة. نحن �أحطناه مبجازات الأن��وار والثورة ،وجم��ازات النريان ،وجمازات الأقمار وال�شمو�س ،كي نخفف بع�ض ًا من وط�أة احلقيقة� .أل�سنا نحن الب�رش �أكرث من ت�ؤذينا احلقيقة؟ كنت الذئب الذي يعوي يف اخلارج ملا كانت هذه لو ُ �أ�سئلتي .رمبا لدى الذئب �أ�سئلة نهارية بحتة!.. ليلي نهار الذئب ،ونهار الذئب ليلي. يا لها من حلظة لتفاهم الإن�سان واحليوان! يا لها من حلظة للغة الكونية! �س�أعوي� ،س�أعوي حقيق ًة لأوقف جماز القنديل امل�شتعل، وعلى الذئب نهار ًا �أن يجد الكالم كنوع من احلل!
قنديل ر�أ�س ال�سنة يتناق�ص زيت القنديل كل لهظة بينما �أراقب االنطفاء ال�سنة. ليلة ر�أ�س ّ �أنتظر نفاد الزيت لأنام رغم قابليتي النف�سية لل�سهر، فما الذي �س�أفعله يف العتمة املقبلة بعد دقائق؟ ال رغم انتهاء يف انتظار القذيفة �شيء غام�ض يبقي القنديل م�شتع ً ال �إىل الربتقايل يف يف زمن م�ضى كان انقطاع الكهرباء ي�شعل تبا�شري هذا زيته ،ويبقى اللهب �أ�صفر مائ ً ال يف حوافه ال�سفلى� .شيء غام�ض اخلوف .يف ذلك االنقطاع اجلزئي كانت املخاوف جزيئة، املنت�صف� ،أزرق قلي ً ال يجعل الوقت مير ،وال يرتك الظلمة ت�أتي!.. لكن امل�شهد يكتمل الآن. حد كنت �أ�شعر �أبقى معلق ًا يف حلظة العبور بني �سنتني ،بني اليقظة ُ يعر�سون يف حديقة البيت َّ ّ اجلن ّ واملنام ،بني الإعتام والإ�ضاءة. ال�شموع �سماعي طبو ً ال وزغاريد .ف�أ�شعلُ مزيد ًا من ُّ ، ال فع مي�ضي فالوقت غمو�ض، يف احلقيقة ما من الوطنية �رسيعة الذوبان ،وتخطر على بايل ،حيث ال ً ّ ٍ قليل� ،ستلعلع ال ل�ساعة بال يل ،فكر ُة احلرب� .أقول :حتم ًا ،بعد ودليلي �إيقاع املدفعية التي جعلت نف�سها بندو ً �صفارات الإنذار ،و�ستبد�أ ّ الكون� ،ساعة املوت. أهرب �إذ ًا. الطلعات اجلوية .فل ْ ّ ٍ ب�رسعة ،لي�س يف م�ستطاع �ضمان؟ فلأ ْمن يف احلقيقة �أنا يف الظالم منذ �ساعات ،فالقنديل انطف�أ هل يف ال�شوارع ٌ ٍ لقذيفة �ستحيل عادي ،فكيف بانتظاره انتظار وال�سنة اجلديدة �أعلنت دخولها يف �أماكن �أخرى من �إن�سان ٌّ ٌ مت �أموت نائم ًا. العامل ،لكن الظالم الكوين الذي يحيطني ُم ْعدم ًا �شعوري البيت غبار ًا .فلأ ْمن .هذا �سبيلي .علّني �إذا ُّ مبا حويل يفاقم ،من حيث ال �أدري� ،شعوري بي ،ف�أقاوم وحده ال ّنوم ينجي من الآالم( .يف زمن احلرب عرفت �أن َ مثلك يا �أبا العدم الأ�سود بتخيل لهب من قنديل ال ينتهي زيته ،كي النوم �أ�صعب ما يكون)� .إذ ًا ..هيهات هيهات ِ ال �أ�سلّم ب�أنني عالق يف �رشاك هذا الليل. هرب اجلبناء.. وم عن جفوين َ العالء َ هرب ال ّن ُ ِ رفرفة لهب للت�سلي فتزوغ العينان من انقطاع الكهرباء يقذفني �إىل �س�ؤال قاتل :هل ذهب �أفتح كتاب ًا ّ ذهبت وتركت العامل؟ العامل وتركني� ،أم �أنني �رساج؟ ال�شموع .كيف كان الأ�سالف يقر�ؤون على �ضوء ٍ ُ ٍ خالعيِ � . أم�س ال تعرف هذه العاطفة البدائية �إال يف احلرب .فمع الظالم �أ�ستدعي �صورة امر�أة من فيديو موبايل ّ أحب ْب ُتها ،بالكر�ش والثديني العمالقني وطيات اللّحم يف وتوقف احلركة الب�رشية تدريجي ًا ،حتى و�صول الكون �إىل � َ �رصاخات لذّتها على �شا�شة هاتفٍ، �سكون كلّي ،تعاودك هواج�س الإن�سان القدمي .بل ك�أنك اخل�رص� .أم�س ثقبتني ُ ال�ص َور، هو رغم هذه القرون كلها� .أو ك�أنه ا�صطفاك لتنقل بالكتابة وك�أ ّنني من ي�ضاجعها .وال تن�صاع لأمر خيايل ُ ُ ٍ حريته حيال نهار وا�ضح يعطيه نف�سه بالكامل، وليل و�أبقى على حافة احلافة ،ومن حويل �رسيع ًة متوت ال�شموع. ٍ �سيوف ،حوافر خيلٍ. أبجدية، يكاد ي�سلبه حتى نف�سه .نهارٍ �سيحلّ م�شكلته بال أ�سمع تلقيم م�سد�سات� ،صليلَ ّ � ُ يغادر املكان الّذي يجب �أن يكون فيه على اجلدار. وليل �سيظن �أنه حل �إ�شكاله باكت�شاف النار ،ليكت�شف يف وظلّي ُ
113
بدايات
العدد |5ربيع 2013
الذهبي لالنتقام!! غدار ٌة ،ف�ساعة الغفلة وقتها حتى الظالل ّ ّ ّ ِ خوف ن�سيته لتعذيبي يعود الكهرباء انقطعت كلما ٌ ّ ورائي ،يف خمابئ الطفولة ف�أب ّل ُل ال�سرّ وال. بال�سكون القامت ،وال قوة لدي عاجزًا ُ كنت � ّ أتوحد ّ ّ ال التميمة�« :أ ّ ال � ّأيها ال ّليل الطويل أ� ّ يف ا�ستخدام تلك ّ ِ اجنل» ،وال يف الغناء« :يا ليل .»..عاجز ًا ،عاجز ًا وك� ّأن ٍ ِ يتوقف الكهرباء هي ُ وحدات دم ُمن َع ْت عن ج�سد ال ّ نزيفه .وحني ت�أتي الكهرباء �أن�سى كل ذلك. اختلف الأمر الآن ،الق�صف نقل الأمر �إىل ف�ضاء �أبعد من الرعب العادي� .صار الليل لئيم ًا .ثم �إن امل�ؤذن ت�أخر عن �إعالن الفجر .يف مثل هذا الوقت ي�شعل مكربات ال�صوت ويرتك لتجويد عبد البا�سط عبد ال�صمد مهمة تروي�ض هذا امل�سجل ويبد�أ بالتكبري يخف كل �شيء. العماء ،وحني يطفئ ّ �أينه؟ عليه �أن يفعل هذا كالعادة ،علّه ُيفهم املدفعية احلقودة �أن ا�سم الله �أكرب. للمرة الأوىل يفوت موعد الأذان ،كل امل�ساجد فوتته مع ًا ،وللمرة الأوىل �أطلبه بكل هذا الرجاء �أنا الذي كنت كنت �أعلّي �صوت الأغاين �أبدي اال�ستياء منه� .أنا الذي ُ كنوع من الرف�ض ملثل هذا التطفل على هد�أة الليل .و�أنا الذي �أطلب الأذان الآن لن �أ�سامح امل�ؤذنني اجلبناء ،ويف الغد� ،إن جاء الغد� ،س�أوغر قلوب النا�س عليهم. بد من ٍ دين يواجه هذا التجديف على املدفعية كفر وال ّ احلياة ،على نوم النا�س ،على مناماتهم. حتى الذئب توقف عن العواء. �أ�صعد �سطح املنزل ،وبكل كفري وخويف و�إمياين املفاجئ� ،أطلق الأذان� ،أطلقه قوي ًا كعواء قطيع من الذئاب� ،أطلقه حتدي ًا للمدفعية بالذات ،ولأن الفجر ال بد �أن ي�أتي« :الله �أكرب ..الله �أكرب.»..
4
الفل�سطينيون ،كم �سينزحون... �أبي قال ل�سامرين جدد م�شري ًا �إىل �أبي خلدون النائم« :ال �أثق ب� ٍ أحد ثقتي بهذا الرجل»� .أحدهم علّق على الفور: «طبع ًا .كيف �سيخونك وهو نائم طوال الوقت؟» .مل نعرف ال�سهرة ما دام ،منذ ع�رشين َ مل ي�أتي �أبو خلدون �إىل ّ ٍ �سنة ،يغرق يف النوم فور و�صوله ،ليقوم ،مع انف�ضا�ض القوم ،ليمكل نومته يف بيته� ..أحيان ًا ي�صحو لي�ضحك ال حني كي يوهم الآخرين �أنه يتابع ما يحكونه ،فعلها مث ً كان الدكتور خالد يتحدث بقهر« :عربنا النهر �ألف مرة،
114
بدايات
العدد |5ربيع 2013
115
بدايات
العدد |5ربيع 2013
لي�س مرتني فقط كما هو امل�ستحيل لدى الفل�سفة .عربناه واكت�شفنا �أن الزمن ماء �آ�سن». اجلميع رمقوا �أبا خلدون نظرة توبيخ فتظاهر �أنها �ضحكة من املنام ،وعاد ي�شخر بينما �أكمل الدكتور حديثه« :هذه الأ�شياء حدثت هنا ،كلها حدثت هنا� .أمل ننزح نحن الذين جل�أنا يف � 48إىل اجلوالن فوزعونا على مدن البلد لرغبة ا�رسائيل؟ ثم يف 67بينما نزح �أهل اجلوالن نزحنا �أي�ض ًا �إىل دم�شق .كم نزوح ًا يف هذا؟ كل الأ�شياء التي حدثت تعود لتحدث الآن .يف جلوئنا �أ�سعفتنا «وكالة الغوث» بالطحني وال�سكر وال�رسدين واخليام .يف نزوح �أه��ايل اجل��والن �أ�سعفت الدولة نازحيها ب�أ�شياء م�شابهة ،و�إن مل تكن بكرم «الوكالة» .الآن يحدث النزوح �إلينا ،ويف الغد يحدث منا ،ويحدث معه �أن الكل �صاروا وكالة غوث لأننا كلنا �رصنا فل�سطينيني .يا جماعة اللعنة التي �أ�صابتنا �ست�صيب العرب ،ثم ت�صيب العامل .هذا العامل �سيذوق طعم لعنة فل�سطني» .ا�ستيقظ �أبو خلدون وعدل جل�سته� .شلّنا حديث الدكتور خالد عن الكالم، ّ �صار الكالم له وحده فتابع« :قولوا يل متى مل يكن يف هذه الأمة نازحون �أو الجئون؟ يف 2003جل�أ العراقيون ،ويف 2006تبعهم اللبنانيون� .آالف م�ؤلفة من �أهايل اجلزيرة ال�سورية �أجالهم اجلفاف قبل �سنوات .الفل�سطينيون ال �أعرف كم نزحوا وكم �سينزحون ،ما �أعرفه � ّأن هناك نزوح ًا وعلينا �أن نذهب .نذهب وال نعود .يا جماعة ال �أحد يعود. �إذا ذهبتم لن تنتظركم البيوت ،احلرب لن ترتك البيوت مكانها ،احلرب جتعل املكان مكان ًا �آخر ،لذا كل عودة هي ارتكا�سة� .أق�سم لكم �إنني �أرى يف مناماتي �أننا يف بلد جمنون .الكل بهاليل ينطون وي�رصخون ويخلعون ثيابهم وي�أكلون الف�ضالت .الكل جمانني ..الكل جمانني.».. انطف�أ القنديل� .أخي مراد القريب منه نفخ عليه .كان يريد �إ�سكات جمزرة الكالم ،لكنه مل يح�سب �أن العتمة التي تلت ذلك الكالم الإرعابي حتولت �إىل هرج راح ي�أخذ �رصخات متداخلة ،وزعيق حيواين. انطف�أ القنديل ..انطف�أنا ..وا�شتعل اجلنون..
ع�ضو زوجها بطل الق�ص�ص �أكرث من زوجها .ال اجلدة... ل�شيء غري �أنه فاعلية زوجها الوحيدة ،فهي ا�ستولت قالت ّ على �أفعال احلياة كلها .هي من ت�شارك يف املنا�سبات .منذ ا�ست�شهاد ابن عمي �أثناء عبوره ملنطقة تقاطع نريان ودع��ت ابنتها �أويل الراق�صات يف الأعرا�س ،و�أويل النادبات يف امل�آمت .وح��ال ّ جدتي �إىل الأ���س��و�أ .قبله بقليل ّ �أويل من تزور املري�ض ،و�أويل من تبارك جناح الطالب .الوحيدة التي رحلت يف ظروف حرجة ،وب�صعوبة ال عملت يف خدمة البيوت طوال عمرها .عملها ذلك متناهية ا�ستطعنا دفنها يف «احلجر الأ�سود» حيث ت�سكن. ْ و ّل��د يف نف�سها نوع ًا من التفاين يف خدمة النا�س� .آالم املفا�صل �أقعد ْت َها على كر�سي ذي عجالت ،ومل ب�أمومتها زاولت عملها كخادمة ولهذا كان لديها و�ضع تعد تغادر بيت ابنها الذي تقيم عنده �إال لتجل�س �إىل ال ّنهر يل ممتاز ،فالأغنياء الذين عملت عندهم �أو�سعوها الذي بات يبدو ُمقعد ًا مثلها ،فقبل عدة �سنوات اخرتعت ما ّ العطاء ،وذلك مكّ نها من القيام بواجباتها االجتماعية الدولة اخرتاع ًا جنوني ًا ،حيث مت �صب جمراه بالباطون. اجلدة التي بالكاد ترى ال تعرتف مبا حل به ،وبالن�سبة على �أمت �صورة .الهدية التي تقدمها حياة دائم ًا هي ّ لها ال يزال على حاله ،بل ال يزال ما�ؤه �صاحل ًا لل�رشب الأوىل ،ودائم ًا هناك من ينتظرها. كما كانت تعرفه يف �صباها. ق�صة �سيخ ال�شباب ذهبوا وجلبوها يف �سيارة ثم حملوها يف ِ يوم قررت الذهاب �إىل العمرة �أخربت �سيدة البيت الذي حرام ليو�صلوها �إىل امل�ضافة لت�سهر و�إيانا .فدنو �أجلها مل َ ال�سيدة مدة. �ستغيب أنها � فيه تعمل ال وطلبت يعد تهديد ًا مبقدار ما بات قرار يف حيز التنفيذ. قدمت ما ً ّ منها �أن تدعو يف بيت الله ب�شفاء �سيخ زوجها .حياة بد�أت جدتي ب�سيطة وال تقول �أ�شياء ذات بال كاجلدات الدعاء فور ًا من فرحها باملبلغ الذي يغطي كل نفقات اللواتي يف�ضن حكمة .هي بالكاد حتفظ ب�ضعة خراريف رحلتها ،ثم �س�ألت ال�سيدة بقلق م�صطنع «و�أين الك�رس يف من تراث �أهلها ،وبالكاد �أي�ض ًا تعرف �أحوال املا�ضي، ج�سم معلمي؟ ومتى و�ضعوا له ال�سيخ؟» .ال�سيدة �صححت فطوال الوقت كان لديها ما ي�شغلها غري �أخبار النا�س، �أنها تق�صد بال�سيخ ع�ضوه الذكري وما من �سيخ ،وما من لهذا ج�سدها يتكلم �أكرث منها .تعبها حكمتها. ك�سور .حياة ذهلت� .أعادت املال بال تردد وان�سحبت وعند فج�أة قالت« :حمكوم علينا بناء بيوت ال ن�سكنها». الباب قالت بخ�شوع�« :أمام الله �س�أن�سى زب زوجي ،فهل قالت هذا فقط ،ثم �أردفت ب�أ�شياء غري مرتابطة عن رجل تريدين مني تذكر �أزباب النا�س؟». �رشك�سي ن�صح والدها ب�أن ال يكمل بناء بيته يف البالد، ولأن ال�شيء بال�شيء يذكر ربطت هذه احلكاية بحكاية و�أن عليه حت�ضري اجلِمال للم�سري القادم .غمو�ض كالمها م�شابهة جرت معها يف فرتة الإميان التي حلّت عليها �آنذاك� ،أرغمني على �إج��راء م�سح ميداين مع العجائز الباقني ال �سيما بعد عودتها من العمرة ،حيث التحقت ب�شيخة لأفهم املعنى الكامن يف هذه اجلملة. كر�ست يوم ًا لن�صح الن�ساء الكل اتفقوا على حكاية ذلك ال�رشك�سي ،ون�صحيته لتل ّقي درو�س الدين .ال�شيخة ّ ال ،ف�سوى ال�سخرية التي قوبلت ب�إر�ضاء �أزواجهن ل ّأن يف هذا �إر�ضاء لله .تلك الن�صائح لوالد اجلدة مل تلق با ً ق�ص احلجارة وتعمري البيت الذي ما �إن �صار �أ�صابت قلبها ال�صغري لتق�صريها الكبري مع زوجها يف بها ،ا�ستمر ّ كل النواحي ،وتدارك ًا للأمر بد�أت منذ و�صولها �إىل البيت جاهز ًا لل�سكنى حتى هجروه. بتدليله .مل تعد ترتكه بال طعام ،بل �إنها يف كل �ساعة ت�أتيه والد اجلدة �أ�صابه ندم مرير لي�س لأنه �أكمل بناء البيت، جتمع بك�أ�س �شاي� ،أو �صحن فواكه ،وكلما �س�ألته عما يريد كان بل لأنه مل يهيئ جما ً ال للرحلة .ومنذ و�صل �إىل �أول ّ جوابه الوحيد «� ِ مم�سكا أريدك يا حياتي» .فتعطيه نف�سها وت�شعر لالجئني وحتى بد�أ االبناء يبنون بيوت ًا جديد ًة ظل ً يتحدث بل�سان �صديقه ال�رشك�سي ب�أال ال من طينة بخيمته ،و�صار لكن رج ً ّ بالر�ضا �أكرث كلما مل�ست �سعادتهّ . زوجها الذي ال يعرف �شبع ًا �أخذها يف ذلك اليوم �سبع يبنوا بيوت ًا لأنهم �سريحلون �إىل � ٍ أرا�ض �أخرى. ال خمتلفة قبل ان ت�صل �إىل ما هي مرات ،حتى �رصخت حني جاء يطلبها للمرة الثامنة« :حلّ �أخذت البيوت �أ�شكا ً عني ..غ�ضب الله �أهون من هذا العذاب». عليه الآن .يف البدء كان اخليمة ،ثم جاء االنتقال �إىل طور دور يف تلك الليلة كانت للقنديل وحلياة ظالّن ناريان ،الطني .هذا الطور كان بحد ذاته بناء دائم ًا ،فالبيوت الطينية حد �سواء. عقب كل مطر ٍة حتتاج �إىل ترميم .ومل ي�سرتح الأهلون من فوق وجوهنا وفوق اجلدران ،على ّ
ت�أتي القدي�سة ،هكذا ي�سمونها ،مع �أنها �أقرب �إىل الزندقة يف حديثها وم�سلكها .تكفر كثري ًا ،ال تتوقف عن لعن الأدي��ان واال�ستغفار ،تتباذ�أ ،ت�رضب ،نهرب منها ،تلحقنا ،ثم ن�سرت�ضيها خ�شية دعائها الذي ال يخيب .مر ًة دعت على �أمريكا �أمام �أهل احلارة وحدث يف اليوم التايل ذلك امل�صاب اجلبار الذي يعرفه العامل با�سم «� 11أيلول» .القدي�سة يف تلك الفرتة �أعلنت براءة «تنظيم القاعدة» ،وبراءة �أ�سامة بن الدن ،و�أنها وحدها امل�س�ؤولة م�س�ؤولية كاملة عن كل ما جرى ،كما �أنها على ا�ستعداد ملواجهة جورج بو�ش االبن بذلك. ع��واد قذيفة يف �آخ��ر نومة لأب��ي خلدون �أطلق ّ �ستطغى من قوتها بني النا�س ،يف اليوم التايل ،على خرب اال�شتباك الذي �أودى بكثريين من احلاجز الع�سكري عواد ب�أخته الكبرية القريب .بفخرٍ ممزو ٍج بالزهو �أ�شاد ّ لكن الزكام جعله التي ربت �أوالده��ا �أف�ضل تربية، ّ يلفظ احلروف مدغم ًة عندما با�رش بك�شف ال�رس�« :أختي مت�سك زباب الأمور». ا�ستلمت حياة ال�سوالف بعبقرية يف ليلة مزدحمة بالرواة. ْ الكل يناف�س الكل على ا�ستالم دفة احلكي والإبحار يف تلونت ظاللنا فيها من �شغف الكالم. �أمواج امل�ضافة التي ّ كنت �أرى اللون ين�صع يف ظلّ الراوي الأبرع .ظالل حمراء ُ وخ�رضاء زرقاء ،وظالل متتزج فيها الألوان.
6
فج�أة قـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالت: «حمكوم علينــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا بناء بيوت ال ن�سكنهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا».
�ساعدت حياة غريزتها يف املجاز ،فعندما كان اجلميع يتناوبون حكايات �أحقر رجل يف املنطقة ،ذهبت �إىل ِ متثيل �سوئه ،يف حلظة ت�صعيد درامية ،بامتالك اخلراف التي رباها �صفات ال�ضباع. بعدها بد�أت يف فتح ملفاتها ال�رسية كما تفعل عاد ًة. روت لنا �أنه حني مات �أبوها غابت ت�سعة �أيام يف بلدة �أهلها .غابت نا�سية بيتها و�أوالدها وزوجها .ن�سيت كل �شيء �إال حزنها .يف اليوم الذي عادت فيه كان الهياج 5 «حياة» الراوية قد �أكل خ�صيتي زوجها ،فحاولت �إفهامه ب�أنها مك�سورة تحَ ترتبع حياة ،ب�سمرتها ال�شديدة القلب وال ت�ستطيع تلبيتهْ .ي َو َن وحاول اغت�صابها يف امل�ضافة الدميقراطية ّ ونحولها املخيف .كانت ترق�ص يف الأع��را���س ،متلأ فع�ضته وهربت �إىل غرفة و�أقفلت الباب ،فمد ق�ضيبه املجال�س بنكاتها اجلن�سية ،وتتندر بكل �شيء .جميئها يائ�س ًا وهو ي�رصخ« :ع�ضوي يريد تعزية ع�ضوك لي�س نوع من النعمة يف هذا الوقت. �إال ،ال تقفي �ضد الواجب يا ابنة النا�س.»!!..
116
بدايات
العدد |5ربيع 2013
117
بدايات
العدد |5ربيع 2013
مر به رجل وعلمهم طريقة �أكرث ور�شات ال�شتاء �إال حني ّ ور�شه بالرمل ال ّ عملية ،حيث و�ضع فوق جدران الطني غربا ً املعالج باملاء والكل�س .ظل هذا حتى و�صلنا �إىل ع�رص اخلر�سانة ،فحدثت عملية �إعمار �شاملة .ويف احلقب الأخرية حدثت عملية �إعمار حتولت خاللها البيوت �أبنية طابقية. الأهلون ظلوا يبنون بيوت ًا ال ي�سكنونها .فال�سكن فيها م�ؤقت .يف القدمي كان يقال �سنعود �إىل البالد ،ويف الوقت متفجر حتويل تعب الأيام �إىل كومة الراهن ب�إمكان برميل ّ ال. رح ً رمل ،كما ب�إمكان معركة �أن جتعل ال�سكّ ان بدو ًا ُ مبنية للغياب ،ونحن يف علم نحو املخيم :املنازل ّ مبنيون للمجهول. ّ ظل العامل يحاول �إقناع �أدمغتنا العنيدة �أن البيت احلقيقي هو القرب والباقي حمطات لي�س �إال ،ومل نكن لنقتنع ب�أقل من حرب. والد جدتي ظل معت�صم ًا بعمود خيمته ال لأنه �سيعود �إىل بيته الأول ،بل ليعطي نبوءة ال�رشك�سي ما حتتاجه. �س�ؤال �أخري �أ�س�ألكم �إياه ،فالأهل هنا يقولون يل «ال نفهم على ربك» وي�شيحون عني« :هل ال�رشك�سي هو ميلكياد�س الغجري يف «مائة عام من العزلة»؟ هل لدى �أحد من �أبناء املخيم �صحائف �سحرية كالتي تركها ذلك الغجري لأعرف هل العا�صفة التي تعلن �سيادتها على العامل هي العا�صفة ذاتها التي حمت «ماكوندو» من الوجود؟».
7
ال�صمت هو اخلطر االكرب جعلت العا�صفة ال�صباح رمادي ًا .لطاملا �أطنبت يف مديح هذا ال ،لكن الآن ال ،ما من اجلو ،حني يطول ال�صباح يوم ًا كام ً جمال بعد للبحث عن جماليات �أمام برد يتجلى بهيئة ٍ قاتل خنجري ،ال يهم �إن كان من احل�شا�شني �أو حرا�س الهيكل �أو ال�شبيحة ،املهم �أن القتلة ي�صريون واحد ًا .هذه العا�صفة �إرهاب .هذا الثلج تكفريي �أ�صبحنا يف �سجن ٍ كامل الإغالق، مل يذهب �أحد �إىل عمله وال جللب حاجيات البيوت .ما من ال ،و�إن وجدت فما من ٍ مال يكفي ل�رشائها، حاجيات �أ�ص ً وفوق هذا جنرب اجلوع عن ٍ كثب ،وجنرب بالقذارة �أي�ض ًا .ال خبز ،ال ماء ،ال لكهرباء ،والق�صف متوا�صل .مع كل قذيفةٍ يقفز الطفل �إىل حجر �أمه يف اللحظة التي تفكر فيها بحجرٍ تقفز �إليه ،فرتاها تت�شبث به بقوة خوفها ،ال بالقوة التي يطلب منها احلماية والأمان .الأمر يومي والرعب طبيعي. هذا �صحيح ،لكن العا�صفة توقظ يف الإن�سان خوف ًا �أكرب من ذلك الذي تخلفه احلرب التي ت�صبح عادية مع الوقت.
118
بدايات
العدد |5ربيع 2013
الربد قتل حتى الف�ضول العا�صفة تن�ضح منا خوف ًا بكر ًا مل تتدرب القلوب على �إيقاعه. ق�صفان �إذ ًا .ق�صف الطبيعة وق�صف اجلي�ش. قال رجل حم�صي �أ ِل َف �أ�صوات االنفجارات �إنه يطمئن �إىل توتر الو�ضع ،ي�أمن اللحظة العاتية ،فهكذا يكون كل �شيء على ما يرام ،اخلطر الكبري هو �صمت اجلو .الليلة ال�صامتة هي ليلة قلق .رمبا تخفي مداهمات .املداهمات تنتهي �إىل ال ما للحياة جمزرة �أو �إعدامات ميدانية .ال�صخب يبقي احتما ً فقد تخطئك القذيفة ،قد تتوه عنك الر�صا�صة لكن ال�صمت موت .من ي�ستطيع النوم وهو �أنه �سيموت؟ الرجل احلم�صي الغائب منذ �سنة يف اعتقال غام�ض نقل �إلينا الأحداث التي �شهدها حيه ،حي «بابا عمرو » ،ومنذها �أراقب تكرار الق�ص�ص يف ن�سخ ال تتوقف .الرجل احلم�صي فاته �أن ي�شهد اجتماعا للحرب والعا�صفة ليقول ما ميكن �أن يفيدنا ،هذا غري �أنه مثل جميع احلما�صنة بارع يف حتويل الرتاجيديا كوميديا. ال الربد قتل حتى الف�ضول .منذ مدة �شاهدت يف املخيم ف�ضو ً ُ املخيم مكان ف�ضويلّ؟ مل �أ�سمع عنه يف مكان هل ّ �أت�ساءل ل ّأن اال�شتباك الذي يدور منذ ال�صباح على ال�شارع العام� ،أول املخيم ،مل مينع الأهايل من التجمهر على طول الطريق ،وعلى �سطوح املنازل ،لرياقبوا النار ويعدوا �صليات الر�صا�ص ويتباروا يف ت�سمية الآليات الع�سكرية. �أهو ف�ضول �أم طي�ش؟ الع�ساكر �أطلقوا �أك�ثر من م��رة باجتاه النا�س لتفريقهم ،فالبع�ض مل يبق �أمامهم �إال �أن يقعدوا فوق الدبابة .علمتنا �صفحات الإنرتنت طرق ال�سالمة، التلفزيونات مل تتوقف عن بث الإر�شادات ،القادمون من املناطق املنكوبة حملوا خرباتهم يف الوقاية �إلينا، لكن �أهل املخيم بدوا غري مبالني ب�شيء من هذا ،فالكبار ّ وال�صغار ،الرجال والن�ساء ،كلهم يف اخلارج على مقربة من املعركة ،ال يفعلون �شيئ ًا �سوى النظر بكراهية �إىل اجلنود وال�ضباط ،بطريقة ال حتتاج �إىل ترجمة. حاولت �أن �أ�س�أل �أكرث من �شخ�ص و�شخ�صة عما ُ يفعلون هنا؟ الكلّ �أجابوا �إنهم هنا لأن الآخرين هنا ،مع ذلك حني عاد بع�ض الآخرين مل يعد بع�ض �آخرِ الآخرين، لي�ستقيم التعليل ب�أنها جمرد عدوى. يقال �إنهم يف غزة على هذا احلال .رمبا كان الف�ضول مر�ض ًا فل�سطيني ًا� ،أعرا�ضه الوا�ضحة الذهاب �إىل املوت قبل �أن ي�أتي!.. املخيم مكان ف�ضويل؛ ل ّأن العيون مادة �صناعته الأوىل.
«باب الشمس» كل هذه الرومانسية! عالء حليحل كاتب فلسطيين
� 1شارع رقم � 6أو «عابر �إ�رسائيل» يقطع فل�سطني التاريخية من ال �إىل ما جميدو نزو ً بعد القد�س ،وهو مير يف معظم �أجزائه ّ مبحاذاة جدار الف�صل العن�رصي �شيدته الذي ّ �إ�رسائيل كرمى لعني جابوتن�سكي احلديدي». و«اجلدار ّ منه ميكن اخلروج متتد �إىل �شوارع ّ كالأخطبوط يف ج�سد ال�ضفة الغربية املحتلة.
119
1
هكذا تكون العودة �إذ ًا ،بخيام جديدة .خيام هي النقي�ض املرة هم الذين للخيام التي اعتادها الفل�سطينيون .هذه ّ ومت�سكوا بها .لي�ست خيام «الأون��روا» ولي�ست ن�صبوها ّ خيام ًا على طراز «ب�يروت خيمتنا» .فل�سطني خيمتنا ونت�شبث ك� ّأن الروح تطلع نتم�سك بها (و�شكر ًا لبريوت). ّ ّ منها وك� ّأن الروح تعود �إليها. منذ مبادرة «باب ال�شم�س» و«الكرامة» ارتفع من�سوب الفل�سطيني .النقا�شات والكتابات الرومان�سية يف احلَراك ّ ّ و�ضاجة بالفرح .ك�أننا رومان�سية كلها وال�ستاتو�سات، ّ ننتقم من خيامنا ال�سابقة ،نقتلها على مذبح اخليام اجلديدة. حب يف ّني ٌف من ال�صبايا وال�شباب ي�رضبون جذور ًا من ّ ُنهك من اجلذورُ .منهك من جذور حبيبة ج�سد فل�سطني امل َ انقلعت ومن جذور حديدية باردة ُتغر�س فيها بالقوة، ي�سمونها يف العلوم غري الدقيقة باال�ستعمار� .أما يف رد التحليالت ال�سيا�سية في�سمونها «اخلروج من دائرة ّ ّ الفعل �إىل الفعل»� .إنها رحلة رومان�سية بالأ�سا�س ،رغم �رسيةُ ،ر�سمت يف غرف مليئة �أنها تبدو نتاج ًا خلطة عملية ّ الدخان والنوايا اجليدة .هذه رحلة من نقي�ضك ب�سحب ّ كفل�سطيني ،من �أطراف الي�أ�س كفل�سطيني �إىل نقي�ضك ّ ّ �إىل �أطراف الأمل ،وبينهما �أطياف ال تنتهي من �ضو�ضاء «احللول ال�صحيحة» و«املقاربات العملية» و«الثوابت التي ورد ال تتزعزع» .بني هذا النقي�ض و�أخيه النقي�ض (الفعل ّ الفعل) توجد جمموعة من الفل�سطينيني خرجوا �صباح ًا من بيوتهم ومزقوا بطاقات الإعانة (رمزي ًا) .الإعانة املهينة ٍ �ستجد بائ�س .ترف�ضها ،وتقول (جماز ًا): حتولك �إىل ُم التي ّ �أنا من �سيعطي بطاقات الإعانة منذ اليوم. مير فل�سطني ج�سد امل�سافر بني احلديد البارد يف ّ ي�شد على �أ�سطح القرميد يف امل�ستوطنات ويربد مثلها. ّ بدايات
العدد |5ربيع 2013
الكنزة على ج�سده املت�ش ّنج .تنزل من «�شارع 1»6وتبد�أ امل�سري نحو رام الله عرب بري زيت .امل�ستوطنة «حلمي�ش» جت�سد اخليمة البغي�ضة بل�سانها ال�شائك املمدود �إليك ّ ُتوجة .ت�سري بني �أكوام مل ا غري العا�صمة إىل � الطريق يف ّ امل�ستوطنني وتزكم �أنفك رائحة الغربة والنفور .فل�سطني متر بني احلديد البارد املنغر�س يف تربتها كريهة حني ّ الزيتونية .على عك�س رائحة «باب ال�شم�س». من �أين جئتم يا �أحباء؟ هل كنا بحاجة �إىل �سنني طويلة من ال�ضياع والت�سليم والرك�ض وراء ال �شيء تقرروا � ّأن امل�شكلة فينا بالأ�سا�س؟ مل تكن «�ضيعة كي ّ باب ال�شم�س» ُلتولد بهذه الرومان�سية لو مل يكن الو�ضع در�س يف الزراعة :قطعة �أر�ض خمزي ًا �إىل هذه الدرجة. ٌ عط�شى ،معول وطورية ،ب�ضع خيام رخي�صة ،هتافات فم عنيدة .هذا كلّ ما حتتاج �إليه كي تغر�س زغرودة يف ٍ فل�سطيني عطب .نعم ،و�شهران من ال�شم�س الدافئة. ٍّ �أر�أيتم؟ كلّ هذه الرومان�سية اجلديدة مل تكن لوال كلّ هذا اخلراب.
2
تحُ طرد والثانية ّ �صبيتان يف مركز ال�صورة .واحدة َمل كي ُت َ ت�رصخ كي تبقى .امر�أتان فل�سطينيتان ال تعرتفان بالتق�سيمة التاريخية البغي�ضة :الن�ساء للبكاء على ال�شهداء والرجال ال�سجن .كم ا�شتقنا �إىل مثل هذه ال�صورة. لال�ست�شهاد �أو ّ كم كانت االنتفا�ضة الأوىل رومان�سية (نتح�سرّ الآن). حينها اعتقلت �إ�رسائيل رجالَ الوطن و�شبابهّ ، تنظمت ن�سا�ؤه يف جمعيات وحركات �شعبية و� َأد ْر َن �ش�ؤون البلد والن�ضال .مل يكن «اجلهاد» وقتها قد ا�ستبدل «الن�ضال»، «الفدائي» من �أمام عد�سات «اال�ست�شهادي» طرد ومل يكن ّ ّ الكامريا .كنا �شعب ًا فدائي ًا ،نتجا�رس على الطائرات النفاثة
�سجيل .ثم احتار الفيل. والدبابات ونطلق احلجارة من ّ كيف ال يحتار وهو ال يقوى على �سحق انتفا�ضة غزيرة، احلد؟ حجرية ،رجالية ون�سائية ،طبيعية �إىل هذا ّ �صبيتان تفرت�شان الأر���ض التي جاءتا لإطعامها ّ تفاحة .قد تكون تفاحة جوالنية ،من اجلوالن ال�رشيك (ال�شقيق) يف االحتالل .وقد تكون تفاحة جليلية منت عند �سفح اجلرمق الوحيد البعيد .لكنها تفاحة حمراء الدب ال�صغري مثلنا .حمراء مثل دمائنا وحمراء مثل ّ الذي ُيربك النا�س يف عيد الع�شاق. منذ مبادرة «باب ال�شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم�س» الرومان�سيـــــــــــــــــــــة و«الكرامة» ارتفع من�سوب ّ الفل�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــطيني. يف احلَراك ّ كـ�أننا ننتقم من خيامنا ال�ســــــــــــــــــــــــــــــــابقة، نقتلها على مذبح اخليـــــــــــــــــــــــــــــــــام اجلديدة «باب ال�شم�س» و«الكرامة» �أعادتا الن�ساء �إىل مركز احلدث ،ف�أزهرت فل�سطني من جديد .فل�سطني ُتك�شرّ �إذا ا�ستحوذ عليها الرجال .خ�صو�ص ًا �أننا م�شغولون بال�ش�ؤون «الكبرية» وال وقت لنا لل�ش�ؤون «ال�صغرية» مثل مكانة املر�أة وحياتها وم�ستقبلها (و�إياكم والفتنة ،يا �أذيال الإمربيالية ،والإ�سالم ين�صف املر�أة واملر�أة تن�صف الإ�سالم ،وفل�سطني م�سلمة� ،أر�ض وقف ،فزغردن يا ن�ساء وفرخن م�شاريع �شهداء ،في�أجوج وم�أجوج على َ واحبلن ّ الباب) .هكذا ،تعيد قريتان �صغريتان رومان�سيتان الورد خدي فل�سطني ال�شاحبة ،وت�صري �رصخة املر�أة �رشط ًا �إىل ّ مترد مثري على �رضوري ًا ّ لنمو الزغرودة بني �أبجديتناّ . مترد يف�ضح كم عورتنا �صوت يف �صوت. «�صوتها عورة»ّ .
3
املحاولة الثانية كانت �أقلّ رومان�سية يف الت�سمية :قرية والتحدي .حتى الغرف الكرامة .قفزة وا�ضحة يف الت�سميات ّ نب باحلجارة املُرجتلة ،بل باللبنات الإ�سمنتية. امل�ؤقتة مل ُت َ ك�أ ّننا �سنبقى حتم ًا رغم �أننا عائدون .عائدون �إىل �أين؟ إ�رسائيلي ال يفهم هذه نع ْد منه .ال �إىل املكان الذي مل ُ ّ ترويت يا التعقيدات .يقمع االثنتينْ بالهمجية نف�سها .هال ّ جندي فتفهم املعنى ،فتقمع ب�شكل خمتلف يليق بالتفاوتات ّ والإ�سقاطات؟ بني «باب ال�شم�س» و«الكرامة» اختالفات يف الداللة وال�سياقات .املحاولة الثانية تختلف عن الأوىل .ال ميكن الربط بينهما �إال جزاف ًا� .ستقول � ّإن «الكرامة» مل تتعلّم
120
بدايات
العدد |5ربيع 2013
121
بدايات
العدد |5ربيع 2013
من خط�أ «باب ال�شم�س» و�سنقول لكم« :باب ال�شم�س» تعلمت من «الكرامة» .ال تفهم �أيها اجلندي؟ �صعبة .تعالَ ّ نحاول �صياغتها من جديد :رغم � ّأن «باب ال�شم�س» �سبقت «الكرامة» �إال � ّأن الكرامة علّمت باب ال�شم�س .فهذه ال �سيان .هل ت�سبق هذه وتلك ال ت�أتي بعد تلك ،واالثنتان ّ فهمت؟ ال مل تفهم� .ألهذا ال�سبب ت�رضب بال هوادة؟ ولكنك لن ت�صيب القرية الثالثة التي نبتت حتت اجلاكيت ال�سوداء ال�سوداوين. التي تلب�سها ال�صبية التي تقتلك الآن بعينيها ْ بيدور عدوك ّ هل علّموك ما الكحل وكيف يكون («يا خويف ّ عليك /حلُطك يف عيني واتكحل عليك»)؟ 2مل يعلموك؟ �إنه ّ وقتلت به �أمي �أبي« ،باب ال�شم�س» و»الكرامــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة» قتلت به جدتي جدي، ْ �سالحنا ال�سرّ ّيْ . تتدرب على انتقال الذّ اكرة من جيل مل يعِ ْ�شــــــــــــــــــــــــــــــها وقتلتني به حبيبتي ،وابنتي ال�صغرية بد�أت ْ ّ يعي�شهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا َ أيت؟ الكُ حل يف العينينْ ال ينهزم وال �إىل جيل لن � أر � به. حبيبها قتل َ رس يف «باب ال�شـــــــــــــــــــــم�س» (و�سينقلها) .هذا ال� ّ وحتدثني عن الـ«�إف »16؟ ي�ست�سلمّ . �شاب يتد ّف�أ قرب ِموقدة ُمرجتلة .بع�ض احلطب الياب�س ملن كان يبحث جــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاهداً ٌ تطوع لإينا�سه ريثما ينتهي من بناء «حنجلته» ال�شقية. ّ نعرف. ال ما تعرف أنها � ك احلنجلة هذه ت�ضحك �ا � أراه � لري الفم يكفي أ�سود � مياه أنبوب � االرجتال: يرجتلون ّ شِ وال�شعر (وال� عر) وبع�ض معجون الأ�سنان. �أح�سدها .تعرف لغة احلجارة .تعرف كم طاغية هدمها وكم واليدين َ ال من الدماء �سالت عليها« .حنجلة» من الأحجار .تعرفونها احلنجلة؟ حني تبنون �سور ًا �شيدها وتعرف كم رط ً طاغية ّ «حنجلتنا» الآن وهي ت�ست�سلم ملداعبة �أو غرفة �رسيعة ب�أحجار كل�سية بي�ضاء ،تتما�سك فيها بينها لذلك ت�ضحك َ البني الطازج املبلول اخلارج من الفرن. الطني نجل الرجل بال�صمغ البدائي اجلميل :تراب وماء .يقولونَ :ح َ ّ ّ ذقنه� ،أي �شذّب �أطرافها حول وجهه كي تكون ذقن ًا مرتبة. ويقولونَ :حنجل �أبناء «باب ال�شم�س» الأر�ض� ،أي نك�شوا 4 احلافالت تربتها كي يخبئوا فيها ذاكر ًة من يافا �أو حيفا �أو �صفورية، يحظوا مبتعة عي�شها« .باب ال�شم�س» و«الكرامة» انتقال حافالت زرقاء داكنة ،خ�رضاء زيتونية ،مثل لون �رشطة مل ْ «حر�س احل��دود» الكريهة .و�أخ��رى بي�ضاء .و�سيارات الذّاكرة من جيل مل ِ يعي�شها (و�سينقلها). يع ْ�شها �إىل جيل لن َ ال�رس يف «باب ال�شم�س» ملن كان يبحث جاهد ًا. ك�شاف ٌة �أ�ضوا�ؤها .تنري الليل بخجل هذا ع�سكرية و�رشطية ّ ّ كي ال ترى النجوم عودة الدلعونا �إىل رق�صة البيت. «باب» و«كرامة». ٌ خيام � ّأول الرق�ص «حنجلة»� .أول الرق�ص ٌ لونها �أبي�ض داكن ــ «بيج» ــ مت�سك بها حبال م�شدودة والرق�ص � ٍ أغان والأغاين ذاكرتنا. �إىل �صخور كبرية كي ال تفكر للحظة بالتحليق يف �سماء القد�س .كيف نلومها �إذا فكّ ت قيدها وحلّقت ،هذه اخليام .حت�رضين ق�صيدة را�شد ح�سني« ،باالغاين»: حتدثها اخليام التي ولدتها عن بكاء الليل بني جنباتها؟ �أمل ّ َ ّ « باألغاين حرروين ..باألغاين �أتعتقدون � ّأن اخليام معدومة الف�ضول ،فال ترغب بر�ؤية ِّ رمسوين بدمي القاين ،ىلع كل املباين ما بكى ه�ؤالء من �أجله؟ علم فل�سطيني يرتفع عالي ًا بني ّ خ ل اخليام ،ير ّ كتبوين ..صوين جت يف الريح ويرجتف مثل خاليا القبلة الأوىل .من ّ وأذاعوا كل عمري وبالدي �صور امل�شهد؟ من �سمع حفيف الكنزة ال�صوفية بالقمي�ص ّ يف ثواين يل امل�شدود قبل القبلة الأوىل يف «باب ال�شم�س»؟ الرجا ّ ّ مث ...ملا اعتقلوين، العر�س ،بعد ما حمملة ب�أبناء وبنات ُ احلافالت تخرج ّ باألغاين اعتقلوين... �سحلون على �إ�سفلت القاهرة ي هناك وجروهم. ُ ّ ّ «�سحلوهم» ّ ِ ِ باألغاين ». ي�سحلونهم بجانب القد�س وهنا ناك؟) ه إيه � ل بتعم كانت ِ(ه ّيا ّ يجرونهم لأنهم يتحرجمون حول (ما الذي يفعلونه هناك؟)ّ . مرتا�صني وينظرون بع�ضهم البع�ض ،يقعدون على الأر�ض ّ �إىل اجلنود وال�رشطيني بوقاحة جميلة .ماذا تريدون؟ التقاط �ستحب ال�صور لنا؟ هل تر�سلها �إىل حبيبتك يف تل �أبيب؟ ّ القوي الذي فيك و�ست�أخذ ذكورتك امللتهبة حني الرجل ّ تعود الليلة �إىل ح�ضنها الدافئ .كيف تريدنا �أن جنل�س يف ال�صورة؟ هكذا؟ هل نتظاهر �أننا ن�رصخ؟ هل ن�رصخ «اذبح حتبون الت�سلي اليهود!» كي يكتمل م�شهد الفنتازيا الذي ّ به يف ليايل ع�شية «عيد اال�ستقالل»؟
« 2قطر الندى»، �سميح القا�سم.
122
بدايات
العدد |5ربيع 2013
122
هانس بلتنغ عن ابن الهيثم: فن الهنضة األوروبية والعلوم العربية ّ
�صونيا مي�شار االتا�سي
127أوسلو وطوابع الربيد الفلسطينية
نور ابو عرفة
الغربي ،يف حني ان النظرية كما هي يف العلوم العربية تعينّ الدور الغالب ال�ص َور [يف الب�رص] لل�ضوء وحتيل ُ اىل عامل الذهن. مكر�س يف فنون ان بلتنغ عالمِ ّ القرون الو�سطى والنه�ضة كما يف الفن املعا�رص ،له ب��اع طويل يف م�ساءلة االخت�صا�ص االك��ادمي��ي ال��ذي يعمل فيه� ،أي تاريخ الفن، ويف النظر يف ما يتعدى ال�تراث الفني الغربي .ففي كتابه «تاريخ الفن بعد احلداثية » (�شيكاغو/ يكر�س ف�صال لندن )٢٠٠٣مثال ّ لـ«الفن ال�شامل واالقليات :جغرافية جديدة لتاريخ الفن» حيث يتفح�ص نقديا م�صطلحات «الفن ال�شامل» و«الفن العاملي» حمذّر ًا من «م�ستقبل للثقافة العاملية تعود فيه [الثقافة الغربية] اىل االدع��اء �أن لها املوقع القيادي فيها» .ذلك ان بلتنغ مدرك لل�سيا�سات التي يت�ضمنها االهتمام الغربي بالثقافات االخرى واالنبهار بها .وه��و يعي �أي�ضا «املجازفات التي يرت ّتب عليها اجتياز احلدود بني فروع املعرفة» ويرى يف م�ؤلفه اجلديد ان هذه الفروع لي�ست تقت�رص على املناطق اجلغرافية املختلفة بل تتعداها اىل حقول البحث االكادميي املختلفة والعلوم الطبيعية والفنون واالن�سانيات .فهل ان بلتنغ يتجاوز احل���دود م��ن حقل اىل �آخ���ر ،حني يت�ساءل �ضمن ًا عن �سلطة حقل معينّ على مو�ضوعه؟ ام هو يف ّتح عيني القارئ على طرائق جديدة يف الدرا�سة املقارنة ،وبالت�أكيد على متحدي ًا طرائق خمتلفة يف النظر، ّ املفهوم الغربي للتاريخ؟ حقيقة االمر ان كتاب بلتنغ ي�سري عك�س مفاهيم �سائدة للتاريخ على اعتباره يتخلى عن �سل�سلة من الت�أثريات حيث
هانس بلتنغ عن ابن الهيثم
فن الهنضة األوروبية والعلوم العربية ّ صونيا مياشر االتايس
يف كتاب هان�س بلتنغ «فلورن�سا وبغداد :فن النه�ضة وال ِعلم العربي»، والذي ن�رش بداية باللغة الأملانية يف العام ٢٠٠٨و�صدر بعدها باللغة االنكليزية يف ال��ع��ام ،٢٠١١ متثل فلورن�سا النه�ضة االيطالية بينما ترمز بغداد على احل�ضارة العبا�سية والعلوم العربية .ينظر بلتنغ اىل ثقافتني خمتلفتني حتت ال�ص َور .ويروي عنوان م�شرتك هو ُ perspective ان املنظور التخطيطي ( ) ي�ستند اىل نظرية ب�رصية يف العلوم العربية مبنية على الريا�ضيات والهند�سة ،وه��ي نظرية مل تنقل الفل�سفة االغريقية القدمية اىل الغرب بوا�سطة الرتجمة وح�سب وثورتها وامن��ا بنت عليها اي�ضا ّ تثويرا جديدا .يتجلى ذلك الأمر يف حالة احل�سن ابن الهيثم ،املعروف يف الغرب با�سم ،Alhazenوالذي دخل م�ؤلفه «كتاب املناظر» النه�ضة االيطالية من خالل ترجمة التينية يف القرن الثالث ع�رش وترك بعدها اثرا م�ستداما على الثقافة الغربية. وكما يبينّ بلتنغ ،ف��إن نظرية ابن الهيثم يف الب�رصيات ،كما روجتها النه�ضة االيطالية ،جرى حتويلها اىل نظرية ُ�ص َور و�أر�ست اال�س�س للمنظور التخطيطي يف الفن
استاذة يف اجلامعة االمريكية يف
بريوت ،لبنان
غالف: بلتنغ ،هان�س، «فلورن�سا وبغداد: فن النه�ضة ِ والعلم العربي»، كامربدج :مطبعة جامعة هارفرد، 2011 Book Cover: Belting, Hans, Florence and ;Baghdad Renaissance Art and Arab Science, Cambridge: Harvard University Press, 2011
124
بدايات
العدد |5ربيع 2013
125
بدايات
العدد |5ربيع 2013
االق��وى ُي ِ خ�ضع «الآخ���ر» ويحول دوره اىل جمرد دور يف نقل االفكار. بدال من ذلك ،يفرت�ض الكتاب وجود «تاريخ م�شرتك من اللقاءات قد جرى التعتيم عليها بوا�سطة حواجز اديولوجية �سميكة ن�صبها اال�ستعمار احلديث» .يف ذلك التاريخ امل�شرتك، تقف فلورن�سا وب��غ��داد ،وب��غ��داد وفلورن�سا ،جنبا اىل جنبُ ،تلهِ م الواحدة منهما االخرى وتتحداها. ان بنية الكتاب ذات��ه��ا مبنية حول فلورن�سا وبغداد تقفان عند مرمى النظر ،يف حماولة للتخل�ص من نظرات املركزية االوروبية اىل الثقافات االخ��رى .ويف تفح�صه مل�صطلحات «املنظور التخطيطي» و«ال�شكل ال��رم��زي» ا�ضافة اىل ال�ص َور يف اال�سالم تفح�صه م�س�ألة ُ ّ يركز وال�سجاالت التي اطلقتها، بلتنغ على ابن الهيثم الذي ولد يف الب�رصة حوايل العام ٩٦٥ودر�س يف الب�رصة فبل ان ينتقل اىل القاهرة الفاطمية ال�ستكمال �أبحاثه. يرينا بلتنغ كيف ان نظرية الب�رص [املناظر] عند ابن الهيثم ولدت يف بيئة ثقافية طغت فيها الريا�ضيات على الت�شكيل العمارة والفنون. فلم يعترب ابن الهيثم «ال�صور» على انها ن�سخ عن اال�شياء ،كما يف علم الب�رصيات االغريقي املبني على فكر ار�سطو �أو على البحاث �أقليد�س وبطليمو�س ،وامنا هو حلل ال�صور اىل نقاط �ضوء تت�شكل منها عرب�سة جتريدية ميكن احت�سابها بوا�سطة علم الريا�ضيات .ثم ان ا ُ حلجرة املظلمة التي اكت�شفها ابن الهيثم �أر�ست اال�سا�س للـ«كامريا اوب�سكورا» االوروبية التي درج ا�ستخدامها يف القرن ال�سابع ع�رش .وعلى الرغم من ذلك ،يحاجج بلتنغ �أن النظرية
الب�رصية العربية حتولت اىل نظرية ُ�ص َورية .وفيما النه�ضة االيطالية ظ ّلت متم�سكة بامليتافيزيقيا التي ترى �أن النور قوة كونية ،يف حني ك��ان اب��ن الهيثم ينظر اىل النور مب�صطلحات فيزيائية كال�ضوء .يف هذا ال�صدد� ،أمكن القليد�س ،الذي عرفته النه�ضة االوروبية من خالل الرتجمات العربية ،ان يحجب ابن الهيثم .ويف �سعيهم لبعث الرتاث االغريقي ،ا�ستحوذ فنانون ،امثال ل��ورن��زو غ��ي�برت��ي ،على النظرية وقدموها مبا هي الب�رصية العربية ّ جزء من الرتاث العتيق ،وحموا دور ال العلوم العربية ور�سموا خطا متوا�ص ً ميتد من احلقبة الكال�سيكية االغريقية العتيقة اىل النه�صة االوروبية مبا يتما�شى مع النظرة ال�شاملة اىل العامل واحلياة البازغة مع والدة الدول القومية االوروب��ي��ة .ولعل االكرث جذب ًا لالنتباه ،يف بنية كتاب بلتنغ هو الـ«بليكفي�ش�سل» ()Blickwechsel الذي يجريه بني الثقافتني يف �آخر كل ف�صل من ف�صوله .وميكن ترجمة مفردة «بليكفي�ش�سل» اىل االنكليزية مب��ا ه��ي «نقل ال�ترك��ي��ز» و«ت��ب��ادل النظرات » مع ًا ،وقد احتفظت يف اللغة االملانية مبعناييها االثنني .هكذا تناظرت فلورن�سا وبغداد بالنظرات املتعاك�سة ،وباملقارنة بني الواحدة واالخ��رى ،ولكن عانقت الواحدة منهما االخ���رى ،كما يح�صل يف اللقاء بني عا�شقني. واذا و�ضعنا النظرة الرومنطيقية جانبا ،ف�إن بلتنغ يدرك متاما �رصاعات القوى ال�سيا�سية املت�ضمنة يف هذا التناظر .ان املنظور التخطيطي � ،إذ ا�ضحى اخرتاعا ت�صويريا خالل ّ ي�شكل «ثورة يف النه�ضة االوروبية، تاريخ النظر» ،على حد
وهكذا اخذ املنظور التخطيطي يلعب دورا �سيا�سيا� ،إذ اكت�سب طابعا معياري ًا و ُفرِ�ض فر�ضا على �شعوب لها ثقافات خمتلفة دافعا بطرائق النظر االخرى اىل غياهب الن�سيان« .ما من �شك» ،يقول بلتنغ، «يف ان املنظور التخطيطي خدم عمده كاداة من ادوات اال�ستعمارّ . االوروبيون الطريقة الطبيعية للنظر، واعتقدوا ان مثل هذه الواقعية امنا هي دليل التقدم الذي �سوف يجلب ِن َعم العامل احلديث اىل امل�ستعمرات». هنا يقدم بلتنغ مثال النتاج ال�صيني املعا�رص عن الفن الذي ي�ؤكد ،يف تالوته فعل النقد الذاتي ،انه كما الفن الغربي وجد طريقة للخروج م��ن «الواقعية االل��زام��ي��ة» كذلك الفن ال�صيني «تبنى قواعد التم ُّثل املو�ضوعي مبا هي واجب الوجود» على انها عالمة من عالمات االزمنة احلديثة .وما ي�صفه بلتنغ هنا بالن�سبة لل�رشق االق�صى قد جرى االعرتاف ي�سمى ال�رشق االو�سط به يف ما ّ حيث الكتابات عن الفن احلديث واملعا�رص يف العامل العربي ت�ستعيد �سمي «رواد الفن احلديث» يف ما ّ املنطقة كما كان احلال م�ؤخرا عندما فتحت اجلامعة االمريكية يف بريوت معر�ضها لزيتيات خليل �صليبي، وهي جمموعة قدمها بلفتة كرمية احد احفاد الفنان ،وت�ضمنت عددا من لوحات العري ت�شهد على �سلوك الفنان درب تقاليد الفن الغربي حيث ي�صري اجل�سم الب�رشي مبا هو عالمة من عالمات حداثته. �سابقا على تلك املراجعات، وقبل ان ت�ستطيع الكتابات عن ي�سمي «اطراف» مراكز الفن يف ما ّ القوة اال�ستعمارية القاء نظرة نقدية ذاتية ا�سرتجاعية اىل بداياتها ،كان
126
بدايات
العدد |5ربيع 2013
تكر�س يف املنظور التخطيطي قد ّ الفهم مبا هو احلالة الوحيدة لل�شكل ال��رم��زي يف ع��امل الفن ،وه��و فهم قد �إنبنى اىل حد كبري على كتاب �إروين بانوف�سكي «درا�سات يف علم االيقونات» (نيويورك .)١٩٣٩ ينتقد بلتنغ هذا الفهم حيث يقرتح النظر اىل املقرن�ص ،بهند�سته الثالثية االبعاد ،واىل امل�رشبية ،النافذة املغطاة ب�شبكية حتجب النور ،مبا هما �شكالن رمزيان يف الثقافة العربية� ،شبيهان بالت�صوير الزيتي ال�شبكي احلديث يف الثقافة الغربية .ويبينّ امل�ؤلف ان وامل�رشبية خمتلفة هند�سة املقرن�ص ّ جذريا عن الهند�سة امل�ستخدمة يف الت�صوير الزيتي الغربي ال�شبكي ذلك انها ت�صفّي النظرة التي يتخذها املنظور التخطيطي مبا هي ال�صورة ذاتها .فامل�رشبية بح�سب بلتنغ هي �شباك للنور ولي�ست �شباك للنظرة، وهي تعطي للنور تكوينه يف الف�ضاء الداخلي للمنزل ال��ذي هو مبثابة ال�شا�شة ال�سوداء للكامريا .فاملنظور التخطيطي هنا يوجه ال��ن��ور من خالل هند�سة امل�رشبية اىل الف�ضاء الداخلي للمنزل .وهنا ال تكون النتيجة لهذا املنظور ال�صورة التي نعرفها �أكرث �صفاء وجتريدية للنور القادم من اخلارج .هنا يذكرنا بلتنغ ب ��أن م�س�ألة انتاج ال�صور لي�ست م�س�ألة تقنية فقط ولكنها ت�شري اىل ممار�سة اجتماعية اي�ضا. ير�سم «فلورن�سا وب��غ��داد :فن النه�ضة االوروبية وال ِعلم العربي» التحوالت الثقافية التي حدثت بني القرنني احل��ادي ع�رش وال�سابع ع�رش ،م��ع ان��ه يف�سح يف املجال احيانا لإ�شارات اىل العامل املعا�رص، كما يف التمثيل بالفن ال�صيني املذكور اع�لاه ،ويف �إ�شارته كذلك
اىل املعماري امل�رصي ح�سن فتحي الذي �أعاد �إدخال امل�رشبية يف العمارة احلديثة .ويقدم «البليكفي�ش�سل» يف نهاية الف�صل االول ملحة �إ�ضافية مثرية تتخطى القرن ال�سابع ع�رش اىل االدب املعا�رص .ي��ق��ر�أ بلتنغ رواية �أورهان باموك «ا�سمي �أحمر» (ا�سطنبول )١٩٩٨م��ن اجل ا�ستظهار فكرة املنظور التخطيطي مبا هي خيانة املرء لرتاثه الثقايف ،م�شري ًا اىل الطابع الهجني لفن الت�صوير ال�شخ�صي العثماين الذي يتق ّلب، يف ت�صويره ال�سالطني العثمانيني ،بني ادخال الواقعية الغربية واال�ستغناء عنها .وميكن ان ن�ضيف هنا ان ذلك بعيد عن ان يكون جمرد ت�ضاد بني ابي�ض وا�سود؛ فاالحرى ان ما يطغى ٌ ظ�لال خمتلفة م��ن ال��رم��ادي، هنا كما تبينّ ثريا الفاروقي يف «رعايا ال�سلطان :الثقافة واحلياة اليومية يف ال�سلطنة العثمانية» (لندن/نيويورك )٢٠٠٠عندما ت�صف «ال�شجاعة واال�ستعداد لالختبار واملرونة ،ولي�س اقل منها هذه كلها احلما�س اخلال�ص، التي يبديها الفنانون وجمهورهم يف ذاك امل�سار». ان كتاب بلتنغ العابر حلدود اجلغرافية واالخت�صا�صات من امل��وق��ع املميز مل��ن ي��درك ف�ضائل اخت�صا�صه ،تاريخ الفن ،بقدر ما هو حميط بنواق�صه ،لكنه ميلك من الف�ضول وال�شجاعة ليتمكن من جت��اوز تلك النواق�ص ،فال يكتفي ب�أن يقدم للقارئ ا�ستعرا�ضا لكيف جرى حتويل نظرية الب�رص العربية اىل نظرية ت�صويرية يف النه�ضة االوروبية .انه يفعل اكرث من ذلك �إذ يعطي فكرة «اال�ستعداد لالختبار» التي يقدمها ال��وك�لاء الثقافيون ولكنهم غ��ال��ب��ا م��ا يطم�سونها
127
بدايات
العدد |5ربيع 2013
بالرتكيز على الفوارق ،فيح�رشون رشا يف حدود الإنتاج الثقايف ح� ً �ضيقة ،بدال من الرتكيز على تاريخ اللقاءات امل�شرتك .ان كتاب بلتنغ قراءه اىل الإثارة على جانبي يجذب ّ احل��دود اجلغرافية واالخت�صا�صية، فلورن�سا وبغداد ،والعلوم الطبيعية والريا�ضيات ،والفنون واالن�سانيات، ول��ه الف�ضل -ال��ن��ادر يف الكتب االكادميية -ب�أنك تقر�أه احيان ًا ك�أنك
تقر�أ ق�صة بولي�سية او رواية غرامية. واخريا لي�س �آخ��را ،يتميز الكتاب مبادته الب�رصية الرثية واملتنوعة واملعرو�ضة على نحو جميل ،وهي ت�تراوح بني التفا�صيل الهند�سية وال�سكت�شات والنماذج وملفوفات الر�سوم الهند�سية ،واللوحات الزيتية ال�شبكية على القما�ش ،واجلداريات النافرة ،والر�سوم البيانية للمنظور التخطيطي ،والكتب ع��ن الفن
واملنمنمات الزيتية ،واالن�سجة، و���ش��ا���ش��ات ال��ن��واف��ذ ،واالط��ب��ق��ة ال اىل واالو�سمة الربونزية ،و�صو ً ورق��ة نقدية عراقية عليها �صورة ابن الهيثم .وان جتميع كل هذه املواد الب�رصية بني دفتي كتاب ق��راءة ومرثية بذاتها .وكل متحدية ومنع�شة ُ القيم الأمل �أن يرتجم هذا الكتاب ّ اىل العربية لأنه يف مكان ما ينتمي اىل هذه الثقافة.
أوسلو وطوابع الربيد الفلسطينية نور ابو عرفة
�صدر �أخري ًا عن م�ؤ�س�سة الدرا�سات الفل�سطينية كتاب بعنوان «تاريخ فل�سطني يف طوابع الربيد» ،ملجموعة نادر خريي الدين ابو اجلنب .ت�شمل هذه املجموعة طوابع �صادرة من فل�سطني واخرى من دول اخرى عن فل�سطني. مبقارنة طوابع يراوح عمرها بني 40و 60عام ًا مع طوابع اخرى ال يتجاوز اق��دم طابع فيها 16 عام ًا ،هناك فرق مثري يف م�ضامني الأحداث التي ت�صورها هذه الطوابع بالرغم من �أن االحتالل نف�سه اليزال موجود ًا و التهويد اليزال م�ستمر ًا. بعد عقد اتفاقية او�سلو واالعرتاف ب�سلطة فل�سطينية ،ا�صبح من مهام ال�سلطه الفل�سطينية ا�صدار طوابعها اخلا�صة بال�رشوط اخلا�صة بـ«الدولة اال�رسائيلية» ،وهذا واحد من ادق التفا�صيل التي تدخلت بها او�سلو على الرغم انه من اهم التدخالت التي ت��ؤدي اىل التالعب يف توثيق التاريخ الفل�سطيني ،حيث �إنه من ال�رشوط التي ُتخ�ضع «ا�رسائيل» الربيد الفل�سطيني لها ،هو عدم ال�سماح بتوقيع الطابع ب�أ�سم فل�سطني، وال بال�سلطة الوطنية الفل�سطينية بل بال�سلطة الفل�سطينية .ومن املعروف ان اول طابع قامت ال�سلطة ب�أ�صداره كان موقع ًا با�سم ال�سلطة الوطنية
فنانة برصية يف
الواسئط المتعددة
التخصصات .اشركت يف عدة مبادرات يف
القدس ( )٢٠١٠ويف معرض «االستوديو المفتوح» يف مركز خليل السكاكيين الثقايف برام الله ( )٢٠١١ومجعية
«اشكال الوان»، بريوت.
خري الدين �أبو جبني ،نادر، «تاريخ فل�سطني يف طوابع الربيد»، بريوت ورام الله: م�ؤ�س�سة الدرا�سات الفل�سطينية2011 ، Khairiddine Abuljebain, Nader, «Palestinian History in Postage Stamps», Beirut and Ramallah: Institute for Palestinian Studies, 2011
ر�سم ابن الهيثم للعينني، «كتاب املناظر»
128
بدايات
العدد |5ربيع 2013
129
بدايات
العدد |5ربيع 2013
الفل�سطينية ،لقد مت �إلغاء هذا الطابع ومنع تداوله لأحتوائه على كلمة «الوطنية» وذل��ك لأنها تعترب من الكلمات التحري�ضية (ح�سب التعريف اال�رسائيلي) .كما و�أن الأح��داث ال�سيا�سية التي يتم و�ضعها على الطابع يجب ان تكون فقط الأحداث الداعية اىل ال�سالم ،مثل �صورة الراحل يا�رس عرفات يف او�سلو مع �شمعون برييز يتو�سطهما بيل كلنتون عند عقد اتفاقية او�سلو لل�سالم. ما اريد طرحة نظر ًا لأهمية دور الطوابع الربيدية يف توثيق تاريخ البلد ،هو التغيري يف م�ضمون الطابع الفل�سطيني منذ االحتالل الع�سكري ال�بري��ط��اين اىل ق��ي��ام ال�سلطة الفل�سطينية ،خا�صة ان اهمية الطوابع يف ار�سال الر�سائل يف زمن وجود االن�ترن��ت �أٌق��ل بكثري ،وا�صبحت اهميتها الرمزية ووظيفتها الرئي�سية تكمن يف توثيق الأحداث. ك��ان اول مت��رد على التدخل اال�صهيوين يف الطوابع الفل�سطينية هو يف فرتة الو�صاية املدنية الربيطانية، حيث كان ق�سم من الطوابع يطبع يف املطبعة االرثوذوك�سية بالقد�س، والق�سم الآخر يطبع يف م�رص .وكان اول طابع فل�سطيني يحمل ا�سم فل�سطني قد �صدر يف تلك الفرتة. ح��دث تغيري يف الطابع بعد ثالث �سنني نتيجة لتمهيد اليهود ملا وعدهم
ي�رسائيل» ،اي ار�ض اليهود .الحظت م�رص هذا التغيري ،ومنذ ذلك الوقت وم�رص ترف�ض ا�صدار اي طابع يف مطابعها يف حال مل تبق الطوابع على ما كانت عليه. ك��رد فعل على ه��ذا احل��دث قامت املقاومة الفل�سطينية ك�إ�صدار طوابع حتمل توقيع املقاومة الفل�سطينية ت�شمل هذه الطوابع موا�ضيع خمتلفة حامية يف ذلك الوقت ،مثل �أ�ضافة جمل وطنية مثل «فل�سطني للعرب»، كما عملت املقاومة الفل�سطينية حينها على �إ�صدار طوابع ت�ساند فيه الثورة ال�سورية واللبنانية �ضد الأنتداب الفرن�سي وذلك للحفاظ على هويتها كجزء ال يتجزء من الوطن العربي. بعد عام 1948ا�صبحت مهمة ا�صدار الطوابع الفل�سطينية كاملة على عاتق املقاومة الفل�سطينية، وفرتتها متيزت الطوابع بتوثيقها ل�ل�أح��داث ،من جم��زرة دير يا�سني اىل معركة الكرامة وتخليد املنا�ضلني واملنا�ضالت وال�شهداء .كما اخذت لوحات ا�سماعيل �شموط م�ساحة وا�سعه يف اعتمادها لتكون طوابعا موثقة للأحداث .كانت هذه الفرتة من �أعنى فرتات الطوابع الفل�سطينية بامل�ضمون ،وهذه الطوابع برزت ب�شدة يف فرتة الثمانينات وك��ان للجبهة ال�شعبية لتحرير فل�سطني واجلبهة الدميقراطية وحركة فتح دور كبري يف
مرة متى وكيف «هل �ساءلت نف�سك ّ �إختفت فل�سطني من اخلريطة؟» «يف فل�سطني فدائيني احلرية يقاومون ال�صهيونية ال اليهودية». و�أخ�ي�ر ًا ،ك��ان للبلدان العربية وبع�ض البلدان الأجنبية جانب يف ادخ��ال ق�ضية فل�سطني يف م�ضمون طوابعها كنوع من امل�ساندة ،فبعد احتالل فل�سطني ،قامت العراق بتو�شيح جميع طوابعها بـ«�إنقاذ فل�سطني» ،كما كان من موا�ضيعها «اليوم الدويل للتعاون مع ال�شعب الفل�سطيني» واظهار خارطة فل�سطني كاملة على العديد من طوابعها .وجرت العديد من الدول العربية على هذا النحو يف ا�صدار طوابعها ،فقد ا�صدرت جميع ال��دول العربية تقريب ًا طابع ًا لنف�س الت�صميم مع اختالف االلوان يف ذكرى جمزرة دير يا�سني وهو خارطة فل�سطني كامله وقد غر�س فيها خنجر. بعد اع�لان الدولة الفل�سطينية ع�ضو ًا يف الأمم املتحدة ،اعلنت وزارة الأت�صاالت وتكنولوجيا املعلومات عن ا�صدار اول طابع اي��رادات حتت ال من م�سمى م�سمى «دولة فل�سطني» بد ً «ال�سلطة الفل�سطينية» .لكن هذا ال يعني �أن جميع القوانني التي كانت مفرو�ضة على الطوابع الفل�سطينية �سابق ًا قد تغريت بعد �إعالن الدوله، فال زالت «الدولة اال�رسائيلية» تتحكم مبحتوى هذه الطوابع و ت�رشف عليها
مترد على التدخل ال�صهيوين يف الطوابع الفل�سطينيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة كان اول ّ هو يف فرتة الو�صاية املدنية الربيطانيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة به بلفور على هذه الأر�ض ،حيث مت ت�صغري ا�سم فل�سطني باللغة العربية وتكبريه باللغة العربية مع ا�ضافة الأحرف «الف و يود» بعد ا�سم فل�سطني بالعربية ،وهي اخت�صار لـ«ايريت�س
130
بدايات
العدد |5ربيع 2013
�إجناز هذه الطوابع .كما انهم مل يكتفوا فقط با�صدار الطوابع ،بل قاموا �أي�ض ًا بو�ضع جمل و�صور تعبريية على اغلفة الر�سائل التي تتداول خارج البالد باللغتني العربية واالنكليزية مثل:
قبل طباعتها للموافقة عليها او رف�ضها. حيث ان الطوابع ُتطبع باخلارج ،وم�ؤخر ًا بالبحرين ،واذا مل يتوافق حمتوها مع �رشوط «الدولة اال�رسائيلية» فيمنع تداولها خارج االرا�ضي الفل�سطينية.
130
نوال عبود طرابليس: طوابع بريد لفلسطني الغد
142
«موسيقانا» غودار: الوثائقي حيتاج لعنوان آخر
« 1تصوير فلسطني» 37 جغرافية هنب المياه والفصل العنرصي
غالية �سعداوي
149حممود درويش يف «موسيقانا» «إن شع ًبا بال ِشعر هو شعب مهزوم» 152يف حترير صورة فلسطني
روي ديب
نوال عبود طرابليس
طوابع بريد لفلسطني الغد الطوابع الربيدية عالمات على هوية البلد .مثلها مثل الأع�لام والعملة .ومثل االع�لام والعملة هي عالم ٌة اي�ض ًا على وجود دولة .دولة م�ستقلة .ومثل هذه وتلك، لطوابع الربيد قيمة نقدية ،لكنها و�سائل لتبادل ما يتعدى القيم النقدية .طوابع الربيد تخدم يف تبادل الر�سائل .كل انواع الر�سائل .اكرث من ذلك ،طوابع الربيد توثق تاريخ البلد من خالل �آث��اره و�أحداثه
التاريخية والعمرانية ورجاالته ون�سائه يف كل فروع وت�صور مناظره الطبيعية وطيوره وحيواناته. احلياة. ّ وهواية جتميع الطوابع هواية وا�سعة االنت�شار. نن�رش يف هذا العدد مراجعة نور ابو عرفة لكتاب عن طوابع الربيد الفل�سطينية .لن يقت�رص االمر على اكت�شاف حتوالت طوابع فل�سطني بل تكاد فل�سطني الآن تكون البلد الوحيد يف العامل الذي ال دولة له بل �سلطة
133
بدايات
العدد |5ربيع 2013
ال ت�ستطيع ا�صدار طوابع بريدها اال بعد موافقة �سلطات االحتالل عليها .ك�أمنا الطوابع هنا اي�ضا لتذكرينا � ّأن فل�سطني ال تزال تعي�ش يف الع�رص الكولونيايل. انطلقت االنتفا�ضة الفل�سطينية االوىل يف العامل ١٩٨٧وا�ستمرت عملي ًا اىل حني انعقاد اتفاق او�سلو العام .١٩٩٣حملت االنتفا�ضة رمزيات وايقونات ،لي�س اقلها �ش�أن ًا دور حجارة االطفال والفتيان يف مواجهة جنود االحتالل امل�ؤللني واملدججني بال�سالح االكرث تطور ًا وفتك ًا. �شهدت االنتفا�ضة معارك فعلية بني الفتى الفل�سطيني حامل املقالع ودبابة المِ ركافا .فانقلبت معادلة كان االعالم ال�صهيوين ،و�أن�صاره يف العامل ،غر�سوها يف الأذهان منذ العام ١٩٤٨عن جالوت العربي ي�رصعه مقالع داود. �صار داود الفل�سطيني يواجه باملقالع جالوت اال�رسائيلي. مثل كثريين غريها ت�صورت نوال عبود طرابل�سي �أن االنتفا�ضة تره�ص بقيام الدولة الفل�سطينية املوعودة� .أرادتها نوال دولة على قيا�س احالمها .فقد اطلقت االنتفا�ضة ال�رس هنا «ارى جموح ًا بال حدود للمخيلة واالرادة .كلمة ّ ما اريد» ،عنوان ديوان ملحمود دروي�ش حينها« .ان البالد كفي من �صنع كفّي» ،كتب حممود م�ؤكدا �سيطرة التي بني ّ ال�شعب الفل�سلطيني اخريا على م�صريه .م�ساهمة منها يف تلك املعركة ،جميء الدولة ،ر�سمت نوال طوابع بريد لدولة فل�سطني الآتية. مل ت�أت الدولة العتيدة .بقيت الر�سوم والتخطيطات التح�ضريية لتلك الطوابع التي نن�رش خمتارات منها. يف العام ١٩٧٥كانت نوال عبود تعمل يف «دار الفتى العربي» ببريوت يف تزيني كتب االطفال .طلب منها الراحل حميي الدين اللباد ،امل�رشف الفني على الدار، ر�سم مل�صق لفل�سطني .ر�سمت نوال اللوحة املن�شورة على غالف هذا العدد .طبع منها مل�صقات وجدارية كبرية تنقّلت يف معار�ض عدة .وال يزال احد املل�صقات موجود ًا يف جمموعة عز الدين قلق للمل�صقات الفل�سطينية .اخلرب هنا ان الر�سمة ُن�سبت اىل «نوال عبود ،طفلة فل�سطينية». قال بيكا�سو ذات مرة �إنه تع ّلم الر�سم كالكبار يف �سنوات قليلة ،لكنه ق�ضى خم�سني �سنة يجهد ليعود فري�سم كاالطفال. ل�سنا ندري اذا كان بيكا�سو جنح اخريا يف ا�ستعادة ملكة الر�سم مثل االطفال .الر�أي للنقّاد. نوال عبود طرابل�سي ،يف ال�سبعينات ويف الثمانينات من القرن املا�ضي ،كما الآن يف هذا القرن ،ال تزال ترف�ض تع ّلم الر�سم كالكبار.
134
بدايات
العدد |5ربيع 2013
«تصوير فلسطني»
جغرافية هنب المياه والفصل العنرصي تخلق «ت�صوير فل�سطني» ادوات ب�رصية م�ساعدة للمجتمعات ،وت�صف �رسدية ذات حقائق معتمدة على حقوق حول امل�س�ألة الفل�سطينية -اال�رسائيلية .باحثوها وم�صمموها وتقنيوها ،يعملون ب�رشاكة مع منظمات املجتمع املدين وغريها من امل�ؤثرين للرتويج للعدالة للفل�سطنيني. برزت االدوات الب�رصية مثل الر�سوم البيانية كواحدة من اكرث الأ�شكال �شعبية وت�شاركية على االنرتنت. مع ا�ستخدام هذه االدوات الب�رصية ،تهدف «ت�صوير فلط�سني» اىل ت�سخري طاقات الثورة الرقمية من اجل: الرتويج ل�رسديات اعالمية ت�ستند اىل احلقائق واحلقوق يف مو�ضوع امل�س�ألة الفل�سطينية -اال�رسائيلية .عرب الرتويج للتغيري يف الر�أي العام العاملي حول امل�س�ألة الفل�سطينية - اال�رسائيلية ،تهدف «ت�صوير فل�سطني» لزيادة ال�ضغط على ال�شخ�صيات ال�سيا�سية العاملية مل�ساندة العدالة للفل�سطنيني بالطريقة نف�سها التي ا ّثر الر�أي العام العاملي فيها على ال�سيا�سيني للتحرك �ضد الف�صل العن�رصي يف جنوب افريقيا والتمييز العن�رصي يف الواليات املتحدة. لتمكني املجتمعات التي تعمل من اجل احقاق العدل للفل�سطينيني .تهدف «ت�صوير فل�سطني» اىل اعالء �صوت النا�شطني املدنيني ،وحمالت الع�صيان املدين ،ومبادرات املقاومة غري العنفية .حني ت�ستطيع هذه املبادرات اي�صال ق�ص�صها ب�شكل فعال للعامل ،ميكنها ان تكتب �رسديات قد تغيرّ العامل الذي نعي�ش فيه .يحتاج املرء �أن يلقي نظرة على ق�ص�ص روزا بارك�س ،او اال�رضاب عن الطعام الذي قام به املهامتا غاندي ،لريى كيف يتحقق ذلك. اليوم ،يوجد العديد من املبادرات ال�شعبية التي ت�ستخدم الع�صيان املدين واملقاومة غري العنفية للوقوف بوجه الظلم الذي يواجهه ال�شعب الفل�سطيني .تهدف «ت�صوير فل�سطني» اىل ان تكون �رشيك ًا لهذه املبادرات مل�ساعدتهم
139
بدايات
العدد |5ربيع 2013
على اي�صال ق�ص�ص قوية وفعالة عن ن�ضاالتهم. ت�ستخدم «ت�صوير فل�سطني» مقاربة متكاملة متعددة االخت�صا�صات لتحويل معلومة معقدة اىل ق�ص�ص ميكن حفظها ب�سهولة من قبل اجلمهور العام .معظم ادوات الر�سومات يقوم بها م�صممون ،مطورو برامج ور�سامون عرب باحثني او م�ؤ�س�سات ،ويتم تزويدهم مبلخ�ص اح�صائي ب�سيط للعمل انطالق ًا منه .فريقنا املتعدد االخت�صا�صات م�ؤلف من م�صممني ،وباحثني ،ورواة يعملون �سوية ،يف عملية �سل�سة ومكررة تت�ضمن كل مواهبهم للخروج بر�سومات تدمج ب�سال�سة القيمة اجلمالية والتحليل الدقيق واحلامل للمعاين. يف متوز ،2011مت ت�أ�سي�س «ت�صوير فل�سطني» كمجموعة من ور�ش العمل التي يديرها متطوعون .ومنذ ذلك الوقت ،تطورت اىل فريق عمل ي�ضم 8ا�شخا�ص، ويعمل مع �شبكة من الباحثني ،امل�صممني ،املحللني االعالميني ،املرتجمني ،والتقنيني املتطوعني من 11بلد ًا يف اربع قارات. خالل ال�سنتني املا�ضيتني ،ن�رشت «ت�صوير فل�سطني» 16ر�سم ًا بياني ًا انت�رشت ب�شكل كبري ،ومت ن�رشها يف العديد من و�سائل الإع�لام ،منها «هافينغتون بو�ست »Huffington Postو«اجل���زي���رة االن��ك��ل��ي��زي��ة»، «ذا ديلي بي�ست « ،»The Daily Beastاوبن دميوكرا�سي »Open Democracyو«جدلية» .كذلك ا�ستطاعت «ت�صوير فل�سطني» بناء �شبكة كبرية على مواقع التوا�صل االجتماعي مع عدد كبري من املتابعني لها على فاي�سبوك وتويرت. مت��ت الرتجمة م��ن قبل ب��داي��ات� ،أي��ار 2013 ت�صوير فل�سطني لي�ست م�س�ؤولة عن اخطاء الرتجمة من الن�سخة االنكليزية
بني الفرح والفراغ املميت) واللقطة التعليمية واللقطة املقابلة مبا هي اللغة التقليدية لل�سينما غري املعفية من اال�شكالية .يقارن غودار بني �صورتني من العام :١٩٤٨ واحدة ال�رسائيليي «امل�ستقبل» ي�صلون اىل ا�رسائيل والثانية لفل�سطينيني يهربون عرب البحر ،وهو يقول هذه الكلمات التي �أ�صابت �شهرة وا�سعة« :يف العام ١٩٤٨ كان اال�رسائيليون مي�شون على املاء لبلوغ «�أر�ض امليعاد املقد�سة»؛ كان الفل�سطينيون مي�شون على املاء نحو غرقهم. ال�شعب اليهودي ين�ضم اىل الرواية ،والفل�سطينيون اىل الفيلم الوثائقي .اللقطة واللقطة املقابلة» .ماذا تراه يعني غودار؟ فل�سطني ،ار�ض ا�رسئيل يف احللم ال�صهيوين، تتحقق بالن�سبة لليهود ورواي��ة ا�رسائيل هي نق�ض لفل�سطني وللفل�سطينيني الذين على تلك االر�ض ،فيما ين�ضم الفل�سطينيون اخالقي ًا ومعنوي ًا (اي من الناحية الإثنوغرافية) اىل تقليد الفيلم الوثائقي الرا�سخ من خالل ت�صويرهم الدائم مبا هم ال�ضحايا امل�سلوبون من كل �شيء ،ينطقون ويغرقون مبا هم �ضحايا فقط. ثمة ب�ضع م�شكالت بالن�سبة للتمثيل يف الفيلم الوثائقي يهمنا ا�ستخراجها قبل ان نعود اىل فل�سطني واىل فيلم «مو�سيقانا» .ان الفيلم الوثائقي ال�رسدي ،ذا اخلطاب املبا�رش ،يزعم متثيل احلقيقة او الواقع املوجود تعر�ض للت�شكيك خارجنا ،نوع �سينمائي غالبا ما ّ الكبري .فمثال� ،إن ادعاء االفالم االثنوغرافية االخال�ص ملوا�ضيعها -لهوالء «الآخرين» -والطريقة التي تقدم بها تلك االفالم نف�سها مبا هي بال عني (اي ان الكامريا ت�سجل مدعية املو�ضوعية يف عر�ضها لالحداث، احلياة «كما هي») ّ وطريقة ا�ستخدامها للرتويج والتمثيل «املبا�رشين»، قد بات �إ�شكالي ًا عند املخرجني والنقاد عرب العقود. ي�شهد على ذلك تراث متكامل من االخراج ال�سينمائي التجريبي كما امللتزم والنظري .فمنذ االنتفا�ضة الثانية وجتنيز النزاعات ال�سيا�سية ون�شوء و�صعود خطاب حقوق االن�سان والنزعات االخالقية (حيث االخالق منف�صلة عن ال�سيا�سة واملواقف) تركزت عيون الوثائقيات على فل�سطني .ولكن قبل ذلك بكثري� ،أدت حقبة ما بعد احلرب العاملية الثانية مبا فيها من ار�شفة لل�شهادات واالعرتافات، �سمي بف�شل جتارب الكفاح امل�سلح يف ال�ستينات، وما ّ وانهيار االحتاد ال�سوفياتي العام ،١٩٨٩اىل حتوالت يف الكيفية التي يجري بها ت�صوير «النزاعات» يف ع�رص متار�س بطرائق ال�سيا�سات النيوليربالية ،حيث القوة باتت َ ال و�إيذا ًء. اخرى ،اكرث �شمو ً
«موسيقانا» غودار
الوثائقي حيتاج اىل عنوان آخر غالية سعداوي «العامل منق�سم بني الذين ي�صطفّون لإع�لان ب�ؤ�سهم والذين ي�شكل هذا اال�ستعرا�ض العمومي جرعة يومية كاتبة مستقلة .تعمل من الراحة املعنوية ت�ؤكد لهم �سيطرتهم. عىل اجناز اطروحهتا «ان مبد�أ ال�سينما هو� :إذهب نحو النور وخ ّلها ت�شع عن الفن المعارص على ليالينا«( ».مو�سيقانا») بعد احلرب االهلية طوفان من ال�صور املاحقة :تالل من اجلثث ،جنود اللبنانية يف جامعة امريكيون على �صهوة خيول ،او يعربون �أنهار ًا يف بالد غولدسميث بلندن .اجنبية ،طائرات مقاتلة ،قنابل ذكية ،قادة ع�سكريون، هنود امريكيون ،رعاة بقر يطلقون النار ،الفيتكونغ ،حمم بركانية ،م�شاهد من جمزرة ،خنادق ،دبابات ،انفجارات، قبور جماعية يف مع�سكرات اعتقال ،فدائي يحمل بندقيته .ويف توليفة للواحدة مع االخ��رى ،تبدو تلك ال�صور املتفارقة اجلنائزية والرهيبة مع ًا امل�أخوذة من اال�رشطة ال�سينمائية (على طريقة �سريغاي �آيزن�شتاين وبيرت بروك) ومن �أ�رشطة االخبار واالر�شيف التاريخي، وقد قُ�سمت اىل ثالثة اق�سام تقريبا ،متر دون تعليق ،دون تواريخ ،دون مراجع .انها اللحظات االفتتاحية لفيلم جان لوك غودار «مو�سيقانا» (« .)٢٠٠٤انه لعجيب حق ًا �أن يبقى احدهم على قيد احلياة» يقول تعليق �صوتي .الفيلم مهدى اىل امل�ؤرخ والكاتب الفل�سطيني اليا�س �صنرب. ال�صورة ،الن�ص ،التعليق ال�صوتي ال�صور ُمبيدة بالن�سبة اىل غودار (الذي بلغ الثمانينات �سيد املجابهة بني �صورة ون�ص وتعليق الآن) -وهو ّ �صوتي عرب توليفه الذي يحمل ب�صمته االكيدة ،وهو الذي ي�صنع «االف�لام ال�سيا�سية بطريقة �سيا�سية» - لأن هذا القرن والذي �سبقه هما بالتحديد قرنان من حروب الإبادة «العادلة» .حروب لي�ست تكتفي ب�إبادة الآخر العدو ،وامنا تبيد «الأُخروية» اي�ض ًا ،حيث ي�صري
144
بدايات
العدد |5ربيع 2013
الذي يتعر�ض للتعذيب او ميوت جمرد «�شخ�ص �آخر». و�إذ يجري تقدميه على هذا النحو ،تظهر ال�صور خارج �أطرها يف «الأخبار» و«الأحداث» و«االر�شيف» و«افالم هوليوود» حتديدا لكي ت�صري ظاهرج للعيان ،وهنا املفارقة ،فك�أنها املرة االوىل التي ن�شاهد بها هذا الرعب الب�رشي يف اخلارج ،ولكن من خالل تلك االطر .هذه الفقرة االفتتاحية للفيلم ،املنظمة بطريقة مرنة حول املراتب الثالث مللحمة اليغيريي دانتي «الكوميديا االلهية » ،تقع يف «مملكة اجلحيم». يبد�أ «املطهر» يف م�شهد خارجي ل�ساراييڤو املدمرة بالقنابل .احل��رب العاملية الثانية ،فل�سطني ،حروب البلقان ،الهنود االمريكيون امل�سلوبون من امالكهم مثبتون جميع ًا يف �رسد هومريي عن «حروب طروادة» يف الفيلم .يدخل حممود دروي�ش ،باحث ًا عن �شاعر الطرواديني ،يت�أمل يف �رسد ال ُين�سى عن املنت�رصين واملهزومني« :للحقيقة وجهان» يقول جلوديث لرنر، واجلوالة التي ال�صحافية اال�رسائيلية ال�صبية الذكية ّ ت�ؤدي دورها املمثلة �ساره �آدلر« .اين �أبحث عن �شاعر طروادة لأن طروادة مل تر ِو ق�صتها .واين ات�ساءل :هل ل�شعب له �شعراء كبار احلق يف ال�سيطرة على �شعب ال �شعراء له؟ [ ]...هل ال�شعر عالمة ام اداة �سيطرة؟ []... �أو ّد احلديث با�سم الغائب ،با�سم �شاعر طروادة .تعرفني ملاذا نحن م�شهورون؟ لأنكم اعدا�ؤنا .االهتمام بنا م�ستمد من االهتمام بالق�ضية اليهودية .االهتمام هو بك ،ولي�س بي .انتم حملتم لنا الهزمية وال�شهرة [ ]...ال الهزمية وال الن�رص ميكن قيا�سهما باملقايي�س الع�سكرية .ان �شعب ًا ال �شعر له هو �شعب مهزوم». يف الفقرة التي تلي ،لقطات لغودار وهو يتحدث اىل طالب يف �ساراييڤو عن ال�صور (مبا هي العالقة اجلدلية
145
بدايات
العدد |5ربيع 2013
ان ف�شل «ال�سيا�سة» ال�شعورية العاطفية املجردة حيث ال�ضحايا يكتفون باحلديث فقط من مواقع ال�ضحايا يف عهد ال�شاهد التقليدي الذي انق�ضى (مثله مثل اجهزة اعالم التيار ال�سائد �إما انها ّ تغطي ما قد جرى تغطيته وانها تنتج الالمباالة وال�شعور بال�ضعف والرعب) حتتاج اىل ان تغذي الطريقة التي بها نواجه �س�ؤال النيو كولونيالية والعنف وت�صوير الظلم يف ايامنا هذه� .أُخرِج فيلم «مو�سيقانا» يف زمن كانت فل�سطني قد اكت�سبت فيه ح�ضور ًا بارز ًا يف الر�أي العام العاملي، بعد االنتفا�ضة الثانية ودفق الوثائقيات عن جنني او غزة مثال ،وبعد التغطية االعالمية الوا�سعة حل�صار مقر يا�رس عرفات ،والت�ضامن الدويل وامل�سريات واحلركات والعرائ�ض واعمال التنقيب يف ار�شيفات الذاكرة كما يف الوثائقي الذي اخرجته ديانا �آلن بعنوان «ار�شيف النكبة» وغ�يره��ا .اال ان اع�لان االدارة االمريكية «احلرب على االرهاب» العام ٢٠٠١ما لبث �أن ّ حتكم بالكثري من ال�سيا�سات الكونية ال�سائدة ،وا ّثر بالت�أكيد على الطريقة التي جرت بها «ادارة» احتالل فل�سطني و�سيطرة اجلي�ش اال�رسائيلي عليها ع�سكريا. هنا يثور ال�س�ؤال :هل ميكن النظر اىل ت�صوير فل�سطني يف الفيلم (والفن) بطريقة اخ��رى؟ ما هي التقنيات واالمناط ال�شعرية واجلمالية التي تك�رس املوقف من ق�ضية فل�سطني واالحتالل اال�رسائيلي البغي�ض وتفككه لتمنعه من الوقوع يف فخ حالة ال�ضحية املجردة ،فتجدد االلتزام والفاعلية ال�سيا�سية والنقد العميق؟ هذا ما يحاوله بع�ض الفنانني الفل�سطينيني ال�شبان اليوم .ولعله �أي�ض ًا ال�شكل ال�شعري الذي دعا اليه الراحل حممود دروي�ش يف هذا الفيلم ،او هو اي�ضا الرواية الذي ي�سعى اليها غودار ويريد اال�ستحواذ عليها .يف «مو�سيقانا» ِ ُ الن�ضال و�ضع الفل�سطيني يف مكانه لي�س فقط من حروب االبادة وامنا اي�ضا من ا�شكال الن�ضال امل�ستمرة ،و�إن تكن متغرية، للتحرر من ت��راث املدر�سة االمربيالية القدمية ومن التفخيخ النيوليربايل ال�شامل يف �آن مع ًا. ا�ستعادة الرواية .الرواية مبا هي موقف «بعد وثائقي» ميار�س داخل ال�سينما او على االقل مبا هي تكتيك مغاير َ الوثائقية ،وبناء عليه خماطبة ال�ضحية الكئيبة ،وقطع الطريق عليها ،وهي حتاول �إحياء ما�ض مبا هو املوقف الوحيد املمكن بالن�سبة اليها ،لتت�صدر ح�ضور ًا فاعال يف حا�رض مراوِغ مبا هي فاعل �سيا�سي ونقدي .ينجح غودار يف ربط فل�سطني بتاريخ كامل من النهب والعنف
واال�ضطهاد والت�سلط .وعلى امتداد فيلمه ،لي�ست تدعي �سيا�سة غودار النطق بعنجهية با�سم �آخرين ال ي�ستطيعون النطق ،وال هي تدعي ا�صال انها تعطي ه�ؤالء فر�صة النطق ب�أنف�سهم امام عني او امام كامريا حمايدة ،علما �أن ال وجود لهذه او تلك .ان ال�شكل لي�س ينف�صل عن امل�ضمون اب��د ًا .والتحدي ال��ذي يطرحه فيلم «مو�سيقانا» على امل�شاهدين ،والأهمية التي يكت�سبها بالن�سبة لل�سيا�سة يف فل�سطني وعنها ،هو حتديدا يف الطريقة التي يخلط بها الفيلم الأبعاد املختلفة التي يخلقها الفيلم نف�سه: ا�ستخدامه املميز للتعليق ال�صوتي (لأنه ال يكتفي ب�شهود) والن�ص وال�صورة (�أكانت ار�شيفية ام مم�رسحة) وبالت�أكيد الطريقة التي تتطفل بها كلمات الآخرين على �شخ�صياته (مثل كلمات �صنرب ،بالن�شو ،دو�ستويف�سكي ،بريباوم، مونت�سكيو ،ليڤينا�س ،الي�س يف بالد العجائب ،الخ.). ثم �إن حياة غودار املهنية البالغة الرثاء على امتداد �ستني عاما لي�ست جديدة بالن�سبة لفل�سطني .ان �سيا�ساته اجلذرية الباكرة ،على هدي املارك�سية اللينينية واملاوية، وحماوالته ال�سينمائية (وقد اخرج بع�ضها يف اطار «جمموعة دزيغا ڤريتوڤ ،التي �أ�س�سها مع جان بيري
لفدائيي حركة فتح على انها منوذج للعمل الثوري. كان العنوان اال�صلي للفيلم هو «حتى الن�رص» لكنه مل ي�ستكمل ومل يعر�ض يف ال�صاالت ،وقد ا�ستكمل الحق ًا وعرِ�ض بالتعاون مع رفيقة غودار� ،آن ماري مييڤيلُ ، بعنوان «هنا او يف اي مكان �آخر» (.)١٩٧٥ النظرة ال�سائدة اىل غ��ودار �أن��ه �سينمائي �صعب من حيث ال�شكل .انه ميار�س التك�سري حيث ال�صوت والن�ص وال�صورة والوجه واملكان تنفك الواحدة منها عن االخرى ليعاد ترتيب عالقة املُ ِ �شاهد بالراهن املبا�رش واي�ضا ال�ستثارة ا ُلبعاد وممار�سة اال�ستفزاز بوا�سطته وذلك من اجل اعادة ترتيب مقاربتنا االدبية والذهنية واملادية لل�رصاع املاثل امامنا والذي علينا ان ن�شارك فيه .فالفيلم واحلياة لي�سا مت�ساويني عند غودار ،كما الحظ العديد من دار�سيه .ال ي�ستطيع الفيلم ان يعك�س احلياة ،بل ال ي�ستطيع الفيلم ان يعك�س �إال ذاته« .لي�ست هي �صورة �صحيحة ،انها جمرد �صورة» .ومن خالل هذه احلقيقة عينها ن�ستطيع ان نتبينّ قوة ال�صورة وطاقتها على التغيري .وهكذا فال�سيا�سة لي�ست تعمل على �سطح االحداث (او االفالم) انها تنظم االحداث وت�سكنها،
حممود درويش يف «موسيقانا»
«إن شعب ًا بال ِشعر هو شعب مهزوم» العدو ،عن فلسطني ال عن تراودين كوابيس ،ولكن صديقاً من حيفا قال يل :عندما أحلم ،احلم عن نفيس ال عن َ ارسائيل .هل ميكننا أن نبدأ من هنا؟ مع األرض ،من الوعد ،ثم من الغفران.
املقابلة: كتبت ذات مرة �أن الذي يكتب روايته يرث ار�ض تلك الرواية .اال تعتقد �أن الإ�رسائيليني لهم جودث :حممود دروي�ش. َ احلق يف الأر�ض؟ تقول انه ال مكان لهومريو�س وانك مغني طرواده وانك حتب املهزومني .انك تتحدث كاليهودي. ح�سن ال�صيت يف هذه الأيام .لكن احلقيقه لها وجهان ،لقد ا�ستمعنا اىل ح�سن وهو حممود :امل ذلك فهذا �أمر ُ ٌ الرواية االغريقية و�سمعنا احيان َا �صوت ال�ضحية الطروادية على ل�سان يوريبيد�س� .أما �أنا ،ف�إنني �أبحث عن �شاعر طروادة لأن طروادة مل ترو حكايتها ،و�أت�ساءل هل ال�شعب �أو البلد الذي له �شعراء كبار ميلك احلق يف ال�سيطرة على �شعب �آخر ال �شعراء له؟ وهل غياب ال�شعر عند �شعب ي�شكل �سبب ًا كافي ًا لهزميته؟ هل ال�شعر العالمة �أم هو �أداة من �أدوات ال�سلطة؟ هل ب�إمكان �شعب �أن يكون قوي ًا دون ان يكتب �شعر ًا؟ �أنا ابن �شعب غري معرتف به مبا فيه الكفايه حتى الأن� .أريد �أن اتكلم با�سم الغائب .با�سم �شاعر طروادة ف�إن الوحي ال�شعري وامل�شاعر االن�سانية قد تظهر �أكرب يف الهزمية مما يف الن�رص. جودث :هل انت مت�أكد من ذلك؟ حممود :يف اخل�سارة �أي�ض ًا �شاعرية عميقة ،وقد تكون هناك �شاعرية �أعمق يف اخل�ساره .ولو كنت �أنتمي اىل مع�سكر ل�شاركت يف مظاهرات الت�ضامن مع ال�ضحايا .هل تعلمني ملاذا نحن الفل�سطينيني م�شهورون؟ لأنكم �أنتم املنت�رصين ُ اعدا�ؤنا� .إن االهتمام بنا نابع من االهتمام بامل�س�ألة اليهودية .نعم ،االهتمام ِ بك ولي�س بي �أنا. اذ ًا نحن قليلو احلظ يف �أن تكون �إ�رسائيل هي عدونا ،لأنها حتظى مب�ؤيدين ال حد لهم يف العامل .ونحن �أي�ض ًا عدونا ،لأن اليهود هم مركز اهتمام العامل .لذلك �أحلقتم بنا الهزمية و�أعطيتمونا ال�شهرة. حمظوظون لأن تكون ا�رسائيل ّ لقد �أحلقتم بنا الهزمية ولكن منحتمونا ال�شهرة. جودث :نحن وزارة دعايتكم. حممود :نعم� ،أنتم وزارة دعايتنا لأن العامل يهتم بكم �أكرث مما يهتم بنا ،ولي�ست لدي �أي �أوهام حول هذا الأمر. كتبت « :اذا هزمونا يف ال�شعر فهذه نهايتنا». جودث :يف «فل�سطني ،مبا هي ا�ستعارة»، َ حممود :ال �أعتقد ان هناك نهاية ل�شعب او ل�شعر ،ال بد �أن خط�أ ما قد وقع يف هذا االقتبا�س ،ولكن هناك معنى �آخر، وانه ال ال�ضحية وال الهزمية تقا�س بعبارات ع�سكرية. �شبه م�آذن امل�ساجد با ِ حلراب] [تعليق �صوتي :رئي�س وزراء تركيا ذات مرة ّ
ما هي التقنيات واالمناط ال�شعريــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة واجلمالية التي تك�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر املوقف من ق�ضية فل�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــطني واالحتالل اال�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرائيلي البغي�ض وتفككه لتمنعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه من الوقوع يف فخ حالة ال�ضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــحية املجرّدة؟ غوران بني ١٩٦٧و )١٩٧٢مثل «ال�صينية» و«براڤدا» و«كل �شيء على ما يرام » و«املعرفة املرحة» و«ر�سالة اىل ج��ان» و«ري��ح ال�رشق» وغريها ،واالف�لام التي اخرجها مبفرده مثل «ذكوري-انوثي» و«پيريو املجنون» و«�صنع يف الواليات املتحدة» والعديد غريها) كانت جميعها تتغذى من حقده على االحتكار يف ال�صناعة ال�سينمائية ،ومن نقده للنزعة العاطفية عند الي�سار (الو�سطي) و�أخطائه العديدة االخرى ،ومن حرب غودار �ضد الربجوازية عموما ،مبثل ما كانت احتجاجا على التلفزيرن واالخبار ،وحقدا عليهما -فيما هو ال يتورع احيانا عن ا�ستخدام م�صطلحاتهما لت�أطري اعماله .يف �صور غوران وغودار فيلما عن فل�سطني يف العام ّ ١٩٧٠ واملنظمة وقدما اال�ستعدادات القتالية الدقيقة فل�سطنيّ ، ّ
150
بدايات
العدد |5ربيع 2013
وبالتايل على الفيلم ان يلتزم بذلك �شكال وبنية .هي حالة قطيعة مع الواقع ولي�ست حالة ارتباط بالواقع ،وهي قطيعة ت�سمح باعادة ادراك الواقع من جديد والفعل فيه. ولعل هذا ما كان غودار وغوران يعنيانه عندما حتدثا عن اخراج «افالم �سيا�سية بطريقة �سيا�سية». � ّإن غودار «عابد ايقونات» ،على قولة �إبرمغارد �أملهاينز. انه ي�ؤمن بال�صور وبقوة ال�صور يف ان تخ ّل�ص وت�ستفز (ولو بطريقة ال دينية) .ويتوقف االمر على من ي�ستخدم لل�صور وكيف ي�ستخدمها .هل هذا �شبيه بالطريقة التي ت�أمل فيها دروي�ش يف ال�شعر ويف فل�سطني ،مبا هي �إ�ستعارة ،اي عالمة على ال�سلطة ام اداة لل�سلطة؟ رمبا ان �شعب ًا ال يفهم ال�صور مكر�س ًا �سيا�سي ًا �أو ال ي�صنع ال�صور هو �شعب فهما �شعري ًا ّ مهزوم ،مهما يكن معنى للهزمية.
«� ُ أحمل اللغـــــــة المُ طيعة كال�ســـــــــــــــحابة �أحمل اللغة املطيعـــــــــــــــة كال�ســـــــــحابة ���ش��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ع��ب م������ه������زوم» ان ����ش���ـ���ـ���ـ���ع���ب��� ًا ب��ل��ا �� ِ��ش���ـ���ـ���ـ���ـ���ـ���ع���ر ،ه�����و ٌ
151
بدايات
العدد |5ربيع 2013
�شتى لإي�صال الر�سالة .منها اال�ستثمار يف البعد الديني، عرب اخت�صار مدينة القد�س ،ال بل كل فل�سطني ،ب�صورة يتو�سطها امل�سجد الأق�صى وم�سجد قبة ال�صخرة .وعندما مل تعد ت�ؤثر يف الناظر �صورة فل�سطيني مقتول على يد �إ�رسائيلي� ،أ�صبح على ال�صورة �أن حتتوي عنف ًا �أكرث. ال من ف�أ�صبحنا بحاجة �إىل �أن نظهر للعامل كم ًا هائ ً اجلثث يف ال�صورة الواحدة .و�أن نركز على مقتل ال�شيوخ الدرة �سوى �أحد والن�ساء والأطفال .ولي�س الطفل حممد ّ الأطفال الكرث الذين قتلتهم �إ�رسائيل ،لكن �صورة مقتله كانت حتمل عنف ًا يتخطى الالمباالة جتاه �صور �أطفال �آخرين قتلوا بطريقة «�أقل عنفا» .ثم برزت احلاجة �إىل �إظهار �صور ملواطنني من العامل الأول يقتلون على يد الإ�رسائيليني، مثل �صورة ريت�شيل كوري ،لن�ؤكد للر�أي العام العاملي �أنه لي�س الإرهاب الفل�سطيني الذي يدفع �إ�رسائيل �إىل قتل الفل�سطينيني .هكذا دخلنا يف دوامة �إظهار ال�صور التي تزداد عنف ًا ملجرد حماولة �إقناع العامل ب�أن �إ�رسائيل جمرمة، دون �أن ن�ستطيع �أن نغري �شيئ ًا .بل �أ�صبحت �صور ال�شهداء �أعداد ًا ت�ضاف على جدران ال�شوارع ،ال جمال للعني �أن حتفظها �أو تتذكرها .حتى �أننا حاولنا ا�ستعمال �صور �أنتجها الإ�رسائيليون بذاتهم� .صور تظهر فظاعة جرائمهم ،مثل تلك التي تظهر جنود ًا يف اجلي�ش الإ�رسائيلي يلتقطون ال �إ�رسائيليني �صور ًا مع �أ�رسى فل�سطينيني عراة .و�أطفا ً ير�سمون على ال�صواريخ املر�سلة لق�صف لبنان .و�آخرها ال�صورة التي التقطها جندي �إ�رسائيلي لطفل فل�سطيني عرب منظار بارودة القن�ص وحتميلها على ان�ستغرام .جميع تلك ال�صور ،وغريها التي تنتج يف كل يوم ومتلأ الف�ضاء االفرتا�ضي ،وو�سائل التوا�صل االجتماعي وامليديا ،لن تتوقف عن ال�صدور والتزايد حماولة �أن تكون �شاهد ًا على
يف حترير صورة فلسطني روي ديب �أنتمي �إىل جيل ولد بعد �إعالن قيام دولة �إ�رسائيل .ومل �أ�شهد االجتياح الإ�رسائيلي لبريوت ،مبا �أنني من مواليد صحايف وناقد فن .١٩٨٣كما �أنني مل �أتعرف على �أي الجئ فل�سطيني من لبنان ,من اعماله يف لبنان قبل عام .٢٠٠٣و�أول لقاء يل مع فل�سطيني فيلم قصري «مبثل قادم من قلب الأرا�ضي املحتلة كان يف عام .٢٠٠٧ بريوت» ( )٢٠٠٤لكن طاملا احتلت الق�ضية الفل�سطينية وحتى اليوم جزءا وفيلما فيديو «حتت كبريا من وعيي ال�سيا�سي والإجتماعي والثقايف .هي قوس قزح» ( .)٢٠١١ق�ضية التزمت الدفاع عنها. يعمل عل فيديو لكن منذ �سنوات قليلة ق��ررت �أن �أعيد التفكري بعنوان «رحليت اىل مبوقعي من تلك الق�ضية .ن�ش�أ ذلك القرار بال �أي �شك فلسطني» .بعدما تطورت عالقتي بفل�سطينيني قادمني من مدن وقرى خمتلفة يف ال�ضفة وغزة و�أرا�ضي ما قبل الـ.٤٨ حينها �أيقنت ال�رشخ القائم بني ال�صورة التي طورتها عن فل�سطني و�شعبها والق�ضية يف خميلتي ،وتلك التي التم�ستها �إثر �أحاديث مطولة مع �شباب فل�سطيني من جيلي ،ي�سكنون يف رام الله والقد�س وبيت حلم وحيفا وغزة ونابل�س ،وغريها من املدن الفل�سطينية.
مقاطعة الب�ضائع الإ�رسائيلية ،من نقا�شات ال تنتهي مع منا�رصي الق�ضية والغري املكرتثني بها ،من ن�صو�ص غ�سان كنفاين ور�سومات ناجي العلي ،من �صور ت�صلني وتعذيب و� ٍ ٍ إذالل ...وعنا�رص كثرية �أخرى كل يوم عن قتلٍ �شكلت �صورة عمرها يزيد على ال�ستني �سنة ،تراكمت وتفاقمت لت�شكل �صورة الق�ضية الفل�سطينية بالن�سبة يل وللكثرين غريي كل على طريقته. أحقية وبالرغم من حما�ستي ودفاعي املتزايد عن � ّ ال ورا�ضي ًا بتلك الق�ضية الفل�سطينية ،كنت دائم ًا قاب ً ال�صورة التي مل �أ�شارك يوم ًا يف �صناعتها ،و�إنتاجها، فقررت �أن �أنتقل من �سلبية املتلقي �إىل �إيجابية املنتج. �أردت �أن �أنتج �صورة لفل�سطني كما �أراها �أنا ،ولعالقتي بتلك الق�ضية و�أهلها و�أر�ضها ،و�أ�شاركها مع العامل .ولكن ما هي ال�صورة التي �أنوي �إنتاجها؟ �س�ؤال دفعني �إىل �أن �أعيد التفكري يف جميع ال�صور التي عرفتها عن فل�سطني. وحينها الحظت �أنه ومنذ خم�س و�ستني �سنة ونحن نحاول �إنتاج �صورة تعاود ت�أكيد �أن �إ�رسائيل جمرمة
من �سلبية املتلقي اىل ايجابية املنتج حينها تنبهت �إىل �أنني حتى اليوم يف موقعي من الق�ضية الفل�سطينية �أتخذ موقع املتلقي وال�سلبي يف معظم الأحيان .هكذا تكونت يف خميلتي �صورة لفل�سطني م�ؤلفة من كل ما تلقيته منها �أو عنها .خا�صة �أنني ال �أ�ستطيع �أن �أزور �أر�ض فل�سطني بالرغم من الت�صاق فن�سجت �صورة عنها يف حدودها مع ح��دود بلدي. ُ خميلتي ،ا�ستعرت عنا�رصها مما علمته عن ال�رصاع الفل�سطيني الإ�رسائيلي ،من ق�صائد حممود دروي�ش، من احلكايا التي �سمعتها على ل�سان الالجئني يف لبنان، من �أغنيات فريوز و�أحمد قعبور ومار�سيل خليفة ،من
�أردت �أن �أنتج �صـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــورة لفل�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــطني كما �أراها �أنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا، ولعالقتـي بتلك الق�ضيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة و�أهلها و�أر�ضهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا، و�أ�شاركها مع العـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــامل
154
بدايات
العدد |5ربيع 2013
وتخت�رص الفل�سطيني يف �صورة ال�ضحية� ،أري��د �أن �أقول �أن الفل�سطيني �إن�سان ،كما انه �صاحب الأر�ض. فلذلك توجهت �إىل �أ�صدقائي يف فل�سطني ،وطلبت منهم ي�صوروا يل مدينتهم .هو طلب مرفق بو�صيتني� :أن �أن ّ ي�صوروا الأماكن يف مدينتهم التي يودون �أن ي�أخذوين �إليها �إذا ما جئت لزيارتهم ،واالبتعاد قدر الإمكان عن الأماكن ال�سياحية ،فلريافقوين يف جولة يف حياتهم اليومية عرب الكامريا .هكذا قام �أكرث من ع�رشة �أ�شخا�ص يف مناطق خمتلفة ،بت�سجيل مواد تفوق مدتها الع�رشين �ساعة .التقيت بهم يف الأردن وح�صلت على جميع تلك املواد امل�سجلة على �أ�رشطة فيديو ،وعدت بها �إىل ب�يروت .ف�أ�صبح لدي �صورة لفل�سطني ،ال بل �صورة ملناطق معينة اختار فل�سطينيون �أن يروين �إياها لأنها تعني لهم �شخ�صي ًا ،لأنها الأماكن التي مي�ضون فيها نهارهم ،لأنها مدينتهم. زرت القد�س ورام الله ونعلني �أ�صبحت تلك املواد اجلديدة بني يدي� ،صورة جديدة علي �سوى االنتقال من املتلقي لفل�سطني ،فلم يعد ّ �إىل الفاعل� .سوف �أنتج ال�صورة التي �أود �أن �أرى فيها فل�سطني ،والتي �أود �أن �أت�شاركها مع العامل� .سوف �أ�ستعري تلك الت�سجيالت من �أ�صحابها ،و�أعيد تركيبها يف فيديو ي�سجل رحلتي �إىل �أر�ض فل�سطني .فيديو �أعيد توليفه، لأظهر ك�أنني حامل الكامريا ،و�أ�سجل رحلتي �إىل رام الله والقد�س وحيفا .حيث �ألتقي برفاقي الفل�سطينيني، و�أم�ضي نهاري معهم ،يف املناطق التي اختاروا �أن نزورها .فيديو �سفر (على ن�سق «دفرت رحالت» «� )»Carnet de Voyageصنع يف بريوت.
لن �أبحث عن �أعنف �صــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــورة لأظهرها �إلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى العامل لعلها تريــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه ما مل يره بعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد جرائم ترتكب كل يوم .لكنني لن �أ�ستطيع �أن �أ�ضيف �إليها �شيئ ًا ،لأنني ل�ست يف قلب احلدث ،ولأنني لن �أبحث عن �أعنف �صورة لأظهرها �إىل العامل لعلها تريه ما مل يره بعد. ال من �أن �أعيد القول يف �صورتي التي هكذا ب��د ً �أود �أن �أنتجها �أن �إ�رسائيل تنتهك حق الفل�سطيني، وحتتل �أر�ضه� ،صورة جتعل من �إ�رسائيل مركز ال�صورة،
ومغت�صبة حلق الفل�سطيني� .أما تطور تلك ال�صور التي مل ت�ستطع �أن حتقق هدفها ،ف�أمر مريع بحد ذاته .فحني مل تعد �صورة املهجرين من قراهم ،و�صورة القتل تنفع يف �إظهار اجلرم الإ�رسائيلي� ،أ�صبحت ال�صورة تبحث عن و�سائل
155
بدايات
العدد |5ربيع 2013
عرب �إنتاج تلك ال�صورة� ،أنتقل �إىل مرحلة الفعل، �أما فعلي ،وبرغم �إطاره اخليايل ،فهو توكيد للواقع الذي ّ ت�شكل �أرغب بعك�سه �ضمن ال�صورة .فل�سطني ب�أهلها عنا�رص ال�صورة الأ�سا�سية� .إنها مدنهم ،حيث ولدوا حتت االحتالل الإ�رسائيلي .يف رام الله� ،سار بي خالد وعالء يف ال�شوارع ،وعرفوين بتفا�صيل زواريبها ،واختاروا �أن
نذهب كل ليلة �إىل «�أندرين» -بار ًا يرتادونه دائم ًا - لدرجة �أنهم �أ�صبحوا يعتربون من �أهل البيت .من على �سطح املبنى الذي يرتفع عالي ًا فوق «�أندرين» �أخذوين لأرى رام الله مدينة ال�سبع تالل ،من فوق .يف الأفق ا�ستطعت �أن �أرى بع�ض امل�ستوطنات الإ�رسائيلية ،وهم د ّلوين عليها �أي�ض ًا. �أما يف نعلني مع يو�سف فقد �أم�ضينا نهار ًا يف مقهى متوا�ضع تتو�سطه طاولة بلياردو .هناك �شاهدنا مباراة كرة قدم ،مع �أنني ل�ست من م�شجعي الكرة ،ولكني كنت �سعيد ًا بالتعرف اىل رفاق يو�سف .وحالفنا احلظ يف نعلني يف الليلة الثانية� ،إذ كان هنالك عر�س يف ملعب البلدية، ال ف�سهرنا حتى ال�صبح نتفرج على اجلمع كما رق�صنا قلي ً يوما من قبل. دبك ًة مل �أعرفها ً �أم��ا زيارتي للقد�س فكانت مده�شة .دخلت مع روان القد�س القدمية ،و�أ�سواقها ،وتعرفت اىل مدين ٍة لي�س امل�سجد الأق�صى وال كنائ�سها �أجمل ما فيها ،بل تركيبتها وتفا�صيل ازقتها .والتجربة الأكرث �إثارة كانت زيارة حيفا .هنالك �أم�ضيت معظم وقتي يف بيت مهى. ركبت مهى �سيارتها وعندما قررنا اخلروج لزيارة حيفاَ ،
يف �صورتي عن فل�سطني� ،أهلها الفل�سطينيون يعرفونني على مدنهم اىل طريقتهم لأنها مدنهم ،لأنهم هم �أه��ل الأر���ض� .إ�رسائيل والإ�رسائيليون ما زالوا موجودين ،مل تتحرر فل�سطني منهم ،ولكن ال�صورة حتررت منهم .لكنهم ما زالوا هنا يف �أفق ال�صورة ،يف الطبقة الثالثة �أو الرابعة لل�صورة� ،إن كان للعني املجردة، �أو يف ت�رصفات وحتركات الفل�سطينيني �أ�صدقائي الذين ال جلزء من �شخ�صيتهم ومنطقهم. �أ�صبح االحتالل م�شك ً يف �أول لقاء يل يف الأردن ب�صديق فل�سطيني قادم من رام الله ،كنا متجهني مع ًا للمرة الأوىل بالبا�ص من جر�ش �إىل عمان .على الطريق وبعد مرور حوايل ال�ساعة والربع ،التفت �صديقي نحوي ،وقال يل دامع العينني�« :أتعلم� ،إنها �أول مرة �أ�سري بها يف البا�ص هذه أمني» .يومها فهمت ّ املدة ،من دون �أن �أتوقف عند حاجز � ّ �أن االحتالل الإ�رسائيلي ال ي�أخذ فقط �شكل ع�سكري ببدلة و�سالح ،ودبابات ،وم�ستوطنات .فها هي �إ�رسائيل بعنفها متجلية يف ال�صورة ،ولكن تلك ال�صورة تتكلم عن الفل�سطيني هذه املرة ،لي�س ال�ضحية بل الإن�سان الذي يعطيني معنى جديد ًا للحياة .ذلك ال ينفي �أن ال�صور
�إ�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرائيل وا لإ�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرائيليون ما زالوا موجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــودين، مل تتحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرر فل�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــطني منهم ،ولكن ال�صــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــورة حتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــررت منهم وجل�ست �أنا �إىل جانبها ،وراحت تدور يف جميع �أنحاء ُ املدينة� .رسنا يف ال�سيارة ما يقارب الأرب��ع �ساعات. راحت مهى تدخل �إىل قلب املدينة ،وتقرتب من البحر ثم تعود لتخرج من املدينة �إىل املحافظة الكربى� ،إىل اجلبل املطل على حيفا ،لنعود وجنول داخلها يف دورات حلزونية� .إىل �أن عدنا وو�صلنا �إىل البيت ،دون �أن نتوقف للحظة يف املدينة .مل �أ�س�أل مهى عن قرارها بعدم التوقف يف حيفا .مل �أرد �أن �أحرجها يف تربير قرار ،كان وا�ضح ًا �أنها اتخذته �سلف ًا ل�سبب ما .لكن يف اليوم الذي كان علي العودة فيه �إىل رام الله ،كذبت على مهى ،وطلبت ّ منها �أن تو�صلني �إىل املحطة يف وقت ي�سبق موعدي ب�ساعتني ،لكي �أجول وحدي يف املدينة.
156
بدايات
العدد |5ربيع 2013
الأخرى �رضورية ،و�أن هناك حاجة لها ،وال�ستعمالها، وتوظيفها يف خدمة الق�ضية .لكنني �شخ�صي ًا ل�ست بحاجة �إىل ر�ؤية دماء لكي �أعرف �أن �إ�رسائيل جمرمة. بل �إن �إ�رسائيل حرمتني �أن �أرى فل�سطني جميلة� ،أن �أرى الفل�سطينيني ب�رش ًا يعي�شون .واقت�رصت ال�صورة على جرمها وب�شاعتها يف �صورة فل�سطني والفل�سطينيني .هل ان �صورتي تنفع الق�ضية؟ �س�ؤال ي�شغلني مبا �أن الق�ضية ت�شغلني .ال �أدري .لكن الذي �أعرفه �أنها �صورة ت�ضاف اىل ال�صور املوجودة وقد ت�ضيف �شيئ ًا اىل ب�صرية ناظرها� .أما بالن�سبة يل �شخ�صي ًا ،فال �أريد �أن �أنتج �صورة للعامل ،بل �صورة لفل�سطني التي �أحببتها ،وللذين يحبونها .هكذا دخلت �إىل �أر�ض فل�سطني.
156
الياسر اليمين بني الغفران والنسيان
ال�صياد �أحمد ّ
161ارسائيل ،امريكا والنفط العريب عام 1948
ايرين غندزير
الياسر اليمين بني الغفران والنسيان الصياد كثرية هي الأحداث واملتغريات التي �شهدتها ال�ساحتان أمحد ّ اليمنية والدولية خالل العقد الأخري من القرن املا�ضي استاذ جامعي والعقد الأول من القرن اجلديد� .سقطت �أنظمة وانهارت ودبلومايس ميين .جدران ،واختفت جتارب وتال�شت نظريات ،وتغريت آخر مناصبه الدولية ،الكثري من املفاهيم والقيم ،وتراجع كثريون عن �آراء ماسعد االمني العام كانوا يطرحونها وعن ايديولوجيات كانوا ي�ؤمنون بها. لمنظمة االونيسكو توحد الوطن اليمني و�أ�صبحت حرية العمل ال�سيا�سي ّ للعالقات اخلارجية العلني والتعددية احلزبية والإعالمية واحلق يف االختالف والتعاون .من اعماله يف الر�أي واجلهر به ،على الأقل يف اجلانب النظري ،من «آخر القرامطة» �أهم اجنازات الوحدة و�أروع ما حققه الإن�سان اليمني ( )٢٠٠٤و«فصول يف هذا الع�رص. اجلحيم» ( .)٢٠١٠غري �أن هذا االجن��از احل�ضاري وال�سلمي تعر�ض للإجها�ض عندما �أقدم نظام علي عبد الله �صالح ،الذي مل يكن �صاحل ًا يف �شيء ،على اغتيال عدد من قادة وكوادر احلزب اال�شرتاكي ،تلي ذلك �إ�شعاله للحرب العبثية التي �أدت �إىل حتطيم الوحدة الطوعية وحولت الكثري من �أن�صارها �إىل دعاة لالنف�صال بني جنوب الوطن و�شماله. ومع �إطاللة العقد الثاين من هذا القرن اجلديد ،جاء «الربيع اليمني» ليعيد الأمل يف الوحدة وي�ضيف اجناز ًا جديدا �إىل ما حققه الإن�سان اليمني يف ن�ضاله الدائم ً من �أجل احلرية والعدالة والدميقراطية والتبادل ال�سلمي لل�سلطة ،وبذلك اندثر حلم توريث احلكم ،وبد�أ تفكيك النظام العائلي احلاكم .وخالل هذه امل�سرية الن�ضالية الطويلة ،كانت احلركة التقدمية اليمنية ب�شكل عام وقوى الي�سار ب�شكل خا�ص يف طليعة اجلماهري يف مقاومتها لأنظمة احلكم الظالمية والقمعية ،وبرهن الي�سار اليمني �أنه كان رائد ًا يف كثري من االجنازات الوطنية الكربى. كان الي�سار ،ومعه قوى �أو عنا�رص ملتزمة �أو غري ملتزمة فكري ًا وتنظيمي ًا ،قد ا�ضطلع ب��دور ري��ادي يف قيادة
158
بدايات
العدد |5ربيع 2013
الأحداث وت�أ�سي�س احلركات ال�سيا�سية والنقابية ،واجناز التحوالت االجتماعية وال�سيا�سية والفكرية ،وكان على الدوام يف اخلطوط الأمامية املدافعة عن مبادئ الثورة واجلمهورية ،والت�صدي للم�ؤامرات على ال�شعب اليمني يف خمتلف مراحل تاريخه ال�سيا�سي. فقد كان الي�سار بكل ت�سمياته واجتاهاته �صاحب املبادرة والريادة يف ح�شد وتنظيم اجلماهري حول ثورة � 26سبتمرب .1962وبذلك حتقق االلتفاف اجلماهريي العظيم ،مما �أعطى ل�سبتمرب بعد ًا ثوري ًا جتاوز طموح جمموعة ال�ضباط الوطنيني الذين �أطلقوا �رشارة التغيري، لت�صبح ث��ورة حقيقية تهم يف املقام الأول جماهري ال�شعب املحرومة وقواها التقدمية مبختلف اجتاهاتها الفكرية وال�سيا�سة التنظيمية. وكان الي�سار بجميع عنا�رصه املدنية والع�سكرية يف طليعة القوى املدافعة عن الثورة واجلمهورية ،وقدم جتربة ثورية متميزة عندما �أ�س�س املقاومة ال�شعبية بهدف الدفاع عن الثورة وحماية عا�صمة اجلمهورية املحا�رصة �إبان ملحمة ال�سبعني يوم ًا التي قدم الي�سار خاللها نخبة من عنا�رصه املدنية والع�سكرية يف معركة ال�صمود و�صنع االنت�صار العظيم .وال يوجد اليوم �أي م�ؤرخ من�صف للتاريخ ومتابع للأحداث ِ وعبرَ ه ي�شكك يف دور املقاومة ال�شعبية يف دحر القوى املحا�رصِة والك�شف عن طوابريها املند�سة لي�س يف العا�صمة املحا�رصة فح�سب، بل يف �أكرث من مدينة مينية .لقد �أ�صبحت جتربة املقاومة ال�شعبية يف ذمة التاريخ ،ولن يخجل اليوم �أي ي�ساري �أو تقدمي عند احلديث عن هذه التجربة الثورية الفريدة. و�إىل جانب الن�ضال الع�سكري ،خا�ض الي�سار خالل ال �آخر من �أجل بناء دولة امل�ؤ�س�سات، تلك الفرتة ن�ضا ً دولة النظام والقانون ،دولة امل�ساواة والعدالة واحلريات
159
ل�سائر �أبناء ال�شعب .ويتذكر اجلميع ال�رصاع املرير بني اجلديد والقدمي عندما بد�أ بع�ض املتخرجني من اجلامعات العربية وغري العربية ،والكثري منهم ينتمي للي�سار ،العمل من �أجل ت�أ�سي�س النظام النقدي واملايل ،وبناء الإدارة احلديثة ،وال�سعي اىل و�ضع الرجل املنا�سب يف املكان ٍ وقت كانت فيه �أجهزة القمع تالحق هذه املنا�سب ،يف العنا�رص الي�سارية وتعتقلهم ،لدرجة �أن �أجهزة الأمن كانت تخرج البع�ض منهم من ال�سجن العداد وثيقة �أو م�رشوع املوازنة وتعيده بعد �أن ينتهي منها �إىل غياهب ال�سجون و�أقبية القمع والظالم.
جتربة ثورية يف اجلنوب اليمني تختلف عن التجارب والأنظمة التي عرفتها املنطقة العربية من املغرب العربي حتى امل�رشق العربي .وواجه الي�سار �أثناء �سعيه القامة جتربته الثورية اجلديدة القوى الرجعية الظالمية ومعها الإمربيالية العاملية ،منذ بداية التجربة وحتى نهايتها .وعلى الرغم من كرثة املحن و�شحة املوارد االقت�صادية واملالية و�ضبابية الر�ؤية ال�سيا�سية وانعدام اخلربة الإدارية وقلة الكوادر احلزبية والتكنوقراطية التي ميكن �أن ت�سهم عملي ًا وعلمي ًا يف بناء التجربة املن�شودة وفق واقع البلد واحتياجاته ،كان الي�سار �صادق ًا يف
الي�سار اليمني رائد حلم التغيريات الكربى قد قوبلت املواقف امل�رشِّ فة واملبدئية والع�رصية لقوى الي�سار بالقمع واملالحقة والنفي يف جميع �أنظمة احلكم التي تعاقبت على ال�سلطة يف اجلمهورية العربية اليمنية. ويكفي على �سبيل املثال ال احل�رص �أن نذكر املنا�ضل الي�ساري واملفكر التقدمي يحيى عبد الرحمن الإرياين الذي تعر�ض لقمع �أجهزة الأمن حتى يف فرتة حكم والده القا�ضي عبد الرحمن الإرياين بتهمة االنتماء �إىل احلزب الدميقراطي الثوري اليمني ورئا�سة حترير �صحيفة «احلقيقة» التي �أ�صدرها يف تعز وكانت قريبة من احلزب. فقد تعاقبت جميع �أنظمة احلكم يف �صنعاء على قمع قوى الي�سار و�أعدمت �أو اغتالت الع�رشات منهم ،ونفت بع�ضهم �أو �أخفت الكثري منهم .وكانت مرحلة حكم علي عبد الله �صالح الأكرث عنف ًا وبط�ش ًا ودموية ،حيث �أعدم الكثري من الع�سكريني واملدنيني دون حماكمة ،ولو �صورية ،ودون �أن يعلم �أهلهم حتى اليوم �أين مت �إخفاء جثثهم .والحقت �أجهزة حكم �صالح قوى الي�سار من مدنيني وع�سكريني و�سجنت وعذبت الع�رشات حتى �أ�صيب البع�ض منهم باجلنون �أو ال�شلل� .أما املخفيون، فال يعرف م�صريهم حتى الآن .ومنعت �أجهزة قمع �صالح الكثري من العنا�رص امل�ؤهلة من التدري�س يف اجلامعات وامل�ؤ�س�سات العلمية ونفت البع�ض �إىل بلدان ال�شتات، والحقتهم يف هذه البلدان حيث وا�صلت �سفارات النظام و�ضباط ما ي�سمى بالأمن الوطني مالحقة هذه العنا�رص املنفية وتهديدها بالو�صول �إليها وقتلها خارج البالد. �أما جتربة الي�سار يف ما كان ي�سمى بال�شطر اجلنوبي من اليمن فهي غنية باجنازاتها يف �أكرث من حمطة مرت بها .فقد كان الي�سار رائد الن�ضال امل�سلح الذي جنح يف دحر امل�ستعمر الربيطاين و�إخراجه ،و�أقام الي�سار
يخطئ الي�سار عندمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا يتخلى عن اجنازاته لغيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــره
بدايات
العدد |5ربيع 2013
توجهه م�ؤمن ًا باختياراته متجرد ًا عن مغريات ال�سلطة وهو ميار�سها ،ومبتعد ًا عن نهب الرثوة وهو يجتهد يف تنميتها وا�ستخدامها ل�صالح الثورة وقواها الأ�سا�سية ومنجزاتها االقت�صادية .لقد �أ�صبحت هذه التجرية الي�سارية الوحيدة يف العامل العربي يف حكم التاريخ، يقيمها ويحكم عليها ومن حق كل فرد �أو جماعة �أن ِّ وفق ًا خللفيته االجتماعية وال�سيا�سية وقناعته الفكرية ومن وانتمائه احلزبي ،مع الأخذ يف االعتبار َ -من ت�رضر َ ومن عار�ضها ا�ستفادَ ،من دعم التجربة بقناعة و�إميان َ لأ�سباب اجتماعية و�سيا�سية و�إيديولوجية ،ورمبا يف يقيم املقام الأول دينية .للجميع اليوم احلرية الكاملة �أن ِّ و�أن ي�شيد �أو ينتقد .فاحلوار واالختالف من �أبجديات احلياة بكل �أبعادها وجوانبها ،ويف املقدمة اجلانب ال�سيا�سي .و�أنا على قناعة ب�أن كل من�صف للحقيقة وكل من يعرف طبيعة التجربة والفرتة التي مرت بها طبيعة الأو�ضاع الوطنية والإقليمية والدولية ال�سائدة �آنذاك، و�صدق الرجال والن�ساء الذين كانوا يحلمون بنجاح تلك التجربة� ،سيعطي لهذه التجربة الكثري من اجلوانب الإيجابية �أكرث من الهفوات وال�سلبيات التي ال ميكن �إنكار �أنها رافقت بع�ض اجلوانب التطبيقية. �إن�صاف جتربة اجلنوب وهكذا فقد كان الي�سار اليمني ،رائد حلم التغيريات الكربى يف ال�شمال واجلنوب ،وقدم خرية �شبابه �شهداء من �أجل تلك املُ ُثل واملبادئ التي �آمن بها و�سعى وكافح لإجنازها� .ألي�س من الإن�صاف �أن نتذكر اليوم ،ونحن ن�سمع
عبد الفتاح ا�سماعيل ،االمني العام للحزب اال�شرتاكي اليمني، يف اجتماع �شعبي.
�أ�صوات التجزئة وعبث نكران مينية اجلنوب ترتفع عالي ًا، وحد الإمارات وال�سلطنات املتناحرة �أكرث؟ �أن الي�سار َّ �ألي�س من حقنا �أن نفخر ب�أن الي�سار احلاكم �سابق ًا يف اجلنوب جعل �صوت اليمن يف املحافل العربية والدولية خمتلف ًا عن ا�صوات ومواقف بع�ض الدول العربية املت�آمرة على ق�ضايا �شعوبها و�أوطانها؟ �أميكن لأي من�صف لنف�سه وحلقائق التاريخ �أن ينكر �أن احلزب اال�شرتاكي اليمني تخلى عن دولة من �أجل �إجناز الوحدة ،ذلك احللم الذي رافقه يف تاريخه كله ،من الت�أ�سي�س وحتى احلا�رض؟ ومباذا قابلته قوى االنقالب واالنف�صال والظالم؟ فقد لنتذكَّ ر ما قاله املنا�ضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل نل�سن منديال وهو يتذكر ممار�ســــــــــــــــــــــــــــات النظام العن�رصي يف جنوب �أفريقيـــــــــــــــــــــــــــا «يـــــــــــمكننا �أن نغفر لكن لي�س من حقنا �أن نن�سى» كاف�أته على اجناز الوحدة باغتيال املئات من كوادره املدنية والع�سكرية .و�أعتقد �أن اجلرمية النكراء التي خطط لها التحالف ال�سلطوي اال�ستخباراتي الظالمي باغتيال الزعيم الي�ساري جارالله عمر ،الأمني العام امل�ساعد للحزب اال�شرتاكي� ،أمام ح�شد وا�سع من النا�س وحتت تغطية �إعالمية حملية وعربية ودولية ،كانت ر�سالة وا�ضحة للي�سار تقول «هكذا ت�صل �إليكم طلقات �أ�سلحتنا وقذائفنا لي�س يف ال�شوارع �أو داخل منازلكم فح�سب، بل حتى يف امل�ؤمترات و�أمام �أعني املاليني من النا�س ميني ًا وعربي ًا وعاملي ًا» .وهكذا كانت ت�صفية املنا�ضل جارالله عمر بتلك الطريقة ر�سالة لكل ي�ساري ولكل وطني يحلم بت�أ�سي�س وطن جديد ي�سوده العدل والإن�صاف وينعم �أبنا�ؤه وبناته باحلرية والدميقراطية واحلداثة ،وت�سود امل�ساواة الفعلية بني جميع �أبنائه يف ال�شمال واجلنوب، ويف ال�رشق والغرب ،يف الداخل واملهجر .ورغم فداحة اخل�سارة بجارالله مل يرتدع الي�سار ،وحني حل الربيع أدوار م�شهودة يف اليمني كان لقوى الي�سار وعنا�رصه � ٌ املبادرة بالإعداد والتنظيم وحتديد املراحل والأهداف بالتعاون التام مع �شباب التغيري واحلركة الإ�سالمية وكل القوى املن�ضوية يف تكتل «اللقاء امل�شرتك» الذي كان الزعيم الي�ساري جارالله عمر قد �أ�سهم يف ت�أ�سي�سه وحتديد �أهدافه مع حر�صه على تعزيز التنوع ال�سيا�سي والتنظيمي والفكري لكل القوى والعنا�رص املكونة لهذا التحالف ال�سيا�سي التاريخي.
162
بدايات
العدد |5ربيع 2013
ظامل ام مظلوم؟ بعد هذا ال�رسد املوجز ل�سرية الي�سار واجنازاتهِ ، وللم َحن وامل ��ؤام��رات والت�صفيات التي تعر�ض لها وال يزال، ول�سيا�سة �إبعاد كوادره و�أع�ضائه حتى بعد ربيع التغيري، نت�ساءل من جديد عما �إذا كان الي�سار اليمني ظامل ًا �أم متابعا� ،سيا�سي ًا مظلوم ًا .من حق كل فرد� ،أكان كاتب ًا �أم ً �أم غري �سيا�سي ،ملتزم ًا فكري ًا وتنظيمي ًا �أم غري ملتزم ،يف ال�سلطة �أم يف املعار�ضة� ،أن يجيب كما يريد وفق ًا لقناعاته وفكره� .أما �أنا ف�أعتقد جازم ًا �أن الي�سار قد تعر�ض لظلم جميع �أنظمة احلكم املتعاقبة ،رمبا �أ�سهم الي�سار نف�سه دون �أن يدري يف جلد ذاته وظلم نف�سه عندما يتوا�ضع وميتنع عن التذكري باجنازاته ،وين�سى �أن يرفع عالي ًا وعلى الدوام قوائم و�أ�سماء �شهدائه الذين قدموا حياتهم من �أجل احلرية والدميقراطية وقيم التغيري واحلداثة التي �آمنوا بها و�ضحوا من �أجلها. ويعد البحث عن جثامني من �أعدموا وعن املخفيني ّ من قيادات الي�سار وك��وادره و�أع�ضائه واجب ًا وطني ًا وحزبي ًا و�إن�ساني ًا وم�س�ؤولية �أخالقية .وتقع على كاهل احلزب اال�شرتاكي اليمني باعتباره �أهم قوى الي�سار اليوم، ومعه جميع قوى الي�سار وعنا�رصه �سواء �أكانت منظمة �أم غري منظمة� ،أن ترفع عالي ًا هذه املطالب امل�رشوعة وتعمل لإعادة االعتبار للي�سار و�شهدائه. لقد كان الأمني العام للحزب اال�شرتاكي اليمني، املفكر التقدمي ،يا�سني �سعيد نعمان ،حمق ًا عندما قال م�ؤخر ًا يف �إحدى حما�رضاته « :يخطئ الي�سار عندما يتخلى عن اجنازاته لغريه» .نعم ،كان الي�سار وال يزال ال وت�ضحية يف معظم ال وفع ً �صاحب ر�سالة و�أ�سهم قو ً االجنازات والتحوالت الكربى التي �شهدها تاريخ اليمن املعا�رص ،على الرغم من الظلم الذي تعر�ض له يف املا�ضي ويعد االعتبار واحلا�رض ،و�إذا مل ُيرفع هذا الظلم والتهمي�ش ُ لكل من تعر�ض للقتل والتعذيب واملطاردة والنفي ،ما مل حت�سم جميع هذه الق�ضايا اجلوهرية املعلقة ،ويتم حترميها قانون ًا ،وما مل تتوقف ماكينة �إ�صدار فتاوى التكفري بحق الكوادر ال�سيا�سية والكتاب واملفكرين وال�صحافيني، ويمُ َنع التعذيب بجميع �أ�شكاله و�صوره ،ف�إن الي�سار �سيظلم ويعاد �إنتاج ظلم الأم�س ويق�صى من جديدُ ، هم�ش ُ ُ وي َّ محِ لتفر�ض يف احلا�رض وامل�ستقبل. نه و واغتياالته َ ّ ينبغي �أال نن�سى ما قاله املنا�ضل نل�سن منديال وهو يتذكر ممار�سات النظام العن�رصي يف جنوب �أفريقيا : «ميكننا �أن نغفر لكن لي�س من حقنا �أن نن�سى».
إرسائيل ،أمريكا والنفط العريب عام 1948 ايرين غندزير الدعوة هذه تهدف لإعادة التفكري يف دور ا�رسائيل يف اجلبهة ال�رشقية خالل احلرب الباردة يف البحر املتو�سط، استاذة يف على �ضوء الأدلة التي يقدمها التقومي الذي اجرته وزارة جامعة بوسطن الدفاع الأمريكية ال�رسائيل\ فل�سطني يف .1948ففي الوقت الذي قامت فيه وكالة اال�ستخبارات املركزية ( )CIAبتقدير القوة املقارنة اال�رسائيلية يف وجه القوات العربية يف �صيف ،1948قدمت وزارة الدفاع تقوميها الإيجابي اخلا�ص للقدرة اال�رسائيلية يف �سياق ال�سيا�سة الأمريكية يف ال�رشق الأو�سط .مل تتجاهل هذه التقوميات ال�رصاع اال�رسائيلي – الفل�سطيني امل�ستمر ،بل رو�ضت جتلياته الأكرث خطورة ،مثل طرد الالجئني الفل�سطينيني والتو�سع اجلغرايف اال�رسائيلي ما وراء خطوط قرار االمم ال اىل ق�ضايا املتحدة للتق�سيم املقر يف ،1947و�صو ً املراجع املوجودة التخطيط الع�سكري .هذا مع العلم ا ّنه ال ميكن تلخي�ص يف هذا البحث م�أخوذة من �سجالت ال�سيا�سة الأمريكية واخلالفات الداخلية بني درا�ستي املقبلة« امل�س�ؤولني يف وزارة اخلارجية ،وما بني هذه الأخرية “Dying to Forget: The Foundations ofووزارة الدفاع ووكاالت اال�ستخبارات ،بهذه ال�سهولة. Policy inUStheForeignيكفي اال�شارة اىل � ّأن جذور ما �سي�صبح الحق ًا ،بعد Middle East , Oil, Palestine/Israel,فرتة طويلة« ،العالقة املميزة» بني وا�شنطن وتل ابيب، ” ،1945-1949,التي بد�أت اثر التطورات التي قيمتها وزارة الدفاع ب�إيجابية �ستن�رش من قبل جامعة كولومبيا. يف .1948مل يتم ت�صنيف ا�رسائيل كـ«ا�صول ا�سرتاتيجية» وفق التعابري امل�ستخدمة اليوم ،لكنها 1تقرير التحقيق عن النفط وعالقته اعتربت ذات �أهمية يف بنية التخطيط الع�سكري امل�صمم بالأمن القومي، حلماية امل�صالح النفطية الأمريكية يف املنطقة. اجرته اللجنة الفرعية عن النفط يف ال�سنوات التي تلت احل��رب العاملية الثانية والقوات امل�سلحة النواب مبا�رشة ،تعاملت وا�شنطن مع �رشق املتو�سط باعتباره يف جمل�س الأمريكي، مر�آة ذات وجهني ،تعك�س �سيا�ساتها ال�رشق او�سطية مع ,USG Printing Office ،1948خلطة امل�صالح الع�سكرية والتجارية من جهة ،وحتمي وا�شنطن، �ص .64-60 م�صاحلها النفطية العربية الغربية ،من جهة اخرى.
163
بدايات
العدد |5ربيع 2013
بعد ايار � ،1948ستلعب ا�رسائيل دور ًا يف �سيا�سة وا�شنطن املتو�سطية وال�رشق او�سطية يف �آن ،وهي يف ال ال يتجز�أ. احلقيقة �شكلت ك ً يف وقت كان فيه ت�أثري اعرتاف الرئي�س الأمريكي با�رسائيل يف ايار 1948هدف ًا للتمحي�ص النقدي لفرتة طويلة ،ال ميكن القول � ّإن الأمر نف�سه ينطبق على موقف وزارة الدفاع يف اعقاب ا�ستقالل ا�رسائيل .مرة �أخ��رى ،ما هو معروف اكرث هي مواقف وزير الدفاع جيم�س فور�ستال ،الذي من بني �آخرين يف وزارتي الدفاع واخلارجية ووكالة اال�ستخبارات املركزية ،قبل ايار ،1948كان مدرك ًا للتطورات التي كادت ان تعر�ض امل�صالح الأمريكية النفطية والتجارية يف العامل العربي للخطر� .إذ يف النهاية ،كانت اللجنة الفرعية اخلا�صة حول النفط يف جمل�س النواب االمريكي يف ،1948 واعية ب�شكل كبري ب�أ ّنها ال ت�ستطيع ان تناق�ش اهمية ال�سعودية للم�صالح النفطية الأمريكية من دون التطرق 1 ان حقيقة � ّأن امل�صالح الأمريكية مل�س�ألة فل�سطني .كما ّ النفطية كانت واعية اي�ض ًا ب� ّأن ابرز الدول املنتجة للنفط يف ال�رشق االو�سط مل تكن جاهزة للتخلي عن ارباحها، مل يخفف من اهمية التعاطي مع م�س�ألة فل�سطني. يف �شباط )23/PPS( 1948مل يكن جورج كينان بو�صفه رئي�س م�س�ؤويل �سيا�سات التخطيط اقل و�ضوح ًا يف التعبري عن خماوفه حيال ال�ضغوطات التي دفعت بوا�شنطن للقبول مب�س�ؤولية دولة يهودية يف فل�سطني. وهو حذّر من ا ّنه يف حال ح�صول ذلك وخ�صو�ص ًا اذا ار�سلت الواليات املتحدة جنود ًا او وافقت على ا�ستخدام قوات دولية� ،ستكون مرغمة على �إعادة النظر بتخطيطها الع�سكري والتجاري كذلك للمتو�سط وال�رشق الأو�سط. ان التفوق العددي للدول قبل ايار ،1948كان ُيعتقد ّ
2
Avi Shlaim, “Israel and the Arab ”Coalition in 1948, in Avi Shlaim and Eugene L Rogan, eds., The War for Palestine, 2001
�ص.80 13 3ني�سان ،1948القن�صل يف القد�س (وا�سون) لوزير اخلارجيةFRUS، ،1948املجلد اخلام�س ،الق�سم الثاين� ،ص .817
4
انظرSimha Flapan,
The Birth of Israel, Pantheon Books, ;N.Y. 1987, p. 89
Major R.D. Wilson, “The Battle for Haifa, April 21-22, 1948,” in Walid Khalidi, ed., From Haven to Conquest, Beirut, 1971, pp. 771-774; Walid Khalidi, “Special Feature, The Fall ”of Haifa Revisited, Journal of Palestine Studies, Vol. XXXVll, no.3, Spring 2008, pp.30-58.
23 5حزيران، ،1948القن�صلية يف حيفا (ليبينكوت) لوزير اخلارجية، ،FRUS 1948 املجلد اخلام�س، الق�سم الثاين، �ص .1138
164
العربية يف املنطقة� ،سيقلل من فر�ص اي انت�صار يهودي يف فل�سطني .تغيرّ الو�ضع مع ح�صول القوات اليهودية على ا�سلحة غري �رشعية ،ب�شكل ا�سا�سي من ت�شيكو�سلوفاكيا، ولكن اي�ض ًا من دول اوروبية �رشقية اخرى ،حتى ا ّنه منذ منت�صف ايار ،1948ا�صبحت قوات الدفاع اال�رسائيلية يف موقع اقوى فيما يتعلق بعديد الرجال واال�سلحة وذلك رغم التعزيزات العربية.2 غيرّ ت النتائج ب�شكل جذري امل�شهد االجتماعي وال�سيا�سي يف فل�سطني وال�رشق االو���س��ط ،وكذلك تطلعات وح�سابات وزارتي اخلارجية والدفاع االمريكية. بعد اقل من �سنة على اعالن ا�ستقالل ا�رسائيل يف 15 ايار ،1948بد أ� امل�س�ؤولون االمريكيون يجرون تقومي ًا للقدرات الع�سكرية اال�رسائيلية وب��د�أوا معها عالقات �ست�صل اىل م�ستويات ق�صوى بعد .1967لكن قبل ذلك بع�رشين عام ًا ،يف ما بعد ال�رصاع حول فل�سطني يف ،1948قامت وزارة الدفاع الأمريكية باالعرتاف ب�أهمية هذه التطورات فيما يتعلق بامل�صالح الأمريكية يف �رشق املتو�سط وال�رشق االو�سط. لكن كان لذلك االعرتاف �آثار اخرى ،مت جتاهلها يف ال�سجالت التقليدية لل�سيا�سات االمريكية ملا بعد احلرب. متت اعادة تقومي القدرات اال�رسائيلية من قبل وزارة الدفاع الأمريكية يف الفرتة نف�سها التي كان القنا�صلة الأمريكيون يف فل�سطني\ ا�رسائيل والدبلوما�سيون االمريكيون يف لبنان ير�سلون �إىل وزارة اخلارجية تفا�صيل عن طبيعة ال�رصاع امل�ستمر مع الفل�سطينيني ونتائجه ـ مثل حاالت دير يا�سني وحيفا ويافا .يف هذه املرحلة ،حاول م�س�ؤولو وزارة اخلارجية وجمل�س الأمن القومي يف وا�شنطن ،من دون ان ينجحوا ،بالتقرب ممن اعتربوهم �صهاينة وعرب معتدلني يف حماولة للتو�صل اىل ت�سوية ما حول ق�ضايا الأر�ض والالجئني. القن�صل العام االمريكي يف القد�س ،توما�س �سي. وا�سون ،الذي اغتيل يف 23ايار ،ار�سل يف 13ني�سان 1948اىل وزير اخلارجية مار�شال تقرير ًا �رسي ًا حول ما حدث يف دير يا�سني ،وهي قرية فل�سطينية تقع غرب مدينة القد�س ،حيث قام «معتدون بقتل � 250شخ�ص ًا ن�صفهم ،وفق اعرتاف املعتدون للم�س�ؤولني الأمريكيني، ال .االعتداء ح�صل بالتزامن مع معركة كانوا ن�ساء واطفا ً ال تزال م�ستمرة بني العرب واليهود على الطرقات امل�ؤدية من القد�س اىل تل ابيب» .3بعد ذلك ،قال وا�سون � ّإن حظوظ وقف اطالق النار وح�صول هدنة ا�صبحت بعيدة. بدايات
العدد |5ربيع 2013
يف 24ني�سان ،تلقى وزير اخلارجية مار�شال برقية حول التطورات املقلقة يف حيفا ،التي كانت م�صفاة النفط فيها م�رسح ًا ل�رصاعات �سابقة ،وا�صبحت وقتها يف يد القوات اليهودية .4يف 23حزيران ،ابرق القن�صل الأمريكي يف حيفا اوبري ليبينكوت لوزارته ليخربها ب�أ ّنه علم بخ�صو�ص اجراءات التفتي�ش التي يتعر�ض لها ال�سكان العرب يف حيفا من قبل ال�سلطات اليهودية« .العرب الذين يعودون اىل حيفا يعتربون غري �رشعيني .يطلب منهم حلف ميني الوالء للدولة اليهودية .النتيجة ان من تبقى من العرب يريدون الرحيل» .5يف ني�سان ،1949ار�سل الوزير الأمريكي املنتدب اىل لبنان لويل �سي .بينكرتون امللفات التي ح�صل عليها من املجل�س التنفيذي ليافا وجمل�س ال�سكان الذين ميثلون يافا ،والرملة ،واللدة ،والقرى العربية التي ت�شكل القطاع هذا .كان تقرير بنكرتون يت�ضمن امللفات املتعلقة بطرد الفل�سطينيني من هذه املناطق.6 التقارير املتعلقة بطرد الفل�سطينيني من دير يا�سني، وحيفا ويافا وال��ع��دد الكبري من القرى والبلدات الفل�سطينية هي جزء من ال�سجالت الأمريكية التي مت اهمالها لفرتة طويلة يف التقارير االمريكية املتعلقة با�رسائيل وتكوينها كدولة .ميكن قول الأمر نف�سه عن الدرا�سات الهامة من قبل االكادمييني اال�رسائيليني املعا�رصين مثل بيني موري�س وايالن بابي ،ومع اجيال �سابقة ،مثل �سمحا فالبان ،وكذلك يف حتليالت و�شهادات االكادمييني والباحثني الفل�سطينيني والعرب. الرتكيز يف البحث هذا هو على ما اعتقد انها ا�شارات هامة حول التغيري يف ال�سيا�سة الأمريكية يف الفرتة ما بني اخلروج الربيطاين من فل�سطني واعالن ا�ستقالل ا�رسائيل يف ايار ،1948حني تولت وزارة الدفاع م�س�ألة اعادة التقومي للدولة اجلديدة ،وقدراتها فيما يتعلق بحماية امل�صالح الأمريكية الإقليمية. قبل ع�رشة ايام من خروج بريطانيا من فل�سطني، واجه امل�س�ؤولون الأمريكيون فيها رف�ض ًا من قبل الوكالة اليهودية لهدنة ما او اتفاق و�صاية ال�ستبدال ما اعتربته ال يف خطة وزارة اخلارجية الأمريكية والبيت الأبي�ض ف�ش ً التق�سيم .يف تقومي الو�ضع ،تناول روبرت ماكلينتوك وهو امل�ساعد اخلا�ص لدين را�سك ،نتائج هذه التطورات .اعترب �أ ّنه ميكن القول � ّإن وا�شنطن �ستواجه يف الفرتة القريبة حالة �ستخلقها القوات الع�سكرية اال�رسائيلية ومنها الهاغاناه، وع�صابات �شترين ،وايرغون ،و�ست�ضطر وا�شنطن اىل اتخاذ قرار حول اذا كان «االعتداء اليهودي على التجمعات
� 6آيرين غندزير، «املذكرة امل�سلمة اىل حكومة الواليات املتحدة الأمريكية» ،من قبل جمل�س �سكان يافا و�ضواحيها، كانت موجودة يف الربقية املر�سلة من قبل لويل �سي. بنكرتون ،الوزير املفو�ض يف بريوت، لوزير اخلارجية مار�شال ،يف 11 ني�سان ،1949 واعيد ن�رشها يف جملة الدرا�سات الفل�سطينية، املجلد ،18 العدد ،3 اال�صدار ،71 ربيع ،1989 العدد الثاين، �ص .102 4 7ايار،1948 ، م�سودة مذكرة من مدير مكتب الأمم املتحدة (را�سك) لنائب وزير اخلارجية (لوفيت)، ،FRUS 1948املجلد اخلام�س ،الق�سم الثاين� ،ص .894 كتب هذه املذكرة ماكلينتوك لكن يبدو ا ّنها مل تر�سل. 2 8حزيران،1948 ، Minutes of the
Policy Planning
،Staff, FRUS 1948 املجلد اخلام�س، الق�سم الثاين، �ص .1088 23 9حزيران، ،1948مذكرة من ال�سيد روبرت ماكلينتوك، ،FRUS 1948 املجلد اخلام�س، الق�سم الثاين، �ص .1135
165
العربية يف فل�سطني �رشعي ًا او ي�شكل خطر ًا على ال�سالم والأمن العامليني وبالتايل طلب اجراءات ت�أديبية من جمل�س االمن»� .7ستواجه وا�شنطن اذ ًا ما ا�سماه ماكلينتوك «حالة غري طبيعية» �سيكون فيها «اليهود املعتدون احلقيقيون �ضد �سيدعون ا ّنهم يدافعون بب�ساطة عن العرب .لكن اليهود ّ حدود دولة ر�سمتها االمم املتحدة ووافق عليها ،يف املبد�أ على الأقل ،ثلثا اع�ضاء الأمم املتحدة». يف غ�ضون ا�سبوعني من اعالن ا�ستقالل ا�رسائيل، وافقت جمموعة تخطيط ال�سيا�سات على «ا ّنه يجب علينا �أن نبد�أ فور ًا بتطوير ورقة حول فل�سطني وجممل نتائج ال�سيا�سات ،خ�صو�ص ًا فيما يتعلق بال�رشق الأو�سط ،لتقدميها اىل الوزير (اخلارجية) وال�سيد لوفيت، واحتمال تقدميها عرب جمل�س الأم��ن القومي» ،الذي ت�أ�س�س قبل فرتة قليلة .8كان ماكلينتوك يف جمموعة موظفي تخطيط ال�سيا�سات ،وكذلك فيليب جي�سوب الذي كان �آنذاك ميثل وا�شنطن يف الأمم املتحدة. كما قال ماكلينتوك ب�شكل وا�ضح ،ف �� ّإن وا�شنطن مل تعرتف فقط باحلكومة امل�ؤقتة لدولة ا�رسائيل ،بل مل تت�رصف لتتحدى �سيادة او تقو�ض �سيطرتها على الأرا�ضي التي مل تكن م�شمولة بقرار الأمم املتحدة � .181شدد لوي هندر�سون من وزارة اخلارجية على امل�س�ألة نف�سها ،واو�ضح ان اي تغيريات جغرافية تقرتحها الواليات املتحدة على ا�رسائيل يجب ان تنال موافقة ا�رسائيل. يف نهاية حزيران ،1948راج��ع ماكلينتوك ما ح�صل منذ اقرار التق�سيم يف ،1947وا�ستنتج ا ّنه «لن يكون هناك دولة عربية منف�صلة ،وال احتاد اقت�صادي، كما تخيلت اجلمعية العامة لالمم املتحدة» . 9كان الرجل م�ستعد ًا للتفكري يف «تبادل» او «ترحيل» النا�س ،الذي كان مو�ضوع ًا م�شرتك ًا بني قادة ال�صهاينة ،رغم ا ّنه مل يكن معرتف ًا به بني امل�س�ؤولني الأمريكيني .10هدف �سيا�سة مماثلة كان وفق ماكلينتوك ،خلق بيئة تتمكن فيها «دولة ا�رسائيل من احتواء يهود فل�سطني ،فيما ي�سكن العرب يف مناطق �صافية عربي ًا» .11لكن ر�سالة خمتلفة كلي ًا و�صلت اىل مكلينتوك ووزير اخلارجية من قبل م�س�ؤول امريكي ال بني ال�صهاينة وهو جودا ماغن�س، اعترب االكرث اعتدا ً الذي كان وقتها رئي�س اجلامعة العربية يف القد�س ،اذ حث الواليات املتحدة على فر�ض عقوبات مالية على العرب واليهود من اجل ايقاف القتال. مل يتم اعتماد هذا اخليار .لكن كان هناك فكرة متزايدة ب�أن ميزان القوى يف املنطقة كان يتغيرّ . بدايات
العدد |5ربيع 2013
يف منت�صف مت���وز ،1948اع��ت�برت وك��ال��ة اال�ستخبارات االمريكية �أ ّنه يف الوقت الذي «قام العرب بتقدم خالل الهدنة (بني 9و 18متوز) كان ذلك ب�سيط ًا مقارنة بالتقدم اليهودي» .12اكرث من ذلك ،وكما يقول امل�صدر نف�سه ،ف� ّإن وكالة اال�ستخبارات التي �أُن�شئت حديث ًا ( )1947ا�ستنتجت ان الهدنة عززت موقع ا�رسائيل «لدرجة ان اليهود قد يكونون اليوم اقوياء وي�ستطيعون �شن هجوم �شامل ودفع القوات العربية خارج فل�سطني» .النتيجة النهائية «غريت ب�شكل كبري التقدير ال�سابق حيال امل�سار املحتمل للحرب يف فل�سطني». التقرير املذكور اعاله يت�ضمن تقدير ًا للقوات العربية واال�رسائيلية ،جاءت على ال�شكل التايل :القوات العربية «يف فل�سطني» قدرت برقم يقارب ال��ـ27000؛ تلك «القريبة من فل�سطني» قدرت بحوايل ،19800اي املجموع هو ،46800مقابل انق�سام القوات اال�رسائيلية ما بني الهاغاناه 50000؛ واالرغون مع ما بني 7و12 الف ًا ،على فرتة متتد من 4اىل �ستة ا�شهر؛ وع�صابات �شترين مع 400اىل � 800شخ�ص يف الفرتة نف�سها. اي ان القوات اال�رسائيلية كانت حوايل .13 97800 بعد ح��وايل �شهر ،راجعت وكالة اال�ستخبارات املركزية تقديراتها ال�سابقة وقدمت تغيريات وا�سباب قليلة للتفكري ب� ّأن مقرر الأمم املتحدة الكونت برنادوت �سيتمكن من تقريب اجلهات املتنازعة للتو�صل اىل اتفاق .على العك�س ،حذرت الوكالة من � ّأن «املجموعات املتطرفة يف الطرفني وخ�صو�ص ًا اليهودية ايرغون زفاي لومي وع�صابة �شترين» ت�شكل خطر ًا م�ستمر ًا.14 بعد حوايل �شهرين على بروز ا�رسائيل كدولة م�ستقلة، كان فيليب جي�سوب وهو ع�ضو �آخر يف جمموعة موظفي تخطيط ال�سيا�سات والذي كان نائب ًا للممثل الأمريكي يف جمل�س الأمن يف �صيف ،1948كان وكما يف حالة ماكلينتوك يعيد التفكري يف قرارات االمم املتحدة ال�سابقة واال�شارات فيها لدولة عربية ويعتربها بائدة .كان الوقت قد حان للتفكري بعبد الله واحتماالت ال�ضفة الغربية. ب�شكل اعم ،ا�ستنتج جي�سوب �أ ّنه اذا «مت التعاطي معها بعدل ف�إ ّنها (ا�رسائيل) �ست�صبح قوة تعمل ل�صاحلنا ول�صالح الدول العربية .»15اهمية التطور هذا يف ر�ؤية جي�سوب ي�صبح وا�ضح ًا حني يفكر املرء يف نظرته ملوقع فل�سطني يف �سياق �سيا�سة وا�شنطن ال�رشق او�سطية. «من وجهة النظر اال�سرتاتيجية ،نفرت�ض ب�أن فل�سطني، ال رئي�سي ًا يف �أي نزاع كبري مع البلدان املجاورة ،تكون عام ً
10انظر 19حزيران، �سفري اململكة املتحدة (دوغال�س) اىل وزير اخلارجية، ،FRUS 1948املجلد ،5الق�سم الثاين، �ص .1124 23 11حزيران، ،1948مذكرة من ال�سيد روبرت ماكلينتوكFRUS ، ،1948املجلد اخلام�س ،الق�سم الثاين، �ص .1135 27 12متوز ،1948 «تطورات حمتملة من هدنة فل�سطني»، وكالة اال�ستخبارات املركزية9 ،؛ www.foia.cia.gov/
browse_docs_full.
،asp.ميكن ايجاد التقرير نف�سه يف ،FRUS 1948املجلد اخلام�س ،الق�سم الثاين� ،ص.1244 27 13متوز، « ،1948تطورات حمتملة من هدنة فل�سطني» ،وكالة اال�ستخبارات املركزية� ،ص .10 � 31 14آب،1948 ، «تطورات حمتملة من هدنة فل�سطني»، وكالة اال�ستخبارات املركزية، Addendum to ORE
� ،48-38ص.3
http://www.foia.cia. _gov/browse_docs full.asp
1 15متوز ،1948 ممثل الواليات املتحدة القائم باالعمال يف االمم املتحدة (جي�سوب) لوزير اخلارجية، ،FRUS 1948 املجلد اخلام�س، الق�سم الثاين، �ص .1183
168
م�ستقبلي حمتمل .من �ش�أن هذه املنطقة �أن تكون ذات �أهمية حيوية بالن�سبة للواليات املتحدة كمنطقة ميكن �أن تكون مبثابة قاعدة حمتملة تتنا�سب مع خطوط االت�صال اخلا�صة بنا .كما �أنه من املحتمل � ّأن الرثوات النفطية للمنطقة ُتعتبرَ حيوية .ون�شعر ب�أن هذه النقطة قد ال تكون نالت الن�صيب الذي ت�ستحقه من املعاجلة املنا�سبة وال�رصيحة يف النقا�شني الر�سمي والعام حول امل�س�ألة الفل�سطينية. املرجح � ّأن جتارتنا من وجهة النظر االقت�صادية ،من َّ وعالقاتنا االقت�صادية الأخرى مع فل�سطني وبقية بلدان ال�رشق الأدنى ،با�ستثناء النفط ،لي�ست ذات �أهمية كبرية. بجميع الأحوال ،وب�شكل غري مبا�رش ،ف�إ ّنه يف ظل �رشوط �سلمية ،من �ش�أن اال�ستقرار االقت�صادي واالزدهار الناجت عن تنمية فل�سطني ومنطقة ال�رشق الأو�سط �أن ي�شكال م�ساهمة كبرية يف التعايف االقت�صادي للعامل ب�شكل عام ،وبالتايل �أن ي�ساهما يف الرفاه االقت�صادي للواليات املتحدة .فيما يتعلق بالنفط ،نعرتف ب�� ّأن الإم��دادات النفطية الآتية من هذه املنطقة تكت�سب �أهمية كبرية يف برامج التعايف االقت�صادي الأوروبية« .على �أنه لو مل يكن ب�سبب هذا العامل ،والأهمية اال�سرتاتيجية للنفط، ال يجدر بنا على الأرجح ال�سماح للأهمية االقت�صادية لهذه ال�سلع ب�أن ت�ؤثر على قراراتنا ب�شكل جوهري فيما يتعلق بالق�ضية الفل�سطينية»( .الفقرة املو�ضوعة بني مزدوجني خا�صة بالكاتب).16 هل هذا االعرتاف ب�أهمية «هذه ال�سلعة» هو ما �سمح جلي�سوب بنقل نفي �إ�رسائيل م�س�ؤوليتها عن الالجئني الفل�سطينيني �إىل وزير اخلارجية يف �أواخر متوز من دون مناق�شة هذه اال ّدعاءات؟ كان كل من مدير مكتب �ش�ؤون الأمم املتحدة �آنذاك ،دين را�سك ،وو�سيط الأمم املتحدة، كونت برنادوت ،من بني الأ�شخا�ص الذين مل ي�شككوا بهذا املوقف ،حتى و�إن كان ذلك �سيكون بال ت�أثري. لقد خل�ص م�س�ؤولو وزارة الدفاع يف مطلع ربيع العام � ،1949إىل �أن �إ�رسائيل كانت الدولة الثانية من بعد تركيا ،من ناحية قدراتها و�إمكانياتها الع�سكرية بالن�سبة للتخطيط اال�سرتاتيجي الأمريكي املتعلق باملنطقة .يف وجهها رئي�س ّ موظفي �آذار/مار�س � ،1949أفادت مذكرة ّ القوات اجلوية االمريكية �إىل قادة الأركان امل�شرتكة حول «م�صالح اال�سرتاتيجية الأمريكية يف ا�رسائيل» بالتايل: «لقد تغيرّ ميزان القوة يف ال�رشقني الأدنى والأو�سط ب�شكل جذري .حني كانت دولة �إ�رسائيل تت�أ�س�س ،كانت م�ؤ�رشات عديدة توحي ب�أن حياتها �ستكون ق�صرية للغاية بدايات
العدد |5ربيع 2013
يف وجه معار�ضة جامعة الدول العربية لوجودها .لكن �إ�رسائيل التي باتت حتظى اليوم باعرتاف الواليات املتحدة وبريطانيا ،تبدو �أنها �ست�صبح قريب ًا ع�ضو ًا يف الأمم املتحدة، وقد �أثبتت بقوة ال�سالح حقها ب�أن ُتعترب القوة الع�سكرية التي تلي مبا�رش ًة تركيا يف ال�رشقني الأدنى والأو�سط».17 ووفق امل�صدر �أعاله« ،من �ش�أن الواليات املتحدة �أن حت�صد الآن مكا�سب ا�سرتاتيجية من الو�ضع ال�سيا�سي امل�ستجد ،وذلك نتيجة الدعم الأمريكي لإ�رسائيل». وعلى �ضوء ذلك ،دعا رئي�س ّ موظفي القوات اجلوية الأمريكية �إىل �إجراء درا�سة لـ«الأهداف اال�سرتاتيجية ال عن مطالبته مت�س ب�إ�رسائيل» ،ف�ض ً الأمريكية التي ّ ب�أن ي�ؤخذ بعني االعتبار �إر�ساء نظام تدريب و�إ�رشاف يتم �إغالق الباب َّ ع�سكريني ،والأهم من كل ذلك� ،أن ّ �أمام الت�أثري ال�سوفياتي يف �إ�رسائيل. يف الواقع ،وبعد �أ�سابيع عدة ،يف � 24آذار/مار�س، ح�صل بع�ض النقا�ش حتديد ًا حول �إمكانية انخراط �ضباط �إ�رسائيليني وعرب يف تدريبات بالواليات املتحدة. ونبع الدعم ملثل هكذا خيار من توقيع اتفاقيات الهدنة بني �إ�رسائيل من جهة ،وم�رص ولبنان ،وتوقُّع توقيع مثل هكذا اتفاق مع �رشق الأردن ،وهو ما كان من �ش�أنه �أن ي�ضع حد ًا للأعمال العدوانية� .إ�رسائيل كانت مهتمة بخطوة مماثلة على اعتبار �أنها �ستكون عالمة عن توجهها امل�ؤيد للغرب ،وهي م�س�ألة تتعلق ببع�ض القلق الأمريكي الذي تك ّنه وا�شنطن نظر ًا للخ�شية امل�ستمرة من النفوذ الذي زرعه االحتاد ال�سوفياتي داخل �إ�رسائيل من خالل ال عن تدفق املهاجرين �رسعة اعرتافه بهذه الدولة ،ف�ض ً من �أوروبا ال�رشقية �إىل �إ�رسائيل. بجميع الأحوال ،كانت التو�صية املتعلقة بالتدريب الع�سكري الأمريكي تق�ضي ب�إر�سال «�ضباط تالمذة من �إ�رسائيل والبلدان العربي ،ب�أعداد معقولة ،ليخ�ضعوا ل��دورات تدريبية مبا يتفق مع قدرة خمتلف الأجهزة الأمنية الأمريكية على التعامل مع مثل هذه البعثات».18 وظهر �أن نقا�شات ح�صلت �أي�ض ًا حول تقدمي امل�ساعدة التقنية يف هذا ال�صدد. وافق مدير عمليات القوات البحرية الأمريكية على �إمكانية ت�أمني مثل هذا الدعم ،لكنه � ّأجل املو�ضوع ريثما يزول خطر ا�ستئناف النزاع ب�شكل كامل ،وذلك لكي ال تتورط الواليات املتحدة يف املعارك .لكن قبل كل �شيء، يف نهاية ني�سان�/أبريل � ،1949ضغط القائد العام للقوات البحرية الأمريكية يف �رشق املحيط الأطل�سي
16املرجع نف�سه، �ص 1181 � 7 17آذار ،1949 مذكرة من رئي�س موظفي �سالح اجلو الأمريكي اىل ر�ؤ�ساء الأركان امل�شرتكة، حول امل�صالح اال�سرتاتيجية الأمريكية يف ا�رسائيل ،موجودة يف �سجالت قيادة الأركان امل�شرتكة، اجلزء الثاين، 1953-1948 (الق�سم ب)، ال�رشق الأو�سط، �ص .181الفيلم ،]B[ 368 A البكرة .2 � 24 18آذار،1949 مذكرة من وزارة اخلارجية ،حمادثة مع الرئي�س، ،FRUS 1949 املجلد ال�ساد�س، �ص .864 19مذكور يف
Michael
J. Cohen, Fighting
World War Three From the Middle East, Frank Cass, London, 1997
�ص .204 20املرجع نف�سه، �ص .205
21
Enclosure Draft, Memorandum for the Secretary of Defense, JCS/1892/15.
22املرجع نف�سه، �ص 1010 23املرجع نف�سه 24املرجع نف�سه 25املرجع نف�سه 26املرجع نف�سه، �ص1012
169
والبحر املتو�سط ،على رئا�سة الأركان امل�شرتكة من �أجل خ�ص �ضمان �صداقة �إ�رسائيل بالأولوية الق�صوى.19 ّ ين�صب على � ّأن �إ�رسائيل قد املركزي االهتمام وكان ّ تقفل ب�إحكام الباب �أمام الدخول الربيطاين �إىل فل�سطني. َ إ�رسائيل عدائية حد مالحظة مايكل كوهن ،ف� ّإن «� وعلى ّ قد تعرقل جدي ًا بناء املطارات اجلوية املتقدمة فوق �أرا�ضيها ،وقد تعيق احلركة احلرة للقوات والتجهيزات على امتداد خطوط االت�صاالت املقررة» .20 يف 30ني�سان�/أبريل ،1949كان هناك طلب موجه �إىل وزير الدفاع ،مرفق ًا بر�سالة من نائب وزير اخلارجية، حول تدريب اجلي�ش الإ�رسائيلي ،وتوفري امل�ساعدة التقنية له .ويبدو �أن وزير الدفاع خل�ص �إىل ان ال�شكل الأكرث ترجيح ًا ملثل هذا الدعم هو اعتماد بعثة ع�سكرية �أمريكية لدى �إ�رسائيلّ � .إن الوثيقة التي رفعت ال�رسية عنها حول هذا النقا�ش� ،شملت ن�سخة باطلة عن الن�ص ،ال ترتك �أدنى ّ �شك حول طبيعة امل�صلحة الع�سكرية الأمريكية ب�إ�رسائيل على هذا امل�ستوى .وتن�ص هذه الوثيقة على التايل: «ب�سبب امل�صالح اال�سرتاتيجية الأمريكية يف توجهها �إزاء الواليات �إ�رسائيل ،ف�سيكون منا�سب ًا تعزيز ّ املتحدة ،و�أن تكون قدراتها الع�سكرية يف و�ضع يجعل �إ�رسائيل حليف ًا مفيد ًا يف حالة احلرب مع عدونا الأكرث ترجح كفة خيار اعتماد بعثة ترجيح ًا ...جميع هذه النقاط ّ ع�سكرية �أمريكية لدى �إ�رسائيل».21 وقد ورد بب�ساطة يف الن�سخة امل�صححة للوثيقة الواردة �أعاله ،والتي مت التعريف عنها على �أنها «�صفحة مراجعة مبوجب قرار � 20أيار ،»1949ما يلي« :ب�سبب َ امل�صالح الأمريكية اال�سرتاتيجية� ،سيكون من املرغوب فيه تعزيز توجه �إ�رسائيل جتاه الواليات املتحدة .ومن يربر قرار ًا �إيجابي ًا حول اعتماد الواليات �ش�أن ذلك �أن ّ املتحدة بعثة ع�سكرية لدى �إ�رسائيل». وبحلول � 16أيار � ،1949رشحت وزارة الدفاع الأمريكية �رصاح ًة امل�صلحة الأمريكية الع�سكرية يف �إ�رسائيل ،ب�سبب املوقع اجلغرايف لهذه الأخرية ،وقواعدها الع�سكرية ،وطبيعة قواتها الع�سكرية. بالتايل ،كان هناك يف املقام الأول م�س�ألة املوقع: «الطرقات الربية املبا�رشة (الطرقات والغارات) بني تركيا ومنطقة قناة ال�سوي�س ــ القاهرة متر عرب الأرا�ضي ال عن ذل��ك ،ف �� ّإن الطرقات الربية الإ�رسائيلية .ف�ض ً الأ�سا�سية من منطقة قزوين يف االحت��اد ال�سوفياتي ومن العراق وايران وال�سعودية باجتاه م�رص وال�رشق، بدايات
العدد |5ربيع 2013
متر عرب الأرا�ضي الإ�رسائيلية �أو بالقرب منها ،وهو ما ي�رسي على خطوط �أنابيب النفط من مناطق نفط ال�رشق الأو�سط �إىل البحر املتو�سط .ت�سيطر �إ�رسائيل على الأرا�ضي املحاذية ملنطقة ال�سوي�س ــ القاهرة جلهة ال�رشق ،وتبعد احلدود الفا�صلة بني �إ�رسائيل وم�رص ال �رشق قناة ال�سوي�س».22 حوايل 150مي ً ثاني ًا ،كانت هناك م�س�ألة القواعد الع�سكرية .على الرغم من �أن القوات الع�سكرية الأمريكية مل تكن تخطط لأن حتت�ضن �إ�رسائيل قاعدة ع�سكرية �أمريكية رئي�سية، فقد حتدثت تقارير عن �أن �إ�رسائيل متتلك «نظام ًا متطور ًا من املطارات اجلوية والقواعد اجلوية الع�سكرية .و�ستكون هذه التجهيزات اجلوية يف حال و�ضعت يف خدمتنا، ذات فائدة كبرية يف قطع خطوط التوا�صل من االحتاد ال�سوفياتي �إىل امل�صادر النفطية يف ال�رشق الأو�سط ،مع طائرات متو�سطة وق�صرية املدى».23 ويف الدرجة الثالثة ،كان هناك �أهمية «القوات الع�سكرية الإ�رسائيلية املحلية التي كانت متتلك بع�ض اخل�برة يف جمال امل��ع��ارك» .وعلى حد مالحظة قيادة الأركان امل�شرتكة ،ف� ّإن هذه القوات من �ش�أنها �أن تكون ذات �أهمية بالن�سبة «لكل من الدميقراطيات الغربية �أو لالحتاد ال�سوفياتي يف �أي مناف�سة لل�سيطرة على منطقة �رشق البحر املتو�سط» .24من هنا ،ففي مواجهة حماولة �سوفياتية ما لـ«ت�أمني �أو حتييد التجهيزات النفطية لل�رشق الأو�سط ،ومن �أجل العمل �ضد قاعدة منطقة القاهرة ــ ال�سوي�س» ،من �ش�أن موقع �إ�رسائيل وقواتها الع�سكرية �أن يكونوا ذات �أهمية كبرية« .على �إ�رسائيل �أن تتحالف مع الدميوقراطيات الغربية يف حالة اندالع حرب مع االحتاد ال�سوفياتي ،و�سيكون ممكن ًا اال�ستفادة بالكامل من املواقع الدفاعية يف هذا البلد ،ومن القوات الع�سكرية الإ�رسائيلية من �أج��ل الدفاع عن منطقة القاهرة ــ ال�سوي�س وللعمليات الربية من �أج��ل الدفاع عن التجهيزات النفطية ال�رشق �أو�سطية ،او ال�ستعادتها».25 هذه االعتبارات ت�أ�س�ست على البديهية التي تفيد ب� ّأن «�أمن املنطقة ال�رشقية للبحر املتو�سط ،وال�رشق الأو�سط هو ذات �أهمية ا�ستثنائية مل�ستقبل �أمن الواليات املتحدة»، وهو ما افرت�ض بدوره «ا�ستقرار ال�رشق الأو�سط ،ومن �ضمن ذلك توفري �ضمانة ب�أن �شعوب هذه املنطقة لن ينحازوا �إىل االحتاد ال�سوفياتي �ضد الواليات املتحدة ،وهو عن�رص حيوي بالن�سبة لأمن الواليات املتحدة».26 لكن من الأهمية مبكان التذكري �أ ّنه بالتوازي مع زيادة
19 27متوز ،1949 مذكرة من م�ساعد وزير اخلارجية ل�شو�ؤن ال�رشق الأدنى وافريقيا (ماكغي) لوزير اخلارجية، ,FRUS 1949 املجلد ال�ساد�س، �ص .1236 17 28ت�رشين الأول ،1949جمل�س الأمن القومي، مرجع �سابق، �ص .1434
29
Melvyn P. Leffler, A Preponderance of Power, National Security, the Truman Administration and the Cold War, Stanford University Press, Stanford, California, 1992
�ص .287 � 10 30أيار ،1950 من جايكوب بالو�ستاين اىل ترومان� ،شخ�صي، مكتبة هاري ا�س. ترومان� ،أوراق هاري ا�س. ترومان ،ملف �سكرتري الرئي�س. 31مقال ر�أي،
“The Harlot from the Cities Overseas and We-Thoughts on ]the Eve of [Jewish ”New Year 5712
ها�أرت�س30 ، ايلول ،1951 مذكور يف Moshe
Machover, “Israelis and Palestinians: Conflict and Resolution,” Barry Amiel and Norman Melburn Trust Annual Lecture
30ت�رشين الثاين،2006 �ص .14-13
170
التقدير للجي�ش اال�رسائيلي ،كانت املخاوف تكرب حيال �سيا�سة ا�رسائيل حيال الفل�سطينيني ،التي تهدد امل�صالح الأمريكية كلها يف املنطقة .ترومان وكذلك وزارة اخلارجية وم�س�ؤويل جمل�س الأمن القومي كانوا يعون الإحلاح يف حل امل�سائل املتعلقة باالر�ض ،وكذلك م�شكلة الالجئني الفل�سطينيني ،وهما ق�ضيتان عززهما التو�سع اال�رسائيلي خارج خطوط خطة االمم املتحدة للتق�سيم التي تعود لعام .1947يف حزيران ،انتقد مندوب الواليات املتحدة يف جلنة امل�صاحلة الفل�سطينية، مارك ايرثيدج ،ب�شدة رف�ض ا�رسائيل حق العودة ،وما اعتربه ف�شل يف حتديد قواعد التعاي�ش بني الفل�سطينيني العرب واليهود يف ا�رسائيل .ايرثيدج ا�ستقال يف النهاية. يف متوز ،1949كان م�ساعد وزير اخلارجية ل�ش�ؤون ال�رشق الأدنى وافريقيا جورج ماكغي هو من حاول ترك انطباع جيد لدى ا�رسائيل مع الإحل��اح يف االعرتاف بـ«مبد�أ التعوي�ض اجلغرايف للمناطق التي حتتلها ا�رسائيل خارج خطوط تق�سيم فل�سطني العائدة لعام 1947 واعادة توطني عدد كبري من الالجئني الفل�سطينيني من دون الإ�شارة اىل اال�ستحواذ على الأر���ض» ،من اجل جتنب تغيري يف ال�سيا�سة االمريكية ،او ب�شكل اكرث دقة يف املوقف االمريكي من ا�رسائيل.27 يف خريف ،1949ا�صدر جمل�س الأمن القومي تقريرا ()7/47 NSCعرب فيه عن خماوف من خماطر ً االزم��ة امل�ستمرة يف م�شكلة الالجئني الفل�سطينيني. لكن جمل�س االمن القومي مل يركز ب�شكل خا�ص على م�س�ؤولية ا�رسائيل ،وت�ضمن التقرير موافقة الدول العربية على اعادة توطني الالجئني الفل�سطينيني داخل حدودهم .اخلطر بر�أي جمل�س الأمن القومي كان نف�سه، اي التطرف املحتمل للعامل العربي. لكن يف التقرير نف�سه الذي عرب فيه جمل�س الأمن القومي عن خماوفه ،اعرتف بتفوق ا�رسائيل مقارنة مع الفل�سطينيني وجريانها العرب. «امل�ؤ�س�سة الع�سكرية اال�رسائيلية ،رغم �صغر حجمها، هي �آلة حديثة وفعالة اثبتت �أ ّنها منا�سبة ملقاومة اجليو�ش ال�ضعيفة الت�سليح ،والقليلة التدريب ،وذات القيادات ال�سيئة ،يف دول اجلامعة العربية ،خالل املواجهات ال�سابقة، وا�ستطاعت احتالل م�ساحات كبرية من الأر�ض خارج ما ان منحت اياه ا�رسائيل يف خطة التق�سيم .ميكن ان نتوقع ّ الفعالية امل�ستقبلية للجي�ش اال�رسائيلي �ستتزايد مع تطبيق اخلطط احلالية للتدريب واعادة التنظيم».28 بدايات
العدد |5ربيع 2013
يف هذه الظروف ،ف� ّإن الأدمريال ريت�شارد كونويل ،قائد القوات البحرية يف �رشق املحيط الأطل�سي والبحر املتو�سط ،توقع احتمال تن�سيق تخطيط ا�سرتاتيجي يف املتو�سط مع تركيا ،م�رص وا�رسائيل ،التي كان هناك �سعي وراء التعاون معها من اجل تطوير «مدرجات هبوط منا�سبة ،وتو�سيع من�ش�آت الرادار ،وتخزين الوقود للطريان، واملعدات ال�رضورية» .29خطط كونويل توقعت احتواء االحتاد ال�سوفياتي يف املتو�سط وال�رشق الأو�سط. يف ايار ،1950التقى ترومان برئي�س جلنة اليهود ال يف الأمريكيني جايكوب بالو�ستني ،الذي كان م�س�ؤو ً �رشكة النفط «اموكو» .كان بالو�ستني مهتم ًا بالرتويج حل�صول ا�رسائيل على ا�سلحة من الواليات املتحدة، مذكر ًا ترومان ب� ّأن وزير الدفاع لوي�س جون�سون ،قال � ّإن الرئي�س مبوافقة ات�ش�سون كان موافق ًا على منح ا�رسائيل ا�سلحة «لدواع دفاعية».30 ٍ لكن لي�س فقط يف وا�شنطن كان يجري اعادة تقومي لل�رشق الأو�سط يف �ضوء ن�رص ا�رسائيل الع�سكري على جريانها .املحللون اال�رسائيليون ،مثل مايكل ع�ساف ،وهو م�ست�شار لنب غوريون ،فهم ب�شكل كبري ما �ستكون نتائج الن�رص الطويلة االمد بالن�سبة للعالقات اال�رسائيلية – االمريكية ،واك�ثر من ذلك لعالقات ا�رسائيل والغرب .ما كتبه يف 1951يف افتتاحية يف جريدة ا�رسائيلية يومية هي ها�أرت�س كان تنب�ؤي ًا .ع�ساف راجع الو�ضع ال�سيئ لالنظمة العربية يف وجه احلركات القومية ،العلمانية والدينية ،وا�ستنتج ان الدول املعنية �ضعيفة ع�سكري ًا .يف هذا ال�سياق ،تناول ت�أثري تعزيز قوة ا�رسائيل الذي و�صفه ب�أ ّنه «طريقة منا�سبة لقوى الغرب للحفاظ على توازن القوى ال�سيا�سية يف ال�رشق الأو�سط .وفق هذا االفرتا�ض اعطيت ا�رسائيل دور كلب احلرا�سة» .هكذا ،ف�إ ّنه اذا «ف�ضلت القوى الغربية يف وقت من االوقات ل�سبب او لآخر اغالق اعينها، ميكن االعتماد على ا�رسائيل كي تعاقب ب�شكل منا�سب، دولة واحدة او اكرث من جريانها ممن قلة اخالقهم جتاه الغرب تخطت احلدود امل�سموح بها».30 مل يكن ب�إمكان وا�شنطن عدم املوافقة .اعرتفت وزارة الدفاع بقدرة ا�رسائيل يف الدفاع عن وحماية امل�صالح النفطية الأمريكية ،وفهم م�س�ؤولو وزارتي الدفاع واخلارجية � ّأن حماية مماثلة تقع يف النهاية على حما�رصة من «تعدت قلة اخالقهم مع الغرب احلدود امل�سموح بها» .وهذه هي نتيجة .1948
170
شكري بلعيد: جامع الياسر التونيس وهشيده
حممد �صالح عمري
مروة 171شكري بلعيد يريث حسني ّ
172
أكيفا أور :مؤسس «ماتسبني»، القاطع مع الصهيونية
مو�سى البديري
176رئيف خوري :المثقف الشيوعي يف الزمن الستاليين
�أحمد علبي
شكري بلعيد
جامع الياسر التونيس وهشيده حممد صالح عمري اغتيل املحامي �شكري بلعيد �أحد �أب��رز رموز الي�سار التون�سي �صباح � 6شباط � ٢٠١٣أمام بيته �أعزل ودون استاذ االدب حماية يف حادثة �أرجعت اىل التون�سيني ذكرى اغتيال العريب يف جامعة الزعيم العمايل والوطني فرحات ح�شاد ل�ستني �سنة خلت. اكسفورد ،انكلرتا �أ�صبح قتل بلعيد عالمة فارقة يف تاريخ تون�س ال�سيا�سي الراهن كما �أكرمه �شعبه بجنازة �ضاهت جنازة ح�شاد. كان �شكري بلعيد دائم احل�ضور ب�شجاعته ومواقفه ون�ضاالته ،تلميذا وطالبا ثم حماميا وحقوقيا خالل الثالثني �سنة املا�ضية ،وهو الآن دائم احل�ضور يف حديث التون�سيني ووعي التقدميني منهم بعد �أن بلغ �صوته كل بيت تون�سي وجرى ذكره على كل ل�سان بف�ضل حترر االعالم وتقدم حرية التعبري ،رغم اختالف الآراء حول �شخ�صه ومواقفه. كان بلعيد وجها �أليفا جمع بني الب�شا�شة وال�رصامة و�صوتا بليغا� ،رصيحا ،ي�صف الأ�شياء كما يراها ،وحملال �صايف الذهن ،قوي احلجة .مار�س بلعيد ال�سيا�سة منذ �سن التلمذة وتدرج حتى �أ�صبح زعيمهم �ضمن الوطنيني الدميقراطيني ّ وموحدهم بعد الثورة .كان متعدد اللغات وامل�صادر ،متمكنا من دقائق ال�ش�أن التون�سي متكنه من احل�ضارة العربية اال�سالمية ،ال يرى يف ذلك اال جتذيرا لفكره الكوين ور�ؤاه اال�شرتاكية والعمالية .وهو ميثل بذلك نوعا خا�صا من املثقف العربي الي�ساري ،من ف�صيلة ح�سني مروة الذي رثاه بلعيد وا�ستلهمه يف ق�صيد مل ين�رش اال بعد مقتله. ولكن بلعيد كان �أي�ضا حركيا وميدانيا من �صنف قيادات اجلبهة ال�شعبية لتحرير فل�سطني التي ا�ستلهمها حني جمع القوى الي�سارية والقومية التون�سية حتت راية اجلبهة ال�شعبية ،والتي �أ�صبحت بديال ال ميكن جتاوزه �أو جتاهله يف ال�ساحة ال�سي�سا�سية وحمركا �أ�سا�سيا لالحتجاجات ال�شعبية .قتل بلعيد وال يزال قتلته ينعمون باحلرية التي وهبها عمره ،تاركا وراءه الأرملة املنا�ضلة،ب�سمة خلفاوي
172
بدايات
العدد |5ربيع 2013
وابنتني ،وحتول اىل رمز لت�ضحيات الي�سار التون�سي وعنوانا بارزا للمهام اجل�سيمة التي على رفاقه ،تون�سيني وعربا، التفكري فيها وااللتفاف حولها يف حلظة تاريخية فتحت فيها �آفاق رحبة �أمام الفعل التقدمي يف مواجهة الليربالية املتوح�شة والزحف اال�سالموي ال�رش�س يف الوقت نف�سه.
قابر �سرية �أعدائنا املظلمه قم يا ح�سني العلم �إن اللحي التي ا�ستوطنت تاريخ كل البالطات قد �أر�سلت تطلبك ج�سدا �أو كفن قم واحتمي بدمي ا�ستظل بكفي ودمع املاليني يا روندي ع�رص البنوك والربملان بريوت تبكي �شهيد العبيد والزفرة العا�شقه ورائحة القرمطي بدمعتك ملح الزنوج بب�سمتك كوفة الرف�ض �صوت علي للفقراء �أن احتدوا انتم حطام املعارك وتراب املمالك وتراب املمالك واحلبة املهمله انه�ضوا �إن معاوية جمع الأهل والأقرباء وجتار املدينه والفئة الباغيه فانه�ضوا قرمطي الزمان اتى جمرة و�شبق انه�ضوا يا �أخيا هذا ح�سني ي�ؤ�س�س كومة من دم �شكلتها دموعكم _ الليايل الطوال _ عبيد ال�سباخ وعمال ميناء بريوت واملتعبون على طول هذا وليكن الوطن جبة النفط تذوي وتذبل ثم متوت على حلية من العفن �أيها ّ احلا�رض املمتهن علىدجهة �أجرت حلية من قرون املوات وا�ستوت تعلن الهجرة البائده لي�س يف الأر�ض وام املدن متتهن من الردة الطائفه غيرّ نا يا �أبانا الذي حفر من دمانا �أفرج �أجملنا من ت�ضاري�س �أيامنا املتعبه ففتحنا ال�رشاع على القرمطي ومن مال حني الزمان ا�ستوى على الفقراء .وقال امل�شاع هي االر�ض �أم لنا وال�سالح قا�ضي الق�ضاة ومالك �أيامنا والعالقة حني احتدام ال�رصاع �أيهذا اجلنوبي ت�سعا و�سبعني حوال وانت جتوب البالد تنادي العباد ب�أن ال ي�صلّوا لغري �سواعدهم حني تغدون قالع وانت�رش يف املدى و�أعلن الفرعنه انتمي لأيادي الرتاب �ضد �صوت الغراب �سقطت الأقنعه عن وجوه الذئاب �سقطت اقنعه مل متت حينما جاء نعيك كنا نعد الن�شيد �أنا الفا�صل بني حبكم واجلنون و�أنتم بداية حزن امل�ساء حني ال�سنون تخون قم يا ح�سني العلم افتح نوافذ تاريخنا املغلقة وارفع �أوراقك والقلم �سم البالد با�سمائها واحرث امل�سترت لطخ حلي الظالم ب�آثامهم وانت�رص للرعاع الذين بنوا جمدنا وانق�ضوا ف�سخ تف�سخ كل البالطات والطبقات التي ا�شرتت بدمائنا اجلواري �سيفهم لل�رصاع ّ ونادى املنادي ومالت على وجهنا اجلمجمة ف�أقمنا ال�صباح على اجل�سد املقربه ها �أن حمدان ي�أتي على فر�س من غ�ضب يلم �شتات العرب وذاكرة املتعبني على االر�صفة ي�رصخ من �أمة النفط والأقنعة �أنا القرمطي و�أنت ح�سني امتدادي �أنا القرمطي وكل البالد بالدي �أنا القرمطي ا�شعت النخيل وخيل ال�صحاري ونوارة باجلليل و�أر�ض فدون بكرا�سك والقلم يا ح�سني العلم ال�سواد �سقط امللك حني العبيد طووا لونهم ّ ومدوا ال�سالح مزقت كل الطوائف واللحية اخلائنة وانت�رش يف املدى عر اخلرافة وبريوت �أم والر�ؤية الآ�سنة �صلي �صالتك يا �أيها القرمطي على �أمة النفط والأقنعة القرى واملدن �شيعتك �شهيدا ومالت على دمعتيها قليال تبكي ح�سن القتيال وتق�سم بالدم مل متت امنا كان البد من دمك كي نعري على اجلثة اخلاويه ون�صنع تاريخ هذا البلد ايهذا الولد �شيخنا وابانا الذي �أن�ضجته املحن �صوجلان املدن انت مرياثنا وات�صال املدى والر�ؤى مل تكن ار�ضنا عاقرا فزجنيها يتجدد رونديها يتمدد وقرمطها مهرجان خطانا فقم يا ح�سني العلم دمك ينتقم من زناة التواريخ واملرحله فهيا �إىل الفقراء هنا امللحمة والقرمطي على ث�أرك �أق�سم منوت وال ننثني عن حماربة الطبقه اخلائنه فلأعدائنا دينهم لأعدائنا دينهم ولنا الفقر والفرعنه 1987 -07 -3
حتولٌ من �ش�أنه �أن يطيح الفقر والظلم والقمع بكافة �ضمت هذه املجموعة ال�صغرية �شاب ًا عربي ًا من �أ�شكالهّ . يافا ،جربا نقوال ،الذي �ألّف عام 1935حني كان يف الثالثني من عمره ،عدد ًا من الكتب تناولت التنظيم النقابي، حياة لينني ،املجتمع اليهودي يف فل�سطني وغريها .بدا �أ ّنه �شخ�صية تت�شارك احلما�سة والتوقعات نف�سها مع �سليم خياطة من طرابل�س ،لبنان ،من اول �شخ�صيات الي�سار العربي وهو مل َ يحظ� ،إىل جانب خمل�ص عامر من دورا ــ اخلليل يف فل�سطني ،باالهتمام الذي ي�ستحقانه ب�صفتهما مفكرين عربيني مارك�سيني رائدين.
أكيفا أور
مؤسس «ماتسبني» ،القاطع مع الصهيونية موىس البديري �صداقة قطعها املوت عندما �شاركت يف مرا�سم دفن �أكيفا �أور منذ ب�ضعة �أ�شهر، مواليد القدس ،مل �أ�ستطع �أن �أمنع نف�سي من التفكري يف لقائنا الأول .ال فلســطني .بد من � ّأن ذلك حدث عام ،1968منذ � 45سنة تقريب ًا. ّدرس يف جامعة بريزيت عدت بذاكرتي �إىل تفا�صيل لقائنا الأول يف لندن ،بعيد حىت هناية .٢٠١٢عودتي من زيارتي الأوىل ال�رسائيل ...وفل�سطني. آخر مؤلفاته بالعودة �إىل الوراء ،يبدو يل هذا اللقاء الآن كحالة «شيوعيون يف من اال�ستمرارية التاريخية ت�سهم يف ا�ستمرارالعالقات، ٍ أ�شخا�ص متم�سكني بعقيدة ما فلسطني .شظايا تارخي عرب الزمان واملكان ،بني � منيس» ( )٢٠١٢ا�ستناد ًا �إىل قيم عاملية و�أوا�رص ت�ضامن ان�سانية تتخطى الوطنية ،العرق ،اجلن�س والتع�صب الديني الأعمى، واحلواجز التي و�ضعها الأثرياء و�أ�صحاب النفوذ حلماية ثرواتهم وامتيازاتهم من جموع النا�س. عام � ،2005أو�صلت ابني البالغ من العمر 20 عام ًا ،وهو ع�ضو يف جمموعة �أناركية يف لندن� ،إىل م�ساكن اجتماعية �صغرية يف جوار نتانيا ،على الرغم من ف�ضل �أن يدلّنا � ّأن الهدف املن�شود من رحلتنا� ،أكيفا �أور ّ على عنوان امل�ساكن االجتماعية حيث يقيم م�شري ًا �إىل �أ ّنها على مقربة من بلدة قلن�سوة العربية .كان املكان عبارة عن جزء مهمل من التطور املدين ،قبيحا عمليا وكئيبا. عا�ش �أكي مبفرده محُ اط ًا بعدد كبري من القطط الودودة يطبق �أفكاره عن وخالفه .ل�سنوات خلت ،كان �أكيفا ّ الأناركية وقد �ألّف ب�ضعة كتب و�أن�ش�أ موقع ًا الكرتوني ًا لن�رش �آرائه .عنى يل ذلك الكثري� ،أنا الذي بقيت �سجني الطبقات االجتماعية وفاعلية ال�رصاع الطبقي كج�رس ال� .أما بالن�سبة �إىل ابني ،ف�شعرت عبور �إىل عامل �أكرث عد ً ب� ّأن ذلك �أقرب �إىل عامله الثقايف والفكري. عندما قرعت باب �أكيفا �أور يف لندن يف الأ�شهر الأوىل ي�ضيع الوقت ب�س�ؤايل من �أكون ،ماذا من عام ،1968مل ّ
174
بدايات
العدد |5ربيع 2013
عرفني �إىل �أريد ،من �أر�سلني .دعاين فور ًا �إىل الدخولّ ، علي تناولت �شتى املوا�ضيع زوجته ،وبا�رش ب�إلقاء حما�رضة ّ وك�أننا نعرف بع�ضنا منذ عقود ،وقد افرتقنا يف ال�سابق لأيام قليلة فقط .كانت هذه بداية �صداقة ا�ستمرت حتى وفاته. يف ٍ وقت �سابق من العام نف�سه� ،سافرت من لندن �إىل تل �أبيب كـ«�سائح �أردين» .كانت زيارتي الأوىل .يف حمادثاتي مع والدي مل �أفاج�أ الكت�شايف �أ ّنه بقي وفي ًا لر�ؤيته ال�سابقة للعامل مع االحتاد ال�سوفياتي يف و�سطه ،على الرغم من � ّأن ٍ ب�شكل خا�ص. الوطنية بدت �أكرث بروز ًا يف حالة فل�سطني �صرَ َ َف النظر عن �آرائي «الهرطقية» وبا�رش بو�ضعي على ٍ أ�شخا�ص تفكريهم «م�شابه» .و�رسعان ما وجدت ات�صال مع � نف�سي برفقة م .م .الذي وجدت معه �أكرث من جمرد �أر�ضية م�شرتكة وا�سعة .كان اال�رسائيلي الأول الذي التقيت به. عندما �أخربته �أنني �س�أعود قريب ًا �إىل اململكة املتحدة، �أعطاين بيانات االت�صال ب�صديق له يعي�ش هناك. يف حزيران /يونيو � ،1967أدى االحتالل الع�سكري اال�رسائيلي لل�ضفة الغربية من الأردن �إىل �إعادة توحيد فل�سطني وق�سم من ال�شعب الفل�سطيني على الأقل .فور انتهاء االعتداءات� ،سافر جربا نقوال �إىل القد�س بحث ًا عن الأ�صدقاء واملعارف القدامى .عند لقائه بوالدي يدر�س عرفه �إىل رفيق �شاب ،م .م� ،.أ�ستاذ يهودي �شاب ّ ّ الريا�ضيات يف اجلامعة العربية يف القد�س وك .ت ،.طالب عربي �شاب يدر�س القانون.
يف فل�سطني ما قبل عــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــام 1948كان هناك حزب �شـــــــــــــــــــــــــــــــيوعي �ضم يف �صفوفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه �صغري ّ منا�ضلني عربـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ًا ويهوداً اعتقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدوا بعد وعد الثورة البل�شفيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة � ّأن فجراً جديداً �سيبزغ و� ّأن مهمتهـــــــــــــــــــــــــــم متثلت يف التح�ضري لهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذا التحول الواعد وتعجيل حدوثـــــــــــــــــــــــــــــــــه يف وقت �سابق� ،أبدى جربا نقوال اهتمام ًا بالآليات الداخلية للمجتمع ال�سوفياتي اجلديد وبالنزاعات التي ع�صفت به خالل عقده الأول .كذلك ،تو�صل �إىل االعرتاف ب� ّأن نقد ليون تروت�سكي للعقيدة اال�شرتاكية يف �إحدى الدول هو املوقف البل�شفي ال�صحيح ،وقد جمعته مبحام يهودي تروت�سكي يف يافا /تل �أبيب، عالقة �صداقة ٍ هو موردخاي �ستاين ،الذي �أدار لفرتة ق�صرية ،وهو يف الثالثينيات� ،صحيفة �سميت «النور» .عرف والدي ،الذي كان على ارتباط وثيق باحلركة ال�شيوعية يف فل�سطني، جربا معرفة عابرة غري �أ ّنه مل ي�شاركه «انحرافه» ال�سيا�سي. عام ،1948وجد جربا نقوال نف�سه يف حيفا ،وكما ح�صل مع العرب الذين متكنوا من البقاء يف فل�سطني، يف هذه املناطق التي احتلها اجلي�ش اال�رسائيلي احلديث العهدَ ،ف َق َد االت�صال مبعارفه و�أ�صدقائه القدامى .تابع ن�شاطه ال�سيا�سي يف احلزب ال�شيوعي اال�رسائيلي الذي مزيج من �أع�ضاء ع�صبة التحرر الوطني �أُن�شئ حديث ًا؛ ٌ ن�صبوا الذين بقوا يف فل�سطني وال�شيوعيني اليهود الذين ّ �أنف�سهم حزبا ً �شيوعي ًا ا�رسائيلي ًا .يف مطلع ال�ستينيات عندما �شكّ ل �أكيفا �أور ومو�شيه ماخوفر وبع�ض رفاقهم
جربا نقوال و�سليم خياطة يف فل�سطني ما قبل عام 1948كان هناك حزب �شيوعي �ضم يف �صفوفه منا�ضلني عرب ًا ويهود ًا اعتقدوا بعد �صغري ّ وعد الثورة البل�شفية � ّأن فجر ًا جديد ًا �سيبزغ و� ّأن مهمتهم متثلت يف التح�ضري لهذا التحول الواعد وتعجيل حدوثه؛
175
بدايات
العدد |5ربيع 2013
«م ْت ْ�سبِني» ،منظمة مارك�سية راديكالية ال�شيوعيني منظمة َ ت�ستند �إىل انتقاد ال�ستالينية واالحتاد ال�سوفياتي ،انخرط جربا نقوال يف �صفوفها. املحرمة التي كربت على مرمى حجر من املنطقة َّ ف�صلت القد�س اخلا�ضعة لل�سيطرة الأردنية عن القد�س اخلا�ضعة لل�سيطرة اال�رسائيلية يف خم�سينيات القرن املا�ضي ،ومع ذلك كنت �أجهل متام ًا وجود �إ�رسائيل وكل ما هو ا�رسائيلي .مبا �أنني ارتدت مدر�سة تب�شريية بريطانية يف القد�س كنت �أكرث �إملام ًا مبا يخ�ص امللك جون ال�سيئ ،وحرب الوردتني ،وتدمري �أ�سطول االرمادا اال�سبانية على يد البحرية الربيطانية يف القرن ال�ساد�س ع�رش ،ومارتن لوثر ،وكالڤن ،وحرب الفالحني، واال�صالح الربوت�ستانتي ،وزيجات هرني الثامن ،ووليام اوف �أوراجن والعر�ش الربيطاين ،والتناف�س الفرن�سي الربيطاين يف مطلع القرن التا�سع ع�رش وهزمية نابوليون يف واترلو .وال �أتذكر �شيئ ًا عن فل�سطني� ،أو التاريخ العربي املعا�رص �ضمن املناهج املدر�سية .بيد �أنني �أ�صغيت مرغما �إىل اذاعة «�صوت العرب» و�إىل �أحمد والدي ب�إبقاء ال�صوت منخف�ض ًا �سعيد (مطيع ًا تعليمات ّ جد ًا للحر�ص على �أال ي�سمعه حار�س القن�صلية الرتكية مقابل منزلنا ،وهو �أردين اجلن�سية). ابتداء من عام 1962عندما غادرت القد�س قا�صد ًا ً اململكة املتحدة� ،أ�صبحت �أقر�أ بانتظام �صحيفة الـ«دايلي وركر» اليومية ال�صادرة عن احلزب ال�شيوعي الربيطاين. ويف الفرتة املمتدة حتى حرب حزيران /يونيو 1967 اكت�شفت �أ�شياء كثرية؛ الثورة البل�شفية ،تروت�سكي ،روزا لوك�سمبورغ ،ماو والثورة ال�صينية ،احلرب الأهلية اال�سبانية، فيتنام ومعركة ديان بيان فو ،حركة مترد هوك (هوكباالهاب) يف الفيليبني� ،شاربفيل وحركة مناه�ضة الف�صل العن�رصي، الثورة الكوبية ،حركة احلقوق املدنية يف الواليات املتحدة، مع�سكرات التعذيب التي بناها النازيون يف �أوروبا خالل احلرب العاملية الثانية� ،إبادة اليهود يف الغرب ،و�أكرث من ذلك بكثري .لكنني اكت�شفت القليل يف ما يتعلق بالعامل العربي ،ومل �أكت�شف �شيئ ًا عن فل�سطني� ...أو ا�رسائيل. �شخ�صية اكرب من احلياة عقب حرب حزيران /يونيو 1967مبا�رشة ،اتخذت ثقافتي ال�سيا�سية منحى خمتلف ًا متام ًا .التقيت ومي�ض عمر نظمي ،طالب درا�سات عليا من العراق كان يح�ضرّ ر�سالة الدكتوراه ومو�ضوعها ثورة عام ( 1920ثورة
منتقديه بقدرته على التحدث من دون مالحظات مكتوبة. مل ت�شمل انتقاداته القادة اال�رسائيليني وح�سب بل امللوك العرب والر�ؤ�ساء �أي�ض ًا الذين �أ�شاروا �إىل �رضورة اندالع ثورة �شاملة يف امل�رشق العربي باعتبارها الطريقة الوحيدة حلل م�شاكل املنطقة.
تلعفر ،الثورة العربية الأوىل �ضد الوجود االمربيايل الربيطاين ال��ذي و�صل حديث ًا �إىل املنطقة) �ضد الربيطانيني يف العراق� .أ�صبح ومي�ض عمر نظمي بوابتي �إىل العامل العربي .وقد �أدى �أكيفا �أور الذي التقيته يف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــح َر تقريبا دور ًا حا�سم ًا �أي�ض ًا .كان مدخلي كان خطيب ًا فاتن ًا�َ .س الفرتة نف�سها ً َ ٍ �إىل ا�رسائيل و�إىل ي�سار راديكايل متجذر يف �أ�شكال امل�ستمعني ب�سعة معرفتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه؛ خمتلفة من املارك�سية ،رغم �أ ّنه من ال�صعب التعرف و�أذهل منتقديه بقدرتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه �إليه �أحيان ًا .بدا ذلك خاطئ ًا �أو حتى �أ�شبه بالهرطقة ،مما على التحدث من دون مالحظــــــــــــــــــــــــــــــات �ساهم وح�سب يف زيادة املتعة التي ا�ستمدها من قراءة مكتوبة .مل ت�شمل انتقاداتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه القادة اال�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرائيليني ما اعتربته ن�صو�ص ًا «غري �رشعية». كان �أكي كما ينادونه عادة �شخ�صية �أكرب من احلياة .مل وح�سب بل امللوك العــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرب ت�شغل ال�ش�ؤون اال�رسائيلية �إال حيز ًا �صغري ًا من كتاباته .والر�ؤ�ساء �أي�ضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ًا املب�سطة� .أذهلتني فقد كانت لديه �شهية كبرية للعلوم ّ م�سريتهُ .ولد عام 1931من والدين �أملانيني يف برلني ،بد�أ يزول تدريجي ًا؛ بدء ًا من امل�ؤمتر الع�رشين للحزب وقمع و�أح�رضاه �إىل فل�سطني عام .1934عام ،1948االنتفا�ضة املجرية �إىل �أن ُطرِ د عام 1962من �صفوف جت ّند يف البحرية اال�رسائيلية التي �أُن�شئت حديث ًا �إال �أنه احلزب و�أ�س�س مع بع�ض الرفاق منظمة راديكالية حملت «م ْت ْ�سبِني» (�أي البو�صلة). مل ي�شهد �أي معركة .عند ت�رسيحه ،ان�ضم �إىل الأ�سطول ا�سم َ بحار .عام � ،1951شارك يف ا�رضاب عام � ،1964سافر �إىل لندن والتحق بجامعة هناك التجاري ب�صفة ّ ِ البحارة الذي جعله راديكالي ًا وقاده يف الطريق الذي ليوا�صل درا�سته يف جمال الفيزياء .لكن مل ينته به املطاف ّ ال�شيوعي �زب � احل �صفوف إىل � النهاية يف به �سيودي كر�س معظم وقته وبخا�صة بل عاجي برج يف أكادميي � ك ّ ال اال�رسائيلي .وقد علل موقفه االيجابي من احلزب باعتباره منذ عام 1967اللقاء املحا�رضات والكتابة حماو ً احلركة ال�سيا�سية الوحيدة التي � ّأيدت اال�رضاب ودافعت �أن يف�سرّ للي�سار طبيعة الدولة اال�رسائيلية امل�ستوطنة عن العمال امل�رضبني �ضد رجال ال�رشطة الذين اعتدوا واال�ستعمارية .بالن�سبة �إىل جمموعة الطالب العرب يف ٍ على البحارة ب�شكل وح�شي ،و�ضد االحتاد العام لنقابات اململكة املتحدة يف ذلك الوقت ،بدا �أكيفا رائع ًا لدرجة ال العمال اال�رسائيلية ،اله�ستدروت ،الذي �أنكر عليهم حتدث بلغة غري م�ألوفة بالن�سبة �إليهم .ا�ستند يف ت�صدقّ . ّ حقهم ب�إن�شاء نقابة م�ستقلة. نقده و�شجبه ال�صهيونية �إىل كتابات قادة �صهاينة مثال هرتزل وبنك�رس وجابوتن�سكي وفايت�سمان وغريهم. كربت على مرمى حجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر كذلك ،حيرّ املدافعني عن �إ�رسائيل الذين مل يكن لديهم ُ من املنطقة املحرمة التي ف�صــــــــــــــــــــــــــــــــلت �أي رد على انتقاد ي�ستند �إىل الأقوال والأفعال احلقيقية َّ القد�س اخلا�ضعة لل�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيطرة ال�صادرة عن ق��ادة احلركة ال�صهيونية وال�سيا�سيني الأردنية عن القد�س اخلا�ضعــــــــــــــــــــــــــــــــــــة اال�رسائيليني البارزين .و�أ�شار �إىل التواط�ؤ مع اململكة لل�سيطرة اال�رسائيلية يف خم�سينيـــــــــــــــــــــــــات املتحدة وفرن�سا يف حملة ال�سوي�س كدليل على ر�ضوخ القرن املا�ضي ،ومع ذلك كـــــــــــــــــــــــــــــــــــنت ا�رسائيل للنهج االمربيايل. �أجهل متام ًا وجود �إ�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرائيل بدا � ّأن كل ما قاله يثبت ما �سعى ال�صحافيون العرب وكل ما هو ا�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرائيلي جاهدين �إىل التعبري عنه بو�ضوح ،بدون �أن يفلحوا يف ذلك. لكن ثمة فارق �أ�سا�سي واحد :امتلك �أكيفا الدليل .كان ْ انطلق يف م�سرية قادته يف النهاية �إىل حرب نقدية يقتب�س الف�صل واجلملة .مل ت�ستند �إدانته �إىل ت�صنيفات مع ال�صهيونية بو�صفها حركة تدعي التحرر و�أودت �أخالقية بل �إىل وقائع مقتطفة من من�شورات باللغة فهمها ع�صي على اجلماهري العربية والربيطانية. به يف ال�سنوات التي تلت �إن�شاء منظمة «مت�سبني» �إىل العربية ُ انف�صال تام عن املبادئ ال�صهيونية .بعد وقت ق�صري ،كان خطيب ًا فاتن ًا�َ .س َح َر امل�ستمعني ب�سعة معرفته؛ و�أذهل قرر �أن يدر�س الريا�ضيات والتحق باجلامعة العربية يف القد�س .بقي نا�شط ًا يف �صفوف احلزب ال�شيوعي اال�رسائيلي على الرغم من � ّأن افتتانه باالحتاد ال�سوفياتي
176
بدايات
العدد |5ربيع 2013
احلق يف املقاومة امل�سلحة منذ البداية ،دافع عن حق الفل�سطينيني يف ا�ستعمال �شتى الو�سائل لنيل حقوقهم مبا يف ذلك الكفاح امل�سلّح. عدة ويظهر رغم �أ ّنه ال يتجنب انتقاد عمليات م�سلحة ّ مل كانت بر�أيه غري مثمرة ،لطاملا �شدد على �أنه يرتتب َ على الفل�سطينيني حتديد و�سائل الكفاح .ا�ستند انتقاده طرح يوم ًا ب�أ�سلوب عدائي .ال �إىل روح الت�ضامن؛ مل ُي َ بد من اطاحة ال�صهيونية وتفكيك النظام اال�رسائيلي وا�ستبداله بدولة عربية يهودية واحدة.
تغري �إيجابي �أو �صحوة طال انتظارها يف ا�رسائيل ويف العامل �أجمع� .أ ّثر يف حياة الكثريين ،وكان منزله يف لندن تقبل االختالف ملتقى النا�س من خمتلف اجلن�سياتّ . ومل يتوقع من النا�س �أن يروا العامل من منظاره هو. مل يحاول يوم ًا �أن يفر�ض �آراءه على الآخرين .قال ما عليه قوله والنا�س �أحرار يف موافقته �أو خمالفته جمتمع �صغري بالقرب من الر�أي .انتهى به املطاف يف ٍ بلدة قلن�سوة العربية التي تقع �ضمن املثلث .على الرغم من �أ ّنه عا�ش يف جمتمع يهودي حم�ض على مقربة من نتانيا� ،أ�صبحت قلن�سوة نقطة املرجع بالن�سبة �إليه. التقيته للمرة الأخرية قبل �أ�شهر قليلة من وفاته وكان مل قرر ال كعادته .حكى يل �أ ّنه �س�أل والدته مرة َ متفائ ً والداه االنتقال �إىل فل�سطني يف منت�صف ثالثينيات القرن املا�ضي على الرغم من �أ ّنهم لي�سوا ب�صهاينة� .أجابته ب�أنها يف �أحد الأيام فيما كانت تدفع عربته يف �إحدى احلدائق
ال بد من اطاحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة ال�صهيونية وتفكيك النظـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــام اال�رسائيلي وا�ستبدالـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه بدولة عربيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة يهودية واحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدة تعدى اهتمامه ال�سيا�سات املبا�رشة يف ال�رشق مربر مبا �أ ّنه عا�ش � 30سنة يف �أوروبا الأو�سط ،وهذا َّ وتفاعل مع الأح��داث واحلركات هناك .كان ينتمي جدا �إىل تيار مارك�سي ناقد اعترب املارك�سية �صارمة ً ومقيدة ،يف عامل يتغيرّ ب�رسعة .ويرى �أكيفا � ّأن العامل الذي يعي�ش فيه لي�س العامل الذي عا�ش فيه مارك�س واجنلز .فكتاباتهما واحلركات ال�سيا�سية واالجتماعية وحولتها .ينبغي بالتايل التي �أن�ش�آها غيرّ ت الر�أ�سمالية ّ �أن ينطلق النقد املعا�رص من واقع احلال ال من الظروف التي �أ ِلفها مارك�س واجنلز خالل القرن التا�سع ع�رش. كذلك� ،أب��دى اهتمام ًا متزايد ًا بالأفكار الأناركية و�أ�ساليب تنظيم املجتمع. يف ال�سنوات الأخرية من حياته ،ر�أى � ّأن التقنيات اجلديدة وو�سائل الإع�لام االجتماعية جعلت مهمة امل�شاركة الدميقراطية �أ�سهل و�أكرث عملية (ميكن االطالع على كتاباته على االنرتنت على املوقع االلكرتوين ال وبقي كذلك .يف كل .)akiorrbooks.comكان متفائ ً تظاهرة احتجاجية �صغرية كان يرى امكانية ح�صول
177
بدايات
العدد |5ربيع 2013
العامة يف برلني ر�أت يده ترتفع لت�أدية التحية النازية ل�ضابط نازي كان م��ار ًا ،فاتخذت على الفور القرار بالرحيل .مل ت�ش�أ املجازفة ب�أن يكرب ابنها لي�صبح نازي ًا. بر�أيي �أ ّنه ابتدع هذه الق�صة ليو�صل ر�سالة معينة .ال ح�صانة لأحد؛ ال للأملان املثقفني خالل ثالثينيات القرن املا�ضي الذين ا�ست�سلموا لتملق هتلر ،وال لأي �أحد �آخر، مبن يف ذلك اليهود �أنف�سهم الذين عانوا من هذه الفرتة املهلكة والع�صيبة من التاريخ الأوروبي. عام ،1990بعد تقاعد �أكيفا من وظيفته يف جمال التعليمط ،عاد �إىل ا�رسائيل لالعتناء بوالدته املري�ضة. �شاركت يف مرا�سم دفنه يف حقل يف مقربة مينية يف �ضواحي قلن�سوة ،وقد ح�رض الدفن �أي�ض ًا يهود �أ�شكيناز وعرب قالئل .مل �أ�ستطع منع نف�سي من التفكري يف � ّأن �صداقته �أغنت حياتي ويف �أ ّنه �أ ّثر يف نظرتي �إىل العامل بطرق كثرية� ،أكرث مما ي�سعني االعرتاف به. لالطالع على كتابات �أكيفا �أور زوروا املواقع االلكرتونية التالية: www.akiorrbooks.com - www.autonarchy.org.il - www.abolish-power.org
رئيف خوري
المثقف الشيوعي يف الزمن الستاليين أمحد عليب
احتفل لبنان يف هذا العام بالذكرى المئة لوالدة االديب والمفكر العريب التقدمي الكبري رئيف خوري (.)١٩٦٧-١٩١٣ يعده عنه الدكتور أمحد عليب اهساما يف تكريم رئيف والتعريف به ،ننرش فيما ييل صفحات من الكتاب اجلامع الذي ّ بعنوان «رئيف خوري ،داعية الدميقراطية والعروبة»
يف اجلامعة اللبنانية.
يعرب «�أَن�صار ماركو�س» اليونان مل�ساندة امللك واحللفاء من الإنكليز ،الذين نزلوا َ رئيف ّ َ ال�شيوعيني يف اليونان يف عام 1948وحركة الأن�صار بال�شيوعيني اليونان الذين والرجعية .وح ّلت امل�أ�ساة ّ ّ ّ َ حررت الكثري من الأر�ض واكت�سحت العربية ،الجئني بالآالف يدي �سب�أ ،كما نقول يف تفرقوا �أ َ ّ يف �أوجها ،وقد ّ ّ َ اليونانية �أثينا ،وذلك بقيادة الزعيم العا�صمة والغربية ،خوف ًا على �أنف�سهم ال�رشقية أوروبا ال�شيوعي �إىل �أنحاء � ّ ّ ّ ّ ّ ماركو�س ،ومب�ساعدة الرفاق يف البلقان، وبخا�صة من �سيف الغدر واالنتقام .يف هذا الوقت ،واحلملة ّ ٍ الرفاق اليوغ�سالف ،املتاخمني لهم ،وعلى ر�أ�سهم تيتو .املعادية لتيتو انطلقت �شعواء� ،إذ � ّإن � ّأي خمالفة للمركز يف هذا الوقت الع�صيب جرى ّ ممية ول�سيده املطلق �ستالني ،كانت مبنزلة الهرطقة ال�شيوعية ،مو�سكو، ّ حل الأُ ّ ّ لالمربيالية واخليانة العظمى� ،إىل � ِآخر النعوت �أي «الكومنفورم» الذي َخ َل َف «الكومنرتن» ،وهو مركز والعمالة ّ ُ إعالمي م�شرتك للأَحزاب � ممي .التي كانت رائجة عهدذاك؛ يف هذا الوقت �أ�صدر رئيف ّ ال�شوعية على النطاق الأ ّ ّ رحب رئيف خوري بهذا احلدث وع ّلق عليه قائال ً :خوري كتابه املرتجم :يف زيارة �أَن�صار ماركو�س ،وقد وقد ّ 2 َ ّ احلل، ال�شيوعية على اقرتاح «وقد وافقت الأح��زاب مروه يف مقالته ،ال�سالفة عربه ّ وقدم له .يقول كرمي ّ ّ ّ ين .ونحن ،و�إن الذكر« :لقد اعترب احلزب �صدور الكتاب املذكور وثيقة ال�شيوعي ومنها احلزب ال�سوري اللبنا ّ ّ ّ ّ ال�شيوعي يف ا ّتهام لرئيف� ،إذ ا ُّتهم باالنحياز �إىل تيتو يف �رصاعه مع وطنية احلزب ن�شك يوم ًا يف �صدق ك ّنا مل ّ ّ �سوريا ولبنان ،نعتقد � ّأن ّ ال�شيوعية �سيقنع �ستالني ،الذي كان رئيف قد كتب الكثري عنه ونظم يف ممية ّ حل الأُ ّ 3 «تيتوي ًا»! النية الذين كانت تخامرهم ريبة ب� ّأن متجيده �أجمل الق�صائد� .أ�صبح رئيف� ،إذن، ّ جميع ح�سني ّ ال على � ّأن ها�شم الأمني ،الذي كان معا�رص ًا يوم ًا بيوم احلزب ال�شيوعي من الوطن وللوطن؛ و�سيكون عام ً ّ وطنية لرتجمة هذا الكتاب ،ينفي متام ًا ما ذهب �إليه كرمي القوية لتوحيد ال�صفوف وخلق جبهة من العوامل ّ ّ 1 َ َ ّ مروه من � ّأن ترجمة هذا الكتاب كانت من الأ�سباب احلل ،كما ّبينت الأ ّيام، م ّتحدة تخدم البالد» .بيد �أن ّ �شكلي ًا؛ بدليل � ّأن ّ كان حل الكومنفورم اقرتن ب�ش�أنٍ الدافعة �إىل �إبعاد رئيف خوري عن احلزب« .لقد �أخذ ّ َ � َآخ َر خطري ،هو طرد احلزب يف من رئيف برتجمة كتاب «�أن�صار ماركو�س» ب�أمر من اللجنة ال�شيوعي اليوغ�سال ّ ّ ُ ُ ال�شيوعية ،وذلك ب�سبب اخلالف الذي َ�ش َج َر بني ممية فلما وقع اخلالف بني �ستالني وتيتو ،وطرد ّ الأ ّ ّ املركزيةّ . تيتو و�ستالني .وال�سبب املعلن هو امليول ال�شيوعية، يف من احلركة القومية لدى احلزب ال�شيوعي اليوغ�سال ّ ّ ّ ّ تيتو .وهنا وقع الرفاق مدمر .فقد تو ّقف رئيف عن متابعة الرتجمة ...وطلبني يوم ًا خالد اليونانيون يف م�أزق ّ ّ حركتهم على و�ستالني تيتو انعك�س اخلالف بني الثورية ،بكدا�ش �إىل مقابلته ،وكان خمتبئ ًا ،فكان يف جملة ّ الع�سكرية التي كان يناوئها امللك والطغمة اليونانية حديثه يل �أن �س�ألني� :أين و�صل رئيف برتجمة كتاب ّ ّ
عمل استاذا لمادة
االدب العريب احلديث كتب يف االدب له ٌ
والنقد والتارخي مهنا
عن طه حسني وعن ثورة الزجن يف العرص
العبايس .آخر مؤلفاته «باالحضان يا بلدنا» يف ادب الرحالت.
1رئيف خوري« :يف الآفاق» ،جم ّلة الطريق� ،س،2 ع20( 10 حزيران ،)1943 �ص .3 � 2أو�سكار دافت�شو: «يف زيارة �أَن�صار قدم له: ماركو�س»ّ ، عربته رئيف خوريّ ، ون�رشته :دار القارئ العربي ،بريوت ّ .1948و�إن كان رئيف يف الواقع هو الذي قام برتجمته إنكليزية. عن ال ّ
178
بدايات
العدد |5ربيع 2013
مروه« :املثقّف 3كرمي ّ والثورة ،حقائق عن رئيف خوري»، جم ّلة الطريق ،ع1 (�شباط /فرباير ،)1989 �ص 15و.16 4ها�شم الأمني: «ذكريات وحقائق عن رئيف خوري»، جريدة ال�سفري، احللقة الثانية (.)1989/3/10 5رئيف خوري: العربية «القومية ّ ّ اجلامعة طريق اخلال�ص» ،جم ّلة الطليعة� ،س،3 ع 2و�( 3شباط و�آذار ،)1937 �ص .109 - 99 6رئيف خوري: الرو�سية، «الثورة ّ ق�صة مولد ّ ح�ضارة جديدة»، �ص ،71بريوت .1948 7فريد فرح: «�رصاع من �أجل الدميقراطية ّ حمطات واحلقيقة، من �سرية فرج الوطنية الله احللو ّ والقومية»، ّ �ص 269و،270 أدبية، دار الكنوز ال ّ بريوت .2006 8فريد فرح: «�رصاع من الدميقراطية �أجل ّ واحلقيقة،»... �ص.305 - 289
179
فقلت :تو ّقف عن متابعة الرتجمة. «�أَن�صار ماركو�س»؟ ُ وبينت له ال�سبب .فقال بكدا�ش :ال ،ال ،هذا ال مينع من ّ ترجمة الكتاب وطبعه� .أَ ْب ِل ْغ رئيف ًا �أن يوا�صل الرتجمة ال�شهال و�أن يطبع الكتاب .وهكذا كان» .4ثم � ّإن رِ ْ�ضوان ّ ـ الذي �سيكون الحق ًا يف كور�س املهاجمني ال�رش�سني لرئيف ورفاقه� ،إثر خالفهم مع احلزب ـ رِ ْ�ضوان هو الذي ر�سم غالف الكتاب. � ّأما � ّأن رئيف خوري كان ،برغم حما�سته لثورة �أكتوبر ال�سوفياتي وعلى والبال�شفة و�إ�شادته الدائمة باالحتاد ّ ر�أ�سه �ستالني ،كان عاتب ًا على الرفاق ال�سوفيات ،فهو مل ِ يخف عتبه عنهم بل قاله ِجهار ًا« :ومل �أجد جتاه العرب ،يف ال�سوفياتي، اخلارجية التي يتبعها االحتاد حقل ال�سيا�سة ّ ّ ال�سوفياتي يف جامعة ما ال �أ� ّؤيده� ،سوى اقرتاع املندوب ّ دلو الأُمم ّ املتحدة باملوافقة على تق�سيم فل�سطني ...ولو �أ ّنه ٌ �أُلقي يف ثالثة وثالثني دلو ًا ...ولعن الله من فتح البئر!» القومي ،وهو املغرم ح�سه ف�شيوعية رئيف مل تطفئ ّ ّ ّ ُ ممية بالعرب والعروبة وبالأدب العربي وبالرتاث؛ فالأ ّ ّ القومي ال�سليم ،وهما �أ�شبه احل�س احلقيقية تدعو �إىل ّ ّ ّ ب��الأَ امل�ستطر َقة .ورئيف قد عاين ،بال ريب ،ما واين َ ٍ أخالقيته بقائد �شجاع ُي�شيد الرفاق قاطب ًة ب� حلّ ّ وا�ستقامته و�سداد ر�أيه ،وهو فرج الله احللوّ � .إن رئيف ًا «ناب ْيه» ،فوق �إنطليا�س يف املنت ال�شَّ مايلّ؛ وفرج الله من َ من «ح�رصايل» ،فوق َع ْم�شيت يف بالد جبيل .فهذا ين �أعطى يف هذين املنبتني ،ويف غريهما من اجلبل اللبنا ّ العربي ال �أحرار ًا يف �رشقنا ع�رشات املنابت اجلبلية ،رجا ً ّ ّ ْمانية والتنوير ،ودعوا �إىل مناهج العدالة نادوا ب�أَفكار َ العل ّ االجتماعية ،وارت�ضوا العروبة لواء خ ّفاق ًا� ،أو كما يقول ّ «القومية رئيف خوري يف عنوان �إحدى درا�ساته الباكرة: ّ العربية اجلامعة طريق اخلال�ص».5 ّ وكما وقف رئيف وقفة العاتب والالئم من االحتاد ال�سوفياتي ،6ف� ّإن فرج الله جرى على املوجة ذاتها .فقامت ّ قيامة خالد بكدا�ش عليه ،والذي كان موجل ًا بالرتويج لكلّ ُ ال�شيوعية ممية ّ ما ي�صدر عن املركز مو�سكو ،برغم حلّ الأ ّ ومكتبها الكومنفورم .وهناك ر�سالة �شهرية ُدعيت «ر�سالة ال�رس ّي لفرج الله؛ وهو يقوم احلركي �سامل» ،وهو اال�سم ّ ّ الذاتي العنيف ال�شامل ،ملا اتهمته به فيها بدور النقد ّ ال�سوري من ين املركزية يف احلزب القيادة ال�شيوعي اللبنا ّ ّ ّ ّ �أَ ٍ �شوفينية؛ وقومية كو�سموبوليتية خطاء وانحرافات وميول ّ ّ ّ املركزية ،يف �أوا�سط �شباط ،1952 عممت القيادة ّ وقد ّ 7 هذه الر�سالة على جميع ّ منظمات احلزب . بدايات
العدد |5ربيع 2013
«ر�سالة �سامل» لفرج الله احللو ونحن �أميل �إىل اال�ستغراب يف ن�سبة «ر�سالة �سامل» �إىل قلم فرج الله نف�سه ،ل ّأن فيها من ا�ضطراب العبارة وت�شو�شها ،كذلك من ركاكة الفكر �أَحيان ًا وغرقه يف ّ يكرر ال�شعارات؛ ممّا ال ي�أتلف مع ما ��سردي أ�سلوب � ّ ّ عرفنا لفرج الله من كتابات حا�شدة يف جريدة «�صوت ال�شعب»� ،أو يف «كتابات خمتارة»� ،أو خ�صو�ص ًا يف املركزية للحزب قدمه يف اجتماع اللجنة التقرير الذي ّ ّ ال�شيوعي يف �سوريا ولبنان ،املنعقد بدم�شق يف حزيران ّ عام .1937ففي هذا التقرير املعنون« :ق� ّ�وة احلزب الدميقراطية»، الدميقراطي وقيادته ال�شيوعي يف تنظيمه ّ ّ ّ نقع على �صفاء التفكري ،ون�صاعة التعبري ،و�سالمة املوقف، ونبالة الوطنية ،واالن�ضباط احلزبي ،والرقي الأَ خالقي8؛ ّ ّ ّ ّ ٍ معان �سامية تناق�ض متام ًا ما ا�شتملت عليه فهي كلّها الذاتي من املخازي التي ين�سبها فرج الله ر�سالة االنتقاد ّ واملخرب لنف�سه ،بحيث يبدو وك�أ ّنه املت�آمر الف ّذ على حزبه ّ مهدد ًا بالطرد من احلزب ،لوال اعرتافه الأعظم؛ بحيث بات َّ ال�رصيح العاري بتلك املخازيّ � .أما خالد بكدا�ش فهو ينمي الرفيق الأكرب ،الن�صوح ،الهادي ،القائد َ امللهم الذي ّ لدى رفاقه احلقد الطبقي على اال�ستعمار وعمالئه« .كلّ ّ توجه �إيلّ ،وال هذا ،ومل �أَحفل باالنتقادات امل�ستمرة التي َّ ّ أخوية والتحذيرات ال�شديدة .لقد كانت التنبيهات ال ّ َ حتى قلبي، عماق � أ إىل � االنتقاد و�صول هناك �أَ�شياء متنع ّ 9 مرة «وعظ ًا» . �سم ُ ّ يت انتقادات الرفيق بكدا�ش ّ ونح�س ُب � ّأن جميع امل�آخذ على فرج الله كانت �إطار ًا َ املوال كلّه ،هو موقف وديكور ًا ،فبيت الق�صيد ،يف هذا ّ فرج الله احللو من مو�ضوع تق�سيم فل�سطني ،كذلك ق�ضية رئيف خوري ورفاقه من املث ّقفني. موقفه من ّ بكدا�ش ير�سل فرج الله �إىل حتفه ُ على �أ ّننا ،يف واقع احلال الذي نعرفه ،ميكن �أن ندرك ونف�سرّ ما ا�شتملت عليه «ر�سالة �سامل» من ا�ضطراب يف املبنى واملعنى كليهماّ � .إن كاتبها قائد مرموق ،ترك يف �شيوعي عرفه عن كثب انطباع ًا ال ُين�سى ،من نف�س كلّ ّ �سعة الأفق ودماثة ا ُ اجلم« ،وكان دائم ًا خللُق والتوا�ضع ّ يو�صلك �إىل القناعة بفكرة يريدها هو� ،أي فرج ،ويجعلك تعتقد �أ ّنك �أنت �صاحب الفكرة» .10ويقول �صاحب هذا التقييم ،عزيز �صليبا ،كالم ًا م�ؤ ّثر ًا يدور على �أَل�سنة كثري ُ ُ حب ًا ال�شيوعيني الذين عاي�شوا فرج الله: من حبه ّ «كنت �أ ّ ّ 11 عادي .وهو كان �إن�سان ًا غري غري عادي» .وهذا الإن�سان ّ ّ
9فريد فرح :املرجع ال�سابق� ،ص.276 ويف هذا الكتاب الن�ص الكامل ّ لر�سالة �سامل� ،ص .285 – 272 كما � ّأن يو�سف ّ خطار احللو قد الن�ص الكامل �أدرج ّ لر�سالة �سامل يف كتابه�« :أَوراق من تاريخنا»، �ص ،52 – 39 دار الفارابي، بريوت .1988 10عزيز �صليبا: ال�رس ّي يف «العمل ّ ال�شيوعي احلزب ّ اللبناينّ ،مع �صفحات من تاريخه»، �ص 60و،61 دار الفارابي، بريوت .2002 11عزيز �صليبا: ال�رس ّي يف «العمل ّ ال�شيوعي احلزب ّ ،»... اللبناينّ �ص .112 12هناك تفا�صيل وافية حول اغتيال فرج الله احللو ترد يف كتاب فريد فرح�« :رصاع من الدميقراطية �أجل ّ واحلقيقة،»... �ص.340 – 320 13يو�سف ّ خطار احللو�« :أَوراق من تاريخنا»، �ص .57 1عزيز �صليبا: 4 ال�سابق، املرجع �ص .65 1فريد فرح :املرجع 5 ال�سابق� ،ص 269ـ يو�سف ّ خطار احللو: ال�سابق، املرجع �ص .38
180
العادي اعتقله رجال املباحث يف دم�شق ،حيث غري ّ ال�سورية ،لإدارة د ّفة امل�رصية - ذهب ،بعد قيام الوحدة ّ ّ وح�شي مريع ،ف�صمد وتعر�ض لتعذيب ال�رس ّي، العمل ّ ّ ّ يف وجه اجلالّدين ،برغم �أ ّنه كان يتداوى على الدوام من م�شاكل يف القلب؛ وعندما �صار ج ّثة بني �أَيديهم �أحلدوه مرتني ،ولك ّنهم كانوا خائفني من اكت�شاف مو�ضع اجل ّثة، ّ ّ فقطعوها و�أذابوها بالأَ�سيد.12 امللح هو :ملاذا غادر خالد بكدا�ش �إىل بريوت وال�س�ؤال ّ ال�شيوعي يبق �أحد من قيادة احلزب فرباغ؛ كذلك ملاذا مل َ ّ ال�سوري هناك بل جل�أوا جميعهم �إىل بريوت؟ وبعد ذلك ،كما ّ جاء يف كتاب �أرتني مادويان« :حياة على املرتا�س» ،وكتاب يو�سف ّ خطار احللو�« :أَوراق من تاريخنا» ،فقد اقرتح خالد جد ًا يف بكدا�ش �أن يتولىّ فرج الله العمل ال�رس ّي ال�صعب ّ ّ يتبق دم�شق ،مع العلم ،كما يقول فرج الله نف�سه� ،أ ّنه مل َّ وي�رص يلح �أحد من الكادر للقيام باملهمات .وكان بكدا�ش ّ ّ ّ على عودة فرج الله �إىل دم�شق ،من بريوت ،و�أن ال يت� ّأخر يف هذه العودة .وهي العودة التي قادته �إىل حتفه� .أمل يكن ال�رس ّي املرهق؛ وقد علّمنا بكدا�ش �أَ ْوىل بهذه القيادة للعمل ّ ال�شيوعية العامون لأَحزابهم التاريخ كيف خا�ض الأُمناء ّ ّ التاريخية و�ألقوا اخلطب املهام ،وخا�ضوا املحاكمات هذه ّ ّ َ التي حفظها التاريخ يف �ألواحه الباقية؟ «كانت ر�سائل دوما على �رضورة �أن يبقى فرج يف تلح ً خالد بكدا�ش ّ دم�شق» .13مع � ّأن فرج الله مل يكن مقتنع ًا بجدوى هذه الإقامة ،وحاول عبث ًا �إقناع رفاقه بوجهة نظره هذه .لهذا مربرة حامت ال�شكوك حول خالد بكدا�ش ،وهي �شكوك ّ طبع ًا ،وخ�صو�ص ًا � ّأن بكدا�ش قد قاد قبل �سنوات ع�رش حملته ال�شهرية لتحطيم فرج الله ،الراف�ض ملوقف االحتاد ال�سوفياتي يف تق�سيم فل�سطني ،و ّمت له �إق�صاء فرج متام ًا عن ّ قيادة احلزب ،و�صار عامل مطبعة.14 املركزية لقد ا ُّتهم فرج الله احللو يف ر�سالة القيادة ّ 15 العقلية «�أ ّنه كان ال يزال واقع ًا حتت ت�أثري البورجوازية» . ّ ّ يتهمونه بالربجزة؟! وهناك واقعة م�سكني فرج الله احللوّ ، �أتى عليها امل�ست�رشق املرموق ،مك�سيم رودن�سون ،وقد �أم�ضى معظم الأَ ربعينيات من القرن املن�رصم بني ظهرا َن ْي َنا، ّ إجباري، وذلك �أ ّنه كان ،ب�سبب احلرب ،يف التجنيد ال ّ وجاء ،عام � ،1940إىل �سوريا ولبنان ،الواقعتني حتت الفرن�سي .ثم ّمت ت�رسيحه ،بعد ا�ست�سالم فرن�سا؛ االنتداب ّ وبقي يعمل يف لبنان ،حيث علّم يف مدر�سة املقا�صد يف الفرن�سي �صيدا؛ ثم انتقل للعمل يف ق�سم الآثار القدمية ّ ببريوت ،16والذي ما زال قائم ًا يف مبناه القدمي ُقبالة مبنى بدايات
العدد |5ربيع 2013
ال�ستاركو عند باب �إدري�س .وكان رودن�سون على �صلة الفرن�سي عهدذاك ،وذلك باحلزب ال�شيوعي وثيقة ،وهو ّ ّ ين .وقد ذهب رودن�سون �إىل ال�شيوعي ال�سوري اللبنا ّ ّ ّ العراق ،من خالل عمله يف ق�سم الآثار .يقول مك�سيم رودن�سون ،م�ستذكر ًا تلك احلقبة« :وعند عودتي �إىل تناولت وجبة الغداء يف ال�سوق ،ب�صحبة فرج الله بريوت ُ ين� .س�ألني عن رحلتي، اللبنا ال�شيوعي احلزب أمني � احللو، ّ ّ فخم للغاية ،على نفقة ف�أخربته �أ ّنني نزلت يف فندق ٍ ٍ ردة فعله� :أمل يزعجك �أن املفو�ضية الفرن�سية .ففاج�أتني ّ ّ ّ تمُ �ضي يومني يف ٍ ترف منقطع النظري؟ وكانت هذه الر�ؤية َ ال بحد ذاتها ،ل ّأن فرج الله كان رج ً جد ًا لالهتمام ّ مثرية ّ متوا�ضع ًاّ � .أما رفيقه من �سوريا ،خالد بكدا�ش ،فما كان علي هذا ال�س�ؤال �أبد ًا .فلي�س يف ذلك ،بالن�سبة ليطرح ّ َ ٍ �شيء مثري للده�شة .ولقد �س�ألته �أحد الأ ّيام عن لهّ � ،أي هذا املو�ضوع :تظهر يف �صحيفة «�صوت ال�شعب» كلّ مرة تذهب �إىل �سوريا ،و�أنت تنزل يف �أجمل فنادق حلب ّ حزب قائد أنت � و ذلك تفعل ل َ الخ. بروليتاري على كلّ مِ ّ ال�سوفياتي. حال؟ ف�أجابني :هذا ما علّمونا � ّإياه يف االحتاد ّ و�صدمني ذلك ،كما �صدمتني من جهة �أخرى عادات عرفت الرتف عند �أ�صدقائنا يف �سوريا -لبنان» .17وكما ُ رودن�سون فقد كان ،على �شاكلة فرج الله ،متوا�ضع ًا، الر ْب َعة ب�سيط ًا ّ جد ًا يف منط عي�شه؛ برغم ما يكنز يف �إهابه َّ ٍ أحب رودن�سون فرج الله � ولهذا اد. ق و وذهن وا�سع علم ّ من ٍ ّ احلب نف�سه .وفرج ،عند ر�أي رودن�سون، كثري ًا ،وبادله فرج ّ يتمتع «كان ناعم ًا وعقالني ًا ولطيف ًا للغاية ،ويبدو يل �أ ّنه ّ ّ ٍ ب�صفاء كبري و�صدق ٍ فائق .مل يكن ُمندفع ًا وراء طموحات �شخ�صية» .يف حني � ّأن بكدا�ش «كان يبدو بنظري مرت ّفع ًا ّ �ستاليني ًا خمل�ص ًا» .لهذا «مل يكن بكدا�ش و«كان »، ومدعي ًا ّ ّ 18 يبعث الثقة يف نف�سي ،لك ّنه كان يعجبني» . بيار اجلميل يف منزل فرج الله احللو وهناك حادثة كنت �شاهد ًا عليها ،وذلك عندما �أذاع احل��زب ،عام ،1961نب�أ مقتل فرج الله يف دم�شق ال�رساج الذي غدا حاكم على �أيدي جالّدي عبداحلميد ّ امل�رصية - الإقليم ال�شَّ مايلّ� ،أي �سوريا ،يف دولة الوحدة ّ ال�سورية ،غري امليمونة مع الأ�سف ال�شديد؛ فكيف تدوم ّ و�أَ والبعثيون الناهية! آمرة ل ا احلاكمة هي املخابرات جهزة ّ ال�شيوعيني ،مل يكن متعجلني ،لإزاحة �سع ْوا �إليها ّ الذين َ ّ يتوهمون� ،أن كانوا ما بخالف ، ا أبد � عبدالنا�رص يف بال ً ّ ال�شيوعيني يف لبنان املهم الآن � ّأن يفو�ضهم �أمر �سوريا. ّ ّ
1في�صل ج ُّلول: 6 «اجلندي املُ�ستعرب، ّ �سنوات مك�سيم رودن�سون يف لبنان و�سوريا (1940 – ،»)1947 حوارات �ساقها وحررها جلُّول ّ وقدم لها� ،ص،30 ّ 35و،73 ،36 دار اجلديد ،بريوت .1998 17مك�سيم رودن�سون: «بني الإ�سالم والغرب ،حوارات مع :جريار د. خوري» ،ترجمة: عجان، نبيل ّ �ص ،150دار كنعان ،دم�شق .2000 18في�صل ج ُّلول: اجلندي املُ�ستعرب، ّ �سنوات مك�سيم رودن�سون يف لبنان و�سوريا (،)1947– 1940 �ص .83 – 81 1يو�سف ّ خطار 9 احللو�« :أَوراق من تاريخنا»� ،ص .52 2عزيز �صليبا: 0 ال�رس ّي يف «العمل ّ ال�شيوعي احلزب ّ ،»... اللبناينّ �ص .198 21فريد فرح: «�رصاع من الدميقراطية �أجل ّ واحلقيقة،»... �ص 280و.281 2 2املرجع ال�سابق، �ص 281 2املرجع نف�سه 3 2املرجع نف�سه 4
181
يتقبلون التعزية بقائدهم الكبري .وجاء بيار �رشعوا ّ اجلميل ،رئي�س حزب الكتائب ،للقيام بواجب التعزية، ّ يف بيت ف��رج الله ال��ذي ك��ان عبارة عن غرفتني مع منتفعاتهما ،وذلك يف طرف ال أ�رشفية عند املقلب املطلّ ّ اجلميل �إىل هذا البيت على حملّة ال��دورة .ودخل بيار ّ ليخف �إىل الرمزي ،ثم خرج التحية عند التابوت و� ّأدى ّ ّ ّ لقائه ،وهو خارج ،املحامي نخلة مطران؛ وكان كلّ منهما يعرف ال َآخر على نحو وطيد ،وذلك � ّأن الرفيق نخلة كان كتائبي ًا يف ال�سابق ،قبل �أن ينخرط يف �صفوف احلزب ّ ال�شيوعي .وكانت عالئم الده�شة واال�ستغراب بادية ّ ال له على وجه ال�شيخ بيار ،وهو يخاطب نخلة مطران قائ ً بالفرن�سية� :أهذا هو بيت فرج الله احللو؟! ّ مرغم ًا ،وذلك التي �سامل» و«ر�سالة دبجها فرج الله َ ّ وينقل عنه، خلوفه من �أن ُيطرد من بيته� ،أي من احلزب؛ ُ وهو الإن�سان الكبري املتفاين ،الذي �أرهق جالديه ب�صموده ِ ال ،خالل تلك الأزمة :دخيلكم وعناده� ،أ ّنه كان يقول مبته ً ما تطردوين من احلزب! وكان بكدا�ش داري ًا بنقطة ال�ضعف وال�سمو يف �آن ،التي كانت تعتلج يف �صدر فرج .لهذا جرى ّ ال .يقول يو�سف ّ «ح�رضت خطار احللو: ابتزاز فرج الله طوي ً ُ بع�ض االجتماعات التي نوق�ش فيها م�رشوع «ر�سالة تتم �إمالءات �سامل» ،ويف كلّ هذه االجتماعات كانت ّ ا�ستمر �إعدادها منذ على فرج ،لت�ضمينها الر�سالة ،التي ّ عام � 1949إىل ربيع عام .19»1952وهكذا « ُفر�ض مرة عليه كتابة انتقاد ذاتي كان ُيرف�ض ُ ويعاد كتابته ّ ّ 20 ال�شيوعي ،الذي كان موجل ًا ويخرب امل�س�ؤول مرة» ُ . بعد ّ ّ عولنا بطباعة هذه الر�سالةّ � ،أن َ املتداول منها الآن ،والذي ّ عليه ،هو الن�سخة الثالثة؛ �أي � ّأن الإذالل لفرج الله �أخذ أديبية» املديدة ا�شتغل فرج مداه .وخالل هذه ّ املدة «الت� ّ عادي ًا ،بالرتجمة؛ �إذ � ّإن ا َلأحزاب الله ،بعد �أن �صار ع�ضو ًا ّ َ خبارها ال�شيوعية يف العامل كانت ُت�صدر جريدة حامل ًة �أ َ ّ وتقاريرها ،وكانت ُتدعى «يف �سبيل �سلم دائم ،يف �سبيل مرة، دميقراطية ّ ّ �شعبية» .و�أذكر � ّأن نظري وقع عليها ذات ّ تتكد�س املواد أن � كيف فهالني حات، ف �ص أربع � يف وكانت َ ّ ّ ّ َ فيها وتنح�رش ،بحيث مل يكن فيها ب�صي�ص بيا�ض ،ومل كب على ترجمة تكن حتظى ب� ّأي �إخراج .وكان فرج الله ُي ّ العربية يف بريوت هذه اجلريدة التي كانت ت�صدر ن�رشتها ّ �رس ّي .وقد �أخربين �أحد امل�س�ؤولني �أ ّنها كانت على نحوٍ ّ عادي ،هو الذي وقع عليه نظري؛ كما ُتطبع ُتطبع على ورق ّ جد ًا ،بحيث ُتطوى فت�صري �صغرية ناعم ورق �أي�ض ًا على ّ �رس ًا �إىل احلزب يف �سوريا. احلجم ،و ُتر�سل ّ بدايات
العدد |5ربيع 2013
جمرد �إبداء وال ّ بد �أن ُي�صاب املرء بالذهول من � ّأن ّ ال�سوفياتي من ق�ضية فرج الله احللو الأ�سف ملوقف االحتاد ّ وانتهازية فل�سطني وموافقته على قرار التق�سيم؛ هو �ضالل ّ أممية املرادفة للوالء لالحتاد وعداء للثورة ،وتخلٍّ العن ال ّ ال�سوفياتي والثقة املطلقة ب�أي موقف َي ّتخذه حول � ّأي ّ انتهازي، مو�ضوع� .إبداء الأ�سف هذا «الربهان على موقف ّ جمرد خطور الفكرة موقف ارتداد وعداء للثورة ،فقد كان ّ على بايل ،فكرة �إبداء الأ�سف ،خ�ضوع ًا وتراجع ًا �أمام الرجعيني ،وتقدمي تنازل تهوي�ش اال�ستعمار وعمالئه ّ و�سيا�سي لهم .وكان ذلك من �ش�أنه توجيه وفكري مبدئي ّ ّ ّ واملبدئية ،مل يكن ليت�س ّنى له ة الوطني حزبنا ل�سمعة طعنة ّ ّ 21 ال�شفاء منها قبل بد �أن يالحظ م�ضي وقت طويل» .وال ّ ّ القارئ ج�سامة اال�ستخفاف بالعقول ،فاملوقف اخلاطئ القومي هو الذي جلب له االتهام للحزب من املو�ضوع ّ املبدئي ال�سليم« .لقد كان واالنعزال ،ال موقف فرج الله ّ ال�سوفياتي، التامة ب�سيا�سة االحتاد موقفي نتيجة عدم الثقة ّ ّ التام على م�صالح ال�شعوب .ماذا تعني فكرة وانطباقها ّ ق�ضية فل�سطني، ال�سوفياتي من «الأ�سف» ملوقف االحتاد ّ ّ ال�سوفياتي قد اتخذ موقف ًا �إ ّنها تعني بال مراء ب� ّأن االحتاد ّ �ضد م�صلحة �سكّ ان فل�سطني� ،أو ق�سم منهم� ،أي اجلماهري ّ ال وكذب ًا العربية .لقد كانت فكرة �إبداء «الأ�سف» ت�ضلي ً ّ 22 االحتاد على وافرتاء لل�شعب، بالن�سبة ال�سوفياتي» . ّ التبعية واخلنوع إن�شائي ال معنى له �سوى دفاع � ّ ّ املبدئي ،الذي طاملا دافع عنه القومي والإخالل باملوقف ّ ّ أدبياته قبل حلول قرار التق�سيم« .ف� ّإن كثريين احلزب يف � ّ اال�ستعمارية، بني اجلماهري ،ورغم كلّ �أَكاذيب الدعاية ّ ر�أوا � ّأن التق�سيم قد يكون يف �صالح العرب ،ما دام االحتاد العربية الأمني ،قد وافق ال�سوفياتي� ،صديق ال�شعوب ّ ّ 23 ولكن ال�صديق قد يخطئ وقد يخون .ويبلغ عليه» . ّ التاريخية: الفجة واملغالطة املوقف �أق�صاه من الدعاية ّ ّ أ�شد الغالة ،كم هو حتى � ّ «لقد �أقنعت احل��وادث الآن ّ متفق مع م�صالح اجلماهري موقف االحتاد ال�سوفياتي ّ ّ العربية يف فل�سطني ،وكم كان موقف ًا بعيد النظر ،وكم ّ العربية يف اجلماهري آالم � و آ�سي � م توفري إىل � يرمي كان ّ ري خطوة فل�سطني ،و�أن يخطو بالن�ضال التحر ّ الوطني ّ 24 ّ �ضد اال�ستعمار يف ال�رشق الأدنى» . كربى ّ �ضد اال�ستعمار، ري ،و� ّأي خطوة كربى ّ حتر ّ اي ن�ضال ّ وقيام �إ�رسائيل هو اال�ستعمار بعينه! «�إنيّ �أرى الآن فظاعة تلك الفكرة ،فكرة �إبداء الأ�سف� ،إذ كانت تخلّي ًا ُ ممية التي تعني ،قبل كلّ �شيء ،الثقة باالحتاد م ّني عن الأ ّ
التامة للحزب ال�سوفياتي ،وااللتفاف حوله ،والأمانة ّ ّ البل�شفي ،ومعلّم ال�شغيلة ومر�شدهم وقائدهم و�صديقهم ّ الرفيق �ستالني .وهكذا �أي�ض ًا ن�سيت قول �ستالني � ّإن املبدئية ،فهي التي لها ال�سيا�سة ال�صحيحة هي ال�سيا�سة ّ عربي، امل�ستقبل» . 25ف�أين املبد�أ يف التخلّي عن �شعب ّ و�ض َياع بلده لقمة �سائغة يف فم ال�صهاينة امل�ستعمرين، َ املتوافدين على فل�سطني لال�ستيالء عليها َع ْنو ًة ،يف زمن الوطنية انح�سار اال�ستعمار يف املعمورة ،وقيام الكيانات ّ امل�ستقلّة؟ ونختم هذه الر�سالة العجيبة ،حول فكرة �إبداء الأ�سف ،بقول �سامل املن�سوب �إليهّ �« :إن موقفي ذاك ،الذي عده هفوة عابرة ،هو ،يف الواقع ،منوذج لعمق املنحدر ُ كنت �أَ ّ الثوري ،طريق الطريق عن االبتعاد يف إليه، � �رصت الذي ُ ّ ال�ستالينية ،ودليل على مدى انغما�سي يف اللينينية ّ ّ االنتهازية ،وعلى مدى اخل ّفة واال�ستهتار اللذين كنت ّ احلزب م�سائل بهما �أُواجه احليوية اخلطرية».26 ّ
2املرجع ال�سابق، 5 �ص 281و282 2املرجع ال�سابق، 6 �ص 282 27هو ا�سم جديد علينا ،وال ندري عنه �شيئ ًا� ،سوى ما وقعنا عليه يف كتاب قدري قلعجي «جترِبة عربي يف احلزب ّ ال�شيوعي» ّ (�ص )293من � ّأن خالد بكدا�ش كان لديه «�أربعة منازل يبيت فيها، منزل يف دم�شق، وثانٍ يف عاليه، و�شاليه على �شاطئ البحر ،وغرفة يف بريوت مبنزل ماري با�شابزيان». 28فريد فرح: املرجع نف�سه 2املرجع نف�سه 9 3املرجع نف�سه 0
182
فرج الله ورئيف خوري احلقيقي ،يف «ر�سالة �سامل» ،وكان يبقى املحور الثاين ّ مو�ضع لو ٍم وتقريع لفرج الله احللو ،وهو موقفه من �ضد رئيف خوري ورفاقهّ �« .أما عدم اهتمامي بالن�ضال ّ واالنهزاميني ،وخ�صو�ص ًا عدم اهتمامي االنتهازيني ّ ّ التيتويني ،من ها�شم الأمني� ،إىل املخربني �ضد بالن�ضال ّ ّ ّ با�شابزيان ،27وقدري قلعجي ،ور�شاد عي�سى ،ومري م�سعد ،ورئيف خوري ،و�إميلي فار�س �إبراهيم ،وغريهم، الرئي�سية ا�ست�صغاري ل�ش�أنهم ،واحتقاري فمن �أَ�سبابه ّ 28 ُ أهمية ل��دوره��م» .ويتابع �سامل« :ومل �أكن �أق� ّ �در ال ّ التيتوية التي يع ّلقها اال�ستعمار على مروق الع�صابة ّ التيتوية يف جميع وخيانتها ،و�سعيه �إىل تعميم اخليانة ّ الأَقطار ويف �سورية �أي�ض ًا ،وتق�سيم �صفوف احلركة 29 �ضد هامية ّ ّ الدميقراطية بوا�سطتها» .وتعلو النربة اال ّت ّ ال�شيوعي وللطبقة للحزب «املعادية ة»، التيتوي «الزمرة ّ ّ �سيا�سي ًا اعتربت �أ ّنهم «ماتوا» العاملة ولل�شعب»« :وقد ُ ّ واندثروا ،منذ �أن �ساروا يف اجتاه القطيعة مع احلزب� ،أو لن يلبثوا �أن ميوتوا ويندثروا ،وهذا �صحيح .لقد ماتوا ثورية ،ولكن لن «ميوتوا» كجماعة مفرو�ض فيها �أ ّنها ّ ّ وخمربني �إال بالن�ضال الدائب كخونة وجوا�سي�س ّ 30 لف�ضحهم وعزلهم» . ومن امل�ؤكّ د �أ ّنه كان هناك تناغم وتطابق بني موقفي رئيف وفرج الله من قرار التق�سيم ،ومن املوقف ال�صائب ال�ضمني لعبادة الفرد املهيمنة من املث ّقفني ،ومن العداء ّ بدايات
العدد |5ربيع 2013
رئيف خوري، فرج الله احللو، خالد بكدا�ش
183
بدايات
العدد |5ربيع 2013
على احلزب واملتم ّثلة بخالد بكدا�ش .لهذا يقول �سامل �سطحية يف ر�سالته« :لقد كانت نظرتي �إليهم نظرة ّ جمردة عن وجود اال�ستعمار واحتدام وغري ّ علمية ،نظرة ّ َ تعمق يف النظر �إىل ما كان يبلغني الن�ضال الطبقي .ومل �أ ّ ّ من «مديحهم» � ّإياي ،و�إىل مقا�صدهم من وراء ذلك .وكنت �أَ�شعر � ّأن ذلك املديح مهني يل ،ولك ّني كنت �أَح�سب �أ ّنه حماولة م�سكينة منهم خللق انق�سام م�ستحيل يف قيادة احلزب؛ وكنت �أَح�سبه �أحيان ًا نوع ًا من «التغطية» لتطاولهم الوقح على الرفيق خالد بكدا�ش .لك ّنهم يف الواقع كانوا يف نق�ص ًا و�ضعف ًا ،ميدحون ّ خطتي التي كانت ميدحون ّ 31 تعبري ًا عن رغباتهم يف احلزب ال عن رغبات ال�شعب» .
3فريد فرح: 1 املرجع ال�سابق، �ص 282و283 3يو�سف ّ خطار 2 احللو�« :أَوراق من تاريخنا»� ،ص .37 3عزيز �صليبا: 3 ال�رس ّي يف «العمل ّ ال�شيوعي احلزب ّ ،»... اللبناينّ �ص .112 « 34ن�ضال احلزب ال�شيوعي اللبناينّ ّ من خالل وثائقه»، ج� 1ص ،272 بريوت كانون الثاين .1971 حممد دكروب: 5 ّ 3 «رئيف خوري، املو�سوعي»، املنور ِّ ّ جم ّلة الطريق، �س ،41ع 1 (�شباط /فرباير ،)1982 �ص.242 36دكروب :املرجع ال�سابق� ،ص 243
184
اعتذر احلزب من فرج ،فلماذا مل يعتذر من رئيف؟ هذه الوثيقة« ،ر�سالة �سامل» ،تن�ضح بالنفاق والرياء والأَكاذيب ،وكانت و�صمة عار �أُل�صقت ب�سرية فرج الله. «كان �إق�صاء فرج الله عن النا�س و�إبعاده ،ح�سد ًا من يتمتع بها ،والنفوذ الذي يحظى به، ال�شعبية التي كان ّ ّ َ َ والعالقات الوا�سعة التي �أقامها يف البالد يف �أو�ساط �أهل ال�سيا�سة والفكر والثقافة» .32وقد �أر�سله بكدا�ش �إىل حتفه ال�سورية ،حيث ُعذّب امل�رصية - يف دم�شق� ،أَ ّيام الوحدة ّ ّ مرتدد ًا يف و ُق ّطعت ج ّثته ،كما �أو�ضحنا؛ وكان فرج الله ّ املهمة �آنذاك ،ولك ّنه امتثل للأَوامر الذهاب ،لعدم جدوى ّ احلزبيةّ � .أما بكدا�ش فكان ،كعادته ،يتعاطى امل�سكرات يف ّ براغ فمو�سكو ،ويجري وراء تنانري الن�ساء ،كما يف التعبري ال�شيوعيني يف لبنان على � ّأن الفرن�سي! ومع ت�أكيد القادة ّ ّ �إر�سال فرج الله �إىل دم�شق كان ب�إحلاح من بكدا�ش ،ف� ّإن ي�رص على القول« :وهنا �أَرف�ض كلّ ما الرفيق عزيز �صليبا ّ تق�صد �إر�سال فرج الله �إىل دم�شق قيل � ّإن خالد بكدا�ش ّ لـ«يخل�ص منه» .الذي جرى ،و�أنا مت�أكّ د منهّ � ،أن فرج الله أ�رص على �أن يذهب هو �إىل دم�شق» .33لهذا عندما انعقد � ّ امل�ؤمتر الثاين للحزب ين ،الذي ا�ستقلّ ال�شيوعي اللبنا ّ ّ ال�سوري وقيادة بكدا�ش، ال�شيوعي عهدذاك عن احلزب ّ ّ وذلك يف متُّوز ،1968كان من جملة قراراته�« :سحب الوثيقة املعروفة با�سم «ر�سالة �سامل» من مل ّفات احلزب بو�صفها مناق�ضة للحقيقة»ّ �« :إن امل�ؤمتر الثاين للحزب الذاتي ،املعروف ين يعترب � ّأن االنتقاد ال�شيوعي اللبنا ّ ّ ّ با�سم ر�سالة �سامل ،هو وثيقة ا�ضطر رفيقنا ال�شهيد �إىل ت�سطريها يف وقت كانت ت�شوب يف حياة احلزب انتهاكات اللينينية ،ناجمة من طغيان عبادة الفرد؛ لقواعد العمل ّ ت�ضمنتها تلك الر�سالة هي اتهامات وب� ّأن االتهامات التي ّ بدايات
العدد |5ربيع 2013
باطلة ،ال ت�ستند �إىل � ّأي �أ�سا�س ،وال ميكن لها ب� ّأي حال من ال�شيوعيني ويف نفو�س �أَبناء الأَحوال �أن تطم�س يف نفو�س ّ �شعبنا� ،صورة فرج الله احللو املنا�ضل الذي حتلّى بال�صالبة اخللقية ،والذي عا�ش الثورية و�صفاء الفكر واال�ستقامة ّ ّ 34 حياة ال» . الثوري ،وكان على الدوام قدو ًة ومثا ً ّ َ ال�شيوعي ومن ح ّقي �أن �أت�ساءل :ملاذا �أهمل احلزب ّ ر�سمي ًا ومن خالل وثائقه ،يف مو�ضوع ين اخلو�ض، اللبنا ّ ّ وبخا�صة رئيف رئيف خوري ورفاقه ،وقد ُظلموا �أيمّ ا ظلم؛ ّ الذي عا�ش هذه الرتاجيديا و�أُفعمت نف�سه ال ّأبية باملرارة، ال نظيف ًا متعالي ًا كبري ًا؟ و�إذا كان هناك ومع ذلك ظلّ نبي ً من ت�صويب واعتذار فلم يبدر عن احل��زب ،كما فعل خ�صته به جملّة «الطريق» عام مع فرج الله؛ و�إنمّ ��ا قد ّ مل�ضي َ�أربعني ،1982عندما �أ�صدرت عدد ًا مزدوج ًا ّ حممد دكروب عن �سنة على �صدور «الطريق» ،وكتب ّ «ولكن رئيف خوري ك�أحد �أَعالم «الطريق» امل� ّؤ�س�سني: ّ القراء العربَ ،ط َوال َ�ص َفحات «الطريق» التي حملت �إىل ّ هذه الأَعوام ،ك�شوفات رئيف خوري يف ميادين الثقافة والفكر والنقد وال�سيا�سة على ال�سواء ،حملت كذلك، خالل عام �أو �أكرث ـ يف �آخر الأربعينات و�أَوائل اخلم�سينات بحق رئيف خوري� .صفحات مل تكن ـ َ�ص َفحات ظاملة ّ ُ ٍ ال عن �ضيق �أفق ،يف الثقافة حتى يف وقتها ذاك� ،إ ّ لتعبرّ ّ ، مية عندنا ويف ال�سيا�سة على ال�سواء� ،أ�صاب احلركة ّ التقد ّ ال�شعبية و�إىل احلركة يف تلك الفرتةّ � ،أدى �إىل انعزالها عن ّ الدميقراطيني عنها .ومن ه�ؤالء �إبعاد العديد من املث ّقفني ّ كفاحي، فكري يف رئيف خوري مبا يحمله من تراث ثقا ّ ّ ّ ي�صح �إلغا�ؤه (وبرهن مية نف�سها ،فال هو تراث احلركة ّ ّ التقد ّ مزاجي ُيطلقه هذا الفرد الزمن �أ ّنه ي�ستحيل �إلغا�ؤه) بقرار ّ 35 �أو ذاك ،مهما كانت ال�صفة التي ي�شغلها هذا الفرد» . حممد دكروب ،يف مقالته تلك ،كيف �سعى ثم ّ يتحدث ّ ُ مروه ،خالل انعقاد امل�ؤمتر الثاين للأدباء العرب مع ح�سني ّ ببلودان يف �سوريا ،وذلك يف �أيلول عام � ،1956إىل الرئي�سيني التوا�صل مع رئيف خوري ،وكان من املعلّقني ّ على املحا�رضات التي �أُلقيت يف امل�ؤمتر« .يف هذا امل�ؤمتر مروه ،و�أناّ � ،أن �إعادة ال�صلة مع رئيف خوري وجدنا ،ح�سني ّ وال�رضورية؛ بل �شعرنا ،خالل الطبيعية هي من الأُمور ّ ّ ال ،مع رئيف خوري ،مل يكن العمل معهّ � ،أن قطع ال�صلة� ،أ�ص ً طبيعي ًا .ور�أينا ،خالل عملنا امل�شرتك هذا مع رئيف �أبد ًا �أمر ًا ّ ٍ خوريّ � ،أن وجهه كلّه �أ�ضاء بفرحة مده�شة ،هي مزيج من االعتزاز ،والإعزاز ،واللوم ،والعتاب العميق ،مع ًا».36 �شبه وعندما �أ�صدرت «الطريق» ،بعد ذلك ب�سنوات ،عدد ًا َ
37جم ّلة الطريق، خا�ص: عدد �شبه ّ «رئيف خوري، والق�ضية»، الكاتب ّ �س ،48ع 1 (�شباط /فرباير � ،)1989ص .4 38املاري�شال تيتو: «دميقراطية من ّ نوع جديد»، ٍ جم ّلة الطريق، �س ،6ع 5و6 (� ّأيار وحزيران ،)1947 �ص .85 39املاري�شال تيتو: «دميقراطية من نوع ٍ ّ جديد»� ،ص 90 40املرجع ال�سابق، �ص 90و91 4جملة الدرا�سات 1
185
توجته بهذا العنوان« :كلمة وفاء �أمام ٍّ خا�ص برئيف خوريّ ، رئيف خوريّ � :إن ف�ضل رئيف خوري على «الطريق» كبري جد ًا .و�أَ�صحاب «الطريق» مدينون له بالوفاء ،ومدينون له، ّ أخ�ص ،بالتكفري عن ذنب قدمي .والواقع � ّأن ذلك على ال ّ بحق بحق رئيف خوري ،بل ّ الذنب القدمي مل ُيرتكب فقط ّ وبحق والدميقراطية العلمي وبحق التفكري ال، الثقافة �إجما ً ّ ّ ّ ّ َ و � أ نف�سه ال�شيوعي احلزب ال و�أخري ًا».37 ّ ً ّ ي�سو َي كان من واجب احلزب ال�شيوعي اللبنا ّ ين �أن ّ ّ و�ص ْحبه على نحوٍ مبدئي ،كما ق�ضية رئيف خوري َ ّ ّ فعل مع مو�ضوع فرج الله احللو .ول�سوف نرى الحق ًا، بحق رئيف خوري ،التي حملتها ال�ص َفحات الظاملة ّ � ّأن َّ «الطريق»ّ � ،إب��ان عام 1950على وجه اخل�صو�ص، كانت جارحة وم�س ّفة ،وتركت �أثر ًا غائر ًا يف نف�س رئيف، ول�سوف نعر�ضها بالتف�صيل الحق ًا .ف�أن ّتتهم �إن�سان ًا راقي ًا وع�شوائي ظلوم اعتباطي أملعي ًا ،ب�شكل منا�ض ً ال متفاني ًا � ّ ّ ٍّ ُم ْغر�ض ،على �أ ّنه عميل ،هكذا بكلّ ب�ساطة ودناءة ،فهذا عمل هو �أكرث من جرمية� ،إ ّنه اال�ستباحة املطلقة لتاريخ ّ واحلط متميز ،بغية ت�شويهه نه�ضوي �أديب كبري ومفكّ ر ّ ّ إعالمية من ن�صاعته و�سطوعه .وخالل هذه الفربكة ال ّ احلزبية �ضد رئيف ورهطه من املث ّقفني� ،ساقت املاكينة ّ ّ التيتوية ـ �إن كانت ت�ستوي على �أ ّنها تهمة! لهم تهمة ّ ُ عدة تقاطعت عهدذاك .فهناك قرار ونح�سب � ّأن �أمور ًا ّ بحق فل�سطني ،وقد �أثار بالت�أكيد التق�سيم الذي �صدر ّ يف �صفوف احلزب �إرباك ًا؛ فرئي�سه فرج الله احللو كان ال�سوفياتي الذي يتناق�ض مع �سيا�سة �آ�سف ًا للموقف ّ الفل�سطينية بطبيعة للق�ضية احلزب التي كانت منا�رصة ّ ّ َ ومر بنا ما حلّ بفرج الله من ت�سفيه وا�ضطهاد الأحوالّ . من خالل «ر�سالة �سامل» .ورئيف �أي�ض ًا كان من ر�أي فرج الله بالت�أكيد .وقد ح�صل اخلالف الط ّنان بني �ستالني وتيتو ،الذي �أف�ضى �إىل طرد تيتو والرفاق اليوغ�سالف ُ املوجهة �إىل تيتو هي ممية .وكانت التهمة َّ من �صفوف الأ ّ القومية؛ فهو مل ميتثل لأَوامر �ستالني ،و�سعى �إىل النزعة ّ اليوغ�سالفية، اال�شرتاكية خا�ص بالتجرِ بة �شق طريق ّ ّ ّ ّ الذاتي للم�صانع. قائمة على الت�سيري ّ التيتوية حكاية ّ تكونت من كانت يوغ�سالفيا ،بعد معاهدة فر�ساي ،قد ّ قوميات ،لكلٍّ منها تاريخها عدة واليات م�شتملة على ّ ّ لكن توحيدها جرى على نحوٍ فيه �إكراه، الوطني البعيدّ ، ّ َكية ل م ة املركزي يوغ�سالفيا «وكانت تيتو: يقول لهذا ّ َ ّ بدايات
العدد |5ربيع 2013
ير�أ�سها مغت�صب �أكرث منه ملك ًا ،يحيط به جماعة فاقدة الأَخالق ،ج�شعة مثله �إىل الك�سب والرثاء».38 اال�ستبدادي والدليل الفا�ضح على ه��ذا احلكم ّ �شيوعي ًا من املجل�س الرجعي �أ ّنه جرى طرد 58نائب ًا ّ ّ ِ احتلّت يوغ�سالفيا من ق َبل الوطني دفعة واحدة .وعندما ُ ّ ال�شيوعيني عند ة الوطني ألة س� للم� أمثل ل ا إن � ف ، النازي احللّ ّ ّ ّ ّ اليوغ�سالف كان بطرد املحتلّ ،وباحل�ؤول يف الآن نف�سه وم ْن حولها من �أُجراء وخونة .وهكذا َكية َ دون عودة املَل ّ اليوغ�سالفية ،كما ال�شعبية االحتادية اجلمهورية ُبنيت ّ ّ ّ ّ قومية ينبئ ا�سمها على نحو احتادي ،بحيث تتك ّفل كلّ ّ ّ بتطورها ويف الوقت نف�سه بتالحمها مع �أُ�رسة يف االحتاد ّ اليوغ�سالفية .ويرى تيتو � ّأن هناك ثالثة �أَنواع ال�شعوب ّ ديكتاتورية احلاكم املطلق� ،ش�أن فرانكو الديكتاتورية: من ّ ّ وديكتاتورية الر�أ�سمال الفاح�ش الطامع يف �إ�سبانيا. ّ ّ الطبقي بقناع ويغطي فح�شه اال�ستعماري، بالتو�سع ّ ّ ّ ديكتاتورية الربوليتاريا وهناك الكاذبة. ة الدميقراطي من ّ ّ أقلية أكرثية ال�ساحقة من ال�شعب ّ «ديكتاتورية ال ّ ّ �ضد ال ّ نت �رضورتها على �أثر ثورة �أكتوبر وقد امل�ستثمرة. تبي ْ ّ (ت�رشين) ،لتحقيق تعاليم مارك�س و�إجنلز ولينني و�ستالني، الثورية من االعتداء وللمحافظة على االنت�صارات ّ 39 العمال النا�شئة» .وهناك يف مقالة أجنبي على دولة ّ ال ّ تيتو �أمران جديران بالتو ّقف عندهماّ � .إن وجود االحتاد ال�سوفياتي بنظامه وجناحاته الكربى قد و ّفر ال�رشط ّ اجتماعي �أف�ضل يف «نظام لن�شوء ، ا وعملي ا نظري الالزم، ً ً ّ ّ ّ املهم ،ونح�سب �أ ّنه كلّ بلد من البلدان»ّ � .أما الأمر الثاين ّ ال�رشارة التي كربت بعد ذلك ،فهو ت�أكيد تيتو � ّأن طريق االجتماعي اجلديد ال مياثل طريق كلّ بلد لبلوغ النظام ّ املارك�سية ثورة �أكتوبر ،وخالف ذلك هو خروج على ّ التطور اخلا�صة ،و�صفة «ولكن ال�رشوط والديالكتيك. ّ ّ ّ اخلا�صة للو�صول �إىل خلق الداخلي ،تعينّ �أي�ض ًا الطرق ّ ّ ُ اجتماعي �أح�سن يف كلّ �أ ّمة وكلّ حالة ،ويف بالدنا، نظام ّ 40 الدميقراطية للو�صول �إىل ال�شعبية» . ّ ّ هذا ما �أ�سعفتنا به جملّة «الطريق» للوقوف على تفجر اخلالف ال�شنيع بني جوزف ٍّ ن�ص لتيتو .ولكن عندما ّ �ستالني وبروز تيتو ها هي املجلّة نف�سها� ،أي «الطريق»، ال�سوفياتية، تزودنا مبقالة منتزعة من جملّة الدرا�سات ّ ّ عنوانها :تاريخ خيانة ،تيتو وع�صابته .وم �� ّؤدى هذه املقالة العجيبة � ّأن تيتو و�أَعوانه هم عمالء لال�ستعمار، يف، وقد ت�سلّلوا �إىل قيادة احلزب ال�شيوعي اليوغ�سال ّ ّ يدعون تنظيم املقاومة البا�سلة الطاحنة �ضد املحتلّ وهم ّ
ال�سوفياتية: ّ «تاريخ خيانة ،تيتو وع�صابته» ،جم ّلة الطريق� ،س،10 ع�( 2شباط ،)1951 �ص .49 – 44 « 42تاريخ خيانة، تيتو وع�صابته»، �ص .50جم ّلة الدرا�سات ال�سوفياتية. ّ 43املرجع نف�سه � 4أو�سكار دافت�شو: 4 «يف زيارة �أَن�صار ماركو�س»، �ص .147
186
النازي ،يف حني كانوا على �صلة م�شبوهة بالغ�ستابو ّ احلزبيني يف حركة املنا�ضلني خرية من ّ�صوا ل وتخ ، ين الأملا ّ ّ َ أملانية عام ،1943 الأن�صار؛ وقد ا ّت�صل تيتو بالقيادة ال ّ إنكليزية كذلك كان لع�صابته ات�صال بالقيادتني ال ّ 41 وال أمريكية وتعاون حافل باجلرائم والتخريب « .وبعد ّ ِ ال�سوفياتي ،مل يعد يف حترير يوغ�سالفيا ،من ق َبل اجلي�ش ّ التيتوية �أن تعمل ِجهار ًا .وا�ضطرت، ا�ستطاعة الع�صابة ّ حتت �ضغط اجلماهري ال�شعبية� ،أن توافق ،يف الظاهر، الدميقراطية التي متّت يف البالد .ولكن على الإ�صالحات ّ الية، ال�شيوعية ملّا ف�ضحها مكتب الأَنباء للأَحزاب ّ والعم ّ ّ يف حزيران ،1948قامت بانقالب مناه�ض للثورة، الدميقراطي .و�رسعان وانتزعت يوغ�سالفيا من املع�سكر ّ القومية ما اجتازت زمرة تيتو جميع مراحل اخليانة ،من ّ الفا�شي�ستية اخلال�صة ،و�أقامت يف البورجوازية� ،إىل ّ ّ 42 � ة ع�سكري ة ديكتاتوري البالد إرهابية» . ّ ّ ّ الع َجب ،ل ّأن حملة ال�شتائم التي �سنوردها وميلأنا َ �ضد تيتو وع�صابته ،تذكّ رنا مبا �ساقه كور�س الآن ّ �ضد رئيف أخ�ص املدعو و�صفي الب ّني، ّ احلزب ،وبال ّ خوري ورفاقه ،من �شتائم تكاد تكون متطابقة ،مع اختالف املو�ضوعني واملوقعني واحلالتني! «� ّإن حكومة ال ع�صابة من ال َق َتلة واجلوا�سي�س، بلغراد احلالية لي�ست �إ ّ ّ ال �أداة يف يد الرجعية تعمل مل�صلحة العاملية ،ولي�ست �إ ّ ّ ّ َ اال�ستعمارية و�ساط ل أ ا تنتهجها التي ة العدواني ال�سيا�سة ّ ّ يف الواليات املتحدة و�إنكلرتاّ � .إن حكّ ام بلغراد ،الذين أمريكيني، ي�شكّ لون جبهة واحدة مع دعاة احلرب الإنكلو � ّ و�ضد �ضد حركة �أن�صار ال�سلم، يقومون بعمل ّ تخريبي ّ ّ الدميقراطية و�ضد بلدان الية، ال�شيوعية الأَحزاب ّ ّ ّ والعم ّ ّ 43 و�ضد االحتاد ال�شعبية، ال�سوفياتي» . ّ ّ ّ وكانت العبادة ل�ستالني العظيم هي ال�سائدة ،وبالتايل يتجر�أ على خمالفته ينهل عليه �سيل التهم اجلاهزة فم ْن َ ّ خ ر ف هو بكدا�ش وخالد الرائجة. والنعوت �ستاليني ،ين ّفذ َ ٌ ْ ّ القومي عندنا أن ش� �أَوامر مو�سكو ،مهما تكن جمحفة بال� ّ كر�سوا مفهوم الأَنظمة ومغلوطة .وال�سوفيات هم الذين ّ َ مية بني ظهرا َن ْينا؛ ونعلم � ّأن هذه الأنظمة باعت ّ التقد ّ ع�سكرية ا�ستهلكت بديكتاتوريات فل�سطني ،وطحنتنا ّ ّ ن�صف قرن من �أَعمارنا .وال ريب � ّأن رئيف ًا و�صحبه مر بنا ،من عبادة الفرد؛ �سواء على النطاق عانوا ،كما ّ ُ ممي متم ّثلة ب�ستالني� ،أو على النطاق املحل ّّي متمظهرة الأ ّ ال باالنت�صارات ببكدا�ش .على � ّأن �ستالني كان حمم ً َّ الظالمية؛ يف حني الفا�شية الع�سكرية الكا�سحة ،وبدحر ّ ّ ّ بدايات
العدد |5ربيع 2013
الذاتية املخزية، � ّأن بكدا�ش يحتقب تاريخ ًا من ال�سرية ّ بخا�صة، ومن االفرتاءات على رفاقه ،وعلى املث ّقفني منهم ّ الذين كان يخ�شى �صعودهم فريميهم بالتهم القبيحة و�ص ْحبه قد مالوا املفتعلة .ال غرابة �أن يكون رئيف َ �إىل تيتو ،ربمّ ا؛ �أو �أ ّنهم مل ي�ست�سيغوا طرد تيتو ورفاقه، النازي يف وخ�صو�ص ًا � ّأن تيتو كان بطل املقاومة �ضد ّ اال�شرتاكية .و�صار ووحد يوغ�سالفيا حتت راية بالده، ّ ّ اال�شرتاكية ،باعرتاف تيتو رمز ًا �ساطع ًا ليوغ�سالفيا ّ ال ومعادي ًا اجلميع؛ ثم غدا بني ليلة و�ضحاها خائن ًا وعمي ً ٍ بعدئذ. ا�شرتاكي؛ وهي ُتهم ثبت بطالنها لكلّ ما هو ّ قومي؛ ورئيف و�صحبه كانوا فمو�ضوع تيتو فيه جانب ّ العربية، قومي ًا غائر ًا ،هو تق�سيم فل�سطني يعانون جرح ًا ّ ّ ومر بنا � ّأن رئيف خوري ترجم كتاب توطئة َ ل�ض َياعها! ّ قدم له .وقد فعل ذلك «يف زيارة �أَن�صار ماركو�س» ،كما ّ املركزية يف احلزب؛ وح ّثه، بناء على طلب من اللجنة ً ّ كما �أوردن��ا �سابق ًا ،خالد بكدا�ش على �إمتامه ون�رشه. والكتاب جميل وحافل ،ل ّأن مرتجمه ،رئيف خوري، والعربية ،وبالتايل فال�سبك إنكليزية مقتدر يف اللغتني ال ّ ّ عربية راقية .ومن اللغوي م�رشق واملعاين م�صوغة بلغة ّ ّ � ٍ أ�سف � ّأن رئيف ًا مل يرتجم كثري ًا من الكتب ،فر�صيده منها نتحدث عنه. يل الذي خم�سة كُ ُتب ،مبا فيها الكتاب احلا ّ ّ أدبية جلدير بنقل الروائع .ومع َ وم ْن كان مبثل كفاءته ال ّ � ّأن بكدا�ش هو الذي ح ّثه على �إمتام ترجمة الكتاب دون �إبطاء والعمل على طبعه ،كما �أورد �سابق ًا ها�شم الأمني؛ بانتهازيته، فال غرابة �أن يكون بكدا�ش نف�سه ،مندفع ًا ّ عمل على ا�ستعمال الكتاب �سالح ًا �ضد رئيف خوري، تفجر تريث يف �إكمال ترجمة الكتاب عندما ّ الذي ّ املح�صلَة ،فالكتاب اخلالف بني �ستالني وتيتو .لأ ّنه ،يف َّ هو يف �صالح الرفاق اليوغ�سالف الذين كانوا ي�ساندون ٍ رفاقي .وكان هناك عون وميدونهم بكلّ الأَن�صار اليونان ّ ّ حتى � ّإن الكتاب ي�أتي على ذكر تداخل بني الطرفنيّ ، 44 اليونانية، ف�صائل العمل املتطوعة يف يوغ�سالفيا . ّ ّ فالتيتوية وجهة نظر ولي�ست تهمة. على � ّأي حال ّ أ�ساوية للخالف بني �ستالني وتيتو� ،أن وكانت النتيجة امل� ّ �أف�ضت �إىل اندحار الأَن�صار اليونان وجي�شهم ،اجلي�ش اليونانية الرجعية ين الذي حارب الدميقراطي اليونا ّ ّ ّ ّ إنكليزي امل�ساند لهما. امللكي واالحتالل ال واجلي�ش ّ ّ أملاين. حل باليونان االحتالل ال و�سبق �أن ّ إيطايل فال ّ ّ وهكذا دفع الأ َن�صار اليونان ثمن اخلالف بني �ستالني تاريخية له! �ضحية وتيتو ،وكانوا ّ ّ
ال 186العراق مثا ًال وحنا بطاطو دلي ً
و�ضاح �رشارة
208مخس أطروحات يف الماركسية المعارصة
فريدريك جامي�سون
213معىن النظرية يف الناشط الثوري
�سالمة كيلة
ال: العراق مثا ًال وحنا بطاطو دلي ً
بناء الدولة الوطنية العربية يف قبضة
جهاز االستيالء العصيب الريعي والبريوقراطي
وضاح رشارة -1تقدمي العراق و�سوريا وم�رص من اليوم اىل االم�س كاتب من لبنان يف ثاين يوم غزو القوات العراقية دولة الكويت مطلع �آب � 1990أبلغ القائد العام للقوات امل�سلحة الغازية ،وهو �صدام ح�سني ،رئي�س اركان اجلي�ش الفريق نزار اخلزرجي �أنه� ،أي القائد العام« ،حرر» الكويت بـ«القطعات التابعة (للقائد العام) مبا�رشة ،ولي�س بقطعاتكم» .وهذا رواه اخلزرجي نف�سه اىل احدى ال�صحف العربية الدولية غداة �سنة على غزو القوات املتحالفة ،االمريكية واالوروبية، العراق ،ودخولها بغداد يف �آذار .2003فالقائد هو �أمني عام احلزب الغالب ،ورئي�س الدولة ،ورئي�س جمل�س ال يعلو الدولة ال��وزراء ،ر�سمي ًا و«د�ستوري ًا» .وهو فع ً وهيئاتها و�إداراتها و�أجهزتها ،وفكرتها �إذا جازت العبارة، من طريق حر�سه اجلمهوري اخلا�ص .ويخو�ض احلرب اخلارجية االقليمية – وهي �رسعان ما انقلبت دولية، من وجه ،و�أهلية (حني انفجار االنتفا�ضة «ال�شعبانية» ال�شيعية ،وقيام �شيعة الفرات اال�سفل على القوات ال�صدامية املن�سحبة من الكويت) ،من وجه �آخر – بقواته اخلا�صة ،ويق�صي اجلي�ش النظامي عن عمل ع�سكري و�سيا�سي ا�سرتاتيجي هو االقرب اىل مقومات كيان الدولة و�سيادتها ،و�أ�شد القرارات تعري�ض ًا المتحانها .واحلر�س اجلمهوري ،يف عراق ذلك الوقت �أو يف �سوريا اليوم �أو يف ليبيا اال�ستيالء القذايف الطويل ،لي�س قوة خا�صة ،على ال وال معنى اللفظة الدقيق ،ال جتنيد ًا وال ت�سليح ًا وال متوي ً رتب ًا .فما ين�سبه اىل اخل�صو�ص الرئا�سي ،ويحمله عليه، هو معار�ضته بالقوات امل�سلحة وعمومها ،وحملِ القوات امل�سلحة «الر�سمية» والنظامية على كيان منف�صل وال يبعد ان يكون مناوئ ًا �أو مناف�س ًا على �أ�ضعف تقدير. ويروي نزار خزرجي ،رئي�س اركان اجلي�ش العراقي 188
بدايات
العدد |5ربيع 2013
يف االعوام ،1991 – 1987وهي االعوام االخرية من حرب العراق و�إيران ،واحتل �صدام ح�سني يف اواخرها الكويت و�أخرجه التحالف الدويل العري�ض منها� ،أن القائد العام �إياه عمد يف اثناء حرب العراق وايران اىل ف�صل ا�سلحة اجلي�ش املتفرقة واملت�ضافرة (�سالح الدبابات، �سالح اجل��و� ،سالح املدفعية )...الواحد من االخ��رى، و�س َل َخها عن قيادة االركان التي تتوجها وتن�سق عملياتها، َ وناط بالقائد العام وحده العلم بـ«كل �شيء» ،وح�رص العلم بنف�سه .ومل ي�ستثن ،بداهة ،ميدان احلرب امل�ستعرة العراقية االيرانية ،من تفريق اال�سلحة والت�سرت على جمرياتاحلرب ووقائعها .فقاتل �سالحا امل�شاة والدروع من غري تن�سيق مبا�رش وميداين مع �سالحي املدفعية والطريان ومع اال�ستخبارات ،ومن غري ابالغ قيادة االركان بخطط القتال والعمليات املزمعة واملتوقعة .فلم يخول رئي�س االركان، وهو قمة مراتب االمر ،طلب مهمة تتوالها القوة اجلوية، وحظر عليه ا�صدار �أمر مبا�رش اىل مدير اال�ستخبارات الع�سكرية .فكان «كبار» القادة الع�سكريني وال�سيا�سيني، على ما قال نزار خزرجي يف ،2004وهو يف عدادهم، تبلغهم اخبار اجلبهة وحوادثها اخلطرية ،مثل رد االيرانيني وهجماتهم عن الفاو ،من االذاعة .وعلى �شاكلة �صدام ابن عمه علي ح�سن املجيد ح�سني يف الكويت ،وقبله ،قاتل ُ «الكيماوي»ُ ، الكرد العراقيني بوحدات من اجلي�ش ال�شعبي ومقاتلني حزبيني ،وبع�ض املتطوعني الكرد ،وقطعات ع�سكرية اقتطعت من اجلي�ش النظامي «العام» .و�إىل هذا، «ا�ستقلت» هيئة الت�صنيع الع�سكري مبواردها و�أجهزتها وا�ستخباراتها وخططها ،ون�صب �صهر �صدام ح�سني رئي�س ًا عليها ،قرينة على �إخراجها من هياكل النظام و�إحلاقها بقائد «كل �شيء» العام قبل ان يهرب ال�صهر ويندم ويعود أوجزت احللقات الـ34 ويقتله عدي �صدام ح�سني بيده�( . ُ
189
التي تكلم فيها م�سعود بارزاين ونزار خزرجي و�صالح عمر العلي وحامد اجلبوري ...وعلقت عليها يف �صحيفة احلياة يف .)2004/4/9 و�ش َب ُه هذه الوقائع التي تواىل على �رسدها �أعيان َ «الدولة» العربية ال�صدامية بنظائر و�أ�شباه فَ�شت و�شاع َ قيام تون�سيني ال ِعلم بها منذ �أواخر 2010وما بعدهاُ : كرث على دولة زين العابدين بن علي ورهط زوجته، وقيام ثورة ماليني امل�رصيني على ح�سني مبارك ووارثه املفرت�ض وجمعية رج��ال االعمال «العميقة» ورجال الدولة التي ال تقل عمق ًا ،وخروج ليبيني افواج ًا بعد �أفواج على «العقيد» معمر القذايف و�أوالده وع�شريته وحلفائه، وتقو�ض جماعات �سورية على نظام و�صفه املتظاهرون ُ والنا�شطون واملقاتلون بـ«اال�سدي» ون�سبوه اىل الرئي�س و�أبيه من قبله وع�صبيتهما .وت�شرتك هذه «الدول» ،وهي انظمة ت�سلط وا�ستيالء وت�رصيف �أمري ،يف حل الدولة الوطنية واالقليمية ،وهيئاتها (ال�سيا�سية والد�ستورية) و�إدارت��ه��ا (البريوقراطية والع�سكرية واالقت�صادية واخلدمية) ،و�إذابتها جميعه ًا يف �إرادة «�سلطان» واحد وم�شيئته ،وذلك على مقادير خمتلفة ومتفاوتة.
االدارية والكهنوتية .وعلى مثال عثماين ومملوكي عريق، ت�صدر �صدام ح�سني ،ورهطه االقرب ،مراتب القوة .ولكن ّ �صدارته ال تفرت�ض ت�سل�سل املراتب ،وتعلق املراتب ال ي�شرتط �إنفاذها بع�ضها ببع�ض ،واقت�سام ا�صحابها اعما ً ا�ضطالع �أ�صحاب مرتبة �أخرى ب�إنفاذ ق�سم �أو �شطر من عمل .ف�صدارته �إمنا ركنها القوة املنف�صلة التي تتمتع بها ع�صبيته ،وي�سعه �إعمالها يف ك�رس الكتل الع�سكرية االخ��رى ،النظامية� ،أو اال�ستغناء عنها ،على ما �صنع الرجل يف «حترير» الكويت ،و�صنع ابن عمه وذراعه يف حملة االنفال على حلبجة وغريها من بالد البارازانيني. فهو «�أمري (مئة) �ألف» �أو «�أمري (�ألف) �ألف» �أو �أكرث .وهذا �سهمه �أو «ديوانه اخلا�ص» ،على قول العثمانيني يف امالك �سلطانهم التي ي�ستقل بها عن ُملك الدولة ،ويقتطعها من هذا المُ لك ،وهي جزء من غنائم جي�ش الدولة التي �سدتها .فال ت�ستقيم «الدولة الوطنية واالقليمية» يرتبع يف ّ دولة واحدة ومتما�سكة �إال من طريق ر�أ�سها ،الغالب على كتلها و�أجزائها بقوة مواردها وت�سلحها وجتهيزها هي من املوارد العامة ،ولكن ع�صبيتها وحلمتها هما ع�صبية �أمري الوالية او «الدولة» ،على قول عبا�سي ،وحلمته.
� ...صاحب الدولة العراقي ففي عراق البعث ال�صدامي ،ت�صدعت االبنية التمثيلية والتنفيذية والق�ضائية ،واالج�سام االدارية واالقت�صادية ال .وتوىل اجلهاز احلزبي والع�سكرية واالمنية ،ت�صدع ًا كام ً االمني ،وعلى ر�أ�سه قائده «االعلى» ،الت�رصيف والتدبري والبت حمل الدولة املفرت�ضة ،بعد م�صادرتها على �أدوارها ّ ووظائفها وحملها املادي واملعنوي .ودوائ��ر العالقات والروابط االهلية ،الع�شائرية واملحلية والقومية واملذهبية، واالجتماعية ،التي عجز جهاز احلزب عن ا�ستدخالها، جمدها موقت ًا ،وحال بينها وبني الت�أثري واال�ستيالء عليهاَّ ، يف �سيا�سة ال�سلطة واجراءاتها .وقمع بالقوة امل�سلحة بوادر احلياة املتململة يف عروقها وجماريها .وانتهى االمر بالرجل على ر�أ�س حزبه و«دولته» اىل ما تقدمت روايته على ل�سان قائد �أركان جي�شه يف :2004تقطعت عرى اكرث اج�سام الدولة حاجة اىل قيادة ووحدة مركزيتني، ال وقيادات �آلية وتفرق ال�سلك الع�سكري �صفوف ًا وكت ً وقطاعية من غري �صالت �أفقية �أو ع�ضوية متكاملة ومت�ضافرة ،وت��وىل التن�سيق بينها ر�أ���س �آم��ر يعلوها ويت�سلط عليها .وهو «�رشط» دوامها ،على قول مارك�س يف اجلماعة الأ�سيوية وعالقتها ب�سلطانها وحا�شيته
� ...صاحب (بع�ض) الدولة ال�سوري وما �أجنزه �صدام ح�سني وجهازه �أجنز بع�ضه حافظ اال�سد ونظامه يف �سوريا ،ومل يرد رمبا �إجنازه كله �أو على ال�شاكلة نف�سها .فهو �أبقى على بع�ض املُ�سكة الذاتية للقوات امل�سلحة ومراتبها املختلطة ،ولكنه عزل جهاز املراقبة االمنية واال�ستخبارية عن ج�سم اجلي�ش ،و�أوكل املراقبة وقدم اىل اجهزة متناف�سة ،رتبها على مراتب ودرجاتّ ، بع�ضها على بع�ض ،وربط به مبا�رشة �أقواها دور ًا .وعزل يف خ�ضم ال�رصاع االهلي الدامي «قوات خا�صة» كادت ان تكون عائلية ،فقاتلت جماعات �أهلية بع�ضها م�سلح و�سحقتها .وقاتلت قوات م�سلحة نظامية اخرى هي قوات ر�أ�س النظام� ،أي احلر�س اجلمهوري .وخلف هذا القوات اخلا�صة على حماية ر�أ�س النظام من بع�ض جي�شه ،ولي�س من جماعات �سورية منتف�ضة عليه وعلى �سلطته .وات�سعت االدارة «املدنية»� ،ش�أن احلزب اجلماهريي الف�ضفا�ض، و�ش�أن مراتب الكتل االقت�صادية وجماعات املتعلمني، لأ�صحاب الوالء اجلزئي �أو البارد ،وللعازمني على اخلو�ض يف «ال�سيا�سة» ،و�أ�صحاب مهارات تقنية .وعلى هذا، وغريه مثله ،رعت �سيا�سة اال�سد االب رعاية ي ِقظة ِ وحذرة هوام�ش ا�ستقالل بع�ض املرافق عن قيادته املبا�رشة
بدايات
العدد |5ربيع 2013
واخلا�صة ،وحر�صت على الت�سترّ على «ديوانه اخلا�ص» بوا�سطة تقدمي وت�أخري معقَّدين وخمتلطني وزعا املكا�سب واالدوار ،والظاهر واخلفي ،على نحو يع�صى االقتفاء والتق�صي .و�أ�سدل على هذا كله خطابة قومية و�رصاعية وقواه انتهاج وعاملثالثية� ،صورية ومعمية .وفاقم االلتبا�س ّ �سيا�سات خارجية ،اقليمية ودولية� ،أرادها الوجه البارز من النظام ورايته ،حاذرت على الدوام احل�سم .وترجحت ف�شبهت لأ�صحاب الآراء مناح ومنازع مت�ضاربة. بني ٍ َّ واالهواء املتناق�ضة تعليل هذه ال�سيا�سات على ح�سب �آرائهم و�أهوائهم (فذهب باتريك �سيل ،منذ نحو ال�سنة، اىل ان ت�شدد ب�شار اال�سد الفل�سطيني الوطني ،و�أبيه من قبله ،مل يخرجه عن طلب املفاو�ضة وتو�سيط الو�سطاء، بينما ذهب ناه�ض حرت ،العروبي ال�صارم ،يف اال�سبوع نف�سه ،اىل ان مرونة النظام ال�سوري البعثي ومفاو�ضاته مل َت�ؤُ ْل يوم ًا به اىل توقيع اتفاق وابرامه). الفرق «النا�رصي» امل�رصي وال�صيغة العروبية الثالثة يف اخلط البياين املتدرج هذا، �أو عليه ،هي «النظام النا�رصي» و�أط��واره الكثرية منذ مراحله االوىل ،وتقلبه بينها ،اىل حني �سقوط الرئي�س ال�سابق ح�سني مبارك .و�أجمل متظاهرو احلركة امل�رصية الدميوقراطية واملدنية (يف حلتها االوىل) هذه االطوار، وجمعوها يف «�ستني �سنة» احت�سبوها جملة مت�صلة، وغ َّلبوا وحدتها – و�سمة هذه الوحدة هي ت�سلط الرئا�سة وجهازها على احلكم والتدبري و«�إرادة ال�شعب» – على فروقها ومنعطفاتها .واحلق ان هذه ال�سمة ،وهي جتمع يف ب��اب م�شرتك مراحل االنظمة امل�رصية امل�رصية و«النا�رصية» املتعاقبة ،جتمعها كذلك اىل النظامني اال�سدي ال�سوري وال�صدامي العراقي كذلك .وال ينفي الباب امل�شرتك ،او ال�سمة امل�شرتكة ،الفرق ال�رصيح. ُ وما بانت به االنظمة امل�رصية «النا�رصية» من النظام ال�سوري اال�سدي ،والنظام ال�صدامي العراقي ،يفوق الفرق بني النظام اال�سدي وبني النظام ال�صدامي .فاالوىل �أقرت للأبنية ال�سيا�سية ،ولو من طرف الل�سان ،وللأبنية االدارية والع�سكرية واالجتماعية والتقنية ،با�ستقالل معايري عملها الداخلية بع�ض اال�ستقالل .فلم تعمد اىل حتطيمها وتقوي�ضها قبل �إحلاقها يف خدمة جهاز الرئي�س القائد و�إراداته ،على رغم «تطهريها» ال�سيا�سي واالداري واالجتماعي الوا�سع وامل�ستمر للطاقم املت�صدر ال�سابق. وهي حر�صت ،يف مرحلتها االوىل على ا�ضعف تقدير،
190
بدايات
العدد |5ربيع 2013
االمريكية متثال �صدام ح�سني ال�صامد على قاعدته ،عنوة، يف �ساحة الفردو�س قرينة على ا�ضطالع الغازي االجنبي وحده بعزل جهاز احلاكم ور�أ�سه ،ووقف اجلمهور ،ما عدا �شقه الكردي النازع اىل تقرير م�صريه متحفظ ًا �أو متفرج ًا ،ومتوج�س ًا يف الأحوال كلها .ومل تتمرد القوى املحلية واال�سالمية الليبية امل�سلحة على «العقيد» املزمن �إال بعد �أن �أمنت تقييد القوات االجنبية ،البحرية واجلوية، ذراعه الع�سكرية .ويف كلتا احلالني ،خرجت اجلماعات االهلية من عباءة النظام املت�سلط وهي مقيمة على �صفتها .و«مقيمة» غري دقيقة :فال�صفة االهلية ،الع�شائرية واملذهبية والدينية واملحلية والقومية (االتنية) وهي فروع على باب �أو �أ�صل �أهلي ،كانت امللج�أ الذي احتمت به اجلماعات و�أوى �إليه االف��راد ،بوجه ت�سلط اجلهاز امل�ستويل .وتو�سل اجلهاز ب�أبنية الدولة ،وحملها املركزي واجلامع من اجلماعات واملرافق االجتماعية واالقليمية، اىل م�صادرة «�أهل ال�ضعف» – وهم من �أ�ضعفت عالقات ال�سوق الر�أ�سمالية ع�صبيتهم فنزحوا اىل املدينة وزاولوا ال م�أجور ًا يف مرافقها ،ودر�سوا يف املدار�س اجلديدة، عم ً وتزوجوا من غري قرابتهم وم ّلتهم ،وحت ّزبوا بغري ع�صبية الأهل – على مواردهم ونفوذهم وقوتهم .ولعل ال�سبب الراجح يف االنكفاء هو ا�شتباه موقع الدولة (العربية) يف عهدة اال�ستيالء اجلهازي ،الع�شائري (الع�صبي) والبريوقراطي (الع�سكري االمني والإداري) .فهجم اجلهاز امل�ستويل من موقع الدولة الوطنية االقليمية، ومبوارد قوتها وعوائدها ،على اجلماعات االهلية والقوى ال�سيا�سية واالجتماعية ،و�أحلق �أبنية الدولة البريوقراطية بع�صبية اهلية وخ�صو�صية :القذاذفة والتكارتة والقرادحة وحمل توريث االبن (البكر �إذا و�ضباط اجلي�ش امل�رصيُ ، بقي حي ًا ورغب يف املرياث) بالن�ص واجلهر� ،أو بعزمية وقول خافت ،على حق ثابت وغري منازع .واحت�سب قدر ًا ان يكون احلاكم التايل عدي �صدام ح�سني وبا�سل �أو ب�شار (وولد ب�شار حافظ ًا الثاين) وجمال ح�سني حافظ اال�سد َ مبارك و�سيف اال�سالم معمر القذايف ...وذلك يف اطار د�ستوري ،ويف رعاية جمال�س �شعب منتخبة.
على دمج خا�صِّ النظام ،وحلقته القريبة ،يف عام �أو عمومية وطنية و�شعبية ،ويف عامية �أهلية �صبغت احلياة ت�شرتك هذه «الدول» [من النمـــــــــــــــــــــــــــــــط البعثي العراقي وال�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــوري]، وهي انظمة ت�سلط وا�ستيالء وت�صــــــــــــــــــــريف �أمْ ري ،يف حَ لّ الدولة الوطنية واالقليميــــــــــــــــــــة، وهيئاتها (ال�سيا�سية والد�ستورية) و�إدارتهـــــــــــــــــا (البريوقراطية والع�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــكرية واالقت�صادية واخلدمية) ،و�إذابتهـــــــــــــــــــــــــــــــا جميعه ًا يف �إرادة «�سلطان» واحد وم�شــــــــــــــــــيئته امل�رصية ب�صبغتها اىل اليوم .وغلب ُة العمومية الوطنية والعامية االهلية �أدت دور ًا راجح ًا يف �إظهار «االنحراف» الالحق عن معياري العمومية الوطنية والعامية الأهلية، وعن مرتتباتهما املتفرقة من م�ساواة معنوية ،وامتثال (�شكلي) لقواعد االنتداب والتكليف ،و�إحجام عن غلق دائرة اجلهاز غلق ًا حمكم ًا ...فقيا�س ًا على املعيارين -وهما انتهى بهما االمر اىل الذواء وانق�سمت اجلماعة الوطنية على وجوه �أهلية وحملية واجتماعية انق�سام ًا عميق ًا، وعلى مرتتباتهما -ال ي�صح �إنزال م�رص «النا�رصية» ال منزلة �سوريا ونظامها اال�سدي ،وال منزلة العراق ونظامه ال�صدامي باالحرى .وال حمل للمقارنة بني م�رص هذه وبني ليبيا ونظامها القذايف« ،النا�رصي». اخلا�ص ديوان ُ ّ وهذه احلال لي�ست بعيدة من م�صائر حركات االحتجاج الدميوقراطية (يف اوائلها) واملعار�ضات يف البلدان االربعة، مطلع العقد الثاين اجلاري من القرن الواحد والع�رشين. َ فحيث حلت «الدولة» يف احلاكم وجهازه القريب ،وت�سلط هذا على مرافق ال�سلطة ،و�أخرج «ديوان خا�صِّ ه» من �أبنية ال ،وعار�ض الدولة املفرت�ضة م�شرتكة ومتما�سكة ،ولو �شك ً هذه االبنية بـ«ديوانه»� ،أطف�أ «القائد» حماوالت االن�شقاق واملعار�ضة ،و�سحقها يف املهد .فلم تفلح حماولة انقالب ع�سكري واح��دة على �صدام ح�سني وجهازه املركب واملرقّع واملجلوب من م�صادر متنافرة .وكذلك حال معمر القذايف طوال � 42سنة تامة .فـ«اقت�ضى» التخل�ص من الرجلني ونظاميهما غزو ًا ع�سكري ًا اجنبي ًا مدمر ًا� ،ضخم ًا ال ،يف احلال االوىل .ومل ت�سهم حركة داخلية ولو وطوي ً �ضئيلة يف �إ�سقاط ر�أ���س اجلهاز .وقام انتزاع الرافعة
�أبنية دولة ...متحفظة وعلى خالف العراق ،وعلى ال�ضد من م�صادرة اجلهاز ال�صدامي �أبنية الدولة واحتكاره الت�رصف بها ،و�سع حركة �شعبية وعامية م�رصية عري�ضةُ ،عزِل رئي�س اجلهاز امل�ستويل على �أبنية الدولة منذ 29عام ًا يف غ�ضون 3
191
بدايات
العدد |5ربيع 2013
�أ�سابيع من التظاهر واالعت�صام والتعبئة .واىل النهو�ض ال�شعبي احلازم واملر�صو�ص ،وهو قرينة قوية على دوام جمتمع ال يفتقر اىل الروابط الداخلية ومل تتقا�سمه ُ حتفظ بع�ض ابنية الدولة عن الع�صبيات احلزبية ،ا�ضطلع بع�ض �سيا�سات ح�سني مبارك وعزمه على توريث ابنه على وجه اخل�صو�ص ،بدور راجح يف تخلي الرئي�س فت�ضافر على الع�سكري الثالث وتنحيه عن الرئا�سة. َ جهر �أجزاء متفرقة من املجتمع امل�رصي االقامة �أو العزل ُ املتنازع وبع�ض هيئاته «الو�سطى» امل�أزومة رف�ضها تبعات دوام اجلهاز احلاكم منذ «� 60سنة» ،وحتفظ «جهاز القوة» االول و�أبرز �أبنية الدولة «النا�رصية» عن ت�أييد الرئي�س الآفل وقمع حركة املعار�ضة باحلديد والنار والبلطجية وذر الفنت .وحركة املجتمع وا�ستقالل قيادة القوات امل�سلحة بالر�أي (و�إ�صغا�ؤها اىل م�شورة امريكية ال يبطل اال�ستقالل هذا) دليالن على دوام حيوية حقيقية يف اجل�سم الوطني اجل�سم العراقي املت�صدع ،واملتناثر امل�رصي .وهذان �أعوزا َ ال و�أجهزة «جمتمعات» �أو جماعات �أهلية كثرية وكت ً متباعدة ومن غري رابط. وترجحت �سوريا الرازحة حتت وط�أة اجلهاز اال�سدي بني احل��د العراقي (ال�صدامي) واحل��د («النا�رصي») امل�رصي .فلم يعجز ال�سوريون ،بعد نحو ن�صف القرن من �أنظمة بعثية مت�صلة على هذا القدر او ذاك ،عن املبادرة اىل حركة احتجاج بطيئة دابة ومتعاظمة االت�ساع على ت�سلط «ع�شرية اال�سد» �أو «عائلته» ،على قول معار�ضني را�سخني ،وعلى �سو�س جهازه االمني والع�سكري عموم �أهايل �سوريا بالإذالل والتهمي�ش وامل�صادرة .ومن وجه َ التما�سك متا�سكت �أجهزة القوة واالدارة واالعالم �آخر، ْ الذي يقي حلق َة احلكم العليا التف�سخ �أو ُيق ِْدر هذه االجهزة على القيام بالتحكيم يف اخلالف احلاد وامل�ستع�صي .ولكن املبادرة اىل حركة االحتجاج ،من تظاهرة درعا يف االيام االوىل اىل اعت�صام �ساحة ال�ساعة بحم�ص يف ختام الف�صل االول فاالحت�شاد يف �ساحة العا�صي بحماة بعدها ب�أيام ،مل تكن جاحمة ،وانتقلت مرتددة ومتح�سبة من اجلنوب احلوراين (غري الدرزي) الزراعي والبدوي «املزدهر» وم�صدر بع�ض «رجاالت» النظام ال�صوريني والديبلوما�سيني االداريني (مثل فاروق ال�رشع وفي�صل املقداد) ،اىل الو�سط ال�سوري والعمود الفقري املديني والتاريخي ،على قول مرمي عباب�سة و�سرييل رو�سيل وحممد الدبيات ،يف حمور دم�شق – حم�ص – حماة – حلب ومقارنة باملحافظات ال�ساحلية وحمافظات
اجلزيرة («�سوريا حا�رض ًا»� ،أكت �سود ،باري�س.)2005 ، فتعرثت على �أبواب القطبني ،الدم�شقي واحللبي وف ََ�شت يف الو�سط قبل �أن تتغلغل يف �أرياف ال�شمال وال�رشق، وتعود منها اىل املدينتني الكبريتني املتحفظتني واملحميتني، عنوة .فو�سع النظام ،وكتلته الع�شائرية االهلية و�أجهزته وحلفاءه و�صنائعه ،التما�سك قبل التمرت�س والتخندق يف احلاميات وال ٌثكن والنواحي ،و�شن الهجمات ال�رش�سة على مواقع حركة املعار�ضة ،وح�صارها وتقطيع �أو�صالها. ولكن العنف الهائل مل يفلح يف خنق احلركة .وهي ا�ستقوت بع�ض ال�شيء بت�ساقط �أجزاء من «الدولة» اال�سدية اجلي�ش النظامي وان�شقاقها عن اجلهاز املت�سلط .فهجر َ نحو ثلثه .وفرقه الباقية (اىل �آذار )2013والفاعلية هي امل�سلحة ت�سليح ًا اخت�صا�صي ًا ومركزي ًا «�سوفياتي ًا» (الطريان احلربي وال�صواريخ يف املرتبة االوىل) ،على �شاكلة فرق القوات العراقية ال�صدامية ،ويلحمها بر�أ�س احلكم ويلحم بني �أفرادها ع�صب �أهلي ومذهبي م�شرتك. وتقو�ض �شطر انق�سام املجتمع والدولة و�أجهزتها وحال ُ ُ من الدولة عليها والتحاقه باالن�شقاق االخلي ،بني اقطاب املجتمع الدويل واملجتمع االقليمي وبني االنخراط املبا�رش والعلني يف احلروب ال�سورية وفرقها الكثرية البقاع َّ وجمعه املرك ُب ال�سوري، والألوان وامل�صالح« .فحمى» ُ ا�ستيالء جهاز ع�شائري وبريوقراطي (على غري ا�ستيفاء) َ البلد من �دده، � وجت منهك جمتمع يف وبقاء رمق حياة َ التدخل الع�سكري الدويل وابتاله بحروب �أهلية طويلة االمد تت�صدرها حرب جهاز الدولة امل�ستويل على رعاياه ومعار�ضاته وجماعاته االهلية. –2حنا بطاطو ...ع�صبية الدولة ويف مر�آة هذا الو�صف اال�سا�سي (على معنى تناوله اال�س�س واالركان ) ،والنمذجة املوجزة التي تبعته ،بع�ض ظالل خ�ص به حنا بطاطو ()2000 - 1926 العمل الذي ّ وو َ�س َمه بعنوان الفل�سطيني املقد�سي االمريكي ،العراقَ ، �أ�ضيق من مو�ضوعاته هو «العراق/الطبقات االجتماعية واحلركات الثورية من العهد العثماين اىل قيام اجلمهورية» ( ،1978برن�ستون يونيون بر�س ،الرتجمة العربية ،1990بريوت ،1990 ،م�ؤ�س�سة االبحاث العربية، ال. توالها عفيف الرزاز) يف 3كتب �أو �أجزاء و 74ف�ص ً وع َمل بطاطو ،على زعمي ،قد ي�صح و�سمه بت�ضمني و�سم َ كتاب �سابق وذائع ال�صيت هو «تاريخ �أفول االمرباطورية غيبون الربيطاين ،على ان الرومانية و�سقوطها» الدوار ّ
192
بدايات
العدد |5ربيع 2013
جوهري ومنف�صل �أو مرتبة ،بل تتوىل �إجراء العقد واحلل بوا�سطة قواعد انتاج وتوزيع وترتيب تقرها ،وتتعهد �إنفاذها ،وت�شمل «الرعايا» كلهم وتعرفهم ،وتوحدهم على ا�شتمالهم .فهم رعايا الدولة الوطنية االقليمية لي�س من طريق جماعاتهم وبالدهم ،من قبل و(رمبا) من بعد ،و�إمنا من طريق دخولهم حتت قواعد الإجراء العامة واملفرت�ضة. وما �صنعه �صاحب «العراق/الطبقات االجتماعية»... وينبه ،ووراء رواي��ة تقليدية دقيقة من غري ان يعلن ّ ر�صعها بِ�سري وترجمات وبيانات �إح�صائية �ضعيفة ّ الداللة -هو تعقّب انقالب عالقة الدولة باجلماعات االهلية و«جمتمعها» ،من غري افرتا�ض ف�صل جوهري يرتتب على التعريفات واحل��دود فوق ما يرتتب على
يحل «دولة العراق» حمل «االمرباطورية الرومانية» .فما ال يتناوله العمل التاريخي واالجتماعي الكبري يتقيد فع ً ب�أجزاء العنوان ،ولكنه يفي�ض عنه ويعالج ما بني الطبقات االجتماعية من منازعات ومهادنات وائتالفات ،وما يعتمل داخلها من �شقوق وخالفات ،وي�صيبها هي و�أحوالها وعالقاتها حني تبادر� ،أو تنخرط بع�ض جماعاتها وكتلها يف «ال�سيا�سة» ،وتتوىل �إدارة الدولة �أو بع�ض مرافقها �أو تعار�ض هذه االدارة وتنكرها... ولعل عقدة املعاجلة التاريخية واالجتماعية يف عمل حنا بطاطو هي ميزان عالقات القوى االجتماعية ،وهذه فوق الطبقات �أثر ًا و�أو�سع منها و�أكرث تعقيد ًا ،بجهاز احلكم و�أبنيته ،وميزان عالقات اجلهاز واالبنية بالقوى االجتماعية واجلماعات .وميزان العالقات ينبغي حمله على املنازعة. وغاية املنازعة يف هذا ال�سياق ال�سيا�سي االجتماعي (املجتمعي) هي اال�ستيالء و«الغلبة يف التكوين» (ابن خلدون) ،وعليه ،وحيازة الع�صبية الغالبة الدولة حيازة جامعة ومانعة .وامل�صطلح اخللدوين ال يت�سرت وال يراد به الت�سرت على املدلوالت اجلديدة والطارئة على الفاظ امل�صطلح :فالع�صبية لي�ست اليوم حلمة القبيل الن�سبية والدموية ،ال احلقيقية وال املتوهمة والدائرية (فتتما�سك الع�صبية يف احلال االخرية باال�ستيالء والرتبع يف ر�أ�س الدولة ،وهي �سبق لها ان تولت تعليل اال�ستيالء وابتدائه). وبني معنى الع�صبية «االول» وبني معناها اليوم وقائع تاريخية واجتماعية �ضخمة لي�س �أقلها تبلور ال�سوق الر�أ�سمالية وت�صدر الدول – االمم العالقات الدولية و�سلعها وتداولها، ّ ال�سيا�سية والع�سكرية والتجارية ،وانقالب ميزان القوى بني الدول – االمم وبني ال�سلطنات و�أقوامها وبالدها ،و�شيوع املدن واملوا�صالت ال�رسيعة ،وظهور املنزع اىل و�ضع العبارة على مو�ضوعات و�ضبط تلك على هذه... وتف�ضي هذه الوقائع اىل ت�صديع رابطة الن�سب والتوهم يف القبيل ،و�إىل �صوغها �صيغة خمتلفة .فتغ ِّلب دائرة ال�شعب ( -االمة) ،على معنى عرقي ودموي وتاريخي اقليمي وتراثي مع ًا ،على دوائر ال َن َ�سب واجلوار القريبة واملعروفة ،وتلحق الدولة الوطنية واالقليمية (احلديثة) بهذا ؤ�س على حلول دائرة املعنى ،وحتمل َ اال�ستيالء بالقوة والرت� َ ال�شعب ( -االمة) يف القوة امل�ستولية ور�أ�سها وجهازها. والدولة يف «ع�صبية الدولة» املحدثة مل تبق القلعة وديوان الع�سكر وديوان اجلباية وم�شيخات مذاهب الفقه والطرق ال�صوفية وطوائف اال�صناف .فهي �أجهزة �سيطرة واقتطاع وجمع ،من غري �شك ،ولكنها ال ت�صدر عن فوق
فحيث حلت «الدولة» يف احلاكــــــــــــــــــــــــــــــــم ّط هذا على مرافــــــــــــــــــــق وجهازه القريب ،وت�سل َ خا�صه» من �أبنيــــــــــــــــــــة ال�سلطة ،و�أخرج «ديوان ِّ الدولة املفرت�ضة م�شرتكة ومتما�سكــــــــــــــــــــــة، ال ،وعار�ض هذه االبنية بـ«ديوانــــــــــــــــه»، ولو �شك ً �أطف�أ «القائد» حماوالت االن�شقـــــــــــــــــــــــــــــاق املعار�ضة ،و�سحقها يف املهــــــــــــــــــــــــــــــــــــد الوظائف الفعلية و�أدائ��ه��ا .وقادته جتريبية عنيدة ال ت�شرتط معيار ًا �إال االحاطة التاريخية (الزمنية الطولية) واالجتماعية (املتزامنة العر�ضية) ،اىل ت�شخي�ص فعل اجلماعات االهلية يف قلب �أبنية الدولة وثقلها ومالحظة تبعية ه��ذه االبنية وعملها للجماعات وع�صبياتها وم�صاحلها ،و�ضعف ا�ستقاللها عنها .فهو ال يتناول مثال دولة معياري ًا ،وطني ًا جامع ًا ،و«عقالني ًا» قانوني ًا ِّ وحتكمها وحدته يف �سيطرتها وهيمنتها وبريوقراطي ًاَّ ، «طبقة» اجتماعية وا�ستطراد ًا �سيا�سية م�ؤتلفة من م�صالح كثرية ال تكف عن التنازع ومتتنع من التناحر يف �آن. وعلى ال�شاكلة نف�سها ،ال يفرت�ض حنا بطاطو جمتمع ًا يجمع بني جماعاته وطبقاته و�أفراده انف�صا ُلها (وانف�صالهم) ال �إن مل يكن من الدولة ،وقيامها (وقيامهم) ب�إزائها �إلب ًا مت�ص ً واحد ًا .فـ«دولة» بطاطو العراقية� ،إذا جازت العبارة� ،أهلية وع�صبية من �أدناها اىل اق�صاها .ولكن وظائفها الطارئة واملركبة ،الناجمة عن �إن�شائها عن يد �سلطة احتالل ن�صبتها يف منزلة بريطانية عاملية �أو دولية ور�أ�سماليةّ ، ملزمة بتدبري �أو �إدارة �أجهزة و�أقاليم وموارد وجماعات على معايري تداول وتوزيع وترتيب يفوق تعقيدها مبا ال
193
بدايات
العدد |5ربيع 2013
يقا�س معايري ال�سلطة والغلبة االهليتني ،ويبني منها او يختلف عنها مباينة قوية .واملجتمع الذي �ضوى مثال الدولة النا�شئ ،لئن �أقامت جماعاته ظاهر ًا على �صيغ عالقات و�أع��راف �سائرة ،اقحمتها «الدولة» اجلديدة، ومبانيها و�سيا�ساتها ،يف حاجات وم�شاغل و�سبل ال عهد لها بها من قبل .و�أقحمت عليها جماعات جديدة ولدت من مرافق االدارة والعمل والتوزيع واالقامة واالمن ...اجلديدة. وو�صلت «الدولة» واملجتمع باخلارج ،ودوائره وروافده املتعددة ،االقت�صادية ال�سوقية ال�سلعية واملالية والع�سكرية والقانونية والثقافية� ،صالت غري م�سبوقة نوع ًا وكم ًا. وعاد هذا على موقع «الدولة» وال�سلطة واالدارة بوظائف و�ضوابط مل يعرفها مثال االمر (و«االمري») ال�سابق. تو�سع �صاحب الكتاب يف تق�صي احوال و�أت��اح ُ َ وعوامل العراق ،جماعات وطبقات ،و�أبنية �سلطة و�إدارة، �رصف املعاجلة اىل امل�س�ألة ال�سيا�سية، ت�أثري ومو�صالت ت�أثر، َ والدولة يف القلب منها ،وحملها من اطوار االجتماع (ال�سيا�سي) العراقي وبع�ض جواره العربي .وعلى حني تبدو اليوم املعاجلات االقت�صادية التي تناولت البنية الر�أ�سمالية الداخلية واال�ستثمارات االجنبية يف هذا البلد �أو ذاك (ويف هذا القطاع او ذاك) ،ظرفية الداللة ،وعلى هذا فائتة وعفَّى عليها تقادم الوقت وانقالب االحوال، حتتفظ معاجلة بطاطو االجتماع ال�سيا�سي العراقي على ثنية ت�شابك الدولة واملجتمع طوال فوق قرن من الزمن - من نهاية العهد اململوكي يف 1831اىل طالئع اق�صاء �صدام ح�سني احمد ح�سن البكر يف الن�صف الثاين من ُع�رش - 1970بدالالت راهنة قوية .فهو ،على رغم و�صل به التغريات اتخاذه �أمنوذج «منو التخلف» خيط ًا َ العميقة الطارئة على املدن النهرية واالر���ض ومكانة امل�شيخة والزراعات ومنزلة امللك و�أجهزة الدولة وموارد االقت�صاد النفطي ب�أحوال «اال�سواق العاملية (ج 1من الرتجمة العربية ،الف�صل ال�سابع� ،ص )138و«ال�سوق العاملية ال�صناعية» (ج ،3ف � ،24ص ،)427مل يت�أخر مرة واحدة عن �إدراج حلقات اخليط يف دوائر منازعات القوى ال�سيا�سية واالجتماعية على الدولة ومقاليدها ومرافقها .فاقتفى من غري انقطاع �أدوار ار�ساء �سلطة مرك ٍز �ضيق متحكمة يف مرافق االجتماعي ال�سيا�سي العراقي كلها ،من طريق اق�صاء م�صادر النفوذ واملنازعة و«ا�ستئ�صالها» م�صادر النفوذ واملنازعة وخنقها ،ومن طريق ال�سطو على م��وارد اجلماعات وقيامها بنف�سها وروافد هذا القيام املادية واملعنوية.
194
بدايات
العدد |5ربيع 2013
الطاقم الع�صبي اىل تقوية عوامل ت�سلطه وتواطئه الداخلية. في�صادر اجلماعات واالبنية االجتماعية على امل��وارد والعوائد الريعية يف معظمها ،املتعاظمة �أو املتناق�صة بح�سب ويحرر «الدولة» من �ضوابط الرتكيب والتحكيم الظروف. ّ ُ والعمومية .ويت�شارك �أهل القوة وال�سلطان و�أهل ال�ضعف منازع تكاد املحكومون ،واملنقادون على هذا القدر �أو ذاك، َ تكون واحدة �أو متجان�سة اىل الرتجح ونهبه .ولعل احد م�صادر قوة معاجلة بطاطو دينامي َة االزمات العراقية (من غري امل�صطلح) ،وذروتها ال�صدامية ،هو تنبهه اىل الت�شارك هذا. فبينما تخبطت «الطغمة» احلاكمة يف تنازعها بني موجبات اال�ستيالء الع�صبي املنفرد واال�ستئ�صايل وبني تو�سع �سريورات الو�صل االجتماعي و�أطرها ،تطاول التخبط اىل اجلماعات املق�صية واملنبوذة واملعتالة .ف�سعت بدورها يف طلب القوة ال�سيا�سية واالجتماعية من طريق اللحمة الع�صبية ،واالنكفاء عليها ،ومقارعة الكتلة امل�ستولية بها. ومل يكن ا�ستئناف املثال الع�صبي االهلي ،املذهبي والع�شائري واملحلي ،متاح ًا .فبني �أحوال الع�صبيات اليوم وبني �أحوالها املن�رصمة العوامل التي تقدم �إح�صاء بع�ضها« :ال��دول��ة» الوطنية واالقليمية ذات الر�أ�س االهلي املت�سلط وقواعد االج��راء العامة ،وال�سوق والتداول والتوزيع واالجور والريوع الر�أ�سمالية ،واملدن وال�ضواحي و�أخالطها ،واجلوار العربي واالقليمي ودوله، واملدى الدويل املت�شابك واملنق�سم .وترتب على الت�شارك تر�سخ دينامية االزمات الراديكالية ،وجموح �أقطابها وكتلها اىل الكبكبة الع�صبية ،والتحاجز والبيات املزمنني. ولكن تعاظم م��وارد «ال��دول��ة» ،وريوعها ،يف االثناء، و�ضعف موارد املجتمع� ،أتاحا ب�سط طاقم النظام �سيطرته ال�شكلية والفوقية على العراقيني ،من غري متكني الطاقم من النفاذ اىل �سريورات االلتحام والتكتل �أو �سريورات التفرق واالنق�سام .و«ف�ضيلة» هذا التناول هي ت�شديدها على دينامية االزمات ودوام هذه ونازعها اىل الراديكالية، وت�شكيكها الثابت يف جواز ا�ستقرار االنظمة الع�صبية و�شمول الرتجح جهات النزاع كلها وكتله .وعليه، فم�سري نظام �صدام ح�سني اىل احلملة والغزو الع�سكريني واالجنبيني يف �أعقاب �إخفاق قلبه من داخل (من غري رابطة �سببية ومبا�رشة بني جملتي الوقائع) و�إف�ضاء حتطيم النظام بالقوة اىل ت�صدع الدولة واملجتمع العراقيني وف�شو م�صورة االرهاب واالقتتال فيهما -هذه احللقات لي�ست َّ يف «منطق» النظام امل�ضطرب واملرتجح وامل ��أزوم .غري �أن والدة احلملة والغزو الع�سكريني واالجنبيني من نظام
فو�سع املركز ال�ضيق �أو ذرى الطاقم احلاكم ،وهو انتهى بعثيا ً �صدامي ًا وابتد أ� عراقوي ًا وع�سكري ًا «�شيوعي ًا»، ب�سط �سيطرته �أو قب�ضته املبا�رشة واال�سمية على «�أجهزة الدولة» وهيئاتها و�إداراتها ،من فوق ،و�أعمل خنق ًا وح�صار ًا وقمع ًا يف مرافق االجتماع ال�سيا�سي ،من حتت ويف االبنية الو�سطية ،من غري �أن «ينجز» ا�ستئ�صال مقومات اجلماعات االهلية وعواملها .واحلق ان هذه «املهمة» لي�ست يف متناول قوة �سيا�سية ،بالغ ًا ما بلغته من التجريد االجتماعي واالهلي الب�ست �أو من العمومية ال�سيا�سية .فكيف بهذه القوة وهي ْ املاد َة االجتماعية واالهلية العراقية مالب�سة حميمة وقريبة �أف�ضت بها اىل �إقحام معايري هذه املادة و�أحكام عملها يف ثنايا «الدولة» ،و�إىل احلاق «الدولة» ب�سيطرة كتلة �أهلية متقلبة بددت التجريد ال�سيا�سي و�إرها�صاته ال�ضعيفة، وجعلت املجتمع ركام ًا متنافر ًا من اجلماعات املفككة والروابط املتجددة واملتك�رسة .ومثل التجريد االجتماعي واالهلي الذي ين�شده �ضمن ًا منطق ال�سيطرة ال�سيا�سية هذا، على مثال «نا�رصي» �أو �أ�سدي �أو �صدامي ،هو ثمرة انقالب وحتول تاريخيني واجتماعيني مديدين ،ويحتاج انعقاد الثمرة اىل قرون .وال ميلك ا�صحاب هذا املنطق �أدوات ت�صوره �أو لرتجح عميق ولد من نازع اىل �سلطة تفكره .وهم نهب ّ لوحت بها ن�ش�أ ُة �شاملة او كليانية (توتاليتارية) ْ وعدت �أو ّ الدولة احلديثة عن احتكار الوايل القوة امل�رشوعة �أو عن عقد اجتماعي تنبثق منه �إرادة جامعة وعمومية ،و(ولد) من «ق�صور» املادة االجتماعية والتاريخية املتقطعة واملجز�أة، عن تلبية احتياجات النازع اىل ال�سلطة ال�شاملة �أو �إىل ال�سلطة املركزية الرا�سخة .وغذى الرتجح ،ونهبه ،تدافع النازع هذا �أو ازدواج��ه :فالتجريد االجتماعي واالهلي الذي ال غنى عنه لل�سيطرة ال�سيا�سية «الكاملة» يهدم �أركان الكتلة االهلية واحلزبية امل�ستولية ،ويفتت حلمتها الع�صبية، من وجه �أول ...وال ت�ستقيم �سيطرة �سيا�سية «كاملة» كتلك التي ال منا�ص للكتلة الع�صبية امل�ستولية من طلبها لئن ا�ستحالت مزاولتها (املمتنعة) يف بيئة �أ�ضداد «قبلية» ،من وجه �آخر� ،إال بهذا التجريد. ويزج ترجح انظمة «الدولة» الع�صبية بها يف �سريورة �أزمات وانعطافات تقود الطاقم احلاكم ،وحلقة ذراه ال�ضيقة، اىل ت�شديد قب�ضته على اجهزة �سلطانه املبا�رشة ،وحماية هذه ال .فال ينفك جتدد عمل النظام الع�صبي ودولته االجهزة �أو ً االهلية ،وتوالده وتنا�سله ،من دينامية «راديكالية» ،على ما قيل يف بع�ض ف�صول تاريخ االنظمة الكليانية (الفا�شية و«ال�ستالينية» والنازية) .وتقود الدينامية «الراديكالية»
195
بدايات
العدد |5ربيع 2013
النظام� ،أو مثاالت عمله و�إيظافه� ،سريورة معقولة ومفهومة وحمت�سبة يف �ضوء عمل حنا بطاطو ،نهج ًا ورواية. -3اال�ستيالء على الريوع وقد ي�سع قارئ كتاب بطاطو يف القرن ون�صف القرن تقريب ًا من تاريخ العراق االجتماعي – ال�سيا�سي ،وتاريخ تكوين ل حادثة �أبنية دولته وجماعاته وجمتمعه ونزاعاتها ،و�ص َ الغزو واالحتالل مبقدماتها و�سياقاتها ،وعللها املحتملة. وعمل الو�صل هذا يتناول احلادثة على وجه الواقعة «االجتماعية ال�سيا�سية» (ن�سبة اىل االجتماع ال�سيا�سي، ال وجميع ًا) ،وقد ي�ضاف« :الكلية» ،على مثال درا�سة ك ً «العطاء» بقلم اال َّنا�س مار�سيل مو�س يف الثلث االول من القرن الع�رشين .والكلية هي �صفة ترتيب دوائر الفعل واملعنى و�أدائهما يف جمتمع من املجتمعات �أو جماعة من اجلماعات ،ولي�ست �صفة «روح» اجلماعة او القوم وحلولها يف افراد هذا �أو تلك .فاالنقالب الع�سكري املزدوج الذي الرحمن عارف� ،شقيق ال�ضابط النا�رصي ال عبد �أطاح �أو ً ّ «التاريخي» عبد ال�سالم ،يف 17متوز ،1968وثنى ف�أق�صى يف 30منه معظم ابطال االنقالب االول� ،صنعه القادة البعثيون بح�سب «تقنية» االنقالب على الدولة التي ا�ستخل�صها كروتزيو ماالبارتيه (من) ا�ستيال ِء البال�شفة، وتروت�سكي ،على ق�رص ال�شتاء ببطر�سبورغ غداة 8 �أ�شهر على ثورة �شباط ،1917و«النا�س نيام» على وجمع درو�س قول تروت�سكي (يف «حياتي» �أو «�سريتي»)، ِ �أوكتوبر ( )1917اىل درو�س زحف مو�سوليني على روما يف ( ،)1920وعار�ض الدر�سني ب�إخفاق ادولف هتلر يف اقتفاء �أثر مو�سوليني مبيونيخ يف (.)1923 وتقنية االنقالب على الدولة ،ثم اال�ستيالء على قممها ،قد تكني عن ميتافيزيقا وقد ال تكني ،ولكنها ا�ستعارة قوية ل�سيا�سة ونهج �سيا�سي .واالنقالب املزدوج ،على النحو الذي �أعد عليه وال�ضباط الذين زجوا فيه واجراءات اال�سبوعني اللذين �أعقبا الف�صل االول واختيار توقيتيه، �صدر من غري لب�س عن تقومي دور املباردة اىل انتهاز الفر�صة ال�سانحة (بني � ٍ أم�س مبكر ويوم تال مت�أخر) و�إيالئه املحل االول من ال�سيا�سة و«ا�ستيالئها». «�صنف» الع�سكر فالوقت الذي اختاره قادة احلزب ال�ستيالئهم الر�أ�سي يف�صله عن خالفة عبد الرحمن عارف يف 16ني�سان � 1966أخاه الرئي�س� ،سنتان و� 3أ�شهر .واعتور اخلالف
عيب ظاهر هو �ضعف �إجماع املقرتعني (ووزراء عوار �أو ٌ جمل�س الوزراء +اع�ضاء جمل�س الدفاع الوطني = 28 مقرتع ًا ح�رضوا اجلل�سة) .ففي دورة اقرتاع �أويل حظي �صوتا، رئي�س جمل�س الوزراء عبد الرحمن البزاز بـ14 ً وعبد الرحمن عارف بـ� 13صوت ًا ،وعبد العزيز العقيلي وزير الدفاع ب�صوت واحد .وبلغ عد ُد ال�ضباط املقرتعني لعارف ،وهو واحد منهم� 11 ،ضابط ًا من ،12وعد ُد الوزراء املقرتعني لرئي�س جمل�سهم 14وزير ًا من .16 وملا بدا �أن جمع �أحد املر�شحني ثلثي اال�صوات ،على ما ن�ص د�ستور ايار 1964املوقت ،متعذر ،و�أن كتلة الع�سكريني مرتا�صة ،تخلى الوزير االول واملدين املعتدل عن املناف�سة ،وترك امليدان للع�سكري ول�سلكه املتنفذ. ويعلل حنا بطاطو (ج ،3ف� ،21ص )382 – 377 تخلي البزاز بتما�سك الع�سكريني يف وجه املدنيني ،ومتتع الع�سكريني بقوة ترجيح حا�سمة م�صدرها االول مكانة الوحدات والقطعات التي ت�أمتر ب�أمرهم ،وذلك يف �ضوء ا�ضطالعها ب�أدوار حا�سمة يف االنقالبات ال�سابقة التي افلحت والتي اخفقت ،على حد �سواء .ف�آمر حامية بغداد، وهي �أدت الدور االول يف 14متوز ( 1958يف قياجة عبد ال�سالم عارف) ،هو الزعيم �سعيد �صليبي ،من ع�صبية �آل عارف اجلُميلية الرمادية .واملوقع الع�سكري االقرب اىل موقع الرئا�سة ،وهو احلر�س اجلمهوري «حمور نظام (�آل) عارف» ،كان يهيمن عليه ال�صليبي نف�سه .وعليه ،فالزعيم ال�صليبي هو �صاحب الكلمة الف�صل ،والقادر على اعالن حال الطوارئ و«ال�ساعة ال�صفر». وعلى اجلهة املدنية (الوزارية) برز عبد الرحمن البزاز. ودان البزاز برئا�سة احلكومة طوال � 3أ�شهر ونحو ن�صف ال�شهر (من 1966/4/18اىل 8/6من ال�سنة) ،اىل «�صداقة» عبد ال�سالم عارف .والبزاز �سيا�سي م�ستقل ب��رع يف حتريك «امل�شاعر ال�شعبية» على اجلماعات الع�سكرية املتنفذة وا�ضطلع بدور قوي يف جتميد احلرب على االكراد يف حزيران ،1966وزاد الفائدة امل�رصفية على ا�صول قدامى املالكني العقاريني امل�صادرة من ن�صف نقطة ( )0.50يف املئة اىل .3واقرتح تقومي قيمة مياه فروع االنهر فوق القيمة اجلارية .ف�أثار حفيظة الناقمني على «االقطاعيني» والر�أ�سمالييني .وعزم على حترير اال�سترياد من القيود االدارية واملالية التي كبلته و�رصفت اىل حمظيني معروفني ح�ص�صه املتاحة ،و�أغلت اال�سعار. وحمل اجلي�ش و�ضباطه التبعة عن التهام ح�صة كبرية َّ من املوارد واالموال العامة .فرد ال�ضباط ،ويف طليعتهم
196
بدايات
العدد |5ربيع 2013
�صدوع بكلمتها ال�سيا�سية وثقلها ولو الن�سبي .واقرتاح ٌ جتميد احلرب االهلية «القومية» على كرد العراق وج ٌه �آخر من وجوه مزاولة ال�سيا�سة من باب التحكيم وال�ضم وال�رشكة (وما تفرت�ضه هذه من منازعة ومداولة)� .أما رعاية احلرب االهلية «القومية» مع ُ الكرد فهي ،بني اعتبارات �أخرى ،عامل ا�سا�س يف �إن�شاء ريع اجلماعة الع�سكرية وتثبيته وتثمريه .فاحلرب هذه يقت�ضي اال�ضطالع بها، واالنت�صار طبع ًا يف نهاية مطاف يرجى ق�صري ًا ،تعزيز م��وارد اجلي�ش الوطني ،ومتكني القيادة من الت�رصف باملوارد ،ور�سم اخلطط املنا�سبة والتحكيم يف توقيتها،
النا�رصيون ،ومقدمهم عارف عبد الرزاق ،بتهديد البزاز، وعلق عارف عبد الرزاق املتنفذ ،اجراءات رئي�س الوزراء، وهو كان ال يزال على ر�أ�س احلكومة ،من غري ان ينت�رص الرئي�س عارف له �أو ان يعمد اىل التحكيم يف اخلالف. و�أقر البزاز �ضمن ًا �أو �رصاحة بانت�صار الفريق الع�سكري، برجحان كفة «�سيا�سته» ال�صنفية والطائفية ،و�شاغلها االول لئن مل يكن االوحد رعاية م�صالح �صنف الع�سكر وطائفتهم ،على املعنى املهني والفئوي .فعلى خالف ما يذهب اليه بطاطو (�ص ، 378برتجمة معدلة) من «(انحطاط) ال�سيا�سة ،على م�ستوى قممها النافذة ،اىل �رصاع ك�سور خال من املادة ومن امل�ضامني»� ،ساق البزا َز، برنامج «و�سطي مييني» على ورمبا بع�ض ا�صحابه املدنيني، ٌ ما كان و�صف يف نظام �سيا�سي م�ستقر بع�ض ال�شيء. وح�سب ،على ما ذهب من يحملون ال�سيا�سة على منازعة م�صالح تتفاوت عموميتها وت�ستبعد �أو تعلق االحتكام اىل القوة امل�سلحة ،ان من يف و�سعهم اجلمع على �أعر�ض امل�صالح ،و�أقواها ا�ستجابة حلاجات اجلمهور ورابطة الدولة الوطنية ،هم �أوفر حظ ًا يف احلكم وتدبريه. وا�ضطرار البزاز اىل اال�ستقالة جراء هزمية برناجمه امام دعاة التحكيم الع�سكري املنفرد يف تنازع امل�صالح، قرينة على �إنكار اجلماعة الع�سكرية� ،أو �أهل القوة على املعنى اال�ضيق ،وجود ق�ضية �سيا�سية او م�س�ألة �سيا�سية ناجمة عن ا�ستبعاد «طبقات» اجتماعية ،عري�ضة �أو �ضيقة ،من موازين التقرير واعتباراته .فزيادة الفائدة على امل�صادرات وتقومي مياه االنهر الفرعية ب�أعلى من القيمة املتدنية� ،إجراءان يرميان اىل �إ�رشاك �أ�صحاب هذه وتلك يف كتلة م�صالح عري�ضة وجديدة .فال تفرت�ض هذه الكتلة ا�ستئ�صال بع�ض روافدها �أو �رشكائها الذين متتعوا ،يف ما�ض ٍ قريب ،بامتيازات �ساحقة ،حق ًا بات ًا .وال �شك يف تعويل رئي�س ال��وزراء املق�صي على مقاي�ضة �أ�صحاب امل�صادرات واملياه لقاء �إ�رشاكهم يف كتلة «ال�سيا�سة االقت�صادية اجلديدة» (لينني) و«ت�سديد ثمن» هذا الإ�رشاك ،ب�إ�سهامهم يف اال�ستثمار املحلي والوطني املجزي ويف حتريك اال�ستهالك. وي�ؤول حترير اال�سترياد من احتكار ا�صحاب احلظوة والو�ساطة ،بالنيابة عن مراكز النفوذ والريع التي حازتها قمم اجلهاز الع�سكري باال�ستيالء ،اىل تخفي�ض اال�سعار، وتنويع ال�سلع ،و�إىل تن�شيط اال�ستهالك املنزيل ورمبا ال�صناعة الوطنية ال�صغرية او اخلفيفة على االمد املتو�سط. ويرتتب على االق��رار «للطبقات القدمية» بهذا الدور
ولعل عقدة املعاجلة التاريخية واالجتماعيــــــــــــــــــة يف عمل حنا بطاطو هي ميزان عالقــــــــــــــــــــــــات القوى االجتماعية ،وهذه فوق الطبقـــــــــــــــــــــــات �أثراً و�أو�سع منها و�أكرث تعقيداً ،بجهـــــــــــــــــــــــاز احلكم و�أبنيته ،وميزان عالقات اجلهاز واالبنيــــــــــــة بالقوى االجتماعية واجلماعـــــــــــــــــــــــــــــــــات و�إ�ضعاف اخل�صم (العدو) �سيا�سي ًا وع�سكري ًا ،الخ .ولذا ،مل تنفك القيادتان ،الع�سكرية املحرتفة وال�سلكية وال�سيا�سية احلزبية والع�صبية ،من التنازع على هذه احلرب وثمراتها ال�سيا�سية واالهلية وعوائدها الريعية و�سعي كال الطرفني يف االنفراد بالقيادة والت�رصف. وعلى هذا� ،آذن انت�صار الكتلة الع�سكرية يف املناف�سة على قيادة الدولة الوطنية واالقليمية بح�رص هذه املناف�سة يف قمم هذه الكتلة ،وق�رصها على النزول عن امتيازات ريعية متعاظمة .وينجم عن االمتيازات اقت�صاد هزيل، وتعويل على املورد النفطي الوحيد .وتعاظم االمتيازات الريعية والتعويل على انتاج املادة الوحيدة يت�ضافران على اخت�صار دائرة القوى االجتماعية وال�سيا�سية املتنازعة اىل ق�رشة رقيقة من الكتل الع�سكرية التي تنوب عن جماعات ا�ستطرادا وا�صطالح ًا ولي�س �أهلية وع�صبية ،و�سيا�سية ً ال .ف�إق�صاء الطبقات االجتماعية وال�سيا�سة «القدمية» �أ�ص ً و�سد منافذ التحكيم وامل�ساومة عليها وعلى من املنازعة، ّ م�صاحلها �سد ًا حمكم ًا وال مراجعة فيه ،يعزالن القوى االجتماعية اخلا�صة واملدنية ،و«جمتمعها» تالي ًا ،عن املنازعة ال�سيا�سية .ويق�ضيان حكم ًا باقت�صار هذه املنازعة على «الع�صابات» الع�سكرية واحلزبية ،ومناف�ستها على الكتل واملواقع ،و�إعدادها العدة لالنقالب التايل .فيعيد االنقالبيون النظر يف مراتب النفوذ ،وح�ص�ص الكتل
197
بدايات
العدد |5ربيع 2013
وعوائدها ،ويف ا�ستئناف احلرب على ال�شمال الكردي، وا�ستئ�صال �ش�أفه الطبقات «القدمية» و«ال�شيوعيني». و�آل من�صب رئي�س ال��وزراء ،بعد جتميد البزاز ،اىل امري اللواء الركن املتقاعد ناجي طالب .وف�ضيلة الرجل املرجحة هي خروجه من �ساحة املناف�سة على منا�صب القيادات الع�سكرية الفاعلة ،وما�ضيه الفخري الذي ن�صبه، يف ،1958-1956نائب ًا ثاني ًا لرئي�س جلنة ال�ضباط االحرار العليا ،وتردده� ،أخري ًا ،بني موقع القومي (العروبي) امل�ستقل وبني موقع النا�رصي «املعتدل» .واملوقعان� ،إذا �صدقت التثنية� ،آيالن اىل ا�ضمحالل «ع��اريف» .وهذه قرائن على انتفاء قوة الفعل واحل�سم من الرجل ،وخلو وفا�ضه منها .فهو ي�صلح للداللة على تعليق ميزان الكتل املت�صارعة وجتميده على حاله هذه يف انتظار ا�ستئناف ال�رصاع .ودام التعليق ظاهر ًا ثالثة �أ�شهر ،طلبت الكتب املتنازعة بعدها املن�صب كل واحدة لنف�سها .فا�ضطر عبد الرحمن عارف اىل توليه ،عالمة على دوران النزاع على نف�سه ،وعوده على بدئه من غري منفذ اىل دائرة �أو�سع يف احللقة ال�ضيقة التي تت�آكل القوى املتنازعة واملتناف�سة فيها .و�آي��ة ال���دوران هي توزيع عبد الرحمن عارف نيابة رئا�سة الوزارة على خم�سة نواب هم طاهر يحيى (البعثي ال�سابق) وعبد الغني الراوي (اال�سالمي النازع) وا�سماعيل م�صطفى (العراقوي والعقيلي الوالء) وف�ؤاد عارف (الكردي) .وكانت حكومة ناجي طالب حاولت اال�ستقواء بزيادة مواردها من �رشكة النفط ،ومن عائد ر�سوم نقل النفط اىل موانئ املتو�سط من طريق االرا�ضي ال�سورية .فامتنعت ال�رشكة من تلبية حاجة احلكومة احليوية من الباب الريعي الوحيد الذي يف متناول الطاقم احلاكم« ،القومي» و«التقدمي» ،طرقُه بعد �إغالقه االبواب االقت�صادية وال�سيا�سية االجتماعية االخرى ،وهي �أبواب حاول عبد الرحمن البزاز �إبقاءها م�رشعة على موارد غري املوارد الريعية و�أخفق. الريع الوطني والع�صبيات الرثة وعندما امتحنت حرب حزيران ( )1967اجلزء العراقي من «العامل» العربي وعلى االخ�ص م�رشقه� ،أ ْلفت دولته مت�صدعة وعاجزة عن خو�ض حرب �إقليمية معقدة. فو�سع �سالح اجلو اال�رسائيلي �رضب اللواء الثامن امل�ؤلل العراقي وهو يف طريقه اىل اجلبهة االردنية .وظهرت علن ًا انق�سامات الع�سكريني ال�شخ�صية والع�صبوية وال�سيا�سية ،و�آثارها يف �ضعف االح�تراف والتن�سيق
والتخطيط .وظهر الع�سكريون يف �صورة جماعة على حدة ،تتمتع بامتيازات باهظة يف ختام مطاف ا�ستيالء على مرفق القوة امل�رشوعة يف الدولة .و«حرر» اال�ستيالء اجل�سم الع�سكري من �أبنية دول��ة متهافتة تركتها َ االنقالبات و�رصاعات الكتل احلزبية املحمومة عليها، خاوية معلقة وبعيدة من مطال قوى �سيا�سية واجتماعية فاعلة .فهذه �أ�صابها ،بدورها ،الهزال .وحولها �أجهز َة اقتتال على مفاتيح املواقع وال��وح��دات الع�سكرية وقياداتها .فريوي �صالح عمر العلي ،وهو يومئذ ع�ضو قيادة قطرية «ثانوي» (على ما يقر) �أن البعثيني عقدوا، يف ،1967م�ؤمتر ًا دعت تو�صيته البارزة اىل ان�شاء «جبهة قومية �شعبية وا�سعة ترد على الهزمية» .فرتجم ال احلزبيون الدعوة «اجلبهوية القومية (و) ال�شعبية» «عم ً حزبي ًَا تنظيمي ًا على اجلانبني املدين والع�سكري» .وفحوى االنتقال من اجلبهة العري�ضة اىل التنظيم احلزبي اخلا�ص، �أو من اخلط ال�سيا�سي اىل «التفعيل» التنظيمي ،هو، على قول العلي نف�سه« ،ن�سج (عالقة) حلف ب�ضباط يحتلون مواقع ح�سا�سة» ،وعلى وجه التخ�صي�ص «داخل بغداد» :يف �إحدى فرق احلامية �أو يف �إحدى فرق احلر�س اجلمهوري ...فتتداول الفرقة (اخللية) يف اجتماعاتها ا�سم من يقرتح تر�شيحه ومراقبته و�ضمه اىل اجل�سم احلزبي ،وتعبئته االنقالبية املتحفزة ،وموقعه �أو �أ�صله وف�صله ومن ي�صلح وا�سطة اليه من ع�رشائه
املزدوج .وزجوا يف الف�صل االول من االنقالب «حلفاء امل�صادفة» ،على ما �سموهم .وهم ال�ضباط الثالثة الذين تقدمت رواية �صالح عمر العلي فيهم :عبد الرزاق النايف وابراهيم عبد الرحمن الدواد و�سعدون غيدان ،على ر�أ�س اال�ستخبارات الع�سكرية واحلر�س اجلمهوري وكتيبة دبابات احلر�س .وه�ؤالء اقت�سموا تنفيذ االنقالب ومهماته ،وهي االطباق على عبد الرحمن عارف يف الق�رص اجلمهوري، واحتالل مبنى االذاعة ،ودخول وزارة الدفاع .و�إذا قنع البعثيون بـ 8وزراء حزبيني من 26وزير ًا يف الوزارة االوىل ،حر�صوا على �أن ي�شغل حمازبون رئا�سة االركان و�سالح الطريان (حردان التكريتي) ووزارة الداخلية (�صالح مهدي عما�ش) وقيادة احلر�س اجلمهوري العتيد (�سعدون غيدان ،وهو «تقريب ًا» حمازب ،على قول بطاطو) .وملا ظهرت بوادر ال�شقاق بني كتلة البعث و«حلفائها» الظرفيني ،وعمد «احللفاء» اىل دمج �صحيفتي «الثورة» و«اجلمهورية» ،وهذه كانت بيد البعثيني فطردوهم منها ومنعوهم من االذاعة� ،أمر رئي�س االركان اجلديد ب�إجراء تنقيالت وا�سعة يف منا�صب ال�ضباط ،يف غياب الداود وزير الدفاع اجلديد باالردن 3 �أيام كاملة عن وزارته ،و«جدد» ا�ستمالة �سعدون غيدان حماد �شهاب وحر�سه ودباباته ،ور�أَّ�س �ضابط ًا تكريتي ًا هو ّ على حامية بغداد وعلى اللواء املدرع العا�رش .ويف 30 متوز ،دخل اللواء العا�رش بغداد ،واحتل مواقعها املتحكمة يف مرافقها ووظائفها و�أمنها .فانفرد البعث بقمم الدولة ن�صب �أحمد ح�سن البكر رئي�س ًا وبالرئا�سات ،وهو كان َّ للجمهورية خلف ًا لعبد الرحمن ع��ارف ،و�أخ��رج منفِّ ذ اال�ستيالء وواجهته ،عبد الرزاق النايف ،ووزراءه و�أولهم وع َزلهم. الداود من منا�صبهم َ
م�ستقلني .وا�ستبعد البعثي ال�سابق البعثيني املتحفزين، و«التقدميني» (املقربني �سابق ًا من ال�شيوعيني وعبد الكرمي قا�سم) والعراقويني واليمينيني اخل�براء املتحدرين من عائالت «قدمية» .وال ي�ستقيم جتديد يحافظ على بع�ض اللحمة ال�سيا�سية بني �أفرقاء يرتب�ص بع�ضهم ببع�ض ،وينتظر فر�صة االجهاز امل�ؤاتية عليه� ،إذا مل يلب بع�ض احلاجة اىل موارد ريعية و«وطنية» طرية ت�سد بع�ض نفقات ال�سيطرة املتعاظمة .وعرث خريالدين ح�سيب ،اخلبري املايل والنا�رصي «امل�ستقل» ،على الإك�سري املن�شود .ف�أ�شار بتحويل حقوق ا�ستثمار حقول الرميلة ال�شمالية النفطية اىل �رشكة النفط الوطنية ،وحرمان ال�رشكة االنغلو – �أمريكية (العراقية) منها ،وبدعوة �رشكة «�إيراب» الفرن�سية اىل التنقيب عن النفط يف م�ساحة تبلغ 10800كلم مربع .وتعهدت مو�سكو �إزجاء خرباتها يف احلفر والت�سويق ،على طريف عملية اال�ستخراج من دون قلبها .وعادت بي�ضة القبان يف العملية اىل فرن�سا الديغولية وديبلوما�سيتها «العربية» .ومن توىل العمل املزدوج :تعظيم املوارد الوطنية وا�ستعادتها من االيدي االجنبية املت�سلطة واالنانية ،وجزاء ال�سيا�سات الغربية امل�ستقلة عن الغلبة االمريكية �رشاكة يف امتياز ا�ستخراج الرثوة – هو «حكومة العفرتة» ،على ما �سميت وزارة طاهر يحيى .وهي جمعت وزراء ع�سكريني ومدنيني يدينون مبكانتهم ونفوذهم ،وبعوائدهما ،اىل حتدرهم الع�صبي من بلدات او مدن عانة والفلوجة وتكريت وراوة
�آذن انت�صار الكتلة الع�سكرية يف املناف�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة على قيادة الدولة الوطنية واالقليمية بح�رصه هذه املناف�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة يف قمم هذه الكتلة ،وق�رصها على النزول عن امتيازات ريعية متعاظمة .وينجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم عن االمتيازات اقت�صاد هزيل ،وتعويل على املورد النفطي الوحيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد وخلطائه و�أ�صهرته .وهذا النهج قاد اىل �سعدون غيدان، �أحد �ضباط الق�رص الرئا�سي ،واىل ابراهيم الداود (خال غيدان) ،الوا�سطة ،اىل عبد الرزاق النايف ،معاون مدير اال�ستخبارات و«وج��ه» انقالب 17متوز 1967 ورئي�س وزرائه طوال 13يوم ًا قبل اغتياله يف منفاه اللندين (عن «احلياة» ،امل�صدر املذكور). وتفادي ًا الحتدام املنازعات واخلالفات ،غداة حزيران ( )1967واخل�سارة التي نزلت بالفرقة العراقية ،عهد عارف اىل «�أق��وى» نوابه اخلم�سة ،طاهر يحيى ،برئا�سة حكومة جديدة �أعلن ال�ضابط املكلف الئحتها يف 10 متوز .فق�رص التوزير على «�سيا�سيني» ونا�رصيني وقوميني
198
بدايات
العدد |5ربيع 2013
الطغمة واال�ستتباع ويف �أثناء الـ 13يوم ًا الفا�صلة بني 17متوز وبني 30منه، مل يغادر طيف املورد النفطي امل�رسح امل�ضطرب واملتدافع فلوح �ضباط الق�رص ،على ما �سمي النايف والداود باالدوارَّ . و�أن�صارهما ،بعزمهم على �إلغاء عقد «�إيراب» وحقل الرميلة ال�شمالية وحق التنقيب فيه اىل ال�رشكة العراقية «�آي بي وبنيتهم منح �رشكة «بان امريكان » امتياز التنقيب �سي »ّ ، احل�رصي عن الكربيت .وينق�ض االجراءان� ،إن �صدقا ،ركن ًا من ركني اال�ستيالء الع�صبي على الدولة العراقية هو تعظيم موارد الدولة الريعية ،واالنفراد بها وبتوزيعها يف �سبيل تقوية «ع�صبية الدولة» (على معنى �أن�صار حلقة ا�صحاب االمر ال�ضيقة و�أجهزتهم التي يوظفون فيها مواليهم) .فمن
وهيت (على التوايل :ع ف ت .)...والتلقيب هذا َك َنى عن عموم الف�ساد وانغما�س كبار ال�ضباط والنافذين فيه ،وعن عموم اخلروج على القانون و�ضلوع �أهل القوة و«الدولة». فالتب�ست خدمة �أ�صحاب امل�صالح الريعية وال�صنفية امل�ستولية على الدولة واملجتمع بالقوة والق�رس باجناز بنود �سيا�سية و�سمت بـ«الوطنية» و«ال�شعبية» و«التحرر»، وحملت على «التقدم االجتماعي» وتوزيع عوائد «الرثوة الوطنية» على الطبقات الكادحة والطبقات الو�سطى. ومل يفت هذا ،بديهة ،البعثيني املرتب�صني باحلكم، وهم �رشكاء يف �صنع االلتبا�س و«تعميقه»� ،إذا جاز القول. وكانوا �رصفوا ال�سنتني واال�شهر الثالثة اىل �إعداد انقالبهم
199
بدايات
العدد |5ربيع 2013
طريق هذه املوارد مولت الطغمة احلاكمة البعثية ال�صدامية الحق ًا ا�ستتباع املرافق والدوائر االجتماعية واالهلية بعد ت�صديعها ،و�رشاء والئها عنوة ،وح�رشها يف «جيو�ش» املوظفني اجلرارة والعقيمة .ويخالف االجراءان االجماع الوطني العروبي والتقدمي الذي �أر�ست عليه ال�سيا�سة النا�رصية ،منذ ت�أميمات 1962-1961و�إن�شاء االحتاد اال�شرتاكي يف خريف 1962وتوثيق احللف باالحتاد ال�سوفياتي ،نهجها ومواثيقها .وهما يعرقالن ،على ا�ضعف تقدير� ،سريورة �إن�شاء «الدولة»� ،أي الكتلة امل�ستولية بالقوة الع�سكرية النظامية واحلزبية« ،ع�صبي َتها» العري�ضة و�سندها االجتماعي ويقطعان املوارد املادية ال�رضورية عن ال�سريورة والقائمني بها .فتخ�رس احللقة امل�ستولية ركنها املدين واالهلي واحلزبي وو�سيلتها اىل ال�سيطرة �شعارها (قمي�صها، على �آلتها الع�سكرية ،اىل خ�سارتها َ لغة) االيديولوجي الذي يدرجها يف باب حركات التحرر الوطني واالجتماعي من اال�ستعمار واالمربيالية «الغربيني» و«الر�أ�سماليني» .و�شعارها هذا يطل بها ،وبخليطها املجتمع وم�رسحني َو�س ْقط ع�شائر حملية، من طالب وبطالني َّ وه�ؤالء لي�سوا «كتلة» اجتماعية وبالأحرى «تاريخية»، على �آفاق التاريخ العاملي العري�ضة واال�سهام يف �صنعها بح�سب «وعد» مل يقت�رص على جهاز الدعوة والتحري�ض والت�ضليل ال�سوفياتي �أو املاوي ال�صيني .وهو (ال�شعار) ال مت�صدر ًا وجامع ًا �رشائط القيادة الوطنية ين�صبها فاع ً بل القومية االن�سانية امل�رشوعة وامل�ستحقة من غري منازع، على ما افرت�ض البعث (العفلقي) يف �أثر حركات اال�صالح والتنظيم والنهو�ض يف «العامل» العربي احلديث .وي�سوغ، اخ�ير ًا� ،سياقة احل��وادث املتعاقبة منذ «الثورة» العامية «ال�شعبية» على النظام امللكي القدمي ،وبا�شواته و�أعيانه وكبار مالكيه و�رساكيله ،ويقر ع�صبية البعث امل�ستولية على ختامها هذه ال�سياقة و�إبالغها غايتها وحمجتها. احلزب «التكريتي» العامي وكان احلزب امل�ستويل �أعد العدة للمهمات واالدوار التي ن�صب نف�سه لها ولتوليها ،يف �ضوء �إخفاقه يف تثبيت ا�ستيالئه يف �شباط 1963اىل ت�رشين االول – ت�رشين ال يف الكتاب الثاين من العام نف�سه (رواية االنقالب مف�ص ً ،3ف� ،18ص ،307-289ثم وقائع «النظام البعثي االول» ،الكتاب ،3ف� ،20ص ،)339-317ويف �ضوء نزاع 1959بني القوميني وال�شيوعيني (– 179 ،3،9 .)200وال يرتدد حنا بطاطو يف ربط حلقات انفجار
تظاهرة للحزب ال�شيوعي العراقي، بغداد� 1 ،أيار1959
العنف الواحدة باحللقة ال�سابقة فيكتب ان عنف ،1963 حني ا�ستيالء البعث على احلكم واالنقالب على عبد الكرمي قا�سم« ،م�صدره» عنف 1959الذي مر التنبيه اليه للتو .وهذا م�صدره مزدوج :عنف ال�سجون امللكية يف ( 1953يف حق ال�شيوعيني على اخل�صو�ص) و«العنف القبلي والعرقي» (�ص 307-306من الكتاب نف�سه)، من غري تخ�صي�ص او توقيت ،ت�رضب جذوره يف زمن قدمي ومتجدد هو زمن العالقات القبلية والعرقية. ويقارن بطاطو (ف�صل «النظام البعثي الثاين ،الـ 23من الكتاب � ،3ص )425-389بني �صور َتي حزب البعث او �صيغتيه يف 1963ثم يف ،1968فيكتب ان ال�صيغة الثانية هي غري ال�صيغة االوىل .وي�صف ال�صيغة الثانية بالنخبوية ،كناية عن هرم طبق َتي النا�شطني ومرتبتيهم :فتعد مرتبة ال�صفوة (العليا) � 10آالف ع�ضو عاملَ ،ينتخبون ي�سمون، وينتخبون ،اىل م�ستويات القيادة املتدرجة �أو ُ ّ بينما تعد مرتبة االن�صار وامل�ؤيدين� ،أو القواعد امل�ؤمترة ب�أمر م�ستويات القيادة� 500 ،ألف ن�صري منظم .والرقم االول ،عدد الأع�ضاء العاملني ،يبلغ نحو � 9-8أ�ضعاف عدد نظريه قبل � 4سنوات ون�صف ال�سنة ،ويبلغ عدد االن�صار املنظمني نحو � 25ضعف ًا عدد االن�صار يف �شتاء .1963 و�أهل االرياف هم بيئة هذا التو�سع ومادته .والهرم العري�ض ِ واملجتمع الر�أ�س ن�صب طاقم ًا قيادي ًا معظمه القاعدة ال�ساحق من ال�سنة (العرب) .فه�ؤالء كانو 84.9يف املئة من «قمة القيادة» يف ،1970بعد �سنتني من االنقالب. و�ضوت ح�صة ال�شيعة العراقيني اىل 5،7يف املئة ،وت�أخرت عن ح�صة الكرد ( 7.5يف املئة) .وكانت احل�ص�ص ،على التوايل ،يف عقد ،38.5 :1963-1952و،53.8 و 7.7يف املئة .وتعليل االمر اجلزئي هو ت�أييد معظم ال�شيعة علي �صالح ال�سعدي�« ،صاحب» انقالب �شباط ،1963 غداة خ�سارته واحلزب ال�سلطة يف ت�رشين الثاين .1963 وهو طرد من حزب البعث يف ،1964و�أن� أش� حزبه .وخرج �أن�صاره وم�ؤيدوه من ال�شيعة (�أو طردوا) معه .والبعثيون ال�سنة الذين انقلبوا كرثة ،وغلبوا عدد ًا على �صفوف املحازبني، هم من بلدات حمافظات الرمادي و�شمال بغداد وقبائلها، �ش�أنهم �ش�أن �أفراد ال�رشطة الذين ن�سبهم �ضباط ملكيون من ع�صبيتهم ،مثل عبد اجلبار الراوي وبهجت الدليمي .وكان هذا �سبب ًا يف مواط�أة ال�رشطة ببغداد «مواطنيهم» البعثيني ال�سنة ،ولني معاملتهم �إياهم ،على خالف ق�سوتهم على البعثيني ال�شيعة من غري ملتهم �أو �أهلهم. فتعاظم نفوذ ال�ضباط ال�سنة التكارتة (�أهل تكريت)
202
بدايات
العدد |5ربيع 2013
ال�سن الذي بني الوالد وابنهَ ،ع َلمان على النحو الذي جرى عليه انبعاث احلزب ،وعلى م�رسح االنبعاث ومادته. فالريفية ،والهام�شية االجتماعية ،والتح�صيل املتوا�ضع ،والع�صامية البدوية ،واالرتقاء من طريق الدولة والإدارة واجلهاز احلزبي ،ور�سوخ عالقة رابطة الوالء (على حديها :االمر والطاعة) على مثال عائلي ع�صبي (التحامي) وث�أري (ا�ستتباعي) -هذه ال�سمات واالحوال تبلورت تدريج ًا ،وعلى مقادير و�أنحاء متفاوتة ،يف ثنايا النزاعات ال�سيا�سية واالجتماعية املتعاقبة ،االهلية املحلية والوطنية واالقليمية .وكل باب من هذه االبواب، غري احل�رصية ،برز �سم ًة من �سمات اجلماعات العراقية الفاعلة يف «اختبار» تاريخي واجتماعي ،اقت�ص حنا بطاطو ف�صوله املت�شابكة ق�ص ًا وافي ًا .فالريفية والهام�شية االجتماعية اللتان غلبتا على البعث الناه�ض من انقا�ض والع َلمني التكريتني ،1963وطبعتا احلزبيني وقيادتهم َ على القيادة ،هما من اعرا�ض �أطوار �صيغت مع الكيان الوطني العراقي ،وملكه الها�شمي واحلجازي املتملك من خارج (ولكن لي�س على خالف داخل متما�سك) ،وجهازه احلكومي والإداري ،ونفطه الطارئ واملتعاظم يف متويل خزينة الدولة ،و َتقو�ض ِح َرفه وانهيار �صناعة املراكب والنقل الداخلي ،وم�صادرة م�شايخه القبليني و�أغواته عنوة امل�شاعات القبلية ال�شا�سعة وجمعهم زراعة كفاية ورعي اىل زراعة مت�صلة بال�سوق و�أ�سعارها وتقلباتها، وت�صدع جماعاته القبلية وط��وائ��ف حرفه وطرقه ّ ال�صوفية ،وهجرة فالحيه العري�ضة اىل املدن وانخراطهم يف اجلي�ش وال�رشطة واالدارات ويف مرافق عمل ن�ش�أت تلبية حلاجات �أهل املدن اجلدد ،وتو�سع الهجرة وتداعي ال من «ف ََعلة» ناف�سوا من �سبقهم حلقاتها وبلوغها كت ً على �أجورهم وخفّ�ضوها. و���ش ��أن معظم املهاجرين اىل �ضواحي امل��دن وع�شوائياتها ،اعت�صم �ضعفا�ؤها برابطة ع�صبهم .فنزلوا �أحياء �سبقهم �إليها رواد هجرتهم ،و�سا�سوها �سيا�سة ذاتية بـ«�سوانيهم» و�أعرافهم ومراتبهم اخلا�صة .وعروبة البعثيني العراقيني ،وعلى االخ�ص �ضباطهم الآتون من عانة وتكريت« ،يدينون» بها اىل �أ�رس ال�شمال العربية، �أي البدوية ،اىل وقت قريب ،التي يتحدرون منها ،و�إىل «خ�سارة» هذه اال�رس دائرة رعيها وجتارتها وم�صاهرتها ال�سورية .وتقوم هذه الدائرة ،العراقية وال�سورية ،ب�إزاء القوم الكردي املقيم بجوارها ويتقا�سم معها النفط ،مقام ركن الدولة الريعية و«الوطنية».
يف ح��زب البعث املق�صي من احلكم غ��داة 1963 ومتحاربا .وقويت الرابطة م�شتت ًا ،ومنق�سم ًا على نف�سه، ً الع�صبية ،الع�شائرية واملحلية وا�ستطراد ًا املذهبية ،على وت�صدر الرابطة احلزبية ،ال�سيا�سية وااليديولوجية. ّ القيادة اجل��دي��دة ،وه��ي قامت على �أنقا�ض القيادة «ال�شيعية» التي اخفقت يف تثبيت اال�ستيالء على احلكم، حزبيون ،ع�سكريون ومدنيون ،من الطينة االهلية نف�سها. وبرز اثنان هما �أحمد ح�سن البكر و�صدام ح�سني ،من تكريت .وينت�سب الرجالن ،وبينهما فرق �سن يبلغ 23 �سنة (ولد البكر يف ،)1914اىل ع�شرية البويات من قبيلة البونا�رص .وهذا الن�سب ،املتوا�ضع قيا�س ًا على �أن�ساب ع�شائرية وقبلية عراقية �أخ��رى ،ينكره بع�ض احلزبيني ال�سابقني ،مثل �صالح عمر العلي �أو مهدي حيدر (�صاحب «عامل �صدام ح�سني») على الرجلني اللذين ثارا لإخفاق ت�رشين الثاين .1963فينفون عن البونا�رص واحلديثية (�أهل حديثة) ،وغريهم ممن ي�سمونهم «�أهل ال�شقاوة» و«القب�ضايات الق�ساة» بل «ال�رس�رسية» االنت�ساب اىل ع�صب (الرعاة والدهماء) �ش�أن التكارتة، َ قح �أو �رصيح ،هو قرينة مرتبة رئا�سة ومكانة .وينزلون البكر و�صدام وحردان التكريتي ومهدي �صالح عما�ش وع�رشات غريهم مثلهم ،منزل َة «الدخالء» على احلزب، ومنزلة �أهل ال�ضواحي والظواهر على البطحاويني� ،أهل و�سط املدينة و�أ�صحابها ،وذلك على ر�سم عربي ،دموي وحزبي بطويل� ،ضعيف ال�صلة بوقائع القرابة ومالب�ساتها- على ما ذهب �إليه هرني المن�س الي�سوعي الفرن�سي يف والهرم العري�ض القاعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدة ن�صـــــــــــب واملجتمِ ع الر�أ�س [حلزب البعث العراقي] ّ طاقم ًا قيادي ًا معظمه ال�ساحــــــــــــــــــــــــــــــــــــق ال�سنة (العرب) .فه�ؤالء كانوا .٪84يف املئة من من ّ «قمة القيادة» يف ،1970بعد �سنتني من االنقالب. و�ضوت ح�صة ال�شيعة العراقيــــــــــــــــــــــــــــــني اىل 5،7يف املئة ،وت�أخرت عن ح�صـــــــــــــــــــــــــة الكرد( 7.5يف املئــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة) كتابه يف مكة واملنازعات التي اكتنفت دعوة حممد بن عبدالله بها .وتربط االثنني واحدهما بالآخر رابطة قرابة: ف�صدام ح�سني «ابن بالتن�شئة» خلريالله طلفاح ،خاله ووالد زوجته �أو عمه مع ًا .وخريالله طلفاح هو ابن عم �أحمد ح�سن البكر .والرجالن القريبان ،وبينهما فرق
203
بدايات
العدد |5ربيع 2013
-4اجلهاز -الع�شرية -الدولة فت�صدر حزب البعث يف �صيغته «ال�س ّنية التكريتية» (���ص 400من الكتاب ،)3ع�صبية �أهلية وع��دد ًا، اجلماعات العراقية بالأحرى :الكردية وال�شيعية وامل�سيحية، والع�شائرية والريفية واملدنية ،والنهرية والبدوية واجلنوبية وال�شمالية .وت�صدر يف �صيغته الع�سكرية والأمرية والريعية والقومية« ،الدولة» الوطنية واملركزية العراقية. والوجهان مت�صالن من غري �شك ولكنهما لي�سا واحد ًا. وتخلي�ص الوجه الثاين ،ال�سيا�سي واجلهازي ،من الوجه ال �سببي ًا االول ،االهلي والع�صبي ،وحمله عليه حم ً وا�شتقاقي ًا ،يخالن بفهم نزاعهما وفرقهما على رغم ت�ضافرهما .فتن�صيب �صدام ح�سني يف رئا�سة جمل�س قيادة الثورة ،والإقرار ب�سيطرته على �إدارات االمن الداخلي واال�ستخبارات الع�سكرية من طريق مكتب االمن القومي وجماعاته �أو ع�صاباته املتحدرة من احلر�س الوطني فجهاز «حنني» ال�صدامي ،وتثبيت احمد ح�سن البكر ،رئي�س اجلمهورية ،ال�سلطة الف�صل يف اجلي�ش� ،إجراءات انتظر ح�سمها ع�رشة اعوام تامة ،من 1968اىل .1978 وبدا يومها انها خامتة املطاف (���ص 400من الكتاب الثالث ،كذلك) .ولكن احلرب على �إيران اخلمينية بعدها ب�سنتني ،ثم جمرى احلرب وف�صولها املتعاقبة (-1980 � 1982أو الف�صل الهجومي ،ثم 1985-1982 �أو الف�صل الدفاعي الثابت ،ثم � 1988 – 1985أو الف�صل الدفاعي املتحرك)� ،أظهرا «اخت�صا�ص» البكر املفرت�ض باجلي�ش من خملفات مرحلة انتقالية �أ َف َلت. فتق�سيم القيادة ،ولو بني «والد» و«ابنه» ،على ح�سب ت�شبيه رابطة البكر ب�صدام و�صدام بالبكر ،يخالف نازع القيادة البعثية والعراقية امل�ستولية اىل حل «الدولة» يف «�سيادة الرئي�س» فـ«القائد» .وال غرابة يف توليد احلرب الطويلة ( )1988-1980والعامة ،وخ�سائرها الفادحة (نحو مليون قتيل يف البلدين) ،ومدارها القومي واملذهبي على مف�صل دائرتني جغرافيتني و�سيا�سيتني ونفطيتني (ال�رشق االو�سط و�آ�سيا الو�سطى) – �أبنية «الدولة» الوطنية العراقية و�إخراجها اىل امللأ ،على معنى الإن�شاء والإيجاب ولي�س على معنى الرتجمة او النقل. مثال «الدولة» وحروبها فدخلت قمم اجل��ه��از الع�سكري – احل��زب��ي مرحلة تخلي�ص مثال «الدولة» الأمنوذجي من �أب��واب ثالثة: اجلهاز الع�سكري احلا�سم ،والهيمنة املنفردة والعامة
على الدولة الريعية ،والتو�سل بالأمرين اىل �شن حرب �أهلية – قومية يف الداخل وحروب مركبة �أهلية – قومية و�إقليمية يف الدائرة االقليمية القريبة .فا�ستوىل ال�ضباط التكارتة على اجلي�ش وقيادته يف �سياقة طويلة ومتعرجة كان ابتدا�ؤها تو�سط مولود خمل�ص النافذ ،ع�ضو جمعية «العهد» العربية العثمانية يف ،1915-1914وزميل نوري ال�سعيد يف ا�ستانبول ،و�صاحب املكانة البارزة يف ثورة ،1920ال�رشيفي الفي�صلي ونائب رئي�س جمل�س االعيان امللكي ،ومالك االرا�ضي الوا�سعة يف تكريت لقاء خدمته الق�رص واالنكليز ...واملتزوج بامر�أة تكريتية مثل ابيه املو�صلي بالهجرة – البناء جلدته ،ومل تكن خامتتها االغتياالت وت�صفية �ضباط التيارات واالحزاب االخرى و�سد باب اجلي�ش يف وجهها. و�أ�صابت اجلي�ش العراقي ،يف غ�ضون عقدين غداة ،1958موجات تطهري و�إقالة وتقاعد ق�رسي �أطاحت ثالثة �آالف �ضابط ،و�أخرجت تباع ًا امللكيني ،فالعراقويني (بعد مقتل عبد الكرمي قا�سم) ،فاملو�صليني (،)1966 ف�ضباط الرمادي �أو ا ُ جلميليني من ان�صار العارفينْ ، ف�أن�صار عبد ال��رزاق النايف وال��داود (بعد .)1968 وطاول االق�صاء ،وغالب ًا االغتيال بعد االق�صاء ،حلقة ال�ضباط من �أن�صار حزب البعث وع�ضده على ا�ستيالئه الثاين واالخري .فطرد حردان عبد الغفار (التكريتي) يف ت�رشين االول 1970من منا�صبه القيادية والوزارية قبل �أن يقتل يف الكويت ،حيث جل�أ بعد 5ا�شهر .وطرد مهدي عما�ش يف ايلول .1971و�أحلق به عبد الكرمي ال�شيخلي ،وزير اخلارجية .وقتل وزير الدفاع ،حماد �شهاب ،يف حزيران ،1973وجرح �سعدون غيدان، وزير الداخلية ،يف اليوم نف�سه ،بيد العقيد مدير االمن العام ناظم الكزار .و�أعدم هذا بعد 18يوم ًا على حماولة قتله الوزيرين البارزين. وانتهج احلزب �سيا�سة تق�ضي بـ«تخريب اجلي�ش» (���ص )410النظامي التقليدي والوطني .فعمد اىل تدريب الطالب الثانويني احلزبيني على عجل ،وتن�سيبهم اىل اجلي�ش ،وتن�صيبهم �ضباط ًا و�ضباط �صف .و�شرَ َ َط �إنفاذ �أوام��ر ال�ضباط مبوافقة «مفو�ضني» حزبيني تولوا ت�أطري الوحدات الع�سكرية .وا�شرتط على ال�شيوعيني العراقيني ،يف اعقاب حمالت تنكيل واغتيال واعتقال وتعذيب د�ؤوب���ة ،يف رد على مقرتحاتهم اجلبهوية واالئتالفية «الدميوقراطية» ،التخلي عن �أي ن�شاط يف �صفوف اجلي�ش .وخ�ص احلزب امل�ستويل �ضباط اجلي�ش
204
بدايات
العدد |5ربيع 2013
ال�شعوبية العبا�سي و�س ّلطه على القوم الفار�سي وعلى العراقيني ال�شيعة ،من منبت عربي كانوا ام منبت �إيراين. ولكن �إخماد احلركة الوطنية �أو القومية الكردية، املتجددة واملزمنة ،لقاء النزول عن ال�سيادة على جزء من تقدم االعتبار ال�سيادي «االر�ض» يف املخا�ض املائيَّ ، املجرد والبعيد .فاالنق�سام �أو ال�شقاق يف «املركز» تفوق خطورته على احلكم ،وعلى مثاله املت�سلط «احلديدي»، �ضم دول��ة �أجنبية بالقوة حا�شية حدودية متنازعة. والق�ضية الكردية مركبة :فالقوم الكردي ي�ستند اىل رابطة دموية �أهلية و�إقليمية واجتماعية تاريخية ولغوية ال تفل �إال بالإبادة (حمل هذا حزب البعث يف املفاو�ضات التي اف�ضت اىل اتفاق �آذار ،1971على االق��رار بحزبني م�رشوعني وقانونيني هما حزب البعث ،العربي، واحلزب الدميوقراطي الكردي« ،القوميان») .وكرد�ستان العراق غنية بالنفط ،ع�صب �سيادة الدولة العراقية على رعاياها وجماعاتها وهيمنتها من غري منازعة اجتماعية تكتل اجزاء وفئات من اجلماعات .وبالد الكرد تتقا�سم �أرا�ضي اقليمية ووطنية متفرقة ومتنازعة .ففي م�ستطاع البعث ال�سوري ،تو�أم العراقي وخ�صمه ،واحلاكم منذ 1966-1963يف �صيغته «القطرية» و«ال�شعوبية»، التو�سل ُ بكرد «احلزام العربي» املزعوم اىل مناو�أة بعث بغداد ومناكفته .وفاقم اال�ستيالء على لبنان «�سخاءه ،يف ،1976- 1975فحجب مياه الفرات عن االرا�ضي العراقية قبل عقدين من مبادرة �أنقرة اىل تقتريها على االرا�ضي ال�سورية وزراعاتها).
البعثيني ب�شطر ثابت من مقاعد جمل�س قيادة الثورة، املرتجح العدد .وخ�صوا بحقيبة الدفاع ،ومبن�صب حاكم بغداد و�إدارة االمن فيها .وولوا غري منازعني قيادات �سالح الطريان وحامية بغداد وقاعدة احلبانية اجلوية وكتيبة دبابات احلر�س اجلمهوري. واختلط اجلي�ش باالمن واال�ستخبارات �آن كان احلزب يخو�ض حربني �أهليتني ،واحدة على الكرد والثانية على املعار�ضة املنظمة ومعظمها من ال�شيوعيني .فهو ا�ست�أنف العمليات الع�سكرية على كرد�ستان حال ا�ستكماله خيب االمل انفراده مبقاليد احلكم .ولكن َ�سري العمليات ّ يف انت�صار و�شيك .فا�ضطر اىل توقيع اتفاق مع م�صطفى ب���رازاين ،يف �آذار .1970وبعد نحو �سنة ون�صف ال�سنة ح�صلت حماولة اغتيال «غام�ضة» جنا منها املال، فانهارت الهدنة .وجتددت احلرب بعد �ستة ا�شهر من «املفاو�ضة» امل�ضمرة واملواربة .ونقلت بغداد النزاع من �إطاره «الر�سمي» املعتاد ،وهو يف هذا االطار نزاع بني كيانني تنوب عنهما قيادتان ويقاتل جي�شان ،اىل طار �أهلي و�شعبي .ف�أثارت م�س�ألة كركوك و�سكانها و�إدارتها، و�سعت يف «تعريب» ال�سكان �أو تغليب ال�شطر العربي: ف�أنزلت عرب ًا �أتت بهم من و�سط العراق وغربه (من �أقاليم ورحلت ُكرد ًا من موطنهم حزب البعث وبالده وقومه)ّ ، اال�صلي اىل م�ستوطنات معظمها يف اجلنوب العراقي حيث يغلب ال�شيعة .و�آذن ذلك بوالدة �أو ا�ستفاقة م�شكلة قومية و�سيا�سية يف ب��ؤرة م�شتعلة قوية ال�شبه بهوية �أهل االطراف العالقة ،مثل ك�شمري بني باك�ستان والهند وقرب�ص بني تركيا واليونان وقبل هذه وتلك الألزا�س – لورين بني فرن�سا و�أملانيا ،تنطوي على فتيل �رش �أهلي حملي ال ي�ؤمن �أن ال يتطاير �رشره وي�صيب الكتل االهلية اخللفية .والفتيل مل يطف�أ اىل اليوم .وخ�ص الد�ستور العراقي اجلديد (د�ستور )2006كركوك باملادة .140 وعلى مثال �إرادت��ه «ح��ل» امل�سائل «من املركز كتيب «�أحاديث» انطالق ًا» على قول �صدام ح�سني يف ّ ُن�رش يف 1975وك��ان ب��اك��ورة �إ�سهامه الفكري والنظري ،وهو يعني ا�ستئ�صال عوامل جتددها �أو ت�أريثها، نزل احلزب احلاكم عن �شطر من «�شط العرب» كان يلح يف التم�سك به اىل حاكم �إيران البهلوي ،حممد ر�ضا، توجت ب�إعالن اتفاق يف �آذار يف ختام مفاو�ضات طويلة ّ .1975وهو ،احلزب احلاكم وعلى ر�أ�سه رجله القوي و«ال�شاب» �صدام ح�سني� ،صاحب نعرة قومية بدوية على ايران الفار�سية وال�شيعية االمامية ،و�أحيا م�صطلح
وراثة «البقية» ال�شيوعية والت�صدي للق�ضية القومية الكردية ،و«حلها» من طريق �إلغائها بالقوة الع�سكرية وااللتفاف الديبلوما�سي وال�شقاق االهلي وال�شعبي ،خ َّلفا فروع ًا �سيا�سية مل ي�شذّبها احلل املفرت�ض .فحزب البعث املت�سلط وامل�ستويل «ورث» من ف�صول التاريخ العراقي القريب ،الف�صل امللكي والف�صل العراقوي والي�ساري والف�صل النا�رصي والعاريف املختلط ،حركة �شيوعية وي�سارية وطنية ال نظري لها ،هر�ض ًا وقوة وجذور ،يف البلدان واملجتمعات امل�رشقية وال�رشق �أو�سطية القريبة واجلارة .واحلركة ال�شيوعية، حزب ًا منظم ًا ونا�شط ًا وجمهور ًا اجتماعي ًا ي�ساري ًا ووطني ًا ثقافي ًا ،قوية الروابط بجماعتني ينا�صبهما حزب البعث احلاكم العداء االهلي وال�سيا�سي هما ال�شيعة والكرد ،على تفاوت قوة الروابط وتبلورها.
205
بدايات
العدد |5ربيع 2013
فاحلركة ال�شيوعية لي�ست جهاز �شيعة العراق ،على رغم �رشكة االثنني يف اجلماعة املذهبية الكبرية ،ويف بع�ض جمهورها .ومن وجه ثانٍ ،لي�س ل�شيعة العراق، يومها ،جهاز طائفي ،على مثال �صنعته اخلمينية يف ما بعد .واجلماعة الكردية كانت مبنزلة م�لاذ يلج�أ اليه ال�شيوعيون وي�ستقوون به .فهي ربطتها باالحتاد ال�سوفياتي ،وببع�ض �أطوار «�سيا�سته القومية» وتو�سله «حق القوميات يف تقرير م�صريها» (ما �أُعمل «احلق» يف حتطيم االمرباطوريات املتاخمة واملركبة) �آ�رصة متينة. واىل ذلك ،كانت اجلماعات القومية والدينية املتحدة من امللل العثمانية �أر�ض ًا خ�صبة �أنبتت لل�شيوعيني واحزابهم وكتاباتهم وكتابهم ودعاة ا�ضطلعوا غالب ًا بدور واختلط اجلي�ش باالمن واال�ستخبــــــــــــــــــــــارات �آن كان احلزب يخو�ض حربني �أهليتـــــــــــــــــــــــني، واحدة على الكرد والثانيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة على املعار�ضة املنظمة ومعظمهــــــــــــــــــــــــــــــا من ال�شيوعيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــني النواة واخلطوة االوىل يف م�سريها (يف الكتاب الثاين، ف1و2و3و��� ،4ص ،84-17رواية بدايات احلركة ال�شيوعية ،يف العراق و�شطر من امل�رشق العربي ،ال تلم بالأقوام واجلماعات وح�سب بل بع�رشات «االبطال» ومق�سم واح��د ًا واح��د ًا) .فالكرد �شعب من غري دول��ة، َّ وق ّلة قومية« ،م�ست�ضعفة» على �س ّلم املراتب ال�سيا�سية، ومنق�سم على نف�سه انق�سام ًا اجتماعي ًا عميق ًا .وهذه عوامل احت�سبتها االحزاب ال�شيوعية الوطنية يف عهد االممية الثالثة ال�ستالينية (اىل ،)1953ثم يف اطار مكتب التن�سيق او الكومنفورم (اىل ،)1957وبقيت عرف ًا ومرياث ًا تقليديني. مر و�صفه ،مد احلزب امل�ستويل وعلى املثال الذي َّ اجلديد يد ال�صلح واحللف اىل احلزب املناف�س واملناوئ الذي باعده منه عنف املو�صل يف 1959وعنف الت�صفية واملطاردة يف اثناء اال�ستيالء االول (�شباط – ت�رشين الثاين .)1963فاقرتح على خ�صمه ال�شيوعي ،املزدوج «قيادة مركزية» و«جلنة» مثلها ،غداة االنقالب مقاعد وزارية قليلة يف اطار ت�ضامن القوى الثورية والوطنية بعد حزيران .1967فرد اجلناحان ببنود «دميوقراطية» تفرت�ض قبول اقت�سام ال�سلطة والنفوذ ،والإقرار بافرتاق اجلماعات واختالفها ،وبحقها يف اقت�سام املوارد العامة
والتمثيل ال�سيا�سي امل�ستقل واالحالف الوطنية واالقليمية والدولية بح�سب التمثيل ال�سيا�سي على حدة .وعلى هذا ،دعا الفريقان احلزب امل�ستويل اىل اطالق املعتقلني ال�سيا�سيني ،و�ضمان حرية االحزاب وحكم ذاتي للأكراد، وت�أليف حكومة «موقتة ائتالفية دميوقراطية تقدمية». وبدا �أن حزب البعث خطا على الطريق املقرتحة خطوة تالقي اخل�صم واملناف�س العتيد .فعفا ،يف �أيلول ،1968 عن املعتقلني ال�سيا�سيني .وقرر عودة املوظفني املطرودين من وظائفهم بذارئع �سيا�سية و«عقائدية» .و�أجاز عودة ال�شيوعيني املنفيني �أو الهاربني من منافيهم ومالجئهم. و�سكت عن حرية العمل احلزبي .ويف �أعقاب �شهرين على اجراءاته هذه ،وهي حملت مئات �أو رمبا �آالف ًا من جمهور ويف ال�سجون ،عذَّ ب ال�سجانون البعثيــــــــــــــــــــون املعتقلني ال�شيوعيني تعذيب ًا ث�أريــــــــــــــــــــــــــــــ ًا �أودى بـ 20منهم ،على �أ�ضعف تقدير ،فيهــــــــــــــــم قياديان من ال�صف االول همــــــــــــــــــــــــــــــــــــا متي هرني هندو و�أحمد حممود احلـــــــــــــــــــــــالق. ال�شيوعيني والي�ساريني والتقدميني على العودة اىل بالدهم و�أ�رسهم� ،شن احلزب امل�ستويل على اجهزة القوة واملراقبة يف الدولة حملة اغتياالت مت�صلة طاولت قادة بارزين، ونقابيني ميدانيني ،ونا�شطني متظاهرين .فاغتال «جمهولون» نا�رص احلاين ،يف .1968/11/10وكان «جمهولون» �آخرون �أغاروا على معمل زيوت نباتية ببغداد ،يف 11/5 �أعلن عماله �إ�رضاب ًا فقتلوا �شيوعيني من عماله .وعندما ال بالذكرى اخلم�سني خرجت تظاهرة ،يف ،11/8احتفا ً للثورة البل�شفية يف بغداد هاجم �ساقتها (�أو �صفوفها االخرية) ملثمون م�سلحون بال�سكاكني وبقناين الزجاج الناتئة والهراوات فقتلوا 3متظاهرين .و�أتبع مكتب االمن القومي ،يف قيادة �صدام ح�سني ،القتل واالرهاب باعتقاالت زجت يف ال�سجون ع�رشات من القيادات ال�شيوعية ،معظمها اختارهم املكتب من «القيادة املركزية». فهذه جتر�أت على �إن�شاء ف�صيل م�سلح �صغري توىل عمليات «ثورية» رمزية مثل �رسقة (م�صادرة) ممتلكات و�أموال� ،أو خطف متنفذين ،وذروة اجلر�أة كانت اطالق نار على منزل �صدام ح�سني ومنزل �صالح عمر العلي. ويف ال�سجون ،عذَّ ب ال�سجانون البعثيون املعتقلني ال�شيوعيني تعذيب ًا ث�أري ًا �أودى بـ 20منهم ،على �أ�ضعف تقدير ،فيهم قياديان من ال�صف االول هما متي هرني هندو
206
بدايات
العدد |5ربيع 2013
و�أُغ�ضي عن �إ�صداره �صحيفة �أو ن�رشة حزبية كئيبة ،كان احلزب – الدولة �أر�سى دعائمه على االنقا�ض ال�سيا�سية العراقية ،وقو�ض �أبنيتها من غري ا�ستثناءُ :خنق ما يقوم به العمل ال�سيا�سي املنظم �أو التلقائي ،و�أُحلقت املادة اجلمعية �أو االجتماعية «االوىل» باملراقبة واملطاردة االمنيتني، وانكف�أت االوا�رص االهلية على هياكلها.
و�أحمد حممود احلالق .وانهار عزيز احلاج� ،أمني «القيادة املركزية» االول ،وخرج على التلفزيون ،يف اوائل ني�سان، ودعا اىل التخلي عن العنف .وهو كان رعى القوة امل�سلحة جرت عليه ،وعلى حزبه �أو جناحه ،ث�أر ال�صغرية التي َّ البعث .وكانت «القيادة املركزية» ،نف�سها دربت ،قبيل اال�ستيالء البعثي ،خلية م�سلحة يف هور العموقة ،جنوب ولوحت بانتهاج طريق «حرب ال�شعب» .و�أبدى العراقّ ، بع�ض «القياديني» حما�سة «خيالية» للخط ال�صيني ،ومل ِ يبده ف�صيل �شيوعي �آخر له .فانقالب عزيز احلاج على الر�أي املو�شك �أن ينقلب «عقيدة» يف غ�ضون �أقل من قو�ض بع�ض اركان جناحه .وقطفت ال�سيا�سة ال�شهرينَّ ، البولي�سية البعثية ،وهي �أم�ست �صدامية يف هذا الف�صل، ثمرة قمعها العنيف اجلناح ال�شيوعي البارز .فالن اجلناح الآخر« ،اللجنة املركزية» .وقبل عزيز �رشيف ،االمني العام ال�سابق حلركة �أن�صار ال�سلم ،تعيينه وزير ًا للعدل ،يف �آخر �شهر من .1969و�أدى «الوجه» ال�سيا�سي البارز ال يف مفاو�ضات احلزب احلاكم واحلزب واملختلط دور ًا فاع ً الدميوقراطي الكردي الطويلة (يف �آذار .)1971وت�سليم عزيز احلاج ،وا�ستقالل عزيز �رشيف ب�سيا�سته ،مل يح�صنا ال�شيوعيني ،على اختالف �أجنحتهم وعقائدهم ،من عنف النظام البولي�سي .فقمع «جمهولون» م�سلحون تظاهرة �شيوعية خرجت ببغداد يف عيد النوروز ،يف �أول �أيام ربيع ،1970وقتلوا حممد �أحمد اخل�رضي ،ع�ضو جلنة بغداد القيادية رمي ًا بالر�صا�ص .واعتقل مئات ال�شيوعيني يف �أنحاء العراق ،وعذب منهم من عذب ،وقتل من قتل، و�أطلق بع�ضهم بعد �سنوات قليلة �أو كثرية. وجت��ددت يف �أواخ���ر 1970و�أوائ���ل 1971 االعتقاالت والقتل يف اثناء التعذيب و�أعمال اخلطف والتغييب من غري �أثر .وقبيلها بقليل اف�صح احلزب احلاكم عن ا�شرتاطاته على ال�شيوعيني ،وعلى احلركات ال�سيا�سية االخرى �ضمن ًا وفيها النا�رصيون والقوميون العرب (وهم 9منظمات وتيارات �أو ان�شقاقات متنا�سلة) .وهي تق�ضي باالعرتاف باحلزب املت�سلط حزب ًا -دولة واحد ًا« :ثورياً وحدوي ًا ا�شرتاكي ًا دميوقراطي ًا» ،وقائد ًا ،وقومي ًا ورائد ًا على طريق «حترير كامل فل�سطني» ...وال يتم هذا �إال ب�إنكار ال�شيوعيني ،وغريهم� ،أحكامهم ،ما�ضي ًا وحا�رض ًا ،يف البعث ودولته وانقالبه و�سيا�ساته و�أحالفه .وحني وقع �أحمد ح�سن البكر وعزيز حممد ،غداة �إعدام ناظم الكزار، ووليِّ «احلليف» وثيقة العمل الوطني ،يف متوز ُ ،1973 ال�ضعيف وزارة الري «االجتماعية» ووزارة دولة فخرية،
«الإ�صالح» من غري مرتتباته واحلق �أن طموح حزب البعث مل يقت�رص على اال�ستيالء على «الدولة» ،واال�ستقرار فيها ،واالنفراد مبواردها وت�رصيف اداراتها املتفرقة و�إثبات جدارته بهذا املوقع .فهو اعتقد� ،أو اعتقدت قيادته «ال�شابة» اعتقاد ًا ثابت ًا وجازم ًا ب�أن اال�ستيالء على اجهزة القوة والتدبري ،وعلى املوارد ،مرحلة على طريق و�سحق القوى ال�سيا�سية اجناز او انعطاف تاريخي حا�سم. ُ االخرى واملناف�سة ما �أمكن ،بعد �أن ا�ست�أ�صلت االنقالبات املتعاقبة منذ �صيف « 1958الطبقات القدمية ودولتها و�أركان الدولة االجتماعية ،هو من مقدمات االنعطاف او االجناز املتوقع وامل�أمول .فقيادة حزب البعث العراقي� ،ش�أن معظم احلركات التي تبلورت مناهجها ومبانيها يف العقد ال�ساد�س من القرن الع�رشين ،وعا�رصت ت�صفية �إرث ال�سيطرة االجنبية املبا�رشة على بلدانها وبروز االحتاد ال�سوفياتي قطب ًا دولي ًا نافذ ًا ،حملت �أبنية احلكم وال�سلطة على «بناء قومي» ال ي�ستقر وال يتما�سك ويدوم �إال بر�سوه على قواعد اجتماعية واقت�صادية متينة ورا�سخة .ويق�ضي �إر�ساء «البناء الفوقي»� ،أو الدولة الوطنية امل�ستقلة (يف قيادة حزب طليعي) واملبادرة اىل �ضمان اال�ستقالل االقت�صادي على �أ�س�س «الرتاكم االويل» والت�صنيع املركزي والزراعة «التعاونية» ،بجمع املوارد كلها بيد �أجهزة احلزب ،واجلهاز املهيمن على االجهزة .وجمع املوارد يفرت�ض حرمان القوى االخ��رى ،ال�سيا�سية احلزبية واالجتماعية املتملكة ،من مواردها ،املادية واملعنوية �أو الرمزية (الرابطة الدينية املذهبية والرابطة الثقافية �أو الرابطة الع�صبية .)...وما بقي من مقومات انتاج �أو توزيع �أو �إدارة �أو تداول ،م�ستقلة عن املركز و�آالته، ر�آه املركز خروج ًا عليه وعدوان ًا .وعلى هذا ،افترُ �ض يف «اال�صالحات» الزراعية املتفرقة واملختلفة امل�سري يف طريق تف�ضي اىل ان�شاء طبقة من متو�سطي املزارعني و�صغارهم، جتزي الفالحني على انخراطهم يف التحرر من �سطوة كبار مالكي االر�ض يف الداخل ،وجت ُّن ِدهم يف احلرب الوطنية على امل�ستعمر الغا�صب و«عمالئه» ،و ُتبوئهم املكانة التي تعود لهم يف جبهة دميوقراطية اجتماعية .فكان �أن تفرق
207
بدايات
العدد |5ربيع 2013
املزارعون والفالحون «اجلدد» ،وتبددوا من غري رابطة وال �آ�رصة .ف�إما عاد املالكون القدامى �أو التجار الذين حلوا حملهم (على املثال امل�رصي) ،و�إما هجر املزارعون االر�ض اىل �ضواحي املدن و�أريافها و�أربا�ضها ،وتركوا االر�ض موات ًا (على املثال ال�سوري ). فقادت «املارك�سية املو�ضوعية» ،على ما �سمى املذهب ال�سوفياتي يف «الطريق الالر�أ�سمايل بع�ضهم َ اىل اال�شرتاكية» و«مقاالت النق�ض على االمربيالية» (مك�سيم رودن�سون) ،قيادة البعث اىل اجراءات اجتماعية �أو «طبقية» راديكالية .ف�أقرت ،يف ،1973قانون ًا يحظر طرد الفالح من �أر�ضه حتت �أي ذريعة �أو عذر ،ويثبته يف ملكه ،ويحول بني امل ّ ال ب�سوء الك ال�سابق وبني التقا�ضي متعل ً تطبيق القانون .و�أتبعت االجراء القاطع هذا ب�إلغاء حق املالك يف االحتفاظ لنف�سه و�أ�رسته ب�أف�ضل قطعة �أر�ض. وخف�ضت احلد االق�صى للحيازة الزراعية اىل 40دومن ًا يف االرا�ضي اخل�صبة واملروية ،و 2000يف االرا�ضي القاحلة وال�صحراوية �أو �شبه ال�صحراوية .و�ألغت تعوي�ض املالكني عن االرا�ضي امل�صادرة ،ومعه ديون الفالحني اىل �صندوق اال�صالح الزراعي �أو اىل املالكني القدامى. وتوجت قيادة حزب البعث االجراءات القانونية ب�إجراءات اقت�صادية و�إن�شائية مكملة :فخططت لكهربة 4200 قرية ،وا�ست�صالح 4ماليني دومن ،و�إن�شاء �أ�سواق �شعبية تباع فيها منتجات االر���ض من غري و�سطاء .وق�ضت وتخفي�ض �أ�سعار �سعر اخلبز الثابت، َ بدعم اخلزينة العامة َ الآليات الزراعية واال�سمدة الكيماوية .وزادت احلد االدنى للأجر اليومي ،يف الريف واملدينة ،من 450فل�س ًا اىل ( 550ف�إىل 650فل�س ًا يف ،1974و 900فل�س يف ،1976و 1100فل�س يف .)1977وا�ست ّنت قانون ت�أمني �أو �ضمان اجتماعي ن�صت بع�ض مواده على ت�سديد تعوي�ضات �إعاقة .وتواقتت هذه االجراءات املت�صلة، ويقت�ضي متويلها م��وارد كبرية يقع معظمها على عاتق الدولة و�شطر منها ي�ضعف «القاعدة املادية» لنفوذ مالكي االر�ض ،مع حمالت �إرهاب ال�شيوعيني وخنقهم والتلويح باحلرب على الكرد �أو خو�ضها .ويغلب الوجه ال�سيا�سي والظريف منها الوجه «اال�سرتاتيجي» الذي يرتتب عليه بروز قطب اجتماعي جديد ي�ضطلع بدور فاعل يف االنتاج، ويف املوازين االجتماعية وال�سيا�سية .فهي ق�صدت اىل احل�ؤول بني اجلماعات ال�سيا�سية املعار�ضة واملناه�ضة وبني تو�سلها باالحوال االجتماعية املرتدية والقا�سية اىل تعبئة «اجلماهري» و«الطبقات الكادحة» .وهذا جزء من الو�صاية
ال�صارمة «الطليعية» والفوقية التي �أوكلتها االحزاب امل�ستولية على الدولة الوطنية اىل نف�سها ،و�أق��رت لها مب�رشوعيتها وا�ستقامتها العملية «الكتلة اال�شرتاكية» �أو ال�سوفياتية ،ومل تكذبها ال�سيا�سة الر�سمية املاوية �أو تنكرها. مراكمة الريوع ...و�أهلها ودعت �أثقال هذه االجراءات على الدولة احلزبية ال�ساعية يف الهيمنة العامة على «عيالها» ورعاياها املواطنني، دعت الدولة اىل �سد حاجاتها املتعاظمة اىل موارد ال بالغرف تدين بها اىل انتاج املواطنني املنتجني والعاملني ْ من عوائد النفط الريعية يف املرتبة االوىل .وكان الت�أميم، �أي ا�ستحواذ جهاز االدارة على امللكية واالنتاج والتوزيع
عددها ،يف � 450 ،1982ألف ًا اىل مليون م�سلح. وغداة احتالل الكويت ،يف � 2آب ،1990هدد �صدام ح�سني بزيادة العدد اىل 4-3ماليني .وع�شية احتالل التحالف االمريكي – الغربي العراق ،لوح الرجل نف�سه مبليونني من «فدائيي �صدام» ،هم بقية «اجلي�ش ال�شعبي» العتيد بعد �أن �سمي با�سمه القريب من وظيفته الفعلية. واىل الع�سكريني وخليطهم ،جند حزب البعث موظفني يف وزارة الداخلية بلغ عددهم ،يف ،1978 � 150ألف موظف .وكانوا قبل �سنتني اقل من 100 �ألف بقليل .فجمعت وزارتا احلرب واالمن ،قبل احلرب العراقية – االيرانية وبعد �أن �ألقى الكرد ال�سالح، � 368ألف ًا ،ما ن�سبته 51عراقي ًا من االلف وواحد من 5عاملني .ف�إذا �ضم اىل ه�ؤالء املوظفون االداريون بلغ العدد 1.2مليون ،وهو ن�صف عديد اليد العاملة يف مدن العراق .ويف االثناء� ،1984 ،صار عدد احلزبيني� ،أن�صار ًا وم�ؤيدين ،مليون ًا ون�صف املليون، كلهم «موظفون» يتقا�ضون مرتبات من خزينة االموال العامة .واحلزبيون العاملون« ،النخبة» ،يعدون 25 �ألف ًا ون�سبتهم من «�أمة» احلزب واحد من �ستني .و�شطر من موظفي االدارات ،ومعظم القيادات الع�سكرية واالمنية ،هو من ه�ؤالء احلزبيني على مراتبهم املتفرقة واملتفاوتة .فرتبعت االدارة احلكومية ،واالدارة احلزبية نواتها العري�ضة والطاغية ،حمل القوى االجتماعية، وظائف وكم ًا .و�إذا كانت ح�صة املوظفني املدنيني من كل َ �ألف عراقي ،يف 3 ،1958موظفني ،فهي بلغت ،يف 26 ،1968موظف ًا� ،أي � 8.6أ�ضعاف ،قرينة على ابتداء م�سري ال�سيطرة احلزبية ال�سيا�سية على �أجهزة االدارة .ورفع حزب البعث احل�صة ،غداة � 8سنوات على ا�ستيالئه ،اىل 45يف االلف ،فـ 63يف االلف ع�شية احلرب على �إيران يف .1980فاحلزب امل�ستويل ي�سع يف ا�ستمالة «قاعدة اجتماعية» اىل �صفوفه، مل َ و�سواها. وباالحرى متثيل هذه القاعدة ،بل �صنعها بيده ّ و�رصف على �صنعها موارد الدولة يف �أعوام البحبوحة والنفط «الغايل» ،وبددها على هذا االنفاق الذي ال ميت اىل «الرتاكم االويل» ب�سبب ،على خالف ر�أي بطاطو يف امل�س�ألة (�ص 448من امل�صدر نف�سه). وبينما عمد احل��زب امل�ستويل اىل �إلغاء ق�سمة املجتمع والدولة وقيام املجتمع ب�إزاء الدولة – وهما وخروجها من (الق�سمة والقيام) ركن تقييد ال�سلطة َ «االهل» – ن�رش التعليم وق ّل�ص االميني من � 3أرباع
اىل ،1975وا�ستكمال �سيطرته على موارد يحتاجها يف وجوه �سيا�سته و�سيطرته كلها .وت�شغيل حقل الرميلة ال�شمالية ،من طريق امل�ساعدة ال�سوفياتية ،حلقة من حلقات تعاون يف �صناعات زراعية مثل اال�سمدة والفو�سفات �أو جتهيزية مثل الكهرباء وخطوط نقلها وم�صفاة تخزين النفط امل�ستخرج ،ويف التجهيز الع�سكري .وال ريب يف ان النهج «القومي» والهجومي املت�شدد الذي انتهجه احلزب العراقي يف امل�س�ألة الفل�سطينية ،ثم يف امل�س�ألة االيرانية ،وامل�س�ألة الكردية الداخلية ،فالعالقات باخلليج ودول �ضفته الغربية وبال�شيعة العراقيني والكرد مرة �أخرى – يدين مب�سوغاته وجوازه العملي اىل �إحكام قب�ضته على «حياة النا�س» (بطاطو� ،ص ،433ك ،3ف�صل «اخلامتة»).
وحني ا�ستقر احلزب غداة احلرب العراقية – االيرانيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة، يف �سدّ ة احلكم قوي ًا ومنيع ًا ...ح�ضت �صحافة احلزب الرجال العراقيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــني، �أي «فر�سان» العراق «الن�شامى» ،اىل االقت�صا�ص من الن�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء («املاجدات» �سابق ًا) الالئي ي�شكون يف ف�ضيلتهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن ال» ،هو القتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل (غداة حرب عا�صفة امتحنت اال�رس [�ضد ايران]) ق�صا�ص ًا «عاد ً والعوائد� ،صار ،يف االثناء �أي يف العقد ال�سابع� ،سيا�سة ال خرية لل�سلطات الوطنية وال�شعبية و«الدميوقراطية االجتماعية» فيها ،ويف انتهاجها .وف�ضيلتها الراجحة هي تلبيتها حاجتني مت�ضافرتني :حاجة الطاقم احلاكم متول ا�ستقالله عن ال�سيطرة وامل�ستويل اىل ريوع ثابتة ّ االجنبية وعن املوارد الداخلية واالجتماعية (التي ينتجها املجتمع) مع ًا ،وحاجة ال�سكان اىل مورد �أو عائد مبا�رش يقيتهم ويقوم بحاجاتهم احليوية ،واىل مرافق عامة حيوية مثل التعليم والطبابة واملوا�صالت واالت�صاالت. و�أجمعت كتلتا احلكام امل�ستولني واملحكومني الرعايا على الت�أميم ،والتبا�س �أغرا�ضه و�أدواره .وحال العراق يف الن�صف االول من العقد الثامن قرينة قوية على االلتبا�س، من وجه ،وعلى اال�ضطرار ،من وجه �آخر .فما �إن تعمدت ال�رشكة «العراقية» تقلي�ص االنتاج ال�سنوي من 57 مليون برميل اىل 30مليون ًا ،اقت�صا�ص ًا من ت�شغيل حقل الرميلة ال�شمالية يف رعاية �سوفياتية وملكية الدولة، يف ني�سان ،1972حتى بادر احلزب احلاكم اىل ت�أميم ال�رشكة االجنبية يف حزيران من ال�سنة نف�سها .فا�ستبق، هو ومعمر القذايف« ،اال��ضراب» النفطي يف ت�رشين االول 1973وم��وازاة احلرب امل�رصية وال�سورية – اال�رسائيلية .وم�ضى حزب البعث على �سيا�سته النفطية
208
بدايات
العدد |5ربيع 2013
وانغم�س احلزب – الدولة (– املجتمع الظاهر من دون املجتمع العميق) يف حروب الداخل واخلارج .و�أن�ش�أ �أجهزة �سيطرته وغلبته من طريق تو�سع عددي هائل ومتفاوت املراتب والنفوذ ،مولته املوارد ال�ضخمة التي جناها احلزب احلاكم من موجتي زيادة ا�سعار النفظ وقفزتها يف 1973و .1978فحني انقلب احلزب على عارف الثاين ،يف �صيف ،1968كان عديد اجلي�ش العراقي يبلغ � 80ألف ًا �أو �أقل بقليل ،ويبلغ �سكان العراق 8.5ماليني .وعلى هذا ،من كل �ألف عراقي ،من االعمار كلها ومن اجلن�سني ،كان ثمة 10ع�سكريني .ويف �أثناء عقد واحد من ال�سنني زاد عديد اجلي�ش � 3أ�ضعاف ،حني زاد عدد ال�سكان �أقل من الثلثني ( 13.5مليون ًا) .ف�صار ثمة من كل �ألف عراقي 18ع�سكري ًا .فلما م�ضت 4 �أعوام على ابتداء احلرب العراقية – االيرانية ،قفز عديد اجلي�ش اىل � 600ألف ،ون�سبة الع�سكريني من كل �ألف عراقي اىل .42وتفوق هذه الن�سبة مثلها يف عهد �شاه �إيران نحو � 5أ�ضعاف ،ونظريها الربازيلي � 24ضعف ًا (االرقام واملقارنة عن �سمري اخلليل ،قناع كنعان مكية، «جمهورية اخلوف» 1990 ،املو�سوم بالفرن�سية «الآلة اجلهنمية») .و�إىل اجلي�ش النظامي� ،أن�ش�أ احلزب «جي�ش ًا �شعبي ًا» هو «ميلي�شيا» �أهلية وعامية م�سلحة قارب
209
بدايات
العدد |5ربيع 2013
العراقيني اىل اقل من ن�صفهم .و�أقبلت الن�ساء على التعليم ،وعلى العمل من َبعد ،من غري معوقات .وغلنب على مهن مثل ال�صيدلة وطبابة اال�سنان .وناط احلزب بهيئات ق�ضائية ،وباللجان ال�شعبية (�أي احلزبية� ،ش�أن «اجلي�ش») الو�صاية على بع�ض االحوال ال�شخ�صية التي كان االهل �أو الع�شرية ،يبتونها يف �ضوء االعراف واالح��ك��ام الفقهية .و�أ�ضعفت الهيئات الق�ضائية واللجان احلزبية االبنية االجتماعية و�أعرافها املتوارثة. و�سعت يف تقلي�ص �سطوتها على االهايل ،ويف بلورة مدونة «وطنية» وم�شرتكة. ّ وح�ين ا�ستقر احل��زب غ��داة احل��رب العراقية – و�شبه على بع�ض االيرانية ،يف �سدة احلكم قوي ًا ومنيع ًاَّ ، العراقيني ،وعلى معظم «املجتمع الدويل» و�إعالمه ،بلورة وطنية عراقية متما�سكة ومولودة من حربه الطويلة على �إي��ران وحرب �إي��ران عليه – ح�ضت �صحافة احلزب الرجال العراقيني� ،أي «فر�سان» العراق «الن�شامى»، اىل االقت�صا�ص من الن�ساء («املاجدات» �سابق ًا) الالئي ي�شكون يف ف�ضيلتهن (غداة حرب عا�صفة امتحنت ال» ،هو القتل .وو�صف النظام اال�رس) ق�صا�ص ًا «ع��اد ً «اخلروج عن الف�ضيلة»� ،ش�أنه يف و�صف اجلرمية الو�ضيعة او العادية ،و�صف ًا �سيا�سي ًا ،فقرنه بالرقابة الدولية على الت�سلح .فبدد ثمرة ن�رش التعليم واالنخراط يف العمل املهني ،وجزى بالقتل اخلروج واالنتهاك الفرديني ملعايري عمل حتتكم اىل حلمة اجلماعات و�سيطرتها على االفراد. فعلى مثال اال�صالح الزراعي الذي مر الكالم فيه، احت�سب احلزب – الدولة ( « -املجتمع») من التعليم وعمل الن�ساء وحتكيم الق�ضاء «املدين �إ�ضعافها ت�سلط االبنية االهلية املحافظة ،االبوية واملذهبية الدينية، على ��شرط �أال يرتتب على «التحديث» ا�ستقالل طبقات و�سطى مدينية ب�أحكامها و�آرائها و�سنن جديدة، ووالدتها �أفراد ًا ال ي�ؤمن انقالبهم مواطنني «يريدون» – وقد يجتمع منهم «�شعب» على غري معنى ال�شعوبية �أو القومية ،ميتنع من االلتحام والتكتيل والتوحيد ،ويوجب حقه يف االنق�سام واملنازعة� ،أي يف ال�سيا�سة. ف�إذا كان هذا �ش�أن «بعث �صدام ح�سني» ،وعلى مثاالت قريبة وخمتلفة �ش�أن بعث حافظ اال�سد وخالفه و�ش�أن �شطر غالب من النظام النا�رصي امل�رصي وخالفيه ،فقد يدعو ما تقدم من اقتفاء �أثر ،ومن «ق�ص�ص» ،رفع االقتفاء اىل حلقات ن�سب �أ�سبق ،والنزول منه اىل االنقالب «الليربايل» املعومل على الدولة – احلزب (« -املجتمع»).
انواع خمتلفة نوعيا من ال�سلع ثمة �رشط �آخر من �رشوط جتاوز الر�أ�سمالية الزماتها البنيوية هو اللجوء اىل التجديدات بل اىل «الثورات» يف عامل التكنولوجيا .يرى �أرن�ست ماندل ان تلك للتو .تقابل التغيرّ ات ت�صادف احلقبات التي و�صفناها ّ تكنولوجيا البخار حقبة الر�أ�سمالية القومية؛ والكهرباء الذرية و�آل��ة االح�تراق حقبة االمربيالية؛ والطاقة ّ وال�سيربنيتيكا حقبتنا احلالية ،حقبة الر�أ�سمالية املتعدية ي�سميها البع�ض اجلن�سية والعوملة ،وهي احلقبة التي ّ «حقبة ما بعد احلداثة» .و ّل��دت تلك التكنولوجيات �أمناطا جديدة من ال�سلع و�أدت اىل فتح ف�ضاءات عاملية جديدة ،فتولت بالتايل «تقلي�ص» مدى الكرة االر�ضية و�إع��ادة تنظيم الر�أ�سمالية وفق مقيا�س جديد .بهذا املعنى ت�صري تو�صيفات الر�أ�سمالية املت�أخرة ،وفق ًا ملقايي�س املعلوماتية او ال�سبرينيتيكا ،منا�سِ بة (وكا�شفة جد ًا من الناحية الثقافية) ولكنها حتتاج اىل اعادة ربطها بالديناميات االقت�صادية التي ي�سهل ف�صلها عنها على نحو بالغي وفكري واديولوجي. اذا كانت هذه التحقيبات العامة لر�أ�س املال مقبولة، يت�ضح فورا ان منوعات «ما بعد املارك�سية» التي تعود اىل برن�شتاين يف منعطف القرن االخري او اىل ما «بعد البنيوية» يف الثمانينات ،اكانت تطرح «ازمة» املارك�سية او تب�شرّ حتى بـ «موتها» ،تزامنت مع احلقبات التي يتم فيها �إعادة تنظيم تو�سعها على نحو باهر .وهذه احلقبات الر�أ�سمالية وحتقيق ّ ا�ستتبعتها بدورها م�شاريع نظرية خمتلفة ملارك�سية اكرث حداثة -بل قل بعد حداثية ،يف ع�رصنا هذا -هي مارك�سية املتوقعة التي تفتحت حتاول التنظري للف�ضاءات اجلديدة وغري َ امام مو�ضوع درا�ستها التقليدي ،الر�أ�سمالية بذاتها.
مخس أطروحات يف الماركسية المعارصة االطروحة االوىل فريدريك جاميسون تظهر تيارات ما بعد املارك�سية بانتظام يف اللحظات ذاتها حتول بنيوي على الر�أ�سمالية. من ابرز النقاد التي يطر�أ فيها ّ التعمق الماركسيني االمريكيني ان املارك�سية هي ِعلم الر�أ�سمالية .وملزيد من ّ ّ امل�صطلحني ،نقول انها علم التناق�ضات الكامنة والمنظرين لتيار بعد يف َ احلداثية .من مؤلفاته يف �صلب الر�أ�سمالية .هذا يعني انه ال معنى لالحتفال «المنطق الثقايف بـ«موت املارك�سية » يف الوقت الذي يعلن فيه االنت�صار للرأسمالية المتأخرة»؛ النهائي للر�أ�سمالية ولل�سوق .فاالحرى القول ان هذه «الالوعي السيايس»؛ االخرية [الر�أ�سمالية] ت�ضمن م�ستقبال م�ضمونا لالوىل «الماركسية [املارك�سية] بغ�ض النظر عن مدى «نهائية» انت�صارها. والشكل»؛ «حفريات هذا من جهة .اما من جهة اخ��رى ،فان «تناق�ضات» المستقبل» ( )٢٠٠٥الر�أ�سمالية لي�ست عملية انحالل داخلي هالمية ،امنا هي ِ ومنتظمة قابلة لأن يجري تنظريها بعد آخر اعماله عن متثل عملية �رشعية رأس المال اجلزء االول وقوعها .فمثال ،يف كل حلظة معينة من حلظات منوها ،ف�إن ( )٢٠١١املدى الذي ت�سيطر عليه الر�أ�سمالية بوا�سطة ال�سلع التي هي قادرة تقنيا على انتاجها ،يزدحم اىل درجة ما فوق الإ�شباع .من هنا ان هذه االزمة ازمة بنيوية. على ان الر�أ�سمالية لي�ست جمرد نظام انتاج او منط انتاج ،انها منط االنتاج االكرث مرونة واالوف��ر قابلية للتكيف الذي عرفه التاريخ االن�ساين اىل الآن .وقد �سبق ّ له ان تغلّب على مثل تلك االزمات الدورية .حتقق له ذلك بوا�سطة ا�سرتاتيجيتني اثنتني ا�سا�سيتني :تو�سيع النظام، وانتاج انواع من ال�سلع خمتلفة جذريا عن �سابقاتها. تو�سيع النظام للر�أ�سمالية دوما مركز .كان املركز ال�سابق هو املركز االنكليزي وهو الآن مركز الهيمنة االمريكي .وكان كل مركز جديد �أو�سع مدى واكرث احاطة من املراكز التي �سبقته .وبهذا تنفتح جماالت �أرحب للت�سليع عموما ،ولقيام
210
بدايات
العدد |5ربيع 2013
اال�سواق و�إنتاج املنتجات اجلديدة .وفاقا ل�صيغة خمتلفة نوعا ما من �صيغ ال�رسد التاريخي ،ن�ستطيع احلديث عن حقبة قومية من حلظات تطور الر�أ�سمالية انبثقت من الثورة ال�صناعية يف القرن الثامن ع�رش .وتلك هي احلقبة التي خربها مارك�س نف�سه ّ ونظر لها ،و�إن يكن ب�صورة نبوئية. وقد �أعقبتها يف نهاية القرن التا�سع ع�رش حقبة االمربيالية، حيث انخرقت حدود اال�سواق القومية وت�أ�س�س نظام كولونيايل �شامل للعامل ب�أ�رسه .اخريا ،بعد احلرب العاملية الثانية ويف ع�رصنا احلايلّ ، تفكك النظام االمربيايل القدمي ّ وحل حم ّله «نظام عاملي» جديد ت�سيطر عليه ال�رشكات املتعدية اجلن�سية .ان احلقبة احلالية من الر�أ�سمالية ،الر�أ�سمالية «العابرة للقوميات» ،تعي�ش توازنا قلقا ،بعد انهيار االحتاد ال�سوفياتي ،بني ثالثة مراكز هي اوروبا والواليات االمريكية املتحدة واليابان ،لكل مركز ملحقاته ال�شا�سعة من الدول الدائرة يف فلكه .هذه احلقبة الثالثة ،التي مل تكتمل مراحل انبثاقها احلا�سمة اال مع نهاية احلرب الباردة (على افرتا�ض انها اكتملت ف�صوال) هي بالت�أكيد اكرث «عوملة» من ع�رص االمربيالية ال�سابق .فمع «حترير اال�سواق» (ح�سب الت�سمية الدارجة) يف ارا�ض �شا�سعة من الهند والربازيل و�أوروبا ال�رشقية ،باتت فر�ص تغلغل ر�أ�س املال وال�سوق �أعظم نوعيا مما كانت عليه يف مراحل �سابقة من الر�أ�سمالية .فهل يجب اخللو�ص من ذلك اىل ان هذا هو االكتمال النهائي تكون ال�سوق العاملي وبالتايل بلوغ ملا تنب�أ به مارك�س حول ّ الر�أ�سمالية حقبتها اخلتامية -مبا فيها «الت�سليع ال�شامل لقوة العمل»؟ ا�شك يف ذلك .لأن الديناميات الطبقية الداخلية للحقبة اجلديدة مل ت�ستنفد كامل طاقاتها بعد ،وعلى االخ�ص من حيث انبثاق ا�شكال جديدة من تنظيم العمل ّ ومن الن�ضال ال�سيا�سي املتنا�سب مع الدرجة التي بها حتول عامل اال�شغال بف�ضل «العوملة». ّ
االطروحة الثانية اال�شرتاكية مبا هي ر�ؤي��ة للحرية -احلرية من القيود االقت�صادية واملادية املرفو�ضة والتي ميكن تفاديها ،واحلرية مبا هي املمار�سة اجلماعية -مهددة يف زماننا على �صعيدين اديولوجيني معا� :صعيد «الن�ضال ال�رسدي» (ح�سب تعبري �ستيوارت هول ،اي الن�ضال لل�سيطرة على م�صطلحات اخلطاب ال�رسدي وقواعده) امل�شتبك يف �سجال حول نظام ال�سوق مع الثات�شريية على ال�صعيد العاملي؛ و�صعيد اعمق ي�شتغل على اثارة املخاوف من الدعوات الطوبوية وت�أجذج الفزع من التغيري .والوا�ضح ان هذين ال�صعيدين ي�ستدعي واحدهما الآخر ،طاملا ان املحاججة دفاعا عن
211
بدايات
العدد |5ربيع 2013
ال�سوق تفرت�ض �سل�سلة �آراء عن الطبيعة الب�رشية ال تلبث تتمرن عليها بطرائق اكرث الر�ؤية املعادية للطوبى ان ّ خال�صية واكرث تعبريا عن ال�شهوة اجلن�سية. ينجح الن�ضال ال�رسدي (خالفا للنزاع االديولوجي املبا�رش) حني يلج�أ اىل اال�ساءة ل�سمعة بدائله و�إ�سدال �ستار ال�صمت على �سل�سلة من العناوين الرئي�سة .انه ي�ستنجد بالتتفيه وال�سذاجة وامل�صلحة املادية و «التجربة» والفزع ال�سيا�سي والدرو�س التاريخية مبا هي «اال�س�س» التي بوا�سطتها ينزع ال�رشعية نهائيا عما كان �سابقا من اجلدية كالت�أميم والتنظيم واالنفاق التعجيزي املمكنات ّ والكينزية والتخطيط االقت�صادي وحماية ال�صناعات الوطنية وبناء �شبكات االمان االجتماعية ،و�صوال اىل نزع ال�رشعية عن دولة الرعاية ذاتها .و�إذ يجري و�صم تلك االخرية باال�شرتاكية ،يجري متكني رطانة ال�سوق من �إحراز انت�صارين معا ،انت�صارا على «الليرباليني» (وفق امل�صطلح امل�ستخدم يف الواليات املتحدة االمريكية ،كما يف ال�سائد َ احلديث عن «ليرباليي النيو ديل » اي التقدميني عموما ) من جهة ،وانت�صارا على الي�سار من جهة اخرى .وهكذا يو�ضع الي�سار اليوم يف و�ضع حمرج ال�ضطراره الدفاع عن احلكومات التدخلية يف االقت�صاد وعن دولة الرعاية، وهو امر حمرِ ج له نظرا اىل تقاليده املتطورة واملرتاكمة يف نقد الدميقراطية اال�شرتاكية يف غياب ما يتمتع به معظم الي�ساريني من فهم جديل للتاريخ .واملطلوب خ�صو�صا هو ا�ستعادة بع�ض االح�سا�س بالطريقة التي بها تتغيرّ االو�ضاع التاريخية ،ومبا يرافقها وترتب عليها من االجابات ال�سيا�سية واال�سرتاتيجية .على ان هذا يفرت�ض اي�ضا ا�شتباكا مع ما ي�سمى «نهاية التاريخ» ،اي مع الالتاريخية اال�صلية التي تقوم عليها املذاهب «بعد احلداثية» عموما. يف االنتظار ،فاملخاوف املرتبطة بالطوبى ،واملنبثقة من املكونة لهويتنا احلالية ،ومعها كل القلق من اختفاء العنا�رص ّ العادات وا�شكال ا�شباع الغريزة اجلن�سية ال�سائدة حاليا، حتت وط�أة التدابري االجتماعية اجلديدة والتغيرّ اجلذري يف النظام املجتمعي ،وهي خماوف ت�سهل ا�ستثارتها وتعبئتها الآن اكرث من اي وقت يف املا�ضي القريب .والوا�ضح ،على االقل يف الن�صف االغنى من العامل ولي�س فقط يف �رشائحه امل�سيطرة ،ان �أمل املحرومني يف التغيري يف احلقبة احلديثة قد حلّ حملّه الرعب من اخل�رسان .ان تلك اخلوافات املعادية للطوبى جتب مواجهتها وجاهيا بوا�سطة لون من الت�شخي�ص التهرب منها بالتنازل الثقايف والعالج الثقايف ،بديال من ّ لهذه املظهر او ذاك من مظاهر املحاججة العامة دفاعا عن
نتخيل الثورة -مبا هي م�سار وعملية ينبغي ان ّ تفكك لنظام �سينكروين وعملية تفككه مع ًا -على انها �سلّة من املطالب ميكن ان يطلقها حدث زمني او �سيا�سي معينّ مثل انت�صار ي�ساري يف معركة انتخابية او تفكك �سلطة كولونيالية ،فال يلبث هذا وذاك ان ويتجدر �شعبيا على نحو متزايد االت�ساع .ان ينت�رش ّ تلك املوجات من املطالب ال�شعبية اجلديدة ،التي تنبثق من الطبقات االكرث عمقا من ال�سكان ،التي كانت اىل ذلك احلني حمرومة مكتومة ال�صوت ،ال تلبث ان جت ّذر حتى اكرث احلكومات الي�سارية افرتا�ضية ومتلي على التحوالت احلا�سمة .ان االمة (والعامل الدولة املزيد من ّ َ �ستقطب �إذذاك وفق اي�ضا يف زماننا هذا) ال تلبث ان ُت الثنائية الكال�سيكية حيث يتعينّ على اجلميع ،مهما طال تردده ،ان ينحاز اىل جانب او اىل �آخر .اذذاك تثار م�س�ألة العنف بال�رضورة :فاذا مل تكن العملية [اجلارية] ثورة اجتماعية فال �شيء ي�ستوجب ا�ستكمالها بوا�سطة العنف .اما اذا كانت ثورة اجتماعية ،ف�سوف يلج�أ الطرف املهيمن من اال�ستقطاب حكما اىل مقاومتها بالعنف، وبهذا املعنى ح�رصا ،ي�صري العنف (غري مرغوب به اىل ابعد احلدود) العالمة اخلارجية او الظاهرة املرئية التي ت�ؤكد ان ما يجري هو م�سار ثوري اجتماعي حقيقي. ان امل�س�ألة اال�سا�سية املثارة هنا لي�ست ما اذا كان مفهوم الثورة ال يزال قابال للحياة ،وامنا هي م�س�ألة اال�ستقالل مت�سع ،يف النظام الوطني .يجب ان نت�ساءل ما اذا كان من ّ العاملي ال�سائد اليوم ،لقطعة من االق�سام املندجمة ان تنف�صل او ان ت�رصم �صلتها (ح�سب تعبري �سمري امني) بذاك النظام وتوا�صل من ثم منطا مغايرا من التطوراالجتماعي ومنطا خمتلفا جذريا من امل�رشوع املجتمعي.
ال�سوق .ان كل احلجج عن الطبيعة الب�رشية -اكانت تو�صف على �أنها طيبة ومطواعة ام �رشيرة وعدوانية تتطلب تطويعها بوا�سطة ال�سوق �إن مل نقل بوا�سطة طغيان «الليواثان» -هي التو�سري) يجب حجج «�إن�سانوية» واديولوجية (كما علّمنا ّ ا�ستبدالها بافق التغيري اجلذري وامل�رشوع املجتمعي .ويف تلك االثناء� ،سوف يحتاج الي�سار اىل ان يدافع بعدوانية عن احلكومات «الثقيلة» ،املتدخلة يف االقت�صاد ،وعن دولة الرعاية وان يهاجم با�ستمرار رطانة ال�سوق على ا�سا�س احلرة (كما يتبينّ من ال�سجلّ التخريبي التاريخي لل�سوق ّ تنظري پولينيي ومن التجربة االوروبية ال�رشقية). االطروحة الثالثة على ان مثل تلك املحاججات تفرت�ض بدورها اتخاذ موقف مما هو ت�أكيدا املفهوم اال�س الية مارك�سية تتبنى «وحدة النظرية مع املمار�سة» ،اق�صد مفهوم الثورة ذاتها .وذلك لأن انتهاء �صالحية هذا املفهوم ي�شكّ ل الدليل اجلرمي املركزي يف تر�سانة العداء للمارك�سية او تر�سانة «بعد املارك�سية» .على ان الدفاع عن هذا املفهوم ي�ستدعي عددا من التح�ضريات االولية وهو يتطلّب خ�صو�صا التخلي اىل عامل اخلرافة عن كل ما يوحي ب�أن الثورة حلظة عابرة واعادة االعتبار لها مبا هي م�سارا مركب ومعقد. فمثال يجب ان نطرح جانبا العديد من ال�صور االيقونية االحب اىل قلوبنا عن خمتلف الثورات التاريخية ،مثل ّ الهجوم على ق�رص ال�شتاء [يف الثورة الرو�سية ] او ال َق َ�سم يف ملعب التن�س [يف الثورة الفرن�سية الكربى]. لي�ست الثورة االجتماعية حلظة زمنية ،وامنا ميكن التوكيد عليها وفق امل�صطلحات املتعلقة ب�رضورة التغيري مبا هي نظام متزامن يتما�سك كل �شيء فيه ويرتابط مع كل �شيء �آخر. ويتطلّب مثل ذلك النظام بالتايل نوعا من التغيري املنظومي املطلق بديال من «اال�صالح» بالتق�سيط الذي يت�ضح انه «طوباوي» ،باملعنى ال�سلبي للكلمة ،اي انه وهمي وغري قابل للتحقيق .وهذا يعني ان ذاك النظام-الثورة يتطلّب الر�ؤية االديولوجية لبديل اجتماعي جذري عن النظام االجتماعي القائم ،بديل ال ميكن اعتباره بديهيا مبثل ما ال ميكن وراثته، يف ظل حالة الن�ضال ال�رسدي الراهن ،وامنا يتطلّب اعادة ابتكاره .ان اال�صولية الدينية (اكانت ا�سالمية ام م�سيحية ام هندو�سية ) التي تزعم توفري بديل جذري للنزعة اال�ستهالكية ولـ «منط احلياة االمريكي» ال تنوجد على نحو ذا مغزى اال عندما تنفقد فج�أة البدائل الي�سارية التقليدية ،وخ�صو�صا منها التقاليد الثورية العظيمة للمارك�سية وال�شيوعية.
212
بدايات
العدد |5ربيع 2013
االطروحة الرابعة مل يكن انهيار االحتاد ال�سوفياتي وليد �إخفاق ال�شيوعية وامنا كان وليد جناحاتها� ،رشط ان نفهم النجاحات ،مثلما فهمها الغرب عموما ،على انها ا�سرتاتيجية حتديث .ذلك انه بوا�سطة التحديث ال�رسيع �ساد االعتقاد ان االحتاد ال�سوفياتي ،حتى منذ خم�س ع�رشة �سنة ،قد جنح يف ان يلحق بالغرب (وهو افق اثار قلقا ر�سميا بالكاد نتذكره الآن). يجب التوكيد على ثالثة اقرتاحات ا�ضافية تتعلق ب�إنهيار االحت��اد ال�سوفياتي .االول هو ان التفكك االجتماعي وال�سيا�سي الداخلي امنا كان ج��زءا من تر�سيمة عاملية يف الثمانينات �شملت يف ف�سادها البنيوي
213
بدايات
العدد |5ربيع 2013
الغرب (الريغانية والثات�شريية وا�شكال موازية اخرى ي�سميه [ه�شام] يف ايطاليا وفرن�سا) والدول العربية (ما ّ �رشابي «البطريركية اجلديدة») .من هنا فمن الت�ضليل اطالق تف�سري اعتباطي لذلك الف�ساد البنيوي بناء على معطيات اخالقية ،ذلك انه ينبثق من م�سار اجتماعي مادي اىل حد بعيد هو م�سار تراكم الرثوة غري املنتجة يف ال�رشائح االعلى من تلك املجتمعات .وقد ات�ضح االن ان ذلك الركود وثيق ال�صلة بـظاهرة معروفة هي ظاهرة انف�صال الر�أ�سمالية املالية عن ا�صلها يف االنتاج ومتايزها عن ذلك اال�صل .وقد ابان جيوڤاين � ّأريغي كيف تطور ر�أ�س املال قد عرفت حقبة اخرية ان كافة مراحل ّ يخلي فيها االنتاج املكان امام امل�ضاربة ،حيث تنف�صل القيمة عن ا�صلها يف االنتاج ويتم تبادلها على نحو جمرد (وهو امر لي�س بدون مرتتبات ثقافية هو اي�ضا). ّ كذلك ينبغي التوكيد على ان مقوالت مثل الفاعلية واالنتاجية وامل�لاءة املالية مقوالت قيا�سية ،اي ان نتائجها تفعل فعلها فقط يف حقل تتناف�س فيه عدة ظواهر متفاوتة .و�إن التقنية االكرث فاعلية وانتاجية تنجح يف طرد االنظمة والآالت واملن�ش�آت ال�صناعية االقدم عهدا فقط عندما تدخل تلك االخرية حقل قوتها فتعر�ض عليها املناف�سة او تتحداها اليها. يقودنا هذا اىل النقطة الثالثة وهي ان االحتاد ال�سوفياتي «�صار» فاقد الفاعلية وانهار عندما حاول ان يندمج يف نظام عاملي هو نف�سه يف حالة انتقال ق�ضت قواعد ت�شغيله اجلديدة ان يعمل على درجة من «االنتاجية» ارقى مبا ال يقا�س من كل ما هو موجود داخل النطاق ال�سوفياتي .ف�إذا املجتمع ال�سوفياتي ،مدفوعا بدوافع ثقافية (النزعة اال�ستهالكية، والتقنيات املعلوماتية االكرث حداثة ،الخ ).وم�سوقا اىل املناف�سة الع�سكرية التقنية املح�سوبة ،ومنجذبا اىل �إغراء املديونية ،وباال�شكال االكرث كثافة من التعاي�ش التجاري ،قد دخل بيئة مل يكن ميلك عنا�رص البقاء على قيد احلياة داخلها. وميكن الزعم ب�أن االحتاد ال�سوفياتي والدول الدائرة يف فلكه وقد كانت اىل ذلك احلني معزولة يف منطقة ال�ضغط اخلا�صةقبة جيوديزية اديولوجية بها -كما لو انها حمبو�سة حتت ّ واقت�صادية واجتماعية -بد�أت ،عن غري حيطة من امرها، مزودة باالزياء يف فتح الفتحات الهوائية دون ان تكون ّ فتعر�ضت وم�ؤ�س�ساتها ل�ضغوط العامل الف�ضائية [الالزمة] ّ ت�صور النتيجة اخلارجي االقوى منها مبا ال يقا�س .ميكن ّ مبا هي �شبيهة ل�ضغوط االنفجار على البنى اله�شة املحاذية مبا�رشة ملنطقة تفجري القنبلة الذرية االوىل ،او بوزن ال�ضغط
وامل�شوه للماء يف قعر البحر على ع�ضويات بال حماية اجلبار ِّ منت وتطورت يف الطبقات العليا .وت�أكيدا ،فان هذه النتيجة ت�ؤكد حتذير [�إميانويل] ڤالري�ستني اال�ستباقي من ان االحتاد ال�سوفياتي ،على �أهميته ،مل يكن ي�شكل نظاما بديال عن النظام الر�أ�سمايل ،وامنا �شكّ ل فقط ف�ضا ًء م�ضادا لذاك النظام او منطقة يف داخله ،وان هذا الف�ضاء وتلك املنطقة قد تطايرا الآن ومل يبق منهما اال جيوب ميكن لتجارب ا�شرتاكية خمتلفة ان ت�ستمر يف داخلها. االطروحة اخلام�سة ان املارك�سيات -مبا هي احلركات ال�سيا�سية واي�ضا ا�شكال املقاومة للفكرية والنظرية تنبثق من النظام الراهن للر�أ�سمالية املت�آخرة -اي من نظام ما بعد احلداثة ،ومن املرحلة الثالثة من الر�أ�سمالية العاملية ،مرحلة املعلوماتية يعينها [ارن�ست وال�رشكات املتعدية اجلن�سيات ،كما ّ مانديل ] � -سوف تكون بال�رضورة خمتلفة عن تلك التي تطورت خالل املرحلة التحديثية ،وخالل املرحلة التي ّ تلتها ،مرحلة االمربيالية .فال بد ان تقيم تلك املارك�سية املعا�رصة عالقة خمتلفة مع العوملة كما انها ،باملقارنة مع ت�شبعا املارك�سيات ال�سالفة� ،سوف تكت�سي طابعا اكرث ّ تهتم ا�سا�سا بالظواهر املعروفة اىل الآن ب�إ�سم بالثقافة، ّ «ت�شي�ؤ ال�سلع» و«النزعة اال�ستهالكية». ان االهمية املتزايدة التي تكت�سبها الثقافة بالن�سبة اىل اال�صعدة ال�سيا�سية كما االقت�صادية لي�ست نتيجة ميل تلك اال�صعدة اىل االنف�صال او التمايز فيما بينها ،امنا هي ت�شبع عملية الت�سليع ذاتها وتغلغلها االكرث �شموال، نتيجة ّ وقد متكنت الآن من ا�ستعمار مناطق وا�سعة من املجال الثقايف وقد كانت حم�صنة جتاهها او كانت ،يف غالبيتها، حتول الثقافة الآن اىل معادية ملنطقها او متفارقة معه .ان ّ جتارة يف معظمها نتج عنه حقيقة ان معظم ما كان يعترب اقت�صاديا او جتاريا �رصفا يف ال�سابق قد ا�صبح ثقافيا تدرج حتته كاف ُة ت�شخي�صات اي�ضا ،وهو تو�صيف يجب ان َ ما ي�سمى «جمتمع ال�صورة» او «النزعة اال�ستهالكية». تتمتع املارك�سية ب�شكل عام بتفوق نظري يف مثل هذا التحليل ،خ�صو�صا ان مفهومها للت�سليع مفهوم بنيوي ولي�س مفهوما تب�شرييا �أخالقيا .ان االه��واء االخالقية تولد الن�شاط ال�سيا�سي ،ولكنها ت�ستولده بانواعه االك�ثر ه�شا�شة ،تلك التي ي�سهل اع��ادة ا�ستيعابها او اعادة احتوائها وهي قليلة اال�ستعداد الن تت�شارك مع �سائر احلركات يف ق�ضاياها وعناوينها.
214
بدايات
العدد |5ربيع 2013
علم ًا ان االدغام والتعمري وحدهما ي�سمحان للحركات ميال ال�سيا�سية ب�أن تنمو وتتطور وتت�سع .وبالت�أكيد ،فانا ّ للقول العك�سي ،ب�أن �سيا�سة التب�شري التب�شريية اخالقيا تزدهر حيث يتم احل َْجر على املعرفة البنيوية وعلى امل�سح االجتماعي .وان ت�أثري العامل الديني واالثني اليوم يجب فهمه مبا هو تعبري عن الغ�ضب �إزاء اخفاق اال�شرتاكية ،وحماولة يائ�سة عمياء مللء الفراغ [الناجم عن ذلك الإخفاق] بحوافز جديدة. اما ب�ش�أن النزعة اال�ستهالكية ،فامل�ؤمل ان يتبينّ انها ذات مغزى تاريخي لأنه كان لزاما على االجتماع مير بالتجربة اال�ستهالكية مبا هي منط حياة، الب�رشي ان ّ ولو من اجل ان نختار على نحو اكرث وعيا /منط حياة خمتلفا جذريا يحلّ حملّها .اما بالن�سة ملعظم ارجاء العامل ف�إن �إدمان النزعة اال�ستهالكية لن يكون متوافرا ال�سباب مو�ضوعية ،لذا فالت�شخي�ص اال�ستباقي التي اطلقته للنظرية الراديكالية يف ال�ستينات -من ان الر�أ�سمالية قوة ثورية بذاتها لكونها تنتج حاجات ورغبات جديدة لن ي�ستطيع النظام الر�أ�سمايل نف�سه ان ي�شبعها -هذا النظرية �سوف جتد االن حتققها على النطاق ال�شامل للنظام العاملي اجلديد. على �صعيد نظري ،يجوز االق�تراح ان الق�ضايا امللحة الراهنة -البطالة البنيوية الدائمة ،وامل�ضاربة ّ املالية وحركات لر�أ�س املال منفلتة من اي �سيطرة، و«جمتمع ال�صورة» ،وغريها -ترتابط ترابطا عميقا من حيث فقدانها امل�ضمون وطابعها التجريدي (باملقارنة مع ما كان ي�سمى «اال�ستالب» يف ع�رص �آخر) .وميكن بلوغ امل�ستوى االكرث تفارقا من اجلدلية عندما نعيد الو�صل بني م�سائل العوملة واملعلوماتية .فثمة مع�ضلة تدمج االمكانيات االديولويجة مفر منها تتجلى حني َ ال ّ وال�سيا�سية لل�شبكات العاملية اجلديدة (للي�سار واليمني كما لعامل البزن�س) مع النق�صان يف اال�ستقالل الذاتي يف النظام العاملي احلايل ومع ا�ستحالة حتقيق اية منطقة قومية او اقليمية ال�ستقاللها الذاتي والكتفائها الذاتي او االنف�صال عن ال�سوق العاملية او القطع معها. لن يعرث املثقفون على طريقهم باجلهد الفكري وحده. بل ان ن�ضج التناق�ضات البنيوية يف الواقع هو ما �سوف ي�سمح با�ست�رشاف االمكانيات اجلديدة .ومع ذلك ن�ستطيع ان نبقي تلك املع�ضلة على قيد احلياة بوا�سطة «الت�شبث بال�سلب» كما كان يقول هيغل ،اي املحافظة على ذلك املوقع الذي منه ن�ستطيع ان نتوقع �صدور اجلديد غري املتو َقع.
معىن النظرية يف الناشط الثوري سالمة كيلة تت�شكل امل�س�ألة النظرية حني الإ�شارة �إىل الثورة والتغيري، والن�شاط العملي عموم ًا� ،أي حني ننتقل من املمار�سة �إىل ما جمرد� ،إىل «التنظري» الذي يعني البحث يف «�أفكار»، كاتب فلسطيين هو ّ والإغراق يف الكتب ،ويف «الكالم» .باخت�صار يبدو �أننا ننغلق يف تعقيدات الفل�سفة والفكر بالتحديد ،بعيد ًا عن حركة الواقع وتعقيداته .لهذا ،غالب ًا ما تكون الدعوة حني ُتطرح م�س�ألة الثورة هي �إىل املمار�سة ولي�س �إىل التنظري، واىل الن�شاط العملي ولي�س �إىل القراءة والبحث يف النظرية. فالعمل هو ما ي�سيطر على الأذهان ،وهو ما يعترب �أ�سا�س �أي ن�شاط حزبي �أو ن�شاط ثوري .وهو كل �شيء تقريب ًا. يبدو هنا �أن ال عالقة بني النظرية والن�شاط بهذا املعنى ،و�أنهما رمبا كانا متناق�ضني ،وبالتايل ف�إن الأ�سا�س هو الن�شاط ،العمل ،الفعل� .إن العفوية وحدها هي التي توجد هذه العالقة بني النظرية والعمل� ،أو تفرت�ض التناق�ض بني النظرية والعمل� .إذ يبدو الفعل �سابق ًا على التفكري ،وبالتايل دون تفكري .وتكون املمار�سة ع�شوائية، انفعالية ،ودون �أ�س�س ت�سمح بتحقيق تراكم يطورها .هنا «حركة اليد» ت�سبق حركة العقل .وامل�شكلة هي � ّأن هذه «الفكرة» تعترب �أ�سا�س الن�شاط الثوري. هل ت�سبق الدرا�سة العمل؟ �أو هل من �رضورة لأن ت�سبق الدرا�سة العمل؟ وهل من �رضورة لأن يكون العمل مدرو�س ًا؟ هذه امل�س�ألة التي حتتاج �إىل فكر وتفكري تبدو خارج البحث ،ل ّأن العمل هو الأ�سا�س. ولهذا ،كما �أ��شرت ف�� ّإن العمل هنا هو عمل عفوي، ع�شوائي ،وانفعايل ،لأ ّنه ال يخ�ضع لفعل العقل .وهو الأمر الذي يف�ضي لأن ي�ضيع كل الن�شاط الثوري هباء يف حلظة ،لأن االنفعالية والعفوية والع�شوائية ال ت�سمح مبراكمة التجارب ،وبالتايل الوعي ،لأ ّنها تنطلق من وت�صب يف الالوعي ،يف العفوية. الالوعي ،من العفوية، ّ
215
بدايات
العدد |5ربيع 2013
دور النظرية عملي هذا الأمر يطرح ال�س�ؤال حول معنى النظرية ،وهل ان هذه املقابلة بني النظر والعمل تنطلق من فهم �صحيح ملعنى كل منهما؟ �أم �أن منطق ًا �شكلي ًا يحكمهما؟ النظرية ُتربط عادة بـ«الكالم» ،و�أي�ض ًا بالعزلة .لهذا تبدو الإ�شارة �إىل النظرية كابتعاد عن الن�شاط ،عن العمل ،وغرق يف جتريدات م�ستمدة من الكتب ،بغ�ض النظر عن ماهية هذه الكتب .هي كتب تتناول كل �شيء �إال الواقع .لكن هل ي�ؤ�س�س ذلك نظرية؟ وبالتايل ما هي النظرية يف املارك�سية؟ ال �شك يف �أن وعي املارك�سية �رضورة حا�سمة ،لأن املطلوب من املارك�سي �أن يتجاوز وعيه «التقليدي» املتوارث ،عرب ا�ستيعاب ومتثل املارك�سية بالتحديد. نحن ن�شري هنا �إىل منطق املارك�سية الذي هو �أ�سا�س االنتقال نحو متثل املارك�سية وجتاوز الوعي «التقليدي»، لأن تقليدية الوعي تكمن بالأ�سا�س يف «منطق التفكري» ،يف املنهجية التي يتناول العقل من خاللها امل�سائل .وهنا البد من وعي «فل�سفي» حتديد ًا� .أبعد من ذلك ،تكون هناك حاجة ملعرفة �أفكار ومفاهيم وقوانني وحتليالت املارك�سية .ولي�س ��ضرورة �أن يتخ�ص�ص كل منا�ضل مارك�سي يف تاريخ املارك�سية وقوانينها واخلالفات فيها ،ويف �صحة �أو خط�أ �أفكار مارك�س �أو �إجنلز �أو لينني �أو كل الآخرين .هذه مهمة بع�ض من املارك�سيني يف �أي حزب مارك�سي �إ�ضافة �إىل ن�شاطهم العام فيه .لكن لي�س من ال�رضورة �أن يغرق فيها كل احلزب ،وكل مارك�سي .وهذا ما يبدو عادة �أ ّنه «ترف»، وا�ضافة للن�شاط الثوري ،وم�ش ِّتت للفعل. لكن امل�س�ألة ال تتعلق بهذا امل�ستوى فقط� ،أي بوعي املارك�سية ،فهذه مقدمة لي�س �أكرث ،وميكن �أن
تكون �أ�سا�س ت�شكيل «نخبة من املثقفني» و�ستكون املارك�سية هنا نظرية كغريها من النظريات .وهذا ما يحول املارك�سية �إىل ترف يجري نقده ع��ادة ،كونه ّ نخبوي �أو ن�شاط �أكادميي� .إن �أهمية القب�ض على منهجية املارك�سية تكمن يف ال��دور العملي الذي يجب �أن ت�ؤديه .وهنا نلم�س �أهم ما فيها بالتحديد� ،أي اجلدل املادي ،املنهجية التي جتعل وعينا للواقع �أف�ضل، و�أكرث علمية ،وبالتايل يكون ممكن ًا �أن نحدد خطوات عملية �أدق ،وبناء تراكم يف�ضي �إىل حتقيق الأهداف.
ال����ضرورة»�� ،ضرورة التغيري ال��ذي يخدم العمال والفالحني الفقراء� .إنها «عقل» ه�ؤالء الذي يجب �أن يفكروا عربه وهم يعملون من �أجل تغيري واقعهم .وهذا الربط بني املارك�سية وه�ؤالء هو الذي جعل اال�شرتاكية ممكنة التحقق ،ويفتح على حتقيق انتقال جمتمعي هائل. كرا�س �إجنلز «اال�شرتاكية :الطوباوية والعلم» هدف �إىل تو�ضيح هذه امل�س�ألة. �إن كل حماولة لتجاوز العفوية تفرت�ض الوعي يوحد بني الوعي، حتم ًا ،وهو ما ي�ضيفه احلزب الذي ّ بني املارك�سية ،واملمار�سة الثورية ،لكي ي�ستطيع حتويل ال�رصاع الطبقي العفوي واملطلبي �إىل �رصاع طبقي يف�ضي �إىل االنت�صار� .إن الن�شاط الثوري هو عمل تقني يحتاج �إىل الوعي� ،إال �إذا �أراد احلزب �أن يظل يف حدود الن�شاط العفوي للطبقة العاملة والفالحني الفقراء .وهو هنا ال ي�ضيف �سوى الت�شوي�ش على ن�شاط الطبقة، يطور �آلياتها ،وينظمها يف ويكر�س عفويتها بدل �أن ّ يطور من قوتها. �صريورة تراكمية ،وبالتايل ّ
العفوية �إىل العمل املنظم املرتاكم ،وبالتايل الذي يحقق نقلة نوعية يف ال�رصاع الطبقي ،ليتحول من �رصاع عفوي �إىل �رصاع هادف لأنه يقوم على الوعي� ،أو لأنه امل�ضطهدة وعيها املطابق ،ومن يكون قد اعطى الطبقة َ حول ال�رصاع من ن�ضال مطلبي فقط �إىل �رصاع ثم ّ �سيا�سي (وهنا يجب مالحظة �أن تعبري �سيا�سي ال حول ال�رصاع من مطالب يتطابق مع ما هو رائج) .اي ّ خا�صة لهذه الفئة �أو تلك من العمال �إىل م�رشوع طبقي يهدف �إىل ت�سلم ال�سلطة من �أجل حتقيق م�صالح ه�ؤالء عرب تغيري النمط االقت�صادي. النظرية هنا ه��ي وع��ي ال��واق��ع ،وع��ي تكوينه (طبقاته وظروفه االقت�صادية واالجتماعية وال�سيا�سية والأيديولوجية) ،ووع��ي التناق�ضات املتعددة فيه، وبالتايل الدور الذي يلعبه احلزب يف حتقيق الرتاكم يف وعي ون�شاط الطبقة التي هو جزء منها لكي تخو�ض هي ال�رصاع الطبقي .و�أي�ض ًا امل�سك بال�صريورة التي حتكمه ،وحتديد التكتيكات وال�سيا�سات ال�رضورية
فالن�شاط العملي يجب �أن ينحكم لـ«عقل» قادر على فهم اخلطوات ال�رضورية انطالق ًا من فهم الواقع ،ويف �ضوء ر�ؤية ا�سرتاتيجية وا�ضحةّ � .إن املمار�سات التقنية هي �أي�ض ًا بحاجة �إىل «عقل» .والتكتيك والتحالفات، والتحري�ض والدعاية ،والرتابط مع العمال والفالحني الفقراء ،كلها بحاجة �إىل «عقل» مارك�سي� ،إذ � ّإن «العقل العلمي» ي�ستطيع �أن يحدد ال�سيا�سات ب�شكل �أدق يف �ضوء وعي �أعمق للواقع.
الفكر مبا هو ممار�سة عملية نحن هنا ن�شري �إىل الوعي باملارك�سية ،خ�صو�ص ًا كمنهجية ت�ساعد على وعي الواقع وحتديد ال�سيا�سات املطابقة ،لكن وعي الواقع يعني التنظري �أي�ض ًا ولي�س وعي «تقنية املمار�سة» فقط ،التي ميكن �أن تكت�سب بالتجربة .وهنا يتحدد معنى النظرية ،حيث «ال حركة ثورية دون نظرية ثورية» كما �أ�شار لينني .الأمر يتعلق املجرد النظري (�أي املارك�سية ،وخ�صو�ص ًا باالنتقال من ّ
كل امل�سائل التي نقر�أ عنهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا اليوم ونعترب �أنها ق�ضايا نظرية ،كــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــانت يف �صلب الن�ضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــال الثوري للمارك�سي الرو�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي يف 1905ومل تكن جتريدات نظريــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة
و�ضع الفكر يف مواجهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة ٍ منـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاف املمار�سة هو �أمر للمارك�سية ذاتهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا التي توجد ترابط ًا عميقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ًا بينهما .فهي «وعي ال�ضــــــــــــــــــــــــــــــــرورة»، �رضورة التغيري الذي يخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدم العمال والفالحني الفقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــراء
يف كل حلظة لكي تف�ضي �إىل التقدم يف ال�رصاع على طريق ح�سمه .وكذلك وعي العامل ،ومدى الرتابط ال��ذي يحكم الواقع املحلي به ،ووع��ي التناق�ضات العاملية ،وطبيعة ال�رصاعات والتمحورات .فهذا هو «كل» الواقع الذي يجب �أن «مي�سك» لكي تن�ش�أ �إمكانية تغيريه ،هذا التغيري الذي يحتاج �أي�ض ًا �إىل وعي الآليات التي تو�صل �إىل ذلك. �إن م�س�ألة الكيفية التي يبنى من خاللها احلزب يف الواقع هي م�س�ألة نظرية ،لأن الإجابة تفرت�ض وعي الطبقات ،وو�ضع الطبقة التي يطرح احلزب ذاته كجزء منها ،ومتو�ضعها العياين ،وامل�شكالت التي تعي�شها، ومطالبها ،وحدود «�رصاعها» مع الطبقة امل�ست ِغلة، �أو مع ال�سلطة التي متثلها .وبالتايل كيف ميكن دفعها ال �إىل �إىل الن�شاط املطلبي ،ومن ثم النقابي ،و�صو ً حتويلها �إىل طبقة لها ر�ؤية وبرنامج ،وتطرح ذاتها كبديل ،الأم��ر الذي يجعل �رصاعها يتمحور حول
التحري�ض والدعايـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة، والرتابط مع العمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــال والفالحني الفقراء ،كلهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا بحاجة �إىل «عقل» مارك�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي. �إذ �إنّ «العقل العلمي» ي�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتطيع �أن يحدد ال�سيا�سات ب�شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكل �أدق على �ضوء وعي �أعمق للواقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع هنا ،يجب �أن نلحظ ب�أن الوعي املارك�سي هو �أمر جوهري يف املمار�سة لكي ن�ستطيع جت��اوز العفوية والع�شوائية ،واملمار�سة االنفعالية .وبالتايل ف�إن و�ضع ٍ مناف للمارك�سية الفكر يف مواجهة املمار�سة هو �أمر ذاتها التي توجد ترابط ًا عميق ًا بينهما .فهي «وعي
216
بدايات
العدد |5ربيع 2013
منهجيتها) �إىل النظري «امللمو�س» ،الذي يتعلق بر�ؤية الواقع ،بوعي الواقع .النظرية هنا هي وعي الواقع ،وما تقدمه املارك�سية هو الأدوات املنهجية التي ت�ساعد على ال من �أ�شكال املمار�سة ذلك .وهنا الفكر ي�صبح �شك ً العملية ،وهو �شكل حا�سم يف حتقيق االنتقال من
217
بدايات
العدد |5ربيع 2013
كيفية انت�صارها من خالل و�صولها �إىل ال�سلطة .هذه مو�ضوعات نظرية ،وحتتاج �إىل وعي عميق ،ومعرفة علمية ،لكي تتبلور يف �شكل �صحيح. �أي�ض ًا ،ميكن القول ب�أن م�س�ألة تطوير �رصاع الطبقة هي م�س�ألة نظرية كذلك ،حيث ي�صبح ال�س�ؤال كيف يتطور �رصاعها ،ومتى ي�صبح عليها �أن ت�رضب �أو �أن حتتج �أو �أن تتظاهر� .أي هنا يكمن امل�سك باللحظة ال�رضورية لذلك ،حيث ميكن �أن يقوم حتليل خاطئ لظرف معني �إىل انتكا�سة كبرية نتيجة عدم فهم الظرف وبالتايل االقدام على خطوة لي�ست يف �أوانها. ال�رصاع مع ال�سلطة وكيف يتطور هو �أي�ض ًا جزء من الر�ؤية التي حتكم الن�شاط� ،إذ يجب حتديد �شكل ال�رصاع والأولويات فيه ،وما هي قوة ال�سلطة وكيف يجري تفكيكها، ومن ثم متى يجري التقدم وتطوير ال�رصاع ومتى يجب الرتاجع .درا�سة التجربة العملية والإفادة منها ترتبط مب�س�ألة التنظري� ،إذ يجب تقييم اخلطط وفهم امل�شكالت الناجتة من املمار�سة ،من �أجل �صوغ ت�صورات �أدق.
وبالتايل ف�إذا كان الربنامج هو الأهداف التي ي�سعى حمددة وخمت�رصة احلزب لتحقيقها ،وهي غالبا ً تكون َّ وب�سيطة ،ف�إنه يجب �أن يحاط يف �إط��ار نظري هو الر�ؤية التي حتكم الن�شاط وتوحد بني القوى الواقعية والأه��داف� ،أو ت�ؤ�س�س القوى الواقعية التي ت�ستطيع حتقيق الأه��داف .هذه الر�ؤية هي «النظرية الثورية» التي ا�شار �إليها لينني ،والتي كانت بالأ�سا�س يف �صلب جمهود مارك�س و�إجنلز لفهم الواقع الر�أ�سمايل الذي كان يت�شكل وحتديد الأ�شكال املمكنة لتغيريه ،والهدف الذي ي�سعون �إىل حتقيقه� ،أي اال�شرتاكية� .إن كتابات مارك�س و�إجنلز هي ما ميكن �أن ي�سمى« :تنظري الواقع» يف �سياق ال�سعي �إىل تغيريه .ولهذا فهي خا�ضعة لكونها تعبري ًا عن ذاك الواقع بالتحديد ،وما ميكن الإفادة منه هو خال�صات عامة ميكن �أن ت�ساعد كم�ؤ�رشات لي�س �أكرث. طبع ًا هذا مبعزل عن املنهجية التي هي جوهرية فيها، قدمه لينني هو التي هي �أ�سا�س البحث يف الواقع .وما ّ
كذلك ،و�أي�ض ًا ماو وكل املارك�سيني الذين عملوا على «نظروا» واقعهم حتقيق التغيري مل�صلحة العمال .فقد ّ على طريق تغيريه ،وكل �أتى يف واقع يختلف عن الآخر لهذا �أتى مبا هو «جديد» ،وخمتلف ،ورمبا خمالف. لقد �صارع لينني على «خطتي الثورة الدميقراطية» يف رو�سيا ،الأمر الذي فتح النقا�ش حول الواقع الطبقي ومهمات الثورة ودور املارك�سية .كما ن�شط من �أجل بلورة ر�ؤية للحزب الذي ي�ستطيع �أن يكون منا�سب ًا لطبيعة �رصاع العمال والفالحني القفراء .وبحث يف التكوين العاملي الذي يجري ال�رصاع الطبقي يف رو�سيا �ضمنه .وبحث يف جتربة ثورة �سنة ١٩٠٥والدرو�س
الفئات الو�سطى مبختلف تالوينها .وكذلك الأم��ر بالن�سبة �إىل الطبقة امل�سيطرة التي يجب ك�شف خطابها والأوه��ام التي يقدمها ،والت�ضليل الذي ت�سعى �إليه. وهنا ن�شري �إىل ال�رصاع «الأيديولوجي» مع تعبريات الطبقات الأخرى يف �إطار ال�رصاع الطبقي �ضد الطبقة امل�سيطرة .وت�أكيد �أن تعدد التناق�ضات يفر�ض تعدد ًا يف ال�رصاع ،منه ال�رصاع النظري. و�إذا كان املنطق ال�صوري (الذي يحكمنا �إذا مل ن�ستطع متثل املنهجية املارك�سية ،بال�ضبط لأنه متوارث) ي�شري �إىل ما هو ظاهر يف �سكونه ،ف�إن اجلدل املادي يفرت�ض الغو�ص �إىل �أعمق من الظاهر ،وفهم الأ�سا�س
النظرية لي�ست لغواً ،ولي�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت بحث ًا �أكادميي ًا ،وال هي بحث يف التــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاريخ النظري ويف ال�رصاعات التي �شهدهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا، ولي�ست در�س ًا يف الفل�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــفة التي هي �رضورة كمدخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل، بل هي بحث يف الواقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع التي ميكن ا�ستخال�صها منها .و�أي�ض ًا بد�أ بالبحث يف حقيقيا. مهام املارك�سيني وكيف ميكنهم �أن ي�شكلوا حزب ًا ً كل هذه امل�سائل التي نقر�أ عنها اليوم ونعترب �أنها ق�ضايا نظرية ،كانت يف �صلب الن�ضال الثوري للمارك�سي الرو�سي �آنئذ ومل تكن جتريدات نظرية .ولأنها كذلك تلق فقد �أ�صبحت جزء ًا من كال�سيكيات املارك�سية ومل َ يف �سلة املهمالت كما �ألقي الكثري مما كتب من قبل ال�شيوعيني يف الوطن العربي. املنطق ال�صوري واملنطق اجلديل النظرية هنا هي وعي م�شكالت الثورة يف كل حلظة، وحتديد الأول��وي��ات يف املمار�سة ،وب��ل��ورة اخلطاب ال، ال�رضوري لتثقيف العمال والفالحني الفقراء .مث ً �إن تطوير ال�رصاع الأيديولوجي لي�س �ضد الطبقات امل�سيطرة فقط بل ويف مواجهة الفئات الو�سطى .وهو �أمر حا�سم من �أجل تعزيز وعي العمال والفالحني الفقراء ،لأنه ك�شف للم�صالح التي تكمن خلف الأفكار التي تطرحها ،وبالتايل فهو تعزيز لتما�سك ه�ؤالء العمال وتو�ضيح لر�ؤيتهم يف هذا ال�رصاع الذي ال يفرت�ض فقط ال�رصاع مع الطبقة امل�سيطرة بل و�أي�ض ًا ك�شف ت�شو�ش وخط�أ البدائل الأخرى التي تطرحها
218
بدايات
العدد |5ربيع 2013
الذي تقوم عليه الأفكار وال�سيا�سات .وكذلك فهم �صريورة التحوالت التي حتدث يف كل حلظة وممكناتها امل�ستقبلية .فهو هو الأمر الذي ي�ؤ�س�س ال�سرتاتيجية �صحيحة ،ويقود �إىل حتديد تكتيكات دقيقة .وهذا جمهود نظري كبري لي�س من املمكن بلورة القوة الفاعلة التي حتقق التغيري بدونه. �إذن ،التنظري هنا هو جزء من العمل ،هو جزء ع�ضوي يف العمل ،ولي�س مقحم ًا عليه وال ميكن �أن يكون العمل ناجح ًا من دونه .فالعمل من �أجل الثورة والتغيري هو عمل واعٍ .النظرية هنا هي ن�صف االنت�صار ،حيث ال بد من بلورة ر�ؤية لـ«�صريورة الواقع» من �أجل فهم اخلطوات العملية لكي ي�صبح ال�رصاع الطبقة واعي ًا، وينتظم يف �آليات جتعل الطبقة قوة منظمة .فهذا هو ما ي�ضيفه احلزب يف ال�رصاع الطبقي لكي يقود �إىل انت�صار العمال والفالحني الفقراء. النظرية لي�ست لغو ًا ،ولي�ست بحث ًا �أكادميي ًا ،وال هي بحث يف التاريخ النظري ويف ال�رصاعات التي �شهدها ،ولي�ست در�س ًا يف الفل�سفة التي هي �رضورة كمدخل ،بل النظرية بحث يف الواقع ويف �صريورة تطور ال�رصاع الطبقي من �أجل ت�سلم ال�سلطة ،ومن ثم لت�أ�سي�س جمتمع بديل.
218
«الفالح العظيم» ليعقوب الشدراوي: طانيوس اشهني عىل المرسح
يعقوب ال�شدراوي
جديت حاجي ّ 224
ريا�ض بيد�س
املكان خارج امل�شهد العام – رجال بالأبي�ض وبع�ض الن�سوة ينقلون ال�سالح). طانيو�س( :متابعا كالمه امل�سموع) نادر الق�سيم – بو طوبيا ختيار عا حفة قربو، ابن � 80سنة ،براك بطاحونة وادي الزيرة – لأنو ت�أخر عا طحنة ال�شيخ بول�س – م�سكو بلحيتو ،زلطو من كل تيابو ،ركبو عاحلمارة وبل�ش فيه �رضب بالع�صا .ع الطريق قبع جم �شوك وحطو بني فخادو .ما ا�سرتجا حدا يفتح متو ..ما �ضاين يوم ،يومني وعطاكن عمرو� .شو؟ بعد بخربكن عن الفاجر – العاهر ال�شيخ من�صور؟ وكيف �أخد يو�سفيه بنت غنطو�س عقل عاملغارة ودبحها هي وابنها الطفل؟ ( ...املكان خارج امل�شهد .ال�شيخ عينه يتم�شى وا�ضعا على كتفيه عباءة .يلعب بع�صا م�سكتها ف�ضية ،ي�صفر حلنا مرحا ...تتبعه فتاة). الفتاة :يا �شيخ ،يا �شيخ ...ال�شيخ( :يلتفت اليها) يا روح ال�شيخ الفتاة :بدك �أرق�صلك؟ ال�شيخ :جيتي والله جابك (ي�صفر – يتمايل – يفر�ش عباءته على الأر�ض .يجرها لرتق�ص عليها وفيما يفك �أزرار قمي�صه) �آه يا خلع ،يا دلع( .يدخل �شباب بالأبي�ض �شاهرين �سالح) ال�شباب� :شالح متل ما الله خلقك – (ب�رسعة ينق�ضون عليه ويخلعون �رسواله ويجروه �أمامه والفتاة ت�ضحك وت�ضحك) ال�شباب :قعود ع هاخلازوق (عتم) �صوت ال�شيخ� :أوي� ،أوي ...طانيو�س( :متابعا كالمه امل�سموع) �شو؟ ن�سيتو؟ منكفي وال بيكفي (يعود �إىل عمله – والطرق بني اجلمل يكون توقيع). الز ْم ّك: ْ (يرندح) بيكفي وبيكفي .نحنا بيكفي وهني بكفي وحطيت خدي ع كفي تا�شبعت من �أكل ال�تراب. ب�شارة :ال�سنة ال�شتوية كانت برد وزمهرير .بطر�س: طوفان .الطالع من الأر�ض �أكرت من النازل من ال�سما ب�شارة :التلج و�صل ل�سيف البحر بطر�س :و�أجا �أدار وتلجاتو الز ْم ّك :وان �أقبلت �أدار وراها وان �أحملت ْ �أدار وراها ب�شارة :هجو الرعيان من اجلرود .هجمت الدياب عال�ضيع بطر�س :كواخ دود القز ،جرفها وقيح .ب�شارة: ال�سيل .واللي بقيت زرق فيها الدود ّ قولويل كيف ال�سنة بدنا ندفع لل�شيخ �رضايب؟ ر�سانيو�س :يا عمي كيف �صار هيك؟ ما عاحل�ساب قيمقام الن�صارى املري ب�شري �أحمد عمل حكومة عدل – كيف هلق بدنا ندفع لل�شيخ� .صحيح املال �صار مالني. طانيو�س :ظلم الطبيعة �أه��ون من ظلم االن�سان. بطر�س� :سنة املا�ضية كانت �سنة قبال – �أجا التاجر خمايل و�شفط املو�سم – كل املو�سم ما طلع بالفايظ.
«الفالح العظيم» ليعقوب الشدراوي طانيوس اشهني عىل المرسح
يعقوب الشدراوي مؤلف وخمرج وممثل مرسحي لبناين. (زغرتا .)١٩٣٤
ماسهم بارز يف هنضة
المرسح يف الستينات والسبعينات من
القرن المايض .متيزّ بنقل االعمال االدبية
مرسح اىل المرسح. َ اعما ًال جلربان ونعيمة ومارون عبود («االمري االمحر» )١٩٧٣
والطيب صالح. ّ
من أعماله «إعرب ما ييل» ()١٩٧٠
و«المهرج» لمحمد ّ الماغوط ()١٩٧٤
و«يا اسكندرية حبرك عجايب» الاسمة
العارف ،و «الطرطور» ( ،١٩٨٣بناء عىل قصة ليوسف ادريس).
:يعقوب ال�شدراوي، الفالح العظيم، من�شورات «�شم�س»، � ،٢٠١٣ص٢٢2-٢١9
220
نقدم هنا مقاطع من مرسحية لم تعرض ليعقوب الشدراوي عن عامية كرسوان ضد االقطاع ()١٨٦١-١٨٥٨ ّ وقائدها طانيوس اشه�ين .بلغنا نبأ وف��اة يعقوب يوم االح��د يف ٢٦اي��ار ٢٠١٣والمجلة اىل الطبع .ننحين بصمت للصمت ال��ذي ل ّ ��ف السنوات االخ�يرة م��ن حياة ه��ذا الفنان الكبري ،وه��و يكابد ال��م��رض وااله��م��ال الذي يتعرض له المرسح اللبناين. ّ
تتو�سع الإ�ضاءة لنتبني طانيو�س عاري اجلذع ،يلمع من ت�صبب العرق .وبانفعال وغليان دم القلب .ينهال باملطرقة على �رشيحة حديد تت�أرجح كالنار امل�شتعلة .مم�سكا طرفها الأعلى بي�ساره بوا�سطة ملقط حدادة .ولطرقاته دوي و�صدى .وكما تظهر ال�صورة الفوتوغرافية يظهر كور �صغري ينفخه �صبي فيت�صاعد من �أمامه لهب النار وكذلك رجال القرية يجل�سون مبوازاة اجلدران الثالثة. يهيمن عليهم الوجوم وعدم احلركة .يتوقف طانيو�س عن الطرق� .صمت .يرفع احلديدة املتوهجة ويب�صق عليها ،ي�صدر عنها ن�شي�ش ذو انفجار ب�سيط يرميها يف �سطل ماء .ن�شي�ش قوي .اجلميع يتنف�سون تنف�سا �شديدا من حزن و�أمل. الز ْم ّك ويبقى يف طانيو�س :انهزو بتنهزو( .يدخل ْ حركة) الز ْم ّك� :رش�رش بك الإنكليزي� .أجا ي�صيف ْ بجونيه تا يغري هوا. ر�سانيو�س :معناتها :قيمقام الن�صارى ب�شري �أحمد مع الفرن�ساوية وامل�شايخ مع الإنكليز ؟ طانيو�س :ال�شيخ �أ�سد ابراهيم نامي قامي عندو� .رش�رش بك عم يع ّل ُمن �شو الزم يعملو (�صمت) ر�سانيو�س :الق�صة فيها وما فيها. طانيو�س :ما بينحطو بال�ضهر .امل�شايخ معتقدين �أنو الله خلقلن ال�شعب عبيد .معتربين الفالح ومرتو ووالدو وبناتو وطر�شاتو ملكن .واحدن بالوع ما بي�شبع .ال�شب�شول فيهن بيهني �أكرب �شخ�ص من الأهايل� .أميتا هال�شعب راح يفور دمو� .أميتا بيجي �شب يقول� :أنا دمي عا كفي� .أنا بدايات
العدد |5ربيع 2013
�شايف الدين عم تغلي من �صنوبر �رصبا لتلوج فاريا (يتابع حديثه دون �أن ن�سمع كالمه .مو�سيقى – يف مكان خارج امل�شهد العام) .م�شهد �أخر�س – �إ�ضاءة �رسيعة متقطعة بحيث يظهر ال�شيخ الأول (يف الربلوغ) ويختفي ثم يظهر بفعل الإ�ضاءة ال�رسيعة .جمهرة متما�سكة يف ت�شكيل ملتحم تتقدم نحوه – زي موحد – �رسوال ابي�ض فوقه قمي�ص ابي�ض مرخي فوق ال�رسوال على ال�ساقني طماق جلد احمر .لبادة كما لطانيو�س �شاهني يف ال�صورة الوحيدة .يحاول ال�شيخ �أن يهرب .اثنان من املجموعة يتم�سكان به ،الذي على ميينه يدخل �ساعده الأمين من حتت ذراع ال�شيخ الأمين ويقب�ض على حزامه من ناحية بطنه وباليد الي�رسى يتلقط بحزامه من وراء ظهره .ال�شاب الثاين مي�سك ذراع ال�شيخ الي�رسى بيديه الأثنتني – يجرانه – تنفتل رجله الي�رسى وتنثني ركبته يجرانه على الأر�ض – يظهر اخلوري – يوقفهما ب�إ�شارة من كفه مي�سكه بيده ويخرج به .تدخل امراة معها ح�صري ملفوفة – تفردها – ت�أخذ منها بندقية وتناولها لأحد ال�شابني( .عودة �إىل كور احلدادة) طانيو�س( :متابعا كالمه امل�سموع) خلو �شي �صنف من �أ�صناف الوطاية ما عملوه :القتل ،ال�رضب ،احلب�س ...ال�شيخ �شم�سني �أخد مال �شاهني القاموع من عجلتون وقتلو ...بغو�سطا ابن بيو�س غلب ال�شيخ ملحم دعيب�س بالكبا�ش ،قام ال�شيخ �رضبو بال�سيف وقتلو .ابن فار�س البيطار حطوه باملقربة وهو حي .جميلة بنت العن �شفنا �شو �صار فيها( .يف
221
بدايات
العدد |5ربيع 2013
ر�سانيو�س :امل��ا معو يدفع �شو بيعمل؟ بطر�س: ال� ْ�ز ْم� ّ بيحجزولو الفر�شات والطناجر. �ك :هيدي م�صيبة :فر�شات ر�سانيو�س ري�ش نعام. اجلميع: (ي�ضحكون) طانيو�س� :إزا بدكن اجلد ،مو�سم احلرير �أربع خما�سو بي�شفطوه امل�شايخ والتجار وال�سما�رسة. وبالكاد اخلم�س بيبقى لأكرت من � 200ألف ان�سان. ب�شارة :من الفالح للتاجر ،ومن التاجر لل�شيخ ،ومن ال�شيخ للبا�شا ،ومن البا�شا للدولة العلية .طانيو�س: هيدا حكي كلو تخبي�ص بتخبي�ص .ال�شيخ بالوع. ال�شيخ حوت ما بي�شبع .بالول كان ي�شفط تالت ارباع املريي .كان يدفع النا�س 16مرة .هلق �صار بدو ياها كلها(...يتابع ب�صوت مكتوم) (املكان خارج امل�شهد العام) �شباب بالأبي�ض يق�سمون اليمني – الإ�ضاءة خفيفة – وال�صوت بعيد .ال�شباب( :يق�سمون) والله العظيم ،كلنا �إيد وحدة ،وما حدا بيخون .طانيو�س: (يتابع كالمه امل�سموع) النا�س طف�شت ع �آخر الدين، تركوا �أر�ضن وهاجرو ...واحدكم ما عم يقدر يطعمي عيالو .الأر�ض ترابها حجران و�صخر .وفوق هيدا كل يوم �رضبة �سخنة .العبيد عاي�شني �أح�سن منا� .أنت يا ْز ْم ّك! كم مرة بتاكل حلم بال�سنة؟ الز ْم ّك :عاملرفع كلنا ْ ال�سنة .نحنا ازا طبخنا منطبخ بزيت ون كرتت مرة بال�شهر طبخة بقورما .وبالكاد ...بت�سبح بالق�صعة �سباحة وما بتالقي حرحو�ص واحد .ر�سانيو�س :كول خبز وزيت وناطح احليط. طانيو�س( :يطرق على ال�سندان �رضبات ارتعا�ش خفيفة مع مقت�ضيات احلوار التايل) .طيب ،طيب� .سماع �شوي� .أنتو من يوم اللي خلقتو فيه حلد هال�ساعة ما �شفتو وال يوم متل اخللق كلو تعتري وقهر� ،أنتو النبع وال�شيخ متل حوت مر جري�س. الز ْم ّك :والله العظيم مظبوط .بي�شبهو متل حكايتو. ْ طانيو�س :روق يا زمك .قولويل :ال�شيخ من وين بيجيه النت والتني؟ اجلميع :من حاالت .طانيو�س :الزيت والزيتون؟ اجلميع :من الزيره .طانيو�س :القمح؟ اجلميع :من فاريا والقليعات .طانيو�س :اخل�شب؟ اجلميع :من خراج عجلتون (يتابعون �أما طانيو�س فيوقع باملطرقة فقط) احلرير – هوهوه العنب ،نبيد متل الدهب – عرق متلت حليب �سباع – (ب�رسعة هائلة) ال�شعري، الغنم ،املعزي ،طيور ،خ�رضة ،فواكه ،ال�صوف ،اجللد، اللنب والبي�ض .طانيو�س :عن اذنكم حلظة ،انتظروين ما حدا يروح( .اىل ال�صبي) هات امل�شحفة واحلقني يا يو�سف( .على املخرج) �أوعا حدن يدفع مريي( .يخرج
222
بدايات
العدد |5ربيع 2013
ويتبعه ال�صبي) .ر�سانيو�س :ال�شغلة فيها وجعة را�س. ب�شارة� :رضيبي عالبيوت و�رضيبة عالعرو�س. ر�سانيو�س :وازا ت�أهل الواحد بدو يقدم لل�شيخ قفة بن. الز ْم ّك :عرفتو �شو جد مع حبيب؟ اجلميع� :شو؟ ْ الز ْم ّك� :سنة املا�ضية ،جا احلواط تا يلم املريي .و�صل ْ الدور حلبيب قلو عليك ر�سم العرو�س 6قرو�ش .قلو حبيب 4قرو�ش ون�ص �أنت ال�صادق .و َل ْك يا مق�صوف الديني .كيف ما كيف .قلو احلوط 3قرو�ش عالرجال و 3قرو�ش عال�صبية .بطر�س :ما حبيب جتوز �أرملة وعالأرملة قر�ش ون�ص. الز ْم ّك :وا�صلك احلديث ،يا ْ �سيدنا مال �أنت ،قلو هيك .ر�سانيو�س :و�شو جاوبوا احل��واط؟ ال� ْ�ز ْم� ّ �ك :ق��ال :احلق يعلى ...بتدفع ر�سم العرو�س قر�ش ون�ص ور�سم امليت 15قر�ش� .رصخنا كلنا :كيف هيك؟ �ساعتها فنجر عيناه و�صار يعيط علينا: هونيك كان بدكن تاكلوا علي ميت وهيدا �شو �سقط �سهوا .دفعو و�صلو من �أجل راحة موتاكن .بطر�س: ّ زمك .وقت عم ينهبونا ويربحونا منية ،كيف ،كيف يا ال�رش حلنا �أنن هني بيدفعوا عنا لل�سلطان؟ الز ْم ّك: ْ قال �أنو ال�سلطان م�ش بطرك املوارنة .ال�سلطان خليفة امل�سلمني وما بيقب�ض اال ع ال�سنة الهجرية .ومبا �أنو �سنة اال�سالم �أزغر من �سنة امل�سيحية بـ 11يوم .هيك هني كل � 33سنة بيدفعوا عنا �سنة زيادة ل�صندوق اخلزنة العامرة�( .ضو�ضاء يف اخل��ارج ووقع حوافر خيل. �رصاخ و�إط�لاق نار ،معظم املوجودين يتمرت�سون يف الز ْم ّك الذي و�صل الزوايا ووراء الكرا�سي ما عدا ْ كالربق �إىل الباب). الز ْم ّك :هيدا ال�شيخ وفر�سانو ْ الحقني التاجر خمايل (ويعود ليختبئ مع الباقني) نازلني فيه �رضب حجار( .يدخل التاجر مفجوج الر�أ�س ويف حالة يرثى لها) .التاجر :دخيلكن خبوين (يهربون من �أمامه ،يلحقهم) بعر�ضكن خل�صوين (يدخل ال�شيخ �شاهرا الطبنجة وفر�سانه بكامل �أ�سلحتهم) .ال�شيخ: هدي عندك يا واطي( .ينق�ض الفر�سان على التاجر ومي�سكوه ويقدموه لل�شيخ .ال�شيخ يب�صق عليه) تفو ،تفو، و�ألف تفه .التاجر :حاج تبزق عليي يا �شيخ .ترنخت... ت�شت�شو تيابي .ال�شيخ :خايف ترت�شح يا كلب .بدك تديني كي�سني ذهب وكل كي�س 500قر�ش و�أجرك فوق رقبتك .التاجر :وحق مرمي العدرا ما معي وال باره .ال�شيخ� :إال ما يطلع حليب النور برا�سي قلبوه فروج م�شوي (يفعلون وينهال على قفاه بالع�صا – �رضب املوقع بخبط الأرجل يقول فيما ي�رضب) وال باره
ختم طانيو�س �شاهني معمل حرير 1891
223
يا �أبو كمونه؟ �أنت وابن خمايل طوبيا وبطر�س الأ�صغر دينتو عدوي ب�شري �أحمد مليون ون�ص مليون قر�ش. التاجر :ك��ذب من قايلك؟ ال�شيخ :االنكليز .ما عاحل�ساب بهاليومني بتدبرن .التاجر :هلق بعدين طالع من ذوق مكايل من عند اخلواجا اليا�س املنري .ال�شيخ: وانخلي يا ليلى (يهرع �إىل كور احلدادة يلتقط رف�ش ويغرف فيه جمر وفيما يفعل كل هذا يقول) �أنا بعمري ما اكلت قر�ش ع حدا� .صوت طانيو�س� :أنا ب�شهد. ال�شيخ رب مني دفع (يظهر على الباب) �أخد مني مبلغ و�رصلو � 12سنة بريدو( .ال�شيخ يرمي باجلمر على قفا التاجر -التاجر ي�رصخ الفر�سان يتجهون ملجابهة طانيو�س) .هون ببيتي يا كالب( .يندفع بع�ض ال�شباب بالأبي�ض ويطردونهم فيما طانيو�س يجر ال�شيخ من رقبته .والتاجر ي�رصخ من الأمل :يقفز على قدميه وقد طار احلذاء من رجليه وكلما قفز قفزة وعاد �إىل الأر�ض يدو�س بقدمه الثابتة على جمرة ثم على �أخرى وهكذا... مو�سيقى رق�صة الكان كان ويدخل يف �إيقاعها. (انتقال مو�سيقى مع م�ؤثرات بحر و�صوت نور�س وكذلك بالإ�ضاءة .على زاوية املقدمة يجل�س ت�رش�شل ي�صطاد �سمكة كبرية بوا�سطة �صنارة باجتاه اجلمهور وقد اعتمر قبعة ق�ش كبرية حايف القدمني .تقف بجانبه فتاة يف ف�ستان �أبي�ض ،ترفع مظلة بي�ضاء .يدخل عليهما ال�شيخ الهثا). ال�شيخ� :رش�رش بيك وال غلطان؟ والله ما عرفتك .ما �شالله �شو هال�سمكة! ت�رش�شل :هلق خربين �شو جد معكم باجتماع زوق اخلراب؟ ال�شيخ: ح�رضو الأمرا وم�شايخ ك�رسوان وغزير والفتوح ،كمان ح�رض اخلواجات وباقي الرعية .و�أجو الوكال وجابو ت�رش�شل :املهم اتفقتو؟ معهم اخلتومة. ال�شيخ: خربية امل�أمورية فيها ملغ�صة .نا�س بدها تالتة ونا�س بدها اتنني .ت�رش�شل :وع �شو اتفقتو؟ ال�شيخ :كتبنا معاري�ض �شكاوي من كعب الد�ست �ضد القيمقام ب�شري �أحمد والكل ختمو .ت�رش�شل :ما بتنق�ضي بال�شكاوى. خور�شيد با�شا بيحطها بالدرج .ونحنا ما عنا ا�سباتات م�ضبوطة تا نتهمو بالربطيل .ال�شيخ :بدها ا�سباتات ول���و؟! ت�رش�شل :البا�شا �أك�بر دعمه للقيمقام. والفرن�ساوية تركو والد الأ�صل وم�شيو مع النور. ال�شيخ :نحنا يا ت�رش�شل بيك .نحنا عنا حقوق – القانون كان جلنبنا واحدنا مهما عمل ممنوع يقتلوه ،ممنوع يحب�سوه ،ممنوع ي�رضبوه .نحنا ما �ألنا غري الله وغريكن. ت�رش�شل� :سنة الأرب��ع�ين طلب منكم الأ�سطول بدايات
العدد |5ربيع 2013
االنكليزي مت�شو معنا �ضد امل�رصيني .نزلتو بكل تقلكن. نحنا ما ممكن نن�سالكن ياها �أبدا .امتيازاتكن من�صانة. حقوقن حمفوظة .تقاليدكن كل �شي .نحنا مرتبطني معكن بالعدل وال�رشف. ال�شيخ :كل �آمالنا معلقة عليكم؟ ت�رش�شل :وبقية القنا�صل ما عم ت�شقو عليهم؟ ال�شيخ :باطل .ت�رش�شل :اتكل ع خادم �صاحبة اجلاللة. ال�شيخ :يعي�ش امللكة فيكتوريا. اورفوار متموزيل �رش�رش بك .ت�رش�شل( :فيما يتح�رض للخروج) رح جنوزها ع بيت �شهاب( .يكون قد علق بال�صنارة خف ح��ذاء مهرتئ يرتكه معلقا وي�سري للخروج). ال�شيخ :ب��اي ،باي كنتنا( .يخرج نحو الزاوية الثانية) .الفتاة( :فيما يخرجان) ما هذا يا �أب��ي؟ ال�شيخ :انها قمامة تاريخية( .يختفيان يف الكوالي�س .اما ال�شيخ ما ان ي�صل �إىل الزاوية الثانية من مقدمة امل�رسح حتى يواجه خ��وري) .ال�شيخ: (تفاج�أ بع�ض ال�شيء) بارخمور .اخلوري :بارخمور. ال�شيخ :ان�شالله خ�ير. اخل��وري :مو�صى معي البطرك .تا نبهك وقلك� :أنتو بها العملة عم حتفرو قربكم ب�ضافريكن .وما على الر�سول اال البالغ( .ي�ستدير ويخرج) ال�شيخ( :يف اثره) ما لقي�رص لقي�رص (ي�ستدير ليعود من حيث ات��ى فيتواجه مع كل من يو�سف البكا�سيني وبرفقته احد عقال ال��دروز) .الدرزي: نحنا من قبل �سعيد بك جنبالط .البكا�سيني :البيك �شايف ان��و حتزبكن �ضد القيمقام هيدا اك�بر �رضر عليكن .الدرزي :عليم الله .م�ش ب�س عليكن .ال�رضر واق��ع ع كل مقاطعجية جبل لبنان. البكا�سيني: بي�سوى تكونو حزب واحد .الدرزي :وغر�ض واحد. ان كان مع املري او �ضدو. ال�شيخ( :فيما ي�رسع للخروج من الناحية املقابلة) قولو ل�سعيد بك نحنا مت�شكرين معروفو( .يخرج البكا�سيني واالخ��ر – ينظران �إىل بع�ضهما .يهزان كتفهيما ويخرجان)...
ان يكون قب�ضايا باملعنى االيجابي للكلمة فهذا م�ؤكد لكن ان يكون مثقفا يف زمن موغل يف القدم ويف زمن االتراك فهذا ما يثري �شيء من الغرابة يف نف�سي .ومع ذلك تبدو ال�صورة خمتلفة عما هي يف زمن ا�رسائيل التي قلبت تدريجيا كل املعايري واملفاهيم االيجابية يف حياتنا وق�ضت عليها ،وعلى نحو اكرث احكاما رفعت من بع�ض العائالت املتواطئة معها اىل مرتبة «عالية» على كل امل�ستويات ،وب�شكل منهجي اكرب عملت على حتطيم وتدمري كل الذين ر�أوا يف وجودها ا�ستعمارا حم�ضا ال يختلف عن اي ا�ستعمار �آخر يف العامل. كانت جدتي كما عرفتها ،وهي �شبه مكر�سحة، متار�س ثالثة ن�شاطات رئي�سية كل ي��وم :ال�صالة، تطرز املناديل �صالة امل�سبحة ،والتطريز ،اذ كانت ّ واالويا والغيباين وانواعا اخرى ،والقراءة .الغريب يف االم��ر ،ان معظم الن�ساء يف زمنها مل يتلقني اية يعرفن القراءة ،لكن جدتي كانت انهن ال درا�سة كما ّ ّ جتيد القراءة .كانت تلم اي كتاب قدمي جتده حتى لو من دون عالف او ينق�صه بع�ض ال�صفحات وت�رشع يف قراءته اذا ما كان ق�صة او رواية .ويف الليل كنا نتح ّلق حولها وكانت حتكي لنا ق�ص�صا ،على الغالب هي ق�ص�ص �شعبية كانت متداولة �آنذاك يف فل�سطني، منها ق�صة �رسايا بنت الغول التي كانت جدتي ت�ؤكد لنا انها خرافة �شفاعمرية ب�سبب ال�رسايا املوجودة يف �شفاعمرو والتي ال تزال موجودة اىل يومنا هذا (من اجلدير ذكره ان ال�رسايا او القلعة بناها عثمان ابن الظاهر عمر) .وكانت حتكي لنا ق�صة ليلى احلمراء، وق�صة عنرتة بن �شداد على نحو �ساحر ،وق�صة تغريبة بني هالل التي كانت تقلب كل وقائعها وجتعلها ق�صة فل�سطينية تقع كل احداثها يف اجلليل ،وق�صة افتح يا �سم�سم والكهف واالربعني حرامي ،وق�صة ال�سندباد التي حتدث يف بالدنا ،وق�صة املغر التي وجدوها حتت بيت جرياننا (�آل حبيبي ،من عائلة الكاتب اميل ال�شفاعمري) والتي متتد على م�سافة كبرية حتت حبيبي ّ االر�ض والتي ت�أ�رسنا .وق�ص�ص اخرى عديدة .من اين كانت ت�أتي بكل تلك احلكايات؟ اكيد من الآباء واالجداد ومن بع�ض الكتب التي كانت تقر�أها .هذا ما اعتقدته دائما. لكن بريجيت يف عام ال 1999تبتاع يل هدية عبارة عن كتاب حكايات ال�شقيقني جرمي الفاج�أ ان عددا قليال من احلكايات التي كانت ترويها لنا جدتي كانت م�أخوذة من كتاب حكايات جرمي ،مع فارق ان كل حكايات جدتي
جديت حاجي ّ رياض بيدس ل�سوء حظي ،وانا اال�صغر يف العائلة ،مل ار جدتي واقفة على قدميها ابدا! روايئ وقاص وناقد :غالبا ما ر�أيت جدتي يف بيتنا القدمي يف و�سط البلد شفا عمرو ،فلسطني .ويف بيتنا اجلديد الذي انتقلنا اليه فيما بعد جتل�س معظم من اعماله «اجلوع وقتها على �رشفتي البيتني يف الظل لتحتمي من ال�شم�س واجلبل» ( )١٩٨٠على كر�سي ق�ش ،وعندما كانت تريد ان تنتقل ت�ستعني «باط بوط» ( )١٩٨٠بذلك الكر�سي لالتكاء عليه والو�صول اىل املكان الذي «حكاية الديك تق�صده على مهلها. الفصيح» ( )٢٠٠١كانت امر�أة مديدة القامة ذات جمال حزين ت�شبه «المحو» ( )٢٠١٣الهنود احلمر اىل حد بعيد ،ولقد تعبت يف احلياة ومن امل�صائب التي ح ّلت بها :فقدان زوجها بعد �سنتني على زواجها ،وفقدان ابنها الوحيد حنا ,الذي كانت تعبده, وب�سبب ظروف احلياة القا�سية التي عا�شتها ،اذ عا�رصت االتراك واالجنليز واليهود .كان يحز يف قلبها ان عائلة بيد�س فقدت معظم امالكها بعد موت زوجها وبعد وفاة �آخرين يف العائلة .من عائلة ملاّ كني اىل عائلة فقرية. وعند قيام دولة ا�رسائيل �صودر معظم ما تبقّى البي من نتاتيف االرا�ضي التي بقيت ،اذ �صادرت حكومة ا�رسائيل البي 80دومنا يف كريات �آتا وكان يكفي ان يبقى دومن واحد من الثمانني لكي نرثى جميعا نحن االبناء واالحفاد .لكن االرا�ضي طارت كما طارت البالد .وما تبقّى للعائلة من ارا���ض ال ي�سوى ويف مناطق وعرية. مل تكن جدتي البي حتب اخلو�ض يف احلديث عن ال�سيا�سة ،لكنها كانت احيانا تقول ان اجلِمال – جمال دار بيد�س – كانت متلأ ال�ساحة القريبة من كني�سة البلد بعد عودتها من احلقول واالرا�ضي التي كانت العائلة متلكها ذات يوم .وكانت ت�شري بطرف خفي اىل ان الظلم يف زمن االتراك كان مرعبا ،ويف فرتة االجنليز اي�ضا وان
226
بدايات
العدد |5ربيع 2013
كان على نحو اقل رمبا النه كان حمكما اكرث ،وانه مع قيام دولة اليهود راحت البالد و�صودرت االرا�ضي وما بقى هو القليل من االرا�ضي لعائلة من امللاّ كني. جدتي البي ،تلك ال�شخ�صية القوية النادرة ،كانت اجلمال ،وهي عائلة �شفاعمرية كبرية. ّ تتحدر من عائلة ّ مل تكن جدتي تتباهى با�شقائها القب�ضايات بكل معنى الكلمة ،بل كانت ،والنها كانت راوية بطبعها تذكر عفو اخلاطر �شقيقها بطر�س ال�سمرا – هذا ما كانوا يطلقونه «فراريا» من عليه �آن��ذاك – الذي ق�ضى معظم حياته ّ االتراك وانهم كانوا يالحقونه حتى يف اجلبال .وما زالت الق�ص�ص واال�ساطري تروى عن بطولة بطر�س ال�سمرا عند كبار ال�سن باعجاب وانبهار كبريين .وغالبا ما يختمون الق�ص�ص التي يعرفونها عنه انه على الرغم من جر�أته النادرة وب�سالته مل ي�ستطع االتراك قتله ،بل مات بعد �سنوات حتف �أنفه .واىل ان تويف ظل النا�س يحرتمونه ويهابونه وحتى يخ�شون من قوته التي ال تتزعزع .بطولة فردية مل تكن ت�ستند اال على قواها الداخلية فقط. جدتي مل تكن ت�أبه لكل تلك البطوالت يف عائلتها ويف عائلة زوجها ،كل ما كان يعنيها بعد مقتل زوجها اليا�س ان حتمي ابنها وابنتها وان حتمي احفادها .لكن احيانا كانت تذكر كل تلك الق�ص�ص التي ال تزال تروى احيانا ب�شكل �رسيع وفقط من اجل انعا�ش الذاكرة يف زمن ا�رسائيل. ومن الغريب اين بعد �سنني عديدة ،عندما كنت اق ّلب يف مكتبة ابي ال�ضخمة التي احرتق معظمها ب�سبب القنديل الذي وقع عليها ،اقع على كتاب لبطر�س ال�سمرا باالجنليزية عن اربعة من ابطال اليونان باالجنليزية. والكتاب مهدى من بطر�س ال�سمرا اىل ابن اخته حنا بيد�س .كتب االه��داء بقلم ر�صا�ص وما زال وا�ضحا جدا حتى اليوم .وما زلت احار يف امر بطر�س ال�سمرا:
227
بدايات
العدد |5ربيع 2013
كانت حتدث او حدثت يف اجلليل .اال�سماء كلها عربية حمدد. فل�سطينية واالمكنة ،والزمن غالبا غري ّ كربنا على حكايات جدتي ال�ساحرة .ومن بني كل االمكنة التي كانت جتري فيه حكاياتها كان مكانان حمددان يثريان اهتمامنا من بني كل االمكنة االخرى (اذ كانت ال�سيارات نادرة ،وكان من ال�صعب علينا ان ن�سافر اىل بحر الزيب او عكا او حتى حيفا لرنى البحر الذي كان ال�سندباد يعارك امواجه وحيتانه)� :رسايا او قلعة �شفاعمرو التي كانت تدور فيها ق�صة �رسايا ونتخيل بنت الغول ،فكنا ننظر اىل تلك القلعة بانبهار ّ احداث احلكاية .اما املكان الآخر ،فكانت املغر التي كانت متتد من حتت بيت جرياننا دار حبيبي والتي ظل منها جزء يف زمننا اىل ان طموها .كنا ال جنر�ؤ على دخول تلك املغر النها مظلمة ،لكننا كنا نقف احيانا على بابها برهبة ونعود خائفني. وعلى ما يروى فان ق�صة تلك املغر حقيقية .ففي زمن االجنليز اكت�شف احد اال�شخا�ص من عائلة حبيبي تلك املغر .ودخل يف قلبها وق ّلب يف ا�شيائها ،وملفاج�أته وجد فيها كمية هائلة من الذهب (رمبا من زمن عثمان ابن الظاهر عمر !) .عاد ادراجه اىل البيت ومل يخرب احدا ب�رسه بامر الذهب .كانت كمية كبرية جدا .ظل حمتفظا ّ ب�رسه. تعرف على �سيدة اجنليزية واخربها ّ لفرتة ،اىل ان ّ وعندما ر�أت تلك ال�سيدة تلك الكمية من الذهب ،ويف معظمها حتف فنية خال�صة ،وعدته خريا ،واقرتحت عليه تلك ال�سيدة ان ت�أخذ كل تلك الكمية من الذهب يف «الببور»( ،اي باخرة) ،اىل اجنلرتا وتبيعها هناك ،ثم تعود وتعطيه ثمنها بالعملة االجنليزية .وثق ذلك ال�شخ�ص بها ،وكان ان �سافرت تلك ال�سيدة بالذهب اىل اجنلرتا. وانتظر ابن عائلة حبيبي �شهورا و�سنني ،لكن تلك ال�سيدة اختفت نهائيا .اختفى الذهب نهائيا ،اما ذلك ال�شخ�ص من �آل حبيبي ،فكان م�صريه اجلنون. ظ ّلت جدتي تقر�أ اىل ان �ضعف ب�رصها نهائيا .اما الورقي الذي كانت ت�ضع فيه كتبها فقد امتلأ ال�صندوق ّ بالعث ثم تبعرث .وعلى الرغم من ان جدتي كانت تقر�أ يوميا ،وكانت دائما حتب ان تقر أ� كتبا جديدة ،اال ان مكتبة ابي ال�ضخمة مل ترث اهتمامها :الن ت�سعني باملئة من تلك الكتب كانت باللغة االجنليزية ،اما الكتب االخرى التي كانت فيها فهي كتب عربية كال�سيكية للجاحظ واملتنبي والعقد الفريد وثالثة تفا�سري للقر�آن عدا الن�سخ املختلفة للقر�آن التي كان ابي يحتفظ بها،
والعقد الفريد ،وغريها من الكال�سيكيات .كانت جدتي تبحث عن احلكايات الب�سيطة ،النها كانت حتتفظ مبخزون هائل من الذكريات ،ورمبا احلكايات ،وكان من ال�سهل عليها ان تقلب بع�ض تفا�صيل تلك احلكايات وجتعلها كلها حتدث يف اجلليل على نحو م�شوق جدا. ويف تلك االيام مل يكن هناك تلفزيون ،فكانت تلك احلكايات هي التي جتمعنا حول جدتي .وكانت حتكي لنا بع�ض تلك احلكايات احيانا اكرث من مرة مع تغيريات دائمة دون ان ن�صاب باي ملل .واىل يومنا هذا ما زلت احت�سرّ الننا يف تلك االي��ام مل نكن نعي اهمية تلك احلكايات الفائقة لندونها كما كانت ترويها لنا جدتي، لكن ذلك كان غري ممكن ،النه يف تلك الفرتة مل تكن هناك مل تكن هناك �آالت ت�سجيل. يف بيتنا اجلديد يف اجلبل كربت جدتي وكربنا نحن ومل تعد تروي لنا حكاياتها .ويف البيت اجلديد اخذت اقر�أ مما يف مكتبة ابي من كتب كال�سيكية كانت ت�سحرين جدا :كانت اخلطوط التي ي�ضعها ابي حتت ال�سطور التي تعجبه تثري اهتمامي ال�شديد .وكانت مالحظاته الثاقبة التي يكتبها بخطه اجلميل يف هوام�ش ال�صفحات ت�صيبني بالذهول احيانا :مالحظات حادة ،احيانا �ساخرة ،ومرات تنقل واقع تلك االيام على نحو دقيق .وكانت جدتي ب�سبب �ضعف نظرها تطلب مني ان اقر�أ لها ما اقر�أه .كنت افعل ذلك ب�رسور ،لكن الكتب التي كانت ترغب يف اال�ستماع اليها هي روايات جرجي زيدان التاريخية التي كنت ا�ستعريها ت�صحح يل من ابن جرياننا زيتون .كنت اقر�أ لها وكانت ّ اخطائي العديدة باهتمام �شديد .اما الكتب االخرى التي كنت اقر�أ لها منها ،فكانت اجزاء كتب «امل�شوق» التي كنا ندر�س فيها .كانت احيانا ت�ضحك وتفرح من بع�ض اقا�صي�ص «امل�شوق» وتقول يل «هذا كتاب ممتاز .ليت نظري كان قويا كما كان ،الين كنت �س�أقر�أ الكتاب ب�رسور (وت�س�ألني «معل�ش اي�ش ا�سمه ؟» ،ف�أخربها) واتابع القراءة. ان ت�ستطيع جدتي قراءة «امل�شوق» على مهلها كان يعني ان تعيد بناء تلك الق�ص�ص يف خيالها وان ترويها لنا فيما بعد على نحو �ساحر جدا .وبعد �سنني ،وقبل ان يكت�سح عاملنا التلفزيون ،اذ كان ترفا خال�صا �آنذاك ال ي�ستطيع امتالكه اال االغنياء وهم ق ّلة قليلة يف البلد ،كان اخي اليا�س الذي ق�ضى �شابا هو الآخر يروي لنا الكتب التي كان يقر�أها ليال بعد نهار عمل م�ضن ،على نحو اننا ما زلنا اىل يومنا هذا نقول عنه« :كان يروي لنا ق�صة الكتاب على نحو م�شوق كما لو انه فيلم �سينمائي من الطراز
228
بدايات
العدد |5ربيع 2013
االول» .مل نكن منل لثانية واحدة .وتدريجيا اندثر زمن احلكاية ليحل حمله زمن التلفزيون .فاختفت احلكايات واختفى الرواة .و�صار ابو ملحم وام ملحم وا�سعد وفهمان تعرفنا على م�سل�سل «هاواي» هم ابطالنا ال�شعبيني ،اىل ان ّ التحري االمريكي ال�شهري يف زمننا وتتالت االفالم وامل�سل�سالت االجنبية التي كنا ننتظرها بلهفة. فرحت جدتي البي لفرحنا عندما جنحنا يف اقتناء تلفزيون .لكنها مل تكن ت�شاهد التلفزيون باملرة .كانت تنظر اليه ك «بوك�س ،اي �صندوق» غريب عليها وعلى عاملها .كانت بالفطرة تدرك ان عاملها وجتربتها يف احلياة اهم بكثري من التلفزيون .وظلت تكتفي مبا اقر�أه لها من كتب يف النهار ،ويف ال�سابعة م�ساء كانت تلج�أ اىل فرا�شها وتنام .ورمبا ظ ّلت حتلم احالما فل�سطينية ممزوجة بخربة من زمن االحتالل الرتكي واالجنليزي واال�رسائيلي على مهلها .كنا منازحها احيانا «اي االزمان اف�ضل يا جدتي ؟» كانت تبت�سم وتقول «كلها غريبة علينا وعلى عاملنا .وال ي�صح اال ال�صحيح» .وعندما كربت فهمت ما الذي كانت تق�صده بـ«ال�صحيح»، فلقد تربينا على ان للحيطان �آذانا ،وكانت جدتي حتكي �سيا�سة اما بالرمز او التلميح ،او من خالل حكاياتها التي كانت كلها جتري يف اجلليل الفل�سطيني. نهار ال�سبت ،كان ي�أتي لزيارة جدتي ختيارية من البلد ي�شاركون جدتي احلديث عن جتاربهم وايام زمان وعراكهم يف احلياة .كان ذلك اي�ضا بديال للتلفزيون الذي اكت�سح البيوت .كان ي�أتي لزيارة جدتي :املهدي وهو دمرت عند احتالل اليهود بدوي من قرية اخليط التي ّ للبالد (وكثريا ما كان يردد على م�سامع جدتي والآخرين «يا ريت اليهود ي�سمحولنا نرجع لقريتنا اخليط وبدي انام حتت بيت خرفي�ش!») وكان اخلتيار ا�صالن الذي يحكي العربية بلكنة ارمنية ،واوالد اخت جدتي الذين كنا نناديهم بـ«خايل اني�س» و«خايل اميل» ،وابن اختها لوي�س الذي كان يبدو لنا بقامته الفارعة ك�أنه هندي احمر ،واق ّلهم حظا مع جدتي كان زوج خالتي منى �سليم الذي ي�ستفز غ�ضب جدتي عندما تراه ي�أتي اىل لقاء نهار ال�سبت وقد ارتدى قمي�صا ابي�ض ويف جيبه ي�ضع علبة دخان مالبورو التي يراها اجلميع من جيب قمي�صه ال�شفّاف ،فتقول له بغ�ضب« :مالبورو للنعرة (اي �شوفة تخيط للنا�س ف�ساتني، النف�س)؟ كل النهار مرتك قاعدة ّ وانت بدك تنعر وجتخ؟! عيب عليك!» وكان زوج خالتي يتقبل انتقادات جدتي ب�صدر رحب. الب�سيط الطيب ّ
229
بدايات
العدد |5ربيع 2013
ويف تلك اجلل�سات كانت جدتي ت�ستعيد ذكرياتها مع اولئك اال�شخا�ص الذين عا�شوا جتارب مماثلة لتجاربها. كلهم ،ما عدا زوج خالتي الذي كان ا�صغر �س ّنا منهم، مل ي�شاهدوا وال اي برنامج تلفزيوين واحد من دون ان ي�شعروا بنق�ص ما ال بل بطيب خاطر« .التلفزيون» الغ�صات واملرارات الوحيد الذي ا�ستمتعوا به ،رغم كل ّ والآالم التي عانوها ،كان ذكرياتهم وعاملهم الغني الذي عا�شوه والذي كان يتدفق يف جل�ساتهم من دون اي جمهود .اكرث من ذلك :احيانا كانت جدتي ،بناء على طلب املهدي ،الطاعن يف ال�سن ،تروي لهم احلكايات التي كانت ترويها لنا ،فيفرحون كاالطفال .وكثريا ما كان اخلتيار ا�صالن يبكي النه يتذكر يف بع�ض احداث تلك احلكايات ،بالده ارمينيا ،فيدمدم باالرمنية ببع�ض ما الذي بقي من جدتي؟ الكلمات ومي�سح دموعه. تاريخ طويل من احلزن واملعاناة .كانت جتاعيد وجهها يف تلك االيام كانت ال�ساعات اي�ضا نادرة .كانت يف حتكي م�أ�ساتها ال�شخ�صية وم�آ�سي �شعبها .راوية من بيتنا القدمي �ساعة كبرية تر�سل دقاتها رتيبة خاوية على الطراز االول من خالل حكاياتها حكت تاريخ منطقتها نحو قاتل .وعندما عبثت بعقربيها غ�ضبت امي ،بينما وتاريخ جيلها .بخيال خ ّ الق كانت ت�ستعري حكايات جدتي مل تعرت�ض .ا�ستغربت االمر .لكني فيما بعد فهمت� :شعوب اخرى وجتعل منها حكايات فل�سطينية حملية. كانت جدتي ال تلج�أ لال�ستعانة بتوقيت ال�ساعة باملرة .بالفطرة ا�ستطاعت ان ت�ضحك على التاريخ القا�سي الذي كانت جتل�س على �رشفة البيتني وتقول لنا الوقت الدقيق .كان وما زال يتالعب بنا وان تن�سج عاملا من احلكايات كنا ندخل اىل البيت وننظر اىل ال�ساعة لنفح�ص االمر ،اجلميلة التي تخفّف من وط�أة ما يجري على ار�ض الواقع. ونكت�شف ان جدتي تعرف الوقت بال�ضبط .كنا ن�س�ألها كيف ،وجوه ال تن�سى .ا�صالة ازاء واقع جديد ه�ش مائع. فكانت تقول لنا «من حركة ا�شعة ال�شم�س على ال�رشفة» .وقبل ان تتوفى جدتي ب�سنني قليلة ،ا�ستعري من مكتبة وكنا ن�ضحك من «�ساعتها» اخلفية املاكرة بالن�سبة لنا. ا�ستاذ التاريخ رواية «فار�س �آغا» ملارون عبود .برتدد تقدمت جدتي يف العمر وتكر�سحت متاما .و�صار من ابد�أ بقراءة ال�صفحة االوىل جلدتي التي تفرح كاالطفال. ال�صعب على امي ان تعنى بها لوحدها ،فجدتي كانت اتوقف وات�أملها ،اذ انها للمرة يف اثناء قراءة كتاب لها حماة و�صديقة واخت ومدر�سة والدتي .كانت امي تبدو �سعيدة .تطلب مني باحلاح ان اتابع القراءة .وعلى ت�ستعني بنا على نقل جدتنا يف البيت اىل ان �صار االمر مدار ا�سبوعني ننجز قراءة الكتاب .ت�شكرين جدتي عيني .تقول «هذه لك، ا�صدق غري ممكن .و�شعرت جدتي بثقل حياتها .كانت ت�ص ّلي وتعطيني ن�صف لرية .ال ّ ّ فرحت قلبي بهذا الكتاب» .وبعد �صمت ق�صري احيانا ان متوت يف فرا�شها وهي نائمة ،لكن الآلهة مل النك ّ ت�ستجب .ظللنا على ذلك احلال اىل فرتة طويلة :ال احد تقول يل وهي مته ّللة اال�سارير« :بتعرف؟ قرياقو�س هذا جبار ،ب�س بنق�صو ا�شي واحد »...وانتظر ماذا منا ،وبالذات امي ،يريد التخ ّلي عن تلك اجلدة الرائعة .ان�سان ّ «جبار، لكن انينها وبكاءها حاال دون ذلك .اجتمعنا بعمتي �ستقول ،فتبت�سم ابت�سامة عري�ضة وتقول ب�أ�سف ّ عبلة ،فقالت ان االمر �صعب عليها .عندها طلبت جدتي ب�س للأ�سف جبان .زوجي وابني وا�شقائي مل يكونوا ان ن�أخذ بها اىل امللج�أ« .امللج�أ؟!» كلنا رددنا تلك الكلمة جبناء باملرة» .وعلى الرغم من الروايات العديدة التي كما لو انها كانت �سجنا او غربة جديدة جلدتي ،لكن قر�أتها ،اال ان «فار�س �آغا» ظ ّلت رواية جدتي االثرية، جدتي قالت «بدي اروح على امللج�أ !» امي حاولت ان رمبا الن جدتي اعجبت بها جدا! تقنعها انها لي�ست ثقيلة علينا باملرة ،لكنها قالت بحزم واىل اليوم ،ما زلت اتذكر �ضحكات جدتي املوزونة وانا «انا جهام (اي امر�أة �ضخمة) وما حدا بقدر يظل يعول اقر أ� لها كتاب «فار�س �آغا»� .ضحكات ال متوت نابعة من يف .بدي ارتاح» .نقلنا جدتي على م�ض�ض اىل امللج�أ ،القلب يف عامل قا�س موح�ش. ّ فق�ضت فيه بعد اقل من �شهر حزينة على نف�سها ،ورمبا على الآخرين الذين يع ّزون عليها .كانت ال تريد ان متوت يف امللج�أ ،لكن كان من ال�صعب عليها ان ترانا ثالثة او اربعا جمتمعني لرفعها على �رسيرها .وعندما ماتت عن عمر يناهز الـ 92عاما يف امللج�أ ت�أثرنا جميعا ،لكن العزاء الوحيد بالن�سبة يل كان تلك احلكاية التي كانت ترويها عن الفيل او عن حيوان �آخر ال اذكر ا�سمه انه كان عندما يتقدم يف ال�سن كان يذهب اىل مكان بعيد عن القطيع وا�رسته ليموت وحيدا .وهذا ما فعلته جدتي. وكانت حكايتها تلك ا�ست�رشافا حلالتها وحلالة اغرتاب كثري من الب�رش حتى يف موتهم!
230
بدايات
العدد |5ربيع 2013
230عن انعتاق الكالم: لغة الثورة السورية والثورة يف اللغة
حممد العطار
ميكن �أن تبقى جدرانها امل�صمتة جاثمة على �صدورنا، على ما ذهب �إليه مبكر ًا املعار�ض ال�سوري ريا�ض الرتك يف �رصخته ال�شهرية يف مطلع الألفية الثانية.3 الكالم �إذن يف �سوريا كان له ثورته �أي�ض ًا .فالكالم خارج �إطار امل�سموح به كان باهظ الكلفة� ،أثمانه ترتاوح بني �سنني من االعتقال وبني التنكيل واال�ضطهاد الرهيب. ٍ وبخوف رهيب. كانت النكات ال�سيا�سية تقال يف ال�رس، الأغاين والأهازيج ،كما الكتب والأفالم وامل�رسح يف ومراقبة .اجلدران يف �سوريا ،كانت �سوريا كانت مقيدة ُ متلك �أذان ًا �شديدة الإ�صغاء .لي�ست ال�ضوابط ال�صارمة واخلطوط احلمراء وما �أكرثها ،هي الطامة الوحيدة .هناك �أي�ض ًا ابتذال الكلمات و�إفراغها من �أي معنى �أو وقع يالم�س قلوب ال�سوريني كما عقولهم .ا�س�ألوا ال�سوريني ٍ كلمات مثل�« :شفافية»« ،عدالة»« ،مقاومة»« ،ممانعة»، عن «�صمود»« ،لحُ مة وطنية»« ،ت�صدي»« ،م�ؤامرة»« ،حتديث»، «تطوير»�« ،إ�صالح» والقائمة تطول. عقود من التدجني اللغوي تتواله على التوايل منظمات طالئع البعث و�شبيبة الثورة ،ثم احتاد طلبة �سورية ،ثم امل�ؤ�س�سة الع�سكرية «العقائدية» ،ناهيك بالطبع عن ن�رشات الأخبار على التلفزة الر�سمية وافتتاحيات ال�صحف الر�سمية الوحيدة .ال ميكننا بالطبع �إغفال االجتماعات واللقاءات احلزبية واملهرجانات اخلطابية ،التي كان لها �سطوة ال يجوز التقليل من �ش�أنها وبخا�صة يف القرى والأري��اف .كيف واحلال هذه �ستنجو اللغة من ال�ضمور �إذن؟ يف فيلم «الطوفان» يقول مدير املدر�سة االبتدائية: «منذ نعومة �أظافره تعلم الطالب حب هذه املنظمات»، يق�صد طبع ًا منظمات حزب البعث ،وهو �شديد الثقة �أن
عن انعتاق الكالم
لغة الثورة السورية والثورة يف اللغة حممد العطار كاتب ومرسحي سوري
. 1ج .ل .او�سنت, فيل�سوف الربيطاين, وهو من �أعاد مفهوم الكالم �إىل فعلٍ ب�رشي. � 2أجنز د .جمال �شحيد ورقة بعنوان «�شعارات االنتفا�ضة واملواالة يف �سوريا» ن�رشت يف موقع املبادرة العربية للإ�صالح. وفيها ي�ستعر�ض عدد ًا كبري ًا من ال�شعارات وي�شري يف مقدمة ورقته �إىل وجود �أكرث من ع�رشة �آالف �شعار، دون �أن يوردها كلها بالطبع.
232
ت��ت��وج��ب اإلاشرة إىل أن ه���ذه ال��ورق��ة ليست حب��ث ً��ا ل��غ��وي ً��ا مخُ��ت��ص ً��ا ،ل��ق��ص��ور م��ع��اريف يف ه���ذا احل��ق��ل ،والن�ص�راف اهتمامي إىل م��ق��ار ب��ة فعل ال��ك�لام بوصفه فعل ان��ع��ت��اق ،أي م��ق��ار ب��ة ال��ك��ل��م��ات وال��ه��ت��اف��ات وال��ش��ع��ارات اليت ً جزءا من ولدت بفضل وأثناء الثورة بوصفها جتسيدا لممارسة احلر ية .انعتاق فعل الكالم هذا ،والذي يشكل ً ً مفتاحا لفهم التغيري السيميايئ للكلمات ،أي تغيري معاين الكلمات ،حنت كلمات جديدة، ثورة اللغة ،يشكل وإعادة الروح لكلمات أخرى .هذه التغيريات عىل المستوى السيميايئ ما هي إال نتيجة لتحرر فعل الكالم، الذي يشكل أحد أوجه ثورة هائلة عىل صعيد الفعل اإلناسين.1
يف العامل الأجنلو � -ساك�سوين ,تدر�س اللغة عاد ًة على ثالثة م�ستويات خمتلفة ,والعالقة بني هذه امل�ستويات ال ,Syntax ,حيث ندر�س قواعد اللغة. متداخلة� .أو ً Semantics ثاني ًا, حيث ندر�س معاين الكلمات .ثالث ًا ,Pragmaticsحيث ندر�س الأفعال الكالمية� ،أي اللغة على م�ستوى التداول واال�ستخدام .هذه الورقة تقرتح � ّأن حترير فعل الكالم ,على امل�ستوى الثالث ,ينعك�س ويعك�س تغيريات على امل�ستوى الثاين ال�سيميائي� ,أي يف معاين الكلمات .بالطبع ف�إن تو�ضيح هذا الأمر يحتاج ومعمقة يف طبيعة العالقة �إىل درا�سة تف�صيلية مخُ ت�صة ّ بني هذين امل�ستويني .يف هذه الورقة مالحظات تنطلق من واقع ا�ستخدام اللغة يف الثورة ال�سورية. ت�سعى الورقة �أي�ض ًا ال�ستعرا�ض كيف جعل انعتاق الكالم من ال�شعارات ُمعرب ًا عن م�سار الثورة و�أطوارها. و�إن كنت يف هذا ال�سياق ال �أ�سعى �إىل جتميع كل �شعارات الثورة ال�سورية ،و�إمنا �أكتفي بالإ�شارة �إىل بع�ض الأمثلة التي �أعتقد �أنها كانت �شعارات م�ؤ�س�سة �أو مف�صلية عربت عن نقالت وا�ضحة يف م�سرية الثورة املُ�ستمرة.2 طوفان الثورة يف م�شهد باقٍ يف الذاكرة من فيلم الراحل عمر �أمريالي «طوفان يف بالد البعث» ،يتلعثم مدير مدر�سة قرية بدايات
العدد |5ربيع 2013
املا�شي وهو يتحدث عن مكرمات القيادة الر�شيدة جتاه املعلمني ،قبل �أن ي�صمت للحظات تبدو دهر ًا بعد �أن �أنهى ما يف جعبته من الكلمات �أمام الكامريا .لقد قال كل ما يحفظه حول �إجنازات القائد اخلالد وحزب البعث ثم �صمت! مل يتعمد ال�صمت حق ًا ،لكنه �أنهى كل كلماته! من �أين ي�أتي بكلمات جديدة؟ ال لكي حترر الثورة �أ�صواتنا املخنوقة .الثورة تقوم �أو ً ميتلك كل فرد فينا �صوته املميز ،ولكي نفعل ذلك يجب �أن منتلك كلماتنا و�أن نطلقها خارج حناجرنا التواقة �إىل ال�رصاخ بدون قيود. ال لفهم هذا احل�ضور البارز للغة يف ميثل هذا مدخ ً الثورات واالنتفا�ضات العربية ،يف ال�شعارات والهتافات والأهازيج والأغاين والق�صائد واليوميات ،التي �شكلت ال �أ�سا�سي ًا ملزاج ال�شارع املنتف�ض يف تون�س وم�رص حام ً وليبيا واليمن والبحرين وغريها .لكن يبقى ح�ضور اللغة يف الثورة ال�سورية �شديد اخل�صو�صية الأمر الذي دفع البع�ض �إىل اعتبارها (يف �أحد �أوجهها العديدة) ثورة كلمات �أو انتفا�ضة لغة .ال يتوقف الأم��ر ،على حقيقة مفادها �أن ال�رشارة الأوىل للثورة ال�سورية انطلقت ب�سبب ٍ كلمات خطها �صبي ٌة يف درعا على اجلدران .الأهم رمبا ،هو جنوح الكالم يف �سوريا الثورة للتحرر من قيود ال�صمت واخلوف واللغة اجلوفاء� .إنه تهد ٌمي ململكة ال�صمت التي ال
انعتاق الكالم عندما �شاهدت حتفة ال�سينمائي اليوناين ثيو �أجنيوبولي�س: «الأبدية ويوم» ،للمرة الأوىل منذ �سنوات� ،أح�س�ست بجزع و�أنا �أراقب ق�صة �شاعر ي�شرتي الكلمات كي ُيتم ت�أليف ق�صيدة .مل �أ�ستطع �إال التفكري بالتايل :هل بات حمتم ًا علينا �رشاء كلمات جديدة؟ �أو رمبا البحث عنها؟ كلمات محُ فزة، جديدة ،ت�شبه النا�س ،تخاطبهم وحتكي عنهم! �أعتقد �أن الثورات العربية فتحت الباب على م�رصاعيه لرحلة انعتاقٍ ثالثي الأوجه :الكالم واجل�سد ،و�إعادة امتالك الف�ضاء العام .وهي رحلة و�إن �أطلقتها الثورات ،ولكنها ما تزال يف بداية طريقٍ حمفوف بال�صعاب .وهذه الأوجه الثالث �شديدة االرتباط ،بل �إنها تكمل بع�ضها البع�ض. �إن عقود ًا من اال�ستبداد ت�شمل م�صادرة الكالم ،وخنق الأج�ساد وتقييدها ،واحتالل الف�ضاءات العامة .تولد رغب ًة جارفة يف معاك�سة هذا القمع يف م�ستوياته الثالثة هذه، ُيتوج الأمر – كما ر�أينا يف جميع الثورات العربية – باحتالل الف�ضاءات العامة وحتويلها ل�ساحات للرق�ص والغناء ،حيث امتلك فيها الأف��راد ورمبا للمرة الأوىل، �صوت ًا خا�ص ًا بكلٍ منهم ،يف ذات الوقت الذي احتدوا فيه ٍ ج�سد جمعي عرب التكاتف والرق�ص والغناء ،و�أحيان ًا يف ملقارعة البلطجية �أو البالطجة �أو ال�شبيحة. تعذر على ال�سوريني احتالل الف�ضاءات العامة واملكوث فيها� .أدرك النظام خطورتها هذا الأمر مبكر ًا، فتمكن ببط�شه غري امل�سبوق ،من منع املتظاهرين من احتالل الف�ضاءات العامة واالعت�صام فيها .حد هذا من االنعتاق البهي للأج�ساد التواقة للحرية ،الأمر الذي منح ال �إ�ضافي ًا يف حمل الروح الثورية يف �سوريا� .أي الكلمة ثق ً
ال�سخرية التي حملها الكالم اجلديد ...كانت �سالح ًا مهمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ًا يف يد ال�سوريني لنزع الرهبة والقدا�سة عن الرئي�س املع�صـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوم
3ريا�ض الرتك، «من غري املمكن �أن تظل �سورية مملكة ال�صمت»، النهار، جريدة 22متوز.2000
233
كافة الأوالد �سي�ستمرون يف االنت�ساب �إىل هذه املنظمات طواعية وبحب .لطاملا اعتقدت �أن �أمريالي� ،أ�سقط �سهو ًا �أو عمد ًا� ،أن تروي�ض ه�ؤالء الأطفال لي�ست مهمة منتهية كما اعتقد مدير املدر�سة البعثي ونظامه من ورائه .و�أن جذوة التمرد على هذه اللغة اجلوفاء كانت متقدة يف �صدور ه�ؤالء الأطفال ،و�أنهم احتفظوا على الدوام بقدرة عالية على التهكم عليها والإفالت من �سطوتها البغي�ضة .و�إن غاب هذا يف فيلم الراحل �أمريالي ،ف�إنه انتظر بع�ض الوقت ليتفجر علن ًا يف ثورة �شعبية هائلة �ستغري وجه �سوريا. بدايات
العدد |5ربيع 2013
ال جزئي ًا يف �ضلعني �إن عنف النظام املفرط قد �سبب �شل ً من �أ�ضالع هذا املثلث ،فيما بقي ال�ضلع الثالث الأكرث ح�ضور ًا يف عملية االنعتاق ا ٌملرتابطة تلك .فالكالم قد بد�أ بك�رس القيود ،واخلروج من قف�ص اجللجلة الفارغة. والكالم و�إن كان مازال يف طور حترره يخو�ض معركة التجديد واالبتكار� ،إال �أنه حمل رغبة الثائرين بخلق متايز وا�ضح عن لغة اال�ستبداد الثقيلة والرتيبة واجلوفاء .هي لغة مبا�رشة� ،شديدة الو�ضوح ،ذكية ،مرحة ،ال تكتفي فقط بكونها ت�سبق دوم ًا بروباغندا النظام بخطوات ،وتفندها
وت�سخر منها .لكنها �أي�ض ًا ،تف�ضح كبت ًا ُمتجذر ًا ووعي ًا عميق ًا مبظامل ر�سخت على �صدور العباد عرب ن�صف قرن. رحلة �شعارات الثورة يف � 17شباط ،2011ردد �شبان غا�ضبون جتمعوا بدون �أي نية م�سبقة ،يف �ساحة احلريقة (الو�سط التجاري لدم�شق) ما اعتربه ال�سوريون الحق ًا ال�شعار الأول واملُلهم لثورتهم« :ال�شعب ال�سوري ما بينذل» ،يف واقعة تعترب الإرها�ص املُبكر لثورة ال�سوريني التي �ستندلع بعد �أقل من �شهر يف درع��ا جنوب البالد� .آن��ذاك قام �رشطيان ب�رضب �أحد ال�شباب يف املنطقة ،فتداعى املئات و�أغلقوا املنافذ وال�شوارع الفرعية يف تلك املنطقة .لكننا يجب �أن نتذكر �أن الكلمات الأوىل التي رددها املجتمعون ظهرية ذلك اليوم كانت هتافهم« :حرامية ،حرامية» .يختزل هذا الهتاف العفوي الب�سيط ،جوهر ثورة ال�سوريني �ضد نظام �إقطاعي املمار�سات ا�ستعبد «الرعية» .ما زال هذا التناق�ض ي�شكل الدافع الأ�سا�س لثورة ال�سوريني ،رغم طبقات من الزعم بوجود حمركات طائفية لل�رصاع .وبالعودة �إىل �شعار «ال�شعب ال�سوري ما بينذل» نلحظ �أن هذا ال�شعار «الأيقونة» ،ي�ضمر �أكرث مما يعلن ،ف�إن كان يقول �رصاح ًة ب�أن كرامة ال�سوريني ام ُتهنت مبا يكفي ،و�أن هذا لن يعود واقع احلال بعد اليوم .ف�إن ال�شعار ،الذي ال يحدد م�صدر الذل، والذي ال يخاطب �أي �سلطة ب�شكل �رصيح ،كان ي�ضمر تهديد ًا للنظام ،و�إخطار ًا ب�أن حقبة جديدة يجب �أن تبد�أ يف البالد .ال نن�سى �أن هذا التجمع العفوي الغا�ضب جاء يف خ�ضم انت�صارات مذهلة لل�شعوب يف تون�س وم�رص ،ن�سائم الربيع العربي كانت بال �شك تداعب ال�سوريني �آنذاك. ال�شعارات �إذ ًا كما اللغة نف�سها كانت تتحرر باطراد، ب�شكل يعرب عن ت�صاعد احلراك يف وجه ت�صاعد العنف املمار�س عليه .كما كانت الكلمات الوليدة تت�أقلم �رسيع ًا مع روح املناطق املختلفة وموروثها ال�شفهي واملو�سيقي �أي�ض ًا .ف�شعار «ال�شعب ال�سوري ما بينذل» الذي �أطلقه الدم�شقيون ،يتحول على ل�سان احلوارنة �إىل «املوت وال املذلة» ،وهم �أول من تعر�ض حق ًا لعنف النظام املفرط وجمازره .وهو �شعار تناقله املتظاهرون الحق ًا (بلهجته الدرعاوية املُحببة) يف طول �سورية وعر�ضها .وتوالت ال�شعارات يف املرحلة الأوىل للثورة م�ستجيب ًة للتطورات لتكون بحق موجه ًة للحراك .فجاء ال�شعار البليغ جد ًا «واحد واحد واحد ...ال�شعب ال�سوري واحد» ،مبكر ًا ليقطع الطريق من جديد على بروباغندا النظام الذي
236
بدايات
العدد |5ربيع 2013
كان �أول من ذكر م�صطلحات «الطائفية» و«الفتنة» (ملفت �أن �إقحام هذه امل�صطلحات من قبل النظام جاء ال على ل�سان م�ست�شارة الرئي�س ال�سوري ال�سيدة �أو ً بثينة �شعبان ،يف م�ؤمتر �صحفي عقدته يف 26مار�س � ،2011أي بعد �أقل من �أ�سبوعني فقط على اندالع الثورة! فيما زين �شعار «احذروا الفتنة» حملة طرقية �ضخمة وبليدة يف �شوارع املدن ال�سورية يف الأ�سابيع الأوىل بعد تفجر الثورة) .وجاء �شعار «�سلمية �سلمية» ال قبل �أن (املُ�ستعار من الثورة امل�رصية) لي�صمد طوي ً يتع�سكر جزء كبري من الثورة ،فيفند ادعاءات النظام بوجود العنا�رص املُخربة واملند�سة وامل�سلحة .يف كثري من الأحيان كان املتظاهرون يهتفون «�سلمية» على بعد �أمتار فقط من قوات الأمن وال�شبيحة التي تطلق عليهم الر�صا�ص احلي .وا�ستمرت ال�شعارات يف تلك املرحلة الأوىل تهدف ب�شكل �أ�سا�سي �إىل حتفيز النا�س وح�ضهم على امل�شاركة ،فجاءت �شعارات مثل« :اللي ما بي�شارك، ما فيه نامو�س» و «يا للعار يا للعار عال�شب القاعد بالدار» (حور الثوار هذا ال�شعار الحق ًا النتقاد بع�ض ممار�سات الكتائب املقاتلة« :ياللعار �شبيحة /حرامية بجي�ش الثوار») .وبالتزامن ومنذ الأيام الأوىل ح�رض ال�شعار الهام جد ًا «الله� ...سورية ...حرية وب�س». حمل هذا ال�شعار �أوىل الإ�شارات �إىل النيل من هيبة ر�أ�س ال�سلطة ،ومهد هذا ال�شعار بدون �شك للمطالبة ال�رصيحة ب�إ�سقاط النظام وكل رموزه الحق ًا .الأهمية الرمزية لهذا ال�شعار هو �أنه ي�ستبدل ا�سم «ب�شار» ،يف هتاف �سوريا الأ�سد قبل الثورة «الله� ،سوريا ،ب�شار وب�س»، باحلرية .ت�صبح احلرية هي ال�ضلع اجلديد لثالوث املقد�س عند ال�سوريني .مل يكن هذا ال�شعار متهيد ًا ل�شعار الثورات الأول «ال�شعب يريد �إ�سقاط النظام» فح�سب ،و�إمنا اختزل ح�س ًا عالي ًا بالفطنة عند املنتف�ضني ،فهم �أبقوا على �ضلعي الثالوث املقد�س الأوليني «الله والوطن» ،وا�ستبدلوا ر�أ�س النظام ،بقيمة �إن�سانية ُمقد�سة كاحلرية .وبهذا و�ضع املنتف�ضون التمايز جلي ًا ومحُ رج ًا يف �آن واحد ،فهم مل ي�ستبدلوا ا�سم ًا با�سم ،وال �أيدولوجيا ب�أخرى مقابلة ،و�إمنا ا�ستبدلوا ا�سم ًا بقيمة ُمطلقة ،وبات على موايل النظام �أن ي�رصوا على �إق�صاء احلرية ،فال حل لديهم� ،سوى ترديد �شعار «الله� ،سوريا ،ب�شار وب�س» ،يف مقابل «الله، �سوريا ،حرية وب�س» .وجدت ماكينة النظام الإعالمية نف�سها �إذن مجُ ربة على و�ضع الذات الرئا�سية يف مواجهة قيمة ُمقد�سة كاحلرية ،يف معركة ت�شي بالهزمية الأخالقية
الفادحة مبجرد النظر �إىل ال�شعارين املت�ضادين. ويف الأيام الأوىل للثورة �أي�ض ًا ،راجت �شعارات الت�ضامن والتكاتف بني املدن ،وبخا�صة جتاه املدن التي ال لبط�ش النظام ب�سبب انتفا�ضتها املبكرة، تعر�ضت �أو ً فرحنا ن�سمع «يا درعا نحنا معاكي للموت» و«يا بانيا�س نحنا معاكي للموت» و«يا حم�ص نحنا معاكي للموت» وتوالت ا�سماء املدن.
4عمر كو�ش «ظاهرة ال�شعار يف الثورة ال�سورية» ،جريدة امل�ستقبل .ملحق «نوافذ» ،الأحد 25ت�رشين الثاين -2012العدد4528 -نوافذ.
237
ال �إىل ته�شيم املُقد�س من التلميح �إىل الت�رصيح و�صو ً ال ،حتى جتر�أ الكالم على مل ي�ستغرق الأمر وقت ًا طوي ً املقد�س ،وانتقل من التلميح �إىل الت�رصيح بجوهر مطالب املحتجني .فاملنتف�ضون ويف عملية حتررهم التدريجي من اخلوف حرروا كلماتهم �أي�ض ًا ورفعوا �سقف مطالبهم بالتدريج .و�إن كانت ال�شعارات وليدة حلظات �صاخبة احتاج فيها املنتف�ضون �إىل جمابهة ظلم هائل ،ف�إن هذه ال�شعارات نف�سها هي من �صاغت املطالب الأ�سا�سية للثورة ال�سورية ،املتمثلة باحلرية والكرامة والعدالة االجتماعية. وهي بذلك ما زالت -على عفويتها وب�ساطتها -الإطار املرجعي الأ�صل لكافة الطروحات ال�سيا�سية للكتل املعار�ضة .ي�شري الكاتب والباحث ال�سوري عمر كو�ش �إىل هذه النقطة �أي�ض ًا ويعترب �أن هذه ال�شعارات «باتت مكون ًا �أ�سا�سي ًا للتوا�صل بني املحتجني واجلمهور العام، و�إطار ًا للمفاهيم الثقافية وال�سيا�سية واالجتماعية».4 وهكذا كان ال بد للتحرر التدريجي للكلمات �أن يقود �رسيع ًا �إىل ال�شعار الأم يف الثورات العربية« :ال�شعب يريد �إ�سقاط النظام» .احلق �أن الوقت مل يطل باملتظاهرين ال�سوريني حتى �أطلقوا هذا ال�شعار ،فعلوا ذلك وهم ينزعون عنهم طبقة �سميكة من اخلوف البغي�ض .مل يكن بالإمكان االنتظار �أكرث من ب�ضعة �أ�سابيع ،قبل �أن يرتدد �صدى هذا ال�شعار يف �أرجاء �سوريا املنتف�ضة .والأمانة تقت�ضي القول ب�أن النظام نف�سه قد دفع بهذا االجتاه ،ب�سبب من ا�ستجابتة الرعناء والعنيفة على احلراك ال�سلمي. هتفت فيها مع اجلموع «ال�شعب يريد �أذكر متام ًا �أول مرة ُ �إ�سقاط النظام» وك�أن هذا حدث يف الأم�س القريب .يف زحمة الأج�ساد املرتا�صة واملتعا�ضدة ،ي�أتي هذا الهتاف الهادر ،ليعلن عن قطيعة نهائية مع كل ما �سبق ،اللحظة التي تليه ال ت�شبه �شيء اختربت ُه من قبل قط .مل يكن الأمر كنت �أ�شعر ب�أن هناك خوف ًا مل ينتزع بعد بالكامل ي�سري ًاُ ، من الأح�شاء ،كنت �أ�شعر ب�أننا ندفع باملواجهة مع الطواغيت نحو النهاية ،كان مزيج ًا ُمده�ش ًا من اخلوف املتبقي ،والن�شوة بدايات
العدد |5ربيع 2013
والإثارة والرتقب� .شكل هذا ال�شعار نقلة مف�صلية بال �شك يف دفع احلراك الثوري �إىل مرحلة جديدة ،ويف عملية حترير الكلمات يف طريقها لتتجر�أ على قد�سية النظام .عار�ض البع�ض ذلك يف حينه بو�صفه تهور ًا �أو دفع ًا نحو مواجهة جمانية مع زبانية النظام .على �سبيل املثال� ،سجل مي�شيل كيلو ،موقف ًا معرت�ض ًا على هذا ال�شعار ،داعي ًا املتظاهرين �إىل جتنبه للأ�سباب الآنفة الذكر ،وكيلو املعار�ض املعروف – بر�صانته املعهودة – كان يرى ،يف الأ�شهر الأوىل على الأقل� ،أن احلل الأمثل لي�س يف الدفع نحو مواجهة النظام ،و�إمنا يف العمل على تفكيكه تدريجي ًا عرب فر�ض الإ�صالحات اجلذرية عليه ،والتي �ست�ؤدي ب�شكل طبيعي �إىل تفكك يف بنيته .حل�سن احلظ كان لل�شارع ر�أي ولغة �أقل ر�صانة من تلك التي ميلكها مي�شيل كيلو ,واملعار�ضة التقليدية عموم ًا يف �سوريا .فعملية حترير اللغة يف ال�شارع الثائر ،مل تخلق فقط متايز ًا عن لغة النظام امل�ستبد ،و�إمنا خلقت �أي�ض ًا متايز ًا عن لغة نخب املعار�ضة التقليدية ،التي وقعت هي �أي�ض ًا وعرب �سنني من الإق�صاء والقهر والتقوقع، يف �رشك الكالم الرتيب والمُ عقد واملُتعايل �أي�ض ًا. يف مطلع ني�سان ،2011ويف ت�شييع فوج ال�شهداء الأول يف مدنية دوما بريف دم�شق ،هتف امل�شيعون «ابن احلرام ،باع اجلوالن» ،وهتفوا �أي�ض ًا «يا ماهر ويا جبان �...إبعت جنودك عاجلوالن» .تكمن �أهمية هذه ال�شعارات يف جر�أتها ال�رصيحة ،يف وقت مبكر من عمر الثورة. �إنه املوت من جديد �إذن يحرر القلوب والكلمات من هيمنة اخلوف ثقيل الظل ،من درعا �إىل دوما �إىل بانيا�س وحم�ص ،هناك �سقط �أول ال�شهداء تباع ًا ،وهناك بد�أت الكلمات يف حتطيم مراتب اخلوف تباع ًا �أي�ض ًا .يف ت�شييع دوما الأول ذلك ،جاء هتاف «ابن احلرام باع اجلوالن» ت�صعيد ًا ملفت ًا يف نقل الغ�صب املت�صاعد من �شعارات تنادي بالكرامة والإ�صالح� ،إىل �شعارات تطال ر�أ�س هرم ال�سلطة وتنادي بالإطاحة به .الثائرون كانوا تواقني ٍ مزيد من التخ�صي�ص� ،إنه ر�أ�س النظام� ،إنها العائلة �إىل احلاكمة ،وال �شيء �آخر ،وعليه فكان البد من الإ�رساع بتحطيم قد�س الأقدا�س يف نظام العائلة ال�شمويل. وجمدد ًا كان ال�شعاران ال�شديدي املبا�رشة ولكن بحمولة رمزية كبري �أي�ض ًا .فهما ي�رضبان مبقتل كذبة «املمانعة» التي كان لزام ًا على ال�سوريني تردادها وحتمل العي�ش حتت وط�أتها لعقود ،لت�أتي هذه الكلمات فرتمي هذا احلمل الزائف عن ظهور ال�سوريني ،وتقطع الطريق جمدد ًا �أمام بروباغندا النظام البائ�سة للت�شوي�ش على
5عال �شيب الدين: «الثورة واللغة»، موقع �س�ؤال التنوير، � 1آذار .2013 6احلقيقة �أن هناك روايات متعددة بخ�صو�ص من�ش�أ هذا الهتاف. فقد �أكد البع�ض �أنه ظهر للمرة الأوىل يف منطقة احلجر الأ�سود، وهو �أمر ذو داللة �أي�ض ًا حيث تعد هذه املنطقة �أ�شد مناطق العا�صمة و�ضواحيها ب�ؤ�س ًا واكتظاظ ًا �سكاني ًا، وهي ت�ضم ب�شكل �أ�سا�سي النازحني من �أبناء اجلوالن املُحتل .فيما ُيجمع �آخرون �أنه خرج من حم�ص للمرة الأوىل يف .2011/5/23 �إال �أن الإجماع الأكرب �أن ال�شعار خرج من مدينة حماة .عموم ًا ف�إن الهتاف قد ارتبط باملظاهرات ال�ضخمة يف حماة التي ا�ستمرت حتى مطلع �آب 2011 حني اقتحم اجلي�ش املدينة ليخ�ضعها عنو ًة. 7حازم �صاغية: من �صفحته ال�شخ�صية على الفاي�سبوك.
238
ثورة ال�شعب بو�صفها م�ؤامرة �إ�رسائيلية �أمريكية� .إ�ضافة �إىل �أن حترر الكالم من كل قيد بلغ ذر ًا جديدة هنا ،فتارة يو�صف ن�صف الإله «املفدى ،والرمز ،و�سيد الوطن» ب�أنه «ابن حرام» وتار ًة يو�صف �أخوه باجلبان ،وهنا �أي�ض ًا �إ�شارة وا�ضحة �إىل �إدراك الثائرين لدور ال�شقيق يف عملية البط�ش والقمع .تقول الكاتبة والباحثة عال �شيب الدين عن هذا ال�شعار« :يف هذا ال�شعار مار�ست اللغة دور التعرية بجدارة ،بعد �أن َّبينت هنا �أن ن�ضال ال�شعب ال�سوري �أنتج �أمناط اللغة الأكرث �صفاء ،ومن املعلوم �أن جن�سية غري �رشعية ،ما يعني «ابن احلرام» هو ابن عالقة َّ �أن ال�شعب الثائر ال يعترب رئي�س ًا باع الأر�ض ابن ًا �رشعياً للبالد ،على اعتبار �أن ابن البلد ال يبيع الأر�ض».5 تواىل �إذن حترر الكلمات ،وتوالت ال�شعارات التي حتطم الأ�صنام تباع ًا .فكان للكالم ال�ساخر �أثر عظيم يف نزع هالة القدا�سة عن ر�أ�س النظام ،ويف دفع بقية ال�سوريني الذين مل ينزلوا بعد �إىل ال�شارع� ،إىل التحرر ولو ْ ببطء من قيود اخلوف ،وتقاليد الهم�س اخلافت والتلفت عند ذكر العائلة احلاكمة .فها هي ال�شعارات تنال من �أهم رموز ال�سلطة، ابن خال الرئي�س والوكيل احل�رصي على ثروات الدولة، «يا رامي و يا خملوف ،ال�شعب ال�سوري مو منتوف /مو خاروف» .ال�سوريون مل يعودوا قطعان ًا يف مزرعتك اخلا�صة. و�أي�ض ًا هتاف «يا بثنية يا �شعبان ،ال�شعب ال�سوري مو جوعان» .مل ين�س الثائرون �أي�ض ًا التهكم على �إعالم النظام الذي د�أب على �ضخ �سموم طائفية و�أكاذيب هزلية ،فجاء هتاف« :كاذب كاذب كاذب ..الإعالم ال�سوري كاذب». ال�سخرية التي حملها الكالم اجلديد �إذ ًا ،كانت �سالح ًا مهم ًا يف يد ال�سوريني لنزع الرهبة والقدا�سة عن الرئي�س املع�صوم ،وعون ًا مهم ًا مل�سعاهم يف خلق متايز عن �صورة ولغة �سلطة ُمرتهلة وجامدة .مت هذا �أي�ض ًا من خالل اللعب على الكالم لتحطيم �شعارات النظام ،وللتهكم على لغتها البائدة :فكان ال�شعار ال�شهري «ما منحبك ،ما منحبك... �إرحل عنا �إنت وحزبك» .الذي ردده املتظاهرون يف ن�شوة غامرة ،وتطور ب�أ�شكال متعددة مثل« :ما منحبك ،ما منحبك... قاتل ،ظامل ،ناهب �شعبك» ،وال�شعار كما هو معلوم يتالعب ب�شعار «منحبك» ال�شهري ،والذي مت �إطالقه مع ا�ستفتاء عام 2007لتجديد والية ثانية حلكم الرئي�س ابن الرئي�س. يذكر ال�سوريون يف حينها احلملة الإعالنية الهائلة حتت �شعار «منحبك» .احلملة يف حينه كانت جزء من ن�شاط مكثف ملاكينة العالقات العامة امل�ستوردة غربي ًا خللق قطيعة مع �صورة نظام الأب ال�صارم املتهجم واملنغلق ،ل�صالح بدايات
العدد |5ربيع 2013
�صورة لنظام االبن ال�شاب والع�رصي واملتنور والأقرب من النا�س .تفتقت حماوالت التجميل والتحديث عن كلمة عبقرية �إذن من وزن «منحبك» .فكان �أن �سارع املنتف�ضون �إىل نق�ضها وت�سفيهها يف �أول فر�صة مع جتذر الثورة. �شعار �آخر محُ بب انت�رش ب�رسعة يف ال�شوراع الثائرة: «مايف للأبد ،مايف للأبد ،عا�شت �سوريا وي�سقط الأ�سد»، وهو ينتهج اللعبة عينها القائمة على قلب �شعارات النظام. وهنا يتعلق الأمر ب�شعار �أثري لدى نظام البعث ال�شمويل: «قائدنا للأبد الرئي�س حافظ الأ�سد» .يعلن �شعار الثوار اجلديد �إذن ،عن انتهاء ع�رص الأبد مرة و�إىل الأبد. الكالم املتحرر يقتلع جذور اال�ستبداد ال بهي ًا على خط املدن الثائرة تباع ًا، دخلت حماة دخو ً وانتف�ضت عن بكرة �أبيها ،وحمل املتظاهرون معهم� ،شعار ًا بات بدون �شك الأ�شهر يف �سوريا الثورة� .شعار �شديد اخل�صو�صية والرمزية ،و�إن بدا �أنه يبني على �شتيمة لفظية فجة« :يلعن روحك يا حافظ» .مل يكن غريب ًا �أن ي�أتي هذا 6 حمالة الأ�سى من نظام ال�شعار من حماة دون غريها ،وهي ّ الأ�سد الأب ،املدينة ذات اجلروح الغائرة التي مل تندمل. و�رسعان ما انت�رش الهتاف كالنار يف اله�شيم يف �سوريا كلها .هنا كان لتطاول الكلمات وليدة الثورة على املقد�س ال رجعي ًا ،ي�سعى لتحرير املخاوف القدمية �أي�ض ًا .لي�س مفعو ً نظام االبن وحده من يلعنه ال�سوريون اليوم ،يعلم ه�ؤالء �أن الأب ما زال يحكم ب�أ�شكال متعددة� ،إنه هو من خلق هذا الوح�ش اجلاثم على �صدور ال�سوريني .يف هذا ال�شعار يحرر ال�سوريون غ�ضب ًا و�أمل ًا كامن ًا يف �صدورهم ،يحررون غ�ص ًة بعد ن�صف قرن من القمع ال�سيا�ســــــــــــــــــــــــــي واجل�سدي واللغوي ،وطغيــــــــــــــــــــــــــــــــــــان م�صطلحات اال�ستبداد ،حرّر ال�ســــــــــــــــــــــوريون كلمة «حرية» من قب�ضة �سجانيهـــــــــــــــــــــــــــــا العُ تاة و�أدبياتهم املُ�ضللــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة، مل تعد احلرية مفردة ميتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة يف �شعار بليد حلزب ا�ستلب البــــــــــــــــــــــــــــــلد ابتلعت �أرواحهم ق�رس ًا وخوف ًا .ا�ستعري هنا كلمات حازم �صاغية «هتاف يق�شعر له البدن� .إ ّنه �أكرث هتافات الثورة لكن مبا هو �أكرث جذرية ،ال مبعنى ال�سورية برناجمي طبع ًا ْ ّ ّ ّ بكثري من ذلك فيه �شيء من الأ�صول واجلذور .من االجتثاث والتكفري ،فيه خروج من الواقع والتاريخ �إىل امليتافيزيك،
239
بدايات
العدد |5ربيع 2013
رمزي من روح �رشيرة، غط�س يف القرب �سعي ًا وراء انتقام فيه ّ ٌ 7 تتطهر الأرواح» . ثم عودة من ذاك القرب بعد �أن ّ ّ ا�ستمرت اللغة الثائرة يف حتطيم الأ�صنام ،ويف اجتثاث ذاك��رة اخلوف والقمع من جذورها ،فو�صلت ال�سخرية الالذعة حدود ًا ق�صوى من جديد ت�سعى وراء املا�ضي ،وراء التطهر من �إرث الأب ،وجمدد ًا م�ستخدم ًة ال�شتيمة لته�شيم �أ�سطرة مزيفة ،ومرة �أخرى عرب التالعب ب�شعارات النظام الأ�سا�سية ،في�أتي هتاف «حافظ �أ�سد ،كلب الأمة العربية» ليحطم �شعار ًا بعثي ًا �سعى عرب �سنوات لتقدي�س القائد الرمز« ،حافظ �أ�سد ..رمز الأمة العربية». ومن حماة �أي�ض ًا ،جاءت �أهزوجة ابراهيم القا�شو�ش، «يال �إرح��ل يا ب�شار» .القا�شو�ش هو املغني ال�شعبي املغمور ،ال��ذي حتول �إىل �أح��د �أب��رز �أيقونات الثورة ال�سورية ،بف�ضل كلماته ال�ساخرة والتي ا�شُ تق منها �أبرز �شعارات الثورة ال�سورية ،وتناقلها �آخرون �أي�ض ًا بتحريف طفيف (اليمن والأردن) .تقول الأهزوجة يف مطلعها :يا ب�شار مالك منا خود ماهر و�إرحل عنا....ويال �إرحل يا ب�شار» يف �أهزوجة القا�شو�ش احلموية ،توا�صل الكلمات ت�أكيد �صفة «اخليانة» املُ�سبغة على ر�أ�س ال�سلطة ،فهو «لي�س واح��د منا» .جترد الكلمات العامية الب�سيطة واملبا�رشة ،الرئي�س الوريث من �أي �رشعية ،فهو لي�س رئي�س ًا مغت�صب ًا لل�سلطة فح�سب ،و�إمنا هو لي�س فرد ًا من ال�شعب� .أمل يهتف ال�سوريون مبكر ًا �أي�ض ًا «خاين ياللي بيقتل �شعب ُه»! .مع كلمات القا�شو�ش ،الذي وجد ج�سده الذبيح يطفو يف نهر العا�صي ،كان ال�سوريون قد و�صلوا �إىل نقطة الالعودة يف ثورتهم .وكانت كلماتهم قد �أعلنت �إنهاء االرتباط الق�رسي بني النظام والبلد. ويف نزع ال�رشعنة وكالم ال�شارع الذي �سبق املبادرات ال�سيا�سية ،نلحظ كيف مت تطوير وتطويع هتاف «ال�شعب يريد» ،فمن «�إ�سقاط النظام» انتقل �إىل «�إ�سقاط الرئي�س»، وهل �أف�ضل من ال�سوريني من يدرك كيف يختزل نظام اجلمهورية الوراثية ب�شخ�ص القائد الأبدي؟ جمدد ًا يذهب املنتف�ضون �إىل جوهر املعنى ويخت�رصون كل امل�سافات. ما لبث املتظاهرون �أن رفعوا ال�سقف ،فهم من يدرك حق ًا �إىل �أي درك و�صل عنف النظام .فهاهم ي�ستبدلون ا�سقاط ب�إعدام« ،ال�شعب يريد �إعدام الرئي�س» ،ولأن نزع ال�رشعية ال بد �أن يكتمل ،ي�صبح الهتاف «ال�شعب يريد �إعدام الب�شار» .بالن�سبة للثوار مل يعد الئق ًا �أن ينعت بالرئي�س ،لقد وىل هذا الزمن مع ازدياد الدم امل�سفوك.
الو�ضوح واملبا�رشة والفطنة والتجدد كانت جميعها �أ�سلحة اللغة الوليدة هذه ،يف عملية خما�ض ان�شقاقها عن لغة اال�ستبداد املقيتة. اال�صطدام ب�سلطة املقد�س من جديد مع ان معظم ال�شعارات الأوىل بقيت حا�رضة يف وجدان وحناجر املتظاهرين والثوار حتى اليوم ،وبقيت ُت�شكل املرجع النظري الأكرث و�ضوح ًا ملبادئ الثورة وحمدداتها، ف ��إن �شعارات جديدة ظهرت ،نالت �شعبية بال �شك، وا�ستمرت يف نهج معاك�سة �شعارات النظام ،لكنها رمبا مل تعد تعبرّ عن ال�شارع الثائر مبجمله .بل جاءت لرتافق غلبة �أمزجة حمددة داخل احلراك الثوري ،الأمر يخ�ص بكل ت�أكيد ال�شعارات ذات الطابع الإ�سالمي .املنتف�ضون على اختالف م�شاربهم تداولوا منذ البداية �شعار «الله �أكرب»، ك�شعار مفتاح النطالق املظاهرات �أينما كانت ،كما توافقوا من قبل على االنطالق من اجلوامع .فالتكبري كما اجلوامع مل يحمال لعموم ال�سوريني �سوى رمزية االنطالق نحو ال�شارع، نحو حترير الف�ضاء العام وحترير الأ�صوات املكبوتة .ويف مراحل مبكرة �أي�ض ًا راجت �شعارات ب�صبغة دينية� ،إال �أنها كانت ُتردد ا�ستناد ًا �إىل رمزيتها الأعم ،بو�صفها ٍ حتدي ًا ل�سلطة زمنية مطلقة ،مثل �شعارات مثل «ما برنكع �إال لله» و «هي لله ،هي لله ،ال لل�سلطة وال للجاه»� .أو �شعار «يا الله مالنا غري يا الله» وتنويعاته «يا الله عجل ن�رصك يا الله» �أو «يا الله فرج كربك يا الله» ،الذي بات عنوان ًا ال لدى الثائرين على اختالف معتقداتهم ،بعد ال ومقبو ً متداو ً �أن تيقن معظمهم �أن ال�سند وال ن�صري لهم يف معركتهم الطاحنة ،و�أن الأ�صدقاء يرتب�صون بهم قبل الأعداء. �إال �أن �شعارات م�ستجدة مل تعد تلقى نف�س الت�سليم يف �صفوف جميع ال�سوريني الثائرين ،و�إن كانت بع�ض هذه ال�شعارات حا�رضة بقوة اليوم ،مثل �شعار« :هز كفك هزو هز....دين حممد كلو عز» و�شعارات �أكرث �شيوع ًا مثل: «قائدنا للأبد �سيدنا حممد» �أو «لبيك..لبيك يا الله»� ،إال �أنها تبقى �شعارات �أقل قدرة من �سابقاتها يف �ضم الثائرين جميع ًا حتت جناحها .ف�إن كانت الرمزية يف ال�شعار الأول حتيل �إىل نق�ض �شعار النظام الأ�سدي الأثري« :قائدنا �إىل الأبد...الرئي�س حافظ/ب�شار الأ�سد» .وال�شعار بذلك يقول �أن ال قائد �أبدي لل�سوريني �سوا مرجعية روحية و�إن�سانية عابرة للزمن� .إال �أن ال�شعار تعر�ض النتقاد وا�سع من عدد غري قليل من املثقفني والنا�شطني ال�سوريني ،بحكم �أنه قد يق�صي �أطراف ًا غري م�سلمة �أو علمانية .فيما حاجج
240
بدايات
العدد |5ربيع 2013
متفهمون له ب�أنه ال يخ�ص�ص املرجعية بقدر ما يجعل من ربط الأبد مبرجعية روحية ت�أكيد ًا على ا�ستحالة �أن يدخل ال�سوريون حظرية اال�ستبداد ال�سيا�سي من جديد. �أما ال�شعار الثاين «لبيك يا الله» فيبدو �أنه ينهل فقط من مرجعية �إ�سالمية ،جتعل الت�ضحية عمل يقوم به الثوار ال و�أخري ًا .ال �شك �أن بر�ضى وت�سليم لوجه الله تعاىل �أو ً ظهور هذه ال�شعارات �صاحب ا�شتداد ذراع املكونات الإ�سالمية الع�سكرية يف �صفوف الثورة ،الذي ترافق من امتداد معاناة �إن�سانية هائلة و�إح�سا�س متعاظم باخلذالن لدى ال�سوريني من قبل جمتمع دويل ال يتحرك بفعالية جتاه م�أ�ساتهم ،يف مقابل انفالت عنف النظام من كل عقال. امللفت للنظر هنا� ،أن ديناميكة مثل هذه ال�شعارات تبدو �أ�ضعف من �سابقاتها ،من حيث التطور امل�ستمر والقدرة على موائمة لهجات ومو�سيقى مناطق �سورية متعددة ،فهي يف عمومها ثابتة .وك�أن جنوح ال�شعارات نحو التورية واللعب على الكلمات وال�سخرية ونزع القدا�سة قد توقف هنا .هذا يعيدنا �إىل التفكري بالقيود ٍ ب�سلطات التي تفر�ض على الكلمات حينما ت�صطدم مطلقة �أو �أبدية من �أي نوع. فثورة الكلمات ،التي ترافقت مع الثورة يف ال�شارع، هدامة ،يجب �أن تكون كذلك ،فهي ت�سعى هي �أي�ض ًا ثورة ّ للتحرر من قيود لغة �آيلة للزوال ،وتتوق �إىل حتطيم اخلطابة ومنفّرة� .إنها الكلمات الفجة املُ�شبعة بايديولوجيا ثقيلة ُ وقد متردت على اخلوف وعلى كافة �أ�شكال الرقابة التي ال على القلوب والعقول. جثمت طوي ً يف البدء كانت ا ُ حلرية حترر الكالم م�ستمر يف �سوريا ،وهو كما الثورة ٌ فعل وهدام .خالل �سنتني �سقط يف �سوريا �آالف جذري، ٌ جارف ّ ال�شهداء لأجل كملة «حرية» ،منهم من كان يهتف بها حلظة ا�ست�شهاده� .أكاد �أجزم �أن كلمة «حرية» رمبا تكون ال بني ال�سوريون وعلى اختالف �أك�ثر الكلمات ت��داو ً مواقعهم من الثورة خالل العامني املن�رصمني .بعد ن�صف قرن من القمع ال�سيا�سي واجل�سدي واللغوي ،وطغيان م�صطلحات اال�ستبداد ،حرر ال�سوريون كلمة «حرية» العتاة و�أدبياتهم املُ�ضللة ،مل تعد من قب�ضة �سجانيها ُ احلرية مفردة ميتة يف �شعار بليد حلزب ا�ستلب البلد� .أعاد ال�سوريني امتالك هذه الكلمة ،التي عادت لت�سكن قلوبهم وهواج�سهم وخلجاتهم .ال عودة للكالم اليوم يف �سوريا �إىل حظرية اخلوف والتدجني ،هذا �أ�صبح من املا�ضي الآن.
240
فــريد األطرش: ظلَ َمه النقد وأنصفه الناس
�سمر حممد �سلمان
لالنطالق اىل العاملية من خالل جمموعة من مقطوعاته الرائعة التي لفتت انتباه املو�سيقيني الغربيني .من هذه املقطوعات ق�صيدة «يا زهرة يف خيايل» التي �سحرت الألباب وجابت �شهرتها الآفاق وتردد �صداها يف �أنحاء العامل وعزفتها الأورك�سرتات العاملية يف �أكرث من مكان. ما مل يحدث لأحد من معا�رصيه من الكبار �أو الذين �سبقوه .وكان من �أوائل امللحنني ،بعد حممدعبد الوهاب، الذين �ألفوا املقطوعات املو�سيقية املح�ضة التي ذاعت كال�سيكيات امللحن املجدد �شهرتها عربي ًا وعاملي ًا ،واهتموا باملقدمات املو�سيقية التي ق��دم فريد االطر�ش الأحل��ان الكال�سيكية ال�رشقية عزفتها الأورك�سرتا بكامل عديدها و�آالتها ،كما اهتم الطويلة التي طبعت احلقبة املو�سيقية العربية الرثية بتوظيف الكورال ب�شكل بديع يف اعماله واللجوء اىل جد ًا يف الأربعينيات واخلم�سينيات والن�صف االول تقنية البوليفوين الغربية وتطويعها للمو�سيقى ال�رشقية من ال�ستينيات كـ«الربيع» ،و«�أول هم�سة» ،و«حكاية با�سلوب خلاّ ب ،كما يف ختام ق�صيدته ال�شهرية «عدت غرامي» ،و«جنوم الليل» ،و«حبيب العمر» ،و«عدت يا يا يوم مولدي». يوم مولدي» ،و«بقى عايز تن�ساين» (غنتها اي�ض ًا �سعاد ونحن اذ ن�ؤكد �أن التقدير العاملي لي�س هاج�س ًا حممد) ،و«ختم ال�صرب» التي ر�شحها الناقد �سعد �آغا بالن�سبة لنا وال معيار ًا وحيد ًا لأننا ن�ؤمن ب�أن «�أهل مكة القلعة �ضمن اهم � 100أغنية عربية. �أدرى ب�شعابها» والذوق الغربي قد ين�سجم مع ما ينا�سبه هذه الأعمال ال�شاخمة التي وقف فيها فريد الأطر�ش من مو�سيقى ي�ستطيع �أن يفهمها .مع ذلك ال ننكر �أن هذا جنب ًا اىل جنب مو�سيقار الأجيال حممد عبد الوهاب التكرمي الغربي عزز مكانة فريد الأطر�ش حملي ًا وعاملي ًا ،والعبقري ريا�ض ال�سنباطي ،نالت جماهريية طاغية ال ورفع عنه ظلم ًا �أ�صابه يف وطنه وا�ستحقت تقدير ًا عند بع�ض النقاد املتحم�سني لفنه ،اذ ورمبا يكون قد �أن�صفه قلي ً على امل�ستوى النقدي والت�أريخي .وطنه الذي �شغلته كثري ًا قدم اجلديد من خاللها كما ي�ؤكد رئي�س اللجنة املو�سيقية ّ �سرية حياته املليئة بالأحداث الدرامية التي بلغت ذروتها العليا اال�ستاذ �أحمد �شفيق �أبو عوف الذي ر�أى �أن فريد يف وفاة �شقيقته ا�سمهان ،ونظر ًا الرتباط الكثري من �أعماله الأطر�ش قد �أقدم على «املزج الغريب والبديع بني �إيقاع باللوحات الراق�صة يف الأفالم ال�سينمائية والتي و�ضعت الفال�س وامل�صمودي يف اغنية الربيع يف �سابقة فنية مل خ�صي�ص ًا لرتق�ص عليها �سامية جمال �أو حتية كاريوكا ي�سبقه اليها احد». و�سواهما .هذا بالإ�ضافة اىل � ّأن فريد الأطر�ش قدم ا�ضافاته هو �أول من قدم الأوبريت املكتملة العنا�رص يف احلقيقية و�أعماله الكربى اجلديرة بالت�أريخ والبحث حتى الأعمال ال�سينمائية ،وقد اعترب النقاد �أوبريت «انت�صار ال�شباب» ال�شكل الأمثل ملفهوم الأوبريت يف تاريخ �أخرجه بع�ض النقاد من الئحـــــــــــــــــــــــــــــــــــة املو�سيقى العربية املعا�رصة .كذلك ف�إن الأطر�ش كان الروّ اد على اعتبار �أن الريادة تقت�ضـــــــــــــــــــــــــي اول من �صاغ املقدمات املو�سيقية ال�شاخمة يف �أعماله طوع فيها �إحداث تغيري يف الفكر املو�سيقــــــــــــــــــــــــــــــي الكال�سيكية كما يف �أغنية «بنادي عليك» التي ّ �أو ت�أ�سي�س لتقليد مو�سيقي جديــــــــــــــــــــــــــــــد املو�سيقى ال�رشقية لأداء الأورك�سرتا ال�سمفوين .يف هذا العمل الكبري جنح املو�سيقي يف ابراز معنى املناداة ـــــ منت�صف ال�ستينيات ،طبع ًا مع بع�ض اال�ستثناءات يف حقبة املناجاة اىل حد بعيد من خالل الغناء الفالت امل�سيطر الن�صف الثاين من ال�ستينيات وال�سبعينيات التي مل يع�ش ب�شكل عام على الكوبليهات التي �رست نهاياتها على منها �سوى � 4سنوات ،اقت�رصت خاللها �أعماله على ايقاع الفال�س قبل �أن ت�س ّلم زمامها �إىل تلك الآهات الأغنية ال�شعبية اخلفيفة التي مل ت�ضف اىل تاريخه الكثري الندائية التي تف�صل بينها ،لتكثف املعنى الذي على با�ستثناء ق�صيدة «ع�ش �أنت» و�أغنية «على الله تعود» التي �أ�سا�سه بنى ال�شاعر �أن�شودته وتلقي بظاللها ال ّأخاذة على غناها الفنان وديع ال�صايف .هذا ال�ضمور على م�ستوى العمل من �أوله اىل �آخره .يدل هذا العمل الفذ على فهم الت�ألق الفني ال يقت�رص على فريد وحده ،ذلك �أن عطاءات عميق لروح املو�سيقى ال�رشقية و�إمكاناتها الهائلة يف عمالقة الفن عرفت حقب ًا ذهبية ما لبثت �أن خمد �أوارها يف املجدد املراحل الأخرية من حياتهم ،مبن فيهم املو�سيقار ِّ واملتجدد دائم ًا الأ�ستاذ حممد عبد الوهاب .فريد الأطر�ش �إذ ًا ا�ضاف وجدد وله �أواليه اخلا�صة كما له اقتبا�ساته التي ال تقت�رص عليه وحده بل ي�ضاهيه يف ذلك مو�سيقار الأجيال والأخوان رحباين و�سواهم.
فريد األطرش
ظ َل َمه النقد وأنصفه الناس سمر حممد سلمان حني نتحدث عن مفهوم املدر�سة املو�سيقية ،امنا نعني �أ�سلوب ًا فني ًا ذا معامل حمددة و�أطر وا�ضحة ور�ؤية مو�سيقية ال صحفية وناقدة خا�صة وفكر تلحيني مميز ي�شكل اجتاه ًا مو�سيقي ًا قاب ً موسيقى للحياة واال�ستمرار وقادر ًا على دمغ حقبة فنية مبالحمه اخلا�صة الفريدة ين�ضوي حتت لوائه مريدون وتالميذ ي�سريون على نهجه ويتبعون �سبيله .مع ذلك ،ف�إن ثمة �أعالم ًا يف تاريخنا املو�سيقي املعا�رص ا�ضطرونا اىل تو�سيع دائرة مفهوم املدر�سة املو�سيقية لت�صبح تو�صيف ًا لنتاجهم الفذ وعبقريتهم املده�شة .ه�ؤالء الكبار �أ�ضافوا اىل تاريخ الفن �صفحات خالدة �شكلت مرجع ًا النطالقة جديدة وفن جديد من وحي �إلهامها وروعة �إبداعها. ف�إىل جانب الرواد الكبار حممد عبد الوهاب وال�سنباطي والق�صبجي وزكريا �أحمد ،يقف فريد الأطر�ش يف منزلة حائرة بني الريادة والتقليد ،لكن الأكيد �أنه حالة خا�صة يف تاريخ املو�سيقى العربية حتتل منها موقع ًا نافر ًا عن ال�سياق، اذا جاز لنا التعبري ،ولي�س النفور هنا مبعناه ال�سلبي ،امنا نق�صد به الفرادة وال�رشود عن ال�رسب يف كثري من الأحيان كجدول �شب عن الطوق و�أ�صبح نهر ًا بحد ذاته نبتت على �ضفافه ّ الأ�شجار .ذلك هو املو�سيقار فريد الأطر�ش وليد احل�ضارة املو�سيقية العربية ال�رشقية ،وابن ثقافتها الفنية ونه�ضتها التي عرفها الوطن العربي بعد التحول املو�سيقي الكبري الذي �أحدثه �سيد دروي�ش يف م�سرية املو�سيقى العربية وانتقالها اىل �آفاق التعبري الرحبة. مع ذلك ف�إن فريد الأطر�ش من الفنانني الذين �أثاروا ال يف الأو�ساط النقدية� ،إذ �أخرجه بع�ض النقاد من الئحة جد ً الرواد على اعتبار �أن الريادة تقت�ضي �إحداث تغيري يف الفكر املو�سيقي �أو ت�أ�سي�س ًا لتقليد مو�سيقي جديد �أو ابداع �شكل مو�سيقي مل ي� ِأت به االوائل ممن �سبقوه ،لكنهم فعلوا ذلك من دون �أن ي�ضعوه يف مكانته التي ي�ستحقها من وجهة نظرنا.
242
بدايات
العدد |5ربيع 2013
ان�صهار الثقافات ونحن اذ منتنع عن الدخول يف لعبة الت�صنيف هذه ،ن�ؤكد � ّأن فريد الأطر�ش هو ال �شك �صاحب مدر�سة �شديدة اخل�صو�صية والتفرد ،ال ت�شبه احد ًا �سواه .مدر�سة تلحينية انطلقت من دوائر ثالث :دائرة حملية �شهدت �أوىل خطواته الفنية يف بيئته ال�شامية ،ودائرة اقليمية عربية �رشقية عرفت ن�ضجه الفني وت�ألقه يف بيئته القاهرية وا�ستلهمت فن الرواد الأوائل ون�سجت على منوالهم ،ثم دائرة عاملية ا�ستلهمت مو�سيقى ال�شعوب الأخرى وايقاعاتها كال�سامبا والرومبا والتانغو ،وكذلك بع�ض مالمح املو�سيقى الكال�سيكية الأوروبية ،ال على �سبيل املحاكاة الفجة بل من خالل اخ�ضاعها لروح ال�رشق وه�ضمها يف بوتقته باقتدار .وذلك نظر ًا لقدراته الفنية الفائقة وموهبته احلقيقية التي ا�ستطاعت �أن تبتلع هذه امل�ؤثرات والروافد وت�صهرها يف موقد خيالها الرحب لتخرج علينا ب�أ�سلوب تلحيني مميز ذي مالمح حمددة وب�صمات خا�صة ال يخطئها املتذوق للمو�سيقى. يقف فريد الأطر�ش يف منزلــــــــــــــــــــــــــــــــــــة حائرة بني الريادة والتقليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد، لكنه حالة خا�صة فـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي تاريخ املو�سيقى العربيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة فريد الأطر�ش اذ ًا هو النموذج الأمثل لهذا االن�صهار بني الثقافات املو�سيقية املتعددة واملتنوعة و�أف�ضل من �سكبها يف نهر املو�سيقى العربية حتى ان�سابت يف جمراه ك�أحد مكوناته من دون �أن تذوب فيه بل ن�شعر بوجودها ونلمح طيفها كظالل تلوح من بعيد. فريد الأطر�ش ميثل يف ثقافتنا املو�سيقية حالة فنية �أ�ضافت و�أثرت وا�ستطاعت �أن تخرتق حواجز املحلية
243
بدايات
العدد |5ربيع 2013
اخرتاق وتوظيف �أ�شكال املو�سيقى الكال�سيكية الغربية يف بحر مقاماتها الوا�سع والعميق .عمل «�أطر�شي» بامتياز يجربنا على و�ضعه خارج الت�صنيف التقليدي و�إن �أُخذ عليه ذلك الف�صل احلاد بني املقدمة والأغنية. كذلك فعل يف رائعته الثانية «جنوم الليل» ،فقد بدا فيها فريد الأطر�ش مو�سيقي ًا كال�سيكي ًا من طراز رفيع ح ّلق يف ذرى املو�سيقى التعبريية لالرتقاء بال�شكل التقليدي للأغنية ال�رشقية ومنحها �أبعاد ًا ان�سانية عابرة للجغرافيا و�أطلق �رساحها من �أ�رس املكان والزمان لكي تلتقطها كل �أذن تطرب للمو�سيقى وي�ستخفّها النغم. فغدت «جنوم الليل» كنجوم الليل ي�ست�ضيء بها الرتاث وا�ستبد به االن�ساين ويناجيها كل من �أظلمت نف�سه ّ ال�شوق اىل وم�ضة من نور .مقدمة خيالية ت�صويرية عدتها ك�أنها من عزف ال�سماء ترويها الأورك�سرتا بكامل ّ وبهائها ،حوارية مو�سيقية بديعة على م�ستويات عدة بني جمموعة الوتريات و�آالت النفخ وبني االورك�سرتا والبيانو وبني الآالت الغربية والآالت ال�رشقية الوترية والإيقاعية وبينها وبني �آلة القانون ،مهرجان من الأمل اجلماعي والت�شاكي اجلميل �أبحر بنا اىل �أعايل املو�سيقى ،هناك، حيت تتك�شف احلجب فيغدو املغلق هو الو�ضوح بذاته. مقدمة مهيبة بد�أت بذلك الت�آلف البديع بني نهاوند الوتريات وكورد الآالت الهوائية �أو النفخ ،ثم الم�ست مقامات �أخرى كالعجم واحلجاز لتعود وتر�سو عند �شاطئ
يف ح�ضن احلجاز ،املقام ال�رشقي املنا�سب للتعبري عن الدموع واللوعة ،الذي به يبد�أ الغناء حيث يجول فريد بني ال�شهناز وال�صبا والرا�ست والبياتي ليعود �أخري ًا وينهي َّ الأغنية مبقام الكورد لكن بطعم عربي �رشقي املذاق. الطقطوقة كذلك قدم فريد الأطر�ش لقالب الطقطوقة خدمات ونوع �أ�سلوب تناولها و�أعطاها بعد ًا غري تقليدي جليلة ّ يف الكثري من �أحلانه ،منها على �سبيل املثال الطقطوقة الرومان�سية الراقية «م�ش كفاية» .طقطوقة رقيقة كقطعة الدانتيال ارتقى بها فريد الأطر�ش اىل م�ستوى الأعمال الكال�سيكية من حيث الوقار والعمق وتلك االن�سيابية املت�أنية الهادئة التي ي�سري اللحن يف خطاها على �إيقاع التانغو الأثري يف �أعماله� .إيقاع ثابت مل يتغري ،تعزفه الوتريات والأك��وردي��ون .عمل خ��الٍ متاما من الآالت االيقاعية التي قد ي���ؤدي وج��وده��ا اىل خد�ش هذه االن�سيابية الرقراقة التي عبرّ ت عنها الوتريات من �أول اللحن اىل �آخره .الكمنجات يف هذا العمل تقوم بدور التكثيف والدفع باملعنى اىل منتهاه ،فهي تكمل ما بد�أه فريد ،وتبوح مبا مل يبح به كالالزمة «امللتاعة» التي تلت املذهب مبا�رشة على �سبيل املثال .لذلك ال ميكننا اعتبار هذه اللوازم االمتدادية ملا هو مغنى توزيع ًا باملعنى املتعارف عليه� ،أي كيان ًا قائم ًا بحد ذاته يف موازاة امليلودي ،بل
هو �أول من قدم الأوبريت املكتملة العنا�صــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر يف الأعمال ال�سينمائية ،وقد اعترب النقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاد �أوبريت «انت�صار ال�شباب» ال�شكل الأمثــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل ملفهوم الأوبريت يف تاريخ املو�سيقى العربية املعا�صــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرة
فريد االطر�ش، «�أول هم�سة» 1972
244
الكورد ،العمود الفقري لهذا العمل ،حتكي �أحوال النف�س ال�شاكية من الظلم ت�ستكني حين ًا وتتمرد �أحيانا تهد�أ نريانها مرة وت�ضطرم �أخرى .تعبرّ عن نوع من الت�سا�ؤل اال�ستنكاري للظلم والق�سوة مو�ضوع الأغنية بدا فيها فريد الأطر�ش مت�أثر ًا بالكال�سيكيات الأوروبية ،اال�سبانية خا�صة ،من خالل ا�سلوب توظيفه الدرامي ملقام الكورد وا�ستلهام روح الفالمنكو من خالل �إحداث االح�سا�س بذلك الرجع البعيد لل�صوت االيقاعي ال�رسيع لآلة الكا�ستانييت ال�شهرية لكن ب�صوت ال�صنوج يف �آلة الرق االيقاعية ،يف حماولة لتجنب التغريب الكلي .حتى اذا انتهى من ر�سم هذه اللوحة التعبريية ترك ري�شته لت�سرتيح بدايات
العدد |5ربيع 2013
هو توزيع ب�سيط يعتمد على اللوازم التي تربط بني الكوبليهات وبني اجلمل املو�سيقية .ذلك �أن التوزيع املعقد من �ش�أنه �أن ي�ساهم يف ت�شتيت اللغة املو�سيقية الراقية التي اتخذت �شكل الهم�س ال�رصيح القائمة �أ�سا�س ًا على التعبري عن نوع من الرجاء الذي يتطلب البوح املبا�رش والو�صول اىل الهدف ب�أب�سط الو�سائل و�أق�رص الطرق. وعلى الرغم من االنطباع ال�سائد من �أن احل��زن م�سيطر ب�شكل عام على نتاج فريد الأطر�ش ،غري �أنه قدم جمموعة كبرية من االعمال التي ال تخلو من البهجة وال�رسور .نتوقف ب�شكل خا�ص عند �أغنيته ال�شهرية جدا «جميل جمال» .طقطوقة تنوعت مقاماتها �ضمن م�ساحة
زمنية �صغرية ن�سبي ًا (�ست دقائق) و�إيقاع مق�سوم يراوح بني �رسيع يف اللوازم املو�سيقية يتباط�أ يف الكوبليهات الثالثة التي ربط فريد االطر�ش بينها بلوازم ثالث عزفت بنف�س الطريقة والتكنيك وال��روح لكن بثالث مقامات خمتلفة �صاغ منها الكوبليهات البياتي يف الأول، واحلجاز يف الثاين ،وال�صبا يف الثالث ،يعود بعد كل منها قدّ م فريد الأطر�ش لقالــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــب الطقطوقة خدمات جليلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة ونوّ ع �أ�سلوب تناولهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا و�أعطاها بعد ًا غري تقليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدي يف الكثري من �أحلانـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه
العنفوان والقوة التي يتميز بها اال�سلوب الغنائي لأداء املوال يف بالد ال�شام. اما �أحلانه للآخرين فكان يراعي فيها ا�سلوبهم اخلا�ص وقدراتهم ال�صوتية يف الأداء مع منحها ا�سلوب ًا فريد ًا كان يتميز به هو .لذلك كان با�ستطاعة �أي متذوق للمو�سيقى �أن مييز �أعمال فريد الأطر�ش من غريها ب�سهولة نظر ًا لو�ضوح ب�صماته وتفرد �أ�سلوبه يف تناول املقامات ال�رشقية وتوظيفها بطريقة جتمع بني املدر�ستني ال�شامية وامل�رصية مما يجعله �صاحب اجتاه مو�سيقي حقيقي يف تاريخ الفن العربي املعا�رص.
مميزة ،ترتاوح بني الأغنية الوطنية ال�شعبية ذات الطابع العاطفي ك�أغنيتيه الناجحتني «�سنة و�سنتني» و«علم العروبة يا غايل» ،والن�شيد احلما�سي الوطني كرائعته «املارد العربي» .ي�ستوقفنا هذا العمل احلما�سي القومي يف مو�ضوعه ،ببنائه اللحني الذي ي�سري على ايقاع اخلبب �أو حوافر اخليل كخلفية ثابتة تعزفها الطبول مب�صاحبة الآالت النحا�سية التي تبدو ك�أنها تعلن النفري والتعبئة العامة من �أول العمل اىل �آخره ك�أنها اخليول العربية اذ تتقدم يف م�سرية ال يريد لها �أن تتوقف حتى حترير كامل الرتاب العربي من النهر اىل البحر .لي�س يف تاريخ الأغنية الوطنية العربية املعا�رصة عمل اتخذ ما ي�شبه هذا الأ�سلوب الذي ربط مو�سيقي ًا بني العروبة واخليل ،هذا الربط الرمزي التقليدي يف ذاكرة الأدب العربي مل يكن تقليدي ًا يف الذاكرة املو�سيقية.
الـعـود قبل فريد الأطر�ش كانت �آلة العود ،كباقي �آالت التخت ال�رشقي ،تطرب النا�س ولها مكانتها وموقعها املميز ال ،من حيث و�سط التخت ،لكنها مل تكن تفوق القانون مث ً وت�صدرها �أو قيادتها للتخت ال�رشقي وال من مكانتها ّ حيث �شغف النا�س بها ،حتى ظهر عود فريد الأطر�ش.
مرجع النوى �أثر لي�س ّلم املذهب اىل الكورال .لكن اىل ّ الالفت حق ًا يف هذا العمل البهيج هو كيفية ا�ستخدامه ال�صبا يف الكوبليه الأخري واعطائه بعد ًا املطرب البديع ملقام ّ حد النحيب ،بدا قدم فريد الأطر�ش خالل م�سريته الفنية عدد ًا كبري ًا جد ًا جديد ًا غري م�ألوف .هذا املقام احلزين َّ يف هذه الأغنية الر�شيقة ،بطعم الفرح ال نقدي ًا وا�ستحثت ال�شجي وهي احلالة من الأحلان الهامة التي �أثارت جد ً ّ التي يكون عليها العا�شق يف منزلة تت�أرجح فيها نف�سه الدار�سني على البحث والتحليل يف هذا النتاج الكبري بني لواعج الوجد ومباهج الو�صال ،فيما غالبية الأحلان والغزير ملو�سيقار �شق طريق الفن بكفاح مرير وموهبة التي وجلت عامل هذا املقام �صيغت ببعده املتعارف عليه حقيقية ومعرفة مو�سيقية عميقة جعلته جدير ًا باملكانة يطوعه فريد الأطر�ش التي و�ضعته يف القلوب من املحيط اىل اخلليج ك�أحد �أكرث املعبرّ عن �شدة احلزن والأمل .هنا ّ ال�سينمائي امل�شهد باقتدار حليوية الفرح الذي عبرّ عنه الفنانني العرب جماهريية على الإطالق. الذي �شدا فيه هذه الأغنية اجلميلة� .صاغ فريد الأطر�ش فريد الأطر�ش كان م�ؤ�س�سة فنية مكتملة العنا�رص ،هو اذ ًا هذه الطقطوقة من 4مقامات خمتلفة لكنها م�شتقة مثلث مو�سيقي مت�ساوي الأ�ضالع غنا ًء وعزف ًا وتلحين ًا. بع�ضها من بع�ض هي النوى �أثر ثم البياتي ثم احلجاز فريد االطر�ش املطرب ميتلك م�ساحة �صوتية كبرية متفردة ال�صبا يف �صياغة حلنية بالغة اجلمال والذوق والعمق ثم َّ التعبريي �ساهمت ال �شك يف تطوير فن الطقطوقة ودفعه الأطر�ش �صاحب ه ّم عروبــــــــــــــــــــــــــــــــــــي، قومي ،ان�سانـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي، يف اجتهات جديدة. يعب عنه من خالل فنــــــــــــــــــــــــــــــــه حاول �أن ِرّ الأغنية الوطنية هم عروبي ،قومي ،ان�ساين ،ومتوائمة مع خ�صو�صيته كملحن ،وبالتايل كان ي�صعب كان فريد الأطر�ش �صاحب ّ يعب عنه من خالل فنه ،ومن �أجل هذا الهم قدم على غريه �أداء بع�ض �أحلانه التي غناها بنف�سه ،ال �سيما حاول �أن ِرّ فريد الأطر�ش �إ�سهامات ميكننا القول �إنها �ساهمت يف تلك التي ترتكز على �إظهار م�ساحته ال�صوتية الهائلة ال يف النه�ضة باملو�سيقى وقفالته اخلا�صة املميزة� .صوت عمالق ب�إجماع الدار�سني التقريب بني ثقافات ال�شعوب �أم ً العربية ومنحها بعد ًا ان�ساني ًا بغ�ض النظر عن القما�شة ال�صوتية متجاوزا للأعراق والأجنا�س وذوي االخت�صا�ص ّ ً «حمب غالٍ ومبغ�ض �ضال». ال بالدائرة العربية القومية كما يف التي قد ُيختلف حولها بني والقوميات .بد�أها �أو ً ّ �أوبريت «ب�ساط الريح» التي مر من خاللها على الدول ال�شامي الن�ش�أة للغناء امل�رصي ب�شكل طوع فريد �أداءه ّ ّ العربية كلها ليعزز فكرة الوحدة ونبذ الفرقة. مذهل ،وقد �أدى املوال امل�رصي ب�أ�سلوبه اخلا�ص ال�شامي ال قليلة لكن الروح ،فجمع اىل الرقة واحلنان و�سال�سة الأداء امل�رصي، ويف جمال الأغنية الوطنية قدم �أعما ً
246
بدايات
العدد |5ربيع 2013
فريد الأطر�ش كان م�ؤ�س�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــة فنية مكتملة العنا�صـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر، ُمثلَّث مو�سيقي مت�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاوي الأ�ضالع غنا ًء وعزف ًا وتلحينـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ًا هذه الآلة ال�رشقية اجلميلة املوغلة يف القدم والتي عرفت �أ�سماء كبرية من �أمثال الرائد املو�سيقي العظيم حممد الق�صبجي ،واملعلم الكبري ال�رشيف حميي الدين حيدر ،وتلميذه جميل ب�شري و�أخيه اال�صغر منري ب�شري عده النقاد من �أهم عازيف العود يف التاريخ املعا�رص الذي ّ (بغ�ض النظر عن ر�أينا ال�شخ�صي يف هذه امل�س�ألة) والفنان �صليبا القطريب وفريد غ�صن وغريهم من الأعالم الذين �ساهموا يف النه�ضة املو�سيقية العربية ب�شكل عام ،ويف نه�ضة هذه الآلة العريقة وتطوير تقنياتها واكت�شاف �آفاق جديدة لقدراتها الكامنة .غري �أن ذلك ظل يف اطار النخب املهتمة باملو�سيقى والدار�سني والنقاد والفئات القادرة على ارتياد امل�سارح اخلا�صة .ان اال�ضافة احلقيقية التي �سجلها فريد الأطر�ش يف هذا املجال هي انه ا�ستطاع ان يحمل هذه الآلة من ال�صالونات الفنية والنخبوية اىل �صفوف اجلماهري ال�شعبية العري�ضة. كان عود فريد الأطر�ش يكاد يناف�س فريد نف�سه جماهريية وع�شق ًا .ومل يحدث �أن نالت �آلة مو�سيقية ذاك
247
بدايات
العدد |5ربيع 2013
الكم من الت�صفيق الذي كان ينفجر مبجرد ظهور عود فريد الأطر�ش على امل�رسح حتى قبل ظهور �صاحبه .لقد بلغت �آلة العود جماهريية مل تعرفها قبل فريد الأطر�ش الذي جعل اجلماهري العربية تلتفت اىل هذه الآلة وتتفاعل معها حتى �أ�صبحت بالفعل �شغوفة بها .وال جنايف احلقيقة اذا قلنا �إن فريد الأطر�ش �صاحب ف�ضل على هذه الآلة .قدمها للنا�س ب�شكل خمتلف وعزز مكانتها �إذ جعلها �سيدة حفالته على امل�رسح ،ف�ساهم يف تعريب الذوق الفني لدى قطاع وا�سع من ال�شباب الذي كان يرى يف الغيتار الكهربائي �آلة �أثرية يف الع�رص الذهبي للفرق املو�سيقية الغربية كالبيتلز وغريها. فريد الأطر�ش �صاحب �أ�سلوب متفرد غري تقليدي يف العزف مل ي�سبقه اليه �أحد .ا�ستطاع �أن يخرج من العود امكانات مل تكن مكت�شفة .و�سيبقى ال�سولو اخلالد يف مقدمة ق�صيدة «ال وعينيك» �شاهد ًا على جدارة هذا العازف الكبري الذي منح هذه الآلة تقنيات جديدة حني عزف بالعود معزوفة �أ�ستوريا�س للم�ؤلف املو�سيقي اال�سباين �إزاك �ألبينيز ،مما �ساهم يف تو�سيع �آفاق و�أبعاد هذه الآلة وفتحها على احتماالت تفوق اخليال .واذا اعتربنا �أن ال�سنباطي كان �صاحب �أروع ري�شة و�أعمق خيال و�أرهف اح�سا�س عزف ًا وتلحين ًا يف تاريخ املو�سيقى العربية ،ف�إن فريد الأطر�ش واحد من �أهم العازفني على م�ستوى التكنيك عرفته هذه الآلة يف تاريخ املو�سيقى العربية املعا�رصة .ولتو�ضيح الق�صد من وراء ا�ستخدام «�أفعال التف�ضيل» وهو ا�سلوب غري علمي يف التو�صيف ،يجدر التوقف حلظات لتبيان الفروق الدقيقة بني بع�ض التو�صيفات امللتب�سة مثل «�أروع»�« ،أجمل»�« ،أهم»�« ،أعظم»... ابتدا ًء ،يجوز يف تقييم العمل الفني ك�رس الأطر العلمية التي تعتمد على العقل واخل��روج اىل رحاب االنطباع واحل�س واحلد�س الذي يتجاوز الوعي .ان «افعل ا�ستطاع ان يحمل �آلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة العود من ال�صالونات الفنيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــة والنخبوية اىل �صفوف اجلماهيــــــــــــــــــــــــــــــــر ال�شعبية العري�ضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة التف�ضيل» هنا لي�س على اطالقه �أو مبعناه احلريف بل هو تعبري تلقائي �شعوري عن الأثر الذي ترتكه الده�شة فينا والتي بطبيعة احلال تفي�ض عن القلب فينطق بها الل�سان، وهذا جائز يف النقد الفني عموما واملو�سيقي على وجه اخل�صو�ص�« .أهم �أو �أعظم تكنيك» يعني مهارة يف العزف
فريد الأطر�ش و �سامية جمال
عالية امل�ستوى عظيمة القدرات والفهم لأ��سرار الآلة وامكاناتها والقدرة على العزف بحرفية منقطعة النظري بغ�ض النظر عن جمال العزف وت�أثريه اجلمايل يف النف�س. نو�صف عزف ريا�ض ال�سنباطي مثال بالأجمل �أو �أما حني ِّ الأروع ،فذلك لأن ري�شة ال�سنباطي متتلك من اجلماليات ما يجعلها تتجاوز م�س�ألة احلرفية اال�ستعرا�ضية ،حينئذ يكون االنبهار نابع ًا من االح�سا�س باجلمال اخلال�ص ال من القدرات التقنية التي تده�ش الوعي وال تتعداه اىل ال�شعور .يقول ال�شاعر الفرن�سي جان لي�سكور يف درا�سته لر�سم ت�شارلز الييك «املعرفة يجب �أن ترافقها قدرة م�ساوية على ن�سيانها .ون�سيان املعرفة لي�س نوع ًا من اجلهل بل هو جتاوز �صعب للمعرفة». اجلمال يتجاوز املهارة يف اعتقادنا ،بل هو الذي ي�ؤدي اىل خلق جديد اذ تنعك�س �صورته على مر�آة النف�س فتتبدل أرق و�أجمل .لي�س الهدف من وراء �أحوالها وتغدو خلق ًا �آخر � ّ هذه الفقرة االعرتا�ضية نفي اجلمال عن عزف فريد الأطر�ش وح�رصه يف قالب املهارة وح�سب بل هي حماولة لفك هذه اخليوط املت�شابكة يف الأذهان بني تقنيات املهارة وتقنيات اجلمال .ومل �أجد �أف�ضل من هذه املنا�سبة ،ونحن يف ح�رضة
تعبري ،ور�سمت مالمح ملعاناة االن�سان يف �رصاعه املرير مع احلياة بحلوها ومرها ،وكان منوذج ًا للتطابق بني الفنان واالن�سان خالف ًا لبع�ض معا�رصيه الكبار الذين قدموا فن ًا �شاخم ًا لكنه كان قناع ًا يخفي وجه ًا ان�ساني ًا �آخر ال ي�شبهه .وال نقول ذلك بو�صفه عيب ًا �أو �سلبية ،ففي تاريخ الفنون عامة مناذج فنية وعبقريات ال عالقة لها ب�سريتها �أو بحقيقتها االن�سانية ،ولي�س يف ذلك �أي ب�أ�س لأن ما يعنينا بالدرجة الأوىل هوما قدمته هذه النماذج الرائعة من خدمة جليلة للح�ضارة االن�سانية .لكن هذا التطابق التام بني فن فريد الأطر�ش و�شخ�صيته االن�سانية كان الفت ًا ،لندرته يف ال �أن نف�صل بني فريد الفنان عامل املبدعني .وال ميكننا فع ً وفريد االن�سان ،بني الت�سامح واجلود وال�سخاء االن�ساين الذي ا�شتهر به و�سخائه الفني الكبري� ،سواء يف غزارة �أعماله �أو يف تعامله الأخالقي مع زمالئه ومو�سيقييه الذين كانوا ينتظرون ب�شغف ولهفة حلظة دخولهم اىل اال�ستوديو للعزف على مقام فريد الأطر�ش. ال ميكننا ابد ًا �أن نف�صل بني �أمله االن�ساين و�أمله الفني، بني طيبته يف احلياة وطيبته على ال�شا�شة �أو يف �أغانيه ومعانيها ،بني حزنه احلقيقي وحزنه الفني الذي مل يكن
ال ميكننا ابداً �أن نف�صل بني �أمله االن�سانـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي و�أمله الفني ،بني طيبته يف احلياة وطيبتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه علىال�شا�شة �أو يف �أغانيه ومعانيهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا عمالقني من عمالقة العود ،لتو�ضيح هذا اللب�س ال�شائع يف مهارات اال�ستماع اىل املو�سيقي .هو اجتهاد وحماولة لالرتقاء بذائقتنا الفنية من مقام الفهم اىل مقام الإدراك. دعوة �إىل اعادة النظر فريد الأطر�ش� ،أحد كبار ذلك الع�رص املو�سيقي الذهبي الذي مازلنا نعي�ش على ذكراه ،يحتاج بال ريب اىل اعادة النظر يف تقييم نتاجه حتى يتعرف �إليه اجليل اجلديد الذي رمبا ال يحفظ من فريد �سوى «الكتب على اوراق ِ و«حبينا» وبع�ض ال�شجر» ،و«فوق غ�صنك يا ليمونة»، الأغاين ال�شعبية االخرى التي حتظى بالرواج �أكرث من غريها .كما �آثر بع�ض النقاد املرموقني االهتمام باملطربة الكبرية �أ�سمهان على ح�ساب فريد الأطر�ش امللحن ،وهو اهتمام م�ستحق لكن يعوزه االن�صاف. فريد االطر�ش قامة فنية وان�سانية عالية قدمت للعامل مو�سيقى عبرّ ت عن القيم والأخالق االن�سانية الرفيعة خري
250
بدايات
العدد |5ربيع 2013
ميلك �إال �أن يظلل �أحلانه ب�ضبابه .وهل هذا التطابق التام بني ج�سده فريد الأطر�ش �سوى انعكا�س الفن والفنان الذي ّ �صارخ لذلك ال�صدق الكبري الذي رافقه كظله يف عالقاته الفنية والإن�سانية؟ هو ذلك الأمري الأطر�شي الذي حمله البحر �صغري ًا من جبل الوطنية اىل جبل الفن لينمو ويرتعرع ويغدو رشف ر�سمت مالحمه هذه الثنائية �أمري ًا كبري ًا لفن عربي م� ِّ اخلالدة التي جمعت م�رص و�سورية� ،سيا�سي ًا وروحي ًا وثقافي ًا ،يف قلب عروبي واحد ت�أ ّلق املجد على وقع خفقاته منذ فجر التاريخ ال�سيا�سي والثقايف لهذه الأمة .ما �أحوجنا اليوم اىل �أن نغني مع فريد االطر�ش لهذا الوطن الكبري الذي ينزف فرق ًة وجتزئة وانق�سام ًا وفجيعة «على الله تعود بهجتنا والأفراح وتغمر دارنا الب�سمة واالفراح». فريد الأطر�ش ...ذلك الرجل الطيب الذي ظلمه النقد و�أن�صفه النا�س.