Bidayat Magazine Issue 5

Page 1

‫فصلية ثقافية فكرية العدد ‪ 5‬ربيع ‪2013‬‬

‫لبناناالحوال ال�شخ�صية والتحرك النقابي تونسالثورة مغدورة؟ طوابع بريد لفلسطني الغد رئيف خوري املثقف يف‬ ‫العهد ال�ستاليني شكري بلعيد يريث حسني مروة فريدريك جاميسون اطروحات حول املارك�سية وضاح رشارة يقر�أ حنا‬ ‫بطاطو عن الدولة العربية يعقوب شدراوي عن طانيو�س �شاهني شعارات الثورة السورية فريد االطرش وظلم ّ‬ ‫النقاد‬


‫فصلية ثقافية فكرية‬ ‫العدد ‪ 5‬ربيع ‪٢٠١٣‬‬

‫‏‪subscriptions@bidayatmag.com‬‬

‫احل�ساب امل�رصيف‬

‫‏‪Bidayat sarl Banque Libano Française‬‬ ‫‪Agence Gefinor, Beyrouth-Liban‬‏‬ ‫‪Account Number: 169102231‬‬ ‫‏‪Swift:BLFSLBBX‬‬ ‫‪IBAN:35001000000000000169192231LB‬‬

‫‪Amiry, S. and Tamari, V., The Palestinian‬‬ ‫‪Village Home, British Museum‬‬ ‫‪� Publications Ltd.,1989‬ص ‪53‬‬

‫�أحمد م�صطفى من�صور‪ ,‬رمزي حيدر©‪ ,‬جمعية‬ ‫ذاكرة‪« ،‬حلظة»‪� ،‬أمار‪� ,2008 ،‬ص‪١٠١،١٠٠‬‬ ‫‪� ،AP Photo / Mustafa Karali‬ص ‪112‬‬ ‫جنى طرابل�سي‪� ،‬ص ‪119‬‬

‫‪Belting, H., Florence and Baghdad‬‬ ‫‏‪Renaissance Art and Arab Science,‬‬ ‫‪Cambridge: Harvard University Press, 2011‬‬

‫�ص ‪١٢٦ ،١٢٥ ،١٢٢‬‬ ‫نوال عبود طرابل�سي‪� ،‬ص ‪١٣٦ -١٣٠‬‬ ‫‏‪� Visualizing Palestine‬ص ‪١٤١ -١٣٨‬‬ ‫جان لوك غودار‪ ،‬فيلم «مو�سيقانا»‪،‬‬ ‫�ص‪١٥١،١٥٠،١٤٧-١٤٤‬‬

‫‪Batatu, H., The Old Social Classes and New‬‬ ‫‪Revolutionary Movements of Iraq, London:‬‬ ‫‪� Al Saqi books, 2000‬ص ‪199-198 ،191‬‬

‫‏‪www.bidayatmag.com‬‬

‫بدايات‬ ‫رئي�س التحرير‪ :‬فواز طرابل�سي‬ ‫رحال‬ ‫االدارة‪ :‬زهري ّ‬ ‫غ�سان عي�سى‬ ‫االلكرتوين‪:‬‬ ‫املوقع‬ ‫ّ‬ ‫�إدارة ف ّنية‪ :‬جنى طرابل�سي‬ ‫ت�صميم و�إخراج‪ُ :‬ز ْم َرة‬ ‫زينب ياغي‬ ‫املدير امل�س�ؤول‪:‬‬ ‫�شارك يف انتاج هذا العدد‪:‬‬ ‫�سليمان تقي الدين‪ ،‬ع�ساف كفوري‪،‬‬ ‫دميا ال�رشيف‪ ،‬مي�سون �سكّ رية‪،‬‬ ‫ر�شا ال�سلطي‪ ،‬نوبار هوف�سبيان‪،‬‬ ‫�سحر مندور‪ ،‬حممد العطار‪.‬‬ ‫ت�صدر عن‪ :‬بدايات‪� ،‬ش‪.‬م‪.‬ل‪.‬‬ ‫�صندوق الربيد‪،٦٧٧٧/١٣ :‬‬ ‫(�شوران) بريوت ‪ -‬لبنان‬ ‫التوزيع‪� :‬رشكة «نا�رشون» لتوزيع ال�صحف‬ ‫واملطبوعات‪� ،‬ش‪.‬م‪.‬م‪ .‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫�سعر الن�سخة‬ ‫لبنان‪ ١٠،٠٠٠‬ل‪.‬ل‪ ،.‬االردن‪ ٥‬دينار‪،‬‬ ‫الكويت ‪ ٢،٥‬دينار‪ ،‬م�رص‪ ٢٥‬جنيه‪،‬‬ ‫املغرب ‪ ٥٠‬درهم‪ ،‬فرن�سا‪ ٥‬يورو‪.‬‬ ‫اال�شرتاكات‬ ‫لبنان‪ :‬افراد ‪ ،$٣٥‬م�ؤ�س�سات ‪،$٧٥‬‬ ‫�إ�شرتاك ت�شجيعي‪$١٠٠‬‬ ‫البلدان العربية‪ :‬افراد‪ ،$٥٠‬امل�ؤ�س�سات‪$١٥٠‬‬ ‫اوروبا‪ :‬افراد ‪ ،$٦٠‬م�ؤ�س�سات ‪$١٨٠‬‬ ‫باقي البلدان‪ :‬افراد‪ ،$٨٠‬م�ؤ�س�سات ‪$٢٤٠‬‬

‫احلقوق‬ ‫نوال عبود طرابل�سي‪� ،‬ص ‪6‬‬ ‫املفكرة القانونية‪ ,‬ح�سام م�شيم�ش‪� ,‬ص‪17-16‬‬ ‫‪� 25,www.yementimes.com‬آذار‪� ،2013‬ص ‪31‬‬ ‫‪� ،whitecolonialism.tumblr.com‬ص ‪43‬‬

‫فالدميري تاتلني‪ ،‬ت�صميم لن�صب االممية الثالثة‪،‬‬ ‫مو�سكو‪� ،١٩٢٠-١٩١٩ ،‬ص ‪٢10‬‬

‫‪Fani, M., Liban 1880 -1914, Beirut:1995‬‬

‫�ص ‪223-222‬‬

‫‪The Revival of Palestinian Traditional‬‬ ‫‪� Heritage, Beirut: Inaash, 2001‬ص‪227‬‬

‫حاولنا جهدنا العثور على ا�صحاب‬ ‫حقوق الن�رش والت�صوير املن�شورة‪.‬‬ ‫الرجاء ممن �أغفل �إ�سمه االت�صال بنا‪.‬‬


‫المحتويات‬ ‫العدد ‪5‬‬ ‫ربيع ‪2013‬‬

‫‪ 4‬‬

‫فلسطني اآلن اآلن و‪...‬غد ًا‬

‫‪ 8‬‬

‫االحوال الشخصية بني الديين والمدين‬

‫�سليمان تقي الدين‬

‫‪ 12‬معركة تصحيح االجور يف لبنان‪:‬‬ ‫مكاسب رمزية وخاسئر فعلية‬

‫حممد زبيب‬

‫‪ 21‬ثورة مغدورة؟ االنتفاضة التونسية‬ ‫ ‬

‫ليلى داخلي‬

‫‪ 50‬‬

‫فلسطني ضد الفلسطينيني‪ :‬القانون‬ ‫احلديدي ومفارقات شعب َ‬ ‫منكر‬

‫ب�شارة دوماين‬

‫احلزيب يف المغرب‬ ‫‪ 27‬الياسر واالحنطاط‬ ‫ ‬ ‫ّ‬

‫‪ 156‬‬ ‫ ‬

‫جار جيور‬ ‫ ‬ ‫‪ 32‬اليمن‪ٌ :‬‬

‫‪ 161‬ارسائيل‪ ،‬امريكا والنفط العريب عام ‪1948‬‬ ‫ ‬

‫عبد الإله بلقزيز‬ ‫ب�رشى املقطري‬

‫‪ 35‬مقابلة اشملة مع فواز طرابليس‬ ‫ ‬ ‫عن الثورة واحلرب يف سورية‬

‫حممد العطار‬

‫‪« 84‬احلكم الذايت» يف فلسطني المحتلة‪:‬‬ ‫ ‬

‫تطبيقات يف الهندسة النيولربالية المعولمة‬

‫‪ 20 58‬أوسلو‪ :‬السياقات والتداعيات‬ ‫ ‬ ‫‪ 65‬االقتصاد السيايس للجيش اإلرسائييل‬ ‫ ‬

‫‪ 96‬االكادمييا يف اشتيال‬ ‫ ‬ ‫خميم يرزح حتت االجتياح البحيث‬ ‫ّ‬

‫ياغيل ليفي‬

‫‪ 78‬المنظمات غري احلكومية‪ :‬بني الكلمات‬ ‫الطنانة واحلركات االجتماعية‬ ‫ّ‬

‫توفيق حداد‬

‫مي�سون �سكرية‬

‫الغالف ‪1‬‬ ‫نوال عبود طرابل�سي‬ ‫الغالف ‪ ٢‬و‪٣‬‬ ‫نادر خري الدين ابو‬ ‫جبني‪ ،‬تاريخ فل�سطني‬ ‫يف طوابع الربيد‪،‬‬ ‫م�ؤ�س�سة الدرا�سات‬ ‫الفل�سطينية‪ ،‬بريوت‬ ‫ورام الله‪٢٠١١ ،‬‬ ‫الغالف ‪4‬‬ ‫مل�صق‪،‬‬ ‫نوال عبود طرابل�سي‬ ‫منظمة التحرير‬ ‫الفل�سطينية‪١٩75 ،‬‬

‫ايرين غندزير‬

‫‪ 170‬‬ ‫ ‬

‫شكري بلعيد‪:‬‬ ‫جامع الياسر التونيس وهشيده‬

‫حممد �صالح عمري‬

‫مروة‬ ‫‪ 171‬شكري بلعيد يريث حسني ّ‬

‫ال‬ ‫‪ 186‬العراق مثا ًال وحنا بطاطو دلي ً‬

‫و�ضاح �رشارة‬

‫‪ 208‬مخس أطروحات يف الماركسية المعارصة‬

‫فريدريك جامي�سون‬ ‫�سالمة كيلة‬

‫إهنا أيضا ثورة اجتماعية!‬

‫‪ 218‬‬

‫يا�سني �سويحة‬

‫«الفالح العظيم» ليعقوب‬ ‫الشدراوي‪:‬طانيوس اشهني‬ ‫عىل المرسح‬

‫مبنية للغياب‬ ‫‪ 109‬المنازل‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫مبنيون للمجهول‬ ‫وحنن‬ ‫ّ‬

‫يعقوب ال�شدراوي‬

‫‪« 117‬باب الشمس»‪ّ :‬‬ ‫كل هذه الرومانسية!‬ ‫ ‬

‫ريا�ض بيد�س‬

‫رائد وح�ش‬

‫جديت حاجي‬ ‫ ‬ ‫‪ّ 224‬‬

‫عالء حليحل‬

‫‪ 122‬‬ ‫ ‬

‫‪ 230‬عن انعتاق الكالم‪:‬‬ ‫ ‬ ‫لغة الثورة السورية والثورة يف اللغة‬

‫هانس بلتنغ عن ابن الهيثم‪:‬‬ ‫فن الهنضة األوروبية والعلوم العربية‬ ‫ّ‬

‫حممد العطار‬

‫�صونيا مي�شار االتا�سي‬

‫‪ 127‬أوسلو وطوابع الربيد الفلسطينية‬ ‫ ‬

‫نور ابو عرفة‬

‫‪ 130‬‬ ‫ ‬

‫نوال عبود طرابليس‪:‬‬ ‫طوابع بريد لفلسطني الغد‬

‫‪ 142‬‬ ‫ ‬

‫«موسيقانا» غودار‪:‬‬ ‫الوثائقي حيتاج لعنوان آخر‬

‫‪« 1‬تصوير فلسطني»‬ ‫‪ 37‬‬ ‫ ‬ ‫جغرافية هنب المياه والفصل العنرصي‬

‫غالية �سعداوي‬

‫‪ 149‬حممود درويش يف «موسيقانا»‬ ‫ ‬ ‫«إن شع ًبا بال ِشعر هو شعب مهزوم»‬ ‫‪ 152‬يف حترير صورة فلسطني‬ ‫ ‬

‫روي ديب‬

‫‪ 172‬‬

‫أكيفا أور‪ :‬مؤسس «ماتسبني»‪،‬‬ ‫القاطع مع الصهيونية‬

‫مو�سى البديري‬

‫‪ 176‬رئيف خوري‪ :‬المثقف الشيوعي‬ ‫ ‬ ‫يف الزمن الستاليين‬

‫�أحمد علبي‬

‫‪ 213‬معىن النظرية يف الناشط الثوري‬

‫�إ�صالح جاد‬

‫‪ 106‬‬ ‫ ‬

‫ال�صياد‬ ‫�أحمد ّ‬

‫خليل نخلة‬

‫‪ ٢٠ 89‬اوسلو‪ :‬بناء الدولة النيوليربالية‬ ‫ ‬

‫نوام ت�شوم�سكي‬

‫الياسر اليمين بني الغفران والنسيان‬

‫‪ 240‬‬ ‫ ‬

‫فــريد األطرش‪:‬‬ ‫ظلَ َمه النقد وأنصفه الناس‬

‫�سمر حممد �سلمان‬


‫فلسطني اآلن اآلن و‪...‬غد ًا‬ ‫خ�ص�صنا ملف هذا العدد اخلام�س من «بدايات» الفتتاح‬ ‫م�سارات التفكري النقدي يف فل�سطني احلا�رض وامل�ستقبل‬ ‫وم�ساءلة موقعها من الثورات العربية وموقع هذه منها‪.‬‬ ‫واملنا�سبة ي�صعب التغا�ضي عنها‪ :‬م�ضي ع�رشين عاما‬ ‫على توقيع اتفاق او�سلو بني منظمة التحرير الفل�سطينية‬ ‫والدولة ال�صهيونية‪.‬‬ ‫جتمع لدينا من مواد يلقي ال�ضوء على �أوجه خمتلفة‬ ‫ ما ّ‬ ‫من التجربة الفل�سطينية يف ظل «ال�سلطة الوطنية»‪ .‬يفتتح‬ ‫ب�شارة دوماين امللف بن�ص خالق عن تن�صيب فل�سطني‬ ‫يف وجه الفل�سطينيني‪ .‬ويتتبع نوام ت�شوم�سكي م�سار‬ ‫التخريب اال�رسائيلي لالتفاق منذ توقيعه‪ ،‬وي�ضيء على‬ ‫الدور اخلبيث للمفاو�ضني النورويجيني م�ؤكدا �أن الواليات‬ ‫املتحدة مل تكن مرة «و�سيطا نزيها» بني الفل�سطينيني‬ ‫واال�رسائيليني بل «�رشيكا» ال�رسائيل‪ .‬وقد �أولينا‬ ‫�أهمية خا�صة لالقت�صاد ال�سيا�سي لأنه اول ما يجدر‬ ‫ا�ستح�ضاره عند البحث يف القاعدة املادية لال�ستتباع‬ ‫اال�رسائيلي لل�ضفة الغربية‪ .‬نن�رش ثالثة ن�صو�ص عن‬ ‫االقت�صاد ال�سيا�سي خلليل نخلة وتوفيق حداد ون�صا‬ ‫عن «خ�صخ�صة» اجلي�ش اال�رسائيلي‪ .‬اىل ذلك بحث‬ ‫نقدي ال�صالح جاد يف ظاهرة املنظمات غري احلكومية‬ ‫ودرا�سة ميدانية ملي�سون �سكّ رية عن ال�سياحة االكادميية‬ ‫يف املخيمات الفل�سطينية‪.‬‬ ‫تلون فل�سطني العدد كله‪ .‬اىل �شهادة عن خميم‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫فل�سطيني يف �سورية حتت الق�صف لرائد وح�ش‪ ،‬ورواية‬ ‫عالء حليحل لتجربة قرية «باب ال�شم�س»‪ ،‬نلقى مراجعة‬ ‫نور �أبو عرفة لكتاب عن طوابع الربيد الفل�سطينية‬ ‫وت�صميمات ن��وال طرابل�سي لطوابع بريد من اجل‬ ‫فل�سطني حرة م�ستقلة‪ ،‬ا�ضافة اىل نقد غالية �سعداوي‬ ‫لفيلم للمخرج الفرن�سي جان لوك غودار عن فل�سطني‬ ‫ ‬

‫‪ 6‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫والفالحية يف جبل لبنان يف القرن التا�سع ع�رش‪.‬‬ ‫ يف «ذاكرة» يدعو احمد ال�صياد اىل اعادة االعتبار‬ ‫النقدية للي�سار اليمني‪ .‬ويف «ح�ضور الغياب»‪ ،‬نحيي‬ ‫الذكرى املائة ل��والدة الكاتب اللبناين الكبري رئيف‬ ‫خوري‪ ،‬بن�ص الحمد علبي‪ ،‬ونن�رش ق�صيدة ل�شهيد الي�سار‬ ‫التون�سي �شكري بلعيد يرثي فيها �شهيدا ي�ساريا �آخر هو‬ ‫الناقد والباحث اللبناين ح�سني مروة‪ ،‬ونودع مع مو�سى‬ ‫البديري �أكيفا �أور‪ ،‬م�ؤ�س�س «مات�سنب»‪ ،‬الثوري ال�شمويل‪،‬‬ ‫واملنا�ضل الرائد �ضد ال�صهيونية‪.‬‬ ‫ �أخريا‪ ،‬يقر�أ حممد العطار عن ثورة اللغة يف �شعارات‬ ‫الثورة ال�سورية‪ .‬وتوا�صل �سمر �سلمان ابحاثها يف‬ ‫املو�سيقى العربية احلديثة بن�ص عن فريد االطر�ش‪.‬‬ ‫ قلنا اننا اردن��ا من ملف هذا العدد افتتاح البحث‬ ‫نقدم بع�ض‬ ‫يف فل�سطني احلا�رض وامل�ستقبل‪ .‬فيما يلي ّ‬ ‫العناوين ملوا�صلة البحث وت�شجيعا على النقا�ش‪.‬‬ ‫ ‪ .١‬الثورات العربية‪/‬فل�سطني‪ .‬ماذا يتوقع ال�شعب‬ ‫الفل�سطيني من الثورات العربية من نتائج على ق�ضيته‬ ‫وعلى جمرى النزاع العربي اال�رسائيلي؟ واية درو�س‬ ‫تقدمها الثورات العربية لل�شعب الفل�سطيني وحركة حترره‬ ‫بعدما ا�ستوحت هي الكثري من االنتفا�ضات الفل�سطينية؟‬ ‫ ‪ .٢‬ال��ن��زاع الفل�سطيني‪-‬اال�رسائيلي ‪/‬ال��ن��زاع‬ ‫العربي‪-‬اال�رسائيلي‪ .‬احدثت اتفاقية او�سلو �رشخا‬ ‫بني هذين النزاعني وبني ق�ضية فل�سطني واجلماهري‬ ‫العربية‪ .‬وال�س�ؤال‪ :‬هل ميكن ان ت�ستعيد ق�ضية فل�سطني‬ ‫ا�ستدعاءاتها للجماهري العربية دون جتديد دورها مبا هي‬ ‫حركة حترر وطني وانخراطها يف الن�ضال العام من اجل‬ ‫العمل واحلرية والعدالة االجتماعية؟‬ ‫ ‪ .٣‬النزعة الع�سكرية اخلال�صية‪/‬املفاو�ضات‪ .‬ت�ستطيع‬ ‫الب�ؤرتان امل�سلّحتان حلركة حما�س وحزب الله‪ ،‬يف غزة‬

‫نقتطف منه حوارا ملحمود دروي�ش عن ال�شعر وفل�سطني‪.‬‬ ‫وهنا اي�ضا يكت�شف روي ديب حياة الفل�سطينيني الب�رش‬ ‫ت�شبع من فل�سطني‪-‬ال�صورة‪ .‬ويكتب ريا�ض‬ ‫بعدما‬ ‫ّ‬ ‫جدته‪ .‬ونن�رش اخريا لي�س �آخرا درا�سة �آيرين‬ ‫بيد�س عن ّ‬ ‫القيمة عن النفط العربي ووالدة دولة ا�رسائيل‬ ‫غندزير ّ‬ ‫يف ال�سيا�سة اخلارجية االمريكية العام ‪.١٩٤٨‬‬ ‫ي�رسنا ان ن�ؤدي واجبا من الوفاء والتقدير يف هذا‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫العدد الحد املع البحاثة العرب‪ ،‬الفل�سطيني االمريكي‬ ‫حنا بطاطو‪ .‬يقر�أ له و�ضاح �رشارة‪ ،‬ومن وحيه‪ ،‬عن الدولة‬ ‫العربية يف قب�ضة جهاز اال�ستيالء الع�صبي والريعي‬ ‫والبريوقراطي‪ .‬ونوا�صل التعريف بالرتاث الي�ساري‬ ‫اجلديد باطروحات لفريدريك جامي�سون‪ ،‬اح��د ابرز‬ ‫املارك�سيني اجلدد يف الواليات املتحدة االمريكية‪ .‬ويب�سط‬ ‫�سالمة كيلة ر�أيه يف دور النظرية يف الثورة‪.‬‬ ‫ وت�شتمل «من باب اوىل» على مقاالت عن االحوال‬ ‫ال�شخ�صية والتحرك النقابي يف لبنان ل�سليمان تقي الدين‬ ‫وحممد زبيب‪ ،‬وتت�ساءل ليلى داخلي عما اذا كانت الثورة‬ ‫التون�سية باتت ثورة مغدورة‪ ،‬وينتقد عبداالله بلقزيز‬ ‫القيادات احلزبية اجلديدة يف املغرب‪ ،‬وتكتب ب�رشى‬ ‫املقطري عن طرد العمال اليمنيني من العربية ال�سعودية‪.‬‬ ‫ونن�رش مقابلة مطولة اجراها حممد العطار مع فواز‬ ‫طرابل�سي عن الثورة ال�سورية‪.‬‬ ‫ من كتابات ال�شباب اخرتنا يا�سني �سويحة الذي‬ ‫يذكّ ر بالعوامل االجتماعية يف الثورة ال�سورية‪ .‬ويف‬ ‫«كتاب» مراجعة لكتاب للناقد الفني االملاين هان�س‬ ‫العال العربي ابن الهيثم يف النه�ضة‬ ‫بلتنغ عن م�ساهمة‬ ‫مِ‬ ‫االوروبية‪ .‬ويف «نون والقلم» حتية للم�رسحي اللبناين‬ ‫الكبري يعقوب ال�شدراوي من خالل ن�رش ف�صل من‬ ‫م�رسحيته عن طانيو�س �شاهني‪ ،‬قائد االنتفا�ضة العامية‬ ‫ ‬

‫‪ 7‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫وجنوب لبنان‪ ،‬ال�صمود يف وجه حم��اوالت ت�صفية‪،‬‬ ‫وردع ال��ع��دوان‪ ،‬واملحافظة على مقدار من التعبئة‬ ‫ال�شعبية واملعنوية والرمزية‪ .‬لكن املقاومة تبقى عاجزة‪،‬‬ ‫مبفردها‪ ،‬عن �إحداث تغيري نوعي يف توازن القوى مع‬ ‫الدولة العربية‪ .‬اال ي�ستدعي ذلك اعادة ادخال اجليو�ش‬ ‫العربية يف املعادلة ومعها كل و�سائل القوة وال�ضغط‬ ‫االقت�صادية وال�سرتاتيجية التي متتلكها املنطقة؟ ومن‬ ‫جهة اخرى‪ ،‬هل من مكان ودور لآفاق ن�ضال �سيا�سي‬ ‫و�شعبي خالق جديد‪ ،‬بديال عن املفاو�ضات امل�صدومة‬ ‫لل�سيد‬ ‫االف��ق‪ ،‬وعن مبادرة ال�سالم العربية املرهونة‬ ‫ّ‬ ‫االمريكي ولأولوية «حماية امن ا�رسائيل»؟‬ ‫ ‪ .٤‬حل الدولة الفل�سطينية امل�ستقلة‪/‬الدولة الواحدة‪.‬‬ ‫يبدو ك�أنه ل�سان حال ان�صار «الدولة الواحدة»‪ :‬ملا كنا‬ ‫عاجزين عن حتقيق احلد االدنى فلنقفز للمطالبة باحلد‬ ‫االق�صى‪.‬‬ ‫ ول��و افرت�ضنا ج��دال �أن �شعار ال��دول��ة الواحدة‬ ‫قابل للتطبيق‪ ،‬فهل ميكن تطبيقه بغري قرار ا�رسائيلي‬ ‫التاريخية‪ ،‬ما يعني االطاحة‬ ‫با�ستكمال احتالل فل�سطني‬ ‫َّ‬ ‫الطوعية ب�أ�سا�س امل�رشوع ال�صهيوين القائم على‬ ‫احلفاظ على �أكرثية يهودية كا�سحة يف فل�سطني؟ اي‬ ‫ما يعادل دعوة الدولة ال�صهيونية اىل االنتحار؟ ثم انه‬ ‫من �أبرز احلجج املقدمة دفاع ًا عن حل الدولة الواحدة‬ ‫ان حل الدولتني �سوف يعني التنازل نهائي ًا عن حق‬ ‫هو ّ‬ ‫العودة‪ ،‬فهل حل الدولة الواحدة �إطار �صالح لتحقيق‬ ‫حق العودة؟‬ ‫ «بدايات» م�ستمرة‪ .‬وقد ب��د�أت تتوافد مواد العدد‬ ‫ال�ساد�س وفيها ملف عن الثورة امل�رصية وعدة م�ساهمات‬ ‫يف امل�س�ألة الن�سوية‪ .‬فاىل اللقاء‪.‬‬ ‫«بدايات»‬


‫‪ 8‬‬

‫االحوال الشخصية بني الديين والمدين‬

‫�سليمان تقي الدين‬

‫‪ 12‬معركة تصحيح االجور يف لبنان‪:‬‬ ‫مكاسب رمزية وخاسئر فعلية‬

‫حممد زبيب‬

‫‪ 21‬ثورة مغدورة؟ االنتفاضة التونسية‬ ‫ ‬

‫ليلى داخلي‬

‫ ‬

‫‪ 8‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫احلزيب يف المغرب‬ ‫‪ 27‬الياسر واالحنطاط‬ ‫ ‬ ‫ّ‬

‫عبد الإله بلقزيز‬

‫جار جيور‬ ‫ ‬ ‫‪ 32‬اليمن‪ٌ :‬‬

‫ب�رشى املقطري‬

‫‪ 35‬مقابلة اشملة مع فواز طرابليس‬ ‫ ‬ ‫عن الثورة واحلرب يف سورية‬

‫حممد العطار‬


‫ يف ثقافة الأديان هناك اختالف من دين �إىل �آخر يف‬ ‫النظرة �إىل الأحوال ال�شخ�صية‪ ،‬وكذلك بني فرق ومذاهب‬ ‫الدين الواحد‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫ال عن التطور التاريخي الذي غيرّ‬ ‫الكثري من �أ�شكال التعامل مع هذه امل�س�ألة‪ .‬ولعل �أنظمة‬ ‫الأح��وال ال�شخ�صية الطائفية يف لبنان تعطي �صورة‬ ‫وا�ضحة عن هذه االختالفات التي تخرج معظم الأحكام‬ ‫يدعيها‬ ‫املعمول بها من دائرة الثبات �أو اجلوهرانية التي ّ‬ ‫القيمون على هذه ال�رشائع‪ .‬ف�إذا نحن �أ�سقطنا التف�صيلية‬ ‫املتباينة باعتبارها �أحكاما ً �صادرة عن �إرادات �إن�سانية‬ ‫متعددة �أنتجتها‪ ،‬ف�إن ال�شيء الذي يبقى هو احلقوق‬ ‫الأ�صلية املرتبطة ب�شخ�ص الإن�سان الطبيعي‪.‬‬ ‫ ولعل هذا الواقع يتج�سد بوجود دول ذات ثقافات‬ ‫دينية خمتلفة وقد �أخ��ذت ب�أنظمة �أح��وال �شخ�صية‬ ‫و�ضعية (مدنية) ولو �أنها لي�ست معزولة عن الف�ضاء‬ ‫الثقايف العام لهذه الدول‪ .‬بل �إن الأ�شخا�ص �أنف�سهم‬ ‫ميكن �أن يخ�ضعوا طوع ًا �أو كره ًا لأنظمة متعددة يف وقت‬ ‫واحد ب�سبب �إرادتهم �أو ب�سبب اكت�سابهم «جن�سيات» �أو‬ ‫«تبعة» دول خمتلفة يف �آن واحد‪.‬‬

‫األحوال الشخصية بني الديين والمدين‬ ‫يتميز به الإن�سان عن‬ ‫سليمان تقي الدين الأحوال ال�شخ�صية هي جمموعة ما ّ‬ ‫غريه‪ ،‬من ال�صفات الطبيعية‪� ،‬أو العائلية‪ ،‬التي يرتب عليها‬ ‫مؤرخ وكاتب‪ ،‬لبنان القانون �أثر ًا يف حياته االجتماعية مثل كون الإن�سان ذكَ ر ًا‬ ‫�أو �أُنثى‪� ،‬أو زوج ًا �أو �أرمل �أو مطلق ًا �أو ابن ًا �رشعي ًا‪� ،‬أو كونه تام‬ ‫الأهلية �أو ناق�صها ل�صغر ال�سن �أو العته �أو اجلنون‪� ،‬أو لكونه‬ ‫مقيدها ب�سبب من الأ�سباب القانونية‪.‬‬ ‫مطلق الأهلية �أو ّ‬ ‫ التعريف ال�سابق م�ستقى من حكم ملحكمة النق�ض بت�أثري الثقافة الإ�سالمية التي ربطـــــــــــــــــــــــــــت‬ ‫امل�رصية يف ‪ ،1934/6/21‬وقد ا�ستوحته املحكمة من تاريخي ًا بني احلقوق ال�شخ�صيـــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫القانون الفرن�سي الذي يعترب الأحوال ال�شخ�صية «احلالة وبع�ض الإلزامات الدينية �صار لأنظمة وقوانني الأحوال‬ ‫والأهلية» فقط‪� .‬إال �أنه وبت�أثري الثقافة الإ�سالمية التي ال�شخ�صيـة مفهوم �أو�سع و�أ�شـــــــــــــــــــــــــــــمل‬ ‫ربطت تاريخي ًا بني احلقوق ال�شخ�صية وبع�ض الإلزامات‬ ‫والوقف‬ ‫الدينية ذات الأثر املادي العيني كالإرث والو�صية‬ ‫ كيفما كانت �أحكام الأنظمة والقوانني‪ ،‬فهي ال ت�ستطيع‬ ‫والهبة‪ ،‬فقد �صار لأنظمة وقوانني الأحوال ال�شخ�صية تبديل الوقائع الطبيعية ك�أن تقول بحياة �شخ�ص �أو وفاته‪،‬‬ ‫ال �أو‬ ‫مفهوم �أو�سع و�أ�شمل‪ .‬هكذا دخل يف منظومة الواجبات ببلوغه �أو عدم بلوغه‪ ،‬بكونه ذكر ًا �أو �أُنثى‪� ،‬أو بكونه عاق ً‬ ‫واحلقوق الطبيعية والعائلية‪ ،‬ما هو من الأمور املادية‪ ،‬معتوه ًا �أو جمنون ًا �أو �أي �شيء من هذا القبيل حتى لو �أجازت‬ ‫و�أ�سند �أو متت �إناطة �أمر النظر فيها للمحاكم ال�رشعية من نظام �إىل �آخر التعامل مع هذه «الوقائع الطبيعية» ب�أ�شكال‬ ‫(الدينية) �أو املدنية التي تطبق قوانني و�أنظمة �رشعية‪.‬‬ ‫خمتلفة‪ .‬لذا تن�رصف الأح��وال ال�شخ�صية‪ ،‬مهما تبدلت‬ ‫ وقد �صار �ضمن منظومة الأح��وال ال�شخ�صية عند قوانينها‪� ،‬إىل تنظيم حقوقه وواجباته وعالقاته الإن�سانية‬ ‫امل�سلمني ب�صورة خا�صة‪ :‬اخلطبة ومفاعيلها‪ ،‬ال��زواج ولي�س ظروفه املادية اخلارجة عن كيان ال�شخ�ص الطبيعي‪.‬‬ ‫ومفاعيله و�أحكامه‪ ،‬الطالق �أو التفريق �أو البطالن‪ ،‬واملهر �إن كل فل�سفة حقوق الإن�سان انطلقت من هذا‬ ‫واجلهاز (والدوطة) والنفقة واحل�ضانة �أو (احلرا�سة) و�ضم االعتبار القائم بذاته قبل كل ما يطر�أ على هذا الكيان‬ ‫الفتيان والفتيات �أو �أوليائهم و(الرعاية)‬ ‫والن�سب والوالية الإن�ساين‪ ،‬وال��ذي هو موجود كقيمة مطلقة يف جميع‬ ‫َ‬ ‫والو�صاية والقيمومة والبلوغ والر�شد واحلجر و�أحكام الثقافات الإن�سانية ولو تعاملت معه ب�أ�شكال خمتلفة‪.‬‬ ‫املفقود والو�صية و�إثبات الوفاة وانح�صار الإرث وحترير لذا انطلقت فكرة حقوق الإن�سان من كون النا�س‬ ‫الرتكة والوقف اخلريي والذري و�إدارته والقيم والو�صي‪ .‬يولدون �أحرار ًا ولهم بهذه ال�صفة احلق يف احلياة واحلرية‬ ‫ال متعلقة بحقوق والكرامة وامل�ساواة الخ‪ ...‬وميكن لأي نظام �أو قانون �أن يوجد‬ ‫ �إن الأح��وال ال�شخ�صية هي �أ�ص ً‬ ‫ال�شخ�ص الطبيعي بحالته و�أهليته‪ ،‬وما يت�صل بها من حقوق �إلزامات للعالقات االجتماعية لكنه يكون مناق�ض ًا لهذا‬ ‫�أو واجبات مادية هو الأثر الثانوي غري الأ�سا�سي‪ .‬وعلى املعنى �أو لهذه القيمة الإن�سانية‪� ،‬إذا جتاوز احلقوق الطبيعية �أو‬ ‫فر�ض وجود �صلة ع�ضوية بني احلق ال�شخ�صي الطبيعي الفطرية‪� ،‬أو تلك امل�ستقلة عن ال�رشوط االجتماعية املتغيرّ ة‪.‬‬ ‫واحلق العيني املادي‪ ،‬فللأول قيمة ا�ستثنائية ملت�صقة بحالة‬ ‫هذا ال�شخ�ص و�أهليته وال ميكن باملبد�أ �أن تخ�ضع لأحكام‬ ‫وطوارئ احلقوق املادية‪� ،‬إذ � ّإن احلقوق الطبيعية امللت�صقة‬ ‫ب�شخ�ص الإن�سان ال تقبل التنازل عنها‪ ،‬بينما احلقوق‬ ‫الطارئة واملكت�سبة ميكن الت�رصف بها والتنازل عنها‪.‬‬

‫ ‪ 10‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫�ش�ؤون الأحوال ال�شخ�صية لأحكام قانونهم الوطني‪.‬‬ ‫ وجاء يف املادة ‪:14‬‬ ‫ �إن الطوائف التابعة للقانون العادي تنظم �ش�ؤونها‬ ‫وتديرها بحرية �ضمن حدود القوانني املدنية‪.‬‬ ‫ ويف املادة ‪ :15‬ميكن لهذه الطوائف احل�صول على‬ ‫االعرتاف بها‪...‬‬ ‫ ويف املادة ‪� : 17‬إن غري املنتمني �إىل �إحدى الطوائف‬ ‫املذكورة �أو غري املنتمني �إىل �إحدى الطوائف الدينية‬ ‫يخ�ضعون للقانون املدين‪.‬‬ ‫ كما �أن عقود زواج ال�سوريني �أو اللبنانيني التي جتري‬ ‫وفق طق�س �إحدى الطوائف التابعة للقانون العادي املعرتف‬ ‫بها �أو غري املعرتف بها تعترب �صحيحة‪.‬‬ ‫ ويف املادة ‪� :25‬إن عقود الزواج يف بلد �أجنبي تكون‬ ‫خا�ضعة للقانون املدين‪..‬‬ ‫ بعد هذا القانون تقدمت بع�ض الطوائف ب�أنظمتها‬ ‫اخلا�صة �إىل املجل�س النيابي ال��ذي �صدق عليها‪،‬‬ ‫وبع�ضها الآخر مل تقدم �أنظمتها (الطوائف امل�سيحية)‬ ‫�إىل املجل�س النيابي ولكنها اعتربت‪ ،‬بح�سب قرار‬ ‫ملحكمة التمييز الهيئة العامة (يف ‪ 1955/11/11‬و‬ ‫‪ ،)1962/2/13‬م�شاريع الأنظمة تلك �سارية املفعول‬ ‫بكل �أحكامها ما دامت ال تخالف النظام العام اللبناين‪.‬‬

‫�أنظمة الأحوال ال�شخ�صية يف لبنان‬ ‫�أ�صدرت �سلطات االنتداب الفرن�سي القرار ‪ 60‬ل‪.‬ر‪.‬‬ ‫يف ‪� 12‬آذار ‪ 1936‬حتت عنوان نظام الطوائف‬ ‫الدينية‪ .‬جاء يف هذا القرار �أن الطوائف املعرتف بها بني القانون والواقع‬ ‫تقر نظام �أحوال‬ ‫قانون ًا كطوائف ذات نظام �شخ�صي هي الطوائف مل تنظم الدولة طائفة احلق العادي �أو ّ‬ ‫التاريخية التي ُح ّدد تنظيمها وحماكمها و�رشائعها يف �شخ�صية مدني ًا‪� .‬إلاّ �أن ذلك مل يلغ تطبيق هذا الن�ص عرب‬ ‫�صك ت�رشيعي (وفق جدول مرفق) (م‪.)1‬‬ ‫املحاكم املدنية العادية‪.‬‬ ‫ ويكون لأنظمتها مفعول القانون (م‪� .)2‬أما التي مل لقد جرى تف�سري هذا الن�ص وتطبيقه جلهة االعرتاف‬ ‫حتدد بعد �أنظمتها فت�ستفيد من هذا االعرتاف (م ‪ )3‬بعد بالعقود التي جتري خارج لبنان فتم �إخ�ضاعها لقانون‬ ‫�أن تعر�ض للفح�ص على ال�سلطة نظامها (م ‪ .)4‬وجاء الدولة التي جرت يف ظل �أحكامه (مكان العقد) ومت تنفيذها‬ ‫يف امل��ادة (‪( )10‬املعدلة بالقرار ‪ 146‬تاريخ ‪ 18‬يف لبنان بو�صفها عقود ًا مدنية وخا�ضعة للمحاكم املدنية‪.‬‬ ‫ت�رشين الثاين ‪ )1938‬ما يلي‪ :‬يخ�ضع ال�سوريون �أم��ا �أبناء اجلماعات غري املعرتف بها‪ ،‬وهي عدة‬ ‫واللبنانيون املنتمون �إىل الطوائف املعرتف بها ذات جماعات خارج الطوائف التاريخية‪ ،‬فخ�ضعت كذلك يف‬ ‫الأحوال ال�شخ�صية‪ ،‬لنظام طوائفهم ال�رشعي يف الأمور لبنان �إىل احلق العادي املدين (هناك طوائف لي�س لها‬ ‫املتعلقة بالأحوال ال�شخ�صية‪ ،‬ولأحكام القانون املدين �أنظمة وحماكم)‪ .‬لكن مبا �أن اللبنانيني يخ�ضعون لتنظيم‬ ‫يف الأمور غري اخلا�ضعة لهذا النظام‪.‬‬ ‫�أحوالهم ال�شخ�صية �إىل �أنظمة الطوائف وعليه يجري قيد‬ ‫ يخ�ضع ال�سوريون واللبنانيون املنتمون �إىل طائفة تابعة وثائقهم يف خانة �إحدى الطوائف‪ ،‬فهم بذلك يخ�ضعون‬ ‫للحق العادي‪ ،‬وكذلك ال�سوريون واللبنانيون الذين ال لأنظمتها حكم ًا باعتبار �أن القانون نظّ م �ش�ؤونها‪ .‬وعليه‬ ‫ينتمون لطائفة ما‪ ،‬للقانون املدين يف الأمور املتعلقة بالأحوال ال يجيز التقليد ال�سائد عقد زواج بني لبناين ولبنانية‬ ‫ال�شخ�صية‪� ،‬أما الأجانب‪ ،‬و�إن كانوا ينتمون �إىل طائفة معرتف غري منتميني �إىل احدى الطوائف �إلاّ وفق �أنظمة الطوائف‬ ‫بها ذات نظام للأحوال ال�شخ�صية‪ ،‬ف�إنهم يخ�ضعون يف وحتت �سلطة حماكمها‪ .‬غري �أن ذلك ال مينع قانون ًا االعرتاف‬

‫ ‪ 11‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬


‫بعقد زواج (مدين) �إذا مت بني �شخ�صني ال ينتميان قانون ًا‬ ‫�إىل �أي من الطوائف املعرتف بها قانون ًا‪.‬‬ ‫ انطالق ًا من هذا احلق ح�صل عقد زواج ن�ضال دروي�ش‬ ‫وخلود �سكرية مدني ًا بعدما تخلّيا عن انتمائهما قانون ًا (�أي‬ ‫يف دوائر الأحوال ال�شخ�صية) لنظام طائفتهما ال�شخ�صي‬ ‫دون �أن يعني ذلك خروجهما من التزامهما الديني او‬ ‫تخليهما عن �إميانهما‪ .‬لأن العربة يف التعامل القانوين هي يف‬ ‫قيود وثائق الأحوال ال�شخ�صية الر�سمية ال يف ال�ضمائر‪.‬‬ ‫ وال جدال قانوني ًا يف �صحة هذا الإجراء‪ ،‬للأ�سباب التالية‪:‬‬ ‫ال‪ :‬لأن الد�ستور اللبناين يعترب حرية املعتقد مطلقة‬ ‫�أو ً‬ ‫وي�ستطيع �أي لبناين الإعالن �أو عدم الإعالن عن هذا‬ ‫االعتقاد‪� ،‬سواء �أكان ارتباط ًا بطائفة �أم خروج ًا منها‪ .‬وقد‬ ‫ت�أكد ذلك يف القانون الذي يبيح تغيري طائفة �أو مذهب �أي‬ ‫لبناين ب�إرادته املنفردة وموافقة املرجع الطائفي �أو الديني‬ ‫الذي يريد االنت�ساب �إىل طائفته �أو دينه �أو مذهبه‪.‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬لأن هناك خانات يف قيود وثائق الأحوال ال�شخ�صية‬ ‫لفئات من غري املنت�سبني �إىل الطوائف املعرتف بها‪ ،‬وه�ؤالء‬ ‫يخ�ضعون للحق العادي �أو املدين‪.‬‬ ‫ثالث ًا‪ :‬لأن هناك �إقرار ًا قانوني ًا ب�إخ�ضاع العقود اجلارية يف‬ ‫اخلارج ويجري تنفيذها يف لبنان �إىل القانون املدين‪.‬‬ ‫لكن ال�س�ؤال الذي يطرح هو التايل‪� :‬إذا كانت العقود التي‬ ‫جتري يف اخلارج تخ�ضع لنظام الأحوال ال�شخ�صية الذي‬ ‫تتم يف ظله‪ ،‬فهي �إذا انعقدت يف لبنان لي�س هناك نظام‬ ‫يحددها‪ .‬ف�إىل �أي نظام تخ�ضع؟ واجلواب دون تردد هو �أن‬ ‫�أحكام ومفاعيل هذا الزواج تخ�ضع للنظام الذي يختاره‬ ‫ان العقد �رشعة املتعاقدين)‪.‬‬ ‫طرفا العقد (باعتبار ّ‬ ‫ ف�إذا مل يكن ما مينع من تنظيم عقد زواج مدين يف‬ ‫لبنان كما �أ�رشنا �أعاله‪ ،‬فلي�س من م�س�ؤولية املتعاقدين‬ ‫ق�ص امل�رشع اللبناين عن و�ضع قانون مدين لأحكام‬ ‫�إذا رَّ‬ ‫ومفاعيل هذا العقد‪ .‬فالأ�صل يف العقد هو احلرية‬ ‫(الرتا�ضي) والأهلية التي يحددها القانون املدين (ثماين‬ ‫ع�رشة �سنة) فيمكن لطريف العقد تنظيمه يف ما بينهما‬ ‫�رشط عدم �إخالله بالنظام العام والآداب العامة‪� ،‬أ�سوة‬ ‫ب�رشوط �أي تعاقد مدين �آخر‪.‬‬ ‫النظام العام والآداب العامة‬ ‫�إن النظام العام يف دولة تعترب ال�رشيعة الإ�سالمية مرجع ًا‬ ‫�أ�سا�سي ًا للت�رشيع ال يفرت�ض عدم جواز خمالفة �أحكام‬ ‫ال�رشيعة يف العقود التي جتري خارج ال�سيادة الوطنية‪.‬‬ ‫ففي القانون الدويل اخلا�ص تخ�ضع العقود ملكان ن�شوئها‬

‫ ‪ 12‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫وتنفيذها يف دولة الإقامة حتى لو خالفت �أحكام ال�رشيعة‪.‬‬ ‫وعلى هذا �سار االجتهاد امل�ستقر يف جميع البلدان‪ ،‬يف‬ ‫لبنان (حيث ال متثل ال�رشيعة م�صدر ًا للت�رشيع) ويف م�رص‬ ‫حيث متثل ال�رشيعة م�صدر ًا �أ�سا�سي ًا للت�رشيع‪.‬‬ ‫ وقد ق�ضت حمكمة النق�ض امل�رصية مبا يلي‪ :‬ال يجوز‬ ‫ا�ستبعاد �أحكام القانون الأجنبي الواجبة التطبيق �إلاّ �أن‬ ‫تكون هذه الأحكام خمالفة للنظام العام �أو للآداب العامة يف‬ ‫م�رص ب�أن مت�س كيان الدولة �أو تتعلق مب�صلحة عامة و�أ�سا�سية‬ ‫للجماعة‪ .‬وال يدخل يف هذا النطاق اختالف �أحكام القانون‬ ‫الأجنبي عن �أحكام القانون الوطني يف حتديد املقدار الذي‬ ‫جتوز الو�صية فيه بالن�سبة �إىل غري امل�سلمني (د‪ .‬ه�شام �صادق‬ ‫– درا�سات يف القانون الدويل اخلا�ص – �ص ‪– 246‬‬ ‫الدار اجلامعية – ط ‪ 1981‬بريوت)‪.‬‬ ‫ من الوا�ضح �أن��ه ي�ستحيل يف وقتنا احلا�رض جعل‬ ‫ال�رشائع الدينية مطلقة ال�صالحية والتنفيذ‪ ،‬مهما كان ر�أينا‬ ‫فيها‪� .‬أ�صبحت معار�ضة اجلماعات الطائفية لإقرار قوانني‬ ‫مدنية للأحوال ال�شخ�صية جمرد تعقيدات تواجه احلريات‬ ‫العامة والفردية‪ ،‬وتدفع بالنا�س �إىل «التحايل» على هذه‬ ‫الأنظمة �أو املداورة يف جتاوزها‪� ،‬أو اللجوء �إىل القوانني غري‬ ‫الوطنية لتجنب اخل�ضوع لها‪ .‬ويف الواقع العملي نحن �أمام‬ ‫حالة فو�ضى يف احلرية وتع�سف يف تطبيق مبد�أ امل�ساواة‪.‬‬ ‫فحيث ميكن لل�شخ�ص من الناحية املادية �أن يرف�ض تطبيق‬ ‫هذه الأنظمة ي�ستطيع ذلك‪ ،‬بينما ال ي�ستطيع الآخرون‪.‬‬

‫ ‪ 3‬ـ تتخذ الدول التدابري الكفيلة بت�ساوي حقوق‬ ‫الزوجني وواجباتهما لدى التزويج وخالل قيام الزوجية‬ ‫ولدى انحالل الزواج وكذلك حماية الأوالد‪.‬‬ ‫ وقد �ضمنت اتفاقية الق�ضاء على جميع �أ�شكال التمييز‬ ‫�ضد املر�أة‪� ،‬إدماج مبد�أ امل�ساواة يف الد�ساتري بني الرجل‬ ‫واملر�أة (م ‪ .)1‬وتعرتف الدول الأطراف للمر�أة بامل�ساواة‬ ‫مع الرجل �أمام القانون (م ‪ )15‬وين�سحب ذلك طبع ًا على‬ ‫ال عن احلقوق الأخرى‪ .‬لكن هذه‬ ‫�أحكام منح اجلن�سية ف�ض ً‬ ‫احلقوق ال تلغي طبع ًا حرية االعتقاد‪ ،‬لذا تقوم الدول ب�إقرار‬ ‫قوانني �أحوال �شخ�صية مدنية توفر ال�ضمانات املذكورة‬ ‫وترتك للأ�شخا�ص ان يختاروا‪� ،‬إذا رغبوا قوانني طوائفهم‪.‬‬ ‫ لكن القبول بالأنظمة الطائفية ال يحول دون تطبيق‬ ‫القوانني التي ت�شكل نظام ًا عام ًا للمجتمع‪ .‬فالأرجحية‬ ‫والأف�ضلية والأولوية هي للقوانني املدنية العامة ولي�ست‬ ‫للقانون اخلا�ص‪ .‬وعلى الدولة �أن حتمي هذه احلقوق �إذا‬ ‫تعر�ضت لالنتهاك من قبل الأنظمة اخلا�صة وال�سلطات‬ ‫القائمة على تطبيقها‪.‬‬ ‫ �إن الد�ستور اللبناين �أكد منذ العام ‪ 1926‬يف املادة‬ ‫‪ 9‬منه �أن الدولة حترتم حقوق الطوائف‪ ،‬وهي بالتايل‬ ‫التي تنظم هذه احلقوق ولي�ست الطوائف من يدير وينظم‬ ‫الدولة‪ .‬ثم جاءت مقدمة الد�ستور املعدل عام ‪1990‬‬ ‫ت�ؤكد التزام لبنان ميثاق حقوق الإن�سان واملواثيق امللحقة‪،‬‬ ‫و�ألزمت الدولة تطبيقها يف جميع امليادين‪ .‬ومن الوا�ضح‬ ‫�أن مقدمة الد�ستور جاءت مبثابة �رشعة وطنية ذات قيمة‬ ‫ال‬ ‫�أكرب من مواد الد�ستور العادية �أو �أية قوانني �أخرى‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫عن �أن لبنان ملتزم مبيثاق حقوق الإن�سان والعهد الدويل‬ ‫اخلا�ص باحلقوق املدنية وال�سيا�سية‪ ،‬الأمر الذي يوجب‬ ‫عليه �إعطاء مفعول جدي لهذه احلقوق‪.‬‬

‫حقوق الإن�سان‬ ‫ت�شكل �أنظمة الأحوال ال�شخ�صية الطائفية انتهاكات‬ ‫متعددة حلقوق الإن�سان‪ ،‬فهي ال ت� ّؤمن امل�ساواة بني‬ ‫املواطنني �أمام القانون‪ .‬وال حترتم املعايري الدولية للق�ضاء‬ ‫العادل لأن مرجعها الق�ضاء اخلا�ص واال�ستثنائي‪ .‬وال‬ ‫قيودا على‬ ‫حترتم حرية االعتقاد املطلقة لأنها تفر�ض‬ ‫ً‬ ‫بيئات الزواج‪ ،‬وال احلق يف احلياة وكرامة و�سلطة الإن�سان‬ ‫على ج�سده‪ ،‬وتن�شئ �أو�ضاع ًا متييزية بني الذكر والأُنثى‬ ‫وتقيد‬ ‫يف احلقوق الطبيعية كما يف احلقوق املادية العينية‪ّ ،‬‬ ‫حرية االختيار يف الزواج ومفاعيله و�آثاره‪.‬‬ ‫ لذا ن�صت ال�رشعة الدولية حلقوق الإن�سان يف املادة‬ ‫‪ 23‬منها على‪:‬‬ ‫ ‪ 1‬ـ الأ�رسة هي الوحدة اجلماعية الطبيعية والأ�سا�سية‬ ‫يف املجتمع‪ ،‬ولها حق التمتع بحماية املجتمع والدولة‪.‬‬ ‫ ‪ 2‬ـ يكون للرجل واملر�أة ابتدا ًء من بلوغ �سن الزواج‪،‬‬ ‫حق معرتف به يف الزواج وت�أ�سي�س �أ�رسة‪.‬‬

‫القانون املدين‬ ‫يف احلال اللبنانية كثري ًا ما يقال �إن القانون املدين االختياري‬ ‫للأحوال ال�شخ�صية ي�شكل �أحد عناوين معاجلة امل�س�ألة‬ ‫الطائفية‪ .‬هذا اخلط�أ ال�شائع يجب �إزالته من الأذهان‪� .‬إن‬ ‫القانون املدين االختياري يق�صد منه يف هذا الر�أي ت�سهيل‬ ‫عملية الزواج املختلط بني �أبناء الطوائف املتعددة‪ .‬مل مينع‬ ‫هذا ولن مينع التداعيات الطائفية‪ ،‬لأن مئات الآالف من‬ ‫اللبنانيني هم يف حالة زواج خمتلط بني الأديان والطوائف‬ ‫واملذاهب ب�رصف النظر عن القانون املدين‪.‬‬ ‫ ال �شك يف �أن ثقافة االعرتاف الطائفي بالآخر هي‬ ‫بند من بنود املعاجلة �أو �إجراء ب�سيط من �إجراءاتها‪ .‬كما‬

‫ ‪ 13‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫�أن التعارف واالختالط والأ�رس املختلطة‪� ..‬أمور ت�ساعد‬ ‫وال �شك على �إزالة بع�ض الآثار النف�سية حلاالت اجلهل‬ ‫املتبادل و�إنكار امل�ساواة مع الآخر يف حقوق الزواج‪.‬‬ ‫ كذلك وجود قانون مدين ومرجعيات ق�ضائية مدنية‬ ‫يخفف من �سلطة رجال الدين وت�أثريهم على النا�س من‬ ‫الناحية االجتماعية‪ .‬فهناك جمهور من النا�س يلتزم‬ ‫تقاليد اجتماعية معينة وي�صبح �أ�سري ًا لها باعتبارها‬ ‫�سلطة عليا ل�سلوكه حتى لو كان غري قابل بالكثري من‬ ‫�أحكامها واعتباراتها‪.‬‬ ‫ �إال �أن القانون املدين يكت�سب �أهميته بو�صفه ت�أكيد ًا‬ ‫ل�سلطان الدولة و�سيادة ال�شعب ومرجعية الدولة على‬ ‫�أي �سلطة �أو مرجعية �أخرى وهو ما ميثل ثقافة حمائية‬ ‫ل�سلوك املواطن‪ .‬ففي هذا الإج��راء اع�تراف بالعالقة‬ ‫املبا�رشة بني املواطن والدولة وتعزيز حلقوق املواطنة‬ ‫على ح�ساب مفهوم رعايا الطوائف‪.‬‬ ‫ال لقلب املعادلة القائمة الآن‬ ‫ وميثل هذا الإجراء مدخ ً‬ ‫وي�ستمدون حقوقهم‬ ‫على اعتبار الأفراد رعايا يف طوائفهم‬ ‫ّ‬ ‫من حقوقها يف نظام �شامل يت�أكد يف التمثيل ال�سيا�سي‬ ‫وامل�شاركة يف احلياة العامة‪ ،‬ويف الوظيفة‪ ،‬وقد ميتد �أحيانا ً‬ ‫�إىل املهنة وجمال العمل‪ .‬ويف تقدير دعاة القانون املدين‬ ‫االختياري �أو ال�شامل‪� ،‬أن وجود كتلة ب�رشية وازنة من‬ ‫غري امل�رصحني عن هويتهم الدينية والطائفية يفر�ض‬ ‫اجتاه ًا معاك�س ًا ملنطق التمثيل ال�سيا�سي الطائفي ويفر�ض‬ ‫ال من علمنة ال�سيا�سة �ضد نظام التمييز والرتاتب‬ ‫�شك ً‬ ‫الطائفي‪ ،‬وهذا �أمر م�ؤكد و�صحيح‪.‬‬ ‫ال يبحث ه�ؤالء عن �صيغة لتكوين طائفة �إ�ضافية م�ستقلة‬ ‫هي طائفة احلق املدين‪ ،‬بل يريدون �إظهار تناق�ض النظام‬ ‫الطائفي و�أزمته و�رضورة �إبراز الوجه املواطني للبنانيني‪.‬‬ ‫فحتى القانون االختياري (غري االلزامي وغري ال�شامل)‬ ‫يخلق كتلة �ضاغطة يف �سبيل تفكيك املنظومات الطائفية‬ ‫التي طغت على احلياة الوطنية‪ ،‬وجعلت من كل حقوق‬ ‫وحريات الأف��راد جزء ًا من متا�سكها و�صادرت بالتايل‬ ‫احلرية الفردية حل�ساب الوالء الطائفي‪.‬‬ ‫ ولقد ثبت معنا �أن امل�س�ألة الأ�سا�سية هي موازين القوى‬ ‫يف املجتمع ولي�ست الن�صو�ص‪ ،‬لأن الن�صو�ص اللبنانية‬ ‫العامة (الد�ستور) �أو اخلا�صة (قانون قيد وقوعات الأحوال‬ ‫ال�شخ�صية و�أحكامها) ت�سمح بو�ضوح ب�إقرار الزواج املدين‬ ‫بني كل الراغبني وميكن اعتبار هذا العقد مبثابة تنازل وا�ضح‬ ‫و�رصيح عن االلتزام بقوانني الأحوال ال�شخ�صية الطائفية‪.‬‬ ‫لذا يقت�ضي �أن تنظم الدولة هذا احلق وال �شيء �آخر‪.‬‬


‫هذه الريوع مئات ماليني الدوالرات �سنوي ًا الناجتة من‬ ‫العامة‬ ‫احتالل نحو ‪ 10‬ماليني مرت مربع من الأمالك‬ ‫ّ‬ ‫على ال�شاطئ والبحر‪.‬‬ ‫ مل تكن هذه اجلولة حم�صورة مبطالب املعلّمني واملوظفني‬ ‫مهم ًا‬ ‫يف �إدارات الدولة واجلي�ش و�إمنا كانت �أي�ض ًا ف�ص ً‬ ‫ال ّ‬ ‫من ف�صول ال�رصاع على �سبل متويل العجز املتنامي يف‬ ‫املوازنة «االفرتا�ضية» للدولة يف ظل عدم �إقرار �أي قانون‬ ‫لها منذ عام ‪ .2006‬فت�صحيح ال�سل�سلة وزيادة غالء‬ ‫املعي�شة لن ير ّتبا �إنفاق ًا �إ�ضافي ًا �إلاّ بقيمة ‪ 868‬مليار لرية‬ ‫يف هذا العام‪ ،‬يف حني �أن الإنفاق العام الإجمايل ارتفع‬ ‫من ‪ 17.6‬الف مليار لرية يف عام ‪ 2011‬اىل ‪20‬‬ ‫ويقدر � ْأن يبلغ ‪� 22‬ألف‬ ‫الف مليار لرية يف عام ‪2012‬‬ ‫ّ‬ ‫مليار لرية يف هذا العام‪ ،‬بينما جممل الإيرادات ال�رضيبية‬ ‫وغري ال�رضيبية املحققة يف نهاية العام املا�ضي يبلغ ‪14‬‬ ‫�ألف مليار لرية‪ ،‬ما يعني � ّأن هناك حاج ًة لت�أمني متويل ‪8‬‬ ‫�آالف مليار لرية يف هذا العام ولي�س فقط ‪ 868‬مليار‬ ‫لرية‪ ،‬وهذا غري متاح يف الأو�ضاع القائمة �إال من خالل‬ ‫طبع النقد‪ ،‬وهذا ال ين�سجم مع �أهداف ال�سيا�سة النقدية‬ ‫املعتمدة يف لبنان ولذلك هو م�ستبعد حالي ًا‪� ،‬أو من خالل‬ ‫زيادة اال�ستدانة �أو زيادة ال�رضائب‪ ،‬وهنا بيت الق�صيد‪.‬‬ ‫ ما يح�صل يف ظل هذه «احلاجة» � ّأن الظروف ت�صبح‬ ‫العامة‪� ،‬إال �أن‬ ‫م�ؤاتية لإحداث تعديالت يف ال�سيا�سات‬ ‫ّ‬ ‫طبيعة هذه التعديالت وحجمها يخ�ضعان بال�رضورة مليزان‬ ‫القوى القائم‪ ،‬والوا�ضح جد ًا �أنه ال يزال مييل كثري ًا لناحية‬ ‫تكتالت امل�صالح الريعية‪ ،‬ال �سيما يف امل�صارف والعقارات‬ ‫العامة و�شبكات التهريب‪� .‬صحيح‬ ‫واالحتكارات والأمالك ّ‬ ‫كقوة مقابلة من‬ ‫�أن هيئة التن�سيق النقابية طرحت نف�سها ّ‬ ‫خالل خطابها الداعي اىل فر�ض ال�رضائب على الريوع‬ ‫العامة ومكافحة‬ ‫وجباية الغرامات على احتالل الأمالك‬ ‫ّ‬ ‫والتهرب ال�رضيبي‪� ،‬إال �أنها مل تخ�ض هذه املعركة‬ ‫التهريب‬ ‫ّ‬ ‫فعلي ًا‪ ،‬نظر ًا لنوعية متثيلها الفئوي املح�صور يف القطاع العام‬ ‫والتعليم‪ ،‬وعدم قدرتها على تو�سيع قاعدة متثيلها يف ظل‬ ‫االنهيار �شبه التام للعمل النقابي يف القطاع اخلا�ص‪.‬‬ ‫ كان مربر ًا لهيئة التن�سيق النقابية �أن ترفع مطلب ًا وحيد ًا‬ ‫هو �إحالة م�رشوع ال�سل�سلة على جمل�س النواب‪ ،‬ولكن ال‬ ‫التحركات ال�ضاغطة حول‬ ‫بد من الإقرار �أي�ض ًا ب�أن متحور‬ ‫ّ‬ ‫هذا املطلب وعدم وجود قوى �أخرى جاهزة لالنخراط يف‬ ‫التحركات ورفع �سقف املطالب‪� ،‬سمح لأمور كثرية �أن‬ ‫هذه‬ ‫ّ‬ ‫جتمع �أ�صحاب الر�ساميل من حتقيق‬ ‫حت�صل بهدف متكني ّ‬ ‫مكوناته‪.‬‬ ‫م�صالح‬ ‫ت�صيب‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫ميكن‬ ‫تعديالت‬ ‫�أهدافه ومنع �أي‬ ‫ّ‬

‫معركة تصحيح االجور يف لبنان‬ ‫مكاسب رمزية وخاسئر فعلية‬

‫حممد زبيب‬ ‫صحايف وناشط‬ ‫اجتماعي‪،‬‬ ‫لبنان‬

‫‪� ...‬إال ارباح امل�رصفيني والعقاريني!‬ ‫«هيئة التن�سيق النقابية»‪ ،‬مهما كانت مطالبها ونتائج‬ ‫حتركها‪ ،‬م ّثلت عالمة فارقة بو�ضوح عن امل�شهد العام القائم‬ ‫ّ‬ ‫واحتماالته‪ ،‬ورمبا كانت مبثابة مفاج�أة حقيقية‪ ،‬ال �سيما يف‬ ‫اعت�صامها االخري على طريق بعبدا عندما جنحت يف‬ ‫ال�صمود واملحافظة على وحدتها على الرغم من ال�ضغوط‬ ‫جد ًا التي‬ ‫املرة االوىل منذ فرتة طويلة ّ‬ ‫الهائلة‪ ،‬لقد كانت ّ‬ ‫عمالية بتجاوز ال�ضغوط الهائلة‬ ‫تنجح فيها حركة نقابية ّ‬ ‫التي مار�سها رئي�س جمل�س النواب نبيه بري لإعالن تعليق‬ ‫هذا االعت�صام من عني التينة ع�شية جل�سة جمل�س الوزراء‬ ‫ال�شهرية يف ‪� 21‬آذار املا�ضي‪ ،‬اي اجلل�سة التي ّمت فيها‪،‬‬ ‫وبالتزامن‪ ،‬فرط احلكومة با�ستقالة رئي�سها واتخاذ القرار‬ ‫جمدد ًا ب�إحالة م�رشوع ت�صحيح �سل�سلة الرتب والرواتب‬ ‫ّ‬ ‫ال‪.‬‬ ‫على جمل�س النواب‬ ‫«املعطل» �أ�ص ً‬ ‫ك�سبت هيئة التن�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيق‬ ‫النقابية معنوي ًا ب�صمودهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫واالحت�ضان الوا�سع لهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫و�أك�سبت بع�ض الفئات االجتماعيـــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫الكثري من املعنويـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات‪،‬‬ ‫لكن هذه اجلولة ربحهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫جمدداً تكتل ا�صحاب الر�ســــــــــــــــــــــــــــــــاميل‬ ‫ يف الواقع‪ ،‬ال يزال م�رشوع ال�سل�سلة معلّق ًا‪ ،‬والهيئة‬ ‫مل حتقق مطلبها فعلي ًا‪ ،‬بل �إن ا�ضطرار جمل�س الوزراء‬ ‫�إىل اتخاذ خطوة تتيح للهيئة تعليق �إ�رضابها املفتوح‬ ‫ملدة تتجاوز ال�شهر‪ ،‬كان ينطوي على خداع‬ ‫بعد �صموده ّ‬ ‫كبري‪� ،‬إذ �إن ت�أخري �إحالة امل�رشوع على جمل�س النواب‬ ‫منذ ايلول املا�ضي و�إع�لان الإف��راج عنه مع ا�ستقالة‬

‫ ‪ 14‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫احلكومة وع�شية انتهاء والية جمل�س النواب نف�سه‪ ،‬هي‬ ‫افعال بدت مق�صودة بهدف و�ضع امل�رشوع يف مرتبة‬ ‫�أدنى من مرتبة ت�شكيل احلكومة اجلديدة والتوافق على‬ ‫قانون االنتخاب �أو التمديد و�إعادة بع�ض االنتظام اىل‬ ‫ال‪.‬‬ ‫عمل امل�ؤ�س�سات الد�ستورية‪ ...‬اي تركه م�ؤج ً‬ ‫ ك�سبت هيئة التن�سيق النقابية معنوي ًا ب�صمودها‬ ‫واالحت�ضان الوا�سع لها و�أك�سبت بع�ض الفئات‬ ‫االجتماعية الكثري من املعنويات‪ ،‬لكن للأ�سف‪ ،‬هذه‬ ‫اجلولة ربحها جمدد ًا تكتل ا�صحاب الر�ساميل‪ ،‬الذي‬ ‫ا�ستطاع حتى الآن فر�ض كل �رشوطه‪ ،‬فت�صحيح‬ ‫ميول من ال�رضائب على ارباح امل�صارف‬ ‫ال�سل�سلة لن ّ‬ ‫والفوائد واال�سهم واالرباح العقارية‪ ،‬بح�سب ما قرره‬ ‫بحجة التمويل جرى تكري�س منافع‬ ‫جمل�س الوزراء‪ ،‬بل ّ‬ ‫التجمع من خالل خف�ض‬ ‫مكونات هذا‬ ‫هائلة لبع�ض‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العامة البحرية من ‪5‬‬ ‫الغرامات على احتالل االمالك‬ ‫ّ‬ ‫ا�ضعاف الر�سم الذي ي�سدده �صاحب الرتخي�ص اىل‬ ‫�ضعف واح��د‪ ،‬وكذلك ال�سماح ا�ستثنائي ًا لل�رشكات‬ ‫واالف���راد ب��إع��ادة تقييم قيمة �أ�صولهم من اال�سهم‬ ‫والعقارات ب�رضيبة خمفو�ضة ت�تراوح ما بني ‪%1.5‬‬ ‫و‪( %3‬تبع ًا للحاالت) وذلك قبل البدء بتطبيق �رضيبة‬ ‫جديدة على �إيرادات البيوعات العقارية التي ُحددت‬ ‫أعفيت منها ال�رشكات املكلّفة ب�رضيبة‬ ‫بـ‪ %15‬فقط و� َ‬ ‫الدخل (عملي ًا معظم املتاجرين بالعقارات)‪.‬‬ ‫امل�رصح‬ ‫ اجلدير باال�شارة �أن قيمة البيوعات العقارية‬ ‫ّ‬ ‫عنها يف عام ‪ ،2012‬وبح�سب اح�صاءات وزارة املال‪،‬‬ ‫بلغت نحو ‪ 9.5‬مليارات دوالر‪ ،‬وعلى فر�ضية �أن ثلث‬ ‫البيوعات فقط ال يتم الت�رصيح عنها‪ ،‬ميكن تقدير قيمة‬ ‫البيوعات العقارية ب�أكرث من ‪ 13‬مليار دوالر‪ ،‬ن�صفها‬ ‫على الأقلّ �أرباح غري خا�ضعة لأي �رضيبة‪ .‬وي�ضاف �إىل‬

‫ ‪ 15‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫امل�رصف املركزي‪« :‬الأمر يل»‬ ‫بتاريخ ‪ ،2013/1/14‬قرر م�رصف لبنان‪ ،‬مبوجب‬ ‫ي�ضخ نحو ‪2200‬‬ ‫التعميم الو�سيط رقم ‪� ،363‬أن‬ ‫ّ‬ ‫مليار لرية من �أمواله يف امل�صارف بفائدة ال تتجاوز ‪.%1‬‬ ‫حجته للقيام بهذا العمل «الكبري» هي �إعادة حتفيز النمو‬ ‫ّ‬ ‫احلجة �ست�ستفيد امل�صارف ممّا‬ ‫بهذه‬ ‫ولكن‬ ‫االقت�صادي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ال يقلّ عن ‪ 70‬مليون دوالر �أرباح ًا �إ�ضافية جتنيها هذا‬ ‫العام من خالل �إعادة توظيف هذه املبالغ عرب قرو�ض‬ ‫لزبائنها بفائدة ت�صل اىل ‪.%5.5‬‬ ‫ لي�س هذا فح�سب‪ ،‬جرى تخ�صي�ص ‪ %60‬من‬ ‫هذه املبالغ لتمويل القرو�ض ال�سكنية امل�صممة خلدمة‬ ‫العر�ض كما هو قائم‪� ،‬أي من دون الت�أثري على نوعيته‬ ‫و�أ�سعاره واجتاهاته! وبالتايل جرى بهذه الطريقة دعم‬ ‫ال من تغرميها‪ ،‬ومت تفادي تعري�ض‬ ‫امل�ضاربات العقارية بد ً‬ ‫بع�ض زبائن امل�صارف من امل�ضاربني للخ�سائر‪.‬‬ ‫تدخل يف‬ ‫ قد يبدو للوهلة االوىل � ّأن م�رصف لبنان ّ‬ ‫هذا التوقيت ال�ستباق مفاعيل ت�صحيح �سل�سلة الرتب‬ ‫والرواتب‪ ،‬ال �سيما �أنه جاء على وقع تهويل ّ‬ ‫منظم بوجود‬ ‫جدية على ثبات �سعر ال�رصف واجتاهات و�شيكة‬ ‫خماطر ّ‬ ‫نحو ت�سجيل منو �سلبي للناجت املحلي االجمايل وانهيار‬ ‫وا�سع مل�ؤ�س�سات �صناعية وجتارية و�سياحية‪ ،‬وبالتايل جرى‬ ‫التلويح بارتفاع الفوائد وزيادة العجز يف املوازنة وزيادة‬ ‫العامة‪ ...‬مت �إيقاظ كل تلك املخاوف دفعة واحدة‬ ‫املديونية‬ ‫ّ‬ ‫«ت�رسع» يف ايلول‬ ‫�وزراء‬ ‫�‬ ‫ال‬ ‫جمل�س‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫بذريعة‬ ‫وفج�أة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫املا�ضي ب�إقرار م�رشوع قانون م� ّؤجل طيلة ‪ 15‬عاماً‪.‬‬ ‫ بب�ساطة‪� ،‬ضخ م�رصف لبنان ‪ 2200‬مليار لرية من‬ ‫املال العام لدعم �أرباح امل�صارف وامل�ضاربني العقاريني‬ ‫وبع�ض امل�ؤ�س�سات التجارية‪ ،‬يف الوقت الذي كان فيه‬ ‫جتمع �أ�صحاب الر�ساميل يحذّر من � ّأن نقل ‪ 1500‬مليار‬ ‫ّ‬ ‫العامة اىل مداخيل نحو ‪250‬‬ ‫املوازنة‬ ‫عرب‬ ‫ا‬ ‫�سنوي‬ ‫لرية‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وموظف و�أجري ومتعاقد ومتقاعد‪ ،‬ي�شكّ لون ثلث‬ ‫الف معلم‬ ‫العاملني ب�أجر‪� ،‬ستكون كارثة حقيقية!‬ ‫�أين م�صالح التجار؟‬ ‫ُيفرت�ض �ألاّ يثري ت�صحيح الأجور بعد جتميدها منذ عام‬ ‫‪ 1996‬كل هذه املخاطر‪ .‬وال عالقة لذلك باملعار�ضة‬ ‫التقليدية التي يبديها الر�أ�سماليون‪ ،‬فمعار�ضتهم لي�ست‬ ‫العن�رص احلا�سم يف اتخاذ القرار عندما يتعلق الأمر‬ ‫بح�سابات �أو�سع ترمي اىل ت�أمني ربح اجمايل يف اقت�صاد‬ ‫ال�سوق‪� ،‬أو املفا�ضلة بني امل�صالح تبع ًا مليزان القوى‪.‬‬


‫فالأجر لي�س عن�رص «كلفة» يف ح�سابات كل م�ؤ�س�سة‬ ‫فح�سب‪ ،‬و�إمنا هو القناة الرئي�سة لتمويل ا�ستهالك ال�سلع‬ ‫واخلدمات القابلة وغري القابلة للتبادل املنتجة حملي ًا �أو‬ ‫امل�ستوردة‪ .‬مبعنى � ّأن ت�صحيح الأجور يف القطاع اخلا�ص‬ ‫�أو يف القطاع العام ي� ّؤدي اىل زيادة الطلب اال�ستهالكي‪،‬‬ ‫وبالتايل لن ي�ؤ ّثر �سلب ًا على �أكرثية امل�ؤ�س�سات ال�صناعية‬ ‫والتجارية واخلدمية املختلفة‪ ،‬حتى ولو ترافق الت�صحيح‬ ‫الت�ضخم �أو زيادة ال�رضائب‪ ،‬ففي هذه احلالة تكون‬ ‫مع‬ ‫ّ‬ ‫امل�ؤ�س�سات قد ّ‬ ‫غطت «الكلفة» من زيادة الأ�سعار �أو‬ ‫زيادة الإنتاجية‪ ،‬وهذا ميكن �أن يزيد من �أرباح الكثري‬ ‫من هذه امل�ؤ�س�سات ولي�س العك�س‪ ،‬وال �سيما يف ظل‬ ‫�سوق خا�ضع لالحتكارات والكارتيالت‪.‬‬ ‫ يف احل��ال��ة اللبنانية ال��واق��ع��ي��ة‪ ،‬حيث ت�سيطر‬ ‫وتدر �أرباح ًا‬ ‫االحتكارات على ن�صف املبيعات تقريب ًا‬ ‫ّ‬ ‫قدرها البنك الدويل عام ‪ 2006‬بنحو ‪ %16‬من‬ ‫ريعية ّ‬ ‫الناجت املحلي‪� ،‬أي ما ي�ساوي اليوم �أكرث من ‪ 7‬مليارات‬ ‫ال للحاجة‬ ‫دوالر �سنوي ًا‪ ،‬تبدو ح�سابات «ال�سوق» �أكرث مي ً‬ ‫�إىل ت�صحيح الأجور‪ ،‬لأنها معززة �أي�ض ًا بوقائع �إ�ضافية‬ ‫«ظرفية» �أو «طارئة»‪ ،‬فالأو�ضاع ال�سائدة يف لبنان‬ ‫واملنطقة عموم ًا �أ�سفرت عن تراجع الطلب اخلارجي‬

‫كان ال بد من الر�ضوخ يف النهاية ملطلب هيئة التن�سيق‬ ‫النقابية ب�إحالة م�رشوع ال�سل�سلة اىل جمل�س النواب فال‬ ‫جتمع �أ�صحاب الر�ساميل � ّأن‬ ‫بد يف املقابل من �أن ي�ضمن ّ‬ ‫م�صاحله م�صونة‪ .‬وهو جنح يف حتقيق ذلك‪.‬‬

‫احلا�سمة التي كانت تفر�ض االن�ضباط على الالعبني‬ ‫الرئي�سيني‪ ،‬وهو ما ا�ضطر التجمع الذي ينتحل �صفة‬ ‫«الهيئات االقت�صادية» اىل ت�سلّم الد ّفة من جمل�س الوزراء‬ ‫(الذي ُيفرت�ض �أنه مي ّثل م�صاحله) و�إعالن «الأمر يل» ملنع‬ ‫�إحالة م�رشوع ال�سل�سلة اىل جمل�س النواب منذ �إقراره يف‬ ‫ايلول املا�ضي‪ ،‬وكان الرهان يقوم بو�ضوح على ا�ستخدام‬ ‫�صناعة «القلق» املعتادة لإيهام فئات وا�سعة ب�أن م�صاحلهم‬ ‫ّ‬ ‫واملوظفني يف الدولة التي‬ ‫تتعار�ض مع م�صالح فئة املعلّمني‬ ‫وجت�سد ال�صور النمطية عن‬ ‫ت�صور دائما ً على �أنها طفيلية‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫الف�ساد والبطالة املق ّنعة والعبء الفائ�ض‪ .‬وبالتايل كان‬ ‫الهدف عزل هيئة التن�سيق النقابية التي مت ّثل هذه الفئة‬ ‫و�إ�ضعافها متهيد ًا لإخ�ضاعها وزعزعة وحدتها و�ضع�ضعة‬ ‫قاعدتها‪� ،‬إال � ّأن ما ح�صل الحق ًا مل يكن متو ّقع ًا‪ ،‬فهيئة‬ ‫التن�سيق كانت قد ن ّفذت يف عام ‪ ،2012‬باال�ستناد‬ ‫العمال‬ ‫اىل التقرير ال�سنوي للمر�صد اللبناين حلقوق‬ ‫ّ‬ ‫واملوظفني‪� 14 ،‬إ�رضاب ًا و‪ 60‬اعت�صام ًا و‪ 4‬تظاهرات‬ ‫حا�شدة وم�ؤمترين نقابيني ومقاطعة لالمتحانات الر�سمية‪...‬‬ ‫ومل يظهر عليها الوهن بل ظهرت موجة تفاعل الفتة‬ ‫جتمع �أ�صحاب‬ ‫مع خطابها «ال�صدامي» الذي تب ّنته �ضد ّ‬ ‫الر�ساميل مبا�رشة‪ ،‬وهو ما �سمح لها بتنفيذ �إ�رضاب‬

‫�أرباح متويل عجز اخلزينة‬ ‫تدخل يف هذا الوقت‬ ‫لبنان‬ ‫م�رصف‬ ‫يبدو االعتقاد � ّأن‬ ‫ّ‬ ‫لدعم �أرب���اح امل�صارف فقط مفرط ًا يف التب�سيط‪،‬‬ ‫خ�صو�ص ًا � ّأن م�رصف لبنان مل يتوقف يوم ًا عن توفري‬ ‫ال عن‬ ‫هذا النوع من الدعم وفق �آليات �أخرى كثرية‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫امل�رصح عنها ارتفعت من‬ ‫�أن �أرباح امل�صارف ال�صافية‬ ‫ّ‬ ‫‪ 1580‬مليون دوالر يف عام ‪ 2011‬اىل ‪1620‬‬ ‫يقول تقرير جديد �صـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادر‬ ‫اخريا عن البنك الدولــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي‬ ‫ان االقت�صاد اللبنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاين‬ ‫يحتاج اىل ت�أمني وظـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــائف‬ ‫اكرث ب�ستة ا�ضعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاف‬ ‫من الوظـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــائف‬ ‫التي يو ّفرها حاليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫مليون دوالر يف عام ‪ ،2012‬وهي‪� ،‬أي امل�صارف‪ ،‬ال‬ ‫ال خطر تراجع �أرباحها حتى وفق ًا لأ�سو�أ‬ ‫تواجه �أ�ص ً‬ ‫�سيناريوهات «االنهيار» امل�شاعة‪ .‬فزيادة املديونية التي‬ ‫ت� ّؤدي اىل رفع الفوائد ت�سعد امل�صارف حق ًا‪ ،‬وهي لي�ست‬ ‫�صادقة �أبد ًا عندما تبدي قلقها يف هذا املجال لأنها فعلي ًا‬ ‫تدر على ا�صحابها وامل�ساهمني وكبار‬ ‫ال تقوم ب�أي وظيفة ّ‬ ‫املودعني كل هذه الريوع الطائلة �إال وظيفة �شفط املال‬ ‫العام‪ .‬امل�صارف‪ ،‬بجردة �رسيعة‪ ،‬حتمل �سندات خزينة‬ ‫بقيمة ‪ 46930‬مليار لرية‪ ،‬منها ‪ 27211‬مليار‬ ‫لرية ّ‬ ‫موظفة يف �سندات باللرية بفائدة تبلغ ‪،%6.58‬‬ ‫و‪ 19720‬مليار لرية يف �سندات بالعمالت االجنبية‬ ‫بفائدة تبلغ ‪ ،%7.18‬وهي ّ‬ ‫توظف ‪ 23073‬مليار‬ ‫لرية يف �شهادات الإيداع التي ُي�صدرها م�رصف لبنان‬ ‫المت�صا�ص �سيولتها الفائ�ضة بكلفة تبلغ ‪،%9.28‬‬ ‫وت�ضع ودائع لديه بقيمة ت�صل اىل ‪ 79179‬مليار‬ ‫لرية بفائدة تبلغ ‪ .%2.75‬وباال�ستناد اىل هذه املعطيات‬ ‫العلنية ال�صادرة عن «جمعية م�صارف لبنان» ميكن‬ ‫بب�ساطة االنتباه اىل � ّأن امل�صارف حت�صل على ريوع بقيمة‬ ‫ال تقل عن ‪ 7525‬مليار لرية �سنوي ًا من املال العام عرب‬

‫هيئة التن�سيق النقابية طرحت نف�سهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫كقوة مقابلة من خالل خطابهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫ّ‬ ‫الداعي اىل فر�ض ال�رضائب على الريوع وجبايــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫العامــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫لغرامات على احتالل االمالك‬ ‫ّ‬ ‫والتهرب ال�ضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــريبي‬ ‫ومكافحة التهريب‬ ‫ّ‬ ‫ال�سياح واللبنانيني‬ ‫الناجت ب�شكل خا�ص من انفاق‬ ‫ّ‬ ‫املقيمني يف اخلارج و�رشاء العقارات املبنية والت�صدير‬ ‫عرب الرب‪ ...‬وبالتايل يحتاج االقت�صاد وم�ؤ�س�ساته ب�إحلاح‬ ‫اىل تعوي�ض هذا الرتاجع عرب حتفيز الطلب املحلي‪،‬‬ ‫جدية‪ ،‬وهذا متام ًا ما برر‬ ‫و�إلاّ ف�ستكون هناك م�شكّ الت ّ‬ ‫بالتدخل عرب �ضخ الت�سليفات‬ ‫به م�رصف لبنان خطوته‬ ‫ّ‬ ‫املدعومة اىل امل�صارف ومنها اىل الزبائن‪ .‬لقد قام‬ ‫جتمع ا�صحاب الر�ساميل‬ ‫بـ»العمل» نف�سه الذي يبذل ّ‬ ‫كل مقاومة ميتلكها ملنع القيام به عرب ت�صحيح االجور‬ ‫و�سل�سلة الرتب والرواتب!‬ ‫تدخل م�رصف لبنان يف هذا‬ ‫ ي�صعب التعامل مع ّ‬ ‫عما كان يح�صل على «اجلبهة»‪ ،‬فالنظام‬ ‫التوقيت مبعزل ّ‬ ‫املتحكّ‬ ‫مني به وغياب «الو�صاية»‬ ‫مرتبك بفعل �رصاعات‬

‫ ‪ 16‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫مفتوح ا�ستمر �أكرث من �شهر و�شمل معظم �إدارات الدولة‪.‬‬ ‫م�ستعد ًا كفاية لهذا‬ ‫جتمع �أ�صحاب الر�ساميل‬ ‫ّ‬ ‫ مل يكن ّ‬ ‫ال�سياق‪ ،‬اعتقد يف البداية �أنه �سيواجه جولة �أ�صعب‬ ‫ال من جولة ت�صحيح الأج��ور يف القطاع اخلا�ص‬ ‫قلي ً‬ ‫التي مت فيها �إخ�ضاع االحتاد العمايل العام مل�شيئته‪.‬‬ ‫حترك ًا نقابي ًا حقيقي ًا قادر ًا على التفلّت‬ ‫ا�ستبعد �أن يواجه ّ‬ ‫من قب�ضة الزعامات ال�سيا�سية‪ ...‬عندما بد�أت ال�صورة‬ ‫تتو�ضح يف �أواخر العام املا�ضي‪� ،‬سارع م�رصف لبنان‬ ‫ّ‬ ‫جتمع �أ�صحاب الر�ساميل‪� ،‬إذ �إن �ضخ‬ ‫اىل‬ ‫ّ‬ ‫التدخل ل�صالح ّ‬ ‫التجمع مزيد ًا من الوقت‬ ‫ال�سيولة يف ال�سوق �سيمنح هذا‬ ‫ّ‬ ‫مكوناته املختلفة بتو�سيع مروحة‬ ‫قبل �أن تبد�أ م�صالح ّ‬ ‫اخليارات على امل�ستوى ال�سيا�سي‪ ،‬يف جمل�س الوزراء �أو‬ ‫يف جمل�س النواب‪ .‬الوقت كان ي�شكّ ل هدف ًا ثمين ًا‪ ،‬ف�إذا‬

‫ ‪ 17‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫متويل العجز يف املوازنة ومراكمة اخل�سائر يف ميزانية‬ ‫م�رصف لبنان! ما يعني �أن الفوائد التي ُتعترب اليوم �أداة‬ ‫�إعادة التوزيع الرئي�سة امل�ستعملة لزيادة تركّ ز الرثوة‬ ‫منوها وتراكمها‪ ،‬ينتج‬ ‫ّ‬ ‫مبعدالت �أ�رسع و�أكرب بكثري من ّ‬ ‫جزء مهم منها عرب افتعال ال�ضغوط املالية والنقدية التي‬ ‫تتحملها‬ ‫ت� ّؤدي اىل تربير رفع �أ�سعار الفائدة‪� ،‬سواء التي‬ ‫ّ‬ ‫يتحملها م�رصف لبنان‬ ‫املوازنة لتغطية العجز �أو التي‬ ‫ّ‬ ‫ل�ضمان ا�ستمرار تثبيت �سعر ال�رصف يف ظل دولرة‬ ‫جد ًا وتكاد تكون �شبه �شاملة‪.‬‬ ‫مرتفعة ّ‬ ‫ كذلك‪ ،‬ال تعاين امل�صارف اللبنانية من نق�ص‬ ‫تدخل م�رصف لبنان‪� ،‬إذ تفيد‬ ‫يف ال�سيولة ي�ستدعي‬ ‫ّ‬ ‫الإح�صاءات املعلنة حتى نهاية العام املا�ضي ب�أن قيمة‬ ‫ال�سيولة التي بحوزتها تبلغ نحو ‪ 44.4‬مليار دوالر‪،‬‬ ‫ومبا �أنها غري ملزمة باالحتفاظ ب�أكرث من ‪ %30‬من‬ ‫ودائعها‪� ،‬أي نحو ‪ 38.1‬مليار دوالر‪ ،‬فهذا يعني � ّأن‬ ‫ال�سيولة الفائ�ضة لديها والقابلة للتوظيف فور ًا تبلغ‬ ‫‪ 6.3‬مليارات دوالر‪ .‬وبالتايل كان يجب �أن ُترتك لتقوم‬ ‫بوظيفتها يف متويل القرو�ض للزبائن ب�أكالف مقبولة‬ ‫منهم ال �أن يقوم م�رصف لبنان بهذه الوظيفة عنها‪.‬‬ ‫عجز عن خلق وظائف جديدة‬ ‫ي��درك الالعبون الرئي�سيون �أن ت�صحيح الأج��ور‬ ‫�سيح�صل و�سيتكرر‪ ،‬لي�س فقط لأن هيئة التن�سيق قادرة‬ ‫على ا�ستئناف �ضغوطها حتت هذا العنوان‪ ،‬بل �أي�ض ًا‬ ‫لأن النموذج االقت�صادي املرتكز كثري ًا على التدفقات‬ ‫اخلارجية لزيادة الودائع ومتويل العجز واال�ستهالك بات‬ ‫حتت �ضغوط هائلة‪� ،‬أوال ً ب�سبب نتائجه ال�سلبية الوا�ضحة‬ ‫على �سوق العمل‪ ،‬وال �سيما على �صعيد ارتفاع البطالة‬ ‫بني ال�شباب اىل �أكرث من ‪ ،%34‬ثم ب�سبب الأو�ضاع‬ ‫القائمة يف املنطقة العربية واملتغريات التي تفر�ضها‪ ،‬وال‬ ‫�سيما على الدور الذي انغم�س فيه لبنان خلدمة اقت�صاد‬ ‫�إقليمي ريعي مل يعد يحتاج �إليه �إال يف جماالت هام�شية‬ ‫وم�رضة‪ ،‬تت�ضمن اخلدمات ال�سيا�سية والنفعية وخدمات‬ ‫ّ‬ ‫تبيي�ض االموال ‪ ...‬يقول تقرير جديد �صدر �أخري ًا عن‬ ‫البنك الدويل بعنوان «احلاجة اىل توفري وظائف منا�سبة»‬ ‫�إن االقت�صاد اللبناين يحتاج �إىل ت�أمني وظائف �أكرث ب�ستة‬ ‫�أ�ضعاف من الوظائف التي يو ّفرها حالي ًا‪ ،‬وذلك على‬ ‫الرغم من �ضعف امل�شاركة االقت�صادية‪� ،‬إذ �إن ‪ %47‬فقط‬ ‫من الذين يف �سن العمل ين�شطون فعلي ًا‪ ،‬وعلى الرغم‬ ‫من الهجرة التي و�صل ر�صيدها يف العقدين املا�ضيني‬



‫�إىل �أكرث من ‪ 400‬الف مهاجر‪� ،‬أكرثيتهم من العمالة‬ ‫ب�شدة ويخلق توترات‬ ‫املاهرة‪ .‬لقد بد�أ هذا الواقع ي�ضغط ّ‬ ‫ميت�صها االنق�سام ال�سيا�سي واال�صطفاف املذهبي حتى‬ ‫ّ‬ ‫الآن‪ ،‬فاالقت�صاد فعلي ًا ال يو ّفر فر�ص العمل املطلوبة‬ ‫وب�أجور مقبولة‪ ،‬ويرمي ب�أكرث من ‪ %50‬من القوى‬ ‫العاملة يف ن�شاطات غري نظامية يفتقرون فيها �إىل �أي‬ ‫نوع من �أنواع احلماية‪ .‬لقد منا الناجت املحلي الإجمايل‬

‫و�رشوطه �شبه التعجيزية لفئات وا�سعة من العمالة غري‬ ‫املاهرة وفئات من فائ�ض العمالة املاهرة التي تواجه‬ ‫جدية يف احل�صول على الوظائف املتنا�سبة‬ ‫�صعوبات ّ‬ ‫مع التخ�ص�ص �أو احل�صول على الأجور التي تعتربها‬ ‫منا�سبة �أو مقبولة‪� ،‬سواء يف القطاع العام �أو يف �رشكات‬ ‫القطاع اخلا�ص �أو يف العمل للح�ساب اخلا�ص (متخرجو‬ ‫اجلامعة اللبنانية مثالً)‪.‬‬

‫�إن ن�سبة ال َأجراء النظــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاميني‬ ‫تدنّت اىل ‪ %29‬فقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــط‬ ‫من القوى العاملـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‪،‬‬ ‫ن�صفهم تقريبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ًـا‬ ‫يعملون يف �إدارات الدولة وم�ؤ�س�ساتهــــــــــــــــــــــا‬

‫«الدولة تاجر فا�شل»‬ ‫يف حالتها القائمة‪ ،‬مل تعد الدولة قادرة على ا�ستيعاب‬ ‫املزيد من «عمالة» ال حتتاج �إليها‪ ،‬ففي ذروة اجلنوح‬ ‫�إىل توزيع الدولة كغنائم بعد احلرب كان ي�صار �إىل‬ ‫اال�ستعا�ضة عن مهام كثرية ت� ّؤديها الدولة ب�أخرى‬ ‫ت� ّؤديها ال�رشكات اخلا�صة‪ ،‬وكان ذلك يفر�ض تدمري‬ ‫العامة تدمري ًا منهجي ًا لتربير عجزها عن القيام‬ ‫الإدارة‬ ‫ّ‬ ‫مبهامها‪ .‬فجرى ترويج و�صف للدولة على �أنها «تاجر‬ ‫ال وا�سع ًا‪ ،‬وجرى‬ ‫فا�شل»‪ ،‬وقد القى هذا الو�صف �إقبا ً‬ ‫الت�شكيك بقدرة الدولة على �إدارة وت�شغيل و�صيانة‬ ‫مرافق االت�صاالت والكهرباء واملياه والنقل ومباين‬ ‫ال��وزارات وم�ؤ�س�سات اال�ست�شفاء والتعليم وجمع‬ ‫النفايات ومعاجلتها‪ ،‬وتنفيذ الأبحاث العلمية و�إقامة‬ ‫املختربات وتخطيط املدن والطرقات و�إن�شاءات البنى‬ ‫العامة من‬ ‫التحتية‪ .‬لقد ُمنعت الإدارات وامل�ؤ�س�سات‬ ‫ّ‬ ‫تلبية حاجاتها الفعلية ملعاجلة ال�شغور يف مالكاتها ومت‬ ‫ملء جزء من هذا ال�شغور عرب �صيغ التوظيف امل�ؤقتة‬ ‫ومقدمو‬ ‫(� َأج��راء ومتعاقدون وميامون �أو م�ست�شارون‬ ‫ّ‬ ‫خدمات)‪ ،‬ويف الوقت نف�سه مت نقل اكرثية املهام التي‬ ‫ميكن �أن حتتاج اىل عمالة من هذا النوع �إىل �رشكات‬ ‫من خارج القطاع العام‪ ،‬وبع�ضها يعتمد على عمالة‬ ‫ال و«النقل‬ ‫اجنبية كثيفة («�سوكلني» و� َأخواتها مث ً‬ ‫امل�شرتك» و�أعمال ت�شغيل و�صيانة معامل الكهرباء‬ ‫وخدمة املباين احلكومية واجلامعة اللبنانية واملواقع‬ ‫الطبيعية والأثرية‪ ..‬و�آخرها خدمات توزيع الكهرباء‬ ‫املح�صلة‪� ،‬ساهم هذا التالزم‪ ،‬يف ظل‬ ‫واجلباية)‪ .‬يف‬ ‫ّ‬ ‫املنحى الريعي لالقت�صاد‪ ،‬يف املزيد من الت�شويه ل�سوق‬ ‫العمل وبنية الأجور فيه و�شجع على التفلّت من تطبيق‬ ‫قوانني العمل وال�ضمان االجتماعي‪� .‬إذ يجدر االنتباه‬ ‫اىل �أن ن�سبة الأجراء النظاميني تد ّنت اىل ‪ %29‬فقط‬ ‫من القوى العاملة‪ ،‬ن�صفهم تقريب ًا يعملون يف �إدارات‬ ‫الدولة وم�ؤ�س�ساتها‪ .‬وهذا م�ؤ�رش �سلبي بكل املقايي�س‬

‫معدل الت�شغيل مل‬ ‫مبتو�سط �سنوي يبلغ ‪� ،%3.7‬إلاّ � ّأن ّ‬ ‫يرتفع �إال مبقدار ‪ %1.1‬فقط‪ ،‬وهناك ‪ %50‬من اللبنانيني‬ ‫من دون �ضمان �صحي و‪ %75‬من دون �ضمان �شيخوخة‪.‬‬ ‫ ال �شك يف �أن ه��ذه امل ��ؤ��ّش رّ ات �ضاغطة بذاتها‪،‬‬ ‫وهي لي�ست جمرد �أرقام‪ ،‬فال�صيغ ال�سابقة المت�صا�ص‬ ‫�ضغوط �سوق العمل مل تعد قابلة لال�ستدامة‪ ،‬وال �سيما‬ ‫اعتمدت يف امل�ؤ�س�سات‬ ‫�صيغ التوظيف امللتوية التي ُ‬ ‫العامة والبلديات و�إدارات الدولة ومدار�سها وجامعتها‬ ‫ّ‬ ‫و�أ�سالكها الدبلوما�سية والق�ضائية والأمنية والع�سكرية‪،‬‬ ‫�إذ لي�س هناك جدل حول حقيقة � ّأن القوى ال�سيا�سية‬ ‫امل�سيطرة ت�سابقت على �رشاء الوالءات من جماعاتها‬ ‫عرب حتويل وظيفة الدولة �إىل �أداة «توزيع» �ضخمة‪.‬‬ ‫للأ�سف هذا ي�شمل «�أجور ًا» و»�إنفاق ًا اجتماعي ًا»‪ ،‬لكنه‬ ‫ي�شمل �أي�ض ًا «دعم ًا» و»فوائد»‪ ،‬مبعنى � ّأن ما جرى يف‬ ‫الع�رشين �سنة املا�ضية من تركيز �إ�ضايف هائل للرثوة‪،‬‬ ‫وم�صدره الأ�سا�سي ريوع الدولة املعبرّ عنها باملديونية‬ ‫العامة القيا�سية (نحو ‪ 70‬مليار دوالر مبا فيها ديون‬ ‫ّ‬ ‫م�رصف لبنان)‪ ،‬ما كان لينجح لو مل تواكبه �أمور كثرية‪،‬‬ ‫منها امت�صا�ص جزء من منو البطالة بني ال�شباب و�ضبط‬ ‫التوترات االجتماعية و�إطفاء احلاالت النافرة منها‪.‬‬ ‫ كان ّ‬ ‫مكونات ما‬ ‫مكون ًا �أ�سا�سي ًا من‬ ‫ّ‬ ‫موظفو الدولة ّ‬ ‫ي�سمى بالطبقة الو�سطى �سابق ًا‪ ،‬فالوظيفة يف الدولة‬ ‫عدة‪ :‬احل�صانة ومعا�ش التقاعد‬ ‫كانت جتمع بني مغريات ّ‬ ‫ال عن‬ ‫وال�ضمان ال�صحي بعد التقاعد والأج��ر‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫ال‪ .‬غري � ّأن هذه‬ ‫«االنتفاع» ملن ا�ستطاع �إليه �سبي ً‬ ‫حتولت اليوم �إىل مالذ من جحيم �سوق العمل‬ ‫«الوظيفة» ّ‬

‫ ‪ 20‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫حترك ًا �رسيع ًا حر�ص ًا على قواعد دميومة‬ ‫وبات ي�ستدعي ّ‬ ‫أي�ضا ال عالقة لذلك مبواقف الر�أ�سماليني الذين‬ ‫النظام‪ .‬و� ً‬ ‫ال يرون م�شكلة يف التعامل مع اقت�صاد ال يحتاج ليعمل‬ ‫اىل «�شعب»‪ .‬يف الواقع ال ميكن ا�ستبدال كل ال�شعب‬ ‫وال ميكن �رشاء والءات كل من ال ميكن ا�ستبداله‪ ،‬لي�س‬ ‫هكذا ت�سري االمور عادة‪ ،‬فلم تبلغ الرا�سمالية بعد هذه‬ ‫املرتبة من «الكفاءة»‪ ،‬الذي يتمناه ر�أ�سماليو لبنان‪� ،‬إال‬ ‫�إذا كانوا يحلمون بالو�صول �إليها عرب التطور جمدد ًا‬ ‫الرق اىل حكم جتربة الواليات املتحدة يف‬ ‫من نظام‬ ‫ّ‬ ‫ا�ستبدال ال�سكان اال�صليني‪.‬‬ ‫العمالة الرخي�صة‬ ‫لي�س وا�ضح ًا عدد املقيمني يف لبنان غري اللبنانيني‪ ،‬لي�س‬ ‫املق�صود هنا الفل�سطينيني‪ ،‬وهم �أبرز �ضحايا التمييز‬ ‫يف �سوق العمل و�أكرثهم تعر�ض ًا لال�ستغالل‪ ،‬وال مئات‬ ‫�آالف النازحني من �سورية م�ؤقت ًا لأ�سباب �أمنية و�إن�سانية‪،‬‬ ‫بل �آالف الوافدين من بلدان �أكرث فقر ًا ّمت ا�ستقدامهم‬ ‫اىل لبنان ال�ستغاللهم ب�رشوط عمل تتنافى كلي ًا حتى‬ ‫مع �رشوط القوانني اللبنانية التي تعترب منحازة كلي ًا‬ ‫حد �أدنى من ال�ضوابط ال�شكلية‪...‬‬ ‫ل�صاحب العمل مع ّ‬ ‫لت�ضخم خدمات‬ ‫لقد �شكّ لت هذه الفر�صة حافز ًا قوي ًا‬ ‫ّ‬ ‫مربحة مل يعد �إنتاجها مكلف ًا يف ظل تنامي ظاهرة‬ ‫اال�ستغالل يف �سوق العمل‪ ،‬وجل���أت ال�صناعة �إىل‬ ‫تعوي�ض كلفة �إنتاجها املرتفعة ب�إحالل عمالة متدنية‬ ‫لتطور‬ ‫تطورها ومواكبتها‬ ‫الأجر‪ ،‬وهو ما ّ‬ ‫ّ‬ ‫حد كثري ًا من ّ‬ ‫وتنوعه‪ ،‬و�صارت الوظائف اجلديدة‬ ‫حاجات اال�ستهالك ّ‬ ‫ترتكز �شيئ ًا ف�شيئ ًا يف ن�شاطات ال حتتاج اىل عمالة‬ ‫كثيفة �أو ماهرة‪ ،‬ويف احلالتني ميكن التهديد دائم ًا ب�أنه‬ ‫ميكن احل�صول عليها من اخلارج‪ .‬وهذا ما جعل الن�سبة‬ ‫الأكرب من الوظائف التي تذهب اىل غري املقيمني يف‬ ‫لبنان تتيحها الن�شاطات اال�ستهالكية الأكرث ازدهار ًا �أو‬ ‫تلك املكفولة ريوعها من الدولة ‪ ،‬كالبناء وجتهيز البنى‬ ‫التحتية وال�سياحة واجلن�س والعتالة والتنظيف وحمطات‬ ‫ال عن وظائف جديدة‬ ‫الوقود ومواقف ال�سيارات‪ ...‬ف�ض ً‬ ‫بن�سبة �أقلّ تتيحها الن�شاطات ال�صناعية والتجارية‪.‬‬ ‫ ح�صل ذلك يف حلظة القب�ض على االحتاد العمايل‬ ‫العام يف مطلع الت�سعينيات‪ ،‬مل يكن هناك حركة نقابية‬ ‫مدمرة على كل امل�ستويات‪ ،‬لذلك‬ ‫عمالية قوية بعد حرب ّ‬ ‫ّ‬ ‫حتوالت جوهرية‬ ‫مع‬ ‫بالتزامن‬ ‫إخ�ضاعها‬ ‫�‬ ‫ال‬ ‫�سه‬ ‫كان‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫تعمق البنية‬ ‫مع‬ ‫يف بنية �سوق العمل و�رشوطه متا�شي ًا‬ ‫ّ‬

‫ ‪ 21‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫االحتكارية للتجارة وازده��ار امل�ضاربات العقارية‬ ‫واملالية وتراجع نوعية التعليم وازدي��اد وترية هجرة‬ ‫العمالة املاهرة والر�ساميل ال�صناعية‪.‬‬ ‫التدفقات النقدية والنقابات‬ ‫اليوم باتت بنية االقت�صاد ال تولّد فر�ص عمل كافية‬ ‫و�أج��ور ًا مقبولة‪ ،‬وتعاين من ه�شا�شة بالغة وت�سيطر‬ ‫عليها تكتالت امل�صالح امل�رصفية والعقارية‪ ،‬غري �أنها‬ ‫عمالية‬ ‫يف الوقت نف�سه ال تبدو مهي�أة لن�شوء نقابات ّ‬ ‫م�ستقلة وقوية وذات قاعدة متثيلية وا�سعة‪ .‬مل تعد بنية‬ ‫�سوق العمل تب�شرّ بعودة �رسيعة للعمل النقابي ّ‬ ‫املنظم يف‬ ‫�سوق العمل ب�سبب �ضعف االقت�صاد احلقيقي اىل جانب‬ ‫عوامل اال�ستتباع االخرى املمار�سة على امل�ستويني‬ ‫ال�سيا�سي واالجتماعي‪ ،‬فالأرقام مقلقة يف جمال التعبري‬ ‫الكمي عن م�أزق هذا االقت�صاد‪ ،‬وبح�سب تقرير للبنك‬ ‫ال��دويل يف �إط��ار ور�شة عمل عقدت يف ب�يروت يف‬ ‫عام ‪ ،2011‬ا�ستقبل لبنان ‪ 147‬مليار دوالر من‬ ‫التدفقات النقدية بني عامي ‪ 1992‬و‪ 2010‬ذهب‬ ‫اكرث من ‪ 121‬مليار دوالر منها لتمويل عجز امليزان‬ ‫ال ا�ضافي ًا على �أن االقت�صاد‬ ‫التجاري‪ ،‬وهذا ي�شكّ ل دلي ً‬ ‫اللبناين �صار �أكرث ارتباط ًا مبداخيل غري منتجة يف لبنان‬ ‫تخيلوا فقط مكانة امل�صارف‬ ‫لتمويل ا�ستهالك حملي‪ّ .‬‬ ‫وح�صة ال�سياحة يف اي حديث عن االقت�صاد ومدى‬ ‫ّ‬ ‫القلق الذي يثريه جمرد التفكري ب� ّأن دول اخلليج النفطية‬ ‫ال عن اجلهد املبذول لت�صوير‬ ‫تنوي معاقبة اللبنانيني‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫ارتفاع �أ�سعار العقارات كما لو �أنه مك�سب لالقت�صاد!‬ ‫قوة نقابات‬ ‫ هذا الواقع �ساعد �أي�ض ًا على تقوي�ض ّ‬ ‫العمال‬ ‫عمالية ال ت��زال قائمة‪ ،‬وال �سيما نقابات‬ ‫ّ‬ ‫العامة التي تخ�ضع لنفوذ‬ ‫وامل�ستخدمني يف امل�ؤ�س�سات‬ ‫ّ‬ ‫القوى ال�سيا�سية امل�سيطرة على الدولة‪ ،‬ونقابة موظفي‬ ‫امل�صارف التي متكّ نت جمعية امل�صارف من جتاهلها‬ ‫حتى الآن يف مفاو�ضات جتديد عقد العمل اجلماعي‬ ‫املتوا�صلة منذ ‪� 3‬سنوات‪ ،‬فالنقابة ت�ضم عدد ًا كبرياً‬ ‫ن�سبي ًا من املنت�سبني يعملون يف امل�صارف ال�صغرية يف‬ ‫حني ان امل�صارف الثالثة الأكرب التي ت�ستحوذ على �أكرث‬ ‫من ن�صف �أرباح القطاع امل�رصيف (‪ 888‬مليون دوالر)‬ ‫ّ‬ ‫حتظر على العاملني لديها االن�ضمام اىل �أي نقابة‪ ،‬وهم‬ ‫حتى الآن يلتزمون بذلك خوف ًا من فقدان الوظائف يف‬ ‫ظل املناف�سة ال�شديدة عليها‪ .‬وهناك �أي�ض ًا نقابات املهن‬ ‫احل� ّ�رة‪ ،‬وال �سيما نقابة املهند�سني‪ ،‬التي بد�أت تواجه‬


‫�ضغوط ًا متنامية من املنت�سبني �إليها العاطلني من العمل‬ ‫�أو العاملني ب�أجر‪ ،‬وهي �ستواجه �ضغوط ًا �أكرب يف ظل‬ ‫احتماالت تراجع فر�ص العمل املتاحة يف اخلارج‪.‬‬ ‫حتركات‬ ‫ ظهر اخل�ضوع يف القطاع اخلا�ص جلي ًا يف ّ‬ ‫هيئة التن�سيق النقابية‪� ،‬إذ مل جتد روابط املعلمني يف املدار�س‬ ‫العامة حليف ًا ع�ضوي ًا واحد ًا لها‬ ‫الر�سمية وموظفي الإدارات ّ‬ ‫اخلا�صة‬ ‫املدار�س‬ ‫يف‬ ‫املعلمني‬ ‫يف القطاع اخلا�ص‪ ،‬ما عدا نقابة‬ ‫ّ‬ ‫التي علقت م�شاركتها بالإ�رضاب املفتوح بعد �أ�سبوعني‬ ‫من بدء تنفيذه على الرغم من � ّأن املنت�سبني �إليها هم من‬ ‫امل�ستفيدين مبا�رشة من �سل�سلة الرتب والرواتب وهم الفئة‬ ‫ُ‬ ‫قرت‬ ‫الوحيدة التي مل تتقا�ض بعد زيادة غالء املعي�شة التي �أ ّ‬ ‫اعتبار ًا من �شباط عام ‪ .2012‬حتى النقابة الوحيدة من‬ ‫بالتحرك الأخري‬ ‫القطاع اخلا�ص ذات امل�صلحة املبا�رشة‬ ‫ّ‬ ‫مل تكن م�شاركة فعلية فيه‪ ،‬ور�ضخت يف النهاية ل�ضغوط‬ ‫�أ�صحاب املدار�س اخلا�صة‪ ،‬وال �سيما الطائفية منها‪.‬‬ ‫جتمع �أ�صحاب الر�ساميل عن قلقه من �أن‬ ‫ّ‬ ‫ لقد عبرّ‬ ‫ي� ّؤدي انت�صار هيئة التن�سيق النقابية يف معركتها اىل‬ ‫ت�شجيع املطالبة بت�صحيح الأج��ور يف القطاع اخلا�ص‬ ‫بن�سبة ارتفاع م�ؤ�شرّ الأ�سعار يف عام ‪ 2012‬والتي‬ ‫جهز نف�سه ل��و�أد �أي حماولة‬ ‫بلغت �أك�ثر من ‪ّ .%10‬‬ ‫عمالية م�ستقلة‪ ،‬وهو ما ظهر ب�شكل فاقع‬ ‫لت�أ�سي�س نقابات ّ‬ ‫عمال وعامالت �رشكة «�سبيني�س» ومنعهم من‬ ‫يف �إرهاب ّ‬ ‫االن�ضمام اىل نقابتهم بعد فر�ض ترخي�صها مبعركة مكلفة‬ ‫� ّأدت اىل خ�سارة ‪ 4‬م�ؤ�س�سني لعملهم‪� .‬إلاّ �أن �أي �شيء‬ ‫يربر هذا القلق مل يح�صل طيلة فرتة الإ�رضاب املفتوح‪،‬‬ ‫يعد جناح ًا يف اختبار‬ ‫وال �شك يف �أن حتييد القطاع اخلا�ص ّ‬ ‫قدرة منظومة ال�ضبط على موا�صلة عملها‪.‬‬ ‫املعركة م�ستمرة‬ ‫جتمع �أ�صحاب الر�ساميل اليوم من �أجل �إبقاء‬ ‫يقاتل ّ‬ ‫ال�سيطرة التي اكت�سبها يف العقدين املا�ضيني‪ ،‬فهو يريد‬ ‫�أن تبقى م�س�ألة الأجور خا�ضعة مليزان امل�صالح التي‬ ‫تر�سخت منذ عام ‪� ،1997‬أي �أن يتعامل معها عندما‬ ‫ّ‬ ‫يكر�س اي �سابقة‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫يريد‬ ‫ال‬ ‫بانتظام‪.‬‬ ‫ولي�س‬ ‫فقط‬ ‫ي�ضطر‬ ‫ّ‬ ‫يف هذا املجال تطيح تدريجي ًا املكا�سب التي حققها عندما‬ ‫ُج ِّمدت الأجور من دون جتميد الأ�سعار التي ارتفعت‬ ‫بن�سبة جتاوزت ‪ %115‬حتى نهاية عام ‪ ،2012‬وعندما‬ ‫جمد الإنفاق اال�ستثماري يف املوازنة‪ ،‬ما �ساهم برتاجع‬ ‫ّ‬ ‫العامة واال�ستعا�ضة عنها ببدائل تزيد من كلفة‬ ‫اخلدمات‬ ‫ّ‬ ‫ملقدميها (كهرباء‪ ،‬مياه‪،‬‬ ‫ولكنها‬ ‫املعي�شة‪،‬‬ ‫تدر ريوع ًا كبرية ّ‬ ‫ّ‬

‫ ‪ 22‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫نقل‪� ،‬أدوية‪ ،‬ا�ست�شفاء‪ ،‬تعليم‪� ...‬إلخ)‪ .‬النتيجة الأ�سا�سية‬ ‫ح�صة الأج��ور من الناجت‬ ‫جت�سدت بتهاوي ّ‬ ‫لكل ذلك ّ‬ ‫املحلي من ‪ %35‬يف عام ‪� 1997‬إىل �أقل من ‪%25‬‬ ‫حالي ًا‪ ،‬علم ًا �أنها كانت تبلغ يف عقد ال�سبعينيات (ع�شية‬ ‫احلرب) نحو ‪� .%55‬إال �أن الناجت املحلي نف�سه ارتفع يف‬ ‫الفرتة نف�سها (‪ )2012 -1997‬من ‪ 16.1‬مليار‬ ‫دوالر �إىل ‪ 42.6‬مليار دوالر‪� ،‬أي �إنه ت�ضاعف مرتني‬ ‫ون�صف تقريب ًا‪ .‬ومبعنى ما‪ ،‬مت �شفط ‪ 30‬مليار دوالر يف‬ ‫هذه الفرتة من الأجور اىل الأرباح والريوع‪.‬‬ ‫ منذ معركة ت�صحيح الأج��ور يف القطاع اخلا�ص‬ ‫ال‬ ‫التي خا�ضها وزير العمل ال�سابق �رشبل نحا�س و�صو ً‬ ‫�إىل معركة هيئة التن�سيق النقابية‪ُ ،‬ت�ستكمل املعركة‬ ‫الفعلية الواقعة حول �إعادة توزيع احل�ص�ص يف الناجت‬ ‫املحلي الإجمايل‪ ،‬غري � ّأن امل�أزق الفعلي يكمن يف � ّأن‬ ‫ال نحو م�صالح التكتالت‬ ‫ميزان القوى فيها ي�ستمر مائ ً‬ ‫العمالية‬ ‫امل�رصفية والعقارية‪ ،‬لي�س ب�سبب غياب النقابات ّ‬ ‫يف القطاع اخلا�ص القادرة على فر�ض بع�ض التوازن‬ ‫املكون الريعي يف تكوين االرباح بات‬ ‫فح�سب‪ ،‬بل لأن‬ ‫ّ‬ ‫املكونات االخرى �إىل درجة ُي�صعب معها‬ ‫طاغي ًا على‬ ‫ّ‬ ‫تو ّقع ت�ضارب م�صالح بني �أ�صحاب الر�ساميل �أنف�سهم‪،‬‬ ‫وهذا ما يف�سرّ عدم ظهور اي تباين بني من يفرت�ض �أنهم‬ ‫من املنتجني وبني من يفرت�ض �أنهم ريعيون‪ ،‬يواظب اجلميع‬ ‫موحد من ق�ضايا ا�سا�سية‪ ،‬كق�ضية‬ ‫على الظهور مبوقف ّ‬ ‫فر�ض ال�رضيبة على الربح العقاري التي تفيد ال�صناعي‬ ‫والتاجر وال ت�رضهما‪� .‬إن هذه الغلبة الوا�ضحة جتعل من‬ ‫ال�صعب �أي�ض ًا تو ّقع م�سارعة القوى ال�سيا�سية امل�سيطرة‬ ‫املهمة طوع ًا‪ ،‬لي�س هناك اي‬ ‫على الدولة اىل القيام بهذه‬ ‫ّ‬ ‫دليل على وجود مثل هذا امليل‪ ،‬او على االقل هذا ما‬ ‫اثبتته حتى الآن جتربة �سل�سلة الرتب والرواتب وحتييد‬ ‫االحتاد العمايل العام كلي ًا من املعركة بعد �إفقاده �أي �صفة‬ ‫متثيلية للعمال وو�ضعه يف منزلة «اخلائن لطبقته»‪.‬‬ ‫ مل تنته معركة هيئة التن�سيق النقابية‪ ،‬ورمبا ال تزال‬ ‫يف مراحلها االوىل‪ ،‬وبالتايل ال تزال الفر�صة �سانحة ملن‬ ‫يرغب يف ا�ستلهامها من اجل تظهري حقيقة ال�رصاع يف‬ ‫لبنان‪ ...‬لي�س امر ًا طبيعيا �أ ّتا ت�ستولد مالمح بداية حراك‬ ‫جدية لإقامة اطر �سيا�سية حتمل‬ ‫ذات طابع حماوالت ّ‬ ‫م�شاريع تغيري فعلية‪� .‬إذا كان هناك جناح حقيقي حققته‬ ‫هيئة التن�سيق النقابية فهو �أن املجتمع اللبناين رمبا بات‬ ‫جاهز ًا لإطالق احلياة ال�سيا�سية جمدد ًا‪ ،‬ورمبا هذا هو الرد‬ ‫احلقيقي على �صناعة القلق امل�ستمرة من احلرب الأهلية‪.‬‬

‫ثورة مغدورة؟‬

‫االنتفاضة التونسية‪ ،‬االنتقال الدميقراطي والعنف االجتماعي‬ ‫ليىل داخيل ع�شية ‪ ١٤‬يناير ‪ ،٢٠١١‬كان رجل وحيد يف �شارع‬ ‫بورقيبة ي�صيح «بن علي هرب!»‪ 1‬معلنا االنت�صار املذهل‬ ‫باحثة يف «المركز لثورة‪ .‬يف هذه ال�صيحة كان يجب االعجاب بال�شعب‬ ‫والرتحم على املوتى‪ .‬كان وحيدا يف العتمة‪،‬‬ ‫الوطين لالحباث وحب احلرية‬ ‫ّ‬ ‫العلمية» يف فرناس‪ ،‬يف ذلك ال�شارع الذي �سوف يكت�سحه جمهور غا�ضب‬ ‫آخر مؤلفاهتا «جيل بعد �ساعات قليلة‪ .‬كان الرجل حماميا‪ ،‬واحدا بني العديد‬ ‫من المثقفني العرب من املحامني الذين دعموا الثورة بكل قواهم‪.‬‬ ‫يف سورية ولبنان‪ ،‬ي��وم ‪ ٨‬فرباير ‪ ،٢٠١٣‬بعد اك�ثر من �سنتني‪،‬‬ ‫‪ »١٩٤٠-١٩٠٨‬يف مكان �آخر من العا�صمة‪ ،‬مقربتها الرئي�سة‪ ،‬وقد‬ ‫تودع‬ ‫(‪ )٢٠٠٩‬اجتاحتها اجلموع‪ ،‬جموع حزينة وغا�ضبة‪ ،‬جاءت ّ‬ ‫حماميا ثوريا �آخر‪ ،‬هو �شكري بلعيد‪ ،‬املعار�ض العنيد‬ ‫الذي اغتيل امام منزله‪.‬‬ ‫ بني هاتني اللحظتني مل يخرج ال�شعب ليحتفل باحلرية‬ ‫وال ال�رصاخ غ�ضبا ب�صوت واحد‪ .‬فيما التعبئة تتوا�صل‪،‬‬ ‫حطت على البلد موجة من االحباط‪ .‬تعاي�ش �شعور ب�أن‬ ‫الثورة قد ُغ ِدرت مع االكت�شاف امل�شهود عليه ب�أن امل�سار‬ ‫الثوري ال يزال م�ستمرا‪ .‬كيف تف�سري هذه املفارقة؟‬ ‫ الق�سم االكرب من املعلقني ر�أوا يف فوز حزب النه�ضة‬ ‫اال�سالمي بانتخابات اكتوبر ‪ ٢٠١١‬وجه اخليانة‪ :‬ان ثورة‬ ‫�شباب‪ ،‬مهوو�سني باحلرية والعدالة قد �أجنبت م�سخا ا�سالمويا‪،‬‬ ‫حمافظا وكارها للحرية حد القتل‪ .‬وان االنتخابات الربملانية‬ ‫احلرة حملت اىل ال�سلطة خ�صوم الدميقراطية واحلرية‪.‬‬ ‫ ولكن يتبينّ من التحليل انه اذا كان ثمة من «غدر»‬ ‫بالثورة ف�إنه ال يقع بال�رضورة يف التعار�ض بني «دينيني‬ ‫حمافظني» و«تقدميني علمانيني»‪ .‬ان رد الطرفني على‬ ‫اعقابهما‪ ،‬الذي تعزف على انغامة جوقة اللعبة ال�سيا�سية‬ ‫‪http://www. 1‬‬ ‫احلزبية‪ّ ،‬‬ ‫يغطي على ال�صعوبة التي تواجهها جمموع‬ ‫‪youtube.‬‬ ‫الطبقة ال�سيا�سية يف اال�ستجابة للمطالب ال�شعبية يف‬ ‫?‪com/watch‬‬ ‫‪v=k02ZtXNWfRw‬‬ ‫العدالة االجتماعية‪.‬‬

‫ ‪ 23‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫تنا�سي الطابع االجتماعي للثورة‪ :‬جمتمع منق�سم‬ ‫اذا كانت تظاهرات دي�سمرب ‪ ٢٠١٠‬ويناير ‪٢٠١١‬‬ ‫مبثابة «املفاج�أة» للعديد من املراقبني‪ ،‬ف�إنها كانت �صدى‬ ‫للحظات قوية من االحتجاج االجتماعي وخ�صو�صا‬ ‫انتفا�ضات احلو�ض املنجمي يف قف�صة العام ‪.٢٠٠٨‬‬ ‫هذه احلركة االجتماعية الوا�سعة النطاق التي عب�أت‬ ‫العمال وعائالتهم خالل ا�شهر طويلة‪ِ ،‬‬ ‫قمعت بعنف و�سط‬ ‫ذو الالمباالة �شبه الكاملة يف �سائر انحاء البلد‪ .‬وثمة‬ ‫حلظات اخرى من االحتجاج القوي كما يف بنقردان يف‬ ‫اوغ�سط�س ‪ ،٢٠١٠‬ويف منطقة �سيدي بو زيد الزراعية‪،‬‬ ‫ويف قا�رسين وثاله يف غرب الو�سط يف دي�سمرب ‪،٢٠١٠‬‬ ‫حتى هذه مل ت�ؤد هي اي�ضا اىل اطالق «عدوى ثورية»‪.‬‬ ‫ولكن ا�ضطرابات دي�سمرب ‪ ٢٠١٠‬التي انطلقت من‬ ‫املدن املحرومة يف و�سط البالد‪ ،‬التي اعطت الدفع االول‬ ‫للثورة ال�شعبية‪ ،‬مل تكن لتختلف كثريا عن �سابقاتها‪.‬‬ ‫وهذه تلقى م�صدرها عند التقاطع بني نظام من املح�سوبية‬ ‫والف�ساد وا�سع النطاق واال�ستع�صاءات االجتماعية التي‬ ‫التنعم بحياة كرمية الئقة‪.‬‬ ‫متنع االكرثية العظمى من ّ‬ ‫ واذا كانت مدن ال�ساحل الكربى (�صفاق�س‪ ،‬املدينة‬ ‫ال�صناعية‪ ،‬واي�ضا تون�س العا�صمة) قد ان�ضمت اىل‬ ‫التمرد‪ ،‬يف �شتاء ‪ ،٢٠١١‬فقد مت ذلك بعد ثالثة‬ ‫حركة‬ ‫ّ‬ ‫ا�سابيع من ال�شغب يف داخل البلد ولأنه يف تلك اللحظة‬ ‫بالذات تقاطعت امل�صالح لتنتج االحظة الثورية التي‬ ‫�شاهدنا‪ .‬وقد مت االلتقاء ب�ضغط من املنا�ضلني النقابيني‬ ‫(مبا يف ذلك بال�ضد من قياداتهم) وبف�ضل «فاعلني»‬ ‫اقلويني هم‪ :‬نا�شطون �شباب على االنرتنت‪ ،‬فنانون‬ ‫واعالميون ومرتجمون ومنا�ضلون جمهولون‪ ،‬ملتزمون‬ ‫باحلرية والت�ضامن وامل�ساواة ‪ -‬عندما مل يكونوا ملتزمني‬ ‫بالنزعة الفو�ضوية ‪ -‬اىل جانب امل�شاغبني‪ .‬و�رسعان ما‬


‫‪ 2‬وهي مثل تربطها‬ ‫ ‬ ‫تلك النخب ذاتها‬ ‫بالهوية «التاريخية»‬ ‫لتون�س‪ ،‬هوية‬ ‫ا�سالم ا�صالحي‪،‬‬ ‫قادر على عقد‬ ‫الت�سويات‬ ‫وامل�صاحلات‬ ‫مع «احلداثة»‪،‬‬ ‫خ�صو�صا فيما‬ ‫يتعلق بو�ضع املر�أة‪.‬‬ ‫‪ 3‬اذا كان ي�صح‬ ‫ ‬ ‫القول ان حكومة‬ ‫بن علي جنحت‬ ‫يف الت�سلل اىل‬ ‫املنظمة النقابية‪،‬‬ ‫اال انها ا�ستتبعت‬ ‫بالدرجة االوىل‬ ‫القادة وبع�ض‬ ‫فروع االحتاد‪ .‬على‬ ‫ان معظم الفروع‬ ‫ظلت حمافظة على‬ ‫ا�ستقالها‪ ،‬وبع�ضها‬ ‫ت�شكلت يف جبهة‬ ‫معار�ضة من‬ ‫مثل نقابة معلمي‬ ‫الثانويني‪.‬‬ ‫‪ 4‬‬

‫‪http://www.‬‬ ‫‪kapitalis.com/fokus‬‬ ‫‪/62-national/2039‬‬‫‪tunisie-la-kasbah‬‬‫‪et-la-kobba-meme‬‬‫‪combat.html‬‬

‫ ‪ 24‬‬

‫ ويوجد الآن اذ ًا غ�ضب اجتماعي ال يهد�أ‪ .‬واىل‬ ‫هذا الغ�ضب‪ ،‬الذي ت�صاعد بقوة زمن بن علي‪ ،‬ين�ضاف‬ ‫م�شهد يزداد �شفافية من الفروقات االجتماعية وامل�صالح‬ ‫املتعار�ضة بني نخبة �ساحلية مدينية وداخ��ل البالد‪.‬‬ ‫يف ال�سابق‪ ،‬توجه هذا الغ�ضب �ضد الدكتاتورية وهو‬ ‫يتوجه الآن �ضد احلكومة القائمة‪ .‬ان العمال واملياومني‬ ‫والعاطلني من العمل مل يجدوا جوابا على قلقهم‬ ‫وخماوفهم يف ظل االنتخابات وت�شكيل حكومة جديدة‪.‬‬ ‫انهم ال يطرحون ا�سئلتهم البتة وفق م�صطلحات تتعلق‬ ‫بالدين وباحلريات وحتى بالد�ستور‪ .‬بل يتحدثون عن‬ ‫عدالة وحق وم�ساواة‪ .‬وال تزال امل�س�ألة االجتماعية يف‬ ‫�صلب امل�شكالت املطلوب معاجلتها وهي الدافع للتعبئة‬ ‫ال�شعبية‪ ،‬تتج�سد بو�ضوح متزايد يف اال�صطدام الراهن‬ ‫بني االحتاد العامل للعمال التون�سيني واحلزب احلاكم‪،‬‬ ‫وقد كانت احدى ابرز عالماته الدعوة اىل اال�رضاب‬ ‫العام (الذي جرى تنفيذه على نطاق وا�سع) يف ‪ ٨‬فرباير‬ ‫‪ .٢٠١٣‬ان دور هذا االحت��اد النقابي يف احلركات‬

‫يخيمون‬ ‫على حفظ الفوارق مع �سكان «الق�صبة» الذين ّ‬ ‫يف �ساحة مبنى رئا�سة الوزراء ‪ -‬ومن اجل دعم الغنو�شي‪،‬‬ ‫رئي�س الوزراء امل�ستقيل‪ ،‬الذي اعترب ح�سن النية وقد‬ ‫«رحله» الذين يحتلون حي «الق�صبة»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ مهما حاولت مقالة يف ال�صحيفة االلكرتونية‬ ‫«كابيتالي�س» االيحاء يف عنوانها «الق�صبة والقبة‪ :‬معركة‬ ‫واح��دة»‪ ،‬مل يكن االم��ر يتعلق بانا�س متا�شبهني‪ .‬يف‬ ‫«الق�صبة» يتحدثون ب�إ�سم ال�شعب ويتوحدون حتت �شعار‬ ‫لرنحل الدكتاتورية»‪ ،‬اما يف‬ ‫«رحلنا الدكتاتور‪ ،‬واالن‬ ‫ّ‬ ‫القبة فاحلديث يجري با�سم «االكرثية ال�صامتة» وتتعاىل‬ ‫ّ‬ ‫الدعوات للعودة اىل العمل‪ .‬هنا العمل والنظافة رمزان‪ ،‬ما‬ ‫يعرف يف املقابل على انه‬ ‫يجعل ال�شباب الثائر‬ ‫ّ‬ ‫امل�سي�س َّ‬ ‫من العاطلني من العمل ومن قليلي االكرتاث بالنظافة‪� ،‬إن‬ ‫مل يعتربوا ك�ساىل وقذرين‪ .‬وهكذا كنا ن�سمع با�ستمرار يف‬ ‫«القبة» ندا ًء توجهه مكربات ال�صوت يقول‪« :‬لقد علّقنا‬ ‫�أكيا�س قمامة عند جذوع النخالت‪ .‬ال ترموا اي �شيء‬ ‫على االر�ض‪ .‬يجب ان نظهر للعامل اننا �شعب �سليم نظيف‬

‫ان�ضمت اليهم املعار�ضة امل�سماة دميقراطية من منا�ضلي‬ ‫حقوق االن�سان ون�سويني ومثقفني نقديني‪.‬‬ ‫ �إذذاك تك�شفت اللحظة الثورية اخلاطفة عن �شعب‬ ‫موحد وملتحم‪ .‬ف�ساد مناخ جديد خالل ب�ضعة ا�سابيع‪،‬‬ ‫رغم الذعر واخل��وف اللذين �أ�شاعهما العهد القدمي‬ ‫املتهاوي‪ .‬على ان التفاوت االجتماعي �رسعان ما انبعث‬ ‫من جديد‪ .‬ففيما كانت القوى الثورية تطالب بالبدء من‬ ‫البداية وب�إ�سقاط اوىل احلكومات امل�ؤقتة لدفع العملية‬ ‫الثورية اىل املزيد من التقدم (من اعت�صامات الق�صبة‬ ‫وتظاهرات جادة بورقيبة يف فرباير‪ ،‬التي اف�ضت اىل‬ ‫اع��ادة فر�ض حالة ال��ط��وارىء‪ ،‬اىل مقتل متظاهرين‬ ‫واغالق جادة بورقيبة على التظاهرات العامة) اخذت‬ ‫�أ�صوات متزايدة تنادي بالتهدئة وامل�ساومة‪ .‬كان يجب‬ ‫التزام االعتدال‪ ،‬وال�سري البطيء‪ ،‬واالمتناع عن رف�ض‬ ‫كل �شيء باجلملة‪ .‬ما دام الطاغية قد غادر هو و�أقربا�ؤه‪،‬‬ ‫يجب املحافظة على لون من اال�ستقرار لعدم اال�ساءة‬ ‫اىل �سمعة البلد واىل ح�سن �سري االعمال‪ ،‬الخ‪.‬‬ ‫ ومنا خطاب «انتمائي» حتى يف مزاج التون�سيني الناعم‬ ‫وال�سلمي الذين ق��ادوا «ث��ورة اليا�سمني»‪ ،‬ثورة العطور اخلطاب ال�صادر عن الربجوازيــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫والزهور‪ .‬فتكاثرت يف تلك الفرتة‪ ،‬اخلطابات الغا�ضبة �ضد والطبقات الو�سطى املدينية �رسعــــــــــــــــــــــــــان‬ ‫تلك الت�سمية املفوتة‪ ،‬واخذ اهل الداخل يتحدثون احيانا ما اتخذ لهجة االحتقار االجتماعي جتــــــــــــــــــــــاه‬ ‫ال�صبار) االكرث تواجدا يف مناطقهم جميع الذين ين�صبون خيامهم يف و�سط املدينـــــــــــة‪.‬‬ ‫عن ثورة «الهندي» (اي‬ ‫ّ‬ ‫ويتكلمون بلهجة فالحية وا�ضحـــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫من يا�سمني ال�ساحل‪ ،‬وبالطبع االكرث امتالء باال�شواك‪.‬‬ ‫ هذا اخلطاب ال�صادر عن الربجوازية والطبقات‬ ‫الو�سطى املدينية �رسعان ما اتخذ لهجة االحتقار وح�ضاري‪ .‬هذه هي ثورتنا‪ .‬وهذه هي روحنا‪ .‬وذلك هو‬ ‫االجتماعي جتاه جميع الذين ين�صبون خيامهم يف و�سط مثاليا للجريان واال�شقاء الذي يحبون بناء الدميقراطية يف‬ ‫‪4‬‬ ‫املدينة‪ ،‬عند املدخل ال�ضخم ملدينة تون�س القدمية‪ ،‬على بالدهم‪� .‬سوف نثبت للعامل اجمع اننا �شعب كرمي‪»..‬‬ ‫جادتها اجلميلة املر�صوفة باال�شجار‪ ،‬يتكلمون بلهجة واذا كنت اعود اىل تلك اللحظات املن�سية بع�ض ال�شيء‬ ‫فالحية وا�ضحة‪ .‬فبعد االعجاب االويل بحدث ‪ ١٤‬يناير من اال�سابيع الثورية التي اعقبت هروب الدكتاتور‪ ،‬وقد‬ ‫دب احلذر من الثوريني‪ :‬لعلهم �ضحايا ملن تبدو ثانوية‪ ،‬مع انها ظلت حا�رضة يف ذاكرة التون�سيني‪،‬‬ ‫اال�ستثنائي‪ّ ،‬‬ ‫يتالعب بهم؛ ويبدو انهم بعيدون جدا عن املثل العلمانية فذلك من اجل اعطاء معنى ملا يجري التعبري عنه الآن يف‬ ‫للنخب املدينية؛‪�( 2‬شوهد البع�ض منهم ي�صلّي داخل �شوارع تون�س‪ .‬ذلك ان ا�صوات االحتجاج االجتماعي‬ ‫اخليم)‪ ،‬وهم ي�سيئون‬ ‫الت�رصف‪ ،‬الخ‪ .‬وعبرّ هذا االجتاه مل ت�صمت ابدا‪ .‬فقد احتلت �ساحات العا�صمة اىل �شهر‬ ‫ّ‬ ‫«الثوري املعتدل» عن نف�سه يف النقد القا�سي‬ ‫املوجه اىل مار�س‪ ،‬واعت�صمت يف امل�صانع‪ ،‬وحا�رصت ال��وزارات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫«االحتاد التون�سي العام لل�شغل» ولقادتها ويف االدعاء وعادت الحتالل �شوارع �سيدي بوزيد يف �صيف ‪،٢٠١٢‬‬ ‫ب�أنهم كانوا جميعا يقب�ضون الر�شى من النظام ال�سابق‪ 3.‬حمتجة ومتحدية هذه املرة ال نظام بن علي وامنا احلكومة‬ ‫يف ‪ ٦‬مار�س انعقد جتمع يف «القبة»‪ ،‬وهي املدينة الريا�ضية امل�ؤقتة بقيادة حركة النه�ضة‪ .‬وقد جتمع ه�ؤالء حتت �شعار‬ ‫يف «املنزه»‪ ،‬احلي الربجوازي يف تون�س العا�صمة‪ ،‬بعد ب�سيط هو �شعار الثورة‪ ،‬قبل ان ينطلق �شعار «�إرحل»‬ ‫�سقوط احلكومة املوروثة من عهد بن علي‪ .‬كان التجمع النهائي‪« :‬عمل‪ ،‬حرية‪ ،‬كرامة وطنية» وقد كانت بع�ض‬ ‫يحتفل بالثورة‪ ،‬والت�ضامن الوطني ‪ -‬ولكن مع احلر�ص منوعاته احيانا خالل ف�صل ال�شتاء «خبز‪ ،‬ماء‪ ،‬بن علي لأ!»‪.‬‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫االجتماعية يف العدالة) �إن هي اال خدعة من اخلدع‪ .‬فبعد‬ ‫انتخابات اكتوبر ‪ ٢٠١١‬التي �شدد فيها اال�سالميون‬ ‫كثريا على اال�ضطهاد الذي تعر�ضوا له يف ظل العهد‬ ‫ال�سابق وعلى تقواهم ‪ -‬املفرت�ض انها تع�صمهم من‬ ‫الف�ساد ‪� -‬إذا بهم قد فقدوا فج�أة طاقتهم التخريبية‪:‬‬ ‫فبعدما تعر�ضوا لال�ضطهاد وبعدما قدموا انف�سهم مبا هم‬ ‫«طاهرون»‪ ،‬ها هم الآن يف ال�سلطة‪ .‬وبدال من ان يعتربوا‬ ‫ان الثورة هي التي حملتهم اىل ال�سلطة ي�صح القول ان‬ ‫احلدث الثوري و�ضعهم وجها يف وجه امام الواقع‪.‬‬ ‫ يوم ‪ ١٤‬يناير ‪ ٢٠١١‬بدا ان املفاج�أة التون�سية‬ ‫ُتخرِ ج حتديدا املنطقة العربية من بديل ثنائي �ساد‬ ‫خالل عقود (وخ�صو�صا منذ احلرب االهلية اجلرائرية)‪:‬‬ ‫�إما ال�سلطات القائمة و�إما الثورة اال�سالمية‪ .‬يف تون�س‪،‬‬ ‫«البلد الذي ال �ضجيج فيه»‪ ،‬ح�سب عبارة جو�سلني دخليا‬ ‫اجلميلة‪ ،‬انهار نظام بني علي حمدثا دويا عاليا‪ .‬غادر‬ ‫الرئي�س وع�شريته االرا�ضي التون�سية والتج�أ ايل العربية‬ ‫ال�سعودية ‪ -‬وهي منوذج رائع للدميقراطية العلمانية‪ ،‬لنقل‬

‫ال تزال امل�س�ألة االجتماعيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫يف �صلب امل�شكالت املطلوب معاجلتهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‪...‬‬ ‫تتج�سد ‪ ...‬يف اال�صطدام الراهن بني االحتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاد‬ ‫التون�سي العام لل�شــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــغل‬ ‫واحلزب احلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاكم‬ ‫الثورية التون�سية يعاد تقييمه الآن بوا�سطة درا�سات‬ ‫عديدة تبني يف اي مدى كان دعمه اللوج�ستي وح�ضور‬ ‫منا�ضليه يف ال�شوارع حا�سمني منذ البداية‪.‬‬ ‫«االنتقال الدميقراطي»‬ ‫يبني‬ ‫ان االخذ بعني االعتبار االنق�سامات االجتماعية ّ‬ ‫ان املجابهة التي اعطيت كل هذه االهمية يف ال�صحافة‬ ‫الفرن�سية بني «علمانيني» و«دينيني» لي�ست يف قلب‬ ‫م�شاغل النا�س‪ .‬لي�س يف االمر رغبة يف انكارها‪ :‬ال �شك‬ ‫ان تظاهرات انطلقت حلماية موقع املر�أة التون�سية‪ .‬وان ثمة‬ ‫ح�ضورا ظاهرا ل�شباب ا�سالميني مت�شددين يف �شوارع‬ ‫تون�س ينوون فر�ض نظام طهراين وا�صويل‪ .‬على ان‬ ‫قراءة التوتر االجتماعي يف تون�س مب�صطلحات انتمائية‪،‬‬ ‫وهو ما يفر�ضه على حد �سواء املدافعون عن العلمانية (مبا‬ ‫هي خ�صو�صية تون�سية ومرياث بورقيبي) واال�سالميون‬ ‫(الذين يخفون بذلك عجزهم عن اال�ستجابة للرغبة‬

‫ ‪ 25‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ذلك ونوا�صل ‪ -‬فيما اجلمهور يهتف ب�شعار غريب‬ ‫(�إرحل) امام وزارة الداخلية احد رموز ال�سلطة التي كانت‬ ‫اقبيتها م�رسحا‪ ،‬خمفيا بالطبع‪ ،‬لأعمال تعذيب عديدة‪.‬‬ ‫ بعد ا�شهر اعطت االنتخابات احلرة االوىل يف تون�س‬ ‫اال�سالميني اكرثية (ن�سبية) �سمحت لهم الآن بادارة حكومة‬ ‫(انتقالية ائتالفية) بف�ضل اتفاق عقدوه مع حزبني �آخرين‬ ‫(لت�شكيل ما ن�سميه «الرتويكا»)‪ .‬ان املقابلة بني هاتني‬ ‫العالمتني قد تعطي االنطباع ب�أن ثورة ‪ ١٤‬يناير حملت‬ ‫اال�سالميني اىل ال�سلطة‪ .‬لكن اال�سالميني مل حتملهم الثورة‬ ‫اىل ال�سلطة‪ ،‬انهم فازوا بال�سلطة يف اطار االنتخابات التي‬ ‫اعقبت الثورة‪ .‬وقد جنحوا يف الفوز بتلك االنتخابات‪،‬‬ ‫�إذ نقلوا النقا�شات اىل ار�ضية الهويات‪ ،‬فيما الأحزاب‬ ‫االخرى‪ ،‬وخ�صو�صا احزاب الي�سار‪ ،‬ف�شلت يف �صياغة‬ ‫ومتفرد يف الفو�ضى التي �سادت‪ .‬مل تتوقف‬ ‫خطاب م�سموع‬ ‫ّ‬ ‫اخلطوط عن التحرك‪ ،‬ح�سب املوقع الذي يحتله املرء يف‬ ‫هذا اجلانب او ذلك من «حدود العلمانية»‪ ،‬والق�ضايا الدولية‬ ‫‪dégage‬‬


‫(ليبيا‪� ،‬سورية‪ ،‬دول اخلليج‪ )...‬او موقعه من االمة ومما يحددها‬ ‫(عروبة‪ ،‬علمانية‪ ،‬ا�سالم‪ .)...‬ورمبا كان اجتياح تلك الق�ضايا‬ ‫للنقا�ش الدميقراطي هو مكمن احد ا�شكال «اخليانة»‪.‬‬ ‫ يجب ان نحفر مبزيد من العمق يف اثالم «االنتقال‬ ‫الدميقراطي» ويف تاريخ احلركات ال�سيا�سية التون�سية لفهم‬ ‫البون القائم بني ما كان ميكن م�شاهدته يف ال�شوارع من‬ ‫دي�سمرب اىل مار�س ‪ ٢٠١٠‬ومن ثم اىل مار�س ‪.٢٠١١‬‬ ‫وبني التعبري عن االرادة ال�شعبية عن طريق �صناديق‬ ‫االقرتاع يف اكتوبر ‪ .٢٠١١‬فذلك قد ي�ساعدنا على ان‬ ‫نفهم اي�ضا ملاذا مل تتوقف التعبئات وملاذا مدينة �سيدي‬ ‫بوزيد‪ ،‬خ�صو�صا‪ ،‬ومدن اخرى عديدة معها (�سيليانا‪،‬‬ ‫والكاف‪ )...‬قد التهبت من جديد يف منا�سبات عدة‪ ،‬وملاذا‬ ‫احلو�ض املنجمي يف قف�صة ال يزال يف حالة غليان‪ ،‬الخ‪.‬‬

‫‪ 5‬عن طريق مدونة‬ ‫ ‬ ‫االحوال ال�شخ�صية‬ ‫خ�صو�صا واعمال‬ ‫رمزية ا�شهرها‬ ‫حملة «نزع‬ ‫احلجاب» التي‬ ‫مار�ستها الن�ساء‬ ‫التون�سيات علنا يف‬ ‫‪ ١٣‬اوغ�سط�س‬ ‫‪ ١٩٦٦‬خالل‬ ‫عيد املر�أة‪.‬‬

‫ ‪ 26‬‬

‫دور مميز للحركة النقابية‬ ‫ذلك ان هذا البلد‪ ،‬وهو مهد احلركات اال�صالحية منذ‬ ‫القرن التا�سع ع�رش‪ ،‬مل ي�شهد جتربة بناء وطني م�ستقل‬ ‫ودميقراطي قبل العام ‪ .٢٠١١‬ومع ذلك فالثورة مل تقع‬ ‫يف حقل اجتماعي بكر او على ورقة بي�ضاء‪ .‬ان احلركة‬ ‫الوطنية والن�ضال اال�ستقاليل قد ا�سهما يف تكوين نخب‬ ‫�سيا�سية وادارية‪ .‬ثم ان عهد بورقيبه الطويل مل يقت�رص‬ ‫على االرهاب ومل مينع منو حركة نقابية قوية وحركة ن�سوية‬ ‫ال تزال نا�شطة على الرغم من رفع النظام البورقيبي راية‬ ‫الق�ضية الن�سوية اوال‪ ،‬ليبني لنف�سه �صورة حمرر البلد‬ ‫وحمرر الن�ساء‪ 5‬خلفته دكتاتورية بن علي التي وجدت‬ ‫يف تلك الق�ضية عذرا منا�سبا لالرتقاء اىل م�صاف امل�ستبد‬ ‫و�سد �ضد اخلطر اال�سالموي‪ .‬ان ثراء التعبئة‬ ‫احلداثوي‬ ‫ٌّ‬ ‫وزخم احلركات االجتماعية �شهدا م�صري ًا متفارق ًا‪ :‬فقد‬ ‫و�سما تون�س احلديثة مبميزات كبرية م�شهودة (خ�صو�صا‬ ‫العلمنة وو�ضع املر�أة) وهما يف الوقت ذاته �ضحايا قمع‬ ‫غالبا ما بقي جمهوال خارج البلد وداخله يف �آن معا‪.‬‬ ‫ مطلع �سنوات ‪ ،١٩٨٠‬من ج��راء قمع احلركات‬ ‫النقابية الكربى واالحتجاجات الناجمة عن الي�سار‬ ‫اجلذري‪ ،‬اخذت احلركات اال�سالمية حتتل مكانها‪ ،‬مبا هي‬ ‫العدو الرئي�سي للنظام (خال فرتة ‪ )٨٩-١٩٨٧‬ولكنها‬ ‫كانت يف الوقت ذاته حاملة نوع من «االمل االجتماعي»‪.‬‬ ‫فبع�ض ال�سري‪ ،‬مثل �سرية الزعيم احلايل للحزب‪ ،‬را�شد‬ ‫غنو�شي‪ ،‬الذي كان نقابيا يف ال�ستينات من القرن املا�ضي‪،‬‬ ‫ونا�رصيا يف �شبابه‪ ،‬ماثلة لتذكّ رنا ب�إن امل�سارات كانت‬ ‫اكرث تعقيدا مما نظن‪ .‬مل تكن تلك امل�سارات ثانوية االهمية‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫النها ت�سمح لنا ب�أن نخرِ ج معايري التحليل املعا�رصة من‬ ‫تب�سيطيتها ومن متييزاتها الآلية‪ ،‬و�أ�شدها ت�أثريا تلك التي‬ ‫جتابه العلمانيني واال�سالميني‪ .‬ولن�سيان تلك احلقبة القريبة‬ ‫من التاريخ التون�سي ا�سباب عديدة‪ :‬اوال عنف القمع‬ ‫وات�ساعه الذي �رضب احلركات الي�سارية من ‪١٩٦٨‬‬ ‫اىل ‪ ١٩٧٨‬يف عهد بورقيبه‪ ،‬والذي ما لبث ان �رضب‬ ‫اال�سالميني؛ والت�أ�سي�س لتعليم «انتقائي» للتاريخ املعا�رص‬ ‫يف املدار�س واجلامعات‪ ،‬حيث الربوباغاندا تبع بن علي‬ ‫حلّت حمل بروباغاندا بورقيبه؛ اخريا‪ ،‬يف خارج تون�س‪،‬‬ ‫القوة التي اكت�سبتها قراءة تقوم على مفهوم «�صدام‬ ‫تدعم فهما ا�ست�رشاقيا را�سخا‬ ‫احل�ضارات» ج��اءت‬ ‫ّ‬ ‫يهم�ش على نحو متزايد مكان‬ ‫للمجتمعات العربية‬ ‫ّ‬ ‫املجتمع والطبقات االجتماعية واحلركات االجتماعية‪.‬‬ ‫ �إذ لوحظ «اختفاء» جيل تقدمي منا�ضل (يف او�ساط‬ ‫الي�سار اال�شرتاكي والقوميني العرب) وهو اختفاء كان‬ ‫ج�سديا احيانا‪ ،‬تب ّنى البع�ض موقفا َق َدريا يعبرّ عن نف�سه‬ ‫كاالتي‪ :‬ملا كان كل تغيري اجتماعي اليوم يف املغرب او‬ ‫ال�رشق االو�سط ال ميكن ان ي�ؤدي اال اىل ت�سلّم املحافظني‬ ‫لل�سلطة‪� ،‬سوف نقلب حجة االلتزام احلداثوي املوايل‬ ‫للغرب لنجعل من العودة اىل تراث مفرت�ض ال�سبيل‬ ‫التمرد واجلذرية الثورية والكرامة الوطنية‪.‬‬ ‫الوحيد اىل‬ ‫ّ‬ ‫هذا ينطوي على ا�ستخفاف ب��دور احلركات النقابية‬ ‫والن�ضاالت التقدمية (مبا فيها تلك التي كانت ت�ستوحي‬ ‫الفو�ضوية) يف االنتفا�ضات التي �شهدتها تون�س وم�رص‬ ‫واليمن والتي تتوا�صل يف �سورية (وميكننا ان ن�ضيف‬ ‫يف البحرين ولبنان واالردن وغريها)‪� .‬صار هذا اخلطاب‬ ‫م�ألوفا على االقل يف �أو�ساط النخب املثقفة قبل العام‬ ‫‪ ٢٠١١‬يف تون�س و�سواها من البلدان‪.‬‬ ‫ منذ العام ‪ ،٢٠١١‬ولفرتة وجيزة‪ ،‬بدا ك�أن التباعد‬ ‫والالمباالة االجتماعيني قد تبخرا ليعودا بزخم منذ اليوم‬ ‫التايل لهرب بن علي‪ .‬ثم ان احلملة االنتخابية حلركة‬ ‫النه�ضة وانت�صارها يف االنتخابات انتجت حتويالت‬ ‫اخرى تتجلى خ�صو�صا يف ت�شكيل «ن��داء تون�س»‪،‬‬ ‫احلزب الذي يقوده الباجي قايد ال�سب�سي‪ ،‬رئي�س وزراء‬ ‫ليت�صور املرء مثل هذا التجمع‬ ‫الفرتة االنتقالية‪ .‬مل يكن‬ ‫ّ‬ ‫للقوى ال�سيا�سية قبل ب�ضع �سنوات‪ ،‬واحلال ان احلزب‬ ‫�ضم العديد من ان�صار عهدي بن علي وبورقيبه‪ ،‬مثل‬ ‫ال�سب�سي ذاته‪ ،‬و�رشيحة من الي�سار بعد ال�شيوعي‪ ،‬حتت‬ ‫راية الن�ضال �ضد اال�سالميني ومن اجل الدفاع عن‬ ‫الهوية احلديثة لتون�س‪ .‬نلقى يف هذا احلزب انا�سا كانوا‬

‫خ�صوما لفرتة طويلة‪ ،‬ي�شرتكون يف خطاب يحر�ص‬ ‫حر�ص ًا �شديد ًا على ان ي�ضع نف�سه اىل جانب الهوية‬ ‫الوطنية (خ�صو�صا جتاه اخلارج) و«التقدمية» واحلداثة‬ ‫لكي يتحا�شى اتخاذ املواقف من الق�ضايا االجتماعية‬ ‫ال تزال ال�صحافة �ضعيفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫جدا تكتفي ب�إعطــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء‬ ‫الكالم للفاعلني ال�سيا�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــيني‬ ‫دون تعميق خيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاراتهم‪.‬‬ ‫واجلمعيات حا�رضة جدا �إال انـــــــــــــــــــــــــــــــــــه‬ ‫القليل منها ال�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتحوذ‬ ‫على امل�س�ألة الدميقراطيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫واالديولوجية‪ .‬ي�ضع احلزب نف�سه يف مواجهة حركة‬ ‫النه�ضة مبا هو مر�آتها العاك�سة‪ .‬ان انبثاق قوة كهذه‪ ،‬التي‬ ‫ي�صعب التهكن مبا �سوف يكون ن�صيبها من اال�صوات يف‬ ‫االنتخابات النيابية‪ ،‬ي�ستظهر اثر «اخليانة اال�سرتجاعية»‬ ‫الناجتة من االنتقال من حالة ثورية اىل اطار جديد من‬ ‫الدميقراطية االنتخابية دون ان ت�سنح الفر�صة لتكوين‬ ‫روابط اجتماعية ُتر�سى عليها الدميقراطية‪� .‬إذ ال تزال‬ ‫ال�صحافة �ضعيفة جدا تكتفي باعطاء الكالم للفاعلني‬ ‫ال�سيا�سيني دون تعميق خياراتهم‪ .‬واجلمعيات حا�رضة‬ ‫جدا اال ان القليل منها ا�ستحوذ على امل�س�ألة الدميقراطية‬

‫ ‪ 27‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫بحد ذاتها (رميا با�ستثناء اجلمعيات التي التزمت بخو�ض‬ ‫احلملة االنتخابية)‪.‬‬ ‫ يف الوقت احلا�رض‪ ،‬وحده العمل النقابي يبدو �أنه يقدم‬ ‫عالمات ا�ستدالل اخرى حيث نلقاه يحتل مكانا متزايد‬ ‫البعد ثوري‪ .‬يف ‪ ٢٥‬فرباير‬ ‫االهمية يف امل�شهد ال�سيا�سي َ‬ ‫‪ ،٢٠١٢‬اطلق ال�سيد ح�سني عبا�سي‪ ،‬االمني العام لالحتاد‬ ‫التون�سي العام لل�شغل‪ ،‬هذا التحذير اىل حركة النه�ضة‪:‬‬ ‫كم ا�صواتنا لكي يقرروا م�صرينا مبفردهم‪.‬‬ ‫«انهم يريدون ّ‬ ‫يريدون زرع اخل��وف يف قلوبنا ملنعنا من الدفاع عن‬ ‫ق�ضيتنا وحقوقنا‪ ،‬ولكننا لن نر�ضح ولن ن�ست�سلم»‪ .‬اىل‬ ‫ذلك ف�إن النقابة اكدت ا�ستقاللها الذاتي وت�صميمها على‬ ‫الن�ضال «اىل جانب املجتمع املدين وال�شعب التون�سي‬ ‫على تنوعه للدفاع لي�س فقط عن اجلماهري العمالية‬ ‫وامنا اي�ضا وخ�صو�صا عن اجلمهورية وم�ؤ�س�ساتها»‪ .‬ومل‬ ‫يكن غريبا ان يكون االحتاد التون�سي العام لل�شغل القوة‬ ‫الوحيدة يف ال�ساحة‪ .‬انه يرتكز على ‪ ٥١٧‬الف ع�ضو‪،‬‬ ‫وعلى �شبكة من الفروع تغطي الرتاب الوطني كله وعلى‬ ‫تاريخه‪ .‬ويبدو انه الوحيد الذي ي�ستطيع �أن يح�شد مثل‬ ‫هذه القوة يف وجه االحزاب احلاكمة‪.‬‬ ‫م�ساحات لالبداع واملقاومة‬ ‫ومع ذل��ك‪ ،‬ال يجوز اهمال امل�ساحات االق��ل ظهورا‬ ‫حيث الإبداع و�إعادة البناء وبلورة املقاومات‪ .‬انها تقع‬


‫‪ 6‬امينة �صبية يف �سن‬ ‫ ‬ ‫الـ ‪ ١٩‬ن�رشت على‬ ‫في�سبوك �صورة لها‬ ‫عارية ال�صدر مرفقا‬ ‫بكلمات «ج�سدي‬ ‫ملكي‪ ،‬لي�س �رشف‬ ‫احد»‪ .‬اجرت معها‬ ‫حمطة «التون�سية»‬ ‫مقابلة يف برنامج‬ ‫�شعبي جدا‪.‬‬ ‫فخطفتها ا�رستها‬ ‫يف ال�شارع ومت‬ ‫�إحتجازها يف م�صح‬ ‫عقلي بعد تكبيلها‬ ‫بقمي�ص املجانني‬ ‫وحقنها بالعقاقري‬ ‫وانت�شار خطاب‬ ‫عام (مبا يف او�ساط‬ ‫الن�سويات) عن‬ ‫ه�شا�شتها النف�سانية‬ ‫وان احتجازها يف‬ ‫م�صح عقلي هو‬ ‫«ل�صاحلها»‪ .‬وقد‬ ‫نظمت حملة من‬ ‫اجل اطالق �رساح‬ ‫امينة وحمايتها من‬ ‫الهجمات املختلفة‬ ‫التي تتعر�ض لها‬ ‫الآن‪#Free Amina .‬‬ ‫‪ 7‬من مقابلة اجرتها‬ ‫ ‬ ‫�سي�سيل بويك�س‬ ‫مع جمموعة «ابو‬ ‫ن�ضارة» بعنوان‬ ‫«�سينما الطواريء»‬ ‫‪http://www.‬‬

‫‪laviedesidees.fr‬‬ ‫‪/Un-cinema-d‬‬‫‪urgence.html‬‬

‫ ‪ 28‬‬

‫يف م�ستويات عديدة من املجتمع التون�سي‪ .‬وباالمكان‬ ‫ان نعدد بب�ساطة الئحة باملبادرات واجلمعيات واملواقع‬ ‫االلكرتونية وال�صحف وانبثاق ا�شكال تعبئة جديدة‪،‬‬ ‫الخ‪ .‬ان الزخم الثوري قد حرر قوى مل يكن احد يتوقع‬ ‫وجودها‪ ،‬ولكنها ا�صطدمت اوال مبنطق دميقراطي اجرب‬ ‫اجلميع على االختيار‪ ،‬ولعب دورا كبريا يف االحباط‬ ‫ال�سيا�سي الكبري‪ ،‬وذلك يف مناخ من ال�سجال والتوتر‬ ‫الدائمني‪ .‬ان الطبقة ال�سيا�سية‪ ،‬التي تغرق يف منطق‬ ‫التحالفات وامل�شاحنات‪ ،‬تزيد تلك اخليبة يوما بعد يوم‪.‬‬ ‫ وعلى الرغم من دوي ال�شائعات والتخويفات‪ ،‬ثمة‬ ‫�شيء قد تغيرّ وممار�سة ال�ضغوط القوية على احلكومة‬ ‫القائمة هو احد االدلة عليه‪ .‬ولكن ما يجب اخذه اي�ضا‬ ‫بعني االعتبار هو ال�شجاعة الفائقة التي يبديها ال�شباب‬ ‫الذي نزل اىل ال�شارع يف دي�سمرب ‪ ٢٠١٠‬واال�سباب‬ ‫اجلوهرية لتلك ال�شجاعة‪ .‬ان الكبت والغيظ و�إرادة‬ ‫التغيري لدى هذا اجليل مل تطفئها نتائج دورة انتخابية‬ ‫واحدة‪ ،‬و�إنها لن تخمد مبجرد �صفقة «تر�ضية» مقابل‬ ‫اجراءات �سيا�سية لن ت�أتي على كل حال‪.‬‬ ‫ ان البعد اجلذري للتمرد‪ ،‬يف مرحلة ما بعد الثورة‪،‬‬ ‫ال ع��دة‪ .‬ي�ستمر ال�شبان التون�سيون يف‬ ‫يتخذ �أ�شكا ً‬ ‫املجازفة بحياتهم بانتظام‪ :‬ارادة اخلال�ص من «جلان‬ ‫الدفاع عن الثورة » وتعبرياتها االخرى القريبة من‬ ‫ال�سلطة او من ال�سلفية الوهابية؛ والتطوع يف �سورية‬ ‫يف املعركة �ضد نظام ب�شار اال�سد؛ واملجازفات الكبرية‬ ‫يف عبور املتو�سط بحثا عن حياة بديلة يف اوروبا ‪-‬‬ ‫اي بحثا عن عمل وعن �أفق �آخر او عن جمرد ال�شعور‬ ‫ب�أنهم غامروا وجنحوا‪� .‬إن التغا�ضي عن كل هذا يعني‬ ‫الآن‪ ،‬كما يف ايام بن علي‪ ،‬عدم ادراك حجم الهزة‬ ‫االجتماعية الكربى التي نعي�ش‪.‬‬ ‫ ولكن حتى خارج هذه االلتزامات االكرث جذرية‬ ‫ت�ستمر وتنبني ا�شكال من املقاومة تقول ان ما بعد الثورة‬ ‫يجب ان يكون خمتلفا عما قبلها‪ :‬مقاومات فنية يف امل�رسح‬ ‫والرق�ص ‪ -‬كما يف مهرجان «درمي �سيتي» [مدينة االحالم]‬ ‫الذي بد�أ قبل الثورة وا�ستمر بعدها يف ا�ستك�شاف ا�شكال‬ ‫فنية جديدة يف الرتاث واملو�سيقى ال�شعبية (وخ�صو�صا‬ ‫«الراپ» واالغاين االحتجاجية التي ظهرت حديثا والتعبئة‬ ‫التي ح�صلت حول حماكمة مغني «الراپ» ِ‬ ‫«ولد الـ‪»١٥‬‬ ‫على اغنيته «بولي�سيا كلب»)؛ وامناط من التحرك ي�شارك‬ ‫الت�رصف كما يحلو لهم‬ ‫فيها يافعون ال يريدون اكرث من‬ ‫ّ‬ ‫(رق�صات «هارليم �شيك�س»‪ ،‬و«فال�ش موبز»)؛ وا�شكال‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫التعبئة االكرث اخت�صا�صا تتعلق بال�شفافية يف العملية‬ ‫الد�ستورية (امرية يحياوي وجمعيتها «البو�صلة») ويف‬ ‫االعالم (جريدة «نواة» االلكرتونية التي رافقت الثورة‪،‬‬ ‫وغريها من من ال�صحف) ويف البيئة (حمالت تنظيف‬ ‫االمكنة العامة والن�صب العامة وال�شواطىء) وتعبئة الن�ساء‬ ‫ال�صماء لدى‬ ‫(و�إن يكن بطرق م�شتتة كما تبني من ردة فعل‬ ‫ّ‬ ‫الن�سويات «التاريخيات» على مبادرة امينة ‪ 6‬خ�صو�صا يف‬ ‫ما يتعلق بالتحر�ش اجلن�سي او حاالت االغت�صاب؛ ا�ضف‬ ‫اىل هذا كله ن�شاطات «الهاكرز» والتعبئة حول ق�ضايا‬ ‫احلريات؛ وحركات را�سمي الغرافيتي وفناين ال�شوارع‪.‬‬ ‫وميكن اال�ستمرار طويال يف هذه الالئحة النطباع قوي‬ ‫يتكون عن �أنه تتربعم على كامل الرتاب الوطني اعمال‬ ‫ّ‬ ‫واحتالالت ال جتري مالحظاتها احيان ًا مع �أن لها قوة‬ ‫العدوى الكبرية (مثل رق�صة «هارمل �شيك») قد ت�ؤدي اىل‬ ‫م�صادمات عنيفة جدا (كما يف ق�ضية امينة) ولكنها تتوزع‬ ‫خارج املركز تدريجيا وتبتكر وتعيد بناء نف�سها با�ستمرار‪.‬‬ ‫ ان هذه امل�ساحات اجلديدة‪ ،‬املبنية على ا�شكال متنوعة‬ ‫من التعبئة‪ ،‬هي على �صورة جمتمع ي�ستيقظ‪ ،‬و�شباب‬ ‫ي�صقل �أدواته املختلفة‪ .‬ميكنها ان تكون ملتزمة جدا‪،‬‬ ‫بل اديولوجية‪ ،‬تفعل فيها ت�أثريات متعددة بل متناق�ضة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫حمط ا�ستلهامات ميكن ت�سميتها‬ ‫ولكنها عادة ما تكون‬ ‫«جتارية متطرفة» (كما يف �صورة مغني «الراپ» يرفلون‬ ‫يف �سيارات �ضخمة ويحملون اال�سلحة‪ ،‬التي غالبا‬ ‫ما ين�سخها افراد امليلي�شيات اال�سالمية او يف رق�صة‬ ‫«الهارمل �شيك») او يف ا�ستلهامات اخرى اكرث ن�ضالية‬ ‫(دعما لالنتفا�ضة الفل�سطينية ولالخوة ال�سوريني) او‬ ‫حتى روحانية (حركات العودة اىل الدين‪ ،‬واملجموعات‬ ‫املنعقدة لقراءة القر�آن)‪ .‬هذه كلها تبلور اخري ًا �أ�شكاال‬ ‫هزلية وا�ستهزائية (على طريقة احلركة الناه�ضة للراهنية‬ ‫‪ situationnistes‬يف ال�ستينات من القرن املا�ضي) بعيدا عن‬ ‫جدية الطبقة ال�سيا�سية التقليدية واملخاوف الالمتناهية‬ ‫ّ‬ ‫وت�ضخمها و�سائل الإعالم امل�سماة «حرة»‪.‬‬ ‫تعممها‬ ‫التي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتتخذ هذه �شكل ر�سوم �ساخرة (ويلي�س‪ ،‬زد‪ ،‬والعديد‬ ‫غريهما) و�إع��ادة ابتكار ال�سيا�سة يف امل��دن اجلامعية‬ ‫واملدار�س‪ ،‬م�شاركات من جماعة «�آنونيمو�س» الخ‪.‬‬ ‫ وكما يقول اع�ضاء املجموعة ال�سورية «ابو ن�ضارة»‪:‬‬ ‫«يجب الت�صويب عالي ًا جد ًا‪ :‬بل يق�ضي الواجب حماية‬ ‫الثورة من القنا�صة والإع�لام فكالهما ي�شرتك يف‬ ‫الت�صويب املنخف�ض جدا»‪.7‬‬ ‫ ان تون�س الغد مطالبة بالواجب ذاته‪.‬‬

‫احلزيب يف المغرب‬ ‫الياسر واالحنطاط‬ ‫ّ‬ ‫عبد اإلله بلقزيز‬ ‫أستاذ الفلسفة‪:‬‬

‫جامعة احلسن الثاين‪-‬‬ ‫الرباط‪ ،‬المغرب‪.‬‬ ‫من آخر كتبه‬

‫«ثورات وخيبات»‬ ‫(‪)٢٠١٢‬‬

‫العمران احلزبي املغربي‪ ،‬يف ال�سنني الأخرية‪ ،‬بحالٍ من‬ ‫مير‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫التف�سخ واالهرتاء ال مثيل لها منذ قيام الظاهرة احلزبية‬ ‫يف البالد قبل ثمانني عام ًا‪ .‬مت َّتع املغرب مب�ؤ�س�سات حزبية‬ ‫ذات �سمع ٍة و�أثر حتى يف فرتات القمع اال�ستعماري يف‬ ‫الأربعينيات واخلم�سينيات‪ ،‬ويف عهود القمع ال�سيا�سي‪،‬‬ ‫بعد اال�ستقالل‪ ،‬بني �سنوات ال�ستينيات والثمانينيات‪.‬‬ ‫أث��ر يف �إ�ضعاف احلياة احلزبية �أو‬ ‫ومل يكن للقمع � ٌ‬ ‫حولها �إىل ريا�ضة فكرية‬ ‫تف�سيخها‪ ،‬حتى ال نقول �إنه ّ‬ ‫مر على بالدنا‬ ‫و�سلوكية على املبدئية وااللتزام‪ .‬ولقد َّ‬ ‫ٍ‬ ‫حزب من الأحزاب‬ ‫ني من الدهر كان االنتماء فيه �إىل‬ ‫ح ٌ‬ ‫الوطنية والتقدمية �أ�شبه ما يكون باالنتماء �إىل جمموعة‬ ‫�صاحب ُه �إال بال�شهادة‪� ،‬أو ال�سجن‪،‬‬ ‫فدائية؛ لأنه ال َي ِع ُد‬ ‫َ‬ ‫�أو املنفى‪� ،‬أو الطرد من العمل‪ .‬ومل تكن هذه العقوبات‬ ‫أنف�سهم‬ ‫هولها‪ِ ،‬ل َت َّ‬ ‫امل َن َتظرة‪ ،‬على ْ‬ ‫فت من عزائم من �أرادوا � َ‬ ‫منا�ضلني‪ ،‬فلقد كانوا َح َم َل َة ر�سالة (اال�ستقالل الوطني‪،‬‬ ‫بناء الدميقراطية‪ ،)...‬وكان لهم الأُ ْ�س َوة يف قادتهم وما‬ ‫أحد َّممن خا�ض‬ ‫جابهوه‪ ،‬ب�شجاعة‪ ،‬من ابتالءات‪ .‬وما كان � ٌ‬ ‫�صاحب �ش�أنٍ خا�ص �أو م�صلحة؛ فما‬ ‫يف ال�ش�أن العام‬ ‫َ‬ ‫لعاب �سيا�سي‪ ،‬وال نيابة‬ ‫كانت هناك وزارة ي�سيل لها‬ ‫ٌ‬ ‫برملانية ُي ْق َت َتل عليها بني املنا�ضلني‪.‬‬ ‫التف�سري االخالقي ال يكفي‬ ‫م�شهد احلزبية‪ ،‬اليوم‪ ،‬يختلف متام ًا عن ذي قبل‪ ،‬و�إىل‬ ‫عما �إذا كان امل�ستقبل‬ ‫درجة يت�ساءل فيها املرء ‪-‬يائ�سا‪ّ -‬‬ ‫وراءنا ال �أمامنا‪! ‬ف�إىل �أن �أحزابنا ‪ -‬والتقدمية‬ ‫ال�سيا�سي‬ ‫َ‬ ‫منها ب�شكل خا�ص‪� -‬ضاق نطا ُقها التنظيمي حتى َ�ض ُمر‪،‬‬ ‫معدل ت�أثريها يف‬ ‫َ‬ ‫و�ش َّحت قاعد ُتها اجلماهريية‪ ،‬وهبط ّ‬ ‫الر�أي العام‪ ،‬وداخل الطبقة الو�سطى‪ ،‬وفقدت بري َقها‬ ‫ِ‬ ‫كانت ال�سلطة حت�سب له ح�ساب ًا يف ما م�ضى‪ .‬فقد‬ ‫الذي‬

‫ ‪ 29‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫افتقرت �إىل امل�رشوع والر�ؤية والربنامج‪ ،‬حتى بات املرء‬ ‫يربر لها‬ ‫يجهل ما يف�صل زيد ًا عن عمرو بينها‪ ،‬وما ّ‬ ‫و�صلة! وال ْأد َهى وال َأم ّر �أنها �أَ ْم َ�ست �ساح ًا‬ ‫البقاء من دون ُب َ‬ ‫ف�سيح ًة للحروب الداخلية بني ذوي امل�صالح فيها‪ ،‬ت�أخذها‬ ‫�إىل ال�شلل ف�إىل احل َْتف ! ال عجب �إن كان متثيلها ال�شعبي‬ ‫قد �أ�سفر عن ف�ضيحة تاريخية يف االنتخابات الت�رشيعية‬ ‫حزب حديث‬ ‫للعام ‪ ،٢٠١١‬وال عجب �إن ا�ستطاع‬ ‫ٌ‬ ‫وحديث العهد بالعمل يف امل�ؤ�س�سات‪� ،‬أن يح�صد‬ ‫الن�ش�أة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫املروع انت�صار ًا �ساحق ًا يف االنتخابات‪.‬‬ ‫ثمرات �سقوطها ِّ‬ ‫ مييل ر� ٌأي �شائع‪ ،‬يف بع�ض النخبة املثقفة وال�سيا�سية‪،‬‬ ‫رد ظاهرة االنحطاط احلزبي �إىل عوامل �أخالقية‪:‬‬ ‫�إىل ّ‬ ‫ف�ساد النخب احلزبية الناجم من ت ّذوقها الطعوم اللذيذة‬ ‫بالت َبع‪� ،‬إىل القول �إن اخلروج باحلياة‬ ‫لل�سلطة‪ .‬ويذهب‪َّ ،‬‬ ‫ال‬ ‫ال�سيا�سية واحلزبية من هذا النفق املظلم ال يكون �إ ّ‬ ‫بـ «تخليق» هذه احلياة احلزبية (عبارة «التخليق» لي�ست‬ ‫منا�سبة لأنها تعني‪ ،‬يف الل�سان العربي‪ ،‬توليد‪ ،‬تفقي�س‪.‬‬ ‫والأدق منها‪ ،‬ا�شتقاق ًا‪ ،‬الأَ ْخ َل َقة ن�سب ًة �إىل الأخالق)‪ .‬ومع‬ ‫ت�سليمنا ب�أن بع�ض ًا من هذا التف�سري دقيق و�صحيح‪� ،‬إلاّ‬ ‫�أن الأخالق ال تف�سرّ كل �شيء‪ ،‬وا�ستالم منا�صب يف‬ ‫ال�سلطة ال يف�رس كل �شيء؛ فلقد ت�سلّم قادة احلركة‬ ‫التقدمية والوطنية منا�صب �سامية (ع�لاّل الفا�سي‪،‬‬ ‫عبد الله ابراهيم‪ ،‬عبد الرحيم بوعبيد‪ ،‬عبد الرحمن‬ ‫اليو�سفي‪� ،‬أحمد بو�ستة‪ ،) ...‬ومل تف�سد �أخالقهم‬ ‫ال�سيا�سية �أو َت ْق ُبح‪ ،‬وظلوا متم�سكني بثوابت العمل‬ ‫الوطني‪� .‬إن الأخالق عامل مقبول للتف�سري فقط �إن هو‬ ‫كان �ضمن جملة عوامل �أخرى مثل‪ :‬امل�رشوع ال�سيا�سي‬ ‫والر�ؤية‪ ،‬والكفاءة القيادية التي تنتزع لنف�سها املقبولية‬ ‫تتح�صل من القدرة على‬ ‫وال�رشعية والهيبة‪ ،‬والتي ال‬ ‫َّ‬ ‫ال َف ْهل َْوة وممار�سة احلَلقية والت� ُآمر على اخل�صوم!‬


‫الفراغ «الكارزمي»‬ ‫ال واح��دا من كل هذه العوامل هو الفراغ‬ ‫لن�أخذ عام ً‬ ‫القيادي يف احلزبية املغربية‪ .‬نعني بهذا الفراغ غياب‬ ‫الرمزية القيادية عن الذين يت�صدرون �أحزابنا اليوم‪ .‬حني‬ ‫يتذكر املرء �أن قادة احلزبية املغربية كانوا من طراز عالل‬ ‫الفا�سي‪ ،‬وحممد بلح�سن الوزاين‪ ،‬وعبد الله �إبراهيم‪ ،‬وعبد‬ ‫الرحيم بوعبيد‪ ،‬وعلي يعته‪ ،‬وعبد الرحمن اليو�سفي‪،‬‬ ‫أحممد بو�ستة‪ ،‬وحممد بن�سعيد‪ ،‬و�أن من كان �سريث‬ ‫و� ّ‬ ‫بع�ض ه�ؤالء يف القيادة رحل �إىل رحمة الله (املهدي‬ ‫بنربكة‪ ،‬عمر بنجلون‪ ،‬عزيز بالل)‪ُ ،‬ي�صاب باحل�رسة على‬ ‫امل�آالت وامل�صائر التي انتهت �إليها القيادات احلزبية‬ ‫بعد غياب الر�أ�سمال الكاريزمي‪ ،‬الذي مل يكن �شيئ ًا �آخر‬ ‫غري ر�أ�سمال الكفاءة واالقتدار وال�صدقية‪ .‬و�أذكر �أنه‬

‫الكاريزمي» لتف�سري ظاهرة انحطاط احلزبية ال�سيا�سية يف‬ ‫املغرب‪ :‬منتقد ًا املفهوم‪ ،‬ومفند ًا فر�ضية االنحطاط احلزبي‬ ‫من الأ�سا�س‪ .‬فالتم�سك مبفهوم الكاريزما‪-‬يف ح�سبانه‪-‬‬ ‫�سية العقالين والع�رصي‪ ،‬الذي عليه‬ ‫ن ْق ٌ‬ ‫�ض ملبد�إ امل� ّؤ�س َّ‬ ‫ني �إىل فكرة الزعيم‬ ‫ينبغي �أن يقوم العمل احلزبي‪ ،‬وحن ٌ‬ ‫ورجم احلياة احلزبية املغربية بتهمة االنحطاط‬ ‫امللهم؛‬ ‫ُ‬ ‫رف�ض لر�ؤية الدينامية ال�سيا�سية اجلديدة التي‬ ‫�إمنا هو‬ ‫ٌ‬ ‫تتخلَّق وتن�ش�أ يف �أح�شاء الأحزاب ال�سيا�سية‪ ،‬و ُتنتج �أطرا ً‬ ‫منتخبة من قواعدها بنزاهة‪ ،‬الخ‪ .‬هكذا‬ ‫وقيادات جديدة‬ ‫َ‬ ‫النقد �إىل َن ْحر الناقد للقول �إن حال احلزبية املغربية‬ ‫ُي َر ُّد‬ ‫ُ‬ ‫ و«التقدمية» منها خا�صة ‪ -‬حالٌ َح َ�س َنة‪ ،‬متوازنة‪� ،‬أو هي‬‫ولي ْن َظر �إىل النقد وك�أنه تحَ َ ُّي ٌف‬ ‫طبيعية يف �أ�سو�إ تقدير لها‪ُ ،‬‬ ‫وم ْغرِ �ض‪ ،‬غايته التحبيط والتخذيل‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫مق�صود ُ‬

‫�إن احلياة احلزبية املغربية لــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم‬ ‫تنجب‪ ،‬من � ٍ‬ ‫أ�سف‪ ،‬قيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادات‬ ‫بديل قادرة على �إدارة ال�شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ�أن‬ ‫احلزبي‪ ،‬و�أن دعوة َمن بقي من قيـــــــــــــــــــــــــادات‬ ‫�إىل االعتزال (وكان منهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‪،‬‬ ‫يف ذلك احلني‪ ،‬اليو�سفي‪ ،‬يعتــــــــــــــــــــــــــــــــــه‪،‬‬ ‫بو�ستة‪ ،‬بن�سعيد) دعوة �إىل �إدخــــــــــــــــــــــــــــــال‬ ‫امل�ؤ�س�سات احلزبية يف املجهـــــــــــــــــــــــــــــــــول‬

‫غياب ثقافة �سيا�سية دميقراطية‬ ‫لن نخو�ض يف �سجال مع هذا االعرتا�ض يف مفهومه‬ ‫للكاريزما‪ ،‬ويف دح�ضه لفر�ضية االنحطاط احلزبي‪،‬‬ ‫بل نكتفي ب�سوق مالحظتني من واقع ما يجري يف بيئة‬ ‫العمل احلزبي يف املغرب‪.‬‬ ‫أوله َما‪� :‬أن القائد الكاريزمي ال يختفي من امل�شهد‬ ‫ � ُ‬ ‫ملجرد الرغبة يف اختفائه‬ ‫ال�سيا�سي (الدولتي �أو احلزبي) ّ‬ ‫املعنوي‪ ،‬وال من طريق عملية «قتل‬ ‫والتحرر من �سلطانه‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫الأب» (يف التحليل النف�سي)‪ ،‬و�إمنا هو يختفي وتنتهي‬ ‫وي ْع ُم ُر عمرا ُنها‬ ‫احلاجة �إليه حني تن�ش�أ امل�ؤ�سَّ �سة فع ً‬ ‫ال َ‬ ‫فراغ مطلق‪ ،‬وال‬ ‫بالروح امل�ؤ�سَّ �سية‪ .‬وهذه ال ت�أتي من‬ ‫ٍ‬ ‫�سحري ًا كخروج الأرنب من‬ ‫تخرج �إىل الوجود خروج ًا‬ ‫ّ‬ ‫كُ ِّم احلاوي يف َع ْر ٍ‬ ‫هيئ‬ ‫�ض بهلواين‪ ،‬و�إنمّ ا ت� ِّؤ�س�سها ‪ -‬و ُت ِّ‬ ‫لها ‪ -‬ثقاف ٌة �سيا�سية دميقراطية‪ ،‬وتقاليد دميقراطية‬ ‫مرتاكمة يف العمل احلزبي (كما يف الدولة)‪ .‬وعندي �أن‬ ‫هذه الثقافة‪ ،‬وهذه التقاليد‪ ،‬هي اليوم ‪ -‬وحتى �إ�شعارٍ‬ ‫�آخر‪ -‬يف حكم العدم‪ .‬بل �إن واقع احلال يف املجتمع‬ ‫احلزبي املغربي يقول ‪ -‬منذ عقدين على الأقل ‪� -‬إن‬ ‫ملوثة ب�أمرا�ض احللقية ال�ضيقة و�رصاعات‬ ‫البيئة احلزبية َّ‬ ‫امل�صالح ال�صغرى على املقاعد واملنا�صب‪ ،‬و�إن الثقافة‬ ‫ال�سيا�سية لأحزابنا تنحدر �إىل قعر ال قرار له‪ ،‬وال تكاد‬ ‫ال بالق�شور‪ ،‬و�إن‬ ‫حتتفظ من مرياثها يف املا�ضي القريب �إ ّ‬ ‫الفهلوة والتكايد و َتب ِ‬ ‫ييت امل َُب َّيت‪ ،‬يف ُجنح الظالم‪ ،‬هي‬ ‫ْ‬ ‫�أخالق �أكرث �أحزابنا‪ ! ‬ومن � ٍ‬ ‫أ�سف �أن معنى امل� ّؤ�س�سية‬ ‫عند ٍ‬ ‫بع�ض َي ْ�ص ُغر ويتق َّزم �إىل حدود و�سائلية �أو �أدواتية‪:‬‬ ‫االق�تراع احلزبي! ونحن ن�س�أل هنا‪ :‬على َمن يقرتع‬

‫متربم بالقيادات‬ ‫حني ازدهر‪ ،‬قبل ع�رشين عام ًا‪ ،‬حديث ّ‬ ‫التاريخية‪ ،‬ومدافع عن �رضورة «ت�شبيب» الو�ضع القيادي‬ ‫يف الأحزاب («الت�شبيب» عبارة غري منا�سبة لأن معناها‪،‬‬ ‫كتبت ر�أي � ًا يف املو�ضوع‬ ‫يف الل�سان العربي‪ ،‬ال َغ َزل)‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مفاده �أن احلياة احلزبية املغربية مل تنجب‪ ،‬من � ٍ‬ ‫أ�سف‪،‬‬ ‫قيادات بديلة قادرة على �إدارة ال�ش�أن احلزبي‪ ،‬و�أن دعوة‬ ‫َمن بقي من قيادات �إىل االعتزال (وكان منها‪ ،‬يف ذلك‬ ‫احلني‪ ،‬اليو�سفي‪ ،‬يعته‪ ،‬بو�ستة‪ ،‬بن�سعيد) دعوة �إىل �إدخال‬ ‫امل�ؤ�س�سات احلزبية يف املجهول الذي ها نحن‪ ،‬اليوم‪،‬‬ ‫دخلناه من الباب الوا�سع‪ ،‬باب حيازة مراكز القرار ال ّأول‬ ‫يف �أحزابنا من ِق َبل قيادات جديدة يطعن كثريون ‪ -‬من‬ ‫داخل �أحزابها ‪ -‬يف كفاءتها‪ ،‬ويف نزاهة بع�ضها‪ ،‬وي�شك‬ ‫تدخل ال�سلطة لتمكينها من‬ ‫�آخرون يف وجود ب�صمات ُّ‬ ‫الفوز بتلك املواقع يف م�ؤمترات �أحزابها‪ ،‬وخا�صة «حزب‬ ‫اال�ستقالل» و«االحتاد اال�شرتاكي»‪ ،‬وقبلها «حزب التقدم‬ ‫واال�شرتاكية» («احلزب ال�شيوعي» �سابق ًا)!‬ ‫تو�سل مفهوم «ال��ف��راغ‬ ‫ ثمة م��ن يعرت�ض على‬ ‫ُّ‬

‫ ‪ 30‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫املقرتعون؟ على برامج �أم على �أ�شخا�ص جدد يعرفون‬ ‫من �أين ت�ؤكل الكتف؟! ف�أما الربامج فال وجود لها يف‬ ‫م�شهد اليوم‪ ،‬و�أما الأ�شخا�ص فلي�سوا من ذوي الكفاءة‬ ‫املعرتف لهم بها من �أحزابهم‪ ،‬ولي�سوا ممّن يتقنون‬ ‫التجميع والتوحيد ك�إتقانهم للتفرقة والت�شتيت!‬ ‫ وثانيهما �أن ظواهر االنحطاط مطروحة على قارعة‬ ‫الطريق ال�سيا�سي‪ ،‬يراها الذاهب واجلائي‪ ،‬وال يخلو‬ ‫ِ‬ ‫متجاهلُها �أن يكون على �أحد وجهينْ ‪ّ � :‬إما جاهلٌ لها‬ ‫لعلم مل َي ْح ُ�صل له ب� ْأمرِ ال�سيا�سة يف املغرب حني كانت‬ ‫ٍ‬ ‫يف ٍ‬ ‫حال من العافية واال�ستقامة‪ ،‬ربمّ ا ِل ِ�ص َغر �س ّنه وحداثة‬ ‫عهده وظ ِّنه �أن ال�سيا�سة وم�ؤ�س�ساتها �إمنا هي ما يراه‪ ،‬و� ّإما‬ ‫احلزبي و�صار‪،‬‬ ‫مكا ِب ٌر يت�أبى االعرتاف مبا �إليه �آل العملُ‬ ‫ّ‬ ‫لأن يف اعرتافه بذلك قرين َة االتهام بال�ضلوع وال�سَّ هم‬ ‫باحل�صة يف ما �صار �إليه � ْأم� ُ�ر ذلك العمل (احلزبي)‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫و�سيكون من باب الإفا�ضات والنوافل‪-‬حتى ال نقول من‬ ‫التزيد يف اال�ستزادة ‪� -‬أن ن�ستدل على االنحطاط‪،‬‬ ‫باب‬ ‫ُّ‬ ‫دب �إىل عمران العمل احلزبي «التقدمي»‪ ،‬بالفاجعة‬ ‫الذي َّ‬ ‫واحدا هو «حزب‬ ‫االنتخابية الأخرية التي جعلت حزب ًا‬ ‫ً‬ ‫العدالة والتنمية» الإ�سالمي يح�صل على جمموع ما‬ ‫ح�صل عليه ثالثة �أح��زاب وطنية عريقة من املقاعد‬ ‫هي‪« :‬حزب اال�ستقالل» و«االحتاد اال�شرتاكي» و«حزب‬ ‫التقدم واال�شرتاكية»! ولي�ست الف�ضيحة ال�سيا�سية هذه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ل�سل�سلة‬ ‫وهي تاريخية وغري م�سبوقة‪� ،‬إال التتمة املنطقية‬ ‫من حل ٍ‬ ‫والرتهل يف البنى‬ ‫ْقات مت�صلة من عوامل التفكك‬ ‫ّ‬ ‫ال�سيا�سية والتنظيمية‪ ،‬ويف الر�ؤى واخليارات الربناجمية‬ ‫ا�ستقر عليها عمل تلك الأح��زاب والقوى يف‬ ‫التي‬ ‫ّ‬ ‫أخريين‪ ،‬وخا�صة منذ مطالع هذا القرن‪.‬‬ ‫العقدين ال ْ‬

‫ِ‬ ‫ت�ضاءلت الفروق بني‬ ‫ِح�ضن ال�سلطة ووزارة الداخلية‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫رائحة من‬ ‫بع�ض‬ ‫اجلبهتني حتى كادت �أن متَّحي لوال‬ ‫ُ‬ ‫املا�ضي تنبعث‪ ،‬بني فينة و�أخ��رى‪ ،‬فتبعث يف النف�س‬ ‫حنين ًا �أو ح�رس ًة �أو هما مع ًا جمتمعني!‬ ‫ كان لدينا ي�سار‪ ،‬قبل ثالثني عام ًا‪� ،‬أطلقنا عليه ا�سم‬ ‫احلركة التقدمية‪ ،‬متييز ًا �إيديولوجي ًا عن احلركة الوطنية‪،‬‬ ‫و�إ�رصار ًا على ر�ؤية م�سا ِئلَ و�آفاق جديدة مل تكن احلركة‬ ‫الوطنية تلْحظها يف �سنوات ال�ستينيات‪ .‬وكان «االحتاد‬ ‫اال�شرتاكي» قطب الرحى يف ذل��ك الي�سار‪ ،‬وعلى‬ ‫�أطرافه التنظيمات املارك�سية‪-‬اللينينية و«حزب التقدم‬ ‫واال�شرتاكية »‪ ،‬و� ْإن مل َت ْ�س َت ِقم العالق ُة بني هذه الأطراف‬ ‫دائم ًا‪� ،‬أو يف املعظم من �أطوارها التاريخية؛ لأ�سباب‬ ‫وبع�ضها الثاين ذات��ي‪ .‬لكن هذا‬ ‫مو�ضوعي‬ ‫بع�ضها‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫الي�سار ظل ي�ستطيع‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬ولفرتة عقدين كاملينْ ‪،‬‬ ‫�أن َي ْب ُ�سط �سلطانه الفكري وال�سيا�سي على املجتمع‬ ‫ِ‬ ‫قواه‬ ‫يني واملنظمات ال�شعبية ْ‬ ‫واملهنية‪ .‬هكذا �سيطرت ُ‬ ‫املَد ّ‬ ‫على املنظمات الطالبية والعمالية والثقافية‪ ،‬على نحو‬ ‫�سيطرتها على �ساحة ال�صحافة املكتوبة‪ ،‬وكان له يف‬ ‫ت�رصفه‬ ‫هذه ال�سيطرة الكفاية وال ُغ ْنية؛ لأنها و�ضعت حتت‬ ‫ّ‬ ‫من � ٍ‬ ‫أ�سف �أن معنى امل� ّؤ�س�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــية‬ ‫ٍ‬ ‫�صغُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر‬ ‫عند‬ ‫بع�ض َي ْ‬ ‫ٍ‬ ‫ويتقزم �إىل حدود و�سائليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫َّ‬ ‫�أو �أدواتية‪ :‬االقرتاع احلزبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي!‬ ‫ونحن ن�س�أل هنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‪:‬‬ ‫على َمن يقرتع املقرتعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون؟‬ ‫على برامج �أم على �أ�شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــخا�ص‬ ‫جدد يعرفون من �أين ت�ؤكل الكتــــــــــــــــــــــــــف؟!‬

‫ي�سار يفقد ر�ؤياه‬ ‫على �أن عامل الفراغ القيادي‪ ،‬وهو ُي ْط ِلعنا على غياب �شبك ًة هائلة من امل�ؤ�س�سات االجتماعية وال�شعبية ذات‬ ‫ا�ستخدامها يف‬ ‫املعتبرَ ة‪ ،‬كان َي َ�س ُعه‬ ‫البدائل القيادية وامل�ؤ�سَّ �سية‪ ،‬قد ال يكفي لتف�سري ظاهرة القوة التمثيلية‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫لقواه احلزبية‪.‬‬ ‫الفراغ الر�ؤيوي الذي تعانيه احلركة الوطنية والتقدمية ال�رصاع ال�سيا�سي رافد ًا عظيم ًا‬ ‫ُ‬ ‫عدة ك َّفت فيها عن تقدمي ر�ؤى ومن النافل القول �إن ذلك النفوذ الذي كان للي�سار‬ ‫املغربية منذ �سنوات ّ‬ ‫أتاه من دورٍ‬ ‫وبرامج‬ ‫ّ‬ ‫ت�شد �إليها قطاعات من ال�شعب‪ ،‬وحت�صل على يف هذا املحيط االجتماعي والوطني �إمنا م� ُ‬ ‫ٍ‬ ‫شِ‬ ‫ٍ‬ ‫وبناه على ر�ؤية َتل َْحظ‬ ‫م�ساندتها‪ .‬وتلك م�س�ألة مل تلتفت �إليها فتعريها انتباه ًا‪ ،‬ن� ط نه�ض به‪ ،‬يف ذلك الإبان‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ا�ست�صغرت �ش�أنها على نحوٍ يدعو �إىل الغرابة!‬ ‫و�إمنا‬ ‫�أهمية العمل يف الأط��ر االجتماعية الأو�سع بالن�سبة‬ ‫ْ‬ ‫ مل يعد للي�سار وقوى احلركة الوطنية يف املغرب �إىل �أية حركة �سيا�سية؛ فالي�سار‪ ،‬حينها‪ ،‬كان �صاحب‬ ‫اجتماعي‪�-‬سيا�سي‬ ‫م�رشوع‬ ‫اجتماعي‪�-‬سيا�سي‪ ،‬وامل�رشوع هذا كان م�رشوع‬ ‫تتميز به‪ ،‬وتتمايز‪ ،‬عن م�رشوع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حميطها من الأحزاب ال�سيا�سية الأخرى‪ :‬ما خرج منها التغيري اال�شرتاكي الدميقراطي لبنى الدولة واملجتمع‪ .‬وهو‬ ‫حقيقي ًا � َّأداه‪ ،‬بحما�سة‪،‬‬ ‫ونظري ًا‬ ‫فكري ًا‬ ‫�إىل الوجود من رحم املجتمع‪ ،‬وما �أب�رص النور منها يف م�رشوع كلّفه َجهد ًا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ ‪ 31‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬


‫مثقفوه و�أط� ُ�ر ُه و�أكادمييوه‪ :‬الذين و�ضعوا حتت ت�رصفه‬ ‫ر�ؤًى وبرامج عمل يف امل�س�ألة االجتماعية‪ ،‬ويف التنمية‬ ‫االقت�صادية‪ ،‬ويف �إدارة امل�ؤ�س�سات املحلية‪ ،‬ويف الهند�سة‬ ‫الدميقراطية للدولة‪ ،‬و�سوى ذلك من م�سائل كان ينبغي‬ ‫�أن ُيجاب عنها بربامج قابلة للتحقيق‪ .‬ومل يكن قليل‬ ‫ال�ش�أن �أن مدار هذا امل�رشوع كان على م�س�ألة احلقوق‬ ‫االجتماعية واالقت�صادية لل�شعب وطبقاته الكادحة‬ ‫والفقرية‪ ،‬وعلى العدالة يف توزيع الرثوة‪ ،‬وتقلي�ص الفجوة‬ ‫الطبقية يف املجتمع‪ ،‬و�إ�صالح القطاع العام وتفعيل‬ ‫�أدواره االقت�صادية‪ ،‬وتوفري فر�ص العمل للخريجني‬ ‫والعاطلني‪ ،‬وحماربة الف�ساد املايل والإداري‪ ،‬و�إجناز الإمناء‬ ‫املتوازن للمناطق واجلهات‪ ،‬ورفع التهمي�ش والعزلة عن‬ ‫العامل القروي‪ ،‬و�إعادة االعتبار �إىل القطاعات املنتجة‬ ‫(ال�صناعة والزراعة) على ح�ساب ت�ضخم القطاعات‬ ‫�داره على م�س�ألة احلقوق‬ ‫الطفيلية‪ ،‬الخ؛ مثلما كان م� ُ‬ ‫ال�سيا�سية واملواطنية لل�شعب‪ ،‬وعلى وجوب تر�سيخ‬ ‫احلياة الدميقراطية والتمثيلية وتطويرها‪ ،‬ومقاومة تزييف‬ ‫�إرادة ال�شعب‪ ،‬و�إلغاء القوانني والظهائر التي تحَ ُ ُّد من‬ ‫العامة وحقوق الإن�سان‪ ،‬و�إنهاء حالة االعتقال‬ ‫احلريات‬ ‫ّ‬ ‫وجد حامله ال�سيا�سي‬ ‫ال�سيا�سي‪ ،‬الخ‪ .‬وهو امل�رشوع الذي َ‬ ‫(احلزبي) وحواملَه االجتماعية الفاعلة‪ ،‬مبقدار ما �أكْ َ�س َب‬ ‫قواه �رشعي ًة يف بيئات اجتماعية عدة (الطبقة الو�سطى‪،‬‬ ‫العمال‪ ،‬فقراء �أحزمة الب�ؤ�س) ونفوذ ًا ملحوظ ًا‪.‬‬ ‫ّ‬

‫و«الوطنية»‪ ،‬من ر�أ�سمال الفكر واملعرفة! و�إىل ذلك‬ ‫ف�إن �سطوة البريوقراطية احلزبية املحرتفة على تقاليد‬ ‫ا�ستتب َع ْت نوع ًا �آخر خمتلف ًا من‬ ‫امل�ؤ�س�سات «الي�سارية»‬ ‫َ‬ ‫كبري احتفال �أو‬ ‫ال�سيا�سة والعمل احلزبي ال يحتفل‪،‬‬ ‫َ‬ ‫قدر احتفاله بو�سائل حت�صيل‬ ‫�صغريه‪ ،‬بالربنامج والر�ؤية ْ‬

‫ت�سويغ نظري‬ ‫و� ْأخل َْت مكانها لنقائ�ضها‪ ...‬حتى من دون‬ ‫ٍ‬ ‫لهذا االنتقال الفجائعي نحو �ضفاف �أخرى! وانتهى عهد‬ ‫العالقة بال�شعب والعمل يف قطاعاته لتحل حملها تقاليد‬ ‫�‬ ‫واخت صرِ‬ ‫املخاطبة الفوقية (يف ع�رص و�سائط االت�صال) !‬ ‫ُ‬ ‫جمرد مقاعد يف الربملان ما عاد‬ ‫الن�ضال الدميقراطي يف ّ‬ ‫يتحرج يف ا�ستح�صالها باملال ال�سيا�سي و�أعيانه‬ ‫«الي�سار»‬ ‫َّ‬ ‫�أ�سو ًة بغريه من القوى! الي�سار اليوم‪� ،‬إن جاز َن ْع ُته بهذا‬ ‫اال�سم‪ ،‬ذو عقيدة �أخرى خمتلفة‪ :‬الليربالية االقت�صادية‪،‬‬ ‫حزب «الأطر» ورجال‬ ‫والليربالية ال�سيا�سية‪ ،‬وهو بات‬ ‫َ‬ ‫الأعمال ال حزب اجلماهري‪ ،‬وحزب الرباغماتية ال�سيا�سية‬ ‫املنفلتة من � ّأي ِع َقال! ال جمال‪ ،‬بعد هذا‪ ،‬لل�س�ؤال عن‬ ‫�أ�سباب ا�ضمحاله و�أفوله وميل م�ؤ�س�ساته �إىل ال�صريورة‬ ‫كائنات ميكرو�سكوبية!‬

‫الي�سار اليوم‪� ،‬إن جـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاز‬ ‫ن َْع ُته بهذا اال�سم‪ ،‬ذو عقيدة �أخرى خمتلفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‪:‬‬ ‫الليربالية االقت�صاديـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‪،‬‬ ‫والليربالية ال�سيا�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــية‪،‬‬ ‫وهو بــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات‬ ‫حزب «الأطر» ورجال الأعمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــال‬ ‫َ‬ ‫ال حزب اجلماهري‪ ،‬وحزب الرباغماتيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫ال�سيا�سية املنفلتة من � ّأي ِع َقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــال!‬

‫هجرة املثقفني‬ ‫ما عاد يخامرنا �شك‪ ،‬منذ زمن غريِ ي�سري‪ ،‬يف �أن واحد ًا‬ ‫من � ْأظهرِ �أ�سباب الفقر الر�ؤيوي والربناجمي لدى‬ ‫َّ‬ ‫املنظم‬ ‫التهمي�ش‬ ‫الي�سار واحلركة التقدمية يف املغرب‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫انف�صال نكد بني‬ ‫ا�ستج َّر ُه ذلك من‬ ‫للمثقفني فيه‪ ،‬وما‬ ‫َ‬ ‫الفكر وال�سيا�سة‪ ،‬بني النظرية واملمار�سة‪ .‬لي�س هنا مقام‬ ‫التحوالت التي كان اجل�سم احلزبي املغربي‬ ‫احلديث يف‬ ‫ّ‬ ‫ميدان ًا لها‪ ،‬يف العقود الثالثة الأخرية‪ ،‬والتي �أف�ضت‬ ‫�إىل تغيرُّ ٍ هائل يف طبيعة القوى والنخب ال�سيا�سية فيه‪،‬‬

‫ح�صته من ال�سلطة‪ ،‬حتى �أن ن�شاط «الي�سار» اقت�رص‪،‬‬ ‫�أو كاد �أن يقت�رص‪ ،‬على االنتخابات الت�رشيعية واملحلية!‬ ‫ من الطبيعي �أن ال يجد املثقفون مكان ًا لهم يف مثل هذه‬ ‫البيئة النابذة‪ ،‬فيهجروها �أو ‪ -‬على الأقل ‪ -‬يقيمون معها‬ ‫بع�ض امل�سافة ال�رضورية التي حتفظ لهم ا�ستقالليتهم‬ ‫حر ونقدي‪ .‬ولقد كان َي َ�سع �أحزابنا‪ ،‬حتى مع‬ ‫ك�أهل ر� ٍأي ٍّ‬ ‫حتمل �أدوارهم فيها‪� ،‬أن ُي ْب ُقوا على‬ ‫برمها باملثقفني وعدم ّ‬ ‫ٍ‬ ‫أ�شكال من ال�صلة غريِ املبا�رشة بهم‪ ،‬ولو من طريق الإفادة‬ ‫�‬ ‫من املنتوج الفكري الذي ينتجونه يف ال�ش�أن العام‪ :‬يف‬ ‫م�سائل الدولة وال�سلطة‪ ،‬واالقت�صاد والتنمية‪ ،‬واالجتماع‬ ‫الأهلي وال�سيا�سي‪ ،‬وامل�س�ألة الدينية والثقافية‪ ،‬وامل�س�ألة‬ ‫االجتماعية و�سواها مما يتناولونه بالدر�س يف عملهم‬ ‫الأكادميي �أو بالر�أي يف الدوريات اليومية والأ�سبوعني‪.‬‬ ‫غري �أن �شيئا من ذلك مل يح�صل‪ ،‬من � ٍ‬ ‫أ�سف‪ ،‬على �شدة‬ ‫حاجة امل�ؤ�س�سة احلزبية �إليه؛ فكانت التلفيقية الفكرية‬ ‫وال�سيا�سية‪ ،‬واالنتقائية الرباغماتية‪ ،‬والعموميات اللفظية‬ ‫ال�سمات الأطغى على اخلطاب احلزبي «الي�ساري» بعد � ِأن‬ ‫ا ْف َر ْن َق َع املثقفون عن امل�ؤ�سَّ �سة احلزبية مكْ َرهني ال خمتارين‪.‬‬ ‫ مع ذل��ك‪ ،‬مل تكن الهجرة اال�ضطرارية للمثقفني‬ ‫املغاربة من �أح��زاب الي�سار وتنظيماته ‪-‬امل ُْعلَن منها‬ ‫وامل�سكوت ‪ -‬هجر ًة من ال�سيا�سة وال�ش�أن العام �أو طالق ًا؛‬ ‫فال�صلة بينها وال�سيا�سة ما انقطعت‪ ،‬وال انقطع لديهم‬ ‫ار ُهم يف �أح�سن حال‪.‬‬ ‫الرجاء والأم��ل يف �أن يروا َي َ�س َ‬ ‫ٍ‬ ‫�شكوك يف قدرة‬ ‫على ما كان يحا�رص ذلك الأمل من‬ ‫�أويل الأم��ر» من «ق��ادة الي�سار» على اج�تراح حلول‬

‫الي�سار ظل ي�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتطيع‪.‬‬ ‫كاملي �أن َي ْب ُ�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــط‬ ‫لفرتة عقدين‬ ‫نْ‬ ‫�سلطانه الفكري وال�سيا�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي‬ ‫يني واملنظمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات‬ ‫على املجتمع املَ ِد ّ‬ ‫واملهنيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‪.‬‬ ‫ال�شعبية ْ‬ ‫هكذا �ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيطرت‬ ‫قوا ُه على املنظمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات‬ ‫الطالبية والعمالية والثقافيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫جمرد ذكرى‬ ‫ مل َي ْب َق من ذلك كلِّه �إلاّ الأطالل‪ ،‬بل ّ‬ ‫بالتح�سرُّ ! ك�أن الذي يف�صل‬ ‫تبعث يف النف�س ال�شعور‬ ‫َ‬ ‫الي�سار عن ما�ضيه القريب لي�س ثالثة عقود فح�سب‪ ،‬بل‬ ‫ريحه!‬ ‫أذهب ْت َ‬ ‫ثالثة قرون نه�شت يف تراثه ومكت�سباته و� َ‬ ‫املرء �أن يطالع‪ ،‬اليوم‪� ،‬أدبياته‬ ‫ال َّ‬ ‫نتزيد يف ما نقول‪ ،‬يكفي َ‬ ‫هول ما انتهت �إليه �أحواله‪:‬‬ ‫و«براجمه» ليقف‪ ،‬بالعيان‪ ،‬على ْ‬ ‫تبخ ِ‬ ‫رت اال�شرتاكية وخياراتها االجتماعية‪-‬االقت�صادية‪،‬‬ ‫َّ‬

‫ ‪ 32‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫والتفتت‪ .‬ولقد‬ ‫ومعاجلات لظواهر بالغة البالء كال�ضمور‬ ‫ُّ‬ ‫كان ذلك احلر�ص يف �أ�سا�س �إقدام جمموعة من مثقفي‬ ‫الي�سار‪ ،‬م�ستقلني ومنتمني‪ ،‬على �صوغ وثيقة فكرية‪-‬‬ ‫�سيا�سية مو�سَّ عة حملت عنوان «بيان من �أجل وحدة‬ ‫الي�سار»‪ ،‬وذ ُِّيل َْت بتوقيع �ستة و�أربعني �شخ�صية من �أَ ْظ َهر‬

‫لكنها منا�سبة للقول �إن املثقفني ما عادوا يحتلون املكانة‬ ‫عي َنها التي كانت لهم يف مراكز القرار والتنفيذ يف‬ ‫امل�ؤ�س�سات احلزبية لأ�سباب ال تعود‪-‬قطع ًا ‪� -‬إىل عزوفهم‬ ‫عن ال�سيا�سة و�إبائهم تقل َّد امل�س�ؤوليات احلزبية‪ ،‬على نحو‬ ‫يروج َمن يعالنوهم اخل�صوم َة داخل الأحزاب‪ ،‬و�إمنا‬ ‫ما ّ‬ ‫لأ�سباب �أخرى لي�س �أقلّها �أن ر�أ�سمال املال والوجاهة‬ ‫بات �أدع��ى �إىل الطلب يف احلياة احلزبية «التقدمية»‬

‫ ‪ 33‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫الرموز الثقافية التقدمية يف املغرب‪ ،‬ورام مو ّقعوها توفري‬ ‫مادة فكرية‪�-‬سيا�سية مرجعية لعمل الي�سار يف املرحلة‬ ‫القادمة‪ ،‬وفتح نقا�ش عمومي يف امل�سائل التي �أثار ْتها‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ملراجعة نظرية حا�سمة‬ ‫اقرتحتها ماد ًة‬ ‫ويف العناوين التي‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫اعتقدت �أن على الي�سار �أن ُي ْقدم عليها بجر�أة يف �أفق‬ ‫املتذررة‪ .‬ومع �أن‬ ‫�إعادة بناء �أو�ضاعه‪ ،‬وتوحيد تنظيماته‬ ‫ِّ‬ ‫الوثيقة ن�شرِ ت منذ خريف العام ‪ ،٢٠١٢‬يف جريدة‬ ‫«�أخبار اليوم »‪ ،‬و�أعادت مواقع الكرتونية عدة ن�رشها‪،‬‬ ‫مثلما �أعادت جملة «النه�ضة» ن�رشها يف عددها الثاين‬ ‫ال�صادر حديث ًا‪� ،‬إال �أن جه ًة من �ساحة الي�سار مل ت�أبه لها‪،‬‬ ‫�صحفي ًا‪ ،‬وك�أنها �صادرة من جهة‬ ‫وال حتى تهتم ب�أمرها‬ ‫ّ‬ ‫جمهولة‪ ،‬وك�أن لدى الي�سار من الوثائق والر�ؤى ما يغنيه‬ ‫عنها! لقد �أح�سن املثقفون املو ّقعون على الوثيقة الظن‬ ‫ٍ‬ ‫بحوار‬ ‫وجهدهم‬ ‫بي�سارهم‪ ،‬فتوقعوا منه �أن يبادل مبادرتهم َ‬ ‫يفتحه يف م�ؤ�س�ساته الداخلية‪� ،‬أو يف �صحافته‪ ،‬ملناق�شة ما‬ ‫ورد فيها من �أفكار و�أطروحات و�أ�سئلة‪ .‬لكن ظنهم خاب؛‬ ‫�إذ كلٌّ يف ٍ‬ ‫فلك ي�سبحون‪ ،‬وامل� ّؤ�س�سة ما عادت تطيق ر�أي ًا‬ ‫يحا�سبها على تق�صريٍ ال ترى فيه تق�صري ًا‪ ،‬وهي ال تقبل‬ ‫كيل املدائح لها (على ماذا؟!)‪.‬‬ ‫من املثقفني �سوى ْ‬ ‫ �إن امل�ؤ�س�سة التي ال عقل لها ال ميكنها �أن تنجب غري‬ ‫الفجائع؛ الفهلو ُة‪ ،‬و»ال�شعبوية»‪ ،‬وا َ‬ ‫حللَقية ال تبني �سيا�سة‬ ‫فكيف تبني ي�سار ًا‪ ،‬وتهمي�ش املثقفني و�إق�صا�ؤهم من‬ ‫يحرر �أفكارهم و�أل�سنتهم من قيودها امل�رضوبة‬ ‫امل�ؤ�س�سة قد ّ‬ ‫ِ‬ ‫أهم مواردها وي�أخذها �إىل‬ ‫عليهم ولكنه ُي ْفقر امل�ؤ�سَّ �سة من � ّ‬ ‫ولكن �أكرث النا�س ال َي ْعلمون‪.‬‬ ‫املتاهة ال�سيا�سوية‪،‬‬ ‫ّ‬


‫الثورة اليمنية العاتية خا�صة و�أن روح هذه الثورة‬ ‫كان يتعدى �شعار ا�سقاط النظام �إىل ا�سرتداد الكرامة‬ ‫اليمنية التي عمل نظام �صالح على جتريفها كما جرف‬ ‫الأرا�ضي اليمنية يف اتفاقية الطائف‪ .‬كانت الكرامة‬ ‫اليمنية ُ�صلب الهتاف احلي الذي يطالب ب�سيادة القرار‬ ‫ال�سيا�سي يف اليمن و�سيادة حق هذا ال�شعب يف‬ ‫تقرير م�صريه وف ًقا حلرية كاملة وغري م�رشوطة‪ .‬لكن‬ ‫النظام ال�سعودي ونتيجة خلربة متمر�سة يف امت�صا�ص‬ ‫كل اهتزازات املنطقة العربية‪ ،‬كان عليه هذه املرة �أن‬ ‫يبدو طيب ًا و�أن ي�ستخدم ورقة �أخرى وهي ورقه حتالفه‬ ‫التاريخي مع نظام �صالح والقبائل املرتبطة به وبع�ض‬ ‫القوى ال�سيا�سية امل�شرتاة باملال‪ .‬لذا ا�ستطاع النظام‬ ‫ال�سعودي فر�ض «املبادرة اخلليجية» كت�سوية �سيا�سية‬ ‫مقبولة يف نظره ليبقى اليمن رهينة ل�رصاع مراكز‬ ‫النفوذ القبلية اليمنية وليظل يف حالة �سقم متوا�صلة‬ ‫يف انتظار يد اجلار العطوفة‪.‬‬

‫جار جيور‬ ‫اليمن‪ٌ :‬‬ ‫برشى المقطري �أفكر بهذا اجلار ال�ضخم و�أذاه العابر للحدود‪� .‬أذى قدمي‬ ‫يالحقك على �شكل عقال مهرتئ يخنق رئتك ومينعك‬ ‫كاتبة وناشطة‪ ،‬من التنف�س و�أنت حتاول اال�ستكانة جلار �ضخم يتفنن يف‬ ‫تعزّ ‪-‬اليمن‪ ,‬ام�ساكك من الرقبة كلما متل�صت من االرتهان ملزاجيته‬ ‫آخر أعمالها رواية العابثة يف التعامل مع �أخالقية اجل��وار وا�ستغاللها‬ ‫«خلف الشمس» والذي البد �أن يح�رشك يف نفق �ضيق كلما وجد حيلة‬ ‫(‪ )٢٠١٢‬لت�أكيد ابتزازه التاريخي‪.‬‬ ‫ االبتزاز التاريخي لهذا اجلار قدمي اي�ض ًا ف�أنت ال‬ ‫ت�ستطيع التنب�ؤ ب�سلوكه حيالك �أبد ًا‪ ،‬و�أنت ترى تدخله‬ ‫املفرط يف �ش�ؤونك الداخلية والتل�ص�ص على حياتك من‬ ‫نافذة مثقوبة ليملي عليك �أفعالك وطريقة حياتك‪ ،‬ولي�س‬ ‫عليك �أن تعرت�ض وتبدي قلة احليلة والعجز يف �صد هذا‬ ‫الأذى املتق�صد بل عليك ويف كل حلظة وجودية تعي�شها‬ ‫كيف‬ ‫�إبداء ا�ستعدادك القانع لتقبل هذا اجلوار الأبدي و ُت ّ‬ ‫نف�سك مع �رشوط مجُ حفة للقوة‪.‬‬ ‫القوة للنفط‬ ‫��شروط القوة كانت دائ��م� ًا ل�صالح اجل��ار ‪-‬النظام‬ ‫ال�سعودي‪ -‬لي�س لأ�سباب التفوق البيولوجي كما يعتقد‬ ‫البع�ض بقدر ما هو تفوق النفط يف ر�سم معادلة القوة‬ ‫يف واقع يعتمد على ميزان ال�سوق وخ�ضوع النظام يف‬ ‫اليمن الهتزازات كثرية منذ قيام اجلمهورية اليمنية عام‬ ‫‪ ١٩٦٢‬وحتى اللحظة وتدخل هذا النظام لفر�ض‬ ‫امالءات ال حترتم عالقة اجلوار و�إمنا تنطلق من �أر�ضية‬ ‫ال‬ ‫الأمن القومي للنظام ال�سعودي وكيف يرو�ض مث ً‬ ‫جاره ال�ضعيف �سيئ الرتبية‪ .‬لذا عليه �أن ي�ستخدم كل‬ ‫الأوراق يف جعل هذه اجلار مري�ضا وبحاجة لعملية‬ ‫انعا�ش متوا�صلة �أو يف حالة موت �رسيري حتى ال‬ ‫ي�شعر النظام ال�سعودي ب�أي تهديد ي�أتي من هذا اجلار‬

‫ ‪ 34‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫دائما على ظهره‪ .‬لذلك تنوعت �أوراق القوة‬ ‫امل�ستلقي‬ ‫ً‬ ‫التي ي�ستخدمها النظام ال�سعودي واختلفت باختالف‬ ‫الظروف املحيطة‪ .‬ففي كل مرحلة هناك ورقة جاهزة‬ ‫لك�رس الرقبة‪ .‬وهنا تربز �أهم ورقة يجيد لعبها النظام‬ ‫ال�سعودي وهي ق�ضية العمالة التي يلج�أ �إليها لي�س‬ ‫فقط حلب�س �أنفا�س اليمن و�إمنا كل بلد يحاول ممار�سة‬ ‫ا�ستقالليته ال�سيا�سية بعيد ًا عن امالءاته‪ .‬فالأعمال‬ ‫العدائية التي انتهجها �ضد العمالة العربية حتتاج‬ ‫ملقاربات كثرية ال�ستقراء هذه الذهنية يف التعاطي‬ ‫مع الآخر املختلف املقيم يف �أرا�ضيه والتي تكفل له‬ ‫كل ال�رشائع االن�سانية والديانات ال�سماوية العي�ش‬ ‫الكرمي لكن ذهنية النظام ال�سعودي ظلت ت�ستخدم‬ ‫العمالة العربية ورقة للتدخل يف ال�ش�ؤون الداخلية‬ ‫لهذه البلدان وجتيريها ل�صالح هذه العقلية املنغلقة التي‬ ‫تكر�س مبد�أ انتهاك الآخر العربي والأ�سيوي والأفريقي‬ ‫ّ‬ ‫وكل جن�سية طارئة قادمة من وراء حدود النفط ومل‬ ‫ي�ستثن �أحد ًا من هذا العدوان اليومي‪.‬‬ ‫ ا�ستخدم النظام ال�سعودي ورقة العمالة �ضد البلدان‬ ‫العربية قبل ثورات الربيع العربي‪ ،‬وكانت هناك �أزمات‬ ‫متوا�صلة بلغت �إىل حد رف�ض هذا االمتهان و�إغالق‬ ‫ال�سفارات ال�سعودية يف م�رص قبل �أع��وام وكذلك‬ ‫يف ليبيا وغريها من البلدان‪ .‬وحني قامت الثورات‬ ‫يف البلدان العربية وج��د النظام ال�سعودي نف�سه‬ ‫�شبه معزول وعليه �أن يخلق خطط ًا ذكية المت�صا�ص‬ ‫الغ�ضب العربي من تدخالته التي ال تنتهي‪ ،‬وهنا وجد‬ ‫نف�سه احلار�س الوحيد ل�صد رياح التغيري عن �شباكه‬ ‫بل وتغيري دفة هذه الرياح يف بلدان الثورات وتعديل‬ ‫قوتها‪ ،‬و�أحيانا حب�سها يف قنينة كما فعل مع ثورة‬ ‫البحرين‪ .‬وبالدرجة ذاتها كان عليه �أن ي�صد رياح‬

‫ترحيل ‪ ٢٠٠‬الف واعتقال ‪٢٥٠٠‬‬ ‫ظلت �صورة اجلار العطوف والراعي الطيب للمبادرة‬ ‫اخلليجية هي امل�سيطرة على م�شهد العالقات ال�سعودية‬ ‫اليمنية اثناء املرحلة االنتقالية‪ ،‬واختفت ورقة العمالة‬ ‫ال من الوقت لتظهر من جديد �أثناء احلوار‬ ‫اليمنية قلي ً‬ ‫الوطني اليمني ليعود النظام ال�سعودي اىل حيلته القدمية‬ ‫واللعبة التي يتفنن فيها الذالل احلكومة اليمنية ليد�شن‬ ‫هذه املرة حملة اجلوازات ومطاردة العمالة ال�سائبة على‬ ‫حد و�صفه‪� ،‬أو حملة تطهري البالد كما اطلق عليها بع�ض‬ ‫املثقفني ال�سعوديني املتع�صبني‪ ،‬لتتزامن هذه احلملة مع‬ ‫تعدت فر�ض قانون العمل‬ ‫عملية (فجر‪ )٣‬الأمنية التي ّ‬ ‫ال�سعودي اجلديد على العمالة اليمنية �إىل مالحقتهم‬ ‫يف �أرزاقهم و ُق ْوتهم اليومي وم�صادرة الإقامات ومتزيق‬ ‫كثري منها‪ .‬لت�صل هذه احلملة الهوجاء املعادية لكل ميني‬ ‫مقيم يف ال�سعودية �إىل ترحيل �أكرث من مائتي �ألف ميني‬ ‫دون جنحة �أو �إخالل بالقوانني ال�سعودية‪ ،‬بالإ�ضافة‬ ‫�إىل حملة اعتقاالت وا�سعة حيث و�صل عدد ال�سجناء‬ ‫اليمنيني يف ال�سجون ال�سعودية لأكرث من ‪ ٢٥٠٠‬ميني‬ ‫ح�سب �إح�صائيات بع�ض املنظمات احلقوقية اليمنية‪،‬‬ ‫لتتوج هذه املمار�سات ببناء �سياج عازل على طول‬ ‫احلدود اليمنية ال�سعودية والتي ت�صل �إىل �أكرث من‬ ‫‪ ١٤٥٠‬كيلومرت ك�أطول �سياج عازل يف العامل‪.‬‬ ‫ �أدرك النظام ال�سعودي �أن هذه الورقة املُملة –‬

‫ ‪ 35‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬


‫مطاردة العمالة ‪� -‬ستجلب له كثري ًا من احلرج لي�س �أمام‬ ‫�شعبه بل �أمام املنظمات احلقوقية الدولية التي بد�أت‬ ‫الآن تقتفي �أثر االنتهاكات ال�سعودية‪ .‬وجد النظام‬ ‫ال�سعودي نف�سه يبحث عن حيلة �أخرى �أكرث رواج ًا‬ ‫وعاطفية تقوم على ا�ستثارة امل�شاعر الطائفية عند‬ ‫ال�سعوديني واخلليجيني‪ ،‬لي�صبح النظام ال�سعودي هذه‬ ‫ال�سنة يف مواجهة‬ ‫املرة هو النظام البطل حامي حمى ُ‬ ‫التمدد الإيراين ال�شيعي يف املنطقة الذي يريد �رش ًا‬ ‫بال�سنة ويريد �إحراقهم واخراجهم عن طائفتهم‪ .‬فالنظام‬ ‫ّ‬ ‫االيراين وفق هذا املنطق يقوم حالي ًا ب�أعمال عدائية‬ ‫�ضد النظام ال�سعودي عرب ا�ستخدام املغرتبني اليمنيني‬ ‫داخل الأرا�ضي ال�سعودية وكذلك الأفارقة املت�سللني‪.‬‬ ‫وهو ما روجت له كتابات عديد من مثقفي ال�سلطة يف‬ ‫�إىل متى �ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتظل‬ ‫ورقة العمالـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫اليمنية والعربيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫والآ�سيويــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫ع�صى غليظة ت�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتخدم‬ ‫�ضد �شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــعوب‬ ‫الله الفقيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرة‬ ‫امل�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت�ضعفة‪.‬‬ ‫اخلليج‪ ،‬ونذكر منها ما كتبه الكويتي الدكتور عبد الله‬ ‫النفي�سي الذي ا�ست�أ�سد مع النظام ال�سعودي يف حملته‬ ‫�ضد اليمنيني‪ ،‬وبرر ذلك ب�أن �إيران ا�ست�أجرت جزيرة‬ ‫(دهلك) اليمنية فيها �آالف اليمنيني والأفارقة لتدريبهم‬ ‫ع�سكري ًا ا�ستعداد ًا ليوم الف�صل بدعم من الفئة ال�ضالة‬ ‫(احلوثيني) على حد و�صفه‪ .‬وهنا يربز ده��اء النظام‬ ‫ال�سعودي يف اعتماده على هذه احلجة الواهية‪ ،‬وهي‬ ‫التخندق الطائفي‪ ،‬كونها الطريقة الوحيدة يف الدفاع‬ ‫ال�ساذج عن �أنظمة تنتهك حقوق �شعوبها وحقوق‬ ‫ال�شعوب الأخرى بالبحث عن عدو خارجي‪ .‬عدو ال‬ ‫يختلف يف العقيدة و�إمنا يختلف يف الطائفة وي�ستمد‬ ‫الكراهية من تاريخ موغل يف ال�رصاع الطائفي املنهك‪،‬‬ ‫خ�صو�ص ًا �أن هذه الورقة جنحت يف حتجيم ثورات الربيع‬ ‫العربي وحتويلها من ثورات �شعوب حية تطيح الأنظمة‬ ‫الفا�سدة �إىل ثورات حروب الطوائف‪ .‬وما يحدث يف‬ ‫�سورية والبحرين وم�رص واليمن اليوم دليل على‬ ‫انت�صار عقلية الطائفة على عقلية الوطن‪.‬‬

‫ ‪ 36‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫عذر املذهبية‬ ‫فعقلية الطائفة املباركة �أو الطائفة املُختارة �أو الطائفة‬ ‫الناجية من النار جعلت من النظام ال�سعودي درع‬ ‫ال�س ّنة الأخ�يرة يف مواجهة النظام االي��راين‪ ،‬الدرع‬ ‫احل�صينة لل�شيعة‪ ،‬اللذين ي�شرتكان يف القبح ذاته ويف‬ ‫العقلية الدينية الأ�صولية ون�رش الكراهية لل�سيطرة على‬ ‫ثورات فقدت هي الأخرى اختبار �صالبتها يف احلفاظ‬ ‫على امل�شرتك الإن�ساين‪.‬‬ ‫ال‬ ‫ ‬ ‫ل�ست �ضد �أن يبني اجلار ال�سعودي جدا ًرا عاز ً‬ ‫ُ‬ ‫يف�صل بني ي�أجوج اليمني وم�أجوج ال�سعودي‪ ،‬ليبلغ‬ ‫هذا اجل��دار العازل �سقف ال�سماء ال�سابعة �إذا كان‬ ‫هذا اجلدار العازل �سيحقق الأمن الواهي لهذا النظام‬ ‫املذعور من الآخر ويجعله نظام ًا م�ستقر ًا يحقق الرفاه‬ ‫ل�شعبه ويحرتم حقوق رعاياه‪ .‬لكن هناك مع�ضلة‬ ‫�أخالقية ت�ستقيم يف ر�أ�سي كحديد �صدئ وجتعلني‬ ‫�أت�ساءل هنا‪ :‬ما مقدار اله�شا�شة التي ي�شعر بها هذا‬ ‫النظام والأنظمة اخلليجية من الآخر املختلف؟ و�إىل‬ ‫متى �ستظل ورقة �إيران ويوم الف�صل �صاحلة املفعول‬ ‫يف الذهنية ال�سعودية واخلليجية املنكفئة على ذاتها‬ ‫وجتعله �سبب ًا ملح ًا يف ا�شعال حروب طائفية يف البلدان‬ ‫الأخ��رى التي كانت تنعم ب�سلم اجتماعي بعيد ًا عن‬ ‫م�سمى الطائفة والديانة؟ �إىل متى �ستظل ورقة العمالة‬ ‫اليمنية والعربية والآ�سيوية ع�صى غليظة ت�ستخدم �ضد‬ ‫�شعوب الله الفقرية امل�ست�ضعفة؟‬ ‫ للأ�سف ما زال ال�شعب اليمني م�ست�ضعف ًا حتى بعد ثورة‬ ‫‪ ١١‬فرباير التي �أطاحت �صالح‪ .‬و�سبب ال�ضعف اليمني‬ ‫ال يرجع �إىل ا�ستكانة هذا ال�شعب لتجاوزات جار متبجح‪،‬‬ ‫بل امل�شكلة تقبع يف ر�أ�س ال�سلطة اليمنية التي ما زالت‬ ‫والءاتها عابرة للحدود ترتكز على الرباغماتية واخل�ضوع‬ ‫حتتج احلكومة اليمنية على ما‬ ‫لإمالءات اجلار القوي‪ .‬فلم ّ‬ ‫يطال املغرتبيني اليمنيني يف ال�سعودية من تنكيل و�إهدار‬ ‫لكرامتهم بل �صمتت يف حماولة المت�صا�ص الغ�ضب‬ ‫ال�شعبي يف الداخل‪ .‬والأنكى من ذلك �أن بناء اجلدار‬ ‫احلدودي العازل كان مبوافقتها وفق ًا لت�رصيح �أمري ع�سري‪.‬‬ ‫ وهنا ما الذي على اليمني �أن يفعله �أمام ا�ستمرار‬ ‫الأذى واالبتزاز التاريخي؟ ما الذي عليه �أن يفعله جتاه‬ ‫حكومة خانعة ال متلك �أي قرار �سيادي ينت�رص ل�شكاوى‬ ‫اليمني احلزين؟ رمبا ال �شيء حتى الآن �سوى �أن نظل‬ ‫نبكي روح ال�شهيد ابراهيم احلمدي ذلك الرجل الطيب‬ ‫الذي كان �صلب ًا يف مواجهة جار �سيئ‪.‬‬

‫مقابلة اشملة مع فواز طرابليس‬ ‫عن الثورة واحلرب يف سورية‬ ‫حممد العطار‬ ‫مرسحي وناشط‬ ‫سوري‬

‫اخت��ذ ف��واز طرابليس المفكر والكاتب اللبناين والمناضل ال��ي�ساري العتيد‪ ،‬م��واق��ف واض��ح��ة يف دع��م ال��ث��ورات‬ ‫ال‪ ،‬توج هذا يف كتابه «الدميقراطية ث��ورة» (‪ .)2012‬وقد شغل طرابليس‪،‬‬ ‫العربية‪ ،‬فواكهبا ُمتابع ًا وكاتب ًا حُ‬ ‫ومل ً‬ ‫األس��ت��اذ اجلامعي وال��م��ؤرخ‪ ،‬موقع المثقف الفاعل ال المراقب فحسب يف حلظات مفصلية يف ت��ارخي المنطقة‬ ‫المعارص من لبنان إىل اليمن‪ .‬من مؤلفاته‪« :‬عن أمل ال شفاء منه‪ ،‬دفاتر حصار بريوت» ‪« .1982‬الماركسية‬ ‫وبعض قضايانا العربية» ‪« .1985‬وعود عدن – رحالت مينية» ‪« .2000‬تارخي لبنان احلديث» ‪ .2008‬وله عدد‬ ‫القيمة جلون ريد وأنطونيو غراميش وجون برجر وإدوارد سعيد‪ .‬الأشن السوري يشغل احلزي األ كرب‬ ‫من الرتمجات ّ‬ ‫من ه��ذه المقابلة‪ ،‬مبا يف ذل��ك األدوار الدولية واإلقليمية المتداخلة يف الملف ال��س��وري‪ ،‬وع�لى رأهس��ا طبيعة‬ ‫ال��دور األمريكي‪ ،‬إضافة إىل أداء المعارضة السياسية‪ .‬احل��وار يتطرق أيض ًا للعالقة الاشئكة اليت تربط أطراف ًا‬ ‫لبنانية خمتلفة بالثورة السورية‪ .‬إضافة إىل رصد موقع الياسر من الثورات العربية والثورة السورية عىل وجه‬ ‫اخلصوص‪ ،‬وكذلك دور المثقفني وموقعهم‪ُ .‬أجري احلوار يف بريوت‪.‬‬

‫ حممد العطار‪ :‬مع اقرتاب الثورة ال�سورية من �إمتام‬ ‫عامها الثاين‪ ،‬يف ظل ت�صعيد العنف ب�شكل غري م�سبوق‬ ‫من قبل �آلة النظام الع�سكرية املنفلتة من كل عقال‪،‬‬ ‫ويف املقابل هناك ا�شتداد لذراع املقاومة الع�سكرية‬ ‫للمعار�ضة‪ ،‬لكن دون �أن يلوح يف الأفق القريب �أي‬ ‫قدرة على ح�سم ع�سكري‪� .‬أما امل�شهد ال�سيا�سي‪ ،‬فلم‬ ‫يبد يوم ًا �أ�شد تعقيد ًا مما يبدو عليه اليوم‪ .‬كيف تقر�أ‬ ‫الو�ضع ال�سوري الراهن وتطوراته املُحتملة؟‬ ‫ فواز طرابل�سي‪ :‬من البداهة القول �أن الأزمة ال�سورية‬ ‫الدموية �شديدة التعقيد‪ .‬لكن التعقيد ال يعني ا�ستحالة‬ ‫التفكري فيها وتفكيكها �إىل عنا�رصها الأولية وحماولة‬ ‫ر�صد اجتاهات تطورها‪ .‬يف العام املن�رصم‪ ،‬الذي مل‬ ‫يختلف كثري ًا عن العام الذي �سبقه‪ ،‬وحتديد ًا منذ اندالع‬ ‫االحتجاجات ال�سلمية التي طالبت ب�إ�صالحات حمدودة‪،‬‬ ‫�أبرزها �إلغاء حالة الطوارئ‪ ،‬كانت �إجابة النظام ومنذ‬ ‫البدء هي نف�سها‪ .‬بداي ًة رف�ض النظام االعرتاف بوجود‬ ‫ق�ضايا داخلية يجب عالجها‪ .‬جاءت املقاربة الأمنية‬ ‫الأوىل �رصيحة ومبا�رشة‪ .‬ا�س ُتبدلت حالة الطوارئ‬

‫ ‪ 37‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫بقانون مكافحة الإرهاب‪ ،‬قبل �أن ُتتوج املقاربة الأمنية‬ ‫مبجزرة �ساحة ال�ساعة يف حم�ص‪ ،‬يف نية وا�ضحة ملنع‬ ‫تكرار ما ح�صل يف تون�س وم�رص وحتى اليمن من‬ ‫احتالل حركات االحتجاج لل�ساحات العامة‪.‬‬ ‫ وهنا يجب الت�أكيد �أن قانون الإرهاب كان موجه ًا‬ ‫ال‪ ،‬يف ا�ستمرار النهج نف�سه الذي‬ ‫للواليات املتحدة �أو ً‬ ‫اعتمده الطغاة العرب والقائم على التودد للأمريكيني عرب‬ ‫ر�سالة ُمكررة فحواها �أنهم م�ساهمون يف احلرب العاملية‬ ‫�ضد الإرهاب‪ ،‬على �أمل تر�سيخ �رشعيتهم اخلارجية �ضد‬ ‫�شعوبهم‪ .‬ولي�س من قبيل امل�صادفة �أن يلقى هذا التوجه‬ ‫ترحيب ًا عظيم ًا �أي�ض ًا لدى االحتاد الرو�سي بهواج�سه‬ ‫جتاه جمهوريات �آ�سيا الو�سطى وحروبه الدموية يف‬ ‫ال�شي�شان‪ .‬تال ذل��ك النظر �إىل حركات االحتجاج‬ ‫اجلماهريية مبا هي حرب تتطلب ردود ًا ع�سكرية‪ ،‬ولي�س‬ ‫جمرد عمليات �أمنية‪ .‬مل يتغري هذا اخليار �إىل الآن‪ .‬هي‬ ‫حرب وما زالت حرب ًا‪ ،‬و�إن حتولت م�ؤخر ًا �إىل حرب �ضد‬ ‫«تنظيم القاعدة»‪ ،‬بعد �أن كانت حرب ًا �ضد «املجموعات‬ ‫التخريبية»‪ .‬واملالحظ �أن هذه احلرب املُعلنة ترافقت‬


‫مع وعود احل�سم واالنت�صار‪ .‬مل يحدث ذلك بالطبع‪،‬‬ ‫بالرغم من االرتقاء النوعي بالعمل الع�سكري عن‬ ‫طريق االعتماد املتزايد على �سالح الطريان‪ .‬وهو رغم‬ ‫كل �شيء �سالح ذو حدين‪ .‬ف�إن كان يعلن �أن النظام لن‬ ‫يتورع عن �أي �شيء لإحداث �أفدح اخل�سائر الب�رشية‬ ‫و�أو�سع الدمار وموجات النزوح‪� ،‬إال �أن اللجوء �إىل‬ ‫الطريان احلربي يعلن �إفال�س �سيا�سة احل�سم‪ .‬فال ميكنك‬ ‫تدمر قدر ما يحلو‬ ‫ك�سب املعارك فقط ب�سالح اجلو‪ .‬قد ّ‬ ‫لك ولكن لن ت�سيطر على الب�رش �إال �إذا �سيطرت على‬ ‫ال‪ .‬وهذا بات يف حكم امل�ستحيل اليوم‪ ،‬وقد‬ ‫الأر�ض �أو ً‬ ‫خ�رس جي�ش النظام ال�سيطرة على الق�سم الأكرب من‬ ‫�أطراف و�ضواحي املدن‪ .‬ويف ظل تعذر ذلك‪ ،‬لن يتحقق‬ ‫«احل�سم املوعود»‪ .‬ذلك �أن املعار�ضة امل�سلحة ت�ستطيع �أن‬ ‫تخ�رس معارك دون �أن تكون �أي معركة منها هي املعركة‬ ‫الفا�صلة بالن�سبة �إليها‪.‬‬ ‫االقانيم االربعة لل�سيا�سة االمريكية‬ ‫الوجه الأول لهذه الأزمة �إذ ًا هو رف�ض النظام االعرتاف‬ ‫بوجود �أزمة داخلية مركبة‪ ،‬مرتافقة مع �أزمة يف موقع‬ ‫النظام من �رصاعات املنطقة‪ ،‬ترتاكم منذ �أربعة عقود‬ ‫من الزمن قبل �أن ت�ؤدي �إىل االنفجار‪ .‬والوجه الثاين‬ ‫هو �إمعان النظام يف ممار�سة ما �سميته �سابق ًا «خورجة‬ ‫الأزمة»‪� ،‬أي حتميلها �سلف ًا لأطراف خارجية‪� .‬أكان ذلك‬ ‫بادعاء �أنها محُ ّركة من �أطراف خارجية �أو باللجوء �إىل‬ ‫تو�سيط �أط��راف خارجية يف النزاع بينه وبني �أجزاء‬ ‫�أ�سا�سية من �شعبه‪ .‬دعنا نتذكر �أن �أول خورجة هي‬ ‫تعريف ال�رصاع على انه يف امتداد «احلرب العاملية �ضد‬ ‫الإرهاب»‪ .‬من جهة �أخرى‪ ،‬متثلت اخلورجة بت�سليم تركيا‬ ‫الو�ساطة يف احلل‪ ،‬قبل �أن يكت�شف الأتراك الحق ًا �أنهم‬ ‫ا�س ُت ِ‬ ‫خدموا فقط ل�رشاء الوقت على �أمل حتقيق ح�سم‬ ‫ع�سكري مل يتحقق‪ .‬حدث هذا التو�سيط مع القطريني‬ ‫�أي�ض ًا الذين نقلوها مع ال�سعوديني �إىل جامعة الدول‬ ‫العربية‪ .‬قبِل النظام مبادرة اجلامعة العربية‪ ،‬وا�ستخدمها‬ ‫للغر�ض ذاته‪ ،‬منحه املزيد من املهل على �أمل احل�سم‬ ‫الع�سكري‪ .‬و�أخ�ير ًا ُنقلت الأزم��ة ال�سورية �إىل الأمم‬ ‫املتحدة وجمل�س الأمن‪ ،‬حيث جنح النظام يف احل�صول‬ ‫على غطاء رو�سي و�صيني‪ .‬وتولدت يف نف�س الوقت‬ ‫�رشاكة تناف�سية �أمريكية‪ /‬رو�سية حول الأزمة ال�سورية‬ ‫عبرّ ت عنها مهمتا كويف �أنان والأخ�رض الإبراهيمي‪.‬‬ ‫يف مقابل ذلك‪ ،‬مت �إلغاء غري م�سبوق ل�شعب كامل مع‬

‫ ‪ 38‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫عن الأمن واال�ستقرار على احلدود ال�شمالية لفل�سطني‬ ‫املُحتلة‪ .‬فلي�س �صدفة �أن تكرر ال�سيا�سة الأمريكية‬ ‫تطبيق الرت�سيمة �إياها التي جرت حماوالت تطبيقها يف‬ ‫تون�س وم�رص واليمن‪ :‬دعوة الرئي�س �إىل التنحي لنائبه‬ ‫لإنقاذ النظام بتعديالت طفيفة‪ .‬يف حده الأدنى‪ ،‬كان على‬ ‫البديل لذلك النظام �أن ي�ستطيع الإم�ساك باجلي�ش لغر�ض‬ ‫املهمة اجليوا�سرتاتيجية �إياها‪ :‬حفظ الأمن واال�ستقرار‬ ‫على احلدود ال�شمالية لإ�رسائيل وان ي�ستطيع يف الوقت‬ ‫ذاته �ضبط حزب الله‪ ،‬الذي يتم التعامل معه يف الدوائر‬ ‫الغربية مبا هو قوة ع�سكرية غري نظامية‪ ،‬حتتاج �إىل‬ ‫دولة م�س�ؤولة عنها‪ ،‬وهذه الدولة كانت وال تزال الدولة‬ ‫ال�سورية‪ .‬من هنا �إن �أردنا تف�سري اال�ستنكاف الأمريكي‬ ‫عن التدخل الع�سكري يف �سوريا‪ ،‬فهو عدم وجود بديل‬ ‫جاهز لتلك املهمات‪� .‬أ�ضف �إىل هذا �أن الإدارة الأمريكية‬ ‫�أفادت من جتربة العراق من حيث �سلبيات حل اجلي�ش‬ ‫فباتت حري�صة على بقاء اجلي�ش ال�سوري متما�سكا‪ ،‬كما‬ ‫عبرّ عن ذلك وزير الدفاع بانيتا غري مرة‪.‬‬ ‫ من جهة ثانية‪ ،‬لو افرت�ضنا �أن املخططات الأمريكية‬ ‫والغربية ترمي �إىل تدمري �سوريا برمتها وجتزئتها‪� ،‬شعب ًا‬ ‫�إن مل يكن كيان ًا‪ ،‬كما يقول �أ�صحاب نظرية «امل�رشوع‬ ‫الأمريكي الإ�رسائيلي» و«ال�رشق الأو�سط اجلديد»‪،‬‬ ‫فقد توىل النظام بذاته هذه املهمة وقد فاقت خميلته‬ ‫يف القتل والتدمري �أكرث العقول ال�رشيرة يف وا�شنطن‪.‬‬ ‫ال من �أن‬ ‫ال�س�ؤال‪ :‬ملاذا مل يت�صالح النظام مع �شعبه بد ً‬ ‫يعترب معار�ضيه عمالء للخارج؟ ملاذا مل يقطع الطريق‬ ‫على اخلارج؟ ملاذا ي�ؤثر �أن يفاو�ض �أ�سياد �شعبه املنتف�ض‬ ‫يف اخلارج؟ ل�سائل �أن ي�س�أل‪ :‬وكيف تف�سرّ واحلالة هذه‬ ‫ال�رضبة الإ�رسائيلية؟ �إنها بداية التدخل يف ال�رصاع‬ ‫ال�سوري ب�أهداف وا�ضحة‪� :‬إ�ضعاف القدرة القتالية‬ ‫ال�سورية‪ ،‬وال�سعي للق�ضاء على ما متتلكه �سوريا من‬ ‫�سالح كيميائي و�أ�سلحة �صاروخية متطورة‪ ،‬وهذه‬ ‫قوة ردع ال ي�ستهان بها‪ ،‬وطبع ًا وقف �إمداد حزب الله‬ ‫بال�سالح‪ .‬وميكن �أن ي�ضاف �إىل ذلك من قبيل اال�ستباق‪،‬‬ ‫جمابهة منو القوى اجلهادية داخل املعار�ضة امل�س ّلحة‬ ‫(بناء �رشيط مكهرب على احلدود)‪.‬‬ ‫ باخت�صار‪� ،‬أعتقد �أن وهم احل�سم قد انتهى مع �أفول‬ ‫العام وف�شل �سيا�سة التدمري املنتظمة بوا�سطة الطريان‪.‬‬ ‫يف املقابل ت�سهم املعار�ضة امل�سلحة بثبات يف تقوي�ض‬ ‫القوة الع�سكرية للنظام‪ ،‬ولكنها ال متلك الأ�سلحة الكافية‬ ‫لقلب موازين القوى ل�صاحلها‪ .‬ووا�ضح �أن ال�سيا�سات‬

‫مطالبه‪ ،‬وما ترافق مع تعليل العامل ب�إ�صالح وعد به‬ ‫النظام �شهور ًا‪ ،‬قبل �أن يتفتق عن د�ستور يع ّزز من‬ ‫ال�سلطات اال�ستبدادية الدكتاتورية لرئي�س الدولة‪.‬‬ ‫ال تف�صيلي ًا تتناول‬ ‫ م‪.‬ع‪� :‬أذكر �أنك كتبت يف حينه مقا ً‬ ‫فيه الد�ستور اجلديد‪.‬‬ ‫ذكرت‬ ‫ ف‪.‬ط‪ :‬نعم هناك �شيء مذهل لدى قراءته‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫حينها �أن �صالحيات الرئي�س ال�سوري املن�صو�ص عليها‬ ‫يف الد�ستور اجلديد ال تقل ا�ستبدادية عن �صالحيات‬ ‫�أمري قطر‪ .‬عودة �إىل مو�ضوع العامل اخلارجي يف الثورة‬ ‫ال�سورية‪� .‬أريد �أن �أتوقف عند املوقف الأمريكي‪ .‬املعلوم �أن‬ ‫املعار�ضة ال�سورية قد انق�سمت حول التدخل اخلارجي‪.‬‬ ‫فهناك طرف قد رحب بالتدخل اخلارجي �أو حتى طالب‬ ‫به �رصاح ًة‪ ،‬وطرف �آخر رف�ضه‪� .‬إال �أن الطرفني يتحمالن‬ ‫امل�س�ؤولية اليوم لتقدمي تف�سري حول هذا اخلالف‪ ،‬على‬ ‫اعتبار �أن اخليار الليبي مل يكن للحظة مطروح ًا‪ .‬حقيقة‬ ‫الأمر �أن الأمريكيني امتلكوا موقف ًا وا�ضح ًا وواحد ًا منذ‬ ‫بداية الثورات يف العامل العربي‪ ،‬يف م�رص دعموا تنحي‬ ‫مبارك ل�صالح نائبه‪ ،‬ف�أف�شل ال�شعب الثائر ذلك وقطع‬ ‫الطريق على عمر �سليمان‪ .‬يف تون�س ُترك املو�ضوع‬ ‫للفرن�سيني‪ .‬يف احلالتني رف�ض اجلي�ش التدخل الدموي‬ ‫�ضد ال�شعب‪ ،‬وجرى الت�ضحية بالرئي�س على �أمل �إنقاذ‬ ‫النظام‪ .‬يف اليمن‪ ،‬ال�سفري الأمريكي قاد احلل الذي‬ ‫�صاغته املبادرة اخلليجية‪ ،‬عرب تن�صيب نائب علي عبد‬ ‫الله �صالح بالبيعة‪ ،‬وبقاء قطاعات �أ�سا�سية من القوات‬ ‫امل�سلحة بقيادة �أبناء �صالح �أو �أقاربه بحجة �أنها حتارب‬ ‫املت�رسعة لتكرار‬ ‫تنظيم القاعدة‪ .‬باعتقادي �أن القراءة‬ ‫ّ‬ ‫ال�سيناريو الليبي �أغفلت الفارق بني احلالة الليبية و�سائر‬ ‫احلاالت‪� .‬إن قوام �سيا�سة الواليات املتحدة يف املنطقة‬ ‫هي الأمن‪ :‬امن �إ�رسائيل ثم �أمن النفط ثم تغليب الأمن‬ ‫على كل اعتبار �آخر من خالل فر�ض «احلرب العاملية‬ ‫�ضد الإرهاب» �أولوية مطلقة على العامل �أجمع‪ ،‬و�أخري ًا‬ ‫ولي�س �آخ��ر ًا‪ :‬ا�ستكمال فر�ض التعديالت الهيكلية‬ ‫النيوليربالية على املنطقة ح�سب �إم�لاءات �صندوق‬ ‫النقد الدويل والبنك الدويل‪.‬‬ ‫ هذه الأقانيم الأربعة هي التي حتكمت بال�سيا�سات‬ ‫الأمريكية جتاه �سوريا‪ .‬وكانت وال تزال تلك ال�سيا�سات‬ ‫تت�أرجح بني الرغبة يف �إ�ضعاف وتفكيك احللف الإيراين‪-‬‬ ‫ال�سوري وبني احلفاظ على الأو�ضاع القائمة على احلدود‬ ‫ال�شمالية لدولة �إ�رسائيل‪ .‬فالنظام ال�سوري ما زال يعترب‬ ‫ال عن بلدين (�سورية ولبنان) وهو م�س�ؤول �أي�ض ًا‬ ‫م�س�ؤو ً‬

‫ ‪ 39‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫الغربية ال تزال ترف�ض تزويد املعار�ضة امل�سلحة بالأ�سلحة‬ ‫النوعية لتحقيق ذلك الغر�ض‪ .‬هنا �أرغ��ب بالتحذير‬ ‫من منطق تقدمي التنازالت وبيع املواقف‪ ،‬وقد طغى‬ ‫على مواقف بع�ض قيادات املعار�ضة على �أمل اقتنا�ص‬ ‫�رشعية �أمريكية بوا�سطة تنازالت ذات وجهني‪ .‬هناك‬ ‫احلديث عن ا�ستعادة اجلوالن املحتل وامل�ضموم بالطرق‬ ‫ال�سيا�سية مب�ساعدة «�أ�صدقائنا الأمريكان والفرن�سيني»‬ ‫وك�أن النظام �سعى ال�ستعادتها بالو�سائل الع�سكرية!‬ ‫يجري بذلك التخلي عن حق ال�شعب ال�سوري يف‬ ‫ا�سرتداد �أر�ضه املحتلة وامل�ضمومة بوا�سطة ال�سالح وهو‬ ‫حق تكفله كل املواثيق الدولية وقرارات جمل�س الأمن‪.‬‬ ‫ويجري توهيم النف�س والآخرين ب�أن �إ�رسائيل نتنياهو‬ ‫وليربمان وامل�ستوطنني �سوف تتنازل عن اجلوالن �إذا ما‬ ‫�أزيح نظام البعث واحلكم الفردي‪ .‬وثمة ن�سخة معكو�سة‬ ‫للرواية ذاتها هي الن�صائح التي ي�سديها املحافظون‬ ‫العرب اجلدد‪ ،‬واللبنانيون منهم خ�صو�ص ًا‪� ،‬إىل املعار�ضة‬ ‫تقدم املزيد من التنازالت بالن�سبة للجوالن‬ ‫ال�سورية ب�أن ّ‬ ‫على اعتبار �أن هذا من �ش�أنه ت�شجيع الإدارة الأمريكية‬ ‫على التدخل ع�سكريا �إىل جانبها‪.‬‬ ‫ م‪.‬ع‪ :‬ولكن �أال تعتقد �أن عموم ال�سوريني ممن طالبوا‬ ‫بالتدخل اخلارجي‪ ،‬بحكم �أنهم كانوا مدفوعني بت�أثري‬ ‫التجربة الليبية‪ ،‬قد وعوا الحق ًا �أن هذا اخلارج ال يحمل‬ ‫عموم ًا نيات �صادقة‪ ،‬وبالتحديد الواليات املتحدة‪ ،‬التي‬ ‫بد�أت الأ�صوات تعلو النتقاد دورها ال�ضبابي؟‬ ‫ال دعنا نتفاهم‪ .‬ال يوجد �شيء ا�سمه «عموم‬ ‫ ف‪.‬ط‪� :‬أو ً‬ ‫ال�سوريني»‪ .‬ثم �إين �أ�ساجل �أعاله �ضد فكرة النيات‬ ‫ال�صادقة لدى «اخلارج»‪ .‬ال يوجد نيات‪ .‬توجد م�صالح‪.‬‬ ‫تفهمها وتعمل مبوجبها‪ ،‬ولي�س يعني ذلك �أن متا�شيها �أو‬ ‫تر�ضخ لها‪� ،‬أو تف�شل يف التقاطها‪� .‬أما اعتبار النيات‬ ‫ال�صادقة هي التدخل الع�سكري يف ثورة �أجزاء كبرية‬ ‫من ال�شعب ال�سوري �ضد نظامه‪ ،‬ف�أجد �أنها اقرب �إىل‬ ‫الكارثة ال �إىل ال�صدق‪ .‬مع ذلك ف�أنا �أتفهم متام ًا معاناة‬ ‫ال�شعب ال�سوري والثوار �أمام الأهوال‪ .‬و�أتفهم اال�ستنجاد‬ ‫بالعامل اخلارجي للإنقاذ ولو بوجهه الع�سكري‪ ،‬و�أفهم‬ ‫التب�سيط الذي يفهم الأمر بناء على القيا�س بالتجربة‬ ‫الليبية‪ ،‬ولكني �أفكر بالقيادة ال�سيا�سية‪ ،‬التي �أظنها‬ ‫قادرة على طرح ال�س�ؤال الأ�صلي عن الفارق بني احلالتني‬ ‫الليبية وال�سورية قيا�س ًا �إىل قراءة �صحيحة مل�صالح‬ ‫و�سيا�سيات الإدارة الأمريكية‪ .‬ويف ظني �أي�ضا �أنها‬ ‫تلقت �أجوبة وا�ضحة �أو على الأقل م�ؤ�رشات وا�ضحة‬


‫ب�صدد عدم وجود نية للتدخل الع�سكري‪ ،‬فكان عليها‬ ‫بالتايل �أن تبني على ح�سابات �أو�ضح‪.‬‬ ‫ م‪.‬ع‪ :‬منذ فرتة وم�صطلح «الثورة ال�سورية» مل‬ ‫يعد هو الرائج يف �أدبيات ال�صحافة العاملية‪ ،‬وال‬ ‫حتى م�صطلح «الأزم��ة ال�سورية»‪ ،‬هناك ا�ستخدام‬ ‫وا�سع مل�صطلح «احلرب الأهلية»‪ .‬وم�ؤخر ًا يرتافق هذا‬ ‫اال�ستخدام مع الرتكيز على البعد الطائفي لل�رصاع‪.‬‬ ‫ذكرت الأمم املتحدة ذلك يف تقرير �أخري‪ .‬يف املقابل‬ ‫هناك �شعور باملرارة لدى ق�سم كبري من ال�سوريني وهم‬ ‫ي�شهدون كيف يختزل خما�ضهم يف هذه التو�صيفات‪.‬‬ ‫كيف تنظر �إىل هذا الأمر؟‬ ‫ ف‪.‬ط‪ :‬الأكيد عندي �أن ما يجري يف �سوريا و�سواها‬ ‫من الأقطار العربية هو ثورة‪ .‬ثورة ُتعرب عن �أزمة عميقة‬ ‫يف املجتمعات املعنية اقت�ضت نزول ماليني �إىل ال�شارع‬ ‫للمطالبة بالتغيري وا�ستدعت ا�ستعدادات �ضخمة‬ ‫حتمل‬ ‫للت�ضحية من �أج��ل هذا التغيري و�صو ً‬ ‫ال �إىل ّ‬ ‫م�س�ؤولية «�إ�سقاط الأنظمة»‪ .‬وهي ثورة لأنها تعرب عن‬ ‫ا�ستحالتني‪ :‬هناك حكام مل يعد ب�إمكانهم اال�ستمرار يف‬ ‫احلكم‪ .‬وهناك �شعوب مل تعد تطيق حكمهم‪ .‬ول�سنا نتكلم‬ ‫هنا عن �أفراد بل عن منظومة �سلطة‪ .‬ناهيك عن �أنها‬ ‫ثورات ال تخفي �أ�سبابها‪ :‬البطالة‪ ،‬اال�ستبداد‪ ،‬الفوارق‬ ‫االجتماعية‪ ،‬االمتهان لكرامة املواطن والإن�سان‪.‬‬ ‫وهي جتهر ب�أهدافها يف املقابل‪« :‬عمل‪ ،‬حرية‪ ،‬عدالة‬ ‫اجتماعية‪ ،‬كرامة �إن�سانية»‪.‬‬ ‫اال�ستبداد والنيوليربالية‬ ‫والثورات رد على م�أزق �أنظمة اال�ستبداد العربية كلها‬ ‫ ملكية �ساللية �أو جمهورية ‪ -‬لأن �رشعيتها اخلارجية‬‫مهتزة و�رشعيتها الداخلية مفقودة‪ .‬مل تعد ت� ّؤمن‬ ‫جلمهورها احلد الأدن��ى من اخلدمات و�أمن��اط التوزيع‬ ‫االجتماعي التي كانت ت�ؤمنها �سابقا‪ ،‬وقد فقدت �إىل‬ ‫ذلك �رشعياتها امل�ستمدة من �أدوارها يف التحرر الوطني‬ ‫قلت �سابقا و�أك��رر �أن‬ ‫والنزاع العربي الإ�رسائيلي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫عظمة ال�شعب ال�سوري تكمن يف �أنه مل يخطئ وطني ًا‪.‬‬ ‫فهو مل يرث على نظامه حني كان النظام والبلد مهددين‬ ‫�أثناء الغزو الأمريكي على العراق‪ .‬ثار بعدما ان�سحبت‬ ‫جيو�ش �أمريكا وحلفائها من العراق‪ .‬ترافق االن�سحاب‬ ‫الأمريكي من العراق مع ف�شل النظام ال�سوري يف �أن‬ ‫يكون له موطئ قدم داخل النظام اجلديد بالتعاون مع‬ ‫ال�سعودية وتركيا عن طريق ترئي�س �إياد عالوي وكتلته‬

‫ ‪ 40‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫املهاجرة‪� ،‬شاركت ب�أ�شكال خمتلفة يف احلراك‪� .‬إال �أن‬ ‫الطابع ال�شعبي العميق هو ال يزال ي�سم الثورة ال�سورية‪.‬‬ ‫ م‪.‬ع‪ :‬لكن هناك فئات وا�سعة من جمهور الثورة‬ ‫ال�سورية‪ ،‬يرف�ض ت�صنيفها بكونها ثورة �أطراف‪ ،‬وب�شكل‬ ‫خا�ص يرف�ض �إخ�ضاعها لقراءة ت�ستند �إىل ال�رصاع‬ ‫الطبقي‪� ،‬أو كونها ثورة حمركها بالأ�سا�س اقت�صادي‪.‬‬ ‫ودعنا نتذكر �أن عموم ال�سوريني يف�ضلون ذكر ثورتهم‬ ‫على �أنها «ثورة الكرامة»‪ ،‬ال بل �إن هناك �شعارات عدة‬ ‫مت رفعها يف الأيام الأوىل‪ ،‬ويف �ضواحي املدن والأرياف‬ ‫حتديد ًا‪ ،‬تذكر ب�أنها لي�ست ثورة جياع‪� ،‬أو لي�ست انتفا�ضة ال�رصاع الطبقي يف الثورة‬ ‫قائمة على متطلبات اقت�صادية‪ .‬كان هناك رف�ض مبكر وهذا ما بد�أ يطل يف �سيا�سات جبهة الإنقاذ امل�رصية‬ ‫ال عندما يدعو عمرو مو�سى �إىل االتفاق مع الرئي�س‬ ‫لأي تر�ضيات اقت�صادية‪� .‬أذكر هذا لي�س فقط تعقيب ًا مث ً‬ ‫على تو�صيفك الأخري‪ ،‬ولكن لأنك �أ�سهبت يف �رشح هذا حممد مر�سي على منع الإ�رضابات العمالية وتقييد‬ ‫يف حتليل �سابق لك عن مناه�ضة النيوليربالية بو�صفها احلقوق العمالية والنقابية‪ .‬وا�سمح لنف�سي هنا بهذا‬ ‫املحرك الأ�سا�س يف احلراك ال�شعبي‪.‬‬ ‫اال�ستطراد عن حقوق الإن�سان‪ .‬ملاذا ترتجم تلك احلقوق‬ ‫قلت يف يف بالدنا فقط مبا هي حقوق فردية و�شخ�صية؟ �أقول ذلك‬ ‫ ف‪.‬ط‪ :‬لن �أجادل يف مو�ضوع الأولويات‪ُ .‬‬ ‫البدء �إن هناك اهرتاء يف ال�رشعيتني الداخلية واخلارجية وكلي �إعجاب بهذا القطاع من اجلمعيات غري احلكومية‬ ‫للأنظمة‪ ،‬وهذا عامل �سيا�سي باملقام الأول‪.‬‬ ‫وقلت �أي�ض ًا الذي حقق اجن��ازات فعلية خالل ربع القرن الأخري‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫�إن هذه �أنظمة ارتفع من�سوب اال�ستبداد فيها تعوي�ض ًا لكن يبقى ال�س�ؤال‪ :‬من منطق الكرامة الإن�سانية‪ ،‬طاملا‬ ‫عن اهرتاء �رشعيتها الوطنية واالجتماعية‪ .‬ح�صل ذلك هذا هو املو�ضوع‪� ،‬ألي�س العمل وال�سكن واملاء النظيفة‬ ‫ال�ضطرارها �إىل �أن تر�ضخ �أو تقبل امالءات �صندوق وال�صحة والبيئة ال�سليمة من حقوق الإن�سان �أي�ضا؟ �أم‬ ‫النقد الدويل والبنك ال��دويل‪ .‬كان عهد ب�شار الأ�سد �أن هذه القطاعات لي�ست ترد يف ترنيمة معظم ور�شات‬ ‫عهد �إع��ادة الهيكلة النيوليربالية وتفكيك ر�أ�سمالية وبيانات وم�ؤمترات وندوات وتدريبات حقوق الإن�سان‪،‬‬ ‫الدولة (عهد �أبيه) وتقدمي تنازالت �أ�سا�سية يف تركيب لأن املنطق النيوليربايل ي�شاء �أن تكون هذه القطاعات‪،‬‬ ‫االقت�صاد ال�سوري بنا ًء على توجيهات �صندوق النقد وقد كانت من مهمات الدولة‪ ،‬معرو�ضة للخ�صخ�صة‬ ‫الدويل‪ .‬ويف ظله‪ ،‬انتقل االقت�صاد ال�سوري من قاعدته والت�سليع و�إخ�ضاعها لر�أ�س املال ومبد�أ الربح‪.‬‬ ‫الزراعية ال�صناعية �إىل اخلدماتية املالية والعقارية �أعلم �أن ال�رصاع الطبقي لي�س مو�ضوع ًا على املو�ضة‬ ‫واال�ستريادية واملافيوية ترتبع على ر�أ�سها طغمة من هذه الأي��ام‪ .‬واعرف �أن كثري من املثقفني‪ ،‬وخ�صو�ص ًا‬ ‫الأقارب واملح�سوبني‪� .‬أعتقد �أن هذا كاف لتف�سري بروز الق�سم الأك�بر من مثقفي الي�سار يهملون العامل‬ ‫البطالة وانهيار الزراعة ومنو الفوارق الطبقية وانت�شار االقت�صادي‪ ،‬هكذا ترفع ًا عن امل�صالح كما ُيقال‪ .‬و�أكاد‬ ‫�أمناط من اال�ستهالك املرئي يف املدن‪ ،‬وبالتايل �أعتقد �أن �أقول �إن ال�شطارة الفكرية عندهم تكمن يف �إثبات �أن‬ ‫ما حدث يف �سورية ال يختلف بهذا املعنى عما ح�صل كل ما يحدث �إما �أنه �سيا�سي و�إما انه ثقايف‪ .‬ناهيك‬ ‫يف م�رص وتون�س واليمن‪.‬‬ ‫باجليوا�سرتاتيجي واجليوبوليتيكي‪ .‬لهذا ال�سبب تنت�رص‬ ‫ دعني �أع ّلق على ثورة الكرامة‪� .‬أفهم كلي ًا �أن يعلو االمربيالية وحكامها املحليني والطبقات املرتبطة بها‬ ‫ال و�أخ�ير ًا‪� .‬أال يوجد �رصاع طبقي يف‬ ‫هذا امل�صطلح بعد �أربعة عقود من االمتهان اليومي باالقت�صاد �أو ً‬ ‫للكرامة الإن�سانية يف تعاطي نظام مع �شعبه‪ .‬ال تزال الثورة ال�سورية؟ قل يل‪� :‬أبناء �أرياف حلب امل�سلحون يف‬ ‫عبارات‪« :‬وله»‪،‬‬ ‫ترن يف �أذن �شعب اجلي�ش احلر والتنظيمات اجلهادية الذين اجتاحوا املدينة‬ ‫و«كر»‪ ،‬و«حمار» ّ‬ ‫ّ‬ ‫ب�أكمله وقد عانى منها جمهور من اللبنانيني هم �أي�ض ًا �أال ميار�سون مقادير علنية وخفية من انتقام الفالحني‬ ‫خالل عهد االنتداب ال�سوري على لبنان‪ .‬ولكن �أريد واملزارعني من املدينة‪ ،‬وهي موطن مالك الأرا�ضي‬ ‫�أن �أت�صور �أن ثورة الكرامة انت�رصت‪ ،‬فما هو برنامج والتجار واملرابني؟ �ألي�س هذا من وجوه ال�رصاع بني‬ ‫املعار�ضة حلل م�شكالت ال�شعب ال�سوري بنا ًء على‬ ‫وحدانية الكرامة؟ �ألي�ست البطالة امتهان ًا لكرامة‬ ‫الأفراد واجلماعات �أي�ضا؟ وماذا عن الفقر والإفقار‪،‬‬ ‫هل يتعاي�شان مع الكرامة؟ ثم �ألي�س ان�سداد الأفق‬ ‫�أمام ال�شباب ذروة التحقري للقيمة الإن�سانية للإن�سان؟‬ ‫ولنتفاهم‪ .‬هل �شعار «احلرية» يعني �أي�ض ًا احلرية‬ ‫االقت�صادية؟ حينها ن�ستطيع �أن نطمئن �إىل �أن النخب‬ ‫البديلة �سوف تكرر �أ�سباب الثورات ال غري‪.‬‬

‫على جمل�س ال��وزراء‪ .‬ق�ضت ت�سوية �أمريكية �إيرانية‬ ‫بالتجديد لنوري املالكي وحتالف �أح��زاب ال�شيعية‬ ‫ال�سيا�سية التي ميثل‪.‬‬ ‫ ومن معامل اهرتاء �رشعية النظام ال�سوري �أي�ضا‬ ‫انتهاء دور �سوريا مبا هي زعيمة جبهة الرف�ض العربية‪،‬‬ ‫ومل يكن �صدفة �أن يجدد النظام اعرتافه بحل الدولتني‬ ‫لفل�سطني قبل �أن يفك االرت��ب��اط بحركة حما�س‪،‬‬ ‫وتنظيمات جبهة الرف�ض الفل�سطينية‪� .‬إن م�أزق النظام‬ ‫ال�سوري هنا هو امل�أزق الذي انتهت �إليه مرحلة كاملة‬ ‫من النزاع العربي الإ�رسائيلي‪ ،‬وهي مرحلة احللول‬ ‫الثنائية‪ .‬ال �أريد اال�ستخفاف با�ستمرار التناق�ض حول‬ ‫التحالف الإيراين ال�سوري والدعم حلزب الله‪ .‬ولكن‬ ‫�ألفت �إىل �أن التناق�ض الغربي مع هذا احللف يعلو ويهبط‬ ‫ح�سب وترية التفاو�ض بني اجلمهورية الإ�سالمية والقوى‬ ‫الغربية حول ملفها النووي‪.‬‬ ‫ هذه �أنظمة ا�ستبدادية زاد من�سوب قمعها مع �سطوة‬ ‫العوملة وفر�ض النيوليربالية تدريجي ًا على املنطقة‬ ‫وتق ّل�ص ما تقدمه ل�شعوبها يف املجال االجتماعي‪.‬‬ ‫لذلك �أ�سمي الثورات «املوجة الثالثة من املقاومة‬ ‫هبت املوجة الأوىل يف نهاية‬ ‫العربية للنيوليربالية»‪ّ .‬‬ ‫ال�سبعينات وبداية الثمانينات‪ ،‬وابرز معاملها انتفا�ضة‬ ‫اخلبز يف م�رص وانتفا�ضة «احليطيني»‪ ،‬ال�شباب العاطل‬ ‫عن العمل‪ ،‬يف اجلزائر‪ .‬والثانية يف الت�سعينات ومنها‬ ‫االنتفا�ضات املغربية والأردنية والتون�سية وامل�رصية‬ ‫وانتفا�ضات اخلبز يف املدن اليمنية‪ ،‬الخ‪ .‬يف هذه املوجة‬ ‫الثالثة‪ ،‬الآن‪ ،‬ال يوجد بلد عربي واحد حترك يف �إطار‬ ‫الثورات اجلارية �إال وانطلق من معار�ضة رفع الدعم‬ ‫على املحروقات وال�سلع الغذائية‪� ،‬أو �ضد ارتفاع‬ ‫كلفة املعي�شة �إىل �أن و�صل احلراك‪ ،‬نظر ًا لردود فعل‬ ‫ال�سلطات القائمة‪� ،‬إىل طرح التغيري ال�سيا�سي اجلذري‬ ‫بوا�سطة �إ�سقاط النظام‪ .‬لعلنا ن�ستثني احلالة ال�سورية‪،‬‬ ‫حيث احل�ضور الأمني الكا�سح مل ي�سمح بالتعبري‬ ‫الوا�ضح عن االحتجاج االجتماعي بل بد�أ ب�أب�سط‬ ‫احلقوق واحلريات الدميقراطية‪� :‬إلغاء حالة الطوارئ‪ .‬مل‬ ‫مينع ذلك من �أن تكون الثورة ال�سورية‪ ،‬عميقة املحتوى‬ ‫الطبقي واالجتماعي بو�صفها ثورة �سكان الأطراف‬ ‫واملهم�شني و�أبناء ال�ضواحي الفقرية‬ ‫والريفيني والفقراء‬ ‫َ‬ ‫حول املدن الرئي�سة‪ .‬منها انطلقت الثورة وانتقلت‬ ‫�إىل املدن والعا�صمة‪ .‬دون �شك ف�إن فئات وا�سعة من‬ ‫الطبقة الو�سطى ومن ال�شباب عموم ًا‪ ،‬ومن الربجوازية‬

‫ ‪ 41‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬


‫الريف واملدينة وبني الفقراء واملي�سورين؟ وعندما يقول‬ ‫رئي�س الدولة ال�سورية ملرافقيه وزواره انه ال ب�أ�س من‬ ‫تدمري �ضواحي دم�شق ف�سوف يبني لهم مدنا حديثة‬ ‫مكانها‪� ،‬أال ميار�س اال�ستعالء الطبقي بل اال�ستئ�صالية‬ ‫الطبقية �ضد الفقر والفقراء با�سم احلداثة والنظافة؟‬ ‫و�ضعت العوامل االقت�صادية‬ ‫ يف كل الأح��وال �أنا‬ ‫ُ‬ ‫واالجتماعية يف موقعها ويف عالقتها من ال�سيا�سة‬ ‫وامل�س�ألة الوطنية بل والأدوار الإقليمية‪� .‬أعتقد �أن اهرتاء‬ ‫�رشعية هذه الأنظمة يف ال�ش�أن الوطني ويف ما كانت‬ ‫تقدمه من خدمات اجتماعية (وهذا يبد�أ من ال�سعودية‪،‬‬ ‫حيث ‪ ٪٤٠‬من ال�سكان م�صنفون يف عداد الفقراء‪،‬‬ ‫وال ينتهي يف �سوريا!) دفع �إىل الواجهة م�أ�ساة جيل‬ ‫ال�شباب‪ ،‬يف منطقة حتمل رقمني قيا�سيني عامليني‪� :‬أعلى‬ ‫ن�سبة بطالة‪ ،‬و�أعلى ن�سبة من ال�شباب بالن�سبة �إىل‬ ‫ال�سكان‪ ،‬وما ي�ستتبعه ذلك من �أعلى ن�سبة من البطالة‬ ‫بني ال�شباب‪ .‬هذا املو�ضوع يف�رس بر�أيي احل�ضور الوازن‬ ‫لل�شباب يف الثورات‪ .‬وال �أعني فقط ال�شباب املتعلم‪،‬‬ ‫و�إن كانت ن�سب البطالة بني اخلريجني عالية جد ًا‪� .‬إذن‬ ‫يدور البحث على م�ستوى ع�رشات املاليني من فر�ص‬ ‫املتوفرة حالي ًا‪ .‬وال�س�ؤال الكبري‬ ‫العمل املتوقعة وغري‬ ‫َ‬ ‫هنا هو‪� :‬أي اقت�صاد من �ش�أنه ت�أمني ذلك؟ قطع ًا لي�س‬ ‫االقت�صاديات احلالية‪ .‬وال�س�ؤال الأكرب‪� :‬أي ثورة �سوف‬ ‫تفتح الآفاق لل�شباب؟‬ ‫جلوء املعار�ضة لل�سالح مل يكن خياراً‬ ‫املعار�ضة ال�سورية‪ ،‬تقف على �أعتاب مرحلة جديدة قد‬ ‫ت�ضعها �أو فئات منها يف ال�سلطة‪ .‬فحري بها �أن تنظر‬ ‫حولها جيد ًا وتراقب ما هو معد لها وما ُطبق �أو ُيطبق يف‬ ‫بلدان �أخرى‪ .‬والأهم من ذلك �أن �أي فريق ي�ستلم ال�سلطة‬ ‫يف مرحلة جديدة‪� ،‬رسعان ما �ستقوم النا�س �ضده وتعاود‬ ‫االحتجاج عليه حتديد ًا ب�سبب املو�ضوع االقت�صادي‪.‬‬ ‫انظر كيف ا�ستقبل النا�س الرئي�س املرزوقي يف �سيدي‬ ‫ْ‬ ‫بوزيد‪ .‬بالأحذية!! �أما يف ما يخ�ص �أولوية الدميقراطية‪،‬‬ ‫ف�أنا ال �أجد معنى للدميقراطية ال�سيا�سية �إن هي مل تنه‬ ‫احتكار قب�ضة �صغرية للقرار وتعطي القرار ال�سيا�سي‬ ‫ومن خالله القرار االجتماعي واالقت�صادي لأو�سع‬ ‫�رشيحة من اجلماهري معرب ًا عنها مببد�أ اختيار النا�س‬ ‫حلكامهم وحما�سبتهم لهم وا�ستبدالهم عند احلاجة‪.‬‬ ‫فالرد على �شعار «خبز وحرية»‪ ،‬بالقول �أننا نحتاج حرية‬ ‫ولي�س خبز ًا‪� ،‬سذاجة ا�ستثنائية‪ .‬حتى ال �أقول انه تعبري‬

‫ ‪ 42‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ م‪.‬ع‪ :‬من متابعتك للواقع العياين‪ ،‬هل كان بالإمكان‬ ‫أ�صال جتنب اللجوء �إىل املقاومة امل�سلحة‪ ،‬مع العلم‬ ‫� ً‬ ‫امل�سبق ببع�ض نتائجها ال�سلبية؟‬ ‫ ف‪.‬ط‪ :‬مل يكن اخليار الع�سكري خيار ًا‪ ،‬كان رد ًا‬ ‫على احلرب التي �ش ّنها النظام على ال�شعب املنتف�ض‬ ‫ال عند مفهوم ال�سلمية‪.‬‬ ‫�سلمي ًا‪ .‬لكن دعني �أتوقف قلي ً‬ ‫يف �سوريا‪ ،‬كما يف �سواها من البلدان الثائرة‪ ،‬نزلت‬ ‫�أعداد غفرية من ال�سوريني �إىل ال�شوارع ويف عموم‬ ‫البلد‪ ،‬ت�ستخدم قوتها‪� ،‬أي قوة العدد‪ ،‬لتفر�ض مطالبها‪.‬‬ ‫يف حاالت نادرة �إىل الآن‪ ،‬ا�ستجاب احلاكم �أو النظام‬ ‫ملثل تلك ال�ضغوط‪ .‬املغرب مثال على ذلك‪ ،‬بغ�ض النظر‬ ‫عن ر�أينا بحدود تلك الإ�صالحات‪ .‬ولنتذكر �أن ممار�سة‬ ‫�ضغط اجلماهري بالقوة العددية قد ي�ستدعي االعتقاالت‬ ‫وال�صدامات مع قوى الأمن‪ ،‬قد تتطور ليحاول النظام‬ ‫الزج باجلي�ش‪ ،‬كما حدث يف م�رص‪ ،‬ولكن اجلي�ش يف‬ ‫م�رص توقف عند حدود وا�ضحة‪ ،‬لها عالقة مب�صاحله‬ ‫ال‪ ،‬فالنظام نظام ع�سكري يف نهاية املطاف‪ ،‬وكانت‬ ‫�أو ً‬ ‫ال على خالف �شديد مع الرئي�س حول‬ ‫قيادته �أ�ص ً‬ ‫مو�ضوع التوريث‪ ،‬فاختار اجلي�ش الت�ضحية بالرئي�س‬ ‫يف حماولة لإنقاذ مكانة اجلي�ش ودوره يف االقت�صاد‬ ‫وال�سيا�سية‪ ،‬و�إنقاذ النظام عموم ًا‪.‬‬ ‫ح�رضت قوة جماهريية هائلة مل يحت�شد‬ ‫ يف �سوريا‬ ‫ْ‬ ‫مثلها يف تاريخها احلديث‪ ،‬متت مواجهتها بحل �أمني ثم‬ ‫ع�سكري‪ ،‬فانتقلت قطاعات وا�سعة من قوى االحتجاج‬ ‫ال�سلمي �إىل ال�ضغط بوا�سطة ال�سالح‪ .‬جندي رف�ض‬ ‫�إطالق النار على متظاهرين‪ ،‬مت �إعدامه ميداني ًا‪ ،‬ان�شق‬ ‫وفروا وكونوا جمموعات م�س ّلحة مقاومة وهم‬ ‫ٌ‬ ‫رفاق له ّ‬ ‫املهددون مبوت حتمي‪ .‬ويف احلراك املدين‪ ،‬بعد �أربعة �أو‬ ‫خم�سة �أفواج من كوادر التن�سيقيات قد اعتقلت وزجت‬ ‫وتعر�ضت للتعذيب‪ ،‬بع�ضهم حد املوت‪،‬‬ ‫يف ال�سجون‬ ‫ّ‬ ‫خري يل �أن‬ ‫يقول �أحدهم ممن مل يعتقل �أو يقتل بعد‪ٌ :‬‬ ‫�أموت و�أنا �أقاتل على املوت حتت التعذيب‪� .‬إذن الع�سكرة‬ ‫هي وليدة قرار النظام الرد على ال�ضغط ال�شعبي بالعنف‬ ‫ال�سلطوي‪ ،‬ما ا�ستدرج العنف الأهلي املقابل‪ .‬لي�س‬ ‫على الثوار ال�سوريني الإعتذار من �أحد وال ت�ضييع‬ ‫الوقت بالتربير حول �إهمال ال�سبل الأخرى‪ .‬علم ًا �أن‬ ‫هذا ال�شعب العظيم ال يزال يتظاهر كلما �سنحت له‬ ‫الفر�صة لي�ؤكد ح�ضوره وا�ستعداده ال�سلمي‪ .‬ال�شيء‬ ‫الوحيد الذي يحتاج �إىل تف�سري هو املوقف من التمويل‬ ‫والدعم اخل��ارج��ي‪ .‬من عا�ش الظروف التي عا�شها‬

‫عن موقع طبقي يريد متويه احلاجات املادية واحلقوق‬ ‫االجتماعية للمواطنني‪� .‬أما �أن تكون اجلماهري الفقرية‬ ‫يف الأرياف واملدن تريد احلرية‪ ،‬وقد �أثبتت ذلك بالدماء‬ ‫والت�ضحيات الغالية‪ ،‬على عك�س النظريات القائلة‬ ‫بارتباط الدميقراطية بالطبقات الو�سطى املدينية‪ ،‬فلأنها‬ ‫هي املدخل الرئي�س لكي تتدخل تلك اجلماهري يف‬ ‫احلياة العامة ولتقرير م�صريها بنف�سها وفر�ض مطالبها‬ ‫االقت�صادية واالجتماعية‪ .‬التحدي الأك�بر للثورات‬ ‫ولقواها الب�رشية الآن هي اجلهود املبذولة �إقليمي ًا ودولي ًا‬ ‫ال�ستبدال نخب ع�سكرية‪-‬ليربالية بنخب ع�سكرية‬ ‫متحالفة مع «ر�أ�سمالية م�ؤمنة» وليربالية‪ .‬ووا�ضح �أن‬ ‫قطاعات وا�سعة من النا�س تقاوم تلك املحاوالت‪.‬‬ ‫ م‪.‬ع‪� :‬أعود ل�س�ؤايل عن الثورة ال�سورية‪ ،‬و�رصاع‬ ‫امل�صطلحات حول تو�صيفها‪ .‬كيف تراها �أنت؟‬ ‫ ف‪.‬ط‪� :‬أكرر‪ :‬هي ثورة لأنها تطمح �إىل تغيري جذري‬ ‫يف ال�سلطة ويف املجتمع‪ ،‬لأنها تعبرّ عن م�آزق �شاملة‬ ‫يف هذين املجالني وعن تفويت كل فر�ص الإ�صالح‪.‬‬ ‫وهي تقول بو�ضوح‪� :‬إن املدخل �إىل �أي تغيري يبد�أ‬ ‫بتغيري النظام ال�سيا�سي بالقوة والعنف �إن مل ينجح‬ ‫ال�ضغط ال�سلمي‪ .‬وهي ثورة تقدم �أ�سبابها و�أهدافها‬ ‫يف ذات الوقت‪ ،‬فهي تنادي بالعمل واحلرية والعدالة‬ ‫االجتماعية والكرامة الإن�سانية‪ .‬وهذه هي املرة الأوىل‬ ‫التي تواجه فيه املعار�ضات العربية م�س�ألة العمل‬ ‫والبطالة على النحو ال�شامل واحل��اد‪ ،‬وقد �أهملتها‬ ‫طويال �إىل �أن انفجرت يف وجوه اجلميع‪ .‬لكن البحث‬ ‫يف التعريفات يتعقد ب�سبب النقا�ش حول مو�ضوع‬ ‫ثنائية �سلمية‪/‬ع�سكرية‪ .‬تع�سكرت الثورة ال�شعبية‬ ‫ال�سلمية يف �سوريا ل�سبب رئي�س هو جلوء النظام‬ ‫�إىل القمع الأمني ثم احلرب الع�سكرية �ضدها‪� .‬أتفهم‬ ‫اخل�شية من االعرتاف ب�أنها تتحول �إىل حرب �أهلية‪ .‬هذا‬ ‫ٍ‬ ‫م�رشوع العتبار الطرفني املتقاتلني‬ ‫رف�ض‬ ‫ناجم عن‬ ‫ٍ‬ ‫ع�سكري ًا مت�ساويني يف امل�س�ؤولية عن العنف ما يعني‬ ‫تنا�سي احلرب التي ي�شنها النظام على �شعبه ورف�ضه‬ ‫�أي تنازل �أو �إ�صالح �أو حوار‪ ،‬وبالتايل طم�س الأ�سباب‬ ‫الفعلية لالحتجاج ال�شعبي والثورة‪ .‬لكن احلقيقة �أن‬ ‫هناك �سوريني يقتلون بع�ضهم البع�ض‪ .‬وهي حقيقة‬ ‫م�ؤ�سفة بل فاجعة ال ميكن نكرانها‪ .‬واالعرتاف ب�أن ما‬ ‫يجري يف �سوريا هو حرب �أهلية ي�صطدم بعقبة ثانية‪.‬‬ ‫فاالعرتاف بوجود حرب �أهلية يعني القبول ب�أن الطابع‬ ‫الغالب عليها هو الطابع الطائفي‪.‬‬

‫ ‪ 43‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫املواطن واملواطنة ال�سورية‪ ،‬و�شهد كل هذا القهر والقتل‬ ‫فا�ضطر �إىل حمل ال�سالح‪� ،‬سيبحث عن ال�سالح يف‬ ‫كل االجتاهات‪ .‬والنظام الذي دفع ال�سوريني �إىل حمل‬ ‫ال�سالح هو من دفعهم �إىل القبول بتمويل العمل امل�س ّلح‪.‬‬ ‫ولي�س �رس ًا � ّأن الثورات امل�سلحة تلزمها كلفة مالية ال‬ ‫عالقة لها بالإمكانات الداخلية لل�شعب املعني‪.‬‬ ‫ ال�س�ؤال احليوي يف وجه املعار�ضة ال�سورية هو كيف‬ ‫متد الثورة وحماولة‬ ‫ميكن تلقي الدعم من امل�صادر التي ّ‬ ‫الإبقاء على القرار الوطني ال�سوري امل�ستقل يف �آن‬ ‫مع ًا؟ هي معادلة �صعبة ولكنها لي�ست م�ستحيلة‪� .‬إذ‬ ‫يجب النظر �إىل تلك الأموال مبا هي ديون للت�أثري الحق ًا‬ ‫بال�سلطة ال�سورية اجلديدة حتى ال نقول ال�سرتهانها‪.‬‬ ‫ال �شك �أن الو�ضع يف �سوريا �أ�صعب من حيث تدخل‬ ‫القوى اخلارجية‪ .‬لكن ه��ذا ُم�برر �أك�بر لأن تت�شدد‬ ‫املعار�ضة وطني ًا‪ ،‬و�أن ال تعترب نف�سها مديونة‪ ،‬فاحلقيقة‬ ‫�أنها هي الدائنة لأن احلكام الذين ي�ساندونها يفعلون‬ ‫ذلك ملنع الثورات يف بالدهم‪ ،‬ومنع انتقال العدوى‬ ‫الثورية �إىل جماهري بالدهم‪ ،‬ولن مينعونها‪ .‬واحلاكم الذي‬ ‫ميول االحتجاجات �أو الثورات امل�سلحة �إمنا يفعل ليحول‬ ‫ّ‬ ‫دون قيام دميقراطيات وطنية فعلية فيها‪ ،‬ومن اجل تعميم‬ ‫منوذج �أوحد للحكم يف املنطقة وهو النموذج الر�أ�سمايل‬ ‫الريعي الإ�سالمي التبعي بجناحيه ال�سلفي والإخواين‪.‬‬ ‫ م‪.‬ع‪ :‬هل تنتهي الثورة متام ًا حني تتحول يف �أحد‬ ‫�أوجهها �إىل ��صراع �أهلي؟ وبر�أيك تو�صيف احلرب‬ ‫الأهلية الذي بات �شائع ًا يف �أدبيات امليديا وحتديد ًا‬ ‫الغربية منها‪ ،‬وكذلك امل�ؤ�س�سات ومراكز البحث الغربية‪،‬‬ ‫هل هو تو�صيف مو�ضوعي لواقع احلال؟ وبخا�صة �أن‬ ‫هذا اال�ستخدام لي�س وليد اليوم‪ ،‬البع�ض د�أب على‬ ‫ا�ستخدامه منذ �شهو ٍر م�ضت‪.‬‬ ‫ ف‪.‬ط‪ :‬كال‪ ،‬ال تنتهي الثورة حني تتحول يف �أحد‬ ‫م�ساراتها �إىل اقتتال �أهلي‪ .‬معظم الثورات �أف�ضت �إىل‬ ‫حروب �أهلية‪� ،‬أحببنا ذلك و مل نحب‪ .‬يجب اال�ستدراك‬ ‫بالقول‪� :‬إن عدم ا�ستخدام م�صطلح حرب �أهلية ال يعني‬ ‫�إنكار وجود فريقني ع�سكريني يتقاتالن لينت�رص واحدهما‬ ‫على �آخر‪� ،‬أو لي�ستنزفه فينتهي بهما الأمر �إىل ت�سوية ما‪.‬‬ ‫يف امل�س�ألة الطائفية‬ ‫ما �أخ�شاه هو �أن ت�سري الأمور يف �سوريا باجتاه حل‬ ‫من النمط الطائفي‪� ،‬إذ �إن معظم القوى اخلارجية‬ ‫املتدخلة تت�شارك يف رواية طائفية‪ ،‬علنية �أو م�ضمرة‪،‬‬


‫للت�سوية واحلل‪ .‬هنا اخلطر الكبري‪� .‬أثارت فكرة تنحي‬ ‫الرئي�س واملرحلة االنتقالية البحث يف الهوية املذهبية‬ ‫وهلم جرا‪ .‬وذلك‬ ‫للرئي�س وتلك التي لرئي�س الوزراء‬ ‫ّ‬ ‫ال من �أن يكون البحث يف م�ؤمتر ت�أ�سي�سي و�إعادة‬ ‫بد ً‬ ‫�صياغة للد�ستور وطبيعة النظام والقوانني بنا ًء على‬ ‫ما ظهر من م�شكالت حقيقية‪ .‬فاملحور ال�سعودي‬ ‫ال ب�أنها معركة‬ ‫اخلليجي‪ ،‬ال يرى الأمور ومل يرها �أ�ص ً‬ ‫دميقراطية بل يرى فيها غلبة مذهبية وحرب ًا �ضد �إيران‬ ‫ّ‬ ‫يف �سوريا‪ .‬و�أما الرواية الأمريكية‪ ،‬فقائمة �أ�صال على‬ ‫الإثنيات والأقليات والنيوليربالية‪ .‬لنتذكر مطلب‬ ‫ال�سيدة كلينتون من الرئي�س مر�سي‪ :‬حقوق الأقباط‬ ‫والن�ساء‪ .‬وال�سيا�سة الأمريكية مل تغيرّ عادتها يف‬ ‫توريط الليرباليني بالأوهام والتخلي دوما عنهم ل�صالح‬ ‫الإ�سالميني‪� .‬أي��ن ذهبت الفزاعة الإ�سالمية اليوم؟‬ ‫تتذرع ال�سيا�سة الأمريكية بالإ�سالميني الذين يتقلدون‬ ‫ال�سلطة على اعتبار �أن الإ�سالم الو�سطي حاجز �ضد‬ ‫الإ�سالم املتطرف واجلهادي‪.‬‬ ‫ م‪ .‬ع‪ :‬هل ترى احتماالت حلرب طائفية يف �سوريا؟‬ ‫ ف‪ .‬ط‪ :‬كال‪ ،‬ما �أخ�شاه هو حلول ذات �صبغة طائفية‪.‬‬ ‫لكن قبل ذلك �أريد �أن �أتوقف عند كلمة طائفي‪ ،‬ويل‬ ‫يف هذا خالف مع الأ�صدقاء ال�سوريني وغري ال�سوريني‪.‬‬ ‫�أعتقد �أن �إنكار الطائفية قيد التنفيذ هو �أف�ضل طريقة‬ ‫الطائفية على �أنها �آفة ولوثة‬ ‫لتكري�سها‪ .‬الت�رصف مع‬ ‫ّ‬ ‫ودليل تخ ّلف وفتنة ال نحب الكالم عنها ون�ضع املفردة‬ ‫ذاتها بني مزدوجني‪ ،‬يعني �أن ننكرها وال نف�رسها‪� .‬أما‬ ‫ن�سبة الطائفية دوم ًا �إىل الآخر اخلارجي واعتبارها‬ ‫دائم ًا جريرة الآخر‪ ،‬فهذا لن ي�سمح مبعاجلتها‪ .‬حقيقة‬ ‫الأم��ر هو �أن��ه توجد م�س�ألة طائفية‪ ،‬عندما ت�شتبك‬ ‫مواقع جماعات‪ ،‬مبا هي جماعات‪ ،‬يف مواقع االمتياز �أو‬ ‫احلرمان من احلياة ال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية‬ ‫والثقافية‪ .‬وال �أعرف يف التاريخ وال يف الواقع الراهن‬ ‫حالة ت�شكلت فيها م�س�ألة طائفية �أو مذهبية �أو جهوية‬ ‫�أو قومية �أو �إثنية �أو قبلية‪� ،‬أي جرت اال�ستعانة بهذه‬ ‫الرتكيبات الأهلية �أو االرتداد �إليها �أو �إعادة �إنتاجها �إال‬ ‫وتغذت تلك امل�سارات من تفاوت �أو متايز �أو امتيازات‬ ‫�أو حرمان تتعلق ب�ستة جماالت �أوجزها هنا مبا هي‬ ‫ر�ؤو�س �أقالم للقيا�س فقط‪ :‬‬ ‫�أوال‪ :‬التفاوت بني جماعات من حيث املوقع من‬ ‫ال�سلطة ال�سيا�سية‪� ،‬أي من التحكم بعالقات القوة‬ ‫والقرار يف املجتمع‪.‬‬

‫ ‪ 44‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ ‪ 45‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬


‫ثاني ًا‪ :‬التفاوت يف الإم�ساك بال�سلطة الأمنية‬ ‫والع�سكرية (قرار ا�ستخدام العنف) �أو احل�ضور فيها‬ ‫مبا يفي�ض �أو يق�صرّ عن ن�سبة اجلماعة �إىل ال�سكان‪.‬‬ ‫ثالثا‪ :‬التفاوت والتمايز‪ ،‬وما يقابلهما من حرمان‪ ،‬يف‬ ‫املوقع من موارد الدولة ومن خدماتها ووظائفها‪.‬‬ ‫رابعا‪ :‬التمايز والفروق بني الطوائف من حيث �آليات‬ ‫توزيع الرثوة‪.‬‬ ‫خام�سا‪ :‬التفاوت املناطقي بذاته‪ ،‬خ�صو�ص ًا عندما‬ ‫تكون للمناطق �ألوان طائفية حمددة‪.‬‬ ‫�ساد�سا‪ :‬التفاوت يف توزيع ر�أ���س امل��ال الثقايف‬ ‫وفر�ص حت�صيل العلم‪.‬‬ ‫ �إذا �صح ذلك‪ ،‬فالأحرى مقاربة هذه امل�س�ألة من‬ ‫زوايا �إلغاء االمتيازات ولكن وفق معادلة �صعبة هي‬ ‫ت�رشيع مل�ساواة اجلميع يف الفر�ص واحلقوق ال�سيا�سية‬ ‫والقانونية‪ .‬وهذا يجب �أن يرتافق مع التمييز الإيجابي‬ ‫للجماعات التي كانت �ضحية احلرمان واملظلومية‬ ‫من جهة و�إيجاد �آليات و�ضوابط حلماية من �ستلغى‬ ‫امتيازاته‪ .‬يف املقابل‪ ،‬ما ن�شاهده ون�شعر �أنه قيد التداول‬ ‫يف �سوريا هو �سيناريو قريب من النموذج اللبناين حول‬ ‫حما�ص�صة طائفية‪ .‬وجدير باملالحظة �أن احلل اليمني‪،‬‬ ‫عو�ض‬ ‫القائم على املبادرة اخلليجية واملرعي �أمريكي ًا‪ّ ،‬‬ ‫عن تنحي الرئي�س بتربئته من ثالثة وثالثون �سنة من‬ ‫القتل‪ ‬والإهدار والف�ساد‪.‬‬ ‫ م‪ .‬ع‪ :‬هذا يقودين �إىل �س�ؤالك عن عقدة تواجه‬ ‫الثورة اليوم‪ ،‬هناك دعوات ومطالبات بتطمني الأقليات‪،‬‬ ‫ويف املقابل الثورة يجب عليها �أن ت�سعى �إىل دولة‬ ‫حقوق ومواطنة ال تقوم على املُحا�ص�صة وال تعد �سلف ًا‬ ‫ب�أي امتيازات خارج دولة املواطنة املن�شودة هذه‪� .‬أال‬ ‫يتعار�ض الأمران؟‬ ‫ ف‪ .‬ط‪ :‬يف احلقيقة مل �أ�سمع ومل � َأر و�ضوح ًا كبري ًا‬ ‫يتعلق بكيفية جذب الأقليات فعلي ًا يف �سورية‪� .‬صحيح‬ ‫على م�ستوى ال�شارع كانت ال�شعارات اجلامعة حا�رضة‪،‬‬ ‫ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫ولكن مل يكن الأمر كذلك على م�ستوى القوى‬ ‫ّ‬ ‫ال�سيا�سية �أن تعك�س هذا بو�ضوح‪ .‬مل ينجح‬ ‫على القوى‬ ‫ّ‬ ‫التعبري ال�سيا�سي يف �إقناع ق�سم كبري من الأكراد‪ ،‬مثال ً‪،‬‬ ‫حتى لو كانوا حياديني من الثورة‪ ،‬بحل عادل لق�ضيتهم‬ ‫�ضمن �سوريا امل�ستقبل‪ .‬فلج�أ الق�سم الأكرب من قواهم‬ ‫ال�سيا�سية �إىل خيار فر�ض الأمر الواقع‪ .‬هناك بع�ض‬ ‫احلوارات يف العمق يف امل�س�ألة ولكنها حم�صورة بني‬ ‫املثقفني‪ .‬فيما قيادات �سيا�سية ووجوه خم�رضمة ت�ؤجل‬

‫ ‪ 46‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫(رب‬ ‫بحيث �سوف تحُ َرم َ‬ ‫لعب دور دولة الرعاية للبنان ُ‬ ‫�ضار ٍة نافعة)‪ .‬يف املقابل ي�صعب توقع �أن ينت�رص طرف‬ ‫ويخ�رس طرف ب�شكل وا�ضح يف لبنان‪ ،‬ج��راء ذلك‪.‬‬ ‫ال نن�سى ب�أن لبنان نظام برملاين غريب‪ ،‬مع �أن قانون‬ ‫االنتخاب فيه يحدد �سلف ًا نتائج االنتخاب‪ .‬ولأقل‬ ‫مبا�رشة‪� ،‬أنا املواطن اللبناين ل�ست �أرى �إي اجناز �إذا‬ ‫تغريت الأك�ثري��ة النيابية فحل مع�سكر ‪ ١٤‬حمل‬ ‫مع�سكر ‪� ٨‬آذار وغلب يف ت�شكيل احلكومة‪ .‬اختربنا‬ ‫االثنني ومل نح�صد �إال الكوارث من حيث اب�سط احلقوق‬ ‫الإن�سانية واملواطنية‪.‬‬ ‫ يف ما يخ�ص مو�ضوع حزب الله و�سالحه‪� .‬إن‬ ‫جوهر املو�ضوع باعتقادي يتعلق بطبيعة الدولة‬ ‫ال�سورية القادمة و�سيا�سات حكوماتها‪ .‬هل �ستنتهي‬ ‫حالة العداء بينها وبني �إ�رسائيل مبعاهدة �سالم ت�ستعيد‬ ‫فيها اجلوالن �أو بع�ضه؟ لو افرت�ضنا ذلك ‪ -‬وهو افرتا�ض‬ ‫�شبه م�ستحيل بعد الذي جرى يف �سورية وبعد هيمنة‬ ‫امل�ستوطنني على ال�سيا�سة الإ�رسائيلية ‪� -‬سوف يكون‬ ‫مطلوب ًا من احلكومة ال�سورية‪� ،‬إقليمي ًا ودولي ًا‪� ،‬أن ُت�رشك‬ ‫لبنان معها يف الت�سوية‪ .‬خال ذلك‪ ،‬ال �أرى �أي �سبب‬ ‫لوجود حكومة �سورية لي�ست تتم�سك بجي�شها وبتنمية‬ ‫قدراتها يف وجه �إ�رسائيل‪� .‬ألن يكون لها م�صلحة‬ ‫واحلالة هذه ب�أن يوجد �إىل جانب �سورية لبنان قوي‬ ‫بوجه �إ�رسائيل؟‬ ‫ �أما �إذا كان االفرتا�ض ب�أن ال�سلطة املقبلة يف �سورية‬ ‫�ستنتقم من حزب الله‪ ،‬فل�ست اعتقد �أن نوازع االنتقام‬ ‫حتدد �سيا�سات‪ ،‬حتى يف بالدنا العربية‪� ،‬أجيب �أنها لن‬ ‫ال الإمكانية الفعلية لذلك‪ .‬يبقى احتمال وقف‬ ‫متلك �أ�ص ً‬ ‫و�صول ال�سالح حلزب الله مفتوحا‪ .‬علم ًا �أن حزب الله‬ ‫يف كل الأحوال قد دفع وهو ال يزال يدفع ثمن ًا باهظ ًا‬ ‫من �شعبيته ونفوذه لوقوفه �إىل جانب النظام ال�سوري‪،‬‬ ‫على كافة ال�صعد يف لبنان و�سورية واخل��ارج‪ .‬وقد‬ ‫انعك�س ذلك حتى على دوره يف مقاومة �إ�رسائيل‪ .‬فيما‬ ‫يخ�ص �سالح حزب الله‪ ،‬ال �أرى موقف وطني �سوري‬ ‫يعترب �أن �إ�ضعاف القدرة الدفاعية للبنان فيه �أي دعم‬ ‫وطني ل�سورية‪ .‬لأول مرة قي تاريخ العالقات اللبنانية‬ ‫الإ�رسائيلية هناك قوة رادعة لبنانية بوجه �إ�رسائيل‪،‬‬ ‫هل هذا �ضد م�صلحة �سورية املقبلة؟ احلزب الآن قوة‬ ‫ُم�سلحة ال متار�س العمل امل�س ّلح‪ ،‬و�إىل �أن ن�صل �إىل‬ ‫حل يقوم على وحدة قوتي الدفاع الوطني‪� ،‬إي اجلهاز‬ ‫الع�سكري للحزب واجلي�ش اللبناين‪� ،‬سوف �أظل اعترب‬

‫املو�ضوع ملا بعد «االنت�صار»‪� .‬أو تنكره با�سم الأولويات‪،‬‬ ‫�أو با�ستهجان ت�سمية املنطقة الكردية يف �سوريا‬ ‫بـ«كرد�ستان الغربية»‪.‬‬ ‫ م‪ .‬ع‪ :‬هناك من يقول �إن �أف�ضل طريقة لطم�أنة بع�ض‬ ‫هذه املجموعات‪ ،‬يكمن يف االنخراط املبا�رش وال�رصيح‬ ‫يف الثورة‪ .‬لعل هذا هو الطريق الأق�رص؟‬ ‫ ف‪ .‬ط‪� :‬أنا ل�ست مع �صيغة التطمني‪ .‬و�أفهم من يقول‬ ‫رد ًا على ذلك‪ :‬كيف تطلب مني �أن �أطم ِئن َمن يذبحني؟‬ ‫ال�س�ؤال هو كيف نخرج من هذا املنطق خروج ًا �سيا�سي ًا‪.‬‬ ‫ال توجد �أجوبة �أو حلول جاهزة‪ .‬لكن بالت�أكيد ف�إن الفكر‬ ‫القومي االختزايل ال�سائد قد انتهى زمنه‪ .‬ومنطق �إنكار‬ ‫يجر الكوارث‪.‬‬ ‫امل�سائل الطوائفية ّ‬ ‫ تع ّلمنا من التجربة اللبنانية ال�صعبة درو�س ًا عن‬ ‫احلاجة �إىل �إحقاق حقوق املواطنة بعد �أن جرى �إطغاء‬ ‫حقوق اجلماعات وحدها‪ .‬علم ًا �أن خم�س ع�رشة �سنة من‬ ‫احلروب فر�ضت على الد�ستور اللبناين اجلديد التوفيق‬ ‫بني منطي التمثيل الفردي واجلمعي‪ ،‬من خالل الدعوة �إىل‬ ‫قيام جمل�سني‪ ،‬واحد للمواطنني دون قيد طائفي‪ ،‬وثان‬ ‫وهو جمل�س ال�شيوخ تنتخبه اجلماعات الطائفية مبا هي‬ ‫طوائف‪ .‬ولي�س من قبيل ال�صدفة �أن الطبقة احلاكمة‬ ‫يف لبنان حتول دون تطبيق هذه املواد الد�ستورية منذ‬ ‫�إقرارها العام ‪.١٩٩٠‬‬ ‫ ال �أعتقد �أن دعوة الأقليات �إىل االن�ضمام للثورة‬ ‫ال‬ ‫هو اجل��واب الكايف‪ .‬على الثورة �أن تعرتف بهم �أو ً‬ ‫وبالأ�سا�سي من حقوقهم‪ .‬وهذه لن تكون بالأ�صولية‬ ‫الدميقراطية التي تريد ق�رس النا�س �ضمن حقوق املواطنة‬ ‫وحدها دون ت�صحيح املظلوميات التاريخية ودون‬ ‫االحتياط لعدم تولد مظلوميات جديدة‪ .‬لهذا �أ�شعر ب�أن‬ ‫قدم على �أنها محُ رمات ب�شعة‬ ‫امل�س�ألة الطائفية ال تزال ُت ّ‬ ‫ومخُ يفة يف حني �أنها �أ�شكال من االمتيازات واحلرمان‬ ‫قابلة للعالج �إذا مت االعرتاف بها‪ .‬والدعوة �إىل حرية‬ ‫ممار�سة كل مكون من مكونات ال�شعب ال�سوري لثقافته‬ ‫بحرية‪ ،‬الذي يرد يف برامج املعار�ضات ال�سورية‪ ،‬مق�صرّ‬ ‫عن حقيقة االمتيازات واحلرمانات يف غري موقع‪.‬‬ ‫ م‪ .‬ع‪ :‬كيف ترى ت�أثريات الو�ضع ال�سوري على لبنان‪،‬‬ ‫يف �ضوء االنق�سامات اللبنانية الداخلية من الثورة‬ ‫ال�سورية؟‬ ‫ ف‪.‬ط‪ :‬يف البدء �أعتقد �أننا بحاجة لتبديد فكرة‬ ‫العالقة ال�سببية الأتوماتيكية‪ .‬ثم �إن �سورية الدولة‬ ‫واملجتمع �سوف تكون ُمدماة ومعطوبة مبا فيه الكفاية‬

‫ ‪ 47‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫�أن �أ�سلحة حزب الله‪ ،‬خ�صو�ص ًا الثقيلة‪ ،‬منها هي‬ ‫�أ�سلحة للدفاع عن لبنان‪.‬‬ ‫ لكن دعني �أختم هنا بالقول �إن جميء نظام جديد‬ ‫�إىل �سورية رمبا مينح دفعا و�أمال لفئة من اللبنانيني الذين‬ ‫�سئموا االنق�سام العبثي الفا�شل والعاجز بني ‪ 8‬و ‪14‬‬ ‫�آذار وقد تعاقبا على احلكم باملقادير نف�سها من الف�ساد‬ ‫والهدر والعجز‪ .‬وهي منا�سبة لإعالن الغ�ضب الكبري‬ ‫على انحياز �أو�ساط متزايدة من املعار�ضة ال�سورية �إىل‬ ‫�صف مع�سكر ‪� ١٤‬آذار مبا ي�ستفز قوى وا�سعة لي�ست‬ ‫من�ضوية يف هذا املع�سكر وال ُتختزل قطع ًا مبع�سكر ‪٨‬‬ ‫�آذار هو الآخر‪ .‬ومع ذلك اعتقد �أن هذه القوى لن تي�أ�س‬ ‫من املعار�ضة ال�سورية ولن تبني مواقفها جتاهها فقط‬ ‫انتقاما منه‪.‬‬ ‫ا�ستناد ًا لهذا االنحياز‪� .‬أو‬ ‫ً‬ ‫ م‪.‬ع‪ :‬لكن كيف تف�رس هذا الإ�رصار من قبل فريق‬ ‫‪� ٨‬آذار على دعم النظام ال�سوري حتى اللحظة؟ رغم‬ ‫�أنه بات جلي ًا �أن �سوريا لن تعود �إىل ما قبل ‪� ١٥‬آذار‬ ‫‪ ،٢٠١١‬ومهما كانت نتائج املخا�ض الراهن‪ .‬هل يعقل‬ ‫�أنها �سذاجة �سيا�سية؟ تعرتيني الده�شة من هذا الإ�رصار‪،‬‬ ‫وك�أن ال �شيء تغري بالفعل �أو ميكن �أن يتغري يف �سورية‪.‬‬ ‫ ف‪.‬ط‪ :‬يجب طرح ال�س�ؤال على حزب الله وحلفائه‪.‬‬ ‫امل�س�ألة لي�ست م�س�ألة وعي‪� .‬إنه القبول بنظرة خارجية‬ ‫لل�رصاع على انه بني مع�سكرين �إقليميني ودوليني واعتبار‬ ‫مت�سك‬ ‫حزب الله منتمي ًا �إىل احدهما‪� .‬أ�ضف �إىل هذا �أن ّ‬ ‫حزب الله بتعويذة املقاومة يتزايد مع �ضعف دور املقاومة‬ ‫عملي ًا ومع ا�ضطرار احلزب �إىل قيمة ُم�ضافة يتم�سك بها‬ ‫تغطية النتمائه اخلائب يف ال�سيا�سات الداخلية �إىل‬ ‫النظام الطوائفي‪ ،‬ودوره يف جتديده و«تثقيله»‪ ،‬ناهيك‬ ‫عن دوره يف التغطية على ال�سيا�سات االقت�صادية‬ ‫املعادية للنا�س وحقوقهم االجتماعية الأولية وغ�ضه‬ ‫النظر عن �أنواع �شتى من الف�ساد‪.‬‬ ‫ م‪.‬ع‪ :‬هل تعتقد �أن تغيري هذا املوقف م�ستحيل؟ حتى‬ ‫ال؟‬ ‫لو كان يف هذا الأمر م�صلحة للبنان �أو ً‬ ‫ ف‪.‬ط‪ :‬الأ�صح القول �إن من م�صلحة لبنان و�سوريا‬ ‫مع ًا �أن ال يتدخل الطرفان اللبنانيان يف الأزمة ال�سورية‪.‬‬ ‫فتدخل قوى ‪� ١٤‬آذار كبري �أي�ض ًا‪ ،‬ماليا وعلى م�ستوى‬ ‫الت�سليح‪ .‬وحزب الله مت�س ّلم جبهتني على الأقل عرب‬ ‫احلدود ال�سورية يف منطقتي الزبداين والق�صري‪.‬‬ ‫نت قد انتقدت بيان ًا �أ�صدره مثقفون �سوريون‬ ‫ م‪.‬ع‪ُ :‬ك َ‬ ‫ولبنانيون بعد اندالع الثورة ب�شهور‪ ،‬و�س�ؤايل لك اليوم‪،‬‬ ‫كيف ترى الطريقة الأمثل لبناء عالقات بني البلدين‬


‫تقوم على االحرتام والثقة املُتبادلة وحتقق �أي�ض ًا نوع من‬ ‫التكامل االقت�صادي؟‬ ‫ ف‪.‬ط‪ :‬عار�ضته لأنه ينطوي على معادالت غري مقنعة‬ ‫تنتمي �إىل «الإيديولوجية اللبنانوية» ‪ -‬اال�ستقالل للبنان‬ ‫والدميقراطية ل�سورية ‪ -‬الذي ي�ضع ا�ستقالل لبنان يف‬ ‫مواجهة �سورية وحدها والعتباره �أن م�س�ألة الدميقراطية‬ ‫يغيب مواجهة‬ ‫يف لبنان متحققة‪ .‬وعار�ضته لأنه بذلك ّ‬ ‫�إ�رسائيل‪ .‬وعار�ضته �أي�ض ًا النحيازه �إىل طروحات فريق‬ ‫واحد هو فريق ‪� ١٤‬آذار‪ .‬يف �إعالن بريوت دم�شق‪ ،‬الذي‬ ‫�أعتز ب�أين �شاركت يف �صياغته‪ ،‬ورد �أن هناك طريقني‬ ‫ال ي�صح امل�ضي يف كليهما‪ :‬الهيمنة‪ ،‬واالنف�صال‪ .‬هناك‬ ‫ميل لبناين انف�صايل مبعنى �أن نقفز عن �سورية لنلتقي‬ ‫ب�سائر العامل‪ .‬فيما كانت الهيمنة �سمة ممار�سة النظام‬ ‫ال�سوري عرب ثالثني �سنة من ال�سيطرة على لبنان‪� .‬أعتقد‬ ‫�أن هناك جماالت كثرية للت�شارك‪ ،‬هناك ال�سيا�سات‬ ‫امل�شرتكة يف مواجهة �إ�رسائيل‪ .‬وهناك جماالت وا�سعة‬ ‫مل�شاريع م�شرتكة‪ .‬وباملنا�سبة‪ ،‬ف�إن فر�صة اللبنانيني من‬ ‫اال�ستفادة هي �أكرب‪ ،‬فهناك يف �سورية �سوق �ضخمة‪.‬‬ ‫باخت�صار يجب �إع��ادة و�صل العالقات على �أُ�س�س‬ ‫من ال�رضورات الوطنية‪ ،‬و�إمكانية التكامل والتعاون‬ ‫االقت�صاديني ولكن ل�صالح ال�شعبني ولي�س امل�رصفيني‬ ‫وامل�ستوردين وامل�ضاربني العقاريني يف البلدين‪.‬‬ ‫ م‪.‬ع‪ :‬قبل الو�صول �إىل ذل��ك‪ ،‬هناك الكثري من‬ ‫املنغ�صات حالي ًا‪� ،‬أ�شياء قد يبدو جتاوزها �صعب الحق ًا‪،‬‬ ‫ك�أن ي�رصح وزير يف احلكومة احلالية‪ ،‬ب�أن ت�ضييق‬ ‫اخلناق على الالجئني و�إقفال احلدود يف وجههم هو فعل‬ ‫وطني بقيا�س امل�صلحة اللبنانية! �ألي�س هذا �أمر ًا يثري‬ ‫الده�شة قبل احلنق؟‬ ‫ ف‪.‬ط‪ :‬توجد عن�رصية �ضد الفل�سطينيني وال�سوريني‬ ‫يف لبنان‪ ،‬هذا �أمر ال �شك فيه‪� .‬شارك بذلك كل الإطراف‬ ‫مبا يف ذلك احلرب على املخيمات الفل�سطينية‪ .‬وهذه‬ ‫العن�رصية تتفاقم مع ت��ردي الأو���ض��اع االقت�صادية‬ ‫واالجتماعية‪ .‬لكن هذا ال يخفف من هول الت�رصيحات‬ ‫الأخرية للتيار الوطني احلر وال حزب الكتائب‪ .‬هناك بني‬ ‫�أن�صار الثورة ال�سورية الآن �سيا�سيون و�أحزاب تدين‬ ‫بنفوذها‪ ،‬حتى ال نقول بوجودها ذاته‪ ،‬للهيمنة ال�سورية‪،‬‬ ‫وبينهم من حلل قتل العمال ال�سوريني‪ ،‬ومن قتلهم فعال‪،‬‬ ‫بعد اغتيال الرئي�س رفيق احلريري‪.‬‬ ‫ م‪.‬ع‪� :‬أنت املنا�ضل واملثقف الي�ساري العتيق‪� ،‬أثرت‬ ‫�أكرث من مرة مو�ضوع الي�سار ودوره ومواقفه خالل الربيع‬

‫ ‪ 48‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫املرتد‪ ،‬الذي انتقل �إىل املوقع النقي�ض وهو‬ ‫الي�ساري‬ ‫ّ‬ ‫خجول من موقعه اجلديد‪ ،‬ولي�س منطق الي�ساري الذي‬ ‫يريد االع�تراف ب�أخطائه ليتعلم منها‪ .‬ثم �إن املدر�سة‬ ‫العقائدية الوحيدة التي متار�س النقد الذاتي هي الي�سار‪.‬‬ ‫وترجمته العملية �إما مهمة نقد ذاتي م�ؤجلة دائم ًا �أو‬ ‫مطروحة دائم ًا على الآخر‪ ،‬و�إما اجللد الذاتي العدمي‪.‬‬ ‫متيز ومتايز با�سم انتهاء‬ ‫ هنا �أي�ض ًا يجري �إعدام كل ّ‬ ‫الأيديولوجيات‪ .‬علم ًا �أن الي�سار يفرت�ض انه كان‬ ‫ميلك نظرية‪ ،‬ال �أيديولوجيا‪ ،‬لإنتاج املعارف عن الواقع‬ ‫من اجل تغيريه‪ .‬ثم ا�سمح يل �أن �أقهقه لق�صة نهاية‬ ‫الأيديولوجيات هذه‪ .‬يف زمن تتحول فيه عبادة ال�سوق‬ ‫�إىل ديانة جديدة‪ ،‬والنزعة الثقافوية حتب�س الب�رش يف‬ ‫هويات وانتماءات متعادية‪ ،‬وتتحول الديانات ذاتها �إىل‬ ‫م�سوغات لل�سيطرة واال�ستغالل والقتل‪ ،‬يريدوننا �أن‬ ‫ّ‬ ‫ن�صدق �أن الي�سار واملارك�سية يحتكران ‪ ...‬الأيديولوجيا‪.‬‬ ‫ النقد الذاتي هذا من �إنتاج الو�سو�سة الرهابية‬ ‫ال�ستالينية‪ ،‬التي �أودت مباليني ال�شيوعيني �إىل املنايف‬ ‫والقتل‪ ،‬لي�ضافوا �إىل ع�رشات املاليني من مواطني‬ ‫االحتاد ال�سوفياتي‪� ،‬ضحايا االرهاب ال�ستاليني‪ .‬وفق‬ ‫ال ودائم َا‪ ،‬حتى �أكرث من‬ ‫ال�ستالينية‪ ،‬ال�شيوعي مذنب �أو ً‬ ‫املواطن العادي‪ ،‬لأنه هو امل�ؤمن‪ ،‬مقابل املواطن العادي‬ ‫اجلاهل �أو «اجلاهلي»‪ ،‬مثله يف ذلك مثل امل�ؤمن يف الأديان‬ ‫ال�سماوية‪ .‬لذلك ف�إن ال�شيوعي امل�ؤمن عر�ضة للخطيئة‬ ‫والت�شكك يف �إميانه‪ ،‬حتديدا لأنه م�ؤمن‪ ،‬فمن باب �أوىل‬ ‫�أن يظل دوم ًا قيد االختبار واحليطة واحلذر بل الريبة‬ ‫من ميله الع�ضوي هذا �إىل االنحراف العقائدي والكفر‪.‬‬ ‫ال�ثراء الذي متلكه النظرية املارك�سية كامن يف �أنها‬ ‫نظرية املمار�سة ويف �أنها تدعو �إىل التعلم من املمار�سة‪.‬‬ ‫ال‪،‬‬ ‫ف�إن مل ن�ستوعب ونتعلم من التجربة ال�سوفياتية‪ ،‬مث ً‬ ‫فما الذي ينفع كل هذا الهذر عن النقد الذاتي! وللتعلم‬ ‫من املمار�سة ال بد من امتالك الأدوات النظرية لذلك‪.‬‬ ‫ نقر�أ كثري ًا يف هذه الأيام من بع�ض الي�سار �أنه «ال‬ ‫توجد ث��ورة»‪� ،‬أو «بئ�س هذا الربيع امللطخ بالدماء»‪.‬‬ ‫كثريون يريدون ثورة ت�شبه �أمنياتهم‪ ،‬وين�سبون ثورات‬ ‫الأماين هذه �إىل منوذج لثورة غري موجودة يف التاريخ‪.‬‬ ‫ال ثورة دون قوة �أو عنف‪ .‬ويتحدد من�سوبها وفق منط‬ ‫ردود فعل القوى امل�ضادة للثورة‪ .‬الع�رشة �أيام التي‬ ‫ه ّزت العامل يف ثورة �أكتوبر البل�شفية برو�سيا افتتحت‬ ‫�أربع �أو خم�س �سنوات من حروب التدخل واالقتتال‬ ‫الأهلي واملجاعات والكوارث وتركت �أعطابا كبرية على‬

‫قمت بانتقاد ما ا�سميته‬ ‫العربي‪ .‬يف �إحدى مقاالتك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫«ي�سار ًا داعم ًا لال�ستبداد بحجة امل�س�ألة الوطنية»‪ .‬كما‬ ‫ُ‬ ‫حتمل الثورات العربية �إىل الي�سار مزيج ًا من‬ ‫ذكرت كيف‬ ‫َ‬ ‫التحدي الوجودي والفر�صة التاريخية‪ .‬يف �ضوء املواقف‬ ‫املتخبطة للي�سار يف ال�ش�أن ال�سوري حتديد ًا هل تعتقد‬ ‫فوت هذه الفر�صة؟‬ ‫�أن «بع�ض الي�سار»‪،‬على الأقل‪ّ ،‬‬ ‫ ف‪.‬ط‪ :‬الق�سم الأك�بر من الأح���زاب ال�شيوعية‬ ‫واال�شرتاكية‪ ،‬يف م�رص وتون�س واليمن‪ ،‬ان�ضوت ب�صفتها‬ ‫«معار�ضة �صاحبة اجلاللة»‪� .‬أ�صبحت جزء ًا من الرتكيبة‬ ‫اجلديدة ولكنها هي الطرف ال�ضعيف فيها‪ .‬وهذا الطرف‬ ‫ال�ضعيف م�شكلته �أنه يواجه خ�صم بقوة الإ�سالميني‬ ‫ميلك ر�ؤية كاملة للحياة‪ .‬الي�سار م�صاب بغياب الر�ؤية‬ ‫ و�رشطها الأول حتقيق ا�ستقالله الفكري والربناجمي‬‫عن �سائر الأطراف من �أ�صدقاء وخ�صوم ‪ -‬وهذه هي‬ ‫امل�شكلة الكربى‪ ،‬عدا عن �أن ثقل ما�ضي ممار�سة‬ ‫دكتاتورية احلزب الأوح��د‪� ،‬أو التهليل لها‪ ،‬والرتبية‬ ‫الكارهة للدميقراطية على اعتبارها «برجوازية»‪ ،‬كا�سح‬ ‫الوط�أة على الي�سار‪ .‬مع ذلك ال �أزال �أقول �إن ثمة موقع ًا‬ ‫ودور ًا ميكن �أن يحتلهما الي�سار‪ .‬فهو القادر افرتا�ضي ًا‬ ‫على الأقل على اجلمع بني امل�س�ألة الوطنية وم�س�ألتي‬ ‫الدميقراطية والعدالة االجتماعية‪ .‬ولكن ال�رشط‬ ‫تقيده مبقيا�س ب�سيط هو‬ ‫الأول لهذا املوقع والدور هو ّ‬ ‫�أن ينحاز �إىل ال�شعب‪ .‬وهذا يعني التحرر من النزعة‬ ‫النخبوية الطليعية الرتبوية جتاه ال�شعب‪ ،‬وهو تراث‬ ‫م�شرتك بني الأح��زاب ال�شيوعية والقومية يقوم على‬ ‫«�سلطان الكلمة»‪ .‬والكلمة عندما ت�صري ُمقد�سة‪ ،‬بها‬ ‫يقا�س الإميان والكفر‪ ،‬تتولد تكفريية علمانية �أورثتنا‬ ‫�إياها الأنظمة اال�ستبدادية ال�شمولية‪ .‬وهذه النزعة‬ ‫ت�سوغ بدورها اال�ستبداد والدكتاتورية لأنها‬ ‫التكفريية ّ‬ ‫ت�ؤ�س�س عالقة تربوية بني الطليعة وال�شعب‪ ،‬فال�شعب‬ ‫جاهل مب�صاحله وبالتايل فمهمة «الأنبياء ال�صغار» �أن‬ ‫يتولوا �إر�شاده وقيادته‪.‬‬ ‫ م‪.‬ع‪ :‬هل تعتقد �أن النقد الذاتي هو ال�سبيل لت�صويب‬ ‫موقف بع�ض القوى وال�شخ�صيات الي�سارية‪� ،‬أم �أن‬ ‫ال�سبيل الأف�ضل للتواجد الفعال هو االنخراط الفعلي‬ ‫يف كافة �أوجه الثورات احلالية؟‬ ‫ ف‪.‬ط‪� :‬أ�صارحك �أين زهقت فكر ًا وج�سد ًا من النقد‬ ‫الذاتي‪� .‬أعتقد �أن مثقفي الي�سار عموم ًا ي�شرتكون مبطلب‬ ‫واحد هو وجوب ممار�سة النقد الذاتي‪� .‬أ�شبه الأمر ُبع�صاب‬ ‫ديني قائم على �شعور عميق بالذنب‪ .‬وهو �أي�ضا منطق‬

‫ ‪ 49‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫التجربة ال�سوفياتية ذاتها‪ .‬ثم انه ال يوجد ثورة تنجح‬ ‫ال‪ .‬ثورة ربيع ‪١٩٦٨‬‬ ‫ال كام ً‬ ‫بالكامل �أو تف�شل ف�ش ً‬ ‫الطالبية يف فرن�سا و�سائر العامل غيرّ ت م�صائر �شعوب‬ ‫ّ‬ ‫ب�أكملها وتركت ب�صماتها على احل�ضارة الإن�سانية يف‬ ‫نواحي عديدة ومع ذلك ف�إنها مل تنت�رص �سيا�سي ًا ب�أي‬ ‫معنى من املعاين‪ .‬و�أول ثورة دميقراطية قامت يف التاريخ‬ ‫كانت العام ‪ ١٦٤٠‬يف بريطانيا‪ .‬فلنق�س كم اقت�ضى‬ ‫الأمر من الوقت حتى ي�صري جمل�س العموم الربيطاين‬ ‫ال�سلطة الراجحة �ضد �سلطة جمل�س ال��ل��وردات‬ ‫الوراثية؟ ماذا عن الثورة الفرن�سية؟ جمموعة �أندية‬ ‫وبروليتاريا نا�شئة انتهت بتعادل يف القوى وباقتتال بني‬ ‫القادة والتكتالت ما لبثت �أن �أتت بدكتاتور‪ ،‬ومن ثم‬ ‫العودة �إىل احلكم امللكي‪ .‬وقامت ثالث ثورات بعدها‪،‬‬ ‫ت�ستمد �رشعيتها من ادعاء حتقيق �أهداف الثورة الأوىل‬ ‫�أو الأ�صلية‪ ،‬قبل �أن ي�ستتب الأمر للنظام اجلمهوري‬ ‫الدميقراطي مطلع القرن الع�رشين‪.‬‬ ‫حتدثت عن عدم قناعتك ب�أن املثقف هو‬ ‫ م‪.‬ع‪ :‬لطاملا‬ ‫َ‬ ‫الذي يتعاطى بالثقافة العليا‪ ،‬كما �أنك تذكر الت�أثري‬ ‫العميق لغرام�شي عليك‪ ،‬وتتحدث عن عبقرية �شعبية‬ ‫يتجاهلها عادة املثقفون العرب‪ .‬بر�أيك‪ ،‬هل ين�سحب‬ ‫هذا التجاهل ليف�رس �أي�ض ًا �ضعف انخراط بع�ض املثقفني‬ ‫يف الثورات احلالية‪� ،‬أو على مواقف بع�ضهم املرتددة بل‬ ‫وامل�شككة �أحيان ًا بالقدرة على �إجناز �أي تغيري؟ �أم رمبا هو‬ ‫حمك مل نعرفه من قبل لإعادة تعريف املثقف؟ ودوره؟‬ ‫ ف‪.‬ط‪� :‬إن نقدي يدور �أي�ض ًا حول قيمة ُم�ضافة ُتعطى‬ ‫للمثقف يف بالدنا‪ ،‬مبا هو مثقف‪ ،‬ل�ست �أعلم �إن كانت‬ ‫موجودة يف �أي مكان �آخر يف العامل‪ .‬وهي �أن ين�سب‬ ‫�إليه الوعي والذكاء وال�ضمري والرتفع عن امل�صالح‬ ‫واال�ستقامة‪ .‬يف هذا الر�أي انتحال امتياز وقيم تنطوي‬ ‫على مقدار كبري من الع�صبية املهنية ومن اال�ستعالء‬ ‫غري املربر‪ .‬ثم انه ي�سهل االنزالق من املثقَف (بالفتحة‬ ‫على القاف) �إىل املث ِقف (بالك�رسة حتت القاف) ما ي�سهل‬ ‫�إعطائه تلك ال�سلطة الرتبوية الفكرية على النا�س‪.‬‬ ‫ املثقفون فئة اجتماعية متتهن العمل الذهني �ضمن‬ ‫تق�سيم العمل االجتماعي‪ .‬واحتاللهم ذلك املوقع‬ ‫الذهني يف توزيع العمل �رضب من االمتياز يعفيهم‬ ‫من العمل اليدوي‪ .‬وهي فئة وا�سعة ‪ -‬ال تقت�رص على‬ ‫ما ميكن ت�سميتهم املثقف العام �أو الأديب �أو الفنان ‪-‬‬ ‫تخ�ضع يف �رشوط معي�شتها لقوانني و�آليات لغريها من‬ ‫حتول نوعية‬ ‫الفئات‪ .‬وهنا يجب التنبه �إىل �أننا يف مرحلة ّ‬


‫ ن�رشت يف موقع‬ ‫«م�ؤ�س�سة هرني�ش‬ ‫بول» ويف موقع‬ ‫«جدلية» باالتفاق‬ ‫مع الكاتب‪.‬‬

‫ ‪ 50‬‬

‫يف نوع املثقف‪ .‬فقد انتهى �إىل حد بعيد منوذج املثقف مبا‬ ‫هو �أ�ستاذ املدر�سة يف الريف �أو املمار�س لإحدى املهن‬ ‫احلرة‪ ،‬العامل على نقل احلداثة والتقدم �إىل النا�س‪.‬‬ ‫يحل حمله الآن الإعالمي والباحث والأ�ستاذ اجلامعي‬ ‫واخلبري واالخت�صا�صي يف جماالت العلوم املختلفة‬ ‫واملهند�س االلكرتوين‪ ،‬الخ‪ .‬ولهذا التحول م�ستتبعات‬ ‫كثرية �إن من حيث الدور �أو املهمة النقدية �أو حتى من‬ ‫حيث القدرة �أو عدم القدرة على �إنتاج املعارف‪ .‬يف‬ ‫الثورات‪ ،‬مقيا�س احلكم على املثقفني هو يف �أي موقع‬ ‫يقفون‪ :‬مع ال�شعب �أو مع الأنظمة؟‬ ‫ م‪.‬ع‪ :‬هناك من يقول �إننا بحاجة مل�سافة زمنية‬ ‫ونقدية من احلدث ت�سمح بالإ�سهام الثقايف �أو املعريف‪.‬‬ ‫يف مقدمة كتابك «الدميقراطية ثورة»‪ُ ،‬تفند هذه املقولة‪،‬‬ ‫وتقول �إن الإ�سهام �أثناء الأزمنة اال�ستثنائية عرب �إبداء‬ ‫الر�أي وحماولة الت�أثري �رضورة‪.‬‬ ‫ ف‪.‬ط‪� :‬أعترب الثورات حدث ًا معرفي ًا املطلوب ا�ستخراج‬ ‫معانيه و�إعادة تقدميه‪ .‬واملق�صود بامل�سافة النقدية �أنها‬ ‫ذهنية ولي�ست زمنية‪ .‬ال ميكن ت�أجيل هذه املهمة لأن‬ ‫الثورات �أحداث تاريخية نادرة وجذرية تقلب �أح�شاء‬ ‫ال�سلطة واملجتمع ر�أ�س ًا على عقب وت�سمح ب�إلقاء نظرات‬ ‫نادرة داخل �آليات ت�شغيلهما‪ .‬ولكن امل�سافة النقدية‬ ‫لي�ست نقي�ض االلتزام بالثورات‪ .‬من يرى �أن م�ساهمته‬ ‫الرئي�سية هي يف جمال الإنتاج الفكري‪ ،‬واملثقف النقدي‬ ‫تخ�صي�ص ًا‪ ،‬مطالب ب�أن يتعاطى مع الثورات مبا هي‬ ‫ذاتها عملية نقدية لربع قرن من االيدولوجيا املتعوملة‬ ‫املفرو�ضة علينا وما رافقها من �أوهام وخرافات و�أن�صاف‬ ‫حقائق ومفاهيم فجة وم�سطحة‪ ،‬ومن اال�ستكانة والركود‬ ‫واالمتثال الفكري �أو التبعية‪.‬‬ ‫ م‪.‬ع‪ :‬و�أنت ال�شديد الريبة باملوقف الأمريكي من‬ ‫الثورات العربية قاطبة‪ ،‬ومن الأزمة ال�سورية ب�شكل‬ ‫خا�ص‪ ،‬وكذلك الأمر مبا يتعلق مبواقف الرو�س وحلفاء‬ ‫النظام‪ .‬كيف ترى ال�سبيل �إىل حتقيق ال�سوريني‪ ،‬يف‬ ‫وحدتهم القا�سية هذه‪ ،‬لأهداف ثورتهم الأ�سا�سية يف‬ ‫احلرية والكرامة والعدالة االجتماعية؟‬ ‫ ف‪.‬ط‪ :‬ال توجد حركة حترر بالعامل �أجنزت �أهدافها دون‬ ‫ِ‬ ‫امل�ستعمر‪� ،‬أو يف منظومة الهيمنة‬ ‫�أن تحُ دث �أثرا لها يف البلد‬ ‫العاملية التي يرتبط بها ذلك البلد‪ .‬فيت�شكل فيه تيار يرى‬ ‫امل�ستعمر‪،‬‬ ‫�أن الر�ضوخ للأمر الواقع والقبول با�ستقالل البلد‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫امل�ستعمر نف�سه‪ .‬مل تنل اجلزائر‬ ‫بات من م�صلحة البلد‬ ‫اال�ستقالل‪ ،‬رغم فداحة الت�ضحيات‪� ،‬إال بعد �أن ا�ستولدت‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫يف فرن�سا تيار ًا مثلته الديغولية‪ ،‬فاو�ض على اال�ستقالل‬ ‫و�إنهاء االحتالل على اعتبارها باتت �رضورة فرن�سية‪.‬‬ ‫ قد تلتقي م�صالح حركة حترر �أو حركة ثورية مع‬ ‫موقف �أمريكي �أو غربي يف مرحلة تاريخية معينة‪� .‬أو‬ ‫قد تفيد حركات التحرر والثورات من حياد �أو �إهمال‬ ‫ال�سيا�سة الأمريكية لتقتن�ص انت�صارا لها‪ .‬لي�س هذا هو‬ ‫احلال عندنا‪ .‬ما تقوم به الواليات املتحدة هو حماولة‬ ‫�إنقاذ الأنظمة بتجديد جزئي للنخب‪ .‬والتجديد اجلزئي‬ ‫بالن�سبة لها مزيج من النخب القائمة‪ ،‬مبا فيها النخب‬ ‫الع�سكرية‪ ،‬ومن النخب الر�أ�سمالية امل�ؤمنة الإ�سالموية‪.‬‬ ‫بعد �أربعني �سنة وت�ضحيات �ضخمة‪ ،‬بالكاد جنحت‬ ‫ب�ضعة بلدان يف تغيري ر�ؤ�سائها وبع�ض قوانينها دون‬ ‫الأ�سا�سي يف �أنظمتها‪.‬‬ ‫ من هنا يجب �أن نتحلى باحلذر ال�شديد من �صيغ‬ ‫احلل ال�سيا�سي يف �سورية‪ .‬فبدون �إنهاك هذا النظام‬ ‫وفر�ض تنازالت كبرية عليه‪ ،‬ف�أنت �أمام خلطة بعثية‬ ‫ع�سكرية �إ�سالمية قادمة مفرو�ضة عليك برعاية‬ ‫�أمريكية خليجية‪.‬‬ ‫ هاج�سي الآخر هو ال�شباب‪� .‬أين وماذا �سيكون دور‬ ‫ال‪ .‬ها هم يعودون ب�أ�شكال‬ ‫ال�شباب؟ هذه ثورة �شباب �أو ً‬ ‫احتجاجية �أو تنظيمية خمتلفة يف اليمن وتون�س وم�رص‪،‬‬ ‫الأمر الذي يجعلنا نرتقب موجة ثانية من الثورات‪� .‬آن‬ ‫الأوان للمعار�ضة غري الإ�سالمية �أن تبلور ر�ؤيتها مل�ستقبل‬ ‫�سورية وان متيزه متييز ًا وا�ضحا عن املعار�ضة الإ�سالمية‪.‬‬ ‫من غري املقنع القول‪« :‬عندما ن�صل �إىل ال�سلطة‪ ،‬نفكر يف‬ ‫الأمر »‪� .‬أمتنى على املعار�ضة ال�سورية �أن ت�ستفيد من كم‬ ‫الدرو�س التي نراها يف الثورات الأخرى‪ ،‬و�أن جتد طريقة‬ ‫تتجاوز فيها احل ّلني اللبناين واليمني‪ .‬و�أن تبتكر طريقة‬ ‫بناء على حكم الأكرثية ال�سيا�سية‬ ‫لت�أمني حقوق الأفراد ً‬ ‫ولأخذ حقوق اجلماعات والأقليات باالعتبار يف �آن مع ًا‪.‬‬ ‫ال مهرب من هذه اال�ستحقاقات‪ .‬وغري �صحيح باملرة �أن‬ ‫ننكر وجود م�س�ألة طائفية يف �سورية ملجرد �أنها كانت‬ ‫مكبوتة ومدفونة بالإنكار واالدعاء العلماين‪� .‬أ�ضف �إىل‬ ‫ذلك �أن احلرب والقتال والعنف ولاّ دة هويات وع�صبيات‬ ‫قاتلة‪ .‬وال يكفي الإفادة من التجربتني اللبنانية واليمنية‪.‬‬ ‫هناك التجربة العراقية ب�أمثولتها الوا�ضحة‪ .‬طائفة‬ ‫عوقبت جماعيا بجريرة نظام‪ ،‬فلج�أ بع�ض �أهلها‪ ،‬من‬ ‫ع�سكريني وغري ع�سكريني‪� ،‬إىل القتال بكل الطرق‪،‬‬ ‫و�أحيان ًا �أب�شعها‪ ،‬للر ّد على التهمي�ش والعقاب اجلماعي‪.‬‬ ‫هذا در�س �آخر للأخذ بعني االعتبار‪.‬‬

‫‪ 50‬‬

‫فلسطني ضد الفلسطينيني‪ :‬القانون‬ ‫احلديدي ومفارقات شعب َ‬ ‫منكر‬

‫ب�شارة دوماين‬

‫‪« 84‬احلكم الذايت» يف فلسطني المحتلة‪:‬‬

‫تطبيقات يف الهندسة النيولربالية المعولمة‬

‫خليل نخلة‬

‫‪ 20 58‬أوسلو‪ :‬السياقات والتداعيات‬

‫‪ ٢٠ 89‬اوسلو‪ :‬بناء الدولة النيوليربالية‬

‫‪ 65‬االقتصاد السيايس للجيش اإلرسائييل‬

‫‪ 96‬االكادمييا يف اشتيال‬ ‫خميم يرزح حتت االجتياح البحيث‬ ‫ّ‬

‫نوام ت�شوم�سكي‬ ‫ياغيل ليفي‬

‫‪ 78‬المنظمات غري احلكومية‪ :‬بني الكلمات‬ ‫الطنانة واحلركات االجتماعية‬ ‫ّ‬

‫�إ�صالح جاد‬

‫توفيق حداد‬

‫مي�سون �سكرية‬


‫فلسطني ضد الفلسطينيني‬

‫القانون احلديدي ومفارقات شعب َ‬ ‫منكر‬ ‫باشرة دوماين ان ن�شوء «�سلطتني» فل�سطينيتني يف العام ‪٢٠٠٧‬‬ ‫يف منطقتني خمتلفتني ‪� -‬سلطة حركة حما�س يف غزة‬ ‫مؤرخ‪ ،‬استاذ يف و�سلطة حركة فتح يف ال�ضفة الغربية ‪ -‬زاد يف احلاح‬ ‫جامعة براون‪� ،‬س�ؤال �أ�صلي‪ :‬من هم الفل�سطينيون؟ من ينطق با�سمهم؟‬ ‫الواليات المتحدة‪ .‬ماذا يريدون؟ باي معنى ي�شكلون جمتمعا �سيا�سيا؟‬ ‫يعمل باشرة دوماين وكيف لهم ان يحققوا تطلعاتهم؟‬ ‫بنوع خاص عىل التارخي ان املثابرة العنيدة لهذه اال�سئلة خالل ما يقارب‬ ‫االجتماعي‪ ,‬له كتاب القرن من الزمن ي�شدد على بع�ض القوانني احلديدية‬ ‫«الفالحون والتجار يف واملفارقات يف التاريخ الفل�سطيني احلديث التي ت�ستحق‬ ‫نابلس‪ .»١٩٠٠-١٧٠٠ ،‬املعاجلة يف نقا�شات عن ا�سباب املحنة احلالية و�آثارها‬ ‫وعن الكيفية التي بها ن�ستطيع ان نبتكر ا�سرتاتيجيات‬ ‫خالقة لتحقيق احلرية وال�سلم والعدالة‪ .‬اق�صد بـ«قوانني‬ ‫حديدية» القوى التاريخية التكوينية التي نتجت‬ ‫من التفاوت الكا�سح يف عالقات القوى الذي �سجن‬ ‫الفل�سطينيني يف فق�ص من حديد‪ .1‬واعني بـ«مفارقات»‬ ‫تخرب ال�رسديات القومية عن‬ ‫�سخريات التاريخ التي ّ‬ ‫املا�ضي‪ .‬واين �أحاجج ان القوانني احلديدية واملفارقات‬ ‫هذه ت�ستدعي اعادة تقييم نقدية للعالقة بني مفهومي‬ ‫«فل�سطني» و«فل�سطينيني» لكما العادة تقييم نقدية‬ ‫للم�رشوع املتمركز حول الدولة الذي رافق حقبات‬ ‫متتالية من احلركة الوطنية الفل�سطينية‪.‬‬

‫بديال عن ان يوجد تطابق طبيعــــــــــــــــــــــــــــــي‬ ‫وجِ د وال يزال يوجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد‬ ‫توتر ناجت من «مناكفة زمنيـــــــــــــــــــــــــــــــــــة»‬ ‫بني فل�سطني والفل�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــطينيني‪،‬‬ ‫ك�أمنا الواحد منهما ال يوجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد‬ ‫اال على ح�ساب الآخـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر‬

‫عن مفارقات وقوانني حديدية‬ ‫ان الدينامية املركزية او القانون احلديدي للنزاع على‬ ‫فل�سطني منذ ان بد�أ يف اواخ��ر القرن التا�سع ع�رش‪،‬‬ ‫متحورا حول الرف�ض القاطع الذي واجهت به اعتى‬ ‫قوتني يف ذلك النزاع ‪ -‬احلركة ال�صهيونية (والحقا‬ ‫وداعميها الرئي�سيني‪ ،‬بريطانيا‬ ‫احلكومة اال�رسائيلية)‬ ‫َ‬ ‫اوال وال��والي��ات املتحدة تاليا ‪ -‬االع�تراف بوجود‬

‫لوجودهم كجماعة �سيا�سية بعد العام ‪ ١٩٤٨‬كما عبرّ ت‬ ‫عنه العبارة �سيئة الذكر لرئي�سة الوزراء غولدا مئري يف‬ ‫العام ‪« ١٩٦٩‬ال�شعب الفل�سطيني غري موجود»‪ .2‬وقد‬ ‫ا�ستمر الو�ضع على هذا املنوال مع العبارة احلديدية «ال‬ ‫تفاو�ض مع منظمة التحرير الفل�سطينية االرهابية» من‬ ‫حرب ‪ ١٩٦٧‬اىل اتفاق او�سلو العام ‪ ١٩٩٣‬و�صوال‬ ‫اىل تر�سيمة «لن نفاو�ض يا�رس عرفات» يف فرتة ما بعد‬

‫‪ 1‬‬

‫‪Rashid Khalidi,‬‬ ‫‪The Iron Cage:‬‬ ‫‪The Story of the‬‬ ‫‪Palestinian Struggle‬‬ ‫‪for Statehood‬‬ ‫‪(Boston, Mass. 2006).‬‬

‫‪ 2‬‬

‫‪Sunday Times‬‬ ‫‪(London) 15 June,‬‬ ‫‪1969, p.12.‬‬

‫ ‪ 52‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫الفل�سطينيني مبا هم جماعة �سيا�سية او ال�سماح بذلك‪.‬‬ ‫وقد �سمح عدم االع�تراف هذا لطاقتي الدفع لذلك‬ ‫النزاع ‪ -‬اال�ستيالء على االر�ض واالجالء ال�سكاين‬ ‫للفل�سطينيني من ارا�ض اجلدود ‪ -‬ان ت�ستمرا دون توقف‬ ‫خالل ما يقارب القرن‪ .‬وهذا باملنا�سبة ما يف�سرّ الر�سالة‬ ‫املركزية للعالقات العامة اال�رسائيلية‪ ،‬التي هي‪ ،‬يف‬ ‫واقع احلال‪ ،‬النقي�ض عن احلقيقة‪ .‬اعني ان املطلوب‬ ‫االعرتاف به هو حق ا�رسائيل يف الوجود‪.‬‬ ‫ ان للقانون احلديدي �سالالت طويلة متتد من �شعار‬ ‫اخلال�صيني امل�سيحيني يف اواخر القرن التا�سع ع�رش ‪-‬‬ ‫«ار�ض بال �شعب ل�شعب بال ار�ض» ‪ -‬اىل املحو ال�سيا�سي‬ ‫الد�ؤوب لل�سكان اال�صليني يف كلمات «وعد بلفور» يف‬ ‫العام ‪ ١٩١٧‬ويف «وثيقة االنتداب على فل�سطني»‬ ‫ال�صادرة عن «ع�صبة االمم» و�صوال اىل االنكار ال�صفيق‬

‫‪ 3‬مقابلة مع �آري‬ ‫ ‬ ‫�شاڤيت‪ ،‬ها�آرت�س‪،‬‬ ‫‪ ٨‬ت�رشين االول‪،‬‬ ‫‪.٢٠٠٤‬‬

‫ ‪ 53‬‬

‫او�سلو و�صيغة «حممود عبا�س �ضعيف جدا لنتحدث ال نهاية للمفارقات التي جنمت عن ذلك التوتر‬ ‫اليه»‪ ،‬قبل انتخابات العام ‪ .٢٠٠٦‬وقد ّ‬ ‫خل�ص دوڤ «املحايث»‪ .‬ت�ستحق اربع مفارقات منها ان نوليها اهتماما‬ ‫فاي�سغال�س‪ ،‬امل�ست�شار ال�سيا�سي لرئي�س الوزراء �آريل خا�صا لأن كل واحدة منها تعينّ منعطفا من املحو والوالدة‬ ‫�شارون‪ ،‬هذا الن�سق يف التعامل كما يلي‪:‬‬ ‫للهوية او لالر�ض‪ ،‬ولكن لي�س لكليهما معا‪.‬‬ ‫ «لقد جنحنا‪ ،‬من خالل املعاجلة املنا�سبة‪ ،‬ان نزيح‬ ‫م�س�ألة العملية ال�سيا�سية عن جدول االعمال‪ .‬وقد املفارقة بني الهوية واالر�ض‬ ‫�سميت «فل�سطني» م ّثلت‬ ‫ثقّفنا العامل كي يفهم انه ال يوجد احد لنتحدث اليه‪ .‬املفارقة االوىل هي ن�شوء دولة ّ‬ ‫ي�سمون‬ ‫ولقد نلنا �شهادة «ال وجود الحد نتحدث اليه»‪ ...‬ولن هزمية ماحقة للتطلعات ال�سيا�سية للذين �سوف‬ ‫ّ‬ ‫�سحب هذه ال�شهادة اال عندما يحدث كيت وكيت‪ -‬اي الحقا ال�شعب الفل�سطيني‪ .‬فاىل العام ‪ ،١٩٢٠‬كان‬ ‫ُت َ‬ ‫‪3‬‬ ‫عندما ت�صري فل�سطني هي فنلندا» ‪.‬‬ ‫ان�شاء كيان �سيا�سي م�ستقل يف جنوب �سورية اخليار‬ ‫ بعبارة اخرى ‪ -‬ان هذا لن يح�صل ابد ًا‪ .‬على االقل االق��ل حظوة بالت�أييد عند الذين يعبرّ ون عن �آراء‬ ‫لي�س قبل ان تكون الديناميات اال�سا�سية مل�صادرة �سيا�سية حمددة يف العقود االخرية من احلكم العثماين‬ ‫االر�ض ولالجالء ال�سكاين قد اخذت جمراها مبا ير�ضي (مع االعرتاف ب�أنهم كانوا اقلية)‪.‬‬ ‫النخبة اال�رسائيلية احلاكمة‪ ،‬ما ي�سمح ال�رسائيل ب�أن املفارقة الثانية هي ان ان�شاء بريطانيا لدولة‬ ‫تعلن عن حدودها اخري ًا‪.‬‬ ‫فل�سطينية بذاتها من خالل «ع�صبة االمم» ارتكز على‬ ‫ واملفارقة يف االمر هنا ان االنكار العنيد للفل�سطينيني انكار م�شغول بعناية لوجود الفل�سطينيني مبا هم جماعة‬ ‫مبا هم جماعة �سيا�سية‪ ،‬او حتى حموهم‪ ،‬هو نتاج قوى �سيا�سية‪ .‬وهكذا فاملفاو�ضات الطويلة بني احلكومة‬ ‫فكرية ومادية �سابقة على وجود الفل�سطينيني مبا هو الربيطانية وقادة احلركة ال�صهيونية التي �سبقت وعد‬ ‫�شعب يف املعنى احلديث للكلمة‪ ،‬اي مبا هم جماعة بلفور (‪ )١٩١٧‬حول موقع «غري اليهود» (وقد كانوا‬ ‫يفرت�ض اع�ضا�ؤها وج��ود تطابق وا�ضح عندهم بني ‪ ٪ ٩٠‬من ال�سكان) نتجت منه �صيغة �سمحت له�ؤالء‬ ‫الهوية واالر�ض‪ ،‬حيث التعبري احلتمي عن ذاك التطابق بحقوق مدنية ودينية فقط‪ ،‬فيما جرى االعرتاف جهارا‬ ‫ي�سمون انف�سهم باحلقوق ال�سيا�سية لليهود‪ .‬وقد � ِ‬ ‫أدخلت هذه ال�صيغة‬ ‫هو �سيادة الدولة‪ .‬هذا ال يعني ان الذين ّ‬ ‫لالرا�ضي‬ ‫اال�صليني‬ ‫اليوم فل�سطينيني لي�سوا ال�سكان‬ ‫بحرفيتها يف «وثيقة االنتداب» حيث ال ذكر �إطالقا‬ ‫التي �صارت فل�سطني االنتدابية العام ‪ .١٩٢٢‬االحرى لكلمة «عرب» وحيث ت ِرد كلمة «فل�سطيني» مرة واحدة‬ ‫انه يعني بديال من ان يوجد تطابق طبيعي وجِ د وال (ومن �سخرية االقدار انها وردت يف �صدد الدعوة اىل‬ ‫يزال يوجد توتر ناجت من «مناكفة زمنية» بني فل�سطني ت�سهيل ح�صول اليهود على «اجلن�سية الفل�سطينية»)‪.‬‬ ‫والفل�سطينيني‪ ،‬ك�أمنا الواحد منهما ال يوجد اال على و�إن التع ّنت الربيطاين �ضد ال�سماح للفل�سطينيني‬ ‫ح�ساب الآخر‪ .‬ان �سمة مميزة من �سمات هذا الو�ضع ب�أن ي�شكلوا امل�ؤ�س�سات ذاتها التي ك ّلفهم االنتداب‬ ‫هي تخلف زمني يق�ضي على الفل�سطينيني ب�أن يكونوا بتطويرها‪ ،‬ي�ضاف اليه عجز القيادات املحلية عن‬ ‫ت�صور ثقافة �سيا�سية‪ ،‬قد حتجرت ب�سبب قرون‬ ‫مبوجبه مت�أخرين بخطوة او خطوتني اىل ال��وراء‪ ،‬ولذا اعادة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عاجزين بانتظام عن‬ ‫التحكم بقواعد اال�شتباك‪ .‬فقبل من ال�سيطرة االمرباطورية العثمانية‪ ،‬ت�ستطيع ان جتابه‬ ‫ان يتمكنوا من ذلك بوقت طويل‪ ،‬كانت تلك القواعد بفاعلية احلكم الربيطاين وامل�رشوع ال�صهيوين‪ ،‬ع ّزز‬ ‫تتطلب وعيا قوميا �سائدا يف كل ذهن و�شهادة ا�ستمالك من التوتر بني الهوية واالر�ض الذي الزم الفل�سطينيني‬ ‫ويرجح لهذا التوتر ان ي�ستمر طاملا‬ ‫لالر�ض مبنية على م�سوح عقارية مم�سوكة يف كل يد منذ بداية النزاع‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ك�رشوط م�سبقة للحق يف ادعاء ملكية االر�ض‪ ،‬واحلق ان احلركة الوطنية الفل�سطينية حبي�سة اال�سا�س النظري‬ ‫يف الكالم‪ ،‬واحلق يف نيل االعرتاف بهم مبا هم جماعة التي ر�سمته احلركة ال�صهيونية والقوى االمربيالية التي‬ ‫�سيا�سية‪ .‬وكان قبول الفل�سطينيني تلك ال�رشوط امل�سبقة ان�ش�أت نظام الدولة احلديثة يف ال�رشق االو�سط‪.‬‬ ‫يعني اخلو�ض يف �سباق لن ي�ستطيعوا الفوزبه ابدا‪ ،‬اما اما املفارقة الثالثة فهي تدمري فل�سطني ذاتها مبا هي‬ ‫رف�ضة فكان يعني طردهم خارج العملية ال�سيا�سية دولة يف العام ‪ ١٩٤٨‬الذي اعلن حلظة االنعطاف يف‬ ‫الر�سمية (اي �صيغة «ال يوجد احد نتحدث اليه»)‪.‬‬ ‫عملية ت�شكل الفل�سطينيني مبا هم �شعب‪ .‬فمن امل�ؤكد‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬



‫ان تغليب الهوية الوطنية الفل�سطينية على ا�شكال‬ ‫اخرى متوافرة من الهويات كان ينمو بوترية مت�سارعة‬ ‫منذ ت�شكيل الدولة الفل�سطينية ُبعيد احلرب العاملية‬ ‫االوىل‪ ،‬وما من �شك يف ان الثورة الكربى خالل االعوام‬ ‫‪� ١٩٣٩-١٩٣٦‬ضد احلكم الربيطاين جعلت من‬ ‫عملية الت�شكل هذه عملية ال ارتداد عنها‪ .‬على الرغم‬ ‫من ذلك‪ ،‬ف�إن الذاكرات امل�شرتكة عن �صدمة اقتالع‬ ‫جمتمعهم وجتارب احلرمان‪ ،‬واللجوء‪ ،‬وفقدان الدولة‪،‬‬ ‫�صارت العالمة الفارقة لـ«احلالة الفل�سطينية» خالل‬ ‫احلقبة الثانية من احلركة الوطنية الفل�سطينية‪ .‬وميكن ان‬ ‫نذكر هنا مفارقتني اقل اهمية‪ :‬االوىل هي ت�أ�سي�س «منظمة‬ ‫التحرير الفل�سطينية» يف العام ‪ ١٩٦٤‬بوا�سطة «جامعة‬ ‫الدول العربية» مببادرة من الرئي�س جمال عبد النا�رص قد‬ ‫ح�صل حتديدا لتقدي�س فل�سطني ومنع الفل�سطينيني من‬ ‫ان «ميتلكوا» انف�سهم مبا هم جماعة �سيا�سية؛ والثانية‪ ،‬ان‬ ‫اعرتاف العرب واالمم املتحدة مبنظمة التحرير الفل�سطينية‬ ‫مبا هي املمثل ال�رشعي الوحيد لل�شعب الفل�سطيني‪ ،‬العام‬ ‫‪ ،١٩٧٤‬قد قام على ا�سا�س تخلي منظمة التحرير‬ ‫وتبنيها‪،‬‬ ‫الفل�سطينية عن هويتها مبا هي حركة حترر وطني‬ ‫ّ‬ ‫بدال من ذلك‪ ،‬هوية دولة يف املنفى ت�سعى اىل حكم‬ ‫االرا�ضي املحتلة بعيد حرب حزيران ‪.١٩٦٧‬‬ ‫ املفارقة الرابعة هي تلك التي تتجلى امام ناظرينا الآن‬ ‫حيث يجري «تبليع» الفل�سطينيني دولة (او دولتني) بالقوة‬ ‫�ضد ارادتهم بعد عدة عقود من مطالبتهم بدولة‪ ،‬واقول‬ ‫�ضد ارادتهم النه ي�صعب تخيل فل�سطينيني يوقعون على‬ ‫�صفقة تلغي حقهم يف العودة‪ ،‬ويف القد�س ال�رشقية ون�صف‬ ‫ال�ضفة الغربية يف مقابل دولة غري حمددة احلدود‪ ،‬وال جتاور‬ ‫جغرايف وال �سيادة وال جدوى اقت�صادية وال و�سائل دفاع‬ ‫عن النف�س وال �سيطرة على املوارد‪ .‬باخت�صار �صار ان�شاء‬ ‫دولة فل�سطينية‪ ،‬مثلما ينادي بها ر�ؤ�ساء الواليات املتحدة‬ ‫االمريكية ور�ؤ�ساء الوزراء اال�رسائيليون‪ ،‬الو�سيلة التي‬ ‫مبوجبها يجري قطع الطريق على حق ال�شعب الفل�سطيني‬ ‫يف تقرير امل�صري‪ ،‬عو�ض ًا عن حتقيقه‪.‬‬ ‫هل للفل�سطينيني �صوت؟‬ ‫الالفت للنظر كثريا الآن انه ال تزال م�س�ألة من ينطق با�سم‬ ‫الفل�سطينيني م�س�ألة قيد البحث بعد قرن كامل من الزمن‪.‬‬ ‫ويعود ذلك‪ ،‬اىل حد بعيد‪ ،‬اىل حقيقة ان التوتر بني االر�ض‬ ‫وال�شعب الذي يخرتق تلك املفارقات هو توتر �سابق‬ ‫ي�سمون انف�سهم‬ ‫على الع�رص احلديث‪ .‬فمن حظ الذين‬ ‫ّ‬

‫ ‪ 56‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫�صوتهم اخلا�ص‪ ،‬كلما ازداد النظر اليهم كقوة تخريبية‪.‬‬ ‫لهذا ات�سمت �سيا�سات االنظمة العربية بنهج تقدي�س‬ ‫فل�سطني يف اللغو وقمع الفل�سطينيني يف املمار�سة‪ ،‬ما‬ ‫يعزز التوتر القائم ا�صال بني ار�ض و�شعب‪.‬‬ ‫ يعود الف�ضل اىل قادة منظمة التحرير الفل�سطينية‪،‬‬ ‫وخ�صو�صا اىل يا�رس عرفات‪ ،‬يف اع��ادة بناء احلركة‬ ‫الوطنية الفل�سطينية ومنحها �صوتا‪ .‬لكن منظمة‬ ‫التحرير الفل�سطينية‪ ،‬وقيادتها التي ت�سيطر عليها حركة‬ ‫فتح‪ ،‬مبا هي حركة وطنية حمكومة باملنفى‪ ،‬فقد كانت‬ ‫مهتمة بوجود عمالء ال �رشكاء‪ .‬فلم ت�أبه للفل�سطينيني‬ ‫الذين بقوا فيما �صار دولة ا�رسائيل‪ ،‬وال هي اعتنت‬ ‫كثريا يف االرا�ضي املحتلة من العام ‪ ١٩٦٧‬اىل ما‬ ‫بعد االجتياح اال�رسائيلي للبنان العام ‪ ١٩٨٢‬بكثري‪.‬‬ ‫ويف كل االحوال‪ ،‬ف�إن االجناز العظيم املتمثل يف ان�شاء‬ ‫عنوان �سيا�سي اوحد للفل�سطينيني قد جرى التخلي عنه‬ ‫عند توقيع اتفاقات او�سلو على مرجة البيت االبي�ض يف‬ ‫ايلول ‪ .١٩٩٣‬وهاكم حلظة ا�ضافية حبلى باملفارقة‪:‬‬ ‫ف ��إن «اع�لان امل��ب��ادئ» ‪ -‬ال��ذي يفرت�ض ان��ه اعرتف‬ ‫مبنظمة التحرير الفل�سطينية مبا هي تنظيم ميثل ال�شعب‬ ‫الفل�سطيني كما اعرتف مببد�أ االر�ض مقابل ال�سالم ‪ -‬قد‬ ‫ادى مبا�رشة اىل الق�ضاء عمليا على منظمة التحرير‬ ‫الفل�سطينية واىل خلق وقائع جديدة على االر�ض‬ ‫جعلت من قيام دول��ة فل�سطينية قابلة للحياة �أمرا‬ ‫م�ستحيال‪ .‬وبعد مرور كل هذه ال�سنوات من عمر «عملية‬ ‫ال�سالم»‪ ،‬بات من الوا�ضح ان الفل�سطينيني قد ف�شلوا‪،‬‬ ‫رغم الت�ضحيات اجل�سام‪ ،‬يف خلق قيادة متثيلية فعالة‬ ‫قادرة على ان تقودهم نحو بناء الدولة‪ ،‬حتى ال نتحدث‬ ‫عن العودة وامل�ساواة واالزدهار‪.‬‬

‫فل�سطينيني (او من �سوء حظهم) انهم �سكان م�ساحة‬ ‫تقد�سها ثالث ًة ديانات‬ ‫�صغرية ن�سبي ًا وهام�شية‬ ‫ً‬ ‫اقت�صاديا ّ‬ ‫توحيدية يف العامل وت�شكل ج�رس ًا ار�ضي ًا يربط بني‬ ‫القارتني االفريقية والآ�سيوية‪ .‬ف�إن ال�سكان الذي فلحوا‬ ‫احلقول وبنوا املدرجات وكاروا يف حوانيت احلواري لهم‬ ‫بالتايل عالقة ف�صامية باملكان الذي ي�سمونه بيتا لهم‪.‬‬ ‫ فهم من جهة �صاغوا عرب القرون �شبكة متينة‬ ‫من العالقات املخ�صو�صة واحلميمة باالر�ض تتحكم‬ ‫بوجودهم ذاته‪ ،‬من العي�ش اىل الكرامة‪ .‬ومن جهة اخرى‪،‬‬ ‫فتلك امل�ساحة املقد�سة واال�سرتاتيجية ميالة للتجريدات‬ ‫والرغبات االديولوجية ‪ -‬اعني اىل اال�ستحواذ عليها‬ ‫با�سم الله واحل�ضارة ‪ -‬من قوى اعتى قوة من �سكانها‪.‬‬ ‫فاذا ا�ستثنينا احلمالت ال�صليبية‪ ،‬فاللحظة احلا�سمة يف‬ ‫اال�ستحواذ االوروبي على تلك االر�ض عانت يف القرن‬ ‫التا�سع ع�رش عندما جرى حتويل جمموعة من املقاطعات‬ ‫التابعة لل�سلطنة العثمانية اىل «االر���ض املقد�سة»‬ ‫املعينة واخلريطة‬ ‫امل�سيطر عليها اوروبيا‪ ،‬ذات احلدود‬ ‫ّ‬ ‫املر�سومة بحذافريها‪ .‬فمن خالل البعثات االكادميية‬ ‫ال�سري على‬ ‫والدينية املتنوعة‪ ،‬التي تطلبت الكثري من َ‬ ‫االق��دام واعمال امل�سح واحلفر والبناء‪ ،‬جرى ت�أمني‬ ‫االر�ض وا�ستعادتها (و�إن املوا�صلة ال�شغوفة للن�شاطات‬ ‫ذاتها من قبل احلركة ال�صهيونية والدولة اال�رسائيلية �إن‬ ‫هو اال ا�ستمرار لذلك النهج)‪ .‬هكذا حتولت التجريدات‬ ‫والرغبات اىل �شبكة من العالقات املميزة باالر�ض على‬ ‫ح�ساب ما هو موجود ا�صال من �شبكات‪ .‬وهكذا ف�إن‬ ‫انتاج «االر�ض املقد�سة» قد ار�سى اال�س�س الثقافية‬ ‫واملادية النكار حق الفل�سطينيني يف الوجود حتى قبل‬ ‫و�ضمن جناح احلركة ال�صهيونية حتى‬ ‫ان ي�صريوا �شعبا‪َ ،‬‬ ‫قبل ان تبد�أ تلك احلركة يف التعبري عن نف�سها‪.‬‬ ‫ م��ا معنى االنت�ساب اىل اجلماعة ال�سيا�سية‬ ‫الفل�سطينية؟ وكيف يرى الآخ��رون اىل هذا االنتماء؟‬ ‫ازداد تعقيد هاتني امل�س�ألتني بعد اختفاء فل�سطني يف‬ ‫‪ .١٩٤٨‬فما دام احتالل االر���ض الوا�سع النطاق‬ ‫واالج�لاء ال�سكاين اللذين ت�سببت بهما النكبة كانا‬ ‫جم��رد حلقات يف �سل�سلة من عمليات املحو‪ ،‬فال‬ ‫عجب ان تنجح احلكومة اال�رسائيلية واملجتمع الدويل‪،‬‬ ‫م�ؤقتا على االقل‪ ،‬يف حتويل الن�ضال الفل�سطيني من‬ ‫اجل اال�ستقالل وتقرير امل�صري اىل «ق�ضية الجئني»‬ ‫ان�سانوية لكنها ال�سيا�سية‪ .‬وهكذا ومبا ان الفل�سطينيني‬ ‫جماعة خلقها الفقدان‪ ،‬فكلما اقرتبوا من العثور على‬

‫فر�صة ام كارثة؟‬ ‫ثالثة احداث مف�صلية ‪ -‬اجالء امل�ستوطنات اال�رسائيلية‬ ‫من غزة (الذي اجنز يف �سبتمرب ‪ )٢٠٠٥‬واالنت�صار‬ ‫االنتخابي الكا�سح حلركة حما�س (يناير ‪ )٢٠٠٦‬وف�شل‬ ‫االجتياح اال�رسائيلي للبنان (يوليو‪-‬اوغ�سط�س ‪)٢٠٠٦‬‬ ‫ ا�س�ست ملرحلة جديدة يف تاريخ الن�ضال الفل�سطيني‬‫من اجل تقرير امل�صري الوطني‪.‬‬ ‫ واذا ما و�ضعنا تلك االحداث على خلفية التدخل‬ ‫الع�سكري االمريكي يف العراق وافغان�ستان‪ ،‬وت�صعيد‬ ‫احلملة االمريكية لعزل ايران ورمبا اجتياحها‪ ،‬واعادة‬ ‫�صياغة اللغة ال�سيا�سية بناء على خطوط طوائفية او اثنية‬

‫ ‪ 57‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫(وخ�صو�ص ًا الثنائية ال�سنة ال�شيعية) ف�إنها ‪ -‬االحداث‬ ‫ تطرح حتديا غري م�سبوق النظمة احلكم يف ال�رشق‬‫االو�سط التي ظهرت بعيد احلرب العاملية االوىل‪ ،‬كما‬ ‫لبع�ض الهويات الوطنية التي تبلورت على امتداد القرن‬ ‫الع�رشين‪ .‬واملفارقة هنا ان الدولة الفل�سطينية قد تولد يف‬ ‫وقت يبدو فيه ان ا�سا�سات هذا النظام قد تهاوت‪.‬‬ ‫ �آ َذ َن اجالء م�ستوطنات غزة ب�أن النقا�ش الطويل‬ ‫داخل احلركة ال�صهيونية بني املتطريف يف م�س�ألة االر�ض‬ ‫واملتطريف يف م�س�ألة ال�سكان قد جرت ت�سويته تقريبا‪.‬‬ ‫ب�رسعة وبت�صميم‪ ،‬ها هي ا�رسائيل تفر�ض «�رضبتها‬ ‫القا�ضية» على ترتيبات احلل النهائي‪ ،‬مبا فيها تلك‬ ‫املتعلقة برت�سيم احلدود‪ .‬فمن ِ�شبه امل�ؤكد الآن ان بع�ض‬ ‫االرا�ضي الفل�سطينية لن تكون جزءا من ا�رسائيل وانه‬ ‫ال‪� ،‬سوف يبقى ن�صف ال�شعب‬ ‫يف امل�ستقبل القريب‪ ،‬اق ً‬ ‫الفل�سطيني تقريبا ‪ -‬املحروم من دولة ومن احلرية ‪-‬‬ ‫�ضمن حدود فل�سطني كما كانت زمن االنتداب‪.‬‬ ‫ ان االنت�صار ال�ساحق الذي حققته حركة حما�س‬ ‫يف االنتخابات النيابية الفل�سطينية يف يناير ‪،٢٠٠٦‬‬ ‫و�سيطرتها الع�سكرية على غزة يف يونيو ‪،٢٠٠٧‬‬ ‫ختمت احلقبة الثانية من احلركة الوطنية الفل�سطينية‬ ‫و�آذن��ت ب��والدة حقبة جديدة جمهولة االم��د �سيكون‬ ‫اال�سالم ال�سيا�سي جزءا ع�ضويا منها �إذا مل نقل انه‬ ‫اجلزء املهيمن عليها‪ .‬فهذه احلقبة ‪ -‬وهي جزء من تيار‬ ‫اقليمي او�سع ي�شهد ال�صعود اال�سالمي يف تركيا ويف‬ ‫تون�س وم�رص بعد «الربيع العربي »‪ -‬تعيد طرح ال�س�ؤال‬ ‫عن الكيفية التي �سوف يحقق بها الفل�سطينيون تقرير‬ ‫امل�صري واي جمتمع يطمحون اىل بنائه‪.‬‬ ‫ هنا تواجه حركة حما�س مع�ضلة‪ .‬فهي‪ ،‬من جهة‪،‬‬ ‫�سمحت للعديد من الفل�سطينيني ان يتجاوزوا العجز‬ ‫واحلرمان ب�أن يدجموا يف لغة �سيا�سية واحدة �أجندات‬ ‫اجتماعية و�أخالقية و�سيا�سية ووفرت البناء التحتي لتحقيق‬ ‫تلك االجندات على امل�ستوى املحلي‪ .‬لكن من جهة ثانية‪،‬‬ ‫تثري نظرتها للعامل وتكتيكاتها ال�سيا�سية م�شكلة رئي�سة‬ ‫على معظم حركات املجتمع املدين والت�ضامن الدويل‬ ‫(نقابات‪ ،‬حركات ن�سوية‪ ،‬جمعيات حقوق ان�سان‪ ،‬الخ‪).‬‬ ‫التي تلتزم مبادئ االن�سانية العلمانية والالعنف‪.‬‬ ‫ وما دام الفل�سطينيون لن ي�ستطيعوا حتقيق احلرية‬ ‫وتقرير امل�صري ب�أنف�سهم‪ ،‬فمن ال�رضوري ان يجدوا‬ ‫و�سائل لتحقيق الطاقات التقدمية الكامنة يف القانون‬ ‫الدويل ومبادئ حقوق االن�سان دون ان يلتزموا على‬


‫نحو غري نقدي باال�س�س الفل�سفية لتلك املبادئ (وهي‪،‬‬ ‫التاريخ املعا�رص‪ ،‬تتجذر فيها العن�رصية‬ ‫كما يعلمنا‬ ‫ُ‬ ‫والتو�سع االمرباطوري واال�ستغالل الكولونيايل والتطهري‬ ‫العرقي واالبادة اجلمعية)‪ .‬وعليهم اي�ض ًا ان يجدوا و�سائل‬ ‫االعرتاف بالطاقات التقدمية الكامنة يف تقاليدهم الثقافية‬ ‫والدينية املوروثة‪ ،‬وان يغرفوا منها‪ ،‬دون جتميدها يف دروع‬ ‫دفاعية حما ِفظة تعزز من الرتاتبات الداخلية‪.‬‬ ‫التاريخي الفا�صل الثالث فهو ف�شل ا�رسائيل‬ ‫ اما احلد‬ ‫ّ‬ ‫يف حربها �ضد حزب الله يف حرب يوليو ‪.٢٠٠٦‬‬ ‫فاذا كان العام ‪ ١٩٦٧‬مبثابة الذروة يف قوة ا�رسائيل‬ ‫الع�سكرية يف املنطقة‪ ،‬فالعام ‪ ٢٠٠٦‬يعلن اخف�ض‬ ‫م�ستوى يف تلك القوة‪ .‬وقد بد�أت عملية االنحدار مع‬ ‫حرب اال�ستنزاف التي �شنتها م�رص بعيد العام ‪،١٩٦٧‬‬ ‫رغم املكا�سب اال�رسائيلية الظاهرية‪ ،‬م��رورا بحرب‬ ‫‪ ١٩٧٣‬واجتياح لبنان ‪ ،١٩٨٢‬واالن�سحاب االجباري‬ ‫من جنوب لبنان ‪ ٢٠٠٠‬واعادة احتالل املنطقة «الف»‬ ‫من االرا�ضي الفل�سطينية املحتلة يف ابريل ‪.٢٠٠٢‬‬ ‫كل هذه االحداث ت�شري اىل حقيقة ب�سيطة‪ :‬ان ا�ستخدام‬ ‫العنف لفر�ض وقائع جديدة على االر�ض ي�ؤدي اىل نتائج‬ ‫اقل فاقل فاعلية‪ .‬يف العراق وافغان�ستان‪ ،‬كما يف فل�سطني‬ ‫ولبنان‪ ،‬تتزايد وتت�ضخم الكلفة التي تتكبدها الواليات‬ ‫املتحدة وا�رسائيل للحفاظ على م�ستوى عال من القمع‪.‬‬ ‫وال يتجلى ذلك يف ت�صاعد املقاومة �ضدهما وح�سب وامنا‬ ‫اي�ضا يف الفروقات االجتماعية واالقت�صادية التي ت�ؤدي‬ ‫اىل تذمر حملي جدي يف تلك املناطق‪ .‬ان هجمات ‪١١‬‬ ‫�سبتمرب ‪� ٢٠٠١‬سمحت بعقد زواج النيوليربالية مع‬ ‫املغامرات الع�سكرية‪ ،‬على ان �شهر الع�سل قارب نهايته‪.‬‬ ‫فعاجال او �آجال‪� ،‬سوف يتجذر م�سار املفاو�ضات ال�سيا�سية‬ ‫احلقيقية‪ .‬واهم االلتزامات ال�سيا�سية طويلة املدى التي‬ ‫ميكن للفل�سطينيني ان يتعهدوا بها هو التحويل الدميقراطي‬ ‫وت�صور‬ ‫لنظام التمثيل الذاتي تبعهم‪ ،‬وت�شييد بنية قيادية‬ ‫ّ‬ ‫طرائق خالقة جديدة للتح�ضري لتلك املفاو�ضات وت�أطريها‬ ‫بحيث ال يكررون اخطاء او�سلو‪.‬‬ ‫فيما يتعدى تر�سيمة «الهوية‪-‬االر�ض‪-‬ال�سيادة»‬ ‫يروق للعديد منا ان يعتقد ان القانون الدويل �سوف يجري‬ ‫االلتزام به‪ ،‬يف نهاية املطاف‪ ،‬وان حتقيق تقرير امل�صري يف‬ ‫ع�رص التحرر من اال�ستعمار حتمي قدر حتمية االلتزام‬ ‫بالقانون الدويل وان العدالة �سوف ت�سود يف نهاية املطاف‪.‬‬ ‫على ان هذه املعتقدات لي�ست قوانني حديدية وال هي‬

‫ ‪ 58‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫املجابهة ال�سيا�سية مع ال�صهيونية وترقى غالب ًا اىل موقع‬ ‫ال�ضحية االخالقي الرفيع فيما هي تتعامى عن التناق�ضات‬ ‫الداخلية‪ .‬لهذه اال�سباب‪ ،‬فا�سلوبا ال�رسد كالهما عاجز عن‬ ‫ار�ساء اال�س�س للغة تعبئة جديدة تتغذى من احل�سا�سية‬ ‫للممار�سات االجتماعية والثقافية التي تنتج معنى ان‬ ‫يكون املرء فل�سطينيا وحتوله املعنى حتويال يف الآن ذاته‪.‬‬ ‫ ان نقا�شا نقديا لرت�سيمة «الهوية‪-‬االر�ض‪-‬ال�سيادة»‬ ‫ي�صوب نحو �آف��اق جديدة‪ .‬ف��اوال‪ ،‬يجب على‬ ‫ميكن ان‬ ‫ّ‬ ‫الفل�سطينيني ان يت�شكلوا مبا هم جماعة �سيا�سية ويجعلوا‬ ‫�صوتهم م�سموعا من خالل م�ؤ�س�سات �سيا�سية دميقراطية‬ ‫مرتكزة اىل مطالب االق�سام الثالثة من ال�شعب الفل�سطيني‬ ‫اليوم‪ :‬حق العودة خلم�سة ماليني يف ال�شتات الذي ي�شكلون‬ ‫اكرب واقدم جماعات من الالجئني يف العامل؛ احلرية لنحو‬ ‫‪ ٣،٨‬ماليني يف القد�س ال�رشقية وال�ضفة الغربية وقطاع‬ ‫غزة يعي�شون يف ظل احتالل ع�سكري �رش�س منذ اربعة‬ ‫عقود من الزمن؛ واحلقوق املت�ساوية لـ ‪ ١،٢‬مليون‬ ‫فل�سطيني هم املواطنون الفل�سطينيون يف ا�رسائيل‪.‬‬ ‫ ثانيا‪ ،‬من ال�رضوري ربط وتفعيل هذه االهداف الثالثة ان نقا�شا نقديا لرت�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيمة‬ ‫(املتناق�ضة واملتوازية طبعا) من خالل ا�سرتاتيجيات خالقة «الهويــــــــــــــــــــة‪-‬االر�ض‪-‬ال�ســــــــــــــــــــيادة»‬ ‫طويلة املدى قادرة على اعادة ر�سم قواعد اللعبة وك�رس ميكن ان ي�صوّ ب نحو �آفــــــــــــــــــــــــــــــاق جديدة‬ ‫القانون احلديدي‪ .‬فمن �شبه امل�ستحيل ان نت�صور كيف‬ ‫ميكن للفل�سطينيني ان يحققوا ذلك دون حتويل «ال�سلطة ال�سباب متنوعة‪ ،‬اوىل العامل اهتمام ًا متزايد ًا لهذا‬ ‫يحول مثل‬ ‫الوطنية» و«حكومة حما�س » اىل كيانات توفر اخلدمات النزاع اكرث منه الي نزاع �آخر يف التاريخ‪ .‬وقد ّ‬ ‫ودون اال�ستثمار‪ ،‬يف الوقت ذاته‪ ،‬يف تنمية قيادات �سيا�سية هذا االهتمام �ضعف الفل�سطينيني اىل م�صدر قوة ويقل‬ ‫يف امل�ؤ�س�سات العليا املمثلة لكافة التيارات الرئي�سية داخل التوتر الناجم عن مناكفة زمنية بني الهوية واالر�ض �إرها�صا‬ ‫اجل�سم ال�سيا�سي الفل�سطيني‪.‬‬ ‫ب�آفاق �سيا�سية جديدة‪ .‬ان القانون احلديدي الذي يتحكم‬ ‫ ثالثا‪ ،‬ال ميكن للفل�سطينيني ان يتخلوا عن امل�ستوى بهم ومفارقات تاريخهم قد جعلت من الفل�سطينيني رمزا‬ ‫االخالقي الرفيع باللجوء اىل العنف الع�شوائي‪ ،‬والتع�صب خ�صيبا للوجه املظلم من احلداثة‪ ،‬وق�ضية ّ‬ ‫حتتل مكانا بارزا‬ ‫الديني‪ ،‬او املواقف القومية ال�شوفينية‪ .‬ان الفل�سطينيني لدى احلركات التقدمية عرب العامل‪ .‬جميع الذين خربوا‬ ‫يتمتعون باحلق يف ا�ستخدام القوة من اجل انهاء االحتالل احلداثة ال مبا هي تقدم وازده��ار او مبا هي تقرير م�صري‬ ‫االجنبي ح�سب القانون الدويل‪ .‬لكن هذا بعيد كل البعد عن وخال�ص‪ ،‬وامنا مبا هي احتالل ا�ستعماري وجتزئة اقليمية‬ ‫تقدي�س الكفاح امل�سلح وعن اال�ستهداف‬ ‫املتعمد للمدنيني واجالء �سكانيا‪ ،‬ميكن ان يتعرفوا اىل �أنف�سهم يف التجربة‬ ‫ّ‬ ‫ال�سباب �سيا�سية‪ .‬فاي نوع من املجتمع ميكننا ان نبني على الفل�سطينية‪ .‬على ان ت�سخري الطاقات ال�سيا�سية اجلبارة‬ ‫مثل تلك االفعال؟ وكيف ميكن ت�شجيع التعبئة القاعدية اذا للجماعات الفل�سطينية والن�صارها عرب العامل يتطلب‬ ‫كان االهتمام واملوارد مكر�سة للميلي�شيات‪ ،‬خ�صو�صا عندما ت�أ�سي�س كيان متثيلي ي�ستطيع ان ينطق بو�ضوح مبا يريده‬ ‫تكون هذه عاجزة عن الت�صدي للع�سكرية اال�رسائيلية‪ ،‬الفل�سطينيون‪ ،‬و�سبب ذلك‪ ،‬وحدود الفعل اال�سرتاتيجي‪.‬‬ ‫وترتد للتناحر يف ما بينها او ترتد �ضد جمتمعها؟‬ ‫ثم ان ا�ستنباط ا�سرتاتيجيات خمتلفة وو�سائل حتقيقها‬ ‫ ان كل ما ورد اع�لاه يدعو ايل اع��ادة التفكري يف يت�ضمنام بدورهما القدرة على تخيل م�ستقبالت خمتلفة‬ ‫تر�سيمة «الهوية‪/‬االر�ض‪/‬ال�سيادة»‪ ،‬ابتداء باحلقيقة البدهية والتحرك باجتاه ثقافة �سيا�سية ت�ستطيع ان ترى ما يتجاوز‬ ‫التي تقول �إن اال�رسائيليني باتوا ي�شكلون الآن امة يف تر�سيمة «الهوية‪/‬االر�ض‪/‬ال�سيادة»‪.‬‬ ‫ال‬ ‫فل�سطني وان النزاع الفل�سطيني‪-‬اال�رسائيلي لي�س �شاغ ً‬ ‫فل�سطيني ًا او ا�رسائيلي ًا فقط‪ .‬ال ميكن لـ«االر�ض املقد�سة»‬ ‫ان يحتكرها طرف واحد ابدا‪ ،‬واالحتالل الكولونيايل‬ ‫لفل�سطني مو�ضع اهتمام دويل منذ وثيقة «ع�صبة االمم » يف‬ ‫العام ‪ ١٩٢٢‬وقرار التق�سيم يف العام ‪ ١٩٤٧‬و�صوال‬ ‫اىل احلكم الذي ا�صدرته «املحكمة الدولية» عن عدم‬ ‫مفر من‬ ‫�رشعية «جدار الف�صل» يف العام ‪ .٢٠٠٤‬وال ّ‬ ‫التدويل‪ ،‬على االقل مبا هو مرحلة انتقالية‪ ،‬وهذا يتطلب‬ ‫امل�ساومات على البعد االقليمي او ال�سكاين وعلى ال�سيادة‬ ‫باملعنى التقليدي ال�سائد عند اال�رسائيليني والفل�سطينيني‬ ‫على حد �سواء‪ .‬اىل هذا‪ ،‬عندما ي�صل الفل�سطينيون اىل‬ ‫التمتع مبقدار كاف من القوة‪ ،‬يجوز ان ال يعود امتالك دولة‬ ‫هو ال�شكل الوحيد او حتى اف�ضل �شكل لتقرير امل�صري‬ ‫يف عامل يزداد عوملة وت�شابكا‪ ،‬مثلما ان القومية قد ال تعود‬ ‫هي ال�شكل االجدى لتحقيق العدالة وامل�ساواة واحلرية‬ ‫جلماعات تربط بينها هوية واحدة‪.‬‬

‫حتى توقعات واقعية بال�رضورة‪ .‬انها جمرد نتاج اجتاه‬ ‫يوجه املمار�سة‪ .‬ال حتمية‬ ‫نظري و�ضعي وموقف اخالقي ّ‬ ‫يف خال�ص الفل�سطينيني‪� .‬صحيح انهم جنحوا يف البقاء‬ ‫واملقاومة اطول مما توقع معظم املراقبني‪ .‬على ان هذه اجلهود‬ ‫ٍ‬ ‫المبال‬ ‫امل�ضنية كان ثمنها الت�شجيع على منو تيار ريفي‬ ‫ومتمحور على الذات يف ثقافة �سيا�سية فل�سطينية ت�أبى‬ ‫النقد الذاتي‪ .‬وهكذا فالفل�سطينيون قد حتملوا قيادات‬ ‫متناوبة مت ترفيعها من فوق [دون انتخاب] ارتكبت‬ ‫وت�رصف‬ ‫اخطاء ا�سرتاتيجية وتواط�أت مع قواعد �سلوك‬ ‫ّ‬ ‫م�صممة عن ق�صد لقطع الطريق على تقرير م�صري جدي‪.‬‬ ‫بعبارة ب�سيطة‪ ،‬ال حرية او عدالة دون تعيني وا�سع ملاهية‬ ‫«ال�سيا�سي» بحيث يعطي من االهمية للفل�سطينيني قدر ما‬ ‫يعطيه لفل�سطني بادراجه امل�سائل االجتماعية والثقافية يف‬ ‫االجندة الوطنية؛ او دون عقد حتالفات عرب احلدود الدولية‬ ‫والنف�سية مبا يت�ضمن حكم ًا اعادة النظر فيما يعنيه تقرير‬ ‫امل�صري وما تعنيه ال�سيادة‪.‬‬ ‫ ادرك ب�أن حتليال «بعد وطني» للتاريخ احلديث ل�شعب‬ ‫من ال�شعوب‪ ،‬مل يحقق بعد طموحاته الوطنية‪ ،‬يط�أ‬ ‫ار�ضا مفهومية‪/‬نظرية وعرة‪ ،‬حتى ال نقول انه ي�سري يف‬ ‫حقل من الغام �سيا�سية‪ .‬ان الت�سا�ؤل عن املدى االقليمي‬ ‫لالعرتاف بالفل�سطينيني ك�شعب وعن معاين ال�سيادة فيما‬ ‫النزاع ال يزال «حارا» ميكن ان يفهمه البع�ض على انه‬ ‫حتد حلق الفل�سطينيني يف فل�سطني اىل كونه ين�سف لغة‬ ‫ٍّ‬ ‫تقرير امل�صري ال�سيا�سية التي تقع يف �صميم الن�ضال‬ ‫الوطني الفل�سطيني‪ .‬وهذه لي�ست مب�شاغل نافلة‪ .‬يتمتع‬ ‫امل�ؤرخون اال�رسائيلون املراجعون ترف تفكيك اال�ساطري‬ ‫ال�صهيونية القومية حتديدا النه توجد �رسدية تاريخية‬ ‫ا�رسائيلية نامية جدا ميكن ا�ستهدافها ولأن ا�رسائيل هي‬ ‫القوة العظمى يف ال�رشق االو�سط ذات امل�ستوى الرفيع من‬ ‫الثقة بالنف�س ومن االجناز‪ .‬يف املقابل‪ ،‬فالفل�سطينيون هم‬ ‫الطرف اال�ضعف جدا يف النزاع امل�ستدام‪ .‬ثم ان تراثهم‬ ‫املادي والثقايف‪ ،‬من االمكنة اىل ا�سماء االمكنة‪ ،‬كان‬ ‫وال يزال عر�ضة لعملية حمو منهجية و�إ�سكات التعبري‬ ‫باال�ضافة اىل غياب م�ؤ�س�سات وطنية واىل �سل�سلة متوالية‬ ‫من االنقطاعات القا�سية يف العام ‪ ١٩٤٨‬تف�رس ملاذا‬ ‫ال�رسديات الوطنية الفل�سطينية مبعرثة تدور يف معظهما‬ ‫حول ثنائية‪ :‬املحو‪/‬الت�أكيد؛ اال�ستعمار‪/‬املقاومة‪ .‬الثنائية‬ ‫االوىل مهوو�سة ب�سيا�سات الهوية وغالبا ما تفرت�ض ا�شياء‬ ‫حتتاج اىل تف�سري‪ ،‬من مثل كيف ا�صبح الفل�سطينيون �شعبا‬ ‫وما عالقتهم باملكان‪ .‬اما الثنائية الثانية‪ ،‬فقد ا�ستوعبتها‬

‫ ‪ 59‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬


‫الدولة الفل�سطينية» جنب ًا �إىل جنب مع �إ�رسائيل‪ .‬وكان‬ ‫�إعالن منظمة التحرير الفل�سطينية‪ ،‬الذي حظي بالإجماع‬ ‫الدويل ال�ساحق القا�ضي ب�إيجاد حل دبلوما�سي‪ ،‬هو‬ ‫نف�سه عملي ًا م�رشوع القرار الذي قدمته «دول جبهة‬ ‫التحدي» (م�رص و�سوريا والأردن) يف كانون الثاين‪/‬‬ ‫ّ‬ ‫يناير ‪� 1976‬إىل جمل�س الأمن الدويل‪ .‬وهو م�رشوع‬ ‫قرار واجهته الواليات املتحدة بالفيتو جمدد ًا يف العام‬ ‫‪ .1980‬ويف غ�ضون ‪ 35‬عام ًا‪ ،‬قامت الواليات‬ ‫املتحدة ب�إعاقة الإجماع الدويل‪ ،‬وهي ال تزال متار�س‬ ‫ذلك‪ ،‬هذا �إن و�ضعنا املجامالت الدبلوما�سية جانب ًا‪.‬‬ ‫ وبحلول العام ‪ ،1988‬بات من ال�صعب احتمال‬ ‫املوقف الأمريكي الرف�ضي‪ .‬ويف كانون الأول‪/‬دي�سمرب من‬ ‫ذلك العام‪ ،‬كانت الإدارة املنتهية واليتها للرئي�س ريغن‬ ‫قد �أ�ضحت مبثابة �أ�ضحوكة العامل من ناحية جهودها‬ ‫املتزايدة اليائ�سة لالدعاء �أنها الوحيدة يف العامل غري‬ ‫القادرة على اال�ستماع �إىل اقرتاحات منظمة التحرير‬ ‫الفل�سطينية وال��دول العربية‪ .‬فقررت وا�شنطن‪ ،‬على‬ ‫مدعي ًة ب�أن منظمة التحرير على‬ ‫م�ض�ض‪�« ،‬إعالن الن�رص»‪ّ ،‬‬ ‫الأقل ا�ضطرت على �أن تنطق بـ«العبارات ال�سحرية»‬ ‫لوزير اخلارجية الأمريكية يف حينها جورج �شولتز‪،‬‬ ‫والإعراب عن نيتها ا ّتباع امل�سلك الدبلوما�سي‪ .‬ومثلما‬ ‫يو�ضح �شولتز يف مذكراته‪ ،‬كان الهدف من ذلك ت�أمني‬ ‫احلد الأق�صى من الإذالل ملنظمة التحرير‪ ،‬من خالل‬ ‫اعرتافها ب�أن عرو�ض �إحالل ال�سالم ال ميكن التعامل‬ ‫معها مبزيد من الرف�ض‪ .‬لقد �أبلغ �شولتز الرئي�س ريغن � ّأن‬ ‫عرفات كان يقول ن�صف الكالم املطلوب قوله يف مكانٍ ‪،‬‬ ‫والن�صف الآخر يف مكان ثانٍ ‪ ،‬مو�ضح ًا �أن عرفات مل يكن‬ ‫ال‪ ،‬معرب ًا عن خ�ضوعه الكامل‬ ‫جاهز ًا ليقول الكالم كام ً‬ ‫وفق منط متوا�ضع متوقع �إزاء الأوامر الدنيا‪.‬‬ ‫ مبوجب ذل��ك‪� ،‬ستكون املحادثات ذات امل�ستوى‬ ‫املنخف�ض مع منظمة التحرير الفل�سطينية م�سموحة‪،‬‬ ‫لكن على �أ�سا�س �أنها �ستكون بال معنى‪ .‬وقد مت الت�شديد‬ ‫على منظمة التحرير للتخلي تخ�صي�صا عن مطلبها‬ ‫بتنظيم م�ؤمتر دويل‪ ،‬وذلك لكي حتافظ الواليات املتحدة‬ ‫على �سيطرتها على العملية‪.‬‬ ‫ يف �أيار‪/‬مايو ‪ ،1989‬ر ّدت احلكومة الإ�رسائيلية‪،‬‬ ‫حزبي الليكود والعمال‪ ،‬ر�سمي ًا‬ ‫القائمة على حتالف‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫على املوافقة الفل�سطينية على حل الدولتني‪ ،‬معلن ًة �أنه‬ ‫لن يكون بالإمكان �إقامة «دولة فل�سطينية �إ�ضافية» بني‬ ‫ال دولة‬ ‫الأردن و�إ�رسائيل (على اعتبار �أن الأردن هي �أ�ص ً‬

‫‪ 20‬أوسلو‬

‫السياقات والتداعيات‬

‫نوام تشومسكي قريب ًا ّ‬ ‫تطل علينا الذكرى الع�رشون للتوقيع على اتفاقيات‬ ‫ربت ب�شكل عام �آن��ذاك مبثابة اخرتاق‬ ‫�أو�سلو‪ ،‬التي اع ُت َ‬ ‫عالِم لغوي وفيلسوف تاريخي نحو طريق ّ‬ ‫حل النزاع الإ�رسائيلي ــ الفل�سطيني‪،‬‬ ‫وناشط سيايس‪ .‬إختري بينما ي�سود االع�تراف اليوم ب�أنها فا�شلة‪ ،‬يف �أح�سن‬ ‫«المثقف اال كرث نفوذا الأحوال‪� ،‬أو رمبا خطوة بعيدة عن �إيجاد ّ‬ ‫حل لهذا ال�رصاع‪.‬‬ ‫يف القرن العرشين»‪ .‬بات الوقت منا�سب ًا لتقومي معنى تلك الأحداث و�أبعادها يف‬ ‫النص جزء من كتاب �إطار بحثنا عن طريق امل�ستقبل انطالق ًا من ذلك‪.‬‬ ‫اخري له عن اتفاق يف �أيلول‪�/‬سبتمرب ‪� ،1993‬أ�رشف الرئي�س كلينتون‬ ‫اوسلو‪ .‬على م�صافحة بني رئي�س احلكومة الإ�رسائيلية �إ�سحاق رابني‪،‬‬ ‫ورئي�س منظمة التحرير الفل�سطينية يا�رس عرفات يف حديقة‬ ‫حد و�صف اخللفية وال�سياق‬ ‫البيت الأبي�ض ــ يف اختتام «يوم الرهبة»‪ ،‬على ّ‬ ‫إطالق‬ ‫�‬ ‫املنا�سبة‬ ‫و�سائل الإعالم لذلك احلدث بخ�شوع‪ .‬كانت‬ ‫بهدف تقدير طبيعة ومعنى اتفاقيات �أو�سلو‪ ،‬والتداعيات‬ ‫«�إعالن املبادئ» للحل ال�سيا�سي لل�رصاع الإ�رسائيلي ــ التي نتجت منها‪ ،‬من املهم فهم اخللفية وال�سياق اللذين‬ ‫الفل�سطيني‪ ،‬وهو الإعالن الذي نتج من اجتماعات �رسية ظ ّلال مفاو�ضات مدريد و�أو�سلو‪� .‬س�أبد�أ با�ستعرا�ض �أبرز‬ ‫ُعقدت يف �أو�سلو برعاية احلكومة الرنويجية‪.‬‬ ‫حددت �سياق املفاو�ضات‪ ،‬ثم‬ ‫اخللفيات املبا�رشة التي ّ‬ ‫ جرت مفاو�ضات م�ستقلة بني �إ�رسائيل والفل�سطينيني �أنتقل �إىل «�إع�لان املبادئ» وتداعيات عملية �أو�سلو‬ ‫منذ ت�رشين الثاين‪/‬نوفمرب ‪� ،1991‬أر�ستها الواليات املمتدة حتى يومنا هذا‪ ،‬ثم �أ�ضيف ب�ضعة كلمات حول‬ ‫املتحدة خ�لال ن�شوة النجاح التي �شعرت بها بعد الدرو�س التي يجدر ا�ستخال�صها‪.‬‬ ‫حرب العراق الأوىل‪ ،‬والتي كر�ست مبد�أ «ما نقوله كانت منظمة التحرير الفل�سطينية و�إ�رسائيل‬ ‫(الأمريكيون) ي�رسي» بح�سب العبارة االنت�صارية وال��والي��ات املتحدة قد �أعلنت مواقف ر�سمية حول‬ ‫للرئي�س جورج بو�ش الأب‪ .‬ولقد اف ُتتحت املفاو�ضات الق�ضايا الأ�سا�سية املو�ضوعة على ج��دول �أعمال‬ ‫ُدمت مواقف منظمة التحرير‬ ‫خالل م�ؤمتر مقت�ضب يف مدريد‪ ،‬وتوا�صلت يف ظل مفاو�ضات مدريد و�أو�سلو‪ .‬ق َ‬ ‫ال�سلطة الأمريكية العليا (وتقني ًا االحتاد ال�سوفياتي الفل�سطينية يف �إعالن املجل�س الوطني الفل�سطيني ذات‬ ‫الذي كان يحت�رض‪ ،‬وذلك بهدف ت�أمني وهم «الرعاية ت�رشين الثاين‪/‬نوفمرب ‪ ،1988‬الذي ت�ضمن �سل�سلة‬ ‫امل�شكل من طويلة من املبادرات الدبلوما�سية التي �أُ َ‬ ‫َّ‬ ‫ال��دول��ي��ة»)‪ .‬وك��ان الوفد الفل�سطيني‪،‬‬ ‫�سقطت‪ ،‬مع‬ ‫�شخ�صيات فل�سطينية من داخل الأرا�ضي املحتلة (باتوا الدعوة �إىل �إن�شاء دولة فل�سطينية على الأرا�ضي التي‬ ‫ي�سمون منذ تلك الفرتة «فل�سطينيي الداخل»)‪ ،‬يقوده احتلتها �إ�رسائيل يف العام ‪ ،1967‬ومطالبة جمل�س‬ ‫حيدر عبد ال�شايف‪ ،‬ال�شخ�صية الفل�سطينية‬ ‫املكر�سة الأمن الدويل بـ«و�ضع و�ضمان �إجراءات تكفل الأمن‬ ‫َّ‬ ‫وغري الفا�سدة ذات امليول الي�سارية القومية‪ ،‬وهو قد وال�سالم بني جميع الدول املعنية يف املنطقة‪ ،‬من �ضمنها‬ ‫يكون ال�شخ�صية التي كانت حتظى يف تلك الفرتة‬ ‫بالقدر الأعلى من االحرتام يف فل�سطني‪ .‬وقد ّمت ا�ستبعاد‬ ‫«فل�سطينيي اخلارج»‪� ،‬أي منظمة التحرير الفل�سطينية‬ ‫التي كانت تتخذ من تون�س مقر ًا لها برئا�سة يا�رس‬ ‫ّ‬ ‫للمنظمة مراقب غري ر�سمي هو‬ ‫عرفات‪ ،‬رغم �أنه كان‬ ‫في�صل احل�سيني‪ .‬وكذلك ّمت ا�ستبعاد العدد الهائل من‬ ‫الالجئني الفل�سطينيني عن املفاو�ضات ب�شكل كامل‪ ،‬ومل‬ ‫ت�ؤخذ حقوقهم بعني االعتبار‪ ،‬حتى تلك املعقودة لهم‬ ‫مبوجب قرارات اجلمعية العامة للأمم املتحدة‪.‬‬

‫ ‪ 60‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ ‪ 61‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫فل�سطينية وفق الإمالء الإ�رسائيلي‪ ،‬بغ�ض النظر عما قد‬ ‫يكون ر�أي الأردنيني والفل�سطينيني)‪ ،‬و�أنه «لن يطر�أ �أي‬ ‫تغيري على و�ضعية يهودا وال�سامرة (ال�ضفة الغربية) وغزة‬ ‫�إال مبا يتوافق مع املبادئ التوجيهية الأ�سا�سية للحكومة‬ ‫الإ�رسائيلية»‪� .‬أكرث من ذلك‪� ،‬شدد الر ّد الإ�رسائيلي على‬ ‫�أن �إ�رسائيل لن تخو�ض مفاو�ضات مع منظمة التحرير‬ ‫الفل�سطينية‪ ،‬لكنها قد ت�سمح بتنظيم «انتخابات حرة»‬ ‫خا�ضعة للحكم الع�سكري الإ�رسائيلي‪ ،‬بينما جزء كبري‬ ‫من القادة الفل�سطينيني مطرودون من بالدهم �أو يقبعون‬ ‫توجه لهم تهم‪.‬‬ ‫يف ال�سجون من دون �أن َّ‬ ‫ لقد � ّأيدت �إدارة بو�ش الأب هذه الر�ؤية الإ�رسائيلية من‬ ‫دون اي �رشوط يف كانون الأول‪/‬دي�سمرب ‪ّ 1989‬‬ ‫(خطة‬ ‫بايكر)‪ .‬فكانت تلك هي املواقف الثالث ع�شية مفاو�ضات‬ ‫مدريد‪ ،‬يف ّ‬ ‫ظل ت�أدية وا�شنطن دور «الو�سيط النزيه»‪.‬‬ ‫ عندما ذهب عرفات �إىل وا�شنطن للم�شاركة يف‬ ‫«يوم الرهبة» يف �أيلول‪�/‬سبتمرب ‪ ،1993‬كان املو�ضوع‬ ‫الرئي�سي يف �صحيفة «نيويورك تاميز» عبارة عن احتفال‬ ‫�ستحول‬ ‫بامل�صافحة على اعتبار �أنها «�صورة دراماتيكية‬ ‫ّ‬ ‫ال�سيد عرفات �إىل رجل دول��ة و�صانع �سالم»‪ ،‬وهو‬ ‫الذي نبذ �أخري ًا العنف حتت الو�صاية الأمريكية‪ .‬ويف‬ ‫نهاية املقال‪ ،‬كتب �صاحب العمود‪� ،‬أنطوين لوي�س‪،‬‬ ‫�أنه حتى تلك اللحظة‪ ،‬كان الفل�سطينيون «يرف�ضون‬ ‫امل�ساومة»‪ .‬بالطبع‪ ،‬كانت الواليات املتحدة و�إ�رسائيل‬ ‫هما َمن يرف�ض الدبلوما�سية‪ ،‬ومنظمة التحرير كانت‬ ‫هي َمن يعر�ض الت�سوية على امتداد �سنوات‪ ،‬لكن �أن‬ ‫يقلب لوي�س للأدوار والوقائع كان �أمر ًا طبيعي ًا يف تلك‬ ‫ال�صحيفة ومل يتعر�ض لأي مراجعة نقدية‪.‬‬ ‫ كذلك �شهدت �سنوات ما قبل مفاو�ضات مدريد‬ ‫و�أو�سلو تطورات خطرية �أخرى‪ .‬ففي كانون الأول‪/‬دي�سمرب‬ ‫‪ ،1987‬اندلعت االنتفا�ضة يف غزة وانت�رشت ب�رسعة يف‬ ‫جميع �أنحاء الأرا�ضي املحتلة‪ .‬تلك االنتفا�ضة املن�ضبطة‬ ‫ذات القاعدة اجلماهريية العري�ضة‪� ،‬شكلت مفاج�أة ملنظمة‬ ‫التحرير يف تون�س‪ ،‬بقدر ما فاج�أت ق��وات االحتالل‬ ‫الإ�رسائيلي بنظامها الع�سكري و�شبه الع�سكري القائم‬ ‫على املراقبة وزرع املتعاونني معها‪ .‬مل تكن االنتفا�ضة‬ ‫موجهة �ضد االحتالل وحده‪ ،‬كانت �أي�ض ًا ثورة اجتماعية‬ ‫داخل املجتمع الفل�سطيني‪ ،‬ك�رست �أمناط خ�ضوع الن�ساء‬ ‫ال �أخرى من الهرمية والهيمنة‪.‬‬ ‫و�سلطة االقطاع وا�شكا ً‬ ‫ رغم � ّأن توقيت االنتفا�ضة كان مفاجئ ًا‪� ،‬إال �أن فعل‬ ‫االنتفا�ضة مل يكن مفاجئ ًا‪ ،‬على الأقل بالن�سبة للذين‬


‫تنبهوا للعمليات الع�سكرية الإ�رسائيلية املدعومة‬ ‫ّ‬ ‫�أمريكي ًا داخل الأرا�ضي املحتلة‪ .‬كان ال بد �أن يحدث‬ ‫حتمل الو�ضع‪ .‬لقد‬ ‫�شيء ما‪ .‬ق ّلة فقط من النا�س ميكنهم ُّ‬ ‫عانى الفل�سطينيون يف ال�سنوات الع�رشين املا�ضية حتت‬ ‫االحتالل الع�سكري‪ ،‬القمع ال�شديد‪ ،‬والعنف والإذالل‬ ‫الوح�شي‪ ،‬يف حني كانوا ي�شاهدون ب�أم العني �أن ما تبقى‬ ‫لهم من بلدهم يتال�شى يف ّ‬ ‫ظل تنفيذ �إ�رسائيل لربامج‬ ‫�زودة ب�شبكة هائلة من البنى التحتية‬ ‫اال�ستيطان‪ ،‬امل� ّ‬ ‫الهادفة �إىل دمج �أجزاء كبرية من الأرا�ضي الفل�سطينية‬ ‫يف دولة �إ�رسائيل‪ ،‬مبوازاة �رسقة املوارد وتدابري �أخرى ملنع‬ ‫ع�سكريا‬ ‫التنمية امل�ستقلة‪ .‬كل ذلك بدعم �أمريكي حا�سم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫واقت�صادي ًا ودبلوما�سي ًا ا�ضافة اىل دعم ايديولوجي‬ ‫للت�أثري على الكيفية التي �صيغت من خاللها الق�ضايا‪.‬‬

‫ ‬ ‫‪1‬‬

‫‪Raz, The Bride‬‬ ‫‪and the Dowry,‬‬ ‫‪Yale, 2012.‬‬

‫‪ 2‬ه�آرت�س‪23 ،‬‬ ‫ت�رشين الأول‪/‬‬ ‫�أكتوبر ‪.1991‬‬ ‫حول امل�صادر‬ ‫هنا و�أدناه حيث‬ ‫ال ذكر لها‪� ،‬إقر�أ‪:‬‬ ‫ت�شوم�سكي‪،‬‬ ‫‪World Orders Old‬‬

‫‪and New (Columbia‬‬ ‫‪University), 1994.‬‬

‫ ‪ 62‬‬

‫أمية كعقاب»‬ ‫«ال ّ‬ ‫ال عن �إحدى احلاالت التي مل ُترث �أي قلق‬ ‫فلن�أخذ مثا ً‬ ‫يف الغرب‪ .‬قبل اندالع االنتفا�ضة بوقت ق�صري‪ ،‬قُت َلت‬ ‫طفلة فل�سطينية ُتدعى انت�صار العطار بر�صا�صة وهي يف‬ ‫باحة مدر�ستها يف غزة على يد �أحد �سكان م�ستوطنة‬ ‫يهودية قريبة من املكان‪ .‬كان الرجل واحد ًا من بني عدة‬ ‫�آالف من امل�ستوطنني الإ�رسائيليني الذي ذهبوا �إىل غزة‬ ‫متمتعا مب�ساعدات مالية كبرية‪ ،‬يف ظل حماية جي�ش‬ ‫هائل‪ ،‬م�ستحوذين على اجلزء الأكرب من الأر�ض ومن‬ ‫ال للقطاع‪ ،‬ليقيموا «ب�سخاء يف ‪٢٢‬‬ ‫املياه النادرة �أ�ص ً‬ ‫م�ستوطنة و�سط ‪ 1.4‬مليون فل�سطيني معوز»‪ ،‬بح�سب‬ ‫و�صف الباحث الإ�رسائيلي �آيف راز‪.1‬‬ ‫ّمت توقيف قاتل الطفلة‪� ،‬شمعون يفراه‪ ،‬لكن �أُفرج‬ ‫ ‬ ‫عنه بكفالة �رسيع ًا عندما ر�أت املحكمة �أن «�سلوكه مل‬ ‫تربر» مذكرة اعتقاله‪ .‬وقد �أ�شار‬ ‫يكن بالق�ساوة التي ِّ‬ ‫القا�ضي يف تعليقه �إىل � ّأن يفراه مل يكن يق�صد �سوى‬ ‫ترويع الطفلة عرب �إطالق النار عليها يف بهو مدر�ستها‪،‬‬ ‫ومل يكن يق�صد قتلها‪ ،‬بالتايل «ل�سنا �أمام حالة �شخ�ص‬ ‫جمرم جتدر معاقبته وردع��ه وتلقينه در�س ًا من خالل‬ ‫�سجنه»‪ .‬لقد ُحكم على يفراه بال�سجن مع وقف التنفيذ‬ ‫ملدة ‪� 7‬أ�شهر‪ ،‬على وقع احتفال امل�ستوطنني رق�ص ًا وغنا ًء‬ ‫داخل قاعة املحكمة‪ .‬بعدها �ساد ال�صمت املعتاد‪ .‬يف‬ ‫نهاية املطاف‪ ،‬كان الأمر ًا روتيني ًا‪.‬‬ ‫ هكذا كان‪ .‬بعدما �أُفرج عن يفراه‪ ،‬ك�شفت ال�صحافة‬ ‫الإ�رسائيلية عن قيام �آلية ع�سكرية ب�إطالق النار على‬ ‫باحة مدر�سة داخل خميم لالجئني يف ال�ضفة الغربية‪،‬‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ممّا كانوا يتم ّتعون به‪ :‬ال�سيطرة على اخلدمات املحلية‪...‬‬ ‫و�ستتوا�صل م�شاريع اال�ستيطان الإ�رسائيلية‪.‬‬

‫ما ت�سبب ب�إ�صابة خم�سة �أطفال‪ ،‬وذلك «بهدف ترويعهم‬ ‫فح�سب»‪ .‬مل ت�صدر �أية �أحكام بحق مرتكبي هذا العمل‪،‬‬ ‫ومل يلفت احلدث االنتباه جمدد ًا‪ .‬كانت تلك جمرد حادثة‬ ‫�أخرى يف برنامج «الأمية كعقاب»‪ ،‬بح�سب ال�صحافة‬ ‫الإ�رسائيلية‪ ،‬وقد �شمل هذا الربنامج �إغالق املدار�س‪،‬‬ ‫وا�ستخدام قنابل الغاز‪ ،‬و��ضرب التالمذة ب�أعقاب‬ ‫البنادق‪ ،‬ومنع امل�ساعدات الطبية عن ال�ضحايا‪ .‬و�أبعد‬ ‫من املدار�س‪� ،‬ساد عهد من العنف الأكرث ق�ساوة‪ ،‬حتى‬ ‫�أنه �أ�صبح �أكرث وح�شية خالل االنتفا�ضة حتت �أوامر‬ ‫وزي��ر الدفاع �إ�سحاق راب�ين‪ .‬وبعد عامني من العنف‬ ‫ال�ساديني‪� ،‬أبلغ رابني م�س�ؤويل حركة «ال�سالم‬ ‫والقمع‬ ‫ّ‬ ‫يتعر�ضون ل�ضغط‬ ‫الآن» � ّأن «�سكان الأرا�ضي املحتلة‬ ‫ّ‬ ‫ع�سكري واقت�صادي ٍ‬ ‫�سيتم ك�رسهم»‪،‬‬ ‫قا�س‪ .‬يف النهاية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫و�سيقبلون بال�رشوط الإ�رسائيلية‪ .‬متام ًا مثلما فعلوا‬ ‫عندما ا�ستعاد عرفات ال�سيطرة من خالل عملية �أو�سلو‪.‬‬ ‫ توا�صت مفاو�ضات مدريد بني �إ�رسائيل وفل�سطينيي‬ ‫ابتداء من العام ‪ ،1991‬لأن‬ ‫الداخل دون نتائج حا�سمة‬ ‫ً‬ ‫متدد امل�ستوطنات الإ�رسائيلية‪.‬‬ ‫أ�رص على وقف ُّ‬ ‫عبد ال�شايف � ّ‬ ‫كررته ال�سلطات‬ ‫جميع امل�ستوطنات غري قانونية‪ ،‬وهو ما ّ‬ ‫الدولية‪ ،‬من بينها جمل�س الأمن الدويل (من بني القرارات‬ ‫يف هذا ال�ش�أن‪ ،‬قرار جمل�س الأمن رقم ‪ ،446‬الذي‬ ‫�صوتت ل�صاحله ‪ 12‬دولة يف مقابل امتناع كل من‬ ‫ّ‬ ‫الواليات املتحدة وبريطانيا والرنوج عن الت�صويت)‪ .‬ويف‬ ‫ثبتت حمكمة العدل الدولية عدم قانونية‬ ‫وقت الحق‪ّ ،‬‬ ‫امل�ستوطنات‪ .‬وقد نالت اعرتاف ال�سلطات الإ�رسائيلية‬ ‫الق�ضائية العليا واحلكومية يف �أواخر عام ‪ ،1967‬مع‬ ‫بدء م�شاريع اال�ستيطان‪ .‬وقد �شمل امل�رشوع الإجرامي‬ ‫و�ضم القد�س الكربى‪ ،‬يف خرق �رصيح‬ ‫التمدد الكبري‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫للقرارات املتكررة ملجل�س الأمن الدويل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫خل�ص ال�صحايف الإ�رسائيلي داين روبن�شتاين بدقّة‬ ‫ ‬ ‫املوقف الإ�رسائيلي ال�سائد مع بداية م�ؤمتر مدريد‪ ،‬وهو‬ ‫�أحد �أف�ضل املحللني املتخ�ص�صني بق�ضايا الأرا�ضي‬ ‫املحتلة‪ .2‬كتب روبن�شتاين � ّأن ال��والي��ات املتحدة‬ ‫و�إ�رسائيل قد توافقان يف مدريد على �إعطاء بع�ض‬ ‫«احلكم الذاتي» للفل�سطينيني مبوجب ما تفر�ضه اتفاقيات‬ ‫«كمب دايفيد» املوقّعة يف العام ‪ ،1979‬لكن «هذا‬ ‫احلكم الذاتي �سيكون �شبيه ًا بذلك املمنوح ملخيمات‬ ‫�أ�رسى احلرب‪ ،‬حيث يتمتع الأ�رسى بـ«اال�ستقاللية» يف‬ ‫حت�ضري وجباتهم وتنظيم منا�سباتهم الثقافية من دون‬ ‫�سجانهم»‪� .‬سيتم منح الفل�سطينيني �أكرث بقليل‬ ‫تدخل ّ‬

‫لتجميد اال�ستيطان‪ ،‬فقد «�ساعدته مادي ًا �أكرث من حكومة‬ ‫�شامري حتى»‪ ،‬من خالل تو�سيع امل�ستوطنات «يف كل‬ ‫ال�ضفة الغربية‪ ،‬حتى يف �أكرث البقع ا�ستفزازي ًة»‪ .‬وقد ا�ستمر‬ ‫تطبيق هذه ال�سيا�سات يف ال�سنوات الالحقة‪ ،‬وهي ت�شكل‬ ‫الأ�سا�س للم�شاريع احلالية حلكومة نتنياهو‪ .‬وهي �سيا�سات‬ ‫تهدف �إىل ال�سماح لإ�رسائيل ب�إحكام �سيطرتها على حواىل‬ ‫‪� 40‬إىل ‪ 50‬يف املئة من ال�ضفة الغربية‪� ،‬أما الباقي فيكون‬ ‫مق�سم ًا �إىل كانتونات داخل �سجن‪ ،‬بينما ت�سيطر �إ�رسائيل‬ ‫على غور الأردن‪ ،‬ب�شكل منف�صل عن قطاع غزة‪ ،‬وذلك يف‬ ‫خرق �رصيح التفاقيات �أو�سلو‪ ،‬فت�ضمن بالتايل �أن �أي كيان‬ ‫فل�سطيني حمتمل لن يكون له �أي منفذ �إىل العامل اخلارجي‪.‬‬

‫ت�رسيع اال�ستيطان والقد�س الكربى‬ ‫فيما كانت مفاو�ضات مدريد واملفاو�ضات ال�رسية‬ ‫يف �أو�سلو ت�سري على قدم و�ساق‪ّ ،‬مت تو�سيع م�شاريع‬ ‫اال�ستيطان ب�شكل �رسيع‪ ،‬يف املرحلة الأوىل يف ظل‬ ‫عهد �إ�سحاق �شامري‪ ،‬وبعدها مع �إ�سحاق رابني الذي‬ ‫�أ�صبح رئي�س ًا للحكومة يف العام ‪ ،1992‬و«تباهى‬ ‫ب�أنه ّمت خالل عهده بناء منازل ا�ستيطانية يف الأرا�ضي‬ ‫الفل�سطينية �أكرث مما ُبني منذ العام ‪� .»1967‬رشح رابني‬ ‫امل�سي ب�شكل موجز‪« :‬املهم هو ما يتواجد داخل‬ ‫مبد�أه‬ ‫رِّ‬ ‫احلدود‪ ،‬ومكان تواجد احلدود هو �أمر �أقل �أهمية‪ ،‬طاملا االنتفا�ضة و�رصاع الداخل مع اخلارج‬ ‫� ّأن الدولة (الإ�رسائيلية) ّ‬ ‫تغطي معظم «�أر�ض �إ�رسائيل» املبادرون باالنتفا�ضة هم فل�سطينيو الداخل‪ .‬حاولت منظمة‬ ‫(فل�سطني التاريخية)‪ ،‬وعا�صمتها القد�س»‪.‬‬ ‫التحرير الفل�سطينية فر�ض بع�ض ال�سيطرة على الأحداث‪،‬‬ ‫عمقت م�شاريع مطلع‬ ‫ وبح�سب تقارير باحثني �إ�رسائيليني‪ ،‬كان هدف لكن من دون جناح كبري‪ .‬وقد ّ‬ ‫حكومة رابني تو�سيع «منطقة القد�س الكربى اخلا�ضعة الت�سعينيات‪ ،‬حني كانت املفاو�ضات جارية‪ ،‬غربة فل�سطينيي‬ ‫لل�سيطرة الإ�رسائيلية» ب�شكل جذري‪ ،‬لت�ضم املنطقة الداخل عن قيادة منظمة التحرير املقيمة يف اخلارج‪.‬‬ ‫ال �إىل حدود ويف ظل هذه الظروف‪ ،‬مل يكن مفاجئ ًا �أن يبحث‬ ‫املمتدة من رام الله حتى اخلليل و�صو ً‬ ‫معاليه �أدوميم بالقرب من �أريحا‪ ،‬و«الإنتهاء من خلق عرفات عن و�سيلة لإعادة فر�ض �سلطة منظمة التحرير‪.‬‬ ‫الدوائر اال�ستيطانية اليهودية املجاورة يف منطقة وقد �سنحت له الفر�صة لفعل ذلك من خالل املفاو�ضات‬ ‫مقو�ض ًا بذلك‬ ‫القد�س الكربى‪ ،‬وذلك بهدف حما�رصة املجموعات ال�رسية بينه وبني �إ�رسائيل برعاية نرويجية‪ِّ ،‬‬ ‫الفل�سطينية‪ ،‬واحلد من تطورها‪ ،‬ومنع �أي �إمكانية لأن القيادة املحلية يف الداخل‪ .‬وفيما انتهت هذه املفاو�ضات‬ ‫تكون القد�س ال�رشقية عا�صمة فل�سطينية»‪� .‬أكرث من ال�رسية يف �آب‪�/‬أغ�سط�س ‪ ،1993‬ف� ّإن التباعد املتزايد‬ ‫ذلك‪ ،‬فقد «و�ضعت �شبكة طرقات وا�سعة النطاق قيد (بني الداخل واخلارج) كان ما ّدة لكتابات ملي�س �أندوين‪،‬‬ ‫الت�شييد‪ ،‬لتكون العمود الفقري مل�سار اال�ستيطان»‪.‬‬ ‫تابعن بدقّة‬ ‫�إح��دى ال�صحافيات القليالت اللواتي‬ ‫َ‬ ‫ مت تو�سيع م�شاريع اال�ستيطان ب�رسعة بعد اتفاقيات‬ ‫تطورات الفل�سطينيني الواقعني يف ظل االحتالل ويف‬ ‫ّ‬ ‫�أو�سلو‪ ،‬ومن �ضمن هذه امل�شاريع ت�شييد م�ستوطنات خميمات اللجوء يف الدول املجاورة‪.‬‬ ‫جديدة و«تد�شيم» م�ستوطنات قدمية‪ ،‬وتقدمي �إغراءات �أ�شارت �أندوين �إىل �أن منظمة التحرير الفل�سطينية‬ ‫جدد‪ ،‬وو�ضع م�شاريع طرقات «تواجه �أزمتها الأ�سو�أ منذ ت�أ�سي�سها‪� ،‬إذ �إن املجموعات‬ ‫خا�صة جلذب م�ستوطنني ُ‬ ‫�رسيعة لتحويل الأرا�ضي الفل�سطينية اىل كانتونات‪ .‬الفل�سطينية ــ با�ستثناء حركة «فتح» ــ وامل�ستقلني �آخذة‬ ‫با�ستثناء القد�س ال�رشقية‪ ،‬ات�سعت عمليات البناء بن�سبة يف االبتعاد عن منظمة التحرير‪ ،‬يف ّ‬ ‫ظل تق ُّل�ص املجموعة‬ ‫‪ 40‬يف املئة بني ‪ 1993‬و‪ ،1995‬بح�سب درا�سة املحيطة بيا�رس عرفات»‪� .‬أكرث من ذلك‪ ،‬تلفت �أندوين �إىل‬ ‫�أجرتها حركة «ال�سالم الآن»‪.‬‬ ‫�أن «�أرفع ع�ضوين يف اللجنة التنفيذية ملنظمة التحرير‬ ‫ زاد التمويل احلكومي الإ�رسائيلي للم�ستوطنات يف الفل�سطينية‪ ،‬ال�شاعر حممود دروي�ش و�شفيق احلوت‪،‬‬ ‫الأرا�ضي الفل�سطينية بن�سبة ‪ 70‬يف املئة عام ‪� ،1994‬أي ا�ستقاال من اللجنة التنفيذية ملنظمة التحرير»‪ ،‬على وقع‬ ‫يف العام الذي تال تاريخ التوقيع على االتفاقيات‪ .‬و�أفادت عر�ض املفاو�ضني الفل�سطينيني تقدمي ا�ستقاالتهم‪ .‬وحتى‬ ‫« ُدڤار» �صحيفة حزب العمال احلاكم حينها �أن حكومة رابني التنظيمات التي ظ ّلت من�ضوية يف منظمة التحرير‪ ،‬ف�إنها‬ ‫حافظت على �أولويات حكومة �شامري اليمينية املتطرفة اخذت تن�أى بنف�سها عن عرفات‪ .‬ويف ال�سياق‪ ،‬دعا م�س�ؤول‬ ‫تدعي ال�سعي حركة «فتح» يف لبنان عرفات �إىل اال�ستقالة‪ ،‬فيما كانت‬ ‫التي خلفتها‪ .‬ففيما كانت حكومة «العمال» ّ‬

‫ ‪ 63‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬


‫وترية املعار�ضة املوجهة �ضد عرفات و�ضد ف�ساد منظمة‬ ‫التحرير وت�س ّلطها تتزايد يف الأرا�ضي املحتلة‪ .‬وجنب ًا �إىل‬ ‫«التف�سخ ال�رسيع للتنظيم الأ�سا�سي‪ ،‬وخ�سارة‬ ‫جنب مع‬ ‫ُّ‬ ‫عرفات للدعم داخ��ل �صفوف حركته‪ ...‬ف �� ّإن التف�سخ‬ ‫ال�رسيع مل�ؤ�س�سات منظمة التحرير والت�آكل الثابت للقاعدة‬ ‫اجلماهريية للمنظمة قد يجعالن �أي انفراج يف حمادثات‬ ‫ال�سالم من دون �أي معنى»‪.‬‬ ‫ والحظت �أندوين �أ ّنه «مل ي�سبق �أن و�صلت املعار�ضة‬ ‫للقيادة الفل�سطينية ولعرفات �شخ�صي ًا �إىل هذا امل�ستوى‬ ‫على امتداد تاريخ منظمة التحرير الفل�سطينية‪ ،‬بينما‪،‬‬ ‫وللمرة الأوىل‪ ،‬ي�سود �شعور متعاظم ب�أن احلفاظ على‬ ‫احلقوق الوطنية الفل�سطينية مل يعد يتوقف على الدفاع عن‬ ‫دور منظمة التحرير الفل�سطينية‪ .‬وبات كثريون يعتقدون‬ ‫تدمر امل�ؤ�س�سات‬ ‫�أن �سيا�سات تلك القيادة هي التي ّ‬ ‫وتعر�ض احلقوق الوطنية الفل�سطينية للخطر»‪.‬‬ ‫الفل�سطينية‪ّ ،‬‬

‫‪ 3‬لالطالع على‬ ‫مف�صل عن‬ ‫حتليل َّ‬ ‫مواقف رو�س‪� ،‬إقر�أ‬ ‫نورمن فنكل�ستني‪،‬‬ ‫«ديني�س رو�س‬ ‫وعملية ال�سالم‪:‬‬ ‫�إخ�ضاع احلقوق‬ ‫الفل�سطينيني‬ ‫لالحتياجات‬ ‫الإ�رسائيلية»‪،‬‬ ‫جملة الدرا�سات‬ ‫الفل�سطينية‪،‬‬ ‫‪.2007‬‬

‫ ‪ 64‬‬

‫النتيجة النهائية للعملية هي �إر�ساء «حل دائم مبني على‬ ‫ق��رارات جمل�س الأمن الدويل رقم ‪ 242‬و‪.»338‬‬ ‫يجدر بالأ�شخا�ص املتابعني للدبلوما�سية املتعلقة‬ ‫بال�رصاع الإ�رسائيلي ــ الفل�سطيني‪� ،‬أن يفهموا �رسيع ًا‬ ‫ماذا يعني ذلك‪ .‬ال يت�ضمن القراران ‪ 242‬و‪ 338‬بتات ًا‬ ‫�أي كالم حول احلقوق الفل�سطينية‪ ،‬ما عدا اال�شارة �إىل‬ ‫«حل عادل مل�شكلة الالجئني»‪ ،‬وهي اال�شارة التي ظ ّلت‬ ‫مبهمة‪ .‬وحتيل القرارات الدولية الالحقة �إىل احلقوق‬ ‫جتاهل هذه القرارات‬ ‫الوطنية الفل�سطينية‪ ،‬لكن ّمت‬ ‫ُ‬ ‫يف «�إعالن املبادئ»‪� .‬إن كان الهدف النهائي لـ«عملية‬ ‫ن�ص عليه «�إعالن املبادئ» �رصاح ًة‪،‬‬ ‫ال�سالم» هو مثلما ّ‬ ‫ف�إ ّنه يجدر بالفل�سطينيني توديع �آمالهم بتح�صيل بع�ض‬ ‫حقوقهم الوطنية يف فل�سطني التاريخية‪.‬‬ ‫ وتتكفّل البنود الأخرى من «�إعالن املبادئ» بالك�شف‬ ‫عن ذلك بو�ضوح �أكرب‪ .‬فتن�ص هذه البنود على �أن تب�سط‬ ‫ال�سلطة الفل�سطينية �سيطرتها على «�أرا�ضي ال�ضفة الغربية‬ ‫وقطاع غزة‪ ،‬با�ستثناء امل�سائل التي �سيتم التفاو�ض حولها‬ ‫يف مفاو�ضات احلل النهائي‪� ،‬أي‪ :‬القد�س‪ ،‬امل�ستوطنات‪،‬‬ ‫املواقع الع�سكرية وال�سكان الإ�رسائيليني»‪ .‬وهو ا�ستثناء‬ ‫ي�شمل كافة الق�ضايا‪� .‬أكرث من ذلك‪ ،‬تن�ص تلك البنود‬ ‫على �أنه «بعد االن�سحاب الإ�رسائيلي‪� ،‬ستبقى �إ�رسائيل‬ ‫م�س�ؤولة عن الأمن اخلارجي والداخلي وعن النظام العام‬ ‫للم�ستوطنات وال�سكان الإ�رسائيليني‪ .‬وب�إمكان القوات‬ ‫الع�سكرية الإ�رسائيلية واملدنيني موا�صلة ا�ستخدام‬ ‫بحرية داخل قطاع غزة ومنطقة �أريحا»‪� ،‬أي‬ ‫الطرقات‬ ‫ّ‬ ‫تعهدت �إ�رسائيل باالن�سحاب منهما يف‬ ‫املنطقتني اللتني ّ‬ ‫نهاية املطاف‪ .‬باخت�صار‪ ،‬لن يكون هناك تغيريات جذرية‬ ‫يتطرق‬ ‫بعد تطبيق هذه البنود‪ .‬كما �أن «�إعالن املبادئ» مل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حتتل مكان ًا رئي�سي ًا‬ ‫بكلمة �إىل م�شاريع اال�ستيطان التي‬ ‫يقو�ض التو�سيع الكبري مبوجب‬ ‫يف ال�رصاع‪ ،‬حتى قبل �أن ّ‬ ‫عملية �أو�سلو احتماالت واقعية ب�إمكانية حتقيق تقرير‬ ‫م�صري فل�سطيني ذات معنى‪.‬‬ ‫ي�سمى �أحيان ًا‬ ‫ باخت�صار‪ ،‬فقط عن طريق اخل�ضوع ملا ّ‬ ‫«التجاهل الدويل»‪ ،‬ميكن للمرء ت�صديق � ّأن عملية �أو�سلو‬ ‫حتولت‬ ‫كانت خطوة باجتاه ال�سالم‪ .‬غري � ّأن تلك املعزوفة ّ‬ ‫�إىل دوغما افرتا�ضية بني املع ّلقني واملفكرين الغربيني‪.‬‬

‫مقرب ًا من‬ ‫تدريجي ًا»‪ .‬حتى في�صل ح�سيني‪ ،‬الذي كان ّ‬ ‫عرفات‪ ،‬قال �إن اتفاقيات �أو�سلو «لي�ست حتم ًا البداية‬ ‫التي كان �شعبنا ي�أملها»‪ .‬بدوره‪ ،‬انتقد حيدر عبد ال�شايف‬ ‫قيادة منظمة التحرير الفل�سطينية ملوافقتها على االتفاق‬ ‫الذي ي�سمح لإ�رسائيل مبوا�صلة اال�ستيطان‪ ،‬وم�صادرة‬ ‫و�ضمها» �إىل منطقة القد�س‬ ‫الأرا���ض��ي «وتهويدها‬ ‫ّ‬ ‫الفل�سطينيني‬ ‫مددتها و�سيطرت عليها‪ ،‬وب�إخ�ضاع‬ ‫التي ّ‬ ‫ّ‬ ‫لـ«الهيمنة االقت�صادية الإ�رسائيلية»‪ .‬وقد رف�ض عبد‬ ‫ال�شايف امل�شاركة يف احتفال التوقيع على االتفاق يف‬ ‫حديقة البيت الأبي�ض‪ .‬وبح�سب ما كتب يو�سف �إبراهيم‬ ‫يف �صحيفة «نيويورك تاميز»‪ ،‬ف�إنه بالن�سبة لكثريين‪ ،‬كان‬ ‫«ال�سلوك الدينء لقيادة منظمة التحرير الفل�سطينية‪ ،‬مبا يف‬ ‫ذلك ال�سري مب�سار يتجاهل الفل�سطينيني الذين عانوا طيلة‬ ‫‪ 27‬عام ًا من االحتالل الإ�رسائيلي مل�صلحة فل�سطينيني‬ ‫مقيمني يف املنفى �أتوا من تون�س لال�ستيالء على ال�سلطة»‪،‬‬ ‫مقزز ًا‪ .‬و�أ�ضاف �إبراهيم � ّأن ممثلي منظمة التحرير‬ ‫�أمر ًا ِّ‬ ‫«ر�شقوا باحلجارة على يد �شبان فل�سطينيني‬ ‫الفل�سطينية ُ‬ ‫عندما كانوا يف الآليات الع�سكرية الإ�رسائيلية يف‬ ‫طريقهم �إىل �أريحا»‪ .‬وقد ك�شفت الالئحة امل�ؤقتة التي‬ ‫«م�صمم على ملئها‬ ‫أعدها عرفات لأ�سماء �أفراد �سلطته �أنه‬ ‫� ّ‬ ‫ّ‬ ‫مبوالني له‪ ،‬وبعنا�رص من ال�شتات الفل�سطيني»‪ ،‬بح�سب ما‬ ‫كتب جوليان �أوزان من القد�س يف �صحيفة «فاينان�شال‬ ‫تت�ضمن �سوى‬ ‫تاميز» الربيطانية‪ ،‬علم ًا � ّأن الالئحة مل‬ ‫ّ‬ ‫ا�سمني فل�سطينيني «من فل�سطينيي الداخل»‪ ،‬هما في�صل‬ ‫احل�سيني وزكريا الآغا‪ ،‬وكالهما من املوالني لعرفات‪� .‬أما‬ ‫باقي الأ�سماء‪ ،‬فكانوا من الف�صائل ال�سيا�سية املوالية‬ ‫لعرفات من املقيمني خارج الأرا�ضي املحتلة‪.‬‬

‫«او�سلو» تغ ّلب اخلارج على الداخل‬ ‫لهذه الأ�سباب‪� ،‬أ�شارت �أن��دوين �إىل �أن عرفات كان‬ ‫يوا�صل ال�سري بخيار �أريحا ــ غزة ال��ذي �أتاحه له‬ ‫اتفاق �أو�سلو‪ ،‬وهو اخليار الذي �أمل عرفات �أن يع ّزز‬ ‫�سلطة منظمة التحرير‪ ،‬خ�صو�ص ًا و�سط م�ؤ�رشات تفيد‬ ‫ب�أن احلكومة الإ�رسائيلية قد تخطو اخلطوة الباقية من‬ ‫خالل احلديث مبا�رشة مع منظمة التحرير‪ ،‬وبالتايل �إنقاذ‬ ‫ال�رشعية التي تخ�رسها املنظمة داخلي ًا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫�شك‬ ‫ كانت ال�سطات الإ�رسائيلية م��درك��ة ب�لا‬ ‫حتمل‬ ‫للتطورات اجلارية داخل الأرا�ضي الفل�سطينية‪ُ ،‬‬ ‫وي َ‬ ‫�أن تكون قد خل�صت �إىل نتيجة �إيجابية يف ما يتعلق‬ ‫«يدمرون‬ ‫بتقوميها لالتفاق الذي عقدته مع ه�ؤالء الذين‬ ‫ّ‬ ‫امل�ؤ�س�سات الفل�سطينية‬ ‫ويعر�ضون احلقوق الوطنية «االحتياجات» مقابل «املطالب»‬ ‫ّ‬ ‫الفل�سطينية للخطر»‪ ،‬قبل �أن ي�سعى املواطنون �إىل حتقيق وتك�شف النظرة �إىل امل�ضامني احلالية التفاقيات �أو�سلو‬ ‫�أهدافهم وحقوقهم الوطنية بو�سائل �أخرى‪.‬‬ ‫�أن مثل ردود الفعل تلك كانت مفرطة يف التفا�ؤل‪.‬‬ ‫ كانت ردة الفعل على اتفاقيات �أو�سلو بني الفل�سطينيني كان «�إعالن املبادئ» �رصيح ًا جد ًا يف �إر�ضاء املطالب‬ ‫داخل الأرا�ضي املحتلة متفاوتة‪ .‬لقد انتاب البع�ض �أمل الإ�رسائيلية‪ ،‬ويف املقابل تغا�ضى عن احلقوق الوطنية‬ ‫كبري‪ ،‬فيما مل يجد �آخرون �أ�سبابهم لالحتفال باالتفاقيات‪ .‬الفل�سطينية‪ .‬وكان مطابق ًا للمفهوم الذي �صاغه ديني�س‬ ‫ور�أت ملي�س �أندوين �أن «بنود االتفاق �أ�شعرت حتى �أكرث رو�س‪ ،‬امل�ست�شار الرئي�سي لبيل كلينتون واملفاو�ض يف‬ ‫ال باخلطر والقلق �إزاء احتمال �أن تع ّزز كامب ديفيد عام ‪ ،2000‬وهو الذي تولىّ يف عهد �أوباما‬ ‫الفل�سطينيني اعتدا ً‬ ‫هذه االتفاقيات ال�سيطرة الإ�رسائيلية على الأرا�ضي الحق ًا من�صب امل�ست�شار الرئي�سي �أي�ض ًا‪ .‬وبح�سب �رشح‬ ‫الفل�سطينية»‪ .‬وقد ع ّلق �صائب عريقات‪ ،‬وهو مفاو�ض رو�س‪ ،‬ف� ّإن لإ�رسائيل «احتياجات»‪ ،‬يف املقابل فلي�س‬ ‫ال‪« :‬يبدو �أن هذا االتفاق يهدف للفل�سطينيني �سوى «مطالب» من الوا�ضح �أنها �أقل �ش�أنا‪. 3‬‬ ‫فل�سطيني رئي�سي‪ ،‬قائ ً‬ ‫�إىل �إعادة تنظيم االحتالل الإ�رسائيلي‪ ،‬ولي�س �إنهائه وين�ص البند الأول من «�إع�لان املبادئ» على �أن‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫او�سلو ‪ ٢‬ي�رشعن اال�ستيطان‬ ‫لقد ّمت �إحل��اق اتفاقيات �إ�ضافية ُعقدت بني عرفات‪/‬‬ ‫منظمة التحرير الفل�سطينية مع �إ�رسائيل باتفاقيات‬

‫ ‪ 65‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫�أو�سلو‪ .‬االتفاق اال�ضايف الأول والأهم من بني جميع‬ ‫هذه االتفاقيات‪ ،‬كان «�أو�سلو‪ »2‬يف العام ‪،1995‬‬ ‫قبل فرتة ق�صرية من اغتيال رئي�س احلكومة الإ�رسائيلية‬ ‫�إ�سحق رابني‪ ،‬الذي ّ‬ ‫�شكل مقتله حدث ًا م�أ�ساوي ًا بال �شك‪،‬‬ ‫�إال � ّأن الأوهام التي حتاك حول «رابني �صانع ال�سالم» ال‬ ‫ميكن �أن ت�صمد �أمام التحليل‪.‬‬ ‫ وميكن اعتبار اتفاق «�أو�سلو‪ »2‬مبثابة ن�ص �صاغته‬ ‫جمموعة طالب قانون �أذكياء مت تكليفهم مبهمة و�ضع‬ ‫ن�ص يتيح لل�سلطات الأمريكية ــ الإ�رسائيلية خيار‬ ‫ّ‬ ‫فعل ما يحلو لها مع ترك املجال مفتوح ًا لتحقيق نتائج‬ ‫�أكرث �إيجابية لها �أي�ض ًا‪ .‬ويف حال مل تتحقّق هذه النتائج‪،‬‬ ‫�سيكون بالإمكان �إلقاء اللوم يف ذلك على «املتطرفني»‬ ‫الذين نكثوا بوعودهم‪.‬‬ ‫ ولتو�ضيح ال�صورة‪ ،‬ف� ّإن اتفاق «�أو�سلو‪ »2‬ين�ص‬ ‫على �أن امل�ستوطنني الإ�رسائيليني (ب�شكل غري �رشعي‬ ‫طبع ًا) يف الأرا�ضي املحتلة �سيظ ّلون خا�ضعني للقانون‬ ‫والق�ضاء الإ�رسائيليني‪ .‬وبح�سب امل�صطلحات الر�سمية‬ ‫للن�ص‪« ،‬حتتفظ احلكومة الإ�رسائيلية الع�سكرية (يف‬ ‫الأرا�ضي املحتلة) بال�سلطات الت�رشيعية والق�ضائية‬ ‫والتنفيذية وبامل�س�ؤوليات‪ ،‬مبا يتوافق مع القانون الدويل»‬ ‫الذي لطاملا قامت الواليات املتحدة و�إ�رسائيل بتف�سريه‬ ‫مثلما يحلو لهما‪ ،‬يف ظل موافقة �أوروب��ي��ة �ضمنية‪.‬‬ ‫وي�ضمن املنطق نف�سه لهذه ال�سلطات فر�ض فيتو فعلي‬ ‫على الت�رشيع الفل�سطيني‪ .‬وين�ص االتفاق املذكور على‬ ‫�أن �أي «ت�رشيع من �ش�أنه تعديل �أو �إلغاء قوانني موجودة‬ ‫(تفر�ضها �إ�رسائيل) �أو قرارات ع�سكرية‪ ...‬لي�س له �أي‬ ‫وي َ‬ ‫بطل من �أ�سا�سه �إن كان يتجاوز الت�رشيع‬ ‫مفعول ُ‬ ‫املو�ضوع من قبل املجل�س الوطني الفل�سطيني» (الذي‬ ‫مل يكن ميتلك �أية �سلطة يف معظم الأرا�ضي املحتلة‪،‬‬ ‫و�أي �سلطة له يف �أي مكان �آخر م�رشوطة باملوافقة‬ ‫الإ�رسائيلية)‪« ،‬و�إال ف�سيكون ذلك الت�رشيع متعار�ض ًا‬ ‫حتدده‬ ‫مع هذا االتفاق �أو مع غريه»؛ يف التطبيق مثلما ّ‬ ‫الواليات املتحدة و�إ�رسائيل‪.‬‬ ‫ �أك�ثر من ذل��ك‪ ،‬ي�شري اتفاق «�أو�سلو‪� »2‬إىل � ّأن‬ ‫«على الطرف الفل�سطيني اح�ترام احلقوق القانونية‬ ‫للإ�رسائيليني (م��ن �ضمنهم ال����شرك��ات اململوكة‬ ‫من �إ�رسائيليني) املرتبطني ب��أرا�� ٍ�ض تقع يف مناطق‬ ‫خا�ضعة للوالية القانونية االقليمية للمجل�س الوطني‬ ‫الفل�سطيني»‪ ،‬وذلك يف املناطق املحدودة حيث كان‬ ‫يجدر بال�سلطات الفل�سطينية �أن تفر�ض عليها ت�رشيعها‬


‫‪ 4‬وايج‪« ،‬هوام�ش‬ ‫ ‬ ‫�أو�سلو‪ :‬لغز‬ ‫امللفات الرنويجية‬ ‫املفقودة»‪،‬‬ ‫جملة الدرا�سات‬ ‫الفل�سطينية‪،‬‬ ‫خريف ‪.2008‬‬ ‫ال �إدوارد‬ ‫‪� 5‬إقر�أ مث ً‬ ‫�سعيد‪« ،‬اتفاق‬ ‫عرفات»‪The Nation ،‬‬ ‫(‪� 20‬أيلول‪/‬‬ ‫�سبتمرب ‪،)1993‬‬ ‫ومقال نوام‬ ‫ت�شوم�سكي «اتفاق‬ ‫عرفات و�إ�رسائيل»‪،‬‬ ‫‪ ،Zmagazine‬ت�رشين‬ ‫الأول‪�/‬أكتوبر‬ ‫‪.1993‬‬

‫ ‪ 66‬‬

‫امل�رشوط باملوافقة الإ�رسائيلية‪ .‬واحلقوق القانونية‬ ‫امل�ضمونة للإ�رسائيليني هي خ�صو�ص ًا حقوقهم امل ّت�صلة‬ ‫�سمى «قانون الغائب»‪ ،‬وهو ن�ص قانوين‬ ‫باحلكومة ومبا ُي ّ‬ ‫معقَّد يتم مبوجبه فعلي ًا نقل �أرا�ضي الفل�سطينيني‬ ‫الغائبني عن �أرا�ضيهم التي ا�ستولت عليها �إ�رسائيل‪،‬‬ ‫نقلها �إىل الت�رشيع الإ�رسائيلي‪ .‬وت�شكل هاتان الفئتان‬ ‫الأخريتان ال�سواد الأعظم من املنطقة‪ ،‬رغم �أن حكومة‬ ‫تقدم‬ ‫�إ�رسائيل‪ ،‬التي ت�ضع حدودها ب�شكل �أحادي‪ ،‬مل ّ‬ ‫بيانات ر�سمية عن ذلك‪ .‬ونقلت ال�صحف الإ�رسائيلية‬ ‫�أن «�أرا�ضي الدولة غري امل�أهولة» بلغت نحو ن�صف‬ ‫م�ساحة ال�ضفة الغربية‪ ،‬وجمموع �أرا�ضي الدولة بلغت‬ ‫م�ساحتها حوايل ‪ 70‬يف املئة‪.‬‬ ‫ بالتايل‪� ،‬ألغى اتفاق «�أو�سلو‪� »2‬إقرار معظم دول‬ ‫العامل افرتا�ضي ًا‪ ،‬ومعهم جميع ال�سلطات القانونية‬ ‫يحق لإ�رسائيل املطالبة بالأرا�ضي‬ ‫ذات ال�صلة‪ ،‬ب�أنه ال‬ ‫ّ‬ ‫التي احتلتها يف العام ‪ ،1967‬و�أن امل�ستوطنات غري‬ ‫قانونية‪ .‬ومبوجب هذا االتفاق‪ ،‬اعرتف الطرف الفل�سطيني‬ ‫ب�رشعية امل�ستوطنات‪� ،‬إىل جانب اعرتافه بحقوق قانونية‬ ‫حمددة للإ�رسائيليني يف الأرا�ضي املحتلة‪،‬‬ ‫�أخرى غري‬ ‫َّ‬ ‫من بينها يف «املنطقة �أ» و«املنطقة ب» (اخلا�ضعتني‬ ‫لل�سيطرة الفل�سطينية امل�رشوطة)‪ .‬لقد غر�س اتفاق‬ ‫«�أو�سلو‪ »2‬ب�شكل �أعمق‪ ،‬الإجناز الرئي�سي لـ«�أو�سلو‪:»1‬‬ ‫مت �إلغاء جميع ق��رارات الأمم املتحدة ذات الأثر على‬ ‫احلقوق الفل�سطينية‪ ،‬ومن �ضمنها القرارات التي تت�صل‬ ‫بال �رشعية امل�ستوطنات‪ ،‬وبو�ضعية القد�س‪ ،‬وحق العودة‬ ‫ّ‬ ‫ال�سجل‬ ‫بجرة قلم افرتا�ضية‪،‬‬ ‫لالجئني‪ .‬وقد �ألغى ذلك‪ّ ،‬‬ ‫الكامل للدبلوما�سية ال�رشق �أو�سطية‪ ،‬ما عدا الن�سخة‬ ‫املطبقة يف م�سار «عملية ال�سالم» الذي قادته الواليات‬ ‫َّ‬ ‫املتحدة‪ .‬لي�ست الوقائع الأ�سا�سية خارج التاريخ يف‬ ‫ال�رسدية الأمريكية فح�سب‪ ،‬بل باتت ر�سمي ًا مقتلعة‬ ‫ا�ستمرت هذه احلال حتى يومنا هذا‪.‬‬ ‫�أي�ض ًا‪ .‬هكذا‬ ‫ّ‬ ‫بع�ض وثائق او�سلو مفقودة!‬ ‫مثلما مت ذكره �أع�لاه‪ ،‬كان متوقع ًا �أن يحاول عرفات‬ ‫اال�ستفادة من الفر�صة لتقوي�ض القيادة الفل�سطينية‬ ‫الداخلية‪ ،‬ولإعادة فر�ض �سلطته الآخذة يف الرتاجع‬ ‫لكن م�س�أل ًة �أخ��رى مهمة‬ ‫داخ��ل الأرا�ضي املحتلة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يجدر التوقف عندها‪ ،‬وهي ما الذي كان املفاو�ضون‬ ‫الرنويجيون يظنون �أنهم ينجزون؟ ان الدرا�سة العلمية‬ ‫الوحيدة التي �أجريت حول هذا املو�ضوع‪ ،‬على حد‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫علمي‪ ،‬هي تلك التي �أجرتها هيلدي هرنيك�سن وايج‪،‬‬ ‫التي ك ّلفتها وزارة اخلارجية الرنويجية ب�إجراء بحث‬ ‫حول هذه امل�س�ألة‪ ،‬ولهذه الغاية ُ�سمح لها بالو�صول �إىل‬ ‫ملفّات داخلية‪ ،‬لتخرج باالكت�شاف الالفت‪� ،‬أال وهو �أن‬ ‫ّ‬ ‫ال�سجل التوثيقي لهذه املرحلة احلا�سمة‪ ،‬مفقود‪.4‬‬ ‫ تالحظ وايج � ّأن اتفاقيات �أو�سلو كانت بالت�أكيد‬ ‫نقطة حت��ول يف التاريخ ال����صراع الإ��سرائ��ي��ل��ي ــ‬ ‫كر�ست �أي�ض ًا �أو�سلو كـ«عا�صمة‬ ‫الفل�سطيني‪ ،‬التي ّ‬ ‫ال�سالم يف العامل»‪ .‬كان «متوقع ًا من عملية �أو�سلو �أن‬ ‫لكن‬ ‫جتلب ال�سالم �إىل ال�رشق الأو�سط»‪ ،‬بح�سب وايج‪ّ ،‬‬ ‫«بالن�سبة للفل�سطينيني‪ ،‬نتج من هذه العملية تقطيع‬ ‫�أرا�ضي ال�ضفة الغربية‪ ،‬وم�ضاعفة �أعداد امل�ستوطنني‬ ‫ّ‬ ‫ي�شل احلياة‪ ،‬و�إر�ساء‬ ‫الإ�رسائيليني‪ ،‬وبناء جدار ف�صل‬ ‫نظام �إقفال حمكم للأرا�ضي الفل�سطينية‪ ،‬وف�صل‬ ‫غري م�سبوق بني قطاع غزة وال�ضفة الغربية»‪ .‬وكانت‬ ‫التوقعات املتفائلة‪ ،‬غري واقعية للأ�سباب املذكورة‬ ‫جلية �آنذاك ومتّت مناق�شتها‬ ‫�أعاله‪ ،‬وهي �أ�سباب كانت ّ‬ ‫‪5‬‬ ‫ملي ًا‪ ،‬لكن لي�س يف و�سائل الإعالم املهيمنة ‪.‬‬ ‫ وتخل�ص وايج بكفاءة �إىل �أنه «ميكن اعتبار عملية‬ ‫در�س عن عيوب» منوذج و�ساطة طرف‬ ‫�أو�سلو حالة ُت َّ‬ ‫ثالث تقوم بها دولة �صغرية يف �رصاعات غري متنا�سبة‬ ‫يف موازين القوى»‪ ،‬وت�شري ب�شكل �صارخ �إىل �أن «عملية‬ ‫�أو�سلو جرت وفق املنطق الإ�رسائيلي‪ ،‬وقد ت�رصفت‬ ‫يف لدى �إ�رسائيل»‪ .‬وكتبت وايج �أن‬ ‫الرنوج كموظف و ّ‬ ‫«الرنويجيني اعتقدوا �أنه من خالل احلوار وبناء تدريجي‬ ‫للثقة‪ ،‬ميكنهم خلق دينامية �سالم ال عودة عنها‪ ،‬ودفع‬ ‫العملية ق ُ​ُدم ًا للو�صول �إىل ّ‬ ‫حل‪ .‬لكن امل�شكلة يف كل هذه‬ ‫املقاربة هي �أن امل�س�ألة لي�ست ق�ضية ثقة‪ ،‬لكن ق�ضية‬ ‫موازين قوى‪� .‬إن تي�سري العملية يحجب الواقع‪ .‬يف‬ ‫النهاية‪ ،‬ف� ّإن النتائج التي قد يتم اجنازها على يد طرف‬ ‫�ضعيف ثالث و�سيط‪ ،‬لي�ست �أكرث مما �سي�سمح الطرف‬ ‫الأقوى ب�إجنازها‪ ...‬ال�س�ؤال الذي يجدر طرحه هو عما �إذا‬ ‫كان هذا النموذج من الو�ساطة ميكن �أن يكون منا�سب ًا»‪.‬‬ ‫جيد وجدير بالت�أمل‪ ،‬متام ًا مثلما يتبنى‬ ‫ �إنه ل�س�ؤال ّ‬ ‫الر�أي العام الغربي املثقف اليوم الفر�ضية ال�سخيفة‬ ‫التي تفيد ب�أن مفاو�ضات �إ�رسائيلية ــ فل�سطينية ذات‬ ‫معنى ميكن �أن جتري جدي ًا برعاية الواليات املتحدة‪،‬‬ ‫كـ«و�سيط نزيه»‪ ،‬وهي فعلي ًا �رشيك لإ�رسائيل خلم�سة‬ ‫وثالثني عام ًا يف �إقفال الباب �أمام احللول الدبلوما�سية‬ ‫التي حتظى مبوافقة العامل كله تقريب ًا‪.‬‬

‫االقتصاد السيايس للجيش اإلرسائييل‬ ‫ياغيل ليفي‬ ‫دائرة اإلدارة‬

‫والسياسة العامة‪،‬‬

‫جامعة بن غوريون‪،‬‬ ‫فلسطني المحتلة‬

‫ ‪ 67‬‬

‫يف ‪ 12‬متوز ‪ ،2006‬وبعد ب�ضع �ساعات من خطف‬ ‫حزب الله جلنديني �إ�رسائيليني على احلدود بني ا�رسائيل‬ ‫ولبنان‪� ،‬شنت تل �أبيب حرب لبنان الثانية ب�أهداف وا�سعة‪،‬‬ ‫حمورها نزع �سالح حزب الله‪ .‬بعد �شهر من القتال‪،‬‬ ‫كانت ا�رسائيل جمربة على قبول اتفاق وقف �إطالق‬ ‫النار ال�صادر عن جمل�س الأمن الدويل‪ ،‬الذي حلظ �إبعاد‬ ‫حزب الله عن احلدود ون�رش اجلي�ش اللبناين‪ ،‬بدعم من‬ ‫قوة متعددة اجلن�سيات‪ ،‬وذلك على طول احلدود التي كان‬ ‫قد �أبعد عنها يف احلرب الأهلية عام ‪ .١٩٧٦‬للوهلة‬ ‫الأوىل‪� ،‬أ�شارت احلرب �إىل وجود �رشخ يف العالقة بني‬ ‫جي�ش الدفاع واملجتمع الإ�رسائيليني‪ .‬فاالنحدار البارز‬ ‫يف �إميان املواطنني باجلي�ش عك�س خيبة الأمل لدى خمتلف‬ ‫اجلماعات من �أداء اجلي�ش الإ�رسائيلي يف احلرب (بن دور‬ ‫و�آخرون ‪ .)2007‬وقد قل�ص �شعور اخليبة ذاك من قيمة‬ ‫�أي �إجناز ا�سرتاتيجي زعمت احلكومة حتقيقه (ماكوف�سكي‬ ‫ووايت‪ .)2006 ،‬مع ذلك‪ ،‬لطاملا كان هناك اعرتاف من‬ ‫قبل باحثني �إ�رسائيليني ب�أزمة يف العالقة بني الع�سكر‬ ‫واملجتمع (انظر على �سبيل املثال «بريي»‪.)2001 ،‬‬ ‫لذا ف�إن للأمر �صلة يف البحث اجلاري حول كيفية ا�شارة‬ ‫احلرب �إىل ح�صول تغيري حقيقي يف مكانة اجلي�ش �أو‬ ‫ال من ذلك‪ ،‬توجهات �سابقة �أكرث‬ ‫�إىل �أي مدى دفعت بد ً‬ ‫هيكلية وتنظيم ًا‪� ،‬ساهمت يف �إنتاج الف�شل‪� .‬أما الأمر‬ ‫الأكرث ح�سا�سية فهو درا�سة الآثار املحتملة للحرب على‬ ‫العالقات بني اجلي�ش‪ ،‬املجتمع‪ ،‬واحلياة ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫و�رسعت‬ ‫ ميكن القول ب�أن حرب لبنان الثانية عك�ست‬ ‫َّ‬ ‫ح�صول تغيري �أو�سع يف طريقة الإ��شراف امل��دين على‬ ‫اجلي�ش‪ .‬هذا التغيري ميكن و�صفه ب�أنه حتول من «ال�سيطرة‬ ‫اجلمهورية» �إىل «�سيطرة ال�سوق» على اجلي�ش‪ .‬فنموذج‬ ‫اجلندي ــ املواطن التاريخي الذي بوا�سطته كان املجتمع‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ال�سيا�سي ي�رشف على اجلي�ش من خالل املجموعات‬ ‫االجتماعية التي تخدم يف اجلي�ش ومن خالل ال�شبكات‬ ‫االجتماعية التي برزت منه‪ ،‬حلت حمله �سيطرة ال�سوق‪� .‬إذ‬ ‫تت�سم �سيطرة ال�سوق باملراقبة ذات التوجه التجاري لن�شاط‬ ‫اجلي�ش‪ ،‬والنا�شئة من التغيري يف تركيبته االجتماعية‪ ،‬وت�أثري‬ ‫اجلو التناف�سي على غرار ال�سوق الذي يجرب اجلي�ش على‬ ‫ت�سويق خدماته عن طريق ال�سماح باالخرتاق الإعالمي‬ ‫واحلوار مع ال�شعب مبا�رشة‪ ،‬و«ت�سليع» اخلدمة الع�سكرية‬ ‫كجزء من عملية االح�تراف‪ .‬هذا النوع من ال�سيطرة له‬ ‫ت�أثري متناق�ض على حرية اجلي�ش بالعمل‪ :‬تتوافر للجي�ش‬ ‫حرية عمل �أكرب يف �إدارة ال�سيا�سات احلربية‪ ،‬وذلك عائد‬ ‫�إىل التغيريات يف تركيبته االجتماعية �إىل حد كبري‪ ،‬لكنه‬ ‫باملقابل ميتلك موارد �أقل �أي�ض ًا لتمويل هذه ال�سيا�سات‪،‬‬ ‫ب�سبب انتقادات م�ضخمة �صادرة عن اجتاه ال�سوق‪.‬‬ ‫ يقدم الق�سم الأول من هذه الورقة النظرية التي‬ ‫حتدد �أ�سا�س �سيطرة ال�سوق‪ .‬وي�ستعر�ض الق�سم الثاين‬ ‫حالة ا�رسائيل كمثال لهذه النظرية‪� .‬أما الق�سم الثالث‬ ‫ف�سريكز على حرب لبنان الثانية و�آثارها‪.‬‬ ‫املفاهيم النظرية‬ ‫تاريخي ًا‪ ،‬كان النمط اجلمهوري لل�سيطرة على القوات‬ ‫امل�سلحة متج�سد ًا يف من��وذج اجلندي ــ املواطن الذي‬ ‫بوا�سطته ُنقلت ال�سيادة من احلاكم �إىل جمتمع املواطنني‬ ‫العاملني يف اجلي�ش وامل�سيطرين عليه �سيا�سي ًا‪ .‬فكلما‬ ‫اعتمدت اجليو�ش على �أ�س�س جماهريية �أكرث‪ ،‬كانت الدول‬ ‫�أكرث ا�ستجابة للم�ساومة مع جماعات تتحكم باملوارد‬ ‫الب�رشية واملادية ال�رضورية ل�شن حرب‪ .‬وح�صل تبادل يف‬ ‫امل�ساهمة الع�سكرية مقابل ال�سيطرة ال�سيا�سية على اجلي�ش‬ ‫عرب توطيد �أ�س�س امل�ؤ�س�سات التمثيلية و�أ�شكال �أخرى‬


‫من احلقوق ال�سيا�سية واالجتماعية (تيلي‪،1997 ،‬‬ ‫ال عن ذل��ك‪ ،‬وحيث �إن الدولة‬ ‫‪ .)215-193‬ف�ض ً‬ ‫احلديثة ربطت امل�شاركة الع�سكرية بامل�شاركة ال�سيا�سية‪،‬‬ ‫فقد كان الذهاب للحرب م�رشوط ًا بدعم املجتمع املحلي‪،‬‬ ‫حتديد ًا بدعم �أولئك الذين يقع على �أكتافهم مبا�رشة‬ ‫عبء احلرب وكذلك جمموعات املواطنني الذين يوفرون‬ ‫الطاقة الب�رشية للجي�ش لأداء تلك املهمة‪ .‬مبعنى �آخر‪ ،‬كان‬ ‫اجلي�ش مراقب ًا‪ ،‬بطريقة غري مبا�رشة‪ ،‬من قبل هذه ال�شبكات‬ ‫يكونون �صفوفه‪ .‬كان هذا‬ ‫االجتماعية من ال�شباب الذين ّ‬ ‫النموذج اجلمهوري لل�سيطرة ال�سيا�سية‪ .‬جتدر الإ�شارة‬ ‫�إىل �أن م�صطلح «ال�سيطرة املدنية» يعود �إىل الرتتيبات‬ ‫املدنية امل�شرتكة الهادفة �إىل تقييد قدرة اجلي�ش على‬ ‫العمل امل�ستقل من خالل جمموعة وتركيبة من الآليات‬ ‫امل�ؤ�س�ساتية وغري الر�سمية (كالإعالم وجماعات امل�صالح‪/‬‬ ‫االحتجاجات)‪� .‬إن ال�سيطرة الفعالة تعني �أن املدنيني قادرون‬ ‫على و�ضع حدود وقيود على حرية اجلي�ش بالعمل ب�أ�سلوب‬ ‫يتوافق والأه��داف ال�سيا�سية التي ير�سمها ال�سيا�سيون‬ ‫بنحو م�ستقل‪ ،‬و�أن اجلي�ش �سيلتزم بهذه التوجيهات املدنية‬ ‫ منذ ال�سبعينيات‪� ،‬شهدت املجتمعات الغربية‪ ،‬وب�شكل‬ ‫ال �أ�سا�سي ًا للمواطنة عن اجلندية‪ ،‬الأمر الذي‬ ‫تدريجي‪ ،‬ف�ص ً‬ ‫�أ�ضعف الدافع لدى الطبقة الو�سطى للخدمة يف اجلي�ش‪.‬‬ ‫هذا الدافع للخدمة انحدر ب�شكل بارز عندما �أ�صبحت‬ ‫الطبقة الو�سطى قادرة على حتقيق �إجنازات مل تعد تعتمد‬ ‫بعد اليوم على اخلدمة الع�سكرية (بورك‪ .)1995 ،‬عندها‬ ‫�أ�صبح اجلي�ش موظف ًا بكل ما للكلمة من معنى‪� .‬إذ مل‬ ‫يعد الأ�شخا�ص العاملون يف اخلدمة يتبعون ا�ستدعاء ما‬ ‫و�إمنا �أ�صبحوا منخرطني يف مهنة (مو�سكو�س ‪.)1977‬‬ ‫وا�سرتعت اجليو�ش املهنية اهتمام الطبقة الو�سطى الأدنى‪،‬‬ ‫الأقليات الإثنية‪ ،‬والن�ساء‪ ،‬الذين �شغلوا الفراغ الذي تركته‬ ‫جمموعات الطبقة الو�سطى (�إنلوي‪ .)2003 ،‬بنا ًء على‬ ‫حتول من منط املواطن ــ اجلندي التاريخي‬ ‫ذلك‪ ،‬ح�صل ّ‬ ‫امل�سيطر �سيا�سي ًا �إىل ما ميكن و�صفه «ب�سيطرة ال�سوق على‬ ‫القوات امل�سلحة»‪ ،‬حتول ميكن ر�سمه وقولبته كالتايل‪.‬‬ ‫املراقبة ذات التوجه ال�سوقي‬ ‫على حد تعبري امل�ؤرخ برو�س بورتر‪�« ،‬إن �أكرث ما يكون‬ ‫�صوت النا�س م�سموع ًا هو عندما حتتاج احلكومات �إما‬ ‫�إىل �أموالهم و�إما �إىل �أج�سادهم دفاع ًا عن الدولة» (بورتر‪،‬‬ ‫‪� ،1994‬صفحة‪ .)10‬مع ذلك‪ ،‬فقد و َّلدت �إعادة التنظيم‬ ‫احتجت‬ ‫االجتماعي للجيو�ش منوذج تعبري متمايز ًا‪ :‬فقد‬ ‫ّ‬

‫ ‪ 68‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫املبا�رشة وغري املبا�رشة املو�ضوعة على م�ؤ�س�سات �سيا�سية‪،‬‬ ‫مع تركيز على موارد اجلي�ش‪.‬‬

‫الطبقة الو�سطى‪ ،‬تدريجي ًا‪ ،‬على «ت�ضحيتها املالية»‪ ،‬ما‬ ‫يعني‪ ،‬العبء املايل ال�ستعدادات احلرب‪ ،‬وتب ّنت انتقاد ًا‬ ‫للجي�ش ذا توجه �سوقي‪ ،‬ما قاد �إىل تقلي�ص حجمه و�إىل‬ ‫«امل�ضحون‬ ‫تقبل‬ ‫ّ‬ ‫فر�ض قيود موازنة عليه‪ .‬يف الوقت نف�سه‪ّ ،‬‬ ‫ب�أج�سادهم» خ�سارتهم �إما ب�سبب القيمة االجتماعية التي‬ ‫عزوها للخدمة الع�سكرية و�إما ب�سبب عجزهم عن �إطالق‬ ‫احتجاج ٍ‬ ‫جت�سد خ�صائ�صه‬ ‫جمد قابل للتطبيق‪ ،‬وهو عجز ّ‬ ‫الطبقة الو�سطى الأدن��ى‪ .‬يف ظل هذه الظروف‪ ،‬بقيت‬ ‫الأ�س�س نف�سها للتفكري الع�سكري ال اعرتا�ض عليها‪.‬‬

‫انتقال ال�سيطرة ال�سيا�سية يف ا�رسائيل‬ ‫منذ بداياتها‪ ،‬كانت املراقبة ال�سيا�سية جلي�ش الدفاع‬ ‫الإ�رسائيلي تتزايد وبثبات‪ .‬وللمفارقة‪ ،‬كلما ازدادت‬ ‫ع�سكرة املجتمع الإ�رسائيلي واحلياة ال�سيا�سية فيه‪ ‬ــ‬ ‫مبعنى �أن ي�صبح ا�ستخدام القوة �أمر ًا م�رشوع ًا ــ كان‬ ‫ال�سيا�سيون �أكرث جناح ًا يف م�أ�س�سة ال�سيطرة الفعالة‬ ‫على جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي‪� .‬إن غر�س مبد�أ �إخ�ضاع‬ ‫القوات امل�سلحة للم�ؤ�س�سة ال�سيا�سية يف الأذهان خالل‬ ‫الفرتة املمتدة ما قبل الدولة و�أوائل عمر الدولة �أدى‬ ‫�إىل متهيد الطريق �أمام بناء قيود ر�سمية وغري ر�سمية‬ ‫على العمل الع�سكري امل�ستقل خالل الفرتة املمتدة من‬ ‫اخلم�سينيات وحتى ال�سبعينيات (ليفي‪.)1997 ،‬‬ ‫ منذ حرب ‪� ،1973‬أ�صبحت املراقبة امل�ؤ�س�ساتية‬ ‫(من قبل الأجهزة املدنية) �أقوى بكثري‪ ،‬وكانت مدعومة‬ ‫بوا�سطة �آليات مراقبة م�ؤ�س�ساتية عامة‪ .‬ودخلت احلركات‬ ‫االجتماعية ال�ساحة‪ ،‬بدء ًا بحركة « ال�سالم الآن» يف‬ ‫ال �إىل حركة «عدالة» (منظمة احلقوق‬ ‫ال�سبعينيات و�صو ً‬ ‫املدنية للفل�سطينيني الإ�رسائيليني) يف العقد الأخري من‬ ‫القرن املا�ضي‪ ،‬وا�ستخدمت و�سائل عامة وقانونية لتقييد‬ ‫جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي‪ .‬كانت هذه اجلهود متف�شية‬ ‫ج��د ًا بحيث ت�آكلت اال�ستقاللية الذاتية االحرتافية‬ ‫للجي�ش �إىل درجة �أن جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي ات�سم‬ ‫ب�صفة «اخل�ضوع املبالغ فيه» للم�ؤ�س�سات املدنية (كوهني‪،‬‬ ‫‪� .)2006‬أما الق�ضايا التي متكنت من الإف�لات من‬ ‫نظر العامة فهي مراقبة الآن ب�سبب عمل هذه احلركات‬ ‫وال�ضغوط التي فر�ضتها على م�ؤ�س�سات الدولة‪.‬‬ ‫ على �سبيل املثال‪ ،‬كانت مناق�شة املوازنة الأمنية‬ ‫حت�صل علن ًا منذ الثمانينيات‪ .‬وكان الأداء العملي جلي�ش‬ ‫الدفاع الإ�رسائيلي مراقب ًا منذ «اخلط�أ الفادح» حلرب‬ ‫‪� .1973‬إ�ضافة �إىل ذلك‪ ،‬وبعد حادث التدريب يف‬ ‫قاعدة «تزيليم» يف �صحراء النقب يف العام ‪ 1991‬التي‬ ‫قتل فيها خم�سة جنود بوا�سطة �صاروخ ــ حادثة �أ�شعلت‬ ‫تظاهرات غري م�سبوقة من قبل الأهايل ــ كان يجري‬ ‫التدقيق باحلوادث الع�سكرية بنحو روتيني‪ .‬يف الوقت‬ ‫نف�سه‪� ،‬أ ّدت التظاهرات �ضد التوزيع غري العادل للعبء‬ ‫الع�سكري �إىل حماوالت ت�رشيعية للحد من �سلطة جي�ش‬ ‫الدفاع الإ�رسائيلي با�ستدعاء االحتياط‪� .‬أخري ًا‪ ،‬جنحت‬

‫التناف�س على غرار ال�سوق‬ ‫منذ الثمانينيات‪ ،‬كان على اجليو�ش �أن تتناف�س للح�صول‬ ‫على مواردها الب�رشية واملادية‪ .‬لقد دفعت التناف�سية‬ ‫اجليو�ش الغربية �إىل ن�رش خالفاتها علن ًا مع ال�سيا�سة‬ ‫الر�سمية بغر�ض النقا�ش وجتنيد حلفاء‪ .‬وقد �أ�شار املحلل‬ ‫الع�سكري �سام �رسكي�سيان �إىل �أن اجليو�ش ال ميكنها البقاء‬ ‫�رشيك ًا �سلبي ًا‪ ،‬بل عليها التحرك واالقرتاب �أكرث من النظام‬ ‫ال عن ذلك‪� ،‬إن اجليو�ش تقوم‬ ‫ال�سيا�سي (‪ .)2002‬ف�ض ً‬ ‫بالتحاور مبا�رشة مع ال�شعب ب�أ�سلوب �أدى �إىل تعديل‬ ‫العالقات الع�سكرية ــ الإعالمية يف «ع�رص ما بعد احلداثة»‬ ‫من طريقة احتكار اجلي�ش للإعالم (�ضمن �إجراء تبادل‬ ‫للقيود الإعالمية يف مقابل الو�صول �إىل املعلومات)‪� ،‬إىل‬ ‫طريقة جديدة يجري فيها «التودد» لو�سائل الإعالم من قبل‬ ‫اجلي�ش‪ ،‬الذي تبنى �أ�ساليب العالقات العامة (مو�سكو�س‪،‬‬ ‫‪ .)2000‬هذا التغيري يعني‪ ،‬من بني جملة �أمور‪� ،‬أن حوار ًا‬ ‫ويعدل‪ ،‬النموذج‬ ‫مبا�رش ًا بني اجلي�ش وال�شعب قد ي�ؤثر يف‪ِّ ،‬‬ ‫�سابقا‬ ‫التقليدي لل�سيطرة املدنية التي كان قد تو�سط بها‬ ‫ً‬ ‫ال�سيا�سيون (انظر جون�سون وميتز‪.)1995 ،‬‬ ‫الت�سليع‬ ‫�إن النموذج التقليدي لـ«املواطن ــ اجلندي»‪ ،‬املبني على‬ ‫�أ�سا�س ال�سيطرة ال�سيا�سية‪ ،‬يحل حمله‪ ،‬تدريجي ًا‪ ،‬منوذج‬ ‫جديد هو �سيطرة ال�سوق‪ .‬فاملراقبة ذات التوجه ال�سوقي‬ ‫للجي�ش‪� ،‬إخ�ضاع اجلي�ش لتناف�س ال�سوق‪ ،‬وت�سليع‬ ‫اخلدمة الع�سكرية ــ مع الآثار ال�سيا�سية املرتتبة على‬ ‫ذلك ــ كلها جت�سد خ�صائ�ص نوع ال�سيطرة اجلديدة‪.‬‬ ‫ويف حني �أن النموذج اجلمهوري يت�سم بامل�شاركة‬ ‫ال�سيا�سية املبا�رشة تتو�سطها م�ؤ�س�سات �سيا�سية تهدف‬ ‫�إىل ت�شكيل �سيا�سات تتعلق بال�سلم واحلرب من خالل‬ ‫مراقبة اجلي�ش‪ ،‬ف�إن �سيطرة ال�سوق تت�سم بال�ضغوط‬

‫ ‪ 69‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫اجلماعات املهم�شة من املثليني جن�سي ًا والن�ساء يف �إزالة‬ ‫القيود املوجودة على ترقياتهم داخل اجلي�ش‪.‬‬ ‫يج�سد جوهر‬ ‫ هذا النموذج اخلارج عن امل�ؤ�س�ساتية‬ ‫ّ‬ ‫ال�سيطرة اجلمهورية‪ .‬فمعظم اجلماعات االجتماعية املنخرطة‬ ‫يف عملية املراقبة هذه كانوا من �أهايل جنود االحتياط‬ ‫واملجندين الذين دعموا وعززوا م�شاركتهم الع�سكرية وهم‬ ‫ي�ضحون للتعبري عن مزاعمهم ب�أ�سلوب ي�ؤثر يف �أداء جي�ش‬ ‫ّ‬ ‫الدفاع الإ�رسائيلي لوظيفته‪ .‬وقد ك�شف الع�رص الذهبي‬ ‫للجمهورية عن نف�سه‪� ،‬إىل حد ما‪ ،‬بعد حرب لبنان الأوىل‬ ‫عام ‪ .1982‬فبعد عدة �أ�سابيع من اندالع احلرب‪ ،‬برزت‬ ‫حركات احتجاج‪ ،‬حمورها حركة «ال�سالم الآن» الرا�سخة‬ ‫�أكرث من غريها (�أ�س�ست عام ‪ ،)1978‬للتظاهر �ضد حتول‬ ‫احلرب يف لبنان من عملية �رسيعة �إىل حماولة لت�شكيل‬ ‫«نظام جديد»‪ ،‬والذي و�صل �إىل ذروته يف ح�صار بريوت‪.‬‬ ‫وعن طريق املطالبة ببديل للطريقة الع�سكرية املقبولة‪،‬‬ ‫و�سعت هذه احلركات نطاق انتقادها ال لي�شمل فقط طريقة‬ ‫َّ‬ ‫عمل اجلي�ش و�إمنا هدفه نف�سه (انظر هيلمان‪.)1999 ،‬‬ ‫�أما الأمر املحوري يف هذا النقا�ش فكان تعريف احلرب‬ ‫كـ«حرب خيار»‪ ،‬املتميز عما كان يو�صف به �سابق ًا‪� ،‬أي‪ ‬حرب‬ ‫الالخيار»‪ ،‬وبالتايل غر�س مفهوم البديل للعدوانية‪.‬‬ ‫ مع هذا التغيري‪� ،‬أ�صبحت املراقبة امل�ؤ�س�ساتية خمولة‬ ‫ال�صالحيات‪ ،‬بدجمها قيم ًا جديدة يف الأ�سلوب الذي‬ ‫كانت ت�سيطر به على اجلي�ش �سيا�سي ًا‪ .‬عملي ًا‪ ،‬ومنذ حرب‬ ‫‪ ،1982‬ت�آكلت ا�ستقاللية الدولة الداخلية يف توجيه‬ ‫وتنفيذ ال�سيا�سات الع�سكرية‪ .‬وو�صلت هذه الظاهرة‬ ‫�إىل ذروتها يف �أواخر الت�سعينيات مع حركة «الأمهات‬ ‫املكونة بغالبيتها من �أمهات اجلنود الذين‬ ‫الأرب��ع»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫خدموا يف لبنان اللواتي تظاهرن �ضد ما اعتربنه ت�ضحية‬ ‫ال معنى لها يف احلرب اجلارية يف لبنان‪ .‬وكانت تظاهرة‬ ‫«الأمهات الأربع» احد العوامل التي دفعت احلكومة �إىل‬ ‫اتخاذ قرار ب�سحب اجلي�ش الإ�رسائيلي �أحادي ًا من لبنان‬ ‫يف العام ‪ ،2000‬بعد ‪ 18‬عام ًا من احلرب‪.‬‬ ‫ مع ذلك‪ ،‬ورغم القيود امل�ؤ�س�ساتية على جي�ش الدفاع‬ ‫الإ�رسائيلي‪ ،‬ورغم التحدي للع�سكرة الثقافية‪ ،‬ا�ستعاد الفكر‬ ‫الع�سكري تفوقه على الفكر املدين‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فقد �صيغ اتفاق‬ ‫�أو�سلو كاتفاق ع�سكري‪ ،‬مع ت�أكيد �أكرب على الأمن منه على‬ ‫االقت�صادات والقدرة ال�سيا�سية على �إدارة الدولة (مايكل‪،‬‬ ‫‪ .)٢٠٠٧‬الحق ًا‪ ،‬وعندما اندلعت انتفا�ضة الأق�صى‪،‬‬ ‫�أملى اجلرناالت �أوامرهم برد هجومي على ال�صدامات مع‬ ‫الفل�سطينيني يف الوقت الذي ظل فيه ال�سيا�سيون �صامتني‬


‫(ب�يري‪ .)٢٠٠٦ ،‬وب��ال��ت��ايل كانت ترتيبات الإ��شراف‬ ‫امل�ؤ�س�ساتي على امل�ستوى ال�سيا�سي �أقل �أهمية عندها‪.‬‬ ‫وللمفارقة‪� ،‬ساهمت ع�سكرة احلياة ال�سيا�سية‪ ،‬و�إىل حد‬ ‫كبري‪ ،‬مبراقبة اجلي�ش‪ ،‬ولي�س العك�س‪ .‬لقد رفعت وعي اجلي�ش‬ ‫و�إدراكه ل�رضورة �إبراز نف�سه كم�ؤ�س�سة �شاملة‪� ،‬سيا�سية تقوم‬ ‫مبناق�صات احلكومة‪ ،‬وخلقت اعتماد ًا على ال�صف ال�سيا�سي‬ ‫ب�صفته م�صدر املوارد للجي�ش واملزود له (ليفي‪.)١٩٩٧ ،‬‬ ‫ تلخ�ص حرب لبنان الثانية املرحلة الثالثة يف تطور‬ ‫ال�سيطرة ال�سيا�سية‪ ،‬بعد املراحل امل�ؤ�س�ساتية واخلارجة‬ ‫ميزت العملية االنتقالية من‬ ‫عن امل�ؤ�س�سات التي َّ‬ ‫ال�سيطرة اجلمهورية �إىل �سيطرة ال�سوق‪.‬‬ ‫�سيطرة ال�سوق خالل احلرب وبعدها‬ ‫�أ ّث��رت العنا�رص املت�أ�صلة يف �أعرا�ض �سيطرة ال�سوق‬ ‫يف الأ�سلوب الذي كانت تدار به احلرب كما �أ ّثرت يف‬ ‫العالقات الع�سكرية ــ االجتماعية الحق ًا على غرار‬ ‫النماذج الثالثة يف الق�سم النظري‪ :‬املراقبة ذات التوجه‬ ‫ال�سوقي‪ ،‬التناف�س على غرار ال�سوق‪ ،‬والت�سليع‪.‬‬ ‫ �إن التعديل االجتماعي جلي�ش الدفاع الإ�رسائيلي‬ ‫مثال ممتاز عن التمييز بني «الت�ضحية باملال» و«الت�ضحية‬ ‫اجل�سدية»‪.‬فمنذ حرب ‪ ،١٩٨٢‬كانت طبقة الأ�شكيناز‬ ‫العلمانية الو�سطى ــ اجلماعة االجتماعية املهيمنة التي‬ ‫�أ�س�ست جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي‪ ،‬و�شغلت �أعلى املراتب‬ ‫فيه وعرفت ب�إجنازاتها يف اجلي�ش ــ تن�أى بنف�سها تدريجي ًا‬ ‫عن اخلدمة الع�سكرية وترف�ض اجلي�ش ك�سبيل وم�سار‬ ‫وظيفي‪ .‬وقد �ساهم ال�ضعف الذي �أثبته اجلي�ش يف حرب‬ ‫‪ ،١٩٧٣‬والذي ت�ضخم الحق ًا يف لبنان ويف االنتفا�ضة‬ ‫الأوىل (‪ )١٩٩٣-١٩٨٧‬بت�آكل هيبة اجلي�ش والدافع �إىل‬ ‫اخلدمة الع�سكرية‪.‬‬ ‫ ا�شتدت هذه العملية مع اخرتاق العوملة االقت�صادية‬ ‫والثقافية للمجتمع الإ�رسائيلي بدء ًا من منت�صف الثمانينيات‪،‬‬ ‫والتغيريات البنيوية يف االقت�صاد يف روح العقيدة الليربالية‬ ‫اجلديدة التي مت تقدميها �آنذاك‪ .‬لقد عززت العوملة �أخالقيات‬ ‫اقت�صاد ال�سوق بخطابه احلامل‪ ‬للخ�صائ�ص الليربالية‬ ‫والذي حتدى الرموز وااللتزامات اجلماعية ال�سابقة (رام‪،‬‬ ‫ال يف الدور‬ ‫‪� .)2005‬أما النتيجة الإجمالية فكانت ت�آك ً‬ ‫التاريخي للجي�ش يف تعريف وحتديد الهرمية االجتماعية‬ ‫لإ�رسائيل التي بوا�سطتها حتولت املكانة الع�سكرية �إىل‬ ‫مكانة اجتماعية مدنية وحمددة اجلماعات االجتماعية‬ ‫املهيمنة والهام�شية‪� .‬أما الآن‪ ،‬ف�إن قيمة م�ساهمة املرء يف‬

‫ ‪ 70‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫هذا التوجه من ال�صعود املثري حلزب «ال�شينوي» لطبقة‬ ‫الأ�شكيناز الو�سطى يف انتخابات ‪ .2003‬فقد �شدد‬ ‫برنامج «ال�شينوي» على �سيا�سات حت�سني م�ستوى العي�ش‬ ‫لناخبيه‪ ،‬حتديد ًا اجلنود ال�سابقني من الطبقة الو�سطى‬ ‫ــ العليا‪ .‬وك��ان‪ ‬حزب «ال�شينوي» متحم�س ًا ب�سبب‬ ‫العبء‪ ‬املزدوج لدى ناخبيه‪ ،‬امل�ؤلف من العبء ال�رضيبي‬ ‫واخلدمة الع�سكرية ــ خا�صة يف �صفوف االحتياط‪ ،‬حيث‬ ‫الطبقة الو�سطى ــ العليا كانت ال تزال مفرطة التمثيل‪.‬‬ ‫ وحتى عندما كان اجلي�ش يخو�ض حرب ًا �ضد الفل�سطينيني‪،‬‬ ‫فقد عادت االنتقادات ملوارده �إىل الظهور بطريقة �أ�شد و�أكرث‬ ‫كثافة‪ ،‬وظهرت يف الهجوم على �رشوط التوظيف التي يتمتع‬ ‫بها �أ�شخا�ص يف اخلدمة املهنية واحلزمات التقاعدية املالئمة‬ ‫لهم‪ .‬بالتوازي مع ذلك‪� ،‬صادقت احلكومة على اقتطاع يف‬ ‫املوازنة الع�سكرية‪ ،‬يف الوقت نف�سه الذي توفر فيه �إعانة‬ ‫�رضيبية ل�صالح الطبقة الو�سطى وما فوق‪ .‬هنا �أي�ض ًا كانت‬ ‫املوازنة الع�سكرية خا�ضعة ملبادئ الليربالية اجلديدة «حلكومة‬ ‫�صغرية» والقوة ال�رشائية العامة القوية‪ ،‬برغم انخراط جي�ش‬ ‫الدفاع الإ�رسائيلي يف املناو�شات وال�صدامات اجلارية (على‬ ‫�سبيل الأمثلة‪ ،‬انظر بلوكر‪.)2003 ،‬‬ ‫ عندها ال عجب �أن يكون جنود االحتياط املر�سلون‬ ‫�إىل املعركة خالل حرب لبنان الثانية قد وجدوا �أنف�سهم‬ ‫مبعدات وجتهيزات متدنية‬ ‫من دون جهوزية ويقاتلون ّ‬ ‫ال عن‬ ‫ف�ض‬ ‫‪.)53-51‬‬ ‫النوعية (جلنة فينوغراد‪� ،‬صفحة‬ ‫ً‬ ‫«امل�ضحون باملال»‬ ‫ذلك‪ ،‬وكما ك�شفت احلرب‪ ،‬فقد حتدى‬ ‫ّ‬ ‫الفكر الع�سكري‪ ،‬ب�شكل رئي�س‪ ،‬عن طريق الت�سا�ؤل‬ ‫حول م��وارده‪ .‬وقد جتنبت احلكومة حتى الإع�لان عن‬ ‫حالة طوارئ كو�سيلة لتجنب التعوي�ض على ال�سكان‬ ‫وامل�صالح التجارية عن الأ�رضار املالية الناجمة التي‬ ‫ت�سببت فيها احلرب‪ ،‬و�إحلاق ال�رضر بالت�صنيف االئتماين‬ ‫لإ�رسائيل يف الأ�سواق املالية العاملية (انظر �شهادة الوزير‬ ‫رايف �إيتان يف جلنة فينوغراد‪� ،‬صفحة ‪ .)25‬ومل تغب‬ ‫قيود املوازنة عن نظر احلكومة �إطالق ًا‪ ،‬حتى خالل احلرب‪.‬‬ ‫ الحق ًا‪� ،‬أجرى �سيفر بلوكر‪ ،‬وهو حمرر �صحايف يف‬ ‫�صحيفة يديعوت �أحرونوت‪� ،‬أكرث ال�صحف الإ�رسائيلية‬ ‫ال حول مكا�سب احلرب وكلفتها كو�سيلة‬ ‫�شعبية‪ ،‬حتلي ً‬ ‫لتحدي قرار احلكومة واالعرتا�ض على قرار زيادة موازنة‬ ‫الدفاع بعد احل��رب‪ .‬واحت�سب بلوكر �أن مقتل ‪250‬‬ ‫ال حلزب الله (العدد الذي ذكرته املنظمة يف تقاريرها)‬ ‫مقات ً‬ ‫ي�ساوي �إنفاق ‪ 3.5‬مليارات دوالر‪ ،‬ما يعني �أن قتل‬ ‫�إرهابي واحد ك ّلف �إ�رسائيل ‪ 14‬مليون دوالر‪ .‬وي�ؤكد‬

‫الدولة من خالل اخلدمة الع�سكرية مل تعد بال�رضورة‬ ‫املعيار الذي يحدد توزيع ال�سلع االجتماعية ويربر الهيمنة‬ ‫االجتماعية ملجموعة على ح�ساب �أخرى‪ .‬لقد حل الإجناز‬ ‫الفردي مكان اختبار امل�ساهمة الوطنية (�شافري وبيليد‪،‬‬ ‫‪ .)2002‬وفاقم اتفاق �أو�سلو (‪1993‬ـ��ـ‪ )1999‬من‬ ‫هذا التوجه‪ ،‬و�أ ّدت «�أزمة الدافع» الناجمة عنها �إىل هبوط‬ ‫�أكرب يف عدد اجلماعات العلمانية من الطبقة الو�سطى يف‬ ‫الوحدات القتالية (انظر نيفو و�شور‪.)2002 ،‬‬ ‫ خالل الت�سعينيات‪ ،‬ملأت الفراغ الذي �أحدثه تراجع‬ ‫الطبقة الو�سطى العلمانية جمموعات كانت ُت�سند �إليها‬ ‫�سابق ًا �أدور هام�شية يف اجلي�ش‪:‬‬ ‫ مزراحيم (املهاجرون من بلدان عربية) يف �أقل‬ ‫ال؛‬ ‫القطاعات تنق ً‬ ‫ الأ�شكيناز املتدينون ــ الوطنيون‪ ،‬حتديد ًا ال�شباب‬ ‫املتدينني غري احلريدمي (املتدينون املت�شددون)‪ ،‬بع�ضهم‬ ‫ممن كانوا طالب مدار�س دينية؛‬ ‫ املهاجرون يف الآونة الأخ�يرة‪ ،‬حتديد ًا من االحتاد‬ ‫ال�سوفياتي ال�سابق و�إثيوبيا؛‬ ‫ ال��دروز والبدو‪ ،‬الذين هم جزء من الأقلية غري‬ ‫اليهودية يف �إ�رسائيل؛‪ ‬‬ ‫ الن�ساء‪ ،‬رغم �أن ذلك كان يح�صل ب�شكل تدريجي‬ ‫(البحث يف �إعادة التنظيم االجتماعي م�ستمد من ليفي‪،‬‬ ‫‪� ،2007‬صفحة ‪.)90-77‬‬ ‫ هذا التغيري ملأ اجلي�ش مبجموعات موالية للطريقة‬ ‫الع�سكرية‪� .‬إذ جاهدت هذه املجموعات اجلديدة لبناء‬ ‫هويتها املحاربة الفريدة ملواءمتها مع قيمة الدفع‬ ‫قدم ًا بـ«ال�صالح العام»‪ ،‬الذي كان يعترب قيمة بحد‬ ‫ذاته‪ .‬فالرغبة بالنجاح يف اجلي�ش جعلت التوجهات‬ ‫ال�سيا�سية وحتى الأخالقية ال�سابقة تبدو �ضبابية‪ .‬وكما‬ ‫�أ�شاد عدد من �أفرادها بالقيم الوطنية‪ ،‬فقد اعتربت هذه‬ ‫املجموعات اخلدمة الع�سكرية مبثابة و�سيلة لتحقيق‬ ‫قيمها الإيديولوجية عن طريق حماية حدود «�إ�رسائيل‬ ‫الكربى» يف مقابل العامل العربي العدائي على ما يبدو‪.‬‬ ‫ ب�سبب الرتكيبة اجلديدة جلي�ش الدفاع الإ�رسائيلي‪،‬‬ ‫�أ�صبحت الت�ضحية «باجل�سد» يف مقابل‪ ‬الت�ضحية «باملال»‬ ‫متمايزتني ومل تعودا متداخلتني‪ ،‬تغيري كان له �آثاره بالن�سبة‬ ‫�إىل ال�سيطرة ال�سيا�سية على جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي‪.‬‬ ‫«امل�ضحني باملال» هم املعنيون غالب ًا مبوارد اجلي�ش‬ ‫ �إن‬ ‫ّ‬ ‫كدافعي ال�رضائب و�أولئك الذين يتحملون العبء الأكرب‬ ‫للتباط�ؤ االقت�صادي يف زمن احلرب‪ .‬وال �شيء �أو�ضح يف‬

‫ ‪ 71‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫بلوكر‪� ،‬أنه كان ب�إمكان �إ�رسائيل �رشاء تقاعد ‪2000‬‬ ‫من مقاتلي حزب الله مبليار دوالر ــ وتوفري مبلغ ‪2.5‬‬ ‫مليار دوالر على االقت�صاد‪ .‬و�أن هذا الأمر «كان ليح�صل‬ ‫من دون حرب‪ .»...‬مع ذلك‪ ،‬ويف �ضوء جو الطوارئ الذي‬ ‫�أعقب احلرب‪ ،‬ومع التوقعات بوقوع جولة �أخرى من‬ ‫الأعمال العدائية‪ ،‬ظلت الأ�صوات ذات التوجه ال�سوقي‬ ‫�صامتة م�ؤقت ًا‪ ،‬لكن بذور ان�شقاقها كانت قد زرعت‪.‬‬ ‫عينت احلكومة جلنة خا�صة‬ ‫ وبعد �أ�شهر قليلة من احلرب‪ّ ،‬‬ ‫(جلنة بروديت‪ )2007 ،‬لدر�س موازنة الدفاع‪ .‬ووجدت‬ ‫اللجنة بع�ض ال�شوائب الهامة يف الإدارة االقت�صادية جلي�ش‬ ‫الدفاع الإ�رسائيلي وانتقدته ب�سبب ق�صفه غري الفعال‬ ‫للقذائف والقنابل‪ ،‬وانتقدت هيكلية الرواتب غري الفعالة‪،‬‬ ‫االفتقار حل�سابات الكلفة املجدية‪ ،‬اال�ستخدام غري ال�سليم‬ ‫اله�ش‪ ،‬و�أمور ًا‬ ‫وغري املفيد للموارد املوجودة‪ ،‬بناء القوة‬ ‫ّ‬ ‫�أخرى �أي�ض ًا‪ .‬عملي ًا‪ ،‬دعت اللجنة �إىل �إخ�ضاع �إدارة جي�ش‬ ‫الدفاع الإ�رسائيلي �إىل قيود اقت�صاد ال�سوق‪ .‬وقد �أ�شارت‬ ‫هذه التو�صيات‪� ،‬إىل حد ما‪� ،‬إىل انت�صار «امل�ضحني باملال»‪.‬‬ ‫«امل�ضحون باجل�سد»‪ ،‬الذين‬ ‫ من جهة �أخرى‪ ،‬التزم‬ ‫ّ‬ ‫ت�شكل اجلماعات الدينية الوطنية ع�صبهم‪ ،‬بالنموذج‬ ‫التقليدي للمواطن ــ اجلندي اجلمهوري‪ .‬ووفق هذا‬ ‫النموذج‪ ،‬ينبغي �أن ي�رشف على اجلي�ش اجلنو ُد الذين‬ ‫ي�شكلون �صفوفه‪� ،‬إن مل يكن مبا�رشة (كما يف جنود‬ ‫االحتياط)‪ ،‬فعلى الأقل بطريقة غري مبا�رشة من خالل‬ ‫�شبكاتهم االجتماعية‪ .‬وع�شية فك االرتباط الأحادي‬ ‫عن قطاع غزة �صيف ‪( 2005‬ال��ذي �شمل �إخالء‬ ‫امل�ستوطنات اليهودية)‪ ،‬ك�شف منوذج ال�سيطرة ال�سيا�سية‬ ‫ه��ذا عن نف�سه يف حم��اوالت املع�سكر الديني كبح‬ ‫االن�سحاب عن طريق ت�شجيع اجلنود على ع�صيان �أوامر‬ ‫الإخالء‪ .‬ولأنه كان مقيد ًا بهذه املحاولة من قبل جمموعة‬ ‫عدل جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي‬ ‫بارزة يف اجلي�ش‪ ،‬فقد َّ‬ ‫ا�سرتاتيجيته للإخالء (ليفي‪� ،2007 ،‬صفحة ‪-245‬‬ ‫‪ .)279‬وخالل احلرب على لبنان‪ ،‬ت�صاعد هذا االلتزام‬ ‫اجلمهوري وق��اد بع�ض اجلنود املتدينني‪ ،‬من بينهم‬ ‫م�ستوطنون‪� ،‬إىل التهديد برف�ض القتال �إال �إذا تراجع‬ ‫رئي�س الوزراء �أوملرت عن �إعالنه ب�أن نتائج احلرب يف‬ ‫لبنان �ستعزز‪« ‬خطة االلتقاء»‪ ،‬حتديد ًا خطة االن�سحاب‬ ‫�أحادي ًا من جزء من ال�ضفة الغربية (وي�س وحداد‪،‬‬ ‫‪ .)2007‬بالواقع‪ ،‬لقد امتثل �أوملرت لهذا الإنذار‪ ،‬الذي‬ ‫اثبت مدى فاعلية ال�سيطرة‪ ‬والتحكم «من الداخل»‪.‬‬ ‫«امل�ضحون باجل�سد» للدولة‬ ‫ مع ذلك‪ ،‬فقد �سمح‬ ‫ّ‬


‫با�ستعادة ا�ستقالليتها الداخلية يف املجال الع�سكري‪،‬‬ ‫كما تثبت طريقة االحتجاجات‪.‬‬ ‫ ما �إن و�صل اال�صطفاف االجتماعي جلي�ش الدفاع‬ ‫الإ�رسائيلي �إىل ذروته يف �أواخ��ر الت�سعينيات‪ ،‬حتى‬ ‫ا�ستعادت الدولة كثري ًا من قوتها و�سلطتها امل�ستقلة‬ ‫لإدارة �سيا�ساتها الع�سكرية‪ .‬وعلى عك�س حرب‬ ‫‪ 1982‬واالنتفا�ضة الأوىل (‪،)1993-1987‬‬ ‫كانت حركة ال�سالم خالل انتفا�ضة الأق�صى‪( ‬من العام‬ ‫‪� )2000‬صامتة متام ًا تقريب ًا‪ ،‬ومل يكن ملنظمة عامة‬ ‫للجنود �أو لأهاليهم �أي ت�أثري هام يف ال�ساحة ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫ بعد حرب لبنان الثانية‪ ،‬كان جنود االحتياط �أول من‬ ‫تظاهر �ضد الأداء املتوا�ضع جلي�ش الدفاع الإ�رسائيلي‪.‬‬ ‫مع ذلك‪ ،‬فقد تركت الرتكيبة املتغرية للجي�ش ب�صمتها‬ ‫على جنود االحتياط‪ ،‬الذين وظف الناطقون با�سمهم‬ ‫لهجة �أكرث �صقورية من املا�ضي‪ .‬لقد برروا احلرب لكنهم‬ ‫انتقدوا �إدارتها التي قادت �إىل ف�شل مت�صور‪ .‬ومل يطرح‬ ‫التربير للحرب خالل حرب لبنان الثانية‪ .‬وفق ًا لذلك‪،‬‬ ‫وبدعم من العائالت الثكلى‪� ،‬أحلت املنظمات التابعة‬ ‫جلنود االحتياط على ت�أ�سي�س جلنة م�ساءلة حكومية‬ ‫للتحقيق ب�إدارة احلرب‪ ،‬مطلب متت تلبيته جزئي ًا‪.‬‬ ‫ ويف �أ�سلوب خمتلف‪ ،‬ارتفعت امل�ساومة بني اجلي�ش‬ ‫وحركته االجتماعية �إىل م�ستوى جديد‪ .‬فحتى ذلك‬ ‫احلني‪ ،‬كانت امل�ساومة جتري حول �رشوط اخلدمة على‬ ‫امل�ستويني‪ ،‬الفردي واجلماعي‪� ،‬أو حول الطبيعة ال�سيا�سية‬ ‫للمهمات امل�صادق عليها من قبل ال�صف ال�سيا�سي‪ .‬يف‬ ‫كل الأحوال‪ ،‬ومبا يتعلق بعمل اجلي�ش و�أدائه‪ ،‬فقد كانت‬ ‫مقيدة بق�ضايا خارجة عن �صلب عمل اجلي�ش‬ ‫امل�ساومة ّ‬ ‫و�أدائه‪ ،‬كاحلوادث �أو التحر�شات اجلن�سية‪ .‬رغم ذلك فقد‬ ‫متت امل�ساومة على الأ�سا�س االحرتايف للجي�ش الآن‪ ،‬ال‬ ‫�سيما �أدا�ؤه يف احلرب‪ .‬فبالن�سبة �إىل االحتياط على �أقل‬ ‫ّ‬ ‫تقدير‪ ،‬كانت هذه امل�ساومة على ا�ستعدادهم لتلبية النداء‬ ‫عند اال�ستدعاء للخدمة يف امل�ستقبل م�رشوطة �ضمني ًا‬ ‫بالتح�سينات يف الإدارة املهنية واالحرتافية جلي�ش‬ ‫الدفاع الإ�رسائيلي‪ .‬وكانت العوائق التي ميكن امل�ساومة‬ ‫عليها �أدنى مما كانت عليه يف املا�ضي‪.‬‬ ‫ �إن الرتكيبة اجلديدة جلي�ش الدفاع الإ�رسائيلي‬ ‫لي�ست املو�ضوع الوحيد الذي له �صلة بالطريقة اجلديدة‬ ‫لالحتجاجات و�إمنا الرتكيبة االجتماعية �أي�ض ًا ل�ضحايا‬ ‫اجلي�ش يف القتال‪ .‬فقد هبطت خ�سائر اجلي�ش خالل حرب‬ ‫لبنان الثانية من الطبقة الو�سطى العلمانية (الأ�شكيناز‬

‫ ‪ 72‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫التناف�س على غرار ال�سوق‬ ‫غي جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي‬ ‫كونه عمل يف بيئة تناف�سية‪َ ،‬رّ‬ ‫طريقة عمله‪ .‬ففي �ضوء التوقعات يف �أو�ساط دافعي‬ ‫ال�رضائب املدنيني ب�أنه ينبغي حتميل امل�س�ؤولية واملحا�سبة‬ ‫ملن يوفر الأمن‪ ،‬دخل كبار العاملني يف اجلي�ش امل�ساومة‬ ‫املبا�رشة مع مواطنيه ــ الزبائن كطريقة تناف�س على‬ ‫املوارد وال�رشعية‪ .‬وبالكاد يكون م�ستغرب ًا‪� ،‬إذ ًا‪� ،‬أن يكون‬ ‫ر�ؤ�ساء هيئة الأركان يف العقد الأخري من القرن املا�ضي‬ ‫قد رعوا مفهوم ًا جديد ًا لدورهم وعززوه‪ .‬لقد بد�أوا بالنظر‬ ‫�إىل �أنف�سهم على �أنهم مدينون بالف�ضل لل�شعب‪ ،‬ولي�س‬ ‫ي�شددون على هذه النقطة يف تعليقات‬ ‫للحكومة‪ ،‬حتى �أنهم ّ‬ ‫عامة علنية معينة‪ .‬وفق ًا لذلك‪ ،‬تعر�ض ه�ؤالء لالنتقاد ب�سبب‬ ‫كونهم «ر�ؤ�ساء هيئة �أركان �سيا�سيني» (انظر على �سبيل‬ ‫املثال مقاربة ال�ضباط يف ندوة موثقة من قبل نيفو و�شور‪،‬‬ ‫‪ .)2003‬يف كل الأحوال‪ ،‬مل يكونوا خمتلفني بذلك عمن‬ ‫�سبقوهم بالطريقة التي �أداروا فيها ال�ش�ؤون الع�سكرية‪،‬‬ ‫و�إمنا فقط يف البيئة التي نقلوا ر�سائلهم بها من خاللها‪.‬‬ ‫ كذلك قاد حوارهم مع العامة ر�ؤ�ساء اجلي�ش �إىل تقا�سم‬ ‫�آرائهم غري املعاجلة‪ ،‬بالدرجة الأوىل‪ ،‬من دون االعتماد‬ ‫على و�ساطة �سيا�سيني (على �سبيل املثال‪ ،‬ت�رصيحات‬ ‫رئي�س هيئة الأرك���ان مو�شيه يعالون ح��ول خماطر‬ ‫االن�سحاب الأحادي من قطاع غزة)‪ .‬لقد ا�صطدم حق‬ ‫ال�شعب باملعرفة مع �أ�س�س الإ�رشاف التقليدية على اجلي�ش‪،‬‬ ‫ومع الأ�س�س التي تتجه نحو خلق تق�سيم‪ ،‬ومو�ضعة �آليات‬ ‫الو�ساطة ال�سيا�سية بني قادة اجلي�ش وال�شعب و�إلغاء حقوق‬ ‫اجلنود باالختالف علن ًا مع من هم �أرفع منهم �سيا�سي ًا‪.‬‬ ‫ مع هذا النموذج من الوالء املبا�رش جتاه العامة‪ ،‬ابتعد‬ ‫اجلي�ش �أي�ض ًا عن عالقته امل�ترددة مع الإع�لام وتب ّنى‬ ‫عالقات �أكرث قرب ًا منها بكثري‪� ،‬إىل درجة الت�سويق‬ ‫للجي�ش ب�شكل فاعل ونا�شط من خالل الإعالم‪ .‬وميثل‬ ‫ال من التالعب �إىل املغازلة بح�سب‬ ‫حترك كهذا انتقا ً‬ ‫تعبري مو�سكو�س‪ .‬وقد انت�رشت الفكرة اال�ستهالكية‪ ‬‬ ‫لـ«الت�سويق املبا�رش» �إىل القطاع الع�سكري‪.‬‬ ‫ خالل حرب لبنان الثانية‪ ،‬لعب الإعالم دور ًا �أكرب‬ ‫يف ك�شف الث َغر والإخفاقات الت�شغيلية ب�شكل منهجي‪،‬‬ ‫كا�صطدام املروحيات‪ ،‬االفتقار للدفاعات الإلكرتونية‬ ‫على منت �سفينة �صواريخ والذي �أدى �إىل �رضبها بوا�سطة‬ ‫�صاروخ‪� ،‬شكاوى جنود االحتياط مبا يتعلق مب�ستوى‬ ‫تدريبهم وجتهيزاتهم‪ ،‬االحتكاكات بني اجلرناالت‪� ،‬إىل‬ ‫ما هنالك‪ .‬وقد و�صل االخرتاق الإعالمي للجي�ش �إىل‬

‫العلمانية وامليزراحيم املتنقلة) من ‪� %70‬إىل ‪ %54‬ن�سبة‬ ‫�إىل الأ�سبوع الأول من حرب ‪ ،1982‬وهذا انحدار‬ ‫�أكرب وال ب�أ�س به من االنخفا�ض الن�سبي يف هذا الوزن‬ ‫الدميغرايف لهذه الطبقة الو�سطى‪ .‬وقد ملأت اجلماعات‬ ‫الدينية والهام�شية هذه الفجوة (ليفي‪� ،2007 ،‬صفحة‬ ‫‪ .)232-229‬هذا التغيري االجتماعي انعك�س يف‬ ‫�إعادة ت�شكيل الأخالقيات امل�سلوبة التي كانت منعك�سة‬ ‫�أ�سا�س ًا يف انتفا�ضة الأق�صى‪ ،‬من تظاهرة ت�ساءلت �إن‬ ‫كانت احلرب عادلة (على منط حرب لبنان الأوىل)‪� ،‬إىل‬ ‫تظاهرة تتقبل الت�ضحية وحتى ا�ستعرا�ض الفخر والعزة‬ ‫وحد االحتجاجات باجلانب الفعال لأداء‬ ‫بهذه الت�ضحية‪َّ ،‬‬ ‫جي�ش الدفاع (‪� ،ibid‬صفحة ‪.)131-128‬‬ ‫ال عن ذلك‪� ،‬ساهمت احلرب يف ك�رس املحرمات‬ ‫ ف�ض ً‬ ‫ويف كون الرتكيبة االجتماعية لل�ضحايا لي�ست على‬ ‫الأجندة العامة‪ .‬فللمرة الأوىل‪ ،‬بحث اخلطاب العام‬ ‫التمثيل الطبقي ــ الأخالقي لل�ضحايا‪ .‬هذا اخلطاب‬ ‫معينة �ضد‬ ‫ترافق مع تعليقات �شائكة �أطلقتها جمموعات ّ‬ ‫النخبة ال�سابقة يف اخلدمة الع�سكرية الذين هم ب�أ�سا�سهم‬ ‫من الأ�شكيناز العلمانيني ــ تعليقات من حركة الكيبوتز‬ ‫ب�شكل رئي�س (الذين زادوا من ح�صتهم بني ال�ضحايا)‬ ‫وقيادة اجلماعات املتدينة وامل�ستوطنني‪ .‬كانت هذه‬ ‫هي خلفية االنتقاد الذي وجهه رئي�س مديرية �ش�ؤون‬ ‫املوظفني يف جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي‪ ،‬اجلرنال �أليعازر‬ ‫ال من عائالت املتطوعني يف تل‬ ‫�سترين‪ ،‬ومفاده �أن �أطفا ً‬ ‫�أبيب‪ ،‬قلب الطبقة الو�سطى ــ العليا‪ ،‬مل يكونوا ممثلني يف‬ ‫عداد وفيات جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي‪ ،‬ما حفز بالتايل‬ ‫على �إث��ارة جدل عام‪ .‬رداً على ذلك‪�ُ ،‬سمعت �أ�صوات‬ ‫تعب عن الطبقة الو�سطى ــ العليا وهي تقول ب�أن «تل‬ ‫رِّ‬ ‫�أبيب» ترمز �إىل طريقة بديلة من امل�ساهمة املدنية �إزاء‬ ‫املجتمع‪� ،‬أو حتى ت�صنع م�ساهمة ع�سكرية ال تهدد احلياة‬ ‫يف القطاعات التقنية للجي�ش‪ّ .‬‬ ‫�شكل هذا النقا�ش ُبعد ًا‬ ‫�آخر خلطاب الفجيعة اجلديد الذي رفع من �ش�أن اخل�سارة‬ ‫ال من �أن تكون م�صدر‬ ‫وا�ستفاد منها كم�صدر فخر وقوة بد ً‬ ‫طاقة �سيا�سية م�ستخدمة لنزع ال�رشعية عن حالة احلرب‪.‬‬ ‫«امل�ضحني باملال» يف �أو�ساط الطبقة‬ ‫ � ّإن ال مباالة‬ ‫ّ‬ ‫الو�سطى‪ ،‬والقاعدة ال�ضيقة «للم�ضحني باجل�سد» من‬ ‫لـ«امل�ضحني باجل�سد» �أمور‬ ‫بينهم‪ ،‬والتوجه القومي‬ ‫ّ‬ ‫عملت كلها على تو�سيع حرية اجلي�ش بالعمل‪� .‬أما قيود‬ ‫«امل�ضحني‬ ‫هذه احلرية فيمكن �أن تربز فقط من حماوالت‬ ‫ّ‬ ‫باملال» خلف�ض موارد اجلي�ش‪.‬‬

‫ ‪ 73‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫م�ستوى مل ي�صله من قبل خالل حالة طوارئ‪ ،‬وبذلك‬ ‫فقد جرى انتقاده علن ًا ب�سبب افتقاره للح�س الوطني‬ ‫ال عن ذلك‪ ،‬لقد �شجع اجلي�ش‪،‬‬ ‫(وميان‪ .)2007 ،‬ف�ض ً‬ ‫بحد ذاته‪ ،‬على االخرتاق الإعالمي عن طريق ال�سماح‬ ‫بالتغطية الإعالمية من دون و�ضع قيود هامة‪.‬‬ ‫قدمها‬ ‫ ‬ ‫ًّ‬ ‫مثل الدور الذي لعبه الإعالم املفارقة التي ّ‬ ‫كوهي‪ :‬ل��دى الإع�لام و�سائل �أك�ثر لتدار�س اجلي�ش‬ ‫تفوق الفكر الع�سكري ال يزال مهيمن ًا‪.‬‬ ‫والتدقيق فيه‪� ،‬إال � ّأن ّ‬ ‫املوجه للأداء‪ ،‬وقف الإعالم‪ ،‬ب�شكل ال‬ ‫و�إ�ضافة �إىل النقد‬ ‫ّ‬ ‫لب�س فيه‪ ،‬وراء الأجندة الع�سكرية‪ .‬وكان النقد حمدود ًا‬ ‫ب�أداء اجلي�ش (تقرير كي�شيف‪ .)2007 ،‬وللمفارقة‪ ،‬هذا‬ ‫هو نوع النقد الذي يكر�س تفوق التفكري الع�سكري‪ ،‬لأنه‬ ‫ال ع�سكري ًا مل�شاكل �سيا�سية‪ ،‬حل‬ ‫يعزز الإميان ب�أن هناك ح ً‬ ‫بالإمكان تنفيذه �إذا ما ا�ستطاع اجلي�ش الأداء مب�ستوى‬ ‫ال عن ذلك‪ ،‬وعلى امتداد احلرب‪ ،‬ان ُتقد القادة‬ ‫منا�سب‪ .‬ف�ض ً‬ ‫ال�سيا�سيون ال�سابقون ل�سماحهم حلزب الله ب�أن ي�صبح‬ ‫�أقوى‪ ،‬ما يعني‪ ،‬لعدم �شنهم حرب ًا ا�ستباقية‪ .‬نتيجة لذلك‪،‬‬ ‫مت دفع البحث عن بدائل �سيا�سية للحرب جانب ًا‪ .‬وتعاي�ش‬ ‫اخل�ضوع الزائد للجي�ش والع�سكرة مع بع�ضهما جمدد ًا‪.‬‬ ‫ال �إىل طابع املواجهة‬ ‫ بالإمكان تقفّي هذه املفارقة و�صو ً‬ ‫بني اجلي�ش والإع�ل�ام‪ .‬فمع النظام ال�سوقي للإعالم‬ ‫الإ�رسائيلي منذ الت�سعينيات (مع انحدار ال�صحافة احلزبية‬ ‫ومنو �سيطرة ال�رشكات على الإعالم)‪ ،‬أ� ّثرت مقاربة الأخبار‪،‬‬ ‫كما لو �أنها �سلعة‪ ،‬يف هذا املجال �أي�ض ًا‪� .‬إنها مواجهة بني‬ ‫موا�صلة الإعالم لأخبار قابلة للت�سويق وملوا�صلة اجلي�ش‬ ‫ال�رشعية‪ .‬نتيجة لذلك‪ ،‬ف�إن �إلقاء ملحة خاطفة على ال�صحافة‬ ‫منذ الت�سعينيات وحتى العقد الأخري من القرن املا�ضي‬ ‫يك�شف عن �أنه برغم تكثيف الإعالم تدقيقه باجلي�ش وجتاوزه‬ ‫على الدوام عوائق تقليدية كالرقابة الع�سكرية‪ ،‬ف�إن ق�ضايا‬ ‫هام�شية ن�سبي ًا كانت ت�شكل ب�ؤرة الرتكيز لديه‪ .‬فاحلوادث‬ ‫والإخ��ف��اق��ات الع�سكرية‪ ،‬ال�رصاعات داخ��ل اجلي�ش‬ ‫والنزاعات بني �شخ�صيات ع�سكرية و�سيا�سيني‪ ،‬والإخفاقات‬ ‫يف �سيا�سات املوارد الب�رشية كانت من بني الق�ضايا التي‬ ‫غطاها الإعالم‪ .‬وقد اجتذب انتقا ُد اجلي�ش كتاب الأعمدة‬ ‫االقت�صادية يف ال�صحف �أي�ض ًا‪ ،‬حيث كان الرتكيز على‬ ‫ق�ضايا الأداء غري الفعال اقت�صادي ًا‪ .‬يف كل الأحوال‪ ،‬كانت‬ ‫الق�ضايا املو�ضوعية املت�صلة بدور الفكر الع�سكري يف‬ ‫ت�شكيل ال�سيا�سات الإ�رسائيلية مهملة (انظر دور‪2004 ،‬‬ ‫حول انتفا�ضة الأق�صى)‪ .‬وباحلديث عن الناحية الهيكلية‪،‬‬ ‫�أدى الإفراط يف التعر�ض واالنك�شاف لل�صحافة �إىل توجه‬


‫هذه الأخ�يرة للتعامل مع احل��وادث ال�صغرية يف الوقت‬ ‫الذي تهمل فيه ال�صورة ال�شاملة‪ .‬واملثري لل�سخرية هو �أنه‬ ‫ال‬ ‫توفرت معلومات �أقل‪ ،‬فرمبا كانت ال�صحافة �أكرث مي ً‬ ‫لو َ‬ ‫لإطالق بحث ونقا�ش حول الق�ضايا ال�سيا�سية الكلية‪.‬‬ ‫ �أحدث احلوار املبا�رش مع ال�شعب بو�ساطة الإعالم‬ ‫«ن�رش دعاية» للقيادة العليا‪ .‬ففي كانون الثاين ‪،2007‬‬ ‫وعندما كان التحقيق الذاتي الذي �أج��راه اجلي�ش عن‬ ‫احلرب على و�شك االنتهاء‪ ،‬ا�ستقال رئي�س هيئة الأركان‬ ‫دان حالوت�س من من�صبه‪ .‬وكان حالوت�س �أول رئي�س هيئة‬ ‫�أركان يتنحى عن من�صبه بداعي ال�ضغوط ال�شعبية‪� ،‬إذ‬ ‫تقاعد اجلرنال ديفيد �آليعازر‪ ‬بعد حرب ‪ ،1973‬لكن‬ ‫ذلك كان رد ًا على تو�صية من جلنة التحقيق احلكومية‪،‬‬ ‫ولي�س ب�سبب ال�ضغط ال�شعبي‪ ،‬والتي كانت توجهها يف‬ ‫ذلك احلني القيادة ال�سيا�سية ولي�س اجلي�ش‪ .‬يف املا�ضي‪،‬‬ ‫كانت ُت�سمع الأ�صوات الداعية �إىل ا�ستقالة رئي�س هيئة‬ ‫الأركان فقط عندما كان ينظر �إليه على �أنه ينفذ �سيا�سات‬ ‫مثرية للجدل �سيا�سي ًا‪ ،‬ولي�س عند انتقاد �أدائه املهني‪.‬‬ ‫ال عن ذلك‪ ،‬كان �سلوك حالوت�س منذ نهاية احلرب‬ ‫ ف�ض ً‬ ‫يوجهه مبد�أ وجوب �إعادة اجلي�ش تر�سيخ ثقة ال�شعب به‪،‬‬ ‫وهو �سبب في�ض التحقيقات التي جرت يف اجلي�ش والتي‬ ‫ن�رشت نتائجها للعلن بكميات غري م�سبوقة‪ .‬هذه ال�شفافية‬ ‫كانت مظهر ًا وتعبري ًا عن احل��وار املبا�رش بني القيادة‬ ‫الع�سكرية وال�شعب‪ ،‬حوار يتجاوز القيادة ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫ مل ي�ستقل حالوت�س لأن القيادة ال�سيا�سية دفعته لذلك‪،‬‬ ‫و�إمنا لأنه كان قد ا�ستوعب احلقيقة ب�أن ثقة ال�شعب به‬ ‫�أ�صبحت يف احل�ضي�ض‪ ،‬ما جعل من ال�صعب عليه العمل‪،‬‬ ‫وت�سبب �أي�ض ًا يف ت�آكل الثقة به داخل امل�ؤ�س�سة الع�سكرية‪.‬‬ ‫ كان االنتقاد ال�شعبي العلني للجي�ش بعد احلرب‬ ‫ال عن �إ�ضعاف �آليات الو�ساطة �أكرث بني ال�شعب‬ ‫م�س�ؤو ً‬ ‫وكبار �ضباط اجلي�ش‪ ،‬و�أ�شار �إىل مرحلة �أخرى يف العملية‬ ‫التي �أ�صبح فيها اجلرناالت عبارة عن �شخ�صيات عامة‪.‬‬ ‫ويف غياب ن�شاط هام من جانب القيادة ال�سيا�سية لتعزيز‬ ‫�سلطتها على اجلي�ش �أو متثيل م�صاحلها يف ال�ساحة‬ ‫العامة‪ ،‬ويف �ضوء واقع تراجع احلكومة عن البدء بتغيري‬ ‫يف قيادة اجلي�ش بداية احلرب‪ ،‬بل وعدم تقدميها م�ساندة‬ ‫كاملة للم�ؤ�س�سة الع�سكرية‪ ،‬وقف اجلرناالت وحيدين يف‬ ‫اخلطوط الأمامية للحوار مع ال�شعب‪ ،‬و�أخفقوا‪.‬‬ ‫ال عن ذلك‪ ،‬تفاقمت الدعاية ب�سبب االحتجاجات‬ ‫ ف�ض ً‬ ‫العلنية جلرناالت متقاعدين‪ ،‬انتقدوا �أداء اجلي�ش امل�شوب‬ ‫بالعيوب ودعوا �إىل ا�ستقالة حالوت�س‪ .‬ويف حترك غري‬

‫ ‪ 74‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫بنف�سه‪ ،‬الأم��ر ال��ذي قد يقلل من الكلفة ال�سيا�سية‬ ‫النت�شاره‪ .‬وقد ّبينت العمليتان الكبريتان اللتان �شُ نتا يف‬ ‫جنوب لبنان يف الت�سعينيات �ضد دولة م�صغرة نا�شئة‬ ‫يديرها حزب الله النموذج اجلديد ــ عملية ت�صفية‬ ‫احل�ساب وعملية عناقيد الغ�ضب‪ .‬هنا‪ ،‬دعا الرد الع�سكري‬ ‫�إىل «مكافحة النريان»‪ ،‬ما يعني االعتماد ال�شديد على‬ ‫الهجمات اجلوية من دون ا�ستخدام قوات برية اقتحامية‪.‬‬ ‫وقد �شملت املقاربة اجلديدة ا�ستخدام ذخائر دقيقة‬ ‫وطويلة املدى هدفت �إىل ال�ضغط على ال�سكان املحليني‬ ‫لتقييد ن�شاطات حزب الله‪� .‬أما يف حرب لبنان الثانية‪،‬‬ ‫فقد و�صلت هذه املقاربة �إىل ذروتها مع االعتماد الكامل‬ ‫تقريب ًا على �سالح اجلو خالل الأيام الأوىل من احلرب‪.‬‬ ‫ �إن االعتماد على التكنولوجيا جنب ًا �إىل جنب مع‬ ‫الت�سليع جعل �سالح اجلو «جي�ش ًا احرتافي ًا �ضمن جي�ش»‪.‬‬ ‫فطيارو �سالح اجلو يجمعون اخلدمة الإلزامية مع اخلدمة‬ ‫املهنية‪ .‬ويف �أوائل العقد الأخري من القرن املا�ضي‪ ،‬مت‬ ‫�إ�ضفاء الطابع املهني واالحرتايف �أكرث على �سالح اجلو‬ ‫وذلك بتمديد فرتة اخلدمة من ‪� ٥‬سنوات �إىل ‪� ١٢‬سنة‪ ،‬مبا‬ ‫يف ذلك التدريب والدرا�سات الأكادميية‪ .‬وقد قلل ت�سليع‬ ‫هذا النموذج من اعتماد �سالح اجلو على جنود االحتياط‪،‬‬ ‫عموده الفقري �سابق ًا‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فقد �أ�ضعف النموذج اجلديد‬ ‫�إمكانية الرف�ض يف �أو�ساط الطيارين يف االحتياط‪ ،‬وهي‬ ‫ق�ضية �أ�سا�سية برزت بعد دعم عدد من كبار الطيارين يف‬ ‫االحتياط للتحرك الراف�ض يف انتفا�ضة الأق�صى ب�سبب‬ ‫�رضب املدنيني الأبرياء‪ .‬ويف �ضوء احل�سا�سية �إزاء اخل�سائر‬ ‫يف حرب لبنان الثانية ــ التي ثبتت بعد اخرتاقات‬ ‫على نطاق �صغري انتهت بعدد مرتفع ن�سبي ًا من اخل�سائر‬ ‫وال�ضحايا ــ ميكن املرء �أن يرى �سبب �سحب اجلنود الذين‬ ‫مت ن�رشهم من �سالح اجلو‪ .‬ف�إطالة احلرب مع العجز عن‬ ‫حتقيق �أهداف ع�سكرية معينة كان فقط‪ ،‬هو الذي زاد‬ ‫من الدور الذي لعبته القوات الربية‪ .‬مع ذلك‪ ،‬مل تكن‬ ‫فقط العملية الربية هي التي مت ت�أجيلها لبع�ض الوقت‬ ‫ب�سبب احل�سا�سية من �إمكانية �سقوط �ضحايا‪ ،‬ولي�س فقط‬ ‫�أنه مت ا�ستدعاء االحتياط يف وقت مت�أخر ب�سبب الثمن‬ ‫ال�سيا�سي لتعبئتهم‪ ،‬و�إمنا مت تنفيذ العملية نف�سها برتدد‬ ‫�أي�ض ًا‪ .‬لقد �أعاد الت�سليع الن�صفي ــ �سالح اجلو ولي�س‬ ‫القوات الربية ــ‪ ‬ت�شكيل ن�شاطات احلرب‪.‬‬ ‫ بالواقع‪ ،‬لقد �أر�ست احلرب �أ�س�س ت�رسيع التحول‬ ‫�إىل جي�ش حمرتف‪ .‬وبذلك قد يكون الت�سليع امتد �إىل‬ ‫القوات الربية �أي�ض ًا‪ ،‬وهذا حمتمل‪.‬‬

‫م�سبوق‪ ،‬اختار جرناالت متقاعدون احلوار العام العلني‬ ‫وتخلوا عن القنوات الأكرث حميمية امل�ستخدمة �سابق ًا يف‬ ‫وج�سد‬ ‫ال�شبكة االجتماعية يف حاالت النقا�ش امل�شابهة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫مظهر هذا االحتجاج نف�سه خرق ًا يف ال�شبكة االجتماعية‬ ‫املتما�سكة لأ�شخا�ص ع�سكريني حاليني و�سابقني‪� ،‬شبكة‬ ‫تدفع مب�صاحلهم امل�شرتكة قدم ًا (انظر ب��اراك و�شيفر‪،‬‬ ‫‪ .)2006‬وكان انتقاد اجلرناالت للقيادة العليا �سبب ًا لأن‬ ‫يك�رس �صورة امل�ؤ�س�سة نف�سها �أكرث حتى‪ ،‬تلك امل�ؤ�س�سة التي‬ ‫كانوا ينالون مكاف�آتهم منها‪ ،‬رمزي ًا ومادي ًا‪ .‬وهذا ي�ستتبع‬ ‫القول ب�أن �أعمالهم تعك�س ا�ستيعابهم الداخلي للإقرار ب�أن‬ ‫�صورة اجلي�ش قد و�صلت �إىل درجة من االنحطاط بحيث‬ ‫�إنها بررت ح�صول احتجاج غري م�سبوق حتديد ًا من قبل‬ ‫�أولئك الذين كانت مكاف�آتهم مرتبطة بتلك ال�صورة‪.‬‬ ‫يحول‬ ‫ �إن حتويل اجلرناالت �إىل �شخ�صيات عامة ال ّ‬ ‫ت��وازن القوى بينهم وبني ال�سيا�سيني ل�صالح �ضباط‬ ‫اجلي�ش فح�سب‪ ،‬بل ميكنه �أي�ض ًا تعزيز االفتقار للو�ضوح‬ ‫ال��ذي يت�سم به اجلي�ش �أ�سا�س ًا يف جمتمع ال�سوق ــ‬ ‫احلدود املبهمة بني التنفيذ ال�صحيح وال�سليم ملتطلبات‬ ‫املهنية الع�سكرية من جهة‪ ،‬وت�سويق احلاجات من جهة‬ ‫�أخرى‪ .‬فاجلي�ش الذي يقاتل لأجل مكانته العامة بو�ساطة‬ ‫�سيا�سية �ضعيفة‪ ،‬مييل للت�أكيد على االجنازات احلربية‬ ‫لتربير موارده وبالتايل لتعزيز الثقة العامة به‪� .‬إن جي�ش ًا‬ ‫كهذا من ال�صعوبة مبكان تقييده �سيا�سي ًا‪.‬‬ ‫ بالإجمال‪� ،‬إن احل��وار املبا�رش‪ ،‬االنك�شاف �أم��ام‬ ‫الإعالم الذي �أبعد ال�صحافيني عن الت�سا�ؤل حول الفكر‬ ‫الع�سكري ون�رش الدعاية عن القيادة الع�سكرية‪� ،‬أمور‬ ‫عملت كلها‪ ،‬جمدد ًا‪ ،‬على تو�سيع جمال عمل اجلي�ش عن‬ ‫طريق تعزيز الفكر الع�سكري‪.‬‬ ‫الت�سليع والتكنولوجيا‬ ‫خال�صة القول‪ ،‬لعبت م�س�ألة �إعادة التنظيم (اال�صطفاف)‬ ‫االجتماعي جلي�ش الدفاع الإ�رسائيلي التي و�صلت �إىل‬ ‫ذروتها يف �أواخر الت�سعينيات دور ًا هام ًا يف التقليل من‬ ‫القاعدة االجتماعية لالحتجاجات‪ .‬يف كل الأحوال‪ ،‬مل‬ ‫تكن �إعادة التنظيم (اال�صطفاف) الو�سيلة اال�سرتاتيجية‬ ‫الوحيدة التي �ساعدت جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي على‬ ‫زيادة ا�ستقالليته بالعمل‪ .‬يف الوقت نف�سه‪ ،‬بد�أ جي�ش‬ ‫الدفاع بزيادة ا�ستخدامه للأ�سلحة ذات التكنولوجيا‬ ‫الكثيفة املتقدمة والتي تبقي املحارب بعيد ًا عن �ضحيته‪،‬‬ ‫وبالتايل تب ِّلد وعيه ال�سيا�سي والتقليل من املخاطرة‬

‫ ‪ 75‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ال وقبل كل �شيء‪� ،‬أبطل النموذج احلايل للتجنيد‬ ‫ �أو ً‬ ‫الإلزامي‪ ،‬املبني على فرتات ق�صرية اخلدمة الإجبارية‬ ‫ونظام االحتياط‪ .‬لقد ك�شفت احلرب الفجوة املتقل�صة بني‬ ‫الأداء االحرتايف جلنود جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي وبني‬ ‫رجال امليلي�شيات اللبنانية‪ ،‬لأن احلرب اندلعت نتيجة‬ ‫جناح حزب الله يف خطف اثنني من جنود االحتياط‪ .‬مبعنى‬ ‫�آخر‪ ،‬لقد متركز رجال امليلي�شيا‪ ،‬وب�شكل دائم‪ ،‬على جبهة‬ ‫معينة �سادوا فيها على جنود االحتياط الذين ينفذون‬ ‫خدمتهم لفرتة زمنية ق�صرية فقط كل عام‪ .‬هذا الف�شل‬ ‫للقوات الربية �أ�شعل حرب ًا ك�شفت امل�ستوى املتدين للياقة‬ ‫القتالية جلنود االحتياط‪ .‬وفق ًا لذلك‪ ،‬فقد كان الدر�س‬ ‫الرئي�س امل�ستخل�ص من هذا الإخفاق هو زيادة م�ستوى‬ ‫التدريب‪ .‬زيادة العبء الذي ينتج الت�سليع‪.‬‬ ‫ نظري ًا‪ ،‬ميكن ت�صور اجلنود يف منظومتي مكاف�آت يف‬ ‫�آن مع ًا‪ :‬مكاف�آت مادية ومكاف�آت رمزية نابعة من املكانة‬ ‫وال�رشف العائدين للخدمة الع�سكرية واملرتجمتني‬ ‫باملكانة االجتماعية‪ .‬فاملكاف�آت الرمزية املخففة‪ ،‬عموم ًا‪،‬‬ ‫تزيد توقع مكاف�آت مادية �أكرب‪ ،‬كنوع من �سد �أو ا�ستبدال‬ ‫التعوي�ض‪( ‬ليفي‪.)2007 ،‬‬ ‫ يف �إ�رسائيل �أي�ض ًا‪� ،‬أ ّدت املكانة العالية جلي�ش الدفاع‬ ‫الإ�رسائيلي وال��دور ال��ذي �شغله يف حتديد الهرمية‬ ‫االجتماعية للمرء �إىل متكني الدولة من جتنيد اجلنود‬ ‫مقابل �أجر متدن‪ .‬يف كل الأح��وال‪ ،‬ومنذ الت�سعينيات‪،‬‬ ‫عانى جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي من الت�آكل يف مكانته‬ ‫االجتماعية‪ ،‬مع الت�آكل املتالزم يف املكاف�آت الرمزية‪.‬‬ ‫وب�شكل �أكرث حتديد ًا‪ ،‬خ�رس جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي منذ‬ ‫حرب ‪ ،1982‬تدريجي ًا وب�شكل منهجي‪ ،‬ثقة خمتلف‬ ‫املجموعات‪ :‬طبقة الأ�شكيناز الو�سطى ــ العليا يف حرب‬ ‫‪ 1982‬امل�ستمرة �سيا�سي ًا ويف االنتفا�ضة الأوىل‪ ،‬كما‬ ‫خ�رس جزء ًا من املجموعات الدينية الوطنية يف م�س�ألة فك‬ ‫االرتباط‪( ‬عن غزة)‪ .‬و�أ�ضافت حرب لبنان الثانية اجلنود‬ ‫االحتياط من الطبقة الو�سطى �إىل القائمة‪.‬‬ ‫ عندما اندلعت احلرب ومتت تعبئة فرق االحتياط‬ ‫برتدد‪ ،‬و�أُر�سلوا وهم غري جاهزين للقتال لأهداف غام�ضة‪،‬‬ ‫�أ�صبح وا�ضح ًا �أن جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي قد انتهك‪،‬‬ ‫«عقْده ال�سيكولوجي» مع جنود االحتياط‪.‬‬ ‫وبب�ساطة‪َ ،‬‬ ‫ووفق ًا مل�صطلحات هذا العقد‪ ،‬ف��إن جنود االحتياط‬ ‫م�ستعدون دائم ًا لال�ستدعاء‪ ،‬يف حني ي�ضمن جي�ش الدفاع‬ ‫الإ�رسائيلي �أن املجند �أو املجندة �سيتلقى التدريب‪ ،‬ويتم‬ ‫جتهيزه باملعدات واال�ستفادة منه وا�ستخدامه جيد ًا‪ .‬لذا‪،‬‬



‫من املنطقي االفرتا�ض ب�أنه يف بداية احلرب‪� ،‬سوف يجعل‬ ‫ت�آكل الثقة م�س�ألة �سحب وتفعيل عمل االحتياط يف‬ ‫امل�ستقبل �أمر ًا �أكرث �صعوبة‪ .‬وعانى املجندون من ت�أثري‬ ‫م�شابه‪ ،‬والذي عزز «�أزمة الدوافع»‪ ،‬حيث �أ�ضعفت احلرب‬ ‫ثقتهم بقدرة اجلي�ش على حماية �أرواحهم عن طريق‬ ‫ن�رشهم ب�شكل فعال يف مهمات حيوية‪.‬‬ ‫ �أدى انحدار املكاف�آت الرمزية �إىل رفع ال�ضغوط‬ ‫للح�صول على مكاف�آت مادية‪ ،‬عملية كانت قيد امل�ساومة‬ ‫بني اجلي�ش وجمنديه‪ ،‬جنود االحتياط ب�شكل رئي�س‪ .‬هذه‬ ‫امل�ساومة قادت احلكومة يف عامي ‪ 2005‬و ‪2006‬‬ ‫�إىل امل�صادقة على �إ�صالحات يف نظام التجنيد مبنية‬ ‫على �أ�سا�س تق�صري فرتة اخلدمة الع�سكرية‪ ،‬التقليل من‬ ‫حجم اجلي�ش‪ ،‬زيادة االنتقائية‪ ،‬وتقدمي مكاف�آت حم�سنة‪،‬‬ ‫خا�صة لأولئك الذين يخدمون فرتات زمنية ممددة‪ .‬يف‬ ‫كل الأح��وال‪� ،‬إن االنتقائية املتزايدة ترفع ال�ضغوط‬ ‫لأجل املكاف�آت املادية‪ ،‬ومن املنطقي التكهن �أن يقوم‬ ‫جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي بتقدمي مكاف�آت �أف�ضل لتجنب‬ ‫النق�ص يف فريق العمل امل�ؤهل‪ ،‬جزء منها �سيكون ب�شكل‬ ‫تبادل اخلدمة املمددة مقابل تعوي�ضات حم�سنة‪� .‬إن زيادة‬ ‫املكاف�آت املادية �ستزيد االنتقائية جمدد ًا‪ .‬لذا‪ ،‬وخلف�ض‬ ‫رواتب اجلي�ش �سيكون هناك اعتماد متزايد على جي�ش‬ ‫�صغري ن�سبي ًا �إمنا لديه مكاف�آت جيدة‪� .‬أما النتيجة النهائية‬ ‫لهذه العملية ف�ستكون احرتافية متزايدة للجي�ش‪.‬‬ ‫ بالإجمال‪� ،‬إن اجلمع ما بني تزايد �سوء «العجز‬ ‫الرمزي» ال�سابق مع تزايد االنتقائية خللق جي�ش �أ�صغر‬ ‫�إمنا مدرب ب�شكل �أف�ضل‪� ،‬سيو ّلد ت�سليع اجلي�ش‪ ،‬ما يعني‪،‬‬ ‫اخلدمة مقابل الدفع‪ .‬من جهة �أخرى‪� ،‬إن عجز املوازنة‬ ‫ي�ضع قيود ًا على قدرة اجلي�ش على تقدمي مكاف�آت مادية‬ ‫للمجندين من الطبقة الو�سطى‪ .‬ولهذا ال�سبب‪ ،‬ف�إن‬ ‫املجندين الأرخ�ص �أجر ًا ــ �أولئك الذين دافعهم حمنة‬ ‫اقت�صادية‪� ،‬أو‪� ‬أمر ايديولوجي ــ ع�سكري‪� ،‬أو م�صلحة‬ ‫يف حراك اجتماعي والذين تعترب البدائل املقدمة لهم‬ ‫من قبل �سوق العمل املدين �أقل جاذبية ــ هم جتمع‬ ‫املتوفر‪ ،‬املثايل جليو�ش مهنية‪.‬‬ ‫املر�شحني الرئي�س َ‬ ‫ قد تكون االحرتافية مف�ضلة �أي�ض ًا من قبل جي�ش‬ ‫الدفاع الإ�رسائيلي وال�سيا�سيني كو�سيلة ال�ستعادة‬ ‫اال�ستقاللية الع�سكرية‪ .‬فجنود االحتياط هم «مدنيون‬ ‫معب�أون» يح�رضون معهم قيمهم املدنية �إىل خدمة‬ ‫ّ‬ ‫االحتياط‪ ،‬ومن وجهة النظر تلك‪ ،‬ف�إنهم ي�ساومون مع‬ ‫اجلي�ش حول طبيعة خدمتهم وظروفها و�رشوطها‪ .‬وعند‬

‫ ‪ 78‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫للع�صيان‪ ،‬وهذا طبيعي‪ .‬فالت�سليع �سي�ضعف التوقعات‬ ‫ال�سيا�سية يف �أو�ساط‪ ‬كل من املجندين واجلماعات‬ ‫االجتماعية املدنية الآتني منها‪ ،‬وبالتايل يخف�ض احلافز‬ ‫على املراقبة ال�سيا�سية للجي�ش «من الداخل»‪ .‬ثاني ًا‪،‬‬ ‫�سينعك�س الت�سليع �أي�ض ًا يف تقل�ص الأ�س�س االجتماعية‬ ‫للتجنيد‪ .‬وكما �أظهر حتليل خطاب الفجيعة يف �ضوء‬ ‫التغيريات يف تركيبة ال�ضحايا‪ ،‬وكما يعر�ض التمايز‬ ‫بني «الت�ضحية باجل�سد» و«الت�ضحية باملال»‪ ،‬ف�إن انحدار‬ ‫م�ستويات امل�شاركة الع�سكرية ينطوي على قوة م�ساومة‬ ‫بالن�سبة �إىل امل�شاركة ال�سيا�سية يف مقابل الدولة بهدف‬ ‫مراقبة �سلوك اجلي�ش‪ .‬هذا االنحدار �سيزيد من حدة‬ ‫فتور النخبة �إزاء اجلي�ش‪ ،‬مع عواقب من ال�صعب حلها‬ ‫بالن�سبة �إىل ال�سيطرة الدميقراطية عليه‪.‬‬ ‫ بالتايل‪ ،‬بالإمكان ن�رش جي�ش احرتايف ب�شكل �أ�سهل‬ ‫لأداء مهمات حمل جدل �سيا�سي ًا‪� .‬إن احرتافية اجلي�ش‬ ‫قد ت�ستفيد من التغيري‪ ،‬لكن الت�سليع قد يجعل النموذج‬ ‫التقليدي لل�سيطرة ال�سيا�سية يت�آكل‪.‬‬

‫عودتهم �إىل حياتهم الطبيعية‪ ،‬يكون ه��ؤالء عر�ضة‬ ‫لرتجمة جتربتهم يف اخلدمة الع�سكرية يف طاقة �سيا�سية‪،‬‬ ‫م�ستغلني قدرتهم على تنظيم وتفعيل �شبكات اجتماعية‬ ‫(انظر بن �آري و�آخرين‪.)2004 ،‬‬ ‫ تع ّلم اجلي�ش هذا الدر�س عندما ر�أى الدور الذي‬ ‫�أ ّداه االحتياط يف التظاهرات واالحتجاجات املنظمة‪.‬‬ ‫وكونه تعلم هذا الدر�س‪ ،‬فقد قرر اجلي�ش �أن يبني احلرب‬ ‫امل�ستمرة على قاعدة القوات الربية‪ ،‬ما يعني �إدارتها‬ ‫بعيد ًا عن نظر العامة (تامري‪،11-10 ،2005 ،‬‬ ‫‪.)274‬كذلك الأمر مت رمي جنود االحتياط يف قلب‬ ‫القتال �ضد الفل�سطينيني يف االنتفا�ضة‪ ،‬خالل «عملية‬ ‫الدرع الدفاعي» (‪ )2002‬ب�شكل رئي�س‪ ،‬فقط بعد‬ ‫تثبيت م�رشوعية هذه احلرب يف القتال الذي قام به‬ ‫اجلنود النظاميون‪ .‬وخالل حرب لبنان الثانية‪ ،‬كان الثمن‬ ‫ال�سيا�سي ال�ستدعاء جنود االحتياط مفهوم ًا من قبل‬ ‫احلكومة‪ ،‬والقيادة الع�سكرية كجزء من ذخرية يرجع‬ ‫اليها تعلموها من خالل التجربة املرتاكمة منذ حرب‬ ‫‪( ١٩٨٢‬انظر جلنة فينوغراد‪� ،٢٠٠٧ ،‬صفحة ‪.)٩٨‬‬ ‫وبذلك ف�إن الرتدد ال�سيا�سي ب�سحب االحتياط و�إر�سالهم‬ ‫يف عمليات برية �ضخمة خلق االنطباع ب�أن اجلي�ش‬ ‫قد ف�شل بتحقيق �أهدافه‪ .‬يف الوقت نف�سه‪ ،‬ف�إن �أولئك‬ ‫الذين مت ا�ستدعا�ؤهم قاموا ب�إ�شعال تظاهرات الحق ًا ‪،‬‬ ‫كما ف�صلنا �آنف ًا‪ .‬لذا‪ ،‬ف�إن �إ�ضفاء االحرتافية على نظام‬ ‫االحتياط �سي�ضمن نزع الطابع ال�سيا�سي عنه �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫ الت�سليع يو ّلد الت�شدد والقتال‪ .‬فبقدر ما ير�سخ‬ ‫اجلي�ش اعتماده على املجندين الهام�شيني واملتدينني‬ ‫املدفوعي الأجر‪ ،‬ف�إنه �سيتبنى توجه ًا �أكرث ولع ًا بالقتال‪.‬‬ ‫�إن وزن الطبقة الو�سطى �سينحدر ل�صالح جماعات‬ ‫�أكرث قومية وت�شدد ًا يف املجتمع‪ ،‬نظر ًا للعالقة املتبادلة‬ ‫ال‬ ‫بني التطلعات ال�سيا�سية وموقع الطبقة الإثنية‪ .‬ف�ض ً‬ ‫عن ذلك‪ ،‬ويف جي�ش غري متوازن �سيا�سي ًا‪� ،‬ستتو�سع‬ ‫حرية العمل للقيادة العليا مبا �أنها تتحرر من الهواج�س‬ ‫املتعلقة بتق�سيم ال�صفوف عن طريق توظيف تكتيكات‬ ‫حمل جدل �سيا�سي ًا‪.‬‬ ‫ هناك م�س�ألتان مرتبطتان بالت�سليع ت�ساهمان �أي�ض ًا‬ ‫ال‬ ‫بهذه امل�شكلة‪ .‬الأوىل هي �أن خدمات ال�رشاء املالية‪ ،‬بد ً‬ ‫من اجلنود املجندين �إداري ًا‪ ،‬حترف التوقعات عن جمال‬ ‫املكاف�آت الرمزية (كاالعرتاف بايديولوجية �سيا�سية) �إىل‬ ‫توقعات مبكاف�آت مادية‪ .‬عندها �ستكون اخلدمة الع�سكرية‬ ‫ال‬ ‫غري م�سي�سة‪ ،‬مبا �أن اجلندي املحرتف لي�س ميا ً‬

‫ا�ستنتاجات‬ ‫و�رسعت ح�صول تغيري‬ ‫عك�ست حرب لبنان الثانية‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫�أو�سع يف طريقة الإ�رشاف املدين على اجلي�ش‪ ،‬وحتديد ًا‪،‬‬ ‫التحول من ال�سيطرة اجلمهورية �إىل �سيطرة ال�سوق‪ .‬ومع‬ ‫انح�سار النموذج اجلمهوري التقليدي ل�سيطرة املواطن ــ‬ ‫اجلندي‪ ،‬احتلت الآليات ذات التوجه ال�سوقي ال�صدارة‪.‬‬ ‫ ات�سم النموذج اجلديد الذي ازده��ر يف جمتمعات‬ ‫غربية وكذلك يف �إ�رسائيل بثالث �سمات رئي�سة‪:‬‬ ‫ • مراقبة للجي�ش ذات توجه �سوقي نا�شئة من التمييز‬ ‫بني الت�ضحية املالية‪ /‬اجل�سدية؛‬ ‫ • جو تناف�سي على غرار ال�سوق يحكم املمار�سات‬ ‫الع�سكرية ويجرب اجلي�ش على ت�سويق خدماته عن‬ ‫طريق ال�سماح باالخرتاق الإعالمي وباحلوار مبا�رشة مع‬ ‫ال�شعب‪ ،‬وبالتايل حتويل اجلرناالت �إىل �شخ�صيات عامة؛‬ ‫ • ت�سليع اخلدمة الع�سكرية‪ ،‬ما يف�سد املبادئ‬ ‫اجلمهورية للم�شاركة الع�سكرية التي من خاللها ميكن‬ ‫للمجتمع ال�سيا�سي ت�شكيل م�صريه اخلا�ص به‪ ،‬مع القرار‬ ‫بامل�ضي �إىل حرب يف قلب هذه امل�شاركة‪.‬‬ ‫ هذه العملية كان لها ت�أثري متناق�ض على حرية‬ ‫العمل للجي�ش‪ :‬فاجلي�ش تتوافر له حرية عمل �أو�سع يف‬ ‫�إدارة ال�سيا�سات احلربية‪ ،‬وذلك عائد‪ ،‬و�إىل حد كبري‪،‬‬ ‫�إىل التغيري يف تركيبته واالحرتاف التدريجي لأفراده‪.‬‬

‫ ‪ 79‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ويتطابق جمال العمل الأو�سع مع رغبة اجلي�ش بعر�ض‬ ‫قدرته �أكرث كو�سيلة لتعزيز �رشعيته يف بيئة تناف�سية‪.‬‬ ‫يف الوقت نف�سه‪ ،‬لدى اجلي�ش موارد �أقل لتمويل هذه‬ ‫ال�سيا�سات‪ ،‬ب�سبب النقد ذي التوجه ال�سوقي الذي‬ ‫ليعدل طريقة العمل وفق متطلبات ال�سوق‪ .‬ونظر ًا‬ ‫يقيده ّ‬ ‫ّ‬ ‫حلاجته �إىل التناف�س مع م�ؤ�س�سات �أخرى يف ال�سوق‬ ‫وعامل التجارة‪ ،‬ف�إن �سيا�سات اجلي�ش حمكومة بال�سوق‬ ‫على نحو متزايد‪� .‬إن حرية العمل لي�ست متماثلة‬ ‫ومتنا�سبة مع م��وارد اجلي�ش املتقل�صة‪ .‬وقد �أعطيت‬ ‫للحكومة القدرة على �شن حرب بني ع�شية و�ضحاها‬ ‫لكن مل تعط لها القدرة على حتمل حرب مكلفة‪.‬‬ ‫ هذا التناق�ض ك�شف عن نف�سه يف احلرب‪ .‬ونظر ًا للتغيري‬ ‫يف الرتكيبة االجتماعية للوحدات امليدانية وت�أثريه على‬ ‫خطاب الفجيعة‪ ،‬مل تواجه احلكومة مقاومة كبرية لقراراتها‬ ‫ال من جنودها وال من �شبكاتهم االجتماعية‪ .‬مبعنى �آخر‪،‬‬ ‫لقد �أثبت النموذج اجلمهوري لل�سيطرة عدم فاعلية‪ .‬يف‬ ‫قيدت مناذج �أخرى منت خارج اخل�ضوع‬ ‫الوقت نف�سه‪َّ ،‬‬ ‫التدريجي جلي�ش الدفاع الإ�رسائيلي لقوى ال�سوق اجلي�ش‪.‬‬ ‫فقد ترددت احلكومة يف �إعالن حالة الطوارئ لتجنب ت�أثري‬ ‫�سلبي على املوازنة‪ .‬وقاد االعتماد على �سالح اجلو الذي‬ ‫�أ�صبح �سلعة �إىل تردد يف تفعيل القوات الربية‪� .‬أخري ًا‪ ،‬لقد‬ ‫جعل تعر�ض جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي للتدقيق والفح�ص‬ ‫التطفلي من قبل الإعالم و�شبح املحا�سبة العامة ال�ضباط‬ ‫مرتددين عند �إ�صدار الأوامر‪.‬‬ ‫ �أ�صبحت �آليات ال�سوق‪ ،‬بالتايل‪ ،‬الآليات الأكرث‬ ‫تفوق الفكر الع�سكري عن‬ ‫فاعلية التي ميكنها حتدي ّ‬ ‫طريق تقييد امل�ؤ�س�سة مادي ًا‪ .‬مع ذلك‪ ،‬تثبت �سيطرة‬ ‫ال�سوق فاعليتها فقط عندما ت�صبح كلفة احلرب مرتفعة‬ ‫جد ًا ن�سبة �إىل املكا�سب ال�سيا�سية واالقت�صادية غري‬ ‫املبا�رشة‪ ،‬ما يعني �أن الن�شاط الع�سكري املتدين الكلفة‬ ‫الذي ال ي�ؤثر على معي�شة الطبقة الو�سطى ــ العليا‬ ‫وم�صاحلها اجلوهرية‪ ،‬ميكن �أن ي�أخذ جمراه دون عوائق‪.‬‬ ‫فقد ف�شلت ال�سيا�سات الإ�رسائيلية يف تطوير �آليات‬ ‫�سيا�سية وثقافية فاعلة ميكنها �أن حتقق التوازن للتفوق‬ ‫الع�سكري‪ ،‬رغم تعزيز و�سائل الإ�رشاف على امل�ؤ�س�سة‬ ‫الع�سكرية‪ .‬يف كل الأحوال‪� ،‬إن ال�سيطرة على امل�ؤ�س�سة‬ ‫الع�سكرية لي�ست �صعبة‪� ،‬أو ت�شكل حتدي ًا‪ ،‬كال�سيطرة على‬ ‫التفكري الع�سكري‪ .‬وتلعب �آليات ال�سوق دورها يف حتقيق‬ ‫هذا التحدي‪� ،‬إال �أن احلاجة �إىل �إع��ادة ت�أهيل الآالت‬ ‫اجلمهورية تعترب �صحيحة اليوم �أكرث من �أي وقت م�ضى‪.‬‬


‫المنظمات غري احلكومية‬

‫الطنانة واحلركات االجتماعية‬ ‫بني الكلمات‬ ‫ّ‬ ‫إصالح جاد مقدمة‬ ‫�إن انت�شار املنظمات غري احلكومية (�إن جي �أوز) ظاهرة‬ ‫ال على �ضعف الأحزاب ال�سيا�سية‬ ‫مديرة مؤسسة عاملية‪ .‬وعادة ما ُتعترب دلي ً‬ ‫الدرااست النسوية الأيديولوجية وان�سحاب الدولة من ت�أمني اخلدمات‬ ‫واستاذة اجلندر وامل�س�ؤوليات االجتماعية ب�سبب �سيا�سات التعديالت‬ ‫والتنمية يف جامعة الهيكلية املفرو�ضة على معظم بلدان العامل الثالث من‬ ‫بري زيت‪ ،‬فلسطني‪ .‬قبل البنك الدويل و�صندوق النقد الدويل وحتت �ضغط‬ ‫نرشت عدة مؤلفات �سيا�سات الإ�صالح النيوليربايل (هان ‪1996‬؛ �إدوارد‬ ‫عن ماشركة الناسء وهيوم ‪1995‬؛ �أومفيت ‪ .)1994‬يرى البع�ض �أن‬ ‫معتمد‬ ‫نتاج لل�سيا�سات النيوليربالية‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫الفلسطينيات الـ«�إن جي �أوز» ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫والعربيات مالي ًا على م�صادر نيوليربالية ومنغم�س ب�شكل مبا�رش يف‬ ‫يف السياسة‪ ،‬مناف�سة احلركات االجتماعية‪-‬ال�سيا�سية على والء القادة‬ ‫وعن االسالم املحليني وجماعات النا�شطني (بيرتا�س ‪ .)1997‬فيما‬ ‫والـ«ان جي اوز»‪ .‬يعتربها �آخرون � ّألي ِ‬ ‫ين‬ ‫�سخرة لـ «خلق‬ ‫ات ُم ّ‬ ‫جمتمع مد ّ‬ ‫ٍ‬ ‫اخلارجي» (�سام�سون ‪-121 :1996‬‬ ‫عرب التدخل‬ ‫ّ‬ ‫يل بني الـ«�إن جي �أوز»‬ ‫‪ ،)42‬م�شريين �إىل الدمج الإ�شكا ّ‬ ‫عدد من الدرا�سات على‬ ‫واملجتمع املد ّ‬ ‫ين بحد ذاته‪ .‬ويركّ ز ٌ‬ ‫ال�سلبي للـ«�إن جي �أوز» على احلركات االجتماعية‬ ‫الأثر‬ ‫ّ‬ ‫(بيرتا�س ‪ ،1997‬هان ‪ ،)1996‬الكت�شاف �أثر ما‬ ‫�سي�صطلح على ت�سميته بـ «التنجيز»‪�( 1‬ألفاريز ‪)1998‬‬ ‫ُ‬ ‫االجتماعي‪.‬‬ ‫والفعل‬ ‫احلراك‬ ‫على‬ ‫ّ‬ ‫كثري من الباحثني �أن انت�شار الـ«�إن جي �أوز»‬ ‫ ويرى‬ ‫ٌ‬ ‫مدين ناب�ض‬ ‫يف ال�رشق الأو�سط �إ�شار ٌة �إىل وجود جمتمع‬ ‫ٍّ‬ ‫مغدم‬ ‫باحلياة (نورتون ‪1995‬؛ �إبراهيم ‪1995‬؛‬ ‫َّ‬ ‫‪ .)1997‬فالـ«�إن جي �أوز» ال ترتافق مع �سمات «دمقرطة»‬ ‫االجتماعي بحد‬ ‫ين فح�سب‪ ،‬بل مع احلراك‬ ‫املجتمع املد ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ذاته كذلك‪ :‬ترابط ي�سعى هذا املقال لطرحه للم�ساءلة‪� .‬إذ‬ ‫لتتبع �أثر انت�شار الـ«�إن جي �أوز» على‬ ‫�إن جهد ًا قلي ً‬ ‫ال ُبذل ّ‬ ‫ ترجمة‪:‬‬ ‫تدعي الـ«�إن‬ ‫يزن احلاج‬ ‫تر�سيخ احلركات االجتماعية املختلفة التي ّ‬

‫ ‪ 80‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫أكيد‬ ‫جي �أوز» متثيلها يف هذه املنطقة‪ .‬كما مل يكن ثمة ت� ٌ‬ ‫على جناحها يف ح�شد اجلماعات املختلفة على تر�سيخ‬ ‫درا�سات معدود ٌة حول‬ ‫حقوقها‪ .‬وبالقدر ذاته‪ ،‬ركّ زت‬ ‫ٌ‬ ‫ال�رشق الأو�سط على كيفية ت�أثري وربط الـ«�إن جي �أوز»‬ ‫ٍ‬ ‫أ�شكال �أخرى من التنظيمات االجتماعية‪� ،‬سواء كان‬ ‫مع �‬ ‫ذلك على �شكل احتادات‪� ،‬أحزاب �سيا�سية �أو حركاتٍ‬ ‫ال‪.‬‬ ‫اجتماعية ت�ضم طالب ًا‪ ،‬ن�ساء �أو عما ً‬ ‫ يف ه��ذا امل��ق��ال‪� ،‬س�أعمد �إىل البحث الكت�شاف‬ ‫الفطري للـ«�إن جي �أوز» يف فل�سطني‬ ‫عواقب االنت�شار‬ ‫ّ‬ ‫وخ�صو�ص ًا تنجيز احلركات االجتماعية الفل�سطينية‪� .‬إذ‬ ‫ٍ‬ ‫اجلمعي‬ ‫الهم‬ ‫كعملية‬ ‫�أرى �أن التنجيز‬ ‫ّ‬ ‫يتحول من خاللها ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫يتم تطبيقها‬ ‫بحيث‬ ‫العام‬ ‫ال�سياق‬ ‫عن‬ ‫منعزلة‬ ‫�إىل م�شاريع‬ ‫ّ‬ ‫دون �أخذ العوامل االقت�صادية واالجتماعية وال�سيا�سية‬ ‫امل�ؤثرة على هذه امل�شاريع بعني االعتبار‪ ،‬مل تظهر نتائج‬ ‫تو�صل بحثي �إىل �أن‬ ‫تر�سيخه بعد‪ .‬وبالتوازي مع ذلك‪ّ ،‬‬ ‫الأجندة امل�ستندة اىل احلقوق للـ«�إن جي �أوز» الن�سائية‬ ‫�سلبي على طاقة التعبئة ملنظمات املر�أة‬ ‫كان له �أثر‬ ‫ٌّ‬ ‫نت‬ ‫اجلماهريية‪ ،‬الأمر الذي خلق‪ ،‬ب��دوره‪ ،‬ف�سح ًة مكّ ْ‬ ‫ٍ‬ ‫�سلطوية‬ ‫اجلماعات الإ�سالموية من تثبيت نف�سها كقو ٍة‬ ‫الفل�سطيني‪.‬‬ ‫ين‬ ‫ومهيمنة يف املجتمع املد ّ‬ ‫ّ‬ ‫الـ«�إن جي �أوز» الفل�سطينية‪ :‬تاريخ موجز‬ ‫�إن الدور الذي لعبته الـ«�إن جي �أوز» الفل�سطينية قبل‬ ‫اتفاقية �أو�سلو يختلف ب�شدة عن دورها يف مرحلة ما بعد‬ ‫�أو�سلو‪ .‬فقبل ت�شكيل ال�سلطة الفل�سطينية‪ ،‬كان املجتمع‬ ‫ّ‬ ‫الفل�سطيني َّ‬ ‫واملنظمات‬ ‫منظما داخل الأحزاب ال�سيا�سية‬ ‫ّ‬ ‫القاعدية اجلماهريية وحولها‪ .‬وارتبطت الـ«�إن جي �أوز»‬ ‫ّ‬ ‫بتلك الأح��زاب حتت مظلة منظمة التحرير الفل�سطينية‬ ‫�شجعت الأحزاب واملنظمات التابعة لها‬ ‫(م ت ف) التي ّ‬

‫‪ 1‬التنجيز‬ ‫ ‬ ‫‪ :NGOisation‬ي�شري‬ ‫هذا امل�صطلح‬ ‫احلديث �إىل قدرة‬ ‫املنظمات غري‬ ‫احلكومية «�إن‬ ‫جي �أوز» على‬ ‫تفريغ خطاب‬ ‫وممار�سات احلركات‬ ‫االجتماعية‬ ‫من م�ضمونها‬ ‫ال�سيا�سي‪ .‬وقد‬ ‫ّ‬ ‫ا�ستخدم عدد قليل‬ ‫من الك ّتاب هذا‬ ‫امل�صطلح‪ ،‬لعل‬ ‫�أبرزهم الروائية‬ ‫والنا�شطة الهندية‬ ‫�أرونداتي روي‬ ‫حتدثت يف‬ ‫التي ّ‬ ‫ٍ‬ ‫منا�سبات متعددة‬ ‫عن «تنجيز‬ ‫ال�سيا�سة»‪،‬‬ ‫وبالأخ�ص «تنجيز‬ ‫مفهوم املقاومة»؛‬ ‫�إ�ضاف ًة �إىل �سونيا‬ ‫�ألفاريز (املُ�شار‬ ‫�إليها يف هذا املقال)‬ ‫والتي ت�شغل‬ ‫حاليا من�صب‬ ‫ً‬ ‫�أ�ستاذ كر�سي‬ ‫لينارد هورويتز‬ ‫ل�سيا�سات �أمريكا‬ ‫الالتينية يف جامعة‬ ‫ما�سات�شو�ست�س‬ ‫�أمهري�ست‪.‬‬ ‫(املرتجم)‬

‫ ‪ 81‬‬

‫وقدمت لها الدعم املايل‪ .‬وفيما ّمت منع (م ت ف ) و�أحزابها‬ ‫حد ما‪ ،‬للمنظمات‬ ‫ال�سيا�سية من ِقبل �إ�رسائيل‪�ُ ،‬سمح‪� ،‬إىل ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫منظمات لت�أمني اخلدمة‬ ‫التابعة لها بالعمل‪� ،‬إذ ّمت اعتبارها‬ ‫العامة‪ .‬ويف الفرتة بني نهاية انتفا�ضة ‪ 1987‬و�أو�سلو‪ ،‬كان‬ ‫قطاع الـ«�إن جي �أوز» ُي�ستخدم باعتباره القناة الأ�سا�سية‬ ‫للم�ساعدات الأجنبية‪ ،‬الأمر الذي ا�سهم يف ت�أمني اخلدمات‬ ‫وت�ضمن هذا الأمر العيادات واملدار�س‬ ‫�إىل عموم ال�سكان‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫املدرة للدخل‪ .‬فكانت النتيجة‬ ‫وريا�ض الأطفال وامل�شاريع ّ‬ ‫�أن مم ّثلي هذه الـ«�إن ج �أوز» �أ�صبحوا مهمني وحازوا على‬ ‫ٍ‬ ‫�سلطة �أكرب حتى من �أحزابهم الأم‪.‬‬ ‫حتول دور الـ«�إن جي �أوز» يف ال�ضفة الغربية وقطاع‬ ‫ ولقد ّ‬ ‫غزة بت�أثريٍ من عملية بناء الدولة التي بد�أت �إثر م�ؤمتر مدريد‬ ‫عام ‪ .1991‬وتعد �آثار ديناميكيات بناء الدولة يف الأ�شكال‬ ‫ين هام ًة لفهم حقيقة‬ ‫املختلفة من التنظيم يف املجتمع املد ّ‬ ‫عملية كبح حراك املر�أة الفل�سطينية‪� .‬إذ �إن الديناميكيتني‬ ‫املزدوجتني لبناء الدولة والتنجيز �أدتا �إىل ٍ‬ ‫ّ‬ ‫الت�شظي‬ ‫مزيد من‬ ‫والكبح لكل احلركات االجتماعية‪ .‬فدورة احلياة املحدودة‬ ‫�سماه تارو‬ ‫لـ«امل�شاريع» �أدت �إىل الت�شظي بد ً‬ ‫ال من خلق ما ّ‬ ‫يتم احلفاظ‬ ‫(‪ )1994‬بـ «الربط‬ ‫ال�شبكي امل�ستدام»‪ ،‬حيث ّ‬ ‫ّ‬ ‫على الروابط بني االقت�صاد واملنظمات ٍ‬ ‫اعتيادي‪.‬‬ ‫بدفق‬ ‫ّ‬ ‫تعد ال��ـ«�إن جي �أوز» الن�سائية يف العامل العربي‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫بالن�سبة للبع�ض عوامل فاعلة هامة للتنمية والدمقرطة‬ ‫وبالتايل التحديث (قنديل ‪ .)1995‬ومع ذلك‪ ،‬وبحكم‬ ‫تقدم �أجندة غربية‬ ‫اعتمادها على «عامل التمويل»‪ ،‬فهي ّ‬ ‫وتكون مم ِّثلة لنخبة من الن�ساء (�شلبي ‪2001‬؛ حمامي‬ ‫‪1995‬؛ حنفي وطرب ‪ ،)2002‬ويف ما يخ�ص الثقافة‬ ‫االجتماعي ) تقوم الـ«�إن جي �أوز»‪ ،‬بح�سب‬ ‫(والتغيري‬ ‫ّ‬

‫�إذ �إن التنجيز‪ ،‬بحد ذاته‪ ،‬ميلك بعد ًا ثقافي ًا وقيم انت�شارٍ‬ ‫ت�شجع على االتكالية‪ ،‬واالفتقار اىل االعتماد على الذات‪،‬‬ ‫والرتويج لنماذج جديدة لال�ستهالك‪ .‬فمن ال�شائع �أن تقر�أ‬ ‫ٍ‬ ‫ن�شاطات اجتماعية‬ ‫يف �إعالنات ال�صحف الفل�سطينية عن‬ ‫جماعية َّ‬ ‫منظمة من قبل جمموعات من ال�شباب‪ ،‬مثل‬ ‫تنظيف ال�شوارع وزراعة الأ�شجار والر�سم على اجلدران‬ ‫مذيل ًة ب�شعار �صغري ي�شري �إىل ا�سم املتربع‬ ‫وما �إىل ذلك‪ّ ،‬‬ ‫يالحظ �أن كثري ًا من �أن�شطة‬ ‫كما‬ ‫امل�شاريع‪.‬‬ ‫مول هذه‬ ‫َ‬ ‫الذي ّ‬ ‫الـ«�إن جي �أوز» ُتعقد يف فنادق فارهة‪ ،‬التي تقدم � ٍ‬ ‫أطعمة‬ ‫باذخة‪ ،‬وتوزع مواد ّبراقة‪ ،‬وت�ستعني ب�شباب «مت�أنقني»‬ ‫للم�ساعدة يف تنظيم احلدث �أو الن�شاط‪ ،‬الأم��ر الذي‬ ‫التدريجي لل�صورة «القدمية» للنا�شط‬ ‫�أدى �إىل االختفاء‬ ‫ّ‬ ‫االعتيادي بلهجته ومظهره القرويني‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ب�شكل �أكرب بالأبعاد‬ ‫مهتم‬ ‫املقال‬ ‫هذا‬ ‫حال‪،‬‬ ‫أية‬ ‫�‬ ‫وعلى‬ ‫ ‬ ‫ٌّ‬ ‫ال�سيا�سية للتنجيز مبا هو عملية ِ‬ ‫تدخل اي�ضا تغيريات يف‬ ‫تكوين احلركات الن�سائية النخبوية (غويتز ‪ .)1997‬ففي‬ ‫احلالة الفل�سطينية ُيعترب بروز الـ«�إن ج �أوز» وعملية التنجيز‬ ‫ٍ‬ ‫النتقال يف عالقات القوة‪ :‬من «متكني» الن�ساء‬ ‫م�سببان‬ ‫�أنهما ِّ‬ ‫ِ‬ ‫عليهن من قبل‬ ‫على م�ستوى القاعدة �إىل «اال�ستقواء»‬ ‫ّ‬ ‫النخبة اجلديدة (جاد ‪ .)2004‬ومع اعتبار الـ«�إن جي �أوز»‬ ‫والـ«ت�شاركي» بني الداعمني ذوي النوايا‬ ‫للـ«التقدمي»‬ ‫مرادف ًا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫احل�سنة للـ«�إن جي �أوز» الدولية املعروفة‪ ،‬فهذا الرتابط جمرد‬ ‫ووهم يف �أ�سوئها‪.‬‬ ‫تفكري متفائل يف �أف�ضل الأحوال‬ ‫ٌ‬ ‫ن�شوء «جمتمع مدين» فل�سطيني جديد‬ ‫تمُ ِّيز الـ«�إن جي �أوز»‪ ،‬التي انت�رشت يف مرحلة ما بعد‬ ‫�أو�سلو‪ ،‬نف�سها عن الأ�شكال الأقدم التي كانت تندرج‬

‫ّمت اختطاف الأجندة الوطنيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫بعد االنتفا�ضة الثانيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫من قبل الـ«�إن جي �أوز» الدوليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫والدول االجنبية واملانحني الأجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــانب‬ ‫الذين ركّ زوا على جمموعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫حمددة من الق�ضايـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫تخ�ص بناء عملية ال�سالم وت�سوية النزاعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات‬ ‫ّ‬ ‫البع�ض‪ ،‬ب�إعادة �إنتاج البنى االجتماعية البطريركية‬ ‫ال من تغيريها (جوزيف ‪ .)1997‬وقد ال‬ ‫والع�شائرية بد ً‬ ‫تكتفي الـ«�إن جي �أوز» بالإ�سهام يف كبح العنا�رص الأقل‬ ‫«ت�شاركية» يف الثقافة االجتماعية وال�سيا�سية القائمة‪،‬‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫حتت اجلمعيات اخلريية �أو الأطر اجلماهريية‪ ،‬التي كانت‬ ‫لها بني ٌة‪ ،‬وخطاب وقادة وم�شاريع و�شبكات خمتلفة‬ ‫كلي ًا (تركي ‪1989‬؛ �شلبي ‪ .)2001‬كانت املنظمات‬ ‫اجلماهريية الأق��دم بنى منفتحة ذات �أجندات �شعبية‬


‫‪ 2‬منا�ضل طائرة اجلت‬ ‫ ‬ ‫‪Jet-setting Militants:‬‬

‫ظهر م�صطلح‬ ‫«�أنا�س طائرة‬ ‫اجلت» للداللة على‬ ‫امل�شاركني الدائمني‬ ‫يف الن�شاطات‬ ‫وامل�ؤمترات الباذخة‪،‬‬ ‫وعلى جماعة‬ ‫الأغنياء املوجودين‬ ‫ٍ‬ ‫كتجمعات‬ ‫دو ًما‬ ‫يف تلك امل�ؤمترات‬ ‫(حيث يتنقّلون عرب‬ ‫الطائرة اخلا�صة من‬ ‫اجتماع لآخر)‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وقد دخل هذا‬ ‫امل�صطلح �إىل‬ ‫التداول كبديلٍ عن‬ ‫امل�صطلح الأقدم‬ ‫«جمتمع املقهى»‬

‫‪Café Society.‬‬

‫(املرتجم)‬

‫ ‪ 82‬‬

‫ٍ‬ ‫ممكنة من الطالب والعمال‬ ‫ت�سعى حل�شد �أكرب �رشيحة‬ ‫والن�ساء وال�شباب يف تنظيمات تخدم كل هذه القطاعات‬ ‫(هلرتمان ‪ ،)1990‬فيما تن�شط املنظمات الأحدث يف‬ ‫املدينية وتكون‬ ‫املدن وتديرها نخبة من الطبقة الو�سطى‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫كيانات �أ�صغر من �سابقاتها تعتمد على متويل �أجنبي‪.‬‬ ‫القاعدية اجلماهريية منذ بداية‬ ‫ بد�أ انهيار املنظمات‬ ‫ّ‬ ‫الت�سعينيات‪ ،‬حيث كان مرتبط ًا بانهيار ما ت�سميه فيفيان‬ ‫(‪« )2004‬ال�سيا�سات امل�ؤ�س�ساتية»‪� ،‬أي ال�سيا�سات‬ ‫ار�س من خالل م�ؤ�س�سات كاالحتادات النقابية‬ ‫التي تمُ َ‬ ‫والأح��زاب‪ .‬و�أطلقت عملية ال�سالم عملية بناء الدولة‬ ‫التي �أ�صبحت فيها �أجندة اجلندر بيدق ًا بيد الباحثني عن‬ ‫�أ�سا�س جديد لل�رشعية بعد انق�سام �أحزابهم بني الراغبني‬ ‫ٍ‬ ‫ت�شكيل تلفيقي‬ ‫يف بناء جمهور جديد لهم والراغبني يف‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫جديدة بني العموم عرب االدعاء �أن الدولة �ست�ستند‬ ‫لف�سحة‬ ‫َ‬ ‫املواطنة وحقوق املر�أة‪ .‬ومع �أوا�سط الت�سعينيات‪ ،‬مل‬ ‫اىل‬ ‫لت ر�ؤية جندرية متما�سكة‪.‬‬ ‫تكن حركة حما�س قد �شكّ ْ‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬عرب توجيه نريانها اىل �أية جماعة �أو منظمة‬ ‫ميكن �أن تزعم تغيري ال�رشيعة‪ ،‬اطلقت احلركة حملة‬ ‫َّ‬ ‫منظمة لال�ساءة اىل �سمعة املنظمات الن�سائية التي‬ ‫ّتتبع منهج االعتماد على احلقوق‪ ،‬واىل نزع �رشعيتها‪،‬‬ ‫ومعها كل املنظمات الن�سائية الأخرى‪ .‬يف تلك الأثناء‪،‬‬ ‫كانت الـ«�إن جي �أوز» اجلديدة تنازع الأ�شكال القدمية‬ ‫للمنظمات القاعدية اجلماهريية على ال�رشعية واملوارد‬ ‫والف�ضاء يف االماكن العامة‪.‬‬ ‫ مل يكن االنتقال من تب ّني الأجندة اجلندرية �إىل‬ ‫االهتمام املتجدد بالأجندة الوطنية معتمدا على‬ ‫ارتباط م�ستمر باجلماهري الفل�سطينية �أو ب�أي انغما�س‬ ‫يف الن�شاط الوطني‪ ،‬بل كان ذلك ب�سبب الـ«�إن جي‬ ‫�أوز» الدولية وغريها من الالعبني الدوليني الذين كان‬ ‫�وري يف اختيار نظرائهم الفل�سطينيني‬ ‫لهم دور حم� ٌّ‬ ‫ممّن انتقوهم بعناية للتحدث با�سم امل�صلحة الوطنية‬ ‫الفل�سطينية‪ .‬ولقد ّمت اختطاف الأجندة الوطنية ب�شكل‬ ‫فعلي‪ ،‬بعد االنتفا�ضة الثانية‪ ،‬من قبل الـ«�إن جي �أوز»‬ ‫الدولية وال��دول االجنبية واملانحني الأجانب الذين‬ ‫تخ�ص بناء‬ ‫ركّ زوا على جمموعة حمددة من الق�ضايا‬ ‫ّ‬ ‫عملية ال�سالم وت�سوية النزاعات وق�ضايا مماثلة �أخرى‪.‬‬ ‫ولقد خلقوا جمهورا يتكون من جماعات ب�أكملها باتت‬ ‫هي املحاورة للوكاالت الدولية‪.‬‬ ‫ ترافقت احلاجة لالخت�صا�صيني – �أو «املخت�صني»‬ ‫املحلي – مع تنامي �شاطات املنظمات‬ ‫بح�سب اال�صطالح‬ ‫ّ‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ٍ‬ ‫بحاجة �إىل‬ ‫الن�سائي‬ ‫الن�سائية‪ .‬وكان النا�شطون يف املجال‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫اخت�صا�صية «لدفع عملنا اىل امام»‪ :‬ولقد‬ ‫مبهارات‬ ‫�أ�شخا�ص‬ ‫ّمت تزويد االخت�صا�صيني يف جمال�س الإدارة ويف الإدارات‬ ‫مب�صالح خمتلفة ور�ؤية بديلة‪ .‬و�شهدت الفرتة بني عامي‬ ‫الن�سوية‪ .‬وطرح‬ ‫‪ 1988‬و‪ 1994‬انت�شار ًا للمنظمات‬ ‫ّ‬ ‫العدد املتنامي للم�ؤ�س�سات خطاب ًا جديد ًا بخ�صو�ص‬ ‫ومكانتهن‪ ،‬ولكن يف اطار من االنهيار امل�ستمر‬ ‫الن�ساء‬ ‫ّ‬ ‫«االخت�صا�صي»‬ ‫الن�سائي‪ .‬وكان التمايز بني‬ ‫للحراك‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫و«ال�سيا�سي» �أحد العوامل التي �أ�ضعفت �أنواع املبادرات‬ ‫ّ‬ ‫التي كانت موجود ًة يف ما �سبق بني املنظمات الن�سائية‬ ‫يف فل�سطني‪ .‬و�أدى التخ�ص�ص �إىل دفع امل�س�ؤولية نحو‬ ‫الأعلى ال نحو الأ�سفل؛ نحو الإق�صاء ال االحتواء؛ كما‬ ‫�أن «الت�سل�سل الهرمي» يجلب البريوقراطية معه‪ .‬وكما‬ ‫يالحظ فريدمان‪ ،‬فبالنتيجة «ت�سعى ال�سلطة لالنتقال نحو‬ ‫الأعلى‪ ،‬في�سود التخ�ص�ص (الذي يكون نازع ًا لل�سلطة‬ ‫ب�شكل دائم تقريب ًا)» (‪.)142 :1992‬‬ ‫ يف تلك الفرتة‪ ،‬ك��ان ثمة طلب متزايد من قبل‬ ‫ٍ‬ ‫�صوت‬ ‫منظمات املر�أة وحقوق الإن�سان الدولية لت�ضمني‬ ‫فل�سطيني يف ن�شاطاتها‪ .‬وقد �أدى هذا �إىل ما يدعوه‬ ‫ٍّ‬ ‫الفل�سطينيون بـ«منا�ضلي احلقيبة» �أو «منا�ضلي طائرة‬ ‫ال كثريٍ ًا‬ ‫اجلت»‪ . 2‬وفيما �شهدت االنتفا�ضة الأوىل انف�صا ً‬ ‫من القادة الن�ساء عن املنظمات القاعدية اجلماهريية‬ ‫يل (عرب امل�شاركة يف كثريٍ من‬ ‫ل�صالح املجتمع ال��دو ّ‬ ‫الن�شاطات وامل ��ؤمت��رات) �شهدت االنتفا�ضة الثانية‬

‫تنجيز الأجندة الوطنية‬ ‫الن�سائي منغم�سني ب�شكل كبري‬ ‫كان النا�شطون يف املجال‬ ‫ّ‬ ‫يف احلركة الوطنية الفل�سطينية منذ البداية‪ .‬ولقد �سعوا‬ ‫العربي‬ ‫�إىل حتريك الر�أي العام‪� ،‬سواء كان ذلك يف العامل‬ ‫ّ‬ ‫�أو يف عموم العامل‪ ،‬لدعم حقوقهم الوطنية يف اال�ستقالل‬ ‫الذاتي‪ .‬ومتت ا�ستعادة هذا الدور يف ما بعد عرب‬ ‫واحلكم‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫أ�سا�سي خارج‬ ‫ب�شكل �‬ ‫االحتاد العام للمر�أة الفل�سطينية‬ ‫ٍّ‬ ‫الأرا�ضي املحتلة‪ .‬وخالل االنتفا�ضة الفل�سطينية الأوىل‬ ‫وانتقال مركز ال�رصاع �إىل الأرا�ضي املحتلة‪ ،‬حملت‬ ‫احلركات الن�سائية الفل�سطينية على عاتقها هذا الدور‬ ‫ٍ‬ ‫جمهز ًة‬ ‫ب�شكل كبري‪ ،‬حيث كانت‬ ‫يف الأرا�ضي املحتلة‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫اليومي يف ظل‬ ‫ب�شكل �أمثل للتعبري عن معاناتها وواقعها‬ ‫ّ‬ ‫إ�رسائيلي‪.‬‬ ‫ال�سيا�سات التي متار�سها قوات االحتالل ال‬ ‫ّ‬ ‫ وعلى �أية حال‪ ،‬فابتدا ًء من الت�سعينيات‪ ،‬بد�أت �آثار‬ ‫بالتو�ضح �ضمن ت�شكيل الأجندة الوطنية‪ .‬وقد‬ ‫التنجيز‬ ‫ّ‬ ‫كانت هذه املكانة مقبول ًة لأن بع�ض �أكرب ممويل الـ«�إن‬ ‫ٍ‬ ‫«�رشوط اللياقة ال�سيا�سية»‬ ‫جي �أوز» الفل�سطينية �أكدوا‬ ‫يف حماولة لف�صل هذه املنظمات عن ال�سيا�سة‪ .‬وجمدد ًا‪،‬‬ ‫�سيكون احلديث جمرد �إفراط يف التب�سيط فيما لو اعتربنا‬ ‫الـ �إن جي �أوز متل ّقني �سلبيني‪ ،‬وب�أن املمولني‪ ،‬بكل ب�ساطة‪،‬‬ ‫يتبعون �أو ينفذون �سيا�سات حكوماتهم‪ .‬ودار جدلٌ ب�أن‬ ‫ّ‬

‫كان خطـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاب‬ ‫الـ �إن جي �أوز يُ�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتخدم‬ ‫خللق ف�ضا ٍء يف املجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــال‬ ‫العام على ح�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاب‬ ‫املنظمات القاعديّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫اجلماهريية القدميــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬

‫ُت�ؤخذ كثري من القرارات ال�سيا�سيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫املتعلقة بق�ضايا حموريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫ترتبط بالالجئني‪ ،‬القد�س‪� ،‬أ�شكــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــال‬ ‫املقاومة‪ ،‬و�شكل الدولة امل�ستقبليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫يف امل�ؤمترات يف املجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــال‬ ‫الدويلّ دون ا�ست�شارة �أحد يف البـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالد‬

‫ال �إىل قادة «�إن جي �أوز» ممثلني ل�صوت «املجتمع‬ ‫انتقا ً‬ ‫الفل�سطيني‪ .‬ومن خالل حتليل هذا االنتقال‪،‬‬ ‫ين»‬ ‫املد ّ‬ ‫ّ‬ ‫ي�سميانه بروز «نخبة ُمعوملة»‬ ‫ي�شري حنفي وطرب �إىل ما‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫فل�سطينية �أكرث ارتباط ًا بالفاعلني الدوليني �أي الـ«�إن جي‬ ‫�أوز» واملمولني باملقارنة مع ال�رشائح االنتخابية املحلية‪،‬‬ ‫حيث متيزوا بكونهم تابعني لأجند ٍة دولية‪ ،‬داعمني لعملية‬ ‫ال�سالم‪ ،‬مدنيينّ واخت�صا�صيني (حنفي وطرب ‪.)2002‬‬ ‫وقد لوحظ ب�أن «النخبة املعوملة» �أ�سقطت النخبة القدمية‬

‫الـ«�إن جي �أوز» املحلية‪ ،‬عالو ًة على املمولني الدوليني‪،‬‬ ‫متلك ف�سح ًة للتفاو�ض على عالقاتهم املتبادلة‪ .‬فعلى �سبيل‬ ‫املثال‪ ،‬يقول كوهني وكوماروف ب�أن الـ«�إن جي �أوز» «ال‬ ‫ٍ‬ ‫عالقات من خالل �إقناع‬ ‫تلبي حاج ًة‪ ،‬بل ُتفاو�ض على‬ ‫ّ‬ ‫الأطراف الأخرى‪ ،‬اي املنظمات‪ ،‬الأحداث والعمليات‬ ‫تت�رصف ك�سما�رسة للمعاين» (كوهني وكوماروف‬ ‫[‪ ]...‬ب�أنها‬ ‫ّ‬ ‫مقتب�س يف هلهور�ست ‪.)191 :2003‬‬ ‫‪َ 88 :1976‬‬ ‫ٍ‬ ‫ وبغية �صياغة � ٍ‬ ‫أ�سا�س جديد لل�رشعية ـ متمايزٍ عن ذاك‬

‫(اجلمعيات اخلريية والأن�شطة القاعدية الن�سائية)‪ ،‬من‬ ‫ٍ‬ ‫التنظيمي‪.‬‬ ‫و�سباق عل اال�ستمرار‬ ‫خالل عملية تناف�س‬ ‫ّ‬

‫ ‪ 83‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫املكت�سب من خالل م�شاركة القادة القاعديني للحركات‬ ‫الوطني ‪� -‬أفرط النا�شطون اجلدد‬ ‫الن�سائية يف الن�ضال‬ ‫ّ‬ ‫(قادة املنظمات غري احلكومية) يف ا�ستخدام لغة «اخلربة‬ ‫ّ‬ ‫املطلعة» ويف ارتباطاتهم مع املتربعني الدوليني‪ .‬و�أ�صبح‬ ‫من املعتاد �أن ت�سمع‪ ،‬يف هذه اللقاءات‪ ،‬عن عدد ممثلي‬ ‫الدول املهمني ووكاالت الأنباء الذين التقوا به�ؤالء القادة‬ ‫الن�سائيني اجلدد‪ ،‬وعن عدد اجلوائز الدولية التي نالوها‬ ‫وتقدم املر�أة‪ .‬ورغم‬ ‫بف�ضل جهودهم يف «عملية ال�سالم»‬ ‫ُّ‬ ‫قابل‬ ‫ذلك‪ ،‬مل تكن هذه اللغة مقنع ًة للقادة القدماء‪ ،‬بل و ُت َ‬ ‫�أحيان ًا بال�سخرية‪ ،‬على حد تعبري �أحد القادة «القدماء»‪:‬‬ ‫«حني كنا ّ‬ ‫ننظم املظاهرات‪ ،‬كانوا يوقفون �سياراتهم �أمام‬ ‫ويخرجون �شعاراتهم ويقفون يف ال�صف‬ ‫التظاهرات‪ُ ،‬‬ ‫الأول ليتم ت�صويرهم‪ .‬لعل مبقدورهم ت�سويق هذا للخارج‪،‬‬ ‫ي�صدق ذلك يف الداخل»‪.‬‬ ‫ولكن مل يكن ثمة من‬ ‫ّ‬ ‫م�رشوع‬ ‫االجتماعي �إىل‬ ‫حتولت الدعوة للتغيري‬ ‫ٍ‬ ‫ لقد ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وميزانية حمدود ٍة ينبغي �أن‬ ‫زمني‪،‬‬ ‫وجدول‬ ‫زي وخطة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫متويل �أكرب‪.‬‬ ‫يكون «مملوك ًا» بهدف الرتويج له وت�أمني‬ ‫ويتفاقم هذا الأمر مع «متالزمة الر�صا�صة ال�سحرية»‬ ‫(فيفيان ‪ :)1994‬الر�أي املنت�رش بني �أع�ضاء الـ«�إن جي‬ ‫�أوز» امل�س�ؤولني عن ت�صميم و�إنتاج وترويج امل�شاريع ب�أن‬ ‫عليهم �إثبات جناحهم فيما لو �أرادوا احلفاظ على متويلهم‪.‬‬ ‫وثمة الزم ٌة مرتافق ٌة مع متالزمة الر�صا�صة ال�سحرية هي‬ ‫مبالغ‬ ‫جناح‬ ‫نزع ٌة لتمويه الأخطاء وتقدمي امل�رشوع كق�صة ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ناق�ص‬ ‫بها‪� .‬إن التف�سري املعتمد ح�رصي ًا على �ضغط املتربع‬ ‫ٌ‬

‫على �أية حال‪� ،‬إذ ميكن اعتبار الـ«�إن جي �أوز» �إ�سهام ًا يف‬ ‫ق�ص�ص جناح املمولني‪ .‬وحني يكون املمولون ُمنقادين‬ ‫مبنطق فعالية �أموالهم‪ ،‬فالـ«�إن جي �أوز» منقاد ٌة ب�رضورات‬ ‫التخ�ص�ص والرتويج‪� .‬إنه «منطق امل�رشوع» �إذ ًا‪ ،‬وتنجيز‬ ‫االجتماعي وامل�شاركة ال�شعبية‪،‬‬ ‫الق�ضايا املرتبطة بالتغيري‬ ‫ّ‬ ‫و�ضع تكون فيه هذه‬ ‫ما ينبغي التدقيق فيه‪ .‬ولي�س ثمة‬ ‫ٌ‬ ‫احلالة يف �أق�صاها �أكرث مما يتعلق بالن�شاطات املرتافقة‬ ‫بـ«ال�سالم» يف هذه املنطقة‪.‬‬


‫يكون االخت�صا�صيون املحليون على م�ستوى التوقعات‪،‬‬ ‫االفرتا�ضي»‬ ‫تتزايد فر�صهم لي�صبحوا جزء ًا من «املجتمع‬ ‫ّ‬ ‫(كا�ستيلز ‪ )1996‬الذي يخلق طريقا للمهنة قامت‬ ‫ب�ش ّقه تلك املنظمات ذات التوجهات الإن�سانية التي‬ ‫ت�صوغ ثقافتهم ونظام �إميانهم‪ .‬ويت�ضمن هذا النظام �إميانا ً‬ ‫الب�رشي يف م�س�ؤولية احلكومات‬ ‫مبركزية التنمية للتقدم‬ ‫ّ‬ ‫عن ترويجها‪ ،‬يف احلاجة للم�ساعدة التنموية الدولية‬ ‫لدعمها‪ ،‬يف تعريف التنمية بح�سب ال�رشوط «الإن�سانية»‬ ‫ال االقت�صادية (�أو ال�سيا�سية) (ت�شابوت ‪ .)1999‬وبذا‪،‬‬ ‫ال تكون ال�صلة مع املانحني الدوليني طريق ًا باجتا ٍه واحد‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫�شبكة من‬ ‫بل يتفاعل املانحون واملمثلون املحليون يف‬ ‫العالقات الأكرث تعقيد ًا من جمرد فر�ض طرف ما �إرادته‬ ‫على الآخ��ر‪ .‬هذا ال يعني ب�أن للطرفني ال�سلطة ذاتها‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫إ�شكالية يف ال�صالت بينهم لتت�ضمن‬ ‫بل ملجرد �إيجاد �‬ ‫امل�صالح ال�شخ�صية ٍ‬ ‫لكل من املانح واملتل ّقني مما يعطيهم‬ ‫ال�سلطة لتحديد ما ينبغي الأخذ به وما ينبغي تركه‪.‬‬

‫نظام احلكم العاملي‪ .‬وتقول ب�أن ه�ؤالء املمثلني الدوليني‬ ‫ٍ‬ ‫متزايد على دور‬ ‫أكيد‬ ‫قاموا بتطوير «خطاب‬ ‫ٌ‬ ‫تنمية‪ ،‬فيه ت� ٌ‬ ‫العوامل اخلارجية يف التنمية الوطنية‪ ،‬ويقوم‪ ،‬يف الوقت‬ ‫ٍ‬ ‫ف�ضاء‬ ‫الذاتي للدولة وخلق‬ ‫ذاته‪ ،‬بتحقيق اال�ستقالل‬ ‫ّ‬ ‫للمثلني غري املرتبطني بالدولة يف التنمية» (‪.)238:1999‬‬ ‫ واين �أجادل ب�أنهم‪ ،‬عالوة على قدرتهم على �إقناع‬ ‫املتربعني الدوليني ب�أهمية عملهم‪ ،‬ينغم�س «نا�شطو‬ ‫ال�سالم»‪ ،‬بالقدر ذاته‪ ،‬يف هذه العملية مدفوعني مب�صاحلهم‬ ‫الذاتية‪ .‬وارى ان اال�شتغال يف ن�شاطات «عملية ال�سالم»‬ ‫قبل كثريٍ من ال��ـ«�إن جي �أوز»‪ ،‬بعيد ًا عن ق�ضية‬ ‫من َ‬ ‫ح�صولها على التمويل‪ ،‬يدعم رغبتها باكت�ساب املزيد‬ ‫من ال�سلطة وال�رشعية‪� ،‬إذ قد ي�سهم ن�شاط «عملية‬ ‫ٍ‬ ‫�سلطة لنخبة‬ ‫ال�سالم»‪ ،‬يف نهاية الأمر‪ ،‬يف ت�شكيل قاعدة‬ ‫الـ«�إن جي �أوز» للو�صول �إىل مواقع �صنع القرار �سواء‬ ‫يف ال�سلطة الفل�سطينية �أو يف قيادة احلركات الن�سائية‬ ‫الفل�سطينية وغريها من احلركات الأخرى‪.‬‬

‫املربمج مب�شاريع‬ ‫ال�سالم‬ ‫َ‬ ‫الب�رصي لـ «عملية ال�سالم» (امل�صافحة بني‬ ‫ترافق املظهر‬ ‫ّ‬ ‫رابني وعرفات يف حديقة البيت الأبي�ض عام ‪)1993‬‬ ‫بغزار ٍة مع امل�شاريع املتمحورة حول ت�سوية النزاع‪،‬‬ ‫معايري بناء ال�سالم‪ ،‬بناء الثقة‪« ،‬توليد عملية ال�سالم»‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ممولة من متربعني دوليني‪ .‬وعاد ًة‬ ‫و«املفاو�ضات املوازية»‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ما تت�ضمن هذه امل�شاريع‪ ،‬املكتوبة ب�إنكليزية تقنية عالية‪،‬‬ ‫نا�شطني يف �ش�ؤون امل��ر�أة يف م� ٍ‬ ‫ؤمترات ب�أوروبا �أو يف‬ ‫اللقاءات الأمريكية مع �إ�رسائيليني‪ ،‬بهدف حتطيم احلواجز‬ ‫النف�سية‪ ،‬دفع الن�ساء �إىل �صنع القرار‪ ،‬وتقوية املفاو�ضات‬ ‫املوازية املعتمدة على اجلندر‪ .‬ويف معظم احلاالت كان‬ ‫اختيار النظراء املحليني يقع على عاتق املمثلني الدوليني‪.‬‬ ‫ ُت�ؤخذ كثري من القرارات ال�سيا�سية املتعلقة بق�ضايا‬ ‫حمورية ترتبط بالالجئني‪ ،‬القد�س‪� ،‬أ�شكال املقاومة‪ ،‬و�شكل‬ ‫يل دون‬ ‫الدولة امل�ستقبلية يف امل�ؤمترات يف املجال الدو ّ‬ ‫ا�ست�شارة �أحد يف البالد‪ .‬قد يجادل البع�ض بعدم وجود‬ ‫نظري لال�ست�شارة‪ .‬قد يكون هذا �صحيح ًا‪ ،‬وبالفعل ف�إن‬ ‫كثري ًا من املمثلني الذكور يف املجال الدو ّ‬ ‫يل ال ي�ست�شريون االخت�صا�صيون اجلدد‬ ‫�أح��د ًا «يف البالد»‪ .‬ولكن االختالف يف ن�شطاء الـ«�إن لقد �أنتج اجل َْمع بني التعليم وخ�برة العمل ك��ادر ًا من‬ ‫جي �أوز» الفل�سطينية هو �أنهم غري مدعومني من � ّأي ممث ٍل االخت�صا�صيني الدوليني يف التنمية ممن يق�ضون جلّ‬ ‫�رشعي يف ال�سلطة الفل�سطينية �أو املجتمع‬ ‫�سيا�سي‬ ‫املدين‪ ،‬حياتهم العملية يف �سل�سلة من التكليفات يف العوا�صم‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫حزب‬ ‫أو‬ ‫�‬ ‫انتخابية‬ ‫�رشيحة‬ ‫أية‬ ‫�‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫ينتمون‬ ‫ال‬ ‫�إذ هم‬ ‫�سيا�سي الكربى العاملية وعوا�صم البالد منخف�ضة الدخل‪ .‬وتقرتح‬ ‫ٍّ‬ ‫وادعاء امل�ؤهالت والتخ�ص�صات الن�سوية هو كارابيكو �أن ه�ؤالء االخت�صا�صيني �أ�صبحوا منف�صلني‬ ‫�أو منظمات‪ّ .‬‬ ‫املعيار ال‬ ‫ال للم�شاركة يف بدرجة ما عن بالدهم الأ�صلية؛ �إذ قد تكون �آرا�ؤه��م‬ ‫أ�سا�سي لكي يكون املرء م� ّؤه ً‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫وقنوات‬ ‫‪،‬‬ ‫فية‬ ‫بحر‬ ‫املكتوبة‬ ‫التقارير‬ ‫وتعد‬ ‫ؤمترات‪.‬‬ ‫هذه امل�‬ ‫امل�رشعني واملواطنني‬ ‫م�صالح‬ ‫عن‬ ‫ا‬ ‫كلي‬ ‫ة‬ ‫خمتلف‬ ‫وم�صاحلهم‬ ‫ً ً‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ميولون منظمات التنمية الدولية‪.‬‬ ‫التوا�صل ال�سهلة والفعالة هام ًة يف هذا ال�سياق‪ .‬وعلى االعتياديني الذين ّ‬ ‫مموليهم‪ ،‬يجدون‬ ‫�أية حال‪ ،‬ف�إن بع�ض نخب هذه الـ«�إن جي �أوز» يفتقرون ومع احلفاظ على تلك امل�سافة عن ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫للتدريب‬ ‫�شخ�صية‬ ‫إغ��راءات فريد ًة ملمار�سة امتيازات‬ ‫ال�سيا�سي كقاد ٍة نا�شطني‪ ،‬الأمر الذي ي�ؤثر‪ ،‬يف فر�ص ًا و�‬ ‫ّ‬ ‫كثريٍ من الأحيان‪ ،‬على �رشعيتهم يف البالد‪.‬‬ ‫واخت�صا�صية‪� .‬إن ه�ؤالء االخت�صا�صيني‪ ،‬ال ال�سيا�سيني �أو‬ ‫ �إن انت�شار �أنواع حمددة من امل�شاريع يرتبط عاد ًة الدبلوما�سيني الوطنيني‪ ،‬هم من �أ�س�س اخلطاب التنموي‬ ‫م�سودات‬ ‫وكت َب تقارير الأمم املتحدة‪ ،‬وو�ضعو‬ ‫ب�سلطة جماعة املتربع يف الإمالء �أو الت�أثري على �أجندات الدويلّ‪َ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫و�صمم اال�سرتاتيجيات‬ ‫الـ �إن جي �أوز املحلية (كوينربت و�سنغر ‪1996‬؛ الت�رصيحات يف امل ��ؤمت��رات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويدعي البع�ض �أن تدفق الالحقة للم�ؤمترات و�ساعد ال��دول‪-‬الأمم اجلديدة على‬ ‫بنتو‪-‬دو�شين�سكي ‪ّ .)1991‬‬ ‫مثل هذه امل�شاريع ال يعك�س بال�رضورة �سيا�س ًة ممنهج ًة تغيري �سيا�ساتها التنموية الوطنية (كارابيكو ‪.)2002‬‬ ‫من قبل الـ«�إن جي �أوز» واملتربعني الدوليني‪ .‬فمجتمع ومع حيازتهم ل�سلطة الـ«�إن جي �أوز» الدولية‪ ،‬قد‬ ‫ٍ‬ ‫املتربع الدو ّ‬ ‫متويل‬ ‫يل لي�س متناغم ًا‪ ،‬بل مرتبط مب�صالح‪ ،‬ر�ؤى‪ ،‬يظن املرء �أن مبقدور بع�ض هذه ال�سلطة تقدمي‬ ‫ّ‬ ‫و�سيا�سات متباينة‪ .‬وعلى �سبيل املثال‪ ،‬تقرتح ت�شابوت‬ ‫مقطر ومزيد من النفوذ لالخت�صا�صيني املحليني «للقيام‬ ‫االخت�صا�صي»‪� ،‬أي �إجن��از خطة امل�رشوع‪،‬‬ ‫(‪ )1999‬ب�أن ثمة اخت�صا�صيني دوليني يف التنمية بالعمل‬ ‫ّ‬ ‫ا�ستخدموا م�صاحلهم ال�شخ�صية‪ ،‬املختلفة عن م�صالح والرتويج والتقييم‪ ،‬على الأر�ض‪ .‬وتتزايد قوة العالقات‬ ‫االخت�صا�صي‪ .‬ومبقدار ما‬ ‫املمول مبقدار جودة العمل‬ ‫مموليهم‪ ،‬لتحقيق دورٍ �أكرب للـ«�إن جي �أوز» الدولية يف مع ّ‬ ‫ّ‬

‫ ‪ 84‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫مالحظات ختامية‬ ‫ٍ‬ ‫يف التحليل ال�سابق‪� ،‬أجادل ب�أن التخ�ص�ص‪ ،‬كجزء من‬ ‫ٍ‬ ‫م�شاركة �أكرب لـ«اجلماعات‬ ‫عملية التنجيز‪ ،‬قد ال يقود �إىل‬ ‫امل�ستهدفة» �أو م�ستوى القاعدة اجلماهريية‪ .‬فـ«منطق‬ ‫َ‬ ‫امل�رشوع» يدفع ُق ُدم ًا نحو الأعلى باجتاه امل�شاركة‬ ‫العمودية‪ ،‬ال نحو الأ�سفل باجتاه امل�شاركة الأفقية‪ ،‬وقد‬ ‫يقود �إىل تركيزٍ �أكرب لل�سلطة يف يد الإداريني‪ .‬وي�ؤدي‬ ‫االجتماعي �إىل‬ ‫التنجيز �إىل حتويل الدعوة للتغيري‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫م�رشوع ٍ‬ ‫زمني‪ ،‬وميزانية حمدودة يكون‬ ‫بخطة‪ ،‬جدول‬ ‫ّ‬ ‫«مملوكا» للرتويج‪ ،‬وي�ستخدم لأغرا�ض امل�س�ؤولية وجها‬ ‫ً‬ ‫لوجه مع املمولني‪ .‬وقد ي�ؤدي تركيز ال�سلطة هذا �إىل كبح‬ ‫ٍ‬ ‫حاجة م�ستمرة الرتباط‬ ‫اجتماعي يكون يف‬ ‫انت�شار حراك‬ ‫ّ‬ ‫يومي‬ ‫ال�شبكي‪ ،‬الت�أنيّ ‪ ،‬واحل�شد‪ ،‬ويعتمد على ات�صال‬ ‫ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫و�صالت �شخ�صية‪� .‬إن عملية االنت�شار هذه م�سته ِلكة‬ ‫ٍ‬ ‫زمني‪ ،‬ال �سيما‬ ‫جدول‬ ‫للزمن و�صعبة على االحتواء يف‬ ‫ّ‬ ‫يف الو�ضع دائم التغيرّ يف فل�سطني‪ .‬ويف هذا ال�سياق‪،‬‬ ‫قام التخ�ص�ص ومنطق امل�رشوع بتقدمي قاعدة �سلطة‬ ‫جديد ٍة لنخب الـ«�إن جي �أوز» النتقاء ق�ضايا املر�أة التي‬ ‫ينبغي دفعها �أمام االهتمام العام‪ .‬وي�ؤدي نق�ص الوعي‬ ‫عند اخت�صا�صيي الـ«�إن جي �أوز» يف القوى الفاعلة‬ ‫ين واملجال العام �إىل املجازفة ب�إ�ضعاف‬ ‫يف املجتمع املد ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الدعوات �إىل عالقات جندرية �أكرث اتزان ًا‪ ،‬وتر�سيخ‬ ‫ين‪.‬‬ ‫املزيد من املمثلني املحافظني يف املجتمع املد ّ‬

‫ ‪ 85‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ وغالب ًا ما يتم تقدمي الـ «�إن جي �أوز»كمتل ّقني �سلبيني‬ ‫اخلارجي‪ ،‬حتت رحمة ميول املتربعني‪ .‬ولكن حتليل‬ ‫للت�أثري‬ ‫ّ‬ ‫الـ «�إن جي �أوز املعتمدة على التربعات» يف فل�سطني‬ ‫يو�ضح الدرجة التي و�صل �إليها ممثلو الـ«�إن جي �أوز»‬ ‫يف امتالك ال�سلطة للتالعب‪� ،‬إعادة التفاو�ض‪ ،‬و�شرَ ْ َع َنة‬ ‫�أجندات املتربعني‪ ،‬م�ستخدمني املبالغ املخ�ص�صة لل�سالم‬ ‫لتو�سيع �أجنداتهم اخلا�صة‪� .‬إنهم جزء من «نخبة معوملة»‬ ‫وبذلك يكونون مرتبطني بالالعبني الدوليني وتابعني‬ ‫لأجندات دولية‪ .‬وقد �أثبتت هذه ال�صالت حمورية‬ ‫حمول ًة‬ ‫دورها يف «تنجيز» الأجندة الوطنية يف فل�سطني‪ِّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ودولة ذات �سيادة‬ ‫الذاتي‬ ‫�إياها من ن�ضال لتحقيق احلكم‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫خا�ضعة لتمويل املتربع‪ ،‬بحيث يلعب‬ ‫�إىل «م�شاريع»‬ ‫املتربعون دور ًا حموري ًا يف انتقاء نظرائهم املحليني‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫كنتيجة ل�صعود ال��ـ«�إن جي �أوز» ككلمة‬ ‫ وما نراه‬ ‫ط ّنانة تنموية هي نزعة لتخطئة � ّأي وكلّ منظمة تتبنى هذا‬ ‫امل�صطلح العتبار نف�سها تقدمية ودميقراطية‪ .‬ويف حالة‬ ‫فل�سطني‪ ،‬كان خطاب الـ«�إن جي �أوز» ُي�ستخدم خللق‬ ‫ٍ‬ ‫القاعدية‬ ‫ف�ضاء يف املجال العام على ح�ساب املنظمات‬ ‫ّ‬ ‫اجلماهريية القدمية‪ .‬وقد �أعادت �صياغة الأ�سا�س «القدمي»‬ ‫لل�رشعية القائم على املقاومة والت�ضحية ك� ٍ‬ ‫أ�سا�س لتبعية‬ ‫الكلي‬ ‫ال يف ال�سياق‬ ‫املر�أة وعزلها‪ .‬وقد �ساهمت قلي ً‬ ‫ّ‬ ‫وال�سيا�سي باملقارنة مع رغبات‬ ‫االقت�صادي‬ ‫االجتماعي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املتربعني والنخب الذين كانوا ي�سعون لدفع النمو‬ ‫ّ‬ ‫املت�سارع لهذه املنظمات يف هذا الو�ضع‪ .‬ومبواجهة هذه‬ ‫اخللفية‪� ،‬أ�ؤمن ب�أن الـ«�إن جي �أوز» الن�سائية واخلطابات‬ ‫اجلديدة التي جلبوها �إىل الف�ضاء العام قد عملت–و� ْإن‬ ‫ٍ‬ ‫متعمد – لنزع ال�سلطة‪ ،‬وتقوي�ض ال�رشعية‬ ‫ب�شكل غري‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ين‬ ‫والت�سبب يف‬ ‫ت�شظي املمثلني العلمانيني للمجتمع املد ّ‬ ‫ّ‬ ‫وحركاتهم يف فل�سطني‪.‬‬ ‫ ومبواجهة كل االفرتا�ضات املنت�رشة يف دوائر التنمية‬ ‫الدولية القائلة ب�أن الـ«�إن جي �أوز» �أقرب اىل «ال�شعب»‪،‬‬ ‫ق��ادرة على خماطبة اجلماهري على م�ستوى القاعدة‬ ‫وحمرك للدمقرطة والتنمية‪ ،‬تبدو احلالة الفل�سطينية مثل‬ ‫منب ٍه �شديد للحاجة �إىل الذهاب �أبعد من الكلمة الط ّنانة‬ ‫ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫طويلة وحاد ٍة �إىل ما يحدث‬ ‫بحد ذاتها‪ ،‬والت�أمل بنظر ٍة‬ ‫ّ‬ ‫طرحت هنا‪ ،‬مبا �أن تنجيز احلركات الن�سائية‬ ‫فعلي ًا‪ .‬وكما‬ ‫ُ‬ ‫الفل�سطينية وا�ستخدام الـ«�إن جي �أوز» الن�سائية كعملة‬ ‫تروجه الـ«�إن جي �أوز» الدولية قد‬ ‫يف احلديث الذي ّ‬ ‫�ساهم يف تنامي ال�سلطة وال�رشعية للإ�سالمويني‪ ،‬فمثل‬ ‫هذه النتيجة كافي ٌة ليكون هذا االحرتاز �رضوري ًا‪.‬‬


‫فالواقع هو �أن «عملية �أو�سلو» �أع��ادت �إنتاج فئات‬ ‫طبقية جديدة من النخب الإقت�صادية ‪ -‬ال�سيا�سية ‪-‬‬ ‫االجتماعية املفرغة من امل�ضمون ال�سيا�سي الوطني‪،‬‬ ‫والتي �أ�صبح دورها الأ�سا�س يتمثل يف تر�سيخ الوهم‬ ‫اجلماعي ب�أننا ن�سري على طريق حترير الأر�ض ونحو‬ ‫هدف التحرر االقت�صادي‪ .‬وما �أحدثته هذه العملية من‬ ‫مفارقات هو ن�شوء حتالف ثالثي غري ر�سمي م�شكل من‬ ‫(‪ )1‬النخب ال�سيا�سية الر�أ�سمالية الفل�سطينية امل�ستحدثة‬ ‫(‪ )2‬املنظمات الفل�سطينية «التنموية» غري احلكومية‬ ‫(‪ )3‬الدعم ال�سيا�سي اخلارجي (الغربي) الذي توفره‬ ‫وك��االت امل�ساعدات العابرة للحدود القومية (�أو ما‬ ‫ي�سمى املانحني)‪.‬‬ ‫ ال ميكنني ان �أزعم �أن هذا التحالف هو بال�رضورة‬ ‫حتالف واع لذاته‪� ،‬أي �أنه حتالف خمطط له م�سبق ًا من‬ ‫قبل الأط��راف الثالثة املعنية‪ .‬لكن‪ ،‬وبا�ستمرار قبول‬ ‫الو�ضع الراهن الذي بني على فر�ضية داخلية مت الرتويج‬ ‫لها‪ ،‬ومفادها عدم وج��ود �أي تناق�ض بني االحتالل‬ ‫اال�ستيطاين و«تنمية» املجتمع‪ ،‬بل �أكرث من ذلك‪ ،‬ب�أن‬ ‫هذه «التنمية املتخيلة» ال ميكن �أن حتدث �إال بقبول‬ ‫ا�ستمرارية هذا االحتالل كظاهرة طبيعية‪ ،‬والتطبيع‬ ‫معها‪ ،‬ي�صبح هذا التحالف الثالثي هادف ًا ومتعمد ًا‪ .‬فكلما‬ ‫ازداد التقارب بني �أطراف هذا التحالف الثالثي �أ�صبحت‬ ‫ادع��اءات التنمية الر�سمية �أكرث �أ�سطورية وخداع ًا‪،‬‬ ‫�أي‪ ‬بعبارة �أخرى‪ ،‬ي�صبح هدفها الأ�سا�سي هو تهمي�ش‬ ‫�أكرب عدد ممكن من النا�س‪.‬‬ ‫ ما مييز هذا اال�ستعمار اجلديد حتت �سلطة «احلكم‬ ‫الذاتي الفل�سطيني» هو �أنه ال مييز فل�سطني املحتلة‬ ‫‪ 1967‬عن باقي املناطق يف العامل التي �أخ�ضعت لهذا‬ ‫النوع من اال�ستعمار اجلديد‪ ،‬ابتدا ًء من ال�سبعينيات‬ ‫من القرن املا�ضي‪ ،‬و�ضمنت ا�ستدامته من خالل‬ ‫هيمنة قيادات حملية (تو�صف بالوطنية)‪� ،‬أفرزتها هذه‬ ‫العملية كمقوم �أ�سا�سي لنجاحها‪ .‬وبالتايل ا�ستبدلت‬ ‫هذه «القيادات» رموز احلكم اخلارجي‪ .‬ومبا �أن فل�سطني‬ ‫ما زال��ت فعلي ًا حتت قب�ضة اال�ستعمار اال�ستيطاين‬ ‫ال�صهيوين‪ ،‬من املهم‪ ،‬لفهم هذا التطور ب�شكل �أعمق‬ ‫ال‪ ،‬حول‬ ‫و�أ�شمل‪� ،‬إعادة قراءة �أعمال فرانز فانون مث ً‬ ‫الدول امل�ستعمرة تقليدي ًا يف �أفريقيا‪ ،‬والبلدان التي‬ ‫مت �إنهاء اال�ستعمار الأ�صلي ر�سمي ًا فيها‪ ،‬لرنى �أن‬ ‫هذه التطورات فيها‪ ،‬ت�شابه ب�شكل مذهل التطورات‬ ‫اجلارية حالي ًا يف فل�سطني املحتلة ‪ 1967‬يف القرن‬

‫«احلكم الذايت» يف فلسطني المحتلة‬ ‫تطبيقات يف الهندسة النيولربالية المعولمة‬

‫خليل خنلة يف كتابي اجلديد «فل�سطني‪ :‬وطن للبيع»‪� ،1‬أتطرق �إىل‬ ‫نهج وعملية ت�سويقية �شاملة‪ ،‬مت�شابكة ومتدحرجة‪ ،‬تعم‬ ‫كاتب وباحث مناطق ما ي�سمى «احلكم الذاتي» الفل�سطيني‪ ،‬يرتابط‬ ‫فلسطيين مستقل من فيها ال�سيا�سي واالقت�صادي والوطني‪ ،‬من خالل النخب‬ ‫اجلليل يقيم يف رام ال�سيا�سية والر�أ�سمالية «الأو�سلوية»‪ ،‬والفل�سطيني والعربي‬ ‫الله‪ .‬مؤلفه األخري‪ ،‬وال�صهيوين والغربي‪ ،‬حملي ًا و�إقليمي ًا ودولي ًا‪ .‬وبد�أ يظهر‬ ‫فلسطني‪ :‬وطن للبيع هذا النهج‪ ،‬يف جوانبه العملية و�إ�سقاطاته الفعلية‪ ،‬على‬ ‫(‪ )2011‬الأقل منذ االجتياح الإ�رسائيلي الع�سكري للبنان يف العام‬ ‫‪ ،١٩٨٢ abusama@palnet.com‬حني متخ�ضت الهجمة ال�صهيونية الأمريكية‬ ‫الإ�رسائيلية عن تقوي�ض منظمة التحرير الفل�سطينية‬ ‫وم�ؤ�س�ساتها‪ ،‬وتفريغها وجتويفها من م�ضمونها الن�ضايل‬ ‫التحرري‪ ،‬وحتويلها �إىل بريوقراطية �إدارية‪.‬‬ ‫ وترجم هذا النهج فعلي ًا على الأر�ض‪ ،‬قبل نحو ع�رشين‬ ‫وقعت منظمة التحرير الفل�سطينية مع الكيان‬ ‫عام ًا‪ ،‬عندما ّ‬ ‫ال�صهيوين اتفاقات �أو�سلو‪ ،‬وما حلقها من اتفاقات فرعية‪.‬‬ ‫وبهذا �أ�سهمت منظمة التحرير‪ ،‬فعلي ًا يف ب�سط ا�ستعمار‬ ‫جديد على فل�سطني املحتلة ‪ .1967‬و�أ�صبح هذا‬ ‫اال�ستعمار اجلديد ممكن ًا حتت مظلة النيوليربالية املعوملة‪،‬‬ ‫التي فر�ضت بقوة على جمتمعات دول اجلنوب من خالل‬ ‫‪ 1‬نخلة‪ ،‬خليل‪،‬‬ ‫ ‬ ‫مراكز الر�أ�سمال الغربي وامل�ؤ�س�سات التمويلية العابرة‬ ‫«فل�سطني‪ :‬وطن‬ ‫للبيع»‪ ،‬رام الله‪:‬‬ ‫للحدود القومية‪ ،‬وعلى وجه اخل�صو�ص‪� ،‬صندوق النقد‬ ‫م�ؤ�س�سة روزا‬ ‫�سوقا النيوليربالية بقوة يف‬ ‫الدويل والبنك الدويل اللذان ّ‬ ‫لوك�سمبورغ‪،‬‬ ‫‪.٢٠١١‬‬ ‫�أواخر ال�سبعينيات و�أوائل الثمانينيات من القرن املا�ضي‬ ‫يف دول وجمتمعات �أمريكا اجلنوبية و�أفريقيا وال�رشق‬ ‫‪ 2‬قرم‪ ،‬جورج‪،‬‬ ‫ ‬ ‫حكم «العامل اجلديد‪ :‬الأو�سط‪ .‬وكما يقول جورج قرم يف كتابه اجلديد‪ 2‬عن‬ ‫الإيديولوجيات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫منظري نيوليربالية ميلتون فريدمان من جامعة �شيكاغو‬ ‫البنى وال�سلطات‬ ‫«فمنذ ال�سبعينيات يعيث جي�ش من «اخل�براء» الدوليني‬ ‫املعاك�سة»‪،‬‬ ‫ ‬ ‫بريوت‪ :‬ال�رشكة‬ ‫ف�ساد ًا يف كل مكان تقريب ًا‪ ،‬نا�رشين الفقر والبطالة بوا�سطة‬ ‫العاملية للكتاب‪،‬‬ ‫‪� ،٢٠١٣‬ص ‪ .٤٠‬الو�صفات التي حملوا حكومات عديدة على تبنيها»‪ .‬هذه‬

‫ ‪ 86‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫عملية ا�ستعمار جديد اقت�صادي ‪ -‬اجتماعي تتغلغل يف‬ ‫املجتمعات من خالل خ�صخ�صة اخلدمات االجتماعية‬ ‫الأ�سا�سية كال�صحة والتعليم والرعاية االجتماعية‪ ،‬ورهن‬ ‫�شعوب هذه املجتمعات من خالل ت�سهيل احل�صول على‬ ‫القرو�ض وزيادة وتنويع �أمناط اال�ستهالك اال�ستعرا�ضي‪،‬‬ ‫وبالتايل زيادة م�ستويات املديونية والبطالة‪ .‬ي�ؤدي ذلك �إىل‬ ‫زيادة �إفقار ال�شخ�ص العادي‪ ،‬وخ�ضوع �أغلبية املجموعات‬ ‫ال�سكانية للنخب ال�سيا�سية واالقت�صادية املعوملة التي‬ ‫تتحكم بجل املوارد ال�سيا�سية واالقت�صادية‪ ،‬بعيد ًا عن �أي‬ ‫تدخل للدولة يف املجال االقت�صادي‪.‬‬ ‫ هذا هو «االختبار» ال��ذي ن�سري يف كنفه يف �إطار‬ ‫«احلكم الذاتي»‪ ،‬كما �سارت فيه �شعوب �أخرى يف اجلنوب‬ ‫حتت م�سميات متنوعة‪ ،‬م�رسورين ومتلهفني للو�صول‬ ‫�إىل «التنمية املتخيلة» يف ظل االحتكارات واال�ستغالل‬ ‫االقت�صادي‪� ،‬ساعني‪ ،‬وللمفارقة‪� ،‬إىل الت�أكد كل �شهر من‬ ‫�أ�شهر ال�سنة «�إذا الراتب نزل على البنك»!‬ ‫ ومن هنا ينبع قلقي العميق على م�ستقبل وطننا‬ ‫فل�سطني كب�ؤرة متململة قد ت�ضيق بنف�سها وتنفجر‬ ‫كجزء من وطننا العربي العري�ض‪ .‬و�إذا كان لرتاكم‬ ‫اخلربات على مدى ال�سنني‪ ،‬وترجمة درو�سها وحتويلها‬ ‫�إىل م�ستوى جمد من الفعل ال�شعبي التحرري‪� ،‬أية فائدة‪،‬‬ ‫فجاء كتابي هذا بالأ�سا�س لينحل من هذه اخلربات العرب‬ ‫التي قد ت�ساعدنا يف توجيه وتر�شيد فعلنا الن�ضايل‬ ‫للحفاظ على هذا الوطن و�صيانته‪.‬‬ ‫اال�ستعمار اجلديد يف كنف‬ ‫«العملية ال�سيا�سية الأو�سلوية»‪ :‬كيف يعمل؟‬ ‫�أناق�ش هنا ب�أن ادعاءات التنمية الر�سمية الفل�سطينية‬ ‫�أ�صبحت ادع���اءات جم��ت��ز�أة وم�شوهة وم�ست�أطرة‪.‬‬

‫ ‪ 87‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫الواحد والع�رشين‪ .‬من هذا املنطلق الهام‪ ،‬ال ميكن‬ ‫ان يقت�رص التحليل احل��ايل على فل�سطني «ال�ضفة‬ ‫والقطاع» كنموذج فريد من نوعه‪ .‬حتليل هذه الظاهرة‬ ‫يجب �أن يكون ذا نطاق �أو�سع‪� :‬إنه حتليل للمظهر الذي‬ ‫�سيظهر به «االقت�صاد ال�سيا�سي لل�شعوب املقموعة»‪،‬‬ ‫�أو «االقت�صاد ال�سيا�سي لل�شعوب املحتلة» يف القرن‬ ‫احلادي والع�رشين املعومل‪ ،‬لي�س فقط يف دول «اجلنوب»‬ ‫بل يف تلك «الرقع» من «اجلنوب» املتداخلة واملع�ش�شة‬ ‫يف دول «ال�شمال» الر�أ�سمالية‪.‬‬ ‫ وي�ضطرنا هذا النهج‪ ،‬بحكم التعريف‪� ،‬إىل تناول‬ ‫ال‪ ،‬من جتربة‬ ‫الدرو�س الهامة التي ميكننا تعلمها‪ ،‬مث ً‬ ‫جنوب �أفريقيا املمتدة منذ عام ‪ .1994‬حينها ا�ستبدل‬ ‫نظام الف�صل العن�رصي املنحل بفئة اجتماعية نخبوية‬ ‫من ال�سيطرة والقمع االجتماعي‪ ،‬وبنظام لال�ستغالل‬ ‫ممار�س من قبل القيادة ال�شعبية لل�سكان الأ�صليني‪.‬‬ ‫ن�صبت نف�سها الحتالل هذا املوقع بدعم �صوري‬ ‫قيادة ّ‬ ‫واع من‬ ‫من ال�سكان املحليني‪ ،‬وبت�شجيع وتخطيط‬ ‫ٍ‬ ‫م�ؤ�س�سات مراكز الر�أ�سمال العاملية املهيمنة‪ .‬ومن مميزات‬ ‫هذين االختبارين يف التحول «التحرري» املزعوم‪:‬‬ ‫�إح�لال هيمنة خارجية ا�ستغاللية ب�أخرى داخلية‬ ‫ا�ستغاللية‪ ،‬ولكنها مغ ّلفة ب�رسدية «حملية ن�ضالية‬ ‫وطنية» �أو «عرقية»‪ ،‬نتاج ًا لعملية ن�ضال متوا�صلة؛‬ ‫واملوجه من م�ضمونه الن�ضايل‬ ‫وجتويف امليثاق الناظم‬ ‫ّ‬ ‫التحرري من القمع واال�ستبداد االقت�صادي‪ .‬ومثال على‬ ‫ذلك مترير م�سخ ميثاق منظمة التحرير الفل�سطينية بدفع‬ ‫من الواليات املتحدة الأمريكية وحتت �إ�رشاف رئي�سها‪،‬‬ ‫لت�سهيل قبول الكيان ال�صهيوين كظاهرة طبيعية‪ ،‬و�إعادة‬ ‫هيكلة بنود «ميثاق احلرية» للحزب الوطني )‪ (ANC‬يف‬ ‫جنوب �أفريقيا لت�سمح بت�سلط الر�أ�سماليني ال�سود على‬ ‫املوارد االقت�صادية‪.‬‬ ‫التحديات التنموية املجتمعية‪:‬‬ ‫غياب ال�سيادة ال�سيا�سية واالقت�صادية والغذائية‬ ‫بعيد ًا عن الأ��شراك امل�ضللة واخلادعة‪� ،‬أو الت�سميات‬ ‫الت�سويقية املتمثلة بـ«احلكم ال��ذات��ي» و«احلكومة»‬ ‫و«ال����وزارات» و«ال�برمل��ان» �إل��خ‪ ،‬ما زلنا نعي�ش يف‬ ‫ظل و�ضع تغيب فيه ب�شكل تام ال�سيادة ال�سيا�سية‬ ‫واالقت�صادية والغذائية احلقيقية ال املزعومة‪ .‬وبعبارة‬ ‫�أخ��رى‪ ،‬نحن نعي�ش اليوم يف حالة من الإذع��ان �إىل‬ ‫نظام م�ستمر من االحتالل الع�سكري ‪ -‬االقت�صادي‪،‬‬


‫�سواء كان مفرو�ض ًا ب�شكل مبا�رش من قبل قوة االحتالل‬ ‫اال�ستعمارية نف�سها‪� ،‬أو من خالل نظام ال�سيطرة املبني‬ ‫على التعاقد من الباطن املمار�س من قبل الفل�سطينيني‬ ‫�أنف�سهم‪ .‬لذا ف�إن الق�ضاء على االحتالل اال�ستيطاين‬ ‫والف�صل العن�رصي‪ ،‬الطبقي واالجتماعي‪ ،‬املبا�رش منه‬ ‫واملتعاقد عليه‪ ،‬ي�صبح �رشطا ً �رضوري ًا لتحقيق التنمية‪.‬‬ ‫ يف الواقع‪ ،‬يبدو �أكرث و�أكرث �أنه مت اخرتاع �سلطة‬ ‫احلكم الذاتي الفل�سطينية لتكون منوذج ّ‬ ‫حتكم للتجريب‬ ‫و�إعادة الهند�سة‪ .‬ويبدو �أن جوهر هذه التجارب يدور‬ ‫حول ال�س�ؤال التايل‪ :‬كيف ميكن �إعادة ت�شكيل وقولبة‬ ‫«دولة وطنية» ملفقة ومنزوعة ال�سيادة لت�صبح بحجم‬ ‫�رشكة حديثة �صغرية ميكن ال�سيطرة عليها ويديرها كبار‬ ‫املديرين التنفيذيني «ال�سيا�سيني» (‪ )CEOs‬وفئة املنظمات‬ ‫غري احلكومية التي �أعيد ت�سيي�سها وت�صميمها‪ ،‬وينظمها‬ ‫ويحافظ على بقائها جهاز �أمن جيد التدريب‪.‬‬

‫و‪ 3‬مليارات دوالر �أمريكي‪ ،‬منها الديون الداخلية‬ ‫للم�صارف املحلية وغريها‪ ،‬والديون اخلارجية ب�شكل‬ ‫ق��رو���ض لل�رشكات التي التزمت ال�سلطة نحوها‬ ‫ال عن‬ ‫و�ستتكبد �أجيالنا امل�ستقبلية عبء دفعها‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫مديونية الفرد الفل�سطيني جتاه امل�ؤ�س�سات املالية‬ ‫املحلية التي ت�شمل الإ�سكان‪ ،‬والأعمال التجارية‪،‬‬ ‫الخ‪،‬‬ ‫واملواد اال�ستهالكية‪ ،‬والتعليم العايل‪ ،‬وال�صحة‪،‬‬ ‫�إعادة تعريف وتوجيه وعينا اجلماعي‬ ‫والآخذة بالتعاظم خ�صو�ص ًا يف الآونة الأخرية‪ .‬ومن وفهم االجتاهات العاملية التي ت�ؤثّر فينا‬ ‫امل�ؤ�رشات عدم قدرة ال�سلطة على دفع رواتب موظفيها‪ ،‬من الوا�ضح �أنه توجد �أمامنا م�س�ؤوليات ج�سيمة يف‬ ‫والت�سارع يف ن�سب البطالة (التي تفوق ‪ 45‬باملئة مواجهة هذه التحديات‪� ،‬إذا كنا فعال ن�سعى �إىل حترير‬ ‫بني جمموعات متخرجي اجلامعات وم�ؤ�س�سات التعليم العقل والوطن‪ .‬وميكنني تلخي�ص نهج جمابهة هذه‬ ‫العايل)‪ ،‬و�رشذمة الن�سيج االجتماعي‪.‬‬ ‫التحديات يف بع�ض الأمور التالية‪:‬‬ ‫عر�ضي‬ ‫ كذلك ميكن مالحظة الظواهر التالية التي �أفرزها ال ميكن اعتبار ما يحدث لنا جمرد تطور َ‬ ‫النظام اال�ستعماري اجلديد‪:‬‬ ‫جاء نتيجة بنية ال ترحم من االحتالل الع�سكري ـــــ‬ ‫ ا�ستعي�ض عن معار�ضتنا الإبداعية التاريخية الثورية االقت�صادي الإ�رسائيلي والأيديولوجيات العن�رصية‬ ‫�ضد الظلم واالحتالل بـ«معار�ضة حمكمة»‪ ،‬ي�سارية‪ ،‬غري املرتبطة بهذه االجتاهات العاملية‪ .‬الأمر الذي دفعني‬ ‫ومدجنة؛‬ ‫ممولة جيد ًا‪،‬‬ ‫�إىل التفكري يف بلدنا فل�سطني خالل ال�سنوات الع�رشين‬ ‫ّ‬ ‫ �أ�صبحت املنظمات غري احلكومية «التنموية» املهنية �أو اخلم�سني املقبلة؛ و�أية «فل�سطني» �ستكون؟ كذلك‬ ‫والإداري��ة غري امل�سي�سة‪ ،‬واملعاد ت�سيي�سها‪ ،‬والتي مت ح ّثني هذا الت�أمل على االبتعاد عن املطالبات الر�سمية‬ ‫�إخرتاعها وا�ستدامتها من قبل وك��االت امل�ساعدات والتقليل من �ش�أن االدع��اءات الر�سمية واالن�شغال‬ ‫احلكومية العاملية‪ ،‬بديال من القاعدة ال�شعبية ال�شاملة الفل�سطيني العام واملتوا�صل ب�إقامة «الدولة القومية»‬ ‫امل�سي�سة؛‬ ‫واحلركات االجتماعية واالقت�صادية‬ ‫غري القابلة لال�ستدامة‪ ،‬ذات التبعية‪ ،‬واملنقو�صة ال�سيادة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫للقيا�س‬ ‫والقابل‬ ‫الكمي‬ ‫ �أ�صبح النمو االقت�صادي الآيل‬ ‫وكل هذا فقط لتكون مدرجة يف �سجل الأمم املتحدة‬ ‫ال من التنمية املرتكزة على النا�س وعلى الإنتاج؛‬ ‫ومن دون توفري احلرية والعدالة بال�رضورة ل�شعبها‬ ‫بدي ً‬ ‫�أ�صبح االعتماد على رواتب وظائف القطاع العام‪ ،‬التي ـــــ �شعبي �أنا ـــــ الذي كافح وعانى طويال من �أجل‬ ‫مت ا�صطناعها‪ ،‬بديال من القطاع الإنتاجي الذي يو ّلد حتقيقهما‪� .‬إنني مقتنع متاما ب�أنه ينبغي لنا �إعادة تعريف‬ ‫فر�ص عمل م�ستدامة؛‬ ‫وتوجيه وعينا اجلماعي حول ماهية «امل�صلحة الوطنية‬ ‫ �أ�صبحت اال�ستثمارات الر�أ�سمالية يف احتكارات الفل�سطينية العليا» من خالل ن�ضالنا‪ ،‬والرتكيز عو�ض ًا‬ ‫اال�ستهالك واخلدمات املقبولة لدى االحتالل واملعتمدة عن ذلك على خلق وطن قابل للحياة وغري حمدود‪،‬‬ ‫على التعاون معه‪ ،‬بديال من امل�ؤ�س�سات ال�صغرية جوهره جمتمع فل�سطيني حمرر ذاتي ًا ومرن وحيوي‪.‬‬ ‫الإنتاجية الأ�صلية امل�ستدامة؛‬ ‫فالقلق املفرط حيال �إن�شاء «الدولة القومية» هو‪ ،‬يف‬ ‫ ا�ستبدل ما ن�ستطيع القيام به مبهاراتنا ومواردنا وخرباتنا ر�أيي‪� ،‬أمر م�ضلل وقد عفا الزمن عليه وم�ضى‪� .‬إن االجتاه‬ ‫الفنية الأ�صلية بالأموال التي نحتاج اليها‪ ،‬وح�شدها من العاملي هو نحو ابتكار عامل ت�سيطر عليه �رشكات تتحايل‬ ‫وكاالت امل�ساعدات اخلارجية؛ وهذا ي�ؤدي �إىل نظام معياري‬ ‫وتقو�ض مفهوم القرن التا�سع ع�رش «للدولة القومية»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫�سائد يحرتم امل�شاريع املمولة خارجيا‪ ،‬عو�ض ًا عن تلك التي لتحل مكانها هيكليات �إقليمية (�إن مل تكن عاملية) من‬ ‫ت�ستهلها الطاقات التطوعية واملوارد املحلية‪.‬‬ ‫ال�رشكات �أو التكتالت االقت�صادية وال�سيا�سية املعوملة‬ ‫ �أ�صبحنا ن�ستهلك بفخر واعتزاز ما ال ننتج‪ ،‬ون�أكل ما ذات امل�صالح املتماهية‪ .‬لتحقيق ذلك‪ ،‬نحن بحاجة �إىل‬ ‫ّ‬ ‫عدونا �أو ي�سمح لنا با�سترياده‪.‬‬ ‫ت�شكل‬ ‫فهم االجتاهات العاملية التي ت�ؤثر بنا �أو التي‬ ‫ّ‬ ‫ي�صدره لنا ّ‬ ‫ كما �أ�صبح من البذخ الفكري �أي اقرتاح لتوجيه بنحو مبا�رش �أ�سا�س ن�ضالنا‪ .‬ما هي هذه االجتاهات وما‬ ‫تركيزنا على الإنتاج الزراعي الغذائي‪ ،‬والتقليل من الذي علينا فعله لإحتوائها وعك�سها؟‬

‫غري احلكومية «التنموية» النا�شئة حديث ًا �سوى وكالء‬ ‫حمليني ومقاولني من الباطن و�سما�رسة ملراكز ر�أ�س املال‬ ‫الغربي ووكاالت التمويل املعوملة‪.‬‬

‫اال�ستهالك اال�ستعرا�ضي املعتمد بنحو �شبه على الدين‬ ‫واالقت�صاد الريعي‪ ،‬والرتكيز على املجهودات التطوعية‬ ‫الذاتية والتكافل املجتمعي‪ ،‬والإفادة من درو�س تاريخنا‬ ‫وخرباتنا ودرو�س املجتمعات امل�ستعمر الأخرى‪ ،‬بهدف‬ ‫مواجهة هذه التحديات‪.‬‬

‫االعتماد املطلق على امل�ساعدات الدولية الغربية‬ ‫هناك تناق�ض كامن بني االعتماد الفل�سطيني املطلق على‬ ‫امل�ساعدات الدولية الغربية‪ ،‬والتوقع الر�سمي ب�أن ت�ؤدي‬ ‫هذه امل�ساعدات املالية‪ ،‬وم�صدرها الأ�سا�سي احلكومات‬ ‫والوكاالت الغربية‪� ،‬إىل تطوير وحترير ال�شعب واملجتمع‬ ‫الفل�سطيني و�إنت�شاله من الفقر والإفقار الذي �صنعه نظام‬ ‫االحتالل اال�ستيطاين املفرو�ض على هذا ال�شعب‪ ،‬وهو‬ ‫النظام نف�سه الذي يتم دعمه و�ضمان ا�ستمراريته من قبل‬ ‫هذه امل�صادر نف�سها‪� .‬إنها م�ساعدات �سيا�سية بامتياز تقدم‬ ‫للفل�سطينيني بهدف الإذعان واخل�ضوع لأجندة وبرنامج‬ ‫�سيا�سي مفرو�ض عليهم‪� .‬إنها بالت�أكيد لي�ست م�ساعدات‬ ‫تهدف �إىل حتفيز وزي��ادة القدرات الإبداعية املحلية‬ ‫واملنتجة‪ ،‬بل تركز على اال�ستهالك وعلى جعل النا�س‬

‫الطبقة الر�أ�سمالية الفل�سطينية وجتارة التنمية املعوملة‬ ‫�إن الطبقة الر�أ�سمالية الفل�سطينية بجناحيها‪ ،‬املغرتبني‬ ‫(فل�سطينيو ال�شتات) وفل�سطينيي الداخل (�أبناء البلد)‪� ،‬إن ما يجري الت�أ�سي�س له‪ ،‬منذ ال�شـــــــــــــــــــــــــروع‬ ‫التي �أعيد تكوينها يف �إطار �أو�سلو‪ ،‬هي بطبيعتها طبقة مبفاو�ضات �أو�سلو‪ ،‬لي�س �أكرث من جتارة تنميـــــــــــــة‪،‬‬ ‫غري ملتزمة‪ ،‬وغري معنية وغري قادرة على «تطوير» نوع و�صناعة تنمية‪ ،‬و�رشكات تنمية قاب�ضـــــــــــــــــــــة‬ ‫من املجتمع املتما�سك الالزم ملقاومة االحتالل والتخل�ص‬ ‫همها الأ�سا�سي هو �إطالق امل�شاريع الر�أ�سمالية رهائن‪� .‬إنها م�ساعدات معادية للإنتاجية والتحرر‪.‬‬ ‫منه‪ّ � .‬إن ّ‬ ‫اال�ستهالكية والإبقاء عليها والتو�سع فيها‪� ،‬أي ثقافة ن�سبة «االعتمادية على امل�ساعدات» يف مناطق �سلطة‬ ‫اال�ستهالك‪ ،‬وذلك بالتعاون مع هياكل االحتالل (املادية «احلكم الذاتي» الفل�سطينية �أخذت بالتزايد تدريجي ًا‬ ‫والب�رشية واالقت�صادية)‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬امل�ساعدة واقعي ًا على منذ عام ‪� .1999‬إال �أن��ه على ال�صعيد املحلي‪ ،‬من‬ ‫تر�سيخ االحتالل ولكن حتت م�سميات خمتلفة‪ .‬االدعاءات حيث الإدراك وال�سلوك‪ ،‬يبدو � ّأن ثمة اعتماد ًا كليا ً على‬ ‫يقو�ض �أية مبادرة للعمل املحلي‪،‬‬ ‫العلنية واملتكررة ب�أن الر�أ�سماليني الفل�سطينيني هم امل�ساعدات اخلارجية ّ‬ ‫«دعائم» التنمية‪ ،‬و�أن ا�ستثماراتهم املالية والتكنولوجية �صغرت �أو كربت‪ .‬ولقد مت ال�سماح لوكاالت الدعم العاملية‪،‬‬ ‫هي «حمركها»‪ ،‬لي�ست �سوى �رضب من اخليال‪� .‬إن ما خا�صة الوكاالت احلكومية (مثال ‪ )USAID‬ب�أن تتمتع مبا ي�شبه‬ ‫يجري الت�أ�سي�س له‪ ،‬منذ ال�رشوع مبفاو�ضات �أو�سلو‪� ،‬سلطة ال�سيطرة اال�ستبدادية‪ ،‬وبالتايل اخل�ضوع مل�صادر‬ ‫لي�س �أكرث من جتارة تنمية‪ ،‬و�صناعة تنمية‪ ،‬و�رشكات هذه امل�ساعدات‪ ،‬لكونها امل�صدر الرئي�س يف تغطية رواتب‬ ‫تنمية قاب�ضة (حمدودة ال�ضمان)!‪ ‬انه االندفاع للمذهب حواىل ‪ 170000‬من موظفي ال�سلطة‪ ،‬من مدنيني‬ ‫التجاري وقمة ن�شاطه هو التفاعل بني ر�أ�س املال‪ ،‬والنخب وع�سكريني‪ .‬ونظر ًا �إىل �أن دول االحتاد الأوروبي والواليات‬ ‫ال�سيا�سية واملنظمات غري احلكومية والتمويل الدويل‪� .‬إنه املتحدة واليابان ت�شكل امل�صدر الرئي�س للم�ساعدات‬ ‫برنامج «جتارة تنمية معوملة» ي�شق طريقه وي�ستخدم يف اخلارجية‪ ،‬فمن ال�سهل علينا �أن نرى حينها مدى اخلنوع‬ ‫هذه املرحلة املناطق الفل�سطينية املحتلة ‪ ،1967‬مركز ًا الكبري ومدى مديونية �سيا�سات ال�سلطة الفل�سطينية جتاه‬ ‫له وحالة لالختبار‪ .‬يف «جتارة التنمية املعوملة» هذه‪ ،‬ال هذه الكتلة من الدول الر�أ�سمالية‪.‬‬ ‫ميثل الر�أ�سماليون الفل�سطينيون وبريوقراطية �أو�سلو يف ظل هذا النمط من اال�ستعمار اجلديد‪ ،‬هناك‬ ‫ال�سيا�سية (والفكرية امل�رشعنة لها)‪ ،‬وهياكل املنظمات م�ؤ�رشات مقلقة‪ :‬تراوح مديونية ال�سلطة الآن بني ‪2.5‬‬

‫ ‪ 88‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ ‪ 89‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬


‫ �أ�شعر ب�أنه ال بد من مناق�شة بع�ض الأبعاد املعينة لفهم‬ ‫كيفية ت�أثري نظام احلكم العاملي النا�شئ علينا‪ ،‬وبالتحديد‪:‬‬ ‫ نزعة املديونية للأنظمة املالية التابعة لل�رشكات‬ ‫العاملية املعوملة العابرة للحدود القومية‪ ،‬الفجوة املتزايدة‬ ‫بني الأغنياء والفقراء‪ ،‬ف�شلنا‪� ،‬أو عدم رغبتنا‪ ،‬يف التعلم من‬ ‫بع�ض الأمثلة يف بع�ض الدول «املحررة» التي قامت بخيانة‬ ‫م�صالح �شعوبها‪ ،‬وكيف �أ�صبحنا‪ ،‬ب�سبب م�ساعدات‬ ‫وكاالت الدعم العاملية‪ ،‬مرهونني‪ ،‬وكيف جرت �إعادة‬ ‫ت�سيي�سنا وا�ستعمارنا وخ�صخ�صتنا؟‬

‫‪ 3‬الإ�شارة هنا �إىل‬ ‫ ‬ ‫«املنظمات غري‬ ‫احلكومية» �إحدى‬ ‫املكونات الأ�سا�سية‬ ‫للمجتمع املدين‪.‬‬

‫ ‪ 90‬‬

‫�إعادة هند�سة البيئة االجتماعية والثقافية ال�سائدة‬ ‫حتت طغيان متويل ال�رشكات الغربية‪ ،‬تدهورت املكونات‬ ‫الهامة والقابلة للحياة للمجتمع املدين‪ 3‬بل و�أم�ست �شبه‬ ‫بائدة‪ .‬ا�ستنادا �إىل التحليل يف الأجزاء املختلفة من كتابي‬ ‫الأخ�ير (امل�شار ليه �سابقا)‪ ،‬التي ركزت على الكيفية‬ ‫التي عملت فيها م�صادر التمويل اخلارجي على انت�شار‬ ‫املنظمات غري احلكومية «التنموية» على ح�ساب احلركات‬ ‫امل�سي�سة‪� ،‬أ�صبح وا�ضح ًا �أين يكمن التحدي‪.‬‬ ‫اجلماهريية‬ ‫ّ‬ ‫بغية ت�سهيل عملية ت�شكيل بيئة التنمية التحررية املرتكزة‬ ‫على النا�س‪ ،‬ينبغي �أن يكون هدفنا �إعادة �صياغة وتفعيل‬ ‫وهند�سة حركة جماهريية �سيا�سية واقت�صادية واجتماعية‬ ‫مبنية على الع�ضوية وقابلة للحياة‪ .‬وينبغي �أن تت�ضمن‬ ‫عنا�رصها الرئي�سة الأحزاب ال�سيا�سية الي�سارية املجددة‪،‬‬ ‫ونقابات العمال الإنتاجية‪ ،‬وال�صحافة املحلية امل�ستقلة‪،‬‬ ‫واحلركة الطالبية‪ ،‬واحلركة ال�شبابية‪ ،‬وائتالفات من خمتلف‬ ‫جمموعات العمل التطوعي‪.‬‬ ‫ بعد �إنهاء انتفا�ضة ‪ 1987‬من خالل احتوائها بوعد‬ ‫خادع يف و�ضع حد لل�رصاع بالو�سائل ال�سيا�سية‪ ،‬وبعد‬ ‫�أن تبني بو�ضوح �أن الوعد ب�إيجاد حل عادل كان وعد ًا‬ ‫كاذب ًا وم�ضلال‪ ،‬بد�أت البيئة االجتماعية والثقافية باالنزالق‬ ‫يف تهالك تدريجي‪ .‬وقد مت توجيه �أ�سلوب العمل اليومي‬ ‫من خالل جمموعة قيم ثقافية متنافرة �صممت خ�صي�صا‬ ‫لتحل حمل نظام القيم التقليدي القائم‪ .‬ويف �سياق �سيطرة‬ ‫املح�سوبية الر�أ�سمالية‪ ،‬والزبائنية ال�سيا�سية الفا�سدة‪ ،‬و�إ�ساءة‬ ‫ا�ستعمال ال�سلطة واالمتياز‪ ،‬والتعاون وتطبيع العالقات مع‬ ‫هياكل االحتالل‪ ،‬وغياب الأمن ال�شخ�صي‪ ،‬وتزايد الفقر‬ ‫والبطالة‪� ،‬أ�صبح من الوا�ضح �أن جوهر العمل قد ا�ستند اىل‬ ‫دوافع الربح ال�رسيع والوفري‪ ،‬واال�ستعداد للقيام بكل ما هو‬ ‫�رضوري للح�صول على �أموال من املنظمات غري احلكومية‬ ‫ووكاالت الدعم العاملية‪ ،‬وغياب الت�ضامن االجتماعي‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫اجلماعي وامل��ب��ادرات التطوعية‪ ،‬وتثبيت االهتمامات‬ ‫وامل�صالح ال�شخ�صية بدال من العناية بامل�صالح املجتمعية‬ ‫واجلماعية‪ .‬وفّر هذا الو�ضع �أر�ضية للخال�ص ال�شخ�صي‬ ‫ولل�سيطرة والنجاح من خالل الو�صول �إىل �أ�صحاب‬ ‫النفوذ من النخب ال�سيا�سية واالقت�صادية احلاكمة (املحلية‬ ‫واملعوملة) والوالء ال�شديد لها‪.‬‬ ‫ �أجنبت هذه العملية طبقات جديدة مهجنة ال عالقة لها‬ ‫بو�سائل �أو عملية الإنتاج على غرار طبقة املنظمات غري‬ ‫احلكومية‪ ،‬طبقة «�أجهزة الأمن» والطبقة «البريوقراطية»‪،‬‬ ‫وما �إىل ذلك‪ ،‬والتي ال ت�شكل �سوى احدى تفريعات‬ ‫عملية �أو�سلو‪ ،‬والتي وظيفتها تر�سيخ هذه العملية‪.‬‬ ‫ علينا �أن نتذكر دائم ًا �أن �شعبنا هو �أكرب و�أهم �أ�صولنا‪.‬‬ ‫وال ميكن لهذه الأ�صول �أن تكون فاعلة ما مل تتوحد‬ ‫بت�صميم واقتناع ب�أن جمتمعنا الفل�سطيني يحتاج �إىل‬ ‫دعمنا‪ .‬فنحن منتلك يف ما بيننا خمزونا �ضخما من املوارد‬ ‫املحلية ون�سيطر على هذا املخزون وميكننا جتديده وو�ضعه‬ ‫لال�ستخدام متام ًا كما فعلنا ب�شكل رائع خالل االنتفا�ضة‬ ‫الأوىل‪ .‬فقد ا�ستخدمت هذه املوارد ب�شكل فعال يف ذلك‬ ‫احلني ال كم�صادر ممولة من قبل وكاالت خارجية و«جهات‬ ‫مانحة»‪ ،‬بل لأن النا�س متاهوا مع احتياجات جمتمعاتهم؛‬ ‫�آمنوا بقوتهم اجلماعية الكامنة‪ ،‬وحولوا االلتزام الداخلي‬ ‫بن�ضال �ضد �سلطة احتالل قمعية‪ ،‬وعزموا على و�ضع‬ ‫حد لها‪ .‬ال تزال �سلطة االحتالل والقمع نف�سها ت�سيطر‬ ‫علينا ولكن ب�شكل تدمريي كبري‪ ،‬من خالل اال�ستخدام‬ ‫املبا�رش لبع�ض من �شعبنا‪ ،‬ما ي�سمى بقيادتنا‪ ،‬و�رشطتنا‪،‬‬ ‫و�أ�صحاب ر�ؤو�س الأموال وغريهم‪ ،‬ت�ستخدمهم كوكالء‬ ‫من الباطن لإحكام قب�ضة �سيطرتها‪.‬‬ ‫ كذلك علينا �أن ندرك‪ ،‬على م�ستوى �آخر‪� ،‬أننا قد كنا‬ ‫يف فرتات معينة من تاريخنا‪ ،‬ال�سلة الغذائية للمنطقة‪.‬‬ ‫�أما الآن فلي�س لدينا �أمن غذائي وال �سيادة غذائية‬ ‫يف معظم الأمور الأ�سا�سية التي نحتاج �إلينا ل�صحتنا‬ ‫ورفاهنا‪ .‬ينبغي لنا �أن نعود �إىل زراعة �أرا�ضينا ب�أف�ضل‬ ‫ال�سبل التي نعرفها‪ ،‬وتطوير هذه الزراعة عرب الطرق التي‬ ‫ال تعتمد على املدخالت اخلارجية‪ .‬وللقيام بذلك‪ ،‬يتعني‬ ‫علينا �أن ن�ستثمر كل مواردنا املالية والب�رشية يف �إطعام‬ ‫�شعبنا‪ ،‬ولي�س يف االعتماد على الآخرين‪ ،‬وال �سيما‬ ‫�أعدا�ؤنا‪ ،‬لت�أمني الغذاء لنا‪ .‬ال ميكننا اال�ستمرار يف ال�سماح‬ ‫لإ�رسائيل وهيكلها االحتاليل مبوا�صلة ال�سيطرة على‬ ‫�أكرث �أرا�ضينا الزراعية خ�صوبة‪ ،‬كما ال ميكننا اال�ستمرار‬ ‫با�ستهالك ما ال ننتج ك�أنه ظاهرة طبيعية!‬

‫‪ ٢٠‬اوسلو‬

‫بناء الدولة النيوليربالية‬ ‫توفيق حداد ي�صادف عام ‪ 2013‬مرور ع�رشين عام ًا على توقيع اتفاق‬ ‫�أو�سلو‪ .‬متيل االجنازات الزمنية املماثلة �إىل توليد �أ�شكال‬ ‫كاتب وناشط من االنعكا�سية ال�سيا�سية ال يتمتع الكاتب‪ ،‬باعرتافه‪،‬‬ ‫سيايس فلسطيين‪ .‬باحل�صانة �ضدها‪ .‬عندما يحل �شهر �أيلول‪� /‬سبتمرب‪،‬‬ ‫يعد اطروحة ذكرى توقيع اتفاقية �إعالن املبادئ (�أو اتفاقية �أو�سلو) يف‬ ‫ال من املواد التي ُن�شرِ َ ت‬ ‫دكتوراه عن بناء الدولة حديقة البيت الأبي�ض‪ ،‬ترقبوا �سي ً‬ ‫الفلسطينية يف «كلية و�أُذيعت ملحاولة تف�سري �سبب ف�شل عملية ال�سالم و�رشح‬ ‫الدرااست الرشقية كيفية تطور النزاع وما يعنيه ذلك كله بالن�سبة �إىل �إمكانية‬ ‫واالفريقية» يف لندن �إقامة الدولة الفل�سطينية البعيدة املنال‪.‬‬ ‫‪ tawfiq-haddad@yahoo.com‬من ال�صعب جد ًا فهم احلالة الراهنة لل�ش�ؤون الوطنية‬ ‫الفل�سطينية بالنظر �إىل الو�ضع املعقد الذي ن�ش�أ منذ‬ ‫عام ‪ ،1993‬والأ�سلوب املحدد الذي تبد�أ فيه تلقائي ًا‬ ‫حماوالت تو�صيفه ب�إثارة ت�سا�ؤالت حول كيفية و�ضع �إطار‬ ‫للأحداث وحول امل�صطلحات التي ينبغي ا�ستعمالها‪ .‬يف‬ ‫النهاية‪ ،‬ما الذي يربر ا�ستمرار «عملية �سالم» يعني‬ ‫ٍ‬ ‫أ�شخا�ص خمتلفني‪� .‬أوباما‪ ،‬بو�ش‪،‬‬ ‫�أ�شياء كثرية خمتلفة ل‬ ‫كلينتون‪ ،‬رابني‪ ،‬بري�س‪ ،‬باراك‪ ،‬نتانياهو‪ ،‬عرفات‪ ،‬عبا�س‪،‬‬ ‫االحتاد الأوروبي‪ ،‬البنك الدويل – كل واحد من ه�ؤالء‬ ‫�أراد �أو يريد «ال�سالم»‪« ،‬عملية �سالم»‪ ،‬و«عودة �إىل طاولة‬ ‫املفاو�ضات» – مع ذلك ي�سود اال�ستعمار اال�ستيطاين‬ ‫واالحتالل والف�صل العن�رصي وفورات العنف الرهيبة‬ ‫وي�سمى ذلك ب�شكل ُم َّ‬ ‫لطف «جمود ًا»‪.‬‬ ‫والدورية ُ‬ ‫ اىل الآن مل ُيكتب �رشح مقنع وحقيقي ملا ح�صل خالل‬ ‫ال�سنوات الع�رشين املا�ضية وهو �أمر بعيد املنال �أي�ضا‪ .‬غري‬ ‫�أ ّنه بخ�صو�ص ما ُيقال عن تلك احلقبة‪ ،‬التحديات حتليلية‬ ‫�أكرث بكثري مما هي اعالمية‪ .‬ثمة حاجة ملحة على �صعيد‬ ‫النقد ال�سيا�سي واملطبوعات االكادميية �إىل حتليل ي�سعى �إىل‬ ‫فهم االقت�صاد ال�سيا�سي لعملية ال�سالم بحد ذاتها والتعامل‬ ‫معه‪ :‬ما الذي �أنتجه‪ ،‬كيف متت املحافظة عليه‪ ،‬وكيف يرتبط‬

‫ ‪ 91‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ذلك كله بفهم ت�صوري �أكرث و�أو�سع نطاق ًا لهياكل ال�سلطة‬ ‫امل�سيطرة التي تنظم و�ضع العامل واملنطقة اليوم وت�ؤثر فيه‪.‬‬ ‫يف النهاية‪ ،‬ما ح�صل على م�رسح ال�رصاع اال�رسائيلي ‪-‬‬ ‫الفل�سطيني على مر ال�سنوات الع�رشين املا�ضية مل يهبط‬ ‫من ال�سماء‪ ،‬ومل يحدث مبن�أى عن الت�أثريات �أو ال�سوابق‬ ‫الفكرية �أو ال�سيا�سية �أو ذات املنحى ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫ �أرى � ّأن «عملية ال�سالم» حجبت جمموعة من‬ ‫املمار�سات الرامية �إىل حتقيق �سل�سلة من امل�صالح‬ ‫الإمربيالية الأمريكية‪ .‬يف �إطار ال�سعي �إىل حتقيق هذه‬ ‫امل�صالح‪� ،‬أ�صبحت الأرا�ضي الفل�سطينية املحتلة �أحد �أهم‬ ‫املختربات التي ُتعنى بتطوير �أحدث التقنيات‪ ،‬ال على‬ ‫�صعيد االختبار امليداين للتجهيزات الع�سكرية و«مكافحة‬ ‫التمرد» وح�سب‪ ،‬بل والأهم من ذلك‪ ،‬على �صعيد اجلهود‬ ‫ال�رصيحة املبذولة للتو�صل �إىل هند�سة اجتماعية لأ�شكال‬ ‫من املوافقة ال�سيا�سية‪ .‬من ال�رضوري جد ًا فهم هذه‬ ‫الديناميكيات الأخرية‪ ،‬التي تت�أثر ب�شدة بالنيوليربالية‬ ‫وبت�صورها للدولة‪ ،‬لأنه عو�ض ًا عن اجلوانب الع�سكرية‬ ‫التي تعتمد على العنف املبا�رش والتي تعترب بالتايل بديهي ًا‬ ‫اكراهية‪ ،‬تعتمد �سيا�سات الهند�سة االجتماعية على‬ ‫الأطراف املحلية وديناميكيات ال�سوق والعالقات البنيوية‪.‬‬ ‫وترتتب على ا�ستيعاب هذه الديناميكيات انعكا�سات‬ ‫هامة على �صعيد فهم طبيعة القوى التي تقمع ال�شعب‬ ‫الفل�سطيني‪ ،‬ولها من باب �أوىل داللة بالن�سبة �إىل الأطراف‬ ‫ال�سيا�سية التقدمية التي حتاول بناء البدائل‪.‬‬ ‫بناء الأ�سا�س‬ ‫ينبغي ا�ستهالل �أي نقا�ش من هذا القبيل بر�سم نطاق‬ ‫امل�صالح الأ�سا�سي‪ .‬غني عن القول �أن الواليات املتحدة‪،‬‬ ‫ب�صفتها القوة املهيمنة الوحيدة يف العامل‪ ،‬واملهند�س‬


‫الأ�سا�سي لعملية ال�سالم واملدافع عنها‪ ،‬تعتمد ا�سرتاتيجي ًا‬ ‫على منفذ �آمن �إىل االحتياطات وال�شبكات النفطية يف‬ ‫ال�رشق الأو�سط‪ .‬ال تفعل امريكا ذلك دفاع ًا عن م�صلحتها‬ ‫اال�ستخراجية اخلا�صة‪ ،‬بل لل�سيطرة على �أطماع مناف�سيها‬ ‫اي�ضا – االحتاد الأوروب��ي‪ ،‬اليابان والآن‪ ،‬القوة ال�صاعدة‬ ‫ّ‬ ‫التحكم ا�سرتاتيجية‬ ‫لل�صني‪ .‬تاريخي ًا‪ ،‬كان ال�ضمان ملثل هذا‬ ‫تق�ضي بدعم الأنظمة الديكتاتورية العربية املوالية للواليات‬ ‫املتحدة من جهة (الدول العربية امل�سماة «معتدلة») والدولة‬ ‫يف �إطار ال�سعي �إىل حتقيق امل�صــــــــــــــــــــــــــالح‬ ‫الإمربيالية الأمريكيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‪،‬‬ ‫�أ�صبحت الأرا�ضي الفل�سطينية املحتلـــــــــــــــــــــــة‬ ‫�أحد �أهم املختربات التي تُعنـــــــــــــــــــــــــــــــــــى‬ ‫بتطوير �أحدث التقنيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات‬ ‫اال�رسائيلية اال�ستعمارية اال�ستيطانية من جهة �أخرى‪ ،‬وهي‬ ‫الدولة التي تعتمد ب�شكلٍ �أ�سا�سي على دعم امربيايل كغطاء‬ ‫�سيا�سي لأجندتها ال�صهيونية‪ .‬من خالل الدعم الدبلوما�سي‬ ‫والع�سكري واملايل (عند احلاجة) لكال الطرفني – رغم منح‬ ‫ا�رسائيل التفوق املطلق على �صعيد التنفيذ – �أُ ِ‬ ‫خم َدت‬ ‫احلما�سة الدميقراطية يف املنطقة العربية بنجاح ومت ا�ستخراج‬ ‫النفط وحماية ال�شبكات النفطية واحلفاظ على الهيمنة‬ ‫العاملية‪ ،‬وت�ستمر عملية اعادة ر�سكلة البرتودوالرات اخلليجية‬ ‫اىل البور�صات الغربية‪ .‬هذا هو نهج االمرباطورية االمريكية‪.‬‬ ‫ يف هذا االطار‪ ،‬ظهرت احلاجة �إىل التحكم بالطموحات‬ ‫الوطنية الفل�سطينية وتقوي�ضها ورمبا ن�سفها من اال�سا�س‪،‬‬ ‫بالنظر �إىل ارتباط امل�س�ألة الفل�سطينية بطريف اال�سرتاتيجية‬ ‫االمربيالية‪ :‬ذلك ان الروابط ال�سيا�سية واجلغرافية التاريخية‬ ‫واالخالقية بني ال�شعب الفل�سطيني واملحيط العربي تعيد‬ ‫البحث يف �أ�شكال خمتلفة من اال�ستعباد االمربيايل‬ ‫الغربي للمنطقة با�ستمرار‪ .‬بالتوازي مع ذلك‪ ،‬مل تتوقف‬ ‫يوم ًا املقاومة الفل�سطينية عن مواجهة الوجود اال�ستعماري‬ ‫اال�ستيطاين اال�رسائيلي‪ ،‬على الرغم من التطهري العرقي‬ ‫ملعظم الفل�سطينيني من وطنهم عام ‪.١٩٤٨‬‬ ‫ ويف حني مالت الواليات املتحدة تاريخي ًا �إىل �إالنكار‬ ‫القاطع لوجود ال�شعب الفل�سطيني و�رشعية قيادته‪،‬‬ ‫عودت الأو�ساط ال�سيا�سية‬ ‫ف�إن �سل�سلة من الأحداث ّ‬ ‫الأمريكية يف نهاية املطاف على التفكري يف مقاربات بديلة‬ ‫ملعاجلة امل�س�ألة الفل�سطينية‪ .‬عند توقيع اتفاقات �أو�سلو عام‬ ‫‪ ،١٩٩٣‬كانت «القومية العربية املتطرفة» قد ُكب َِحت �إىل‬

‫ ‪ 92‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫حد كبري �أو ُهز َِمت (حرب حزيران‪ /‬يونيو ‪ ،١٩٦٧‬تل‬ ‫الزعرت (‪ ،)١٩٧٦‬كامب ديفيد (‪ ،)١٠٧٩‬حرب اخلليج‬ ‫(‪)١٩٩١-١٩٩٠‬؛ واختفى التناق�س االقليمي بني‬ ‫القوى العظمى على املنطقة (البريي�سرتويكا)؛ و�أُ�ض ِعفَت‬ ‫الوطنية الفل�سطينية �إىل حد كبري (الرتحيل من لبنان‬ ‫عام ‪١٩٨٢‬؛ «هزمية» منظمة التحرير الفل�سطينية يف‬ ‫حرب اخلليج‪ ،‬وظهور قيادة بديلة حمتملة يف الأرا�ضي‬ ‫الفل�سطينية املحتلة بعد اندالع االنتفا�ضة الأوىل)‪.‬‬ ‫ من هذا املنطلق‪ ،‬تطلبت رغبة الواليات املتحدة‬ ‫يف �إقامة «نظام عاملي جديد»‪ ،‬خا�ضع لهيمنتها على‬ ‫اال�سواق‪ ،‬حل النزاعات االقليمية وو�ضع ترتيبات �أمنية‬ ‫�سيا�سية اقليمية‪ .‬ا�ستبعت تلك ال�سيا�سات تطبيع الوجود‬ ‫االقليمي اال�رسائيلي و�إدماجه يف املنطقة‪ ،‬وتو�سيع رقعة‬ ‫توغل ال�سوق الأمريكية يف العامل العربي يف الآن ذاته‪.‬‬ ‫ كذلك ارتبط �أحد مكونات هذه الديناميكيات بتطورات‬ ‫حمددة �ضمن الطبقة الر�أ�سمالية اال�رسائيلية ب�شكل خا�ص‪.‬‬ ‫منذ ت�أ�سي�سها عام‪ ١٩٤٨‬واحت�ضانها من قبل �أجهزة الدولة‬ ‫اال�رسائيلية‪ ،‬ف�سعت الر�أ�سمالية اال�رسائيلية �أكرث ف�أكرث �إىل‬ ‫نعت من‬ ‫التو�سع خارج حدودها يف ع�رص «العوملة»‪ ،‬لكنها ُم َ‬ ‫ذلك ب�سبب االنتفا�ضة الفل�سطينية الأوىل والتكاليف املبا�رشة‬ ‫املرتتبة عليها واملقاطعة العربية والعوائق احلمائية املحلية �أمام‬ ‫اال�ستثمار الأجنبي‪ .‬دفع ذلك جمموعات على غرار رابطة‬ ‫ال�صناعيني يف ا�رسائيل‪ ،‬وهي منظمة تتمتع بالنفوذ وال�سلطة‬ ‫وت�ضم �صناعيني حمليني مرتبطني بحزب العمل‪� ،‬إىل املطالبة‬ ‫بت�سوية مع الفل�سطينيني يف مطلع ت�سعينات القرن املا�ضي‪،‬‬ ‫بدون ا�ستبعاد فكرة اقامة دولة فل�سطينية‪.‬‬ ‫ ي�برر ذل��ك الدافع وراء عملية ال�سالم ب�شكلها‬ ‫الأ�سا�سي التي بد�أت يف مطلع ت�سعينات القرن املا�ضي‪.‬‬ ‫تتبدل امل�صالح‪ .‬ما تبدل هو االفرتا�ضات واملقاربات‬ ‫مل ّ‬ ‫التي ت�ساعد يف حتقيق هذه الأهداف‪.‬‬ ‫املراحل الثالث‬ ‫تق�سم «عملية ال�سالم» �إىل ثالث مراحل منف�صلة‪:‬‬ ‫ميكن �أن ّ‬ ‫املرحلة الأوىل‬ ‫(‪)2000–1993‬‬ ‫متيزت بافرتا�ض مفاده �أن الواليات املتحدة و�إ�رسائيل‬ ‫ّ‬ ‫حظيتا مبا اعتقدتا �أ ّنه «�رشيك م�ستعد» لتطبيق الر�ؤية‬ ‫�دة منذ وق��ت طويل‬ ‫ال�صهيونية «الرباغماتية» املُ��ع� ّ‬ ‫للفل�سطينيني واملعروفة بـ«خطة �ألون»‪ .‬دعت هذه اخلطة‬

‫�أ�سا�س ًا �إىل حكم الفل�سطينيني من خالل �سلطة �سيا�سية‬ ‫و�سيطة (م�رص؟ الأردن؟ روابط القرى؟)‪ ،‬يف �إطار تنظيم‬ ‫منزوع ال�سالح �أ�شبه بـ«بانتو�ستان»‪ ،‬مق�سم جغرافي ًا‪،‬‬ ‫ت�سيطر ا�رسائيل على �أر�ضه‪ ،‬دون �أن يحظى الفل�سطينيون‬ ‫برقابة دولية على احلدود‪� ،‬أو ي�ستعيدوا القد�س‪ ،‬ودون‬ ‫االعرتاف بحق عودة لالجئني‪� ،‬أو حتقيق ان�سحابات كبرية‬ ‫من امل�ستوطنات‪ .‬وقد ُن ِ�سب اىل وزير الدفاع اال�رسائيلي‬ ‫ال�سابق يغال �ألون قوله عام ‪« :1977‬بالت�أكيد‪� ،‬إذا كفت‬

‫الأحوال كانت التجارة بني بلدان املنطقة حمدودة يف‬ ‫ال�رشق الأو�سط‪ ،‬يف حني � ّأن التجارة لو متت‪ ،‬ل�صبت‬ ‫يف الغالب يف م�صلحة ا�رسائيل بالنظر �إىل التفاوت يف‬ ‫تقريبا‪،‬‬ ‫حجم الأ�سواق (‪ 5‬ماليني م�ستهلك ا�رسائيلي‬ ‫ً‬ ‫ابتداء من مطلع‬ ‫مقارنة بـ‪ 240‬مليون م�ستهلك عربي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ال عن ذلك‪� ،‬ساهم التوجه الكبري‬ ‫الت�سعينات)‪ .‬ف�ض ً‬ ‫لالقت�صاد اال�رسائيلي نحو االنفاق الع�سكري و«احلرب‬ ‫امل�ستمرة» يف �إعاقة االنتقال �إىل ال�سالم‪.‬‬

‫من خالل الدعم الدبلوما�سي والع�سكري واملالــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي‬ ‫�أُخمِ دَ ت احلما�سة الدميقراطيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫يف املنطقة العربية بنجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاح؛‬ ‫ومت ا�ستخراج ال�شبكات النفطيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫وحمايتها واحلفاظ على الهيمنة العامليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬

‫‪ 1‬ذكر ذلك يف كتاب‬ ‫ ‬ ‫جيلبري �أ�شقر‬ ‫«ال�صهيونية‬ ‫وال�سالم‪ :‬من‬ ‫خطة �ألون �إىل‬ ‫اتفاق وا�شنطن»‪،‬‬ ‫(‪)2004‬‬ ‫ويف كتاب‬ ‫«اال�ضطرابات يف‬ ‫ال�رشق اال�سالم‪،‬‬ ‫افغان�ستان‪،‬‬ ‫فل�سطني‬ ‫والعراق عرب‬ ‫املر�آة املارك�سية»‬ ‫من�شورات بلوتو‪،‬‬ ‫لندن‪.‬‬

‫ ‪ 93‬‬

‫منظمة التحرير الفل�سطينية عن كونها منظمة التحرير‬ ‫حتول النمر‬ ‫الفل�سطينية‪� ،‬سنكف عن اعتبارها كذلك‪� .‬أو �إذا ّ‬ ‫�إىل ح�صان‪ ،‬ميكننا �أن منتطيه‪ .‬يف تلك اللحظة‪ ،‬ن�ستحق‬ ‫�أن ُتكتب بع�ض مان�شيتات ال�صحف ل�صاحلنا‪ .»1‬وقد‬ ‫غذى توقيع عرفات اتفاق �أو�سلو االعتقاد ب� ّأن ا�رسائيل‬ ‫«رو�ضت» الأ�سد وهو على و�شك �أن ي�سمح لها بامتطائه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ مل تف�شل هذه احلقبة وافرتا�ضاتها لي�س فقط ل ّأن‬ ‫عرفات رف�ض منح م�صادقته «النهائية» يف مفاو�ضات‬ ‫كامب دايفيد العام ‪ 2000‬وح�سب‪ ،‬بل �أي�ض ًا ل ّأن‬ ‫ا�رسائيل �شعرت �أ ّنه بعد �أن حققت �رشيحة كبرية مما �أرادت‬ ‫حتقيقه من خالل عملية ال�سالم (ك�رس املقاطعة العربية من‬ ‫الدرجتني الأوىل والثانية‪ ،‬التنازل للفل�سطينيني عن �أ�شكال‬ ‫من ال�سيطرة املبا�رشة او امل�س�ؤولية) زال احلافز لتقدمي املزيد‬ ‫ال عن ذلك‪ ،‬تبني � ّأن االفرتا�ض ال�ضمني‬ ‫من التنازالت‪ .‬ف�ض ً‬ ‫عن «عائدات �أو مكا�سب ال�سالم» قد تظهر و ُتو َّزع من‬ ‫خالل التجارة االقليمية مل يكن غري ت�صور خاطئ‪.‬‬ ‫ كان التكامل على �صعيد ال�سلع القابلة للتداول بني‬ ‫االقت�صاد اال�رسائيلي واقت�صادات الدول العربية �ضعيف ًا‪،‬‬ ‫مع انتاج ا�رسائيل �سلع ًا ا�ستهالكية مزودة بتقنية متطورة‬ ‫لن تهتم �إال دول اخلليج العربي الرثية ب�رشائها (لكن‬ ‫ميكن �رشا�ؤها من �أي مكان �آخر يف �شتى الأح��وال)‪،‬‬ ‫يف حني مل تقدم الدول العربية �إال القليل مما قد ترغب‬ ‫ا�رسائيل يف �رشائه‪ ،‬با�ستثناء النفط‪ ،‬الذي كان متاح ًا يف‬ ‫ال�سوق وقد مت �ضمان احل�صول على جزء منه يف اتفاقات‬ ‫كامب دايفيد التي دعمتها الواليات املتحدة‪ .‬يف �شتى‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ �أ�ضف �إىل ذلك كله‪ ،‬العائق ال�سيا�سي املت�أ�صل‬ ‫واملتمثل يف العقيدة ال�صهيونية بحد ذاتها‪ ،‬التي تطالب‬ ‫باحلق التاريخي احل�رصي بامتالك الأر�ض‪ ،‬مع تعريف‬ ‫ا�رسائيل عن نف�سها باعتبارها دولة اليهود يف العامل‪،‬‬ ‫ولي�س اليهود يف �إ�رسائيل وح�سب‪ّ � .‬إن �أي اقرار مبطالبة‬ ‫وطنية مناف�سة بحق امتالك االر�ض �أو حتى بتقا�سم احلد‬ ‫الأدنى منها يف اطار ت�سوية �سالم من �ش�أنه تقوي�ض‬ ‫�رشعية كامل امل�رشوع والتربير الذاتي ال�صهيوين‪.‬‬ ‫ لهذه الأ�سباب‪ ،‬ف�ضلت ا�رسائيل �أن ت�ستعمل عملية‬ ‫ال�سالم ل�ضمان ت�سوية تندمج يف �إط��اره��ا الأم��وال‬ ‫اال�رسائيلية يف الأ�سواق الدولية (عو�ض ًا عن الأ�سواق‬ ‫االقليمية)‪ ،‬وبذلك ميكن �رشاء الوقت ملوجة ثانية من‬ ‫اال�ستيطان اال�ستعماري للأرا�ضي الفل�سطينية املحتلة‪.‬‬ ‫كذلك �أتاحت عملية ال�سالم اجناز اتفاق �أكرث «فعالية» مع‬ ‫الفل�سطينيني يف الأرا�ضي الفل�سطينية املحتلة الذين باتوا‬ ‫خارج نطاق امل�س�ؤولية اال�رسائيلية‪ ،‬حتت‪ ‬الإدارة الأمنية‬ ‫واملدنية‪ ‬لل�سلطة الفل�سطينية مبوجب اتفاق التق�سيم‪ ،‬يف‬ ‫حني مت �إق�صا�ؤهم عن �أ�سواق العمل اال�رسائيلية بف�ضل‬ ‫ا�ستقدام اليد العاملة الأقل كلفة (الأكرث �أمن ًا من الناحية‬ ‫ال�سيا�سية) الوافدة من �آ�سيا �أوروبا ال�رشقية‪ .‬بذلك‪ ،‬بات‬ ‫الفل�سطينيون الآن مف�صولني عن العمل‪ ،‬مع ت�صوير‬ ‫�أي حم��اوالت م�ستمرة يف ما بينهم للتم�سك بالروح‬ ‫الوطنية‪� ،‬ضمن �إطار جبهة التحرير الفل�سطينية �أو غريها‪،‬‬ ‫كتهديد مبا�رش حمتمل للم�صالح الر�أ�سمالية واجلغرافية‬ ‫اال�سرتاتيجية للواليات املتحدة وا�رسائيل‪.‬‬


‫ لهذا ال�سبب‪ ،‬كان «العر�ض ال�سخي» الذي قدمه ايهود‬ ‫بارك يف كامب ديفيد ُمعد ًا ليف�شل‪ ،‬مما �سي�ؤدي �إما �إىل‬ ‫ا�ست�سالم فل�سطيني «ر�سمي»‪� ،‬أو ير�سي الأ�س�س لتو�صيف‬ ‫الفل�سطينيني ب�أنهم «راف�ضون»‪ ،‬وبذلك يبد�أ التح�ضري‬ ‫للمرحلة التالية من «ت�أديبهم» وتقوي�ض قدرتهم على‬ ‫تهديد امل�صالح اال�رسائيلية الأمريكية ب�شكلٍ دائم‪.‬‬

‫ب�إمكانية ت�شكيل ديناميكيات تتعزز وتتوالد ذاتي ًا ميكن‬ ‫ت�صويرها باعتبارها ت�سعى �إىل التنمية «الوطنية» والنمو‬ ‫االقت�صادي‪ .‬ب�سهولة كبرية‪ُ ،‬ك�شف النقاب عن االتفاق‬ ‫الفردي ال�سابق باعتبار �أنه ميثل تعاون ًا وجني ارباح ب�أ�سلوب‬ ‫انتهازي كما �أنه يفتقر �إىل �إطار �سيا�سي‪ /‬وطني حقيقي‬ ‫ٍ‬ ‫عندئذ عن كيفية ت�صميم اتفاق‬ ‫لل�رشعية‪ .‬ف�أ�صبح ال�س�ؤال‬ ‫مماثل فعال �أقله على املدى الطويل‪.‬‬

‫واعتماد ال�سيا�سية الأ�سا�سية التي تق�ضي برتهيب املدنيني‬ ‫من خالل قتل وجرح ع�رشات الآالف‪� ،‬إىل جانب تدمري‬ ‫الأرا�ضي الزراعية‪ ،‬واحل�صار و«جتويع غزة» �إلخ‪.‬‬ ‫بدعم من‬ ‫جتدر اال�شارة �إىل � ّأن كل ما ذُكر �آنف ًا �أُجنِز‬ ‫ٍ‬ ‫دعم مل يظهر من‬ ‫الواليات املتحدة واالحتاد الأوروبي‪ٌ ،‬‬ ‫خالل ال�سيا�سيات ال�سلبية املطبقة يف هذه الدول والتي‬ ‫تق�ضي باالفالت من العقاب �أو ادانة ا�رسائيل وح�سب‪،‬‬ ‫�إمنا �أي�ض ًا من خالل مكاف� ٍآت ودع� ٍ�م ع�سكري ومايل‬ ‫ودبلوما�سي فعال‪.‬‬

‫املرحلة الثانية‬ ‫انتفا�ضة الأق�صى (‪)2005 – 2000‬‬ ‫ج�سدت الفرتة التي �سعت فيها الواليات املتحدة‬ ‫ّ‬ ‫وا�رسائيل �إىل �إعادة تنظيم احلركة الوطنية الفل�سطينية‬ ‫املرحلة الثالثة‬ ‫و�إعادة ت�شكيلها من خالل االخ�ضاع اجل�سدي املح�ض‪.‬‬ ‫«بناء الدولة» (‪ 2005‬حتى الآن)‬ ‫وقد مت ّثل الهدف يف �سحق النا�س ومعاقبتهم على انبثقت هذه املرحلة من االعتقاد �أ ّنه مبجرد �أن ت�سحق‬ ‫�صمودهم الوطني‪ ،‬الذي جت�سد يف النهاية من خالل ا�رسائيل نوع ًا ما احلركات الوطنية‪ ،‬ينبغي بذل اجلهود يف‬ ‫رف�ض عرفات لكامب ديفيد‪ ،‬و�إ�ضعاف �آمالهم بتوقع �أي �سبيل اعادة بناء القيادة الفل�سطينية وال�شعب الفل�سطيني‬ ‫�شيء �أف�ضل‪� .‬سعت �إ�رسائيل �إىل الك�شف عن � ّأن مقاوة واعادة ت�شكيلهما وفق ًا ملعتقدات جديدة ميكن �أن حت�صد‬ ‫الأهداف ال�صهيونية املرتبطة بفل�سطني ال طائل منها‪ ،‬القبول ال�سيا�سي والهدوء املن�شود‪� ،‬أقله على املدى الطويل‪.‬‬ ‫و� ّأن الوطنية الفل�سطينية مبعناها التاريخي والتحريري جتدر اال�شارة هنا‪ ،‬كما هي احلال عامة‪� ،‬إىل � ّأن الواليات‬ ‫و�صلت �إىل حائط م�سدود‪ .‬خالل االنتفا�ضة‪ ،‬مل يكن املتحدة‪� ،‬إىل جانب الدور الثانوي لالحتاد الأوروبي‪ ،‬هي‬ ‫الفل�سطينيون يتفاو�ضون على �رشوط ا�ست�سالمهم (كما التي حتدد يف النهاية املعايري ال�سيا�سية العامة ملتابعة‬ ‫يف كامب ديفيد)‪ ،‬بل على �رشوط بقائهم‪ ،‬مثال ما �إذا ال�سعي وراء اتفاق �سيا�سي «توافقي» مع الفل�سطينيني‪.‬‬ ‫�سي�سمح بانتقال علبة طماطم من منطقة �إىل �أخرى‪ ،‬فيما ت�سعى �إ�رسائيل وال�صهيونية يف الأ�سا�س �إىل‬ ‫كان ُ‬ ‫ما �إذا كانوا �سيتمكنون من الو�صول �إىل امل�ست�شفى �أو طرد‪ /‬ترحيل الفل�سطينيني من فل�سطني التاريخية ب�سبب‬ ‫املدر�سة �إلخ‪ .‬متثل الهدف من ذلك على حد تعبري مو�شيه ق�صتهما الوطنية التاريخية املتنازع عليها‪« ،‬تردع» الكتلة‬ ‫الغربية ا�رسائيل عن حتقيق هذا الهدف ب�شكلٍ مبا�رش‬ ‫تبني �أنّ االفرتا�ض ال�ضمنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي ب�سبب «التوازن» الذي ينبغي �أن ُتبقي عليه هذه القوى‬ ‫�أنّ «عائدات �أو مكا�سب ال�ســـــــــــــــــــــــــــــــالم» للحفاظ على عالقاتها مع كتلة «الدول العربية املعتدلة»‪،‬‬ ‫ُوزع من خالل التجارة االقليميــــــــــــــــة بخا�صة ال�سعودية‪� ،‬أقله طاملا � ّأن النفط يبقى مبدئ ًا تنظيمي ًا‬ ‫قد تظهر وت َّ‬ ‫لي�س �إال‬ ‫ت�صورا خاطـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــئ ًا رئي�س ًا يف احلياة واالقت�صادات املعا�رصة‪� .‬أكرب طموحات‬ ‫ً‬ ‫ا�رسائيل ال�صهيونية هي من �أولوياتها اخلا�صة‪ ،‬لكن هذه‬ ‫يعلون‪ ،‬رئي�س �أركان اجلي�ش اال�رسائيلي يف ذلك احلني‪ ،‬القوى تف�سح رغم ذلك املجال �أمام حتقيقها ببطء من خالل‬ ‫يف زرع الهزمية يف الوعي الفل�سطيني‪.‬‬ ‫عمليات التو�سع اال�ستعمارية‪� ،‬ضمن احلدود «امل�سموح‬ ‫َّ‬ ‫ ‬ ‫تركز التوجه الأ�سا�سي يف هذه املرحلة على تعزيز بها» يف �إطاراللعبة التي ت�رشف عليها الواليات املتحدة‪.‬‬ ‫�شبكة املراقبة حول الفل�سطينيني (بناء اجلدار الفا�صل‪ ،‬يف �شتى الأحوال‪ ،‬تختلف هذه املرحلة اختالف ًا نوعي ًا‬ ‫ال عن عن املرحلة الأوىل من عملية ال�سالم لناحية جوانب �أ�سا�سية‬ ‫�إقامة مئات نقاط التفتي�ش و�أبراج املراقبة‪ )...‬ف�ض ً‬ ‫ت�صفية �أبرز القادة امليدانيني الع�سكريني وال�سيا�سيني‪ ،‬عدة‪ .‬عو�ض ًا عن االعتماد على قادة رمزيني �أفراد ورجال‬ ‫الذين ا�ستمروا يف دع��م الوفاق الوطني الأ�سا�سي �أقوياء للتوقيع يف النهاية على اتفاق ما وتنفيذه (اتفاق ميكن‬ ‫ن�صت املقاربة اجلديدة على �رضورة ت�شكيل‬ ‫واال�صطفاف حوله‪ .‬بالتايل‪ ،‬مت باخت�صار اعتماد �سيا�سة دائم ًا انتهاكه)‪ّ ،‬‬ ‫«الأر�ض املحروقة» والتهدئة الع�سكرية وذلك من خالل فئة �سيا�سية واجتماعية فل�سطينية �أكرث ا�ستقرار ًا وجدارة‬ ‫اغتيال مئات النا�شطني البارزين‪ ،‬و�سجن �آالف �آخرين‪ ،‬بالثقة‪ ،‬مبا يرتبط مع اتفاق �أو�سلو ويتما�شى معه‪ .‬فئة وعدت‬

‫ ‪ 94‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫عليهم مالي ًا) حماولة بناء اتفاقات عليها ت�ؤدي يف النهاية �إىل‬ ‫ن�سيج طبقي من�سجم مع جممل الأهداف الإمربيالية للغرب‪.‬‬ ‫ جرى يف املرحلة الأوىل من عملية ال�سالم �إخماد‬ ‫حماوالت احل�صول على دعم النخب بوا�سطة الأ�سلوب‬ ‫ال�سيا�سي ال�شخ�صي املعتمد من قبل عرفات نف�سه الذي‬ ‫اختار بعناية من بني امل�ستفيدين يف �صفوف امل�س�ؤولني‬ ‫الأمنيني والنخب االقت�صادية الأ�شخا�ص الذين‬ ‫�سي�ستفيدون من االتفاقات التي تتوخى الربح �أثناء حقبة‬ ‫عملية ال�سالم‪ .‬واجلدير بالذكر �أن هذا الأ�سلوب هو بال�ضبط‬ ‫ت�صوره لقيادة و�سيطة فل�سطينية‪،‬‬ ‫ما �أراده املجتمع الدويل يف ّ‬ ‫�أي �سيا�سة «الزعيم»‪ ،‬مع ح�صول عرفات وم�ست�شاره‬

‫النيوليربالية ومفهوم «بناء الدولة»‬ ‫هنا تربز �أهمية فهم دور املفاهيم النيوليربالية و«بناء الدولة»‪.‬‬ ‫فمن جهة‪� ،‬أُدر َِج��ت النيوليربالية يف الت�صميم الأ�سا�سي‬ ‫قومت بنية عالقات ال�سيطرة‬ ‫لعملية ال�سالم‪ ،‬بحيث �إ ّنها ّ‬ ‫والقبول‪� ،‬أو �أعادت تنظيمها‪ .‬فقبل عملية ال�سالم (�أي قبل �أتاحت عملية ال�سالم اجناز اتفـــــــــــــــــــــــــــــــاق‬ ‫عام ‪ ،)1993‬كان «القبول» يرتبط �رصاح ًة ب�رضب �أكرث «فعالية» مع الفل�سطينيني يف الأرا�ضـــــــــــــــي‬ ‫القوات الإ�رسائيلية الفل�سطينيني باملعنى احلريف للكلمة الفل�سطينية املحتلة الذين باتــــــــــــــــــــــــــــــــوا‬ ‫و�سيطرتها بريوقراطي ًا على الأرا�ضي املحتلة وذلك خالل خارج نطاق امل�س�ؤولية اال�ســــــــــــــــــــــــــــرائيلية‬ ‫االنتفا�ضة الأوىل‪ّ � .‬أما «بعد» اتفاق �أو�سلو‪ ،‬فقد �أن�شئت �سلطة‬ ‫فل�سطينية لتكون و�سيط ًا بني االحتالل الإ�رسائيلي وال�شعب االقت�صادي حممد ر�شيد �شخ�صي ًا على كامل ال�صالحية‬ ‫املح َتل‪ ،‬وا�ضطلعت مبهام مماثلة‪ :‬احلفاظ على «�أمن �إ�رسائيل» من املجتمع الدويل و�إ�رسائيل (عرب ح�سابات م�رصفية‬ ‫(بالأحرى و�ضع حد لأعمال املقاومة) وحكم الفل�سطينيني �رسية لأرب��اح اتفاقات االحتكار‪ ،‬دفع �أجر امل�س�ؤولني‬ ‫�إداري��� ًا‪ ،‬ولو يف مناطق حم��ددة هذه امل��رة‪ .‬ان�سجم هذا الأمنيني نقد ًا‪� ،‬إلخ‪ ).‬لإبقاء ال�شارع الفل�سطيني من�ضبط ًا‪.‬‬ ‫متيزت بتغيري يف املقاربة‪ .‬فعو�ض ًا‬ ‫االتفاق مع املنطق النيوليربايل املهيمن يف ثمانينات القرن لكن حقبة ما بعد عرفات ّ‬ ‫معينني (امل�س�ؤولني‬ ‫الع�رشين ويف مطلع الت�سعينات‪ ،‬الذي ي�ؤمن ب�أن املقاولة عن االعتماد على «زعيم» �أو «زعماء» ّ‬ ‫من الباطن �رضورية ل�سال�سل الإنتاج العاملية‪ .‬كان عبارة الأمنيني والفاعلني االقت�صاديني املختارين)‪ ،‬تط ّلع بناة‬ ‫عن تلزمي انتقائي لأكرث موجبات االحتالل �إرهاق ًا و�أعالها الدول العامليون �إىل «طبقة حازمة» كونها مالذ ًا �أكرث وثوقا‬ ‫كلف ًة (حفظ النظام‪� ،‬إدارة اخلدمات االجتماعية‪ ،‬حت�صيل للقيم التي �سعوا �إىل ن�رشها‪ .‬وقد تط ّلب ذلك دعم �إن�شاء هذه‬ ‫معينة يف جهاز ال�سلطة الفل�سطينية‬ ‫ال�رضائب)‪ ،‬وذلك عرب توظيف العمالة الفل�سطينية (قيادة الطبقة عرب تدخالت ّ‬ ‫املقو�ضة وجهازها الإداري) «ال�شبيه بالدولة»‪ .‬وعليه كان ال بد من تقوية الربجوازية‬ ‫منظمة التحرير الفل�سطينية ّ‬ ‫وبتمويل كبري من املكلفني بال�رضائب الأوروبيني واليابانيني‪ ،‬الفل�سطينية وجعلها تتماهى بكل وعي مع بنية ال�سلطة‬ ‫ال عن برتودوالرات اخلليج‪ .‬كان هذا االتفاق يحاكي الفل�سطينية‪ ،‬من دون حم�سوبيات كما يف زمن عرفات‪،‬‬ ‫ف�ض ً‬ ‫معينة يف بحجة �أن ذلك �شكل من �أ�شكال ت�أهيل «الأ�سواق احلرة»‪.‬‬ ‫�أي�ض ًا ميل النيوليربالية �إىل �إن�شاء �أنظمة اقت�صادية ّ‬ ‫مناطق �إقليمية ال�ستقاء الربح و�إعادة تنظيم الإنتاج‪ ،‬وو�ضع هنا‪ ،‬كان املجتمع الدويل ي�ستخدم مبا�رش ًة جمموعة من‬ ‫�إطار جديد للأرا�ضي‪ ،‬وال�شعب‪ ،‬واحلقوق والواجبات‪.‬‬ ‫املفاهيم النيوليربالية التي ميكن �أن تلبي احلاجات املطروحة‪.‬‬ ‫ على امل�ستوى امل�ص ّغر‪� ،‬أتاحت هذه ال�سلطة �أي�ض ًا الر�أ�سمالية‪ ،‬يف نظر النيوليرباليني‪ ،‬لي�ست جمرد نظرية‬ ‫الفر�صة الجراء االختبارات عرب حماولة و�ضع الت�صميم عن بناء الرثوة الفردية‪ ،‬و�إمنا هي جزء �أ�سا�سي من احلرية‬ ‫القيمون ال�سيا�سية نف�سها‪ .‬تو�صف «احلرية االقت�صادية» ب�أنها بعد من‬ ‫تخيلها ّ‬ ‫االجتماعي لأ�صناف الفل�سطينيني كما ّ‬ ‫على «عملية ال�سالم»‪ .‬كان َ‬ ‫ينظر �إىل ال�سلطة الفل�سطينية �أبعاد «احلرية» ُيفهم على نطاق �أو�سع وهو بالتايل مربر على‬ ‫ال عن ذلك‪ ،‬تعتقد النظريات النيوليربالية‬ ‫القائمة اليوم هيكلي ًا بني ال�شعب املح َتل من جهة‪ ،‬و�إ�رسائيل نحو وا�ضح‪ .‬ف�ض ً‬ ‫واملجتمع الدويل من جهة �أخرى‪ ،‬كخلفية ميكن لبناة الدول ب�أنه �إن منحت «الأ�سواق احلرة»‪ ،‬عو�ض ًا عن احلكومات‪،‬‬ ‫الدوليني (التي كانت ال�سلطة الفل�سطينية بحد ذاتها تعتمد القدرة على معاجلة جمموعة احلاجات الب�رشية‪ ،‬عندئذ‬

‫ ‪ 95‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬


‫�سيكون من املمكن �صون احلرية بحد ذاتها وحمايتها لأن‬ ‫اخليار الفردي له الكلمة الف�صل‪ ،‬ولي�س ال�سلطة ال�سيا�سية‬ ‫القهرية‪ .‬ويف هذا الإطار‪ ،‬يرى �سليل النيوليربالية ميلتون‬ ‫فريدمان �أن الأ�سواق ت�ؤدي دورا حمددا يف �إلغاء الت�سيي�س‪:‬‬ ‫ «ي�ؤدي اال�ستخدام الوا�سع االنت�شار لل�سوق �إىل تخفيف‬ ‫ال�ضغط على الن�سيج االجتماعي عرب جعل االمتثال لأي‬ ‫من الن�شاطات التي ت�شملها غري �رضوري‪ .‬فكلما ا ّت�سع‬ ‫نطاق الن�شاطات الذي ت�شمله ال�سوق‪ ،‬ق ّلت امل�شاكل التي‬ ‫يطلب اتخاذ قرارات �سيا�سية �رصيحة ب�ش�أنها والتي يجب‬ ‫كلما تق ّل�صت امل�شاكل‬ ‫بالتايل االتفاق حولها‪ .‬باملقابل‪ّ ،‬‬ ‫التي يجب االتفاق حولها‪ ،‬زاد احتمال التو�صل �إىل اتفاق‬ ‫مع احلفاظ يف الوقت عينه على جمتمع حر»‪.2‬‬ ‫ّ‬ ‫تفك الأ�سواق‪ ،‬بح�سب النيوليرباليني‪ ،‬روابط «االمتثال»‬ ‫ ‬ ‫التي حتافظ عادة على حلمة ال�شعب‪ .‬ففي حال فتحت‬ ‫الأ�سواق كبديل عن احلكومات لتلبية طيف كامل من‬ ‫احلاجات الب�رشية‪ ،‬ينتفي حينئذ ال�رشط ال�رضروي ملعظم‬ ‫املمار�سات ال�سيا�سية و�صناعة القرار‪ .‬فت�صبح امل�شاكل‬ ‫ال�سيا�سية واحلاجات االجتماعية مبثابة �سلع‪ ،‬وتتفكك �إىل‬ ‫م�شاكل �صغرى ميكن معاجلتها ب�شكل فردي‪ ،‬فني ًا‪ ،‬وعرب‬ ‫القيمني على القطاع اخلا�ص �أرباح ال�سوق من دون‬ ‫توزيع ّ‬ ‫احلاجة اىل قرار �سيا�سي‪ ،‬او هكذا يكون الزعم‪ .‬لقد اتخذت‬ ‫معنى جديد ًا وهو القدرة على جعل الفرد ميار�س‬ ‫«احلرية»‬ ‫ً‬ ‫خياره يف ال�سوق وذلك عرب القدرة ال�شخ�صية على ال�رشاء‬ ‫جمرد كونها مفهوم ًا مرتبط ًا ب�أ�شكال من‬ ‫�أو البيع‪ ،‬بد ً‬ ‫ال من ّ‬ ‫ال�سيطرة البنيوية واحلقوق الفردية �أو اجلماعية‪.‬‬

‫‪ 2‬فريدمان‪ ،‬م‪:)1962( .‬‬ ‫«الر�أ�سمالية‬ ‫واحلرية»‪ ،‬مب�ساعدة‬ ‫روز د‪ .‬فرايدمان‪،‬‬ ‫�شيكاغو‪ :‬من�شورات‬ ‫جامعة �شيكاغو‪.‬‬

‫ ‪ 96‬‬

‫«بناء الدولة النيوليربالية» على �أر�ض الواقع‬ ‫تلك هي بال�ضبط الأفكار التي ر�أى املجتمع الدويل نف�سه‬ ‫يطبقها على الأرا�ضي املحتلة من خالل مليارات الدوالرات‬ ‫التي قدمها كم�ساعدات لبناء الدولة‪ ،‬والتي انطلقت بعد‬ ‫االنق�سام ال�سيا�سي بني ال�ضفة الغربية وغزة �أثناء املرحلة‬ ‫الثالثة من عملية ال�سالم‪ .‬وبينما امتنع املجتمع الدويل‪ ،‬الذي‬ ‫�شارك يف دعم عملية ال�سالم‪ ،‬عن ا�ستخدام عبارة «الدولة»‬ ‫يف «املرحلة الأوىل» من عملية ال�سالم حر�ص ًا منه على عدم‬ ‫«�إهانة» �إ�رسائيل‪ ،‬خرجت فكرة الدولة الفل�سطينية �إىل العلن‬ ‫بعد وفاة عرفات واالنتفا�ضة الثانية‪ .‬لكن كان لهذه الدولة‬ ‫مفهوم حمدد بالن�سبة �إىل املجتمع الدويل‪� ،‬أال وهو دولة‬ ‫نيوليربالية تتمتع ببنية حتتية �إدارية قادرة على �إدارة موجباتها‬ ‫املدنية والأمنية مبهارة‪ ،‬وتوجيه هواج�سها التنموية نحو منو‬ ‫حملي وعاملي على حد �سواء‪ ،‬حمفّز من القطاع اخلا�ص‪.‬‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ لكن الرياء املنظم جت ّلى يف �أن الواقع على الأر�ض مل‬ ‫يعك�س ال�رشوط ال�رضورية لعمل «الأ�سواق احلرة»‪ .‬ويف‬ ‫حرة البتة يف ظل اختيار �إ�رسائيل‬ ‫احلقيقة‪ ،‬مل تكن الأ�سواق ّ‬ ‫والغرب للجهة املتلقية للم�ساعدات ال�سخية التي كانت‬ ‫تقدم لل�سلطة الفل�سطينية من اجل بناء الدولة‪ .‬فازدهرت‬ ‫الأ�سواق حيث ُ�س ِمح لها بذلك‪� ،‬أي يف نطاق عقود ال�سلطة‬ ‫الفل�سطينية‪ ،‬والتجارة‪ ،‬والعقارات يف املنطقة «�أ»‪ ،‬وكل ذلك‬ ‫على ح�ساب قطاعات �إنتاجية مثل الزراعة وال�صناعة �أو‬ ‫اقت�صادات املقاومة‪� .‬ساعد املجتمع الدويل «ب�سخاء» �أو‬ ‫هو عر�ض امل�ساعدة يف �سن القوانني املالية والتنظيمية‬ ‫الفل�سطينية (امل�صارف‪ ،‬الرهون العقارية‪ ،‬التمويل والإيجار‪،‬‬ ‫الت�أمني‪ ،‬معا�شات التقاعد‪ ،‬اال�ستثمارات‪ ،‬التجارة‪� ،‬إلخ)‬ ‫�ساعي ًا �سعي ًا حثيث ًا �إىل تلبية م�صالح القطاع اخلا�ص على‬ ‫ح�ساب احلاجات االجتماعية والبيئية‪ ،‬وقوانني العمل‬ ‫العادلة‪ ،‬ناهيك عن الأولويات الوطنية‪ .‬كل ذلك حتت �شعار‬ ‫بناء م�ؤ�س�سات دولة فل�سطينية م�ستقبلية‪� .‬إال �أن ذلك كان‬ ‫يف الواقع حماولة لإحكام القب�ضة النيوليربالية على حركة‬ ‫حترير وطنية‪ ،‬وهو مثال غري اعتيادي عن اخل�صخ�صة ما‬

‫حيث العر�ض والطلب متفاوتان ب�سبب االحتالل‪ ،‬وغالب ًا‬ ‫من خالل خطط �رشاكة بني بناة دول دوليني وبنوك حملية‬ ‫�أو �إقليمية لت�أمني القرو�ض البخ�سة (للرهون العقارية‬ ‫�أو ال�رشكات)‪ .‬لكن مبا �أن منطق الر�أ�سمالية قائم على‬ ‫الربحية‪ ،‬ولي�س على احلاجة االجتماعية (ناهيك عن‬ ‫املعايري الوطنية) ف�إن هذه اخلطط م�صممة للمراهنة �ضد‬ ‫قرار �سيا�سي عادل‪� ،‬أو قوى تقاتل ملكافحة الظلم‪.‬‬ ‫ يف هذا الإطار‪ ،‬ف�إن �إطالق ال�سيا�سات املتطرفة امل�ستوحاة‬ ‫من النيوليربالية على امتداد املنطقة املحتلة ويف ظل‬ ‫اال�ستيطان‪ ،‬ال يتمحور حول الهند�سة االجتماعية فح�سب‪،‬‬ ‫و�إمنا هو �سالح اجتماعي م�صمم للتجريد من احلقوق من‬ ‫خالل قوى ال�سوق او التبعيات البنيوية اوالعالقات الطبقية‬ ‫حيث العنف الإكراهي الذي متار�سه �إ�رسائيل بقي حمدود ًا‪.‬‬ ‫�سبق �أن �شهدنا القوة املدمرة ملقاربة النيوليربالية ال�ساخرة‬ ‫التي ت�سعى وراء الربح وتتالعب بالأزمة يف �إطار �أزمات‬ ‫تطبق الآليات والأفكار نف�سها عرب‬ ‫الإ�سكان العاملية‪ .‬انها ّ‬ ‫الأرا�ضي املحتلة اليوم‪ ،‬وهي تبدو كقنبلة موقوتة جاهزة‬ ‫لالنفجار عند تهيئة الظروف املواتية لذلك‪.‬‬ ‫ال خطط ًا لت�أمني‬ ‫ فقد و�ضع بناة الدول الدوليون مث ً‬ ‫الرهون العقارية والكفاالت اخلا�صة بالقرو�ض ت�ستهدف‬ ‫املوظفني يف القطاع العام يف ال�سلطة الفل�سطينية‪ ،‬اولئك‬ ‫الذين يعتمدون بدورهم ب�شكل مبا�رش على ال�سلطة‬ ‫الفل�سطينية (وخطها ال�سيا�سي) لقب�ض م�ستحقاتهم‪.‬‬ ‫تهدف اخلطط اخلا�صة بالرهون من جهة �إىل ا�سرت�ضاء‬ ‫النظام يف ال�سلطة الفل�سطينية اقت�صادي ًا و�إ�ضفاء الطابع‬ ‫ال�رشعي عليه‪ ،‬وذلك عرب ت�شجيع الإقرا�ض امل�رصيف‬ ‫وعمليات �رشاء املنازل مبا يعزز قاعدة الدعم لديه‪ .‬هذا من‬ ‫جهة‪ .‬توجد من جهة �أخرى الظروف التي قد جتعل من‬ ‫�سكن �آالف املوظفني ولقمة عي�شهم يف م�ؤ�س�سات ال�سلطة‬ ‫الفل�سطينية �ضحية ارغام تلك ال�سلطة على اعتماد خط‬ ‫�سيا�سي معينّ لقاء ا�ستمرار ح�صولها على متويل دويل‪.‬‬ ‫وهذا يفر�ض �ضغط ًا كبري ًا على ال�سلطة الفل�سطينية ذاتها‪.‬‬ ‫تكر�سها‬ ‫بوا�سطة �آليات ال�سيطرة وال�ضغط هذه التي ّ‬ ‫مبادئ «ال�سوق احلرة»‪ ،‬يجني بناة الدول الدوليون ربح ًا‬ ‫�سيا�سي ًا على ح�ساب القيادة واملجتمع الفل�سطينيني‪.‬‬ ‫وبغ�ض النظر عن هذه امل�س�ألة‪ ،‬بد�أت املخاطر املعروفة‬ ‫للمنطق النيوليربايل‪ ،‬التي جتلت م�سبق ًا يف �ساحات �أخرى‬ ‫حول العامل‪ ،‬تظهر �أي�ض ًا على امتداد الأرا�ضي املحتلة‪،‬‬ ‫بحيث ميكن ر�ؤية الزيادة الكبرية يف تركز الرثوات ويف‬ ‫انعدام امل�ساواة‪ ،‬وارتفاع ن�سبة البطالة والعمالة الزائدة‪،‬‬

‫«بعد» اتفاق �أو�سلو‪� ،‬أن�شــــــــــــــــــــــــــــــــــــــئت‬ ‫�سلطة فل�سطينية لتكون و�ســــــــــــــــــــــــــــــيط ًا‬ ‫بني االحتالل الإ�رسائيلي وال�شـــــــــــــــــعب املحتَل‪،‬‬ ‫وا�ضطلعت مبهام احلفاظ علـــــــــــــــــــــــــــــــــــى‬ ‫«�أمن �إ�رسائيل» وحكم الفل�سطينيني �إداريـــــــــــــــــــ ًا‬ ‫قبل مرحلة بناء الدولة �أ ّدى �إىل �إفراغ مفهوم التحرير من‬ ‫الكثري من قيمه �إذ �إنه يف جميع الأحوال لن يكون هناك ما‬ ‫يجب «حتريره» لأن تلك املهمة قد ك ّلف بها القطاع اخلا�ص‪.‬‬ ‫ غني عن القول �أن هذه امل�سارات ت�ستمر باالنك�شاف‬ ‫بوترية بطيئة يف �أنحاء الأرا�ضي املحتلة ك�أ�شكال من‬ ‫الهند�سة االجتماعية بينما ت�ساهم حتم ًا يف ظهور �أقلية‬ ‫حاكمة من اال�ستغالليني مرتبطة با�ستمرار الو�ضع احلايل‬ ‫ومن�سجمة معه‪ .‬كذلك ن�ش�أت طبقة فقرية وا�سعة من‬ ‫املحرومني متث ّلت فعلي ًا يف امل�ضطهدين واملحا�رصين يف‬ ‫العمال «التايالنديني» امل�ستغ ّلني �إىل حد كبري يف‬ ‫غزة �أو ّ‬ ‫�شمال ال�ضفة الغربية الذين ي�أتون �إىل رام الله بحث ًا عن‬ ‫تبخرت‪ ،‬والزراعة مل تعد‬ ‫عمل لأن الوظائف الإ�رسائيلية ّ‬ ‫تدر الأرباح‪ ،‬وعليهم �إطعام الأفواه اجلائعة‪.‬‬ ‫ت�شجع الر�أ�سمالية‪ ،‬املحفّزة يف ظل‬ ‫ال عن ذلك‪،‬‬ ‫ ف�ض ً‬ ‫ّ‬ ‫االحتالل‪ ،‬اال�ستثمارات يف مناطق عقيمة وغري م�ستقرة‬

‫ ‪ 97‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫وتزايد اجلرائم يف الوقت الذي تتزايد فيه �أعداد ال�رشطة‬ ‫وال�سجون وامل�رشدين واملت�سولني‪ ،‬والتقوي�ض الوا�ضح‬ ‫للم�سارات الدميقراطية و�أ�ساليب املحا�سبة‪ ،‬واالنخفا�ض‬ ‫املخيف يف التكافالت االجتماعية‪.‬‬ ‫ ال �شك يف � ّأن على الالعبني ال�سيا�سيني درا�سة هذه‬ ‫امل�شاكل بعناية‪ ،‬والبدء ب�صياغة حلول ملواجهتها‪ ،‬مع‬ ‫�إدراج حتليل العوامل الطبقية واالقت�صاد ال�سيا�سي‬ ‫يف درا�ستهم‪ .‬لطاملا اعتمد اال�ستيطان على �أطر‬ ‫عمل‪ ،‬وخطابات‪ ،‬وتبعيات بنيوية وعالقات طبقية بني‬ ‫امل�ستعمرين لتحقيق هدفه‪ .‬لذا حان الوقت للرد على‬ ‫َ‬ ‫ذلك عرب �إدراج مفاهيم م�ضادة يف منطقنا وممار�ساتنا‪.‬‬ ‫ يعني ذلك �أنه ينبغي دح�ض خرافة التنمية االقت�صادية‬ ‫يف ظل االحتالل ور ّده��ا‪ .‬كذلك يجب حماية ال�سلع‪،‬‬ ‫واخلدمات‪ ،‬واملوارد العامة و‪�/‬أو ت�أميمها (الأر�ض‪ ،‬احلجر‪،‬‬ ‫املاء‪ ،‬الكهرباء‪ ،‬االت�صاالت ال�سلكية والال�سلكية‪ ،‬ال�صحة‪،‬‬ ‫ال من �أن ت�صبح �ضمن �سيطرة القطاع اخلا�ص‪.‬‬ ‫والتعليم) بد ً‬ ‫يجب الرتكيز �أي�ض ًا على حماية القطاعات الإنتاجية‬ ‫(ال�صناعة والزراعة) ودعمها وتطبيق ذلك عرب الو�سائل‬ ‫املحدودة التي ميلكها الفل�سطينيون‪ .‬من ال�رضوري كذلك‬ ‫�أن ت� ِّؤمن بنى احلوافز ال�شاملة للقرارات واالتفاقات‬ ‫االقت�صادية احلماية لتوزيع ع��ادل للرثوات‪ ،‬وتعتمد‬ ‫م�سارات ل�صناعة ق��رارات تهدف �إىل تعزيز الت�ضامن‬ ‫االجتماعي والت�صدي اجلماعي للجهود الإ�رسائيلية‬ ‫والدولية الرامية �إىل زرع الفرقة بينهم و�إخ�ضاعهم‪.‬‬ ‫ال عن ذلك‪ ،‬يجب الت�صدي التفاق �أو�سلو بكل‬ ‫ ف�ض ً‬ ‫تركيبته‪ ،‬ما يعني رف�ض الدور التلزميي لل�سلطة الفل�سطينية‬ ‫كو�سيط بني االحتالل وفل�سيطينيي الأرا�ضي املحتلة‪.‬‬ ‫والأه��م رف�ض كامل االتفاق الذي ي�ضمن االنق�سام‬ ‫مكونات ال�شعب الفل�سطيني (فل�سطينيو‬ ‫اال�صطناعي بني ّ‬ ‫الأرا�ضي املحتلة‪ ،‬فل�سطينيو الـ‪ ،48‬وفل�سطينيو ال�شتات)‬ ‫والذي ي�سمح لإ�رسائيل وللكتلة الغربية بالرتكيز على‬ ‫ال‪.‬‬ ‫�إحداث االنقا�سمات يف او�ساط �شعب منق�سم �أ�ص ً‬ ‫ لن يتمكن الفل�سطينيون من احلفاظ على وحدتهم‪،‬‬ ‫�أو جمابهة املحور الغربي‪ -‬ال�صهيوين ومنطقه وك�رسهما‬ ‫�إال عرب �إيجاد و�سائل لتجنيد مواردهم اجلماعية بطرق‬ ‫م�ستدامة وعادلة‪ .‬باخت�صار‪� ،‬إن قدرة الفل�سطينيني‬ ‫على �شن حملة مقاومة فعالة للح�صول على حقوقهم‬ ‫رهن بقدرتهم على احلفاظ على م�صلحتهم اجلماعية‬ ‫ال الفردية وتر�سيخها‪ ،‬وهو �أمر واظبت االقت�صادات‬ ‫النيوليربالية و�سيا�سات بناء الدولة على حموه‪.‬‬


‫�صورة له على ال ّ‬ ‫تريه؟ تف�ضلي فهو‬ ‫أقل‪ .‬هل تريدين �أن ْ‬ ‫ال يزال مك�سور ًا‪ .‬هم ي�س�ألون ثم يذهبون و ال يتغيرّ‬ ‫�شيء ــ بيجوا وبريوحوا وكل �شي ب�ضل عا حالو ــ »‪.‬‬ ‫ ال يخفي �أه��ل املخيم وم�س�ؤولوه‪ ،‬مثل موظفي‬ ‫خميم �شاتيال‪ ،‬ظنونهم حول‬ ‫املنظمات غري احلكومية يف ّ‬ ‫العالقة بني االزدياد املطرد يف عدد االبحاث املقامة يف‬ ‫حت�سن ملمو�س يف الظروف‬ ‫املخيم من جهة‪ ،‬وعدم ح�صول ّ‬ ‫ّ‬ ‫للمخيم من جهة �أخرى‪« .‬بينما‬ ‫االقت�صادية واالجتماعية‬ ‫ّ‬

‫األ كادمييا يف اشتيال‬

‫خميم يرزح حتت االجتياح البحيث‬ ‫ّ‬ ‫ميسون سكرية «يلال بل�شنا ناق�صنا بعد بحث جديد وباحثة جديد ‪‪‬ة‬ ‫باملخيم»‪ ،‬قال خليل ‪ -‬وهو ا�سم م�ستعار كباقي الأ�سماء‬ ‫استاذة جامعية‪ ،‬لبنان ال���واردة يف الن�ص ‪ -‬عندما اخرجت دف�تري ملقابلة‬ ‫جمموعة �شباب ون�ساء يف خميم �شاتيال‪ .‬وكنت قد كلفت‬ ‫من «م�ؤ�س�سة الدرا�سات الفل�سطينية» ب�إجراء بحث حول‬ ‫‬احلقوق املدنية للفل�سطينيني يف لبنان‪ .‬ل�ست ادري ملاذا‬ ‫قررت �أنا �أي�ضا البدء ب�شاتيال ولي�س بكوالي�س �صنع‬ ‫القرار يف لبنان‪ .‬تابع خليل بالتوجه اىل ال�شباب قائال‪:‬‬ ‫(يتذمر) �أكرث من غريه؟»‪� .‬ضحك‬ ‫ينق‬ ‫«يلال �شباب مني بدو ّ‬ ‫ّ‬ ‫اجلميع ودار الكالم لعدة دقائق حول االبحاث والباحثني‬ ‫يف �شاتيال‪ .‬وما بد�أ بحث ًا عن احلقوق املدنية انتهى بهذه‬ ‫الورقة عن ال�سياحة ال�سيا�سية والبحثية يف املخيم‪.‬‬ ‫ملاذا �شاتيال؟‬ ‫خميمات ال�شتات الفل�سطيني‬ ‫خميم �شاتيال هو الأ�شهر بني ّ‬ ‫ّ‬ ‫تعر�ض للبحث والدرا�سة‪ .‬رمبا‬ ‫م‬ ‫خمي‬ ‫أكرث‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫االرجح‬ ‫على‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ب�سبب تعر�ض املخيم للتدمري و�إعادة البناء عدة مرات‬ ‫املخيم‬ ‫وتعر�ضه للمجزرة يف الـ‪ ١٩٨٢‬وب�سبب �صالت‬ ‫ّ‬ ‫التاريخية مبنظمة التحرير الفل�سطينية وموقعه بني منطقة‬ ‫و�سط بريوت و‬مطارها‪ّ � .‬إن بحث ًا ب�سيط ًا يف �أر�شيف مكتبة‬ ‫م�ؤ�س�سة الدرا�سات الفل�سطينية يف بريوت‪ ،‬يعطينا حوايل‬ ‫‪ ٢٢٣٢‬ورقة �أكادميية و ‪ ١٢٨‬كتاب ًا و خمطوطات حول‬ ‫املخيم املذكور باال�ضافة اىل �آالف املقاالت االعالمية‬ ‫ّ‬ ‫املوجودة والكثري من الأفالم الوثائقية والريبورتاجات‬ ‫والأفالم الوثائقية‪ .‬كل هذا جعل املخيم وجهة الباحثني‬ ‫من �ش ّتى �أ�صقاع االر�ض اىل ان �أ�صبحوا جزء ًا يومي ًا‬ ‫املخيم‪ .‬فالكثري من الأهايل مل يعد يذكر‬ ‫من حياة �أهل‬ ‫ّ‬ ‫عدد املقابالت التي �أجراها مع الباحثني وال�صحافيني‪.‬‬ ‫خميمات الالجئني الفل�سطينيني االخرى‬ ‫ويف املقابل ف� ّإن ّ‬

‫ ‪ 98‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫«كرثت الأبحاث و�أ�صــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبحت‬ ‫م�شكلة جديدة بعد هزميـــــــــــــــــــــــــــــة ‪1982‬‬ ‫وطرد منظمة التحرير الفل�ســــــــــــــــــــــــــــطينية‬ ‫من لبنان»‪ ،‬يقول خليل‪ ،‬وي�ضيــــــــــــــــــــــــــــــف‪:‬‬ ‫«تخل�صنا من االجتياح اال�ســــــــــــــــــــــــــــرائيلي‬ ‫اتانا االجتياح البحثــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي»‬

‫تنزع اىل اجتذاب انتباه � ّ‬ ‫أقل بكثري‪ ،‬ففي مكتبة م�ؤ�س�سة‬ ‫ال‬ ‫الدرا�سات الفل�سطينية على �سبيل املثال‪ 17 ،‬مقا ً‬ ‫املخيم‬ ‫خميم برج الرباجنة‪ ،‬وهو‬ ‫�أكادميي ًا فقط حول‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الرئي�سي الآخ��ر يف ب�يروت‪ .‬و�أخ�ير ًا ف� ّإن‬ ‫الفل�سطيني‬ ‫ّ‬ ‫خميم نهر البارد عام ‪ ،٢٠٠٧‬القريب من مدينة‬ ‫تدمري ّ‬ ‫طرابل�س يف �شمال لبنان‪� ،‬أ ّدى اىل اجتياح بحثي متزايد‪.‬‬ ‫يحبون الدماء‪،‬‬ ‫فح�سب �أحد �سكان‬ ‫املخيم‪« :‬الباحثون ّ‬ ‫ّ‬ ‫فتعر�ض �أي خميم للم�آ�سي كفيل‬ ‫واملوت والدمار…‬ ‫ّ‬ ‫باجتذاب الباحثني ــ بدك ت�شدي باحثني ل�شي حمل‬ ‫بعتيلو دبابات يدمروا بيهوجوا عليه»‪.‬‬

‫املخيم‬ ‫تزداد �أعداد الباحثني الوافدين �إلينا‪ ،‬ف� ّإن م�شاكل‬ ‫ّ‬ ‫تزداد �أي�ض َا» تقول ملى ذات االربعة والع�رشين ربيع ًا‪ّ � .‬أما‬ ‫خليل‪ ،‬فيوافق على ما �سبق ويزيد «هناك دوم ًا درا�سات‬ ‫للمخيم‪ ،‬لكن ال �شيء يتغيرّ ‪ .‬ل�ست‬ ‫حول الظروف ال�صعبة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫�أدري ملاذا قد يحتاج املرء اىل كل تلك الدرا�سات من‬ ‫�أجل حت�سني ظروف الآخرين ــ ما ال�شغلي وا�ضحة كل‬ ‫يظن الكثريون من ّ‬ ‫املخيم‬ ‫�سكان‬ ‫هالأد بدها �أبحاث!»‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫�أن ه�ؤالء الباحثني ال يريدون يف الواقع حت�سني الظروف‬ ‫املعي�شية يف املخيم‪ ،‬وال�سبب كما يعتقد �أحمد «� ّأن هدفهم‬ ‫الرئي�سي هو �إبقاء الو�ضع على ما هو عليه‪ .‬وهذه قناعة‬ ‫حت�سن الو�ضع «�شو بدهن يعملوا‬ ‫كل الأهايل»‪ ،‬ف�إذا ما ّ‬ ‫بينقطع رزقهم»‪ .‬ي�شتكي �آخرون �أي�ض ًا من أ� ّنه لو ّمت �رصف‬ ‫االموال التي خ�ص�صت للمواد البحثية عرب ّ‬ ‫كل العقود‬ ‫للمخيم‪ ،‬الختفت اليوم‬ ‫التحتية‬ ‫املتتالية على تنمية البنية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫امل�شاكل التي ت�ستقطب الباحثني‪.‬‬ ‫ وربط الأبحاث يف املخيم بتح�سني ظروف �ساكنيه‬ ‫االجتماعية واالقت�صادية يت�أتى مبا�رشة من الوعود‬ ‫املعطاة لهم من قبل الباحثني و(م‪ .‬غ‪.‬ح) يف �شاتيال‪.‬‬ ‫تروي على �سبيل املثال باحثة تعمل يف مركز ع�صام‬ ‫فار�س‪ ،‬حادثة ح�صلت لها مع طفلة تبلغ الثامنة من‬ ‫عمرها‪� ،‬شكت لها فيها هذه االخرية خالل ور�شة عمل‬ ‫لليوني�سيف قائلة «ب�أنهم (الباحثني) يقومون بزيارتنا‬ ‫مرار ًا وتكرار ًا وبطرح اال�سئلة‪ ،‬لكن ال �شيء يتغيرّ ‪ .‬ملاذا‬ ‫�إذ ًا تكملني بحثك يف املخيمات؟»‪ .‬فلم جتد الباحثة اال �أن‬

‫عن البحث واملنظمات غري احلكومية‬ ‫بـ«ق�صة الباب‬ ‫أبحاث‬ ‫بد�أت �أم �أحمد احلديث عن ال‬ ‫ّ‬ ‫املخلوع» قائل ًة‪« ،‬لقد قامت رئي�سة «منظمة غري‬ ‫حكومية» ــ م غ ح ــ مركزها خميم «�شاتيال» بزيارتي‬ ‫ملرات عديدة‪ّ .‬‬ ‫مرة كانت ت�أتي فيها كانت ت�صطحب‬ ‫كل ّ‬ ‫معها باحثني من �أجل �أخذ �صور فوتوغرافية‪ .‬يف �أول‬ ‫زيارة كنت على و�شك االختناق‪ .‬مل �أكن حينها �أملك‬ ‫تخيلت � ّأن احلديث مع زواري �سيكون‬ ‫�شيئ ًا من املال و ّ‬ ‫التنفي�س املالئم‪ .‬ف�شة خلق وف�ضف�ضة ــ‪ .‬ا�ستقبلتها مع‬ ‫الباحثني وتكلمت معهم ب�صدق وبكيت‪ ،‬كما �سمحت‬ ‫لهم ب�أخذ �صور للمنزل‪ .‬لكان باب املطبخ خملوع ًا‪.‬‬ ‫وتكررت بعدها الزيارات بانتظام‪ .‬كانت ت�أتي ثم تذهب‬ ‫�آخذ ًة �صور ًا فوتوغرافية‪ .‬هكذا م�ضت ال�سنة االوىل‬ ‫ثم الثانية ف�شهر رم�ضان ثم �شهر رم�ضان �آخر‪ ،‬حتى‬ ‫ال�سنة املا�ضية‪ .‬لقد م�ضت ‪� 5‬سنوات من املقابالت‬ ‫ال‬ ‫و�أخذ ال�صور لبابي املخلوع»‪ .‬ويعقّب ابن � ّأم احمد قائ ً‬ ‫«الأمر كما قالت �أمي‪ ،‬فلقد م�ضى على الباب املك�سور‬ ‫‪� 5‬سنوات‪ ،‬ول�ست �أبالغ بالقول �أنه ّمت التقاط ‪100‬‬

‫ ‪ 99‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫تر ّد على الطفلة قائل ًة «نحن نكتب من �أجل اليوني�سيف‬ ‫ونتائج الور�ش �ستعطى لهذه االخرية التي �ستعمل على‬ ‫ّ‬ ‫املخيم � ّإن الباحثني عادة‬ ‫حل امل�شاكل»‪ .‬ويقول �سكان‬ ‫ّ‬ ‫يكررون عبارات مثل «خدمة الق�ضية الفل�سطينية»‬ ‫ما ّ‬ ‫ك�سبب رئي�سي لدفع النا�س �إىل امل�شاركة يف الأبحاث‪،‬‬ ‫لكن هذا مل يعد يقنع الأهايل يقول �أحمد وي�ضيف‪:‬‬ ‫ «�آخر باحث زار حم ّلي‪ ،‬قال �إ ّنه يعمل فيلم ًا خلدمة‬ ‫الق�ضية الفل�سطينية‪ .‬قلت له حينها � ّإن فل�سطني ع ّلمتنا‬ ‫�أ ّننا عندما نزرع �أ�شجار ًا ف� ّإن ما يجب �أن نح�صده هو‬ ‫الثمار‪� .‬ساعدين لكي �أ�ساعدك‪ .‬يريدون مني � ّأن �أترك‬ ‫حم ّلي و�أعمل معهم طوال النهار! ومن �أجل ماذا؟ لأنهم‬ ‫ي�ساعدون فل�سطني! ي�أتون ليعبثوا معي على �أ�سا�س‬ ‫يهتمون �إذا ما فقدت عملي ومورد‬ ‫فل�سطينيتي وال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بالق�ضية‬ ‫جتارة‬ ‫كفى‬ ‫فل�سطني‪.‬‬ ‫أمر‬ ‫ل‬ ‫يهتمون‬ ‫هم‬ ‫ن‬ ‫لك‬ ‫رزقي‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫الفل�سطينية‪ .‬ما نحنا فل�سطني»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ وحتاول «م‪.‬غ‪.‬ح» ــ ويعزو اليهم مفاتيح املخيم ــ ‪،‬‬ ‫�إقناع الأهايل بامل�شاركة يف االبحاث من �أجل «�إي�صال‬ ‫الفل�سطينيني‪،‬‬ ‫ال�صوت» و «تغيري النظرة» اىل الالجئني‬ ‫ّ‬ ‫لكن خليل يهز�أ من ذلك غا�ضب ًا‬ ‫وبالتايل حت�سني ظروفهم‪ّ .‬‬ ‫«لو يقولون يل �إ ّنهم يقومون ب�أبحاثهم لأنها م�صدر رزقهم‬ ‫و ال يعدونني ب�شيء �أو يذكرون الق�ضية الفل�سطينية لكنت‬ ‫ّ‬ ‫ال «كنت يف ما م�ضى �سعيد ًا‬ ‫�ساعدتهم»‪.‬‬ ‫يتذكر خليل قائ ً‬ ‫ن�صدق � ّأن‬ ‫بامل�ساعدة يف الأبحاث‪ .‬لقد جعلتنا م‪ .‬غ‪ .‬ح‬ ‫ّ‬ ‫�سيح�سنون و�ضع الالجئني يف املخيمات‪ ،‬و�أ ّنهم‬ ‫الباحثني‬ ‫ّ‬ ‫�سيكونون �صوتنا يف اخلارج»‪ .‬يزيد �سمري على ذلك‪ ،‬وهو‬ ‫�أي�ض ًا من ّ‬ ‫ال «كنت �أهبل ــ �ساذج ًا ــ من‬ ‫�سكان‬ ‫املخيم‪ ،‬قائ ً‬ ‫ّ‬ ‫قبل‪ ،‬وكنت �أ�صدق �أ ّنه كلما زادت الأبحاث زاد اخلري‪ .‬مل‬ ‫�أعد �أهبل وال رومن�سي ًا يف هذه امل�س�ألة كما كنت‪ .‬يعني‬ ‫اذا دبينا ال�صوت بريك�ضوا �أهل اخلري للنجدة»‪.‬‬ ‫املخيم �إن كرثة الأبحاث‬ ‫ يقول كثريون من �أه��ل‬ ‫ّ‬ ‫والباحثني من جهة وتزايد م�شاكل املخيم وم�آ�سي �أهله من‬ ‫جهة �أخرى‪ ،‬ق ّلال احلما�سة للم�شاركة يف الأبحاث اجلارية‬ ‫اليوم‪ .‬فبعد �سنوات من الكالم حول و�ضعها وا�ست�ضافتها‬ ‫قررت‬ ‫لباحثني‪ ،‬يقومون بت�صوير باب مطبخها املخلوع‪ّ ،‬‬ ‫�أخري ًا � ّأم �أحمد التوقّف عن ا�ستقبالهم‪« .‬لقد �أتت رئي�سة‬ ‫ٍ‬ ‫باحث اىل هنا‪ ،‬فقلت لها �شكر ًا‪ ،‬ال �أريد‪� .‬أنت‬ ‫م‪.‬غ‪.‬ح مع‬ ‫ولدي �أطفال ولهم كرامتهم‪ .‬هل‬ ‫تف�ضحينني‪ .‬انا �إن�سانة‬ ‫ّ‬ ‫انت �سعيدة بكونك ت�أتني اىل هنا وت�ساعدين الباحثني‬ ‫لأخربهم ق�صتي فتف�ضحيني؟ من �أجل ماذا؟ ليقولوا‬ ‫� ّإن هذه العائلة ال متلك �شيئ ًا و�إ ّنها معدومة؟ ماذا فعلت‬


‫وحت�سني يل و�ضعي؟ �أنا لن �أ�ساعد باحثيك‬ ‫لت�ساعديني‬ ‫ّ‬ ‫بعد اليوم‪ .‬لقد �أتت رئي�سة م‪.‬غ‪.‬ح لت�أخذ �صور ًا فوتوغرافية‬ ‫مرات عديدة‪ .‬مل �أ�ستفد منهم ب�شيء‪ .‬وال‬ ‫وت�ساعد الباحثني ّ‬ ‫يزال الباب خملوع ًا‪ .‬تعايل وانظري»‪.‬‬ ‫ بالرغم من الغ�ضب لكرثة الباحثني والأبحاث‪ ،‬يعتقد‬ ‫لكن‬ ‫بع�ض الأهايل � ّأن هناك موا�ضيع يجب درا�ستها‪ّ ،‬‬ ‫الباحثني ال يلتفتون �إليها كاحلقوق املدنية وت�ستتبع لي�س‬ ‫فقط درا�سة الالجئني الفل�سطينيني بالذات بل امل�ؤ�س�سات‬ ‫ّ‬ ‫تتحكم مب�صائرهم‪« .‬ملاذا يجب‬ ‫احلكومية والدولية التي‬ ‫درا�سة الفل�سطينيني من �أجل فهم فقدان حقوقهم؟»‬ ‫املخيم‪« .‬ملاذا ال تقام الأبحاث‬ ‫ت�س�أل رندا وهي فتاة من‬ ‫ّ‬ ‫على املجتمع الدويل واحلكومة اللبنانية‪ ،‬امل�س�ؤولني عن‬ ‫قيمة مبقدار ما تتع ّلق‬ ‫حرماننا هذه احلقوق؟»‪ .‬فالأبحاث ّ‬ ‫بتغيريات اجتماعية ملمو�سة ون�ضال �سيا�سي وا�سع‪.‬‬ ‫ومن املفارقة مبكان‪ ،‬يقول البع�ض‪� ،‬أنه عندما كانت هناك‬ ‫املخيم‪ ،‬كان هنالك القليل‬ ‫حركة اجتماعية وا�سعة يف‬ ‫ّ‬ ‫جد ًا من االبحاث التي كانت جترى يف �شاتيال �أو يف � ّأي‬ ‫خميم �آخر‪ .‬لقد «كرثت الأبحاث علينا و�أ�صبحت م�شكلة‬ ‫ّ‬ ‫جديدة لنا بعد هزمية ‪1982‬وط��رد منظمة التحرير‬ ‫الفل�سطينية من لبنان»‪ .‬يقول خليل «خل�صنا من اجتياح‬ ‫«بت �أعتقد‬ ‫الإ�رسائيلية اجانا االجتياح البحثي» ويكمل ّ‬ ‫اليوم �أن �صوت ال�شعب الفل�سطيني و�صل اىل العامل‬ ‫ب�سبب االنتفا�ضات والن�ضاالت ال�شعبية الفل�سطينية‬ ‫أ�صدقهم»‪.‬‬ ‫ولي�س ب�سبب الباحثني‪� .‬أنا مل �أعد � ّ‬ ‫العديد من الباحثني ال يتكلّمون العربيـــــــــــــــــــــــة‬ ‫ويتّكلون على املرتجمني املحليني ومعــــــــــــــــرفتهم‬ ‫املحدودة باللغة االنكليزيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‪،‬‬ ‫ي�شكك ال�سكان يف ما يكتبه البـــــــــــــاحثون‬ ‫ولذلك ّ‬ ‫خالل املحاورات واملقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــابالت‬ ‫ارتياب حول ممار�سات الباحثني و�أجنداتهم‬ ‫يتخوف �أهايل �شاتيال من ازدياد الأبحاث �أو ما بات يعرف‬ ‫املخيم‪،‬‬ ‫باالجتياح البحثي‪ .‬فروال مثال ً‪ ،‬وهي من �سكان‬ ‫ّ‬ ‫تقرر خارج املخيمات ولي�س‬ ‫تقول «� ّإن موا�ضيع الباحثني ّ‬ ‫يد لهم يف تقرير موا�ضيع‬ ‫املخيمات ال َ‬ ‫بداخلها‪ ،‬و� ّإن �سكان ّ‬ ‫ال � ّإن «معظم الأبحاث‬ ‫البحث»‪ .‬يوافق �سمري على ذلك قائ ً‬ ‫�إنمّ ا هي موا�ضيع م�شهورة يف اجلامعات الغربية فقط‪ ،‬فيتبنى‬ ‫نظريات دارجة يف اجلامعات حماولني �إثباتها‬ ‫الباحثون‬ ‫ّ‬ ‫بدرا�سات ميدانية يف املخيح حتى ولو كانت النظريات‬

‫ ‪ 100‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫املخيم يف �أخالقيات‬ ‫ وي�شكك الكثري من �سكان‬ ‫ّ‬ ‫املخيم‬ ‫الباحثني‪ .‬فبالرغم من �شكاوي العديد من �أهل‬ ‫ّ‬ ‫من التعب من الإجابة على �أ�سئلة الباحثني ف� ّإن �أولئك‬ ‫املخيم �أ ّنهم ال‬ ‫يعودون اىل �شاتيال‪ .‬ويعتقد الكثري من �أهل‬ ‫ّ‬ ‫يهتمون �سوى مب�صلحتهم ال�شخ�صية وي�سعون دائم ًا خلف‬ ‫ي�ستمرون ب�إجراء‬ ‫ترويج �أنف�سهم‪ ،‬فيت�ساءل خليل «ملاذا‬ ‫ّ‬ ‫املقابالت؟»‪ ،‬ويجيب ل ّأن الفل�سطينيني يبيعون‪ .‬نحن نبيع‪:‬‬ ‫مركبان ومعقّدان ــ و�شعب معقّد كمان‪.‬‬ ‫وق�ضية‬ ‫ن�ضال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الكل يريد درا�سة االمر من �أجل‬ ‫يف �أغلب الأحيان‪ ،‬ف� ّإن‬ ‫الذاتية‪ .‬هم يعلمون �أن الق�ضية الفل�سطينية تبيع‬ ‫م�صاحله‬ ‫ّ‬ ‫ومن �أجل ذلك يدر�سوننا‪ .‬لكي ينجحوا يف اجلامعة‪.‬‬ ‫يتذمر ال�سكان من � ّأن الباحثني يتالعبون بالعالقات‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫املخيم‬ ‫املخيم‪ .‬بينما يقومون بالأبحاث يف‬ ‫االجتماعية يف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حملية ويعدون ب�أ ّنهم �سيبقون على‬ ‫يعقدون �صداقات‬ ‫ّ‬ ‫املخيم‪� .‬إال �أ ّنه وما‬ ‫ا ّت�صال مع النا�س حتى بعد مغادرتهم‬ ‫ّ‬ ‫�أن يغادر ه�ؤالء «حتى ال يعودوا ير ّدون حتى على الر�سائل‬ ‫االلكرتونية التي نر�سلها اليهم‪ .‬نر�سل لهم �سالم ًا فال ير ّدون‬ ‫ال‪.‬‬ ‫اال وداع ًا ــ «منق ّلهم هاي بيقولوا باي»‪ .‬يت� ّأ�سف �أحدهم قائ ً‬ ‫ّ‬ ‫بالإ�ضافة اىل ّ‬ ‫ال�سكان ي�شكون من � ّأن الباحثني‬ ‫كل ذلك ف� ّإن‬ ‫ال ي�شاركون الأهايل يف �أبحاثهم وال ي�ست�شريونهم ال حني‬ ‫ال «دائم ًا �أ�س�أل الباحثني‬ ‫كتابتها وال بعدها‪.‬‬ ‫يتذمر �سمري قائ ً‬ ‫ّ‬ ‫أت�رضع‬ ‫ب�أن ير�سلوا يل درا�ساتهم �أو املخرجني �أفالمهم و� ّ‬ ‫اليهم عرب الر�سائل االلكرتونية لكي �أح�صل عليها‪ ،‬وعادة‬ ‫ما يح�صل هذا عندما يريدون العودة لإجراء بحث جديد!‬ ‫يعني ملا يعوزوين مرة تانية»‪ .‬ويقول الأهايل ب� ّأن الباحثني‬ ‫يتوقّعون منهم �أن يجيبوا عن �أ�سئلة ال ميكن للباحثني‬ ‫توجه �إليهم‪« :‬يريدون معرفة كيف �أنام الأبحاث على �أنواعها‬ ‫�أنف�سهم �أن يقبلوا ب�أن ّ‬ ‫خميم �شاتيال مع‬ ‫مع زوجي وعلى � ّأي جنب برتاح‪ .‬اىل هذه الدرجة التدخل دخلت �أنواع جديدة من االبحاث اىل ّ‬ ‫املرات �س�أل �أحد الباحثني الذي بدء الألفية الثانية‪ .‬وهي �أبحاث ي�شار اليها ب�شكل او‬ ‫بحياتنا؟ �أق�سم إ� ّنه يف احدى ّ‬ ‫كان يقوم ببحث حول العالقات الزوجية عن �أمور حمرجة ب�آخر على �أ ّنها ت�شاركية‪َ .‬ت ِعد هذه االبحاث ّ‬ ‫املخيم‬ ‫�سكان‬ ‫ّ‬ ‫للغاية‪ .‬احلقيقة �أ ّنه ال ميكن اقت�صار و�صف الأمر باملقرف بفر�ص للتع ّلم والتمكني عرب م�شاركتهم يف العملية‬ ‫ويرحب بهذه الأ�شكال اجلديدة من الأبحاث‬ ‫أ�صح القول �إنه مل يبق �شيء لدرا�سته‪ .‬كفى‪ .‬البحثية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فقط‪ .‬بل ال ّ‬ ‫حق ًا كفى‪ .‬نحن نا�س عنا كرامة كمان»‪ّ � .‬أما روال فتقول � ّإن كونها بدت �أ ّنها تتجنب ثغر م�شاكل الأبحاث ال�سابقة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ي�ستمرون‬ ‫لكن الباحثني‬ ‫«النا�س يف‬ ‫تتذكر رانيا ــ وهي �شابة من �شاتيال كانت يف ما م�ضى‬ ‫املخيم متعبون للغاية» ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال للتجارب»‪.‬‬ ‫املخيم‪:‬‬ ‫تعمل يف منظمة غري حكوميةيف‬ ‫يف التعامل معهم «ب�صفتهم حق ً‬ ‫ّ‬ ‫ وي�شك اهايل املخيم يف الأجندة ال�سيا�سية للباحثني «ا�ستح�سنت االمر يف البداية‪ .‬على ال ّ‬ ‫أقل ك ّنا �سنح�صل‬ ‫وخ�صو�ص ًا القادمني منهم من بالد كالواليات املتحدة على �شيء ما مقابل اال�شرتاك بالأبحاث‪ .‬فنحن دائم ًا ما‬ ‫االمريكية وبريطانيا‪ .‬وبح�سب �أحمد «ما امل�صادفة يف � ّأن ن�ساعد الباحثني ثم يذهبون و ال �أحد منهم ي�ساعدنا يف‬ ‫البلدان ال�صديقة ال�رسائيل هي التي ترغب بدرا�ستنا � ّأي �شيء‪ ،‬و هم ال ّ‬ ‫يتذكرون �أننا �ساعدناهم على � ّأية حال‪.‬‬ ‫وينظر للباحثني يف املخيم على �أ ّنهم جوا�سي�س عندما �أتى مدير احدى الـ(م‪.‬غ‪.‬ح ) ا ّ‬ ‫يل‪ ،‬كنت قد �ضقت ذرع ًا‬ ‫ّ‬ ‫بحق الله»‪ُ .‬‬ ‫ال‪ ،‬ب� ّأن بع�ض‬ ‫وتعترب �أ�سئلتهم م�شبوهة‪ .‬ويقول �سمري مث ً‬ ‫ه�ؤالء «يقوم ب�أبحاث تبدو ل ّأول وهلة �إن�سانية الطابع‪،‬‬ ‫ولكنها ت�ستعمل يف احلقيقة لأغرا�ض �سيا�سية»‪ .‬وتوافق‬ ‫رندا على ذلك قائلة �إن «الدرا�سات ت�ساعد على فهم‬ ‫مواطن ال�ضعف واملنافذ التي ميكن من خاللها اخرتاق‬ ‫املجتمع الفل�سطيني وجعله ين�سى حقوقه ال�سيا�سية»‪.‬‬ ‫املخيم من � ّأن الباحثني ي�س�ألونهم مرار ًا‬ ‫وي�شتكي �سكان‬ ‫ّ‬ ‫عن ر�أيهم يف حق العودة على �سبيل املثال‪ ،‬ويحاولون‬ ‫يتبدد يوم ًا ما‬ ‫البحث عن �أد ّلة تثبت � ّأن تع ّلقهم بالعودة قد ّ‬ ‫يخف‪ .‬وبر�أي �سمري ف� ّإن ا�ستطالعات الباحثني قد تهدف‬ ‫او ّ‬ ‫اىل توجيه وت�شكيل وعي النا�س من جهة‪ ،‬وجتهيلهم من‬ ‫توجه الآن للرتكيز على الفل�سطينيني‬ ‫جهة �أخرى‪ .‬هناك ّ‬ ‫لي�س ك�شخو�ص �سيا�سية بل كب�رش‪ .‬هذا هراء‪� .‬أنا ال �أقول‬ ‫�إنا ل�سنا بحاجة للرتكيز على امل�شاكل ال�شخ�صية ولكن‬ ‫هناك ما ي�شبه اجلهود املر ّتبة حلرف االنتباه بعيد ًا عن‬ ‫امل�سائل ال�سيا�سية باجتاه الأطر ال�شخ�صية والفردية وهنا‬ ‫يكمن اخلطر‪ّ .‬‬ ‫ممولة وال ت�أتي‬ ‫كل هذه امل�شاريع والدرا�سات ّ‬ ‫جمرد ابحاث بريئة»‪.‬‬ ‫من فراغ‪ ،‬وهي لي�ست ّ‬ ‫ �أما رندا فتقول �إن الباحثني عدميو النزاهة‪« :‬يف بع�ض‬ ‫الأحيان ي�ضعون يف مناذج اال�ستبيانات التي يو ّزعونها‬ ‫بع�ض اال�سئلة التي قد تكون م�ؤذية جد ًا‪ ،‬وال عالقة لها‬ ‫باملو�ضوع الذي يدور البحث حوله‪ .‬هناك �أي�ض ًا �أ�سئلة‬ ‫وت�سجل على‬ ‫تطرح على هام�ش البحث وهي تكتب‬ ‫ّ‬ ‫يتم‬ ‫كيف‬ ‫أوراق؟‬ ‫�أوراق �أخرى‪� .‬إىل �أين تذهب تلك ال‬ ‫ّ‬ ‫حتليل النتائج؟ ال �أحد يعلم»‪.‬‬

‫قد �أنتجت بعد درا�سة متت يف باري�س‪� .‬أ�سئلتهم ال تنبع من‬ ‫ال‪ّ � ،‬أن الباحثني ي�سايرون‬ ‫واقع املخيمات»‪ .‬يالحظ �أحمد مث ً‬ ‫املو�ضة‪ ،‬و�أنهم جميعهم يعملون على نف�س املوا�ضيع يف‬ ‫ال «هناك موا�ضيع تتناول‬ ‫نف�س الوقت‪ .‬يع ّلق على ذلك قائ ً‬ ‫الب�رش قد جتلب ال�شهرة للباحث‪ ،‬لكن ينق�ضي االمر يف‬ ‫ّ‬ ‫ويركز‬ ‫النهاية‪ .‬ت�صبح هناك موا�ضيع جديدة هي الرائجة‪،‬‬ ‫اجلميع �آنذاك على تلك الأخرية»‪ .‬ح�سب ّ‬ ‫املخيم ف� ّإن‬ ‫�سكان‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫و«حل‬ ‫املوا�ضيع الرائجة هذه الأيام‪ ،‬هي ال�شباب والن�ساء‬ ‫املخيم‬ ‫أهل‬ ‫النزاعات» و«حقوق الإن�سان»‪ .‬وبالرغم من �أن �‬ ‫ّ‬ ‫ال يرون �أي �أهمية لهذه املوا�ضيع؛ ف�إنهم يعون � ّأن التمويل‬ ‫أهم يف حتديد موا�ضيع البحث‪.‬‬ ‫امل� ّؤ�س�ساتي يلعب الدور ال ّ‬ ‫ماهية الأبحاث ولي�س‬ ‫تقرر ّ‬ ‫تقول ملى «� ّإن االموال هي التي ّ‬ ‫اهتمام الباحثني الأخالقي والإن�ساين باملخيمات»‪.‬‬ ‫ميتد اىل درجة‬ ‫لكن القلق حول الأبحاث يف‬ ‫ ‬ ‫املخيم ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫�أعمق بكثري من الإح�سا�س بانف�صال الأبحاث عن واقعهم‬ ‫وانعدام �صلتها بحياتهم اليومية‪ .‬ففي املرتبة الأوىل‪ ،‬يعبرّ‬ ‫الكثريون من ّ‬ ‫يرونه نق�ص ًا‬ ‫املخيم عن قلقهم حول ما ْ‬ ‫�سكان ّ‬ ‫ال�رضوري لدى الباحثني‪ ،‬مما‬ ‫يف التح�ضري واملعرفة والفهم‬ ‫ّ‬ ‫م�ستوى متدنٍ من الأبحاث‪ .‬فيتململ �سمري‪،‬‬ ‫قد ي�ؤدي اىل‬ ‫ً‬ ‫املخيم‪ ،‬ل ّأن الباحثني يعودون دوم ًا اىل‬ ‫كغريه من قاطني‬ ‫ّ‬ ‫املخيم وي�س�ألون اال�سئلة نف�سها مرار ًا وتكرار ًا‪ .‬عندما‬ ‫ّ‬ ‫ال‪:‬‬ ‫�س�ألته ملاذا يعتقد ب� ّأن ذلك يح�صل؟ ر ّد قائ ً‬ ‫ [كثريون منهم] باحثون �شباب وال يقر�أون ما ُكتب‬ ‫املخيمات قبل �أن ي�أتوا �إلينا‪� .‬ألتقي �أحيان ًا �أفراد ًا‬ ‫حول‬ ‫ّ‬ ‫ي�ستن�سخون �أبحاث ًا ُمنجزة �سابق ًا لك ّنهم مل يكلفوا �أنف�سهم‬ ‫عناء قراءتها‪ .‬مل �أعد �أفهم تالميذ الدكتوراه ه�ؤالء‪� .‬إ ّنهم ال‬ ‫يقومون بواجباتهم‪ .‬هذا يعني �أ ّنهم ال يتوقّفون عن تع ّلم‬ ‫الفل�سطينية‪� .‬إ ّنهم ال يعرفون �أبجدية‬ ‫املخيمات‬ ‫بديهيات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الق�ضية الفل�سطينية‪ .‬هذا خميف حق ًا ومتعب لل�سكان‪.‬‬ ‫ تت�ساءل ملى قائل ًة «�إ ّنهم يقومون باملقابالت مع‬ ‫اال�شخا�ص ذاتهم طوال الوقت‪ .‬ال �أعرف ما هم ب�صدد‬ ‫اكت�شافه‪ .‬ملاذا ال ي�ستعملون املقابالت التي اجنزت من قبل‬ ‫الباحثني ال�سابقني؟»‪ .‬والعديد من الباحثني الذين ي�أتون‬ ‫املخيم ال يتك ّلمون العربية‪ ،‬وبالتايل فهم ي ّتكلون على‬ ‫اىل‬ ‫ّ‬ ‫املرتجمني املحليني‪ .‬ولبع�ض ه�ؤالء معرفة حمدودة باللغة‬ ‫ّ‬ ‫فان ّ‬ ‫ي�شككون‬ ‫املخيم‬ ‫�سكان‬ ‫االنكليزية‪.‬من �أجل ذلك‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫يف ما يكتبه الباحثون من خالل املحاورات واملقابالت‬ ‫املخيم‪ .‬فبح�سب خليل «هم �أغبياء يف‬ ‫التي جتري يف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫معظم االحيان حيث �إ ّنهم ال يتكلمون العربية ونحن يف‪‪‬‬ ‫‬معظم الأحيان نتم�سخر عليهم»‪.‬‬

‫ ‪ 101‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬



‫املرة‬ ‫بالأبحاث‪ .‬اال �أ ّنه قال يل � ّإن االمر �سوف يكون هذه ّ‬ ‫�شبيه ًا باملدر�سة و�ستتعلمني �أ�شياء‪ .‬و�إنهم يقومون بور�ش‬ ‫ت�شاركني فيها و هم يكتبون عن متارينهم‪ .‬كنت عاطلة من‬ ‫العمل وقتها‪� .‬أنت تعلمني كيف من�ضي ّ‬ ‫كل وقتنا يف الأزقة‪.‬‬ ‫�أنا بحب الع ّلم‪ .‬فقلت لنف�سي َ‬ ‫مل ال ا�شارك يف تلك الور�ش؟»‪.‬‬ ‫ ولكن مع مرور الوقت‪ ،‬ا�ستنتج العديد من ال�سكان‬ ‫� ّأن االنواع امل�ستحدثة من الأبحاث لي�ست ب�أف�ضل من‬ ‫ّ‬ ‫فال�سكان‬ ‫�سابقاتها‪ ،‬بل هي يف الكثري من الأحيان �أ�سو�أ‪.‬‬ ‫ال يد لهم يف تقرير املوا�ضيع البحثية‪ ،‬وهم ي�شعرون‬ ‫باالغرتاب يف ح�رضة املوا�ضيع التي يختارها الباحثون‬ ‫و«الت�رصف االر�سايل» الذي‬ ‫ويتململون من «اجلهل»‬ ‫ّ‬ ‫ميار�سه الكثري من الباحثني‪:‬‬ ‫نت�رصف �إزاء م�شاكلنا‪.‬‬ ‫ «ي�أتون الينا لتعليمنا كيف‬ ‫ّ‬ ‫والله انهم �أغبياء ال يعلمون �شيئ ًا عن الفل�سطينيني‬ ‫و�صفات جاهزة‬ ‫وتاريخهم يف لبنان‪ .‬يريدون تعليمنا ْ‬ ‫كتلك التي يقر�أونها يف الكتب‪ .‬هبل للغاية‪ .‬بع�ض‬ ‫املوا�ضيع ال عالقة لنا بها‪ .‬ي�أتي الكثري من باحثي‬ ‫ال‪ ،‬لتعليمنا النظافة وينتابنا �شعور‬ ‫ال�صحة العامة مث ً‬ ‫ّ‬ ‫ب�أ ّنهم يعتقدون ب�أننا و�سخون‪ .‬ما �ساقوله لي�س بق�صد‬

‫والت�صوير ال�سينمائي وتدليلها‪ ،‬وكذلك من انانية الباحثني‬ ‫ونزعتهم امل�صلحية‪� ،‬إذ ال يعريون انتباه ًا حلاجات �أو �آثار‬ ‫ثم التخ ّلي عنهم‪ .‬لقدانتهت‬ ‫حتويل االطفال اىل جنوم ومن ّ‬ ‫مدة �صالحية �سلمى النجمة و ّمت بعدها ت�صنيع جنوم جدد‬ ‫ّ‬ ‫حتى انتهت مدة �صالحية ه�ؤالء كذلك‪� .‬إنها دورة بالفعل‪.‬‬ ‫ثم‬ ‫ي�ستغ ّلك الباحثون اىل �أن تنتهي �صالحيتك متام ًا ّ‬ ‫يرمونك لهمومك يف املخيم ت�صارعها وحيدا»‪.‬‬ ‫ وي�سهب �أحمد يف الكالم حول الآثار العامة للبحوث‬ ‫ال‪« :‬مت حتويل بع�ض االطفال اىل ابطال‪.‬‬ ‫على االطفال قائ ً‬ ‫أح�س الأطفال حينها ب�أ ّنهم‬ ‫يتلقّون االنتباه بال حدود‪ّ � .‬‬ ‫ال‪ .‬ي�أتي يوم ينتهي‬ ‫يح ّلقون فوق الغيم‪ .‬ويعطونهم �أموا ً‬ ‫مدة �صالحية ه�ؤالء الأبطال ــ النجوم متام َا مثل الطعام‬ ‫فيه ّ‬ ‫املع ّلب‪ .‬وعندما يكربون ويكفّون عن كونهم اوالد ًا �صغار ًا‬ ‫مه�ضومني؛ ينتقل البحث اىل �أوالد �صغار مه�ضومني جدد!‬ ‫املخيم‪ .‬النا�س‬ ‫وهكذا يقتلونهم ويرتكونهم جمدد ًا لأزقّة‬ ‫ّ‬ ‫هنا ترثي حلال ه�ؤالء االطفال‪ .‬وهذه عملية ا�ستغالل �أب�شع‬ ‫من عمالة الأطفال التي يعملون على ايجاد حلول لها‪ .‬اذا‬ ‫ال‪ ،‬فما هو �إذ ًا؟»‪.‬‬ ‫مل يكن الأمر ا�ستغال ً‬ ‫ تقول ملى التي �أ�صبحت حمور ًا النتباه الباحثني عندما‬ ‫كانت طفلة «عندما كنت جنمة كنت �أح�صل على مقابلتني‬ ‫خالل اليوم‪ ،‬على ال ّ‬ ‫أقل»‪ .‬تخربنا بعدها كيف �أ�صبحت‬ ‫ت�شعر باملرارة وخيبة الأمل جتاه الباحثني‪« :‬عندما كنت‬ ‫جنمة كنت �سعيدة لأنني �شعرت ب� ّأن الباحثني �أ�صبحوا‬ ‫ي�أتون اىل من �أجلي انا ك�شخ�ص لأنني مثرية لالهتمام‬ ‫املخيم ومل يبقوا على‬ ‫وذكية»‪ .‬لكن عندما غادر الباحثون‬ ‫ّ‬ ‫أحترق غ�ضب ًا وحزن ًا وانزعاج ًا»‪.‬‬ ‫ات�صال معها «�رصت � ّ‬ ‫ادرك��ت ملى يف ما بعد � ّأن الباحثني كانوا يهتمون بها‬ ‫خميم»‪.‬‬ ‫«ب�سبب �أبحاثهم فقط ولأنني بنت ّ‬

‫مرة واحدة فيلقي �أ�سئلته عليك ثم يغادر‪ .‬قد‬ ‫ال�شخ�ص ّ‬ ‫ترغبني بامل�ساعدة بذلك بالفعل‪ .‬يف �أحيان �أخرى هم‬ ‫يلتم�سون منك اج��راء مقابالت للمتابعة‪ .‬يف البحث‬ ‫الت�شاركي‪ ،‬نعلق حتى ينتهي الباحث من جميع الور�ش‪.‬‬ ‫تعد تلك الور�ش �أحيان ًا �أكرث من ع�رشين �شخ�ص ًا‪ .‬وهي‬ ‫ّ‬ ‫ت�أخذ الكثري من الوقت ونحن جمربون على املجيء ل ّأن‬ ‫الـ(ج‪.‬غ ‪.‬ح) يجربوننا على متابعتها حتى النهاية»‪.‬‬ ‫والهويات‬ ‫�آثر الإفراط البحثي يف العالقات االجتماعية‬ ‫ّ‬ ‫حي �سكني مثل �شاتيال الجتياح من قبل‬ ‫عندما ّ‬ ‫يتعر�ض ّ‬ ‫والهويات‬ ‫املحلية‬ ‫الباحثني تت�أثر العالقات االجتماعية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املخيم‪ .‬فالباحثون مييلون اىل الرتكيز على‬ ‫داخ��ل‬ ‫ّ‬ ‫جمموعات و�أ�شخا�ص حمددين يف املخيم بينما يتجاهلون‬ ‫ان�صب اهتمام الباحثني‬ ‫�آخرين بنحو تام‪ .‬فعلى �سبيل املثال‬ ‫ّ‬ ‫لوقت طويل وب�شكل ح�رصي على جيل ‪ ١٩٤٨‬وجتربة‬ ‫النكبة‪ ،‬و ّمت باملقابل جتاهل الهموم احلا�رضة ون�ضاالت‬ ‫االجيال االخرى‪ .‬بعدها جرى الرتكيز على �أحوال الن�ساء‬ ‫وال�شباب والأطفال‪ .‬ولكن يف ّ‬ ‫كل تلك احلاالت‪ ،‬الرتكيز‬ ‫�دده املو�ضات و�أجندات‬ ‫على الفئات االجتماعية حت� ّ‬

‫تقول رانيا «منازلنا نظيفة و�أهالينا مهو�سون بالنظافــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‪.‬‬ ‫لذلك �أنا ال �أعرف ملاذا ي�أتون لتعليمنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫كيف نغ�سل البندورة وكلّ هذا الهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــراء‪.‬‬ ‫نحن نظيفون وال نحتاج ملن يعلّمنا هذه االمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــور‪.‬‬ ‫�إنّ يف الأمر احتقاراً كبرياً لنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا»‬ ‫املخيم‪ .‬رغم �أننا ال‬ ‫الإ�شادة فقط ولكن تعلمني كيف هو‬ ‫ّ‬ ‫منلك ما ًء وما �شابه‪ ،‬اال � ّأن منازلنا نظيفة دائم ًا و�أهالينا‬ ‫مهوو�سون بالنظافة‪ .‬لذلك �أنا ال �أعرف ملاذا ي�أتون لتعليمنا‬ ‫كيف نغ�سل البندورة ّ‬ ‫وكل هذا الهراء‪ .‬نحن نظيفون وال‬ ‫نحتاج ملن يع ّلمنا هذه االمور‪ .‬يف الأمر احتقار كبري لنا»‪.‬‬ ‫ ويتململ البع�ض الآخر ل ّأن هذه اال�شكال اجلديدة‬ ‫من الأبحاث متط ّلبة منهم �أكرث بكثري من املناهج البحثية‬ ‫ال�سابقة‪ .‬يقول �سامي ــ وهو �شاب ال يزال يعمل يف منظمة‬ ‫غري حكومية يف �شاتيال ــ � ّإن «الأمر �أ�صبح �أكرث تعذيب ًا‬ ‫لأ ّنك ما �إن تبدئني حتى ت�صبحي جمربة على املتابعة �إىل‬ ‫�أن تنتهي كل الور�ش‪ .‬ي�شعر املرء بامل�س�ؤولية نحو الباحثني‬ ‫الذين ي�أتون للتعليم هنا‪ ،‬وال ميكن �أن ترتكيهم يف منت�صف‬ ‫الطريق»‪ .‬تبدي رانيا نف�س املالحظة «�رصت �أعتقد الآن‬ ‫� ّأن االمر ازداد �سوء ًا‪ ،‬لأنك يف االبحاث العادية تلتقني‬

‫ ‪ 104‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويركز الباحثون على‬ ‫ال�سكان �أنف�سهم‪.‬‬ ‫الباحثني ولي�س‬ ‫افراد من �ضمن تلك الفئات‪ ،‬الذين يعتربونهم مناذج‬ ‫لبحوثهم وب�صفهم �أهايل املخيم بـ«النجوم» و�أن عملية‬ ‫ت�صنيع النجوم «دورة كاملة»‪ .‬قد تكون هذه احللقة مريرة‬ ‫ق�صة �سلمى‪ ،‬التي‬ ‫للنجوم �أنف�سهم وللأهايل‪ .‬يروي �أحمد ّ‬ ‫�أ�صبحت بعمر احلادية ع�رشة‪ ،‬حمور اهتمام فيلم وثائقي‬ ‫املخيم‪ .‬لكن ماذا ح�صل بعد عر�ض الفيلم؟‪:‬‬ ‫حول‬ ‫ّ‬ ‫ «�صارت �سلمى جنمة‪ .‬مقابالت معها يف ّ‬ ‫كل مكان‪.‬‬ ‫اخذوها اىل امل�سارح واجلميع دللها‪ .‬و�أ�صبحت فج�أة مركز‬ ‫اهتمام اجلميع‪ .‬بقيت احلال هكذا اىل �أن ّمت اجناز فيلم �آخر‬ ‫حول �شاتيال‪ .‬فج�أة‪ ،‬مل تعد �سلمى هي النجمة‪� .‬صارت‬ ‫ت�رصفاتها‪� ،‬إذ �إ ّنها �أرادت �أن‬ ‫تبكي طوال الوقت وتبالغ يف‬ ‫ّ‬ ‫جتلب االنتباه اليها من جديد‪� .‬شعرنا اننا مل نعد نعرفها‪.‬‬ ‫�رصنا نفكر انها جمنونة‪ .‬كان هذا من ت�أثري املقابالت‬

‫«مفاتيح» املخيم‬ ‫وجهة النظر هذه لي�ست ال�سائدة بني كل الأهايل‪ .‬فهناك‬ ‫تروجان للأبحاث وت�ستفيدان منها‪ .‬ت�شغل‬ ‫جمموعتان ّ‬ ‫املخيم‬ ‫هاتان املجموعتان وظيفة االت�صال بني �سكان‬ ‫ّ‬ ‫وباحثي اخلارج‪ ،‬وي�شري اليهم الأهايل بـ«مفاتيح املخيم»‪.‬‬ ‫املجموعة الأوىل تتكون ممن يعملون يف منظمات غري‬ ‫مهم لهم‬ ‫حكومية وينظرون اىل االبحاث كمجالٍ دعائي ّ‬ ‫وم�صدر لالموال التي يتقا�ضونها مقابل م�ساعدة الباحثني‪.‬‬ ‫املخيم «�شبكة م�صالح» بني‬ ‫هناك �إذ ًا ما ّ‬ ‫ي�سميه بع�ض قاطني ّ‬ ‫الباحثني يف اخلارج ومنظمات غري حكومية حملية تتكفل‬ ‫خميم‬ ‫بتوفري التجاوب مع الباحثني‪ .‬ومبا � ّأن العديد من �سكان ّ‬

‫ ‪ 105‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫�شاتيال ي ّتكلون على املحلية من �أجل اخلدمات وامل�ساعدات‬ ‫املادية لزيادة دخلهم‪ ،‬ف�إ ّنهم ي�شعرون ب�أنهم جمربون على‬ ‫امل�شاركة يف االبحاث‪ ،‬وهم بالتايل ال ي�شعرون ب� ّأن لديهم‬ ‫خيار ًا حقيقي ًا برف�ض االن�صياع لطلبات الباحثني‪ .‬فهم‬ ‫يعلمون ب�سوابق ح�صلت يف �شاتيال حيث توقفت منظمات‬ ‫غري حكومية عن ت�أمني خدماتها و�أموالها وللأفراد غري‬ ‫املتعاونني‪ .‬وي�شعر العديد من ال�سكان ب� ّأن امل�ؤ�س�سات‬ ‫املحلية والباحثني من اخلارج يتواط�أون يف تعظيم الآثار‬ ‫ال�سيئة الناجتة من العي�ش يف املخيمات‪ ،‬ويرون � ّأن الأمر‬ ‫وتهجم ًا على �إح�سا�سهم‬ ‫ي�صبح ت�صوير ًا �سيئ ًا ل�شاتيال‬ ‫ّ‬ ‫بالكرامة ال�شخ�صية‪ .‬يقول �أمين وهو من �سكان �شاتيال‪:‬‬ ‫املخيم يف حالة �سيئة‬ ‫ «تزعم املنظمات غري احلكومية� ّأن‬ ‫ّ‬ ‫يحب‬ ‫للغاية لأ ّنها الطريق لي�ستح�صلوا فيها على االموال‪ّ .‬‬ ‫الباحثون �أي�ض ًا �أخبار الب�ؤ�س‪ ،‬مما يعني � ّأن يف الأمر م�صلحة‬ ‫م�شرتكة‪ ،‬لذلك ُن�س�أل دوم ًا عن م�شاكلنا فقط‪ّ � ...‬‬ ‫أتذكر �أنني‬ ‫ال كنت �أ�شعر باملرارة الكبرية جتاه احلياة‬ ‫عندما كنت طف ً‬ ‫يف املخيمات‪ .‬وكانت منظمة غري حكومية والباحثون‬ ‫يحبون ذلك‪ .‬والآن �أ�ضحك عندما �أتذكر كيف كان موظفو‬ ‫ّ‬ ‫علي ما يجب قوله‪ .‬على �سبيل املثال‪ ،‬كان‬ ‫لون‬ ‫ؤ�س�سات‬ ‫امل�‬ ‫يمُ‬ ‫ّ‬ ‫العامل االجتماعي يف املنظمة غري احلكومية ي�أتي بالباحثة‬ ‫لتقابلني فيقول يل‪ّ :‬‬ ‫«قل لها كيت و كيت» و«�أخربها عن‬ ‫هذا وذاك»‪ .‬وكان الأمر يدور دائم ًا حول القرف من حياتنا‬ ‫و�صعوبتها هنا… يف بع�ض االحيان �أجل�س وحدي‬ ‫و�أ�ضحك‪ .‬ل�ست مت�أكدا ً انني كنت �أقول احلقيقة‪ ،‬اال �أ ّنهم‬ ‫علي‪ .‬و�أعتقد �أنني قد‬ ‫قبلوا ما �أخربتهم به و�شعروا بال�شفقة ّ‬ ‫�أحببت ذلك حينها‪ُ .‬طلب مني حينها �أن �أ�ستجلب �شفقة‬ ‫الباحثني لكنني حتم ًا لن اقبل ذلك بعد اليوم»‪.‬‬ ‫ال «ه�ؤالء يجعلوننا نظهر ب�شكل‬ ‫ ي�شتكي �أحمد قائ ً‬ ‫�سيئ»‪� .‬أحمد كغريه من �شباب �شاتيال ممن هم يف‬ ‫الع�رشينيات من العمر‪ ،‬ام�ضى �سنوات عمره يف التعاطي‬ ‫مع الباحثني منذ �أن كان �صبي ًا يف مقتبل العمر‪ .‬يقول‪:‬‬ ‫مبنى‬ ‫ «لقد �سئمت وتعبت منهم للغاية‪ ..‬ك ّلما ر�أوا‬ ‫ً‬ ‫مدمر ًا �أخذوا �صور ًا عنه‪ .‬االمر يف غاية االذالل‪ .‬يريدون‬ ‫�أن يلتقطوا �صور ًا لأطفال فل�سطينيني فيذهبوا اىل احلرج‬ ‫حيث الغجر‪ .‬يلتقون هناك ب�أطفال عراة ويزعمون � ّأن‬ ‫املخيم عراة‪.‬‬ ‫ه�ؤالء هم فل�سطينيون‪ .‬مل � َأر يف حياتي �أطفال‬ ‫ّ‬ ‫ويذهبون �أي�ض ًا اىل احلرج من �أجل ت�صوير منازل التنك‬ ‫يدعون �أ ّنها جزء من املخيم‪ .‬ل�ست �أتكبرّ على من‬ ‫ثم ّ‬ ‫ّ‬ ‫لكن‬ ‫يعي�شون يف بيوت التنك‪ .‬لكن ملاذا الكذب؟ �أنا فقري ّ‬ ‫ملنزيل �سقف ًا كما ّ‬ ‫املخيم»‪.‬‬ ‫لكل منازل‬ ‫ّ‬


‫و�أ ّنهم ّ‬ ‫ي�شكون يف كون ه�ؤالء جوا�سي�س اال �أنها ما زالت‬ ‫ت�شعر ب� ّأن «الباحثني يخدموننا فهم يعطوننا خيار ًا»‪ .‬و ت�رشح‬ ‫رندا �أ ّنها تقبل فقط بالعمل مع باحثني حول املوا�ضيع التي‬ ‫املخيم‪ .‬لك ّنها تعرتف ب�أ ّنها نادر ًا ما‬ ‫ت�شعر ب�أنها مل�صلحة �أهل ّ‬ ‫ترى ما يفعله الباحثون واملرا�سلون باملعطيات البحثية التي‬ ‫يجمعونها‪�« :‬أخاف من ر�ؤية النتيجة‪ ،‬فحينها قد �أتوقّف عن‬ ‫العمل وعن م�ساعدة ه�ؤالء النا�س‪ .‬و�أنا بحاجة للعمل»‪.‬‬

‫ «مل��اذا ال يكتب النا�س عن املواهب املوجودة يف‬ ‫ال «�إذا ا�ستمروا يف‬ ‫املخيم؟» ي�س�أل خليل‪ .‬ويكمل قائ ً‬ ‫الكالم عن امل�شاكل ب�شكل ح�رصي ف� ّإن الغرب �سيقول‪،‬‬ ‫ه�ؤالء ال ي�ستطيعون معاجلة م�شاكل املخيمات فكيف‬ ‫ي�رض‬ ‫�سيتو ّلون �أمر بلد �إذا عادوا �إليه؟ �أعتقد � ّأن ذلك‬ ‫ّ‬ ‫بالق�ضية وال ي�ساعدها على االطالق»‪.‬‬ ‫ الفئة الأخ��رى من «مفاتيح املخيم» والتي تقوم‬ ‫بالرتويج لالبحاث واال�ستفادة منها مكونة من �أ�شخا�ص‬ ‫على قدر ال ب�أ�س به من التعليم‪ ،‬يتك ّلمون اللغتني العربية خامتة‬ ‫واالنكليزية ويعتربون البحوث فر�صة ممتازة لزيادة يف اخلامتة‪ ،‬من املهم اال�شارة اىل � ّأن ّ‬ ‫املخيم لي�سوا‬ ‫�سكان‬ ‫ّ‬ ‫ال �أدوار ًا كمرتجمني‪ ،‬وك ّتاب‪ ،‬و�أدلاّ ء‬ ‫جمرد �ضحايا االجتياح البحثي‪ .‬فلي�ست املنظمات غري‬ ‫دخلهم‪ .‬يجدون �إجما ً‬ ‫ّ‬ ‫املخيم من يحاول‬ ‫املخيم وما ي�سمى مبفاتيح‬ ‫للباحثني‪ ،‬فيقومون برتتيب املقابالت واللقاءات البحثية احلكومية يف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال ب� ّأن فر�ض �أجندته‪ ،‬بل � ّإن من جترى املقابالت معهم من ّ‬ ‫�سكان‬ ‫مع الأهايل‪ .‬ويع ّلق �أ�سامة‪ ،‬احد �سكان املخيم قائ ً‬ ‫«هذه ظاهرة حديثة ن�سبي ًا انت�رشت خالل العقد املا�ضي»‪.‬‬ ‫املخيم يعملون من جهتهم على �إجناز العملية البحثية‪ ،‬كائن ًا‬ ‫ّ‬ ‫ يف البداية كان اجلميع م�ستعد ًا ليبذل الوقت واجلهد ما كان م�صدر الأخرية‪ .‬يقول �أحمد‪« :‬يكذب الباحثون‬ ‫أمر جيد‬ ‫للمخيم وللق�ضية‪ .‬لكن بعد معظم االحيان‪ .‬و�أكذب عليهم يف املقابل‪ .‬مل�صاحلي املت�أ ّتية‬ ‫ّ‬ ‫جمان ًا‪ ،‬معتقدين ب� ّأن ذلك � ٌ‬ ‫جمرد �أ�شخا�ص من االبحاث‪ .‬نختلق الق�ص�ص من �أجلهم يف بع�ض‬ ‫فرتة �ساد اعتقاد عام يف املخيم ب� ّأن الباحثني ّ‬ ‫خميمنا ب�إ�سماعهم ما نرغب ب�إ�سماعه‬ ‫�أنانيني ي�سعون وراء م�صاحلهم اخلا�صة‪ .‬حينها تبد�أ بالتربير االحيان ونحمي ّ‬ ‫علي �أن �أ�ساعدهم من دون مقابل؟»‪.‬‬ ‫يتعجبون «�آه‪،‬‬ ‫وكتابته‪ ،‬حتى لو كان ذلك غري �صحيح‪ .‬هم ّ‬ ‫لنف�سك قائال‪« :‬ملاذا ّ‬ ‫ رغم � ّأن ّ‬ ‫�سكان‬ ‫املخيم يتفهمون مدى حاجة البع�ض مثري لالهتمام»‪ .‬لديهم م�صالح �شخ�صية بينما م�صاحلنا‬ ‫ّ‬ ‫�إىل املال‪ ،‬ف� ّإن بع�ضهم الآخر يعبرّ عن قلقه حول الطرق جماعية‪� ..‬أنا ال �أر ّد على � ّأي �شخ�ص ي�س�أل عن اال�سلحة‪،‬‬ ‫التي يجري بها ت�سليع االبحاث يف‬ ‫املخيم‪ .‬يقول �سمري‪ :‬الدعارة �أو املخدرات �أو �شيء من هذا القبيل»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫املال‬ ‫يتقا�ضى‬ ‫كونه‬ ‫من‬ ‫«ال يخجل �أحد مفاتيح املخيم‬ ‫ وبالرغم من ذلك‪ ،‬ال يزال الأهايل ي�شكون من قلقهم‬ ‫ال‪« :‬يجب �أن حول ظاهرة االفراط البحثي و�أثر البحوث والباحثني يف‬ ‫مقابل م�ساعدة الباحثني‪ .‬ف�سرّ يل االمر قائ ً‬ ‫ّ‬ ‫تفكر باالمر على �أ ّنه عمل»‪ .‬ل�ست مرتاح ًا لذلك‪� ،‬إذ �إنني ال حياتهم ال�شخ�صية وحياة عائالتهم واملخيم بنحو عام‪.‬‬ ‫املخيمات‬ ‫�أريد �أن �أكون عبد ًا للباحثني‪ ،‬لكنني ال �أحب فكرة كوين ل�سنوات عديدة‪ ،‬طالب �أف��راد ومم ّثلو‬ ‫ّ‬ ‫رجل �أعمال و�أعي�ش على ح�ساب �شعبي‪ .‬بع�ض النا�س الفل�سطينية يف لبنان الباحثني بوقف �أبحاثهم يف‬ ‫ال ّ‬ ‫يفكرون اال باملال‪ .‬هذه نتيجة �سيئة �أخرى لالجتياح‬ ‫املخيمات‪ .‬ففي عام ‪� ،٢٠٠٨‬أطلق مركز ع�صام فار�س‬ ‫ّ‬ ‫البحثي‪ ،‬فهي تخلق طفيليات يف‬ ‫املخيم‪ ..‬لقد �أ�صبح االمر يف اجلامعة االمريكية يف بريوت برناجم ًا ينفّذ على عدة‬ ‫ّ‬ ‫خميمات الالجئني الفل�سطينيني يف لبنان‬ ‫نكت ًة يف احلقيقة‪ ،‬فهم يقولون �أحيان ًا للنا�س ما يجب �أن يقال �سنوات‪ ،‬حول ّ‬ ‫للباحث‪.‬‬ ‫يت�رصفون كمر ّتبات الأعرا�س‪ ،‬ي�أخذون الباحثني واالردن و�سورية وفل�سطني‪ .‬ويف معظم ندوات املركز‬ ‫ّ‬ ‫الفل�سطينيون ب�إنهاء الربنامج البحثي‬ ‫اىل العائالت نف�سها كل الوقت ويقول لهم ما يجب قوله»‪ .‬طالب امل�س�ؤولون‬ ‫ّ‬ ‫ رندا فتاة من ّ‬ ‫�سكان‬ ‫املخيمات متعبون من تطفّل‬ ‫املخيم ي�أتي معظم دخلها من املال لأنهم �شكوا من � ّأن «اهايل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عرب ترتيب املقابالت والرتجمة الكتابية والفورية ونقل الباحثني»‪( .‬موظف يف مركز ع�صام فار�س‪ ،‬مقابلة خا�صة)‪.‬‬ ‫حما�رض لقاءات الباحثني اخلارجيني مع �سكان املخيم‪ .‬و�أُ‬ ‫طلقت نداءات م�شابهة من قبل الالجئني الفل�سطينيني‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫تنهي حوايل ‪ ١٠‬م�شاريع بحثية يف ال�سنة‪� ،‬ش�أنه ك�ش�أن يف اجتماعات اليوني�سيف عام ‪ ٢٠١٠‬ومنظمة العمل‬ ‫الكثريين من �أ�ساتذة الدكتوراة‪ ،‬طالب املاج�ستري وتالميذ الدولية يف لبنان عام ‪ ،٢٠١١‬لكن يبدو �أنه ال حياة ملن‬ ‫الدكتوراة‪ ،‬باال�ضافة اىل ال�صحافيني والباحثني الذين ي�أتون تنادي‪ .‬فك�أن الطريقة الوحيدة لرد االجتياح البحثي هي‬ ‫من م�ؤ�س�سات و�ضع ال�سيا�سات‬ ‫ومدرعات التفكري‪ .‬ورغم «حتويل املخيم اىل ال�شانزيليزيه ــ عمرك �سمعت عن �شي‬ ‫ّ‬ ‫خميم �شاتيال قد م ّلوا من الباحثني‪ ،‬باحث بال�شانزيليزيه؟»‪ ،‬على قول �أحدهم‪.‬‬ ‫�أن رندا تعرف � ّأن �سكان ّ‬

‫ ‪ 106‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫‪ 106‬‬ ‫ ‬

‫إهنا أيضا ثورة اجتماعية!‬

‫يا�سني �سويحة‬

‫مبنية للغياب‬ ‫‪ 109‬المنازل‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫مبنيون للمجهول‬ ‫وحنن‬ ‫ّ‬

‫رائد وح�ش‬

‫‪« 117‬باب الشمس»‪ّ :‬‬ ‫كل هذه الرومانسية!‬ ‫ ‬

‫عالء حليحل‬


‫هجرة ريفية وبطالة وع�شوائيات‬ ‫نالت الأرياف واقت�صادها الزراعي القدر الأكرب من الهجمة‬ ‫إفقارية التي و�سمت حقبة «اقت�صاد ال�سوق اﻻجتماعي»‪.‬‬ ‫ال ّ‬ ‫ف��أوىل خطوات ان�سحاب الدولة من دوره��ا يف �ضمان‬ ‫اﻻجتماعية �أتت من درب �سحب دعم القطاع‬ ‫العدالة‬ ‫ّ‬ ‫الزراعي‪ ،‬ال �سيما مع قراري �سحب الدعم عن �أ�سعار‬ ‫املحروقات والأ�سمدة‪ ،‬ما �أدى الرتفاع �أ�سعارها ما بني‬ ‫‪ %400-200‬دفعة واحدة‪ ،‬وجعل �أغلب املحا�صيل غري‬ ‫جمدية اقت�صادي ًا‪ .‬يف تلك احلقبة‪ ،‬كان عبدالله الدردري‪،‬‬ ‫نائب رئي�س الوزراء االقت�صادي‪ ،‬ﻻ يتوقف عن الإ�شارة‬

‫إهنا أيضا ثورة اجتماعية!‬ ‫ياسني سوحية اجلدل الذي �شغل الن�صف الأول من �آذار هذا العام‬ ‫احليز نف�سه العام املا�ضي‪ -‬يف �أو�ساط �أهل‬ ‫و�شغل ّ‬‫ال�سورية دار حول اليوم ال��ذي انطلقت فيه‬ ‫صحفي وناشط سوري الثورة‬ ‫ّ‬ ‫الثورة وانطوى على تو�صيف لل�رشائح االجتماعية‪-‬‬ ‫االقت�صادية املنخرطة يف الثورة واملنا�رصة لها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ اخلام�س ع�رش من �آذار كان يوم مظاهرة الع�رشات‬ ‫من ال�شبان وال�شابات اجلامعيني �أو اخلريجني حديث ًا‪،‬‬ ‫رفق ًة بالعديد من الن�شطاء ال�سيا�سيني واحلقوقيني‬ ‫املخ�رضمني‪ ،‬يف �شوارع دم�شق القدمية‪ .‬يف حني كان‬ ‫تفجر غ�ضب مدينة‬ ‫الثامن ع�رش من ال�شهر نف�سه يوم ّ‬ ‫درعا وريفها �إثر اعت�صام �أهايل ال�صبية املعتقلني لدى‬ ‫امل�رصية‬ ‫أمنية ب�سبب كتابتهم �شعارات الثورة‬ ‫ّ‬ ‫الأجهزة ال ّ‬ ‫على اجل��دران‪ .‬كالهما يحمل مناه�ضة لقمع ال�سلطة‬ ‫والتحدي ملمنوعاتها عنوان ًا رئي�سي ًا عري�ض ًا‪ .‬وكالهما‬ ‫ّ‬ ‫التاريخية القادمة من تون�س‬ ‫اللحظة‬ ‫مع‬ ‫ا‬ ‫من�سجم‬ ‫�أتى‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وم�رص‪ .‬هنا تنتهي امل�شرتكات �إذ ﻻ تن�سيق كان بني‬ ‫علم الواحدة بوجود االخرى‪ .‬واﻻختالف ال‬ ‫احلركتني �أو ٌ‬ ‫يعني‪ ،‬بطبيعة احلال‪ ،‬التناق�ض بني حراك ن�شطاء ومثقفني‬ ‫وطالب الطبقة الو�سطى يف العا�صمة‪-‬املركز وانفجار‬ ‫طرفية وريفها‪.‬‬ ‫غ�ضب �شعبي عارم يف مدينة‬ ‫ّ‬ ‫حيتان «اقت�صاد ال�سوق االجتماعي»‬ ‫ال�شعبية هي ابنة الثامن ع�رش من �آذار‪ ،‬يوم‬ ‫االنتفا�ضة‬ ‫ّ‬ ‫درعا‪ ،‬يوم الغ�ضب الذي انتقلت �رشارته �رسيع ًا �إىل‬ ‫بانيا�س‪ ،‬و�إىل حم�ص وريفها‪ ،‬و�أري��اف دم�شق وحلب‬ ‫وحماة وادلب ودير الزور‪ .‬يف رف�ض القمع اال�ستفزازي‬ ‫عنوان‬ ‫املُمار�س والعنف البنيوي لدى النظام ال�سوري‬ ‫ٌ‬ ‫�أكيد‪ ،‬لكنه لي�س وحيد ًا‪ ،‬كما �أنه ﻻ يكفي ل�رشح �أ�سباب‬ ‫التو�سع الأفقي ال�رسيع يف املدن ال�صغرية والأري��اف‬ ‫ّ‬

‫ ‪ 108‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ كيف يك�سب ه�ؤﻻء الهاربون من القطاع الزراعي‬ ‫رزقهم؟ قد تفيد اح�صائية ن�رشها البنك العاملي يف‬ ‫الإجابة على هذا ال�س�ؤال‪� ،‬إذ �أعلن �أن ن�سبة اليد العاملة‬ ‫ال�سورية املنخرطة يف «االقت�صاد غري الر�سمي» قد‬ ‫ّ‬ ‫ال�سورية‪ ،‬وهنا‬ ‫الثورة‬ ‫اندالع‬ ‫قبل‬ ‫‪%82‬‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫و�صلت‬ ‫ّ‬ ‫املدربني الذين انتقلوا‬ ‫�أثر مئات الآالف من العمال غري‬ ‫ّ‬ ‫للعمل كمياومني حيثما ا�ستطاعوا‪ :‬البناء‪ ،‬رعاية احلدائق‬ ‫املتجول‪ ،‬الخ‪ .‬دون حقوق عمل وﻻ‬ ‫اخلا�صة‪ ،‬العتالة‪ ،‬البيع‬ ‫ّ‬ ‫�ضمان اجتماعي من �أي نوع‪ .‬امللفت للنظر �أن اجلهة التي‬ ‫ن�رشت هذه الإح�صائية‪ ،‬البنك العاملي‪ ،‬كانت اجلهة الأكرث‬

‫ن�سبة البطالة ملن هم دون الثالثني قُدّ رت قـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبل‬ ‫اندالع الثورة بـ ‪ ،%48‬وقُدّ ر �أي�ضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ًا‬ ‫�أن ‪ %40-30‬من خريجي اجلامعات العاملني قد عجزوا عن �إيجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاد‬ ‫فر�صة عمل يف جمال اخت�صا�صهم الدرا�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي‬

‫و�أحزمة املدن الكربى‪ .‬ولي�س �صدف ًة �أن مراكز �رشكة‬ ‫«�سريياتل» تلقّت هجمات اجلموع الغا�ضبة �أ�سو ًة‬ ‫باملراكز الأمنية و�أق�سام ال�رشطة يف درعا‪ ،‬و«�سريياتل»‬ ‫هي العالمة الأبرز لرثوة رامي خملوف ونفوذه‪ ،‬ابن خال‬ ‫الرئي�س ال�سوري و�أغنى رجال الأعمال �سوريا‪ ،‬والذي‬ ‫ُينقل عنه تباهيه ب�سيطرته على ‪ %60‬من االقت�صاد‬ ‫أقرت له و�سائل الإعالم الدائرة يف فلك‬ ‫ال�سوري‪ .‬وقد � ّ‬ ‫النظام ال�سوري برثوة قدرها ‪ 59‬مليار لرية (�أكرث من‬ ‫مليار دوالر ح�سب �سعر �رصف اللرية حينها) رغم �أن‬ ‫تقدر ب�أ�ضعاف هذا املبلغ‪ .‬وهي ثروة ظهرت‬ ‫ثروته‬ ‫الفعلية ّ‬ ‫ّ‬ ‫فج�أ ًة وت�ضاعفت ب�رسعة دون �أدنى جهد ل�رشح م�صدرها‪،‬‬ ‫ولو يف �سبيل الربوباغندا‪ ،‬مثلها مثل ثروات الع�رشات‬ ‫يف�ضلون «ريادة‬ ‫من �أبناء م�س�ؤويل النظام‪ ،‬الذين باتوا ّ‬ ‫حتول‬ ‫الأعمال» على وراثة �آبائهم يف املنا�صب بالتوازي مع ّ‬ ‫االقت�صاد ال�سوري �إىل «اقت�صاد ال�سوق اﻻجتماعي»‪.‬‬ ‫النيوليربالية يف ُبنية‬ ‫التحوالت‬ ‫هكذا ُ�س ّميت جمموعة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫االقت�صاد خالل الأعوام الع�رشة الأخرية‪ ،‬والتي �أتت‬ ‫كد�سة خالل عقود النهب‪ ،‬عن طريق‬ ‫لتوظيف الرثوات املُ ّ‬ ‫املنا�صب الع�سكرية واحلكومية واالداري��ة‪ ،‬يف ادارة‬ ‫م�شوهة ومر�سومة على مقا�س حيتان الظاهرة‬ ‫اقت�صادية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املخلوفية ورغبتها‪ .‬وحقبة «اقت�صاد ال�سوق االجتماعي»‬ ‫ّ‬ ‫هي �أي�ض ًا زمن تر ّدي �أو�ضاع الطبقة الو�سطى‪ ،‬وانهيار‬ ‫�سوية حياة الطبقات الأفقر‪ ،‬ﻻ �سيما يف الأرياف وحميط‬ ‫�سبب ال�شتعال �رشارة درعا يف هذه‬ ‫املدن الكربى‪ .‬هنا‬ ‫ٌ‬ ‫والتوح�ش‬ ‫الأو�ساط يفوق مقاومة اال�ستبداد ال�سيا�سي‬ ‫ّ‬ ‫حل�سا�سية‬ ‫أهمية‪ ،‬دون �أن يعني هذا التف�ضيل نفي ًا‬ ‫الأمني � ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال ل��دور العنف املفرط‬ ‫�ضد‬ ‫الديكتاتورية‪ ،‬وﻻ �إهما ً‬ ‫ّ‬ ‫املُمار�س يف زيادة �إ�شعال الغ�ضب وجتذيره بداي ًة‪ ،‬ثم‬ ‫دفعه نحو املقاومة امل�س ّلحة تالي ًا‪.‬‬

‫�إىل �رضورة االلتفات �إىل القطاعات اخلدمية وال�سياحية‬ ‫قر‬ ‫واملالية يف «اال�صالحات» بدل الزراعة‪ ،‬رغم �أنه كان ُي ّ‬ ‫تباع ًا بتزايد حجم الكتلة العاملة التي تركت العمل الزراعي‬ ‫وتوجهت للبحث عن العمل يف قطاعات �أخرى‪ .‬وهي كتلة‬ ‫ّ‬ ‫و�صل حجمها‪ ،‬ح�سب تقديراته‪� ،‬إىل ‪� 600‬ألف مزارع عام‬ ‫قدمتها‬ ‫أرقام �أخرى ّ‬ ‫‪ ،2010‬رغم �أن الواقع املرئي‪ ،‬كما � ٌ‬ ‫ال�سورية والهيئات الدولية املتعاملة معها‪ ،‬تثبت �أن‬ ‫احلكومة‬ ‫ّ‬ ‫الرقم الفعلي �أكرب من هذا بكثري‪.‬‬ ‫اﻻقت�صادية‪ ،‬لكن‬ ‫ تلقى كامل الريف ال�سوري ال�رضبة‬ ‫ّ‬ ‫ال�سورية (احل�سكة‪ ،‬دير الزور‪،‬‬ ‫حالة حمافظات اجلزيرة‬ ‫ّ‬ ‫الرقة)‪ ،‬واخلارجة ب�أغلبيتها العظمى عن �سيطرة النظام اليوم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كانت الأكرث م�أ�ساوية بامتياز‪ ،‬وقد ع ّللت ال�سلطة حينها‬ ‫هذا الواقع مبوجة اجلفاف‪ ،‬دون �أن ت�ضيع وقت ًا يف تبيان‬ ‫ُ‬ ‫الري يف‬ ‫نفع ‪ 15‬مليار دوالر �أنفقت ‪-‬نظري ًا‪ -‬على �أنظمة ّ‬ ‫حو�ض نهر الفرات‪ .‬خالل الن�صف الثاين من العقد الأول‬ ‫ال�سورية وبرنامج الغذاء‬ ‫من القرن‪ ،‬وح�سب بيانات احلكومة‬ ‫ّ‬ ‫العاملي التابع للأمم املتحدة‪َ ،‬ف َق َ​َد ‪ 1,3‬مليون مواطن (من‬ ‫�أ�صل حوايل ‪ 4‬ماليني هم تعداد �سكان املحافظات الثالث)‬ ‫م�صدر رزقهم‪ ،‬وو�صل �أكرث من ‪� 800‬ألف مواطن �إىل حالة‬ ‫«فقر مدقع» ح�سب تعبري وكالة الأمم املتحدة‪ .‬تكفّل برنامج‬ ‫الغذاء العاملي ب�إطعام ‪� 190‬ألف مواطن‪ ،‬ووزع ح�ص�ص‬ ‫وقدرت احلكومة‬ ‫غذائية م�ساعدة على ‪� 110‬آالف �آخرين‪ّ ،‬‬ ‫ال�سورية �أن عدد العائالت التي هجرت املنطقة �إىل حميط‬ ‫ّ‬ ‫املدن الكربى يرتاوح بني ‪� 80-50‬ألف عائلة‪.‬‬

‫ ‪ 109‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫االقت�صادية»‬ ‫�إ�صدار ًا للآراء الإيجابية حول «الإ�صالحات‬ ‫ّ‬ ‫للحكومة ال�سورية ما بني ‪.2010-2005‬‬ ‫ يف التزايد املتعاظم لظاهرة ال�سكن الع�شوائي �إ�شارة‬ ‫�إىل االمكنة التي انتقل للعي�ش فيها الالجئون من كوارث‬ ‫ومفقّرو املدن‪ .‬فقد �أعلنت وزارة الإ�سكان قبل‬ ‫الزراعة ُ‬ ‫اندالع الثورة بعا ٍم واحد �أن عدد مناطق «املخالفات» يف‬ ‫دم�شق وريفها وحلب قد و�صلت �إىل ‪ 115‬منطقة‪ ،‬وكان‬ ‫املكتب املركزي للإح�صاء‪ ،‬يف بحثه الأخري عن الظاهرة‬ ‫العام ‪ ،2007‬قد �أعلن �أن ‪ %50‬من ال�سكن الإجمايل يف‬ ‫�سورية ع�شوائي‪ ،‬و�أن ‪ %45‬من �سكان دم�شق يقيمون يف‬ ‫مناطق ع�شوائيات‪ ،‬ي�ضاف �إليهم ‪ %35‬من �سكان حلب‪ ،‬و‬ ‫«اال�سرتاتيجية‬ ‫م�سودة‬ ‫‪ %42‬من �سكان حم�ص‪ ،‬كما �أعلنت ّ‬ ‫ّ‬ ‫الوطنية لال�سكان»‪ ،‬ال�صادرة عن برنامج الأمم املتحدة‬ ‫الب�رشية‪� ،‬أن منو ال�سكن الع�شوائي بني عامي‬ ‫للم�ستوطنات‬ ‫ّ‬ ‫‪ 1994‬و ‪ 2010‬جتاوز ‪.%220‬‬ ‫ ُي�ضاف على الأرق��ام ال�سابقة تو�ضيح �أن ن�سبة‬ ‫البطالة ملن هم دون الثالثني ق ُّدرت قبل اندالع الثورة‬ ‫ُ��در �أي�ض ًا �أن ‪ %40-30‬من خريجي‬ ‫بـ ‪ ،%48‬وق ّ‬ ‫اجلامعات العاملني قد عجزوا عن �إيجاد فر�صة عمل يف‬ ‫جمال اخت�صا�صهم الدرا�سي‪.‬‬ ‫املعار�ضة وحتدي العدالة االجتماعية‬ ‫مل تكن �صدف ًة‪� ،‬إذ ًا‪� ،‬أن تكون الأرياف و�أحزمة املدن‬ ‫الكربى مبا فيها من مناطق ع�شوائيات‪ ،‬احلا�ضنة الكربى‬


‫ال�شعبية بداي ًة‪ ،‬ومنطلق ًا للعمل امل�س ّلح‬ ‫لالحتجاجات‬ ‫ّ‬ ‫�ضد العنف املفرط للنظام‪ .‬كما مل تكن �صدف ًة �أن تتلقى‬ ‫هذه املناطق �أكرب قدر من ّ‬ ‫كل �أنواع العنف من قبل‬ ‫النظام و�أجهزته‪ ،‬لي�س القمع الأمني والبط�ش الع�سكري‬ ‫وحده‪ ،‬و�إمنا �أي�ض ًا بالعنف الرمزي والتحري�ض امل�سكوب‬ ‫من قبل و�سائل الإعالم ال�سلطوية واملوالية‪ ،‬ك�أن تظهر‬ ‫�سخرية متكررة على �شا�شات التلفزيون ال�سوري من‬ ‫(جالبية وكال�ش)‪� ،‬أو �أن تقرر‬ ‫مظهر املتظاهرين الريفي‬ ‫ّ‬ ‫�صحيفة «الوطن» اململوكة لرامي خملوف �أن امل�شاركني‬ ‫يف مظاهرة خرجت يف جامعة حلب كانوا مد�سو�سني‬ ‫«�ﻷن ثيابهم الر ّثة تف�ضح �أنهم لي�سوا جامعيني»‪� ،‬أو‬ ‫الفا�شية �ضد الع�شوائيات‬ ‫اخلطاب املمنهج املوغل يف‬ ‫ّ‬ ‫و�أهلها‪ ،‬والذي بد�أ من الربط بني ال�سكن يف الع�شوائيات‬ ‫والإج��رام وتعاطي املخدرات واﻻنحالل الأخالقي‬ ‫الوطنية» و«اال�ستعداد للعمالة» يف عدد كبري‬ ‫و«�ضعف‬ ‫ّ‬ ‫من املقاالت والتحقيقات ال�صحفية يف �إعالم ال�سلطة‬ ‫والإعالم اخلا�ص املتحالف معه‪ ،‬وو�صل عند هيام علي‪،‬‬ ‫مديرة موقع «�سرييا�ستيب�س»‪� ،‬إىل املُطالبة مب�سح مناطق‬ ‫باملدفعية الثقيلة بعد �أن‬ ‫املخالفات هذه من الوجود‬ ‫ّ‬ ‫عبرّ ت عن ا�شمئزازها من كل ما �سبق‪ ،‬و�أ�ضافت �إليه‬ ‫الروائح الكريهة املنبعثة من هذه املناطق‪ .‬يبقى القول‬ ‫�إن ع�رشات املناطق الع�شوائية قد ُم�سحت من الوجود‬ ‫ال‪.‬‬ ‫باملدفعية فع ً‬ ‫ال�سورية‪،‬‬ ‫ البعد االجتماعي‪ -‬االقت�صادي للثورة‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫غائب عن خطاب التعبري‬ ‫بجوهريته و�أ�سا�سيته‪� ،‬شبه‬ ‫ال�سورية اليوم‪ ،‬والتي تكتفي‬ ‫ال�سيا�سي للمعار�ضة‬ ‫ّ‬ ‫احلرية والكرامة‪ ،‬وﻻ تذكر من‬ ‫باحلديث العمومي عن ّ‬ ‫ال�ضيق‪.‬‬ ‫إفقارية �إال الف�ساد مبعناه‬ ‫ممار�سات النظام ال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لي�س احلديث عن هذا البعد اﻻجتماعي‪ -‬االقت�صادي‬ ‫أكيد على‬ ‫حاج ًة‬ ‫تعبريية عن واقع �أليم فح�سب‪ ،‬بل هو ت� ٌ‬ ‫ّ‬ ‫الوطنية اليوم‪� ،‬أو ﻻ انت�صار للثورة‬ ‫�أن ﻻ خمرج للأزمة‬ ‫ّ‬ ‫ال�سورية دون �أن مت�ضي الأم��ور يف طريق ر ّد املظامل‬ ‫ّ‬ ‫لأهلها‪ ،‬واملظامل مل تكن فقط ذات طابع �سيا�سي‪�-‬أمني‪،‬‬ ‫اقت�صادية �أي�ض ًا‪� .‬سيا�سيو اليوم والغد جمربون‬ ‫بل كانت‬ ‫ّ‬ ‫اﻻجتماعية‪،‬‬ ‫التجهز للإجابة على مع�ضالت العدالة‬ ‫على‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وعلى �إعادة النظر بالعالقات املت�أزمة بني املدينة والريف‪،‬‬ ‫وبني املركز والأطراف‪ ،‬وبني املدن الكربى ومدن الأطراف‬ ‫طريق‬ ‫والبلدات‪ .‬هذا م�سلك �إجباري يف طريق املُواطنة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫الطائفية ومن ت�سبب‬ ‫ﻻ يكفي يف امل�شي فيه احلديث عن‬ ‫ّ‬ ‫وكيفية التخ ّل�ص منها‪.‬‬ ‫بظهورها‬ ‫ّ‬

‫ ‪ 110‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫مبنيون للمجهول‬ ‫مبنية للغياب وحنن‬ ‫المنازل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫رائد وحش‬ ‫اشعر فلسطيين‪،‬‬ ‫يقيم يف سورية‪،‬‬

‫آخر اعماله «عندما‬ ‫لم تقع احلرب»‬ ‫(‪)٢٠١٢‬‬

‫ ‪ 111‬‬

‫‪1‬‬

‫البدوية التقليدية‪ ،‬حيث يجل�س اجلميع‪ ،‬كبار ًا و�صغار ًا‪،‬‬ ‫ون�ساء‪ ،‬نكت�شف �أننا فعلنا الأ�شياء ذاتها‪ ،‬الأجداد‬ ‫ال‬ ‫رجا ً‬ ‫ً‬ ‫والآباء والأحفاد‪ ،‬جميعنا فعلنا الأ�شياء التي جتعلنا من‬ ‫عمر واحد‪ ،‬وها �إننا نلتقي لنتحدث عن � ّأولنا‪ ،‬فما من‬ ‫لثبت �أقدامه‬ ‫�أحد منا �إال وال يزال هناك‪ ،‬وها �إنه‬ ‫ّ‬ ‫يتحدث ّ‬ ‫يف الـ «هناك»‪ ،‬يف الأول‪.‬‬

‫ُعدنا اىل البداوة‬ ‫�صب �أبي فنجان القهوة الأول‪� ،‬رشبه بتلذّذ ثم راح ين�شد‬ ‫ّ‬ ‫يف مديح القهوة العربية وهي تدور علينا‪ .‬انفتحت القرائح‬ ‫على ال�شعر فتحول املجل�س �إىل ما ي�شبه مبارزة بالكلمات‪.‬‬ ‫ عدنا بدو ًا على غفلة منا‪ ،‬وعاد البيت م�ضاف ًة َت ْعمر كل‬ ‫ليلة بالعائلة والأقارب والأ�صحاب والنازحني‪.‬‬ ‫ عدنا بدو ًا جتمعنا القهوة وقنديل الكاز يف ع�شيات �أولنا املخيم واخلان وال�شيح‬ ‫حكائية‪.‬‬ ‫ا�سما مقدود ًا من و�صف املكان‪.‬‬ ‫�أولنا خميم خان ال�شيح ً‬ ‫أ�سي�سا �أ�سطوري ًا فدونك املاء‪ .‬ها هو النهر‪،‬‬ ‫أردت ت�‬ ‫ً‬ ‫ كل يوم ن�شعر �أنها التعليلة الأخ�يرة‪ ،‬فالعا�صفة �إذا � َ‬ ‫وا�سم ُه و�ص ُف ُه‪.‬‬ ‫تقرتب �أكرث و�أكرث‪ ،‬لذا �أخذ امل�رسح �شكله الأق�صى‪ :‬النهر الأعوج‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫لفرح �أقرب �إىل الهبل‬ ‫ليل ٌة‬ ‫ندبك فيها يف الغرفة على لأننا من �أ�صول بدوية اعت�صمنا بالنهر‪ .‬القبائل التي‬ ‫ٍ‬ ‫خيمت على �ضفة النهر خلوف‬ ‫«كا�سيت» عر�س قدمي‪ ،‬وليلة حلزن متوح�ش ال يوفر هاجرت من فل�سطني املنكوبة ّ‬ ‫حتى لهب القنديل‪ ،‬فرناه ميعن يف حمو وجوهنا‪� ،‬إىل دفني يف ذاكرة القوم من غياب املاء‪ ،‬من عدم الثقة بال�سماء‪،‬‬ ‫َ‬ ‫جتعلك تظن �أنك ت�ساهر الظالل‪.‬‬ ‫درجة‬ ‫على عك�س الفالحني الذين ي�ؤمنون ب�أنها لن تن�ساهم �أينما‬ ‫حلّوا‪ ،‬بينما نحن الذين ن�ؤمن بالأر�ض ومباء الأر�ض �سكنا‬ ‫أعوج نحاكيه‪� .‬أهل البداوة‬ ‫القبائل التي هــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاجرت هنا‪ .‬حل�سن احلظ �أ ّنا وجدنا نهر ًا � َ‬ ‫من فل�سطني املنكوبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة ال يعرفون خط ًا م�ستقيم ًا‪ ،‬وب�شفاعة اعوجاج النهر �شوارعنا‬ ‫خيّمت على �ضفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة كلها عوجاء‪ .‬ما من �شارع ي�ستقيم لأكرث من ثالث بيوت‪.‬‬ ‫فرغنا‬ ‫النهر خلوف دفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــني ماء �أع��وج ملكان دهليزي‪ .‬لكننا وا�ضحون‪ّ .‬‬ ‫يف ذاكرة القوم من غيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاب االعوجاجات الداخلية ليكون لنا داخلٌ ٍ‬ ‫خال من كل عوج‪.‬‬ ‫املاء‪ ،‬من عدم الثقة بال�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــماء‪.‬‬ ‫املخيم‬ ‫النار تكتب‬ ‫ّ‬ ‫ �آه‪� .‬رسعان ما كربنا‪� ،‬رسعان ما منا ال�شَّ عر �أ�سود اخلان القدمي فقد وظيفته كمحطة بني الآ�ستانة ومكة‪ ،‬ومل‬ ‫ال‪� ،‬أو يبق منه غري هيكله اخلارجي‪ .‬بقي كذلك كداللة للمكان‬ ‫فاحم ًا على وجوهنا ال�سمراء‪ .‬ك�أمنا نكرب لن�صري لي ً‬ ‫ال بعيد ًا‪ ،‬م�ضِ ي الأيام يجعله يقرتب الفل�سطيني امل�ؤقت‪.‬‬ ‫�أن يف الأعمار لي ً‬ ‫ِ‬ ‫جلب َبت املكان‪ ،‬قلّت �إىل‬ ‫�أكرث ف�أكرث لت�أتي النهاية على �شكل لطخة �سوداء كاملة‪ .‬ال�شيح‪ ،‬النبتة الربية التي َ‬ ‫�سمائية �سوداء‪ ،‬من يدري؟‬ ‫رمبا يبد أ� الأمر يف لطخة‬ ‫حفنات ال تكفي قطيع ًا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ يف م�ضافتنا الدميقراطية‪ ،‬على خالف امل�ضافات املخيم رغم كل التحوالت‪ ،‬من تهمي�شه بعد انتقال‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬


‫ال تعرف من �أية درجة من درجات الإغماء جاءت‪« :‬حتى‬ ‫لدي ديون»‪.‬‬ ‫يف املريخ ّ‬ ‫ِ‬ ‫كل �شيء ُي�شعركَ �أن‬ ‫ تزاحم النا�س �أم��ام دكانة ِّ‬ ‫وي�شعر الأبناء �أنهم يف خ�ضم‬ ‫الزمن مي�شي �إىل الوراء‪ُ ،‬‬ ‫ق�ص�ص �آبائهم التي لطاملا متلملوا منها‪ ،‬ولطاملا اعتربوها‬ ‫نوع ًا من املغاالة‪ ،‬لوال هذه الأيام التي جعلت الق�ص�ص‬ ‫واقع لدى الأبناء‪،‬‬ ‫كلها ق�صة واحدة‪ ،‬حيث ذاكرة الآباء ٌ‬ ‫وحيث البقال ذلك برجاوي الذي يطوف بب�ضاعته على‬ ‫حمارٍ بني ديار البدو‪.‬‬

‫الثقل الفل�سطيني �إىل داخل الأر�ض املحتلة حيث غابت‬ ‫ال�شعارات الثورية عن جدرانه‪ ،‬و�صار التغيري وا�ضح ًا يف‬ ‫ثقافة ت�سمية حمالته التجارية التي انتقلت من الأ�سماء‬ ‫الوطنية �إىل الأ�سماء الدينية‪ ،‬وتو�سعه الكبري خارج الدائرة‬ ‫التي ر�سمتها «الأون��روا»‪ ،‬املخيم رغم كل ذلك ال يزال‬ ‫خميم ًا‪ ،‬لي�س كمكان‪ ،‬ال‪ ،‬فهو بهذا املعنى مثل ع�شوائيات‬ ‫املدينة و�ضواحيها‪ .‬ال يزال خميم ًا على ال�صعيد الب�رشي‪.‬‬ ‫�رسدت لك‬ ‫املخيم �أكمل حتوله من مكان �إىل �إن�سان‪ .‬لو‬ ‫ُ‬ ‫احلنونية‪ ،‬مريومة‪،‬‬ ‫الأ�سماء‪� :‬أبو في�صل‪ ،‬الفرن�سي‪ ،‬الكوبي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫حازم‪� ،‬ستجدهم كلهم واح��د ًا‪ .‬هذا الواحد هو خال�صة‬ ‫البداية التي نتعلل عليها بالقهوة و�ضوء القنديل‪ ،‬وال‬ ‫�سيما يف الوقت الذي ير�شحنا جميع ًا للموت‪ .‬ثم �إن‬ ‫موتية‪ ،‬فنحن نعبرّ بـ«حتت النهر» �أو «فوق‬ ‫فمويتنا‬ ‫ال�شيحية ّ‬ ‫ّ‬ ‫الطريق» دون �أن نعني الغرق �أو الده�س‪ ،‬فهي جمرد �أ�سماء‬ ‫حملية للجهات‪� :‬رشق النهر وغرب الطريق‪.‬‬ ‫نوعي ًة يف جوهر احلياة‪،‬‬ ‫التحول يخفي نقلة‬ ‫لكن هذا‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فمنذ غابت ال ّنار وحلّت حملّها الكهرباء يف البيوت‬ ‫أحيائي جديد بالتكاثر كالبكترييا‪،‬‬ ‫وال�شوارع �أخذ نوع �‬ ‫ّ‬ ‫وجتلى خطر هذا النوع �أكرث ما جتلّى يف تب�شريه الكا�سح‬ ‫حمو‬ ‫باال�ستغناء عن ال�شم�س‪ ،‬وا�ستطاعته‪ ،‬يف الآن ذاته‪َ ،‬‬ ‫الليل‪ .‬مل يعد �أكل الطعام املكهرب‪ ،‬وتن ّف�س الأوك�سيجن‬ ‫املكهرب‪ ،‬والعي�ش يف نهار طويل ومل ّفق �أمر ًا خطري ًا‪ ،‬بل‬ ‫�إن اخلطر يف تلك الكائنات الكهربائية التي ال ميكن �أن‬ ‫ترى �إليها �إال كبطاريات باقية ما بقي فيها كربون قابل‬ ‫لل�شحن‪ .‬منذ عادت النار �إىل وظائفها يف الإنارة والتدفئة‪،‬‬ ‫الب�رشي ح�س ًا وعاطف ًة وفكر ًا‪..‬‬ ‫يف ح�ضور قوة الإلهي يف‬ ‫ّ‬ ‫منذها‪ ،‬مع ا�ستعادة �أهم عنا�رص اخللق‪ ،‬عدنا �إىل �أولنا‪ ،‬املخيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم‬ ‫عدنا ناريني جد ًا‪ ،‬وما لهب القنديل �إال عالمة يف التحول �أكمل حتولــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه‬ ‫الكبري‪ .‬فمثلما فعلت النار يف التاريخ‪� ،‬إذ مل تكتف بتقدمي من مكــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان‬ ‫النور و�إن�ضاج الطعام‪ ،‬بل قدمت تطويع املعادن‪ ،‬ها هي �إىل �إن�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان‬ ‫تطوع معدن اخلوف‪ ،‬ومعدن الألفة‪ ،‬كي ال‬ ‫ذي نار القنديل ّ‬ ‫ ك��ان م��رة ب�صبحة �صديق يف �إح��دى ق��رى جبل‬ ‫ت�سمح للجحيم ب�أن يكون جحيم ًا‪.‬‬ ‫ النار وحدها كتبت بداية املخيم‪ ،‬ووحدها �ستكتب ال�شيخ‪ ،‬ويف طريق العودة الليلي امل�ضبب كيوم مبكّ ر من‬ ‫�أيام اخللق انزاحت ال�سيارة عن الطريق العام لتخرتق‬ ‫نهايته �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫جدار �أحد املنازل‪ ،‬ومل يكن ذعر تلك الأ�رسة من ذلك‬ ‫االقتحام ال�شيطاين يعادل ذعر الأب من ر�ؤية دائنه‬ ‫‪2‬‬ ‫دكانة �صبحي‬ ‫يف غرفة املعي�شة‪� .‬صبحي‪ ،‬بني ال�صحو والإغماء‪� ،‬س�أل‬ ‫أ�شد‬ ‫ا�ستعادت ال ِب َقالة �ألقها‪ .‬ازدهرت دكانة �صبحي من جديد‪� .‬صديقه ال�سائق‪�« :‬أين نحن؟ »‪ ،‬ف�أجابه من �إغماء � ّ‬ ‫كان �صبحي �آخر من حافظ على �رشف املهنة‪ ،‬فب�سبب من ال�صحو‪« :‬يف املريخ»‪ .‬يف هذه اللحظة اقرتب رب‬ ‫عقليته املتحجرة ظل يرف�ض كل �أ�شكال التخ�ص�ص الأ�رسة من �صبحي يتو�سله �أن ي�ؤجل دينه‪ ،‬فقال‪ ،‬بن�شوة‬ ‫حني باتت هناك حمالت للمواد الغذائية‪ ،‬و�أخرى ملواد‬ ‫حتمل‬ ‫التنظيف‪ ،‬وثالثة للأقم�شة‪ .‬لأكرث من ع�رشين �سنة ّ‬ ‫�شح الزبائن وقلة الطلب حتى مات مكمود ًا‪ ،‬ليت�سلّم‬ ‫ت�شبه ًا به‪ ،‬ليبقي تقاليد الوالد‬ ‫الدكان �أحد اكرث �أبنائه ّ‬ ‫كما هي‪ ،‬منذ افتتاح جتارته قبل ن�صف قرن‪.‬‬ ‫ ال تزال الأدوي��ة على رفوفها‪ :‬م�سكِّ ن «�ساريدون»‪،‬‬ ‫بر�شام للزكام‪ ،‬دواء �أحمر «ا�سمه الطبي ميكروفروم‪ ،‬وقد‬ ‫�ألغي عاملي ًا»‪ ،‬دواء القمل مع امل�شط الأبي�ض املخ�ص�ص‬ ‫ل�سحب تلك الطفيليات‪ ،‬كا�سات الهوا‪ ،‬الأبر �صينية ملر�ضى‬ ‫الأع�صاب‪ ،‬قطران للجرب‪� ،‬إىل جانب بودرة قتل ال�رصا�صري‪.‬‬ ‫تتجدد‪ ،‬فلدى �صناعها العناد‬ ‫ ال تزال احللويات القدمية‬ ‫ّ‬ ‫ذاته الذي لدى البائع‪ :‬برازق بعجوة القطعة الواحدة تكفي‬ ‫لقتل رجل‪ .‬هري�سة ت�صمد يف كل ظروف املناخ‪.‬‬ ‫و�ش َّبة‪.‬‬ ‫ حاجيات الن�ساء‪ :‬كحل وح ّناء َ‬ ‫ اللوازم املدر�سية بجوار الأكفان‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫بخي�ش مبلول باملاء كرف�ض قاطع‬ ‫ �ألواح الثلج امللفوفة‬ ‫ونهائي الخرتاع �شهري ا�سمه الثالجة‪.‬‬ ‫ امل��ازوت‪ ،‬زيت الكاز‪� ،‬أ�سطوانات الغاز والبوابري‬ ‫والقناديل‪� ..‬إلخ‪.‬‬ ‫ بقالية �صبحي هي ثالث بقالية يف املنطقة‪ ،‬و�آخر‬ ‫واحدة باقية‪ ،‬فالأخريان اخفتهما التحوالت الع�رصية‪.‬‬ ‫ يف �أيام ع ّز جتارته كانت ديونه على النا�س تعادل بنك ًا‪.‬‬ ‫حتى �أن الفقراء يتندرون به‪ ،‬فالذاهب �إىل املرحا�ض يقول‪:‬‬ ‫أ�سد �صبحي»‪ .‬املديونون يرونه بالوع ًة ال ت�شبع‪،‬‬ ‫«ذاهب ل ّ‬ ‫ولأجل الإمعان يف حتقري ج�شعه يجعلونه بالوعة مرحا�ض‪.‬‬

‫ ‪ 112‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫‪3‬‬

‫حلظات االحتدام �أنه ال يزال كما كان قبل وجود الله‪.‬‬ ‫ على �ضوء القنديل امل�شتعل جواتك تبحث عن‬ ‫خارجك فال تعرف �شيئ ًا‪ .‬غياب اخل��ارج غيابك‪� .‬ضوء‬ ‫اخلارج و�ضوحك‪.‬‬ ‫ هذا الظالم لي�س جماز ًا‪ ،‬هو احلقيقة‪.‬‬ ‫ نحن �أحطناه مبجازات الأن��وار والثورة‪ ،‬وجم��ازات‬ ‫النريان‪ ،‬وجمازات الأقمار وال�شمو�س‪ ،‬كي نخفف بع�ض ًا من‬ ‫وط�أة احلقيقة‪� .‬أل�سنا نحن الب�رش �أكرث من ت�ؤذينا احلقيقة؟‬ ‫كنت الذئب الذي يعوي يف اخلارج ملا كانت هذه‬ ‫ لو ُ‬ ‫�أ�سئلتي‪ .‬رمبا لدى الذئب �أ�سئلة نهارية بحتة‪!..‬‬ ‫ ليلي نهار الذئب‪ ،‬ونهار الذئب ليلي‪.‬‬ ‫ يا لها من حلظة لتفاهم الإن�سان واحليوان! يا لها من‬ ‫حلظة للغة الكونية!‬ ‫ �س�أعوي‪� ،‬س�أعوي حقيق ًة لأوقف جماز القنديل امل�شتعل‪،‬‬ ‫وعلى الذئب نهار ًا �أن يجد الكالم كنوع من احلل!‬

‫قنديل ر�أ�س ال�سنة‬ ‫يتناق�ص زيت القنديل كل لهظة بينما �أراقب االنطفاء‬ ‫ال�سنة‪.‬‬ ‫ليلة ر�أ�س ّ‬ ‫ �أنتظر نفاد الزيت لأنام رغم قابليتي النف�سية لل�سهر‪،‬‬ ‫فما الذي �س�أفعله يف العتمة املقبلة بعد دقائق؟‬ ‫ال رغم انتهاء يف انتظار القذيفة‬ ‫ �شيء غام�ض يبقي القنديل م�شتع ً‬ ‫ال �إىل الربتقايل يف يف زمن م�ضى كان انقطاع الكهرباء ي�شعل تبا�شري هذا‬ ‫زيته‪ ،‬ويبقى اللهب �أ�صفر مائ ً‬ ‫ال يف حوافه ال�سفلى‪� .‬شيء غام�ض اخلوف‪ .‬يف ذلك االنقطاع اجلزئي كانت املخاوف جزيئة‪،‬‬ ‫املنت�صف‪� ،‬أزرق قلي ً‬ ‫ال يجعل الوقت مير‪ ،‬وال يرتك الظلمة ت�أتي‪!..‬‬ ‫لكن امل�شهد يكتمل الآن‪.‬‬ ‫حد‬ ‫كنت �أ�شعر‬ ‫ �أبقى معلق ًا يف حلظة العبور بني �سنتني‪ ،‬بني اليقظة ‬ ‫ُ‬ ‫يعر�سون يف حديقة البيت َّ‬ ‫ّ‬ ‫اجلن ّ‬ ‫واملنام‪ ،‬بني الإعتام والإ�ضاءة‪.‬‬ ‫ال�شموع‬ ‫�سماعي طبو ً‬ ‫ال وزغاريد‪ .‬ف�أ�شعلُ مزيد ًا من ُّ‬ ‫‪،‬‬ ‫ال‬ ‫فع‬ ‫مي�ضي‬ ‫فالوقت‬ ‫غمو�ض‪،‬‬ ‫ يف احلقيقة ما من‬ ‫الوطنية �رسيعة الذوبان‪ ،‬وتخطر على بايل‪ ،‬حيث ال‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫قليل‪� ،‬ستلعلع‬ ‫ال ل�ساعة بال يل‪ ،‬فكر ُة احلرب‪� .‬أقول‪ :‬حتم ًا‪ ،‬بعد‬ ‫ودليلي �إيقاع املدفعية التي جعلت نف�سها بندو ً‬ ‫�صفارات الإنذار‪ ،‬و�ستبد�أ ّ‬ ‫الكون‪� ،‬ساعة املوت‪.‬‬ ‫أهرب �إذ ًا‪.‬‬ ‫الطلعات‬ ‫اجلوية‪ .‬فل ْ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ب�رسعة‪ ،‬لي�س يف م�ستطاع‬ ‫�ضمان؟ فلأ ْمن‬ ‫ يف احلقيقة �أنا يف الظالم منذ �ساعات‪ ،‬فالقنديل انطف�أ هل يف ال�شوارع‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫لقذيفة �ستحيل‬ ‫عادي‪ ،‬فكيف بانتظاره‬ ‫انتظار‬ ‫وال�سنة اجلديدة �أعلنت دخولها يف �أماكن �أخرى من �إن�سان‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌ‬ ‫مت �أموت نائم ًا‪.‬‬ ‫العامل‪ ،‬لكن الظالم الكوين الذي يحيطني ُم ْعدم ًا �شعوري البيت غبار ًا‪ .‬فلأ ْمن‪ .‬هذا �سبيلي‪ .‬علّني �إذا ُّ‬ ‫مبا حويل يفاقم‪ ،‬من حيث ال �أدري‪� ،‬شعوري بي‪ ،‬ف�أقاوم وحده ال ّنوم ينجي من الآالم‪( .‬يف زمن احلرب عرفت �أن‬ ‫َ‬ ‫مثلك يا �أبا‬ ‫العدم الأ�سود بتخيل لهب من قنديل ال ينتهي زيته‪ ،‬كي النوم �أ�صعب ما يكون)‪� .‬إذ ًا‪ ..‬هيهات هيهات‬ ‫ِ‬ ‫ال �أ�سلّم ب�أنني عالق يف �رشاك هذا الليل‪.‬‬ ‫هرب اجلبناء‪..‬‬ ‫وم عن جفوين َ‬ ‫العالء َ‬ ‫هرب ال ّن ُ‬ ‫ِ‬ ‫رفرفة لهب‬ ‫للت�سلي فتزوغ العينان من‬ ‫ انقطاع الكهرباء يقذفني �إىل �س�ؤال قاتل‪ :‬هل ذهب �أفتح كتاب ًا ّ‬ ‫ذهبت وتركت العامل؟‬ ‫العامل وتركني‪� ،‬أم �أنني‬ ‫�رساج؟‬ ‫ال�شموع‪ .‬كيف كان الأ�سالف يقر�ؤون على �ضوء‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫خالعي‪ِ � .‬‬ ‫أم�س‬ ‫ ال تعرف هذه العاطفة البدائية �إال يف احلرب‪ .‬فمع الظالم �أ�ستدعي �صورة امر�أة من فيديو موبايل‬ ‫ّ‬ ‫أحب ْب ُتها‪ ،‬بالكر�ش والثديني العمالقني وطيات اللّحم يف‬ ‫وتوقف احلركة الب�رشية تدريجي ًا‪ ،‬حتى و�صول الكون �إىل � َ‬ ‫�رصاخات لذّتها على �شا�شة هاتف‪ٍ،‬‬ ‫�سكون كلّي‪ ،‬تعاودك هواج�س الإن�سان القدمي‪ .‬بل ك�أنك اخل�رص‪� .‬أم�س ثقبتني‬ ‫ُ‬ ‫ال�ص َور‪،‬‬ ‫هو رغم هذه القرون كلها‪� .‬أو ك�أنه ا�صطفاك لتنقل بالكتابة وك�أ ّنني من‬ ‫ي�ضاجعها‪ .‬وال تن�صاع لأمر خيايل ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫حريته حيال نهار وا�ضح يعطيه نف�سه بالكامل‪،‬‬ ‫وليل و�أبقى على حافة احلافة‪ ،‬ومن حويل �رسيع ًة متوت ال�شموع‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫�سيوف‪ ،‬حوافر خيل‪ٍ.‬‬ ‫أبجدية‪،‬‬ ‫يكاد ي�سلبه حتى نف�سه‪ .‬نهارٍ �سيحلّ م�شكلته بال‬ ‫أ�سمع تلقيم‬ ‫م�سد�سات‪� ،‬صليلَ‬ ‫ّ‬ ‫ � ُ‬ ‫يغادر املكان الّذي يجب �أن يكون فيه على اجلدار‪.‬‬ ‫وليل �سيظن �أنه حل �إ�شكاله باكت�شاف النار‪ ،‬ليكت�شف يف وظلّي‬ ‫ُ‬

‫ ‪ 113‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬


‫الذهبي لالنتقام!!‬ ‫غدار ٌة‪ ،‬ف�ساعة الغفلة وقتها‬ ‫حتى الظالل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫خوف ن�سيته‬ ‫لتعذيبي‬ ‫يعود‬ ‫الكهرباء‬ ‫انقطعت‬ ‫كلما‬ ‫ ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ورائي‪ ،‬يف خمابئ الطفولة ف�أب ّل ُل ال�سرّ وال‪.‬‬ ‫بال�سكون القامت‪ ،‬وال قوة لدي‬ ‫ عاجزًا ُ‬ ‫كنت � ّ‬ ‫أتوحد ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫التميمة‪�« :‬أ ّ‬ ‫ال � ّأيها ال ّليل الطويل أ� ّ‬ ‫يف ا�ستخدام تلك ّ‬ ‫ِ‬ ‫اجنل»‪ ،‬وال يف الغناء‪« :‬يا ليل‪ .»..‬عاجز ًا‪ ،‬عاجز ًا وك� ّأن‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫يتوقف‬ ‫الكهرباء هي‬ ‫ُ‬ ‫وحدات دم ُمن َع ْت عن ج�سد ال ّ‬ ‫نزيفه‪ .‬وحني ت�أتي الكهرباء �أن�سى كل ذلك‪.‬‬ ‫ اختلف الأمر الآن‪ ،‬الق�صف نقل الأمر �إىل ف�ضاء �أبعد‬ ‫من الرعب العادي‪� .‬صار الليل لئيم ًا‪ .‬ثم �إن امل�ؤذن ت�أخر عن‬ ‫�إعالن الفجر‪ .‬يف مثل هذا الوقت ي�شعل مكربات ال�صوت‬ ‫ويرتك لتجويد عبد البا�سط عبد ال�صمد مهمة تروي�ض هذا‬ ‫امل�سجل ويبد�أ بالتكبري يخف كل �شيء‪.‬‬ ‫العماء‪ ،‬وحني يطفئ‬ ‫ّ‬ ‫ �أينه؟‬ ‫ عليه �أن يفعل هذا كالعادة‪ ،‬علّه ُيفهم املدفعية‬ ‫احلقودة �أن ا�سم الله �أكرب‪.‬‬ ‫ للمرة الأوىل يفوت موعد الأذان‪ ،‬كل امل�ساجد فوتته‬ ‫مع ًا‪ ،‬وللمرة الأوىل �أطلبه بكل هذا الرجاء �أنا الذي كنت‬ ‫كنت �أعلّي �صوت الأغاين‬ ‫�أبدي اال�ستياء منه‪� .‬أنا الذي ُ‬ ‫كنوع من الرف�ض ملثل هذا التطفل على هد�أة الليل‪ .‬و�أنا‬ ‫الذي �أطلب الأذان الآن لن �أ�سامح امل�ؤذنني اجلبناء‪ ،‬ويف‬ ‫الغد‪� ،‬إن جاء الغد‪� ،‬س�أوغر قلوب النا�س عليهم‪.‬‬ ‫بد من ٍ‬ ‫دين يواجه هذا التجديف على‬ ‫ املدفعية كفر وال ّ‬ ‫احلياة‪ ،‬على نوم النا�س‪ ،‬على مناماتهم‪.‬‬ ‫ حتى الذئب توقف عن العواء‪.‬‬ ‫ �أ�صعد �سطح املنزل‪ ،‬وبكل كفري وخويف و�إمياين‬ ‫املفاجئ‪� ،‬أطلق الأذان‪� ،‬أطلقه قوي ًا كعواء قطيع من‬ ‫الذئاب‪� ،‬أطلقه حتدي ًا للمدفعية بالذات‪ ،‬ولأن الفجر ال بد‬ ‫�أن ي�أتي‪« :‬الله �أكرب‪ ..‬الله �أكرب‪.»..‬‬

‫‪4‬‬

‫الفل�سطينيون‪ ،‬كم �سينزحون‪...‬‬ ‫�أبي قال ل�سامرين جدد م�شري ًا �إىل �أبي خلدون النائم‪« :‬ال‬ ‫�أثق ب� ٍ‬ ‫أحد ثقتي بهذا الرجل»‪� .‬أحدهم علّق على الفور‪:‬‬ ‫«طبع ًا‪ .‬كيف �سيخونك وهو نائم طوال الوقت؟»‪ .‬مل نعرف‬ ‫ال�سهرة ما دام‪ ،‬منذ ع�رشين‬ ‫َ‬ ‫مل ي�أتي �أبو خلدون �إىل ّ‬ ‫ٍ‬ ‫�سنة‪ ،‬يغرق يف النوم فور و�صوله‪ ،‬ليقوم‪ ،‬مع انف�ضا�ض‬ ‫القوم‪ ،‬ليمكل نومته يف بيته‪� ..‬أحيان ًا ي�صحو لي�ضحك‬ ‫ال حني‬ ‫كي يوهم الآخرين �أنه يتابع ما يحكونه‪ ،‬فعلها مث ً‬ ‫كان الدكتور خالد يتحدث بقهر‪« :‬عربنا النهر �ألف مرة‪،‬‬

‫ ‪ 114‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ ‪ 115‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬


‫لي�س مرتني فقط كما هو امل�ستحيل لدى الفل�سفة‪ .‬عربناه‬ ‫واكت�شفنا �أن الزمن ماء �آ�سن»‪.‬‬ ‫ اجلميع رمقوا �أبا خلدون نظرة توبيخ فتظاهر �أنها‬ ‫�ضحكة من املنام‪ ،‬وعاد ي�شخر بينما �أكمل الدكتور‬ ‫حديثه‪« :‬هذه الأ�شياء حدثت هنا‪ ،‬كلها حدثت هنا‪� .‬أمل‬ ‫ننزح نحن الذين جل�أنا يف ‪� 48‬إىل اجلوالن فوزعونا على‬ ‫مدن البلد لرغبة ا�رسائيل؟ ثم يف ‪ 67‬بينما نزح �أهل‬ ‫اجلوالن نزحنا �أي�ض ًا �إىل دم�شق‪ .‬كم نزوح ًا يف هذا؟ كل‬ ‫الأ�شياء التي حدثت تعود لتحدث الآن‪ .‬يف جلوئنا �أ�سعفتنا‬ ‫«وكالة الغوث» بالطحني وال�سكر وال�رسدين واخليام‪ .‬يف‬ ‫نزوح �أه��ايل اجل��والن �أ�سعفت الدولة نازحيها ب�أ�شياء‬ ‫م�شابهة‪ ،‬و�إن مل تكن بكرم «الوكالة»‪ .‬الآن يحدث النزوح‬ ‫�إلينا‪ ،‬ويف الغد يحدث منا‪ ،‬ويحدث معه �أن الكل �صاروا‬ ‫وكالة غوث لأننا كلنا �رصنا فل�سطينيني‪ .‬يا جماعة اللعنة‬ ‫التي �أ�صابتنا �ست�صيب العرب‪ ،‬ثم ت�صيب العامل‪ .‬هذا‬ ‫العامل �سيذوق طعم لعنة فل�سطني»‪ .‬ا�ستيقظ �أبو خلدون‬ ‫وعدل جل�سته‪� .‬شلّنا حديث الدكتور خالد عن الكالم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫�صار الكالم له وحده فتابع‪« :‬قولوا يل متى مل يكن يف هذه‬ ‫الأمة نازحون �أو الجئون؟ يف ‪ 2003‬جل�أ العراقيون‪ ،‬ويف‬ ‫‪ 2006‬تبعهم اللبنانيون‪� .‬آالف م�ؤلفة من �أهايل اجلزيرة‬ ‫ال�سورية �أجالهم اجلفاف قبل �سنوات‪ .‬الفل�سطينيون ال‬ ‫�أعرف كم نزحوا وكم �سينزحون‪ ،‬ما �أعرفه � ّأن هناك نزوح ًا‬ ‫وعلينا �أن نذهب‪ .‬نذهب وال نعود‪ .‬يا جماعة ال �أحد يعود‪.‬‬ ‫�إذا ذهبتم لن تنتظركم البيوت‪ ،‬احلرب لن ترتك البيوت‬ ‫مكانها‪ ،‬احلرب جتعل املكان مكان ًا �آخر‪ ،‬لذا كل عودة هي‬ ‫ارتكا�سة‪� .‬أق�سم لكم �إنني �أرى يف مناماتي �أننا يف بلد‬ ‫جمنون‪ .‬الكل بهاليل ينطون وي�رصخون ويخلعون ثيابهم‬ ‫وي�أكلون الف�ضالت‪ .‬الكل جمانني‪ ..‬الكل جمانني‪.»..‬‬ ‫ انطف�أ القنديل‪� .‬أخي مراد القريب منه نفخ عليه‪ .‬كان‬ ‫يريد �إ�سكات جمزرة الكالم‪ ،‬لكنه مل يح�سب �أن العتمة‬ ‫التي تلت ذلك الكالم الإرعابي حتولت �إىل هرج راح ي�أخذ‬ ‫�رصخات متداخلة‪ ،‬وزعيق حيواين‪.‬‬ ‫انطف�أ القنديل‪ ..‬انطف�أنا‪ ..‬وا�شتعل اجلنون‪..‬‬

‫ ع�ضو زوجها بطل الق�ص�ص �أكرث من زوجها‪ .‬ال‬ ‫اجلدة‪...‬‬ ‫ل�شيء غري �أنه فاعلية زوجها الوحيدة‪ ،‬فهي ا�ستولت قالت ّ‬ ‫على �أفعال احلياة كلها‪ .‬هي من ت�شارك يف املنا�سبات‪ .‬منذ ا�ست�شهاد ابن عمي �أثناء عبوره ملنطقة تقاطع نريان‬ ‫ودع��ت ابنتها‬ ‫�أويل الراق�صات يف الأعرا�س‪ ،‬و�أويل النادبات يف امل�آمت‪ .‬وح��ال ّ‬ ‫جدتي �إىل الأ���س��و�أ‪ .‬قبله بقليل ّ‬ ‫�أويل من تزور املري�ض‪ ،‬و�أويل من تبارك جناح الطالب‪ .‬الوحيدة التي رحلت يف ظروف حرجة‪ ،‬وب�صعوبة ال‬ ‫عملت يف خدمة البيوت طوال عمرها‪ .‬عملها ذلك متناهية ا�ستطعنا دفنها يف «احلجر الأ�سود» حيث ت�سكن‪.‬‬ ‫ ‬ ‫ْ‬ ‫و ّل��د يف نف�سها نوع ًا من التفاين يف خدمة النا�س‪� .‬آالم املفا�صل �أقعد ْت َها على كر�سي ذي عجالت‪ ،‬ومل‬ ‫ب�أمومتها زاولت عملها كخادمة ولهذا كان لديها و�ضع تعد تغادر بيت ابنها الذي تقيم عنده �إال لتجل�س �إىل ال ّنهر‬ ‫يل ممتاز‪ ،‬فالأغنياء الذين عملت عندهم �أو�سعوها الذي بات يبدو ُمقعد ًا مثلها‪ ،‬فقبل عدة �سنوات اخرتعت‬ ‫ما ّ‬ ‫العطاء‪ ،‬وذلك مكّ نها من القيام بواجباتها االجتماعية الدولة اخرتاع ًا جنوني ًا‪ ،‬حيث مت �صب جمراه بالباطون‪.‬‬ ‫اجلدة التي بالكاد ترى ال تعرتف مبا حل به‪ ،‬وبالن�سبة‬ ‫على �أمت �صورة‪ .‬الهدية التي تقدمها حياة دائم ًا هي ‬ ‫ّ‬ ‫لها ال يزال على حاله‪ ،‬بل ال يزال ما�ؤه �صاحل ًا لل�رشب‬ ‫الأوىل‪ ،‬ودائم ًا هناك من ينتظرها‪.‬‬ ‫كما كانت تعرفه يف �صباها‪.‬‬ ‫ق�صة �سيخ‬ ‫ ال�شباب ذهبوا وجلبوها يف �سيارة ثم حملوها يف‬ ‫ِ‬ ‫يوم‬ ‫قررت الذهاب �إىل العمرة �أخربت �سيدة البيت الذي حرام ليو�صلوها �إىل امل�ضافة لت�سهر و�إيانا‪ .‬فدنو �أجلها مل‬ ‫َ‬ ‫ال�سيدة‬ ‫مدة‪.‬‬ ‫�ستغيب‬ ‫أنها‬ ‫�‬ ‫فيه‬ ‫تعمل‬ ‫ال وطلبت يعد تهديد ًا مبقدار ما بات قرار يف حيز التنفيذ‪.‬‬ ‫قدمت ما ً‬ ‫ّ‬ ‫منها �أن تدعو يف بيت الله ب�شفاء �سيخ زوجها‪ .‬حياة بد�أت جدتي ب�سيطة وال تقول �أ�شياء ذات بال كاجلدات‬ ‫الدعاء فور ًا من فرحها باملبلغ الذي يغطي كل نفقات اللواتي يف�ضن حكمة‪ .‬هي بالكاد حتفظ ب�ضعة خراريف‬ ‫رحلتها‪ ،‬ثم �س�ألت ال�سيدة بقلق م�صطنع «و�أين الك�رس يف من تراث �أهلها‪ ،‬وبالكاد �أي�ض ًا تعرف �أحوال املا�ضي‪،‬‬ ‫ج�سم معلمي؟ ومتى و�ضعوا له ال�سيخ؟»‪ .‬ال�سيدة �صححت فطوال الوقت كان لديها ما ي�شغلها غري �أخبار النا�س‪،‬‬ ‫�أنها تق�صد بال�سيخ ع�ضوه الذكري وما من �سيخ‪ ،‬وما من لهذا ج�سدها يتكلم �أكرث منها‪ .‬تعبها حكمتها‪.‬‬ ‫ك�سور‪ .‬حياة ذهلت‪� .‬أعادت املال بال تردد وان�سحبت وعند فج�أة قالت‪« :‬حمكوم علينا بناء بيوت ال ن�سكنها»‪.‬‬ ‫الباب قالت بخ�شوع‪�« :‬أمام الله �س�أن�سى زب زوجي‪ ،‬فهل قالت هذا فقط‪ ،‬ثم �أردفت ب�أ�شياء غري مرتابطة عن رجل‬ ‫تريدين مني تذكر �أزباب النا�س؟»‪.‬‬ ‫�رشك�سي ن�صح والدها ب�أن ال يكمل بناء بيته يف البالد‪،‬‬ ‫ ولأن ال�شيء بال�شيء يذكر ربطت هذه احلكاية بحكاية و�أن عليه حت�ضري اجلِمال للم�سري القادم‪ .‬غمو�ض كالمها‬ ‫م�شابهة جرت معها يف فرتة الإميان التي حلّت عليها �آنذاك‪� ،‬أرغمني على �إج��راء م�سح ميداين مع العجائز الباقني‬ ‫ال �سيما بعد عودتها من العمرة‪ ،‬حيث التحقت ب�شيخة لأفهم املعنى الكامن يف هذه اجلملة‪.‬‬ ‫كر�ست يوم ًا لن�صح الن�ساء الكل اتفقوا على حكاية ذلك ال�رشك�سي‪ ،‬ون�صحيته‬ ‫لتل ّقي درو�س الدين‪ .‬ال�شيخة ّ‬ ‫ال‪ ،‬ف�سوى ال�سخرية التي قوبلت‬ ‫ب�إر�ضاء �أزواجهن ل ّأن يف هذا �إر�ضاء لله‪ .‬تلك الن�صائح لوالد اجلدة مل تلق با ً‬ ‫ق�ص احلجارة وتعمري البيت الذي ما �إن �صار‬ ‫�أ�صابت قلبها ال�صغري لتق�صريها الكبري مع زوجها يف بها‪ ،‬ا�ستمر ّ‬ ‫كل النواحي‪ ،‬وتدارك ًا للأمر بد�أت منذ و�صولها �إىل البيت جاهز ًا لل�سكنى حتى هجروه‪.‬‬ ‫بتدليله‪ .‬مل تعد ترتكه بال طعام‪ ،‬بل �إنها يف كل �ساعة ت�أتيه والد اجلدة �أ�صابه ندم مرير لي�س لأنه �أكمل بناء البيت‪،‬‬ ‫جتمع‬ ‫بك�أ�س �شاي‪� ،‬أو �صحن فواكه‪ ،‬وكلما �س�ألته عما يريد كان بل لأنه مل يهيئ جما ً‬ ‫ال للرحلة‪ .‬ومنذ و�صل �إىل �أول ّ‬ ‫جوابه الوحيد «� ِ‬ ‫مم�سكا‬ ‫أريدك يا حياتي»‪ .‬فتعطيه نف�سها وت�شعر لالجئني وحتى بد�أ االبناء يبنون بيوت ًا جديد ًة ظل‬ ‫ً‬ ‫يتحدث بل�سان �صديقه ال�رشك�سي ب�أال‬ ‫ال من طينة بخيمته‪ ،‬و�صار‬ ‫لكن رج ً‬ ‫ّ‬ ‫بالر�ضا �أكرث كلما مل�ست �سعادته‪ّ .‬‬ ‫زوجها الذي ال يعرف �شبع ًا �أخذها يف ذلك اليوم �سبع يبنوا بيوت ًا لأنهم �سريحلون �إىل � ٍ‬ ‫أرا�ض �أخرى‪.‬‬ ‫ال خمتلفة قبل ان ت�صل �إىل ما هي‬ ‫مرات‪ ،‬حتى �رصخت حني جاء يطلبها للمرة الثامنة‪« :‬حلّ �أخذت البيوت �أ�شكا ً‬ ‫عني‪ ..‬غ�ضب الله �أهون من هذا العذاب»‪.‬‬ ‫عليه الآن‪ .‬يف البدء كان اخليمة‪ ،‬ثم جاء االنتقال �إىل طور دور‬ ‫ يف تلك الليلة كانت للقنديل وحلياة ظالّن ناريان‪ ،‬الطني‪ .‬هذا الطور كان بحد ذاته بناء دائم ًا‪ ،‬فالبيوت الطينية‬ ‫حد �سواء‪.‬‬ ‫عقب كل مطر ٍة حتتاج �إىل ترميم‪ .‬ومل ي�سرتح الأهلون من‬ ‫فوق وجوهنا وفوق اجلدران‪ ،‬على ّ‬

‫ ت�أتي القدي�سة‪ ،‬هكذا ي�سمونها‪ ،‬مع �أنها �أقرب �إىل‬ ‫الزندقة يف حديثها وم�سلكها‪ .‬تكفر كثري ًا‪ ،‬ال تتوقف‬ ‫عن لعن الأدي��ان واال�ستغفار‪ ،‬تتباذ�أ‪ ،‬ت�رضب‪ ،‬نهرب‬ ‫منها‪ ،‬تلحقنا‪ ،‬ثم ن�سرت�ضيها خ�شية دعائها الذي ال‬ ‫يخيب‪ .‬مر ًة دعت على �أمريكا �أمام �أهل احلارة وحدث‬ ‫يف اليوم التايل ذلك امل�صاب اجلبار الذي يعرفه العامل‬ ‫با�سم «‪� 11‬أيلول»‪ .‬القدي�سة يف تلك الفرتة �أعلنت براءة‬ ‫«تنظيم القاعدة»‪ ،‬وبراءة �أ�سامة بن الدن‪ ،‬و�أنها وحدها‬ ‫امل�س�ؤولة م�س�ؤولية كاملة عن كل ما جرى‪ ،‬كما �أنها على‬ ‫ا�ستعداد ملواجهة جورج بو�ش االبن بذلك‪.‬‬ ‫ع��واد قذيفة‬ ‫ يف �آخ��ر نومة لأب��ي خلدون �أطلق ّ‬ ‫�ستطغى من قوتها بني النا�س‪ ،‬يف اليوم التايل‪ ،‬على خرب‬ ‫اال�شتباك الذي �أودى بكثريين من احلاجز الع�سكري‬ ‫عواد ب�أخته الكبرية‬ ‫القريب‪ .‬بفخرٍ ممزو ٍج بالزهو �أ�شاد ّ‬ ‫لكن الزكام جعله‬ ‫التي ربت �أوالده��ا �أف�ضل تربية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يلفظ احلروف مدغم ًة عندما با�رش بك�شف ال�رس‪�« :‬أختي‬ ‫مت�سك زباب الأمور»‪.‬‬ ‫ا�ستلمت حياة ال�سوالف بعبقرية يف ليلة مزدحمة بالرواة‪.‬‬ ‫ ‬ ‫ْ‬ ‫الكل يناف�س الكل على ا�ستالم دفة احلكي والإبحار يف‬ ‫تلونت ظاللنا فيها من �شغف الكالم‪.‬‬ ‫�أمواج امل�ضافة التي ّ‬ ‫كنت �أرى اللون ين�صع يف ظلّ الراوي الأبرع‪ .‬ظالل حمراء‬ ‫ُ‬ ‫وخ�رضاء زرقاء‪ ،‬وظالل متتزج فيها الألوان‪.‬‬

‫‪6‬‬

‫فج�أة قـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالت‪:‬‬ ‫«حمكوم علينــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫بناء بيوت ال ن�سكنهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا»‪.‬‬

‫ �ساعدت حياة غريزتها يف املجاز‪ ،‬فعندما كان اجلميع‬ ‫يتناوبون حكايات �أحقر رجل يف املنطقة‪ ،‬ذهبت �إىل‬ ‫ِ‬ ‫متثيل �سوئه‪ ،‬يف حلظة ت�صعيد درامية‪ ،‬بامتالك اخلراف‬ ‫التي رباها �صفات ال�ضباع‪.‬‬ ‫ بعدها بد�أت يف فتح ملفاتها ال�رسية كما تفعل عاد ًة‪.‬‬ ‫روت لنا �أنه حني مات �أبوها غابت ت�سعة �أيام يف بلدة‬ ‫�أهلها‪ .‬غابت نا�سية بيتها و�أوالدها وزوجها‪ .‬ن�سيت كل‬ ‫�شيء �إال حزنها‪ .‬يف اليوم الذي عادت فيه كان الهياج‬ ‫‪5‬‬ ‫«حياة» الراوية‬ ‫قد �أكل خ�صيتي زوجها‪ ،‬فحاولت �إفهامه ب�أنها مك�سورة‬ ‫تحَ‬ ‫ترتبع حياة‪ ،‬ب�سمرتها ال�شديدة القلب وال ت�ستطيع تلبيته‪ْ .‬ي َو َن وحاول اغت�صابها‬ ‫يف امل�ضافة الدميقراطية ّ‬ ‫ونحولها املخيف‪ .‬كانت ترق�ص يف الأع��را���س‪ ،‬متلأ فع�ضته وهربت �إىل غرفة و�أقفلت الباب‪ ،‬فمد ق�ضيبه‬ ‫املجال�س بنكاتها اجلن�سية‪ ،‬وتتندر بكل �شيء‪ .‬جميئها يائ�س ًا وهو ي�رصخ‪« :‬ع�ضوي يريد تعزية ع�ضوك لي�س‬ ‫نوع من النعمة يف هذا الوقت‪.‬‬ ‫�إال‪ ،‬ال تقفي �ضد الواجب يا ابنة النا�س‪.»!!..‬‬

‫ ‪ 116‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ ‪ 117‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬


‫مر به رجل وعلمهم طريقة �أكرث‬ ‫ور�شات ال�شتاء �إال حني ّ‬ ‫ور�شه بالرمل‬ ‫ال ّ‬ ‫عملية‪ ،‬حيث و�ضع فوق جدران الطني غربا ً‬ ‫املعالج باملاء والكل�س‪ .‬ظل هذا حتى و�صلنا �إىل ع�رص‬ ‫اخلر�سانة‪ ،‬فحدثت عملية �إعمار �شاملة‪ .‬ويف احلقب الأخرية‬ ‫حدثت عملية �إعمار حتولت خاللها البيوت �أبنية طابقية‪.‬‬ ‫ الأهلون ظلوا يبنون بيوت ًا ال ي�سكنونها‪ .‬فال�سكن فيها‬ ‫م�ؤقت‪ .‬يف القدمي كان يقال �سنعود �إىل البالد‪ ،‬ويف الوقت‬ ‫متفجر حتويل تعب الأيام �إىل كومة‬ ‫الراهن ب�إمكان برميل‬ ‫ّ‬ ‫ال‪.‬‬ ‫رح ً‬ ‫رمل‪ ،‬كما ب�إمكان معركة �أن جتعل ال�سكّ ان بدو ًا ُ‬ ‫مبنية للغياب‪ ،‬ونحن‬ ‫ يف علم نحو املخيم‪ :‬املنازل ّ‬ ‫مبنيون للمجهول‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ ظل العامل يحاول �إقناع �أدمغتنا العنيدة �أن البيت‬ ‫احلقيقي هو القرب والباقي حمطات لي�س �إال‪ ،‬ومل نكن‬ ‫لنقتنع ب�أقل من حرب‪.‬‬ ‫ والد جدتي ظل معت�صم ًا بعمود خيمته ال لأنه �سيعود‬ ‫�إىل بيته الأول‪ ،‬بل ليعطي نبوءة ال�رشك�سي ما حتتاجه‪.‬‬ ‫ �س�ؤال �أخري �أ�س�ألكم �إياه‪ ،‬فالأهل هنا يقولون يل «ال نفهم‬ ‫على ربك» وي�شيحون عني‪« :‬هل ال�رشك�سي هو ميلكياد�س‬ ‫الغجري يف «مائة عام من العزلة»؟ هل لدى �أحد من �أبناء‬ ‫املخيم �صحائف �سحرية كالتي تركها ذلك الغجري لأعرف‬ ‫هل العا�صفة التي تعلن �سيادتها على العامل هي العا�صفة‬ ‫ذاتها التي حمت «ماكوندو» من الوجود؟»‪.‬‬

‫‪7‬‬

‫ال�صمت هو اخلطر االكرب‬ ‫جعلت العا�صفة ال�صباح رمادي ًا‪ .‬لطاملا �أطنبت يف مديح هذا‬ ‫ال‪ ،‬لكن الآن ال‪ ،‬ما من‬ ‫اجلو‪ ،‬حني يطول ال�صباح يوم ًا كام ً‬ ‫جمال بعد للبحث عن جماليات �أمام برد يتجلى بهيئة ٍ‬ ‫قاتل‬ ‫خنجري‪ ،‬ال يهم �إن كان من احل�شا�شني �أو حرا�س الهيكل‬ ‫�أو ال�شبيحة‪ ،‬املهم �أن القتلة ي�صريون واحد ًا‪ .‬هذه العا�صفة‬ ‫�إرهاب‪ .‬هذا الثلج تكفريي �أ�صبحنا يف �سجن ٍ‬ ‫كامل الإغالق‪،‬‬ ‫مل يذهب �أحد �إىل عمله وال جللب حاجيات البيوت‪ .‬ما من‬ ‫ال‪ ،‬و�إن وجدت فما من ٍ‬ ‫مال يكفي ل�رشائها‪،‬‬ ‫حاجيات �أ�ص ً‬ ‫وفوق هذا جنرب اجلوع عن ٍ‬ ‫كثب‪ ،‬وجنرب بالقذارة �أي�ض ًا‪ .‬ال‬ ‫خبز‪ ،‬ال ماء‪ ،‬ال لكهرباء‪ ،‬والق�صف متوا�صل‪ .‬مع كل قذيفةٍ‬ ‫يقفز الطفل �إىل حجر �أمه يف اللحظة التي تفكر فيها بحجرٍ‬ ‫تقفز �إليه‪ ،‬فرتاها تت�شبث به بقوة خوفها‪ ،‬ال بالقوة التي‬ ‫يطلب منها احلماية والأمان‪ .‬الأمر يومي والرعب طبيعي‪.‬‬ ‫هذا �صحيح‪ ،‬لكن العا�صفة توقظ يف الإن�سان خوف ًا �أكرب‬ ‫من ذلك الذي تخلفه احلرب التي ت�صبح عادية مع الوقت‪.‬‬

‫ ‪ 118‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫الربد قتل حتى الف�ضول‬ ‫العا�صفة تن�ضح منا خوف ًا بكر ًا مل تتدرب القلوب على‬ ‫�إيقاعه‪.‬‬ ‫ ق�صفان �إذ ًا‪ .‬ق�صف الطبيعة وق�صف اجلي�ش‪.‬‬ ‫ قال رجل حم�صي �أ ِل َف �أ�صوات االنفجارات �إنه يطمئن‬ ‫�إىل توتر الو�ضع‪ ،‬ي�أمن اللحظة العاتية ‪ ،‬فهكذا يكون كل �شيء‬ ‫على ما يرام ‪ ،‬اخلطر الكبري هو �صمت اجلو‪ .‬الليلة ال�صامتة‬ ‫هي ليلة قلق‪ .‬رمبا تخفي مداهمات‪ .‬املداهمات تنتهي �إىل‬ ‫ال ما للحياة‬ ‫جمزرة �أو �إعدامات ميدانية‪ .‬ال�صخب يبقي احتما ً‬ ‫فقد تخطئك القذيفة‪ ،‬قد تتوه عنك الر�صا�صة لكن ال�صمت‬ ‫موت‪ .‬من ي�ستطيع النوم وهو �أنه �سيموت؟ الرجل احلم�صي‬ ‫الغائب منذ �سنة يف اعتقال غام�ض نقل �إلينا الأحداث‬ ‫التي �شهدها حيه‪ ،‬حي «بابا عمرو »‪ ،‬ومنذها �أراقب تكرار‬ ‫الق�ص�ص يف ن�سخ ال تتوقف‪ .‬الرجل احلم�صي فاته �أن ي�شهد‬ ‫اجتماعا للحرب والعا�صفة ليقول ما ميكن �أن يفيدنا‪ ،‬هذا غري‬ ‫�أنه مثل جميع احلما�صنة بارع يف حتويل الرتاجيديا كوميديا‪.‬‬ ‫ال‬ ‫الربد قتل حتى الف�ضول‪ .‬منذ مدة‬ ‫�شاهدت يف املخيم ف�ضو ً‬ ‫ُ‬ ‫املخيم مكان ف�ضويلّ؟‬ ‫مل �أ�سمع عنه يف مكان هل ّ‬ ‫ �أت�ساءل ل ّأن اال�شتباك الذي يدور منذ ال�صباح على‬ ‫ال�شارع العام‪� ،‬أول املخيم‪ ،‬مل مينع الأهايل من التجمهر على‬ ‫طول الطريق‪ ،‬وعلى �سطوح املنازل‪ ،‬لرياقبوا النار ويعدوا‬ ‫�صليات الر�صا�ص ويتباروا يف ت�سمية الآليات الع�سكرية‪.‬‬ ‫ �أهو ف�ضول �أم طي�ش؟‬ ‫الع�ساكر �أطلقوا �أك�ثر من م��رة باجتاه النا�س‬ ‫ ‬ ‫لتفريقهم‪ ،‬فالبع�ض مل يبق �أمامهم �إال �أن يقعدوا فوق‬ ‫الدبابة‪ .‬علمتنا �صفحات الإنرتنت طرق ال�سالمة‪،‬‬ ‫التلفزيونات مل تتوقف عن بث الإر�شادات‪ ،‬القادمون‬ ‫من املناطق املنكوبة حملوا خرباتهم يف الوقاية �إلينا‪،‬‬ ‫لكن �أهل املخيم بدوا غري مبالني ب�شيء من هذا‪ ،‬فالكبار‬ ‫ّ‬ ‫وال�صغار‪ ،‬الرجال والن�ساء‪ ،‬كلهم يف اخلارج على مقربة‬ ‫من املعركة‪ ،‬ال يفعلون �شيئ ًا �سوى النظر بكراهية �إىل‬ ‫اجلنود وال�ضباط‪ ،‬بطريقة ال حتتاج �إىل ترجمة‪.‬‬ ‫حاولت �أن �أ�س�أل �أكرث من �شخ�ص و�شخ�صة عما‬ ‫ ‬ ‫ُ‬ ‫يفعلون هنا؟ الكلّ �أجابوا �إنهم هنا لأن الآخرين هنا‪ ،‬مع‬ ‫ذلك حني عاد بع�ض الآخرين مل يعد بع�ض �آخرِ الآخرين‪،‬‬ ‫لي�ستقيم التعليل ب�أنها جمرد عدوى‪.‬‬ ‫ يقال �إنهم يف غزة على هذا احلال‪ .‬رمبا كان الف�ضول‬ ‫مر�ض ًا فل�سطيني ًا‪� ،‬أعرا�ضه الوا�ضحة الذهاب �إىل املوت‬ ‫قبل �أن ي�أتي‪!..‬‬ ‫ املخيم مكان ف�ضويل؛ ل ّأن العيون مادة �صناعته الأوىل‪.‬‬

‫«باب الشمس»‬ ‫كل هذه الرومانسية!‬ ‫عالء حليحل‬ ‫كاتب فلسطيين‬

‫‪� 1‬شارع رقم ‪� 6‬أو‬ ‫ ‬ ‫«عابر �إ�رسائيل»‬ ‫يقطع فل�سطني‬ ‫التاريخية من‬ ‫ال �إىل ما‬ ‫جميدو نزو ً‬ ‫بعد القد�س‪ ،‬وهو‬ ‫مير يف معظم �أجزائه‬ ‫ّ‬ ‫مبحاذاة جدار‬ ‫الف�صل العن�رصي‬ ‫�شيدته‬ ‫الذي ّ‬ ‫�إ�رسائيل كرمى‬ ‫لعني جابوتن�سكي‬ ‫احلديدي»‪.‬‬ ‫و«اجلدار‬ ‫ّ‬ ‫منه ميكن اخلروج‬ ‫متتد‬ ‫�إىل �شوارع ّ‬ ‫كالأخطبوط يف‬ ‫ج�سد ال�ضفة‬ ‫الغربية املحتلة‪.‬‬

‫ ‪ 119‬‬

‫‪1‬‬

‫هكذا تكون العودة �إذ ًا‪ ،‬بخيام جديدة‪ .‬خيام هي النقي�ض‬ ‫املرة هم الذين‬ ‫للخيام التي اعتادها الفل�سطينيون‪ .‬هذه ّ‬ ‫ومت�سكوا بها‪ .‬لي�ست خيام «الأون��روا» ولي�ست‬ ‫ن�صبوها ّ‬ ‫خيام ًا على طراز «ب�يروت خيمتنا»‪ .‬فل�سطني خيمتنا‬ ‫ونت�شبث ك� ّأن الروح تطلع‬ ‫نتم�سك بها‬ ‫(و�شكر ًا لبريوت)‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫منها وك� ّأن الروح تعود �إليها‪.‬‬ ‫ منذ مبادرة «باب ال�شم�س» و«الكرامة» ارتفع من�سوب‬ ‫الفل�سطيني‪ .‬النقا�شات والكتابات‬ ‫الرومان�سية يف احلَراك‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫و�ضاجة بالفرح‪ .‬ك�أننا‬ ‫رومان�سية‬ ‫كلها‬ ‫وال�ستاتو�سات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ننتقم من خيامنا ال�سابقة‪ ،‬نقتلها على مذبح اخليام اجلديدة‪.‬‬ ‫حب يف‬ ‫ّني ٌف من ال�صبايا وال�شباب ي�رضبون جذور ًا من ّ‬ ‫ُنهك من اجلذور‪ُ .‬منهك من جذور حبيبة‬ ‫ج�سد فل�سطني امل َ‬ ‫انقلعت ومن جذور حديدية باردة ُتغر�س فيها بالقوة‪،‬‬ ‫ي�سمونها يف العلوم غري الدقيقة باال�ستعمار‪� .‬أما يف‬ ‫رد‬ ‫التحليالت ال�سيا�سية‬ ‫في�سمونها «اخلروج من دائرة ّ‬ ‫ّ‬ ‫الفعل �إىل الفعل»‪� .‬إنها رحلة رومان�سية بالأ�سا�س‪ ،‬رغم‬ ‫�رسية‪ُ ،‬ر�سمت يف غرف مليئة‬ ‫�أنها تبدو نتاج ًا خلطة عملية ّ‬ ‫الدخان والنوايا اجليدة‪ .‬هذه رحلة من نقي�ضك‬ ‫ب�سحب ّ‬ ‫كفل�سطيني‪ ،‬من �أطراف الي�أ�س‬ ‫كفل�سطيني �إىل نقي�ضك‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫�إىل �أطراف الأمل‪ ،‬وبينهما �أطياف ال تنتهي من �ضو�ضاء‬ ‫«احللول ال�صحيحة» و«املقاربات العملية» و«الثوابت التي‬ ‫ورد‬ ‫ال تتزعزع»‪ .‬بني هذا النقي�ض و�أخيه النقي�ض (الفعل ّ‬ ‫الفعل) توجد جمموعة من الفل�سطينيني خرجوا �صباح ًا‬ ‫من بيوتهم ومزقوا بطاقات الإعانة (رمزي ًا)‪ .‬الإعانة املهينة‬ ‫ٍ‬ ‫�ستجد بائ�س‪ .‬ترف�ضها‪ ،‬وتقول (جماز ًا)‪:‬‬ ‫حتولك �إىل ُم‬ ‫التي ّ‬ ‫�أنا من �سيعطي بطاقات الإعانة منذ اليوم‪.‬‬ ‫مير‬ ‫فل�سطني‬ ‫ج�سد‬ ‫ امل�سافر بني احلديد البارد يف‬ ‫ّ‬ ‫ي�شد‬ ‫على �أ�سطح القرميد يف امل�ستوطنات ويربد مثلها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫الكنزة على ج�سده املت�ش ّنج‪ .‬تنزل من «�شارع ‪ 1»6‬وتبد�أ‬ ‫امل�سري نحو رام الله عرب بري زيت‪ .‬امل�ستوطنة «حلمي�ش»‬ ‫جت�سد اخليمة البغي�ضة بل�سانها ال�شائك املمدود �إليك‬ ‫ّ‬ ‫ُتوجة‪ .‬ت�سري بني �أكوام‬ ‫مل‬ ‫ا‬ ‫غري‬ ‫العا�صمة‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫الطريق‬ ‫يف‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستوطنني وتزكم �أنفك رائحة الغربة والنفور‪ .‬فل�سطني‬ ‫متر بني احلديد البارد املنغر�س يف تربتها‬ ‫كريهة حني ّ‬ ‫الزيتونية‪ .‬على عك�س رائحة «باب ال�شم�س»‪.‬‬ ‫ من �أين جئتم يا �أحباء؟ هل كنا بحاجة �إىل �سنني‬ ‫طويلة من ال�ضياع والت�سليم والرك�ض وراء ال �شيء‬ ‫تقرروا � ّأن امل�شكلة فينا بالأ�سا�س؟ مل تكن «�ضيعة‬ ‫كي ّ‬ ‫باب ال�شم�س» ُلتولد بهذه الرومان�سية لو مل يكن الو�ضع‬ ‫در�س يف الزراعة‪ :‬قطعة �أر�ض‬ ‫خمزي ًا �إىل هذه الدرجة‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫عط�شى‪ ،‬معول وطورية‪ ،‬ب�ضع خيام رخي�صة‪ ،‬هتافات‬ ‫فم‬ ‫عنيدة‪ .‬هذا كلّ ما حتتاج �إليه كي تغر�س زغرودة يف ٍ‬ ‫فل�سطيني عطب‪ .‬نعم‪ ،‬و�شهران من ال�شم�س الدافئة‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫ �أر�أيتم؟ كلّ هذه الرومان�سية اجلديدة مل تكن لوال كلّ‬ ‫هذا اخلراب‪.‬‬

‫‪2‬‬

‫تحُ‬ ‫طرد والثانية‬ ‫ّ‬ ‫�صبيتان يف مركز ال�صورة‪ .‬واحدة َمل كي ُت َ‬ ‫ت�رصخ كي تبقى‪ .‬امر�أتان فل�سطينيتان ال تعرتفان بالتق�سيمة‬ ‫التاريخية البغي�ضة‪ :‬الن�ساء للبكاء على ال�شهداء والرجال‬ ‫ال�سجن‪ .‬كم ا�شتقنا �إىل مثل هذه ال�صورة‪.‬‬ ‫لال�ست�شهاد �أو ّ‬ ‫كم كانت االنتفا�ضة الأوىل رومان�سية (نتح�سرّ الآن)‪.‬‬ ‫حينها اعتقلت �إ�رسائيل رجالَ الوطن و�شبابه‪ّ ،‬‬ ‫تنظمت‬ ‫ن�سا�ؤه يف جمعيات وحركات �شعبية و� َأد ْر َن �ش�ؤون البلد‬ ‫والن�ضال‪ .‬مل يكن «اجلهاد» وقتها قد ا�ستبدل «الن�ضال»‪،‬‬ ‫«الفدائي» من �أمام عد�سات‬ ‫«اال�ست�شهادي» طرد‬ ‫ومل يكن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الكامريا‪ .‬كنا �شعب ًا فدائي ًا‪ ،‬نتجا�رس على الطائرات النفاثة‬


‫�سجيل‪ .‬ثم احتار الفيل‪.‬‬ ‫والدبابات ونطلق احلجارة من ّ‬ ‫كيف ال يحتار وهو ال يقوى على �سحق انتفا�ضة غزيرة‪،‬‬ ‫احلد؟‬ ‫حجرية‪ ،‬رجالية ون�سائية‪ ،‬طبيعية �إىل هذا ّ‬ ‫�صبيتان تفرت�شان الأر���ض التي جاءتا لإطعامها‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫تفاحة‪ .‬قد تكون تفاحة جوالنية‪ ،‬من اجلوالن ال�رشيك‬ ‫(ال�شقيق) يف االحتالل‪ .‬وقد تكون تفاحة جليلية منت‬ ‫عند �سفح اجلرمق الوحيد البعيد‪ .‬لكنها تفاحة حمراء‬ ‫الدب ال�صغري‬ ‫مثلنا‪ .‬حمراء مثل دمائنا وحمراء مثل‬ ‫ّ‬ ‫الذي ُيربك النا�س يف عيد الع�شاق‪.‬‬ ‫منذ مبادرة «باب ال�شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم�س»‬ ‫الرومان�سيـــــــــــــــــــــة‬ ‫و«الكرامة» ارتفع من�سوب ّ‬ ‫الفل�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــطيني‪.‬‬ ‫يف احلَراك‬ ‫ّ‬ ‫كـ�أننا ننتقم من خيامنا ال�ســــــــــــــــــــــــــــــــابقة‪،‬‬ ‫نقتلها على مذبح اخليـــــــــــــــــــــــــــــــــام اجلديدة‬ ‫ «باب ال�شم�س» و«الكرامة» �أعادتا الن�ساء �إىل مركز‬ ‫احلدث‪ ،‬ف�أزهرت فل�سطني من جديد‪ .‬فل�سطني ُتك�شرّ‬ ‫�إذا ا�ستحوذ عليها الرجال‪ .‬خ�صو�ص ًا �أننا م�شغولون‬ ‫بال�ش�ؤون «الكبرية» وال وقت لنا لل�ش�ؤون «ال�صغرية»‬ ‫مثل مكانة املر�أة وحياتها وم�ستقبلها (و�إياكم والفتنة‪ ،‬يا‬ ‫�أذيال الإمربيالية‪ ،‬والإ�سالم ين�صف املر�أة واملر�أة تن�صف‬ ‫الإ�سالم‪ ،‬وفل�سطني م�سلمة‪� ،‬أر�ض وقف‪ ،‬فزغردن يا ن�ساء‬ ‫وفرخن م�شاريع �شهداء‪ ،‬في�أجوج وم�أجوج على‬ ‫َ‬ ‫واحبلن ّ‬ ‫الباب)‪ .‬هكذا‪ ،‬تعيد قريتان �صغريتان رومان�سيتان الورد‬ ‫خدي فل�سطني ال�شاحبة‪ ،‬وت�صري �رصخة املر�أة �رشط ًا‬ ‫�إىل ّ‬ ‫مترد مثري على‬ ‫�رضوري ًا‬ ‫ّ‬ ‫لنمو الزغرودة بني �أبجديتنا‪ّ .‬‬ ‫مترد يف�ضح كم عورتنا �صوت يف �صوت‪.‬‬ ‫«�صوتها عورة»‪ّ .‬‬

‫‪3‬‬

‫املحاولة الثانية كانت �أقلّ رومان�سية يف الت�سمية‪ :‬قرية‬ ‫والتحدي‪ .‬حتى الغرف‬ ‫الكرامة‪ .‬قفزة وا�ضحة يف الت�سميات‬ ‫ّ‬ ‫نب باحلجارة املُرجتلة‪ ،‬بل باللبنات الإ�سمنتية‪.‬‬ ‫امل�ؤقتة مل ُت َ‬ ‫ك�أ ّننا �سنبقى حتم ًا رغم �أننا عائدون‪ .‬عائدون �إىل �أين؟‬ ‫إ�رسائيلي ال يفهم هذه‬ ‫نع ْد منه‪ .‬ال‬ ‫�إىل املكان الذي مل ُ‬ ‫ّ‬ ‫ترويت يا‬ ‫التعقيدات‪ .‬يقمع االثنتينْ بالهمجية نف�سها‪ .‬هال ّ‬ ‫جندي فتفهم املعنى‪ ،‬فتقمع ب�شكل خمتلف يليق بالتفاوتات‬ ‫ّ‬ ‫والإ�سقاطات؟ بني «باب ال�شم�س» و«الكرامة» اختالفات يف‬ ‫الداللة وال�سياقات‪ .‬املحاولة الثانية تختلف عن الأوىل‪ .‬ال‬ ‫ميكن الربط بينهما �إال جزاف ًا‪� .‬ستقول � ّإن «الكرامة» مل تتعلّم‬

‫ ‪ 120‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ ‪ 121‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬


‫من خط�أ «باب ال�شم�س» و�سنقول لكم‪« :‬باب ال�شم�س»‬ ‫تعلمت من «الكرامة»‪ .‬ال تفهم �أيها‬ ‫اجلندي؟ �صعبة‪ .‬تعالَ‬ ‫ّ‬ ‫نحاول �صياغتها من جديد‪ :‬رغم � ّأن «باب ال�شم�س» �سبقت‬ ‫«الكرامة» �إال � ّأن الكرامة علّمت باب ال�شم�س‪ .‬فهذه ال‬ ‫�سيان‪ .‬هل‬ ‫ت�سبق هذه وتلك ال ت�أتي بعد تلك‪ ،‬واالثنتان ّ‬ ‫فهمت؟ ال مل تفهم‪� .‬ألهذا ال�سبب ت�رضب بال هوادة؟ ولكنك‬ ‫لن ت�صيب القرية الثالثة التي نبتت حتت اجلاكيت ال�سوداء‬ ‫ال�سوداوين‪.‬‬ ‫التي تلب�سها ال�صبية التي تقتلك الآن بعينيها‬ ‫ْ‬ ‫بيدور‬ ‫عدوك ّ‬ ‫هل علّموك ما الكحل وكيف يكون («يا خويف ّ‬ ‫عليك‪ /‬حلُطك يف عيني‬ ‫واتكحل عليك»)؟‪ 2‬مل يعلموك؟ �إنه‬ ‫ّ‬ ‫وقتلت به �أمي �أبي‪« ،‬باب ال�شم�س» و»الكرامــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة»‬ ‫قتلت به جدتي جدي‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫�سالحنا ال�سرّ ّي‪ْ .‬‬ ‫تتدرب على انتقال الذّ اكرة من جيل مل يعِ ْ�شــــــــــــــــــــــــــــــها‬ ‫وقتلتني به حبيبتي‪ ،‬وابنتي ال�صغرية بد�أت‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫يعي�شهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫َ‬ ‫أيت؟ الكُ حل يف العينينْ ال ينهزم وال �إىل جيل لن‬ ‫�‬ ‫أر‬ ‫�‬ ‫به‪.‬‬ ‫حبيبها‬ ‫قتل‬ ‫َ‬ ‫رس يف «باب ال�شـــــــــــــــــــــم�س»‬ ‫(و�سينقلها)‪ .‬هذا ال� ّ‬ ‫وحتدثني عن الـ«�إف ‪»16‬؟‬ ‫ي�ست�سلم‪ّ .‬‬ ‫ ‬ ‫�شاب يتد ّف�أ قرب ِموقدة ُمرجتلة‪ .‬بع�ض احلطب الياب�س ملن كان يبحث جــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاهداً‬ ‫ٌ‬ ‫تطوع لإينا�سه ريثما ينتهي من بناء «حنجلته» ال�شقية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫نعرف‪.‬‬ ‫ال‬ ‫ما‬ ‫تعرف‬ ‫أنها‬ ‫�‬ ‫ك‬ ‫احلنجلة‬ ‫هذه‬ ‫ت�ضحك‬ ‫�ا‬ ‫�‬ ‫أراه‬ ‫�‬ ‫لري الفم‬ ‫يكفي‬ ‫أ�سود‬ ‫�‬ ‫مياه‬ ‫أنبوب‬ ‫�‬ ‫االرجتال‪:‬‬ ‫يرجتلون‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫شِ‬ ‫وال�شعر (وال� عر) وبع�ض معجون الأ�سنان‪.‬‬ ‫�أح�سدها‪ .‬تعرف لغة احلجارة‪ .‬تعرف كم طاغية هدمها وكم واليدين‬ ‫َ‬ ‫ال من الدماء �سالت عليها‪« .‬حنجلة» من الأحجار‪ .‬تعرفونها احلنجلة؟ حني تبنون �سور ًا‬ ‫�شيدها وتعرف كم رط ً‬ ‫طاغية ّ‬ ‫«حنجلتنا» الآن وهي ت�ست�سلم ملداعبة �أو غرفة �رسيعة ب�أحجار كل�سية بي�ضاء‪ ،‬تتما�سك فيها بينها‬ ‫لذلك ت�ضحك َ‬ ‫البني الطازج املبلول اخلارج من الفرن‪.‬‬ ‫الطني‬ ‫نجل الرجل‬ ‫بال�صمغ‬ ‫البدائي اجلميل‪ :‬تراب وماء‪ .‬يقولون‪َ :‬ح َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ذقنه‪� ،‬أي �شذّب �أطرافها حول وجهه كي تكون ذقن ًا مرتبة‪.‬‬ ‫ويقولون‪َ :‬حنجل �أبناء «باب ال�شم�س» الأر�ض‪� ،‬أي نك�شوا‬ ‫‪4‬‬ ‫احلافالت‬ ‫تربتها كي يخبئوا فيها ذاكر ًة من يافا �أو حيفا �أو �صفورية‪،‬‬ ‫يحظوا مبتعة عي�شها‪« .‬باب ال�شم�س» و«الكرامة» انتقال‬ ‫حافالت زرقاء داكنة‪ ،‬خ�رضاء زيتونية‪ ،‬مثل لون �رشطة مل‬ ‫ْ‬ ‫«حر�س احل��دود» الكريهة‪ .‬و�أخ��رى بي�ضاء‪ .‬و�سيارات الذّاكرة من جيل مل ِ‬ ‫يعي�شها (و�سينقلها)‪.‬‬ ‫يع ْ�شها �إىل جيل لن َ‬ ‫ال�رس يف «باب ال�شم�س» ملن كان يبحث جاهد ًا‪.‬‬ ‫ك�شاف ٌة �أ�ضوا�ؤها‪ .‬تنري الليل بخجل هذا‬ ‫ع�سكرية و�رشطية ّ‬ ‫ّ‬ ‫كي ال ترى النجوم عودة الدلعونا �إىل رق�صة البيت‪.‬‬ ‫«باب» و«كرامة»‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫خيام � ّأول الرق�ص «حنجلة»‪� .‬أول الرق�ص ٌ‬ ‫لونها �أبي�ض داكن ــ «بيج» ــ مت�سك بها حبال م�شدودة والرق�ص � ٍ‬ ‫أغان والأغاين ذاكرتنا‪.‬‬ ‫�إىل �صخور كبرية كي ال تفكر للحظة بالتحليق يف �سماء‬ ‫القد�س‪ .‬كيف نلومها �إذا فكّ ت قيدها وحلّقت‪ ،‬هذه اخليام‪ .‬حت�رضين ق�صيدة را�شد ح�سني‪« ،‬باالغاين»‪:‬‬ ‫حتدثها اخليام التي ولدتها عن بكاء الليل بني جنباتها؟‬ ‫�أمل ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫« باألغاين حرروين‪ ..‬باألغاين‬ ‫�أتعتقدون � ّأن اخليام معدومة الف�ضول‪ ،‬فال ترغب بر�ؤية‬ ‫ِّ‬ ‫رمسوين بدمي القاين‪ ،‬ىلع كل املباين‬ ‫ما بكى ه�ؤالء من �أجله؟ علم فل�سطيني يرتفع عالي ًا بني‬ ‫ّ‬ ‫خ‬ ‫ل‬ ‫اخليام‪ ،‬ير ّ‬ ‫كتبوين‪ ..‬صوين‬ ‫جت يف الريح ويرجتف مثل خاليا القبلة الأوىل‪ .‬من‬ ‫ّ‬ ‫وأذاعوا كل عمري وبالدي‬ ‫�صور امل�شهد؟ من �سمع حفيف الكنزة ال�صوفية بالقمي�ص‬ ‫ّ‬ ‫يف ثواين‬ ‫يل امل�شدود قبل القبلة الأوىل يف «باب ال�شم�س»؟‬ ‫الرجا ّ‬ ‫ّ‬ ‫مث‪ ...‬ملا اعتقلوين‪،‬‬ ‫العر�س‪ ،‬بعد ما‬ ‫حمملة ب�أبناء وبنات ُ‬ ‫ احلافالت تخرج ّ‬ ‫باألغاين اعتقلوين‪...‬‬ ‫�سحلون على �إ�سفلت القاهرة‬ ‫ي‬ ‫هناك‬ ‫وجروهم‪.‬‬ ‫ُ ّ‬ ‫ّ‬ ‫«�سحلوهم» ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫باألغاين »‪.‬‬ ‫ي�سحلونهم بجانب القد�س‬ ‫وهنا‬ ‫ناك؟)‬ ‫ه‬ ‫إيه‬ ‫�‬ ‫ل‬ ‫بتعم‬ ‫كانت‬ ‫ِ(ه ّيا‬ ‫ّ‬ ‫يجرونهم لأنهم يتحرجمون حول‬ ‫(ما الذي يفعلونه هناك؟)‪ّ .‬‬ ‫مرتا�صني وينظرون‬ ‫بع�ضهم البع�ض‪ ،‬يقعدون على الأر�ض‬ ‫ّ‬ ‫�إىل اجلنود وال�رشطيني بوقاحة جميلة‪ .‬ماذا تريدون؟ التقاط‬ ‫�ستحب‬ ‫ال�صور لنا؟ هل تر�سلها �إىل حبيبتك يف تل �أبيب؟‬ ‫ّ‬ ‫القوي الذي فيك و�ست�أخذ ذكورتك امللتهبة حني‬ ‫الرجل‬ ‫ّ‬ ‫تعود الليلة �إىل ح�ضنها الدافئ‪ .‬كيف تريدنا �أن جنل�س يف‬ ‫ال�صورة؟ هكذا؟ هل نتظاهر �أننا ن�رصخ؟ هل ن�رصخ «اذبح‬ ‫حتبون الت�سلي‬ ‫اليهود!» كي يكتمل م�شهد الفنتازيا الذي ّ‬ ‫به يف ليايل ع�شية «عيد اال�ستقالل»؟‬

‫‪« 2‬قطر الندى»‪،‬‬ ‫�سميح القا�سم‪.‬‬

‫ ‪ 122‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫‪ 122‬‬ ‫ ‬

‫هانس بلتنغ عن ابن الهيثم‪:‬‬ ‫فن الهنضة األوروبية والعلوم العربية‬ ‫ّ‬

‫�صونيا مي�شار االتا�سي‬

‫‪ 127‬أوسلو وطوابع الربيد الفلسطينية‬ ‫ ‬

‫نور ابو عرفة‬


‫الغربي‪ ،‬يف حني ان النظرية كما هي‬ ‫يف العلوم العربية تعينّ الدور الغالب‬ ‫ال�ص َور‬ ‫[يف الب�رص] لل�ضوء وحتيل ُ‬ ‫اىل عامل الذهن‪.‬‬ ‫مكر�س يف فنون‬ ‫ ان بلتنغ عالمِ‬ ‫ّ‬ ‫القرون الو�سطى والنه�ضة كما يف‬ ‫الفن املعا�رص‪ ،‬له ب��اع طويل يف‬ ‫م�ساءلة االخت�صا�ص االك��ادمي��ي‬ ‫ال��ذي يعمل فيه‪� ،‬أي تاريخ الفن‪،‬‬ ‫ويف النظر يف ما يتعدى ال�تراث‬ ‫الفني الغربي‪ .‬ففي كتابه «تاريخ‬ ‫الفن بعد احلداثية » (�شيكاغو‪/‬‬ ‫يكر�س ف�صال‬ ‫لندن ‪ )٢٠٠٣‬مثال ّ‬ ‫لـ«الفن ال�شامل واالقليات‪ :‬جغرافية‬ ‫جديدة لتاريخ الفن» حيث يتفح�ص‬ ‫نقديا م�صطلحات «الفن ال�شامل»‬ ‫و«الفن العاملي» حمذّر ًا من «م�ستقبل‬ ‫للثقافة العاملية تعود فيه [الثقافة‬ ‫الغربية] اىل االدع��اء �أن لها املوقع‬ ‫القيادي فيها»‪ .‬ذلك ان بلتنغ مدرك‬ ‫لل�سيا�سات التي يت�ضمنها االهتمام‬ ‫الغربي بالثقافات االخرى واالنبهار‬ ‫بها‪ .‬وه��و يعي �أي�ضا «املجازفات‬ ‫التي يرت ّتب عليها اجتياز احلدود‬ ‫بني فروع املعرفة» ويرى يف م�ؤلفه‬ ‫اجلديد ان هذه الفروع لي�ست تقت�رص‬ ‫على املناطق اجلغرافية املختلفة بل‬ ‫تتعداها اىل حقول البحث االكادميي‬ ‫املختلفة والعلوم الطبيعية والفنون‬ ‫واالن�سانيات‪ .‬فهل ان بلتنغ يتجاوز‬ ‫احل���دود م��ن حقل اىل �آخ���ر‪ ،‬حني‬ ‫يت�ساءل �ضمن ًا عن �سلطة حقل‬ ‫معينّ على مو�ضوعه؟ ام هو يف ّتح‬ ‫عيني القارئ على طرائق جديدة‬ ‫يف الدرا�سة املقارنة‪ ،‬وبالت�أكيد على‬ ‫متحدي ًا‬ ‫طرائق خمتلفة يف النظر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫املفهوم الغربي للتاريخ؟ حقيقة االمر‬ ‫ان كتاب بلتنغ ي�سري عك�س مفاهيم‬ ‫�سائدة للتاريخ على اعتباره يتخلى‬ ‫عن �سل�سلة من الت�أثريات حيث‬

‫هانس بلتنغ عن ابن الهيثم‬

‫فن الهنضة األوروبية والعلوم العربية‬ ‫ّ‬ ‫صونيا مياشر االتايس‬

‫يف كتاب هان�س بلتنغ «فلورن�سا‬ ‫وبغداد‪ :‬فن النه�ضة وال ِعلم العربي»‪،‬‬ ‫والذي ن�رش بداية باللغة الأملانية يف‬ ‫العام ‪ ٢٠٠٨‬و�صدر بعدها باللغة‬ ‫االنكليزية يف ال��ع��ام ‪،٢٠١١‬‬ ‫متثل فلورن�سا النه�ضة االيطالية‬ ‫بينما ترمز بغداد على احل�ضارة‬ ‫العبا�سية والعلوم العربية‪ .‬ينظر‬ ‫بلتنغ اىل ثقافتني خمتلفتني حتت‬ ‫ال�ص َور‪ .‬ويروي‬ ‫عنوان م�شرتك هو ُ‬ ‫‪perspective‬‬ ‫ان املنظور التخطيطي (‬ ‫)‬ ‫ي�ستند اىل نظرية ب�رصية يف العلوم‬ ‫العربية مبنية على الريا�ضيات‬ ‫والهند�سة‪ ،‬وه��ي نظرية مل تنقل‬ ‫الفل�سفة االغريقية القدمية اىل‬ ‫الغرب بوا�سطة الرتجمة وح�سب‬ ‫وثورتها‬ ‫وامن��ا بنت عليها اي�ضا‬ ‫ّ‬ ‫تثويرا جديدا‪ .‬يتجلى ذلك الأمر يف‬ ‫حالة احل�سن ابن الهيثم‪ ،‬املعروف‬ ‫يف الغرب با�سم ‪ ،Alhazen‬والذي‬ ‫دخل م�ؤلفه «كتاب املناظر» النه�ضة‬ ‫االيطالية من خالل ترجمة التينية‬ ‫يف القرن الثالث ع�رش وترك بعدها‬ ‫اثرا م�ستداما على الثقافة الغربية‪.‬‬ ‫وكما يبينّ بلتنغ‪ ،‬ف��إن نظرية ابن‬ ‫الهيثم يف الب�رصيات‪ ،‬كما روجتها‬ ‫النه�ضة االيطالية‪ ،‬جرى حتويلها‬ ‫اىل نظرية ُ�ص َور و�أر�ست اال�س�س‬ ‫للمنظور التخطيطي يف الفن‬

‫استاذة يف اجلامعة‬ ‫االمريكية يف‬

‫بريوت‪ ،‬لبنان‬

‫غالف‪:‬‬ ‫بلتنغ‪ ،‬هان�س‪،‬‬ ‫«فلورن�سا وبغداد‪:‬‬ ‫فن النه�ضة‬ ‫ِ‬ ‫والعلم العربي»‪،‬‬ ‫كامربدج‪ :‬مطبعة‬ ‫جامعة هارفرد‪،‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫‪Book Cover:‬‬ ‫‪Belting, Hans,‬‬ ‫‪Florence and‬‬ ‫;‪Baghdad‬‬ ‫‪Renaissance Art‬‬ ‫‪and Arab Science,‬‬ ‫‪Cambridge:‬‬ ‫‪Harvard University‬‬ ‫‪Press, 2011‬‬

‫ ‪ 124‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ ‪ 125‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫االق��وى ُي ِ‬ ‫خ�ضع «الآخ���ر» ويحول‬ ‫دوره اىل جمرد دور يف نقل االفكار‪.‬‬ ‫بدال من ذلك‪ ،‬يفرت�ض الكتاب وجود‬ ‫«تاريخ م�شرتك من اللقاءات قد‬ ‫جرى التعتيم عليها بوا�سطة حواجز‬ ‫اديولوجية �سميكة ن�صبها اال�ستعمار‬ ‫احلديث»‪ .‬يف ذلك التاريخ امل�شرتك‪،‬‬ ‫تقف فلورن�سا وب��غ��داد‪ ،‬وب��غ��داد‬ ‫وفلورن�سا‪ ،‬جنبا اىل جنب‪ُ ،‬تلهِ م‬ ‫الواحدة منهما االخرى وتتحداها‪.‬‬ ‫ ان بنية الكتاب ذات��ه��ا مبنية‬ ‫حول فلورن�سا وبغداد تقفان عند‬ ‫مرمى النظر‪ ،‬يف حماولة للتخل�ص‬ ‫من نظرات املركزية االوروبية اىل‬ ‫الثقافات االخ��رى‪ .‬ويف تفح�صه‬ ‫مل�صطلحات «املنظور التخطيطي»‬ ‫و«ال�شكل ال��رم��زي» ا�ضافة اىل‬ ‫ال�ص َور يف اال�سالم‬ ‫تفح�صه م�س�ألة ُ‬ ‫ّ‬ ‫يركز‬ ‫وال�سجاالت التي اطلقتها‪،‬‬ ‫بلتنغ على ابن الهيثم الذي ولد يف‬ ‫الب�رصة حوايل العام ‪ ٩٦٥‬ودر�س‬ ‫يف الب�رصة فبل ان ينتقل اىل القاهرة‬ ‫الفاطمية ال�ستكمال �أبحاثه‪.‬‬ ‫ يرينا بلتنغ كيف ان نظرية الب�رص‬ ‫[املناظر] عند ابن الهيثم ولدت يف‬ ‫بيئة ثقافية طغت فيها الريا�ضيات‬ ‫على الت�شكيل العمارة والفنون‪.‬‬ ‫فلم يعترب ابن الهيثم «ال�صور» على‬ ‫انها ن�سخ عن اال�شياء‪ ،‬كما يف علم‬ ‫الب�رصيات االغريقي املبني على‬ ‫فكر ار�سطو �أو على البحاث �أقليد�س‬ ‫وبطليمو�س‪ ،‬وامنا هو حلل ال�صور‬ ‫اىل نقاط �ضوء تت�شكل منها عرب�سة‬ ‫جتريدية ميكن احت�سابها بوا�سطة علم‬ ‫الريا�ضيات‪ .‬ثم ان ا ُ‬ ‫حلجرة املظلمة‬ ‫التي اكت�شفها ابن الهيثم �أر�ست‬ ‫اال�سا�س للـ«كامريا اوب�سكورا»‬ ‫االوروبية التي درج ا�ستخدامها يف‬ ‫القرن ال�سابع ع�رش‪ .‬وعلى الرغم‬ ‫من ذلك‪ ،‬يحاجج بلتنغ �أن النظرية‬

‫الب�رصية العربية حتولت اىل نظرية‬ ‫ُ�ص َورية‪ .‬وفيما النه�ضة االيطالية‬ ‫ظ ّلت متم�سكة بامليتافيزيقيا التي‬ ‫ترى �أن النور قوة كونية‪ ،‬يف حني‬ ‫ك��ان اب��ن الهيثم ينظر اىل النور‬ ‫مب�صطلحات فيزيائية كال�ضوء‪ .‬يف‬ ‫هذا ال�صدد‪� ،‬أمكن القليد�س‪ ،‬الذي‬ ‫عرفته النه�ضة االوروبية من خالل‬ ‫الرتجمات العربية‪ ،‬ان يحجب ابن‬ ‫الهيثم‪ .‬ويف �سعيهم لبعث الرتاث‬ ‫االغريقي‪ ،‬ا�ستحوذ فنانون‪ ،‬امثال‬ ‫ل��ورن��زو غ��ي�برت��ي‪ ،‬على النظرية‬ ‫وقدموها مبا هي‬ ‫الب�رصية العربية‬ ‫ّ‬ ‫جزء من الرتاث العتيق‪ ،‬وحموا دور‬ ‫ال‬ ‫العلوم العربية ور�سموا خطا متوا�ص ً‬ ‫ميتد من احلقبة الكال�سيكية االغريقية‬ ‫العتيقة اىل النه�صة االوروبية مبا‬ ‫يتما�شى مع النظرة ال�شاملة اىل‬ ‫العامل واحلياة البازغة مع والدة الدول‬ ‫القومية االوروب��ي��ة‪ .‬ولعل االكرث‬ ‫جذب ًا لالنتباه‪ ،‬يف بنية كتاب بلتنغ‬ ‫هو الـ«بليكفي�ش�سل» (‪)Blickwechsel‬‬ ‫الذي يجريه بني الثقافتني يف �آخر‬ ‫كل ف�صل من ف�صوله‪ .‬وميكن ترجمة‬ ‫مفردة «بليكفي�ش�سل» اىل االنكليزية‬ ‫مب��ا ه��ي «نقل ال�ترك��ي��ز» و«ت��ب��ادل‬ ‫النظرات » مع ًا‪ ،‬وقد احتفظت يف‬ ‫اللغة االملانية مبعناييها االثنني‪ .‬هكذا‬ ‫تناظرت فلورن�سا وبغداد بالنظرات‬ ‫املتعاك�سة‪ ،‬وباملقارنة بني الواحدة‬ ‫واالخ��رى‪ ،‬ولكن عانقت الواحدة‬ ‫منهما االخ���رى‪ ،‬كما يح�صل يف‬ ‫اللقاء بني عا�شقني‪.‬‬ ‫ واذا و�ضعنا النظرة الرومنطيقية‬ ‫جانبا‪ ،‬ف�إن بلتنغ يدرك متاما �رصاعات‬ ‫القوى ال�سيا�سية املت�ضمنة يف هذا‬ ‫التناظر‪ .‬ان املنظور التخطيطي ‪� ،‬إذ‬ ‫ا�ضحى اخرتاعا ت�صويريا خالل‬ ‫ّ‬ ‫ي�شكل «ثورة يف‬ ‫النه�ضة االوروبية‪،‬‬ ‫تاريخ النظر»‪ ،‬على حد‬


‫ وهكذا اخذ املنظور التخطيطي‬ ‫يلعب دورا �سيا�سيا‪� ،‬إذ اكت�سب‬ ‫طابعا معياري ًا و ُفرِ�ض فر�ضا على‬ ‫�شعوب لها ثقافات خمتلفة دافعا‬ ‫بطرائق النظر االخرى اىل غياهب‬ ‫الن�سيان‪« .‬ما من �شك»‪ ،‬يقول بلتنغ‪،‬‬ ‫«يف ان املنظور التخطيطي خدم‬ ‫عمده‬ ‫كاداة من ادوات اال�ستعمار‪ّ .‬‬ ‫االوروبيون الطريقة الطبيعية للنظر‪،‬‬ ‫واعتقدوا ان مثل هذه الواقعية امنا‬ ‫هي دليل التقدم الذي �سوف يجلب‬ ‫ِن َعم العامل احلديث اىل امل�ستعمرات»‪.‬‬ ‫هنا يقدم بلتنغ مثال النتاج ال�صيني‬ ‫املعا�رص عن الفن الذي ي�ؤكد‪ ،‬يف‬ ‫تالوته فعل النقد الذاتي‪ ،‬انه كما‬ ‫الفن الغربي وجد طريقة للخروج‬ ‫م��ن «الواقعية االل��زام��ي��ة» كذلك‬ ‫الفن ال�صيني «تبنى قواعد التم ُّثل‬ ‫املو�ضوعي مبا هي واجب الوجود»‬ ‫على انها عالمة من عالمات االزمنة‬ ‫احلديثة‪ .‬وما ي�صفه بلتنغ هنا بالن�سبة‬ ‫لل�رشق االق�صى قد جرى االعرتاف‬ ‫ي�سمى ال�رشق االو�سط‬ ‫به يف ما‬ ‫ّ‬ ‫حيث الكتابات عن الفن احلديث‬ ‫واملعا�رص يف العامل العربي ت�ستعيد‬ ‫�سمي «رواد الفن احلديث» يف‬ ‫ما ّ‬ ‫املنطقة كما كان احلال م�ؤخرا عندما‬ ‫فتحت اجلامعة االمريكية يف بريوت‬ ‫معر�ضها لزيتيات خليل �صليبي‪،‬‬ ‫وهي جمموعة قدمها بلفتة كرمية احد‬ ‫احفاد الفنان‪ ،‬وت�ضمنت عددا من‬ ‫لوحات العري ت�شهد على �سلوك‬ ‫الفنان درب تقاليد الفن الغربي حيث‬ ‫ي�صري اجل�سم الب�رشي مبا هو عالمة‬ ‫من عالمات حداثته‪.‬‬ ‫ �سابقا على تلك املراجعات‪،‬‬ ‫وقبل ان ت�ستطيع الكتابات عن‬ ‫ي�سمي «اطراف» مراكز‬ ‫الفن يف ما‬ ‫ّ‬ ‫القوة اال�ستعمارية القاء نظرة نقدية‬ ‫ذاتية ا�سرتجاعية اىل بداياتها‪ ،‬كان‬

‫ ‪ 126‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫تكر�س يف‬ ‫املنظور التخطيطي قد‬ ‫ّ‬ ‫الفهم مبا هو احلالة الوحيدة لل�شكل‬ ‫ال��رم��زي يف ع��امل الفن‪ ،‬وه��و فهم‬ ‫قد �إنبنى اىل حد كبري على كتاب‬ ‫�إروين بانوف�سكي «درا�سات يف علم‬ ‫االيقونات» (نيويورك ‪.)١٩٣٩‬‬ ‫ينتقد بلتنغ هذا الفهم حيث يقرتح‬ ‫النظر اىل املقرن�ص‪ ،‬بهند�سته الثالثية‬ ‫االبعاد‪ ،‬واىل امل�رشبية‪ ،‬النافذة املغطاة‬ ‫ب�شبكية حتجب النور‪ ،‬مبا هما �شكالن‬ ‫رمزيان يف الثقافة العربية‪� ،‬شبيهان‬ ‫بالت�صوير الزيتي ال�شبكي احلديث‬ ‫يف الثقافة الغربية‪ .‬ويبينّ امل�ؤلف ان‬ ‫وامل�رشبية خمتلفة‬ ‫هند�سة املقرن�ص‬ ‫ّ‬ ‫جذريا عن الهند�سة امل�ستخدمة يف‬ ‫الت�صوير الزيتي الغربي ال�شبكي‬ ‫ذلك انها ت�صفّي النظرة التي يتخذها‬ ‫املنظور التخطيطي مبا هي ال�صورة‬ ‫ذاتها‪ .‬فامل�رشبية بح�سب بلتنغ هي‬ ‫�شباك للنور ولي�ست �شباك للنظرة‪،‬‬ ‫وهي تعطي للنور تكوينه يف الف�ضاء‬ ‫الداخلي للمنزل ال��ذي هو مبثابة‬ ‫ال�شا�شة ال�سوداء للكامريا‪ .‬فاملنظور‬ ‫التخطيطي هنا يوجه ال��ن��ور من‬ ‫خالل هند�سة امل�رشبية اىل الف�ضاء‬ ‫الداخلي للمنزل‪ .‬وهنا ال تكون‬ ‫النتيجة لهذا املنظور ال�صورة التي‬ ‫نعرفها �أكرث �صفاء وجتريدية للنور‬ ‫القادم من اخلارج‪ .‬هنا يذكرنا بلتنغ‬ ‫ب ��أن م�س�ألة انتاج ال�صور لي�ست‬ ‫م�س�ألة تقنية فقط ولكنها ت�شري اىل‬ ‫ممار�سة اجتماعية اي�ضا‪.‬‬ ‫ ير�سم «فلورن�سا وب��غ��داد‪ :‬فن‬ ‫النه�ضة االوروبية وال ِعلم العربي»‬ ‫التحوالت الثقافية التي حدثت‬ ‫بني القرنني احل��ادي ع�رش وال�سابع‬ ‫ع�رش‪ ،‬م��ع ان��ه يف�سح يف املجال‬ ‫احيانا لإ�شارات اىل العامل املعا�رص‪،‬‬ ‫كما يف التمثيل بالفن ال�صيني‬ ‫املذكور اع�لاه‪ ،‬ويف �إ�شارته كذلك‬

‫اىل املعماري امل�رصي ح�سن فتحي‬ ‫الذي �أعاد �إدخال امل�رشبية يف العمارة‬ ‫احلديثة‪ .‬ويقدم «البليكفي�ش�سل» يف‬ ‫نهاية الف�صل االول ملحة �إ�ضافية‬ ‫مثرية تتخطى القرن ال�سابع ع�رش‬ ‫اىل االدب املعا�رص‪ .‬ي��ق��ر�أ بلتنغ‬ ‫رواية �أورهان باموك «ا�سمي �أحمر»‬ ‫(ا�سطنبول ‪ )١٩٩٨‬م��ن اجل‬ ‫ا�ستظهار فكرة املنظور التخطيطي مبا‬ ‫هي خيانة املرء لرتاثه الثقايف‪ ،‬م�شري ًا‬ ‫اىل الطابع الهجني لفن الت�صوير‬ ‫ال�شخ�صي العثماين الذي يتق ّلب‪،‬‬ ‫يف ت�صويره ال�سالطني العثمانيني‪ ،‬بني‬ ‫ادخال الواقعية الغربية واال�ستغناء‬ ‫عنها‪ .‬وميكن ان ن�ضيف هنا ان ذلك‬ ‫بعيد عن ان يكون جمرد ت�ضاد بني‬ ‫ابي�ض وا�سود؛ فاالحرى ان ما يطغى‬ ‫ٌ‬ ‫ظ�لال خمتلفة م��ن ال��رم��ادي‪،‬‬ ‫هنا‬ ‫كما تبينّ ثريا الفاروقي يف «رعايا‬ ‫ال�سلطان‪ :‬الثقافة واحلياة اليومية يف‬ ‫ال�سلطنة العثمانية» (لندن‪/‬نيويورك‬ ‫‪ )٢٠٠٠‬عندما ت�صف «ال�شجاعة‬ ‫واال�ستعداد لالختبار واملرونة‪ ،‬ولي�س‬ ‫اقل منها هذه كلها احلما�س اخلال�ص‪،‬‬ ‫التي يبديها الفنانون وجمهورهم يف‬ ‫ذاك امل�سار»‪.‬‬ ‫ ان كتاب بلتنغ العابر حلدود‬ ‫اجلغرافية واالخت�صا�صات من‬ ‫امل��وق��ع املميز مل��ن ي��درك ف�ضائل‬ ‫اخت�صا�صه‪ ،‬تاريخ الفن‪ ،‬بقدر ما‬ ‫هو حميط بنواق�صه‪ ،‬لكنه ميلك من‬ ‫الف�ضول وال�شجاعة ليتمكن من‬ ‫جت��اوز تلك النواق�ص‪ ،‬فال يكتفي‬ ‫ب�أن يقدم للقارئ ا�ستعرا�ضا لكيف‬ ‫جرى حتويل نظرية الب�رص العربية‬ ‫اىل نظرية ت�صويرية يف النه�ضة‬ ‫االوروبية‪ .‬انه يفعل اكرث من ذلك �إذ‬ ‫يعطي فكرة «اال�ستعداد لالختبار»‬ ‫التي يقدمها ال��وك�لاء الثقافيون‬ ‫ولكنهم غ��ال��ب��ا م��ا يطم�سونها‬

‫ ‪ 127‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬


‫بالرتكيز على الفوارق‪ ،‬فيح�رشون‬ ‫رشا يف حدود‬ ‫الإنتاج الثقايف ح� ً‬ ‫�ضيقة‪ ،‬بدال من الرتكيز على تاريخ‬ ‫اللقاءات امل�شرتك‪ .‬ان كتاب بلتنغ‬ ‫قراءه اىل الإثارة على جانبي‬ ‫يجذب ّ‬ ‫احل��دود اجلغرافية واالخت�صا�صية‪،‬‬ ‫فلورن�سا وبغداد‪ ،‬والعلوم الطبيعية‬ ‫والريا�ضيات‪ ،‬والفنون واالن�سانيات‪،‬‬ ‫ول��ه الف�ضل ‪ -‬ال��ن��ادر يف الكتب‬ ‫االكادميية ‪ -‬ب�أنك تقر�أه احيان ًا ك�أنك‬

‫تقر�أ ق�صة بولي�سية او رواية غرامية‪.‬‬ ‫واخريا لي�س �آخ��را‪ ،‬يتميز الكتاب‬ ‫مبادته الب�رصية الرثية واملتنوعة‬ ‫واملعرو�ضة على نحو جميل‪ ،‬وهي‬ ‫ت�تراوح بني التفا�صيل الهند�سية‬ ‫وال�سكت�شات والنماذج وملفوفات‬ ‫الر�سوم الهند�سية‪ ،‬واللوحات الزيتية‬ ‫ال�شبكية على القما�ش‪ ،‬واجلداريات‬ ‫النافرة‪ ،‬والر�سوم البيانية للمنظور‬ ‫التخطيطي‪ ،‬والكتب ع��ن الفن‬

‫واملنمنمات الزيتية‪ ،‬واالن�سجة‪،‬‬ ‫و���ش��ا���ش��ات ال��ن��واف��ذ‪ ،‬واالط��ب��ق��ة‬ ‫ال اىل‬ ‫واالو�سمة الربونزية‪ ،‬و�صو ً‬ ‫ورق��ة نقدية عراقية عليها �صورة‬ ‫ابن الهيثم‪ .‬وان جتميع كل هذه املواد‬ ‫الب�رصية بني دفتي كتاب ق��راءة‬ ‫ومرثية بذاتها‪ .‬وكل‬ ‫متحدية ومنع�شة ُ‬ ‫القيم‬ ‫الأمل �أن يرتجم هذا الكتاب ّ‬ ‫اىل العربية لأنه يف مكان ما ينتمي‬ ‫اىل هذه الثقافة‪.‬‬

‫أوسلو وطوابع الربيد الفلسطينية‬ ‫نور ابو عرفة‬

‫�صدر �أخري ًا عن م�ؤ�س�سة الدرا�سات‬ ‫الفل�سطينية كتاب بعنوان «تاريخ‬ ‫فل�سطني يف طوابع الربيد»‪ ،‬ملجموعة‬ ‫نادر خريي الدين ابو اجلنب‪ .‬ت�شمل هذه‬ ‫املجموعة طوابع �صادرة من فل�سطني‬ ‫واخرى من دول اخرى عن فل�سطني‪.‬‬ ‫ مبقارنة طوابع يراوح عمرها بني‬ ‫‪ 40‬و ‪ 60‬عام ًا مع طوابع اخرى‬ ‫ال يتجاوز اق��دم طابع فيها ‪16‬‬ ‫عام ًا‪ ،‬هناك فرق مثري يف م�ضامني‬ ‫الأحداث التي ت�صورها هذه الطوابع‬ ‫بالرغم من �أن االحتالل نف�سه اليزال‬ ‫موجود ًا و التهويد اليزال م�ستمر ًا‪.‬‬ ‫ بعد عقد اتفاقية او�سلو واالعرتاف‬ ‫ب�سلطة فل�سطينية‪ ،‬ا�صبح من مهام‬ ‫ال�سلطه الفل�سطينية ا�صدار طوابعها‬ ‫اخلا�صة بال�رشوط اخلا�صة بـ«الدولة‬ ‫اال�رسائيلية»‪ ،‬وهذا واحد من ادق‬ ‫التفا�صيل التي تدخلت بها او�سلو‬ ‫على الرغم انه من اهم التدخالت‬ ‫التي ت��ؤدي اىل التالعب يف توثيق‬ ‫التاريخ الفل�سطيني‪ ،‬حيث �إنه من‬ ‫ال�رشوط التي ُتخ�ضع «ا�رسائيل»‬ ‫الربيد الفل�سطيني لها‪ ،‬هو عدم‬ ‫ال�سماح بتوقيع الطابع ب�أ�سم فل�سطني‪،‬‬ ‫وال بال�سلطة الوطنية الفل�سطينية بل‬ ‫بال�سلطة الفل�سطينية‪ .‬ومن املعروف‬ ‫ان اول طابع قامت ال�سلطة ب�أ�صداره‬ ‫كان موقع ًا با�سم ال�سلطة الوطنية‬

‫فنانة برصية يف‬

‫الواسئط المتعددة‬

‫التخصصات‪ .‬اشركت‬ ‫يف عدة مبادرات يف‬

‫القدس (‪ )٢٠١٠‬ويف‬ ‫معرض «االستوديو‬ ‫المفتوح» يف مركز‬ ‫خليل السكاكيين‬ ‫الثقايف برام الله‬ ‫(‪ )٢٠١١‬ومجعية‬

‫«اشكال الوان»‪،‬‬ ‫بريوت‪.‬‬

‫خري الدين �أبو‬ ‫جبني‪ ،‬نادر‪،‬‬ ‫«تاريخ فل�سطني‬ ‫يف طوابع الربيد»‪،‬‬ ‫بريوت ورام الله‪:‬‬ ‫م�ؤ�س�سة الدرا�سات‬ ‫الفل�سطينية‪2011 ،‬‬ ‫‪Khairiddine‬‬ ‫‪Abuljebain, Nader,‬‬ ‫‪«Palestinian‬‬ ‫‪History in Postage‬‬ ‫‪Stamps», Beirut and‬‬ ‫‪Ramallah: Institute‬‬ ‫‪for Palestinian‬‬ ‫‪Studies, 2011‬‬

‫ر�سم‬ ‫ابن الهيثم للعينني‪،‬‬ ‫«كتاب املناظر»‬

‫ ‪ 128‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ ‪ 129‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬


‫الفل�سطينية‪ ،‬لقد مت �إلغاء هذا الطابع‬ ‫ومنع تداوله لأحتوائه على كلمة‬ ‫«الوطنية» وذل��ك لأنها تعترب من‬ ‫الكلمات التحري�ضية (ح�سب التعريف‬ ‫اال�رسائيلي)‪ .‬كما و�أن الأح��داث‬ ‫ال�سيا�سية التي يتم و�ضعها على الطابع‬ ‫يجب ان تكون فقط الأحداث الداعية‬ ‫اىل ال�سالم‪ ،‬مثل �صورة الراحل يا�رس‬ ‫عرفات يف او�سلو مع �شمعون برييز‬ ‫يتو�سطهما بيل كلنتون عند عقد‬ ‫اتفاقية او�سلو لل�سالم‪.‬‬ ‫ ما اريد طرحة نظر ًا لأهمية دور‬ ‫الطوابع الربيدية يف توثيق تاريخ‬ ‫البلد‪ ،‬هو التغيري يف م�ضمون الطابع‬ ‫الفل�سطيني منذ االحتالل الع�سكري‬ ‫ال�بري��ط��اين اىل ق��ي��ام ال�سلطة‬ ‫الفل�سطينية‪ ،‬خا�صة ان اهمية الطوابع‬ ‫يف ار�سال الر�سائل يف زمن وجود‬ ‫االن�ترن��ت �أٌق��ل بكثري‪ ،‬وا�صبحت‬ ‫اهميتها الرمزية ووظيفتها الرئي�سية‬ ‫تكمن يف توثيق الأحداث‪.‬‬ ‫ ك��ان اول مت��رد على التدخل‬ ‫اال�صهيوين يف الطوابع الفل�سطينية‬ ‫هو يف فرتة الو�صاية املدنية الربيطانية‪،‬‬ ‫حيث كان ق�سم من الطوابع يطبع‬ ‫يف املطبعة االرثوذوك�سية بالقد�س‪،‬‬ ‫والق�سم الآخر يطبع يف م�رص‪ .‬وكان‬ ‫اول طابع فل�سطيني يحمل ا�سم‬ ‫فل�سطني قد �صدر يف تلك الفرتة‪.‬‬ ‫ح��دث تغيري يف الطابع بعد ثالث‬ ‫�سنني نتيجة لتمهيد اليهود ملا وعدهم‬

‫ي�رسائيل»‪ ،‬اي ار�ض اليهود‪ .‬الحظت‬ ‫م�رص هذا التغيري‪ ،‬ومنذ ذلك الوقت‬ ‫وم�رص ترف�ض ا�صدار اي طابع يف‬ ‫مطابعها يف حال مل تبق الطوابع على‬ ‫ما كانت عليه‪.‬‬ ‫ك��رد فعل على ه��ذا احل��دث قامت‬ ‫املقاومة الفل�سطينية ك�إ�صدار طوابع‬ ‫حتمل توقيع املقاومة الفل�سطينية‬ ‫ت�شمل هذه الطوابع موا�ضيع خمتلفة‬ ‫حامية يف ذلك الوقت‪ ،‬مثل �أ�ضافة‬ ‫جمل وطنية مثل «فل�سطني للعرب»‪،‬‬ ‫كما عملت املقاومة الفل�سطينية حينها‬ ‫على �إ�صدار طوابع ت�ساند فيه الثورة‬ ‫ال�سورية واللبنانية �ضد الأنتداب‬ ‫الفرن�سي وذلك للحفاظ على هويتها‬ ‫كجزء ال يتجزء من الوطن العربي‪.‬‬ ‫ بعد عام ‪ 1948‬ا�صبحت مهمة‬ ‫ا�صدار الطوابع الفل�سطينية كاملة‬ ‫على عاتق املقاومة الفل�سطينية‪،‬‬ ‫وفرتتها متيزت الطوابع بتوثيقها‬ ‫ل�ل�أح��داث‪ ،‬من جم��زرة دير يا�سني‬ ‫اىل معركة الكرامة وتخليد املنا�ضلني‬ ‫واملنا�ضالت وال�شهداء‪ .‬كما اخذت‬ ‫لوحات ا�سماعيل �شموط م�ساحة‬ ‫وا�سعه يف اعتمادها لتكون طوابعا‬ ‫موثقة للأحداث‪ .‬كانت هذه الفرتة‬ ‫من �أعنى فرتات الطوابع الفل�سطينية‬ ‫بامل�ضمون‪ ،‬وهذه الطوابع برزت ب�شدة‬ ‫يف فرتة الثمانينات وك��ان للجبهة‬ ‫ال�شعبية لتحرير فل�سطني واجلبهة‬ ‫الدميقراطية وحركة فتح دور كبري يف‬

‫مرة متى وكيف‬ ‫«هل �ساءلت نف�سك ّ‬ ‫�إختفت فل�سطني من اخلريطة؟»‬ ‫«يف فل�سطني فدائيني احلرية يقاومون‬ ‫ال�صهيونية ال اليهودية»‪.‬‬ ‫ و�أخ�ي�ر ًا‪ ،‬ك��ان للبلدان العربية‬ ‫وبع�ض البلدان الأجنبية جانب يف‬ ‫ادخ��ال ق�ضية فل�سطني يف م�ضمون‬ ‫طوابعها كنوع من امل�ساندة‪ ،‬فبعد‬ ‫احتالل فل�سطني‪ ،‬قامت العراق بتو�شيح‬ ‫جميع طوابعها بـ«�إنقاذ فل�سطني»‪ ،‬كما‬ ‫كان من موا�ضيعها «اليوم الدويل‬ ‫للتعاون مع ال�شعب الفل�سطيني»‬ ‫واظهار خارطة فل�سطني كاملة على‬ ‫العديد من طوابعها‪ .‬وجرت العديد‬ ‫من الدول العربية على هذا النحو يف‬ ‫ا�صدار طوابعها‪ ،‬فقد ا�صدرت جميع‬ ‫ال��دول العربية تقريب ًا طابع ًا لنف�س‬ ‫الت�صميم مع اختالف االلوان يف ذكرى‬ ‫جمزرة دير يا�سني وهو خارطة فل�سطني‬ ‫كامله وقد غر�س فيها خنجر‪.‬‬ ‫ بعد اع�لان الدولة الفل�سطينية‬ ‫ع�ضو ًا يف الأمم املتحدة‪ ،‬اعلنت وزارة‬ ‫الأت�صاالت وتكنولوجيا املعلومات‬ ‫عن ا�صدار اول طابع اي��رادات حتت‬ ‫ال من م�سمى‬ ‫م�سمى «دولة فل�سطني» بد ً‬ ‫«ال�سلطة الفل�سطينية» ‪ .‬لكن هذا ال‬ ‫يعني �أن جميع القوانني التي كانت‬ ‫مفرو�ضة على الطوابع الفل�سطينية‬ ‫�سابق ًا قد تغريت بعد �إعالن الدوله‪،‬‬ ‫فال زالت «الدولة اال�رسائيلية» تتحكم‬ ‫مبحتوى هذه الطوابع و ت�رشف عليها‬

‫مترد على التدخل ال�صهيوين يف الطوابع الفل�سطينيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫كان اول ّ‬ ‫هو يف فرتة الو�صاية املدنية الربيطانيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫به بلفور على هذه الأر�ض‪ ،‬حيث مت‬ ‫ت�صغري ا�سم فل�سطني باللغة العربية‬ ‫وتكبريه باللغة العربية مع ا�ضافة‬ ‫الأحرف «الف و يود» بعد ا�سم فل�سطني‬ ‫بالعربية‪ ،‬وهي اخت�صار لـ«ايريت�س‬

‫ ‪ 130‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫�إجناز هذه الطوابع‪ .‬كما انهم مل يكتفوا‬ ‫فقط با�صدار الطوابع‪ ،‬بل قاموا �أي�ض ًا‬ ‫بو�ضع جمل و�صور تعبريية على اغلفة‬ ‫الر�سائل التي تتداول خارج البالد‬ ‫باللغتني العربية واالنكليزية مثل‪:‬‬

‫قبل طباعتها للموافقة عليها او رف�ضها‪.‬‬ ‫حيث ان الطوابع ُتطبع باخلارج‪ ،‬وم�ؤخر ًا‬ ‫بالبحرين‪ ،‬واذا مل يتوافق حمتوها مع‬ ‫�رشوط «الدولة اال�رسائيلية» فيمنع‬ ‫تداولها خارج االرا�ضي الفل�سطينية‪.‬‬

‫‪ 130‬‬ ‫ ‬

‫نوال عبود طرابليس‪:‬‬ ‫طوابع بريد لفلسطني الغد‬

‫‪ 142‬‬ ‫ ‬

‫«موسيقانا» غودار‪:‬‬ ‫الوثائقي حيتاج لعنوان آخر‬

‫‪« 1‬تصوير فلسطني»‬ ‫‪ 37‬‬ ‫ ‬ ‫جغرافية هنب المياه والفصل العنرصي‬

‫غالية �سعداوي‬

‫‪ 149‬حممود درويش يف «موسيقانا»‬ ‫ ‬ ‫«إن شع ًبا بال ِشعر هو شعب مهزوم»‬ ‫‪ 152‬يف حترير صورة فلسطني‬ ‫ ‬

‫روي ديب‬


‫نوال عبود طرابليس‬

‫طوابع بريد لفلسطني الغد‬ ‫الطوابع الربيدية عالمات على هوية البلد‪ .‬مثلها مثل‬ ‫الأع�لام والعملة‪ .‬ومثل االع�لام والعملة هي عالم ٌة‬ ‫اي�ض ًا على وجود دولة‪ .‬دولة م�ستقلة‪ .‬ومثل هذه وتلك‪،‬‬ ‫لطوابع الربيد قيمة نقدية‪ ،‬لكنها و�سائل لتبادل ما‬ ‫يتعدى القيم النقدية‪ .‬طوابع الربيد تخدم يف تبادل‬ ‫الر�سائل‪ .‬كل انواع الر�سائل‪ .‬اكرث من ذلك‪ ،‬طوابع‬ ‫الربيد توثق تاريخ البلد من خالل �آث��اره و�أحداثه‬

‫التاريخية والعمرانية ورجاالته ون�سائه يف كل فروع‬ ‫وت�صور مناظره الطبيعية وطيوره وحيواناته‪.‬‬ ‫احلياة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وهواية جتميع الطوابع هواية وا�سعة االنت�شار‪.‬‬ ‫ نن�رش يف هذا العدد مراجعة نور ابو عرفة لكتاب‬ ‫عن طوابع الربيد الفل�سطينية‪ .‬لن يقت�رص االمر على‬ ‫اكت�شاف حتوالت طوابع فل�سطني بل تكاد فل�سطني الآن‬ ‫تكون البلد الوحيد يف العامل الذي ال دولة له بل �سلطة‬

‫ ‪ 133‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬


‫ال ت�ستطيع ا�صدار طوابع بريدها اال بعد موافقة �سلطات‬ ‫االحتالل عليها‪ .‬ك�أمنا الطوابع هنا اي�ضا لتذكرينا � ّأن‬ ‫فل�سطني ال تزال تعي�ش يف الع�رص الكولونيايل‪.‬‬ ‫ انطلقت االنتفا�ضة الفل�سطينية االوىل يف العامل‬ ‫‪ ١٩٨٧‬وا�ستمرت عملي ًا اىل حني انعقاد اتفاق او�سلو‬ ‫العام ‪ .١٩٩٣‬حملت االنتفا�ضة رمزيات وايقونات‪ ،‬لي�س‬ ‫اقلها �ش�أن ًا دور حجارة االطفال والفتيان يف مواجهة جنود‬ ‫االحتالل امل�ؤللني واملدججني بال�سالح االكرث تطور ًا وفتك ًا‪.‬‬ ‫�شهدت االنتفا�ضة معارك فعلية بني الفتى الفل�سطيني‬ ‫حامل املقالع ودبابة المِ ركافا‪ .‬فانقلبت معادلة كان االعالم‬ ‫ال�صهيوين‪ ،‬و�أن�صاره يف العامل‪ ،‬غر�سوها يف الأذهان منذ‬ ‫العام ‪ ١٩٤٨‬عن جالوت العربي ي�رصعه مقالع داود‪.‬‬ ‫�صار داود الفل�سطيني يواجه باملقالع جالوت اال�رسائيلي‪.‬‬ ‫مثل كثريين غريها ت�صورت نوال عبود طرابل�سي �أن‬ ‫االنتفا�ضة تره�ص بقيام الدولة الفل�سطينية املوعودة‪� .‬أرادتها‬ ‫نوال دولة على قيا�س احالمها‪ .‬فقد اطلقت االنتفا�ضة‬ ‫ال�رس هنا «ارى‬ ‫جموح ًا بال حدود للمخيلة واالرادة‪ .‬كلمة‬ ‫ّ‬ ‫ما اريد»‪ ،‬عنوان ديوان ملحمود دروي�ش حينها‪« .‬ان البالد‬ ‫كفي من �صنع كفّي»‪ ،‬كتب حممود م�ؤكدا �سيطرة‬ ‫التي بني ّ‬ ‫ال�شعب الفل�سلطيني اخريا على م�صريه‪ .‬م�ساهمة منها يف‬ ‫تلك املعركة‪ ،‬جميء الدولة‪ ،‬ر�سمت نوال طوابع بريد لدولة‬ ‫فل�سطني الآتية‪.‬‬ ‫ مل ت�أت الدولة العتيدة‪ .‬بقيت الر�سوم والتخطيطات‬ ‫التح�ضريية لتلك الطوابع التي نن�رش خمتارات منها‪.‬‬ ‫ يف العام ‪ ١٩٧٥‬كانت نوال عبود تعمل يف «دار‬ ‫الفتى العربي» ببريوت يف تزيني كتب االطفال‪ .‬طلب منها‬ ‫الراحل حميي الدين اللباد‪ ،‬امل�رشف الفني على الدار‪،‬‬ ‫ر�سم مل�صق لفل�سطني‪ .‬ر�سمت نوال اللوحة املن�شورة‬ ‫على غالف هذا العدد‪ .‬طبع منها مل�صقات وجدارية كبرية‬ ‫تنقّلت يف معار�ض عدة‪ .‬وال يزال احد املل�صقات موجود ًا‬ ‫يف جمموعة عز الدين قلق للمل�صقات الفل�سطينية‪ .‬اخلرب‬ ‫هنا ان الر�سمة ُن�سبت اىل «نوال عبود‪ ،‬طفلة فل�سطينية»‪.‬‬ ‫ قال بيكا�سو ذات مرة �إنه تع ّلم الر�سم كالكبار يف‬ ‫�سنوات قليلة‪ ،‬لكنه ق�ضى خم�سني �سنة يجهد ليعود‬ ‫فري�سم كاالطفال‪.‬‬ ‫ل�سنا ندري اذا كان بيكا�سو جنح اخريا يف ا�ستعادة ملكة‬ ‫الر�سم مثل االطفال‪ .‬الر�أي للنقّاد‪.‬‬ ‫ نوال عبود طرابل�سي‪ ،‬يف ال�سبعينات ويف الثمانينات‬ ‫من القرن املا�ضي‪ ،‬كما الآن يف هذا القرن‪ ،‬ال تزال ترف�ض‬ ‫تع ّلم الر�سم كالكبار‪.‬‬

‫ ‪ 134‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬



‫«تصوير فلسطني»‬

‫جغرافية هنب المياه والفصل العنرصي‬ ‫تخلق «ت�صوير فل�سطني» ادوات ب�رصية م�ساعدة‬ ‫للمجتمعات‪ ،‬وت�صف �رسدية ذات حقائق معتمدة على‬ ‫حقوق حول امل�س�ألة الفل�سطينية ‪ -‬اال�رسائيلية‪ .‬باحثوها‬ ‫وم�صمموها وتقنيوها‪ ،‬يعملون ب�رشاكة مع منظمات املجتمع‬ ‫املدين وغريها من امل�ؤثرين للرتويج للعدالة للفل�سطنيني‪.‬‬ ‫ برزت االدوات الب�رصية مثل الر�سوم البيانية كواحدة‬ ‫من اكرث الأ�شكال �شعبية وت�شاركية على االنرتنت‪.‬‬ ‫مع ا�ستخدام هذه االدوات الب�رصية‪ ،‬تهدف «ت�صوير‬ ‫فلط�سني» اىل ت�سخري طاقات الثورة الرقمية من اجل‪:‬‬ ‫ الرتويج ل�رسديات اعالمية ت�ستند اىل احلقائق واحلقوق‬ ‫يف مو�ضوع امل�س�ألة الفل�سطينية ‪ -‬اال�رسائيلية‪ .‬عرب الرتويج‬ ‫للتغيري يف الر�أي العام العاملي حول امل�س�ألة الفل�سطينية ‪-‬‬ ‫اال�رسائيلية‪ ،‬تهدف «ت�صوير فل�سطني» لزيادة ال�ضغط على‬ ‫ال�شخ�صيات ال�سيا�سية العاملية مل�ساندة العدالة للفل�سطنيني‬ ‫بالطريقة نف�سها التي ا ّثر الر�أي العام العاملي فيها على‬ ‫ال�سيا�سيني للتحرك �ضد الف�صل العن�رصي يف جنوب‬ ‫افريقيا والتمييز العن�رصي يف الواليات املتحدة‪.‬‬ ‫ لتمكني املجتمعات التي تعمل من اجل احقاق العدل‬ ‫للفل�سطينيني‪ .‬تهدف «ت�صوير فل�سطني» اىل اعالء �صوت‬ ‫النا�شطني املدنيني‪ ،‬وحمالت الع�صيان املدين‪ ،‬ومبادرات‬ ‫املقاومة غري العنفية‪ .‬حني ت�ستطيع هذه املبادرات اي�صال‬ ‫ق�ص�صها ب�شكل فعال للعامل‪ ،‬ميكنها ان تكتب �رسديات‬ ‫قد تغيرّ العامل الذي نعي�ش فيه‪ .‬يحتاج املرء �أن يلقي‬ ‫نظرة على ق�ص�ص روزا بارك�س‪ ،‬او اال�رضاب عن الطعام‬ ‫الذي قام به املهامتا غاندي‪ ،‬لريى كيف يتحقق ذلك‪.‬‬ ‫اليوم‪ ،‬يوجد العديد من املبادرات ال�شعبية التي ت�ستخدم‬ ‫الع�صيان املدين واملقاومة غري العنفية للوقوف بوجه‬ ‫الظلم الذي يواجهه ال�شعب الفل�سطيني‪ .‬تهدف «ت�صوير‬ ‫فل�سطني» اىل ان تكون �رشيك ًا لهذه املبادرات مل�ساعدتهم‬

‫ ‪ 139‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫على اي�صال ق�ص�ص قوية وفعالة عن ن�ضاالتهم‪.‬‬ ‫ ت�ستخدم «ت�صوير فل�سطني» مقاربة متكاملة متعددة‬ ‫االخت�صا�صات لتحويل معلومة معقدة اىل ق�ص�ص ميكن‬ ‫حفظها ب�سهولة من قبل اجلمهور العام‪ .‬معظم ادوات‬ ‫الر�سومات يقوم بها م�صممون‪ ،‬مطورو برامج ور�سامون‬ ‫عرب باحثني او م�ؤ�س�سات‪ ،‬ويتم تزويدهم مبلخ�ص اح�صائي‬ ‫ب�سيط للعمل انطالق ًا منه‪ .‬فريقنا املتعدد االخت�صا�صات‬ ‫م�ؤلف من م�صممني‪ ،‬وباحثني‪ ،‬ورواة يعملون �سوية‪ ،‬يف‬ ‫عملية �سل�سة ومكررة تت�ضمن كل مواهبهم للخروج‬ ‫بر�سومات تدمج ب�سال�سة القيمة اجلمالية والتحليل‬ ‫الدقيق واحلامل للمعاين‪.‬‬ ‫ يف متوز ‪ ،2011‬مت ت�أ�سي�س «ت�صوير فل�سطني»‬ ‫كمجموعة من ور�ش العمل التي يديرها متطوعون‪ .‬ومنذ‬ ‫ذلك الوقت‪ ،‬تطورت اىل فريق عمل ي�ضم ‪ 8‬ا�شخا�ص‪،‬‬ ‫ويعمل مع �شبكة من الباحثني‪ ،‬امل�صممني‪ ،‬املحللني‬ ‫االعالميني‪ ،‬املرتجمني‪ ،‬والتقنيني املتطوعني من ‪ 11‬بلد ًا‬ ‫يف اربع قارات‪.‬‬ ‫ خالل ال�سنتني املا�ضيتني‪ ،‬ن�رشت «ت�صوير فل�سطني»‬ ‫‪ 16‬ر�سم ًا بياني ًا انت�رشت ب�شكل كبري‪ ،‬ومت ن�رشها يف‬ ‫العديد من و�سائل الإع�لام‪ ،‬منها «هافينغتون بو�ست‬ ‫‪ »Huffington Post‬و«اجل���زي���رة االن��ك��ل��ي��زي��ة»‪،‬‬ ‫«ذا ديلي بي�ست ‪« ،»The Daily Beast‬اوبن دميوكرا�سي‬ ‫‪ »Open Democracy‬و«جدلية»‪ .‬كذلك ا�ستطاعت «ت�صوير‬ ‫فل�سطني» بناء �شبكة كبرية على مواقع التوا�صل االجتماعي‬ ‫مع عدد كبري من املتابعني لها على فاي�سبوك وتويرت‪.‬‬ ‫مت��ت الرتجمة م��ن قبل ب��داي��ات‪� ،‬أي��ار ‪2013‬‬ ‫ت�صوير فل�سطني‬ ‫لي�ست م�س�ؤولة عن اخطاء الرتجمة من الن�سخة االنكليزية‬




‫بني الفرح والفراغ املميت) واللقطة التعليمية واللقطة‬ ‫املقابلة مبا هي اللغة التقليدية لل�سينما غري املعفية من‬ ‫اال�شكالية‪ .‬يقارن غودار بني �صورتني من العام ‪:١٩٤٨‬‬ ‫واحدة ال�رسائيليي «امل�ستقبل» ي�صلون اىل ا�رسائيل‬ ‫والثانية لفل�سطينيني يهربون عرب البحر‪ ،‬وهو يقول هذه‬ ‫الكلمات التي �أ�صابت �شهرة وا�سعة‪« :‬يف العام ‪١٩٤٨‬‬ ‫كان اال�رسائيليون مي�شون على املاء لبلوغ «�أر�ض امليعاد‬ ‫املقد�سة»؛ كان الفل�سطينيون مي�شون على املاء نحو غرقهم‪.‬‬ ‫ال�شعب اليهودي ين�ضم اىل الرواية‪ ،‬والفل�سطينيون اىل‬ ‫الفيلم الوثائقي‪ .‬اللقطة واللقطة املقابلة»‪ .‬ماذا تراه يعني‬ ‫غودار؟ فل�سطني‪ ،‬ار�ض ا�رسئيل يف احللم ال�صهيوين‪،‬‬ ‫تتحقق بالن�سبة لليهود ورواي��ة ا�رسائيل هي نق�ض‬ ‫لفل�سطني وللفل�سطينيني الذين على تلك االر�ض‪ ،‬فيما‬ ‫ين�ضم الفل�سطينيون اخالقي ًا ومعنوي ًا (اي من الناحية‬ ‫الإثنوغرافية) اىل تقليد الفيلم الوثائقي الرا�سخ من‬ ‫خالل ت�صويرهم الدائم مبا هم ال�ضحايا امل�سلوبون من‬ ‫كل �شيء‪ ،‬ينطقون ويغرقون مبا هم �ضحايا فقط‪.‬‬ ‫ ثمة ب�ضع م�شكالت بالن�سبة للتمثيل يف الفيلم‬ ‫الوثائقي يهمنا ا�ستخراجها قبل ان نعود اىل فل�سطني‬ ‫واىل فيلم «مو�سيقانا»‪ .‬ان الفيلم الوثائقي ال�رسدي‪ ،‬ذا‬ ‫اخلطاب املبا�رش‪ ،‬يزعم متثيل احلقيقة او الواقع املوجود‬ ‫تعر�ض للت�شكيك‬ ‫خارجنا‪ ،‬نوع �سينمائي غالبا ما ّ‬ ‫الكبري‪ .‬فمثال‪� ،‬إن ادعاء االفالم االثنوغرافية االخال�ص‬ ‫ملوا�ضيعها ‪ -‬لهوالء «الآخرين» ‪ -‬والطريقة التي تقدم بها‬ ‫تلك االفالم نف�سها مبا هي بال عني (اي ان الكامريا ت�سجل‬ ‫مدعية املو�ضوعية يف عر�ضها لالحداث‪،‬‬ ‫احلياة «كما هي») ّ‬ ‫وطريقة ا�ستخدامها للرتويج والتمثيل «املبا�رشين»‪،‬‬ ‫قد بات �إ�شكالي ًا عند املخرجني والنقاد عرب العقود‪.‬‬ ‫ي�شهد على ذلك تراث متكامل من االخراج ال�سينمائي‬ ‫التجريبي كما امللتزم والنظري‪ .‬فمنذ االنتفا�ضة الثانية‬ ‫وجتنيز النزاعات ال�سيا�سية ون�شوء و�صعود خطاب حقوق‬ ‫االن�سان والنزعات االخالقية (حيث االخالق منف�صلة‬ ‫عن ال�سيا�سة واملواقف) تركزت عيون الوثائقيات على‬ ‫فل�سطني‪ .‬ولكن قبل ذلك بكثري‪� ،‬أدت حقبة ما بعد احلرب‬ ‫العاملية الثانية مبا فيها من ار�شفة لل�شهادات واالعرتافات‪،‬‬ ‫�سمي بف�شل جتارب الكفاح امل�سلح يف ال�ستينات‪،‬‬ ‫وما ّ‬ ‫وانهيار االحتاد ال�سوفياتي العام ‪ ،١٩٨٩‬اىل حتوالت‬ ‫يف الكيفية التي يجري بها ت�صوير «النزاعات» يف ع�رص‬ ‫متار�س بطرائق‬ ‫ال�سيا�سات النيوليربالية‪ ،‬حيث القوة باتت َ‬ ‫ال و�إيذا ًء‪.‬‬ ‫اخرى‪ ،‬اكرث �شمو ً‬

‫«موسيقانا» غودار‬

‫الوثائقي حيتاج اىل عنوان آخر‬ ‫غالية سعداوي «العامل منق�سم بني الذين ي�صطفّون لإع�لان ب�ؤ�سهم‬ ‫والذين ي�شكل هذا اال�ستعرا�ض العمومي جرعة يومية‬ ‫كاتبة مستقلة‪ .‬تعمل من الراحة املعنوية ت�ؤكد لهم �سيطرتهم‪.‬‬ ‫عىل اجناز اطروحهتا «ان مبد�أ ال�سينما هو‪� :‬إذهب نحو النور وخ ّلها ت�شع‬ ‫عن الفن المعارص على ليالينا‪«( ».‬مو�سيقانا»)‬ ‫بعد احلرب االهلية طوفان من ال�صور املاحقة‪ :‬تالل من اجلثث‪ ،‬جنود‬ ‫اللبنانية يف جامعة امريكيون على �صهوة خيول‪ ،‬او يعربون �أنهار ًا يف بالد‬ ‫غولدسميث بلندن‪ .‬اجنبية‪ ،‬طائرات مقاتلة‪ ،‬قنابل ذكية‪ ،‬قادة ع�سكريون‪،‬‬ ‫هنود امريكيون‪ ،‬رعاة بقر يطلقون النار‪ ،‬الفيتكونغ‪ ،‬حمم‬ ‫بركانية‪ ،‬م�شاهد من جمزرة‪ ،‬خنادق‪ ،‬دبابات‪ ،‬انفجارات‪،‬‬ ‫قبور جماعية يف مع�سكرات اعتقال‪ ،‬فدائي يحمل‬ ‫بندقيته‪ .‬ويف توليفة للواحدة مع االخ��رى‪ ،‬تبدو تلك‬ ‫ال�صور املتفارقة اجلنائزية والرهيبة مع ًا امل�أخوذة من‬ ‫اال�رشطة ال�سينمائية (على طريقة �سريغاي �آيزن�شتاين‬ ‫وبيرت بروك) ومن �أ�رشطة االخبار واالر�شيف التاريخي‪،‬‬ ‫وقد قُ�سمت اىل ثالثة اق�سام تقريبا‪ ،‬متر دون تعليق‪ ،‬دون‬ ‫تواريخ‪ ،‬دون مراجع‪ .‬انها اللحظات االفتتاحية لفيلم جان‬ ‫لوك غودار «مو�سيقانا» (‪« .)٢٠٠٤‬انه لعجيب حق ًا �أن‬ ‫يبقى احدهم على قيد احلياة» يقول تعليق �صوتي‪ .‬الفيلم‬ ‫مهدى اىل امل�ؤرخ والكاتب الفل�سطيني اليا�س �صنرب‪.‬‬ ‫ال�صورة‪ ،‬الن�ص‪ ،‬التعليق ال�صوتي‬ ‫ال�صور ُمبيدة بالن�سبة اىل غودار (الذي بلغ الثمانينات‬ ‫�سيد املجابهة بني �صورة ون�ص وتعليق‬ ‫الآن) ‪ -‬وهو ّ‬ ‫�صوتي عرب توليفه الذي يحمل ب�صمته االكيدة‪ ،‬وهو‬ ‫الذي ي�صنع «االف�لام ال�سيا�سية بطريقة �سيا�سية» ‪-‬‬ ‫لأن هذا القرن والذي �سبقه هما بالتحديد قرنان من‬ ‫حروب الإبادة «العادلة»‪ .‬حروب لي�ست تكتفي ب�إبادة‬ ‫الآخر العدو‪ ،‬وامنا تبيد «الأُخروية» اي�ض ًا‪ ،‬حيث ي�صري‬

‫ ‪ 144‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫الذي يتعر�ض للتعذيب او ميوت جمرد «�شخ�ص �آخر»‪.‬‬ ‫و�إذ يجري تقدميه على هذا النحو‪ ،‬تظهر ال�صور خارج‬ ‫�أطرها يف «الأخبار» و«الأحداث» و«االر�شيف» و«افالم‬ ‫هوليوود» حتديدا لكي ت�صري ظاهرج للعيان‪ ،‬وهنا‬ ‫املفارقة‪ ،‬فك�أنها املرة االوىل التي ن�شاهد بها هذا الرعب‬ ‫الب�رشي يف اخلارج‪ ،‬ولكن من خالل تلك االطر‪ .‬هذه‬ ‫الفقرة االفتتاحية للفيلم‪ ،‬املنظمة بطريقة مرنة حول‬ ‫املراتب الثالث مللحمة اليغيريي دانتي «الكوميديا‬ ‫االلهية »‪ ،‬تقع يف «مملكة اجلحيم»‪.‬‬ ‫ يبد�أ «املطهر» يف م�شهد خارجي ل�ساراييڤو املدمرة‬ ‫بالقنابل‪ .‬احل��رب العاملية الثانية‪ ،‬فل�سطني‪ ،‬حروب‬ ‫البلقان‪ ،‬الهنود االمريكيون امل�سلوبون من امالكهم‬ ‫مثبتون جميع ًا يف �رسد هومريي عن «حروب طروادة»‬ ‫يف الفيلم‪ .‬يدخل حممود دروي�ش‪ ،‬باحث ًا عن �شاعر‬ ‫الطرواديني‪ ،‬يت�أمل يف �رسد ال ُين�سى عن املنت�رصين‬ ‫واملهزومني‪« :‬للحقيقة وجهان» يقول جلوديث لرنر‪،‬‬ ‫واجلوالة التي‬ ‫ال�صحافية اال�رسائيلية ال�صبية الذكية‬ ‫ّ‬ ‫ت�ؤدي دورها املمثلة �ساره �آدلر‪« .‬اين �أبحث عن �شاعر‬ ‫طروادة لأن طروادة مل تر ِو ق�صتها‪ .‬واين ات�ساءل‪ :‬هل‬ ‫ل�شعب له �شعراء كبار احلق يف ال�سيطرة على �شعب ال‬ ‫�شعراء له؟ [‪ ]...‬هل ال�شعر عالمة ام اداة �سيطرة؟ [‪]...‬‬ ‫�أو ّد احلديث با�سم الغائب‪ ،‬با�سم �شاعر طروادة‪ .‬تعرفني‬ ‫ملاذا نحن م�شهورون؟ لأنكم اعدا�ؤنا‪ .‬االهتمام بنا م�ستمد‬ ‫من االهتمام بالق�ضية اليهودية‪ .‬االهتمام هو بك‪ ،‬ولي�س‬ ‫بي‪ .‬انتم حملتم لنا الهزمية وال�شهرة [‪ ]...‬ال الهزمية وال‬ ‫الن�رص ميكن قيا�سهما باملقايي�س الع�سكرية‪ .‬ان �شعب ًا ال‬ ‫�شعر له هو �شعب مهزوم»‪.‬‬ ‫ يف الفقرة التي تلي‪ ،‬لقطات لغودار وهو يتحدث اىل‬ ‫طالب يف �ساراييڤو عن ال�صور (مبا هي العالقة اجلدلية‬

‫ ‪ 145‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ ان ف�شل «ال�سيا�سة» ال�شعورية العاطفية املجردة‬ ‫حيث ال�ضحايا يكتفون باحلديث فقط من مواقع‬ ‫ال�ضحايا يف عهد ال�شاهد التقليدي الذي انق�ضى (مثله‬ ‫مثل اجهزة اعالم التيار ال�سائد �إما انها ّ‬ ‫تغطي ما قد‬ ‫جرى تغطيته وانها تنتج الالمباالة وال�شعور بال�ضعف‬ ‫والرعب) حتتاج اىل ان تغذي الطريقة التي بها نواجه‬ ‫�س�ؤال النيو كولونيالية والعنف وت�صوير الظلم يف ايامنا‬ ‫هذه‪� .‬أُخرِج فيلم «مو�سيقانا» يف زمن كانت فل�سطني‬ ‫قد اكت�سبت فيه ح�ضور ًا بارز ًا يف الر�أي العام العاملي‪،‬‬ ‫بعد االنتفا�ضة الثانية ودفق الوثائقيات عن جنني او‬ ‫غزة مثال‪ ،‬وبعد التغطية االعالمية الوا�سعة حل�صار مقر‬ ‫يا�رس عرفات‪ ،‬والت�ضامن الدويل وامل�سريات واحلركات‬ ‫والعرائ�ض واعمال التنقيب يف ار�شيفات الذاكرة كما‬ ‫يف الوثائقي الذي اخرجته ديانا �آلن بعنوان «ار�شيف‬ ‫النكبة» وغ�يره��ا‪ .‬اال ان اع�لان االدارة االمريكية‬ ‫«احلرب على االرهاب» العام ‪ ٢٠٠١‬ما لبث �أن ّ‬ ‫حتكم‬ ‫بالكثري من ال�سيا�سات الكونية ال�سائدة‪ ،‬وا ّثر بالت�أكيد‬ ‫على الطريقة التي جرت بها «ادارة» احتالل فل�سطني‬ ‫و�سيطرة اجلي�ش اال�رسائيلي عليها ع�سكريا‪.‬‬ ‫ هنا يثور ال�س�ؤال‪ :‬هل ميكن النظر اىل ت�صوير فل�سطني‬ ‫يف الفيلم (والفن) بطريقة اخ��رى؟ ما هي التقنيات‬ ‫واالمناط ال�شعرية واجلمالية التي تك�رس املوقف من ق�ضية‬ ‫فل�سطني واالحتالل اال�رسائيلي البغي�ض وتفككه لتمنعه‬ ‫من الوقوع يف فخ حالة ال�ضحية املجردة‪ ،‬فتجدد االلتزام‬ ‫والفاعلية ال�سيا�سية والنقد العميق؟ هذا ما يحاوله بع�ض‬ ‫الفنانني الفل�سطينيني ال�شبان اليوم‪ .‬ولعله �أي�ض ًا ال�شكل‬ ‫ال�شعري الذي دعا اليه الراحل حممود دروي�ش يف هذا‬ ‫الفيلم‪ ،‬او هو اي�ضا الرواية الذي ي�سعى اليها غودار‬ ‫ويريد اال�ستحواذ عليها‪ .‬يف «مو�سيقانا» ِ‬ ‫ُ‬ ‫الن�ضال‬ ‫و�ضع‬ ‫الفل�سطيني يف مكانه لي�س فقط من حروب االبادة وامنا‬ ‫اي�ضا من ا�شكال الن�ضال امل�ستمرة‪ ،‬و�إن تكن متغرية‪،‬‬ ‫للتحرر من ت��راث املدر�سة االمربيالية القدمية ومن‬ ‫التفخيخ النيوليربايل ال�شامل يف �آن مع ًا‪.‬‬ ‫ ا�ستعادة الرواية‪ .‬الرواية مبا هي موقف «بعد وثائقي»‬ ‫ميار�س داخل ال�سينما‬ ‫او على االقل مبا هي تكتيك مغاير َ‬ ‫الوثائقية‪ ،‬وبناء عليه خماطبة ال�ضحية الكئيبة‪ ،‬وقطع‬ ‫الطريق عليها‪ ،‬وهي حتاول �إحياء ما�ض مبا هو املوقف‬ ‫الوحيد املمكن بالن�سبة اليها‪ ،‬لتت�صدر ح�ضور ًا فاعال‬ ‫يف حا�رض مراوِغ مبا هي فاعل �سيا�سي ونقدي‪ .‬ينجح‬ ‫غودار يف ربط فل�سطني بتاريخ كامل من النهب والعنف‬




‫واال�ضطهاد والت�سلط‪ .‬وعلى امتداد فيلمه‪ ،‬لي�ست تدعي‬ ‫�سيا�سة غودار النطق بعنجهية با�سم �آخرين ال ي�ستطيعون‬ ‫النطق‪ ،‬وال هي تدعي ا�صال انها تعطي ه�ؤالء فر�صة النطق‬ ‫ب�أنف�سهم امام عني او امام كامريا حمايدة‪ ،‬علما �أن ال وجود‬ ‫لهذه او تلك‪ .‬ان ال�شكل لي�س ينف�صل عن امل�ضمون‬ ‫اب��د ًا‪ .‬والتحدي ال��ذي يطرحه فيلم «مو�سيقانا» على‬ ‫امل�شاهدين‪ ،‬والأهمية التي يكت�سبها بالن�سبة لل�سيا�سة‬ ‫يف فل�سطني وعنها‪ ،‬هو حتديدا يف الطريقة التي يخلط‬ ‫بها الفيلم الأبعاد املختلفة التي يخلقها الفيلم نف�سه‪:‬‬ ‫ا�ستخدامه املميز للتعليق ال�صوتي (لأنه ال يكتفي ب�شهود)‬ ‫والن�ص وال�صورة (�أكانت ار�شيفية ام مم�رسحة) وبالت�أكيد‬ ‫الطريقة التي تتطفل بها كلمات الآخرين على �شخ�صياته‬ ‫(مثل كلمات �صنرب‪ ،‬بالن�شو‪ ،‬دو�ستويف�سكي‪ ،‬بريباوم‪،‬‬ ‫مونت�سكيو‪ ،‬ليڤينا�س‪ ،‬الي�س يف بالد العجائب‪ ،‬الخ‪.).‬‬ ‫ ثم �إن حياة غودار املهنية البالغة الرثاء على امتداد‬ ‫�ستني عاما لي�ست جديدة بالن�سبة لفل�سطني‪ .‬ان �سيا�ساته‬ ‫اجلذرية الباكرة‪ ،‬على هدي املارك�سية اللينينية واملاوية‪،‬‬ ‫وحماوالته ال�سينمائية (وقد اخرج بع�ضها يف اطار‬ ‫«جمموعة دزيغا ڤريتوڤ‪ ،‬التي �أ�س�سها مع جان بيري‬

‫لفدائيي حركة فتح على انها منوذج للعمل الثوري‪.‬‬ ‫كان العنوان اال�صلي للفيلم هو «حتى الن�رص» لكنه مل‬ ‫ي�ستكمل ومل يعر�ض يف ال�صاالت‪ ،‬وقد ا�ستكمل الحق ًا‬ ‫وعرِ�ض‬ ‫بالتعاون مع رفيقة غودار‪� ،‬آن ماري مييڤيل‪ُ ،‬‬ ‫بعنوان «هنا او يف اي مكان �آخر» (‪.)١٩٧٥‬‬ ‫ النظرة ال�سائدة اىل غ��ودار �أن��ه �سينمائي �صعب‬ ‫من حيث ال�شكل‪ .‬انه ميار�س التك�سري حيث ال�صوت‬ ‫والن�ص وال�صورة والوجه واملكان تنفك الواحدة منها‬ ‫عن االخرى ليعاد ترتيب عالقة املُ ِ‬ ‫�شاهد بالراهن املبا�رش‬ ‫واي�ضا ال�ستثارة ا ُلبعاد وممار�سة اال�ستفزاز بوا�سطته‬ ‫وذلك من اجل اعادة ترتيب مقاربتنا االدبية والذهنية‬ ‫واملادية لل�رصاع املاثل امامنا والذي علينا ان ن�شارك‬ ‫فيه‪ .‬فالفيلم واحلياة لي�سا مت�ساويني عند غودار‪ ،‬كما‬ ‫الحظ العديد من دار�سيه‪ .‬ال ي�ستطيع الفيلم ان يعك�س‬ ‫احلياة‪ ،‬بل ال ي�ستطيع الفيلم ان يعك�س �إال ذاته‪« .‬لي�ست‬ ‫هي �صورة �صحيحة‪ ،‬انها جمرد �صورة»‪ .‬ومن خالل هذه‬ ‫احلقيقة عينها ن�ستطيع ان نتبينّ قوة ال�صورة وطاقتها‬ ‫على التغيري‪ .‬وهكذا فال�سيا�سة لي�ست تعمل على �سطح‬ ‫االحداث (او االفالم) انها تنظم االحداث وت�سكنها‪،‬‬

‫حممود درويش يف «موسيقانا»‬

‫«إن شعب ًا بال ِشعر هو شعب مهزوم»‬ ‫العدو‪ ،‬عن فلسطني ال عن‬ ‫تراودين كوابيس‪ ،‬ولكن صديقاً من حيفا قال يل‪ :‬عندما أحلم‪ ،‬احلم عن نفيس ال عن‬ ‫َ‬ ‫ارسائيل‪ .‬هل ميكننا أن نبدأ من هنا؟ مع األرض‪ ،‬من الوعد‪ ،‬ثم من الغفران‪.‬‬

‫املقابلة‪:‬‬ ‫كتبت ذات مرة �أن الذي يكتب روايته يرث ار�ض تلك الرواية‪ .‬اال تعتقد �أن الإ�رسائيليني لهم‬ ‫ جودث‪ :‬حممود دروي�ش‪.‬‬ ‫َ‬ ‫احلق يف الأر�ض؟ تقول انه ال مكان لهومريو�س وانك مغني طرواده وانك حتب املهزومني‪ .‬انك تتحدث كاليهودي‪.‬‬ ‫ح�سن ال�صيت يف هذه الأيام‪ .‬لكن احلقيقه لها وجهان‪ ،‬لقد ا�ستمعنا اىل‬ ‫ح�سن وهو‬ ‫ حممود‪ :‬امل ذلك فهذا �أمر‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫الرواية االغريقية و�سمعنا احيان َا �صوت ال�ضحية الطروادية على ل�سان يوريبيد�س‪� .‬أما �أنا‪ ،‬ف�إنني �أبحث عن �شاعر‬ ‫طروادة لأن طروادة مل ترو حكايتها‪ ،‬و�أت�ساءل هل ال�شعب �أو البلد الذي له �شعراء كبار ميلك احلق يف ال�سيطرة على‬ ‫�شعب �آخر ال �شعراء له؟ وهل غياب ال�شعر عند �شعب ي�شكل �سبب ًا كافي ًا لهزميته؟ هل ال�شعر العالمة �أم هو �أداة من‬ ‫�أدوات ال�سلطة؟ هل ب�إمكان �شعب �أن يكون قوي ًا دون ان يكتب �شعر ًا؟‬ ‫ �أنا ابن �شعب غري معرتف به مبا فيه الكفايه حتى الأن‪� .‬أريد �أن اتكلم با�سم الغائب‪ .‬با�سم �شاعر طروادة ف�إن‬ ‫الوحي ال�شعري وامل�شاعر االن�سانية قد تظهر �أكرب يف الهزمية مما يف الن�رص‪.‬‬ ‫ جودث‪ :‬هل انت مت�أكد من ذلك؟‬ ‫ حممود‪ :‬يف اخل�سارة �أي�ض ًا �شاعرية عميقة‪ ،‬وقد تكون هناك �شاعرية �أعمق يف اخل�ساره‪ .‬ولو كنت �أنتمي اىل مع�سكر‬ ‫ل�شاركت يف مظاهرات الت�ضامن مع ال�ضحايا‪ .‬هل تعلمني ملاذا نحن الفل�سطينيني م�شهورون؟ لأنكم �أنتم‬ ‫املنت�رصين‬ ‫ُ‬ ‫اعدا�ؤنا‪� .‬إن االهتمام بنا نابع من االهتمام بامل�س�ألة اليهودية‪ .‬نعم‪ ،‬االهتمام ِ‬ ‫بك ولي�س بي �أنا‪.‬‬ ‫ اذ ًا نحن قليلو احلظ يف �أن تكون �إ�رسائيل هي عدونا‪ ،‬لأنها حتظى مب�ؤيدين ال حد لهم يف العامل‪ .‬ونحن �أي�ض ًا‬ ‫عدونا‪ ،‬لأن اليهود هم مركز اهتمام العامل‪ .‬لذلك �أحلقتم بنا الهزمية و�أعطيتمونا ال�شهرة‪.‬‬ ‫حمظوظون لأن تكون ا�رسائيل ّ‬ ‫لقد �أحلقتم بنا الهزمية ولكن منحتمونا ال�شهرة‪.‬‬ ‫ جودث‪ :‬نحن وزارة دعايتكم‪.‬‬ ‫ حممود‪ :‬نعم‪� ،‬أنتم وزارة دعايتنا لأن العامل يهتم بكم �أكرث مما يهتم بنا‪ ،‬ولي�ست لدي �أي �أوهام حول هذا الأمر‪.‬‬ ‫كتبت ‪« :‬اذا هزمونا يف ال�شعر فهذه نهايتنا»‪.‬‬ ‫ جودث‪ :‬يف «فل�سطني‪ ،‬مبا هي ا�ستعارة»‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ حممود‪ :‬ال �أعتقد ان هناك نهاية ل�شعب او ل�شعر‪ ،‬ال بد �أن خط�أ ما قد وقع يف هذا االقتبا�س‪ ،‬ولكن هناك معنى �آخر‪،‬‬ ‫وانه ال ال�ضحية وال الهزمية تقا�س بعبارات ع�سكرية‪.‬‬ ‫�شبه م�آذن امل�ساجد با ِ‬ ‫حلراب]‬ ‫[تعليق �صوتي‪ :‬رئي�س وزراء تركيا ذات مرة ّ‬

‫ما هي التقنيات واالمناط ال�شعريــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫واجلمالية التي تك�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر‬ ‫املوقف من ق�ضية فل�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــطني‬ ‫واالحتالل اال�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرائيلي‬ ‫البغي�ض وتفككه لتمنعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه‬ ‫من الوقوع يف فخ حالة ال�ضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــحية املجرّدة؟‬ ‫غوران بني ‪ ١٩٦٧‬و‪ )١٩٧٢‬مثل «ال�صينية» و«براڤدا»‬ ‫و«كل �شيء على ما يرام » و«املعرفة املرحة» و«ر�سالة‬ ‫اىل ج��ان» و«ري��ح ال�رشق» وغريها‪ ،‬واالف�لام التي‬ ‫اخرجها مبفرده مثل «ذكوري‪-‬انوثي» و«پيريو املجنون»‬ ‫و«�صنع يف الواليات املتحدة» والعديد غريها) كانت‬ ‫جميعها تتغذى من حقده على االحتكار يف ال�صناعة‬ ‫ال�سينمائية‪ ،‬ومن نقده للنزعة العاطفية عند الي�سار‬ ‫(الو�سطي) و�أخطائه العديدة االخرى‪ ،‬ومن حرب غودار‬ ‫�ضد الربجوازية عموما‪ ،‬مبثل ما كانت احتجاجا على‬ ‫التلفزيرن واالخبار‪ ،‬وحقدا عليهما ‪ -‬فيما هو ال يتورع‬ ‫احيانا عن ا�ستخدام م�صطلحاتهما لت�أطري اعماله‪ .‬يف‬ ‫�صور غوران وغودار فيلما عن فل�سطني يف‬ ‫العام ‪ّ ١٩٧٠‬‬ ‫واملنظمة‬ ‫وقدما اال�ستعدادات القتالية الدقيقة‬ ‫فل�سطني‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬

‫ ‪ 150‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫وبالتايل على الفيلم ان يلتزم بذلك �شكال وبنية‪ .‬هي‬ ‫حالة قطيعة مع الواقع ولي�ست حالة ارتباط بالواقع‪ ،‬وهي‬ ‫قطيعة ت�سمح باعادة ادراك الواقع من جديد والفعل فيه‪.‬‬ ‫ولعل هذا ما كان غودار وغوران يعنيانه عندما حتدثا عن‬ ‫اخراج «افالم �سيا�سية بطريقة �سيا�سية»‪.‬‬ ‫ � ّإن غودار «عابد ايقونات»‪ ،‬على قولة �إبرمغارد �أملهاينز‪.‬‬ ‫انه ي�ؤمن بال�صور وبقوة ال�صور يف ان تخ ّل�ص وت�ستفز (ولو‬ ‫بطريقة ال دينية)‪ .‬ويتوقف االمر على من ي�ستخدم لل�صور‬ ‫وكيف ي�ستخدمها‪ .‬هل هذا �شبيه بالطريقة التي ت�أمل فيها‬ ‫دروي�ش يف ال�شعر ويف فل�سطني‪ ،‬مبا هي �إ�ستعارة‪ ،‬اي عالمة‬ ‫على ال�سلطة ام اداة لل�سلطة؟ رمبا ان �شعب ًا ال يفهم ال�صور‬ ‫مكر�س ًا �سيا�سي ًا �أو ال ي�صنع ال�صور هو �شعب‬ ‫فهما �شعري ًا ّ‬ ‫مهزوم‪ ،‬مهما يكن معنى للهزمية‪.‬‬

‫«� ُ‬ ‫أحمل اللغـــــــة المُ طيعة كال�ســـــــــــــــحابة �أحمل اللغة املطيعـــــــــــــــة كال�ســـــــــحابة‬ ‫���ش��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ع��ب م������ه������زوم»‬ ‫ان ����ش���ـ���ـ���ـ���ع���ب��� ًا ب��ل��ا �� ِ��ش���ـ���ـ���ـ���ـ���ـ���ع���ر‪ ،‬ه�����و‬ ‫ٌ‬

‫ ‪ 151‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬



‫�شتى لإي�صال الر�سالة‪ .‬منها اال�ستثمار يف البعد الديني‪،‬‬ ‫عرب اخت�صار مدينة القد�س‪ ،‬ال بل كل فل�سطني‪ ،‬ب�صورة‬ ‫يتو�سطها امل�سجد الأق�صى وم�سجد قبة ال�صخرة‪ .‬وعندما‬ ‫مل تعد ت�ؤثر يف الناظر �صورة فل�سطيني مقتول على يد‬ ‫�إ�رسائيلي‪� ،‬أ�صبح على ال�صورة �أن حتتوي عنف ًا �أكرث‪.‬‬ ‫ال من‬ ‫ ف�أ�صبحنا بحاجة �إىل �أن نظهر للعامل كم ًا هائ ً‬ ‫اجلثث يف ال�صورة الواحدة‪ .‬و�أن نركز على مقتل ال�شيوخ‬ ‫الدرة �سوى �أحد‬ ‫والن�ساء والأطفال‪ .‬ولي�س الطفل حممد ّ‬ ‫الأطفال الكرث الذين قتلتهم �إ�رسائيل‪ ،‬لكن �صورة مقتله‬ ‫كانت حتمل عنف ًا يتخطى الالمباالة جتاه �صور �أطفال �آخرين‬ ‫قتلوا بطريقة «�أقل عنفا»‪ .‬ثم برزت احلاجة �إىل �إظهار �صور‬ ‫ملواطنني من العامل الأول يقتلون على يد الإ�رسائيليني‪،‬‬ ‫مثل �صورة ريت�شيل كوري‪ ،‬لن�ؤكد للر�أي العام العاملي �أنه‬ ‫لي�س الإرهاب الفل�سطيني الذي يدفع �إ�رسائيل �إىل قتل‬ ‫الفل�سطينيني‪ .‬هكذا دخلنا يف دوامة �إظهار ال�صور التي‬ ‫تزداد عنف ًا ملجرد حماولة �إقناع العامل ب�أن �إ�رسائيل جمرمة‪،‬‬ ‫دون �أن ن�ستطيع �أن نغري �شيئ ًا‪ .‬بل �أ�صبحت �صور ال�شهداء‬ ‫�أعداد ًا ت�ضاف على جدران ال�شوارع‪ ،‬ال جمال للعني �أن‬ ‫حتفظها �أو تتذكرها‪ .‬حتى �أننا حاولنا ا�ستعمال �صور �أنتجها‬ ‫الإ�رسائيليون بذاتهم‪� .‬صور تظهر فظاعة جرائمهم‪ ،‬مثل‬ ‫تلك التي تظهر جنود ًا يف اجلي�ش الإ�رسائيلي يلتقطون‬ ‫ال �إ�رسائيليني‬ ‫�صور ًا مع �أ�رسى فل�سطينيني عراة‪ .‬و�أطفا ً‬ ‫ير�سمون على ال�صواريخ املر�سلة لق�صف لبنان‪ .‬و�آخرها‬ ‫ال�صورة التي التقطها جندي �إ�رسائيلي لطفل فل�سطيني‬ ‫عرب منظار بارودة القن�ص وحتميلها على ان�ستغرام‪ .‬جميع‬ ‫تلك ال�صور‪ ،‬وغريها التي تنتج يف كل يوم ومتلأ الف�ضاء‬ ‫االفرتا�ضي‪ ،‬وو�سائل التوا�صل االجتماعي وامليديا‪ ،‬لن‬ ‫تتوقف عن ال�صدور والتزايد حماولة �أن تكون �شاهد ًا على‬

‫يف حترير صورة فلسطني‬ ‫روي ديب �أنتمي �إىل جيل ولد بعد �إعالن قيام دولة �إ�رسائيل‪ .‬ومل‬ ‫�أ�شهد االجتياح الإ�رسائيلي لبريوت‪ ،‬مبا �أنني من مواليد‬ ‫صحايف وناقد فن ‪ .١٩٨٣‬كما �أنني مل �أتعرف على �أي الجئ فل�سطيني‬ ‫من لبنان‪ ,‬من اعماله يف لبنان قبل عام ‪ .٢٠٠٣‬و�أول لقاء يل مع فل�سطيني‬ ‫فيلم قصري «مبثل قادم من قلب الأرا�ضي املحتلة كان يف عام ‪.٢٠٠٧‬‬ ‫بريوت» (‪ )٢٠٠٤‬لكن طاملا احتلت الق�ضية الفل�سطينية وحتى اليوم جزءا‬ ‫وفيلما فيديو «حتت كبريا من وعيي ال�سيا�سي والإجتماعي والثقايف‪ .‬هي‬ ‫قوس قزح» (‪ .)٢٠١١‬ق�ضية التزمت الدفاع عنها‪.‬‬ ‫يعمل عل فيديو لكن منذ �سنوات قليلة ق��ررت �أن �أعيد التفكري‬ ‫بعنوان «رحليت اىل مبوقعي من تلك الق�ضية‪ .‬ن�ش�أ ذلك القرار بال �أي �شك‬ ‫فلسطني»‪ .‬بعدما تطورت عالقتي بفل�سطينيني قادمني من مدن‬ ‫وقرى خمتلفة يف ال�ضفة وغزة و�أرا�ضي ما قبل الـ‪.٤٨‬‬ ‫حينها �أيقنت ال�رشخ القائم بني ال�صورة التي طورتها‬ ‫عن فل�سطني و�شعبها والق�ضية يف خميلتي‪ ،‬وتلك التي‬ ‫التم�ستها �إثر �أحاديث مطولة مع �شباب فل�سطيني من‬ ‫جيلي‪ ،‬ي�سكنون يف رام الله والقد�س وبيت حلم وحيفا‬ ‫وغزة ونابل�س‪ ،‬وغريها من املدن الفل�سطينية‪.‬‬

‫مقاطعة الب�ضائع الإ�رسائيلية‪ ،‬من نقا�شات ال تنتهي‬ ‫مع منا�رصي الق�ضية والغري املكرتثني بها‪ ،‬من ن�صو�ص‬ ‫غ�سان كنفاين ور�سومات ناجي العلي‪ ،‬من �صور ت�صلني‬ ‫وتعذيب و� ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫إذالل‪ ...‬وعنا�رص كثرية �أخرى‬ ‫كل يوم عن قتلٍ‬ ‫�شكلت �صورة عمرها يزيد على ال�ستني �سنة‪ ،‬تراكمت‬ ‫وتفاقمت لت�شكل �صورة الق�ضية الفل�سطينية بالن�سبة يل‬ ‫وللكثرين غريي كل على طريقته‪.‬‬ ‫أحقية‬ ‫ وبالرغم من حما�ستي ودفاعي املتزايد عن � ّ‬ ‫ال ورا�ضي ًا بتلك‬ ‫الق�ضية الفل�سطينية‪ ،‬كنت دائم ًا قاب ً‬ ‫ال�صورة التي مل �أ�شارك يوم ًا يف �صناعتها‪ ،‬و�إنتاجها‪،‬‬ ‫فقررت �أن �أنتقل من �سلبية املتلقي �إىل �إيجابية املنتج‪.‬‬ ‫�أردت �أن �أنتج �صورة لفل�سطني كما �أراها �أنا‪ ،‬ولعالقتي‬ ‫بتلك الق�ضية و�أهلها و�أر�ضها‪ ،‬و�أ�شاركها مع العامل‪ .‬ولكن‬ ‫ما هي ال�صورة التي �أنوي �إنتاجها؟ �س�ؤال دفعني �إىل �أن‬ ‫�أعيد التفكري يف جميع ال�صور التي عرفتها عن فل�سطني‪.‬‬ ‫وحينها الحظت �أنه ومنذ خم�س و�ستني �سنة ونحن‬ ‫نحاول �إنتاج �صورة تعاود ت�أكيد �أن �إ�رسائيل جمرمة‬

‫من �سلبية املتلقي اىل ايجابية املنتج‬ ‫حينها تنبهت �إىل �أنني حتى اليوم يف موقعي من الق�ضية‬ ‫الفل�سطينية �أتخذ موقع املتلقي وال�سلبي يف معظم‬ ‫الأحيان‪ .‬هكذا تكونت يف خميلتي �صورة لفل�سطني‬ ‫م�ؤلفة من كل ما تلقيته منها �أو عنها‪ .‬خا�صة �أنني ال‬ ‫�أ�ستطيع �أن �أزور �أر�ض فل�سطني بالرغم من الت�صاق‬ ‫فن�سجت �صورة عنها يف‬ ‫حدودها مع ح��دود بلدي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫خميلتي‪ ،‬ا�ستعرت عنا�رصها مما علمته عن ال�رصاع‬ ‫الفل�سطيني الإ�رسائيلي‪ ،‬من ق�صائد حممود دروي�ش‪،‬‬ ‫من احلكايا التي �سمعتها على ل�سان الالجئني يف لبنان‪،‬‬ ‫من �أغنيات فريوز و�أحمد قعبور ومار�سيل خليفة‪ ،‬من‬

‫�أردت �أن �أنتج �صـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــورة‬ ‫لفل�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــطني‬ ‫كما �أراها �أنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‪،‬‬ ‫ولعالقتـي بتلك الق�ضيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫و�أهلها و�أر�ضهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‪،‬‬ ‫و�أ�شاركها مع العـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــامل‬

‫ ‪ 154‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫وتخت�رص الفل�سطيني يف �صورة ال�ضحية‪� ،‬أري��د �أن‬ ‫�أقول �أن الفل�سطيني �إن�سان‪ ،‬كما انه �صاحب الأر�ض‪.‬‬ ‫فلذلك توجهت �إىل �أ�صدقائي يف فل�سطني‪ ،‬وطلبت منهم‬ ‫ي�صوروا يل مدينتهم‪ .‬هو طلب مرفق بو�صيتني‪� :‬أن‬ ‫�أن‬ ‫ّ‬ ‫ي�صوروا الأماكن يف مدينتهم التي يودون �أن ي�أخذوين‬ ‫�إليها �إذا ما جئت لزيارتهم‪ ،‬واالبتعاد قدر الإمكان عن‬ ‫الأماكن ال�سياحية‪ ،‬فلريافقوين يف جولة يف حياتهم‬ ‫اليومية عرب الكامريا‪ .‬هكذا قام �أكرث من ع�رشة �أ�شخا�ص‬ ‫يف مناطق خمتلفة‪ ،‬بت�سجيل مواد تفوق مدتها الع�رشين‬ ‫�ساعة‪ .‬التقيت بهم يف الأردن وح�صلت على جميع‬ ‫تلك املواد امل�سجلة على �أ�رشطة فيديو‪ ،‬وعدت بها �إىل‬ ‫ب�يروت‪ .‬ف�أ�صبح لدي �صورة لفل�سطني‪ ،‬ال بل �صورة‬ ‫ملناطق معينة اختار فل�سطينيون �أن يروين �إياها لأنها‬ ‫تعني لهم �شخ�صي ًا‪ ،‬لأنها الأماكن التي مي�ضون فيها‬ ‫نهارهم‪ ،‬لأنها مدينتهم‪.‬‬ ‫زرت القد�س ورام الله ونعلني‬ ‫�أ�صبحت تلك املواد اجلديدة بني يدي‪� ،‬صورة جديدة‬ ‫علي �سوى االنتقال من املتلقي‬ ‫لفل�سطني‪ ،‬فلم يعد‬ ‫ّ‬ ‫�إىل الفاعل‪� .‬سوف �أنتج ال�صورة التي �أود �أن �أرى فيها‬ ‫فل�سطني‪ ،‬والتي �أود �أن �أت�شاركها مع العامل‪� .‬سوف �أ�ستعري‬ ‫تلك الت�سجيالت من �أ�صحابها‪ ،‬و�أعيد تركيبها يف فيديو‬ ‫ي�سجل رحلتي �إىل �أر�ض فل�سطني‪ .‬فيديو �أعيد توليفه‪،‬‬ ‫لأظهر ك�أنني حامل الكامريا‪ ،‬و�أ�سجل رحلتي �إىل رام‬ ‫الله والقد�س وحيفا‪ .‬حيث �ألتقي برفاقي الفل�سطينيني‪،‬‬ ‫و�أم�ضي نهاري معهم‪ ،‬يف املناطق التي اختاروا‬ ‫�أن نزورها‪ .‬فيديو �سفر (على ن�سق «دفرت رحالت»‬ ‫«‪� )»Carnet de Voyage‬صنع يف بريوت‪.‬‬

‫لن �أبحث عن �أعنف �صــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــورة‬ ‫لأظهرها �إلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى‬ ‫العامل لعلها تريــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه‬ ‫ما مل يره بعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد‬ ‫جرائم ترتكب كل يوم‪ .‬لكنني لن �أ�ستطيع �أن �أ�ضيف �إليها‬ ‫�شيئ ًا‪ ،‬لأنني ل�ست يف قلب احلدث‪ ،‬ولأنني لن �أبحث عن‬ ‫�أعنف �صورة لأظهرها �إىل العامل لعلها تريه ما مل يره بعد‪.‬‬ ‫ال من �أن �أعيد القول يف �صورتي التي‬ ‫ هكذا ب��د ً‬ ‫�أود �أن �أنتجها �أن �إ�رسائيل تنتهك حق الفل�سطيني‪،‬‬ ‫وحتتل �أر�ضه‪� ،‬صورة جتعل من �إ�رسائيل مركز ال�صورة‪،‬‬

‫ومغت�صبة حلق الفل�سطيني‪� .‬أما تطور تلك ال�صور التي مل‬ ‫ت�ستطع �أن حتقق هدفها‪ ،‬ف�أمر مريع بحد ذاته‪ .‬فحني مل تعد‬ ‫�صورة املهجرين من قراهم‪ ،‬و�صورة القتل تنفع يف �إظهار‬ ‫اجلرم الإ�رسائيلي‪� ،‬أ�صبحت ال�صورة تبحث عن و�سائل‬

‫ ‪ 155‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ عرب �إنتاج تلك ال�صورة‪� ،‬أنتقل �إىل مرحلة الفعل‪،‬‬ ‫�أما فعلي‪ ،‬وبرغم �إطاره اخليايل‪ ،‬فهو توكيد للواقع الذي‬ ‫ّ‬ ‫ت�شكل‬ ‫�أرغب بعك�سه �ضمن ال�صورة‪ .‬فل�سطني ب�أهلها‬ ‫عنا�رص ال�صورة الأ�سا�سية‪� .‬إنها مدنهم‪ ،‬حيث ولدوا حتت‬ ‫االحتالل الإ�رسائيلي‪ .‬يف رام الله‪� ،‬سار بي خالد وعالء‬ ‫يف ال�شوارع‪ ،‬وعرفوين بتفا�صيل زواريبها‪ ،‬واختاروا �أن‬


‫نذهب كل ليلة �إىل «�أندرين» ‪ -‬بار ًا يرتادونه دائم ًا ‪-‬‬ ‫لدرجة �أنهم �أ�صبحوا يعتربون من �أهل البيت‪ .‬من على‬ ‫�سطح املبنى الذي يرتفع عالي ًا فوق «�أندرين» �أخذوين‬ ‫لأرى رام الله مدينة ال�سبع تالل‪ ،‬من فوق‪ .‬يف الأفق‬ ‫ا�ستطعت �أن �أرى بع�ض امل�ستوطنات الإ�رسائيلية‪ ،‬وهم‬ ‫د ّلوين عليها �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫ �أما يف نعلني مع يو�سف فقد �أم�ضينا نهار ًا يف مقهى‬ ‫متوا�ضع تتو�سطه طاولة بلياردو‪ .‬هناك �شاهدنا مباراة‬ ‫كرة قدم‪ ،‬مع �أنني ل�ست من م�شجعي الكرة‪ ،‬ولكني كنت‬ ‫�سعيد ًا بالتعرف اىل رفاق يو�سف‪ .‬وحالفنا احلظ يف نعلني‬ ‫يف الليلة الثانية‪� ،‬إذ كان هنالك عر�س يف ملعب البلدية‪،‬‬ ‫ال‬ ‫ف�سهرنا حتى ال�صبح نتفرج على اجلمع كما رق�صنا قلي ً‬ ‫يوما من قبل‪.‬‬ ‫دبك ًة مل �أعرفها ً‬ ‫ �أم��ا زيارتي للقد�س فكانت مده�شة‪ .‬دخلت مع‬ ‫روان القد�س القدمية‪ ،‬و�أ�سواقها‪ ،‬وتعرفت اىل مدين ٍة‬ ‫لي�س امل�سجد الأق�صى وال كنائ�سها �أجمل ما فيها‪ ،‬بل‬ ‫تركيبتها وتفا�صيل ازقتها‪ .‬والتجربة الأكرث �إثارة كانت‬ ‫زيارة حيفا‪ .‬هنالك �أم�ضيت معظم وقتي يف بيت مهى‪.‬‬ ‫ركبت مهى �سيارتها‬ ‫وعندما قررنا اخلروج لزيارة حيفا‪َ ،‬‬

‫ يف �صورتي عن فل�سطني‪� ،‬أهلها الفل�سطينيون‬ ‫يعرفونني على مدنهم اىل طريقتهم لأنها مدنهم‪ ،‬لأنهم‬ ‫هم �أه��ل الأر���ض‪� .‬إ�رسائيل والإ�رسائيليون ما زالوا‬ ‫موجودين‪ ،‬مل تتحرر فل�سطني منهم‪ ،‬ولكن ال�صورة‬ ‫حتررت منهم‪ .‬لكنهم ما زالوا هنا يف �أفق ال�صورة‪ ،‬يف‬ ‫الطبقة الثالثة �أو الرابعة لل�صورة‪� ،‬إن كان للعني املجردة‪،‬‬ ‫�أو يف ت�رصفات وحتركات الفل�سطينيني �أ�صدقائي الذين‬ ‫ال جلزء من �شخ�صيتهم ومنطقهم‪.‬‬ ‫�أ�صبح االحتالل م�شك ً‬ ‫ يف �أول لقاء يل يف الأردن ب�صديق فل�سطيني قادم‬ ‫من رام الله‪ ،‬كنا متجهني مع ًا للمرة الأوىل بالبا�ص‬ ‫من جر�ش �إىل عمان‪ .‬على الطريق وبعد مرور حوايل‬ ‫ال�ساعة والربع‪ ،‬التفت �صديقي نحوي‪ ،‬وقال يل دامع‬ ‫العينني‪�« :‬أتعلم‪� ،‬إنها �أول مرة �أ�سري بها يف البا�ص هذه‬ ‫أمني»‪ .‬يومها فهمت‬ ‫ّ‬ ‫املدة‪ ،‬من دون �أن �أتوقف عند حاجز � ّ‬ ‫�أن االحتالل الإ�رسائيلي ال ي�أخذ فقط �شكل ع�سكري‬ ‫ببدلة و�سالح‪ ،‬ودبابات‪ ،‬وم�ستوطنات‪ .‬فها هي �إ�رسائيل‬ ‫بعنفها متجلية يف ال�صورة‪ ،‬ولكن تلك ال�صورة تتكلم عن‬ ‫الفل�سطيني هذه املرة‪ ،‬لي�س ال�ضحية بل الإن�سان الذي‬ ‫يعطيني معنى جديد ًا للحياة‪ .‬ذلك ال ينفي �أن ال�صور‬

‫�إ�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرائيل‬ ‫وا لإ�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرائيليون‬ ‫ما زالوا موجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــودين‪،‬‬ ‫مل تتحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرر‬ ‫فل�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــطني‬ ‫منهم‪ ،‬ولكن ال�صــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــورة‬ ‫حتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــررت منهم‬ ‫وجل�ست �أنا �إىل جانبها‪ ،‬وراحت تدور يف جميع �أنحاء‬ ‫ُ‬ ‫املدينة‪� .‬رسنا يف ال�سيارة ما يقارب الأرب��ع �ساعات‪.‬‬ ‫راحت مهى تدخل �إىل قلب املدينة‪ ،‬وتقرتب من البحر‬ ‫ثم تعود لتخرج من املدينة �إىل املحافظة الكربى‪� ،‬إىل‬ ‫اجلبل املطل على حيفا‪ ،‬لنعود وجنول داخلها يف دورات‬ ‫حلزونية‪� .‬إىل �أن عدنا وو�صلنا �إىل البيت‪ ،‬دون �أن نتوقف‬ ‫للحظة يف املدينة‪ .‬مل �أ�س�أل مهى عن قرارها بعدم التوقف‬ ‫يف حيفا‪ .‬مل �أرد �أن �أحرجها يف تربير قرار‪ ،‬كان وا�ضح ًا‬ ‫�أنها اتخذته �سلف ًا ل�سبب ما‪ .‬لكن يف اليوم الذي كان‬ ‫علي العودة فيه �إىل رام الله‪ ،‬كذبت على مهى‪ ،‬وطلبت‬ ‫ّ‬ ‫منها �أن تو�صلني �إىل املحطة يف وقت ي�سبق موعدي‬ ‫ب�ساعتني‪ ،‬لكي �أجول وحدي يف املدينة‪.‬‬

‫ ‪ 156‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫الأخرى �رضورية‪ ،‬و�أن هناك حاجة لها‪ ،‬وال�ستعمالها‪،‬‬ ‫وتوظيفها يف خدمة الق�ضية‪ .‬لكنني �شخ�صي ًا ل�ست‬ ‫بحاجة �إىل ر�ؤية دماء لكي �أعرف �أن �إ�رسائيل جمرمة‪.‬‬ ‫بل �إن �إ�رسائيل حرمتني �أن �أرى فل�سطني جميلة‪� ،‬أن �أرى‬ ‫الفل�سطينيني ب�رش ًا يعي�شون‪ .‬واقت�رصت ال�صورة على‬ ‫جرمها وب�شاعتها يف �صورة فل�سطني والفل�سطينيني‪ .‬هل‬ ‫ان �صورتي تنفع الق�ضية؟ �س�ؤال ي�شغلني مبا �أن الق�ضية‬ ‫ت�شغلني‪ .‬ال �أدري‪ .‬لكن الذي �أعرفه �أنها �صورة ت�ضاف‬ ‫اىل ال�صور املوجودة وقد ت�ضيف �شيئ ًا اىل ب�صرية‬ ‫ناظرها‪� .‬أما بالن�سبة يل �شخ�صي ًا‪ ،‬فال �أريد �أن �أنتج‬ ‫�صورة للعامل‪ ،‬بل �صورة لفل�سطني التي �أحببتها‪ ،‬وللذين‬ ‫يحبونها‪ .‬هكذا دخلت �إىل �أر�ض فل�سطني‪.‬‬

‫‪ 156‬‬ ‫ ‬

‫الياسر اليمين بني الغفران والنسيان‬

‫ال�صياد‬ ‫�أحمد ّ‬

‫‪ 161‬ارسائيل‪ ،‬امريكا والنفط العريب عام ‪1948‬‬ ‫ ‬

‫ايرين غندزير‬


‫الياسر اليمين بني الغفران والنسيان‬ ‫الصياد كثرية هي الأحداث واملتغريات التي �شهدتها ال�ساحتان‬ ‫أمحد ّ‬ ‫اليمنية والدولية خالل العقد الأخري من القرن املا�ضي‬ ‫استاذ جامعي والعقد الأول من القرن اجلديد‪� .‬سقطت �أنظمة وانهارت‬ ‫ودبلومايس ميين‪ .‬جدران‪ ،‬واختفت جتارب وتال�شت نظريات‪ ،‬وتغريت‬ ‫آخر مناصبه الدولية‪ ،‬الكثري من املفاهيم والقيم‪ ،‬وتراجع كثريون عن �آراء‬ ‫ماسعد االمني العام كانوا يطرحونها وعن ايديولوجيات كانوا ي�ؤمنون بها‪.‬‬ ‫لمنظمة االونيسكو‬ ‫توحد الوطن اليمني و�أ�صبحت حرية العمل ال�سيا�سي‬ ‫ّ‬ ‫للعالقات اخلارجية العلني والتعددية احلزبية والإعالمية واحلق يف االختالف‬ ‫والتعاون‪ .‬من اعماله يف الر�أي واجلهر به‪ ،‬على الأقل يف اجلانب النظري‪ ،‬من‬ ‫«آخر القرامطة» �أهم اجنازات الوحدة و�أروع ما حققه الإن�سان اليمني‬ ‫(‪ )٢٠٠٤‬و«فصول يف هذا الع�رص‪.‬‬ ‫اجلحيم» (‪ .)٢٠١٠‬غري �أن هذا االجن��از احل�ضاري وال�سلمي تعر�ض‬ ‫للإجها�ض عندما �أقدم نظام علي عبد الله �صالح‪ ،‬الذي‬ ‫مل يكن �صاحل ًا يف �شيء‪ ،‬على اغتيال عدد من قادة وكوادر‬ ‫احلزب اال�شرتاكي‪ ،‬تلي ذلك �إ�شعاله للحرب العبثية التي‬ ‫�أدت �إىل حتطيم الوحدة الطوعية وحولت الكثري من‬ ‫�أن�صارها �إىل دعاة لالنف�صال بني جنوب الوطن و�شماله‪.‬‬ ‫ومع �إطاللة العقد الثاين من هذا القرن اجلديد‪ ،‬جاء‬ ‫«الربيع اليمني» ليعيد الأمل يف الوحدة وي�ضيف اجناز ًا‬ ‫جديدا �إىل ما حققه الإن�سان اليمني يف ن�ضاله الدائم‬ ‫ً‬ ‫من �أجل احلرية والعدالة والدميقراطية والتبادل ال�سلمي‬ ‫لل�سلطة‪ ،‬وبذلك اندثر حلم توريث احلكم‪ ،‬وبد�أ تفكيك‬ ‫النظام العائلي احلاكم‪ .‬وخالل هذه امل�سرية الن�ضالية‬ ‫الطويلة‪ ،‬كانت احلركة التقدمية اليمنية ب�شكل عام وقوى‬ ‫الي�سار ب�شكل خا�ص يف طليعة اجلماهري يف مقاومتها‬ ‫لأنظمة احلكم الظالمية والقمعية‪ ،‬وبرهن الي�سار اليمني‬ ‫�أنه كان رائد ًا يف كثري من االجنازات الوطنية الكربى‪.‬‬ ‫كان الي�سار‪ ،‬ومعه قوى �أو عنا�رص ملتزمة �أو غري ملتزمة‬ ‫فكري ًا وتنظيمي ًا‪ ،‬قد ا�ضطلع ب��دور ري��ادي يف قيادة‬

‫ ‪ 158‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫الأحداث وت�أ�سي�س احلركات ال�سيا�سية والنقابية‪ ،‬واجناز‬ ‫التحوالت االجتماعية وال�سيا�سية والفكرية‪ ،‬وكان على‬ ‫الدوام يف اخلطوط الأمامية املدافعة عن مبادئ الثورة‬ ‫واجلمهورية‪ ،‬والت�صدي للم�ؤامرات على ال�شعب اليمني‬ ‫يف خمتلف مراحل تاريخه ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫ فقد كان الي�سار بكل ت�سمياته واجتاهاته �صاحب‬ ‫املبادرة والريادة يف ح�شد وتنظيم اجلماهري حول ثورة‬ ‫‪� 26‬سبتمرب ‪ .1962‬وبذلك حتقق االلتفاف اجلماهريي‬ ‫العظيم‪ ،‬مما �أعطى ل�سبتمرب بعد ًا ثوري ًا جتاوز طموح‬ ‫جمموعة ال�ضباط الوطنيني الذين �أطلقوا �رشارة التغيري‪،‬‬ ‫لت�صبح ث��ورة حقيقية تهم يف املقام الأول جماهري‬ ‫ال�شعب املحرومة وقواها التقدمية مبختلف اجتاهاتها‬ ‫الفكرية وال�سيا�سة التنظيمية‪.‬‬ ‫ وكان الي�سار بجميع عنا�رصه املدنية والع�سكرية‬ ‫يف طليعة القوى املدافعة عن ‪ ‬الثورة واجلمهورية‪ ،‬وقدم‬ ‫جتربة ثورية متميزة عندما �أ�س�س املقاومة ال�شعبية بهدف‬ ‫الدفاع عن الثورة وحماية عا�صمة اجلمهورية املحا�رصة‬ ‫�إبان ملحمة ال�سبعني يوم ًا التي قدم الي�سار خاللها نخبة‬ ‫من عنا�رصه املدنية والع�سكرية يف معركة ال�صمود‬ ‫و�صنع االنت�صار العظيم‪ .‬وال يوجد اليوم �أي م�ؤرخ‬ ‫من�صف للتاريخ ومتابع للأحداث ِ‬ ‫وعبرَ ه ي�شكك يف دور‬ ‫املقاومة ال�شعبية يف دحر القوى املحا�رصِة والك�شف عن‬ ‫طوابريها املند�سة لي�س يف العا�صمة املحا�رصة فح�سب‪،‬‬ ‫بل يف �أكرث من مدينة مينية‪ .‬لقد �أ�صبحت جتربة املقاومة‬ ‫ال�شعبية يف ذمة التاريخ‪ ،‬ولن يخجل اليوم �أي ي�ساري‬ ‫�أو تقدمي عند احلديث عن هذه التجربة الثورية الفريدة‪.‬‬ ‫و�إىل جانب الن�ضال الع�سكري‪ ،‬خا�ض الي�سار خالل‬ ‫ال �آخر من �أجل بناء دولة امل�ؤ�س�سات‪،‬‬ ‫تلك الفرتة ن�ضا ً‬ ‫دولة النظام والقانون‪ ،‬دولة امل�ساواة والعدالة واحلريات‬

‫ ‪ 159‬‬

‫ل�سائر �أبناء ال�شعب‪ .‬ويتذكر اجلميع ال�رصاع املرير بني‬ ‫اجلديد والقدمي عندما بد�أ بع�ض املتخرجني من اجلامعات‬ ‫العربية وغري العربية‪ ،‬والكثري منهم ينتمي للي�سار‪ ،‬العمل‬ ‫من �أجل ت�أ�سي�س النظام النقدي واملايل‪ ،‬وبناء الإدارة‬ ‫احلديثة‪ ،‬وال�سعي اىل و�ضع الرجل املنا�سب يف املكان‬ ‫ٍ‬ ‫وقت كانت فيه �أجهزة القمع تالحق هذه‬ ‫املنا�سب‪ ،‬يف‬ ‫العنا�رص الي�سارية وتعتقلهم‪ ،‬لدرجة �أن �أجهزة الأمن‬ ‫كانت تخرج البع�ض منهم من ال�سجن العداد وثيقة �أو‬ ‫م�رشوع املوازنة وتعيده بعد �أن ينتهي منها �إىل غياهب‬ ‫ال�سجون و�أقبية القمع والظالم‪.‬‬

‫جتربة ثورية يف اجلنوب اليمني تختلف عن التجارب‬ ‫والأنظمة التي عرفتها املنطقة العربية من املغرب‬ ‫العربي حتى امل�رشق العربي‪ .‬وواجه الي�سار �أثناء �سعيه‬ ‫القامة جتربته الثورية اجلديدة القوى الرجعية الظالمية‬ ‫ومعها الإمربيالية العاملية‪ ،‬منذ بداية التجربة وحتى‬ ‫نهايتها‪ .‬وعلى الرغم من كرثة املحن و�شحة املوارد‬ ‫االقت�صادية واملالية و�ضبابية الر�ؤية ال�سيا�سية وانعدام‬ ‫اخلربة الإدارية وقلة الكوادر احلزبية والتكنوقراطية التي‬ ‫ميكن �أن ت�سهم عملي ًا وعلمي ًا يف بناء التجربة املن�شودة‬ ‫وفق واقع البلد واحتياجاته‪ ،‬كان الي�سار �صادق ًا يف‬

‫الي�سار اليمني رائد حلم التغيريات الكربى‬ ‫قد قوبلت املواقف امل�رشِّ فة واملبدئية والع�رصية لقوى‬ ‫الي�سار بالقمع واملالحقة والنفي يف جميع �أنظمة احلكم‬ ‫التي تعاقبت على ال�سلطة يف اجلمهورية العربية اليمنية‪.‬‬ ‫ويكفي على �سبيل املثال ال احل�رص �أن نذكر املنا�ضل‬ ‫الي�ساري واملفكر التقدمي يحيى عبد الرحمن الإرياين‬ ‫الذي تعر�ض لقمع �أجهزة الأمن حتى يف فرتة حكم‬ ‫والده القا�ضي عبد الرحمن الإرياين بتهمة االنتماء �إىل‬ ‫احلزب الدميقراطي الثوري اليمني ورئا�سة حترير �صحيفة‬ ‫«احلقيقة» التي �أ�صدرها يف تعز وكانت قريبة من احلزب‪.‬‬ ‫فقد تعاقبت جميع �أنظمة احلكم يف �صنعاء على قمع‬ ‫قوى الي�سار و�أعدمت �أو اغتالت الع�رشات منهم‪ ،‬ونفت‬ ‫بع�ضهم �أو �أخفت الكثري منهم‪ .‬وكانت مرحلة حكم‬ ‫علي عبد الله �صالح الأكرث عنف ًا وبط�ش ًا ودموية‪ ،‬حيث‬ ‫�أعدم الكثري من الع�سكريني واملدنيني دون حماكمة‪ ،‬ولو‬ ‫�صورية‪ ،‬ودون �أن يعلم �أهلهم حتى اليوم �أين مت �إخفاء‬ ‫جثثهم‪ .‬والحقت �أجهزة حكم �صالح قوى الي�سار من‬ ‫مدنيني وع�سكريني و�سجنت وعذبت الع�رشات حتى‬ ‫�أ�صيب البع�ض منهم باجلنون �أو ال�شلل‪� .‬أما املخفيون‪،‬‬ ‫فال يعرف م�صريهم حتى الآن‪ .‬ومنعت �أجهزة قمع �صالح‬ ‫الكثري من العنا�رص امل�ؤهلة من التدري�س يف اجلامعات‬ ‫وامل�ؤ�س�سات العلمية ونفت البع�ض �إىل بلدان ال�شتات‪،‬‬ ‫والحقتهم يف هذه البلدان حيث وا�صلت �سفارات النظام‬ ‫و�ضباط ما ي�سمى بالأمن الوطني مالحقة هذه العنا�رص‬ ‫املنفية وتهديدها بالو�صول �إليها وقتلها خارج البالد‪.‬‬ ‫ �أما جتربة الي�سار يف ما كان ي�سمى بال�شطر اجلنوبي‬ ‫من اليمن فهي غنية باجنازاتها يف �أكرث من حمطة مرت‬ ‫بها‪ .‬فقد كان الي�سار رائد الن�ضال امل�سلح الذي جنح‬ ‫يف دحر امل�ستعمر الربيطاين و�إخراجه‪ ،‬و�أقام الي�سار‬

‫يخطئ الي�سار عندمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫يتخلى عن اجنازاته لغيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــره‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫توجهه م�ؤمن ًا باختياراته متجرد ًا عن مغريات ال�سلطة‬ ‫وهو ميار�سها‪ ،‬ومبتعد ًا عن نهب الرثوة وهو يجتهد يف‬ ‫تنميتها وا�ستخدامها ل�صالح الثورة وقواها الأ�سا�سية‬ ‫ومنجزاتها االقت�صادية‪ .‬لقد �أ�صبحت هذه التجرية‬ ‫الي�سارية الوحيدة يف العامل العربي يف حكم التاريخ‪،‬‬ ‫يقيمها ويحكم عليها‬ ‫ومن حق كل فرد �أو جماعة �أن ِّ‬ ‫وفق ًا خللفيته االجتماعية وال�سيا�سية وقناعته الفكرية‬ ‫ومن‬ ‫وانتمائه احلزبي‪ ،‬مع الأخذ يف االعتبار ‪َ -‬من ت�رضر َ‬ ‫ومن عار�ضها‬ ‫ا�ستفاد‪َ ،‬من دعم التجربة بقناعة و�إميان َ‬ ‫لأ�سباب اجتماعية و�سيا�سية و�إيديولوجية‪ ،‬ورمبا يف‬ ‫يقيم‬ ‫املقام الأول دينية‪ .‬للجميع اليوم احلرية الكاملة �أن ِّ‬ ‫و�أن ي�شيد �أو ينتقد‪ .‬فاحلوار واالختالف من �أبجديات‬ ‫احلياة بكل �أبعادها وجوانبها‪ ،‬ويف املقدمة اجلانب‬ ‫ال�سيا�سي‪ .‬و�أنا على قناعة ب�أن كل من�صف للحقيقة وكل‬ ‫من يعرف طبيعة التجربة والفرتة التي مرت بها طبيعة‬ ‫الأو�ضاع الوطنية والإقليمية والدولية ال�سائدة �آنذاك‪،‬‬ ‫و�صدق الرجال والن�ساء الذين كانوا يحلمون بنجاح‬ ‫تلك التجربة‪� ،‬سيعطي لهذه التجربة الكثري من اجلوانب‬ ‫الإيجابية �أكرث من الهفوات وال�سلبيات التي ال ميكن‬ ‫�إنكار �أنها رافقت بع�ض اجلوانب التطبيقية‪.‬‬ ‫�إن�صاف جتربة اجلنوب‬ ‫وهكذا فقد كان الي�سار اليمني‪ ،‬رائد حلم التغيريات‬ ‫الكربى يف ال�شمال واجلنوب‪ ،‬وقدم خرية �شبابه �شهداء‬ ‫من �أجل تلك املُ ُثل واملبادئ التي �آمن بها و�سعى وكافح‬ ‫لإجنازها‪� .‬ألي�س من الإن�صاف �أن نتذكر اليوم‪ ،‬ونحن ن�سمع‬


‫عبد الفتاح‬ ‫ا�سماعيل‪ ،‬االمني‬ ‫العام للحزب‬ ‫اال�شرتاكي اليمني‪،‬‬ ‫يف اجتماع �شعبي‪.‬‬


‫�أ�صوات التجزئة وعبث نكران مينية اجلنوب ترتفع عالي ًا‪،‬‬ ‫وحد الإمارات وال�سلطنات املتناحرة �أكرث؟‬ ‫�أن الي�سار َّ‬ ‫�ألي�س من حقنا �أن نفخر ب�أن الي�سار احلاكم �سابق ًا يف‬ ‫اجلنوب جعل �صوت اليمن يف املحافل العربية والدولية‬ ‫خمتلف ًا عن ا�صوات ومواقف بع�ض الدول العربية املت�آمرة‬ ‫على ق�ضايا �شعوبها و�أوطانها؟ �أميكن لأي من�صف لنف�سه‬ ‫وحلقائق التاريخ �أن ينكر �أن احلزب اال�شرتاكي اليمني‬ ‫تخلى عن دولة من �أجل �إجناز الوحدة‪ ،‬ذلك احللم الذي‬ ‫رافقه يف تاريخه كله‪ ،‬من الت�أ�سي�س وحتى احلا�رض؟‬ ‫ومباذا قابلته قوى االنقالب واالنف�صال والظالم؟ فقد‬ ‫لنتذكَّ ر ما قاله املنا�ضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل‬ ‫نل�سن منديال وهو يتذكر ممار�ســــــــــــــــــــــــــــات‬ ‫النظام العن�رصي يف جنوب �أفريقيـــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫«يـــــــــــمكننا �أن نغفر لكن لي�س من حقنا �أن نن�سى»‬ ‫كاف�أته على اجناز الوحدة باغتيال املئات من كوادره‬ ‫املدنية والع�سكرية‪ .‬و�أعتقد �أن اجلرمية النكراء التي خطط‬ ‫لها التحالف ال�سلطوي اال�ستخباراتي الظالمي باغتيال‬ ‫الزعيم الي�ساري جارالله عمر‪ ،‬الأمني العام امل�ساعد‬ ‫للحزب اال�شرتاكي‪� ،‬أمام ح�شد وا�سع من النا�س وحتت‬ ‫تغطية �إعالمية حملية وعربية ودولية‪ ،‬كانت ر�سالة‬ ‫وا�ضحة للي�سار تقول «هكذا ت�صل �إليكم طلقات �أ�سلحتنا‬ ‫وقذائفنا لي�س يف ال�شوارع �أو داخل منازلكم فح�سب‪،‬‬ ‫بل حتى يف امل�ؤمترات و�أمام �أعني املاليني من النا�س ميني ًا‬ ‫وعربي ًا وعاملي ًا»‪ .‬وهكذا كانت ت�صفية املنا�ضل جارالله‬ ‫عمر بتلك الطريقة ر�سالة لكل ي�ساري ولكل وطني‬ ‫يحلم بت�أ�سي�س وطن جديد ي�سوده العدل والإن�صاف‬ ‫وينعم �أبنا�ؤه وبناته باحلرية والدميقراطية واحلداثة‪ ،‬وت�سود‬ ‫امل�ساواة الفعلية بني جميع �أبنائه يف ال�شمال واجلنوب‪،‬‬ ‫ويف ال�رشق والغرب‪ ،‬يف الداخل واملهجر‪ .‬ورغم فداحة‬ ‫اخل�سارة بجارالله مل يرتدع الي�سار‪ ،‬وحني حل الربيع‬ ‫أدوار م�شهودة يف‬ ‫اليمني كان لقوى الي�سار وعنا�رصه � ٌ‬ ‫املبادرة بالإعداد والتنظيم وحتديد املراحل والأهداف‬ ‫بالتعاون التام مع �شباب التغيري واحلركة الإ�سالمية وكل‬ ‫القوى املن�ضوية يف تكتل «اللقاء امل�شرتك» الذي كان‬ ‫الزعيم الي�ساري جارالله عمر قد �أ�سهم يف ت�أ�سي�سه‬ ‫وحتديد �أهدافه مع حر�صه على تعزيز التنوع ال�سيا�سي‬ ‫والتنظيمي والفكري لكل القوى والعنا�رص املكونة لهذا‬ ‫التحالف ال�سيا�سي التاريخي‪.‬‬

‫ ‪ 162‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ظامل ام مظلوم؟‬ ‫بعد هذا ال�رسد املوجز ل�سرية الي�سار واجنازاته‪ِ ،‬‬ ‫وللم َحن‬ ‫وامل ��ؤام��رات والت�صفيات التي تعر�ض لها وال يزال‪،‬‬ ‫ول�سيا�سة �إبعاد كوادره و�أع�ضائه حتى بعد ربيع التغيري‪،‬‬ ‫نت�ساءل من جديد عما �إذا كان الي�سار اليمني ظامل ًا �أم‬ ‫متابعا‪� ،‬سيا�سي ًا‬ ‫مظلوم ًا‪ .‬من حق كل فرد‪� ،‬أكان كاتب ًا �أم‬ ‫ً‬ ‫�أم غري �سيا�سي‪ ،‬ملتزم ًا فكري ًا وتنظيمي ًا �أم غري ملتزم‪ ،‬يف‬ ‫ال�سلطة �أم يف املعار�ضة‪� ،‬أن يجيب كما يريد وفق ًا لقناعاته‬ ‫وفكره‪� .‬أما �أنا ف�أعتقد جازم ًا �أن الي�سار قد تعر�ض لظلم‬ ‫جميع �أنظمة احلكم املتعاقبة‪ ،‬رمبا �أ�سهم الي�سار نف�سه دون‬ ‫�أن يدري يف جلد ذاته وظلم نف�سه عندما يتوا�ضع وميتنع‬ ‫عن التذكري باجنازاته‪ ،‬وين�سى �أن يرفع عالي ًا وعلى الدوام‬ ‫قوائم و�أ�سماء �شهدائه الذين قدموا حياتهم من �أجل‬ ‫احلرية والدميقراطية وقيم التغيري واحلداثة التي �آمنوا بها‬ ‫و�ضحوا من �أجلها‪.‬‬ ‫ويعد البحث عن جثامني من �أعدموا وعن املخفيني‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫من قيادات الي�سار وك��وادره و�أع�ضائه واجب ًا وطني ًا‬ ‫وحزبي ًا و�إن�ساني ًا وم�س�ؤولية �أخالقية‪ .‬وتقع على كاهل‬ ‫احلزب اال�شرتاكي اليمني باعتباره �أهم قوى الي�سار اليوم‪،‬‬ ‫ومعه جميع قوى الي�سار وعنا�رصه �سواء �أكانت منظمة �أم‬ ‫غري منظمة‪� ،‬أن ترفع عالي ًا هذه املطالب امل�رشوعة وتعمل‬ ‫لإعادة االعتبار للي�سار و�شهدائه‪.‬‬ ‫ لقد كان الأمني العام للحزب اال�شرتاكي اليمني‪،‬‬ ‫املفكر التقدمي‪ ،‬يا�سني �سعيد نعمان‪ ،‬حمق ًا عندما قال‬ ‫م�ؤخر ًا يف �إحدى حما�رضاته ‪« :‬يخطئ الي�سار عندما‬ ‫يتخلى عن اجنازاته لغريه»‪ .‬نعم‪ ،‬كان الي�سار وال يزال‬ ‫ال وت�ضحية يف معظم‬ ‫ال وفع ً‬ ‫�صاحب ر�سالة و�أ�سهم قو ً‬ ‫االجنازات والتحوالت الكربى التي �شهدها تاريخ اليمن‬ ‫املعا�رص‪ ،‬على الرغم من الظلم الذي تعر�ض له يف املا�ضي‬ ‫ويعد االعتبار‬ ‫واحلا�رض‪ ،‬و�إذا مل ُيرفع هذا الظلم والتهمي�ش ُ‬ ‫لكل من تعر�ض للقتل والتعذيب واملطاردة والنفي‪ ،‬ما مل‬ ‫حت�سم جميع هذه الق�ضايا اجلوهرية املعلقة‪ ،‬ويتم حترميها‬ ‫قانون ًا‪ ،‬وما مل تتوقف ماكينة �إ�صدار فتاوى التكفري بحق‬ ‫الكوادر ال�سيا�سية والكتاب واملفكرين وال�صحافيني‪،‬‬ ‫ويمُ َنع التعذيب بجميع �أ�شكاله و�صوره‪ ،‬ف�إن الي�سار �سيظلم‬ ‫ويعاد �إنتاج ظلم الأم�س‬ ‫ويق�صى من جديد‪ُ ،‬‬ ‫هم�ش ُ‬ ‫ُ‬ ‫وي َّ‬ ‫محِ‬ ‫لتفر�ض يف احلا�رض وامل�ستقبل‪.‬‬ ‫نه‬ ‫و‬ ‫واغتياالته‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ ينبغي �أال نن�سى ما قاله املنا�ضل نل�سن منديال وهو‬ ‫يتذكر ممار�سات النظام العن�رصي يف جنوب �أفريقيا ‪:‬‬ ‫«ميكننا �أن نغفر لكن لي�س من حقنا �أن نن�سى»‪.‬‬

‫إرسائيل‪ ،‬أمريكا والنفط العريب عام ‪1948‬‬ ‫ايرين غندزير الدعوة هذه تهدف لإعادة التفكري يف دور ا�رسائيل يف‬ ‫اجلبهة ال�رشقية خالل احلرب الباردة يف البحر املتو�سط‪،‬‬ ‫استاذة يف على �ضوء الأدلة التي يقدمها التقومي الذي اجرته وزارة‬ ‫جامعة بوسطن الدفاع الأمريكية ال�رسائيل\ فل�سطني يف ‪ .1948‬ففي‬ ‫الوقت الذي قامت فيه وكالة اال�ستخبارات املركزية‬ ‫(‪ )CIA‬بتقدير القوة املقارنة اال�رسائيلية يف وجه القوات‬ ‫العربية يف �صيف ‪ ،1948‬قدمت وزارة الدفاع تقوميها‬ ‫الإيجابي اخلا�ص للقدرة اال�رسائيلية يف �سياق ال�سيا�سة‬ ‫الأمريكية يف ال�رشق الأو�سط‪ .‬مل تتجاهل هذه التقوميات‬ ‫ال�رصاع اال�رسائيلي – الفل�سطيني امل�ستمر‪ ،‬بل رو�ضت‬ ‫جتلياته الأكرث خطورة‪ ،‬مثل طرد الالجئني الفل�سطينيني‬ ‫والتو�سع اجلغرايف اال�رسائيلي ما وراء خطوط قرار االمم‬ ‫ال اىل ق�ضايا‬ ‫املتحدة للتق�سيم املقر يف ‪ ،1947‬و�صو ً‬ ‫ املراجع املوجودة‬ ‫التخطيط الع�سكري‪ .‬هذا مع العلم ا ّنه ال ميكن تلخي�ص‬ ‫يف هذا البحث‬ ‫م�أخوذة من‬ ‫�سجالت ال�سيا�سة الأمريكية واخلالفات الداخلية بني‬ ‫درا�ستي املقبلة«‬ ‫امل�س�ؤولني يف وزارة اخلارجية‪ ،‬وما بني هذه الأخرية‬ ‫‪“Dying to Forget:‬‬ ‫‪ The Foundations of‬ووزارة الدفاع ووكاالت اال�ستخبارات‪ ،‬بهذه ال�سهولة‪.‬‬ ‫‪Policy‬‬ ‫‪ inUStheForeign‬يكفي اال�شارة اىل � ّأن جذور ما �سي�صبح الحق ًا‪ ،‬بعد‬ ‫‪Middle East ,‬‬ ‫‪ Oil, Palestine/Israel,‬فرتة طويلة‪« ،‬العالقة املميزة» بني وا�شنطن وتل ابيب‪،‬‬ ‫”‪ ،1945-1949,‬التي‬ ‫بد�أت اثر التطورات التي قيمتها وزارة الدفاع ب�إيجابية‬ ‫�ستن�رش من قبل‬ ‫جامعة كولومبيا‪.‬‬ ‫يف ‪ .1948‬مل يتم ت�صنيف ا�رسائيل كـ«ا�صول‬ ‫ا�سرتاتيجية» وفق التعابري امل�ستخدمة اليوم‪ ،‬لكنها‬ ‫‪ 1‬تقرير التحقيق‬ ‫عن النفط وعالقته اعتربت ذات �أهمية يف بنية التخطيط الع�سكري امل�صمم‬ ‫بالأمن القومي‪،‬‬ ‫حلماية امل�صالح النفطية الأمريكية يف املنطقة‪.‬‬ ‫اجرته اللجنة‬ ‫الفرعية عن النفط يف ال�سنوات التي تلت احل��رب العاملية الثانية‬ ‫والقوات امل�سلحة‬ ‫النواب مبا�رشة‪ ،‬تعاملت وا�شنطن مع �رشق املتو�سط باعتباره‬ ‫يف جمل�س‬ ‫الأمريكي‪،‬‬ ‫مر�آة ذات وجهني‪ ،‬تعك�س �سيا�ساتها ال�رشق او�سطية مع‬ ‫‪,USG Printing Office‬‬ ‫‪ ،1948‬خلطة امل�صالح الع�سكرية والتجارية من جهة‪ ،‬وحتمي‬ ‫وا�شنطن‪،‬‬ ‫�ص ‪.64-60‬‬ ‫م�صاحلها النفطية العربية الغربية‪ ،‬من جهة اخرى‪.‬‬

‫ ‪ 163‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫بعد ايار ‪� ،1948‬ستلعب ا�رسائيل دور ًا يف �سيا�سة‬ ‫وا�شنطن املتو�سطية وال�رشق او�سطية يف �آن‪ ،‬وهي يف‬ ‫ال ال يتجز�أ‪.‬‬ ‫احلقيقة �شكلت ك ً‬ ‫ يف وقت كان فيه ت�أثري اعرتاف الرئي�س الأمريكي‬ ‫با�رسائيل يف ايار ‪ 1948‬هدف ًا للتمحي�ص النقدي‬ ‫لفرتة طويلة‪ ،‬ال ميكن القول � ّإن الأمر نف�سه ينطبق على‬ ‫موقف وزارة الدفاع يف اعقاب ا�ستقالل ا�رسائيل‪ .‬مرة‬ ‫�أخ��رى‪ ،‬ما هو معروف اكرث هي مواقف وزير الدفاع‬ ‫جيم�س فور�ستال‪ ،‬الذي من بني �آخرين يف وزارتي الدفاع‬ ‫واخلارجية ووكالة اال�ستخبارات املركزية‪ ،‬قبل ايار‬ ‫‪ ،1948‬كان مدرك ًا للتطورات التي كادت ان تعر�ض‬ ‫امل�صالح الأمريكية النفطية والتجارية يف العامل العربي‬ ‫للخطر‪� .‬إذ يف النهاية‪ ،‬كانت اللجنة الفرعية اخلا�صة‬ ‫حول النفط يف جمل�س النواب االمريكي يف ‪،1948‬‬ ‫واعية ب�شكل كبري ب�أ ّنها ال ت�ستطيع ان تناق�ش اهمية‬ ‫ال�سعودية للم�صالح النفطية الأمريكية من دون التطرق‬ ‫‪1‬‬ ‫ان حقيقة � ّأن امل�صالح الأمريكية‬ ‫مل�س�ألة فل�سطني ‪ .‬كما ّ‬ ‫النفطية كانت واعية اي�ض ًا ب� ّأن ابرز الدول املنتجة للنفط‬ ‫يف ال�رشق االو�سط مل تكن جاهزة للتخلي عن ارباحها‪،‬‬ ‫مل يخفف من اهمية التعاطي مع م�س�ألة فل�سطني‪.‬‬ ‫ يف �شباط ‪ )23/PPS( 1948‬مل يكن جورج كينان‬ ‫بو�صفه رئي�س م�س�ؤويل �سيا�سات التخطيط اقل و�ضوح ًا‬ ‫يف التعبري عن خماوفه حيال ال�ضغوطات التي دفعت‬ ‫بوا�شنطن للقبول مب�س�ؤولية دولة يهودية يف فل�سطني‪.‬‬ ‫وهو حذّر من ا ّنه يف حال ح�صول ذلك وخ�صو�ص ًا اذا‬ ‫ار�سلت الواليات املتحدة جنود ًا او وافقت على ا�ستخدام‬ ‫قوات دولية‪� ،‬ستكون مرغمة على �إعادة النظر بتخطيطها‬ ‫الع�سكري والتجاري كذلك للمتو�سط وال�رشق الأو�سط‪.‬‬ ‫ان التفوق العددي للدول‬ ‫ قبل ايار ‪ ،1948‬كان ُيعتقد ّ‬


‫‪ 2‬‬

‫‪Avi Shlaim, “Israel‬‬ ‫‪and the Arab‬‬ ‫”‪Coalition in 1948,‬‬ ‫‪in Avi Shlaim and‬‬ ‫‪Eugene L Rogan,‬‬ ‫‪eds., The War for‬‬ ‫‪Palestine, 2001‬‬

‫�ص‪.80‬‬ ‫‪ 13 3‬ني�سان‬ ‫‪ ،1948‬القن�صل‬ ‫يف القد�س‬ ‫(وا�سون) لوزير‬ ‫اخلارجية‪FRUS،‬‬ ‫‪ ،1948‬املجلد‬ ‫اخلام�س‪ ،‬الق�سم‬ ‫الثاين‪� ،‬ص ‪.817‬‬

‫‪ 4‬‬

‫انظر‪Simha Flapan,‬‬

‫‪The Birth of Israel,‬‬ ‫‪Pantheon Books,‬‬ ‫;‪N.Y. 1987, p. 89‬‬

‫‪Major R.D. Wilson,‬‬ ‫‪“The Battle for‬‬ ‫‪Haifa, April 21-22,‬‬ ‫‪1948,” in Walid‬‬ ‫‪Khalidi, ed., From‬‬ ‫‪Haven to Conquest,‬‬ ‫‪Beirut, 1971,‬‬ ‫‪pp. 771-774; Walid‬‬ ‫‪Khalidi, “Special‬‬ ‫‪Feature, The Fall‬‬ ‫”‪of Haifa Revisited,‬‬ ‫‪Journal of Palestine‬‬ ‫‪Studies, Vol. XXXVll,‬‬ ‫‪no.3, Spring 2008,‬‬ ‫‪pp.30-58.‬‬

‫‪ 23 5‬حزيران‪،‬‬ ‫‪ ،1948‬القن�صلية يف‬ ‫حيفا (ليبينكوت)‬ ‫لوزير اخلارجية‪،‬‬ ‫‪،FRUS 1948‬‬ ‫املجلد اخلام�س‪،‬‬ ‫الق�سم الثاين‪،‬‬ ‫�ص ‪.1138‬‬

‫ ‪ 164‬‬

‫العربية يف املنطقة‪� ،‬سيقلل من فر�ص اي انت�صار يهودي‬ ‫يف فل�سطني‪ .‬تغيرّ الو�ضع مع ح�صول القوات اليهودية على‬ ‫ا�سلحة غري �رشعية‪ ،‬ب�شكل ا�سا�سي من ت�شيكو�سلوفاكيا‪،‬‬ ‫ولكن اي�ض ًا من دول اوروبية �رشقية اخرى‪ ،‬حتى ا ّنه منذ‬ ‫منت�صف ايار ‪ ،1948‬ا�صبحت قوات الدفاع اال�رسائيلية‬ ‫يف موقع اقوى فيما يتعلق بعديد الرجال واال�سلحة وذلك‬ ‫رغم التعزيزات العربية‪.2‬‬ ‫ غيرّ ت النتائج ب�شكل جذري امل�شهد االجتماعي‬ ‫وال�سيا�سي يف فل�سطني وال�رشق االو���س��ط‪ ،‬وكذلك‬ ‫تطلعات وح�سابات وزارتي اخلارجية والدفاع االمريكية‪.‬‬ ‫بعد اقل من �سنة على اعالن ا�ستقالل ا�رسائيل يف ‪15‬‬ ‫ايار ‪ ،1948‬بد أ� امل�س�ؤولون االمريكيون يجرون تقومي ًا‬ ‫للقدرات الع�سكرية اال�رسائيلية وب��د�أوا معها عالقات‬ ‫�ست�صل اىل م�ستويات ق�صوى بعد ‪ .1967‬لكن قبل‬ ‫ذلك بع�رشين عام ًا‪ ،‬يف ما بعد ال�رصاع حول فل�سطني يف‬ ‫‪ ،1948‬قامت وزارة الدفاع الأمريكية باالعرتاف ب�أهمية‬ ‫هذه التطورات فيما يتعلق بامل�صالح الأمريكية يف �رشق‬ ‫املتو�سط وال�رشق االو�سط‪.‬‬ ‫ لكن كان لذلك االعرتاف �آثار اخرى‪ ،‬مت جتاهلها يف‬ ‫ال�سجالت التقليدية لل�سيا�سات االمريكية ملا بعد احلرب‪.‬‬ ‫متت اعادة تقومي القدرات اال�رسائيلية من قبل وزارة‬ ‫الدفاع الأمريكية يف الفرتة نف�سها التي كان القنا�صلة‬ ‫الأمريكيون يف فل�سطني\ ا�رسائيل والدبلوما�سيون‬ ‫االمريكيون يف لبنان ير�سلون �إىل وزارة اخلارجية‬ ‫تفا�صيل عن طبيعة ال�رصاع امل�ستمر مع الفل�سطينيني‬ ‫ونتائجه ـ مثل حاالت دير يا�سني وحيفا ويافا‪ .‬يف هذه‬ ‫املرحلة‪ ،‬حاول م�س�ؤولو وزارة اخلارجية وجمل�س الأمن‬ ‫القومي يف وا�شنطن‪ ،‬من دون ان ينجحوا‪ ،‬بالتقرب ممن‬ ‫اعتربوهم �صهاينة وعرب معتدلني يف حماولة للتو�صل‬ ‫اىل ت�سوية ما حول ق�ضايا الأر�ض والالجئني‪.‬‬ ‫ القن�صل العام االمريكي يف القد�س‪ ،‬توما�س �سي‪.‬‬ ‫وا�سون‪ ،‬الذي اغتيل يف ‪ 23‬ايار‪ ،‬ار�سل يف ‪ 13‬ني�سان‬ ‫‪ 1948‬اىل وزير اخلارجية مار�شال تقرير ًا �رسي ًا حول‬ ‫ما حدث يف دير يا�سني‪ ،‬وهي قرية فل�سطينية تقع غرب‬ ‫مدينة القد�س‪ ،‬حيث قام «معتدون بقتل ‪� 250‬شخ�ص ًا‬ ‫ن�صفهم‪ ،‬وفق اعرتاف املعتدون للم�س�ؤولني الأمريكيني‪،‬‬ ‫ال‪ .‬االعتداء ح�صل بالتزامن مع معركة‬ ‫كانوا ن�ساء واطفا ً‬ ‫ال تزال م�ستمرة بني العرب واليهود على الطرقات امل�ؤدية‬ ‫من القد�س اىل تل ابيب»‪ .3‬بعد ذلك‪ ،‬قال وا�سون � ّإن‬ ‫حظوظ وقف اطالق النار وح�صول هدنة ا�صبحت بعيدة‪.‬‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫يف ‪ 24‬ني�سان‪ ،‬تلقى وزير اخلارجية مار�شال برقية حول‬ ‫التطورات املقلقة يف حيفا‪ ،‬التي كانت م�صفاة النفط فيها‬ ‫م�رسح ًا ل�رصاعات �سابقة‪ ،‬وا�صبحت وقتها يف يد القوات‬ ‫اليهودية‪ .4‬يف ‪ 23‬حزيران‪ ،‬ابرق القن�صل الأمريكي يف‬ ‫حيفا اوبري ليبينكوت لوزارته ليخربها ب�أ ّنه علم بخ�صو�ص‬ ‫اجراءات التفتي�ش التي يتعر�ض لها ال�سكان العرب يف‬ ‫حيفا من قبل ال�سلطات اليهودية‪« .‬العرب الذين يعودون‬ ‫اىل حيفا يعتربون غري �رشعيني‪ .‬يطلب منهم حلف ميني‬ ‫الوالء للدولة اليهودية‪ .‬النتيجة ان من تبقى من العرب‬ ‫يريدون الرحيل»‪ .5‬يف ني�سان ‪ ،1949‬ار�سل الوزير‬ ‫الأمريكي املنتدب اىل لبنان لويل �سي‪ .‬بينكرتون امللفات‬ ‫التي ح�صل عليها من املجل�س التنفيذي ليافا وجمل�س‬ ‫ال�سكان الذين ميثلون يافا‪ ،‬والرملة‪ ،‬واللدة‪ ،‬والقرى العربية‬ ‫التي ت�شكل القطاع هذا‪ .‬كان تقرير بنكرتون يت�ضمن‬ ‫امللفات املتعلقة بطرد الفل�سطينيني من هذه املناطق‪.6‬‬ ‫ التقارير املتعلقة بطرد الفل�سطينيني من دير يا�سني‪،‬‬ ‫وحيفا ويافا وال��ع��دد الكبري من القرى والبلدات‬ ‫الفل�سطينية هي جزء من ال�سجالت الأمريكية التي مت‬ ‫اهمالها لفرتة طويلة يف التقارير االمريكية املتعلقة‬ ‫با�رسائيل وتكوينها كدولة‪ .‬ميكن قول الأمر نف�سه عن‬ ‫الدرا�سات الهامة من قبل االكادمييني اال�رسائيليني‬ ‫املعا�رصين مثل بيني موري�س وايالن بابي‪ ،‬ومع اجيال‬ ‫�سابقة‪ ،‬مثل �سمحا فالبان‪ ،‬وكذلك يف حتليالت و�شهادات‬ ‫االكادمييني والباحثني الفل�سطينيني والعرب‪.‬‬ ‫ الرتكيز يف البحث هذا هو على ما اعتقد انها ا�شارات‬ ‫هامة حول التغيري يف ال�سيا�سة الأمريكية يف الفرتة ما بني‬ ‫اخلروج الربيطاين من فل�سطني واعالن ا�ستقالل ا�رسائيل‬ ‫يف ايار ‪ ،1948‬حني تولت وزارة الدفاع م�س�ألة اعادة‬ ‫التقومي للدولة اجلديدة‪ ،‬وقدراتها فيما يتعلق بحماية‬ ‫امل�صالح الأمريكية الإقليمية‪.‬‬ ‫ قبل ع�رشة ايام من خروج بريطانيا من فل�سطني‪،‬‬ ‫واجه امل�س�ؤولون الأمريكيون فيها رف�ض ًا من قبل الوكالة‬ ‫اليهودية لهدنة ما او اتفاق و�صاية ال�ستبدال ما اعتربته‬ ‫ال يف خطة‬ ‫وزارة اخلارجية الأمريكية والبيت الأبي�ض ف�ش ً‬ ‫التق�سيم‪ .‬يف تقومي الو�ضع‪ ،‬تناول روبرت ماكلينتوك وهو‬ ‫امل�ساعد اخلا�ص لدين را�سك‪ ،‬نتائج هذه التطورات‪ .‬اعترب‬ ‫�أ ّنه ميكن القول � ّإن وا�شنطن �ستواجه يف الفرتة القريبة حالة‬ ‫�ستخلقها القوات الع�سكرية اال�رسائيلية ومنها الهاغاناه‪،‬‬ ‫وع�صابات �شترين‪ ،‬وايرغون‪ ،‬و�ست�ضطر وا�شنطن اىل‬ ‫اتخاذ قرار حول اذا كان «االعتداء اليهودي على التجمعات‬

‫‪� 6‬آيرين غندزير‪،‬‬ ‫«املذكرة امل�سلمة‬ ‫اىل حكومة‬ ‫الواليات املتحدة‬ ‫الأمريكية»‪ ،‬من‬ ‫قبل جمل�س �سكان‬ ‫يافا و�ضواحيها‪،‬‬ ‫كانت موجودة يف‬ ‫الربقية املر�سلة من‬ ‫قبل لويل �سي‪.‬‬ ‫بنكرتون‪ ،‬الوزير‬ ‫املفو�ض يف بريوت‪،‬‬ ‫لوزير اخلارجية‬ ‫مار�شال‪ ،‬يف ‪11‬‬ ‫ني�سان ‪،1949‬‬ ‫واعيد ن�رشها يف‬ ‫جملة الدرا�سات‬ ‫الفل�سطينية‪،‬‬ ‫املجلد ‪،18‬‬ ‫العدد ‪،3‬‬ ‫اال�صدار ‪،71‬‬ ‫ربيع ‪،1989‬‬ ‫العدد الثاين‪،‬‬ ‫�ص ‪.102‬‬ ‫‪ 4 7‬ايار‪،1948 ،‬‬ ‫م�سودة مذكرة من‬ ‫مدير مكتب الأمم‬ ‫املتحدة (را�سك)‬ ‫لنائب وزير‬ ‫اخلارجية (لوفيت)‪،‬‬ ‫‪ ،FRUS 1948‬املجلد‬ ‫اخلام�س‪ ،‬الق�سم‬ ‫الثاين‪� ،‬ص ‪.894‬‬ ‫كتب هذه املذكرة‬ ‫ماكلينتوك لكن‬ ‫يبدو ا ّنها مل تر�سل‪.‬‬ ‫‪ 2 8‬حزيران‪،1948 ،‬‬ ‫‪Minutes of the‬‬

‫‪Policy Planning‬‬

‫‪،Staff, FRUS 1948‬‬ ‫املجلد اخلام�س‪،‬‬ ‫الق�سم الثاين‪،‬‬ ‫�ص ‪.1088‬‬ ‫‪ 23 9‬حزيران‪،‬‬ ‫ ‬ ‫‪ ،1948‬مذكرة‬ ‫من ال�سيد‬ ‫روبرت ماكلينتوك‪،‬‬ ‫‪،FRUS 1948‬‬ ‫املجلد اخلام�س‪،‬‬ ‫الق�سم الثاين‪،‬‬ ‫�ص ‪.1135‬‬

‫ ‪ 165‬‬

‫العربية يف فل�سطني �رشعي ًا او ي�شكل خطر ًا على ال�سالم‬ ‫والأمن العامليني وبالتايل طلب اجراءات ت�أديبية من جمل�س‬ ‫االمن»‪� .7‬ستواجه وا�شنطن اذ ًا ما ا�سماه ماكلينتوك «حالة‬ ‫غري طبيعية» �سيكون فيها «اليهود املعتدون احلقيقيون �ضد‬ ‫�سيدعون ا ّنهم يدافعون بب�ساطة عن‬ ‫العرب‪ .‬لكن اليهود ّ‬ ‫حدود دولة ر�سمتها االمم املتحدة ووافق عليها‪ ،‬يف املبد�أ‬ ‫على الأقل‪ ،‬ثلثا اع�ضاء الأمم املتحدة»‪.‬‬ ‫ يف غ�ضون ا�سبوعني من اعالن ا�ستقالل ا�رسائيل‪،‬‬ ‫وافقت جمموعة تخطيط ال�سيا�سات على «ا ّنه يجب‬ ‫علينا �أن نبد�أ فور ًا بتطوير ورقة حول فل�سطني وجممل‬ ‫نتائج ال�سيا�سات‪ ،‬خ�صو�ص ًا فيما يتعلق بال�رشق‬ ‫الأو�سط‪ ،‬لتقدميها اىل الوزير (اخلارجية) وال�سيد لوفيت‪،‬‬ ‫واحتمال تقدميها عرب جمل�س الأم��ن القومي»‪ ،‬الذي‬ ‫ت�أ�س�س قبل فرتة قليلة‪ .8‬كان ماكلينتوك يف جمموعة‬ ‫موظفي تخطيط ال�سيا�سات‪ ،‬وكذلك فيليب جي�سوب‬ ‫الذي كان �آنذاك ميثل وا�شنطن يف الأمم املتحدة‪.‬‬ ‫ كما قال ماكلينتوك ب�شكل وا�ضح‪ ،‬ف �� ّإن وا�شنطن‬ ‫مل تعرتف فقط باحلكومة امل�ؤقتة لدولة ا�رسائيل‪ ،‬بل مل‬ ‫تت�رصف لتتحدى �سيادة او تقو�ض �سيطرتها على الأرا�ضي‬ ‫التي مل تكن م�شمولة بقرار الأمم املتحدة ‪� .181‬شدد لوي‬ ‫هندر�سون من وزارة اخلارجية على امل�س�ألة نف�سها‪ ،‬واو�ضح‬ ‫ان اي تغيريات جغرافية تقرتحها الواليات املتحدة على‬ ‫ا�رسائيل يجب ان تنال موافقة ا�رسائيل‪.‬‬ ‫ يف نهاية حزيران ‪ ،1948‬راج��ع ماكلينتوك ما‬ ‫ح�صل منذ اقرار التق�سيم يف ‪ ،1947‬وا�ستنتج ا ّنه «لن‬ ‫يكون هناك دولة عربية منف�صلة‪ ،‬وال احتاد اقت�صادي‪،‬‬ ‫كما تخيلت اجلمعية العامة لالمم املتحدة»‪ . 9‬كان الرجل‬ ‫م�ستعد ًا للتفكري يف «تبادل» او «ترحيل» النا�س‪ ،‬الذي‬ ‫كان مو�ضوع ًا م�شرتك ًا بني قادة ال�صهاينة‪ ،‬رغم ا ّنه مل‬ ‫يكن معرتف ًا به بني امل�س�ؤولني الأمريكيني‪ .10‬هدف �سيا�سة‬ ‫مماثلة كان وفق ماكلينتوك‪ ،‬خلق بيئة تتمكن فيها «دولة‬ ‫ا�رسائيل من احتواء يهود فل�سطني‪ ،‬فيما ي�سكن العرب يف‬ ‫مناطق �صافية عربي ًا» ‪ .11‬لكن ر�سالة خمتلفة كلي ًا و�صلت‬ ‫اىل مكلينتوك ووزير اخلارجية من قبل م�س�ؤول امريكي‬ ‫ال بني ال�صهاينة وهو جودا ماغن�س‪،‬‬ ‫اعترب االكرث اعتدا ً‬ ‫الذي كان وقتها رئي�س اجلامعة العربية يف القد�س‪ ،‬اذ‬ ‫حث الواليات املتحدة على فر�ض عقوبات مالية على‬ ‫العرب واليهود من اجل ايقاف القتال‪.‬‬ ‫ مل يتم اعتماد هذا اخليار‪ .‬لكن كان هناك فكرة متزايدة‬ ‫ب�أن ميزان القوى يف املنطقة كان يتغيرّ ‪.‬‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ يف منت�صف مت���وز ‪ ،1948‬اع��ت�برت وك��ال��ة‬ ‫اال�ستخبارات االمريكية �أ ّنه يف الوقت الذي «قام العرب‬ ‫بتقدم خالل الهدنة (بني ‪ 9‬و‪ 18‬متوز) كان ذلك ب�سيط ًا‬ ‫مقارنة بالتقدم اليهودي»‪ .12‬اكرث من ذلك‪ ،‬وكما يقول‬ ‫امل�صدر نف�سه‪ ،‬ف� ّإن وكالة اال�ستخبارات التي �أُن�شئت‬ ‫حديث ًا (‪ )1947‬ا�ستنتجت ان الهدنة عززت موقع‬ ‫ا�رسائيل «لدرجة ان اليهود قد يكونون اليوم اقوياء‬ ‫وي�ستطيعون �شن هجوم �شامل ودفع القوات العربية خارج‬ ‫فل�سطني»‪ .‬النتيجة النهائية «غريت ب�شكل كبري التقدير‬ ‫ال�سابق حيال امل�سار املحتمل للحرب يف فل�سطني»‪.‬‬ ‫ التقرير املذكور اعاله يت�ضمن تقدير ًا للقوات العربية‬ ‫واال�رسائيلية‪ ،‬جاءت على ال�شكل التايل‪ :‬القوات العربية‬ ‫«يف فل�سطني» قدرت برقم يقارب ال��ـ‪27000‬؛ تلك‬ ‫«القريبة من فل�سطني» قدرت بحوايل ‪ ،19800‬اي‬ ‫املجموع هو ‪ ،46800‬مقابل انق�سام القوات اال�رسائيلية‬ ‫ما بني الهاغاناه ‪50000‬؛ واالرغون مع ما بني ‪ 7‬و‪12‬‬ ‫الف ًا‪ ،‬على فرتة متتد من ‪ 4‬اىل �ستة ا�شهر؛ وع�صابات‬ ‫�شترين مع ‪ 400‬اىل ‪� 800‬شخ�ص يف الفرتة نف�سها‪.‬‬ ‫اي ان القوات اال�رسائيلية كانت حوايل ‪.13 97800‬‬ ‫ بعد ح��وايل �شهر‪ ،‬راجعت وكالة اال�ستخبارات‬ ‫املركزية تقديراتها ال�سابقة وقدمت تغيريات وا�سباب‬ ‫قليلة للتفكري ب� ّأن مقرر الأمم املتحدة الكونت برنادوت‬ ‫�سيتمكن من تقريب اجلهات املتنازعة للتو�صل اىل‬ ‫اتفاق‪ .‬على العك�س‪ ،‬حذرت الوكالة من � ّأن «املجموعات‬ ‫املتطرفة يف الطرفني وخ�صو�ص ًا اليهودية ايرغون زفاي‬ ‫لومي وع�صابة �شترين» ت�شكل خطر ًا م�ستمر ًا‪.14‬‬ ‫ بعد حوايل �شهرين على بروز ا�رسائيل كدولة م�ستقلة‪،‬‬ ‫كان فيليب جي�سوب وهو ع�ضو �آخر يف جمموعة موظفي‬ ‫تخطيط ال�سيا�سات والذي كان نائب ًا للممثل الأمريكي‬ ‫يف جمل�س الأمن يف �صيف ‪ ،1948‬كان وكما يف حالة‬ ‫ماكلينتوك يعيد التفكري يف قرارات االمم املتحدة ال�سابقة‬ ‫واال�شارات فيها لدولة عربية ويعتربها بائدة‪ .‬كان الوقت‬ ‫قد حان للتفكري بعبد الله واحتماالت ال�ضفة الغربية‪.‬‬ ‫ب�شكل اعم‪ ،‬ا�ستنتج جي�سوب �أ ّنه اذا «مت التعاطي معها‬ ‫بعدل ف�إ ّنها (ا�رسائيل) �ست�صبح قوة تعمل ل�صاحلنا‬ ‫ول�صالح الدول العربية‪ .»15‬اهمية التطور هذا يف ر�ؤية‬ ‫جي�سوب ي�صبح وا�ضح ًا حني يفكر املرء يف نظرته ملوقع‬ ‫فل�سطني يف �سياق �سيا�سة وا�شنطن ال�رشق او�سطية‪.‬‬ ‫ «من وجهة النظر اال�سرتاتيجية‪ ،‬نفرت�ض ب�أن فل�سطني‪،‬‬ ‫ال رئي�سي ًا يف �أي نزاع كبري‬ ‫مع البلدان املجاورة‪ ،‬تكون عام ً‬



‫‪ 10‬انظر ‪ 19‬حزيران‪،‬‬ ‫�سفري اململكة‬ ‫املتحدة (دوغال�س)‬ ‫اىل وزير اخلارجية‪،‬‬ ‫‪ ،FRUS 1948‬املجلد‬ ‫‪ ،5‬الق�سم الثاين‪،‬‬ ‫�ص ‪.1124‬‬ ‫‪ 23 11‬حزيران‪،‬‬ ‫‪ ،1948‬مذكرة‬ ‫من ال�سيد روبرت‬ ‫ماكلينتوك‪FRUS ،‬‬ ‫‪ ،1948‬املجلد‬ ‫اخلام�س‪ ،‬الق�سم‬ ‫الثاين‪،‬‬ ‫�ص ‪.1135‬‬ ‫‪ 27 12‬متوز ‪،1948‬‬ ‫«تطورات حمتملة‬ ‫من هدنة فل�سطني»‪،‬‬ ‫وكالة اال�ستخبارات‬ ‫املركزية‪9 ،‬؛‬ ‫‪www.foia.cia.gov/‬‬

‫‪browse_docs_full.‬‬

‫‪ ،asp.‬ميكن ايجاد‬ ‫التقرير نف�سه يف‬ ‫‪ ،FRUS 1948‬املجلد‬ ‫اخلام�س‪ ،‬الق�سم‬ ‫الثاين‪� ،‬ص‪.1244‬‬ ‫‪ 27 13‬متوز‪،‬‬ ‫‪« ،1948‬تطورات‬ ‫حمتملة من هدنة‬ ‫فل�سطني»‪ ،‬وكالة‬ ‫اال�ستخبارات‬ ‫املركزية‪� ،‬ص ‪.10‬‬ ‫‪� 31 14‬آب‪،1948 ،‬‬ ‫«تطورات حمتملة‬ ‫من هدنة فل�سطني»‪،‬‬ ‫وكالة‬ ‫اال�ستخبارات‬ ‫املركزية‪،‬‬ ‫‪Addendum to ORE‬‬

‫‪� ،48-38‬ص‪.3‬‬

‫‪http://www.foia.cia.‬‬ ‫_‪gov/browse_docs‬‬ ‫‪full.asp‬‬

‫‪ 1 15‬متوز ‪،1948‬‬ ‫ممثل الواليات‬ ‫املتحدة القائم‬ ‫باالعمال يف االمم‬ ‫املتحدة (جي�سوب)‬ ‫لوزير اخلارجية‪،‬‬ ‫‪،FRUS 1948‬‬ ‫املجلد اخلام�س‪،‬‬ ‫الق�سم الثاين‪،‬‬ ‫�ص ‪.1183‬‬

‫ ‪ 168‬‬

‫م�ستقبلي حمتمل‪ .‬من �ش�أن هذه املنطقة �أن تكون ذات �أهمية‬ ‫حيوية بالن�سبة للواليات املتحدة كمنطقة ميكن �أن تكون‬ ‫مبثابة قاعدة حمتملة تتنا�سب مع خطوط االت�صال اخلا�صة‬ ‫بنا‪ .‬كما �أنه من املحتمل � ّأن الرثوات النفطية للمنطقة ُتعتبرَ‬ ‫حيوية‪ .‬ون�شعر ب�أن هذه النقطة قد ال تكون نالت الن�صيب‬ ‫الذي ت�ستحقه من املعاجلة املنا�سبة وال�رصيحة يف النقا�شني‬ ‫الر�سمي والعام حول امل�س�ألة الفل�سطينية‪.‬‬ ‫املرجح � ّأن جتارتنا‬ ‫ من وجهة النظر االقت�صادية‪ ،‬من‬ ‫َّ‬ ‫وعالقاتنا االقت�صادية الأخرى مع فل�سطني وبقية بلدان‬ ‫ال�رشق الأدنى‪ ،‬با�ستثناء النفط‪ ،‬لي�ست ذات �أهمية كبرية‪.‬‬ ‫بجميع الأحوال‪ ،‬وب�شكل غري مبا�رش‪ ،‬ف�إ ّنه يف ظل �رشوط‬ ‫�سلمية‪ ،‬من �ش�أن اال�ستقرار االقت�صادي واالزدهار الناجت‬ ‫عن تنمية فل�سطني ومنطقة ال�رشق الأو�سط �أن ي�شكال‬ ‫م�ساهمة كبرية يف التعايف االقت�صادي للعامل ب�شكل‬ ‫عام‪ ،‬وبالتايل �أن ي�ساهما يف الرفاه االقت�صادي للواليات‬ ‫املتحدة‪ .‬فيما يتعلق بالنفط‪ ،‬نعرتف ب�� ّأن الإم��دادات‬ ‫النفطية الآتية من هذه املنطقة تكت�سب �أهمية كبرية يف‬ ‫برامج التعايف االقت�صادي الأوروبية‪« .‬على �أنه لو مل‬ ‫يكن ب�سبب هذا العامل‪ ،‬والأهمية اال�سرتاتيجية للنفط‪،‬‬ ‫ال يجدر بنا على الأرجح ال�سماح للأهمية االقت�صادية‬ ‫لهذه ال�سلع ب�أن ت�ؤثر على قراراتنا ب�شكل جوهري فيما‬ ‫يتعلق بالق�ضية الفل�سطينية»‪( .‬الفقرة املو�ضوعة بني‬ ‫مزدوجني خا�صة بالكاتب)‪.16‬‬ ‫ هل هذا االعرتاف ب�أهمية «هذه ال�سلعة» هو ما �سمح‬ ‫جلي�سوب بنقل نفي �إ�رسائيل م�س�ؤوليتها عن الالجئني‬ ‫الفل�سطينيني �إىل وزير اخلارجية يف �أواخر متوز من دون‬ ‫مناق�شة هذه اال ّدعاءات؟ كان كل من مدير مكتب �ش�ؤون‬ ‫الأمم املتحدة �آنذاك‪ ،‬دين را�سك‪ ،‬وو�سيط الأمم املتحدة‪،‬‬ ‫كونت برنادوت‪ ،‬من بني الأ�شخا�ص الذين مل ي�شككوا بهذا‬ ‫املوقف‪ ،‬حتى و�إن كان ذلك �سيكون بال ت�أثري‪.‬‬ ‫ لقد خل�ص م�س�ؤولو وزارة الدفاع يف مطلع ربيع العام‬ ‫‪� ،1949‬إىل �أن �إ�رسائيل كانت الدولة الثانية من بعد‬ ‫تركيا‪ ،‬من ناحية قدراتها و�إمكانياتها الع�سكرية بالن�سبة‬ ‫للتخطيط اال�سرتاتيجي الأمريكي املتعلق باملنطقة‪ .‬يف‬ ‫وجهها رئي�س ّ‬ ‫موظفي‬ ‫�آذار‪/‬مار�س ‪� ،1949‬أفادت مذكرة ّ‬ ‫القوات اجلوية االمريكية �إىل قادة الأركان امل�شرتكة حول‬ ‫«م�صالح اال�سرتاتيجية الأمريكية يف ا�رسائيل» بالتايل‪:‬‬ ‫ «لقد تغيرّ ميزان القوة يف ال�رشقني الأدنى والأو�سط‬ ‫ب�شكل جذري‪ .‬حني كانت دولة �إ�رسائيل تت�أ�س�س‪ ،‬كانت‬ ‫م�ؤ�رشات عديدة توحي ب�أن حياتها �ستكون ق�صرية للغاية‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫يف وجه معار�ضة جامعة الدول العربية لوجودها‪ .‬لكن‬ ‫�إ�رسائيل التي باتت حتظى اليوم باعرتاف الواليات املتحدة‬ ‫وبريطانيا‪ ،‬تبدو �أنها �ست�صبح قريب ًا ع�ضو ًا يف الأمم املتحدة‪،‬‬ ‫وقد �أثبتت بقوة ال�سالح حقها ب�أن ُتعترب القوة الع�سكرية‬ ‫التي تلي مبا�رش ًة تركيا يف ال�رشقني الأدنى والأو�سط»‪.17‬‬ ‫ ووفق امل�صدر �أعاله‪« ،‬من �ش�أن الواليات املتحدة �أن‬ ‫حت�صد الآن مكا�سب ا�سرتاتيجية من الو�ضع ال�سيا�سي‬ ‫امل�ستجد‪ ،‬وذلك نتيجة الدعم الأمريكي لإ�رسائيل»‪.‬‬ ‫وعلى �ضوء ذلك‪ ،‬دعا رئي�س ّ‬ ‫موظفي القوات اجلوية‬ ‫الأمريكية �إىل �إجراء درا�سة لـ«الأهداف اال�سرتاتيجية‬ ‫ال عن مطالبته‬ ‫مت�س ب�إ�رسائيل»‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫الأمريكية التي ّ‬ ‫ب�أن ي�ؤخذ بعني االعتبار �إر�ساء نظام تدريب و�إ�رشاف‬ ‫يتم �إغالق الباب‬ ‫َّ‬ ‫ع�سكريني‪ ،‬والأهم من كل ذلك‪� ،‬أن ّ‬ ‫�أمام الت�أثري ال�سوفياتي يف �إ�رسائيل‪.‬‬ ‫ يف الواقع‪ ،‬وبعد �أ�سابيع عدة‪ ،‬يف ‪� 24‬آذار‪/‬مار�س‪،‬‬ ‫ح�صل بع�ض النقا�ش حتديد ًا حول �إمكانية انخراط‬ ‫�ضباط �إ�رسائيليني وعرب يف تدريبات بالواليات املتحدة‪.‬‬ ‫ونبع الدعم ملثل هكذا خيار من توقيع اتفاقيات الهدنة‬ ‫بني �إ�رسائيل من جهة‪ ،‬وم�رص ولبنان‪ ،‬وتوقُّع توقيع مثل‬ ‫هكذا اتفاق مع �رشق الأردن‪ ،‬وهو ما كان من �ش�أنه �أن‬ ‫ي�ضع حد ًا للأعمال العدوانية‪� .‬إ�رسائيل كانت مهتمة‬ ‫بخطوة مماثلة على اعتبار �أنها �ستكون عالمة عن توجهها‬ ‫امل�ؤيد للغرب‪ ،‬وهي م�س�ألة تتعلق ببع�ض القلق الأمريكي‬ ‫الذي تك ّنه وا�شنطن نظر ًا للخ�شية امل�ستمرة من النفوذ‬ ‫الذي زرعه االحتاد ال�سوفياتي داخل �إ�رسائيل من خالل‬ ‫ال عن تدفق املهاجرين‬ ‫�رسعة اعرتافه بهذه الدولة‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫من �أوروبا ال�رشقية �إىل �إ�رسائيل‪.‬‬ ‫ بجميع الأحوال‪ ،‬كانت التو�صية املتعلقة بالتدريب‬ ‫الع�سكري الأمريكي تق�ضي ب�إر�سال «�ضباط تالمذة من‬ ‫�إ�رسائيل والبلدان العربي‪ ،‬ب�أعداد معقولة‪ ،‬ليخ�ضعوا‬ ‫ل��دورات تدريبية مبا يتفق مع قدرة خمتلف الأجهزة‬ ‫الأمنية الأمريكية على التعامل مع مثل هذه البعثات»‪.18‬‬ ‫وظهر �أن نقا�شات ح�صلت �أي�ض ًا حول تقدمي امل�ساعدة‬ ‫التقنية يف هذا ال�صدد‪.‬‬ ‫ وافق مدير عمليات القوات البحرية الأمريكية على‬ ‫�إمكانية ت�أمني مثل هذا الدعم‪ ،‬لكنه � ّأجل املو�ضوع ريثما‬ ‫يزول خطر ا�ستئناف النزاع ب�شكل كامل‪ ،‬وذلك لكي ال‬ ‫تتورط الواليات املتحدة يف املعارك‪ .‬لكن قبل كل �شيء‪،‬‬ ‫يف نهاية ني�سان‪�/‬أبريل ‪� ،1949‬ضغط القائد العام‬ ‫للقوات البحرية الأمريكية يف �رشق املحيط الأطل�سي‬

‫‪ 16‬املرجع نف�سه‪،‬‬ ‫ ‬ ‫�ص ‪1181‬‬ ‫‪� 7 17‬آذار ‪،1949‬‬ ‫مذكرة من رئي�س‬ ‫موظفي �سالح‬ ‫اجلو الأمريكي‬ ‫اىل ر�ؤ�ساء‬ ‫الأركان امل�شرتكة‪،‬‬ ‫حول امل�صالح‬ ‫اال�سرتاتيجية‬ ‫الأمريكية يف‬ ‫ا�رسائيل‪ ،‬موجودة‬ ‫يف �سجالت قيادة‬ ‫الأركان امل�شرتكة‪،‬‬ ‫اجلزء الثاين‪،‬‬ ‫‪1953-1948‬‬ ‫(الق�سم ب)‪،‬‬ ‫ال�رشق الأو�سط‪،‬‬ ‫�ص ‪ .181‬الفيلم‬ ‫‪،]B[ 368 A‬‬ ‫البكرة ‪.2‬‬ ‫‪� 24 18‬آذار‪،1949‬‬ ‫مذكرة من وزارة‬ ‫اخلارجية‪ ،‬حمادثة‬ ‫مع الرئي�س‪،‬‬ ‫‪،FRUS 1949‬‬ ‫املجلد ال�ساد�س‪،‬‬ ‫�ص ‪.864‬‬ ‫‪ 19‬مذكور يف‬

‫‪Michael‬‬

‫‪J. Cohen, Fighting‬‬

‫‪World War Three‬‬ ‫‪From the Middle‬‬ ‫‪East, Frank Cass,‬‬ ‫‪London, 1997‬‬

‫�ص ‪.204‬‬ ‫‪ 20‬املرجع نف�سه‪،‬‬ ‫ ‬ ‫�ص ‪.205‬‬

‫‪ 21‬‬

‫‪Enclosure Draft,‬‬ ‫‪Memorandum‬‬ ‫‪for the Secretary‬‬ ‫‪of Defense,‬‬ ‫‪JCS/1892/15.‬‬

‫‪ 22‬املرجع نف�سه‪،‬‬ ‫ ‬ ‫�ص ‪1010‬‬ ‫‪ 23‬املرجع نف�سه‬ ‫‪ 24‬املرجع نف�سه‬ ‫‪ 25‬املرجع نف�سه‬ ‫‪ 26‬املرجع نف�سه‪،‬‬ ‫ ‬ ‫�ص‪1012‬‬

‫ ‪ 169‬‬

‫والبحر املتو�سط‪ ،‬على رئا�سة الأركان امل�شرتكة من �أجل‬ ‫خ�ص �ضمان �صداقة �إ�رسائيل بالأولوية الق�صوى‪.19‬‬ ‫ّ‬ ‫ين�صب على � ّأن �إ�رسائيل قد‬ ‫املركزي‬ ‫االهتمام‬ ‫وكان‬ ‫ّ‬ ‫تقفل ب�إحكام الباب �أمام الدخول الربيطاين �إىل فل�سطني‪.‬‬ ‫َ‬ ‫إ�رسائيل عدائية‬ ‫حد مالحظة مايكل كوهن‪ ،‬ف� ّإن «�‬ ‫وعلى ّ‬ ‫قد تعرقل جدي ًا بناء املطارات اجلوية املتقدمة فوق‬ ‫�أرا�ضيها‪ ،‬وقد تعيق احلركة احلرة للقوات والتجهيزات‬ ‫على امتداد خطوط االت�صاالت املقررة» ‪.20‬‬ ‫ يف ‪ 30‬ني�سان‪�/‬أبريل ‪ ،1949‬كان هناك طلب موجه‬ ‫�إىل وزير الدفاع‪ ،‬مرفق ًا بر�سالة من نائب وزير اخلارجية‪،‬‬ ‫حول تدريب اجلي�ش الإ�رسائيلي‪ ،‬وتوفري امل�ساعدة التقنية‬ ‫له‪ .‬ويبدو �أن وزير الدفاع خل�ص �إىل ان ال�شكل الأكرث‬ ‫ترجيح ًا ملثل هذا الدعم هو اعتماد بعثة ع�سكرية �أمريكية‬ ‫لدى �إ�رسائيل‪ّ � .‬إن الوثيقة التي رفعت ال�رسية عنها حول‬ ‫هذا النقا�ش‪� ،‬شملت ن�سخة باطلة عن الن�ص‪ ،‬ال ترتك �أدنى‬ ‫ّ‬ ‫�شك حول طبيعة امل�صلحة الع�سكرية الأمريكية ب�إ�رسائيل‬ ‫على هذا امل�ستوى‪ .‬وتن�ص هذه الوثيقة على التايل‪:‬‬ ‫ «ب�سبب امل�صالح اال�سرتاتيجية الأمريكية يف‬ ‫توجهها �إزاء الواليات‬ ‫�إ�رسائيل‪ ،‬ف�سيكون منا�سب ًا تعزيز ّ‬ ‫املتحدة‪ ،‬و�أن تكون قدراتها الع�سكرية يف و�ضع يجعل‬ ‫�إ�رسائيل حليف ًا مفيد ًا يف حالة احلرب مع عدونا الأكرث‬ ‫ترجح كفة خيار اعتماد بعثة‬ ‫ترجيح ًا‪ ...‬جميع هذه النقاط ّ‬ ‫ع�سكرية �أمريكية لدى �إ�رسائيل»‪.21‬‬ ‫ وقد ورد بب�ساطة يف الن�سخة امل�صححة للوثيقة‬ ‫الواردة �أعاله‪ ،‬والتي مت التعريف عنها على �أنها «�صفحة‬ ‫مراجعة مبوجب قرار ‪� 20‬أيار ‪ ،»1949‬ما يلي‪« :‬ب�سبب‬ ‫َ‬ ‫امل�صالح الأمريكية اال�سرتاتيجية‪� ،‬سيكون من املرغوب‬ ‫فيه تعزيز توجه �إ�رسائيل جتاه الواليات املتحدة‪ .‬ومن‬ ‫يربر قرار ًا �إيجابي ًا حول اعتماد الواليات‬ ‫�ش�أن ذلك �أن ّ‬ ‫املتحدة بعثة ع�سكرية لدى �إ�رسائيل»‪.‬‬ ‫ وبحلول ‪� 16‬أيار ‪� ،1949‬رشحت وزارة الدفاع‬ ‫الأمريكية �رصاح ًة امل�صلحة الأمريكية الع�سكرية يف‬ ‫�إ�رسائيل‪ ،‬ب�سبب املوقع اجلغرايف لهذه الأخرية‪ ،‬وقواعدها‬ ‫الع�سكرية‪ ،‬وطبيعة قواتها الع�سكرية‪.‬‬ ‫ بالتايل‪ ،‬كان هناك يف املقام الأول م�س�ألة املوقع‪:‬‬ ‫«الطرقات الربية املبا�رشة (الطرقات والغارات) بني‬ ‫تركيا ومنطقة قناة ال�سوي�س ــ القاهرة متر عرب الأرا�ضي‬ ‫ال عن ذل��ك‪ ،‬ف �� ّإن الطرقات الربية‬ ‫الإ�رسائيلية‪ .‬ف�ض ً‬ ‫الأ�سا�سية من منطقة قزوين يف االحت��اد ال�سوفياتي‬ ‫ومن العراق وايران وال�سعودية باجتاه م�رص وال�رشق‪،‬‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫متر عرب الأرا�ضي الإ�رسائيلية �أو بالقرب منها‪ ،‬وهو‬ ‫ما ي�رسي على خطوط �أنابيب النفط من مناطق نفط‬ ‫ال�رشق الأو�سط �إىل البحر املتو�سط‪ .‬ت�سيطر �إ�رسائيل‬ ‫على الأرا�ضي املحاذية ملنطقة ال�سوي�س ــ القاهرة جلهة‬ ‫ال�رشق‪ ،‬وتبعد احلدود الفا�صلة بني �إ�رسائيل وم�رص‬ ‫ال �رشق قناة ال�سوي�س»‪.22‬‬ ‫حوايل ‪ 150‬مي ً‬ ‫ ثاني ًا‪ ،‬كانت هناك م�س�ألة القواعد الع�سكرية‪ .‬على‬ ‫الرغم من �أن القوات الع�سكرية الأمريكية مل تكن تخطط‬ ‫لأن حتت�ضن �إ�رسائيل قاعدة ع�سكرية �أمريكية رئي�سية‪،‬‬ ‫فقد حتدثت تقارير عن �أن �إ�رسائيل متتلك «نظام ًا متطور ًا‬ ‫من املطارات اجلوية والقواعد اجلوية الع�سكرية‪ .‬و�ستكون‬ ‫هذه التجهيزات اجلوية يف حال و�ضعت يف خدمتنا‪،‬‬ ‫ذات فائدة كبرية يف قطع خطوط التوا�صل من االحتاد‬ ‫ال�سوفياتي �إىل امل�صادر النفطية يف ال�رشق الأو�سط‪ ،‬مع‬ ‫طائرات متو�سطة وق�صرية املدى»‪.23‬‬ ‫ ويف الدرجة الثالثة‪ ،‬كان هناك �أهمية «القوات‬ ‫الع�سكرية الإ�رسائيلية املحلية التي كانت متتلك بع�ض‬ ‫اخل�برة يف جمال امل��ع��ارك»‪ .‬وعلى حد مالحظة قيادة‬ ‫الأركان امل�شرتكة‪ ،‬ف� ّإن هذه القوات من �ش�أنها �أن تكون‬ ‫ذات �أهمية بالن�سبة «لكل من الدميقراطيات الغربية �أو‬ ‫لالحتاد ال�سوفياتي يف �أي مناف�سة لل�سيطرة على منطقة‬ ‫�رشق البحر املتو�سط»‪ .24‬من هنا‪ ،‬ففي مواجهة حماولة‬ ‫�سوفياتية ما لـ«ت�أمني �أو حتييد التجهيزات النفطية لل�رشق‬ ‫الأو�سط‪ ،‬ومن �أجل العمل �ضد قاعدة منطقة القاهرة ــ‬ ‫ال�سوي�س»‪ ،‬من �ش�أن موقع �إ�رسائيل وقواتها الع�سكرية‬ ‫�أن يكونوا ذات �أهمية كبرية‪« .‬على �إ�رسائيل �أن تتحالف‬ ‫مع الدميوقراطيات الغربية يف حالة اندالع حرب مع‬ ‫االحتاد ال�سوفياتي‪ ،‬و�سيكون ممكن ًا اال�ستفادة بالكامل من‬ ‫املواقع الدفاعية يف هذا البلد‪ ،‬ومن القوات الع�سكرية‬ ‫الإ�رسائيلية من �أج��ل الدفاع عن منطقة القاهرة ــ‬ ‫ال�سوي�س وللعمليات الربية من �أج��ل الدفاع عن‬ ‫التجهيزات النفطية ال�رشق �أو�سطية‪ ،‬او ال�ستعادتها»‪.25‬‬ ‫ هذه االعتبارات ت�أ�س�ست على البديهية التي تفيد ب� ّأن‬ ‫«�أمن املنطقة ال�رشقية للبحر املتو�سط‪ ،‬وال�رشق الأو�سط‬ ‫هو ذات �أهمية ا�ستثنائية مل�ستقبل �أمن الواليات املتحدة»‪،‬‬ ‫وهو ما افرت�ض بدوره «ا�ستقرار ال�رشق الأو�سط‪ ،‬ومن‬ ‫�ضمن ذلك توفري �ضمانة ب�أن �شعوب هذه املنطقة لن‬ ‫ينحازوا �إىل االحتاد ال�سوفياتي �ضد الواليات املتحدة‪ ،‬وهو‬ ‫عن�رص حيوي بالن�سبة لأمن الواليات املتحدة»‪.26‬‬ ‫لكن من الأهمية مبكان التذكري �أ ّنه بالتوازي مع زيادة‬


‫‪ 19 27‬متوز ‪،1949‬‬ ‫مذكرة من م�ساعد‬ ‫وزير اخلارجية‬ ‫ل�شو�ؤن ال�رشق‬ ‫الأدنى وافريقيا‬ ‫(ماكغي) لوزير‬ ‫اخلارجية‪،‬‬ ‫‪,FRUS 1949‬‬ ‫املجلد ال�ساد�س‪،‬‬ ‫�ص ‪.1236‬‬ ‫‪ 17 28‬ت�رشين الأول‬ ‫‪ ،1949‬جمل�س ‬ ‫الأمن القومي‪،‬‬ ‫مرجع �سابق‪،‬‬ ‫�ص ‪.1434‬‬

‫‪ 29‬‬

‫‪Melvyn P. Leffler,‬‬ ‫‪A Preponderance‬‬ ‫‪of Power, National‬‬ ‫‪Security, the Truman‬‬ ‫‪Administration‬‬ ‫‪and the Cold War,‬‬ ‫‪Stanford University‬‬ ‫‪Press, Stanford,‬‬ ‫‪California, 1992‬‬

‫�ص ‪.287‬‬ ‫‪� 10 30‬أيار ‪،1950‬‬ ‫من جايكوب‬ ‫بالو�ستاين اىل‬ ‫ترومان‪� ،‬شخ�صي‪،‬‬ ‫مكتبة هاري ا�س‪.‬‬ ‫ترومان‪� ،‬أوراق‬ ‫هاري ا�س‪.‬‬ ‫ترومان‪ ،‬ملف‬ ‫�سكرتري الرئي�س‪.‬‬ ‫‪ 31‬مقال ر�أي‪،‬‬ ‫ ‬

‫‪“The Harlot‬‬ ‫‪from the Cities‬‬ ‫‪Overseas and‬‬ ‫‪We-Thoughts on‬‬ ‫]‪the Eve of [Jewish‬‬ ‫”‪New Year 5712‬‬

‫ها�أرت�س‪30 ،‬‬ ‫ايلول ‪،1951‬‬ ‫مذكور يف ‪Moshe‬‬

‫‪Machover, “Israelis‬‬ ‫‪and Palestinians:‬‬ ‫‪Conflict and‬‬ ‫‪Resolution,” Barry‬‬ ‫‪Amiel and Norman‬‬ ‫‪Melburn Trust‬‬ ‫‪Annual Lecture‬‬

‫‪ 30‬ت�رشين‬ ‫الثاين‪،2006‬‬ ‫�ص ‪.14-13‬‬

‫ ‪ 170‬‬

‫التقدير للجي�ش اال�رسائيلي‪ ،‬كانت املخاوف تكرب‬ ‫حيال �سيا�سة ا�رسائيل حيال الفل�سطينيني‪ ،‬التي تهدد‬ ‫امل�صالح الأمريكية كلها يف املنطقة‪ .‬ترومان وكذلك‬ ‫وزارة اخلارجية وم�س�ؤويل جمل�س الأمن القومي كانوا‬ ‫يعون الإحلاح يف حل امل�سائل املتعلقة باالر�ض‪ ،‬وكذلك‬ ‫م�شكلة الالجئني الفل�سطينيني‪ ،‬وهما ق�ضيتان عززهما‬ ‫التو�سع اال�رسائيلي خارج خطوط خطة االمم املتحدة‬ ‫للتق�سيم التي تعود لعام ‪ .1947‬يف حزيران‪ ،‬انتقد‬ ‫مندوب الواليات املتحدة يف جلنة امل�صاحلة الفل�سطينية‪،‬‬ ‫مارك ايرثيدج‪ ،‬ب�شدة رف�ض ا�رسائيل حق العودة‪ ،‬وما‬ ‫اعتربه ف�شل يف حتديد قواعد التعاي�ش بني الفل�سطينيني‬ ‫العرب واليهود يف ا�رسائيل‪ .‬ايرثيدج ا�ستقال يف النهاية‪.‬‬ ‫ يف متوز ‪ ،1949‬كان م�ساعد وزير اخلارجية ل�ش�ؤون‬ ‫ال�رشق الأدنى وافريقيا جورج ماكغي هو من حاول ترك‬ ‫انطباع جيد لدى ا�رسائيل مع الإحل��اح يف االعرتاف‬ ‫بـ«مبد�أ التعوي�ض اجلغرايف للمناطق التي حتتلها ا�رسائيل‬ ‫خارج خطوط تق�سيم فل�سطني العائدة لعام ‪1947‬‬ ‫واعادة توطني عدد كبري من الالجئني الفل�سطينيني من‬ ‫دون الإ�شارة اىل اال�ستحواذ على الأر���ض»‪ ،‬من اجل‬ ‫جتنب تغيري يف ال�سيا�سة االمريكية‪ ،‬او ب�شكل اكرث دقة‬ ‫يف املوقف االمريكي من ا�رسائيل‪.27‬‬ ‫ يف خريف ‪ ،1949‬ا�صدر جمل�س الأمن القومي‬ ‫تقريرا (‪)7/47 NSC‬عرب فيه عن خماوف من خماطر‬ ‫ً‬ ‫االزم��ة امل�ستمرة يف م�شكلة الالجئني الفل�سطينيني‪.‬‬ ‫لكن جمل�س االمن القومي مل يركز ب�شكل خا�ص على‬ ‫م�س�ؤولية ا�رسائيل‪ ،‬وت�ضمن التقرير موافقة الدول‬ ‫العربية على اعادة توطني الالجئني الفل�سطينيني داخل‬ ‫حدودهم‪ .‬اخلطر بر�أي جمل�س الأمن القومي كان نف�سه‪،‬‬ ‫اي التطرف املحتمل للعامل العربي‪.‬‬ ‫ لكن يف التقرير نف�سه الذي عرب فيه جمل�س الأمن‬ ‫القومي عن خماوفه‪ ،‬اعرتف بتفوق ا�رسائيل مقارنة مع‬ ‫الفل�سطينيني وجريانها العرب‪.‬‬ ‫ «امل�ؤ�س�سة الع�سكرية اال�رسائيلية‪ ،‬رغم �صغر حجمها‪،‬‬ ‫هي �آلة حديثة وفعالة اثبتت �أ ّنها منا�سبة ملقاومة اجليو�ش‬ ‫ال�ضعيفة الت�سليح‪ ،‬والقليلة التدريب‪ ،‬وذات القيادات‬ ‫ال�سيئة‪ ،‬يف دول اجلامعة العربية‪ ،‬خالل املواجهات ال�سابقة‪،‬‬ ‫وا�ستطاعت احتالل م�ساحات كبرية من الأر�ض خارج ما‬ ‫ان‬ ‫منحت اياه ا�رسائيل يف خطة التق�سيم‪ .‬ميكن ان نتوقع ّ‬ ‫الفعالية امل�ستقبلية للجي�ش اال�رسائيلي �ستتزايد مع تطبيق‬ ‫اخلطط احلالية للتدريب واعادة التنظيم»‪.28‬‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫يف هذه الظروف‪ ،‬ف� ّإن الأدمريال ريت�شارد كونويل‪ ،‬قائد‬ ‫القوات البحرية يف �رشق املحيط الأطل�سي والبحر‬ ‫املتو�سط‪ ،‬توقع احتمال تن�سيق تخطيط ا�سرتاتيجي‬ ‫يف املتو�سط مع تركيا‪ ،‬م�رص وا�رسائيل‪ ،‬التي كان هناك‬ ‫�سعي وراء التعاون معها من اجل تطوير «مدرجات هبوط‬ ‫منا�سبة‪ ،‬وتو�سيع من�ش�آت الرادار‪ ،‬وتخزين الوقود للطريان‪،‬‬ ‫واملعدات ال�رضورية»‪ .29‬خطط كونويل توقعت احتواء‬ ‫االحتاد ال�سوفياتي يف املتو�سط وال�رشق الأو�سط‪.‬‬ ‫ يف ايار ‪ ،1950‬التقى ترومان برئي�س جلنة اليهود‬ ‫ال يف‬ ‫الأمريكيني جايكوب بالو�ستني‪ ،‬الذي كان م�س�ؤو ً‬ ‫�رشكة النفط «اموكو»‪ .‬كان بالو�ستني مهتم ًا بالرتويج‬ ‫حل�صول ا�رسائيل على ا�سلحة من الواليات املتحدة‪،‬‬ ‫مذكر ًا ترومان ب� ّأن وزير الدفاع لوي�س جون�سون‪ ،‬قال � ّإن‬ ‫الرئي�س مبوافقة ات�ش�سون كان موافق ًا على منح ا�رسائيل‬ ‫ا�سلحة‬ ‫«لدواع دفاعية»‪.30‬‬ ‫ٍ‬ ‫ لكن لي�س فقط يف وا�شنطن كان يجري اعادة تقومي‬ ‫لل�رشق الأو�سط يف �ضوء ن�رص ا�رسائيل الع�سكري‬ ‫على جريانها‪ .‬املحللون اال�رسائيليون‪ ،‬مثل مايكل‬ ‫ع�ساف‪ ،‬وهو م�ست�شار لنب غوريون‪ ،‬فهم ب�شكل كبري ما‬ ‫�ستكون نتائج الن�رص الطويلة االمد بالن�سبة للعالقات‬ ‫اال�رسائيلية – االمريكية‪ ،‬واك�ثر من ذلك لعالقات‬ ‫ا�رسائيل والغرب‪ .‬ما كتبه يف ‪ 1951‬يف افتتاحية يف‬ ‫جريدة ا�رسائيلية يومية هي ها�أرت�س كان تنب�ؤي ًا‪ .‬ع�ساف‬ ‫راجع الو�ضع ال�سيئ لالنظمة العربية يف وجه احلركات‬ ‫القومية‪ ،‬العلمانية والدينية‪ ،‬وا�ستنتج ان الدول املعنية‬ ‫�ضعيفة ع�سكري ًا‪ .‬يف هذا ال�سياق‪ ،‬تناول ت�أثري تعزيز‬ ‫قوة ا�رسائيل الذي و�صفه ب�أ ّنه «طريقة منا�سبة لقوى‬ ‫الغرب للحفاظ على توازن القوى ال�سيا�سية يف ال�رشق‬ ‫الأو�سط‪ .‬وفق هذا االفرتا�ض اعطيت ا�رسائيل دور‬ ‫كلب احلرا�سة»‪ .‬هكذا‪ ،‬ف�إ ّنه اذا «ف�ضلت القوى الغربية‬ ‫يف وقت من االوقات ل�سبب او لآخر اغالق اعينها‪،‬‬ ‫ميكن االعتماد على ا�رسائيل كي تعاقب ب�شكل منا�سب‪،‬‬ ‫دولة واحدة او اكرث من جريانها ممن قلة اخالقهم جتاه‬ ‫الغرب تخطت احلدود امل�سموح بها»‪.30‬‬ ‫ مل يكن ب�إمكان وا�شنطن عدم املوافقة‪ .‬اعرتفت‬ ‫وزارة الدفاع بقدرة ا�رسائيل يف الدفاع عن وحماية‬ ‫امل�صالح النفطية الأمريكية‪ ،‬وفهم م�س�ؤولو وزارتي‬ ‫الدفاع واخلارجية � ّأن حماية مماثلة تقع يف النهاية على‬ ‫حما�رصة من «تعدت قلة اخالقهم مع الغرب احلدود‬ ‫امل�سموح بها»‪ .‬وهذه هي نتيجة ‪.1948‬‬

‫‪ 170‬‬ ‫ ‬

‫شكري بلعيد‪:‬‬ ‫جامع الياسر التونيس وهشيده‬

‫حممد �صالح عمري‬

‫مروة‬ ‫‪ 171‬شكري بلعيد يريث حسني ّ‬

‫‪ 172‬‬ ‫ ‬

‫أكيفا أور‪ :‬مؤسس «ماتسبني»‪،‬‬ ‫القاطع مع الصهيونية‬

‫مو�سى البديري‬

‫‪ 176‬رئيف خوري‪ :‬المثقف الشيوعي‬ ‫ ‬ ‫يف الزمن الستاليين‬

‫�أحمد علبي‬


‫شكري بلعيد‬

‫جامع الياسر التونيس وهشيده‬ ‫حممد صالح عمري اغتيل املحامي �شكري بلعيد �أحد �أب��رز رموز الي�سار‬ ‫التون�سي �صباح ‪� 6‬شباط ‪� ٢٠١٣‬أمام بيته �أعزل ودون‬ ‫استاذ االدب حماية يف حادثة �أرجعت اىل التون�سيني ذكرى اغتيال‬ ‫العريب يف جامعة الزعيم العمايل والوطني فرحات ح�شاد ل�ستني �سنة خلت‪.‬‬ ‫اكسفورد‪ ،‬انكلرتا �أ�صبح قتل بلعيد عالمة فارقة يف تاريخ تون�س ال�سيا�سي‬ ‫الراهن كما �أكرمه �شعبه بجنازة �ضاهت جنازة ح�شاد‪.‬‬ ‫ كان �شكري بلعيد دائم احل�ضور ب�شجاعته ومواقفه‬ ‫ون�ضاالته‪ ،‬تلميذا وطالبا ثم حماميا وحقوقيا خالل الثالثني‬ ‫�سنة املا�ضية‪ ،‬وهو الآن دائم احل�ضور يف حديث التون�سيني‬ ‫ووعي التقدميني منهم بعد �أن بلغ �صوته كل بيت تون�سي‬ ‫وجرى ذكره على كل ل�سان بف�ضل حترر االعالم وتقدم‬ ‫حرية التعبري‪ ،‬رغم اختالف الآراء حول �شخ�صه ومواقفه‪.‬‬ ‫كان بلعيد وجها �أليفا جمع بني الب�شا�شة وال�رصامة و�صوتا‬ ‫بليغا‪� ،‬رصيحا‪ ،‬ي�صف الأ�شياء كما يراها‪ ،‬وحملال �صايف‬ ‫الذهن‪ ،‬قوي احلجة‪ .‬مار�س بلعيد ال�سيا�سة منذ �سن التلمذة‬ ‫وتدرج حتى �أ�صبح زعيمهم‬ ‫�ضمن الوطنيني الدميقراطيني‬ ‫ّ‬ ‫وموحدهم بعد الثورة‪ .‬كان متعدد اللغات وامل�صادر‪ ،‬متمكنا‬ ‫من دقائق ال�ش�أن التون�سي متكنه من احل�ضارة العربية‬ ‫اال�سالمية‪ ،‬ال يرى يف ذلك اال جتذيرا لفكره الكوين ور�ؤاه‬ ‫اال�شرتاكية والعمالية‪ .‬وهو ميثل بذلك نوعا خا�صا من املثقف‬ ‫العربي الي�ساري‪ ،‬من ف�صيلة ح�سني مروة الذي رثاه بلعيد‬ ‫وا�ستلهمه يف ق�صيد مل ين�رش اال بعد مقتله‪.‬‬ ‫ ولكن بلعيد كان �أي�ضا حركيا وميدانيا من �صنف‬ ‫قيادات اجلبهة ال�شعبية لتحرير فل�سطني التي ا�ستلهمها حني‬ ‫جمع القوى الي�سارية والقومية التون�سية حتت راية اجلبهة‬ ‫ال�شعبية‪ ،‬والتي �أ�صبحت بديال ال ميكن جتاوزه �أو جتاهله‬ ‫يف ال�ساحة ال�سي�سا�سية وحمركا �أ�سا�سيا لالحتجاجات‬ ‫ال�شعبية‪ .‬قتل بلعيد وال يزال قتلته ينعمون باحلرية التي‬ ‫وهبها عمره‪ ،‬تاركا وراءه الأرملة املنا�ضلة‪،‬ب�سمة خلفاوي‬

‫ ‪ 172‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫وابنتني‪ ،‬وحتول اىل رمز لت�ضحيات الي�سار التون�سي وعنوانا‬ ‫بارزا للمهام اجل�سيمة التي على رفاقه‪ ،‬تون�سيني وعربا‪،‬‬ ‫التفكري فيها وااللتفاف حولها يف حلظة تاريخية فتحت‬ ‫فيها �آفاق رحبة �أمام الفعل التقدمي يف مواجهة الليربالية‬ ‫املتوح�شة والزحف اال�سالموي ال�رش�س يف الوقت نف�سه‪.‬‬

‫قابر �سرية �أعدائنا املظلمه قم يا ح�سني العلم �إن اللحي التي ا�ستوطنت تاريخ كل البالطات‬ ‫قد �أر�سلت تطلبك ج�سدا �أو كفن قم واحتمي بدمي ا�ستظل بكفي ودمع املاليني‬ ‫يا روندي ع�رص البنوك والربملان بريوت تبكي �شهيد العبيد‬ ‫والزفرة العا�شقه‬ ‫ورائحة القرمطي بدمعتك ملح الزنوج بب�سمتك كوفة الرف�ض �صوت علي للفقراء‬ ‫�أن احتدوا انتم حطام املعارك وتراب املمالك وتراب املمالك واحلبة املهمله انه�ضوا‬ ‫�إن معاوية جمع الأهل والأقرباء وجتار املدينه والفئة الباغيه فانه�ضوا قرمطي الزمان‬ ‫اتى جمرة و�شبق انه�ضوا يا �أخيا هذا ح�سني ي�ؤ�س�س كومة من دم �شكلتها‬ ‫دموعكم _ الليايل الطوال _ عبيد ال�سباخ وعمال ميناء بريوت واملتعبون على طول هذا‬ ‫وليكن‬ ‫الوطن‬ ‫جبة النفط تذوي وتذبل ثم متوت على حلية من العفن �أيها‬ ‫ّ‬ ‫احلا�رض املمتهن علىدجهة �أجرت حلية من قرون املوات وا�ستوت تعلن الهجرة البائده‬ ‫لي�س يف الأر�ض وام املدن متتهن من الردة الطائفه‬ ‫غيرّ نا يا �أبانا الذي حفر‬ ‫من دمانا �أفرج �أجملنا من ت�ضاري�س �أيامنا املتعبه ففتحنا ال�رشاع على القرمطي‬ ‫ومن مال حني الزمان ا�ستوى على الفقراء‪ .‬وقال امل�شاع هي االر�ض �أم لنا وال�سالح‬ ‫قا�ضي الق�ضاة ومالك �أيامنا والعالقة حني احتدام ال�رصاع‬ ‫�أيهذا اجلنوبي ت�سعا‬ ‫و�سبعني حوال وانت جتوب البالد تنادي العباد ب�أن ال ي�صلّوا لغري �سواعدهم حني‬ ‫تغدون قالع وانت�رش يف املدى و�أعلن الفرعنه انتمي لأيادي الرتاب �ضد �صوت الغراب‬ ‫�سقطت الأقنعه عن وجوه الذئاب �سقطت اقنعه مل متت حينما جاء نعيك كنا نعد‬ ‫الن�شيد �أنا الفا�صل بني حبكم واجلنون و�أنتم بداية حزن امل�ساء حني ال�سنون تخون قم‬ ‫يا ح�سني العلم افتح نوافذ تاريخنا املغلقة وارفع �أوراقك والقلم �سم البالد با�سمائها‬ ‫واحرث امل�سترت لطخ حلي الظالم ب�آثامهم وانت�رص للرعاع الذين بنوا جمدنا وانق�ضوا‬ ‫ف�سخ تف�سخ كل البالطات والطبقات التي ا�شرتت بدمائنا اجلواري‬ ‫�سيفهم لل�رصاع‬ ‫ّ‬ ‫ونادى املنادي‬ ‫ومالت على وجهنا اجلمجمة ف�أقمنا ال�صباح على اجل�سد املقربه‬ ‫ها �أن حمدان ي�أتي على فر�س من غ�ضب يلم �شتات العرب وذاكرة املتعبني على االر�صفة‬ ‫ي�رصخ من �أمة النفط والأقنعة �أنا القرمطي و�أنت ح�سني امتدادي �أنا القرمطي وكل‬ ‫البالد بالدي �أنا القرمطي ا�شعت النخيل وخيل ال�صحاري ونوارة باجلليل و�أر�ض‬ ‫فدون بكرا�سك والقلم يا ح�سني العلم‬ ‫ال�سواد‬ ‫�سقط امللك حني العبيد طووا لونهم‬ ‫ّ‬ ‫ومدوا ال�سالح مزقت كل الطوائف واللحية اخلائنة وانت�رش يف املدى عر اخلرافة‬ ‫وبريوت �أم‬ ‫والر�ؤية الآ�سنة �صلي �صالتك يا �أيها القرمطي على �أمة النفط والأقنعة‬ ‫القرى واملدن �شيعتك �شهيدا ومالت على دمعتيها قليال تبكي ح�سن القتيال وتق�سم‬ ‫بالدم‬ ‫مل متت امنا كان البد من دمك كي نعري على اجلثة اخلاويه ون�صنع تاريخ‬ ‫هذا البلد ايهذا الولد �شيخنا وابانا الذي �أن�ضجته املحن �صوجلان املدن انت مرياثنا‬ ‫وات�صال املدى والر�ؤى مل تكن ار�ضنا عاقرا فزجنيها يتجدد رونديها يتمدد وقرمطها‬ ‫مهرجان خطانا فقم يا ح�سني العلم دمك ينتقم من زناة التواريخ واملرحله فهيا �إىل‬ ‫الفقراء هنا امللحمة والقرمطي على ث�أرك �أق�سم منوت وال ننثني عن حماربة الطبقه‬ ‫اخلائنه فلأعدائنا دينهم لأعدائنا دينهم ولنا الفقر والفرعنه‬ ‫‪1987 -07 -3‬‬


‫حتولٌ من �ش�أنه �أن يطيح الفقر والظلم والقمع بكافة‬ ‫�ضمت هذه املجموعة ال�صغرية �شاب ًا عربي ًا من‬ ‫�أ�شكاله‪ّ .‬‬ ‫يافا‪ ،‬جربا نقوال‪ ،‬الذي �ألّف عام ‪ 1935‬حني كان يف‬ ‫الثالثني من عمره‪ ،‬عدد ًا من الكتب تناولت التنظيم النقابي‪،‬‬ ‫حياة لينني‪ ،‬املجتمع اليهودي يف فل�سطني وغريها‪ .‬بدا �أ ّنه‬ ‫�شخ�صية تت�شارك احلما�سة والتوقعات نف�سها مع �سليم‬ ‫خياطة من طرابل�س‪ ،‬لبنان‪ ،‬من اول �شخ�صيات الي�سار‬ ‫العربي وهو مل َ‬ ‫يحظ‪� ،‬إىل جانب خمل�ص عامر من دورا ــ‬ ‫اخلليل يف فل�سطني‪ ،‬باالهتمام الذي ي�ستحقانه ب�صفتهما‬ ‫مفكرين عربيني مارك�سيني رائدين‪.‬‬

‫أكيفا أور‬

‫مؤسس «ماتسبني»‪ ،‬القاطع مع الصهيونية‬ ‫موىس البديري �صداقة قطعها املوت‬ ‫عندما �شاركت يف مرا�سم دفن �أكيفا �أور منذ ب�ضعة �أ�شهر‪،‬‬ ‫مواليد القدس‪ ،‬مل �أ�ستطع �أن �أمنع نف�سي من التفكري يف لقائنا الأول‪ .‬ال‬ ‫فلســطني‪ .‬بد من � ّأن ذلك حدث عام ‪ ،1968‬منذ ‪� 45‬سنة تقريب ًا‪.‬‬ ‫ّدرس يف جامعة بريزيت عدت بذاكرتي �إىل تفا�صيل لقائنا الأول يف لندن‪ ،‬بعيد‬ ‫حىت هناية ‪ .٢٠١٢‬عودتي من زيارتي الأوىل ال�رسائيل‪ ...‬وفل�سطني‪.‬‬ ‫آخر مؤلفاته بالعودة �إىل الوراء‪ ،‬يبدو يل هذا اللقاء الآن كحالة‬ ‫«شيوعيون يف من اال�ستمرارية التاريخية ت�سهم يف ا�ستمرارالعالقات‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أ�شخا�ص متم�سكني بعقيدة ما‬ ‫فلسطني‪ .‬شظايا تارخي عرب الزمان واملكان‪ ،‬بني �‬ ‫منيس» (‪ )٢٠١٢‬ا�ستناد ًا �إىل قيم عاملية و�أوا�رص ت�ضامن ان�سانية تتخطى‬ ‫الوطنية‪ ،‬العرق‪ ،‬اجلن�س والتع�صب الديني الأعمى‪،‬‬ ‫واحلواجز التي و�ضعها الأثرياء و�أ�صحاب النفوذ حلماية‬ ‫ثرواتهم وامتيازاتهم من جموع النا�س‪.‬‬ ‫ عام ‪� ،2005‬أو�صلت ابني البالغ من العمر ‪20‬‬ ‫عام ًا‪ ،‬وهو ع�ضو يف جمموعة �أناركية يف لندن‪� ،‬إىل‬ ‫م�ساكن اجتماعية �صغرية يف جوار نتانيا‪ ،‬على الرغم من‬ ‫ف�ضل �أن يدلّنا‬ ‫� ّأن الهدف املن�شود من رحلتنا‪� ،‬أكيفا �أور ّ‬ ‫على عنوان امل�ساكن االجتماعية حيث يقيم م�شري ًا �إىل‬ ‫�أ ّنها على مقربة من بلدة قلن�سوة العربية‪ .‬كان املكان عبارة‬ ‫عن جزء مهمل من التطور املدين‪ ،‬قبيحا عمليا وكئيبا‪.‬‬ ‫عا�ش �أكي مبفرده محُ اط ًا بعدد كبري من القطط الودودة‬ ‫يطبق �أفكاره عن‬ ‫وخالفه‪ .‬ل�سنوات خلت‪ ،‬كان �أكيفا ّ‬ ‫الأناركية وقد �ألّف ب�ضعة كتب و�أن�ش�أ موقع ًا الكرتوني ًا‬ ‫لن�رش �آرائه‪ .‬عنى يل ذلك الكثري‪� ،‬أنا الذي بقيت �سجني‬ ‫الطبقات االجتماعية وفاعلية ال�رصاع الطبقي كج�رس‬ ‫ال‪� .‬أما بالن�سبة �إىل ابني‪ ،‬ف�شعرت‬ ‫عبور �إىل عامل �أكرث عد ً‬ ‫ب� ّأن ذلك �أقرب �إىل عامله الثقايف والفكري‪.‬‬ ‫ عندما قرعت باب �أكيفا �أور يف لندن يف الأ�شهر الأوىل‬ ‫ي�ضيع الوقت ب�س�ؤايل من �أكون‪ ،‬ماذا‬ ‫من عام ‪ ،1968‬مل‬ ‫ّ‬

‫ ‪ 174‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫عرفني �إىل‬ ‫�أريد‪ ،‬من �أر�سلني‪ .‬دعاين فور ًا �إىل الدخول‪ّ ،‬‬ ‫علي تناولت �شتى املوا�ضيع‬ ‫زوجته‪ ،‬وبا�رش ب�إلقاء حما�رضة ّ‬ ‫وك�أننا نعرف بع�ضنا منذ عقود‪ ،‬وقد افرتقنا يف ال�سابق لأيام‬ ‫قليلة فقط‪ .‬كانت هذه بداية �صداقة ا�ستمرت حتى وفاته‪.‬‬ ‫ يف ٍ‬ ‫وقت �سابق من العام نف�سه‪� ،‬سافرت من لندن �إىل تل‬ ‫�أبيب كـ«�سائح �أردين»‪ .‬كانت زيارتي الأوىل‪ .‬يف حمادثاتي‬ ‫مع والدي مل �أفاج�أ الكت�شايف �أ ّنه بقي وفي ًا لر�ؤيته ال�سابقة‬ ‫للعامل مع االحتاد ال�سوفياتي يف و�سطه‪ ،‬على الرغم من � ّأن‬ ‫ٍ‬ ‫ب�شكل خا�ص‪.‬‬ ‫الوطنية بدت �أكرث بروز ًا يف حالة فل�سطني‬ ‫�صرَ َ َف النظر عن �آرائي «الهرطقية» وبا�رش بو�ضعي على‬ ‫ٍ‬ ‫أ�شخا�ص تفكريهم «م�شابه»‪ .‬و�رسعان ما وجدت‬ ‫ات�صال مع �‬ ‫نف�سي برفقة م‪ .‬م‪ .‬الذي وجدت معه �أكرث من جمرد �أر�ضية‬ ‫م�شرتكة وا�سعة‪ .‬كان اال�رسائيلي الأول الذي التقيت به‪.‬‬ ‫عندما �أخربته �أنني �س�أعود قريب ًا �إىل اململكة املتحدة‪،‬‬ ‫�أعطاين بيانات االت�صال ب�صديق له يعي�ش هناك‪.‬‬ ‫ يف حزيران‪ /‬يونيو ‪� ،1967‬أدى االحتالل الع�سكري‬ ‫اال�رسائيلي لل�ضفة الغربية من الأردن �إىل �إعادة توحيد‬ ‫فل�سطني وق�سم من ال�شعب الفل�سطيني على الأقل‪ .‬فور‬ ‫انتهاء االعتداءات‪� ،‬سافر جربا نقوال �إىل القد�س بحث ًا‬ ‫عن الأ�صدقاء واملعارف القدامى‪ .‬عند لقائه بوالدي‬ ‫يدر�س‬ ‫عرفه �إىل رفيق �شاب‪ ،‬م‪ .‬م‪� ،.‬أ�ستاذ يهودي �شاب ّ‬ ‫ّ‬ ‫الريا�ضيات يف اجلامعة العربية يف القد�س وك‪ .‬ت‪ ،.‬طالب‬ ‫عربي �شاب يدر�س القانون‪.‬‬

‫يف فل�سطني ما قبل عــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــام‬ ‫‪ 1948‬كان هناك حزب �شـــــــــــــــــــــــــــــــيوعي‬ ‫�ضم يف �صفوفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه‬ ‫�صغري ّ‬ ‫منا�ضلني عربـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ًا‬ ‫ويهوداً اعتقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدوا‬ ‫بعد وعد الثورة البل�شفيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫� ّأن فجراً جديداً �سيبزغ و� ّأن مهمتهـــــــــــــــــــــــــــم‬ ‫متثلت يف التح�ضري لهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذا‬ ‫التحول الواعد وتعجيل حدوثـــــــــــــــــــــــــــــــــه‬ ‫ يف وقت �سابق‪� ،‬أبدى جربا نقوال اهتمام ًا بالآليات‬ ‫الداخلية للمجتمع ال�سوفياتي اجلديد وبالنزاعات‬ ‫التي ع�صفت به خالل عقده الأول‪ .‬كذلك‪ ،‬تو�صل �إىل‬ ‫االعرتاف ب� ّأن نقد ليون تروت�سكي للعقيدة اال�شرتاكية يف‬ ‫�إحدى الدول هو املوقف البل�شفي ال�صحيح‪ ،‬وقد جمعته‬ ‫مبحام يهودي تروت�سكي يف يافا‪ /‬تل �أبيب‪،‬‬ ‫عالقة �صداقة‬ ‫ٍ‬ ‫هو موردخاي �ستاين‪ ،‬الذي �أدار لفرتة ق�صرية‪ ،‬وهو يف‬ ‫الثالثينيات‪� ،‬صحيفة �سميت «النور»‪ .‬عرف والدي‪ ،‬الذي‬ ‫كان على ارتباط وثيق باحلركة ال�شيوعية يف فل�سطني‪،‬‬ ‫جربا معرفة عابرة غري �أ ّنه مل ي�شاركه «انحرافه» ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫ عام ‪ ،1948‬وجد جربا نقوال نف�سه يف حيفا‪ ،‬وكما‬ ‫ح�صل مع العرب الذين متكنوا من البقاء يف فل�سطني‪،‬‬ ‫يف هذه املناطق التي احتلها اجلي�ش اال�رسائيلي احلديث‬ ‫العهد‪َ ،‬ف َق َد االت�صال مبعارفه و�أ�صدقائه القدامى‪ .‬تابع‬ ‫ن�شاطه ال�سيا�سي يف احلزب ال�شيوعي اال�رسائيلي الذي‬ ‫مزيج من �أع�ضاء ع�صبة التحرر الوطني‬ ‫�أُن�شئ حديث ًا؛‬ ‫ٌ‬ ‫ن�صبوا‬ ‫الذين بقوا يف فل�سطني وال�شيوعيني اليهود الذين ّ‬ ‫�أنف�سهم حزبا ً �شيوعي ًا ا�رسائيلي ًا‪ .‬يف مطلع ال�ستينيات‬ ‫عندما �شكّ ل �أكيفا �أور ومو�شيه ماخوفر وبع�ض رفاقهم‬

‫جربا نقوال و�سليم خياطة‬ ‫يف فل�سطني ما قبل عام ‪ 1948‬كان هناك حزب �شيوعي‬ ‫�ضم يف �صفوفه منا�ضلني عرب ًا ويهود ًا اعتقدوا بعد‬ ‫�صغري ّ‬ ‫وعد الثورة البل�شفية � ّأن فجر ًا جديد ًا �سيبزغ و� ّأن مهمتهم‬ ‫متثلت يف التح�ضري لهذا التحول الواعد وتعجيل حدوثه؛‬

‫ ‪ 175‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫«م ْت ْ�سبِني»‪ ،‬منظمة مارك�سية راديكالية‬ ‫ال�شيوعيني منظمة َ‬ ‫ت�ستند �إىل انتقاد ال�ستالينية واالحتاد ال�سوفياتي‪ ،‬انخرط‬ ‫جربا نقوال يف �صفوفها‪.‬‬ ‫املحرمة التي‬ ‫ كربت على مرمى حجر من املنطقة‬ ‫َّ‬ ‫ف�صلت القد�س اخلا�ضعة لل�سيطرة الأردنية عن القد�س‬ ‫اخلا�ضعة لل�سيطرة اال�رسائيلية يف خم�سينيات القرن‬ ‫املا�ضي‪ ،‬ومع ذلك كنت �أجهل متام ًا وجود �إ�رسائيل‬ ‫وكل ما هو ا�رسائيلي‪ .‬مبا �أنني ارتدت مدر�سة تب�شريية‬ ‫بريطانية يف القد�س كنت �أكرث �إملام ًا مبا يخ�ص امللك‬ ‫جون ال�سيئ‪ ،‬وحرب الوردتني‪ ،‬وتدمري �أ�سطول االرمادا‬ ‫اال�سبانية على يد البحرية الربيطانية يف القرن‬ ‫ال�ساد�س ع�رش‪ ،‬ومارتن لوثر‪ ،‬وكالڤن‪ ،‬وحرب الفالحني‪،‬‬ ‫واال�صالح الربوت�ستانتي‪ ،‬وزيجات هرني الثامن‪ ،‬ووليام‬ ‫اوف �أوراجن والعر�ش الربيطاين‪ ،‬والتناف�س الفرن�سي‬ ‫الربيطاين يف مطلع القرن التا�سع ع�رش وهزمية نابوليون‬ ‫يف واترلو‪ .‬وال �أتذكر �شيئ ًا عن فل�سطني‪� ،‬أو التاريخ‬ ‫العربي املعا�رص �ضمن املناهج املدر�سية‪ .‬بيد �أنني‬ ‫�أ�صغيت مرغما �إىل اذاعة «�صوت العرب» و�إىل �أحمد‬ ‫والدي ب�إبقاء ال�صوت منخف�ض ًا‬ ‫�سعيد (مطيع ًا تعليمات‬ ‫ّ‬ ‫جد ًا للحر�ص على �أال ي�سمعه حار�س القن�صلية الرتكية‬ ‫مقابل منزلنا‪ ،‬وهو �أردين اجلن�سية)‪.‬‬ ‫ابتداء من عام ‪ 1962‬عندما غادرت القد�س قا�صد ًا‬ ‫ ‬ ‫ً‬ ‫اململكة املتحدة‪� ،‬أ�صبحت �أقر�أ بانتظام �صحيفة الـ«دايلي‬ ‫وركر» اليومية ال�صادرة عن احلزب ال�شيوعي الربيطاين‪.‬‬ ‫ويف الفرتة املمتدة حتى حرب حزيران‪ /‬يونيو ‪1967‬‬ ‫اكت�شفت �أ�شياء كثرية؛ الثورة البل�شفية‪ ،‬تروت�سكي‪ ،‬روزا‬ ‫لوك�سمبورغ‪ ،‬ماو والثورة ال�صينية‪ ،‬احلرب الأهلية اال�سبانية‪،‬‬ ‫فيتنام ومعركة ديان بيان فو‪ ،‬حركة مترد هوك (هوكباالهاب)‬ ‫يف الفيليبني‪� ،‬شاربفيل وحركة مناه�ضة الف�صل العن�رصي‪،‬‬ ‫الثورة الكوبية‪ ،‬حركة احلقوق املدنية يف الواليات املتحدة‪،‬‬ ‫مع�سكرات التعذيب التي بناها النازيون يف �أوروبا خالل‬ ‫احلرب العاملية الثانية‪� ،‬إبادة اليهود يف الغرب‪ ،‬و�أكرث من‬ ‫ذلك بكثري‪ .‬لكنني اكت�شفت القليل يف ما يتعلق بالعامل‬ ‫العربي‪ ،‬ومل �أكت�شف �شيئ ًا عن فل�سطني‪� ...‬أو ا�رسائيل‪.‬‬ ‫�شخ�صية اكرب من احلياة‬ ‫عقب حرب حزيران‪ /‬يونيو ‪ 1967‬مبا�رشة‪ ،‬اتخذت‬ ‫ثقافتي ال�سيا�سية منحى خمتلف ًا متام ًا‪ .‬التقيت ومي�ض‬ ‫عمر نظمي‪ ،‬طالب درا�سات عليا من العراق كان يح�ضرّ‬ ‫ر�سالة الدكتوراه ومو�ضوعها ثورة عام ‪( 1920‬ثورة‬


‫منتقديه بقدرته على التحدث من دون مالحظات مكتوبة‪.‬‬ ‫مل ت�شمل انتقاداته القادة اال�رسائيليني وح�سب بل امللوك‬ ‫العرب والر�ؤ�ساء �أي�ض ًا الذين �أ�شاروا �إىل �رضورة اندالع‬ ‫ثورة �شاملة يف امل�رشق العربي باعتبارها الطريقة الوحيدة‬ ‫حلل م�شاكل املنطقة‪.‬‬

‫تلعفر‪ ،‬الثورة العربية الأوىل �ضد الوجود االمربيايل‬ ‫الربيطاين ال��ذي و�صل حديث ًا �إىل املنطقة) �ضد‬ ‫الربيطانيني يف العراق‪� .‬أ�صبح ومي�ض عمر نظمي بوابتي‬ ‫�إىل العامل العربي‪ .‬وقد �أدى �أكيفا �أور الذي التقيته يف‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــح َر‬ ‫تقريبا دور ًا حا�سم ًا �أي�ض ًا‪ .‬كان مدخلي كان خطيب ًا فاتن ًا‪�َ .‬س‬ ‫الفرتة نف�سها‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫�إىل ا�رسائيل و�إىل ي�سار راديكايل متجذر يف �أ�شكال امل�ستمعني ب�سعة معرفتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه؛‬ ‫خمتلفة من املارك�سية‪ ،‬رغم �أ ّنه من ال�صعب التعرف و�أذهل منتقديه بقدرتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه‬ ‫�إليه �أحيان ًا‪ .‬بدا ذلك خاطئ ًا �أو حتى �أ�شبه بالهرطقة‪ ،‬مما على التحدث من دون مالحظــــــــــــــــــــــــــــــات‬ ‫�ساهم وح�سب يف زيادة املتعة التي ا�ستمدها من قراءة مكتوبة‪ .‬مل ت�شمل انتقاداتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه‬ ‫القادة اال�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرائيليني‬ ‫ما اعتربته ن�صو�ص ًا «غري �رشعية»‪.‬‬ ‫ كان �أكي كما ينادونه عادة �شخ�صية �أكرب من احلياة‪ .‬مل وح�سب بل امللوك العــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرب‬ ‫ت�شغل ال�ش�ؤون اال�رسائيلية �إال حيز ًا �صغري ًا من كتاباته‪ .‬والر�ؤ�ساء �أي�ضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ًا‬ ‫املب�سطة‪� .‬أذهلتني‬ ‫فقد كانت لديه �شهية كبرية للعلوم‬ ‫ّ‬ ‫م�سريته‪ُ .‬ولد عام ‪ 1931‬من والدين �أملانيني يف برلني‪ ،‬بد�أ يزول تدريجي ًا؛ بدء ًا من امل�ؤمتر الع�رشين للحزب وقمع‬ ‫و�أح�رضاه �إىل فل�سطني عام ‪ .1934‬عام ‪ ،1948‬االنتفا�ضة املجرية �إىل �أن ُطرِ د عام ‪ 1962‬من �صفوف‬ ‫جت ّند يف البحرية اال�رسائيلية التي �أُن�شئت حديث ًا �إال �أنه احلزب و�أ�س�س مع بع�ض الرفاق منظمة راديكالية حملت‬ ‫«م ْت ْ�سبِني» (�أي البو�صلة)‪.‬‬ ‫مل ي�شهد �أي معركة‪ .‬عند ت�رسيحه‪ ،‬ان�ضم �إىل الأ�سطول ا�سم َ‬ ‫بحار‪ .‬عام ‪� ،1951‬شارك يف ا�رضاب عام ‪� ،1964‬سافر �إىل لندن والتحق بجامعة هناك‬ ‫التجاري ب�صفة ّ‬ ‫ِ‬ ‫البحارة الذي جعله راديكالي ًا وقاده يف الطريق الذي ليوا�صل درا�سته يف جمال الفيزياء‪ .‬لكن مل ينته به املطاف‬ ‫ّ‬ ‫ال�شيوعي‬ ‫�زب‬ ‫�‬ ‫احل‬ ‫�صفوف‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫النهاية‬ ‫يف‬ ‫به‬ ‫�سيودي‬ ‫كر�س معظم وقته وبخا�صة‬ ‫بل‬ ‫عاجي‬ ‫برج‬ ‫يف‬ ‫أكادميي‬ ‫�‬ ‫ك‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫اال�رسائيلي‪ .‬وقد علل موقفه االيجابي من احلزب باعتباره منذ عام ‪ 1967‬اللقاء املحا�رضات والكتابة حماو ً‬ ‫احلركة ال�سيا�سية الوحيدة التي � ّأيدت اال�رضاب ودافعت �أن يف�سرّ للي�سار طبيعة الدولة اال�رسائيلية امل�ستوطنة‬ ‫عن العمال امل�رضبني �ضد رجال ال�رشطة الذين اعتدوا واال�ستعمارية‪ .‬بالن�سبة �إىل جمموعة الطالب العرب يف‬ ‫ٍ‬ ‫على البحارة‬ ‫ب�شكل وح�شي‪ ،‬و�ضد االحتاد العام لنقابات اململكة املتحدة يف ذلك الوقت‪ ،‬بدا �أكيفا رائع ًا لدرجة ال‬ ‫العمال اال�رسائيلية‪ ،‬اله�ستدروت‪ ،‬الذي �أنكر عليهم‬ ‫حتدث بلغة غري م�ألوفة بالن�سبة �إليهم‪ .‬ا�ستند يف‬ ‫ت�صدق‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫حقهم ب�إن�شاء نقابة م�ستقلة‪.‬‬ ‫نقده و�شجبه ال�صهيونية �إىل كتابات قادة �صهاينة مثال‬ ‫هرتزل وبنك�رس وجابوتن�سكي وفايت�سمان وغريهم‪.‬‬ ‫كربت على مرمى حجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر كذلك‪ ،‬حيرّ املدافعني عن �إ�رسائيل الذين مل يكن لديهم‬ ‫ُ‬ ‫من املنطقة‬ ‫املحرمة التي ف�صــــــــــــــــــــــــــــــــلت �أي رد على انتقاد ي�ستند �إىل الأقوال والأفعال احلقيقية‬ ‫َّ‬ ‫القد�س اخلا�ضعة لل�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيطرة ال�صادرة عن ق��ادة احلركة ال�صهيونية وال�سيا�سيني‬ ‫الأردنية عن القد�س اخلا�ضعــــــــــــــــــــــــــــــــــــة اال�رسائيليني البارزين‪ .‬و�أ�شار �إىل التواط�ؤ مع اململكة‬ ‫لل�سيطرة اال�رسائيلية يف خم�سينيـــــــــــــــــــــــــات املتحدة وفرن�سا يف حملة ال�سوي�س كدليل على ر�ضوخ‬ ‫القرن املا�ضي‪ ،‬ومع ذلك كـــــــــــــــــــــــــــــــــــنت ا�رسائيل للنهج االمربيايل‪.‬‬ ‫�أجهل متام ًا وجود �إ�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرائيل بدا � ّأن كل ما قاله يثبت ما �سعى ال�صحافيون العرب‬ ‫وكل ما هو ا�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرائيلي جاهدين �إىل التعبري عنه بو�ضوح‪ ،‬بدون �أن يفلحوا يف ذلك‪.‬‬ ‫لكن ثمة فارق �أ�سا�سي واحد‪ :‬امتلك �أكيفا الدليل‪ .‬كان‬ ‫ْ‬ ‫ انطلق يف م�سرية قادته يف النهاية �إىل حرب نقدية يقتب�س الف�صل واجلملة‪ .‬مل ت�ستند �إدانته �إىل ت�صنيفات‬ ‫مع ال�صهيونية بو�صفها حركة تدعي التحرر و�أودت �أخالقية بل �إىل وقائع مقتطفة من من�شورات باللغة‬ ‫فهمها ع�صي على اجلماهري العربية والربيطانية‪.‬‬ ‫به يف ال�سنوات التي تلت �إن�شاء منظمة «مت�سبني» �إىل العربية ُ‬ ‫انف�صال تام عن املبادئ ال�صهيونية‪ .‬بعد وقت ق�صري‪ ،‬كان خطيب ًا فاتن ًا‪�َ .‬س َح َر امل�ستمعني ب�سعة معرفته؛ و�أذهل‬ ‫قرر �أن يدر�س الريا�ضيات والتحق باجلامعة العربية‬ ‫يف القد�س‪ .‬بقي نا�شط ًا يف �صفوف احلزب ال�شيوعي‬ ‫اال�رسائيلي على الرغم من � ّأن افتتانه باالحتاد ال�سوفياتي‬

‫ ‪ 176‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫احلق يف املقاومة امل�سلحة‬ ‫منذ البداية‪ ،‬دافع عن حق الفل�سطينيني يف ا�ستعمال‬ ‫�شتى الو�سائل لنيل حقوقهم مبا يف ذلك الكفاح امل�سلّح‪.‬‬ ‫عدة ويظهر‬ ‫رغم �أ ّنه ال يتجنب انتقاد عمليات م�سلحة ّ‬ ‫مل كانت بر�أيه غري مثمرة‪ ،‬لطاملا �شدد على �أنه يرتتب‬ ‫َ‬ ‫على الفل�سطينيني حتديد و�سائل الكفاح‪ .‬ا�ستند انتقاده‬ ‫طرح يوم ًا ب�أ�سلوب عدائي‪ .‬ال‬ ‫�إىل روح الت�ضامن؛ مل ُي َ‬ ‫بد من اطاحة ال�صهيونية وتفكيك النظام اال�رسائيلي‬ ‫وا�ستبداله بدولة عربية يهودية واحدة‪.‬‬

‫تغري �إيجابي �أو �صحوة طال انتظارها يف ا�رسائيل ويف‬ ‫العامل �أجمع‪� .‬أ ّثر يف حياة الكثريين‪ ،‬وكان منزله يف لندن‬ ‫تقبل االختالف‬ ‫ملتقى النا�س من خمتلف اجلن�سيات‪ّ .‬‬ ‫ومل يتوقع من النا�س �أن يروا العامل من منظاره هو‪.‬‬ ‫مل يحاول يوم ًا �أن يفر�ض �آراءه على الآخرين‪ .‬قال‬ ‫ما عليه قوله والنا�س �أحرار يف موافقته �أو خمالفته‬ ‫جمتمع �صغري بالقرب من‬ ‫الر�أي‪ .‬انتهى به املطاف يف‬ ‫ٍ‬ ‫بلدة قلن�سوة العربية التي تقع �ضمن املثلث‪ .‬على الرغم‬ ‫من �أ ّنه عا�ش يف جمتمع يهودي حم�ض على مقربة من‬ ‫نتانيا‪� ،‬أ�صبحت قلن�سوة نقطة املرجع بالن�سبة �إليه‪.‬‬ ‫ التقيته للمرة الأخرية قبل �أ�شهر قليلة من وفاته وكان‬ ‫مل قرر‬ ‫ال كعادته‪ .‬حكى يل �أ ّنه �س�أل والدته مرة َ‬ ‫متفائ ً‬ ‫والداه االنتقال �إىل فل�سطني يف منت�صف ثالثينيات القرن‬ ‫املا�ضي على الرغم من �أ ّنهم لي�سوا ب�صهاينة‪� .‬أجابته ب�أنها‬ ‫يف �أحد الأيام فيما كانت تدفع عربته يف �إحدى احلدائق‬

‫ال بد من اطاحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫ال�صهيونية وتفكيك النظـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــام‬ ‫اال�رسائيلي وا�ستبدالـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه‬ ‫بدولة عربيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫يهودية واحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدة‬ ‫ تعدى اهتمامه ال�سيا�سات املبا�رشة يف ال�رشق‬ ‫مربر مبا �أ ّنه عا�ش ‪� 30‬سنة يف �أوروبا‬ ‫الأو�سط‪ ،‬وهذا َّ‬ ‫وتفاعل مع الأح��داث واحلركات هناك‪ .‬كان ينتمي‬ ‫جدا‬ ‫�إىل تيار مارك�سي ناقد اعترب املارك�سية �صارمة ً‬ ‫ومقيدة‪ ،‬يف عامل يتغيرّ ب�رسعة‪ .‬ويرى �أكيفا � ّأن العامل‬ ‫الذي يعي�ش فيه لي�س العامل الذي عا�ش فيه مارك�س‬ ‫واجنلز‪ .‬فكتاباتهما واحلركات ال�سيا�سية واالجتماعية‬ ‫وحولتها‪ .‬ينبغي بالتايل‬ ‫التي �أن�ش�آها غيرّ ت الر�أ�سمالية‬ ‫ّ‬ ‫�أن ينطلق النقد املعا�رص من واقع احلال ال من الظروف‬ ‫التي �أ ِلفها مارك�س واجنلز خالل القرن التا�سع ع�رش‪.‬‬ ‫كذلك‪� ،‬أب��دى اهتمام ًا متزايد ًا بالأفكار الأناركية‬ ‫و�أ�ساليب تنظيم املجتمع‪.‬‬ ‫ يف ال�سنوات الأخرية من حياته‪ ،‬ر�أى � ّأن التقنيات‬ ‫اجلديدة وو�سائل الإع�لام االجتماعية جعلت مهمة‬ ‫امل�شاركة الدميقراطية �أ�سهل و�أكرث عملية (ميكن االطالع‬ ‫على كتاباته على االنرتنت على املوقع االلكرتوين‬ ‫ال وبقي كذلك‪ .‬يف كل‬ ‫‪ .)akiorrbooks.com‬كان متفائ ً‬ ‫تظاهرة احتجاجية �صغرية كان يرى امكانية ح�صول‬

‫ ‪ 177‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫العامة يف برلني ر�أت يده ترتفع لت�أدية التحية النازية‬ ‫ل�ضابط نازي كان م��ار ًا‪ ،‬فاتخذت على الفور القرار‬ ‫بالرحيل‪ .‬مل ت�ش�أ املجازفة ب�أن يكرب ابنها لي�صبح نازي ًا‪.‬‬ ‫بر�أيي �أ ّنه ابتدع هذه الق�صة ليو�صل ر�سالة معينة‪ .‬ال‬ ‫ح�صانة لأحد؛ ال للأملان املثقفني خالل ثالثينيات القرن‬ ‫املا�ضي الذين ا�ست�سلموا لتملق هتلر‪ ،‬وال لأي �أحد �آخر‪،‬‬ ‫مبن يف ذلك اليهود �أنف�سهم الذين عانوا من هذه الفرتة‬ ‫املهلكة والع�صيبة من التاريخ الأوروبي‪.‬‬ ‫ عام ‪ ،1990‬بعد تقاعد �أكيفا من وظيفته يف جمال‬ ‫التعليمط‪ ،‬عاد �إىل ا�رسائيل لالعتناء بوالدته املري�ضة‪.‬‬ ‫�شاركت يف مرا�سم دفنه يف حقل يف مقربة مينية يف‬ ‫�ضواحي قلن�سوة‪ ،‬وقد ح�رض الدفن �أي�ض ًا يهود �أ�شكيناز‬ ‫وعرب قالئل‪ .‬مل �أ�ستطع منع نف�سي من التفكري يف � ّأن‬ ‫�صداقته �أغنت حياتي ويف �أ ّنه �أ ّثر يف نظرتي �إىل العامل‬ ‫بطرق كثرية‪� ،‬أكرث مما ي�سعني االعرتاف به‪.‬‬ ‫لالطالع على كتابات �أكيفا �أور زوروا املواقع االلكرتونية التالية‪:‬‬ ‫‪www.akiorrbooks.com - www.autonarchy.org.il - www.abolish-power.org‬‬


‫رئيف خوري‬

‫المثقف الشيوعي يف الزمن الستاليين‬ ‫أمحد عليب‬

‫احتفل لبنان يف هذا العام بالذكرى المئة لوالدة االديب والمفكر العريب التقدمي الكبري رئيف خوري (‪.)١٩٦٧-١٩١٣‬‬ ‫يعده عنه الدكتور أمحد عليب‬ ‫اهساما يف تكريم رئيف والتعريف به‪ ،‬ننرش فيما ييل صفحات من الكتاب اجلامع الذي ّ‬ ‫بعنوان «رئيف خوري‪ ،‬داعية الدميقراطية والعروبة»‬

‫يف اجلامعة اللبنانية‪.‬‬

‫يعرب «�أَن�صار ماركو�س»‬ ‫اليونان مل�ساندة امللك‬ ‫واحللفاء من الإنكليز‪ ،‬الذين نزلوا‬ ‫َ‬ ‫رئيف ّ‬ ‫َ‬ ‫ال�شيوعيني يف اليونان‬ ‫يف عام ‪ 1948‬وحركة الأن�صار‬ ‫بال�شيوعيني اليونان الذين‬ ‫والرجعية‪ .‬وح ّلت امل�أ�ساة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫حررت الكثري من الأر�ض واكت�سحت‬ ‫العربية‪ ،‬الجئني بالآالف‬ ‫يدي �سب�أ‪ ،‬كما نقول يف‬ ‫تفرقوا �أ َ‬ ‫ّ‬ ‫يف �أوجها‪ ،‬وقد ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫اليونانية �أثينا‪ ،‬وذلك بقيادة الزعيم‬ ‫العا�صمة‬ ‫والغربية‪ ،‬خوف ًا على �أنف�سهم‬ ‫ال�رشقية‬ ‫أوروبا‬ ‫ال�شيوعي �إىل �أنحاء � ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ماركو�س‪ ،‬ومب�ساعدة الرفاق يف البلقان‪،‬‬ ‫وبخا�صة من �سيف الغدر واالنتقام‪ .‬يف هذا الوقت‪ ،‬واحلملة‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫الرفاق اليوغ�سالف‪ ،‬املتاخمني لهم‪ ،‬وعلى ر�أ�سهم تيتو‪ .‬املعادية لتيتو انطلقت �شعواء‪� ،‬إذ � ّإن � ّأي خمالفة للمركز‬ ‫يف هذا الوقت الع�صيب جرى ّ‬ ‫ممية‬ ‫ول�سيده املطلق �ستالني‪ ،‬كانت مبنزلة الهرطقة‬ ‫ال�شيوعية‪ ،‬مو�سكو‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫حل الأُ ّ‬ ‫ّ‬ ‫لالمربيالية واخليانة العظمى‪� ،‬إىل � ِآخر النعوت‬ ‫�أي «الكومنفورم» الذي َخ َل َف «الكومنرتن»‪ ،‬وهو مركز والعمالة‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫إعالمي م�شرتك للأَحزاب‬ ‫�‬ ‫ممي‪ .‬التي كانت رائجة عهدذاك؛ يف هذا الوقت �أ�صدر رئيف‬ ‫ّ‬ ‫ال�شوعية على النطاق الأ ّ‬ ‫ّ‬ ‫رحب رئيف خوري بهذا احلدث وع ّلق عليه قائال ً‪ :‬خوري كتابه املرتجم‪ :‬يف زيارة �أَن�صار ماركو�س‪ ،‬وقد‬ ‫وقد ّ‬ ‫‪2‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫احلل‪،‬‬ ‫ال�شيوعية على اقرتاح‬ ‫«وقد وافقت الأح��زاب‬ ‫مروه يف مقالته‪ ،‬ال�سالفة‬ ‫عربه ّ‬ ‫وقدم له ‪ .‬يقول كرمي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ين‪ .‬ونحن‪ ،‬و�إن الذكر‪« :‬لقد اعترب احلزب �صدور الكتاب املذكور وثيقة‬ ‫ال�شيوعي‬ ‫ومنها احلزب‬ ‫ال�سوري اللبنا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�شيوعي يف ا ّتهام لرئيف‪� ،‬إذ ا ُّتهم باالنحياز �إىل تيتو يف �رصاعه مع‬ ‫وطنية احلزب‬ ‫ن�شك يوم ًا يف �صدق‬ ‫ك ّنا مل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫�سوريا ولبنان‪ ،‬نعتقد � ّأن ّ‬ ‫ال�شيوعية �سيقنع �ستالني‪ ،‬الذي كان رئيف قد كتب الكثري عنه ونظم يف‬ ‫ممية‬ ‫ّ‬ ‫حل الأُ ّ‬ ‫‪3‬‬ ‫«تيتوي ًا»!‬ ‫النية الذين كانت تخامرهم ريبة ب� ّأن متجيده �أجمل الق�صائد‪� .‬أ�صبح رئيف‪� ،‬إذن‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫جميع ح�سني ّ‬ ‫ال على � ّأن ها�شم الأمني‪ ،‬الذي كان معا�رص ًا يوم ًا بيوم‬ ‫احلزب‬ ‫ال�شيوعي من الوطن وللوطن؛ و�سيكون عام ً‬ ‫ّ‬ ‫وطنية لرتجمة هذا الكتاب‪ ،‬ينفي متام ًا ما ذهب �إليه كرمي‬ ‫القوية لتوحيد ال�صفوف وخلق جبهة‬ ‫من العوامل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪1‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫مروه من � ّأن ترجمة هذا الكتاب كانت من الأ�سباب‬ ‫احلل‪ ،‬كما ّبينت الأ ّيام‪،‬‬ ‫م ّتحدة تخدم البالد» ‪ .‬بيد �أن‬ ‫ّ‬ ‫�شكلي ًا؛ بدليل � ّأن ّ‬ ‫كان‬ ‫حل الكومنفورم اقرتن ب�ش�أنٍ الدافعة �إىل �إبعاد رئيف خوري عن احلزب‪« .‬لقد �أخذ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫� َآخ َر خطري‪ ،‬هو طرد احلزب‬ ‫يف من رئيف برتجمة كتاب «�أن�صار ماركو�س» ب�أمر من اللجنة‬ ‫ال�شيوعي اليوغ�سال ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ال�شيوعية‪ ،‬وذلك ب�سبب اخلالف الذي َ�ش َج َر بني‬ ‫ممية‬ ‫فلما وقع اخلالف بني �ستالني وتيتو‪ ،‬وطرد‬ ‫ّ‬ ‫الأ ّ‬ ‫ّ‬ ‫املركزية‪ّ .‬‬ ‫تيتو و�ستالني‪ .‬وال�سبب املعلن هو امليول‬ ‫ال�شيوعية‪،‬‬ ‫يف من احلركة‬ ‫القومية لدى احلزب‬ ‫ال�شيوعي اليوغ�سال ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تيتو‪ .‬وهنا وقع الرفاق‬ ‫مدمر‪ .‬فقد تو ّقف رئيف عن متابعة الرتجمة‪ ...‬وطلبني يوم ًا خالد‬ ‫اليونانيون يف م�أزق ّ‬ ‫ّ‬ ‫حركتهم‬ ‫على‬ ‫و�ستالني‬ ‫تيتو‬ ‫انعك�س اخلالف بني‬ ‫الثورية‪ ،‬بكدا�ش �إىل مقابلته‪ ،‬وكان خمتبئ ًا‪ ،‬فكان يف جملة‬ ‫ّ‬ ‫الع�سكرية‬ ‫التي كان يناوئها امللك والطغمة‬ ‫اليونانية حديثه يل �أن �س�ألني‪� :‬أين و�صل رئيف برتجمة كتاب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫عمل استاذا لمادة‬

‫االدب العريب احلديث‬ ‫كتب يف االدب‬ ‫له‬ ‫ٌ‬

‫والنقد والتارخي مهنا‬

‫عن طه حسني وعن‬ ‫ثورة الزجن يف العرص‬

‫العبايس‪ .‬آخر مؤلفاته‬ ‫«باالحضان يا بلدنا»‬ ‫يف ادب الرحالت‪.‬‬

‫‪ 1‬رئيف خوري‪« :‬يف‬ ‫ ‬ ‫الآفاق»‪ ،‬جم ّلة‬ ‫الطريق‪� ،‬س‪،2‬‬ ‫ع‪20( 10‬‬ ‫حزيران ‪،)1943‬‬ ‫�ص ‪.3‬‬ ‫‪� 2‬أو�سكار دافت�شو‪:‬‬ ‫«يف زيارة �أَن�صار‬ ‫قدم له‪:‬‬ ‫ماركو�س»‪ّ ،‬‬ ‫عربته‬ ‫رئيف خوري‪ّ ،‬‬ ‫ون�رشته‪ :‬دار القارئ‬ ‫العربي‪ ،‬بريوت‬ ‫ّ‬ ‫‪ .1948‬و�إن كان‬ ‫رئيف يف الواقع هو‬ ‫الذي قام برتجمته‬ ‫إنكليزية‪.‬‬ ‫عن ال‬ ‫ّ‬

‫ ‪ 178‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫مروه‪« :‬املثقّف‬ ‫‪ 3‬كرمي ّ‬ ‫والثورة‪ ،‬حقائق‬ ‫عن رئيف خوري»‪،‬‬ ‫جم ّلة الطريق‪ ،‬ع‪1‬‬ ‫(�شباط‪ /‬فرباير‬ ‫‪،)1989‬‬ ‫�ص ‪ 15‬و‪.16‬‬ ‫‪ 4‬ها�شم الأمني‪:‬‬ ‫«ذكريات وحقائق‬ ‫عن رئيف خوري»‪،‬‬ ‫جريدة ال�سفري‪،‬‬ ‫احللقة الثانية‬ ‫(‪.)1989/3/10‬‬ ‫‪ 5‬رئيف خوري‪:‬‬ ‫ ‬ ‫العربية‬ ‫«القومية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اجلامعة طريق‬ ‫اخلال�ص»‪ ،‬جم ّلة‬ ‫الطليعة‪� ،‬س‪،3‬‬ ‫ع‪ 2‬و‪�( 3‬شباط‬ ‫و�آذار ‪،)1937‬‬ ‫�ص ‪.109 - 99‬‬ ‫‪ 6‬رئيف خوري‪:‬‬ ‫الرو�سية‪،‬‬ ‫«الثورة‬ ‫ّ‬ ‫ق�صة مولد‬ ‫ّ‬ ‫ح�ضارة جديدة»‪،‬‬ ‫�ص ‪ ،71‬بريوت‬ ‫‪.1948‬‬ ‫‪ 7‬فريد فرح‪:‬‬ ‫«�رصاع من‬ ‫�أجل الدميقراطية‬ ‫ّ‬ ‫حمطات‬ ‫واحلقيقة‪،‬‬ ‫من �سرية فرج‬ ‫الوطنية‬ ‫الله احللو‬ ‫ّ‬ ‫والقومية»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫�ص‪ 269‬و‪،270‬‬ ‫أدبية‪،‬‬ ‫دار الكنوز ال ّ‬ ‫بريوت ‪.2006‬‬ ‫‪ 8‬فريد فرح‪:‬‬ ‫«�رصاع من‬ ‫الدميقراطية‬ ‫�أجل‬ ‫ّ‬ ‫واحلقيقة‪،»...‬‬ ‫�ص‪.305 - 289‬‬

‫ ‪ 179‬‬

‫فقلت‪ :‬تو ّقف عن متابعة الرتجمة‪.‬‬ ‫«�أَن�صار ماركو�س»؟‬ ‫ُ‬ ‫وبينت له ال�سبب‪ .‬فقال بكدا�ش‪ :‬ال‪ ،‬ال‪ ،‬هذا ال مينع من‬ ‫ّ‬ ‫ترجمة الكتاب وطبعه‪� .‬أَ ْب ِل ْغ رئيف ًا �أن يوا�صل الرتجمة‬ ‫ال�شهال‬ ‫و�أن يطبع الكتاب‪ .‬وهكذا كان»‪ .4‬ثم � ّإن رِ ْ�ضوان‬ ‫ّ‬ ‫ـ الذي �سيكون الحق ًا يف كور�س املهاجمني ال�رش�سني‬ ‫لرئيف ورفاقه‪� ،‬إثر خالفهم مع احلزب ـ رِ ْ�ضوان هو‬ ‫الذي ر�سم غالف الكتاب‪.‬‬ ‫ � ّأما � ّأن رئيف خوري كان‪ ،‬برغم حما�سته لثورة �أكتوبر‬ ‫ال�سوفياتي وعلى‬ ‫والبال�شفة و�إ�شادته الدائمة باالحتاد‬ ‫ّ‬ ‫ر�أ�سه �ستالني‪ ،‬كان عاتب ًا على الرفاق ال�سوفيات‪ ،‬فهو مل‬ ‫ِ‬ ‫يخف عتبه عنهم بل قاله ِجهار ًا‪« :‬ومل �أجد جتاه العرب‪ ،‬يف‬ ‫ال�سوفياتي‪،‬‬ ‫اخلارجية التي يتبعها االحتاد‬ ‫حقل ال�سيا�سة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سوفياتي يف جامعة‬ ‫ما ال �أ� ّؤيده‪� ،‬سوى اقرتاع املندوب‬ ‫ّ‬ ‫دلو‬ ‫الأُمم ّ‬ ‫املتحدة باملوافقة على تق�سيم فل�سطني‪ ...‬ولو �أ ّنه ٌ‬ ‫�أُلقي يف ثالثة وثالثني دلو ًا‪ ...‬ولعن الله من فتح البئر!»‬ ‫القومي‪ ،‬وهو املغرم‬ ‫ح�سه‬ ‫ ‬ ‫ف�شيوعية رئيف مل تطفئ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ممية‬ ‫بالعرب والعروبة وبالأدب‬ ‫العربي وبالرتاث؛ فالأ ّ‬ ‫ّ‬ ‫القومي ال�سليم‪ ،‬وهما �أ�شبه‬ ‫احل�س‬ ‫احلقيقية تدعو �إىل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ب��الأَ‬ ‫امل�ستطر َقة‪ .‬ورئيف قد عاين‪ ،‬بال ريب‪ ،‬ما‬ ‫واين‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫أخالقيته‬ ‫بقائد �شجاع ُي�شيد الرفاق قاطب ًة ب�‬ ‫حلّ‬ ‫ّ‬ ‫وا�ستقامته و�سداد ر�أيه‪ ،‬وهو فرج الله احللو‪ّ � .‬إن رئيف ًا‬ ‫«ناب ْيه»‪ ،‬فوق �إنطليا�س يف املنت ال�شَّ مايلّ؛ وفرج الله‬ ‫من َ‬ ‫من «ح�رصايل»‪ ،‬فوق َع ْم�شيت يف بالد جبيل‪ .‬فهذا‬ ‫ين �أعطى يف هذين املنبتني‪ ،‬ويف غريهما من‬ ‫اجلبل اللبنا ّ‬ ‫العربي‬ ‫ال �أحرار ًا يف �رشقنا‬ ‫ع�رشات املنابت‬ ‫اجلبلية‪ ،‬رجا ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ْمانية والتنوير‪ ،‬ودعوا �إىل مناهج العدالة‬ ‫نادوا ب�أَفكار َ‬ ‫العل ّ‬ ‫االجتماعية‪ ،‬وارت�ضوا العروبة لواء خ ّفاق ًا‪� ،‬أو كما يقول‬ ‫ّ‬ ‫«القومية‬ ‫رئيف خوري يف عنوان �إحدى درا�ساته الباكرة‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫العربية اجلامعة طريق اخلال�ص»‪.5‬‬ ‫ّ‬ ‫ وكما وقف رئيف وقفة العاتب والالئم من االحتاد‬ ‫ال�سوفياتي‪ ،6‬ف� ّإن فرج الله جرى على املوجة ذاتها‪ .‬فقامت‬ ‫ّ‬ ‫قيامة خالد بكدا�ش عليه‪ ،‬والذي كان موجل ًا بالرتويج لكلّ‬ ‫ُ‬ ‫ال�شيوعية‬ ‫ممية‬ ‫ّ‬ ‫ما ي�صدر عن املركز مو�سكو‪ ،‬برغم حلّ الأ ّ‬ ‫ومكتبها الكومنفورم‪ .‬وهناك ر�سالة �شهرية ُدعيت «ر�سالة‬ ‫ال�رس ّي لفرج الله؛ وهو يقوم‬ ‫احلركي‬ ‫�سامل»‪ ،‬وهو اال�سم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الذاتي العنيف ال�شامل‪ ،‬ملا اتهمته به‬ ‫فيها بدور النقد‬ ‫ّ‬ ‫ال�سوري من‬ ‫ين‬ ‫املركزية يف احلزب‬ ‫القيادة‬ ‫ال�شيوعي اللبنا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫�أَ‬ ‫ٍ‬ ‫�شوفينية؛‬ ‫وقومية‬ ‫كو�سموبوليتية‬ ‫خطاء وانحرافات وميول‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املركزية‪ ،‬يف �أوا�سط �شباط ‪،1952‬‬ ‫عممت القيادة‬ ‫ّ‬ ‫وقد ّ‬ ‫‪7‬‬ ‫هذه الر�سالة على جميع ّ‬ ‫منظمات احلزب ‪.‬‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫«ر�سالة �سامل» لفرج الله احللو‬ ‫ونحن �أميل �إىل اال�ستغراب يف ن�سبة «ر�سالة �سامل»‬ ‫�إىل قلم فرج الله نف�سه‪ ،‬ل ّأن فيها من ا�ضطراب العبارة‬ ‫وت�شو�شها‪ ،‬كذلك من ركاكة الفكر �أَحيان ًا وغرقه يف‬ ‫ّ‬ ‫يكرر ال�شعارات؛ ممّا ال ي�أتلف مع ما‬ ‫��سردي‬ ‫أ�سلوب‬ ‫�‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عرفنا لفرج الله من كتابات حا�شدة يف جريدة «�صوت‬ ‫ال�شعب»‪� ،‬أو يف «كتابات خمتارة»‪� ،‬أو خ�صو�ص ًا يف‬ ‫املركزية للحزب‬ ‫قدمه يف اجتماع اللجنة‬ ‫التقرير الذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�شيوعي يف �سوريا ولبنان‪ ،‬املنعقد بدم�شق يف حزيران‬ ‫ّ‬ ‫عام ‪ .1937‬ففي هذا التقرير املعنون‪« :‬ق� ّ�وة احلزب‬ ‫الدميقراطية»‪،‬‬ ‫الدميقراطي وقيادته‬ ‫ال�شيوعي يف تنظيمه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نقع على �صفاء التفكري‪ ،‬ون�صاعة التعبري‪ ،‬و�سالمة املوقف‪،‬‬ ‫ونبالة الوطنية‪ ،‬واالن�ضباط احلزبي‪ ،‬والرقي الأَ‬ ‫خالقي‪8‬؛‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫معان �سامية تناق�ض متام ًا ما ا�شتملت عليه‬ ‫فهي كلّها‬ ‫الذاتي من املخازي التي ين�سبها فرج الله‬ ‫ر�سالة االنتقاد‬ ‫ّ‬ ‫واملخرب‬ ‫لنف�سه‪ ،‬بحيث يبدو وك�أ ّنه املت�آمر الف ّذ على حزبه‬ ‫ّ‬ ‫مهدد ًا بالطرد من احلزب‪ ،‬لوال اعرتافه‬ ‫الأعظم؛ بحيث بات َّ‬ ‫ال�رصيح العاري بتلك املخازي‪ّ � .‬أما خالد بكدا�ش فهو‬ ‫ينمي‬ ‫الرفيق الأكرب‪ ،‬الن�صوح‪ ،‬الهادي‪ ،‬القائد َ‬ ‫امللهم الذي ّ‬ ‫لدى رفاقه احلقد‬ ‫الطبقي على اال�ستعمار وعمالئه‪« .‬كلّ‬ ‫ّ‬ ‫توجه �إيلّ‪ ،‬وال‬ ‫هذا‪ ،‬ومل �أَحفل باالنتقادات‬ ‫امل�ستمرة التي َّ‬ ‫ّ‬ ‫أخوية والتحذيرات ال�شديدة‪ .‬لقد كانت‬ ‫التنبيهات ال ّ‬ ‫َ‬ ‫حتى‬ ‫قلبي‪،‬‬ ‫عماق‬ ‫�‬ ‫أ‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫االنتقاد‬ ‫و�صول‬ ‫هناك �أَ�شياء متنع‬ ‫ّ‬ ‫‪9‬‬ ‫مرة «وعظ ًا» ‪.‬‬ ‫�سم ُ‬ ‫ّ‬ ‫يت انتقادات الرفيق بكدا�ش ّ‬ ‫ونح�س ُب � ّأن جميع امل�آخذ على فرج الله كانت �إطار ًا‬ ‫ ‬ ‫َ‬ ‫املوال كلّه‪ ،‬هو موقف‬ ‫وديكور ًا‪ ،‬فبيت الق�صيد‪ ،‬يف هذا ّ‬ ‫فرج الله احللو من مو�ضوع تق�سيم فل�سطني‪ ،‬كذلك‬ ‫ق�ضية رئيف خوري ورفاقه من املث ّقفني‪.‬‬ ‫موقفه من‬ ‫ّ‬ ‫بكدا�ش ير�سل فرج الله �إىل حتفه‬ ‫ُ‬ ‫على �أ ّننا‪ ،‬يف واقع احلال الذي نعرفه‪ ،‬ميكن �أن ندرك‬ ‫ونف�سرّ ما ا�شتملت عليه «ر�سالة �سامل» من ا�ضطراب يف‬ ‫املبنى واملعنى كليهما‪ّ � .‬إن كاتبها قائد مرموق‪ ،‬ترك يف‬ ‫�شيوعي عرفه عن كثب انطباع ًا ال ُين�سى‪ ،‬من‬ ‫نف�س كلّ‬ ‫ّ‬ ‫�سعة الأفق ودماثة ا ُ‬ ‫اجلم‪« ،‬وكان دائم ًا‬ ‫خللُق والتوا�ضع ّ‬ ‫يو�صلك �إىل القناعة بفكرة يريدها هو‪� ،‬أي فرج‪ ،‬ويجعلك‬ ‫تعتقد �أ ّنك �أنت �صاحب الفكرة»‪ .10‬ويقول �صاحب هذا‬ ‫التقييم‪ ،‬عزيز �صليبا‪ ،‬كالم ًا م�ؤ ّثر ًا يدور على �أَل�سنة كثري‬ ‫ُ ُ‬ ‫حب ًا‬ ‫ال�شيوعيني الذين عاي�شوا فرج الله‪:‬‬ ‫من‬ ‫حبه ّ‬ ‫«كنت �أ ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪11‬‬ ‫عادي‪ .‬وهو كان �إن�سان ًا غري‬ ‫غري‬ ‫عادي» ‪ .‬وهذا الإن�سان‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬


‫‪ 9‬فريد فرح‪ :‬املرجع‬ ‫ ‬ ‫ال�سابق‪� ،‬ص‪.276‬‬ ‫ويف هذا الكتاب‬ ‫الن�ص الكامل‬ ‫ّ‬ ‫لر�سالة �سامل‪� ،‬ص‬ ‫‪.285 – 272‬‬ ‫كما � ّأن يو�سف‬ ‫ّ‬ ‫خطار احللو قد‬ ‫الن�ص الكامل‬ ‫�أدرج‬ ‫ّ‬ ‫لر�سالة �سامل يف‬ ‫كتابه‪�« :‬أَوراق من‬ ‫تاريخنا»‪،‬‬ ‫ ‬ ‫�ص ‪،52 – 39‬‬ ‫دار الفارابي‪،‬‬ ‫بريوت ‪.1988‬‬ ‫‪ 10‬عزيز �صليبا‪:‬‬ ‫ال�رس ّي يف‬ ‫«العمل‬ ‫ّ‬ ‫ال�شيوعي‬ ‫احلزب‬ ‫ّ‬ ‫اللبناينّ ‪ ،‬مع‬ ‫�صفحات من‬ ‫تاريخه»‪،‬‬ ‫ ‬ ‫�ص ‪ 60‬و‪،61‬‬ ‫دار الفارابي‪،‬‬ ‫بريوت ‪.2002‬‬ ‫‪ 11‬عزيز �صليبا‪:‬‬ ‫ال�رس ّي يف‬ ‫«العمل‬ ‫ّ‬ ‫ال�شيوعي‬ ‫احلزب‬ ‫ّ‬ ‫‪،»...‬‬ ‫اللبناينّ ‬ ‫�ص ‪.112‬‬ ‫‪ 12‬هناك تفا�صيل‬ ‫وافية حول اغتيال‬ ‫فرج الله احللو ترد‬ ‫يف كتاب فريد‬ ‫فرح‪�« :‬رصاع من‬ ‫الدميقراطية‬ ‫�أجل‬ ‫ّ‬ ‫واحلقيقة‪،»...‬‬ ‫�ص‪.340 – 320‬‬ ‫‪ 13‬يو�سف ّ‬ ‫خطار‬ ‫احللو‪�« :‬أَوراق من‬ ‫تاريخنا»‪،‬‬ ‫ ‬ ‫�ص ‪.57‬‬ ‫‪ 1‬عزيز �صليبا‪:‬‬ ‫‪ 4‬‬ ‫ال�سابق‪،‬‬ ‫ ‬ ‫املرجع‬ ‫�ص ‪.65‬‬ ‫‪ 1‬فريد فرح‪ :‬املرجع‬ ‫‪ 5‬‬ ‫ال�سابق‪� ،‬ص ‪ 269‬ـ‬ ‫يو�سف ّ‬ ‫خطار احللو‪:‬‬ ‫ال�سابق‪،‬‬ ‫ ‬ ‫املرجع‬ ‫�ص ‪.38‬‬

‫ ‪ 180‬‬

‫العادي اعتقله رجال املباحث يف دم�شق‪ ،‬حيث‬ ‫غري‬ ‫ّ‬ ‫ال�سورية‪ ،‬لإدارة د ّفة‬ ‫امل�رصية ‪-‬‬ ‫ذهب‪ ،‬بعد قيام الوحدة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وح�شي مريع‪ ،‬ف�صمد‬ ‫وتعر�ض لتعذيب‬ ‫ال�رس ّي‪،‬‬ ‫العمل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يف وجه اجلالّدين‪ ،‬برغم �أ ّنه كان يتداوى على الدوام من‬ ‫م�شاكل يف القلب؛ وعندما �صار ج ّثة بني �أَيديهم �أحلدوه‬ ‫مرتني‪ ،‬ولك ّنهم كانوا خائفني من اكت�شاف مو�ضع اجل ّثة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فقطعوها و�أذابوها بالأَ�سيد‪.12‬‬ ‫امللح هو‪ :‬ملاذا غادر خالد بكدا�ش �إىل بريوت‬ ‫ وال�س�ؤال ّ‬ ‫ال�شيوعي‬ ‫يبق �أحد من قيادة احلزب‬ ‫فرباغ؛ كذلك ملاذا مل َ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سوري هناك بل جل�أوا جميعهم �إىل بريوت؟ وبعد ذلك‪ ،‬كما‬ ‫ّ‬ ‫جاء يف كتاب �أرتني مادويان‪« :‬حياة على املرتا�س»‪ ،‬وكتاب‬ ‫يو�سف ّ‬ ‫خطار احللو‪�« :‬أَوراق من تاريخنا»‪ ،‬فقد اقرتح خالد‬ ‫جد ًا يف‬ ‫بكدا�ش �أن يتولىّ فرج الله العمل‬ ‫ال�رس ّي ال�صعب ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتبق‬ ‫دم�شق‪ ،‬مع العلم‪ ،‬كما يقول فرج الله نف�سه‪� ،‬أ ّنه مل َّ‬ ‫وي�رص‬ ‫يلح‬ ‫�أحد من الكادر للقيام‬ ‫باملهمات‪ .‬وكان بكدا�ش ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫على عودة فرج الله �إىل دم�شق‪ ،‬من بريوت‪ ،‬و�أن ال يت� ّأخر‬ ‫يف هذه العودة‪ .‬وهي العودة التي قادته �إىل حتفه‪� .‬أمل يكن‬ ‫ال�رس ّي املرهق؛ وقد علّمنا‬ ‫بكدا�ش �أَ ْوىل بهذه القيادة للعمل‬ ‫ّ‬ ‫ال�شيوعية‬ ‫العامون لأَحزابهم‬ ‫التاريخ كيف خا�ض الأُمناء‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التاريخية و�ألقوا اخلطب‬ ‫املهام‪ ،‬وخا�ضوا املحاكمات‬ ‫هذه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫التي حفظها التاريخ يف �ألواحه الباقية؟ «كانت ر�سائل‬ ‫دوما على �رضورة �أن يبقى فرج يف‬ ‫تلح ً‬ ‫خالد بكدا�ش ّ‬ ‫دم�شق»‪ .13‬مع � ّأن فرج الله مل يكن مقتنع ًا بجدوى هذه‬ ‫الإقامة‪ ،‬وحاول عبث ًا �إقناع رفاقه بوجهة نظره هذه‪ .‬لهذا‬ ‫مربرة‬ ‫حامت ال�شكوك حول خالد بكدا�ش‪ ،‬وهي �شكوك ّ‬ ‫طبع ًا‪ ،‬وخ�صو�ص ًا � ّأن بكدا�ش قد قاد قبل �سنوات ع�رش‬ ‫حملته ال�شهرية لتحطيم فرج الله‪ ،‬الراف�ض ملوقف االحتاد‬ ‫ال�سوفياتي يف تق�سيم فل�سطني‪ ،‬و ّمت له �إق�صاء فرج متام ًا عن‬ ‫ّ‬ ‫قيادة احلزب‪ ،‬و�صار عامل مطبعة‪.14‬‬ ‫املركزية‬ ‫ لقد ا ُّتهم فرج الله احللو يف ر�سالة القيادة‬ ‫ّ‬ ‫‪15‬‬ ‫العقلية‬ ‫«�أ ّنه كان ال يزال واقع ًا حتت ت�أثري‬ ‫البورجوازية» ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتهمونه بالربجزة؟! وهناك واقعة‬ ‫م�سكني فرج الله احللو‪ّ ،‬‬ ‫�أتى عليها امل�ست�رشق املرموق‪ ،‬مك�سيم رودن�سون‪ ،‬وقد‬ ‫�أم�ضى معظم الأَ‬ ‫ربعينيات من القرن املن�رصم بني ظهرا َن ْي َنا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إجباري‪،‬‬ ‫وذلك �أ ّنه كان‪ ،‬ب�سبب احلرب‪ ،‬يف التجنيد ال‬ ‫ّ‬ ‫وجاء‪ ،‬عام ‪� ،1940‬إىل �سوريا ولبنان‪ ،‬الواقعتني حتت‬ ‫الفرن�سي‪ .‬ثم ّمت ت�رسيحه‪ ،‬بعد ا�ست�سالم فرن�سا؛‬ ‫االنتداب‬ ‫ّ‬ ‫وبقي يعمل يف لبنان‪ ،‬حيث علّم يف مدر�سة املقا�صد يف‬ ‫الفرن�سي‬ ‫�صيدا؛ ثم انتقل للعمل يف ق�سم الآثار القدمية‬ ‫ّ‬ ‫ببريوت‪ ،16‬والذي ما زال قائم ًا يف مبناه القدمي ُقبالة مبنى‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ال�ستاركو عند باب �إدري�س‪ .‬وكان رودن�سون على �صلة‬ ‫الفرن�سي عهدذاك‪ ،‬وذلك باحلزب‬ ‫ال�شيوعي‬ ‫وثيقة‪ ،‬وهو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ين‪ .‬وقد ذهب رودن�سون �إىل‬ ‫ال�شيوعي‬ ‫ال�سوري اللبنا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العراق‪ ،‬من خالل عمله يف ق�سم الآثار‪ .‬يقول مك�سيم‬ ‫رودن�سون‪ ،‬م�ستذكر ًا تلك احلقبة‪« :‬وعند عودتي �إىل‬ ‫تناولت وجبة الغداء يف ال�سوق‪ ،‬ب�صحبة فرج الله‬ ‫بريوت‬ ‫ُ‬ ‫ين‪� .‬س�ألني عن رحلتي‪،‬‬ ‫اللبنا‬ ‫ال�شيوعي‬ ‫احلزب‬ ‫أمني‬ ‫�‬ ‫احللو‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فخم للغاية‪ ،‬على نفقة‬ ‫ف�أخربته �أ ّنني نزلت يف فندق ٍ ٍ‬ ‫ردة فعله‪� :‬أمل يزعجك �أن‬ ‫املفو�ضية‬ ‫الفرن�سية‪ .‬ففاج�أتني ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تمُ �ضي يومني يف ٍ‬ ‫ترف منقطع النظري؟ وكانت هذه الر�ؤية‬ ‫َ‬ ‫ال‬ ‫بحد ذاتها‪ ،‬ل ّأن فرج الله كان رج ً‬ ‫جد ًا لالهتمام ّ‬ ‫مثرية ّ‬ ‫متوا�ضع ًا‪ّ � .‬أما رفيقه من �سوريا‪ ،‬خالد بكدا�ش‪ ،‬فما كان‬ ‫علي هذا ال�س�ؤال �أبد ًا‪ .‬فلي�س يف ذلك‪ ،‬بالن�سبة‬ ‫ليطرح ّ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫�شيء مثري للده�شة‪ .‬ولقد �س�ألته �أحد الأ ّيام عن‬ ‫له‪ّ � ،‬أي‬ ‫هذا املو�ضوع‪ :‬تظهر يف �صحيفة «�صوت ال�شعب» كلّ‬ ‫مرة تذهب �إىل �سوريا‪ ،‬و�أنت تنزل يف �أجمل فنادق حلب‬ ‫ّ‬ ‫حزب‬ ‫قائد‬ ‫أنت‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫ذلك‬ ‫تفعل‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫الخ‪.‬‬ ‫بروليتاري على كلّ‬ ‫مِ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سوفياتي‪.‬‬ ‫حال؟ ف�أجابني‪ :‬هذا ما علّمونا � ّإياه يف االحتاد‬ ‫ّ‬ ‫و�صدمني ذلك‪ ،‬كما �صدمتني من جهة �أخرى عادات‬ ‫عرفت‬ ‫الرتف عند �أ�صدقائنا يف �سوريا ‪ -‬لبنان»‪ .17‬وكما‬ ‫ُ‬ ‫رودن�سون فقد كان‪ ،‬على �شاكلة فرج الله‪ ،‬متوا�ضع ًا‪،‬‬ ‫الر ْب َعة‬ ‫ب�سيط ًا ّ‬ ‫جد ًا يف منط عي�شه؛ برغم ما يكنز يف �إهابه َّ‬ ‫ٍ‬ ‫أحب رودن�سون فرج الله‬ ‫�‬ ‫ولهذا‬ ‫اد‪.‬‬ ‫ق‬ ‫و‬ ‫وذهن‬ ‫وا�سع‬ ‫علم‬ ‫ّ‬ ‫من ٍ‬ ‫ّ‬ ‫احلب نف�سه‪ .‬وفرج‪ ،‬عند ر�أي رودن�سون‪،‬‬ ‫كثري ًا‪ ،‬وبادله فرج ّ‬ ‫يتمتع‬ ‫«كان ناعم ًا‬ ‫وعقالني ًا ولطيف ًا للغاية‪ ،‬ويبدو يل �أ ّنه ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ب�صفاء كبري و�صدق ٍ فائق‪ .‬مل يكن ُمندفع ًا وراء طموحات‬ ‫�شخ�صية»‪ .‬يف حني � ّأن بكدا�ش «كان يبدو بنظري مرت ّفع ًا‬ ‫ّ‬ ‫�ستاليني ًا خمل�ص ًا»‪ .‬لهذا «مل يكن بكدا�ش‬ ‫و«كان‬ ‫»‪،‬‬ ‫ومدعي ًا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪18‬‬ ‫يبعث الثقة يف نف�سي‪ ،‬لك ّنه كان يعجبني» ‪.‬‬ ‫بيار اجلميل يف منزل فرج الله احللو‬ ‫وهناك حادثة كنت �شاهد ًا عليها‪ ،‬وذلك عندما �أذاع‬ ‫احل��زب‪ ،‬عام ‪ ،1961‬نب�أ مقتل فرج الله يف دم�شق‬ ‫ال�رساج الذي غدا حاكم‬ ‫على �أيدي جالّدي عبداحلميد‬ ‫ّ‬ ‫امل�رصية ‪-‬‬ ‫الإقليم ال�شَّ مايلّ‪� ،‬أي �سوريا‪ ،‬يف دولة الوحدة‬ ‫ّ‬ ‫ال�سورية‪ ،‬غري امليمونة مع الأ�سف ال�شديد؛ فكيف تدوم‬ ‫ّ‬ ‫و�أَ‬ ‫والبعثيون‬ ‫الناهية!‬ ‫آمرة‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫احلاكمة‬ ‫هي‬ ‫املخابرات‬ ‫جهزة‬ ‫ّ‬ ‫ال�شيوعيني‪ ،‬مل يكن‬ ‫متعجلني‪ ،‬لإزاحة‬ ‫�سع ْوا �إليها‬ ‫ّ‬ ‫الذين َ‬ ‫ّ‬ ‫يتوهمون‪� ،‬أن‬ ‫كانوا‬ ‫ما‬ ‫بخالف‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬ ‫أبد‬ ‫�‬ ‫عبدالنا�رص‬ ‫يف بال‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ال�شيوعيني يف لبنان‬ ‫املهم الآن � ّأن‬ ‫يفو�ضهم �أمر �سوريا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫‪ 1‬في�صل ج ُّلول‪:‬‬ ‫‪ 6‬‬ ‫«اجلندي املُ�ستعرب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫�سنوات مك�سيم‬ ‫رودن�سون يف لبنان‬ ‫و�سوريا (‪1940‬‬ ‫– ‪،»)1947‬‬ ‫حوارات �ساقها‬ ‫وحررها‬ ‫جلُّول ّ‬ ‫وقدم لها‪� ،‬ص‪،30‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ 35‬و‪،73 ،36‬‬ ‫دار اجلديد‪ ،‬بريوت‬ ‫‪.1998‬‬ ‫‪ 17‬مك�سيم رودن�سون‪:‬‬ ‫«بني الإ�سالم‬ ‫والغرب‪ ،‬حوارات‬ ‫مع‪ :‬جريار د‪.‬‬ ‫خوري»‪ ،‬ترجمة‪:‬‬ ‫عجان‪،‬‬ ‫نبيل ّ‬ ‫�ص ‪ ،150‬دار‬ ‫كنعان‪ ،‬دم�شق‬ ‫‪.2000‬‬ ‫‪ 18‬في�صل ج ُّلول‪:‬‬ ‫اجلندي املُ�ستعرب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫�سنوات مك�سيم‬ ‫رودن�سون يف‬ ‫لبنان و�سوريا‬ ‫(‪،)1947– 1940‬‬ ‫�ص ‪.83 – 81‬‬ ‫‪ 1‬يو�سف ّ‬ ‫خطار‬ ‫‪ 9‬‬ ‫احللو‪�« :‬أَوراق من‬ ‫تاريخنا»‪� ،‬ص ‪.52‬‬ ‫‪ 2‬عزيز �صليبا‪:‬‬ ‫‪ 0‬‬ ‫ال�رس ّي يف‬ ‫«العمل‬ ‫ّ‬ ‫ال�شيوعي‬ ‫احلزب‬ ‫ّ‬ ‫‪،»...‬‬ ‫اللبناينّ ‬ ‫�ص ‪.198‬‬ ‫‪ 21‬فريد فرح‪:‬‬ ‫«�رصاع من‬ ‫الدميقراطية‬ ‫�أجل‬ ‫ّ‬ ‫واحلقيقة‪،»...‬‬ ‫ ‬ ‫�ص ‪ 280‬و‪.281‬‬ ‫‪ 2‬‬ ‫‪ 2‬املرجع ال�سابق‪،‬‬ ‫�ص ‪281‬‬ ‫‪ 2‬املرجع نف�سه‬ ‫‪ 3‬‬ ‫‪ 2‬املرجع نف�سه‬ ‫‪ 4‬‬

‫ ‪ 181‬‬

‫يتقبلون التعزية بقائدهم الكبري‪ .‬وجاء بيار‬ ‫�رشعوا‬ ‫ّ‬ ‫اجلميل‪ ،‬رئي�س حزب الكتائب‪ ،‬للقيام بواجب التعزية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يف بيت ف��رج الله ال��ذي ك��ان عبارة عن غرفتني مع‬ ‫منتفعاتهما‪ ،‬وذلك يف طرف ال‬ ‫أ�رشفية عند املقلب املطلّ‬ ‫ّ‬ ‫اجلميل �إىل هذا البيت‬ ‫على حملّة ال��دورة‪ .‬ودخل بيار‬ ‫ّ‬ ‫ليخف �إىل‬ ‫الرمزي‪ ،‬ثم خرج‬ ‫التحية عند التابوت‬ ‫و� ّأدى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لقائه‪ ،‬وهو خارج‪ ،‬املحامي نخلة مطران؛ وكان كلّ منهما‬ ‫يعرف ال َآخر على نحو وطيد‪ ،‬وذلك � ّأن الرفيق نخلة كان‬ ‫كتائبي ًا يف ال�سابق‪ ،‬قبل �أن ينخرط يف �صفوف احلزب‬ ‫ّ‬ ‫ال�شيوعي‪ .‬وكانت عالئم الده�شة واال�ستغراب بادية‬ ‫ّ‬ ‫ال له‬ ‫على وجه ال�شيخ بيار‪ ،‬وهو يخاطب نخلة مطران قائ ً‬ ‫بالفرن�سية‪� :‬أهذا هو بيت فرج الله احللو؟!‬ ‫ّ‬ ‫مرغم ًا‪ ،‬وذلك‬ ‫التي‬ ‫�سامل»‬ ‫و«ر�سالة‬ ‫ ‬ ‫دبجها فرج الله َ‬ ‫ّ‬ ‫وينقل عنه‪،‬‬ ‫خلوفه من �أن ُيطرد من بيته‪� ،‬أي من احلزب؛ ُ‬ ‫وهو الإن�سان الكبري املتفاين‪ ،‬الذي �أرهق جالديه ب�صموده‬ ‫ِ‬ ‫ال‪ ،‬خالل تلك الأزمة‪ :‬دخيلكم‬ ‫وعناده‪� ،‬أ ّنه كان يقول مبته ً‬ ‫ما تطردوين من احلزب! وكان بكدا�ش داري ًا بنقطة ال�ضعف‬ ‫وال�سمو يف �آن‪ ،‬التي كانت تعتلج يف �صدر فرج‪ .‬لهذا جرى‬ ‫ّ‬ ‫ال‪ .‬يقول يو�سف ّ‬ ‫«ح�رضت‬ ‫خطار احللو‪:‬‬ ‫ابتزاز فرج الله طوي ً‬ ‫ُ‬ ‫بع�ض االجتماعات التي نوق�ش فيها م�رشوع «ر�سالة‬ ‫تتم �إمالءات‬ ‫�سامل»‪ ،‬ويف كلّ هذه االجتماعات كانت ّ‬ ‫ا�ستمر �إعدادها منذ‬ ‫على فرج‪ ،‬لت�ضمينها الر�سالة‪ ،‬التي‬ ‫ّ‬ ‫عام ‪� 1949‬إىل ربيع عام ‪ .19»1952‬وهكذا « ُفر�ض‬ ‫مرة‬ ‫عليه كتابة انتقاد‬ ‫ذاتي كان ُيرف�ض ُ‬ ‫ويعاد كتابته ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪20‬‬ ‫ال�شيوعي‪ ،‬الذي كان موجل ًا‬ ‫ويخرب امل�س�ؤول‬ ‫مرة» ‪ُ .‬‬ ‫بعد ّ‬ ‫ّ‬ ‫عولنا‬ ‫بطباعة هذه الر�سالة‪ّ � ،‬أن‬ ‫َ‬ ‫املتداول منها الآن‪ ،‬والذي ّ‬ ‫عليه‪ ،‬هو الن�سخة الثالثة؛ �أي � ّأن الإذالل لفرج الله �أخذ‬ ‫أديبية» املديدة ا�شتغل فرج‬ ‫مداه‪ .‬وخالل هذه ّ‬ ‫املدة «الت� ّ‬ ‫عادي ًا‪ ،‬بالرتجمة؛ �إذ � ّإن ا َلأحزاب‬ ‫الله‪ ،‬بعد �أن �صار ع�ضو ًا ّ‬ ‫َ‬ ‫خبارها‬ ‫ال�شيوعية يف العامل كانت ُت�صدر جريدة حامل ًة �أ َ‬ ‫ّ‬ ‫وتقاريرها‪ ،‬وكانت ُتدعى «يف �سبيل �سلم دائم‪ ،‬يف �سبيل‬ ‫مرة‪،‬‬ ‫دميقراطية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫�شعبية»‪ .‬و�أذكر � ّأن نظري وقع عليها ذات ّ‬ ‫تتكد�س‬ ‫املواد‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫كيف‬ ‫فهالني‬ ‫حات‪،‬‬ ‫ف‬ ‫�ص‬ ‫أربع‬ ‫�‬ ‫يف‬ ‫وكانت‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫فيها وتنح�رش‪ ،‬بحيث مل يكن فيها ب�صي�ص بيا�ض‪ ،‬ومل‬ ‫كب على ترجمة‬ ‫تكن حتظى ب� ّأي �إخراج‪ .‬وكان فرج الله ُي ّ‬ ‫العربية يف بريوت‬ ‫هذه اجلريدة التي كانت ت�صدر ن�رشتها‬ ‫ّ‬ ‫�رس ّي‪ .‬وقد �أخربين �أحد امل�س�ؤولني �أ ّنها كانت‬ ‫على نحوٍ ّ‬ ‫عادي‪ ،‬هو الذي وقع عليه نظري؛ كما ُتطبع‬ ‫ُتطبع على ورق‬ ‫ّ‬ ‫جد ًا‪ ،‬بحيث ُتطوى فت�صري �صغرية‬ ‫ناعم‬ ‫ورق‬ ‫�أي�ض ًا على‬ ‫ّ‬ ‫�رس ًا �إىل احلزب يف �سوريا‪.‬‬ ‫احلجم‪ ،‬و ُتر�سل ّ‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫جمرد �إبداء‬ ‫ وال ّ‬ ‫بد �أن ُي�صاب املرء بالذهول من � ّأن ّ‬ ‫ال�سوفياتي من ق�ضية‬ ‫فرج الله احللو الأ�سف ملوقف االحتاد‬ ‫ّ‬ ‫وانتهازية‬ ‫فل�سطني وموافقته على قرار التق�سيم؛ هو �ضالل‬ ‫ّ‬ ‫أممية املرادفة للوالء لالحتاد‬ ‫وعداء للثورة‪ ،‬وتخلٍّ العن ال ّ‬ ‫ال�سوفياتي والثقة املطلقة ب�أي موقف َي ّتخذه حول � ّأي‬ ‫ّ‬ ‫انتهازي‪،‬‬ ‫مو�ضوع‪� .‬إبداء الأ�سف هذا «الربهان على موقف‬ ‫ّ‬ ‫جمرد خطور الفكرة‬ ‫موقف ارتداد وعداء للثورة‪ ،‬فقد كان ّ‬ ‫على بايل‪ ،‬فكرة �إبداء الأ�سف‪ ،‬خ�ضوع ًا وتراجع ًا �أمام‬ ‫الرجعيني‪ ،‬وتقدمي تنازل‬ ‫تهوي�ش اال�ستعمار وعمالئه‬ ‫ّ‬ ‫و�سيا�سي لهم‪ .‬وكان ذلك من �ش�أنه توجيه‬ ‫وفكري‬ ‫مبدئي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واملبدئية‪ ،‬مل يكن ليت�س ّنى له‬ ‫ة‬ ‫الوطني‬ ‫حزبنا‬ ‫ل�سمعة‬ ‫طعنة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪21‬‬ ‫ال�شفاء منها قبل‬ ‫بد �أن يالحظ‬ ‫م�ضي وقت طويل» ‪ .‬وال ّ‬ ‫ّ‬ ‫القارئ ج�سامة اال�ستخفاف بالعقول‪ ،‬فاملوقف اخلاطئ‬ ‫القومي هو الذي جلب له االتهام‬ ‫للحزب من املو�ضوع‬ ‫ّ‬ ‫املبدئي ال�سليم‪« .‬لقد كان‬ ‫واالنعزال‪ ،‬ال موقف فرج الله‬ ‫ّ‬ ‫ال�سوفياتي‪،‬‬ ‫التامة ب�سيا�سة االحتاد‬ ‫موقفي نتيجة عدم الثقة ّ‬ ‫ّ‬ ‫التام على م�صالح ال�شعوب‪ .‬ماذا تعني فكرة‬ ‫وانطباقها‬ ‫ّ‬ ‫ق�ضية فل�سطني‪،‬‬ ‫ال�سوفياتي من‬ ‫«الأ�سف» ملوقف االحتاد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سوفياتي قد اتخذ موقف ًا‬ ‫�إ ّنها تعني بال مراء ب� ّأن االحتاد‬ ‫ّ‬ ‫�ضد م�صلحة �سكّ ان فل�سطني‪� ،‬أو ق�سم منهم‪� ،‬أي اجلماهري‬ ‫ّ‬ ‫ال وكذب ًا‬ ‫العربية‪ .‬لقد كانت فكرة �إبداء «الأ�سف» ت�ضلي ً‬ ‫ّ‬ ‫‪22‬‬ ‫االحتاد‬ ‫على‬ ‫وافرتاء‬ ‫لل�شعب‪،‬‬ ‫بالن�سبة‬ ‫ال�سوفياتي» ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫التبعية واخلنوع‬ ‫إن�شائي ال معنى له �سوى‬ ‫ دفاع �‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املبدئي‪ ،‬الذي طاملا دافع عنه‬ ‫القومي‬ ‫والإخالل باملوقف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أدبياته قبل حلول قرار التق�سيم‪« .‬ف� ّإن كثريين‬ ‫احلزب يف � ّ‬ ‫اال�ستعمارية‪،‬‬ ‫بني اجلماهري‪ ،‬ورغم كلّ �أَكاذيب الدعاية‬ ‫ّ‬ ‫ر�أوا � ّأن التق�سيم قد يكون يف �صالح العرب‪ ،‬ما دام االحتاد‬ ‫العربية الأمني‪ ،‬قد وافق‬ ‫ال�سوفياتي‪� ،‬صديق ال�شعوب‬ ‫ّ‬ ‫‪ّ 23‬‬ ‫ولكن ال�صديق قد يخطئ وقد يخون‪ .‬ويبلغ‬ ‫عليه» ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫التاريخية‪:‬‬ ‫الفجة واملغالطة‬ ‫املوقف �أق�صاه من الدعاية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أ�شد الغالة‪ ،‬كم هو‬ ‫حتى � ّ‬ ‫«لقد �أقنعت احل��وادث الآن ّ‬ ‫متفق مع م�صالح اجلماهري‬ ‫موقف االحتاد‬ ‫ال�سوفياتي ّ‬ ‫ّ‬ ‫العربية يف فل�سطني‪ ،‬وكم كان موقف ًا بعيد النظر‪ ،‬وكم‬ ‫ّ‬ ‫العربية يف‬ ‫اجلماهري‬ ‫آالم‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫آ�سي‬ ‫�‬ ‫م‬ ‫توفري‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫يرمي‬ ‫كان‬ ‫ّ‬ ‫ري خطوة‬ ‫فل�سطني‪ ،‬و�أن يخطو بالن�ضال‬ ‫التحر ّ‬ ‫الوطني ‪ّ 24‬‬ ‫ّ‬ ‫�ضد اال�ستعمار يف ال�رشق الأدنى» ‪.‬‬ ‫كربى ّ‬ ‫�ضد اال�ستعمار‪،‬‬ ‫ري‪ ،‬و� ّأي خطوة كربى ّ‬ ‫حتر ّ‬ ‫ اي ن�ضال ّ‬ ‫وقيام �إ�رسائيل هو اال�ستعمار بعينه! «�إنيّ �أرى الآن‬ ‫فظاعة تلك الفكرة‪ ،‬فكرة �إبداء الأ�سف‪� ،‬إذ كانت تخلّي ًا‬ ‫ُ‬ ‫ممية التي تعني‪ ،‬قبل كلّ �شيء‪ ،‬الثقة باالحتاد‬ ‫م ّني عن الأ ّ‬


‫التامة للحزب‬ ‫ال�سوفياتي‪ ،‬وااللتفاف حوله‪ ،‬والأمانة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫البل�شفي‪ ،‬ومعلّم ال�شغيلة ومر�شدهم وقائدهم و�صديقهم‬ ‫ّ‬ ‫الرفيق �ستالني‪ .‬وهكذا �أي�ض ًا ن�سيت قول �ستالني � ّإن‬ ‫املبدئية‪ ،‬فهي التي لها‬ ‫ال�سيا�سة ال�صحيحة هي ال�سيا�سة‬ ‫ّ‬ ‫عربي‪،‬‬ ‫امل�ستقبل»‪ . 25‬ف�أين املبد�أ يف التخلّي عن �شعب‬ ‫ّ‬ ‫و�ض َياع بلده لقمة �سائغة يف فم ال�صهاينة امل�ستعمرين‪،‬‬ ‫َ‬ ‫املتوافدين على فل�سطني لال�ستيالء عليها َع ْنو ًة‪ ،‬يف زمن‬ ‫الوطنية‬ ‫انح�سار اال�ستعمار يف املعمورة‪ ،‬وقيام الكيانات‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستقلّة؟ ونختم هذه الر�سالة العجيبة‪ ،‬حول فكرة �إبداء‬ ‫الأ�سف‪ ،‬بقول �سامل املن�سوب �إليه‪ّ �« :‬إن موقفي ذاك‪ ،‬الذي‬ ‫عده هفوة عابرة‪ ،‬هو‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬منوذج لعمق املنحدر‬ ‫ُ‬ ‫كنت �أَ ّ‬ ‫الثوري‪ ،‬طريق‬ ‫الطريق‬ ‫عن‬ ‫االبتعاد‬ ‫يف‬ ‫إليه‪،‬‬ ‫�‬ ‫�رصت‬ ‫الذي‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ال�ستالينية‪ ،‬ودليل على مدى انغما�سي يف‬ ‫اللينينية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫االنتهازية‪ ،‬وعلى مدى اخل ّفة واال�ستهتار اللذين كنت‬ ‫ّ‬ ‫احلزب‬ ‫م�سائل‬ ‫بهما‬ ‫�أُواجه‬ ‫احليوية اخلطرية»‪.26‬‬ ‫ّ‬

‫‪ 2‬املرجع ال�سابق‪،‬‬ ‫‪ 5‬‬ ‫�ص ‪ 281‬و‪282‬‬ ‫‪ 2‬املرجع ال�سابق‪،‬‬ ‫‪ 6‬‬ ‫�ص ‪282‬‬ ‫‪ 27‬هو ا�سم جديد‬ ‫علينا‪ ،‬وال ندري‬ ‫عنه �شيئ ًا‪� ،‬سوى‬ ‫ما وقعنا عليه‬ ‫يف كتاب قدري‬ ‫قلعجي «جترِبة‬ ‫عربي يف احلزب‬ ‫ّ‬ ‫ال�شيوعي»‬ ‫ّ‬ ‫(�ص‪ )293‬من‬ ‫� ّأن خالد بكدا�ش‬ ‫كان لديه «�أربعة‬ ‫منازل يبيت فيها‪،‬‬ ‫منزل يف دم�شق‪،‬‬ ‫وثانٍ يف عاليه‪،‬‬ ‫و�شاليه على �شاطئ‬ ‫البحر‪ ،‬وغرفة يف‬ ‫بريوت مبنزل ماري‬ ‫با�شابزيان»‪.‬‬ ‫‪ 28‬فريد فرح‪:‬‬ ‫ ‬ ‫املرجع نف�سه‬ ‫‪ 2‬املرجع نف�سه‬ ‫‪ 9‬‬ ‫‪ 3‬املرجع نف�سه‬ ‫‪ 0‬‬

‫ ‪ 182‬‬

‫فرج الله ورئيف خوري‬ ‫احلقيقي‪ ،‬يف «ر�سالة �سامل»‪ ،‬وكان‬ ‫يبقى املحور الثاين‬ ‫ّ‬ ‫مو�ضع لو ٍم وتقريع لفرج الله احللو‪ ،‬وهو موقفه من‬ ‫�ضد‬ ‫رئيف خوري ورفاقه‪ّ �« .‬أما عدم اهتمامي بالن�ضال ّ‬ ‫واالنهزاميني‪ ،‬وخ�صو�ص ًا عدم اهتمامي‬ ‫االنتهازيني‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التيتويني‪ ،‬من ها�شم الأمني‪� ،‬إىل‬ ‫املخربني‬ ‫�ضد‬ ‫بالن�ضال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫با�شابزيان‪ ،27‬وقدري قلعجي‪ ،‬ور�شاد عي�سى‪ ،‬ومري‬ ‫م�سعد‪ ،‬ورئيف خوري‪ ،‬و�إميلي فار�س �إبراهيم‪ ،‬وغريهم‪،‬‬ ‫الرئي�سية ا�ست�صغاري ل�ش�أنهم‪ ،‬واحتقاري‬ ‫فمن �أَ�سبابه‬ ‫ّ‬ ‫‪28‬‬ ‫ُ‬ ‫أهمية‬ ‫ل��دوره��م» ‪ .‬ويتابع �سامل‪« :‬ومل �أكن �أق� ّ‬ ‫�در ال ّ‬ ‫التيتوية‬ ‫التي يع ّلقها اال�ستعمار على مروق الع�صابة‬ ‫ّ‬ ‫التيتوية يف جميع‬ ‫وخيانتها‪ ،‬و�سعيه �إىل تعميم اخليانة‬ ‫ّ‬ ‫الأَقطار ويف �سورية �أي�ض ًا‪ ،‬وتق�سيم �صفوف احلركة‬ ‫‪29‬‬ ‫�ضد‬ ‫هامية ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدميقراطية بوا�سطتها» ‪ .‬وتعلو النربة اال ّت ّ‬ ‫ال�شيوعي وللطبقة‬ ‫للحزب‬ ‫«املعادية‬ ‫ة»‪،‬‬ ‫التيتوي‬ ‫«الزمرة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫�سيا�سي ًا‬ ‫اعتربت �أ ّنهم «ماتوا»‬ ‫العاملة ولل�شعب»‪« :‬وقد‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫واندثروا‪ ،‬منذ �أن �ساروا يف اجتاه القطيعة مع احلزب‪� ،‬أو‬ ‫لن يلبثوا �أن ميوتوا ويندثروا‪ ،‬وهذا �صحيح‪ .‬لقد ماتوا‬ ‫ثورية‪ ،‬ولكن لن «ميوتوا»‬ ‫كجماعة مفرو�ض فيها �أ ّنها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وخمربني �إال بالن�ضال الدائب‬ ‫كخونة وجوا�سي�س‬ ‫ّ‬ ‫‪30‬‬ ‫لف�ضحهم وعزلهم» ‪.‬‬ ‫ ومن امل�ؤكّ د �أ ّنه كان هناك تناغم وتطابق بني موقفي‬ ‫رئيف وفرج الله من قرار التق�سيم‪ ،‬ومن املوقف ال�صائب‬ ‫ال�ضمني لعبادة الفرد املهيمنة‬ ‫من املث ّقفني‪ ،‬ومن العداء‬ ‫ّ‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫رئيف خوري‪،‬‬ ‫فرج الله احللو‪،‬‬ ‫خالد بكدا�ش‬

‫ ‪ 183‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬


‫على احلزب واملتم ّثلة بخالد بكدا�ش‪ .‬لهذا يقول �سامل‬ ‫�سطحية‬ ‫يف ر�سالته‪« :‬لقد كانت نظرتي �إليهم نظرة‬ ‫ّ‬ ‫جمردة عن وجود اال�ستعمار واحتدام‬ ‫وغري‬ ‫ّ‬ ‫علمية‪ ،‬نظرة ّ‬ ‫َ‬ ‫تعمق يف النظر �إىل ما كان يبلغني‬ ‫الن�ضال‬ ‫الطبقي‪ .‬ومل �أ ّ‬ ‫ّ‬ ‫من «مديحهم» � ّإياي‪ ،‬و�إىل مقا�صدهم من وراء ذلك‪ .‬وكنت‬ ‫�أَ�شعر � ّأن ذلك املديح مهني يل‪ ،‬ولك ّني كنت �أَح�سب �أ ّنه‬ ‫حماولة م�سكينة منهم خللق انق�سام م�ستحيل يف قيادة‬ ‫احلزب؛ وكنت �أَح�سبه �أحيان ًا نوع ًا من «التغطية» لتطاولهم‬ ‫الوقح على الرفيق خالد بكدا�ش‪ .‬لك ّنهم يف الواقع كانوا‬ ‫يف نق�ص ًا و�ضعف ًا‪ ،‬ميدحون ّ‬ ‫خطتي التي كانت‬ ‫ميدحون ّ‬ ‫‪31‬‬ ‫تعبري ًا عن رغباتهم يف احلزب ال عن رغبات ال�شعب» ‪.‬‬

‫‪ 3‬فريد فرح‪:‬‬ ‫‪ 1‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪،‬‬ ‫�ص‪ 282‬و‪283‬‬ ‫‪ 3‬يو�سف ّ‬ ‫خطار‬ ‫‪ 2‬‬ ‫احللو‪�« :‬أَوراق من‬ ‫تاريخنا»‪� ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪ 3‬عزيز �صليبا‪:‬‬ ‫‪ 3‬‬ ‫ال�رس ّي يف‬ ‫«العمل‬ ‫ّ‬ ‫ال�شيوعي‬ ‫احلزب‬ ‫ّ‬ ‫‪،»...‬‬ ‫اللبناينّ ‬ ‫�ص ‪.112‬‬ ‫‪« 34‬ن�ضال احلزب‬ ‫ال�شيوعي اللبناينّ‬ ‫ّ‬ ‫من خالل وثائقه»‪،‬‬ ‫ج‪� 1‬ص ‪،272‬‬ ‫بريوت كانون‬ ‫الثاين ‪.1971‬‬ ‫حممد دكروب‪:‬‬ ‫‪ 5‬‬ ‫‪ّ 3‬‬ ‫«رئيف خوري‪،‬‬ ‫املو�سوعي»‪،‬‬ ‫املنور‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫جم ّلة الطريق‪،‬‬ ‫�س ‪ ،41‬ع ‪1‬‬ ‫(�شباط‪ /‬فرباير‬ ‫‪،)1982‬‬ ‫�ص‪.242‬‬ ‫‪ 36‬دكروب‪ :‬املرجع‬ ‫ال�سابق‪� ،‬ص‬ ‫‪243‬‬

‫ ‪ 184‬‬

‫اعتذر احلزب من فرج‪ ،‬فلماذا مل يعتذر من رئيف؟‬ ‫هذه الوثيقة‪« ،‬ر�سالة �سامل»‪ ،‬تن�ضح بالنفاق والرياء‬ ‫والأَكاذيب‪ ،‬وكانت و�صمة عار �أُل�صقت ب�سرية فرج الله‪.‬‬ ‫«كان �إق�صاء فرج الله عن النا�س و�إبعاده‪ ،‬ح�سد ًا من‬ ‫يتمتع بها‪ ،‬والنفوذ الذي يحظى به‪،‬‬ ‫ال�شعبية التي كان‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫والعالقات الوا�سعة التي �أقامها يف البالد يف �أو�ساط �أهل‬ ‫ال�سيا�سة والفكر والثقافة»‪ .32‬وقد �أر�سله بكدا�ش �إىل حتفه‬ ‫ال�سورية‪ ،‬حيث ُعذّب‬ ‫امل�رصية ‪-‬‬ ‫يف دم�شق‪� ،‬أَ ّيام الوحدة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مرتدد ًا يف‬ ‫و ُق ّطعت ج ّثته‪ ،‬كما �أو�ضحنا؛ وكان فرج الله‬ ‫ّ‬ ‫املهمة �آنذاك‪ ،‬ولك ّنه امتثل للأَوامر‬ ‫الذهاب‪ ،‬لعدم جدوى‬ ‫ّ‬ ‫احلزبية‪ّ � .‬أما بكدا�ش فكان‪ ،‬كعادته‪ ،‬يتعاطى امل�سكرات يف‬ ‫ّ‬ ‫براغ فمو�سكو‪ ،‬ويجري وراء تنانري الن�ساء‪ ،‬كما يف التعبري‬ ‫ال�شيوعيني يف لبنان على � ّأن‬ ‫الفرن�سي! ومع ت�أكيد القادة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫�إر�سال فرج الله �إىل دم�شق كان ب�إحلاح من بكدا�ش‪ ،‬ف� ّإن‬ ‫ي�رص على القول‪« :‬وهنا �أَرف�ض كلّ ما‬ ‫الرفيق عزيز �صليبا‬ ‫ّ‬ ‫تق�صد �إر�سال فرج الله �إىل دم�شق‬ ‫قيل � ّإن خالد بكدا�ش ّ‬ ‫لـ«يخل�ص منه»‪ .‬الذي جرى‪ ،‬و�أنا مت�أكّ د منه‪ّ � ،‬أن فرج الله‬ ‫أ�رص على �أن يذهب هو �إىل دم�شق»‪ .33‬لهذا عندما انعقد‬ ‫� ّ‬ ‫امل�ؤمتر الثاين للحزب‬ ‫ين‪ ،‬الذي ا�ستقلّ‬ ‫ال�شيوعي اللبنا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سوري وقيادة بكدا�ش‪،‬‬ ‫ال�شيوعي‬ ‫عهدذاك عن احلزب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وذلك يف متُّوز ‪ ،1968‬كان من جملة قراراته‪�« :‬سحب‬ ‫الوثيقة املعروفة با�سم «ر�سالة �سامل» من مل ّفات احلزب‬ ‫بو�صفها مناق�ضة للحقيقة»‪ّ �« :‬إن امل�ؤمتر الثاين للحزب‬ ‫الذاتي‪ ،‬املعروف‬ ‫ين يعترب � ّأن االنتقاد‬ ‫ال�شيوعي اللبنا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫با�سم ر�سالة �سامل‪ ،‬هو وثيقة ا�ضطر رفيقنا ال�شهيد �إىل‬ ‫ت�سطريها يف وقت كانت ت�شوب يف حياة احلزب انتهاكات‬ ‫اللينينية‪ ،‬ناجمة من طغيان عبادة الفرد؛‬ ‫لقواعد العمل‬ ‫ّ‬ ‫ت�ضمنتها تلك الر�سالة هي اتهامات‬ ‫وب� ّأن االتهامات التي‬ ‫ّ‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫باطلة‪ ،‬ال ت�ستند �إىل � ّأي �أ�سا�س‪ ،‬وال ميكن لها ب� ّأي حال من‬ ‫ال�شيوعيني ويف نفو�س �أَبناء‬ ‫الأَحوال �أن تطم�س يف نفو�س‬ ‫ّ‬ ‫�شعبنا‪� ،‬صورة فرج الله احللو املنا�ضل الذي حتلّى بال�صالبة‬ ‫اخللقية‪ ،‬والذي عا�ش‬ ‫الثورية و�صفاء الفكر واال�ستقامة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪34‬‬ ‫حياة‬ ‫ال» ‪.‬‬ ‫الثوري‪ ،‬وكان على الدوام قدو ًة ومثا ً‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ال�شيوعي‬ ‫ ومن ح ّقي �أن �أت�ساءل‪ :‬ملاذا �أهمل احلزب‬ ‫ّ‬ ‫ر�سمي ًا ومن خالل وثائقه‪ ،‬يف مو�ضوع‬ ‫ين اخلو�ض‪،‬‬ ‫اللبنا ّ‬ ‫ّ‬ ‫وبخا�صة رئيف‬ ‫رئيف خوري ورفاقه‪ ،‬وقد ُظلموا �أيمّ ا ظلم؛‬ ‫ّ‬ ‫الذي عا�ش هذه الرتاجيديا و�أُفعمت نف�سه ال ّأبية باملرارة‪،‬‬ ‫ال نظيف ًا متعالي ًا كبري ًا؟ و�إذا كان هناك‬ ‫ومع ذلك ظلّ نبي ً‬ ‫من ت�صويب واعتذار فلم يبدر عن احل��زب‪ ،‬كما فعل‬ ‫خ�صته به جملّة «الطريق» عام‬ ‫مع فرج الله؛ و�إنمّ ��ا قد ّ‬ ‫مل�ضي َ�أربعني‬ ‫‪ ،1982‬عندما �أ�صدرت عدد ًا مزدوج ًا‬ ‫ّ‬ ‫حممد دكروب عن‬ ‫�سنة على �صدور «الطريق»‪ ،‬وكتب‬ ‫ّ‬ ‫«ولكن‬ ‫رئيف خوري ك�أحد �أَعالم «الطريق» امل� ّؤ�س�سني‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫القراء العرب‪َ ،‬ط َوال‬ ‫َ�ص َفحات «الطريق» التي حملت �إىل ّ‬ ‫هذه الأَعوام‪ ،‬ك�شوفات رئيف خوري يف ميادين الثقافة‬ ‫والفكر والنقد وال�سيا�سة على ال�سواء‪ ،‬حملت كذلك‪،‬‬ ‫خالل عام �أو �أكرث ـ يف �آخر الأربعينات و�أَوائل اخلم�سينات‬ ‫بحق رئيف خوري‪� .‬صفحات مل تكن‬ ‫ـ َ�ص َفحات ظاملة ّ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ال عن �ضيق �أفق ‪ ،‬يف الثقافة‬ ‫حتى يف وقتها ذاك‪� ،‬إ ّ‬ ‫لتعبرّ ‪ّ ،‬‬ ‫مية عندنا‬ ‫ويف ال�سيا�سة على ال�سواء‪� ،‬أ�صاب احلركة‬ ‫ّ‬ ‫التقد ّ‬ ‫ال�شعبية و�إىل‬ ‫احلركة‬ ‫يف تلك الفرتة‪ّ � ،‬أدى �إىل انعزالها عن‬ ‫ّ‬ ‫الدميقراطيني عنها‪ .‬ومن ه�ؤالء‬ ‫�إبعاد العديد من املث ّقفني‬ ‫ّ‬ ‫كفاحي‪،‬‬ ‫فكري‬ ‫يف‬ ‫رئيف خوري مبا يحمله من تراث ثقا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ي�صح �إلغا�ؤه (وبرهن‬ ‫مية نف�سها‪ ،‬فال‬ ‫هو تراث احلركة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التقد ّ‬ ‫مزاجي ُيطلقه هذا الفرد‬ ‫الزمن �أ ّنه ي�ستحيل �إلغا�ؤه) بقرار‬ ‫ّ‬ ‫‪35‬‬ ‫�أو ذاك‪ ،‬مهما كانت ال�صفة التي ي�شغلها هذا الفرد» ‪.‬‬ ‫حممد دكروب‪ ،‬يف مقالته تلك‪ ،‬كيف �سعى‬ ‫ ثم‬ ‫ّ‬ ‫يتحدث ّ‬ ‫ُ‬ ‫مروه‪ ،‬خالل انعقاد امل�ؤمتر الثاين للأدباء العرب‬ ‫مع ح�سني ّ‬ ‫ببلودان يف �سوريا‪ ،‬وذلك يف �أيلول عام ‪� ،1956‬إىل‬ ‫الرئي�سيني‬ ‫التوا�صل مع رئيف خوري‪ ،‬وكان من املعلّقني‬ ‫ّ‬ ‫على املحا�رضات التي �أُلقيت يف امل�ؤمتر‪« .‬يف هذا امل�ؤمتر‬ ‫مروه‪ ،‬و�أنا‪ّ � ،‬أن �إعادة ال�صلة مع رئيف خوري‬ ‫وجدنا‪ ،‬ح�سني ّ‬ ‫وال�رضورية؛ بل �شعرنا‪ ،‬خالل‬ ‫الطبيعية‬ ‫هي من الأُمور‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال‪ ،‬مع رئيف خوري‪ ،‬مل يكن‬ ‫العمل معه‪ّ � ،‬أن قطع ال�صلة‪� ،‬أ�ص ً‬ ‫طبيعي ًا‪ .‬ور�أينا‪ ،‬خالل عملنا امل�شرتك هذا مع رئيف‬ ‫�أبد ًا �أمر ًا‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫خوري‪ّ � ،‬أن وجهه كلّه �أ�ضاء بفرحة مده�شة‪ ،‬هي مزيج‬ ‫من االعتزاز‪ ،‬والإعزاز‪ ،‬واللوم‪ ،‬والعتاب العميق‪ ،‬مع ًا»‪.36‬‬ ‫�شبه‬ ‫وعندما �أ�صدرت «الطريق»‪ ،‬بعد ذلك ب�سنوات ‪ ،‬عدد ًا َ‬

‫‪ 37‬جم ّلة الطريق‪،‬‬ ‫خا�ص‪:‬‬ ‫عدد �شبه‬ ‫ّ‬ ‫«رئيف خوري‪،‬‬ ‫والق�ضية»‪،‬‬ ‫الكاتب‬ ‫ّ‬ ‫�س ‪ ،48‬ع ‪1‬‬ ‫(�شباط‪ /‬فرباير‬ ‫‪� ،)1989‬ص ‪.4‬‬ ‫‪ 38‬املاري�شال تيتو‪:‬‬ ‫«دميقراطية من‬ ‫ّ‬ ‫نوع جديد»‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫جم ّلة الطريق‪،‬‬ ‫�س‪ ،6‬ع ‪ 5‬و‪6‬‬ ‫(� ّأيار وحزيران‬ ‫‪،)1947‬‬ ‫�ص ‪.85‬‬ ‫‪ 39‬املاري�شال تيتو‪:‬‬ ‫«دميقراطية من نوع ٍ‬ ‫ّ‬ ‫جديد»‪� ،‬ص ‪90‬‬ ‫‪ 40‬املرجع ال�سابق‪،‬‬ ‫�ص ‪ 90‬و‪91‬‬ ‫‪ 4‬جملة الدرا�سات‬ ‫‪ 1‬‬

‫ ‪ 185‬‬

‫توجته بهذا العنوان‪« :‬كلمة وفاء �أمام‬ ‫ٍّ‬ ‫خا�ص برئيف خوري‪ّ ،‬‬ ‫رئيف خوري‪ّ � :‬إن ف�ضل رئيف خوري على «الطريق» كبري‬ ‫جد ًا‪ .‬و�أَ�صحاب «الطريق» مدينون له بالوفاء‪ ،‬ومدينون له‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أخ�ص‪ ،‬بالتكفري عن ذنب قدمي‪ .‬والواقع � ّأن ذلك‬ ‫على ال ّ‬ ‫بحق‬ ‫بحق رئيف خوري‪ ،‬بل ّ‬ ‫الذنب القدمي مل ُيرتكب فقط ّ‬ ‫وبحق‬ ‫والدميقراطية‬ ‫العلمي‬ ‫وبحق التفكري‬ ‫ال‪،‬‬ ‫الثقافة �إجما ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫�‬ ‫أ‬ ‫نف�سه‬ ‫ال�شيوعي‬ ‫احلزب‬ ‫ال و�أخري ًا»‪.37‬‬ ‫ّ ً‬ ‫ّ‬ ‫ي�سو َي‬ ‫ كان من واجب احلزب‬ ‫ال�شيوعي اللبنا ّ‬ ‫ين �أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫و�ص ْحبه على نحوٍ‬ ‫مبدئي‪ ،‬كما‬ ‫ق�ضية رئيف خوري َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فعل مع مو�ضوع فرج الله احللو‪ .‬ول�سوف نرى الحق ًا‪،‬‬ ‫بحق رئيف خوري‪ ،‬التي حملتها‬ ‫ال�ص َفحات الظاملة ّ‬ ‫� ّأن َّ‬ ‫«الطريق»‪ّ � ،‬إب��ان عام ‪ 1950‬على وجه اخل�صو�ص‪،‬‬ ‫كانت جارحة وم�س ّفة‪ ،‬وتركت �أثر ًا غائر ًا يف نف�س رئيف‪،‬‬ ‫ول�سوف نعر�ضها بالتف�صيل الحق ًا‪ .‬ف�أن ّتتهم �إن�سان ًا راقي ًا‬ ‫وع�شوائي ظلوم‬ ‫اعتباطي‬ ‫أملعي ًا‪ ،‬ب�شكل‬ ‫منا�ض ً‬ ‫ال متفاني ًا � ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ُم ْغر�ض‪ ،‬على �أ ّنه عميل‪ ،‬هكذا بكلّ ب�ساطة ودناءة‪ ،‬فهذا‬ ‫عمل هو �أكرث من جرمية‪� ،‬إ ّنه اال�ستباحة املطلقة لتاريخ‬ ‫ّ‬ ‫واحلط‬ ‫متميز‪ ،‬بغية ت�شويهه‬ ‫نه�ضوي‬ ‫�أديب كبري ومفكّ ر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إعالمية‬ ‫من ن�صاعته و�سطوعه‪ .‬وخالل هذه الفربكة ال‬ ‫ّ‬ ‫احلزبية‬ ‫�ضد رئيف ورهطه من املث ّقفني‪� ،‬ساقت املاكينة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التيتوية ـ �إن كانت ت�ستوي على �أ ّنها تهمة!‬ ‫لهم تهمة‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫عدة تقاطعت عهدذاك‪ .‬فهناك قرار‬ ‫ونح�سب � ّأن �أمور ًا ّ‬ ‫بحق فل�سطني‪ ،‬وقد �أثار بالت�أكيد‬ ‫التق�سيم الذي �صدر‬ ‫ّ‬ ‫يف �صفوف احلزب �إرباك ًا؛ فرئي�سه فرج الله احللو كان‬ ‫ال�سوفياتي الذي يتناق�ض مع �سيا�سة‬ ‫�آ�سف ًا للموقف‬ ‫ّ‬ ‫الفل�سطينية بطبيعة‬ ‫للق�ضية‬ ‫احلزب التي كانت منا�رصة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ومر بنا ما حلّ بفرج الله من ت�سفيه وا�ضطهاد‬ ‫الأحوال‪ّ .‬‬ ‫من خالل «ر�سالة �سامل»‪ .‬ورئيف �أي�ض ًا كان من ر�أي‬ ‫فرج الله بالت�أكيد‪ .‬وقد ح�صل اخلالف الط ّنان بني �ستالني‬ ‫وتيتو‪ ،‬الذي �أف�ضى �إىل طرد تيتو والرفاق اليوغ�سالف‬ ‫ُ‬ ‫املوجهة �إىل تيتو هي‬ ‫ممية‪ .‬وكانت التهمة‬ ‫َّ‬ ‫من �صفوف الأ ّ‬ ‫القومية؛ فهو مل ميتثل لأَوامر �ستالني‪ ،‬و�سعى �إىل‬ ‫النزعة‬ ‫ّ‬ ‫اليوغ�سالفية‪،‬‬ ‫اال�شرتاكية‬ ‫خا�ص بالتجرِ بة‬ ‫�شق طريق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الذاتي للم�صانع‪.‬‬ ‫قائمة على الت�سيري‬ ‫ّ‬ ‫التيتوية‬ ‫حكاية‬ ‫ّ‬ ‫تكونت من‬ ‫كانت يوغ�سالفيا‪ ،‬بعد معاهدة فر�ساي‪ ،‬قد ّ‬ ‫قوميات‪ ،‬لكلٍّ منها تاريخها‬ ‫عدة‬ ‫واليات م�شتملة على ّ‬ ‫ّ‬ ‫لكن توحيدها جرى على نحوٍ فيه �إكراه‪،‬‬ ‫الوطني البعيد‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫َكية‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ة‬ ‫املركزي‬ ‫يوغ�سالفيا‬ ‫«وكانت‬ ‫تيتو‪:‬‬ ‫يقول‬ ‫لهذا‬ ‫ّ َ ّ‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ير�أ�سها مغت�صب �أكرث منه ملك ًا‪ ،‬يحيط به جماعة فاقدة‬ ‫الأَخالق‪ ،‬ج�شعة مثله �إىل الك�سب والرثاء»‪.38‬‬ ‫اال�ستبدادي‬ ‫ والدليل الفا�ضح على ه��ذا احلكم‬ ‫ّ‬ ‫�شيوعي ًا من املجل�س‬ ‫الرجعي �أ ّنه جرى طرد ‪ 58‬نائب ًا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫احتلّت يوغ�سالفيا من ق َبل‬ ‫الوطني دفعة واحدة‪ .‬وعندما ُ‬ ‫ّ‬ ‫ال�شيوعيني‬ ‫عند‬ ‫ة‬ ‫الوطني‬ ‫ألة‬ ‫س�‬ ‫للم�‬ ‫أمثل‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫إن‬ ‫�‬ ‫ف‬ ‫‪،‬‬ ‫النازي‬ ‫احللّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اليوغ�سالف كان بطرد املحتلّ ‪ ،‬وباحل�ؤول يف الآن نف�سه‬ ‫وم ْن حولها من �أُجراء وخونة‪ .‬وهكذا‬ ‫َكية َ‬ ‫دون عودة املَل ّ‬ ‫اليوغ�سالفية‪ ،‬كما‬ ‫ال�شعبية‬ ‫االحتادية‬ ‫اجلمهورية‬ ‫ُبنيت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫قومية‬ ‫ينبئ ا�سمها على نحو‬ ‫احتادي‪ ،‬بحيث تتك ّفل كلّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بتطورها ويف الوقت نف�سه بتالحمها مع �أُ�رسة‬ ‫يف االحتاد ّ‬ ‫اليوغ�سالفية‪ .‬ويرى تيتو � ّأن هناك ثالثة �أَنواع‬ ‫ال�شعوب‬ ‫ّ‬ ‫ديكتاتورية احلاكم املطلق‪� ،‬ش�أن فرانكو‬ ‫الديكتاتورية‪:‬‬ ‫من‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وديكتاتورية الر�أ�سمال الفاح�ش الطامع‬ ‫يف �إ�سبانيا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الطبقي بقناع‬ ‫ويغطي فح�شه‬ ‫اال�ستعماري‪،‬‬ ‫بالتو�سع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ديكتاتورية الربوليتاريا‬ ‫وهناك‬ ‫الكاذبة‪.‬‬ ‫ة‬ ‫الدميقراطي‬ ‫من‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أقلية‬ ‫أكرثية ال�ساحقة من ال�شعب ّ‬ ‫«ديكتاتورية ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫�ضد ال ّ‬ ‫نت �رضورتها على �أثر ثورة �أكتوبر‬ ‫وقد‬ ‫امل�ستثمرة‪.‬‬ ‫تبي ْ‬ ‫ّ‬ ‫(ت�رشين)‪ ،‬لتحقيق تعاليم مارك�س و�إجنلز ولينني و�ستالني‪،‬‬ ‫الثورية من االعتداء‬ ‫وللمحافظة على االنت�صارات‬ ‫ّ‬ ‫‪39‬‬ ‫العمال النا�شئة» ‪ .‬وهناك يف مقالة‬ ‫أجنبي على دولة ّ‬ ‫ال ّ‬ ‫تيتو �أمران جديران بالتو ّقف عندهما‪ّ � .‬إن وجود االحتاد‬ ‫ال�سوفياتي بنظامه وجناحاته الكربى قد و ّفر ال�رشط‬ ‫ّ‬ ‫اجتماعي �أف�ضل يف‬ ‫«نظام‬ ‫لن�شوء‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬ ‫وعملي‬ ‫ا‬ ‫نظري‬ ‫الالزم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املهم‪ ،‬ونح�سب �أ ّنه‬ ‫كلّ بلد من البلدان»‪ّ � .‬أما الأمر الثاين‬ ‫ّ‬ ‫ال�رشارة التي كربت بعد ذلك‪ ،‬فهو ت�أكيد تيتو � ّأن طريق‬ ‫االجتماعي اجلديد ال مياثل طريق‬ ‫كلّ بلد لبلوغ النظام‬ ‫ّ‬ ‫املارك�سية‬ ‫ثورة �أكتوبر‪ ،‬وخالف ذلك هو خروج على‬ ‫ّ‬ ‫التطور‬ ‫اخلا�صة‪ ،‬و�صفة‬ ‫«ولكن ال�رشوط‬ ‫والديالكتيك‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اخلا�صة للو�صول �إىل خلق‬ ‫الداخلي‪ ،‬تعينّ �أي�ض ًا الطرق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫اجتماعي �أح�سن يف كلّ �أ ّمة وكلّ حالة‪ ،‬ويف بالدنا‪،‬‬ ‫نظام‬ ‫ّ‬ ‫‪40‬‬ ‫الدميقراطية‬ ‫للو�صول �إىل‬ ‫ال�شعبية» ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ هذا ما �أ�سعفتنا به جملّة «الطريق» للوقوف على‬ ‫تفجر اخلالف ال�شنيع بني جوزف‬ ‫ٍّ‬ ‫ن�ص لتيتو‪ .‬ولكن عندما ّ‬ ‫�ستالني وبروز تيتو ها هي املجلّة نف�سها‪� ،‬أي «الطريق»‪،‬‬ ‫ال�سوفياتية‪،‬‬ ‫تزودنا مبقالة منتزعة من جملّة الدرا�سات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عنوانها‪ :‬تاريخ خيانة‪ ،‬تيتو وع�صابته‪ .‬وم �� ّؤدى هذه‬ ‫املقالة العجيبة � ّأن تيتو و�أَعوانه هم عمالء لال�ستعمار‪،‬‬ ‫يف‪،‬‬ ‫وقد ت�سلّلوا �إىل قيادة احلزب‬ ‫ال�شيوعي اليوغ�سال ّ‬ ‫ّ‬ ‫يدعون تنظيم املقاومة البا�سلة الطاحنة �ضد املحتلّ‬ ‫وهم ّ‬


‫ال�سوفياتية‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫«تاريخ خيانة‪ ،‬تيتو‬ ‫وع�صابته»‪ ،‬جم ّلة‬ ‫الطريق‪� ،‬س‪،10‬‬ ‫ع‪�( 2‬شباط‬ ‫‪،)1951‬‬ ‫�ص ‪.49 – 44‬‬ ‫‪« 42‬تاريخ خيانة‪،‬‬ ‫ ‬ ‫تيتو وع�صابته»‪،‬‬ ‫�ص ‪ .50‬جم ّلة‬ ‫الدرا�سات‬ ‫ال�سوفياتية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ 43‬املرجع نف�سه‬ ‫‪� 4‬أو�سكار دافت�شو‪:‬‬ ‫‪ 4‬‬ ‫«يف زيارة �أَن�صار‬ ‫ماركو�س»‪،‬‬ ‫ ‬ ‫�ص ‪.147‬‬

‫ ‪ 186‬‬

‫النازي‪ ،‬يف حني كانوا على �صلة م�شبوهة بالغ�ستابو‬ ‫ّ‬ ‫احلزبيني يف حركة‬ ‫املنا�ضلني‬ ‫خرية‬ ‫من‬ ‫ّ�صوا‬ ‫ل‬ ‫وتخ‬ ‫‪،‬‬ ‫ين‬ ‫الأملا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫أملانية عام ‪،1943‬‬ ‫الأن�صار؛ وقد ا ّت�صل تيتو بالقيادة ال ّ‬ ‫إنكليزية‬ ‫كذلك كان لع�صابته ات�صال بالقيادتني ال‬ ‫ّ‬ ‫‪41‬‬ ‫وال‬ ‫أمريكية وتعاون حافل باجلرائم والتخريب ‪« .‬وبعد‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ال�سوفياتي‪ ،‬مل يعد يف‬ ‫حترير يوغ�سالفيا‪ ،‬من ق َبل اجلي�ش‬ ‫ّ‬ ‫التيتوية �أن تعمل ِجهار ًا‪ .‬وا�ضطرت‪،‬‬ ‫ا�ستطاعة الع�صابة‬ ‫ّ‬ ‫حتت �ضغط اجلماهري ال�شعبية‪� ،‬أن توافق‪ ،‬يف الظاهر‪،‬‬ ‫الدميقراطية التي متّت يف البالد‪ .‬ولكن‬ ‫على الإ�صالحات‬ ‫ّ‬ ‫الية‪،‬‬ ‫ال�شيوعية‬ ‫ملّا ف�ضحها مكتب الأَنباء للأَحزاب‬ ‫ّ‬ ‫والعم ّ‬ ‫ّ‬ ‫يف حزيران ‪ ،1948‬قامت بانقالب مناه�ض للثورة‪،‬‬ ‫الدميقراطي‪ .‬و�رسعان‬ ‫وانتزعت يوغ�سالفيا من املع�سكر‬ ‫ّ‬ ‫القومية‬ ‫ما اجتازت زمرة تيتو جميع مراحل اخليانة‪ ،‬من‬ ‫ّ‬ ‫الفا�شي�ستية اخلال�صة‪ ،‬و�أقامت يف‬ ‫البورجوازية‪� ،‬إىل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪42‬‬ ‫�‬ ‫ة‬ ‫ع�سكري‬ ‫ة‬ ‫ديكتاتوري‬ ‫البالد‬ ‫إرهابية» ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الع َجب‪ ،‬ل ّأن حملة ال�شتائم التي �سنوردها‬ ‫ وميلأنا َ‬ ‫�ضد تيتو وع�صابته‪ ،‬تذكّ رنا مبا �ساقه كور�س‬ ‫الآن‬ ‫ّ‬ ‫�ضد رئيف‬ ‫أخ�ص املدعو و�صفي الب ّني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫احلزب‪ ،‬وبال ّ‬ ‫خوري ورفاقه‪ ،‬من �شتائم تكاد تكون متطابقة‪ ،‬مع‬ ‫اختالف املو�ضوعني واملوقعني واحلالتني! «� ّإن حكومة‬ ‫ال ع�صابة من ال َق َتلة واجلوا�سي�س‪،‬‬ ‫بلغراد‬ ‫احلالية لي�ست �إ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال �أداة يف يد‬ ‫الرجعية‬ ‫تعمل مل�صلحة‬ ‫العاملية‪ ،‬ولي�ست �إ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫اال�ستعمارية‬ ‫و�ساط‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫تنتهجها‬ ‫التي‬ ‫ة‬ ‫العدواني‬ ‫ال�سيا�سة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يف الواليات املتحدة و�إنكلرتا‪ّ � .‬إن حكّ ام بلغراد‪ ،‬الذين‬ ‫أمريكيني‪،‬‬ ‫ي�شكّ لون جبهة واحدة مع دعاة احلرب الإنكلو �‬ ‫ّ‬ ‫و�ضد‬ ‫�ضد حركة �أن�صار ال�سلم‪،‬‬ ‫يقومون بعمل‬ ‫ّ‬ ‫تخريبي ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدميقراطية‬ ‫و�ضد بلدان‬ ‫الية‪،‬‬ ‫ال�شيوعية‬ ‫الأَحزاب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والعم ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪43‬‬ ‫و�ضد االحتاد‬ ‫ال�شعبية‪،‬‬ ‫ال�سوفياتي» ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ وكانت العبادة ل�ستالني العظيم هي ال�سائدة‪ ،‬وبالتايل‬ ‫يتجر�أ على خمالفته ينهل عليه �سيل التهم اجلاهزة‬ ‫فم ْن‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫خ‬ ‫ر‬ ‫ف‬ ‫هو‬ ‫بكدا�ش‬ ‫وخالد‬ ‫الرائجة‪.‬‬ ‫والنعوت‬ ‫�ستاليني‪ ،‬ين ّفذ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫القومي عندنا‬ ‫أن‬ ‫ش�‬ ‫�أَوامر مو�سكو‪ ،‬مهما تكن جمحفة بال�‬ ‫ّ‬ ‫كر�سوا مفهوم الأَنظمة‬ ‫ومغلوطة‪ .‬وال�سوفيات هم الذين ّ‬ ‫َ‬ ‫مية بني ظهرا َن ْينا؛ ونعلم � ّأن هذه الأنظمة باعت‬ ‫ّ‬ ‫التقد ّ‬ ‫ع�سكرية ا�ستهلكت‬ ‫بديكتاتوريات‬ ‫فل�سطني‪ ،‬وطحنتنا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ن�صف قرن من �أَعمارنا‪ .‬وال ريب � ّأن رئيف ًا و�صحبه‬ ‫مر بنا‪ ،‬من عبادة الفرد؛ �سواء على النطاق‬ ‫عانوا‪ ،‬كما ّ‬ ‫ُ‬ ‫ممي متم ّثلة ب�ستالني‪� ،‬أو على النطاق املحل ّ​ّي متمظهرة‬ ‫الأ ّ‬ ‫ال باالنت�صارات‬ ‫ببكدا�ش‪ .‬على � ّأن �ستالني كان‬ ‫حمم ً‬ ‫َّ‬ ‫الظالمية؛ يف حني‬ ‫الفا�شية‬ ‫الع�سكرية الكا�سحة‪ ،‬وبدحر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫الذاتية املخزية‪،‬‬ ‫� ّأن بكدا�ش يحتقب تاريخ ًا من ال�سرية‬ ‫ّ‬ ‫بخا�صة‪،‬‬ ‫ومن االفرتاءات على رفاقه‪ ،‬وعلى املث ّقفني منهم‬ ‫ّ‬ ‫الذين كان يخ�شى �صعودهم فريميهم بالتهم القبيحة‬ ‫و�ص ْحبه قد مالوا‬ ‫املفتعلة‪ .‬ال غرابة �أن يكون رئيف َ‬ ‫�إىل تيتو‪ ،‬ربمّ ا؛ �أو �أ ّنهم مل ي�ست�سيغوا طرد تيتو ورفاقه‪،‬‬ ‫النازي يف‬ ‫وخ�صو�ص ًا � ّأن تيتو كان بطل املقاومة �ضد‬ ‫ّ‬ ‫اال�شرتاكية‪ .‬و�صار‬ ‫ووحد يوغ�سالفيا حتت راية‬ ‫بالده‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اال�شرتاكية‪ ،‬باعرتاف‬ ‫تيتو رمز ًا �ساطع ًا ليوغ�سالفيا‬ ‫ّ‬ ‫ال ومعادي ًا‬ ‫اجلميع؛ ثم غدا بني ليلة و�ضحاها خائن ًا وعمي ً‬ ‫ٍ‬ ‫بعدئذ‪.‬‬ ‫ا�شرتاكي؛ وهي ُتهم ثبت بطالنها‬ ‫لكلّ ما هو‬ ‫ّ‬ ‫قومي؛ ورئيف و�صحبه كانوا‬ ‫فمو�ضوع تيتو فيه جانب‬ ‫ّ‬ ‫العربية‪،‬‬ ‫قومي ًا غائر ًا‪ ،‬هو تق�سيم فل�سطني‬ ‫يعانون جرح ًا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومر بنا � ّأن رئيف خوري ترجم كتاب‬ ‫توطئة َ‬ ‫ل�ض َياعها! ّ‬ ‫قدم له‪ .‬وقد فعل ذلك‬ ‫«يف زيارة �أَن�صار ماركو�س»‪ ،‬كما ّ‬ ‫املركزية يف احلزب؛ وح ّثه‪،‬‬ ‫بناء على طلب من اللجنة‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫كما �أوردن��ا �سابق ًا‪ ،‬خالد بكدا�ش على �إمتامه ون�رشه‪.‬‬ ‫والكتاب جميل وحافل‪ ،‬ل ّأن مرتجمه‪ ،‬رئيف خوري‪،‬‬ ‫والعربية‪ ،‬وبالتايل فال�سبك‬ ‫إنكليزية‬ ‫مقتدر يف اللغتني ال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عربية راقية‪ .‬ومن‬ ‫اللغوي م�رشق واملعاين م�صوغة بلغة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫� ٍ‬ ‫أ�سف � ّأن رئيف ًا مل يرتجم كثري ًا من الكتب‪ ،‬فر�صيده منها‬ ‫نتحدث عنه‪.‬‬ ‫يل الذي‬ ‫خم�سة كُ ُتب‪ ،‬مبا فيها الكتاب احلا ّ‬ ‫ّ‬ ‫أدبية جلدير بنقل الروائع‪ .‬ومع‬ ‫َ‬ ‫وم ْن كان مبثل كفاءته ال ّ‬ ‫� ّأن بكدا�ش هو الذي ح ّثه على �إمتام ترجمة الكتاب دون‬ ‫�إبطاء والعمل على طبعه‪ ،‬كما �أورد �سابق ًا ها�شم الأمني؛‬ ‫بانتهازيته‪،‬‬ ‫فال غرابة �أن يكون بكدا�ش نف�سه‪ ،‬مندفع ًا‬ ‫ّ‬ ‫عمل على ا�ستعمال الكتاب �سالح ًا �ضد رئيف خوري‪،‬‬ ‫تفجر‬ ‫تريث يف �إكمال ترجمة الكتاب عندما ّ‬ ‫الذي ّ‬ ‫املح�صلَة‪ ،‬فالكتاب‬ ‫اخلالف بني �ستالني وتيتو‪ .‬لأ ّنه‪ ،‬يف‬ ‫َّ‬ ‫هو يف �صالح الرفاق اليوغ�سالف الذين كانوا ي�ساندون‬ ‫ٍ‬ ‫رفاقي‪ .‬وكان هناك‬ ‫عون‬ ‫وميدونهم بكلّ‬ ‫الأَن�صار اليونان ّ‬ ‫ّ‬ ‫حتى � ّإن الكتاب ي�أتي على ذكر‬ ‫تداخل بني الطرفني‪ّ ،‬‬ ‫‪44‬‬ ‫اليونانية‪،‬‬ ‫ف�صائل العمل‬ ‫املتطوعة يف يوغ�سالفيا ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فالتيتوية وجهة نظر ولي�ست تهمة‪.‬‬ ‫على � ّأي حال‬ ‫ّ‬ ‫أ�ساوية للخالف بني �ستالني وتيتو‪� ،‬أن‬ ‫وكانت النتيجة امل� ّ‬ ‫�أف�ضت �إىل اندحار الأَن�صار اليونان وجي�شهم‪ ،‬اجلي�ش‬ ‫اليونانية‬ ‫الرجعية‬ ‫ين الذي حارب‬ ‫الدميقراطي اليونا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إنكليزي امل�ساند لهما‪.‬‬ ‫امللكي واالحتالل ال‬ ‫واجلي�ش‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أملاين‪.‬‬ ‫حل باليونان االحتالل ال‬ ‫و�سبق �أن ّ‬ ‫إيطايل فال ّ‬ ‫ّ‬ ‫وهكذا دفع الأ َن�صار اليونان ثمن اخلالف بني �ستالني‬ ‫تاريخية له!‬ ‫�ضحية‬ ‫وتيتو‪ ،‬وكانوا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ال‬ ‫‪ 186‬العراق مثا ًال وحنا بطاطو دلي ً‬

‫و�ضاح �رشارة‬

‫‪ 208‬مخس أطروحات يف الماركسية المعارصة‬

‫فريدريك جامي�سون‬

‫‪ 213‬معىن النظرية يف الناشط الثوري‬

‫�سالمة كيلة‬


‫ال‪:‬‬ ‫العراق مثا ًال وحنا بطاطو دلي ً‬

‫بناء الدولة الوطنية العربية يف قبضة‬

‫جهاز االستيالء العصيب الريعي والبريوقراطي‬

‫وضاح رشارة‬ ‫‪ -1‬تقدمي‬ ‫العراق و�سوريا وم�رص من اليوم اىل االم�س‬ ‫كاتب من لبنان يف ثاين يوم غزو القوات العراقية دولة الكويت مطلع �آب‬ ‫‪� 1990‬أبلغ القائد العام للقوات امل�سلحة الغازية‪ ،‬وهو‬ ‫�صدام ح�سني‪ ،‬رئي�س اركان اجلي�ش الفريق نزار اخلزرجي‬ ‫�أنه‪� ،‬أي القائد العام‪« ،‬حرر» الكويت بـ«القطعات التابعة‬ ‫(للقائد العام) مبا�رشة‪ ،‬ولي�س بقطعاتكم»‪ .‬وهذا رواه‬ ‫اخلزرجي نف�سه اىل احدى ال�صحف العربية الدولية غداة‬ ‫�سنة على غزو القوات املتحالفة‪ ،‬االمريكية واالوروبية‪،‬‬ ‫العراق‪ ،‬ودخولها بغداد يف �آذار ‪ .2003‬فالقائد هو‬ ‫�أمني عام احلزب الغالب‪ ،‬ورئي�س الدولة‪ ،‬ورئي�س جمل�س‬ ‫ال يعلو الدولة‬ ‫ال��وزراء‪ ،‬ر�سمي ًا و«د�ستوري ًا»‪ .‬وهو فع ً‬ ‫وهيئاتها و�إداراتها و�أجهزتها‪ ،‬وفكرتها �إذا جازت العبارة‪،‬‬ ‫من طريق حر�سه اجلمهوري اخلا�ص‪ .‬ويخو�ض احلرب‬ ‫اخلارجية االقليمية – وهي �رسعان ما انقلبت دولية‪،‬‬ ‫من وجه‪ ،‬و�أهلية (حني انفجار االنتفا�ضة «ال�شعبانية»‬ ‫ال�شيعية‪ ،‬وقيام �شيعة الفرات اال�سفل على القوات‬ ‫ال�صدامية املن�سحبة من الكويت)‪ ،‬من وجه �آخر – بقواته‬ ‫اخلا�صة‪ ،‬ويق�صي اجلي�ش النظامي عن عمل ع�سكري‬ ‫و�سيا�سي ا�سرتاتيجي هو االقرب اىل مقومات كيان الدولة‬ ‫و�سيادتها‪ ،‬و�أ�شد القرارات تعري�ض ًا المتحانها‪ .‬واحلر�س‬ ‫اجلمهوري‪ ،‬يف عراق ذلك الوقت �أو يف �سوريا اليوم �أو يف‬ ‫ليبيا اال�ستيالء القذايف الطويل‪ ،‬لي�س قوة خا�صة‪ ،‬على‬ ‫ال وال‬ ‫معنى اللفظة الدقيق‪ ،‬ال جتنيد ًا وال ت�سليح ًا وال متوي ً‬ ‫رتب ًا‪ .‬فما ين�سبه اىل اخل�صو�ص الرئا�سي‪ ،‬ويحمله عليه‪،‬‬ ‫هو معار�ضته بالقوات امل�سلحة وعمومها‪ ،‬وحملِ القوات‬ ‫امل�سلحة «الر�سمية» والنظامية على كيان منف�صل وال‬ ‫يبعد ان يكون مناوئ ًا �أو مناف�س ًا على �أ�ضعف تقدير‪.‬‬ ‫ ويروي نزار خزرجي‪ ،‬رئي�س اركان اجلي�ش العراقي‬ ‫ ‪ 188‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫يف االعوام ‪ ،1991 – 1987‬وهي االعوام االخرية‬ ‫من حرب العراق و�إيران‪ ،‬واحتل �صدام ح�سني يف اواخرها‬ ‫الكويت و�أخرجه التحالف الدويل العري�ض منها‪� ،‬أن‬ ‫القائد العام �إياه عمد يف اثناء حرب العراق وايران اىل‬ ‫ف�صل ا�سلحة اجلي�ش املتفرقة واملت�ضافرة (�سالح الدبابات‪،‬‬ ‫�سالح اجل��و‪� ،‬سالح املدفعية‪ )...‬الواحد من االخ��رى‪،‬‬ ‫و�س َل َخها عن قيادة االركان التي تتوجها وتن�سق عملياتها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وناط بالقائد العام وحده العلم بـ«كل �شيء»‪ ،‬وح�رص العلم‬ ‫بنف�سه‪ .‬ومل ي�ستثن‪ ،‬بداهة‪ ،‬ميدان احلرب امل�ستعرة العراقية‬ ‫ االيرانية‪ ،‬من تفريق اال�سلحة والت�سرت على جمريات‬‫احلرب ووقائعها‪ .‬فقاتل �سالحا امل�شاة والدروع من غري‬ ‫تن�سيق مبا�رش وميداين مع �سالحي املدفعية والطريان ومع‬ ‫اال�ستخبارات‪ ،‬ومن غري ابالغ قيادة االركان بخطط القتال‬ ‫والعمليات املزمعة واملتوقعة‪ .‬فلم يخول رئي�س االركان‪،‬‬ ‫وهو قمة مراتب االمر‪ ،‬طلب مهمة تتوالها القوة اجلوية‪،‬‬ ‫وحظر عليه ا�صدار �أمر مبا�رش اىل مدير اال�ستخبارات‬ ‫الع�سكرية‪ .‬فكان «كبار» القادة الع�سكريني وال�سيا�سيني‪،‬‬ ‫على ما قال نزار خزرجي يف ‪ ،2004‬وهو يف عدادهم‪،‬‬ ‫تبلغهم اخبار اجلبهة وحوادثها اخلطرية‪ ،‬مثل رد االيرانيني‬ ‫وهجماتهم عن الفاو‪ ،‬من االذاعة‪ .‬وعلى �شاكلة �صدام‬ ‫ابن عمه علي ح�سن املجيد‬ ‫ح�سني يف الكويت‪ ،‬وقبله‪ ،‬قاتل ُ‬ ‫«الكيماوي»‪ُ ،‬‬ ‫الكرد العراقيني بوحدات من اجلي�ش ال�شعبي‬ ‫ومقاتلني حزبيني‪ ،‬وبع�ض املتطوعني الكرد‪ ،‬وقطعات‬ ‫ع�سكرية اقتطعت من اجلي�ش النظامي «العام»‪ .‬و�إىل هذا‪،‬‬ ‫«ا�ستقلت» هيئة الت�صنيع الع�سكري مبواردها و�أجهزتها‬ ‫وا�ستخباراتها وخططها‪ ،‬ون�صب �صهر �صدام ح�سني رئي�س ًا‬ ‫عليها‪ ،‬قرينة على �إخراجها من هياكل النظام و�إحلاقها‬ ‫بقائد «كل �شيء» العام قبل ان يهرب ال�صهر ويندم ويعود‬ ‫أوجزت احللقات الـ‪34‬‬ ‫ويقتله عدي �صدام ح�سني بيده‪�( .‬‬ ‫ُ‬

‫ ‪ 189‬‬

‫التي تكلم فيها م�سعود بارزاين ونزار خزرجي و�صالح‬ ‫عمر العلي وحامد اجلبوري‪ ...‬وعلقت عليها يف �صحيفة‬ ‫احلياة يف ‪.)2004/4/9‬‬ ‫و�ش َب ُه هذه الوقائع التي تواىل على �رسدها �أعيان‬ ‫ ‬ ‫َ‬ ‫«الدولة» العربية ال�صدامية بنظائر و�أ�شباه فَ�شت و�شاع‬ ‫َ‬ ‫قيام تون�سيني‬ ‫ال ِعلم بها منذ �أواخر ‪ 2010‬وما بعدها‪ُ :‬‬ ‫كرث على دولة زين العابدين بن علي ورهط زوجته‪،‬‬ ‫وقيام ثورة ماليني امل�رصيني على ح�سني مبارك ووارثه‬ ‫املفرت�ض وجمعية رج��ال االعمال «العميقة» ورجال‬ ‫الدولة التي ال تقل عمق ًا‪ ،‬وخروج ليبيني افواج ًا بعد �أفواج‬ ‫على «العقيد» معمر القذايف و�أوالده وع�شريته وحلفائه‪،‬‬ ‫وتقو�ض جماعات �سورية على نظام و�صفه املتظاهرون‬ ‫ُ‬ ‫والنا�شطون واملقاتلون بـ«اال�سدي» ون�سبوه اىل الرئي�س‬ ‫و�أبيه من قبله وع�صبيتهما‪ .‬وت�شرتك هذه «الدول»‪ ،‬وهي‬ ‫انظمة ت�سلط وا�ستيالء وت�رصيف �أمري‪ ،‬يف حل الدولة‬ ‫الوطنية واالقليمية‪ ،‬وهيئاتها (ال�سيا�سية والد�ستورية)‬ ‫و�إدارت��ه��ا (البريوقراطية والع�سكرية واالقت�صادية‬ ‫واخلدمية)‪ ،‬و�إذابتها جميعه ًا يف �إرادة «�سلطان» واحد‬ ‫وم�شيئته‪ ،‬وذلك على مقادير خمتلفة ومتفاوتة‪.‬‬

‫االدارية والكهنوتية‪ .‬وعلى مثال عثماين ومملوكي عريق‪،‬‬ ‫ت�صدر �صدام ح�سني‪ ،‬ورهطه االقرب‪ ،‬مراتب القوة‪ .‬ولكن‬ ‫ّ‬ ‫�صدارته ال تفرت�ض ت�سل�سل املراتب‪ ،‬وتعلق املراتب‬ ‫ال ي�شرتط �إنفاذها‬ ‫بع�ضها ببع�ض‪ ،‬واقت�سام ا�صحابها اعما ً‬ ‫ا�ضطالع �أ�صحاب مرتبة �أخرى ب�إنفاذ ق�سم �أو �شطر من‬ ‫عمل‪ .‬ف�صدارته �إمنا ركنها القوة املنف�صلة التي تتمتع‬ ‫بها ع�صبيته‪ ،‬وي�سعه �إعمالها يف ك�رس الكتل الع�سكرية‬ ‫االخ��رى‪ ،‬النظامية‪� ،‬أو اال�ستغناء عنها‪ ،‬على ما �صنع‬ ‫الرجل يف «حترير» الكويت‪ ،‬و�صنع ابن عمه وذراعه يف‬ ‫حملة االنفال على حلبجة وغريها من بالد البارازانيني‪.‬‬ ‫فهو «�أمري (مئة) �ألف» �أو «�أمري (�ألف) �ألف» �أو �أكرث‪ .‬وهذا‬ ‫�سهمه �أو «ديوانه اخلا�ص»‪ ،‬على قول العثمانيني يف امالك‬ ‫�سلطانهم التي ي�ستقل بها عن ُملك الدولة‪ ،‬ويقتطعها‬ ‫من هذا المُ لك‪ ،‬وهي جزء من غنائم جي�ش الدولة التي‬ ‫�سدتها‪ .‬فال ت�ستقيم «الدولة الوطنية واالقليمية»‬ ‫يرتبع يف ّ‬ ‫دولة واحدة ومتما�سكة �إال من طريق ر�أ�سها‪ ،‬الغالب على‬ ‫كتلها و�أجزائها بقوة مواردها وت�سلحها وجتهيزها هي من‬ ‫املوارد العامة‪ ،‬ولكن ع�صبيتها وحلمتها هما ع�صبية �أمري‬ ‫الوالية او «الدولة»‪ ،‬على قول عبا�سي‪ ،‬وحلمته‪.‬‬

‫‪� ...‬صاحب الدولة العراقي‬ ‫ففي عراق البعث ال�صدامي‪ ،‬ت�صدعت االبنية التمثيلية‬ ‫والتنفيذية والق�ضائية‪ ،‬واالج�سام االدارية واالقت�صادية‬ ‫ال‪ .‬وتوىل اجلهاز احلزبي‬ ‫والع�سكرية واالمنية‪ ،‬ت�صدع ًا كام ً‬ ‫االمني‪ ،‬وعلى ر�أ�سه قائده «االعلى»‪ ،‬الت�رصيف والتدبري‬ ‫والبت حمل الدولة املفرت�ضة‪ ،‬بعد م�صادرتها على �أدوارها‬ ‫ّ‬ ‫ووظائفها وحملها املادي واملعنوي‪ .‬ودوائ��ر العالقات‬ ‫والروابط االهلية‪ ،‬الع�شائرية واملحلية والقومية واملذهبية‪،‬‬ ‫واالجتماعية‪ ،‬التي عجز جهاز احلزب عن ا�ستدخالها‪،‬‬ ‫جمدها موقت ًا‪ ،‬وحال بينها وبني الت�أثري‬ ‫واال�ستيالء عليها‪َّ ،‬‬ ‫يف �سيا�سة ال�سلطة واجراءاتها‪ .‬وقمع بالقوة امل�سلحة‬ ‫بوادر احلياة املتململة يف عروقها وجماريها‪ .‬وانتهى االمر‬ ‫بالرجل على ر�أ�س حزبه و«دولته» اىل ما تقدمت روايته‬ ‫على ل�سان قائد �أركان جي�شه يف ‪ :2004‬تقطعت عرى‬ ‫اكرث اج�سام الدولة حاجة اىل قيادة ووحدة مركزيتني‪،‬‬ ‫ال وقيادات �آلية‬ ‫وتفرق ال�سلك الع�سكري �صفوف ًا وكت ً‬ ‫وقطاعية من غري �صالت �أفقية �أو ع�ضوية متكاملة‬ ‫ومت�ضافرة‪ ،‬وت��وىل التن�سيق بينها ر�أ���س �آم��ر يعلوها‬ ‫ويت�سلط عليها‪ .‬وهو «�رشط» دوامها‪ ،‬على قول مارك�س‬ ‫يف اجلماعة الأ�سيوية وعالقتها ب�سلطانها وحا�شيته‬

‫‪� ...‬صاحب (بع�ض) الدولة ال�سوري‬ ‫وما �أجنزه �صدام ح�سني وجهازه �أجنز بع�ضه حافظ اال�سد‬ ‫ونظامه يف �سوريا‪ ،‬ومل يرد رمبا �إجنازه كله �أو على ال�شاكلة‬ ‫نف�سها‪ .‬فهو �أبقى على بع�ض املُ�سكة الذاتية للقوات‬ ‫امل�سلحة ومراتبها املختلطة‪ ،‬ولكنه عزل جهاز املراقبة‬ ‫االمنية واال�ستخبارية عن ج�سم اجلي�ش‪ ،‬و�أوكل املراقبة‬ ‫وقدم‬ ‫اىل اجهزة متناف�سة‪ ،‬رتبها على مراتب ودرجات‪ّ ،‬‬ ‫بع�ضها على بع�ض‪ ،‬وربط به مبا�رشة �أقواها دور ًا‪ .‬وعزل‬ ‫يف خ�ضم ال�رصاع االهلي الدامي «قوات خا�صة» كادت‬ ‫ان تكون عائلية‪ ،‬فقاتلت جماعات �أهلية بع�ضها م�سلح‬ ‫و�سحقتها‪ .‬وقاتلت قوات م�سلحة نظامية اخرى هي قوات‬ ‫ر�أ�س النظام‪� ،‬أي احلر�س اجلمهوري‪ .‬وخلف هذا القوات‬ ‫اخلا�صة على حماية ر�أ�س النظام من بع�ض جي�شه‪ ،‬ولي�س‬ ‫من جماعات �سورية منتف�ضة عليه وعلى �سلطته‪ .‬وات�سعت‬ ‫االدارة «املدنية»‪� ،‬ش�أن احلزب اجلماهريي الف�ضفا�ض‪،‬‬ ‫و�ش�أن مراتب الكتل االقت�صادية وجماعات املتعلمني‪،‬‬ ‫لأ�صحاب الوالء اجلزئي �أو البارد‪ ،‬وللعازمني على اخلو�ض‬ ‫يف «ال�سيا�سة»‪ ،‬و�أ�صحاب مهارات تقنية‪ .‬وعلى هذا‪،‬‬ ‫وغريه مثله‪ ،‬رعت �سيا�سة اال�سد االب رعاية ي ِقظة ِ‬ ‫وحذرة‬ ‫هوام�ش ا�ستقالل بع�ض املرافق عن قيادته املبا�رشة‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬


‫واخلا�صة‪ ،‬وحر�صت على الت�سترّ على «ديوانه اخلا�ص»‬ ‫بوا�سطة تقدمي وت�أخري معقَّدين وخمتلطني وزعا املكا�سب‬ ‫واالدوار‪ ،‬والظاهر واخلفي‪ ،‬على نحو يع�صى االقتفاء‬ ‫والتق�صي‪ .‬و�أ�سدل على هذا كله خطابة قومية و�رصاعية‬ ‫وقواه انتهاج‬ ‫وعاملثالثية‪� ،‬صورية ومعمية‪ .‬وفاقم االلتبا�س ّ‬ ‫�سيا�سات خارجية‪ ،‬اقليمية ودولية‪� ،‬أرادها الوجه البارز‬ ‫من النظام ورايته‪ ،‬حاذرت على الدوام احل�سم‪ .‬وترجحت‬ ‫ف�شبهت لأ�صحاب الآراء‬ ‫مناح ومنازع مت�ضاربة‪.‬‬ ‫بني‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫واالهواء املتناق�ضة تعليل هذه ال�سيا�سات على ح�سب‬ ‫�آرائهم و�أهوائهم (فذهب باتريك �سيل‪ ،‬منذ نحو ال�سنة‪،‬‬ ‫اىل ان ت�شدد ب�شار اال�سد الفل�سطيني الوطني‪ ،‬و�أبيه من‬ ‫قبله‪ ،‬مل يخرجه عن طلب املفاو�ضة وتو�سيط الو�سطاء‪،‬‬ ‫بينما ذهب ناه�ض حرت‪ ،‬العروبي ال�صارم‪ ،‬يف اال�سبوع‬ ‫نف�سه‪ ،‬اىل ان مرونة النظام ال�سوري البعثي ومفاو�ضاته مل‬ ‫َت�ؤُ ْل يوم ًا به اىل توقيع اتفاق وابرامه)‪.‬‬ ‫الفرق «النا�رصي» امل�رصي‬ ‫وال�صيغة العروبية الثالثة يف اخلط البياين املتدرج هذا‪،‬‬ ‫�أو عليه‪ ،‬هي «النظام النا�رصي» و�أط��واره الكثرية منذ‬ ‫مراحله االوىل‪ ،‬وتقلبه بينها‪ ،‬اىل حني �سقوط الرئي�س‬ ‫ال�سابق ح�سني مبارك‪ .‬و�أجمل متظاهرو احلركة امل�رصية‬ ‫الدميوقراطية واملدنية (يف حلتها االوىل) هذه االطوار‪،‬‬ ‫وجمعوها يف «�ستني �سنة» احت�سبوها جملة مت�صلة‪،‬‬ ‫وغ َّلبوا وحدتها – و�سمة هذه الوحدة هي ت�سلط الرئا�سة‬ ‫وجهازها على احلكم والتدبري و«�إرادة ال�شعب» – على‬ ‫فروقها ومنعطفاتها‪ .‬واحلق ان هذه ال�سمة‪ ،‬وهي جتمع‬ ‫يف ب��اب م�شرتك مراحل االنظمة امل�رصية امل�رصية‬ ‫و«النا�رصية» املتعاقبة‪ ،‬جتمعها كذلك اىل النظامني‬ ‫اال�سدي ال�سوري وال�صدامي العراقي كذلك‪ .‬وال ينفي‬ ‫الباب امل�شرتك‪ ،‬او ال�سمة امل�شرتكة‪ ،‬الفرق ال�رصيح‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وما بانت به االنظمة امل�رصية «النا�رصية» من النظام‬ ‫ال�سوري اال�سدي‪ ،‬والنظام ال�صدامي العراقي‪ ،‬يفوق‬ ‫الفرق بني النظام اال�سدي وبني النظام ال�صدامي‪ .‬فاالوىل‬ ‫�أقرت للأبنية ال�سيا�سية‪ ،‬ولو من طرف الل�سان‪ ،‬وللأبنية‬ ‫االدارية والع�سكرية واالجتماعية والتقنية‪ ،‬با�ستقالل‬ ‫معايري عملها الداخلية بع�ض اال�ستقالل‪ .‬فلم تعمد اىل‬ ‫حتطيمها وتقوي�ضها قبل �إحلاقها يف خدمة جهاز الرئي�س‬ ‫القائد و�إراداته‪ ،‬على رغم «تطهريها» ال�سيا�سي واالداري‬ ‫واالجتماعي الوا�سع وامل�ستمر للطاقم املت�صدر ال�سابق‪.‬‬ ‫وهي حر�صت‪ ،‬يف مرحلتها االوىل على ا�ضعف تقدير‪،‬‬

‫ ‪ 190‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫االمريكية متثال �صدام ح�سني ال�صامد على قاعدته‪ ،‬عنوة‪،‬‬ ‫يف �ساحة الفردو�س قرينة على ا�ضطالع الغازي االجنبي‬ ‫وحده بعزل جهاز احلاكم ور�أ�سه‪ ،‬ووقف اجلمهور‪ ،‬ما‬ ‫عدا �شقه الكردي النازع اىل تقرير م�صريه متحفظ ًا �أو‬ ‫متفرج ًا‪ ،‬ومتوج�س ًا يف الأحوال كلها‪ .‬ومل تتمرد القوى‬ ‫املحلية واال�سالمية الليبية امل�سلحة على «العقيد» املزمن‬ ‫�إال بعد �أن �أمنت تقييد القوات االجنبية‪ ،‬البحرية واجلوية‪،‬‬ ‫ذراعه الع�سكرية‪ .‬ويف كلتا احلالني‪ ،‬خرجت اجلماعات‬ ‫االهلية من عباءة النظام املت�سلط وهي مقيمة على‬ ‫�صفتها‪ .‬و«مقيمة» غري دقيقة‪ :‬فال�صفة االهلية‪ ،‬الع�شائرية‬ ‫واملذهبية والدينية واملحلية والقومية (االتنية) وهي فروع‬ ‫على باب �أو �أ�صل �أهلي‪ ،‬كانت امللج�أ الذي احتمت‬ ‫به اجلماعات و�أوى �إليه االف��راد‪ ،‬بوجه ت�سلط اجلهاز‬ ‫امل�ستويل‪ .‬وتو�سل اجلهاز ب�أبنية الدولة‪ ،‬وحملها املركزي‬ ‫واجلامع من اجلماعات واملرافق االجتماعية واالقليمية‪،‬‬ ‫اىل م�صادرة «�أهل ال�ضعف» – وهم من �أ�ضعفت عالقات‬ ‫ال�سوق الر�أ�سمالية ع�صبيتهم فنزحوا اىل املدينة وزاولوا‬ ‫ال م�أجور ًا يف مرافقها‪ ،‬ودر�سوا يف املدار�س اجلديدة‪،‬‬ ‫عم ً‬ ‫وتزوجوا من غري قرابتهم وم ّلتهم‪ ،‬وحت ّزبوا بغري ع�صبية‬ ‫الأهل – على مواردهم ونفوذهم وقوتهم‪ .‬ولعل ال�سبب‬ ‫الراجح يف االنكفاء هو ا�شتباه موقع الدولة (العربية)‬ ‫يف عهدة اال�ستيالء اجلهازي‪ ،‬الع�شائري (الع�صبي)‬ ‫والبريوقراطي (الع�سكري االمني والإداري)‪ .‬فهجم‬ ‫اجلهاز امل�ستويل من موقع الدولة الوطنية االقليمية‪،‬‬ ‫ومبوارد قوتها وعوائدها‪ ،‬على اجلماعات االهلية والقوى‬ ‫ال�سيا�سية واالجتماعية‪ ،‬و�أحلق �أبنية الدولة البريوقراطية‬ ‫بع�صبية اهلية وخ�صو�صية ‪ :‬القذاذفة والتكارتة والقرادحة‬ ‫وحمل توريث االبن (البكر �إذا‬ ‫و�ضباط اجلي�ش امل�رصي‪ُ ،‬‬ ‫بقي حي ًا ورغب يف املرياث) بالن�ص واجلهر‪� ،‬أو بعزمية‬ ‫وقول خافت‪ ،‬على حق ثابت وغري منازع‪ .‬واحت�سب قدر ًا‬ ‫ان يكون احلاكم التايل عدي �صدام ح�سني وبا�سل �أو ب�شار‬ ‫(وولد ب�شار حافظ ًا الثاين) وجمال ح�سني‬ ‫حافظ اال�سد َ‬ ‫مبارك و�سيف اال�سالم معمر القذايف‪ ...‬وذلك يف اطار‬ ‫د�ستوري‪ ،‬ويف رعاية جمال�س �شعب منتخبة‪.‬‬

‫على دمج خا�صِّ النظام‪ ،‬وحلقته القريبة‪ ،‬يف عام �أو‬ ‫عمومية وطنية و�شعبية‪ ،‬ويف عامية �أهلية �صبغت احلياة‬ ‫ت�شرتك هذه «الدول» [من النمـــــــــــــــــــــــــــــــط‬ ‫البعثي العراقي وال�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــوري]‪،‬‬ ‫وهي انظمة ت�سلط وا�ستيالء وت�صــــــــــــــــــــريف‬ ‫�أمْ ري‪ ،‬يف حَ لّ الدولة الوطنية واالقليميــــــــــــــــــــة‪،‬‬ ‫وهيئاتها (ال�سيا�سية والد�ستورية) و�إدارتهـــــــــــــــــا‬ ‫(البريوقراطية والع�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــكرية‬ ‫واالقت�صادية واخلدمية)‪ ،‬و�إذابتهـــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫جميعه ًا يف �إرادة «�سلطان» واحد وم�شــــــــــــــــــيئته‬ ‫امل�رصية ب�صبغتها اىل اليوم‪ .‬وغلب ُة العمومية الوطنية‬ ‫والعامية االهلية �أدت دور ًا راجح ًا يف �إظهار «االنحراف»‬ ‫الالحق عن معياري العمومية الوطنية والعامية الأهلية‪،‬‬ ‫وعن مرتتباتهما املتفرقة من م�ساواة معنوية‪ ،‬وامتثال‬ ‫(�شكلي) لقواعد االنتداب والتكليف‪ ،‬و�إحجام عن غلق‬ ‫دائرة اجلهاز غلق ًا حمكم ًا‪ ...‬فقيا�س ًا على املعيارين ‪ -‬وهما‬ ‫انتهى بهما االمر اىل الذواء وانق�سمت اجلماعة الوطنية‬ ‫على وجوه �أهلية وحملية واجتماعية انق�سام ًا عميق ًا‪،‬‬ ‫وعلى مرتتباتهما ‪ -‬ال ي�صح �إنزال م�رص «النا�رصية» ال‬ ‫منزلة �سوريا ونظامها اال�سدي‪ ،‬وال منزلة العراق ونظامه‬ ‫ال�صدامي باالحرى‪ .‬وال حمل للمقارنة بني م�رص هذه وبني‬ ‫ليبيا ونظامها القذايف‪« ،‬النا�رصي»‪.‬‬ ‫اخلا�ص‬ ‫ديوان‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫وهذه احلال لي�ست بعيدة من م�صائر حركات االحتجاج‬ ‫الدميوقراطية (يف اوائلها) واملعار�ضات يف البلدان االربعة‪،‬‬ ‫مطلع العقد الثاين اجلاري من القرن الواحد والع�رشين‪.‬‬ ‫َ‬ ‫فحيث حلت «الدولة» يف احلاكم وجهازه القريب‪ ،‬وت�سلط‬ ‫هذا على مرافق ال�سلطة‪ ،‬و�أخرج «ديوان خا�صِّ ه» من �أبنية‬ ‫ال‪ ،‬وعار�ض‬ ‫الدولة املفرت�ضة م�شرتكة ومتما�سكة‪ ،‬ولو �شك ً‬ ‫هذه االبنية بـ«ديوانه»‪� ،‬أطف�أ «القائد» حماوالت االن�شقاق‬ ‫واملعار�ضة‪ ،‬و�سحقها يف املهد‪ .‬فلم تفلح حماولة انقالب‬ ‫ع�سكري واح��دة على �صدام ح�سني وجهازه املركب‬ ‫واملرقّع واملجلوب من م�صادر متنافرة‪ .‬وكذلك حال معمر‬ ‫القذايف طوال ‪� 42‬سنة تامة‪ .‬فـ«اقت�ضى» التخل�ص من‬ ‫الرجلني ونظاميهما غزو ًا ع�سكري ًا اجنبي ًا مدمر ًا‪� ،‬ضخم ًا‬ ‫ال‪ ،‬يف احلال االوىل‪ .‬ومل ت�سهم حركة داخلية ولو‬ ‫وطوي ً‬ ‫�ضئيلة يف �إ�سقاط ر�أ���س اجلهاز‪ .‬وقام انتزاع الرافعة‬

‫�أبنية دولة‪ ...‬متحفظة‬ ‫وعلى خالف العراق‪ ،‬وعلى ال�ضد من م�صادرة اجلهاز‬ ‫ال�صدامي �أبنية الدولة واحتكاره الت�رصف بها‪ ،‬و�سع‬ ‫حركة �شعبية وعامية م�رصية عري�ضة‪ُ ،‬عزِل رئي�س اجلهاز‬ ‫امل�ستويل على �أبنية الدولة منذ ‪ 29‬عام ًا يف غ�ضون ‪3‬‬

‫ ‪ 191‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫�أ�سابيع من التظاهر واالعت�صام والتعبئة‪ .‬واىل النهو�ض‬ ‫ال�شعبي احلازم واملر�صو�ص‪ ،‬وهو قرينة قوية على دوام‬ ‫جمتمع ال يفتقر اىل الروابط الداخلية ومل تتقا�سمه‬ ‫ُ‬ ‫حتفظ بع�ض ابنية الدولة عن‬ ‫الع�صبيات احلزبية‪ ،‬ا�ضطلع‬ ‫بع�ض �سيا�سات ح�سني مبارك وعزمه على توريث ابنه‬ ‫على وجه اخل�صو�ص‪ ،‬بدور راجح يف تخلي الرئي�س‬ ‫فت�ضافر على‬ ‫الع�سكري الثالث وتنحيه عن الرئا�سة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫جهر �أجزاء متفرقة من املجتمع امل�رصي‬ ‫االقامة �أو العزل‬ ‫ُ‬ ‫املتنازع وبع�ض هيئاته «الو�سطى» امل�أزومة رف�ضها تبعات‬ ‫دوام اجلهاز احلاكم منذ «‪� 60‬سنة»‪ ،‬وحتفظ «جهاز القوة»‬ ‫االول و�أبرز �أبنية الدولة «النا�رصية» عن ت�أييد الرئي�س‬ ‫الآفل وقمع حركة املعار�ضة باحلديد والنار والبلطجية وذر‬ ‫الفنت‪ .‬وحركة املجتمع وا�ستقالل قيادة القوات امل�سلحة‬ ‫بالر�أي (و�إ�صغا�ؤها اىل م�شورة امريكية ال يبطل اال�ستقالل‬ ‫هذا) دليالن على دوام حيوية حقيقية يف اجل�سم الوطني‬ ‫اجل�سم العراقي املت�صدع‪ ،‬واملتناثر‬ ‫امل�رصي‪ .‬وهذان �أعوزا‬ ‫َ‬ ‫ال و�أجهزة‬ ‫«جمتمعات» �أو جماعات �أهلية كثرية وكت ً‬ ‫متباعدة ومن غري رابط‪.‬‬ ‫ وترجحت �سوريا الرازحة حتت وط�أة اجلهاز اال�سدي‬ ‫بني احل��د العراقي (ال�صدامي) واحل��د («النا�رصي»)‬ ‫امل�رصي‪ .‬فلم يعجز ال�سوريون‪ ،‬بعد نحو ن�صف القرن من‬ ‫�أنظمة بعثية مت�صلة على هذا القدر او ذاك‪ ،‬عن املبادرة‬ ‫اىل حركة احتجاج بطيئة دابة ومتعاظمة االت�ساع على‬ ‫ت�سلط «ع�شرية اال�سد» �أو «عائلته»‪ ،‬على قول معار�ضني‬ ‫را�سخني‪ ،‬وعلى �سو�س جهازه االمني والع�سكري عموم‬ ‫�أهايل �سوريا بالإذالل والتهمي�ش وامل�صادرة‪ .‬ومن وجه‬ ‫َ‬ ‫التما�سك‬ ‫متا�سكت �أجهزة القوة واالدارة واالعالم‬ ‫�آخر‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫الذي يقي حلق َة احلكم العليا التف�سخ �أو ُيق ِْدر هذه االجهزة‬ ‫على القيام بالتحكيم يف اخلالف احلاد وامل�ستع�صي‪ .‬ولكن‬ ‫املبادرة اىل حركة االحتجاج‪ ،‬من تظاهرة درعا يف االيام‬ ‫االوىل اىل اعت�صام �ساحة ال�ساعة بحم�ص يف ختام‬ ‫الف�صل االول فاالحت�شاد يف �ساحة العا�صي بحماة‬ ‫بعدها ب�أيام‪ ،‬مل تكن جاحمة‪ ،‬وانتقلت مرتددة ومتح�سبة‬ ‫من اجلنوب احلوراين (غري الدرزي) الزراعي والبدوي‬ ‫«املزدهر» وم�صدر بع�ض «رجاالت» النظام ال�صوريني‬ ‫والديبلوما�سيني االداريني (مثل فاروق ال�رشع وفي�صل‬ ‫املقداد)‪ ،‬اىل الو�سط ال�سوري والعمود الفقري املديني‬ ‫والتاريخي‪ ،‬على قول مرمي عباب�سة و�سرييل رو�سيل‬ ‫وحممد الدبيات‪ ،‬يف حمور دم�شق – حم�ص – حماة‬ ‫– حلب ومقارنة باملحافظات ال�ساحلية وحمافظات‬


‫اجلزيرة («�سوريا حا�رض ًا»‪� ،‬أكت �سود‪ ،‬باري�س‪.)2005 ،‬‬ ‫فتعرثت على �أبواب القطبني‪ ،‬الدم�شقي واحللبي وف َ​َ�شت‬ ‫يف الو�سط قبل �أن تتغلغل يف �أرياف ال�شمال وال�رشق‪،‬‬ ‫وتعود منها اىل املدينتني الكبريتني املتحفظتني واملحميتني‪،‬‬ ‫عنوة‪ .‬فو�سع النظام‪ ،‬وكتلته الع�شائرية االهلية و�أجهزته‬ ‫وحلفاءه و�صنائعه‪ ،‬التما�سك قبل التمرت�س والتخندق يف‬ ‫احلاميات وال ٌثكن والنواحي‪ ،‬و�شن الهجمات ال�رش�سة‬ ‫على مواقع حركة املعار�ضة‪ ،‬وح�صارها وتقطيع �أو�صالها‪.‬‬ ‫ ولكن العنف الهائل مل يفلح يف خنق احلركة‪ .‬وهي‬ ‫ا�ستقوت بع�ض ال�شيء بت�ساقط �أجزاء من «الدولة» اال�سدية‬ ‫اجلي�ش النظامي‬ ‫وان�شقاقها عن اجلهاز املت�سلط‪ .‬فهجر‬ ‫َ‬ ‫نحو ثلثه‪ .‬وفرقه الباقية (اىل �آذار ‪ )2013‬والفاعلية‬ ‫هي امل�سلحة ت�سليح ًا اخت�صا�صي ًا ومركزي ًا «�سوفياتي ًا»‬ ‫(الطريان احلربي وال�صواريخ يف املرتبة االوىل)‪ ،‬على‬ ‫�شاكلة فرق القوات العراقية ال�صدامية‪ ،‬ويلحمها بر�أ�س‬ ‫احلكم ويلحم بني �أفرادها ع�صب �أهلي ومذهبي م�شرتك‪.‬‬ ‫وتقو�ض �شطر‬ ‫انق�سام املجتمع والدولة و�أجهزتها‬ ‫وحال‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫من الدولة عليها والتحاقه باالن�شقاق االخلي‪ ،‬بني اقطاب‬ ‫املجتمع الدويل واملجتمع االقليمي وبني االنخراط املبا�رش‬ ‫والعلني يف احلروب ال�سورية وفرقها الكثرية البقاع‬ ‫َّ‬ ‫وجمعه‬ ‫املرك ُب ال�سوري‪،‬‬ ‫والألوان وامل�صالح‪« .‬فحمى»‬ ‫ُ‬ ‫ا�ستيالء جهاز ع�شائري وبريوقراطي‬ ‫(على غري ا�ستيفاء)‬ ‫َ‬ ‫البلد من‬ ‫�دده‪،‬‬ ‫�‬ ‫وجت‬ ‫منهك‬ ‫جمتمع‬ ‫يف‬ ‫وبقاء رمق حياة‬ ‫َ‬ ‫التدخل الع�سكري الدويل وابتاله بحروب �أهلية طويلة‬ ‫االمد تت�صدرها حرب جهاز الدولة امل�ستويل على رعاياه‬ ‫ومعار�ضاته وجماعاته االهلية‪.‬‬ ‫‪ –2‬حنا بطاطو‪ ...‬ع�صبية الدولة‬ ‫ويف مر�آة هذا الو�صف اال�سا�سي (على معنى تناوله اال�س�س‬ ‫واالركان )‪ ،‬والنمذجة املوجزة التي تبعته‪ ،‬بع�ض ظالل‬ ‫خ�ص به حنا بطاطو (‪)2000 - 1926‬‬ ‫العمل الذي ّ‬ ‫وو َ�س َمه بعنوان‬ ‫الفل�سطيني املقد�سي االمريكي‪ ،‬العراق‪َ ،‬‬ ‫�أ�ضيق من مو�ضوعاته هو «العراق‪/‬الطبقات االجتماعية‬ ‫واحلركات الثورية من العهد العثماين اىل قيام اجلمهورية»‬ ‫(‪ ،1978‬برن�ستون يونيون بر�س‪ ،‬الرتجمة العربية‬ ‫‪ ،1990‬بريوت‪ ،1990 ،‬م�ؤ�س�سة االبحاث العربية‪،‬‬ ‫ال‪.‬‬ ‫توالها عفيف الرزاز) يف ‪ 3‬كتب �أو �أجزاء و‪ 74‬ف�ص ً‬ ‫وع َمل بطاطو‪ ،‬على زعمي‪ ،‬قد ي�صح و�سمه بت�ضمني و�سم‬ ‫َ‬ ‫كتاب �سابق وذائع ال�صيت هو «تاريخ �أفول االمرباطورية‬ ‫غيبون الربيطاين‪ ،‬على ان‬ ‫الرومانية و�سقوطها» الدوار ّ‬

‫ ‪ 192‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫جوهري ومنف�صل �أو مرتبة‪ ،‬بل تتوىل �إجراء العقد واحلل‬ ‫بوا�سطة قواعد انتاج وتوزيع وترتيب تقرها‪ ،‬وتتعهد‬ ‫�إنفاذها‪ ،‬وت�شمل «الرعايا» كلهم وتعرفهم‪ ،‬وتوحدهم على‬ ‫ا�شتمالهم‪ .‬فهم رعايا الدولة الوطنية االقليمية لي�س من‬ ‫طريق جماعاتهم وبالدهم‪ ،‬من قبل و(رمبا) من بعد‪ ،‬و�إمنا من‬ ‫طريق دخولهم حتت قواعد الإجراء العامة واملفرت�ضة‪.‬‬ ‫ وما �صنعه �صاحب «العراق‪/‬الطبقات االجتماعية‪»...‬‬ ‫وينبه‪ ،‬ووراء رواي��ة تقليدية دقيقة‬ ‫من غري ان يعلن‬ ‫ّ‬ ‫ر�صعها بِ�سري وترجمات وبيانات �إح�صائية �ضعيفة‬ ‫ّ‬ ‫الداللة ‪ -‬هو تعقّب انقالب عالقة الدولة باجلماعات‬ ‫االهلية و«جمتمعها»‪ ،‬من غري افرتا�ض ف�صل جوهري‬ ‫يرتتب على التعريفات واحل��دود فوق ما يرتتب على‬

‫يحل «دولة العراق» حمل «االمرباطورية الرومانية»‪ .‬فما‬ ‫ال‬ ‫يتناوله العمل التاريخي واالجتماعي الكبري يتقيد فع ً‬ ‫ب�أجزاء العنوان‪ ،‬ولكنه يفي�ض عنه ويعالج ما بني الطبقات‬ ‫االجتماعية من منازعات ومهادنات وائتالفات‪ ،‬وما يعتمل‬ ‫داخلها من �شقوق وخالفات‪ ،‬وي�صيبها هي و�أحوالها‬ ‫وعالقاتها حني تبادر‪� ،‬أو تنخرط بع�ض جماعاتها وكتلها‬ ‫يف «ال�سيا�سة»‪ ،‬وتتوىل �إدارة الدولة �أو بع�ض مرافقها �أو‬ ‫تعار�ض هذه االدارة وتنكرها‪...‬‬ ‫ ولعل عقدة املعاجلة التاريخية واالجتماعية يف عمل‬ ‫حنا بطاطو هي ميزان عالقات القوى االجتماعية‪ ،‬وهذه‬ ‫فوق الطبقات �أثر ًا و�أو�سع منها و�أكرث تعقيد ًا‪ ،‬بجهاز احلكم‬ ‫و�أبنيته‪ ،‬وميزان عالقات اجلهاز واالبنية بالقوى االجتماعية‬ ‫واجلماعات‪ .‬وميزان العالقات ينبغي حمله على املنازعة‪.‬‬ ‫وغاية املنازعة يف هذا ال�سياق ال�سيا�سي االجتماعي‬ ‫(املجتمعي) هي اال�ستيالء و«الغلبة يف التكوين» (ابن‬ ‫خلدون)‪ ،‬وعليه‪ ،‬وحيازة الع�صبية الغالبة الدولة حيازة‬ ‫جامعة ومانعة‪ .‬وامل�صطلح اخللدوين ال يت�سرت وال يراد‬ ‫به الت�سرت على املدلوالت اجلديدة والطارئة على الفاظ‬ ‫امل�صطلح‪ :‬فالع�صبية لي�ست اليوم حلمة القبيل الن�سبية‬ ‫والدموية‪ ،‬ال احلقيقية وال املتوهمة والدائرية (فتتما�سك‬ ‫الع�صبية يف احلال االخرية باال�ستيالء والرتبع يف ر�أ�س‬ ‫الدولة‪ ،‬وهي �سبق لها ان تولت تعليل اال�ستيالء وابتدائه)‪.‬‬ ‫وبني معنى الع�صبية «االول» وبني معناها اليوم وقائع تاريخية‬ ‫واجتماعية �ضخمة لي�س �أقلها تبلور ال�سوق الر�أ�سمالية‬ ‫وت�صدر الدول – االمم العالقات الدولية‬ ‫و�سلعها وتداولها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ال�سيا�سية والع�سكرية والتجارية‪ ،‬وانقالب ميزان القوى بني‬ ‫الدول – االمم وبني ال�سلطنات و�أقوامها وبالدها‪ ،‬و�شيوع‬ ‫املدن واملوا�صالت ال�رسيعة‪ ،‬وظهور املنزع اىل و�ضع العبارة‬ ‫على مو�ضوعات و�ضبط تلك على هذه‪...‬‬ ‫ وتف�ضي هذه الوقائع اىل ت�صديع رابطة الن�سب‬ ‫والتوهم يف القبيل‪ ،‬و�إىل �صوغها �صيغة خمتلفة‪ .‬فتغ ِّلب‬ ‫دائرة ال�شعب (‪ -‬االمة)‪ ،‬على معنى عرقي ودموي وتاريخي‬ ‫اقليمي وتراثي مع ًا‪ ،‬على دوائر ال َن َ�سب واجلوار القريبة‬ ‫واملعروفة‪ ،‬وتلحق الدولة الوطنية واالقليمية (احلديثة) بهذا‬ ‫ؤ�س على حلول دائرة‬ ‫املعنى‪ ،‬وحتمل‬ ‫َ‬ ‫اال�ستيالء بالقوة والرت� َ‬ ‫ال�شعب (‪ -‬االمة) يف القوة امل�ستولية ور�أ�سها وجهازها‪.‬‬ ‫والدولة يف «ع�صبية الدولة» املحدثة مل تبق القلعة‬ ‫وديوان الع�سكر وديوان اجلباية وم�شيخات مذاهب الفقه‬ ‫والطرق ال�صوفية وطوائف اال�صناف‪ .‬فهي �أجهزة �سيطرة‬ ‫واقتطاع وجمع‪ ،‬من غري �شك‪ ،‬ولكنها ال ت�صدر عن فوق‬

‫فحيث حلت «الدولة» يف احلاكــــــــــــــــــــــــــــــــم‬ ‫ّط هذا على مرافــــــــــــــــــــق‬ ‫وجهازه القريب‪ ،‬وت�سل َ‬ ‫خا�صه» من �أبنيــــــــــــــــــــة‬ ‫ال�سلطة‪ ،‬و�أخرج «ديوان ِّ‬ ‫الدولة املفرت�ضة م�شرتكة ومتما�سكــــــــــــــــــــــة‪،‬‬ ‫ال‪ ،‬وعار�ض هذه االبنية بـ«ديوانــــــــــــــــه»‪،‬‬ ‫ولو �شك ً‬ ‫�أطف�أ «القائد» حماوالت االن�شقـــــــــــــــــــــــــــــاق‬ ‫املعار�ضة‪ ،‬و�سحقها يف املهــــــــــــــــــــــــــــــــــــد‬ ‫الوظائف الفعلية و�أدائ��ه��ا‪ .‬وقادته جتريبية عنيدة ال‬ ‫ت�شرتط معيار ًا �إال االحاطة التاريخية (الزمنية الطولية)‬ ‫واالجتماعية (املتزامنة العر�ضية)‪ ،‬اىل ت�شخي�ص فعل‬ ‫اجلماعات االهلية يف قلب �أبنية الدولة وثقلها ومالحظة‬ ‫تبعية ه��ذه االبنية وعملها للجماعات وع�صبياتها‬ ‫وم�صاحلها‪ ،‬و�ضعف ا�ستقاللها عنها‪ .‬فهو ال يتناول‬ ‫مثال دولة معياري ًا‪ ،‬وطني ًا جامع ًا‪ ،‬و«عقالني ًا» قانوني ًا‬ ‫ِّ‬ ‫وحتكمها‬ ‫وحدته يف �سيطرتها وهيمنتها‬ ‫وبريوقراطي ًا‪َّ ،‬‬ ‫«طبقة» اجتماعية وا�ستطراد ًا �سيا�سية م�ؤتلفة من م�صالح‬ ‫كثرية ال تكف عن التنازع ومتتنع من التناحر يف �آن‪.‬‬ ‫ وعلى ال�شاكلة نف�سها‪ ،‬ال يفرت�ض حنا بطاطو جمتمع ًا‬ ‫يجمع بني جماعاته وطبقاته و�أفراده انف�صا ُلها (وانف�صالهم)‬ ‫ال �إن مل يكن‬ ‫من الدولة‪ ،‬وقيامها (وقيامهم) ب�إزائها �إلب ًا مت�ص ً‬ ‫واحد ًا‪ .‬فـ«دولة» بطاطو العراقية‪� ،‬إذا جازت العبارة‪� ،‬أهلية‬ ‫وع�صبية من �أدناها اىل اق�صاها‪ .‬ولكن وظائفها الطارئة‬ ‫واملركبة‪ ،‬الناجمة عن �إن�شائها عن يد �سلطة احتالل‬ ‫ن�صبتها يف منزلة‬ ‫بريطانية عاملية �أو دولية ور�أ�سمالية‪ّ ،‬‬ ‫ملزمة بتدبري �أو �إدارة �أجهزة و�أقاليم وموارد وجماعات‬ ‫على معايري تداول وتوزيع وترتيب يفوق تعقيدها مبا ال‬

‫ ‪ 193‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬


‫يقا�س معايري ال�سلطة والغلبة االهليتني‪ ،‬ويبني منها او‬ ‫يختلف عنها مباينة قوية‪ .‬واملجتمع الذي �ضوى مثال‬ ‫الدولة النا�شئ‪ ،‬لئن �أقامت جماعاته ظاهر ًا على �صيغ‬ ‫عالقات و�أع��راف �سائرة‪ ،‬اقحمتها «الدولة» اجلديدة‪،‬‬ ‫ومبانيها و�سيا�ساتها‪ ،‬يف حاجات وم�شاغل و�سبل ال عهد‬ ‫لها بها من قبل‪ .‬و�أقحمت عليها جماعات جديدة ولدت من‬ ‫مرافق االدارة والعمل والتوزيع واالقامة واالمن‪ ...‬اجلديدة‪.‬‬ ‫وو�صلت «الدولة» واملجتمع باخلارج‪ ،‬ودوائره وروافده‬ ‫املتعددة‪ ،‬االقت�صادية ال�سوقية ال�سلعية واملالية والع�سكرية‬ ‫والقانونية والثقافية‪� ،‬صالت غري م�سبوقة نوع ًا وكم ًا‪.‬‬ ‫وعاد هذا على موقع «الدولة» وال�سلطة واالدارة بوظائف‬ ‫و�ضوابط مل يعرفها مثال االمر (و«االمري») ال�سابق‪.‬‬ ‫تو�سع �صاحب الكتاب يف تق�صي احوال‬ ‫و�أت��اح‬ ‫ ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وعوامل‬ ‫العراق‪ ،‬جماعات وطبقات‪ ،‬و�أبنية �سلطة و�إدارة‪،‬‬ ‫�رصف املعاجلة اىل امل�س�ألة ال�سيا�سية‪،‬‬ ‫ت�أثري ومو�صالت ت�أثر‪،‬‬ ‫َ‬ ‫والدولة يف القلب منها‪ ،‬وحملها من اطوار االجتماع‬ ‫(ال�سيا�سي) العراقي وبع�ض جواره العربي‪ .‬وعلى حني‬ ‫تبدو اليوم املعاجلات االقت�صادية التي تناولت البنية‬ ‫الر�أ�سمالية الداخلية واال�ستثمارات االجنبية يف هذا البلد‬ ‫�أو ذاك (ويف هذا القطاع او ذاك)‪ ،‬ظرفية الداللة‪ ،‬وعلى‬ ‫هذا فائتة وعفَّى عليها تقادم الوقت وانقالب االحوال‪،‬‬ ‫حتتفظ معاجلة بطاطو االجتماع ال�سيا�سي العراقي على‬ ‫ثنية ت�شابك الدولة واملجتمع طوال فوق قرن من الزمن ‪-‬‬ ‫من نهاية العهد اململوكي يف ‪ 1831‬اىل طالئع اق�صاء‬ ‫�صدام ح�سني احمد ح�سن البكر يف الن�صف الثاين من‬ ‫ُع�رش ‪ - 1970‬بدالالت راهنة قوية‪ .‬فهو‪ ،‬على رغم‬ ‫و�صل به التغريات‬ ‫اتخاذه �أمنوذج «منو التخلف» خيط ًا َ‬ ‫العميقة الطارئة على املدن النهرية واالر���ض ومكانة‬ ‫امل�شيخة والزراعات ومنزلة امللك و�أجهزة الدولة وموارد‬ ‫االقت�صاد النفطي ب�أحوال «اال�سواق العاملية (ج ‪ 1‬من‬ ‫الرتجمة العربية‪ ،‬الف�صل ال�سابع‪� ،‬ص ‪ )138‬و«ال�سوق‬ ‫العاملية ال�صناعية» (ج‪ ،3‬ف ‪� ،24‬ص ‪ ،)427‬مل يت�أخر‬ ‫مرة واحدة عن �إدراج حلقات اخليط يف دوائر منازعات‬ ‫القوى ال�سيا�سية واالجتماعية على الدولة ومقاليدها‬ ‫ومرافقها‪ .‬فاقتفى من غري انقطاع �أدوار ار�ساء �سلطة‬ ‫مرك ٍز �ضيق متحكمة يف مرافق االجتماعي ال�سيا�سي‬ ‫العراقي كلها‪ ،‬من طريق اق�صاء م�صادر النفوذ واملنازعة‬ ‫و«ا�ستئ�صالها» م�صادر النفوذ واملنازعة وخنقها‪ ،‬ومن‬ ‫طريق ال�سطو على م��وارد اجلماعات وقيامها بنف�سها‬ ‫وروافد هذا القيام املادية واملعنوية‪.‬‬

‫ ‪ 194‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫الطاقم الع�صبي اىل تقوية عوامل ت�سلطه وتواطئه الداخلية‪.‬‬ ‫في�صادر اجلماعات واالبنية االجتماعية على امل��وارد‬ ‫والعوائد الريعية يف معظمها‪ ،‬املتعاظمة �أو املتناق�صة بح�سب‬ ‫ويحرر «الدولة» من �ضوابط الرتكيب والتحكيم‬ ‫الظروف‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫والعمومية‪ .‬ويت�شارك �أهل القوة وال�سلطان و�أهل ال�ضعف‬ ‫منازع تكاد‬ ‫املحكومون‪ ،‬واملنقادون على هذا القدر �أو ذاك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫تكون واحدة �أو متجان�سة اىل الرتجح ونهبه‪ .‬ولعل احد‬ ‫م�صادر قوة معاجلة بطاطو دينامي َة االزمات العراقية (من غري‬ ‫امل�صطلح)‪ ،‬وذروتها ال�صدامية‪ ،‬هو تنبهه اىل الت�شارك هذا‪.‬‬ ‫فبينما تخبطت «الطغمة» احلاكمة يف تنازعها بني موجبات‬ ‫اال�ستيالء الع�صبي املنفرد واال�ستئ�صايل وبني تو�سع‬ ‫�سريورات الو�صل االجتماعي و�أطرها‪ ،‬تطاول التخبط‬ ‫اىل اجلماعات املق�صية واملنبوذة واملعتالة‪ .‬ف�سعت بدورها‬ ‫يف طلب القوة ال�سيا�سية واالجتماعية من طريق اللحمة‬ ‫الع�صبية‪ ،‬واالنكفاء عليها‪ ،‬ومقارعة الكتلة امل�ستولية بها‪.‬‬ ‫ ومل يكن ا�ستئناف املثال الع�صبي االهلي‪ ،‬املذهبي‬ ‫والع�شائري واملحلي‪ ،‬متاح ًا‪ .‬فبني �أحوال الع�صبيات اليوم‬ ‫وبني �أحوالها املن�رصمة العوامل التي تقدم �إح�صاء‬ ‫بع�ضها‪« :‬ال��دول��ة» الوطنية واالقليمية ذات الر�أ�س‬ ‫االهلي املت�سلط وقواعد االج��راء العامة‪ ،‬وال�سوق‬ ‫والتداول والتوزيع واالجور والريوع الر�أ�سمالية‪ ،‬واملدن‬ ‫وال�ضواحي و�أخالطها‪ ،‬واجلوار العربي واالقليمي ودوله‪،‬‬ ‫واملدى الدويل املت�شابك واملنق�سم‪ .‬وترتب على الت�شارك‬ ‫تر�سخ دينامية االزمات الراديكالية‪ ،‬وجموح �أقطابها‬ ‫وكتلها اىل الكبكبة الع�صبية‪ ،‬والتحاجز والبيات املزمنني‪.‬‬ ‫ولكن تعاظم م��وارد «ال��دول��ة»‪ ،‬وريوعها‪ ،‬يف االثناء‪،‬‬ ‫و�ضعف موارد املجتمع‪� ،‬أتاحا ب�سط طاقم النظام �سيطرته‬ ‫ال�شكلية والفوقية على العراقيني‪ ،‬من غري متكني الطاقم‬ ‫من النفاذ اىل �سريورات االلتحام والتكتل �أو �سريورات‬ ‫التفرق واالنق�سام‪ .‬و«ف�ضيلة» هذا التناول هي ت�شديدها‬ ‫على دينامية االزمات ودوام هذه ونازعها اىل الراديكالية‪،‬‬ ‫وت�شكيكها الثابت يف جواز ا�ستقرار االنظمة الع�صبية‬ ‫و�شمول الرتجح جهات النزاع كلها وكتله‪ .‬وعليه‪،‬‬ ‫فم�سري نظام �صدام ح�سني اىل احلملة والغزو الع�سكريني‬ ‫واالجنبيني يف �أعقاب �إخفاق قلبه من داخل (من غري‬ ‫رابطة �سببية ومبا�رشة بني جملتي الوقائع) و�إف�ضاء حتطيم‬ ‫النظام بالقوة اىل ت�صدع الدولة واملجتمع العراقيني وف�شو‬ ‫م�صورة‬ ‫االرهاب واالقتتال فيهما‪ -‬هذه احللقات لي�ست‬ ‫َّ‬ ‫يف «منطق» النظام امل�ضطرب واملرتجح وامل ��أزوم‪ .‬غري‬ ‫�أن والدة احلملة والغزو الع�سكريني واالجنبيني من نظام‬

‫فو�سع املركز ال�ضيق �أو ذرى الطاقم احلاكم‪ ،‬وهو‬ ‫ ‬ ‫انتهى بعثيا ً �صدامي ًا وابتد أ� عراقوي ًا وع�سكري ًا «�شيوعي ًا»‪،‬‬ ‫ب�سط �سيطرته �أو قب�ضته املبا�رشة واال�سمية على «�أجهزة‬ ‫الدولة» وهيئاتها و�إداراتها‪ ،‬من فوق‪ ،‬و�أعمل خنق ًا وح�صار ًا‬ ‫وقمع ًا يف مرافق االجتماع ال�سيا�سي‪ ،‬من حتت ويف االبنية‬ ‫الو�سطية‪ ،‬من غري �أن «ينجز» ا�ستئ�صال مقومات اجلماعات‬ ‫االهلية وعواملها‪ .‬واحلق ان هذه «املهمة» لي�ست يف متناول‬ ‫قوة �سيا�سية‪ ،‬بالغ ًا ما بلغته من التجريد االجتماعي واالهلي‬ ‫الب�ست‬ ‫�أو من العمومية ال�سيا�سية‪ .‬فكيف بهذه القوة وهي‬ ‫ْ‬ ‫املاد َة االجتماعية واالهلية العراقية مالب�سة حميمة وقريبة‬ ‫�أف�ضت بها اىل �إقحام معايري هذه املادة و�أحكام عملها يف‬ ‫ثنايا «الدولة»‪ ،‬و�إىل احلاق «الدولة» ب�سيطرة كتلة �أهلية‬ ‫متقلبة بددت التجريد ال�سيا�سي و�إرها�صاته ال�ضعيفة‪،‬‬ ‫وجعلت املجتمع ركام ًا متنافر ًا من اجلماعات املفككة‬ ‫والروابط املتجددة واملتك�رسة‪ .‬ومثل التجريد االجتماعي‬ ‫واالهلي الذي ين�شده �ضمن ًا منطق ال�سيطرة ال�سيا�سية هذا‪،‬‬ ‫على مثال «نا�رصي» �أو �أ�سدي �أو �صدامي‪ ،‬هو ثمرة انقالب‬ ‫وحتول تاريخيني واجتماعيني مديدين‪ ،‬ويحتاج انعقاد الثمرة‬ ‫اىل قرون‪ .‬وال ميلك ا�صحاب هذا املنطق �أدوات ت�صوره �أو‬ ‫لرتجح عميق ولد من نازع اىل �سلطة‬ ‫تفكره‪ .‬وهم نهب‬ ‫ّ‬ ‫لوحت بها ن�ش�أ ُة‬ ‫�شاملة او كليانية (توتاليتارية)‬ ‫ْ‬ ‫وعدت �أو ّ‬ ‫الدولة احلديثة عن احتكار الوايل القوة امل�رشوعة �أو عن‬ ‫عقد اجتماعي تنبثق منه �إرادة جامعة وعمومية‪ ،‬و(ولد) من‬ ‫«ق�صور» املادة االجتماعية والتاريخية املتقطعة واملجز�أة‪،‬‬ ‫عن تلبية احتياجات النازع اىل ال�سلطة ال�شاملة �أو �إىل‬ ‫ال�سلطة املركزية الرا�سخة‪ .‬وغذى الرتجح‪ ،‬ونهبه‪ ،‬تدافع‬ ‫النازع هذا �أو ازدواج��ه‪ :‬فالتجريد االجتماعي واالهلي‬ ‫الذي ال غنى عنه لل�سيطرة ال�سيا�سية «الكاملة» يهدم �أركان‬ ‫الكتلة االهلية واحلزبية امل�ستولية‪ ،‬ويفتت حلمتها الع�صبية‪،‬‬ ‫من وجه �أول‪ ...‬وال ت�ستقيم �سيطرة �سيا�سية «كاملة» كتلك‬ ‫التي ال منا�ص للكتلة الع�صبية امل�ستولية من طلبها لئن‬ ‫ا�ستحالت مزاولتها (املمتنعة) يف بيئة �أ�ضداد «قبلية»‪ ،‬من‬ ‫وجه �آخر‪� ،‬إال بهذا التجريد‪.‬‬ ‫ ويزج ترجح انظمة «الدولة» الع�صبية بها يف �سريورة‬ ‫�أزمات وانعطافات تقود الطاقم احلاكم‪ ،‬وحلقة ذراه ال�ضيقة‪،‬‬ ‫اىل ت�شديد قب�ضته على اجهزة �سلطانه املبا�رشة‪ ،‬وحماية هذه‬ ‫ال‪ .‬فال ينفك جتدد عمل النظام الع�صبي ودولته‬ ‫االجهزة �أو ً‬ ‫االهلية‪ ،‬وتوالده وتنا�سله‪ ،‬من دينامية «راديكالية»‪ ،‬على ما‬ ‫قيل يف بع�ض ف�صول تاريخ االنظمة الكليانية (الفا�شية‬ ‫و«ال�ستالينية» والنازية)‪ .‬وتقود الدينامية «الراديكالية»‬

‫ ‪ 195‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫النظام‪� ،‬أو مثاالت عمله و�إيظافه‪� ،‬سريورة معقولة ومفهومة‬ ‫وحمت�سبة يف �ضوء عمل حنا بطاطو‪ ،‬نهج ًا ورواية‪.‬‬ ‫‪ -3‬اال�ستيالء على الريوع‬ ‫وقد ي�سع قارئ كتاب بطاطو يف القرن ون�صف القرن تقريب ًا‬ ‫من تاريخ العراق االجتماعي – ال�سيا�سي‪ ،‬وتاريخ تكوين‬ ‫ل حادثة‬ ‫�أبنية دولته وجماعاته وجمتمعه ونزاعاتها‪ ،‬و�ص َ‬ ‫الغزو واالحتالل مبقدماتها و�سياقاتها‪ ،‬وعللها املحتملة‪.‬‬ ‫وعمل الو�صل هذا يتناول احلادثة على وجه الواقعة‬ ‫«االجتماعية ال�سيا�سية» (ن�سبة اىل االجتماع ال�سيا�سي‪،‬‬ ‫ال وجميع ًا)‪ ،‬وقد ي�ضاف‪« :‬الكلية»‪ ،‬على مثال درا�سة‬ ‫ك ً‬ ‫«العطاء» بقلم اال َّنا�س مار�سيل مو�س يف الثلث االول من‬ ‫القرن الع�رشين‪ .‬والكلية هي �صفة ترتيب دوائر الفعل‬ ‫واملعنى و�أدائهما يف جمتمع من املجتمعات �أو جماعة من‬ ‫اجلماعات‪ ،‬ولي�ست �صفة «روح» اجلماعة او القوم وحلولها‬ ‫يف افراد هذا �أو تلك‪ .‬فاالنقالب الع�سكري املزدوج الذي‬ ‫الرحمن عارف‪� ،‬شقيق ال�ضابط النا�رصي‬ ‫ال عبد‬ ‫�أطاح �أو ً‬ ‫ّ‬ ‫«التاريخي» عبد ال�سالم‪ ،‬يف ‪ 17‬متوز ‪ ،1968‬وثنى‬ ‫ف�أق�صى يف ‪ 30‬منه معظم ابطال االنقالب االول‪� ،‬صنعه‬ ‫القادة البعثيون بح�سب «تقنية» االنقالب على الدولة التي‬ ‫ا�ستخل�صها كروتزيو ماالبارتيه (من) ا�ستيال ِء البال�شفة‪،‬‬ ‫وتروت�سكي‪ ،‬على ق�رص ال�شتاء ببطر�سبورغ غداة ‪8‬‬ ‫�أ�شهر على ثورة �شباط ‪ ،1917‬و«النا�س نيام» على‬ ‫وجمع درو�س‬ ‫قول تروت�سكي (يف «حياتي» �أو «�سريتي»)‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫�أوكتوبر (‪ )1917‬اىل درو�س زحف مو�سوليني على‬ ‫روما يف (‪ ،)1920‬وعار�ض الدر�سني ب�إخفاق ادولف‬ ‫هتلر يف اقتفاء �أثر مو�سوليني مبيونيخ يف (‪.)1923‬‬ ‫وتقنية االنقالب على الدولة‪ ،‬ثم اال�ستيالء على قممها‪ ،‬قد‬ ‫تكني عن ميتافيزيقا وقد ال تكني‪ ،‬ولكنها ا�ستعارة قوية‬ ‫ل�سيا�سة ونهج �سيا�سي‪ .‬واالنقالب املزدوج‪ ،‬على النحو‬ ‫الذي �أعد عليه وال�ضباط الذين زجوا فيه واجراءات‬ ‫اال�سبوعني اللذين �أعقبا الف�صل االول واختيار توقيتيه‪،‬‬ ‫�صدر من غري لب�س عن تقومي دور املباردة اىل انتهاز‬ ‫الفر�صة ال�سانحة (بني � ٍ‬ ‫أم�س مبكر ويوم تال مت�أخر) و�إيالئه‬ ‫املحل االول من ال�سيا�سة و«ا�ستيالئها»‪.‬‬ ‫«�صنف» الع�سكر‬ ‫فالوقت الذي اختاره قادة احلزب ال�ستيالئهم الر�أ�سي‬ ‫يف�صله عن خالفة عبد الرحمن عارف يف ‪ 16‬ني�سان‬ ‫‪� 1966‬أخاه الرئي�س‪� ،‬سنتان و‪� 3‬أ�شهر‪ .‬واعتور اخلالف‬


‫عيب ظاهر هو �ضعف �إجماع املقرتعني (ووزراء‬ ‫عوار �أو ٌ‬ ‫جمل�س الوزراء ‪ +‬اع�ضاء جمل�س الدفاع الوطني = ‪28‬‬ ‫مقرتع ًا ح�رضوا اجلل�سة)‪ .‬ففي دورة اقرتاع �أويل حظي‬ ‫�صوتا‪،‬‬ ‫رئي�س جمل�س الوزراء عبد الرحمن البزاز بـ‪14‬‬ ‫ً‬ ‫وعبد الرحمن عارف بـ‪� 13‬صوت ًا‪ ،‬وعبد العزيز العقيلي‬ ‫وزير الدفاع ب�صوت واحد‪ .‬وبلغ عد ُد ال�ضباط املقرتعني‬ ‫لعارف‪ ،‬وهو واحد منهم‪� 11 ،‬ضابط ًا من ‪ ،12‬وعد ُد‬ ‫الوزراء املقرتعني لرئي�س جمل�سهم ‪ 14‬وزير ًا من ‪.16‬‬ ‫وملا بدا �أن جمع �أحد املر�شحني ثلثي اال�صوات‪ ،‬على‬ ‫ما ن�ص د�ستور ايار ‪ 1964‬املوقت‪ ،‬متعذر‪ ،‬و�أن كتلة‬ ‫الع�سكريني مرتا�صة‪ ،‬تخلى الوزير االول واملدين املعتدل‬ ‫عن املناف�سة‪ ،‬وترك امليدان للع�سكري ول�سلكه املتنفذ‪.‬‬ ‫ويعلل حنا بطاطو (ج ‪ ،3‬ف‪� ،21‬ص ‪)382 – 377‬‬ ‫تخلي البزاز بتما�سك الع�سكريني يف وجه املدنيني‪ ،‬ومتتع‬ ‫الع�سكريني بقوة ترجيح حا�سمة م�صدرها االول مكانة‬ ‫الوحدات والقطعات التي ت�أمتر ب�أمرهم‪ ،‬وذلك يف �ضوء‬ ‫ا�ضطالعها ب�أدوار حا�سمة يف االنقالبات ال�سابقة التي‬ ‫افلحت والتي اخفقت‪ ،‬على حد �سواء‪ .‬ف�آمر حامية بغداد‪،‬‬ ‫وهي �أدت الدور االول يف ‪ 14‬متوز ‪( 1958‬يف قياجة‬ ‫عبد ال�سالم عارف)‪ ،‬هو الزعيم �سعيد �صليبي‪ ،‬من ع�صبية‬ ‫�آل عارف اجلُميلية الرمادية‪ .‬واملوقع الع�سكري االقرب اىل‬ ‫موقع الرئا�سة‪ ،‬وهو احلر�س اجلمهوري «حمور نظام (�آل)‬ ‫عارف»‪ ،‬كان يهيمن عليه ال�صليبي نف�سه‪ .‬وعليه‪ ،‬فالزعيم‬ ‫ال�صليبي هو �صاحب الكلمة الف�صل‪ ،‬والقادر على اعالن‬ ‫حال الطوارئ و«ال�ساعة ال�صفر»‪.‬‬ ‫ وعلى اجلهة املدنية (الوزارية) برز عبد الرحمن البزاز‪.‬‬ ‫ودان البزاز برئا�سة احلكومة طوال ‪� 3‬أ�شهر ونحو ن�صف‬ ‫ال�شهر (من ‪ 1966/4/18‬اىل ‪ 8/6‬من ال�سنة)‪ ،‬اىل‬ ‫«�صداقة» عبد ال�سالم عارف‪ .‬والبزاز �سيا�سي م�ستقل‬ ‫ب��رع يف حتريك «امل�شاعر ال�شعبية» على اجلماعات‬ ‫الع�سكرية املتنفذة وا�ضطلع بدور قوي يف جتميد احلرب‬ ‫على االكراد يف حزيران ‪ ،1966‬وزاد الفائدة امل�رصفية‬ ‫على ا�صول قدامى املالكني العقاريني امل�صادرة من ن�صف‬ ‫نقطة (‪ )0.50‬يف املئة اىل ‪ .3‬واقرتح تقومي قيمة مياه‬ ‫فروع االنهر فوق القيمة اجلارية‪ .‬ف�أثار حفيظة الناقمني‬ ‫على «االقطاعيني» والر�أ�سمالييني‪ .‬وعزم على حترير‬ ‫اال�سترياد من القيود االدارية واملالية التي كبلته و�رصفت‬ ‫اىل حمظيني معروفني ح�ص�صه املتاحة‪ ،‬و�أغلت اال�سعار‪.‬‬ ‫وحمل اجلي�ش و�ضباطه التبعة عن التهام ح�صة كبرية‬ ‫َّ‬ ‫من املوارد واالموال العامة‪ .‬فرد ال�ضباط‪ ،‬ويف طليعتهم‬

‫ ‪ 196‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫�صدوع بكلمتها ال�سيا�سية وثقلها ولو الن�سبي‪ .‬واقرتاح‬ ‫ٌ‬ ‫جتميد احلرب االهلية «القومية» على كرد العراق وج ٌه‬ ‫�آخر من وجوه مزاولة ال�سيا�سة من باب التحكيم وال�ضم‬ ‫وال�رشكة (وما تفرت�ضه هذه من منازعة ومداولة)‪� .‬أما رعاية‬ ‫احلرب االهلية «القومية» مع ُ‬ ‫الكرد فهي‪ ،‬بني اعتبارات‬ ‫�أخرى‪ ،‬عامل ا�سا�س يف �إن�شاء ريع اجلماعة الع�سكرية‬ ‫وتثبيته وتثمريه‪ .‬فاحلرب هذه يقت�ضي اال�ضطالع بها‪،‬‬ ‫واالنت�صار طبع ًا يف نهاية مطاف يرجى ق�صري ًا‪ ،‬تعزيز‬ ‫م��وارد اجلي�ش الوطني‪ ،‬ومتكني القيادة من الت�رصف‬ ‫باملوارد‪ ،‬ور�سم اخلطط املنا�سبة والتحكيم يف توقيتها‪،‬‬

‫النا�رصيون‪ ،‬ومقدمهم عارف عبد الرزاق‪ ،‬بتهديد البزاز‪،‬‬ ‫وعلق عارف عبد الرزاق املتنفذ‪ ،‬اجراءات رئي�س الوزراء‪،‬‬ ‫وهو كان ال يزال على ر�أ�س احلكومة‪ ،‬من غري ان ينت�رص‬ ‫الرئي�س عارف له �أو ان يعمد اىل التحكيم يف اخلالف‪.‬‬ ‫و�أقر البزاز �ضمن ًا �أو �رصاحة بانت�صار الفريق الع�سكري‪،‬‬ ‫برجحان كفة «�سيا�سته» ال�صنفية والطائفية‪ ،‬و�شاغلها‬ ‫االول لئن مل يكن االوحد رعاية م�صالح �صنف الع�سكر‬ ‫وطائفتهم‪ ،‬على املعنى املهني والفئوي‪ .‬فعلى خالف‬ ‫ما يذهب اليه بطاطو (�ص ‪ ، 378‬برتجمة معدلة) من‬ ‫«(انحطاط) ال�سيا�سة‪ ،‬على م�ستوى قممها النافذة‪ ،‬اىل‬ ‫�رصاع ك�سور خال من املادة ومن امل�ضامني»‪� ،‬ساق البزا َز‪،‬‬ ‫برنامج «و�سطي مييني» على‬ ‫ورمبا بع�ض ا�صحابه املدنيني‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ما كان و�صف يف نظام �سيا�سي م�ستقر بع�ض ال�شيء‪.‬‬ ‫وح�سب‪ ،‬على ما ذهب من يحملون ال�سيا�سة على منازعة‬ ‫م�صالح تتفاوت عموميتها وت�ستبعد �أو تعلق االحتكام‬ ‫اىل القوة امل�سلحة‪ ،‬ان من يف و�سعهم اجلمع على �أعر�ض‬ ‫امل�صالح‪ ،‬و�أقواها ا�ستجابة حلاجات اجلمهور ورابطة‬ ‫الدولة الوطنية‪ ،‬هم �أوفر حظ ًا يف احلكم وتدبريه‪.‬‬ ‫ وا�ضطرار البزاز اىل اال�ستقالة جراء هزمية برناجمه‬ ‫امام دعاة التحكيم الع�سكري املنفرد يف تنازع امل�صالح‪،‬‬ ‫قرينة على �إنكار اجلماعة الع�سكرية‪� ،‬أو �أهل القوة على‬ ‫املعنى اال�ضيق‪ ،‬وجود ق�ضية �سيا�سية او م�س�ألة �سيا�سية‬ ‫ناجمة عن ا�ستبعاد «طبقات» اجتماعية‪ ،‬عري�ضة �أو‬ ‫�ضيقة‪ ،‬من موازين التقرير واعتباراته‪ .‬فزيادة الفائدة‬ ‫على امل�صادرات وتقومي مياه االنهر الفرعية ب�أعلى من‬ ‫القيمة املتدنية‪� ،‬إجراءان يرميان اىل �إ�رشاك �أ�صحاب هذه‬ ‫وتلك يف كتلة م�صالح عري�ضة وجديدة‪ .‬فال تفرت�ض‬ ‫هذه الكتلة ا�ستئ�صال بع�ض روافدها �أو �رشكائها الذين‬ ‫متتعوا‪ ،‬يف ما�ض ٍ قريب‪ ،‬بامتيازات �ساحقة‪ ،‬حق ًا بات ًا‪ .‬وال‬ ‫�شك يف تعويل رئي�س ال��وزراء املق�صي على مقاي�ضة‬ ‫�أ�صحاب امل�صادرات واملياه لقاء �إ�رشاكهم يف كتلة‬ ‫«ال�سيا�سة االقت�صادية اجلديدة» (لينني) و«ت�سديد ثمن»‬ ‫هذا الإ�رشاك‪ ،‬ب�إ�سهامهم يف اال�ستثمار املحلي والوطني‬ ‫املجزي ويف حتريك اال�ستهالك‪.‬‬ ‫ وي�ؤول حترير اال�سترياد من احتكار ا�صحاب احلظوة‬ ‫والو�ساطة‪ ،‬بالنيابة عن مراكز النفوذ والريع التي حازتها‬ ‫قمم اجلهاز الع�سكري باال�ستيالء‪ ،‬اىل تخفي�ض اال�سعار‪،‬‬ ‫وتنويع ال�سلع‪ ،‬و�إىل تن�شيط اال�ستهالك املنزيل ورمبا‬ ‫ال�صناعة الوطنية ال�صغرية او اخلفيفة على االمد املتو�سط‪.‬‬ ‫ويرتتب على االق��رار «للطبقات القدمية» بهذا الدور‬

‫ولعل عقدة املعاجلة التاريخية واالجتماعيــــــــــــــــــة‬ ‫يف عمل حنا بطاطو هي ميزان عالقــــــــــــــــــــــــات‬ ‫القوى االجتماعية‪ ،‬وهذه فوق الطبقـــــــــــــــــــــــات‬ ‫�أثراً و�أو�سع منها و�أكرث تعقيداً‪ ،‬بجهـــــــــــــــــــــــاز‬ ‫احلكم و�أبنيته‪ ،‬وميزان عالقات اجلهاز واالبنيــــــــــــة‬ ‫بالقوى االجتماعية واجلماعـــــــــــــــــــــــــــــــــات‬ ‫و�إ�ضعاف اخل�صم (العدو) �سيا�سي ًا وع�سكري ًا‪ ،‬الخ‪ .‬ولذا‪ ،‬مل‬ ‫تنفك القيادتان‪ ،‬الع�سكرية املحرتفة وال�سلكية وال�سيا�سية‬ ‫احلزبية والع�صبية‪ ،‬من التنازع على هذه احلرب وثمراتها‬ ‫ال�سيا�سية واالهلية وعوائدها الريعية و�سعي كال الطرفني‬ ‫يف االنفراد بالقيادة والت�رصف‪.‬‬ ‫ وعلى هذا‪� ،‬آذن انت�صار الكتلة الع�سكرية يف املناف�سة‬ ‫على قيادة الدولة الوطنية واالقليمية بح�رص هذه املناف�سة‬ ‫يف قمم هذه الكتلة‪ ،‬وق�رصها على النزول عن امتيازات‬ ‫ريعية متعاظمة‪ .‬وينجم عن االمتيازات اقت�صاد هزيل‪،‬‬ ‫وتعويل على املورد النفطي الوحيد‪ .‬وتعاظم االمتيازات‬ ‫الريعية والتعويل على انتاج املادة الوحيدة يت�ضافران على‬ ‫اخت�صار دائرة القوى االجتماعية وال�سيا�سية املتنازعة اىل‬ ‫ق�رشة رقيقة من الكتل الع�سكرية التي تنوب عن جماعات‬ ‫ا�ستطرادا وا�صطالح ًا ولي�س‬ ‫�أهلية وع�صبية‪ ،‬و�سيا�سية‬ ‫ً‬ ‫ال‪ .‬ف�إق�صاء الطبقات االجتماعية وال�سيا�سة «القدمية»‬ ‫�أ�ص ً‬ ‫و�سد منافذ التحكيم وامل�ساومة عليها وعلى‬ ‫من املنازعة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫م�صاحلها �سد ًا حمكم ًا وال مراجعة فيه‪ ،‬يعزالن القوى‬ ‫االجتماعية اخلا�صة واملدنية‪ ،‬و«جمتمعها» تالي ًا‪ ،‬عن‬ ‫املنازعة ال�سيا�سية‪ .‬ويق�ضيان حكم ًا باقت�صار هذه املنازعة‬ ‫على «الع�صابات» الع�سكرية واحلزبية‪ ،‬ومناف�ستها على‬ ‫الكتل واملواقع‪ ،‬و�إعدادها العدة لالنقالب التايل‪ .‬فيعيد‬ ‫االنقالبيون النظر يف مراتب النفوذ‪ ،‬وح�ص�ص الكتل‬

‫ ‪ 197‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫وعوائدها‪ ،‬ويف ا�ستئناف احلرب على ال�شمال الكردي‪،‬‬ ‫وا�ستئ�صال �ش�أفه الطبقات «القدمية» و«ال�شيوعيني»‪.‬‬ ‫ و�آل من�صب رئي�س ال��وزراء‪ ،‬بعد جتميد البزاز‪ ،‬اىل‬ ‫امري اللواء الركن املتقاعد ناجي طالب‪ .‬وف�ضيلة الرجل‬ ‫املرجحة هي خروجه من �ساحة املناف�سة على منا�صب‬ ‫القيادات الع�سكرية الفاعلة‪ ،‬وما�ضيه الفخري الذي ن�صبه‪،‬‬ ‫يف ‪ ،1958-1956‬نائب ًا ثاني ًا لرئي�س جلنة ال�ضباط‬ ‫االحرار العليا‪ ،‬وتردده‪� ،‬أخري ًا‪ ،‬بني موقع القومي (العروبي)‬ ‫امل�ستقل وبني موقع النا�رصي «املعتدل»‪ .‬واملوقعان‪� ،‬إذا‬ ‫�صدقت التثنية‪� ،‬آيالن اىل ا�ضمحالل «ع��اريف»‪ .‬وهذه‬ ‫قرائن على انتفاء قوة الفعل واحل�سم من الرجل‪ ،‬وخلو‬ ‫وفا�ضه منها‪ .‬فهو ي�صلح للداللة على تعليق ميزان الكتل‬ ‫املت�صارعة وجتميده على حاله هذه يف انتظار ا�ستئناف‬ ‫ال�رصاع‪ .‬ودام التعليق ظاهر ًا ثالثة �أ�شهر‪ ،‬طلبت الكتب‬ ‫املتنازعة بعدها املن�صب كل واحدة لنف�سها‪ .‬فا�ضطر عبد‬ ‫الرحمن عارف اىل توليه‪ ،‬عالمة على دوران النزاع على‬ ‫نف�سه‪ ،‬وعوده على بدئه من غري منفذ اىل دائرة �أو�سع يف‬ ‫احللقة ال�ضيقة التي تت�آكل القوى املتنازعة واملتناف�سة‬ ‫فيها‪ .‬و�آي��ة ال���دوران هي توزيع عبد الرحمن عارف‬ ‫نيابة رئا�سة الوزارة على خم�سة نواب هم طاهر يحيى‬ ‫(البعثي ال�سابق) وعبد الغني الراوي (اال�سالمي النازع)‬ ‫وا�سماعيل م�صطفى (العراقوي والعقيلي الوالء) وف�ؤاد‬ ‫عارف (الكردي)‪ .‬وكانت حكومة ناجي طالب حاولت‬ ‫اال�ستقواء بزيادة مواردها من �رشكة النفط‪ ،‬ومن عائد‬ ‫ر�سوم نقل النفط اىل موانئ املتو�سط من طريق االرا�ضي‬ ‫ال�سورية‪ .‬فامتنعت ال�رشكة من تلبية حاجة احلكومة‬ ‫احليوية من الباب الريعي الوحيد الذي يف متناول الطاقم‬ ‫احلاكم‪« ،‬القومي» و«التقدمي»‪ ،‬طرقُه بعد �إغالقه االبواب‬ ‫االقت�صادية وال�سيا�سية االجتماعية االخرى‪ ،‬وهي �أبواب‬ ‫حاول عبد الرحمن البزاز �إبقاءها م�رشعة على موارد غري‬ ‫املوارد الريعية و�أخفق‪.‬‬ ‫الريع الوطني والع�صبيات الرثة‬ ‫وعندما امتحنت حرب حزيران (‪ )1967‬اجلزء العراقي‬ ‫من «العامل» العربي وعلى االخ�ص م�رشقه‪� ،‬أ ْلفت دولته‬ ‫مت�صدعة وعاجزة عن خو�ض حرب �إقليمية معقدة‪.‬‬ ‫فو�سع �سالح اجلو اال�رسائيلي �رضب اللواء الثامن امل�ؤلل‬ ‫العراقي وهو يف طريقه اىل اجلبهة االردنية‪ .‬وظهرت‬ ‫علن ًا انق�سامات الع�سكريني ال�شخ�صية والع�صبوية‬ ‫وال�سيا�سية‪ ،‬و�آثارها يف �ضعف االح�تراف والتن�سيق‬


‫والتخطيط‪ .‬وظهر الع�سكريون يف �صورة جماعة على‬ ‫حدة‪ ،‬تتمتع بامتيازات باهظة يف ختام مطاف ا�ستيالء‬ ‫على مرفق القوة امل�رشوعة يف الدولة‪ .‬و«حرر» اال�ستيالء‬ ‫اجل�سم الع�سكري من �أبنية دول��ة متهافتة تركتها‬ ‫َ‬ ‫االنقالبات و�رصاعات الكتل احلزبية املحمومة عليها‪،‬‬ ‫خاوية معلقة وبعيدة من مطال قوى �سيا�سية واجتماعية‬ ‫فاعلة‪ .‬فهذه �أ�صابها‪ ،‬بدورها‪ ،‬الهزال‪ .‬وحولها �أجهز َة‬ ‫اقتتال على مفاتيح املواقع وال��وح��دات الع�سكرية‬ ‫وقياداتها‪ .‬فريوي �صالح عمر العلي‪ ،‬وهو يومئذ ع�ضو‬ ‫قيادة قطرية «ثانوي» (على ما يقر) �أن البعثيني عقدوا‪،‬‬ ‫يف ‪ ،1967‬م�ؤمتر ًا دعت تو�صيته البارزة اىل ان�شاء‬ ‫«جبهة قومية �شعبية وا�سعة ترد على الهزمية»‪ .‬فرتجم‬ ‫ال‬ ‫احلزبيون الدعوة «اجلبهوية القومية (و) ال�شعبية» «عم ً‬ ‫حزبي ًَا تنظيمي ًا على اجلانبني املدين والع�سكري»‪ .‬وفحوى‬ ‫االنتقال من اجلبهة العري�ضة اىل التنظيم احلزبي اخلا�ص‪،‬‬ ‫�أو من اخلط ال�سيا�سي اىل «التفعيل» التنظيمي‪ ،‬هو‪،‬‬ ‫على قول العلي نف�سه‪« ،‬ن�سج (عالقة) حلف ب�ضباط‬ ‫يحتلون مواقع ح�سا�سة»‪ ،‬وعلى وجه التخ�صي�ص‬ ‫«داخل بغداد»‪ :‬يف �إحدى فرق احلامية �أو يف �إحدى‬ ‫فرق احلر�س اجلمهوري‪ ...‬فتتداول الفرقة (اخللية) يف‬ ‫اجتماعاتها ا�سم من يقرتح تر�شيحه ومراقبته و�ضمه‬ ‫اىل اجل�سم احلزبي‪ ،‬وتعبئته االنقالبية املتحفزة‪ ،‬وموقعه‬ ‫�أو �أ�صله وف�صله ومن ي�صلح وا�سطة اليه من ع�رشائه‬

‫املزدوج‪ .‬وزجوا يف الف�صل االول من االنقالب «حلفاء‬ ‫امل�صادفة»‪ ،‬على ما �سموهم‪ .‬وهم ال�ضباط الثالثة الذين‬ ‫تقدمت رواية �صالح عمر العلي فيهم‪ :‬عبد الرزاق النايف‬ ‫وابراهيم عبد الرحمن الدواد و�سعدون غيدان‪ ،‬على ر�أ�س‬ ‫اال�ستخبارات الع�سكرية واحلر�س اجلمهوري وكتيبة دبابات‬ ‫احلر�س‪ .‬وه�ؤالء اقت�سموا تنفيذ االنقالب ومهماته‪ ،‬وهي‬ ‫االطباق على عبد الرحمن عارف يف الق�رص اجلمهوري‪،‬‬ ‫واحتالل مبنى االذاعة‪ ،‬ودخول وزارة الدفاع‪ .‬و�إذا قنع‬ ‫البعثيون بـ‪ 8‬وزراء حزبيني من ‪ 26‬وزير ًا يف الوزارة‬ ‫االوىل‪ ،‬حر�صوا على �أن ي�شغل حمازبون رئا�سة االركان‬ ‫و�سالح الطريان (حردان التكريتي) ووزارة الداخلية (�صالح‬ ‫مهدي عما�ش) وقيادة احلر�س اجلمهوري العتيد (�سعدون‬ ‫غيدان‪ ،‬وهو «تقريب ًا» حمازب‪ ،‬على قول بطاطو)‪ .‬وملا ظهرت‬ ‫بوادر ال�شقاق بني كتلة البعث و«حلفائها» الظرفيني‪ ،‬وعمد‬ ‫«احللفاء» اىل دمج �صحيفتي «الثورة» و«اجلمهورية»‪ ،‬وهذه‬ ‫كانت بيد البعثيني فطردوهم منها ومنعوهم من االذاعة‪� ،‬أمر‬ ‫رئي�س االركان اجلديد ب�إجراء تنقيالت وا�سعة يف منا�صب‬ ‫ال�ضباط‪ ،‬يف غياب الداود وزير الدفاع اجلديد باالردن ‪3‬‬ ‫�أيام كاملة عن وزارته‪ ،‬و«جدد» ا�ستمالة �سعدون غيدان‬ ‫حماد �شهاب‬ ‫وحر�سه ودباباته‪ ،‬ور�أَّ�س �ضابط ًا تكريتي ًا هو ّ‬ ‫على حامية بغداد وعلى اللواء املدرع العا�رش‪ .‬ويف ‪30‬‬ ‫متوز‪ ،‬دخل اللواء العا�رش بغداد‪ ،‬واحتل مواقعها املتحكمة‬ ‫يف مرافقها ووظائفها و�أمنها‪ .‬فانفرد البعث بقمم الدولة‬ ‫ن�صب �أحمد ح�سن البكر رئي�س ًا‬ ‫وبالرئا�سات‪ ،‬وهو كان َّ‬ ‫للجمهورية خلف ًا لعبد الرحمن ع��ارف‪ ،‬و�أخ��رج منفِّ ذ‬ ‫اال�ستيالء وواجهته‪ ،‬عبد الرزاق النايف‪ ،‬ووزراءه و�أولهم‬ ‫وع َزلهم‪.‬‬ ‫الداود من منا�صبهم َ‬

‫م�ستقلني‪ .‬وا�ستبعد البعثي ال�سابق البعثيني املتحفزين‪،‬‬ ‫و«التقدميني» (املقربني �سابق ًا من ال�شيوعيني وعبد الكرمي‬ ‫قا�سم) والعراقويني واليمينيني اخل�براء املتحدرين من‬ ‫عائالت «قدمية»‪ .‬وال ي�ستقيم جتديد يحافظ على بع�ض‬ ‫اللحمة ال�سيا�سية بني �أفرقاء يرتب�ص بع�ضهم ببع�ض‪ ،‬وينتظر‬ ‫فر�صة االجهاز امل�ؤاتية عليه‪� ،‬إذا مل يلب بع�ض احلاجة اىل‬ ‫موارد ريعية و«وطنية» طرية ت�سد بع�ض نفقات ال�سيطرة‬ ‫املتعاظمة‪ .‬وعرث خريالدين ح�سيب‪ ،‬اخلبري املايل والنا�رصي‬ ‫«امل�ستقل»‪ ،‬على الإك�سري املن�شود‪ .‬ف�أ�شار بتحويل حقوق‬ ‫ا�ستثمار حقول الرميلة ال�شمالية النفطية اىل �رشكة النفط‬ ‫الوطنية‪ ،‬وحرمان ال�رشكة االنغلو – �أمريكية (العراقية)‬ ‫منها‪ ،‬وبدعوة �رشكة «�إيراب» الفرن�سية اىل التنقيب عن‬ ‫النفط يف م�ساحة تبلغ ‪ 10800‬كلم مربع‪ .‬وتعهدت‬ ‫مو�سكو �إزجاء خرباتها يف احلفر والت�سويق‪ ،‬على طريف‬ ‫عملية اال�ستخراج من دون قلبها‪ .‬وعادت بي�ضة القبان يف‬ ‫العملية اىل فرن�سا الديغولية وديبلوما�سيتها «العربية»‪ .‬ومن‬ ‫توىل العمل املزدوج‪ :‬تعظيم املوارد الوطنية وا�ستعادتها من‬ ‫االيدي االجنبية املت�سلطة واالنانية‪ ،‬وجزاء ال�سيا�سات‬ ‫الغربية امل�ستقلة عن الغلبة االمريكية �رشاكة يف امتياز‬ ‫ا�ستخراج الرثوة – هو «حكومة العفرتة»‪ ،‬على ما �سميت‬ ‫وزارة طاهر يحيى‪ .‬وهي جمعت وزراء ع�سكريني ومدنيني‬ ‫يدينون مبكانتهم ونفوذهم‪ ،‬وبعوائدهما‪ ،‬اىل حتدرهم‬ ‫الع�صبي من بلدات او مدن عانة والفلوجة وتكريت وراوة‬

‫�آذن انت�صار الكتلة الع�سكرية يف املناف�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫على قيادة الدولة الوطنية واالقليمية بح�رصه هذه املناف�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫يف قمم هذه الكتلة‪ ،‬وق�رصها على النزول عن امتيازات ريعية متعاظمة‪ .‬وينجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم‬ ‫عن االمتيازات اقت�صاد هزيل‪ ،‬وتعويل على املورد النفطي الوحيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد‬ ‫وخلطائه و�أ�صهرته‪ .‬وهذا النهج قاد اىل �سعدون غيدان‪،‬‬ ‫�أحد �ضباط الق�رص الرئا�سي‪ ،‬واىل ابراهيم الداود (خال‬ ‫غيدان)‪ ،‬الوا�سطة‪ ،‬اىل عبد الرزاق النايف‪ ،‬معاون مدير‬ ‫اال�ستخبارات و«وج��ه» انقالب ‪ 17‬متوز ‪1967‬‬ ‫ورئي�س وزرائه طوال ‪ 13‬يوم ًا قبل اغتياله يف منفاه‬ ‫اللندين (عن «احلياة»‪ ،‬امل�صدر املذكور)‪.‬‬ ‫ وتفادي ًا الحتدام املنازعات واخلالفات‪ ،‬غداة حزيران‬ ‫(‪ )1967‬واخل�سارة التي نزلت بالفرقة العراقية‪ ،‬عهد‬ ‫عارف اىل «�أق��وى» نوابه اخلم�سة‪ ،‬طاهر يحيى‪ ،‬برئا�سة‬ ‫حكومة جديدة �أعلن ال�ضابط املكلف الئحتها يف ‪10‬‬ ‫متوز‪ .‬فق�رص التوزير على «�سيا�سيني» ونا�رصيني وقوميني‬

‫ ‪ 198‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫الطغمة واال�ستتباع‬ ‫ويف �أثناء الـ‪ 13‬يوم ًا الفا�صلة بني ‪ 17‬متوز وبني ‪ 30‬منه‪،‬‬ ‫مل يغادر طيف املورد النفطي امل�رسح امل�ضطرب واملتدافع‬ ‫فلوح �ضباط الق�رص‪ ،‬على ما �سمي النايف والداود‬ ‫باالدوار‪َّ .‬‬ ‫و�أن�صارهما‪ ،‬بعزمهم على �إلغاء عقد «�إيراب» وحقل الرميلة‬ ‫ال�شمالية وحق التنقيب فيه اىل ال�رشكة العراقية «�آي بي‬ ‫وبنيتهم منح �رشكة «بان امريكان » امتياز التنقيب‬ ‫�سي »‪ّ ،‬‬ ‫احل�رصي عن الكربيت‪ .‬وينق�ض االجراءان‪� ،‬إن �صدقا‪ ،‬ركن ًا‬ ‫من ركني اال�ستيالء الع�صبي على الدولة العراقية هو تعظيم‬ ‫موارد الدولة الريعية‪ ،‬واالنفراد بها وبتوزيعها يف �سبيل‬ ‫تقوية «ع�صبية الدولة» (على معنى �أن�صار حلقة ا�صحاب‬ ‫االمر ال�ضيقة و�أجهزتهم التي يوظفون فيها مواليهم)‪ .‬فمن‬

‫وهيت (على التوايل‪ :‬ع ف ت‪ .)...‬والتلقيب هذا َك َنى عن‬ ‫عموم الف�ساد وانغما�س كبار ال�ضباط والنافذين فيه‪ ،‬وعن‬ ‫عموم اخلروج على القانون و�ضلوع �أهل القوة و«الدولة»‪.‬‬ ‫فالتب�ست خدمة �أ�صحاب امل�صالح الريعية وال�صنفية‬ ‫امل�ستولية على الدولة واملجتمع بالقوة والق�رس باجناز بنود‬ ‫�سيا�سية و�سمت بـ«الوطنية» و«ال�شعبية» و«التحرر»‪،‬‬ ‫وحملت على «التقدم االجتماعي» وتوزيع عوائد «الرثوة‬ ‫الوطنية» على الطبقات الكادحة والطبقات الو�سطى‪.‬‬ ‫ومل يفت هذا‪ ،‬بديهة‪ ،‬البعثيني املرتب�صني باحلكم‪،‬‬ ‫ ‬ ‫وهم �رشكاء يف �صنع االلتبا�س و«تعميقه»‪� ،‬إذا جاز القول‪.‬‬ ‫وكانوا �رصفوا ال�سنتني واال�شهر الثالثة اىل �إعداد انقالبهم‬

‫ ‪ 199‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫طريق هذه املوارد مولت الطغمة احلاكمة البعثية ال�صدامية‬ ‫الحق ًا ا�ستتباع املرافق والدوائر االجتماعية واالهلية بعد‬ ‫ت�صديعها‪ ،‬و�رشاء والئها عنوة‪ ،‬وح�رشها يف «جيو�ش»‬ ‫املوظفني اجلرارة والعقيمة‪ .‬ويخالف االجراءان االجماع‬ ‫الوطني العروبي والتقدمي الذي �أر�ست عليه ال�سيا�سة‬ ‫النا�رصية‪ ،‬منذ ت�أميمات ‪ 1962-1961‬و�إن�شاء االحتاد‬ ‫اال�شرتاكي يف خريف ‪ 1962‬وتوثيق احللف باالحتاد‬ ‫ال�سوفياتي‪ ،‬نهجها ومواثيقها‪ .‬وهما يعرقالن‪ ،‬على ا�ضعف‬ ‫تقدير‪� ،‬سريورة �إن�شاء «الدولة»‪� ،‬أي الكتلة امل�ستولية‬ ‫بالقوة الع�سكرية النظامية واحلزبية‪« ،‬ع�صبي َتها» العري�ضة‬ ‫و�سندها االجتماعي ويقطعان املوارد املادية ال�رضورية‬ ‫عن ال�سريورة والقائمني بها‪ .‬فتخ�رس احللقة امل�ستولية‬ ‫ركنها املدين واالهلي واحلزبي وو�سيلتها اىل ال�سيطرة‬ ‫�شعارها (قمي�صها‪،‬‬ ‫على �آلتها الع�سكرية‪ ،‬اىل خ�سارتها‬ ‫َ‬ ‫لغة) االيديولوجي الذي يدرجها يف باب حركات التحرر‬ ‫الوطني واالجتماعي من اال�ستعمار واالمربيالية «الغربيني»‬ ‫و«الر�أ�سماليني»‪ .‬و�شعارها هذا يطل بها‪ ،‬وبخليطها املجتمع‬ ‫وم�رسحني َو�س ْقط ع�شائر حملية‪،‬‬ ‫من طالب وبطالني‬ ‫َّ‬ ‫وه�ؤالء لي�سوا «كتلة» اجتماعية وبالأحرى «تاريخية»‪،‬‬ ‫على �آفاق التاريخ العاملي العري�ضة واال�سهام يف �صنعها‬ ‫بح�سب «وعد» مل يقت�رص على جهاز الدعوة والتحري�ض‬ ‫والت�ضليل ال�سوفياتي �أو املاوي ال�صيني‪ .‬وهو (ال�شعار)‬ ‫ال مت�صدر ًا وجامع ًا �رشائط القيادة الوطنية‬ ‫ين�صبها فاع ً‬ ‫بل القومية االن�سانية امل�رشوعة وامل�ستحقة من غري منازع‪،‬‬ ‫على ما افرت�ض البعث (العفلقي) يف �أثر حركات اال�صالح‬ ‫والتنظيم والنهو�ض يف «العامل» العربي احلديث‪ .‬وي�سوغ‪،‬‬ ‫اخ�ير ًا‪� ،‬سياقة احل��وادث املتعاقبة منذ «الثورة» العامية‬ ‫«ال�شعبية» على النظام امللكي القدمي‪ ،‬وبا�شواته و�أعيانه‬ ‫وكبار مالكيه و�رساكيله‪ ،‬ويقر ع�صبية البعث امل�ستولية على‬ ‫ختامها هذه ال�سياقة و�إبالغها غايتها وحمجتها‪.‬‬ ‫احلزب «التكريتي» العامي‬ ‫وكان احلزب امل�ستويل �أعد العدة للمهمات واالدوار التي‬ ‫ن�صب نف�سه لها ولتوليها‪ ،‬يف �ضوء �إخفاقه يف تثبيت‬ ‫ا�ستيالئه يف �شباط ‪ 1963‬اىل ت�رشين االول – ت�رشين‬ ‫ال يف الكتاب‬ ‫الثاين من العام نف�سه (رواية االنقالب مف�ص ً‬ ‫‪ ،3‬ف‪� ،18‬ص‪ ،307-289‬ثم وقائع «النظام البعثي‬ ‫االول»‪ ،‬الكتاب‪ ،3‬ف‪� ،20‬ص‪ ،)339-317‬ويف �ضوء‬ ‫نزاع ‪ 1959‬بني القوميني وال�شيوعيني (‪– 179 ،3،9‬‬ ‫‪ .)200‬وال يرتدد حنا بطاطو يف ربط حلقات انفجار‬


‫تظاهرة للحزب‬ ‫ال�شيوعي العراقي‪،‬‬ ‫بغداد‪� 1 ،‬أيار‪1959‬‬


‫العنف الواحدة باحللقة ال�سابقة فيكتب ان عنف ‪،1963‬‬ ‫حني ا�ستيالء البعث على احلكم واالنقالب على عبد‬ ‫الكرمي قا�سم‪« ،‬م�صدره» عنف ‪ 1959‬الذي مر التنبيه‬ ‫اليه للتو‪ .‬وهذا م�صدره مزدوج‪ :‬عنف ال�سجون امللكية يف‬ ‫‪( 1953‬يف حق ال�شيوعيني على اخل�صو�ص) و«العنف‬ ‫القبلي والعرقي» (�ص ‪ 307-306‬من الكتاب نف�سه)‪،‬‬ ‫من غري تخ�صي�ص او توقيت‪ ،‬ت�رضب جذوره يف زمن‬ ‫قدمي ومتجدد هو زمن العالقات القبلية والعرقية‪.‬‬ ‫ ويقارن بطاطو (ف�صل «النظام البعثي الثاين‪ ،‬الـ‪ 23‬من‬ ‫الكتاب ‪� ،3‬ص‪ )425-389‬بني �صور َتي حزب البعث او‬ ‫�صيغتيه يف ‪ 1963‬ثم يف ‪ ،1968‬فيكتب ان ال�صيغة‬ ‫الثانية هي غري ال�صيغة االوىل‪ .‬وي�صف ال�صيغة الثانية‬ ‫بالنخبوية‪ ،‬كناية عن هرم طبق َتي النا�شطني ومرتبتيهم‪ :‬فتعد‬ ‫مرتبة ال�صفوة (العليا) ‪� 10‬آالف ع�ضو عامل‪َ ،‬ينتخبون‬ ‫ي�سمون‪،‬‬ ‫وينتخبون‪ ،‬اىل م�ستويات القيادة املتدرجة �أو‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫بينما تعد مرتبة االن�صار وامل�ؤيدين‪� ،‬أو القواعد امل�ؤمترة‬ ‫ب�أمر م�ستويات القيادة‪� 500 ،‬ألف ن�صري منظم‪ .‬والرقم‬ ‫االول‪ ،‬عدد الأع�ضاء العاملني‪ ،‬يبلغ نحو ‪� 9-8‬أ�ضعاف عدد‬ ‫نظريه قبل ‪� 4‬سنوات ون�صف ال�سنة‪ ،‬ويبلغ عدد االن�صار‬ ‫املنظمني نحو ‪� 25‬ضعف ًا عدد االن�صار يف �شتاء ‪.1963‬‬ ‫و�أهل االرياف هم بيئة هذا التو�سع ومادته‪ .‬والهرم العري�ض‬ ‫ِ‬ ‫واملجتمع الر�أ�س ن�صب طاقم ًا قيادي ًا معظمه‬ ‫القاعدة‬ ‫ال�ساحق من ال�سنة (العرب)‪ .‬فه�ؤالء كانو ‪ 84.9‬يف املئة‬ ‫من «قمة القيادة» يف ‪ ،1970‬بعد �سنتني من االنقالب‪.‬‬ ‫و�ضوت ح�صة ال�شيعة العراقيني اىل ‪ 5،7‬يف املئة‪ ،‬وت�أخرت‬ ‫عن ح�صة الكرد (‪ 7.5‬يف املئة)‪ .‬وكانت احل�ص�ص‪ ،‬على‬ ‫التوايل‪ ،‬يف عقد ‪ ،38.5 :1963-1952‬و‪،53.8‬‬ ‫و‪ 7.7‬يف املئة‪ .‬وتعليل االمر اجلزئي هو ت�أييد معظم ال�شيعة‬ ‫علي �صالح ال�سعدي‪�« ،‬صاحب» انقالب �شباط ‪،1963‬‬ ‫غداة خ�سارته واحلزب ال�سلطة يف ت�رشين الثاين ‪.1963‬‬ ‫وهو طرد من حزب البعث يف ‪ ،1964‬و�أن� أش� حزبه‪ .‬وخرج‬ ‫�أن�صاره وم�ؤيدوه من ال�شيعة (�أو طردوا) معه‪ .‬والبعثيون ال�سنة‬ ‫الذين انقلبوا كرثة‪ ،‬وغلبوا عدد ًا على �صفوف املحازبني‪،‬‬ ‫هم من بلدات حمافظات الرمادي و�شمال بغداد وقبائلها‪،‬‬ ‫�ش�أنهم �ش�أن �أفراد ال�رشطة الذين ن�سبهم �ضباط ملكيون من‬ ‫ع�صبيتهم‪ ،‬مثل عبد اجلبار الراوي وبهجت الدليمي‪ .‬وكان‬ ‫هذا �سبب ًا يف مواط�أة ال�رشطة ببغداد «مواطنيهم» البعثيني‬ ‫ال�سنة‪ ،‬ولني معاملتهم �إياهم‪ ،‬على خالف ق�سوتهم على‬ ‫البعثيني ال�شيعة من غري ملتهم �أو �أهلهم‪.‬‬ ‫ فتعاظم نفوذ ال�ضباط ال�سنة التكارتة (�أهل تكريت)‬

‫ ‪ 202‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ال�سن الذي بني الوالد وابنه‪َ ،‬ع َلمان على النحو الذي‬ ‫جرى عليه انبعاث احلزب‪ ،‬وعلى م�رسح االنبعاث ومادته‪.‬‬ ‫ فالريفية‪ ،‬والهام�شية االجتماعية‪ ،‬والتح�صيل‬ ‫املتوا�ضع‪ ،‬والع�صامية البدوية‪ ،‬واالرتقاء من طريق الدولة‬ ‫والإدارة واجلهاز احلزبي‪ ،‬ور�سوخ عالقة رابطة الوالء‬ ‫(على حديها‪ :‬االمر والطاعة) على مثال عائلي ع�صبي‬ ‫(التحامي) وث�أري (ا�ستتباعي)‪ -‬هذه ال�سمات واالحوال‬ ‫تبلورت تدريج ًا‪ ،‬وعلى مقادير و�أنحاء متفاوتة‪ ،‬يف ثنايا‬ ‫النزاعات ال�سيا�سية واالجتماعية املتعاقبة‪ ،‬االهلية‬ ‫املحلية والوطنية واالقليمية‪ .‬وكل باب من هذه االبواب‪،‬‬ ‫غري احل�رصية‪ ،‬برز �سم ًة من �سمات اجلماعات العراقية‬ ‫الفاعلة يف «اختبار» تاريخي واجتماعي‪ ،‬اقت�ص حنا‬ ‫بطاطو ف�صوله املت�شابكة ق�ص ًا وافي ًا‪ .‬فالريفية والهام�شية‬ ‫االجتماعية اللتان غلبتا على البعث الناه�ض من انقا�ض‬ ‫والع َلمني التكريتني‬ ‫‪ ،1963‬وطبعتا احلزبيني وقيادتهم َ‬ ‫على القيادة‪ ،‬هما من اعرا�ض �أطوار �صيغت مع الكيان‬ ‫الوطني العراقي‪ ،‬وملكه الها�شمي واحلجازي املتملك من‬ ‫خارج (ولكن لي�س على خالف داخل متما�سك)‪ ،‬وجهازه‬ ‫احلكومي والإداري‪ ،‬ونفطه الطارئ واملتعاظم يف متويل‬ ‫خزينة الدولة‪ ،‬و َتقو�ض ِح َرفه وانهيار �صناعة املراكب‬ ‫والنقل الداخلي‪ ،‬وم�صادرة م�شايخه القبليني و�أغواته‬ ‫عنوة امل�شاعات القبلية ال�شا�سعة وجمعهم زراعة كفاية‬ ‫ورعي اىل زراعة مت�صلة بال�سوق و�أ�سعارها وتقلباتها‪،‬‬ ‫وت�صدع جماعاته القبلية وط��وائ��ف حرفه وطرقه‬ ‫ّ‬ ‫ال�صوفية‪ ،‬وهجرة فالحيه العري�ضة اىل املدن وانخراطهم‬ ‫يف اجلي�ش وال�رشطة واالدارات ويف مرافق عمل ن�ش�أت‬ ‫تلبية حلاجات �أهل املدن اجلدد‪ ،‬وتو�سع الهجرة وتداعي‬ ‫ال من «ف َ​َعلة» ناف�سوا من �سبقهم‬ ‫حلقاتها وبلوغها كت ً‬ ‫على �أجورهم وخفّ�ضوها‪.‬‬ ‫ و���ش ��أن معظم املهاجرين اىل �ضواحي امل��دن‬ ‫وع�شوائياتها‪ ،‬اعت�صم �ضعفا�ؤها برابطة ع�صبهم‪ .‬فنزلوا‬ ‫�أحياء �سبقهم �إليها رواد هجرتهم‪ ،‬و�سا�سوها �سيا�سة‬ ‫ذاتية بـ«�سوانيهم» و�أعرافهم ومراتبهم اخلا�صة‪ .‬وعروبة‬ ‫البعثيني العراقيني‪ ،‬وعلى االخ�ص �ضباطهم الآتون من‬ ‫عانة وتكريت‪« ،‬يدينون» بها اىل �أ�رس ال�شمال العربية‪،‬‬ ‫�أي البدوية‪ ،‬اىل وقت قريب‪ ،‬التي يتحدرون منها‪ ،‬و�إىل‬ ‫«خ�سارة» هذه اال�رس دائرة رعيها وجتارتها وم�صاهرتها‬ ‫ال�سورية‪ .‬وتقوم هذه الدائرة‪ ،‬العراقية وال�سورية‪ ،‬ب�إزاء‬ ‫القوم الكردي املقيم بجوارها ويتقا�سم معها النفط‪ ،‬مقام‬ ‫ركن الدولة الريعية و«الوطنية»‪.‬‬

‫يف ح��زب البعث املق�صي من احلكم غ��داة ‪1963‬‬ ‫ومتحاربا‪ .‬وقويت الرابطة‬ ‫م�شتت ًا‪ ،‬ومنق�سم ًا على نف�سه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الع�صبية‪ ،‬الع�شائرية واملحلية وا�ستطراد ًا املذهبية‪ ،‬على‬ ‫وت�صدر‬ ‫الرابطة احلزبية‪ ،‬ال�سيا�سية وااليديولوجية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫القيادة اجل��دي��دة‪ ،‬وه��ي قامت على �أنقا�ض القيادة‬ ‫«ال�شيعية» التي اخفقت يف تثبيت اال�ستيالء على احلكم‪،‬‬ ‫حزبيون‪ ،‬ع�سكريون ومدنيون‪ ،‬من الطينة االهلية نف�سها‪.‬‬ ‫وبرز اثنان هما �أحمد ح�سن البكر و�صدام ح�سني‪ ،‬من‬ ‫تكريت‪ .‬وينت�سب الرجالن‪ ،‬وبينهما فرق �سن يبلغ ‪23‬‬ ‫�سنة (ولد البكر يف ‪ ،)1914‬اىل ع�شرية البويات من‬ ‫قبيلة البونا�رص‪ .‬وهذا الن�سب‪ ،‬املتوا�ضع قيا�س ًا على‬ ‫�أن�ساب ع�شائرية وقبلية عراقية �أخ��رى‪ ،‬ينكره بع�ض‬ ‫احلزبيني ال�سابقني‪ ،‬مثل �صالح عمر العلي �أو مهدي حيدر‬ ‫(�صاحب «عامل �صدام ح�سني») على الرجلني اللذين ثارا‬ ‫لإخفاق ت�رشين الثاين ‪ .1963‬فينفون عن البونا�رص‬ ‫واحلديثية (�أهل حديثة)‪ ،‬وغريهم ممن ي�سمونهم «�أهل‬ ‫ال�شقاوة» و«القب�ضايات الق�ساة» بل «ال�رس�رسية»‬ ‫االنت�ساب اىل ع�صب‬ ‫(الرعاة والدهماء) �ش�أن التكارتة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫قح �أو �رصيح‪ ،‬هو قرينة مرتبة رئا�سة ومكانة‪ .‬وينزلون‬ ‫البكر و�صدام وحردان التكريتي ومهدي �صالح عما�ش‬ ‫وع�رشات غريهم مثلهم‪ ،‬منزل َة «الدخالء» على احلزب‪،‬‬ ‫ومنزلة �أهل ال�ضواحي والظواهر على البطحاويني‪� ،‬أهل‬ ‫و�سط املدينة و�أ�صحابها‪ ،‬وذلك على ر�سم عربي‪ ،‬دموي‬ ‫وحزبي بطويل‪� ،‬ضعيف ال�صلة بوقائع القرابة ومالب�ساتها‪-‬‬ ‫على ما ذهب �إليه هرني المن�س الي�سوعي الفرن�سي يف‬ ‫والهرم العري�ض القاعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدة‬ ‫ن�صـــــــــــب‬ ‫واملجتمِ ع الر�أ�س [حلزب البعث العراقي] ّ‬ ‫طاقم ًا قيادي ًا معظمه ال�ساحــــــــــــــــــــــــــــــــــــق‬ ‫ال�سنة (العرب)‪ .‬فه�ؤالء كانوا ‪ .٪84‬يف املئة من‬ ‫من ّ‬ ‫«قمة القيادة» يف ‪ ،1970‬بعد �سنتني من االنقالب‪.‬‬ ‫و�ضوت ح�صة ال�شيعة العراقيــــــــــــــــــــــــــــــني‬ ‫اىل ‪ 5،7‬يف املئة‪ ،‬وت�أخرت عن ح�صـــــــــــــــــــــــــة‬ ‫الكرد(‪ 7.5‬يف املئــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة)‬ ‫كتابه يف مكة واملنازعات التي اكتنفت دعوة حممد بن‬ ‫عبدالله بها‪ .‬وتربط االثنني واحدهما بالآخر رابطة قرابة‪:‬‬ ‫ف�صدام ح�سني «ابن بالتن�شئة» خلريالله طلفاح‪ ،‬خاله‬ ‫ووالد زوجته �أو عمه مع ًا‪ .‬وخريالله طلفاح هو ابن عم‬ ‫�أحمد ح�سن البكر‪ .‬والرجالن القريبان‪ ،‬وبينهما فرق‬

‫ ‪ 203‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫‪ -4‬اجلهاز ‪ -‬الع�شرية ‪ -‬الدولة‬ ‫فت�صدر حزب البعث يف �صيغته «ال�س ّنية التكريتية»‬ ‫(���ص‪ 400‬من الكتاب ‪ ،)3‬ع�صبية �أهلية وع��دد ًا‪،‬‬ ‫اجلماعات العراقية بالأحرى‪ :‬الكردية وال�شيعية وامل�سيحية‪،‬‬ ‫والع�شائرية والريفية واملدنية‪ ،‬والنهرية والبدوية واجلنوبية‬ ‫وال�شمالية‪ .‬وت�صدر يف �صيغته الع�سكرية والأمرية‬ ‫والريعية والقومية‪« ،‬الدولة» الوطنية واملركزية العراقية‪.‬‬ ‫والوجهان مت�صالن من غري �شك ولكنهما لي�سا واحد ًا‪.‬‬ ‫وتخلي�ص الوجه الثاين‪ ،‬ال�سيا�سي واجلهازي‪ ،‬من الوجه‬ ‫ال �سببي ًا‬ ‫االول‪ ،‬االهلي والع�صبي‪ ،‬وحمله عليه حم ً‬ ‫وا�شتقاقي ًا‪ ،‬يخالن بفهم نزاعهما وفرقهما على رغم‬ ‫ت�ضافرهما‪ .‬فتن�صيب �صدام ح�سني يف رئا�سة جمل�س قيادة‬ ‫الثورة‪ ،‬والإقرار ب�سيطرته على �إدارات االمن الداخلي‬ ‫واال�ستخبارات الع�سكرية من طريق مكتب االمن القومي‬ ‫وجماعاته �أو ع�صاباته املتحدرة من احلر�س الوطني فجهاز‬ ‫«حنني» ال�صدامي‪ ،‬وتثبيت احمد ح�سن البكر‪ ،‬رئي�س‬ ‫اجلمهورية‪ ،‬ال�سلطة الف�صل يف اجلي�ش‪� ،‬إجراءات انتظر‬ ‫ح�سمها ع�رشة اعوام تامة‪ ،‬من ‪1968‬اىل ‪.1978‬‬ ‫وبدا يومها انها خامتة املطاف (���ص‪ 400‬من الكتاب‬ ‫الثالث‪ ،‬كذلك)‪ .‬ولكن احلرب على �إيران اخلمينية بعدها‬ ‫ب�سنتني‪ ،‬ثم جمرى احلرب وف�صولها املتعاقبة (‪-1980‬‬ ‫‪� 1982‬أو الف�صل الهجومي‪ ،‬ثم ‪1985-1982‬‬ ‫�أو الف�صل الدفاعي الثابت‪ ،‬ثم ‪� 1988 – 1985‬أو‬ ‫الف�صل الدفاعي املتحرك)‪� ،‬أظهرا «اخت�صا�ص» البكر‬ ‫املفرت�ض باجلي�ش من خملفات مرحلة انتقالية �أ َف َلت‪.‬‬ ‫فتق�سيم القيادة‪ ،‬ولو بني «والد» و«ابنه»‪ ،‬على ح�سب ت�شبيه‬ ‫رابطة البكر ب�صدام و�صدام بالبكر‪ ،‬يخالف نازع القيادة‬ ‫البعثية والعراقية امل�ستولية اىل حل «الدولة» يف «�سيادة‬ ‫الرئي�س» فـ«القائد»‪ .‬وال غرابة يف توليد احلرب الطويلة‬ ‫(‪ )1988-1980‬والعامة‪ ،‬وخ�سائرها الفادحة (نحو‬ ‫مليون قتيل يف البلدين)‪ ،‬ومدارها القومي واملذهبي على‬ ‫مف�صل دائرتني جغرافيتني و�سيا�سيتني ونفطيتني (ال�رشق‬ ‫االو�سط و�آ�سيا الو�سطى) – �أبنية «الدولة» الوطنية العراقية‬ ‫و�إخراجها اىل امللأ‪ ،‬على معنى الإن�شاء والإيجاب ولي�س‬ ‫على معنى الرتجمة او النقل‪.‬‬ ‫مثال «الدولة» وحروبها‬ ‫فدخلت قمم اجل��ه��از الع�سكري – احل��زب��ي مرحلة‬ ‫تخلي�ص مثال «الدولة» الأمنوذجي من �أب��واب ثالثة‪:‬‬ ‫اجلهاز الع�سكري احلا�سم‪ ،‬والهيمنة املنفردة والعامة‬


‫على الدولة الريعية‪ ،‬والتو�سل بالأمرين اىل �شن حرب‬ ‫�أهلية – قومية يف الداخل وحروب مركبة �أهلية – قومية‬ ‫و�إقليمية يف الدائرة االقليمية القريبة‪ .‬فا�ستوىل ال�ضباط‬ ‫التكارتة على اجلي�ش وقيادته يف �سياقة طويلة ومتعرجة‬ ‫كان ابتدا�ؤها تو�سط مولود خمل�ص النافذ‪ ،‬ع�ضو جمعية‬ ‫«العهد» العربية العثمانية يف ‪ ،1915-1914‬وزميل‬ ‫نوري ال�سعيد يف ا�ستانبول‪ ،‬و�صاحب املكانة البارزة يف‬ ‫ثورة ‪ ،1920‬ال�رشيفي الفي�صلي ونائب رئي�س جمل�س‬ ‫االعيان امللكي‪ ،‬ومالك االرا�ضي الوا�سعة يف تكريت‬ ‫لقاء خدمته الق�رص واالنكليز‪ ...‬واملتزوج بامر�أة تكريتية‬ ‫مثل ابيه املو�صلي بالهجرة – البناء جلدته‪ ،‬ومل تكن‬ ‫خامتتها االغتياالت وت�صفية �ضباط التيارات واالحزاب‬ ‫االخرى و�سد باب اجلي�ش يف وجهها‪.‬‬ ‫ و�أ�صابت اجلي�ش العراقي‪ ،‬يف غ�ضون عقدين غداة‬ ‫‪ ،1958‬موجات تطهري و�إقالة وتقاعد ق�رسي �أطاحت‬ ‫ثالثة �آالف �ضابط‪ ،‬و�أخرجت تباع ًا امللكيني‪ ،‬فالعراقويني‬ ‫(بعد مقتل عبد الكرمي قا�سم)‪ ،‬فاملو�صليني (‪،)1966‬‬ ‫ف�ضباط الرمادي �أو ا ُ‬ ‫جلميليني من ان�صار العارفينْ ‪،‬‬ ‫ف�أن�صار عبد ال��رزاق النايف وال��داود (بعد ‪.)1968‬‬ ‫وطاول االق�صاء‪ ،‬وغالب ًا االغتيال بعد االق�صاء‪ ،‬حلقة‬ ‫ال�ضباط من �أن�صار حزب البعث وع�ضده على ا�ستيالئه‬ ‫الثاين واالخري‪ .‬فطرد حردان عبد الغفار (التكريتي) يف‬ ‫ت�رشين االول ‪ 1970‬من منا�صبه القيادية والوزارية‬ ‫قبل �أن يقتل يف الكويت‪ ،‬حيث جل�أ بعد ‪ 5‬ا�شهر‪ .‬وطرد‬ ‫مهدي عما�ش يف ايلول ‪ .1971‬و�أحلق به عبد الكرمي‬ ‫ال�شيخلي‪ ،‬وزير اخلارجية‪ .‬وقتل وزير الدفاع‪ ،‬حماد‬ ‫�شهاب‪ ،‬يف حزيران ‪ ،1973‬وجرح �سعدون غيدان‪،‬‬ ‫وزير الداخلية‪ ،‬يف اليوم نف�سه‪ ،‬بيد العقيد مدير االمن‬ ‫العام ناظم الكزار‪ .‬و�أعدم هذا بعد ‪ 18‬يوم ًا على حماولة‬ ‫قتله الوزيرين البارزين‪.‬‬ ‫ وانتهج احلزب �سيا�سة تق�ضي بـ«تخريب اجلي�ش»‬ ‫(���ص‪ )410‬النظامي التقليدي والوطني‪ .‬فعمد اىل‬ ‫تدريب الطالب الثانويني احلزبيني على عجل‪ ،‬وتن�سيبهم‬ ‫اىل اجلي�ش‪ ،‬وتن�صيبهم �ضباط ًا و�ضباط �صف‪ .‬و�شرَ َ َط‬ ‫�إنفاذ �أوام��ر ال�ضباط مبوافقة «مفو�ضني» حزبيني تولوا‬ ‫ت�أطري الوحدات الع�سكرية‪ .‬وا�شرتط على ال�شيوعيني‬ ‫العراقيني‪ ،‬يف اعقاب حمالت تنكيل واغتيال واعتقال‬ ‫وتعذيب د�ؤوب���ة‪ ،‬يف رد على مقرتحاتهم اجلبهوية‬ ‫واالئتالفية «الدميوقراطية»‪ ،‬التخلي عن �أي ن�شاط يف‬ ‫�صفوف اجلي�ش‪ .‬وخ�ص احلزب امل�ستويل �ضباط اجلي�ش‬

‫ ‪ 204‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ال�شعوبية العبا�سي و�س ّلطه على القوم الفار�سي وعلى‬ ‫العراقيني ال�شيعة‪ ،‬من منبت عربي كانوا ام منبت �إيراين‪.‬‬ ‫ ولكن �إخماد احلركة الوطنية �أو القومية الكردية‪،‬‬ ‫املتجددة واملزمنة‪ ،‬لقاء النزول عن ال�سيادة على جزء من‬ ‫تقدم االعتبار ال�سيادي‬ ‫«االر�ض» يف املخا�ض املائي‪َّ ،‬‬ ‫املجرد والبعيد‪ .‬فاالنق�سام �أو ال�شقاق يف «املركز» تفوق‬ ‫خطورته على احلكم‪ ،‬وعلى مثاله املت�سلط «احلديدي»‪،‬‬ ‫�ضم دول��ة �أجنبية بالقوة حا�شية حدودية متنازعة‪.‬‬ ‫والق�ضية الكردية مركبة‪ :‬فالقوم الكردي ي�ستند اىل‬ ‫رابطة دموية �أهلية و�إقليمية واجتماعية تاريخية ولغوية‬ ‫ال تفل �إال بالإبادة (حمل هذا حزب البعث يف املفاو�ضات‬ ‫التي اف�ضت اىل اتفاق �آذار ‪ ،1971‬على االق��رار‬ ‫بحزبني م�رشوعني وقانونيني هما حزب البعث‪ ،‬العربي‪،‬‬ ‫واحلزب الدميوقراطي الكردي‪« ،‬القوميان»)‪ .‬وكرد�ستان‬ ‫العراق غنية بالنفط‪ ،‬ع�صب �سيادة الدولة العراقية على‬ ‫رعاياها وجماعاتها وهيمنتها من غري منازعة اجتماعية‬ ‫تكتل اجزاء وفئات من اجلماعات‪ .‬وبالد الكرد تتقا�سم‬ ‫�أرا�ضي اقليمية ووطنية متفرقة ومتنازعة‪ .‬ففي م�ستطاع‬ ‫البعث ال�سوري‪ ،‬تو�أم العراقي وخ�صمه‪ ،‬واحلاكم منذ‬ ‫‪ 1966-1963‬يف �صيغته «القطرية» و«ال�شعوبية»‪،‬‬ ‫التو�سل ُ‬ ‫بكرد «احلزام العربي» املزعوم اىل مناو�أة بعث‬ ‫بغداد ومناكفته‪ .‬وفاقم اال�ستيالء على لبنان «�سخاءه‪ ،‬يف‬ ‫‪ ،1976- 1975‬فحجب مياه الفرات عن االرا�ضي‬ ‫العراقية قبل عقدين من مبادرة �أنقرة اىل تقتريها على‬ ‫االرا�ضي ال�سورية وزراعاتها)‪.‬‬

‫البعثيني ب�شطر ثابت من مقاعد جمل�س قيادة الثورة‪،‬‬ ‫املرتجح العدد‪ .‬وخ�صوا بحقيبة الدفاع‪ ،‬ومبن�صب حاكم‬ ‫بغداد و�إدارة االمن فيها‪ .‬وولوا غري منازعني قيادات �سالح‬ ‫الطريان وحامية بغداد وقاعدة احلبانية اجلوية وكتيبة‬ ‫دبابات احلر�س اجلمهوري‪.‬‬ ‫ واختلط اجلي�ش باالمن واال�ستخبارات �آن كان احلزب‬ ‫يخو�ض حربني �أهليتني‪ ،‬واحدة على الكرد والثانية على‬ ‫املعار�ضة املنظمة ومعظمها من ال�شيوعيني‪ .‬فهو ا�ست�أنف‬ ‫العمليات الع�سكرية على كرد�ستان حال ا�ستكماله‬ ‫خيب االمل‬ ‫انفراده مبقاليد احلكم‪ .‬ولكن َ�سري العمليات ّ‬ ‫يف انت�صار و�شيك‪ .‬فا�ضطر اىل توقيع اتفاق مع م�صطفى‬ ‫ب���رازاين‪ ،‬يف �آذار ‪ .1970‬وبعد نحو �سنة ون�صف‬ ‫ال�سنة ح�صلت حماولة اغتيال «غام�ضة» جنا منها املال‪،‬‬ ‫فانهارت الهدنة‪ .‬وجتددت احلرب بعد �ستة ا�شهر من‬ ‫«املفاو�ضة» امل�ضمرة واملواربة‪ .‬ونقلت بغداد النزاع من‬ ‫�إطاره «الر�سمي» املعتاد‪ ،‬وهو يف هذا االطار نزاع بني‬ ‫كيانني تنوب عنهما قيادتان ويقاتل جي�شان‪ ،‬اىل طار‬ ‫�أهلي و�شعبي‪ .‬ف�أثارت م�س�ألة كركوك و�سكانها و�إدارتها‪،‬‬ ‫و�سعت يف «تعريب» ال�سكان �أو تغليب ال�شطر العربي‪:‬‬ ‫ف�أنزلت عرب ًا �أتت بهم من و�سط العراق وغربه (من �أقاليم‬ ‫ورحلت ُكرد ًا من موطنهم‬ ‫حزب البعث وبالده وقومه)‪ّ ،‬‬ ‫اال�صلي اىل م�ستوطنات معظمها يف اجلنوب العراقي‬ ‫حيث يغلب ال�شيعة‪ .‬و�آذن ذلك بوالدة �أو ا�ستفاقة م�شكلة‬ ‫قومية و�سيا�سية يف ب��ؤرة م�شتعلة قوية ال�شبه بهوية‬ ‫�أهل االطراف العالقة‪ ،‬مثل ك�شمري بني باك�ستان والهند‬ ‫وقرب�ص بني تركيا واليونان وقبل هذه وتلك الألزا�س –‬ ‫لورين بني فرن�سا و�أملانيا‪ ،‬تنطوي على فتيل �رش �أهلي‬ ‫حملي ال ي�ؤمن �أن ال يتطاير �رشره وي�صيب الكتل االهلية‬ ‫اخللفية‪ .‬والفتيل مل يطف�أ اىل اليوم‪ .‬وخ�ص الد�ستور‬ ‫العراقي اجلديد (د�ستور ‪ )2006‬كركوك باملادة ‪.140‬‬ ‫وعلى مثال �إرادت��ه «ح��ل» امل�سائل «من املركز‬ ‫ ‬ ‫كتيب «�أحاديث»‬ ‫انطالق ًا» على قول �صدام ح�سني يف ّ‬ ‫ُن�رش يف ‪ 1975‬وك��ان ب��اك��ورة �إ�سهامه الفكري‬ ‫والنظري‪ ،‬وهو يعني ا�ستئ�صال عوامل جتددها �أو ت�أريثها‪،‬‬ ‫نزل احلزب احلاكم عن �شطر من «�شط العرب» كان يلح‬ ‫يف التم�سك به اىل حاكم �إيران البهلوي‪ ،‬حممد ر�ضا‪،‬‬ ‫توجت ب�إعالن اتفاق يف �آذار‬ ‫يف ختام مفاو�ضات طويلة ّ‬ ‫‪ .1975‬وهو‪ ،‬احلزب احلاكم وعلى ر�أ�سه رجله القوي‬ ‫و«ال�شاب» �صدام ح�سني‪� ،‬صاحب نعرة قومية بدوية‬ ‫على ايران الفار�سية وال�شيعية االمامية‪ ،‬و�أحيا م�صطلح‬

‫وراثة «البقية» ال�شيوعية‬ ‫والت�صدي للق�ضية القومية الكردية‪ ،‬و«حلها» من‬ ‫طريق �إلغائها بالقوة الع�سكرية وااللتفاف الديبلوما�سي‬ ‫وال�شقاق االهلي وال�شعبي‪ ،‬خ َّلفا فروع ًا �سيا�سية مل‬ ‫ي�شذّبها احلل املفرت�ض‪ .‬فحزب البعث املت�سلط وامل�ستويل‬ ‫«ورث» من ف�صول التاريخ العراقي القريب‪ ،‬الف�صل‬ ‫امللكي والف�صل العراقوي والي�ساري والف�صل النا�رصي‬ ‫والعاريف املختلط‪ ،‬حركة �شيوعية وي�سارية وطنية ال نظري‬ ‫لها‪ ،‬هر�ض ًا وقوة وجذور‪ ،‬يف البلدان واملجتمعات امل�رشقية‬ ‫وال�رشق �أو�سطية القريبة واجلارة‪ .‬واحلركة ال�شيوعية‪،‬‬ ‫حزب ًا منظم ًا ونا�شط ًا وجمهور ًا اجتماعي ًا ي�ساري ًا ووطني ًا‬ ‫ثقافي ًا‪ ،‬قوية الروابط بجماعتني ينا�صبهما حزب البعث‬ ‫احلاكم العداء االهلي وال�سيا�سي هما ال�شيعة والكرد‪ ،‬على‬ ‫تفاوت قوة الروابط وتبلورها‪.‬‬

‫ ‪ 205‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ فاحلركة ال�شيوعية لي�ست جهاز �شيعة العراق‪ ،‬على‬ ‫رغم �رشكة االثنني يف اجلماعة املذهبية الكبرية‪ ،‬ويف‬ ‫بع�ض جمهورها‪ .‬ومن وجه ثانٍ ‪ ،‬لي�س ل�شيعة العراق‪،‬‬ ‫يومها‪ ،‬جهاز طائفي‪ ،‬على مثال �صنعته اخلمينية يف‬ ‫ما بعد‪ .‬واجلماعة الكردية كانت مبنزلة م�لاذ يلج�أ‬ ‫اليه ال�شيوعيون وي�ستقوون به‪ .‬فهي ربطتها باالحتاد‬ ‫ال�سوفياتي‪ ،‬وببع�ض �أطوار «�سيا�سته القومية» وتو�سله‬ ‫«حق القوميات يف تقرير م�صريها» (ما �أُعمل «احلق» يف‬ ‫حتطيم االمرباطوريات املتاخمة واملركبة) �آ�رصة متينة‪.‬‬ ‫واىل ذلك‪ ،‬كانت اجلماعات القومية والدينية املتحدة‬ ‫من امللل العثمانية �أر�ض ًا خ�صبة �أنبتت لل�شيوعيني‬ ‫واحزابهم وكتاباتهم وكتابهم ودعاة ا�ضطلعوا غالب ًا بدور‬ ‫واختلط اجلي�ش باالمن واال�ستخبــــــــــــــــــــــارات‬ ‫�آن كان احلزب يخو�ض حربني �أهليتـــــــــــــــــــــــني‪،‬‬ ‫واحدة على الكرد والثانيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫على املعار�ضة املنظمة ومعظمهــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫من ال�شيوعيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــني‬ ‫النواة واخلطوة االوىل يف م�سريها (يف الكتاب الثاين‪،‬‬ ‫ف‪1‬و‪2‬و‪3‬و‪��� ،4‬ص‪ ،84-17‬رواية بدايات احلركة‬ ‫ال�شيوعية‪ ،‬يف العراق و�شطر من امل�رشق العربي‪ ،‬ال تلم‬ ‫بالأقوام واجلماعات وح�سب بل بع�رشات «االبطال»‬ ‫ومق�سم‬ ‫واح��د ًا واح��د ًا)‪ .‬فالكرد �شعب من غري دول��ة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وق ّلة قومية‪« ،‬م�ست�ضعفة» على �س ّلم املراتب ال�سيا�سية‪،‬‬ ‫ومنق�سم على نف�سه انق�سام ًا اجتماعي ًا عميق ًا‪ .‬وهذه‬ ‫عوامل احت�سبتها االحزاب ال�شيوعية الوطنية يف عهد‬ ‫االممية الثالثة ال�ستالينية (اىل ‪ ،)1953‬ثم يف اطار‬ ‫مكتب التن�سيق او الكومنفورم (اىل ‪ ،)1957‬وبقيت‬ ‫عرف ًا ومرياث ًا تقليديني‪.‬‬ ‫مر و�صفه‪ ،‬مد احلزب امل�ستويل‬ ‫ وعلى املثال الذي َّ‬ ‫اجلديد يد ال�صلح واحللف اىل احلزب املناف�س واملناوئ‬ ‫الذي باعده منه عنف املو�صل يف ‪ 1959‬وعنف الت�صفية‬ ‫واملطاردة يف اثناء اال�ستيالء االول (�شباط – ت�رشين‬ ‫الثاين ‪ .)1963‬فاقرتح على خ�صمه ال�شيوعي‪ ،‬املزدوج‬ ‫«قيادة مركزية» و«جلنة» مثلها‪ ،‬غداة االنقالب مقاعد‬ ‫وزارية قليلة يف اطار ت�ضامن القوى الثورية والوطنية‬ ‫بعد حزيران ‪ .1967‬فرد اجلناحان ببنود «دميوقراطية»‬ ‫تفرت�ض قبول اقت�سام ال�سلطة والنفوذ‪ ،‬والإقرار بافرتاق‬ ‫اجلماعات واختالفها‪ ،‬وبحقها يف اقت�سام املوارد العامة‬


‫والتمثيل ال�سيا�سي امل�ستقل واالحالف الوطنية واالقليمية‬ ‫والدولية بح�سب التمثيل ال�سيا�سي على حدة‪ .‬وعلى‬ ‫هذا‪ ،‬دعا الفريقان احلزب امل�ستويل اىل اطالق املعتقلني‬ ‫ال�سيا�سيني‪ ،‬و�ضمان حرية االحزاب وحكم ذاتي للأكراد‪،‬‬ ‫وت�أليف حكومة «موقتة ائتالفية دميوقراطية تقدمية»‪.‬‬ ‫ وبدا �أن حزب البعث خطا على الطريق املقرتحة خطوة‬ ‫تالقي اخل�صم واملناف�س العتيد‪ .‬فعفا‪ ،‬يف �أيلول ‪،1968‬‬ ‫عن املعتقلني ال�سيا�سيني‪ .‬وقرر عودة املوظفني املطرودين‬ ‫من وظائفهم بذارئع �سيا�سية و«عقائدية»‪ .‬و�أجاز عودة‬ ‫ال�شيوعيني املنفيني �أو الهاربني من منافيهم ومالجئهم‪.‬‬ ‫و�سكت عن حرية العمل احلزبي‪ .‬ويف �أعقاب �شهرين على‬ ‫اجراءاته هذه‪ ،‬وهي حملت مئات �أو رمبا �آالف ًا من جمهور‬ ‫ويف ال�سجون‪ ،‬عذَّ ب ال�سجانون البعثيــــــــــــــــــــون‬ ‫املعتقلني ال�شيوعيني تعذيب ًا ث�أريــــــــــــــــــــــــــــــ ًا‬ ‫�أودى بـ‪ 20‬منهم‪ ،‬على �أ�ضعف تقدير‪ ،‬فيهــــــــــــــــم‬ ‫قياديان من ال�صف االول همــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫متي هرني هندو و�أحمد حممود احلـــــــــــــــــــــــالق‪.‬‬ ‫ال�شيوعيني والي�ساريني والتقدميني على العودة اىل بالدهم‬ ‫و�أ�رسهم‪� ،‬شن احلزب امل�ستويل على اجهزة القوة واملراقبة‬ ‫يف الدولة حملة اغتياالت مت�صلة طاولت قادة بارزين‪،‬‬ ‫ونقابيني ميدانيني‪ ،‬ونا�شطني متظاهرين‪ .‬فاغتال «جمهولون»‬ ‫نا�رص احلاين‪ ،‬يف ‪ .1968/11/10‬وكان «جمهولون»‬ ‫�آخرون �أغاروا على معمل زيوت نباتية ببغداد‪ ،‬يف ‪11/5‬‬ ‫�أعلن عماله �إ�رضاب ًا فقتلوا �شيوعيني من عماله‪ .‬وعندما‬ ‫ال بالذكرى اخلم�سني‬ ‫خرجت تظاهرة‪ ،‬يف ‪ ،11/8‬احتفا ً‬ ‫للثورة البل�شفية يف بغداد هاجم �ساقتها (�أو �صفوفها‬ ‫االخرية) ملثمون م�سلحون بال�سكاكني وبقناين الزجاج‬ ‫الناتئة والهراوات فقتلوا ‪ 3‬متظاهرين‪ .‬و�أتبع مكتب‬ ‫االمن القومي‪ ،‬يف قيادة �صدام ح�سني‪ ،‬القتل واالرهاب‬ ‫باعتقاالت زجت يف ال�سجون ع�رشات من القيادات‬ ‫ال�شيوعية‪ ،‬معظمها اختارهم املكتب من «القيادة املركزية»‪.‬‬ ‫فهذه جتر�أت على �إن�شاء ف�صيل م�سلح �صغري توىل عمليات‬ ‫«ثورية» رمزية مثل �رسقة (م�صادرة) ممتلكات و�أموال‪� ،‬أو‬ ‫خطف متنفذين‪ ،‬وذروة اجلر�أة كانت اطالق نار على منزل‬ ‫�صدام ح�سني ومنزل �صالح عمر العلي‪.‬‬ ‫ ويف ال�سجون‪ ،‬عذَّ ب ال�سجانون البعثيون املعتقلني‬ ‫ال�شيوعيني تعذيب ًا ث�أري ًا �أودى بـ‪ 20‬منهم‪ ،‬على �أ�ضعف‬ ‫تقدير‪ ،‬فيهم قياديان من ال�صف االول هما متي هرني هندو‬

‫ ‪ 206‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫و�أُغ�ضي عن �إ�صداره �صحيفة �أو ن�رشة حزبية كئيبة‪ ،‬كان‬ ‫احلزب – الدولة �أر�سى دعائمه على االنقا�ض ال�سيا�سية‬ ‫العراقية‪ ،‬وقو�ض �أبنيتها من غري ا�ستثناء‪ُ :‬خنق ما يقوم به‬ ‫العمل ال�سيا�سي املنظم �أو التلقائي‪ ،‬و�أُحلقت املادة اجلمعية‬ ‫�أو االجتماعية «االوىل» باملراقبة واملطاردة االمنيتني‪،‬‬ ‫وانكف�أت االوا�رص االهلية على هياكلها‪.‬‬

‫و�أحمد حممود احلالق‪ .‬وانهار عزيز احلاج‪� ،‬أمني «القيادة‬ ‫املركزية» االول‪ ،‬وخرج على التلفزيون‪ ،‬يف اوائل ني�سان‪،‬‬ ‫ودعا اىل التخلي عن العنف‪ .‬وهو كان رعى القوة امل�سلحة‬ ‫جرت عليه‪ ،‬وعلى حزبه �أو جناحه‪ ،‬ث�أر‬ ‫ال�صغرية التي َّ‬ ‫البعث‪ .‬وكانت «القيادة املركزية»‪ ،‬نف�سها دربت‪ ،‬قبيل‬ ‫اال�ستيالء البعثي‪ ،‬خلية م�سلحة يف هور العموقة‪ ،‬جنوب‬ ‫ولوحت بانتهاج طريق «حرب ال�شعب»‪ .‬و�أبدى‬ ‫العراق‪ّ ،‬‬ ‫بع�ض «القياديني» حما�سة «خيالية» للخط ال�صيني‪ ،‬ومل‬ ‫ِ‬ ‫يبده ف�صيل �شيوعي �آخر له‪ .‬فانقالب عزيز احلاج على‬ ‫الر�أي املو�شك �أن ينقلب «عقيدة» يف غ�ضون �أقل من‬ ‫قو�ض بع�ض اركان جناحه‪ .‬وقطفت ال�سيا�سة‬ ‫ال�شهرين‪َّ ،‬‬ ‫البولي�سية البعثية‪ ،‬وهي �أم�ست �صدامية يف هذا الف�صل‪،‬‬ ‫ثمرة قمعها العنيف اجلناح ال�شيوعي البارز‪ .‬فالن اجلناح‬ ‫الآخر‪« ،‬اللجنة املركزية»‪ .‬وقبل عزيز �رشيف‪ ،‬االمني العام‬ ‫ال�سابق حلركة �أن�صار ال�سلم‪ ،‬تعيينه وزير ًا للعدل‪ ،‬يف‬ ‫�آخر �شهر من ‪ .1969‬و�أدى «الوجه» ال�سيا�سي البارز‬ ‫ال يف مفاو�ضات احلزب احلاكم واحلزب‬ ‫واملختلط دور ًا فاع ً‬ ‫الدميوقراطي الكردي الطويلة (يف �آذار ‪ .)1971‬وت�سليم‬ ‫عزيز احلاج‪ ،‬وا�ستقالل عزيز �رشيف ب�سيا�سته‪ ،‬مل يح�صنا‬ ‫ال�شيوعيني‪ ،‬على اختالف �أجنحتهم وعقائدهم‪ ،‬من عنف‬ ‫النظام البولي�سي‪ .‬فقمع «جمهولون» م�سلحون تظاهرة‬ ‫�شيوعية خرجت ببغداد يف عيد النوروز‪ ،‬يف �أول �أيام‬ ‫ربيع ‪ ،1970‬وقتلوا حممد �أحمد اخل�رضي‪ ،‬ع�ضو جلنة‬ ‫بغداد القيادية رمي ًا بالر�صا�ص‪ .‬واعتقل مئات ال�شيوعيني‬ ‫يف �أنحاء العراق‪ ،‬وعذب منهم من عذب‪ ،‬وقتل من قتل‪،‬‬ ‫و�أطلق بع�ضهم بعد �سنوات قليلة �أو كثرية‪.‬‬ ‫ وجت��ددت يف �أواخ���ر ‪ 1970‬و�أوائ���ل ‪1971‬‬ ‫االعتقاالت والقتل يف اثناء التعذيب و�أعمال اخلطف‬ ‫والتغييب من غري �أثر‪ .‬وقبيلها بقليل اف�صح احلزب احلاكم‬ ‫عن ا�شرتاطاته على ال�شيوعيني‪ ،‬وعلى احلركات ال�سيا�سية‬ ‫االخرى �ضمن ًا وفيها النا�رصيون والقوميون العرب (وهم‬ ‫‪ 9‬منظمات وتيارات �أو ان�شقاقات متنا�سلة)‪ .‬وهي تق�ضي‬ ‫باالعرتاف باحلزب املت�سلط حزب ًا ‪ -‬دولة واحد ًا‪« :‬ثورياً‬ ‫وحدوي ًا ا�شرتاكي ًا دميوقراطي ًا»‪ ،‬وقائد ًا‪ ،‬وقومي ًا ورائد ًا على‬ ‫طريق «حترير كامل فل�سطني»‪ ...‬وال يتم هذا �إال ب�إنكار‬ ‫ال�شيوعيني‪ ،‬وغريهم‪� ،‬أحكامهم‪ ،‬ما�ضي ًا وحا�رض ًا‪ ،‬يف‬ ‫البعث ودولته وانقالبه و�سيا�ساته و�أحالفه‪ .‬وحني وقع‬ ‫�أحمد ح�سن البكر وعزيز حممد‪ ،‬غداة �إعدام ناظم الكزار‪،‬‬ ‫ووليِّ «احلليف»‬ ‫وثيقة العمل الوطني‪ ،‬يف متوز ‪ُ ،1973‬‬ ‫ال�ضعيف وزارة الري «االجتماعية» ووزارة دولة فخرية‪،‬‬

‫«الإ�صالح» من غري مرتتباته‬ ‫واحلق �أن طموح حزب البعث مل يقت�رص على اال�ستيالء على‬ ‫«الدولة»‪ ،‬واال�ستقرار فيها‪ ،‬واالنفراد مبواردها وت�رصيف‬ ‫اداراتها املتفرقة و�إثبات جدارته بهذا املوقع‪ .‬فهو اعتقد‪� ،‬أو‬ ‫اعتقدت قيادته «ال�شابة» اعتقاد ًا ثابت ًا وجازم ًا ب�أن اال�ستيالء‬ ‫على اجهزة القوة والتدبري‪ ،‬وعلى املوارد‪ ،‬مرحلة على طريق‬ ‫و�سحق القوى ال�سيا�سية‬ ‫اجناز او انعطاف تاريخي حا�سم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫االخرى واملناف�سة ما �أمكن‪ ،‬بعد �أن ا�ست�أ�صلت االنقالبات‬ ‫املتعاقبة منذ �صيف ‪« 1958‬الطبقات القدمية ودولتها‬ ‫و�أركان الدولة االجتماعية‪ ،‬هو من مقدمات االنعطاف او‬ ‫االجناز املتوقع وامل�أمول‪ .‬فقيادة حزب البعث العراقي‪� ،‬ش�أن‬ ‫معظم احلركات التي تبلورت مناهجها ومبانيها يف العقد‬ ‫ال�ساد�س من القرن الع�رشين‪ ،‬وعا�رصت ت�صفية �إرث‬ ‫ال�سيطرة االجنبية املبا�رشة على بلدانها وبروز االحتاد‬ ‫ال�سوفياتي قطب ًا دولي ًا نافذ ًا‪ ،‬حملت �أبنية احلكم وال�سلطة‬ ‫على «بناء قومي» ال ي�ستقر وال يتما�سك ويدوم �إال بر�سوه‬ ‫على قواعد اجتماعية واقت�صادية متينة ورا�سخة‪ .‬ويق�ضي‬ ‫�إر�ساء «البناء الفوقي»‪� ،‬أو الدولة الوطنية امل�ستقلة (يف قيادة‬ ‫حزب طليعي) واملبادرة اىل �ضمان اال�ستقالل االقت�صادي‬ ‫على �أ�س�س «الرتاكم االويل» والت�صنيع املركزي والزراعة‬ ‫«التعاونية»‪ ،‬بجمع املوارد كلها بيد �أجهزة احلزب‪ ،‬واجلهاز‬ ‫املهيمن على االجهزة‪ .‬وجمع املوارد يفرت�ض حرمان القوى‬ ‫االخ��رى‪ ،‬ال�سيا�سية احلزبية واالجتماعية املتملكة‪ ،‬من‬ ‫مواردها‪ ،‬املادية واملعنوية �أو الرمزية (الرابطة الدينية املذهبية‬ ‫والرابطة الثقافية �أو الرابطة الع�صبية‪ .)...‬وما بقي من مقومات‬ ‫انتاج �أو توزيع �أو �إدارة �أو تداول‪ ،‬م�ستقلة عن املركز و�آالته‪،‬‬ ‫ر�آه املركز خروج ًا عليه وعدوان ًا‪ .‬وعلى هذا‪ ،‬افترُ �ض يف‬ ‫«اال�صالحات» الزراعية املتفرقة واملختلفة امل�سري يف طريق‬ ‫تف�ضي اىل ان�شاء طبقة من متو�سطي املزارعني و�صغارهم‪،‬‬ ‫جتزي الفالحني على انخراطهم يف التحرر من �سطوة كبار‬ ‫مالكي االر�ض يف الداخل‪ ،‬وجت ُّن ِدهم يف احلرب الوطنية‬ ‫على امل�ستعمر الغا�صب و«عمالئه»‪ ،‬و ُتبوئهم املكانة التي‬ ‫تعود لهم يف جبهة دميوقراطية اجتماعية‪ .‬فكان �أن تفرق‬

‫ ‪ 207‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫املزارعون والفالحون «اجلدد»‪ ،‬وتبددوا من غري رابطة وال‬ ‫�آ�رصة‪ .‬ف�إما عاد املالكون القدامى �أو التجار الذين حلوا‬ ‫حملهم (على املثال امل�رصي)‪ ،‬و�إما هجر املزارعون االر�ض‬ ‫اىل �ضواحي املدن و�أريافها و�أربا�ضها‪ ،‬وتركوا االر�ض‬ ‫موات ًا (على املثال ال�سوري )‪.‬‬ ‫ فقادت «املارك�سية املو�ضوعية»‪ ،‬على ما �سمى‬ ‫املذهب ال�سوفياتي يف «الطريق الالر�أ�سمايل‬ ‫بع�ضهم‬ ‫َ‬ ‫اىل اال�شرتاكية» و«مقاالت النق�ض على االمربيالية»‬ ‫(مك�سيم رودن�سون)‪ ،‬قيادة البعث اىل اجراءات اجتماعية‬ ‫�أو «طبقية» راديكالية‪ .‬ف�أقرت ‪ ،‬يف ‪ ،1973‬قانون ًا يحظر‬ ‫طرد الفالح من �أر�ضه حتت �أي ذريعة �أو عذر‪ ،‬ويثبته يف‬ ‫ملكه‪ ،‬ويحول بني امل ّ‬ ‫ال ب�سوء‬ ‫الك ال�سابق وبني التقا�ضي متعل ً‬ ‫تطبيق القانون‪ .‬و�أتبعت االجراء القاطع هذا ب�إلغاء حق‬ ‫املالك يف االحتفاظ لنف�سه و�أ�رسته ب�أف�ضل قطعة �أر�ض‪.‬‬ ‫وخف�ضت احلد االق�صى للحيازة الزراعية اىل ‪ 40‬دومن ًا‬ ‫يف االرا�ضي اخل�صبة واملروية‪ ،‬و‪ 2000‬يف االرا�ضي‬ ‫القاحلة وال�صحراوية �أو �شبه ال�صحراوية‪ .‬و�ألغت تعوي�ض‬ ‫املالكني عن االرا�ضي امل�صادرة‪ ،‬ومعه ديون الفالحني‬ ‫اىل �صندوق اال�صالح الزراعي �أو اىل املالكني القدامى‪.‬‬ ‫وتوجت قيادة حزب البعث االجراءات القانونية ب�إجراءات‬ ‫اقت�صادية و�إن�شائية مكملة‪ :‬فخططت لكهربة ‪4200‬‬ ‫قرية‪ ،‬وا�ست�صالح ‪ 4‬ماليني دومن‪ ،‬و�إن�شاء �أ�سواق �شعبية‬ ‫تباع فيها منتجات االر���ض من غري و�سطاء‪ .‬وق�ضت‬ ‫وتخفي�ض �أ�سعار‬ ‫�سعر اخلبز الثابت‪،‬‬ ‫َ‬ ‫بدعم اخلزينة العامة َ‬ ‫الآليات الزراعية واال�سمدة الكيماوية‪ .‬وزادت احلد االدنى‬ ‫للأجر اليومي‪ ،‬يف الريف واملدينة‪ ،‬من ‪ 450‬فل�س ًا اىل‬ ‫‪( 550‬ف�إىل ‪ 650‬فل�س ًا يف ‪ ،1974‬و‪ 900‬فل�س‬ ‫يف ‪ ،1976‬و‪ 1100‬فل�س يف ‪ .)1977‬وا�ست ّنت‬ ‫قانون ت�أمني �أو �ضمان اجتماعي ن�صت بع�ض مواده على‬ ‫ت�سديد تعوي�ضات �إعاقة‪ .‬وتواقتت هذه االجراءات املت�صلة‪،‬‬ ‫ويقت�ضي متويلها م��وارد كبرية يقع معظمها على عاتق‬ ‫الدولة و�شطر منها ي�ضعف «القاعدة املادية» لنفوذ مالكي‬ ‫االر�ض‪ ،‬مع حمالت �إرهاب ال�شيوعيني وخنقهم والتلويح‬ ‫باحلرب على الكرد �أو خو�ضها‪ .‬ويغلب الوجه ال�سيا�سي‬ ‫والظريف منها الوجه «اال�سرتاتيجي» الذي يرتتب عليه‬ ‫بروز قطب اجتماعي جديد ي�ضطلع بدور فاعل يف االنتاج‪،‬‬ ‫ويف املوازين االجتماعية وال�سيا�سية‪ .‬فهي ق�صدت اىل‬ ‫احل�ؤول بني اجلماعات ال�سيا�سية املعار�ضة واملناه�ضة وبني‬ ‫تو�سلها باالحوال االجتماعية املرتدية والقا�سية اىل تعبئة‬ ‫«اجلماهري» و«الطبقات الكادحة»‪ .‬وهذا جزء من الو�صاية‬


‫ال�صارمة «الطليعية» والفوقية التي �أوكلتها االحزاب‬ ‫امل�ستولية على الدولة الوطنية اىل نف�سها‪ ،‬و�أق��رت لها‬ ‫مب�رشوعيتها وا�ستقامتها العملية «الكتلة اال�شرتاكية» �أو‬ ‫ال�سوفياتية‪ ،‬ومل تكذبها ال�سيا�سة الر�سمية املاوية �أو تنكرها‪.‬‬ ‫مراكمة الريوع‪ ...‬و�أهلها‬ ‫ودعت �أثقال هذه االجراءات على الدولة احلزبية ال�ساعية‬ ‫يف الهيمنة العامة على «عيالها» ورعاياها املواطنني‪،‬‬ ‫دعت الدولة اىل �سد حاجاتها املتعاظمة اىل موارد ال‬ ‫بالغرف‬ ‫تدين بها اىل انتاج املواطنني املنتجني والعاملني‬ ‫ْ‬ ‫من عوائد النفط الريعية يف املرتبة االوىل‪ .‬وكان الت�أميم‪،‬‬ ‫�أي ا�ستحواذ جهاز االدارة على امللكية واالنتاج والتوزيع‬

‫عددها‪ ،‬يف ‪� 450 ،1982‬ألف ًا اىل مليون م�سلح‪.‬‬ ‫وغداة احتالل الكويت‪ ،‬يف ‪� 2‬آب ‪ ،1990‬هدد �صدام‬ ‫ح�سني بزيادة العدد اىل ‪ 4-3‬ماليني‪ .‬وع�شية احتالل‬ ‫التحالف االمريكي – الغربي العراق‪ ،‬لوح الرجل نف�سه‬ ‫مبليونني من «فدائيي �صدام»‪ ،‬هم بقية «اجلي�ش ال�شعبي»‬ ‫العتيد بعد �أن �سمي با�سمه القريب من وظيفته الفعلية‪.‬‬ ‫ واىل الع�سكريني وخليطهم‪ ،‬جند حزب البعث‬ ‫موظفني يف وزارة الداخلية بلغ عددهم‪ ،‬يف ‪،1978‬‬ ‫‪� 150‬ألف موظف‪ .‬وكانوا قبل �سنتني اقل من ‪100‬‬ ‫�ألف بقليل‪ .‬فجمعت وزارتا احلرب واالمن‪ ،‬قبل احلرب‬ ‫العراقية – االيرانية وبعد �أن �ألقى الكرد ال�سالح‪،‬‬ ‫‪� 368‬ألف ًا‪ ،‬ما ن�سبته ‪ 51‬عراقي ًا من االلف وواحد‬ ‫من ‪ 5‬عاملني‪ .‬ف�إذا �ضم اىل ه�ؤالء املوظفون االداريون‬ ‫بلغ العدد ‪ 1.2‬مليون‪ ،‬وهو ن�صف عديد اليد العاملة‬ ‫يف مدن العراق‪ .‬ويف االثناء‪� ،1984 ،‬صار عدد‬ ‫احلزبيني‪� ،‬أن�صار ًا وم�ؤيدين‪ ،‬مليون ًا ون�صف املليون‪،‬‬ ‫كلهم «موظفون» يتقا�ضون مرتبات من خزينة االموال‬ ‫العامة‪ .‬واحلزبيون العاملون‪« ،‬النخبة»‪ ،‬يعدون ‪25‬‬ ‫�ألف ًا ون�سبتهم من «�أمة» احلزب واحد من �ستني‪ .‬و�شطر‬ ‫من موظفي االدارات‪ ،‬ومعظم القيادات الع�سكرية‬ ‫واالمنية‪ ،‬هو من ه�ؤالء احلزبيني على مراتبهم املتفرقة‬ ‫واملتفاوتة‪ .‬فرتبعت االدارة احلكومية‪ ،‬واالدارة احلزبية‬ ‫نواتها العري�ضة والطاغية‪ ،‬حمل القوى االجتماعية‪،‬‬ ‫وظائف وكم ًا‪ .‬و�إذا كانت ح�صة املوظفني املدنيني من كل‬ ‫َ‬ ‫�ألف عراقي‪ ،‬يف ‪ 3 ،1958‬موظفني‪ ،‬فهي بلغت‪ ،‬يف‬ ‫‪ 26 ،1968‬موظف ًا‪� ،‬أي ‪� 8.6‬أ�ضعاف‪ ،‬قرينة على‬ ‫ابتداء م�سري ال�سيطرة احلزبية ال�سيا�سية على �أجهزة‬ ‫االدارة‪ .‬ورفع حزب البعث احل�صة‪ ،‬غداة ‪� 8‬سنوات‬ ‫على ا�ستيالئه‪ ،‬اىل ‪ 45‬يف االلف‪ ،‬فـ‪ 63‬يف االلف‬ ‫ع�شية احلرب على �إيران يف ‪ .1980‬فاحلزب امل�ستويل‬ ‫ي�سع يف ا�ستمالة «قاعدة اجتماعية» اىل �صفوفه‪،‬‬ ‫مل‬ ‫َ‬ ‫و�سواها‪.‬‬ ‫وباالحرى متثيل هذه القاعدة‪ ،‬بل �صنعها بيده‬ ‫ّ‬ ‫و�رصف على �صنعها موارد الدولة يف �أعوام البحبوحة‬ ‫والنفط «الغايل»‪ ،‬وبددها على هذا االنفاق الذي ال ميت‬ ‫اىل «الرتاكم االويل» ب�سبب‪ ،‬على خالف ر�أي بطاطو يف‬ ‫امل�س�ألة (�ص‪ 448‬من امل�صدر نف�سه)‪.‬‬ ‫ وبينما عمد احل��زب امل�ستويل اىل �إلغاء ق�سمة‬ ‫املجتمع والدولة وقيام املجتمع ب�إزاء الدولة – وهما‬ ‫وخروجها من‬ ‫(الق�سمة والقيام) ركن تقييد ال�سلطة‬ ‫َ‬ ‫«االهل» – ن�رش التعليم وق ّل�ص االميني من ‪� 3‬أرباع‬

‫اىل ‪ ،1975‬وا�ستكمال �سيطرته على موارد يحتاجها‬ ‫يف وجوه �سيا�سته و�سيطرته كلها‪ .‬وت�شغيل حقل الرميلة‬ ‫ال�شمالية‪ ،‬من طريق امل�ساعدة ال�سوفياتية‪ ،‬حلقة من حلقات‬ ‫تعاون يف �صناعات زراعية مثل اال�سمدة والفو�سفات �أو‬ ‫جتهيزية مثل الكهرباء وخطوط نقلها وم�صفاة تخزين‬ ‫النفط امل�ستخرج‪ ،‬ويف التجهيز الع�سكري‪ .‬وال ريب يف‬ ‫ان النهج «القومي» والهجومي املت�شدد الذي انتهجه‬ ‫احلزب العراقي يف امل�س�ألة الفل�سطينية‪ ،‬ثم يف امل�س�ألة‬ ‫االيرانية‪ ،‬وامل�س�ألة الكردية الداخلية‪ ،‬فالعالقات باخلليج‬ ‫ودول �ضفته الغربية وبال�شيعة العراقيني والكرد مرة �أخرى‬ ‫– يدين مب�سوغاته وجوازه العملي اىل �إحكام قب�ضته على‬ ‫«حياة النا�س» (بطاطو‪� ،‬ص ‪ ،433‬ك‪ ،3‬ف�صل «اخلامتة»)‪.‬‬

‫وحني ا�ستقر احلزب غداة احلرب العراقية – االيرانيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‪،‬‬ ‫يف �سدّ ة احلكم قوي ًا ومنيع ًا ‪ ...‬ح�ضت �صحافة احلزب الرجال العراقيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــني‪،‬‬ ‫�أي «فر�سان» العراق «الن�شامى»‪ ،‬اىل االقت�صا�ص من الن�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء‬ ‫(«املاجدات» �سابق ًا) الالئي ي�شكون يف ف�ضيلتهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن‬ ‫ال»‪ ،‬هو القتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل‬ ‫(غداة حرب عا�صفة امتحنت اال�رس [�ضد ايران]) ق�صا�ص ًا «عاد ً‬ ‫والعوائد‪� ،‬صار‪ ،‬يف االثناء �أي يف العقد ال�سابع‪� ،‬سيا�سة‬ ‫ال خرية لل�سلطات الوطنية وال�شعبية و«الدميوقراطية‬ ‫االجتماعية» فيها‪ ،‬ويف انتهاجها‪ .‬وف�ضيلتها الراجحة‬ ‫هي تلبيتها حاجتني مت�ضافرتني‪ :‬حاجة الطاقم احلاكم‬ ‫متول ا�ستقالله عن ال�سيطرة‬ ‫وامل�ستويل اىل ريوع ثابتة ّ‬ ‫االجنبية وعن املوارد الداخلية واالجتماعية (التي ينتجها‬ ‫املجتمع) مع ًا‪ ،‬وحاجة ال�سكان اىل مورد �أو عائد مبا�رش‬ ‫يقيتهم ويقوم بحاجاتهم احليوية‪ ،‬واىل مرافق عامة حيوية‬ ‫مثل التعليم والطبابة واملوا�صالت واالت�صاالت‪.‬‬ ‫ و�أجمعت كتلتا احلكام امل�ستولني واملحكومني الرعايا‬ ‫على الت�أميم‪ ،‬والتبا�س �أغرا�ضه و�أدواره‪ .‬وحال العراق يف‬ ‫الن�صف االول من العقد الثامن قرينة قوية على االلتبا�س‪،‬‬ ‫من وجه‪ ،‬وعلى اال�ضطرار‪ ،‬من وجه �آخر‪ .‬فما �إن تعمدت‬ ‫ال�رشكة «العراقية» تقلي�ص االنتاج ال�سنوي من ‪57‬‬ ‫مليون برميل اىل ‪ 30‬مليون ًا‪ ،‬اقت�صا�ص ًا من ت�شغيل حقل‬ ‫الرميلة ال�شمالية يف رعاية �سوفياتية وملكية الدولة‪،‬‬ ‫يف ني�سان ‪ ،1972‬حتى بادر احلزب احلاكم اىل ت�أميم‬ ‫ال�رشكة االجنبية يف حزيران من ال�سنة نف�سها‪ .‬فا�ستبق‪،‬‬ ‫هو ومعمر القذايف‪« ،‬اال��ضراب» النفطي يف ت�رشين‬ ‫االول ‪ 1973‬وم��وازاة احلرب امل�رصية وال�سورية –‬ ‫اال�رسائيلية‪ .‬وم�ضى حزب البعث على �سيا�سته النفطية‬

‫ ‪ 208‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ وانغم�س احلزب – الدولة (– املجتمع الظاهر من‬ ‫دون املجتمع العميق) يف حروب الداخل واخلارج‪ .‬و�أن�ش�أ‬ ‫�أجهزة �سيطرته وغلبته من طريق تو�سع عددي هائل‬ ‫ومتفاوت املراتب والنفوذ‪ ،‬مولته املوارد ال�ضخمة التي‬ ‫جناها احلزب احلاكم من موجتي زيادة ا�سعار النفظ‬ ‫وقفزتها يف ‪ 1973‬و‪ .1978‬فحني انقلب احلزب‬ ‫على عارف الثاين‪ ،‬يف �صيف ‪ ،1968‬كان عديد اجلي�ش‬ ‫العراقي يبلغ ‪� 80‬ألف ًا �أو �أقل بقليل‪ ،‬ويبلغ �سكان العراق‬ ‫‪ 8.5‬ماليني‪ .‬وعلى هذا‪ ،‬من كل �ألف عراقي‪ ،‬من االعمار‬ ‫كلها ومن اجلن�سني‪ ،‬كان ثمة ‪ 10‬ع�سكريني‪ .‬ويف �أثناء‬ ‫عقد واحد من ال�سنني زاد عديد اجلي�ش ‪� 3‬أ�ضعاف‪ ،‬حني‬ ‫زاد عدد ال�سكان �أقل من الثلثني (‪ 13.5‬مليون ًا)‪ .‬ف�صار‬ ‫ثمة من كل �ألف عراقي ‪ 18‬ع�سكري ًا‪ .‬فلما م�ضت ‪4‬‬ ‫�أعوام على ابتداء احلرب العراقية – االيرانية‪ ،‬قفز عديد‬ ‫اجلي�ش اىل ‪� 600‬ألف‪ ،‬ون�سبة الع�سكريني من كل �ألف‬ ‫عراقي اىل ‪ .42‬وتفوق هذه الن�سبة مثلها يف عهد �شاه‬ ‫�إيران نحو ‪� 5‬أ�ضعاف‪ ،‬ونظريها الربازيلي ‪� 24‬ضعف ًا‬ ‫(االرقام واملقارنة عن �سمري اخلليل‪ ،‬قناع كنعان مكية‪،‬‬ ‫«جمهورية اخلوف»‪ 1990 ،‬املو�سوم بالفرن�سية «الآلة‬ ‫اجلهنمية»)‪ .‬و�إىل اجلي�ش النظامي‪� ،‬أن�ش�أ احلزب «جي�ش ًا‬ ‫�شعبي ًا» هو «ميلي�شيا» �أهلية وعامية م�سلحة قارب‬

‫ ‪ 209‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫العراقيني اىل اقل من ن�صفهم‪ .‬و�أقبلت الن�ساء على‬ ‫التعليم‪ ،‬وعلى العمل من َبعد‪ ،‬من غري معوقات‪ .‬وغلنب‬ ‫على مهن مثل ال�صيدلة وطبابة اال�سنان‪ .‬وناط احلزب‬ ‫بهيئات ق�ضائية‪ ،‬وباللجان ال�شعبية (�أي احلزبية‪� ،‬ش�أن‬ ‫«اجلي�ش») الو�صاية على بع�ض االحوال ال�شخ�صية‬ ‫التي كان االهل �أو الع�شرية‪ ،‬يبتونها يف �ضوء االعراف‬ ‫واالح��ك��ام الفقهية‪ .‬و�أ�ضعفت الهيئات الق�ضائية‬ ‫واللجان احلزبية االبنية االجتماعية و�أعرافها املتوارثة‪.‬‬ ‫و�سعت يف تقلي�ص �سطوتها على االهايل‪ ،‬ويف بلورة‬ ‫مدونة «وطنية» وم�شرتكة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ وح�ين ا�ستقر احل��زب غ��داة احل��رب العراقية –‬ ‫و�شبه على بع�ض‬ ‫االيرانية‪ ،‬يف �سدة احلكم قوي ًا ومنيع ًا‪َّ ،‬‬ ‫العراقيني‪ ،‬وعلى معظم «املجتمع الدويل» و�إعالمه‪ ،‬بلورة‬ ‫وطنية عراقية متما�سكة ومولودة من حربه الطويلة على‬ ‫�إي��ران وحرب �إي��ران عليه – ح�ضت �صحافة احلزب‬ ‫الرجال العراقيني‪� ،‬أي «فر�سان» العراق «الن�شامى»‪،‬‬ ‫اىل االقت�صا�ص من الن�ساء («املاجدات» �سابق ًا) الالئي‬ ‫ي�شكون يف ف�ضيلتهن (غداة حرب عا�صفة امتحنت‬ ‫ال»‪ ،‬هو القتل‪ .‬وو�صف النظام‬ ‫اال�رس) ق�صا�ص ًا «ع��اد ً‬ ‫«اخلروج عن الف�ضيلة»‪� ،‬ش�أنه يف و�صف اجلرمية الو�ضيعة‬ ‫او العادية‪ ،‬و�صف ًا �سيا�سي ًا‪ ،‬فقرنه بالرقابة الدولية على‬ ‫الت�سلح‪ .‬فبدد ثمرة ن�رش التعليم واالنخراط يف العمل‬ ‫املهني‪ ،‬وجزى بالقتل اخلروج واالنتهاك الفرديني ملعايري‬ ‫عمل حتتكم اىل حلمة اجلماعات و�سيطرتها على االفراد‪.‬‬ ‫فعلى مثال اال�صالح الزراعي الذي مر الكالم فيه‪،‬‬ ‫احت�سب احلزب – الدولة ( ‪« -‬املجتمع») من التعليم‬ ‫وعمل الن�ساء وحتكيم الق�ضاء «املدين �إ�ضعافها ت�سلط‬ ‫االبنية االهلية املحافظة‪ ،‬االبوية واملذهبية الدينية‪،‬‬ ‫على ��شرط �أال يرتتب على «التحديث» ا�ستقالل‬ ‫طبقات و�سطى مدينية ب�أحكامها و�آرائها و�سنن جديدة‪،‬‬ ‫ووالدتها �أفراد ًا ال ي�ؤمن انقالبهم مواطنني «يريدون» –‬ ‫وقد يجتمع منهم «�شعب» على غري معنى ال�شعوبية �أو‬ ‫القومية‪ ،‬ميتنع من االلتحام والتكتيل والتوحيد‪ ،‬ويوجب‬ ‫حقه يف االنق�سام واملنازعة‪� ،‬أي يف ال�سيا�سة‪.‬‬ ‫ ف�إذا كان هذا �ش�أن «بعث �صدام ح�سني»‪ ،‬وعلى مثاالت‬ ‫قريبة وخمتلفة �ش�أن بعث حافظ اال�سد وخالفه و�ش�أن‬ ‫�شطر غالب من النظام النا�رصي امل�رصي وخالفيه‪ ،‬فقد‬ ‫يدعو ما تقدم من اقتفاء �أثر‪ ،‬ومن «ق�ص�ص»‪ ،‬رفع االقتفاء‬ ‫اىل حلقات ن�سب �أ�سبق‪ ،‬والنزول منه اىل االنقالب‬ ‫«الليربايل» املعومل على الدولة – احلزب (‪« -‬املجتمع»)‪.‬‬


‫انواع خمتلفة نوعيا من ال�سلع‬ ‫ثمة �رشط �آخر من �رشوط جتاوز الر�أ�سمالية الزماتها‬ ‫البنيوية هو اللجوء اىل التجديدات بل اىل «الثورات»‬ ‫يف عامل التكنولوجيا‪ .‬يرى �أرن�ست ماندل ان تلك‬ ‫للتو‪ .‬تقابل‬ ‫التغيرّ ات ت�صادف احلقبات التي و�صفناها ّ‬ ‫تكنولوجيا البخار حقبة الر�أ�سمالية القومية؛ والكهرباء‬ ‫الذرية‬ ‫و�آل��ة االح�تراق حقبة االمربيالية؛ والطاقة‬ ‫ّ‬ ‫وال�سيربنيتيكا حقبتنا احلالية‪ ،‬حقبة الر�أ�سمالية املتعدية‬ ‫ي�سميها البع�ض‬ ‫اجلن�سية والعوملة‪ ،‬وهي احلقبة التي‬ ‫ّ‬ ‫«حقبة ما بعد احلداثة»‪ .‬و ّل��دت تلك التكنولوجيات‬ ‫�أمناطا جديدة من ال�سلع و�أدت اىل فتح ف�ضاءات عاملية‬ ‫جديدة‪ ،‬فتولت بالتايل «تقلي�ص» مدى الكرة االر�ضية‬ ‫و�إع��ادة تنظيم الر�أ�سمالية وفق مقيا�س جديد‪ .‬بهذا‬ ‫املعنى ت�صري تو�صيفات الر�أ�سمالية املت�أخرة‪ ،‬وفق ًا‬ ‫ملقايي�س املعلوماتية او ال�سبرينيتيكا‪ ،‬منا�سِ بة (وكا�شفة‬ ‫جد ًا من الناحية الثقافية) ولكنها حتتاج اىل اعادة‬ ‫ربطها بالديناميات االقت�صادية التي ي�سهل ف�صلها‬ ‫عنها على نحو بالغي وفكري واديولوجي‪.‬‬ ‫ اذا كانت هذه التحقيبات العامة لر�أ�س املال مقبولة‪،‬‬ ‫يت�ضح فورا ان منوعات «ما بعد املارك�سية» التي تعود اىل‬ ‫برن�شتاين يف منعطف القرن االخري او اىل ما «بعد البنيوية»‬ ‫يف الثمانينات‪ ،‬اكانت تطرح «ازمة» املارك�سية او تب�شرّ حتى‬ ‫بـ «موتها»‪ ،‬تزامنت مع احلقبات التي يتم فيها �إعادة تنظيم‬ ‫تو�سعها على نحو باهر‪ .‬وهذه احلقبات‬ ‫الر�أ�سمالية وحتقيق ّ‬ ‫ا�ستتبعتها بدورها م�شاريع نظرية خمتلفة ملارك�سية اكرث‬ ‫حداثة ‪ -‬بل قل بعد حداثية‪ ،‬يف ع�رصنا هذا ‪ -‬هي مارك�سية‬ ‫املتوقعة التي تفتحت‬ ‫حتاول التنظري للف�ضاءات اجلديدة وغري‬ ‫َ‬ ‫امام مو�ضوع درا�ستها التقليدي‪ ،‬الر�أ�سمالية بذاتها‪.‬‬

‫مخس أطروحات يف الماركسية المعارصة‬ ‫االطروحة االوىل‬ ‫فريدريك جاميسون‬ ‫تظهر تيارات ما بعد املارك�سية بانتظام يف اللحظات ذاتها‬ ‫حتول بنيوي على الر�أ�سمالية‪.‬‬ ‫من ابرز النقاد التي يطر�أ فيها ّ‬ ‫التعمق‬ ‫الماركسيني االمريكيني ان املارك�سية هي ِعلم الر�أ�سمالية‪ .‬وملزيد من‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫امل�صطلحني‪ ،‬نقول انها علم التناق�ضات الكامنة‬ ‫والمنظرين لتيار بعد يف‬ ‫َ‬ ‫احلداثية‪ .‬من مؤلفاته يف �صلب الر�أ�سمالية‪ .‬هذا يعني انه ال معنى لالحتفال‬ ‫«المنطق الثقايف بـ«موت املارك�سية » يف الوقت الذي يعلن فيه االنت�صار‬ ‫للرأسمالية المتأخرة»؛ النهائي للر�أ�سمالية ولل�سوق‪ .‬فاالحرى القول ان هذه‬ ‫«الالوعي السيايس»؛ االخرية [الر�أ�سمالية] ت�ضمن م�ستقبال م�ضمونا لالوىل‬ ‫«الماركسية [املارك�سية] بغ�ض النظر عن مدى «نهائية» انت�صارها‪.‬‬ ‫والشكل»؛ «حفريات هذا من جهة‪ .‬اما من جهة اخ��رى‪ ،‬فان «تناق�ضات»‬ ‫المستقبل» (‪ )٢٠٠٥‬الر�أ�سمالية لي�ست عملية انحالل داخلي هالمية‪ ،‬امنا هي‬ ‫ِ‬ ‫ومنتظمة قابلة لأن يجري تنظريها بعد‬ ‫آخر اعماله عن متثل عملية �رشعية‬ ‫رأس المال اجلزء االول وقوعها‪ .‬فمثال‪ ،‬يف كل حلظة معينة من حلظات منوها‪ ،‬ف�إن‬ ‫(‪ )٢٠١١‬املدى الذي ت�سيطر عليه الر�أ�سمالية بوا�سطة ال�سلع التي‬ ‫هي قادرة تقنيا على انتاجها‪ ،‬يزدحم اىل درجة ما فوق‬ ‫الإ�شباع‪ .‬من هنا ان هذه االزمة ازمة بنيوية‪.‬‬ ‫ على ان الر�أ�سمالية لي�ست جمرد نظام انتاج او منط‬ ‫انتاج‪ ،‬انها منط االنتاج االكرث مرونة واالوف��ر قابلية‬ ‫للتكيف الذي عرفه التاريخ االن�ساين اىل الآن‪ .‬وقد �سبق‬ ‫ّ‬ ‫له ان تغلّب على مثل تلك االزمات الدورية‪ .‬حتقق له ذلك‬ ‫بوا�سطة ا�سرتاتيجيتني اثنتني ا�سا�سيتني‪ :‬تو�سيع النظام‪،‬‬ ‫وانتاج انواع من ال�سلع خمتلفة جذريا عن �سابقاتها‪.‬‬ ‫تو�سيع النظام‬ ‫للر�أ�سمالية دوما مركز‪ .‬كان املركز ال�سابق هو املركز‬ ‫االنكليزي وهو الآن مركز الهيمنة االمريكي‪ .‬وكان كل‬ ‫مركز جديد �أو�سع مدى واكرث احاطة من املراكز التي‬ ‫�سبقته‪ .‬وبهذا تنفتح جماالت �أرحب للت�سليع عموما‪ ،‬ولقيام‬

‫ ‪ 210‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫اال�سواق و�إنتاج املنتجات اجلديدة‪ .‬وفاقا ل�صيغة خمتلفة‬ ‫نوعا ما من �صيغ ال�رسد التاريخي‪ ،‬ن�ستطيع احلديث عن‬ ‫حقبة قومية من حلظات تطور الر�أ�سمالية انبثقت من الثورة‬ ‫ال�صناعية يف القرن الثامن ع�رش‪ .‬وتلك هي احلقبة التي‬ ‫خربها مارك�س نف�سه ّ‬ ‫ونظر لها‪ ،‬و�إن يكن ب�صورة نبوئية‪.‬‬ ‫وقد �أعقبتها يف نهاية القرن التا�سع ع�رش حقبة االمربيالية‪،‬‬ ‫حيث انخرقت حدود اال�سواق القومية وت�أ�س�س نظام‬ ‫كولونيايل �شامل للعامل ب�أ�رسه‪ .‬اخريا‪ ،‬بعد احلرب العاملية‬ ‫الثانية ويف ع�رصنا احلايل‪ّ ،‬‬ ‫تفكك النظام االمربيايل القدمي‬ ‫ّ‬ ‫وحل حم ّله «نظام عاملي» جديد ت�سيطر عليه ال�رشكات‬ ‫املتعدية اجلن�سية‪ .‬ان احلقبة احلالية من الر�أ�سمالية‪ ،‬الر�أ�سمالية‬ ‫«العابرة للقوميات»‪ ،‬تعي�ش توازنا قلقا‪ ،‬بعد انهيار االحتاد‬ ‫ال�سوفياتي‪ ،‬بني ثالثة مراكز هي اوروبا والواليات االمريكية‬ ‫املتحدة واليابان‪ ،‬لكل مركز ملحقاته ال�شا�سعة من الدول‬ ‫الدائرة يف فلكه‪ .‬هذه احلقبة الثالثة‪ ،‬التي مل تكتمل مراحل‬ ‫انبثاقها احلا�سمة اال مع نهاية احلرب الباردة (على افرتا�ض‬ ‫انها اكتملت ف�صوال) هي بالت�أكيد اكرث «عوملة» من ع�رص‬ ‫االمربيالية ال�سابق‪ .‬فمع «حترير اال�سواق» (ح�سب الت�سمية‬ ‫الدارجة) يف ارا�ض �شا�سعة من الهند والربازيل و�أوروبا‬ ‫ال�رشقية‪ ،‬باتت فر�ص تغلغل ر�أ�س املال وال�سوق �أعظم‬ ‫نوعيا مما كانت عليه يف مراحل �سابقة من الر�أ�سمالية‪ .‬فهل‬ ‫يجب اخللو�ص من ذلك اىل ان هذا هو االكتمال النهائي‬ ‫تكون ال�سوق العاملي وبالتايل بلوغ‬ ‫ملا تنب�أ به مارك�س حول ّ‬ ‫الر�أ�سمالية حقبتها اخلتامية ‪ -‬مبا فيها «الت�سليع ال�شامل لقوة‬ ‫العمل»؟ ا�شك يف ذلك‪ .‬لأن الديناميات الطبقية الداخلية‬ ‫للحقبة اجلديدة مل ت�ستنفد كامل طاقاتها بعد‪ ،‬وعلى‬ ‫االخ�ص من حيث انبثاق ا�شكال جديدة من تنظيم العمل‬ ‫ّ‬ ‫ومن الن�ضال ال�سيا�سي املتنا�سب مع الدرجة التي بها‬ ‫حتول عامل اال�شغال بف�ضل «العوملة»‪.‬‬ ‫ّ‬

‫االطروحة الثانية‬ ‫اال�شرتاكية مبا هي ر�ؤي��ة للحرية ‪ -‬احلرية من القيود‬ ‫االقت�صادية واملادية املرفو�ضة والتي ميكن تفاديها‪ ،‬واحلرية‬ ‫مبا هي املمار�سة اجلماعية ‪ -‬مهددة يف زماننا على �صعيدين‬ ‫اديولوجيني معا‪� :‬صعيد «الن�ضال ال�رسدي» (ح�سب تعبري‬ ‫�ستيوارت هول‪ ،‬اي الن�ضال لل�سيطرة على م�صطلحات‬ ‫اخلطاب ال�رسدي وقواعده) امل�شتبك يف �سجال حول‬ ‫نظام ال�سوق مع الثات�شريية على ال�صعيد العاملي؛ و�صعيد‬ ‫اعمق ي�شتغل على اثارة املخاوف من الدعوات الطوبوية‬ ‫وت�أجذج الفزع من التغيري‪ .‬والوا�ضح ان هذين ال�صعيدين‬ ‫ي�ستدعي واحدهما الآخر‪ ،‬طاملا ان املحاججة دفاعا عن‬

‫ ‪ 211‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ال�سوق تفرت�ض �سل�سلة �آراء عن الطبيعة الب�رشية ال تلبث‬ ‫تتمرن عليها بطرائق اكرث‬ ‫الر�ؤية املعادية للطوبى ان‬ ‫ّ‬ ‫خال�صية واكرث تعبريا عن ال�شهوة اجلن�سية‪.‬‬ ‫ ينجح الن�ضال ال�رسدي (خالفا للنزاع االديولوجي‬ ‫املبا�رش) حني يلج�أ اىل اال�ساءة ل�سمعة بدائله و�إ�سدال‬ ‫�ستار ال�صمت على �سل�سلة من العناوين الرئي�سة‪ .‬انه‬ ‫ي�ستنجد بالتتفيه وال�سذاجة وامل�صلحة املادية و «التجربة»‬ ‫والفزع ال�سيا�سي والدرو�س التاريخية مبا هي «اال�س�س»‬ ‫التي بوا�سطتها ينزع ال�رشعية نهائيا عما كان �سابقا من‬ ‫اجلدية كالت�أميم والتنظيم واالنفاق التعجيزي‬ ‫املمكنات ّ‬ ‫والكينزية والتخطيط االقت�صادي وحماية ال�صناعات‬ ‫الوطنية وبناء �شبكات االمان االجتماعية‪ ،‬و�صوال اىل نزع‬ ‫ال�رشعية عن دولة الرعاية ذاتها‪ .‬و�إذ يجري و�صم تلك‬ ‫االخرية باال�شرتاكية‪ ،‬يجري متكني رطانة ال�سوق من �إحراز‬ ‫انت�صارين معا‪ ،‬انت�صارا على «الليرباليني» (وفق امل�صطلح‬ ‫امل�ستخدم يف الواليات املتحدة االمريكية‪ ،‬كما يف‬ ‫ال�سائد‬ ‫َ‬ ‫احلديث عن «ليرباليي النيو ديل » اي التقدميني عموما )‬ ‫من جهة‪ ،‬وانت�صارا على الي�سار من جهة اخرى‪ .‬وهكذا‬ ‫يو�ضع الي�سار اليوم يف و�ضع حمرج ال�ضطراره الدفاع‬ ‫عن احلكومات التدخلية يف االقت�صاد وعن دولة الرعاية‪،‬‬ ‫وهو امر حمرِ ج له نظرا اىل تقاليده املتطورة واملرتاكمة يف‬ ‫نقد الدميقراطية اال�شرتاكية يف غياب ما يتمتع به معظم‬ ‫الي�ساريني من فهم جديل للتاريخ‪ .‬واملطلوب خ�صو�صا هو‬ ‫ا�ستعادة بع�ض االح�سا�س بالطريقة التي بها تتغيرّ االو�ضاع‬ ‫التاريخية‪ ،‬ومبا يرافقها وترتب عليها من االجابات‬ ‫ال�سيا�سية واال�سرتاتيجية‪ .‬على ان هذا يفرت�ض اي�ضا‬ ‫ا�شتباكا مع ما ي�سمى «نهاية التاريخ»‪ ،‬اي مع الالتاريخية‬ ‫اال�صلية التي تقوم عليها املذاهب «بعد احلداثية» عموما‪.‬‬ ‫ يف االنتظار‪ ،‬فاملخاوف املرتبطة بالطوبى‪ ،‬واملنبثقة من‬ ‫املكونة لهويتنا احلالية‪ ،‬ومعها كل‬ ‫القلق من اختفاء العنا�رص ّ‬ ‫العادات وا�شكال ا�شباع الغريزة اجلن�سية ال�سائدة حاليا‪،‬‬ ‫حتت وط�أة التدابري االجتماعية اجلديدة والتغيرّ اجلذري يف‬ ‫النظام املجتمعي‪ ،‬وهي خماوف ت�سهل ا�ستثارتها وتعبئتها‬ ‫الآن اكرث من اي وقت يف املا�ضي القريب‪ .‬والوا�ضح‪ ،‬على‬ ‫االقل يف الن�صف االغنى من العامل ولي�س فقط يف �رشائحه‬ ‫امل�سيطرة‪ ،‬ان �أمل املحرومني يف التغيري يف احلقبة احلديثة قد‬ ‫حلّ حملّه الرعب من اخل�رسان‪ .‬ان تلك اخلوافات املعادية‬ ‫للطوبى جتب مواجهتها وجاهيا بوا�سطة لون من الت�شخي�ص‬ ‫التهرب منها بالتنازل‬ ‫الثقايف والعالج الثقايف‪ ،‬بديال من‬ ‫ّ‬ ‫لهذه املظهر او ذاك من مظاهر املحاججة العامة دفاعا عن‬


‫نتخيل الثورة ‪ -‬مبا هي م�سار وعملية‬ ‫ ينبغي ان‬ ‫ّ‬ ‫تفكك لنظام �سينكروين وعملية تفككه مع ًا ‪ -‬على‬ ‫انها �سلّة من املطالب ميكن ان يطلقها حدث زمني او‬ ‫�سيا�سي معينّ مثل انت�صار ي�ساري يف معركة انتخابية‬ ‫او تفكك �سلطة كولونيالية‪ ،‬فال يلبث هذا وذاك ان‬ ‫ويتجدر �شعبيا على نحو متزايد االت�ساع‪ .‬ان‬ ‫ينت�رش‬ ‫ّ‬ ‫تلك املوجات من املطالب ال�شعبية اجلديدة‪ ،‬التي تنبثق‬ ‫من الطبقات االكرث عمقا من ال�سكان‪ ،‬التي كانت اىل‬ ‫ذلك احلني حمرومة مكتومة ال�صوت‪ ،‬ال تلبث ان جت ّذر‬ ‫حتى اكرث احلكومات الي�سارية افرتا�ضية ومتلي على‬ ‫التحوالت احلا�سمة‪ .‬ان االمة (والعامل‬ ‫الدولة املزيد من‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫�ستقطب �إذذاك وفق‬ ‫اي�ضا يف زماننا هذا) ال تلبث ان ُت‬ ‫الثنائية الكال�سيكية حيث يتعينّ على اجلميع‪ ،‬مهما‬ ‫طال تردده‪ ،‬ان ينحاز اىل جانب او اىل �آخر‪ .‬اذذاك تثار‬ ‫م�س�ألة العنف بال�رضورة‪ :‬فاذا مل تكن العملية [اجلارية]‬ ‫ثورة اجتماعية فال �شيء ي�ستوجب ا�ستكمالها بوا�سطة‬ ‫العنف‪ .‬اما اذا كانت ثورة اجتماعية‪ ،‬ف�سوف يلج�أ الطرف‬ ‫املهيمن من اال�ستقطاب حكما اىل مقاومتها بالعنف‪،‬‬ ‫وبهذا املعنى ح�رصا‪ ،‬ي�صري العنف (غري مرغوب به اىل‬ ‫ابعد احلدود) العالمة اخلارجية او الظاهرة املرئية التي‬ ‫ت�ؤكد ان ما يجري هو م�سار ثوري اجتماعي حقيقي‪.‬‬ ‫ ان امل�س�ألة اال�سا�سية املثارة هنا لي�ست ما اذا كان مفهوم‬ ‫الثورة ال يزال قابال للحياة‪ ،‬وامنا هي م�س�ألة اال�ستقالل‬ ‫مت�سع‪ ،‬يف النظام‬ ‫الوطني‪ .‬يجب ان نت�ساءل ما اذا كان من ّ‬ ‫العاملي ال�سائد اليوم‪ ،‬لقطعة من االق�سام املندجمة ان‬ ‫تنف�صل او ان ت�رصم �صلتها (ح�سب تعبري �سمري امني) بذاك‬ ‫النظام وتوا�صل من ثم منطا مغايرا من التطوراالجتماعي‬ ‫ومنطا خمتلفا جذريا من امل�رشوع املجتمعي‪.‬‬

‫ال�سوق‪ .‬ان كل احلجج عن الطبيعة الب�رشية ‪ -‬اكانت تو�صف‬ ‫على �أنها طيبة ومطواعة ام �رشيرة وعدوانية تتطلب تطويعها‬ ‫بوا�سطة ال�سوق �إن مل نقل بوا�سطة طغيان «الليواثان»‪ -‬هي‬ ‫التو�سري) يجب‬ ‫حجج «�إن�سانوية» واديولوجية (كما علّمنا‬ ‫ّ‬ ‫ا�ستبدالها بافق التغيري اجلذري وامل�رشوع املجتمعي‪ .‬ويف‬ ‫تلك االثناء‪� ،‬سوف يحتاج الي�سار اىل ان يدافع بعدوانية‬ ‫عن احلكومات «الثقيلة»‪ ،‬املتدخلة يف االقت�صاد‪ ،‬وعن دولة‬ ‫الرعاية وان يهاجم با�ستمرار رطانة ال�سوق على ا�سا�س‬ ‫احلرة (كما يتبينّ من‬ ‫ال�سجلّ التخريبي التاريخي لل�سوق ّ‬ ‫تنظري پولينيي ومن التجربة االوروبية ال�رشقية)‪.‬‬ ‫االطروحة الثالثة‬ ‫على ان مثل تلك املحاججات تفرت�ض بدورها اتخاذ موقف‬ ‫مما هو ت�أكيدا املفهوم اال�س الية مارك�سية تتبنى «وحدة‬ ‫النظرية مع املمار�سة»‪ ،‬اق�صد مفهوم الثورة ذاتها‪ .‬وذلك‬ ‫لأن انتهاء �صالحية هذا املفهوم ي�شكّ ل الدليل اجلرمي‬ ‫املركزي يف تر�سانة العداء للمارك�سية او تر�سانة «بعد‬ ‫املارك�سية»‪ .‬على ان الدفاع عن هذا املفهوم ي�ستدعي‬ ‫عددا من التح�ضريات االولية وهو يتطلّب خ�صو�صا‬ ‫التخلي اىل عامل اخلرافة عن كل ما يوحي ب�أن الثورة حلظة‬ ‫عابرة واعادة االعتبار لها مبا هي م�سارا مركب ومعقد‪.‬‬ ‫فمثال يجب ان نطرح جانبا العديد من ال�صور االيقونية‬ ‫االحب اىل قلوبنا عن خمتلف الثورات التاريخية‪ ،‬مثل‬ ‫ّ‬ ‫الهجوم على ق�رص ال�شتاء [يف الثورة الرو�سية ] او ال َق َ�سم‬ ‫يف ملعب التن�س [يف الثورة الفرن�سية الكربى]‪.‬‬ ‫ لي�ست الثورة االجتماعية حلظة زمنية‪ ،‬وامنا ميكن التوكيد‬ ‫عليها وفق امل�صطلحات املتعلقة ب�رضورة التغيري مبا هي نظام‬ ‫متزامن يتما�سك كل �شيء فيه ويرتابط مع كل �شيء �آخر‪.‬‬ ‫ويتطلّب مثل ذلك النظام بالتايل نوعا من التغيري املنظومي‬ ‫املطلق بديال من «اال�صالح» بالتق�سيط الذي يت�ضح انه‬ ‫«طوباوي»‪ ،‬باملعنى ال�سلبي للكلمة‪ ،‬اي انه وهمي وغري قابل‬ ‫للتحقيق‪ .‬وهذا يعني ان ذاك النظام‪-‬الثورة يتطلّب الر�ؤية‬ ‫االديولوجية لبديل اجتماعي جذري عن النظام االجتماعي‬ ‫القائم‪ ،‬بديل ال ميكن اعتباره بديهيا مبثل ما ال ميكن وراثته‪،‬‬ ‫يف ظل حالة الن�ضال ال�رسدي الراهن‪ ،‬وامنا يتطلّب اعادة‬ ‫ابتكاره‪ .‬ان اال�صولية الدينية (اكانت ا�سالمية ام م�سيحية ام‬ ‫هندو�سية ) التي تزعم توفري بديل جذري للنزعة اال�ستهالكية‬ ‫ولـ «منط احلياة االمريكي» ال تنوجد على نحو ذا مغزى اال‬ ‫عندما تنفقد فج�أة البدائل الي�سارية التقليدية‪ ،‬وخ�صو�صا‬ ‫منها التقاليد الثورية العظيمة للمارك�سية وال�شيوعية‪.‬‬

‫ ‪ 212‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫االطروحة الرابعة‬ ‫مل يكن انهيار االحتاد ال�سوفياتي وليد �إخفاق ال�شيوعية وامنا‬ ‫كان وليد جناحاتها‪� ،‬رشط ان نفهم النجاحات‪ ،‬مثلما فهمها‬ ‫الغرب عموما‪ ،‬على انها ا�سرتاتيجية حتديث‪ .‬ذلك انه بوا�سطة‬ ‫التحديث ال�رسيع �ساد االعتقاد ان االحتاد ال�سوفياتي‪ ،‬حتى‬ ‫منذ خم�س ع�رشة �سنة‪ ،‬قد جنح يف ان يلحق بالغرب (وهو‬ ‫افق اثار قلقا ر�سميا بالكاد نتذكره الآن)‪.‬‬ ‫ يجب التوكيد على ثالثة اقرتاحات ا�ضافية تتعلق‬ ‫ب�إنهيار االحت��اد ال�سوفياتي‪ .‬االول هو ان التفكك‬ ‫االجتماعي وال�سيا�سي الداخلي امنا كان ج��زءا من‬ ‫تر�سيمة عاملية يف الثمانينات �شملت يف ف�سادها البنيوي‬

‫ ‪ 213‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫الغرب (الريغانية والثات�شريية وا�شكال موازية اخرى‬ ‫ي�سميه [ه�شام]‬ ‫يف ايطاليا وفرن�سا) والدول العربية (ما‬ ‫ّ‬ ‫�رشابي «البطريركية اجلديدة»)‪ .‬من هنا فمن الت�ضليل‬ ‫اطالق تف�سري اعتباطي لذلك الف�ساد البنيوي بناء على‬ ‫معطيات اخالقية‪ ،‬ذلك انه ينبثق من م�سار اجتماعي‬ ‫مادي اىل حد بعيد هو م�سار تراكم الرثوة غري املنتجة‬ ‫يف ال�رشائح االعلى من تلك املجتمعات‪ .‬وقد ات�ضح‬ ‫االن ان ذلك الركود وثيق ال�صلة بـظاهرة معروفة هي‬ ‫ظاهرة انف�صال الر�أ�سمالية املالية عن ا�صلها يف االنتاج‬ ‫ومتايزها عن ذلك اال�صل‪ .‬وقد ابان جيوڤاين � ّأريغي كيف‬ ‫تطور ر�أ�س املال قد عرفت حقبة اخرية‬ ‫ان كافة مراحل ّ‬ ‫يخلي فيها االنتاج املكان امام امل�ضاربة‪ ،‬حيث تنف�صل‬ ‫القيمة عن ا�صلها يف االنتاج ويتم تبادلها على نحو‬ ‫جمرد (وهو امر لي�س بدون مرتتبات ثقافية هو اي�ضا)‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ كذلك ينبغي التوكيد على ان مقوالت مثل الفاعلية‬ ‫واالنتاجية وامل�لاءة املالية مقوالت قيا�سية‪ ،‬اي ان‬ ‫نتائجها تفعل فعلها فقط يف حقل تتناف�س فيه عدة‬ ‫ظواهر متفاوتة‪ .‬و�إن التقنية االكرث فاعلية وانتاجية‬ ‫تنجح يف طرد االنظمة والآالت واملن�ش�آت ال�صناعية‬ ‫االقدم عهدا فقط عندما تدخل تلك االخرية حقل قوتها‬ ‫فتعر�ض عليها املناف�سة او تتحداها اليها‪.‬‬ ‫ يقودنا هذا اىل النقطة الثالثة وهي ان االحتاد ال�سوفياتي‬ ‫«�صار» فاقد الفاعلية وانهار عندما حاول ان يندمج يف نظام‬ ‫عاملي هو نف�سه يف حالة انتقال ق�ضت قواعد ت�شغيله اجلديدة‬ ‫ان يعمل على درجة من «االنتاجية» ارقى مبا ال يقا�س من‬ ‫كل ما هو موجود داخل النطاق ال�سوفياتي‪ .‬ف�إذا املجتمع‬ ‫ال�سوفياتي‪ ،‬مدفوعا بدوافع ثقافية (النزعة اال�ستهالكية‪،‬‬ ‫والتقنيات املعلوماتية االكرث حداثة‪ ،‬الخ‪ ).‬وم�سوقا اىل‬ ‫املناف�سة الع�سكرية التقنية املح�سوبة‪ ،‬ومنجذبا اىل �إغراء‬ ‫املديونية‪ ،‬وباال�شكال االكرث كثافة من التعاي�ش التجاري‪ ،‬قد‬ ‫دخل بيئة مل يكن ميلك عنا�رص البقاء على قيد احلياة داخلها‪.‬‬ ‫وميكن الزعم ب�أن االحتاد ال�سوفياتي والدول الدائرة يف فلكه‬ ‫ وقد كانت اىل ذلك احلني معزولة يف منطقة ال�ضغط اخلا�صة‬‫قبة جيوديزية اديولوجية‬ ‫بها ‪ -‬كما لو انها حمبو�سة حتت ّ‬ ‫واقت�صادية واجتماعية ‪ -‬بد�أت‪ ،‬عن غري حيطة من امرها‪،‬‬ ‫مزودة باالزياء‬ ‫يف فتح الفتحات الهوائية دون ان تكون ّ‬ ‫فتعر�ضت وم�ؤ�س�ساتها ل�ضغوط العامل‬ ‫الف�ضائية [الالزمة] ّ‬ ‫ت�صور النتيجة‬ ‫اخلارجي االقوى منها مبا ال يقا�س‪ .‬ميكن‬ ‫ّ‬ ‫مبا هي �شبيهة ل�ضغوط االنفجار على البنى اله�شة املحاذية‬ ‫مبا�رشة ملنطقة تفجري القنبلة الذرية االوىل‪ ،‬او بوزن ال�ضغط‬


‫وامل�شوه للماء يف قعر البحر على ع�ضويات بال حماية‬ ‫اجلبار‬ ‫ِّ‬ ‫منت وتطورت يف الطبقات العليا‪ .‬وت�أكيدا‪ ،‬فان هذه النتيجة‬ ‫ت�ؤكد حتذير [�إميانويل] ڤالري�ستني اال�ستباقي من ان االحتاد‬ ‫ال�سوفياتي‪ ،‬على �أهميته‪ ،‬مل يكن ي�شكل نظاما بديال عن‬ ‫النظام الر�أ�سمايل‪ ،‬وامنا �شكّ ل فقط ف�ضا ًء م�ضادا لذاك النظام‬ ‫او منطقة يف داخله‪ ،‬وان هذا الف�ضاء وتلك املنطقة قد تطايرا‬ ‫الآن ومل يبق منهما اال جيوب ميكن لتجارب ا�شرتاكية‬ ‫خمتلفة ان ت�ستمر يف داخلها‪.‬‬ ‫االطروحة اخلام�سة‬ ‫ان املارك�سيات ‪ -‬مبا هي احلركات ال�سيا�سية واي�ضا‬ ‫ا�شكال املقاومة للفكرية والنظرية تنبثق من النظام الراهن‬ ‫للر�أ�سمالية املت�آخرة ‪ -‬اي من نظام ما بعد احلداثة‪ ،‬ومن‬ ‫املرحلة الثالثة من الر�أ�سمالية العاملية‪ ،‬مرحلة املعلوماتية‬ ‫يعينها [ارن�ست‬ ‫وال�رشكات املتعدية اجلن�سيات‪ ،‬كما ّ‬ ‫مانديل ] ‪� -‬سوف تكون بال�رضورة خمتلفة عن تلك التي‬ ‫تطورت خالل املرحلة التحديثية‪ ،‬وخالل املرحلة التي‬ ‫ّ‬ ‫تلتها‪ ،‬مرحلة االمربيالية‪ .‬فال بد ان تقيم تلك املارك�سية‬ ‫املعا�رصة عالقة خمتلفة مع العوملة كما انها‪ ،‬باملقارنة مع‬ ‫ت�شبعا‬ ‫املارك�سيات ال�سالفة‪� ،‬سوف تكت�سي طابعا اكرث ّ‬ ‫تهتم ا�سا�سا بالظواهر املعروفة اىل الآن ب�إ�سم‬ ‫بالثقافة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫«ت�شي�ؤ ال�سلع» و«النزعة اال�ستهالكية»‪.‬‬ ‫ ان االهمية املتزايدة التي تكت�سبها الثقافة بالن�سبة اىل‬ ‫اال�صعدة ال�سيا�سية كما االقت�صادية لي�ست نتيجة ميل‬ ‫تلك اال�صعدة اىل االنف�صال او التمايز فيما بينها‪ ،‬امنا هي‬ ‫ت�شبع عملية الت�سليع ذاتها وتغلغلها االكرث �شموال‪،‬‬ ‫نتيجة ّ‬ ‫وقد متكنت الآن من ا�ستعمار مناطق وا�سعة من املجال‬ ‫الثقايف وقد كانت حم�صنة جتاهها او كانت‪ ،‬يف غالبيتها‪،‬‬ ‫حتول الثقافة الآن اىل‬ ‫معادية ملنطقها او متفارقة معه‪ .‬ان ّ‬ ‫جتارة يف معظمها نتج عنه حقيقة ان معظم ما كان يعترب‬ ‫اقت�صاديا او جتاريا �رصفا يف ال�سابق قد ا�صبح ثقافيا‬ ‫تدرج حتته كاف ُة ت�شخي�صات‬ ‫اي�ضا‪ ،‬وهو تو�صيف يجب ان َ‬ ‫ما ي�سمى «جمتمع ال�صورة» او «النزعة اال�ستهالكية»‪.‬‬ ‫ تتمتع املارك�سية ب�شكل عام بتفوق نظري يف مثل‬ ‫هذا التحليل‪ ،‬خ�صو�صا ان مفهومها للت�سليع مفهوم‬ ‫بنيوي ولي�س مفهوما تب�شرييا �أخالقيا‪ .‬ان االه��واء‬ ‫االخالقية تولد الن�شاط ال�سيا�سي‪ ،‬ولكنها ت�ستولده‬ ‫بانواعه االك�ثر ه�شا�شة‪ ،‬تلك التي ي�سهل اع��ادة‬ ‫ا�ستيعابها او اعادة احتوائها وهي قليلة اال�ستعداد الن‬ ‫تت�شارك مع �سائر احلركات يف ق�ضاياها وعناوينها‪.‬‬

‫ ‪ 214‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫علم ًا ان االدغام والتعمري وحدهما ي�سمحان للحركات‬ ‫ميال‬ ‫ال�سيا�سية ب�أن تنمو وتتطور وتت�سع‪ .‬وبالت�أكيد‪ ،‬فانا ّ‬ ‫للقول العك�سي‪ ،‬ب�أن �سيا�سة التب�شري التب�شريية اخالقيا‬ ‫تزدهر حيث يتم احل َْجر على املعرفة البنيوية وعلى‬ ‫امل�سح االجتماعي‪ .‬وان ت�أثري العامل الديني واالثني‬ ‫اليوم يجب فهمه مبا هو تعبري عن الغ�ضب �إزاء اخفاق‬ ‫اال�شرتاكية‪ ،‬وحماولة يائ�سة عمياء مللء الفراغ [الناجم‬ ‫عن ذلك الإخفاق] بحوافز جديدة‪.‬‬ ‫ اما ب�ش�أن النزعة اال�ستهالكية‪ ،‬فامل�ؤمل ان يتبينّ‬ ‫انها ذات مغزى تاريخي لأنه كان لزاما على االجتماع‬ ‫مير بالتجربة اال�ستهالكية مبا هي منط حياة‪،‬‬ ‫الب�رشي ان ّ‬ ‫ولو من اجل ان نختار على نحو اكرث وعيا ‪/‬منط حياة‬ ‫خمتلفا جذريا يحلّ حملّها‪ .‬اما بالن�سة ملعظم ارجاء‬ ‫العامل ف�إن �إدمان النزعة اال�ستهالكية لن يكون متوافرا‬ ‫ال�سباب مو�ضوعية‪ ،‬لذا فالت�شخي�ص اال�ستباقي التي‬ ‫اطلقته للنظرية الراديكالية يف ال�ستينات ‪ -‬من ان‬ ‫الر�أ�سمالية قوة ثورية بذاتها لكونها تنتج حاجات‬ ‫ورغبات جديدة لن ي�ستطيع النظام الر�أ�سمايل نف�سه‬ ‫ان ي�شبعها ‪ -‬هذا النظرية �سوف جتد االن حتققها على‬ ‫النطاق ال�شامل للنظام العاملي اجلديد‪.‬‬ ‫ على �صعيد نظري‪ ،‬يجوز االق�تراح ان الق�ضايا‬ ‫امللحة الراهنة ‪ -‬البطالة البنيوية الدائمة‪ ،‬وامل�ضاربة‬ ‫ّ‬ ‫املالية وحركات لر�أ�س املال منفلتة من اي �سيطرة‪،‬‬ ‫و«جمتمع ال�صورة»‪ ،‬وغريها ‪ -‬ترتابط ترابطا عميقا من‬ ‫حيث فقدانها امل�ضمون وطابعها التجريدي (باملقارنة‬ ‫مع ما كان ي�سمى «اال�ستالب» يف ع�رص �آخر)‪ .‬وميكن‬ ‫بلوغ امل�ستوى االكرث تفارقا من اجلدلية عندما نعيد‬ ‫الو�صل بني م�سائل العوملة واملعلوماتية‪ .‬فثمة مع�ضلة‬ ‫تدمج االمكانيات االديولويجة‬ ‫مفر منها تتجلى حني َ‬ ‫ال ّ‬ ‫وال�سيا�سية لل�شبكات العاملية اجلديدة (للي�سار واليمني‬ ‫كما لعامل البزن�س) مع النق�صان يف اال�ستقالل الذاتي‬ ‫يف النظام العاملي احلايل ومع ا�ستحالة حتقيق اية منطقة‬ ‫قومية او اقليمية ال�ستقاللها الذاتي والكتفائها الذاتي‬ ‫او االنف�صال عن ال�سوق العاملية او القطع معها‪.‬‬ ‫ لن يعرث املثقفون على طريقهم باجلهد الفكري وحده‪.‬‬ ‫بل ان ن�ضج التناق�ضات البنيوية يف الواقع هو ما �سوف‬ ‫ي�سمح با�ست�رشاف االمكانيات اجلديدة‪ .‬ومع ذلك ن�ستطيع‬ ‫ان نبقي تلك املع�ضلة على قيد احلياة بوا�سطة «الت�شبث‬ ‫بال�سلب» كما كان يقول هيغل‪ ،‬اي املحافظة على ذلك املوقع‬ ‫الذي منه ن�ستطيع ان نتوقع �صدور اجلديد غري املتو َقع‪.‬‬

‫معىن النظرية يف الناشط الثوري‬ ‫سالمة كيلة تت�شكل امل�س�ألة النظرية حني الإ�شارة �إىل الثورة والتغيري‪،‬‬ ‫والن�شاط العملي عموم ًا‪� ،‬أي حني ننتقل من املمار�سة �إىل ما‬ ‫جمرد‪� ،‬إىل «التنظري» الذي يعني البحث يف «�أفكار»‪،‬‬ ‫كاتب فلسطيين هو ّ‬ ‫والإغراق يف الكتب‪ ،‬ويف «الكالم»‪ .‬باخت�صار يبدو �أننا‬ ‫ننغلق يف تعقيدات الفل�سفة والفكر بالتحديد‪ ،‬بعيد ًا عن‬ ‫حركة الواقع وتعقيداته‪ .‬لهذا‪ ،‬غالب ًا ما تكون الدعوة حني‬ ‫ُتطرح م�س�ألة الثورة هي �إىل املمار�سة ولي�س �إىل التنظري‪،‬‬ ‫واىل الن�شاط العملي ولي�س �إىل القراءة والبحث يف النظرية‪.‬‬ ‫فالعمل هو ما ي�سيطر على الأذهان‪ ،‬وهو ما يعترب �أ�سا�س �أي‬ ‫ن�شاط حزبي �أو ن�شاط ثوري‪ .‬وهو كل �شيء تقريب ًا‪.‬‬ ‫ يبدو هنا �أن ال عالقة بني النظرية والن�شاط بهذا‬ ‫املعنى‪ ،‬و�أنهما رمبا كانا متناق�ضني‪ ،‬وبالتايل ف�إن الأ�سا�س‬ ‫هو الن�شاط‪ ،‬العمل‪ ،‬الفعل‪� .‬إن العفوية وحدها هي التي‬ ‫توجد هذه العالقة بني النظرية والعمل‪� ،‬أو تفرت�ض‬ ‫التناق�ض بني النظرية والعمل‪� .‬إذ يبدو الفعل �سابق ًا على‬ ‫التفكري‪ ،‬وبالتايل دون تفكري‪ .‬وتكون املمار�سة ع�شوائية‪،‬‬ ‫انفعالية‪ ،‬ودون �أ�س�س ت�سمح بتحقيق تراكم يطورها‪ .‬هنا‬ ‫«حركة اليد» ت�سبق حركة العقل‪ .‬وامل�شكلة هي � ّأن هذه‬ ‫«الفكرة» تعترب �أ�سا�س الن�شاط الثوري‪.‬‬ ‫ هل ت�سبق الدرا�سة العمل؟ �أو هل من �رضورة لأن‬ ‫ت�سبق الدرا�سة العمل؟ وهل من �رضورة لأن يكون‬ ‫العمل مدرو�س ًا؟ هذه امل�س�ألة التي حتتاج �إىل فكر‬ ‫وتفكري تبدو خارج البحث‪ ،‬ل ّأن العمل هو الأ�سا�س‪.‬‬ ‫ولهذا‪ ،‬كما �أ��شرت ف�� ّإن العمل هنا هو عمل عفوي‪،‬‬ ‫ع�شوائي‪ ،‬وانفعايل‪ ،‬لأ ّنه ال يخ�ضع لفعل العقل‪ .‬وهو‬ ‫الأمر الذي يف�ضي لأن ي�ضيع كل الن�شاط الثوري هباء‬ ‫يف حلظة‪ ،‬لأن االنفعالية والعفوية والع�شوائية ال ت�سمح‬ ‫مبراكمة التجارب‪ ،‬وبالتايل الوعي‪ ،‬لأ ّنها تنطلق من‬ ‫وت�صب يف الالوعي‪ ،‬يف العفوية‪.‬‬ ‫الالوعي‪ ،‬من العفوية‪،‬‬ ‫ّ‬

‫ ‪ 215‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫دور النظرية عملي‬ ‫هذا الأمر يطرح ال�س�ؤال حول معنى النظرية‪ ،‬وهل ان‬ ‫هذه املقابلة بني النظر والعمل تنطلق من فهم �صحيح‬ ‫ملعنى كل منهما؟ �أم �أن منطق ًا �شكلي ًا يحكمهما؟‬ ‫ النظرية ُتربط عادة بـ«الكالم»‪ ،‬و�أي�ض ًا بالعزلة‪ .‬لهذا‬ ‫تبدو الإ�شارة �إىل النظرية كابتعاد عن الن�شاط‪ ،‬عن‬ ‫العمل‪ ،‬وغرق يف جتريدات م�ستمدة من الكتب‪ ،‬بغ�ض‬ ‫النظر عن ماهية هذه الكتب‪ .‬هي كتب تتناول كل �شيء‬ ‫�إال الواقع‪ .‬لكن هل ي�ؤ�س�س ذلك نظرية؟ وبالتايل ما هي‬ ‫النظرية يف املارك�سية؟‬ ‫ ال �شك يف �أن وعي املارك�سية �رضورة حا�سمة‪ ،‬لأن‬ ‫املطلوب من املارك�سي �أن يتجاوز وعيه «التقليدي»‬ ‫املتوارث‪ ،‬عرب ا�ستيعاب ومتثل املارك�سية بالتحديد‪.‬‬ ‫نحن ن�شري هنا �إىل منطق املارك�سية الذي هو �أ�سا�س‬ ‫االنتقال نحو متثل املارك�سية وجتاوز الوعي «التقليدي»‪،‬‬ ‫لأن تقليدية الوعي تكمن بالأ�سا�س يف «منطق‬ ‫التفكري»‪ ،‬يف املنهجية التي يتناول العقل من خاللها‬ ‫امل�سائل‪ .‬وهنا البد من وعي «فل�سفي» حتديد ًا‪� .‬أبعد من‬ ‫ذلك‪ ،‬تكون هناك حاجة ملعرفة �أفكار ومفاهيم وقوانني‬ ‫وحتليالت املارك�سية‪ .‬ولي�س ��ضرورة �أن يتخ�ص�ص‬ ‫كل منا�ضل مارك�سي يف تاريخ املارك�سية وقوانينها‬ ‫واخلالفات فيها‪ ،‬ويف �صحة �أو خط�أ �أفكار مارك�س �أو‬ ‫�إجنلز �أو لينني �أو كل الآخرين‪ .‬هذه مهمة بع�ض من‬ ‫املارك�سيني يف �أي حزب مارك�سي �إ�ضافة �إىل ن�شاطهم‬ ‫العام فيه‪ .‬لكن لي�س من ال�رضورة �أن يغرق فيها كل‬ ‫احلزب‪ ،‬وكل مارك�سي‪ .‬وهذا ما يبدو عادة �أ ّنه «ترف»‪،‬‬ ‫وا�ضافة للن�شاط الثوري‪ ،‬وم�ش ِّتت للفعل‪.‬‬ ‫ لكن امل�س�ألة ال تتعلق بهذا امل�ستوى فقط‪� ،‬أي‬ ‫بوعي املارك�سية‪ ،‬فهذه مقدمة لي�س �أكرث‪ ،‬وميكن �أن‬


‫تكون �أ�سا�س ت�شكيل «نخبة من املثقفني» و�ستكون‬ ‫املارك�سية هنا نظرية كغريها من النظريات‪ .‬وهذا ما‬ ‫يحول املارك�سية �إىل ترف‬ ‫يجري نقده ع��ادة‪ ،‬كونه‬ ‫ّ‬ ‫نخبوي �أو ن�شاط �أكادميي‪� .‬إن �أهمية القب�ض على‬ ‫منهجية املارك�سية تكمن يف ال��دور العملي الذي‬ ‫يجب �أن ت�ؤديه‪ .‬وهنا نلم�س �أهم ما فيها بالتحديد‪� ،‬أي‬ ‫اجلدل املادي‪ ،‬املنهجية التي جتعل وعينا للواقع �أف�ضل‪،‬‬ ‫و�أكرث علمية‪ ،‬وبالتايل يكون ممكن ًا �أن نحدد خطوات‬ ‫عملية �أدق‪ ،‬وبناء تراكم يف�ضي �إىل حتقيق الأهداف‪.‬‬

‫ال����ضرورة»‪�� ،‬ضرورة التغيري ال��ذي يخدم العمال‬ ‫والفالحني الفقراء‪� .‬إنها «عقل» ه�ؤالء الذي يجب �أن‬ ‫يفكروا عربه وهم يعملون من �أجل تغيري واقعهم‪ .‬وهذا‬ ‫الربط بني املارك�سية وه�ؤالء هو الذي جعل اال�شرتاكية‬ ‫ممكنة التحقق‪ ،‬ويفتح على حتقيق انتقال جمتمعي هائل‪.‬‬ ‫كرا�س �إجنلز «اال�شرتاكية‪ :‬الطوباوية والعلم» هدف �إىل‬ ‫تو�ضيح هذه امل�س�ألة‪.‬‬ ‫ �إن كل حماولة لتجاوز العفوية تفرت�ض الوعي‬ ‫يوحد بني الوعي‪،‬‬ ‫حتم ًا‪ ،‬وهو ما ي�ضيفه احلزب الذي ّ‬ ‫بني املارك�سية‪ ،‬واملمار�سة الثورية‪ ،‬لكي ي�ستطيع حتويل‬ ‫ال�رصاع الطبقي العفوي واملطلبي �إىل �رصاع طبقي‬ ‫يف�ضي �إىل االنت�صار‪� .‬إن الن�شاط الثوري هو عمل تقني‬ ‫يحتاج �إىل الوعي‪� ،‬إال �إذا �أراد احلزب �أن يظل يف حدود‬ ‫الن�شاط العفوي للطبقة العاملة والفالحني الفقراء‪ .‬وهو‬ ‫هنا ال ي�ضيف �سوى الت�شوي�ش على ن�شاط الطبقة‪،‬‬ ‫يطور �آلياتها‪ ،‬وينظمها يف‬ ‫ويكر�س عفويتها بدل �أن ّ‬ ‫يطور من قوتها‪.‬‬ ‫�صريورة تراكمية‪ ،‬وبالتايل ّ‬

‫العفوية �إىل العمل املنظم املرتاكم‪ ،‬وبالتايل الذي يحقق‬ ‫نقلة نوعية يف ال�رصاع الطبقي‪ ،‬ليتحول من �رصاع‬ ‫عفوي �إىل �رصاع هادف لأنه يقوم على الوعي‪� ،‬أو لأنه‬ ‫امل�ضطهدة وعيها املطابق‪ ،‬ومن‬ ‫يكون قد اعطى الطبقة‬ ‫َ‬ ‫حول ال�رصاع من ن�ضال مطلبي فقط �إىل �رصاع‬ ‫ثم ّ‬ ‫�سيا�سي (وهنا يجب مالحظة �أن تعبري �سيا�سي ال‬ ‫حول ال�رصاع من مطالب‬ ‫يتطابق مع ما هو رائج)‪ .‬اي ّ‬ ‫خا�صة لهذه الفئة �أو تلك من العمال �إىل م�رشوع طبقي‬ ‫يهدف �إىل ت�سلم ال�سلطة من �أجل حتقيق م�صالح ه�ؤالء‬ ‫عرب تغيري النمط االقت�صادي‪.‬‬ ‫ النظرية هنا ه��ي وع��ي ال��واق��ع‪ ،‬وع��ي تكوينه‬ ‫(طبقاته وظروفه االقت�صادية واالجتماعية وال�سيا�سية‬ ‫والأيديولوجية)‪ ،‬ووع��ي التناق�ضات املتعددة فيه‪،‬‬ ‫وبالتايل الدور الذي يلعبه احلزب يف حتقيق الرتاكم يف‬ ‫وعي ون�شاط الطبقة التي هو جزء منها لكي تخو�ض‬ ‫هي ال�رصاع الطبقي‪ .‬و�أي�ض ًا امل�سك بال�صريورة التي‬ ‫حتكمه‪ ،‬وحتديد التكتيكات وال�سيا�سات ال�رضورية‬

‫فالن�شاط العملي يجب �أن ينحكم لـ«عقل» قادر على‬ ‫فهم اخلطوات ال�رضورية انطالق ًا من فهم الواقع‪ ،‬ويف‬ ‫�ضوء ر�ؤية ا�سرتاتيجية وا�ضحة‪ّ � .‬إن املمار�سات التقنية‬ ‫هي �أي�ض ًا بحاجة �إىل «عقل»‪ .‬والتكتيك والتحالفات‪،‬‬ ‫والتحري�ض والدعاية‪ ،‬والرتابط مع العمال والفالحني‬ ‫الفقراء‪ ،‬كلها بحاجة �إىل «عقل» مارك�سي‪� ،‬إذ � ّإن‬ ‫«العقل العلمي» ي�ستطيع �أن يحدد ال�سيا�سات ب�شكل‬ ‫�أدق يف �ضوء وعي �أعمق للواقع‪.‬‬

‫الفكر مبا هو ممار�سة عملية‬ ‫نحن هنا ن�شري �إىل الوعي باملارك�سية‪ ،‬خ�صو�ص ًا‬ ‫كمنهجية ت�ساعد على وعي الواقع وحتديد ال�سيا�سات‬ ‫املطابقة‪ ،‬لكن وعي الواقع يعني التنظري �أي�ض ًا ولي�س‬ ‫وعي «تقنية املمار�سة» فقط‪ ،‬التي ميكن �أن تكت�سب‬ ‫بالتجربة‪ .‬وهنا يتحدد معنى النظرية‪ ،‬حيث «ال حركة‬ ‫ثورية دون نظرية ثورية» كما �أ�شار لينني‪ .‬الأمر يتعلق‬ ‫املجرد النظري (�أي املارك�سية‪ ،‬وخ�صو�ص ًا‬ ‫باالنتقال من‬ ‫ّ‬

‫كل امل�سائل التي نقر�أ عنهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫اليوم ونعترب �أنها ق�ضايا نظرية‪ ،‬كــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــانت‬ ‫يف �صلب الن�ضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــال‬ ‫الثوري للمارك�سي الرو�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي‬ ‫يف ‪ 1905‬ومل تكن جتريدات نظريــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬

‫و�ضع الفكر يف مواجهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫ٍ‬ ‫منـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاف‬ ‫املمار�سة هو �أمر‬ ‫للمارك�سية ذاتهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫التي توجد ترابط ًا عميقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ًا‬ ‫بينهما‪ .‬فهي «وعي ال�ضــــــــــــــــــــــــــــــــرورة»‪،‬‬ ‫�رضورة التغيري الذي يخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدم‬ ‫العمال والفالحني الفقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــراء‬

‫يف كل حلظة لكي تف�ضي �إىل التقدم يف ال�رصاع على‬ ‫طريق ح�سمه‪ .‬وكذلك وعي العامل‪ ،‬ومدى الرتابط‬ ‫ال��ذي يحكم الواقع املحلي به‪ ،‬ووع��ي التناق�ضات‬ ‫العاملية‪ ،‬وطبيعة ال�رصاعات والتمحورات‪ .‬فهذا‬ ‫هو «كل» الواقع الذي يجب �أن «مي�سك» لكي تن�ش�أ‬ ‫�إمكانية تغيريه‪ ،‬هذا التغيري الذي يحتاج �أي�ض ًا �إىل‬ ‫وعي الآليات التي تو�صل �إىل ذلك‪.‬‬ ‫ �إن م�س�ألة الكيفية التي يبنى من خاللها احلزب يف‬ ‫الواقع هي م�س�ألة نظرية‪ ،‬لأن الإجابة تفرت�ض وعي‬ ‫الطبقات‪ ،‬وو�ضع الطبقة التي يطرح احلزب ذاته كجزء‬ ‫منها‪ ،‬ومتو�ضعها العياين‪ ،‬وامل�شكالت التي تعي�شها‪،‬‬ ‫ومطالبها‪ ،‬وحدود «�رصاعها» مع الطبقة امل�ست ِغلة‪،‬‬ ‫�أو مع ال�سلطة التي متثلها‪ .‬وبالتايل كيف ميكن دفعها‬ ‫ال �إىل‬ ‫�إىل الن�شاط املطلبي‪ ،‬ومن ثم النقابي‪ ،‬و�صو ً‬ ‫حتويلها �إىل طبقة لها ر�ؤية وبرنامج‪ ،‬وتطرح ذاتها‬ ‫كبديل‪ ،‬الأم��ر الذي يجعل �رصاعها يتمحور حول‬

‫التحري�ض والدعايـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‪،‬‬ ‫والرتابط مع العمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــال‬ ‫والفالحني الفقراء‪ ،‬كلهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫بحاجة �إىل «عقل» مارك�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي‪.‬‬ ‫�إذ �إنّ «العقل العلمي» ي�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتطيع‬ ‫�أن يحدد ال�سيا�سات ب�شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكل‬ ‫�أدق على �ضوء وعي �أعمق للواقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع‬ ‫ هنا‪ ،‬يجب �أن نلحظ ب�أن الوعي املارك�سي هو �أمر‬ ‫جوهري يف املمار�سة لكي ن�ستطيع جت��اوز العفوية‬ ‫والع�شوائية‪ ،‬واملمار�سة االنفعالية‪ .‬وبالتايل ف�إن و�ضع‬ ‫ٍ‬ ‫مناف للمارك�سية‬ ‫الفكر يف مواجهة املمار�سة هو �أمر‬ ‫ذاتها التي توجد ترابط ًا عميق ًا بينهما‪ .‬فهي «وعي‬

‫ ‪ 216‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫منهجيتها) �إىل النظري «امللمو�س»‪ ،‬الذي يتعلق بر�ؤية‬ ‫الواقع‪ ،‬بوعي الواقع‪ .‬النظرية هنا هي وعي الواقع‪ ،‬وما‬ ‫تقدمه املارك�سية هو الأدوات املنهجية التي ت�ساعد على‬ ‫ال من �أ�شكال املمار�سة‬ ‫ذلك‪ .‬وهنا الفكر ي�صبح �شك ً‬ ‫العملية‪ ،‬وهو �شكل حا�سم يف حتقيق االنتقال من‬

‫ ‪ 217‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫كيفية انت�صارها من خالل و�صولها �إىل ال�سلطة‪ .‬هذه‬ ‫مو�ضوعات نظرية‪ ،‬وحتتاج �إىل وعي عميق‪ ،‬ومعرفة‬ ‫علمية‪ ،‬لكي تتبلور يف �شكل �صحيح‪.‬‬ ‫ �أي�ض ًا‪ ،‬ميكن القول ب�أن م�س�ألة تطوير �رصاع الطبقة‬ ‫هي م�س�ألة نظرية كذلك‪ ،‬حيث ي�صبح ال�س�ؤال كيف‬ ‫يتطور �رصاعها‪ ،‬ومتى ي�صبح عليها �أن ت�رضب �أو‬ ‫�أن حتتج �أو �أن تتظاهر‪� .‬أي هنا يكمن امل�سك باللحظة‬ ‫ال�رضورية لذلك‪ ،‬حيث ميكن �أن يقوم حتليل خاطئ‬ ‫لظرف معني �إىل انتكا�سة كبرية نتيجة عدم فهم الظرف‬ ‫وبالتايل االقدام على خطوة لي�ست يف �أوانها‪.‬‬ ‫ ال�رصاع مع ال�سلطة وكيف يتطور هو �أي�ض ًا جزء من‬ ‫الر�ؤية التي حتكم الن�شاط‪� ،‬إذ يجب حتديد �شكل ال�رصاع‬ ‫والأولويات فيه‪ ،‬وما هي قوة ال�سلطة وكيف يجري تفكيكها‪،‬‬ ‫ومن ثم متى يجري التقدم وتطوير ال�رصاع ومتى يجب‬ ‫الرتاجع‪ .‬درا�سة التجربة العملية والإفادة منها ترتبط مب�س�ألة‬ ‫التنظري‪� ،‬إذ يجب تقييم اخلطط وفهم امل�شكالت الناجتة من‬ ‫املمار�سة‪ ،‬من �أجل �صوغ ت�صورات �أدق‪.‬‬

‫ وبالتايل ف�إذا كان الربنامج هو الأهداف التي ي�سعى‬ ‫حمددة وخمت�رصة‬ ‫احلزب لتحقيقها‪ ،‬وهي غالبا ً تكون‬ ‫َّ‬ ‫وب�سيطة‪ ،‬ف�إنه يجب �أن يحاط يف �إط��ار نظري هو‬ ‫الر�ؤية التي حتكم الن�شاط وتوحد بني القوى الواقعية‬ ‫والأه��داف‪� ،‬أو ت�ؤ�س�س القوى الواقعية التي ت�ستطيع‬ ‫حتقيق الأه��داف‪ .‬هذه الر�ؤية هي «النظرية الثورية»‬ ‫التي ا�شار �إليها لينني‪ ،‬والتي كانت بالأ�سا�س يف �صلب‬ ‫جمهود مارك�س و�إجنلز لفهم الواقع الر�أ�سمايل الذي‬ ‫كان يت�شكل وحتديد الأ�شكال املمكنة لتغيريه‪ ،‬والهدف‬ ‫الذي ي�سعون �إىل حتقيقه‪� ،‬أي اال�شرتاكية‪� .‬إن كتابات‬ ‫مارك�س و�إجنلز هي ما ميكن �أن ي�سمى‪« :‬تنظري الواقع»‬ ‫يف �سياق ال�سعي �إىل تغيريه‪ .‬ولهذا فهي خا�ضعة لكونها‬ ‫تعبري ًا عن ذاك الواقع بالتحديد‪ ،‬وما ميكن الإفادة منه هو‬ ‫خال�صات عامة ميكن �أن ت�ساعد كم�ؤ�رشات لي�س �أكرث‪.‬‬ ‫طبع ًا هذا مبعزل عن املنهجية التي هي جوهرية فيها‪،‬‬ ‫قدمه لينني هو‬ ‫التي هي �أ�سا�س البحث يف الواقع‪ .‬وما ّ‬


‫كذلك‪ ،‬و�أي�ض ًا ماو وكل املارك�سيني الذين عملوا على‬ ‫«نظروا» واقعهم‬ ‫حتقيق التغيري مل�صلحة العمال‪ .‬فقد ّ‬ ‫على طريق تغيريه‪ ،‬وكل �أتى يف واقع يختلف عن الآخر‬ ‫لهذا �أتى مبا هو «جديد»‪ ،‬وخمتلف‪ ،‬ورمبا خمالف‪.‬‬ ‫ لقد �صارع لينني على «خطتي الثورة الدميقراطية»‬ ‫يف رو�سيا‪ ،‬الأمر الذي فتح النقا�ش حول الواقع الطبقي‬ ‫ومهمات الثورة ودور املارك�سية‪ .‬كما ن�شط من �أجل‬ ‫بلورة ر�ؤية للحزب الذي ي�ستطيع �أن يكون منا�سب ًا‬ ‫لطبيعة �رصاع العمال والفالحني القفراء‪ .‬وبحث يف‬ ‫التكوين العاملي الذي يجري ال�رصاع الطبقي يف رو�سيا‬ ‫�ضمنه‪ .‬وبحث يف جتربة ثورة �سنة ‪ ١٩٠٥‬والدرو�س‬

‫الفئات الو�سطى مبختلف تالوينها‪ .‬وكذلك الأم��ر‬ ‫بالن�سبة �إىل الطبقة امل�سيطرة التي يجب ك�شف خطابها‬ ‫والأوه��ام التي يقدمها‪ ،‬والت�ضليل الذي ت�سعى �إليه‪.‬‬ ‫وهنا ن�شري �إىل ال�رصاع «الأيديولوجي» مع تعبريات‬ ‫الطبقات الأخرى يف �إطار ال�رصاع الطبقي �ضد الطبقة‬ ‫امل�سيطرة‪ .‬وت�أكيد �أن تعدد التناق�ضات يفر�ض تعدد ًا يف‬ ‫ال�رصاع‪ ،‬منه ال�رصاع النظري‪.‬‬ ‫ و�إذا كان املنطق ال�صوري (الذي يحكمنا �إذا مل‬ ‫ن�ستطع متثل املنهجية املارك�سية‪ ،‬بال�ضبط لأنه متوارث)‬ ‫ي�شري �إىل ما هو ظاهر يف �سكونه‪ ،‬ف�إن اجلدل املادي‬ ‫يفرت�ض الغو�ص �إىل �أعمق من الظاهر‪ ،‬وفهم الأ�سا�س‬

‫النظرية لي�ست لغواً‪ ،‬ولي�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت‬ ‫بحث ًا �أكادميي ًا‪ ،‬وال هي بحث يف التــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاريخ‬ ‫النظري ويف ال�رصاعات التي �شهدهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‪،‬‬ ‫ولي�ست در�س ًا يف الفل�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــفة‬ ‫التي هي �رضورة كمدخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل‪،‬‬ ‫بل هي بحث يف الواقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع‬ ‫التي ميكن ا�ستخال�صها منها‪ .‬و�أي�ض ًا بد�أ بالبحث يف‬ ‫حقيقيا‪.‬‬ ‫مهام املارك�سيني وكيف ميكنهم �أن ي�شكلوا حزب ًا‬ ‫ً‬ ‫كل هذه امل�سائل التي نقر�أ عنها اليوم ونعترب �أنها ق�ضايا‬ ‫نظرية‪ ،‬كانت يف �صلب الن�ضال الثوري للمارك�سي‬ ‫الرو�سي �آنئذ ومل تكن جتريدات نظرية‪ .‬ولأنها كذلك‬ ‫تلق‬ ‫فقد �أ�صبحت جزء ًا من كال�سيكيات املارك�سية ومل َ‬ ‫يف �سلة املهمالت كما �ألقي الكثري مما كتب من قبل‬ ‫ال�شيوعيني يف الوطن العربي‪.‬‬ ‫املنطق ال�صوري واملنطق اجلديل‬ ‫النظرية هنا هي وعي م�شكالت الثورة يف كل حلظة‪،‬‬ ‫وحتديد الأول��وي��ات يف املمار�سة‪ ،‬وب��ل��ورة اخلطاب‬ ‫ال‪،‬‬ ‫ال�رضوري لتثقيف العمال والفالحني الفقراء‪ .‬مث ً‬ ‫�إن تطوير ال�رصاع الأيديولوجي لي�س �ضد الطبقات‬ ‫امل�سيطرة فقط بل ويف مواجهة الفئات الو�سطى‪ .‬وهو‬ ‫�أمر حا�سم من �أجل تعزيز وعي العمال والفالحني‬ ‫الفقراء‪ ،‬لأنه ك�شف للم�صالح التي تكمن خلف الأفكار‬ ‫التي تطرحها‪ ،‬وبالتايل فهو تعزيز لتما�سك ه�ؤالء‬ ‫العمال وتو�ضيح لر�ؤيتهم يف هذا ال�رصاع الذي ال‬ ‫يفرت�ض فقط ال�رصاع مع الطبقة امل�سيطرة بل و�أي�ض ًا‬ ‫ك�شف ت�شو�ش وخط�أ البدائل الأخرى التي تطرحها‬

‫ ‪ 218‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫الذي تقوم عليه الأفكار وال�سيا�سات‪ .‬وكذلك فهم‬ ‫�صريورة التحوالت التي حتدث يف كل حلظة وممكناتها‬ ‫امل�ستقبلية‪ .‬فهو هو الأمر الذي ي�ؤ�س�س ال�سرتاتيجية‬ ‫�صحيحة‪ ،‬ويقود �إىل حتديد تكتيكات دقيقة‪ .‬وهذا‬ ‫جمهود نظري كبري لي�س من املمكن بلورة القوة الفاعلة‬ ‫التي حتقق التغيري بدونه‪.‬‬ ‫�إذن‪ ،‬التنظري هنا هو جزء من العمل‪ ،‬هو جزء ع�ضوي‬ ‫يف العمل‪ ،‬ولي�س مقحم ًا عليه وال ميكن �أن يكون العمل‬ ‫ناجح ًا من دونه‪ .‬فالعمل من �أجل الثورة والتغيري هو‬ ‫عمل واعٍ‪ .‬النظرية هنا هي ن�صف االنت�صار‪ ،‬حيث ال‬ ‫بد من بلورة ر�ؤية لـ«�صريورة الواقع» من �أجل فهم‬ ‫اخلطوات العملية لكي ي�صبح ال�رصاع الطبقة واعي ًا‪،‬‬ ‫وينتظم يف �آليات جتعل الطبقة قوة منظمة‪ .‬فهذا هو‬ ‫ما ي�ضيفه احلزب يف ال�رصاع الطبقي لكي يقود �إىل‬ ‫انت�صار العمال والفالحني الفقراء‪.‬‬ ‫النظرية لي�ست لغو ًا‪ ،‬ولي�ست بحث ًا �أكادميي ًا‪ ،‬وال‬ ‫هي بحث يف التاريخ النظري ويف ال�رصاعات التي‬ ‫�شهدها‪ ،‬ولي�ست در�س ًا يف الفل�سفة التي هي �رضورة‬ ‫كمدخل‪ ،‬بل النظرية بحث يف الواقع ويف �صريورة‬ ‫تطور ال�رصاع الطبقي من �أجل ت�سلم ال�سلطة‪ ،‬ومن ثم‬ ‫لت�أ�سي�س جمتمع بديل‪.‬‬

‫‪ 218‬‬ ‫ ‬

‫«الفالح العظيم»‬ ‫ليعقوب الشدراوي‪:‬‬ ‫طانيوس اشهني عىل المرسح‬

‫يعقوب ال�شدراوي‬

‫جديت حاجي‬ ‫ ‬ ‫‪ّ 224‬‬

‫ريا�ض بيد�س‬


‫املكان خارج امل�شهد العام – رجال بالأبي�ض وبع�ض‬ ‫الن�سوة ينقلون ال�سالح)‪.‬‬ ‫طانيو�س‪( :‬متابعا كالمه‬ ‫امل�سموع) نادر الق�سيم – بو طوبيا ختيار عا حفة قربو‪،‬‬ ‫ابن ‪� 80‬سنة‪ ،‬براك بطاحونة وادي الزيرة – لأنو ت�أخر‬ ‫عا طحنة ال�شيخ بول�س – م�سكو بلحيتو‪ ،‬زلطو من‬ ‫كل تيابو‪ ،‬ركبو عاحلمارة وبل�ش فيه �رضب بالع�صا‪ .‬ع‬ ‫الطريق قبع جم �شوك وحطو بني فخادو‪ .‬ما ا�سرتجا حدا‬ ‫يفتح متو ‪ ..‬ما �ضاين يوم‪ ،‬يومني وعطاكن عمرو‪� .‬شو؟‬ ‫بعد بخربكن عن الفاجر – العاهر ال�شيخ من�صور؟‬ ‫وكيف �أخد يو�سفيه بنت غنطو�س عقل عاملغارة ودبحها‬ ‫هي وابنها الطفل؟ ‪( ...‬املكان خارج امل�شهد‪ .‬ال�شيخ‬ ‫عينه يتم�شى وا�ضعا على كتفيه عباءة‪ .‬يلعب بع�صا‬ ‫م�سكتها ف�ضية‪ ،‬ي�صفر حلنا مرحا ‪ ...‬تتبعه فتاة)‪.‬‬ ‫الفتاة‪ :‬يا �شيخ‪ ،‬يا �شيخ ‪ ...‬ال�شيخ‪( :‬يلتفت اليها) يا‬ ‫روح ال�شيخ الفتاة‪ :‬بدك �أرق�صلك؟ ال�شيخ‪ :‬جيتي‬ ‫والله جابك (ي�صفر – يتمايل – يفر�ش عباءته على‬ ‫الأر�ض‪ .‬يجرها لرتق�ص عليها وفيما يفك �أزرار قمي�صه)‬ ‫�آه يا خلع‪ ،‬يا دلع‪( .‬يدخل �شباب بالأبي�ض �شاهرين‬ ‫�سالح) ال�شباب‪� :‬شالح متل ما الله خلقك – (ب�رسعة‬ ‫ينق�ضون عليه ويخلعون �رسواله ويجروه �أمامه والفتاة‬ ‫ت�ضحك وت�ضحك) ال�شباب‪ :‬قعود ع هاخلازوق (عتم)‬ ‫�صوت ال�شيخ‪� :‬أوي‪� ،‬أوي ‪ ...‬طانيو�س‪( :‬متابعا‬ ‫كالمه امل�سموع) �شو؟ ن�سيتو؟ منكفي وال بيكفي (يعود‬ ‫�إىل عمله – والطرق بني اجلمل يكون توقيع)‪.‬‬ ‫الز ْم ّك‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫(يرندح) بيكفي وبيكفي‪ .‬نحنا بيكفي وهني بكفي‬ ‫وحطيت خدي ع كفي تا�شبعت من �أكل ال�تراب‪.‬‬ ‫ب�شارة‪ :‬ال�سنة ال�شتوية كانت برد وزمهرير‪ .‬بطر�س‪:‬‬ ‫طوفان‪ .‬الطالع من الأر�ض �أكرت من النازل من ال�سما‬ ‫ب�شارة‪ :‬التلج و�صل ل�سيف البحر بطر�س‪ :‬و�أجا �أدار‬ ‫وتلجاتو‬ ‫الز ْم ّك‪ :‬وان �أقبلت �أدار وراها وان �أحملت‬ ‫ْ‬ ‫�أدار وراها ب�شارة‪ :‬هجو الرعيان من اجلرود‪ .‬هجمت‬ ‫الدياب عال�ضيع‬ ‫بطر�س‪ :‬كواخ دود القز‪ ،‬جرفها‬ ‫وقيح‪ .‬ب�شارة‪:‬‬ ‫ال�سيل‪ .‬واللي بقيت زرق فيها الدود ّ‬ ‫قولويل كيف ال�سنة بدنا ندفع لل�شيخ �رضايب؟‬ ‫ر�سانيو�س‪ :‬يا عمي كيف �صار هيك؟ ما عاحل�ساب قيمقام‬ ‫الن�صارى املري ب�شري �أحمد عمل حكومة عدل – كيف‬ ‫هلق بدنا ندفع لل�شيخ‪� .‬صحيح املال �صار مالني‪.‬‬ ‫طانيو�س‪ :‬ظلم الطبيعة �أه��ون من ظلم االن�سان‪.‬‬ ‫بطر�س‪� :‬سنة املا�ضية كانت �سنة قبال – �أجا التاجر‬ ‫خمايل و�شفط املو�سم – كل املو�سم ما طلع بالفايظ‪.‬‬

‫«الفالح العظيم» ليعقوب الشدراوي‬ ‫طانيوس اشهني عىل المرسح‬

‫يعقوب الشدراوي‬ ‫مؤلف وخمرج وممثل‬ ‫مرسحي لبناين‪.‬‬ ‫(زغرتا ‪.)١٩٣٤‬‬

‫ماسهم بارز يف هنضة‬

‫المرسح يف الستينات‬ ‫والسبعينات من‬

‫القرن المايض‪ .‬متيزّ‬ ‫بنقل االعمال االدبية‬

‫مرسح‬ ‫اىل المرسح‪.‬‬ ‫َ‬ ‫اعما ًال جلربان ونعيمة‬ ‫ومارون عبود («االمري‬ ‫االمحر» ‪)١٩٧٣‬‬

‫والطيب صالح‪.‬‬ ‫ّ‬

‫من أعماله «إعرب‬ ‫ما ييل» (‪)١٩٧٠‬‬

‫و«المهرج» لمحمد‬ ‫ّ‬ ‫الماغوط (‪)١٩٧٤‬‬

‫و«يا اسكندرية حبرك‬ ‫عجايب» الاسمة‬

‫العارف‪ ،‬و «الطرطور»‬ ‫(‪ ،١٩٨٣‬بناء عىل قصة‬ ‫ليوسف ادريس)‪.‬‬

‫ ‪:‬يعقوب ال�شدراوي‪،‬‬ ‫الفالح العظيم‪،‬‬ ‫من�شورات «�شم�س»‪،‬‬ ‫‪� ،٢٠١٣‬ص‪٢٢2-٢١9‬‬

‫ ‪ 220‬‬

‫نقدم هنا مقاطع من مرسحية لم تعرض ليعقوب الشدراوي عن عامية كرسوان ضد االقطاع (‪)١٨٦١-١٨٥٨‬‬ ‫ّ‬ ‫وقائدها طانيوس اشه�ين‪ .‬بلغنا نبأ وف��اة يعقوب يوم االح��د يف ‪ ٢٦‬اي��ار ‪ ٢٠١٣‬والمجلة اىل الطبع‪ .‬ننحين‬ ‫بصمت للصمت ال��ذي ل ّ‬ ‫��ف السنوات االخ�يرة م��ن حياة ه��ذا الفنان الكبري‪ ،‬وه��و يكابد ال��م��رض وااله��م��ال‬ ‫الذي‬ ‫يتعرض له المرسح اللبناين‪.‬‬ ‫ّ‬

‫تتو�سع الإ�ضاءة لنتبني طانيو�س عاري اجلذع‪ ،‬يلمع من‬ ‫ت�صبب العرق‪ .‬وبانفعال وغليان دم القلب‪ .‬ينهال باملطرقة‬ ‫على �رشيحة حديد تت�أرجح كالنار امل�شتعلة‪ .‬مم�سكا‬ ‫طرفها الأعلى بي�ساره بوا�سطة ملقط حدادة‪ .‬ولطرقاته‬ ‫دوي و�صدى‪ .‬وكما تظهر ال�صورة الفوتوغرافية يظهر‬ ‫كور �صغري ينفخه �صبي فيت�صاعد من �أمامه لهب النار‬ ‫وكذلك رجال القرية يجل�سون مبوازاة اجلدران الثالثة‪.‬‬ ‫يهيمن عليهم الوجوم وعدم احلركة‪ .‬يتوقف طانيو�س‬ ‫عن الطرق‪� .‬صمت‪ .‬يرفع احلديدة املتوهجة ويب�صق‬ ‫عليها‪ ،‬ي�صدر عنها ن�شي�ش ذو انفجار ب�سيط يرميها يف‬ ‫�سطل ماء‪ .‬ن�شي�ش قوي‪ .‬اجلميع يتنف�سون تنف�سا �شديدا‬ ‫من حزن و�أمل‪.‬‬ ‫الز ْم ّك ويبقى يف‬ ‫طانيو�س‪ :‬انهزو بتنهزو‪( .‬يدخل ْ‬ ‫حركة)‬ ‫الز ْم ّك‪� :‬رش�رش بك الإنكليزي‪� .‬أجا ي�صيف‬ ‫ْ‬ ‫بجونيه تا يغري هوا‪.‬‬ ‫ر�سانيو�س‪ :‬معناتها‪ :‬قيمقام‬ ‫الن�صارى ب�شري �أحمد مع الفرن�ساوية وامل�شايخ مع‬ ‫الإنكليز ؟ طانيو�س‪ :‬ال�شيخ �أ�سد ابراهيم نامي قامي‬ ‫عندو‪� .‬رش�رش بك عم يع ّل ُمن �شو الزم يعملو (�صمت)‬ ‫ر�سانيو�س‪ :‬الق�صة فيها وما فيها‪.‬‬ ‫طانيو�س‪ :‬ما‬ ‫بينحطو بال�ضهر‪ .‬امل�شايخ معتقدين �أنو الله خلقلن‬ ‫ال�شعب عبيد‪ .‬معتربين الفالح ومرتو ووالدو وبناتو‬ ‫وطر�شاتو ملكن‪ .‬واحدن بالوع ما بي�شبع‪ .‬ال�شب�شول‬ ‫فيهن بيهني �أكرب �شخ�ص من الأهايل‪� .‬أميتا هال�شعب راح‬ ‫يفور دمو‪� .‬أميتا بيجي �شب يقول‪� :‬أنا دمي عا كفي‪� .‬أنا‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫�شايف الدين عم تغلي من �صنوبر �رصبا لتلوج فاريا‬ ‫(يتابع حديثه دون �أن ن�سمع كالمه‪ .‬مو�سيقى – يف مكان‬ ‫خارج امل�شهد العام)‪ .‬م�شهد �أخر�س – �إ�ضاءة �رسيعة‬ ‫متقطعة بحيث يظهر ال�شيخ الأول (يف الربلوغ) ويختفي‬ ‫ثم يظهر بفعل الإ�ضاءة ال�رسيعة‪ .‬جمهرة متما�سكة يف‬ ‫ت�شكيل ملتحم تتقدم نحوه – زي موحد – �رسوال‬ ‫ابي�ض فوقه قمي�ص ابي�ض مرخي فوق ال�رسوال على‬ ‫ال�ساقني طماق جلد احمر‪ .‬لبادة كما لطانيو�س �شاهني‬ ‫يف ال�صورة الوحيدة‪ .‬يحاول ال�شيخ �أن يهرب‪ .‬اثنان من‬ ‫املجموعة يتم�سكان به‪ ،‬الذي على ميينه يدخل �ساعده‬ ‫الأمين من حتت ذراع ال�شيخ الأمين ويقب�ض على حزامه‬ ‫من ناحية بطنه وباليد الي�رسى يتلقط بحزامه من وراء‬ ‫ظهره‪ .‬ال�شاب الثاين مي�سك ذراع ال�شيخ الي�رسى بيديه‬ ‫الأثنتني – يجرانه – تنفتل رجله الي�رسى وتنثني ركبته‬ ‫يجرانه على الأر�ض – يظهر اخلوري – يوقفهما ب�إ�شارة‬ ‫من كفه مي�سكه بيده ويخرج به‪ .‬تدخل امراة معها ح�صري‬ ‫ملفوفة – تفردها – ت�أخذ منها بندقية وتناولها لأحد‬ ‫ال�شابني‪( .‬عودة �إىل كور احلدادة) طانيو�س‪( :‬متابعا‬ ‫كالمه امل�سموع) خلو �شي �صنف من �أ�صناف الوطاية ما‬ ‫عملوه ‪ :‬القتل‪ ،‬ال�رضب‪ ،‬احلب�س ‪ ...‬ال�شيخ �شم�سني �أخد‬ ‫مال �شاهني القاموع من عجلتون وقتلو ‪ ...‬بغو�سطا ابن‬ ‫بيو�س غلب ال�شيخ ملحم دعيب�س بالكبا�ش‪ ،‬قام ال�شيخ‬ ‫�رضبو بال�سيف وقتلو‪ .‬ابن فار�س البيطار حطوه باملقربة‬ ‫وهو حي‪ .‬جميلة بنت العن �شفنا �شو �صار فيها‪( .‬يف‬

‫ ‪ 221‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬


‫ر�سانيو�س‪ :‬امل��ا معو يدفع �شو بيعمل؟‬ ‫بطر�س‪:‬‬ ‫ال� ْ�ز ْم� ّ‬ ‫بيحجزولو الفر�شات والطناجر‪.‬‬ ‫�ك‪ :‬هيدي‬ ‫م�صيبة‪ :‬فر�شات ر�سانيو�س ري�ش نعام‪.‬‬ ‫اجلميع‪:‬‬ ‫(ي�ضحكون) طانيو�س‪� :‬إزا بدكن اجلد‪ ،‬مو�سم احلرير‬ ‫�أربع خما�سو بي�شفطوه امل�شايخ والتجار وال�سما�رسة‪.‬‬ ‫وبالكاد اخلم�س بيبقى لأكرت من ‪� 200‬ألف ان�سان‪.‬‬ ‫ب�شارة‪ :‬من الفالح للتاجر‪ ،‬ومن التاجر لل�شيخ‪ ،‬ومن‬ ‫ال�شيخ للبا�شا‪ ،‬ومن البا�شا للدولة العلية‪ .‬طانيو�س‪:‬‬ ‫هيدا حكي كلو تخبي�ص بتخبي�ص‪ .‬ال�شيخ بالوع‪.‬‬ ‫ال�شيخ حوت ما بي�شبع‪ .‬بالول كان ي�شفط تالت ارباع‬ ‫املريي‪ .‬كان يدفع النا�س ‪ 16‬مرة‪ .‬هلق �صار بدو ياها‬ ‫كلها‪(...‬يتابع ب�صوت مكتوم) (املكان خارج امل�شهد‬ ‫العام) �شباب بالأبي�ض يق�سمون اليمني – الإ�ضاءة‬ ‫خفيفة – وال�صوت بعيد‪ .‬ال�شباب‪( :‬يق�سمون) والله‬ ‫العظيم‪ ،‬كلنا �إيد وحدة‪ ،‬وما حدا بيخون‪ .‬طانيو�س‪:‬‬ ‫(يتابع كالمه امل�سموع) النا�س طف�شت ع �آخر الدين‪،‬‬ ‫تركوا �أر�ضن وهاجرو‪ ...‬واحدكم ما عم يقدر يطعمي‬ ‫عيالو‪ .‬الأر�ض ترابها حجران و�صخر‪ .‬وفوق هيدا كل‬ ‫يوم �رضبة �سخنة‪ .‬العبيد عاي�شني �أح�سن منا‪� .‬أنت يا‬ ‫ْز ْم ّك! كم مرة بتاكل حلم بال�سنة؟‬ ‫الز ْم ّك‪ :‬عاملرفع كلنا‬ ‫ْ‬ ‫ال�سنة‪ .‬نحنا ازا طبخنا منطبخ بزيت ون كرتت مرة‬ ‫بال�شهر طبخة بقورما‪ .‬وبالكاد‪ ...‬بت�سبح بالق�صعة‬ ‫�سباحة وما بتالقي حرحو�ص واحد‪ .‬ر�سانيو�س‪ :‬كول‬ ‫خبز وزيت وناطح احليط‪.‬‬ ‫طانيو�س‪( :‬يطرق على‬ ‫ال�سندان �رضبات ارتعا�ش خفيفة مع مقت�ضيات احلوار‬ ‫التايل)‪ .‬طيب‪ ،‬طيب‪� .‬سماع �شوي‪� .‬أنتو من يوم اللي‬ ‫خلقتو فيه حلد هال�ساعة ما �شفتو وال يوم متل اخللق كلو‬ ‫تعتري وقهر‪� ،‬أنتو النبع وال�شيخ متل حوت مر جري�س‪.‬‬ ‫الز ْم ّك‪ :‬والله العظيم مظبوط‪ .‬بي�شبهو متل حكايتو‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫طانيو�س‪ :‬روق يا زمك‪ .‬قولويل‪ :‬ال�شيخ من وين بيجيه‬ ‫النت والتني؟ اجلميع‪ :‬من حاالت‪ .‬طانيو�س‪ :‬الزيت‬ ‫والزيتون؟ اجلميع‪ :‬من الزيره‪ .‬طانيو�س‪ :‬القمح؟‬ ‫اجلميع‪ :‬من فاريا والقليعات‪ .‬طانيو�س‪ :‬اخل�شب؟‬ ‫اجلميع‪ :‬من خراج عجلتون (يتابعون �أما طانيو�س فيوقع‬ ‫باملطرقة فقط) احلرير – هوهوه العنب‪ ،‬نبيد متل الدهب‬ ‫– عرق متلت حليب �سباع – (ب�رسعة هائلة) ال�شعري‪،‬‬ ‫الغنم‪ ،‬املعزي‪ ،‬طيور‪ ،‬خ�رضة‪ ،‬فواكه‪ ،‬ال�صوف‪ ،‬اجللد‪،‬‬ ‫اللنب والبي�ض‪ .‬طانيو�س‪ :‬عن اذنكم حلظة‪ ،‬انتظروين‬ ‫ما حدا يروح‪( .‬اىل ال�صبي) هات امل�شحفة واحلقني يا‬ ‫يو�سف‪( .‬على املخرج) �أوعا حدن يدفع مريي‪( .‬يخرج‬

‫ ‪ 222‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ويتبعه ال�صبي)‪ .‬ر�سانيو�س‪ :‬ال�شغلة فيها وجعة را�س‪.‬‬ ‫ب�شارة‪� :‬رضيبي عالبيوت و�رضيبة عالعرو�س‪.‬‬ ‫ر�سانيو�س‪ :‬وازا ت�أهل الواحد بدو يقدم لل�شيخ قفة بن‪.‬‬ ‫الز ْم ّك‪ :‬عرفتو �شو جد مع حبيب؟ اجلميع‪� :‬شو؟‬ ‫ْ‬ ‫الز ْم ّك‪� :‬سنة املا�ضية‪ ،‬جا احلواط تا يلم املريي‪ .‬و�صل‬ ‫ْ‬ ‫الدور حلبيب قلو عليك ر�سم العرو�س ‪ 6‬قرو�ش‪ .‬قلو‬ ‫حبيب ‪ 4‬قرو�ش ون�ص �أنت ال�صادق‪ .‬و َل ْك يا مق�صوف‬ ‫الديني‪ .‬كيف ما كيف‪ .‬قلو احلوط ‪ 3‬قرو�ش عالرجال‬ ‫و‪ 3‬قرو�ش عال�صبية‪ .‬بطر�س‪ :‬ما حبيب جتوز �أرملة‬ ‫وعالأرملة قر�ش ون�ص‪.‬‬ ‫الز ْم ّك‪ :‬وا�صلك احلديث‪ ،‬يا‬ ‫ْ‬ ‫�سيدنا مال �أنت‪ ،‬قلو هيك‪ .‬ر�سانيو�س‪ :‬و�شو جاوبوا‬ ‫احل��واط؟ ال� ْ�ز ْم� ّ‬ ‫�ك‪ :‬ق��ال‪ :‬احلق يعلى‪ ...‬بتدفع ر�سم‬ ‫العرو�س قر�ش ون�ص ور�سم امليت ‪ 15‬قر�ش‪� .‬رصخنا‬ ‫كلنا‪ :‬كيف هيك؟ �ساعتها فنجر عيناه و�صار يعيط علينا‪:‬‬ ‫هونيك كان بدكن تاكلوا علي ميت وهيدا �شو �سقط‬ ‫�سهوا‪ .‬دفعو و�صلو من �أجل راحة موتاكن‪ .‬بطر�س‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫زمك‪ .‬وقت‬ ‫عم ينهبونا ويربحونا منية‪ ،‬كيف‪ ،‬كيف يا‬ ‫ال�رش حلنا �أنن هني بيدفعوا عنا لل�سلطان؟‬ ‫الز ْم ّك‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫قال �أنو ال�سلطان م�ش بطرك املوارنة‪ .‬ال�سلطان خليفة‬ ‫امل�سلمني وما بيقب�ض اال ع ال�سنة الهجرية‪ .‬ومبا �أنو �سنة‬ ‫اال�سالم �أزغر من �سنة امل�سيحية بـ ‪ 11‬يوم‪ .‬هيك هني‬ ‫كل ‪� 33‬سنة بيدفعوا عنا �سنة زيادة ل�صندوق اخلزنة‬ ‫العامرة‪�( .‬ضو�ضاء يف اخل��ارج ووقع حوافر خيل‪.‬‬ ‫�رصاخ و�إط�لاق نار‪ ،‬معظم املوجودين يتمرت�سون يف‬ ‫الز ْم ّك الذي و�صل‬ ‫الزوايا ووراء الكرا�سي ما عدا ْ‬ ‫كالربق �إىل الباب)‪.‬‬ ‫الز ْم ّك‪ :‬هيدا ال�شيخ وفر�سانو‬ ‫ْ‬ ‫الحقني التاجر خمايل (ويعود ليختبئ مع الباقني) نازلني‬ ‫فيه �رضب حجار‪( .‬يدخل التاجر مفجوج الر�أ�س ويف‬ ‫حالة يرثى لها)‪ .‬التاجر‪ :‬دخيلكن خبوين (يهربون‬ ‫من �أمامه‪ ،‬يلحقهم) بعر�ضكن خل�صوين (يدخل ال�شيخ‬ ‫�شاهرا الطبنجة وفر�سانه بكامل �أ�سلحتهم)‪ .‬ال�شيخ‪:‬‬ ‫هدي عندك يا واطي‪( .‬ينق�ض الفر�سان على التاجر‬ ‫ومي�سكوه ويقدموه لل�شيخ‪ .‬ال�شيخ يب�صق عليه) تفو‪ ،‬تفو‪،‬‬ ‫و�ألف تفه‪ .‬التاجر‪ :‬حاج تبزق عليي يا �شيخ‪ .‬ترنخت‪...‬‬ ‫ت�شت�شو تيابي‪ .‬ال�شيخ‪ :‬خايف ترت�شح يا كلب‪ .‬بدك‬ ‫تديني كي�سني ذهب وكل كي�س ‪ 500‬قر�ش و�أجرك‬ ‫فوق رقبتك‪ .‬التاجر‪ :‬وحق مرمي العدرا ما معي وال‬ ‫باره‪ .‬ال�شيخ‪� :‬إال ما يطلع حليب النور برا�سي قلبوه‬ ‫فروج م�شوي (يفعلون وينهال على قفاه بالع�صا –‬ ‫�رضب املوقع بخبط الأرجل يقول فيما ي�رضب) وال باره‬

‫ختم طانيو�س �شاهني‬ ‫معمل حرير‬ ‫‪1891‬‬

‫ ‪ 223‬‬

‫يا �أبو كمونه؟ �أنت وابن خمايل طوبيا وبطر�س الأ�صغر‬ ‫دينتو عدوي ب�شري �أحمد مليون ون�ص مليون قر�ش‪.‬‬ ‫التاجر‪ :‬ك��ذب من قايلك؟‬ ‫ال�شيخ‪ :‬االنكليز‪ .‬ما‬ ‫عاحل�ساب بهاليومني بتدبرن‪ .‬التاجر‪ :‬هلق بعدين طالع‬ ‫من ذوق مكايل من عند اخلواجا اليا�س املنري‪ .‬ال�شيخ‪:‬‬ ‫وانخلي يا ليلى (يهرع �إىل كور احلدادة يلتقط رف�ش‬ ‫ويغرف فيه جمر وفيما يفعل كل هذا يقول) �أنا بعمري‬ ‫ما اكلت قر�ش ع حدا‪� .‬صوت طانيو�س‪� :‬أنا ب�شهد‪.‬‬ ‫ال�شيخ رب مني دفع (يظهر على الباب) �أخد مني مبلغ‬ ‫و�رصلو ‪� 12‬سنة بريدو‪( .‬ال�شيخ يرمي باجلمر على‬ ‫قفا التاجر‪ -‬التاجر ي�رصخ الفر�سان يتجهون ملجابهة‬ ‫طانيو�س)‪ .‬هون ببيتي يا كالب‪( .‬يندفع بع�ض ال�شباب‬ ‫بالأبي�ض ويطردونهم فيما طانيو�س يجر ال�شيخ من‬ ‫رقبته‪ .‬والتاجر ي�رصخ من الأمل‪ :‬يقفز على قدميه وقد‬ ‫طار احلذاء من رجليه وكلما قفز قفزة وعاد �إىل الأر�ض‬ ‫يدو�س بقدمه الثابتة على جمرة ثم على �أخرى وهكذا‪...‬‬ ‫مو�سيقى رق�صة الكان كان ويدخل يف �إيقاعها‪.‬‬ ‫(انتقال مو�سيقى مع م�ؤثرات بحر و�صوت نور�س وكذلك‬ ‫بالإ�ضاءة‪ .‬على زاوية املقدمة يجل�س ت�رش�شل ي�صطاد‬ ‫�سمكة كبرية بوا�سطة �صنارة باجتاه اجلمهور وقد اعتمر‬ ‫قبعة ق�ش كبرية حايف القدمني‪ .‬تقف بجانبه فتاة يف‬ ‫ف�ستان �أبي�ض‪ ،‬ترفع مظلة بي�ضاء‪ .‬يدخل عليهما ال�شيخ‬ ‫الهثا)‪.‬‬ ‫ال�شيخ‪� :‬رش�رش بيك وال غلطان؟ والله ما‬ ‫عرفتك‪ .‬ما �شالله �شو هال�سمكة!‬ ‫ت�رش�شل‪ :‬هلق‬ ‫خربين �شو جد معكم باجتماع زوق اخلراب؟ ال�شيخ‪:‬‬ ‫ح�رضو الأمرا وم�شايخ ك�رسوان وغزير والفتوح‪ ،‬كمان‬ ‫ح�رض اخلواجات وباقي الرعية‪ .‬و�أجو الوكال وجابو‬ ‫ت�رش�شل‪ :‬املهم اتفقتو؟‬ ‫معهم اخلتومة‪.‬‬ ‫ال�شيخ‪:‬‬ ‫خربية امل�أمورية فيها ملغ�صة‪ .‬نا�س بدها تالتة ونا�س‬ ‫بدها اتنني‪ .‬ت�رش�شل‪ :‬وع �شو اتفقتو؟ ال�شيخ‪ :‬كتبنا‬ ‫معاري�ض �شكاوي من كعب الد�ست �ضد القيمقام ب�شري‬ ‫�أحمد والكل ختمو‪ .‬ت�رش�شل‪ :‬ما بتنق�ضي بال�شكاوى‪.‬‬ ‫خور�شيد با�شا بيحطها بالدرج‪ .‬ونحنا ما عنا ا�سباتات‬ ‫م�ضبوطة تا نتهمو بالربطيل‪ .‬ال�شيخ‪ :‬بدها ا�سباتات‬ ‫ول���و؟!‬ ‫ت�رش�شل‪ :‬البا�شا �أك�بر دعمه للقيمقام‪.‬‬ ‫والفرن�ساوية تركو والد الأ�صل وم�شيو مع النور‪.‬‬ ‫ال�شيخ‪ :‬نحنا يا ت�رش�شل بيك‪ .‬نحنا عنا حقوق – القانون‬ ‫كان جلنبنا واحدنا مهما عمل ممنوع يقتلوه‪ ،‬ممنوع‬ ‫يحب�سوه‪ ،‬ممنوع ي�رضبوه‪ .‬نحنا ما �ألنا غري الله وغريكن‪.‬‬ ‫ت�رش�شل‪� :‬سنة الأرب��ع�ين طلب منكم الأ�سطول‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫االنكليزي مت�شو معنا �ضد امل�رصيني‪ .‬نزلتو بكل تقلكن‪.‬‬ ‫نحنا ما ممكن نن�سالكن ياها �أبدا‪ .‬امتيازاتكن من�صانة‪.‬‬ ‫حقوقن حمفوظة‪ .‬تقاليدكن كل �شي‪ .‬نحنا مرتبطني‬ ‫معكن بالعدل وال�رشف‪.‬‬ ‫ال�شيخ‪ :‬كل �آمالنا معلقة‬ ‫عليكم؟‬ ‫ت�رش�شل‪ :‬وبقية القنا�صل ما عم ت�شقو‬ ‫عليهم؟ ال�شيخ‪ :‬باطل‪ .‬ت�رش�شل‪ :‬اتكل ع خادم‬ ‫�صاحبة اجلاللة‪.‬‬ ‫ال�شيخ‪ :‬يعي�ش امللكة فيكتوريا‪.‬‬ ‫اورفوار متموزيل �رش�رش بك‪ .‬ت�رش�شل‪( :‬فيما يتح�رض‬ ‫للخروج) رح جنوزها ع بيت �شهاب‪( .‬يكون قد علق‬ ‫بال�صنارة خف ح��ذاء مهرتئ يرتكه معلقا وي�سري‬ ‫للخروج)‪.‬‬ ‫ال�شيخ‪ :‬ب��اي‪ ،‬باي كنتنا‪( .‬يخرج نحو‬ ‫الزاوية الثانية)‪ .‬الفتاة‪( :‬فيما يخرجان) ما هذا يا‬ ‫�أب��ي؟‬ ‫ال�شيخ‪ :‬انها قمامة تاريخية‪( .‬يختفيان يف‬ ‫الكوالي�س‪ .‬اما ال�شيخ ما ان ي�صل �إىل الزاوية الثانية‬ ‫من مقدمة امل�رسح حتى يواجه خ��وري)‪ .‬ال�شيخ‪:‬‬ ‫(تفاج�أ بع�ض ال�شيء) بارخمور‪ .‬اخلوري‪ :‬بارخمور‪.‬‬ ‫ال�شيخ‪ :‬ان�شالله خ�ير‪.‬‬ ‫اخل��وري‪ :‬مو�صى معي‬ ‫البطرك‪ .‬تا نبهك وقلك‪� :‬أنتو بها العملة عم حتفرو قربكم‬ ‫ب�ضافريكن‪ .‬وما على الر�سول اال البالغ‪( .‬ي�ستدير‬ ‫ويخرج) ال�شيخ‪( :‬يف اثره) ما لقي�رص لقي�رص (ي�ستدير‬ ‫ليعود من حيث ات��ى فيتواجه مع كل من يو�سف‬ ‫البكا�سيني وبرفقته احد عقال ال��دروز)‪ .‬الدرزي‪:‬‬ ‫نحنا من قبل �سعيد بك جنبالط‪ .‬البكا�سيني‪ :‬البيك‬ ‫�شايف ان��و حتزبكن �ضد القيمقام هيدا اك�بر �رضر‬ ‫عليكن‪ .‬الدرزي‪ :‬عليم الله‪ .‬م�ش ب�س عليكن‪ .‬ال�رضر‬ ‫واق��ع ع كل مقاطعجية جبل لبنان‪.‬‬ ‫البكا�سيني‪:‬‬ ‫بي�سوى تكونو حزب واحد‪ .‬الدرزي‪ :‬وغر�ض واحد‪.‬‬ ‫ان كان مع املري او �ضدو‪.‬‬ ‫ال�شيخ‪( :‬فيما ي�رسع‬ ‫للخروج من الناحية املقابلة) قولو ل�سعيد بك نحنا‬ ‫مت�شكرين معروفو‪( .‬يخرج البكا�سيني واالخ��ر –‬ ‫ينظران �إىل بع�ضهما‪ .‬يهزان كتفهيما ويخرجان)‪...‬‬



‫ان يكون قب�ضايا باملعنى االيجابي للكلمة فهذا م�ؤكد‬ ‫لكن ان يكون مثقفا يف زمن موغل يف القدم ويف زمن‬ ‫االتراك فهذا ما يثري �شيء من الغرابة يف نف�سي‪ .‬ومع‬ ‫ذلك تبدو ال�صورة خمتلفة عما هي يف زمن ا�رسائيل‬ ‫التي قلبت تدريجيا كل املعايري واملفاهيم االيجابية يف‬ ‫حياتنا وق�ضت عليها‪ ،‬وعلى نحو اكرث احكاما رفعت من‬ ‫بع�ض العائالت املتواطئة معها اىل مرتبة «عالية» على‬ ‫كل امل�ستويات‪ ،‬وب�شكل منهجي اكرب عملت على حتطيم‬ ‫وتدمري كل الذين ر�أوا يف وجودها ا�ستعمارا حم�ضا ال‬ ‫يختلف عن اي ا�ستعمار �آخر يف العامل‪.‬‬ ‫ كانت جدتي كما عرفتها‪ ،‬وهي �شبه مكر�سحة‪،‬‬ ‫متار�س ثالثة ن�شاطات رئي�سية كل ي��وم‪ :‬ال�صالة‪،‬‬ ‫تطرز املناديل‬ ‫�صالة امل�سبحة‪ ،‬والتطريز‪ ،‬اذ كانت‬ ‫ّ‬ ‫واالويا والغيباين وانواعا اخرى‪ ،‬والقراءة‪ .‬الغريب‬ ‫يف االم��ر‪ ،‬ان معظم الن�ساء يف زمنها مل يتلقني اية‬ ‫يعرفن القراءة‪ ،‬لكن جدتي كانت‬ ‫انهن ال‬ ‫درا�سة كما‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫جتيد القراءة‪ .‬كانت تلم اي كتاب قدمي جتده حتى لو‬ ‫من دون عالف او ينق�صه بع�ض ال�صفحات وت�رشع‬ ‫يف قراءته اذا ما كان ق�صة او رواية‪ .‬ويف الليل كنا‬ ‫نتح ّلق حولها وكانت حتكي لنا ق�ص�صا‪ ،‬على الغالب‬ ‫هي ق�ص�ص �شعبية كانت متداولة �آنذاك يف فل�سطني‪،‬‬ ‫منها ق�صة �رسايا بنت الغول التي كانت جدتي ت�ؤكد‬ ‫لنا انها خرافة �شفاعمرية ب�سبب ال�رسايا املوجودة يف‬ ‫�شفاعمرو والتي ال تزال موجودة اىل يومنا هذا (من‬ ‫اجلدير ذكره ان ال�رسايا او القلعة بناها عثمان ابن‬ ‫الظاهر عمر)‪ .‬وكانت حتكي لنا ق�صة ليلى احلمراء‪،‬‬ ‫وق�صة عنرتة بن �شداد على نحو �ساحر‪ ،‬وق�صة تغريبة‬ ‫بني هالل التي كانت تقلب كل وقائعها وجتعلها ق�صة‬ ‫فل�سطينية تقع كل احداثها يف اجلليل‪ ،‬وق�صة افتح‬ ‫يا �سم�سم والكهف واالربعني حرامي‪ ،‬وق�صة ال�سندباد‬ ‫التي حتدث يف بالدنا‪ ،‬وق�صة املغر التي وجدوها حتت‬ ‫بيت جرياننا (�آل حبيبي‪ ،‬من عائلة الكاتب اميل‬ ‫ال�شفاعمري) والتي متتد على م�سافة كبرية حتت‬ ‫حبيبي‬ ‫ّ‬ ‫االر�ض والتي ت�أ�رسنا‪ .‬وق�ص�ص اخرى عديدة‪ .‬من اين‬ ‫كانت ت�أتي بكل تلك احلكايات؟ اكيد من الآباء واالجداد‬ ‫ومن بع�ض الكتب التي كانت تقر�أها‪ .‬هذا ما اعتقدته دائما‪.‬‬ ‫لكن بريجيت يف عام ال ‪ 1999‬تبتاع يل هدية عبارة‬ ‫عن كتاب حكايات ال�شقيقني جرمي الفاج�أ ان عددا قليال‬ ‫من احلكايات التي كانت ترويها لنا جدتي كانت م�أخوذة‬ ‫من كتاب حكايات جرمي‪ ،‬مع فارق ان كل حكايات جدتي‬

‫جديت حاجي‬ ‫ّ‬ ‫رياض بيدس ل�سوء حظي‪ ،‬وانا اال�صغر يف العائلة‪ ،‬مل ار جدتي واقفة‬ ‫على قدميها ابدا!‬ ‫روايئ وقاص وناقد‪ :‬غالبا ما ر�أيت جدتي يف بيتنا القدمي يف و�سط البلد‬ ‫شفا عمرو‪ ،‬فلسطني‪ .‬ويف بيتنا اجلديد الذي انتقلنا اليه فيما بعد جتل�س معظم‬ ‫من اعماله «اجلوع وقتها على �رشفتي البيتني يف الظل لتحتمي من ال�شم�س‬ ‫واجلبل» (‪ )١٩٨٠‬على كر�سي ق�ش‪ ،‬وعندما كانت تريد ان تنتقل ت�ستعني‬ ‫«باط بوط» (‪ )١٩٨٠‬بذلك الكر�سي لالتكاء عليه والو�صول اىل املكان الذي‬ ‫«حكاية الديك تق�صده على مهلها‪.‬‬ ‫الفصيح» (‪ )٢٠٠١‬كانت امر�أة مديدة القامة ذات جمال حزين ت�شبه‬ ‫«المحو» (‪ )٢٠١٣‬الهنود احلمر اىل حد بعيد‪ ،‬ولقد تعبت يف احلياة ومن‬ ‫امل�صائب التي ح ّلت بها ‪ :‬فقدان زوجها بعد �سنتني على‬ ‫زواجها‪ ،‬وفقدان ابنها الوحيد حنا‪ ,‬الذي كانت تعبده‪,‬‬ ‫وب�سبب ظروف احلياة القا�سية التي عا�شتها‪ ،‬اذ عا�رصت‬ ‫االتراك واالجنليز واليهود‪ .‬كان يحز يف قلبها ان عائلة‬ ‫بيد�س فقدت معظم امالكها بعد موت زوجها وبعد وفاة‬ ‫�آخرين يف العائلة‪ .‬من عائلة ملاّ كني اىل عائلة فقرية‪.‬‬ ‫وعند قيام دولة ا�رسائيل �صودر معظم ما تبقّى البي‬ ‫من نتاتيف االرا�ضي التي بقيت‪ ،‬اذ �صادرت حكومة‬ ‫ا�رسائيل البي ‪ 80‬دومنا يف كريات �آتا وكان يكفي ان‬ ‫يبقى دومن واحد من الثمانني لكي نرثى جميعا نحن‬ ‫االبناء واالحفاد‪ .‬لكن االرا�ضي طارت كما طارت‬ ‫البالد‪ .‬وما تبقّى للعائلة من ارا���ض ال ي�سوى ويف‬ ‫مناطق وعرية‪.‬‬ ‫ مل تكن جدتي البي حتب اخلو�ض يف احلديث عن‬ ‫ال�سيا�سة‪ ،‬لكنها كانت احيانا تقول ان اجلِمال – جمال‬ ‫دار بيد�س – كانت متلأ ال�ساحة القريبة من كني�سة البلد‬ ‫بعد عودتها من احلقول واالرا�ضي التي كانت العائلة‬ ‫متلكها ذات يوم‪ .‬وكانت ت�شري بطرف خفي اىل ان الظلم‬ ‫يف زمن االتراك كان مرعبا‪ ،‬ويف فرتة االجنليز اي�ضا وان‬

‫ ‪ 226‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫كان على نحو اقل رمبا النه كان حمكما اكرث‪ ،‬وانه مع قيام‬ ‫دولة اليهود راحت البالد و�صودرت االرا�ضي وما بقى هو‬ ‫القليل من االرا�ضي لعائلة من امللاّ كني‪.‬‬ ‫ جدتي البي‪ ،‬تلك ال�شخ�صية القوية النادرة‪ ،‬كانت‬ ‫اجلمال‪ ،‬وهي عائلة �شفاعمرية كبرية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تتحدر من عائلة ّ‬ ‫مل تكن جدتي تتباهى با�شقائها القب�ضايات بكل معنى‬ ‫الكلمة‪ ،‬بل كانت‪ ،‬والنها كانت راوية بطبعها تذكر عفو‬ ‫اخلاطر �شقيقها بطر�س ال�سمرا – هذا ما كانوا يطلقونه‬ ‫«فراريا» من‬ ‫عليه �آن��ذاك – الذي ق�ضى معظم حياته‬ ‫ّ‬ ‫االتراك وانهم كانوا يالحقونه حتى يف اجلبال‪ .‬وما زالت‬ ‫الق�ص�ص واال�ساطري تروى عن بطولة بطر�س ال�سمرا عند‬ ‫كبار ال�سن باعجاب وانبهار كبريين‪ .‬وغالبا ما يختمون‬ ‫الق�ص�ص التي يعرفونها عنه انه على الرغم من جر�أته‬ ‫النادرة وب�سالته مل ي�ستطع االتراك قتله‪ ،‬بل مات بعد‬ ‫�سنوات حتف �أنفه‪ .‬واىل ان تويف ظل النا�س يحرتمونه‬ ‫ويهابونه وحتى يخ�شون من قوته التي ال تتزعزع‪ .‬بطولة‬ ‫فردية مل تكن ت�ستند اال على قواها الداخلية فقط‪.‬‬ ‫ جدتي مل تكن ت�أبه لكل تلك البطوالت يف عائلتها ويف‬ ‫عائلة زوجها‪ ،‬كل ما كان يعنيها بعد مقتل زوجها اليا�س‬ ‫ان حتمي ابنها وابنتها وان حتمي احفادها‪ .‬لكن احيانا كانت‬ ‫تذكر كل تلك الق�ص�ص التي ال تزال تروى احيانا ب�شكل‬ ‫�رسيع وفقط من اجل انعا�ش الذاكرة يف زمن ا�رسائيل‪.‬‬ ‫ ومن الغريب اين بعد �سنني عديدة‪ ،‬عندما كنت اق ّلب‬ ‫يف مكتبة ابي ال�ضخمة التي احرتق معظمها ب�سبب‬ ‫القنديل الذي وقع عليها‪ ،‬اقع على كتاب لبطر�س ال�سمرا‬ ‫باالجنليزية عن اربعة من ابطال اليونان باالجنليزية‪.‬‬ ‫والكتاب مهدى من بطر�س ال�سمرا اىل ابن اخته حنا‬ ‫بيد�س‪ .‬كتب االه��داء بقلم ر�صا�ص وما زال وا�ضحا‬ ‫جدا حتى اليوم‪ .‬وما زلت احار يف امر بطر�س ال�سمرا‪:‬‬

‫ ‪ 227‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫كانت حتدث او حدثت يف اجلليل‪ .‬اال�سماء كلها عربية‬ ‫حمدد‪.‬‬ ‫فل�سطينية واالمكنة‪ ،‬والزمن غالبا غري ّ‬ ‫ كربنا على حكايات جدتي ال�ساحرة‪ .‬ومن بني كل‬ ‫االمكنة التي كانت جتري فيه حكاياتها كان مكانان‬ ‫حمددان يثريان اهتمامنا من بني كل االمكنة االخرى‬ ‫(اذ كانت ال�سيارات نادرة‪ ،‬وكان من ال�صعب علينا ان‬ ‫ن�سافر اىل بحر الزيب او عكا او حتى حيفا لرنى البحر‬ ‫الذي كان ال�سندباد يعارك امواجه وحيتانه)‪� :‬رسايا‬ ‫او قلعة �شفاعمرو التي كانت تدور فيها ق�صة �رسايا‬ ‫ونتخيل‬ ‫بنت الغول‪ ،‬فكنا ننظر اىل تلك القلعة بانبهار‬ ‫ّ‬ ‫احداث احلكاية‪ .‬اما املكان الآخر‪ ،‬فكانت املغر التي‬ ‫كانت متتد من حتت بيت جرياننا دار حبيبي والتي ظل‬ ‫منها جزء يف زمننا اىل ان طموها‪ .‬كنا ال جنر�ؤ على‬ ‫دخول تلك املغر النها مظلمة‪ ،‬لكننا كنا نقف احيانا على‬ ‫بابها برهبة ونعود خائفني‪.‬‬ ‫ وعلى ما يروى فان ق�صة تلك املغر حقيقية‪ .‬ففي‬ ‫زمن االجنليز اكت�شف احد اال�شخا�ص من عائلة حبيبي‬ ‫تلك املغر‪ .‬ودخل يف قلبها وق ّلب يف ا�شيائها‪ ،‬وملفاج�أته‬ ‫وجد فيها كمية هائلة من الذهب (رمبا من زمن عثمان‬ ‫ابن الظاهر عمر !)‪ .‬عاد ادراجه اىل البيت ومل يخرب احدا‬ ‫ب�رسه‬ ‫بامر الذهب‪ .‬كانت كمية كبرية جدا‪ .‬ظل حمتفظا ّ‬ ‫ب�رسه‪.‬‬ ‫تعرف على �سيدة اجنليزية واخربها ّ‬ ‫لفرتة‪ ،‬اىل ان ّ‬ ‫وعندما ر�أت تلك ال�سيدة تلك الكمية من الذهب‪ ،‬ويف‬ ‫معظمها حتف فنية خال�صة‪ ،‬وعدته خريا‪ ،‬واقرتحت عليه‬ ‫تلك ال�سيدة ان ت�أخذ كل تلك الكمية من الذهب يف‬ ‫«الببور»‪( ،‬اي باخرة)‪ ،‬اىل اجنلرتا وتبيعها هناك‪ ،‬ثم تعود‬ ‫وتعطيه ثمنها بالعملة االجنليزية‪ .‬وثق ذلك ال�شخ�ص‬ ‫بها‪ ،‬وكان ان �سافرت تلك ال�سيدة بالذهب اىل اجنلرتا‪.‬‬ ‫وانتظر ابن عائلة حبيبي �شهورا و�سنني‪ ،‬لكن تلك‬ ‫ال�سيدة اختفت نهائيا‪ .‬اختفى الذهب نهائيا‪ ،‬اما ذلك‬ ‫ال�شخ�ص من �آل حبيبي‪ ،‬فكان م�صريه اجلنون‪.‬‬ ‫ ظ ّلت جدتي تقر�أ اىل ان �ضعف ب�رصها نهائيا‪ .‬اما‬ ‫الورقي الذي كانت ت�ضع فيه كتبها فقد امتلأ‬ ‫ال�صندوق‬ ‫ّ‬ ‫بالعث ثم تبعرث‪ .‬وعلى الرغم من ان جدتي كانت تقر�أ‬ ‫يوميا‪ ،‬وكانت دائما حتب ان تقر أ� كتبا جديدة‪ ،‬اال ان‬ ‫مكتبة ابي ال�ضخمة مل ترث اهتمامها‪ :‬الن ت�سعني باملئة‬ ‫من تلك الكتب كانت باللغة االجنليزية‪ ،‬اما الكتب‬ ‫االخرى التي كانت فيها فهي كتب عربية كال�سيكية‬ ‫للجاحظ واملتنبي والعقد الفريد وثالثة تفا�سري للقر�آن‬ ‫عدا الن�سخ املختلفة للقر�آن التي كان ابي يحتفظ بها‪،‬‬


‫والعقد الفريد‪ ،‬وغريها من الكال�سيكيات‪ .‬كانت جدتي‬ ‫تبحث عن احلكايات الب�سيطة‪ ،‬النها كانت حتتفظ‬ ‫مبخزون هائل من الذكريات‪ ،‬ورمبا احلكايات‪ ،‬وكان من‬ ‫ال�سهل عليها ان تقلب بع�ض تفا�صيل تلك احلكايات‬ ‫وجتعلها كلها حتدث يف اجلليل على نحو م�شوق جدا‪.‬‬ ‫ويف تلك االيام مل يكن هناك تلفزيون‪ ،‬فكانت تلك‬ ‫احلكايات هي التي جتمعنا حول جدتي‪ .‬وكانت حتكي‬ ‫لنا بع�ض تلك احلكايات احيانا اكرث من مرة مع تغيريات‬ ‫دائمة دون ان ن�صاب باي ملل‪ .‬واىل يومنا هذا ما زلت‬ ‫احت�سرّ الننا يف تلك االي��ام مل نكن نعي اهمية تلك‬ ‫احلكايات الفائقة لندونها كما كانت ترويها لنا جدتي‪،‬‬ ‫لكن ذلك كان غري ممكن‪ ،‬النه يف تلك الفرتة مل تكن‬ ‫هناك مل تكن هناك �آالت ت�سجيل‪.‬‬ ‫ يف بيتنا اجلديد يف اجلبل كربت جدتي وكربنا نحن‬ ‫ومل تعد تروي لنا حكاياتها‪ .‬ويف البيت اجلديد اخذت‬ ‫اقر�أ مما يف مكتبة ابي من كتب كال�سيكية كانت ت�سحرين‬ ‫جدا‪ :‬كانت اخلطوط التي ي�ضعها ابي حتت ال�سطور التي‬ ‫تعجبه تثري اهتمامي ال�شديد‪ .‬وكانت مالحظاته الثاقبة‬ ‫التي يكتبها بخطه اجلميل يف هوام�ش ال�صفحات ت�صيبني‬ ‫بالذهول احيانا‪ :‬مالحظات حادة‪ ،‬احيانا �ساخرة‪ ،‬ومرات‬ ‫تنقل واقع تلك االيام على نحو دقيق‪ .‬وكانت جدتي ب�سبب‬ ‫�ضعف نظرها تطلب مني ان اقر�أ لها ما اقر�أه‪ .‬كنت افعل ذلك‬ ‫ب�رسور‪ ،‬لكن الكتب التي كانت ترغب يف اال�ستماع اليها‬ ‫هي روايات جرجي زيدان التاريخية التي كنت ا�ستعريها‬ ‫ت�صحح يل‬ ‫من ابن جرياننا زيتون‪ .‬كنت اقر�أ لها وكانت‬ ‫ّ‬ ‫اخطائي العديدة باهتمام �شديد‪ .‬اما الكتب االخرى التي‬ ‫كنت اقر�أ لها منها‪ ،‬فكانت اجزاء كتب «امل�شوق» التي‬ ‫كنا ندر�س فيها‪ .‬كانت احيانا ت�ضحك وتفرح من بع�ض‬ ‫اقا�صي�ص «امل�شوق» وتقول يل «هذا كتاب ممتاز‪ .‬ليت‬ ‫نظري كان قويا كما كان‪ ،‬الين كنت �س�أقر�أ الكتاب ب�رسور‬ ‫(وت�س�ألني «معل�ش اي�ش ا�سمه ؟»‪ ،‬ف�أخربها) واتابع القراءة‪.‬‬ ‫ ان ت�ستطيع جدتي قراءة «امل�شوق» على مهلها كان‬ ‫يعني ان تعيد بناء تلك الق�ص�ص يف خيالها وان ترويها‬ ‫لنا فيما بعد على نحو �ساحر جدا‪ .‬وبعد �سنني‪ ،‬وقبل ان‬ ‫يكت�سح عاملنا التلفزيون‪ ،‬اذ كان ترفا خال�صا �آنذاك ال‬ ‫ي�ستطيع امتالكه اال االغنياء وهم ق ّلة قليلة يف البلد‪ ،‬كان‬ ‫اخي اليا�س الذي ق�ضى �شابا هو الآخر يروي لنا الكتب‬ ‫التي كان يقر�أها ليال بعد نهار عمل م�ضن‪ ،‬على نحو اننا ما‬ ‫زلنا اىل يومنا هذا نقول عنه‪« :‬كان يروي لنا ق�صة الكتاب‬ ‫على نحو م�شوق كما لو انه فيلم �سينمائي من الطراز‬

‫ ‪ 228‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫االول»‪ .‬مل نكن منل لثانية واحدة‪ .‬وتدريجيا اندثر زمن‬ ‫احلكاية ليحل حمله زمن التلفزيون‪ .‬فاختفت احلكايات‬ ‫واختفى الرواة‪ .‬و�صار ابو ملحم وام ملحم وا�سعد وفهمان‬ ‫تعرفنا على م�سل�سل «هاواي»‬ ‫هم ابطالنا ال�شعبيني‪ ،‬اىل ان ّ‬ ‫التحري االمريكي ال�شهري يف زمننا وتتالت االفالم‬ ‫وامل�سل�سالت االجنبية التي كنا ننتظرها بلهفة‪.‬‬ ‫ فرحت جدتي البي لفرحنا عندما جنحنا يف اقتناء‬ ‫تلفزيون‪ .‬لكنها مل تكن ت�شاهد التلفزيون باملرة‪ .‬كانت‬ ‫تنظر اليه ك «بوك�س‪ ،‬اي �صندوق» غريب عليها وعلى‬ ‫عاملها‪ .‬كانت بالفطرة تدرك ان عاملها وجتربتها يف‬ ‫احلياة اهم بكثري من التلفزيون‪ .‬وظلت تكتفي مبا اقر�أه‬ ‫لها من كتب يف النهار‪ ،‬ويف ال�سابعة م�ساء كانت تلج�أ‬ ‫اىل فرا�شها وتنام‪ .‬ورمبا ظ ّلت حتلم احالما فل�سطينية‬ ‫ممزوجة بخربة من زمن االحتالل الرتكي واالجنليزي‬ ‫واال�رسائيلي على مهلها‪ .‬كنا منازحها احيانا «اي االزمان‬ ‫اف�ضل يا جدتي ؟» كانت تبت�سم وتقول «كلها غريبة‬ ‫علينا وعلى عاملنا‪ .‬وال ي�صح اال ال�صحيح»‪ .‬وعندما‬ ‫كربت فهمت ما الذي كانت تق�صده بـ«ال�صحيح»‪،‬‬ ‫فلقد تربينا على ان للحيطان �آذانا‪ ،‬وكانت جدتي حتكي‬ ‫�سيا�سة اما بالرمز او التلميح‪ ،‬او من خالل حكاياتها‬ ‫التي كانت كلها جتري يف اجلليل الفل�سطيني‪.‬‬ ‫ نهار ال�سبت‪ ،‬كان ي�أتي لزيارة جدتي ختيارية من‬ ‫البلد ي�شاركون جدتي احلديث عن جتاربهم وايام زمان‬ ‫وعراكهم يف احلياة‪ .‬كان ذلك اي�ضا بديال للتلفزيون الذي‬ ‫اكت�سح البيوت‪ .‬كان ي�أتي لزيارة جدتي‪ :‬املهدي وهو‬ ‫دمرت عند احتالل اليهود‬ ‫بدوي من قرية اخليط التي ّ‬ ‫للبالد (وكثريا ما كان يردد على م�سامع جدتي والآخرين‬ ‫«يا ريت اليهود ي�سمحولنا نرجع لقريتنا اخليط وبدي‬ ‫انام حتت بيت خرفي�ش!») وكان اخلتيار ا�صالن الذي‬ ‫يحكي العربية بلكنة ارمنية‪ ،‬واوالد اخت جدتي الذين‬ ‫كنا نناديهم بـ«خايل اني�س» و«خايل اميل»‪ ،‬وابن اختها‬ ‫لوي�س الذي كان يبدو لنا بقامته الفارعة ك�أنه هندي‬ ‫احمر‪ ،‬واق ّلهم حظا مع جدتي كان زوج خالتي منى �سليم‬ ‫الذي ي�ستفز غ�ضب جدتي عندما تراه ي�أتي اىل لقاء‬ ‫نهار ال�سبت وقد ارتدى قمي�صا ابي�ض ويف جيبه ي�ضع‬ ‫علبة دخان مالبورو التي يراها اجلميع من جيب قمي�صه‬ ‫ال�شفّاف‪ ،‬فتقول له بغ�ضب‪« :‬مالبورو للنعرة (اي �شوفة‬ ‫تخيط للنا�س ف�ساتني‪،‬‬ ‫النف�س)؟ كل النهار مرتك قاعدة ّ‬ ‫وانت بدك تنعر وجتخ؟! عيب عليك!» وكان زوج خالتي‬ ‫يتقبل انتقادات جدتي ب�صدر رحب‪.‬‬ ‫الب�سيط الطيب‬ ‫ّ‬

‫ ‪ 229‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬


‫ويف تلك اجلل�سات كانت جدتي ت�ستعيد ذكرياتها مع‬ ‫اولئك اال�شخا�ص الذين عا�شوا جتارب مماثلة لتجاربها‪.‬‬ ‫كلهم‪ ،‬ما عدا زوج خالتي الذي كان ا�صغر �س ّنا منهم‪،‬‬ ‫مل ي�شاهدوا وال اي برنامج تلفزيوين واحد من دون‬ ‫ان ي�شعروا بنق�ص ما ال بل بطيب خاطر‪« .‬التلفزيون»‬ ‫الغ�صات واملرارات‬ ‫الوحيد الذي ا�ستمتعوا به‪ ،‬رغم كل‬ ‫ّ‬ ‫والآالم التي عانوها‪ ،‬كان ذكرياتهم وعاملهم الغني الذي‬ ‫عا�شوه والذي كان يتدفق يف جل�ساتهم من دون اي‬ ‫جمهود‪ .‬اكرث من ذلك ‪ :‬احيانا كانت جدتي‪ ،‬بناء على‬ ‫طلب املهدي‪ ،‬الطاعن يف ال�سن‪ ،‬تروي لهم احلكايات‬ ‫التي كانت ترويها لنا‪ ،‬فيفرحون كاالطفال‪ .‬وكثريا ما‬ ‫كان اخلتيار ا�صالن يبكي النه يتذكر يف بع�ض احداث‬ ‫تلك احلكايات‪ ،‬بالده ارمينيا‪ ،‬فيدمدم باالرمنية ببع�ض ما الذي بقي من جدتي؟‬ ‫الكلمات ومي�سح دموعه‪.‬‬ ‫تاريخ طويل من احلزن واملعاناة‪ .‬كانت جتاعيد وجهها‬ ‫ يف تلك االيام كانت ال�ساعات اي�ضا نادرة‪ .‬كانت يف حتكي م�أ�ساتها ال�شخ�صية وم�آ�سي �شعبها‪ .‬راوية من‬ ‫بيتنا القدمي �ساعة كبرية تر�سل دقاتها رتيبة خاوية على الطراز االول من خالل حكاياتها حكت تاريخ منطقتها‬ ‫نحو قاتل‪ .‬وعندما عبثت بعقربيها غ�ضبت امي‪ ،‬بينما وتاريخ جيلها‪ .‬بخيال خ ّ‬ ‫الق كانت ت�ستعري حكايات‬ ‫جدتي مل تعرت�ض‪ .‬ا�ستغربت االمر‪ .‬لكني فيما بعد فهمت‪� :‬شعوب اخرى وجتعل منها حكايات فل�سطينية حملية‪.‬‬ ‫كانت جدتي ال تلج�أ لال�ستعانة بتوقيت ال�ساعة باملرة‪ .‬بالفطرة ا�ستطاعت ان ت�ضحك على التاريخ القا�سي الذي‬ ‫كانت جتل�س على �رشفة البيتني وتقول لنا الوقت الدقيق‪ .‬كان وما زال يتالعب بنا وان تن�سج عاملا من احلكايات‬ ‫كنا ندخل اىل البيت وننظر اىل ال�ساعة لنفح�ص االمر‪ ،‬اجلميلة التي تخفّف من وط�أة ما يجري على ار�ض الواقع‪.‬‬ ‫ونكت�شف ان جدتي تعرف الوقت بال�ضبط‪ .‬كنا ن�س�ألها كيف‪ ،‬وجوه ال تن�سى‪ .‬ا�صالة ازاء واقع جديد ه�ش مائع‪.‬‬ ‫فكانت تقول لنا «من حركة ا�شعة ال�شم�س على ال�رشفة»‪ .‬وقبل ان تتوفى جدتي ب�سنني قليلة‪ ،‬ا�ستعري من مكتبة‬ ‫وكنا ن�ضحك من «�ساعتها» اخلفية املاكرة بالن�سبة لنا‪.‬‬ ‫ا�ستاذ التاريخ رواية «فار�س �آغا» ملارون عبود‪ .‬برتدد‬ ‫ تقدمت جدتي يف العمر وتكر�سحت متاما‪ .‬و�صار من ابد�أ بقراءة ال�صفحة االوىل جلدتي التي تفرح كاالطفال‪.‬‬ ‫ال�صعب على امي ان تعنى بها لوحدها‪ ،‬فجدتي كانت اتوقف وات�أملها‪ ،‬اذ انها للمرة يف اثناء قراءة كتاب لها‬ ‫حماة و�صديقة واخت ومدر�سة والدتي‪ .‬كانت امي تبدو �سعيدة‪ .‬تطلب مني باحلاح ان اتابع القراءة‪ .‬وعلى‬ ‫ت�ستعني بنا على نقل جدتنا يف البيت اىل ان �صار االمر مدار ا�سبوعني ننجز قراءة الكتاب‪ .‬ت�شكرين جدتي‬ ‫عيني‪ .‬تقول «هذه لك‪،‬‬ ‫ا�صدق‬ ‫غري ممكن‪ .‬و�شعرت جدتي بثقل حياتها‪ .‬كانت ت�ص ّلي وتعطيني ن�صف لرية‪ .‬ال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فرحت قلبي بهذا الكتاب»‪ .‬وبعد �صمت ق�صري‬ ‫احيانا ان متوت يف فرا�شها وهي نائمة‪ ،‬لكن الآلهة مل النك ّ‬ ‫ت�ستجب‪ .‬ظللنا على ذلك احلال اىل فرتة طويلة‪ :‬ال احد تقول يل وهي مته ّللة اال�سارير‪« :‬بتعرف؟ قرياقو�س هذا‬ ‫جبار‪ ،‬ب�س بنق�صو ا�شي واحد‪ »...‬وانتظر ماذا‬ ‫منا‪ ،‬وبالذات امي‪ ،‬يريد التخ ّلي عن تلك اجلدة الرائعة‪ .‬ان�سان ّ‬ ‫«جبار‪،‬‬ ‫لكن انينها وبكاءها حاال دون ذلك‪ .‬اجتمعنا بعمتي �ستقول‪ ،‬فتبت�سم ابت�سامة عري�ضة وتقول ب�أ�سف ّ‬ ‫عبلة‪ ،‬فقالت ان االمر �صعب عليها‪ .‬عندها طلبت جدتي ب�س للأ�سف جبان‪ .‬زوجي وابني وا�شقائي مل يكونوا‬ ‫ان ن�أخذ بها اىل امللج�أ‪« .‬امللج�أ؟!» كلنا رددنا تلك الكلمة جبناء باملرة»‪ .‬وعلى الرغم من الروايات العديدة التي‬ ‫كما لو انها كانت �سجنا او غربة جديدة جلدتي‪ ،‬لكن قر�أتها‪ ،‬اال ان «فار�س �آغا» ظ ّلت رواية جدتي االثرية‪،‬‬ ‫جدتي قالت «بدي اروح على امللج�أ !» امي حاولت ان رمبا الن جدتي اعجبت بها جدا!‬ ‫تقنعها انها لي�ست ثقيلة علينا باملرة‪ ،‬لكنها قالت بحزم واىل اليوم‪ ،‬ما زلت اتذكر �ضحكات جدتي املوزونة وانا‬ ‫«انا جهام (اي امر�أة �ضخمة) وما حدا بقدر يظل يعول اقر أ� لها كتاب «فار�س �آغا»‪� .‬ضحكات ال متوت نابعة من‬ ‫يف‪ .‬بدي ارتاح»‪ .‬نقلنا جدتي على م�ض�ض اىل امللج�أ‪ ،‬القلب يف عامل قا�س موح�ش‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فق�ضت فيه بعد اقل من �شهر حزينة على نف�سها‪ ،‬ورمبا‬ ‫على الآخرين الذين يع ّزون عليها‪ .‬كانت ال تريد ان متوت‬ ‫يف امللج�أ‪ ،‬لكن كان من ال�صعب عليها ان ترانا ثالثة او‬ ‫اربعا جمتمعني لرفعها على �رسيرها‪ .‬وعندما ماتت عن‬ ‫عمر يناهز الـ‪ 92‬عاما يف امللج�أ ت�أثرنا جميعا‪ ،‬لكن‬ ‫العزاء الوحيد بالن�سبة يل كان تلك احلكاية التي كانت‬ ‫ترويها عن الفيل او عن حيوان �آخر ال اذكر ا�سمه انه‬ ‫كان عندما يتقدم يف ال�سن كان يذهب اىل مكان بعيد‬ ‫عن القطيع وا�رسته ليموت وحيدا‪ .‬وهذا ما فعلته جدتي‪.‬‬ ‫وكانت حكايتها تلك ا�ست�رشافا حلالتها وحلالة اغرتاب‬ ‫كثري من الب�رش حتى يف موتهم!‬

‫ ‪ 230‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫‪ 230‬عن انعتاق الكالم‪:‬‬ ‫ ‬ ‫لغة الثورة السورية والثورة يف اللغة‬

‫حممد العطار‬


‫ميكن �أن تبقى جدرانها امل�صمتة جاثمة على �صدورنا‪،‬‬ ‫على ما ذهب �إليه مبكر ًا املعار�ض ال�سوري ريا�ض الرتك‬ ‫يف �رصخته ال�شهرية يف مطلع الألفية الثانية‪.3‬‬ ‫ الكالم �إذن يف �سوريا كان له ثورته �أي�ض ًا‪ .‬فالكالم‬ ‫خارج �إطار امل�سموح به كان باهظ الكلفة‪� ،‬أثمانه ترتاوح‬ ‫بني �سنني من االعتقال وبني التنكيل واال�ضطهاد الرهيب‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وبخوف رهيب‪.‬‬ ‫كانت النكات ال�سيا�سية تقال يف ال�رس‪،‬‬ ‫الأغاين والأهازيج ‪ ،‬كما الكتب والأفالم وامل�رسح يف‬ ‫ومراقبة‪ .‬اجلدران يف �سوريا‪ ،‬كانت‬ ‫�سوريا كانت مقيدة ُ‬ ‫متلك �أذان ًا �شديدة الإ�صغاء‪ .‬لي�ست ال�ضوابط ال�صارمة‬ ‫واخلطوط احلمراء وما �أكرثها‪ ،‬هي الطامة الوحيدة‪ .‬هناك‬ ‫�أي�ض ًا ابتذال الكلمات و�إفراغها من �أي معنى �أو وقع‬ ‫يالم�س قلوب ال�سوريني كما عقولهم‪ .‬ا�س�ألوا ال�سوريني‬ ‫ٍ‬ ‫كلمات مثل‪�« :‬شفافية»‪« ،‬عدالة»‪« ،‬مقاومة»‪« ،‬ممانعة»‪،‬‬ ‫عن‬ ‫«�صمود»‪« ،‬لحُ مة وطنية»‪« ،‬ت�صدي»‪« ،‬م�ؤامرة»‪« ،‬حتديث»‪،‬‬ ‫«تطوير»‪�« ،‬إ�صالح» والقائمة تطول‪.‬‬ ‫ عقود من التدجني اللغوي تتواله على التوايل منظمات‬ ‫طالئع البعث و�شبيبة الثورة‪ ،‬ثم احتاد طلبة �سورية‪ ،‬ثم‬ ‫امل�ؤ�س�سة الع�سكرية «العقائدية»‪ ،‬ناهيك بالطبع عن ن�رشات‬ ‫الأخبار على التلفزة الر�سمية وافتتاحيات ال�صحف الر�سمية‬ ‫الوحيدة‪ .‬ال ميكننا بالطبع �إغفال االجتماعات واللقاءات‬ ‫احلزبية واملهرجانات اخلطابية‪ ،‬التي كان لها �سطوة ال يجوز‬ ‫التقليل من �ش�أنها وبخا�صة يف القرى والأري��اف‪ .‬كيف‬ ‫واحلال هذه �ستنجو اللغة من ال�ضمور �إذن؟‬ ‫ يف فيلم «الطوفان» يقول مدير املدر�سة االبتدائية‪:‬‬ ‫«منذ نعومة �أظافره تعلم الطالب حب هذه املنظمات»‪،‬‬ ‫يق�صد طبع ًا منظمات حزب البعث‪ ،‬وهو �شديد الثقة �أن‬

‫عن انعتاق الكالم‬

‫لغة الثورة السورية والثورة يف اللغة‬ ‫حممد العطار‬ ‫كاتب ومرسحي سوري‬

‫‪. 1‬ج‪ .‬ل‪ .‬او�سنت‪,‬‬ ‫فيل�سوف الربيطاين‪,‬‬ ‫وهو من �أعاد‬ ‫مفهوم الكالم �إىل‬ ‫فعلٍ ب�رشي‪.‬‬ ‫‪� 2‬أجنز د‪ .‬جمال‬ ‫�شحيد ورقة‬ ‫بعنوان «�شعارات‬ ‫االنتفا�ضة واملواالة‬ ‫يف �سوريا» ن�رشت‬ ‫يف موقع املبادرة‬ ‫العربية للإ�صالح‪.‬‬ ‫وفيها ي�ستعر�ض‬ ‫عدد ًا كبري ًا من‬ ‫ال�شعارات وي�شري‬ ‫يف مقدمة ورقته‬ ‫�إىل وجود �أكرث من‬ ‫ع�رشة �آالف �شعار‪،‬‬ ‫دون �أن يوردها‬ ‫كلها بالطبع‪.‬‬

‫ ‪ 232‬‬

‫ت��ت��وج��ب اإلاشرة إىل أن ه���ذه ال��ورق��ة ليست حب��ث ً��ا ل��غ��وي ً��ا مخُ��ت��ص ً��ا‪ ،‬ل��ق��ص��ور م��ع��اريف يف ه���ذا احل��ق��ل‪ ،‬والن�ص�راف‬ ‫اهتمامي إىل م��ق��ار ب��ة فعل ال��ك�لام بوصفه فعل ان��ع��ت��اق‪ ،‬أي م��ق��ار ب��ة ال��ك��ل��م��ات وال��ه��ت��اف��ات وال��ش��ع��ارات اليت‬ ‫ً‬ ‫جزءا من‬ ‫ولدت بفضل وأثناء الثورة بوصفها‬ ‫جتسيدا لممارسة احلر ية‪ .‬انعتاق فعل الكالم هذا‪ ،‬والذي يشكل ً‬ ‫ً‬ ‫مفتاحا لفهم التغيري السيميايئ للكلمات‪ ،‬أي تغيري معاين الكلمات‪ ،‬حنت كلمات جديدة‪،‬‬ ‫ثورة اللغة‪ ،‬يشكل‬ ‫وإعادة الروح لكلمات أخرى‪ .‬هذه التغيريات عىل المستوى السيميايئ ما هي إال نتيجة لتحرر فعل الكالم‪،‬‬ ‫الذي يشكل أحد أوجه ثورة هائلة عىل صعيد الفعل اإلناسين‪.1‬‬

‫ يف العامل الأجنلو ‪� -‬ساك�سوين‪ ,‬تدر�س اللغة عاد ًة على‬ ‫ثالثة م�ستويات خمتلفة‪ ,‬والعالقة بني هذه امل�ستويات‬ ‫ال‪ ,Syntax ,‬حيث ندر�س قواعد اللغة‪.‬‬ ‫متداخلة‪� .‬أو ً‬ ‫‪Semantics‬‬ ‫ثاني ًا‪,‬‬ ‫حيث ندر�س معاين الكلمات‪ .‬ثالث ًا‬ ‫‪ ,Pragmatics‬حيث ندر�س الأفعال الكالمية‪� ،‬أي اللغة‬ ‫على م�ستوى التداول واال�ستخدام‪ .‬هذه الورقة تقرتح‬ ‫� ّأن حترير فعل الكالم‪ ,‬على امل�ستوى الثالث‪ ,‬ينعك�س‬ ‫ويعك�س تغيريات على امل�ستوى الثاين ال�سيميائي‪� ,‬أي‬ ‫يف معاين الكلمات‪ .‬بالطبع ف�إن تو�ضيح هذا الأمر يحتاج‬ ‫ومعمقة يف طبيعة العالقة‬ ‫�إىل درا�سة تف�صيلية مخُ ت�صة‬ ‫ّ‬ ‫بني هذين امل�ستويني‪ .‬يف هذه الورقة مالحظات تنطلق‬ ‫من واقع ا�ستخدام اللغة يف الثورة ال�سورية‪.‬‬ ‫ ت�سعى الورقة �أي�ض ًا ال�ستعرا�ض كيف جعل انعتاق‬ ‫الكالم من ال�شعارات ُمعرب ًا عن م�سار الثورة و�أطوارها‪.‬‬ ‫و�إن كنت يف هذا ال�سياق ال �أ�سعى �إىل جتميع كل �شعارات‬ ‫الثورة ال�سورية‪ ،‬و�إمنا �أكتفي بالإ�شارة �إىل بع�ض الأمثلة‬ ‫التي �أعتقد �أنها كانت �شعارات م�ؤ�س�سة �أو مف�صلية عربت‬ ‫عن نقالت وا�ضحة يف م�سرية الثورة املُ�ستمرة‪.2‬‬ ‫طوفان الثورة‬ ‫يف م�شهد باقٍ يف الذاكرة من فيلم الراحل عمر �أمريالي‬ ‫«طوفان يف بالد البعث»‪ ،‬يتلعثم مدير مدر�سة قرية‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫املا�شي وهو يتحدث عن مكرمات القيادة الر�شيدة‬ ‫جتاه املعلمني‪ ،‬قبل �أن ي�صمت للحظات تبدو دهر ًا بعد‬ ‫�أن �أنهى ما يف جعبته من الكلمات �أمام الكامريا‪ .‬لقد‬ ‫قال كل ما يحفظه حول �إجنازات القائد اخلالد وحزب‬ ‫البعث ثم �صمت! مل يتعمد ال�صمت حق ًا‪ ،‬لكنه �أنهى كل‬ ‫كلماته! من �أين ي�أتي بكلمات جديدة؟‬ ‫ال لكي‬ ‫ حترر الثورة �أ�صواتنا املخنوقة‪ .‬الثورة تقوم �أو ً‬ ‫ميتلك كل فرد فينا �صوته املميز‪ ،‬ولكي نفعل ذلك يجب‬ ‫�أن منتلك كلماتنا و�أن نطلقها خارج حناجرنا التواقة �إىل‬ ‫ال�رصاخ بدون قيود‪.‬‬ ‫ال لفهم هذا احل�ضور البارز للغة يف‬ ‫ ميثل هذا مدخ ً‬ ‫الثورات واالنتفا�ضات العربية‪ ،‬يف ال�شعارات والهتافات‬ ‫والأهازيج والأغاين والق�صائد واليوميات‪ ،‬التي �شكلت‬ ‫ال �أ�سا�سي ًا ملزاج ال�شارع املنتف�ض يف تون�س وم�رص‬ ‫حام ً‬ ‫وليبيا واليمن والبحرين وغريها‪ .‬لكن يبقى ح�ضور اللغة‬ ‫يف الثورة ال�سورية �شديد اخل�صو�صية الأمر الذي دفع‬ ‫البع�ض �إىل اعتبارها (يف �أحد �أوجهها العديدة) ثورة‬ ‫كلمات �أو انتفا�ضة لغة‪ .‬ال يتوقف الأم��ر‪ ،‬على حقيقة‬ ‫مفادها �أن ال�رشارة الأوىل للثورة ال�سورية انطلقت ب�سبب‬ ‫ٍ‬ ‫كلمات خطها �صبي ٌة يف درعا على اجلدران‪ .‬الأهم رمبا‪ ،‬هو‬ ‫جنوح الكالم يف �سوريا الثورة للتحرر من قيود ال�صمت‬ ‫واخلوف واللغة اجلوفاء‪� .‬إنه تهد ٌمي ململكة ال�صمت التي ال‬

‫انعتاق الكالم‬ ‫عندما �شاهدت حتفة ال�سينمائي اليوناين ثيو �أجنيوبولي�س‪:‬‬ ‫«الأبدية ويوم»‪ ،‬للمرة الأوىل منذ �سنوات‪� ،‬أح�س�ست بجزع‬ ‫و�أنا �أراقب ق�صة �شاعر ي�شرتي الكلمات كي ُيتم ت�أليف‬ ‫ق�صيدة‪ .‬مل �أ�ستطع �إال التفكري بالتايل‪ :‬هل بات حمتم ًا علينا‬ ‫�رشاء كلمات جديدة؟ �أو رمبا البحث عنها؟ كلمات محُ فزة‪،‬‬ ‫جديدة‪ ،‬ت�شبه النا�س‪ ،‬تخاطبهم وحتكي عنهم!‬ ‫ �أعتقد �أن الثورات العربية فتحت الباب على م�رصاعيه‬ ‫لرحلة انعتاقٍ ثالثي الأوجه‪ :‬الكالم واجل�سد‪ ،‬و�إعادة امتالك‬ ‫الف�ضاء العام‪ .‬وهي رحلة و�إن �أطلقتها الثورات‪ ،‬ولكنها‬ ‫ما تزال يف بداية طريقٍ حمفوف بال�صعاب‪ .‬وهذه الأوجه‬ ‫الثالث �شديدة االرتباط ‪ ،‬بل �إنها تكمل بع�ضها البع�ض‪.‬‬ ‫ �إن عقود ًا من اال�ستبداد ت�شمل م�صادرة الكالم‪ ،‬وخنق‬ ‫الأج�ساد وتقييدها‪ ،‬واحتالل الف�ضاءات العامة‪ .‬تولد رغب ًة‬ ‫جارفة يف معاك�سة هذا القمع يف م�ستوياته الثالثة هذه‪،‬‬ ‫ُيتوج الأمر – كما ر�أينا يف جميع الثورات العربية –‬ ‫باحتالل الف�ضاءات العامة وحتويلها ل�ساحات للرق�ص‬ ‫والغناء‪ ،‬حيث امتلك فيها الأف��راد ورمبا للمرة الأوىل‪،‬‬ ‫�صوت ًا خا�ص ًا بكلٍ منهم‪ ،‬يف ذات الوقت الذي احتدوا فيه‬ ‫ٍ‬ ‫ج�سد جمعي عرب التكاتف والرق�ص والغناء‪ ،‬و�أحيان ًا‬ ‫يف‬ ‫ملقارعة البلطجية �أو البالطجة �أو ال�شبيحة‪.‬‬ ‫ تعذر على ال�سوريني احتالل الف�ضاءات العامة‬ ‫واملكوث فيها‪� .‬أدرك النظام خطورتها هذا الأمر مبكر ًا‪،‬‬ ‫فتمكن ببط�شه غري امل�سبوق‪ ،‬من منع املتظاهرين من‬ ‫احتالل الف�ضاءات العامة واالعت�صام فيها‪ .‬حد هذا من‬ ‫االنعتاق البهي للأج�ساد التواقة للحرية‪ ،‬الأمر الذي منح‬ ‫ال �إ�ضافي ًا يف حمل الروح الثورية يف �سوريا‪� .‬أي‬ ‫الكلمة ثق ً‬

‫ال�سخرية التي حملها الكالم اجلديد ‪ ...‬كانت �سالح ًا مهمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ًا‬ ‫يف يد ال�سوريني لنزع الرهبة والقدا�سة عن الرئي�س املع�صـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوم‬

‫‪ 3‬ريا�ض الرتك‪،‬‬ ‫«من غري املمكن‬ ‫�أن تظل �سورية‬ ‫مملكة ال�صمت»‪،‬‬ ‫النهار‪،‬‬ ‫ ‬ ‫جريدة‬ ‫‪ 22‬متوز‪.2000‬‬

‫ ‪ 233‬‬

‫كافة الأوالد �سي�ستمرون يف االنت�ساب �إىل هذه املنظمات‬ ‫طواعية وبحب‪ .‬لطاملا اعتقدت �أن �أمريالي‪� ،‬أ�سقط �سهو ًا �أو‬ ‫عمد ًا‪� ،‬أن تروي�ض ه�ؤالء الأطفال لي�ست مهمة منتهية كما‬ ‫اعتقد مدير املدر�سة البعثي ونظامه من ورائه‪ .‬و�أن جذوة‬ ‫التمرد على هذه اللغة اجلوفاء كانت متقدة يف �صدور ه�ؤالء‬ ‫الأطفال‪ ،‬و�أنهم احتفظوا على الدوام بقدرة عالية على‬ ‫التهكم عليها والإفالت من �سطوتها البغي�ضة‪ .‬و�إن غاب‬ ‫هذا يف فيلم الراحل �أمريالي‪ ،‬ف�إنه انتظر بع�ض الوقت‬ ‫ليتفجر علن ًا يف ثورة �شعبية هائلة �ستغري وجه �سوريا‪.‬‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ال جزئي ًا يف �ضلعني‬ ‫�إن عنف النظام املفرط قد �سبب �شل ً‬ ‫من �أ�ضالع هذا املثلث‪ ،‬فيما بقي ال�ضلع الثالث الأكرث‬ ‫ح�ضور ًا يف عملية االنعتاق ا ٌملرتابطة تلك‪ .‬فالكالم قد‬ ‫بد�أ بك�رس القيود‪ ،‬واخلروج من قف�ص اجللجلة الفارغة‪.‬‬ ‫والكالم و�إن كان مازال يف طور حترره يخو�ض معركة‬ ‫التجديد واالبتكار‪� ،‬إال �أنه حمل رغبة الثائرين بخلق متايز‬ ‫وا�ضح عن لغة اال�ستبداد الثقيلة والرتيبة واجلوفاء‪ .‬هي‬ ‫لغة مبا�رشة‪� ،‬شديدة الو�ضوح‪ ،‬ذكية‪ ،‬مرحة‪ ،‬ال تكتفي فقط‬ ‫بكونها ت�سبق دوم ًا بروباغندا النظام بخطوات‪ ،‬وتفندها‬



‫وت�سخر منها‪ .‬لكنها �أي�ض ًا‪ ،‬تف�ضح كبت ًا ُمتجذر ًا ووعي ًا‬ ‫عميق ًا مبظامل ر�سخت على �صدور العباد عرب ن�صف قرن‪.‬‬ ‫رحلة �شعارات الثورة‬ ‫يف ‪� 17‬شباط ‪ ،2011‬ردد �شبان غا�ضبون جتمعوا‬ ‫بدون �أي نية م�سبقة‪ ،‬يف �ساحة احلريقة (الو�سط التجاري‬ ‫لدم�شق) ما اعتربه ال�سوريون الحق ًا ال�شعار الأول واملُلهم‬ ‫لثورتهم‪« :‬ال�شعب ال�سوري ما بينذل»‪ ،‬يف واقعة تعترب‬ ‫الإرها�ص املُبكر لثورة ال�سوريني التي �ستندلع بعد �أقل‬ ‫من �شهر يف درع��ا جنوب البالد‪� .‬آن��ذاك قام �رشطيان‬ ‫ب�رضب �أحد ال�شباب يف املنطقة‪ ،‬فتداعى املئات و�أغلقوا‬ ‫املنافذ وال�شوارع الفرعية يف تلك املنطقة‪ .‬لكننا يجب �أن‬ ‫نتذكر �أن الكلمات الأوىل التي رددها املجتمعون ظهرية‬ ‫ذلك اليوم كانت هتافهم‪« :‬حرامية‪ ،‬حرامية»‪ .‬يختزل هذا‬ ‫الهتاف العفوي الب�سيط‪ ،‬جوهر ثورة ال�سوريني �ضد نظام‬ ‫�إقطاعي املمار�سات ا�ستعبد «الرعية»‪ .‬ما زال هذا التناق�ض‬ ‫ي�شكل الدافع الأ�سا�س لثورة ال�سوريني‪ ،‬رغم طبقات من‬ ‫الزعم بوجود حمركات طائفية لل�رصاع‪ .‬وبالعودة �إىل‬ ‫�شعار «ال�شعب ال�سوري ما بينذل» نلحظ �أن هذا ال�شعار‬ ‫«الأيقونة»‪ ،‬ي�ضمر �أكرث مما يعلن‪ ،‬ف�إن كان يقول �رصاح ًة ب�أن‬ ‫كرامة ال�سوريني ام ُتهنت مبا يكفي‪ ،‬و�أن هذا لن يعود واقع‬ ‫احلال بعد اليوم‪ .‬ف�إن ال�شعار‪ ،‬الذي ال يحدد م�صدر الذل‪،‬‬ ‫والذي ال يخاطب �أي �سلطة ب�شكل �رصيح‪ ،‬كان ي�ضمر‬ ‫تهديد ًا للنظام‪ ،‬و�إخطار ًا ب�أن حقبة جديدة يجب �أن تبد�أ يف‬ ‫البالد‪ .‬ال نن�سى �أن هذا التجمع العفوي الغا�ضب جاء يف‬ ‫خ�ضم انت�صارات مذهلة لل�شعوب يف تون�س وم�رص‪ ،‬ن�سائم‬ ‫الربيع العربي كانت بال �شك تداعب ال�سوريني �آنذاك‪.‬‬ ‫ ال�شعارات �إذ ًا كما اللغة نف�سها كانت تتحرر باطراد‪،‬‬ ‫ب�شكل يعرب عن ت�صاعد احلراك يف وجه ت�صاعد العنف‬ ‫املمار�س عليه‪ .‬كما كانت الكلمات الوليدة تت�أقلم �رسيع ًا‬ ‫مع روح املناطق املختلفة وموروثها ال�شفهي واملو�سيقي‬ ‫�أي�ض ًا‪ .‬ف�شعار «ال�شعب ال�سوري ما بينذل» الذي �أطلقه‬ ‫الدم�شقيون‪ ،‬يتحول على ل�سان احلوارنة �إىل «املوت وال‬ ‫املذلة»‪ ،‬وهم �أول من تعر�ض حق ًا لعنف النظام املفرط‬ ‫وجمازره‪ .‬وهو �شعار تناقله املتظاهرون الحق ًا (بلهجته‬ ‫الدرعاوية املُحببة) يف طول �سورية وعر�ضها‪ .‬وتوالت‬ ‫ال�شعارات يف املرحلة الأوىل للثورة م�ستجيب ًة للتطورات‬ ‫لتكون بحق موجه ًة للحراك‪ .‬فجاء ال�شعار البليغ جد ًا‬ ‫«واحد واحد واحد ‪...‬ال�شعب ال�سوري واحد»‪ ،‬مبكر ًا‬ ‫ليقطع الطريق من جديد على بروباغندا النظام الذي‬

‫ ‪ 236‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫كان �أول من ذكر م�صطلحات «الطائفية» و«الفتنة»‬ ‫(ملفت �أن �إقحام هذه امل�صطلحات من قبل النظام جاء‬ ‫ال على ل�سان م�ست�شارة الرئي�س ال�سوري ال�سيدة‬ ‫�أو ً‬ ‫بثينة �شعبان‪ ،‬يف م�ؤمتر �صحفي عقدته يف ‪ 26‬مار�س‬ ‫‪� ،2011‬أي بعد �أقل من �أ�سبوعني فقط على اندالع‬ ‫الثورة! فيما زين �شعار «احذروا الفتنة» حملة طرقية‬ ‫�ضخمة وبليدة يف �شوارع املدن ال�سورية يف الأ�سابيع‬ ‫الأوىل بعد تفجر الثورة)‪ .‬وجاء �شعار «�سلمية �سلمية»‬ ‫ال قبل �أن‬ ‫(املُ�ستعار من الثورة امل�رصية) لي�صمد طوي ً‬ ‫يتع�سكر جزء كبري من الثورة‪ ،‬فيفند ادعاءات النظام‬ ‫بوجود العنا�رص املُخربة واملند�سة وامل�سلحة‪ .‬يف كثري‬ ‫من الأحيان كان املتظاهرون يهتفون «�سلمية» على بعد‬ ‫�أمتار فقط من قوات الأمن وال�شبيحة التي تطلق عليهم‬ ‫الر�صا�ص احلي‪ .‬وا�ستمرت ال�شعارات يف تلك املرحلة‬ ‫الأوىل تهدف ب�شكل �أ�سا�سي �إىل حتفيز النا�س وح�ضهم‬ ‫على امل�شاركة‪ ،‬فجاءت �شعارات مثل‪« :‬اللي ما بي�شارك‪،‬‬ ‫ما فيه نامو�س» و «يا للعار يا للعار عال�شب القاعد‬ ‫بالدار» (حور الثوار هذا ال�شعار الحق ًا النتقاد بع�ض‬ ‫ممار�سات الكتائب املقاتلة‪« :‬ياللعار �شبيحة‪ /‬حرامية‬ ‫بجي�ش الثوار») ‪ .‬وبالتزامن ومنذ الأيام الأوىل ح�رض‬ ‫ال�شعار الهام جد ًا «الله‪� ...‬سورية‪ ...‬حرية وب�س»‪.‬‬ ‫ حمل هذا ال�شعار �أوىل الإ�شارات �إىل النيل من هيبة‬ ‫ر�أ�س ال�سلطة‪ ،‬ومهد هذا ال�شعار بدون �شك للمطالبة‬ ‫ال�رصيحة ب�إ�سقاط النظام وكل رموزه الحق ًا‪ .‬الأهمية‬ ‫الرمزية لهذا ال�شعار هو �أنه ي�ستبدل ا�سم «ب�شار»‪ ،‬يف‬ ‫هتاف �سوريا الأ�سد قبل الثورة «الله‪� ،‬سوريا‪ ،‬ب�شار وب�س»‪،‬‬ ‫باحلرية‪ .‬ت�صبح احلرية هي ال�ضلع اجلديد لثالوث املقد�س‬ ‫عند ال�سوريني‪ .‬مل يكن هذا ال�شعار متهيد ًا ل�شعار الثورات‬ ‫الأول «ال�شعب يريد �إ�سقاط النظام» فح�سب‪ ،‬و�إمنا اختزل‬ ‫ح�س ًا عالي ًا بالفطنة عند املنتف�ضني‪ ،‬فهم �أبقوا على �ضلعي‬ ‫الثالوث املقد�س الأوليني «الله والوطن»‪ ،‬وا�ستبدلوا‬ ‫ر�أ�س النظام‪ ،‬بقيمة �إن�سانية ُمقد�سة كاحلرية‪ .‬وبهذا و�ضع‬ ‫املنتف�ضون التمايز جلي ًا ومحُ رج ًا يف �آن واحد‪ ،‬فهم مل‬ ‫ي�ستبدلوا ا�سم ًا با�سم‪ ،‬وال �أيدولوجيا ب�أخرى مقابلة‪ ،‬و�إمنا‬ ‫ا�ستبدلوا ا�سم ًا بقيمة ُمطلقة‪ ،‬وبات على موايل النظام‬ ‫�أن ي�رصوا على �إق�صاء احلرية‪ ،‬فال حل لديهم‪� ،‬سوى‬ ‫ترديد �شعار «الله‪� ،‬سوريا‪ ،‬ب�شار وب�س»‪ ،‬يف مقابل «الله‪،‬‬ ‫�سوريا‪ ،‬حرية وب�س»‪ .‬وجدت ماكينة النظام الإعالمية‬ ‫نف�سها �إذن مجُ ربة على و�ضع الذات الرئا�سية يف مواجهة‬ ‫قيمة ُمقد�سة كاحلرية‪ ،‬يف معركة ت�شي بالهزمية الأخالقية‬

‫الفادحة مبجرد النظر �إىل ال�شعارين املت�ضادين‪.‬‬ ‫ ويف الأيام الأوىل للثورة �أي�ض ًا‪ ،‬راجت �شعارات‬ ‫الت�ضامن والتكاتف بني املدن‪ ،‬وبخا�صة جتاه املدن التي‬ ‫ال لبط�ش النظام ب�سبب انتفا�ضتها املبكرة‪،‬‬ ‫تعر�ضت �أو ً‬ ‫فرحنا ن�سمع «يا درعا نحنا معاكي للموت» و«يا بانيا�س‬ ‫نحنا معاكي للموت» و«يا حم�ص نحنا معاكي للموت»‬ ‫وتوالت ا�سماء املدن‪.‬‬

‫‪ 4‬عمر كو�ش «ظاهرة‬ ‫ال�شعار يف الثورة‬ ‫ال�سورية»‪ ،‬جريدة‬ ‫امل�ستقبل‪ .‬ملحق‬ ‫«نوافذ»‪ ،‬الأحد‬ ‫‪ 25‬ت�رشين الثاين‬ ‫‪ -2012‬العدد‪4528‬‬ ‫‪ -‬نوافذ‪.‬‬

‫ ‪ 237‬‬

‫ال �إىل ته�شيم املُقد�س‬ ‫من التلميح �إىل الت�رصيح و�صو ً‬ ‫ال‪ ،‬حتى جتر�أ الكالم على‬ ‫مل ي�ستغرق الأمر وقت ًا طوي ً‬ ‫املقد�س‪ ،‬وانتقل من التلميح �إىل الت�رصيح بجوهر مطالب‬ ‫املحتجني‪ .‬فاملنتف�ضون ويف عملية حتررهم التدريجي‬ ‫من اخلوف حرروا كلماتهم �أي�ض ًا ورفعوا �سقف مطالبهم‬ ‫بالتدريج‪ .‬و�إن كانت ال�شعارات وليدة حلظات �صاخبة‬ ‫احتاج فيها املنتف�ضون �إىل جمابهة ظلم هائل‪ ،‬ف�إن هذه‬ ‫ال�شعارات نف�سها هي من �صاغت املطالب الأ�سا�سية للثورة‬ ‫ال�سورية‪ ،‬املتمثلة باحلرية والكرامة والعدالة االجتماعية‪.‬‬ ‫وهي بذلك ما زالت ‪ -‬على عفويتها وب�ساطتها‪ -‬الإطار‬ ‫املرجعي الأ�صل لكافة الطروحات ال�سيا�سية للكتل‬ ‫املعار�ضة‪ .‬ي�شري الكاتب والباحث ال�سوري عمر كو�ش‬ ‫�إىل هذه النقطة �أي�ض ًا ويعترب �أن هذه ال�شعارات «باتت‬ ‫مكون ًا �أ�سا�سي ًا للتوا�صل بني املحتجني واجلمهور العام‪،‬‬ ‫و�إطار ًا للمفاهيم الثقافية وال�سيا�سية واالجتماعية»‪.4‬‬ ‫ وهكذا كان ال بد للتحرر التدريجي للكلمات �أن يقود‬ ‫�رسيع ًا �إىل ال�شعار الأم يف الثورات العربية‪« :‬ال�شعب‬ ‫يريد �إ�سقاط النظام»‪ .‬احلق �أن الوقت مل يطل باملتظاهرين‬ ‫ال�سوريني حتى �أطلقوا هذا ال�شعار‪ ،‬فعلوا ذلك وهم ينزعون‬ ‫عنهم طبقة �سميكة من اخلوف البغي�ض‪ .‬مل يكن بالإمكان‬ ‫االنتظار �أكرث من ب�ضعة �أ�سابيع‪ ،‬قبل �أن يرتدد �صدى هذا‬ ‫ال�شعار يف �أرجاء �سوريا املنتف�ضة‪ .‬والأمانة تقت�ضي القول‬ ‫ب�أن النظام نف�سه قد دفع بهذا االجتاه‪ ،‬ب�سبب من ا�ستجابتة‬ ‫الرعناء والعنيفة على احلراك ال�سلمي‪.‬‬ ‫هتفت فيها مع اجلموع «ال�شعب يريد‬ ‫ �أذكر متام ًا �أول مرة‬ ‫ُ‬ ‫�إ�سقاط النظام» وك�أن هذا حدث يف الأم�س القريب‪ .‬يف‬ ‫زحمة الأج�ساد املرتا�صة واملتعا�ضدة‪ ،‬ي�أتي هذا الهتاف‬ ‫الهادر‪ ،‬ليعلن عن قطيعة نهائية مع كل ما �سبق‪ ،‬اللحظة‬ ‫التي تليه ال ت�شبه �شيء اختربت ُه من قبل قط‪ .‬مل يكن الأمر‬ ‫كنت �أ�شعر ب�أن هناك خوف ًا مل ينتزع بعد بالكامل‬ ‫ي�سري ًا‪ُ ،‬‬ ‫من الأح�شاء‪ ،‬كنت �أ�شعر ب�أننا ندفع باملواجهة مع الطواغيت‬ ‫نحو النهاية‪ ،‬كان مزيج ًا ُمده�ش ًا من اخلوف املتبقي‪ ،‬والن�شوة‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫والإثارة والرتقب‪� .‬شكل هذا ال�شعار نقلة مف�صلية بال �شك‬ ‫يف دفع احلراك الثوري �إىل مرحلة جديدة‪ ،‬ويف عملية حترير‬ ‫الكلمات يف طريقها لتتجر�أ على قد�سية النظام‪ .‬عار�ض‬ ‫البع�ض ذلك يف حينه بو�صفه تهور ًا �أو دفع ًا نحو مواجهة‬ ‫جمانية مع زبانية النظام‪ .‬على �سبيل املثال‪� ،‬سجل مي�شيل‬ ‫كيلو‪ ،‬موقف ًا معرت�ض ًا على هذا ال�شعار‪ ،‬داعي ًا املتظاهرين‬ ‫�إىل جتنبه للأ�سباب الآنفة الذكر‪ ،‬وكيلو املعار�ض املعروف‬ ‫– بر�صانته املعهودة – كان يرى‪ ،‬يف الأ�شهر الأوىل‬ ‫على الأقل‪� ،‬أن احلل الأمثل لي�س يف الدفع نحو مواجهة‬ ‫النظام‪ ،‬و�إمنا يف العمل على تفكيكه تدريجي ًا عرب فر�ض‬ ‫الإ�صالحات اجلذرية عليه‪ ،‬والتي �ست�ؤدي ب�شكل طبيعي‬ ‫�إىل تفكك يف بنيته‪ .‬حل�سن احلظ كان لل�شارع ر�أي ولغة‬ ‫�أقل ر�صانة من تلك التي ميلكها مي�شيل كيلو‪ ,‬واملعار�ضة‬ ‫التقليدية عموم ًا يف �سوريا‪ .‬فعملية حترير اللغة يف ال�شارع‬ ‫الثائر‪ ،‬مل تخلق فقط متايز ًا عن لغة النظام امل�ستبد‪ ،‬و�إمنا‬ ‫خلقت �أي�ض ًا متايز ًا عن لغة نخب املعار�ضة التقليدية‪ ،‬التي‬ ‫وقعت هي �أي�ض ًا وعرب �سنني من الإق�صاء والقهر والتقوقع‪،‬‬ ‫يف �رشك الكالم الرتيب والمُ عقد واملُتعايل �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫ يف مطلع ني�سان ‪ ،2011‬ويف ت�شييع فوج ال�شهداء‬ ‫الأول يف مدنية دوما بريف دم�شق‪ ،‬هتف امل�شيعون «ابن‬ ‫احلرام‪ ،‬باع اجلوالن»‪ ،‬وهتفوا �أي�ض ًا «يا ماهر ويا جبان‬ ‫‪�...‬إبعت جنودك عاجلوالن»‪ .‬تكمن �أهمية هذه ال�شعارات‬ ‫يف جر�أتها ال�رصيحة‪ ،‬يف وقت مبكر من عمر الثورة‪.‬‬ ‫�إنه املوت من جديد �إذن يحرر القلوب والكلمات من‬ ‫هيمنة اخلوف ثقيل الظل‪ ،‬من درعا �إىل دوما �إىل بانيا�س‬ ‫وحم�ص‪ ،‬هناك �سقط �أول ال�شهداء تباع ًا‪ ،‬وهناك بد�أت‬ ‫الكلمات يف حتطيم مراتب اخلوف تباع ًا �أي�ض ًا‪ .‬يف ت�شييع‬ ‫دوما الأول ذلك‪ ،‬جاء هتاف «ابن احلرام باع اجلوالن»‬ ‫ت�صعيد ًا ملفت ًا يف نقل الغ�صب املت�صاعد من �شعارات‬ ‫تنادي بالكرامة والإ�صالح‪� ،‬إىل �شعارات تطال ر�أ�س‬ ‫هرم ال�سلطة وتنادي بالإطاحة به‪ .‬الثائرون كانوا تواقني‬ ‫ٍ‬ ‫مزيد من التخ�صي�ص‪� ،‬إنه ر�أ�س النظام‪� ،‬إنها العائلة‬ ‫�إىل‬ ‫احلاكمة‪ ،‬وال �شيء �آخر‪ ،‬وعليه فكان البد من الإ�رساع‬ ‫بتحطيم قد�س الأقدا�س يف نظام العائلة ال�شمويل‪.‬‬ ‫وجمدد ًا كان ال�شعاران ال�شديدي املبا�رشة ولكن بحمولة‬ ‫رمزية كبري �أي�ض ًا‪ .‬فهما ي�رضبان مبقتل كذبة «املمانعة»‬ ‫التي كان لزام ًا على ال�سوريني تردادها وحتمل العي�ش‬ ‫حتت وط�أتها لعقود‪ ،‬لت�أتي هذه الكلمات فرتمي هذا‬ ‫احلمل الزائف عن ظهور ال�سوريني‪ ،‬وتقطع الطريق‬ ‫جمدد ًا �أمام بروباغندا النظام البائ�سة للت�شوي�ش على‬


‫‪ 5‬عال �شيب الدين‪:‬‬ ‫«الثورة واللغة»‪،‬‬ ‫موقع �س�ؤال التنوير‪،‬‬ ‫‪� 1‬آذار ‪.2013‬‬ ‫‪ 6‬احلقيقة �أن هناك‬ ‫روايات متعددة‬ ‫بخ�صو�ص من�ش�أ‬ ‫هذا الهتاف‪.‬‬ ‫فقد �أكد البع�ض‬ ‫�أنه ظهر للمرة‬ ‫الأوىل يف منطقة‬ ‫احلجر الأ�سود‪،‬‬ ‫وهو �أمر ذو داللة‬ ‫�أي�ض ًا حيث تعد‬ ‫هذه املنطقة �أ�شد‬ ‫مناطق العا�صمة‬ ‫و�ضواحيها ب�ؤ�س ًا‬ ‫واكتظاظ ًا �سكاني ًا‪،‬‬ ‫وهي ت�ضم ب�شكل‬ ‫�أ�سا�سي النازحني‬ ‫من �أبناء اجلوالن‬ ‫املُحتل‪ .‬فيما‬ ‫ُيجمع �آخرون �أنه‬ ‫خرج من حم�ص‬ ‫للمرة الأوىل يف‬ ‫‪.2011/5/23‬‬ ‫�إال �أن الإجماع‬ ‫الأكرب �أن ال�شعار‬ ‫خرج من مدينة‬ ‫حماة‪ .‬عموم ًا‬ ‫ف�إن الهتاف قد‬ ‫ارتبط باملظاهرات‬ ‫ال�ضخمة يف حماة‬ ‫التي ا�ستمرت حتى‬ ‫مطلع �آب ‪2011‬‬ ‫حني اقتحم‬ ‫اجلي�ش املدينة‬ ‫ليخ�ضعها عنو ًة‪.‬‬ ‫‪ 7‬حازم �صاغية‪:‬‬ ‫من �صفحته‬ ‫ال�شخ�صية على‬ ‫الفاي�سبوك‪.‬‬

‫ ‪ 238‬‬

‫ثورة ال�شعب بو�صفها م�ؤامرة �إ�رسائيلية �أمريكية‪� .‬إ�ضافة‬ ‫�إىل �أن حترر الكالم من كل قيد بلغ ذر ًا جديدة هنا‪ ،‬فتارة‬ ‫يو�صف ن�صف الإله «املفدى‪ ،‬والرمز‪ ،‬و�سيد الوطن» ب�أنه‬ ‫«ابن حرام» وتار ًة يو�صف �أخوه باجلبان‪ ،‬وهنا �أي�ض ًا‬ ‫�إ�شارة وا�ضحة �إىل �إدراك الثائرين لدور ال�شقيق يف‬ ‫عملية البط�ش والقمع‪ .‬تقول الكاتبة والباحثة عال �شيب‬ ‫الدين عن هذا ال�شعار‪« :‬يف هذا ال�شعار مار�ست اللغة‬ ‫دور التعرية بجدارة‪ ،‬بعد �أن َّبينت هنا �أن ن�ضال ال�شعب‬ ‫ال�سوري �أنتج �أمناط اللغة الأكرث �صفاء‪ ،‬ومن املعلوم �أن‬ ‫جن�سية غري �رشعية‪ ،‬ما يعني‬ ‫«ابن احلرام» هو ابن عالقة‬ ‫َّ‬ ‫�أن ال�شعب الثائر ال يعترب رئي�س ًا باع الأر�ض ابن ًا �رشعياً‬ ‫للبالد‪ ،‬على اعتبار �أن ابن البلد ال يبيع الأر�ض»‪.5‬‬ ‫ تواىل �إذن حترر الكلمات‪ ،‬وتوالت ال�شعارات التي حتطم‬ ‫الأ�صنام تباع ًا‪ .‬فكان للكالم ال�ساخر �أثر عظيم يف نزع هالة‬ ‫القدا�سة عن ر�أ�س النظام‪ ،‬ويف دفع بقية ال�سوريني الذين‬ ‫مل ينزلوا بعد �إىل ال�شارع‪� ،‬إىل التحرر ولو ْ‬ ‫ببطء من قيود‬ ‫اخلوف‪ ،‬وتقاليد الهم�س اخلافت والتلفت عند ذكر العائلة‬ ‫احلاكمة‪ .‬فها هي ال�شعارات تنال من �أهم رموز ال�سلطة‪،‬‬ ‫ابن خال الرئي�س والوكيل احل�رصي على ثروات الدولة‪،‬‬ ‫«يا رامي و يا خملوف‪ ،‬ال�شعب ال�سوري مو منتوف‪ /‬مو‬ ‫خاروف»‪ .‬ال�سوريون مل يعودوا قطعان ًا يف مزرعتك اخلا�صة‪.‬‬ ‫و�أي�ض ًا هتاف «يا بثنية يا �شعبان‪ ،‬ال�شعب ال�سوري مو‬ ‫جوعان»‪ .‬مل ين�س الثائرون �أي�ض ًا التهكم على �إعالم النظام‬ ‫الذي د�أب على �ضخ �سموم طائفية و�أكاذيب هزلية‪ ،‬فجاء‬ ‫هتاف‪« :‬كاذب كاذب كاذب ‪..‬الإعالم ال�سوري كاذب»‪.‬‬ ‫ ال�سخرية التي حملها الكالم اجلديد �إذ ًا‪ ،‬كانت �سالح ًا‬ ‫مهم ًا يف يد ال�سوريني لنزع الرهبة والقدا�سة عن الرئي�س‬ ‫املع�صوم‪ ،‬وعون ًا مهم ًا مل�سعاهم يف خلق متايز عن �صورة‬ ‫ولغة �سلطة ُمرتهلة وجامدة‪ .‬مت هذا �أي�ض ًا من خالل اللعب‬ ‫على الكالم لتحطيم �شعارات النظام‪ ،‬وللتهكم على لغتها‬ ‫البائدة‪ :‬فكان ال�شعار ال�شهري «ما منحبك‪ ،‬ما منحبك‪...‬‬ ‫�إرحل عنا �إنت وحزبك»‪ .‬الذي ردده املتظاهرون يف ن�شوة‬ ‫غامرة‪ ،‬وتطور ب�أ�شكال متعددة مثل‪« :‬ما منحبك‪ ،‬ما منحبك‪...‬‬ ‫قاتل‪ ،‬ظامل‪ ،‬ناهب �شعبك»‪ ،‬وال�شعار كما هو معلوم يتالعب‬ ‫ب�شعار «منحبك» ال�شهري‪ ،‬والذي مت �إطالقه مع ا�ستفتاء عام‬ ‫‪ 2007‬لتجديد والية ثانية حلكم الرئي�س ابن الرئي�س‪.‬‬ ‫يذكر ال�سوريون يف حينها احلملة الإعالنية الهائلة حتت‬ ‫�شعار «منحبك»‪ .‬احلملة يف حينه كانت جزء من ن�شاط‬ ‫مكثف ملاكينة العالقات العامة امل�ستوردة غربي ًا خللق قطيعة‬ ‫مع �صورة نظام الأب ال�صارم املتهجم واملنغلق‪ ،‬ل�صالح‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫�صورة لنظام االبن ال�شاب والع�رصي واملتنور والأقرب‬ ‫من النا�س‪ .‬تفتقت حماوالت التجميل والتحديث عن كلمة‬ ‫عبقرية �إذن من وزن «منحبك»‪ .‬فكان �أن �سارع املنتف�ضون‬ ‫�إىل نق�ضها وت�سفيهها يف �أول فر�صة مع جتذر الثورة‪.‬‬ ‫ �شعار �آخر محُ بب انت�رش ب�رسعة يف ال�شوراع الثائرة‪:‬‬ ‫«مايف للأبد‪ ،‬مايف للأبد‪ ،‬عا�شت �سوريا وي�سقط الأ�سد»‪،‬‬ ‫وهو ينتهج اللعبة عينها القائمة على قلب �شعارات النظام‪.‬‬ ‫وهنا يتعلق الأمر ب�شعار �أثري لدى نظام البعث ال�شمويل‪:‬‬ ‫«قائدنا للأبد الرئي�س حافظ الأ�سد»‪ .‬يعلن �شعار الثوار‬ ‫اجلديد �إذن‪ ،‬عن انتهاء ع�رص الأبد مرة و�إىل الأبد‪.‬‬ ‫الكالم املتحرر يقتلع جذور اال�ستبداد‬ ‫ال بهي ًا على خط املدن الثائرة تباع ًا‪،‬‬ ‫دخلت حماة دخو ً‬ ‫وانتف�ضت عن بكرة �أبيها‪ ،‬وحمل املتظاهرون معهم‪� ،‬شعار ًا‬ ‫بات بدون �شك الأ�شهر يف �سوريا الثورة‪� .‬شعار �شديد‬ ‫اخل�صو�صية والرمزية‪ ،‬و�إن بدا �أنه يبني على �شتيمة لفظية‬ ‫فجة‪« :‬يلعن روحك يا حافظ»‪ .‬مل يكن غريب ًا �أن ي�أتي هذا‬ ‫‪6‬‬ ‫حمالة الأ�سى من نظام‬ ‫ال�شعار من حماة دون غريها ‪ ،‬وهي ّ‬ ‫الأ�سد الأب‪ ،‬املدينة ذات اجلروح الغائرة التي مل تندمل‪.‬‬ ‫و�رسعان ما انت�رش الهتاف كالنار يف اله�شيم يف �سوريا‬ ‫كلها‪ .‬هنا كان لتطاول الكلمات وليدة الثورة على املقد�س‬ ‫ال رجعي ًا‪ ،‬ي�سعى لتحرير املخاوف القدمية �أي�ض ًا‪ .‬لي�س‬ ‫مفعو ً‬ ‫نظام االبن وحده من يلعنه ال�سوريون اليوم‪ ،‬يعلم ه�ؤالء �أن‬ ‫الأب ما زال يحكم ب�أ�شكال متعددة‪� ،‬إنه هو من خلق هذا‬ ‫الوح�ش اجلاثم على �صدور ال�سوريني‪ .‬يف هذا ال�شعار يحرر‬ ‫ال�سوريون غ�ضب ًا و�أمل ًا كامن ًا يف �صدورهم‪ ،‬يحررون غ�ص ًة‬ ‫بعد ن�صف قرن من القمع ال�سيا�ســــــــــــــــــــــــــي‬ ‫واجل�سدي واللغوي‪ ،‬وطغيــــــــــــــــــــــــــــــــــــان‬ ‫م�صطلحات اال�ستبداد‪ ،‬حرّر ال�ســــــــــــــــــــــوريون‬ ‫كلمة «حرية» من قب�ضة �سجانيهـــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫العُ تاة و�أدبياتهم املُ�ضللــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‪،‬‬ ‫مل تعد احلرية مفردة ميتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫يف �شعار بليد حلزب ا�ستلب البــــــــــــــــــــــــــــــلد‬ ‫ابتلعت �أرواحهم ق�رس ًا وخوف ًا‪ .‬ا�ستعري هنا كلمات حازم‬ ‫�صاغية «هتاف يق�شعر له البدن‪� .‬إ ّنه �أكرث هتافات الثورة‬ ‫لكن مبا هو �أكرث‬ ‫جذرية‪ ،‬ال مبعنى‬ ‫ال�سورية‬ ‫برناجمي طبع ًا ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بكثري من ذلك فيه �شيء من الأ�صول واجلذور‪ .‬من االجتثاث‬ ‫والتكفري‪ ،‬فيه خروج من الواقع والتاريخ �إىل امليتافيزيك‪،‬‬

‫ ‪ 239‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫رمزي من روح �رشيرة‪،‬‬ ‫غط�س يف القرب �سعي ًا وراء انتقام‬ ‫فيه‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫‪7‬‬ ‫تتطهر الأرواح» ‪.‬‬ ‫ثم عودة من ذاك القرب بعد �أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫ ا�ستمرت اللغة الثائرة يف حتطيم الأ�صنام‪ ،‬ويف اجتثاث‬ ‫ذاك��رة اخلوف والقمع من جذورها‪ ،‬فو�صلت ال�سخرية‬ ‫الالذعة حدود ًا ق�صوى من جديد ت�سعى وراء املا�ضي‪ ،‬وراء‬ ‫التطهر من �إرث الأب‪ ،‬وجمدد ًا م�ستخدم ًة ال�شتيمة لته�شيم‬ ‫�أ�سطرة مزيفة‪ ،‬ومرة �أخرى عرب التالعب ب�شعارات النظام‬ ‫الأ�سا�سية‪ ،‬في�أتي هتاف «حافظ �أ�سد‪ ،‬كلب الأمة العربية»‬ ‫ليحطم �شعار ًا بعثي ًا �سعى عرب �سنوات لتقدي�س القائد‬ ‫الرمز‪« ،‬حافظ �أ�سد ‪..‬رمز الأمة العربية»‪.‬‬ ‫ ومن حماة �أي�ض ًا‪ ،‬جاءت �أهزوجة ابراهيم القا�شو�ش‪،‬‬ ‫«يال �إرح��ل يا ب�شار»‪ .‬القا�شو�ش هو املغني ال�شعبي‬ ‫املغمور‪ ،‬ال��ذي حتول �إىل �أح��د �أب��رز �أيقونات الثورة‬ ‫ال�سورية‪ ،‬بف�ضل كلماته ال�ساخرة والتي ا�شُ تق منها �أبرز‬ ‫�شعارات الثورة ال�سورية‪ ،‬وتناقلها �آخرون �أي�ض ًا بتحريف‬ ‫طفيف (اليمن والأردن)‪ .‬تقول الأهزوجة يف مطلعها‪ :‬يا‬ ‫ب�شار مالك منا خود ماهر و�إرحل عنا‪....‬ويال �إرحل يا‬ ‫ب�شار»‬ ‫ يف �أهزوجة القا�شو�ش احلموية‪ ،‬توا�صل الكلمات‬ ‫ت�أكيد �صفة «اخليانة» املُ�سبغة على ر�أ�س ال�سلطة‪ ،‬فهو‬ ‫«لي�س واح��د منا»‪ .‬جترد الكلمات العامية الب�سيطة‬ ‫واملبا�رشة‪ ،‬الرئي�س الوريث من �أي �رشعية‪ ،‬فهو لي�س‬ ‫رئي�س ًا مغت�صب ًا لل�سلطة فح�سب‪ ،‬و�إمنا هو لي�س فرد ًا من‬ ‫ال�شعب‪� .‬أمل يهتف ال�سوريون مبكر ًا �أي�ض ًا «خاين ياللي‬ ‫بيقتل �شعب ُه»!‪ .‬مع كلمات القا�شو�ش‪ ،‬الذي وجد ج�سده‬ ‫الذبيح يطفو يف نهر العا�صي‪ ،‬كان ال�سوريون قد و�صلوا‬ ‫�إىل نقطة الالعودة يف ثورتهم‪ .‬وكانت كلماتهم قد �أعلنت‬ ‫�إنهاء االرتباط الق�رسي بني النظام والبلد‪.‬‬ ‫ ويف نزع ال�رشعنة وكالم ال�شارع الذي �سبق املبادرات‬ ‫ال�سيا�سية ‪ ،‬نلحظ كيف مت تطوير وتطويع هتاف «ال�شعب‬ ‫يريد»‪ ،‬فمن «�إ�سقاط النظام» انتقل �إىل «�إ�سقاط الرئي�س»‪،‬‬ ‫وهل �أف�ضل من ال�سوريني من يدرك كيف يختزل نظام‬ ‫اجلمهورية الوراثية ب�شخ�ص القائد الأبدي؟ جمدد ًا يذهب‬ ‫املنتف�ضون �إىل جوهر املعنى ويخت�رصون كل امل�سافات‪.‬‬ ‫ما لبث املتظاهرون �أن رفعوا ال�سقف‪ ،‬فهم من يدرك حق ًا‬ ‫�إىل �أي درك و�صل عنف النظام‪ .‬فهاهم ي�ستبدلون ا�سقاط‬ ‫ب�إعدام‪« ،‬ال�شعب يريد �إعدام الرئي�س»‪ ،‬ولأن نزع ال�رشعية‬ ‫ال بد �أن يكتمل‪ ،‬ي�صبح الهتاف «ال�شعب يريد �إعدام‬ ‫الب�شار»‪ .‬بالن�سبة للثوار مل يعد الئق ًا �أن ينعت بالرئي�س‪ ،‬لقد‬ ‫وىل هذا الزمن مع ازدياد الدم امل�سفوك‪.‬‬


‫ الو�ضوح واملبا�رشة والفطنة والتجدد كانت جميعها‬ ‫�أ�سلحة اللغة الوليدة هذه‪ ،‬يف عملية خما�ض ان�شقاقها عن‬ ‫لغة اال�ستبداد املقيتة‪.‬‬ ‫اال�صطدام ب�سلطة املقد�س من جديد‬ ‫مع ان معظم ال�شعارات الأوىل بقيت حا�رضة يف وجدان‬ ‫وحناجر املتظاهرين والثوار حتى اليوم‪ ،‬وبقيت ُت�شكل‬ ‫املرجع النظري الأكرث و�ضوح ًا ملبادئ الثورة وحمدداتها‪،‬‬ ‫ف ��إن �شعارات جديدة ظهرت‪ ،‬نالت �شعبية بال �شك‪،‬‬ ‫وا�ستمرت يف نهج معاك�سة �شعارات النظام‪ ،‬لكنها رمبا مل‬ ‫تعد تعبرّ عن ال�شارع الثائر مبجمله‪ .‬بل جاءت لرتافق غلبة‬ ‫�أمزجة حمددة داخل احلراك الثوري‪ ،‬الأمر يخ�ص بكل‬ ‫ت�أكيد ال�شعارات ذات الطابع الإ�سالمي‪ .‬املنتف�ضون على‬ ‫اختالف م�شاربهم تداولوا منذ البداية �شعار «الله �أكرب»‪،‬‬ ‫ك�شعار مفتاح النطالق املظاهرات �أينما كانت‪ ،‬كما توافقوا‬ ‫من قبل على االنطالق من اجلوامع‪ .‬فالتكبري كما اجلوامع مل‬ ‫يحمال لعموم ال�سوريني �سوى رمزية االنطالق نحو ال�شارع‪،‬‬ ‫نحو حترير الف�ضاء العام وحترير الأ�صوات املكبوتة‪ .‬ويف‬ ‫مراحل مبكرة �أي�ض ًا راجت �شعارات ب�صبغة دينية‪� ،‬إال‬ ‫�أنها كانت ُتردد ا�ستناد ًا �إىل رمزيتها الأعم‪ ،‬بو�صفها ٍ‬ ‫حتدي ًا‬ ‫ل�سلطة زمنية مطلقة‪ ،‬مثل �شعارات مثل «ما برنكع �إال لله»‬ ‫و «هي لله‪ ،‬هي لله‪ ،‬ال لل�سلطة وال للجاه»‪� .‬أو �شعار «يا‬ ‫الله مالنا غري يا الله» وتنويعاته «يا الله عجل ن�رصك‬ ‫يا الله» �أو «يا الله فرج كربك يا الله»‪ ،‬الذي بات عنوان ًا‬ ‫ال لدى الثائرين على اختالف معتقداتهم‪ ،‬بعد‬ ‫ال ومقبو ً‬ ‫متداو ً‬ ‫�أن تيقن معظمهم �أن ال�سند وال ن�صري لهم يف معركتهم‬ ‫الطاحنة‪ ،‬و�أن الأ�صدقاء يرتب�صون بهم قبل الأعداء‪.‬‬ ‫ �إال �أن �شعارات م�ستجدة مل تعد تلقى نف�س الت�سليم‬ ‫يف �صفوف جميع ال�سوريني الثائرين‪ ،‬و�إن كانت بع�ض‬ ‫هذه ال�شعارات حا�رضة بقوة اليوم‪ ،‬مثل �شعار‪« :‬هز كفك‬ ‫هزو هز‪....‬دين حممد كلو عز» و�شعارات �أكرث �شيوع ًا مثل‪:‬‬ ‫«قائدنا للأبد �سيدنا حممد» �أو «لبيك‪..‬لبيك يا الله»‪� ،‬إال‬ ‫�أنها تبقى �شعارات �أقل قدرة من �سابقاتها يف �ضم الثائرين‬ ‫جميع ًا حتت جناحها‪ .‬ف�إن كانت الرمزية يف ال�شعار الأول‬ ‫حتيل �إىل نق�ض �شعار النظام الأ�سدي الأثري‪« :‬قائدنا �إىل‬ ‫الأبد‪...‬الرئي�س حافظ‪/‬ب�شار الأ�سد»‪ .‬وال�شعار بذلك يقول‬ ‫�أن ال قائد �أبدي لل�سوريني �سوا مرجعية روحية و�إن�سانية‬ ‫عابرة للزمن‪� .‬إال �أن ال�شعار تعر�ض النتقاد وا�سع من عدد‬ ‫غري قليل من املثقفني والنا�شطني ال�سوريني‪ ،‬بحكم �أنه‬ ‫قد يق�صي �أطراف ًا غري م�سلمة �أو علمانية‪ .‬فيما حاجج‬

‫ ‪ 240‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫متفهمون له ب�أنه ال يخ�ص�ص املرجعية بقدر ما يجعل‬ ‫من ربط الأبد مبرجعية روحية ت�أكيد ًا على ا�ستحالة �أن‬ ‫يدخل ال�سوريون حظرية اال�ستبداد ال�سيا�سي من جديد‪.‬‬ ‫�أما ال�شعار الثاين «لبيك يا الله» فيبدو �أنه ينهل فقط من‬ ‫مرجعية �إ�سالمية‪ ،‬جتعل الت�ضحية عمل يقوم به الثوار‬ ‫ال و�أخري ًا‪ .‬ال �شك �أن‬ ‫بر�ضى وت�سليم لوجه الله تعاىل �أو ً‬ ‫ظهور هذه ال�شعارات �صاحب ا�شتداد ذراع املكونات‬ ‫الإ�سالمية الع�سكرية يف �صفوف الثورة‪ ،‬الذي ترافق من‬ ‫امتداد معاناة �إن�سانية هائلة و�إح�سا�س متعاظم باخلذالن‬ ‫لدى ال�سوريني من قبل جمتمع دويل ال يتحرك بفعالية‬ ‫جتاه م�أ�ساتهم‪ ،‬يف مقابل انفالت عنف النظام من كل عقال‪.‬‬ ‫ امللفت للنظر هنا‪� ،‬أن ديناميكة مثل هذه ال�شعارات‬ ‫تبدو �أ�ضعف من �سابقاتها‪ ،‬من حيث التطور امل�ستمر‬ ‫والقدرة على موائمة لهجات ومو�سيقى مناطق �سورية‬ ‫متعددة‪ ،‬فهي يف عمومها ثابتة‪ .‬وك�أن جنوح ال�شعارات‬ ‫نحو التورية واللعب على الكلمات وال�سخرية ونزع‬ ‫القدا�سة قد توقف هنا‪ .‬هذا يعيدنا �إىل التفكري بالقيود‬ ‫ٍ‬ ‫ب�سلطات‬ ‫التي تفر�ض على الكلمات حينما ت�صطدم‬ ‫مطلقة �أو �أبدية من �أي نوع‪.‬‬ ‫ فثورة الكلمات‪ ،‬التي ترافقت مع الثورة يف ال�شارع‪،‬‬ ‫هدامة‪ ،‬يجب �أن تكون كذلك‪ ،‬فهي ت�سعى‬ ‫هي �أي�ض ًا ثورة ّ‬ ‫للتحرر من قيود لغة �آيلة للزوال‪ ،‬وتتوق �إىل حتطيم اخلطابة‬ ‫ومنفّرة‪� .‬إنها الكلمات‬ ‫الفجة املُ�شبعة بايديولوجيا ثقيلة ُ‬ ‫وقد متردت على اخلوف وعلى كافة �أ�شكال الرقابة التي‬ ‫ال على القلوب والعقول‪.‬‬ ‫جثمت طوي ً‬ ‫يف البدء كانت ا ُ‬ ‫حلرية‬ ‫حترر الكالم م�ستمر يف �سوريا‪ ،‬وهو كما الثورة ٌ‬ ‫فعل‬ ‫وهدام‪ .‬خالل �سنتني �سقط يف �سوريا �آالف‬ ‫جذري‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫جارف ّ‬ ‫ال�شهداء لأجل كملة «حرية»‪ ،‬منهم من كان يهتف بها‬ ‫حلظة ا�ست�شهاده‪� .‬أكاد �أجزم �أن كلمة «حرية» رمبا تكون‬ ‫ال بني ال�سوريون وعلى اختالف‬ ‫�أك�ثر الكلمات ت��داو ً‬ ‫مواقعهم من الثورة خالل العامني املن�رصمني‪ .‬بعد ن�صف‬ ‫قرن من القمع ال�سيا�سي واجل�سدي واللغوي‪ ،‬وطغيان‬ ‫م�صطلحات اال�ستبداد‪ ،‬حرر ال�سوريون كلمة «حرية»‬ ‫العتاة و�أدبياتهم املُ�ضللة‪ ،‬مل تعد‬ ‫من قب�ضة �سجانيها ُ‬ ‫احلرية مفردة ميتة يف �شعار بليد حلزب ا�ستلب البلد‪� .‬أعاد‬ ‫ال�سوريني امتالك هذه الكلمة‪ ،‬التي عادت لت�سكن قلوبهم‬ ‫وهواج�سهم وخلجاتهم‪ .‬ال عودة للكالم اليوم يف �سوريا‬ ‫�إىل حظرية اخلوف والتدجني‪ ،‬هذا �أ�صبح من املا�ضي الآن‪.‬‬

‫‪ 240‬‬ ‫ ‬

‫فــريد األطرش‪:‬‬ ‫ظلَ َمه النقد وأنصفه الناس‬

‫�سمر حممد �سلمان‬


‫لالنطالق اىل العاملية من خالل جمموعة من مقطوعاته‬ ‫الرائعة التي لفتت انتباه املو�سيقيني الغربيني‪ .‬من هذه‬ ‫املقطوعات ق�صيدة «يا زهرة يف خيايل» التي �سحرت‬ ‫الألباب وجابت �شهرتها الآفاق وتردد �صداها يف �أنحاء‬ ‫العامل وعزفتها الأورك�سرتات العاملية يف �أكرث من مكان‪.‬‬ ‫ما مل يحدث لأحد من معا�رصيه من الكبار �أو الذين‬ ‫�سبقوه‪ .‬وكان من �أوائل امللحنني‪ ،‬بعد حممدعبد الوهاب‪،‬‬ ‫الذين �ألفوا املقطوعات املو�سيقية املح�ضة التي ذاعت كال�سيكيات امللحن املجدد‬ ‫�شهرتها عربي ًا وعاملي ًا‪ ،‬واهتموا باملقدمات املو�سيقية التي ق��دم فريد االطر�ش الأحل��ان الكال�سيكية ال�رشقية‬ ‫عزفتها الأورك�سرتا بكامل عديدها و�آالتها‪ ،‬كما اهتم الطويلة التي طبعت احلقبة املو�سيقية العربية الرثية‬ ‫بتوظيف الكورال ب�شكل بديع يف اعماله واللجوء اىل جد ًا يف الأربعينيات واخلم�سينيات والن�صف االول‬ ‫تقنية البوليفوين الغربية وتطويعها للمو�سيقى ال�رشقية من ال�ستينيات كـ«الربيع»‪ ،‬و«�أول هم�سة»‪ ،‬و«حكاية‬ ‫با�سلوب خلاّ ب‪ ،‬كما يف ختام ق�صيدته ال�شهرية «عدت غرامي»‪ ،‬و«جنوم الليل»‪ ،‬و«حبيب العمر»‪ ،‬و«عدت يا‬ ‫يا يوم مولدي»‪.‬‬ ‫يوم مولدي»‪ ،‬و«بقى عايز تن�ساين» (غنتها اي�ض ًا �سعاد‬ ‫ ونحن اذ ن�ؤكد �أن التقدير العاملي لي�س هاج�س ًا حممد)‪ ،‬و«ختم ال�صرب» التي ر�شحها الناقد �سعد �آغا‬ ‫بالن�سبة لنا وال معيار ًا وحيد ًا لأننا ن�ؤمن ب�أن «�أهل مكة القلعة �ضمن اهم ‪� 100‬أغنية عربية‪.‬‬ ‫�أدرى ب�شعابها» والذوق الغربي قد ين�سجم مع ما ينا�سبه هذه الأعمال ال�شاخمة التي وقف فيها فريد الأطر�ش‬ ‫من مو�سيقى ي�ستطيع �أن يفهمها‪ .‬مع ذلك ال ننكر �أن هذا جنب ًا اىل جنب مو�سيقار الأجيال حممد عبد الوهاب‬ ‫التكرمي الغربي عزز مكانة فريد الأطر�ش حملي ًا وعاملي ًا‪ ،‬والعبقري ريا�ض ال�سنباطي‪ ،‬نالت جماهريية طاغية‬ ‫ال ورفع عنه ظلم ًا �أ�صابه يف وطنه وا�ستحقت تقدير ًا عند بع�ض النقاد املتحم�سني لفنه‪ ،‬اذ‬ ‫ورمبا يكون قد �أن�صفه قلي ً‬ ‫على امل�ستوى النقدي والت�أريخي‪ .‬وطنه الذي �شغلته كثري ًا‬ ‫قدم اجلديد من خاللها كما ي�ؤكد رئي�س اللجنة املو�سيقية‬ ‫ّ‬ ‫�سرية حياته املليئة بالأحداث الدرامية التي بلغت ذروتها العليا اال�ستاذ �أحمد �شفيق �أبو عوف الذي ر�أى �أن فريد‬ ‫يف وفاة �شقيقته ا�سمهان‪ ،‬ونظر ًا الرتباط الكثري من �أعماله الأطر�ش قد �أقدم على «املزج الغريب والبديع بني �إيقاع‬ ‫باللوحات الراق�صة يف الأفالم ال�سينمائية والتي و�ضعت الفال�س وامل�صمودي يف اغنية الربيع يف �سابقة فنية مل‬ ‫خ�صي�ص ًا لرتق�ص عليها �سامية جمال �أو حتية كاريوكا ي�سبقه اليها احد»‪.‬‬ ‫و�سواهما‪ .‬هذا بالإ�ضافة اىل � ّأن فريد الأطر�ش قدم ا�ضافاته هو �أول من قدم الأوبريت املكتملة العنا�رص يف‬ ‫احلقيقية و�أعماله الكربى اجلديرة بالت�أريخ والبحث حتى الأعمال ال�سينمائية‪ ،‬وقد اعترب النقاد �أوبريت «انت�صار‬ ‫ال�شباب» ال�شكل الأمثل ملفهوم الأوبريت يف تاريخ‬ ‫�أخرجه بع�ض النقاد من الئحـــــــــــــــــــــــــــــــــــة املو�سيقى العربية املعا�رصة‪ .‬كذلك ف�إن الأطر�ش كان‬ ‫الروّ اد على اعتبار �أن الريادة تقت�ضـــــــــــــــــــــــــي اول من �صاغ املقدمات املو�سيقية ال�شاخمة يف �أعماله‬ ‫طوع فيها‬ ‫�إحداث تغيري يف الفكر املو�سيقــــــــــــــــــــــــــــــي الكال�سيكية كما يف �أغنية «بنادي عليك» التي ّ‬ ‫�أو ت�أ�سي�س لتقليد مو�سيقي جديــــــــــــــــــــــــــــــد املو�سيقى ال�رشقية لأداء الأورك�سرتا ال�سمفوين‪ .‬يف هذا‬ ‫العمل الكبري جنح املو�سيقي يف ابراز معنى املناداة ـــــ‬ ‫منت�صف ال�ستينيات‪ ،‬طبع ًا مع بع�ض اال�ستثناءات يف حقبة املناجاة اىل حد بعيد من خالل الغناء الفالت امل�سيطر‬ ‫الن�صف الثاين من ال�ستينيات وال�سبعينيات التي مل يع�ش ب�شكل عام على الكوبليهات التي �رست نهاياتها على‬ ‫منها �سوى ‪� 4‬سنوات‪ ،‬اقت�رصت خاللها �أعماله على ايقاع الفال�س قبل �أن ت�س ّلم زمامها �إىل تلك الآهات‬ ‫الأغنية ال�شعبية اخلفيفة التي مل ت�ضف اىل تاريخه الكثري الندائية التي تف�صل بينها‪ ،‬لتكثف املعنى الذي على‬ ‫با�ستثناء ق�صيدة «ع�ش �أنت» و�أغنية «على الله تعود» التي �أ�سا�سه بنى ال�شاعر �أن�شودته وتلقي بظاللها ال ّأخاذة على‬ ‫غناها الفنان وديع ال�صايف‪ .‬هذا ال�ضمور على م�ستوى العمل من �أوله اىل �آخره‪ .‬يدل هذا العمل الفذ على فهم‬ ‫الت�ألق الفني ال يقت�رص على فريد وحده‪ ،‬ذلك �أن عطاءات عميق لروح املو�سيقى ال�رشقية و�إمكاناتها الهائلة يف‬ ‫عمالقة الفن عرفت حقب ًا ذهبية ما لبثت �أن خمد �أوارها يف‬ ‫املجدد‬ ‫املراحل الأخرية من حياتهم‪ ،‬مبن فيهم املو�سيقار‬ ‫ِّ‬ ‫واملتجدد دائم ًا الأ�ستاذ حممد عبد الوهاب‪ .‬فريد الأطر�ش‬ ‫�إذ ًا ا�ضاف وجدد وله �أواليه اخلا�صة كما له اقتبا�ساته‬ ‫التي ال تقت�رص عليه وحده بل ي�ضاهيه يف ذلك مو�سيقار‬ ‫الأجيال والأخوان رحباين و�سواهم‪.‬‬

‫فريد األطرش‬

‫ظ َل َمه النقد وأنصفه الناس‬ ‫سمر حممد سلمان حني نتحدث عن مفهوم املدر�سة املو�سيقية‪ ،‬امنا نعني‬ ‫�أ�سلوب ًا فني ًا ذا معامل حمددة و�أطر وا�ضحة ور�ؤية مو�سيقية‬ ‫ال‬ ‫صحفية وناقدة خا�صة وفكر تلحيني مميز ي�شكل اجتاه ًا مو�سيقي ًا قاب ً‬ ‫موسيقى للحياة واال�ستمرار وقادر ًا على دمغ حقبة فنية مبالحمه‬ ‫اخلا�صة الفريدة ين�ضوي حتت لوائه مريدون وتالميذ‬ ‫ي�سريون على نهجه ويتبعون �سبيله‪ .‬مع ذلك‪ ،‬ف�إن ثمة‬ ‫�أعالم ًا يف تاريخنا املو�سيقي املعا�رص ا�ضطرونا اىل تو�سيع‬ ‫دائرة مفهوم املدر�سة املو�سيقية لت�صبح تو�صيف ًا لنتاجهم‬ ‫الفذ وعبقريتهم املده�شة‪ .‬ه�ؤالء الكبار �أ�ضافوا اىل تاريخ‬ ‫الفن �صفحات خالدة �شكلت مرجع ًا النطالقة جديدة‬ ‫وفن جديد من وحي �إلهامها وروعة �إبداعها‪.‬‬ ‫ ف�إىل جانب الرواد الكبار حممد عبد الوهاب وال�سنباطي‬ ‫والق�صبجي وزكريا �أحمد‪ ،‬يقف فريد الأطر�ش يف منزلة‬ ‫حائرة بني الريادة والتقليد‪ ،‬لكن الأكيد �أنه حالة خا�صة يف‬ ‫تاريخ املو�سيقى العربية حتتل منها موقع ًا نافر ًا عن ال�سياق‪،‬‬ ‫اذا جاز لنا التعبري‪ ،‬ولي�س النفور هنا مبعناه ال�سلبي‪ ،‬امنا نق�صد‬ ‫به الفرادة وال�رشود عن ال�رسب يف كثري من الأحيان كجدول‬ ‫�شب عن الطوق و�أ�صبح نهر ًا بحد ذاته نبتت على �ضفافه‬ ‫ّ‬ ‫الأ�شجار‪ .‬ذلك هو املو�سيقار فريد الأطر�ش وليد احل�ضارة‬ ‫املو�سيقية العربية ال�رشقية‪ ،‬وابن ثقافتها الفنية ونه�ضتها‬ ‫التي عرفها الوطن العربي بعد التحول املو�سيقي الكبري الذي‬ ‫�أحدثه �سيد دروي�ش يف م�سرية املو�سيقى العربية وانتقالها‬ ‫اىل �آفاق التعبري الرحبة‪.‬‬ ‫ مع ذلك ف�إن فريد الأطر�ش من الفنانني الذين �أثاروا‬ ‫ال يف الأو�ساط النقدية‪� ،‬إذ �أخرجه بع�ض النقاد من الئحة‬ ‫جد ً‬ ‫الرواد على اعتبار �أن الريادة تقت�ضي �إحداث تغيري يف الفكر‬ ‫املو�سيقي �أو ت�أ�سي�س ًا لتقليد مو�سيقي جديد �أو ابداع �شكل‬ ‫مو�سيقي مل ي� ِأت به االوائل ممن �سبقوه‪ ،‬لكنهم فعلوا ذلك من‬ ‫دون �أن ي�ضعوه يف مكانته التي ي�ستحقها من وجهة نظرنا‪.‬‬

‫ ‪ 242‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ان�صهار الثقافات‬ ‫ونحن اذ منتنع عن الدخول يف لعبة الت�صنيف هذه‪ ،‬ن�ؤكد‬ ‫� ّأن فريد الأطر�ش هو ال �شك �صاحب مدر�سة �شديدة‬ ‫اخل�صو�صية والتفرد‪ ،‬ال ت�شبه احد ًا �سواه‪ .‬مدر�سة تلحينية‬ ‫انطلقت من دوائر ثالث‪ :‬دائرة حملية �شهدت �أوىل خطواته‬ ‫الفنية يف بيئته ال�شامية‪ ،‬ودائرة اقليمية عربية �رشقية عرفت‬ ‫ن�ضجه الفني وت�ألقه يف بيئته القاهرية وا�ستلهمت فن الرواد‬ ‫الأوائل ون�سجت على منوالهم‪ ،‬ثم دائرة عاملية ا�ستلهمت‬ ‫مو�سيقى ال�شعوب الأخرى وايقاعاتها كال�سامبا والرومبا‬ ‫والتانغو‪ ،‬وكذلك بع�ض مالمح املو�سيقى الكال�سيكية‬ ‫الأوروبية‪ ،‬ال على �سبيل املحاكاة الفجة بل من خالل‬ ‫اخ�ضاعها لروح ال�رشق وه�ضمها يف بوتقته باقتدار‪ .‬وذلك‬ ‫نظر ًا لقدراته الفنية الفائقة وموهبته احلقيقية التي ا�ستطاعت‬ ‫�أن تبتلع هذه امل�ؤثرات والروافد وت�صهرها يف موقد خيالها‬ ‫الرحب لتخرج علينا ب�أ�سلوب تلحيني مميز ذي مالمح‬ ‫حمددة وب�صمات خا�صة ال يخطئها املتذوق للمو�سيقى‪.‬‬ ‫يقف فريد الأطر�ش يف منزلــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫حائرة بني الريادة والتقليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد‪،‬‬ ‫لكنه حالة خا�صة فـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي‬ ‫تاريخ املو�سيقى العربيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫فريد الأطر�ش اذ ًا هو النموذج الأمثل لهذا االن�صهار بني‬ ‫الثقافات املو�سيقية املتعددة واملتنوعة و�أف�ضل من �سكبها‬ ‫يف نهر املو�سيقى العربية حتى ان�سابت يف جمراه ك�أحد‬ ‫مكوناته من دون �أن تذوب فيه بل ن�شعر بوجودها ونلمح‬ ‫طيفها كظالل تلوح من بعيد‪.‬‬ ‫فريد الأطر�ش ميثل يف ثقافتنا املو�سيقية حالة فنية‬ ‫�أ�ضافت و�أثرت وا�ستطاعت �أن تخرتق حواجز املحلية‬

‫ ‪ 243‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬


‫اخرتاق وتوظيف �أ�شكال املو�سيقى الكال�سيكية الغربية‬ ‫يف بحر مقاماتها الوا�سع والعميق‪ .‬عمل «�أطر�شي» بامتياز‬ ‫يجربنا على و�ضعه خارج الت�صنيف التقليدي و�إن �أُخذ‬ ‫عليه ذلك الف�صل احلاد بني املقدمة والأغنية‪.‬‬ ‫ كذلك فعل يف رائعته الثانية «جنوم الليل»‪ ،‬فقد بدا‬ ‫فيها فريد الأطر�ش مو�سيقي ًا كال�سيكي ًا من طراز رفيع‬ ‫ح ّلق يف ذرى املو�سيقى التعبريية لالرتقاء بال�شكل‬ ‫التقليدي للأغنية ال�رشقية ومنحها �أبعاد ًا ان�سانية عابرة‬ ‫للجغرافيا و�أطلق �رساحها من �أ�رس املكان والزمان لكي‬ ‫تلتقطها كل �أذن تطرب للمو�سيقى وي�ستخفّها النغم‪.‬‬ ‫فغدت «جنوم الليل» كنجوم الليل ي�ست�ضيء بها الرتاث‬ ‫وا�ستبد به‬ ‫االن�ساين ويناجيها كل من �أظلمت نف�سه‬ ‫ّ‬ ‫ال�شوق اىل وم�ضة من نور‪ .‬مقدمة خيالية ت�صويرية‬ ‫عدتها‬ ‫ك�أنها من عزف ال�سماء ترويها الأورك�سرتا بكامل ّ‬ ‫وبهائها‪ ،‬حوارية مو�سيقية بديعة على م�ستويات عدة بني‬ ‫جمموعة الوتريات و�آالت النفخ وبني االورك�سرتا والبيانو‬ ‫وبني الآالت الغربية والآالت ال�رشقية الوترية والإيقاعية‬ ‫وبينها وبني �آلة القانون‪ ،‬مهرجان من الأمل اجلماعي‬ ‫والت�شاكي اجلميل �أبحر بنا اىل �أعايل املو�سيقى‪ ،‬هناك‪،‬‬ ‫حيت تتك�شف احلجب فيغدو املغلق هو الو�ضوح بذاته‪.‬‬ ‫ مقدمة مهيبة بد�أت بذلك الت�آلف البديع بني نهاوند‬ ‫الوتريات وكورد الآالت الهوائية �أو النفخ‪ ،‬ثم الم�ست‬ ‫مقامات �أخرى كالعجم واحلجاز لتعود وتر�سو عند �شاطئ‬

‫يف ح�ضن احلجاز‪ ،‬املقام ال�رشقي املنا�سب للتعبري عن‬ ‫الدموع واللوعة‪ ،‬الذي به يبد�أ الغناء حيث يجول فريد بني‬ ‫ال�شهناز‬ ‫وال�صبا والرا�ست والبياتي ليعود �أخري ًا وينهي‬ ‫َّ‬ ‫الأغنية مبقام الكورد لكن بطعم عربي �رشقي املذاق‪.‬‬ ‫الطقطوقة‬ ‫كذلك قدم فريد الأطر�ش لقالب الطقطوقة خدمات‬ ‫ونوع �أ�سلوب تناولها و�أعطاها بعد ًا غري تقليدي‬ ‫جليلة ّ‬ ‫يف الكثري من �أحلانه‪ ،‬منها على �سبيل املثال الطقطوقة‬ ‫الرومان�سية الراقية «م�ش كفاية»‪ .‬طقطوقة رقيقة كقطعة‬ ‫الدانتيال ارتقى بها فريد الأطر�ش اىل م�ستوى الأعمال‬ ‫الكال�سيكية من حيث الوقار والعمق وتلك االن�سيابية‬ ‫املت�أنية الهادئة التي ي�سري اللحن يف خطاها على �إيقاع‬ ‫التانغو الأثري يف �أعماله‪� .‬إيقاع ثابت مل يتغري‪ ،‬تعزفه‬ ‫الوتريات والأك��وردي��ون‪ .‬عمل خ��الٍ متاما من الآالت‬ ‫االيقاعية التي قد ي���ؤدي وج��وده��ا اىل خد�ش هذه‬ ‫االن�سيابية الرقراقة التي عبرّ ت عنها الوتريات من �أول‬ ‫اللحن اىل �آخره‪ .‬الكمنجات يف هذا العمل تقوم بدور‬ ‫التكثيف والدفع باملعنى اىل منتهاه‪ ،‬فهي تكمل ما بد�أه‬ ‫فريد‪ ،‬وتبوح مبا مل يبح به كالالزمة «امللتاعة» التي تلت‬ ‫املذهب مبا�رشة على �سبيل املثال‪ .‬لذلك ال ميكننا اعتبار‬ ‫هذه اللوازم االمتدادية ملا هو مغنى توزيع ًا باملعنى املتعارف‬ ‫عليه‪� ،‬أي كيان ًا قائم ًا بحد ذاته يف موازاة امليلودي‪ ،‬بل‬

‫هو �أول من قدم الأوبريت املكتملة العنا�صــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر‬ ‫يف الأعمال ال�سينمائية‪ ،‬وقد اعترب النقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاد‬ ‫�أوبريت «انت�صار ال�شباب» ال�شكل الأمثــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل‬ ‫ملفهوم الأوبريت يف تاريخ املو�سيقى العربية املعا�صــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرة‬

‫فريد االطر�ش‪،‬‬ ‫«�أول هم�سة»‬ ‫‪1972‬‬

‫ ‪ 244‬‬

‫الكورد‪ ،‬العمود الفقري لهذا العمل‪ ،‬حتكي �أحوال النف�س‬ ‫ال�شاكية من الظلم ت�ستكني حين ًا وتتمرد �أحيانا تهد�أ‬ ‫نريانها مرة وت�ضطرم �أخرى‪ .‬تعبرّ عن نوع من الت�سا�ؤل‬ ‫اال�ستنكاري للظلم والق�سوة مو�ضوع الأغنية بدا فيها‬ ‫فريد الأطر�ش مت�أثر ًا بالكال�سيكيات الأوروبية‪ ،‬اال�سبانية‬ ‫خا�صة‪ ،‬من خالل ا�سلوب توظيفه الدرامي ملقام الكورد‬ ‫وا�ستلهام روح الفالمنكو من خالل �إحداث االح�سا�س‬ ‫بذلك الرجع البعيد لل�صوت االيقاعي ال�رسيع لآلة‬ ‫الكا�ستانييت ال�شهرية لكن ب�صوت ال�صنوج يف �آلة الرق‬ ‫االيقاعية‪ ،‬يف حماولة لتجنب التغريب الكلي‪ .‬حتى اذا‬ ‫انتهى من ر�سم هذه اللوحة التعبريية ترك ري�شته لت�سرتيح‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫هو توزيع ب�سيط يعتمد على اللوازم التي تربط بني‬ ‫الكوبليهات وبني اجلمل املو�سيقية‪ .‬ذلك �أن التوزيع املعقد‬ ‫من �ش�أنه �أن ي�ساهم يف ت�شتيت اللغة املو�سيقية الراقية‬ ‫التي اتخذت �شكل الهم�س ال�رصيح القائمة �أ�سا�س ًا على‬ ‫التعبري عن نوع من‪ ‬الرجاء الذي يتطلب البوح املبا�رش‬ ‫والو�صول اىل الهدف ب�أب�سط الو�سائل و�أق�رص الطرق‪.‬‬ ‫ وعلى الرغم من‪ ‬االنطباع‪ ‬ال�سائد‪ ‬من �أن‪ ‬احل��زن‬ ‫م�سيطر ب�شكل عام على نتاج فريد الأطر�ش‪ ،‬غري �أنه‬ ‫قدم جمموعة‪ ‬كبرية‪ ‬من‪ ‬االعمال‪ ‬التي ال تخلو من البهجة‬ ‫وال�رسور‪ .‬نتوقف ب�شكل خا�ص عند �أغنيته ال�شهرية جدا‬ ‫«جميل جمال»‪ .‬طقطوقة تنوعت مقاماتها �ضمن م�ساحة‬


‫زمنية �صغرية ن�سبي ًا (�ست دقائق) و�إيقاع مق�سوم يراوح‬ ‫بني �رسيع يف اللوازم املو�سيقية يتباط�أ يف الكوبليهات‬ ‫الثالثة التي ربط فريد االطر�ش بينها بلوازم ثالث‬ ‫عزفت بنف�س الطريقة والتكنيك وال��روح لكن بثالث‬ ‫مقامات خمتلفة �صاغ منها الكوبليهات البياتي يف الأول‪،‬‬ ‫واحلجاز يف الثاين‪ ،‬وال�صبا يف الثالث‪ ،‬يعود بعد كل منها‬ ‫قدّ م فريد الأطر�ش لقالــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــب‬ ‫الطقطوقة خدمات جليلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫ونوّ ع �أ�سلوب تناولهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫و�أعطاها بعد ًا غري تقليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدي‬ ‫يف الكثري من �أحلانـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه‬

‫العنفوان والقوة التي يتميز بها اال�سلوب الغنائي لأداء‬ ‫املوال يف بالد ال�شام‪.‬‬ ‫ اما �أحلانه للآخرين فكان يراعي فيها ا�سلوبهم اخلا�ص‬ ‫وقدراتهم ال�صوتية يف الأداء مع منحها ا�سلوب ًا فريد ًا كان‬ ‫يتميز به هو‪ .‬لذلك كان با�ستطاعة �أي متذوق للمو�سيقى‬ ‫�أن مييز �أعمال فريد الأطر�ش من غريها ب�سهولة نظر ًا‬ ‫لو�ضوح ب�صماته وتفرد �أ�سلوبه يف تناول املقامات ال�رشقية‬ ‫وتوظيفها بطريقة جتمع بني املدر�ستني ال�شامية وامل�رصية‬ ‫مما يجعله �صاحب اجتاه مو�سيقي حقيقي يف تاريخ الفن‬ ‫العربي املعا�رص‪.‬‬

‫مميزة‪ ،‬ترتاوح بني الأغنية الوطنية ال�شعبية ذات الطابع‬ ‫العاطفي ك�أغنيتيه الناجحتني «�سنة و�سنتني» و«علم‬ ‫العروبة يا غايل»‪ ،‬والن�شيد احلما�سي الوطني كرائعته‬ ‫«املارد العربي»‪ .‬ي�ستوقفنا هذا العمل احلما�سي القومي يف‬ ‫مو�ضوعه‪ ،‬ببنائه اللحني الذي ي�سري على ايقاع اخلبب‬ ‫�أو حوافر اخليل كخلفية ثابتة تعزفها الطبول مب�صاحبة‬ ‫الآالت النحا�سية التي تبدو ك�أنها تعلن النفري والتعبئة‬ ‫العامة من �أول العمل اىل �آخره ك�أنها اخليول العربية‬ ‫اذ تتقدم يف م�سرية ال يريد لها �أن تتوقف حتى حترير‬ ‫كامل الرتاب العربي من النهر اىل البحر‪ .‬لي�س يف تاريخ‬ ‫الأغنية الوطنية العربية املعا�رصة عمل اتخذ ما ي�شبه هذا‬ ‫الأ�سلوب الذي ربط مو�سيقي ًا بني العروبة واخليل‪ ،‬هذا‬ ‫الربط الرمزي التقليدي يف ذاكرة الأدب العربي مل يكن‬ ‫تقليدي ًا يف الذاكرة املو�سيقية‪.‬‬

‫الـعـود‬ ‫قبل فريد الأطر�ش كانت �آلة العود‪ ،‬كباقي �آالت التخت‬ ‫ال�رشقي‪ ،‬تطرب النا�س ولها مكانتها وموقعها املميز‬ ‫ال‪ ،‬من حيث‬ ‫و�سط التخت‪ ،‬لكنها مل تكن تفوق القانون مث ً‬ ‫وت�صدرها �أو قيادتها للتخت ال�رشقي وال من‬ ‫مكانتها‬ ‫ّ‬ ‫حيث �شغف النا�س بها‪ ،‬حتى ظهر عود فريد الأطر�ش‪.‬‬

‫مرجع النوى �أثر لي�س ّلم املذهب اىل الكورال‪ .‬لكن‬ ‫اىل ّ‬ ‫الالفت حق ًا يف هذا العمل البهيج هو كيفية ا�ستخدامه‬ ‫ال�صبا يف الكوبليه الأخري واعطائه بعد ًا املطرب‬ ‫البديع ملقام ّ‬ ‫حد النحيب‪ ،‬بدا قدم فريد الأطر�ش خالل م�سريته الفنية عدد ًا كبري ًا جد ًا‬ ‫جديد ًا غري م�ألوف‪ .‬هذا املقام احلزين َّ‬ ‫يف هذه الأغنية الر�شيقة‪ ،‬بطعم الفرح‬ ‫ال نقدي ًا وا�ستحثت‬ ‫ال�شجي وهي احلالة من الأحلان الهامة التي �أثارت جد ً‬ ‫ّ‬ ‫التي يكون عليها العا�شق يف منزلة تت�أرجح فيها نف�سه الدار�سني على البحث والتحليل يف هذا النتاج الكبري‬ ‫بني لواعج الوجد ومباهج الو�صال‪ ،‬فيما غالبية الأحلان والغزير ملو�سيقار �شق طريق الفن بكفاح مرير وموهبة‬ ‫التي وجلت عامل هذا املقام �صيغت ببعده املتعارف عليه حقيقية ومعرفة مو�سيقية عميقة جعلته جدير ًا باملكانة‬ ‫يطوعه فريد الأطر�ش التي و�ضعته يف القلوب من املحيط اىل اخلليج ك�أحد �أكرث‬ ‫املعبرّ عن �شدة احلزن والأمل‪ .‬هنا ّ‬ ‫ال�سينمائي‬ ‫امل�شهد‬ ‫باقتدار حليوية الفرح الذي عبرّ عنه‬ ‫الفنانني العرب جماهريية على الإطالق‪.‬‬ ‫الذي �شدا فيه هذه الأغنية اجلميلة‪� .‬صاغ فريد الأطر�ش فريد الأطر�ش كان م�ؤ�س�سة فنية مكتملة العنا�رص‪ ،‬هو‬ ‫اذ ًا هذه الطقطوقة من ‪ 4‬مقامات خمتلفة لكنها م�شتقة مثلث مو�سيقي مت�ساوي الأ�ضالع غنا ًء وعزف ًا وتلحين ًا‪.‬‬ ‫بع�ضها من بع�ض هي النوى �أثر ثم البياتي ثم احلجاز فريد االطر�ش املطرب ميتلك م�ساحة �صوتية كبرية متفردة‬ ‫ال�صبا يف �صياغة حلنية بالغة اجلمال والذوق والعمق‬ ‫ثم َّ‬ ‫التعبريي �ساهمت ال �شك يف تطوير فن الطقطوقة ودفعه الأطر�ش �صاحب ه ّم عروبــــــــــــــــــــــــــــــــــــي‪،‬‬ ‫قومي‪ ،‬ان�سانـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي‪،‬‬ ‫يف اجتهات جديدة‪.‬‬ ‫يعب عنه من خالل فنــــــــــــــــــــــــــــــــه‬ ‫حاول �أن ِرّ‬ ‫الأغنية الوطنية‬ ‫هم عروبي‪ ،‬قومي‪ ،‬ان�ساين‪ ،‬ومتوائمة مع خ�صو�صيته كملحن‪ ،‬وبالتايل كان ي�صعب‬ ‫كان فريد الأطر�ش �صاحب ّ‬ ‫يعب عنه من خالل فنه‪ ،‬ومن �أجل هذا الهم قدم على غريه �أداء بع�ض �أحلانه التي غناها بنف�سه‪ ،‬ال �سيما‬ ‫حاول �أن ِرّ‬ ‫فريد الأطر�ش �إ�سهامات ميكننا القول �إنها �ساهمت يف تلك التي ترتكز على �إظهار م�ساحته ال�صوتية الهائلة‬ ‫ال يف النه�ضة باملو�سيقى وقفالته اخلا�صة املميزة‪� .‬صوت عمالق ب�إجماع الدار�سني‬ ‫التقريب بني ثقافات ال�شعوب �أم ً‬ ‫العربية ومنحها بعد ًا ان�ساني ًا‬ ‫بغ�ض النظر عن القما�شة ال�صوتية‬ ‫متجاوزا للأعراق والأجنا�س وذوي االخت�صا�ص‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫«حمب غالٍ ومبغ�ض �ضال»‪.‬‬ ‫ال بالدائرة العربية القومية كما يف التي قد ُيختلف حولها بني‬ ‫والقوميات‪ .‬بد�أها �أو ً‬ ‫ّ‬ ‫�أوبريت «ب�ساط الريح» التي مر من خاللها على الدول‬ ‫ال�شامي الن�ش�أة للغناء امل�رصي ب�شكل‬ ‫طوع فريد �أداءه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العربية كلها ليعزز فكرة الوحدة ونبذ الفرقة‪.‬‬ ‫مذهل‪ ،‬وقد �أدى املوال امل�رصي ب�أ�سلوبه اخلا�ص ال�شامي‬ ‫ال قليلة لكن الروح‪ ،‬فجمع اىل الرقة واحلنان و�سال�سة الأداء امل�رصي‪،‬‬ ‫ ويف جمال الأغنية الوطنية قدم �أعما ً‬

‫ ‪ 246‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫فريد الأطر�ش كان م�ؤ�س�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫فنية مكتملة العنا�صـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر‪،‬‬ ‫ُمثلَّث مو�سيقي مت�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاوي‬ ‫الأ�ضالع غنا ًء وعزف ًا وتلحينـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ًا‬ ‫ هذه الآلة ال�رشقية اجلميلة املوغلة يف القدم والتي‬ ‫عرفت �أ�سماء كبرية من �أمثال الرائد املو�سيقي العظيم‬ ‫حممد الق�صبجي‪ ،‬واملعلم الكبري ال�رشيف حميي الدين‬ ‫حيدر‪ ،‬وتلميذه جميل ب�شري و�أخيه اال�صغر منري ب�شري‬ ‫عده النقاد من �أهم عازيف العود يف التاريخ املعا�رص‬ ‫الذي ّ‬ ‫(بغ�ض النظر عن ر�أينا ال�شخ�صي يف هذه امل�س�ألة) والفنان‬ ‫�صليبا القطريب‪ ‬وفريد غ�صن‪ ‬وغريهم من الأعالم الذين‬ ‫�ساهموا يف النه�ضة املو�سيقية العربية ب�شكل عام‪ ،‬ويف‬ ‫نه�ضة هذه الآلة العريقة وتطوير تقنياتها واكت�شاف �آفاق‬ ‫جديدة لقدراتها الكامنة‪ .‬غري �أن ذلك ظل يف اطار النخب‬ ‫املهتمة باملو�سيقى والدار�سني والنقاد والفئات القادرة على‬ ‫ارتياد امل�سارح اخلا�صة‪ .‬ان اال�ضافة احلقيقية التي �سجلها‬ ‫فريد الأطر�ش يف هذا املجال هي انه ا�ستطاع ان يحمل‬ ‫هذه الآلة من ال�صالونات الفنية والنخبوية اىل �صفوف‬ ‫اجلماهري ال�شعبية العري�ضة‪.‬‬ ‫ كان عود فريد الأطر�ش يكاد يناف�س فريد نف�سه‬ ‫جماهريية وع�شق ًا‪ .‬ومل يحدث �أن نالت �آلة مو�سيقية ذاك‬

‫ ‪ 247‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫الكم من الت�صفيق الذي كان ينفجر مبجرد ظهور عود فريد‬ ‫الأطر�ش على امل�رسح حتى قبل ظهور �صاحبه‪ .‬لقد بلغت‬ ‫�آلة العود جماهريية مل تعرفها قبل فريد الأطر�ش الذي جعل‬ ‫اجلماهري العربية تلتفت اىل هذه الآلة وتتفاعل معها حتى‬ ‫�أ�صبحت بالفعل �شغوفة بها‪ .‬وال جنايف احلقيقة اذا قلنا �إن‬ ‫فريد الأطر�ش �صاحب ف�ضل على هذه الآلة‪ .‬قدمها للنا�س‬ ‫ب�شكل خمتلف وعزز مكانتها �إذ جعلها �سيدة حفالته على‬ ‫امل�رسح‪ ،‬ف�ساهم يف تعريب الذوق الفني لدى قطاع وا�سع‬ ‫من ال�شباب الذي كان يرى يف الغيتار الكهربائي �آلة �أثرية‬ ‫يف الع�رص الذهبي للفرق املو�سيقية الغربية كالبيتلز وغريها‪.‬‬ ‫ فريد الأطر�ش �صاحب �أ�سلوب متفرد غري تقليدي يف‬ ‫العزف مل ي�سبقه اليه �أحد‪ .‬ا�ستطاع �أن يخرج من العود‬ ‫امكانات مل تكن مكت�شفة‪ .‬و�سيبقى ال�سولو اخلالد يف‬ ‫مقدمة ق�صيدة «ال وعينيك» �شاهد ًا على جدارة هذا العازف‬ ‫الكبري الذي منح هذه الآلة تقنيات جديدة حني عزف بالعود‬ ‫معزوفة �أ�ستوريا�س للم�ؤلف املو�سيقي اال�سباين �إزاك‬ ‫�ألبينيز‪ ،‬مما �ساهم يف تو�سيع �آفاق و�أبعاد هذه الآلة وفتحها‬ ‫على احتماالت تفوق اخليال‪ .‬واذا اعتربنا �أن ال�سنباطي كان‬ ‫�صاحب �أروع ري�شة و�أعمق خيال و�أرهف اح�سا�س عزف ًا‬ ‫وتلحين ًا يف تاريخ املو�سيقى العربية‪ ،‬ف�إن فريد الأطر�ش‬ ‫واحد من �أهم العازفني على م�ستوى التكنيك عرفته هذه‬ ‫الآلة يف تاريخ املو�سيقى العربية املعا�رصة‪ .‬ولتو�ضيح‬ ‫الق�صد من وراء ا�ستخدام «�أفعال التف�ضيل» وهو ا�سلوب‬ ‫غري علمي يف التو�صيف‪ ،‬يجدر التوقف حلظات لتبيان‬ ‫الفروق الدقيقة بني بع�ض التو�صيفات امللتب�سة مثل‬ ‫«�أروع»‪�« ،‬أجمل»‪�« ،‬أهم»‪�« ،‬أعظم»‪...‬‬ ‫ ابتدا ًء‪ ،‬يجوز يف تقييم العمل الفني ك�رس الأطر‬ ‫العلمية التي تعتمد على العقل واخل��روج اىل رحاب‬ ‫االنطباع واحل�س واحلد�س الذي يتجاوز الوعي‪ .‬ان «افعل‬ ‫ا�ستطاع ان يحمل �آلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫العود من ال�صالونات الفنيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫والنخبوية اىل �صفوف اجلماهيــــــــــــــــــــــــــــــــر‬ ‫ال�شعبية العري�ضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫التف�ضيل» هنا لي�س على اطالقه �أو مبعناه احلريف بل هو‬ ‫تعبري تلقائي �شعوري عن الأثر الذي ترتكه الده�شة فينا‬ ‫والتي بطبيعة احلال تفي�ض عن القلب فينطق بها الل�سان‪،‬‬ ‫وهذا جائز يف النقد الفني عموما واملو�سيقي على وجه‬ ‫اخل�صو�ص‪�« .‬أهم �أو �أعظم تكنيك» يعني مهارة يف العزف‬


‫فريد الأطر�ش‬ ‫و �سامية جمال‬


‫عالية امل�ستوى عظيمة القدرات والفهم لأ��سرار الآلة‬ ‫وامكاناتها والقدرة على العزف بحرفية منقطعة النظري‬ ‫بغ�ض النظر عن جمال العزف وت�أثريه اجلمايل يف النف�س‪.‬‬ ‫نو�صف عزف ريا�ض ال�سنباطي مثال بالأجمل �أو‬ ‫�أما حني ِّ‬ ‫الأروع‪ ،‬فذلك لأن ري�شة ال�سنباطي متتلك من اجلماليات‬ ‫ما يجعلها تتجاوز م�س�ألة احلرفية اال�ستعرا�ضية‪ ،‬حينئذ‬ ‫يكون االنبهار نابع ًا من االح�سا�س باجلمال اخلال�ص ال‬ ‫من القدرات التقنية التي تده�ش الوعي وال تتعداه اىل‬ ‫ال�شعور‪ .‬يقول ال�شاعر الفرن�سي جان لي�سكور يف درا�سته‬ ‫لر�سم ت�شارلز الييك «املعرفة يجب �أن ترافقها قدرة‬ ‫م�ساوية على ن�سيانها‪ .‬ون�سيان املعرفة لي�س نوع ًا من‬ ‫اجلهل بل هو جتاوز �صعب للمعرفة»‪.‬‬ ‫ اجلمال يتجاوز املهارة يف اعتقادنا‪ ،‬بل هو الذي ي�ؤدي‬ ‫اىل خلق جديد اذ تنعك�س �صورته على مر�آة النف�س فتتبدل‬ ‫أرق و�أجمل‪ .‬لي�س الهدف من وراء‬ ‫�أحوالها وتغدو خلق ًا �آخر � ّ‬ ‫هذه الفقرة االعرتا�ضية نفي اجلمال عن عزف فريد الأطر�ش‬ ‫وح�رصه يف قالب املهارة وح�سب بل هي حماولة لفك هذه‬ ‫اخليوط املت�شابكة يف الأذهان بني تقنيات املهارة وتقنيات‬ ‫اجلمال‪ .‬ومل �أجد �أف�ضل من هذه املنا�سبة‪ ،‬ونحن يف ح�رضة‬

‫تعبري‪ ،‬ور�سمت مالمح ملعاناة االن�سان يف �رصاعه املرير‬ ‫مع احلياة بحلوها ومرها‪ ،‬وكان منوذج ًا للتطابق بني الفنان‬ ‫واالن�سان خالف ًا لبع�ض معا�رصيه الكبار الذين قدموا‬ ‫فن ًا �شاخم ًا لكنه كان قناع ًا يخفي وجه ًا ان�ساني ًا �آخر ال‬ ‫ي�شبهه‪ .‬وال نقول ذلك بو�صفه عيب ًا �أو �سلبية‪ ،‬ففي تاريخ‬ ‫الفنون عامة مناذج فنية وعبقريات ال عالقة لها ب�سريتها �أو‬ ‫بحقيقتها االن�سانية‪ ،‬ولي�س يف ذلك �أي ب�أ�س لأن ما يعنينا‬ ‫بالدرجة الأوىل هوما قدمته هذه النماذج الرائعة من خدمة‬ ‫جليلة للح�ضارة االن�سانية‪ .‬لكن هذا التطابق التام بني فن‬ ‫فريد الأطر�ش و�شخ�صيته االن�سانية كان الفت ًا‪ ،‬لندرته يف‬ ‫ال �أن نف�صل بني فريد الفنان‬ ‫عامل املبدعني‪ .‬وال ميكننا فع ً‬ ‫وفريد االن�سان‪ ،‬بني الت�سامح واجلود وال�سخاء االن�ساين‬ ‫الذي ا�شتهر به و�سخائه الفني الكبري‪� ،‬سواء يف غزارة‬ ‫�أعماله �أو يف تعامله الأخالقي مع زمالئه ومو�سيقييه الذين‬ ‫كانوا ينتظرون ب�شغف ولهفة حلظة دخولهم اىل اال�ستوديو‬ ‫للعزف على مقام فريد الأطر�ش‪.‬‬ ‫ ال ميكننا ابد ًا �أن نف�صل بني �أمله االن�ساين و�أمله الفني‪،‬‬ ‫بني طيبته يف احلياة وطيبته على ال�شا�شة �أو يف �أغانيه‬ ‫ومعانيها‪ ،‬بني حزنه احلقيقي وحزنه الفني الذي مل يكن‬

‫ال ميكننا ابداً �أن نف�صل بني �أمله االن�سانـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي‬ ‫و�أمله الفني‪ ،‬بني طيبته يف احلياة وطيبتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه‬ ‫علىال�شا�شة �أو يف �أغانيه ومعانيهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫عمالقني من عمالقة العود‪ ،‬لتو�ضيح هذا اللب�س ال�شائع‬ ‫يف مهارات اال�ستماع اىل املو�سيقي‪ .‬هو اجتهاد وحماولة‬ ‫لالرتقاء بذائقتنا الفنية من مقام الفهم اىل مقام الإدراك‪.‬‬ ‫دعوة �إىل اعادة النظر‬ ‫فريد الأطر�ش‪� ،‬أحد كبار ذلك الع�رص املو�سيقي الذهبي‬ ‫الذي مازلنا نعي�ش على ذكراه‪ ،‬يحتاج بال ريب اىل اعادة‬ ‫النظر يف تقييم نتاجه حتى يتعرف �إليه اجليل اجلديد‬ ‫الذي رمبا ال يحفظ من فريد �سوى «الكتب على اوراق‬ ‫ِ‬ ‫و«حبينا» وبع�ض‬ ‫ال�شجر»‪ ،‬و«فوق غ�صنك يا ليمونة»‪،‬‬ ‫الأغاين ال�شعبية االخرى التي حتظى بالرواج �أكرث من‬ ‫غريها‪ .‬كما �آثر بع�ض النقاد املرموقني االهتمام باملطربة‬ ‫الكبرية �أ�سمهان على ح�ساب فريد الأطر�ش امللحن‪ ،‬وهو‬ ‫اهتمام م�ستحق لكن يعوزه االن�صاف‪.‬‬ ‫ فريد االطر�ش قامة فنية وان�سانية عالية قدمت للعامل‬ ‫مو�سيقى عبرّ ت عن القيم والأخالق االن�سانية الرفيعة خري‬

‫ ‪ 250‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪ |5‬ربيع ‪2013‬‬

‫ميلك �إال �أن يظلل �أحلانه ب�ضبابه‪ .‬وهل هذا التطابق التام بني‬ ‫ج�سده فريد الأطر�ش �سوى انعكا�س‬ ‫الفن والفنان الذي ّ‬ ‫�صارخ لذلك ال�صدق الكبري الذي رافقه كظله يف عالقاته‬ ‫الفنية والإن�سانية؟‬ ‫ هو ذلك الأمري الأطر�شي‪ ‬الذي حمله البحر �صغري ًا‬ ‫من جبل الوطنية اىل جبل الفن لينمو ويرتعرع ويغدو‬ ‫رشف ر�سمت مالحمه هذه الثنائية‬ ‫�أمري ًا كبري ًا لفن عربي م� ِّ‬ ‫اخلالدة التي جمعت م�رص و�سورية‪� ،‬سيا�سي ًا وروحي ًا‬ ‫وثقافي ًا‪ ،‬يف قلب عروبي واحد ت�أ ّلق املجد على وقع‬ ‫خفقاته منذ فجر التاريخ ال�سيا�سي والثقايف لهذه الأمة‪ .‬ما‬ ‫�أحوجنا اليوم اىل �أن نغني مع فريد االطر�ش لهذا الوطن‬ ‫الكبري الذي ينزف فرق ًة وجتزئة وانق�سام ًا وفجيعة «على‬ ‫الله تعود بهجتنا والأفراح وتغمر دارنا الب�سمة واالفراح»‪.‬‬ ‫فريد الأطر�ش ‪ ...‬ذلك الرجل الطيب الذي ظلمه النقد‬ ‫و�أن�صفه النا�س‪.‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.