Bidayat Magazine Issue 6

Page 1

‫فصلية ثقافية فكرية العدد ‪2013 6‬‬

‫الرجال‪ ،‬عمرو ا�سماعيل عديل‪،‬‬ ‫سورية حتقيق عن حتقيق يف جمزرة مو�سوفة ملف مرصدينا اخلواجة‪ ،‬يا�رسعلوي‪ ،‬علي ّ‬ ‫حممد جاد‪ ،‬ابراهيم اله�سيبي‪ ،‬جنالء مكاوي‪ ،‬يا�سمني اأحمد‪ ،‬فاطمة رم�سان‪ ،‬واأدهم حافظ البحرين من حقوق االن�سان‬ ‫ُ‬ ‫صري عراسل احلدود والهجرة‬ ‫اىل الثورة ال�سيا�سية الن�ساء و«الربيع العربي»‪ :‬درو�س من ايران واليمن‬ ‫الق َ‬

‫«السيدة العربية االوىل» يف الصحافة الغربية‬

‫متاريس إسطنبول‬

‫صور فلسطني يف احلرب الكونية االوىل‬

‫غراميش‬

‫والثورات العربية العلوم االجتماعية العربية بني تقليدين نقد َيني رثاء صنعاء القديمة راسلة جمهولة جلربان خليل جربان‬


‫فصلية ثقافية فكرية‬ ‫العدد ‪٢٠١٣ 6‬‬

‫‏‪subscriptions@bidayatmag.com‬‬

‫احل�ساب امل�رصيف‬

‫‏‪Bidayat sarl Banque Libano Française‬‬ ‫‪Agence Gefinor, Beyrouth-Liban‬‏‬ ‫‪Account Number: 169102231‬‬ ‫‏‪Swift:BLFSLBBX‬‬ ‫‪IBAN:35001000000000000169192231LB‬‬

‫ت�صوير �سافيد�س‪� ،‬ص ‪8‬‬ ‫من فيلم «ن�ساء بال رجال»‬ ‫ل�شريين ن�شاط‪� ،2010 ،‬ص‪23-22‬‬ ‫‪� ،www.tunisia-live.net‬ص‪38‬‬ ‫‪� ،www.aljadeed.tv‬ص‪42‬‬ ‫‪� ،news.in.msn.com‬ص‪53‬‬ ‫‪� ،sansretouches.com‬ص‪55‬‬ ‫‪� ،www.alsadat2.4t.com‬ص‪57‬‬ ‫‪� ،www.nytimes.com‬ص‪59‬‬ ‫‪� ،egyjourno.blogspot.com‬ص‪67‬‬ ‫ت�صوير حممد عبد الغني – رويرتز‪� ،‬ص‪75-74‬‬ ‫ت�صوير فيكتوريا هازو ‪� -‬أ ب‪� ،‬ص‪95-94‬‬ ‫يا�سمني �أحمد‪� ،‬ص‪113‬‬ ‫ت�صوير جينا بوب‪� ،‬ص‪113‬‬ ‫ت�صوير و‪ .‬اندرون‪� ،‬ص‪138‬‬ ‫‪� ،designgears.blogspot.com‬ص‪142‬‬ ‫‪� ،palitsmine.wordpress.com‬ص‪160‬‬ ‫‪� ،elunicomodo.wordpress.com‬ص‪166‬‬ ‫ت�صوير جيم غوردون‪� ،‬ص‪191-190‬‬ ‫‪Gibran, K., The Earth Gods, New York:‬‬

‫‪� ، Alfred A. Knopf, 1945‬ص‪199 - 198‬‬ ‫حاولنا جهدنا العثور على ا�صحاب‬ ‫حقوق الن�رش والت�صوير املن�شورة‪.‬‬ ‫الرجاء ممن �أغفل �إ�سمه االت�صال بنا‪.‬‬

‫‏‪www.bidayatmag.com‬‬

‫بدايات‬ ‫رئي�س التحرير‪ :‬فواز طرابل�سي‬ ‫رحال‬ ‫االدارة‪ :‬زهري ّ‬ ‫غ�سان عي�سى‬ ‫االلكرتوين‪:‬‬ ‫املوقع‬ ‫ّ‬ ‫�إدارة ف ّنية‪ :‬جنى طرابل�سي‬ ‫ت�صميم و�إخراج‪ُ :‬ز ْم َرة‬ ‫املدير امل�س�ؤول‪ :‬زينب ياغي‬ ‫�شارك يف انتاج هذا العدد‪:‬‬ ‫�سليمان تقي الدين‪ ،‬ع�ساف كفوري‪،‬‬ ‫دميا ال�رشيف‪ ،‬مي�سون ّ‬ ‫�سكرية‪،‬‬ ‫ر�شا ال�سلطي‪� ،‬إرن�ست خوري‪،‬‬ ‫�سحر مندور‪ ،‬دينا اخلواجه‪.‬‬ ‫ت�صدر عن‪ :‬بدايات‪� ،‬ش‪.‬م‪.‬ل‪.‬‬ ‫�صندوق الربيد‪،٦٧٧٧/١٣ :‬‬ ‫(�شوران) بريوت ‪ -‬لبنان‬ ‫التوزيع‪� :‬رشكة «نا�رشون» لتوزيع ال�صحف‬ ‫واملطبوعات‪� ،‬ش‪.‬م‪.‬م‪ .‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫�سعر الن�سخة‬ ‫لبنان‪ ١٠،٠٠٠‬ل‪.‬ل‪ ،.‬االردن‪ ٥‬دينار‪،‬‬ ‫الكويت ‪ ٢،٥‬دينار‪ ،‬م�رص‪ ٢٥‬جنيه‪،‬‬ ‫املغرب‪ ٥٠‬درهم‪ ،‬فرن�سا‪ ٥‬يورو‪.‬‬ ‫اال�شرتاكات‬ ‫لبنان‪ :‬افراد ‪ ،$٣٥‬م�ؤ�س�سات ‪،$٧٥‬‬ ‫�إ�شرتاك ت�شجيعي‪$١٠٠‬‬ ‫البلدان العربية‪ :‬افراد‪ ،$٥٠‬امل�ؤ�س�سات‪$١٥٠‬‬ ‫اوروبا‪ :‬افراد‪ ،$٦٠‬م�ؤ�س�سات ‪$١٨٠‬‬ ‫باقي البلدان‪ :‬افراد‪ ،$٨٠‬م�ؤ�س�سات ‪$٢٤٠‬‬

‫احلقوق‬ ‫�شكر خا�ص لدينا اخلواجه‬ ‫أعدت وجمعت امللف عن م�رص‬ ‫التي � ّ‬

‫مت انتاج هذه املطبوعة بدعم مايل من م�ؤ�س�سة‬ ‫هيرن�ش ‪ -‬بل مكتب ال�رشق الأو�سط‪ .‬الآراء الواردة‬ ‫هنا تعرب عن ر�أي امل�ؤلف (امل�ؤلفني) وبالتايل ال‬ ‫تعك�س بال�رضورة وجهة نظر امل�ؤ�س�سة‪.‬‬


‫المحتويات‬

‫العدد ‪2013 | 6‬‬

‫‪ 4‬‬

‫حتقيق عن حتقيق يف جمزرة موصوفة‬

‫‪ 10‬‬

‫جتاوز احلدود السياسية أم تثبيهتا؟‬ ‫من حقوق اإلناسن اىل الثورة‬ ‫السياسية يف البحرين‬

‫فواز طرابل�سي‬

‫�آالء ال�شهابي‬

‫‪ 17‬الناسء و«الربيع العريب»‬ ‫دروس من إيران‬

‫هايده مغيثي‬

‫الالح َبل إىل اجلدار‬ ‫‪ 28‬من‬ ‫َ‬ ‫قراءة يف الربيع النسوي اليمين‬

‫‪ 40‬عراسل بني دولة وأخرى‬ ‫دوماً عىل الهامش‬

‫مي�شال عبيد‬

‫‪ 45‬هشادات من تغريبة أهايل‬ ‫القصري السورية‬ ‫‪« 51‬السيدة العربية األوىل»‬ ‫يف الصحافة الغربية‬

‫مي�سون �سكرية‬

‫�أروى عبده عثمان‬

‫‪ 36‬أين هي المصلحة العامة‬ ‫يف الثورة التونسية؟‬

‫‪ 62‬‬

‫يا�رس علوي‬

‫‪ 68‬ال وقت للحق‬ ‫عن صنع اإلجماع بعد «‪ 30‬يونيو»‬

‫دينا اخلواجة‬

‫‪ 73‬احللم االجتماعي والسلطة والثورة‬ ‫عما بقي من وعود وآمال‬ ‫ّ‬

‫علي الرجال‬

‫جمهضة وأخرى حمتملة‬ ‫‪ 84‬بني فاشية‬ ‫َ‬

‫عمرو عادل‬

‫‪ 92‬التنمية باالستبداد‬ ‫منوذج يداعب خيال صناع القرار‬

‫حممد جاد‬

‫الغالف ‪ 1‬و‪ ٢‬و‪٣‬‬ ‫جمموعة �صور غرافيتي‪،‬‬ ‫جيجي ابراهيم‬

‫‪www.flickr.com/‬‬ ‫‪photos/gigiibrahim‬‬

‫الغالف ‪4‬‬ ‫مل�صق‪ ،‬غرافيتي‬ ‫من م�رص‪2013،‬‬

‫‪twicsy.com/i/dN6udd‬‬

‫با�شاك �إرتور‬

‫‪ 136‬ثورة جيل ضد التعقيم اإليديولوجي‬

‫�إيجه متلكوران‬

‫‪ 163‬شريكو بيكه يس‬ ‫الشعر كالينبوع‬ ‫عندما يتدفق ِ‬

‫غ�سان احلاج‬ ‫ّ‬

‫‪ 107‬تاليق األضداد‬ ‫الموقفان اإليراين والرتكي‬ ‫من سقوط «إخوان» مرص‬

‫‪ 196‬‬

‫‪ 111‬الفالحون والثورة‬ ‫استعادة األرض‬

‫‪ 200‬يف رثاء صنعاء القديمة‬

‫جنالء مكاوي‬

‫يا�سمني �أحمد‬

‫‪ 117‬احلريات النقابية‬ ‫القانون الكاشف‬

‫فاطمة رم�ضان‬

‫‪ 1‬المجموعات الشبابية‬ ‫‪ 21‬‬ ‫بعد «‪ 25‬يناير»‬

‫كرمية خليل‬

‫�إبراهيم اله�ضيبي‬

‫‪ 130‬‬

‫‪ 158‬‬

‫‪ 140‬حتالف سرييزا الياسري‬ ‫ظاهرة سياسية واعدة يف اليونان‬

‫تينا �سرتيكو‬

‫ن�صار‬ ‫ع�صام ّ‬

‫إيالن هاليفي‬ ‫يكتشف دير ياسني‬

‫‪ 1 74‬العلوم االجتماعية العربية‬ ‫نقديني‬ ‫تقليدين‬ ‫بني‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫‪ 97‬معارك التغيري المتوازية‬ ‫إىل المتاريس!‬ ‫مقاومة «حديقة الغازي» والفضاء العام‬

‫�سليم متاري‬

‫‪ 1 66‬قراءة غراميش يف زمن الثورات العربية‬

‫ليلى داخلي‬

‫الموجة الثالثة للثورة المرصية‬ ‫تعقد الظروف والتباس التحالفات‬ ‫ّ‬

‫‪ 144‬‬

‫احلرب العظمى يف فلسطني‬ ‫يصور احلداثة العثمانية‬ ‫خليل رعد‬ ‫ّ‬

‫‪ 152‬فلسطني بالعدسة االمريكية‬ ‫غياب احلرب احلقيقية‬

‫ِس ْك يِس جربان‬ ‫سيجارة واشعرة أمريكية‬

‫جربان خليل جربان‬ ‫جمال جربان‬

‫‪ 204‬‬

‫موسيقى «المهرجانات» يف مرص‬ ‫«انشقاق يف إمرباطورية الصوت»‬

‫�أدهم حافظ‬

‫‪ 1 82‬العراق مثاالً وحنا بطاطو دليالً [‪]2‬‬ ‫من أهل الدولة إىل دولة األهل‬

‫و�ضاح �رشارة‬


‫حتقيق عن حتقيق يف جمزرة موصوفة‬ ‫فواز طرابليس مع انعقاد االتفاق االمريكي ‪ -‬الرو�سي على ا�ستبدال‬ ‫ال�رضبة الع�سكرية االمريكية بنزع ال�سالح الكيماوي‬ ‫تدخل �سورية‪ ،‬ومعها املنطقة‪ ،‬يف مرحلة جديدة‬ ‫ال�سوري‪ُ ،‬‬ ‫تعج باال�سئلة واالحتماالت‪.‬‬ ‫من تطورها ّ‬ ‫ ال يزال الوقت مبكرا للت�أمل والتحليل يف معاين‬ ‫هذه االحداث و�أبعادها‪ ،‬وا�ستيعاب مع ت�ستتبعه من‬ ‫حتوالت وانقالبات يف توازنات القوى والتحالفات‬ ‫االقليمية والدولية‪ ،‬وقد �إنعقدت حول جمزرة ذهب‬ ‫�ضحيتها مئات عديدة من املواطنني ال�سوريني بينهم‬ ‫عدد كبري من الن�ساء واالطفال‪.‬‬ ‫ يف االنتظار‪ ،‬ال يجوز �أن يغيب احلدث ذاته‪ ،‬املجزرة‪،‬‬ ‫ومتابعة الطريقة التي جرى التحقيق فيها وما �صدر عن‬ ‫الهيئات الدولية املعنية من خال�صات واحكام ب�ش�أنها‪.‬‬ ‫ من هنا هذا التحقيق‪.‬‬ ‫�سالح اجلرمية‬ ‫قرار جمل�س االمن الدويل رقم ‪ ٢١١٨‬ال�سالح‬ ‫اعترب ُ‬ ‫الكيماوي ال�سوري خطرا على االمن الدويل ف�أدان �إمتالكه‬ ‫وحرم ا�ستخدامه على االرا�ضي ال�سورية‪ ،‬من اي طرف‬ ‫ّ‬ ‫كان‪ .‬بناء عليه‪� ،‬ألزم القرار ال�سلطات ال�سورية بالت�رصيح‬ ‫عن تر�سانتها الكيماوية وق�ضى بتفكيكها يف موعد‬ ‫�أق�صاه منت�صف العام ‪« ٢٠١٤‬ي�صدف» انه يقارب موعد‬ ‫االنتخابات الرئا�سية ال�سورية‪ .‬واىل هذا‪ ،‬ملّح القرار اىل‬ ‫�إمكان جلوء جمل�س االمن اىل البند ال�سابع �ضد من يخالف‬ ‫هذا القرار‪ .‬ومعلوم ان البند ال�سابع ي�ضم عدة �إجراءات‬ ‫عقابية‪� ،‬آخرها التدخل الع�سكري �ضد الطرف املخالف‪.‬‬ ‫ اول ما يجدر ت�سجيله �أن القرار ‪ ٢١١٨‬تغا�ضى‬ ‫ِ‬ ‫م�ستخدم ال�سالح‪ ،‬مت�شيا مع قرار جمل�س االمن‬ ‫عن‬ ‫ال�سابق بح�رص مهمة بعثة حتقيق دولية اىل �سورية‬ ‫‪6‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫قراهم واملنازل! على م�ستوى ادنى من التزوير الفا�شي‪ ،‬كان اخلال�صة‪� ،‬صادر «املجتمع ال��دويل»‪ ،‬ومعه «عدالته‬ ‫يتفجع يف م�ؤمتراته ال�صحفية االنتقالية»‪� ،‬سالح املجزرة وتخلى عن مهمة التحري عن‬ ‫ممثل �سورية يف االمم املتحدة ّ‬ ‫مالحقة املجرمني والعقاب‪.‬‬ ‫متباكيا‪ :‬هل يعقل ان يت�صور �أحد ان النظام يقتل �شعبه؟‬ ‫ من جهته‪ ،‬اكتفى الرئي�س اال�سد بالقول �إن اتهام‬ ‫النظام ال�سوري «غري منطقي»‪ .‬والإ�شارة‪ ،‬يف االمثولة ال�سالح الآخر‬ ‫الفل�سفية الرتبوية املعتادة من الرئي�س ال�سوري‪ ،‬اىل ان �صمت قرار جمل�س االمن ‪�َ ٢١١٨‬ص ْمت القبور عن‬ ‫املجزرة ارتكبت ع�شية جميء الفريق الدويل للتحقيق �أ�سلحة القتل اجلمعي االخرى ‪� -‬صواريخ �أر�ض‪�-‬أر�ض‬ ‫يف ا�ستخدام الكيماوي يف الغوطتني يوم ‪� ٢١‬آب‪ /‬البال�ستية وطائرات «ميغ» واملروحيات القا�صفة بالرباميل‬ ‫واملتفجرة والقنابل العنقودية والفو�سفورية مثال‬ ‫اوغ�سط�س‪ .‬اال ان اال�سد عاد فتحدث بال�صفة ال�شخ�صية احلارقة‬ ‫ّ‬ ‫لينفي م�س�ؤوليته عن ا�صدار االمر با�ستخدام ال�سالح‪ .‬وهو ‪ -‬وقد فتكت اىل الآن باكرث من مئة الف مواطن ومواطنة‬ ‫حمرما دوليا؟ بعد �أي‬ ‫ت�رصيح معبرّ ترافق مع تداول الإعالم �أ�سماء �ضباط كبار يف �سورية‪ .‬فمتى ي�صري اي �سالح ّ‬ ‫يف جي�شه والأجهزة االمنية اتهموا با�صدار �أوامر الق�صف م�ستوى من «الفتك»؟ وبعد اي عدد من ال�ضحايا؟‬ ‫بالغازات القاتلة‪ .‬كاد املريب ان يقول «خذوين»‪ .‬لكن قبل ان ي�صري ال�سالح الكيماوي �سالحا يف حرب‬ ‫النظام ال�سوري �ضد �شعبه‪ ،‬وقبل ان يتقرر م�صادرته‬ ‫املجتمع الدويل لي�س يرتاب على ما يبدو‪.‬‬ ‫ يف تلك الفرتة‪ ،‬وا�صل الرئي�س بوتني حملة التربئة دوليا‪ّ ،‬‬ ‫�شكل �أكرب تر�سانة �أ�سلحة كيماوية يف املنطقة جرى‬ ‫زوده مبعلومات تثبت ان ت�صنيعها وتخزينها ومراكمتها‪ ،‬عرب عقود من الزمن‪ ،‬على‬ ‫معلن ًا �أن الطرف ال�سوري ّ‬ ‫املجزرة من �صنع املعار�ضة امل�س ّلحة‪ .‬مل تعر�ض مو�سكو حتقيق «توازن رعب» مع ا�رسائيل‪ :‬الكيماوي ال�سوري‬ ‫�أد ّلتها اجلديدة على ما نعلم‪ .‬ومع ان انباء تواترت عن مقابل الكيماوي اال�رسائيلي‪ ،‬او الكيماوي مقابل النووي‪،‬‬ ‫رت�ض ان «�سالح‬ ‫ويف َ‬ ‫ان املهمة اجلديدة لوفد املحققني الدوليني �سوف تت�ضمن او الكيماوي مقابل التفوق اجلوي‪ُ .‬‬ ‫التحقيق يف ا�ستخدام الكيماوي يف �سبعة مواقع ا�ضافية الفقراء » هذا �إكت�سب �أهمية متزايدة بعد ان َد ّمرت الطائرات‬ ‫خمتلفة‪ ،‬مبا فيها خان الع�سل يف حلب‪ ،‬جرى الرتكيز اال�رسائيلية املفاعل النووي يف دير الزور‪.‬‬ ‫على مهمة البعثة يف التحقق من املخازن واال�رشاف على ويبدو ان هذا الوجه من ا�ستخدام الكيماوي هو ما �أثار‬ ‫تدمري اال�سلحة‪ .‬فال عجب بعد ان طم�ست‪ ،‬حتى ال نقول حفيظة «املجتمع الدويل» وهيئته التنفيذية وعدالته االممية‪.‬‬ ‫طويت م�س�ألة امل�س�ؤولية عن ا�ستخدام ال�سالح املحظور اعتمد جمل�س االمن بالدرجة االوىل التف�سري «االقليمي‬ ‫دوليا وال��ذي يهدد االمن ال��دويل‪ ،‬ان ال يكون لدى والدويل» خلطر ال�سالح الكيماوي ال�سوري‪ ،‬جري ًا على ما‬ ‫ال�سيد الفروف ما يقوله عن م�س�ؤولية املعار�ضة‪ ،‬مطلع اعلنه الرئي�س اوباما من انه ي�شكل خطرا على �أمن الواليات‬ ‫ت�رشين االول‪/‬اكتوبر غري التحذير من انها قد تلج�أ اىل املتحدة وعلى جريان �سورية ويف املقدمة منهم ا�رسائيل‪ .‬وقد‬ ‫ّ‬ ‫فحل «خطر ا�ستخدام» امتثل النظام ال�سوري «املمانع» لقرار تدمري �سالحه الرادع‬ ‫ا�ستخدام ال�سالح الكيماوي‪.‬‬ ‫�ضد ا�رسائيل‪ ،‬املدججة باال�سلحة الكيماوية ومبئتي ر�أ�س‬ ‫حمل الأد ّلة التي «تثبت اال�ستخدام»‪.‬‬

‫للتحقيق يف الت�أكد من ا�ستخدام ال�سالح الكيماوي يف‬ ‫ثالثة مواقع يف الغوطتني الغربية وال�رشقية‪ ،‬يوم ‪٢١‬‬ ‫�آب‪/‬اوغ�سط�س املا�ضي‪ ،‬بغ�ض النظر عن تعيني م�صدر‬ ‫�إطالق القذائف احلاملة للغازات القاتلة‪.‬‬ ‫يتطرق يف قراره اىل ال�ضحايا‬ ‫ ثم �إن جمل�س االمن مل‬ ‫ّ‬ ‫من مدخل التعوي�ض على �أهلهم مثال‪ ،‬او التخفيف من‬ ‫هدفت بالكيماوي والتي ال تزال‬ ‫م�أ�ساة املناطق التي ا�س ُت‬ ‫ْ‬ ‫ومعر�ضة للق�صف اليومي‬ ‫حما�رصة من اجلي�ش النظامي‬ ‫ّ‬ ‫وهي ت�ضم ع�رشات اجلرحي وحتتاج اىل اب�سط و�سائل‬ ‫البقاء من غذاء وحمروقات‪.‬‬ ‫ من حيث تعيني امل�س�ؤوليات عن ا�ستخدام ال�سالح‬ ‫املحرم دوليا‪ ،‬مل يتخذ جمل�س االمن اي قرار بالتحقيق‬ ‫ّ‬ ‫الكت�شاف امل�س�ؤولني عن �إ�صدار االوام��ر با�ستخدام‬ ‫ال�سالح الكيماوي و�إحالتهم اىل حمكمة اجلزاء الدولية‪،‬‬ ‫مثال‪ ،‬على اعتبار انهم ارتكبوا جرمية مو�صوفة بحق‬ ‫ن�سميها جرمية حرب او جرمية‬ ‫االمن الدويل‪ ،‬حتى ال‬ ‫ّ‬ ‫يف حق االن�سانية‪ .‬كان الإعالم العربي والدويل ملهي ًا‬ ‫يت�ضمن القرار العتيد ا�شارة اىل‬ ‫فيما �إذا كان �سوف‬ ‫ّ‬ ‫البند ال�سابع ام ال‪ ،‬انطم�ست حقيقة �أن العقوبات التي‬ ‫يت�ضمنها البند ال�سابع‪ ،‬يف هذه احلالة‪ ،‬تتع ّلق بعدم تنفيذ‬ ‫قرار تفكيك ال�سالح الكيماوي ولي�س بتنفيذ جمزرة‬ ‫بوا�سطة ال�سالح الكيماوي‪.‬‬ ‫حتمل‬ ‫ مهما يكن‪ ،‬ظل الطرف الرو�سي متم�سك ًا برواية ّ‬ ‫املعار�ضة امل�س ّلحة امل�س�ؤولية عن املجزرة الكيماوية‪ .‬جاءه‬ ‫تتلب�س‬ ‫دعم من م�ست�شارة رئا�سية تدعى بثينة �شعبان‪ّ ،‬‬ ‫لبو�س غوبلز النازي‪ ،‬اخرتعت �أكذوبة مذهبية �سافلة تقول‬ ‫�إن مئات االطفال القتلى بالكيماوي َق َت َلتهم املعار�ضة‬ ‫امل�س ّلحة يف منطقة ال�ساحل‪ ،‬ونقلتهم اىل الغوطتني‪ ،‬مع‬ ‫اال�ستنتاج البديهي ب�أن ال�ضحايا �أطفال علويون ُق َتلوا يف‬ ‫‪7‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫نووي يف اقل تقدير‪ .‬وثمة من ال يزال يهلل ملمانعته وير�سل‬ ‫«مقاومني» للقتل واملوت يف �سورية من اجل احلفاظ عليه!‬ ‫ اما احلجة التي تتحدث عن التعوي�ض عن خ�سارة‬ ‫ال�سالح الكيماوي مبظلة نووية رو�سية‪ ،‬فك�أنها تقول لنا‬ ‫ان ال فرق ُي َ‬ ‫ذكر بني ان يكون ل�سورية قوة ردع ذاتية وبني‬ ‫ان ت�سرتهن حلماية رو�سية وقد باتت‪ ،‬يف عهد بوتني‪،‬‬ ‫التفوق الع�سكري‬ ‫تناف�س الواليات املتحدة يف رعاية‬ ‫ّ‬ ‫واالمني للدولة ال�صهيونية‪.‬‬

‫ما يعني التفريط بذاك اخليار الذي جاء انتخاب ال�شيخ‬ ‫ح�سن روحاين للرئا�سة االيرانية‪ ،‬لريجح كفته‪.‬‬ ‫ لي�ست ثورة ال�شعب ال�سوري وال مطالبه يف احلرية‬ ‫والعدالة قابلة لأن ُتخت َزل بوجود تنظيمات جهادية م�س ّلحة‪.‬‬ ‫ولكن مل يعد باالمكان التغا�ضي عن تنامي دور وجرائم‬ ‫تلك التنظيمات وقد حتولت اىل القرين الرببري التكفريي‬ ‫املت�سترّ بالدين لنظام بربري تكفريي يت�سترّ بالعلمانية‪.‬‬ ‫تكفي اال�شارة اىل ارتكابات الإم��ارات «الداع�شية»‬ ‫و«ال ُن�رصتية» يف ال�شمال ال�رشقي من البالد لكي يكت�شف‬ ‫تعده هذه املجموعات لل�شعب‬ ‫امللأ اي غد م�أ�سوي مظلم ّ‬ ‫وتق�سم قوى‬ ‫ال�سوري‪ .‬فهي تكفِّ ر امل�سلمني قبل �سواهم؛‬ ‫ّ‬ ‫املعار�ضة امل�س ّلحة بتنظيم حرب �أهلية �ضمن احلرب‬ ‫االهلية �ضد كتائب اجلي�ش ال�سوري احلر التي ترف�ض‬ ‫تقدمي الوالء والطاعة المرائها؛ وتفتح جبهة ع�سكرية مع‬ ‫التنظميات الكردية امل�س ّلحة؛ وقد حاولت احتالل �أحد‬ ‫اهم مواقع �سورية الدينية والتاريخية واالثرية يف معلوال‪،‬‬ ‫ودمرت واحرقت كنائ�س يف غري موقع منها الرقّة‪ ،‬وهددت‬ ‫ّ‬ ‫بدق �أعناق من ال يعتنق اال�سالم‪ ،‬ونفذت التهديد ب�شبان‬ ‫رف�ضوا التخلي عن دينهم يف معلوال ذاتها‪ .‬ب�إيجاز‪ ،‬قدمت‬ ‫تلك التنظيمات كل ما من �ش�أنه تعزيز حجة النظام ب�أن‬ ‫القتال الدائر يف �سورية هو �ضد غزوة «�إرهابية»‪ ،‬و�أ�سهمت‬ ‫وت�سهم يف متزيق الن�سيج االجتماعي ال�سوري على ا�سا�س‬ ‫ديني ومذهبي و�إثني‪ ،‬فت�س ّلم بذلك االدار َة االمريكية ما‬ ‫حتتاج �إليه من براهني الختزال االزمة ال�سورية داخليا مبا‬ ‫هي م�س�ألة حماية وتطمني لالقليات‪.‬‬

‫ مهما تكن العوامل املبا�رشة التي دفعت بالرئي�س‬ ‫االمريكي اىل التهديد بال�رضبة الع�سكرية ل�سورية ‪-‬‬ ‫ومنها «اخلط االحمر» وهيبة امريكا ‪ -‬فقد �أوقع نف�سه يف‬ ‫ورطة‪ ،‬خ�صو�صا لعدم تقديره حجم املعار�ضة عند حلفائه‬ ‫ولدى �أو�ساط وا�سعة من الر�أي العام االمريكي واالوروبي‪،‬‬ ‫يحجمها‬ ‫والعاملي‪ ،‬للمغامرة الع�سكرية خ�صو�صا بعد ان اخذ ّ‬ ‫بحيث مل يعد وا�ضحا ما وظيفتها وما اخلطوة التالية بعد‬ ‫اجنازها‪ .‬ومن ح�سن حظه انه جاء من ينت�شله منها‪.‬‬ ‫ غري �أن ادارة ب��اراك اوباما مل تكن متلك خيار ًا‬ ‫ع�سكري ًا يف �سورية‪ ،‬على عك�س متنيات ك�ثرة من‬ ‫املعار�ضني ال�سوريني و�أوهام ان�صار النظام‪ .‬وال كانت‬ ‫تت�صور تغيريا للنظام خارج تر�سيمة تنحي الرئي�س‬ ‫ّ‬ ‫التي اعتمدتها يف م�رص وليبيا وتون�س واليمن‪ .‬ومنذ ان‬ ‫خرجت االزمة الدموية ال�سورية من �إطارها االقليمي‬ ‫(الو�ساطة الرتكية فالقطرية فمبادرة اجلامعة العربية)‬ ‫انحاز املوقف االمريكي اىل امل��ب��ادرة الرو�سية كما‬ ‫جت ّلت يف م�ؤمتر جنيف‪ :‬حوار بني ممثلني عن النظام وعن‬ ‫املعار�ضة؛ ت�شكيل حكومة ائتالفية يتخ ّلى لها الرئي�س‬ ‫اال�سد عن بع�ض �صالحياته؛ و�صوال اىل انتخابات نيابية‬ ‫ورئا�سية قبل متن�صف ‪ .٢٠١٤‬واحتفظ اوباما لنف�سه‬ ‫بحق احلديث عن تنحي اال�سد بني حني و�آخر‪.‬‬ ‫تدخلت يف ّ‬ ‫�شل خيار التدخل الع�سكري عوامل‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫واعتبارات عديدة‪ .‬منها �سيا�سة اوباما الواعدة باالن�سحاب‬ ‫الع�سكري من مواقع التدخل الع�سكرية االمريكية ا�صال‪،‬‬ ‫و�صعوبة ال�رضبة الع�سكرية ا�صال وكلفتها املالية اال�ستثنائية‬ ‫على بلد مثقل بالديون؛ واثر املعار�ضة الرو�سية وال�صينية؛‬ ‫واالهتمام باحلفاظ على «متا�سك اجلي�ش ال�سوري»‪ ،‬خ�صو�صا نتائج اولية‬ ‫لدوره يف حفظ االمن على حدود ا�رسائيل ال�شمالية؛ وعدم ‪� -‬صادر املجتمع الدويل ال�سالح الكيماوي ال�سوري خلطره‬ ‫ و�ضوح البديل لال�سد ونظامه‪ ،‬خ�صو�صا امام ت�شقق اخلارجي اكرث منه الداخلي وامتنع عن البحث والفعل فيما‬ ‫املعار�ضة اخلارجية و�ضعف متثيلها الداخلي‪ ،‬ومنو اجلناح يتع ّلق بخطر ال�سالح الكيماوي والنووي اال�رسائيلي على‬ ‫غريبا �أن يرى هرني �أمن املنطقة واالمن وال�سالم الدوليني‪.‬‬ ‫اجلهادي يف كتائبها امل�سلحة‪ .‬ومل يكن‬ ‫ً‬ ‫جرمت العدالة الدولية ال�سالح الكيماوي و�أعفت‬ ‫كي�سنجر يف ت�رصيح اخري له ان ذهاب اال�سد يعني الفو�ضى‪ .‬‬ ‫ّ‬ ‫وهذه هي حرفيا الر�سالة التي يب ّثها النظام منذ البداية‪ :‬انا او امل ّتهمني با�ستخدامه من التحري واملالحقة واملحاكمة‬ ‫واملحا�سبة والعقاب‪.‬‬ ‫الفو�ضى‪ ،‬والفو�ضي بالتعبري هذا تعني اجلهادييني‪.‬‬ ‫ ويجب االعرتاف ب�أن الكثري من التحليالت والتقديرات اغفل املجتمع الدويل معاجلة �آثار املجزرة وخ�صو�صا‬ ‫حول املوقف االمريكي من الثورة واحلرب يف �سورية �أغفلت التعوي�ض عن �أ�رس ال�ضحايا وانقاذ من تبقى من �سكان‬ ‫خيار ًا �آخر كان يختمر حتى قبل والية باراك الثانية وهو يف املناطق التي ا�ستهدفها ال�سالح الكيماوي وال تزال‬ ‫تغليب احلل ال�سيا�سي التفاو�ضي للنووي االيراين ومل�ستقبل ت�ستهدفها ال�صواريخ البال�ستية والرباميل املتفجرة‬ ‫العالقة مع اجلمهورية اال�سالمية‪ .‬وكان لهذا اخليار دوره يف واحلارقة وح�صار قوات النظام‪.‬‬ ‫جلم التدخل الع�سكري او اي تغيري فعلي للنظام ال�سوري‪ ،‬والتحقيق م�ستمر‪...‬‬

‫ال�سالح الكيماوي ومنع وقوعها يف يد «االرهابيني» يف‬ ‫حال �سقوط النظام‪ .‬ويفيد التذكري �أي�ضا مبا �صدر حول هذا‬ ‫املو�ضوع من مواقف خالل زيارة الرئي�س اوباما اىل ا�رسائيل‪.‬‬ ‫أ�رص نتنياهو على �أن اخلطر الرئي�سي لي�س الكيماوي‬ ‫فقد � ّ‬ ‫ال�سوري وامنا النووي االيراين‪ .‬ويبدو �أن الرئي�س االمريكي‬ ‫�أقنع نتنياهو بابقاء ال�سالح الكيماوي ب�إ�رشاف اال�سد‪ ،‬على ما‬ ‫اعلمنا ت�رصيح علني لوزير الدفاع اال�رسائيلي ايهود باراك‪.‬‬ ‫إمتنعت القوى الغربية عن تقدمي‬ ‫بحجة هذا اخلواف املزدوج �‬ ‫ْ‬ ‫�سالح نوعي اىل املعار�ضة ال�سورية امل�سلحة خ�شية ان تقع‬ ‫هذه �أي�ضا «يف �أيدي اجلماعات االرهابية» ما ّ‬ ‫مكن النظام‬ ‫ي�سجل بع�ض املكا�سب الع�سكرية و�سمح له بالرتاجع‬ ‫من ان ّ‬ ‫واملراوغة يف ما يتع ّلق باحلل ال�سيا�سي وم�ؤمتر جنيف‪.‬‬

‫فزاعتان‬ ‫مل يعرف التاريخ املعا�رص‪ ،‬على ما نعلم‪ ،‬حالة ابت ّز‬ ‫هدد ب�إبادة اجزاء وا�سعة من �شعبه‬ ‫فيها‬ ‫حاكم العامل �إذ َّ‬ ‫ٌ‬ ‫بوا�سطة اال�سلحة الكيماوية‪ .‬ومع ذلك فهذه هي الر�سالة‬ ‫الب�سيطة التي وجهها احلاكم ال�سوري ل�شعبه من خالل الدوافع‬ ‫طاملا ان ال بحث يف املجرم‪ ،‬ال بحث يف الدوافع‪.‬‬ ‫العامل وللعامل من خالل �شعبه‪.‬‬ ‫ فمنذ بداية الثورة �ضده والرئي�س ال�سوري ال�سوري يبقى �س�ؤال حميرّ ال جواب ب�سيط ًا عليه هو ال�سبب‬ ‫عمد انتفا�ضة ال��ذي دفع النظام ال�سوري اىل �رضب الغوطتني بغاز‬ ‫يحاور الغرب ويربط حربه بقاطرة اولوياته‪ّ .‬‬ ‫الكي» بعد ان ف�شلت الرباميل‬ ‫�سلمية من اجل احلرية ملاليني من ال�سوريني‪ ،‬بد�أت باملطالبة ال�سارين‪ .‬هل كان «�آخر‬ ‫ّ‬ ‫املتفجرة و�صواريخ طائرات «امليغ» وال�صواريخ البال�ستية‬ ‫بالغاء قانون ال��ط��وارىء‪ ،‬ب�أنها من �صنع «جمموعات‬ ‫ّ‬ ‫ان اال�سد فقد �أع�صابه ف�أمر‬ ‫ارهابية م�س ّلحة»‪ .‬ف�ألغى قانون الطوارىء وا�ستبدله يف فك الطوق عن دم�شق؟ ام ّ‬ ‫قيادي يف «حزب‬ ‫بقانون «مكافحة االرهاب» قبل ان يعلن انت�ساب تلك بهذا التدبري االنتقامي‪ ،‬على ما �أبلغ‬ ‫ٌ‬ ‫كرر الله» م�س�ؤوال ايرانيا يف مكاملة هاتفية ر�صدتها وك�شفتها‬ ‫املجموعات اىل تنظيم «القاعدة»‪ .‬وت�أكيدا على ذلك‪ّ ،‬‬ ‫اال�سد يف غري منا�سبة ان «�سوريا» تقف يف خندق واحد اال�ستخبارات الأملانية؟ بعبارة اخرى‪َ :‬فق َ​َد احلاكم �أع�صابه‬ ‫ف�رضب �شعبه بغاز االع�صاب! وترى هل ان الق�صف حيلة‬ ‫مع الغرب يف «احلرب الكونية �ضد االرهاب»‪.‬‬ ‫اعتمدت اللقاء التهمة على املعار�ضة امل�سلحة‬ ‫حرك ا�سلحته الكيماوية‪ .‬ر�صدت �إ�ستخباراتية‬ ‫ْ‬ ‫ ثم ما لبث النظام ان ّ‬ ‫االجهزة الغربية نقل عبوات منه من امكنة اىل اخرى‪ .‬على اعتبار انه «ال يعقل» ان يفعلها النظام ع�شية و�صول‬ ‫(ان�شق فيما فريق التحقيق الدويل عن اال�سلحة الكيماوية؟ ام ان احلاكم‬ ‫فخرج ناطق ر�سمي با�سم احلكومة ال�سورية‬ ‫ّ‬ ‫بعد) لي�ؤكد �أن النظام لن ي�ستخدم اال�سلحة الكيماوية �أراد من ق�صف الغوطتني بغاز ال�سارين تذكري املجتمع‬ ‫«حماة ديار» خمازن الكيماوي من‬ ‫�ضد �شعبه‪ .‬وكان ذلك النفي على �سبيل التحذير والتهديد‪ .‬الدويل باحلاجة اىل نظام ُ‬ ‫حتركت ا�سلحته الكيماوية جمدد ًا‪ ،‬و�أعلن عن �سقوط «االرهابيني» ولو على اجلثث املخت ِنقة لـ‪� ١٤٠٠‬ضحية‪،‬‬ ‫ثم ّ‬ ‫�ضحايا بالغازات ال�سامة‪ ،‬فعاد النظام اىل نفي النية يف معظمهم من الن�ساء واالطفال؟ ام تراه‪ ،‬اخريا لي�س �آخرا‪،‬‬ ‫ا�ستخدام الكيماوي بل �شكك يف اقتنائها �أ�صال‪ ،‬على ل�سان كان يطلق �رصخة ا�ستغاثة بوا�سطة الق�صف الكيماوي‬ ‫تو�سال لنجدته ّ‬ ‫بحل ما؟ امل�ؤكد ان الرئي�س الرو�سي �سمع‬ ‫في�صل املقداد‪ ،‬نائب وزير اخلارجية‪.‬‬ ‫ لعب النظام بحذاقة على �إثنتني من «خوافات» الغرب‪� :‬رصخة اال�ستغاثة ف�أجند الرئي�س ال�سوري مببادرته‪.‬‬ ‫خواف االرهاب‪ ،‬وخواف «�أ�سلحة الدمار ال�شامل » وقد هذه ا�سئلة مل يطرحها التحقيق الدويل لأنه طرح جانبا‬ ‫�إن�صهرا كيماويا يف خواف واحد‪ :‬وقوع اال�سلحة الكيماوية البحث يف اجلرمية ومرتكبيها و�ضحاياها والعقاب‪.‬‬ ‫يف يد «االرهابيني»‪ .‬وكانت ال�سلطات اال�رسائيلية ابرز من‬ ‫تلقّف املو�ضوع‪ .‬ون�شطت حينها التح�ضريات والتدريبات يف يف العقاب االنفرادي‬ ‫االردن‪ ،‬ب�إ�رشاف خرباء ع�سكريني وامنيني امريكيني‪� ،‬إ�ستعدادا يف غياب العقاب اجلمعي الدويل‪ ،‬جتدر متابعة الدوافع وراء‬ ‫للتدخل يف النزاع ال�سوري من �أجل ال�سيطرة على خمازن تعليق العقاب االنفرادي‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫‪9‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫‪ 10‬‬ ‫ ‬

‫جتاوز احلدود السياسية أم تثبيهتا؟‬ ‫من حقوق اإلناسن اىل الثورة‬ ‫السياسية يف البحرين‬

‫‪17‬‬ ‫ ‬

‫الناسء و«الربيع العريب»‬ ‫دروس من إيران‬

‫‪28‬‬ ‫ ‬

‫الالح َبل إىل اجلدار‬ ‫من‬ ‫َ‬ ‫قراءة يف الربيع النسوي اليمين‬

‫اآالء ال�شهابي‬ ‫هايده مغيثي‬

‫اأروى عبده عثمان‬

‫‪36‬‬ ‫ ‬

‫أين هي المصلحة العامة‬ ‫يف الثورة التونسية؟‬

‫‪40‬‬ ‫ ‬

‫عراسل بني دولة وأخرى‬ ‫دوماً عىل الهامش‬

‫‪45‬‬ ‫ ‬

‫هشادات من تغريبة أهايل‬ ‫القصري السورية‬

‫ليلى داخلي‬

‫مي�شال عبيد‬

‫‪51‬‬ ‫ ‬

‫«السيدة العربية األوىل»‬ ‫يف الصحافة الغربية‬

‫مي�شون �شكرية‬


‫ على ال�صعيد املحلي‪ ،‬باتت الأحزاب املعار�ضة مثل‬ ‫ميالة �أي�ض ًا �إىل احلديث عن حقوق‬ ‫«جمعية الوفاق» ّ‬ ‫الإن�سان‪ ،‬وقد �أعادت ا�ستجماع تركيزها على حقوق‬ ‫الإن�سان من خالل تكليف عدد من �أع�ضائها البارزين‬ ‫مبهمات يف وا�شنطن وجنيف ولندن ملمار�سة ال�ضغط‬ ‫على م�ستوى دويل من �أجل حتقيق املزيد من املحا�سبة‬ ‫يف جمال حقوق الإن�سان‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ي�شكل انت�شار املنظمات غري احلكومية الرئي�سية‬ ‫ ‬ ‫املحلية ــ العاملية‪ ،‬و�أدبياتها وم�ؤ�س�ساتها الفاعلة‪ ،‬قيمة‬ ‫م�ضافة مهمة للر�أ�سمال امل�ؤ�س�ساتي بني الفاعلني اجلدد‬ ‫يف املجتمع املدين‪ ،‬لي�س يف البحرين وح�سب‪ ،‬بل يف‬ ‫منطقة اخلليج عموماً‪« .‬هيومان رايت�س ووت�ش»‪ ،‬و«منظمة‬ ‫ال»‪ ،‬و«فيزيائيون‬ ‫العفو الدولية»‪ ،‬و«حقوق الإن�سان �أو ً‬ ‫من �أجل حقوق الإن�سان»‪ ،‬هي اجلمعيات الدولية غري‬ ‫احلكومية الأكرث ن�شاط ًا يف مراقبة الو�ضع بالبحرين‪،‬‬ ‫و�إن كان ذلك يح�صل عن ُبعد‪ ،‬على اعتبار �أن دخولهم‬ ‫البالد حمظور ب�شكل روتيني‪.‬‬ ‫ � ّإن التهمي�ش ال�سيا�سي املحلي الهادف �إىل معاقبة‬ ‫نا�شطي املجتمع املدين و�إ�ضعافهم‪� ،‬أ ّدى حالي ًا �إىل خلق‬ ‫منظمات غري حكومية �أقوى و�أف�ضل تنظيم ًا لأنها باتت‬ ‫اليوم م�ستقلة قانوني ًا ومادي ًا و�سيا�سي ًا عن الدولة‪ ،‬بطريقة‬ ‫كانت م�ستحيلة يف ال�سابق‪� .‬سيكون لر�أ�س املال التنظيمي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التحكم املفرو�ضة من‬ ‫املت�شكل خارج احلدود‪ ،‬ولأمناط‬ ‫قبل الدولة‪ ،‬ت�أثري طويل الأمد على �صعيد خلق عنا�رص‬ ‫جديدة للتغيري‪ .‬لقد �أ�صبح �أع�ضاء هذه املنظمات على‬ ‫مفوهني‪ ،‬وباتوا مرتابطني عاملياً ‪،‬‬ ‫ال�صعيد الفردي متحدثني ّ‬ ‫وقد قاموا بتمثيل احلراك يف م�ؤمترات دولية مدنية‪ ،‬بطريقة‬ ‫بات معها ال�سيا�سيون غري معروفني‪.‬‬ ‫حتولت منابر عاملية مثل جمل�س الأمم املتحدة حلقوق‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫الإن�سان �إىل جبهة جديدة يف املعركة الدائرة �ضد الدولة‪.‬‬ ‫يف �أيلول‪�/‬سبتمرب ‪ ،٢٠١٢‬موعد عقد جمل�س حقوق‬ ‫الإن�سان اجتماع ًا ملراجعة حالة البحرين‪� ،‬سافر ما ال‬ ‫يقل عن ‪ ٧٠‬نا�شط ًا معار�ض ًا �إىل جنيف‪ ،‬بينما �أر�سلت‬ ‫ال من املمثلني عنها‪.‬‬ ‫احلكومة البحرينية عدد ًا �أقل �أو مماث ً‬ ‫هكذا‪� ،‬أ�صبحت �أروقة جمل�س حقوق الإن�سان يف الأمم‬ ‫تعج مبئة مراقب بحريني على الأقل يف ذلك اليوم‪.‬‬ ‫املتحدة ّ‬

‫جتاوز احلدود السياسية أم تثبيهتا؟‬

‫من حقوق اإلناسن اىل الثورة السياسية يف البحرين‬ ‫ت�صور احلقوق ال�سيا�سية‬ ‫آالء الهشايب «يف اللحظة التي نحاول فيها‬ ‫ّ‬ ‫للمواطنني مبعزل عن مرجعية عاملية «فوق �سيا�سية»‬ ‫جامعية وكاتبة حلقوق الإن�سان‪ ،‬ف�إننا نفقد ال�سيا�سة نف�سها‪ .‬بكالم‬ ‫نحجم ال�سيا�سة �إىل جمرد لعبة «ما‬ ‫من البحرين‪ .‬أحد �آخر‪ ،‬ف�إننا حينها‬ ‫ّ‬ ‫مؤسيس «حبرين» بعد �سيا�سية» قائمة على التفاو�ض على قاعدة م�صالح‬ ‫(مرصاد البحرين) فردية»‪( .‬جيجيك‪)٢٠٠٥:‬‬ ‫للشفافية وكشف من بني جميع البلدان التي �شهدت انتفا�ضات ثورية تتخذ حقوق الإن�سان �شـــــــــــــــــــــــــــــــــــكل‬ ‫الفاسد‪ .‬هذا المقال منذ عام ‪ ،2011‬ميكن القول �إن � ّأي� ًا منها مل يعرف خطاب �أخالقي متمحور حول الألــــــــــــــــــــــــــــم‬ ‫ورقة حبثية قدمت العبِني �سيا�سيني (من احلكومة �أو من خارجها) يتب ّنون واملعاناة‪،‬بدل �أن تكون خطاب ًا �سيا�ســـــــــــــــــــــــــي ًا‬ ‫يف ندوة باجلامعة �أجندة حقوق الإن�سان وخطابها مب�ستوى العناد نف�سه حول العدالة ال�شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاملة‬ ‫األمريكية يف بريوت الذي �شهدناه يف البحرين‪ .‬ففي مواجهة النهج الأمني‪،‬‬ ‫عن المجتمع المدين والقمع‪ ،‬والطائفية واملزيد من التهمي�ش بحق املواطنني من الطبيعي �أن يكون نا�شطو حقوق الإن�سان م�شغولني‬ ‫يف أيار‪/‬مايو ‪ 2013‬واملجموعات املعار�ضة‪ ،‬جاء الر ّد الغريزي للعديد من بق�ضايا التعذيب والتوقيف غري القانوين والقمع اجل�سدي‬ ‫لل�سمو فوق لالحتجاجات وك�رس �أغالل ال�رشطة‪ ،‬لكن ذلك يح�صل‬ ‫الالعبني ال�سيا�سيني على �شكل حماولة‬ ‫ّ‬ ‫امليدان ال�سيا�سي من �أجل الو�صول �إىل دولة «فوق ب�شكل متزايد على ح�ساب الأغالل االقت�صادية وال�سيا�سية‬ ‫�سيا�سية» من خالل ا�ستخدام خطاب «عاملي» حلقوق امل�ستمرة‪ .‬لقد حان الوقت للت�أمل و�إعادة التفكري والعودة‬ ‫�سماه براون �إىل الق�ضايا ال�سيا�سية واالقت�صادية النعدام امل�ساواة‬ ‫الإن�سان‪ّ � .‬إن �شعبية هذا اخلطاب جزء مما ّ‬ ‫(‪« )٢٠٠٤‬امل�رشوع الأخالقي ــ ال�سيا�سي»‪ّ ،‬‬ ‫مركز ًا والعدالة‪ ،‬التي جعلت من الكرامة واحلرية والعدالة‬ ‫من خالله على حقوق �إن�سان عاملية (ما قبل �سيا�سية) االجتماعية‪ ،‬الأ�سا�س لن�ضال ال�شعوب يف هذا البلد‪.‬‬ ‫ميتلكها كل �إن�سان بدل احلديث عن حقوق �إن�سان حمددة‬ ‫اخللفية‬ ‫للمواطن �أو لع�ضو يف جمموعة �سيا�سية معينة‪.‬‬ ‫ �أحاول يف هذا املقال النقدي تقومي الن�شاط الن�ضايل ن�شهد انت�شار ًا ملنظمات «حقوق �إن�سان» جديدة يف‬ ‫ال�ساعي �إىل تعزيز حقوق الإن�سان يف انتفا�ضات الربيع البحرين‪ .‬توجد حالي ًا ثماين جمعيات غري حكومية جديدة‬ ‫العربي‪ ،‬من خالل اعتماد البحرين حال ًة للدرا�سة‪ .‬معنية بهذا ال�ش�أن‪ ،‬هي «مر�صد البحرين حلقوق الإن�سان»‬ ‫حتول يف �أدوار و«منتدى البحرين حلقوق الإن�سان»‪ ،‬و«�شبكة البحرين‬ ‫�أحاول هنا �إثبات �أ ّنه ح�صل‪� ،‬إىل ّ‬ ‫حد ما‪ّ ،‬‬ ‫كل من نا�شطي حقوق الإن�سان والنا�شطني ال�سيا�سيني حلقوق الإن�سان»‪ ،‬و«املنظمة الأوروبية ــ البحرينية حلقوق‬ ‫يف �أعقاب االنتفا�ضة اجلارية يف البحرين حول حدود الإن�سان»‪ ،‬و«املنظمة البحرينية للت�أهيل ومناه�ضة العنف»‬ ‫يحددها اخلطاب املهيمن حلقوق الإن�سان‪( ،‬براڤو)‪ ،‬و«مركز البحرين حلقوق الإن�سان»‪ ،‬و«مر�صد املنامة‬ ‫اخلالفات التي ّ‬ ‫واملواقف �إزاء �سلطة الدولة‪ .‬و من وحي ال�سجال املثري حلقوق الإن�سان» و«اجلمعية البحرينية حلقوق الإن�سان»‪.‬‬ ‫للجدل بني �إيغناتييف وبراون وجيجيك‪� ،‬أرى � ّأن امل�رشوع‬ ‫الأخالقي ‪ -‬ال�سيا�سي حلقوق الإن�سان �أتى ليتناف�س مع‬ ‫م�شاريع �سيا�سية �أخرى هادفة �إىل حتقيق العدالة‪ ،‬وهو‬ ‫يب ِعد ال�ضحايا عن �أي ذاتية �سيا�سية تعيد �إنتاج دولة‬ ‫القمع ال�سابقة على االنتفا�ضات العربية‪.‬‬

‫‪12‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫الرباغماتية لتجاوز املذهبية‬ ‫�روج مفهوم حقوق الإن�سان ملوقف معياري م�شرتك‬ ‫ي� ّ‬ ‫«جيداً» وغري نزاعي‪ ،‬ولديه كذلك‬ ‫يكون يف الوقت نف�سه ّ‬ ‫‪13‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫القوة على «ت�أمني خطاب احلد الأدنى الذي من �ش�أنه �أن‬ ‫يتيح لأجندات خمتلفة جذري ًا �أن تلتحم فيه» (موين‪:‬‬ ‫‪ّ .)٢٠١٠‬‬ ‫�شكل ذلك قوة توحيدية ملختلف املجموعات‬ ‫البحرينية املعار�ضة‪ .‬و�إن كان احلراك قد اكتفى بالدفاع‬ ‫عن �ضحايا االعتداءات والت�ضامن معهم‪ ،‬مع التم�سك‬ ‫الثوار يف ال�شوارع ونا�شطي‬ ‫بهدف احلد الأدن��ى‪ ،‬ف� ّإن ّ‬ ‫حقوق الإن�سان وال�سيا�سيني كانوا ميلكون �أر�ضية �أ�سا�سية‬ ‫للعمل مع ًا عليها‪ ،‬ولت�سوية خالفاتهم‪.‬‬ ‫ «تتخذ حقوق الإن�سان �شكل خطاب �أخالقي متمحور‬ ‫حول الأمل واملعاناة‪ ،‬بدل �أن تكون خطاب ًا �سيا�سي ًا حول‬ ‫يف�ضل اخلطاب املهيمن‬ ‫العدالة ال�شاملة»‪ .‬ويف‬ ‫املمار�سة‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ي�صور نف�سه على �أنه «معا ٍد لل�سيا�سة»‬ ‫حلقوق الإن�سان �أن‬ ‫ّ‬ ‫(ب��راون‪ )٢٠٠٤ :‬ومدافع عن مبادئ �أخالقية عاملية‬ ‫م�صوغة بطريقة هادفة لنزع ال�رشعية عن االدعاءات‬ ‫«ال�سيا�سية»‪ ،‬كالتربيرات املذهبية التي ت�ستخدمها الدولة‬ ‫النتهاك حقوق مواطنيها مثالً‪.‬‬ ‫ فيما كان اال�ضطهاد املذهبي ي�ستعر يف البحرين‬ ‫بعد تدخل قوات «درع اجلزيرة» بقيادة ال�سعودية يف‬ ‫عام ‪ ،٢٠١٢‬و�إ�صدار الأحكام العرفية (قانون الأمن‬ ‫الوطني)‪ ،‬قُتل ‪ ٣٦‬مواطن ًا يف ال�سجون �أو خالل‬ ‫االحتجاجات‪ ،‬واح ُتجز الآالف و�أٌقيلوا من وظائفهم‪.‬‬ ‫ولقد عمل نا�شطو حقوق الإن�سان بال كلل لف�ضح هذه‬ ‫االنتهاكات ووقف املعاناة‪ ،‬ونالوا تقدير ًا رفيع امل�ستوى‪.‬‬ ‫لقد وجد ه�ؤالء �أنف�سهم يف تلك الو�ضعية‪� ،‬إما نتيجة‬ ‫جتربتهم ال�شخ�صية يف ال�سجون‪� ،‬أو بف�ضل جتربة‬ ‫واحد من �أقاربهم �أو �أ�صدقائهم‪ .‬و�صف البع�ض هذا‬ ‫الدور ب�أنه «عر�ضي»‪ ،‬وهو ما فعله العديد من الأطباء‬ ‫امل�سجونني ممن ُحرموا الحق ًا حقَّهم يف ممار�سة مهنة‬ ‫الطب‪ .‬بالطبع‪� ،‬شعر ه�ؤالء ب� ّأن حقوق الإن�سان وفّرت‬ ‫جمرد «�إنهاء املعاناة»‪،‬‬ ‫قوة‪ .‬لكن متحورها حول‬ ‫لهم ّ‬ ‫ّ‬ ‫يجعل من هذه احلدادنوية والرباغماتية «�إ�شكالية»‪،‬‬ ‫على حد تعبري براون (‪.)٢٠٠٤‬‬ ‫ مل يكن �صدفة �أن ي�ستهدف النظام العديد من‬ ‫ه ��ؤالء النا�شطني اجل��دد‪� ،‬أو ال�شهود على انتهاكات‬ ‫ال�رشطة‪ .‬الأك�ثر �شعبية من بني ه��ؤالء من انخرطوا‬ ‫بن�شاط وب�شكل مبا�رش يف حركة االحتجاج الثوري‪،‬‬ ‫وهم يقبعون يف ال�سجن منذ مطلع االنتفا�ضة يف �آذار‪/‬‬ ‫مار�س ‪ ،٢٠١١‬مثل عبد الهادي خواجة‪ ،‬والدكتور‬ ‫علي عبد الله ح�سن �سنغا�س‪ .‬وقد قام �آخرون يف الفرتة‬ ‫الأخرية بخرق ّ‬ ‫خط �أحمر كان ممنوع ًا االقرتاب منه‪،‬‬


‫مثل نبيل رجب وزينب اخلواجة ويو�سف املحافظة‪ .‬وما‬ ‫يثري املزيد من العجب ر ّد الفعل الدويل ال�ضعيف �إزاء‬ ‫�سجن ه�ؤالء النا�شطني‪ ،‬مقارنة بال�ضجة التي ُتثار حيال‬ ‫اعتقال نا�شطني من ال�صني ورو�سيا‪ .‬عندما ُ�سئ َل ْت وزارة‬ ‫اخلارجية الأمريكية عن موقفها من َ�سجن نبيل رجب‪،‬‬ ‫على �سبيل املثال‪ ،‬قال املتحدث با�سم الوزارة‪ ،‬مايكل‬ ‫بو�سرن � ّإن «الأمر معقد»‪.‬‬ ‫ وحتى لو مل تتمكن حمالت حقوق الإن�سان من منع‬ ‫احلكومة من موا�صلة �سلوكها‪ ،‬ف�إنها بالت�أكيد ع ّززت قوة‬

‫املرجح �أن تبقى‬ ‫من دون «ثورة املنا�رصة»‪ ،‬كان من‬ ‫َّ‬ ‫حمنة الكثري من �ضحايا االنتهاكات غري معروفة داخل‬ ‫البحرين وخارجها‪� .‬سبق يل �أن حتدثت �إىل ع�رشات‬ ‫ال�ضحايا‪ ،‬وتبني يل � ّأن الت�ضامن الذي لقيه �ضحايا‬ ‫االنتهاكات وال�سجناء هو �أداة متكني مهمة يف املعركة‬ ‫النف�سية �ضد النظام‪ .‬ففور توقيف �شخ�ص ما‪ ،‬يجري‬ ‫االت�صال بالنا�شطني املحليني يف جمال حقوق الإن�سان‪،‬‬ ‫ويبد�أ �أف��راد العائلة والأ�صدقاء با�ستخدام و�سائل‬ ‫التوا�صل االجتماعي من �أجل القيام بحمالت هادفة‬ ‫�إىل �إطالق �رساح املعتقلني‪ .‬ويف �إطار تلك احلمالت‪ ،‬يتم‬ ‫ن�رش تفا�صيل التوقيف على الإنرتنت‪ ،‬و�صوره‪ ،‬و ُتطلق‬ ‫عرائ�ض مفتوحة للتوقيع و ُت َّ‬ ‫نظم االحتجاجات‪ .‬هناك‬ ‫املئات من احل�سابات على الإنرتنت املخ�ص�صة لتلك‬ ‫تقدر بثمن يف �إطار‬ ‫احلمالت‪ .‬باتت الإنرتنت �أداة ال َّ‬ ‫ن�رش �أخبار انتهاكات حقوق الإن�سان وتوثيقها‪.‬‬

‫زودت منظمات حقوق‬ ‫ال�ضحايا واملعار�ضة معاً‪ .‬لقد ّ‬ ‫الإن�سان‪ ،‬املتظاهرين وال�شهود على عنف الدولة‪ ،‬بدعم‬ ‫يف مواجهة الع�سف والقمع داخل احلدود وخارجها‪ ،‬ومنذ‬ ‫�سمى «ثورة املنا�رصة»‪ ،‬وهي عبارة‬ ‫ذلك احلني بات ذلك ُي ّ‬ ‫عن بروز �شبكة ملنظمات حقوق �إن�سان غري حكومية‪،‬‬ ‫تطبق ما‬ ‫حملية و�أجنبية‪ ،‬لل�ضغط على احلكومة لكي ّ‬ ‫تب�شرّ به‪ ،‬وهو م�ستقى من املنظمات غري احلكومية‬ ‫التقليدية املحلية يف البحرين‪ ،‬مثل «مركز البحرين‬

‫الدولة تلعب لعبة حقوق الإن�سان‬ ‫�أخذ ًا يف االعتبار �أ ّنه حتى دولة قمعية كالبحرين ميكن �أن‬ ‫ت�ضطر �إىل االنخراط يف االحرتام اللفظي حلقوق الإن�سان‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ف� ّإن بع�ض منظمات حقوق الإن�سان ميكن �أن تقع فري�سة‬ ‫اال�ستغالل وال�سيطرة بطرائق عدة‪ .‬وعلى �سبيل املثال‪ ،‬ف� ّإن‬ ‫خطوة ملك البحرين غري االعتيادية ب�إن�شاء جلنته «امل�ستقلة»‬ ‫�سماها «جلنة‬ ‫للتحقيق حيال انتهاكات حقوق الإن�سان‪ ،‬التي ّ‬ ‫التحقيق البحرينية امل�ستقلة» (‪ ،)BICI‬جديرة بالدرا�سة‪ .‬وقد‬

‫ما يثري العجب ر ّد الفعل الدولـــــــــــــــــــــــــــــــي‬ ‫ال�ضعيف �إزاء �سجن النا�شـــــــــــــــــــــــــــــــــطني‬ ‫البحرينيني‪ ،‬مقارنة بال�ضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــجة‬ ‫التي تُثار حيال اعتقال نا�شـــــــــــــــــــــــــــــــــطني‬ ‫من ال�صني ورو�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيا‬

‫التي قامت بها الدولة منذ ن�رش التقرير ي�شهد على �أق�صى‬ ‫درجات �إنكار امل�س�ؤولية عن االنتهاكات الفا�ضحة حلقوق‬ ‫الإن�سان املوثقة يف التقرير‪ .‬لقد اختار النظام «جلنة التحقيق‬ ‫البحرينية امل�ستقلة» (‪ )BICI‬من �أجل �أن يعيد اكت�ساب‬ ‫امل�رشوعية ال�شعبية واالحرتام الدويل‪ّ � .‬إن الت�شكيك مب�سار‬ ‫عمل «جلنة التحقيق البحرينية امل�ستقلة» (‪ ،)BICI‬و‪�/‬أو دور‬ ‫النظام يف �صياغة تو�صياتها‪ ،‬هو يف الوقت نف�سه ت�شكيك يف‬ ‫م�ساعي النظام �إىل اكت�ساب ال�رشعية وا�ستعادتها‪.‬‬ ‫تنال احلكومة البحرينية ب�شـــــــــــــــــــــــــــــــــكل‬ ‫متوا�صل الإ�شادات من حكومـــــــــــــــــــــــــــــات‬ ‫�أجنبية على خلفية �إقدامهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫على املبادرة «غري امل�سبوقة» ب�إن�شــــــــــــــــــــــــــاء‬ ‫جلنة حتقيق‪ ،‬يف الوقت الذي يجدر فيه �إدانتها على‬ ‫التعذيب النظامي واملنهجي الذي متار�ســـــــــــــــــــه‬ ‫ لقد اخ ُتزلت الذاتيات ال�سيا�سية �إىل جمرد تنازع‬ ‫حول تطبيق تو�صيات تقرير «جلنة التحقيق البحرينية‬ ‫طبقت تقريب ًا‬ ‫امل�ستقلة»‪ّ .‬‬ ‫تدعي احلكومة البحرينية �أنها ّ‬ ‫جميع تو�صيات تقرير اللجنة‪ ،‬يف حني � ّأن منظمات‬ ‫تدعي � ّأن‬ ‫حقوق الإن�سان غري احلكومية واملعار�ضة‪ّ ،‬‬ ‫احلكومة مل تفعل ذلك‪.‬‬ ‫ لقد �أ�صبحت «جلنة التحقيق البحرينية امل�ستقلة»‬ ‫نقطة مرجعية �أو عالمة لـ«الإ�صالح»‪ ،‬لكن بعد �أكرث من‬ ‫عامني على ن�رش تقريرها‪ ،‬تجُ مع جميع امل�صادر امل�ستقلة‬ ‫على � ّأن احلكومة ف�شلت يف �إجناز تغيري‪ ،‬ولو �صغرياً‪،‬‬ ‫يف و�ضعية حقوق الإن�سان‪ .‬كذلك � ّإن ت�أكيد تقرير‬ ‫َ‬ ‫ح�صول انتهاكات يف جمال حقوق الإن�سان‬ ‫اللجنة‬ ‫كان له الأثر ال�ضئيل على منا�رصي النظام الذين نفوا‬ ‫ب�شدة اال ّدعاءات التي تتحدث عن ارتكابهم التعذيب‬ ‫ّ‬ ‫والتجاوزات على حقوق الإن�سان بحق مواطنيهم‬ ‫البنى‬ ‫املعار�ضني‪ .‬غري � ّأن التقرير ف�شل يف ت�سمية قادة ُ‬ ‫امل�س�ؤولة عن هذه التجاوزات‪ ،‬رغم �أن الربوفي�سور‬ ‫�رشيف ب�سيوين‪ ،‬الذي توىل رئا�سة اللجنة‪ ،‬قال يف‬ ‫مقابلة تلت �إعالن التقرير‪ّ � ،‬إن قادة املراتب الثالث العليا‬ ‫يف وزارة الداخلية يجب �أن يخ�ضعوا للمحا�سبة‪.‬‬ ‫تطرق تقرير «جلنة التحقيق البحرينية امل�ستقلة»‬ ‫ كذلك ّ‬ ‫�إىل الدورين الإي��راين وال�سعودي يف البحرين‪ ،‬وهما‬ ‫تكرر احلكومة البحرينية‬ ‫مو�ضوعان �شديدا احل�سا�سية‪ّ .‬‬ ‫با�ستمرار � ّأن �إيران كانت منخرطة يف االحتجاجات‪ ،‬وقد‬

‫فور توقيف �شخ�ص ما‪ ،‬يجري االت�صال بالنا�شــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــطني‬ ‫املحليني يف جمال حقوق الإن�سان‪ ،‬ويبد�أ �أفراد العائلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫والأ�صدقاء با�ستخدام و�سائل التوا�صل االجتماعي للقيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــام‬ ‫بحمالت هادفة �إىل �إطالق �رساح املعتقلني‪ ...‬بــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاتت‬ ‫تقدر بثمن يف �إطار ن�رش �أخبار انتهاكات حقوق الإن�سان وتوثيقهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫الإنرتنت �أداة ال َّ‬ ‫حلقوق الإن�سان» ‪ ،BCHR‬الذي يعمل ب�شكل وثيق مع‬ ‫«منظمة العفو الدولية» و«هيومان رايت�س ووت�ش»‪.‬‬ ‫وبف�ضل «ثورة املنا�رصة» تلك‪ ،‬اكت�سب ال�ضحايا قوة‬ ‫تاريخية غري م�سبوقة لإي�صال ق�ضيتهم �إىل العامل‪ .‬فمن‬ ‫خالل ر�صد االنتهاكات على �صعيد حقوق الإن�سان‪،‬‬ ‫والإ�ضاءة عليها‪ُ ،‬تبقي هذه املنظمات اتفاقيات حقوق‬ ‫الإن�سان التي �سبق للدولة �أن وقّعتها مك�شوفة‪ ،‬وبذلك‬ ‫ت�صبح امل�سافة الفا�صلة بني الوعود والتعهدات من‬ ‫جهة‪ ،‬واملمار�سة احلكومية من جهة ثانية‪ ،‬قابلة للقيا�س‪.‬‬ ‫‪14‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫�أ�صبح ذلك اليوم جزء ًا من «احتفال الدولة بنف�سها»‪ .‬ونالت‬ ‫احلكومة البحرينية الإ�شادات املتوا�صلة من حكومات �أجنبية‬ ‫على خلفية �إقدامها على هذه املبادرة «غري امل�سبوقة»‪ ،‬يف‬ ‫الوقت الذي كان يجدر فيه �إدانتها ب�سبب التعذيب النظامي‬ ‫واملنهجي ال��ذي متار�سه‪ ،‬وح��االت القتل غري القانوين‬ ‫املحددة يف تقرير اللجنة املذكورة‪ .‬على الرغم من �أنه جرى‬ ‫ّ‬ ‫التعاطي مع االحتفال الباذخ لإعالن تقرير اللجنة على �أنه‬ ‫�إ�شهار ملوافقة احلكومة على نتائج التقرير (كيف لها �أن‬ ‫عينتها بنف�سها؟)‪ ،‬ف� ّإن كل املمار�سات‬ ‫ترف�ض تقرير ًا للجنة ّ‬ ‫‪15‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ا�ستخدمت ذلك االتهام لتربير دخول قوات «درع اجلزيرة»‬ ‫�إىل البحرين‪ .‬لكن احلكومة ف�شلت يف تقدمي الدليل على‬ ‫�زود «جلنة التحقيق البحرينية‬ ‫هذا االدع��اء‪ ،‬وهي مل ت� ّ‬ ‫امل�ستقلة» بالأدلة‪ .‬ومن خالل دح�ض اللجنة لهذا االدعاء‪،‬‬ ‫�أ�سهمت يف نزع الطابع الإقليمي عن ال�رصاع يف البحرين‪،‬‬ ‫وذلك عرب رف�ض االدع��اءات التي تتحدث عن انخراط‬ ‫�إيران يف االحتجاجات‪� ،‬أو عن � ّأن «قوات درع اجلزيرة»‬ ‫م�س�ؤولة عن انتهاكات حلقوق الإن�سان‪.‬‬ ‫ ل�سنا هنا يف معر�ض تقدمي قراءة حتليلية نقدية لهذا‬ ‫تتج�سد يف‬ ‫التقرير‪ ،‬لكن يجدر القول � ّإن �أهم �إجنازاته‬ ‫ّ‬ ‫ت�أكيده بالتفا�صيل الدامغة ح�صول انتهاكات حلقوق‬ ‫الإن�سان يف البحرين‪ .‬لكن تو�صيات تقرير اللجنة‬ ‫ظلت بعيدة جد ًا عن الإ�صالح ال�سيا�سي ال�رضوري‪� ،‬أو‬ ‫عن حتديد كيف جتدر حما�سبة امل�س�ؤولني‪ .‬وظلت اخلامتة‬ ‫املفتوحة للتقرير غري مرفقة بربنامج عمل �أو بجدول‬ ‫زمني لتطبيق التو�صيات‪.‬‬ ‫ كانت و�ضعية حقوق الإن�سان يف البحرين مو�ضوع ًا‬ ‫للمراجعة الدورية التي يجريها جمل�س حقوق الإن�سان‬ ‫التابع للأمم املتحدة يف عام ‪ .2012‬لقد حاول النظام‬ ‫حتقيق التوازن الدقيق من خالل �إبقائه على انتهاكاته‬ ‫حلقوق الإن�سان يف م�ستوى مقبول بالن�سبة �إىل املجتمع‬ ‫جدية له‪ ،‬بينما‬ ‫الدويل‪ ،‬من �أجل تفادي �إ�صدار �إدانات ّ‬ ‫حافظ على موا�صلة ممار�سة هذه التجاوزات ب�شكل ّ‬ ‫تظل‬ ‫ال‬ ‫معه درجة عدم القدرة على احتمالها ق�صا�ص ًا فعا ً‬ ‫ورادع ًا لالحتجاج‪ .‬كان ر ّد الدولة قائم ًا على خطاب‬ ‫القوة الفوكودي (ن�سبة �إىل فوكو) مبعنى �أنه ا�ستخدم‬ ‫«جلنة التحقيق البحرينية امل�ستقلة» من �أجل الـتحول‬ ‫�إىل الذاتية بوا�سطة اخلطاب القانوين» (براون ‪)2004‬‬ ‫ويف �إعادة �إنتاج مو�ضوعاتها‪.‬‬ ‫ كذلك ف� ّإن احلكومة �أن�ش�أت وزارة حلقوق الإن�سان‪،‬‬ ‫مبوازاة «امل�ؤ�س�سة الوطنية حلقوق الإن�سان» والعديد من‬ ‫املنظمات احلقوقية املدعومة واملمولة مبا�رشة �أو غري‬ ‫مبا�رشة من احلكومة‪ ،‬رغم ادعائها اال�ستقاللية‪ ،‬مثل‬ ‫«جمعية البحرين ملراقبة حقوق الإن�سان» و«مر�صد‬ ‫البحرين» و«مركز املنامة حلقوق الإن�سان»‪ .‬هكذا‪ ،‬يبقى‬ ‫�أداء احلكومة البحرينية قاطع ًا يف االنخراط مب�س�ألة حقوق‬ ‫الإن�سان‪ ،‬لي�س بروحية «الإعالن العاملي حلقوق الإن�سان»‪،‬‬ ‫لكن لناحية �إلغاء مفاعيل �أجهزة معاهدات حقوق‬ ‫الإن�سان‪ ،‬ولإحباط جهود املنظمات احلقوقية املبتدئة‬ ‫املحلية والأجنبية العاملة يف البحرين‪.‬‬


‫�سيا�سة �أم ال �سيا�سة؟‬ ‫على الرغم من الك�شف عن انتهاكات حقوق الإن�سان‬ ‫وا�ستثمار امل��وارد واجلهد‪ ،‬ف �� ّإن دور املنا�رصة خلطاب‬ ‫ومنظمات حقوق الإن�سان �أ ّدى حتى الآن �إىل الكثري من‬ ‫الكالم و�إىل تغيري ذي معنى يف ال�سيا�سة احلكومية‪ .‬ومن‬ ‫�ش�أن ذلك �أن يثبت النق�ص يف الت�أثري الوقائي الذي متلكه‬ ‫منظمات حقوق الإن�سان يف العامل حيث تعمل‪ ،‬و� ّأن النظام‬ ‫حالي ًا يت�رصف بجر�أة �أكرث من �أي وقت م�ضى‪ ،‬ويوا�صل‬ ‫توقيف نا�شطني رئي�سيني يف جم��ال حقوق الإن�سان‬ ‫ويتحر�ش بهم‪ ،‬مثل نبيل رجب وعبد الهادي اخلواجة‪.‬‬ ‫ ي�س�أل مقدم برنامج ‪� ،Hardtalk‬ستيفن �ساكر‪ ،‬النا�شطة‬ ‫احلقوقية البحرينية مرمي اخلواجة‪« :‬من املهم التمييز بني �أن‬ ‫يكون املرء نا�شط ًا يف جمال حقوق الإن�سان‪ ،‬و�أن يكون‬ ‫ويطرح‬ ‫ثورياً»‪� .‬س�ؤال كما هو وا�ضح هنا‪ ،‬ا�ستفزازي ُ‬ ‫على �سبيل التحدي‪ ،‬ويك�شف عن مفهوم حلقوق الإن�سان‬ ‫ي�صور النا�شطني على �أنهم جمرد جال�سني يف ال�صالونات‬ ‫ّ‬ ‫املريحة مع لوحات ذكية يف �أيديهم لتوثيق االنتهاكات‪.‬‬ ‫وي�ستخدم امل�س�ؤولون البحرينيون منطق ًا مماثالً‪ .‬على‬ ‫�سبيل املثال‪ّ ،‬بررت ال�سلطات توقيف نبيل رجب بدوره‬ ‫ال�سيا�سي يف االحتجاجات‪ .‬وعلى الرغم من �أن ذلك قد‬ ‫يكون ذريعة وا�ضحة‪� ،‬إال �أن الكثريين يعتقدون � ّأن قرار‬ ‫رجب باملوافقة على امل�شاركة يف برنامج جوليان �أ�ساجن‬ ‫التلفزيوين‪ ،‬كان جتاوز ًا لـ«اخلط الأحمر» املمنوع خرقه‪،‬‬ ‫على اعتبار �أنه ا�ستفزاز للواليات املتحدة التي احتملت‬ ‫حتدي رجب للنظام البحريني حتى تلك احلادثة‪ .‬حينها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫�أوقفت الإدارة الأمريكية‪ ،‬احلليف القوي للعائلة احلاكمة‬ ‫يف البحرين‪ ،‬الدعم ال�ضئيل الذي كانت توفّره لرجب‪.‬‬ ‫ويف م�ؤمتر �صحايف‪�ُ ،‬سئلت املتحدثة با�سم البيت الأبي�ض‪:‬‬ ‫«هل تقولون للبحرينيني �إنكم تعتقدون بوجوب الإفراج‬ ‫عن نبيل رج��ب؟»‪ ،‬فما كان من املتحدثة �إال الإجابة‬ ‫بـ«الآن وقد �صدر احلكم‪ ،‬ال �أعتقد ذلك‪ .‬نحن ال نتدخل‬ ‫يف هذه الق�ضية‪ .‬لقد قلنا منذ البداية �إننا نعتقد �أ ّنه ما كان‬ ‫يجدر ال�سري قدم ًا بهذه الق�ضية»‪.‬‬ ‫ كذلك ف� ّإن املعار�ضة البحرينية ان ُتقدت على خلفية‬ ‫ظهورها وك�أنها تناف�س على نيل الدعم الغربي‪ ،‬يف حني‬ ‫�أنه بر�أيي‪ ،‬على حركة الن�ضال من �أجل حقوق الإن�سان‪،‬‬ ‫والتزامها ال�رضوري مع املنظمات غري احلكومية العاملية‪،‬‬ ‫ومقارها‬ ‫وجمل�س حقوق الإن�سان التابع للأمم املتحدة‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫يف العوا�صم الغربية مثل جنيف ونيويورك ومنا�ضليها‬ ‫املحليني‪� ،‬أن تطلب هي‪ ،‬ال املعار�ضة الت�ضامن والدعم‬ ‫‪16‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫من الغرب‪ .‬هذا على النقي�ض من املزاعم املتكررة‬ ‫للنظام‪ ،‬التي تفيد ب� ّأن االنتفا�ضة التي قادها �شباب‬ ‫البحرين مدعومة من �إيران‪.‬‬ ‫ بح�سب املفهوم احلديث حلقوق الإن�سان‪ُ ،‬ينتظر‬ ‫من النا�شط يف جمال حقوق الإن�سان �أن ّ‬ ‫يفك الرتابط‬ ‫بني ال�سيا�سة وخطاباتها‪ ،‬و�أن يتماهى مع الو�ضع الذي‬ ‫يحاول العديد من ال�ضحايا التخل�ص منه‪ ،‬وذلك با�سم‬ ‫«احلياد» و«التوازن»‪ .‬بالتايل‪ّ � ،‬إن اخلوف ينبع مما يح ّذر‬ ‫«موين» منه يف كتابه ‪ ،The Last Utopia‬الذي ُيخت�رص‬ ‫ب� ّأن خطاب حقوق الإن�سان ميكن �أن ُين َزع عنه الطابع‬ ‫فخ الإف��راط يف التب�سيط‪ ،‬لأن‬ ‫ال�سيا�سي �أو يقع يف ّ‬ ‫حقوق الإن�سان م� ّؤطرة بطريقة تبعدها عن �أي م�ساءلة‬ ‫عميقة لل�سيا�سة‪ .‬من خالل التمثيل املتزامن للأ�شخا�ص‬ ‫على اعتبار �أنهم �ضحايا‪ ،‬ومن خالل منا�شدة النظام‬ ‫احلايل‪ ،‬ف�إن بع�ض منظمات حقوق الإن�سان حتقّق له‬ ‫حتمل خطاب‬ ‫ال�رشعية‪ ،‬لذلك ف�إن الدولة تو�صلت �إىل ّ‬ ‫حقوق الإن�سان ومنظماتها‪ ،‬ما دامت ال تطرح م�س�ألة‬ ‫�سلطة الدولة نف�سها‪ .‬من هنا تنبع مفارقة تقارير حقوق‬ ‫ال �إىل‬ ‫الإن�سان‪ .‬بعد كتابة ع�رشات التقارير التي ت�شري مث ً‬ ‫كيفية انتهاك الدولة البحرينية حلقوق الإن�سان‪ ،‬ي�ضع‬ ‫املوجهة �إىل منتهِ ك‬ ‫التقرير جمموعة من «التو�صيات»‬ ‫ّ‬ ‫املتكرر‪،‬‬ ‫حقوق الإن�سان‪ .‬هكذا‪ُ ،‬يطلب من الدولة‪ ،‬اجلاين‬ ‫ّ‬ ‫�أن ت�صلح نف�سها‪ ،‬لتنتقل من منتهِ ك حلقوق الإن�سان �إىل‬ ‫ويتوقع منها �أن تكبح جماح بنيتها اجلرمية‬ ‫حا ٍم لها‪ُ ،‬‬ ‫التي تعتمد على البنية التحتية للتعذيب واالنتهاك‪.‬‬

‫«الدر�س هنا هو � ّأن الأمر املدمر احلقيقي لي�س يف الت�شديد‬ ‫على مطالب «نهائية» نعرف � ّأن من هم يف ال�سلطة ال‬ ‫ي�ستطيعون حتقيقها‪ .‬فهم يعرفون �أننا نعرف ذلك‪ ،‬وت�رصف‬ ‫متطلب مماثل ال ي�شكل �أي م�شكلة ملن هم يف ال�سلطة‪،‬‬ ‫«وهو �أمر عظيم لدرجة �أ ّنه مع مطالبكم الأ�سا�سية تذكروننا‬ ‫بنوع العامل الذي نريد جميعنا �أن نعي�ش فيه‪ .‬ول�سوء احلظ‪،‬‬ ‫نعي�ش يف العامل احلقيقي‪ ،‬حيث يجب علينا �أن ندبر �أمرنا‬ ‫مبا هو ممكن»‪ .‬ما يجب فعله هو على العك�س من ذلك‪� ،‬أي‬ ‫�إمطار من هم يف ال�سلطة مبطالب دقيقة وحمددة ومنتقاة‬ ‫ب�شكل ا�سرتاتيجي‪ ،‬ال ميكن الرد عليها بالعذر نف�سه»‪.‬‬ ‫ يف�ضل براون احلديث عن «م�شاريع للعدالة»‪ ،‬فيما ينتقد‬ ‫جيجك االنتقال من م�س�ألة العدالة �إىل احلقوق‪ ،‬ويعتربها‬ ‫�سمة من �سمات الر�أ�سمالية املت�أخرة التي ت�سحب من عدم‬ ‫امل�ساواة �صفة ال�سيا�سة‪ ،‬وهو �أمر يعزز معظم انتهاكات‬ ‫حقوق الإن�سان حول العامل‪ ،‬وي�ضع الدولة يف رتبة ا َ‬ ‫حل َكم‬ ‫�أمام عدم امل�ساواة تلك‪ ،‬وبو�صفها الطرف الوحيد الذي ميكنه‬ ‫�أن يعيد هذه احلقوق‪ .‬من جهة �أخرى‪ ،‬تتطلب العدالة احلاجة‬ ‫العتماد �إجراءات �سيا�سية جذرية لتحدي الظلم واملخاطر‬ ‫العامليني‪ .‬يعني الن�ضال احلقوقي يف النهاية االنحياز و�أخذ‬ ‫موقف وعدم احلياد‪ ،‬والقدرة على حت�شيد النا�س (كما فعل‬ ‫نبيل رجب) ب�شكل يجرب احلكومة على �إيقاف االنتهاكات‪.‬‬ ‫وبنتيجة ذلك‪ ،‬يجب على الن�ضال احلقوقي الفعال �أن يكون‬ ‫حمايد ًا وم�سي�ساً‪� .‬سجن النا�شطون احلقوقيون على الأر�ض‪،‬‬ ‫الذين حاولوا االبتعاد عن هذا املفهوم النيوليربايل حلقوق‬ ‫الإن�سان‪� ،‬أي نبيل رجب وعبد الهادي خواجة‪ ،‬وذلك لي�س‬

‫�أعداء النظام و�أ�صدقا�ؤه‪ ...‬يف الوقت نف�سه‬ ‫لكن يف ما نتحدث عن ت�سيي�س حقوق الإن�سان يف زمن‬ ‫الثورات‪ ،‬هناك �أي�ض ًا قوة م�ضادة تعرقل ال�سيا�سة داخل‬ ‫حدود دائرة حقوق الإن�سان‪ .‬منذ جلنة التحقيق البحرينية‬ ‫امل�ستقلة‪ ،‬ركزت املعار�ضة ب�شكل غري مق�صود على‬ ‫تطبيق تو�صيات اللجنة اخلا�صة بحقوق الإن�سان كمطلب‬ ‫�أ�سا�سي‪ ،‬فيما ُه ِّم�شت املطالب الأ�سا�سية الأخرى‪ ،‬وهي‬ ‫حكومة متثيلية‪ ،‬الف�ساد‪ ،‬وحتقيق امل�صري‪ .‬ال ميكن متييز ذلك‬ ‫عن موقف احلكومة‪ ،‬حيث التحدي هو تطبيق تو�صيات‬ ‫اللجنة اخلا�صة بحقوق الإن�سان‪ ،‬ولي�س الق�ضايا الوا�سعة‬ ‫اخلا�صة بال�سلطة والقوة‪ .‬حتاجج احلكومة � ّأن التغيري �إ�ضايف‬ ‫ولي�س �أ�سا�سياً‪ ،‬واملعار�ضة امل�سموح بها ا�ست�سلمت لهذه‬ ‫احلجة وللحديث عن الرباغماتية والرغبة بالتو�صل �إىل‬ ‫ت�سوية‪ .‬وفق جيجك‪ ،‬وهو بارع يف حتديد التناق�ضات‪ ،‬ف� ّإن‬

‫املتكرر‪� ،‬أن ت�ص ِلح نف�سها‪ ،‬لتنتقل من منتهِ ك حلقوق الإن�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــان‬ ‫ُيطلب من الدولة‪ ،‬اجلاين‬ ‫ّ‬ ‫ويتوقع منها �أن تكبح جماح ُبنيتهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫�إىل ٍ‬ ‫حام لها‪ُ ،‬‬ ‫اجلرمية التي تعتمد على البنية التحتية للتعذيب واالنتهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاك‬ ‫�صدفة؛ فهو يعود ملقاربتهم الثورية حلقوق الإن�سان‪ ،‬التي‬ ‫اعتربت الدولة � ّأن من ال�رضوري احتواءها‪ .‬امل�س�ألة احلقيقية‬ ‫هنا لي�ست التزام النا�شطني احلقوقيني يف ال�سيا�سة‪ ،‬لكن الرد‬ ‫على الدولة املهددة وحلفائها الذين يربرون التوقيف على‬ ‫قاعدة �أن مطالب حقوق الإن�سان مقبولة ما دامت ال ت�شكل‬ ‫خطر ًا على الدولة نف�سها‪ .‬رغم � ّأن ثورة املنا�رصة متنح‬ ‫الأفراد ال�رشعية‪ ،‬وبالتايل تعزز قوتهم‪ ،‬ف� ّإن النا�شطني‬ ‫احلقوقيني يحتاجون �أن يفهموا كيف � ّأن اللغة احلقوقية‬ ‫نف�سها تفر�ض ح��دود ًا و�رشوط ًا عليهم‪ .‬حني تحُ َ � َّ�ول‬ ‫املطالب ال�سيا�سية �إىل حقوقية‪ ،‬هناك خطر حقيقي ب�أن‬ ‫‪17‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ي�ؤدي ذلك �إىل تعزيز �سيطرة الدولة و�إ�ضعاف النا�س‪،‬‬ ‫وخ�صو�ص ًا حني ت�صبح انتهاكات حقوق الإن�سان «حتت‬ ‫ال�سيطرة» كما يدعي النظام اليوم‪.‬‬ ‫ هنا ن��رى التناق�ض اخل��ا���ص بحقوق الإن�سان‪:‬‬ ‫النا�شطون احلقوقيون هم يف الوقت نف�سه معادون‬ ‫و�أ�صدقاء للنظام‪ .‬يعادونه حني يتهمونه مع حلفائه ب�أ ّنه‬ ‫عما يح�صل وال يقوم مبا يكفي لتغيري الو�ضع‪،‬‬ ‫م�س�ؤول ّ‬ ‫ويحبونه حني يوجهون دعواتهم �إىل الدولة لتح�سني‬ ‫الو�ضع ويعيدون ال�رشعية �إليها‪ .‬يعطي ذلك انطباع ًا ب� ّأن‬ ‫النا�شطني احلقوقيني يعار�ضون احلكومة‪ ،‬لكن مدى هذه‬ ‫املعار�ضة يهم�ش حدود النقا�ش حول الو�ضع ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫حني و�صلت حدود النقا�ش تلك �إىل الدعوة لـ«�إ�سقاط»‬ ‫النظام وم�ساندة احلق بالدعوة �إىل نظام «جمهوري»‪ ،‬يف‬ ‫حالة عبد الهادي مثالً‪� ،‬أ�صبح العداء مربر ًا لل�سجن‪.‬‬ ‫ميكن بالتايل املحاججة ب� ّأن عبد الهادي خواجة ونبيل‬ ‫رجب موجودان يف ال�سجن حتديد ًا لأ ّنهما افرتقا عن‬ ‫التمثيل ال�شائع للنا�شطني احلقوقيني واعتربا «متطرفني»‬ ‫�أو «مت�شددين» لتربير �سجنهما‪.‬‬ ‫ �إذ ًا ميكن تلخي�ص احلالة اخلا�صة يف البحرين بو�صفها‬ ‫بتلك التي فيها ت�سيي�س نا�شطي حقوق الإن�سان‪ ،‬وعدم‬ ‫ت�سيي�س النا�شطني ال�سيا�سيني يف املجموعات املعار�ضة‬ ‫امل�سموح بها‪ .‬على الأر���ض‪ ،‬ت�ؤدي هذه القوة املتناق�ضة‬ ‫�إىل عرقلة الطريقة التي تتعاون من خالها املجموعات‬ ‫وتتناف�س‪ .‬على �سبيل املثال‪ ،‬يعرف اجلميع �أن دعوات نبيل‬ ‫رجب الثورية للتظاهر يف املنامة كانت حمرجة للمجموعات‬

‫املعار�ضة التي اتهمت ب�أ ّنها «تفتقر �إىل ال�شجاعة» حني‬ ‫رف�ضت التجاوب مع الدعوات �إىل التظاهر يف العا�صمة‬ ‫حيث كان نا�شطو حقوق الإن�سان يقومون بذلك‪ .‬يف‬ ‫الوقت نف�سه‪ ،‬ت�ستثمر هذه املجموعات املعار�ضة الكثري من‬ ‫ن�شاطاتها يف حقوق الإن�سان‪ ،‬وهو جمال تعمل فيه منظمات‬ ‫غري حكومية ال متلك الكثري من املوارد‪.‬‬ ‫بغ�ض النظر‪ ،‬ميكن تخطي هذه املناف�سة‪ ،‬ويجب حتقيق ذلك‬ ‫من خالل فهم الأ�سباب وراء هذه الأدوار املتحولة‪ ،‬و�إعادة‬ ‫التفكري با�سرتاتيجيات الطريقة الأمثل لإعادة ت�أكيد امل�سائل‬ ‫ال�سيا�سية املو�ضوعية التي ت�ؤ�س�س حلركة «‪� 14‬شباط»‪.‬‬


‫عدم التوازن الدميوغرايف (االعتماد على العمال الأجانب‪،‬‬ ‫والتجني�س ال�سيا�سي) املواطنية �أي�ضاً‪.‬‬ ‫ ميكن املحاججة ب �� ّأن «احل��ق باملدينة» هو يف قلب‬ ‫ال�سيا�سة‪ّ � .‬إن احتالل دوار الل�ؤل�ؤة كان ت�أكيد ًا لقدرة‬ ‫ال�شعب على تقرير م�صري مدينتهم‪ ،‬وا�ستخدام الف�ضاء‬ ‫العام كما ينا�سب حاجاتهم اليومية والتعبريية‪ .‬يف بحث‬ ‫�آخ��ر‪ ،‬ناق�شت فكرة � ّأن ما يجمع كل هذه العوامل مع‬ ‫بع�ضها البع�ض ب�شكل كارثي‪ ،‬هو «�أزمة ال�سيادة»‪ ،‬و�إذا‬ ‫مل تحُ َ ّل ف�ستعود االنتفا�ضات الدورية كل عقد من الزمن‪.‬‬

‫�إنهاء املعاناة‬ ‫وفق براون (‪� ،)2004‬إذا كانت م�شكلة البحرين اليوم‬ ‫هي معاناة �إن�سانية رهيبة نتيجة عدم وجود حقوق للإن�سان‬ ‫مقابل قوة الدولة التع�سفية‪ ،‬ف� ّإن الن�ضال احلقوقي هو �أف�ضل‬ ‫تكتيك �ضد هذه امل�شكلة‪ .‬لكن �إذا �شُ ِّخ�صت امل�شكلة‬ ‫على �أ ّنها حرمان النا�س املمنهج من حقوقهم من وجهة‬ ‫نظر احلق بتقرير امل�صري ودمقرطة القوة ب�شكل حقيقي‬ ‫والعدالة االقت�صادية يف توزيع الرثوات ب�شكل مت�ساوٍ‪،‬‬ ‫ف� ّإن الغطاء الرباغماتي والأخالقي وغري ال�سيا�سي خلطاب‬ ‫حقوق الإن�سان مييل �إىل جتنب وحتى رف�ض هذه امل�سائل‬ ‫عو�ض مناق�شتها ومعاجلتها‪ .‬بالتايل‪ّ � ،‬إن امل�رشوع ال�سيا�سي اخلامتة‬ ‫يف البحرين يعتمد على ا�ستعادة العدالة لقاء عقود من «� ّإن الن�ضال احلقوقي هو م�رشوع �أخالقي– �سيا�سي‪ ،‬و�إذا‬ ‫احلرمان االقت�صادي‪ ،‬واحلكم امل�ستبد‪ ،‬والظلم ال�سيا�سي‪ ،‬كان يطيح امل�شاريع ال�سيا�سية الأخرى (ومنها تلك التي‬ ‫والف�ساد امل�ؤ�س�ساتي‪ ،‬والتالعب الدميوغرايف‪ ،‬وانتهاكات تهدف �أي�ض ًا �إىل �إحقاق العدل) �أو يتناف�س معها‪� ،‬أو يرف�ضها‪،‬‬ ‫حقوق الإن�سان كلها جمتمعة‪ ،‬وكذلك ق�ضية الأر�ض التي ف� ّإن الأمر يتخطى كونه تكتيكاً‪ ،‬لي�صبح نوع ًا معين ًا من القوة‬ ‫ت�شكل قاعدة �أ�سا�سية للظلم وعدم امل�ساواة االقت�صادية ‪ -‬ال�سيا�سية التي حتمل �صورة خا�صة من العدالة‪� ،‬سي�ضطرنا‬ ‫�إىل ر�ؤيته وتقوميه واحلكم عليه بهذا ال�شكل‪ .‬تتطلب منا هذه‬ ‫االجتماعية‪ .‬تتهاوى هذه الق�ضايا على الهام�ش‪.‬‬ ‫ امل�ضمون الأهم لالنتفا�ضة هو خطط الف�ساد العميقة االعتبارات التخلي عن مفهوم الرباغماتية املينيمالية ومفهوم‬ ‫واملعقدة التي متيز الأنظمة املتهاوية‪ ،‬ومن �ضمنها ممار�سات الأخالق وما ي�أتي معها من �أجل مواجهة �أكرث تعقيد ًا مع قوى‬ ‫اال�ستيالء على الأرا�ضي‪ .‬يف وقت من الأوقات‪ ،‬خالل ال�سياقات ال�سيا�سية واخلطاب ال�سيا�سي مما ميكن عبارات‬ ‫احتالل دوار الل�ؤل�ؤة يف ‪ ،2011‬ف�ضحت جمعية املفهومني ال�سالفي الذكر تقدميه» (براون‪.)2004‬‬ ‫«الوفاق» حقيقة � ّأن رئي�س وزراء البحرين املوجود يف‬ ‫ال�سلطة منذ ‪ 42‬عام ًا ا�شرتى �أر�ض ًا ا�سرتاتيجية يف «احلق باملدينة» هو يف قلب ال�سيا�ســـــــــــــــــــــــــة‪.‬‬ ‫جتمع املحتجون وهم �إنّ احتالل «دوار الل�ؤل�ؤة» كـــــــــــــــــــــــــــــــــــان‬ ‫موقعها مقابل ‪ 3‬دوالرات فقط‪ّ .‬‬ ‫ت�أكيداً لقدرة النـــــــــا�س على تقرير م�صري مدينتهم‪،‬‬ ‫يحملون �أوراق ًا نقدية من فئة دينار واحد احتجاجاً‪.‬‬ ‫ قبل ذلك‪ ،‬ويف �آذار‪ُ ،2010‬ن�رش حتقيق برملاين ح�صل وا�ستخدام الف�ضاء العـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــام‬ ‫على م�ستوى وطني‪ ،‬وجد � ّأن ‪ 65‬كلم مربع ًا من الأرا�ضي كما ينا�سب حاجاتهم اليومية والتعبرييــــــــــــــــــــة‬ ‫التي متلكها الدولة تقدر قيمتها ب�أكرث من ‪ 40‬مليار دوالر‬ ‫انتقلت ملكيتها �إىل القطاع اخلا�ص من ‪ ،2003‬من لقد �أعطت ثورة املنا�رصة‪ ،‬على م�ستوى فردي‪ ،‬القوة‬ ‫دون دفع املبالغ الالزمة خلزينة الدولة‪ ،‬يف ما يعرف ب�أ ّنه للمتظاهرين‪ ،‬وك�رست حاجز اخل��وف من امل�ستبدين‪،‬‬ ‫«ا�ستيالء على � ٍ‬ ‫هم�ش الن�ضال احلقوقي‬ ‫أرا�ض» و«�سلب ملكية ممنهج» (�شي�شال وف�ضحت الظلم اليومي‪ .‬ال يجب �أن ُي ِّ‬ ‫‪ّ � .)2012‬إن اال�ستيالء على الأرا�ضي‪ ،‬من خالل عملية بو�صفه م�رشوع ًا �سيا�سي ًا �أخالقي ًا جماعي ًا قوة ومركزية‬ ‫قدم‬ ‫ردم البحر الذي زاد م�ساحة اجلزيرة بن�سبة ‪� 10‬إىل الق�ضايا الأخرى‪ ،‬و�أهمها الف�ساد وعدم امل�ساواة؛ �إذ ُت َّ‬ ‫‪ 15‬يف املئة‪ ،‬كان �رضوري ًا لإ�شباع نهم احلكومة بتنفيذ م�أ�ساة البحرينيني بو�صفها نق�ص ًا يف احلقوق الأ�سا�سية‪،‬‬ ‫م�شاريع عمالقة تعطي الدولة وجه ًا جديد ًا �رضوري ًا لكنها �أي�ض ًا تتعلق مب�س�ألة الأر�ض وامللكية (البالد مملوكة‬ ‫لت�صبح دولة عاملية‪ .‬لقد بقي ‪ 3‬يف املئة فقط من ال�شاطئ من قبل جزء �صغري من نخبة تت�ألف من �أ�شخا�ص ي�صادرون‬ ‫يف البحرين ملكية للدولة‪ّ � .‬إن ثلث ثروة الدولة على الأرا�ضي) التي هي جزء �أ�سا�سي من هذه امل�أ�ساة‪ .‬ي�ضع‬ ‫الأقل قد ا�ستولت عليه العائلة املالكة مع مرور الوقت‪� .‬شعار احلقوق البحرين على الطريق ال�صحيح‪ ،‬لكن ال ميكنه‬ ‫ب�شكل ن�سبي‪ّ � ،‬إن هذا الإثراء ال�شخ�صي حلكام الدولة وحده طرح ق�ضية امللكية يف القرن احلادي والع�رشين‪ ،‬وهو‬ ‫هم�ش �أمر يتطلب �صيغ ًا خمتلفة من العدالة‪.‬‬ ‫هو الأكرب يف العامل العربي‪ .‬يف الوقت نف�سه‪ ،‬لقد ّ‬ ‫‪18‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫الناسء و«الربيع العريب»‬ ‫دروس من إيران‬

‫هايده مغييث قد تعترب قلة من النا�س التغريات يف الأنظمة يف الدول‬ ‫العربية والدة لنظا ٍم جديد �سيغيرّ �أوجه املجتمعات التي‬ ‫استاذة العلوم و ّلدت الثورات‪ .‬التغريات يف النظام التي �أُ ِ‬ ‫جن َزت من خالل‬ ‫حدد‬ ‫االجتماعية الثورة لي�ست �إال اخلطوة الأوىل يف م�سرية طويلة �س ُت َّ‬ ‫تدخلت‬ ‫والدرااست الناسئية نتيجتها النهائية‪ ،‬من بني عنا�رص �أخرى‪ ،‬و�إذا ّ‬ ‫يف جامعة يورك القوى اخلارجية‪ ،‬من خالل اال�سرتاتيجيات التي جرى‬ ‫بتورونتو‪ ،‬كندا‪ .‬تبنيها خالل الفرتة التي تلت الثورة‪ .‬والأبرز � ّأن النتيجة‬ ‫�ستتبدل ا�ستناد ًا �إىل ما �إذا كانت اجلهود �س ُتبذَ ل يف �سبيل‬ ‫لها مؤلفات وكتابات‬ ‫ّ‬ ‫عديدة عن المرأة ال�سيطرة على مطالب الثوار �أو تغيريها‪ ،‬وما �إذا كانت‬ ‫يف ايران والعالم امل�شاركة ال�سيا�سية من قبل املواطنني تلقى الت�شجيع‪ ،‬تحُ فَّز‬ ‫االسالمي‪� .‬أو تحُ َّظر‪ .‬عادة‪ ،‬ترغب النخب ال�سيا�سية التي ت�ستويل على‬ ‫ال�سلطة عقب الثورة يف تر�سيخ مكانتها وكبح املعار�ضة‬ ‫والتغلب عليها‪ .‬وترغب القوى الدميقراطية التي تتمرد‬ ‫على احلرمان وعدم امل�ساواة والطغيان يف �أن ت�شهد على‬ ‫تنفيذ املطالب الثورية والوفاء بالوعود‪.‬‬ ‫ ن�شهد اليوم هذه الظاهرة يف ما يتعلق باالنتفا�ضات التي‬ ‫عرف جمتمعة بـ«الربيع العربي»‪ .‬وللأ�سف‪ ،‬تو ّلدت ما‬ ‫باتت ُت َ‬ ‫بعد الن�شاط الثوري تغيريات تتناق�ض مع ت�صورات القوى‬ ‫التي ت�سعى �إىل التغيري ومع ُم ُثلها العليا‪ .‬ولعل الأبرز يف‬ ‫التحول ال�رسيع مل�صلحة الأحزاب الإ�سالمية‬ ‫هذا ال�سياق � ّأن‬ ‫ّ‬ ‫الذي حدث عقب هذه االنتفا�ضات‪ ،‬يف م�رص وتون�س على‬ ‫�سبيل املثال‪ ،‬رغم �أ ّنه كان غري متوقّع‪ ،‬يدعو بالفعل �إىل‬ ‫القلق‪ .‬لأ�سباب متعددة‪ ،‬من املتوقع اليوم �إقامة دول �إ�سالمية‬ ‫لكن جتربة �إيران حتديد ًا‬ ‫مكتملة‪ ،‬على الطراز الإي��راين‪ّ .‬‬ ‫حتذّرنا من التحديات اخلطرية التي تنتظر القوى الدميقراطية‪.‬‬ ‫�إيران‪ :‬من ديكتاتورية �إىل �أخرى‬ ‫ال �شك يف � ّأن العواقب االجتماعية وال�سيا�سية لثورة عام‬ ‫‪ 1979‬يف �إيران‪ ،‬يف و�سط �سيا�سي كنت جزء ًا منه‪ ،‬قد‬ ‫‪19‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫�أ ّثرت على نظرتي القامتة‪ .‬فمن جهة‪ ،‬كان من ال�صعب �أال‬ ‫�أت�أثر �إيجاب ًا باالنتفا�ضات ال�شعبية التي اجتاحت املنطقة‬ ‫يف ال�سنوات القليلة املا�ضية‪ .‬لكن من جهة �أخرى‪،‬‬ ‫جعلتني جتاربي ال�سابقة ح��ذرة يف ردود فعلي على‬ ‫الن�شوة الثورية‪ .‬وقد �أخربين �أخري ًا زميل يل‪ ،‬وهو م� ّؤرخ‪،‬‬ ‫� ّأن امل�شكلة مع الباحثني خارج جمال التاريخ تتمثل‬ ‫يف �أ ّنهم ال ميلكون فهم ًا طويل الأمد الجتاه الأحداث‬ ‫ال�سيا�سية احلالية‪ .‬وقد يكون ذلك �صحيحاً‪ .‬لكن ت�أملوا‬ ‫مرة مترد فيها ال�شعب يف الدولة التي و ِلدت‬ ‫فقط كم ّ‬ ‫فيها‪� ،‬أي �إي��ران‪ ،‬على حاكم م�ستبد ليقع الحق ًا حتت‬ ‫�سحر حاكم م�ستبد فا�سد �آخر يخدم م�صاحله الذاتية‪.‬‬ ‫يف القرن الع�رشين وحده‪� ،‬شارك ال�شعب االيراين يف‬ ‫حركات ا�شرتاكية كربى عدة‪ ،‬وطنية و�إقليمية‪ ،‬اجتمعت‬ ‫يف ثورتني تغيرييتني بارزتني ملكافحة الديكتاتورية‪،‬‬ ‫و�أج�برت �أربعة ملوك على الذهاب �إىل املنفى‪ .‬ولعل‬ ‫حتول التطلعات‬ ‫�أكرث مثال يثري ال�صدمة والذهول على ّ‬ ‫واملطالب الثورية‪ ،‬هو ما ظهر طبع ًا بعد ث��ورة عام‬ ‫‪� :1979‬أدت �إطاحة النظام امللكي �إىل �إقامة �سلطة‬ ‫دينية قدمية معادية للمر�أة تلغي احلقوق‪ .‬ترتبت عن تلك‬ ‫النتيجة �أكالف هائلة دفعتها الن�ساء‪ ،‬اللواتي � ّأيدن الثورة‬ ‫باملاليني وب�أ�شكال خمتلفة‪ .‬بالن�سبة �إىل الن�ساء ب�شكلٍ‬ ‫خا�ص‪ ،‬حتولت الثورة ذات املطالب التعبوية املتمثلة يف‬ ‫احلرية والدميقراطية والعدالة االجتماعية‪� ،‬إىل �سجن كبري‬ ‫يف عهد من عينوا �أنف�سهم حرا�س ًا لل�رشيعة‪ .‬والواقع � ّأن‬ ‫ت�أثريات الهزائم املتكررة التي حلقت باحلركات ال�سيا�سية‬ ‫واالجتماعية التقدمية يف �إيران خالل القرن الع�رشين‬ ‫كانت عميقة على الن�ساء الإيرانيات‪ّ � :‬إن �أبرز مطالب‬ ‫النا�شطني يف جمال حقوق امل��ر�أة املدافعني عن «احلق‬ ‫يف التم ّتع باحلقوق»‪� ،‬إذا ما اقتب�سنا مفهوم حنة �آرندت‬


‫املعمق‪ ،‬ما زالت نف�سها تلك التي �أُع ِل َنت للمرة الأوىل يف‬ ‫مطلع القرن الع�رشين وبقيت غري منجزة منذ ذلك احلني‪.‬‬ ‫�أبرز مطالب النا�شطني يف جمــــــــــــــــــــــــــــــــال‬ ‫حقوق املر�أة املدافعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــني‬ ‫عن «احلق يف التم ّتع باحلقوق»‪� ،‬إذا ما اقتب�ســــــــــــــنا‬ ‫مفهوم ح ّنة �آرندت املعمق‪ ،‬ما زالت نف�ســـــــــــــــــها‬ ‫تلك التي �أع ِل َنت للمرة الأوىل يف مطلع القرن الع�رشين‬ ‫وبقيت غري منجزة منذ ذلك احلــــــــــــــــــــــــــــــني‬

‫ل�سن الزواج للفتيات (وهو ‪ 18‬عام ًا‬ ‫�إلغاء احلد الأدنى‬ ‫ّ‬ ‫حالياً)‪ ،‬وثمة تقارير عن م�سودة قانون �سيلغي احلظر على‬ ‫ت�شويه الأع�ضاء التنا�سلية‪ ‬للأنثى (ختان‪ ‬الإناث)‪� .‬سبق‬ ‫وت�شتتت كل الآمال بامل�ساواة بفعل االعتداءات املمنهجة‬ ‫واملتعمدة على الن�ساء‪ ،‬من اختبارات العذرية التي‬ ‫تخ�ضع لها النا�شطات املعتقالت‪� ،‬إىل التحر�ش اجلن�سي‬ ‫باملتظاهرات‪ ،‬ما يهدف �إىل �إذالل الن�ساء و�إخافتهن‬ ‫ودفعهن �إىل اخلروج من ال�شوارع‪.‬‬ ‫ ت�شري الأحداث يف تون�س �إىل التوجه نف�سه‪ .‬حتى الآن‬ ‫�شهدنا‪� :‬إدراج عبارة يف الد�ستور القائم ت�صف املر�أة ب�أنها‬ ‫«مكملة للرجل»‪ ،‬ما يعتربه الكثريون خطوة لتحديد مكانة‬ ‫الن�ساء يف احلياة العامة يف تون�س؛ مناظرات تلفزيونية‬ ‫ب�ش�أن �إعادة عهد تعدد الزوجات �إىل تون�س يف �سبيل‬ ‫معاجلة اختالل التوازن الدميغرايف؛ �سلفيني مت�شددين‬ ‫يهاجمون الفنادق واحل��ان��ات وي�شتبكون مع طالب‬ ‫ليرباليني مييلون �إىل الي�سار يف اجلامعات؛ ورقابة �أخالقية‬ ‫ف�ضال عن ذلك‪ ،‬يبدو ال�رصاع‬ ‫على الأعمال الفنية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫املتزايد بني القوى العلمانية والدينية جلي ًا من خالل‬ ‫االعتداءات العنيفة املتعددة على ال�صحافيني والنا�شطني‬ ‫على �أيدي اجلهاديني الذين ي�ستوحون من ال�سلفية قوة‬ ‫�سيا�سية �صغرية �إمنا قوية يف �شمال �أفريقيا‪ ،‬عازمة على‬ ‫�أ�سلمة املجتمع من جديد‪ .‬كذلك � ّإن االعتداءات على مقر‬ ‫االحتاد‪ ‬العام التون�سي لل�شغل والأحزاب الي�سارية‪ ،‬من‬ ‫قبل من يطلقون على �أنف�سهم ا�سم رابطة حماية الثورة‪،‬‬ ‫�إىل جانب �أعمال �إرهابية �أخرى‪ ،‬بال عقاب حتى الآن‪،‬‬ ‫بلغت ذروتها من خالل �شكري بلعيد‪ُ ،‬تعتبرَ مدعاة للقلق‪.‬‬

‫من جتارب الن�ساء يف �إيران وحذّرتهن من اقرتاف الأخطاء‬ ‫نف�سها‪ .‬وهذا ما فعلته الباحثات اجلزائريات والنا�شطات يف‬ ‫جمال حقوق املر�أة‪ ،‬ومن بينهن مريام هيلي لوكا�س وكرمية‬ ‫بنون وغريهما‪ .‬من بني الأحداث التي ح�صلت يف مطلع‬ ‫القرن الع�رشين يف اجلزائر‪ ،‬عرفن خري معرفة الأعمال‬ ‫الوح�شية التي يقدر املنا�ضلون الإ�سالميون على ارتكابها‬ ‫ال عن ر ّد اجلي�ش الوح�شي‪.‬‬ ‫با�سم العدالة الإ�سالمية‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫فهمنا جيد ًا املعنى اخلفي لت�رصيح الرئي�س حممد مر�سي‬ ‫بعد فوزه يف االنتخابات‪ ،‬ومفاده � ّأن جناح الإخوان امل�سلمني‬ ‫يعبرّ عن االحتالل الثاين مل�رص على يد الإ�سالم‪.‬‬

‫ م ّثلت الثورة الإيرانية وعواقبها جتارب حا�سمة بالن�سبة‬ ‫�إىل املنطقة والعامل‪ .‬لذا‪ ،‬من امللهم �أن ندر�س جتارب القوى تراجع حقوق املر�أة العربية‬ ‫الدميقراطية التي �شنت الثورة‪ ،‬وبخا�صة جتارب الن�ساء التطورات التي ح�صلت يف املنطقة‪ ،‬تدعم حتى الآن‬ ‫النا�شطات �أثناء الثورة‪ ،‬بل و�أكرث من ذلك‪ ،‬بعد الثورة‪ .‬على خماوفنا‪ .‬على �سبيل املثال‪ ،‬فكروا يف �أنه بعد االنتفا�ضات‬ ‫�سبيل املثال‪ ،‬ملاذا وكيف فقدت الن�ساء الإيرانيات بعد تغيري الدامية املدمرة يف ليبيا‪ ،‬كان الت�رصيح «الثوري» الأول‬ ‫النظام عام ‪ ،1979‬ب�سهولة كبرية‪ ،‬املكا�سب القانونية الذي �أدلت به احلكومة االنتقالية‪ ،‬كما �أعلنه م�صطفى‬ ‫املتوا�ضعة وح�صتهن ال�ضئيلة يف موارد البالد االقت�صادية عبد اجلليل‪ ،‬وع��د ًا برفع القيود على تعدد الزوجات‬ ‫واالجتماعية‪ ،‬التي كانت مبثابة مكاف�آت حمدودة عن قرنٍ والتقيد ب�أحكام ال�رشيعة يف امل�سائل القانونية‪ .‬ومن‬ ‫تقريب ًا من الن�ضال يف �سبيل الدميقراطية اجلندرية والعدالة؟ يعلم كيف �سي�أتي رد النخبة التي يف ال�سلطة على حملة‬ ‫ما يقلقني‪ ،‬ول�ست بالت�أكيد الوحيدة التي تتخوف من ذلك‪ ،‬ال�سلفيني الداعية �إىل الف�صل بني اجلن�سني يف جمال‬ ‫هو ما �إذا كان م�صري م�شابه ينتظر الن�ساء يف الدول العربية التعليم وميادين �أخرى يف احلياة العامة‪ .‬ما من حتريف‬ ‫�إثر التغيريات احلديثة يف الأنظمة يف جمتمعاتهن‪ .‬هل �أو ت�شويه للحقيقة ميكن �أن يغري واقع �أ ّنه عندما ت�صبح‬ ‫�سيبقى املجال ال�سيا�سي الذي فتحته االنتفا�ضات ال�شعبية ال�رشيعة �أ�سا�س الت�رشيع يف دولة ذات �أكرثية م�سلمة‪،‬‬ ‫مفتوح ًا �أمام الن�ساء اللواتي يتمتعن بوعي جندري و�أمام ينعدم �أي �أمل يف �أن حتظى الن�ساء مبعاملة عادلة ومن�صفة‬ ‫النا�شطات العلمانيات؟ وهل �ستدعم القوى العلمانية يف ما يتعلق بامل�سائل االجتماعية والقانونية‪.‬‬ ‫الي�سارية والليربالية التي متردت على الأنظمة الديكتاتورية يف م�رص‪� ،‬شدد الد�ستور الذي �صاغه على عجل‬ ‫على �أ�سا�س برنامج الدميقراطية والعدالة االجتماعية �أع�ضاء اجلمعية التي ت�ضم ح�شد ًا كبري ًا من ال�سلفيني‬ ‫واحلقوق‪ ،‬هل �ستدعم الن�ضال يف �سبيل الدميقراطية والإخوان امل�سلمني‪ ،‬ثم جرى الت�صويت عليه يف �إطار‬ ‫كبعد �أ�سا�سي للثورة‪� ،‬أم تنحيه �إىل مكانة ثانوية‪ ،‬ا�ستفتاء �رسيع – �شارك فيه ‪ 32‬يف املئة فقط من الناخبني‬ ‫اجلندرية ُ‬ ‫مع منح الأولوية للمطالب الثورية الأخ��رى �أكرث منه – على «�أحكام ال�رشيعة» باعتبارها �أ�سا�س ًا للت�رشيع‪ .‬ال‬ ‫لهواج�س املواطنات؟ هذه �أ�سئلة مهمة‪ ،‬بخا�ص ٍة يف �ضوء ت�أتي هذه الوثيقة على ذكر حقوق املر�أة �إال يف �إطار العائلة‪،‬‬ ‫احلركات الفا�سدة البارزة يف تون�س وم�رص والهادفة �إىل وت�ستعمل لغة التلميح �إىل حماية كرامتهن و�أخالقياتهن‬ ‫ال عن تقوي�ض حقوقهن املدنية ب�أ�سلوب ي�شبه ب�شكلٍ ملحوظ الد�ستور الإيراين‪ .‬يلوح‬ ‫قمع ن�شاط الن�ساء‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫والقانونية القائمة‪ .‬بالن�سبة �إىل الن�ساء الإيرانيات‪ ،‬ما اخلوف الآن فوق ر�ؤو�س الن�ساء اللواتي ظ ّ‬ ‫هن من‬ ‫نن �أ ّن ّ‬ ‫ال �إىل جانب الرجال يف‬ ‫ن�شهده يف ما يتعلق بتون�س وم�رص م�ألوف �إىل حد خطري‪ .‬خ�لال امل�شاركة نهار ًا ولي ً‬ ‫ال عن‬ ‫قلقنا منذ البداية ب�ش�أن الأو�ضاع امل�ستجدة يف الدول احتجاجات �ساحة التحرير‪ ،‬ك�سنب االحرتام‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫بهن كمواطنات يتمتعن بحقوق م�ساوية حلقوق‬ ‫العربية‪ .‬يف �آذار‪ /‬مار�س ‪ 2012‬عبرّ ت �شريين عبادي‪ ،‬االعرتاف ّ‬ ‫تعرف الرجال‪ .‬والآن تخ�شى الن�ساء تراجع الإ�صالحات التي‬ ‫احلائزة جائزة نوبل لل�سالم لعام ‪ ،2003‬والتي ّ‬ ‫عن نف�سها ب�أ ّنها حمامية م�سلمة تدافع عن حقوق الإن�سان‪ ،‬طاولت قانون الأ�رسة و�أُ ِقّرت يف ‪ 2000‬و‪،2005‬‬ ‫عبرّ ت عن خماوفها عندما دعت الن�ساء العربيات �إىل التعلم �إىل جانب ال�ضغط الذي ميار�سه الإ�سالميون يف �سبيل‬ ‫‪20‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫حقوق املر�أة الإيرانية بعد الثورة‬ ‫بالن�سبة �إىل الكثريين منا الذين عاي�شوا �إقامة النظام‬ ‫الإ�سالمي يف �إي��ران ومتكنوا من البقاء‪ ،‬تعترب هذه‬ ‫الأعمال حمزنة‪ ،‬على الرغم من �أنها لي�ست مفاجئة‪.‬‬ ‫كذلك‪� ،‬شاركت الن�ساء الإيرانيات‪ ،‬من جميع مناحي‬ ‫احلياة‪ ،‬يف ثورة عام ‪ .1979‬والأهم من ذلك‪� ،‬ش ّنت‬ ‫الن�ساء العلمانيات‪ ،‬امل�ؤمنات وغري امل�ؤمنات على حد‬ ‫�سواء‪ ،‬االحتجاجات اجلماهريية الأوىل �ضد مطالبة �آية‬ ‫الله اخلميني بعودة الن�ساء �إىل و�ضع احلجاب يف الأماكن‬ ‫أمر �صدر بعد �أ�سابيع قليلة من انهيار نظام ال�شاه‬ ‫العامة‪ٌ � .‬‬ ‫و�صادف‪ ،‬يا لل�سخرية‪ ،‬ع�شية يوم امل��ر�أة العاملي لعام‬ ‫‪ .1979‬لقد اعتربنا‪ ،‬وكنا على حق يف ذلك‪ ،‬ت�رصيح‬ ‫�آية الله مبثابة �ضوء �أخ�رض �أمام تدابري رجعية �أخرى‪،‬‬ ‫‪21‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫تبعت ذلك بالفعل‪� .‬أف�ضت انتفا�ضة الن�ساء العفوية‪ ،‬غري‬ ‫املدعومة من � ٍّأي من املنظمات والأحزاب الي�سارية �أو‬ ‫الليربالية‪� ،‬إىل جتمعات حا�شدة �أمام مكاتب احلكومة‬ ‫امل�ؤقتة‪ ،‬تبعتها اعت�صامات وتوقف عن العمل يف‬ ‫الوزارات وامل�ست�شفيات والهيئات احلكومية واملدار�س‬ ‫الثانوية املخ�ص�صة للفتيات‪ .‬دامت هذه الن�شاطات‬ ‫�أ�سبوعني‪ ،‬على الرغم من االعتداءات امل�ستمرة على‬ ‫املتظاهرات التي ارتكبها من ي�سمون �أنف�سهم �سفاحي‬ ‫حزب الله‪ .‬مت ت�شكيل الكثري من اجلمعيات واملجموعات‬ ‫الن�سائية يف امل�ؤ�س�سات والوكاالت العامة واخلا�صة‪ ،‬ويف‬ ‫كل جامعة‪� .‬أجربت قوة التحرك الن�سائي �ضد العودة �إىل‬ ‫و�ضع احلجاب تراجع ًا م�ؤقت ًا من جهة الدولة الدينية‪.‬‬ ‫ال وم�ؤقتاً‪ .‬فقد �أ�صبح‬ ‫ بيد � ّأن هذا النجاح كان �ضئي ً‬ ‫احلجاب �إلزامي ًا بعد ب�ضعة �أ�شهر‪ ،‬بعد القمع الدموي للقوى‬ ‫الي�سارية املناه�ضة للحكومة يف اجلامعات‪ ،‬واجتياح النظام‬ ‫لكرد�ستان و�صحراء تركمان‪ ،‬و�أغالق كافة اجلامعات وطرد‬ ‫الأ�ساتذة والطالب الي�ساريني بذريعة «الثورة الثقافية»‬ ‫الإ�سالمية‪� .‬أُق ِف َلت كافة ال�صحف اليومية الليربالية ب�أم ٍر‬ ‫مبا�رش من �آية الله للع�صابات بـ«ك�رس �أقالم ال�صحافيني»‪.‬‬ ‫وتقدم الإ�سالميني‪،‬‬ ‫ تطلب مناخ القمع اجلديد هذا‬ ‫ّ‬ ‫ت�شكيل ائتالف وتعبئة الطبقات الو�سطى �إىل جانب‬ ‫الطبقة العاملة التي �شاركت يف االنتفا�ضة بطرقٍ خمتلفة‪،‬‬ ‫ال بتح�سني حياتهم وو�ضع حد للحكم اال�ستبدادي يف‬ ‫�أم ً‬ ‫�إيران‪ .‬كان املطلوب �أن ن�أخذ على حممل اجلد الإ�شارات‬ ‫التي تنذر بارتفاع موجة اال�ستبداد �ضمن العباءة الدينية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫موحدة على �أو�سع نطاق ممكن �ضد‬ ‫ون�شكل جبهة‬ ‫ّ‬ ‫االعتداءات الفكرية والتنظيمية التي يرتكبها الإ�سالميون‪.‬‬ ‫«لو اجتمع الرجال ذوو العقلية الليربالية والن�ساء اللواتي‬ ‫حتالف‬ ‫يتمتعن بوعي جندري يف خندقٍ واحد‪ ،‬لتحول‬ ‫ٌ‬ ‫�رج �سيا�سي وحلافظ على‬ ‫بني قوى املعار�ضة �إىل خم� ٍ‬ ‫الديناميكية الأوىل النتفا�ضة الن�ساء الإيرانيات دفاع ًا عن‬ ‫حقوق املر�أة واحلريات الفردية‪ ،‬والدميقراطية االجتماعية‬ ‫وال�سيا�سية»‪ .‬مل يغري �أي �شيء حدث منذ ذلك احلني وجهة‬ ‫النظر هذه‪ ،‬ومفادها � ّأن قلة منا يف قيادة االحتاد الوطني‬ ‫للن�ساء يف �إيران جادلت با�ستمرار �ضد املوقف ال�شعبوي‬ ‫لبع�ض الن�ساء اللواتي �أ َّدين دور الو�سيطات بني منظمتنا‬ ‫ومنظمة فدائي‪� ،‬أكرب منظمة ي�سارية يف ذلك الوقت‪ .‬بيد‬ ‫�أ ّنه‪ ،‬وكما هو معروف‪ ،‬مل يت�شكل ائتالف مماثل‪.‬‬ ‫�سهل غياب الدعم الكامل وامل�ساعدة من‬ ‫ يف النهاية‪ّ ،‬‬ ‫قبل جمتمع املثقفني العلمانيني و�صمت الي�سار والتبا�ساته‬


‫النظرية‪� ،‬أو يف �أح�سن الأحوال النقد اخلفيف والواهي‬ ‫لتعديات النظام الإ�سالمي على احلريات الدميقراطية‪،‬‬ ‫وبخا�صة على حقوق امل��ر�أة‪ ،‬امل�سرية التي جعلت من‬ ‫�آية الله اخلميني قائد الثورة املت�شدد الذي ال يردعه‬ ‫رادع‪ .‬ف�أ�صبحت النا�شطات عاجزات يف وجه االجتياح‬ ‫ال�سيا�سي الذي تعر�ضت له �إيران‪ .‬روجت و�سائل الإعالم‬ ‫التي تديرها الدولة � ّأن امللكيني وم�ؤيدي الواليات املتحدة‬ ‫قد ت�سللوا داخل احلركة الن�سائية‪ .‬كذلك‪ ،‬بد�أت �رشيحة‬ ‫كبرية من الي�سار بالتلفظ بخطاب فحواه � ّأن امل�سائل التي‬ ‫تطرحها الن�ساء هام�شية مقارنة ب�أهداف الن�ضال الوطني‬ ‫ومناه�ضة الإمربيالية‪ .‬انخدع الكثريون‪ ،‬وبخا�صة من هم‬ ‫�ضمن الي�سار‪ ،‬بدعم اخلميني ال�ستيالء الطالب امل�سلمني‬ ‫على ال�سفارة الأمريكية‪ ،‬وظنوا � ّأن النظام «مناه�ض‬ ‫للإمربيالية»‪ .‬وقد فاقمت حرب �إيران والعراق الو�ضع‪،‬‬ ‫و�أ�سكتت يف ال�سياق نف�سه الأ�صوات الن�سائية املعار�ضة‬ ‫للأجندة اجلندرية التي يتبناها الإ�سالميون‪ ،‬و�ساعدت يف‬ ‫تراجع املكا�سب القانونية املتوا�ضعة التي حققتها الن�ساء‬ ‫يف ظل نظام ال�شاه كما يف و�ضع قيود جديدة ال ميكن‬ ‫تخيلها على الو�ضع االجتماعي للن�ساء وتنقالتهن‪.‬‬ ‫م�س�ؤولية احلركة الن�سائية الإيرانية‬ ‫مل تكن احلركة الن�سائية مبن�أى عن اللوم يف هذه العملية‪.‬‬ ‫يف البداية‪ ،‬ف�شلنا يف اال�ستماع بدقة �إىل بيانات اخلميني‬ ‫اخلطابية التي تفيد ب� ّأن «الن�ساء والرجال مت�ساوون‬ ‫يف عيني ال��رب»‪ .‬كان معنى ت�رصيحه ب� ّأن «احلكومة‬ ‫اجلديدة �ستمنح الن�ساء كافة احلقوق التي ُحرِمن �إياها‪،‬‬ ‫�ضمن نطاق ال�رشيعة» وا�ضح ًا وجلياً‪ .‬بيد � ّأن �سيطرة‬ ‫امليول ال�شعبوية املناه�ضة للإمربيالية �أو التوقعات‬ ‫غري الواقعية ب�ش�أن الثورة �ضمن �صفوف فئات ال�سكان‬ ‫الإناث الأكرث ن�شاط ًا اللواتي يتمتعن بوعي جندري‪� ،‬أي‬ ‫الن�ساء املدنيات واملثقفات اللواتي ينتمني �إىل الطبقة‬ ‫الو�سطى‪ ،‬منعتنا من حتقيق الوعود الثورية واتباع �أجندة‬ ‫القرون الو�سطى امللفوفة حتت العباءة الوطنية‪.‬‬ ‫ثانياً‪ ،‬اعتربنا حقوقنا القائمة وحرياتنا ال�شخ�صية �أمر ًا‬ ‫م�سلم ًا به‪ .‬مل نقم ب�أي ربط بني جتارب الن�ساء يف حركات‬ ‫مناه�ضة اال�ستعمار يف م�رص واجلزائر وفل�سطني و�أجزاء‬ ‫�أخرى من املنطقة‪ .‬ومل نحاول �أي�ض ًا �أن نتعلم من جتارب‬ ‫الرائدات يف جمال حقوق املر�أة يف دولتنا‪ :‬مت ّثلت مكاف�أتهن‬ ‫مقابل امل�شاركة يف الثورة الد�ستورية التي حدثت يف مطلع‬ ‫حق الت�صويت على الد�ستور‬ ‫القرن الع�رشين يف حرمانهن َّ‬ ‫‪22‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫م�س�ؤولية الفو�ضى يف ال�صعود الإ�سالمي‬ ‫دع��وين �أ�شدد على �أ ّن��ه ال �شيء مما قيل يهدف �إىل‬ ‫الإيحاء ب� ّأن كفاحات ال�شعوب يف الدول العربية يف‬ ‫�سبيل حتقيق العدالة االجتماعية والدميقراطية والعي�ش‬ ‫بكرامة كفاحات خا�رسة �سلف ًا ب�سبب الطابع الإ�سالمي‬ ‫للأنظمة اجلديدة‪� .‬أوالً‪ ،‬كما يعرف اجلميع خري معرفة‪ ،‬ال‬ ‫تنح�رص معاناة ال�شعوب يف املنطقة بالإ�سالم وح�سب‪،‬‬ ‫�أو حتى بارتفاع موجة الأ�سلمة‪ .‬واملق�صود بذلك � ّأن‬ ‫ظاهرة الأ�سلمة املعا�رصة لي�ست ال�سبب‪ ،‬بل هي نتيجة‬ ‫طبقة‬ ‫جمموعة �سيا�سات مفرو�ضة على املنطقة ُ‬ ‫وم ّ‬ ‫طوع ًا من قبل طغاة حمليني فا�سدين‪� .‬أ ّدت عقود من‬ ‫ال�سيا�سة االقت�صادية النيوليربالية وتقاع�س الدولة عن‬ ‫تقدمي خدمات الرعاية‪ ،‬واخل�صخ�صة‪ ،‬وتقا�سم الأموال‬ ‫العامة وتوزيعها على املتحالفني مع الأنظمة‪� ،‬إىل �إثراء‬ ‫�أقلية �صغرية مع ال�ضغط على باقي ال�شعب‪ ،‬و�إغ�ضاب‬ ‫و�إحباط �أكرثية الطبقة العاملة الفقرية يف �آن واحد‪ .‬كان‬ ‫الف�ساد احلكومي‪ ،‬والتفاوت الهائل يف املداخيل‪ ،‬والفقر‬ ‫والبطالة‪ ،‬وقمع احلريات ال�سيا�سية وحرية التعبري‬ ‫واملناق�شات املفتوحة‪ ،‬واحتواء البدائل الدميقراطية‪ ،‬مع‬ ‫بع�ض التفاوتات‪ ،‬النمط امل�ألوف يف كل مكان‪.‬‬ ‫ كذلك � ّإن اال�ستياء العام حيال القوى الغربية‬ ‫ب�سبب �سعيها وراء م�صاحلها االقت�صادية واجلغرافية‬ ‫وال�سيا�سية‪� ،‬إىل جانب مغامراتها الع�سكرية ومعايريها‬ ‫املزدوجة‪ ،‬وبخا�ص ٍة يف ما يتعلق بالعالقات الإ�رسائيلية‪/‬‬ ‫�شوهت‬ ‫الفل�سطينية قد زادت جميعها من �سخط ال�شعب‪ّ .‬‬ ‫هذه الظروف كلها مفاهيم الدميقراطية الغربية وحقوق‬ ‫الإن�سان وجعلتها مو�ضع �سخرية‪ ،‬و�ساعدت الإ�سالميني‬ ‫يف الظهور كمدافعني عن الكرامة الوطنية والعدالة‪� .‬أدت‬ ‫�سبب �إ�ضعاف هذه ال�رشيحة‬ ‫عقود من قمع الي�سار‪ ،‬ما ّ‬ ‫من املعار�ضة و�إمكانات التعبئة لديها‪� ،‬إىل جعل امل�ساجد‬ ‫و�ضع �ساعد على منو‬ ‫املكان الوحيد لتعبئة ال�سخط‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫الأحزاب الإ�سالمية ويف تنظيمها مل�ؤيديها‪ّ � .‬أكدت نتائج‬ ‫االنتخابات التي �أجريت بعد االنتفا�ضات على ما هو‬ ‫وا�ضح؛ �أي � ّأن الي�سار والقوى امل�ستقلة ما كانا يتمتعان‬ ‫بالفر�ص نف�سها على �صعيد التنظيم وال ي�ستطيعان‬ ‫التناف�س بفاعلية مع الأحزاب اال�سالمية‪.‬‬ ‫ منا اخلمينيون يف �إيران‪ ،‬والإخوان امل�سلمون يف م�رص‪،‬‬ ‫وجبهة الإنقاذ الإ�سالمية يف اجلزائر‪ ،‬وحزب العدالة‬ ‫والتنمية يف املغرب‪ ،‬وفروع �أخرى كثرية من الإ�سالم‪،‬‬ ‫وازدهرت كنتيجة لهذه الفو�ضى االقت�صادية وال�سيا�سية‪.‬‬

‫الأول للبالد �إىل جانب الأوالد واملجانني واملجرمني‪ .‬كذلك‪،‬‬ ‫نقدر النقا�شات وال�رصاعات‬ ‫مل نكن ندرك‪� ،‬أو مل نكن ّ‬ ‫املحتدمة التي كانت جزء ًا ال يتجز�أ من عملية الفوز مبكا�سب‬ ‫دنيا للن�ساء يف ما يتعلق بقوانني الأحوال ال�شخ�صية خالل‬ ‫�ستينيات و�سبعينيات القرن املا�ضي‪ .‬والأ�سو�أ من ذلك‪،‬‬ ‫اختارت �رشيحة كبرية من املعار�ضة �إما �أن ت�صمت �أو �أن‬ ‫تن�ضم �إىل النظام يف خطابه العدواين املناه�ض للإ�صالحات‬ ‫االجتماعية والقانونية للنظام ال�سابق‪ ،‬باعتبارها ناجتة من‬ ‫ت�أثري الغرب املُ ِ‬ ‫ف�سد‪ .‬غاب عن بالهم � ّأن الهدف والنتيجة‬ ‫النهائية لهذه الربوباغاندا كان ت�شويه �سمعة النا�شطات يف‬ ‫الدفاع عن حقوق املر�أة ومطالبها‪.‬‬ ‫الت�صور الأحادي اجلانب اليوم يف‬ ‫ يرتدد �صدى هذا‬ ‫ّ‬ ‫م�رص‪ .‬فكما �أ�شارت هدى ال�سادات‪ ،‬النا�شطة يف الدفاع‬ ‫عن حقوق املر�أة يف حديث لها مع دينيز كانديوتي‪ ،‬يتمثل‬ ‫�أحد العوائق الأ�سا�سية التي تواجهها النا�شطات املعنيات‬ ‫بحقوق املر�أة يف م�رص يف‪:‬‬ ‫ ت�صور عام م�سيطر يربط الن�شاطات املعنيات بحقوق‬ ‫امل��ر�أة ون�شاطاتهن ب�سيدة م�رص الأوىل �سابق ًا �سوزان‬ ‫مبارك واملحيطني بها‪� ،‬أي ب�سيا�سات النظام الفا�سدة‪� .‬سبق‬ ‫وخ�ضع هذا الت�صور العام للتالعب ال�سيا�سي يف �سبيل‬ ‫�إلغاء القوانني والإجراءات الت�رشيعية التي مت متريرها يف‬ ‫ال�سنوات الع�رش املا�ضية بغية حت�سني الو�ضع القانوين‬ ‫للن�ساء‪ ،‬بخا�صة يف �إطار قوانني الأحوال ال�شخ�صية‪.‬‬ ‫ يف �إي��ران‪ ،‬ترافق القمع الهائل واملنهجي للحركة‬ ‫الن�سائية مع تفكيك الإ�صالحات القانونية املحدودة التي‬ ‫�أجنزت خالل العقود املا�ضية باعتبارها �إمالءات �صادرة‬ ‫عن الأجانب وغري الإ�سالميني وال ت�ستفيد منها �إال الن�ساء‬ ‫من الطبقة العليا والطبقة الو�سطى العليا‪ .‬من هنا‪ ،‬بعد‬ ‫ثالثة �أ�سابيع فقط من الثورة‪� ،‬أُلغي قانون حماية الأ�رسة‬ ‫تبوء املراكز الق�ضائية‪ .‬تبع ذلك‬ ‫القائم‪ُ ،‬‬ ‫ومنعت الن�ساء من ّ‬ ‫تدابري �صارمة �أخرى �أعادت �إىل الن�ساء و�ضعهن ك�شبه‬ ‫مواطنات يف القوانني املدنية واجلزائية التي ت�ستند �إىل‬ ‫ٍ‬ ‫عندئذ بالتحديد‪ ،‬عرفت الن�ساء وما ميكن ت�سميته‬ ‫ال�رشيعة‪.‬‬ ‫الأقليات‪ ،‬الأهمية اال�سرتاتيجية للتغريات الأيديولوجية‬ ‫قيد حقوق‬ ‫وت�أثريها يف النظام ال�سيا�سي وقيادته‪ ،‬وكيف ُت َّ‬ ‫املر�أة ب�إحكام عند طرح �إ�صالحات قانونية واجتماعية‬ ‫ٍ‬ ‫عندئذ بالتحديد‪،‬‬ ‫مالئمة من قبل نظا ٍم م�ستبد غري �شعبي‪.‬‬ ‫�سيقدرون عمق اخل�سائر �أو املكا�سب بالن�سبة �إىل الن�ساء‪،‬‬ ‫نتيجة التغيريات يف القوى ال�سيا�سية‪ ،‬وذلك على �صعيد‬ ‫احلماية القانونية والو�صول �إىل املوارد‪.‬‬ ‫‪23‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫إح�سا�سها‬ ‫و�سلبها �‬ ‫و�أدى حرمان ال�شعوب الرتبي َة ال�سيا�سية‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫بالكرامة‪ ،‬الأمن االقت�صادي والأمل‪� ،‬إىل جعلها �سهلة‬ ‫الت�أثر واالنقياد ومتلقفة لفكرة � ّأن الإ�سالم هو الرد الوحيد‬ ‫القابل للتطبيق واملنا�سب ثقافي ًا على الظلم االجتماعي‬ ‫قدم الوظائف واخلدمات الطبية‬ ‫والب�ؤ�س‪ ،‬وبخا�ص ٍة عندما ُت َّ‬ ‫وغريها من خدمات الرعاية االجتماعية باعتبارها م�ساعدة‬ ‫خفية من الله‪ ،‬وطبع ًا مع تدفق الدوالرات من قوى �إقليمية‬ ‫ّ‬ ‫غنية بالنفط‪ .‬كذلك‪ ،‬ثمة جي�ش من الطبقة الدنيا م�ستعد‬ ‫لتنفيذ �أوامر �أخالقية ودينية مبتدعة ّ‬ ‫تركز على التحكم‬ ‫باحلياة اجلن�سية للمر�أة و�سلوكها الأخالقي‪.‬‬ ‫ فلنفرت�ض ك�أمر ُم�س َّلم به � ّأن الإ�سالميني ال ي�شكلون‬ ‫كتلة غري متمايزة‪ .‬ال �شك يف � ّأن اخلالفات موجودة بني‬ ‫الإخوان امل�سلمني يف م�رص وحزب النه�ضة وبني جمرمي‬ ‫تنظيم القاعدة‪ /‬حركة طالبان يف �أفغان�ستان‪ ،‬و�أن�صار‬ ‫ال�رشيعة يف تون�س‪ ،‬وع�سكر الإ�سالم يف �سوات يف �شمال‬ ‫باك�ستان �أو ع�صابات �أن�صار الدين املتهورة يف مايل‪ .‬بيد‬ ‫�أ ّنه عندما يتعلق الأمر مب�سائل عائلية‪ ،‬والن�ساء واحلياة‬ ‫تركيز الإ�سالميني على الأج�ســــــــــــــــــــــــــــــاد‪،‬‬ ‫وطهارة الن�ساء و�رشفهن يعني �أنّهــــــــــــــــــــــــــم‬ ‫�سيقفلون بعنف كافة امل�ساحات العامـــــــــــــــــــــــة‬ ‫يف وجه النا�شطات العلمانيـــــــــــــــــــــــــــــــــات‬ ‫املعنيات بحقوق املر�أة‪ ،‬و�سيحاولون يف �أح�ســــــــــــن‬ ‫الأحوال ال�سيطرة عليهن �ضمن حدود ال�رشيعة بالتايل‪،‬‬ ‫�أينما كان ترتافق املكا�سب ال�ســـــــــــــــــــــــــيا�سية‬ ‫التي يحققها الإ�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالميون‬ ‫مع خ�سائر تتكبدها الن�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء‬ ‫غني‬ ‫اجلن�سية‪ ،‬تختلف درجة اخلالفات بني هذه املجموعات‪ٌّ .‬‬ ‫عن القول � ّأن قوة �سلطة هذه املجموعات االيديولوجية‬ ‫وال�سيا�سية تحُ َّدد بح�سب م�ستوى التقدم االقت�صادي‬ ‫واالجتماعي يف املجتمعات التي تن�شط فيها‪ ،‬وقوة‬ ‫القوى التي تكافح الهيمنة‪ .‬غري � ّأن تركيز الإ�سالميني‬ ‫على الأج�ساد‪ ،‬وطهارة الن�ساء و�رشفهن بح�سب التعريف‬ ‫الذكوري لهما‪ ،‬يعني �أ ّنهم ‪� -‬إذا ما ح�صلوا على فر�صة ‪-‬‬ ‫�سيقفلون بعنف كافة امل�ساحات العامة يف وجه النا�شطات‬ ‫العلمانيات املعنيات بحقوق امل��ر�أة‪ ،‬و�سيحاولون ـ يف‬ ‫�أح�سن الأحوال ‪ -‬ال�سيطرة عليهن �ضمن حدود ال�رشيعة‪.‬‬ ‫بالتايل‪� ،‬أينما كان ترتافق املكا�سب ال�سيا�سية التي‬ ‫يحققها الإ�سالميون مع خ�سائر تتكبدها الن�ساء‪.‬‬



‫ لهذا ال�سبب‪ ،‬من غري املجدي ت�ضخيم اخلالفات بني‬ ‫الإ�سالميني‪ ،‬والأ�سو�أ من ذلك‪ ،‬جتاهل واقع �أ ّنه مع ازدياد‬ ‫ت�أثري الأ�سلمة منذ منت�صف �سبعينيات القرن املا�ضي‪،‬‬ ‫تغيرّ الطابع اجلندري للممار�سات املرتبطة بالعالقة بني‬ ‫ال عن ذلك‪ ،‬تعترب االيديولوجيات‬ ‫الدولة واملجتمع‪ .‬ف�ض ً‬ ‫وامل�ؤ�س�سات البطريركية والنيو بطريركية يف املنطقة‬ ‫� ّأن مهمتها التي �أعلنتها ب�شغف كبري تتمثل يف �إعادة‬ ‫�إر�ساء العقيدة والتعاليم الدينية املحافظة املرتبطة بو�ضع‬ ‫املر�أة‪ .‬والواقع � ّأن ازدراء ذكاء املر�أة وا�ستقرارها العاطفي‬ ‫متيز الأوام��ر الدينية والنظام‬ ‫والأخالقي عالم ٌة فارقة ّ‬ ‫الأخالقي الذي تتبعه �أنواع خمتلفة من الأ�صولية‪.‬‬ ‫ بالتايل‪� ،‬سيكون من امل�ضلل القول‪ ،‬كما يفعل‬ ‫البع�ض‪ّ � ،‬إن الأح��زاب اال�سالمية يف م�رص‪ ،‬وتون�س‬ ‫و�أماكن �أخرى ت�شبه متام ًا الدميقراطيني امل�سيحيني يف‬ ‫�أملانيا �أو ال�سويد‪� .‬أو القول � ّإن «الإ�سالميني اليوم لي�سوا‬ ‫هم �أنف�سهم �إ�سالميي عام ‪ ،1979‬و�إ ّنهم ال ي�ستبعدون‬ ‫�أح���داً‪ ،‬يحرتمون ال��ت��داول الدميقراطي‪ ،‬وه��م مرنون‬ ‫يف تف�سريهم لل�رشيعة»‪ .‬من امل�ؤكد � ّأن مقيا�س هذا‬ ‫االعتدال الذي يح�سدون عليه‪ ،‬وهذا النوع الدميقراطي‬ ‫من الإ�سالم‪ ،‬هو ما �إذا كان حزب �أو نظام �إ�سالمي ما‬ ‫معادي ًا للغرب‪ .‬فالإخوان امل�سلمون يف م�رص‪ ،‬على �سبيل‬ ‫ال مرتفع ًا على هذا ال�صعيد‪ ،‬وتقوميهم‬ ‫املثال‪� ،‬سجلوا معد ً‬ ‫جنى ثمار و�ساطتهم بني الواليات املتحدة‪� /‬إ�رسائيل‬ ‫وحركة حما�س خالل اجلولة الأخرية من االعتداءات‬ ‫الإ�رسائيلية على غزة عام ‪.2012‬‬ ‫م�س�ؤولية الغرب والي�سار‬ ‫ينبغي �ألاّ يفاجئنا التعتيم املتعمد على الأجندة التي يتبعها‬ ‫الإ�سالميون ب�إ�رصار‪� ،‬أجندة �إعادة �صياغة احلقوق و�إعادة‬ ‫ر�سم حياة املواطنات‪ ،‬على الرغم من � ّأن الدفاع عن حقوق‬ ‫املر�أة كان الذريعة الجتياح �أفغان�ستان والعراق‪ .‬من ال يعرف‬ ‫� ّأن قمع الن�ساء امل�سلمات على �أيدي الرجال امل�سلمني كان‬ ‫�أداة �شيطانية لتربير املغامرات الع�سكرية يف املنطقة؟ رغم‬ ‫ذلك‪ ،‬من املذهل � ّأن احلكومتني الأمريكية والربيطانية تعمالن‬ ‫الآن بكامل قواهما على الرتويج لـ«الإ�سالم املعتدل» يف‬ ‫املنطقة‪� ،‬آملتني ال�سيطرة على موجة املقاومة املرتفعة‬ ‫املناه�ضة ل�سيا�ساتهما االقت�صادية اال�ستعمارية اجلديدة‬ ‫والنيوليربالية يف املنطقة‪ .‬هما ت�ستمران يف اتباع ا�سرتاتيجية‬ ‫احلرب الباردة التي تق�ضي بتو�صيف الي�سار العلماين والقوى‬ ‫الوطنية يف املنطقة ب�أ ّنهما عدوان‪ ،‬وال�سعودية والوهابيني‬ ‫‪26‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫�إىل َمن �سيميل ميزان القوى يف املنطقة؟‬ ‫تقدم‪ ،‬ال �أعتقد � ّأن �أحد ًا ي�ستطيع‬ ‫على الرغم من كل ما ّ‬ ‫�أن يتوقّع حق ًا املنحى الذي �ست�ؤول �إليه االنتفا�ضات‬ ‫العربية يف امل�ستقبل القريب‪ .‬الآن‪ ،‬تواجه املجتمعات‬ ‫التي �شهدت انتفا�ضات ثورية خالل ال�سنوات القليلة‬ ‫املا�ضية نظام ًا جديد ًا مل تتو�ضح بعد معامله وتعقيداته‬ ‫ال طبعاً‪،‬‬ ‫وتناق�ضاته‪ُ .‬يحتمل‪ ،‬وعلى املرء �أن يبقى متفائ ً‬ ‫�أن ُتن ِتج الثورات غري املنتهية يف املنطقة نتائج مواتية‬ ‫�أكرث مل�صلحة القوى الدميقراطية التي �أ�شعلت فتيل هذه‬ ‫االنتفا�ضات‪ .‬ب�رصف النظر عن وجود جمتمعات مدنية‬ ‫ناب�ضة باحلياة ترف�ض التوقف عن ممار�سة ن�شاطاتها‪،‬‬ ‫قد ت�ؤثر بع�ض الفوارق بني الثورات يف �إيران مقارنة‬ ‫بالثورات يف تون�س وم�رص ب�شكلٍ �إيجابي على جمرى‬ ‫الأحداث وتعك�س موجة اال�ستبداد الإ�سالمي‪.‬‬ ‫ بداية‪� ،‬أُجهِ َ�ضت الثورات يف الدول العربية التي‬ ‫جنحت يف حتقيق تغيري يف النظام من خالل ن�صيحة‬ ‫القوى الأجنبية وم�ساعدتها الفعالة‪َ .‬ه َد َف خروج بن‬ ‫علي ومبارك املبكر �إىل احل�ؤول دون االنهيار التام للنظام‬ ‫ب�أكمله‪ ،‬وعدم امل�سا�س باجلي�ش والقوى الأمنية‪ ،‬بخالف ما‬ ‫ح�صل يف �إيران‪ .‬جنح الإخوان امل�سلمون وحزب النه�ضة‬ ‫يف الفوز باالنتخابات‪ ،‬وهما الآن ي�سيطران على الربملان‪،‬‬ ‫ويف حالة م�رص‪ ،‬الرئا�سة �أي�ضاً‪ .‬ولكن مبا � ّأن النظام كله‬ ‫ينه ْر‪ ،‬مل يتمكنا من ال�سيطرة على القوات امل�سلحة‬ ‫مل َ‬ ‫واكتفيا ب�إبرام ال�صفقات على الرغم من � ّأن الت�رصيحات‬ ‫احلديثة لوزير الدفاع اجلرنال ال�سي�سي التي تفيد ب� ّأن‬ ‫«اجلي�ش لن يقف مكتوف اليدين فيما ت�صل الدولة �إىل‬ ‫نقطة الالعودة على طريق احلرب الأهلية»‪ ،‬جتعل املرء‬ ‫يت�ساءل كم من الوقت بعد �س ُتحترَ َ م هذه ال�صفقات‪.‬‬ ‫املعار�ضة امل�رصية نا�شطة جداً‪ ،‬ولديها بع�ض النفوذ‬ ‫كما يتبينّ ‪ ،‬من بني �أ�شياء �أخرى‪ ،‬من خالل �إلغاء املر�سوم‬ ‫الرئا�سي لالنتخابات النيابية من قبل املحكمة الإدارية‬ ‫يف م�رص يف �شهر ني�سان‪� /‬أبريل‪ .‬مل تكن هذه احلال‬ ‫يف �إيران حيث غادر البالد �أع�ضاء كثريون من طبقة‬ ‫ال�صناعيني ورجال الأعمال الرائدة يف البالد‪ ،‬جرناالت‬ ‫ح�سم م�صري ال�شاه‪.‬‬ ‫و�صفوة البريوقراطيني‪ ،‬قبل �أن ُي َ‬ ‫ ما نراه يف الدول العربية هو عدم ا�ستقرار �سيا�سي‬ ‫وا�شتباكات م�ستمرة‪ ،‬مع م�شاركة طبقة �أ�صحاب الأمالك‬ ‫ورج��ال الأعمال يف الن�ضال للح�صول على ح�صة يف‬ ‫ال�سلطة‪ .‬بيد � ّأن وجود م�صالح خمتلفة يف بيئة ما بعد‬ ‫االنتفا�ضة قد يوفّر فر�صة �سانحة للقوى الدميقراطية‪،‬‬

‫املدعومني من قطر ب�أنهم �رشكاء �أهل للثقة يف �أفغان�ستان‬ ‫واليمن والبحرين وم�رص و�أماكن �أخرى‪.‬‬ ‫ ما ي�ضايق �أكرث هو الت�أييد غري املربر الذي تتلقاه‬ ‫املجموعات الإ�سالمية املتطرفة من �رشيحة من الي�سار‪،‬‬ ‫والباحثني املناه�ضني للعن�رصية واملناه�ضني للحرب‬ ‫ونا�شطني من الغرب‪ .‬يبدو � ّأن االع�تراف بالتحديات‬ ‫ال�سيا�سية والأخالقية التي يطرحها الإ�سالميون �أمام هيمنة‬ ‫ال عن ممار�ساتهم اجلندرية‪،‬‬ ‫الغرب وقيمه الليربالية‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫ويف بع�ض الأحيان حتى وح�شيتهم �ضد الن�ساء‪ ،‬ال تثري‬ ‫ال عن �إدانة �رصيحة‪ .‬ولعل املنطقي يف‬ ‫قلقا كبري ًا‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫ً‬ ‫بع�ض الأحيان هو � ّأن ال�شعوب التي تعاين الفقر والبطالة‬ ‫والعدوان اال�ستعماري اجلديد ينبغي �أال تكون منق�سمة‬ ‫ب�شدة من خالل طرح �أ�سئلة مرتبطة باجلندر‪ .‬يف�شل منطق‬ ‫مماثل يف االعرتاف ب� ّأن الن�ساء ميثلن الأغلبية ال�ساحقة‬ ‫من جيو�ش الفقراء والعاطلني من العمل وامل�ست َغلني يف‬ ‫هذه املجتمعات‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل �أ ّنهن �أهداف يومية للإذالل‬ ‫امليزوجيني (الكاره للن�ساء) والعنف‪.‬‬ ‫ جعل منط التفكري ه��ذا ال�صحافية امل�رصية منى‬ ‫الطحاوي حمط االنتقادات ب�سبب خماوفها التي عبرّ ت‬ ‫عنها حيال ال�سيا�سات التي يعتمدها الإخوان امل�سلمون‬ ‫�ضد الن�ساء‪ ،‬على الرغم من �أ ّنها كانت تدين �أي�ض ًا اجلي�ش‬ ‫ب�سبب وح�شيته جتاه النا�شطات‪ .‬ويف منا�سبات �أخرى‪ ،‬كانت‬ ‫ت�ست�شهد بواقع العن�رصية املناه�ضة للم�سلمني يف الغرب‬ ‫لإ�سكات االنتقادات التي تناولت املمار�سات اجلندرية‬ ‫الإ�سالمية‪ .‬هذه كانت احلال عندما �أُدينت فرقة الهيب‬ ‫هوب الفل�سطينية «دام» ب�سبب �رشيط فيديو مو�سيقي‬ ‫�صورت‬ ‫�أنتجته وتناول جرائم ال�رشف‪ .‬قال النقاد � ّإن الفرقة ّ‬ ‫ٍ‬ ‫أ�شخا�ص غري متح�رضين‪ ،‬يلومون املجتمع‬ ‫«الفل�سطينيني ك�‬ ‫ّ‬ ‫ويحطون من قدر الثقافة» و�إ ّنها «اتبعت �سيناريو حملة‬ ‫عاملية �ضد» ما ي�سمونه «جرمية ال�رشف املزعومة»‪ .‬انطالق ًا‬ ‫من املنطق نف�سه‪ ،‬يدين �آخرون الدفاع عن حقوق املر�أة يف‬ ‫املنطقة‪ ،‬وذلك عامة من خالل الدعم الغربي الذي ي�شمل‬ ‫هن غالب ًا‬ ‫الن�ساء «العلمانيات واملواليات للغرب واللواتي ّ‬ ‫مناه�ضات للإ�سالم» وال ي�أخذ يف االعتبار معاناة «الن�ساء‬ ‫اللواتي ينتمني �إىل الإخوان امل�سلمني» يف ظل عهد مبارك‪.‬‬ ‫ النقطة التي �أُغ ِفلت هنا هي م�س�ألة التوازن‪ .‬واملق�صود‬ ‫بذلك � ّأن احلقائق االجتماعية متعددة الأبعاد ومتكاملة‪،‬‬ ‫ولي�س علينا �أن نختار من بني قوى القمع يف حماولة لتحديد‬ ‫ما �إذا كانت �إحداها �أكرث �إ��ضرار ًا من الأخ��رى باحلياة‬ ‫ال�سلمية والكرمية للن�ساء‪.‬‬ ‫‪27‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫وال�شبان العاطلني من العمل الذين ي�سعون �إىل التغيري‪،‬‬ ‫النا�شطني يف الدفاع عن حقوق املر�أة‪ ،‬النقابات العمالية‪،‬‬ ‫والطبقتني الفقرية واملتو�سطة‪ ،‬لتتكتل جمدد ًا وتعيد ت�شكيل‬ ‫نف�سها كي تنقل �إىل ال�شعب وجهات نظرها وا�سرتاتيجياتها‬ ‫البديلة الهادفة �إىل حتقيق التغيري وو�ضع حد للهجوم‬ ‫االيديولوجي وال�سيا�سي الذي ي�شنه الإ�سالميون‪.‬‬ ‫ ال بد من �إيالء اهتمام خا�ص �إىل عاملني مهمني �آخرين‬ ‫و‪� /‬أو اختالفني ما بني جتارب �إيران والدول الثورية اجلديدة‬ ‫يف املنطقة‪� .‬أوالً‪ ،‬تفادت تون�س وم�رص الأحداث الدامية‬ ‫املبا�رشة التي ح�صلت يف مرحلة ما بعد الثورة يف �إيران‬ ‫التي �شهدت الذبح الفعلي ملئات ال�شخ�صيات البارزة‬ ‫يف النظام ال�سابق‪ ،‬جرناالت يف اجلي�ش‪ ،‬وزراء‪� ،‬أع�ضاء‬ ‫يف الربملان‪ ،‬بريوقراطيون بارزون‪ ،‬و�ضباط �أدنى مرتبة‬ ‫يف اجلي�ش وقوات الأمن‪ ،‬وذلك خالل الأ�سابيع والأ�شهر‬ ‫الأوىل بعد الثورة‪ .‬و ّلدت هذه املجزرة حالة من الغ�ضب‬ ‫العارم امل�ستمر بني فئات ال�سكان الذين كانوا على عالقة‬ ‫بال�ضحايا �أو الذين �أملوا‪ ،‬بب�ساطة‪ ،‬حماكم ًة عادلة وعلنية‬ ‫له�ؤالء الأفراد‪ .‬ا�ستمرت عمليات القتل التي ال ترحم حتى‬ ‫ٍ‬ ‫وقت الحق‪ ،‬بعد حرب �إيران والعراق‪ .‬كذلك‪� ،‬أمر اخلميني‬ ‫قبل موته بقتل عدة �آالف من ال�سجناء ال�سيا�سيني‪ ،‬وتال‬ ‫ذلك عمليات خطف واغتياالت ُعرفَت بـ«القتل املت�سل�سل»‬ ‫ل�شخ�صيات بارزة داخل �إيران وخارجها‪.‬‬ ‫ كانت عواقب عنف الإ�سالميني متعددة‪ .‬جعلوا النا�س‬ ‫تف�شت بعمق يف‬ ‫عدميي الإح�سا�س جتاه العنف‪ ،‬م�شكلة ّ‬ ‫املجتمع الإيراين‪ ،‬وهي الآن م�صدر قلق اجتماعي كبري‬ ‫وم�صدر خوف بالن�سبة �إىل املواطنني العاديني‪ .‬كذلك �أدى‬ ‫عنف الدولة و�سفك الدماء امل�ستمر �إىل �إحباط و�إخافة‬ ‫الآخرين الذين �شاركوا بحما�سة يف تظاهرات ال�شوارع‬ ‫مبح�صلتها‪ ،‬لكنهم‬ ‫قبل الثورة‪ ،‬والذين خابت �آمالهم‬ ‫ّ‬ ‫�أ�صبحوا خائفني‪� ،‬أو م�شلولني‪ ،‬ب�سبب وح�شية النظام اجلديد‪.‬‬ ‫ ثمة عامل ثانٍ مهم‪� ،‬إذ على خالف الو�ضع يف �إيران‪،‬‬ ‫مل تعتمد االنتفا�ضات يف الدول العربية على خطاب‬ ‫مناه�ض للغرب ومناه�ض للإمربيالية لتعبئة الدعم‬ ‫ال�شعبي‪ .‬ومل تكن �إقامة دولة �إ�سالمية �أو حكم ال�رشيعة‬ ‫وحد القوى املختلفة كان �رضورة م�شرتكة‬ ‫مطلباً‪ .‬ما ّ‬ ‫ّ‬ ‫تق�ضي با�ستبدال الأنظمة القائمة بدولة م�س�ؤولة تفكر‬ ‫مب�صلحة النا�س وتقدر على و�ضع حد للأزمات ال�سيا�سية‬ ‫يب�سط البع�ض هذه املطالب ويقول � ّإن‬ ‫واالقت�صادية‪ .‬قد ّ‬ ‫مطالب االنتفا�ضات عك�ست «الفكر الإ�سالمي املعا�رص»‪،‬‬ ‫وبالتايل كانت االنتفا�ضات يف العامل العربي‪ ،‬وبخا�ص ٍة‬


‫دفاع ًا عن الإ�سالم‪ ،‬ال من �أجل مكاف�آت اقت�صادية‪.‬‬ ‫وتظهر كلماته ال�شهرية ‪« -‬االقت�صاد للحمري ولي�س‬ ‫للم�ؤمنني» ‪ -‬بو�ضوح ما كنا نتعامل معه‪.‬‬

‫يف م�رص وتون�س‪« ،‬ثورات �إ�سالمية» والتطورات التي‬ ‫ح�صلت يف ما بعد جاءت كما كان ينبغي �أن تكون‪.‬‬ ‫ والواقع �أ ّنه نظر ًا �إىل � ّأن مطالب الثورات يف � ٍّأي من‬ ‫الدول العربية مل تت�ضمن حكم ال�رشيعة �أو العودة �إىل‬ ‫ممار�سات ذات طابع �إ�سالمي �أكرث‪ ،‬ي�ستطيع املرء �أن يقول هل يبد�أ �أفول الإ�سالميني؟‬ ‫بعقالنية �إنها كانت انتفا�ضات �شعبية ملجموعة �شعوب �أي خال�صة ميكننا �أن ن�ستمدها من ذلك كله؟ ال �شك يف � ّأن‬ ‫م�سلمة ب�أغلبيتها ال�ساحقة ولديها مطالب علمانية �إ�شارات كثرية تدل على التحديات ال�صعبة التي تواجه‬ ‫وا�ضحة‪ .‬بالتايل ف� ّإن الإ�سالميني الذين يف احلكم عاجزون ال�شعوب يف الدول العربية‪ ،‬وبخا�صة املعار�ضة التي مت ّثل‬ ‫عن التالعب بالعواطف الدينية لل�شعوب وي�صفون الن�ساء جزءًا منها‪ .‬لكننا نرى �أي�ض ًا �إ�شارات كثرية تدل‬ ‫حتديات املعار�ضة ب�أنها مناه�ضة للإ�سالم‪ ،‬كما فعل على � ّأن املنا�ضلني الإ�سالميني يفقدون �سيطرتهم على‬ ‫نظرا�ؤهم يف �إيران‪ .‬هم ال ميلكون قائد ًا ذا �شعبية طاغية ال�شعب يف كل دولة ذات �أكرثية م�سلمة ذاقت جرعة من‬ ‫ك�آية الله اخلميني‪ ،‬لديه خمطط ايديولوجي عن نوع عنف الإ�سالميني وخططهم الوهمية الهادفة �إىل �إعادة‬ ‫النظام الذي �سي�ستبدل النظام امللكي (والية الفقيه)‪ ،‬لديه �إر�ساء التقاليد الإ�سالمية التي ال متت ب�صلة �إىل خماوف‬ ‫موهبة رائعة يف التوا�صل مع النا�س والتالعب بعواطفهم ال�شعوب احلقيقية وحاجاتها امللحة‪ .‬املقاومة امل�ستمرة‬ ‫الدينية‪ ،‬ويفلت من العقاب ب�سبب �أ�شكال ال ميكن يف وجه الأحزاب الإ�سالمية احلاكمة يف تون�س وم�رص‪،‬‬ ‫مقر‬ ‫ت�صورها من العنف ارتكبها �ضد املعار�ضة‪ .‬ف�ض ً‬ ‫ال عن ت�شهد جميعها على حقيقة واحدة‪ ،‬اقتحام النا�س ّ‬ ‫ذلك‪ ،‬امل�شاركة املت�أخرة ن�سبي ًا حلزب النه�ضة وللإخوان امليلي�شيا الإ�سالمية يف ليبيا‪� ،‬إثر قتل ال�سفري الأمريكي‪،‬‬ ‫امل�سلمني يف التظاهرات ال�شعبية‪ ،‬حترمهما �أي ادعاء �ضد م�سريات احتجاجية يف باك�ستان عقب �إطالق النار‬ ‫القوى الأخرى ب�أنها �أ�شعلت فتيل االنتفا�ضة‪ ،‬وبالتايل على مالال يو�سف زاي وذب��ح العالمِ يف جمال لقاح‬ ‫الأنفلونزا‪ ،‬التظاهرات احلا�شدة يف ال�شارع �ضد حزب‬ ‫متلك �أ�سباب ًا �رشعية للحكم‪.‬‬ ‫ من �ش�أن هذه العوامل كلها �أن ت�ساعد املعار�ضة يف اجلماعة الإ�سالمية يف بنغالد�ش ت�شهد على واقع واحد‪:‬‬ ‫الرتكيز على الق�ضايا التي حفّزت اندالع هذه الثورات‪ :‬ثمة الكثري من الرجال والن�ساء يف �صف الإ�سالميني‪،‬‬ ‫الأنظمة الع�سكرية اال�ستبدادية؛ معدل البطالة املرتفع لكن هناك العدد نف�سه على الأقل من الرجال والن�ساء‬ ‫يف �صفوف ال�شباب الذين ي�شكلون ما بني ‪� 50‬إىل ‪ 65‬الذين يعار�ضون رفع ال�شعار الإ�سالمي لليمني الديني‬ ‫يف املئة من جمموع ال�سكان يف الدول العربية؛ الأجور يف دولهم‪ .‬كذلك‪ ،‬ي�شعر النا�س ب�أنهم لي�سوا بحاجة �إىل‬ ‫املتدنية‪ ،‬م�ضايقات ال�رشطة‪ ،‬ف�ساد الدولة ال�صارخ؛ ال�سلفيني �أو حركة طالبان‪� ،‬أو غريها من فروع تنظيم‬ ‫وتركز ال�ثروة والأع��م��ال وفر�ص العمل بني �أي��دي القاعدة ليخربوهم كيف يكونون م�سلمني �صاحلني‪.‬‬ ‫ �أوردت رنا جواد من ليبيا يف �شهر �أيلول‪� /‬سبتمرب � ّأن‬ ‫الأ�شخا�ص املرتبطني بالنظام‪.‬‬ ‫ال من النا�س �أخربها � ّأن وجود الأحزاب الدينية‬ ‫ كان رجال الفكر الي�ساريون والليرباليون الذين بد�أوا «عدد ًا هائ ً‬ ‫التظاهرات يف �إيران �ضد ال�شاه يعانون من مظامل مماثلة‪ .‬بحد ذاته مفهوم مهني»‪ .‬طبعاً‪ ،‬جعلت حالة �إيران‪ ،‬بعد �إر�ساء‬ ‫بيد � ّأن عجز النظام عن التجاوب مع مطالبهم بفاعلية النظام الإ�سالمي يف البالد‪ ،‬النا�س يف املنطقة يدركون‬ ‫وب�رسعة‪� ،‬إىل جانب مهارة اخلميني ومعاونيه املراوغة واقع �أ ّنه عندما يتعلق الأمر مب�س�ألة احلرية والكرامة والعدالة‬ ‫ال من دولة ا�ستبدادية‬ ‫يف جمع النا�س حول فكرة التهديد اخلارجي‪ ،‬ما جنح االجتماعية‪ ،‬لي�ست الدولة الدينية بدي ً‬ ‫يف حتويل االنتباه‪� ،‬أقله م�ؤقتاً‪ ،‬عن املطالب االقت�صادية �شبه علمانية‪ .‬كذلك ف�إنه عندما ميتزج التحفظ الديني‬ ‫وال�سيا�سية الأ�سا�سية للثورة‪ .‬ومت ّثل رد �آية الله اخلميني بالتمييز على �أ�سا�س اجلن�س والطبقية والتمييز العرقي‬ ‫على مئات �آالف النا�س الذين ُدفعوا �إىل الفقر يف �أعقاب والديني‪� ،‬إىل جانب ال�سيا�سات االقت�صادية النيوليربالية‪،‬‬ ‫حتقيق الوعود الكاذبة التي ت�صبح املعركة يف �سبيل بلوغ احلقوق الدميقراطية وحتقيق‬ ‫الثورة‪ ،‬والذين كانوا ي�أملون‬ ‫َ‬ ‫قطعها الإ�سالميون قبل الثورة‪ ،‬ومنها على �سبيل املثال العدالة االجتماعية �أكرث خطورة حتى‪.‬‬ ‫�إغاثة على �شكل قرو�ض م�رصفية‪ ،‬كهرباء جمانية بد�أت املقال بنظرة قامتة نوع ًا ما‪ ،‬لكن �أود �أن �أختتمه‬ ‫وتوزيع مت�سا ٍو لعائدات النفط‪ ،‬يف � ّأن النا�س انتف�ضوا بالأمل والتفا�ؤل‪ .‬تثبت مقاومة رجال الفكر والعمال‬ ‫‪28‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫وال�شباب واملجموعات الن�سائية �ضد الإ�سالميني الذين‬ ‫يف �سدة احلكم‪ ،‬اجلي�ش وطبقة رجال الأعمال و�أ�صحاب‬ ‫الأمالك يف الدول العربية الثورية � ّأن �آفاق م�ستقبل �أكرث‬ ‫دميقراطية للنا�س‪ ،‬وللن�ساء ب�شكلٍ خا�ص‪ ،‬مل َت ِ�ضع يف وجه‬ ‫التطورات التي تلت االنتفا�ضة‪ .‬ن�شهد اليوم على ت�شكل‬ ‫حتالفات �سيا�سية كربى يف م�رص وتون�س وليبيا ودول عربية‬ ‫�أخرى‪ ،‬وذلك على �أيدي �أفراد و�أحزاب �سيا�سية ت�سعى �إىل‬ ‫التغيري‪ ،‬الي�سار‪ ،‬الليرباليني‪ ،‬الأقليات الدينية‪ ،‬ال�شباب‪،‬‬ ‫النقابات العمالية و�رشائح منظمة �أخ��رى من املجتمع‬ ‫املدين‪ .‬وفق ًا للم�ؤ�رشات كلها‪ ،‬هي عازمة على حماية‬ ‫احلقوق القائمة وامل�ؤ�س�سات القانونية املدنية‪ ،‬وال�ضغط يف‬ ‫�سبيل حتقيق املطالب الدميقراطية لالنتفا�ضات‪.‬‬ ‫جعلت حالة �إيران‪ ،‬بعد �إر�ساء النظام الإ�ســــــــــالمي‬ ‫يف البالد‪ ،‬النا�س يف املنطقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫يدركون واقع �أنّه عندما يتعلق الأمر مب�ســــ�ألة احلرية‬ ‫والكرامة والعدالة االجتماعيـــــــــــــــــــــــــــــــــة‪،‬‬ ‫لي�ست الدولة الدينية بدي ً‬ ‫ال من دولــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫ا�ستبدادية �شبه علمانيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫ت�رص املعار�ضة امل�رصية على الإبقاء على موقفها‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫املعار�ض لدعم الواليات املتحدة املق ّنع للإ�سالميني‪،‬‬ ‫الهادف �إىل ال�سيطرة على االنتفا�ضات ال�شعبية‪ ،‬كما يتبني‬ ‫من خالل رف�ضها القبول بدعوة الأمريكي جون كريي �إىل‬ ‫االجتماع به �أثناء زيارته الر�سمية للمنطقة يف �شباط‪/‬‬ ‫فرباير املا�ضي ب�صفته وزير اخلارجية اجلديد‪ .‬واجلدير‬ ‫بالذكر � ّأن حتالف ًا ن�ش�أ يف م�رص بني ‪ 33‬منظمة تدافع عن‬ ‫توحدت جميعها حول املوا�ضيع التي‬ ‫حقوق املر�أة‪ ،‬وقد ّ‬ ‫مثال‬ ‫�أرادت الن�ساء ر�ؤيتها مدرجة يف الد�ستور‪ ،‬ومنها ً‬ ‫قانون يجرم التحر�ش اجلن�سي‪� .‬أدى النا�شطون يف هذا‬ ‫ال يف زيادة الوعي اجلماهريي من خالل‬ ‫التحالف دور ًا فعا ً‬ ‫التظاهرات يف ال�شارع و�أداء الأدوار يف قطارات الأنفاق‬ ‫�ضد التحر�ش اجلن�سي بالن�ساء‪ ،‬الذي يعتربونه �أي�ض ًا‬ ‫�سيا�سة خفية ينتهجها الإ�سالميون لإخراج الن�ساء من‬ ‫ال�ساحات العامة‪ .‬كذلك‪ ،‬مي ّثل ن�شوء حتالف �آخر‪ ،‬التحالف‬ ‫الدميقراطي الثوري‪ ،‬الذي ي�ضم ع�رشة �أحزاب وحركات‬ ‫ذات ميول ي�سارية خطوة بناءة �أخرى قامت بها املعار�ضة‬ ‫متر بـ«مرحلة خطرية تتطلب احتاد‬ ‫عندما �أدركت � ّأن م�رص ّ‬ ‫كافة القوى الوطنية‪ ،‬ال الي�سار فح�سب»‪ ،‬كما �أ�شار �أحد‬ ‫قادة التحالف‪ ،‬كمال خليل‪ّ .‬‬ ‫�شكل الليرباليون حتالفهم‬ ‫‪29‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫اخلا�ص‪ ،‬جبهة الإنقاذ الوطني‪ ،‬التي ت�ضم التيار ال�شعبي‪،‬‬ ‫وحزب الد�ستور وغريه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ نرى الت�صميم نف�سه يف تون�س‪� .‬أعلن «التحالف من‬ ‫�أجل ن�ساء تون�س» الذي يت�ألف من ‪ 15‬منظمة غري‬ ‫حكومية م�سجلة‪ ،‬يف �أيلول‪� /‬سبتمرب ‪ ،2012‬ا�ستناد ًا‬ ‫�إىل «املثال الأعلى امل�شرتك للم�ساواة بني اجلن�سني‬ ‫كقيا�س حلقوق الإن�سان»‪ .‬ال يقت�رص هدف التحالف‬ ‫على «احلفاظ على احلقوق املكت�سبة للن�ساء التون�سيات‬ ‫املن�صو�ص عليها يف القانون التون�سي منذ اال�ستقالل‬ ‫والدفاع عنها (قانون الأحوال ال�شخ�صية الذي �أُ ِ‬ ‫�صدر‬ ‫عام ‪ ،1956‬مبا يف ذلك كافة التعديالت التي �أُ�ضيفت‬ ‫حتى عام ‪ ،»)2010‬بل ي�شمل �أي�ض ًا جعل املواطنة‬ ‫الكاملة للمر�أة حقيقة واقعة‪ .‬ا ُّت ِخذت يف ليبيا خطوات‬ ‫م�شابهة‪ ،‬رغم �أ ّنها على نطاق �أ�ضيق‪ ،‬من خالل �إطالق‬ ‫منتدى املر�أة الليبية الذي مي ّثل ‪ 8‬منظمات معنية بحقوق‬ ‫امل��ر�أة‪ ،‬وذلك مبا�رشة بعد �إعالن نتائج امل�ؤمتر الوطني‬ ‫العام �سنة ‪ ،2011‬وقد متثل الهدف يف الدفاع عن‬ ‫حقوق املر�أة الليبية املُدرجة �ضمن ًا يف الد�ستور املقبل‪.‬‬ ‫ حدثت تطورات مهمة �سيكون لنجاحها ت�أثري حا�سم‬ ‫على التوجه ال�سيا�سي امل�ستقبلي يف املنطقة‪ ،‬مبا يف ذلك يف‬ ‫حتو ً‬ ‫ال ثقافي ًا واجتماعيا ً‬ ‫�سورية و�إيران‪ .‬ما ال �شك فيه‪ّ � ،‬أن ّ‬ ‫دائم ًا و�أعمق يف املجتمع‪ ،‬وتغيرّ ًا يف العالقات اجلندرية‬ ‫والأدوار اجلن�سية �ضمناً‪ ،‬يتطلب «ثورة جذرية يف الفكر»‪،‬‬ ‫بح�سب املفهوم الغرام�شي‪ .‬بيد � ّأن الت�أمل يف جتارب الن�ساء‬ ‫يف �إيران خالل العقود الثالثة املا�ضية جعلنا ندرك مدى‬ ‫ه�شا�شة احلقوق االجتماعية والقانونية املكت�سبة يف ظل‬ ‫الأنظمة اال�ستبدادية وندرك �أي�ض ًا � ّأن الن�ساء يرتقني �إىل‬ ‫م�ستوى التحدي‪ ،‬ويقفن يف وجه القيود اجلندرية‪ ،‬ويقمن‬ ‫بالرد ب�شكلٍ خلاّ ق على ال�سيا�سات الهادفة �رصاحة �إىل‬ ‫فر�ض املفاهيم الذكورية والعائلية لـ«الأخوات امل�سلمات»‪.‬‬ ‫على امتداد ال�رشق الأو�سط و�شمال �أفريقيا‪ ،‬ترفع الن�ساء‬ ‫�أ�صواتهن �ضد جت��اوزات االيديولوجيني واملوظفني‬ ‫الإ�سالميني يف �سياق ت�ضييق اخليارات احلياتية للن�ساء‬ ‫وجعل املجاالت الثقافية واالقت�صادية واالجتماعية يف‬ ‫البالد ذكورية �أكرث‪ .‬لقد و�ضعن الق�ضايا املرتبطة بحقوق‬ ‫امل��ر�أة ومطالبها القانونية واالجتماعية يف قلب كافة‬ ‫اخلطابات ال�سيا�سية ب�ش�أن الدميقراطية يف املنطقة‪ ،‬كذلك‬ ‫طالنب ب�أن تت�ضمن كل حركة ت�سعى �إىل �إزالة هياكل‬ ‫ال�سلطة وعالقاتها‪ ،‬واالمتيازات غري املكت�سبة‪ ،‬والظلم‬ ‫االجتماعي واالقت�صادي‪ ،‬الدميقراطية اجلندرية والعدالة‪.‬‬


‫الالح َبل إىل اجلدار‬ ‫من‬ ‫َ‬

‫قراءة يف الربيع النسوي اليمين‬

‫أروى عبده عثمان ظل اليمن لقرون طويلة ينق�سم مت�شظي ًا �إىل �شمال‬ ‫وجنوب‪ ،‬وكل جزء ينق�سم �إىل �سلطنات‪ ،‬وم�شيخيات‪،‬‬ ‫ناشطة وباحثة وقبائل‪ ،‬والكل يع�صف ببع�ض‪ ،‬ومنطق الغلبة هو الطرف‬ ‫يف مركز الدرااست املنت�رص‪ .‬يف تلك الأزمات‪ّ ،‬‬ ‫احلل يكون دوماً‪� :‬صلح ًا قبلياً‪،‬‬ ‫ه�شة‪ ،‬ليعود االقتتال مرة �أخرى �أعنف‪.‬‬ ‫والبحوث اليمنية‪ .‬هدنة‪� ،‬أو ت�سوية ّ‬ ‫للأ�سف‪ ،‬هذه �صورة اليمن الذي كان ي�سمى �سعيد ًا يف‬ ‫املا�ضي‪ .‬مين القرن الع�رشين والألفية الثالثة الذي تنهب‬ ‫أر�ضه و�إن�سا َنه الفقر‪ ،‬الأمية‪ ،‬ال�سالح‪ ،‬واجلفاف‪ .‬مين‬ ‫� َ‬ ‫خالٍ من بنى حتتية‪ ،‬مين بال م�رسح وال �سينما‪ ،‬وال معهد‬ ‫للمو�سيقى‪ .‬مين اختزل كل تنوعه الطبيعي والإن�ساين يف‬ ‫ب�ضعة هموم‪ :‬الفقر‪ ،‬والنظام العائلي الفا�سد ومراكز القوى‬ ‫املتنفذة‪ ،‬جميعها حتتكر كل مقدرات هذا البلد وتتقا�سمها‪.‬‬ ‫ ما هي مراكز القوى التي حتكمت بالبالد لعقود‬ ‫طويلة؟ �إنها املنظومة التقليدية املتوحدة بفكر وحلمة‬ ‫«القبيلة وامل�شيخيات‪ ،‬والع�سكر وامل�ؤ�س�سة الدينية»‪ .‬هي‬ ‫ظلت وما زالت مهيمنة على كل مفا�صل اليمن‪ ،‬وكلما‬ ‫الحت بوادر وجود دولة وارتفاع �صوت القانون فيها‪،‬‬ ‫أنق�ضت على �أي بادرة‬ ‫توحدت هذه القوى ب�شكل �رسيع و� ّ‬ ‫قد ت�شكل بارقة �أمل يف التحول اىل دولة‪ ،‬وم�ؤ�س�سات‪،‬‬ ‫وقانون‪ ،‬ومواطنة مت�ساوية‪ ،‬وعدالة اجتماعية‪� ...‬إلخ‪.‬‬ ‫ هذا ما حدث مع الرئي�س ال�شهيد �إبراهيم احلمدي‬ ‫(‪ )1977-1974‬الذي �أراد يف البداية �أن يزحزح‬ ‫ويحد‬ ‫ال تلك القوى‪ ،‬ثم ي�رشع يف و�ضع �أ�س�س الدولة‬ ‫قلي ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫من ن�شاط هذه القوى‪ ،‬لكن �رسعان ما �أنهيت حياته مبوت‬ ‫م�شهدي �صارخ ما زال يف الذاكرة اليمنية حتى اليوم‪.‬‬ ‫ يف املقابل‪ ،‬ظل نظام علي عبد الله �صالح (‪-1978‬‬ ‫‪ )2012‬متحكم ًا بالدولة وحزب امل�ؤمتر ال�شعبي (الذي‬ ‫�أُن�شئ يف عام ‪ ،)1982‬وهيمن على كل مفا�صل‬ ‫�شكل الدولة وم�ؤ�س�ساتها يف اليمن لأك�ثر من ‪33‬‬ ‫‪30‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ت�سيد‬ ‫عاماً‪ ،‬وا�ستمراريته الطويلة مردها �إىل �إبداعه يف ّ‬ ‫كر�سي ال�سلطة لفرتة زمنية طويلة بالقيا�س مع من �سبقوه‪،‬‬ ‫ومعرفته مبا تريده مراكز النفوذ وحتقيق طموحاتها‪ ،‬وبذا‬ ‫ت�ضمن له حكم ًا �أبدياً؛ فاملحاباة بني القبائل ومراكز‬ ‫النفوذ‪ ،‬و�إه��دار موارد الدولة خدمة لهذا الغر�ض هما‬ ‫الطريق لدميومة ال�سلطة‪� ،‬أو ما ي�سميه �صالح «الرق�ص مع‪،‬‬ ‫وعلى ر�ؤو�س الثعابني»‪ .‬ويف ال�شطر اجلنوبي‪ ..‬كان احلزب‬ ‫اال�شرتاكي اليمني (‪ )1978‬هو احلزب الواحد الذي‬ ‫حتكم �أي�ضًا مبفا�صل الدولة والقانون التي كانت ظاهرة‪،‬‬ ‫وتوا�صل ح�ضورها القليل نتيجة لثقافة اال�ستعمار‬ ‫الربيطاين (‪.)1967 -1839‬‬ ‫ يف ‪ 22‬ايار‪ /‬مايو ‪ 1990‬حتققت وحدة ال�شطرين‬ ‫مبا ي�سمى اجلمهورية اليمنية؛ فقد كانت مبثابة �إنقاذ‬ ‫للبلدين؛ �إذ و�صل احلزب اال�شرتاكي يف اجلنوب بعد‬ ‫�سقوط النظام اال�شرتاكي يف االحتاد ال�سوفياتي �إىل‬ ‫م�أزق‪ ،‬يف �أن يكون حاكم ًا لدولة كانت تعتمد اعتماد ًا‬ ‫كبري ًا على م�ساعدات االحتاد ال�سوفييتي‪ ،‬وكذلك كان‬ ‫حال امل�ؤمتر ال�شعبي الذي ظهرت �شيخوخته مبكرة‪،‬‬ ‫ال وجنوباً‪.‬‬ ‫فكانت الوحدة منقذ ًا للطرفني �شما ً‬ ‫ ومل ت�صمد هذه الوحدة التي كانت حلم اجلماهري‬ ‫ال وجنوب ًا؛ فقد كانت وح��دة ظاهرية‪ ،‬عمقت‬ ‫�شما ً‬ ‫ينق�ض على‬ ‫االنق�سامات‪ ،‬وبد�أ نظام عبدالله �صالح‬ ‫ّ‬ ‫احلزب اال�شرتاكي والوحدة يف �آن واحد‪ ،‬ويعترب الوحدة‬ ‫واجلنوب غنيمة‪ ،‬لتبد�أ معار�ضة �ضد ا�ستباحة اجلنوب‪.‬‬ ‫كان الرد بحرب مبا ي�سمى (الردة واالنف�صال) يف عام‬ ‫‪ ،1994‬ليطيح �صالح احلزب اال�شرتاكي وي�ستقوي‬ ‫بتلك القوى املتنفذة‪ ،‬القبائل وامل�ؤ�س�سة الدينية‬ ‫والع�سكرية املتمثلة بحزب التجمع اليمني للإ�صالح‬ ‫بانت�صارها يف ‪.1994/7/7‬‬ ‫‪31‬‬

‫ ت�أ�س�س حزب الإ�صالح يف (‪ 13‬ايلول ‪� /‬سبتمرب‬ ‫‪ )1990‬بقيادة ال�شيخ عبدالله بن ح�سني الأحمر‪ ،‬وهو‬ ‫حزب عقائدي �أ�صوىل‪ ،‬قبائلي‪ ،‬م�شيخي‪ ،‬ع�سكري‪ ،‬ب�إيعاز‬ ‫من نظام �صالح (كما �أتت مذكرات ال�شيخ عبدالله ح�سني‬ ‫الأحمر) ليكون جبهة �ضد احلزب اال�شرتاكي‪ .‬وبعد‬ ‫الوحدة عام ‪ ،1990‬ظهرت �أي�ض ًا الكثري من الأحزاب‬ ‫ال عن وجود‬ ‫التي كانت متار�س العمل ال�رسي‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫بع�ض الأحزاب ال�ضعيفة قبل الوحدة‪ ،‬لكن ّ‬ ‫ظل امل�ؤمتر‬ ‫ال�شعبي العام‪ ،‬وحزب التجمع اليمني للإ�صالح هما �أقوى‬ ‫الأحزاب‪ .‬هذا الثنائي الذي قاد حرب الردة واالنف�صال‬ ‫على اجلنوب عرب فتوى حزب الإ�صالح ‪ ،1994‬بل‬ ‫وت�صدرت ميلي�شيات احلزب احلرب لقتال اجلنوب‪.‬‬ ‫ هيمن نظام �صالح على مقدرات اجلنوب بعد جناح‬ ‫حتالفه مع الإ�صالح وحتقيق الن�رص يف ‪ 7‬متوز ‪ /‬يوليو‬ ‫‪� 1994‬ضد احلزب اال�شرتاكي واجلنوب‪ .‬متلكته ن�شوة‬ ‫الن�رص‪ ،‬فانفرد بامل�ؤمتر وتخلى عن حليفه (الإ�صالح)‪،‬‬ ‫لينفرط حتالفهما‪ ،‬ولي�شكل الأخ�ي�ر م��ع احل��زب‬ ‫اال�شرتاكي و�أطياف خمتلفة من الأح��زاب ما ي�سمى‬ ‫«امل�شرتك» ملواجهة هيمنة امل�ؤمتر ال�شعبي العام يف ‪6‬‬ ‫�شباط ‪ /‬فرباير ‪ ،2003‬هي‪ :‬التجمع اليمني للإ�صالح‪،‬‬ ‫احلزب اال�شرتاكي اليمني‪ ،‬التنظيم الوحدوي ال�شعبي‬ ‫النا�رصي‪ ،‬حزب البعث العربي اال�شرتاكي القومي‪،‬‬ ‫حزب احلق‪ ،‬حزب التجمع‪ ،‬واحت��اد القوى ال�شعبية)‪.‬‬ ‫وبدوره‪ ،‬كان حزب الإ�صالح هو الأقوى واملهيمن على‬ ‫باقي �أح��زاب ما ي�سمى «امل�شرتك»‪ ،‬وي�ضم بني دفتيه‬ ‫نف�س تلك القوى من القبائل وامل�شايخ والع�سكر ورموز‬ ‫الفتوى الدينية‪ ،‬بينهم مطلوبون على قائمة الإرهاب‬ ‫العاملي‪ ،‬كـعبد املجيد الزنداين‪.‬‬

‫مدرع بعد جمزرة الكرامة يف ‪� 18‬آذار ‪ /‬مار�س ‪2011‬‬ ‫مبا ي�سمى «حماة الثورة»‪ .‬وبد�أ اال�ستقطاب الع�سكري‬ ‫لينذر مبواجهات ع�سكرية اندلعت يف �صنعاء يف يوليو‬ ‫\ متوز ‪ ،2011‬ومل تتوقف دوائ��ر احل��رب بن النظام‬ ‫ومن�شقيه‪ ،‬ل ُتحتوى هذه احلرب بعملية دولية متثلت باملبادرة‬ ‫اخلليجية التي ُوق َِّعت يف ‪� 23‬شباط ‪ /‬فرباير ‪،2011‬‬ ‫ليخرج اليمن من حرب �أهلية �أو�شك على الوقوع فيها‪.‬‬ ‫ وباعتبار �أن ما حدث يف اليمن لي�س �سوى �أزمة‪،‬‬ ‫ولي�س بثورة تغيري على نظام ال�سلطة الفا�سدة التي‬ ‫حكمت اليمن ملدة ‪ 33‬عام ًا �أفقرت الأر�ض والإن�سان‪،‬‬ ‫ولي�س من �أجل بناء اليمن بنظام جديد‪ ،‬ومتثلت يف انتقال‬ ‫ال�سلطة من �صالح الرئي�س ال�سابق �إىل عبد ربه من�صور‬ ‫هادي يف انتخابات (‪� 21‬شباط ‪ /‬فرباير ‪ ،)2012‬ثم‬ ‫الإعداد لإن�شاء م�ؤمتر احلوار الوطني‪ ،‬مبا ي�سمى اللجنة‬ ‫الفنية للإعداد والتح�ضري مل�ؤمتر احلوار الوطني ال�شامل‬ ‫(‪ 14‬متوز ‪ /‬يوليو ‪ )2012‬الذي ميثل �أطراف ًا عديدة‬ ‫يف �أحزاب ال�سلطة واملعار�ضة ومكونات احلراك اجلنوبي‬ ‫وممثلني عن اجلماعة احلوثية ومنظمات املجتمع املدين‪ .‬هذا‬ ‫احلوار الذي يراهن عليه ال�شعب خلروج البالد من هذه‬ ‫الأزمة‪ /‬الكارثة الطاحنة‪ ،‬واملزمع انعقاده قريباً‪.‬‬ ‫ خالل الفرتة املمتدة من نهاية ‪ ،2012‬ت�ستعر‬ ‫ا�ستقطابات مراكز قوى املا�ضي‪/‬احلا�رض لالنق�ضا�ض على‬ ‫امل�ستقبل‪ ،‬وكلما اقرتب موعد انعقاد م�ؤمتر احلوار‪� ،‬سارعت‬ ‫ب�إنزال تر�سانتها الع�سكرية واحلربية �إىل ال�شوارع‪ ،‬م�ؤذنة‬ ‫ببدء احلرب (اجلميع �ضد اجلميع)‪� .‬إنه التقاتل من �أجل‬ ‫حما�ص�صة �أكرب‪ ،‬لكن �رسعان ما تتدخل القوى الدولية‬ ‫ورعاة املبادرة اخلليجية للتهدئة‪ ،‬وال�ضغط على القوى‬ ‫املتقاتلة لإجناح م�ؤمتر احلوار الوطني ب�سالم و�أمان‪.‬‬

‫البداية‬ ‫على �أثر ظهور ما ي�سمى «الربيع العربي» واالحتجاجات‬ ‫ال�شعبية يف تون�س وم�رص‪ ،‬خرجت اجلماهري اليمنية �أي�ض ًا‬ ‫�إىل ال�شوارع �ضد نظام �صالح حتت �شعار «ال�شعب يريد‬ ‫�إ�سقاط النظام»‪ ،‬وت�صاعدت االحتجاجات يف معظم‬ ‫مدن اليمن‪ .‬يف هذه الأثناء حتركت �أحزاب امل�شرتك بكل‬ ‫كوادرها للنزول �إىل ال�ساحات‪ ،‬وبد�أت مبحاولة االحتواء‬ ‫الناعم للربيع الثوري ال�شبابي يف اليمن‪ ،‬لي�ستكمل‬ ‫االحتواء باحتواء ع�سكري متثل بانق�سام اخللية الع�سكرية‬ ‫للنظام والتحاقها بامليادين الثورية‪ ،‬يف ‪� 21‬آذار ‪ /‬مار�س‬ ‫ال باجلرنال علي حم�سن قائد الفرقة الأوىل‬ ‫‪ ،2011‬متمث ً‬

‫عن ربيع اخ ُتطف قبل �أن ُيزهر‬ ‫عندما نزلت اجلموع �إىل ال�ساحات وامليادين يف‬ ‫‪ ،2011/1/15‬متوحدة حول مطلب «حياة كرمية يف‬ ‫دولة مدنية حديثة»‪ ،‬رافعة �شعارات «ارحل»‪« ،‬ال�شعب‬ ‫يريد �إ�سقاط النظام» و«�سلمية‪� ..‬سلمية»‪ ،‬مل ُتعرف من‬ ‫هي هذه اجلموع‪ ،‬ماهيتها‪ ،‬هويتها‪ ،‬منطلقاتها ال�سيا�سية‬ ‫والدينية والثقافية‪ ،‬ومن هو حمركها وموجهها‪ .‬غاب‬ ‫الرمز‪ /‬البطل والقائد‪/‬والزعيم‪ .‬كان التغيري مطلب ًا لكل‬ ‫من الرجل واملر�أة‪ ،‬لل�شباب من اجلن�سني‪ ،‬ومن خمتلف‬ ‫الأعمار والأطياف‪« .‬يف �ساحة التحرير �شعرت لأول مرة‬ ‫ب� ّأن املر�أة م�ساوية للرجل» (نوال ال�سعداوي)‪.‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫ كان هذا هو الوجه امل�رشق لثورة الربيع‪ ،‬جت�سدت‬ ‫امل�ساواة يف هذا املربع (امليدان‪/‬ال�ساحة) التي مثلت‬ ‫�صفحة جديدة من تاريخ العمل اجلماعي امل�شرتك‪.‬‬ ‫امل�ؤ�سف �أنه بعد انق�ضاء �أ�سابيع تبدلت �صورة امل�شهد‪،‬‬ ‫و�أ�صبح ذلك الربيع مع�سكر ًا وجمنزر ًا بالأيديولوجيا‬ ‫الدينية والع�سكرية والقبلية‪ ،‬وغرقت ال�ساحات بطوفان‬ ‫العقائد املتناحرة‪� .‬إنهم حماة الثورة‪� ،‬أولئك الذين نزلوا‬ ‫�إىل ال�ساحات وامليادين الثورية ليحموا الثوار والثورة‪،‬‬ ‫فكانوا اخلنجر الذي �رضب خا�رصة الربيع‪.‬‬ ‫ن�ساء بال وجوه‬ ‫اليمن بلد �أكرث من ن�صف �سكانه يعي�شون حتت خط الفقر‬ ‫‪ 1 ٪54.5‬و�أكرث من ن�صف �سكانه من الن�ساء‪ ،‬حيث تبلغ‬ ‫‪2‬‬ ‫ق�صف �أعمارهن‬ ‫ن�سبة الأمية يف �أو�ساطهن ‪ %65‬و ُت َ‬ ‫وت�رسب الفتيات‬ ‫بالزواج املبكر وانعدام الرعاية ال�صحية‬ ‫ّ‬ ‫من التعليم ب�سبب الفقر والزواج املبكر‪ .‬اليمن بلد �أ�سري‬ ‫امل�ؤ�سف �أنه بعد انق�ضاء �أ�ســــــــــــــــــــــــــــــــابيع‬ ‫تبدلت �صورة امل�شــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهد‪،‬‬ ‫و�أ�صبح ذلك الربيع مع�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــكراً‬ ‫وجمنزراً بالأيديولوجيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫الدينية والع�سكرية والقبليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬

‫‪ 1‬تقرير البنك الدويل‬ ‫ ‬ ‫‪.2011‬‬ ‫‪ 2‬تقرير الأ�سكوا‬ ‫ ‬ ‫ل�سنة ‪.2010‬‬ ‫‪ 3‬فر�ص ومعوقات‬ ‫ ‬ ‫املرحلة االنتقالية–‬ ‫نبيلة املفتي‪،‬‬ ‫ورقة عمل ‪ -‬اللجنة‬ ‫الوطنية للمر�أة‪.‬‬

‫‪32‬‬

‫لرتكيبة قبلية جتعله يف م�صاف الدول الأكرث تخلف ًا يف‬ ‫العامل‪ ،‬بلد تن�ضب فيه املياه ويت�آكله اجلفاف والف�ساد‬ ‫املركب واملت�ضخم يف كل م�ؤ�س�سات الدولة‪ .‬بلد مكونه‬ ‫الرئي�سي القبيلة مب�ستتبعاتها الفكرية واملادية‪ :‬ال�سالح‬ ‫والتع�صب والدين والقات والثارات واجلباية‪ ،‬بالإ�ضافة‬ ‫�إىل مفاهيم ال�سلطة وقيم الذكورة وال�رشف والعيب واحلرام‪.‬‬ ‫بلد تتخ�صب ّ‬ ‫جل تفا�صيل حياته الراهنة بالدين الوهابي‬ ‫امل�ستند �إىل منظومة اجلهل واالنغالق بحجة التقاليد‪،‬‬ ‫لي�صبح ا�ستثمار ًا اقت�صادي ًا وحربياً‪ .‬و�سط هذا املناخ‪ ،‬تت�آكل‬ ‫حالة الن�ساء كما يت�آكل هذا البلد الذي يحمل ا�سم «اليمن»‪.‬‬ ‫فيهن الطفالت‪ ،‬منقبات مينع حتركهن‬ ‫بلد غالبية ن�سائه‪ ،‬مبن‬ ‫ّ‬ ‫أي�ضا‪.‬‬ ‫�إال ب�إذن ويل الأمر امل�سنود بالعرف والقانون � ً‬ ‫ حرب «الردة واالنف�صال» التي قادها نظام �صنعاء يف‬ ‫عام ‪1994‬على اجلنوب حتت �شعار «الوحدة �أو املوت»‬ ‫بانقالب �سافر على وحدة �سلمية حتققت عام ‪،1990‬‬ ‫ال على الإن�سان‪ ،‬وعلى الن�ساء يف �شمال‬ ‫كانت وب��ا ً‬ ‫اليمن وجنوبه‪ ،‬قا�صفة لكل اال�ستحقاقات واملكا�سب‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫التي ح�صلت عليها املر�أة يف اجلنوب قبل اال�ستقالل‬ ‫‪ 1967‬وبعده‪ .‬وقد خرجن بعد اال�ستقالل بقانون من‬ ‫�أهم القوانني‪� ،‬أال وهو «قانون الأ�رسة»‪ ،‬ويقال �إنه القانون‬ ‫الثاين بعد قانون الأح��وال ال�شخ�صية يف تون�س‪ .‬يف‬ ‫ا�شتغلت مراكز القوى الرجعية‬ ‫هذه احلرب االجتثاثية‬ ‫ْ‬ ‫املهيمنة من فقهاء الفتوى وم�شائخ القبيلة وجرناالت‬ ‫احلرب وتابعهم الربملان وانقلبوا على الد�ستور‪ ،‬وغيرّ وه‬ ‫مبواد تتنا�سب وتوجهاتهم الأيديولوجية بن�ص «وفق‬ ‫ال�رشيعة الإ�سالمية» جلنوب ملحد �شيوعي!‬ ‫وتبدى التمييز ال�سافر �ضد الن�ساء يف تعديل املادة‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫التي تن�ص على «املواطنة املت�ساوية» يف د�ستور الوحدة‬ ‫لعام ‪« :1990‬املواطنون مت�ساوون يف احلقوق والواجبات‬ ‫دومنا متييز» ليعدل بعد ‪� 1994‬إىل «الن�ساء �شقائق‬ ‫لهن من الواجبات وعليهن احلقوق مبا تفر�ضه‬ ‫الرجال ّ‬ ‫ُ‬ ‫ال�رشيعة الإ�سالمية»‪ .‬كذلك �ألغي الن�ص القانوين الذي‬ ‫مينع تزويج ال�صغريات دون �سن ‪ 15‬يف عام ‪،1999‬‬ ‫لي�ستبدل مبادة ف�ضفا�ضة عن «تزويجها حتت �أي عمر»‬ ‫يف عام ‪ .2010‬و�أُف�شل م�رشوع املنظمات الن�سوية‬ ‫�سن الـ‪١٧‬؛ �إذ «�أعيد‬ ‫لتعديل القانون‬ ‫ب�سن الزواج يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫امل�رشوع من قاعة الربملان نتيجة �ضغط املت�شددين‪ .‬كذلك‬ ‫�أوقف الربملان م�رشوع قانون «الأمومة امل�أمونة» الذي كان‬ ‫يوفرها للأمهات يف فرتة احلمل والوالدة الن�ساء»‪.3‬‬ ‫ ولعقود من الزمن‪ ،‬كانت املر�أة ت�شارك كمقرتعة فقط‪،‬‬ ‫وبعد الوحدة ‪ُ 1990‬منحت حقيبتان وزاريتان غري‬ ‫�سياديتني للن�ساء‪ ،‬هما حقوق الإن�سان وال�ش�ؤون االجتماعية‪.‬‬ ‫ويف الفرتة االنتقالية عام ‪� 2011‬أعطيت حقيبة جديدة‬ ‫هي وزارة الدولة‪ .‬يف انتخابات ‪ 2003‬فازت يف الربملان‬ ‫�سيدتان‪ ،‬ويف انتخابات عام ‪ 2006‬فازت مر�شحة واحدة‬ ‫من �أ�صل ‪ 301‬من الرجال‪ .‬وهذا هو احلال حتى يومنا‬ ‫هذا‪� .‬أما بنود املبادرة اخلليجية‪ ،‬فقد �أكدت ال�رشاكة للمر�أة‪،‬‬ ‫وخ�صو�ص ًا يف مراكز �صنع القرار بن�سبة ال تقل عن ‪.%30‬‬ ‫ويف جلنة احلوار الوطني يف الفرتة االنتقالية ‪ 2012‬كان‬ ‫هناك ‪ 6‬ن�ساء مقابل ‪ 25‬رجالً‪.‬‬ ‫البحث عن الربيع املفقود‬ ‫يف ‪ 15‬كانون الثاين ‪ /‬يناير‪ ،2011‬دخل اليمن ما‬ ‫ي�سمى ثورة الربيع‪ ،‬التي تزامنت مع هرب زين العابدين‬ ‫بن علي من تون�س‪ ،‬وازدهرت مع ثورة‪ 25‬كانون الثاين‬ ‫عجت ال�ساحات‬ ‫‪ /‬يناير يف م�رص‪ .‬ويف �شباط ‪ /‬فرباير ّ‬ ‫بالن�ساء‪ ،‬و�شكلن مع الرجال �صورة ربيعية عك�ست �رشاكة‬

‫مبهرة بني الرجال والن�ساء‪ .‬الهدف وا�ضح هو «�إ�سقاط‬ ‫النظام» و«احلرية والتغيري وبناء دولة مدنية حديثة»‪ .‬حتى‬ ‫�شعائر ال�صالة كانت تقام يف مربع واحد بال حواجز تف�صل‬ ‫بني الرجال والن�ساء‪ ،‬وكان لن�صب �أول خيمة يف �ساحة‬ ‫التغيري يف ‪ 2011/2/20‬الأثر الكبري على الوجود‬ ‫الن�سوي يف ال�ساحة ملمار�سة الأن�شطة الثورية‪ ،‬واملبيت‬ ‫�أي�ضاً‪ .‬فالرجل اليمني هو وعائلته كانوا يجتمعون يف‬ ‫ال�ساحة‪ ،‬ويت�شاركون يف الأدوار واملهمات حتى منت�صف‬ ‫الليل يف م�شهد غري م�سبوق يف احلياة اليمنية‪ .‬بل كان‬ ‫بع�ضهن ينمن يف ال�ساحة من �أول يوم اعت�صام‪ ،‬وال�شاهد‬ ‫على ذلك � ّأن �أول خيمة ن�صبت يف �ساحة التغيري كانت‬ ‫خيمة الرتبوية فريدة و�أوالدها «�أم الثوار»؛ �إذ كانت ت�ؤوي‬ ‫قرابة ثالثني امر�أة‪« ،‬ومل تبارح فريدة ال�ساحة واخليمة مدة‬ ‫�أربعة �أ�شهر»‪ ،4‬وبعدها تكاثرت خيم الن�ساء‪.‬‬ ‫ يف �ساحات الثورة‪ ،‬تكاد تكون الأدوار مت�شابهة مع ما‬ ‫حدث يف دول الربيع العربي‪ .‬وهناك منطية مكرورة‪ ،‬كطبخ‬ ‫وتبدّ ى التمييز ال�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــافر‬ ‫�ضد الن�ساء يف تعديل املــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادة‬ ‫التي تن�ص على «املواطنة املت�ســـــــــــــــــــــــــاوية»‬ ‫يف د�ستور الوحدة لت�صـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبح‬ ‫بعد‪� 1994‬إىل «الن�ساء �شقائق الرجـــــــــــــــــــــــــال‬ ‫لهنّ من الواجبات وعليهن احلقوق مبـــــــــــــــــــــــــا‬ ‫تفر�ضه ال�رشيعة الإ�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــالمية»‬ ‫الأكل وجمع التربعات والتطبيب‪ ،‬والهتافات وامل�سريات‪،‬‬ ‫وتنظيف ال�ساحات‪ ،‬والتفتي�ش‪ ،‬وحماية ن�ساء امل�سريات‬ ‫من خالل ت�شكيل �سياج ج�سدي‪ ،‬وهذا ما كانت تنفرد به‬ ‫ن�ساء حزب الإ�صالح املدربات تدريب ًا كبرياً‪.‬‬ ‫ �أم��ا العمل النوعي ‪� -‬إن ج��از التعبري ‪ -‬فقد متثل‬ ‫بالت�صوير ب�أنواعه‪ ،‬وقيادة التظاهرات‪ ،‬واال�شتغال على‬ ‫امليديا‪ ،‬والتعريف بالثورة اليمنية يف املحافل الدولية‪.‬‬ ‫الن�ساء غري املرئيات قدن و�شاركن الرجال يف امل�سريات‬ ‫وتعر�ضن للعديد من االنتهاكات ال�صارخة‪ ،‬كال�رضب‬ ‫املدمي والتخوين والتكفري‪ ،‬بل و�سقط بع�ضهن �شهيدات‬ ‫ال عن � ّأن بع�ض الن�ساء فقدن معيلهن‬ ‫يف مدينة تعز‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫الوحيد و�أبناءهن و�أزواجهن‪ ،‬ووا�صلن الن�ضال‪ ،‬حتى‬ ‫عندما تقا�سم ال�سلطة كل من النظام والثورة ممثلة بحزب‬ ‫الإ�صالح‪ .‬فت�صاعدت حدة االنتهاكات املمنهجة �ضد‬ ‫الثوار‪ ،‬وخ�صو�ص ًا الن�ساء‪ ،‬بحيث كلما كان ح�ضور الن�ساء‬

‫‪ 4‬مقابلة خا�صة‪.‬‬ ‫ ‬

‫‪33‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫متنوع ًا ومميز ًا يف ال�ساحة‪ ،‬ا�شتدت �رضاوة الهجمة عليهن‪.‬‬ ‫ ويرجع �أول انتهاك موثق للن�ساء من قبل ع�ساكر النظام‬ ‫�إىل ما تعر�ضت له الكاتبة والنا�شطة توكل كرمان يف ‪23‬‬ ‫كانون الثاين ‪ /‬يناير ‪ 2011‬من اعتقال (بح�سب بالغ‬ ‫�صحايف من نقابة جامعة �صنعاء يف التاريخ نف�سه)‪ ،‬تاله بعد‬ ‫ذلك انتهاك و�رضب كل من الكاتبتني والنا�شطتني �سامية‬ ‫الأغربي و�أختها فاطمة الأغربي ‪ ،2011/2/13‬من‬ ‫قبل ع�سكر النظام (بح�سب قول �سامية ــ مقابلة �شخ�صية)‪.‬‬ ‫وجوه ا ِ‬ ‫حلبال واحلواجز‬ ‫يف الأ�سابيع الأوىل للربيع‪ ،‬امتدت �ساحات احلرية‬ ‫والتغيري يف اليمن �إىل ‪ 17‬حمافظة تقريباً‪ ،‬جميعها كانت‬ ‫تكتظ باملئات من الن�ساء من �أطياف خمتلفة‪ ،‬تعر�ضن‬ ‫لتحر�شات وانتهاكات منظورة وغري مرئية‪ ،‬بدت يف‬ ‫الوهلة الأوىل فردية وغري الفتة‪ ،‬برغم �أنها كانت ت�أتي‬ ‫�أحيان ًا من املن�صة الثورية الوحيدة والأحادية (التابعة‬ ‫حلزب الإ�صالح)‪ .‬على �سبيل املثال‪ ،‬يتحدث �أحدهم يف‬ ‫خطبته عن «الن�ساء الكا�سيات العاريات» وعندما يالقي‬ ‫ا�ستهجان ًا من الن�ساء‪ ،‬ي�أتي �آخر ويقول‪« :‬ملاذا حتتجني‪،‬‬ ‫فالله لن ين�رصنا و�أن ّ‬ ‫نت هنا بهذا ال�شكل؟»!! وللعلم‪� ،‬إن‬ ‫ّ‬ ‫كن حمجبات ومنقبات بال�رش�شف اليمني‬ ‫جل الن�ساء ّ‬ ‫كن �سافرات‪.‬‬ ‫التقليدي‪ ،‬وقلة منهن ّ‬ ‫ لقد بد�أ خطاب املن�صة «الثوري» منذ �أيامه الأوىل‬ ‫ا�ستئثاري ًا تابع ًا لتوجه �أ�صويل مت�شدد‪ .‬ت�صاعد وا�ستمر حتى‬ ‫اليوم‪ .‬فمنذ اليوم الأول جرى تكري�س �ألقاب ومقوالت‬ ‫ذات هوية دينية ليختزلن فيها مثل‪ :‬ال�شقائق واحلرائر‪،‬‬ ‫ال عن الرتكيز‬ ‫واملاجدات‪ ،‬والقوارير‪ ،‬و�أم��ة الله‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫والتمحور حول تبني خطاب اخلالفة الإ�سالمية‪ ،‬وا�ستدعاء‬ ‫خطاب اجلهاد وغزواته‪ ،‬واخلرافة املمنهجة املكر�سة لرتويج‬ ‫املعجزات امل�شبعة بروح التع�صب‪ ،‬و�شوفينية «خري �أمة»‬ ‫ميار�سها دعاة معروفون بت�شددهم الديني‪ ،‬حيث انتفت‬ ‫مفاهيم املواطنة‪ ،‬والعدالة االجتماعية‪ ،‬وامل�ساواة‪ ،‬والدولة‬ ‫املدنية‪� ،‬إلخ‪ .‬ولعل �أ�شهر اخلطب كانت لرئي�س «جامعة‬ ‫الإميان»‪� ،‬أحد زعماء «حزب الإ�صالح» عبد املجيد الزنداين‬ ‫على املن�صة يف ‪� 1‬آذار ‪ /‬مار�س ‪.2011‬‬ ‫ كان خطاب التع�صب والت�شدد «الثوري» انتهاكي ًا‬ ‫وعدواني ًا لكل ما يخالفه‪ .‬وكانت ن�ساء ال�ساحة �ضحيته‬ ‫الأوىل‪ .‬تقول فريدة‪« :‬منذ �أن ن�صبت خيمتي وقررت‬ ‫املبيت فيها‪ ،‬وبد�أت امل�ضايقات مبربر احلر�ص واخلوف‬ ‫علينا من ع�ساكر النظام‪ .‬يف الأ�سبوع الثاين‪ ،‬بد�أ ال�شغب‬


‫واالنتهاكات �صارخة‪ ،‬وخ�صو�ص ًا عندما بد�أ تدفق الن�ساء‬ ‫�إىل اخليمة‪ ،‬و�إ�رصارهن على املبيت مع �أطفالهن»‪.‬‬ ‫بعد انق�ضاء الأيام الأوىل للثورة‪� ،‬شيدت احلواجز‬ ‫ ‬ ‫ابتداء باحلبل واملجاميع‬ ‫الفا�صلة بني الرجال والن�ساء‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الب�رشية «حواجز ن�سائية ورجالية»‪ ،‬بلغت ذروة املنع‪/‬‬ ‫الف�صل يف �آذار ‪ /‬مار�س بعد جمزرة الكرامة (‪� 18‬آذار ‪/‬‬ ‫مار�س ‪� ،)2011‬أي عندما دخل «حماة الثورة» من جي�ش‬ ‫النظام املن�شق بقيادة علي حم�سن والقوى التقليدية من‬ ‫قبائل وم�شائخ و�أ�صوليات دينية‪ ،‬كالداعية الإرهابي عبد‬ ‫املجيد الزنداين‪ ،‬ودعاة �آخرون مثل حممد احلزمي بطل‬ ‫وامل�رشع له يف الربملان‪ ،‬وعبد الوهاب‬ ‫زواج ال�صغريات‬ ‫ّ‬ ‫الديلمي املفتي بقتل اجلنوبيني يف حرب ‪ 1994‬وغريهم‪.‬‬ ‫احلبل يغلظ‬ ‫وت�ضاعفت غالظة احلبل مع تدفق جموع «حماة الثورة»‬ ‫�إىل ال�ساحات وارتفاع احلاجز بني الرجال والن�ساء‪،‬‬ ‫ومتركز احلرا�سات وت�سوير امل�صلى‪ ،‬والت�ضييق على‬ ‫جتمعات الن�ساء‪ ،‬وتر�صد حتركاتهن‪ ،‬وتفتي�ش اخليم‬ ‫والبوفيهات وامل�ست�شفى امليداين‪� ،‬إلخ‪� .‬أ�صبح احلبل‬ ‫حاجزا خ�شبياً‪ ،‬وثم حديدي ًا‬ ‫حاجز ًا قما�شي ًا �سميكاً‪ ،‬ثم‬ ‫ً‬ ‫و�إ�سمنتياً‪� ،‬إىل �أن انتهى املطاف بقف�ص ال يختلف عن‬ ‫امل�سيجة بكل �أن��واع �أدوات املنع‬ ‫حظرية احليوانات‬ ‫ّ‬ ‫والرتهيب واخل�شية من اق�تراب �أي رج��ل‪� ،‬أو حتى‬ ‫�أي «جِ ّني»‪ ،‬ليظل ذلك القف�ص مرتبط ًا ق�رسي ًا باحلبل‬ ‫ال�رسي خلطاب املن�صة‪.‬‬ ‫ الأك�ثر خطورة من هذه الكوابح املانعة والأ�ستار‬ ‫املختلفة‪ّ � ،‬أن الأمر �صار م�ألوف ًا ومعتاداً؛ �إذ �أ�صبح املرء‬ ‫ي�شاهد ميلي�شيات ح��زب الإ���ص�لاح وجامعة الإمي��ان‬ ‫وع�ساكر الفرقة الأوىل م��درع يتجولون ب�أ�سلحتهم‬ ‫وهراواتهم‪ ،‬مينعون االختالط‪ ،‬وي�أمرون النا�س بال�صالة‪،‬‬ ‫لينتهي املطاف بال�رضب وال�سجن‪ ،‬والأكرث عنف ًا من كل‬ ‫هذا‪ ،‬التخوين والتكفري‪.‬‬ ‫ ومع كل فا�صل جدار يرتفع‪ ،‬تتزايد حدة االنتهاكات‬ ‫للرجال وللن�ساء‪ ،‬وهي م�ضاعفة يف حالة الن�ساء‪،‬‬ ‫وتعر�ض بع�ض ال�شباب لالعتقال بتهم االختالط‬ ‫ّ‬ ‫بالن�ساء والتحر�ش بهن‪� ،‬أو �أن �أ�شكالهم ناعمة‪ .‬مع‬ ‫العلم �أن �أولئك ال�شباب «الناعمني» كانوا �أول من‬ ‫�سقطوا �شهداء‪ .‬وال تكاد حت�صى املرات التي اجتاحت‬ ‫فيها امليلي�شيات اخليم ال�سكنية‪ ،‬بحجة �أنه يجري فيها‬ ‫اختالط‪� ،‬أو اق ُتحمت اخليم التي تنظم فعاليات و�أن�شطة‬ ‫‪34‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ثقافية و�سيا�سية �إلخ‪ ،‬مثل خيمة «�شباب مع احلدث»‬ ‫وخيمة «املواطنة املت�ساوية» و«خيمة ال�شباب احلر»‬ ‫و«خيمة جيفارا» وخيم «�شباب ال�صمود»‪� ،‬إلخ‪.‬‬ ‫غزوات اخليمة واجل�رس و«ب�رشى»‬ ‫تكرر الهجوم على خيمة فريدة �أكرث من مرة منذ بداية‬ ‫الثورة يف �شباط ‪ /‬فرباير؛ لأنها مل متتثل لأوامرهم‪ .‬حتكي‬ ‫وتقول‪« :‬دخلت امر�أة �إىل اخليمة‪ ،‬و�أغلقتها من الداخل‪/‬‬ ‫الواجهة‪ ،‬ثم فتحت اخليمة من اخللف املال�صق جلدار‬ ‫حديقة اجلامعة لتدخلها امليلي�شيا وحتتلها»‪ .‬دافعت فريدة‬ ‫عن خيمتها‪ .‬كانت احلجة نف�سها‪� ،‬أنها ت�ؤوي ال�شبان‬ ‫وال�شابات يف �أو�ضاع خم ّلة ب��الآداب‪ ،‬و�أنها �أمن قومي‬ ‫ومند�سة‪ ،‬ومن �أحداث غزوة خيمة فريدة دخلت ال�ساحة‬ ‫ّ‬ ‫يف غزوات كثرية ومثرية (الكاتبة كانت �شاهدة عيان)‪.‬‬ ‫ عندما �ألقى رئي�س النظام ال�سابق علي عبدالله �صالح‬ ‫خطابه‪ ،‬يف ‪ 14‬ني�سان ‪ /‬ابريل ‪ 2011‬عن االختالط‬ ‫يف �ساحة التغيري‪ ،‬قال‪ ...« :‬ندعوهم �إىل منع االختالط بني‬ ‫الرجال والن�ساء الذي ال يقره ال�رشع يف �شارع اجلامعة»‪.‬‬ ‫جاء الر ّد م�سريات �صاخبة ت�ستنكر خطابه اال�ستفزازي‬ ‫يف كل �ساحات اليمن‪ ،‬وقد حملت �شعارات «يا علي يا‬ ‫خراط‪ ،‬ما في�ش بيننا اختالط»‪ ،‬و«ثورتنا ثورة ن�ضال‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الن�ساء مع الرجال»‪ ،‬و«علي قل خري ًا �أو ا�صمت»‪� ،‬إلخ‪.‬‬ ‫يف هذه الأثناء‪ ،‬ويف امل�سرية نف�سها املناه�ضة خلطاب‬ ‫�صالح يف ‪ 16‬ني�سان ‪ /‬ابريل ‪ ،2011‬مل يكن ر ّد‬ ‫اخلطاب التقليدي وال�سلفي يف ال�ساحة خمتلف ًا‪ ،‬بل �أكرث‬ ‫تخلف ًا وهمجية من خطاب �صالح؛ �إذ جتلى يف احلادثة‬ ‫ال�شهرية �أو ما ت�سمى «غزوة اجل�رس»‪ ،‬التي متثلت ب�رضب‬ ‫النا�شطات ب�أعقاب البنادق و�إطالق الر�صا�ص عليهن‪،‬‬ ‫والت�شهري والتخوين والتكفري من قبل ميلي�شيا الإ�صالح‬ ‫حد منعهن‬ ‫(ثوار ال�ساحة)‪ ،‬بل تطاول االنتهاك بق�سوة �إىل ّ‬ ‫من االحتجاج‪� ،‬أو ت�سجيل بالغ احلادثة‪ ،‬بحجة احلفاظ‬ ‫على ال�صف الثوري من االن�شقاق وحتى ال يتخذها‬ ‫العدو (�صالح) نقطة يف م�صلحته‪.‬‬ ‫ كالعادة‪ ،‬جرى التهوين من احلادثة والقول �إنها‬ ‫عر�ضية‪ ،‬وفردية و‪ ..‬و‪� ..‬شكلت اال�ستهانة باالنتهاكات‬ ‫�رشخ ًا عميق ًا يف نفو�س الن�ساء‪ ،‬فه ّزت �صدقية العمل‬ ‫وحتد من قبل‬ ‫�س هذا الأمل نف�سه ب�إ�رصار‬ ‫ٍّ‬ ‫الثوري‪َ .‬ع َك َ‬ ‫النا�شطات‪ ،‬بقولهن‪« :‬الثورة التي ت�رضب وتخون لي�ست‬ ‫ثورة‪ ،‬فلت�سقط الثورة»‪ ،‬ثم بد�أن بكتابة البيانات ون�رشها‬ ‫على و�سائل الإعالم املختلفة‪.‬‬

‫‪ 5‬مقابلة خا�صة‪.‬‬ ‫ ‬ ‫‪� 6‬صحيفة الو�سط‬ ‫ ‬ ‫‪.2012/8/7‬‬ ‫‪� 7‬صحيفة الأوىل‪،‬‬ ‫ ‬ ‫‪ 8‬متوز ‪ /‬يوليو‬ ‫‪ - 2012‬العدد‬ ‫‪ - 476‬النا�شطة‬ ‫احلقوقية �أمل‬ ‫البا�شا‪ ،‬رئي�سة‬ ‫منظمة ال�شقائق‬ ‫العربية حلقوق‬ ‫الإن�سان‪ ،‬ومن‬ ‫�أوائل الن�ساء‬ ‫اللواتي �شاركن‬ ‫يف ثورة الربيع‪،‬‬ ‫تعر�ضت مرار ًا‬ ‫حلملة التكفري من‬ ‫قبل الأ�صوليات‬ ‫الدينية‪ ،‬اختريت‬ ‫الناطقة الر�سمية‬ ‫للجنة الفنية مل�ؤمتر‬ ‫احلوار الوطني‬ ‫ال�شامل‪.‬‬ ‫‪ 8‬فخ الدولة املدنية‬ ‫ ‬ ‫وعلمنة اليمن‪،‬‬

‫‪www.aljumhor.net/‬‬

‫‪portal/news‬‬ ‫‪-11635.htm.‬‬

‫‪ 9‬مقابلة يف نيويورك‬ ‫ ‬ ‫تاميز ‪ 23‬ايار ‪/‬‬ ‫مايو ‪.2012‬‬ ‫‪ 10‬امل�صدر نف�سه‪/‬‬ ‫مقابلة مع ب�رشى‪.‬‬

‫‪35‬‬

‫ ب�رشى املقطري ال�شخ�صية املرتبطة بالثورة منذ‬ ‫�أول يوم‪ُ ،‬كفِّ رت و�أُهدر دمها ب�سبب مقالة كتبتها بعد‬ ‫«م�سرية احلياة» يف ‪ 2011/12/20‬التي قطعت‬ ‫فيها نحو ‪ 300‬كيلومرت م�شي ًا على الأقدام‪ ،‬ا�ستغرقت‬ ‫خم�سة �أيام‪ .‬وقبلها كانت قد تعر�ضت هي و�صاحباتها‬ ‫وال�شباب ب�ساحة تعز للعديد من االنتهاكات والت�شويه‬ ‫عرب املن�صة؛ �إذ «اجتمع حولنا ثالثمئة من الإ�صالحيني‪،‬‬ ‫ولوال تدخل البع�ض ملا ا�ستطعنا النجاة‪ .‬بعدها توالت‬ ‫عملية القمع والت�شهري من املن�صة �ضدي‪ .‬ا�شتدت احلملة‬ ‫بالأفكار التي كانت تقدمها خيمة ال�شباب التقدمي»‬ ‫تقول‪ ،‬وت�ضيف‪« :‬فكلما قمنا بندوة‪ُ ،‬نفاج�أ بجوامع املدينة‬ ‫ت�شن حملة تكفريية �ضدي»‪.5‬‬ ‫ّ‬ ‫ �أفتى �أكرث من ‪ 70‬من علماء الدين بتكفري ب�رشى‪،‬‬ ‫و�صدرت الفتوى يف ‪ 29‬كانون الثاين ‪ /‬يناير ‪.2012‬‬ ‫ومل يكتفوا بذلك‪ ،‬بل طالبوا ب�إقامة احلد عليها باعتبارها‬ ‫وه ِّددت حياتها‬ ‫مرتدة‪ ،‬وب�سحب اجلن�سية اليمنية منها‪ُ ،‬‬ ‫و�ض ِّيق على �أهلها‪ ،‬و�أ�صدرت ب�رشى بيان ًا مهم ًا مبا تتعر�ض‬ ‫ُ‬ ‫‪6‬‬ ‫له تناقلته و�سائل الإعالم ‪.‬‬

‫للغرب وم�شاركون يف تنفيذ م�ؤامرة لعلمنة اليمن وخمالفة‬ ‫�أحكام ال�رشيعة الإ�سالمية‪ ،‬حتى �إنه هاجم جمموعة من‬ ‫�سماهم و«دعاة العلمنة»‪.8‬‬ ‫الدعاة ّ‬ ‫ عندما قال جمال بن عمر عن فرقاء احلكم �إنهم‬ ‫«يختلفون يف كل �شيء‪ ،‬لكنهم يتفقون على املر�أة»‪ ،‬مل‬ ‫ي�أت بحديثه من فراغ‪ ،‬بل من واقع معي�ش‪ .‬اتفق «الإخوة‬ ‫الأعداء» على التفنن يف تعنيف الن�ساء‪ .‬فهذا حميد الأحمر‬ ‫(�شيخ الثورة وممولها وحاميها) يهاجم ن�ساء ال�ساحات‪،‬‬ ‫حولت ال�ساحة �إىل‬ ‫فيقول‪« :‬كانت هناك �سلوكيات �سيئة ّ‬ ‫مرق�ص دي�سكو‪ ،‬تريد تلك الن�ساء �أن ي�رسن يد ًا بيد مع‬ ‫مقبوال‬ ‫�أ�صدقائهن وع�شاقهن يف التظاهرات‪ ،‬هذا لي�س‬ ‫ً‬ ‫وهو �ضد ديننا»‪ .9‬وهو هنا ال يختلف عن رئي�سه يف النظام‬ ‫ال�سابق؛ فقد كان جزء ًا منه بخطاب موحد وموجه �ضد‬ ‫الن�ساء‪ ،‬وبختم «ال�رشع والدين»‪.‬‬ ‫ يف هذا اخل�ضم‪ ،‬تقف احلركات الن�سوية واملنظمات‬ ‫املدنية موقف املتفرج والبليد �إزاء ما يحدث للن�ساء‪،‬‬ ‫و«امل�ؤ�سف � ّأن احلركات الن�سوية واملنظمات اخلا�صة‬ ‫باملجتمع املدين وبحقوق املر�أة على كرثتها مل ت�صدر بيان‬ ‫�إدانة �أو ت�ضامن معي‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل احلزب اال�شرتاكي‬ ‫الذي �أنتمي �إليه‪ .‬وللأ�سف‪� ،‬شعرت ب� ّأن اجلميع تخلى عني»‪،‬‬ ‫تقول ب�رشى املقطري‪ ،‬وت�ضيف‪�« :‬أما الأخريات‪ ،‬و�أق�صد‬ ‫فكن يبتززن ق�ضيتي‬ ‫املرتبعات على منا�صب املنظمات‪ّ ،‬‬ ‫�أمام الأوروبيني وال�صحافيني الأجانب‪� .‬أما يف الواقع‪ ،‬فلم‬ ‫يقمن ب�أي دور‪ ،‬وكنت �أ�ستغرب هذا التناق�ض»‪ .10‬للأ�سف‪،‬‬ ‫ما قالته ب�رشى ينعك�س على كل االنتهاكات التي حدثت‬ ‫لن�ساء اليمن خالل ‪ 2011‬و‪.2012‬‬

‫خريف الفرتة االنتقالية‬ ‫ها هي مبادرة الت�سوية ال�سيا�سية برعاية �إقليمية ودولية‬ ‫قد دخلت حيز التنفيذ‪ ،‬وجرت االنتخابات‪ ،‬وجرى تقا�سم‬ ‫ال�سلطة منا�صفة‪ ،‬لكن هل توقفت احلمالت �ضد الن�ساء؟ ال‪.‬‬ ‫بل ات�سعت وتف�شت و�شملت �أكرث من ذي قبل يف ال�شارع‬ ‫و�أماكن العمل والتجمعات ومرافق احلياة املختلفة‪ .‬فكان‬ ‫التحر�ش اجلن�سي‪ ،‬وتزويج القا�رصات‪ ،‬وتهجري الن�ساء‬ ‫وقتلهن يف احلروب القبلية وحروب تنظيم «القاعدة»‪،‬‬ ‫ال عن «احلروب» بني �رشكاء ال�ساحة «ال�سلميني»‪« ،‬مني اللي ن ّزلها امليدان؟»‬ ‫ف�ض ً‬ ‫الإ�صالح واحلوثيني واحلراكيني يف اجلنوب‪ ،‬والنظام ال يختلف و�ضع املر�أة يف اليمن عن و�ضع الن�ساء يف دول‬ ‫الربيع العربي �إال من حيث الدرجة‪ :‬ن�ساء ا�ست�شهدن‪،‬‬ ‫ال�سابق واجلناح املن�شق ونظام احلكم اليوم‪.‬‬ ‫ وغدت ميلي�شيات حزب الإ�صالح تنتهك الن�ساء غري ون�ساء تعر�ضن لل�رضب وال�سجن‪ ،‬واالغت�صاب‪� ،‬إلخ‪.‬‬ ‫املنتميات �إىل احلزب‪ .‬فهذه �أمل البا�شا‪ ،‬مقررة جلنة احلوار‪ ،‬فر�أينا ب��وادر انت�صار الربيع يف بع�ض ال��دول‪ ،‬لي�أتي‬ ‫جتابه باعرتا�ض القيادي والربملاين حممد احلزمي �صاحب ب�ضده‪ .‬فهذه ليبيا‪� ،‬أول ما �أتى الفرج بانت�صار الثورة‪،‬‬ ‫م�رشوع تزويج القا�رصات‪ ،‬ي�س�أل بلهجة �ساخرة مت�سائالً‪ :‬ي�رصح م�صطفى عبد اجلليل رئي�س املجل�س االنتقايل‬ ‫«من �أين لأمل البا�شا �أن متثل القطاع الن�سائي لن�ساء الوطني يف بيانه املعروف‪�« :‬إن �أي قوانني تتعار�ض مع‬ ‫اليمن؟»‪ ،7‬واملق�صود �أنها امر�أة �سافرة‪ ،‬على اعتبار �أنه ال�رشيعة �سيتم �إلغا�ؤها‪ ،‬وعلى وجه اخل�صو�ص‪ ،‬و�إن تعدد‬ ‫يوجد من ميثلهن يف جلنة احلوار‪ ،‬من �أمثال توكل كرمان‪ .‬الزوجات �سي�صبح قانونياً»‪ ،‬وا�ستقبل الت�رصيح ب�إطالق‬ ‫ وبالوترية نف�سها‪ ،‬يوا�صل الزنداين حروبه على الن�ساء‪ ،‬الر�صا�ص و�صيحات الله �أكرب‪.‬‬ ‫في�شن هجوم ًا على وزيرة حقوق الإن�سان والنا�شطني وت��ك��ررت �صيغة امل�شهد‪/‬اخلطاب يف م�رص ملن‬ ‫ّ‬ ‫املدنيني ومنظمات حقوق املر�أة‪ ،‬على اعتبار �أنهم عمالء يريدون �إلغاء قانون اخللع «بحجة �أنه �ساهم يف تدمري‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫‪� 11‬صحيفة احلياة‬ ‫‪ 18‬كانون‬ ‫االول ‪ /‬دي�سمرب‬ ‫‪ 2011‬العدد‬ ‫‪ 17789‬وحيد‬ ‫عبد املجيد «املر�أة‬ ‫يف االنتخابات بني‬ ‫الإخوان وال�سلفيني‪.‬‬

‫‪12‬‬

‫ ‪bokranews.com‬‬

‫‪� 2219‬صحيفة‬ ‫الأهايل‪ ،‬العدد‬ ‫‪� 1585‬سنة ‪،25‬‬ ‫‪ 4‬متوز ‪ /‬يوليو‬ ‫‪.2012‬‬

‫‪� 13‬صحيفة التجمع‬ ‫– ‪ 26‬ايلول ‪/‬‬ ‫�سبتمرب ‪� 26‬آذار ‪/‬‬ ‫مار�س ‪– 2012‬‬ ‫العدد ‪.758‬‬ ‫‪ 14‬انظر مقالة د‪� .‬أمال‬ ‫قرامي‪« ،‬الن�ساء‬ ‫والثورات والعنف»‬

‫‪metransparent.com/‬‬ ‫‪spip.php?page‬‬

‫‪=article&id_article‬‬ ‫‪=16960&var_lang‬‬ ‫‪=ar&lang=ar،‬‬

‫‪15‬‬

‫ ‪arabic.upi.com/‬‬ ‫‪News/2012/03/07/‬‬ ‫‪UPI-93901331124851/.‬‬

‫‪« 16‬الفاين�شال تاميز»‬ ‫يف ‪ 4‬حزيران ‪/‬‬ ‫يونيو ‪.2012‬‬ ‫‪� 17‬صحيفة «احلياة»‪،‬‬ ‫‪ 15‬ايار ‪ /‬مايو‬ ‫‪ 2011‬العدد‬ ‫‪.17572‬‬

‫‪36‬‬

‫الأ��سرة امل�رصية وارت��داد ال��وع��ي‪ .11‬كذلك ك�شوف‬ ‫العذرية‪ ،‬وعودة ختان الإناث‪� ،‬إنهما الأخطر انتهاك ًا‬ ‫ال عن حماولة «�إلغاء املجل�س القومي‬ ‫للإن�سانية‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫للمر�أة»‪ ،‬بحجة �أنه من رموز النظام وارتباطه ب�سوزان‬ ‫مبارك وعدم �إظهار �صور املر�شحات حلزب الإخوان‪،‬‬ ‫وا�ستبدالها بالوردة احلمراء‪ ،‬بحجة �أنها عورة‪� ،‬إلخ‪.‬‬ ‫ وعندما �أ�صبحت ال�سلطة يف متناول جماعة الإخوان‬ ‫يف م�رص‪ ،‬علت �أ�صوات «مني اللي نزلها امليدان؟» و«جه‬ ‫الرئي�س اللي هيلمكم»‪« ،‬وقرن يف بيوتكن»‪� .‬أما عندما‬ ‫انتخب الرئي�س حممد مر�سي‪ ،‬فكانت االعتداءات والعنف‬ ‫بال�رضب وال�شتم والتحر�ش اجلن�سي‪ ،‬وال تكاد تخلو �أية‬ ‫�صحيفة �أو و�سيلة �إعالمية من ذكر هذه االنتهاكات التي‬ ‫�أ�صبحت ظاهرة تهدد بتمزيق املجتمع امل�رصي‪ ،‬والن�ساء‬ ‫عامة وغري املحجبات بوجه �أخ�ص‪ ،‬الأمر الذي ا�ستنفر‬ ‫املنظمات املدنية لإدانة ما يحدث‪.12‬‬ ‫ ومل ت�سلم ن�ساء الكويت مما يحدث لأخواتهن يف‬ ‫الدول العربية‪ ،‬فت�صدر فتاوى «حترم الت�صويت للن�ساء‪،‬‬ ‫وبعدم �صالحيتهن للوالية»‪ ،‬وحادثة �إغالق معر�ض‬ ‫�إحدى الفنانات «بعد ‪� 3‬ساعات من افتتاحه»‪ .13‬ويف‬ ‫تون�س جرى الت�سابق يف حتجيب امل��ر�أة وحتجيمها؛‬ ‫ف�أحزاب �سلفية مثل حزب «من �أجل فر�ض النقاب»‬ ‫الذي طرد مديرة الإذاعة الدينية يف الزيتونة من مكتبها‪،‬‬ ‫بدعوى � ّأن املر�أة لي�س لها الكفاءة الذهنية والعلمية‬ ‫لإدارة و�سيلة �إعالمية»‪ .‬وهو الفكر نف�سه الذي مت فيه‬ ‫طرد �أ�ستاذتني يف مدر�سة الفنون اجلميلة و�إجبارهما على‬ ‫تالوة ال�شهادتني على مر�أى من النا�س‪ ،‬كي ي�سمحوا‬ ‫لهما باخلروج بعدما تلقيهما تهديد ًا بالطرد‪ .14‬والأكرث‬ ‫�سن الزواج‪،‬‬ ‫ل�س ّن ّ‬ ‫رعب ًا ما ي�شتغل عليه يف الد�ستور َ‬ ‫وتعدد الزوجات؛ فهذا البحري اجلال�صي‪ ،‬رئي�س حزب‬ ‫االنفتاح والوفاء – املجل�س الوطني الت�أ�سي�سي يف‬ ‫املطالبة بد�ستور جديد يقول � ّإن «من حق كل تون�سي‬ ‫اتخاذ جارية �إىل جانب زوجته والتمتع مبا ملكت ميينه»‪،‬‬ ‫وكانت احلجة التي ا�ستند �إليها � ّأن «اجلارية هي احلل‬ ‫الأجنع لإعادة التوازن االجتماعي واالخالقي التون�سي‬ ‫الذي ت�رضر بالعلمانية»‪.15‬‬ ‫ �إنه الهو�س مبا ي�سمى ال�صحوة الإ�سالمية‪ ،‬حيث‬ ‫يناق�ش قانون ما ي�سمى «م�ضاجعة الوداع»‪ ،‬ب�أن ُي�سمح‬ ‫للرجل �أن يو ّدع زوجته ملدة ‪� 6‬ساعات بعد موتها‪ .‬يف‬ ‫هذا اخلريف الحت نفحة من الربيع على ن�ساء ال�سعودية‪،‬‬ ‫يف خطوة و�صفت بالتاريخية؛ فقد �أ�صدر و ّ‬ ‫يل العهد‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫بحق املر�أة يف الرت�شح والت�صويت‪ ،‬لكن‬ ‫ال�سعودي قرار ًا ّ‬ ‫يظل التناق�ض وال�سخرية ب� ّأن املر�أة ال�سعودية ال ت�ستطيع‬ ‫قيادة ال�سيارة حتى اليوم‪.‬‬ ‫�إعالم الربيع‪� :‬صناعة الأمنوذج–الأيقونة‬ ‫لقد �ساهم الإعالم املحلي واخلارجي واحلزبي بالإيجابي‬ ‫وال�سلبي؛ فالإيجابي هو �إبراز دور الن�ساء وم�شاركتهن‬ ‫يف امل�سريات‪ ،‬وتتبع ن�شاطاتهن املختلفة‪ ،‬وتتبع مفا�صل‬ ‫امل�شاركات‪ ،‬وخ�صو�ص ًا امل�شاركات النوعية‪ ،‬و�إن كان‬ ‫الرتكيز على ال�ساحات يف املدن الرئي�سية‪� .‬أما الدور‬ ‫ال�سلبي‪ ،‬فللأ�سف � ّإن بع�ض قنوات الإعالم حمكومة ب�أفكار‬ ‫م�سبقة �ضمن �أجندة �صناعة الزعيم‪ ،‬والنموذج الأوحد‬ ‫الكاريزمي الأ�سطوري‪ ،‬ومبوجب ذلك‪ ،‬جرى �إظهار جانب‬ ‫�أحادي للن�ساء‪( ،‬الوجه املغلق بالأ�سود‪/‬املل ّثم‪ /‬املجلبب)‪،‬‬ ‫�أو مبا يطلق عليه «املوج الأ�سود» �أو «الثورة ال�سوداء»‪.‬‬ ‫ مل ي�ألف العامل م�شهد ًا حلركة جموع من الن�ساء‬ ‫الثائرات «املوج الأ�سود» من كافة املهن‪ ،‬مدر�سات‪،‬‬ ‫ربات بيوت‪ ،‬حماميات‪ ،‬حقوقيات‪ ،‬وطبيبات‪� ...‬إلخ‪ ،‬وكافة‬ ‫من خرجن لي�ستنجدن بالقبائل و�أعرافها حلمايتهن من‬ ‫نظام علي عبدالله �صالح‪.‬‬ ‫ مل تكن �سلطة النظام ال�سابق هي الوحيدة التي‬ ‫انتهكت امل��ر�أة وحولتها �إىل رق��م راب��ح يف بور�صة‬ ‫ال�صفقات املحلية والإقليمية والدولية‪ ،‬بل �ساهمت‬ ‫�أي�ض ًا الأحزاب «الثورية» التي ان�ضمت �إىل ال�ساحات‪،‬‬ ‫ب�صناعتها لزعامات �أو�صلتها �إىل م�صاف «الأيقونات‬ ‫الثورية»‪ ،‬وخ�صو�ص ًا تلك الزعامات التي �أتت من رحم‬ ‫فكن �إلهات للثورة بالعنف اجلهادي‪ ،‬نحتت‬ ‫الأحزاب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫من خالل هذه الأيقونة �شعارات ومفاهيم قدا�سة الثورة‬ ‫ال قائد ًا للن�رص‪.‬‬ ‫كحق الهي‪ ،‬وبط ً‬ ‫ يف ه��ذا املنحى تبدت �صورتنا للعامل ككائنات‬ ‫كاريكاتورية حمنطة‪ ،‬مبهرة رغم الغليان ذي الكلفة‬ ‫الب�رشية الباهظة الثمن‪ .‬على �سبيل املثال‪ ،‬قالت �صحيفة‬ ‫احلياة «�إن �أح��داث اليمن ُت َع ّد مر�آة مهمة لع�رص ربيع‬ ‫الثورات يف العامل العربي»‪ 16‬وباملثل يف مقالة «اليمن‬ ‫الذي �أفحمنا» تقول الكاتبة نهلة ال�شهال‪ ...« :‬وبرزت‬ ‫توكل كرمان و�أظهرت ن�ساء يرتدين النقاب ويدلني‬ ‫بت�رصيحات من خلفه وعي ًا يح�سدن عليه»‪.17‬‬ ‫ هذه ال�صورة النمطية لن�ساء الثورة يف اليمن توكل‬ ‫كرمان‪« ،‬الرمز» الوحيد‪ ،‬وخلفها الن�ساء املنتقبات «املوج‬ ‫الأ�سود» كانت وظلت وما زالت �صورة املر�أة يف اليمن‪،‬‬

‫ووجه الإ�سالم ال�سيا�سي لليمن الذي جعل «ال�رش�شف»‬ ‫لي�س لبا�س ًا تقليدي ًا فح�سب‪ ،‬بل وهوية دينية �أي�ضاً‪،‬‬ ‫ليظهر للعامل‪ّ � ،‬أن الثورة ثورة حزب الإ�صالح وحماة‬ ‫الثورة‪ ،‬و�أن ال�شهداء �شهدا�ؤهم‪ ،‬وهذا ما قالته توكل‬ ‫ّ‬ ‫حمط‬ ‫كرمان على �صفحتها على الفي�سبوك‪ ،‬وك��ان‬ ‫اال�ستنكار من �أطياف الثورة املختلفة ‪.18‬‬ ‫ �صناعة الأمن��وذج مل حت�صل ب� ٍ‬ ‫أياد عربية فقط‪ ،‬بل‬ ‫وب�صناعة غربية وغرائبية‪� ،‬أ�سهمت يف ت�سويق «الأيقونة»‬ ‫وت�أطري احلالة املتحفية‪ ،‬واختزال كل التنوع وتفا�صيل‬ ‫الثورة واحلياة‪ ،‬ب�أيقونة ال تختلف عن �شخ�صية «باربي»‬ ‫الأمريكية‪ .‬فـ«باربي الثورة»‪ ،‬تختلف ب�أنها حالة ثورية‬ ‫�إ�سالموية تلب�س حجاباً‪ ،‬وجرت �أ�سلمتها لتكون على نف�س‬

‫للمجتمع وللمر�أة‪ ،‬لكنه ممكن املواجهة؛ ف�إذا احتدت احلركة‬ ‫الن�سوية ون�سقت مع القوى املدنية من مثقفني وليرباليني‬ ‫وغريهم‪ ،‬ف�إنهم �سي�سهمون يف تفكيك امل�ؤ�س�سات التي‬ ‫تقف عائق ًا �أمام تنمية املجتمع وتطوره‪.‬‬ ‫ والتحديات هنا هي الأمية املتف�شية مبا يتجاوز ‪ %65‬من‬ ‫ال�سكان والفقر والبطالة والتزويج املبكر‪ ،‬وال�صحة املرتدية‪،‬‬ ‫أي�ضا‪ ،‬وتنامي حاالت العنف‬ ‫وارتفاع م�ستوى اخل�صوبة � ً‬ ‫يفرخ التع�صب والإرهاب‪،‬‬ ‫الأ�رسي واملجتمعي‪ ،‬وتعليم ّ‬ ‫كذلك تنامي م�شاريع الفتاوى اجلائرة بحق الن�ساء‪.‬‬ ‫ وثمة حتديات ازدادت حدتها مع �أحداث ‪.2011‬‬ ‫و�سواء نظرنا �إىل ما حدث يف اليمن على �أنه ثورة �أو �أزمة‪،‬‬ ‫فال بد من التوافق على ما ي�أتي‪:‬‬

‫ا�ستعادة وجوهنا املغلقة وامل�صفّدة ب�أقفال الفتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاوى‪،‬‬ ‫حتى نتمكن من ر�ؤية �صورنا الطبيعية وهي تغت�سل مباء ال�شمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ�س‬ ‫منوذج الت�أ�سلم يف لعبة «فلة» اخلليجية‪ ،‬و«�سارة الإيرانية»‪،‬‬ ‫ومثلما جرى ت�سويق منوذج املحجبة التي ت�صنع الدمية يف‬ ‫الغرب مبوا�صفات �إ�سالمية‪ ،‬كما فعلت «�رشكة �أمريكية يف‬ ‫والية ميت�شيغان بت�سويق دمية حمجبة ا�سمها «رزان» وتباع‬ ‫للم�سلمني يف �أمريكا وبريطانية»‪ ،19‬فقد جرت �صناعة‬ ‫باربي الثورية للربيع العربي‪ ،‬وربيع اليمن خا�صة‪.‬‬ ‫ وقد �ساعد على �صناعة باربي و�سائل الإعالم املقاولة‬ ‫على ثورة الربيع‪ ،‬ويف ال�صدارة قناة «�سهيل» التابعة‬ ‫حلزب الإ�صالح مينياً‪ ،‬وقناة «اجلزيرة» عربياً‪ ،‬وعربها جرى‬ ‫ت�سويق الوهم‪ ،‬وبروباغندا الثورة؛ �إذ يجب على ال�شعب‬ ‫�أن ي�صدق وي�ؤمن مبا تقوله وتفعله باربي؛ فما قالته باربي‬ ‫«حق» قاطع ب� ّأن «الربيع ي�سري يف االجتاه ال�صحيح‪ ،‬و� ّأن‬ ‫الثورة حققت �أهدافها‪ ،‬و� ّأن الثورة من�صورة»‪ 20 ...‬بهذه‬ ‫املتحفية الثورية الإ�سالمية‪ ،‬و�إذا بنا �أمام فا�شية خ�رضاء‬ ‫حت�صد الربيع والف�صول واجلغرافيا‪ ،‬ويدار بزر الفتوى‪،‬‬ ‫وال�شيخ‪ ،‬والقبائل الغازية‪ ،‬وزر اجلرنال‪.‬‬ ‫‪18‬‬

‫ ‪www.14october.‬‬

‫?‪com /News.aspx‬‬ ‫‪newsno=3024415.‬‬

‫‪� 19‬صحيفة «احلياة»‬ ‫‪ 20‬ايلول ‪/‬‬ ‫�سبتمرب ‪.2000‬‬ ‫‪ 20‬مقابالت من و�سائل‬ ‫�إعالمية خمتلفة‪.‬‬

‫‪37‬‬

‫حتديات‬ ‫ال ينف�صل حتدي امل��ر�أة اليمنية عن التحدي للمجتمع‬ ‫ب�أطيافه املختلفة؛ فما زال املجتمع يواجه الرتكيبة‬ ‫احللزونية واملتداخلة لفكر القوى الرجعية واملهيمنة‬ ‫(امل�ؤ�س�سة القبلية والدينية والع�سكرية) امل�ست�أ�سدة بالرثوة‬ ‫وال�سلطة ومفا�صل العملية التعليمية‪ ،‬وم�ؤ�س�سة القانون‪،‬‬ ‫حتد كبري‬ ‫وامل�ؤ�س�سة ال�سيا�سية واالقت�صادية برمتها‪� .‬إنه ٍّ‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ متكني املر�أة بن�سبة ‪ %30‬يف كافة امل�ؤ�س�سات ومناحي‬ ‫ال �إىل ‪.%50‬‬ ‫احلياة‪ ،‬وال�سلطة و�صنع القرار‪ ،‬و�صو ً‬ ‫ العمل احلثيث لأن تكون املر�أة م�شاركة يف �صياغة‬ ‫الد�ستور‪ :‬ذلك هو التحدي الأكرب واملقلق‪.‬‬ ‫ �إ�صالح قانون الأحوال ال�شخ�صية الذي تعر�ض للعبث‬ ‫با�سم «ال�رشيعة»‪ ،‬وا�ستعادة قانون «املواطنة املت�ساوية»‬ ‫و«العدالة االجتماعية» مبا ن�صت عليه املواثيق الدولية‬ ‫التي وافق عليها اليمن‪.‬‬ ‫احلد من حاالت العنف املمنهج التي متار�س‬ ‫ العمل على ّ‬ ‫على املر�أة با�سم احلرام والعيب وبا�سم الدين واملوروث‬ ‫الثقايف واخل�صو�صيات والعادات والتقاليد‪.‬‬ ‫ التحدي وفر�ض ال��ـ‪ %30‬للو�صول �إىل امل�شاركة‬ ‫باملنا�صفة‪ ،‬كما يف تون�س‪ ،‬و�أن تتوىل الن�ساء منا�صب‬ ‫�سيادية‪.‬‬ ‫ �ألاّ ت�صنف الن�ساء على �أ�سا�س هوياتي‪ ،‬وخ�صو�ص ًا‬ ‫الهوية الدينية‪ ،‬يف امللب�س �أو الأن�شطة املختلفة‪.‬‬ ‫ جتديد اخلطاب الن�سوي و�إدخ��ال العنا�رص ال�شابة‬ ‫لإدارة امل�ؤ�س�سات الن�سوية‪ ،‬كذلك مللمة حاالت الت�شظي‬ ‫يف احلركات الن�سوية حتت حتالف واحد ي�شتغل على‬ ‫ق�ضايا املر�أة‪ ،‬والت�شبيك مع التحالفات الن�سوية يف العامل‪،‬‬ ‫واال�ستفادة من جتارب تلك احلركات‪.‬‬ ‫ �أخ�يراً‪ ،‬ا�ستعادة وجوهنا املغلقة وامل�صفّدة ب�أقفال‬ ‫الفتاوى‪ ،‬حتى نتمكن من ر�ؤية �صورنا الطبيعية وهي‬ ‫تغت�سل مباء ال�شم�س‪.‬‬


‫�رصاع الإعالم‬ ‫يجب و�ضع هذه احلما�سة الوطنية يف �سياقها‪� ،‬سياق اخلوف‬ ‫�ضخ املعلومات‬ ‫املتف�شي الذي تقطر به خمتلف قنوات ّ‬ ‫واخلطابات ال�سيا�سية‪ .‬هذا اخلوف‪ ،‬الذي ظننا �أنه �سقط‬ ‫ال �آخر‪:‬‬ ‫كجدا ٍر مع ثورات عام ‪ ،2011‬اتخذ لنف�سه �شك ً‬ ‫ت�سميه‬ ‫مل يعد اخلوف من النظام‪ ،‬من الدولة التي تبني ما ّ‬ ‫بياتري�س هيبو «قوة الطاعة»‪ ،‬بل بات خوف ًا �أكرث انت�شار ًا‬ ‫ميزج ما بني ال�صعوبة احلقيقية يف اخل�ضوع �أو احرتام‬ ‫َ‬ ‫املواطنة‪ ،‬خلل وظيفي وا�ضح يف اخلدمات‬ ‫الهرمية (تر ّدي‬ ‫ّ‬ ‫العامة) والهلع غري ّ‬ ‫املنظم يف مواجهة املخاطر احلقيقية‬ ‫مهدد ًا ب�سيناريو حمتمل «على‬ ‫�أو‬ ‫فيلوح البع�ض ّ‬ ‫املتخيلة‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫يقدم‬ ‫الطريقة امل�رصية» كف ّزاعة �أو خطر �رصيح‪ ،‬بينما ّ‬ ‫عليه البع�ض الآخر اخلطر ال�سلفي‪� ،‬أو انعدام الأمان بلغة‬ ‫متفرقة‪.)... ،‬‬ ‫�أكرث عمومية (بيدوفيليا‪ ،‬اعتداءات‪ ،‬حوادث ّ‬ ‫ يقود ذلك كله الالعبني ال�سيا�سيني �إىل �إ�شهار رغبتهم‬ ‫ب�إنقاذ تون�س وثورتها‪ .‬ولكن‪ ،‬خلف هذا الإ�شهار الوطني‬ ‫�رصاع �ضا ٍر على ال�رشعية الوطنية‪ ،‬يحمل‬ ‫اجلامع‪ ،‬يتوارى‬ ‫ٌ‬ ‫كل منهم تون�سـ«ـه» اخلا�صة‪ .‬في�ضحي ال�س�ؤال املحوري‬ ‫فيه ٌّ‬ ‫«�أين هي امل�صلحة الوطنية؟» ومن يخدمها ب�شكل �أف�ضل‬ ‫اليوم؟ ك ٌّل يجد خيانتها املفرت�ضة يف ثنائية جديدة يكرث‬ ‫التعليق حولها («النه�ضة»‪� /‬ضد «النه�ضة»)‪ .‬بالن�سبة �إىل‬ ‫البع�ض‪ ،‬مل يعمل الإ�سالميون ــ ومن �ضمنهم «النه�ضة»‬ ‫ــ يف خدمة امل�صلحة الوطنية التون�سية يوماً‪ .‬لي�سوا �سوى‬ ‫حتركهم �أيا ٍد عاملية‪� ،‬أكانت �أيادي «الإخوان امل�سلمني»‬ ‫دمى ّ‬ ‫�أم اجلهاديني‪ .‬املعلومات املن�شورة على املواقع الإخبارية‬ ‫ال � ّإن الهدف الفعلي‬ ‫تروج ل�شائعات‪ ،‬فتقول مث ً‬ ‫التون�سية ّ‬ ‫من زيارة را�شد الغ ّنو�شي لإ�سطنبول يف منت�صف متوز‪/‬‬ ‫ال�رسي للتنظيم العاملي‬ ‫يوليو‪ ،‬هو امل�شاركة يف االجتماع‬ ‫ّ‬ ‫جلماعة «الإخوان امل�سلمني»‪ .‬وقد عينّ الغ ّنو�شي خالله‬ ‫رئي�س ًا للمكتب ال�سيا�سي‪ ،‬بحيث �أ�صبح الرجل رقم ‪2‬‬ ‫ت�صور حركة �شخ�صيات‬ ‫يف «اجلماعة»‪ .‬و�أتت فيديوات‬ ‫ّ‬ ‫ر�سمية على الأقدام يف ما ي�شبه بهو فندق‪ ،‬لتخدم كدليلٍ‬ ‫على انعقاد هذا االجتماع‪ ،‬بح�سب قناة �إماراتية‪.‬‬ ‫ يف مواجهة اتهامهم بخيانة الوطن‪ ،‬يتبارى م�ؤيدو‬ ‫«النه�ضة» ال�ستعرا�ض وطنيتهم‪� ،‬ساعني �إىل التمايز‬ ‫عن ال�سلفيني الذين ارتبطت �صورتهم بالعلم الأ�سود‪.‬‬ ‫فحادثة ا�ستبدال العلم الوطني بالعلم ال�سلفي يف‬ ‫ح��رم «جامعة منوبة» يف ‪� 7‬آذار‪ /‬مار�س ‪2012‬‬

‫أين هي المصلحة العامة يف الثورة التونسية؟‬ ‫ليىل داخيل‬

‫تعي�ش تون�س يف الفرتة الراهنة مرحلة �صعو ٍد حاد يف‬ ‫العلم �أ�سبابه يف عوامل‬ ‫التعبري الوطني‪ .‬ويجد متجيد َ‬ ‫عديدة‪ .‬ففيما ّ‬ ‫دل العلم‪ ،‬خالل التظاهرات الأوىل التي‬ ‫تلت �إ�سقاط النظام‪ ،‬على �شكلٍ من التعاون الوطني‪ ،‬تراه‬ ‫�أ�ضحى اليوم م�ساحة �رصاع‪ .‬من ميتلك ال�رشعية الوطنية‬ ‫الفعلية؟ احلزب املنتخب؟ معار�ضته التي تطالب ب�رشعية‬ ‫من ٍ‬ ‫منط خمتلف؟ � ّأية � ٍ‬ ‫أرا�ض‪ّ � ،‬أية �أجيال‪... ،‬؟ وتطول الئحة‬ ‫الأ�سئلة �إىل ما ال نهاية؛ �إذ ي�صعب حتديد موقع الفرد نظر ًا‬ ‫تعدد االنتماءات التي تتزاوج فيه‪.‬‬ ‫�إىل ّ‬

‫(‪)2009‬‬

‫املهمة‪� :‬إنقاذ الثورات العربية‬ ‫ّ‬ ‫ميكنتف�سريالفورةالوطنيةبعواملظرفيةعديدةقديخت�رصها‬ ‫امللحة لـ«�إنقاذ الثورة التون�سية»‪ .‬فبعد‬ ‫�‬ ‫إح�سا�س بال�رضورة ّ‬ ‫ٌ‬ ‫مهم ًة‬ ‫و�صفها بـ«الأمل الأخري»‪ ،‬ك ّلفت الثورة التون�سيني ّ‬ ‫مقد�سة‪ .‬هكذا �أعلنها فرن�سوا‬ ‫ينظرون �إليها بو�صفها �شبه ّ‬ ‫هوالند يف اخلطاب الذي �ألقاه �أمام الربملان التون�سي يف مطلع‬ ‫ال يذهب �إىل �أبعد بكثري من‬ ‫متوز‪ /‬يوليو‪« :2013‬جتلبون �أم ً‬ ‫ال�شعب التون�سي‪� ،‬أبعد بكثري من ال�شعوب العربية»‪.‬‬ ‫ �أمام هذه الوظيفة غري الوا�ضحة املعامل‪ ،‬والتي ينظر �إليها‬ ‫تنوعت ردود الأفعال‪.‬‬ ‫اجلميع رغم ذلك كـ«واجب وطني»‪ّ ،‬‬ ‫ال منو خ�صو�صي ٍة تون�سية تظهر يف عبارات‬ ‫فهي حتفّز �أو ً‬ ‫من نوع «تون�س لي�ست م�رص» (�أو لي�ست �سورية‪ ،‬لي�ست‬ ‫قطر‪ ،‬لي�ست �أوروبا‪� ،)... ،‬أو يف ت�رصيحات عامة مثل‪« :‬يف‬ ‫تون�س‪ ،‬الأمر خمتلف»‪ .‬وبح�سب املتحادثني‪ ،‬ي�ست�شهد هذا‬ ‫اخلطاب على �صوابيته بطبيعة التون�سيني امل�ساملة‪ ،‬و�إجنازات‬ ‫ال يف الدميوغرافيا) وعلى التعليم‪� ،‬أو حتى‬ ‫بورقيبة (و�أثره مث ً‬ ‫املناخ‪ .‬و�أحياناً‪ ،‬تكون املفارقة يف �سوق هام�شية البلد �ضمن‬ ‫ٍ‬ ‫حد‬ ‫ال�سياق العاملي‬ ‫كحظ من حظوظه‪ .‬تون�س‪� ،‬صغرية �إىل ّ‬ ‫ان�رصاف الأطماع عنها‪ ،‬مبا يتيح �إمكانية �إجناح ثور ٍة فيها‪...‬‬

‫باحثة من تونس‬

‫يف «المركز الوطين‬ ‫لألحباث العلمية‬ ‫يف فرناس»‪.‬‬

‫ٌ‬ ‫«جيل‬ ‫آخر مؤلفاهتا‬

‫مالمثقفني العرب يف‬ ‫سورية ولبنان‪:‬‬

‫«‪»1940 - 1908‬‬

‫‪38‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ تنت�رش الأعالم يف البالد �إذ ًا لت�شهر الفخر الوطني‪،‬‬ ‫ولكن ُينظر �إىل جناح الثورة �أو ف�شلها ك�إمكاني ٍة م�ستقلة‬ ‫عن �إرادة ال�شعب �أو �أفعال التون�سيني‪ .‬ف�شعار الواجب‬ ‫الوطني‪ ،‬ذاك اخلا�ص بالإ�رصار‪ ،‬يتغذّى من عجزٍ‪ :‬يف‬ ‫مواجهة امل�ؤامرات الدولية التي تتفاوت �إمكانية التحقق‬ ‫منها‪ ،‬والنظريات اجليو�سيا�سية‪ ،‬وال�شكوك التي ال تنفك‬ ‫وي�شد هذا‬ ‫ت�ضغط على الطبقة ال�سيا�سية مبجملها‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫اخلطاب �إىل البعيد �أحيان ًا حتى ت�ضحي الثورة التون�سية‪،‬‬ ‫تلك نف�سها التي يجب �إنقاذها‪ ،‬اخرتاع ًا (غربياً‪� ،‬أمريكياً‪،‬‬ ‫�إ�رسائيلياً‪ ،‬قطرياً‪� ،‬سعودياً‪ )... ،‬لإع��ادة ر�سم خريطة‬ ‫�سخر انتخابات ‪ 2014‬لتغذية ال�شك‪ :‬جرى‬ ‫املنطقة‪ .‬ف ُت ّ‬ ‫التالعب بها لإي�صال الإ�سالميني �إىل ال�سلطة‪ ،‬لكونهم‬ ‫حلفاء �أمريكا (�أو �سواها‪ ،‬تبع ًا للأدبيات امل�ستعملة)‪ .‬يجب‬ ‫عدم �إهمال هذا النوع من املحاججات‪ .‬فهي �إ�شار ٌة �إىل‬ ‫الإر�ساء الطويل الأمد لنظا ٍم قائم على ّ‬ ‫�شك م�ستمر يف‬ ‫الت�ضخم‪ ،‬يغرق البالد يف مناخ من اخلوف املتف�شي‪ ،‬لي�سود‬ ‫ّ‬ ‫إح�سا�س ب�أن «كل �شيء قابل للحدوث يف �أية حلظة»‪.‬‬ ‫�‬ ‫ٌ‬ ‫جانب �أخري من جوانب الواجب الوطني ي�ستح�رضه‬ ‫ ‬ ‫ٌ‬ ‫ع��اد ًة رج��ال ال�سيا�سة ب�صدقٍ متفاوت‪ ،‬هو «الوحدة‬ ‫املقد�سة» التي تتطلبها «الأح���داث»‪� ،‬أو�ضاع البلد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ومفاهيم مقلقة �أخرى ال يتم تعريفها بال�رضورة ك�أزم ٍة‬ ‫�سيا�سية �أو اقت�صادية‪ ،‬بل كحالة �أزمة �شاملة �سيطول‬ ‫�أمدها‪ .‬فيكون التوافق ال�سيا�سي املطلب الدائم كالتعويذة‪،‬‬ ‫ما دامت التوترات واملعار�ضات م ّتقدة بني خمتلف التيارات‬ ‫ال�سيا�سية‪ .‬وهو‪ ،‬يف املقابل‪ ،‬ي�ستند �إىل ٍ‬ ‫متعمد ما بني‬ ‫خلط ّ‬ ‫ال�شعور الوطني والوحدة الوطنية‪ .‬فالوحدة تفرت�ض حالة‬ ‫ٍ‬ ‫حرب يجب �أن ُت�سكت املعار�ضات‪ ،‬بينما ال�شعور الوطني‪،‬‬ ‫�إذا �أملى احرتام البلد والأمة‪ ،‬فهو ال يفر�ض بال�رضورة‬ ‫�إ�سكات اخلالفات واملعار�ضات املوجودة يف الداخل‪.‬‬

‫‪(mayfootekchay.tv/isctube_show.php?sti=Un-salafiste-en‬‬‫)‪leve-le-drapeau-tunisien-la-fac-de-Manouba&tubeid=6949‬‬

‫‪39‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫وال�سخط الذي �أثارته‪ ،‬طبعا الأذهان‪� .‬أما خولة ر�شيدي‪،‬‬ ‫ت�صدت للطالب ال�سلفي رافع العلم‬ ‫الطالبة ال�شابة التي‬ ‫ّ‬ ‫و�سام �شك ٍر‬ ‫الأ�سود‪ ،‬حامي ًة العلم التون�سي‪ ،‬فقد حازت‬ ‫َ‬ ‫ال من رئي�س اجلمهورية �آنذاك‪.‬‬ ‫جلي ً‬ ‫ّ‬ ‫ منذ ذلك احلني‪ ،‬ركزت التعبئة التي مار�سها منا�رصو‬ ‫احلكومة يف ال�شارع‪ ،‬على �رشعية احلزب الإ�سالمي احلاكم‬ ‫وعلى طابعه الوطني‪ .‬وهم ي�ستخدمون املثال الرتكي هنا‬ ‫للقول � ّإن الإ�سالميني التون�سيني‪ ،‬كحال نظرائهم الأتراك‪،‬‬ ‫ال ي�سعون �إىل ت�صدير منوذج‪ ،‬بل �إىل �إر�سائه �ضمن ال�سياق‬ ‫الوطني‪ .‬وبالنظر �إىل حراكهم التعبوي �أخرياً‪� ،‬إثر اغتيال‬ ‫حممد برهامي يف ‪ 25‬متوز‪ /‬يوليو املا�ضي‪ ،‬يظهر بو�ضوح‬ ‫طغيان اللون الأحمر عليها‪ ،‬يف حني �أن التظاهرات امل�ؤيدة‬ ‫لـ«النه�ضة» �إثر اغتيال �شكري بلعيد (‪� 9‬شباط‪ /‬فرباير‬ ‫‪� )2013‬سارت حتت �أعالم احلزب (�أبي�ض‪ ،‬ب�شعا ٍر �أزرق)‬ ‫الذي ح�رض حينها بكثافة‪� ،‬إىل جانب الأعالم ال�سلفية‪.‬‬ ‫التجمعات‪ ،‬ا�س ُتبدلت‬ ‫ال�صورة احلزبية التي �سادت تلك‬ ‫ّ‬ ‫بال�رشعية الوطنية املركزية ولونها الأحمر‪ ،‬اليوم‪.‬‬ ‫ وعلى ال�ساحة ذاتها‪ ،‬حجز عامل الأعمال لنف�سه‬ ‫ح�صة‪« .‬ال والء �إال لتون�س»‪ ،‬تقول اللوحات الإعالنية‬ ‫ّ‬ ‫ال�ضخمة املنت�رشة يف �أرجاء تون�س‪ .‬املعادلة غريبة‪ ،‬وت�أتي‬ ‫على خلفية العلم الوطني‪ ،‬لت�ستح�رض �ضمني ًا �شهادة‬ ‫احليز العام قد‬ ‫�إميان امل�سلمني (ال �إله �إال الله)‪ .‬بذلك‪ ،‬ف�إن ّ‬ ‫تعر�ض حرفي ًا للغزو الأحمر‪ :‬حمطات البا�صات‪ ،‬اللوحات‬ ‫ّ‬ ‫الإعالنية بكافة �أحجامها‪ ،‬ب�شعا ٍر �أو من دونه‪.‬‬ ‫ هذا النمط ّ‬ ‫املنظم واملم�أ�س�س من الإ�شهار ال�سيا�سي‪،‬‬ ‫يف ٍ‬ ‫وقت يخلو من احلمالت االنتخابية‪ ،‬يبدو الفتاً‪ .‬كذلك‪،‬‬ ‫نرى �صور �شهداء‪ ،‬مطبوعة بالألوان ومع ّلقة هنا �أو هناك‪،‬‬ ‫على الواجهات‪ ،‬على اجلدران‪ ...‬و�أحياناً‪ ،‬تربز ع�صبات‬ ‫إحياء لذكرى ال�شهداء‪.‬‬ ‫عند مداخل امل�ؤ�س�سات‪ً � ،‬‬ ‫املتفرج يف ه��ذه احلملة هو كثافة‬ ‫ ما يطبع عني‬ ‫ّ‬ ‫ح�ضورها‪ .‬لقد ح ّلت مكان الإعالنات يف املدينة‪ ،‬بكل‬ ‫ما للكلمة من معنى‪ .‬وعندما يكون املرء على ّبينة من‬ ‫ال�صعوبات االقت�صادية التي تواجهها تون�س‪ ،‬ي�صبح‬ ‫ٍ‬ ‫غياب �شبيه بالن�سبة �إىل �رشكات االت�صاالت‬ ‫تخيل كلفة‬ ‫ّ‬ ‫حميرّ اً‪ .‬ما الذي تعنيه تعبئ ٌة �شبيهة؟ وما �سببها؟‬ ‫ يف مطلع كانون الثاين‪ /‬يناير املا�ضي‪ ،‬بد�أ ح�ضور‬ ‫الأو�ساط االقت�صادية يف احلياة ال�سيا�سية التون�سية يتزايد‬ ‫تدريجياً‪ .‬فتم تقدمي �سليم الرياحي‪ ،‬وهو رئي�س حزب‬ ‫كعراب اللقاء ما بني‬ ‫احلر») ّ‬ ‫ليربايل نا�شئ («االحتاد الوطني ّ‬ ‫‪ BCS‬والغ ّنو�شي يف باري�س‪� ،‬أوا�سط �شهر �آب‪� /‬أغ�سط�س‪ .‬من‬


‫املتعهدين‪ ،‬يظهر �أ�صحاب االت�صاالت وملاّ كو و�سائل‬ ‫بني‬ ‫ّ‬ ‫الإعالم يف ال�صف الأول‪ .‬ف ُت�ست�شف من ذلك رغب ٌة م�رشوعة‬ ‫هددتها ب�شكل خا�ص الإدانة‬ ‫حرية التعبري (وقد ّ‬ ‫يف حماية ّ‬ ‫الق�ضائية ملدير قناة «التون�سية» وم�ؤ�س�س �رشكة الإنتاج‬ ‫«كاكتو�س» �سامي الفهري‪ ،‬كما اتهامات كثرية ا�ستهدفت‬ ‫ٍ‬ ‫اجنراف «ا�ستبدادي» لـ«حزب‬ ‫ال�صحافيني)‪ ،‬يف مقابل �أي‬ ‫النه�ضة»‪ .‬هذا جزء من ال�رشح املمكن‪ .‬لكن يجب �أي�ض ًا‬ ‫متييز ح�ضور لوبي ليربايل يف هذه املبادرة‪ ،‬يقف على مقرب ٍة‬ ‫من املعار�ضة‪ ،‬لأ�سباب معظمها مت�صلة بالتقارب االجتماعي‬ ‫واملناطقي‪ ،‬كما بالروابط العائلية‪ .‬كذلك‪� ،‬أتت املبادرة �إثر‬ ‫ي�سخرون جناحهم االقت�صادي‬ ‫بروز جيل من «القادة» الذين ّ‬ ‫يف خدمة الن�شاط ال�سيا�سي يف ال�سياق الدميقراطي اجلديد‪.‬‬ ‫املتعهدين الأربعينيني بد�أ حياته املهنية حتت‬ ‫معظم ه�ؤالء‬ ‫ّ‬ ‫�سلطة بن علي‪ ،‬وانتقد حينها بتفاوت وبعالنية الف�ساد يف‬ ‫حميط الرئي�س‪ ،‬والأثر ال�سلبي لهذا الف�ساد امل�ست�رشي‬ ‫على ح�سن �سري الأعمال‪ .‬بعد فرتة من التحفّظ‪ ،‬عادت تلك‬ ‫الأو�ساط اليوم لتكون �شديدة احل�ضور يف امل�شهد‪ ،‬بوا�سطة‬ ‫النفوذ االقت�صادي واحلمالت الإعالنية ّ‬ ‫املنظمة‪ ،‬وعرب الدعم‬ ‫امل�سن الباجي‬ ‫تقدمه حلزب «نداء تون�س» ورئي�سه‬ ‫الذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫قائد ال�سب�سي‪ ،‬يف �آن واحد‪� .‬إن �أب�سط التناق�ضات يف لغة‬ ‫التوا�صل ال�سيا�سي اجلديدة هذه‪ ،‬هو تزاوج ال�شعارات‬ ‫املتحيزة لل�شباب مع الدعم الهائل لقائد ثمانيني‪.‬‬ ‫ّ‬

‫النقا�شات واملناظرات التي طالت مدتها‪ ،‬الهزليون‬ ‫ي�أخذون م�ساحتهم �شيئ ًا ف�شيئ ًا (مبا يف ذلك ن�سخة‬ ‫حملية عن دمى الأخبار الفرن�سية «غينيول»‪ ،‬التي‬ ‫اختفت اليوم)‪ .‬الربامج الأك�ثر �شعبية (مبا يف ذلك‬ ‫الربامج ال�سيا�سية) تخ�ضع للتعليق والت�رشيح الفوريني‬ ‫على مواقع التوا�صل االجتماعي و�أبعد منها‪ .‬الثنائية‬ ‫التي ت�صنعها التلفزيونات اخلا�صة وو�سائل التوا�صل‬ ‫متخيلة‪،‬‬ ‫متخيلة جزئي ًا (جماعة‬ ‫تر�سم عن تون�س �صورة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بح�سب تعريف ب‪� .‬أندر�سن)‪ ،‬باتت كالأمة ال�ضمنية‬ ‫جزء ال ب�أ�س به من النخب املدينية‬ ‫التي ي�ست�شهد بها‬ ‫ٌ‬ ‫التون�سية‪ .‬وهي تتغذى �أكرث ف�أكرث من ا�ستطالعات‬ ‫ال‬ ‫الر�أي‪ ،‬ودرا�سات اال�ستهالك‪ ،‬وال ت�رصف وقت ًا طوي ً‬ ‫املعمق للعوامل التي‬ ‫على حماوالت الفهم �أو التحليل‬ ‫ّ‬ ‫تدفع بجزء ال ب�أ�س به من ال�شعب �إىل دعم النظام القائم‬ ‫�أو هجر النقا�ش ال�سيا�سي متاماً‪.‬‬

‫عمار‪ .‬هما اليوم معتكفان‪ ،‬ي�ست�ضيفان على �شبكة اللوحات‬ ‫ّ‬ ‫الإعالنية التي ميلكانها حملة «ال والء �إال لتون�س»‪.‬‬ ‫ �سامي الفهري هو �أي�ض ًا رجل �إعالم‪� .‬أن�ش�أ �رشكة‬ ‫الإن��ت��اج «كاكتو�س» يف ع��ام ‪ ،2002‬وت�شارك مع‬ ‫�صهر بن علي‪ ،‬بلح�سن طرابل�سي‪ ،‬يف متويل برامج‬ ‫ترفيهية وم�سل�سالت رم�ضانية («مكتوب»)‪ّ � .‬أ�س�س قناته‬ ‫التلفزيونية اخلا�صة «التون�سية تي يف» منذ �آذار‪ /‬مار�س‬ ‫‪ .2011‬وقد �أ ّدت م�شاكله مع العدالة �إىل �سجنه‪ ،‬علم ًا‬ ‫ٍ‬ ‫�رشعي‬ ‫�شكوك يف �أنه ا�ستغل ب�شكل غري‬ ‫ب�أنها ُبنيت على‬ ‫ّ‬ ‫موارد التلفزيون الوطني التون�سي‪� .‬أما القناة التي � ّأ�س�سها‪،‬‬ ‫فهي اليوم متوقفة عن العمل‪ ،‬ت�ست�ضيف بثها قنا ٌة تابعة‬ ‫ل�شبكة خا�صة �أخ��رى‪« ،‬احل��وار التون�سي»‪ ،‬وهي تعترب‬ ‫القناة التي حتقّق �أعلى ن�سب م�شاهدة يف البالد‪.‬‬ ‫ قد يكون �سليم الرياحي‪ ،‬من بني عد ٍد من الأربعينيني‪،‬‬ ‫الأكرث التزام ًا بالعمل ال�سيا�سي‪� .‬إذ �شارك يف االنتخابات‬ ‫الرئا�سية يف ت�رشين الأول‪ /‬اكتوبر ‪ 2012‬على ر�أ�س‬ ‫ّ‬ ‫انتخابي ب�سيط ت�شكالت جديدة؟‬ ‫حزبه «االحت��اد الوطني احل� ّ�ر»‪ ،‬ب�شعا ٍر‬ ‫ّ‬ ‫وفعال ترافقه حركة يد يفهمها اجلمهور التون�سي‪ .‬بالتزامن مع حملة الإعالنات الوطنية‪ ،‬انطلقت حركة‬ ‫ّ‬ ‫ويجل�س رجل الأعمال هذا‪ ،‬ميلك ثرو ٍة جمعها بف�ضل «ارح��ل» يف ‪� 24‬آب‪� /‬أغ�سط�س‪� ،‬أمام �أب��واب جمل�س‬ ‫ّ‬ ‫وت�شكلت كحركة خال�ص وطني‪ .‬يف‬ ‫عالقاته بالأو�ساط الليبية‪ ،‬يف جمايل البناء واخلدمات النواب يف الباردو‪،‬‬ ‫املنتخبون على �أنهم حماة ال�رشعية‪ .‬ويف‬ ‫ي�رص‬ ‫النفطية‪ .‬وهو مثال رجل الأعمال امللتزم ال�سيا�سة مواجهتها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫مقلب �آخر �أي�ضاً‪ ،‬ي�ؤكد م�ست�شار الرئا�سة «�أولوية االعتناء‬ ‫اال�ستعرا�ضية‪ :‬ير�أ�س نادي ًا لكرة القدم‪ ،‬وي�ستثمر يف‬ ‫بال�صالح العام»‪ .‬هكذا هو امل�شهد ال�سيا�سي الظاهر �أمامنا‬ ‫الن�شاطات االجتماعية واملجموعات ال�صحافية‪.‬‬ ‫إخراج م�رسحي‪،‬‬ ‫املتعهدون ورجال الإعالم ال�شباب �صور ًة اليوم يف تون�س‪ ،‬وهو يكاد يكون م�شهد ًا ب�‬ ‫ ينقل ه�ؤالء‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫عن تون�س تبدو وك�أنها عمود �سيا�ستهم‪« :‬تون�سهم» منفتحة حموك ًا ك�سيناريو‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬بعيد ًا عن حركة الكامريات‬ ‫ّ‬ ‫ت�شكالت جديدة‪� .‬إذ يبدو البلد‬ ‫ومتعهدة‪ .‬وهي تتقاطع مع هذه‪ ،‬يرتقّب املرء بزوغ‬ ‫على العامل‪ ،‬ليربالية‪ ،‬مت�ساحمة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫حما�سة حلقوق املر�أة التون�سية‪ ،‬وعز ٍم على �صون ال�سوق وك�أنه يختنق يف �أح�ضان ه�ؤالء الذين ينادون با�سمه‪.‬‬ ‫مت�س بالنظام والأمن هل هناك �سيا�سة قادرة على االت�ساع لنخب ٍة حداثية‬ ‫املفتوحة‪ ،‬و�ضبط التهديدات التي ّ‬ ‫احلر» املتمحور حول كلمة عازمة على مناه�ضة الإ�سالميني (يجب التذكري ب� ّأن نخب‬ ‫التون�سيني‪� .‬إعالن «االحتاد الوطني ّ‬ ‫امللحة بن علي اجتمعت جزئي ًا على املعاهدة املعادية للإ�سالميني)‬ ‫«توا»‪� ،‬أي «الآن»‪ ،‬ي�ضيف �إىل ذلك �سياق ال�رضورة ّ‬ ‫ّ‬ ‫«توا»‪ .)www.youtube.com/watch?v=A7kH8VHGSps ،‬وملجتمع �أكرث �أ�سلم ًة‪ ،‬يف �آن واحد؟ وهل هذا هو االن�شقاق‬ ‫(حملة‬ ‫ّ‬ ‫�شخ�صيات يفرت�ض بها �أن مت ّثل تون�س الذي ي�ست�أهل �أن يكون الأ�شد بروزاً؟ �أال توجد م�ساحات‬ ‫فتظهر يف الإعالن‬ ‫ٌ‬ ‫أ�شد و�ضوحاً؟ يف لعبة ا�ستمالك الرموز‬ ‫بتنوع نا�سها‪ ،‬تطالب ب�إنهاء فوري للعبودية‪ ،‬البطالة‪ُ ،‬تهمل‪ ،‬وتفاوتات � ّ‬ ‫ّ‬ ‫�صور الإع�لان باعتناء وا�ضح باجلماليات (العلم‪ ،‬الن�شيد‪« ،‬الإ�سالم» التون�سي يف مقابل �إ�سالم‬ ‫وقد‬ ‫أمل‪.‬‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫ّ‬ ‫ب�شدة الرهان على فر�ضية �أن‬ ‫الب�رصية التلفزيونية‪ ،‬بعيد ًا جد ًا عن واقع البلد‪.‬‬ ‫«اخلليج»‪ ،‬اللغة‪ ،)...‬يجوز ّ‬ ‫ تعك�س القنوات التلفزيونية اخلا�صة‪ ،‬مبجموعها‪ ،‬هذه املواجهات الثنائية �إمنا تخفي وراءها‪ ،‬مر ًة �أخرى‪،‬‬ ‫اجلوهرية‪ :‬الفقر الذي يت�ضخم‪ ،‬الدين وعدم‬ ‫تلك الرغبة يف �إعطاء الكلمة للتون�سيني والتون�سيات‪ ،‬امل�سائل‬ ‫ّ‬ ‫ولكنها �أي�ض ًا تنقل ال��روح اخلفيفة‪ ،‬احل� ّ�رة‪ ،‬احلديثة‪ .‬ا�ستقرار البيوت‪ ،‬انعدام الأفق �أمام ال�شباب‪...‬‬ ‫موقع‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫املل�صقات‬ ‫ا�ستوديوات الربامج احلوارية هي ن�سخة عن �شبيهاتها لذلك‪ ،‬لي�س مفاجئ ًا حت� ّ�ول‬ ‫ٍ‬ ‫الأوروبية �أو الأمريكية‪ ،‬املحطات الإخبارية تقاطع ل�رصاع �أكرث خفوتاً‪.‬‬

‫حتول على طريقة برلو�سكوين؟‬ ‫ّ‬ ‫يف طبقة رجال الأعمال هذه‪ ،‬تربز �أربع �شخ�صيات على‬ ‫وجه اخل�صو�ص‪� :‬سامي الفهري‪� 41 ،‬سنة‪ ،‬مدير قناة‬ ‫«التون�سية» وم�ؤ�س�س �رشكة الإنتاج «كاكتو�س»‪ ،‬وهو‬ ‫م�سجون راهناً؛ الأخ��وان القروي (نبيل ‪� 48 -‬سنة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وغازي ‪� 46 -‬سنة) مالكا القناة املغربية «تلفزيون ن�سمة»‪،‬‬ ‫و�رشكة االت�صاالت «قروي �أند قروي وورل��د»؛ �سليم‬ ‫الرياحي‪� 39 ،‬سنة‪ ،‬رجل �أعمال دخل �أخري ًا �إىل قطاع‬ ‫االت�صاالت («ال�صباح»)‪ ،‬ميلك نادي كرة القدم التون�سي‬ ‫احلر»‪.‬‬ ‫«النادي الأفريقي»‪ ،‬وهو م�ؤ�س�س «االحتاد الوطني ّ‬ ‫بث‬ ‫ �أ�صبح الأخ���وان القروي حم��ور الأخ��ب��ار عند ّ‬ ‫قناتهما التلفزيونية لفيلم «بر�سيبولي�س»‪� .‬شاهدنا نبيل‬ ‫ويالحق بتهمة الإخالل بالنظام العام‪ ،‬وقد اعتربت‬ ‫يعتذر‪ُ ،‬‬ ‫بحرية‬ ‫مي�س‬ ‫ّ‬ ‫حماكمته �أنها �أ�صدرت احلكم الأول الذي ّ‬ ‫التعبري‪ ،‬منذ نهاية عهد بن علي‪ .‬وكان الأخوان القروي‬ ‫قد بنيا �إمرباطوريتهما منذ ت�سعينيات القرن املا�ضي ما بني‬ ‫اجلزائر وتون�س‪ ،‬بالت�شارك مع برلو�سكوين واملنتج طارق بن‬ ‫‪40‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫‪41‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫ا�سم م�ستعار للخوة التي ينتزعونها من �سائقي ال�شاحنات‬ ‫الذين ينقلون ال�صخور من املقالع التي يف اجلرود‪ ،‬هذا �إذا‬ ‫رغبوا يف �ضمان ا�ستمرارية م�صدر رزقهم‪.‬‬ ‫ كانت هذه «ال�رضيبة» مربحة جداً‪ ،‬لدرجة � ّأن غرفة‬ ‫من الأ�سمنت ُبنيت على م�سافة كيلومرتات قليلة من موقع‬ ‫نقطة التفتي�ش‪� ،‬شكلت حمطة دائمة لتجميع «ال�رضائب»‪،‬‬ ‫وكان على عنا�رص اجلي�ش املتمركزين يف عر�سال �أن‬ ‫ُيبطئوا �رسعتهم عند نقطة التفتي�ش تلك‪ ،‬مثلهم مثل �أي‬ ‫بغ�ض النظر عن املنطق املعقول الذي �سعى‬ ‫�شخ�ص �آخر‪ّ .‬‬ ‫اخلطاب الر�سمي �إىل انتهاجه‪ ،‬بحجة �أن اال�ستخبارات‬ ‫ال�سورية ت�ساعد الدولة اللبنانية يف مراقبة «جمموعة‬ ‫عد لقانون جديد للمقالع‬ ‫�إرهابية»؛ �أو �أن «احلكومة ُت ّ‬ ‫(ك�سارات)‪ ،‬ومل تكن «ال�رضيبة» �إال بداية مرحلة تنظيم‬ ‫ّ‬ ‫الأرا�ضي»‪ .‬ال ب�أ�س‪ ،‬ولكن ملاذا يطلب ذلك ن�رش قوات‬ ‫�سورية يف املنطقة؟ �شارك الأهايل يف هذه اللعبة لفرتة‬ ‫طويلة مبا يكفي ليفهموا � ّأن معاناتهم عند احلدود تعني‬ ‫يلق غ�ضبهم و�شكواهم‬ ‫�أنهم بعيدون عن �أنظار دولتهم‪ .‬مل َ‬ ‫آذانا �صاغية‪ ،‬وامل�سائل نف�سها التي تثري ال�سخط يف �سائر‬ ‫� ً‬ ‫�أنحاء البالد اليوم لي�ست �سوى ممار�سات يومية اعتيادية‬ ‫عند �أهايل عر�سال‪ :‬اختطاف الرعاة على �أيدي �رشطة‬ ‫احلدود ال�سورية يف اجلرود؛ ب�ساتني على الأرا�ضي اللبنانية‬ ‫يدعي مزارعون �سوريون امتالكها؛ تدخل اال�ستخبارات‬ ‫ّ‬ ‫ال�سورية يف ال�ش�ؤون الداخلية بعد وقت طويل من‬ ‫ان�سحاب اجلي�ش ال�سوري من باقي �أنحاء البالد؛ �إلخ‪ .‬ثم‬ ‫�إن معاينة جي�شهم اللبناين‪ ،‬وهو يخ�ضع ل�سلطة ع�سكرية‬ ‫�أو �أمنية �أخرى‪ ،‬مل ُت�سهم �إال يف تعزيز امل�شاعر املت�ضاربة‬ ‫لدى �أهايل عر�سال جتاه الدولتني اللبنانية وال�سورية‪.‬‬

‫عراسل بني دولة وأخرى‬ ‫دوم ًا عىل الهامش‬

‫مياشل عبيد منذ ب�ضعة �أ�سابيع‪ ،‬انت�رش على موقع «يوتيوب» الإلكرتوين‬ ‫�صور بني بلدتني على حدود‬ ‫�رشيط فيديو ا�ستفزازي ُم َّ‬ ‫استاذة مادة لبنان ال�شمالية ال�رشقية‪ ،‬هما عر�سال والهرمل‪ .‬يف الأ�شهر‬ ‫االنرتوبولوجيا‪ ،‬جامعة‪ ،‬املا�ضية‪ ،‬باتت هاتان البلدتان مت ّثالن قطبني متناق�ضني‪:‬‬ ‫المملكة المتحدة‪ .‬ف�إحداهما (الهرمل) ت�ضم جمهور ًا من الناخبني ال�شيعة‬ ‫ي�ؤيدون حزب الله بقوة‪ ،‬فيما ت�ضم الأخ��رى (عر�سال)‬ ‫ال�س ّنة يعار�ضون بحما�سة متقدة النظام‬ ‫جمهور ًا من الناخبني ُّ‬ ‫ال�سوري‪ ،‬حتى �إنه ُيقال � ّإن البلدة ت�ؤوي ثوار ًا �سوريني‪.‬‬ ‫وقفت �صحافية �أم��ام جمموعة من رجال امليلي�شيا‬ ‫ ‬ ‫ْ‬ ‫يلوحون ببنادقهم عند نقطة تفتي�ش يف بلدة اللبوة‪ ،‬قطع‬ ‫ّ‬ ‫�أهلها الطريق امل�ؤدية �إىل عر�سال‪ ،‬ووجهت حديثها �إىل‬ ‫الكامريا لتخت�رص تقريرها على ن�رشة الأخبار والإبالغ‬ ‫مرت بالفريق‬ ‫عن �إطالق نار بني اجلانبني‪� .‬أثناء حديثها‪ّ ،‬‬ ‫التلفزيوين �صدفة �آلية تابعة للجي�ش اللبناين يف طريقها‬ ‫�إىل عر�سال‪ .‬وبدا امل�سلحون ك�أنهم �أ�شجار مر�صوفة �إىل‬ ‫جانب الطريق‪ .‬يف ا�ستوديو املحطة‪ ،‬عبرّ ت مذيعة ن�رشة‬ ‫الأخبار عن عدم ت�صديقها ما ت�شاهده‪ ،‬وطلبت ت�أكيداً‪« :‬هل‬ ‫هذا حقيقة ما ح�صل؟ �أمل ي�شاهد اجلي�ش امل�سلحني؟»‪ .‬يف‬ ‫الأيام التي تلت ذلك‪ ،‬ن�رشت جمموعة من املراقبني الق�صة‬ ‫لت�أكيد تراجع الدولة اللبنانية (مع اجلي�ش كرمز �أ�سا�سي لها)‬ ‫�إىل حالة من العجز‪ .‬حتى � ّإن معلق ًا على موقع «يوتيوب»‬ ‫ت�ساءل‪« :‬ما هي اخلطوة التالية؟ هل �سيوقف امل�سلحون‬ ‫عنا�رص اجلي�ش وي�س�ألونهم عن بطاقات هوياتهم ليت�أكدوا‬ ‫مما �إذا كانوا ُ�س ّنة �أو �شيعة؟»‪ .‬يف املقابل‪ ،‬اعترب م�ؤيدو اجلي�ش‬ ‫� ّأن الق�صة تطرح �إ�شكالية خمتلفة بع�ض ال�شيء؛ فهي تلقي‬ ‫ال�ضوء على ما �آلت اليه �أمور �سكان هذه البلدات «الغريبة»‬ ‫(�إذا ما و�ضعنا خالفاتهم جانباً)‪.‬‬ ‫ متتعت العبارة املبتذلة «خارج عن القانون»‪ ،‬امل�ستعملة‬ ‫يف البقاع ال�شمايل‪ ،‬مبرونة كبرية لوقت طويل يف لبنان‪.‬‬ ‫‪42‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫غالب ًا ما غذتها و�سائل الإعالم يف تغطية �أحداثها عن‬ ‫كثب وعن ُبعد‪ ،‬مع الرتكيز على �أوقات الأزمات وح�سب‪،‬‬ ‫�أو فورات الغ�ضب‪ ،‬التي تبلور ال�صورة النمطية لرجل‬ ‫الع�شرية البقاعي العنيد اخلارج عن القانون الذي ي�رضب‬ ‫عر�ض احلائط بالقانون وبالدولة‪ .‬ويبدو � ّأن هذه العبارة‬ ‫املبتذلة ت� ّؤطر الفهم احلديث للتطورات ال�سيا�سية يف‬ ‫البقاع ال�شمايل؛ �إذ يقرتن بتف�سريات طائفية جاهزة‬ ‫تطيح التعقيدات والتحوالت على تلك احلدود ويح�رصها‬ ‫مبو�ضوع واحد‪ :‬عداوة �شيعية ‪� -‬س ّنية م�ستوطنة تنعك�س‬ ‫ب�شكل خمتلف �أكرث فو�ضوية‪ ،‬على هوام�ش املجتمع‬ ‫اللبناين‪� .‬إن تغيري العالقات االجتماعية بني بلدات هذه‬ ‫املنطقة وقراها‪ ،‬وتغيري الروابط ال�سيا�سية واالقت�صادية مع‬ ‫الدولة ال�سورية و�شعبها‪� ،‬إىل جانب تزايد النزعة القومية‬ ‫اللبنانية يف عر�سال‪ ،‬ووجود حدود مفتوحة تاريخي ًا عرب‬ ‫اجلرود‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل حتول ملحوظ �أخري ًا عن االنتماءات‬ ‫التاريخية الي�سارية املنحى (ال�شيوعية والقومية العربية)‬ ‫ت�صب من حيث‬ ‫باجتاه هوية �س ّنية جديدة‪ .‬هذه كلها‬ ‫ّ‬ ‫الزمان واملكان يف �إطار رواية عن «الع�شائرية الطائفية»‪.‬‬ ‫ ب�صفتي باحثة عملت عن كثب يف عر�سال منذ عام‬ ‫‪ ،1996‬وقد منّيت عالقات �شخ�صية ونوع ًا من الأُلفة‬ ‫مع العديد من العائالت والأف��راد فيها‪ ،‬فوجئت كثري ًا‬ ‫للوهلة الأوىل بر ّد فعل اجلمهور على مثل هذا امل�شهد‬ ‫الذي ّ‬ ‫�شكل م�شهد ًا «عادياً» لعقود من الزمن بالن�سبة‬ ‫�إ ّ‬ ‫يل و�إىل �أهايل عر�سال‪ .‬فه�ؤالء امل�سلحون الذين يرتدون‬ ‫ثياب ًا مدنية لي�سوا �أول من منع �أهايل عر�سال من الو�صول‬ ‫�إىل منازلهم‪ .‬قبل ع�رش �سنوات بالتحديد‪ ،‬كان رجال‬ ‫اال�ستخبارات ال�سورية الذين يرتدون ثياب ًا مدنية هم‬ ‫�أي�ض ًا يو ِقفون �أهايل عر�سال عند نقطة تفتي�ش مماثلة‬ ‫ومينعونهم من املرور ما مل يدفعوا «�رضيبة»‪ .‬وهذه ال�رضيبة‬

‫على اجلانب اخلاطئ من ال�سلطة‬ ‫فكيف ويف �أي خندق �سيا�سي حتديد ًا �سيقف �أهايل عر�سال‪،‬‬ ‫عالقني يف فخ عدم القدرة على توقع منحى العالقات‬ ‫املتغرية با�ستمرار بني الدولتني؟ منذ اال�ستقالل‪ ،‬بدا �أنهم‬ ‫بغ�ض النظر‬ ‫�أهالٍ اختاروا «اجلانب اخلاطئ من ال�سلطة»‪ّ ،‬‬ ‫عن مكمن هذه ال�سلطة‪ .‬فقد انح�رصت خياراتهم ال�سيا�سية‬ ‫املتغرية بالعبارة املجازية نف�سها‪� ،‬أي «الع�شائري» الذي‬ ‫ال ي�ستطيع �أن يرى ما هو �أبعد من الوالء الع�شائري (وقد‬ ‫ا�س ُتبدل به الآن الوالء املذهبي)‪ ،‬والذي ال يعبرّ عن �سيا�ساته‬ ‫�إال من خالل العنف‪ ،‬فال ميكن جلمه بالتايل �إال بالعنف‪ .‬وقد‬ ‫�شاركت و�سائل الإع�لام و�أجهزة الدولة يف ن�رش هذه‬ ‫ْ‬ ‫املقوالت‪ .‬وانت�رشت مقاالت موجزة تعيد �إنتاج هذه ال�صورة‬ ‫‪43‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ب�شكل فو�ضوي يف ال�صحف اللبنانية منذ خم�سينيات القرن‬ ‫املا�ضي‪� :‬أخبار عن مناو�شات بني عائلة و�أخرى‪ ،‬م�سلحون‬ ‫يتبادلون �إطالق النار مع رجال ال�رشطة‪ ،‬و�إخ�ضاع الدولة‬ ‫�سكان اجلرود املتعنتني‪ .‬مل تكن هذه ال�صور تنوي التعبري‬ ‫عن «طبيعة» النا�س يف منطقة معينة من لبنان وح�سب‪،‬‬ ‫بل �أن حتجب �أي�ض ًا م�شاريعهم ال�سيا�سية التي تغيرّ ت مع‬ ‫الوقت من خالل ح�رصهم �ضمن نطاق اخلالفات املحلية‬ ‫– بني ع�شائر‪ ،‬وعيل‪ ،‬وقرى – عو�ض ًا عن �أخذ عالقتهم‬ ‫بال�سيا�سة الوطنية والإقليمية على حممل اجلد‪ .‬وخري مثال‬ ‫على ذلك العالقة املتغرية مع الدولتني اللبنانية وال�سورية‪.‬‬ ‫عر�سال يف �أحداث ‪١٩٥٨‬‬ ‫خالل احلرب الأهلية اللبنانية الأوىل (عام ‪،)1958‬‬ ‫ا�صطف �أه��ايل عر�سال يف اجلانب املواجه لدولتهم‪.‬‬ ‫ان�سجمت انتماءاتهم ال�سيا�سية مع الأيديولوجيات امل�سيطرة‬ ‫يف �سورية ولي�س يف لبنان‪� .‬شاركوا يف التمرد الذي قاده‬ ‫القوميون العرب �ضد الرئي�س كميل �شمعون ذي الدعوات‬ ‫امل�ستهجنة �إىل تدخل غربي من خالل موافقته على مبد�أ‬ ‫تورط «الدول‬ ‫�أيزنهاور‪ .‬جتاهل م�ؤرخو تلك احلقبة �إىل ٍّ‬ ‫حد ما ّ‬ ‫الهام�شية»‪ ،‬كذلك � ّإن و�سائل الإعالم التي كانت خا�ضعة‬ ‫لرقابة م�شددة يف خم�سينيات القرن املا�ضي بالكاد متكنت‬ ‫من تغطية الأحداث على حدود لبنان‪ .‬بيد � ّأن الروايات‬ ‫ال�شفهية واملحلية تك�شف عن تورط كبري لأهايل عر�سال يف‬ ‫معار�ضة عهد �شمعون‪ .‬كذلك ف�إنها ت�س ّلط ال�ضوء على كيفية‬ ‫تردد �صدى اخلالفات ال�سيا�سية التي تن�شب يف الو�سط‬ ‫وتنتقل �إىل مناطق خمتلفة من البالد‪ .‬فعندما بد�أ التمرد على‬ ‫�شمعون‪ ،‬ر ّد �سكان القرى املجاورة‪ ،‬من م�ؤيدي الرئي�س‪،‬‬ ‫على موقف �أهايل عر�سال‪ ،‬فا�شتعل اخلالف و�سعى �أهايل‬ ‫انعكا�سا‬ ‫عر�سال �إىل طلب م�ساعدة نظرائهم ال�سوريني‪،‬‬ ‫ً‬ ‫لكيفية ارتباط التوترات املحلية بني القرى بالتوترات‬ ‫الوطنية والإقليمية‪ .‬ويخرب ناجون م�س ّنون �شاركوا يف التمرد‬ ‫� ّأن �أهايل عر�سال اقرت�ضوا الأ�سلحة‪ ،‬وهي مزيج من البنادق‬ ‫والقنابل اليدوية‪ ،‬من ال�سلطات ال�سورية (زمن اجلمهورية‬ ‫العربية املتحدة) التي �س ّلحت نحو ‪ ٤٠٠‬رجل‪ ،‬ومتكنوا‬ ‫من �إخ�ضاع خ�صومهم املجاورين‪ .‬لكن هذا الن�رص كان‬ ‫له ثمنه وتداعياته الوح�شية‪ ،‬بع�ضها علني‪ ،‬والبع�ض الآخر‬ ‫�أكرث �رسية‪ .‬ولعل الأكرث و�ضوح ًا من بني تلك التداعيات هو‬ ‫ر ّد الفعل الأول والوحيد رمبا من قبل الدولة �ضد �شعبها‪،‬‬ ‫وقد انطوى على ق�صف البلدة من اجلو‪ .‬فكان على الأهايل‬ ‫املرتعبني الهرب من حقولهم لالختباء‪ .‬وقال �أحد الرجال‪،‬‬


‫�سيما يف العا�صمة)‪ ،‬وان�سحبت القوات ال�سورية �إىل عدد‬ ‫من القواعد اال�سرتاتيجية مع ت�سليم الأمن �إىل الأجهزة‬ ‫اللبنانية التي تعاونت يف �شتى الأحوال معها‪ .‬بيد �أنه‬ ‫يف البقاع ال�شمايل‪ ،‬كان الوجود ال�سوري �أقل �رسية مع‬ ‫عدة نقاط تفتي�ش دائمة مزروعة على الطريق الرئي�سي‪،‬‬ ‫ودرجة عالية من ال�سيطرة والتدخل يف ال�ش�ؤون املحلية‪.‬‬

‫وقد كان جمرد طفل �أثناء االعتداء‪� ،‬إن والده اختب�أ من‬ ‫الق�صف‪ ،‬لكنه �أح�صى عدد القذائف من خالل و�ضع حجر‬ ‫كلما انفجرت قذيفة‪ .‬فاح�صى جمموعا قدره ‪ ٣٠٠‬قذيفة‪.‬‬ ‫أدق‪ ،‬ا�ستمرت �أجهزة الدولة يف التدخل‬ ‫ على م�ستوى � ّ‬ ‫لكبح «خيانة» �أهايل عر�سال للأجندة ال�سيا�سية التي‬ ‫تتبناها‪ .‬جرى ذلك من خالل ن�رش ا�سرتاتيجية خفية هي‬ ‫«فرق َت ُ�سد» التي ا�ستغلت م�شاعر العائلية‬ ‫ا�سرتاتيجية ِّ‬ ‫منو نفوذ الإ�سالميني‬ ‫القوية عند اقرتاب موعد االنتخابات البلدية عام ‪.١٩٦٣‬‬ ‫ّ‬ ‫يعتقد الكثريون � ّأن �أجهزة اال�ستخبارات ا�ضطلعت بدور كان �أه��ايل البقاع ال�شمايل يعرفون متام ًا من ي�سيطر‬ ‫«املقدم ال�سوري» وحياتهم‬ ‫يف ت�أليب العائالت بع�ضها على بع�ض‪ ،‬وبخا�صة عندما عليهم‪ .‬كان م�صريهم بني يدي‬ ‫َّ‬ ‫هم�شت النتائج �إحدى العائالت البارزة‪ ،‬فكان رد الفعل تراقبها اال�ستخبارات ال�سورية‪ .‬ويف ظل غياب الدولة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫العنيف و�شيكًا‪� .‬أدت �سل�سلة من احلوادث املفتعلة �إىل م ّثل حزب الله ال�سلطة احلقيقية على الأر�ض‪� ،‬أق ّله يف‬ ‫حاالت قتل و�إطالق النار على عدة �أ�شخا�ص يف البلدة‪ ،‬البلدات ال�شيعية‪ ،‬وبطريقة ما ّ‬ ‫ال من الدولة عرب‬ ‫�شكل بدي ً‬ ‫�رسعان ما حتولت �إىل ا�شتباكات مع رجال ال�رشطة‪ ،‬توفري اخلدمات االجتماعية من خالل بناء امل�ست�شفيات‬ ‫انتهت ب�سيطرة قوى الأمن على عر�سال‪ .‬اندرجت هذه وامل�ستو�صفات واملدار�س وجمموعة متنوعة من املنظمات‬ ‫الأحداث يف �إطار ال�صورة النمطية «للرجل الع�شائري غري احلكومية‪ .‬وق��د ج��رى ا�ستثناء عر�سال من هذه‬ ‫اخلارج عن القانون»‪ ،‬وهو خطاب ر�سمي �أزاح الغطاء اخلدمات‪ ،‬والآن ال ي�شعر �سكانها ب�أنهم مهم�شون من‬ ‫يتعر�ضون لال�ستغالل‬ ‫وقو�ض قبل دولتهم وح�سب‪ ،‬بل �أنهم‬ ‫ال�سيا�سي عن ن�شاط �أهايل عر�سال �ضد الدولة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العالقة الأيديولوجية التي تربط هذه البلدة ب�سورية‪ ،‬وهي �أي�ض ًا من قبل حليفهم التاريخي‪ .‬وما زاد الطني بلة � ّأن‬ ‫عالقة بقيت حتى ن�شوب حرب ‪ ١٩٧٥‬الأهلية‪ ،‬وهي هذا اال�ستغالل يح�صل بح�ضور دولتهم وعلى مر�أى‬ ‫من اجلي�ش الذي �أقام قاعدة ع�سكرية يف عر�سال عام‬ ‫عالقة ا�ستمرارية وتوجه �سيا�سي م�شرتك‪.‬‬ ‫ مع بداية �سنوات احلرب الأهلية‪ ،‬بات تفكك الدولة ‪ ٢٠٠٠‬وال يزال فيها �إىل اليوم‪ .‬بيد � ّأن االنتهاكات‬ ‫اللبنانية وعجزها �أك�ثر و�ضوحاً‪ .‬غري � ّأن العالقة مع املتزايدة التي تقوم بها ال�سلطات ال�سورية تقع خارج‬ ‫الدولة ال�سورية‪ ،‬التي كانت خالل اخلم�سينيات حليفة نطاق �صالحية اجلي�ش اللبناين‪ .‬زادت املطالبات باملواطنة‬ ‫ال خمتلفاً؛ التي كان �أهايل عر�سال يعلنونها الآن‪ ،‬وقو�ضت نظرتهم‬ ‫عر�سال يف توجهها العروبي‪ ،‬بد�أت تتخذ �شك ً‬ ‫فدخول اجلي�ش ال�سوري �إىل لبنان عام ‪ ١٩٧٦‬و�ضع �إىل اجلي�ش الذي يعترب بر�أيهم �أداة «تزيينية» ت�ستعملها‬ ‫لبنان‪ ،‬وبخا�صة البقاع‪ ،‬حتت �سيطرة �سورية �سافرة حتى الدولة �ضد مواطنيها ال مل�صلحتهم‪.‬‬ ‫عر�ض �سيادة الدولة اللبنانية للخطر‪ .‬الأ�صوات املناه�ضة للنظام ال�سوري التي باتت �أعلى‬ ‫عام ‪ ،٢٠٠٥‬ما ّ‬ ‫يف نهاية املطاف‪ ،‬تراجع الوجود الع�سكري ال�سوري من �أي وقت م�ضى يف بريوت يف مطلع عام ‪،٢٠٠٠‬‬ ‫مر ال�سنني يف معظم املناطق اللبنانية (وال ظلت �أكرث كتمان ًا يف عر�سال‪ .‬مل ت�ستنبط بعد �صيغة‬ ‫تدريج ًا على ّ‬

‫‪44‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫�رشيط ن�رشته‬ ‫حمطة «اجلديد»‬ ‫يف ‪ 20‬حزيران‬ ‫‪ 2013‬من اللبوة‬ ‫يف البقاع‪.‬‬

‫‪45‬‬

‫تخيم‬ ‫�سيا�سية �سهلة للتعامل مع «امل�س�ألة ال�سورية» التي ّ‬ ‫على ال�سيا�سات اللبنانية‪ .‬بيد � ّأن ال�ضغوط ال�سيا�سية كانت‬ ‫تت�صاعد يف عر�سال‪ ،‬وقد غذت املخالفات ال�سورية على‬ ‫�أرا�ضيها الغ�ضب املتزايد‪ .‬ا�ستغل الأهايل فر�صة متاحة‬ ‫للتعبري عن م�شاعرهم‪ ،‬رغم � ّأن �أيديهم مكبلة‪ .‬فقد �أف�سحت‬ ‫انتخابات عام ‪ ٢٠٠٤‬البلدية املجال �أمام ا�ستعمال‬ ‫�أدوات الدميقراطية لإجناز تغيريات �سيا�سية �ضمن احلدود‬ ‫التي ت�سمح بها هذه العمليات‪ .‬مثلت نتائج االنتخابات‬ ‫�صدمة لدى بع�ض املراقبني؛ لأنها مهدت الطريق النت�صار‬ ‫غري م�سبوق للإخوان امل�سلمني‪ .‬وال�صدمة نابعة من تاريخ‬ ‫عر�سال ال�سيا�سي الي�ساري ولقبها كـ«�أم ال�شهداء» الذي‬ ‫اكت�سبته من خالل عدد كبري من ال�شبان الذين �ضحوا‬ ‫بحياتهم وهم يقاتلون اجلي�ش الإ�رسائيلي يف ثمانينيات‬ ‫القرن املا�ضي‪ ،‬عندما كان لـ«جبهة املقاومة الوطنية‬ ‫اللبنانية» طابع وطني ال طابع �إ�سالمي‪ .‬طغت التغطية‬ ‫الإعالمية لهذه االنتخابات‪ ،‬ورمبا ا�ستخال�ص العرب من‬ ‫�أحداث عام ‪ ،١٩٦٣‬مرة �أخرى على التكهنات املرتبطة‬ ‫باحتماالت حدوث �أعمال عنف بني العائالت واخلوف من‬ ‫أدق للنقا�شات التي �سبقت‬ ‫الع�صبية العائلية‪ .‬بيد � ّأن حتلي ً‬ ‫ال � ّ‬ ‫االنتخابات ي�شري �إىل � ّأن الأهايل ر�أوا � ّأن خ�سارة مر�شحي‬ ‫حزب البعث املوايل للنظام ال�سوري لها مدلوالت �أكرب‬ ‫من فوز الإ�سالميني‪ .‬حتى �إنهم ابتهجوا لقدرتهم على‬ ‫مواجهة ال�سلطة ال�سورية التي بدا �أنها ال ُتقهر‪ ،‬وذلك‬ ‫من خالل الت�سيي�س الدميقراطي‪.‬‬ ‫ �أم��ا يف ما يخ�ص الإخ��وان امل�سلمني‪ ،‬فقد ن�سب‬ ‫فوزهم �إىل منطق «التجربة واخلط�أ»‪ .‬فبعد �أن ا�ستنفد‬ ‫الأهايل ثقتهم مبجموعة من الأحزاب ال�سيا�سية (احلزب‬ ‫ال�شيوعي‪ ،‬حزب البعث‪ ،‬وغريهما) باتوا م�ستعدين الآن‬ ‫�شوه �سمعتهم من خالل ما‬ ‫لـ«جتربة» العبني جدد مل ُت َّ‬ ‫كان يعترب �سيا�سة فا�سدة �سابقة‪ .‬بدا هذا املوقف منطقي ًا‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫يف بيئة مل تكن ت�أخذ الإ�سالميني على حممل اجلد‪ ،‬فيما‬ ‫ر�أى البع�ض �إ�شارات �إىل التو�سع‪ ،‬ت�شهد عليه مدر�سة‬ ‫�شيدها الإ�سالميون وح�ضور ملحوظ (لكن غري منذر‬ ‫باخلطر بعد) ل ّلحى والعباءات الإ�سالمية‪ ،‬بدا من خالل‬ ‫امل�شهد العام �أن عر�سال لن ت�سلك هذا الطريق‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ يف ال��ف�ترة التي تلت احل��رب الأه��ل��ي��ة‪ ،‬مل تعلن‬ ‫ال�سيا�سات املرتبطة بعر�سال من خالل اخلطاب الطائفي؛‬ ‫فالعداء الذي يك ّنه العر�ساليون لل�سلطة ال�سورية ما كان‬ ‫ي�ستند �إىل انتماءات طائفية‪ ،‬بل �إىل ممار�سات يومية‬ ‫نفّرت الأه��ايل ب�صفتهم مواطنني �رشعيني يف لبنان‬ ‫وهددت �سيادة الدولة‪ .‬وتندرج امل�شاعر جتاه حزب الله‬ ‫يف خانة تعلقه بالنظام ال�سوري‪� ،‬أكرث مما كانت ذات‬ ‫�صلة بالتوترات الطائفية بذاتها‪ .‬وال بد من التذكري هنا‬ ‫باملدار�س التي يت�شاركها �أع�ضاء من خمتلف الطوائف‬ ‫يف تلك املنطقة‪ ،‬وروابط اجلوار والزيجات امل�شرتكة بني‬ ‫القرى وتقا�سم الأرا�ضي امل�شاع يف اجل��رود‪ ،‬وهذه مل‬ ‫تكن لتعوق االنتماءات الطائفية �أيًا منها عرب الفرتات‬ ‫الطويلة‪ .‬املطالبات بدولة فاعلة‪ ،‬يف �ضوء الوجود‬ ‫ال�سوري‪ ،‬كانت دعوة ملحة ملعاجلة حالة انعدام الوالء‬ ‫الوطني على وجه اخل�صو�ص التي دائم ًا ما كان �سكان‬ ‫تهمون بها‪ .‬بيد � ّأن هذه املطالبات ال متت‬ ‫تلك املنطقة ُي َ‬ ‫ب�صلة �إىل الوجود الع�سكري �أو الأمني‪ ،‬بل ترتبط‬ ‫بتح�سني الو�ضع العام‪ :‬الأرا�ضي الزراعية التي تطلبت‬ ‫تنظيم ًا يف ظل قطاع مقالع يتنامى ع�شوائياً‪ ،‬وحاجات‬ ‫جمموعة �سكانية متكاثرة حتتاج �إىل بنية حتتية منظمة‬ ‫و�شبكة جماري �رصف �صحي‪ ،‬وتيار كهربائي‪ ،‬طرقات‪،‬‬ ‫ووظائف‪ ،‬ومدار�س‪ ،‬وم��وارد وغريها‪ .‬بب�ساطة‪ ،‬كانت‬ ‫تن�صب على اخلدمات املنا�سبة التي يتعينّ على‬ ‫املطالبات‬ ‫ّ‬ ‫الدولة تقدميها يف بيئة مهم�شة جغرافي ًا و�سيا�سياً‪.‬‬ ‫ رمبا مل تربز «الورقة ال�س ّنية» يف عر�سال ب�شكل‬


‫ملمو�س �إال عقب اغتيال رئي�س الوزراء رفيق احلريري‬ ‫عام ‪ .٢٠٠٥‬وجتدر الإ�شارة يف هذا ال�سياق �إىل �أنه‬ ‫خالل �سني حياته‪ ،‬مل ِ‬ ‫يبد رئي�س ال��وزراء وال تيار‬ ‫امل�ستقبل الذي ير�أ�سه �أي اهتمام بدعم عر�سال‪ .‬االرتباط‬ ‫ال�س ّني بعر�سال يف ذلك الوقت مل يكن يتعلق بال�سيا�سة‪،‬‬ ‫وحتى �أواخر ت�سعينيات القرن املا�ضي‪ ،‬كان جمرد ذكر‬ ‫احلريري ي�ستدعي موجة من االنتقادات التي تطاول‬ ‫منوذجه الإمنائي الذي �أ�سهم يف حتقيق منو غري متوازن‬ ‫قدروا‬ ‫وزيادة تهمي�ش املناطق الريفية‪ .‬حتى �أولئك الذين ّ‬ ‫املح�سوبية كنظام �سيا�سي انتقدوه رغم ذلك لتخليه‪ ،‬على‬ ‫وجه التحديد‪ ،‬عن هذه الدائرة االنتخابية ال�سنية الكبرية‬ ‫يف البقاع‪ .‬بيد �أن الظروف تغريت عندما بد�أ حتالف قوى‬ ‫‪� ١٤‬آذار‪ ،‬يف امتداد حملته املناه�ضة ل�سورية‪ ،‬ين�رش‬ ‫خطابه املتعلق باحلدود واحلاجة �إىل مراقبة دولية لها‪� ،‬إن‬ ‫مل يكن �إغالقها بالكامل‪� .‬أما و�سائل الإعالم التي ت�سعى‬ ‫وراء �أزمة مثرية لالهتمام‪ ،‬فتذكرت احلدود املفتوحة‬ ‫و�أ�صبحت عر�سال بطلة الدراما التي تعر�ض االنتهاكات‬ ‫التي ارتكبها النظام ال�سوري على الأرا�ضي اللبنانية‪،‬‬ ‫وك�أنها ظاهرة جديدة‪ .‬يف غمرة هذه اللحظة رمبا اغتنم‬ ‫بع�ض �أهايل عر�سال هذه الفر�صة ونادوا ب�صوت �أعلى‬ ‫مطالبني ب�إغالق احلدود‪ .‬هل يعقل �أنهم ا�ستقروا �أخري ًا‬ ‫يف اجلانب ال�صحيح من ال�سلطة؟‬ ‫حدود مفتوحة‪ :‬جمازفة �أم فر�صة؟‬ ‫ال ليفهموا � ّأن التغطية‬ ‫مل ي�ستغرق �أهايل عر�سال وقت ًا طوي ً‬ ‫الإعالمية التي ح�صلوا عليها كانت جمرد اهتمام �إعالمي‬ ‫ال �أكرث وال �أقل‪ ،‬و� ّأن معاناتهم مفيدة ما دامت ت�شكل‬ ‫اخلطاب ال�سيا�سي �أو تخدمه‪ .‬والأهم من ذلك كله �أنه‬ ‫مل ِ‬ ‫مي�ض وقت طويل قبل �أن يدركوا �أنهم �سيكونون‬ ‫�أول �ضحايا احلدود «املغلقة»؛ �إذ بقدر ما �أ�صبح مو�ضوع‬ ‫النظام ال�سوري مدعاة لالنفعال‪ ،‬كانت احلدود املفتوحة‬ ‫عن�رص ًا �أ�سا�سي ًا يف حياة �أهايل عر�سال‪ .‬تاريخياً‪ ،‬كان‬ ‫�أهايل عر�سال يعربون مع قطعانهم �إىل املناطق املنخف�ضة‬ ‫من �سورية يف ف�صل ال�شتاء حيث املراعي �أكرث وفرة مما‬ ‫هي يف لبنان‪ .‬وقد انعقدت روابط عديدة مع بلدات على‬ ‫املقلب الآخر وتزاوج النا�س يف كثري من الأحيان‪ .‬ومنذ‬ ‫�سبعينيات القرن املا�ضي‪ ،‬باع �أهايل عر�سال الفاكهة‬ ‫مبقدار �أقل �إىل ال�سوق اللبنانية‪ ،‬ومبقدار �أكرب �إىل الو�سطاء‬ ‫ال�سوريني الذين �أقاموا �أ�سواق ًا متنقلة خالل املو�سم‬ ‫الزراعي يف �أجزاء خمتلفة من جرود عر�سال على املقلب‬ ‫‪46‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫وغني عن الذكر � ّأن عمليات التهريب‬ ‫اللبناين من احلدود‪.‬‬ ‫ٌّ‬ ‫ي�سميها الأهايل) كانت حت�صل �أي�ض ًا‬ ‫(�أو «التجارة» كما ّ‬ ‫على نطاق وا�سع عرب احلدود‪ .‬يف �أ�سو�أ الأيام‪ ،‬راوحت‬ ‫املنتجات املتداولة بني ال�سجائر والغ�ساالت‪.‬‬ ‫ و�أخرياً‪ ،‬وخ�صو�ص ًا خالل احلرب الإ�رسائيلية الأخرية‬ ‫على لبنان عام ‪ ،٢٠٠٦‬ن�شط �أهايل عر�سال يف تهريب‬ ‫امل��ازوت عرب احل��دود يف �سبيل توفريه للم�ست�شفيات‬ ‫وغريها من م�ؤ�س�سات منطقة حتى عندما كان الأهايل‬ ‫يعار�ضون عالنية النظام ال�سوري‪ .‬كان �أهايل عر�سال‪،‬‬ ‫و�سائر البلدات املن�سية على احلدود مع �سورية يف الطرف‬ ‫ال�شمايل ال�رشقي وال�شمايل الغربي من لبنان‪ ،‬يعتمدون‬ ‫اقت�صادي ًا على احلدود لك�سب قوتهم اليومي‪ .‬وا�ستمرت‬ ‫احلال على هذا املنوال حتى �أخ��ذت العالقة بني لبنان‬ ‫و�سورية تت�أرجح مينة وي�رسة‪ .‬فعلى �سبيل املثال‪ ،‬درج‬ ‫�أهايل عر�سال على القيام برحالت يومية �إىل �سورية‬ ‫بداعي الت�سوق و�إجناز املهمات التي ال ميكنهم حتمل كلفتها‬ ‫يف بعلبك‪� ،‬أقرب مدينة �إليهم‪ .‬كل �صباح‪ ،‬كانت حافلة‬ ‫تعرب احلدود ال�شمالية اىل �سورية وتعود يف امل�ساء وهي‬ ‫حتمل �ضعف حجمها من الب�ضائع‪ .‬وقد راوحت الب�ضائع‬ ‫التي مت �رشا�ؤها من البقالة �إىل الأجهزة املنزلية‪ ،‬والأثاث‪،‬‬ ‫واملالب�س ال�شخ�صية واجلواهر‪ .‬يف �أواخر ت�سعينيات القرن‬ ‫املا�ضي‪ ،‬حتى الكعك كان ي�شرتى من �سورية‪ .‬كذلك‬ ‫اعتمد �سكان البقاع على �سورية للح�صول على اخلدمات‬ ‫الطبية التي كانت �أرخ�ص بكثري مما هي عليه يف لبنان‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من � ّأن �إغالق احلدود كان جذاب ًا من الناحية‬ ‫ال�سيا�سية يف �أوقات الأزمات الإن�سانية وال�سيا�سية‪ ،‬لكن‬ ‫كانت �سترتتب عنه يف �أي وقت انعكا�سات مدمرة على‬ ‫�صعيد العالقات االقت�صادية واالجتماعية اليومية‪.‬‬ ‫ ال ميكن �أن ينظر �إىل تدفق النازحني ال�سوريني �أخري ًا‬ ‫�إىل عر�سال وعربها (ما زاد عدد ال�سكان مبعدل ال�ضعفني‬ ‫ال على تلك احلدود التي ي�سهل‬ ‫تقريباً) �إال باعتباره دلي ً‬ ‫اخرتاقها والتي جلبت ع��دد ًا من الفر�ص يفوق عدد‬ ‫املخاطر يف �أوقات خمتلفة من تاريخ عر�سال املعا�رص‪.‬‬ ‫ لي�ست اخلطابات ال�سيا�سية التي تطوف يف البلدة اليوم‬ ‫ببديهية؛ فهي ال تنبع بطبيعة احلال من هوية �س ّنية وميل‬ ‫التطرف‪ .‬كذلك ال ي�ستند العداء‬ ‫ع�شائري طبيعي العتناق‬ ‫ّ‬ ‫جتاه حزب البعث �أو حزب الله �إىل االنتماءات الطائفية‬ ‫فهم ب�شكل �أو�ضح كنتاج تاريخ من‬ ‫دون غريها‪ .‬يجب �أن ُت َ‬ ‫العالقات املتغرية بني الدولتني اللبنانية وال�سورية وكيفية‬ ‫م�شاركة املقيمني على هوام�ش هاتني الدولتني فيها‪.‬‬

‫هشادات من تغريبة أهايل القصري السورية‬ ‫�شهادة الطبيب قا�سم الزين‬ ‫ما ح�صل يف الق�صري م�أ�ساة حقيقية يجب �أن تو ّثق‬ ‫للتاريخ‪ .‬يف الأيام الأخرية قبل الهجرة‪ ،‬كانت املدينة‬ ‫حتوي خم�سة ع�رش �ألف مواطن‪ ،‬بينهم �ألف ومئتا جريح‪،‬‬ ‫وكان عدد املقاومني ثالثمئة م�س ّلح‪ ،‬كلهم من �أهل‬ ‫املدينة‪ ،‬نعرف �أ�سماءهم وبيوتهم‪ ،‬وكل ال�شهداء مو ّثقون‪.‬‬ ‫كلهم من �أهل املدينة‪ .‬مل يكن هناك حتى �أع�ضاء من‬ ‫احلر من خارج املدينة‪ .‬حاول بع�ض املقاتلني من‬ ‫اجلي�ش ّ‬ ‫حلب �أن يدخلوا �إىل الق�صري‪ ،‬ولكنهم مل ي�ستطيعوا‪.‬‬ ‫الظلم الذي عانيناه كنا نتمنى �أن ي�أتينا من �إ�رسائيل‪،‬‬ ‫ال من دولتنا مبعاونة حزب الله‪ .‬مقابل ثالثمئة مقاوم يف‬ ‫املدينة‪ ،‬كان هناك �آالف املقاتلني من النظام ومن حزب‬ ‫الله‪ .‬وقد ا�شرتك احلزب بكل �أنواع الأ�سلحة‪.‬‬ ‫الهجوم الأخري‬ ‫تعر�ضت املدينة لنحو ‪ ٢٥‬طلعة طريان يف ال�ساعة‪ .‬القذائف‬ ‫تنهال علينا بالثواين‪ .‬معظم ال�شهداء من املدنيني‪ .‬كثري منهم‬ ‫ق�ضوا حتت الأنقا�ض؛ لأ ّننا مل ن�ستطع �أن ن�صل �إليهم من‬ ‫َ‬ ‫�شدة الق�صف‪� ،‬أو لأنه مل تكن هناك �آليات لرفع الأنقا�ض‪.‬‬ ‫ �آخر �أيام احل�صار‪ ...‬عندما مل ي�ستطع النظام ومقاتلو‬ ‫حزب الله الدخول ّبر ًا‪ ،‬بالرغم من تفوقهم يف العدد‬ ‫قرروا تدمري املدينة‪ .‬عندها‪� ،‬أ�صبح البقاء‬ ‫والأ�سلحة‪ّ ،‬‬ ‫يف الق�صري �رضب ًا من االنتحار‪ ،‬فقرر املقاومون مع‬ ‫وجتمع‬ ‫�أهل املدينة االن�سحاب‪ .‬حمل املقاومون بواريد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫�أهل املدينة للرحيل‪ .‬كان يوم ًا م�ؤمل ًا جد ًا؛ لأنه ال �أحد‬ ‫يرتك بلده و�أر�ضه طوع ًا‪ .‬الكثري من املقاومني وبع�ض‬ ‫من الأهايل قرروا البقاء‪ ،‬لكن ك ّنا نعلم � ّأن من �سيبقى‬ ‫�سيقتل‪ ،‬وكانت البيا�ضة التي علمنا ب�أحداثها مث ً‬ ‫ال‬ ‫ُ‬ ‫‪47‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫�أمامنا‪ .‬ما ح�صل يف البيا�ضة كان �أكرث من نكبة‪ .‬ال‬ ‫ت�صور القتل بهذه الطريقة‪ .‬يف البداية‪،‬‬ ‫ي�ستطيع الإن�سان‬ ‫ّ‬ ‫حاولنا �إخراج املدنيني قبل االن�سحاب‪ ،‬ولكنهم كانوا‬ ‫يعتقلونهم على احلواجز وجتري ت�صفية الرجال مبا�رشة‪،‬‬ ‫وهذا ما دفع الكثري من املدنيني �إىل البقاء‪ .‬ا�ستنجدنا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومنظمات حقوق الإن�سان‪ ،‬ولكن ال‬ ‫باملنظمات الدولية‬ ‫جدوى‪ .‬ك ّنا نريد فقط �إخراج اجلرحى‪.‬‬ ‫ �سقوط الق�صري هو عنوان ل�سقوط الإن�سانية‪ .‬مل نعد‬ ‫نر‬ ‫ن�ؤمن باملنظمات الدولية‪ ،‬وال بهراء حقوق الإن�سان‪ .‬مل َ‬ ‫من ه�ؤالء �إال ال�صمت �أمام كل ما ح�صل للمدينة‪.‬‬ ‫التهجري بعد التدمري‬ ‫قررنا الهجرة‪ .‬وملّا كان‬ ‫عندما بد�أ تدمري املدينة بالكامل‪ّ ،‬‬ ‫التدمري من جهة اجلنوب‪ ،‬قررنا االن�سحاب من ال�شمال‪.‬‬ ‫ات�صلت بطبيب �أعرفه مقرب من «احلزب» لكي ي� ّؤمن‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ويعني اجلرحى‪ ،‬وقلت له‪« :‬نحن‬ ‫لالن�سحاب‬ ‫ا‬ ‫طريق‬ ‫لنا‬ ‫ُ‬ ‫جماعة احل�سني واملظلومون‪ ،‬ويجب �أن تتعاطف معنا»‪.‬‬ ‫وذكرت �أنه كان هناك �ألف ومئتا جريح‪ ،‬ثالثمئة منهم‬ ‫للحمل على الأكتاف‪ .‬وعد الدكتور ب� ّأن‬ ‫كانوا بحاجة َ‬ ‫فتم تبليغ «احلزب»‬ ‫املهاجرين لن يتعر�ضوا للق�صف‪ّ ،‬‬ ‫والدولة ال�سورية بطريق الهجرة‪ ،‬لكننا فوجئنا بهم‬ ‫يخلفون االتفاق ويق�صفون املهاجرين‪ .‬بد�أنا بالهجرة‬ ‫ليلة ‪ ٦/٥‬حزيران‪/‬يونيو‪ ،‬وهي ليلة النكبة‪ .‬يف البداية‬ ‫كانت املدينة حتوي خم�سة ع�شـــــــــــــــــــــــــر �ألف‬ ‫مواطن‪ ،‬بينهم �ألف ومئتــــــــــــــــــــــــــــــــا جريح‪،‬‬ ‫وكان عدد املقاومني ثالثمئة م�ســــــــــــــــــــــــــلّح‪،‬‬ ‫كلهم من �أهل املدينة‪ ،‬نعرف �أ�ســــــــــــــــــــــــماءهم‬ ‫وبيوتهم‪ ،‬وكل ال�شـــــــــــــــــــــــــــــــهداء موثّقون‬


‫انتقلنا �إىل البوي�ضة‪ ،‬لكننا مل نتحرك‬ ‫مبمر‬ ‫حلول الظالم‪ .‬بالرغم من وعدنا ّ‬ ‫للق�صف اجلوي من الليلة الأوىل؛ فقد‬

‫م�ساء بعد‬ ‫�إال‬ ‫ً‬ ‫�آم��ن‪ ،‬تعر�ضنا‬ ‫ق�صف اجلي�ش‬

‫�أي�ض ًا اعتقد � ّأن اجلي�ش �سيعتقلهم فيبقى على قيد احلياة‪.‬‬ ‫ولكن كل من �س ّلم نف�سه للحاجز يف ذلك اليوم‪ ،‬جرت‬ ‫ت�صفيته‪ .‬فقدت �أربعة من �أقربائي قت ً‬ ‫ال على احلاجز‪.‬‬

‫�أهايل الق�صري‪ ،‬ان�ضم �إىل الهجرة �أهايل البيا�ضة‪ ،‬ومن‬ ‫كان قد هرب من حم�ص �إىل البيا�ضة �أي�ض ًا‪ ،‬ف�أ�صبح‬ ‫عددنا هائ ً‬ ‫ال وكنا مك�شوفني على الطريان‪ .‬عند نحو‬

‫عندما بد�أ تدمري املدينة ال�شامل قرّرنا الهجرة‪ ،‬وملّا كــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان‬ ‫التدمري من جهة اجلنوب‪ ،‬قررنا االن�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــحاب من ال�شمال‪...‬‬ ‫كان هناك �ألف ومئتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا جريح‪،‬‬ ‫ثالثمئة منهم كانوا يحتاجون للحَ مل على الأكتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاف‬ ‫البوي�ضة وا�ست�شهد اثنان من املهاجرين املدنيني‪ ،‬واحد‬ ‫من اجلرحى والآخر كان بجانب امل�ست�شفى امليداين‪.‬‬ ‫ م�ساء ‪ ٦‬حزيران‪/‬يونيو اجتمعنا يف طريق واحد‬ ‫عدت‬ ‫بني طريق حم�ص ‪ -‬الق�صري وقرية ال�صاحلية‪ ،‬و�أُ ّ‬ ‫خطة للم�شي لي ً‬ ‫ال بني احلواجز‪ .‬يف ال�ساعة ال�سابعة‪،‬‬ ‫حمل ثالثمئة‬ ‫بد�أنا رحلة الهجرة‪ ،‬وكان الرتتيب �أن ُي َ‬ ‫جريح على الأكتاف‪ .‬مل جنلب معنا �إال بع�ض الأغرا�ض‬ ‫ال�شخ�صية التي ا�ضطررنا �إىل �أن نرتك معظمها على‬ ‫نف�سه بالعكازات‪،‬‬ ‫الطريق‪ .‬كان على بع�ضنا �أن ُي�سند َ‬ ‫والبع�ض الآخ��ر امتطى املوتو�سيكالت و�ساعد يف‬ ‫حمل الأغرا�ض للمهاجرين‪ .‬الذين تركوا املدينة كان‬ ‫عددهم خم�سة ع�رش �ألف ًا‪ .‬كل من بقي يف املدينة بعد‬ ‫�أن �أخالها املقاومون‪ ،‬جرت ت�صفيته �أو اع ُتقل؛ �إذ اع ُترب‬ ‫كل من بقي يف الق�صري عدو ًا‪ .‬فمث ً‬ ‫ال‪ ،‬بيت �إدري�س بقوا‬ ‫على �أ�سا�س �أنهم مع النظام و�آمنون‪ ،‬ولكن متّت ت�صفية‬ ‫بع�ضهم واع ُتقل الآخرون‪.‬‬ ‫ ك��ان امل�شي لي ً‬ ‫ال‪ ،‬وعند ب��زوغ النهار نرتاح يف‬ ‫الب�ساتني بني الأ�شجار لكي ال يرانا جي�ش النظام‪ .‬بعد‬ ‫م�شي ثالثني كيلومرت ًا ليل ال�ساد�س من حزيران‪ ،‬و�صلنا‬ ‫�إىل «احلمرا» عند الرابعة �صباح ًا‪ .‬كنا نحاول الو�صول‬ ‫�إىل طريق دم�شق لنقل اجلرحى قبل �أن يطلع ال�ضوء‪.‬‬ ‫فقبل الهجرة الأخرية‪ ،‬كنا نحاول �إخراج اجلرحى لتلقّي‬ ‫العالج‪ ،‬ولكنهم كانوا يتعر�ضون للقتل‪ .‬يف نهاية �شهر‬ ‫� ّأيار جرت حماولة �إنقاذ خم�سني �شهيد ًا تعر�ضوا للق�صف‬ ‫على طريق دم�شق‪ ،‬عاد منهم ثالثة ع�رش �شهيد ًا‪ ،‬ومن‬ ‫حينها‪ ،‬رف�ض اجلرحى اخلروج على �أ�سا�س تف�ضيل‬ ‫املوت يف الدار على املوت على احلواجز‪.‬‬ ‫م�ساء و�صلنا �إىل قرب «احل�سينية»‬ ‫ نحو ال�ساد�سة‬ ‫ً‬ ‫ولكن اجلي�ش ب��د�أ الق�صف علينا‪.‬‬ ‫من جهة الغرب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ا�ست�شهد ع�رشة منا‪ .‬بد�أنا نهرب عائدين �إىل الب�ساتني‪.‬‬ ‫رجعنا نحو �أربعة كيلومرتات �إىل الوراء‪ .‬بالإ�ضافة �إىل‬ ‫‪48‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫�صباح ًا‪ ،‬وه�ؤالء كانوا حمظوظني؛ لأنهم تابعوا ال�سري لي ً‬ ‫ال‬ ‫حتى و�صلوا �إىل «قارة»‪ .‬يف ليلة ‪ ٦/١٠‬يف ح�سيا ّمت‬ ‫ق�سم‬ ‫ت�أمني �سيارات لنقل املهاجرين ح ّتى «قارة»‪ ،‬فبقي ٌ‬ ‫ق�سم ثانٍ �إىل «الديبة»‪ .‬ومن «قارة» تو َّز َع‬ ‫يف قارة‪ ،‬و�أكمل ٌ‬ ‫وق�سم �أكمل �إىل‬ ‫املهاجرون‪ ،‬فانتقل ق�سم �إىل يربود‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫عر�سال يف لبنان‪ .‬كان الهدف الأ�سا�سي �إي�صال النا�س‬ ‫�إىل «قارة»‪ ،‬وبعدها يقرر كل واحد ما يريد �أن يفعل‪.‬‬

‫«مدينة الأحالم» مهجورة‬ ‫جتمعنا‪ ،‬وكان علينا حماولة‬ ‫ليلة ‪� ٧/٦‬أو ليلة ‪ّ ٨/٧‬‬ ‫ّ‬ ‫تخطي حاج َزي �شم�سني والديبة‪ ،‬وبني والواحد والآخر‬ ‫كيلومرتان اثنان‪ .‬بد�أنا من�شي على غري هدى‪ .‬و�صلنا‬ ‫قريب ًا من احلاجز‪ ،‬فبد�أ الق�صف علينا‪ُ .‬عدنا �أدراجنا «تغريبة الق�صري» ومزاعم «املنار»‬ ‫م�ساء عدنا كانت «قارة» �آمنة ولي�ست حتت �سيطرة اجلي�ش ال�سوري‪.‬‬ ‫واختب�أنا حتى حلول الظالم‪ .‬ال�ساعة التا�سعة‬ ‫ً‬ ‫وبع�ض �آخر ومل ّ‬ ‫يفكر �أحد يف ما قد يفعله بعد الو�صول �إىل ِّبر الأمان‬ ‫�إىل الب�ساتني‪ .‬بع�ضنا �س ّلم نف�سه للحاجز‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫و�شن املقاومون هجوم ًا على احلاجز خالل الرحلة‪ .‬الهدف الوحيد كان الو�صول‪ .‬مل يكن لدينا‬ ‫قرر موا�صلة ال�سري‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أطباء‬ ‫مير الأهايل‪ .‬كنا من�شي حتت الق�صف �أمل يف �أن نحيا‪ .‬يف «قارة» جمموعة من �أ�صدقائنا ال ّ‬ ‫و�أطلقوا النار حتى ّ‬ ‫وكل واحد يفكر يف نف�سه‪ ،‬ومن ُي َ�صب ال يجد �أحد ًا زمالء الدرا�سة‪ .‬وال�صليب الأحمر ن�صحني ب�رضورة ترك‬ ‫حت بالذهاب‬ ‫أحتدث مع الإعالم‪ .‬و ُن ِ�ص ُ‬ ‫ممر�ضة يف امل�شفى امليداين‪ ،‬قُ�صفت البلد؛ لأ ّنني كنت � ّ‬ ‫ينظر �إليه‪� .‬أم ّ‬ ‫عمار‪ّ ،‬‬ ‫هي وابنتها و�صهرها‪ .‬تركناها على الطريق ومل ن�ستطع �إىل عر�سال؛ ل ّأن �أحد ًا لن يحميني يف �سورية‪.‬‬ ‫ممر�ض �آخر ا�سمه فار�س الدايخ كان م�صاب ًا يف هذه الأثناء‪ ،‬كان ثالثمئة مهاجر واثنان وثالثون‬ ‫حتى دفنها‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫جريح ًا يف�شلون يف اجتياز «الفتحة»‪ ،‬فعادوا �أدراجهم‬ ‫يف عينيه وا�س ُت�شهد على «الفتحة»‪.‬‬ ‫تعر�ضوا للق�صف‪ .‬وه ��ؤالء هم من‬ ‫ مقابل «الفتحة» جمموعة عقارية تدعى «مدينة �إىل البوي�ضة حيث ّ‬ ‫وحلمنا الو�صول �إليها‪ ،‬ومن نقل مقاتلو «حزب الله» �صورهم على �أ ّنهم �أ�سعفوهم مع‬ ‫الأحالم»‪ .‬املدينة مهجورة‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫�سيارات تنتظرنا لتقلنا م�سافة ثالثني ال�صليب الأحمر وهم اثنان وثالثون جريحا‪ ،‬وذلك كدليل‬ ‫املفرت�ض � ّأن هناك ّ‬ ‫ً‬ ‫كيلومرت ًا �إىل قرية «الديبة»‪ ،‬ومنها �إىل «ح�سيا»‪ .‬عند على �أ ّنهم �إن�سانيون ومل يقتلوا الأبرياء‪ .‬غ�ضبنا كثريا لر�ؤية‬ ‫البث التلفزيوين‪ ،‬لهذه البطولة وال�شهامة من «حزب الله»‪.‬‬ ‫ال�سيارات‪.‬‬ ‫«مدينة الأحالم» مل يكن هناك الكثري من‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫البيا�ضة‬ ‫أطباء عادوا �أدراجهم �إىل ّ‬ ‫�سيارة تق ّلنا بع�ض ًا فوق بع�ض‪ .‬البا�ص احلقيقة � ّأن خم�سة � ّ‬ ‫املحظوظ يالقي ّ‬ ‫وطلبت من الطبيب علي زعيرت �أن‬ ‫الذي يقل ثالثني ي�ستقبل مئة راك��ب‪ .‬ومن مل يكن وتوا�صلنا معهم‬ ‫ُ‬ ‫حمظوظ ًا ب�سيارة �أو با�ص‪ ،‬تابع �سري ًا على الأقدام‪ .‬بع�ض يتوا�صل مع «احلزب» لنقل اجلرحى‪ ،‬فما كان من «احلزب»‬ ‫ّ‬ ‫إعالمي ًا مل�صلحته‪ ،‬يف حني �أ ّنهم منعونا‬ ‫ا�ستغل ذلك �‬ ‫الأهايل و�صل �إىل قرية «الديبة» وبقي فيها‪ ،‬وبع�ض �آخر �إلاّ �أن‬ ‫ّ‬ ‫من ال ّنوم طوال ثالثة � ّأيام‪ ،‬حيث مل يكن لدينا ماء وال‬ ‫تابع �إىل «ح�سيا» وبقي فيها‪.‬‬ ‫ تابعنا ال�سري رغم الق�صف‪ .‬مل يكن لدينا ّ‬ ‫حل �آخر‪ .‬طعام‪� .‬أذكر يف اليوم الأول حني و�صلنا �إىل ب�ستان ال ّلوز‪،‬‬ ‫كانت رحلة �أمل‪ .‬ت�سقط القذائف‪ ،‬ي�سقط رفاق �أو �أقارب لك �أننا بد�أنا نبحث عن �أي م�صدر للمياه‪ ،‬ولكننا مل جند‬ ‫�إىل جانبك‪ ،‬لكنك تتابع ال�سري‪ .‬ال تنظر �إىل الوراء‪ .‬ال تتوقف � ّأي �شيء‪ .‬وجدنا بع�ض ال ّلوز ال يزال على ال�شجر‪ ،‬فبد�أ‬ ‫أف�ضلية‬ ‫تريد �أن ت�صل �إىل ّبر الأمان‪ .‬و�صلنا �إىل «مدينة الأحالم»‪ ،‬الأهايل يقطفونه ليح�صلوا على املاء‪ ،‬وكانت ال‬ ‫ّ‬ ‫وكان الهدف العبور �إىل �رشق الطريق؛ ل ّأن اجلهة ال�رشقية للجرحى‪ .‬يف الليلة التالية وجدنا كرم عنب‪ ،‬ف�أكلنا �أوراق‬ ‫لي�ست حتت �سيطرة اجلي�ش‪ ،‬ويعرف املقاومون االلتفاف حول العنب لأّ ّنها حتتوي على املياه‪ .‬وكذلك فعلنا بالبطاطا‬ ‫احلواجز هناك‪ .‬منذ بداية الثورة وهم ينقلون اجلرحى �إىل النيئة التي اقتلعها الأهايل وق�شرّ وها و�أعطوها للمر�ضى‬ ‫يربود‪ ،‬ومنها �إىل عر�سال‪ ،‬لذلك �أ�صبحوا يعرفون الطريق‪ .‬من �أجل احل�صول على بع�ض املاء‪ .‬ومل نح�صل على املاء‬ ‫ م�ساء ‪ ٦/٩‬كان بني «مدينة الأحالم» و«الديبة» خط ح ّتى و�صلنا �إىل «مدينة الأحالم»‪ .‬ك ّنا نعتقد �أننا �سرنوي‬ ‫احلمامات‪.‬‬ ‫متوا�صل من الب�رش على امتداد نحو ثالثة كيلومرتات‪ .‬عط�شنا‪ .‬للأ�سف كان هنالك بع�ض املاء يف بع�ض ّ‬ ‫من «الديبة» �إىل «ح�سيا» م�سافة ‪ ١٢‬كيلومرت ًا‪� .‬صباح «�إ ّنها فع ً‬ ‫الفل�سطينية»‪ ،‬وعندما‬ ‫ال كـ«التغريبة‬ ‫ّ‬ ‫الفل�سطينية»‬ ‫نتحدث عن «تغريبة الق�صري»‪« ،‬التغريبة‬ ‫‪ ٦/٩‬و�صلنا �إىل «ح�سيا»‪� .‬آخ��رون و�صلوا يف الثالثة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ال�ساعة ال�سابعة والن�صف وقع الهجوم علينا بالدبابات‬ ‫ال�صد‬ ‫بينما كنا نختبئ يف الب�ساتني‪ .‬حاول املقاومون‬ ‫ّ‬ ‫بالبواريد و�سقط �سبعة ع�رش �شهيد ًا بالق�صف املدفعي‪.‬‬ ‫مل يكن لدينا ماء وال دواء‪ ،‬والكثري ممن ا�ست�شهدوا كان‬ ‫من املمكن �إنقاذهم‪ ،‬ولكن مل تكن لدينا الإ�سعافات‬ ‫الكافية‪ .‬من اجلرحى الذين كان ميكن �إنقاذهم �أ�سامة‬ ‫جبنة‪ ،‬ابن اخلم�سة ع�رش ربيع ًا الذي �أ�صيب يف �صدره‬ ‫بقيت �إىل جانبه نحو �أربع �ساعات �أراه ينزف‬ ‫ويف بطنه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫حتى ا�ست�شهد‪ ،‬وكنت عاجز ًا عن فعل �أي �شيء له‪ .‬قبل‬ ‫�أن ميوت قال يل‪�« :‬أنا �أعرف �أنني مرحوم‪ ،‬ولكن �أرجوك‬ ‫�أعطني نقطة ماء»‪ .‬للأ�سف مل يكن لدينا ماء لنعطيه‪ .‬مل‬ ‫يكن لدينا �أي�ض ًا �أدوات لدفن املوتى‪ .‬بع�ض الأهايل‬ ‫حفروا ب�أيديهم وباحلجارة فقط ملجرد �أن يغطوا اجلثث‪،‬‬ ‫والبع�ض و�ضعوا حفنة من الرتاب على املوتى‪.‬‬ ‫ بالإ�ضافة �إىل ال�سبعة ع�رش �شهيد ًا جراء الق�صف‬ ‫املدفعي‪ ،‬ق�ضى �سبعة من جرحانا �أي�ض ًا ب�سبب اجلفاف‬ ‫ق�سم من اجلرحى قد ا�س ُت�شهد‬ ‫والق�صور الكلوي‪ ،‬وكان‬ ‫ٌ‬ ‫خالل رحلة الليل‪ .‬للأ�سف‪ ،‬كان ال�شباب الذين يحملون‬ ‫اجلرحى على الأك��ت��اف ي�شعرون بالفرح؛ لأ ّنهم لن‬ ‫قبل �أن ميوت قــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــال يل‪:‬‬ ‫«�أنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا �أعرف �أنني مرحوم‪،‬‬ ‫ولكن �أرجوك �أعطني نقطة مــــــــــــــــــــــــــــــاء»‪.‬‬ ‫للأ�سف مل يكن لدينا ماء لنعطيــــــــــــــــــــــــــــــه‬ ‫ميت اجلثث على �أطراف الطرق ويف‬ ‫ي�ضطروا حلملهم‪ُ .‬ر َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تعر�ضنا للق�صف يف الليلة الأوىل مل يبق‬ ‫بعد‬ ‫الب�ساتني‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لدينا �أمل باحلياة وال � ّأي �أمل ب�شيء‪ .‬بقينا حيث نحن ح ّتى‬ ‫ّ‬ ‫حل الظالم‪ .‬قرر كثري من الأهايل ت�سليم �أنف�سهم حلاجز‬ ‫احل�سينية على �أ�سا�س «�أ ّنهم ميتون ميتون»؛ فالأف�ضل‬ ‫ّ‬ ‫�أن منوت وندفن‪ ،‬على �أن منوت ُونرتك يف العراء‪ .‬بع�ضهم‬ ‫‪49‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫التجمع‪،‬‬ ‫بال�سيارات‪ .‬مل نكن نعلم مكان‬ ‫نعتقد �أننا �سنذهب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فبد�أنا نرك�ض من ناحية لناحية‪ .‬يف البداية‪ ،‬ذهبنا �إىل‬ ‫التجمع عند امل�شفى امليداين‪،‬‬ ‫«ال�صاحلية‪ »،‬لك ّنهم قالوا � ّإن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فذهبنا �إىل هناك‪ .‬مل نكن نعلم � ّأن الرحلة �ستكون على‬ ‫تركت احلقيبة و�أخذت فقط قطعة‬ ‫الأقدام‪ .‬حني بد�أنا امل�سري‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫غيار يل وقطعة غيار �أخرى مله ّند‪ .‬مل ن�أت ب�أي طعام �أو ماء‪.‬‬

‫در�ست الطب يف رو�سيا‪،‬‬ ‫ما بتيجي �شي حدها»‪� .‬أنا‬ ‫ُ‬ ‫العاملية الثانية‪ ،‬وح ّتى �أ ّنني‬ ‫وقر� ُأت الكثري عن احلرب‬ ‫ّ‬ ‫وكنت �أ�س�ألهم كيف‬ ‫مت مع �أهلها‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫زرت لينينغراد وتك ّل ُ‬ ‫عاي�شوا احلرب‪ .‬كانوا يقولون �إن الق�صف العنيف من‬ ‫الطريان كان يتوقّف عند �سقوط عدد كثري من اجلرحى‪.‬‬ ‫فكانوا ي�ضعون مو�سيقى يف الكنائ�س ليتوقّف الق�صف‪،‬‬ ‫فيذهب الأهايل لي�شرتوا ما يحتاجون �إليه من مياه وطعام‬ ‫النازيون يف «الق�صري» املاء من حبات اللوز‬ ‫وعالج للجرحى‪ .‬ه�ؤالء الأملان‬ ‫ّ‬ ‫�ضيعوا بع�ضهم‪.‬‬ ‫عندما كانوا ي�سمعون املناداة يف اجلامع كانوا يق�صفون الفو�ضى عند‬ ‫ّ‬ ‫التجمع كبرية‪ ،‬والنا�س ّ‬ ‫ممر�ضة يف امل�شفى‪ ،‬بالإ�ضافة‬ ‫اجلامع‪ .‬ال يوجد مثيل ملا ح�صل يف «الق�صري»‪ .‬احلروب م�شيت �أنا مع �أمي‪ ،‬وكانت ّ‬ ‫عدة‬ ‫هي بني جيو�ش‪ ،‬ونحن قر�أنا عن حرب ت�رشين وحروب �إىل زوجي مه ّند و�أبناء عمي و�أهل زوجي‪ .‬لكننا بعد ّ‬ ‫�ساعات �أ�ضعنا بع�ضنا‪ .‬عندما و�صلنا �إىل ب�ستان اللوز‪،‬‬ ‫�إ�رسائيل‪ ،‬ولك ّننا مل نقر�أ عن �إجرام بهذه الطريقة‪.‬‬ ‫ خالل �شهر ون�صف من احل�صار مل ن�ستطع �أن ُن ِ‬ ‫دخل بد�أنا نبحث عن �أهلنا‪ .‬وجدت �أهلي‪ ،‬ولكننا مل جند �أهل‬ ‫طحين ًا وال �أي مواد غذائية �أخرى‪� .‬إدخال الدواء كان زوجي‪ .‬الب�ستان مليء بالب�رش‪ ،‬و�أنا كنت �أبحث عن بيت‬ ‫جرمية كربى‪ .‬كان احل�صول على الدواء جرمية يعاقَب عليها عمي حني بد�أ الق�صف علينا و�سقط جرحى و�شهداء‪ .‬مل‬ ‫بالت�صفية اجل�سدية‪ .‬يف امل�شفى امليداين كان «اجلي�ش احلر يكن لدينا � ّأي ماء لإ�سعاف اجلرحى اجلدد واجلرحى الذين‬ ‫ـ الكتيبة ‪ »٢٠‬ينقل بع�ض الدواء‪ ،‬ولك ّنهم قتلوا جميع ًا‪� .‬أتوا من الق�صري‪ .‬ر�أيت بع�ض الأهايل يحاولون �سحب‬ ‫ليبث �صور ًا بع�ض نقاط املاء من داخل «نربيج»‪ ،‬وبع�ض ه�ؤالء حاول‬ ‫�أتاك تلفزيون «املنار» بعد «حترير الق�صري»‬ ‫ّ‬ ‫حبات اللوز‪.‬‬ ‫ويدعي �أنه كانت لدينا ّ‬ ‫من امل�شفى امليداين‪ّ ،‬‬ ‫معدات �أي�ض ًا ا�ستخراج املاء من ّ‬ ‫ن�ستعد للحرب كذلك‪ ،‬و� ّأن «الإرهابيني»‬ ‫حديثة‪ ،‬و�أننا ك ّنا‬ ‫ّ‬ ‫املعدات من بد�أت �أ�رصخ‪�« :‬أرجوك �أ�ســــــــــــــــــــــــــــــــــعفه‪.‬‬ ‫هم من �أتوا‬ ‫باملعدات �إلينا‪ .‬ح�صلنا على بع�ض ّ‬ ‫ّ‬ ‫نداءات كنت �أقوم بها؛ فامل�شفى احلكومي بالق�صري �أقفل �أنا متزوجة حديثاً‪� ،‬ســــــــــــــــــــــــــــــــــــاعدين!»‬ ‫وحولوه �إىل مركز تعذيب وقتل‪ .‬حاولت �أن �أحمل زوجي‪ ،‬لكني مل �أ�ســــــــــــــــــتطع‪.‬‬ ‫يف �شهر ‪ّ ٢٠١١/١١‬‬ ‫ فتحنا امل�شفى امليداين‪ ،‬وك ّنا نعالج جرحى التظاهرات �رصخت بــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالطبيب‪:‬‬ ‫أطباء كانوا من الق�صري‪ ،‬مل يكن معنا «ملاذا تقول له �أن يت�شهّ د؟ �سوف يعيـــــــــــــــــــــ�ش»‬ ‫يف البداية‪ .‬كل ال ّ‬ ‫وممر�ضة‪ ،‬ك ّلنا من‬ ‫� ّأي طبيب «�إرهابي»‪ .‬ك ّنا ثمانني طبيب ًا ّ‬ ‫�أهايل الق�صري‪ .‬بقينا �إىل �آخر حلظة يف املدينة‪ ،‬وهاجرنا عند حلول امل�ساء قيل لنا �إننا �سنبد�أ بامل�شي‪ .‬كنا‬ ‫مع �أهلها‪ .‬مل ن�ستطع ترك الأهايل‪ ،‬وك ّنا امل�شفى الوحيد من�شي مع ًا‪ ،‬ولكن يبدو � ّأن ق�سم ًا منا ّ‬ ‫�ضل الطريق‪ .‬حاولنا‬ ‫كنت �أعمل يف النهار و�أ�ستجدي �أ�صدقائي يف الرجوع‪ ،‬ف�ضللنا الطريق نحن �أي�ض ًا‪ .‬كنا نحو مئة‬ ‫املوجود‪ُ .‬‬ ‫ٍ‬ ‫طبية‪ .‬ا�ضطررنا �شخ�ص‪ .‬كنت �أم�شي مع �أمي وزوجي‪ .‬كانت �أمي تعبة‬ ‫�أنحاء العامل كي ير�سلوا لنا‬ ‫م�ساعدات ّ‬ ‫تعر�ضه امل�ستمر جد ًا؛ فهي ممر�ضة يف امل�شفى امليداين‪ ،‬ومل تذق النوم‬ ‫�إىل نقل امل�شفى �إىل ّ‬ ‫عدة �أحياء ب�سبب ّ‬ ‫وقعت �أر�ض ًا مرتني‪ ،‬وكنت �أنا وزوجي ن�سندها‬ ‫حية‪ ،‬وقد منذ �شهر‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫للق�صف‪ .‬املكان الأخري كان يف الرابطة الفلاّ ّ‬ ‫قُ�صف‪ ،‬ومن ثم انتقلنا �إىل مبنى �آخر �إىل حني «الهجرة»‪ .‬لكي تتابع امل�سري‪ .‬فج�أة‪ ،‬فيما كنا نبحث عن الآخرين‪،‬‬ ‫انهمرت علينا القذائف و«�ضرَ ْ ب الر�صا�ص»‪ ،‬وكنا قد‬ ‫جل�سنا لرنتاح قبل املتابعة‪ .‬مل ُن�صب‪ .‬طلبنا امل�ساعدة؛‬ ‫�شهادة خلود عبدالله خلف‬ ‫لأننا �ضللنا الطريق‪ ،‬ف�أتى خم�سة �أ�شخا�ص لي�صطحبونا‪،‬‬ ‫�أنا كنت �أ�سكن مع زوجي‪� ،‬أو بالأحرى عري�سي مه ّند وقبل �أن ي�صلوا �إلينا بنحو مئة مرت‪� ،‬سقطت قذيفة علينا‪.‬‬ ‫مت‪ ،‬ولكن بعد قليل حت�س�ست‬ ‫تزوجنا �أخري ًا يف اجلا ّدة‬ ‫القبلية يف البداية‪� ،‬شعرت ب�أنني ّ‬ ‫حممد مهدي حمرك‪ ،‬وقد ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫من الق�صري‪� .‬أتى مه ّند خالل النهار الذي �آ ّتخذنا فيه قرار نف�سي و�أردت �أن �أع��رف م��اذا ح�صل يل ولزوجي‪.‬‬ ‫أحت�س�س ج�سد � ّأمي‪ .‬كانت‬ ‫الرحيل‪ ،‬وطلب م ّني �أن �أح�رض بع�ض املالب�س يل وله‪ .‬ك ّنا كانت الدنيا مظلمة‪ ،‬وبد�أت � ّ‬ ‫‪50‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫أحت�س�س ج�سدها حتى و�صلت �إىل‬ ‫ج ّثة هامدة‪ ،‬وبقيت � ّ‬ ‫ر�أ�سها‪ ،‬وعلمت �أنها �أ�صيبت يف الر�أ�س وقد توفيت فور ًا‪.‬‬ ‫زوجي كان بعيد ًا عني بخطوتني‪ .‬اقرتبت منه وكان �أحد‬ ‫ماء‪،‬‬ ‫الطباء بجانبه‪ ،‬وهو ال يزال على قيد احلياة‪ .‬طلب ً‬ ‫«ت�شهد»‪ .‬بد�أت �أ�رصخ‪�« :‬أرجوك‬ ‫ولكن الطبيب قال له‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫�أ�سعفه‪� .‬أنا متزوجة حديثا‪� ،‬ساعدين»‪ .‬حاولت �أن �أحمل‬ ‫زوجي‪ ،‬لكني مل �أ�ستطع‪� .‬رصخت بالطبيب‪« :‬ملاذا تقول‬ ‫يت�شهد؟ �سيعي�ش»‪ .‬لكن الطبيب �أعلمني �أنه‬ ‫له �أن‬ ‫ّ‬ ‫�سيتابع ال�سري‪ ،‬فطلب مني زوجي �أن �أم�شي معهم و�أن‬ ‫�أتركه‪ .‬رف�ضت يف البداية‪ ،‬ولكنه قال يل‪« :‬اتركيني‪،‬‬ ‫حاجي تعذبيني»‪ .‬قلت له �إنني �س�أعود لأحمله‪ .‬م�شيت‬ ‫قلي ً‬ ‫ال وندمت لأنني تركته‪ .‬طلبت من الدكتور والآخرين‬ ‫جر ًا ملتابعة‬ ‫ولكن �أحد ًا مل يقبل‪.‬‬ ‫العودة معي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وجروين ّ‬ ‫ّ‬ ‫امل�سري‪ .‬مل �أكن �أ�ستطيع �سماع �أي �شيء من جراء القذيفة‪.‬‬ ‫و�صلنا �إىل «مدينة الأحالم»‪ ،‬وكنت ُمنهكة غري قادرة‬ ‫على الكالم‪ ،‬ولكنني ا�ستجديت �أن يعود معي �أحدهم‬ ‫حتى ندفن زوجي و�أمي على الأقل‪ ،‬ولكنهم و�ضعوين يف‬ ‫�سيارة‪ ،‬وو�صلت �إىل حيث كان �إخوتي و�أبي و�أخربتهم مبا‬ ‫جرى‪ .‬بعدها �أتينا ب�سيارة �إىل «عر�سال»‪.‬‬ ‫�أن �أدفن �أمي وزوجي على الأقل‬ ‫يف عر�سال‪ ،‬بد� ُأت �أ�سائل الأهايل عن ق�ص�صهم‪ .‬كنت �أو ّد‬ ‫�أن �أعرف ما �إذا كان �أحدهم قد وجد �أمي وزوجي‪ .‬لكن‬ ‫ّ‬ ‫الكل كانوا قد �أخذوا طريق ًا �آخر‪� .‬أعتقد �أنهما مل ُيدفَنا‪.‬‬ ‫بقيا على الطريق‪ .‬امل�شهد الأخري بعد �سقوط القذيفة ال‬ ‫يفارق خميلتي‪ّ � .‬‬ ‫أتذكر كيف وعيت ووجدتهما حويل‪،‬‬ ‫وكيف ا�ستجديت الطبيب الذي غ�ضبت منه لأنه مل‬ ‫ي�ساعد زوجي‪ .‬كنت مت�أملة رغم معرفتي �أ ّنه لن يعي�ش‪...‬‬ ‫�إ ّنني �أ�شعر بامل�س�ؤولية‪ .‬كان من املفرو�ض �أن �أبقى معهما‬ ‫�أ�ؤكد لك �أنّ اجلي�ش ال�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــوري‬ ‫مل يكن لي�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتطيع‬ ‫دخول الق�صري لــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوال‬ ‫م�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاعدة «حزب الله»‬ ‫و�أموت معهما‪ ،‬ال �أن �أتركهما‪� .‬أو رمبا كان يجب �أن �أعود‬ ‫�إليهما ب�أي طريقة‪� ،‬أو على الأقل كان يجب �أن �أدفنهما‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫«م�سكر»‪ ،‬وما كنت �أفكر يف �شيء‪ ...‬هو‬ ‫لكن عقلي كان‬ ‫ّ‬ ‫مل يكن يريد �أن يرتك الق�صري‪ .‬قال يل‪« :‬طلعي �إنت و�أنا‬ ‫ّ‬ ‫قرر الهجرة‪ .‬ال �أعرف كيف‬ ‫علي ّ‬ ‫ب�ضل»‪ ،‬لكن من خوفه ّ‬ ‫‪51‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫�سائق �سيارة �إ�سعاف‬ ‫تركته ميوت على الطريق‪ .‬كان يعمل‬ ‫َ‬ ‫يف امل�ست�شفى الأهلي‪ ،‬وقد �أخرج جرحى �إىل «عر�سال»‬ ‫يف بداية احل�صار‪ ،‬و�أُوقف وقال للجي�ش � ّإن «املجموعات‬ ‫الإرهابية �أجربته على �أخذ اجلرحى»‪ .‬عملنا وا�سطة‬ ‫لكي يطلع من ال�سجن‪ ،‬ولكنه فقد وظيفته ورف�ضوا �أن‬ ‫يعطوه ورقة «ال حكم عليه»‪ .‬ولكن كان لدينا �أمل يف �أن‬ ‫تتح�سن الأو�ضاع ويجد عم ً‬ ‫ال‪ .‬الآن مل �أعد �آمل �شيئ ًا‪ .‬ال‬ ‫�أريد �سوى العودة �إىل «الق�صري‪».‬‬ ‫ ال �أعرف ما الذي دفعني �إىل �أن �أتركه‪ ،‬ولكني �أذكر‬ ‫ُ‬ ‫ريح له �ضمريه و�آخذ الأمانة التي‬ ‫كلماته الأخرية ب�أن �أ َ‬ ‫�أر�سلها �أحد �أهايل الق�صري �إىل �أهله‪ .‬قال يل‪� :‬أو ّد �أن‬ ‫�أم��وت و�ضمريي مرتاح‪ .‬يجب �أن تو�صلي الأمانة‪.‬‬ ‫�أعطاين ظرف ًا فيه بع�ض املال ودفعني �إىل تركه لكي ال‬ ‫يتحمل ذنب عدم تو�صيل الأمانة‪ .‬ال �أعرف �إن كنت قد‬ ‫تركته لأنني �أو ّد �إراحة �ضمريه �أم لأنني كنت خائفة على‬ ‫نف�سي؟ كل ما �أعرفه هو �أنني �أمتنى لو كنت مكانه‪.‬‬ ‫املدر�س �أحمد رحمة‬ ‫�شهادة ّ‬ ‫ا�ست�شهد مئتان من اجلرحى على الطريق‪ ،‬ونحو ثالثمئة‬ ‫من املهاجرين‪ .‬عدد �شهداء الهجرة بلغ نحو خم�سمئة‪،‬‬ ‫وهناك �ألف مفقود مل نعرف �أين ذهبوا‪.‬‬ ‫«ب ِْعنا ذهباتنا لن�شرتي بواريد للثوار»‬ ‫يبد�أ الرجل حديثه بالت�أكيد � ّأن اجلي�ش ال�سوري مل يكن‬ ‫لي�ستطيع دخول الق�صري لوال م�ساعدة «حزب الله»‪ .‬كان‬ ‫عدد الثوار قلي ً‬ ‫ال يف الق�صري‪ .‬نحو خم�سمئة رجل‪ ،‬ومل‬ ‫ي�ستطع النظام �أن يدخل املدينة‪ .‬ي�ضيف �أن «اجلي�ش‬ ‫ال�سوري ك��ان �سينهار ل��وال م�ساعدة «ح��زب الله»‬ ‫الذي �أر�سل ّ‬ ‫كل قواته لقتل ال�شعب ال�سوري‪ ،‬ف�أ�صبح‬ ‫هذا الأخري يحارب نظامه و�إيران و«حزب الله» وكل‬ ‫العامل‪ ...‬ال�سعودية وقطر وكل العامل الباقي �أر�سلوا لنا‬ ‫فقط كالم‪ ...‬كالم‪ ...‬كالم‪ ...‬يف حني � ّأن النظام ح�صل‬ ‫على امل�ساعدات الع�سكرية من �إيران ورو�سيا بالإ�ضافة‬ ‫�إىل تر�سانته‪ ...‬ال�سعودية تركت املليارات والأ�سلحة‬ ‫ّ‬ ‫وكل العامل مع‬ ‫على احل��دود؛ ل ّأن �أمريكا و�إ�رسائيل‬ ‫ّ‬ ‫احتل املدينة‪ ...‬اكتبي هذا �أرجوك‪...‬‬ ‫النظام‪ .‬حزب الله»‬ ‫هو والنظام قوات احتالل»‪.‬‬ ‫نر �أ�سلحة من �أحد‪ .‬مل‬ ‫«مل‬ ‫ تقاطعه زوجته فاطمة‪:‬‬ ‫َ‬ ‫يدخل الق�صري � ّأي م�ساعدات ع�سكرية من � ّأي طرف كان‪،‬‬


‫وما كان فيها رجال بتقاتل من برا الق�صري‪ .‬بدك تعريف‬ ‫كيف ح�صلنا على الأ�سلحة؟ بعنا ذهباتنا لن�شرتي �أ�سلحة‪-‬‬ ‫بواريد يعني للثوار ‪ -‬خل�ص الذهب من الق�صري‪ ،‬والكل‬ ‫�أعطى لوالده لي�شرتوا بواريد ويدافعوا عن املدينة»‪.‬‬ ‫ ويكمل �أحمد قائ ً‬ ‫ال‪« :‬قبل احل�صار الأخ�ير ومنذ‬ ‫بداية الثورة‪ ،‬ا�ستعمل الثوار البواريد فقط‪ ،‬وكان اجلي�ش‬ ‫النظامي يطلق النار على احلواجز‪ .‬معظم الوقت كان‬ ‫�إطالق النار من النظام يف الهواء هدفه الرتهيب فقط‬ ‫�شبان املدينة مينعون‬ ‫و�إدخال الرعب‪ .‬مقابل ذلك‪ ،‬كان ّ‬ ‫� ّأي ًا من عنا�رص اجلي�ش من النزول �إىل ال�شوارع‪ .‬كنا يف‬ ‫امل�ستوى نف�سه‪ :‬اجلي�ش يحارب بالبواريد‪ ،‬ونحن نحارب‬ ‫بالبواريد �أي�ض ًا‪ .‬هكذا كانت احلال خالل ال�سنتني الأوليني‬ ‫للثورة‪� .‬أحيان ًا كان يح�صل �رضب (ق�صف) على �أحياء‬

‫خالل الليل‪� .‬أكلت بطاطا وورق عنب‪ .‬مل �أ�شعر ب�أّنني‬ ‫متم�سك باحلياة كما �شعرت ذلك اليوم‪ .‬كان معنا �شاب‬ ‫و�أب��وه‪ .‬ترك �أباه وغادر‪ .‬وقال يل‪� :‬إذا كنت �إىل جانبه‬ ‫و�أُ�صيب فلن �أق��در على حمله‪ ،‬و�إذا تركته �س�أُح�س‬ ‫بالذنب‪ ،‬فرتكته مي�شي وحده‪ .‬خالل عبور «الفتحة» ما‬ ‫منومة مغناطي�سي ًا‪.‬‬ ‫حدا تط ّلع بحدا‪ .‬النا�س مت�شي ك�أنها ّ‬ ‫عند �سقوط القذائف بع�ض النا�س ت�ستلقي على الأر�ض‬ ‫والبع�ض الآخر يتابع امل�سري‪ .‬احلياة واملوت يت�ساويان‬ ‫ب�شكل مطلق عند «الفتحة» قبل الو�صول �إىل «مدينة‬ ‫الأح�لام»‪ .‬بعد الو�صول �إىل مدينة الأحالم ذهبنا �إىل‬ ‫«�شت�شاء» ثم «�شم�سني»‪ ،‬ومن بعدها «ح�سيا»‪ ،‬ثم �إىل‬ ‫يربود فعر�سال‪ .‬وا�ستقررنا يف «العني» حيث كان ابني‬ ‫وعائلته قد �سبقونا �إليها منذ عام»‪.‬‬

‫بعد ان�سحاب املقاومني �أتى ال�شــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبيحة‬ ‫و�رسقوا البيوت‪ ،‬وما مل ي�ستطيعوا �ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرقته �أحرقوه‪...‬‬ ‫قاموا بحرق الب�ساتني وقطع اال�شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــجار‬ ‫ك�أنهم يقولون لنا �إنّه ال عودة لكم بعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد الآن‪.‬‬ ‫فعلوا كمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا فعل اليهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــود‬ ‫معينة جتابهه مقاومة‪ .‬يرحل الأهايل �إىل �أحياء �أخرى من‬ ‫ّ‬ ‫املدينة ثم يعودون �إىل بيوتهم‪ .‬كان هناك توازن رعب بني‬ ‫حي‬ ‫النظام واملقاومني‪ .‬مل ي�ستطع النظام �أن يدخل � ّأي ّ‬ ‫من �أحياء املدينة حتى �أول �شهر حزيران عندما ا�ستعان‬ ‫بالإيرانيني و«حزب الله»‪ .‬عند دخول قوات «حزب الله»‬ ‫املعركة بد�أنا ن�شعر بالفارق‪ .‬يف ‪ ٢‬حزيران �أ�صبح الق�صف‬ ‫احلي الو�سط‬ ‫كثيف ًا‪ ،‬فرتكنا البيت و�سك ّنا مع بنات �أخي يف ّ‬ ‫احلي اجلنوبي حيث ن�سكن)‪ ،‬و�أخذنا «غيار ًا»‬ ‫للمدينة (من ّ‬ ‫واحد ًا لأننا ك ّنا ن�أمل �أن نعود بعد هدوء الق�صف‪ .‬كنا‬ ‫خم�سة وع�رشين �شخ�ص ًا يف غرفتني‪ .‬ما كان فيه مازوت‬ ‫وال كهرباء وبالتايل مل يكن فيه ماء‪ ،‬والق�صري كانت‬ ‫تعتمد يف الفرتة الأخرية على مياه الآبار؛ ل ّأن النظام قطع‬ ‫احلي الو�سط‪ .‬تركناه وانتقلنا‬ ‫املياه ع ّنا‪ .‬حلقنا ال�رضب �إىل ّ‬ ‫�إىل بيت البنتي كان ال يزال قيد الإن�شاء‪� ،‬سك ّنا فيه ثالثة‬ ‫ثم حلقنا ال�رضب �إىل هناك‪.‬‬ ‫�أيام‪ ،‬ومن ّ‬ ‫ بقينا على ه��ذه احل��ال �إىل �أن اتخذ الثوار قرار‬ ‫الرحيل‪ .‬بد�أنا امل�شي لي ً‬ ‫ال‪� .‬أنا عمري خم�س و�سبعون‬ ‫�سنة‪ ،‬وكنت �أم�شي مع جمموعات من الب�رش لي�س لدي‬ ‫�أي رابط معهم‪ .‬ك ّلهم �أ�صغر مني �س ّن ًا‪ .‬مل يكن معنا ماء‬ ‫وال طعام‪ .‬كان النوم نهار ًا حتت فيَ ء ال�شجر‪ ،‬وامل�شي‬ ‫‪52‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ ت�ضيف ال��زوج��ة‪« :‬ك��ان هناك حما�س ع��ام لدى‬ ‫ال�شباب‪ ،‬لكن �إجوا «احلزب» وقلبوا كل موازين الرعب‪.‬‬ ‫كلنا باحلي بعنا الذهب لنعطيه لل�شباب املتحم�س‬ ‫فقدت ابني وابن بنتي ومل � َأر �أحفادي‬ ‫لي�شرتي بواريد‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫منذ ت�سعة �أ�شهر‪ .‬احلمد لله هناك تليفونات وعرفنا �أنهم‬ ‫يف طرابل�س لأنهم حكوا مع �إبني اللي �صار �صلة الو�صل‬ ‫مع كل اللي و�صلوا على بريوت‪».‬‬ ‫ يكمل �أحمد‪« :‬بعد ان�سحاب املقاومني �أتى ال�شبيحة‬ ‫و�رسقوا البيوت‪ ،‬وما مل ي�ستطيعوا �رسقته �أحرقوه‪ .‬قالت‬ ‫لنا ابنتي التي حاولت زيارة بيتها �إ ّنها وجدت حتى‬ ‫ّ‬ ‫حمطمة‪ .‬لقد قاموا بحرق الب�ساتني وقطع‬ ‫قنينة الغاز‬ ‫الأ�شجار ك�أنهم يقولون لنا �إ ّنه ال عودة لكم بعد الآن‪.‬‬ ‫لقد فعلوا كما فعل اليهود‪� .‬أنا حزين لأنني مل �أكتب‬ ‫�شيئ ًا يف ّ‬ ‫مذكراتي؛ ف�أنا �أ�ستاذ تاريخ وع ّلمت يف ثانوية‬ ‫«الق�صري»‪ ،‬وكنت �أحتفظ بيومياتي منذ ثالثني عام ًا عن‬ ‫كل ما تغيرّ حويل يف الق�صري‪ ،‬من تو�سيع للمدينة يوم ًا‬ ‫بعد يوم‪� ،‬إىل ارتفاع �أ�سعار اخل�ضار واملواد الغذائية‪� ،‬إىل‬ ‫كل ما كان يدخل املدينة من مواد جديدة‪ ...‬لدي نحو‬ ‫‪ ٢٨‬جملد ًا ال حتتاج �إال �إىل تبويب‪ّ .‬‬ ‫كل عمري راح مع‬ ‫تلك الأوراق‪� .‬إ ّنه اال�ستعمار بثياب جديدة»‪.‬‬

‫«السيدة العربية األوىل» يف الصحافة الغربية‬

‫تمكني المرأة والوجود االستعماري يف العالم العريب المعارص‬

‫ميسون سكرية مقدمة‬ ‫«كيف ميكن ثور ًة عظيمة كالثورة امل�رصية �أن ت�ؤدي �إىل‬ ‫جامعية من لبنان‪ ،‬وجود �سيدة �أوىل حمجبة من ر�أ�سها �إىل قدميها؟»‪� ،‬س�أل‬ ‫استاذة انرتوبولوجيا مهند�س يف الثالثني من العمر‪ ،‬يف معر�ض تعليقه على‬ ‫جامعة براون‪� ،‬صورة انت�رشت على الإنرتنت تقارن ملكة م�رص يف‬ ‫الواليات المتحدة‪ .‬الثالثينيات ناظلي ‪ -‬ترتدي «ف�ستان ًا ع�رصياً» ب�شعرها‬ ‫امل�صفف واملكياج يغطي وجهها ‪ -‬بنجالء حممود‪ ،‬زوجة‬ ‫�أول رئي�س م�رصي منتخب بعد ثورة ‪ 2011‬يف لبا�س‬ ‫تقليدي‪ ،‬وهي ت�ضع احلجاب على ر�أ�سها‪ ،‬وترتدي عباءة‪.‬‬ ‫ بعد انتخاب حممد مر�سي رئي�س ًا مل�رص‪ ،‬تناقلت مواقع‬ ‫التوا�صل االجتماعي هذه ال�صورة‪ ،‬وغريها‪ ،‬التي تقارن‬ ‫جنالء بال�سيدتني الأوليني ال�سابقتني‪ :‬جيهان ال�سادات‬ ‫و�سوزان مبارك‪ ،‬غري املحجبتني‪ .‬ثم تداولت املواقع‬ ‫النكات التي ت�سخر على نطاق وا�سع من لبا�س جنالء‬ ‫التقليدي ولهجتها ال�شعبية؛ وقلقت النخبة امل�رصية‬ ‫من �صورة جنالء‪ ،‬وبالتايل �صورة م�رص يف اخلارج‪« .‬ال‬ ‫أ�سميها �سيدة �أوىل حتت �أي ظرف»‪ ،‬قال‬ ‫�أ�ستطيع �أن � ّ‬ ‫�أحمد �صالح‪ ،‬امل�رصيف ذو الت�سعة والع�رشين عام ًا الذي‬ ‫كان يتناول القهوة يف الزمالك على �شاطئ النيل مع‬ ‫�أ�صدقائه‪ .‬و�أ�ضاف‪« :‬ال ميكنها �أن تكون �صورة ن�ساء‬ ‫م�رص»‪ .‬بالن�سبة �إىل هذا اجليل ال�شاب‪ ،‬مثلت جنالء‬ ‫الرجعية وال�صعيد الذي يخ�شونه (ال�شيخ‪.)2012 ،‬‬ ‫انت�رشت نقا�شات موازية عن جن�لاء يف ال�صحافة‬ ‫الغربية‪ .‬فعلى على �سبيل املثال‪ ،‬حلظت �صورة �شخ�صية‬ ‫عنها يف �صحيفة «نيويورك تاميز» �أ ّنها «على عك�س من‬ ‫�سبقها من �سيدات �أول مل�رص �أنيقات ويحملن اجلن�سية‬ ‫الربيطانية‪ ،‬ف� ّإن الق�رص الرئا�سي امل�رصي يرحب بربة‬ ‫منزل من مدينة �صغرية حتب �أن ت�سمى بطريقة تقليدية‬ ‫بو�صفها والدة ابنها البكر»‪ .‬فئات اجتماعية �أخرى يف‬ ‫‪53‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫م�رص اعتربتها متثل «�صورة التغيري» ومتثل املر�أة امل�رصية‬ ‫احلقيقية‪ ،‬ال الأخريات؛ لأ ّنها ت�شبه «� ّأمنا» �أو «�أختنا»‬ ‫ومعظم «الن�ساء اللواتي تلتقي بهن يف �شوارع م�رص»‪.‬‬ ‫ ملاذا ّ‬ ‫يركز �شبان م�رص بعد الثورة على �صورة «ال�سيدة‬ ‫الأوىل» ولي�س على ما متثله �سيا�سياً؟ ما هو منوذج ال�سيدة‬ ‫الأوىل الذي �أراد البع�ض احلفاظ عليه‪ ،‬فيما كان �آخرون‬ ‫�سعداء ب�أ ّنه �أ�صبح جزء ًا من التاريخ؟ يف هذا العر�ض‬ ‫�س�أناق�ش �صورة وممار�سات ال�سيدات الأول اللواتي‬ ‫اع ُتبرِ ن مثال املر�أة املُ�سلمة والعربية الع�رصية‪ ،‬يف العامل‬ ‫العربي والغرب على حد �سواء‪� .‬أوىل املتقدمات لهذا‬ ‫الدور التقليدي كانت جيهان ال�سادات و�سوزان مبارك‬ ‫من م�رص‪ ،‬وامللكة نور من الأردن‪ ،‬وال�شيخة موزة من‬ ‫قطر‪ .‬لكن �أكرث ال�سيدات الأول �أهمية‪ ،‬رمزي ًا بالطبع‪ ،‬كانتا‬ ‫امللكة رانيا من الأردن‪ ،‬و�أ�سماء الأ�سد من �سورية‪� .‬أكرث‬ ‫من �أي مواطن يف املنطقة‪ ،‬ر�أت ال�صحافة العربية والغربية‬ ‫والعاملية‪ ،‬وال�سيا�سيون واملنظمات الدولية‪� ،‬إىل هاتني‬ ‫املر�أتني على �أنهما �أهم ممثلتني للمر�أة العربية اجلديدة‪ :‬امر�آة‬ ‫«حتديثية»‪ ،‬متمكنة‪ ،‬وملتزمة مبا�رشة يف مروحة وا�سعة من‬ ‫«�سد‬ ‫الن�شاطات االجتماعية وال�سيا�سية التي تهدف �إىل‬ ‫ّ‬ ‫الفجوة» بني ال�رشق والغرب‪ ،‬بني «التقليدي» و«احلديث»‪.‬‬ ‫بذلك تعطي �صورتا رانيا و�أ�سماء فر�صة ثمينة مل�ساءلة‬ ‫نقدية جتاه خطاب متكني املر�أة و�سيا�سات التمثيل‪.‬‬ ‫ �س�أحاجج يف هذا املقال � ّأن �صورة وممار�سات رانيا‬ ‫و�أ�سماء ت�ساعد على الرتكيز على الطرق املختلفة ترفع‬ ‫الثقافة من خاللها �إىل مراكز القوة يف احلا�رض الكولونيايل‪.‬‬ ‫يف كل �أدبيات التمكني‪ ،‬نلقى و�ضع رانيا و�أ�سماء «القوي»‪،‬‬ ‫هو و�ضع م�رشوط وخا�ضع‪ ،‬وال يعتمد على �صفتهما‬ ‫كزوجتي رجلني قويني‪ ،‬بل على ا�ستعدادهما وقدرتهما‬ ‫على م�ساندة م�رشوع نيوليربايل وا�ستعماري جديد ــ‬


‫يوم ًا ما من خرق املراتب القمعية لنظام الأ�سد»‪ .‬وعلى‬ ‫الغرار ذاته‪ ،‬تو�صف امللكة رانية منذ و�صولها �إىل العر�ش‪،‬‬ ‫ب�أ ّنها «ملكة ع�رصية» �آلت على نف�سها حتديث الأردن‪.‬‬ ‫وتقول �صحيفة «�سانداي تلغراف» � ّإن امللكة ذات الـ ‪٣٨‬‬ ‫�سنة ع�رصية ومتابعة لآخر التقليعات»‪ ،‬فيما جملة «فوغ»‬ ‫تدعي � ّأن «الأردن والعائلة املالكة الع�رصية جد ًا ي�ؤدون‬ ‫دور ًا متزايد الأهمية على ال�ساحة العاملية»‪.‬‬ ‫ كرر ال�سيا�سيون الغربيون كل هذه الأقوال‪ .‬يروي وزير‬ ‫اخلارجية الفرن�سي الأ�سبق برنارد كو�شنري‪ّ � ،‬أن الرئي�س‬ ‫الفرن�سي ال�سابق نيكوال �ساركوزي قال رد ًا على ما يقال‬ ‫ب� ّأن الرئي�س ال�سوري يت�رصف بعنف يف قمعه االنتفا�ضة‬ ‫يف �سورية‪« :‬بوجود زوجة ع�رصية مثل زوجته ال ميكن‬ ‫�أن يكون �سيئ ًا باملطلق»‪ .‬يف املقابل‪ ،‬قال ال�سفري الفرن�سي‬ ‫�إىل �سورية‪� ،‬إريك �شوفالييه‪ ،‬بعيد زيارة �أ�سماء الأ�سد‬

‫ال كذاك‬ ‫ يف املقابل‪ ،‬ال تنال �أ�سماء الأ�سد تو�صيف ًا مف�ص ً‬ ‫الذي تناله رانيا‪ ،‬لكن ال�صحافة الغربية مليئة بو�صف‬ ‫ل�شكلها اخلارجي‪ُ ،‬و�شار �إليها بو�صفها «جميلة‪ ،‬و�أنيقة»‪،‬‬ ‫خديها الورديني‪ ،‬و�شعرها الطبيعي‪،‬‬ ‫مع تعليقات على َّ‬ ‫وابت�سامتها اجلميلة‪ ،‬و�ساقيها الطويلتني النحيفتني‪،‬‬ ‫وم�شيتها التي ت�شبه م�شية عار�ضات الأزياء‪.‬‬ ‫ �شكل �آخ��ر من تو�صيف الإع�لام لرانيا و�أ�سماء‬ ‫هو الرتكيز املهوو�س مبالب�سهما‪ ،‬واملاركات واملو�ضة‬ ‫والت�سوق‪ .‬حني حلت رانيا �ضيف ًة على برنامج «�أوبرا‬ ‫وينفري» التلفزيوين‪ ،‬و�صفتها املذيعة ال�شهرية ب�أ ّنها‬ ‫«رمز عاملي للمو�ضة»‪ .‬فقد ُ�ص ِّنفت رانيا واح��د ًة من‬ ‫إغراء» يف العامل‪ ،‬وامللكة الثانية‬ ‫الن�ساء الع�رش الأكرث � ً‬ ‫الأك�ثر �أناقة‪ ،‬وامل��ر�أة العا�رشة الأك�ثر متيزاً‪ .‬يف معظم‬ ‫البورتريهات عن رانيا و�أ�سماء ُت َ‬ ‫ذكر �أ�سماء كثرية‬

‫م�رشوع يقوم ب�شكل �أكرب على �إ�ضعاف الن�ساء (والرجال)‬ ‫يف املنطقة عموماً‪ .‬وكما ت�شري كل الأحداث الناجتة من‬ ‫الربيع العربي يف عام ‪ ،2011‬ف� ّإن ه�ؤالء الن�ساء حني‬ ‫ال يخدمن م�صالح ذاك امل�رشوع العام‪ ،‬ميكن التخل�ص‬ ‫منهن ب�سهولة (مثل �أ�سماء الأ�سد)‪� ،‬أو �إخفا�ؤهن عن احلياة‬ ‫العامة (مثل رانيا)‪ ،‬وكل ما كان يحتفى به يف هوياتهن‬ ‫وممار�ساتهن ي�صبح ب�رسعة نقطة �سوداء على �سجالتهن‪.‬‬

‫يف كل �أدبيات التمكني‪ ،‬و�ضع رانيا و�أ�سماء «القوي» هو و�ضع م�رشوط وخـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا�ضع‪،‬‬ ‫وال يعتمد على �صفتهما كزوجتي رجلني قويني‪ ،‬بل على ا�ستعدادهمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫وقدرتهما على م�ساندة م�رشوع نيوليربايل وا�ستعماري جديـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد‬

‫تركز ال�صحافة الغربيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫على الطريقة التي تظهر بها املر�أتـــــــــــــــــــــــــان‪،‬‬ ‫وكيف مت�شيان‪ ،‬وتتحدثان وتلب�ســـــــــــــــــــــــــــان‪.‬‬ ‫حتى حني يغطي الإعالم ن�شــــــــــــــــــــــــــــــــاط‬ ‫رانيا و�أ�سماء االجتماعي وال�سيا�ســــــــــــــــــــــــي‪،‬‬ ‫يُ�شار �إليهما ب�شكل متكرر بو�صفهمــــــــــــــــــــــــا‬ ‫«ع�رصيات»‪« ،‬جميالت»‪ ،‬و«�أنيقـــــــــــــــــــــــــات»‬

‫�صورة ال�سيدات الأوىل يف الإعالم‬ ‫لأك�ثر من عقد من ال��زم��ان‪ ،‬منذ ع��ام ‪( 1999‬يف‬ ‫حالة رانيا) وعام ‪( 2000‬يف حالة �أ�سماء) كانت‬ ‫امللكة رانيا و�أ�سماء الأ�سد من �أكرث الن�ساء العربيات‬ ‫وامل�سلمات اللواتي يظهرن يف ال�صحافة الغربية‪،‬‬ ‫ولي�س فقط يف ق�سم الأخبار الدولية‪ ،‬بل يف جمالت‬

‫الأزي���اء‪ ،‬والثقافة ال�شعبية والكتابات عن �أخبار‬ ‫امل�شاهري‪ ،‬مثل جملة «فوغ»‪ ،‬و«پاري مات�ش» و«�إيل»‬ ‫(‪ .)Vogue Magazine, Paris Match, Elle‬بحث ب�سيط على‬ ‫الإنرتنت ينتج ‪ 4‬ماليني مو�ضع ذكرت فيه امللكة رانيا‬ ‫ونحو ‪ 800،000‬ذكرت فيه �أ�سماء الأ�سد‪ .‬ولرانيا مئتا‬ ‫�ألف �صورة على الإنرتنت‪ ،‬باملقارنة بـ‪ 22،000‬لأ�سماء‪.‬‬ ‫ ُي�شار يف معظم هذه املقاالت والتقارير الإعالمية‪،‬‬ ‫�إىل املر�أتني بو�صفهما امر�أتني «ع�رصيتني» حتاوالن‬ ‫«حتديث» و«لربلة» بلديهما‪ ،‬العامل العربي ب�شكل �أعم‬ ‫(يف حالة رانيا)؛ �إذ �إن �أ�سماء الأ�سد �سورية مولودة‬ ‫يف بريطانيا‪ ،‬وعملت لدى م�رصف «جي بي مورغان»‬ ‫ودر�ست يف «كينغز كوليدج» يف كامربيدج‪ ،‬وكذلك يف‬ ‫جامعة هارفرد‪ ،‬فيما رانيا در�ست يف اجلامعة الأمريكية‬ ‫يف القاهرة‪ ،‬و«تتحدث لغة �إنكليزية جميلة»‪ .‬على �سبيل‬ ‫املثال‪ ،‬ت�صف «روي�ترز» �أ�سماء ب�أنها «جميلة‪ ،‬حديثة‪،‬‬ ‫متعلمة‪ ،‬وهي كنفحة من الهواء املنع�ش»‪ ،‬فيما �صحيفة‬ ‫«الغارديان» ر�أتها مبا هي «الأمرية ديانا ال�سورية ل�شبابها‬ ‫ِ‬ ‫وغواها والتزامها يف م�شاريع تتنوع من مراكز للأطفال‬ ‫وت�صور تقارير �أخرى‪� ،‬أ�سماء‬ ‫�إىل احلفاظ على الآثار»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الأ�سد على �أنها «قوة حترر وحداثة يف �سورية»‪ ،‬و�أنها‬ ‫�أي�ض ًا «‪...‬امر�أة جميلة وذكية قد تتمكن �أفكارها الليربالية‬ ‫‪54‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫لفرن�سا‪� ،‬إ ّنها «ا�ستطاعت �أن جتعل النا�س ي�أخذون يف‬ ‫االعتبار �إمكانات دولة حتاول حتديث نف�سها ومتثل علمانية‬ ‫مت�ساحمة يف منطقة تقع على برميل متفجر بوجود متطرفني‬ ‫و�أ�صوليني ي�ضغطون يف كل اجلهات والقوة الدافعة لكل‬ ‫هذا تقع على عاتق ثنائي واح��د»‪ .‬ب�شكل مماثل‪ ،‬قال‬ ‫ال�سفري الأمريكي ال�سابق �إىل الأردن �إن «رانيا ع�رصية‬ ‫للغاية‪ :‬فهي ترى �إىل كونها ملكة على �أنه وظيفة»‪.‬‬ ‫طغيان ال�شكل اخلارجي‬ ‫�إن �أكرث التجليات ال�صادمة يف ت�صوير �أ�سماء ورانيا هو‬ ‫الرتكيز على ج�سديهما ومظهريهما اخلارجيني‪ .‬تركز‬ ‫ال�صحافة الغربية على الطريقة التي تظهر فيها املر�أتان‪،‬‬ ‫وكيف مت�شيان‪ ،‬وتتحدثان وتلب�سان‪ .‬حتى حني ّ‬ ‫يغطي‬ ‫الإعالم ن�شاط رانيا و�أ�سماء االجتماعي وال�سيا�سي‪،‬‬ ‫ُي�شار �إليهما ب�شكل متكرر بو�صفهما «ع�رصيات»‪،‬‬ ‫«جميالت» و«�أنيقات»‪ .‬وتو�صف رانيا ب�أ ّنها «مم�شوقة‬ ‫القوام» وذات «عنق مثل عنق البجعة»‪�« ،‬أنيقة‪ ،‬مده�شة‪،‬‬ ‫جميلة‪ ،‬طويلة‪ ،‬ر�شيقة‪ ،‬نحيفة‪ ،‬ناعمة الأ�صابع‪ ،‬كثيفة‬ ‫ال�شعر‪ ،‬لونه بني‪ ،‬وعيناها داكنتان»‪ ،‬وتتمتع بـ«ابت�سامة‬ ‫غنج»‪« ،‬حاجب كثيف»‪ ،‬و«�شكل قلب ميتد من عظمة‬ ‫وجنتيها حتى رقبتها يف ات�ساق حليبي ناعم»‪.‬‬

‫ال�سيدة ال�سورية‬ ‫االوىل ا�سماء اال�سد‬ ‫خالل احتفال يف‬ ‫ال�سويداء يف ‪14‬‬ ‫ت�رشين االول‬ ‫‪.2008‬‬ ‫‪55‬‬

‫أزياء من عند‬ ‫مل�صممني‪�« :‬إذا كانت (�أي رانيا) ترتدي � ً‬ ‫غاليانو �أو ديور �أو امل�صمم اللبناين �إيلي �صعب‪ ،‬كما يف‬ ‫تلك الليلة‪ ،‬فهي دوم ًا �أجمل امر�أة بني احل�ضور»‪.‬‬ ‫ ويروى � ّأن �أ�سماء �صديقة لكري�ستيان لوبوتان‪ ،‬م�صمم‬ ‫الأحذية الفرن�سي الذي ميلك ق�رص ًا يف حلب‪ .‬و�أ�سلوب‬ ‫«الب�ساطة والطبيعية»‪ ،‬وتلب�س «بطريقة غري الفتة للنظر»‪،‬‬ ‫وتتجنب «الف�ساتني الالفتة» وتف�ضل «الأ�سلوب الب�سيط‬ ‫والع�رصي»‪ .‬وخالل زيارات ر�سمية للغرب‪ ،‬ركز الإعالم‬ ‫الت�سوق الذي قامت به رانيا و�أ�سماء‪ .‬تقول‬ ‫الغربي على‬ ‫ّ‬ ‫رانيا‪�« :‬أحاول �أن �أقتطع �ساعتني من وقتي للت�سوق يف‬ ‫لندن �أو �أمريكا‪ .‬رمبا الثياب هي طريقة للتعبري املبتكر‬ ‫لدي‪ ،‬لأين ال �أ�ستطيع �أن �أعبرّ عن نف�سي ب�شكل مبدع‬ ‫خالل مهماتي الر�سمية»‪ .‬هذا الرتكيز الكثيف على‬ ‫ج�سدي رانيا و�أ�سماء هو طريقة للت�شي�ؤ وجلن�سنة الن�ساء‪،‬‬ ‫ويثري القلق من مدى ما �صار املثال الأعلى للن�ساء‬ ‫العرب وامل�سلمات يتكئ على الرتويج للت�شي�ؤ اجلن�سي‬ ‫وال�صور النمطية اجلن�سية‪� .‬إخ�ضاع ج�سد الن�ساء العاري‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫لنظرة الرجل التي حتوله �إىل �شيء هي �أي�ض ًا طريقة‬ ‫لقمع الن�ساء و�إ�ضعافهن‪ .‬وهو الوجه الآخ��ر للرتكيز‬ ‫على الن�ساء املحجبات بو�صفهن مقموعات‪ .‬بالطريقة‬ ‫ذاتها‪� ،‬إن ت�أطري الن�ساء العربيات وامل�سلمات الع�رصيات‬ ‫واملتحررات بو�صفهن ال يهتممن �إال با�ستهالك الب�ضائع‬ ‫الفاخرة يوحي �أي�ض ًا بتنميط جن�سي لدور الن�ساء يف‬ ‫املجتمع اال�ستهالكي املعا�رص‪.‬‬ ‫ و�إذا كانت �إحدى امل�سائل هي م�س�ألة الت�شي�ؤ الكامل‬ ‫لتلك الن�سوة‪ ،‬ف�إن امل�س�ألة الأخرى هي كيف يتم ت�صوير‬ ‫�أولئك الن�ساء باعتبارهن نوع ًا خمتلف ًا من النا�س يف‬ ‫املجتمع والدولة‪.‬‬ ‫هل هما فع ً‬ ‫ال خمتلفتان؟‬ ‫بالإ�ضافة �إىل �شكليهما اخلارجيني وعاداتهما يف‬ ‫اال�ستهالك‪ ،‬هناك تركيز كبري على ن�شاطات �أ�سماء ورانيا‪.‬‬ ‫يجري احلديث عنهما يف العادة بو�صفهما عنا�رص �شابة‪،‬‬ ‫جديدة‪ ،‬تعمالن للتغيري بالطرق الدميقراطية‪ ،‬ومتثالن قطع ًا‬ ‫راديكالي ًا مع بنى ال�سلطة التقليدية يف العامل العربي‪.‬‬ ‫على �سبيل املثال‪ ،‬يتم و�صفهما ب�أنهما جزء من «احلر�س‬ ‫اجلديد» الذي ميثل «التغيري واملرونة‪ ،‬واالنفتاح‪ ،‬والعوملة»‬ ‫تخو�ضان ال�رصاع مع «احلر�س القدمي» الذي لطاملا تورط‬ ‫يف ممار�سات ا�ستبدادية‪ ،‬زبائنية وفا�سدة‪ ،‬ويقاوم التغيري‪.‬‬ ‫تروج املر�أتان للدميقراطية‪.‬‬ ‫وعلى عك�س احلر�س القدمي‪ّ ،‬‬ ‫من وقت لآخر‪ ،‬يتم الرتكيز على الن�شاطات املحلية‬ ‫لل�سيدتني الأوليني من اجل اعتبارهما دميقراطي َتني‪،‬‬ ‫ليربالي َتني‪ ،‬حنونتني‪ ،‬ومتعاطفتني‪ ،‬وداعي َتني للم�ساواة‬ ‫و� َّأمني وزوجتني‪ .‬يف احد التقارير‪ ،‬تو�صف �أ�سماء ب�أنها‬ ‫ال «دميقراطي ًا ج��داً» حيث �أوالده��ا الثالثة‬ ‫تدير منز ً‬ ‫يقررون عن الأهل (ومن �ضمنهم رئي�س �سورية) حول‬ ‫الأثاث الذي يجب �رشا�ؤه للمنزل‪ ،‬و�أين يجب و�ضعه‪.‬‬ ‫ت�صور على �أنها «متار�س الدميوقراطية يف‬ ‫فيما رانيا‬ ‫َّ‬ ‫املنزل‪ .‬فيجب �أن نع ّلم الأوالد كيف يكونون دميوقراطيني‬ ‫و�إال فلن يتغري �شيء‪ .‬لدينا نظام ت�صويت يف البيت‬ ‫و�أ�صوات البنات ت�ساوي �أ�صوات ال�صبيان»‪ ،‬تقول وهي‬ ‫ت�ضحك‪ .‬ت�صويرهن على �أنهن حر�س جديد يحارب‬ ‫احلر�س القدمي‪ ،‬هو �سوء متثيل �أ�سا�سي يف قواعد القوى‬ ‫واملمار�سات ال�سيا�سية لدى رانيا و�أ�سماء يف الأردن‬ ‫و�سورية‪ .‬و�صلت االثنتان �إىل احليز العام بعد زواجهما‬ ‫بـ«حر�س ق��دمي»‪ .‬واالثنتان متهمتان مبمار�سة طويلة‬ ‫لال�ستبداد‪ .‬على �سبيل املثال‪ ،‬يقال �إن رانيا ا�ستخدمت‬ ‫‪56‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫تتحدث امللكة رانيا عن عدم الت�ســــــــــــــــــــــــامح‬ ‫كمر�ض يف املجتمعات العربيــــــــــــــــــــــــــــــــة‪،‬‬ ‫وتعترب �أنه يتعلق مب�شاكل ثقافيـــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫ولي�ست بنيوية‪ .‬وتتحدث عن «فجوة �أمل» يجب مل�ؤها‬ ‫يف العامل العربي للو�صول �إىل الت�ســـــــــــــــــــــامح‬

‫جنود ًا �إىل �أفغان�ستان‪ ،‬و�سمح للواليات املتحدة با�ستخدام‬ ‫�أرا�ضيه قاعدة ع�سكرية) ف�إن امللكة رانيا تتحدث عن عدم‬ ‫الت�سامح كمر�ض يف املجتمعات العربية‪ ،‬وتعترب �أنه يتعلق‬ ‫مب�شاكل ثقافية ولي�ست بنيوية‪ .‬مل تتحدث عن الر�ؤية‬ ‫الأردنية الر�سمية ل�رصاع احل�ضارات‪ .‬تتحدث رانيا عن‬ ‫«فجوة �أمل» يجب مل�ؤها يف العامل العربي للو�صول �إىل‬ ‫الت�سامح‪ .‬ومبا � ّأن عدم الت�سامح يف العامل العربي متجذر‬ ‫يف الثقافة‪ ،‬ف�إن احلل يكون عرب برامج تعليمية وثقافية‬ ‫مثل «بِن و�إيزي»‪ ،‬وهو �سل�سلة �صور متحركة ترعاها‪.‬‬ ‫ «بن» مراهق �أمريكي وع�صام مراهق �أردين يك ّنى‬ ‫«�إي��زي»‪ ،‬هم بطال هذا امل�سل�سل الذي ترى فيه رانيا‬ ‫واحدة من الأدوات «لبدء حوار بني ال�رشق والغرب»‪.‬‬ ‫الهدف من هذا امل�سل�سل كما قالت يف خالل حفل‬ ‫ع�شاء يف نيويورك للرتويج له‪« ،‬م�ساعدة ال�شباب العرب‬ ‫والأمريكيني على االبتعاد عن الأفكار امل�سبقة اخلا�صة‬ ‫ب�أهلهم و�أجدادهم‪ ،‬التي ت�أثرت باعتداءات ‪� ١١‬أيلول‬ ‫وبحرب العراق‪« .‬بن» رمز لأمريكا و«�إيزي» ميثل العرب‪.‬‬ ‫يف احللقات الأوىل ال يعجب �أحدهما بالآخر‪ ،‬لكنهما ال‬ ‫يتقاتالن بامل�سد�سات وال�سكاكني‪ ،‬ويف النهاية يتعلمان‬ ‫� ّأن التعاون يجعلهما يتفوقان على اجلميع» (�ستنربغ‬ ‫‪� .)2006‬إىل جانب بن و�إي��زي‪ ،‬كتبت رانيا ق�صة‬ ‫بالعربية عن �سلمى‪ ،‬وهي مراهقة عربية‪ ،‬وعن ليلي‪،‬‬ ‫مراهقة �أمريكية‪ ،‬اللتني حت��اوالن «بناء اجل�سور رغم‬ ‫االختالفات الثقافية» (جوردان تاميز‪.)2006 ،‬‬ ‫لكونها يف املحور الآخر يف احلرب على الإره��اب‪ ،‬مل‬ ‫تتحدث �أ�سماء عن �رصاع احل�ضارات‪ .‬لقد كانت تطلق‬ ‫نداء عاملي ًا للغرب يقول ب�أن «ال�سوريني ي�شبهونكم‪،‬‬ ‫دوم ًا ً‬ ‫وكلنا كائنات حية ويجب �أن تنظروا �إلينا بهذه الطريقة‪.‬‬ ‫فال�سوريون يريدون ال�سالم واحلب واالزدهار والتعليم‪.‬‬ ‫وهذا ما �أنا �أعمل من �أجله»‪.‬‬ ‫والأه��م هو ممار�سة ال�سيدتني يف املجتمع التي ت�ساعد‬ ‫يف ت�سليط ال�ضوء على الطرق التي يتم من خاللها‬ ‫ت�صويرهما والتعريف بهما‪ ...‬فبماذا تنخرط رانيا و�أ�سماء؟‬

‫�سلطتها ال�سيا�سية يف الأردن ل�رسقة �أموال من خزينة‬ ‫الدولة‪ ،‬وت�سجيل �أرا��ٍ�ض با�سم عائلتها‪ .‬و�أ�سماء‪� ،‬إىل‬ ‫جانب قدرتها على الو�صول �إىل ‪ ٪٩٠‬يف املئة من‬ ‫امل�ساعدات الأجنبية‪ ،‬يقال �إنها �ساعدت �شقيقها لتنفيذ‬ ‫م�شاريع تنموية كبرية يف �سورية‪.‬‬ ‫ت�صور من خاللها رانيا و�أ�سماء على‬ ‫ الطريقة التي‬ ‫ّ‬ ‫�أنهما ع�رصيتان و�شابتان �أمر �أ�سا�سي‪ ،‬لكن ال يتم‬ ‫االكتفاء بذلك‪ ،‬بل يتم الرتويج لهما ب�صفتهما ج�سور‬ ‫ثقافية بني ال�رشق والغرب‪.‬‬

‫تهدف �إىل ن�رش ثقافة جديدة ع�رصية ومت�ساحمة‪ .‬قد‬ ‫ي�ساعد الت�أطري الثقايف هذا م�صالح �أبناء النخب العربية‬ ‫�أمثال �أ�سماء ورانيا‪ ،‬لكنه ال ينا�سب �سائر �شعوب املنطقة‪.‬‬ ‫تتبع االمر�أتان طريقتني خمتلفتني للرتويج للت�سامح‪،‬‬ ‫انطالقا من دور بلد كل منهما يف املنطقة ويف �سيا�ساتها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مبا � ّأن الأردن جزء من احلرب على الإرهاب (وقد �أر�سل‬

‫خطاب متكني م�رشوط وخا�ضع‬ ‫يف احلقيقة‪ّ � ،‬إن ا�ستعداد �أ�سماء ورانيا للم�شاركة الفعالة‬ ‫يف حزمة من الإ�صالحات النيوليربالية والنيوكولونيالية‬ ‫يف بلديهما والرتويج لها‪ ،‬وهو ما اعتربه البع�ض ي�ؤدي‬ ‫�إىل �إ�ضعاف الن�ساء والرجال يف املنطقة على حد �سواء‪،‬‬ ‫هذا اال�ستعداد هو ما �أدى �إىل �شهرتهما‪ .‬مت ت�صوير‬

‫ر�ؤى ثقافوية للعامل العربي‬ ‫نتاج النظام التعليمي الأمريكي والربيطاين‪،‬‬ ‫لكونهما‬ ‫َ‬ ‫ومتلكان م�صالح م�شرتكة مع النخب العاملية‪ ،‬قامت‬ ‫ال�سيدتان باعتناق الطرق الغربية يف ر�ؤيتهما �إىل امل�شاكل‬ ‫املعا�رصة يف العامل العربي والرتويج لهذه الر�ؤية‪ .‬ومثل‬ ‫العديد من املع ّلقني الغربيني‪ ،‬تتحدث رانيا و�أ�سماء عن‬ ‫العامل العربي بو�صفه يعاين من �سل�سلة من «الفجوات»‬ ‫�أو «الرتاجعات» �أو «النق�ص» مقارنة مع دول الغرب‬ ‫املتقدمة‪ .‬وتقدمان نف�سيهما بو�صفهما متلكان القدرة على‬ ‫�أن تكونا ج�رسين بني ال�رشق والغرب ب�سبب تعليمهما‬ ‫الغربي‪ .‬ف�أ�سماء على �سبيل املثال‪ ،‬تقول �إ ّنها «كربت بني‬ ‫ثقافتني‪ ،‬ما يعطيني ر�ؤية مميزة �أرى من خاللها جانبي‬ ‫امل�سائل ّ‬ ‫وميكنني ذلك من �أداء دوري ك�أم وك�شخ�صية‬ ‫عامة»‪ .‬وتتحدث رانيا كثري ًا عن احلاجة لتعليم «الت�سامح»‬ ‫يف العامل العربي من �أجل حل امل�شاكل العديدة يف‬ ‫املنطقة‪ ،‬وكي ي�صبح يف م�صاف العامل الع�رصي‪ ،‬وقد‬ ‫رعت العديد من امل�شاريع الثقافية والتعليمية يف الأردن‬

‫ملكة االردن‬ ‫رانيا يف ثياب‬ ‫واك�س�سوارات من‬ ‫م�صممني عامليني‪.‬‬ ‫‪57‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫�أ�سماء ورانيا قائدتني حمليتني يف عملية تنمية املجتمع‬ ‫املدين يف العامل العربي‪ ،‬حيث م�سار تطبيع املقاومة‬ ‫وفق ال�سيا�سات النيوليربالية قد ح�صل بالفعل‪ .‬ولقد‬ ‫برزت �أ�سماء ورانيا يف فرتة عدم ا�ستقرار بالن�سبة �إىل‬ ‫امللكية واجلمهورية على حد �سواء‪ .‬يف جزء منه‪ ،‬كان‬ ‫عدم اال�ستقرار ذاك �سيا�سياً‪ ،‬ب�سبب التذمر ال�شعبي‬ ‫والنق�ص يف الت�أييد للنظام اجلديد بقيادة امللك عبد الله‪،‬‬ ‫الذي و�صل فج�أة �إىل العر�ش بعد موت والده يف عام‬ ‫‪ ،١٩٩٩‬ولنظام الأ�سد الذي ورث الرئا�سة عن �أبيه‬ ‫الراحل هو �أي�ضاً‪ .‬لكن عدم اال�ستقرار كان يف جزء �آخر‬ ‫منه‪ ،‬عدم ا�ستقرار اقت�صادي‪.‬‬ ‫ رغ��م � ّأن اللربلة االقت�صادية ب��د�أت يف الأردن‬ ‫يف ‪ ،1987‬ويف �سورية يف ‪ ،1989‬توىل زوجا‬ ‫ال�سيدتني ت�رسيع العملية‪ .‬خ�صخ�ص امللك عبد الله‬ ‫معظم امل�ؤ�س�سات احلكومية الكبرية‪� .‬أما الأ�سد‪ ،‬فقد‬ ‫بد�أ بتحويل االقت�صاد �إىل ما ي�سميه «اقت�صاد ال�سوق‬ ‫اال�شرتاكي»‪� .‬أدت هذه ال�سيا�سات �إىل زيادة البطالة يف‬ ‫الأردن و�سورية اللتني ان�ضمتا �إىل الدول الريعية‪ ،‬و�أدت‬ ‫�أي�ض ًا �إىل تعميق االنق�سامات الطبقية بني النخبة اجلديدة‬

‫الريفية واملهم�شة‪ ،‬عرب بناء القدرات وكذلك توفري‬ ‫التعليم والقرو�ض ال�صغرية‪ ،‬وهي ت�سعى �إىل ا�ستهداف‬ ‫الن�ساء يف حماولة ت�شجيع توظيفهن وت�أمني دخل ثابت‬ ‫لهن‪ .‬وقد تخطت ميزانية املنظمة الع�رشة ماليني درهم‬ ‫�أردين يف عام ‪ .٢٠٠٩‬وت�أتي ‪ ٪٦٠‬يف املئة من‬ ‫الأموال من املنظمات الدولية‪ ٣٠ ،‬يف املئة من الدعم‬ ‫احلكومي‪ ١٠ ،‬يف املئة من القطاع اخلا�ص‪.‬‬ ‫و�صلت امللكة رانيا �إىل ال�سلطة‪ ،‬كان املجتمع‬ ‫ حني‬ ‫ْ‬ ‫املدين قد بد�أ ن�شاطه منذ فرتة‪ .‬يف احلقيقة‪ ،‬ت�أ�س�ست �أول‬ ‫منظمة غري حكومية يف الأردن يف عام ‪ ،١٩٨٧‬مبا�رشة‬ ‫�إثر بدء تطبيق برامج الت�صحيح الهيكلي وكانت ترت�أ�سها‬ ‫الأمرية ب�سمة‪� ،‬شقيقة امللك‪ .‬هذه املنظمة غري احلكومية‬ ‫امللكية حلقها عدد من املنظمات امللكية الأخرى‪ ،‬تر�أ�ستها‬ ‫ن�ساء العائلة املالكة ومن �ضمنهن امللكة نور‪ .‬لكن ذلك‬ ‫مل يكن حال �أ�سماء؛ �إذ حني تزوجت «مل يكن مفهوم‬ ‫املجتمع املدين قد انت�رش يف �سورية‪ ،‬وكانت الدولة‬ ‫أعرفهم به»‪.‬‬ ‫م�س�ؤولة عن كل �شيء‪ ،‬فا�ضطررت �إىل �أن � ّ‬ ‫يف ال�سنة الأوىل من عهده الرئا�سي‪ ،‬كان على الثنائي‬ ‫�أن يبقى بعيد ًا عن الأ�ضواء خالل فرتة احلداد الإجبارية‬

‫من ال�سخرية مبكان �أنّ رانيا و�أ�سماء اللتني تعتربان مثـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالني‬ ‫على الع�رصية والتمكني والرتويج للدميقراطية والت�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــامح‪،‬‬ ‫ح�صلتا على �سلطتهما لأنهما جزء من دول �أوتوقراطية ووراثيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‪:‬‬ ‫الأردن هو ملكية‪ ،‬و�سورية جمهورية تديرها �ساللة عائليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫(التي �أفادت من اخل�صخ�صة ) واجلماهري الأردنية (التي‬ ‫فقدت وظائفها يف القطاع العام من دون الدمج يف‬ ‫القطاع اخلا�ص)‪ .‬وقد �أ ّث��ر تراجع القطاع العام على‬ ‫توظيف الن�ساء ب�شكل عميق‪ ،‬مبا � ّأن القطاع كان يعتمد‬ ‫كثري ًا على العمالة الن�سائية‪� .‬أ�صبح املجتمع املدين احللبة‬ ‫التي يتم من خاللها الرتويج للثقافة النيوليربالية التي‬ ‫ت�ؤله ال�رشكات وال�سوق احلرة‪.‬‬ ‫ ت�تر�أ���س امللكة رانيا منظمات ع��دة يف الأردن‪،‬‬ ‫وخ�صو�ص ًا «منظمة نهر الأردن» وهي �أك�بر منظمة‬ ‫غري حكومية‪ ،‬وتنال نحو ‪ ٦٠‬يف املئة من كل متويل‬ ‫املنظمات غري احلكومية يف البالد‪ ،‬وخ�صو�ص ًا من قبل‬ ‫«وكالة التنمية الأمريكية» والقطاع اخلا�ص‪ .‬وقد ن�ش�أت‬ ‫املنظمة امللكية مبر�سوم ملكي يف عام ‪ ١٩٩٧‬برعاية‬ ‫امللكة نور‪ ،‬ولكن رانيا ما لبثت �أن �أزاحتها وا�ستولت‬ ‫على املنظمة‪ .‬وت�ستهدف املنظمة املجموعات االجتماعية‬ ‫‪58‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫التي دامت ‪� ١٢‬شهراً‪� .‬سمح ذلك لأ�سماء ب�أن تتجول‬ ‫يف البالد‪ ،‬لي�س ب�صفتها زوجة احلاكم‪ ،‬بل كزائر غريب‪.‬‬ ‫«�أردت �أن التقي ال�سوريني العاديني قبل �أن يلتقوا بي‪.‬‬ ‫كنت �أ�شارك يف امل�شاريع التي يجري العمل بها يف‬ ‫املناطق الريفية‪ .‬ولأن النا�س مل يكونوا يعرفون من �أنا‪،‬‬ ‫ا�ستطعت �أن �أراهم على طبيعتهم و�أعرف ما هي م�شاكلهم‬ ‫احلقيقية‪ ،‬وما ي�شتكون منه‪ ،‬وما هي �آمالهم وطموحاتهم‪.‬‬ ‫ور�ؤية ذلك بنف�سي تعني �أنني ال �أراه عرب عيون الآخرين»‪.‬‬ ‫قررت �أ�سماء ت�أ�سي�س منظمتها اخلا�صة‪،‬‬ ‫ بعد ذلك‬ ‫ْ‬ ‫وهي «م�سار» التي تعنى مب�ساعدة الفقراء واملهم�شني‬ ‫عرب ا�ستخدام خرباتها كم�رصفية يف قطاع �صناديق‬ ‫التحوط‪ .‬وكما هو حال املنظمة غري احلكومية اخلا�صة‬ ‫ّ‬ ‫بامللكة رانيا‪ ،‬ت�أ�س�ست منظمة �أ�سماء بوا�سطة مر�سوم‬ ‫جمهوري‪ ،‬يف وقت افتق َ​َدت فيه البالد لبنية قانونية‬ ‫خا�صة باملنظمات غري احلكومية‪ .‬ومثل رانيا‪ ،‬اقت�رص‬

‫دور منظمة �أ�سماء يف اللربلة االقت�صادية على املجتمع‬ ‫املدين‪ ،‬كو�سيلة لتحقيق التغيري الذي من املفرت�ض �أن‬ ‫متثله‪ .‬لكن بو�صفها �أول �سيدة �أوىل ن�شطة‪� ،‬أ�صبحت‬ ‫�أ�سماء متثل املجتمع املدين بنف�سها وجت�سده‪.‬‬ ‫ �إىل جانب «م�سار»‪ ،‬تر�أ�ست �أ�سماء منظمة «فردو�س»‬ ‫و«ال�صندوق ال�سوري للتنمية»‪ ،‬الذي يهدف �إىل متكني‬ ‫الأف��راد واملجتمعات من �أج��ل امل�شاركة يف التنمية‬ ‫امل�ستدامة‪ ،‬والرتويج للإ�صالح وتو�سيع ف�ضاء املجتمع‬ ‫املدين ودوره يف التخطيط القومي‪ .‬ومثل «منظمة نهر‬ ‫الأردن»‪ ،‬كانت الفئة امل�ستهدفة هي املجتمعات الريفية‬ ‫واملجموعات املهم�شة‪ ،‬الن�ساء وال�شباب الذين هم‬ ‫الأكرث ت�أثر ًا يف العادة بالإ�صالحات النيوليربالية‪ .‬كان‬ ‫هذا ال�صندوق �رشيك ًا للوزارات والبلديات‪ ،‬واملانحني‬ ‫الدوليني‪ ،‬والبنك ال��دويل‪ ،‬والعديد من ال�سفارات‬ ‫الأجنبية يف �سورية‪� ،‬إىل جانب القطاع اخلا�ص‪ .‬كانت‬ ‫ميزانية «ال�صندوق» يف عام ‪ ٢٠١٠‬ثالثة ماليني‬ ‫دوالر �أمريكي‪� ،‬رصفت ‪ ٪٧٠‬يف املئة منها على الرتويج‬ ‫اليديولوجية ال�سوق‪ ٪١٠ ،‬يف املئة على التنمية‬ ‫الريفية‪ ،‬و‪ ٪٧‬يف املئة على الرتاث‪ ٪١٠ ،‬يف املئة على‬ ‫الأق�سام الإدارية‪ .‬ونال «ال�صندوق» ‪ ٩٠‬يف املئة من‬ ‫الأموال املخ�ص�صة للمجتمع املدين يف �سورية يف عام‬ ‫‪ .٢٠٠٩‬وكما يف حال «منظمة نهر الأردن»‪ ،‬هناك‬ ‫تخمة يف متثيل النخب املدينية بني املوظفني ونق�ص يف‬ ‫متثيل الن�ساء الريفيات الفقريات اللواتي من املفرت�ض �أن‬ ‫يكن امل�ستفيدات من هذه املنظمات غري احلكومية‪ .‬ي�ؤكد‬ ‫ّ‬ ‫ذلك النظرية التي تقول �إ ّنه يف ظل النيوليربالية خدمت‬ ‫املنظمات غري احلكومية �أع�ضاء الطبقات الو�سطى‬ ‫والفئة العليا منها‪ ،‬وهم الذين جل�أوا �إىل املجتمع املدين‬ ‫بعد اخل�صخ�صة (عبد الرحمن‪.)٢٠٠٨ ،‬‬ ‫ من ال�سخرية مبكان � ّأن رانيا و�أ�سماء اللتني تعتربان‬ ‫مثالني على احلداثة والتمكني والرتويج للدميقراطية‬ ‫والت�سامح‪ ،‬ح�صلتا على �سلطتهما لأنهما جزء من دول‬ ‫�أوتوقراطية ووراثية‪ :‬الأردن هو ملكية‪ ،‬و�سورية جمهورية‬ ‫تديرها �ساللة عائلية‪ .‬واالثنتان جزء من ال�سيطرة الكاملة‬ ‫للدولة والنظام على منظمات املجتمع املدين يف بلديهما‬ ‫والتي تراها النخب ُة احلاكمة كمكان منا�سب لل�سيطرة على‬ ‫ال�شعب والتحكم به‪ .‬بالتايل‪ ،‬يجب �أن تطرح ا�سئلة عن‬ ‫املعنى احلقيقي لن�شاط �أ�سماء ورانيا يف املجتمع املدين‬ ‫زفاف �أنور اخلا�ص بالتمكني والتحديث وحترير املر�أة يف بلديهما‪.‬‬ ‫وجيهان ال�سادات‪ .‬لأننا حني نلقي نظرة قريبة على م�شاريع التنمية لـ«م�سار»‬ ‫‪59‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫و«منظمة نهر الأردن» جند �أنهما تروجان لأيديولوجية‬ ‫معنية من النيوليربالية عرب برامج القرو�ض ال�صغرية‬ ‫وبرامج التدريب اخلا�صة بهما‪.‬‬ ‫ يجب �إثارة العديد من الأ�سئلة عن الن�شاط املدين لرانيا‬ ‫و�أ�سماء‪ .‬بداية‪ ،‬هو يف احلقيقة نوع من التنظيم املت�أثر ب�شكل‬ ‫كبري بالدولة التي ت�سيطر عليه‪ :‬رانيا و�أ�سماء هما بطبيعة‬ ‫احلال متجذرتان يف ال�شبكات الداخلية لنخبة الدولتني‬ ‫ال�سورية والأردن��ي��ة‪ .‬ت�ستهدف املنظمتان املجموعات‬ ‫امله�شمة التي ت�أثرت �أكرث من غريها باجتذاب خدمات‬ ‫الدولة‪� ،‬أي املجموعات التي ت�أثرت ب�إجراءات التق�شف‪.‬‬ ‫متول �صناديق املنظمتني ب�شكل كبري من املانحني‬ ‫ثانياً‪ّ ،‬‬ ‫الدوليني للدولة يف هذا البلد �أو ذاك‪ ،‬ومن ثم يح�صل‬ ‫حتويل املال �إىل املنظمات عرب عملية توكيل خدمات الدولة‬ ‫للمجتمع املدين‪ .‬ثالثاً‪ ،‬الأهداف املعلنة للمنظمتني هي متكني‬ ‫املجموعات امل�ستهدفة وامل�ساعدة يف بناء القدرات والرتويج‬ ‫ت�صب‬ ‫للم�شاركة والقيادة عرب القرو�ض ال�صغرية‪ ،‬وبرامج‬ ‫ّ‬ ‫يف ال�سيا�سات النيوليربالية‪ .‬رابعاً‪ ،‬تهدف هذه الربامج �إىل‬ ‫خلق �شخ�ص نيوليربايل هو املتطوع‪ ،‬القائد‪ ،‬املقاول‪ ،‬الذي‬ ‫ي�ضفي على م�شاكل املجتمع ال�صفة الذاتية ويبحث عن‬ ‫حلول فردية كو�سيلة لقمع االحتجاج االجتماعي �ضد‬ ‫ال�سيا�سات التي تعترب ا�ستبدادية (�سكرية ‪.)٢٠١٢‬‬

‫وح�سب‪ ،‬و�إمن��ا يتبني � ّأن عملهن ي��روج ب�شكل مبا�رش‬ ‫للأ�شكال التقليدية لعمل املر�أة وو�ضعها يف املنطقة‪.‬‬ ‫ينمي العمل مع املجتمعات املحلية‬ ‫ يف احلالتني‪ّ ،‬‬ ‫والرتكيز على القرو�ض ال�صغرية وبناء القدرات هويات‬ ‫القرية واملجتمع والعائلة عرب التدريب على بناء القدرات‬ ‫من خالل القرو�ض ال�صغرية التي ت�ستهلك معظم الأموال‪،‬‬ ‫وهي ‪ ٪٧٠‬يف املئة يف حالة �صندوق التنمية اخلا�ص‬ ‫ب�أ�سماء ‪ ٪٦٠‬يف املئة يف حالة «منظمة نهر الأردن»‪.‬‬ ‫لقد �أ�صبحت هاتان املنظمتان �صلة الو�صل بني املجتمع‬ ‫والدولة‪� .‬أ�صبحت منظمات املجتمع املدين متثل املجتمع‬ ‫عند الدولة‪ ،‬ويف الوقت نف�سه تع ّلم الن�ساء االعتماد على‬ ‫�شبكة اجتماعية من �أجل ا�ستقالليتهن‪ .‬يبد�أ تدريب بناء‬ ‫القدرات التقليدي بالرتكيز على � ّأن «الثقافة العربية» هي‬ ‫«ثقافة جماعية» وكيف � ّأن العرب يعرفون �أنهم ي�ساعد‬ ‫بع�ضهم بع�ض ًا ويهتم بع�ضهم ببع�ض‪ .‬فنحن «ثقافة تعاطف»‬ ‫وفق امللكة رانيا‪� ،‬أو «ثقافة تعاون وتبادل» وفق �أ�سماء‬ ‫الأ�سد‪� .‬إذاً‪ ،‬تتعامل النيوليربالية مع التقاليد وال�شبكات‬ ‫االجتماعية يف املناطق الريفية بو�صفها ر�أ�سمال‪ ،‬ومع‬ ‫يروج من خاللها لثقافة حتميل‬ ‫الثقافة بو�صفها جتارة َّ‬ ‫امل�س�ؤولية‪ .‬هكذا تتحول ثقافة امل�ساعدة التي �ساعدت‬ ‫املزارعني والفقراء على اال�ستمرار‪� ،‬إىل م�صدر اقت�صادي‬ ‫ملبد�أ القرو�ض ال�صغرية‪ .‬وال�شبكة االجتماعية للن�ساء‬ ‫اللواتي يعتربن يف قلب النظام البطريركي الذي حتاربه‬ ‫املنظمات غري احلكومية‪ ،‬مت حتويلها �إىل م�رشوع اقت�صادي‬ ‫حتت م�سمى جديد‪ :‬ر�أ�سمال اجتماعي يتم احل�صول عليه‬ ‫عرب قيمة �أمنية جديدة يف �سياق يبقى العاطلون من خالله‬ ‫م�شغولني ويعملون‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فاملمار�سات الثقافية التي‬ ‫من خاللها �أعادت الن�ساء الفقريات �إنتاج �أنف�سهن‪ ،‬مل‬ ‫تعد تعترب رجعية‪ ،‬بل هي و�سيلة يعتمدها الفقراء مل�ساعدة‬ ‫�أنف�سهم والتوفري يف الوقت نف�سه‪.‬‬

‫�إىل مقاول �صناعي ن�شيط‪ .‬هذه ال�صور الإيجابية يجري‬ ‫قراءتها يف �سياق خطابات عن �أخالق العمل وامل�س�ؤولية‬ ‫الفردية‪ ،‬ويف �سياق فكرة � ّأن الن�ساء الفقريات هن اللواتي‬ ‫ي�ستحققن امل�ساعدة مقابل الرجال الفقراء الذين ال‬ ‫ي�ستحقون ذلك‪ .‬التمكني هو هدية من قبل ال�سيدات الأول‪،‬‬ ‫ون�شاط املقاوالت �سيحل امل�شاكل االقت�صادية‪ ،‬لي�س فقط‬ ‫للن�ساء‪ ،‬بل �أي�ض ًا ملجتمعاتهن وي�ؤدي �إىل امل�ساواة اجلندرية‪.‬‬ ‫ �إذاً‪ ،‬ال�صورة الإيجابية للن�ساء يف م�س�ألة القرو�ض‬ ‫ال�صغرية تتطلب �أي�ض ًا تقومي ًا �إيجابي ًا لثقافتهن وتقاليدهن‪.‬‬ ‫الطرق ال�سلبية التي من خاللها ينظر �إىل الثقافة العربية‬ ‫من �أجل ال�سماح لتدخل على م�ستوى الدول ُيحتفى به‬ ‫على م�ستوى املجتمع املدين يف الثقافة‪ ،‬وكم�رشوع جتاري‬ ‫يف تلك املنظمات غري احلكومية‪« .‬نحاول العمل داخل‬ ‫بنى العائلة عرب ت�أمني عمل للن�ساء ي�ستطعن القيام به يف‬ ‫منازلهن من �أجل املحافظة على الأدوار التقليدية»‪ ،‬تقول‬ ‫مهى اخلطيب وهي مديرة «منظمة نهر الأردن»‪ ،‬يف مقابلة‬ ‫خا�صة‪ .‬ن�سمع ذلك يف ادعاء �أ�سماء � ّأن ما هو مميز يف عمل‬ ‫منظمتها مع الن�ساء هو «احرتام التقاليد والقيم الثقافية‬ ‫للمجتمعات الريفية حني يرتبط املو�ضوع بدور الن�ساء يف‬ ‫املجتمع»‪ .‬معظم برامج القرو�ض ال�صغرية مف�صلة ب�شكل‬ ‫يعزز العمل التقليدي للن�ساء‪ :‬احلياكة‪ ،‬التطريز‪ ،‬احلرف‬

‫معظم برامج القرو�ض ال�صغرية مف�صلة ب�شــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكل‬ ‫يعزز العمل التقليدي للن�ساء‪ :‬احلياكة‪ ،‬التطريز‪ ،‬احلرف التقليديــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‪،‬‬ ‫وكذلك امل�ؤن‪ .‬ما تفعله الن�ساء يف بيوتهن ي�صبح �ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلعة‬ ‫تباع من خالل منظمات املجتمع املدين �إىل امل�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتهلك‬ ‫يف املدينة‪� ،‬أو املجتمع الدويل عرب املعار�ض التي تروج للتقاليد واحلياة القرويــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫ �إذاً‪ ،‬حني نراقب عمل منظمات املجتمع املدين اخلا�ص‬ ‫ب�أ�سماء ورانيا‪ ،‬ف� ّإن �أبرز ما يجب االنتباه �إليه هو التناق�ض‬ ‫الذي يربز؛ �إذ جند ال�سيدتني بو�صفهما املثال املفرت�ض‬ ‫للمر�أة العربية الع�رصية‪ ،‬لكن يروج لعك�س ذلك متاماً‪ ،‬وهو‬ ‫الثقافة العربية التقليدية اخلا�صة باملر�أة‪.‬‬ ‫الثقافة بو�صفها «بِزن�س»‬ ‫املن�شورات اخلا�صة بكل من «منظمة نهر الأردن» و«فردو�س»‬ ‫ال حرفية‪ ،‬ال ينظرن �إىل الكامريا‪،‬‬ ‫تظهر‬ ‫ن�ساء ميار�سن �أ�شغا ً‬ ‫ً‬ ‫بل �إىل الأعمال التي يقمن بها‪ ،‬لكنهن يبت�سمن‪ .‬هن يف‬ ‫ال‬ ‫بيئتهن الطبيعية‪ ،‬و�سعيدات دوماً‪ ،‬وهن ملتزمات عم ً‬ ‫حتول املر�أة الفقرية‬ ‫منتجاً‪ ،‬ولو على نطاق �ضيق‪ ،‬بطريقة ّ‬ ‫‪60‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫التقليدية‪ ،‬وكذلك التموين‪ .‬ما تفعله الن�ساء يف بيوتهن‬ ‫يتحول �إىل �سلعة تباع من خالل منظمات املجتمع املدين‬ ‫�إىل امل�ستهلك يف املدينة‪� ،‬أو �إىل املجتمع الدويل عرب‬ ‫تروج للتقاليد واحلياة القروية‪.‬‬ ‫املَعار�ض‪ ،‬حيث ِّ‬ ‫ يف بع�ض تلك احلاالت‪ ،‬كما يف حال الرتويج للأزياء‬ ‫التقليدية‪ ،‬ف� ّإن الن�ساء �أنف�سهن اللواتي يحكن هذه الثياب‬ ‫ال ميلكن القدرة على �رشائها‪ ،‬وي�صنعنها لتباع وت�ستهلك‬ ‫من قبل ن�ساء الفئة العليا من الطبقة الو�سطى يف املدن‪.‬‬ ‫ول�سخرية القدر‪ ،‬ف� ّإن هاتني ال�سيدتني املقدمتني مبا هما‬ ‫مثاالن على املر�أة العربية امل�سلمة واملتمكنة ال ت�ساهمان‬ ‫فقط يف تقدمي �أ�شكال حكومة نيوليربالية جديدة تقوم‬ ‫ب�إ�ضعاف املر�أة ب�شكل كبري (والرجال �أي�ضاً) يف بالدهما‬

‫جنالء علي حممود‪،‬‬ ‫زوجة الرئي�س‬ ‫امل�رصي املعزول‬ ‫حممد مر�سي‬ ‫�صورة من جريدة‬ ‫«اليوم ال�سابع»‬ ‫امل�رصية – ت�صوير‬ ‫مي ال�شيخ وديفيد‬ ‫كريكباتريك‪.‬‬ ‫‪61‬‬

‫يف خدمة احلا�رض الكولونيايل‬ ‫الطبيعة امل�رشوطة واخلا�ضعة لو�ضع رانيا و�أ�سماء‬ ‫«املتمكن َتني» و«الع�رصي َتني» ظهرت ب�شكل فاقع �إثر‬ ‫ابتداء من عام‬ ‫الأح��داث التي رافقت الربيع العربي‬ ‫ً‬ ‫‪٢٠١١‬؛ �إذ فيما تغريت ال�سياقات ال�سيا�سية ب�رسعة يف‬ ‫املنطقة‪ ،‬مل تتمكن � ٌّأي من ال�سيدتني من اال�ستمرار يف خدمة‬ ‫م�صالح الر�أ�سمال الغربي والدويل‪ ،‬فتم التخلي ب�رسعة عن‬ ‫ال�سيدة �أ�سماء واختفت امللكة رانيا من الإعالم‪� .‬أ�صبحت‬ ‫املمار�سات نف�سها واملميزات نف�سها التي مت االحتفاء بها‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫من املتوقع �أن ت�صفق احل�شود حني ُي َ‬ ‫ذكر ا�سم الرئي�س حتى‬ ‫يف �أكرث املنا�سبات ب�ساطةً‪ .‬وقد �أُجرب الآالف من العنا�رص‬ ‫الأمنيني يف الثياب املدنية اجلميع على االن�صياع‪ .‬وال�سيدة‬ ‫ال�شباب‬ ‫�أ�سماء التي يع ّلم برنامج «م�سار» اخلا�ص بها‬ ‫َ‬ ‫ن�سيت �أن تذكر يف م�شاريعها‬ ‫على «املواطنية الن�شطة»‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫وبراجمها � ّأن ال�شباب الذين ا�ستخدموا الإنرتنت للتعبري‬ ‫عن معار�ضتهم كانوا ي�سجنون ب�شكل روتيني (�سعيد‪،‬‬ ‫‪ .)٢٠١٢‬ومن امل�ؤكد �أنها �سمعت عن الطالب املدونني‬ ‫الذين �سجنوا خم�س �سنوات ب�سبب «جرائم �أمنية» مثل‬ ‫«التج�س�س»‪ .‬ورغم �إ�شارة �أ�سماء املتكررة �إىل «التجان�س‬ ‫الديني»‪ ،‬فقد كان والد زوجها هو من �أمر بقتل ‪� ٢٠‬ألف‬ ‫ُ�س ّني يف حماه عام ‪ .١٩٨٢‬وما يح�صل يف درعا هو‬ ‫عما ح�صل يف حماه (في�سك ‪ .)١٩٨٦‬لقد �أبقت‬ ‫ن�سخة ّ‬ ‫ممار�سات مماثلة �ساللة الأ�سد يف احلكم ملدة واحد و�أربعني‬ ‫عاماً‪ ،‬وال �شك �أن �أ�سماء والقادة الغربيني الذين حتدثوا‬ ‫عنها بو�صفها «حتديثية» يعرفون تاريخ العائلة‪ .‬لكن هذه‬ ‫الأخرية كانت مقبولة‪ ،‬ما دامت حتمي م�صالح الغرب‪.‬‬

‫ب�سببها قبالً‪� ،‬سبب ًا للرقابة ال�شعبية والإعالمية �ضدهما‪.‬‬ ‫يف الأردن‪ ،‬ظهور امللكة رانيا العلني‪� ،‬أو حجبها‪ ،‬مرتبط‬ ‫ب�شكل وثيق باال�ستقرار ال�سيا�سي �أو عدمه‪ ،‬وكما ي�رشح‬ ‫الرنتي�سي‪ ،‬وهو عالمِ اجتماع ورئي�س مركز �أبحاث‪ ،‬حني‬ ‫يكون هناك «توتر يف البالد‪ ،‬يتم �إ�سكات امللكة ويطلب‬ ‫منها االن�سحاب من احلياة العامة من �أجل امت�صا�ص‬ ‫النقمة‪ .‬وتظهر من جديد حني يكون لديها دور لتلعبه‬ ‫جمددا» (مقابلة خا�صة‪� ١٢ ،‬آذار ‪� .)٢٠١٢‬أكرث من‬ ‫ذلك‪ ،‬وخ�صو�ص ًا بعد الربيع العربي‪ ،‬نالت رانيا انتقادات‬ ‫من امللك والعائلة املالكة و�أ�صبحت هدف ًا للنقد من قبل‬ ‫داعمي امللكية �أي قبائل الأردن‪ .‬ففي بيان وقّعه ‪٣٦‬‬ ‫من �شيوخ قبائل البدو يف الأردن‪ُ ،‬دعي امللك �إىل «�إعادة‬ ‫الأر�ض واملزرعة التي ُمنحت لعائلة امللكة �إىل اخلزينة‪.‬‬ ‫اتهمت الر�سالة رانيا‬ ‫الأر�ض ميلكها ال�شعب الأردين»‪ .‬وقد َ‬ ‫ببناء مراكز لتعزيز �سطوتها وخدمة م�صاحلها عرب �رسقة‬ ‫الأموال العامة‪ .‬وقد �أتى البيان بعد احتفال امللكة بعيدها‬ ‫الأربعني يف وادي رام الذي دعي �إليه ‪ ٦٥٠‬من امل�شاهري‬ ‫من كل �أنحاء العامل‪ ،‬جيء بهم بالطائرات‪�« .‬إنها تنفق‬ ‫الأموال الطائلة على الثياب واملجوهرات والأحذية‪� ...‬أريد خال�صة‬ ‫أ�شري �إىل جنالء بو�صفها ال�سيدة الأوىل‪ ،‬رف�ضت‬ ‫من امللك �أن مينعها من ذلك‪ .‬بع�ض النا�س ي�رصفون املاليني حني � َ‬ ‫و�آخرون ال ميلكون ما ي�أكلونه �سوى اخلبز وال�شاي‪ .‬هذا اللقب‪ ،‬وقالت �إ ّنها تف�ضل �أن تنادى بـ«خادمة م�رص‬ ‫م�ؤمل وحزين»‪ ،‬يقول فار�س الفايز زعيم قبيلة بني �شاكر‪ .‬الأوىل»‪ .‬فقد ادعت زوجة الرئي�س حممد مر�سي � ّأن‬ ‫ بعد �أ�شهر قليلة على ان��دالع االنتفا�ضة ال�سورية‪« ،‬الت�صنيف ك�سيدة �أوىل ت�صنيف غربي‪ ،‬وقد انتهى الوقت‬ ‫احليز العام بعد ظهور واحد مع �أوالدها الذي يفر�ض فيه الغرب علينا ما ن�سمي �أنف�سنا به»‪ ،‬كما‬ ‫ان�سحبت �أ�سماء من ّ‬ ‫يف خالل تظاهرة م�ؤيدة لزوجها‪ .‬لقد �أثار ت�رسيب ر�سائل �رصحت يف مقابلتها الأوىل‪ .‬مل ين�رش ذلك يف و�سائل‬ ‫الربيد الإلكرتوين اخلا�ص ب�أ�سماء يف جريدة «الغارديان» الإعالم العربية فقط‪ ،‬بل يف الغربية منها‪ ،‬فقامت كل من‬ ‫الكثري من النقا�شات يف الإعالم‪ .‬توجه اللوم �إىل �أ�سماء على �صحف «هريالد ترايبيون» و«نيويورك تاميز» و«غارديان»‬ ‫القيم نف�سها التي و�ضعتها يف م�صاف الن�ساء الع�رصيات‪ :‬وكذلك «بو�سطن غلوب» بن�رش مقاالت عن حياة ال�سيدة‬ ‫الت�سوق امل�رصية الأوىل اجلديدة‪ .‬وعلقت «هريالد ترايبيون»‬ ‫اال�ستهالك‪« .‬ال�سيدة ال�سورية الأوىل تنغم�س يف‬ ‫ّ‬ ‫املكثف»‪ ،‬كان عنوان ال�صحيفة‪ .‬فهي قد �أو�صت على جهاز بالقول � ّإن جنالء على «عك�س �سابقتيها‪� ،‬سوزان مبارك‬ ‫�صنع اجلبنة املنزيل‪ ،‬وعلى �أحذية «لوبوتان»‪ ،‬بينها حذاء وجيهان ال�سادات‪ ،‬مبعزل عن ا ّتباعها املو�ضة الربيطانية‬ ‫مر�صع بالكري�ستال و�سعره ‪ ٣٧٩٥‬جنيه ًا �إ�سرتلينياً‪ ،‬و�شعرها امل�صفف دائم ًا و�شهاداتها العديدة‪ ،‬ف�إ ّنها مل‬ ‫و�أو�صت على �أثاث منزيل من متاجر «ه��ارودز»‪ ،‬وعلى تذهب �إىل اجلامعة‪ ،‬واحتفظت با�سم عائلتها بعد الزواج»‪.‬‬ ‫جموهرات مر�صعة بالأحجار الكرمية‪ ،‬كما قالت �صحيفة هل �ست�صبح �صورة جنالء �صورة لل�سيدة العربية الأوىل‬ ‫«التلغراف»‪ .‬وها هي �أحذية لوبوتان نف�سها التي كانت رمز ًا وقد تطلبت فرتة ما بعد الربيع العربي زواج ًا بني ر�أ�س‬ ‫املال والإ�سالم ال�سيا�سي؟ �إذا كانت النيوليربالية امل�ؤمنة‬ ‫لع�رصية �أ�سماء �أ�صبحت �سبب ًا ل�شيطنتها‪.‬‬ ‫ �شعر الإعالم الغربي ب�صدمة حني قررت �أ�سماء البقاء تتطلب �سيدة �أوىل حمجبة‪ ،‬فهل �ستكون ممثلة للن�ساء‬ ‫مع «الديكتاتور»‪ .‬ما ن�سيه هذا الإعالم � ّأن الأ�سد مل يكن العربيات اللواتي حتررن من «الغرب» ككيان ثقايف‪ ،‬فيما‬ ‫قط دميوقراطياً‪ ،‬و�أ ّنه «انتخب» رئي�س ًا يف عام ‪ ٢٠٠٠‬حني هم ي�ستمرون بالتحالف مع الر�أ�سمالية الغربية؟‬ ‫وافق ‪ ٩٧‬يف املئة من ال�سوريني على خالفته لأبيه‪ .‬وكان الوقت وحده �سيجيب عن هذه الأ�سئلة‪.‬‬ ‫‪62‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫‪107‬‬ ‫ ‬

‫تاليق األضداد‬ ‫الموقفان اإليراين والرتكي‬ ‫من سقوط «إخوان» مرص‬

‫‪ 62‬‬ ‫ ‬

‫الموجة الثالثة للثورة المرصية‬ ‫تعقد الظروف والتباس التحالفات‬ ‫ّ‬

‫الفالحون والثورة‬ ‫استعادة األرض‬

‫‪68‬‬ ‫ ‬

‫ال وقت للحق‬ ‫عن صنع اإلجماع بعد «‪ 30‬يونيو»‬

‫‪111‬‬ ‫ ‬

‫‪73‬‬ ‫ ‬

‫احللم االجتماعي والسلطة والثورة‬ ‫عما بقي من وعود وآمال‬ ‫ّ‬

‫‪117‬‬ ‫ ‬

‫‪84‬‬ ‫ ‬

‫جمهضة وأخرى حمتملة‬ ‫بني فاشية‬ ‫َ‬

‫احلريات النقابية‬ ‫القانون الكاشف‬

‫‪92‬‬ ‫ ‬

‫التنمية باالستبداد‬ ‫منوذج يداعب خيال صناع القرار‬

‫‪121‬‬ ‫ ‬

‫المجموعات الشبابية‬ ‫بعد «‪ 25‬يناير»‬

‫‪97‬‬ ‫ ‬

‫معارك التغيري المتوازية‬

‫يا�رس علوي‬

‫دينا اخلواجة‬

‫علي الرجال‬

‫عمرو عادل‬ ‫حممد جاد‬

‫اإبراهيم اله�شيبي‬

‫جنالء مكاوي‬

‫يا�شمني اأحمد‬

‫فاطمة رم�شان‬ ‫كرمية خليل‬


‫ وباملنطق نف�سه‪ ،‬قامت املوجة الثالثة للثورة على �أ�سا�س‬ ‫«حتالف الراف�ضني للممار�سات اال�ستئثارية للإخوان»‪،‬‬ ‫ال��ذي �ضم مروحة وا�سعة ــ ومتناق�ضة ــ من القوى‬ ‫االجتماعية جمعتها فقط الرغبة يف �إ�سقاط الإخوان‪.‬‬ ‫تبد�أ هذه املروحة من القوى الثورية (الغا�ضبة من جتاهل‬ ‫«تفاهمات فندق الفريمونت» ال�شهرية التي على �أ�سا�سها‬ ‫ح�صل حممد مر�سي على ‪ 8‬ماليني �صوت انتخابي �إ�ضايف‬ ‫مكنته من الفوز ب�صعوبة يف اجلولة الثانية من الرئا�سة)‬ ‫وقطاع وا�سع من بريوقراطية الدولة (لي�س فقط ب�شقها‬ ‫الع�سكري والأمني‪ ،‬بل �أي�ض ًا بقطاع وا�سع من موظفي‬ ‫الدولة الذين وجدوا يف حكم مر�سي تهديد ًا حقيقيا ً‬ ‫لوجودهم الوظيفي من خالل ظاهرة «�أخونة امل�ؤ�س�سات»)‬ ‫وقطاع كبري من املواطنني غري امل�سي�سني‪� ،‬أي ما يعرف‬ ‫م�رصياً بـ«حزب الكنبة» ا�ستنفره �سوء الأداء الإخواين‬ ‫يف احلكم‪ ،‬والأزمات االقت�صادية واملعي�شية املتتالية (نق�ص‬ ‫الوقود‪ ،‬انقطاع الكهرباء‪� ،‬أزمات اخلبز‪� ...‬إلخ)‪.‬‬

‫الموجة الثالثة للثورة المرصية‬ ‫ت ُّ‬ ‫َعقد الظروف والتباس التحالفات‬ ‫يارس علوي يتحدد م�سار الثورة امل�رصية وفق تفاعل‪/‬جدل الرغبة‬ ‫والقدرة لدى خمتلف الالعبني على ال�ساحة الداخلية‬ ‫باحث يف العلوم وم�صاحلهم ال�سيا�سية املتمايزة‪ ،‬ومن هنا �أهمية و�ضع تقدير‬ ‫السياسية‪ .‬عضو موقف دقيق يحدد �أولويات املعارك وجبهاتها‪ ،‬ويدرك‬ ‫جملس أمناء المنتدى موازين القوى ب�شكل علمي ومو�ضوعي‪ ،‬ويف الوقت‬ ‫العريب للبدائل‪ .‬نف�سه ال يخلط الواقع بالتمنيات‪ ،‬وال «يتعاىل �أخالقي ًا»‬ ‫آخر أحباثه‪ :‬أشكال على ال�سيا�سة‪ ،‬ويكتفي باحلوقلة و�إبداء الأ�سف على م�آالت‬ ‫الماشركة السياسية الثورة التي فر�ضت معارك مل نكن نتمناها‪ ،‬وائتالفات‬ ‫غري التقليدية ظرفية ال ي�سعدنا ن�شو�ؤها‪ .‬هذا هو مفتاح فهم الفر�ص‬ ‫يف مرص‪ .‬وال�رضورات و�إمكانات التغيري والتجاوز‪ ،‬وهو ال�رشط‬ ‫الأول لأي اجتهاد لل�س�ؤال الأهم للثورة‪ :‬ما العمل الآن؟‬ ‫ املعارك واجلبهات تفر�ض ترتيب ًا معين ًا للأولويات‪،‬‬ ‫وتفر�ض �أحيان ًا التبا�سات يف التحالفات ب�شكل يعك�س‬ ‫تعقد الو�ضع‪ .‬وموازين القوى حتدد �أفق ما ميكن حت�صيله‬ ‫يف املدى القريب‪ ،‬وتر�سم �أولويات حت�سني العمل ملعاجلة‬ ‫االختالالت‪ ،‬وحت�سني الفر�ص يف اجلوالت القادمة على‬ ‫املدى الأبعد‪ .‬وبديهي �أنه مل يكن منتظر ًا وال متوقع ًا وال‬ ‫ال تاريخي ًا جذري ًا‬ ‫منطقي ًا �أن تنجز الثورة امل�رصية حتو ً‬ ‫ي�سقط نظام ًا فقد بو�صلته الأخالقية وال�سيا�سية داخلي ًا‬ ‫وخارجي ًا‪ ،‬وت�آكلت قاعدته االجتماعية‪ ،‬وت�ستبدله‬ ‫برتتيبات �أكرث عدالة ودميوقراطية يف املجال ال�سيا�سي‬ ‫و�أماكن العمل‪ ،‬ب�رضبة واحدة نظيفة ومبعركة حا�سمة‬ ‫يتحقق فيها انت�صار �ساحق وغري مكلف‪ ،‬ودون ا�ضطرار‬ ‫للجوء �إىل حتالفات ملتب�سة حمكومة ب�رضورات الكر‬ ‫والفر املتغرية يف كل حلظة‪.‬‬ ‫ من هنا‪ ،‬اتخذ م�سار الثورة امل�رصية �شكل موجات‬ ‫متتابعة ر�أينا منها ثالث ًا حتى هذه اللحظة‪� .‬أجنزت املوجة‬ ‫الأوىل �إ�سقاط «م�رشوع التوريث»‪ ،‬والثانية ثبتت‬ ‫الطابع املدين للثورة ب�رضب ال�سيطرة الع�سكرية‪/‬الأمنية‬ ‫‪64‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫املبا�رشة على احلكم وفر�ض �إجراء انتخابات رئا�سية بني‬ ‫مر�شحني مدنيني‪� .‬أما املوجة الثالثة‪ ،‬فكانت حتت �شعار‬ ‫تعميق الطابع املدين والدميوقراطي للثورة يف مواجهة‬ ‫نظام فا�شي بديباجة دينية‪.‬‬ ‫ ويف كل من املوجتني الأوىل والثالثة ب�شكل خا�ص‬ ‫(مو�ضع اهتمام هذه ال��ورق��ة)‪ ،‬ا�ستلزم حتقيق الهدف‬ ‫املبا�رش (�إ�سقاط ح�سني مبارك‪ ،‬و�إ�سقاط حممد مر�سي)‬ ‫ن�شوء ائتالف عري�ض يجمع مروحة وا�سعة من القوى‬ ‫ال�سيا�سية واالجتماعية ذات امل�صالح املتناق�ضة‪ .‬ومبجرد‬ ‫�إجناز الهدف املبا�رش‪ ،‬يبد�أ ال�رصاع بني مكونات االئتالف‬ ‫الف�ضفا�ض حل�سم وجهة امل�سار ومدى التغيري والقطيعة‬ ‫مع احلكم الذي �أ�سقطته كل موجة‪.‬‬ ‫ال ن�ش�أ حتالف الإخ��وان والبريوقراطية‬ ‫ هكذا مث ً‬ ‫الع�سكرية من �آذار ‪ /‬مار�س ‪( 2011‬تاريخ اال�ستفتاء‬ ‫ال�شهري) و َقبِل الإخوان بوراثة بنى اال�ستبداد املباركي‬ ‫ال �أي حماولة لإع��ادة هيكلة‬ ‫دون تغيري (مل حت�صل مث ً‬ ‫وزارة الداخلية‪ ،‬ب��ل �أُعطيت على ل�سان رئي�س‬ ‫اجلمهورية املعزول �صك براءة دامغ ًا‪ ،‬و�إعالن �أنها كانت‬ ‫«�رشيك ًا �أ�سا�سي ًا يف الثورة»!!)‪ ،‬وعززوها مبمار�سات‬ ‫م�ستحدثة (مثال‪ :‬اغتيال املعار�ضني ال�سيا�سيني كما‬ ‫حدث يف واقعتي حممد جابر م�س�ؤول �إدارة «�صفحة»‬ ‫مناه�ضة للإخوان على الفي�س بوك‪ ،‬وحممد اجلندي‬ ‫النا�شط يف «التيار ال�شعبي») وبقانونني �شهريين (قانون‬ ‫لف�ض االعت�صامات‪ ،‬وقرار �إداري من وزير اال�ستثمار‬ ‫ّ‬ ‫الإخواين يتيح للحكومة �إغالق القنوات الف�ضائية دون‬ ‫حكم ق�ضائي)‪ .‬و�شاءت �سخرية القدر �أن يكون هذان‬ ‫القانونان بالتحديد هما الذريعة التي ا�ستندت �إليها‬ ‫املواجهة الأمنية مع الإخوان ومع القنوات التلفزيونية‬ ‫القريبة منهم بعد ‪ 30‬يونيو ‪!2013‬‬

‫م�ساحة التناق�ضات فــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي‬ ‫«ائتالف املناه�ضني للإخــــــــــــــــــــــــــــــــــــوان»‬ ‫�شديدة االت�سـاع؛ �إذ ي�ضم هذا التحالــــــــــــــــــــــــف‬ ‫قوى ثورية جذرية‪ ،‬بالإ�ضافة �إلـــــــــــــــــــــــــــــى‬ ‫قوى را�سخة من قلب النظام املباركــــــــــــــــــــــي‪.‬‬ ‫وقد فر�ضت هذه التناق�ضــــــــــــــــــــــــــــــــــــات‬ ‫خالفات من اللحظة الأولــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى‬ ‫على م�سار املرحلة االنتقاليــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‪،‬‬ ‫وهيكل قيادتها وجدول �أعمالهــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫املعركة املزدوجة مع اخل�صوم واحللفاء‬ ‫مفر من االعرتاف ب� ّأن ما ح�صل بفعل الزحف اجلماهريي‬ ‫ال ّ‬ ‫غري امل�سبوق يف ‪ 30‬حزيران ‪ /‬يونيو ‪ 2013‬كان ن�رصاً‬ ‫ناق�ص ًا‪ .‬فالإخوان وحلفا�ؤهم مبا امتلكوه من حداثة يف احلكم‪،‬‬ ‫وحيوية �سيا�سي ًا وقاعدة ت�أييد افتقدهما احلزب الوطني‬ ‫املهرتئ‪ ,‬ما زالوا يقاتلون يف معركة «ا�سرتداد الكر�سي‬ ‫الرئا�سي»‪ .‬من ناحية ثانية‪� ،‬إن م�ساحة التناق�ضات يف‬ ‫«ائتالف املناه�ضني للإخوان» �شديدة االت�ساع؛ �إذ ي�ضم هذا‬ ‫التحالف قوى ثورية جذرية‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل قوى را�سخة من‬ ‫قلب النظام املباركي‪ .‬وقد فر�ضت هذه التناق�ضات خالفات‬ ‫من اللحظة الأوىل على م�سار املرحلة االنتقالية‪ ،‬وهيكل‬ ‫ال على و�ضع حممد الربادعي‬ ‫قيادتها (مثال‪ :‬املعركة مث ً‬ ‫والفيتو على قيامه بت�شكيل احلكومة) وجدول �أعمالها‪.‬‬ ‫‪65‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ فر�ض ذل��ك معركتني متزامنتني على كل �أط��راف‬ ‫املرحلة االنتقالية‪ .‬فكل موقف يتخذ جتاه كل ق�ضية من‬ ‫ق�ضايا املرحلة االنتقالية (بدء ًا بت�شكيل احلكومة‪ ،‬ومرور ًا‬ ‫«ف�ض اعت�صامي‬ ‫ال �إىل املوقف من ّ‬ ‫بخريطة الطريق‪ ،‬وو�صو ً‬ ‫الإخوان») هو دالة يف معركتني‪ ،‬ويجب ح�سابه لي�س فقط‬ ‫من زاوية ت�أثريه على ا�ستكمال ال�رصاع مع الإخوان‬ ‫وح�سم معركة «ا�سرتداد الكر�سي» التي يخو�ضونها‬ ‫ب�رشا�سة‪ ،‬بل �أي�ض ًا من زاوية ت�أثريه على توازن القوى‬ ‫داخل ائتالف حكم املرحلة االنتقالية‪.‬‬ ‫ هذه «املعركة املزدوجة» متثل مفتاح ًا �أ�سا�سي ًا لفهم‬ ‫التطورات ال�سيا�سية التي �شهدناها منذ ‪ 30‬يونيو‪/‬‬ ‫ح��زي��ران‪ ،‬التي ج��اءت جميعها لتعك�س ت�سويات‬ ‫ه�شة فر�ضتها توازنات املرحلة االنتقالية املحكومة‬ ‫ّ‬ ‫ب�رصاعني متزامنني (�رصاع «احللفاء» يف حكم املرحلة‬ ‫االنتقالية‪ ،‬ومعركة فر�ض الهزمية ال�سيا�سية على «اخل�صم‬ ‫ال (مبا هو‬ ‫الإخواين»)‪ .‬فال�رصاع على ت�شكيل احلكومة مث ً‬ ‫انعكا�س مليزان القوى داخل ائتالف املنت�رصين)‪ ،‬عك�س‬ ‫ال يف حزب النور‪ ،‬والبريوقراطي‬ ‫قدرة اليمني (الديني ممث ً‬ ‫املمثل يف امل�ؤ�س�سة الأمنية الراف�ضة لتوجهات حممد‬ ‫الربادعي الليربالية واحلقوقية) على و�ضع فيتو حا�سم‬ ‫على تويل الربادعي قيادة املرحلة االنتقالية ر�سمي ًا عرب‬ ‫رئا�سة احلكومة‪ .‬لكن ظروف ال�رصاع امل�ستمر مع الإخوان‬ ‫وما تفر�ضه من حاجة للحفاظ على متا�سك القوى‬ ‫املتناق�ضة امل�شاركة يف حكم املرحلة االنتقالية �أدت‬ ‫ه�شة مفادها ا�ستحداث من�صب غري م�سبوق‬ ‫�إىل ت�سوية ّ‬ ‫يف تاريخ الدولة امل�رصية احلديثة ملحمد الربادعي‪ ،‬هو‬ ‫«نائب رئي�س اجلمهورية للعالقات الدولية»‪ ،‬مع �إبعاده‬ ‫عن ت�شكيل احلكومة والإدارة اليومية للمرحلة االنتقالية‪.‬‬ ‫ منطق «املعركة املزدوجة» نف�سه نراه يف النقا�ش‬ ‫«ف�ض اعت�صامي رابعة العدوية واجليزة»‪ .‬فهناك‬ ‫حول‬ ‫ّ‬ ‫تناق�ض وا�ضح يف ال��ر�ؤى بني الربادعي الراغب يف‬ ‫الف�ض وترك االعت�صام يذبل ميداني ًا مع الوقت‬ ‫جتنب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫(بفعل الرتاجع املطرد يف �أعداد امل�شاركني) مع التفاو�ض‬ ‫على ّ‬ ‫حل �سيا�سي مع الإخوان �سي�أخذ وقت ًا ريثما يدرك‬ ‫الإخ��وان �أنهم خ�رسوا املعركة �شعبي ًا‪ ،‬والبريوقراطية‬ ‫ت�رص على ح�سم ميداين فوري يخدم م�صاحلها‬ ‫الأمنية‬ ‫ّ‬ ‫من زاويتني‪ :‬الأوىل هي ا�ستعادة �أجواء «ال �صوت يعلو‬ ‫فوق �صوت املعركة مع الإرهاب» التي �سادت يف م�رص‬ ‫يف العقدين الأخريين من القرن الع�رشين و�أتاحت‬ ‫متدد ًا وا�سع ًا ب�شكل غري م�سبوق يف تعداد وعتاد وموازنة‬


‫الإطار الد�ستوري الذي جاء على �أ�سا�سه ب�إعالن د�ستوري‬ ‫�أكرث مالءمة له‪ ،‬ال تعني �شيئ ًا!)‪.‬‬

‫ونفوذ الأجهزة الأمنية‪ ،‬والثانية هي تثبيت �شهادة براءة‬ ‫�شعبية لأ�ساليب �أجهزة الأمن القمعية التقليدية (التي‬ ‫�ستعمد بنار املعركة مع الإخوان) ومن ثم ت�سقط معها‬ ‫كل مطالبة بالعدالة االنتقالية والق�صا�ص من قيادات ال�صدام امليداين وت�أثريه‬ ‫الداخلية (وخا�صة �إن �أخذنا يف االعتبار التوجه املتنامي على امل�سار ال�سيا�سي للموجة الثالثة للثورة‬ ‫ــ كجزء من تكتيكات الأجهزة الأمنية ــ نحو ما ميكن ق��رار احل�سم امليداين العت�صامي الإخ���وان يف ‪14‬‬ ‫ت�سميته «�أخونة اجلرائم» واعتبار الإخوان م�س�ؤولني عن �أغ�سط�س‪�/‬آب ‪ ،2013‬ميثل حمطة مف�صلية يف م�سار‬ ‫ال نقل ال�رصاع بني‬ ‫كل اجلرائم‪ ،‬مبا فيها جرائم قتل الثوار قبل ‪ 25‬يناير املوجة الثالثة من الثورة‪ .‬القرار �أو ً‬ ‫ال�سلطة االنتقالية والإخوان وحلفائهم �إىل مرحلة الإلغاء‬ ‫و�أثناءه وبعده)‪.‬‬ ‫ منطق �رصاع القوى داخل االئتالف رجح قرار احل�سم الأمني‪ ،‬وهو ما يعني تو�سيع نطاق املواجهات التي خرجت‬ ‫امليداين (وهو ما انعك�س يف قرار احلكومة االنتقالية من ب�ؤرتي االعت�صام �إىل خمتلف �شوارع العا�صمة وعدة‬ ‫باعتبار االعت�صامني «ب�ؤر ًا تهدد الأمن القومي» وتكليف مناطق يف املحافظات‪ .‬ثم �إن هذا القرار نقل ال�رصاع‬ ‫ف�ضهما)‪� ،‬أما منطق احلاجة للحفاظ على �إىل معادلة �إلغائية على الأر�ض وعطل �أي �صيغ للحلول‬ ‫وزارة الداخلية ّ‬ ‫ح�ضور ليربايل مدين داخل ائتالف احلكم‪ ،‬فقد �أدى �إىل ال�سيا�سية لفرتة من الوقت قد متتد لعدة �أ�سابيع تراق فيها‬ ‫مهلة «للحل ال�سيا�سي» امتدت خالل الأي��ام الع�رشة كمية من الدماء جتعل احلل ال�سيا�سي بعدها �أكرث كلفة‬ ‫الأخرية من �شهر رم�ضان وخالل عيد الفطر‪ ،‬وبعدها بد�أ و�صعوبة‪ .‬و�أخري ًا‪� ،‬إن القرار‪ ،‬برغم ح�صوله على غطاء‬ ‫احل�سم (الذي حتر�ص عليه البريوقراطية الأمنية) فا�ستقال �سيا�سي من احلكومة التي يتمثل فيها خمتلف مكونات‬ ‫حممد الربادعي‪ ،‬وبد�أت ب�شائر �إعادة الهيكلة لالئتالف ائتالف املرحلة االنتقالية‪ ،‬ينقل مركز الثقل ب�شكل حا�سم‬ ‫للجناح املحافظ (املطالب باحل�سم الأمني‪ ،‬واملت�صدر‬ ‫احلاكم وبلورة ميزان القوى داخله تت�ضح‪.‬‬ ‫ اال�ستثناء الظاهري من منطق املعركة املزدوجة كان لل�صورة مبجرد بدء هذا احل�سم)‪.‬‬ ‫«خريطة الطريق» التي بدا � ّأن اجلميع متوافق عليها‪ .‬من ب��د�أت امل�س�ألة بطلب غري م�ألوف من وزير الدفاع‬ ‫وجهة نظر املوجة الثالثة من الثورة التي كان �شعارها «بتفوي�ض �شعبي» ملكافحة الإره��اب‪ .‬برغم غرابة هذا‬ ‫الوحيد هو �إ�سقاط حممد مر�سي (وما يعنيه ذلك من الطلب‪ ،‬وكونه �أمر ًا خالفي ًا داخل مع�سكر الثورة‪ ،‬ف�إن حجم‬ ‫انتخابات رئا�سية مبكرة)‪ّ � ،‬إن خريطة الطريق التي جرى احل�شود التي نزلت م�ؤيدة لوزير الدفاع يوم ‪ 26‬يوليو‪/‬‬ ‫التوافق عليها‪ ،‬والتي جتعل االنتخابات الرئا�سية هي �آخر متوز ‪ ،2013‬كان كافي ًا ملنحه التفوي�ض املطلوب‪� .‬أ�صبح‬ ‫املحطات‪ ،‬وتفر�ض م�سار ًا فوقي ًا لإعادة كتابة الد�ستور ال�س�ؤال عندئذ‪ :‬كيف يرتجم هذا التفوي�ض لأمر عمليات؟‬ ‫(بلجنة معينة ال منتخبة)‪ ،‬تعك�س جتاه ً‬ ‫ال �رصيح ًا لأولويات نظري ًا‪ ،‬كان هناك ميدانان حمتمالن للعمليات‪� :‬إما‬ ‫احلراك ال�شعبي غري امل�سبوق يف ‪ 30‬يونيو‪/‬حزيران‪ .‬معركة ع�سكرية مع اجلهاديني املتمرت�سني يف �سيناء‪،‬‬ ‫فلماذا وافق عليها اجلناح املح�سوب على الثورة داخل الذين ينفذون عمليات �شبه يومية �ضد اجلي�ش وقوات‬ ‫املرحلة االنتقالية؟ امل�س�ألة بب�ساطة � ّأن جدول الأعمال ال�رشطة هناك‪ ،‬و�إما معركة �أمنية مع الإخوان وحلفائهم‬ ‫الفوقي مثل نقطة تقاطع بني ر�ؤى البريوقراطية (الراغبة يف العا�صمة عرب �إخالء اعت�صامي رابعة العدوية واجليزة‪.‬‬ ‫يف ت�أجيل االنتخابات الرئا�سية لأبعد نقطة‪ ،‬لعل مرور امليدان الأول «�سيناء»‪ ،‬ميزته �أنه كان يحظى ب�إجماع‬ ‫ال بني‬ ‫الوقت يتيح لها تقدمي مر�شح ع�سكري للرئا�سة جمدد ًا‪� ،‬شعبي عابر لالنق�سامات ال�سيا�سية‪ ،‬ويتبنى ف�ص ً‬ ‫على وقع ا�ستنفار «نا�رصي الهوى» للوطنية امل�رصية)‪ ،‬املكونات اجلهادية و�سائر ف�صائل الإ�سالم ال�سيا�سي‪،‬‬ ‫ال يف الربادعي مبا يتيح الإبقاء على قنوات احلل ال�سيا�سي‪ .‬م�شكلته‬ ‫مع ر�ؤى اجلناح الليربايل من الثورة (ممث ً‬ ‫‪legalistic‬‬ ‫» يبد�أ باملقابل هي ال�صعوبات الطوبوغرافية وال�سيا�سية‬ ‫ب�شكل خا�ص) املتم�سك مب�سار «قانونوي‬ ‫ال‪ ،‬وينظر لكتابة الد�ستور ــ بوا�سطة (املت�صلة باتفاقيات كامب ديفيد وت�أثريها على حجم‬ ‫بكتابة الد�ستور �أو ً‬ ‫«خرباء» قانونيني يلتزمون «الأعراف واملعايري العاملية» احل�ضور الع�سكري امل�رصي ونوعيته يف منطقة «جبل‬ ‫ــ ب�صفتها �ضمانة �ضد ا�ستبداد �أي رئي�س (وك�أن جتربة احلالل» التي يرتكز فيها اجلهاديون يف �سيناء‪ ،‬والتي‬ ‫حممد مر�سي‪ ،‬الذي كان �أول قرار له بعد الرئا�سة ا�ستبدال تتكون من �سل�سلة جبال وعرة طولها يقرتب من ‪40‬‬ ‫‪66‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫كيلومرت ًا)‪� .‬أم��ا اخليار الثاين‪« ،‬خيار رابعة العدوية‬ ‫ال»‪ ،‬فميزته من وجهة نظر اجلناح الأمني �أنه �أ�سهل‬ ‫�أو ً‬ ‫يف التنفيذ‪ ،‬و�أنه يوفر فر�صة للقوى الأمنية للح�صول‬ ‫على �صك براءة «لأ�ساليبها وتقنياتها» (التي �ستعترب هنا‬ ‫�رضورة ملواجهة الإرهاب) مبا ميهد لي�س فقط لإعفائها‬ ‫من امل�ساءلة عن تلك املمار�سات نف�سها قبل ‪ 25‬يناير‬ ‫و�أثناءه وبعده (ق�ضية العدالة االنتقالية)‪ ،‬بل �أي�ض ًا ميهد‬ ‫ت�صدر امل�شهد ال�سيا�سي يف م�رص‪.‬‬ ‫لعودتها �إىل‬ ‫ّ‬ ‫ كانت امل�شكلة يف هذا اخليار هي �أنه يفتح املعركة‬ ‫على كل ف�صائل الإ�سالم ال�سيا�سي يف الوقت نف�سه مبا‬ ‫يعقد فر�ص الت�سوية ال�سيا�سية مع بع�ض هذه الف�صائل‪،‬‬ ‫ويحمل كلفة ب�رشية و�سيا�سية باهظة (�سقوط قتلى‬ ‫ّ‬ ‫مدنيني‪� ...‬إلخ)‪ .‬وقد بدا وا�ضح ًا �أنه من وجهة نظر اجلناح‬ ‫الأمني‪ ،‬ف�إن هذه ال�صعوبات ال تفوق «املزايا» التي‬ ‫ال»‪ ،‬وهكذا بد�أ تنفيذ هذا اخليار‬ ‫يتيحها خيار «رابعة �أو ً‬ ‫يوم ‪� 14‬أغ�سط�س‪�/‬آب ‪ ،2013‬بعد مناورة ق�صرية مع‬ ‫الو�ساطات الدولية وجهود حممد الربادعي‪ ،‬ا�ستهلكت‬ ‫�شهر رم�ضان وعطلة عيد الفطر‪ ،‬مبا يفرت�ض �أن يخفف‬ ‫والف�ض‪ .‬ال�س�ؤال‬ ‫من الوط�أة النف�سية ل�سيناريو االقتحام‬ ‫ّ‬ ‫الف�ض هذا من املعادلة ال�سيا�سية‬ ‫هو‪ :‬كيف يغري قرار‬ ‫ّ‬ ‫والأمنية يف م�رص؟‬ ‫على �صعيد املواجهة مع الإخ��وان وحلفائهم‪ ،‬تت�شكل‬ ‫ي�رص «اجلناح الأمني القائد» يف‬ ‫حالي ًا معادلة جديدة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ال�سلطة االنتقالية على ح�سم �أمني يك�رس تنظيم الإخوان‬ ‫امل�سلمني‪ ،‬وي�سيطر على حمافظات القاهرة الكربى الأربع‬ ‫ال (القاهرة ــ اجليزة ــ حلوان ــ القليوبية)‪ ،‬ثم يخو�ض‬ ‫�أو ً‬ ‫حرب تروي�ض ومت�شيط يف �سائر حمافظات م�رص الحق ًا‬ ‫مهما كلفته من ا�ستنزاف‪ .‬باملقابل‪ ،‬تقوم ا�سرتاتيجية قيادة‬ ‫الإخوان على ت�صدير م�شهد «اقتتال �أهلي» يف م�رص‪،‬‬ ‫وا�ستدراج �أكرب قدر من الدم‪ ،‬مبا يتيح �ضغوط ًا دولية‬ ‫تفر�ض تفاو�ض ًا يحقق �أولويات القيادة بعد �سقوط حممد‬ ‫مر�سي‪ .‬ما هي هذه الأولويات؟ هي بب�ساطة احلفاظ على‬ ‫التنظيم‪ ،‬وهو ما يتطلب �أمرين‪:‬‬ ‫ال‪ :‬الإفراج عن قيادات التنظيم‪ ،‬و�إ�سقاط �أي اتهامات‬ ‫�أو ً‬ ‫موجهة �إليها على قاعدة �أنها اتهامات �سيا�سية كيدية‪.‬‬ ‫ثاني ًا ‪ّ :‬‬ ‫فك جميع القيود عن الإمرباطورية املالية للتنظيم‬ ‫(التي تت�ضمن‪ ،‬من بني �أ�شياء عديدة‪ ،‬احتكار ًا �شبه كامل‬ ‫لتجارة التجزئة يف م�رص‪ ،‬وح�ضور ًا قوي ًا يف قطاعات‬ ‫الت�شييد واحلديد وال�صلب و�صناعة الألبان‪� ...‬إلخ)‪.‬‬ ‫‪67‬‬

‫بدايات‬

‫‪201320‬‬ ‫ربيع‬ ‫‪13 |5‬‬ ‫العدد ‪6‬‬

‫ يف هذا ال�سياق‪ ،‬ميكن توقع فرتة �صعبة قد متتد حتى‬ ‫منت�صف �سبتمرب‪�/‬أيلول (موعد انتهاء �رسيان حالة الطوارئ‬ ‫ال‪،‬‬ ‫التي فر�ضتها احلكومة امل�رصية مع بدء خيار رابعة �أو ً‬ ‫واتخاذ قرار ب�إعالن انتهاء الطوارئ �أو جتديدها ل�شهر‬ ‫�آخر)‪� ،‬سيرتكز خالل هذه الفرتة جهد طريف القتال على‬ ‫اجلانب امليداين‪ ،‬وبنا ًء على ميزان القوى الذي �سيتبلور يف‬ ‫نهايته ميكن �أن تت�أ�س�س الت�سويات‪.‬‬ ‫ غري �أن معادلة ال�رصاع يف م�رص مزدوجة كما �سبق‬ ‫�أن �أو�ضحنا‪ .‬وبالتايل �إن فرتة من ال�رصاع الأمني ال�رصف‬ ‫ال ت�ؤثر فقط على املعادلة بني ال�سلطة االنتقالية والإخوان‪،‬‬ ‫ولكنها ت�ؤثر بال�رضورة على تزايد وزن ونفوذ اجلناح‬ ‫الأمني ورديفه املدين (ال�رشائح االجتماعية املحافظة التي‬ ‫تدعم اخليار الأمني)‪ .‬فهي �ستح�سم من ح�ساب الأجنحة‬ ‫تغول هذا اجلناح‬ ‫املح�سوبة على الثورة‪ ،‬وتزيد من احتمال ّ‬ ‫الأمني وحماولته ا�ستعادة موقعه املركزي يف �صناعة القرار‬ ‫امل�رصي‪ ،‬على نحو ما كان الو�ضع عليه قبل ثورة ‪ 25‬يناير‪،‬‬ ‫واالكتفاء بح�ضور �شكلي ورمزي لأ�شخا�ص حم�سوبني على‬ ‫الثورة يف مراكز لل�سلطة لي�ست بال�رضورة هي مراكز القرار‪.‬‬ ‫ تكفي �أي مراجعة �رسيعة للخطاب الإعالمي ال�سائد‬ ‫يف و�سائل الإعالم احلكومية واخلا�صة يف م�رص‪ ،‬التي‬ ‫تت�صدرها «وجوه مباركية» بد�أت تنتقل للحديث عن ثورة‬ ‫وحيدة يف م�رص‪ ،‬هي ثورة «‪ 30‬يونيو»‪ ،‬التي �صححت‬ ‫وتلح يف‬ ‫«اخلط�أ التاريخي» الذي حدث يف ‪ 25‬يناير‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫دعم اخليار الأمني لدرجة تعطيل كل برامج البث يوم‬ ‫‪ 26‬يوليو‪/‬متوز ‪ 2013‬ــ يف �سابقة مل حتدث يف تاريخ‬ ‫الإعالم امل�رصي ــ لتتفرغ جميعها لدعوة املواطنني لتلبية‬ ‫دعوة وزير الدفاع وتفوي�ضه يف مواجهة الإرهاب‪� ،‬أقول‬ ‫� ّإن مراجعة �رسيعة لهذا اخلطاب الإعالمي تكفي لتو�ضيح‬ ‫لت�صدر امل�شهد‬ ‫مدى جدية احتمال عودة اجلناح الأمني‬ ‫ّ‬ ‫ال�سيا�سي‪ ،‬وا�ستغالل الأزمة احلالية لفر�ض جدول �أعمال‬ ‫ينهي عملي ًا مفاعيل ثورة ‪ 25‬يناير‪ .‬ال�س�ؤال �إذن هو‪،‬‬ ‫ما املطلوب عمله من وجهة نظر ثورية ودميقراطية؟ ماذا‬ ‫يفعل من يرف�ض االختيار واملفا�ضلة بني فا�شية متغطية‬ ‫بالدين‪ ،‬وعودة النظام الأمني للدولة املباركية؟‬ ‫الأفق ال�سيا�سي للثورة على املدى املبا�رش‬ ‫ما بني تعقيدات احل�صاد املختلط الذي �أفرزته املوجة‬ ‫الثالثة للثورة حتى الآن‪ ،‬واملخاطر الأمنية وال�سيا�سية‬ ‫ال»‪ ،‬ال �إمكانية‬ ‫التي يحملها �سيناريو «رابعة العدوية �أو ً‬ ‫النت�صار �رسيع للثورة يف املدى املبا�رش (املتمثل باحلد‬


‫الأدنى‪ ،‬يف ال�شهر املمتد حتى منت�صف �سبتمرب‪�/‬أيلول‬ ‫‪ .)2013‬يف مثل هذه الظروف‪ ،‬ميكن حتديد الأهداف‬ ‫التكتيكية للمرحلة يف ثالثة عناوين �أ�سا�سية‪ ،‬هي‪:‬‬

‫‪68‬‬

‫ هنا �سيكون التحدي �أمام القوى الثورية‪� ،‬أن يكون هذا‬ ‫احلل ال�سيا�سي دميقراطي ًا وثوري ًا‪ ،‬عرب �إعادة النظر يف ترتيب‬ ‫الأولويات احلايل يف خريطة الطريق‪ ،‬والتبكري با�ستحقاق‬ ‫انتخابي ذي طبيعة �سيا�سية �شاملة (االنتخابات الرئا�سية و‪/‬‬ ‫�أو الربملانية) كمخرج يكر�س ال�شارع واملواطنني كفي�صل‬ ‫ال من حل «تفاو�ضي» برعاية «دولية» لن‬ ‫بني املختلفني‪ ،‬بد ً‬ ‫يزيد على ت�سوية بني «قادة القتال» على اجلانبني‪� ،‬سيكون‬ ‫�أول �أثمانها «عفو قانوين» عن اجلرائم يهدر �إىل الأبد فكرة‬ ‫ومبد أ� «العدالة االنتقالية» (�أحد �أهم �أهداف الثورة)‪ ،‬ويكر�س‬ ‫فكرة احتكار الأمنيني للعمل ال�سيا�سي �رصاع ًا وت�سوية‪.‬‬

‫ال‪ :‬تثبيت مكا�سب اجلوالت ال�سابقة للثورة‪ ،‬وعلى‬ ‫�أو ً‬ ‫ر�أ�سها مبد�أ الدولة املدنية (مبعناها املخالف للع�سكرة‬ ‫والثيوقراطية على حد �سواء)‪ ،‬وا�ستمرار حماكمات‬ ‫مبارك وحا�شيته‪.‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬حتقيق �رضبة �سيا�سية حا�سمة (ولي�س �أمنية)‬ ‫للفا�شية امللتحفة بالدين‪ ،‬وفر�ض مواجهتها با�ستحقاق‬ ‫انتخابي يف �أق��رب وقت ممكن‪ ،‬يعيد ر�سم الأحجام‬ ‫والأوزان ال�سيا�سية لتيارات الإ�سالم ال�سيا�سي مبا يعك�س‬ ‫تراجع �شعبيتها‪.‬‬ ‫ثالث ًا‪ :‬االنتقال من و�ضعية مراقبة «�رصاع الأفيال»‬ ‫و«�إبداء الأ�سف» لكلفتها الب�رشية الباهظة‪� ،‬إىل ا�ستعادة‬ ‫زمام التحرك واملبادرة النتزاع �أفق �أو�سع للعمل ال�سيا�سي‪،‬‬ ‫يح�سن �رشوط املعارك القادمة‪ ،‬وذلك من خالل اتخاذ‬ ‫مواقف ثورية من اال�ستحقاقات ال�سيا�سية القادمة‪.‬‬

‫املواجهة الأمنية بني الإخـــــــــــــــــــــــــــــــــــــوان‬ ‫والبريوقراطية الأمنيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‪،‬‬ ‫التي متثل الإطار الأ�سا�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــي‬ ‫حلركة اجلميع الآن مهمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫كان الر�أي فيها �أخالقي ًا ومبدئيــــــــــــــــــــــــــــــــاً‪،‬‬ ‫مفتوحة على �سيناريو ا�ستمرار الت�أزم �أو �سيناريو‬ ‫احل�سم الأمني يف العا�صمة وحميطهــــــــــــــــــــــــا‬

‫ يف جميع الأحوال‪� ،‬سيفر�ض منطق «املعركة املزدوجة»‬ ‫نف�سه على جميع التحركات‪ .‬فكل موقف يتخذ �سيت�أثر يف‬ ‫الوقت نف�سه بال�رصاع ال�صاخب مع الإخوان وحلفائهم‪،‬‬ ‫وبال�رصاع ال�صامت حول موازين القوى داخل االئتالف‬ ‫احلاكم للمرحلة االنتقالية‪ .‬ويف املرحلة احلالية‪� ،‬ستكون‬ ‫الأولوية دائم ًا لنتائج ال�صدام الأمني الدائر بني «اليمني‬ ‫الأمني» و«اليمني الديني»‪ .‬وهناك �سيناريوهان‪:‬‬

‫ ال�سيناريو الثاين‪ :‬وهو انت�صار احلل الأمني (على‬ ‫الأقل يف حمافظات القاهرة الكربى الأربع)‪ ،‬مبا يفر�ض‬ ‫نوع ًا من اال�ستقرار الأمني‪ .‬حتى لو حتقق هذا احلل ــ برغم‬ ‫�صعوبة حتقيقه وارتفاع كلفته ــ ف�إن اجلناح الأمني �سيخرج‬ ‫منه منهك ًا وبحاجة لغطاء �سيا�سي ما (على الأقل لتخفيف‬ ‫حدة ال�ضغط الدويل الذي �سيتزايد ب�شكل كبري‪ ،‬مع ارتفاع‬ ‫وترية امل�صادمات الأمنية املطلوبة لتحقيق هذا احل�سم)‪.‬‬

‫ ال�سيناريو الأول‪ :‬ا�ستمرار الت�أزم‪ ،‬وجناح الإخوان‬ ‫وحلفائهم‪ ،‬برغم �أي هزائم �أمنية يتلقونها‪ ،‬يف �إبقاء‬ ‫قدر كاف من التوتر ملنع «تطبيع الو�ضع الأمني» (عرب‬ ‫القيام بتظاهرات �صغرية احلجم ن�سبي ًا ولكنها م�ستمرة‬ ‫ب�شكل يومي‪ ،‬وا�شتباكات يومية حمدودة‪ ،‬ولكنها تكفي‬ ‫لإر�سال ر�سالة ب� ّأن الو�ضع غري م�ستقر‪ ،‬و�أنه مل يتم‬ ‫�إخ�ضاع الإخ��وان �أمني ًا)‪ .‬ويف هذه احلالة‪� ،‬إن احلائط‬ ‫امل�سدود الذي �سي�صطدم به اخليار الأمني (مع تذمر‬ ‫القطاعات املحافظة التي فو�ضت اجلي�ش وال�رشطة ب�أمل‬ ‫احل�سم ال�رسيع‪ ،‬واعرتا�ضات الأجنحة الأكرث راديكالية‬ ‫على �سيادة املنطق الأمني وتبعاته‪ ،‬وت���أزم الو�ضع‬ ‫الدويل) �سيفر�ض العودة �إىل �صيغة �سيا�سية ما حلل‬ ‫الأزمة ب�سبب عقم احلل الأمني‪.‬‬

‫ لذلك‪ ،‬ف�إنه من الناحية ال�سيا�سية‪� ،‬سي�ؤدي انت�صار‬ ‫احلل الأمني �إىل فر�ض «خريطة الطريق» املعلنة للمرحلة‬ ‫االنتقالية دون �أي تعديل يف مواعيدها‪ .‬عندئذ �سيكون‬ ‫التحدي �أمام الأجنحة الثورية هو بلورة مواقف وا�ضحة‬ ‫من اال�ستحقاقات املختلفة (�إنتاج د�ستور دميقراطي ال‬ ‫تكون ن�صو�صه هي و�سيلة اليمني الأمني ال�سرت�ضاء‬ ‫اليمني الديني بعد هزميته �سيا�سي ًا‪ ،‬وقانون انتخابي ال‬ ‫يتمركز حول دوائر فردية �صغرية احلجم تكر�س نفوذ‬ ‫املال ال�سيا�سي بطبعتيه الدينية والفلولية‪ ،‬وا�ستدعاء‬ ‫وتكرار ت�رصيحات الفريق ال�سي�سي حول عدم تر�شحه‬ ‫للرئا�سة وت�رصيح رئي�س احلكومة االنتقالية حازم‬ ‫الببالوي حول التزام حكومته دولة مدنية ال دينية وال‬ ‫ع�سكرية‪ ،‬بغر�ض حتويل هذه الت�رصيحات �إىل التزامات‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫�سيا�سية تنعك�س يف رئا�سة مدنية ت�أتي عرب انتخابات‬ ‫دميقراطية مراقبة دولي ًا كما تعهد الفريق ال�سي�سي)‪.‬‬ ‫حتى يحني موعد املوجة الرابعة‬ ‫فر�ض تعقد الو�ضع ال�سيا�سي والأمني يف م�رص �أن تتخذ‬ ‫الثورة امل�رصية م�سار ًا متعرج ًا تتواكب فيه الإجنازات‬ ‫والعرثات‪ ،‬من خالل موجات ثورية متتابعة (ر�أينا منها‬ ‫ثالث ًا حتى الآن) يحقق كل منها �إجناز ًا جزئي ًا ثم ي�صطدم‬ ‫بتحالفات الأجنحة املحافظة (الأمنية و‪�/‬أو الدينية) امل�رصة‬ ‫على حتجيم عمق التغيري ال�سيا�سي املطلوب ونوعيته‪.‬‬ ‫ ما يجعل الأمل غالب ًا على الأمل‪ ،‬رغم كل العرثات‪،‬‬ ‫هو �أن م�سار الثورة املتعرج مل يتوقف بعد كل انتكا�سة‪ ،‬بل‬ ‫ا�ستجمع �أنفا�سه وجدد نف�سه يف موجة تالية تعك�س باحلد‬ ‫الأدنى حجم الت�صميم املوجود لدى احلراك ال�شعبي على‬ ‫�إنفاذ ا�ستحقاقات الثورة‪.‬‬ ‫ امل�سار املتعرج نف�سه‪ ،‬فر�ض �أحيان ًا الدخول يف‬ ‫ائتالفات ظرفية غري مواتية‪ ،‬وفر�ض �أحيان ًا �أخرى خو�ض‬ ‫معارك متزامنة مع «اخل�صم» و«احلليف» يف نف�س الوقت‪.‬‬ ‫كل ذلك ي�ستوجب تكتيكات ثورية مرنة تتيح تثبيت ما‬ ‫يتحقق من �إجنازات‪ ،‬وحت�سن �رشوط املعارك القادمة‪.‬‬ ‫ املوجة الثالثة للثورة �أك�ثر تعقيد ًا من �سوابقها‪،‬‬ ‫وهي تتطلب مناورات تكتيكية مركبة لتثبيت الإجنازات‬ ‫وحت�سني �رشوط امل�ستقبل‪ .‬املواجهة الأمنية بني الإخوان‬ ‫والبريوقراطية الأمنية‪ ،‬التي متثل الإطار الأ�سا�سي حلركة‬ ‫اجلميع الآن مهما كان الر�أي فيها �أخالقي ًا ومبدئي ًا‪ ،‬مفتوحة‬ ‫على �سيناريو ا�ستمرار الت�أزم (الذي يثري حتدي �إعادة ترتيب‬ ‫خريطة الطريق وجعلها �أكرث دميقراطية و�أقل نخبوية) �أو‬ ‫�سيناريو احل�سم الأمني يف العا�صمة وحميطها (الذي يثري‬ ‫حتدي «دمقرطة» خريطة الطريق الر�سمية‪ ،‬وجتنب ال�سقوط‬ ‫يف هوية املحا�ص�صة الربملانية بني اليمني الفلويل والديني‪،‬‬ ‫وح�صول البريوقراطية الأمنية على رئا�سة الدولة)‪.‬‬ ‫ ال يوجد �أفق مبا�رش النت�صار كامل يتيح حتقيق العدالة‬ ‫ب�شقيها (االنتقايل واالجتماعي) الذي قامت من �أجله‬ ‫الثورة‪ ،‬والذي جت�سد يف �شعارها ال�شهري «العي�ش‪ ،‬واحلرية‪،‬‬ ‫والعدالة االجتماعية»‪ .‬ولكن هناك بالت�أكيد ما ميكن عمله‬ ‫يف كال ال�سيناريوهني املحتملني للموجة الثورية الثالثة‪.‬‬ ‫ ربحنا جوالت‪ ،‬وقابلتنا عرثات وانتكا�سات‪ ،‬وبقيت‬ ‫معارك كبرية كتب علينا خو�ضها‪ ،‬حتى تتحقق الب�شارة‬ ‫على احد اجلدران ال�شهرية التي اختتم بها جنيب حمفوظ روايته «�أوالد حارتنا»‪،‬‬ ‫يف الزمالك‪ .‬ونرى يف حارتنا م�رصع الطغيان وم�رشق النور والعجائب‪.‬‬ ‫‪69‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫جمايل احلد الأدنى للأجور وحق التنظيم النقابي امل�ستقل‬ ‫للعمال)‪ .‬ومن اجلدير بالذكر �أي�ض ًا �أن احلقوقيني �شكلوا عن‬ ‫حق ب�ؤرة مركزية ل�سائر القوى االحتجاجية منذ يناير‪/‬‬ ‫كانون الثاين ‪� ،٢٠١١‬سواء من حيث توفري موارد تقنية‬ ‫ومعرفية للتوثيق �أو امل�ساعدة القانونية �أو لف�ضح ممار�سات‬ ‫النظام ال�سابق على امل�ستويني ال�سيا�سي واالقت�صادي‪.‬‬ ‫وجتدر الإ�شارة �أي�ض ًا �أخري ًا �إىل �أن العديد من املبادرات‬ ‫ال�شبابية التي تلت ثورة يناير قد اتخذت من احلقوقية‬ ‫مرجعية لها كمجموعات «ال للمحاكمات الع�سكرية» �أو‬ ‫«يال نكتب د�ستورنا» �أو «�إحياء باال�سم فقط»‪.‬‬ ‫ وق��د جتلت املوجة اجل��دي��دة من و�صم احلقوقيني‬ ‫وا�ستهدافهم ــ بعد الثالثني من يونيو‪/‬حزيران ــ يف‬ ‫ظهور التعبريين ال�ساخرين اللذين اجتاحا ب�شكل متواتر‬ ‫ال من و�سائل الإعالم وو�سائط التوا�صل االجتماعي‬ ‫ك ً‬ ‫لو�صف احلقوقيني بـ»احلكوكيني» والن�شطاء ال�سيا�سيني‬ ‫بـ«النو�شتاء» ال�سيا�سيني‪ ،‬تعبري ًا عن ميوعتهم وتغربهم‬ ‫ــ ن�سبة �إىل الغرب الداعم ملبادئهم ال�سيا�سية ــ و�شجب ًا‬ ‫ملرجعيات ن�شاطهم التي اعتربها الكثريون غري مالئمة‬ ‫يف حلظة ح�شد جماهريي ينادي بالتخل�ص من الإخوان‪،‬‬ ‫لي�س فقط كنظام حاكم‪ ،‬بل من الإ�سالميني كلهم كخطر‬ ‫�إرهابي حم��دق‪ .‬وجتلى �إق�صا�ؤهم كذلك عرب امتناع‬ ‫معظم �أجهزة الإعالم عن ا�ست�ضافتهم �أو التحدث معهم‬ ‫والتعتيم على ن�شاطهم حفاظ ًا على روح احل�شد‪ .‬وجتلى‬ ‫أخ�يرا يف جلوء �أكرث‬ ‫الإح�سا�س باحلذر واال�ستهداف �‬ ‫ً‬ ‫من ‪ 18‬جمموعة من املجموعات احلقوقية �إىل العمل‬ ‫اجلماعي‪ ،‬وهي ممار�سات ارتبطت يف التاريخ الق�صري‬ ‫للحركة احلقوقية بلحظات اخلوف من اال�ستهداف �إعالمي ًا‬ ‫�أو �أمني ًا وحماولة التكاتف لتعزيز ال�صوت احلقوقي‪.‬‬ ‫ وتبدو املفارقة يف نبذ احلقوقيني كمجموعات‬ ‫�سيا�سية ذات مرجعية قانونية‪ ،‬حني نتذكر اللجوء‬ ‫املحوري للتفوي�ض ك�آلية لإ�سقاط النظام الإخواين‪،‬‬ ‫�سواء من طريق جمموعة مترد ال�شبابية منذ مار�س‪�/‬آذار‬ ‫‪� ،٢٠١٣‬أو عرب طلب وزير الدفاع الفريق �أول عبد‬ ‫الفتاح ال�سي�سي يف ال�ساد�س والع�رشين من يوليو‪/‬متوز‬ ‫تفوي�ض ًا من ال�شعب للتعامل «مع الفو�ضى» التي �سببتها‬ ‫اعت�صامات الإخوان يف القاهرة واملدن الكربى؛ �إذ ُي َع ّد‬ ‫إجراء قانوني ًا ي�سمح لإرادة‬ ‫التفوي�ض يف كلتا احلالتني � ً‬ ‫جمتمعية مفتتة بالتبلور عرب منح التفوي�ض ل�شخ�ص‬ ‫�أو جمموعة �أو م�ؤ�س�سة‪ ،‬لت�شكيل قوة �ضاغطة يف �إطار‬ ‫يحتكم �إىل مبادئ ال�رشعية والقانون �أكرث من ا�ستلهامه‬

‫ال وقت للحق‬

‫عن صنع اإلجماع بعد «‪ 30‬يونيو»‬ ‫دينا اخلواجة‬ ‫أستاذة جامعية‬ ‫ومديرة برناجم‬

‫احلركات االجتماعية‬ ‫بمبادرة اإلصالح‬ ‫العريب‪ -‬باريس‬

‫‪70‬‬

‫ا�شتهر يف �أوائل ال�ستينيات فيلم م�رصي ا�سمه «ال وقت‬ ‫للحب»‪ ،‬يتحدث عن فدائيي مدن القناة �أثناء العدوان‬ ‫الثالثي عام ‪ ،١٩٥٦‬وكيف � ّأن معركة الوطن ال ت�سمح‬ ‫ال‪ .‬ي�ستلهم‬ ‫لأحد باختبار احلب قبل �أن يتحرر الوطن �أو ً‬ ‫حتول احل�شد‬ ‫هذا املقال عنوانه من الفيلم ملناق�شة كيفية ّ‬ ‫اجلماهريي الأكرب يف تاريخ م�رص واملنطقة‪ ،‬يف �أواخر‬ ‫يونيو‪/‬حزيران ‪� ٢٠١٣‬إىل �سياق �إق�صائي وقومي‬ ‫النزعة‪ ،‬على �شاكلة حلظات تعبئة التحرر الوطني‪ ،‬وما‬ ‫ات�سمت به من تغليب مل�صلحة الوطن على ح�ساب �صوت‬ ‫املواطن �أو ر�ؤى الأفراد وخ�صومة لفكرة التعددية‪ .‬الإحالة‬ ‫للفيلم ال تتوقف عند عنوانه اجلاذب فقط‪ ،‬بل ت�ستدعي‬ ‫�سياق عقد اخلم�سينيات الذي �أر�سى يف املخيلة اجلماعية‬ ‫امل�رصية مبد�أ �أولوية حترر الوطن على حرية املواطن‪،‬‬ ‫وكيف �أ�صبح هذا املبد�أ �إحدى مناطق ا�سرتاحة للعقل‬ ‫اجلماعي يف مواجهة الأزمات‪ ،‬مهما اختلفت �أو تنوعت‪.‬‬ ‫اال�ست�شهاد بالفيلم يحاول �أي�ض ًا �أن ّ‬ ‫يذكر القارئ ب�أهمية‬ ‫رموز حروب التحرر التي خا�ضها جمال عبد النا�رص‬ ‫كع�رص ذهبي يجري الركون �إليه وفق املنطق نف�سه الذي‬ ‫ي�ستدعي به الإ�سالميون ال�سرية النبوية �أو عدالة اخللفاء‬ ‫الرا�شدين‪ .‬يف هذا الإط��ار‪ ،‬يحاول املقال عرب الرتكيز‬ ‫على �آلية تعامل املجال ال�سيا�سي مع ف�صيل حمدد من‬ ‫الن�شطاء‪ ،‬احلقوقيني امل�رصيني‪� ،‬إظهار كيف جرت حماولة‬ ‫�إ�سكات هذه احلركة االحتجاجية التي هي قيد الت�شكل‪،‬‬ ‫عرب عملية ممتدة من �صنع الإجماع و�إذكاء الإح�سا�س‬ ‫املد الدميقراطي الذي تبلور‬ ‫بتهديد الأمن القومي لإخماد ّ‬ ‫�أ�سا�س ًا حول ه�ؤالء الن�شطاء احلقوقيني املطالبني بف�ضح‬ ‫االنتهاكات والتجاوزات املختلفة التي قام بها كل من‬ ‫املجل�س الأعلى للقوات امل�سلحة والنظام الإخواين بهدف‬ ‫حترير املجال العام من املمار�سات القمعية وال�سلطوية‪.‬‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ يف الواقع‪ ،‬مل ت�شهد �أي من الف�صائل الثورية ما‬ ‫تعر�ضت له جمموعات احلقوقيني من حمالت اغتيال‬ ‫معنوي وت�شهري �إعالمي على مدار العقدين الأخريين‪،‬‬ ‫مير احلقوقيون �أنف�سهم بحمالت و�صم و�سخرية يف‬ ‫ومل ّ‬ ‫املجال العام‪ ،‬كتلك التي تعر�ضوا لها �أخري ًا منذ اندالع‬ ‫املوجة الثورية الثانية يف ‪ ٣٠‬من حزيران ‪ /‬يونيو؛ �إذ‬ ‫على مدار العقدين املا�ضيني اقت�رص االتهام املوجه �إىل‬ ‫هذا الف�صيل من منظمات املجتمع املدين على تهمتني‬ ‫حمددتني‪ :‬الإ�صالحية وقبول مبد�أ التمويل الأجنبي‪.‬‬ ‫وكان املق�صود ب�إ�صالحية نهج احلقوقيني حماولتهم‬ ‫ال من‬ ‫الد�ؤوبة لإ�صالح ممار�سات النظام ال�سلطوي بد ً‬ ‫االنخراط يف �صفوف حركات االحتجاج التي اتخذت‬ ‫من الإ��ضراب والتظاهر �أدات�ين رئي�سيتني لها‪ .‬كذلك‬ ‫�شكلت تهمة قبول مبد�أ التمويل من املنظمات الغربية‬ ‫كعب �أخيل لك�رس �صدقية ن�شاط هذه املنظمات احلقوقية‪،‬‬ ‫�سواء من قبل نظام مبارك �أو من ف�صائل الي�سار القومي‪،‬‬ ‫وو�صمهم ب�أنهم ينتجون خطاب ًا حقوقي ًا يخاطب اخلارج‬ ‫�أكرث من حماولته جتذير مبادئه يف املجال العام‪.‬‬ ‫ نحن �إذ ًا ب�صدد حركة اعتادت النقد واالتهام والرتويع‪،‬‬ ‫لكن من املهم الإ�شارة �إىل � ّأن هذا التوج�س كان قد خفت‪،‬‬ ‫بل انقلب �إىل �إعجاب وت�أييد عام منذ ظهور احلركات‬ ‫االحتجاجية ال�شبابية املهتمة بف�ضح ممار�سات وزارة‬ ‫الداخلية من تعذيب واعتقاالت يف ‪( ٢٠١٠‬وحتديد ًا‬ ‫حركة «كلنا خالد �سعيد»)‪ .‬ويعود ذلك �إىل الدور املهم‬ ‫الذي �أداه احلقوقيون وقتئذ يف ن�رش �آليات التوثيق وتوفري‬ ‫امل�ساعدة القانونية والت�أهيل ال�صحي والنف�سي ل�ضحايا‬ ‫التعذيب‪ ،‬وتر�سيخ مبادئ التقا�ضي اال�سرتاتيجي يف‬ ‫جمال احلريات‪� ،‬سواء ال�سيا�سية واملدنية (حق التظاهر‬ ‫وحرية العقيدة) �أو االجتماعية واالقت�صادية (وحتديد ًا يف‬ ‫‪71‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ديناميات ثورية �أو انقالبية‪ .‬ملاذا مت �إذ ًا نقد احلقوقيني‬ ‫بهذه الق�سوة‪ ،‬وملاذا مت ت�صعيد و�صمهم ك�أطراف ذات‬ ‫منطق دخيل منذ خروج احل�شد اجلماهريي يف الثالثني‬ ‫من يونيو‪/‬حزيران؟ هذا ما �ستحاول هذه الأ�سطر الإجابة‬ ‫عنه اعتماد ًا على حتليل طبيعة ال�سياق الذي �ساد منذ‬ ‫خروج اجلماهري خللع الرئي�س حممد مر�سي من جانب‪،‬‬ ‫وعلى ر�صد بع�ض الأمثلة لتحركات وممار�سات احلقوقيني‬ ‫كحركة احتجاجية ت�سعى �إىل حتكيم القانون يف �سياق‬ ‫غري م�سبوق من اال�ستقطاب واالخت�صام‪.‬‬ ‫التفوي�ض هو �إجراء قانونـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي‬ ‫ي�سمح لإرادة جمتمعية مفتتـــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫بالتبلور عرب منح التفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوي�ض‬ ‫ل�شخ�ص �أو جمموعة �أو م�ؤ�س�ســـــــــــــــــــــــــــــة‪،‬‬ ‫لت�شكيل قوة �ضاغطة يف �إطار يحتكم �إلــــــــــــــــــى‬ ‫مبادئ ال�رشعية والقانـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون‬ ‫�أكرث من ا�ستلهامه ديناميـــــــــــــــــــــــــــــــــــــات‬ ‫ثوريــــــــــــــــــــــــــة �أو انقالبيـــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫جتيي�ش امليادين‪ :‬من االحتجاج �إىل �صنع الإجماع‬ ‫مل يتوقع �أحد �أن ي�سفر احل�شد الذي دعت �إليه جمموعة من‬ ‫ال�شباب غري املعروفني‪ ،‬حتت ا�سم «حملة مترد» احتجاج ًا‬ ‫على حكم الإخوان الإق�صائي‪ ،‬جلمع توقيعات من �أجل‬ ‫خلع الرئي�س حممد مر�سي و�إجراء انتخابات رئا�سية‬ ‫مبكرة‪ ،‬مل يتوقع �أحد �أن ي�سفر عن حراك بهذا الزخم‪ ،‬وال‬ ‫�أن ي�ؤدي �إىل �أزمة �رشعية بهذا احلجم‪ ،‬وال �إىل انق�سام‬ ‫املجتمع امل�رصي بالطريقة غري امل�سبوقة التي ن�شهدها‬ ‫اليوم‪ .‬على العك�س‪ ،‬بدت هذه احلملة منذ �إطالقها يف‬ ‫مار�س‪�/‬آذار ‪ ٢٠١٣‬وحتى �أوائل �شهر يونيو‪ /‬حزيران‬ ‫املن�رصم‪� ،‬أقل راديكالية و�أكرث مت�سك ًا بامل�سلك القانوين‬ ‫عما �سبقها من‬ ‫يف االحتجاج واملطالبة ب�إ�سقاط الرئي�س ّ‬ ‫دعوات للع�صيان املدين �أو للإ�رضاب العام‪ .‬ولو�سطيتها‬ ‫تلك‪ ،‬ا�ستطاعت احلملة جمع توقيعات من كل حمافظات‬ ‫م�رص‪ ،‬راوحت يف تقدير عددها بني ‪ ١٥‬و ‪ ٢٢‬مليون‬ ‫توقيع‪ .‬ونظر ًا �إىل ت�شبهها ب�سابقة تاريخية �شهرية‬ ‫ارتبطت بتفوي�ض ال�شعب امل�رصي ل�سعد زغلول ورفاقه‬ ‫لبدء املفاو�ضات مع االحتالل الربيطاين‪ ،‬ح�صدت هذه‬ ‫احلملة �إجماع ًا مل ت�ستطع حمالت ذات طابع �أكرث ثورية‬ ‫حتقيقه‪ .‬واملق�صود هنا حمالت جمع توقيعات دعم تر�شح‬ ‫حممد الربادعي للرئا�سة يف ‪� ٢٠١٠‬أو حمالت التوعية‬


‫التي قامت بها جمموعات ثورية كـ«ع�سكر كاذبون» �أو‬ ‫�رصين» �أو «يال نكتب د�ستورنا» التي حاولت جتذير‬ ‫ُ‬ ‫«م ّ‬ ‫حركاتها لفرتات �أطول بكثري من تلك التي احتاجت �إليها‬ ‫جمموعة مترد خللق حالة احتجاجية عامة �أدت �إىل نزول‬ ‫�أكرب عدد من املتظاهرين الراف�ضني حلكم الإخوان �إىل‬ ‫ال�شارع‪ .‬بالطبع �شجع الأداء الكارثي للرئا�سة واحلكومة‬ ‫يف ت�صعيد احل�شد املعار�ض‪ ،‬وبالطبع �صعدت نربة الوعيد‬ ‫والتهديد التي ا�ستخدمهما الرئي�س يف �أ�سابيع حكمه‬ ‫االخرية من تزايد الرف�ض ال�شعبي له ولكامل النظام‬ ‫ال�سيا�سي الذي مثلته الأغلبية الإخوانية‪ .‬لذا اتخذت‬ ‫ح�شود ‪ ٣٠‬حزيران (يونيو) منذ البداية طابع ًا جماهريي ًا‪،‬‬ ‫مبعنى �سو�سيولوجيا احل�شود بالتي يدر�سها غابرييل تارد‬ ‫وغو�ستاف لوبون‪ ،‬وذلك من حيث تعدد وغمو�ض دوافعها‬ ‫وانفعاليتها وتركيزها على اخل�صومة واالنتقام �أكرث من‬ ‫البعد املطالبي املحدد‪ ،‬مقارنة بح�شد يناير الذي ا�ستهدف‬ ‫وزارة الداخلية وال�رشطة امل�رصية بالأ�سا�س‪ .‬من اجلدير‬ ‫الإ�شارة �إىل � ّأن �سمة احل�شد «اجلماهريي» كان قد غذاها‬ ‫ا�ستدعاء لقوى اجتماعية مل ي�ستطع �أحد ح�شدها كفاعل‬ ‫ن�شط يف امل�شهد االحتجاجي من قبل‪ ،‬ولذا �سميت‬ ‫«الأكرثية ال�صامتة» �أو «حزب اال�ستقرار» �أو «حزب‬ ‫الكنبة»‪ .‬ذلك بالإ�ضافة �إىل الدعم القوي الذي وفره‬ ‫جناح ثالث‪ ،‬جمع بني العديد من التيارات الأخرى التي‬ ‫اهتمت ب�إ�سقاط الإخوان كهدف وحيد ــ �أو على الأقل‬ ‫�أكرث �إحلاح ًا ــ من ا�سرتداد امل�سار الثوري و�إعادة بناء‬ ‫إق�صاء مما قام به الإخوان وحلفا�ؤهم‬ ‫خطة انتقالية �أقل �‬ ‫ً‬ ‫من الأحزاب والقوى الدينية على مدار عام كامل‪.‬‬ ‫تعبئة وت�أطري‬ ‫وبعيد ًا عن �أ�سئلة امل�ؤامرة التي ترى يف ح�شود‪٣٠‬‬ ‫حزيران وما تالها من خروج جماهريي‪ ،‬عالمات لتعبئة‬ ‫مدعومة من الأجهزة ورموز النظام القدمي وما متلكه من‬ ‫�سطوة ونفوذ وموارد مالية و�إعالمية ورمزية‪ ،‬تهتم هذة‬ ‫الورقة بالأ�سا�س بر�صد وتف�سري �آليات التحول من ح�شد‬ ‫ميهد لت�أ�سي�س نظام‬ ‫جماهريي �إىل عمل تعبوي بامتياز ّ‬ ‫�سلطوي جديد يبني �رشعيته على حماية الوطن من‬ ‫اال�ستهداف وي�ستدعي خربة دولة اال�ستقالل لإجها�ض‬ ‫امل�سار املنادي بامل�شاركة وامل�ساءلة ك�أ�سا�سني جديدين‬ ‫لأي نظام �سيا�سي نا�شئ‪ .‬الآن بعد خروج املوجة الثورية‬ ‫وف�ض اعت�صامي رابعة‬ ‫الثانية لإ�سقاط حكم الإخوان‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫العدوية والنه�ضة وت�صويرهما على �أنهما تهديد‬ ‫‪72‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫متجد امل�ؤ�س�سة‬ ‫من دونها‪ .‬كذلك بد�أ �إنتاج �أغانٍ و�شعارات ّ‬ ‫الع�سكرية حامي ًا للوطن‪ .‬وا�س ُتدعي املطربون ال�شعبيون‬ ‫جلذب اجلماهري‪ .‬تبارت حتى الإعالنات التلفزيونية‬ ‫املدفوعة ل�شجب حكم الإخ��وان وغبائهم‪ ،‬و�أُطلقت‬ ‫مئات ال�صفحات يف املجال االفرتا�ضي ــ على فاي�س‬ ‫بوك وتويرت ــ تدعو �إىل دعم اجلي�ش �أو الفريق ال�سي�سي‬ ‫�شخ�صي ًا يف مهمة «ا�سرتداد الوطن» من خمطط الإرهاب‬ ‫الإخواين‪� ،‬أو لن�رش �أخبار ــ �صحيحة �أو وهمية ــ عن احلقوقيون والن�شطاء كدخالء على امل�شهد الوطني‬ ‫يخربنا هوارد بيكر يف رائعته «الدخالء» )‪(outsiders‬‬ ‫تفا�صيل امل�ؤامرة الدولية الإخوانية لتحويل م�رص �إىل‬ ‫قاعدة للعنف (امل�سمى �إرهاب ًا) مبباركة �أمريكية و�أوروبية �أنه ال ميكن �إنتاج وحدة جمتمعية ــ م�ؤقتة �أو دائمة ــ‬ ‫تريد �إزاحة العنا�رص الإرهابية من �أرا�ضيها وترحيلها �إىل من دون �إق�صاء نحو الهام�ش للمختلفني مع املعتقدات‬ ‫م�رص‪ .‬هنا �أي�ض ًا ا�ستب�سل الإعالم يف ت�صوير دور اجلي�ش املركزية للجماعة (واملق�صود هنا �أي جماعة ت�شرتك‬ ‫على �أنه يتحدى الإرادة الدولية التي ت�ستهدف �إ�ضعاف يف جمال جغرايف واجتماعي وتخ�ضع للإطار القانوين‬ ‫م�رص وخلخلة حموريتها الإقليمية ويقف لها باملر�صاد‪ .‬احلاكم نف�سه)‪ .‬كذلك يو�ضح كيف � ّأن تلك العمليات‬ ‫وقد غذى من انت�شار وتغلغل هذة الرموز عمليات �إنتاج تختلف يف العادة عن �إنتاج معاين اخل�صومة والعداء‬ ‫معنى تكميلية‪ ،‬تطلق عليها الأدبيات م�صطلح «ن�رش �أطر القوميني‪ ،‬وتن�صب بالأ�سا�س على و�صم من يقفون يف‬ ‫املعنى» ‪ .framing amplification‬هكذا‪ ،‬ت�ضافرت �إجراءات مكان ما بني مركز املجتمع املعياري وخ�صومه املعلنني‪.‬‬ ‫متنوعة لإ�ضفاء نكهة قومية بامتياز على عملية �إ�سقاط هنا ي�أتي تعبري الدخالء ‪ outsiders‬ليحدد هذه الفئة التي‬ ‫احلكم الإخواين‪ :‬فمن حتليق الطائرات فوق امليادين وهي ت�شكل اخلطر القرتابها واختالطها باملجتمع رغم �إعالنها‬ ‫تر�سم الأعالم والألوان كعالمة للن�رص‪� ،‬إىل رمي �صور االنتماء �إىل �أ�شكال ثقافية �أو ممار�سات رمزية‪ ،‬ت�ستنفر‬ ‫�شهداء يناير يف قلب ميدان التحرير لربط حركة اجلي�ش املتوج�سني الغيورين على جتان�س اجلماعة الأخالقي‬ ‫بالث�أر لهم‪ ،‬مرور ًا بطلب نزول فرق ال�رشطة املو�سيقية واملعياري‪ .‬ي�ضيف بيكر هنا مفهوم ًا �أكرث �إبداع ًا‪ ،‬هو‬ ‫�إىل ميدان التحرير مل�ساندة اجلموع يف جمع «امل�ساندة»‪« ،‬املنحرفون» ‪ ،deviants‬وي�رشح كيف ُت�س َتنفَر قوى‬ ‫وخا�صة تلك التي تلت طلب الفريق ال�سي�سي تفوي�ض ًا اجتماعية لتعقب املنحرفني و�شجبهم وو�صمهم و«تعريف‬ ‫من ال�شعب امل�رصي للجي�ش وال�رشطة ليت�صديا خلطر املجتمع مبمار�ساتهم املري�ضة وحتديد �آليات للتعرف �إليهم‬ ‫الإرهاب‪ .‬هكذا �أُعيد �صنع مزاج «نا�رصي» ي�ؤكد اللحمة تفادي ًا النت�شار خطرهم»‪ .‬وقد طبق هوارد بيكر فكرته‬ ‫تلك عرب درا�سة ميدانية لكل من خطابات الإق�صاء التي‬ ‫الوطنية يف مواجهة �أعداء الوطن‪.‬‬ ‫ ترتب على تعبئة الرموز تلك انتقال حمور الفعل من ركزت على مو�سيقيي اجلاز يف مطلع ال�ستينيات للقرن‬ ‫احل�شود يف امليادين وال�شوارع �إىل اجلي�ش وال�رشطة‪ ،‬الع�رشين‪ ،‬كفئة اجتماعية منحرفة ‪ -‬تدمن املخدرات‬ ‫وانتقل كذلك م�ضمون احل�شد من االحتجاج على عدم ومتار�س اجلن�س احلر ‪ -‬وكذلك ردود فعل املو�سيقيني‬ ‫كفاءة وانعدام دميقراطية الإخ��وان �إىل امل�ساندة غري على االتهامات وتبنيهم طواعية ملا �سماه «مهن ًا منحرفة»‬ ‫امل�رشوطة للنظام النا�شئ كمنفذ م�ؤ�س�ساتي موثوق منه ‪ devi-ant careers‬لتو�ضيح �أمناط مقاومتهم للو�صم‪ ،‬عرب‬ ‫للإرادة الوطنية‪ .‬وقد كانت النتيجة املنطقية لهذا التحول االبتعاد عن قلب املجتمع واالنكفاء يف دوائر اجتماعية‬ ‫ال من اال�شتباك مع املدافعني عن قيم ومعايري‬ ‫بدء �إط�لاق حمالت تخوين و�شجب لكل من رف�ض مهم�شة بد ً‬ ‫ُ‬ ‫االن�ضمام �إىل احلركة ال�شعبية الهادرة‪ .‬ومل تقت�رص اجلماعة الأخالقية الذين �أطلق عليهم ه��وارد بيكر‬ ‫عمليات الو�صم على �أجهزة الإعالم‪ ،‬بل جتاوزتها �إىل امل�صطلح ال�ساخر‪ :‬مقاويل الأخالق‪.‬‬ ‫�صفوف الي�سار القومي والدميقراطي وقطاعات حزبية تفيدنا الإحالة ال�سابقة يف فهم كيف قام الإعالم‬ ‫عري�ضة‪ ،‬تبارت يف «ف�ضح» ما �أطلقت عليه ا�سم «اخلاليا و�أجهزة الدولة املختلفة بتنويعاتها والنخبة ال�سيا�سية‬ ‫الإخوانية النائمة»‪« ،‬الطابور اخلام�س»‪« ،‬الإن�سانيني» �أو املعرتف بها ببناء �رسدية جديدة مفادها �أن ثورة ــ ولي�س‬ ‫املثاليني �أو الال�سيا�سيني‪ ،‬ك�شكل من �أ�شكال ال�سخرية املوجة الثورية فح�سب ــ الثالثني من يونيو‪/‬حزيران‬ ‫من القلة القليلة من الن�شطاء واحلقوقيني الذين عبرّ وا‬ ‫عالنية عن توج�سهم من هذا التحول يف معاين احل�شود‬ ‫ورف�ضهم ملطالب الإق�صاء والتعقب والتنكيل و�إلغاء‬ ‫الأحزاب الدينية �أو لت�صاعد نغمة «احلرب على الإرهاب»‬ ‫يف ن�سختها امل�رصية‪ ،‬ولت�صميمهم على تفنيد نغمة اخلطر‬ ‫اخلارجي وامل�ؤامرة الدولية‪ ،‬ولو على ا�ستحياء‪.‬‬

‫�إرهابي ي�ستقوي باخلارج‪ ،‬تبدو الأ�سابيع الأخرية متهيد ًا‬ ‫مت�صاعد الوترية لعمل تعبوي‪ .‬عمل ا�ستدعى جهاز‬ ‫الدولة وامل�ؤ�س�سة الع�سكرية لإ�سقاط النظام ال�سيا�سي‬ ‫الإخواين ــ وذلك على الرغم من �سقوطه الفعلي على‬ ‫يد �أكرب خروج للجماهري يف تاريخ املنطقة‪ .‬عمل تعبوي‬ ‫�سارع �إثر تبلور احل�شد االعت�صامي الإخواين يف كل‬ ‫بد�أ الت�أطري ب�إيجاد رمز قائد للح�شـــــــــــــــــــــــــود‪،‬‬ ‫هو الفريق ال�سي�سي ممث ً‬ ‫ال جليــــــــــــــــــــــــــــــــ�ش‬ ‫م�رص كبديل �أكرث ائتمانًا علــــــــــــــــــــــــــــــــــى‬ ‫مقدرات الوطن من الإخــــــــــــــــــــــــــــــــــــوان‪،‬‬ ‫وكمنقذ ومنفذ للإرادة ال�شـــــــــــــــــــــــــــــــعبية‪.‬‬ ‫هنا ظهرت �صور الفريق ال�سي�ســــــــــــــــــــــــــــي‬ ‫وبد�أ بيعها يف امليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادين‪،‬‬ ‫كذلك بد�أ �إنتاج �أغانٍ و�شــــــــــــــــــــــــــــــــعارات‬ ‫كحــــــــــــــــــــــام للوطن‬ ‫متجد امل�ؤ�س�سة الع�سكرية‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫من رابعة العدوية وميدان النه�ضة �إىل �صنع �إجماع‬ ‫وطني وطرحه ك�شعار للمرحلة اجلديدة وا�ستخدام‬ ‫الإع�لام ب�شدة لإجن��از هذا التحول‪ .‬عمل تعبوي قرر‬ ‫ا�ستخدام جلوء العنا�رص الإخوانية حلمل ال�سالح وترويع‬ ‫املواطنني من �أجل ت�صويرهم كمرادف حملي لتنظيم‬ ‫القاعدة‪ .‬وي�ستند املقال هنا �إىل �أدبيات درا�سة احلركات‬ ‫االجتماعية وبالتحديد �إىل مفاهيم عمليات �إنتاج املعنى‬ ‫الرمزي لر�صد هذا التحول الذي ت�سميه الأدبيات مهمات‬ ‫«الت�أطري» ‪ ،framing‬واملق�صود بها جملة املمار�سات التي‬ ‫ُتن َتج يف �إطار ح�شد جماعي لإنتاج هوية ملطالب ما‬ ‫ومعنى للزخم اجلماهريي ور�ؤية حتدد �أهدافه و�أعداءه‬ ‫وامل�ساندين له‪.‬‬ ‫ وقد تبدت مهمات الت�أطري منذ الرابع من يوليو‪/‬متوز‬ ‫ــ حلظة �إ�صدار الإعالن الد�ستوري املنفذ للإرادة ال�شعبية‬ ‫يف خلع حممد مر�سي واملحدد خلريطة طريق انتقالية‬ ‫ثانية‪ ،‬لي�س فقط عرب حملة منظمة �شنتها �أجهزة الإعالم‬ ‫املكتوبة وامل�سموعة واملرئية‪ ،‬بل ب�شكل �أكرث عمومية‪،‬‬ ‫عرب �سل�سلة من انت�شار رموز «موحدة» للح�شد باعتباره‬ ‫ح�شد ًا «قومي ًا» �أكرث منه جماهريي ًا‪ .‬بد�أ الت�أطري ب�إيجاد‬ ‫ال جلي�ش م�رص‬ ‫رمز قائد للح�شود‪ ،‬هو الفريق ال�سي�سي ممث ً‬ ‫كبديل �أكرث ائتمان ًا على مقدرات الوطن من الإخوان‪،‬‬ ‫وكمنقذ ومنفذ للإرادة ال�شعبية‪ .‬هنا ظهرت �صور الفريق‬ ‫ال�سي�سي وبد�أ بيعها يف امليادين‪ ،‬مع �صورة عبد النا�رص �أو‬ ‫‪73‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫تتميز عن ثورة يناير يف �أ ّنها حملية ومل ت�ستند �إىل دعم‬ ‫قوى خارجية‪ ،‬وهي مدعومة من كل فئات ال�شعب ولي�س‬ ‫من الن�شطاء املتغربني فقط‪ ،‬وتف�ضح مطامع الغرب‪ ،‬ودول‬ ‫اخلليج (املق�صود هنا قطر) يف التدخل يف ال�ش�أن امل�رصي‬ ‫عرب الإخوان �أو عرب من يت�صدى للدفاع عن كونهم قوى‬ ‫�سيا�سية ال ميكن جترميها �أو �شيطنتها عن بكرة �أبيها‪ .‬من‬ ‫املفيد �أي�ض ًا الإ�شارة �إىل � ّأن مفردات هذا اخلطاب قد‬ ‫تبلورت بو�ضوح �إثر حدثني‪ :‬الأول والأهم كان �صدور‬ ‫تقرير حقوقي موثق بال�صور والفيديو‪ ،‬بعد الثامن من‬ ‫يوليو‪/‬متوز‪ ،‬تناول قتل عدد من �ضحايا الإخوان عند مبنى‬ ‫احلر�س اجلمهوري‪ ،‬ذاكر ًا الأعداد والأ�سلحة امل�ستخدمة‬ ‫عما �أ�صدرته ال�سلطات‬ ‫يف قتلهم يف رواية خمتلفة جد ًا ّ‬ ‫من ت�رصيحات‪ ،‬وتوقيع التقرير من عدة منظمات حلقوق‬ ‫الإن�سان‪ .‬وكان ثانيهما �صدور بيان لألف وثمامنئة مثقف‬ ‫ونا�شط يدعون فيه �إىل عدم �شيطنة الإخوان كف�صيل‪،‬‬ ‫واالحتكام ال�رسيع النتخابات رئا�سية وبرملانية لبناء‬ ‫�رشعية جديدة قبل تبني خريطة طريق ُتق َّر ب�شكل فوقي‬ ‫وارجت��ايل‪ .‬واجلدير بالإ�شارة هو ت�سابق قوى �سيا�سية‬ ‫عديدة ال يجمعها �إال النزر القليل عادة‪� ،‬إىل �شجب‬ ‫املبادرتني واعتبارهما ك�رس ًا للحراك والزخم اجلماهريي‬ ‫الذي ا�ستند �إىل امل�ؤ�س�سة الع�سكرية يف �إق�صاء الإخوان‪،‬‬ ‫وتفتيت ًا للتوحد حول خريطة الطريق كحل «ال�سرتداد‬ ‫الوطن»‪ .‬هنا ظهر بو�ضوح �أول �أمثلة الت�ضحية بحقوق‬ ‫الإخوان كخ�صوم �سيا�سيني‪ ،‬باعتبارها ق�ضايا م�ؤجلة‬ ‫ــ على �أح�سن تقدير ــ �أو م�سمار ًا يف دوالب احلراك‬ ‫الثوري �ضدهم‪ .‬كذلك‪ ،‬بد�أت النخب ال�سيا�سية والثقافية‬ ‫والإعالمية باملناداة �رصاح ًة مبنع كل الأحزاب الدينية‬ ‫باعتبارها خطر ًا على الوطن‪ ،‬وذلك قبل �أن تعلن �رصاحة‬ ‫تبنيها لتو�صيف املنظمات الإرهابية يف ما يتعلق بجماعة‬ ‫الإخوان امل�سلمني ودعوتها لقرار �سيادي للتعامل معهم‬ ‫على هذا الأ�سا�س‪.‬‬ ‫ وقد جتلى ثاين �أمثلة �صنع الإجماع عرب الإق�صاء‬ ‫�سمت‬ ‫والو�صم‪ ،‬يف ما تعر�ضت له املبادرة ال�شبابية التي ّ‬ ‫نف�سها «امليدان الثالث» من اغتيال معنوي وت�شهري‬ ‫وتخوين ملجرد �أنها ق��ررت التجمع يف وقفة رمزية‬ ‫يوم ال�ساد�س والع�رشين من يوليو‪ /‬متوز‪ ،‬رف�ضت فيها‬ ‫االختيار ما بني نظام الإخوان ورجوع امل�ؤ�س�سة الع�سكرية‬ ‫لل�صدارة‪ ،‬عرب رفعها ملل�صقات �شجبت فيها مر�سي‬ ‫وال�سي�سي مع ًا‪ ،‬وبالدرجة نف�سها‪ .‬ورغم قلة امل�شاركني يف‬ ‫هذه الوقفة‪� ،‬أفردت عدة برامج حوارية و�أعمدة �صحافية‬ ‫‪74‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫م�ساحات للتنديد مبوقف تلك املجموعات «العميلة» التي‬ ‫«�ساوت بني الإرهابيني وبني جي�ش م�رص العظيم»‪ ،‬وفقا ً‬ ‫لت�رصيح الإعالمي ال�شهري عمرو �أدي��ب‪ .‬حدث ذلك‬ ‫بالتوازي يف ثالث حمطات ف�ضائية خمتلفة ويف �أكرث من‬ ‫�أربع �صحف قومية وم�ستقلة‪ ،‬وا�س ُتدعيت الرموز املركزية‬ ‫للإعالم الغتيال هذة املبادرة ال�شبابية يف املهد‪.‬‬ ‫ �أما املثال الثالث على ديناميات الت�شويه‪ ،‬فقد ظهر‬ ‫عند قيام عدد من منظمات حقوق الإن�سان بتن�سيق وفد‬ ‫ميداين لزيارة اعت�صام رابعة العدوية بغر�ض التفاو�ض‬ ‫ال اتهامات بالتدخل‬ ‫على‬ ‫ّ‬ ‫الف�ض ال�سلمي‪ .‬هنا ظهرت �أو ً‬ ‫ال�سيا�سي مل�صلحة ر�ؤى النظم الغربية‪ ،‬ثم حلت ال�شائعات‬ ‫حمل ال�شجب ال�رصيح وظلت القنوات التلفزيونية‬ ‫وو�سائل التوا�صل االجتماعي تتحدث عن �رضب‬ ‫و�سحل احلقوقيني لت�أكيد الطابع الإرهابي للمعت�صمني‬ ‫وعدم جدوى �أي تفاو�ض �سيا�سي معهم‪.‬‬ ‫ هكذا تكر�ست بالتدريج ثنائية ال�شعب و�أع��داء‬ ‫ال�شعب‪ ،‬ك�إطار م�ؤ�س�س لل�رسدية املهيمنة‪ ،‬بني حلظة‬ ‫ف�ض‬ ‫خروج اجلماهري احتجاج ًا على حكم مر�سي وحلظة ّ‬ ‫االعت�صامات الإخوانية بالقوة مبباركة �شعبية طاحنة‪.‬‬ ‫�سادت من جديد حالة التوج�س من �أي طرح قانوين‬ ‫�أو حقوقي ك�سيناريو حمتمل لإنهاء الأزم��ة �سيا�سيا ً‬ ‫مل�صلحة تبني الطرح الأمني‪ .‬ومل يقت�رص هذا التوج�س‬ ‫امتد لي�شمل رموز ًا يف قمة‬ ‫على احلقوقيني والن�شطاء‪ ،‬بل ّ‬ ‫النظام ال�سيا�سي مثل حممد الربادعي‪ ،‬ملجرد مطالبته‬ ‫بعدم �إق�صاء الإخوان من �أية عملية �سيا�سية يف امل�ستقبل‪.‬‬ ‫كذلك طاول كل الت�رصيحات الدولية والإعالمية ملمثلي‬ ‫احلكومات والربملانات الغربية وحتى اخلليجية‪ ،‬التي كان‬ ‫اهتمامها من�صب ًا على امل�ساهمة يف التفاو�ض بني القوى‬ ‫املت�صارعة‪ .‬هكذا توجت املوجة الثورية الثانية ب�أداء �شبه‬ ‫بونابرتي عرب �صنع الإجماع على ما �سمي «الر�أي العام‬ ‫الدويل» الذي ُ�ص ِّور كظهري م�ساند للإخوان رغم تذبذبه‬ ‫امل�ستمر‪� .‬صنع الإجماع با�سم �رضورة ا�سرتداد الدولة‬ ‫وال�سيادة املهدورتني على يد الإخ��وان‪ ،‬وجرى ت�أميم‬ ‫ما اكت�سبته املجموعات ال�سيا�سية الوليدة من هام�ش‬ ‫للحركة با�سم احلقوق واحلريات باعتبارها فذلكة �أو تعالي ًا‬ ‫على �إرادة اجلماهري‪ .‬وهكذا ُه ِّم�ش مبد�أ احلق �أي ًا كان‪،‬‬ ‫�سواء حق امل�شاركة �أو حق امل�ساءلة �أو حق االعت�صام‬ ‫االحتجاجي‪ ،‬ففقدت املوجة الثورية الثانية طابعها‬ ‫احلقوقي‪ ،‬الذي �أطلقته اجلموع ال�شبابية يف يناير كمطلب‬ ‫حموري‪ ،‬مل�صلحة بعدها الدولتي‪ ،‬ولو �إىل حني‪.‬‬

‫احللم االجتماعي والسلطة والثورة‬ ‫عما بقي من وعود وآمال‬ ‫ّ‬

‫الر ّجال ت�شغل ال�ساحة امل�رصية حالي ًا ثالثة �أ�سئلة‪ :‬هل انتهى‬ ‫عيل ِ‬ ‫الإ�سالم ال�سيا�سي؟ هل تعود فلول احلزب الوطني �إىل احلياة‬ ‫كاتب وباحث ال�سيا�سية مرة �أخرى؟ هل تنجح منظومة ال�سلطة القدمية‬ ‫سيايس‪ ،‬مرص‪ .‬ودولة مبارك يف �إعادة �إنتاج نف�سها وال�سيطرة جمدد ًا؟‬ ‫ للإجابة عن هذه الأ�سئلة‪� ،‬أو على الأقل حماولة ذلك‪،‬‬ ‫املكونة لتلك املنظومات‬ ‫ينبغي الك�شف عن عالقات ال�سلطة ِّ‬ ‫وخطاباتها وممار�ستها‪ .‬ورمبا كان ينبغي الرجوع �إىل ما قبل‬ ‫الثورة لنتبني �أين كنا نقف و�إىل �أين �رصنا‪ .‬فهناك ثورة قامت‬ ‫حتى الآن ب�أربع موجات ثورية عميقة ومركبة ومتناق�ضة‬ ‫ال‪ ،‬املوجة الثورية‬ ‫كثري ًا يف بنية فاعليها ويف ظاهرها‪ .‬فمث ً‬ ‫الأوىل رفعت �شعار «اجلي�ش وال�شعب �إيد واحدة»‪ .‬على‬ ‫النقي�ض‪ ،‬فاملوجة الثورية الثانية املتمثلة يف معركة حممد‬ ‫حممود نادت ب�إ�سقاط الع�سكر‪ .‬وجاءت الثالثة لتتمرد‬ ‫على ا�ستمرار النهج الأمني يف ذكرى الثورة ‪،2012‬‬ ‫ثم احتكار الإخوان للمجال العام وال�سيا�سي واال�ستبداد‬ ‫بال�سلطة عرب حماولة مر�سي اال�ستئثار بال�سلطة من خالل‬ ‫الإع�لان الد�ستوري‪ .‬يف املقابل‪ ،‬جاءت املوجة الرابعة‬ ‫(‪ 30‬يونيو) لتعيد طرح �شعار املوجة الأوىل‪ .‬وبالطبع‪ّ � ،‬إن‬ ‫التناق�ضات �أو�سع و�أعمق من ذلك‪ .‬على ّ‬ ‫كل‪ ،‬فالتناق�ض هو‬ ‫ال�سمة الرئي�سية لأي ثورة‪ ،‬وبالأخ�ص الثورات الكربى‬ ‫واملمتدة‪ .‬بل كما ي�شري �آلتو�سري‪ ،‬دوم� ًا ما يكون جناح‬ ‫ّ‬ ‫الثورات مرتبط ًا بدخول عنا�رص من بنية النظام القدمي على‬ ‫نف�س خطوط الثورة‪ ،‬وبهذا تتوافر �إمكانات �أو�سع لإحداث‬ ‫قطيعة مع املا�ضي‪ .‬بهذه الطريقة‪ ،‬ترى �أطراف من النظام‬ ‫القدمي ا�ستحالة �إمكانية الدفاع عن نظامها املخلوع حتى‬ ‫النهاية‪ ،‬وت�صبح منا�رصته تهديد ًا وجودي ًا لها‪ .‬وهذا هو‬ ‫احلال مع �أجهزة الدولة املختلفة وفلول نظام مبارك التي‬ ‫نا�رصت املوجة الرابعة‪ّ .‬‬ ‫ولعل �أبرز هذه العنا�رص هو اجلي�ش‬ ‫تدخله �س�ؤال االنقالب وامل�ؤامرة‪.‬‬ ‫امل�رصي‪ ،‬وتطرح �رسعة ّ‬ ‫‪75‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ثمة �شيء مل يتغري كثري ًا بني املوجة الأوىل يف ‪25‬‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫يناير ‪ 2011‬واملوجة الأخرية‪ .‬منذ البداية‪ ،‬كانت هناك‬ ‫ثالثة خطوط للفعل ّ‬ ‫توجه‬ ‫�شكلت عملية ثورية بداخلها ّ‬ ‫مد الثورة على‬ ‫�إ�صالحي حمافظ (�أي م�تر ّدد جد ًا يف ّ‬ ‫ا�ستقامتها حتى تتمكن من هدم كلي يف بنية النظام‬ ‫واملجتمع القدمي)‪ ،‬يحيط به انقالب ع�سكري‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ولعل �أبرز ما طرحته الثورة امل�رصية هو م�شكلة ما‬ ‫ ‬ ‫ي�صطلح على ت�سميته اخليال ال�سيا�سي‪ .‬ويرى البع�ض � ّأن‬ ‫«اخليال ال�سيا�سي هو �إعمال العقل واملخيلة مع ًا ل�صياغة‬ ‫ر�ؤى متكاملة حلل م�شكالت احلا�رض»‪� .‬إال � ّأن الأمر يبدو‬ ‫�أكرث تعقيد ًا من �إيجاد حلول ابتكارية لواقع م��أزوم‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ومركب بع�ضها مع‬ ‫فعمليات التخيل متر مبراحل خمتلفة‬ ‫بع�ض من فهم الواقع �إىل �إمكانية تفكيكه و�إعادة تركيبه‬ ‫تخيل واقع مفارق بالكلية ملا �سبقه‪.‬‬ ‫�إىل القدرة على ّ‬ ‫وهنا ي�أتي اخليال �إما لإعادة تر�سيخ الواقع نف�سه‪ ،‬ولكن‬ ‫بتح�سني ظروفه ن�سبي ًا‪� ،‬أو لفتح �سبل و�إمكانات �أو�سع‬ ‫ان�سدادا‬ ‫لالنعتاق والقطيعة مع ما �سبقه‪ .‬ويبدو �أن ثمة‬ ‫ً‬ ‫كبري ًا يف عمليات القدرة على التخيل ال�سيا�سي بعيد ًا‬ ‫تر�سخ يف �أبنيتنا‬ ‫ّ‬ ‫عما مت ر�سمه �سلف ًا �أو ما يفر�ضه علينا ما ّ‬ ‫العقلية‪ .‬ولقد �أكد ماركوزا‪� ،‬أحد �أبرز فال�سفة مدر�سة‬ ‫فرانك فورت‪ّ � ،‬أن تغري الواقع وحده ال يكفي �إذا مل نقم‬ ‫بتغيري احللم االجتماعي وال�سيا�سي‪ .‬ولهذا جاء اهتمام‬ ‫الورقة ّ‬ ‫بكل من اخليال ال�سيا�سي عند الفاعلني الرئي�سيني‬ ‫يف موجة ‪ 30‬يونيو‪ ،‬والتفتي�ش عن احللم االجتماعي عرب‬ ‫ال�رشائح االجتماعية املختلفة‪.‬‬ ‫ يجب علينا ربط اخليال ال�سيا�سي مع �أحد تعريفات‬ ‫الثورة التي تراها كحدث يفتح املجال لإع��ادة تخيل‬ ‫م�ساحات املمكن واملتاح‪ ،‬بحيث هي م�ساحات مل تكن‬ ‫غري موجودة من قبل فح�سب‪ ،‬بل مل تكن متخيلة �أ�سا�س ًا؛‬



‫فاجلانب الثوري املتمثل يف قطاعات وا�سعة من املجتمع‪،‬‬ ‫كان وال يزال يعني �شعار �إ�سقاط النظام بالكلية‪ ،‬ويهدف‬ ‫مو�سع‬ ‫�إىل �إحداث تغيري جذري يف منظومة ال�سلطة ب�شكل ّ‬ ‫على جميع امل�ستويات‪ .‬هو جانب ثوري يطمح �إىل تغيري‬ ‫منط ال�سلطة وتركيبتها يف هياكلها العليا مثل الدولة‪،‬‬ ‫وتفكيك ال�سلطة الذكورية والأبوية يف املجتمع‪ .‬وحتاول‬ ‫الثورة تغيري العالقة بني امل�ؤ�س�سات املختلفة يف املجتمع‬ ‫والدولة والأفراد و�إعادة هيكلة البنى املختلفة املتحكمة‬ ‫يف العملية ال�سيا�سية والثقافية واالجتماعية‪ .‬وهي ت�سعى‬ ‫�أي�ض ًا �إىل تغيري ممار�سات ال�سلطة التي ات�سمت بقدر كبري‬ ‫من الإخ�ضاع وال�سيطرة من خالل العنف والقمع‪ .‬وهذه‬ ‫القطاعات الثائرة ال تعرتف ب�آليات الإ�صالح القائمة‬ ‫التدرج‪ .‬والثورة تعني لها عملية ممتدة و�ضخمة من‬ ‫على‬ ‫ّ‬ ‫التحول ال تنح�رص فى ‪ 18‬يوم ًا و�إطاحة ج�سد الرئي�س‪.‬‬ ‫وميكن القول �إن هناك خم�سة خطوط تتحرك فيها الثورة‬ ‫لإحداث قطيعة مع املا�ضي‪ ،‬وميكن قراءة منوذج كامن داخل‬ ‫حركتها والأهداف التي تتحرك عليها‪ :‬هناك خط املواجهة‬ ‫مع املنظومة الأمنية‪ ،‬وخط العدالة االجتماعية الذي يعبرّ‬ ‫من قبل الثورة عن نف�سه يف الإ�رضابات العمالية واملهنية‬ ‫حتاول الثورة تغيري العالقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫بني امل�ؤ�س�سات املختلفة يف املجتمــــــــــــــــــــــــــع‪،‬‬ ‫وعالقة الدولة والأفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــراد‪،‬‬ ‫و�إعادة هيكلة البنى املختلفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫املتحكمة يف العمليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫ال�سيا�سيـــــــــــة والثقافيــــــــــة واالجتماعيــــــــــة‬ ‫الوا�سعة‪ ،‬ثم خط املر�أة وحريتها يف املجال العام والتعبري‪.‬‬ ‫والتعدد الذي حر�صت عليه الثورة وعلى‬ ‫وي�أتي التنوع‬ ‫ّ‬ ‫تر�سيخه وعدم ا�ستئثار طيف باملجالني العام وال�سيا�سي‬ ‫ال عن خط خام�س هو املجال العام‬ ‫كخط راب��ع‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫كم�ساحة جغرافية وم�ساحة حوار وت�أثري يف �صنع القرار‪.‬‬ ‫وي ّت�ضح للمدقق يف هذه اخلطوط �أنها املقابل لطبيعة النظام‬ ‫القدمي‪ ،‬مبا فيه �أحالم جمتمعه وخياله �أي�ض ًا كما �سيت�ضح‪.‬‬ ‫«ال�سيد» وهيبة الدولة‬ ‫�أحالم‬ ‫ّ‬ ‫�إن ذلك االن�سداد يف اخليال ال�سيا�سي هو ما يقوم با�ستدعاء‬ ‫حلظة تاريخية ما يف حماولة فر�ضها على واقع و�سياق‬ ‫مغايرين لها‪ .‬بل � ّإن تلك اللحظة التي يتم ا�ستدعا�ؤها دائم ًا‪،‬‬ ‫كثري ًا ما تت�سم باجلمود والغمو�ض وتخيلها ب�شكل متجيدي‬ ‫‪78‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫للتطبيق �أو ّ‬ ‫احلط من �ش�أنها بدوافع ال�شيطنة والتهمي�ش‪.‬‬ ‫وهو الأمر الذي يبدو وا�ضح ًا على ال�ساحة امل�رصية يف‬ ‫اجلدل الدائم يف كل من عبد النا�رص من جهة‪ ،‬والأندل�س‬ ‫ك�أبهى حمطات اخلالفة الإ�سالمية من جهة ثانية‪ .‬املثري‬ ‫يف الأمر � ّأن عمليات اال�ستدعاء هذه حت�صل بعد ثورة‬ ‫يعدها بع�ض الباحثني ثورة على منط الثورات‪ .‬والغر�ض‬ ‫ّ‬ ‫من هذا القول لي�س متجيد الثورة امل�رصية‪ ،‬بل الإ�شارة‬ ‫عما �سبق عليها‪.‬‬ ‫�إىل اختالفها بنيوي ًا وتنظيمي ًا وحركي ًا ّ‬ ‫وبالتايل‪ ،‬هناك مفارقة وا�ضحة بني طبيعة الفعل الثوري‬ ‫وعملياته املبا�رشة من ناحية‪ ،‬وبني اخليال ال�سيا�سي لكثري‬ ‫من الأطراف ال�سيا�سية امل� ّؤطرة واملتما�سكة تنظيمي ًا من‬ ‫ناحية �أخرى‪ .‬وال �شك � ّأن فهم الواقع احلايل‪ ،‬وبالأخ�ص‬ ‫مع �صعود الإ�سالميني متمثلني يف «الإخوان امل�سلمني»‬ ‫�إىل ال�سلطة يف عالقة جدلية بني ما يجتازه الواقع بالفعل‬ ‫ال�سيا�سي واملجتمعي‪ ،‬وبني اخليال ال�سيا�سي للتيارات‬ ‫الإ�سالمية وغريها بالطبع‪� .‬إال � ّأن وجود الإ�سالميني يف‬ ‫م�صب االهتمام الأول بالبحث والفهم‪.‬‬ ‫احلكم يجعلهم‬ ‫ّ‬ ‫ وميكن ر�صد ثالث فئات كان وال يزال لديها طموح‬ ‫وا�سع للبحث عن ال�سيد وا�ستعادة هيبة الدولة‪ .‬فالفلول‬ ‫�سيد‪.‬‬ ‫و«الإخوان» وبع�ض القوميني يف حماولة حثيثة خللق ّ‬ ‫وما �أق�صده بال�سيد هنا هو �أقرب ملفهوم كارل �شميت‪.‬‬ ‫هو هذا ال�شخ�ص القادر على فر�ض اال�ستثناء‪ ،‬القادر‬ ‫على �صنع قطيعة وعمل حدث متجاوز للتاريخ‪ ،‬القادر‬ ‫على احل�سم يف ما يتعلق باملوت واحلياة‪ .‬و�ساعدت حالة‬ ‫الفو�ضى والذعر الأمني يف ان�ضمام قطاعات جماهريية‬ ‫�إىل هذا احللم‪ .‬فهناك حاجة لفر�ض �إرادة على احلدث‬ ‫التاريخي نف�سه‪ ،‬وفر�ض �سيادة عامة على اجلميع‪ .‬فالفلول‪،‬‬ ‫على الرغم من � ّأن م�صاحلهم االقت�صادية مل ت�رضب يف‬ ‫العمق‪� ،‬إال �أن هناك احتياج ًا حقيقي ًا لديهم لوقف احلدث‬ ‫الثوري وا�ستعادة املكانة ال�سيا�سية وال�سيادية لهم‪.‬‬ ‫وكذلك الداخلية امل�رصية التي تلقت هزمية وا�سعة النطاق‪،‬‬ ‫وخ�صو�ص ًا على امل�ستوى النف�سي حيث انك�رست هيمنتهم‬ ‫وجربوتهم على املجتمع‪ .‬بالتايل‪ ،‬فكالهما يف بحث عن‬ ‫خم ّل�ص يوقف التاريخ ويرجع به �إىل ما قبل ‪ 25‬يناير‬ ‫‪ .2011‬وبالن�سبة �إىل الداخلية‪ ،‬فقد كانت �سلطتها قائمة‬ ‫على منط ال�سيد التحتي للمجتمع‪ ،‬حتى يف الرتب الأدنى‬ ‫منها‪ ،‬وبالأخ�ص يف �سنواتها الأخرية‪ ،‬ولذلك انت�رشت‬ ‫حاالت القتل اخلارج عن القانون؛ ل ّأن ال�سيد �أعلى من‬ ‫القانون‪ ،‬هو ذلك ال�شخ�ص الذي يفر�ضه وال يفر�ض عليه‪.‬‬ ‫ومن هنا كان حر�ص هذه اجلهة الدائم على ا�ستمرار حالة‬

‫اال�ستثناء العامة لأنها مبثابة فر�ض لقانونهم على اجلميع‪،‬‬ ‫وتر�سيخ �رشعنته ال�سيا�سية واملجتمعية‪.‬‬ ‫ وا�ستدعاء القوميني و�آخرين لعبد النا�رص له دالالت‬ ‫عدة ال تنح�رص فقط يف �إفال�س اخليال ال�سيا�سي‪ .‬فمنذ‬ ‫الثمانينيات‪ ،‬هناك �شعور عميق بفقدان الأب وال�سيد الذي‬ ‫ال من الأمان والعزة امل�سلوبة‪ .‬وقد عبرّ ت عن‬ ‫يج�سد ك ً‬ ‫هذا ال�شعور بدقة �شديدة‪ ،‬الكثري من الأعمال الأدبية‪ ،‬لعل‬ ‫�أبرز �أبطالها �أ�سامة �أنور عكا�شة‪ .‬وهو ما ي�صفه الباحث‬ ‫الأنرثوبولوجي ف�ؤاد احللبوين بـ«نو�ستاجليا و�رسديات‬ ‫احلنني �إىل الأب بعد فرط عقد العائلة وانحاللها»‪.‬‬ ‫ويجب ربط فقدان ال�سيد يف الداخل‪ ،‬بفقدان ال�سيادة‬ ‫يف اخلارج‪ .‬فمنذ «كامب ديفيد» وم�رص منح�رسة متام ًا‪،‬‬ ‫�سواء على م�ستوى املنظومة الإقليمية العربية �أو الدور‬ ‫العاملي‪ .‬ويرتبط هنا �أي�ض ًا بحلم عودة ال�سيد لتقدمي الأمان‬ ‫االجتماعي واالقت�صادي بعدما انهارت قطاعات وا�سعة‬ ‫يف براثن النيوليربالية والف�شل املتالحق للدولة‪.‬‬ ‫ ال �شك يف � ّأن م�رص يف الآونة الأخرية �شهدت نزوع ًا‬ ‫نحو الفا�شية‪� ،‬سواء يف مواجهة «الإخ��وان» �أخ�ير ًا‪� ،‬أو‬ ‫�سابق ًا من خالل حماوالت «الإخوان» الفا�شلة لتكوين‬

‫عدة حتاول بناء �سيد جديد وخلق حالة مفارقة من رحم‬ ‫احلدث الثوري لبناء �سيادة �إ�سالمية عامة‪ .‬فتلك التنظيمات‬ ‫ال على �أ�سا�س ب�سيط هو حلول الفكرة والقيمة يف‬ ‫تقوم �أو ً‬ ‫الأن�سجة املجتمعية من خالل خاليا رخوة‪ .‬وهي بذلك‬ ‫ت�ستبدل التنظيم بالقيمة‪ ،‬وتحُ دث عملية ت�سييل لها‪ ،‬بحيث‬ ‫يكون انتقالها �أ�سهل‪ ،‬ويكون االنت�ساب �إىل الفكرة من‬ ‫خالل �إعالن الوالء لها ومن خالل اعتماد التن�سيق‪ .‬وعو�ض ًا‬ ‫عن البنية الثقيلة‪ ،‬والتنظيم‪ ،‬وحتديد �أدوار وتكليفات‬ ‫ب�شكل هرمي �أو «�شجري»‪ ،‬يكون التكليف هنا ب�شكل‬ ‫تن�سيقي وت�شاركي‪ .‬وهذه النوعية من التنظيمات الإ�سالمية‬ ‫هى الأخطر‪ ،‬وهي كثرية ومتعددة‪ .‬فداخل الطيف الوا�سع‬ ‫لتيار ال�سلفية اجلهادية حركات تولد ومتوت‪ ،‬مثل «حركة‬ ‫حازمون» و«اجلبهة ال�سلفية»‪� ...‬أما خارج م�رص‪ ،‬فكل‬ ‫تنويعات تنظيم القاعدة لي�ست خا�ضعة بال�رضورة للتنظيم‬ ‫الرئي�سي يف �أفغان�ستان‪ ،‬بل قد ال تكون لها �أي عالقة‬ ‫تنظيمية به غري االنتماء �إىل منظومة القيم نف�سها‪ ،‬والنهج‬ ‫التنفيذي‪ ،‬والتع�ضيد املتبادل للتحركات امل�شرتكة‪ .‬وتلك‬ ‫احلركات يف م�رص هي الأقرب �إىل طبيعة الثورة امل�رصية‪،‬‬ ‫وقمعها �أو حماولة قمعها ي�ؤدي �إىل انفجارات و�إعادة‬

‫التنظيمات الإ�سالمية امل�رصية ذات طبيعة ثورية وراديكاليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‪،‬‬ ‫قيمها م�ستمدة دوم ًا من و�ضع فيه قهر خارجي‪ ،‬حتاربه وت�ستب�سل يف مقاومتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه‪.‬‬ ‫ويتمحور وعد هذا اخلطاب دائم ًا و�أبداً حول الكرامة والعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــزة‪،‬‬ ‫ويعمل خطابها بطريقة عك�سية ملظلومية التنظيمات الكربى مثل «الإخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوان»‬ ‫�سلطوية �إ�سالمية‪ .‬وت�شري كتابات �أرندت �إىل � ّأن �صلب‬ ‫لكن هناك جوهر �آخر‪ ،‬هو العزة �أو‬ ‫الفا�شية هو الإرهاب‪ْ .‬‬ ‫�أوهام العزة والإح�سا�س بالقدرة‪� ،‬سواء متمثلة وجم�سدة‬ ‫يف ال�سيد‪� ،‬أو �أهمية اخلنوع والتماهي للتابعني ل�شيوع‬ ‫ال�سيادة لفكرة �أكرث جترد ًا ومتجاوزة عنهم‪ .‬ويعبرّ هذا‬ ‫النزوع �أخري ًا يف ج�سد ال�سي�سي‪ .‬فهناك جمموعة من‬ ‫الهو�س تكون حول الرجل‪ ،‬من الهو�س اجلن�سي �إىل‬ ‫�أحالم ال�سيادة واال�ستقالل؛ لأنه يواجه الواليات املتحدة‪.‬‬ ‫ لقد حاول «الإخ��وان» بناء ال�سيد من خالل مر�سي‬ ‫و�سمو التنظيم حتى على الدولة‪ .‬وت�صاحب هذا مع خطاب‬ ‫مماثل للفلول والداخلية واجلي�ش حول هيبة الدولة‪ .‬وذلك‬ ‫التمجيد و�إعادة بناء هيبة الدولة وتقدي�سها مرة �أخرى كان‬ ‫نابع ًا من حلم وراثة الدولة؛ ل ّأن هذا ال�سيد اجلديد ال بد‬ ‫له من جهاز عمالق ليعبرّ عنه وليدير املجتمع من خالله‪.‬‬ ‫وعلى ال�ضفّة الإ�سالمية‪ ،‬كانت هناك تنظيمات �شبكية‬ ‫‪79‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ت�شكل خلالياها ب�شكل متوا�صل‪ .‬ولهذه الت�شكيالت‬ ‫طبيعة ثورية وراديكالية‪ .‬فقيمها م�ستمدة دوم ًا من و�ضع‬ ‫فيه قهر خارجي‪ ،‬حتاربه وت�ستب�سل يف مقاومته‪ .‬ووعد هذا‬ ‫اخلطاب يتمحور دائم ًا و�أبد ًا حول الكرامة والعزة‪ ،‬وهي‬ ‫�أمور �إيجابية‪ .‬واحرتام هذه القيم وتوفريها لهذه التنظيمات‬ ‫متدد التطرف وتو�سع تلك‬ ‫الإ�سالمية ينزع من �أيديها فر�ص ّ‬ ‫التنظيمات التي �رسعان ما تت�شنج وجتنح �إىل ا�ستخدام‬ ‫هدد �أو ت�ست�شعر ب�أنه وقت اجلهاد‪ .‬ويعمل‬ ‫عنف وا�سع حينما ُت َّ‬ ‫خطاب هذه اخلاليا والت�شكيالت بطريقة عك�سية ملظلومية‬ ‫التنظيمات الكربى مثل «الإخوان»‪ .‬وهي ت�ستدعي حلظة‬ ‫تاريخية حتقق من خاللها �إنتاج العزة يف نفو�س �أتباعها‬ ‫�أو من حتاول ا�ستقطابهم‪ ،‬وبالتايل فهي تنطلق من املجد‬ ‫ال من الظلم‪ .‬وتنتج خطاب ًا للمظلومية ولكن يف حيز‬ ‫�آخر هو احليز العاملي‪ ،‬مربزة �أن هناك ا�ضطهاد ًا للفكرة‬ ‫والقيمة الإ�سالمية على م�ستوى عاملي ال داخلي وال‬


‫حملي فح�سب‪ .‬وبذلك‪ ،‬تعطي هذه التنظيمات بعد ًا �أكرب‬ ‫و�أعظم لق�ضيتها‪ .‬ور�أ�سمالها الرمزي قائم على ا�ستدعاء‬ ‫�صور �أ�شخا�ص قاموا بالفعل ب�إرباك املنظومة العاملية‪،‬‬ ‫وبع�ضهم كانوا مقاتلني �أ�شاو�س مثل ّ‬ ‫«خطاب» (�سامر بن‬ ‫�صالح بن عبد الله ال�سويلم) يف ال�شي�شان‪ .‬وقد بد�أ ينمو‬ ‫اجتاه وا�ضح يف م�رص يتباهى ب�صور الزرقاوي و�أ�سامة بن‬ ‫الدن‪� ،‬سواء على �صفحاتهم اخلا�صة يف «الفاي�سبوك» �أو‬ ‫حتى ب�شكل ميداين يف التظاهرات التي يح�شد لها هذا‬ ‫التيار‪ .‬وتثري هذه الت�شكيالت يف النف�س �أمر ًا يف غاية‬ ‫اخلطورة‪ ،‬هو �إمكانية التحرر واالنعتاق‪ .‬ولقد عبرّ ت عن‬ ‫هذا التجريد والقيمة العامة حملة «الزم حازم» التي كانت‬ ‫تدعم املر�شح ال�سابق حازم �صالح �أبو �إ�سماعيل يف �سباق‬ ‫الرئا�سة‪ .‬ف�شعار احلملة «�سنحيا ِكرام ًا»‪ ،‬كان الأكرث ات�ساق ًا‬ ‫مع مبادئ الثورة و�شعاراتها‪ ،‬وحاكى وداعب حلم ًا �شعبي ًا‬ ‫ُدفن لعقود طويلة‪ ،‬وجاءت الثورة لتعبرّ عنه‪.‬‬ ‫اجلي�ش و�س�ؤال احللم بني املمكن واملتاح‬ ‫مل��اذا نا�رص اجلي�ش املوجة الرابعة؟ ا ّت�سمت حتليالت‬ ‫ال�سيا�سيني والأكادمييني يف م�رص للجي�ش منذ الثورة‬ ‫بالعمل من خالل م�ستويني‪ :‬حتليل قيم اجلي�ش ودفاعه عن‬ ‫املمجد للجي�ش‪ .‬وكثري ًا ما‬ ‫الوطن‪ ،‬وهو خطاب الوطنية‬ ‫ّ‬ ‫يت�سم هذا اخلطاب برطانة وكلي�شيهات متمثلة يف مقوالت‬ ‫مثل «جي�شنا العظيم‪� ،‬أعظم اجليو�ش‪ ،‬حامي امل�رصيني»‬ ‫وما �إىل ذلك من مقوالت و�أغانٍ ‪ .‬والثاين هو التعامل مع‬ ‫اجلي�ش كحفنة من املرتزقة ال ي�سعون �إال وراء الأموال‪.‬‬ ‫ومعب�أين‬ ‫واحلقيقة � ّأن كال امل�ستويني يبدوان يل اختزاليني‬ ‫ّ‬ ‫بااليديولوجيا �أكرث من التحليل والتف�سري‪.‬‬ ‫ لقد �أراد الع�سكر قطع ر�أ�س امللك فح�سب ‪� -‬أو الإيهام‬ ‫بذلك ‪ -‬لتهدئة غ�ضب الثورة �أو �إخمادها مبا ي�سمح باحلفاظ‬ ‫على النظام العام وتركيبة ال�سلطة ومنطها‪ ،‬ما يتيح لهم‬ ‫ال�سيطرة على مقاليد احلكم‪� ،‬سواء ب�شكل مبا�رش �أو غري‬ ‫مبا�رش و�إعادة �إنتاج النظام القدمي للحفاظ على مكت�سباتهم‬ ‫االقت�صادية واالجتماعية‪ .‬ورمبا �ساندوا الثورة فى بدايتها‬ ‫لإعاقة م�رشوع التوريث واحلفاظ على اجلمهورية‪� .‬إال � ّأن‬ ‫علينا �أن نت�ساءل‪ :‬ماذا تعني اجلمهورية للع�سكر؟‬ ‫ الإجابة بب�ساطة هي‪ :‬ديكتاتورية ع�سكرية‪ّ � .‬إن هذه‬ ‫الإجابة ال�رسيعة والب�سيطة م�ستمدة من عمق التجربة‬ ‫التاريخية امل�رصية احلديثة‪ .‬فبداية ن�شوب تلك الفكرة‬ ‫كانت مع �أحمد عرابي‪ .‬والقراءات اجلديدة للتاريخ تو�ضح‬ ‫�أن الع�سكريني املحيطني بعرابي‪ ،‬وعرابي �شخ�صي ًا‪ ،‬كانوا‬ ‫‪80‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫جعلت ال�سلطة ال ترتكز على جهاز الدولة فح�سب‪،‬‬ ‫ولكن داخل �شبكات م�صالح على م�ستوى داخلي وعاملي‬ ‫متجاوز للدول �أحيان ًا‪ .‬وارتبطت االنقالبات الع�سكرية يف‬ ‫اخلم�سينيات وال�ستينيات من القرن املا�ضي باحتالل نخبة‬ ‫ع�سكرية ما للدولة وااللت�صاق بها وبناء ما �سمي ر�أ�سمالية‬ ‫الدولة‪� .‬أما الآن‪ ،‬فالأمر �أكرث تعقيد ًا‪ .‬فجهاز الدولة ال يزال‬ ‫ال لأق�صى درجة‪� ،‬إال �أنه �أ�صبح عقدة يف �شبكة‬ ‫مهم ًا وفعا ً‬ ‫معقدة ومل ي�صبح كل يف ذاته ولذاته‪ .‬وبهذا ن�ستطيع فهم‬ ‫حر�ص املجل�س الع�سكري على حكومة مثل اجلنزوري‬ ‫التي تر�سخ الدولة القدمية العميقة وحتافظ على نف�س‬ ‫نخب النظام ال�سابق وقياداته‪ ،‬وبالأخ�ص يف ال�صفني‬ ‫الثاين والثالث‪ .‬ويف الوقت نف�سه‪ ،‬ن�ستطيع فهم عدم قفز‬ ‫املجل�س الع�سكري كلي ًا على ال�سلطة يف �شكل انقالب‬ ‫خم�سيني �أو �ستيني‪ .‬فم�صالح املجل�س الع�سكري مرتبطة‬ ‫بالدولة ومتجاوزة لها يف الوقت نف�سه‪ ،‬وال يوجد لدى‬ ‫املجل�س م�رشوع �سيا�سي يتطلب تر�ؤّ�سه للدولة مبا�رشة‪،‬‬ ‫ولكن توجد م�صالح اقت�صادية واجتماعية تتطلب توغله‬ ‫يف الدولة ووجوده فوقها وخارجها ال على ر�أ�سها‪ .‬فمثلما‬ ‫تطورت النظم و�أمناط احلكم وحتى �أمناط الثورات‪ ،‬يجب �أن‬ ‫ن�أخذ يف االعتبار تطور االنقالبات‪.‬‬

‫يطمحون �إىل �إن�شاء تلك الديكتاتورية‪ ،‬بل و�أحيان ًا كان‬ ‫الت�صور‬ ‫ي�صل الأمر �إىل احتقار املدنيني‪ .‬وهذا ال�شكل �أو‬ ‫ّ‬ ‫للنظام كان هو الوحيد القادر على �إعطاء غطاء �رشعي‬ ‫لوجودهم ك�أ�شخا�ص ميكن �أن ي�ستمروا يف احلديث با�سم‬ ‫اجلماهري‪ .‬ويو�ضع اجلي�ش فوق كل الكيانات ال�سيا�سية‬ ‫واالجتماعية الأخرى التي من املمكن �أن تعبرّ عن الدولة‬ ‫واملجتمع‪ .‬وكان ذلك ال�سبب الرئي�سي يف تراجع الكثري‬ ‫من النخب املدنية والدينية عن عرابي الذي مل يتورع من‬ ‫�إ�شهار �سيفه يف حاالت اختالف وجهات النظر‪.‬‬ ‫والت�صور عند ال�ضباط الأحرار‬ ‫ وتكرر نف�س الطموح‬ ‫ّ‬ ‫الذين كان معظمهم ينتمون �إىل تنظيمات فا�شية و�سلطوية‬ ‫�أو كانوا مت�أثرين بها‪ .‬ومنذ الأيام الأوىل للحركة املباركة ــ‬ ‫انقالب ‪ 1952‬الذي حتول الحق ًا �إىل ثورة ــ دار نقا�ش‬ ‫طويل بني ال�ضباط الأحرار حول اجتاهني‪ :‬الأول حتقيق‬ ‫ديكتاتورية ع�سكرية‪ ،‬والثاين �إن�شاء دميقراطية‪� .‬إال � ّأن‬ ‫اجلمهورية كانت تعني لهم اخليار الأول‪ .‬ومن هنا ن�ستطيع‬ ‫فهم هذا القدر من عدم التجان�س واختالف الر�ؤى بني‬ ‫املجل�س الع�سكري واحلركة الثورية يف ال�شارع امل�رصي‪.‬‬ ‫حد و�صف‬ ‫فالثورة كانت تريد ا�ستعادة اجلمهورية على ّ‬ ‫د‪ .‬هبة ر�ؤوف‪ .‬وتهدف الثورة �إىل بناء جمهورية جديدة‬ ‫على قواعد و�أ�س�س تواكب طموح الثورة و�شبابها‪ ،‬ولي�س‬ ‫ا�ستعادة اجلمهورية فح�سب‪ .‬ويدور ال�رصاع احلقيقي‬ ‫حول منط ال�سلطة وجتلياتها يف �شكل املمار�سات املختلفة‪.‬‬ ‫فالثوار جممعون على رف�ض �شديد للدولة البولي�سية‪.‬‬ ‫وهم مل يقوموا بالثورة لإحالل ت�سلط الداخلية بت�سلط‬ ‫الع�سكر‪ .‬بل هناك عداء �شديد لنمط ال�سلطة املع�سكرة‬ ‫يف العموم‪ .‬فالثورة قامت �ضد بنى القمع والقهر املختلفة‬ ‫من ال�سلطة الأبوية �إىل هيمنة الأم��ن على ال�سيا�سة‬ ‫والنواحي االجتماعية املختلفة‪ .‬وهما خا�صيتان �أ�صيلتان‬ ‫يف تركيبة ال�سلطة املع�سكرة‪ .‬وامل�رشوع الثوري يتجه‬ ‫نحو تفكيك تلك ال�سلطة ــ يف امل�ساحات املدنية ــ‬ ‫بخطوات مت�سارعة �أحيان ًا ومرتبكة ومتعرثة �أحيان ًا‬ ‫�أخرى‪ .‬والع�سكر يعتقدون �أنهم من خالل ذلك االنقالب‬ ‫املتداخل مع الثورة‪ ،‬ميكنهم �إخ�ضاع اجلماهري مرة �أخرى‪،‬‬ ‫وبهذا يتفوق االنقالب على احلالة الثورية‪ .‬‬ ‫ ويجب الأخذ يف االعتبار � ّأن االنقالب هنا ال يعني‬ ‫بال�رضورة ا�ستمرارية الع�سكر يف احلكم املبا�رش على ر�أ�س‬ ‫الدولة‪ .‬فهناك تغريات اجتماعية واقت�صادية و�سيا�سية‬ ‫على امل�ستوى امل�رصي والعاملي يجعل هذا الهدف �أمر ًا‬ ‫ع�سري ًا للغاية‪ .‬فتطور نظم احلكم و�أمناط االقت�صاد والإنتاج‬

‫اجلي�ش بني حلظات اال�ستثناء واال�ستقرار‬ ‫ولكي نفهم التدخل الأخري للجي�ش‪ ،‬علينا النظر �إليه‬ ‫من خالل م�صاحله االقت�صادية واالجتماعية يف حاالت‬ ‫اال�ستقرار‪ ،‬ومن خالل الدولة يف حاالت اال�ستثناء مثل‬ ‫الثورة‪ .‬فاملدخل االقت�صادي وحده عاجز عن تف�سري‬ ‫تدخله الأخ�ير‪ ،‬بب�ساطة لأن «الإخ��وان» قاموا بتنفيذ‬ ‫وثبتوها‬ ‫كل تطلعات اجلي�ش االجتماعية واالقت�صادية ّ‬ ‫يف الد�ستور ال�سابق رغم �أنف الثوار‪ .‬ومل يتورع مر�سي‬ ‫عن التهديد باملحاكمات الع�سكرية‪ ،‬وغ��ازل اجلي�ش‬ ‫يف كل حمفل‪ .‬بل � ّإن اجلماعة كم�ؤ�س�سة كانت تتعمد‬ ‫ت�شويه الثورة وت�صوير �أبنائها على �أنهم معادون للجي�ش‬ ‫امل�رصي «العظيم»‪ ،‬ويهددون �سيادة الوطن وي�سعون �إىل‬ ‫�إيقاع الفتنة بني ال�شعب واجلي�ش‪ .‬واحلقيقة �أنه مل يكن‬ ‫هناك توجه ثوري معا ٍد للجي�ش يف ذاته �أو ل�سيادته ودوره‬ ‫مترد حقيقي على ع�سكرة‬ ‫العام‪ ،‬بل كان وال يزال هناك ّ‬ ‫املجتمع والدولة وال�سلطة‪.‬‬ ‫ ويعمل اجلي�ش يف حلظات اال�ستثناء من خالل منطق‬ ‫الدولة واحلفاظ عليها‪ ،‬حتى لو كان ذلك عك�س م�صاحله‬ ‫�رسع تدخل اجلي�ش هو‬ ‫االقت�صادية واالجتماعية‪ .‬ومما ّ‬ ‫‪81‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫تهديد الإ�سالم ال�سيا�سي ب�سيناريوات احلرب‪ ،‬وحتديد ًا‬ ‫احلرب الأهلية‪ ،‬مثل اجلزائر وال�صومال و�سورية‪ .‬وقد �أعرب‬ ‫ال�سي�سي عن قيم الو�صاية واحلماية يف خطاباته املختلفة‪،‬‬ ‫حد‬ ‫بحيث جاءت ب�صيغة «�إحنا ميبقا�ش لينا الزمه لو �سبنا ّ‬ ‫يهدد ال�شعب امل�رصي»‪ ،‬و�أي�ض ًا معبرّ ًا عن اخلوف من تفكك‬ ‫ّ‬ ‫الدولة امل�رصية «العظيمة»‪ .‬ومما زاد من متا�سك اجلي�ش يف‬ ‫الأحداث الأخرية‪ ،‬املحاوالت امل�ستمرة من قبل الإ�سالميني‬ ‫للرتويج لفكرة �أن اجلي�ش قد انق�سم على نف�سه‪ ،‬و�أن �أ�سلحة‬ ‫كثرية تدعم مر�سي وال�رشعية املزعومة‪.‬‬ ‫ ولكي ي�ؤدي اجلي�ش دور ال�سيد‪ ،‬عليه تقدمي �رضيبة‬ ‫العزة قبل القمع‪ .‬هو �أمر تكلفته مرتفعة وخارجة عن‬ ‫تطلعات اجلي�ش وارتباطاته العاملية وتبعيته‪ ،‬فالأمر يحتاج‬ ‫�إىل �أكرث من حماية اجلموع من عدو داخلي‪.‬‬ ‫جمرد ت�أدية هذا‬ ‫ وال ت�ستطيع فكرة الوطن ب�شكل‬ ‫ّ‬ ‫الدور القمعي والفا�شي �إال بوجود حرب خارجية‪ ،‬بل‬ ‫وحتقيق قدر من االنت�صار فيها‪ .‬فما � ّأ�س�س ال�ستبداد‬ ‫عبد النا�رص وديكتاتوريته الع�سكرية مل يكن البط�ش‬ ‫بالإخوان يف ‪ ،54‬ولكن احلرب والن�رص ال�سيا�سي يف‬ ‫‪� ،1956‬أم��ام ثالث دول مع تكاتف �شعبي ومقاومة‬ ‫م�سلحة وبا�سلة غري م�سبوقة يف م�رص‪� .‬أ�ضف �إىل هذا‬ ‫�إع��ادة توزيع الرثوة وحتقيق �رشائح اجتماعية وا�سعة‬ ‫مكت�سبات اجتماعية واقت�صادية جديدة‪ .‬هذا مع الأخذ‬ ‫يف االعتبار � ّأن خطاب عبد النا�رص كان قادر ًا على دغدغة‬ ‫حلم اجتماعي وا�سع متمثل يف التحرر الوطني والتخ ّل�ص‬ ‫من اال�ستعمار‪ .‬كل ذلك و�سط غياب �أي و�سائل للتمثيل‬ ‫ال�شعبي �إال عرب �أحزاب كان قد مت الق�ضاء عليها‪ ،‬وعرب‬ ‫الدولة ذاتها وكانت قد متت ال�سيطرة عليها‪� .‬أما الآن‪،‬‬ ‫فنحن يف ع�رص �أتاح �أدوات جديدة للتمثيل والتعبري‬ ‫ال�سيا�سي خارجة عن امل�ؤ�س�سات وعن الدولة يف الوقت‬ ‫نف�سه‪ .‬فعلى مدار ثالث �سنوات‪ ،‬مل يخفت �صوت الثورة‬ ‫�س‪،‬‬ ‫وممار�ستها ووجودها‪ ،‬على الرغم من �أن الدولة مل تمُ ّ‬ ‫ولي�س ثمة تنظيم �أو حزب جامع لها‪.‬‬ ‫�أحالم قدمية‬ ‫ميكن بحث العملية االنتخابية من خالل منهجية ّ‬ ‫مركبة‬ ‫حيث ال تنظر للفاعلني ال�سيا�سيني وقدراتهم على احل�شد‬ ‫التعمق يف درجات‬ ‫والتعبئة فح�سب‪ ،‬بل حتاول �أي�ض ًا‬ ‫ّ‬ ‫الوعي لدى الناخب وما يقدم له من وعود �سيا�سية‬ ‫ومدى تالقيها مع احللم االجتماعي لدى قطاعات وا�سعة‬ ‫من اجلماهري؛ ل ّأن النظر يف درجات احللم االجتماعي‬


‫والتخيل ال�سيا�سي قد يعطي �صورة �أعمق عن �إمكانية‬ ‫ّ‬ ‫التغيري اجلذري يف املجتمع‪ .‬حيث ي�ؤكد ماركوزة‪� ،‬أحد‬ ‫رواد مدر�سة فرانكفورت‪ّ � ،‬أن تغيرّ الواقع فقط ال يكفي؛‬ ‫خميالتنا‪� ،‬رسعان ما‬ ‫حيث �إنه ما مل تتغري الأحالم يف ّ‬ ‫حتدث ردة لي�ست فقط للواقع اجلديد‪ ،‬ولكن للواقع الذي‬ ‫قد مت تغريه �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫الوعي اجلماهريي والعملية االنتخابية‬ ‫ �أثارت م�س�ألة الوعي اجلماهريي ودورها يف العملية‬ ‫ال كبري ًا لدى الباحثني وال�سيا�سيني‪ ،‬الأمر‬ ‫االنتخابية‪ ،‬جد ً‬ ‫الذي دعا البع�ض �إىل ت�سفيه اجلماهري �رصاحة واتهامها‬ ‫باجلهل‪ .‬ذلك لأن العمليات االنتخابية ال�سابقة املتمثلة‬ ‫يف انتخابات ‪ 2005‬و‪ ،2010‬كانت كارثية بكل‬ ‫املقايي�س؛ �إذ ا ّت�سمت ب�رشاء الأ�صوات والنزاعات التي‬ ‫حد �سفك الدماء وو�صول �سفهاء ــ على حد‬ ‫و�صلت �إىل ّ‬ ‫قول كثريين ــ �إىل �أهم م�ؤ�س�سة ت�رشيعية يف م�رص‪.‬‬ ‫ �إال �أن التعجل يف مثل هذه االتهامات يحمل الكثري‬ ‫من املغالطة والتعجرف على وعي قطاعات كثرية من‬ ‫النا�س‪ .‬من هنا �س�أحاول حتليل بع�ض النقاط يف العمليتني‬ ‫االنتخابيتني ال�سابقتني اللتني قمت بتغطيتهما ومراقبتهما‪.‬‬ ‫ و�س�ؤال البحث املحوري هنا‪ :‬ما هو احللم االجتماعي‬ ‫والوعد ال�سيا�سي يف العمليتني ال�سابقتني؟‬ ‫ من متابعة كل منهما‪ ،‬ميكن القول �إن احللم االجتماعي‬ ‫متحور ب�شكل رئي�سي حول نقطتني‪ :‬الأوىل هي ت�أمني‬ ‫وظيفة عمل‪ ،‬والثانية هي اخلدمات العامة للمنطقة‪ ،‬التي‬ ‫من املفرت�ض �أن تقوم بها الدولة ولي�س جمل�س ال�شعب‪.‬‬ ‫ � ّإن غياب دور الدولة يف التوظيف واملحور االقت�صادي‬ ‫وتوح�ش �سيا�سات اخل�صخ�صة خ�صو�ص ًا‪ ،‬قاما‬ ‫عموم ًا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بتحويل جذري يف العملية االنتخابية‪ ،‬حيث متحور حلم‬ ‫قطاعات وا�سعة من املجتمع من الطبقات املعدمة وغري‬ ‫املعدمة حول ت�أمني وظيفة عمل‪ .‬فالأهايل – من خمتلف‬ ‫حتملوا معاناة كبرية يف تعليم �أبنائهم‪،‬‬ ‫الطبقات ‪ -‬الذين ّ‬ ‫ال من العملية التعليمية‬ ‫�أ�صبحوا �أمام عبء �آخر �أكرث ثق ً‬ ‫ذاتها‪ ،‬وهو توظيف هذه الأعداد الهائلة من املتخرجني‪.‬‬ ‫ولقد تخ ّلت الدولة عن هذا الدور ب�شكل كامل تقريب ًا مع‬ ‫اكتمال م�رشوع اخل�صخ�صة وتب ّني ال�سيا�سات النيوليربالية‬ ‫مع حلول الألفية‪ .‬و�صارت عملية التوظيف يف �أيدي رجال‬ ‫الأعمال �إما ب�شكل مبا�رش من طريق التعيني يف ما ميلكون‬ ‫من م�ؤ�س�سات و�رشكات اقت�صادية‪� ،‬أو من خالل الو�ساطة‬ ‫يف �رشكات �أجنبية وم�ؤ�س�سات دولية تربطهم بها �شبكة‬ ‫‪82‬‬

‫بدايات‬

‫‪201320‬‬ ‫ربيع‬ ‫‪13 |5‬‬ ‫العدد ‪6‬‬

‫الدولة وتنظيمها‪ ،‬وامتالكهم بنية حتتية موازية‪ .‬بهذا‪ ،‬ت�ستطيع‬ ‫اجلماعة مناورة احلزب الوطني حيث ال يتفاعل كالهما‬ ‫ك�أحزاب �أو حركات‪ ،‬ولكن كدول مع فارق الإمكانات‬ ‫وتفوق كل منهم على الآخر يف مواقع خمتلفة‪.‬‬ ‫والقدرات ّ‬

‫عالقات وا�سعة من امل�صالح االقت�صادية واالجتماعية‪.‬‬ ‫ولقد �ضم احلزب الوطني �أغلب رجال الأعمال يف م�رص‪.‬‬ ‫�أ�ضف �إىل هذا هيمنته الكاملة على النظام العام‪ ،‬حيث كان‬ ‫ميثل النظام ال�سيا�سي واالقت�صادي والدولة مع ًا‪.‬‬ ‫ال‪ ،‬حر�ص مر�شحي‬ ‫ من هنا‪ ،‬ن�ستطيع فهم �أمرين‪� :‬أو ً‬ ‫«الوطني» من رجال الأعمال على الو�صول �إىل الربملان‬ ‫ل�ضمان ا�ستمرار م�صاحلهم االقت�صادية من خالل احتالل‬ ‫البنية الت�رشيعية يف الدولة‪ .‬ثانياً‪ ،‬جناح �أغلب ه�ؤالء‬ ‫املر�شحني ودعمهم من قطاعات جماهريية وا�سعة‪ .‬فلقد‬ ‫مت اختزال اجلانب االقت�صادي يف رجال الأعمال‪ ،‬ومت‬ ‫اختزال الدولة يف احلزب الوطني‪ .‬فهذا التماهي بني النظام‬ ‫ال�سيا�سي والدولة واحلزب الوطني جعلنا �أمام الدولة‬ ‫متج�سدة يف كيان واحد يحظى َمن يف داخلها ببع�ض‬ ‫ما ميكن �أن تقدمه له الدولة من خدمات‪ ،‬بينما الذي يبقى‬ ‫ّ‬ ‫يظل خارج العملية بالكامل‪ ،‬وعليه البحث‬ ‫خارجها‪،‬‬ ‫يف منافذ �أخرى ال عالقة لها بالدولة‪ .‬ومن هنا حدث‬ ‫تزاوج بني احللم االجتماعي والوعد ال�سيا�سي‪ .‬واحلقيقة‬ ‫� ّأن الوعود املقدمة من مر�شحي احلزب الوطني املنحل‬ ‫مل تكن متثل وعود مر�شحني �سيا�سيني على الإطالق‪ ،‬بل‬ ‫كانت وعود دولة‪ .‬ومن هنا ن�ستطيع �أي�ض ًا فهم �صعوبة‬ ‫مناف�سة �أحزاب �أخرى للحزب الوطني با�ستثناء «الإخوان‬ ‫عدة‪:‬‬ ‫امل�سلمني»‪ ،‬لأ�سباب ّ‬

‫ وبهذا يت�ضح �أن وعي الناخب �أكرث عمق ًا وتركيب ًا‬ ‫من وعي ال�سيا�سيني والكثري من الباحثني‪ .‬فهو يعلم علم‬ ‫اليقني � ّأن االنتخابات ال عالقة لها بالت�رشيع‪ ،‬و� ّأن احلزب‬ ‫الوطني يك�سبها �إما من طريق متثيل دور الدولة �أو من‬ ‫خالل التزوير‪ .‬وبالتايل كان الناخب يحاول اخلروج‬ ‫ب�أكرب املكا�سب املمكنة‪ .‬ولذلك كان جناح كثري من‬ ‫�أع�ضاء احلزب الوطني يف الإ�سكندرية مثل طارق طلعت‬ ‫م�صطفى �صاحب �رشكات املقاوالت ورجل الأعمال‬ ‫ال�شهري وحممد م�صليحي‪ ،‬م�س�ألة �شبه م�ضمونة على‬ ‫الرغم من ال�شوائب والف�ساد الذي ميكن �أن يتهمهما به‬ ‫الكثريون‪� .‬أ�ضف �إىل حر�ص االثنني حتديد ًا على تقدمي‬ ‫خدمات عامة يف كثري من الأوقات وتوظيف الكثريين‬ ‫ال‪ ،‬لدى م�صليحي �أكرث من‬ ‫يف �رشكاتهم اخلا�صة‪ .‬فمث ً‬ ‫توكيل مالحي‪ ،‬وهو متوغّ ل داخل عمليات اال�سترياد‬ ‫والت�صدير‪ ،‬وهما م�صدر رزق لكثريين يف مدينة �ساحلية‬ ‫فيها �أكرب ميناء م�رصي‪� .‬أ�ضف �إىل �سيطرته على نادي‬ ‫االحتاد ال�سكندري‪ ،‬وهو النادي الرئي�سي يف املحافظة‬ ‫قدم الكثري‬ ‫وذو جماهريية وا�سعة‪ .‬ويف حقيقة الأمر �أنه ّ‬ ‫من اخلدمات وقام بتطوير ن�سبي يف فرتته للنادي‪� .‬أمر ما‬ ‫كان يدفع الكثري من م�شجعي النادي �إىل دعمه مع الأخذ‬ ‫يف االعتبار � ّأن النادي يقع جغرافي ًا يف دائرته االنتخابية‪.‬‬ ‫متتد‬ ‫وكذلك بالن�سبة �إىل طارق طلعت م�صطفى‪ ،‬حيث ّ‬ ‫م�شاريع عائلته و�رشكاتهم بطول كورني�ش الإ�سكندرية‬ ‫وعر�ضه‪ .‬وبالتايل انح�رست العملية االنتخابية يف هذا‬ ‫النطاق املمتد بني احللم االجتماعي والوعد ال�سيا�سي‪.‬‬

‫ال‪ :‬تغلغلهم داخل البنية االجتماعية وح�ضورهم‬ ‫ �أو ً‬ ‫الدائم مع اجلماهري من خالل م�ؤ�س�ساتهم املمتدة من‬ ‫التعليم �إىل ال�صحة وب�ساطة الأفكار وقدرتهم على فهم‬ ‫الواقع اليومي املعي�ش للجماهري‪.‬‬ ‫ ثاني ًا‪ :‬خطابهم املمزوج بني الديني واخلدماتي‪.‬‬ ‫ ثالث ًا‪� :‬شبكة امل�صالح االقت�صادية القادرة على منح‬ ‫خدمات للمواطن ب�شكل يومي‪.‬‬ ‫ رابع ًا‪ :‬قدرتهم على الوفاء بالوعد ال�سيا�سي �إىل‬ ‫اجلماهري قبل الو�صول �إىل �سدة احلكم‪ ،‬ثم الف�شل الذريع‬ ‫يف الوفاء بتلك الوعود‪.‬‬ ‫ خام�س ًا‪ :‬ثقة قطاعات وا�سعة من اجلماهري يف هذه‬ ‫اخلدمات؛ حيث ال تنقطع بعد االنتخابات وال ترتبط‬ ‫ال‪ ،‬امل�ؤ�س�سات‬ ‫باملك�سب �أو اخل�سارة ال�سيا�سية‪ .‬فمث ً‬ ‫الطبية املختلفة التابعة للإخوان امل�سلمني املوجودة يف‬ ‫الإ�سكندرية‪ ،‬ال تتوقف عن تقدمي خدماتها‪ ،‬بل ت ّت�سم يف‬ ‫كثري من الأحيان باجلودة‪.‬‬ ‫ �ساد�س ًا‪ :‬ت�شابه بنية تنظيم اجلماعة وحماكاته لفكرة‬

‫ماذا عن احللم االجتماعي والوعد ال�سيا�سي بعد الثورة؟‬ ‫التمخ�ض الدائم للو�ضع العام‬ ‫ي�صعب القيا�س يف ظل‬ ‫ّ‬ ‫يف م�رص‪ ،‬والذي مل ي�سفر عن �شيء حقيقي حتى الآن‪،‬‬ ‫حيث ال تزال العملية الثورية يف تفاعل م�ستمر‪� .‬إال �أنه‬ ‫تلم�س ب�ضعة �أمور حول مو�ضوع البحث وتفاعله مع‬ ‫ميكن ّ‬ ‫درجات وعي اجلماهري‪.‬‬ ‫ تعك�س انتخابات ‪ ،2012‬التي و�صفها الكثريون بـ‬ ‫«برملان الثورة»‪ ،‬تغيرّ ات مهمة‪ ،‬ولكنها لي�ست جذرية‪ .‬لي�ست‬ ‫جذرية لأنها مل تعك�س �أي تغري حقيقي يف �أمناط التفاعل‬ ‫‪83‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ال�سيا�سي وال يف الوعود ال�سيا�سية وال حتى يف احللم‬ ‫االجتماعي العام كما �س�أو�ضح يف هذا اجلزء من البحث‪.‬‬ ‫وبالتايل نعت هذا الربملان بـ«برملان الثورة» يعترب مقولة‬ ‫مع ّلبة وكلي�شيه كبري ًا وغري دقيق من الناحية الأكادميية‪.‬‬ ‫ال لفراغ احلزب‬ ‫يف املقابل‪ ،‬تعترب هذه االنتخابات ا�ستكما ً‬ ‫ال مع البنية القدمية‪.‬‬ ‫الوطني وتوا�ص ً‬ ‫ فاملالحظات العامة التي �أوردها الكثري من املتابعني‬ ‫واملرا�سلني – وكما ر�أينا على الهواء مبا�رشة ‪ -‬والتي‬ ‫تفيد ب� ّأن العملية متت من دون نزاعات دموية وبال تزوير‬ ‫وال انتهاكات من النوع الذي يلزم ببطالن العملية‬ ‫االنتخابية‪ .‬ال �شك � ّأن هذا كله يعترب �أمر ًا �إيجابي ًا للغاية‬ ‫على الرغم من وجود بع�ض االنتهاكات التي تتمثل‬ ‫معظمها يف الدعاية االنتخابية يوم االقرتاع من قبل‬ ‫عموما‪ ،‬وبع�ض‬ ‫مر�شحي التيار اال�سالمي و�أن�صاره‬ ‫ً‬ ‫املناو�شات وامل�شادات بينهم وبني بع�ض النا�شطني‬ ‫ال�سيا�سيني‪ .‬والالفت لالنتباه هو غياب � ّأي عملية من‬ ‫عمليات البلطجة التي ا ّت�سمت بهما انتخابات ‪2005‬‬ ‫ينم عن � ّأن هذه العمليات ممنهجة‬ ‫و‪ .2010‬وهو ما ّ‬ ‫ولي�ست ع�شوائية‪ ،‬و�أنها �أي�ض ًا مرتبطة ب�شكل وثيق برغبة‬ ‫ال�سلطة احلاكمة‪ ،‬ال بقدرتها‪ .‬ما يعني وجود تن�سيق بينها‬ ‫وبني بع�ض امل�ؤ�س�سات الأمنية مثل ال�رشطة وجهاز �أمن‬ ‫الدولة املنحل التي �أوردت كثري من التقارير عالقتهم‬ ‫بالبلطجية وجتنيدهم �إياهم‪� .‬أي �أن الأمر يتعلق بب�ساطة‬ ‫برغبة ال�سلطة املتحكمة يف مثل هذه امل�ؤ�س�سات‪.‬‬ ‫ وع ّلق الكثريون بفرحة عارمة �إزاء ن�سبة امل�شاركة يف‬ ‫االنتخابات‪ ،‬ما دفعهم �إىل حتليل هذا الأمر على اعتبار � ّأن‬ ‫اجلماهري �صارت �أكرث �إيجابية وفاعلية‪ ،‬و�أنها بد�أت مت�سك‬ ‫بزمام الأمور‪ ،‬و�أنها تتطلع لبناء م�ستقبل م�رص بعد الثورة‪.‬‬ ‫�إال � ّأن هذا الأمر قد ال يكون مبثل هذه الدقة؛ �إذ انخف�ضت‬ ‫ن�سبة امل�شاركة يف جولة الإعادة ب�شكل كبري‪ ،‬بالأخ�ص‬ ‫بعد ت�رصيحات بع�ض امل�س�ؤولني عن عدم حتقيق الغرامة‬ ‫االنتخابية التي كانت ‪ 500‬جنيه م�رصي مقابل امتناع‬ ‫الفرد عن الإدالء ب�صوته‪.‬‬ ‫ جاءت نتائج االنتخابات يف الإ�سكندرية بتفوق‬ ‫حزب العدالة واحلرية املمثل جلماعة الإخوان امل�سلمني‪،‬‬ ‫يتبعه حزب النور املمثل للدعوة ال�سلفية‪ ،‬ثم ن�سب �ضئيلة‬ ‫من «الكتلة امل�رصية» و«قائمة الثورة م�ستمرة» التي‬ ‫�سمحت بها العملية االنتخابية من خالل القوائم الن�سبية‪.‬‬ ‫التفوق امللحوظ للحرية والعدالة يف مناف�سات‬ ‫ويالحظ‬ ‫ّ‬ ‫تفوقت قوائم «احلرية والعدالة» على‬ ‫امل�ستقلني‪ .‬وقد ّ‬


‫اجلميع‪ ،‬وخ�صو�ص ًا مر�شحي حزب النور با�ستثناء دائرة‬ ‫العجمي والعامرية البعيدة عن مركز املدينة‪ .‬وهذا يعك�س‬ ‫تفوق «الإخوان» يف مراكز املدينة يف مقابل هوام�شها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ويرجع هذا �إىل الفارق يف البنية التنظيمية لكل منهما‪.‬‬ ‫فجماعة الإخوان �إذا ح�رضت يف مكان ما‪ ،‬فهي حت�رض‬ ‫ب�شكل اجلماعة والتنظيم املحكم‪� .‬أما الدعوة ال�سلفية‪،‬‬ ‫فب�إمكانها احل�ضور من خالل �أفراد و�أفكار وت�شكيالت‬ ‫خفيفة ال ت�ستتبع وجود تنظيم حمكم يف منطقة جغرافية‬ ‫معينة‪ .‬من هذا املنطلق‪ ،‬ميلك بع�ض �شيوخ ال�سلفية ح�ضور ًا‬ ‫ومكانة اجتماعية فريدة من نوعها يف تلك املنطقة‪ .‬هذا‬ ‫بالإ�ضافة �إىل بع�ض التفا�صيل اال�سرتاتيجية يف هذه‬ ‫الدائرة بالتحديد‪ ،‬حيث كان نهج ال�سلفيني �أكرث ا�ستيعاب ًا‬ ‫للقبلية املوجودة يف تلك املنطقة‪ ،‬وتوا�صلهم مع كربى‬ ‫القبائل و�إر�ضا�ؤهم يح�صل من خالل الإقناع والتوا�صل‬ ‫ال من املناف�سة وفر�ض �أمر املر�شحني عليهم‪.‬‬ ‫ال�سيا�سي بد ً‬ ‫ومن املالحظ �أي�ض ًا خ�سارة ال�شباب يف مواقع كثرية يف‬ ‫مناف�سات امل�ستقلني‪ .‬وكان من املبهر هزمية جميع فلول‬ ‫احلزب الوطني؛ �إذ مل يتمكن � ّأي منهم‪ ،‬ال من خالل‬ ‫القوائم �أو مناف�سات امل�ستقلني‪ ،‬من الو�صول �إىل الربملان‪.‬‬ ‫و�س�أقوم بتحليل هذه النتائج وتقدمي تف�سري لها من خالل‬ ‫املنهجية التي طرحتها يف �أول البحث‪.‬‬ ‫هل نحن امام انقالب جذري؟‬ ‫ال تعترب خ�سارة الفلول بهذا ال�شكل العنيف‪ ،‬وتفوق التيار‬ ‫الإ�سالمي‪ ،‬انقالب ًا جذري ًا يف جوهر العملية االنتخابية‪،‬‬ ‫ملئا لفراغ البنية القدمية بثنائيتها نف�سها‪� :‬إما الفلول‬ ‫و�إمنا ً‬ ‫و�إما الإ�سالميون‪.‬‬

‫اال�سرتاتيجية خلو�ض هذه املعركة وما تتطلبه من �أدوات‬ ‫ور�أ�س مال �ضخم ال متلكه معظم القوى الثورية‪ .‬ور�أى‬ ‫البع�ض الآخر �أهمية وجود القوى الثورية يف الربملان‬ ‫لتمثيل تطلعات الثورة‪ ،‬و�أنه على الرغم من غياب ر�أ�س‬ ‫املال‪ ،‬فال�شارع �سيدعم ال�شباب والثورة يف مواجهة القوى‬ ‫القدمية‪� .‬إال � ّأن بع�ض الذين �أعلنوا نيتهم للرت�شح مثل‬ ‫ح�سن م�صطفى وحممد �صفوان (وهما من �أبرز النا�شطني‬ ‫ال�سيا�سيني يف الإ�سكندرية) مل يقوموا بالإعداد الالزم لهذه‬ ‫املعركة‪ .‬ولقد انغم�ست �أغلب القوى الثورية يف فعاليات‬ ‫وحتركات جماهريية وميدانية ثورية ا�ستنزفت كل قواها‬ ‫ال�سيا�سية الالزمة خلو�ض املعركة االنتخابية‪ ،‬وخ�صو�ص ًا‬ ‫يف �أحداث حممد حممود يف التحرير‪ ،‬ومديرية الأمن‬ ‫يف الإ�سكندرية‪ .‬ومل يقم املر�شحون الثوريون‪ ‬بالتخطيط‬ ‫اال�سرتاتيجي املطلوب من دعاية وتوا�صل جماهريي‬ ‫واالنخراط ال�رضوري يف دوائرهم بو�ضع برامج و�أفكار‬ ‫وا�ضحة‪ .‬حتى �إنه ميكننا القول � ّإن الوعد واحللم ال�سيا�سي‬ ‫لدى هذه القوى الثورية مل يكن بالو�ضوح الكايف الذي‬ ‫يدفع الناخب �إىل ترك مر�شح «احلرية والعدالة» �أو «النور»‬ ‫اللذين‪ ‬مت اختبارهما يف متطلبات احلياة اليومية العادية‬ ‫حللم يدعو لآفاق التغيري الثوري الراديكايل يف امل�ستقبل‪.‬‬ ‫ من هنا ف�شل الثوار يف ت�صوير حلمهم الثوري‬ ‫للناخب‪ ،‬وجنح الإ�سالميون يف ت�صوير حلمهم الإ�صالحي‬ ‫من خالل التوا�صل وت�أكيد قدراتهم يف تنفيذه‪ .‬حتى‬ ‫مل�صقات «النور» و«العدالة واحلرية» متكنت من �إي�صال‬ ‫الوعد‪ .‬يف املقابل‪ ،‬مل يكن هناك مل�صق ثوري معبرّ عن‬ ‫حلم ما‪ .‬و�إذا قمنا بتحليل ال�صورتني الأبرز‪ ،‬وهما �صورة‬ ‫حزب احلرية والعدالة املتمثلة يف طفل نظيف يبدو عليه‬ ‫الرخاء والإ�رشاق وهو جال�س داخل مدر�سة حديثة على‬ ‫طاولة جمهزة ويف ف�صل ف�سيح من جهة‪ ،‬و�صورة «قائمة‬ ‫الثورة م�ستمرة» التي ات�سمت بلون غامق ويف اخللفية‬ ‫جماهري ثائرة من جهة ثانية‪� ،‬سنجد �أن الثوار مل ي�ستوعبوا‬ ‫الفارق بني الثورة وال�سيا�سة‪ .‬فالثورة تعنى مبفردات املعركة‬ ‫والن�ضال والت�ضحية واال�شتباك‪� .‬أما ال�سيا�سة‪ ،‬فهي تعنى‬ ‫بالوعود التي تفر�ضها معطيات القوة والقدرة على التنفيذ‬ ‫املبا�رش وتتزامن مع االحتياجات العامة للمواطن‪� .‬أ�ضف‬ ‫� ّأن مفردات اخلطاب بني الفريق الثوري والإ�سالمي كانت‬ ‫ال مهم ًا يف الو�صول �إىل مداعبة احللم االجتماعي‪ .‬ففي‬ ‫عام ً‬ ‫الوقت الذي �أ�صيب فيه الكثريون بهو�س الأمن واال�ستقرار‪،‬‬ ‫تخاطبهم القوى الثورية يف معركتها االنتخابية عن �رضورة‬ ‫ا�ستكمال الكفاح الثوري‪ .‬ومن هنا‪ ،‬لعب كل من اخلطاب‬

‫من الد�ستور‪ .‬وعلى الرغم من � ّأن اجلدل حول هذه املادة‬ ‫يبدو م�صطنع ًا ــ حيث � ّإن اجلميع مبن فيهم مر�شحو الكتلة‬ ‫امل�رصية � ّأكدوا عدم امل�سا�س بها ــ �إال �أنه كان م�ؤثر ًا �إىل‬ ‫درجة كبرية يف ح�شد كتل جماهريية كبرية وتعبئتها‬ ‫للت�صويت للإ�سالميني‪.‬‬ ‫ ثاني ًا‪ :‬لقد �ش ّنت القوى الثورية والإ�سالمية عموم ًا‬ ‫هجوم ًا �رش�س ًا على بقايا احلزب الوطني يف الإ�سكندرية‪،‬‬ ‫حد حمالت متزيق للوح ومل�صقات طارق‬ ‫و�صل �إىل ّ‬ ‫طلعت م�صطفى من قبل بع�ض احلركات الثورية‪.‬‬ ‫ ثالث ًا‪ :‬النقطة الأهم هي غياب دور الدولة يف م�ساندة‬ ‫ف�صيل على الآخر وتفكك احلزب الوطني‪ .‬فالدولة غائبة‬ ‫حتى الآن‪ ،‬ثم � ّإن احلزب هو �أي�ض ًا غري موجود‪ ،‬والفلول‬ ‫يتعر�ضون حلرب �رضو�س‪ ،‬وال يوجد مر�شحون‪� ‬أقوياء‬ ‫ّ‬ ‫ال‪:‬‬ ‫عدة‪� .‬أو ً‬ ‫من احلزب‪ ،‬ومن هنا �أدرك الناخب عنا�رص ّ‬ ‫القوى الإ�سالمية �ستحافظ على هوية الدولة من خالل‬ ‫الت�رشيعات القانونية والد�ستورية – الهاج�س الأكرب منذ‬ ‫خلع مبارك‪ .‬ثاني ًا‪ :‬قدمت هذه القوى الإ�سالمية خطاب ًا‬ ‫ثالثي الأبعاد قادر ًا على خماطبة احللم االجتماعي لدى‬ ‫الناخبني املتمثل يف‪ -1 :‬اخلدمات ‪ -2‬الوعد بتوفري‬ ‫وظائف ‪ -3‬الأمن الذي �أ�صبح حاجة ملحة �أخري َا بالأخ�ص‬ ‫مع الت�ضخيم الإعالمي لتلك الأزمة‪ .‬ولقد اخ ُتربت هذه‬ ‫القوى يف تلبية حلمني على الأقل من الثالثة‪ .‬ففي �أثناء‬ ‫�أيام املوجة الأوىل من الثورة‪ ،‬قام ال�سلفيون والإخوان‬ ‫امل�سلمون بدور بارز يف ت�أمني الأحياء املتجذّرين فيها‬ ‫وبع�ض املن�ش�آت‪ .‬وقاموا �أي�ض ًا بتوفري ال�سلع و�ضبط �أ�سعار‬ ‫اللحوم واخل�رضوات يف املدينة من طريق �شبكة عالقاتهم‬ ‫املمتدة بالريف واملناطق الزراعية القريبة من الإ�سكندرية‪.‬‬ ‫وواجهوا حماوالت بع�ض التجار يف ا�ستغالل املوقف‪،‬‬ ‫ور�سخ من وجودهم االجتماعي‪.‬‬ ‫ب�شكل ّ‬ ‫دعم ّ‬

‫ال‪ :‬مل يرت�شح � ٌّأي من املر�شحني الأقوياء لدى احلزب‬ ‫ �أو ً‬ ‫الوطني با�ستثناء طارق طلعت م�صطفى الذي خا�ض‬ ‫معركة �رش�سة مع اخل�ضريي‪ ،‬مر�شح الإخوان امل�سلمني‪ .‬لقد كانت هناك �أ�سباب عدة �أخرى �أدت �إىل تفوق التيار‬ ‫تفوق اخل�ضريي يف الإع��ادة بفارق ب�سيط (ت�سعة الإ�سالمي الإ�صالحي على بع�ض القوى الثورية املتمثلة يف‬ ‫وقد ّ‬ ‫الآف �صوت فقط)‪ ،‬بعدما كانت النتائج واال�ستطالعات قائمة «الثورة م�ستمرة» وبع�ض امل�ستقلني‪ّ � .‬إن تر ّدد القوى‬ ‫الأولية ت�شري �إىل تفوق ن�سبي لطارق طلعت م�صطفى‪ .‬الثورية يف خو�ض االنتخابات من عدمه‪ ،‬هو �أول العوامل‬ ‫ينم عن � ّأن قطاعات كبرية مل تتغري لديها التوجهات و�أهمها‪ .‬لقد دار نقا�ش مو�سع بني كثري من القوى ال�شبابية‬ ‫وهذا ّ‬ ‫الرئي�سية احلاكمة للعملية االنتخابية‪� .‬أ�ضف �إىل ذلك � ّأن حتديد ًا حول جدوى خو�ض االنتخابات‪ ،‬ور�أى البع�ض � ّأن‬ ‫النهج املت�أ�سلم الذي يتبعه طارق طلعت م�صطفى جعله هذه املعركة لي�ست معركتهم الآن‪ ،‬و� ّأن االنخراط يف العمل‬ ‫ال يختلف كثري ًا من الناحية العاطفية وال الت�رشيعية عند ال�سيا�سي �سي�ؤثر كثري ًا على دورهم الثوري‪ ،‬و� ّأن املعركة‬ ‫الكثريين؛ فاجلانب الت�رشيعي يف هذه العملية االنتخابية الثورية مل ت�ستكمل بعد‪ ،‬و� ّأن االنتخابات مبثابة ا�ستنزاف‬ ‫مت ّثل لدى قطاعات كبرية يف احلفاظ على املادة الثانية لقواهم الثورية‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل عدم ا�ستعدادهم من الناحية‬ ‫‪84‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫‪85‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫وال�صورة على �أوتار خمتلفة لدى الناخب جعل كثريين‬ ‫�أقرب �إىل القوى املختربة �سابق ًا يف مفردات ال�سيا�سة‪،‬‬ ‫وجعل دعمهم لل�شباب يف ميدان املعركة الثورية الذين‬ ‫مت اختبارهم فيه وجنحوا‪ .‬و�أتذكر تعليق �أحد الناخبني يل‬ ‫ال � ّإن الثوار �أثبتوا �أنهم الأجدر يف ميدان‬ ‫على الأحداث قائ ً‬ ‫املعركة الثورية ال املعركة ال�سيا�سية‪ .‬ويجب الت�أكيد � ّأن‬ ‫�أحد �أهم الفوارق بني حزبي النور واحلرية والعدالة والقوى‬ ‫الثورية يف املعركة االنتخابية يف الإ�سكندرية‪ ،‬هو غياب‬ ‫العمل املمنهج والد�ؤوب واملعد ا�سرتاتيجي ًا ب�شكل جيد‬ ‫عند الأخري يف العملية االنتخابية‪.‬‬ ‫ يف الأخري‪ ،‬ي ّت�ضح �أن العملية االنتخابية مل تتغري ب�شكل‬ ‫جذري‪ .‬وقد �أو�ضح املقال �أعاله عدم تغري احللم االجتماعي‬ ‫وال حتى تغري الوعد ال�سيا�سي املقدم للجماهري‪ .‬ومل يقم‬ ‫�أحد من خالل العملية االنتخابية مبحاولة تغيري للحلم‬ ‫االجتماعي‪ .‬ومل تتغري قنوات و�أمناط التفاعل ال�سيا�سي بني‬ ‫ا�ستمرت ا�سرتاتيجيات و�أدوات‬ ‫الناخبني واملر�شحني‪ .‬ولقد‬ ‫ّ‬ ‫احل�شد والتعبئة نف�سها‪ ،‬با�ستثناء �رشاء الأ�صوات – �إال يف‬ ‫ما ندر ‪ -‬هي املهيمنة على العملية االنتخابية‪.‬‬ ‫ من هنا‪ ،‬ف�� ّإن الإ�شكالية الرئي�سية التي يتمحور‬ ‫حولها ف�شل الثوريني يف الو�صول �إىل الربملان يف‬ ‫الإ�سكندرية‪ ،‬هي قدرتهم على التعاطي وتغيري احللم‬ ‫ال�سيا�سي والتق�صري يف التخطيط والإعداد‪ .‬وهو �أي�ض ًا‬ ‫ما يعك�س عجز الثورة عموم ًا عن التج ّذر العميق يف‬ ‫املجتمع من خالل �أمناط وممار�سات �أخرى غري العمل‬ ‫الثوري املبا�رش الذي يتعار�ض �أحيان ًا كثرية مع �إيقاع‬ ‫احلياة اليومية للمواطن‪.‬‬ ‫ على كل حال‪ ،‬يف�صح ‪ 30‬يونيو عن �رصاع الأحالم‬ ‫ال�سيا�سية املتناحرة يف م�رص‪ .‬ولكي ينجح حلم منهم يف‬ ‫ت�سيد امل�شهد‪ ،‬عليه خلق بنية حتتية ت�سمح له ذلك‪ ،‬بل‬ ‫ّ‬ ‫عليه توفري وا�ستغالل �رشوط مو�ضوعية وذاتية للتحقق‪.‬‬ ‫�إال � ّأن الثورة غيرّ ت وخلقت جمتمع ًا جديد ًا ب�أحالم خمتلفة‬ ‫ويطمح �إىل وعود �سيا�سية جديدة وخيال �سيا�سي مفارق‬ ‫للما�ضي‪ ،‬وهو ما ينذر ب� ّأن االنتخابات لي�ست مقيا�س ًا‬ ‫حتدثنا‬ ‫�صاحل ًا للقيا�س على احلالة العامة يف م�رص‪� .‬إذا ما ّ‬ ‫أعم‪ ،‬فلن‬ ‫على م�ستوى ال�سيا�سة وال�سلطة ب�شكل �أو�سع و� ّ‬ ‫تنجح الوعود ال�سيا�سية القدمية يف اال�ستمرار وال�سيطرة؛‬ ‫قادرا على التفاعل مع الواقع‬ ‫ل ّأن خيالها ال�سيا�سي مل يعد ً‬ ‫و�إر�ضاء قطاعات وا�سعة‪ .‬وال �أظن �أنه �سيكون من ال�سهل‬ ‫�أن ي�ستبدل احلزب الوطني مرة �أخرى موقعه الذي فقده‬ ‫الإخوان بعد �سقوطهم الأخري‪.‬‬


‫ال على �أهم‬ ‫للإجابة عن هذا ال�س�ؤال ينبغي الوقوف �أو ً‬ ‫مقومات الفا�شية رجوع ًا لتجاربها يف فرتة ما بني احلربني يف‬ ‫�أوروبا‪ .‬ميكن القول �إن الفا�شية كانت حركة تلتم�س �أدوات‬ ‫التعبئة واحل�شد والتنظيم اال�شرتاكي ل�رضب اال�شرتاكية‬ ‫نف�سها والق�ضاء على احلركة العمالية‪ ،‬لذا فلي�س من‬ ‫قبيل املبالغة القول ب�أن الفا�شية هي ثورة �ضد الثورة‪،‬‬ ‫هي ثورة حمافظة �إن جاز التعبري بالتما�س املجموعات‬ ‫والطبقات املعادية للدميقراطية ولال�شرتاكية لأدوات‬ ‫الثورة لإجها�ض ما تراه ثورة اجتماعية حمتملة �أو قيد‬ ‫التحقق‪� .‬أما الهدف الثاين للحركة الفا�شية‪ ،‬فكان تقوي�ض‬ ‫�أ�س�س النظام ال�سيا�سي الربملاين‪ ،‬واال�ستيالء على �أدوات‬ ‫الدولة القمعية من �رشطة وجي�ش وق�ضاء‪ ،‬وعلى موارد‬ ‫الدولة للت�أ�سي�س لنظام �سيا�سي ي�صادر ال�سيا�سة وي�شيع‬ ‫الإرهاب ويتم مهمة �سحق احلركة ال�شعبية الدميقراطية‪� .‬إن‬ ‫اخلال�صة هي � ّأن جوهر الفا�شية هو حركة حمافظة اختارت‬ ‫الثورية �أدا ًة لتق�ضي على الثورة ذاتها‪.‬‬

‫جمهضة وأخرى حمتملة‬ ‫بني فاشية‬ ‫َ‬ ‫عمرو عاديل‬ ‫باحث يف االقتصاد‬ ‫السيايس جامعة‬ ‫ستانفورد‪.‬‬

‫آخر مؤلفاته‪:‬‬

‫«األصول السياسية‬ ‫للتنمية»‪)٢٠١٣( .‬‬

‫يدفع هذا املقال ب� ّأن ثمة �شواهد عدة ت�شري �إىل � ّأن النظام‬ ‫ال�سيا�سي الذي �سعى الإخوان امل�سلمون �إىل �إن�شائه يف‬ ‫غ�ضون ال�سنة املا�ضية يحمل بالفعل بع�ض مالمح النظم‬ ‫الفا�شية‪ ،‬وهو بالقطع نظام �سلطوي‪ ،‬و� ّأن احلراك ال�شعبي‬ ‫من جهة‪ ،‬وحترك �أجهزة الدولة‪ ،‬وخا�صة �أدوات القمع من‬ ‫�رشطة وجي�ش يف مواجهته من جهة �أخرى‪ ،‬قد �أجه�ض‬ ‫حماولة تثبيت دعائم هذا النظام الذي كان منتظر ًا �أن يهيمن‬ ‫عليه الإخوان امل�سلمون‪ .‬بيد � ّأن هذا احلراك لي�س بال�رضورة‬ ‫دميقراطي ًا �أو معادي ًا لل�سلطوية بقدر ما �أنه �أتى ليعك�س‬ ‫خماوف قطاعات جماهريية وا�سعة يف املجتمع امل�رصي‪،‬‬ ‫و�أخرى داخل جهاز الدولة من �إن�شاء �سلطوية جديدة‬ ‫(مبالمح فا�شية دينية) حتت �سيطرة جماعة الإخوان‪ ،‬وهو ما‬ ‫يعني �أنه قد تكون هناك قابلية لدى هذه القواعد ذاتها لتقبل‬ ‫نظام �سلطوي �أو دميقراطي خا�ضع للو�صاية الع�سكرية يف‬ ‫امل�ستقبل‪ .‬ويف الوقت ذاته‪ ،‬يرى املقال � ّأن امتداد ال�رصاع‬ ‫احل��ايل بني قوى الثالثني من يونيو وجماعة الإخ��وان‬ ‫واحتماالت حتوله �إىل �أ�شكال �صدام �أ�شد عنف ًا يحمل يف‬ ‫طياته خماطر ظهور حركة ذات مالمح فا�شية وطنية هذه‬ ‫املرة‪ ،‬والت�أ�سي�س لنظام �سلطوي جديد بهذه املالمح بالفعل‪،‬‬ ‫ومن ثم بالإمكان تو�صيف امل�شهد امل�رصي يف جانب منه‬ ‫على الأقل ب�أنه فا�شية جمه�ضة وفا�شية حمتملة‪.‬‬ ‫ما جدوى ا�ستدعاء الفا�شية للم�شهد ال�سيا�سي احلايل؟‬ ‫�إن الفا�شية جتربة �سيا�سية خا�ضها عدد من بلدان �أوروبا‬ ‫يف فرتة ما بني احلربني العامليتني‪ ،‬ومن هنا فالفا�شية هي‬ ‫�أيديولوجية من ناحية‪ ،‬وجتربة تاريخية حلركة �سيا�سية‬ ‫قدر خوان‬ ‫ونظم �سيا�سية �أ�س�ستها تلك احلركات‪ .‬وكما ّ‬ ‫لينز‪ ،‬ف�إن �إيطاليا واحلركة الفا�شية فيها‪ ،‬متثل النموذج‬ ‫�أو املثال الذي تقا�س عليه التجارب الالحقة عليه‪ ،‬ل ّأن‬

‫‪86‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫�إيطاليا هي مهد احلركة الفا�شية كحركة �سيا�سية واعية‬ ‫بذاتها‪ ،‬وهي �أول البلدان التي ت�أ�س�س فيها نظام فا�شي‪.‬‬ ‫ يرى لينز يف درا�سته للظاهرة الفا�شية � ّأن التجربة‬ ‫هذه تنتمي قلب ًا وقالب ًا �إىل حقبتها ال�سابقة على احلرب‬ ‫العاملية الثانية‪ ،‬التي �شهدت الهزمية املادية والأيديولوجية‬ ‫للفا�شية‪ ،‬و� ّأن الفا�شية كنظام �سيا�سي يقوم على العداء‬ ‫للدميقراطية واال�شرتاكية (واحلركة العمالية خا�صة) وعلى‬ ‫�صياغات قومية �أو دينية مت�شددة ال ميكن خلطه مع �أ�شكال‬ ‫ال�سلطويات املتعددة واملتنوعة‪ ،‬ل ّأن الفا�شية ظاهرة نادرة‬ ‫ن�سبي ًا‪ ،‬لأنها مرتبطة بال�شمولية (التوتاليتارية)‪ .‬وهذه‬ ‫بدورها بنت حقبة تاريخية معينة نحن اليوم �أبعد ما نكون‬ ‫عنها‪� ،‬سواء من حيث الهيمنة الأيديولوجية ملفردات‬ ‫الليربالية من الدميقراطية التمثيلية وحقوق الإن�سان‪� ،‬أو من‬ ‫ال�سياق االقت�صادي وال�سيا�سي العاملي الذي مل يعد ممكن ًا‬ ‫فيه ظهور دولة �شمولية (با�ستثناء جتارب متحفية ككوريا‬ ‫ال�شمالية)‪ .‬ورغم هذا‪ ،‬فالفا�شية عند لينز ظاهرة مهمة على‬ ‫امل�ستوى ال�سيا�سي‪ ،‬وت�ستحق الدرا�سة حتى يف �سياق ما‬ ‫بعد احلرب العاملية الثانية وما بعد احلرب الباردة‪ ،‬والأمر‬ ‫مالمح الفا�شية التي قد توجد‬ ‫هنا راجع �إىل ما ي�سميه لينز‬ ‫َ‬ ‫يف بع�ض النظم رغم عدم اكتمال باقي العنا�رص التي ميكن‬ ‫بها و�صف نظام �سيا�سي ما بالفا�شية‪ .‬ويقدم خوان لينز هنا‬ ‫ت�شبيها مثري ًا‪ ،‬فيقول �إن وجود تيجان الأعمدة الرومانية‬ ‫يف الكنائ�س وامل�ساجد ال يعني � ّأن هناك معابد رومانية‪،‬‬ ‫بل ي�شري فح�سب �إىل وجود مالمح ملعابد رومانية يف �أبنية‬ ‫خمتلفة عنها متام االختالف‪ ،‬لذا فقد يوجد نظام �سيا�سي‬ ‫يحمل مالمح الفا�شية وال يكون فا�شي ًا بالكامل‪ .‬ولعل هذه‬ ‫النقطة هي املدخل الذي يحملنا �إىل ا�ستخدام املفهوم‬ ‫وامل�صطلح لتو�صيف جتربة الإخوان امل�سلمني الق�صرية يف‬ ‫م�رص‪ .‬هل حمل نظامهم ال�سيا�سي املزمع مالمح فا�شية؟‬

‫هل نظام الإخوان م�رشوع فا�شي جمه�ض؟‬ ‫ال �شك يف �أن الإخ��وان امل�سلمني ــ وهم �أكرب تنظيم‬ ‫�سيا�سي مدين يف م�رص بعد ثورة يناير ‪ ٢٠١١‬ــ مل‬ ‫ي�سعوا �إىل تكوين حتالف دميقراطي بعد �إطاحة مبارك‪،‬‬ ‫ي�ضم القوى املجتمعية وال�سيا�سية التي �شاركت يف‬ ‫الثورة‪ ،‬وهي قوى رغبت يف موا�صلة الن�ضال لتفكيك‬ ‫الدولة الأمنية والبنية ال�سلطوية املوروثة من دولة يوليو‪.‬‬ ‫بل ميكن القول �إن ا�سرتاتيجية الإخوان يف الت�أ�سي�س‬ ‫لنظام �سيا�سي يهيمنون عليه على املدى البعيد كانت‬ ‫تقف على قدمني اثنتني‪:‬‬ ‫ الأوىل هي �إقامة نظام �سيا�سي يقوم على �آليات‬ ‫الدميقراطية الإجرائية من انتخابات وا�ستفتاءات حرة‪،‬‬ ‫ولكن االحتفاظ بالدميقراطية عند م�ستواها الإجرائي‬ ‫فح�سب‪ ،‬مبا يربر �إقامة نظام �سلطوي منتخب �أو دميقراطية‬ ‫حمافظة على حد تو�صيف عمرو عبد الرحمن‪ .‬ويق�صد‬ ‫بهذا � ّأن الإخ��وان مل يكونوا مت�ساحمني مع �إدخ��ال �أية‬ ‫تعديالت جذرية على عالقة الدولة امل�رصية التي ورثوها‬ ‫على �سلطويتها وا�ستبداديتها باملجتمع‪ ،‬فلم تكن ثمة نية‬ ‫كما ظهر من جميع �آليات الت�رشيع التي امتلكها الإخوان‬ ‫�إبان ت�أ�سي�س نظامهم من جمل�س �شعب ثم جمل�س �شورى‬ ‫باخت�صا�صات الت�رشيع بعد حل الأول ويف الد�ستور‬ ‫بالطبع‪ ،‬مل يكن ثمة توجه ل�ضمان احلريات واحلقوق‬ ‫الأ�سا�سية‪ ،‬ال النقابية منها وال اخلا�صة‪ ،‬بحرية الإعالم‬ ‫‪87‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫والتعبري‪ ،‬وال باحلق يف االحتجاج والتظاهر والإ�رضاب‪،‬‬ ‫ال عن املوقف من‬ ‫وال ما يخ�ص باملجتمع امل��دين‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫الأقليات الدينية والن�ساء‪.‬‬ ‫ �أم��ا القدم الثانية التي قامت عليها ا�سرتاتيجية‬ ‫الإخوان‪ ،‬فكانت �إيجاد �صيغ ما للتعاي�ش ورمبا التحالف‬ ‫املتوتر مع الأجهزة الأمنية واال�ستخبارية‪ ،‬واجلي�ش على‬ ‫ر�أ�سها‪ ،‬فما من �شك يف � ّأن حماوالت الإخوان لإر�ضاء‬ ‫�أجهزة القمع املوروثة من دولة مبارك خالل املرحلة‬ ‫االنتقالية‪ ،‬ثم خالل رئا�سة مر�سي‪ ،‬متثلت يف تقدمي كل‬ ‫ال�ضمانات يف د�ستور ‪ ،٢٠١٢‬ويف ال�سكوت عن �إعادة‬ ‫ال عن امل�ساءلة �أو املحا�سبة على انتهاكات‬ ‫الهيكلة‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫حدثت يف عهد مبارك املديد ويف خالل املرحلة االنتقالية‬ ‫ويف خالل حكم مر�سي‪.‬‬ ‫ ي�ضاف �إىل هذين امللمحني �أن الإخوان امل�سلمني كنواة‬ ‫لنظام �سيا�سي جديد ذي حمتوى �سلطوي م�ؤكد ـ ولي�س‬ ‫بال�رضورة فا�شي ًا ـ قد �رشعوا يف �إقامة حتالف �سيا�سي‬ ‫ـ بجانب حتالفهم املتوتر مع �أجهزة الدولة القمعية ـ مع‬ ‫الكتلة الإ�سالمية التي تقع على ميينهم ب�شكل �أ�سا�سي‪،‬‬ ‫قامت ا�سرتاتيجية الإخوان علــــــــــــــــــــــــــــــــى‬ ‫�إيجاد �صيغ ما للتعايـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ�ش‪،‬‬ ‫ورمبا للتحالف املتوتر مع الأجهــــــــــــــــــــــــــــــزة‬ ‫الأمنية واال�ستخبارية‪ ،‬واجلي�ش على ر�أ�ســـــــــــــــها‪،‬‬ ‫فحاولوا �إر�ضاء �أجهزة القمع املوروثــــــــــــــــــــــــة‬ ‫عن دولة مبارك خالل املرحلة االنتقاليـــــــــــــــــــــة‬ ‫ثم خالل رئا�سة مر�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي‬ ‫وقد ظهرت هذه امل�ساعي بجالء بعد انتخابات جمل�س‬ ‫ال�شعب يف نوفمرب‪/‬ت�رشين الثاين ‪ ،٢٠١١‬التي‬ ‫�شهدت قدر ًا حمدود ًا من انفتاح الإخوان على رموز‬ ‫ليربالية ونا�رصية وم�ستقلة و�ضعتهم يف املنت�صف بني‬ ‫ما عرف بالقوى املدنية على ي�سارهم‪ ،‬وال�سلفيني على‬ ‫ميينهم‪ .‬لكن مع ا�شتداد اخلالف حول الد�ستور مع غري‬ ‫الإ�سالميني بالأ�سا�س‪ ،‬والذي ظهر مع الت�شكيل الأول‬ ‫للجمعية التا�سي�سية التي نالها حل الق�ضاء الإداري‪،‬‬ ‫�أ�صبح �سعي الإخوان وا�ضح ًا يف تكوين حتالفهم مع‬ ‫�شيئا‬ ‫القوى الإ�سالمية‪ .‬ومع انح�سار �شعبية الإخوان‬ ‫ً‬ ‫ف�شيئ ًا يف املراكز احل�رضية‪ ،‬ويف �شمال البالد عامة‪،‬‬ ‫�أ�صبحت احلاجة للعودة �إىل ادعاء متثيل الإ�سالم ال�سيا�سي‬ ‫�رضورة للبقاء يف مقاعد الأغلبية الن�سبية‪ ،‬وهو ما ظهر‬


‫بو�ضوح يف كتاب الد�ستور‪ ،‬الذي جاء يف التحليل‬ ‫الأخري لري�ضي القوى الإ�سالمية املحافظة من �سلفيني‬ ‫و�أزهر من ناحية‪ ،‬واجلي�ش من ناحية �أخرى على ح�ساب‬ ‫القوى الليربالية والنا�رصية والي�سار واالئتالفات‬ ‫الثورية وممثلي املجتمع املدين واحلركة النقابية امل�ستقلة‬ ‫واملثقفني وممثلي حقوق الن�ساء والق�ضاء‪.‬‬ ‫ كل ما �سبق ي�شي بنيات الإخ���وان ال�سلطوية‪،‬‬ ‫وبتكوينهم الفعلي لتحالف �سلطوي يجمع اليمني الديني‬ ‫والقلب ال�صلب‪� ،‬إذا جاز التعبري لدولة يوليو‪ .‬فهل من‬ ‫مالمح فا�شية يف نظام الإخوان املو�ؤود؟‬

‫تطبيق ال�رشيعة والدولة الإ�سالمية واحلاكم ال�رشعي‬ ‫وقامو�س امل�صطلحات القدمي للإ�سالم ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫ ويف ت�صوري‪ّ � ،‬إن مفهوم «ال�رشعية» الذي ظهر �أول ما‬ ‫ظهر يف �أزمة الإعالن الد�ستوري‪ ،‬يج�سد املزج املده�ش‬ ‫بني الدميقراطية الإجرائية ـ التمثيلية بالأ�سا�س ـ والأفكار‬ ‫ال�شمولية القدمية للإ�سالم ال�سيا�سي الذي ال يزال ميثل‬ ‫الر�صيد الوحيد للإخوان امل�سلمني بعد ف�شلهم يف تكوين‬ ‫حتالف اجتماعي حمافظ ي�ضم اليمني عموم ًا‪ ،‬ال اليمني‬ ‫الديني فح�سب؛ �إذ � ّإن ال�رشعية مفردة قريبة للغاية من‬ ‫ال�رشيعة‪ ،‬وثمة جنا�س �شبه تام بينهما‪ ،‬وا�ستخدامهما يتم‬ ‫ب�شكل متبادل يف خطابات الإخوان وحلفائهم لقواعدهم‪،‬‬ ‫التي ال تزال حتلم بدولة دينية‪ ،‬ويف الوقت نف�سه ال�رشعية‬ ‫ت�شري �إىل نتاج �آليات الدميقراطية املجردة التي قد تنتج‬ ‫�أية �سلطة متثل �إرادة ال�شعب‪ ،‬مبا يف ذلك القوى غري‬ ‫الدميقراطية ‪ -‬الدميقراطية كمحتوى ولي�س فح�سب‬ ‫كانتخابات‪ .‬ولعل هذا يذكرنا مبا نظر له كارل �شميت يف‬ ‫ر�سالته ال�شهرية «يف مفهوم ال�سيا�سي» من � ّأن الدميقراطية‬ ‫كنموذج هي جت�سيد لإرادة ال�شعب العامة واملطلقة بال قيد‪،‬‬ ‫ولذا فهي يف �صورتها الأثينية الأ�صيلة ‪ -‬ن�سبة �إىل �أثينا‬ ‫الإغريقية ‪ -‬ال تنتج �سوى ديكتاتوريات تعبرّ عن ال�شعب‬ ‫املطلق الإرادة‪ ،‬و� ّأن الدميقراطية الليربالية هي نتاج م�شوه‬ ‫وم�شو�ش للجمع بني الدميقراطية كتعبري عن �إرادة ال�شعب‬ ‫املطلقة‪ ،‬والليربالية التي هي نقد لل�سلطة ذاتها مل�صلحة‬ ‫حريات وحقوق الأف��راد يف مواجهة امللك واملجموع‪.‬‬ ‫وكان ت�صور �شميت �أن هذا التناق�ض املميت ميكن �أن ينتج‬ ‫ال كم�صطلح‬ ‫ديكتاتور ًا بني �آن و�آخر‪ ،‬بل � ّإن الديكتاتور �أ�ص ً‬ ‫�أتى �إلينا من اجلمهورية الرومانية لقن�صل مطلق ال�سلطات‬ ‫ينتخبه جمل�س ال�شيوخ‪� ،‬أي � ّأن الديكتاتور بحكم التعريف‬ ‫منتخب ب�شكل دميقراطي يعرب عن �إرادة ال�شعب!‬ ‫ ال �شك � ّأن ح�ضور هذا املكون ال�شمويل ـ ولو على‬ ‫ا�ستحياء وب�شكل انتهازي للغاية ـ ي�شي بوجود عنا�رص‬ ‫للفا�شية يف نظام الإخوان املجه�ض‪ ،‬وخا�صة �أن خوان‬ ‫لينز يرى �أن الفا�شية لي�ست فح�سب ثورة م�ضادة �أو‬ ‫حتالف ًا حمافظ ًا ورجعي ًا‪ ،‬بل هي عادة ذات مكون �شمويل‬ ‫مياهي بني ال�شعب والدولة‪ ،‬وي�صادر التعددية با�سم متثيل‬ ‫اجلوهر احلق لل�شعب‪ .‬ويثبت هذا العن�رص ال�شمويل يف‬ ‫خطاب الإخوان ويف تكتيكاتهم يف رف�ضهم الإقرار حلق‬ ‫املعار�ضة يف الوجود‪ ،‬ورد االحتجاج ال�سيا�سي واملعار�ضة‬ ‫با�ستمرار خلالفات هوياتية ووجودية بالقول �إن معار�ضي‬ ‫الإخوان من فلول النظام ال�سابق �أو من البلطجية �أو من‬

‫هذا ‪ -‬والإ�سالميني عامة ‪ -‬يف ظل رئا�سة مر�سي‪ ،‬ويف‬ ‫حمتوى القوانني والقرارات التي �صدرت عنهم‪ ،‬التي كانت‬ ‫دوم ًا تخطب و ّد �أجهزة الدولة القمعية‪ ،‬وتكر�س ل�سلطوية‬ ‫على ح�ساب احلريات واحلقوق امل�أمولة بعد �إ�سقاط نظام‬ ‫مبارك‪ .‬وهو ما ي�ضع ملمح ًا مبدئي ًا للفا�شية يف املع�سكر‬ ‫الإ�سالمي بقيادة الإخوان‪ ،‬لكونه يعبرّ عن حراك جماهريي‬ ‫ثوري الطابع ـ يف �شكله و�أدواته ومفرداته ـ ولكن مبحتوى‬ ‫حمافظ للغاية‪ ،‬ومع ا�ستدعاء كثيف للجماهري املحافظة‬ ‫هذه لإ�سباغ «الثورية» على م�صادرة احلريات واحلقوق‬ ‫والتكري�س ل�سلطوية حتت قيادة جديدة‪ ،‬هي للإخوان‪.‬‬

‫ال ميكن تف�سري مدلول جُ معتي قندهار الأوىل والثانيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫التي خرج فيها الإ�سالميون بقدهم وقديدهم الحتالل ميدان التحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرير‪،‬‬ ‫�إال يف �ضوء ت�أكيد حتالفهم مع اجلي�ش‪ ،‬بل بالرتويج لأنف�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهم‬ ‫باعتبارهم الطرف ال�سيا�سي الأكرث �شعبية والأ�شد تنظيم ًا وح�ضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوراً‪،‬‬ ‫وبالتايل الأقدر على االتفاق مع الع�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكر‬ ‫مالمح ثالثة لفا�شية النظام الإخواين املجه�ض‬ ‫ميكن احلديث عن ثالثة مالمح رئي�سية لفا�شية نظام‬ ‫الإخوان املرتدي �إىل جانب �سلطويته املثبتة‪:‬‬ ‫ امللمح الأول هو الدور الوظيفي الذي �أداه الإخوان‬ ‫والكتلة الإ�سالمية عامة يف ح�صار احلركة الدميقراطية‬ ‫الثورية وا�ستنزافها و�إجها�ضها بعد �إطاحة مبارك مل�صلحة‬ ‫يروج له البع�ض من �أن‬ ‫القوى املحافظة؛ �إذ خالف ًا ملا ّ‬ ‫االنق�سام املبكر يف �صفوف القوى الوطنية على خلفية‬ ‫ا�ستفتاء مار�س‪�/‬آذار ‪ ٢٠١١‬بني �إ�سالميني وغري �إ�سالميني‬ ‫هو امل�س�ؤول الأول عن تراجع �أجندة الثورة يف مواجهة‬ ‫امل�صالح املحافظة داخل دولة يوليو ال�سلطوية‪ ،‬ف�إن‬ ‫دور الإخوان يف �إجها�ض املحتوى الدميقراطي للتحول‬ ‫ال�سيا�سي كان واعي ًا‪ ،‬وكان جزء ًا �أ�سا�سي ًا من ا�سرتاتيجية‬ ‫اجلماعة يف مرحلة ما بعد مبارك؛ �إذ ال ميكن تف�سري‬ ‫مدلول جمعتي قندهار الأوىل والثانية التي خرج فيها‬ ‫الإ�سالميون بق�ضهم وق�ضي�ضهم الحتالل ميدان التحرير‪،‬‬ ‫�إال يف �ضوء ت�أكيد حتالفهم مع اجلي�ش (يا م�شري �أنت‬ ‫الأمري)‪ ،‬بل بالرتويج لأنف�سهم باعتبارهم الطرف ال�سيا�سي‬ ‫الأكرث �شعبية والأ�شد تنظيم ًا وح�ضور ًا‪ ،‬وبالتايل الأقدر‬ ‫على االتفاق مع الع�سكر‪( .‬حرا�س دولة يوليو �أو ما بقي‬ ‫منها‪ ،‬وكذلك يف �ضوء العداء الأيديولوجي الوا�ضح ل ّأي‬ ‫�أجندة حرياتية �أو حقوقية تعيد ر�سم العالقات بني الدولة‬ ‫واملجتمع يف م�رص بعد الثورة)‪ .‬وقد ا�ستمر دور الإخوان‬ ‫‪88‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ �أما امللمح الثاين للفا�شية لدى نظام الإخوان الوئيد‪،‬‬ ‫فهو املحتوى الأيديولوجي ال�شمويل الذي احتفظ به‬ ‫الإخ��وان يف خطابهم لقواعدهم وللمتعاطفني معهم‬ ‫جنب ًا �إىل جنب مع الرتكيز على �آليات الدميقراطية التي‬ ‫�أو�صلتهم �إىل احلكم‪ ،‬وخا�صة االقرتاع؛ �إذ �إن الإخوان‬ ‫كحركة تنتمي يف املقام الأول �إىل الف�ضاء الديني‪ ،‬ودورها‬ ‫ال من خالل ادعائها متثيل الإ�سالم‬ ‫ال�سيا�سي ي�أتي �أ�ص ً‬ ‫ال�سيا�سي يف جمال ال�سيا�سة‪ ،‬وبهدف اال�ستيالء على‬ ‫دولة ما بعد الكولونيالية لأ�سلمة املجتمع‪ ،‬هذه احلركة‬ ‫مل تتنب الدميقراطية من خالل �أية مراجعات فكرية �أو من‬ ‫خالل ت�أ�صيل عقيدي �أو فقهي‪ ،‬بل ترك الأمر للنفعية‬ ‫البحتة‪ ،‬وللدميقراطية كانتخابات و�سيل ًة للو�صول �إىل‬ ‫ال�سلطة‪ ،‬ومتا�شت رغبة الإخوان يف احلفاظ على هويتهم‬ ‫ال�سيا�سية «الإ�سالمية» بعد �سقوط مبارك ور�ؤيتهم‬ ‫الإجرائية وال�ضحلة للدميقراطية باعتبارها ال حتمل �أي‬ ‫مكون حقوقي �أو حرياتي‪ ،‬بل تقت�رص على �آليات �إنتاج‬ ‫�سلطة ‪ -‬قد تكون هي ذاتها ديكتاتورية �أو حتى �شمولية‬ ‫ وهو التناق�ض القدمي بني الدميقراطية والليربالية الذي‬‫ف�صله كارل �شميت يف نقده للدميقراطية الليربالية‬ ‫يف ثالثينيات القرن املا�ضي‪ .‬واملتابع للتكتيكات التي‬ ‫اتبعها الإخ��وان منذ فرباير ‪ ،٢٠١١‬يجد � ّأن ثمة‬ ‫ال انتهازي ًا للغاية ملفاهيم كالثورة والدميقراطية‬ ‫ا�ستعما ً‬ ‫والدولة املدنية ‪ -‬مبعنى نقي�ض احلكم الع�سكري ‪ -‬مع‬ ‫‪89‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫العلمانيني وامللحدين �أو من الأقباط على نحو مياهي فعلي ًا‬ ‫بني الدولة التي يحكمها الإخوان‪ ،‬والتي يفرت�ض �أنها يف‬ ‫طريقها للأ�سلمة بف�ضلهم‪ ،‬وبني �شعب م�رص امل�سلم الذي‬ ‫ال ي�أتي يف عداده بالطبع غري امل�سلمني دين ًا كامل�سيحيني‪،‬‬ ‫�أو �أيديولوجي ًا باعتبار � ّأن الإ�سالم ال�سيا�سي هو الإ�سالم‪،‬‬ ‫و� ّأن الإ�سالميني هم امل�سلمون‪.‬‬ ‫ال‬ ‫مدخ‬ ‫كانت‬ ‫إجرائية‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫الدميقراطية‬ ‫ ومن املعروف �أن‬ ‫ً‬ ‫للعديد من ال�سلطويات‪ ،‬وللفا�شيات كذلك‪ ،‬ولعل احلالة‬ ‫املدر�سية بالطبع هي حالة هتلر و�أملانيا النازية‪ ،‬وكذا‬ ‫فوز احلزب الفا�شي الإيطايل بالأغلبية الربملانية يف‬ ‫انتخابات ‪ ١٩٢٤‬املقيدة بعد االنقالب الناجح الذي‬ ‫قاده مو�سوليني‪ .‬فقد كانت الدميقراطية الإجرائية عند‬ ‫الإ�سالميني هي عنوان حكمهم ال�رسمدي يف �ضوء‬ ‫تفوقهم التنظيمي من ناحية‪ ،‬ويف �ضوء ر�أ�سمالهم‬ ‫الثقايف الكبري الذي كونوه من خالل �أربعة عقود من‬ ‫�أ�سلمة املجال العام يف ظل رئا�سة ال�سادات ومبارك‬ ‫من ناحية �أخ��رى‪ .‬ولكن لي�س ثمة �ضمانات لتم�سك‬ ‫الإخوان ب�آليات الدميقراطية الإجرائية �أو بعقد انتخابات‬ ‫حرة يف حال ما �إذا كانت �ستهدد حكمهم‪ .‬ورغم �أن‬ ‫هذا احلكم افرتا�ضي‪� ،‬إال �أنه ي�ستند �إىل واقعتني يف ظل‬ ‫حكم مر�سي‪ :‬الأوىل هي ا�ستخدام �أدوات الدولة لتمرير‬ ‫الت�صويت على د�ستور ‪ ،٢٠١٢‬وما �أُثري حول دعاوى‬ ‫التزوير يف ظل غياب الإ�رشاف الق�ضائي‪ .‬والثانية هي‬ ‫قانون مبا�رشة احلقوق ال�سيا�سية وانتخابات جمل�س‬ ‫ال�شعب الذي �أعده جمل�س ال�شورى الإخواين الأغلبية‪،‬‬ ‫أ�رص على توزيع غري متوازن للدوائر مبا يزيد‬ ‫والذي � ّ‬ ‫من ح�صة ال�صعيد واملحافظات الطرفية بنحو �سبعني‬ ‫مقعد ًا على ح�ساب املدن الكربى‪ ،‬التي و�ضح �أنها‬ ‫معاقل مناه�ضة للإخوان‪ ،‬وهي وقائع ّ‬ ‫تدل على �أن التزام‬ ‫الإخوان الدميقراطية حتى ك�إجراءات كان مرتوك ًا لنفعها‬ ‫بالن�سبة �إليهم يف ت�أمني و�صولهم املتكرر لل�سلطة‪.‬‬ ‫ �أما امللمح الثالث والأخري ملحتوى فا�شي ما للنظام‬ ‫الإخواين ال�ساقط‪ ،‬فهو ا�ستدعاء �أدوات القمع غري النظامية‬ ‫لل�سيطرة على املجال العام �ضد اخل�صوم‪ ،‬وقد ظهر هذا‬ ‫بجالء يف ا�ستدعاء اجلماهري «الإخوانية» �أو «الإ�سالمية»‬ ‫املتكررة لدعم قرارات الرئي�س املنتخب‪ ،‬رغم ما يعنيه هذا‬ ‫من �إ�ضعاف البنى امل�ؤ�س�سية التي �أقامها الإخوان �أنف�سهم‬ ‫من خالل �آليات االقرتاع‪ .‬وظهر كذلك يف تقريب العنا�رص‬ ‫الإرهابية املتقاعدة كاجلماعة الإ�سالمية وبقايا اجلهاد‬ ‫الإ�سالمي‪ ،‬والعالقات غري الوا�ضحة املعامل حتى اليوم‪ ،‬بني‬


‫الإخوان والعنا�رص اجلهادية يف �سيناء‪ ،‬ك�أدوات قمع بديلة‬ ‫من ال�رشطة واجلي�ش‪ ،‬يف �ضوء عدم رغبتهما يف �أداء الدور‬ ‫القمعي مبا�رشة مل�صلحة نظام الإخوان‪ .‬على الرغم من �أن‬ ‫ح�ضور وا�ستح�ضار هذه املجموعات �شبه الع�سكرية يف‬ ‫امل�شهد كداعم لل�سلطة الإخوانية يف مواجهة اخل�صوم‬ ‫قد �أتى نتيجة عدم ت�شديد قب�ضة الإخوان على الأجهزة‬ ‫الأمنية والع�سكرية‪� ،‬إال �أن هذه املجموعات لي�ست غري‬ ‫نظامية فح�سب‪ ،‬مثل بلطجية احلزب الوطني‪ ،‬بل هي‬ ‫عنا�رص متثل حركة جماهريية ذات مرجعية �أيديولوجية‬ ‫تدافع عن الدولة‪ ،‬وكلها مالمح فا�شية بامتياز‪.‬‬ ‫ كان امل�سار ال�سيا�سي الذي �سلكه الإخوان بالت�أ�سي�س‬ ‫لنظام يخ�ضع لهيمنتهم على املدى البعيد بقواعد ت�أتي‬ ‫على ح�ساب العديد من القوى ال�سيا�سية واملجتمعية‬ ‫يف�ضي قطع ًا �إىل اللجوء للمزيد من القمع‪ ،‬وكان عقب‬ ‫�أخيل يف هذه التجربة املبكرة هو تعقد �صيغ التعاي�ش مع‬ ‫�أجهزة القمع املوروثة من ع�رص مبارك‪ ،‬التي مل تنهر نتيجة‬ ‫لثورة يناير‪ ،‬بل احتفظت بنف�سها‪ ،‬و�أعادت بناء قدراتها كما‬ ‫هو با ٍد اليوم‪ .‬وبالتايل مل يكن مبقدور الإخوان �أن ي�ستولوا‬ ‫على هذه الأجهزة ب�شكل فوري حتى ت�ؤدي خدمات القمع‬ ‫لهم للت�أ�سي�س ل�سلطتهم‪ ،‬بل �إن هذه الأجهزة كانت هي‬ ‫ذاتها م�صدر تهديد ‪ -‬كما ثبت يف ما بعد ‪ -‬ال�ستمرار‬ ‫حكم الإخ��وان نف�سه‪ ،‬ومن هنا كان اللجوء �إىل فكرة‬ ‫جتيي�ش القواعد املنتمية �إىل امل�رشوع الإ�سالمي والطائفة‬ ‫الإخوانية‪ ،‬وخا�صة � ّأن التنظيم ذاته م�ؤ�س�سة �شبه ع�سكرية‬ ‫بحكم جذورها الفا�شية القدمية يف الثالثينيات من القرن‬ ‫املا�ضي‪ .‬وال �شك � ّأن م�صري �أجهزة الأمن واجلي�ش نف�سه‬ ‫على املدى البعيد‪ ،‬باعتبارها قوى غري موالية للإخوان �أو‬ ‫على الأقل حمايدة‪ ،‬م�صدر قلق وا�سع؛ ل ّأن كل الطرق‬ ‫كانت ت�ؤدي �إىل �إخ�ضاع هذه الأجهزة حلكم الطائفة‪� ،‬إن‬ ‫ال‪ ،‬وحني توفر القدرة على ذلك‪ .‬وهو ما قد‬ ‫ال �أو عاج ً‬ ‫�آج ً‬ ‫�رس حترك الأجنحة الع�سكرية والأمنية‬ ‫يف�رس ـ ولو جزئي ًا ـ ّ‬ ‫واال�ستخبارية �ضد الإخوان يف حزيران ‪ /‬يونيو ‪،٢٠١٣‬‬ ‫رغم �أنها قد �أمنت كافة مكت�سباتها املبا�رشة‪ ،‬ولكن‬ ‫ال‪ ،‬ويبدو �أن اجلميع كان مدرك ًا لهذا‪.‬‬ ‫ال�رصاع كان م�ؤج ً‬ ‫الفا�شية املحتملة‬ ‫�أت��ت تظاهرات ‪ ٣٠‬يونيو‪/‬حزيران وم��ا تالها من‬ ‫احتجاجات �ضد الإخوان لتظهر احل�ضور القوى للعن�رص‬ ‫اجلماهريي‪ ،‬الذي لواله ملا كان ممكن ًا اتخاذ اجلي�ش لقرار‬ ‫�إق�صاء مر�سي عن ال�سلطة‪ .‬وخالف ًا لتظاهرات يناير‪/‬كانون‬ ‫‪90‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫الثاين وفرباير‪�/‬شباط ‪ ٢٠١١‬حينما كان الرتكز يف املدن‬ ‫الكربى يف �شمال م�رص‪ ،‬ف� ّإن ‪ ٣٠‬يونيو‪/‬حزيران �شهد‬ ‫خروج ًا للريف‪ ،‬وتظاهرات يف املراكز واملدن ال�صغرية‬ ‫بالدلتا بجانب حراك م�شهود يف مدن ال�صعيد �ضد حكم‬ ‫الإخ��وان‪ .‬وقد كان هذا اخل��روج اجلماهريي م�صحوب ًا‬ ‫بالكثري من معامل العنف الذي ميكن و�صفه ب�أنه ثوري ‪ -‬ما‬ ‫مل يثبت العك�س بالطبع يف ما بعد ‪ -‬لأنه كان تلقائي ًا من‬ ‫جهة‪ ،‬وم�ستهدف ًا لرموز ال�سلطة من جهة �أخرى‪ .‬وجند � ّأن‬ ‫�صب جام غ�ضبه‬ ‫اجلمهور املحتج على حكم مر�سي قد ّ‬ ‫مقار الإخ��وان امل�سلمني وحزب احلرية والعدالة‬ ‫على‬ ‫ّ‬ ‫والأحزاب ال�صغرية التابعة للإخوان كالو�سط‪ ،‬وهو �سلوك‬ ‫مقار احلزب الوطني و�أق�سام ال�رشطة‪ ،‬ثم‬ ‫�شبيه با�ستهداف ّ‬ ‫مقار �أمن الدولة يف يناير‪/‬كانون الثاين وفرباير‪�/‬شباط‬ ‫ّ‬ ‫‪ ،٢٠١١‬باعتبارها رموز ال�سلطة‪ .‬ومبا � ّأن متلك الإخوان‬ ‫لأجهزة الدولة مل يكن متحقق ًا بالكامل‪ ،‬ف �� ّإن رموز‬ ‫مقار اجلماعة‪ ،‬تعبري ًا كذلك عن قناعة‬ ‫ال�سلطة كانت يف ّ‬ ‫اجلمهور املناه�ض للإخوان برتكز ال�سلطة خارج الدولة‪،‬‬ ‫وكون ال�سلطة احلقيقية يف مكتب الإر�شاد‪.‬‬ ‫املقار الإخوانية‬ ‫ وما مل يثبت يف ما بعد � ّأن ا�ستهداف‬ ‫ّ‬ ‫كان منظم ًا من قبل �أمن الدولة �أو �أجهزة اال�ستخبارات‬ ‫كما يقول الإخ���وان‪ ،‬ف �� ّإن هذا العنف يكون تلقائي ًا‬ ‫وجماهريي ًا‪ ،‬ويكون �شبيه ًا بالعنف الثوري الذي حتدث‬ ‫ال‪ ،‬باعتباره الأفعال اخلارقة للقانون‬ ‫عنه �سوريل طوي ً‬ ‫بغ�ض النظر بالطبع‬ ‫التي ت�ستهدف حتطيم رموز ال�سلطة‪ّ ،‬‬ ‫عن كون هذه ال�سلطة منتخبة من عدمه‪ .‬و�أما �إن كان‬ ‫�صحيح ًا � ّأن ج��زء ًا من هذا العنف موجه بالفعل من‬ ‫جمموعات تتبع الأمن‪ ،‬كالبلطجية امل�أجورين على �سبيل‬ ‫املثال‪� ،‬أو عنا�رص �أمنية متخفية‪ ،‬فيكون الأمر �ساعتها‬ ‫بالفعل �أق��رب �إىل تكتيكات احلركة الفا�شية‪ ،‬على‬ ‫م�ستوى التكتيك على الأقل‪ ،‬حيث تقوم �أجهزة الدولة‬ ‫بدعم ت�شكيالت �أهلية �أو بتوجيه احلركة اجلماهريية �ضد‬ ‫خ�صومها ملحو متثيلهم يف املجال العام‪.‬‬ ‫ �إال � ّأن الت�شابه ال�شكلي بني ميلي�شيات �أو جمموعات‬ ‫�أهلية مدعومة من الدولة والت�شكيالت الفا�شية ال‬ ‫يعني بال�رضورة � ّأن م�رص ب�صدد �سيناريو فا�شي‪ ،‬ل ّأن‬ ‫جمموعات البلطجية امل�أجورين من ال�رشطة (ال�سيا�سية‬ ‫�أو ال�رسية) ال ترقى �إىل م�ستوى الت�صنيف كحركة‬ ‫ال عن كونها جماهريية ‪ -‬يف املقام‬ ‫�سيا�سية ‪ -‬ف�ض ً‬ ‫الأول‪ ،‬بل هي �أقرب �إىل توظيف الدولة لظواهر �إجرامية‬ ‫لعدم قدرتها على توظيف �أجهزة القمع الر�سمية لديها‬

‫لإمتام مهام قمع اخل�صوم‪ .‬وقد كان هذا هو الو�ضع مع‬ ‫احلزب الوطني‪ ،‬وبلطجية الأق�سام املح�سوبني عليه‪،‬‬ ‫الذين كانوا ُي�ستخدمون لتزوير االنتخابات‪ ،‬ثم جرى‬ ‫جمعهم يف موقعة اجلمل ك�أق�صى ما ميكن حت�صيله من‬ ‫ا�ستخدام املجرمني اجلنائيني لتحقيق مهمات �سيا�سية‬ ‫على الأر���ض‪ .‬بيد �أنه �شتان ما بني جمرمني م�أجورين‬ ‫ُي�ستخدمون لأغرا�ض �سيا�سية‪ ،‬وتنظيمات ع�سكرية �أو‬ ‫�شبه ع�سكرية مكونة من مدنيني منتمني �إىل �أيديولوجيا‬ ‫�أو فكر �سيا�سي �أو اجتماعي معني كحال التنظيمات‬ ‫الفا�شية يف الن�صف الأول من القرن الع�رشين‪ ،‬حتى ولو‬ ‫كان االثنان مدعومني من الدولة ب�شكل مبا�رش �أو غري‬ ‫مبا�رش‪ .‬وهنا مربط الفر�س‪ ،‬فلي�س يف م�رص حركة فا�شية‬ ‫مناه�ضة للحركة الإ�سالمية‪ ،‬وال ميكن اختزال احلراك‬

‫�أو ل�سقوط �رشعية مر�سي ب�شكل مبكر‪� ،‬أو لف�شل‬ ‫النظام الدميقراطي �إجرائي ًا يف ا�ستيعاب ال�رصاع‬ ‫االجتماعي وال�سيا�سي‪ .‬وقد يثبت يف ما بعد � ّأن الأجهزة‬ ‫اال�ستخباراتية واجلي�ش قد ا�ستثمروا ا�ستثمار ًا يف تعرث‬ ‫حكم الإخ��وان‪ ،‬ويف ت�صاعد املعار�ضة �ضدهم‪ ،‬ويف‬ ‫فقدانهم لل�شعبية‪ ،‬وفاقموا من م�شكالت احلكم لدى‬ ‫الإخوان بعدم تعاون جهاز الدولة معهم على امل�ستويات‬ ‫املركزية واملحلية‪ .‬ولكن هذا كله ال يجعل احلراك‬ ‫اجلماهريي جت�سيد ًا حلركة فا�شية ب�أي حال من الأحوال‪،‬‬ ‫ولو كان املطلب هو ع��ودة اجلي�ش للحكم‪ ،‬ولو كان‬ ‫املطلب هو �إزالة الدميقراطية الإجرائية‪ ،‬و�إقامة �سلطوية‬ ‫ع�سكرية ب�شكل مبا�رش �أو غري مبا�رش‪ ،‬فهذا كله يندرج‬ ‫حتت بند ال�سلطوية ال الفا�شية‪.‬‬

‫ال ميكن اختزال احلراك اجلمـــــــــــــــــــــــــــــــاهريي‬ ‫ال�شديد ال�ضخامة الذي وقع فـــــــــــــــــــــــــــــــي‬ ‫الثالثني من يونيو‪/‬حزيران‪ ،‬ولو كـــــــــــــــــــــــــــان‬ ‫�ضمن مطالبه القيام بانقالب ع�ســـــــــــــــــــــــكري‬ ‫على رئي�س منتخب‪ ،‬ال ميكن اختزالــــــــــــــــــــــــــه‬ ‫يف �صورة حركة فا�شية؛ لأن غالب احلــــــــــــــــــــراك‬ ‫كان �سلمياً‪ ،‬والعنف كان هام�شـــــــــــــــــــــــــــــــي ًا‬

‫ُّ‬ ‫ت�شكل مزاج مناه�ض للإخوان‬ ‫يف ت�صاعد الأحداث �إىل ‪ ٣٠‬يونيو‪/‬حزيران‪� ،‬شهدت‬ ‫قرى ومدن الدلتا خا�صة ا�شتباكات عنيفة بني املنتمني �إىل‬ ‫جماعة الإخوان و�أهالٍ حانقني على حكم الإخوان لأ�سباب‬ ‫�شتى‪ ،‬وقد ا�ستمرت هذه اال�شتباكات التي قد ترقى �إىل‬ ‫م�ستوى االقتتال الأهلي حتى بعد �إزاح��ة مر�سي عن‬ ‫احلكم‪ ،‬يف �إ�شارة �إىل االنق�سام ال�شعبي احلا ّد حول رئا�سة‬ ‫مر�سي واالنقالب عليه �سواء ب�سواء‪ .‬وتظهر كذلك درجة‬ ‫انعزال الإخوان والتيار الإ�سالمي عامة عن قواعد عري�ضة‬ ‫من امل�رصيني الذين ال يزالون يبحثون عن هوية �سيا�سية‬ ‫تعرفهم يف مواجهة الإ�سالميني �أ�صحاب الهوية ال�سيا�سية‬ ‫الوا�ضحة‪ .‬وقد يكون الإخوان بالفعل هم «الآخر» الذي‬ ‫تت�شكل هوية جماعية م�رصية يف مواجهته‪ ،‬وخا�صة � ّأن‬ ‫املجتمع امل�رصي ال�ضعيف الذي خلفته �ستة عقود من‬ ‫ا�ستبداد دولة يوليو‪ ،‬وم�صادرتها للحريات العامة‪ ،‬مل يجد‬ ‫بعد يناير‪/‬كانون الثاين ‪� ٢٠١١‬سوى تنظيم الإخوان‬ ‫امل�سلمني كتيار �سيا�سي ذي هوية جماعية حمددة ووا�ضحة‬ ‫املعامل‪ ،‬بل وج�سم تنظيمي �أ�شبه بالطائفة الدينية داخل‬ ‫حد تعبري وتو�صيف الراحل ح�سام‬ ‫الأغلبية امل�سلمة‪ ،‬على ّ‬ ‫متام‪ .‬وهو ما يجعل التفاعالت ال�سيا�سية منذ �إطاحة مبارك‬ ‫وحتى اللحظة ت�شكل هويات جماعية يف مواجهة الهوية‬ ‫اجلماعية الوحيدة املعرفة‪ :‬الإخوان‪ .‬وهي حلظة عاي�شناها‬ ‫عدة لعل �أبرزها كان الت�صويت حلمدين �صباحي‬ ‫مرات ّ‬ ‫و�أبو الفتوح يف املرحلة الأوىل لالنتخابات‪ ،‬ثم الت�صويت‬ ‫ل�شفيق يف املرحلة الثانية‪ ،‬ثم اال�صطفاف وراء جبهة‬ ‫الإنقاذ �إبان �أزمة الإعالن الد�ستوري يف نوفمرب‪/‬ت�رشين‬

‫اجلماهريي ال�شديد ال�ضخامة الذي وقع يف الثالثني من‬ ‫يونيو‪/‬حزيران‪ ،‬ولو كان �ضمن مطالبه القيام بانقالب‬ ‫ع�سكري �ضد رئي�س منتخب‪ ،‬ال ميكن اختزاله يف �صورة‬ ‫حركة فا�شية؛ ل ّأن غالب احلراك كان �سلمي ًا‪ ،‬والعنف كان‬ ‫هام�شي ًا‪ .‬بل �إن و�صف احلركة الفا�شية مبعنى تنظيم �شبه‬ ‫ع�سكري ي�ضم منتمني على �أ�سا�س �أيديولوجي داعم‬ ‫لل�سلطة �ضد املعار�ضني ينطبق �أكرث ما ينطبق على‬ ‫الإخوان امل�سلمني والإ�سالميني عموم ًا يف ال�سنة الوحيدة‬ ‫التي حكم خاللها حممد مر�سي و�إخوانه‪ ،‬وهي امل�س�ألة‬ ‫التي �سبقت مناق�شتها‪.‬‬ ‫ �إذن‪ّ � ،‬إن تو�صيف احلركة املناه�ضة للإخوان وحلكمهم‪،‬‬ ‫�سواء من جانب الدولة �أو من جانب اجلمهور على �أنها‬ ‫�رضب من الفا�شية‪ ،‬هو �أمر بعيد كل البعد عن الدقة‬ ‫ال�ستخدام وتوظيف م�صطلح كالفا�شية مبا حتمله من‬ ‫�إ�شارة لفرتة زمنية ولتجارب يف تاريخ ما بني احلربني‬ ‫العامليتني‪ .‬قد ي�صدق و�صف االنقالب الع�سكري على‬ ‫�إزاحة مر�سي‪ ،‬وي�صبح احلراك اجلماهريي جمرد �سياق‬ ‫�سيا�سي لالنقالب باعتباره عنوان ًا لالنق�سام ال�شعبي‪،‬‬ ‫‪91‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫الثاين ودي�سمرب‪/‬كانون الأول ‪ ،٢٠١٢‬وكلها جتليات‬ ‫لكتلة ال يعرفها �سوى مناه�ضتها للإخوان‪ ،‬واخلوف من‬ ‫�سيطرتهم على الدولة وتثبيت دعائم حكمهم‪ ،‬وقد ي�صبح‬ ‫عبد الفتاح ال�سي�سي حال تر�شحه للرئا�سة عنوان ًا لهذه‬ ‫الكتلة يف امل�ستقبل‪.‬‬ ‫ نحن �إذن ب�صدد مزاج عام مناه�ض للإخوان‪ ،‬كان هذا‬ ‫املزاج العام مداد ًا حلركة احتجاجية تريد �إنهاء حكم مر�سي‬ ‫با�ستدعاء القوات امل�سلحة للم�شهد‪ ،‬وهو ما جرى‪ ،‬ولكن‬ ‫ا�ستمرار مقاومة الإخ��وان‪ ،‬واحتالل الطائفة الإخوانية‬ ‫و�أن�صارها حليز مادي من املجال العام يف رابعة العدوية‬ ‫ويف ميدان النه�ضة‪ ،‬ويف امل�سريات التي تخرج بني �آن‬ ‫و�آخر لتعطيل امل�سار ال�سيا�سي البديل‪ ،‬الذي يقوم عليه‬ ‫اجلي�ش‪ ،‬ير�شح ا�ستمرار �أداء الإخ��وان لدور الآخر يف‬ ‫�رصاع لي�س فح�سب هوياتي ًا‪ ،‬بل وجودي كذلك‪ .‬ويتما�شى‬ ‫هذا مع دور الإعالم اخلا�ص والعام يف ر�سم ثنائية الإخوان‬ ‫يف مواجهة ال�شعب امل�رصي ودولته‪ ،‬وهو اخلطاب الذي‬ ‫�أتى مع ت�صاعد العمليات الع�سكرية يف �سيناء‪ ،‬وا�ستدعاء‬ ‫مفردات اخلطاب ال�ساداتي للقومية امل�رصية املبغ�ضة‬ ‫للفل�سطينيني‪ ،‬واملنكبة على الذات‪ .‬و�أتى ذلك �أي�ض ًا مع‬ ‫ت�رصيحات م�س�ؤويل الإخ��وان املتكررة عن ان�شقاقات‬ ‫يف اجلي�ش‪ ،‬وا�ستدعاء الأط��راف الأمريكية والأوروبية‬ ‫لإعادة مر�سي �إىل �سدة احلكم‪ ،‬وهو ما دفع باجتاه الت�أليف‬ ‫بني رافدين متنافرين عادة من اخلطاب القومي امل�رصي‪:‬‬ ‫الرافد ال�ساداتي التايل على كامب ديفيد الكاره للعرب‪،‬‬ ‫والرافد النا�رصي املعادي لال�ستعمار واملتحدث با�سم العزة‬ ‫والكرامة‪ .‬ولي�س من قبيل ال�صدفة �أن تخرج اجلماهري يف‬ ‫‪ ٣٠‬يونيو‪/‬حزيران ويف ‪ ٢٦‬يوليو‪/‬متوز حاملة ل�صور‬ ‫ال�سادات وعبد النا�رص بجانب عبد الفتاح ال�سي�سي‪.‬‬ ‫ وقد �سعى اجلي�ش يف �إزاحته ملر�سي يف ‪ ٣‬يوليو‪/‬‬ ‫متوز �إىل ا�ستدعاء ممثلني لكافة مكونات املجتمع امل�رصي‬ ‫يف م�شهد الإعالن عن �إنهاء حكم مر�سي والإخوان‪،‬‬ ‫وبجانبهم ممثلون عن الدولة امل�رصية‪ ،‬فر�أينا �شيخ الأزهر‬ ‫ال عن حزب النور �أكرب‬ ‫وبطريرك الكني�سة القبطية‪ ،‬وممث ً‬ ‫الأحزاب ال�سلفية‪ ،‬م�ضاف ًا �إليهم حممد الربادعي عن‬ ‫جبهة الإنقاذ‪ ،‬وبالتايل التيار املدين مبكوناته الليربالية‬ ‫والنا�رصية والي�سارية‪ ،‬وكذلك ائتالفات الثورة‪ ،‬وممثلون‬ ‫عن ال�رشطة واجلي�ش والق�ضاء �أي اجلميع عدا الإخوان‪.‬‬ ‫كان هذا هو مبد�أ امل�سار ال�سيا�سي البديل لفكرة �أن‬ ‫م�رص �ضد الإخوان‪ ،‬ولكن نظر ًا �إىل ه�شا�شة الو�ضع‪،‬‬ ‫واحتماالت اندالع حروب �أهلية م�صغرة‪ ،‬ف�إن الهدف‬ ‫‪92‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫�سيا�سي لي�س من �صنعهم هذه املرة بعد انهيار م�سارهم‬ ‫التعي�س الذي بلغ متامه يف د�ستور ‪.٢٠١٢‬‬ ‫ لكن يف الوقت نف�سه‪ّ � ،‬إن هذا اخلطاب الذي ي�رشف يف‬ ‫واقع الأمر على �إنتاج هوية جماعية م�رصية يف مواجهة‬ ‫الإخوان‪ ،‬قد ي�صبح مع ا�ستطالة الأزمة �أمر ًا الزم ًا لظهور‬ ‫وا�ستمرار امل�سار ال�سيا�سي ملا بعد خلع الإخوان‪ ،‬وذلك‬ ‫بالتكري�س ال�ستبعادهم‪ ،‬ال دجمهم‪ ،‬ويكون هذا باملطالبة‬ ‫باملزيد من احلراك اجلماهريي الداعم للجي�ش وال�رشطة‬ ‫ال�ستخدام العنف �ضد اعت�صامات الإخوان وتظاهراتهم‪،‬‬ ‫وبت�أجيج فر�ص االقتتال الأهلي بني الإخ��وان وغري‬ ‫الإخوان‪ ،‬وتتمة هذا امل�سار هي الدفع باال�ستفتاء على‬ ‫تعديالت الد�ستور‪ ،‬و�إقرارها ومن ثم �إ�سباغ �رشعية‬ ‫�إجرائية دميقراطية على امل�سار اجلديد متحو االنقالب‪،‬‬ ‫ثم �إجراء انتخابات رئا�سية يفوز فيها مر�شح للجي�ش‬ ‫ي�صبح جت�سيد ًا للتحالف املناه�ض للإخوان من ناحية‪،‬‬ ‫وللتماهي بني �إرادة ال�شعب و�إرادة الدولة يف مواجهة‬ ‫عدو الدولة‪/‬ال�شعب‪.‬‬ ‫ال‬ ‫ �إن �سيناريو كهذا �سي�ؤ�س�س لنظام �سيا�سي عنوانه �أ�ص ً‬ ‫مواجهة الإخوان ال دجمهم‪ ،‬وهو �أمر بالطبع يتما�شى مع‬ ‫رغبات النخب الأمنية يف عودة �سيطرة الأمن على املجال‬ ‫العام من �أجل �إدارته‪ ،‬وو�صاية اجلي�ش والق�ضاء على املجال‬ ‫ال�سيا�سي اجلديد من �أجل «تر�شيده»‪ ،‬وخا�صة � ّأن االنهيار‬ ‫املبكر للتجربة الدميقراطية يثبت �أن النخب ال�سيا�سية‬ ‫قاطبة غري �أهل لإدارة البالد‪ .‬وي�صبح نتاج امل�سار هذا‬ ‫�شبيه ًا مب�سار الإخوان من حيث ف�شله يف و�ضع قواعد لعبة‬ ‫مقبولة من جميع الأطراف‪ ،‬بل يكون فح�سب �رشعنة قواعد‬ ‫لعبة لطرف على ح�ساب طرف‪ ،‬متام ًا كما فعل الإخوان يف‬ ‫دي�سمرب‪/‬كانون الأول ‪ ٢٠١٢‬بتمرير اال�ستفتاء على‬ ‫د�ستورهم‪ ،‬وهو �أمر بالطبع مل يجد مع نظامهم ال�سيا�سي‬ ‫الذي �رسعان ما تهاوى يف مواجهة معار�ضيه الذين كان‬ ‫النظام م�صنوع ًا لإق�صائهم‪ .‬وقد ير ّد البع�ض بالطبع ب� ّأن‬ ‫خالفا حلال‬ ‫الفارق �سيكون تعاون الدولة مع احلكام اجلدد‬ ‫ً‬ ‫الإخوان �إبان حكمهم‪ ،‬وهو ما يغري ب�رشعنة القمع حتى‬ ‫النهاية بحيث ت�صبح مهمة النظام ال�سيا�سي اجلديد هي‬ ‫�إق�صاء الإخوان و�أن�صارهم‪ ،‬والعمل على ر ّد �رضباتهم التي‬ ‫ت�ستهدف ا�ستقرار النظام اجلديد وفاعليته يف �إدارة ال�ش�أن‬ ‫العام‪ .‬وهذا �أمر بالطبع يعني �إدامة الأزمة اجلارية‪ ،‬وزيادة‬ ‫ال‬ ‫فر�ص العنف املدعوم من الدولة يف مواجهة الإخوان‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫بالطبع عن �أنه �سي�ؤ�س�س لنظام �سيا�سي‪�/‬أمني ال يحمل من‬ ‫الدميقراطية �إال �إجراءاتها و�شكلياتها على �أق�صى تقدير‪،‬‬

‫املبدئي كان �إجبار الإخوان على �إقرار الهزمية‪ ،‬ودجمهم‬ ‫يف امل�سار ال�سيا�سي اجلديد‪ ،‬وهو ما ف�شل فيه اجلميع‬ ‫حتى الآن با�ستمرار االعت�صام‪ ،‬واالجتاه نحو الت�صعيد‬ ‫من اجلانبني حتى تاريخ كتابة هذه ال�سطور‪ .‬ومع ت�صاعد‬ ‫العنف بني الإخ���وان وغ�ير الإخ���وان‪ ،‬وب�ين الإخ��وان‬ ‫وال�رشطة واجلي�ش يف �أح��داث احلر�س اجلمهوري ثم‬ ‫املن�صة بطريق الن�رص‪ ،‬تتزايد حاجة التحالف املناه�ض‬ ‫للإخوان ال�ستدعاء مفردات القومية امل�رصية بروافدها‬ ‫املتعددة ال�ساداتية والنا�رصية �ضد الإخ���وان‪ ،‬يف‬ ‫خطاب وطني �شوفيني (معا ٍد يف جوهره للفل�سطينيني‬ ‫وال�سوريني)‪ ،‬والرتكيز على ال��دور الت�آمري للتنظيم‬ ‫ال��دويل للإخوان امل�سلمني‪ ،‬ودع��م الواليات املتحدة‬ ‫والغرب لهم بغية تق�سيم الوطن‪ ،‬وان�شقاق اجلي�ش‬ ‫امل�رصي‪ ،‬وتكرار �سيناريو �سورية‪.‬‬ ‫ واحلق � ّأن هذا اخلطاب الذي يعمل الإعالم اخلا�ص‬ ‫واع من �أطراف‬ ‫جتل مده�ش‪ ،‬وغري ٍ‬ ‫والعام على �إنتاجه هو ٍّ‬ ‫ال�رصاع‪ ،‬لت�صورات كارل �شميت عن عدو الدولة‪ ،‬وهو‬ ‫بناء هوية قومية جامعة يف مواجهة �أقلية ما‪ ،‬ت�صبح هي‬ ‫عنوان التهديد واخلطر‪ ،‬وترتبط بعدو خارجي‪ ،‬وهو ما‬ ‫كان متحقق ًا مع اليهود يف �أملانيا النازية قبيل �صعود هتلر‬ ‫لل�سلطة وبعده بالطبع؛ فقد كان ينظر لليهود باعتبارهم‬ ‫ على �ض�آلة �أعدادهم ‪ -‬العدو الداخلي الذي يواجه‬‫الدولة الأملانية‪ ،‬وبالتايل ال�شعب‪ .‬ويف الوقت نف�سه كان‬ ‫ه�ؤالء اليهود مرتبطني باخلطر الأكرب اخلارجي‪� ،‬أال وهو‬ ‫االحتاد ال�سوفياتي وال�شيوعية‪ .‬ويبدو �أن هذا هو التكتيك‬ ‫امل�ستخدم مرحليا ً على الأقل لعزل الإخ��وان عن �أية‬ ‫قواعد �شعبية خارج التنظيم‪ ،‬ورمبا خارج التيار الإ�سالمي‬ ‫(وخا�صة مع خذالن الدعوة ال�سلفية لهم يف �رصاعهم‬ ‫املرير)‪ ،‬وهو ما ي�ضمن التماهي بني الدولة وال�شعب‬ ‫(فكرة التفوي�ض يف تظاهرات ‪ ٢٦‬يونيو‪/‬حزيران‬ ‫والنفي املتكرر لأن يكون ما جرى انقالب ًا ع�سكري ًا) يف‬ ‫مواجهة اخلطر املاثل واجلاثم على �صدر الأمة يف رابعة‬ ‫العدوية ويف ميدان النه�ضة (االعت�صامان م�سلحان‬ ‫ويهددان الأمن القومي)‪.‬‬ ‫ يبدو � ّأن هذا اخلطاب الت�صعيدي والإق�صائي بالطبع‬ ‫يجري �إنتاجه يف خ�ضم �أزمة وجودية تتهدد عنا�رص‬ ‫التحالف املناه�ض للإخوان مع ا�ستمرار تعطيل الإخوان‬ ‫للم�سار التايل على خلع مر�سي‪ ،‬وقد يكون الغر�ض منه‬ ‫ �إن كان هناك غر�ض عقالين يف خ�ضم الأزمة اجلارية ‪-‬‬‫هو ك�رس �إرادة الإخوان نهائي ًا‪ ،‬و�إعادة دجمهم يف م�سار‬ ‫‪93‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ولكنه �سيكون يف جوهره نظام ًا �سلطوي ًا منتخب ًا‪ ،‬متام ًا‬ ‫كالنظام الذي كان يريد الإخوان تثبيت �أركانه‪.‬‬ ‫ امل�شكلة مع هذا الت�صور �أنه ال يقوم �إال على ا�ستئ�صال‬ ‫الإخوان من املجال العام‪ ،‬مبعنى �أن يكون للدولة ظهري‬ ‫�شعبي منظم يعبرّ عن �إق�صاء الإخوان‪ ،‬وتدمري مقاومتهم‬ ‫ب�شكل مادي‪ ،‬وهو �أمر غري ممكن با�ستبعاد الإخوان من‬ ‫املجال ال�سيا�سي فح�سب (بحظر الأحزاب الدينية على‬ ‫�سبيل املثال �أو حل جماعة الإخ��وان)‪ ،‬بل يكون مبحو‬ ‫الإخوان كتنظيم من املجال العام‪ .‬ويكون هذا بتكثيف‬ ‫ال�شعور ال�شعبي املعادي للإخوان‪/‬الداعم للجي�ش باعتباره‬ ‫م�ؤيد ًا للدولة‪ ،‬وت�شكيل ميلي�شيات منظمة ع�سكرية �أو �شبه‬ ‫ع�سكرية تتوىل ت�صفية وجود الإخوان ككيان اجتماعي‪،‬‬ ‫وهذا هو �سيناريو الفا�شية املحتملة يف م�رص حال امتداد‬ ‫الأزمة وا�شتدادها يف ال�شهور وال�سنوات القادمة‪.‬‬ ‫ وذلك ل ّأن مثل هذا ال�سيناريو لتثبيت دعائم النظام‬ ‫اجلديد التايل على خلع الإخوان �سيكون لإنهاء ما يبدو‬ ‫�أنه انق�سام �شعبي‪� ،‬إن مل يرق حلرب �أهلية منخف�ضة‬ ‫التكاليف حتى احلني‪ ،‬وهو و�ضع �شبيه ب�إيطاليا بعد احلرب‬ ‫العاملية الأوىل‪ ،‬ومع �صعود احلركة الفا�شية (‪-١٩١٩‬‬ ‫‪� )١٩٢٢‬سيكون حلركة جماهريية منظمة وال�ؤه��ا‬ ‫للدولة وللنظام القائم يف مواجهة حركة �أخرى‪ ،‬هذه املرة‬ ‫�ستكون احلركة الإ�سالمية �أو تنظيم الإخوان‪ ،‬مع الفارق‬ ‫العظيم بالطبع بينها وبني احلركة العمالية يف �إيطاليا يف‬ ‫تلك الفرتة‪ ،‬التي كانت تعبرّ عن مطالب التحول ال�سيا�سي‬ ‫لنظام �أكرث دميقراطية وعدالة اجتماعية‪ ،‬يف حني �أن احلركة‬ ‫الإ�سالمية والإخ��وان خا�صة طوائف حمافظة للغاية‪،‬‬ ‫ف�شل م�سعاها �إىل احلكم نتيجة لف�شلها يف االتفاق مع‬ ‫م�ؤ�س�سات و�أجهزة الدولة القمعية ال �أكرث وال �أقل‪ .‬ولكن‬ ‫الت�شابه هنا يكون على م�ستوى التكتيكات‪ ،‬وهو عنف‬ ‫�أهلي مدعوم من الدولة ب�شكل مبا�رش �أو غري مبا�رش‪� ،‬ضد‬ ‫جماعات �سيا�سية لها �أر�ضية اجتماعية كبرية ‪ -‬رغم ما‬ ‫نالها من انخفا�ض �شديد يف ال�شعبية �إبان حكم الإخوان‬ ‫الق�صري‪ .‬ويكون الهدف هو �إلغاء هذه احلركة من املجال‬ ‫مقار‬ ‫العام‪ ،‬فال يكون لها تظاهرات‪ ،‬وال �إ�رضابات‪ ،‬وال‬ ‫ّ‬ ‫وال اجتماعات‪� ،‬إلخ‪ ...‬ويكون �إ�سناد �أفعال العنف هذه لغري‬ ‫عداء‬ ‫�أجهزة الدولة‪ ،‬ولكن هذه املرة ملجموعات حتمل‬ ‫ً‬ ‫�أيديولوجي ًا للإخوان‪ ،‬فرمبا يكون هذا هو املدخل لنوع ما‬ ‫من الفا�شية التي تظل حمتملة‪ ،‬ولكن مرجحة يف �ضوء‬ ‫تعرث امل�سار ال�سيا�سي احلايل‪ ،‬وا�ستمرار ت�صعيد الإخوان‬ ‫ورف�ضهم االعرتاف بانهيار م�سارهم ال�سيا�سي‪.‬‬


‫ويقول الكتاب �إن م�صالح احتاد ال�صناعات‪ ،‬الذي كان‬ ‫�صدقي �أحد قادته «كانت دائم ًا قريبة من قلبه»‪.‬‬ ‫�إال � ّأن كوابح �صدقي خلقت حالة من الغليان بني قطاعات‬ ‫من املتظاهرين ال�سيا�سيني‪ ،‬و�شارك العمال يف االحتجاج‬ ‫على منظومة �صدقي اال�ستبدادية‪« .‬كان لدى الفقراء‬ ‫والعمال �سبب وجيه ملعار�ضة تلك االج��راءات؛ فقانون‬ ‫�سن االنتخاب‬ ‫االنتخابات �ألغى االنتخاب املبا�رش ورفع ّ‬ ‫وو�ضع موا�صفات (للناخبني) تتعلق مب�ستوى التعليم‬ ‫وامللكية»‪ ،‬كما يو�ضح بنني ولوكمان‪ .‬ومل ي�سفر حتدي‬ ‫�صدقي للجماهري املتطلعة للدميقراطية‪ ،‬بو�ضع د�ستور‬ ‫جديد يقلل من ال�سلطات ال�شعبية‪ ،‬عن ا�ستقرار االو�ضاع‬ ‫ال�سيا�سية التي اراده��ا‪ ،‬اذ تبعتها ا�ضطرابات دفعت‬ ‫ال�سلطة يف النهاية اىل الرتاجع عن الد�ستور و�سقوط هذا‬ ‫النموذج ال�سلطوي‪ ،‬وان كان الرجل قد عاد اىل ال�سلطة‬ ‫بعد �إلغاء د�ستوره يف �سياقات �سيا�سية خمتلفة‪.‬‬

‫التنمية باالستبداد‬

‫ص ّناع القرار‬ ‫نموذج يداعب خيال ُ‬ ‫حممد جاد‬ ‫باحث وحمرر‬

‫اقتصادي يف جريدة‬ ‫الرشوق المرصية‪.‬‬

‫‪94‬‬

‫بعد عامني من اندالع ثورة يناير‪ ،‬وبينما تتزايد اعداد‬ ‫املنتمني �إىل االح��زاب ال�سيا�سية والنقابات العمالية‬ ‫اجلديدة يف م�رص‪ ،‬قد جتد من مييل على اذنك هام�س ًا‬ ‫«ب�رصاحة ال ميكن ان ي�ستمر احلال هكذا‪ ،‬فاالقت�صاد لن‬ ‫يتح�سن يف ظل الدميقراطية»‪ .‬ال تنده�ش؛ فهذا �صوت‬ ‫احد خرباء االقت�صاد الذين ميثلون النخبة املهيمنة على‬ ‫عقل ال�سلطة يف م�رص منذ عقود طويلة‪.‬‬ ‫هذا الإميان الرا�سخ ب�رضورة اال�ستبداد ال�سيا�سي لتحقيق‬ ‫التنمية االقت�صادية كان �سبب ًا رئي�سي ًا يف تعطيل احلياة‬ ‫الدميقراطية واالقت�صادية على مدار العقود املا�ضية‪ ،‬لذا‬ ‫فالعودة اىل التاريخ ومقارنته بالأطروحات االقت�صادية‬ ‫يف مرحلة التحول احلالية �أمر ��ضروري لر�سم �صورة‬ ‫�أو�ضح ل�سيناريوهات امل�ستقبل‪.‬‬ ‫الباحث عن جذور فكرة «التنمية باال�ستبداد»‪ ،‬يجد بع�ض‬ ‫حلظاتها الأبرز يف التاريخ ال�سيا�سي ال�سماعيل �صدقي‪،‬‬ ‫الرجل الذي �شكل حكومة م�رص ثالث مرات قبل ثورة‬ ‫يوليو‪ ،‬يف حقبة مل تكن فيها ال�سيا�سة منف�صلة عن‬ ‫االقت�صاد‪ .‬وهو ما قد يف�رس لنا ملاذا جمع الرجل‪ ،‬لأكرث‬ ‫من مرة‪ ،‬بني تويل وزارتي الداخلية واملالية‪.‬‬ ‫كان ا�سم �صدقي يحظى بثقة كبرية يف االو�ساط ال�سيا�سية‬ ‫لعدة ا�سباب‪ ،‬من �ضمنها خربته االقت�صادية‪ ،‬وكان ي�أخذ‬ ‫على حزب الوفد‪ ،‬احلزب االكرث جماهريية �آنذاك‪ ،‬عدم‬ ‫متتعه بربنامج اقت�صادي ي�شتمل على ر�ؤي��ة وا�ضحة‪.‬‬ ‫ويف �أوىل جتاربه كرئي�س وزراء‪ ،‬خا�ض �صدقي جتربة‬ ‫�صعبة مع اقت�صاد او�شك على االنهيار ب�سبب ت�أثريات‬ ‫ازمة الك�ساد الكبري العاملية �آنذاك على مزارعي القطن‬ ‫امل�رصي وباقي القطاعات التجارية وال�صناعية‪ .‬و�أثبت‬ ‫�صدقي كفاءته بتطبيق حزمة من �سيا�سات الت�شغيل من‬ ‫خالل امل�رشوعات العامة‪ ،‬ك�إن�شاء كورني�ش اال�سكندرية‪،‬‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫وال�سيطرة على ارتفاع اال�سعار يف اال�سواق التجارية‬ ‫و�أ�سعار ايجارات املحا ّل وامل�ساكن‪ .‬كما اكمل امل�رشوع‬ ‫الذي بد�أه �سلفه‪ ،‬حممد حممود‪ ،‬ب�إن�شاء بنك االئتمان‬ ‫ال للمزارعني الذين عانوا من‬ ‫الزراعي الذي وفر متوي ً‬ ‫�ضغوط كبرية يف هذا الوقت‪.‬‬ ‫�إال �أ ّنه يف املقابل‪ ،‬كان �صدقي ي�ؤمن ب�رضورة و�ضع كوابح‬ ‫للعملية الدميقراطية يف م�رص‪ .‬ويف جمال احلديث عن‬ ‫عالقة �صدقي بالدميقراطية‪ ،‬يذكر امل�ؤرخون ق�صة جتربته‬ ‫ال�سيا�سية بعد ثورة ‪ ،1919‬عندما تر�شح للربملان يف‬ ‫الدائرة التي ن�ش�أ فيها‪ ،‬وله عالقة حميمة ب�أهلها‪ ،‬وفوجئ‬ ‫بفوز املر�شح الوفدي فيها‪ ،‬االمر الذي عزاه اىل �شعبية‬ ‫�سعد زغلول‪ .‬وقد افقده ذلك الثقة يف اجلماهري وقدرتها‬ ‫على اختيار قادتها من وجهة نظره‪.‬‬

‫دولة يوليو‪ :‬مع العمال و�ضدهم‬ ‫تعد ثورة يوليو �إنت�صار ًا على النخبة الراف�ضة للإ�صالح‬ ‫االجتماعي‪� ،‬إذ اتت قياداتها بتوجهات وا�ضحة لإعادة‬ ‫توزيع الرثوة و�إطالق عملية التنمية التي مل تنجح يف‬ ‫حتقيقها االح��زاب املت�صارعة قبل عام ‪ 1952‬على‬ ‫النحو املرجو‪ .‬ويف هذا ال�سياق‪ ،‬ا�س ُتدعي رجل �آخر اىل‬ ‫امل�شهد االقت�صادي يحمل للم�صادفة اال�سم نف�سه‪� ،‬أي‬ ‫�صدقي‪� ،‬أق�صد هنا عزيز �صدقي‪ ،‬وهو اول وزير �صناعة‬

‫�سعى �صدقي �أثناء توليه رئا�سة الـــــــــــــــــــــوزراء‬ ‫�إىل و�ضع قيود على حرية النـــــــــــــــــــــــــــاخبني‬ ‫يف اختيار نواب الربملـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان‪،‬‬ ‫وتقنينها من خالل تغييــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر‬ ‫قانون االنتخابات وو�ضع د�ســـــــــــــــــــــتور جديد‬ ‫�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنة ‪1933‬‬ ‫و�سعى �صدقي اثناء توليه رئا�سة الوزراء �إىل و�ضع قيود‬ ‫على حرية الناخبني يف اختيار نواب الربملان‪ ،‬وتقنينها‬ ‫من خالل تغيري قانون االنتخابات وو�ضع د�ستور جديد‬ ‫�سنة ‪ .1933‬ود�أب �أي�ض ًا على و�ضع كوابح للحركة‬ ‫االجتماعية من خالل التعامل مع االحتجاجات العمالية‬ ‫بعقلية �أمنية‪ .‬وات�سمت «�سنوات �صدقي بالقمع وانخفا�ض‬ ‫م�ستويات الن�شاط العمايل»‪ ،‬وفق امل�ؤرخني جويل بنني‬ ‫وزاكاري لوكمان‪ ،‬يف كتاب «عمال على �ضفاف النيل»‪.‬‬

‫قدراتهم التنظيمية‪ .‬وكان ت�أميم احلركة العمالية جزء ًا من‬ ‫عملية جتميد كامل للحياة الدميقراطية‪ ،‬وهو الو�ضع الذي‬ ‫مل يدم‪� ،‬إذ تفاقمت االزمة االقت�صادية لأ�سباب عدة كان‬ ‫من ابرزها غياب الدميقراطية الذي �أدى �إىل �سوء االدارة‬ ‫وتف�شي الف�ساد‪ .‬وفيما اجته النظام اىل �سحب امتيازاته‬ ‫االجتماعية من خالل �سيا�سات االنفتاح‪� ،‬شكلت كل من‬ ‫احلركة الطالبية الدميقراطية وعمال القطاع العام طليعة‬ ‫االحتجاجات يف انتفا�ضة ‪ ،1977‬وموجة التظاهرات‬ ‫التي تلتها خالل حقبة الثماننيات‪.‬‬ ‫االقت�صاديون اجلدد‬ ‫يف عام ‪ ،2007‬اعترب يو�سف بطر�س غايل‪ ،‬احد ابرز‬ ‫اقت�صاديي دولة مبارك‪ ،‬يف حوار مع �صحيفة «الدايلي‬ ‫نيوز» �أن «الوزير الذي يقوم بواجبه ال يحظى بال�شعبية»‪.‬‬ ‫كان ذلك يف احد اعوام النمو االقت�صادي القوي لآخر‬ ‫حكومات مبارك التي مل متنع ال�سخط ال�شعبي ب�سبب‬ ‫غياب العدالة يف توزيع ثمار هذا النمو واالمتيازات‬ ‫القوية التي منحت للم�ستثمرين كقانون ال�رضائب على‬ ‫الدخل الذي و�ضعه غايل عام ‪ 2005‬وخف�ض �رشائح‬ ‫�رضائب ت�صاعدية اىل ‪.%20‬‬ ‫وواج��ه غ��ايل‪ ،‬ال��ذي خدم اط��ول مدة كوزير مالية يف‬ ‫عهد الرئي�س املخلوع‪ ،‬ا�رضاب ًا قوي ًا من موظفي م�صلحة‬ ‫ال�رضائب العقارية انتهى بنجاح العمال يف ت�أ�سي�س نقابة‬ ‫م�ستقلة عن االحتاد «الكوربوراتي» النا�رصي‪ .‬و�شكل‬

‫بعد ثورة يوليو كان ت�أميم احلركة العمالية جزءاً من عمليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫جتميد كامل للحياة الدميقراطية‪ ،‬وهو الو�ضع الذي مل يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدم‪،‬‬ ‫�إذ تفاقمت االزمة االقت�صادية ال�سباب عدة كان من ابرزها غياب الدميقراطيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫الذي �أدى �إىل �سوء االدارة وتف�شي الف�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاد‬

‫خالل اال�شتباكات‬ ‫يف القاهرة بني‬ ‫املحتجني املعار�ضني‬ ‫للحكومة وال�رشطة‬ ‫يف ‪ 28‬كانون‬ ‫الثاين ‪.2011‬‬ ‫‪95‬‬

‫يف العهد النا�رصي‪ .‬لكن رجل الدولة االقت�صادي هذه‬ ‫املرة مل ي�أت من قلب ال�سيا�سة‪ ،‬اذ ُدعي اىل العمل مع‬ ‫النظام ب�سبب ر�سالة دكتوراه عن حتمية الت�صنيع‪ ،‬ففي‬ ‫دولة يوليو بد�أ الف�صل بني ال�سيا�سة واالقت�صاد‪.‬‬ ‫وبينما كان عزيز �صدقي يطبق احدث �سيا�سات التنمية من‬ ‫خالل الت�صنيع يف تلك احلقبة‪ ،‬كان وزير ال�صناعة ال�شاب‬ ‫جزء ًا من م�رشوع �سيا�سي ا�ستبدادي اي�ض ًا‪ .‬فقد �أ�س�س‬ ‫للحركة العمالية قطاع ًا عام ًا قوي ًا‪ ،‬ولكنه و�ضع حركتها‬ ‫النقابية حتت �سلطة احتاد غري دميقراطي‪ ،‬ت�أ�س�س عام‬ ‫‪ 1957‬وال يزال قائم ًا‪ ،‬وهو ما افقد العمال الكثري من‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ذلك البداية حلركة ا�ستقالل نقابي انت�رشت كالعدوى‬ ‫يف القطاعني العام واخلا�ص‪ .‬ولكن غايل واحلكومة‬ ‫النيوليربالية بقوا مبعزل عن هذا احلراك ال�شعبي‪ .‬و�سعى‬ ‫وزير الداخلية القوي يف احلكومة‪ ،‬حبيب العاديل‪ ،‬اىل‬ ‫حما�رصة تظاهرات ال�شباب املطالبة بالتغيري ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫هذا اجلو املتوتر جعل جهود غايل يف «القيام بواجبه»‬ ‫لتمهيد بيئة اال�ستثمار جلذب ر�ؤو�س االموال غري كافية‪،‬‬ ‫�إذ كان العديد من امل�ستثمرين الأجانب يعبرّ ون عن‬ ‫خماوفهم من املخاطر ال�سيا�سية يف حال نقل ال�سلطة من‬ ‫مبارك الأب اىل جنله جمال‪.‬‬



‫هل تغيرّ اخلطاب بعد الثورة؟‬ ‫مع قيام ال��ث��ورة‪ ،‬اعترب العديد من رج��ال االعمال‬ ‫واالقت�صاديني‪� ،‬أن للثورة وجه ًا ايجابي ًا يتمثل يف انهاء‬ ‫م�شكلة التوريث ب�شكل �سلمي‪ ،‬ما يقلل من خماوف‬ ‫امل�ستثمرين‪ ،‬وتركز خطابهم على �رضورة وقف اال�شكال‬ ‫االحتجاجية فور ًا لتمهيد بيئة اال�ستثمار جلذب االموال‪.‬‬ ‫وانت�رش تعبري «اال�رضابات الفئوية» لي�صور احتجاجات‬ ‫العمال على انها اعمال انانية منف�صلة عن الثورة‪ .‬والواقع‬ ‫ان هذا اخلطاب مل يركز‪ ،‬كاملعتاد‪ ،‬على الت�أثري ال�سلبي‬ ‫لال�ستبداد ال�سيا�سي يف ف�شل االقت�صاد‪� ،‬إذ �إن تقارير‬ ‫الت�صنيف االئتماين للوكاالت الدولية منذ عام ‪،2011‬‬ ‫ال يزال منوذج «امل�ســــــــــــــــتبد امل�ســـــــــــــــــتنري»‬ ‫يغازل م�شاعر البعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ�ض‪،‬‬ ‫بالرغم من ان الدر�س التاريخـــــــــــــــــــــــــــــــــي‬ ‫من كل �ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنوات‬ ‫الف�شل االقت�صادي املا�ضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي‬ ‫هو ان اال�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتبداد‬ ‫ال يحقق اال�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتقرار‬ ‫كانت تر�صد كيف �أثرت �أعمال العنف �ضد التظاهرات‬ ‫الدميقراطية �سلب ًا على ر�ؤي��ة تلك امل�ؤ�س�سات للو�ضع‬ ‫عدة‬ ‫امل�رصي‪ ،‬فرتاجع الت�صنيف االئتماين مل�رص مرات ّ‬ ‫ب�سبب احداث كموقعة اجلمل ومذبحة ما�سبريو‪ ،‬و�ضبابية‬ ‫الر�ؤية ب�ش�أن خطة املجل�س الع�سكري لنقل ال�سلطة‬ ‫وعجز حممد مر�سي‪ ،‬اول رئي�س منتخب‪ ،‬عن خلق بيئة‬ ‫من التوافق ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫كذلك عانى العمال من ت�أخر ال�سلطة يف ا�صدار قانون‬ ‫ينظم احلريات العمالية‪ ،‬ومن ا�شكال خمتلفة للقمع‪ ،‬من‬ ‫الهجوم على اعت�صاماتهم بالبلطجية وا�شكال العنف‬ ‫املختلفة وا�ستهداف م�ؤ�س�سي النقابات الدميقراطية‬ ‫بالف�صل التع�سفي وعدم تعديل قانون العمل الذي �صدر‬ ‫يف عهد مبارك (‪ ،)2003‬والذي ي�سهل على �صاحب‬ ‫العمل ف�صل العامل؛ اذ قد ت�صل مدة التقا�ضي يف هذه‬ ‫الق�ضايا لعدة �سنوات‪ ،‬واذا �صدر احلكم مل�صلحة العامل‬ ‫فال يوجد ما يلزم �صاحب العمل ب�إعادته اىل �رشكته‪،‬‬ ‫وي�ستطيع االكتفاء بتعوي�ضه‪ .‬وبالرغم من كل ادوات‬ ‫اال�ستبداد التي ظلت متاحة يف يد الر�أ�سمالية‪ ،‬متكنت‬ ‫احلركة العمالية من ت�أ�سي�س �أكرث من الف نقابة م�ستقلة‪.‬‬ ‫واىل جانب ملف العمال‪� ،‬سببت حرية التعبري والتظاهر‬ ‫‪98‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ف�ضح اوجه الف�ساد‪ ،‬فحذر البع�ض من �أن حما�سبة نخب‬ ‫االعمال القدمية نوع من تخويف اال�ستثمار؛ �إذ تلقى‬ ‫الكثري من االقت�صاديني بامتعا�ض الأحكام الق�ضائية‬ ‫ال�صادرة ببطالن �صفقات اخل�صخ�صة الفا�سدة يف عهد‬ ‫مبارك‪ ،‬بالرغم من حديثهم الدائم عن انه ال اقت�صاد‬ ‫�صحي ًا دون �سيادة للقانون‪.‬‬ ‫باخت�صار‪ ،‬ال تزال الدميقراطية ال تلقى احلما�سة الكافية‬ ‫بني العديد من االقت�صاديني بالرغم من كل التطورات‬ ‫التي حدثت منذ يناير ‪ ،2011‬وال يزال منوذج «امل�ستبد‬ ‫امل�ستنري» يغازل م�شاعرهم‪ ،‬بالرغم من ان الدر�س‬ ‫التاريخي من كل �سنوات الف�شل االقت�صادي املا�ضي هو‬ ‫ان اال�ستبداد ال يحقق اال�ستقرار‪� .‬إذ �رسعان ما �سيثور عليه‬ ‫ال�شعب‪ ،‬وي�سبب بيئة متوترة ال جتذب اال�ستثمارات طويلة‬ ‫االجل؛ �إذ � ّإن حريات العمال يف التنظيم واالحتجاج هي‬ ‫اف�ضل ال�سبل لتحقيق توزيع عادل للمداخيل يف املن�ش�آت‬ ‫االقت�صادية ومن ثم للرثوة داخل املجتمع ب�أكمله‪ ،‬مبا‬ ‫ين�شط اال�ستهالك املحلي ويدفع النمو االقت�صادي‪ .‬كذلك‬ ‫� ّإن الدر�س االكرب هو ان ف�شل الدميقراطية ي�ؤدي اىل ف�ساد‬ ‫امل�ؤ�س�سات القائمة على التنمية‪.‬‬

‫لقطات من مذكرات �إ�سماعيل �صدقي‪:‬‬ ‫قدر ا�ستعداد �أهل بالده‬ ‫ولكن مو�سوليني‪ ...‬مل يكن قد ّ‬ ‫للرقي االخالقي‪ ...‬وهذا هو �رس االنقالب و�رس الف�شل‬ ‫الذريع يف م�شاريعه ال�سيا�سية واحلزبية‪.‬‬ ‫ان ال�صحافة قوة ت�ستطيع �أن تبني‪ ،‬وت�ستطيع �أن تهدم‪،‬‬ ‫وا�ستطاعتها يف الهدم �أ�شد منها يف البناء‪.‬‬ ‫ال �أراين م�رسف ًا اذا قلت ان فريق الدميقراطية كان قد‬ ‫جرب عدة مرات يف احلكم ف�أبدى عجز ًا‪ ،‬و�أو�شك ان‬ ‫ّ‬ ‫يلحق يف كل مرة بالبالد و�سمعتها �رضر ًا بليغ ًا‪ ...‬ذلك‬ ‫�أنه مل ي�سلك يف احلكم ال�سبيل امل�ستقيم‪ ،‬فقد �شغل‬ ‫با�ستدامة ا�سباب النفوذ وال�سلطان لنف�سه‪ ،‬وبتوفريه‬ ‫عما يقت�ضيه‬ ‫وجوه املنافع لأن�صاره والث�أر من خ�صومه‪ّ ،‬‬ ‫احلكم من توافر على النظر يف حاجات البالد و�رضوب‬ ‫ورقيها‪.‬‬ ‫الإ�صالح‪ ،‬وت�ضحية يف �سبيل �إ�سعاد البالد ّ‬

‫معارك التغيري المتوازية‬ ‫إبراهيم الهضييب مل تزل معارك التغيري يف م�رص م�ستمرة‪ ،‬ومل تزل كل‬ ‫اخليارات مطروحة وجميع البدائل ممكنة‪ ،‬رغم مرور �أكرث‬ ‫ناشط وجامعي من �سنتني على خلع الرئي�س مبارك‪ ،‬واملعارك الدائرة‬ ‫ومدون مرصي من التنوع والتعقيد بحيث ت�ستحق بع�ض الت�أمل ّ‬ ‫لفك‬ ‫ّ‬ ‫ت�شابكاتها‪ ،‬وهو ما تهدف �إليه هذه الورقة‪ ،‬التي تنظر �إىل‬ ‫املعارك كتجليات لأزمة ال�رشعية التي تعانيها الدولة‪،‬‬ ‫ال رئي�سي ًا قادر ًا على‬ ‫بعدما �أعادت الثورة اجلماهري فاع ً‬ ‫‪1‬‬ ‫مواجهتها‪ ،‬و�إ�صابتها ‪-‬ي مب�ؤ�س�سات الهيمنة والقيادة‬ ‫فيها ‪ -‬ب�رشوخ عميقة جعلت حتديها ممكن ًا‪ ،‬ويتجلى هذا‬ ‫‪ 1‬املق�صود بالهيمنة‬ ‫ ‬ ‫هنا ما عبرّ عنه‬ ‫التحدي يف ت�آكل �رشعية الأمن��اط املفرو�ضة يف �إدارة‬ ‫�أنطونيو غرام�شي‬ ‫املجتمع ب�أبعاده املختلفة‪.‬‬ ‫بـ ‪،domination‬‬ ‫وبالقيادة ما عرب‬ ‫عنه بـ ‪ .hegemony‬وتذهب الورقة �إىل � ّأن الدولة امل�رصية احلديثة‪ ،‬منذ‬ ‫ن�ش�أتها �إب��ان حكم حممد علي‪ ،‬قد �سلكت م�سارات‬ ‫‪� 2‬سامي زبيدة‪،‬‬ ‫ ‬ ‫التم�صري والتحديث والدولنة‪ ،‬و� ّأن هذه امل�سارات ظلت‬ ‫ال�شظايا تتخيل‬ ‫حاكمة حتى اندالع الثورة‪ ،‬التي هددت �أمناط ال�رشعية‬ ‫�أمة‪ :‬حالة العراق‪،‬‬ ‫يف كيف نقر�أ‬ ‫القائمة على نحو يتجلى يف ثالث ق�ضايا رئي�سية‪ ،‬هي‬ ‫العامل العربي‬ ‫عالقة الدولة باملجتمع‪ ،‬وتعريفها للدين وتنظيمها لعالقتها‬ ‫اليوم؟ ر�ؤى‬ ‫بديلة يف العلوم‬ ‫االجتماعية‪ ،‬حترير به‪ ،‬وتعريفها لالقت�صاد وتنظيمها �إياه‪ ،‬و� ّأن املتغريات يف‬ ‫�إميان حمدي‪ ،‬حنان هذه الق�ضايا هي املرايا الأكرث �صدق ًا يف عك�س م�سارات‬ ‫�سبع‪ ،‬رمي �سعد‪،‬‬ ‫ترجمة ملك التغيري يف م�رص‪.‬‬ ‫ر�شدي‪،‬‬ ‫�رشيف يون�س‪ ،‬دار فـ«الدولة امل�رصية»‪ ،‬التي بد�أت يف الت�شكل مع و�صول‬ ‫العني للن�رش‪-‬‬ ‫‪ ،2013‬حممد علي �إىل احلكم يف ‪ ،1805‬كانت �أ�سبق يف‬ ‫القاهرة‪،‬‬ ‫الوجود من «الأمة امل�رصية»‪ ،‬كما هي احلال يف العديد من‬ ‫�ص ‪.306‬‬ ‫دول العامل الثالث‪ ،‬بل كان لها الف�ضل يف �صناعة الهوية‬ ‫‪ 3‬فينا دا�س‪« ،‬توقيع‬ ‫ ‬ ‫امل�رصية‪ ،‬وذلك بو�سائل عدة‪ ،‬منها «الوظائف االقت�صادية‬ ‫الدولة‪ ،‬مفارقة‬ ‫الغمو�ض‪ ،‬يف‬ ‫كيف ال�رضيبية للدولة وتخ�صي�صها للموارد وتوظيف النا�س‬ ‫نقر�أ العامل العربي‬ ‫يف �صفوفها املت�ضخمة‪ ،‬وي�ستكمل ذلك بنظام تعليم قومي‬ ‫اليوم؟» ر�ؤى‬ ‫بديلة يف العلوم‬ ‫ينتج كفاءات للتوظيف‪ ،‬وحقل ثقايف من و�سائل الإعالم‬ ‫االجتماعية‪،‬‬ ‫يعمل بلغة قومية معيارية»‪ ،2‬وكانت عملية �إعادة �صناعة‬ ‫�ص ‪.325‬‬ ‫‪99‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫الهوية والأمة �سبب ًا يف تهمي�ش الوجود الذاتي لأ�شكال‬ ‫التنظيم االجتماعي املتداخل ال�سابق على الدولة‪ ،‬و�صعود‬ ‫االنتماء �إىل تلك الدولة ‪ -‬تدريجي ًا ‪ -‬كهوية مطلقة‪،‬‬ ‫و�صناعة جماعة وطنية على هذا الأ�سا�س‪ ،‬نخبتها تت�شكل‬ ‫من خليط من املنتمني �إىل اجلماعات الفرعية التقليدية‬ ‫املختلفة (اجلغرافية والوظيفية والطبقية وغريها)‪ ،‬بعد �أن‬ ‫يعاد ت�صنيعهم يف م�ؤ�س�ساتها‪.‬‬ ‫ و�صناعة الدولة بهذه الطريقة قوبلت مبقاومة جمتمعية‪،‬‬ ‫حتاول احلفاظ على الهويات والأمناط االجتماعية والثقافية‬ ‫املتوارثة (و�إن كان وجود متثيل متخيل للفئات املختلفة‬ ‫على ر�أ�س الدولة يخفف منها)‪ ،‬غري �أنها ا�ستبطنت ‪ -‬عرب‬ ‫الزمن ‪� -‬أ�ساليب الدولة ومنطقها‪� ،‬إذ «مبجرد �أن ت�ؤ�س�س‬ ‫ال للحكم من خالل تكنولوجيات الكتابة‪،‬‬ ‫الدولة �أ�شكا ً‬ ‫تكون قد �أ�س�ست يف الوقت نف�سه �إمكانية �أ�شكال التزوير‬ ‫والتقليد واملحاكاة لأداء قوتها»‪� ،3‬أي �إنها ت�ضع الأمناط‬ ‫والأ�س�س احلاكمة ملعار�ضتها واخلروج عليها‪ ،‬التي ت�أتي‬ ‫يف طبقات متعددة‪� ،‬إذا ُنزع �أحدها وجد الذي يليه‪،‬‬ ‫وت�صري جل �أ�شكال املعار�ضة بذلك �إ�شارة �إىل الوقوع‬ ‫حتت �سلطان الدولة‪ ،‬ومن ثم ت�ساهم يف �إ�ضفاء املزيد من‬ ‫ال�رشعية عليها‪ .‬غري �أن الت�آكل الكبري للدولة وقت الثورة‬ ‫فتح �آفاق ًا وا�سعة لإعادة تعريف ال�رشعية وفق معايري غري‬ ‫قانونية (م�ستمدة من ت�صورات لقيم دينية �أو �إن�سانية‬ ‫متجاوزة)‪ ،‬ف� ّأ�س�س ذلك ل�رشعية اخلروج على ال�رشعية‪،‬‬ ‫ويبقى ال�رصاع حمتدم ًا بني �رشعية القانون وال�رشعية غري‬ ‫القانونية حلني الو�صول �إىل نقطة توازن‪.‬‬ ‫من املجتمع �إىل الدولة‬ ‫كان تنظيم �ش�ؤون الأفراد قبل و�صول حممد علي �إىل‬ ‫احلكم يتم بالأ�سا�س من خالل امل�ؤ�س�سات الأهلية‪� ،‬أهمها‬


‫‪4‬‬

‫ ‪Egypt’s Nineteenth-‬‬ ‫‪Century Armaments‬‬ ‫‪Industry. Dunn,‬‬ ‫‪John. 2, s.l. : Society‬‬ ‫‪for Military History,‬‬ ‫‪1997, Vol. 61, p. 233.‬‬

‫‪ 5‬امل�ست�شار طارق‬ ‫ ‬ ‫الب�رشي‪ ،‬امل�سلمون‬ ‫والأقباط يف �إطار‬ ‫اجلماعة الوطنية‪،‬‬ ‫دار ال�رشوق‪،‬‬ ‫القاهرة‪ -‬م�رص‬ ‫‪،2004‬‬ ‫�ص ‪.17-16‬‬ ‫‪ 6‬‬

‫‪Afifi, Muhammad.‬‬ ‫‪«The State and‬‬ ‫‪the Church in‬‬ ‫‪Nineteenth‬‬ ‫‪Century Egypt».‬‬ ‫‪3 November 1999,‬‬ ‫‪Die Welt des Islams,‬‬ ‫‪Vol. 39, pp. 273-288,‬‬ ‫‪p. 282.‬‬

‫‪ 7‬‬

‫‪Farah, Egypt’s‬‬ ‫‪Political Economy,‬‬ ‫‪p. 100.‬‬

‫‪ 8‬امل�ست�شار طارق‬ ‫ ‬ ‫الب�رشي‪ ،‬امل�سلمون‬ ‫والأقباط‪� ،‬ص ‪.36‬‬ ‫‪ 9‬امل�ست�شار طارق‬ ‫ ‬ ‫الب�رشي‪ ،‬امل�سلمون‬ ‫والأقباط‪� ،‬ص ‪.35‬‬ ‫‪ 10‬امل�ست�شار طارق‬ ‫الب�رشي‪ ،‬امل�سلمون‬ ‫والأقباط‪� ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪ 1‬امل�ست�شار‬ ‫‪ 1‬‬ ‫طارق الب�رشي‪،‬‬ ‫�شخ�صيات‬ ‫ت�أريخية‪ ،‬ال�رشوق‪-‬‬ ‫القاهرة‪،2010 ،‬‬ ‫�ص ‪.12‬‬

‫‪ 12‬‬

‫‪Farah, Egypt’s‬‬ ‫‪Political Economy,‬‬ ‫‪p. 29.‬‬

‫‪ 13‬حممد ح�سني‪،‬‬ ‫احلركة العمالية‬ ‫امل�رصية‪.‬‬

‫‪100‬‬

‫الطرق ال�صوفية‪ ،‬وعلماء الأزه��ر‪ ،‬و�شيوخ احلرفيني‪،‬‬ ‫والأوقاف‪ ،‬والكني�سة الأرثوذك�سية‪ ،‬ونظم العمد وامل�شايخ‪،‬‬ ‫وامل�ساجد‪ ،‬وكانت العالقات بني هذه امل�ؤ�س�سات مت�شابكة؛‬ ‫�إذ كان الأزهر «م�ؤ�س�سة �صوفية» ب�سبب انتماء طالبه‬ ‫و�شيوخه �إىل الطرق‪ ،‬وا�ستندت كلتا امل�ؤ�س�ستني‪ ،‬الأزهرية‬ ‫وال�صوفية‪� ،‬إىل م�ؤ�س�سة الوقف لتمويل �أن�شطتهما‪،‬‬ ‫وتعاظمت الروابط بني الطرق ال�صوفية والنقابات‪،‬‬ ‫ف�أن�شئت ‪ -‬على �سبيل املثال ‪ -‬طرق �صوفية للجزارين‬ ‫والنحا�سني‪ ،‬وتقاطعت هذه امل�ؤ�س�سات جميع ًا يف مواقعها‬ ‫اجلغرافية بامل�ؤ�س�سات املحلية‪ ،‬كالعمد وامل�ساجد‪،‬‬ ‫فتداخلت بوظائفها املختلفة «لتحقيق غايات اجلماعة‬ ‫يف �ش�ؤونها املتعددة واملتنوعة واملتداخلة»‪ ،‬وكانت حركة‬ ‫املجتمع ناجتة من جممل هذه التداخالت‪ ،‬مبعنى � ّأن ت�أثري‬ ‫الدولة كان حم��دود ًا‪ ،‬وكانت امل�ؤ�س�سات الأهلية هي‬ ‫الفاعل الرئي�سي يف حركة املجتمع‪.‬‬ ‫ و�شُ غل علي ‪� -‬إبان و�صوله �إىل ال�سلطة ‪ -‬بت�أمني حكمه‬ ‫من طريق �إن�شاء دولة قوية‪ ،‬ف�أممّ الأرا�ضي الزراعية من‬ ‫املماليك‪ ،‬و�أدخل العديد من ال�صناعات اململوكة للدولة‪،‬‬ ‫و�أن�ش�أ نظام ًا للتعليم احلديث لتوفري الكوادر املطلوبة‬ ‫لإدارة البريوقراطية‪ ،‬و�أن�ش�أ جي�ش ًا حمرتف ًا‪ ،‬بلغ ن�صيبه‬ ‫ما ي��راوح بني ‪ 33%‬و‪ 60%‬من الإنفاق ال�سنوي يف‬ ‫الفرتة بني ‪ 1805‬و‪ ،41847‬وكانت بريوقراطية علي‬ ‫وجي�شه نواة الدولة امل�رصية احلديثة‪ ،‬وفيهما ت�شكلت‬ ‫الهوية‪ ،‬ومن خاللهما �أعيد ت�شكيل منط العالقات والإدارة‬ ‫كنتيجة للم�سارات التي �سلكها علي ومن جاء بعده‪.‬‬ ‫ �سلك حممد علي وخلفا�ؤه ثالثة م�سارات متوازية‪،‬‬ ‫�أولها م�سار التم�صري‪ ،‬الذي بد�أ �سنة ‪ 1822‬بان�ضمام‬ ‫�أربعة �آالف من امل�رصيني امل�سلمني �إىل اجلي�ش‪ ،5‬قبل �أن‬ ‫يج ّند خلفه �سعيد الأقباط‪ ،6‬ثم �إلغاء اجلزية وا�ستبدال‬ ‫التجنيد الإجباري للم�رصيني ‪ -‬بقطع النظر عن الدين‬ ‫ بها �سنة ‪ ،71855‬و«مت�صري الق�ضاء ال�رشعي» بتعيني‬‫الق�ضاة من قبل الوايل بدل اخلليفة العثماين يف نف�س‬ ‫ال�سنة‪ ،8‬وتعريب رفاعة الطهطاوي �صحيفة «الوقائع‬ ‫امل�رصية» عند توليه �إدارتها‪ ،‬بعدما كانت الرتكية لغتها‬ ‫الرئي�سية‪ ،9‬و�إن�شاء �أول جمل�س نيابي م�رصي ‪ -‬و�إن‬ ‫بغري �سلطات ت�رشيعية جادة ‪� -‬سنة ‪ ،1866‬وحتول‬ ‫اللغة العربية للغة الر�سمية للمخاطبات احلكومية �سنة‬ ‫‪ ،1869‬وتعيني ق�ضاة من الأقباط يف املحاكم خالل‬ ‫حكم اخلديوي �إ�سماعيل‪ ،‬بالتزامن مع �إن�شاء املحاكم‬ ‫ق�ضاء م�رصي ًا يخ�ضع له امل�رصيون‬ ‫احلديثة‪ ،‬بحيث «�صار‬ ‫ً‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫عامة على �أ�سا�س اجلامعة الوطنية»‪ ،10‬و�إن�شاء احلزب‬ ‫الوطني الأهلي يف ‪ 1879‬على �أر�ضية م�رصية‪ ،‬داعي ًا‬ ‫«من يحرث �أر�ض م�رص ويتكلم لغتها (�أن) ين�ضم لهذا‬ ‫احلزب ف�إنه ال ينظر الختالف املعتقدات»‪ ،11‬وجتلى ذلك‬ ‫ب�شكل �أكرث و�ضوح ًا يف �أعقاب ثورة ‪ ،1919‬بقانون منع‬ ‫متلك الأجانب للأرا�ضي‪ ،12‬وكذا �إن�شاء بنك م�رص �سنة‬ ‫‪( 1920‬لتمويل الأن�شطة ال�صناعة)‪ ،‬واحتاد ال�صناعات‬ ‫بالقطر امل�رصي‪ ،‬الذي �ضم ‪ 90‬ع�ضو ًا بر�ؤو�س �أموال‬ ‫بلغت ‪ 40‬مليون جنيه‪ ،‬ي�ستخدمون ‪� 150‬ألف عامل‬ ‫‪ 97%‬منهم م�رصيون‪.13‬‬ ‫ ثاين امل�سارات املُ�شكلة مل�رص القرنني ال�سابقني كان‬ ‫التحديث‪� ،‬أي الإدارة احلديثة للمجتمع واالقت�صاد‪،‬‬ ‫والقائمة على �أن تقتحم الدولة «املجتمع وتنظم العالقات‬ ‫االجتماعية وت�ستخرج امل��وارد وت�ستخدمها بطريقة‬ ‫حمددة �سلف ًا»‪ ،14‬وقد ظهر ذلك يف �سيطرة الدولة على‬ ‫املوارد االقت�صادية‪ ،‬وت�أميم الأرا�ضي الزراعية (�إال ما‬ ‫كان مملوك ًا لأ��سرة علي)‪ ،‬و�إن�شائها م�رشوعات للري‬ ‫�ضاعفت م�ساحة الأرا�ضي الزراعية‪ ،‬وفر�ضها حما�صيل‬ ‫بعينها على املزارعني‪ ،‬ا�شرتتها منهم ب�أ�سعار منخف�ضة‪،‬‬ ‫ثم �أعادت بيعها يف ال�سوق املحلي �أو اخلارجي‪ ،15‬ثم‬ ‫اهتمامها بـ«ت�شجيع الت�صدير وبناء البنية التحتية الالزمة‬ ‫لتعظيم �إنتاج القطن»‪ ،16‬وا�ستقدام العبيد للم�شاركة‬ ‫يف الأن�شطة الزراعية‪ ،17‬وا�ستخدام عوائد الت�صدير يف‬ ‫البنية التحتية‪ ،‬على نحو �أدى �إىل تزايد الوجود الأجنبي‬ ‫والربط باالقت�صاد العاملي؛ �إذ جنحت بريطانيا يف احل�صول‬ ‫على م�رشوع ال�سكة احلديد بني الإ�سكندرية وال�سوي�س‬ ‫مبباركة الوايل عبا�س حلمي‪ ،18‬ثم ا�ستخدم اخلديوي‬ ‫�إ�سماعيل عوائد الت�صدير يف م�رشوع حتديث القاهرة‬ ‫على النمط الفرن�سي‪ ،‬يف �إطار ما يذهب بع�ض الك ّتاب‬ ‫أعم لتغيري «منط حياة الإن�سان امل�رصي‪...‬‬ ‫�إىل كونه حماولة � ّ‬ ‫غيرّ التقومي من الهجري �إىل امليالدي‪ ،‬وغيرّ ال�ساعة من‬ ‫العربي �إىل الإفرجني‪ ،‬وغيرّ الأزياء‪ ،‬وغيرّ منط املعي�شة»‪،19‬‬ ‫وقد جتلى التحديث كذلك يف «قوانني الفالح» التي‬ ‫�صدرت وقت حممد علي‪ ،‬والتي �أحالت الفالحني �إىل‬ ‫و�سائل �إنتاج‪ ،‬ومنعتهم من الت�رصف يف �إنتاج الأرا�ضي‬ ‫الزراعي على النحو الذي يرغبون‪.‬‬ ‫ �أما ثالث امل�سارات فكان الدولنة‪� ،‬أي �سطو الدولة‬ ‫على امل�ؤ�س�سات الأهلية التي مكنت املجتمع من التنظيم‬ ‫الذاتي ل�ش�ؤونه‪� ،‬إذ ر�أت فيها الدولة تهديد ًا ل�سيادتها‪،‬‬ ‫ف�أخذت يف ب�سط نفوذها التدريجي عليها‪ ،‬حتى �صارت‬

‫‪ 14‬‬

‫‪Owen, Roger.‬‬ ‫‪«Egyptian Political‬‬ ‫‪Economy», MERIP‬‬ ‫‪www.merip.org/‬‬ ‫‪mer/mer169/‬‬ ‫‪egyptian-political‬‬‫‪economy.‬‬

‫‪15‬‬

‫ ‪Farah, Egypt’s Political‬‬

‫‪ 16‬‬

‫‪Economy, p. 26.‬‬

‫‪Farah, Egypt’s Political‬‬

‫‪ 17‬‬

‫‪Economy, p. 27.‬‬ ‫‪Cuno, Kenneth M.‬‬ ‫‪«African Slaves in‬‬ ‫‪19th-Century Rural‬‬ ‫‪Egypt», International‬‬ ‫‪Journal of Middle East‬‬ ‫‪Studies, v 41, 2009,‬‬ ‫‪pp. 186-188.‬‬

‫‪ 18‬الدكتورة لطيفة‬ ‫حممد �سامل‪ ،‬القوى‬ ‫االجتماعية يف‬ ‫الثورة العرابية‪،‬‬ ‫�ص ‪.13‬‬ ‫‪ 19‬الدكتور علي‬ ‫جمعة‪ ،‬التجربة‬ ‫امل�رصية‪ ،‬نه�ضة‬ ‫م�رص‪ -‬القاهرة‪،‬‬ ‫‪� ،2008‬ص ‪.19‬‬ ‫‪ 20‬الدكتور عمار علي‬ ‫ح�سن‪ ،‬التن�شئة‬ ‫ال�سيا�سية للطرق‬ ‫ال�صوفية‪.‬‬ ‫‪ 21‬امل�ست�شارطارق‬ ‫الب�رشي‪ ،‬تقدمي‬ ‫كتاب الأوقاف‬ ‫وال�سيا�سة‬ ‫يف م�رص‪،‬‬ ‫�إبراهيم البيومي‬ ‫غامن‪� ،‬ص ‪.9‬‬ ‫‪ 22‬‬

‫‪Richards and‬‬ ‫‪Waterbury. A Political‬‬ ‫‪Economy, p. 18.‬‬

‫‪ 23‬‬

‫‪«From national‬‬ ‫‪bourgeois‬‬ ‫‪development to Infitah:‬‬ ‫‪Egypt 1952-1992».‬‬ ‫‪Aoude, Ibrahim G. 1, s.l.‬‬ ‫‪Arab Studies Quarterly,‬‬ ‫‪1994, Vol. 16.‬‬

‫‪101‬‬

‫تبع ًا لها‪ ،‬كما حدث مع الأوقاف (ب�إن�شاء ديوان عمومي‬ ‫للأوقاف �سنة ‪1835‬م‪ ،‬ثم منع �إن�شاء الأوقاف اجلديدة‬ ‫�سنة ‪1846‬م‪ ،‬و�إلغاء الديوان ثم �إعادته �سنة ‪،1851‬‬ ‫وحتويله اىل نظارة �سنة ‪ ،1878‬وعودته ديوان ًا �سنة‬ ‫‪ ،1884‬ثم وزارة �سنة ‪ ،1913‬ثم حتول التدخل‬ ‫لـ«م�صارف» الأوقاف‪ ،‬بقانون رقم ‪ 48‬ل�سنة ‪1946‬‬ ‫الذي �سمح ب�إلغاء الأوقاف القائمة‪ ،‬ثم القانون ‪547‬‬ ‫ل�سنة ‪ 1953‬الذي ق�رص النظارة على الدولة وانتزعها‬ ‫من باقي النظار �إال لو كان الواقف هو نف�س الناظر‪ ،‬ثم‬ ‫القانون ‪ 30‬ل�سنة ‪ ،)1957‬والطرق ال�صوفية (ب�إ�صدار‬ ‫فرمانات اعتماد �شيخ م�شايخ الطرق‪ ،‬ثم تدخل الدولة‬ ‫لـ»حتديد جم��االت ال�سلطة لكل من �شيخ ال�سجادة‬ ‫البكرية و�شيخ الأزهر»‪ ،‬ثم �إ�صدار الئحة الطرق ال�صوفية‬ ‫يف ‪1895‬م‪ ،‬فالئحة ‪1903‬م‪ ،‬وتعديالتها ‪1905‬م‪،‬‬ ‫ال للقانون ‪ 118‬ل�سنة ‪ ،20)1976‬والأزه��ر‬ ‫و�صو ً‬ ‫ال�رشيف (بتعيني �شيخه بعد وفاة ال�شيخ �إبراهيم الباجوري‬ ‫�سنة ‪1860‬م‪ ،‬فالتنظيم القانوين لطريقة احل�صول‬ ‫على العاملية وموادها يف ‪ ،1872‬فالتحديد القانوين‬ ‫مل�ؤهالت املدر�س الأزهري يف ‪ ،1885‬فت�أليف جمل�س‬ ‫عالٍ لإدارة الأزهر ‪ ،1908‬فتحديد اخت�صا�ص �شيخ‬ ‫الأزهر يف ‪ ،1911‬فتحديد نظم التعليم يف الأزهر �سنة‬ ‫‪ ،1930‬و�إعطاء امللك حق تعيني وعزل القادة الدينيني‬ ‫ال لقانون ‪103‬‬ ‫يف د�ستوري ‪ 1923‬و‪ ،1930‬وو�صو ً‬ ‫ل�سنة ‪ 1961‬الذي �أحال الأزهر جامعة حكومية و�شيخه‬ ‫موظف ًا تابع ًا للدولة)‪ ،‬ونقابات احلرفيني (احتكار الدولة‬ ‫للخامات والت�سويق‪ ،‬ثم جمع احلرفيني للعمل باجلرب يف‬ ‫امل�صانع احلربية‪ ،‬ثم �إلغاء �صالحيات �شيوخ احلرف يف‬ ‫جمع ال�رضائب والق�ضاء والت�أديب ر�سمي ًا يف عهد �سعيد)‪،‬‬ ‫ومل يكن الو�ضع مغاير ًا يف ما يتعلق بنظام العمد وغريه‬ ‫من التنظيمات االجتماعية‪ ،‬فكانت املح�صلة النهائية‬ ‫�أن قامت الدولة بت�صفية «م�ؤ�س�سات املجتمع التقليدية‪،‬‬ ‫لي�س لإحالل امل�ؤ�س�سات الأهلية ال�شعبية اجلديدة حملها‪،‬‬ ‫ولكن لإحالل ال�سيطرة املركزية للدولة احلديثة حملها‪،‬‬ ‫وهي التي ق�ضت تباع ًا على التكوينات الأهلية التقليدية‪،‬‬ ‫ال لتف�سح لتكوينات �شعبية �أهلية �أحدث و�أكف�أ من حيث‬ ‫الإدارة الالمركزية واتخاذ القرارات الذاتية‪ ،‬ولكنها‬ ‫ق�ضت على القدمي لتنهي الوجود الذاتي مل�ؤ�س�سات تعتمد‬ ‫على فكر و�أعراف و�صالت اجتماعية را�سخة‪ ،‬ولتن�شئ‬ ‫واجهات م�ؤ�س�سات حديثة تن�ش�أ وتعمل حتت الهيمنة‬ ‫ال�سيادية جلهاز الدولة القاب�ض»‪.21‬‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ كانت ثورة يوليو جتلي ًا لهذه امل�سارات الثالثة؛ قادها‬ ‫�أبناء الدولة من الع�سكريني‪ ،‬وت�شابكت فيها م�سارات‬ ‫التم�صري والدولنة والتحديث يف �إج��راءات مثل �إلغاء‬ ‫املحاكم ال�رشعية ‪ ،1955‬و�إلغاء الأحزاب ال�سيا�سية‪،‬‬ ‫وو�ضع الأوقاف اخلريية حتت �سيطرة وزارة الأوقاف‪ ،‬وتوكيد‬ ‫�إخ�ضاع الأزهر ل�سلطان الدولة‪� .‬أما �أهم التجليات‪ ،‬فكانت‬ ‫يف البنية االقت�صادية واالجتماعية‪� ،‬إذ فر�ضت الدولة‬ ‫قيود ًا على متلك الأرا�ضي الزراعية‪ ،‬وفر�ضت �رضائب على‬ ‫القطاع الزراعي بغر�ض ا�ستثمارها يف �أن�شطة �صناعية‪،22‬‬ ‫وبد�أت ب�إ�سهام متوا�ضع للقطاع العام يف الناجت القومي مل‬ ‫يتجاوز ‪ ،2313%‬قبل موجة الت�أميمات التي بد�أت �سنة‬ ‫‪( 1956‬مدفوعة بال�رصاع ال�سيا�سي لتمويل بناء ال�سد‬ ‫العايل‪ ،‬و�شملت جل الأ�صول الفرن�سية والربيطانية يف‬ ‫�أعقاب العدوان الثالثي) وتنامت لتوجد قطاع ًا عاما �ضخما ً‬ ‫يف ال�ستينيات‪ ،24‬وحاولت الدولة تعميق اال�ستقالل‬ ‫االقت�صادي عن اخلارج باال�ستثمار يف �صناعات كالن�سيج‬ ‫لتقليل اال�سترياد ورب��ط ذلك بزراعة القطن وتطوير‬ ‫�صناعات احلديد‪ ،25‬و�أوجد ذلك حاجة لت�ضخم اجلهاز‬ ‫الإداري امل�س�ؤول عن �إدارة القطاع العام‪ ،‬ف�صارت �أكرث من‬ ‫ن�صف القوى العاملة يف غري الزراعة موظفة حكومي ًا‪،26‬‬ ‫وجل�أت م�رص لالقت�صاد املخطط مركزي ًا‪ ،‬و�ضعت �أوىل‬ ‫خططه �سنة ‪ 1957‬ورفعت اال�ستثمار يف ثالث �سنوات‬ ‫من مليونيَ جنيه �إىل ‪ 49.3‬مليون ًا �سنة ‪،1960‬‬ ‫وت�ضخمت يف الفرتة ذاتها القوى العاملة بن�سبة ‪8.5%‬‬ ‫�سنوي ًا‪ ،‬وت�ضاعف اال�ستثمار يف ال�صناعة بن�سبة ‪82%‬‬ ‫خالل ع�رش �سنوات‪ ،‬كان الرتكيز خاللها على ال�صناعات‬ ‫الثقيلة كاحلديد والأ�سمنت والأ�سمدة‪.27‬‬ ‫ كانت الثمرة الأه���م للحقبة النا�رصية احل��راك‬ ‫االجتماعي؛ �إذ ات�سع نطاق التعليم بزيادة عدد الطلبة‬ ‫املقيدين باملدار�س مبعدل ‪� 14%‬سنوي ًا بني ‪1952‬‬ ‫و‪ ،281976‬وارتفعت ن�سبة القيد يف اجلامعات مبعدل‬ ‫‪� 32%‬سنوي ًا يف الفرتة ذاتها‪ ،‬وانخف�ضت ن�سبة فقراء‬ ‫الريف من ‪ 35%‬يف ‪� 1958‬إىل ‪ 27%‬يف ‪،1964‬‬ ‫وانخف�ضت ن�سبة فقراء احل�رض من ‪� 30%‬إىل ‪27.8%‬‬ ‫يف الفرتة ذاتها‪ ،‬وزادت ن�سبة الأجور �إىل �إجمايل الدخل‬ ‫من ‪ 38%‬يف ‪� 1950‬إىل ‪� 50%‬سنة ‪.291967‬‬ ‫من حكم الدولة اىل لتحكم ال�سوق‬ ‫و�صلت الدولة امل�رصية اىل �أوج �سلطانها يف احلقبة‬ ‫النا�رصية‪ ،‬ثم بد�أت يف الرتاجع‪ ،‬ال مل�صلحة املجتمع الذي‬


‫‪ 24‬‬

‫‪Farah, Egypt’s Political‬‬

‫‪ 25‬‬

‫‪Economy, p. 33.‬‬ ‫‪Richards and‬‬ ‫‪Waterbury, A Political‬‬ ‫‪Economy, p. 24.‬‬

‫‪ 26‬‬

‫‪Richards and‬‬ ‫‪Waterbury, A Political‬‬ ‫‪Economy, p. 179.‬‬

‫‪ 27‬‬

‫‪Farah, Egypt’s‬‬ ‫‪Political Economy,‬‬ ‫‪p. 34.‬‬

‫‪ 28‬‬

‫‪Richards and‬‬ ‫‪Waterbury, A Political‬‬ ‫‪Economy, p. 120.‬‬

‫‪ 29‬‬

‫‪Farah, Nadia‬‬ ‫‪Ramsis, «Political‬‬ ‫‪Regimes and Social‬‬ ‫‪Performance: The‬‬ ‫‪Case of Egypt», in‬‬ ‫‪Ibrahim, Keyder‬‬ ‫‪and Oncu eds‬‬ ‫‪Developmentalism‬‬ ‫‪and Beyond, p. 144.‬‬

‫‪ 30‬‬

‫‪Farah, Nadia.‬‬ ‫‪Egypt’s Political‬‬ ‫‪Economy, p. 38.‬‬

‫‪ 31‬‬

‫‪Farah, Nadia.‬‬ ‫‪Egypt’s Political‬‬ ‫‪Economy, p. 39-40.‬‬

‫‪ 32‬‬

‫‪Farah, Nadia.‬‬ ‫‪Egypt’s Political‬‬ ‫‪Economy, p. 39.‬‬

‫‪ 33‬‬

‫‪Elehway, Naglaa‬‬ ‫‪and Nassar,‬‬ ‫‪Heba. «Poverty,‬‬ ‫‪Employment and‬‬ ‫‪Policy Making in‬‬ ‫‪Egypt: A country‬‬ ‫‪profile». Cairo, ILO,‬‬ ‫‪Area Office, 2001.‬‬

‫‪ 34‬‬

‫‪Farah, Nadia.‬‬ ‫‪Egypt’s Political‬‬ ‫‪Economy, p. 41.‬‬

‫‪ 35‬‬

‫‪Farah, Nadia.‬‬ ‫‪Egypt’s Political‬‬ ‫‪Economy, p. 41.‬‬

‫‪102‬‬

‫�سطت عليه‪ ،‬بل ل�صالح ال�سوق الذي فككت امل�ؤ�س�سات‬ ‫املقاومة له (�سواء التنظيمات النقابية �أو امل�ؤ�س�سات الأهلية‬ ‫احلادة من �أثره املجتمعي)‪ ،‬فلم يحتج الرئي�س ال�سادات‬ ‫بعد و�صوله �إىل احلكم �إال لأ�شهر ليعيد توجيه االقت�صاد‬ ‫ال �إعادة ربط‬ ‫بعيد ًا عن �سيا�سات االكتفاء الذاتي‪ ،‬حماو ً‬ ‫م�رص بالنظام العاملي من خالل �سيا�سات االنفتاح‪ ،‬فحفز‬ ‫اال�ستثمار الأجنبي وعظم من �ش�أن القطاع اخلا�ص يف‬ ‫�إدارة امل�رشوعات التنموية‪ ،‬و�أمنه �ضد الت�أميم‪ ،‬و�أعفاه من‬ ‫قوانني العمل النا�صة على وجوب تثبيت العمال ومتثيلهم‬ ‫يف الإدارة وم�شاركتهم الأرب��اح‪ ،30‬واجته االقت�صاد يف‬ ‫جممله للن�شاط الريعي ال الإنتاجي‪ ،‬معتمد ًا على الطفرة‬ ‫يف �أ�سعار البرتول التي �أدت �إىل زي��ادة العوائد (من‬ ‫‪ 187‬مليون دوالر �سنة ‪� 1974‬إىل ‪ 3329‬مليون ًا‬ ‫يف ‪ ،)1981‬وحتويالت العاملني باخلارج (من ‪189‬‬ ‫مليون دوالر يف ‪� 1974‬إىل ‪ 2855‬يف ‪،)1980‬‬ ‫وعلى انتهاء �أجواء احلرب‪ ،‬التي �أدت �إىل زيادة عوائد قناة‬ ‫ال�سوي�س (من ‪ 85‬مليون دوالر �سنة ‪� 1975‬إىل ‪909‬‬ ‫ماليني �سنة ‪ )1981‬وال�سياحة (من ‪ 265‬مليون دوالر‬ ‫�سنة ‪� 1975‬إىل ‪ 611‬مليون ًا �سنة ‪ ،)1981‬وقد‬ ‫ترجمت هذه الزيادات يف الدخل مل�ؤ�رشات �إيجابية يف‬ ‫النمو ال�سنوي لالقت�صاد (راوحت بني ‪ 8%‬و‪21.5%‬‬ ‫بني �سنتي ‪ 1975‬و‪� .31)1981‬إال �أن حتكم ال�سوق‬ ‫�أدى �إىل �أدواء اقت�صادية واجتماعية ج�سيمة‪ ،‬فرتكزت‬ ‫ا�ستثمارات القطاع اخلا�ص يف الأن�شطة غري الإنتاجية‪،‬‬ ‫كالإ�سكان املتميز‪ ،‬وامل�ضاربة يف الأرا�ضي‪ ،‬وا�سترياد �سلع‬ ‫الرفاهية على نحو غري م�سبوق‪ ،32‬و�أدى �إغفال الأن�شطة‬ ‫الت�شغيلية لزيادة معدالت هدم فر�ص العمل عن معدالت‬ ‫�صناعتها‪ ،33‬ومن ثم زيادة معدالت البطالة من ‪4.3%‬‬ ‫يف ‪� 1976‬إىل ‪ 11%‬يف ‪ ،341986‬وتراجع متو�سط‬ ‫الأجر الأ�سبوعي احلقيقي للعامل من ‪ 70‬دوالر ًا �سنة‬ ‫دوالرا �سنة ‪.351991‬‬ ‫‪� 1980‬إىل ‪11‬‬ ‫ً‬ ‫ �سلمت الدولة املجتمع لل�سوق‪ ،‬فبد�أت يف التخلي‬ ‫ال برفع الدعم‪ ،‬من طريق‬ ‫عن م�س�ؤولياتها االجتماعية (�أو ً‬ ‫ال�صدمة التي ولدت �أحداث يناير ‪ ،1977‬ثم من طريق‬ ‫ا�سرتاتيجية بديلة تقوم على االن�سحاب التدريجي)‪ ،‬مع‬ ‫ا�ستمرار فر�ض قيود على التنظيمات العمالية (كالنقابات)‬ ‫وا�ستعمال القانون لإيجاد الظرف املمكن لر�أ�س املال‪،‬‬ ‫ومتت «معاملة العمالة والبيئة (الت�رشيعية واالقت�صادية)‬ ‫كمح�ض �سلع»‪ 36‬يتم توظيفها مل�صلحة تلك املنظومة‪،‬‬ ‫وان�سحبت الدولة من قطاعات ال�صحة‪ ،‬والتعليم‪،‬‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫واخلدمات االجتماعية‪ ،‬وكان من �آثار ذلك على �سبيل‬ ‫املثال بقاء ‪ 44%‬من امل�رصيني �أميني‪ ،37‬رغم مرور �أكرث من‬ ‫‪� 60‬سنة على �سيا�سات عبد النا�رص الرامية �إىل دمقرطة‬ ‫التعليم‪ ،‬وبقي ‪ 13%‬من امل�رصيني حمرومني مياه ال�رشب‬ ‫ال�صحية يف ‪ ،1998‬و‪ 12%‬منهم حمرومني خدمات‬ ‫ال�رصف ال�صحي‪ ،38‬وكذا كان احلال يف ما يتعلق بالغذاء‬ ‫(الذي انخف�ض دعمه خالل �سنوات حكم مبارك بن�سبة‬ ‫‪ 39)50%‬والإ�سكان وغريها من الوظائف االجتماعية‬ ‫للدولة‪� ،‬أي �إن املواطن مل يعد هدف عملية التنمية‪ ،‬بل‬ ‫وقودها �إنتاج ًا وا�ستهالك ًا‪ ،‬وكان الإجناز يف ما يتعلق‬ ‫بالتنمية الإن�سانية «فقري ًا»؛ �إذ تراجع �إجمايل اال�ستثمار‬ ‫يف التنمية الإن�سانية (خالف ًا لباقي املنطقة) لي�صل �إىل‬ ‫‪ 4.1%‬من �إجمايل امليزانية يف ‪.401992/1991‬‬ ‫ بدا متكني ال�سوق اخليار الأوحد املقبول من ال�سلطة‬ ‫يف �سنوات مبارك‪ ،‬فكانت اال�ستجابة للأزمة االقت�صادية‬ ‫الطاحنة مطلع الت�سعينيات ت�سليم ال�سوق زمام الأمور‬ ‫بالكلية‪ ،‬وفق برنامج دويل يقوم على «زيادة ا�ستقالل‬ ‫�رشكات القطاع العام‪ ،‬و�إغالق بع�ض ال�رشكات اخلا�رسة‬ ‫منها‪ ،‬وخ�صخ�صة ال�رشكات الأخ��رى» مع ر�أ�س املال‬ ‫وزيادة اال�ستثمار يف القطاع اخلا�ص‪ ،41‬وتوازى ذلك‬ ‫مع تقييد قدرة البريوقراطية على املقاومة بحزمة من‬ ‫القوانني مكنت من تطويع البريوقراطية‪ ،‬كالقانون ‪203‬‬ ‫ل�سنة ‪ 1991‬الذي حول «امل�ؤ�س�سات امل�رشفة على‬ ‫(�رشكات القطاع العام) الإنتاجية �إىل �رشكات قاب�ضة‪،‬‬ ‫ومنحها �شكل ال�رشكة‪ ،‬ثم جمع كل هذه ال�رشكات من‬ ‫جميع �أنواعها وتخ�ص�صاتها‪ ...‬حتت �إمرة وزير واحد»‪،‬‬ ‫والقوانني ‪ 23‬ل�سنة ‪ 1994‬و‪ 20‬ل�سنة ‪1998‬‬ ‫التي انتق�صت من مهنية جهاز ال�رشطة وجعلت ا�ستمرار‬ ‫ال�رشطي يف وظيفته معتمد ًا على ر�ضا القيادة ال�سيا�سية‬ ‫عنه‪ ،‬والقانون ‪ 142‬ل�سنة ‪ 1994‬الذي «جعل اختيار‬ ‫العمداء بالتعيني ال االنتخاب»‪ ،‬فر�سخ تبعية اجلهاز‬ ‫الإداري يف اجلامعات لل�سلطة ال�سيا�سية‪ ،‬وغريها من‬ ‫القوانني التي زادت من �أهمية الوالء ال�سيا�سي يف اجلهاز‬ ‫البريوقراطي‪ ،42‬فانتق�صت من قدر املهنية فيه‪ ،‬ومن قدرة‬ ‫�صغار موظفيه على االحتكام للوائح والقوانني مقابل‬ ‫ان�صياعهم لتعليمات كبار املوظفني‪ ،‬ومت ا�ستثناء الأن�شطة‬ ‫االقت�صادية التابعة للم�ؤ�س�سة الع�سكرية من اخل�صخ�صة‪،‬‬ ‫التي اقت�رصت على جمموعة من املحا�سيب‪ ،‬بنيت بينهم‬ ‫وبني رجال احلكم والع�سكر �شبكة من امل�صالح ا�ستمرت‬ ‫حتى ال�سنوات الأخرية من حكم مبارك‪.‬‬

‫‪ 36‬‬

‫‪Harvey, David.‬‬ ‫‪A Brief History of‬‬ ‫‪Neoliberalism, p. 70.‬‬

‫‪ 37‬‬

‫‪Richards and‬‬ ‫‪Waterbury, A Political‬‬ ‫‪Economy of the Middle‬‬ ‫‪East, p. 120.‬‬

‫‪ 38‬‬

‫‪UNDP Arab‬‬ ‫‪Human Development‬‬ ‫‪Report, 2002.‬‬

‫‪ 39‬‬

‫‪Maher, Stephen.‬‬ ‫‪The Political Economy‬‬ ‫‪of the Egyptian Uprising.‬‬

‫‪ 40‬‬

‫‪Lofgren, Hans‬‬ ‫‪«Egypt’s Program‬‬ ‫‪for Stabilization‬‬ ‫‪and Structural‬‬ ‫‪Adjustment: An‬‬ ‫‪Assessment». Cairo‬‬ ‫‪Papers In Social‬‬ ‫‪Science. Cairo: The‬‬ ‫‪American University‬‬ ‫‪in Cairo Press, Fall‬‬ ‫‪1993, Volume 16,‬‬ ‫‪Monograph 3, p. 33.‬‬

‫‪ 41‬‬

‫‪Lofgren, Hans‬‬ ‫‪Egypt’s Program‬‬ ‫‪for Stabilization‬‬ ‫‪and Structural‬‬ ‫‪Adjustment, p. 9.‬‬

‫‪ 42‬امل�ست�شار طارق‬ ‫الب�رشي‪ ،‬م�رص بني‬ ‫الع�صيانوالتفكك‪،‬‬ ‫�ص‪.74-68‬‬

‫‪ 43‬‬

‫‪Farah, Nadia.‬‬ ‫‪Egypt’s Political‬‬ ‫‪Economy, p. 45.‬‬

‫‪� 44‬أحمد ال�سيد‬ ‫النجار‪ ،‬تقرير‬ ‫االجتاهات‬ ‫االقت�صادية‬ ‫اال�سرتاتيجية‪،‬‬ ‫مركز الدرا�سات‬ ‫ال�سيا�سية‬ ‫واال�سرتاتيجية‬ ‫بالأهرام‪-‬القاهرة‪،‬‬ ‫‪.2004‬‬

‫‪ 45‬‬

‫‪Farah, Nadia.‬‬ ‫‪Egypt’s Political‬‬ ‫‪Economy, p. 51.‬‬

‫‪103‬‬

‫ ومع �صعود جنم جمال مبارك يف العقد الأخري من‬ ‫حكم مبارك‪ ،‬حل منطق ال�رشكة ب�شكل (�شبه) كامل‬ ‫حمل الدولة‪ ،‬على نحو جتلى يف �صعود وزارة رجال‬ ‫الأعمال يف ‪ ،2004‬وتوليها عمليات خ�صخ�صة‬ ‫على نطاق �أو�سع‪� ،‬شملت بيع ‪� 80‬رشكة قطاع عام‬ ‫يف �سنتني‪ ،‬ب�إجمايل ‪ 19.948‬مليار جنيه‪ ،‬مع اتخاذ‬ ‫تدابري خف�ض العمالة لت�شجيع اخل�صخ�صة �أ�سهمت يف‬ ‫تعميق م�شكلة البطالة‪ ،43‬التي و�صلت يف ‪� 2004‬إىل‬ ‫‪44‬‬ ‫فرفع‬ ‫‪ . 24%‬كذلك تراجع الدور االجتماعي للدولة‪ُ ،‬‬ ‫الدعم جزئي ًا على نحو �أدى ‪� -‬سنة ‪� - 2006‬إىل زيادة‬ ‫ملحوظة يف �أ�سعار املوا�صالت والكهرباء واالت�صال‪،45‬‬ ‫و�صلت يف الغذاء �إىل نحو ‪ ،24%‬وزادت بالتايل يف‬ ‫الفرتة من ‪� 2005‬إىل ‪ 2008‬ن�سبة الأطفال دون‬ ‫اخلم�س �سنوات الذين يعانون من م�شكالت التعذية‪ ،‬من‬ ‫‪� 5%‬إىل ‪ ،7%‬و�صارت قرابة ‪ 75%‬من الأ�رس امل�رصية‬ ‫تنفق �أكرث من ن�صف دخلها على الطعام‪« ،46‬وزادت‬ ‫ن�سبة من يعي�شون حتت خط الفقر �إىل ما يقرب من‬ ‫‪ ،40%‬كما �شهدت الفرتة ذاتها الزيادة املطردة يف‬ ‫معدل الت�ضخم‪ ،‬ليعود �إىل الرقم ‪ 20%‬يف منت�صف عام‬ ‫‪ ،47»2008‬ففر�ض على �أغلبية امل�رصيني الدخول يف‬ ‫معارك يومية من �أجل اال�ستمرار يف احلياة‪.‬‬ ‫ عانت الفئات الأفقر يف املجتمع من متكني ال�سوق‬ ‫�أك�ثر من غريها‪ ،‬فانخف�ض دخل اخلم�س الأفقر من‬ ‫املجتمع بن�سبة ‪ 16.4%‬لي�صل �إىل متو�سط ‪ 102‬جنيه‬ ‫ال يف م�أمن من‬ ‫�شهريا‪ ،48‬فيما كانت الفئات الأوفر دخ ً‬ ‫ً‬ ‫�آثار تلك ال�سيا�سات‪ ،‬بل �إنها ا�ستفادت من ال�سيا�سات‬ ‫االقت�صادية التي «بد�أت م�رشوعات �إ�سكانية وجتارية‬ ‫تتوجه �إىل ال�رشيحة الرثية من املجتمع‪ ،‬والقت رواج ًا‪ ،‬ما‬ ‫يدل على ات�ساع الفجوة الطبقية»‪ ،49‬وعلى � ّأن الأزمة مل‬ ‫تكن يف قلة املوارد فح�سب‪ ،‬بل يف �سوء توزيعها‪ ،‬ونالت‬ ‫حكومات نظيف مع ذلك امتداح امل�ؤ�س�سات االقت�صادية‬ ‫الدولية‪ ،‬فامتدح �صندوق النقد جهود احلكومة التي‬ ‫«تتحرك ب�شكل عنيف يف الإ�صالحات الهيكلية الرئي�سة‬ ‫يف التجارة وال�رضائب وال��دع��م‪ ...‬وو�ضعت خطط ًا‬ ‫خل�صخ�صة جل القطاع العام»‪ 50‬يف ‪ ،2005‬وكرم وزير‬ ‫املالية يو�سف بطر�س غايل يف ‪ ،2008‬و�سمى م�رص‬ ‫�صحح خم�س �سنوات‬ ‫�ضمن �أف�ضل ع�رشة اقت�صادات ُت ّ‬ ‫متتالية‪� ،51‬آخرها كان يف ‪� ،2010‬أي قبل �أيام قليلة‬ ‫من قيام الثورة‪ ،‬التي فتحت �أبواب ًا وا�سعة لتحدي �سلطان‬ ‫ال�سوق‪ ،‬و�رشعية الدولة الداعمة له‪.‬‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫�رصاع الدولة واملجتمع‬ ‫ّ‬ ‫كانت الدولة ‪ -‬كما �سبق ‪ -‬هي املُ َ�ش ِكل الرئي�سي لهوية‬ ‫الأمة امل�رصية‪ ،‬ومل يكن غريب ًا بالتايل �أن تكون م�ؤ�س�ساتها‬ ‫مفرخة �إنتاج النخب ال�سيا�سية وقيادات «احلركة الوطنية»‬ ‫(من عرابي ملبارك مرور ًا بزغلول ونا�رص وال�سادات‪ ،‬وكل‬ ‫رو�ساء الوزارات)‪ ،‬و�أن يكون املعيار الأهم لكفاءة ال�سا�سة‬ ‫هو انتما�ؤهم �إليها‪ ،‬ومع تزايد «دولنة» م�ؤ�س�سات املجتمع‪،‬‬ ‫ومن ثم غياب امل�ؤ�س�سات القادرة على �إفراز القيادات‪،‬‬ ‫حتولت هيمنة الدولة ‪ -‬بحلول نظام نا�رص ‪� -‬إىل االحتكار‪،‬‬ ‫�إذ تزايد االعتماد على رجال اجلي�ش والبريوقراطية يف‬ ‫�سائر املنا�صب ال�سيا�سية كالوزارات واملحافظات‪ ،‬بل‬ ‫ودعمت الدولة تر�شح الكثري منهم للربملان بغرفتيه‪،‬‬ ‫و�صارت الدولة هي املُع ِّرفة مل�صلحة الأمة‪ ،‬وملاهية الأمن‬ ‫القومي‪ ،‬وحلقيقة الهوية امل�رصية بتجلياتها الدينية‬ ‫والثقافية واالجتماعية‪ ،‬وظهرت قيادة الدولة ‪ -‬يف العهد‬ ‫النا�رصي‪ -‬يف �أكرث �صورها �رصامة وجمود ًا‪ ،‬ب�سبب تزايد‬ ‫ال من البريوقراطيني يف‬ ‫ميل الكفة مل�صلحة الع�سكريني بد ً‬ ‫الإدارة‪ ،‬وخا�صة يف املنا�صب العليا‪.‬‬ ‫ �أدى �صعود ال�سوق يف ع�رص ال�سادات وما بعده �إىل‬ ‫تنامي الأن�شطة االقت�صادية غري الع�سكرية للجي�ش‪،‬‬ ‫ك�إن�شاء جهاز م�رشوعات اخلدمة الوطنية الذي �أقام‬ ‫م�رشوعات غري ع�سكرية‪ ،‬وم��رور ًا مبمار�سة الن�شاط‬ ‫االقت�صادي يف جم��االت كثرية‪ ،‬فدخول امل�ؤ�س�سة‬ ‫يف «�رشاكات ا�سرتاتيجية» مع رجال الأعمال خالل‬ ‫�سنوات حكم مبارك‪ ،52‬وتنامي امل�صالح امل�شرتكة بني‬ ‫كبار البريوقراطيني ورجال الأعمال بفعل برامج �إعادة‬ ‫ال �إىل عودة جمال مبارك و�إن�شاء‬ ‫هيكلة االقت�صاد‪ ،‬و�صو ً‬ ‫جلنة ال�سيا�سات يف احلزب الوطني‪ ،‬وكان من ثمار هذه‬ ‫التغيريات �أن ان�ضم طرف ثالث �إىل معادلة احلكم يف‬ ‫م�رص‪ ،‬م�شارك ًا البريوقراطية واجلي�ش‪ ،‬وهو رجال الأعمال؛‬ ‫�إذ كانت من الثمار الطبيعية للم�سار النيوليربايل «التحول‬ ‫من احلكومة (�سلطة الدولة وحدها) �إىل احلوكمة (حتالف‬ ‫�أو�سع من الدولة والعنا�رص الأهم يف املجتمع؛ حتديد ًا‬ ‫ال‬ ‫رجال الأعمال)»‪ 53‬و�أخذ �صعود رجال الأعمال �شك ً‬ ‫تدريجي ًا‪ ،‬بد�أ باقرتابهم من رجال احلكم يف غياب �أوعية‬ ‫ر�سمية ت�ضمهم‪ ،‬ثم ظهر هذا الوعاء يف ‪ 2003‬يف م�ؤمتر‬ ‫احلزب الوطني‪ ،‬ثم �شارك رجل الأعمال حممد ر�شيد يف‬ ‫حكومة �أحمد نظيف يف ‪ 2004‬يف «خطوة جديدة مل‬ ‫ت�شهد مثلها منذ ثورة ‪ ،54»1952‬تبعها تعيني �ستة‬ ‫رجال �أعمال يف احلكومة التالية‪ ،‬وتراجع دور الع�سكريني‬


‫‪ 46‬‬

‫‪Maher, Stephen.‬‬ ‫‪The Political Economy‬‬ ‫‪of Egypt’s Uprising.‬‬

‫‪ 47‬حممد العجاتي‪،‬‬ ‫احلركة االحتجاجية‬ ‫يف م�رص‪،‬‬ ‫�ص ‪.232‬‬ ‫‪ 48‬امل�صدر نف�سه‪،‬‬ ‫ال�صفحة ذاتها‪.‬‬ ‫‪ 49‬امل�صدر نف�سه‪،‬‬ ‫�ص ‪.218‬‬

‫‪ 50‬‬

‫‪. Arab Republic of‬‬ ‫‪Egypt IMF Country‬‬ ‫‪Report No. 05/177.‬‬ ‫‪Washington DC :‬‬ ‫‪s.n., July 2005.‬‬

‫‪ 51‬‬

‫‪Mishrif, Ashraf‬‬ ‫‪«The Political‬‬ ‫‪Economy of Egypt‬‬ ‫‪in Post-Arab‬‬ ‫‪Spring», paper‬‬ ‫‪presented at‬‬ ‫‪BRISMES Annual‬‬ ‫‪Conference 2012:‬‬ ‫‪Revolution‬‬ ‫‪and Revolt:‬‬ ‫‪Understanding the‬‬ ‫‪Causes of Change.‬‬ ‫‪26-28 March 2012,‬‬ ‫‪London School of‬‬ ‫‪Economics and‬‬ ‫‪Political Science‬‬

‫‪ 52‬‬

‫‪Henry and‬‬ ‫‪Springborg,‬‬ ‫‪Globalization‬‬ ‫‪and the Politics of‬‬ ‫‪Development,‬‬ ‫‪p. 192-193.‬‬

‫‪ 53‬‬

‫‪Harvey, A Brief‬‬ ‫‪History of‬‬ ‫‪Neoliberalism,‬‬ ‫‪New York: Oxford‬‬ ‫‪University Press,‬‬ ‫‪2005, p. 77.‬‬

‫‪ 54‬‬

‫‪Farah, Egypt’s‬‬ ‫‪Political Economy,‬‬ ‫‪p.49.‬‬

‫‪104‬‬

‫مقابل رجال الأعمال يف العديد من منا�صب البريوقراطية‪،‬‬ ‫وقد انعك�س هذا الأمر كذلك على القوى املعار�ضة‪ ،‬التي‬ ‫�شهدت �صعود ًا كبري ًا لرجال الأعمال‪ ،‬ال يف الأحزاب‬ ‫الـ«ليربالية» التي ميكن توقع ذلك فيها فح�سب (تويل‬ ‫حممود �أباظة ثم ال�سيد البدوي رئا�سة حزب الوفد)‪ ،‬بل‬ ‫لدى الأطراف الإ�سالمية كذلك (بال�صعود الكبري لتيار‬ ‫رجال الأعمال يف تنظيم الإخ��وان على �سبيل املثال)‪،‬‬ ‫فكانت النخبة ‪ -‬ع�شية الثورة ‪ -‬مكونة من رجال الدولة‬ ‫و«املحا�سيب» من رجال الأعمال‪.‬‬ ‫ يف املقابل‪ ،‬مل يكن املجتمع قادر ًا على �إفراز نخب‬ ‫متثل ‪� -‬سيا�سي ًا ‪ -‬تياراته املختلفة؛ �إذ كان ال�ضمور‬ ‫وال�شلل الذي �أ�صاب م�ؤ�س�ساته التقليدية (الأزهر‪ ،‬الطرق‬ ‫ال�صوفية‪ ،‬نقابات احلرفيني‪ ،‬نظام العمد‪� ،‬إلخ) مع عدم‬ ‫�إيجاد كيانات بديلة (بان�سداد احلياة احلزبية‪ ،‬و�سيطرة‬ ‫الدولة على النقابات واالحت��ادات الطالبية‪ ،‬والت�ضييق‬ ‫على املجتمع املدين عموم ًا)‪ ،‬مانع ًا من �إيجاد بيئات �صحية‬ ‫للتن�شئة ال�سيا�سية خارج ح�ضانات الدولة‪ ،‬وات�سع ب�سبب‬ ‫ذلك البون بني �سا�سة الدولة و�سا�سة املجتمع‪ ،‬بحيث �صار‬ ‫الأولون وحدهم مطلعني على دوالب العمل يف الدولة‪،‬‬ ‫ملمني بالقوانني وال ُّث َغر‬ ‫عارفني بكيفية ت�سيري �أمورها‪ّ ،‬‬ ‫وكيفية ا�ستغاللها وجتنبها‪ ،‬وقادرين على معرفة املعلومات‬ ‫وحتديد �سبل �إدارة هذا اجلهاز العمالق‪ ،‬وكانت عقليتهم‬ ‫(الأمنية بالتحديد) هي احلاكمة يف التعامل مع الأمور‪،‬‬ ‫ب�سبب الرغبة يف �إبقاء الأمور يف نطاق ال�سيطرة‪ ،‬واحلفاظ‬ ‫على الدور الرئي�سي (ورمبا الأوحد) يف تنظيم املجتمع‪،‬‬ ‫فكانت امل�ؤ�س�سة الأمنية (مع القوانني) �أهم و�سائل الدولة‬ ‫يف تفكيك التنظيم الأهلي للمجتمع ال�سابق لوجودها‪،‬‬ ‫ويف احلفاظ على بنية النظام متما�سكة‪ ،‬ما ي�سبب من‬ ‫م�شكالت اقت�صادية واجتماعية‪ ،‬وهي م�ؤ�س�سة مثلت‬ ‫ركن ًا رئي�سي ًا لدولة علي منذ وجدت‪ ،‬بدء ًا من �إن�شاء‬ ‫ديوان الوايل �سن ‪ ،1805‬ومرور ًا برفع م�ستوى ثالثة‬ ‫دواوين (�ضمنهم اجلهادية والداخلية) �إىل م�ستوى النظارة‬ ‫يف عهد �سعيد‪ ،‬وحتول النظارة لوزارة مع �إعالن احلماية‬ ‫ال �إىل ما �سبق احلديث عنه من‬ ‫الربيطانية‪ ،55‬وو�صو ً‬ ‫«ع�سكرة» و«�أمننة» م�ؤ�س�سات الدولة يف العقود ال�سابقة‬ ‫للثورة‪ .‬فلما قامت الثورة‪ ،‬كان �أول �إجنازاتها �إعادة املجتمع‬ ‫�إىل واجهة امل�شهد (و�إن ب�شكل غري منظم)‪ ،‬ودفع الدولة‬ ‫للخلفية بك�رس تلك الع�صا الأمنية‪.‬‬ ‫ وبغياب الع�صا الأمنية القادرة على تنفيذ ما متليه �إرادة‬ ‫الدولة انفتحت جبهة �رصاع مل ينته بني الدولة واملجتمع؛‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫فرجال الدولة ببريوقراطيتها وع�سكريتها يرون �أنف�سهم‬ ‫�أو�صياء على املجتمع‪ ،‬ويلخ�صون �أزمة الثورة يف حتكم‬ ‫ال�سوق بال�صعود الكبري لرجال الأعمال (الأم��ر الذي‬ ‫حاولت القوات امل�سلحة عك�سه بامل�سارعة �إىل ا�سرتداد‬ ‫املواقع و�إزاحة بع�ض رجال الأعمال غري املرتبطني مب�صالح‬ ‫معها وحب�سهم يف �أعقاب الثورة)‪ ،‬ورجال الأعمال قبلوا‬ ‫بالرتاجع لل�صفوف اخللفية يف احلكم مع حفظ م�صاحلهم‬ ‫و�ضمان بقاء ت�أثريهم على �سري الأمور (كما ظهر ب�شكل‬ ‫متكرر يف ت�رصيحات رجال الأعمال امل�صاحبني للرئي�س‬ ‫يف جوالته اخلارجية)‪ ،‬و�أما املجتمع الذي �أعادته الثورة‬ ‫ال‪ ،‬ومل يعد‬ ‫لقلب امل�شهد فلم يعد ا�ستبعاده خيار ًا مقبو ً‬ ‫فر�ض الإبعاد عليه متاح ًا مع ت�آكل ع�صا الدولة‪ ،‬وبالتايل‬ ‫ظلت ال�سلطة «ملقاة يف ال�شوارع‪ ،‬ومن يحاول التقاطها‬ ‫حت��رق ي���ده»‪56‬؛ لأن��ه مل يتقدم �إليها بعد من يحظى‬ ‫بال�رشعية الالزمة لذلك؛ فالإدارة بال�سوق �رضرها املبا�رش‬ ‫يدفع فئات وا�سعة ملقاومتها‪ ،‬والدولة �رشعيتها حتت‬ ‫الق�صف ب�سبب منطقها الفوقي‪ ،‬واملجتمع عاجز عن �إفراز‬ ‫القيادات القادرة على الإدارة‪ ،‬وعاجز‪ -‬قبل ذلك ‪ -‬عن‬ ‫تقدمي قيادات حتظى بقدر مقبول من امل�رشوعية املجتمعية‬ ‫(ظهر هذا مبكر ًا جد ًا‪ ،‬باجلدل هو اجلهة التي ميكنها ت�سلم‬ ‫ال�سلطة من مبارك‪ ،‬وكانت جل اخليارات املطروحة تتجه‬ ‫للدولة لعدم وجود البديل يف املجتمع‪ ،‬فاقترُ ح رئي�س‬ ‫املحكمة الد�ستورية‪ ،‬والقوات امل�سلحة‪ ،‬و�أما االختيار من‬ ‫خارج الدولة فلم تنجح �أي �أ�سماء مطروحة يف بناء توافق‬ ‫حولها‪ ،‬ومل يحظ � ٌّأي منها ‪ -‬فرد ًا �أو جماعة ‪ -‬بالقدر‬ ‫ال جاد ًا‪ ،‬وا�ستمر هذا‬ ‫الكايف من ال�رشعية الذي يجعله بدي ً‬ ‫الأمر يف ا�ستطالعات الر�أي التي تظهر تراجع ًا يف �شعبية‬ ‫الرئي�س ال يقابله تقدم يف �رشعية خ�صومه)‪.‬‬ ‫ ال�رصاع على ال�رشعية بني الدولة واملجتمع (مع‬ ‫الرتاجع اجلزئي‪ ،‬واملرحلي على الأق��ل لفكرة �سيادة‬ ‫ال�سوق) يتجلى‪ ،‬على �سبيل املثال يف اجلدل املحتدم‬ ‫حول م�رشوعات القوانني املنظمة للمجتمع املدين‪ ،‬وحلرية‬ ‫تداول املعلومات؛ فمنطق الدولة فيها �إحكام ال�سيطرة‬ ‫والرقابة يف ما يت�صل باملجتمع املدين ل�ضمان تبعيته‪،‬‬ ‫والتو�سع يف احلظر يف تداول ون�رش واملعلومات حفاظ ًا‬ ‫على «الأمن القومي»‪ ،‬واملجتمع يرى �أنه ‪ -‬يف احلالتني ‪-‬‬ ‫�صاحب ال�سيادة‪ ،‬و�أنه لي�س ثمة ما ي�ستدعي املبالغة يف‬ ‫�إخ�ضاع �إرادة م�ؤ�س�ساته للدولة‪ .‬ويتجلى ال�رصاع كذلك‬ ‫يف الأزمات املتكررة يف �سيناء التي تنظر الدولة املركزية‬ ‫للمواطنني فيها بريبة‪ ،‬لأنهم ال «ي�شبهون» املركز بالدرجة‬

‫الكافية‪� ،‬أي � ّإن هوياتهم ال تتما�شى مع تلك التي ت�صنعها‬ ‫الدولة وتقوم على حمايتها‪ ،‬ومن ثم فاللجوء للحلول‬ ‫الأمنية معهم متكرر‪ ،‬كما يظهر يف ا�ضطرار الرئي�س �إىل‬ ‫اللجوء لبع�ض رجال الدولة ال�سابقة‪ ،‬لعجز القادمني من‬ ‫املجتمع عن �إدارة اجلهاز البريوقراطي العمالق‪ ،‬ويظهر‬ ‫ �أخرياً ‪ -‬يف املطالبات املتزايدة باللجوء للجي�ش (قلب‬‫الدولة) باعتباره الأق��در على �إدارة املجتمع مع تنامي‬ ‫الأزم��ات االجتماعية واالقت�صادية وزي��ادة االحتقان‬ ‫والعنف ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫ وهذا ال�رصاع بني الدولة واملجتمع مر�شح لال�ستمرار‬ ‫ردح ًا من الزمن؛ �إذ العودة للإق�صاء الكامل للمجتمع تبدو‬ ‫بعيدة يف ظل تغري الأو�ضاع بعد الثورة‪ ،‬وب�سبب غياب‬ ‫احتكار الدولة للعنف ال�رشعي‪ ،‬و�ضعف �آلتها القمعية‬ ‫مقارنة بات�ساع دوائر االحتجاج ال�سيا�سي واالجتماعي‪،‬‬ ‫واملجتمع ‪ -‬يف اجلهة الأخ��رى ‪ -‬مل ي��زل حتركه غري‬ ‫من�ضبط مب�ؤ�س�سات تعرب عنه‪ ،‬ومل ي�ستعمل بعد املن�صات‬ ‫ال�صاحلة لإفراز القيادات والتعبري عن املجتمع بتنوعاته‪،‬‬ ‫ومنها املحليات والنقابات‪� ،‬أو ما يقوم مقامها يف الإدارة‬ ‫املبا�رشة لأمور املجتمع من خارج الدولة‪ ،‬والتما�س معها‬ ‫ومتثيلهم لديها‪ ،‬بحيث يكون التعامل مع جهاز الدولة‬ ‫وفهمه من خارجه‪.‬‬

‫‪ 55‬ب�سمة عبد العزيز‪،‬‬ ‫�إغراء ال�سلطة‬ ‫املطلقة‪ :‬م�سار‬ ‫العنف يف عالقة‬ ‫ال�رشطة باملواطن‬ ‫عرب التاريخ‪،‬‬ ‫�صف�صافة‪-‬القاهرة‪،‬‬ ‫‪� ،2011‬ص ‪.18‬‬ ‫‪ 56‬بالل عالء‪ ،‬ال�سلطة‬ ‫ال تزال ملقاة يف‬ ‫ال�شوارع ظلت‬ ‫ال�سلطة «ملقاة يف‬ ‫ال�شوارع‪ ،‬ومن‬ ‫يحاول التقاطها‬ ‫حترق يده‪ »،‬لأنه مل‬ ‫يتقدم �إليها بعد من‬ ‫يحظى بال�رشعية‬ ‫الالزمة لذلك‪.‬‬

‫‪105‬‬

‫ال�رصاع على الإ�سالم‬ ‫ال�رصاع على الإ�سالم ‪ -‬من حيث تعريفه‪ ،‬وحتديد‬ ‫�شكل عالقته باحلكم ‪ -‬ال تخطئه عني باحث يف م�رص‬ ‫الثورة‪ ،‬وهو �رصاع ميكن قراءته يف �إطار االنتقال من‬ ‫�إدارة املجتمع لل�سوق عرب الدولة‪ ،‬ويح�سن تق�سيمه �إىل‬ ‫�س�ؤالني فرعيني‪� :‬أولهما يتعلق بتعريف الإ�سالم‪ ،‬وثانيهما‬ ‫يتعلق بالعالقة بني امل�ؤ�س�سات ال�رشعية وال�سيا�سية‬ ‫وم�ؤ�س�سات احلكم يف م�رص‪.‬‬ ‫ �أم��ا من حيث التعريف‪ ،‬فقد ك��ان مدلول لفظة‬ ‫«ال�رشيعة» حتى الثلث الأخري من القرن التا�سع ع�رش‬ ‫ين�رصف �إىل االعتقاد الأ�شعري‪ ،‬والفقه املذهبي (�أي‬ ‫اتباع املذاهب ال�سنية الأربعة امل�شهورة)‪ ،‬وال�سلوك‬ ‫ال�صويف الطرقي‪ ،‬وكان التجلي الرئي�سي لها يتمثل‬ ‫على امل�ستوى العلمي يف م�ؤ�س�سة الأزه���ر‪ ،‬وعلى‬ ‫امل�ستوى االجتماعي يف الطرق ال�صوفية التي انتظم‬ ‫فيها جل امل�رصيني‪ ،‬ويف التعليم الذي كان يف جممله‬ ‫خا�ضع ًا للأزهر‪ ،‬وكانت تلك املنظومة ‪ -‬يف �شقها العلمي‬ ‫ م�ستقلة �إىل حد بعيد عن الدولة‪ ،‬وحملت من التنوع‬‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ يف بعديها الفقهي وال�صويف‪ ،‬ويف ما يت�صل بهما‬‫كنقابات احلرفيني ‪ -‬قدر ًا ال ب�أ�س به‪ ،‬و�إن ظل مقيد ًا‪.‬‬ ‫ وا�ستبدل دين الدولة بدين املجتمع من خالل دولنة‬ ‫امل�ؤ�س�سة الدينية ووظائفها‪ ،‬وهو ما بد�أ ب�إن�شاء التعليم‬ ‫احلديث الذي ك�رس هيمنة الأزهر على املجال العام‪ ،‬ثم ك�رس‬ ‫احتكار الأزهر للمجال العلمي ال�رشعي ب�إن�شاء مدر�سة دار‬ ‫العلوم �سنة ‪ ،1872‬ودار الإفتاء �سنة ‪ ،1895‬ومدر�سة‬ ‫الق�ضاء ال�رشعي يف ‪ ،1907‬بالتوازي مع زيادة تدخل‬ ‫الدولة يف تنظيم الأزهر (من خالل القوانني امل�شار �إليها‬ ‫�أعاله)‪ ،‬وبالتزامن مع م�سارين مهمني‪� ،‬أولهما نزع الأزهر‬ ‫من بيئته التي �ضمنت ا�ستقالله‪ ،‬وذلك بال�سيطرة على‬ ‫الأوقاف والطرق‪ ،‬وثانيهما اال�ستناد �إىل القوانني اجلديدة‬ ‫يف متكني �أبناء الأزهر من املطالبني بتغيري مالمح منهجه‬ ‫العلمي‪ ،‬مثل حممد عبده وم�صطفى املراغي وم�صطفى عبد‬ ‫الرازق وحممود �شلتوت‪ ،‬وكانت حم�صلة تلك التطورات‬ ‫�أن مفهوم لفظة «ال�رشيعة» مل يعد بالو�ضوح الذي كان‬ ‫عليه من قبل؛ �إذ �صارت هناك �صور �شديدة التباين‬ ‫لتعريفها‪ ،‬وغاب تدريجي ًا املعيار امل�ستند �إليه جمتمعي ًا مع‬ ‫حتول الأزهر من مدر�سة ذات منهاج وا�ضح �إىل «ملتقى»‬ ‫لأ�صحاب املدار�س املختلفة‪ ،‬كالأ�شاعرة مبذاهبهم الفقهية‬ ‫الأربعة‪ ،‬والوهابية بفقههم الذي غلبت عليه الظاهرية‪،‬‬ ‫و�أ�صحاب امليل االعتزايل بفقه حممد عبده‪ ،‬ومدر�سة �أكرث‬ ‫حداثية بفقه املراغي‪ ،‬وهي مدار�س ات�سعت وان�ضم �إليها‬ ‫غريها عند حتول تعريف الدين من املجتمع �إىل ال�سوق‪،‬‬ ‫وما �صاحبه من منو التيار الوهابي‪ ،‬ثم تيار الدعاة اجلدد‪� ،‬أو‬ ‫الإ�سالم النيوليربايل‪ .‬وال يزال ال�رصاع بني تلك املدار�س‬ ‫جميع ًا حمتدم ًا يف م�رص الثورة‪ ،‬على نحو يتجلى ‪ -‬على‬ ‫�سبيل املثال ‪ -‬يف ال�رصاعات الدائرة داخل وزارة الأوقاف‬ ‫وحولها‪ ،‬واملتعلقة بتعيني الأئمة بها‪ ،‬وتعيني املفتي‪ ،‬ويف‬ ‫الأحزاب ال�سيا�سية التي قام بت�أ�سي�سها بع�ض الدعاة‪،‬‬ ‫وال�رصاع حول تعريف ماهية منهج الأزهر‪ ،‬وخا�صة بعد‬ ‫اعتماده كمرجعية �رشعية يف الد�ستور اجلديد‪.‬‬ ‫ �أما ت�صور عالقة امل�ؤ�س�سات الدينية بالدولة‪ ،‬فتنبني‬ ‫تبايناته على تباينات الأفهام يف ما يت�صل بدور الدولة‬ ‫ب�سبب ما �أحدثه م�سار التحديث من تغيريات؛ فالدولة‬ ‫احلديثة هي ‪ -‬بالتعريف ‪ -‬حمتكرة اال�ستخدام ال�رشعي‬ ‫للقوة‪ ،‬املنح�رص يف نطاق جغرايف حمدد‪ ،‬وثمة تعار�ض‬ ‫بني احتكار الدولة للعنف والو�ضع ال�سائد قبلها (بوجود‬ ‫الفتوات التابعني للطرق ال�صوفية من جهة‪ ،‬واالحت�ساب‬ ‫من جهة �أخرى)‪ ،‬وبني احل�رص النهائي يف نطاق جغرايف‬


‫‪ 57‬الدكتور عبد‬ ‫الوهاب امل�سريي‪،‬‬ ‫العلمانية اجلزئية‬ ‫والعلمانية ال�شاملة‪،‬‬ ‫املجلد الثاين‪:‬‬ ‫التطبيق‪ ،‬ال�رشوق ‪-‬‬ ‫القاهرة‪،2005 ،‬‬ ‫�ص ‪.20 -18‬‬ ‫‪ 58‬انظر على �سبيل‬ ‫املثال ‪Arendt,‬‬ ‫‪Hannah. The‬‬

‫‪Human Condition,‬‬ ‫‪Chicago University‬‬ ‫‪Press, 1998, pp. 7-58.‬‬

‫‪ 59‬الدكتور يو�سف‬ ‫القر�ضاوي‪ ،‬الدين‬ ‫وال�سيا�سة‪ :‬ت�أ�صيل‬ ‫ورد �شبهات‪،‬‬ ‫ال�رشوق‪ -‬القاهرة‪،‬‬ ‫‪،2007‬‬ ‫�ص ‪.76 -75‬‬ ‫‪ 60‬الدكتور �إبراهيم‬ ‫البيومي غامن‪،‬‬ ‫تقنني ال�رشيعة بني‬ ‫املجتمع والدولة‪،‬‬ ‫�ص ‪.26‬‬ ‫‪� 61‬إبراهيم البيومي‬ ‫غامن‪ ،‬تقنني‬ ‫ال�رشيعة بني‬ ‫املجتمع والدولة‪،‬‬ ‫ال�رشوق الدولية ‪-‬‬ ‫القاهرة‪،2011 ،‬‬ ‫�ص ‪.46‬‬ ‫‪ 62‬الدكتور علي جمعة‪،‬‬ ‫التجربةامل�رصية‪،‬‬ ‫�ص ‪.35 -34‬‬ ‫‪ 63‬الدكتور �إبراهيم‬ ‫البيومي غامن‪،‬‬ ‫تقننيال�رشيعة‬ ‫بني املجتمع‬ ‫والدولة‪� ،‬ص ‪.33‬‬ ‫‪ 64‬الدكتور وليد‬ ‫حممود عبد‬ ‫النا�رص‪ ،‬التيارات‬ ‫الإ�سالمية يف‬ ‫م�رص ومواقفها‬ ‫جتاه اخلارج‪ :‬من‬ ‫النك�سة �إىل‬ ‫املن�صة‪ ،‬ال�رشوق ‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫القاهرة‪،2001 ،‬‬ ‫�ص ‪.70‬‬

‫‪106‬‬

‫ومفهوم الأمة املتجاوز‪ ،‬وهذه التغيريات �أدت �إىل �إعادة‬ ‫�صياغة املجتمع «باعتباره �سوق ًا وم�صنع ًا‪ ،‬و�إعادة �صياغة‬ ‫الإن�سان باعتباره منتج ًا وم�ستهلك ًا»‪ ،57‬و�أ ّدت �إىل الت�آكل‬ ‫التدريجي للم�ؤ�س�سات الو�سيطة‪ ،‬بحيث �صارت الدولة‬ ‫«مدبرة منزل» تهتم بتوزيع الأدوار فيه على امل�ستوى‬ ‫الوطني‪ ،58‬و�صارت «مت�سك �أزِمة احلياة كلها يف �أيديها‪،‬‬ ‫من التعليم‪� ،‬إىل الق�ضاء‪� ،‬إىل الثقافة‪� ،‬إىل الإعالم‪� ،‬إىل‬ ‫امل�ساجد‪� ،‬إىل االقت�صاد واالجتماع»‪ ،‬بحيث مل يعد «ميكن‬ ‫مل�صلح �أن يتجاوزها»‪ ،59‬فيما كانت تلك الدولة حمدودة‬ ‫القوة والنفوذ قبل ذلك‪.‬‬ ‫ وكانت �أوىل جتليات هذا التغري �إعادة النظر يف معنى‬ ‫وجود ال�رشيعة يف املجتمع و�سبل تطبيقها‪ ،‬ون�ش�أة فكرة‬ ‫«التقنني»‪� ،‬أي �صوغ �أحكام ال�رشيعة «يف ن�صو�ص مرتبة‪،‬‬ ‫وو�ضع هذه الن�صو�ص يف جمموعة مبوبة �أو مرقمة على‬ ‫غرار القوانني احلديثة من مدنية وجنائية و�إدارية»‪ 60‬وربط‬ ‫املخالفات بالعقوبات‪ ،‬وهي الفكرة التي مثلت جت�سيد ًا‬ ‫لفكرتي التم�صري والدولنة كذلك‪ ،‬فجاءت �أوىل حماوالت‬ ‫التقنني كرد فعل «م�رصي» ملجلة «الأحكام العدلية»‬ ‫ال�صادرة من الباب العايل �سنة ‪ ،611876‬ومتثلت يف‬ ‫جلان تر�أ�سها حممد قدري با�شا ‪ -‬وزير احلقانية ‪ -‬انتهت‬ ‫�إىل �إ�صدار جمموعة من القوانني �سنة ‪« ،1883‬ن�صت‬ ‫يف مادتها الأوىل �أنها ال تنفي �أي حق مقرر يف ال�رشيعة‬ ‫الإ�سالمية»‪ ،62‬وعربت عن قبول بالإدارة من خالل الدولة‬ ‫املركزية‪ ،‬القائمة على �أ�س�س �رشعية قانونية مكتوبة‪،‬‬ ‫والتي ر�أت �رضورة التقنني باعتبار القانون �أ�سا�س احلكم‬ ‫فيها‪ ،‬ولأن «تعدد الآراء الفقهية وكرثة االختالفات يف‬ ‫امل�س�ألة الواحدة؛ لي�س فقط بني فقهاء املذاهب املختلفة‪،‬‬ ‫و�إمنا �أي�ض ًا بني فقهاء املذهب الواحد‪ ...‬جعل من الع�سري‬ ‫على ق�ضاة املحاكم االهتداء �إىل احلكم الواجب التطبيق‬ ‫يف احلاالت املتماثلة‪ ،‬وهو ما يعني بدوره �إه��دار ًا ملبد�أ‬ ‫امل�ساواة �أمام القانون (وفق منطق الدولة القومية احلديثة‪،‬‬ ‫احلري�ص على التنميط‪ ،‬واملمهد حلكم ال�سوق)»‪ ،63‬و�صار‬ ‫تقنني ال�رشيعة هدف ًا رئي�سي ًا للإ�سالميني الذين ازداد‬ ‫ان�شغالهم بال�سيا�سي على ح�ساب االجتماعي‪ ،‬مع انتقال‬ ‫الإدارة من املجتمع للدولة‪ ،‬وتراجع الت�صور االجتماعي‬ ‫لل�رشيعة املتج�سد بالأ�سا�س يف الطرق ال�صوفية‪ ،‬وقد‬ ‫�صاحب انتقال الإدارة من الدولة لل�سوق ‪ -‬املحمي بها‬ ‫ ات�ساع «�سوق» امل�ؤ�س�سات الدينية‪ ،‬فا�ستعمل املال يف‬‫�إن�شاء م�ساجد ومعاهد م�ستقلة عن الدولة‪ ،‬كان لر�أ�س‬ ‫املال دور رئي�سي يف حتديد توجهاتها‪ ،‬وظهرت بعد ذلك‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫الف�ضائيات الإ�سالمية (م�صحوبة بدعاية وا�سعة للمنتجات‬ ‫«الإ�سالمية» يف الطب واملفرو�شات واملالب�س على �سبيل‬ ‫املثال)‪ ،‬ثم حاول الأزهر مالحقتها بقناة ف�ضائية منت�سبة‬ ‫�إليه‪ ،‬معلن ًا االنت�صار الكامل لل�سوق‪.‬‬ ‫ وقد �صاحبت هذه تغيريات �أخرى يف طبيعة العالقة‬ ‫بني امل�ؤ�س�سات الدينية وم�ؤ�س�سات الدولة؛ فاالنتقال �إىل‬ ‫حكم الدولة امل�صحوب بعمليات الدولنة الوا�سعة �أدى‬ ‫�إىل تبعية الأوىل للثانية‪ ،‬على نحو تبدى ‪ -‬على �سبيل‬ ‫املثال ‪ -‬يف تغري موقف الأزه��ر من �إ�رسائيل مع تغري‬ ‫موقف الدولة؛ ففي �سنة ‪� 1973‬أكد �شيخ الأزهر حممد‬ ‫الفحام «حتمية اجلهاد �ضد �إ�رسائيل لإنقاذ الأرا�ضي‬ ‫الإ�سالمية من �سيطرة الأعداء عليها»‪ ،64‬ثم �أعلن خلفه‬ ‫ال�شيخ عبد احلليم حممود «ت�أييده زيارة الرئي�س ال�سادات‬ ‫للقد�س»‪ ،65‬قبل �أن يف�رس الأزهر تغيري موقفه بالقول‬ ‫�إن «معار�ضته لل�سالم مع �إ�رسائيل (وقت عبد النا�رص)‬ ‫كانت ب�سبب االقتناع ب�إمكانية �إحلاق الهزمية بها»‪ ،66‬ومع‬ ‫�صعود ال�سوق �صارت «�سوق الفتاوى» مفتوحة للجميع‪،‬‬ ‫مع بقاء االختيار للم�ستهلك‪ ،‬وا�ستبدل القبول املجتمعي‬ ‫بالت�أهيل ال�رشعي العلمي كمعيار ل�صحة الفتوى‪ ،‬ومن‬ ‫ثم علت قيمة «االعتدال» و«الت�سامح» (وحلتا حمل‬ ‫ومعنى) و�صارت التيارات حتاول �إثبات‬ ‫الو�سطية لفظ ًا‬ ‫ً‬ ‫�أهليتها بالو�سم بهما‪ ،‬ويف املعارك الدائرة بعد الثورة‬ ‫يقدم الأزه��ر نف�سه يف «�سوق» الدين مركز ًا على‬ ‫اعتداله ال �أ�صالته‪ ،‬وت�سوق التيارات الإ�سالمية لنف�سها‬ ‫باال�ستناد �إىل معايري مغايرة لتلك التي حكمت ال�ساحة‬ ‫الدينية وقت حكم املجتمع‪.‬‬ ‫ ويف املجمل‪ ،‬يبدو ال�رصاع حمتدم ًا يف ما يت�صل‬ ‫بتحكيم ال�رشيعة بني التيارات الإ�سالمية (املنحازة �إىل‬ ‫حكم الدولة‪ ،‬على الأق��ل ب�سبب «الفر�صة»)‪ ،‬والتي‬ ‫ين�صب خطابها على التقنني على �أ�سا�س التخري بني‬ ‫املذاهب الأربعة‪ ،‬والتيارات احلداثية القائلة بااللتجاء‬ ‫للمقا�صد (مدر�سة املراغي وعبده)‪ ،‬وتيارات الإ�سالم‬ ‫النيوليربايل املنحازة �إىل �إ�سالم ال�سوق (البعيد متام ًا‬ ‫عن احلكم �إال مبعنى حتفيز حركة التنمية الر�أ�سمالية)‪،‬‬ ‫والتيارات ال�صوفية املبتعدة عن ال�رصاع ال�سيا�سي‪،‬‬ ‫واملن�شغلة بالعمل املجتمعي‪ ،‬وهو ال�رصاع الذي ظهر يف‬ ‫تردد الأزهر (مبيوله ال�صوفية) من ق�ضايا تقنني ال�رشيعة‪،‬‬ ‫مع حر�صه يف تعريفها على �ضبط ذلك باملذاهب الأربعة‪،‬‬ ‫ويف ت�أخر التيارات الإ�سالمية املختلفة عن تقدمي‬ ‫ت�صورات لكيفية تطبيق ال�رشيعة‪.‬‬

‫‪ 65‬الدكتور وليد‬ ‫حممود عبد‬ ‫النا�رص‪ ،‬التيارات‬ ‫الإ�سالمية‪،‬‬ ‫�ص ‪.71‬‬ ‫‪ 66‬الدكتور وليد‬ ‫حممود عبد‬ ‫النا�رص‪ ،‬التيارات‬ ‫الإ�سالمية‪،‬‬ ‫�ص ‪.72‬‬

‫‪ 67‬‬

‫‪Mishrif, Ashraf‬‬ ‫‪The Political‬‬ ‫‪Economy of Egypt.‬‬

‫‪ 68‬حممد العجاتي‪،‬‬ ‫احلركة االحتجاجية‬ ‫يف م�رص‪،‬‬ ‫�ص‪.225– 224‬‬ ‫‪ 69‬حممد العجاتي‪،‬‬ ‫احلركة االحتجاجية‬ ‫يف م�رص‪،‬‬ ‫�ص ‪.226‬‬

‫‪ 70‬‬

‫‪Maher, Stephen‬‬ ‫‪The Political‬‬ ‫‪Economy of the‬‬ ‫‪Egyptian Uprising.‬‬

‫‪ 71‬حممد العجاتي‪،‬‬ ‫احلركة االحتجاجية‬ ‫يف م�رص‪،‬‬ ‫�ص ‪.230– 228‬‬

‫‪107‬‬

‫�رصاعات امللكية والإنتاج والتوزيع‬ ‫جزءا رئي�سي ًا من معارك الثورة‪ ،‬التي‬ ‫ميثل ال�رصاع الطبقي ً‬ ‫قامت ‪ -‬يف �أحد �أبعادها ‪ -‬على نظام نيوليربايل يت�آكل فيه‬ ‫الدور االجتماعي للدولة مل�صلحة رجال الأعمال وال�سوق‪،‬‬ ‫فيما تبقى وظيفتها القمعية ذات �أهمية مركزية يف ت�أمني‬ ‫هذا ال�سوق و�ضمان �إيجاد الأو�ضاع املالئمة لر�أ�س املال‪،‬‬ ‫�سواء بالأ�ساليب العنيفة كال�رشطة‪� ،‬أو الأ�ساليب الأقل‬ ‫عنف ًا كالقوانني املقيدة للحركة العمالية‪ ،‬والتو�سع يف‬ ‫�إ�رشاك رجال الأعمال يف �صناعة القرار‪ ،‬ومتكينهم من‬ ‫امل�ؤ�س�سات الإعالمية‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬ ‫ كانت م�رص قد مرت منذ ن�ش�أة الدولة احلديثة بعدة‬ ‫حتوالت اقت�صادية (�أجملتها الفقرات ال�سابقة من الورقة)‪،‬‬ ‫انتهت �إىل تزايد ت�آكل دور الدولة يف االقت�صاد وم�س�ؤوليتها‬ ‫االجتماعية ‪ -‬بدء ًا من �سيا�سات االنفتاح التي �أ�س�س لها‬ ‫ال لل�سيا�سات النيوليربالية التي‬ ‫الرئي�س ال�سادات‪ ،‬وو�صو ً‬ ‫قاد الدعوة �إليها وت�شجيعها جمال مبارك‪ ،‬وقد �أدى �سوء‬ ‫التوزيع وال�شعور بالظلم االجتماعي يف العقد الأخري من‬ ‫حكم مبارك �إىل «غ�ضب على ال�سيا�سات النيوليربالية‪،‬‬ ‫وخا�صة بني �أو�ساط الطبقات العاملة و�شباب الطبقات‬ ‫الو�سطى»‪ ،67‬الأمر الذي دفع �أعداد ًا متزايدة من املواطنني‬ ‫لالحتجاج‪ ،‬فنمت حركة االحتجاج االجتماعي‪ ،‬وخا�صة‬ ‫مع منو حركتني موازيتني لالحتجاج‪� ،‬أوالهما تتعلق بق�ضايا‬ ‫اال�ستقالل والأمة (انطلقت مع االنتفا�ضة الفل�سطينية يف‬ ‫‪ ،)2000‬وثانيتهما تتعلق بالق�ضايا ال�سيا�سية املحلية‬ ‫(بد�أت يف االت�ساع مع ن�ش�أة حركة كفاية يف ‪،)2004‬‬ ‫الأم��ر الذي فتح �آفاق ًا للعمل االحتجاجي‪ ،‬ب��د�أت يف‬ ‫القطاع ال�صناعي ثم امتدت لباقي القطاعات وات�سعت‬ ‫خالل ال�سنوات‪ ،‬فكان «عدد االحتجاجات امل�سجلة عام‬ ‫‪ 2005‬نحو ‪ 202‬احتجاج‪ ،‬وارتفع عام ‪2006‬‬ ‫لي�صبح ‪� ،266‬أما عام ‪ 2007‬فقد قفز هذا الرقم‬ ‫ليتجاوز ‪ 614‬احتجاجا ً» كانت يف جمملها «ذات �أبعاد‬ ‫اقت�صادية اجتماعية يف املقام الأول‪ ،‬وذات ارتباط مبا�رش‬ ‫باحلياة اليومية للمواطن العادي»‪ ،68‬كان بع�ضها يتمحور‬ ‫حول ق�ضايا معينة (كنق�ص املياه �أو اخلبز‪� ،‬أو حوادث‬ ‫الطرق) والبع�ض الآخر كان فئوي ًا‪ ،‬يتعلق بالعاملني يف‬ ‫جهة حمددة ب�سبب مطالبات تت�صل بالأجور وظروف‬ ‫العمل‪ ،‬وظهرت تنظيمات �شعبية موازية للنقابات الر�سمية‬ ‫(املفرغة من م�ضامينها بالتجميد �أو الدولنة) كـ«�أطباء‬ ‫بال حقوق»‪ ،‬و«معلمون بال نقابة»‪ ،‬و«�أخوات كفاية» من‬ ‫املنظمات املختلفة التي ذيلت �أ�سماءها بكلمة «من �أجل‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫التغيري»‪ ،‬و�رسعان ما امتدت حركة االحتجاج لت�شمل‬ ‫موظفي الدولة ‪ -‬التي مل تعد مرتباتها جمزية لغري كبار‬ ‫املوظفني ‪ -‬فبلغت االحتجاجات يف الهيئات احلكومية‬ ‫‪ 267‬احتجاج ًا‪ ،‬ويف قطاع الأعمال العام (�أو ما بقي منه)‬ ‫‪ ،107‬مقابل ‪ 235‬احتجاج ًا يف القطاع اخلا�ص يف‬ ‫‪ ،692008‬ويف اجلملة �شهدت الفرتة من ‪� 2004‬إىل‬ ‫‪� 2010‬أكرث من ‪ 3000‬احتجاج عمايل‪ ،70‬تباينت‬ ‫طبيعتها (بني التجمهر واالعت�صام والإ�رضاب‪ ،‬والإ�رضاب‬ ‫عن الطعام يف قليل من الأحيان) ودرجة جناحها (كان‬ ‫من �أكرثها جناح ًا القطاع ال�صحي ب�إ�رضاب ال�صيادلة‬ ‫‪ 2009 - 2008‬الذي �أو�صلت بع�ض التقديرات‬ ‫ن�سبة امل�شاركة فيه �إىل ‪ ،90%‬و�إغالق العيادات الطبية‬ ‫احتجاج ًا على تدين �أجور الأطباء يف �أبريل ‪.71)2009‬‬ ‫ ومل تزل ال�رصاعات االقت�صادية بعيدة عن احل�سم �أو‬ ‫اال�ستقرار املرحلي مل�صلحة �أي طرف‪ ،‬وميكن تلخي�صها‬ ‫يف ثالث معارك رئي�سية‪� ،‬أوالها تتعلق بتعريف حدود‬ ‫امللكية؛ �إذ متثل الثورة رف�ض ًا لت�سييد ال�سوق وتو�سيع‬ ‫نطاقه لي�شمل الت�سليع العام (ال�شامل للعمال‪ ،‬ولكافة‬ ‫الب�ضائع واخل��دم��ات والأرا���ض��ي)‪ ،‬غري �أنها لي�ست‬ ‫بال�رضورة �شيوعية تلغي امللكية اخلا�صة لأدوات الإنتاج‬ ‫باجلملة‪ ،‬وامل�ساحة بني هذين اخليارين وا�سعة‪ ،‬مل تقدم‬ ‫الأط��راف املختلفة �إىل الآن ر�ؤاه��ا حيالها‪ ،‬فلم تقدم‬ ‫تعريف ًا حلدود ال�سوق‪ ،‬وعالقته باملجتمع‪ ،‬وهو ق�صور‬ ‫ٍ‬ ‫ما�ض و�آخر م�ستقبل‪.‬‬ ‫يكت�سب �أهمية خا�صة ل�سبب‬ ‫�أما املا�ضي فهو الآثار االجتماعية املرتتبة على تو�سيع‬ ‫رقعة ال�سوق يف ال�سنوات الأخ�يرة من حكم مبارك‪،‬‬ ‫واملتمثلة ‪ -‬على �سبيل املثال ‪ -‬يف خ�صخ�صة املجال‬ ‫العام واملنافع العامة‪ ،‬كخ�صخ�صة ال�شواطئ يف ال�ساحل‬ ‫ال�شمايل (على نحو �صار مينع ال�سكان الأ�صليني ملدينتي‬ ‫العلمني واحلمام على �سبيل املثال من ر�ؤية ال�شاطئ‪،‬‬ ‫ال عن التنزه)‪ ،‬وت�آكل املتنزهات العامة يف املدن‪،‬‬ ‫ف�ض ً‬ ‫وخ�صخ�صة خدمات جمع القمامة‪ ،‬وخطوط الهواتف‪.‬‬ ‫و�أما امل�ستقبل فيتعلق باملطروح كحل للأزمة االقت�صادية‬ ‫من بيع وت�أجري للأ�صول العامة يف �صورة �أ�سهم و�صكوك‪،‬‬ ‫و�صعود نغمة «ت�شجيع اال�ستثمار» كحل �أوحد لـ«�إنقاذ»‬ ‫االقت�صاد‪ ،‬على نحو ي�ؤدي‪ ،‬يف حقيقة الأمر‪� ،‬إىل �إعادة‬ ‫متكني رجال الأعمال‪ ،‬و�إن غابوا عن �صدارة امل�شهد‬ ‫ال�سيا�سي جزئي ًا‪ ،‬والآث��ار االجتماعية املبا�رشة و�شبه‬ ‫الفورية لبع�ض هذه ال�سيا�سات (الناجتة يف بع�ض الأحيان‬ ‫من غياب ال�سيا�سة والر�ؤية‪ ،‬ومن ثم حتكم ال�سوق‪ ،‬ويف‬


‫بع�ضها من �شبكات امل�صالح التي ت�شكلت �رسيع ًا حول‬ ‫ال�سلطة اجلديدة‪ ،‬مب�ؤ�س�سات رجال الأعمال اجلامعة بني‬ ‫رجال �أعمال الإخوان واحلزب الوطني‪ ،‬واملت�صلة ‪ -‬بغري‬ ‫ا�ستحياء‪ ،‬وب�شكل ح�رصي ‪ -‬بالرئي�س) ت�ؤدي �إىل مزيد‬ ‫من االحتقان االجتماعي الذي ي�صري التحكم فيه �صعب ًا‬ ‫يف غياب الع�صا الأمنية‪ ،‬على نحو قد يدفع �إىل �إعادة‬ ‫التوازن يف ق�ضية امللكية وت�سييد ال�سوق‪.‬‬ ‫ يت�صل بهذا ال�رصاع‪� ،‬رصاع ٍ‬ ‫ثان متعلق بالأن�شطة‬ ‫أحد �أ�سباب‬ ‫الرئي�سية التي يقوم عليها االقت�صاد؛ �إذ كانت � َ‬ ‫الأزمة االقت�صادية قبل الثورة‪ ،‬والدافعة �إىل التعجيل‬ ‫باخل�صخ�صة‪ ،‬قل ُة املوارد‪ ،‬الناجتة ‪ -‬كما �سبق ‪ -‬من تراجع‬ ‫القطاعات الإنتاجية يف االقت�صاد وتزايد االعتماد على‬ ‫الريع واخلدمات‪ ،‬وهو و�ضع يت�شابه �إىل حد ما مع ما‬ ‫كانت عليه م�رص عند و�صول حممد علي للحكم‪ ،‬واجلدل‬ ‫حول البدائل يف ما يتعلق بـ«قاطرات التنمية» والأن�شطة‬ ‫الرئي�سية التي ميكن �أن يقوم عليها االقت�صاد‪ ،‬وعالقة‬ ‫ذلك بالأو�ضاع االجتماعية والتوزيع اجلغرايف لل�سكان‪،‬‬ ‫وبالعوامل احلاكمة ل�رصاعات امل�ستقبل كم�صادر الطاقة‬ ‫واملياه‪ ،‬مل يزل غائب ًا عن امل�شهد‪ ،‬غري �أن غيابه ي�سمح‬ ‫بت�سييد ال�سوق‪ ،‬ا�ستناد ًا �إىل منطق اليد اخلفية لآدم �سميث‪،‬‬ ‫وهو ما �سي�ضع الدولة ‪ -‬الراغبة يف دعم اال�ستثمار‪ ،‬ب�أي‬ ‫ثمن ‪ -‬يف مواجهة مبا�رشة مع التكوينات االجتماعية‬ ‫والأهايل الذين تتعر�ض حياتهم القتحام من قبل ال�سوق‬ ‫يهدد وجودهم‪ ،‬وهو ما قد ينتج �رصاعات وا�سعة ‪ -‬على‬ ‫�سبيل املثال ‪ -‬يف مدن القناة‪ ،‬التي تواجه مبحاولة ت�سييد‬ ‫وا�سع لل�سوق‪ ،‬قد تنتج ‪ -‬يف حالة ا�ستمرارها ‪ -‬ر ّد فعل‬ ‫�شعبياً يعيد الأمور �إىل املربع الأول‪.‬‬ ‫ �أم��ا ثالث ال�رصاعات‪ ،‬فيتعلق بتعريف احلقوق‬ ‫االقت�صادية واالجتماعية الأ�سا�سية للمواطنني وحدود‬ ‫م�س�ؤولية الدولة يف توفريها؛ �إذ بينما تبدو جل الأطراف‬ ‫ال�سيا�سية متفقة يف كون التعليم وال�صحة وامل�سكن‬ ‫والغذاء حقوق ًا �أ�سا�سية ينبغي توفريها لكل املواطنني ‪-‬‬ ‫بقطع النظر عن �إمكاناتهم املالية �أو مواقعهم اجلغرافية‬ ‫ يظهر اخلالف يف خم�س ق�ضايا‪� ،‬أوالها تعريف احلقوق‬‫و�أولوياتها (هل تقت�رص على التعليم وال�صحة فقط؟ �أم‬ ‫متتد للأربع املذكورة؟ �أم ت�ضيف عليها)‪ ،‬وثانيتها القدر‬ ‫الذي ينبغي توفريه للكافة من تلك احلقوق (هل تتوقف‬ ‫ال عند التعليم الإلزامي‪،‬‬ ‫م�س�ؤولية الدولة يف التعليم مث ً‬ ‫�أم عموم التعليم املدر�سي‪� ،‬أم اجلامعي؟)‪ ،‬وثالثتها اجلهة‬ ‫امل�س�ؤولة عن توفريه (هل تقوم الدولة بذلك؟ �أم يقوم‬ ‫‪108‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫القطاع الأهلي من خالل امل�ؤ�س�سات اخلريية؟ �أم تقوم‬ ‫به امل�ؤ�س�سة الوقفية؟ �أم يقوم على �أ�س�س غري ذلك؟)‪،‬‬ ‫ورابعتها تعريف ماهية العدالة يف م�س�ؤولية الدولة‬ ‫يف هذه الق�ضايا (هل تكون الرعاية ال�صحية جمانية‬ ‫للجميع؟ �أم لغري القادرين؟ وما الآث��ار االجتماعية‬ ‫واالقت�صادية الناجتة من كال اخليارين؟ وما الإمكانات‬ ‫التي يحتاجها كل منهما؟)‪ ،‬وخام�ستها �رشوط البدائل‬ ‫وحدود املناف�سة (هل ي�سمح باملدار�س اخلا�صة ملناف�سة‬ ‫احلكومية؟ وما هي القيود على ذلك؟ وكيف ن�ضمن‬ ‫ا�ستمرار كفاءة احلكومي؟)‪ ،‬واخلالفات هنا حت�سمها‬ ‫ال�رصاعات على الأر�ض‪ ،‬التي ت�ؤثر بدورها يف (وتت�أثر)‬ ‫بال�رصاعات امل�شار �إليها �سابق ًا‪.‬‬ ‫خامتة‬ ‫ال�رصاع اجلاري على �أنقا�ض دولة حممد علي لن يح�سم‬ ‫ال من الأ�سئلة على جمتمع تعر�ض‬ ‫ب�رسعة‪ ،‬لأنه يطرح �سي ً‬ ‫«للدولنة» بكثافة ثم غابت الدولة عن الوجود احل�سي‬ ‫يبق لها �إال ذكريات الهيبة والقمع‪ ،‬فيما تفككت‬ ‫ومل َ‬ ‫م�ؤ�س�ساته التقليدية ومل يوجد البديل‪ .‬هكذا مل يعد قادر ًا‬ ‫على �إيجاد �آليات التفاو�ض التي تدير �ش�ؤون املجتمع‬ ‫بتقاطعاته االجتماعية والوظيفية واجلغرافية املختلفة‪.‬‬ ‫واالنتقال للإجابة عن تلك الأ�سئلة يحتاج �إىل جتاوز‬ ‫�رصاع ال�شعارات الذي يحتل ال�صدارة منذ الثورة‪،‬‬ ‫والبدء يف متكني املجتمع ‪ -‬الذي كانت عودته للم�شهد‬ ‫ودائ��رة �صنع القرار الإجن��از الرئي�سي للثورة ‪ -‬بحيث‬ ‫ي�صري حاكم ًا لأمره‪ ،‬ومينع عودة الدولة الت�سلطية بت�سلمه‬ ‫زمام �أم��وره‪ .‬والباب الرئي�سي لتمكني املجتمع يكون‬ ‫ب�إعادة بناء م�ؤ�س�سات و�سيطة تعبرّ عنه‪� ،‬سواء كان ذلك‬ ‫ب�إحياء امل�ؤ�س�سات ال�سابقة (كالطرق‪ ،‬والأوقاف‪ ،‬ونقابات‬ ‫احلرفيني‪ ،‬ونظام العمد)‪� ،‬أو �إيجاد م�ؤ�س�سات بديلة تقوم‬ ‫بالوظائف ذاتها �أو وظائف م�شابهة (كاملحليات‪ ،‬والنقابات‪،‬‬ ‫وم�ؤ�س�سات املجتمع املدين‪ ،‬مع تغيري الأطر القانونية‬ ‫احلاكمة لها يف م�رص‪ ،‬التي فرغتها من م�ضامينها)‪� ،‬أو‬ ‫خليط منهما‪ .‬وهذه امل�ؤ�س�سات هي التي �ستقود عملية‬ ‫التغيري املبنية على متكني املجتمع‪ ،‬واملنتجة لإرادت��ه‬ ‫احلقيقية املتجنبة لكل عيوب الدميقراطيات التمثيلية‬ ‫التقليدية التي يظهر فيها ال�شعب يف امل�شهد مرة كل‬ ‫ب�ضع �سنني‪ ،‬ثم يعاود االن�سحاب‪ ،‬فتكون قدرته على‬ ‫فر�ض �إرادت��ه �ضئيلة‪ ،‬وت�أ�رسه الهياكل الفار�ضة لنظم‬ ‫اقت�صادية واجتماعية بعينها‪.‬‬

‫تاليق األضداد‬

‫الموقفان اإليراين والرتكي من سقوط «إخوان» مرص‬ ‫جنالء مكاوي‬ ‫باحثة وكاتبة سياسية‬ ‫مرصية‪ .‬آخر مؤلفاهتا‬ ‫«مرشوع سورية‬

‫الكربى» و«الياسر‬ ‫اجلديد يف امريكا‬ ‫الالتينية»‪.‬‬

‫�أحد �أهم تناق�ضات امل�شهد الإقليمي حالي ًا هو تالقي �أ�شد‬ ‫اخل�صوم يف املوقف من حدث �أو �أزمة �أو ق�ضية �إقليمية‪ ،‬فيما‬ ‫يقفان على طريف نقي�ض‪ ،‬و�أحيان ًا يف تواجههما يف �أزمة‬ ‫�أو ق�ضية �أخرى‪ .‬وقد كان موقف كل من �إيران وتركيا من‬ ‫�إ�سقاط حكم جماعة الإخوان امل�سلمني يف م�رص جت�سيد ًا‬ ‫حي ًا ملثل هذا التناق�ض‪ ،‬حيث التقى اخل�صمان الإقليميان‬ ‫يف موقفهما الراف�ض لإنهاء حكم اجلماعة‪ ،‬و�إدانة وجود‬ ‫اجلي�ش امل�رصي يف امل�شهد ال�سيا�سي‪ ،‬لكن اختلفت لغة‬ ‫الرف�ض وخطابه‪ ،‬وبالت�أكيد دوافع كل طرف‪ ،‬التي تعبرّ‬ ‫بالأ�سا�س عن طبيعة م�صاحله‪ ،‬وحجم خ�سائره من تغيري‬ ‫ال�سلطة يف م�رص‪ ،‬بعد �أن كان على ر�أ�سها جماعة �أقرب‬ ‫انتماء (�أيديولوجي ًا و�سيا�سي ًا) �إىل تركيا من �إيران‪ .‬فهذه‬ ‫ً‬ ‫الأخرية كان العامل امل�شرتك بينها وبني تلك اجلماعة هو‬ ‫كونها تنظيم �إ�سالم �سيا�سي‪ ،‬و�إن اختلف �أيديولوجي ًا‪ .‬لذا‬ ‫بدا املوقفان متقاطعني‪ ،‬ما يتعني معه �رضورة قراءة �أ�سباب‬ ‫التالقي‪ ،‬وحدوده‪ ،‬وطبيعته‪ ،‬للإجابة عن ت�سا�ؤل‪« :‬هل هو‬ ‫تالقٍ ميكن اعتباره ا�صطفاف ًا خل�صمني؟»‪� ،‬أم � ّأن الظرف‬ ‫املو�ضوعي فر�ض على �أحدهم (�إيران) اتخاذ موقف يبدو‬ ‫متقاطع ًا مع خ�صمه‪ ،‬فحاول بكل الطرق‪ ،‬وعلى م�ستوى‬ ‫اخلطاب والت�رصيحات‪ ،‬الت�أكيد �أن موقفه يف حمدداته‪،‬‬ ‫وحدوده‪ ،‬يختلف عن مواقف خ�صومه؟‬ ‫االختالف يف درجة الرف�ض وطبيعة اخلطاب‬ ‫يبد � ّأن ثمة اختالف ًا كبري ًا بني موقف‬ ‫يف البداية‪ ،‬مل ُ‬ ‫�إيران وموقف تركيا من عزل الرئي�س حممد مر�سي يف‬ ‫‪ 3‬يوليو‪ /‬متوز الفائت‪ ،‬فكما �أدان رئي�س وزراء تركيا‪،‬‬ ‫رجب طيب �أردوغ��ان‪ ،‬عزل الرئي�س مر�سي‪ ،‬واعتربه‬ ‫الرئي�س ال�رشعي مل�رص‪ ،‬وممثل �إرادة ال�شعب امل�رصي‪،‬‬ ‫ورف�ض ب�شدة ما و�صفه باالنقالب الع�سكري على حاكم‬

‫‪109‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫جاء عرب انتخابات دميقراطية‪ ،‬وذلك يف موقف تتوافر‬ ‫كل دوافعه لدى تركيا‪ ،‬احلليف الإقليمي الأكرب جلماعة‬ ‫الإخوان‪� ،‬أدانت �إيران �أي�ض ًا عزل مر�سي‪ ،‬على الرغم من‬ ‫�أن عالقاتها مع الإخوان‪ ،‬عندما كانوا على ر�أ�س ال�سلطة‪،‬‬ ‫ات�سمت بالتقارب احلذر من ِقبلهم‪ ،‬واملحاوالت احلثيثة‬ ‫من ِقبل �إيران خللق �أي �صيغة للتعاون‪ .‬ومع ذلك انتقدت‬ ‫اخلارجية الإيرانية‪ ،‬على ل�سان املتحدث با�سمها‪ ،‬عبا�س‬ ‫عراقجي‪ ،‬يف ‪ 7‬يوليو‪ /‬متوز‪« ،‬تدخل اجلي�ش يف ال�سيا�سية‬ ‫لكن بيان اخلارجية‬ ‫لإطاحة من ّمت انتخابه دميقراطي ًا»‪ّ .‬‬ ‫الإيرانية اعرتف يف الوقت نف�سه «بعدم كفاءة الرئي�س‬ ‫مر�سي يف �إدارة البالد‪ ،‬وخا�صة ال�ش�ؤون اخلارجية»‪ ،‬وال‬ ‫�سيما � ّأن �سيا�سته جتاه �إيران ذاتها كانت �أبرز دالئل انعدام‬ ‫ّ‬ ‫ر�ؤيته اخلارجية‪ ،‬وع�شوائية �سيا�ساته‪ ،‬وتخبطها‪.‬‬ ‫ يف مقابل ا�ستمرار حدة خطاب �أردوغان جتاه ما يحدث‬ ‫يف م�رص‪ ،‬خف�ضت �إيران من لهجتها بعد غ�ضب الإدارة‬ ‫ال يف ال�ش�أن امل�رصي‬ ‫امل�رصية امل�ؤقتة‪ ،‬ما اعتربته تدخ ً‬ ‫من ِقبل �إيران‪ ،‬ما ا�ضطر وزير خارجيتها للت�رصيح ب� ّأن‬ ‫«ال�شعب امل�رصي هو الذي يجب �أن يحدد م�صري بالده»‪،‬‬ ‫و� ّأن «اجلي�ش امل�رصي هو جي�ش وطني»‪ ،‬مع ت�أكيده �إدانة‬ ‫مقتل الأبرياء‪ .‬وهو ما بدا حر�ص ًا على عدم قطع ما و�صل‬ ‫بني البلدين �أثناء حكم مر�سي‪ ،‬و�إن مل يكن على امل�ستوى‬ ‫الذي تريده �إيران‪.‬‬ ‫ف�ض اعت�صامي «رابعة العدوية»‪ ،‬و«النه�ضة»‬ ‫ جاء ّ‬ ‫وما جنم عنه من �ضحايا و�أحداث‪ ،‬ليجمع اخل�صمني مرة‬ ‫�أخرى‪ ،‬و�إن مل يكن �أي�ض ًا يف م�ستوى الت�صعيد‪ ،‬لكنه‬ ‫التقاء على م�ستوى تو�صيف احلدث واالتفاق على‬ ‫كان‬ ‫ً‬ ‫�إدانته‪ ،‬فقد اتفقت �إيران مع تركيا يف و�صف ما حدث يف‬ ‫ف�ض اعت�صامي جماعة الإخوان بـ«املجزرة»‪ ،‬كما جاء يف‬ ‫ّ‬ ‫بيان للخارجية الإيرانية �أدانت فيه ما قامت به احلكومة‬


‫امل�رصية‪ ،‬واعتربته يهدد بن�شوب «حرب �أهلية»‪ .‬ويف‬ ‫عزاء قدمه الرئي�س الإيراين‪ ،‬ح�سن روحاين‪� ،‬إىل ال�شعب‬ ‫مبديا تعاطفه معه‪،‬‬ ‫امل�رصي يف «الفاجعة التي �أملّت به»‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وجه روحاين حديثه �إىل اجلي�ش‬ ‫يف ‪� 17‬أغ�سط�س‪� /‬آب‪ّ ،‬‬ ‫امل�رصي‪ ،‬مذكر ًا �إياه ب� ّأن «ال�شعب امل�رصي �شعب حر‬ ‫وعظيم‪ ،‬وطريق ال�شعب هو طريق الدميقراطية والإ�سالم؛‬ ‫فعلى العامل ب�أ�رسه �أن يحرتم �إرادة ال�شعب امل�رصي»‪.‬‬ ‫ على الرغم من هذا املوقف الوا�ضح واحلاد من قبل‬ ‫ف�ض االعت�صامني مبا�رشة‪،‬‬ ‫�إيران‪ ،‬الذي �أعقب �أحداث ّ‬ ‫ف�إن الت�صعيد عملي ًا كان من ناحية تركيا‪ ،‬التي ا�ستدعت‬ ‫يف اليوم التايل (‪� 15‬أغ�سط�س‪� /‬آب) �سفريها لدى‬ ‫القاهرة للت�شاور‪ ،‬وهو ما ردت عليه اخلارجية امل�رصية‬ ‫و�صعدت احلكومة‬ ‫با�ستدعاء ال�سفري امل�رصي لدى تركيا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫امل�رصية يف اليوم التايل ب�إعالنها وقف التدريبات البحرية‬ ‫ال عن � ّأن رئي�س‬ ‫امل�شرتكة «بحر �صداقة» مع �أنقرة‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫الوزراء الرتكي دعا الأ�رسة الدولية‪ ،‬وعلى ر�أ�سها جمل�س‬ ‫الأمن الدويل واجلامعة العربية‪ ،‬يف ‪� 15‬أغ�سط�س‪� /‬آب‪،‬‬ ‫�إىل وقف ما و�صفه بـ«املجزرة» يف م�رص فور ًا‪.‬‬ ‫ يف مقابل ارتفاع ح��دة �أردوغ���ان‪ ،‬على م�ستوى‬ ‫الت�رصيحات‪ ،‬خفّت حدة املوقف الإيراين‪ ،‬الذي ت�ضمن‬ ‫منذ البداية‪ ،‬وبرغم رف�ضه خلع مر�سي‪ ،‬االعرتاف ب�أخطائه‬ ‫وف�شل جماعة الإخوان‪ ،‬بينما ا�ستمر �أردوغان ُيثني على‬ ‫مر�سي وحكمه‪ ،‬ويتهم كل معار�ضيه‪ .‬ويف ت�رصيح له‪ ،‬يف‬ ‫‪� 17‬أغ�سط�س‪� /‬آب‪ ،‬و�صف «الذين �صمتوا عن االنقالب‬ ‫الع�سكري يف م�رص» ب�أنهم «�أثبتوا ازدواجية معايريهم؛‬ ‫لأنهم يعرفون �أن مر�سي كان �سيطور م�رص‪ ،‬ويعطيها دفعة‬ ‫للأمام‪ ،‬وهو الأمر الذي ال ينا�سبهم»‪ .‬بل �إن �أردوغان ادعى‬ ‫�أن لديه وثائق تثبت «وقوف �إ�رسائيل وراء االنقالب يف‬ ‫م�رص»‪ ،‬فيما اكتفت �إيران بتمنياتها للقائمني على احلكم‬ ‫يف م�رص ب�أن «يتحلوا بالوعي الالزم‪ ،‬واالنتباه �إىل � ّأن‬ ‫املنتفع احلقيقي من وراء النزاع يف م�رص هو ال�صهاينة»‪.‬‬ ‫ه�شة‬ ‫�إيران وحماولة احلفاظ على مكا�سب ّ‬ ‫مل يكن لإيران �أن تثبت وت�صمم على موقف معار�ض حا ّد‬ ‫من احلكم اجلديد يف م�رص مثل خ�صومها‪� ،‬إقليمي ًا ودولي ًا‪،‬‬ ‫تركيا والواليات املتحدة؛ فبالن�سبة �إىل الأخ�يرة ثمة‬ ‫م�صلحة �إيرانية يف توتري العالقات بينها وبني م�رص‪� ،‬أي ًا‬ ‫كان ال�سياق؛ �إذ � ّإن �أي ح�سم من نفوذ الواليات املتحدة يف‬ ‫ي�صب يف م�صلحة �إيران‪ ،‬وخا�صة � ّأن دفء العالقات‬ ‫م�رص‬ ‫ّ‬ ‫امل�رصية ‪ -‬الأمريكية بعد ثورة يناير‪ /‬كانون الثاين‪ ،‬فرتتي‬ ‫‪110‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫�إيران‪ ،‬لكونها ذات نظام ديني‪ ،‬وبالأ�سا�س لأنها تعاونت‬ ‫مع الإخوان‪ .‬وي�أتي هذا احلر�ص خ�شية �أن تخ�رس املكا�سب‬ ‫اله�شة التي ح�صلت عليها يف عالقتها مع م�رص‪ ،‬فرتة‬ ‫حكم الإخوان‪ .‬ثاني ًا‪ :‬ا�ستغالل حالة التوتر‪ ،‬و�إن كانت‬ ‫م�ؤقتة‪ ،‬بني الإدارة الأمريكية واحلكومة احلالية يف م�رص‪،‬‬ ‫حتى �إن كانت لن ت�ؤدي �إىل تغيري ا�سرتاتيجي‪ ،‬مبا ي�ؤثر‬ ‫على �أمن «�إ�رسائيل»‪� ،‬أو يدفع تلك احلكومة جتاه �إيران‪،‬‬ ‫نظر ًا �إىل عدة اعتبارات �أهمها عدم وجود نظام �سيا�سي‬ ‫وا�ضح التوجهات بعد يف م�رص‪ ،‬وارتباك الو�ضع الداخلي‪،‬‬ ‫�أمني ًا و�سيا�سي ًا‪ ،‬وعدم قدرة امل�ؤ�س�سة الع�سكرية امل�رصية‬ ‫خالل هذه الفرتة االنتقالية على القيام مبثل بتغيري كهذا؛‬ ‫�إذ َت�شكل �شبه حتالف بني احلكم اجلديد ودول اخلليج‬ ‫التي �سارعت �إىل دعم حترك اجلي�ش‪ ،‬وحكومة ما بعد ‪3‬‬ ‫يوليو‪ /‬متوز‪ ،‬يف وقت يواجه فيه ا�صطفاف ًا دولي ًا معار�ض ًا‪،‬‬ ‫وتهديدات بقطع امل�ساعدات الأمريكية والأوروبية‪ ،‬وهو ما‬ ‫�أجادت ا�ستغالله بع�ض دول اخلليج التي �أ�رسعت بتقدمي‬ ‫الدعم املادي للحكومة‪ ،‬ما جعلها الداعم الرئي�سي للحكم‬ ‫اجلديد‪ ،‬الذي من غري املتوقع تخليه عن بقاء ق�ضية «�أمن‬ ‫اخلليج» على ر�أ�س �أولوياته يف الأجندة اخلارجية‪.‬‬

‫حكم املجل�س الع�سكري وجماعة الإخوان‪ ،‬كان من عوامل‬ ‫عدم تقدم العالقات الإيرانية مع م�رص‪ ،‬وفق ًا لرغبة �إيران‬ ‫و�إرادتها‪ ،‬التي ارتكزت على جتنب العودة �إىل �سيا�سات‬ ‫نظام مبارك‪ ،‬واعتبار �إيران خ�صم ًا مل�رص‪.‬‬ ‫ ت��درك �إي��ران � ّأن �سيا�سة الإخ��وان الإقليمية جلهة‬ ‫العالقات معها‪ ،‬كانت حذرة وبراغماتية‪ ،‬ومل تعبرّ عن �أي‬ ‫تغيري جذري يف اال�سرتاتيجية والتوجهات‪ ،‬وقامت على‬ ‫رد الفعل‪ .‬لكن يبدو جلي ًا اليوم �أمام �إيران �أنها �أخط�أت‬ ‫التقدير يف التعويل على براغماتية جماعة الإخ��وان‪،‬‬ ‫التي مل يخف على �أحد ترددها وتذبذبها وتقدمها خطوة‬ ‫وتراجعها خطوتني يف عالقتها مع �إيران‪ ،‬نتيجة �ضغوطات‬ ‫داخلية من ِقبل التيار ال�سلفي‪ ،‬و�أخرى خارجية تتعلق‬ ‫بالتزامات اجلماعة جتاه داعميها من الغرب؛ �إذ فقدت‬ ‫�إيران بذلك كثري ًا من التيار املدين الذي رحب بعد الثورة‬ ‫ب�إقامة عالقات معها من منطلق التوازن الإقليمي‪ ،‬و�إعادة‬ ‫هيكلة ال�سيا�سة اخلارجية امل�رصية ورف�ض توجيهها‬ ‫من ِقبل �أي طرف �إقليمي �أو دويل‪ ،‬كان يمُ لي على م�رص‬ ‫ال�سيا�سات التي تتوافق وم�صاحله‪ .‬لكن الدعوات لتفعيل‬ ‫العالقات مع �إي��ران ما لبثت �أن جتمدت �إث��ر التدخل‬ ‫الإيراين يف الأزمة ال�سورية‪ ،‬ثم حماوالت نظام مر�سي‬ ‫التقارب من �إيران‪ ،‬التي كانت مثار انتقاد معظم التيار‬ ‫املدين‪ ،‬باختالفاته وتبايناته الأيديولوجية‪ ،‬من منطلق‬ ‫معار�ضة النظام الإخواين وكل ممار�ساته‪ ،‬وانعدام الثقة يف‬ ‫نيات اجلماعة على امل�ستويني‪ ،‬الداخلي والإقليمي‪ ،‬ف�ضال ً‬ ‫عن حر�ص جزء من التيار املدين على العالقات مع دول‬ ‫اخلليج‪ ،‬ورف�ض �أي حماولة من قبل الإخوان لتوتريها‪،‬‬ ‫وفقدان الدعم اخلليجي مل�رص‪ .‬وثمة �سبب �آخر يتعلق‬ ‫بطبيعة النظام الإيراين الديني الذي يجل�س على قمته‬ ‫مر�شد �أعلى‪ ،‬وهو ما مثل فزاعة للتيار املدين من �سيطرة‬ ‫مر�شد الإخوان على النظام واحلكم‪ ،‬ومتثيله لإرادة فوقية‬ ‫تع�صف مبدنية الدولة وم�سار حتولها �إىل الدميقراطية‪.‬‬ ‫ لذلك‪ ،‬يف �إطار مراجعة ح�ساباتها‪ ،‬حر�صت �إيران‬ ‫على عدم ت�صعيد موقفها‪ ،‬وتبني خطاب معا ٍد ب�شكل‬ ‫وا�ضح حلكم ما بعد الإخوان يف م�رص؛ من �أجل الإبقاء‬ ‫م�ستقبال‪ ،‬فجاء اعرتا�ضها على‬ ‫على �إمكانية التعاون‬ ‫ً‬ ‫تدخل اجلي�ش يف ال�سيا�سة‪ ،‬ال هجوم ًا مبا�رش ًا على احلكم‬ ‫اجلديد‪ ،‬الذي ينفي بدوره � ّأن اجلي�ش يتدخل يف امل�سار‬ ‫ال‪ :‬حت�سني ال�صورة‬ ‫ال�سيا�سي‪ ،‬وذلك حر�ص ًا منها على‪� :‬أو ً‬ ‫لدى معظم التيارات امل�رصية بعد ت�أثري حكم اجلماعة‬ ‫املرفو�ض من قبل هذه التيارات على تفعيل العالقات مع‬

‫�أن يكون موقع م�رص الإخوان فيه حتت مظلة تركيا‪ ،‬على‬ ‫الرغم من تعار�ض ذلك مع م�رشوع الإخوان الأيديولوجي‪،‬‬ ‫لكن التزاماتهم جتاه الواليات املتحدة‪ ،‬وحر�صهم على‬ ‫ا�ستمرار دعمها‪ ،‬من �أجل البقاء يف احلكم‪ ،‬كان من املمكن‬ ‫�أن ي�ضمن تبلور هذا التحالف‪ ،‬ور�ضوخ الإخوان للدخول‬ ‫فيه بال�رشوط الأمريكية وبقيادة تركية �إقليمية‪.‬‬ ‫ وبغ�ض الطرف عن عدم بلورة حتالف كهذا حتى الأيام‬ ‫الأخرية من حكم الإخوان‪ ،‬ف�إن تركيا ا�ستفادت بعالقاتها‬ ‫معهم‪� ،‬أكرث مما قدمته لهم‪ ،‬فبدت الطرف الإقليمي الأقوى‪،‬‬ ‫الداعم الرئي�سي لتنظيم �إ�سالم �سيا�سي‪ ،‬يحكم دولة‬ ‫مركزية‪ ،‬ويبدو يف حاجة لدعمها على عدة م�ستويات‬ ‫لك�رس احل�صار املفرو�ض حوله �إقليمي ًا‪ .‬وبرغم تعاليه على‬ ‫فكرة االن�ضواء حتت منوذجها‪ ،‬مل ي�ستطع فر�ض منوذجه‬ ‫اخلا�ص‪ ،‬بل �أ�ضحى �أكرث ما ي�ستطيع فعله هو التغني‬ ‫بنجاح احلليف الإقليمي الإ�سالمي «املعتدل»‪ ،‬و�إثبات �أن‬ ‫ثمة �إمكانية لتحقيق جناح مماثل‪.‬‬ ‫ لذلك ف�سقوط اجلماعة يف م�رص‪ ،‬وتزامنه مع ت�صاعد‬ ‫حركة املعار�ضة الداخلية �ضد حكم �أردوغ��ان‪ ،‬يهدد‬ ‫م�رشوع حزب العدالة والتنمية‪ ،‬ويزلزل الأر�ض حتت �أقدام‬ ‫الإ�سالم ال�سيا�سي «املعتدل» يف املنطقة برمتها‪ ،‬ويهدد‬ ‫م�رشوعات الزعامة الإقليمية الرتكية‪ .‬فمن الطبيعي �أن‬ ‫يناه�ض احلكم يف تركيا احلكم اجلديد يف م�رص‪ ،‬مبا مييزه‬ ‫عن �أي موقف �آخر‪ ،‬من حيث الدوافع والأهداف‪.‬‬

‫تركيا وتهديد امل�رشوع والنموذج‬ ‫بالن�سبة �إىل تركيا‪ ،‬فخ�سائرها من �سقوط جماعة الإخوان‬ ‫�أكرب‪ ،‬ما يف�سرّ موقفها الأكرث حدة على الإطالق يف كل‬ ‫املواقف الإقليمية والدولية‪ ،‬ولي�س فح�سب مقارنة باملوقف‬ ‫الإي��راين؛ �إذ بخالف االنتماء الأيديولوجي اجلامع بني املرجعية الدينية �أم امل�صالح اال�سرتاتيجية؟‬ ‫�إخوان م�رص وتركيا‪ ،‬ف�إن ف�شل جتربة الإخوان يف م�رص يطرح تف�سري تقاطع املوقفني الإيراين والرتكي من �إزاحة‬ ‫ال عن‬ ‫يعر�ض م�رشوع تركيا الإقليمي للإجها�ض‪ ،‬لي�س فح�سب جماعة الإخوان عن حكم م�رص وتداعياته‪ ،‬ت�سا�ؤ ً‬ ‫ّ‬ ‫امل�رشوع الذي بد�أت تد�شينه بعد و�صول حزب العدالة ال�سبب الرئي�سي يف هذا التقاطع‪ ،‬واملتعلق باملرجعية‬ ‫والتنمية �إىل احلكم يف تركيا‪ ،‬والذي حاولت بلورته يف الدينية‪ ،‬وحدود ت�أثريها يف موقف كل طرف‪� ،‬أم �أن الأمر‬ ‫ما �سمي «النموذج الرتكي»‪ ،‬و�سعت لت�صديره �إىل املنطقة يتجاوزها ويتعلق بامل�صالح فح�سب‪.‬‬ ‫كنموذج حلكم دولة يجل�س على ر�أ�س ال�سلطة فيها حزب بالن�سبة �إىل تركيا‪ ،‬فقد ارتكزت نظرة الإخوان �إىل‬ ‫�إ�سالمي «معتدل» ا�ستطاع حتقيق جناحات على م�ستويات النموذج الرتكي على «�إ�سالميته» وبراغماتيته‪ ،‬وكونه‬ ‫عدة‪ ،‬لكن �أي�ض ًا امل�رشوع اجلديد‪ ،‬الذي كان قيد التد�شني منوذج ًا ُملهم ًا لل�سيطرة على م�ؤ�س�سات الدولة‪ ،‬ويف‬ ‫يف الفرتة الأخرية من حكم جماعة الإخ��وان‪ .‬ويتمثل القلب منها امل�ؤ�س�سة الع�سكرية‪ ،‬فهو منوذج ناجح حلكم‬ ‫هذا امل�رشوع يف �إعطاء تركيا الوكالة‪ ‬كالقوة الإقليمية الإ�سالم ال�سيا�سي‪ ،‬فكان هذا هو الدافع الرئي�سي لالجتاه‬ ‫الأكرب يف املنطقة من ِقبل الواليات املتحدة‪ ،‬بعد امل�صاحلة بقوة �إىل تركيا‪� ،‬أي اعتبارات م�صالح التنظيم ولي�س‬ ‫بينها وبني «�إ�رسائيل» برعاية �أمريكية‪ ،‬ولرعاية م�صاحلها‪ ،‬الدولة‪� .‬إذ مل تكن اعتبارات امل�صالح الإقليمية مل�رص‪،‬‬ ‫التي ي�ضمنها وجود حتالف ا�سرتاتيجي بني حليفيها وهي تندفع باجتاه قوة �إقليمية مناف�سة‪� ،‬ضمن ح�سابات‬ ‫الإخ��وان‪ ،‬لذا فقد ا�ستمر ذلك هو الدافع حتى بعد‬ ‫اال�سرتاتيجيني‪ ،‬على حد قول �أوباما‪.‬‬ ‫ ويف هذا التحالف الذي تتقدمه تركيا و�إ�رسائيل تحَ دد �إعالن �إخوان م�رص حتفظهم على فكرة تطبيق «النموذج‬ ‫‪111‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫ال‬ ‫�أعقبه حادث عنف طائفي ب�شع يف حمافظة اجليزة‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫عن هجوم مر�سي �شخ�صي ًا على «حزب الله»‪.‬‬ ‫ مع ذلك‪ ،‬ف�إن البعد الأيديولوجي كان حا�رض ًا لدى‬ ‫�إيران‪ ،‬و�إن كانت امل�صالح تتقدم كل االعتبارات بالن�سبة‬ ‫هما بالن�سبة �إىل الإخوان‪ ،‬بل �شكل‬ ‫�إليها‪ ،‬لكنه مل يكن ُم ً‬ ‫�إزعاج ًا لهم من ِقبل حلفائهم الداخليني الذين يعتربون‬ ‫�أن ال�شيعة لي�سوا م�سلمني بالأ�سا�س‪ ،‬وال جتمعهم بهم‬ ‫مرجعية‪ .‬بيد �أن الإخ��وان اعتربوا العالقات مع �إيران‬ ‫ورقة لالبتزاز اخلليجي‪ ،‬ومناورة �إقليمية‪ .‬ب�شكل عام‪� ،‬إن‬ ‫الغلبة للم�صالح على ح�ساب الأيديولوجيا بالن�سبة �إىل‬ ‫الطرفني‪ ،‬الإيراين والرتكي‪.‬‬

‫الرتكي»‪ ،‬عندما �صدمتهم ت�رصيحات رجب �أردوغان‪،‬‬ ‫وقت وجوده يف م�رص يف �أول زيارة له بعد الثورة‪ ،‬يف‬ ‫�سبتمرب‪ /‬ايلول ‪ ،2011‬عن هوية تركيا العلمانية‪ .‬ثم‬ ‫جاء تطور الأحداث �إبان حكم اجلماعة ليفر�ض �سبب ًا‬ ‫�آخر يتعلق بالعزلة الإقليمية التي فر�ضت حول النظام‪،‬‬ ‫فلم يكن �أمامه �سوى تركيا كحليف �إقليمي قوي‪ ،‬يف‬ ‫حني �أن حاكم تركيا ال�شديد الرباغماتية كانت الأولوية‪،‬‬ ‫يف �أ�سباب حتالفه مع �إخوان م�رص‪ ،‬هي لإن�ضوائها حتت‬ ‫القيادة الإقليمية لرتكيا‪ ،‬و�إن وقفت �أمام ذلك عقبات‬ ‫عدة‪ ،‬منها موقف ال�سلفيني الراف�ض للنموذج الرتكي‪،‬‬ ‫و�صعوبة قبول اجلماعة ذلك لأ�سباب تتعلق بجوهر‬ ‫م�رشوعها‪ .‬ثم جاء االنتماء الأيديولوجي يف الرتتيب‬ ‫الثاين‪ ،‬لذا فتف�سري موقف تركيا احلايل من �إزاحة الإخوان الإخوان اعتربوا العالقات مع �إيـــــــــــــــــــــــــــران‬ ‫عن حكم م�رص ال يرتبط‪ ‬بهذا االنتماء فح�سب‪ ،‬الذي ورقة لالبتزاز اخلليجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي‪،‬‬ ‫بالت�أكيد له ت�أثري قوي على وجود الإ�سالم ال�سيا�سي يف ومناورة �إقليمية‪ ،‬وب�شـــــــــــــــــــــــــــــــــكل عام‪،‬‬ ‫جممله كنموذج للحكم يف املنطقة‪ ،‬ومنوذج قدم نف�سه ف�إن الغلبة للم�صــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالح‬ ‫على �أنه «الإ�سالم املعتدل»‪ ،‬وما لبث �أن �سقط يف م�رص‪ ،‬على ح�ساب الأيديولوجيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫بعد عام واحد من احلكم‪� ،‬سقط مبمار�ساته وبخطابه بالن�سبة �إلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى الطرفني‪،‬‬ ‫«املعتدل»‪ ،‬لكنه يرتبط �أي�ض ًا بت�سبب هذا ال�سقوط يف الإيرانــــــــــــــــــــــــــي والرتكــــــــــــــــــــــــــي‬ ‫�إف�شال م�رشوع �إقليمي ارتكز على دور حموري لرتكيا‬ ‫ال‪ ،‬ف�إن امل�شهد الإقليمي تت�سم تفاعالته بال�سيولة‬ ‫يف ترتيبات ما بعد الربيع العربي‪.‬‬ ‫ �إجما ً‬ ‫ كما تختلف جماعة الإخوان �أيديولوجي ًا مع منوذج والرباغماتية‪ ،‬وعدم وجود حتالفات متما�سكة‪� ،‬أو مواقف‬ ‫حزب العدالة والتنمية احلاكم يف تركيا‪� ،‬صاحب الطبيعة متقاطعة يف املطلق من �أزمات وق�ضايا املنطقة‪ ،‬لذا ف�إن‬ ‫ال�صوفية‪ ،‬تختلف �أي�ض ًا مع �إيران الدولة الدينية‪ ،‬ال�شيعية التقاء تركيا و�إيران يف موقفهما مما حدث يف م�رص هو‬ ‫املذهب‪ ،‬اختالف ًا �أ�شد‪ ،‬لكن �إيران التي انح�رصت ر�ؤيتها جزء من �سياق عام‪ ،‬اتفقت فيه تركيا يف املوقف من‬ ‫للثورة امل�رصية على �أنها «�صحوة �إ�سالمية»‪ ،‬الأمر الذي �سورية مع من اختلفت معها يف ما يتعلق مب�رص‪ ،‬وهي دول‬ ‫�أثار ا�ستياء كثري من القوى امل�رصية املدنية‪ ،‬وقتذاك‪ ،‬اخلليج‪ ،‬التي تدعم املعار�ضة ال�سورية‪ ،‬ب�إخوانها‪ ،‬ع�سكري ًا‬ ‫ف�ضلت وجود قوة �إ�سالمية املرجعية على ر�أ�س ال�سلطة و�سيا�سي ًا‪ ،‬يف الوقت الذي وقفت فيه تلك الدول مع احلكم‬ ‫ّ‬ ‫يف م�رص‪ ،‬مع االختالف‪ ،‬ودعمت وحليفها‪« ،‬حزب الله»‪ ،‬يف م�رص يف مواجهته جلماعة الإخوان‪ .‬و�إيران التي كانت‬ ‫�صعود مر�سي �إىل احلكم‪ ،‬اعتقاد ًا منها �أن الف�صيل �إ�سالمي تف�ضل حكم الإخوان يف م�رص و�أعلنت رف�ضها لإزاحته‪،‬‬ ‫التوجه‪ ،‬و�إن اختلف‪ ،‬فهو الوحيد الذي �سي�سمح باخلروج وتقاطعت يف ذلك مع �أ�شد خ�صومها الإقليميني (تركيا) ‪-‬‬ ‫من دائرة جتمد العالقات‪ .‬لكنها ُووجهت ب� ّأن االختالف مع اختالف درجة الرف�ض و�أ�سبابه ‪ -‬تواجهه يف �سورية‬ ‫أهم العقبات �أمام الإخوان يف �سعيهم �إىل بتحالفها مع نظام ب�شار الأ�سد‪.‬‬ ‫املذهبي كان من � ّ‬ ‫�إقامة عالقات مع �إيران‪ ،‬بل كان محُ ِدد ًا رئي�سي ًا لرف�ض �إذن‪ ،‬فالوقوف �أم��ام نقاط التالقي واالختالف بني‬ ‫ال�سلفيني هذه العالقات‪ ،‬و�ضغطهم على اجلماعة من � ًّأي من القوى الإقليمية �أثناء حماولة ق��راءة املواقف‬ ‫�أجل جتميدها‪ ،‬ما ا�ضطر الإخوان يف �أيام مر�سي الأخرية وتف�سريها‪ ،‬يرتبط ب�رضورة القراءة ال�شاملة للتفاعالت‬ ‫�إىل الت�ضحية بها متام ًا‪ ،‬حفاظ ًا على حتالفهم الداخلي الإقليمية‪ ،‬و�سياقها العام‪ ،‬وحتديد ًا م�صالح كل طرف‬ ‫مع ال�سلفيني يف مواجهة التكتل املعار�ض‪ ،‬وهو ما بدا كمحدد رئي�س يحكم مواقفه‪ ،‬واخل��روج من دائ��رة‬ ‫ب�سب ال�شيعة التق�سيمات ال�ساكنة التي حكمت تف�سريات امل�شهد‬ ‫يف �سماح مر�سي حللفائه من الإ�سالميني‬ ‫ّ‬ ‫وتكفريهم‪ ،‬على مر�أى وم�سمع من اجلميع‪ ،‬الأمر الذي الإقليمي قبل عام ‪.2011‬‬ ‫‪112‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫الفالحون والثورة‬ ‫استعادة األرض‬

‫ياسمني أحمد‬ ‫باحثة مرصية‪،‬‬

‫مرشحة للدكتوراه‬ ‫يف االنرثوبولوجيا‬

‫االجتماعية‪ ،‬جامعة‬ ‫كيمربدج‪ ،‬انكلرتا‪.‬‬

‫عالم ت�شهد؟‬ ‫رئي�س املحكمة‪َ :‬‬ ‫خمتار عبد العظيم‪ ،‬ف�ّل�اّ ح‪� :‬أن��ا كنت يف القوات‬ ‫امل�سلحة يف ‪ ،1965‬قعدت ‪� 8‬شهور تدريب وطلعنا‬ ‫اليمن‪ ،‬وفوجئنا ب�أنهم كرمونا بقطعة �أر���ض ‪ 2‬فدان‪،‬‬ ‫ووالدتي ا�ستلمت الأر�ض �شهر ‪� 11‬سنة ‪...1966‬‬ ‫�أنا ب�شتكي حممود �أمني وايل‪ ...‬دخل يف الأر�ض و�رضبنا‬ ‫وحرمنا وعيالنا وحجب البهائم عن الأكل‪ ،‬وبعد ذلك‬ ‫جت احلكومة �أخذتنا و�سجنونا �أ�سبوع و�رضبونا و�شتمونا‬ ‫وو�صوا نا�س علينا بهدلونا‪ ...‬ولو حد من عيايل رح‬ ‫ي�شتغل مينعوه �أو يو�صوا مبنعه‪.‬‬ ‫مقتطف من تقرير التحقيق الذي �أجرته‬ ‫الن�ص �أعاله‬ ‫ٌ‬ ‫املحكمة املدنية يف م�رص‪ ،‬يف يونيو‪/‬حزيران ‪ .1999‬رفع‬ ‫الدعوى م�ست�أجرون جرى �إخال�ؤهم من الأر�ض‪� ،‬ضد ورثة‬ ‫اجلد الأكرب لوزير الزراعة وا�ست�صالح‬ ‫حممد �أمني وايل‪ّ ،‬‬ ‫الأرا�ضي ال�سابق يو�سف وايل‪ ،‬وهو �أي�ض ًا رئي�س �سابق‬ ‫لـ«احلزب الوطني الدميقراطي»‪� .‬أمر الأخري القوات الأمنية‬ ‫تقدر بنحو ‪400‬‬ ‫بطرد ‪ 245‬فالح ًا من م�ساحة �أر�ض ّ‬ ‫للمدعني �أو �أهاليهم الرئي�س ال�سابق جمال‬ ‫فدان‪ ،‬منحها ّ‬ ‫ّ‬ ‫عبد النا�رص يف عام ‪� ،1967‬ضمن تطبيق بنود قانون‬ ‫الإ�صالح الزراعي الأول ال�صادر بعد �أ�سابيع قليلة من ثورة‬ ‫و�ضمت الئحة امل�ستفيدين �آنذاك الفالحني‬ ‫عام ‪.1952‬‬ ‫ّ‬ ‫الذين �شاركوا يف احلرب الأهلية يف اليمن ال�شمايل كما‬ ‫يف حرب عام ‪ 1967‬امل�رصية الإ�رسائيلية‪ ،‬بالإ�ضافة‬ ‫�إىل الفالحني الذين يفتقرون �إىل م�صدر دخل �آخر غري‬ ‫الزراعة‪ .‬لثالثني عام ًا‪ ،‬من ‪ 1967‬وحتى ‪ ،1997‬دفع‬ ‫الفالحون ال�رضائب �إىل الهيئة العامة للإ�صالح الزراعي‪،‬‬ ‫�ستخولهم امتالك الأر�ض يف نهاية‬ ‫وقد ظ ّنوا �أن ال�رضيبة‬ ‫ّ‬ ‫املطاف‪ .‬يف عام ‪ ،1986‬دفع الفلاّ حون الر�سوم ال ّأولية‬

‫‪113‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ال�ستمالك الأر�ض‪ .‬ومع �أن امل�ست�أجرين ّلبوا ال�رشوط‬ ‫القانونية ل�رشاء الأر�ض‪� ،‬إال �أن �سلطات الإ�صالح الزراعي‬ ‫رف�ضت تلبية مطالبهم ال�رشعية‪ ،‬و�أُعلن بيع الأر�ض يف‬ ‫�رسية لعائلة وايل يف عام ‪ .1997‬بعد حتقيق‬ ‫مناق�صة ّ‬ ‫ق�ضائي ا�ستمر ب�ضعة �أعوام‪ ،‬مل تلق �شكوى امل�ست�أجرين‬ ‫�آذان ًا �صاغية‪ .‬يف عام ‪ ،2003‬تويف حماميهم خم ّلف ًا على‬ ‫مكتبه يف و�سط البلد القاهري‪ ،‬ملفات الق�ضية‪.‬‬ ‫ يف ‪ 12‬فرباير‪�/‬شباط ‪� ،2011‬أي بعد مرور يو ٍم‬ ‫واحد على �إطاحة ح�سني مبارك‪� ،‬أقدم امل�ست�أجرون الذين‬ ‫جرى �إخال�ؤهم من الأر�ض على خطوة جريئة‪ ،‬رافعني‬ ‫دعوى ق�ضائية �ضد يو�سف وايل و�أف��راد من عائلته‪.‬‬ ‫حاليا الق�ضية‪ .‬يف املقابل‪،‬‬ ‫«م�صلحة اخل�براء» تدر�س‬ ‫ً‬ ‫رفع �أفراد عائلة وايل �أكرث من ‪ 57‬ق�ضية جنائية �ضد‬ ‫الفالحني‪ ،‬متهمني �إياهم مبهاجمة فيلاّ ت �آل وايل‪ ،‬زاعمني‬ ‫مكد�سة على الأر�ض‬ ‫�أنهم �رسقوا املحا�صيل التي كانت ّ‬ ‫قبل حلول ثورة ‪ 25‬يناير‪/‬كانون الثاين‪.‬‬ ‫بتحرك‬ ‫ تناق�ش هذه املقالة اخلطاب ال��ذي �أح��اط‬ ‫ّ‬ ‫امل�ست�أجرين من �أجل حقوقهم‪ ،‬وطبيعة هذا اخلطاب‪ ،‬كما‬ ‫املعنية يف جتاوبها‬ ‫الأ�ساليب التي اعتمدتها املجموعات‬ ‫ّ‬ ‫بالتحرك‪ ،‬وف�سرّ ته كنتيجة‬ ‫معه‪ .‬جمموعات كثرية احتفت‬ ‫ّ‬ ‫لـ«ك�رس حاجز اخلوف» الذي �أر�ساه نظام مبارك ــ الزم ٌة‬ ‫�سادت �أدبيات ‪ 25‬يناير الثورية‪� .‬إال �أن كثريين �أي�ض ًا‬ ‫عار�ضوا‪ ،‬على �أر�ضيات خمتلفة‪ ،‬الدعاوى القانونية التي‬ ‫رفعها امل�ست�أجرون الذين جرى �إخال�ؤهم من الأر�ض‪.‬‬ ‫القراءات التي قدمها املحامون اخلرباء يف حقوق الإن�سان‬ ‫واحلقوق املدنية للحقوق العقارية‪ ،‬تعك�س �إميان ًا عميق ًا‬ ‫بحكم القانون‪ .‬يف املقابل‪ ،‬هناك انعدام ثقة متزايد ووا�سع‬ ‫االنت�شار بني امل�ست�أجرين‪ ،‬يفيد ب�أن املظ ّلة القانونية لن‬ ‫ت�أتيهم بالعدالة‪« :‬القانون زي الغربال»‪ ،‬ح�سبما قال يل‬


‫يوم ًا احلاج ح�سن بينما كنا نحت�سي ال�شاي‪ .‬فهو مليء‬ ‫بال ُّث َغر‪ ،‬بحيث ي�سهل اخرتاقه‪ ،‬والتالعب فيه‪ ،‬واعرتا�ض‬ ‫تطبيقه‪ .‬و�أ�ضاف‪« :‬القانون معمول ع�شان القوي‪ .‬حمتاجني‬ ‫حد زي جمال عبد النا�رص»‪.‬‬ ‫�إرادة �سيا�سية‪ ،‬عايزين ّ‬ ‫�إىل ذلك‪ ،‬يجادل م�ست�أجرون كرث ب�أن النظام الق�ضائي‬ ‫م�شكوك ب�إذعانه ل�سطوة وايل ال�سيا�سية‪ ،‬التي ميار�سها‬ ‫حتى من ال�سجن‪� .‬أما البديل الذي يحتاجونه لتحقيق‬ ‫العدالة فيكمن بالن�سبة �إليهم يف ت�أمني الإرادة ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫أقدم يف هذه املقالة عدد ًا من القراءات التحليلية الأولية‬ ‫� ّ‬ ‫لتحرك الفالحني يف م�رص �ضمن ال�سياق الثوري‪ ،‬وجتاوب‬ ‫ّ‬ ‫العديد من اخلرباء القانونيني معه‪ .‬ف�أعالج النقا�ش حول‬ ‫�رصاعات اال�ستمالك التي انفجرت خالل الع�رشين �سنة‬ ‫املا�ضية يف ريف م�رص‪ ،‬يف حماولة معاينة الأ�ساليب التي‬ ‫ا�ستخدمها امل�ست�أجرون ملواجهة ال�سلطات القانونية‬ ‫والدينية التي تدير معايري التفاهم حول �آليات التم ّلك‪ ،‬وهو‬ ‫تفاهم ت�سيطر عليه الإيديولوجيات النيوليربالية‪ .‬بذلك‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫أحتدى القناعة ال�شعبية التي تفيد ب�أن الريف امل�رصي هو‬ ‫� ّ‬ ‫«احل�صن‪� ،‬أو اخل ّزان اال�سرتاتيجي للثورة امل�ضادة»‪ .‬فمن‬ ‫خالل مطالبتهم بحقّهم يف الأر�ض‪ ،‬ينخرط امل�ست�أجرون‬ ‫يف الأحداث الثورية‪ ،‬حتى ولو من كوالي�سها‪.‬‬ ‫ ت�ستند هذه املقالة �إىل املالحظات التفاعلية‪ ،‬والبحث‬ ‫الأر�شيفي‪ ،‬واملقابالت التي �أجريتها على مدى ‪� 12‬شهر ًا‬ ‫أبعادية‪ ،‬اخللطة‪،‬‬ ‫الفيوم (ال ّ‬ ‫يف خم�س قرى يف حمافظة ّ‬ ‫�أحمد �أفندي‪ ،‬قوتة‪ ،‬وقارون)‪ ،‬بدء ًا من �أيلول ‪� /‬سبتمرب‬ ‫‪ 2011‬حتى ني�سان ‪� /‬أبريل ‪ ،2012‬وثم من ت�رشين‬ ‫الثاين ‪ /‬نوفمرب ‪ 2012‬وحتى ني�سان ‪� /‬أبريل ‪.2013‬‬ ‫وجهات نظر اخلرباء‬ ‫املخت�صون باحلقوق املدنية وحقوق‬ ‫يقدم املحامون‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الإن�سان الق�ضية كق�صة باتت كال�سيكية‪ ،‬يطالب فيه‬ ‫الفلاّ حون با�ستعادة منفذ �إىل �أر�ض ُحرموها خالل فرتة‬ ‫حكم �سلطوية وفا�سدة‪ .‬البيانات ال�صادرة عن املجموعات‬ ‫النا�شطة يف جمال حقوق الإن�سان دعم ًا للم�ست�أجرين‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫خطاب يعترب فئة «الفالح الب�سيط»‬ ‫ت� ّؤطر امل�شكلة يف‬ ‫بحد ذاتها �ضحي ًة ل�سيا�سات حترير الزراعة‪ ،‬ولف�ساد‬ ‫ّ‬ ‫متج�سد ًا يف ا�ستغالل ال�سلطة ال�سيا�سية‬ ‫يو�سف وايل‬ ‫ّ‬ ‫لأغرا�ض الربح اخلا�ص‪� .‬إىل ذل��ك‪ ،‬تعترب �أن��ه يجب‬ ‫تطهري اجلهاز الق�ضائي من املوظفني الفا�سدين بحيث‬ ‫ّ‬ ‫يتمكن امل�ست�أجرون من املطالبة بحقوقهم كم�ست�أجرين‪.‬‬ ‫يتكرر ذلك يف البيان التايل ال�صادر عن منظمة غري‬ ‫ّ‬ ‫‪114‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫حكومية ا�سمها «نواة» يف ‪� 17‬آذار ‪ /‬مار�س ‪،2013‬‬ ‫�إثر �سجن خم�سة م�ست�أجرين بتهمة �رسقة حما�صيل‬ ‫�أرا�ضي وايل‪« :‬ماذا يفعل الفالحون الب�سطاء �أمام �سيل‬ ‫املحا�رض امللفقة التي قامت بها عائلة وايل (الوزير‬ ‫ال�سابق للزراعة واملتهم يف ق�ضايا ف�ساد و�أحد �أهم‬ ‫عنا�رص النظام البائد)‪ ،‬بدعم من �أجهزة الدولة �ضد‬ ‫أبعادية؟‬ ‫فالحني قرية قوته واخللطة وعزبة زكي وال ّ‬ ‫�أين الرئي�س واملر�شد والوزير واملحافظ ليحمي حقوق‬ ‫�صغار املزارعني يف حيازة �آمنة لأرا�ضيهم الزراعية‪� ،‬أم‬ ‫�أنهم يحمون املعاينات املزورة والكاذبة كي يدعموا نفوذ‬ ‫ع�صابات مبارك ونظامه الفا�سد �ضد فالحني كل �أملهم‬ ‫�أن يزرعوا الأر�ض وينتجوا اخلري للم�رصيني؟!»‪.‬‬ ‫ �أظهرت املقابالت مع املحامني �أنهم بدورهم ي�ؤيدون‬ ‫النظرية التي تفيد ب�أنه حتى الفلاّ حون‪ ،‬وهم �أكرث �رشائح‬ ‫املجتمع تهمي�ش ًا‪ ،‬ك�رسوا حاجز اخلوف الذي �ساد ع�رص‬ ‫يقدمون ر�ؤو�س الف�ساد للعدالة‪ .‬مع ذلك‪،‬‬ ‫مبارك‪ ،‬وهم اليوم ّ‬ ‫هناك نقاط خالف كثرية ما بني امل�ست�أجرين وحماميهم‪.‬‬ ‫فيجادل املحامون ب���أن امل�ست�أجرين ي�ستندون يف‬ ‫ادعاءاتهم �إىل وثائق عتيقة مل تعد تعترب قانونية‪ .‬الأ�ستاذ‬ ‫أبعادية‪،‬‬ ‫�سيد حما ٍم باحلق املدين يف ق�ضية ال ّ‬ ‫ح�سني ّ‬ ‫قوي يف جماعة «الإخوان امل�سلمني»‪ ،‬وهو اليوم‬ ‫وكادر ّ‬ ‫يتبو�أ مركز ًا قيادياً يف حزبها «احلرية والعدالة»‪ .‬طلب منه‬ ‫ال‪،‬‬ ‫امل�ست�أجرون رفع دعوى ق�ضائية �ضد وايل‪ .‬وافق �أو ً‬ ‫قرر رف�ض ّ‬ ‫توكل الق�ضية‬ ‫لكنه‪ ،‬بعد مراجعة الوثائق‪ّ ،‬‬ ‫القتناعه ب�أن �أغلبية امل�ست�أجرين ال ت�ستحق الأر�ض‪،‬‬ ‫من وجهتي النظر القانونية والإ�سالمية‪ .‬ويلفت �إىل �أن‬ ‫امل�ست�أجرين �أ�سا�ؤوا تف�سري العقد الذي منحهم �إياه عبد‬ ‫فلما مت تعديل‬ ‫النا�رص‪« :‬كانوا م�ست�أجرين‪ ،‬ال ملاّ كني‪ّ .‬‬ ‫قانون الإ�صالح‪ ،‬باتت الأر�ض خا�ضعة لقوانني ال�سوق»‪.‬‬ ‫ويدعم الأ�ستاذ ح�سني ر�أيه القائل ب�أن امل�ست�أجرين ال‬ ‫ّ‬ ‫ي�ستحقون الأر�ض‪ ،‬م�ستند ًا �إىل �أحكام ال�رشيعة التي‬ ‫تفيد ب� ّأن قيمة الأر�ض تخ�ضع لل�سوق‪ .‬امتلك �آل وايل‬ ‫القدرة على دفع ثمنها‪ ،‬وبالتايل ا�ستحقوا ملكيتها‪ .‬ينظر‬ ‫�إىل املحامني املعنيني بالق�ضية كل�صو�ص يطيلون �أمد‬ ‫الق�ضية ليتقا�ضوا املزيد من املال بدل �أتعابهم‪ ،‬لكنهم‬ ‫يعرفون جيد ًا �أن ال جدوى منها‪ .‬يف قراءته‪ ،‬يح�رص‬ ‫الأ�ستاذ ح�سني ال�رشعية بالنظم الر�سمية التي تعرتف بها‬ ‫روج‬ ‫الدولة‪ ،‬مبا يعك�س �شك ً‬ ‫ال خا�ص ًا من (انعدام) العدالة ّ‬ ‫له مع تطبيق قوانني الرتاجع عن الإ�صالح الزراعي‪ ،‬التي‬ ‫ٍ‬ ‫أ�سباب دينية‪.‬‬ ‫دعمها «الإخوان امل�سلمون» ل‬


‫ ال يجد املحامون النا�شطون يف جمال حقوق الإن�سان‬ ‫جدوى قانونية يف املطالبة با�ستعادة احلقول‪ .‬كثريون منهم‬ ‫غ�ضبوا من الفلاّ حني‪ ،‬على اعتبار �أن الأخريين ال ي�أخذون‬ ‫بن�صائحهم القانونية‪ .‬بع�ضهم امتنع عن منح الفلاّ حني‬ ‫الدعم القانوين‪ ،‬بينما رف�ض �آخ��رون تقدمي امل�ساعدة‬ ‫منذ البدء‪ .‬على فنجان �شاي بعد ظهر ذاك اليوم‪ ،‬التقيت‬ ‫ب�أ�رشف‪ ،‬وهو مدير «نواة» ‪ -‬منظمة غري حكومية بارزة‬ ‫تن�شط يف جمال احلقوق االجتماعية وال�سيا�سية‪ ،‬مع تركيز‬ ‫خا�ص على ق�ضايا الفلاّ حني‪ .‬قال يل �أ�رشف ب�شجاعة �إنها‬ ‫معركة خا�رسة‪ ،‬ولي�س ال�سبب يف ذلك افتقار الفلاّ حني‬ ‫�إىل الوثائق املنا�سبة فح�سب‪ ،‬بل �أي�ض ًا لأنها ق�ضية قدمية‪.‬‬ ‫ال‪،‬‬ ‫ُط ِّبق قانون اال�ستئجار ال�صادر يف عام ‪ 1997‬كام ً‬ ‫بحيث ت�ستحيل اليوم �إمكانية �إزالة مفاعيله‪ .‬ومع �أنهم‬ ‫ح�صلوا على الأر�ض مقابل م�شاركتهم يف احلرب‪ ،‬ولكن‬ ‫عند �أخذها منهم‪ ،‬عادت �إىل عائلة وايل‪ ،‬و�أ�ضحوا يف‬ ‫املوقع ذاته الذي وجد م�ست�أجرون �آخرون �أنف�سهم فيه ملا‬ ‫جرى �إخال�ؤهم مبوجب قانون اال�ستئجار ال�صادر يف عام‬ ‫‪� .1997‬أ�رشف‪ ،‬والعديد من املحامني الذين حاورتهم‪،‬‬ ‫ينظرون �إىل «احلق» مبعاين التعوي�ض‪ ،‬قطعة � ٍ‬ ‫أر�ض يف‬ ‫مبلغ من املال‪.‬‬ ‫مكان �آخر‪� ،‬أو ٌ‬ ‫لاّ‬ ‫ من جهة �أخرى‪ ،‬يبدو وك�أن الف حني يطالبون ب�أن‬ ‫تعرتف الدولة بهم‪� ،‬أكرث مما ي�شقّون طريقهم يف دعوى‬ ‫املجردة‪،‬‬ ‫امللكية‬ ‫مطلب كهذا ال يقوم على حقوق‬ ‫ق�ضائية‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بل على تلك التي تعرتف لهم بالتاريخ الفردي واجلماعي‬ ‫كمواطنني مكتملي املواطنة‪ :‬جنود ال ّأمة‪ ،‬حارثو الأر�ض‪،‬‬ ‫مواطنون جديرون بثقة الدولة‪.‬‬ ‫جنود ال ّأمة‬ ‫يخولهم‬ ‫املدعون � ّأن د�ستور ‪ 1971‬امل�رصي‬ ‫يزعم ّ‬ ‫ّ‬ ‫احل�صول على معاملة مميزة ب�صفتهم جنود ًا حماربني‪.‬‬ ‫وي�ستندون يف ذلك �إىل املادة ‪ 15‬التي تقول‪« :‬للمحاربني‬ ‫القدماء وامل�صابني يف احلرب ولزوجات ال�شهداء و�أبنائهم‬ ‫الأولية يف فر�ص العمل وفق ًا للقانون»‪.‬‬ ‫ لدعم مطالبهم‪ّ ،‬‬ ‫رك��ز امل�ست�أجرون على �شهادات‬ ‫ت�ضم �صور ًا لهم مبالب�س اجلي�ش‬ ‫اجلندية اخلا�صة بهم‪ ،‬وهي‬ ‫ّ‬ ‫تعود بالزمن خم�سني عاماً �إىل الوراء مرفقة ب�سنة التجنيد‬ ‫وموقعه ــ ‪ ،1964‬اليمن‪ .‬وبذلك‪ ،‬هم ي�شريون بالتحديد‬ ‫�إىل م�شاركتهم يف احلرب الأهلية اليمنية‪ ،‬التي حاربت‬ ‫م�رص فيها �إىل جانب اجلمهوريني �ضد امللكيني من عام‬ ‫‪ 1962‬حتى عام ‪ ،1970‬ويطلقون على �أنف�سهم‬ ‫‪116‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ينظرون �إىل الأر�ض مثلما ينظرون �إىل �أطفالهم‪ :‬عزيزة‬ ‫وقيمة» (فتحي ‪ ،2005‬ذكرت يف بو�ش ‪.)67:2009‬‬ ‫ّ‬ ‫فيكرر ا�ستخدام‬ ‫أجرين‪،‬‬ ‫�‬ ‫امل�ست‬ ‫أحد‬ ‫�‬ ‫وهو‬ ‫حامد‪،‬‬ ‫ال�شيخ‬ ‫�أما‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ي�شددان على متلك املرء ملا عمل فيه‪« :‬ما‬ ‫حديثني نبويني ّ‬ ‫�إحنا عندنا ال�رشع بيقول‪« :‬من �أحيا �أر�ض ًا ميتة فهي له»‪،‬‬ ‫و«من حفر بئر ًا‪ ،‬فله حرميها»‪ ،‬يعنى اللي حوليها»‪.‬‬ ‫يطبقان‬ ‫ عند مراجعة هذين احلديثني‪ ،‬وجدت �أنهما ّ‬ ‫على الأر�ض ال�شاغرة‪ .‬فعدت �إىل ال�شيخ حامد و�س�ألته‬ ‫عن هذا التناق�ض‪� ،‬إذ �إن الأر�ض مو�ضع اخل�صام امتلكتها‬ ‫يف ٍ‬ ‫وقت �سابق عائلة وايل‪ .‬وتبع ًا للتاريخ املحلي‪ ،‬كانت‬ ‫ٍ‬ ‫ال‪ .‬بثقة �أجاب‬ ‫عائلة وايل من زرع احلياة يف الأر�ض �أو ً‬ ‫حراث الأر�ض‪،‬‬ ‫ال�شيخ حامد‪ ،‬معتربا ً �أن الفلاّ حني كانوا ّ‬ ‫حتى وهي مملوكة ر�سمي ًا من قبل وايل‪ ،‬يف ظل الإدارة‬ ‫العثمانية للعقارات‪.‬‬

‫ولكن‪ ،‬الكت�ساب ه��ذا املقام‪ ،‬وج��ب عليهم الكدح‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ظروف �صعبة‪ .‬ونظر ًا �إىل غياب الرجال يف اخلدمة‬ ‫ويف‬ ‫ّ‬ ‫�رسدية جندرية ت�سلط‬ ‫الع�سكرية‪ ،‬جل�أ الفلاّ حون �إىل‬ ‫ّ‬ ‫حي ًة حتى‬ ‫ال�ضوء على دور الن�ساء يف احلفاظ على الأر�ض ّ‬ ‫تو�ضح الفكرة‪:‬‬ ‫عودتهم �إليها‪ .‬ق�صة �أم خالد املذكورة �أدناه ّ‬ ‫وحديا من ‪ 67‬لـ ‪ 74‬ما هو كان غايب‪،‬‬ ‫«كنت بزرع‬ ‫ّ‬ ‫و�أنا بقى ربنا يخ ّلي بقيت معايا �أربع عيال‪ :‬خالد وجمال‬ ‫ون�رص وهدى‪� .‬أروح �أ�شتغل �أجيب واحد يحرث بجوز‬ ‫بهامي وجنيبلوا تقاوى ذرة‪ ،‬تقاوى قطن وتقاوى قمح‪،‬‬ ‫واحد يبدرها يل ويلفها ويزرعها‪� ،‬أي حاجة‪ ،‬و�أروح‬ ‫�أ�سقى‪� ،‬أحطلها كيماوي و�أ�سقيها‪� ،‬أحتزم و�أ�سقيها‪ .‬كان‬ ‫�إبني على �صدري كده مولود و�أروح برده‪ ،‬وييجي وقت‬ ‫احل�صاد نح�صد ونروح القمح البيت‪ ،‬ما هو غايب م�ش‬ ‫هنا‪ ،‬والدي ميوتوا من اجلوع‪� .‬إخوته م�ساعدوني�ش‪ ،‬كانوا‬ ‫عايزين يخدوها‪ ،‬وكانوا بي�رسقوين‪ ،‬ملا يالقوا الزرعة‬ ‫حلوة يروحوا يقلعوها ويخدوها‪� ،‬إخواتي �أن��ا م�ش مواطنون جديرون بثقة الدولة‬ ‫فالحني‪ ،‬ده �إخواتي جنارين م�ش فالحني ملهم�ش دعوة‪ ...‬ثالثة احلجج التي ي�سوقها امل�ست�أجرون تقوم على الرتابط‬ ‫ّ‬ ‫تت�شكل‬ ‫�رسديات امل�ست�أجرين‬ ‫امللكية وامل�س�ؤولية‪.‬‬ ‫و�أنا اللي �أعمل كل حاجة‪ ،‬حلد ما ربنا كرمنا جه‪ ،‬جه ما بني‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املحلي و«الق�ضايا القومية»‬ ‫لقى عندنا بهامي‪ .‬رحت بعت الكردان وجبت به عجل بـ من التفاعل ما بني �رصاعهم‬ ‫ّ‬ ‫‪ 9‬جنيه‪ ...‬وربنا كرمني جه لقاين �شارية بيت‪ ...‬وبنيناه الأو�سع‪ .‬وتنمو «الق�ضايا القومية» حول �إ�ساءة وايل‬ ‫ليتعهد م�شاريع اال�ستثمار‬ ‫يف الع�رش �سنني بقى‪ ،‬بنيته بالطوب وع�ش�شت فيه �أنا ا�ستخدام ال�سلطة ال�سيا�سية‬ ‫ّ‬ ‫ال�رسية مع امل�ستوردين‬ ‫وعيايل والبهامي‪ ،‬وعندى زرعة وعندي حم�صول يف ال��زراع��ي وعقد ال�صفقات‬ ‫ّ‬ ‫حجتهم يف �إطار الأدبيات القومية‬ ‫علي النعمة بقيت الأجانب‪ .‬ي�صوغون ّ‬ ‫البيت‪ ،‬وبقيت راجل �أ�رضب الرجالة‪ّ ،‬‬ ‫امليه‪ ،‬و�أ�رضبه و�أخنقه �أقول له التي تنظر �إىل الفلاّ ح كمنتج الغذاء الأ�سا�سي للأمة‪ ،‬يف‬ ‫�أنزل على الراجل �أقفله ّ‬ ‫و�سمم‬ ‫ميتي كيف؟ ده قوت والدي‪ ..‬طب ما هي الزرعة مقابل يو�سف وايل الذي ا�ستنزف موارد البالد‬ ‫ّ‬ ‫تاخدوا ّ‬ ‫امليه متوت‪ ،‬طب ما والدي ح ميوتوا و�أبوهم غايب ال ّأمة لرياكم الرثوات‪.‬‬ ‫تفوتها ّ‬ ‫ م�صطلحات اجتماعية ع��دي��دة ا�ستثمرت يف‬ ‫يف اجلي�ش‪ ،‬يا �أنا يا �أنت! والله العظيم حق»‪.‬‬ ‫ ُت َو َّظف القرابة ال�شخ�صية والتعابري الدينية لو�صف معر�ض تو�صيف الم�س�ؤولية وايل وال�أخالقيته‪ .‬ويجادل‬ ‫غنية باملعاين ال�شائعة امل�ست�أجرون معتربين �أن اجلوع نا ٌجت من ف�ساد وايل‪ .‬هنا‪،‬‬ ‫فعل منح احلياة للأر�ض ــ ا�ستعارة ّ‬ ‫حمورية على الكفر؛ �إذ ي�ستدعي‬ ‫اال�ستخدام للداللة على قيمة الأر�ض‪ .‬يف زيارة حديثة يح�رض اجلوع كدالل ٍة‬ ‫ّ‬ ‫�سيد‪« :‬ملاذا‪ ،‬ا�ستخدام ًا �شعبي ًا للكلمة املتجذّرة يف التعاليم القر�آنية‬ ‫العهد للقرية مو�ضوع الدرا�سة‪� ،‬س�ألت احلاج ّ‬ ‫الغذاء‬ ‫ت�رص على امتالك هذه الأر�ض؟»‪ .‬وال�رسديات الفلكلورية‪ ،‬التي تعالج حرمان الفقري‬ ‫رغم كل هذه امل�شقات‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫و�سبل احلياة (�أبو زهرة ‪ .)1987‬وكان ال�سياق كهذا‬ ‫علي نحوه‬ ‫ابني املولود حديث ًا كان معي‪� .‬أ�شار احلاج ّ‬ ‫بالأ�صبع وقال يل‪�« :‬أديك �إنتي ربنا �أطعمك وبقيتي �أم‪ ،‬عندما ا�ستخدم ح�سن املثل ال�شعبي «اجلوع كافر» للقول‬ ‫دقتي الأمومة يعني وال�ضنا غايل‪ ...‬لو جم �أقولك ياخدوا ب�أن اجلوع يقود �إىل الكفر‪ ،‬وب�أن �أولئك الذين ي�سببون‬ ‫ويدولك الفيوم دي كلها‪ ،‬تقويل �إيه؟»‪ .‬اجلوع ُيعتربون من الكفّار‪.‬‬ ‫�صباع ابنك ده ّ‬ ‫�أجبته بـ«ال»‪ .‬تلك اال�ستعارة القائمة على الأمومة وال ّأبوة تتخذ الم�س�ؤولية وايل وال�أخالقيته م�ساحة �أو�سع‬ ‫ٍ‬ ‫جدية عندما تلقيان ال�ضوء على �أدوار نخبة رجال‬ ‫ظهرت يف‬ ‫درا�سات تعالج ال�رصاعات على الأرا�ضي‪ .‬و�أكرث ّ‬ ‫ال‪ ،‬يف نقا�ش حول ال�سبب الذي يبقي الأر�ض �ضمانة الأعمال‪ ،‬والإمربيالية الأمريكية‪ ،‬و�إ�رسائيل‪ ،‬يف �إعادة‬ ‫مث ً‬ ‫ال�ستمرار الن�ضال ال�شعبي‪ ،‬كتب راي بو�ش �أن «النا�س الت�شكيل اجلذرية التي خ�ضعت لها ال�سيا�سات الزراعية‬

‫تعبري «بتوع حرب اليمن»‪ ،‬كذلك حت�رض �إ�شارات عابرة‬ ‫�إىل ح� ٍ‬ ‫�روب �أخ��رى‪ ،‬وحتديد ًا حربي العامني ‪1967‬‬ ‫ليميزوا �أنف�سهم‬ ‫و‪ .1973‬ي�ستخدمون تلك ال�صفّة‬ ‫ّ‬ ‫عن «املنتفعني» الذين ح�صلوا على قطع �أر�ض بوا�سطة‬ ‫القانون (قانون الإ�صالح)‪ .‬فقد ُع َّد حدث ت�سليم الأر�ض‬ ‫حتولٍ يف نظرتهم �إىل الدولة ــ من كيان‬ ‫لعائالتهم نقطة ّ‬ ‫يهددهم �إىل كيان يكافئهم‪ .‬ويتج ّلى ذلك يف ا�ستعادة‬ ‫ّ‬ ‫احلاج ح�سن لق�صة ت�س ّلم زوجته قطعة الأر�ض‪« :‬يف الفرتة‬ ‫اللي �أنا كنت فيها يف اليمن‪ ،‬جه الإ�صالح الزراعي طلب‬ ‫�صحبتنا (زوجتنا) دي‪ ،‬قالت لهم �إنتو عايزين مني �إيه؟‬ ‫�صوتت‬ ‫كان زمان اللي بيتطلب بريوح عند بيت العمدة‪ّ ،‬‬ ‫وقالت يبقى الراجل مات ما دام �إنتو جايبني يل الغفر‬ ‫ت�صوت‪،‬‬ ‫هنا‪ ،‬يبقى الراجل عليه العو�ض مات‪ ...‬قعدت‬ ‫ّ‬ ‫أبوي‪ ،‬قالوا له‪ :‬هي بت�صوت ليه؟‬ ‫راحوا جابولها املرحوم � َ‬ ‫نديها فدانني‪ ،‬تاكل وت�رشب فيهم من الإ�صالح‬ ‫ده �إحنا ح ّ‬ ‫الزراعي هي وعيالها ع�شان جوزها يف اليمن‪ ...‬فم�ضت‬ ‫على الفدانني وا�ستلمتهم‪ ،‬و�أنا قعدت يف اجلي�ش‪ ،‬هي‬ ‫بتزرع فيهم وبتاكل وبت�رشب فيهم»‪.‬‬ ‫املدعون �أنه مبوجب املادة ‪ 40‬من الد�ستور‬ ‫ وي�ضيف ّ‬ ‫امل�رصي‪ ،‬ف�إن «املواطنني لدى القانون �سواء‪ ،‬وهم مت�ساوون‬ ‫يف احلقوق والواجبات العامة»‪.‬‬ ‫ �أدرجت ثالث حاالت من التعوي�ض على ال�شهداء‬ ‫ال‪ ،‬الفلاّ حون يف مناطق �أخرى‬ ‫واملقاتلني يف احلرب‪� .‬أو ً‬ ‫ُمنحوا �أرا�ضي يف ظروف متطابقة‪ ،‬بعد دفعهم ال�رضيبة‬ ‫املفرو�ضة‪ّ ،‬‬ ‫مبلكية الأر�ض‪ .‬ثاني ًا‪ ،‬اجلنود‬ ‫ومتكنوا من التم ّتع‬ ‫ّ‬ ‫الذين ُو ِّظفوا يف القطاع العام يف مقابل م�شاركتهم‬ ‫يف احلروب ذاتها‪ ،‬وهم اليوم يتم ّتعون ّ‬ ‫بخطة كل منهم‬ ‫التقاعدية‪ .‬ثالث ًا‪�« ،‬شهداء الثورة» (�شهداء ثورة ‪ 25‬يناير‬ ‫تعر�ضوا لإ�صابات خطرة يف‬ ‫و‪�/‬أو عائالتهم) الذين ماتوا �أو ّ‬ ‫�أحداث ثورية‪ ،‬وهم اليوم ما�ضون يف �آلية تلقّي التعوي�ض‪.‬‬ ‫حارثو الأر�ض‬ ‫ينظر امل�ست�أجرون �إىل قطع الأر�ض اخلا�صة بهم كاملنتج‬ ‫املادية التي تربطهم بالدولة‬ ‫املادي لعملهم ــ «الأغرا�ض‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كمواطنني» (هيذيرنغنت ‪� .)225:2009‬إذ بوا�سطة‬ ‫الإ�صالح‪ ،‬اكتمل كيان امل�ست�أجرين‪ .‬ومثلما �أظهر عمل‬ ‫�أميتاي غو�ش يف حمافظة البحرية والإثنوغرافيا التي‬ ‫نفذتها رمي �سعد عن الفيوم‪ ،‬ر�أى الفلاّ ح يف الإ�صالح‬ ‫حتول ت�صيب عالقته بالدولة‪ ،‬مبا ي�شبه عالقة اجلاهلية‬ ‫نقطة ّ‬ ‫(جهل بالإر�شاد الإلهي) والإ�سالم (غو�ش ‪.)2002‬‬ ‫‪117‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫يف م�رص‪ ،‬البلد الذي ذُكرت موارده يف القر�آن‪ ،‬ف�إذا به‬ ‫ي�ستورد �أكرث من ‪ 50‬يف املئة من مواده الأولية‪ ،‬مبا يف‬ ‫وي�صدر العنب لإ�رسائيل‪ ،‬العدو الأكرب‬ ‫ذلك القمح‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫للمنطقة‪ .‬يظهر ذلك جلي ًا يف �أقوال احلاج ح�سن هذه‪:‬‬ ‫«مفي�ش قمح خال�ص عند حاجة ا�سمها وايل وال �أباظة‪،‬‬ ‫وال اجلماعة دول‪ ،‬بيعملوا عنب ويهرمنوه ويبيعوا الكيلو‬ ‫بع�رشين جنيه‪ ،‬وبيطلع يت�صدر لإ�رسائيل وبي�شرتي �أمينات‬ ‫البلد ويحطوا يف اخلزنة تبعه‪ ...‬مفي�ش حاجة برتجع للبلد‬ ‫خال�ص‪ ،‬هو فيه �أح�سن من �أيام عبد النا�رص اللي قال له‪:‬‬ ‫عيطنا على عبد النا�رص دم‪ ،‬الله‬ ‫من �أين لك هذا؟ ده �إحنا ّ‬ ‫يرحمه والله‪ ،‬الله يرحمه»‪.‬‬ ‫ العالقات التجارية احلميمة بني وايل ورجال‪�/‬سيدات‬ ‫الأعمال الإ�رسائيليني فازت بتغطية مك ّثفة يف جريدة‬ ‫«ال�شعب»‪ .‬تفا�صيل الدعوى �صنعت عناوين عديدة يف‬ ‫«ال�شعب»‪ .‬يف عدد يوم الثالثاء ال�صادر يف ‪ 5‬كانون الثاين‬ ‫خ�ص�صت مان�شيت اجلريدة لك�شف‬ ‫‪ /‬يناير ‪ّ ،1999‬‬ ‫تفا�صيل «�شبكة وايل ــ �إ�رسائيل»‪ .‬وت�رشح التغطية‬ ‫ال�صحافية‪ ،‬مت�س ّلح ًة بالوثائق‪ ،‬كيف تعاون وايل و«�شبكة‬ ‫ع�ساف‬ ‫التطبيع» التابعة له مع رجل الأعمال «ال�صهيوين» ّ‬ ‫ياغوري ليعرقل تو�صيل �شحنة حمولتها ‪� 3606‬أطنان‬ ‫من بذور البطاطا �إىل ال�شعب العراقي‪ ،‬بالتزامن مع‬ ‫احلرب التي اعتربت منذ ذلك احلني كحرب �أمريكا على‬ ‫العراق‪ .‬جرى اعرتا�ض ال�شحنة يف ميناء الإ�سكندرية‬ ‫�رسية بني يو�سف وايل‪ ،‬ورجل‪�/‬سيدة �أعمال‬ ‫�ضمن اتفاقية ّ‬ ‫ّ‬ ‫وركز التحقيق ال�صحايف‬ ‫وع�ساف ياغوري‪.‬‬ ‫�أردين‪/‬ة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫على �أن ياغوري هو �ضابط �سابق يف اجلي�ش الإ�رسائيلي‪،‬‬ ‫وقد قب�ض عليه ك�أ�سري حرب يف م�رص عام ‪،1973‬‬ ‫ليعود �رشيك ًا ليو�سف وايل �ضد الأخوة العراقيني‪ .‬لهذا‬ ‫التف�صيل الأخري حتديد ًا �أهمية ق�صوى يف حبك امل�ؤامرة‪.‬‬ ‫ين وقع يوم ًا حتت رحمة القوات‬ ‫ففي تعامله مع �صهيو ّ‬ ‫�ضحى وايل مبوارد املنطقة وكرامتها‬ ‫الع�سكرية امل�رصية‪ّ ،‬‬ ‫ال�سيا�سية لتحقيق الربح اخلا�ص‪.‬‬ ‫ كثريون من بني امل�ست�أجرين الذين قابلتهم ا�ستعادوا‬ ‫هذه الق�صة‪ .‬فمن خالل التذكري بعالقات وايل ب�إ�رسائيل‬ ‫املتحدة‪ ،‬ينقل امل�ست�أجرون املعركة �إىل اجلبهة‬ ‫والواليات‬ ‫ّ‬ ‫م�ضخمني م�صلحة النا�س يف حما�سبة وايل‬ ‫الوطنية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ال�سامة‬ ‫عر�ض ال�شعب للجوع واملواد‬ ‫ّ‬ ‫(ورفاقه) لكونه ّ‬ ‫يح�صل منافع اال�ستغالل الذي ميار�سه‬ ‫والإهانة‪ ،‬بينما‬ ‫ّ‬ ‫على نطاق وا�سع‪ .‬فهدفت ق�صتهم �إىل ح�شد الت�أييد‬ ‫والدعم االجتماعيني بني املواطنني العاديني الذين عانوا‬ ‫‪118‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫من االرتفاع اجلنوين يف �أ�سعار املواد الغذائية واخلبز على‬ ‫مر ال�سنني‪ ،‬ورثوا يوميا ً �ضياع الكرامة امل�رصية‪ .‬كذلك‬ ‫ّ‬ ‫ف�إنها تغذي �شعور ًا ثوري ًا عميق ًا يهدف �إىل حتقيق �شكلٍ‬ ‫من �إثبات الرباءة من خالل تقدمي �أحد رجال نظام مبارك‬ ‫الأقوياء للمحاكمة‪ .‬بالن�سبة �إىل امل�ست�أجرين‪ ،‬توازي‬ ‫حماكمة وايل حماكمة مبارك �أهميةً‪� ،‬إن مل تزد عنها‪.‬‬ ‫ولذلك‪ ،‬ابتاع احلاج ح�سن ّ‬ ‫نظارات جديدة وابتاع كر�سي ًا‬ ‫النجار‪ ،‬بهدف متابعة املحاكمات‪ ،‬وخا�ص ًة تلك‬ ‫من جاره ّ‬ ‫املخ�ص�صة ليو�سف وايل‪.‬‬ ‫من خالل التذكري بعالقات وايل ب�إ�ســـــــــــــــــــرائيل‬ ‫والواليات املتحدّ ة‪ ،‬ينقل امل�ســـــــــــــــــــــــــت�أجرون‬ ‫املعركة �إىل اجلبهة الوطنيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‪،‬‬ ‫م�ضخّ مني م�صلحة النــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا�س‬ ‫يف حما�سبة وايل؛ لأنه عرّ�ض ال�شـــــــــــــــــــــــــعب‬ ‫للجوع واملواد ال�سامّ ة والإهانــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫اخلامتة‬ ‫من خالل ق�ضية ال�رصاع على ملكية �أر�ض‪� ،‬ألقينا ال�ضوء‬ ‫احلدة والتوتر بني وجهات نظر امل�ست�أجرين من جهة‬ ‫على ّ‬ ‫وبني تلك اخلا�صة باخلرباء القانونيني‪ ،‬ومن �ضمنهم �أقرب‬ ‫داعميهم ‪ -‬حمامو حقوق الإن�سان‪ ،‬من اجلهة الأخرى‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من �أن املحامني‪ ،‬عموم ًا‪ ،‬يحتفون ب�إقدام‬ ‫امل�ست�أجرين على نقل ق�ضيتهم �إىل املحكمة‪ ،‬كدليل‬ ‫ت�سوقه القاعدة ال�شعبية على ك�رسها حاجز اخلوف الذي‬ ‫ميز نظام مبارك‪� ،‬إال �أنهم يلتزمون تقدمي حلول اقت�صادية‬ ‫ّ‬ ‫للم�شكلة‪ ،‬بينما ي�ستندون �إىل �أ�س�س قانونية‪ .‬بذلك‪ ،‬هم‬ ‫ال ي�أخذون يف االعتبار احل�سا�سيات ال�سيا�سية التي يبني‬ ‫عليها املزارعون دعواهم القانونية‪ .‬كذلك ف�إنهم يتغا�ضون‬ ‫عن دينامية العالقات التاريخية وال�سيا�سية واالقت�صادية‬ ‫واالجتماعية بني املزارعني والأر�ض والدولة‪ .‬يف ح�رص‬ ‫النقا�ش بال�ساحة القانونية ‪ -‬االقت�صادية‪ ،‬ي�ضع اخلرباء‬ ‫القانونيون‪ ،‬مبن فيهم النا�شطون‪ ،‬الن�ضال من �أجل‬ ‫الأر�ض يف منزلة ثانوية �ضمن ال�سياق الثوري ‪ -‬منزلة‬ ‫خا�صة بـ«املطالب الفئوية»‪ .‬باال�ستناد �إىل عمل روزا‬ ‫لوك�سمبورغ‪ ،‬لفتت مهى عبد الرحمن (‪)614:2012‬‬ ‫�إىل ان�شقاقٍ وقع ما بني «االقت�صادي» و«ال�سيا�سي»‬ ‫ٍ‬ ‫كغريب‬ ‫قدم فيه الأول‬ ‫لعرقلة �سياق م�رص الثوري‪ُ ،‬ي ّ‬ ‫مي�س �سلباً بالن�ضال من �أجل املطالب‬ ‫عن �آلية الثورة‪ ،‬مبا ّ‬ ‫بحد ذاته‪.‬‬ ‫االقت�صادية كفعلٍ �سيا�سي ّ‬

‫احلريات النقابية‬ ‫القانون الكاشف‬

‫فاطمة رمضان خرج املاليني يف ‪ 30‬حزيران‪/‬يونيو �إىل ال�شارع‪،‬‬ ‫مطالبني ب�إنهاء حكم الإخوان امل�سلمني الذي زادهم فقراً‪،‬‬ ‫عضو المكتب وازدادت معه معاناتهم‪ ،‬حتى و�صل الأمر �إىل انقطاع‬ ‫التنفيذي لالحتاد دائم للمياه والكهرباء‪ ،‬واالنتظار يف طوابري للح�صول‬ ‫المرصي للنقابات على البنزين وال�سوالر‪ ،‬ما كاد يوقف احلياة متاماً‪ ،‬ومع‬ ‫المستقلة‪ ،‬عضو ا�ستمرارهم يف ال�سري ب�سيا�سات ح�سني مبارك نف�سها‬ ‫االمانة العامة حلزب التي ثار ال�شعب امل�رصي عليها‪ .‬ومع تدخل قيادة اجلي�ش‬ ‫التحالف الشعيب يف امل�شهد و�إزاح��ة حممد مر�سي وجماعة الإخ��وان‬ ‫االشرتاكي‪ .‬امل�سلمني عن �سدة احلكم‪ ،‬والإتيان بحكومة تف�صيل‪،‬‬ ‫الرتكيبة الغالبة عليها وزراء معروفون بانتمائهم �إىل‬ ‫الليربالية اجلديدة‪ ،‬وعلى ر�أ�سهم حازم الببالوي‪� ،‬أُتي‬ ‫ببع�ض الوزراء من الوجوه الثورية لكي يقال لنا كذبا ً‬ ‫�إنها حكومة الثورة‪ .‬وكان �ضمن هذه الوجوه وزير‬ ‫القوى العاملة كمال �أبو عيطة‪ ،‬املنا�ضل العمايل ورمز‬ ‫اال�ستقالل النقابي يف م�رص‪ ،‬ورئي�س االحتاد امل�رصي‬ ‫للنقابات امل�ستقلة‪.‬‬ ‫ منذ انت�شار الأخبار عن تر�شيح �أبو عيطة للوزارة‪،‬‬ ‫ارتفعت �آمال العمال وطموحاتهم يف حتقيق مطالبهم‬ ‫التي طال انتظار حتقيقها‪ ،‬والتي طاملا �أ�رضبوا واعت�صموا‬ ‫وتظاهروا للمطالبة بها‪ .‬فقد �أتى واحد منهم‪ ،‬يعرف‬ ‫همومهم وم�شاكلهم جيد ًا‪ ،‬وعليه الآن تنفيذ هذه املطالب‪،‬‬ ‫وحل هذه امل�شكالت‪.‬‬ ‫ وارتفع �سقف املطالب والآمال �أكرث و�أكرث‪ ،‬وخ�صو�ص ًا‬ ‫عندما قال �أبو عيطة �إنه ا�شرتط لقبول الوزارة �إ�صدار‬ ‫قانون احلريات النقابية‪ ،‬وعودة املف�صولني‪ ،‬و�إ�صدار قانون‬ ‫واحلد الأق�صى للأجور‪ ،‬وت�شغيل امل�صانع‬ ‫باحلد الأدنى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املغلقة وغريها من املطالب التي طاملا طالب بها العمال‪،‬‬ ‫وطاملا طالب بها �أبو عيطة نف�سه عندما كان �أحد الوجوه‬ ‫املعبرّ ة عن العمال‪.‬‬ ‫‪119‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ وهناك بع�ض املحللني‪� ،‬سواء يف احلركة ال�سيا�سية �أو‬ ‫العمالية‪ ،‬الذين ر�أوا � ّأن �أبو عيطة لن ي�ستطيع يف حكومة‬ ‫بهذا ال�شكل �أن يحقق ما وعد به‪ ،‬و�أنه لو ا�ستطاع �إ�صدار‬ ‫قانون احلريات النقابية ف�سيكون ذلك �إجناز ًا يح�سب له‪،‬‬ ‫وخ�صو�ص ًا � ّأن هذا القانون ال يحتاج �إىل �أموال لإ�صداره‪.‬‬ ‫�أبو عيطة لن ي�ستطيع يف حكومـــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫بهذا ال�شكل �أن يحقق ما وعد بــــــــــــــــــــــــــــــه‪،‬‬ ‫و�إن ا�ستطاع �إ�صدار قانون احلريات النقابيـــــــــــــــــة‬ ‫ف�سيكون ذلك �إجنازاً يح�سب لـــــــــــــــــــــــــــــــه‪،‬‬ ‫وخ�صو�ص ًا �أنّ هذا القانــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون‬ ‫ال يحتاج �إىل �أموال لإ�صــــــــــــــــــــــــــــــــــــداره‬ ‫ما هي �أهمية قانون النقابات العمالية؟‬ ‫«القانون كخيط العنكبوت يقع فيه ال�ضعفاء‪ ،‬ويع�صف‬ ‫به الأقوياء»‪ .‬كانت هذه مقولة الراحل طه �سعد عثمان‬ ‫ النقابي املعروف يف �شربا اخليمة يف الأربعينيات‬‫واخلم�سينيات‪ ،‬وه��ي الفرتة التي �شهدت ت�أ�سي�س‬ ‫نقابات قوية‪ ،‬والتي �أتت حركة ال�ضباط يف ‪1952‬‬ ‫و�أممتها‪ .‬قال عثمان جملته تلك لعدد من العمال الذين‬ ‫كانوا يجتمعون يف اللجان التي ي�ؤ�س�سونها عو�ض ًا عن‬ ‫النقابات التي كانت م�ؤممة مل�صلحة النظام‪ ،‬وخ�صو�ص ًا‬ ‫مع بداية الألفية‪ ،‬ومن هذه اللجان‪ :‬اللجنة التن�سيقية‬ ‫للحقوق واحلريات النقابية‪ ،‬وجلنة الت�ضامن مع عمال‬ ‫�شربا اخليمة‪ ،‬وغريهما‪ .‬وكان عم طه ‪ -‬كما ي�سمى ‪-‬‬ ‫يردد هذه املقولة عندما كان العمال يطرحون م�س�ألة ما‬ ‫هو قانوين وما هو غري قانوين‪� ،‬سواء من مطالبهم‪� ،‬أو‬ ‫من الطرق التي يلج�أون �إليها من �أجل احل�صول على‬ ‫مطالبهم تلك‪.‬‬


‫ انطالق ًا من مقولة عم طه‪ ،‬ومن �إمياننا الكامل ب� ّأن‬ ‫القانون ال ي�صنع واقع ًا‪ ،‬و� ّأن القوانني ت�صدر معربة عن‬ ‫م�صالح الطبقة امل�سيطرة‪ ،‬نناق�ش قانون النقابات العمالية‪،‬‬ ‫الذي بد�أ احلديث عنه عقب �إزاحة مبارك عن �سدة احلكم‪،‬‬ ‫بت�سميته قانون احلريات النقابية‪ ،‬ثم عدنا الآن �إىل اال�سم‬ ‫القدمي ما قبل الثورة‪� ،‬أي قانون النقابات العمالية‪ .‬فهل‬ ‫حق ًا �سي�ستطيع كمال �أبو عيطة �إ�صدار قانون يعبرّ عن‬ ‫طموحات العمال وي�ساعدهم يف بناء نقابات حقيقية تعبرّ‬ ‫عنهم وتدافع عن حقوقهم‪ ،‬وي�ستطيعون عزلها �إن مل تقم‬ ‫بدورها جتاه مطالبهم‪� ،‬أم ال؟ وملاذا يكت�سب هذا القانون‬ ‫هذه الأهمية؟‬ ‫ ملا كان التنظيم هو امل�س�ألة الفارقة يف ثورة ال�شعب‬ ‫امل�رصي التي مرت مبرحلة املخا�ض لأكرث من ع�رشة‬ ‫�سنوات‪ ،‬وبد�أت �أوىل مراحلها يف ‪ 25‬يناير‪ ،2011‬وما‬ ‫بد�أ احلديث عن قانون النقابات العماليـــــــــــــــــــــــة‬ ‫عقب �إزاحة مبارك عن �ســــــــــــــــــــــــــــدة احلكم‪،‬‬ ‫بت�سميته قانون احلريات النقابيـــــــــــــــــــــــــــــــة‪،‬‬ ‫ثم عدنا الآن �إىل اال�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم‬ ‫القدمي ما قبل الثـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــورة‬ ‫زالت م�ستمرة‪ ،‬ف� ّإن ال�شعب امل�رصي الذي خرج باملاليني‬ ‫واعت�صم ملدة ثمانية ع�رش يوم ًا حتى �إزاحة مبارك‪ ،‬جمعه‬ ‫هدف واحد هو �إزاحة الرئي�س‪ ،‬ولكنه ب�سبب عدم وجود‬ ‫تنظيمات‪� ،‬سواء يف �شكل �أحزاب �أو نقابات �أو �أي �أ�شكال‬ ‫تنظيمية �أخرى ت�سمح باالتفاق على البديل وال�صمود من‬ ‫�أجل فر�ضه‪ ،‬ا�ضطر �إىل قبول املجل�س الع�سكري يف �سدة‬ ‫ال من مبارك‪ .‬هكذا ا�ستكمل املجل�س �سيا�سات‬ ‫احلكم بدي ً‬ ‫مبارك نف�سها دون تغيري‪ ،‬وحاول بكل الطرق �إجها�ض‬ ‫وكتم �أي مبادرة �أو �أي �صوت يطالب با�ستكمال الثورة حتى‬ ‫حتقيق �شعارها «العي�ش واحلرية والعدالة االجتماعية»‪.‬‬ ‫ يف ‪ 30‬يونيو‪/‬حزيران خرجت املاليني التي قدرت‬ ‫مبا بني ‪ 17‬مليون ًا و‪ 30‬مليون ًا‪� ،‬إىل �شوارع القاهرة‪ ،‬ويف‬ ‫ميادين الثورة يف املحافظات‪ .‬خرج النا�س من القرى هذه‬ ‫املرة ليقولوا ال حلكم الإخوان‪ ،‬ولكن ب�سبب عدم تنظيمهم‬ ‫�أتت القوى اليمينية‪ ،‬ومنها القوى املعادية للثورة والتي‬ ‫حتارب من �أجل �إيقاف م�سريتها من اجلي�ش وال�رشطة‬ ‫وفلول النظام ال�سابق‪ ،‬ومن الليرباليني‪ ،‬ليت�صدروا هم‬ ‫امل�شهد‪ ،‬ولي�ستولوا على �سدة احلكم‪� ،‬سواء ب�شكل مبا�رش‬ ‫�أو ب�شكل غري مبا�رش‪.‬‬ ‫‪120‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫على تعيينه‪ .‬كذلك مل ي�صدر قانون احلريات النقابية‪ ،‬بل‬ ‫�صدرت قوانني لتجرمي االعت�صام والإ�رضاب والتظاهر‪.‬‬ ‫ وملا كان العمال يف مرحلة انتقالية بني الدفاع‪ ،‬من‬ ‫طريق االعت�صام والإ��ضراب والوقفات االحتجاجية‪،‬‬ ‫وبني الهجوم من �أجل مكت�سبات جديدة‪ ،‬بقوا يطالبون‬ ‫باحلد الأدنى والأق�صى‪ ،‬ولكنهم ال ي�ستطيعون فر�ضه‬ ‫ّ‬ ‫بحركتهم مع ًا‪ .‬كذلك طالبوا بقانون لتقنني و�ضع نقاباتهم‪،‬‬ ‫وللتخفيف من التع�سف الذي يقع عليهم‪ ،‬وخ�صو�ص ًا �أنهم‬ ‫ال ي�ستطيعون �إجبار احلكومات املتتابعة على �إ�صداره‪.‬‬ ‫ �أكرث من ذلك‪ ،‬بقيت احلركة العمالية رهينة قوة قوى‬ ‫الثورة �أو �ضعفها‪ ،‬و�أ�صبح انت�صار الثورة امل�ضادة يف‬ ‫احتالل مواقع جديدة على ح�ساب قوى الثورة ي�ؤثر مبا�رشة‬ ‫على العمال والطبقة العاملة امل�رصية‪ ،‬وهذا ما �سيت�ضح من‬ ‫مر بها قانون احلريات النقابية‪.‬‬ ‫خالل عر�ض املحطات التي ّ‬

‫ وملا كان التنظيم م�س�ألة حياة �أو موت بالن�سبة �إىل‬ ‫ال�شعب امل�رصي‪ ،‬و�رشط ًا �رضوري ًا من �أجل ا�ستكمال‬ ‫ثورته وجناحها يف حتقيق �أهدافها‪ ،‬ف�إن تنظيم العمال‬ ‫يعترب يف القلب من هذه العملية‪ .‬وكانت م�س�ألة النقابات‬ ‫امل�ستقلة التي بد�أت �إرها�صاتها قبل ‪ 25‬يناير‪،2011‬‬ ‫قد ظهرت من خالل �إع�لان العمال عرب �إ�رضاباتهم‬ ‫واعت�صاماتهم رف�ضهم للتنظيم النقابي الأ�صفر التابع‬ ‫للنظام واملتمثل يف احتاد عمال م�رص‪ ،‬وذلك من خالل‬ ‫الإدانة الوا�ضحة له؛ لأنه ال يقف بجوار العمال ومطالبهم‪.‬‬ ‫ففي املعارك الكربى‪ ،‬كان دائم ًا يختار خندق النظام‬ ‫احلاكم �ضد العمال وم�صلحتهم‪ ،‬ومن املعارك الفا�ضحة‬ ‫لالحتاد ا�شرتاكه يف التخطيط ملوقعة اجلمل �ضد املعت�صمني‬ ‫(�ضمنهم العمال) يف التحرير والعازمني على �إزاحة‬ ‫مبارك ونظامه وتنفيذها‪ .‬وكان العمال يف معظم معاركهم‬ ‫يرف�ضون �أن يتفاو�ض نقابيو االحتاد الأ�صفر با�سمهم‪،‬‬ ‫وي�رصون على �أن يختاروا هم املتحدثني واملفاو�ضني‬ ‫با�سمهم بعيد ًا عن االحتاد ورجاله‪ .‬وقد خطا العمال خطوة‬ ‫�أخرى يف �ش�أن التنظيم‪ ،‬فقد ت�أ�س�ست �أربع نقابات قبل‬ ‫‪ 25‬يناير‪ ،‬ورف�ضت وزارة القوى العاملة وقتها قبول‬ ‫�أوراق �إيداعها‪ .‬وقد �أخذت م�س�ألة حق التنظيم دفعة‬ ‫قوية بعد �إزاحة مبارك عندما فتح الباب للعمال لتنظيم‬ ‫�أنف�سهم بحرية وال�سماح بو�ضع �أوراق الت�أ�سي�س لنقاباتهم‬ ‫امل�ستقلة يف مديريات القوى العاملة والهجرة‪.‬‬ ‫ي�شن حرب ًا �رش�سة على العمال‬ ‫ �إال � ّأن من يحكم اليوم ّ‬ ‫وقياداتهم الطبيعية‪ ،‬ونقاباتهم امل�ستقلة‪ ،‬وبالذات املنا�ضلة‬ ‫منها‪ ،‬تارة من خالل حملة الت�شويه الإعالمي التي حتدثت‬ ‫عن فئوية مطالب العمال‪ ،‬وتارة �أخرى من خالل جترمي‬ ‫االعت�صامات والإ�رضابات ب�إ�صدار قوانني جديدة لذلك‪،‬‬ ‫و�أخري ًا ا�ستكمال حمالت التع�سف �ضد العمال التي كانت‬ ‫�أيام مبارك‪ ،‬وا�ستمرت بعد �إزاحته‪ .‬فقد ازداد الف�صل‬ ‫التع�سفي‪ ،‬وكذلك القب�ض على العمال وحماكمتهم بتهمة‬ ‫الإ�رضاب‪ ،‬التي �أ�صبحت م�س�ألة ت�ستعمل كثري ًا لك�رس‬ ‫�إرادة العمال‪ .‬هذا بالإ�ضافة �إىل �أ�شكال التع�سف الأخرى‬ ‫مثل الإيقاف عن العمل �أو احل�سم من الراتب �أو النقل‬ ‫التع�سفي‪� ،‬أو حرمان احلقوق يف الرتقيات‪.‬‬ ‫ وقد ا�ستمر املجل�س الع�سكري وحممد مر�سي يف‬ ‫ال�سري يف �سيا�سات مبارك نف�سها التي ثار ال�شعب امل�رصي‬ ‫عليها‪ ،‬فلم ن�صل �إىل و�ضع حدين �أدنى و�أق�صى حقيقيني‬ ‫عدل قانون العمل‪ ،‬ومل ُت َّثبت كل العمالة‬ ‫للأجور‪ ،‬ومل ُي َّ‬ ‫امل�ؤقتة‪� ،‬إال من ا�ستمر منها يف االحتجاج‪ ،‬ف�أجرب احلكومة‬

‫بقيت احلركة العماليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫رهينة قوة �أو �ضعف قوى الثـــــــــــــــــــــــــــــورة‪،‬‬ ‫و�أ�صبح انت�صار الثورة امل�ضـــــــــــــــــــــــــــــــــادة‬ ‫يف احتالل مواقع جديدة على ح�ســــــــــــــــــــــــــاب‬ ‫قوى الثورة ي�ؤثر مبا�رش ًة على العمـــــــــــــــــــــــــال‬ ‫والطبقة العاملة امل�رصيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫قانون احلريات النقابية‪ :‬حمطات ومواقف‬ ‫كانت املحطة الأوىل يف �آذار ‪ /‬مار�س ‪ 2011‬عندما‬ ‫قررت منظمة العمل الدولية ‪ -‬يف حتية للثورة امل�رصية ‪-‬‬ ‫عما ي�سمى القائمة ال�سوداء‪ .‬لكن يف‬ ‫رفع ا�سم م�رص ّ‬ ‫احلقيقة‪� ،‬إن التعهد الذي تقدمت به احلكومة امل�رصية‬ ‫ال‪ .‬فقد اقت�رص‬ ‫وقتها‪� ،‬أي حكومة ع�صام �رشف‪ ،‬كان هزي ً‬ ‫على قرار من وزير القوى العاملة والهجرة وقتها د‪.‬‬ ‫�أحمد ح�سن الربعي‪ ،‬مبا �سمي �إعالن احلريات النقابية‪،‬‬ ‫الذي �سمح ب�إيداع �أوراق النقابات‪ ،‬مع وعد من احلكومة‬ ‫امل�رصية ب�إجناز قانون احلريات النقابية ولكن من خالل‬ ‫حوار اجتماعي ت�شارك فيه كل الأطراف‪ .‬وجرى التو�صل‬ ‫�إىل �صيغة نهائية مل�رشوع القانون نتيجة التوافق بني هذه‬ ‫الأطراف‪ ،‬ون�رش يف الأهرام بتاريخ ‪� 1‬أيلول ‪� /‬سبتمرب‬ ‫‪ ،2011‬وهو امل�رشوع الذي وافق عليه جمل�س الوزراء‬ ‫وقتها‪ ،‬ورف�ض �إ�صداره املجل�س الع�سكري‪.‬‬ ‫ وعلى الرغم من � ّأن هذا القانون كان قا�رص ًا يف بع�ض‬ ‫جوانبه‪ ،‬مثل العقوبات على �أ�صحاب الأعمال‪ ،‬ويفر�ض‬ ‫�رشوط ًا تعجيزية على تكوين االحت��ادات‪� ،‬أو يف عدم‬ ‫‪121‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫احتواء الإعفاءات واملميزات التي تقدم للنقابات‪� ،‬إال �أ ّنه‬ ‫كان متوازن ًا ير�سي دعائم احلق يف التنظيم على �أر�ض‬ ‫الواقع‪ ،‬لأنه كان ي�سمح للعمال بت�شكيل نقاباتهم بحرية‬ ‫دون تدخل من �أحد‪� ،‬سواء �أ�صحاب الأعمال �أو احلكومة‪،‬‬ ‫�أو حتى الأحزاب وامل�ؤ�س�سات‪ .‬وميكن �أي�ض ًا اعتبار القانون‬ ‫اللبنة الأوىل يف بناء نقابات قاعدية‪ ،‬ترتبط بقواعدها‬ ‫العمالية وتدافع عن حقوقها‪ ،‬وتعمل على تنفيذ مطالبها‪،‬‬ ‫وعلى حت�سني �أو�ضاع العمال على كل امل�ستويات‪� ،‬سواء‬ ‫االقت�صادية �أو االجتماعية �أو ال�سيا�سية‪ .‬كانت �ستن�ش�أ‬ ‫نقابات دميقراطية يدخلها العمال ب�إرادتهم الكاملة‪،‬‬ ‫وينتخبون جمال�س �إدارتها من دون تدخل من �أحد‬ ‫وي�ستطيعون عزلها عندما تنحرف‪ ‬عن �أهداف النقابة التي‬ ‫و�ضعتها جمعيتها العمومية‪ .‬وبالتايل كان من املفرت�ض �أن‬ ‫تكون نقابات قوية‪ ،‬ت�ستمد قوتها من ثقة عمالها فيها‪،‬‬ ‫والعمل مع ًا بداخلها من �أجل حتقيق املطالب وانتزاع‬ ‫جزءا‬ ‫احلقوق‪ .‬نقابات تعمل من �أجل �أن يكون العمال‬ ‫ً‬ ‫من �صناعة القرار يف م�رص‪ ،‬ولي�س فقط العمل على رفع‬ ‫مطالب العمال لدى م�ؤ�س�سات اتخاذ القرار يف البالد‪.‬‬ ‫ املحطة الثانية كانت عندما �أ�صبح الإخوان امل�سلمون‬ ‫�أغلبية يف جمل�س ال�شعب‪ ،‬ف�أقرت اللجنة الت�رشيعية‬ ‫يف جمل�س ال�شعب‪ ،‬قبل حله‪ ،‬م�رشوع قانون للنقابات‬ ‫(م�رشوع قانون حزب احلرية العدالة)‪ ،‬ومل ت�أخذ �شيئ ًا من‬ ‫ثالثة م�شاريع �أخرى تقدم بها النواب يف املجل�س وقتها‪،‬‬ ‫كمال �أبو عيطة‪� ،‬أبو العز احلريري وعمرو حمزاوي‪ ،‬وكانت‬ ‫هذه امل�شاريع عبارة عن م�رشوع قانون احلريات النقابية‬ ‫الذي جرى التو�صل �إليه يف عهد الربعي‪.‬‬ ‫ وبالنظر يف امل�رشوع الذي �أقرته اللجنة‪ ،‬يظهر وك�أنه قد‬ ‫�أقر مبد�أ احلرية النقابية وحق التنظيم‪ ،‬الذي انتزعه العمال‬ ‫امل�رصيون بعد ثورة ‪ 25‬يناير على �أر�ض الواقع‪ .‬فقد تعدى‬ ‫وقتها عدد النقابات التي �أ�س�سها العمال خالل عام واحد‬ ‫�أكرث من ‪ 600‬نقابة‪� ،‬أغلبها نقابات منا�ضلة وقاعدية‪،‬‬ ‫عملت كي ينال �أع�ضا�ؤها حقوقهم املنهوبة منذ �سنوات‪.‬‬ ‫لكن بقراءته بت� ٍّأن‪ ،‬تكت�شف �أن جوهر هذا امل�رشوع كان‬ ‫تفريغ ًا لعمل النقابات من كل ما يجعلها تدخل فى مرحلة‬ ‫جديدة‪ .‬فقد حرم هذا امل�رشوع العديد من الفئات العمالية‪،‬‬ ‫كالعاملني املدنيني يف ال�رشطة واجلي�ش واملناطق اال�ستثمارية‬ ‫وغريهم‪ ،‬حق ت�أ�سي�س النقابات‪ ،‬و�أعادنا �إىل ال�شكل الهرمي‬ ‫الذي ترتكز فيه ال�صالحيات يف ر�أ�س الهرم‪ ،‬وتنتزع من‬ ‫النقابات القاعدية املرتبطة بالعمال كل ال�صالحيات‪ .‬لقد‬ ‫عمل امل�رشوع على ف�صل العمال عن ال�سيا�سة وغريها‪.‬‬


‫ ثم ت�أتي املرحلة الثالثة منذ انتخاب حممد مر�سي‬ ‫رئي�سًا للجمهورية وحتى ‪ 30‬يونيو‪ ،‬وهي املرحلة التي‬ ‫حاول فيها نظام احلكم ال�سري يف اجتاهني بخ�صو�ص‬ ‫العمال والنقابات‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬حاول �إيقاف النقابات‬ ‫معوقات‬ ‫امل�ستقلة التي تت�أ�س�س يومي ًا من خالل و�ضع ّ‬ ‫من قبل وزارة القوى العاملة (بعد تعيني الإخواين خالد‬ ‫الأزهري على ر�أ�س هذه الوزارة)‪ ،‬وو�ضع �رشوط لت�س ّلم‬ ‫الأوراق مل تكن موجودة من قبل‪ .‬ويف الوقت نف�سه‪،‬‬ ‫ا�ستمر م�سار تك�سري عظام النقابات والنقابيني والقيادات‬ ‫الطبيعية للعمال يف املواقع التي لي�س فيها نقابات‪ ،‬وهي‬ ‫ال�سيا�سة التي بد�أت يف عهد املجل�س الع�سكري‪ ،‬و�سبقه‬ ‫�إليها‪ ،‬و�إن بدرجة �أقل‪ ،‬نظام مبارك‪.‬‬ ‫ وك��ان االجت��اه الثاين هو العمل على تقوية وجود‬ ‫احتاد عمال م�رص‪ ،‬وحمايته من ال�سقوط‪ ،‬وخ�صو�ص ًا يف‬ ‫كل مرة يقرتب فيها موعد انتهاء واليته املمدة‪ ،‬و�أي�ضا ً‬ ‫ال�سيطرة على هذا االحتاد وجعله تابع ًا للنظام بقيادة حممد‬ ‫مر�سي كما كان تابع ًا ل�سابقيه‪ .‬ويف هذا الإطار ميكن فهم‬ ‫�إ�صدار مر�سي القانون ‪ 97‬لعام ‪ 2012‬عقب الإعالن‬ ‫�سبب �أزمة كربى داخل املجتمع‪ ،‬التي‬ ‫الد�ستوري الذي ّ‬ ‫�أعقبها �إ�صدار الد�ستور بال�شكل الهزيل الذي حدث‪.‬‬ ‫ �أخ�ير ًا‪ ،‬مع اق�تراب انتهاء التمديد الأخ�ير الحتاد‬ ‫العمال‪ ،‬ومع اقرتاب موعد انعقاد االجتماع ال�سنوي‬ ‫ملنظمة العمل الدولية يف حزيران ‪ /‬يونيو ‪،2013‬‬ ‫وجدنا وزير القوى العاملة يخرج علينا بجولة جديدة‬ ‫من احلوار حول قانون النقابات‪ .‬ولكنه هذه املرة قدم‬ ‫مقرتح ًا من الوزارة حول قانون للنقابات‪� ،‬أ�سو�أ بكثري‬

‫ املرحلة الرابعة بد�أت منذ تويل كمال �أبو عيطة وزارة‬ ‫القوى العاملة‪ ،‬الذي �سارع �إىل عقد اجتماع ملناق�شة قانون‬ ‫النقابات‪ ،‬لكن للأ�سف ال�شديد كانت �أول الق�صيدة كفر ًا‪،‬‬ ‫ال من �أن يعمل على �إ�صدار قانون احلريات الذي طاملا‬ ‫فبد ً‬ ‫نادى به‪ ،‬وتقدم به ملجل�س ال�شعب عندما كان ع�ضو ًا فيه‪،‬‬ ‫وجدناه يكمل طريق خالد الأزهري من حيث طرحه لآخر‬ ‫ن�سخة من قانون هذا الأخري‪ ،‬وبطريقة الت�ضييق نف�سها‬ ‫يف الدعوة للمناق�شة بعيد ًا عن �أعني العمال والنقابات �إال‬ ‫ال من املختارين من االحتادات املختلفة‪ .‬وقانون‬ ‫عدد ًا قلي ً‬ ‫ال يف �ش�ؤون النقابات وفر�ض �رشوط‬ ‫�أبو عيطة يحوي تدخ ً‬ ‫تعجيزية على الوحدة‪ ،‬وا�ستبعاد ممثلي العمال احلقيقيني‬ ‫من احلماية‪ ،‬وعزل العمال عن ال�سيا�سة‪ ،‬وحماولة �رشاء‬ ‫البريوقراطية النقابية‪� ،‬سواء القدمية �أو اجلديدة‪ .‬هذه كلها‬ ‫�إ�شكاليات تفرغ م�س�ألة النقابات من م�ضمونها‪ ،‬متام ًا كما‬ ‫كان يفعل الإخوان امل�سلمون ب�أ�شكال خمتلفة‪.‬‬ ‫ وت�ستمر حتى الآن عملية التع�سف وتك�سري العظام يف‬ ‫ظل الفراغ القانوين بالن�سبة �إىل النقابات امل�ستقلة‪ .‬كذلك‬ ‫�إن عمال م�رص م�ستمرون رغم كل �شيء يف احتجاجاتهم‬ ‫ت�صب يف م�سار ي�ؤدي �إىل تغيري‬ ‫املتفرقة التي ما زالت ال‬ ‫ّ‬ ‫و�ضعها ليكون م�ؤثر ًا يف موازين القوى بني الثورة والثورة‬ ‫امل�ضادة‪ ،‬وخ�صو�ص ًا مع عدم اهتمام معظم الأح��زاب‬ ‫والقوى ال�سيا�سية مبعركة العمال وحقهم يف التنظيم‬ ‫كحق دميقراطي �أ�صيل‪ ،‬يجري ت�صديرها كق�ضية �أ�سا�سية‬ ‫ت�ستوجب الن�ضال من �أجل �إ�صدار قانون احلريات النقابية‬ ‫ووقف نزف الف�صل واحلب�س الذي يتعر�ض له العمال‪.‬‬ ‫ وما �سيحدث يف مو�ضوع قانون احلريات النقابية‬

‫ت�ستمر حتى الآن عملية التع�سف وتك�سري العظام يف ظل الفراغ القــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــانوين‬ ‫بالن�سبة �إىل النقابات امل�ستقلة‪ .‬كذلك �إن عمال م�رص م�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتمرون‬ ‫ت�صب يف م�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــار‬ ‫ّ‬ ‫رغم كل �شيء يف احتجاجاتهم املتفرقة التي ما زالت ال‬ ‫ي�ؤدي �إىل تغيري و�ضعها ليكون م�ؤثراً يف موازين القوى بني الثورة والثورة امل�ضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادة‬ ‫من كل امل�شاريع ال�سابق ذكرها؛ �إذ بالإ�ضافة �إىل زيادة‬ ‫القيود والتدخالت يف �ش�ؤون النقابات‪� ،‬سواء من قبل‬ ‫وزارة القوى العاملة والهجرة �أو من قبل امل�ستويات‬ ‫الأعلى يف االحتادات‪ ،‬ت�ضمن مادة لها عالقة بحل النقابة‬ ‫التي تدعو �أو حتبذ على �أو ت�شجع الإ�رضاب‪ ،‬وك�أ ّنه بهذا‬ ‫ال�شكل يحكم على كل النقابات لكي ت�ستمر باخل�ضوع‬ ‫التام‪ ،‬وعدم ممار�سة الإ�رضاب‪ ،‬وبالتايل عدم الدفاع عن‬ ‫�أي حق من حقوق العمال‪.‬‬ ‫‪122‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫�سيكون املر�آة التي ميكننا �أن نعرف من خاللها �إذا كنا‬ ‫ن�سري يف طريق الدميقراطية القاعدية‪ ،‬من خالل قوانني‬ ‫ت�سمح ب�شكل حقيقي بالتنظيم بعيد ًا عن تدخل الدولة‬ ‫و�أجهزتها املختلفة‪� ،‬أو �سنكت�شف �أننا ن�سري يف طريق‬ ‫حماربة الأ�شكال القاعدية للتنظيم‪ ،‬وفر�ض املزيد من‬ ‫ت�شوه النقابات التي نا�ضل العمال من‬ ‫ال�رشوط التي‬ ‫ّ‬ ‫�أجل ت�أ�سي�سها‪ ،‬وجتعلها جزء ًا من البريوقراطية النقابية‬ ‫الفا�سدة التي �سبق �أن رف�ضها العمال‪.‬‬

‫المجموعات الشبابية‬ ‫بعد «‪ 25‬يناير»‬

‫كريمة خليل ظهر على ال�ساحة امل�رصية ما بعد ‪ 25‬كانون الثاين‬ ‫‪ /‬يناير ‪ 2011‬ما يزيد على مئة جمموعة �شبابية‬ ‫عدة � ٍ‬ ‫آالف من ال�شباب امل�رصيني‪.‬‬ ‫طبيبة يف نا�شطة �سيا�سي ًا‪،‬‬ ‫ت�ضم ّ‬ ‫ّ‬ ‫جمال الصحة العامة اليوم‪ ،‬يف �أوا�سط عام ‪ ،2013‬اختفى الكثري من هذه‬ ‫وباحثة يف شؤون املجموعات �أو �ضمرت‪ ،‬بينما ا�ستمر �سواها‪.‬‬ ‫المجموعات الشبابية‪ ،‬هذه املقالة املوجزة هي جزء من حماولة م�ستمرة قيد‬ ‫آخر مؤلفاهتا‪ :‬االكتمال لتوثيق عدد من �أمناط املجموعات ال�سيا�سية‬ ‫‪ Messages from‬التي ن�شطت ب�شكل خا�ص خالل العامني ‪2011‬‬ ‫‪ Tahrir, American‬و‪ .2012‬ويهدف البحث �إىل تو�ضيح ن�سق املبادرات‬ ‫‪ University of Cairo‬التي ظهرت بعد ‪ 25‬كانون الثاين ‪ /‬يناير ‪ 2011‬ومدى‬ ‫‪ Press, June, 2011‬انت�شارها‪ ،‬ويهدف �إىل ر�سم خريطة اال�سرتاتيجيات‬ ‫الناجحة‪ ،‬وحتديد �أمناط امل�آزق والتحديات التي واجهتها‪.‬‬ ‫ويف مرحلة تالية من املقال‪ ،‬نعر�ض القراءات اخلا�صة‬ ‫بالأع�ضاء النا�شطني يف املجموعات ال�شباب لتجاربهم‪،‬‬ ‫وتقوميهم للأثر الذي خ ّلفه عملهم‪.‬‬ ‫تعدد �أ�شكال‬ ‫ عدد املجموعات‬ ‫كبري جد ًا‪ ،‬كذلك � ّإن ّ‬ ‫ٌ‬ ‫حد بعيد‪ .‬ل�رضورات امل�ساحة‪،‬‬ ‫املقاربات و�أمناطها ٌ‬ ‫الفت �إىل ّ‬ ‫يجب اعتبار املقال حماولة موجزة لإلقاء نظرة عامة على‬ ‫خمتارات قليلة من املجموعات ال�شبابية‪ ،‬ور�صد عدد ب�سيط‬ ‫ال عن ا�ستعرا�ض‬ ‫من اال�سرتاتيجيات التي اعتمدتها‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫ملكامن القوة والتحديات التي عك�ستها تلك احلركات‬ ‫كنموذج مبتكر للفعل ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫يحدد البحث �إطار ًا لعمل املجموعات ال�شبابية التي‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ت�شكلت ما بعد �شباط ‪ /‬فرباير ‪«( 2011‬با�ستثناء كل من‬ ‫«‪� 6‬أبريل»‪« ،‬كلنا خالد �سعيد»‪ ،‬وغريهما من حركات �أدت‬ ‫دور ًا ريادي ًا يف حراك كانون الثاين ‪ /‬يناير ‪� ،)٢٠١١‬أكرثية‬ ‫املنت�سبني �إليها �شباب‪ ،‬تقوم على ر�ؤى وا�سرتاتيجيات‬ ‫ون�شاطات ّ‬ ‫�شباب �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫وطبقها‬ ‫نظر لها‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫�شباب‪ّ ،‬‬ ‫وطورها ّ‬ ‫جمدد ًا‪ ،‬ال هذه املقالة املوجزة وال اجلهد التوثيقي الإجمايل‬ ‫‪123‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫يعترب وافي ًا‪ ،‬لكن اختريت املجموعات املذكورة يف البحث‬ ‫عينة معربة ت�ستند �إىل عدد من املعايري‪ ،‬منها نوعية‬ ‫لتعر�ض ّ‬ ‫وتخ�ص�ص عملها‪ ،‬درجة ن�شاطها‪ ،‬مدى ظهورها‪،‬‬ ‫املجموعة‬ ‫ّ‬ ‫اجلمهور الذي ت�ستهدفه‪ ،‬انت�شارها‪ ،‬ر�ؤاها‪ ،‬ا�سرتاتيجياتها‬ ‫املعتمدة‪� ،‬أثرها وتفرد مقاربتها‪.‬‬ ‫اعتمدت املجموعات على مقاربـــــــــــــــــــــــــــات‬ ‫متتاز بدرجة عاليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫من الإبداع واالبتكار واملرونـــــــــــــــــــــــــــــــــة‪،‬‬ ‫فا�ستخدمت الفن واملو�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــيقى‬ ‫على نحو مكثّف وفعّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــال‪،‬‬ ‫والت�شبيك االجتماعي لن�شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــر‬ ‫توثيقها و�إنتاجاتهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫املكتوبة وامل�سموعة واملرئية وامليدانيـــــــــــــــــــــــة‬ ‫نظرة عامة‬ ‫ركزت جمموعات �شبابية كثرية من تلك التي تفوز‬ ‫مبتابعة عامة عالية‪ ،‬عملها على موا�ضيع �سيا�سية وا�سعة‪،‬‬ ‫وا�شتغلت على امل�ستويني الفردي واجلماعي كحركات‬ ‫�ضغط مركزية (مبعنى متركز معظمها يف القاهرة)‪ ،‬مع‬ ‫تركيز خا�ص على فع َلي االعت�صام والتظاهر‪ .‬عدد قليل‬ ‫من املجموعات ال�شبابية الأكرث ا�ستدامة وانت�شار ًا ّ‬ ‫ركز‬ ‫على احلمالت ذات املطلب الواحد‪ ،‬مثل رف�ض �إخ�ضاع‬ ‫املدنيني للمحاكمات الع�سكرية‪« ،‬ع�سكر كاذبون»‪،‬‬ ‫«مت��رد»‪ .‬كافة املجموعات‪ ،‬بال‬ ‫و«م�رصين»‪ ،‬و�أخ�ير ًا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ا�ستثناء‪ ،‬امتلكت فطن ًة �إعالمية وح�ضور ًا قوي ًا على‬ ‫مواقع التوا�صل االجتماعي‪ ،‬وب�شكل خا�ص «تويرت»‪،‬‬ ‫و«يوتيوب»‪ ،‬و«بامبوزر»‪ ،‬و«فاي�سبوك»‪ .‬واعتمدت هذه‬ ‫املجموعات على مقاربات متتاز بدرجة عالية من الإبداع‬


‫واالبتكار واملرونة‪ ،‬فا�ستخدمت الفن واملو�سيقى على‬ ‫وفعال‪ ،‬والت�شبيك االجتماعي لن�رش توثيقها‬ ‫نحو مك ّثف ّ‬ ‫و�إنتاجاتها املكتوبة وامل�سموعة واملرئية وامليدانية‪.‬‬ ‫ بالتوازي‪ ،‬انت�رش يف خمتلف �أنحاء البلد‪ ،‬وعلى‬ ‫ٌ‬ ‫ن�شاط �سيا�سي �شبابي �أقل جذب ًا‬ ‫حملية‪،‬‬ ‫م�ستوى �أكرث‬ ‫ّ‬ ‫لالنتباه‪ ،‬لكنه معبرّ جد ًا عن روح املبادرة والتوق �إىل‬ ‫ّ‬ ‫ت�شكل عفوي ًا يف �أول �أ�شكاله يف «اللجان‬ ‫امل�شاركة‪� ،‬إذ‬ ‫ال�شعبية»‪ ،‬وراوح عدد م�ؤيدي كل منها ما بني الآالف‬ ‫وب�ضع ع�رشات‪ .‬وهناك م�ساحة وا�سعة من التداخل‬ ‫يف ما بينها على م�ستوى االهتمامات والأه���داف‪،‬‬ ‫وحتى التكتيك‪ .‬وهي بتنوعها ّ‬ ‫تغطي كافة �ألوان الطيف‬ ‫ال�سيا�سي‪ ،‬من �أق�صى الي�سار �إىل �أق�صى اليمني‪.‬‬ ‫ وتت�شارك املجموعات ال�شبابية النا�شطة �سيا�سي ًا يف عده‬ ‫ٍ‬ ‫التحديات امل�شرتكة‪،‬‬ ‫و�ضعف‪ ،‬وتواجه العديد من‬ ‫نقاط قو ٍة‬ ‫ّ‬ ‫�سيتم �إيجازها يف ختام هذه املقالة‪ .‬وعموم ًا‪ ،‬فقد نا�ضلت‬ ‫هذه املجموعات يف جو من التهديد والتجرمي‪ ،‬وذلك‬ ‫ال‬ ‫بالإ�ضافة �إىل �ضعف التنظيم ونق�ص املوارد واخلربة‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫عن الإنهاك ال�شعبي واالنخفا�ض امللمو�س يف الت�أييد العام‬ ‫«مترد»‪،‬‬ ‫حتى حلول �أحداث ‪ 30‬حزيران ‪ /‬يونيو (حملة ّ‬ ‫و�إ�سقاط الرئي�س حممد مر�سي)‪� .‬إال � ّأن عملية التع ّلم من‬ ‫قيمة‬ ‫التجارب ظلت يف ت�صاعد‪ ،‬وا�س ُتخل�صت درو�س ّ‬ ‫كثرية اكت�سبها ال�شباب ــ وخا�ص ًة يف ما يتعلق باالهتمام‬ ‫بالتوا�صل مع القاعدة ال�شعبية‪ ،‬ما ميكن مالحظته بو�ضوح‬ ‫«مترد»‪ ،‬و«�أحياء باال�سم فقط»‪.‬‬ ‫يف مبادرات مثل ّ‬ ‫امل�شاركة ال�شبابية يف احلياة ال�سيا�سية قبل ‪2011‬‬ ‫العقود اخلم�سة التي ف�صلت ما بني االنقالب الع�سكري‬ ‫الذي عرفته م�رص يف عام ‪ 1952‬ومطلع الألفية‬ ‫اجلديدة‪� ،‬شهدت ما ي�شبه ال�شلل يف الن�شاط ال�سيا�سي‬ ‫املدين امل�ؤثر عموم ًا‪ ،‬وعلى م�ستوى ن�شاط ال�شباب‬ ‫ال�سيا�سي خ�صو�ص ًا‪ .‬الأح��زاب ال�سيا�سية الرمزية‬ ‫القليلة التي ُ�سمح لها بالعمل �ضمن خطوط �صارمة‬ ‫ر�سمها حولها النظام‪� ،‬سادها اجليل الأكرب �س ّن ًا‪ ،‬تارك ًا‬ ‫م�ساحة �ضيقة �إن مل تكن معدومة للم�شاركة الواقعية‬ ‫واملت�ساوية مع �أع�ضائها ال�شباب‪ .‬فبا�ستثناء التظاهرات‬ ‫الطالبية يف ال�سبعينيات‪ ،‬اقرتن �أداء �أجهزة الدولة‬ ‫القمعية بالقواعد االجتماعية التي مل تخ�ضع مل�ساءلة‪،‬‬ ‫لي�ساهما يف تقييد امل�شاركة ال�سيا�سية ال�شبابية‬ ‫ال‪ ،‬فت�شكل التزامهم وم�ستواه ومداه‪ ،‬يف‬ ‫املحدودة �أ�ص ً‬ ‫�إطار من و�صاية ال�سيا�سيني الأكرب �س ّن ًا‪.‬‬ ‫‪124‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ ق ّلة من املنظمات غري احلكومية وفّ��رت فر�ص ًا‬ ‫لإ�رشاك ال�شباب‪ ،‬ف�أتاحت جمعيات مثل «مركز ه�شام‬ ‫مبارك للقانون»‪ ،‬و«مركز الندمي لت�أهيل �ضحايا العنف‬ ‫والتعذيب» و«املركز امل�رصي للحقوق االقت�صادية‬ ‫حد ما �أمام عدد قليل‬ ‫واالجتماعية» التزام ًا �سيا�سي ًا �إىل ّ‬ ‫من ال�شباب ذوي النهج املدين‪.‬‬ ‫ وقد �شهد مطلع الألفية بزوغ ردود �أفعال �شبابية على‬ ‫�أحداث جيو�سيا�سية‪ ،‬كاللجان ال�شبابية التي ّ‬ ‫ت�شكلت يف‬ ‫عام ‪ 2000‬دعم ًا لالنتفا�ضة الفل�سطينية‪ ،‬كما يف عام‬ ‫‪� 2003‬إثر غزو العراق‪ .‬كذلك‪ ،‬بد�أت ال�ساحة ال�سيا�سية‬ ‫ت�شهد بدايات حراك �شبابي �أكرث تنظيم ًا‪� ،‬أظهره وعك�سه‬ ‫بقوة تعاون ال�شباب مع «حركة كفاية» («�شباب من �أجل‬ ‫التغيري»)‪ .‬وقد مثلت تلك احلركة اجلنينية دور ًا حا�سم ًا‬ ‫يف بعث ثقافة االحتجاج؛ �إذ بدا �إ��ضراب الق�ضاة يف‬ ‫عمال املح ّلة يف عام ‪2006‬‬ ‫عام ‪ 2005‬و�إ�رضابات ّ‬ ‫و‪ ،2008‬ك�أحداث حمفّزة �شديدة الأهمية �ساهمت‬ ‫يف جمع مروحة عري�ضة ومتنوعة من النا�شطني ال�شباب‬ ‫للمرة الأوىل مع ًا‪ ،‬وعرفت تلك املرحلة �أي�ض ًا بروز التدوين‬ ‫ال�سيا�سي للمرة الأوىل �أي�ض ًا (يف املجال العام يف ‪.)2005‬‬ ‫�أنتج ذلك مهارات جديدة من الت�شبيك واخلربة الناجتني من‬ ‫امل�شاركة بهذه الإ�رضابات‪ ،‬وقد كان لن�رش املدونني ملعلومات‬ ‫اخلا�صة بالإ�رضابات وجت��اوزات الأم��ن‪� ،‬أثر �أ�سا�سي يف‬ ‫تكوين الزخم الذي قاد �إىل كانون الثاين ‪ /‬يناير ‪.2011‬‬ ‫فقبل عام ‪ ،2011‬كان النا�شطون ال�سيا�سيون ال�شباب‬ ‫يعملون �إما على نحو فردي �أو �ضمن جمموعات �صغرية‬ ‫ّ‬ ‫معينة‪ .‬ولكن بعد كانون الثاين ‪/‬‬ ‫تنظمت حول عناوين ّ‬ ‫تبدل متام ًا معنى الإرادة ال�شبابية‪ ،‬من حيث‬ ‫يناير ‪ّ ،2011‬‬ ‫قدراتها ومدى ت�أثريها‪.‬‬

‫ال�سيا�سية حول النقل العام والغرافيتي هي �أمثلة عنها‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من م�ساءلة جمموعات �أخرى كثرية ل�صدقية‬ ‫احلركة ال�سيا�سية لأ�سباب كثرية من �ضمنها دعمها‬ ‫ملحمد مر�سي مر�شح ًا للرئا�سة يف حملة عام ‪2012‬‬ ‫متقدم يف ال�ش�أن‬ ‫االنتخابية‪� ،‬إال �أنها حافظت على موقع‬ ‫ّ‬ ‫العام‪ .‬وقد رافقت الع�ضوية الكثيفة التي متتعت بها احلركة‬ ‫ات معقّدة على م�ستوى المركزية �آلية �صناعة القرار‪،‬‬ ‫حتدي ٌ‬ ‫ّ‬ ‫و�ضمان �آلية ت�شارك املعلومات باالجتاهني‪ :‬من القيادة �إىل‬ ‫القاعدة‪ ،‬ومن القاعدة �إىل القيادة‪ .‬كذلك �شكل نق�ص‬ ‫حتدي ًا �سلبي ًا‪ .‬هكذا انف�صلت جمموع ٌة عن‬ ‫املوارد بدوره‬ ‫ّ‬ ‫احلركة نتيج ًة ل�رصاعات داخلية ارتبطت مب�صادر التمويل‬ ‫ّ‬ ‫لت�شكل «حركة �شباب ‪6‬‬ ‫الأجنبية وم�رشوعية قبولها‪،‬‬ ‫�أبريل – اجلبهة الدميقراطية»‪ .‬وقد �شملت التحديات‬ ‫الأخرى ا�ستهداف النظام و�أجهزته الأمنية لها‪ ،‬وانعك�س‬ ‫ال�رصاع املركزي احلركة على الأطراف‪� ،‬أي املجموعات‬ ‫املحلية يف املحافظات‪.‬‬ ‫‪www.facebook.com/shabab6april‬‬

‫«كلنا خالد �سعيد»‬ ‫جمموعة افرتا�ضية ن�ش�أت على «فاي�سبوك» يف حزيران ‪/‬‬ ‫يونيو ‪ 2010‬ر ّد ًا على عملية القتل الوح�شية التي ق�ضى‬ ‫فحركت املجموعة‬ ‫فيها ال�شاب خالد �سعيد يف الإ�سكندرية‪ّ ،‬‬ ‫الر�أي العام �ضدها‪ ،‬و�أطلقت حملة �إلكرتونية �ضد وح�شية‬ ‫رجال ال�رشطة‪ُ ،‬ترجمت يف وقفات �شعبية يف خمتلف �أنحاء‬ ‫البالد‪ .‬على هذه ال�صفحة‪� ،‬أطلقت الدعوة الأوىل للتظاهر‬ ‫يف ‪ 25‬كانون الثاين ‪ /‬يناير ‪ 2011‬بعدد �أع�ضاء فاق‬ ‫يف �أوجه مليون ًا وثمامنئة �ألف‪ ،‬وما زالت ال�صفحة اليوم‬ ‫ت�ؤدي دور ًا �أقل ت�أثري ًا يف ن�رش املعلومات‪ ،‬وذلك ناجت ب�شكل‬ ‫�أ�سا�سي من ات�ساع رقعة املبادرات الثورية وعدد �صفحاتها‪.‬‬

‫جمموعات ال�ضغط ما قبل ‪2011‬‬

‫‪www.facebook.com/ElShaheeed‬‬

‫جمموعات �ضغط �أخرى‬

‫«حركة �شباب ‪� 6‬أبريل»‬ ‫ولدت «حركة �شباب ‪� 6‬أبريل» مبا�رشة �إثر �إ�رضاب‬ ‫املح ّلة‪ ،‬و�أطلقت ر�سمي ًا يف ني�سان ‪� /‬أبريل ‪ .2008‬ومع‬ ‫الفعال الذي �أ ّدته يف الدعوة �إىل التظاهر يف ‪25‬‬ ‫الدور ّ‬ ‫كانون الثاين ‪ /‬يناير ‪ ،2011‬امتلكت احلركة قوة جذب‬ ‫للكثريين‪ ،‬نظر ًا �إىل عدم وجود �إيديولوجية يف موقفها‬ ‫وهدفها الب�سيط غري القابل للتفاو�ض‪� :‬إ�سقاط النظام‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫نظمت «‪� 6‬أبريل» ن�شاطات دورية على م�ستوى القاعدة‬ ‫نفذتها ب�أ�ساليب مبتكرة‪ :‬م�رسح ال�شارع والنقا�شات‬

‫تطول الئحة الأمثلة عن جمموعات ال�ضغط الأخرى‬ ‫التي تبقى ب�سوادها الأعظم متمركزة الطابع من حيث‬ ‫الهياكل‪« :‬رابطة ال�شباب التقدمي»‪« ،‬حتالف ال�شباب‬ ‫الثوري» (مت ح ّله)‪« ،‬اجلبهة الوطنية للعدالة والدميقراطية»‪،‬‬ ‫احلر»‪« ،‬اللوت�س»‪« ،‬اللجان ال�شعبية للدفاع‬ ‫«امل�رصي‬ ‫ّ‬ ‫عن ال��ث��ورة»‪« ،‬ح��زب العمال الدميقراطيني»‪« ،‬حزب‬ ‫اال�شرتاكيني الدميقراطيني امل�رصي»‪« ،‬حركة امل�شاركة»‪،‬‬ ‫‪125‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫«حزب التحالف ال�شعبي اال�شرتاكي»‪« ،‬حركة بداية»‪،‬‬ ‫«حركة الوعي»‪« ،‬جلنة التن�سيق لتحالف الوعي ال�شعبي»‪،‬‬ ‫«الربادعي رئي�س ًا» امل�ستقل (مت ح ّله)‪« ،‬حركة �شباب‬ ‫العدالة واحلرية»‪« ،‬تيار التجديد اال�شرتاكي»‪« ،‬احتاد‬ ‫�شباب الثورة»‪« ،‬حزب اجلبهة الدميقراطية»‪« ،‬الثوريون‬ ‫اال�شرتاكيون» (منذ ما قبل ‪ ،)2011‬و«احتاد �شباب‬ ‫ما�سبريو»‪ .‬ت�ستحق كل من هذه املجموعات التوقف عندها‬ ‫يف هذا ال�سياق‪ ،‬وهذا ما ال تتيحه امل�ساحة للأ�سف‪.‬‬ ‫�شباب الأحزاب ال�سيا�سية ومنطق التحالفات‬ ‫واحد من التحالفات ال�سيا�سية الر�سمية الذي كانت‬ ‫ّ‬ ‫ت�شكل خالل الإع��داد‬ ‫الغلبة فيه للأع�ضاء ال�شباب‪،‬‬ ‫النتخابات ‪ 2012-2011‬النيابية‪ .‬وقد �ضم «حتالف‬ ‫أع�ضاء �سابقني‬ ‫الثورة م�ستمرة» �إ�سالميني وا�شرتاكيني و�‬ ‫ً‬ ‫يف «الإخ��وان امل�سلمني»‪ ،‬وذلك للتمايز عن العديد من‬ ‫الأحزاب املن�ضوية �ضمن حتالف «الكتلة امل�رصية»‪ .‬وقد‬ ‫تكون �أع�ضاء «حتالف الثورة م�ستمرة» من «حزب التحالف‬ ‫ّ‬ ‫ال�شعبي اال�شرتاكي»‪« ،‬احل��زب اال�شرتاكي امل�رصي»‪،‬‬ ‫«حزب التيار امل�رصي»‪« ،‬حزب احلرية امل�رصي»‪« ،‬حزب‬ ‫احلرية والتنمية»‪« ،‬حتالف �شباب الثورة»‪ ،‬و«حزب التحالف‬ ‫امل�رصي»‪ .‬وارتكز برنامج عمل «حتالف الثورة م�ستمرة»‬ ‫الذي مال �إىل ي�سار العدالة االجتماعية‪� ،‬إلغاء الهوة الناجتة‬ ‫من تفاوت الدخل‪� ،‬إنهاء الف�ساد‪ ،‬و�إعادة تر�سيخ القانون‬ ‫�سن الأربعني‪ ،‬من �أ�صل‬ ‫والنظام‪ .‬وقد ّ‬ ‫�سجل مئة مر�شح حتت ّ‬ ‫‪ 280‬مر�شح ًا للتحالف يف االنتخابات‪ .‬وفاز التحالف‬ ‫ّ‬ ‫املنحل راهن ًا‪.‬‬ ‫بثمانية مقاعد يف برملان عام ‪2012‬‬ ‫جمموعات عمل على ق�ضية واحدة‬ ‫ّ‬ ‫ت�شكلت جمموعات عديدة‪� ،‬إثر االنتخابات النيابية التي‬ ‫�أجريت يف ‪ ،2012-2011‬ورك��زت عملها على‬ ‫رفع م�ستوى الوعي ال�سيا�سي والتوعية �إىل اللوج�ستيات‬ ‫االنتخابية والإ�رشاف على عملية االقرتاع على م�ساحة‬ ‫اجلمهورية‪ .‬وكان من �ضمنها‪ :‬جمموعة «�صوتي» (�أنتجت‬ ‫مواد �سمعية ب�رصية تتناول العملية االنتخابية)‪ ،‬جمموعة‬ ‫«ال�صحوة» (لإدارة نقا�شات يف موا�ضيع انتخابية معينة)‪،‬‬ ‫احلرية» و«ميكروبا�ص» (جمموعتان‬ ‫وجمموعة «�أوتوبي�س‬ ‫ّ‬ ‫ي�ستقل �أع�ضا�ؤهما البا�صات �إىل الأماكن ال�شعبية لإثارة‬ ‫نقا�شات �سيا�سية جماعية مع �سكان املناطق املهم�شة)‪،‬‬


‫وجمموعة «ال�صوت ال��واع��ي» (لإط�ل�اق نقا�شات يف‬ ‫اللوجي�ستيات االنتخابية وخطورة تزوير الأ�صوات)‪،‬‬ ‫وكذلك جمموعة «اح� ِ�م �صوتك» (حلث املر�شّ حني على‬ ‫تو�ضيح مواقفهم)‪ ،‬وحركات «�صوتك بيفرق»‪« ،‬مراقبة»‬ ‫(مواطنون ي�رشفون على عملية االقرتاع)‪ ،‬و«حتالف حركات‬ ‫�ضم خم�سني جمموعة تعمل على ن�رش‬ ‫توعية م�رص» الذي ّ‬ ‫تتجمع املوارد والطاقة الب�رشية‪ .‬وقد �أوقفت‬ ‫التوعية‪ ،‬بحيث‬ ‫ّ‬ ‫معظم هذه املجموعات ن�شاطاتها بعد انتهاء االنتخابات‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫لق�ضية مطلبية واحدة‬ ‫جمموعات عمل‬ ‫تعك�س املجموعات التالية ا�ستمرار احل�شد ال�شبابي يف‬ ‫فعال‪،‬‬ ‫�أ�شكال تعبوية ويف ح�صد اهتمام وا�سع و�أداء دور ّ‬ ‫وتعترب �أمثلة بارزة للأداء ال�شبابي يف عمليتي التن�سيق‬ ‫والتعبئة‪.‬‬ ‫«ال للمحاكمات الع�سكرية للمدنيني»‬ ‫ٍ‬ ‫�ضغط وا�سعة االنت�شار وبارزة‪ّ ،‬‬ ‫تركز عملها‬ ‫هي جمموعة‬ ‫حد ملحاكمة املدنيني وتوقيفهم‬ ‫على عنوانٍ واحد ــ و�ضع ّ‬ ‫ع�سكري ًا ــ وقد �أثبتت على مدار �أكرث من عام ون�صف �أنها‬ ‫م�ستدامة وفاعلة‪ .‬ففي العامني ‪ 2011‬و‪ ،2012‬اح ُتجز‬ ‫م�رصي لدى الق�ضاء الع�سكري‪،‬‬ ‫ين‬ ‫�أكرث من ‪� 12‬ألف مد ّ‬ ‫ّ‬ ‫وال يزال عدد منهم ينفّذ عقوبته يف ال�سجون الع�سكرية‬ ‫املجهولة‪ .‬وقد كانت «ال للمحاكمات الع�سكرية للمدنيني»‬ ‫هي املجموعة الوحيدة التي تو ّثق تلك احلاالت منهجي ًا‪.‬‬ ‫وبالإ�ضافة �إىل حملتها املطالبة بوقف املحكمات الع�سكرية‬ ‫للمدنيني‪ ،‬عملت املجموعة على توفري امل�ساعدة القانونية‬ ‫للمدنيني خالل جل�سات التحقيق‪ ،‬ومتابعة الق�ضايا‬ ‫املرفوعة‪ ،‬وحتديد مواقع املعتقلني‪ .‬وكانت �إحدى �أبرز نقاط‬ ‫قوة عملها هي التوثيق املنهجي‪ ،‬ون�رش ق�ص�ص (و�أر�شيف)‬ ‫للحاالت التي ا�ستدعي فيها املدنيون �إىل املحاكم‬ ‫الع�سكرية‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل توثيق �سمعي ب�رصي لأفراد �أو‬ ‫عائالت �أفرا ٍد خ�ضعوا للمحاكمات �أو احلجز الع�سكريني‪،‬‬ ‫يحكون عنهما‪ .‬وقد و ّثقت املجموعة بال�صوت وال�صورة‬ ‫�شهادات ملعتقلني �أو �أهاليهم‪ ،‬ي�صفون فيها ظروف توقيفهم‪،‬‬ ‫احلكم يف ق�ضاياهم‪� ،‬أو االعتقال (ميكن م�شاهدتها عرب‬ ‫الرابط ‪ .)www.nomiltrials.com‬وقد ا�شتهر �شعار جمموعة‬ ‫«ال للمحاكمات الع�سكرية» على نطاق وا�سع يف البالد‪،‬‬ ‫ومتتعت املجموعة بح�ضور بارز يف ال�صحافة املطبوعة كما‬ ‫يف الإعالم ال�شبكي‪ ،‬افرتا�ضي ًا وعلى الأر�ض‪.‬‬ ‫‪126‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫و�سجلت املجموعة �شهادات‬ ‫واملعدات‪ ،‬ومكتبة‪.‬‬ ‫التقني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫�ضحايا التعذيب‪� ،‬ضحايا املحاكمات الع�سكرية‪ ،‬عائالت‬ ‫ال�شهداء‪ ،‬و�شهادات �أخرى ذات �صلة بالثورة‪.‬‬ ‫«م�رصين» وراء املبادرة ال�سينمائية‬ ‫ وكانت جمموعة‬ ‫ّ‬ ‫يف «ميدان التحرير» التي القت جناح ًا وا�سع ًا؛ اذ ُعر�ضت‬ ‫خاللها م�شاهد من الثورة مل ي�سبق عر�ضها التقطها‬ ‫مواطنون‪ ،‬على �شا�شة م�ؤقتة ا�ستحدثت خ�صي�ص ًا‬ ‫ف�ض‬ ‫فوق ر�صيف يف امليدان‪ .‬وعند اندالع العنف �إثر ّ‬ ‫اعت�صام الربملان يف ت�رشين الثاين ‪ /‬نوفمرب ‪2012‬‬ ‫(معركة جمل�س ال�شعب)‪ ،‬قفز عدد امل�شاهدات على قناة‬ ‫«م�رصين» على موقع «يوتيوب» من مئة � ٍ‬ ‫ألف �إىل مليونني‬ ‫ّ‬ ‫ألفا‪ ،‬ما ّ‬ ‫يدل على الإقبال املتزايد على‬ ‫و�أربعمئة و�ستني � ً‬ ‫منتجات املجموعة كم�صدر بديل وم�ستقل للمعلومات‪.‬‬ ‫«م�رصين» على «فاي�سبوك» و«يوتيوب»‪:‬‬ ‫ّ‬

‫«ع�سكر كاذبون» و«�إخوان كاذبون»‬ ‫ال «ع�سكر كاذبون»‪ ،‬وهي حملة �إعالمية على‬ ‫ت�أ�س�ست �أو ً‬ ‫م�ستوى القاعدة عالية الفاعلية لتفنيد ال�رسدية الر�سمية‬ ‫ملا يجري يف البالد‪ ،‬فلج�أت �إىل الأماكن العامة وامليادين‬ ‫لتعر�ض فيها موا ّد ب�رصية و�سمعية متاحة للجميع‪ ،‬وميكن‬ ‫وت�صور انتهاكات القوات الع�سكرية‬ ‫حتميلها عن الإنرتنت‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫حلقوق املتظاهرين‪ .‬واعتمدت احلملة على مقاربة ب�سيطة‬ ‫جد ًا‪ :‬ن�رش �أفالم ي�سهل حتميلها عن الإنرتنت‪ ،‬وتنفيذ‬ ‫عرو�ض عامة لها يف كافة �أنحاء البالد‪ .‬وقد كانت تعر�ض‬ ‫الأفالم على �شا�شات تن�صب م�ؤقت ًا للغر�ض‪� ،‬أو على جدران‬ ‫املباين‪ .‬ويف ‪ 29‬كانون الأول ‪ /‬دي�سمرب ‪ُ ،2011‬عر�ضت‬ ‫امل�شاهد وال�صور على جدار املحكمة العليا يف و�سط‬ ‫عرو�ض على مبنى الإذاعة والتلفزيون‬ ‫القاهرة‪ ،‬و ُنفّذت �أي�ض ًا‬ ‫ٌ‬ ‫الر�سمي (ما�سبريو)‪ .‬وقد ا�ستوحت املجموعة ا�سمها و�آلية‬ ‫تتعر�ض‬ ‫عملها من ال�صورة التي باتت م�شهورة اليوم المر�أة ّ‬ ‫لل�رضب والتعرية على �أيدي ال�رشطة الع�سكرية خالل‬ ‫ف�ض اعت�صام جمل�س ال�شعب يف كانون الأول ‪ /‬دي�سمرب‬ ‫ّ‬ ‫حتولت املبادرة اليوم لتحمل ا�سم «�إخوان كاذبون»‪.‬‬ ‫‪ّ .2011‬‬

‫‪www.facebook.com/pages/Tahrir-Cinema-‬‏‬

‫‪www.youtube.com/user/Mosireen/featured‬‬

‫حتر�ش جن�سي ّ‬ ‫تنظمها‬ ‫وظهرت �أد ّلة على وجود حمالت ّ‬ ‫ّ‬ ‫�أجهزة الدولة �ضد املتظاهرات لثنيهن عن امل�شاركة‬ ‫مرت�سخة مثل «نظرة‬ ‫يف التظاهر‪ .‬وقد اهتمت منظمات‬ ‫ّ‬ ‫للدرا�سات الن�سوية»‪ ،‬بالت�صدي بفاعلية مل�س�ألتي م�شاركة‬ ‫والتحر�ش اجلن�سي (�ضمن ن�شاطات‬ ‫الن�ساء بال�سيا�سة‬ ‫ّ‬ ‫�أخرى كثرية)‪ .‬وظهرت جمموعات �أخرى كثرية‪� ،‬أقل‬ ‫التحر�ش اجلن�سي‬ ‫تر�سخ ًا‪ ،‬وابتكرت على م�ستوى مكافحة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫�أ�ساليب عملٍ ميدانية وتعبوية خمتلفة‪.‬‬ ‫«بهية يا م�رص» هي جمموعة ت�أ�س�ست يف عام‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫‪ 2012‬ملراقبة عمل املجال�س التمثيلية والت�رشيعية‬ ‫يف ما يخ�ص الن�ساء‪ .‬وقد �أطلقت لهذا الغر�ض م�رشوع‬ ‫غرافيتي و�أنتجت �أفالم ًا توعوية‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل حملة‬ ‫بعنوان «ح � ّق��ي» و�أخ���رى بعنوان «م��ا ت�ص ّنفني�ش»‪.‬‬ ‫‪www.facebook.com/BaheyaYaMasr‬‬

‫التحر�ش»‪ ،‬فقد جمعت املعلومات من‬ ‫ �أما «خريطة‬ ‫ّ‬ ‫التحر�ش يف م�رص‪ ،‬وتلقت‬ ‫القاعدة ال�شعبية عن حاالت‬ ‫ّ‬ ‫التحر�ش عرب الإنرتنت �أو الر�سائل‬ ‫البالغات عن حاالت‬ ‫ّ‬ ‫ال�رسية ال�شخ�صية للمت�صالت‪.‬‬ ‫اخللوية‪ ،‬وحافظت على‬ ‫ّ‬ ‫وقد زاد تاثري املجموعة التي ت�أ�س�ست يف عام ‪ ،2010‬مع‬ ‫التحر�ش اجلن�سي يف العامني ‪...2012-2011‬‬ ‫ازدياد‬ ‫ّ‬ ‫التحر�ش وما رافقها‬ ‫وبالإ�ضافة �إىل ك�شفها حل��االت‬ ‫ّ‬ ‫من معلومات مفيدة �أمام ال��ر�أي العام‪ ،‬وفّرت «خريطة‬ ‫التحر�ش» جمموعة من اخلدمات (كيفية ت�سجيل بالغ لدى‬ ‫ّ‬ ‫ال�رشطة‪ ،‬امل�ساعدة القانونية والنف�سية‪ ،‬الدفاع عن النف�س‪،‬‬ ‫حتر�ش‪.‬‬ ‫�إلخ) التي تعترب �رضورية يف التعامل مع كل حالة ّ‬

‫«�أحياء باال�سم فقط»‬ ‫ّ‬ ‫ت�شكلت من بنات �أفكار جلنة‬ ‫جمموع ٌة نا�شطة ج��د ًا‬ ‫الطالب يف «حزب التحالف ال�شعبي اال�شرتاكي»‪ ،‬وتركزّ‬ ‫عملها على احلقوق االجتماعية واالقت�صادية‪ .‬وهي ٌ‬ ‫مثال‬ ‫جيد عن جناح جمموعة �شبابية يف العمل على املطالب‬ ‫ّ‬ ‫�سجلت املجموعة‬ ‫ال�شعبية‪ ،‬وعلى م�ستوى القاعدة‪ .‬وقد ّ‬ ‫ن�شاط ًا الفت ًا يف منطقة «رملة بوالق» وهي ع�شوائية يف‬ ‫قلب القاهرة‪ ،‬تتاخم الأبراج املرتفة على كورني�ش النيل؛‬ ‫‪harassmap.org‬‬ ‫�إذ �شهدت «رملة بوالق» مواجهات عنيفة يف مطلع �آب ‪/‬‬ ‫�أغ�سط�س ‪ ،2012‬تلتها حملة تهديد وخطف واعتقالٍ ت�أ�س�ست «كتائب املوناليزا» يف �شباط ‪ /‬فرباير‬ ‫مكونة من فنانني ومن‬ ‫ليلي لل�سكان من منازلهم‪ ،‬ال تزال م�ستمرة حتى اليوم‪ ،2012 .‬وهي جمموعة ف�ضفا�ضة ّ‬ ‫ّ‬ ‫وقد عمل فريق «�أحياء باال�سم فقط» على الأر�ض يف را�سمي الغرافيتي ي�ستهدف عملها الأحياء غري ال�رشعية‬ ‫وحددت من �ضمن �أهدافها توعية ال�سكان‬ ‫«رملة بوالق» منذ ما قبل �أحداث �آب ‪� /‬أغ�سط�س ‪( ،2012‬الع�شوائيات)‪ّ .‬‬ ‫وامتد ن�شاطه راهن ًا على امل�سائل ال�سيا�سية بوا�سطة الفن‪ .‬يف �صيف عام‬ ‫واكت�سب �صدقية عالية بني ال�سكان‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فن ال�شارع‬ ‫�إىل مناطق فقرية ح�رضية �أخرى �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫‪� ،2012‬أنتجت املجموعة �سل�سلة �صو ٍر من ّ‬ ‫‪www.facebook.com/AhyaBelesmFqt/info‬‬ ‫التحر�ش اجلن�سي وم�شاركة الن�ساء يف احلياة‬ ‫تعالج م�س�ألتي‬ ‫ّ‬ ‫ال�سيا�سية‪ .‬وعملت مثل املجموعات الأخرى التي تهدف �إىل‬ ‫ن�رش التوعية بوا�سطة الفن‪ ،‬على التقاط ال�صور الفوتوغرافية‬ ‫املجموعات املعنية بق�ضايا الن�ساء‬ ‫ون�رشها على نطاق وا�سع عرب و�سائل التوا�صل االجتماعي‪.‬‬ ‫‪www.facebook.com/kta2eb.monalisa?sk=info‬‏‬ ‫�شهدت البالد يف املرحلة التي تلت ‪ 25‬يناير ارتفاع ًا‬ ‫التحر�ش‪/‬االعتداء اجلن�سي اجلماعي» هي‬ ‫«قوة �ضد‬ ‫التحر�ش اجلن�سي بالن�ساء يف املجال العام‪ .‬‬ ‫حا ّد ًا يف ن�سبة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وقد �ساهم ا�ستمرار غياب ال�رشطة يف الأحداث الوطنية واحدة من املجموعات العديدة («بنات م�رص ّ‬ ‫خط �أحمر»‪،‬‬ ‫التحر�ش اجلن�سي‪« ،‬التحرير بودي غ��ارد»)‪ ،‬ت�أ�س�ست لتنظيم �آلية مكافحة‬ ‫واملحلية ب�شكل وا�ضح يف ازدي��اد‬ ‫ّ‬

‫‪www.youtube.com/user/3askarKazeboon‬‬

‫�رصين»‬ ‫ُ‬ ‫«م ّ‬ ‫«م�رصين» ب�صفتها املخزن الرئي�سي‬ ‫برزت جمموعة‬ ‫ّ‬ ‫ل�صحافة املواطنة يف ث��ورة م�رص‪ .‬و�أ�س�ست مركز ًا‬ ‫�إعالمي ًا ال يبتغي الربح‪ ،‬يقع يف و�سط القاهرة‪� ،‬أدارته‬ ‫جمموعة �صغرية من العاملني يف �صناعة ال�سينما‪،‬‬ ‫واملواطنني ال�صحافيني‪ ،‬والنا�شطني‪ ،‬لتوفري م�ساحة عمل‬ ‫جماعي خم�ص�ص لدعم املادة ال�صحافية التي ينتجها‬ ‫«م�رصين» عن حق‪ ،‬دور‬ ‫املواطنون‪ .‬وقد �أدت جمموعة‬ ‫ّ‬ ‫خمزن ال�صحافة امل�ستقلة‪ ،‬من حيث ن�رش م�شاهد خام‬ ‫ٍ‬ ‫أحداث ثورية‪ ،‬وكذلك‬ ‫�أو ممنتجة التقطها مواطنون يف �‬ ‫«م�رصين»‪ .‬وقد كان لهذه‬ ‫امل�شاهد التي التقطها �أع�ضاء‬ ‫ّ‬ ‫قوة‬ ‫املادة التي �أنتجها امل�ستخدمون من عامة الن�شطاء ّ‬ ‫ق�صوى يف الإف�لات من الرقابة واخل��روج عن الرواية‬ ‫املتحيزة التي تبناها الإعالم الر�سمي يف �أغلب‬ ‫الر�سمية‬ ‫ّ‬ ‫الأحداث‪ ،‬وهي �أ�سهمت يف متكني �صوت ال�شارع عرب‬ ‫دمقرطة املادة املمنتجة وغري املمنتجة وتوفريها على قناة‬ ‫بن�سخ ميكن حتميلها‬ ‫«م�رصين» على «يوتيوب»‪ ،‬و�إرفاقها‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫على الهواتف اخللوية‪ ،‬بحيث ميكن ن�رشها بني الهواتف‬ ‫و�سواها من الأل��واح الإلكرتونية بوا�سطة «بلوتوث»‪.‬‬ ‫«م�رصين» �أي�ض ًا التدريب‪ ،‬والدعم‬ ‫وقد وفرت جمموعة‬ ‫ّ‬ ‫‪127‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫التحر�ش اجلن�سي‪ .‬وقد �أن�شئت يف «التحرير» يف مطلع‬ ‫ّ‬ ‫عام ‪ 2012‬ر ّد ًا على االعتداءات اجلن�سية اجلماعية‬ ‫والهجمات ّ‬ ‫املنظمة على املتظاهرات‪ ،‬وتكونت من جمموعة‬ ‫تتدخل لوقف‬ ‫متطوعة من الن�ساء والرجال‪ ،‬و� ّأمنت دوريات ّ‬ ‫االعتداءات اجلماعية على الن�ساء خالل التظاهرات‪ ،‬وتوفّر‬ ‫الطبي والقانوين والنف�سي الفوري يف‬ ‫احلماية والدعم‬ ‫ّ‬ ‫مواقع التظاهر‪ ،‬كذلك تنقل طلبات امل�ساعدة عرب و�سائل‬ ‫املدربني على التعامل‬ ‫التوا�صل االجتماعي للمتطوعني‬ ‫ّ‬ ‫مع هذه املواقف على الأر�ض‪ .‬وتقوم كذلك بالتوعية على‬ ‫التحر�ش‪ ،‬وقد �أطلقت يف هذا الإطار ّ‬ ‫خط ًا �ساخن ًا خلدماتها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الغرافيتي‬ ‫اجتاح الغرافيتي االحتجاجي �أرج��اء م�رص منذ يناير‬ ‫امل�سي�س‬ ‫‪ ،2011‬كو�سيلة للتعبري الفني اعتمدها ال�شباب‬ ‫ّ‬ ‫للتعبري عن �أفكاره‪ .‬وهي لي�ست جمموعة ّ‬ ‫منظمة‪� ،‬إال �أن‬ ‫الظاهرة ت�ستحق الإ�شارة �إليها نتيجة االنت�شار الوا�سع‬ ‫ال�ستخدام الغرافيتي ال�سيا�سي يف البالد‪ ،‬وملا �أنتجته من‬ ‫تعاون غري م�ألوف �سابق ًا بينها وبني العامل االفرتا�ضي‪.‬‬ ‫فقد ن�رش فنانو غرافيتي ال�شباب ر�سوم ًا من ت�صميمهم‪،‬‬ ‫نفّذوها بالر�صا�ص لكي ي�سهل حتميلها‪ ،‬تع ّلق مبا�رشة على‬ ‫الأحداث الراهنة‪ ،‬مع روابط لها على �صفحات التوا�صل‬ ‫ال) مرفقة بفيديوات‬ ‫االجتماعي («تويرت» و «فاي�سبوك» مث ً‬ ‫وق�صها ور�شّ ها على اجلدران‪ .‬وكحال‬ ‫ّ‬ ‫تو�ضح كيفية طباعتها ّ‬ ‫مبادرة «ع�سكر كاذبون»‪ ،‬جمع ال�شباب املواد ون�رشوها يف‬ ‫خمتلف �أنحاء م�رص (من دون �سابق جتربة مع الغرافيتي)‪،‬‬ ‫بحيث يظهر الفن االعرتا�ضي يف كل مكان‪.‬‬ ‫‪www.scribd.com/doc/77577801/Zeftawi-Stencils-Booklet‬‏‬

‫«مترد»‬ ‫ّ‬ ‫«مترد» �أ�سا�س ًا على يد خم�سة نا�شطني م�س ّلحني‬ ‫ن�ش�أت حركة ّ‬ ‫بحوا�سيبهم املحمولة وهواتفهم اخللوية فح�سب‪ ،‬جنحوا يف‬ ‫�ضد حممد مر�سي انت�رشت يف خمتلف‬ ‫�إطالق عري�ضة �شعبية ّ‬ ‫ويزعم �أنها جمعت نحو ‪ 22‬مليون توقيع‬ ‫�أنحاء البالد‪ُ ،‬‬ ‫يف غ�ضون �شهرين‪ُ .‬يعرف الكثري عن املتحدث الر�سمي‬ ‫با�سم احلركة؛ حممد بدر‪ ،‬البالغ من العمر ‪ 28‬عام ًا‪ .‬بدر‬ ‫هو �صاحب م�سرية يف ال�صحافة والإنتاج الإعالمي‪ ،‬وكان‬ ‫من�سق ًا حلركة «كفاية» املعار�ضة حلكم مبارك التي كانت‬ ‫�صاحبة �شعبية كبرية يف ال�شارع امل�رصي‪ .‬وكان بدر �أي�ض ًا‬ ‫ع�ضو ًا يف «اجلمعية الوطنية للتغيري» التي ير�أ�سها حممد‬ ‫الربادعي‪ .‬وحتى كتابة هذه ال�سطور‪ ،‬كان حجم ومدى‬ ‫‪128‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫انخراط ودعم قوى خارجية يف حركة «مترد» غري وا�ضح‪.‬‬ ‫وقد ُر ِّوج � ّأن فاعلني وافدين من مرحلة ما قبل ثورة ‪25‬‬ ‫يناير قد تالعبوا باحلركة‪ ،‬من �أجهزة �أمنية حكومية‪ ،‬و�أن�صار‬ ‫مبارك واجلي�ش ومروحة من الأحزاب ال�سيا�سية ورجال‬ ‫�أعمال بارزين‪ .‬غري � ّأن املتحدث با�سم احلركة ي�ستنكر جميع‬ ‫«مترد» ّمت‬ ‫الأنباء التي ت�شري �إىل �أنه هو �شخ�صي ًا �أو حركة ّ‬ ‫حتريكهم على يد قوى �رسية‪ .‬وبح�سب بدر‪« ،‬قد تكون‬ ‫مترد‬ ‫بع�ض املجموعات قد قفزت �إىل قطار حركته‪ ،‬غري � ّأن ّ‬ ‫ظ ّلت وحدها �صاحبة القيادة»‪ .‬لدى احلركة خطاب نا�رصي‬ ‫تدخل �أمريكي يف‬ ‫وا�ضح و�رصيح يف انتقاد ما ترى �أنه ّ‬ ‫ال�ش�ؤون امل�رصية الداخلية‪.‬‬

‫اللوحات الإعالنية يف و�سط البلد يف الإ�سكندرية‪،‬‬ ‫بالإ�ضافة �إىل توفري احلماية اجل�سدية للعائالت‪.‬‬ ‫ولأن اللجان ال�شعبية متج ّذرة ٌّ‬ ‫حيها‪ ،‬امتلكت‬ ‫كل يف ّ‬ ‫ن�شاطاتها ور�سائلها �صدقية و�رشعية عاليتني‪ .‬الزخم‪،‬‬ ‫دار �شبابي ًا‪ .‬ومعظم اللجان‬ ‫يف �آن واحد‪ ،‬حمف ٌّز �شبابي ًا ُ‬ ‫وم ٌ‬ ‫ال�شعبية ال ين�ضوي حتت �أي لواء �سيا�سي‪ .‬وقد حارب‬ ‫«الإخوان امل�سلمون» جلان ًا �شعبية كثرية؛ لأن «اجلماعة»‬ ‫حتى ال�ساعة ت�سيطر على اخلدمات االجتماعية على‬ ‫م�ستوى القاعدة‪ .‬من املفيد هنا ذكر درا�س ٍة ت�ستحق‬ ‫التحديات التي واجهت‬ ‫املراجعة �أجرتها �آ�سيا حميي عن‬ ‫ّ‬ ‫جمموعة خمتارة من �أربع جلان‪.‬‬

‫جمموعات الأحياء والعمل على‬ ‫م�ستوى القاعدة‪ :‬اللجان ال�شعبية‬

‫جمموعات �أخرى‬

‫ال�شارع املحلية‪ ،‬وقد �شاركت بانتظام يف التظاهرات‬ ‫واملواجهات مع ق��وات الأم��ن يف الأع���وام ‪2011‬‬ ‫و‪ 2012‬و‪ .2013‬يف �شباط ‪ /‬فرباير ‪،2012‬‬ ‫تعر�ض «�ألرتا�س» فريق «الأهلي» لهجوم يف مباراة يف‬ ‫ّ‬ ‫بور�سعيد‬ ‫�سبب مقتل ‪� 74‬شخ�ص ًا (طعن ًا‪ ،‬خنق ًا‪� ،‬شنقا ً‬ ‫ّ‬ ‫ودو�س ًا بالأقدام)‪ ،‬وجرح املئات يف ما بات يعرف با�سم‬ ‫«جمزرة بور�سعيد»‪ .‬املحاكمة التي خ�ضع لها عنا�رص‬ ‫الأمن التابعون ل��وزارة الداخلية واملوكلة �إليهم مهمة‬ ‫حماية املباراة‪ ،‬انتهت (يف مطلع �أيلول ‪� /‬سبتمرب ‪)2012‬‬ ‫املوجهة �إليهم‪.‬‬ ‫بتربئة جميع الر�سميني من جميع التهم‬ ‫ّ‬ ‫ �ضغط جمهور «الألرتا�س» ملقا�ضاة امل�س�ؤولني عن‬ ‫كارثة بور�سعيد‪ ،‬وهو مطلب التفّت حوله جمموعات‬ ‫ح�ضور يلفت الأنظار يف‬ ‫�سيا�سية عديدة‪ .‬ولـ«الألرتا�س»‬ ‫ٌ‬ ‫ال�شارع‪ ،‬وهو يكون بارز ًا يف التظاهرات واالعت�صامات‪،‬‬ ‫تتابعه و�سائل الإعالم بانتظام‪ .‬وال تزال �إمكانية اهتمامهم‬ ‫مبوا�ضيع �سيا�سية �أخرى مو�ضع جدل‪.‬‬

‫«�سلفيو الكو�ستا»‬ ‫«�سلفيو الكو�ستا» هي جمموعة �صغرية ن�سبي ًا تدعو‬ ‫�سلفيون �شباب‪ ،‬وهي ت�ستخدم‬ ‫للتعاي�ش‪ّ � ،‬أ�س�سها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نقاط القوة والتحديات‬ ‫مقاربات مبتكرة خللق م�ساحة تتيح احل��وار‪ .‬ت�شكلت‬ ‫«�سلفيو الكو�ستا» من �إ�سالميني وليرباليني‪ ،‬ومن بع�ض‬ ‫ّ‬ ‫املت�شدد‪ ،‬ب�شكل عام‪ ،‬بعد ‪ 25‬يناير‪ ،‬امتازت املجموعات ال�شبابية‬ ‫الأقباط‪ ،‬يلتقون على دعم التعاي�ش ونبذ املنظور‬ ‫ّ‬ ‫وقد �أطلقت املجموعة �صفحة على «فاي�سبوك» جمعت مب�ستوى رفيع من الإبداع‪ ،‬املرونة‪ ،‬الكفاءات واملوهبة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫منت�سب افرتا�ضي‪ .‬ال�شجاعة‪ ،‬االلتزام والعزم العميقني‪ ،‬ومهارة عالية يف‬ ‫يف وقت من الأوقات ع�رشين �ألف‬ ‫تعتمد املجموعة �أ�سا�س ًا على الفكاهة يف ن�رش ر�سالتها‪ .‬ا�ستخدام و�سائل التوا�صل االجتماعي (و�أدوات �أخرى‬ ‫ت�صدر ا�سمها الأخبار يوم �أنتجت فيلم ًا ق�صري ًا كثرية) بطرقٍ مبتكرة‪� .‬إىل نقاط القوة ه��ذه‪ُ ،‬ت�ضاف‬ ‫وقد‬ ‫ّ‬ ‫على «يوتيوب» ا�سمه «�أين �أذين؟»‪ ،‬يف �إ�شارة �إىل جرمية ال�صدقية وغياب االنتماء احلزبي‪.‬‬ ‫التحديات التي واجهها ال�شباب‪ ،‬فتت�ضمن‬ ‫الكراهية التي �شهدتها قنا يف ال�صعيد امل�رصي عام �أما‬ ‫ّ‬ ‫ال م�سيحي ًا وقطعوا �ضعف التنظيم‪ ،‬نق�ص الر�ؤية وق ّلة امل��وارد‪� ،‬ضعف‬ ‫‪ ،2011‬حيث خطف �سلفيون رج ً‬ ‫حتدي ًا واقعي ًا جد ًا‬ ‫�أذنه‪ .‬فيلمان فكاهيان �آخران فازا مب�شاهدة كثيفة على التن�سيق ما بني املجموعات (كان ذلك‬ ‫ّ‬ ‫«يوتيوب» هما‪�« :‬أين حملي؟» و«�أين بطيخي؟»‪ ،‬وهما يف مرحلة مبكرة)‪ ،‬واالن�شقاق لأ�سباب �إيديولوجية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫�أي�ض ًا ّ‬ ‫و�شكل‬ ‫يركزان على التعاون والت�شابه ما بني اجلماعات‪ .‬كذلك �إن جمموعات كثرية تتمركز يف املدينة‪.‬‬ ‫حتدي ًا �صعب ًا ال يزال حا�رض ًا‬ ‫«ده م�ش طبيعي» هي مبادرة �أخرى �أطلقتها املجموعة ا�ستمرار النظام القدمي‬ ‫ّ‬ ‫تظهر امل�شاكل االجتماعية التي يعانيها ال�شعب يف احلياة حتى وقت كتابة هذه ال�سطور‪ ،‬وكذلك حال التهديد‬ ‫ّ‬ ‫اليومية‪ ،‬وقد بات ُينظر �إليها على �أنها «طبيعية»‪ .‬وعلى واالعتقال (مع �أن ن�سبتهما انخف�ضت يف زمن كتابة‬ ‫الرغم من �صغر حجمها‪� ،‬إال �أن املجموعة �أ ّدت دور ًا ب ّن ًاء هذه ال�سطور)‪ ،‬والربوباغندا املعادية للنا�شطني‪ ،‬والعمل‬ ‫واجلذرية‪ ،‬واخلطاب غري الدميقراطي الذي‬ ‫التطوعي‪،‬‬ ‫يف اعت�صام متوز ‪ /‬يوليو ‪.2011‬‬ ‫ّ‬ ‫�ساد احلياة ال�سيا�سية‪ ،‬جميعها عوامل �أ ّدت �إىل �إنهاك‬ ‫هذه املجموعات و‪�/‬أو خ�سارتها لل�صدقية ال�شعبية‪.‬‬ ‫الألرتا�س (جمهور كرة القدم)‬ ‫و�سبب غياب القيادة ال�سيا�سية املالئمة عن املعار�ضة‬ ‫هذه الكوكبة من جمهور كرة القدم امللتزم بت�شجيع فريقه‬ ‫ّ‬ ‫�أ ّدت دور ًا بارز ًا يف معارك ال�شوارع يف ‪ 25‬كانون الثاين وامل�شهد ال�سيا�سي‪� ،‬إحباط ًا عميق ًا و ّلد �إح�سا�س ًا بني‬ ‫معنية بعمق يف �سيا�سة كثريين بت�ضييع الفر�ص‪.‬‬ ‫‪ /‬يناير‪ ،‬وباتت منذ ذلك احلني‬ ‫ّ‬

‫وثراء يف مرحلة ما بعد‬ ‫التطورات انت�شار ًا‬ ‫يف �أحد �أكرث‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الت�شكل العفوي للجان‬ ‫يناير ‪ 2011‬يف م�رص‪� ،‬أتى‬ ‫(ال�شعبية) يف الأحياء‪ ،‬على امتداد البالد‪ .‬تلك املجموعات‬ ‫تعرف بها اجلغرافيا �أو املوقع‪ ،‬انبثقت من املجال�س‬ ‫التي ّ‬ ‫ّ‬ ‫املحلية‪� ،‬أو جمموعات احلرا�سة التي �شكلها املواطنون‬ ‫عفوي ًا عندما ان�سحبت ال�رشطة من كافة �شوارع م�رص‬ ‫يف ‪ 28‬كانون الثاين ‪ /‬يناير ‪ .2011‬مع مرور الوقت‪،‬‬ ‫ومع غياب الإدارة املحلية‪ ،‬منا عمل جمموعات املواطنني‬ ‫امللحة �إىل �إدارة اخلدمات‬ ‫هذه من تلبية احلاجات الأمنية ّ‬ ‫ال �إىل �إثارة موا�ضيع حملية ع ّلقتها‬ ‫من جمع القمامة مث ً‬ ‫الدولة منذ زمنٍ يف االنتظار‪ .‬ت�شمل الأمثلة عن اللجان‬ ‫الفيوم‪ ،‬العمرانية‪ ،‬بوالق �أبو العال‪ ،‬حلوان‪،‬‬ ‫ال�شعبية مناطق ّ‬ ‫والإ�سكندرية‪ .‬ومن الأمثلة على املبادرات املبتكرة التي‬ ‫�سجلتها بع�ض اللجان‪ُ ،‬يذكر ت�سجيل نقا�شات توعوية‬ ‫ّ‬ ‫�سيا�سية وبثها �إىل منازل يف الأحياء عرب مفاتيح الت�شفري‬ ‫الف�ضائي املحلي («تلفزيون احل��ارة» يف العمرانية)‪،‬‬ ‫وم��ب��ادرة ح ّلت مبكر ًا جل��ذب انتباه الإدارة املحلية‬ ‫ّ‬ ‫ال�سكان �إىل �إلقاء �أكيا�س‬ ‫على جمع القمامة؛ �إذ دعت‬ ‫قمامتهم املنزلية �أمام بيت املحافظ (يف الإ�سكندرية)‪ ،‬ما‬ ‫دفع ال�سلطات املحلية �إىل توفري ّ‬ ‫حل �رسيع للم�شكلة‪.‬‬ ‫ويف مبادرة �إ�سكندرية �أخرى‪ُ ،‬وفِّرت احلماية لعائالت‬ ‫تعر�ضت العائالت‬ ‫املتظاهرين الذين قُتلوا �أو ُجرحوا؛ �إذ ّ‬ ‫ل�ضغوط القوات الأمنية الهادفة �إىل ثنيها عن الإدالء‬ ‫بال�شهادة �ضدها‪ ،‬وذل��ك من خالل ت�سجيل تقنيات‬ ‫الرتهيب بال�صوت وال�صورة وعر�ضها جماهريي ًا على‬ ‫‪129‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫نقاط �أخرى‬ ‫ر ّد الفعل يف مقابل الفعل‬ ‫على م�ستوى الأولويات‬ ‫الإجراءات التي اتخذها الطاقم ال�سيا�سي ب�أكمله‪ ،‬مبا يف‬ ‫ذلك املجموعات ال�شبابية كما «املجل�س الأعلى للقوات‬ ‫امل�سلحة»‪ ،‬ما بني العامني ‪ 2012-2011‬وما تالها‬ ‫من ت�شكيل حلكومة «الإخ��وان امل�سلمني» (يوليو‪ /‬متوز‬ ‫‪ – 2012‬متوز ‪ /‬يوليو ‪ُ ،)2013‬و�سمت بطابع �شديد‬ ‫االنفعالية؛ �إذ تفوقت الأح��داث املتتالية على ال��ر�ؤى‬ ‫واال�سرتاتيجيات املخطط لها‪ .‬لأ�سباب ميكن فهمها‪،‬‬ ‫ت�شو�ش انتباه املجموعات ال�شبابية‪ .‬م�شاركاتهم يف‬ ‫ّ‬ ‫تعر�ض‬ ‫إ�صابات‬ ‫�‬ ‫من‬ ‫تالها‬ ‫وما‬ ‫والتظاهرات‪،‬‬ ‫االعت�صامات‬ ‫ّ‬ ‫النا�شطون لها ورعايتهم ل�سواهم من جرحى املتظاهرين‪،‬‬ ‫وكذلك تن�سيقهم للبيانات وردود الفعل على الأحداث‪،‬‬ ‫حمددة‬ ‫عوامل أ� ّدت �إىل تقدمي ر ّد الفعل يف �سياق �أولويات ّ‬ ‫�سابق ًا‪ .‬جمدد ًا‪ ،‬ال بد من التذكري ب� ّأن تلك كانت حال جميع‬ ‫الالعبني على كافة م�ستويات ال�ساحة ال�سيا�سية‪.‬‬

‫ نكث الوعود‪ّ :‬‬ ‫حكام‬ ‫م�رص الع�سكريون‬ ‫يقو�ضون حقوق‬ ‫ّ‬ ‫الإن�سان‪ .‬منظمة‬ ‫العفو الدولية‬

‫ ‬

‫‪www.amnesty.org/‬‬ ‫‪en/library/info/x‬‬

‫ �شحاتة‪ ،‬دينا‪ .‬عودة‬ ‫ال�سيا�سة‪ :‬احلركات‬ ‫االحتجاجية‬ ‫اجلديدة يف م�رص‪.‬‬ ‫القاهرة‪ :‬مركز‬ ‫الأهرام للدرا�سات‬ ‫اال�سرتاتيجية‪،‬‬ ‫‪.2010‬‬ ‫ �شحاتة‪ ،‬دينا‪.‬‬ ‫احلركات ال�شبابية‬ ‫وثورة ‪ 25‬يناير‪.‬‬ ‫القاهرة‪ :‬مركز‬ ‫الأهرام للدرا�سات‬ ‫اال�سرتاتيجية‪،‬‬ ‫‪.2011‬‬

‫‪130‬‬

‫الإنهاك واجلذرية‬ ‫�ساهمت طبيعة الأحداث القا�سية وتواترها يف ت�شكيل‬ ‫�إنهاك وطني جماعي‪ ،‬ف�أ ّدت احلرب الإعالمية التي �ش ّنتها‬ ‫الدولة‪ ،‬واالعتقاالت‪ ،‬واملحاكمات الع�سكرية‪ ،‬وجترمي‬ ‫املتظاهرين‪ ،‬دور ًا يف �إحالل هذا الإنهاك قبل احلركة التي‬ ‫«مترد»؛ �إذ �شهدت تلك املرحلة انخفا�ض ًا ملمو�سا ً‬ ‫�أطلقتها ّ‬ ‫يف الدعم ال�شعبي للتظاهرات‪.‬‬ ‫املهم جد ًا التوقف عند التهديدات املبا�رشة وغري‬ ‫ من‬ ‫ّ‬ ‫املبا�رشة التي تلقاها العديد من النا�شطني ال�شباب‪ ،‬بالإ�ضافة‬ ‫املتكررة املو ّثقة – والأ�سو�أ منها – التي‬ ‫�إىل عمليات اخلطف‬ ‫ّ‬ ‫تعر�ض لها النا�شطون واملتطوعون من �أفراد اجل�سم الطبي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تعر�ض لها اجلرحى من‬ ‫التي‬ ‫والتوقيفات‬ ‫التهديدات‬ ‫وكذلك‬ ‫ّ‬ ‫املتظاهرين عند ت�رسيحهم من امل�ست�شفيات‪ .‬حمالت ت�شويه‬ ‫ال�صورة والتحري�ض على «البلطجية» عموم ًا (بعدما ُ�س ّمي‬ ‫امل�شاركون يف االعت�صامات «بلطجية»)‪ ،‬هي من التكتيكات‬ ‫التي اعتمدها الإعالم التقليدي �ضدهم‪ ،‬بالتزامن مع حمالت‬ ‫�إلكرتونية �شبيهة �شهدها موقعا «فاي�سبوك» و«تويرت»‪.‬‬ ‫خ�سارة الزخم خالل عام ‪2012‬‬ ‫انح�سار اخليارات الرئا�سية يف املر�شح الإ�سالمي من‬ ‫جهة وحليف مبارك من اجلهة الأخرى‪ ،‬وانتخاب مر�شح‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ٍ‬ ‫إح�سا�س‬ ‫«الإخ��وان امل�سلمني» بالنتيجة‪� ،‬ساهما بن�رش �‬ ‫بخيبة الأمل وانعدام اجلدوى بني نا�شطي املجتمع املدين‪.‬‬ ‫تو�سع املجموعات الإ�سالمية على اختالف م�شاربها‬ ‫و�أ ّدى ّ‬ ‫يف احلياة املدنية وال�سيا�سية �إىل ا�ستقطاب وجهات النظر‬ ‫و�إر�ساء �إح�سا�س بالف�شل بني املجموعات العلمانية‪ .‬انتخاب‬ ‫جمل�س �شعب ب�أكرثية �إ�سالمية‪ ،‬كتابة الد�ستور اجلديد يف‬ ‫هيئة ت�أ�سي�سية ي�سودها الإ�سالميون‪ ،‬ورئا�سة مر�سي‪ ،‬هي‬ ‫حد كبري يف ترويج نوع من الي�أ�س بني‬ ‫عوامل أ� ّدت �إىل ّ‬ ‫مروحة كبرية من النا�شطني ال�شباب‪.‬‬ ‫االنبعاث‬ ‫يف ‪ 30‬حزيران ‪ /‬يونيو‪ ،‬بعثت حركة «مت� ّ�رد» حركة‬ ‫االعرتا�ض ال�شعبي يف ال�شارع من جديد وعلى نطاق‬ ‫جمددة تفا�ؤل كثريين من ناحية‪ ،‬ومثرية‬ ‫هائل االت�ساع‪ّ ،‬‬ ‫قلق �آخرين جتاه النيات الع�سكرية من ناحية �أخرى‪ .‬بعد‬ ‫عزل الرئي�س مر�سي‪ ،‬غدت املجموعات �أ�شد ا�ستقطاب ًا‬ ‫وجذري ًة‪ ،‬وبات اختالف وجهات النظر اال�سرتاتيجيات‬ ‫التحول املحورية هذه‬ ‫تطرف ًا‪� .‬ستكون لنقطة‬ ‫ّ‬ ‫املعتمدة �أ�شد ّ‬ ‫تبعات كربى على االجتاه الذي �سي�سلكه البلد والثورة‬ ‫خالل ال�شهور وال�سنوات املقبلة‪.‬‬ ‫اخلامتة‬ ‫ي�شهد العدد الهائل من املجموعات التي ظهرت على‬ ‫ال�ساحة بعد ‪ 25‬كانون الثاين ‪ /‬يناير ‪ 2011‬على‬ ‫�إرادة �صلبة يبديها عدد كبري من ال�شباب امل�رصيني لأن‬ ‫يكونوا �رشكاء يف �إحداث التغيريات ال�سيا�سية يف البالد‪،‬‬ ‫بوا�سطة مروحة وا�سعة من اال�سرتاتيجيات واملقاربات‪.‬‬ ‫ا�ستخدم الكثري من هذه املجموعات تكتيكات عمل‬ ‫حد يف‬ ‫�إبداعية‪ ،‬وابدوا روح ًا مرنة وابتكار ًا �إىل �أق�صى ّ‬ ‫ا�ستخدامهم ملختلف املقاربات‪ ،‬و�أ�س�سوا لدرجات عالية‬ ‫درو�س عملية كثرية جرى‬ ‫من االنت�شار والتفاعلية‪ .‬هناك‬ ‫ٌ‬ ‫تع ّلمها وتطبيقها خالل هاتني ال�سنتني ون�صف ال�سنة التي‬ ‫هباء‪ ،‬و�ست�ستمر‬ ‫تلت خلع مبارك‪ ،‬ال ميكنها �أن ت�ضيع‬ ‫ً‬ ‫كمورد للفعل والزخم بني الأجيال ال�شابة لعقود‪.‬‬ ‫�شكر‬ ‫�أ�شكر كل من قابلته لإجناز هذا البحث – عددهم �أكرب من‬ ‫أخ�ص بال�شكر دينا اخلواجة‪،‬‬ ‫�أن �أذكرهم باال�سم هنا – و� ّ‬ ‫القيمة التي‬ ‫آرائهم‬ ‫�‬ ‫على‬ ‫ومنى فتح الباب‪ ،‬وحنني حنفي‬ ‫ّ‬ ‫منحوين �إياها بكل كرم‪.‬‬

‫‪ 130‬‬ ‫ ‬

‫إىل المتاريس!‬ ‫مقاومة «حديقة الغازي» والفضاء العام‬

‫‪136‬‬ ‫ ‬

‫ثورة جيل ضد التعقيم اإليديولوجي‬

‫‪140‬‬ ‫ ‬

‫حتالف سرييزا الياسري‬ ‫ظاهرة سياسية واعدة يف اليونان‬

‫با�شاك اإرتور‬

‫اإيجه متلكوران‬ ‫تينا �شرتيكو‬


‫إىل المتاريس!‬

‫مقاومة «حديقة الغازي» والفضاء العام‬ ‫بااشك إرتور على مدى ع�رشة �أيام خالل �شهر حزيران‪/‬يونيو ‪،٢٠١٣‬‬ ‫ر�سم عدد ال ُيح�صى من املتاري�س حدود ًا ل�ساحة كبرية‬ ‫باحثة وحمارضة يف خالية من الوجود احلكومي الر�سمي يف قلب �إ�سطنبول‪.‬‬ ‫متحركة رائعة‬ ‫قسم احلقوق بكلية كانت تلك املتاري�س عبارة عن من�ش�آت‬ ‫ّ‬ ‫بريكبك‪ ،‬بلندن‪ .‬تتغيرّ يومياً‪ .‬تبدو م�ؤقتة‪ ،‬لكنها يف الوقت نف�سه �صلبة‪،‬‬ ‫آخر اعمالها حترير وهي رغم ه�شا�شتها من�ش�آت م�ضا ّدة مذهلة‪ .‬كانت تقام‬ ‫كتاب «يف انتظار املتاري�س ويجري تفكيكها و�إعادة تركيبها يومي ًا ب�شكل‬ ‫الربابرة‪ :‬حتية جماعي‪ ،‬ما يعك�س دينامية رئي�سية تك�شفت يف الف�ضاء‬ ‫طوقته تلك احلواجز‪ ،‬دينامية حترير ال�سيا�سة‬ ‫الدوارد سعيد» العام الذي ّ‬ ‫(لندن ‪ .)٢٠٠٨‬من الأن�صاب التاريخية‪.‬‬ ‫تقدم هذه املقالة ت�أمالت مبكرة حول املعنى املفاهيمي‬ ‫واجلمايل وال�سيا�سي للمطالبة ال�شعبية العامة با�ستعادة‬ ‫و�سط مدينة �إ�سطنبول خالل مقاومة حديقة الغازي‪.‬‬ ‫ ذات �صباح مبكر من الثامن والع�رشين من �أيار‪/‬مايو‬ ‫‪ ،٢٠١٣‬ا�ستيقظت خيم «حديقة الغازي» على الأغنية‬ ‫املحببة على قلوب ال�شيوعيني الأناركيني يف �إ�سطنبول‪،‬‬ ‫وهي �أغنية من �صنف الريغي‪ُ ،‬تعترب ن�سخة �صاخبة من‬ ‫ن�شيد �أناركي يعود �إىل احلرب الأهلية الإ�سبانية‪ُ ،‬تدعى‬ ‫«‪� ،»A Las Barricadas‬أي «�إىل املتاري�س»‪:‬‬ ‫�إىل املتاري�س �إىل املتاري�س‬ ‫من �أجل اخلري واحلرية والعدالة‬ ‫ بني الذين ق�ضوا �أيامهم ولياليهم نيام ًا يف اخليم‪ ،‬ع�ضو‬ ‫�ساخط من هذه الفرقة‪� ،‬أعرب الحق ًا عن متلمله �إزاء نداء‬ ‫ ن�رشت هذه املقالة اليقظة الذي �أطلقته الفرقة قائالً‪« :‬ح�سناً‪ ،‬الت�شبيه معيب‬ ‫فلنتخيل �رضب ر�أ�س مايكل �أجنلو‬ ‫باعرتاف اجلميع‪ ،‬لكن‬ ‫باللغة االنكليزية‬ ‫ّ‬ ‫بتكليف من جملة‬ ‫«�إبراز» ‪ ibraz‬ونعيد بتمثال دافيد من �أجل �إيقاظه؟»‪ .‬مل تكن هناك متاري�س‬ ‫ن�رشها هنا مرتجمة الجتيازها من �أجل الو�صول �إىل اخلبز واحلرية �أو العدالة‬ ‫اىل العربية‬ ‫خميم «حديقة الغازي» يعي�ش‬ ‫بالتعاون يف تلك املرحلة‪ .‬كان‬ ‫ّ‬ ‫مع املجلة املذكورة‪.‬‬ ‫‪www.ibraz.com.‬‬ ‫�صباحه الأول‪ ،‬والن�ضال من �أجل احلفاظ على احلديقة‬ ‫‪132‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫العامة و�أ�شجارها بدا كمعركة خا�رسة جديدة يف �إطار‬ ‫الهجمة الليربالية التي ال هوادة فيها‪ ،‬بت�سهيل من �سلطة‬ ‫�ضد‬ ‫حكومية جاهزة لإطالق العنان لأدواتها العنفية‬ ‫ّ‬ ‫�أي معار�ضة‪ ،‬مهما كانت �صغرية‪ .‬عند هذه املرحلة‪ ،‬مل‬ ‫ميكن �أحد يتخيل �إقامة متاري�س يف غ�ضون ب�ضعة �أيام‪،‬‬ ‫واحلديث هنا لي�س عن احلواجز التي تقيمها ال�رشطة‪ ،‬بل‬ ‫عن متاري�س يدوية من �صنع حركة املقاومة‪ .‬يف الواقع‪،‬‬ ‫ُوجدت الكثري من احلواجز التي �صنعت حدود ًا ملنطقة‬ ‫هائلة متفلتة من �سلطة الدولة يف قلب املدينة‪.‬‬ ‫ بات الأمر �أ�شبه مبثال يجري التمثيل به‪ :‬يف منت�صف‬ ‫ليل ‪� ٢٧‬أيار‪/‬مايو‪ ،‬بد�أت اجلرافات بتحطيم جزء من‬ ‫«حديقة الغازي» يف خرق فا�ضح لأذونات التخطيط‪.‬‬ ‫هرع املعنيون �إىل املكان‪ ،‬وقد بات ب�ضع ع�رشات ليلتهم‬ ‫هناك‪ .‬ويف اليوم التايل‪ ،‬مل ي�صل عدد الذين اعت�صموا‬ ‫يف احلديقة يراقبون الأ�شغال �إىل مئة �شخ�ص‪ ،‬لكنهم‬ ‫�صمدوا �أمام هجمات عنا�رص ال�رشطة الذين �أُر�سلوا‬ ‫لـ«توفري الأم��ن» لأعمال التدمري املخالفة للقانون‪،‬‬ ‫بالقنابل امل�سيلة للغاز والقوة املفرطة‪ .‬ح�صل ذلك حني‬ ‫ال ُت َ‬ ‫قط ْت ال�صورة ال�شهرية للمر�أة ذات الف�ستان الأحمر‪،‬‬ ‫جت�سد عبثية عنف‬ ‫وهي باتت اليوم ال�صورة‪/‬الأيقونة التي ّ‬ ‫ال�رشطة اليومي املفرط �ضد املواطن العادي‪ .‬بعد ظهر‬ ‫ذلك اليوم‪ ،‬أ� ّدى و�صول النائب �سريي ثريا �أوندر �إىل‬ ‫احلديقة‪ ،‬ومطالبته بر�ؤية �أذون��ات التدمري‪� ،‬إىل تعليق‬ ‫م�ؤقت للأعمال‪ .‬يف تلك الليلة‪ ،‬و�صل عدد اخليم �إىل نحو‬ ‫‪ ٤٠‬خيمة‪ .‬ويف اليوم الذي تاله‪� ،‬أي يف ‪� ٢٩‬أيار‪/‬مايو‪،‬‬ ‫توجه رئي�س احلكومة رجب طيب �أردوغان �إىل املعت�صمني‬ ‫ّ‬ ‫و�سنطبقه»‪ ،‬يف‬ ‫قائالً‪« :‬افعلوا ما �شئتم‪ .‬لقد اتخذنا قرارنا‬ ‫ّ‬ ‫�إ�شارة �إىل خطط �إزالة احلديقة العامة لإحالل مكانها‬ ‫ت�سوق مع واجهة ثكنة ع�سكرية من طراز عثماين‬ ‫مركـز ّ‬

‫‪ 1‬بح�سب الأرقام‬ ‫ ‬ ‫الر�سمية التي‬ ‫�أعلنتها وزارة‬ ‫الداخلية الرتكية‬ ‫يف ‪ 22‬حزيران‪/‬‬ ‫يونيو‪� ،‬شارك ‪2.5‬‬ ‫مليون �شخ�ص يف‬ ‫تظاهرات حديقة‬ ‫الغازي يف ‪79‬‬ ‫مدينة من �أ�صل‬ ‫‪ .81‬اقر�أ ‪‘2.5‬‬ ‫‪Milyon İnsan 79‬‬

‫‪İlde Sokaga İndi’,‬‬ ‫‪Milliyet, 23rd June‬‬ ‫‪2013, «gundem.‬‬ ‫‪milliyet.com .tr/2‬‬‫‪5-milyon-insan-79‬‬ ‫‪-ilde-sokaga/‬‬

‫يعود �إىل القرن الثامن ع�رش‪ ،‬كانت موجودة يف املكان‬ ‫نف�سه‪ .‬وغداة خطاب �أردوغان املليء بالتحدي‪ ،‬بات نحو‬ ‫‪� ١٥٠‬شخ�ص ًا ليلتهم يف احلديقة العامة‪ .‬ويف ال�صباح‪،‬‬ ‫عند اخلام�سة فجر ًا من الثالثني من �أيار‪/‬مايو‪ ،‬هاجمت‬ ‫ال�رشطة املخيم بالغازات امل�سيلة للدموع‪ ،‬و�أحرقت‬ ‫خيمهم‪ ،‬وفتحت الطريق للجرافات لكي توا�صل تدمري‬ ‫احلديقة العامة لب�ضع �ساعات‪� ،‬إىل حني و�صول النائب‬ ‫�أوندر عند ال�ساعة الثامنة �إال ع�رش دقائق �صباحاً‪ ،‬مانع ًا‬ ‫ال�شاحنات من موا�صلة تدمريها جمدداً‪.‬‬ ‫ يف تلك الليلة‪ ،‬توافد الآالف �إىل احلديقة العامة‪ ،‬وبات‬ ‫املئات ليلتهم فيها‪ ،‬قبل �أن تهاجمهم جمدد ًا عند اخلام�سة‬ ‫من فجر ‪� ٣١‬أيار‪/‬مايو �رشطة مكافحة ال�شغب‪ ،‬لكن‬ ‫ال عن الغازات‬ ‫ر�ش املياه‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫هذه املرة بوا�سطة مدافع ّ‬ ‫امل�سيلة للدموع‪ .‬وعلى وقع ا�ستمرار حرب ال�شوارع‬ ‫خالل ذلك اليوم‪ ،‬قررت حمكمة �إدارية تعليق �أ�شغال‬ ‫�إزالة احلديقة‪ ،‬م ّتخذ ًة بذلك موقف ًا م�ؤيد ًا للمعرت�ضني‪.‬‬ ‫وبعد �صدور دعوة للتظاهر امل�سائي يف حديقة الغازي‪،‬‬ ‫حاول ع�رشات �آالف الأ�شخا�ص الو�صول �إىل املكان‪،‬‬ ‫لكن ال�رشطة كانت م�صممة على منع جناح التجمع‪،‬‬ ‫فخنقت «�ساحة تق�سيم» والأحياء املجاورة لها بغيمة‬ ‫اجلو طوال‬ ‫من الغازات امل�سيلة للدموع‬ ‫ا�ستمرت يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫ذلك امل�ساء حتى الليل‪ .‬وت�ضاعف ال�شعور بال�سخط‬ ‫على عنف ال�رشطة وهذه الطريقة اال�ستبدادية يف احلكم‬ ‫بفعل االنف�صام الكامل بني ما كانت ت��ورده و�سائل‬ ‫التوا�صل االجتماعي من جهة‪ ،‬والغياب التام لأي‬

‫وعندما كان الأ�شخا�ص املتمركزون يف مقدمة امل�سرية‬ ‫ُيدفَعون بالقوة �إىل اخللف‪ ،‬كان الأ�شخا�ص الواقفون‬ ‫يف اخللف ي�أخذون �أمكنتهم يف املقدمة‪ .‬يف الواقع‪ ،‬متّت‬ ‫ا�ستعادة «�ساحة تق�سيم» يف اليوم التايل‪ ،‬بعد ظهر‬ ‫النا�س ال�رشطة‬ ‫الأول من حزيران‪/‬يونيو‪ ،‬حني �أرغم‬ ‫ُ‬ ‫على االن�سحاب من املكان ومغادرة ال�ساحة‪ ،‬ف�أ�صبحت‬ ‫«حديقة الغازي» ومنطقة وا�سعة حميطة بها خالية متام ًا‬ ‫من �أي ح�ضور ر�سمي لع�رشة �أيام‪.‬‬ ‫«�أمي‪ ،‬هل �أنا ب�رشي �أم بربري؟»‬ ‫حتولت املنطقة �إىل �ساحة من ف��وران غري م�سبوق‬ ‫ّ‬ ‫للنقا�شات‪ ،‬ولعدوى من ال�ضحك ونوبات من النكات‪.‬‬ ‫وبد�أ احلديث عن �رضورة �إلغاء الن�سخة الثالثة ع�رشة‬ ‫من «بينايل �إ�سطنبول» املقرر يف �أيلول ‪ ،٢٠١٣‬مبا �أ ّنه‬ ‫قد ح�صل عملي ًا يف «حديقة الغازي»‪ .‬كان الأمر ذا �صلة‬ ‫ا�ستثنائية باملعر�ض؛ ل ّأن مو�ضوع البينايل الذي �أُعلن‬ ‫باكر ًا هذا العام‪ُ ،‬ح ّدد بـ«فكرة الف�ضاء العام كمنتدى‬ ‫�سيا�سي»‪ .2‬وحت��ت عنوان «�أم��ي‪ ،‬هل �أن��ا بربري؟»‪،‬‬ ‫امل�أخوذ عن ال�شاعر الرتكي املحبوب اليل مولدور‪ ،‬كان‬ ‫مقرر ًا للربنامج التنظيمي للبينايل �أن يطرح ال�سجال‬ ‫وحتدي‬ ‫حول الأ�شكال املعا�رصة للتمثيل الدميقراطي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫للتحول احل�رضي‪ ،‬واخلو�ض يف‬ ‫ال�سلوكيات الإق�صائية‬ ‫ُّ‬ ‫�أثر �صناعة الفن يف تلك ال�سلوكيات‪ .‬ويبدو � ّأن امل�ستوى‬ ‫النقدي للإطار املفاهيمي للبينايل‪� ،‬إما �أنه اع ُترب غري‬ ‫ٍ‬ ‫طبقت عليه ا�سرتاتيجية للتطعيم‬ ‫كاف‪� ،‬أو خمادعاً‪� ،‬أو ّ‬

‫ت�ضاعف ال�شعور بال�سخط بفعل االنف�صام الكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــامل‬ ‫بني ما كانت تورده و�سائل التوا�صل االجتمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاعي‪،‬‬ ‫وغياب �أي �إ�شارة �إىل عنف ال�رشطة جتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاه‬ ‫املعرت�ضني يف جميع التلفزيونات الرتكية تقريبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ًا‪،‬‬ ‫املرغمة على �إطاعة احلكومة �أو التي جرت ر�شوتها من قبلهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬

‫‪gundem/det‬‬ ‫‪ay/1726600 /‬‬ ‫»‪default.htm‬‬

‫(‪ 15‬متوز‪/‬يوليو‬ ‫‪.)2013‬‬ ‫‪�« 2‬أعلن عن‬ ‫ ‬ ‫الربنامج املفاهيمي‬ ‫للمهرجان»‬ ‫‪«bienal.iksv.‬‬

‫‪org/en/archive/‬‬ ‫‪newsarchive‬‬ ‫‪/p/1 /622».‬‬

‫‪133‬‬

‫�إ�شارة �إىل العنف الذي متار�سه ال�رشطة بحق املعرت�ضني‬ ‫يف جميع حمطات التلفزيون الرتكية تقريباً‪ ،‬والغالبية‬ ‫العظمى منها قنوات خا�صة �أرغمت على الطاعة �أو‬ ‫ر�شتها احلكومة طوال ال�سنوات املا�ضية‪ .‬مل يعد ب�إمكان‬ ‫النا�س‪ ،‬النا�س العاديني‪ ،‬من كل �أنحاء املدينة‪ ،‬وال عاد‬ ‫ب�إمكان مواطني تركيا كلها‪� ،‬أن يحتملوا �أكرث من ذلك‪.‬‬ ‫خرجوا �إىل ال�شوارع‪ .‬نهر ال ينتهي من الب�رش ظلوا‬ ‫يتوافدون نحو ال�رشطة ب�أياديهم العارية وب�أنا�شيدهم‪.1‬‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫الذاتي من قبل منتقدي البينايل‪ ،‬الذين كانوا ينظمون‬ ‫�سل�سلة من االعرتا�ضات ت�سبق العرو�ض‪ ،‬لف�ضح‬ ‫ارتباطات �إدارة البينايل باملجموعات الر�أ�سمالية التي‬ ‫التحول املديني لإ�سطنبول‪ .‬وقد ُكتب على‬ ‫تقود عملية‬ ‫ُّ‬ ‫�إحدى الالفتات‪�« :‬أمي‪ ،‬هل �أنا ب�رشي؟»‪ ،‬وقد انت�رشت‬ ‫هذه الالفتة الحق ًا يف «حديقة الغازي» �أثناء احتاللها‪.‬‬ ‫ ميكن القول �إن الت�أثري املفاهيمي واجلمايل لال�ستعادة‬ ‫امللمو�سة لو�سط املدينة جتاوز ت�أثري �أي حدث ثقايف‬


‫�أو فني �سبق �أن ا�ست�ضافته �إ�سطنبول‪� .‬أ�صبح حطام‬ ‫حافالت النقل ال��ع��ام‪ ،‬و�سيارات ال�رشطة والنقل‬ ‫التلفزيوين‪ ،‬وبع�ضها مقلوبة ر�أ�س ًا على عقب‪ ،‬ك�آثار ملا‬ ‫قبال‪ .‬كذلك �إن ر�سوم الغرافيتي‬ ‫تخيل ح�صوله ْ‬ ‫ا�ستحال ُّ‬ ‫املارة بالفكاهة وبالنفَ�س‬ ‫التي ملأت اجلدران �أ ّثرت على ّ‬ ‫ال�شعري‪ .‬باتت العرو�ض الأدائية �أمر ًا عادياً‪� .‬أ�صبح‬ ‫ِّ‬ ‫ميكن م�شاهدة النا�س يقر�أون الكتب �أمام دروع ال�رشطة‪،‬‬ ‫ومعاينة دروي�ش �صويف ي�ؤدي دورانه يف و�سط «�ساحة‬ ‫تق�سيم»‪ ،‬وهو يرتدي القناع الواقي من الغاز‪ .‬و�أمكن‬ ‫ي�شاهد الحق ًا ه�ؤالء الذين ا�شتهروا بوقوفهم‬ ‫�أي�ض ًا �أن‬ ‫َ‬ ‫يف و�سط ال�شارع �صامتني‪ .‬كانت املتاري�س بذاتها‬ ‫من�ش�آت متنقلة مذهلة تتغيرّ بوترية يومية‪ُ ،‬يعاد �صنعها‬ ‫وتعزيزها وت�سميتها وجتميلها ب�شكل جماعي‪.‬‬ ‫�إقامة املن�ش�آت امل�ضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادة‬ ‫هي تعبري منا�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــب‬ ‫لو�صف ما كان يح�صل يف تلك امل�ســــــــــــــــــــاحة‬ ‫امل�سوّ رة باملتاري�س‪� :‬إعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادة‬ ‫ا�ستمالك وك�رس لهالة املكـــــــــــــــــــــــــــــــــــان‪،‬‬ ‫باملعنيني اجلمايل وال�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــيا�سي‬ ‫ وذات �صباح‪ ،‬ا�ستيقظ خميم احتالل ال�ساحة على‬ ‫متاري�س م�صنوعة من �أحجار فخارية ُر�سمت عليها‬ ‫وجوه مبت�سمة‪ .‬ويف �صباح �آخر‪� ،‬أُعيد تركيب �أحجار‬ ‫مرتا�س �آخر لي�صبح من �س ّتة �أقوا�س مبقا�سات مرت ون�صف‬ ‫مرت مكعب للقو�س‪ .‬وكان �أحد املتاري�س عبارة عن �إطار‬ ‫لوحة �إعالنات �صودرت وحتولت اىل ٍ‬ ‫باب لدخول امل�شاة‪.‬‬ ‫و�ص ّمم مرتا�س �آخر بطريقة ّ‬ ‫متكنه من ا�ست�ضافة عازيف‬ ‫ُ‬ ‫طبول لإحياء مو�سيقى ت�صويرية لفيلم عن احتالل‬ ‫ال�ساحة‪ .‬كانت م�شاهدة هذه املتاري�س تثري احلرية‪ :‬هي‬ ‫وه�شة ب�شكل وا�ضح يف �آن واحد‪.‬‬ ‫�صلبة للغاية ّ‬

‫املتاري�س قرب‬ ‫�ساحة تق�سيم يف‬ ‫ا�سطنبول �صباح‬ ‫‪ 10‬حزيران‪.2013‬‬ ‫‪134‬‬

‫مع املتاري�س �أو �ضدها‬ ‫منذ اليوم الأول لالحتالل‪ ،‬كانت املتاري�س نقطة مركزية‬ ‫يف نقا�شات اجتماعات التن�سيق التي كانت تعقد حتت‬ ‫�إطار املنظمة الأم «تن�سيقية «احتلوا تق�سيم»»‪� .‬شعر‬ ‫البع�ض ب� ّأن ّ‬ ‫�شل احلياة اليومية بوا�سطة املتاري�س يف‬ ‫�ساحة �أكرب بع�رش مرات من «حديقة الغازي» نف�سها‪،‬‬ ‫قد نزع ال�رشعية عن احتالل احلديقة وعن مطالب‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫‪135‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫«املحت ّلني»‪ .‬وقد �أعرب �آخرون عن اعتقادهم ب� ّأن هذه‬ ‫ّ‬ ‫ت�شكل خطر ًا على حركة االحتالل‪ ،‬وتوفّر‬ ‫املتاري�س‬ ‫لل�سلطات العذر لكي تتدخل وت�ستخدم القوة‪ ،‬وك�أ ّنها‬ ‫كانت تنتظر توافر العذر لكي تفعل ذلك‪� .‬أكرث من ذلك‪،‬‬ ‫�شعر �آخ��رون بالقلق �إزاء الن�شاط اخلفي الذي تقوم‬ ‫به ال�رشطة عند املتاري�س‪ ،‬م�ستف ّز ًة �شبابا ً �إىل العراك‬ ‫ثم‬ ‫مع عنا�رص ال�رشطة املرتدين زيهم الر�سمي‪ ،‬ومن ّ‬ ‫اعتقالهم‪ .‬ومل جتعل املتاري�س احلياة يف احلديقة املحتلة‬ ‫�أ�سهل؛ ففي الليايل الأوىل التي �أعقبت خروج ال�رشطة‬ ‫تعر�ضت احلديقة جمدد ًا لهجمات من الغاز ك�رس املحظورات‬ ‫من «تق�سيم»‪ّ ،‬‬ ‫امل�سيل للدموع الوافدة من فوق املتاري�س‪ ،‬حيث دارت �إن �إقامة املن�ش�آت امل�ضا ّدة تعبري منا�سب لو�صف ما كان‬ ‫امل�سورة باملتاري�س خالل تلك‬ ‫ا�شتباكات كان ميكن تفاديها‪ ،‬ما جعل احلديقة مكان ًا غري يح�صل يف تلك امل�ساحة‬ ‫ّ‬ ‫ال�سن‪ .‬و�أُثريت اعرتا�ضات تقنية الأيام الع�رشة التي عا�شتها املنطقة املتحررة من �أي وجود‬ ‫�آمن للأطفال وللكبار يف‬ ‫ّ‬ ‫�أي�ضاً‪ .‬فبح�سب البع�ض‪ ،‬كان يجدر �إزالة بع�ض املتاري�س حكومي ر�سمي‪ :‬كان هناك �إعادة ا�ستمالك وك�رس لهالة‬ ‫لأنها تعرقل الو�صول �إىل امل�ست�شفيات‪( .‬خالل �أيام املكان‪ ،‬باملعنيني اجلمايل وال�سيا�سي‪ .‬فالوزن الرمزي‬ ‫اال�شتباكات احلامية التي �شهدتها املقاومة‪ ،‬ا�ستخدمت ل�ساحة تق�سيم‪ ،‬وهي «املوقع الرمزي يف الوجدان املديني‬ ‫احليز ال�سيا�سي و�إنتاجه و�إعادة‬ ‫ال�رشطة �سيارات الإ�سعاف لنقل �أ�سطوانات الغاز)‪.‬‬ ‫العام لكل ما يتعلق ّ‬ ‫ب�سن ّ‬ ‫‪3‬‬ ‫مدعم ًا بعدد من املن�ش�آت والأن�صاب‬ ‫ لكن طوال فرتة احتالل احلديقة‪ ،‬وخالل �أوقات �إحيائه» ‪ ،‬كان‬ ‫َّ‬ ‫اال�سرتاحة‪ ،‬وعندما كانت �أعداد الأ�شخا�ص ت�صل �إىل التذكارية‪� ،‬أ�شهرها «ن�صب اجلمهورية» الذي يتو�سط‬ ‫�أدنى م�ستوياتها ويف ع ّز فرتات الإرهاق‪ ،‬كان ال�شعور ال�ساحة‪ ،‬ومبنى «مركز �أتاتورك الثقايف» التاريخي‬ ‫العام يف احلديقة جتاه املتاري�س مليئ ًا بعرفان اجلميل‪ ،‬ال�شهري‪ .‬غُ ّطي كال املعلمني بالالفتات والأع�لام خالل‬ ‫على اعتبار �أنها هي من حمتهم‪ .‬ذلك � ّأن �إدراك النا�شطني احتالل ال�ساحة‪ ،‬وهو امل�شهد ال��ذي كان يعيد طرح‬ ‫� ّأن املتاري�س موجودة‪ ،‬وفّر لهم �شعور ًا �ضعيف ًا بالأمان‪ ،‬الت�سا�ؤل نف�سه‪ :‬هل ما يح�صل حقيقي؟‬ ‫لكنه كان ذا معنى‪ ،‬بعدما كان ع�رشات الآالف من املكان التاريخي بح�سب تعريف هرني لوفيفر‪ُ :‬ي َح َّدد‬ ‫الأ�شخا�ص الذين زاروا احلديقة و�ساحة تق�سيم يذهبون مبا ميكن �أن يح�صل يف ذلك املكان‪ ،‬وبالتايل مبا مل يح�صل‬ ‫‪4‬‬ ‫حتول ما يف‬ ‫�إىل منازلهم يف ال�ساعات املت�أخرة من الليل‪ ،‬ليعودوا‬ ‫(املحلل‪/‬املحرم؛ املرئي‪/‬املخفي) ‪ .‬كان ثمة ّ‬ ‫ّ‬ ‫جمدد ًا �إليهما يف اليوم التايل‪ .‬لقد خفّفت هذه املن�ش�آت النموذج النظري عند ر�ؤية النا�س على �سطح مركز‬ ‫جزئي ًا من رعب �ساعات الفجر الأوىل‪ ،‬لت�شكل تلك �أتاتورك الثقايف‪ ،‬ومن ثم عند م�شاهدة النا�س جال�سني‬ ‫ممددين �أو ين�صبون خيمهم على امل�ساحات اخل�رضاء‬ ‫املتاري�س ما ي�شبه املنازل للمعت�صمني‪.‬‬ ‫�أو ّ‬ ‫ كان الأ�شخا�ص الذين بنوا هذه املتاري�س وحر�سوها املحيطة بن�صب اجلمهورية‪ ،‬وهو الأمر الذي كان ي�ستحيل‬ ‫ت�صور ح�صوله على هذه البقعة التي كان حمظور ًا‬ ‫بغالبيتهم �شبان ًا مراهقني مل يبلغوا الع�رشين من عمرهم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫�أو بالكاد دخلوا العقد الثاين من حياتهم‪ ،‬بع�ضهم دو�سها حتى دون حاجة لو�ضع الالفتات املعتادة التي‬ ‫لكن غالبيتهم مل متنع اجلري على الع�شب الأخ�رض لإبقاء النا�س خارجها‪.‬‬ ‫�أع�ضاء يف منظمات ي�سارية راديكالية‪ّ ،‬‬ ‫تكن ذات انتماء �سيا�سي وا�ضح‪ .‬كانوا مزيج ًا غريب ًا من ثم � ّإن «حديقة الغازي» نف�سها هي حديقة تاريخية‪� .‬إنها‬ ‫حمرومي الأحياء املجاورة‪ ،‬و�أفراد ًا من الطبقتني الو�سطى حديقة ُب َنيت على م�ستوى مرتفع من ال�ساحة‪ ،‬حتى �إن‬ ‫ال للم�شاركة يف الداخل �إليها من جميع املداخل عليه �أن يت�سلق ال�سالمل‪،‬‬ ‫والعليا‪ .‬لقد وفّرت املتاري�س له�ؤالء جما ً‬ ‫ّ‬ ‫املقاومة‪ ،‬وم�ساحة للتمف�صل على عتبة �صناعة ال�سيا�سة‪ ،‬وللو�صول �إليها من «�ساحة تق�سيم»‪ ،‬على الزائر ت�سلق‬ ‫وكان ذلك احتاد ًا هام�شي ًا من دون ّ‬ ‫�شك‪ ،‬لكنه ميلك كرامته ‪ ١٩‬درج��ة‪ .‬رمبا ب�سبب ت�صميمها غري الرحب الذي‬ ‫�ستخدم «حديقة الغازي»‬ ‫اخلا�صة‪ .‬عندما حاولت ال�سلطات التفاو�ض مع املقاومة‪ ،‬يجعلها �أقرب �إىل املعبد‪ ،‬مل ُت‬ ‫َ‬ ‫واقرتحت عليها ال�سماح لها مبوا�صلة احتالل احلديقة كفاي ًة باملقارنة مع احلدائق العامة الأخرى‪ ،‬مثل «حديقة‬ ‫املفوهني‬ ‫�شبان املتاري�س ّ‬ ‫ب�رشط �إزالة املتاري�س‪� ،‬أتى �أحد ّ‬ ‫�إىل اجتماع «تن�سيقية «احتلوا تق�سيم»» ليقول‪�« :‬إن كنتم‬ ‫تريدون منا �إزالة املتاري�س‪ ،‬ميكننا فعل ذلك‪ ،‬و�سيحتاج‬ ‫بنا الأمر �إىل ن�صف يوم فقط لإعادتها �إن لزم الأمر»‪.‬‬ ‫هذه القدرة الالمتناهية على فعل الأمر وعك�سه‪ّ ،‬‬ ‫�شكلت‬ ‫ه�شة‪ ،‬قابلة‬ ‫بال�ضبط روحية تلك املتاري�س‪ .‬كانت عابرة‪ّ ،‬‬ ‫للتدمري‪ ،‬ولإعادة ن�صبها‪ ،‬فكانت بذلك من�ش�آت م�ضا ّدة‬ ‫ي�ستحيل التخل�ص منها‪.‬‬

‫‪ 3‬‬

‫‪Yael Navaro-Yashin,‬‬ ‫‪Faces of The State:‬‬ ‫‪Secularism and‬‬ ‫‪Public Life in‬‬ ‫‪Turkey, Princeton,‬‬ ‫‪Princeton‬‬ ‫‪University Press,‬‬ ‫‪2002, p. 1.‬‬

‫‪ 4‬‬

‫‪Henri Lefebvre,‬‬ ‫‪The Production of‬‬ ‫‪Space, trans. Donald‬‬ ‫‪Nicholson-Smith,‬‬ ‫‪Oxford, Blackwell,‬‬ ‫‪1991, p. 224.‬‬

‫‪136‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫اخلالية من �أي وجود حكومي ر�سمي �إىل �ساحة للتوا�صل‬ ‫تخيل‬ ‫ال�سيا�سي بني جمموعات ومنظمات كان ي�ستحيل ّ‬ ‫تالقيها �سابقاً‪ .‬قانون هذه امل�ساحة املنتظمة ذاتي ًا كان‬ ‫املتفجرة التي‬ ‫ال�سلوك احل�ضاري والت�ضامن والفكاهة‬ ‫ّ‬ ‫تحُ ّطم الت�صنيفات املتخ�شبة التي تف�صل بني �أع�ضاء اجل�سم‬ ‫ال�سيا�سي وتنظم وظائفه‪ .‬وقد ّ‬ ‫�شكل ذلك بدايات ُّ‬ ‫لتفكك‬ ‫الأحكام امل�سبقة املتجذرة والعداوات البالية‪ ،‬و�إعادة‬ ‫متف�صل لقوة ت�أ�سي�سية بجميع تنويعاتها‪ ،‬ول�صعود ذاتيات‬ ‫جديدة ظاهرة وقابلة للحياة بعيد ًا عن الأيديولوجيا‬ ‫الر�سمية املتحجرة للدولة ــ الأمة‪ .‬وبالإمكان و�صف هذه‬ ‫العملية ب�أنها حتطيم �أ�صنام املخيالت ال�سيا�سية‪.‬‬

‫‪ 5‬‬

‫‪Meltem Ahıska,‬‬ ‫‪‘Monsters that‬‬ ‫‪Remember:‬‬ ‫‪Tracing the Story‬‬ ‫’‪of the Workers‬‬ ‫‪Monument in‬‬ ‫‪Tophane, Istanbul’,‬‬ ‫‪Red Thread 3, 2011,‬‬ ‫‪pp. 1-23.‬‬

‫‪ 6‬‬

‫‪Aysegül Baykan‬‬ ‫‪and Tali Hatuka,‬‬ ‫‪‘Politics and‬‬ ‫‪culture in the‬‬ ‫‪making of‬‬ ‫‪public space:‬‬ ‫‪Taksim Square,‬‬ ‫‪1st May 1977,‬‬ ‫‪Istanbul’, Planning‬‬ ‫‪Perspectives 25:1,‬‬ ‫‪2010, p. 55.‬‬

‫‪ 7‬‬

‫‪‘May Day in‬‬ ‫‪Istanbul: 72‬‬ ‫‪Detained, Scores‬‬ ‫‪Injured’, Bianet,‬‬ ‫‪2nd May 2013.‬‬ ‫‪www.bianet.org‬‬ ‫‪/english/lab‬‬ ‫‪or/146303-may-day‬‬‫‪in-istanbul‬‬ ‫‪-72- detained‬‬‫‪scores-injured.‬‬ ‫‪www.bianet.org/‬‬ ‫‪english/labor/‬‬ ‫‪14630 3-may-day‬‬‫‪in-istan bul-72‬‬‫‪detained- scores‬‬‫‪injured.‬‬

‫(‪ 15‬متوز‪/‬يوليو‪.)2013‬‬

‫‪137‬‬

‫عبا�س �آغ��ا» املحببة على قلوب �أبناء �إ�سطنبول يف‬ ‫حي بي�شيكتا�ش‪ ،‬و«حديقة يوغورت�شو» يف كاديكوي‬ ‫ّ‬ ‫منتدى عام ًا منذ‬ ‫لت�سعني‬ ‫ا‬ ‫عنوان‬ ‫اليوم‬ ‫أ�صبحتا‬ ‫�‬ ‫(وكلتاهما‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫�إنهاء احتالل حديقة الغازي بالقوة)‪.‬‬ ‫ لي�ست املعامل التاريخية جمرد رموز للقوة‪ ،‬بح�سب‬ ‫ما ّ‬ ‫تذكرنا به عاملة االجتماع واملفكرة النقدية ملتم‬ ‫متخيلة من خالل‬ ‫�أحي�سكا‪� .‬إنها تنتج �أي�ض ًا جماعة‬ ‫ّ‬ ‫تخليد الذاكرة الأ�سطورية جلذور الأمة‪ ،‬فار�ض ًة نقطة‬ ‫نهاية لتاريخ تكوين هذه الأم��ة‪ ،‬حيث ال تتوافر مثل‬ ‫نقطة النهاية تلك‪ ،‬وحتنيط الأحياء يف متاثيل من حجر‪.‬‬ ‫ووفق �أحي�سكا‪ّ � ،‬إن املعامل التاريخية «ت�أبيد احلا�رض مبا‬ ‫هو ا�ستكمال للحظة للو�صول»‪ .5‬والدولة ‪ -‬الأمة التي‬ ‫فر�ضتها املعامل التاريخية يف «�ساحة تق�سيم» هي دولة ميكن بناء املتاري�س وتدمريهــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫�إق�صائية‪ ،‬بطريركية وقمعية‪ ،‬مبا يتوافق مع الإيديولوجيا و�إعادة بنائها وتدمريهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫الر�سمية للدولة الرتكية‪ ،‬و� ّإن الرمزية ال�سيا�سية لـ«�ساحة جمدداً‪ .‬لكن ما ال ميكن تفــــــــــــــــــــــــــــادي فعله‬ ‫حولتها‪ ،‬خ�صو�ص ًا منذ �سبعينيات القرن املا�ضي‪ ،‬هو حتطيم الأ�صنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــام‬ ‫تق�سيم» ّ‬ ‫�إىل عنوان رئي�سي للن�شاط ال�سيا�سي وللمعار�ضة‪ .‬يف احليّز ال�سيا�سي نف�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه‬ ‫�إن �أردنا فهم الدينامية املكانية حلركة االعرتا�ض من‬ ‫ُ‬ ‫نواحي «�إعادة اال�ستحواذ على الف�ضاء الوطني واملحلي �أزيلت معظم املتاري�س يف احلادي ع�رش من حزيران‪/‬‬ ‫واجلماعي وعلى مميزاته الرمزية»‪ ،6‬ف� ّإن معظم حركات يونيو‪ .‬وا�ستعادت الدولة �ساحة تق�سيم والطرقات‬ ‫االعرتا�ض التي ُن ِّظ َمت حول ال�ساحة يف العقود املا�ضية‪ ،‬امل�ؤدية �إليها‪ .‬وبعد ب�ضعة �أيام‪ ،‬يف اخلام�س ع�رش من‬ ‫وخ�صو�ص ًا منذ تظاهرة الأول من �أيار‪/‬مايو ‪ ١٩٧٧‬حزيران‪/‬يونيو‪ُ ،‬طرد حمت ّلو «حديقة الغازي» بالقوة‬ ‫الدموية‪ ،‬قادتها رغبة مركزية‪� ،‬أال وهي «ا�ستعادة �ساحة �أي�ضاً‪ .‬وا�س ُتبد َلت بالفتات حركة املقاومة و�شعاراتها‬ ‫تق�سيم»‪ ،‬وك� ّأن تلك ال�ساحة كانت يف يوم من الأيام على مبنى «مركز �أتاتورك الثقايف» �أعالم تركية كبرية‬ ‫ملك ًا لل�شعب‪ .‬ولقد قُوبلت الرغبة باال�ستعادة الرمزية ب�شكل ا�ستفزازي وب�صورة عمالقة لأتاتورك‪ ،‬وعاد‬ ‫لـ«�ساحة تق�سيم» بح�ضور كثيف لل�رشطة يف املكان ن�صب اجلمهورية �إىل حالته العقيمة ال�سابقة‪.‬‬ ‫تتبدد‪،‬‬ ‫تفرقت حركة املقاومة ومل َّ‬ ‫طوال العقود املا�ضية‪ ،‬وقد بلغ ذروته مع الإعالن ال�ضمني بجميع الأحوال‪ّ ،‬‬ ‫لتطبيق الأحكام العرفية ملنا�سبة تظاهرة الأول من �أيار‪ /‬بدليل � ّأن حدائق عامة حملية على امتداد �إ�سطنبول‬ ‫مايو للعام اجلاري‪ 7‬وما تاله من حظر لتظاهرات جميع توا�صل ا�ست�ضافة جمعيات عمومية ليلية‪ ،‬و�أ�صبحت‬ ‫طرقات و�سط املدينة حمطة لتظاهرات ون�شاطات خلاّ قة‬ ‫الأحزاب ال�سيا�سية يف ال�ساحة وحميطها‪.‬‬ ‫ يف العديد من جت�سيداتها‪ ،‬جرت فانتازيا ا�ستعادة مرات عدة يف الأ�سبوع‪ .‬مع �أنه ال يزال من املبكر جد ًا‬ ‫«�ساحة تق�سيم» بقيادة خميالت �سيا�سية �أغرتها �أي�ض ًا تقومي االنت�صارات ال�سيا�سية امللمو�سة ملقاومة الغازي؛‬ ‫فكرة الأن�صاب ال�ضخمة‪� .‬أحد �أ�شكال ترجمة ذلك خالل فقد �أُطلق العنان لدينامية خا�صة يف املجال العام‬ ‫احتالل ال�ساحة يف حزيران‪/‬يونيو املا�ضي‪ ،‬عبرّ عنها تعد بتحويله �إىل الأبد‪ .‬ميكن تعريف ذلك ب�أنه املعادل‬ ‫الإ�رصار ال�شديد للأحزاب الي�سارية التقليدية على �إبقاء «ال�سيا�سي» ملا ح�صل عملي ًا يف املنطقة اخلالية من‬ ‫�أعالمهم يف ال�ساحة‪ ،‬على الرغم من الطلبات العديدة �أي ح�ضور ر�سمي خالل الأيام الع�رشة تلك‪ :‬تخريب‬ ‫ٍ‬ ‫أن�صاب م�ضا ّدة‪.‬‬ ‫بـ«�إنزال الأعالم لنتمكن من ر�ؤية وجوه بع�ضنا البع�ض»‪ .‬الن�صب التاريخية‪ ،‬والبناء املتوا�صل ل‬ ‫روحية حركة االحتالل كان حتديد ًا حركة نعم‪ ،‬ميكن بناء املتاري�س وتدمريها و�إع���ادة بنائها‬ ‫حدد‬ ‫لكن ما ّ‬ ‫ّ‬ ‫�أبعد من ال�سيا�سة التقليدية‪ .‬ومثلما ورد يف العديد من وتدمريها جمدداً‪ .‬لكن ما ال ميكن تفادي فعله هو �إلغاء‬ ‫احليز ال�سيا�سي نف�سه‪.‬‬ ‫املقاالت حول مقاومة «حديقة الغازي»‪ّ ،‬‬ ‫حتولت املنطقة حتطيم الأ�صنام يف ّ‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫ثورة جيل ضد التعقيم اإليديولوجي‬ ‫إجيه تملكوران‬ ‫صحافية وروائية‬ ‫وناشطة تركية‪.‬‬

‫«هذه لي�ست بالدنا‪� ،‬إ ّنها تخ�ص من يريدون قتلنا»‪ .‬هذا‬ ‫ما قالته تزار �أوزلو‪�« ،‬أمرية الأدب الرتكي احلزينة»‪ .‬ماتت‬ ‫م�صح للأمرا�ض النف�سية يف �أملانيا‪ ،‬بعد �ست‬ ‫�أوزلو يف‬ ‫ّ‬ ‫�سنوات على االنقالب الع�سكري عام ‪ .1980‬يف الأ�شهر‬ ‫املا�ضية‪ ،‬كان ال�شباب يتذكرون كلمات �أوزلو ويغردونها‬ ‫على موقع تويرت بعد كل اعتداء من قبل ال�رشطة على‬ ‫�ساحة تق�سيم‪ .‬ويف كل مرة‪ ،‬ت�شجع هذه اجلملة الدعوات‬ ‫�إىل املقاومة للحفاظ على املعنويات العالية‪ .‬لكن حني‬ ‫اجتاح الطرقات ع�رشات ال�شبان يف لبا�س مدين م�سلحني‬ ‫بال�سكاكني والع�صي‪ ،‬وطاردوا املتظاهرين ال�سلميني يف‬ ‫�شوارع املدينة‪ ،‬بدت كلمات �أوزلو وك�أ ّنها تتحقق على‬ ‫ال بالدنا؟ �أم هي تخ�ص من يريدون‬ ‫الأر�ض‪ .‬هل هذه فع ً‬ ‫قتلنا؟ يف ما ي�أتي الق�صة باخت�صار‪ ،‬كي تقرروا �أنتم‪.‬‬

‫له‪ ،‬هما ح�سني اينان ويو�سف �أ�صالن‪ ،‬كتب ال�شاب ر�سالة‬ ‫�إىل والده‪�« :‬أريد �أن �أُدفن �إىل جانب تايالن �أوزغور»‪،‬‬ ‫قال‪ .‬وتايالن هو طالب ي�ساري قتلته ال�رشطة قبل ثالث‬ ‫�سنوات من ذلك التاريخ خالل تظاهرة �سلمية‪ .‬حلق دنيز‬ ‫بتايالن‪ ،‬كما حلق تايالن مبن �سبقه‪ .‬ومنذ ذلك الوقت‪،‬‬ ‫وحتى قبله‪ ،‬ا�ستمرت الأمهات بت�سمية �أبنائهن تيمن ًا‬ ‫بالثوار‪ ،‬يف اعرتا�ض �صامت على الدولة الظاملة‪ .‬لهذا‪،‬‬ ‫� ّإن �أ�سماء ال�شبان يف �ساحة تق�سيم هي ا�ستمرار لتقليد‬ ‫أعداء للدولة»‪،‬‬ ‫قدمي‪ .‬اعترب كل ه�ؤالء الثوار يف �أيامهم «� ً‬ ‫مثل ثوار �ساحة تق�سيم‪ .‬ورغم � ّأن تاريخ «الدولة الظاملة»‬ ‫يبد�أ قبل ‪ ،1971‬ف�إ ّنه بالن�سبة �إىل العديد من النا�س‬ ‫يف تق�سيم ويف مدن �أخرى ت�شارك يف االنتفا�ضة‪ ،‬كان‬ ‫وجه دنيز الطفويل رمز ًا لكل الأبرياء الذين قتلوا عرب‬ ‫التاريخ‪ .‬كذلك‪ ،‬يذكرنا وجهه ب� ّأن الكثري من الذكريات‬ ‫مل تمُ َح كما كان خمطط ًا لها‪.‬‬

‫�أ�سما�ؤنا‬ ‫«باري�ش‪ ،‬دنيز‪� ،‬أوزغ��ور‪ ...‬هل كل �شاب موجود يف‬ ‫�ساحة تق�سيم يحمل اال�سم نف�سه؟»‪� ،‬س�ألت �شابة على جيل مع ّقم‬ ‫تويرت‪ ،‬حني كانت الأو�ضاع هادئة‪ .‬الأ�سماء الثالثة هذه «�سنقوم بخلق جيل م��ن دون �إي��دي��ول��وج��ي��ا!»‪ .‬يف‬ ‫وح ّر‪( ...‬نعم نحن ن�شبه �شعب �أمريكا الثمانينيات‪� ،‬أعلن اجلرنال كينان �إيفرين‪ ،‬زعيم النظام‬ ‫تعني �سالم‪ ،‬بحر ُ‬ ‫الأ�صلي‪� ،‬أ�سما�ؤنا كلها لها معنى!)‪ ،‬لكن ال يكفي �أن الع�سكري‪� ،‬أ ّنه �سيقوم بـ«تعقيم» اجليل اجلديد‪ .‬يف تلك‬ ‫نفهم الكلمات‪ .‬علينا �أن نعود �إىل عام ‪ ،1971‬لنفهم اللحظة‪� ،‬أ�صبح التعليم الديني �إجباري ًا يف املدار�س‪،‬‬ ‫وانتهت حرية التعبري‪ .‬رغم � ّأن ال�صحف مل ت�صدر ملدة‬ ‫الق�صة امل�ؤملة وراء هذه الأ�سماء‪.‬‬ ‫ من بني الالفتات العمالقة املعلقة على مركز �أتاتورك ‪ 300‬يوم‪ ،‬ف �� ّإن جت��اوزات االنقالب الع�سكري لعام‬ ‫الثقايف يف �ساحة تق�سيم‪ ،‬كانت هناك �صورة ل�شاب ‪ 1980‬معروفة اليوم �أكرث من تلك اخلا�صة بانقالب‬ ‫ال ب�أ�رسه من املثقفني والي�ساريني‪.‬‬ ‫تعرفه تركيا كلها‪ ،‬لكن للأ�سف ال تعرفه � ٌّأي من و�سائل ‪ ،1971‬التي �أزالت جي ً‬ ‫الإعالم العاملية التي تبحث عن �إ�شارت «ربيع عفوي» يف �أعقاب انقالب ‪ُ ،1980‬عذب مليون �شخ�ص على‬ ‫يف تركيا‪ .‬تعود ال�صورة لدنيز غزمي�س‪ ،‬ال��ذي كان الأقل‪ ،‬لأكرث من ت�سعني يوماً‪ .‬حكمت املحكمة الع�سكرية‬ ‫يف اخلام�سة والع�رشين من العمر حني �أعدمه النظام على ‪� 517‬شخ�ص ًا بالإعدام‪ ،‬و ُنفِّ ذ احلكم بخم�سني منهم‪.‬‬ ‫الع�سكري يف ‪ .1972‬قبل �أن ُيعدم دنيز مع �صديقني اتهم ‪� 98404‬أ�شخا�ص بالإرهاب‪ ،‬وطرد ‪� 30‬ألف ًا من‬ ‫‪138‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫‪139‬‬

‫وظائفهم‪ ،‬و�سحبت اجلن�سية الرتكية من ‪� 14‬ألف �شخ�ص‪،‬‬ ‫وحتول ‪� 30‬ألف ًا �إىل الجئني �سيا�سيني‪ .‬الالئحة تطول‪ ،‬مع‬ ‫ّ‬ ‫�أعداد كبرية من النا�س الذين ماتوا يف ظروف م�شبوهة‪ .‬مل‬ ‫يعرف عدد املختفني حتى اليوم‪ .‬كان ذلك من �أكرث الأوقات‬ ‫ظالم ًا يف التاريخ الرتكي‪� .‬أما اجلرنال �إيفرين‪ ،‬فهو اليوم‬ ‫متقاعد‪ ،‬ومي�ضي وقته يف الر�سم و�إعطاء املقابالت التي‬ ‫تتحدث عن خط�أ ر�سم العراة‪.‬‬ ‫ اجليل الذي خلقه �إيفرين هو اليوم فوق الثالثني من‬ ‫العمر‪ .‬وفق جامعة بيلغي التي ا�ستفتت ‪ 3000‬متظاهر‪،‬‬ ‫ي�شكل هذا اجليل ربع املتظاهرين‪ .‬الثالثون يف املئة‬ ‫الآخ��رون ولدوا خالل الت�سعينيات‪ .‬نعم‪ ،‬يحمل ه�ؤالء‬ ‫�أ�سماء مثل باري�ش‪� ،‬أوموت‪ ،‬و�أوزغور‪ ...‬وهي تعني �سالم‪،‬‬ ‫�أمل‪ُ ،‬ح ّر‪ ...‬نعم نحن مثل �سكان �أمريكا الأ�صليني‪ ،‬نعطي‬ ‫أ�سماء تعطي الأمل بامل�ستقبل‪.‬‬ ‫�أوالدنا � ً‬

‫ «ال ت�أخذوا ابنتي‪ ،‬هي �صغرية جداً»‪� ،‬رصخت والدة‬ ‫فتاة يف الرابعة ع�رشة من العمر وهي ترك�ض خلف ال�سيارة‬ ‫التي حملت ابنتها اىل ال�سجن‪ .‬كانت الفتاة واحدة من‬ ‫«�أوالد ماني�سا»‪ .‬كانوا �ستة ع�رش مراهق ًا ومراهقة‪ ،‬بني‬ ‫الرابعة ع�رشة وال�ساد�سة ع�رشة من العمر‪ُ ،‬عذِّ بوا لأيام‬ ‫وحكم عليهم بال�سجن ل�شهور و�سنوات يف ‪.1995‬‬ ‫ُ‬ ‫عولج �أغلبيتهم من االكتئاب لع�رش �سنوات‪ ،‬وبعد ‪16‬‬ ‫�سنة اعرتف وزير الداخلية مبا مروا به‪ .‬كل ما فعلوه كان‬ ‫كتابة «تعليم حر!» على عربة قطار‪ .‬اختريوا لي�شكلوا‬ ‫ال للآخرين‪ ،‬وهذا ما ح�صل‪ .‬كانت الت�سعينيات‬ ‫مثا ً‬ ‫مظلمة كال�سنوات التي تلت انقالب ‪ 1980‬بالن�سبة‬ ‫�إىل كل من �آمن بالفكر احلر والدميقراطية‪ .‬لكن املجزرة‬ ‫ميزت هذا العقد كانت يف �سيفا�س يف‬ ‫احلقيقية التي ّ‬ ‫‪ .1993‬احرتق ‪� 37‬شخ�ص ًا حتى املوت يف فندق‬

‫العداد الدموي للت�سعينيات‬ ‫ّ‬ ‫«�إذاً‪ ،‬هذه هي و�سائل الإعالم التي كانت تف�سرّ الق�ضية‬ ‫الكردية للنا�س كل هذه ال�سنوات!»‪ .‬كانت تلك �أكرث‬ ‫التغريدات �شهرة يف �ساحة تق�سيم بعدما ف�شلت‬ ‫و�سائل �إعالمنا يف تغطية عنف ال�رشطة الذي ا�ستمر‬ ‫ال‬ ‫�أ�سبوعني‪ .‬وكان ر ّد الأكراد للمتظاهرين الأتراك‪�« :‬أه ً‬ ‫بكم �إىل حياتنا اليومية»‪.‬‬ ‫ بلغت احل���رب غ�ير املعلنة �ضد ح��زب العمال‬ ‫الكرد�ستاين ومنا�رصيه م��ن املثقفني ذروت��ه��ا يف‬ ‫الت�سعينيات‪ .‬نحن �أوال َد الت�سعينيات اعتدنا �أن نرى جثث‬ ‫«الإرهابيني» الذين كان ُيق�ضى عليهم يف «كهوف»‪،‬‬ ‫قب�ض عليهم «ميتني»‪ .‬كانت ن�رشات الأخبار تبث‬ ‫�أو ُي َ‬ ‫هذه ال�صور يف وقت ال��ذروة‪ ،‬لذا فقد اعتدنا �أن نرى‬ ‫اجلثث امل�شوهة ونحن ن�أكل‪� .‬شكلت حاالت االختفاء‬ ‫جزء ًا من احلياة اليومية‪ ،‬وكان ال�شعار ال يزال «التنظيف‬ ‫الإيديولوجي»‪ .‬لهذا ال�سبب‪ ،‬كان معظم الأتراك الذين‬ ‫ولدوا بعد الثمانينيات يرون � ّأن الكلمات «تنظيم‪� ،‬أكراد‪،‬‬ ‫�إيديولوجية‪� ،‬سيا�سة»‪ ،‬هي كلمات خطرة وغري �رشعية‪.‬‬ ‫كان من املتوقع �إلقاء «القب�ض عليك ميتاً» �إذا كنت‬ ‫«�إرهابياً»‪ .‬تنوعت �أعمال العنف من االختفاء �إىل �إجبار‬ ‫الفالحني الأكراد على �أكل بذارهم‪ ،‬ومل يقت�رص ذلك‬ ‫على الق�سم الكردي من تركيا‪ .‬لقد تعر�ض غرب البالد‬ ‫�إىل القمع �أي�ضاً‪ .‬ورغم وجود الئحة طويلة بانتهاكات‬ ‫ال واحد ًا قد يكون‬ ‫لكن مثا ً‬ ‫حقوق الإن�سان لهذا العقد‪ّ ،‬‬ ‫�أكرث من ٍ‬ ‫كاف لإعطاء فكرة عن حجم ال�رش‪.‬‬

‫ت�سمي الأمهات �أبناءهن تيمنـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ًا‬ ‫بالثوار‪ ،‬يف اعرتا�ض �صـــــــــــــــــــــــــــــــــــــامت‬ ‫على الدولة الظاملـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‪.‬‬ ‫لهذا‪� ،‬إنّ �أ�سماء ال�شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبان‬ ‫يف �ساحة تق�سيم هي ا�ســــــــــــــــــــــــــــــــــتمرار‬ ‫لتقليد قدمي‪ .‬اعترب كل ه�ؤالء الثوار يف �أيـــــــــــــامهم‬ ‫«�أعدا ًء للدولة»‪ ،‬مثل ثوار �ساحة تق�ســـــــــــــــــــــيم‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫خالل احتفال مبهرجان علوي‪ .‬حرق حمافظون �إ�سالميون‬ ‫مثقفني وطالب ًا وك ّتاباً‪ .‬ال �أزال �أذكر والدة فتاتني ممن قتلوا‬ ‫حينها وهي حتاول �شم رائحتهما يف �رسيرهما وتبحث‬ ‫عنها ل�سنوات‪ .‬كانت تلك �أول مقابلة �صحافية يل حني‬ ‫�أ�صبحت‪ ،‬يف عمر الع�رشين‪.‬‬ ‫االحتفال بالألفية!‬ ‫ثم �أتت الألفية اجلديدة‪ ،‬التي احتفل بها يف تركيا عرب‬ ‫«عملية العودة �إىل احلياة»‪ .‬كان هذا اال�سم الذي �أُطلق‬ ‫على عمليات كبرية ح�صلت يف ‪� 20‬سجن ًا �أدت �إىل‬ ‫اح�تراق ‪� 30‬سجين ًا وهم على قيد احلياة �أو موتهم‬ ‫اختناقاً‪ .‬كانت ال�رشطة تغني «احلياة حلوة» للم�ساجني‬ ‫ال��ـ‪ 357‬الذين كانوا ي�أكلون وجبتهم الأخ�يرة قبل‬ ‫الإع��دام‪ ،‬وال��ـ‪ 1656‬الذين كانوا يف �إ��ضراب عن‬ ‫الطعام لأكرث من ‪ 90‬يوماً‪ .‬ورغم � ّأن و�سائل الإعالم‬ ‫التقليدية كانت �صامتة حيال انتهاكات حقوق الإن�سان‬ ‫اجلارية‪ ،‬كان ممنوع ًا عليها �أي�ض ًا ذكر العملية بعد املجزرة‪.‬‬


‫كان الكالم على احلادثة غري قانوين‪� .‬أُغلق ‪ 18‬مركز ًا‬ ‫ثقافياً‪ ،‬وم�ؤ�س�سة‪ ،‬وحزب اعرت�ضوا على العملية‪.‬‬ ‫ يف ‪� ،2001‬أتى حزب العدالة والتنمية �إىل احلكم‪،‬‬ ‫وكف يد‬ ‫وكان حديثه كله يتمحور حول الدميقراطية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫اجلي�ش عن ال�سيا�سة واحلقوق املدنية‪ .‬كان كالفينيو تركيا‬ ‫�سموا �أنف�سهم ينه�ضون من و�سط �أنطاليا املحافظة‪،‬‬ ‫كما ّ‬ ‫وي�صفون �أنف�سهم بـ«املحافظني الدميقراطيني»‪ .‬انتظر‬ ‫رئي�س الوزراء رجب طيب �أردوغان �سبع �سنوات ليقول‬ ‫ب�رصاحة � ّإن «الدميقراطية لي�ست هدف ًا لنا بل و�سيلة»‪.‬‬ ‫ يف هذا الوقت‪ ،‬اغتيل ال�صحايف الأرمني هرانت‬ ‫دينك يف و�ضح النهار يف �إ�سطنبول و�أعطت احلكومة‬ ‫ترقية للم�س�ؤولني عن �إخفاء الأدلة على االغتيال‪.‬‬ ‫ فج�أة‪ ،‬تغريت �سيا�سة احل��زب التي كان �شعارها‬ ‫«االنفتاح على اجلميع»‪ .‬ر ّد احلزب على الآالف الذين‬ ‫�رصخوا «كلنا �أرم��ن» اعرتا�ض ًا على االغتيال‪ ،‬ب�شعار‬ ‫الربوباغندا «علم واحد‪� ،‬أمة واحدة»‪ ،‬يف الفرتة املمهدة‬ ‫لالنتخابات حينها‪ .‬قال رئي�س الوزراء يف خطاب الن�رص‬ ‫ي�صوتوا‬ ‫وهو يبد�أ فرتته الثانية يف احلكم � ّإن «الذين مل‬ ‫ّ‬ ‫حلزب العدالة واحلرية هم الألوان الأخرى يف البالد»‪ .‬كان‬ ‫املعنى وا�ضحاً‪� :‬سيتم «حتمل» كل «الآخرين» بو�صفهم‬ ‫«اللون الآخر» يف «علم واحد»‪.‬‬

‫العاملية ب� ّأن منتقدي احلكومة كانوا يتعر�ضون خلطاب‬ ‫حتري�ضي من قبل رئي�س الوزراء‪.‬‬ ‫ هناك ق�صة‪ ،‬من بني ق�ص�ص عدة‪ ،‬مل يج ِر احلديث‬ ‫عنها يف حينها‪ ،‬وقد يكون اليوم الوقت منا�سب ًا لذكرها‬ ‫لتو�ضيح ال�سبب وراء انتفا�ضة النا�س‪ .‬الأطفال يف هذه‬ ‫الق�صة يطلق عليهم ا�سم «رماة احلجارة»‪ .‬كان ذلك يف‬ ‫عام ‪ ،2006‬يف دياربكر يف الق�سم الكردي من تركيا‪.‬‬ ‫خالل ت�شييع �أحد مقاتلي حزب العمال الكرد�ستاين‪ ،‬بد�أ‬ ‫الأطفال ب�إلقاء احلجارة على ال�رشطة‪ .‬ومبا � ّأن املنطقة هي‬ ‫من �أ�شد املناطق الأمنية يف البالد ب�سبب �سنوات من‬ ‫القمع‪ ،‬زاد عدد الأطفال ب�رسعة‪ .‬من �أ�شهر ما قاله رئي�س‬ ‫الوزراء‪ ،‬كان يف اليوم التايل للحادثة‪« :‬ال يهم �إذا كانوا‬ ‫ن�ساء‪ ،‬فيجب �أن نفعل ما يلزم»‪.‬‬ ‫�أوالد ًا �أو‬ ‫ً‬ ‫ ُعذِّ ب مئات الأطفال يف الأيام التالية‪� .‬أتذكر مقابلة‬ ‫طفل يف ال�ساد�سة انك�رست يده‪ .‬مبا �أ ّنهم كانوا �أ�صغر من‬ ‫�أن ُيعتقَلوا‪� ،‬ضرُ ب ال�صغار يف �سيارات ال�رشطة‪ ،‬و�أُعيد‬ ‫رميهم يف ال�شارع‪ .‬بعد عدة �أ�شهر‪ ،‬غيرّ حزب العدالة‬ ‫والتنمية قانون مكافحة الإرهاب الفظيع �أ�صالً‪ ،‬مبا ي�سمح‬ ‫باحلكم على الأوالد الذين يبلغون ال�ساد�سة ع�رشة من‬ ‫متر به البالد‬ ‫العمر بو�صفهم �إرهابيني بالغني‪ .‬كان هذا ما ّ‬ ‫حني و�صفت جملة «تامي» ال�سيد �أردوغ��ان ب�أ ّنه «قائد‬ ‫عاملي»‪ ،‬وحني كانت العديد من و�سائل الإعالم حتتفل‬ ‫برتكيا بو�صفها «منارة ال�رشق الأو�سط» �أو متثل «الزواج‬ ‫املثايل بني الإ�سالم والدميقراطية»‪.‬‬

‫�ضحايا النموذج الرتكي‬ ‫كانت وظيفة املعار�ضني داخل البالد وخارجها �صعبة‬ ‫للغاية‪ .‬لقد ُ�ص ِّنف منتقدو احلكومة على �أنهم «�أعداء‬ ‫الدميقراطية» يف اخلطاب ال�سيا�سي املهيمن‪ ،‬مبا � ّأن حزب‬ ‫العدالة والتنمية كان ُي َع ّد جت�سيد ًا للدميقراطية‪ .‬بعد فرتة‪،‬‬ ‫�أ�صبحوا �إرهابيني‪ .‬لقد ورث حزب العدالة والتنمية‬ ‫�سيا�سات نظام الثمانينيات الع�سكري‪ ،‬وا�ستخدمها‬ ‫ب�شكل عنيف‪ ،‬حتى �أ ّنه يف فرتته الثالثة يف احلكم‪ ،‬وجد‬ ‫ا�ستفتاء �أجرته وكالة «�أ�سو�شييتد بر�س» � ّأن ثلث �إرهابيي‬ ‫العامل يعي�شون يف تركيا‪ُ .‬بنيت �سجون �ضخمة جديدة‪،‬‬ ‫واخترُ عت منظمات �إرهابية �رسية مللئها بهم‪� .‬أ�صبحت‬ ‫اعتقاال لل�صحافيني‪.‬‬ ‫تركيا �أخري ًا على الئحة الدولة الأكرث‬ ‫ً‬ ‫لذلك على و�سائل الإعالم العاملية التي فاجئتها اليوم‬ ‫االنتفا�ضة �أن تبحث جيد ًا يف �أر�شيفها لرتى �أين خدعها‬ ‫�سحرة حزب العدالة والتنمية‪� .‬أذكر بع�ضهم يف جامعة‬ ‫�أوك�سفورد وهم يرفعون ك�أ�س النبيذ ليربهنوا للغرب �أنهم‬ ‫مت�ساحمون و� ّأن كل منتقديهم هم متمردون مناه�ضون‬ ‫للدميقراطية‪ .‬يف تلك الأيام‪ ،‬كان �صعب ًا �إقناع ال�صحافة‬ ‫‪140‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫الغ�ضب امل�رشوع‬ ‫من هم ه�ؤالء اال�شخا�ص؟! «كان النا�س ي�س�ألون على‬ ‫تويرت‪ ،‬وهم يت�شاركون �صور البلطجية الذين يحملون‬ ‫ال�سكاكني والع�صي‪ .‬كان ه��ؤالء املجرمون ي�رصخون‬ ‫«الله �أكرب» وهم يطاردون النا�س يف �شوارع �إ�سطنبول‬ ‫و�أنقرة ال�ضيقة‪ ،‬وغريها من املدن‪ ،‬بعد اعتداءات ال�رشطة‬ ‫بالغازات امل�سيلة للدموع‪ .‬بعد خطابات رئي�س الوزراء‬ ‫امل�ستفزة �أمام منا�رصيه‪ ،‬اندفع «ال�شباب» ليقوموا بعمله‬ ‫القذر‪ .‬ه�ؤالء ال�شباب الذين قبل عام من الآن دعاهم‬ ‫رئي�س ال��وزراء كي «يتم�سكوا بغ�ضبهم ودينهم» هم‬ ‫حرفي ًا على �أعتاب بيوت املتظاهرين يف «�شيهانكري»‬ ‫يف �إ�سطنبول ويدعون النا�س �إىل اخلروج من بيوتهم‪ .‬يف‬ ‫اليوم نف�سه الذي طلب فيه رئي�س الوزراء من جمهوره �أن‬ ‫«يحرتم الإرادة ال�شعبية» ويظهر �صورة «تركيا احلقيقية»‬ ‫ف�سيعاقَب!»‪.‬‬ ‫للعامل‪ ،‬قال اي�ضاً‪« :‬من يقاوم ُ‬ ‫‪141‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ خالل االحتفال‪ ،‬منحت املحطة الوطنية الكالم‬ ‫ل�سيدة يف منت�صف العمر كانت غا�ضبة جد ًا من «امل�ؤامرة‬ ‫الدولية على رئي�س الوزراء»‪ .‬قالت له‪�« :‬أُريد �أن �أكون‬ ‫�شعرة يف م�ؤخرتك!»‪ .‬يف هذا الوقت كان بع�ض �شباب‬ ‫احلرية والعدالة يت�شاركون �شعار ًا �آخر‪« :‬نريد �أن نكون‬ ‫اخلراف �إذا كنت �أنت الراعي»‪ .‬كان مكان االحتفال مليئ ًا‬ ‫ب�صور عمالقة لل�سيد �أردوغان‪ ،‬وكتبت �إحدى الفتيات‬ ‫�شعار ًا على يدها يقول‪« :‬ال �أريد زوج ًا �سكري ًا و�سارقاً‪،‬‬ ‫�أريد زوج ًا م�ؤمناً!»‪.‬‬ ‫ يف الوقت الذي بثت فيه ‪ 12‬حمطة حملية املهرجان‬ ‫مبا�رشة‪ ،‬كانت ال�رشطة ترمي قنابل الغاز على امل�ست�شفيات‬ ‫والفنادق التي جل�أ �إليها املتظاهرون يف و�سط �إ�سطنبول‪.‬‬ ‫نر هذه ال�صور �إال على فاي�سبوك وتويرت للأ�سف‪ ،‬فيما‬ ‫مل َ‬ ‫مت�س‪ .‬كان‬ ‫كان رئي�س الوزراء يحتفل ب�سلطته التي مل ّ‬ ‫و�سط �إ�سطنبول ي�شبه يوم القيامة‪ ،‬والنا�س مذهولة وهي‬ ‫ترى الغ�ضب على وجوه ال�شباب يف الثياب املدنية وهم‬ ‫يطاردون املتظاهرين يف ال�شوارع اخللفية‪� .‬س�ألوا بع�ضهم‬ ‫على تويرت‪« :‬هل كنا نعي�ش جنب ًا �إىل جنب مع ه�ؤالء‬ ‫الأ�شخا�ص؟ ماذا �سيح�صل بعد انتهاء ذلك؟ هل �سنتمكن‬ ‫من �أن نعي�ش مع ًا مرة �أخرى؟»‪.‬‬ ‫ كان النا�س يت�شاركون نتائج ت�رشيح جثة ايثم‬ ‫�ساري�سولوك‪ ،‬وهو �أول متظاهر ُيقتل‪ .‬كانت هناك ر�صا�صة‬ ‫يف دماغه‪ .‬كان ال�شباب‪� ،‬أي اجليل الذي ُي َع ّد «معقم ًا‬ ‫�إيديولوجياً» يرى احلقيقة‪ .‬كان �شباب حزب العدالة‬ ‫والتنمية املنظم على مواقع التوا�صل االجتماعي يبث‬ ‫معلومات خاطئة وتهديدات‪ .‬مل يكن املتظاهرون ال�شباب‬ ‫يعرفون املا�ضي الدموي للدولة الظاملة؛ �إذ ب�سبب الذاكرة‬ ‫عمن �سبقهم‪.‬‬ ‫املفقودة للبالد‪ ،‬مل يكن لديهم �أي معلومات ّ‬ ‫ومن جديد كانت اجلملة ال�شهرية مكتوبة حتت �صورة‬ ‫لأيثم‪« :‬هذه لي�ست بالدنا‪� ،‬إ ّنها تخ�ص من يريدون قتلنا»‪.‬‬ ‫لكن‬ ‫ هل هذا �صحيح؟ �سرنى ذلك يف الأيام القادمة‪ْ .‬‬ ‫هناك �أمر واحد �أكيد‪ ،‬هذه لي�ست «حرب ثقافات» �أو‬ ‫�صدام بني «علمانيني وغري علمانيني»‪ .‬كذلك هي لي�ست‬ ‫انتفا�ضة «من العدم» كما ي�صفها العديد من و�سائل‬ ‫الإعالم العاملية‪ .‬هي حرب بني من يريدون من تركيا �أن‬ ‫تكون �سنية‪ ،‬تركية‪ ،‬حمافظة‪ ،‬ومطيعة‪ ،‬و�آخرين يقولون‬ ‫فقط «م�ستحيل!»‪ ،‬كما فعل العديدون قبلهم‪ ،‬يف تاريخ‬ ‫هذه الدولة التي ال ترحم‪ .‬الفرق هذه املرة �أ ّنهم �أكرث عددا ً‬ ‫من �أي وقت م�ضى‪ .‬وعندما �أقول �أكرث من �أي وقت م�ضى‪،‬‬ ‫�أعني «�أكرث من �أي وقت م�ضى»‪.‬‬


‫ هذه النتائج والإح�صاءات االنتخابية قد تكون‬ ‫ال‬ ‫م�ؤ�رش ًا على دور كبري قد ي�ؤديه احلزب‪ ،‬بو�صفه ممث ً‬ ‫لل�شيوعيني والي�سار الراديكايل يف م�ستقبل اليونان‪،‬‬ ‫وخ�صو�ص ًا � ّأن ت�سيربا�س وحزبه �أ�صبحا اليوم يتزعمان‬ ‫املعار�ضة ر�سمياً؛ فالأزمات املالية املتالحقة وال�سيا�سات‬ ‫النيوليربالية التي تريد الرتويكا الأوروبية فر�ضها على‬ ‫�أثينا و�إجبارها على تطبيقها‪ ،‬قد تدفع املزيد من الناخبني‬ ‫�إىل ح�ضن «�سرييزا»‬ ‫ ومنذ بداياته‪ ،‬بدا � ّأن التكتل يعبرّ عن رغبة جزء كبري‬ ‫من املجتمع اليوناين يف ن�ضال م�شرتك للي�سار‪ .‬وفيما‬ ‫مييل اجلزء الأكرب من منظمات التكتل �إىل ال�شيوعية‬ ‫الأوروبية‪ ،‬متيل بع�ض �أحزابه �إىل ال�شيوعية اليونانية‬ ‫ومتيز التكتل منذ بداياته‬ ‫وتيار املقاومة الوطنية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫برتكيزه على ق�ضايا الدميقراطية‪ ،‬واحلقوق املدنية‪،‬‬ ‫وكان القوة ال�سيا�سية الوحيدة التي �ساندت التحركات‬ ‫االجتماعية‪ ،‬لدرجة اتهامه بالرتويج للفو�ضى‪ .‬كان‬ ‫ذلك يف ال�سنوات الثالث الأخرية‪ ،‬وكذلك يف انتفا�ضة‬ ‫ال�شباب يف ‪.2008‬‬ ‫ بعد م�ؤمتر ‪� ،2013‬أ�صبح «�سرييزا» حزب ًا موحداً‪،‬‬ ‫وهو يف طور بناء بنية موحدة‪ .‬ذلك �أن الهدف الأبرز‬ ‫الذي و�ضعه «�سرييزا» ن�صب عينيه هو «قلب ميزان‬

‫حتالف سرييزا الياسري‬

‫ظاهرة سياسية واعدة يف اليونان‬ ‫تينا سرتيكو‬ ‫جامعية ومناضلة‬ ‫يف حتالف سرييزا‪.‬‬

‫‪142‬‬

‫قد يكون تكتل «�سرييزا» الي�ساري اليوناين املجموعة‬ ‫ال�سيا�سية الأب��رز اليوم على ال�ساحة‪ ،‬يف هذا البلد‬ ‫املثقل بالديون وامل�شاكل‪ .‬ر�أى «�سرييزا» ال�ضوء يف‬ ‫‪ ،2004‬كجبهة ل�ل�أح��زاب واملنظمات الي�سارية‪،‬‬ ‫وبحلول انتخابات ‪ 2012‬الت�رشيعية كان قد �أ�صبح‬ ‫ي�ضم ‪ 12‬منظمة‪ .‬هو ي�ضم يف �صفوفه نا�شطني مل‬ ‫يعودوا يتماهون مع الي�سار التقليدي‪ .‬و«�سرييزا» هو‬ ‫مر االئتالف‬ ‫اخت�صار لـ«تعاون الي�سار الراديكايل»‪ّ .‬‬ ‫عدة بعد االنتخابات الت�رشيعية يف ‪،2004‬‬ ‫ب�أزمات ّ‬ ‫وعانى ب�ضعة ان�شقاقات‪ .‬مل يكن �أحد يتوقع بعد ذلك‬ ‫�أن يكون مفاج�أة انتخابات ‪ 2007‬حني نال ‪5.04‬‬ ‫يف املئة من الأ���ص��وات‪ .‬ويف �أول انتخابات داخل‬ ‫االئتالف بعد ذلك‪ ،‬انتخب اليك�سي�س ت�سيربا�س الذي‬ ‫كان م�ست�شار ًا يف بلدية �أثينا‪ ،‬رئي�ساً‪ .‬رمبا كان ذلك نقطة‬ ‫التغيري الكبرية؛ �إذ ا�ستطاع ت�سيربا�س �أن يبني �شعبية‬ ‫كبرية له بني الناخبني؛ لأنه مل يكن نائب ًا حتى يف ذلك‬ ‫الوقت‪ ،‬ما جعله نظيف ًا بنظر النا�س‪ ،‬يف زمن الف�ضائح‬ ‫املالية املتكررة‪ .‬هكذا ا�ستطاع �أن ي�صل ب�سهولة �إىل‬ ‫الربملان يف انتخابات ‪ 2009‬املبكرة‪ ،‬رغم تراجع‬ ‫ح�صة االئتالف �إىل ‪ 4.7‬يف املئة من الأ�صوات على‬ ‫امل�ستوى الوطني‪�« .‬سرييزا» �أ�صبح اليوم حزباً‪� ،‬أكرث من‬ ‫ال �شيوعي ًا خمتلفاً‪،‬‬ ‫كونه ائتالف �أحزاب ي�ضم ‪ 13‬ف�صي ً‬ ‫وتقدم �إىل انتخابات �أيار وحزيران ‪ 2012‬وفق هذا‬ ‫التو�صيف (على �أمل احل�صول على «منحة» اخلم�سني نائب ًا‬ ‫�إ�ضافي ًا التي مينحها القانون للرابح الأول يف االنتخابات‬ ‫�إن ح�صل على ثلث الأ���ص��وات)‪ .‬وهو يعبرّ عن هذه‬ ‫الأحزاب التي يت�ألف منها‪ ،‬وت�شمل �أطياف الي�سار كلها‪:‬‬ ‫من اخل�رض و�أن�صار البيئة‪� ،‬إىل املاويني‪ ،‬والرتوت�سكيني‪،‬‬ ‫والي�سار الأوروبي‪ ،‬والي�سار الراديكايل‪ ،‬ويتكلم با�سم‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫�أطياف الي�سار كلها‪ .‬وت�شري الأرقام بو�ضوح �إىل التقدم‬ ‫الكبري الذي حققه «�سرييزا» بني ‪ 16.78‬يف املئة يف‬ ‫انتخابات �أيار ‪ ،2012‬و ‪ 26.89‬يف املئة يف حزيران‬ ‫‪ ،2012‬حمقق ًا املركز الثاين يف املرتني‪ ،‬ومتفوق ًا على‬ ‫اال�شرتاكيني‪ ،‬واحلزب ال�شيوعي الر�سمي الذي يتخذ‬ ‫موقف ًا عدائي ًا من ت�سيربا�س وحزبه؛ �إذ رف�ضت الأمينة‬ ‫العامة للحزب اليكا باباريغا حتى اللقاء بت�سيربا�س‬ ‫حني كلفه الرئي�س اليوناين كارولو�س بابوليا�س مبحاولة‬ ‫ت�شكيل احلكومة يف ايار ‪ ،2012‬وفكر بجمع الي�سار‬ ‫كله يف حكومة تناه�ض امل�ساعدات الأوروبية‪.‬‬ ‫�إزاحة احلزب ال�شيوعي عن عر�شه‬ ‫يتفوق على احلزب ال�شيوعي‬ ‫ا�ستطاع «�سرييزا» �أن‬ ‫ّ‬ ‫اليوناين يف معركة احل�صول على �أ�صوات الي�سار‬ ‫(وغ�ير الي�سار‪ ،‬وخ�صو�ص ًا بني ال�شباب واملرتددين‬ ‫واملت�رضرين من الأزمة ومن حزم الإنقاذ والتق�شف)‬ ‫ب�سبب قيادته ال�شابة وعدم انح�صار نظرته بالداخل‬ ‫اليوناين فقط‪ ،‬وذلك رغم � ّأن االثنني يعار�ضان حزمة‬ ‫التق�شف وال�سيا�سات املفرو�ضة �أوروبياً‪ .‬وفيما يحافظ‬ ‫احلزب ال�شيوعي على قاعدته االنتخابية ن�سبياً‪ ،‬يخرتق‬ ‫«�سرييزا» �صفوف جمموعات �سكانية و�شعبية جديدة‬ ‫يف كل ا�ستحقاق انتخابي‪ .‬وناخبو «�سرييزا» هم من‬ ‫ال�شباب ب�أغلبهم‪ ،‬وهذا كان وا�ضح ًا يف انتخابات ‪17‬‬ ‫حزيران ‪2012‬؛ �إذ �أظهرت الأرقام � ّأن ن�سبة املقرتعني‬ ‫للأحزاب التي ت�ؤيد خطة الإنقاذ الأوروبية كانت م�ؤلفة‬ ‫ال�سن‪ ،‬واملتقاعدين‪،‬‬ ‫ب�شكل �ساحق من الكبار يف‬ ‫ّ‬ ‫و�أ�صحاب الأعمال‪ ،‬الذين ي�أملون �أن ت�أتي حكومة‬ ‫�صوتت �أغلبية‬ ‫تنفّذ الإمالءات الأوروبية وتنقذهم‪ ،‬فيما ّ‬ ‫�شبابية لـ«�سرييزا»‪.‬‬

‫القاعدة االجتماعية ل�سرييزا‬ ‫ا�ستطاع التكتل الي�ساري يف انتخابات ‪� 2012‬أن‬ ‫ينال �أعلى ن�سبة �أ�صوات يف منطقة كوكينيا الفقرية‬ ‫التي كانت لعقود معقل احلزب ال�شيوعي اليوناين‪ .‬لقد‬ ‫�أدى �إغالق م�صانع بناء ال�سفن يف هذه املنطقة �إىل على‬ ‫ن�سبة بطالة‪ .‬وخالل خطاب �ألقاه قائد التكتل الك�سي�س‬ ‫ت�سيربا�س يف املنطقة يف حزيران ‪ ،2013‬كان احل�شد‬ ‫هائالً‪ .‬لكن الق�سم الأكرب من القاعدة ال�شعبية للتكتل‬ ‫هو ال�شباب املتعلم (ويف بع�ض املدن ت�صل ن�سبة الت�أييد‬ ‫بني الفئة العمرية ‪� 40 – 18‬إىل ‪ 95‬يف املئة)‪ ،‬وهي‬ ‫الطبقة الو�سطى ال�شابة التي ال ترى �أي م�ستقبل لها يف‬ ‫ظل الأو�ضاع ال�سائدة‪ .‬لكن رغم هذا الت�أييد‪ ،‬ف�إن هاتني‬ ‫الطبقتني‪� ،‬أي الفقراء والطبقة الو�سطى ال�شابة‪ ،‬ترتددان‬ ‫يف االنخراط يف �صفوف التكتل والعمل يف جلانه‬ ‫املحلية‪ .‬الفاعلون داخل التكتل كان �أغلبهم نا�شطني‬ ‫�سابقني يف �أحزاب �أخرى ويف الفئة العمرية بني �أربعني‬ ‫و�ستني عاماً‪ .‬ال�شباب الذين انتف�ضوا و�أ�صبح لديهم‬ ‫وعي �سيا�سي متقدم‪ ،‬يرون �أن �سرييزا هو الأمل‪ ،‬لكنهم‬ ‫ال ينت�سبون �إليه‪ .‬ي�شكل ذلك حتدي ًا ملقاربة �سرييزا الذي‬ ‫ال يزال دون التوقعات‪ .‬وال ميكن القدرة اخلطابية الهائلة‬ ‫التي يتمتع بها قائد التكتل وفاعليته �أن تغطي على‬

‫يتفوق على احلزب ال�شــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيوعي‬ ‫ا�ستطاع «�سرييزا» �أن ّ‬ ‫اليوناين يف معركة احل�صول على �أ�صوات الي�سار ب�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبب‬ ‫قيادته ال�شابة وعدم انح�صار نظرته بالداخل اليونــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاين فقط‪،‬‬ ‫وذلك رغم � ّأن االثنني يعار�ضان حزمة التق�شف وال�سيا�سات املفرو�ضة �أوروبيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ًا‬ ‫القوى النيوليربالية وت�شكيل حكومة تعاون ي�ساري‬ ‫وحتالف اجتماعي وا�سع‪ ،‬وعودة الدميقراطية‪ ،‬وم�ساعدة‬ ‫النا�س الذين ت�أثروا بالأزمة والإج��راءات القا�سية‪،‬‬ ‫وو�ضع خطة �إعادة بناء»‪ .‬و�إعادة البناء هي ملا �أطاحته‬ ‫الإجراءات التي فر�ضها �صندوق النقد الدويل والبنك‬ ‫املركزي الأوروب��ي مب�ساعدة احلكومات اليونانية‪ .‬وقد‬ ‫�أدت هذه الإج��راءات �إىل تدمري االقت�صاد والنا�س‪،‬‬ ‫وهي ت�ضمنت �إغالق امل�ست�شفيات العامة واملدار�س‪،‬‬ ‫وفر�ض �رضائب جديدة‪ ،‬وخف�ض املعا�شات التقاعدية‪،‬‬ ‫و�رصف موظفني من القطاع العام وبيع م�ؤ�س�سات الدولة‪.‬‬ ‫يف الوقت نف�سه‪ ،‬مت حتقيق ذلك بطرق غري دميقراطية‪،‬‬ ‫لي�س من خالل قمع النا�س فقط‪ ،‬ولكن �أي�ض ًا من خالل‬ ‫تخطي الربملان يف تنفيذ هذه الإجراءات‪.‬‬ ‫‪143‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫هذا النق�ص‪ .‬كذلك �إن االبتعاد عن االحتادات العمالية‬ ‫ال ي�ساعد‪ ،‬حتى لو كانت الثقة ببع�ض هذه االحتادات‬ ‫منعدمة داخل الأحزاب‪ ،‬ومن �ضمنها �سرييزا‪.‬‬ ‫ يف �أيام الإفقار ال�رسيع لليونانيني‪ ،‬ي�ؤدي �أع�ضاء‬ ‫�سرييزا دور ًا مهم ًا يف �شبكات التعا�ضد واحلفاظ‬ ‫على ا�ستقاللية هذه ال�شبكات يف الوقت نف�سه‪ .‬وهذه‬ ‫ال�شبكات هي بنى ت�شاركية ت�ساعد ب�شكل �أ�سا�سي يف‬ ‫توفري الطعام والدواء لعدد متزايد من املحرومني‪ .‬و�إىل‬ ‫جانب هذه ال�شبكات‪ ،‬هناك العديد من املبادرات مثل‬ ‫«من دون و�سطاء» التي تربط بني منتجي ال�سلع الزراعية‬ ‫وامل�ستهلكني‪ ،‬وتدعم بالتايل الطرفني‪ .‬وثمة حركات �أخرى‬ ‫تعيد و�صل الكهرباء بعد �أن تقطعها ال�رشكة لعدم دفع‬ ‫العائالت الفقرية الفاتورة‪ .‬هنا يجب الت�شديد على املوقف‬


‫من حزب «الفجر الذهبي» الذي يعبرّ عن �أيديولوجية‬ ‫النازية اجلديدة‪ .‬ففيما يحاول �سرييزا الإ�شارة �إىل دور‬ ‫احلزب النازي يف م�ساندة النظام القائم و�إعادة �إنتاجه‪� ،‬إال‬ ‫�أنه ال يحاول تركيز جهوده على معاداته‪ ،‬لكنه ي�شدد على‬ ‫�أنه ال ميكن هزمية احلزب �إال من خالل اخلروج من الأزمة‪.‬‬ ‫ العامل اجليو�سيا�سي‪� ،‬إ�ضعاف اليونان‪ ،‬دقة التطورات‬ ‫يف املنطقة‪ ،‬كلها عوامل ال يجري التطرق �إليها كثري ًا‬ ‫مهم‪ ،‬ا�ست�ضاف التكتل‬ ‫يف التكتل‪ .‬لكن رمبا يف موقف ّ‬ ‫زعيم «اجلبهة ال�شعبية لتحقيق �أهداف الثورة يف تون�س»‬ ‫حمة الهمامي يف متوز املا�ضي‪ ،‬يف مهرجان املقاومة يف‬ ‫ّ‬ ‫�أثينا الذي حتدث خالله ت�سيربا�س عن احلاجة لقيام‬ ‫جبهة ل�شعوب املتو�سط‪ ،‬وهي فكرة تبدو يوم ًا بعد يوم‬ ‫�رضورية وممكنة التحقيق‪.‬‬ ‫ال�شباب الذين انتف�ضوا و�أ�صبــــــــــــــــــــــــــــــــح‬ ‫لديهم وعي �ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــيا�سي متقدم‪،‬‬ ‫يرون �أن �ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرييزا هو الأمل‪،‬‬ ‫لكنهم ال ينت�سبون �إليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه‬ ‫ هاجم ت�سيربا�س الطبقة اليونانية احلاكمة‪ ،‬والرتويكا‬ ‫الأوروبية التي تتحكم مب�صري اليونان‪ .‬يف خطاب �ألقاه‬ ‫يف م�ؤمتر احلزب يف ربيع ‪ ،2013‬وقال � ّإن احلكومة‬ ‫اجلديدة التي مت ت�شكيلها بداية العام �أت��ت لتكمل‬ ‫الكارثة على ال�شعب‪ .‬كيف ال وهي تنفّذ �أوامر من تدين‬ ‫لهم اليونان باملال واجنيال مريكل‪ ،‬على حد تعبريه‪ .‬لكنه‬ ‫�أ�ضاف � ّأن الوقت لي�س منا�سب ًا للبكاء على الأطالل‪ ،‬بل‬ ‫تدمر البالد ب�أكملها‪ .‬وا�ستغل‬ ‫للتحرك واملقاومة قبل �أن ّ‬ ‫املنا�سبة لتوجيه نداء للأمة جمعاء با�سم �سرييزا‪ ،‬قال‬ ‫فيه � ّإن الوقت حان لتحقيق الدميقراطية للتخل�ص «ممن‬ ‫توحد �أغلبية ال�شعب‬ ‫ّ‬ ‫يدعون حمايتنا» والت�أ�سي�س لر�ؤية ّ‬ ‫كي ت�صبح اليونان حرة ودميقراطية وحتافظ على �أوالدها‪.‬‬ ‫و�أ�ضاف‪« :‬نحن يف كفاح ال هوادة فيه �ضد اال�ستبداد‪،‬‬ ‫والقمع‪ ،‬واالنتهاكات الد�ستورية‪ ،‬ونريد حتقيق اخلال�ص‬ ‫و�إع��ادة بناء اليونان من دون م�صالح النيوليربالية‬ ‫وخططها وف�سادها وزبائنيتها ووح�شيتها»‪.‬‬ ‫ يبقى «�سرييزا» ظاهرة متناق�ضة‪ ،‬لي�س ب�سبب‬ ‫التيارات املختلفة التي ي�ضمها حتت عباءته‪ ،‬بل ب�سبب‬ ‫مواقفه و�إ��ص�راره على حتقيق التغيري االجتماعي‪،‬‬ ‫وهي مواقف متداخلة مع اخلوف من القدرة على �إدارة‬ ‫الدميقراطية اال�شرتاكية‪ ،‬والدعوات �إىل اال�شرتاكية‪.‬‬

‫مل�صق حلزب‬ ‫�سرييزا لالنتخابات‬ ‫العامة يف ‪:2012‬‬ ‫«ر�سائل الن�رص من‬ ‫كل مكان! �سرييزا»‪.‬‬ ‫«دميقراطية ‪-‬‬ ‫ا�شرتاكية ‪ -‬حرية»‪.‬‬ ‫‪144‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫نية‬

‫‪ 14 4‬‬

‫طني ثما‬ ‫لس الع‬ ‫يف ف داثة‬ ‫مى احل‬ ‫عظ صور‬ ‫كية‬ ‫ب ال ي ّ‬ ‫مري‬ ‫عد‬ ‫اال‬ ‫حلر ر‬ ‫ا خليل متاري دسة قية‬ ‫بالع حلقي‬ ‫يم‬ ‫�شل طني ب ا‬ ‫لس حلر‬ ‫‪ 1‬ف ب ا �شار‬ ‫‪ 5 2‬غيا ام ن ّ‬

‫ع�ش‬


‫احلرب العظمى يف فلسطني‬

‫يصور احلداثة العثمانية‬ ‫خليل رعد‬ ‫ّ‬ ‫سليم متاري‬ ‫مؤرخ وعالم اجتماع‪،‬‬ ‫جامعة بريزيت‪،‬‬ ‫فلسطني‪ ،‬مدير‬

‫مؤسسة الدرااست‬ ‫الفلسطينية‪ .‬آخر‬

‫مؤلفاته «عام اجلراد‪:‬‬ ‫مذكرات جندي‬

‫مقديس يف احلرب‬

‫العظمىى»‪.٢٠٠٧ ،‬‬

‫ظهرت هذه املقالة‬ ‫يف �شكل �سابق‬ ‫يف «معر�ض‬ ‫مئوية خليل رعد»‬ ‫الذي نظمته ڤريا‬ ‫متاري ل�صالح‬ ‫م�ؤ�س�سة الدرا�سات‬ ‫الفل�سطينية يف‬ ‫رام الله وبريوت‪.‬‬

‫‪146‬‬

‫يعترب الت�صوير احلربي عند خليل رعد حمطة مف�صلية‬ ‫لأ�سباب عدة‪ :‬فهو يلقي �ضوء ًا جديد ًا على ناحية من‬ ‫عمله ال نعرف عنها �إال القليل‪ ،‬وتتعار�ض مع اعتباره‬ ‫م�صور ًا للم�شاهد الطبيعية وال�صور ال�شخ�صية يف املقام‬ ‫الأول‪� ،‬إ�ضافة �إىل تغري املفهوم ال�سائد ب�ش�أنه ب�أنه م�صور‬ ‫توراتي تبنى وا�ستبطن ال�صورة اال�ست�رشاقية للأرا�ضي‬ ‫املقد�سة‪ .‬على �سبيل املثال‪ ،‬ت�شري �أنالي�س مورز �إىل �أن‬ ‫«رعد ا�ستخدم معظم الأحيان يف تقدميه للفل�سطينيني‬ ‫العرب الدالالت التوراتية التي اختزلت حياتهم يف حلظة‬ ‫واحدة من الزمن»‪ .‬ويف �صوره مل�شاهد احلرب والقتال‪،‬‬ ‫التي �س�أناق�شها هنا‪ ،‬كان رعد مو�ضوعي ًا و«واقعي ًا»‬ ‫وكثري االنغما�س بالأجندة ال�سيا�سية للدولة العثمانية‬ ‫يف �سورية وفل�سطني‪ .‬ولكن يف امللخ�ص ال�شامل لأعمال‬ ‫رعد الذي ن�رشته رونا �سيالع‪ ،‬ال تتوافر �صورة واحدة‬ ‫عن الت�صوير احلربي‪ .‬ويف م�ؤلفني �آخرين ي�ستخدمان‬ ‫�أعمال رعد الت�صويرية ‪« -‬قبل ال�شتات» لوليد اخلالدي‬ ‫و«الفل�سطينيون‪� :‬صورة �أر�ض و�شعب» الليا�س �صنرب ‪-‬‬ ‫توجد مراجع قليلة ل�صور احتجاجات جماهريية و�صور‬ ‫قادة ع�سكريني �أتراك مثل �أنور وجمال با�شا‪ ،‬ولكن هذه‬ ‫ال�صور مهم�شة ب�سبب الرتكيز على رعد كم�صور م�شاهد‬ ‫طبيعية وفنان ا�ستوديو‪.‬‬ ‫من الت�صوير ال�سياحي اىل احلربي‬ ‫م�ساء االثنني ‪� ٢٩‬آذار ‪ ،١٩١٥‬ا�ستدعي خليل رعد من‬ ‫قبل نائب قائد حامية القد�س‪ ،‬نهاد بيك‪� ،‬إىل «املنزل»‪،‬‬ ‫�أي مفو�ضية اجلي�ش ال�سلطاين الرابع يف بناية نوتردام‬ ‫املنعزلة قرب باب اجلديد‪ ،‬حيث نظم الأم�يراالي علي‬ ‫رو�شن بيك‪ ،‬رئي�س املنزل‪ ،‬ب�أمر من جمال با�شا جل�سة‬ ‫ت�صوير �سينمائية دعائية لتح�ضريات اجلي�ش العثماين يف‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫فل�سطني‪ ،‬وخ�صو�ص ًا يف مناطق النبي �صموئيل والبقعة‬ ‫يف القد�س‪ .1‬وكانت الغاية من فعالية ‪� ٣١‬آذار ‪١٩١٥‬‬ ‫املخ�ص�صة للتعبئة اجلماهريية لقوارب تابعة للبحرية‬ ‫العثمانية يف البحر امليت‪ ،‬توفري م�ؤن القمح عرب الأردن‬ ‫�إىل �أر�ض املعركة يف بئر ال�سبع ‪� -‬سيناء يف جبهة �سيناء‪.‬‬ ‫ اختري رعد لتلك الفعالية اخلا�صة اللتقاط �صور‬ ‫�ساكنة ‪ -‬بينما ُكلف ال�سويدي الر�س الر�سون الذي كان‬ ‫رئي�س الق�سم الفوتوغرايف يف البعثة االمريكية يف القد�س‬ ‫ت�صوير �أفالم �سينمائية‪ .‬التقط رعد �صورة تاريخية لقائد‬ ‫مفو�ضية املنزل الع�سكري وطاقمه بينما كانوا ُي َح ِّملون‬ ‫القارب على العوامة اخل�شبية املتحركة التي تنقل املعدات‬ ‫�إىل �أريحا والبحر امليت‪ .‬ومنذ ذلك احلني‪ ،‬بد�أ رعد رحلة‬ ‫طويلة من التعاون مع جمال با�شا واجلي�ش العثماين‪ ،‬ذهب‬ ‫خاللها �إىل بئر ال�سبع وغزة والعري�ش وحافر وجبهة‬ ‫�سيناء وال�سوي�س‪.‬‬ ‫ انخرط رعد يف الت�صوير الفوتوغرايف يف احليز‬ ‫العام �سنة ‪ ١٩١٣‬بعد �أن كان متخ�ص�ص ًا يف الت�صوير‬ ‫الداخلي (ا�ستوديو)‪ ،‬وامل�شاهد التوراتية عندما تزوجت‬ ‫ابنة �أخته جنال جون ابن معلمه‪ ،‬والحق ًا مناف�سه يف‬ ‫�شارع يافا‪ ،‬امل�صور كرابيد كريكوريان‪ .‬عقد هذا الزواج‬ ‫�رشاكة �أنهت مناف�سة �رش�سة ل�سنوات طويلة بني رعد‬ ‫وكريكوريان‪ .‬ت�ضمنت ال�صفقة تق�سيم العمل‪ ،‬بحيث‬ ‫يتخ�ص�ص ا�ستوديو كريكوريان يف الت�صوير ال�شخ�صي‪،‬‬ ‫يكر�س رعد عمله يف جمال ت�صوير الفعاليات العامة‬ ‫بينما ّ‬ ‫‪2‬‬ ‫و�أحداث القد�س وفل�سطني وكانت �أوىل �أعماله يف تلك‬ ‫الفرتة عدد ًا من اللقطات �أخذها رعد لعملية تنفيذ �أحكام‬ ‫�شنق نفذها اجلي�ش الرابع يف جنود متهمني بالتعاون مع‬ ‫الربيطانيني‪ .‬التقط رعد هذه ال�صور عند باب العمود يف‬ ‫منت�صف عام ‪ ١٩١٥‬قبل الإعدامات امل�شهورة لقيادات‬

‫‪ 1‬هذا احلدث م�شتق‬ ‫ ‬ ‫من مذكرات‬ ‫اح�سان ح�سن‬ ‫الرتجمان‪ ،‬الذي‬ ‫كان �شاهدا‬ ‫على الت�صوير‬ ‫ال�سينمائي‪� .‬أنظر‬ ‫�سليم متاري‪ .‬عام‬ ‫اجلراد‪ :‬احلرب‬ ‫العظمى وحمو‬ ‫املا�ضي العثماين‬ ‫من فل�سطني‪.‬‬ ‫بريوت‪ :‬م�ؤ�س�سة‬ ‫الدرا�سات‬ ‫الفل�سطينية‪.‬‬ ‫‪.2008‬‬ ‫‪ 2‬بدر احلاج‪« ,‬خليل‬ ‫ ‬ ‫رعد‪ ،‬م�صور‬ ‫القد�س»‪ ،‬جي كيو‪،‬‬ ‫‪.38-11:37‬‬ ‫‪ 3‬احلاج‪ ،‬جي كيو‪,‬‬ ‫ ‬ ‫‪.38 :11‬‬ ‫‪ 4‬منقولة عن احلاج‪.‬‬ ‫ ‬

‫‪147‬‬

‫وجمال با�شا‪ .3‬وفق ًا لبدر احلاج‪ ،‬كلف جمال با�شا خليل‬ ‫رعد التقاط جمموعة من ال�صور لتكون مبثابة دعاية‬ ‫ملن�ش�آت اجلي�ش العثماين و�أن�شطته‪ ،‬والتي «كان وا�ضح ًا‬ ‫ا�ستخدامها كدعاية للقوات العثمانية»‪ .‬كما تتذكر روث‬ ‫رعد‪ ،‬ابنة خليل‪� ،‬أن �أحمد جمال با�شا �أعطى والدها حرية‬ ‫كاملة بالو�صول �إىل جبهة م�رص وفل�سطني ليقوم بهذه‬ ‫املهمة‪ .4‬وبا�ستثناء املجموعة املحفوظة يف �أر�شيف كلية‬ ‫�سانت �أنتوين يف �أوك�سفورد‪ ،‬فقد اختفت كل املراجع‬ ‫املتعلقة بهذه املجموعة‪ .‬ومن املحتمل جد ًا � ّأن رعد �أخفى‬ ‫هذه ال�صور خوف ًا من معرفة �سلطات االحتالل الربيطاين‬ ‫بها مما كان �سيعر�ضه التهامات التعاون مع العدو‪ .‬ومن‬ ‫امل�ؤكد �أي�ض ًا � ّأن هذه ال�صور ال تظهر �ضمن موجودات‬ ‫كتالوغ رعد لعام ‪1933‬؛ �إذ �إن الربيطانيني كانوا قد‬ ‫عاقبوا عدد ًا من ال�شخ�صيات الفل�سطينية العامة من‬ ‫�ضمنها عبد القادر امل�صغر وال�شيخ �أ�سعد ال�شقريي‪ ،‬مفتي‬ ‫اجلي�ش الرابع‪ ،‬لتورطهما يف �إدارة جمال با�شا ل�سورية‪.‬‬

‫وطنية عربية يف بريوت ودم�شق‪ .‬ولكن رعد ا�ستمر يف‬ ‫العمل يف جمال الت�صوير اخلا�ص داخ��ل اال�ستوديو‬ ‫طور نف�سه يف هذا املجال �أثناء‬ ‫خالل احلرب‪ ،‬وكان قد ّ‬ ‫عمله مع كريكوريان‪ .‬وب�إمكان امل�شاهد الت�أمل يف املزايا‬ ‫اال�ستثنائية لل�صور ال�شخ�صية التي نفّذها يف البورتريه‬ ‫ال�شهري خلليل ال�سكاكيني (رعد ‪ ،)١٩٠٦‬وهي �صورة‬ ‫التقطها رعد للكاتب كتذكار خلطيبته �سلطانة عبدو‪ ،‬قبل‬ ‫رحلته امل�ش�ؤومة �إىل �أمريكا‪ .‬نرى يف هذه ال�صورة درا�سة‬ ‫نف�سية مت�أملة لل�سكاكيني يف مطلع �شبابه �أ�صبحت الحق ًا‬ ‫�أيقونة ملجموعة ال�صعاليك الأدبية التي تزعمها‪.‬‬ ‫ خالل احلرب‪� ،‬أ�صبح �شائع ًا بني املجندين من الطبقة‬ ‫زيهم‬ ‫الو�سطى يف بالد ال�شام �أن يلتقطوا �صور ًا لهم يف ّ‬ ‫الع�سكري وهم يحملون البنادق وال�سيوف ومعدات‬ ‫ع�سكرية �أخرى متوافرة لدى اال�ستوديو يف و�ضع متناق�ض‬ ‫مع اخللفية الطبيعية الرعوية (غالبا الأوروبية)‪ .‬ولأ�سباب‬ ‫عديدة‪� ،‬شكلت الطرقات الريفية املحاطة بالأ�شجار على‬ ‫اجلانبني والغابات املجاورة خلفية ملعظم ال�صور‪ .‬وكانت‬ ‫غالبية هذه ال�صور تت�ضمن و�ضعيات بطولية معيارية‪،‬‬ ‫والق�صد منها �أن تكون �صور ًا تذكارية للعائلة �أو اخلطيبة‬ ‫�أو الأ�صدقاء قبل نقل ه�ؤالء الأ�شخا�ص �إىل اجلبهة �أو‬ ‫مواقع ع�سكرية �أخ��رى‪ .‬نرى �صور ًا عديدة �شبيهة يف‬ ‫�أعمال كريكوريان و�سافيدي�س و�صابوجني و�صوابيني‬ ‫وم�صورين �آخرين حمليني‪� ،‬أغلبهم من الأرمن‪ .‬وعلى‬ ‫�أية حال‪ ،‬وخالل احلرب‪ ،‬ورمبا ب�سبب انخراطه املبا�رش يف‬ ‫الع�سكرية‪ ،‬بد�أ رعد بالتقاط �صور للجنود يف و�ضعيات‬ ‫�أكرث حراك ًا وحيوية اختلفت عن �صور اجلنود التقليدية‪.‬‬ ‫ن�شاهد هذا التنوع يف �صور �أخوين من عائلة اخلالدي‪،‬‬ ‫وهما طبيبان �شابان من مدينة القد�س مت جتنيدهما يف‬ ‫�أوائل عام ‪ ١٩١٥‬بعيد تخرجهما من كلية الطب يف‬ ‫بريوت‪ .‬التقط رعد �صورة ح�سن �شكري وح�سني فخري‬ ‫اخلالدي وجه ًا لوجه ينظران �إىل ما وراء الكامريا‪ ،‬مع‬ ‫�إدراك وخوف مرتقب للأحداث التي �ستحدث لهما؛ �إذ‬ ‫�رسعان ما نقل ح�سن �إىل «جناق قلعة» (غاليبويل)‪ ،‬حيث‬ ‫�أ�صيب بجروح خطرة‪ ،‬بينما ا�ستطاع ح�سني البقاء قريب ًا‬ ‫من مدينته و�أ�صبح يف ما بعد رئي�س بلدية القد�س‪.‬‬

‫ميكن ت�صنيف �صور رعد احلربية �ضمن خم�س فئات‪:‬‬ ‫�صور �شخ�صية لقادة ع�سكريني عثمانيني (و�أمل��ان)‬ ‫التقطت يف الفرتة بني ‪� ،1918 – 1915‬إ�ضافة‬ ‫�إىل عدد هائل من ال�صور النمطية ملجندين �إلزاميني‬ ‫و�ضباط جي�ش يف الفرتة ذاتها‪.‬‬ ‫من�ش�آت ع�سكرية وحت�ضريات معارك وم�شاهد معارك‬ ‫من اجلبهة العثمانية (‪ ،)1918-1915‬ومعظم هذه‬ ‫ال�صور التقطها رعد بتكليف من �أحمد جمال با�شا‬ ‫ك�صور دعائية‪.‬‬ ‫دخول اجلي�ش الربيطاين �إىل فل�سطني واحتالل الق�سم‬ ‫اجلنوبي يف كانون الأول ‪.1917‬‬ ‫م�شاهد من تظاهرات جرت يف الفرتة ‪-1928‬‬ ‫‪ 1929‬وث���ورة ‪ ،1939-1936‬تظهر منع‬ ‫التجوال ونقاط تفتي�ش اجلي�ش ومطاردة �سكان مدنيني‬ ‫وم�شاهد �شوارع من �إ�رضابات املدن‪ .‬واملالحظ هنا‬ ‫هو الغياب الكلي للثوار �ضمن �صور رعد‪( .‬با�ستثناء‬ ‫ال�صورة املفرت�ضة للق�سام املن�شورة هنا)‪.‬‬ ‫الوجود الع�سكري الربيطاين يف �أربعينيات القرن املا�ضي‪.‬‬

‫الزي الع�سكري‬ ‫�شباب الطبقة الو�سطى يف ّ‬ ‫يف بداية احل��رب‪ ،‬ا�ستطاع رعد الو�صول �إىل الدوائر‬ ‫الر�سمية واملن�ش�آت الع�سكرية العثمانية ‪ -‬وتعززت‬ ‫هذه الإمكانية من خالل �صداقة �شخ�صية بني والده‬

‫تراوح الأعمال التي ُكلف رعد القيام بها من قبل القوات‬ ‫العثمانية بني �صور �شخ�صية ر�سمية للقادة الع�سكريني‬ ‫(علي ف�ؤاد با�شا‪� ،‬أنور‪� ،‬أحمد ف�ؤاد‪ ،‬اجلرنال فالنهاين‪،‬‬ ‫علي رو�شن بيك)‪ ،‬وملن�ش�آت ع�سكرية (مدافع م�ضادة‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫كنعان بعد�سة‬ ‫كريكوريان‪1915-‬‬ ‫امل�صدر‪ :‬كريكوريان‪.‬‬ ‫اجلرنال فردريك‬ ‫كر�س فون‬ ‫كر�سنثتاين‪.‬‬


‫‪ 5‬خليل رعد‪،‬‬ ‫ ‬ ‫جمموعة �ساوندرز‬ ‫الفوتوغرافية‪.‬‬ ‫�أر�شيفات �سانت‬ ‫�أنتوين‪ .‬جامعة‬ ‫�أوك�سفورد‪.‬‬ ‫‪ 6‬ملجموعة يلدز‪،‬‬ ‫ ‬ ‫�أنظر بال�سي‬ ‫كرمي‪.2009 .‬‬ ‫القد�س يف‬ ‫ال�صور التاريخية‪،‬‬ ‫ا�سطنبول‪.IRCICA :‬‬ ‫ملجموعة مكتبة‬ ‫الكونغر�س‪� ،‬أنظر‬ ‫‪www.loc.‬‬

‫‪gov/pictures/‬‬ ‫‪item/2005676184/‬‬

‫ال يظهر ا�سم‬ ‫رعد يف املجموعة‬ ‫ال�سابقة وهو مذكور‬ ‫يف ثالث �أو اربع‬ ‫�صور يف جمموعة‬ ‫مكتبة الكونغر�س‪.‬‬ ‫‪ 7‬جمموعة �ساوندرز‪.‬‬ ‫ ‬ ‫رقم ايتام‬ ‫‪ 10/1/5‬البوم‬ ‫رعد يف جمموعة‬ ‫�سانت �أنتوتي‪.‬‬ ‫جامعة �أوك�سفورد‪.‬‬ ‫‪ 8‬جمموعة �ساوندرز‪.‬‬ ‫ ‬ ‫رقم ايتام ‪7/1/5‬‬ ‫البوم رعد يف‬ ‫جمموعة �سانت‬ ‫�أنتوتي‪ .‬جامعة‬ ‫�أوك�سفورد‪.‬‬ ‫‪ 9‬ميكن احل�صول‬ ‫ ‬ ‫على مرجعية‬ ‫هذه ال�صورة‬ ‫وم�ؤلفها رعد يف‬ ‫«منتدى املحور»‬

‫‪forumaxishistory.‬‬ ‫‪com/viewtopic.‬‬ ‫‪php?f=80&start+30‬‬

‫جرى الدخول‬ ‫على هذا املوقع يف‬ ‫ت�رشين الأول ‪،1‬‬ ‫‪.2012‬‬ ‫‪ 10‬املرجع هنا ويف �أي‬ ‫مكان �آخر لرقم‬ ‫كتالوج رعد يف‬ ‫‪ IPS‬جمموعة رعد‬ ‫الفوتوغرافية يف‬ ‫بريوت‪.‬‬

‫‪150‬‬

‫للطريان‪ ،‬وحدات �إ�شارة‪ ،‬خنادق‪ ،‬ور�ش عمل هند�سية‪،‬‬ ‫م�ست�شفيات للجي�ش‪ ،‬ومطابخ ميدانية)‪ ،‬ومناورات يف‬ ‫القد�س وبئر ال�سبع و�سيناء‪ ،‬وخطوط تلغراف و�سكك‬ ‫حديد‪ ،‬وفعاليات �سيا�سية (احتفاالت عيد ميالد ال�سلطان‬ ‫يف املنزل الع�سكري وا�ستعرا�ض اجلي�ش قبل الذهاب‬ ‫�إىل املعركة)‪ ،‬والوفود الربملانية من �إ�سطنبول تزور اجلبهة‬ ‫(�أعيان القد�س ي�ست�ضيفون �ضباط ًا �أملانيني‪� ،‬إلخ)‪.5‬‬ ‫ ميكن �إيجاد الكثري من هذه ال�صور يف املجموعات‬ ‫الفوتوغرافية العثمانية (مثل جمموعات مات�سن ويلدز)‪،6‬‬ ‫وخ�صو�ص ًا تلك التي ت�ضمنت �شخ�صيات رفيعة املقام‪.‬‬ ‫ولكن قلة من ال�صور كانت ذات �صفة ع�سكرية م�أخوذة‬ ‫يف مناطق حم�صورة �أو يف جبهة املعركة‪ .‬ومبا �أن هذه‬ ‫ال‬ ‫ال�صور كانت مطبوعة كبطاقات بريدية و�أحرزت تداو ً‬ ‫وا�سع ًا‪ ،‬ال بد �أن الق�صد من ذلك كان نيل �إعجاب‬ ‫اجلمهور الأوروب��ي (ومن املحتمل �أي�ض ًا زرع الإيهام‬ ‫يف ا�ستخبارات العدو) �أو رفع معنويات اجلماهري يف‬ ‫جبهة الوطن‪ .‬وتعترب �صور املدافع امل�ضادة للطائرات‬ ‫التي التقطت عندما كان �سالح ط�يران العدو يهدد‬ ‫مواقع عثمانية متقدمة يف ال�سوي�س وبئر ال�سبع ذات‬ ‫�أهمية خا�صة‪ .7‬وتبني �صورة �أخرى (جمموعة �ساوندرز‬ ‫‪ )10/1/5‬اجلنود من وحدة الإ�شارة يف النبي �صموئيل‪.‬‬ ‫ويف معظم تلك ال�صور يقف اجلنود يف و�ضعيات معينة‬ ‫�أو يف خالل متارين تدريبية منظمة‪ ،‬والق�صد منها �إظهار من اخلط�أ افرتا�ض �أن عمل رعــــــــــــــــــــــــــــــــد‬ ‫االن�ضباط واال�ستعداد والقيادة احلديثة يف التقنيات مع اجلي�ش العثمانـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي‬ ‫الع�سكرية (خطوط التلغراف‪ ،‬الهواتف امليدانية‪ ،‬البنادق كان حم�صوراً يف الدعاية للنظـــــــــــــــــــــــــــــام؛‬ ‫امل�ضادة للطائرات ذات القوة العالية وما �إىل ذلك)‪� .‬إحدى فقد ا�ستطاع رعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد‬ ‫�أكرث ال�صـور الالفتة لالنتباه بني تلك التي التقطها‪� ،‬صورة برباعـــــــــــــــــــــــــــــة وذكـــــــــــــــــــــــــــــاء‬ ‫تظهر خمب�أً �رسي ًا يف النقب للمن�ش�آت الع�سكرية‪ ،‬وتقنيني �أن يظهر يف عدة منا�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــبات‬ ‫�رسيني لإ�صدار «جريدة ج��ول»‪ ،‬ل�سان حال اجلي�ش يف �صوره الطابع الهمجي للحــــــــــــــــــــــــــــرب‬ ‫العثماين يف بئر ال�سبع‪( .8‬انظر ال�صور املرافقة للمقالة)‪.‬‬ ‫ تظهر �صور �أحمد جمال با�شا (احلاكم الع�سكري من اخلط�أ افرتا�ض �أن عمل رعد مع اجلي�ش العثماين‬ ‫ل�سورية وفل�سطني)‪ ،‬وجمال با�شا املر�سيني (قائد فيلق كان حم�صور ًا يف الدعاية للنظام‪ .‬فقد ا�ستطاع رعد‬ ‫اجلي�ش اخلام�س يف فل�سطني)‪ ،‬وفردريك كر�س فون برباعة وذك��اء‪� ،‬أن يظهر يف عدة منا�سبات يف �صورة‬ ‫كر�سن�شتاين (‪ 1948-1870‬قائد فيلق اجلي�ش الطابع الهمجي للحرب‪ ،‬وهنالك حالتان على الأقل ميكن‬ ‫الثامن يف الدفاع عن غزة) والأمرياالي علي ف�ؤاد با�شا �أن ت�ستخدما كدليل دامغ على �سلوك جمال با�شا القامع‬ ‫(قائد فيلق اجلي�ش الع�رشين و�آخر من دافع عن القد�س) جتاه ال�سكان املدنيني‪ .‬ال�صورة الأوىل «�إعدام خائن يف‬ ‫ال مروع ًا لرجل م�شنوق‬ ‫وغريهم كثريون‪ ،‬درجة من الود واحلميمية والألفة مع بوابة دم�شق» (‪ )55-R‬تظهر �شك ً‬ ‫الأ�شخا�ص‪ ،‬وذلك يف حالة تعار�ض مع �صور ر�سمية مع الفتة بالرتكية والعربية ت�شري �إىل جرميته املفرت�ضة‬ ‫�أخرى لأ�شخا�ص ر�سميني التقطها خليل رعد‪ .9‬وهذا ما (التعاون مع العدو)‪ .‬ال�صورة الثانية لكتائب العمل‬ ‫نالحظه ب�شكل خا�ص يف جمموعة ال�صور التي التقطها التطوعي العثماين (طوابري ال�شغيلة) وهي تظهر عدد ًا‬

‫رعد جلمال با�شا املر�سيني على ظهر ح�صان يف جممع‬ ‫�سانت جورج و�صور �أخرى مع م�ساعده وطفلني يلعبان‬ ‫مع امل�صور‪ .‬وثمة �صورة م�أخوذة من م�سافة قريبة لأحمد‬ ‫جمال با�شا‪ ،‬وكان �آنذاك وزير البحرية املعروف ب�سفاح‬ ‫�سورية وفل�سطني‪ ،‬و�صورة ثانية له �أي�ض ًا وهو يتناول‬ ‫ال�شاي مع �أطفال و�سيدات «الأمريكان كولوين» ( ُتن�سب‬ ‫�إىل رعد) توحيان ب�أن خليل رعد كان يتق�صد �إظهار‬ ‫عداء‬ ‫«وجه �إن�ساين» للقيادة العثمانية‪ ،‬التي بد�أت تظهر‬ ‫ً‬ ‫وا�ضح ًا لل�سكان املدنيني‪.‬‬ ‫ كان جمال با�شا على �إدراك تام ل�رضورة حت�سني‬ ‫�سمعته واحلاجة لتعميم الإجنازات الع�سكرية يف فل�سطني‪.‬‬ ‫وقد كلف خليل رعد التقاط جمموعة من ‪� 40‬صورة‬ ‫ملناورات اجلي�ش وم�شاهد من معارك اجلبهة‪� .‬رسعان ما‬ ‫حتولت هذه املهمة مل�رشوع ت�صوير �سينمائي للقوات‬ ‫العثمانية يف �أريحا والبحر امليت (امل�شار �إليها �أعاله) ثم‬ ‫انتقلت �إىل غزة وبئر ال�سبع و�سيناء وجبهة ال�سوي�س‪.‬‬ ‫كما رافق رعد القيادة الع�سكرية �أثناء مهامها والتقط‬ ‫لها عدد ًا من ال�صور امل�شهدية‪� ،‬أ�شهرها �صورة ال�سيارة‬ ‫الع�سكرية وعلى متنها اجلرنال كر�س فون كر�سن�شتاين‬ ‫ومعه اجلرنال فلكنهاين والأمري هوهنلوك التي التقطها‬ ‫رعد لهم يف �شارع يافا قبيل حملة ال�سوي�س‪.10‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫من الرجال الكبار ال�سن وال�ضعفاء املغلوب على �أمرهم‬ ‫يقومون ب�أعمال �شاقة تك�رس الظهر وهم يحملون ال�صخر‬ ‫ب�أيديهم لت�شييد الطريق الع�سكري اجلنوبي �إىل بئر‬ ‫ال�سبع (‪ .)15 ،516-R‬لقد كان الإعدام وعمل ال�سخرة‬ ‫الق�رسي ق�ضيتي خالف بني ال�سكان املدنيني مثلما كانت‬ ‫ق�ضية نفي و�إبعاد املجموعات «امل�شكوك» يف �أمرها‪ .‬ال‬ ‫�شك �أن اختيار رعد التقاط هاتني ال�صورتني وعر�ضهما‬ ‫يف ما بعد‪ ،‬خفف من دوره ك�أداة دعاية لل�سلطات‪.‬‬

‫«طوابري العمالة»‬ ‫العثمانية �أثناء بناء‬ ‫طريق ع�سكرية‬ ‫يف بئر ال�سبع‪.‬‬ ‫اجلرنال كر�س‬ ‫فون كر�سنثتاين‬ ‫واجلرنال فالكنهاين‬ ‫و الأمري هوهنلوك‪.‬‬ ‫قارب �أثناء حتميله‬ ‫من القد�س اىل‬ ‫البحر امليت‪.‬‬ ‫‪151‬‬

‫ح�ضور القمع الربيطاين وغياب الثوار‬ ‫وعلى نقي�ض الفرتة العثمانية‪ ،‬كان عمل رعد خالل فرتة‬ ‫االنتداب �أكرث جتاوب ًا مع نظرة النا�س جتاه وجود جي�ش‬ ‫احتالل‪ .‬وبا�ستثناء الفرتة الأوىل للحكم الع�سكري‬ ‫الربيطاين (‪ )1920-1918‬التي �أظهرت الدخول‬ ‫املنت�رص للجرنال اللنبي وجنود احللفاء �إىل القد�س‪،‬‬ ‫ف�إن فرتة الع�رشينيات والثالثينيات حتتوي على �صور‬ ‫كثرية لظروف فر�ض منع التجوال و�أعمال ال�رشطة �ضد‬ ‫التظاهرات وتفتي�ش اجلنود الهنود والربيطانيني للمدنيني‬ ‫بحث ًا عن ال�سالح ووجود ال�سيارات الع�سكرية واجلنود‬ ‫امل�سلحني يف ال�شوارع‪.‬‬ ‫ كذلك تخلو �أعمال رعد ب�شكل ملحوظ من �صور الثوار‬ ‫والأن�شطة الثورية‪ ،‬على الرغم من �أن بدر احلاج يدعي �أن‬ ‫رعد هو الذي التقط ال�صورة الوحيدة املعروفة للمقاوم عز‬ ‫الدين الق�سام‪� .‬إال � ّأن من غري املحتمل �أن يكون رعد هو‬ ‫الذي التقط هذه ال�صورة وال يوجد دليل على ذلك‪ .‬ال ُتظهر‬ ‫�صور رعد خالل فرتة �أواخر الع�رشينيات والثالثينيات‬ ‫ال�صدامات املدنية مع ال�رشطة يف التظاهرات �أية نزعة �أو‬ ‫حاالت بطولة مثل التي �شاهدناها للجنود العثمانيني وال‬ ‫تظهر كذلك احلميمية التي �شاهدناها يف �صور رعد للقادة‬ ‫العثمانيني من �أمثال جمال با�شا وعلي ف�ؤاد ومر�سينلي‬ ‫ورو�شن بيك واجلرنال كر�س فون كر�سن�شتاين‪.‬‬ ‫ ا�ستمر خليل رعد يف ر�صد الأحداث العامة خالل‬ ‫االنتداب‪ .‬وتت�ضمن �صوره الرئي�سية ذات العالقة باحلرب‪:‬‬ ‫دخول اجلرنال اللنبي �إىل املدينة من �شارع يافا؛ قمع‬ ‫ال�رشطة للتظاهرات املعادية لبلفور يف نوفمري ‪١٩٢٩‬؛‬ ‫من�ش�آت اجلي�ش الربيطاين خ��ارج مدينة القد�س؛‬ ‫اجلنود الهنود والربيطانيون يقومون ب�أعمال احلرا�سة‬ ‫يف الأماكن العامة؛ �رشطة مكافحة ال�شغب �أثناء قمع‬ ‫التظاهرات (ال يوجد تواريخ)؛ منع التجوال والإ�رضابات‬ ‫خالل ثورة ‪ ١٩٣٦‬يف يافا والقد�س؛ الوحدات الآلية‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫الربيطانية تتحرك �إىل املدن (‪,1291 ,1289-R‬‬ ‫‪ .)1290 ,1296‬وتوجد �صور عديدة تظهر اجلنود‬ ‫ورجال ال�رشطة الهنود والربيطانيني يفت�شون املدنيني‬ ‫يف ال�شوارع (‪ .)1337-1318-R‬وهذه ال�صور‬ ‫عربا ويهود ًا والعديد من ال�شخ�صيات الدينية‬ ‫تت�ضمن ً‬ ‫وامل�سيحية‪ ،‬وهذه هي ال�صور الوحيدة التي تظهر فيها‬ ‫الن�ساء يف حميط ال�صورة كمتفرجات �أو م�شاهدات‬ ‫�أو رفيقات الرجال الذين يجري تفتي�شهم‪ ،‬ولوال هذه‬ ‫ال�صور لكانت �صور احلرب عند رعد حم�صورة بالرجال‪.‬‬ ‫ يف �أعمال رعد‪ ،‬ثمة خ�صو�صية متيز ال�شخ�صيات‬ ‫الع�سكرية العثمانية (�أت���راك و�أل��ب��ان وع��رب) عن‬ ‫ال�شخ�صيات الربيطانية‪� ،‬أال وهي درج��ة احلميمية‬ ‫والألفة التي �أعطاها رعد للمجموعة الأوىل والبعد‬ ‫واجلفاء الذي �أظهره جتاه الثانية‪ .‬ومما ال �شك فيه‪� ،‬أن‬ ‫ذلك كان نتيجة العالقة العائلية واملهنية التي �أن�ش�أها‬ ‫مع القادة الع�سكريني العثمانيني يف القد�س حتى يف‬ ‫زمن توتر العالقات بني الإدارة العثمانية وقيادة اجلي�ش‬ ‫الرابع مع املواطنني العرب‪ .‬ويف ما يتعلق بالربيطانيني‪،‬‬ ‫ثمة انطباع ب�أن رعد كان يتعامل مع جي�ش احتالل يعمل‬ ‫على ال�سيطرة على ال�سكان وقمع ثورتهم‪ .‬ومن ال�صعب‬ ‫معرفة �إذا ما كان هذا التمييز يف�ضح وجهات النظر‬ ‫ال�سيا�سية للم�صور جتاه احلكم الرتكي والربيطاين‪،‬‬ ‫ولكن ما ن�ستطيع قوله هو �أن خليل رعد‪ ،‬كفنان م�صور‬ ‫وحريف‪ ،‬بقي نتاج ًا للعهد العثماين‪ .‬فقد ن�ش�أ وتبلور‬ ‫مهني ًا خالل احلكم العثماين لفل�سطني ثم طور عالقات‬ ‫عمل وزم��االت مع رج��االت الإدارة العثمانية ومن‬ ‫�ضمنهم رو�ش بيك ونهاد بيك واجلماالن ‪ -‬جمال با�شا‬ ‫القائد العام‪ ،‬وجمال با�شا ال�صغري قائد اجلي�ش اخلام�س‪.‬‬ ‫ومن الوا�ضح �أي�ض ًا �أن تطوره الفكري ت�أثر باملدينة‬ ‫والبلد كنتاج للمعتقدات التوراتية ‪ -‬التي حكمت عمله‬ ‫كم�صور جتاري لل�سائحني واحلجاج‪ .‬لقد ت�شكل فن‬ ‫الت�صوير عنده من خالل تدربه �ضمن التقاليد العثمانية‬ ‫ الأرمنية للت�صوير الفوتوغرايف (كريكوريان وعبدالله‬‫�إخوان)‪ ،‬ولكن احلرب العظمى خلقت ان�سالخ ًا عن هذه‬ ‫التقاليد و�أجربت رعد على التفكري بحداثة فل�سطني‬ ‫مب�صطلحات جديدة متليها الآليات الع�سكرية والطائرات‬ ‫و�سكك احلديد والتلغراف و�آالف الرجال الذين عملوا‬ ‫يف هذه التكنولوجيا‪ .‬يف ال�سنوات الع�صيبة من �سنوات‬ ‫ال لهذه الأحداث بعيد ًا عن‬ ‫احلرب‪ ،‬قدم لنا رعد �سج ً‬ ‫نظرة امل�ست�رشق والر�ؤية التوراتية‪.‬‬



‫فلسطني بالعدسة االمريكية‬ ‫غياب احلرب احلقيقية‬

‫نصار ت�صوير احلروب فن قدمي قدم الت�صوير الفوتوغرايف بحد‬ ‫عصام ّ‬ ‫ذاته‪ .‬ولعل ال�صور الأوىل التي منلكها تعود �إىل حرب القرم‬ ‫باحث ومؤرخ يف تارخي (‪ ،)1856 – 1853‬التي ن�شبت بعد �أقل من عقدين‬ ‫التصوير يف الرشق على االخ�تراع «الر�سمي» للت�صوير الفوتوغرايف يف‬ ‫االوسط‪ ،‬استاذ يف ‪ .1839‬كذلك‪ ،‬ا�س ُت ِ‬ ‫عملت ال�صور الفوتوغرافية لتوثيق‬ ‫جامعة الينوي‪ .‬احلرب الأهلية الأمريكية (‪ )1865 – 1861‬واحلرب‬ ‫آخر مؤلفاته العظمى (�أو احلرب العاملية الأوىل) عام ‪ .1914‬وعلى‬ ‫«لقطات مغايرة الرغم من � ّأن بع�ض ال�صور التي منلكها عن هاتني احلربني �صور بتكليف من «الهالل االحمر»‬ ‫ّ‬ ‫ي�شكل �ألبوما �صور جون وايتينغ املحفوظان يف مكتبة‬ ‫‪ :1948-1850‬الأخريتني كانت مركبة يف الواقع‪ ،‬تبقى جميعها وثائق‬ ‫ال على التوثيق بال�صور من اجلانب العثماين‬ ‫التصوير المحيل تاريخية مهمة‪1‬؛ فهي تقدم لنا معلومات ملمو�سة عن اللوازم الكونغر�س مثا ً‬ ‫المبكر يف فلسطني» اللوج�ستية للحرب‪ ،‬مع التلميح يف الوقت عينه �إىل دوافع ثم من اجلانب الربيطاين‪ .‬هذان االلبومان‪ ،‬اللذان �أهديا‬ ‫امل�صور (امل�صورين)‪ .‬يف ما ي�أتي‪� ،‬إىل وايتينغ وزوجته غراي�س‪ ،‬مكر�سان بالكامل لفل�سطني‬ ‫(‪ )2005‬و‪� /‬أو نيات حمتملة لدى‬ ‫ّ‬ ‫�س�أعاين عدد ًا من ال�صور التي تظهر اجلبهة الفل�سطينية و�سيناء يف الفرتة املمتدة من عام ‪ 1915‬حتى عام‬ ‫خالل احلرب العاملية الأوىل‪ ،‬وهي �صور حمفوظة حالي ًا يف ‪ .1917‬كان وايتينغ نف�سه م�صور ًا يف ق�سم الت�صوير يف‬ ‫�صور معظم‪� ،‬إن‬ ‫�أر�شيف مكتبة الكونغر�س‪.‬‬ ‫البعثة الأمريكية يف القد�س‪ ،‬ولرمبا هو الذي ّ‬ ‫‪2‬‬ ‫ بالنظر �إىل �أهمية ال�صور كمرجع رئي�سي لدرا�سة مل يكن كافة‪ ،‬ال�صور التي يت�ضمنها الألبومان ‪.‬‬ ‫تاريخ احلروب‪ ،‬من امل�ستغرب � ّأن قلة قليلة من امل�ؤرخني عام ‪� ،1915‬إث��ر �إقامة فرع القد�س يف جمعية‬ ‫ي�ستعملونها يف �أبحاثهم‪ .‬حتفظ ال�صور حلظة م�ضت‪ ،‬وتبقى الهالل الأحمر العثمانية برئا�سة ح�سني احل�سيني‪ ،‬رئي�س‬ ‫جامدة لنتمكن من ر�ؤيتها كما بدت للكامريا عندما �أ�صدر البلدية املطرود �آنذاك‪ ،‬فو�ضت اجلمعية �إىل وايتينغ توثيق‬ ‫غطاء العد�سة �صوته (طقطقة)‪ .‬من هذا املنطلق‪ ،‬تخرب ن�شاطاتها‪ .‬وبهذه ال�صفة‪ ،‬ا�ستطاع توثيق حياة اجلنود على‬ ‫مكر�س بالكامل‬ ‫ال�صور ما نراه فيها وما ال نراه على حد �سواء‪ .‬فهي تعر�ض جبهتي فل�سطني و�سيناء‪ .‬الألبوم الأول ّ‬ ‫عنا�رص مهمة بالن�سبة �إىل امل�ؤرخني‪ ،‬مثل �أ�سلوب اللبا�س‪ ،‬مل�رسح احلرب العثمانية‪� ،‬أما الثاين فيغطي احلرب بعد �أن‬ ‫الأدوات والأ�سلحة‪ ،‬وتغني خيالنا التاريخي‪ .‬ولعل الأهم احتل الربيطانيون القد�س‪.3‬‬ ‫من ذلك كله �أنها حتفظ ما ميكننا �أن ن�سميه «هالة التاريخ»‪ .‬يحوي الألبوم الأول يف طياته ‪� 243‬صورة‪ ،‬الكثري‬ ‫مبا�رشا بالن�شاطات الع�سكرية؛ �إذ � ّإن‬ ‫غني عن الذكر � ّأن احلرب العظمى‪� ،‬أو «احلرب ال�شاملة» منها مرتبط ارتباط ًا‬ ‫ ‪ 1‬يحتمل � ّأن ال�صور ‬ ‫ً‬ ‫ٌّ‬ ‫املركبة كانت‬ ‫يج�سد مواقع بالقرب من �ساحات املعركة‪ .‬تو ّثق‬ ‫الأوىل‪� ،‬شُ َّنت على جبهات عدة‪ .‬وعلى الرغم من م�ساحة بع�ض ًا منها ّ‬ ‫ت�ستعمل �أي�ض ًا‬ ‫خالل حرب القرم‪ .‬الأرا�ضي الوا�سعة التي ّ‬ ‫غطتها‪ ،‬ت�سلطت عليها عد�سات �صور الأ�ساطيل يف البحر امليت‪ ،‬على �سبيل املثال‪ ،‬التي‬ ‫بيد �أنني ل�ست على الكامريات ب�شدة‪ .‬لكن م�سارح احلروب مل َ‬ ‫حتظ جميعها تظهر نقل احلبوب من ال�سواحل ال�رشقية‪ ،‬ن�شاط ًا حا�سما ً‬ ‫علم ب�أي درا�سات‬ ‫بالقدر نف�سه من االهتمام‪ .‬بعد م�ضي قرابة قرن على �سكوت بالن�سبة �إىل القوات يف زمن املجاعة الكربى‪� .‬أما الأ�سباب‬ ‫ت�شري �إىل ذلك‪.‬‬ ‫املدافع يف ت�رشين الثاين (نوفمرب) ‪ ،1918‬ال تزال �صور‬ ‫اجلنود يف خنادقهم واجلثث املتفحمة على اجلبهة الغربية‪،‬‬ ‫�إىل جانب �صور القادة يف لبا�سهم الع�سكري الكامل‪،‬‬ ‫متوافرة على نطاق وا�سع حتى يف يومنا هذا‪ .‬وعلى اجلبهة‬ ‫ال�رشقية‪ ،‬ا�ستعمل الربيطانيون والفرن�سيون الت�صوير‪� ،‬أكرث‬ ‫من العثمانيني رمبا‪ ،‬على الرغم من � ّأن ه�ؤالء �أي�ض ًا ا�ستعملوه‪.‬‬

‫‪154‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫‪ 2‬وايتينغ هو ابن‬ ‫ ‬ ‫�أمريكيني انتقال‬ ‫�إىل القد�س ليكونا‬ ‫جزء ًا من جمموعة‬ ‫م�ؤ�س�سي امل�ستعمرة‬ ‫الأ�صليني‪ .‬ولد‬ ‫وايتينغ يف املدينة‬ ‫عام ‪ .1882‬وقد‬ ‫افتتحت امل�ستعمرة‬ ‫الأمريكية يف عام‬ ‫‪ 1898‬ق�سم‬ ‫الت�صوير فيها ب�إدارة‬ ‫�إيليا ماير‪� ،‬أحد �أبرز‬ ‫�أع�ضائه‪ .‬مار�س‬ ‫ماير الت�صوير قبل‬ ‫ت�أ�سي�س الق�سم‪.‬‬ ‫ويف النهاية ظهر‬ ‫ال�سويدي الر�س‬ ‫(لوي�س) الر�سن‬ ‫ب�صفته امل�س�ؤول‬ ‫عن �إدارة الق�سم‬ ‫مع وايتينغ‪� ،‬إىل‬ ‫جانب �آخرين مبا‬ ‫يف ذلك �إيريك‬ ‫مات�سون‪ ،‬كان �أحد‬ ‫�أف�ضل امل�صورين‪.‬‬ ‫املعلومات عن تاريخ‬ ‫امل�ستعمرة الأمريكية‬ ‫وق�سم الت�صوير‬ ‫فيها متوافرة على‬ ‫املوقع الإلكرتوين‬ ‫ملكتبة الكونغر�س‬ ‫على العنوان الآتي‪:‬‬ ‫‪www.loc.gov/pictures/‬‬ ‫‪collection/matpc/‬‬ ‫‪background.html.‬‬

‫‪ 3‬ملزيد من املعلومات‪،‬‬ ‫انظر املوقع ال�سابق‬ ‫ال عن‬ ‫ذكره‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫املوقع الآتي‪:‬‬ ‫‪www.loc.gov/rr/mss/‬‬ ‫‪acquisitions-adds.‬‬ ‫‪html#whiting.‬‬

‫‪ 4‬بالإمكان تقييم‬ ‫ ‬ ‫الألبوم عرب‬ ‫الإنرتنت على املوقع‬ ‫الإلكرتوين‬ ‫‪hdl.loc.gov/ loc.‬‬

‫‪.pnp/pmsca13709‬‬ ‫كافة ال�صور التي‬ ‫تظهر هنا من الألبوم‬ ‫وحقوق طبعها‬ ‫ون�رشها حمفوظة‬ ‫ملكتبة الكونغر�س‪.‬‬

‫‪155‬‬

‫الرئي�سية للمجاعة‪ ،‬فتمثلت يف احل�صار البحري الربيطاين‬ ‫وهجمات اجلراد عام ‪ 1915‬واقت�صاد احلرب‪ .‬من املنطلق‬ ‫نف�سه‪ّ � ،‬إن ال�صور القليلة التي تظهر �إقفال مكاتب الربيد‬ ‫الأجنبية يف القد�س هي �صور حرب‪ .‬جاء �إقفال مكاتب‬ ‫الربيد نتيجة لقرار احلكومة �إلغاء اتفاقيات اال�ست�سالم‬ ‫التي �أتاحت �إقامة هذه املكاتب يف البالد‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬جوهر‬ ‫املجموعة التي يف الألبوم مكر�س للن�شاطات امليدانية مع‬ ‫اجلنود‪ ،‬الطاقم الطبي وال�ضباط الذين يت�صدرون الواجهة‪.‬‬ ‫وم َع ّد‬ ‫ يبدو � ّأن الألبوم منظم بح�سب الت�سل�سل الزمني ُ‬ ‫بدقة‪ .‬بدء ًا ب�صورة جلمال با�شا‪ ،‬قائد اجلي�ش العثماين الرابع‪،‬‬ ‫مرور ًا بـ«االحتفاالت» التي نظمت دعم ًا للمجهود احلربي‪،‬‬ ‫يعر�ض هذا الألبوم بح�سب الت�سل�سل الزمني ن�شاطات‬ ‫اجلنود يف اخلنادق وهم ي�صوبون بنادقهم‪ ،‬ويظهر الطاقم‬ ‫الطبي واقف ًا �أمام عد�سات الكامريا‪ .‬جمتمعة‪ ،‬تروي ال�صور‬ ‫يف الألبوم ق�صة يف �إطار ما يبدو �رسد ًا ر�سمي ًا يظهر الزعيم‪،‬‬ ‫وال�شعب املبتهج‪ ،‬واجلنود يف م�سرية والطاقم الطبي على‬ ‫اجلبهة‪ ،‬وك�أنها ق�صة جناح‪.4‬‬

‫يف خطر �شديد‪ .‬يبدو اجلنود منظمني يف ال�صفوف‪ ،‬وواقع‬ ‫�أنهم يبدون جميعهم يف و�ضعيات ال حتجب جنود ًا �آخرين‬ ‫�إ�شارة �أخرى �إىل � ّأن ال�صور قد �أخذت بعد ق�ضاء مت�سع‬ ‫من الوقت يف تنظيم من يظهر فيها وخالل �أوقات توقف‬ ‫القتال‪ .‬كذلك‪ ،‬ت�شري وجوه بع�ض اجلنود ال�ضاحكة �أو‬ ‫وقفاتهم امل�سرتخية �إىل غياب ذاك النوع من التوتر الذي‬ ‫يرافق عادة القتال‪.‬‬ ‫ رغم ذلك‪� ،‬إن التخطيط الدقيق لل�صور ال يجعلها‬ ‫بال�رضورة مزيفة �أو غري جديرة باهتمامنا‪ .‬فبادئ ذي بدء‪،‬‬ ‫�إنها �صور التقطت يف املوقع نف�سه‪ ،‬والأ�شخا�ص الذين‬ ‫يظهرون فيها هم جنود �أ�صليون متركزوا يف الأماكن‬ ‫نف�سها التي جرى ت�صويرها‪ .‬الأ�سلحة التي مي�سكونها هي‬ ‫نف�سها الأ�سلحة التي ا�س ُت ِ‬ ‫عم َلت يف القتال؛ واخلنادق قد‬ ‫ُح ِف َرت ا�ستعداد ًا للمعركة‪.‬‬ ‫ الأمر نف�سه ينطبق على ال�صور حيث يتخذ الطاقم‬ ‫الطبي الو�ضعية املنا�سبة �أمام الكامريا‪� ،‬أو تلك التي تظهره‬ ‫منكبا على معاجلة مري�ض يف م�ست�شفى يف القد�س �أو يف‬ ‫ً‬ ‫م�ست�شفى ميداين‪ .‬يوحي نق�ص اجلثث املتداخلة والق�سوة‬ ‫يف التقاط ال�صورة ب�أنها �صور مركبة‪ .‬بيد � ّأن �صور ًا �أخرى‬ ‫تظهر اجليو�ش يف ت�شكيالت ع�سكرية �أو يف م�سريات‬ ‫يف القد�س �أو يف �أماكن �أخرى‪ ،‬ال توحي ب�أي نوع من‬ ‫الرتكيب يتعدى اختيار املوقع الأمثل والتوقيت املنا�سب‬ ‫اللتقاط ال�صورة‪.‬‬

‫�صور حربية ّ‬ ‫مركبة‬ ‫يف هذا املقال الق�صري‪ ،‬ال �أ�ستطيع مناق�شة الألبوم بكامله‪.‬‬ ‫الرف بانتظار مقال �أكرث‬ ‫على هذه املهمة �أن تبقى على‬ ‫ّ‬ ‫ال �آمل كتابته يف امل�ستقبل القريب‪ .‬مع‬ ‫�إ�سهاب ًا وتف�صي ً‬ ‫ذلك‪ ،‬ثمة خ�صائ�ص معينة مميزة يف هذا الألبوم ب�شكل‬ ‫عام �أود �أن �أ�سرتعي االنتباه �إليها‪� .‬أولها كرثة ال�صور‬ ‫املركبة �ضمن هذه املجموعة‪� .‬أعتقد � ّأن معظم ال�صور التي بروباغندا �أو تغطية م�صورة؟‬ ‫يج�سد عدد من ال�صور زعماء و�ضباط ًا خالل زياراتهم‬ ‫ت�شمل اجلنود مركبة‪ .‬فهي تظهر اجلنود يف ما يبدو �أنه‬ ‫ّ‬ ‫ا�شتباك ع�سكري‪ ،‬كاال�صطفاف يف اخلنادق على بطونهم لفل�سطني �أو للجبهة‪� .‬صور زيارة �أنور با�شا للقد�س برفقة‬ ‫م�صوبني بنادقهم نحو ما يبدو �أنه مواقع العدو‪ .‬وتظهر جمال با�شا‪� ،‬أو ال�صور التي الت ِقطت لأطباء م�شهورين‬ ‫�صور �أخرى اجلنود وال�ضباط واقفني يف �صور فردية �أو (مثال د‪ .‬توفيق كنعان)‪ ،‬و�ضباط �آخرين (مثال جمال‬ ‫جماعية �أمام مبانٍ حكومية �أو �أمام مع�سكراتهم‪ .‬يظهر الثاين)‪ ،‬واحلاكم زكي بيك �أو ن�ش�أت بيك‪� ،‬صور �إخبارية‬ ‫الرتكيب ب�شكل وا�ضح يف ال�صور اجلماعية من خالل تتعلق مب�ساعي احلرب‪ ،‬وقد كانت ذات فائدة بالن�سبة �إىل‬ ‫طريقة ا�صطفاف اجلنود واالختيار الدقيق لإطار ال�صورة‪ ،‬الأ�شخا�ص الذين يظهرون فيها يف �إطار عملهم‪.‬‬ ‫فيما يبدو الرتكيب �أقل و�ضوح ًا يف ال�صور الفردية‪ .‬مع على الرغم من �صور قليلة يعر�ض فيها جنود‬ ‫ينم جوهر املجموعة‬ ‫ذلك‪ ،‬يك�شف تفح�ص �صور مماثلة عن درجة من الرتكيب‪ .‬م�صابون جروحهم �أمام الكامريا‪ّ ،‬‬ ‫فيما يبقى اجلنود منخف�ضني يف خنادقهم‪ ،‬للإيحاء رمبا التي يف الألبوم عن تنظيم كبري وا�ستعداد للحرب‪.‬‬ ‫ب�أنهم كانوا يحاولون تفادي نريان العدو‪ ،‬ت�شري الزوايا من وبالعودة �إىل مو�ضوع الق�صة التي يرويها الألبوم‪ ،‬يرى‬ ‫حيث التقطت ال�صورة �إىل � ّأن الكامريا كانت مو�ضوعة املرء فيه منوذج ًا عن الربوباغندا املرئية �أكرث منه تغطية‬ ‫على م�ستوى �أعلى‪ ،‬وامل�صور يقف على مر�أى وم�سمع فعلية للحرب وتكلفتها الباهظة‪ .‬الألبوم بحد ذاته منظم‬ ‫من كل �شيء‪ .‬لو كانت نريان العدو م�صدر قلق‪ ،‬لكان ب�أ�سلوب «وطني» يعر�ض نوع ًا ما �رسد ًا بطولي ًا للأحداث‪.‬‬ ‫امل�صور يقف على مر�أى وا�ضح من العدو خارج اخلنادق من البديهي � ّأن مهمة امل�صور متثلت يف توثيق عمل جمعية‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫‪ 5‬يظهر ذلك يف‬ ‫ ‬ ‫الن�ص الذي كتبه‬ ‫الر�سن‪.‬‬ ‫‪ 6‬يظهر عدد من‬ ‫ ‬ ‫ال�صور املتوافرة‬ ‫يف مكتبة معهد‬ ‫الدرا�سات‬ ‫الفل�سطينية يف‬ ‫بريوت والتي‬ ‫التقطها رعد �صور‬ ‫م�شابهة لتلك الوارد‬ ‫و�صفها اعاله ف�ضال‬ ‫عن �صور جلمال‬ ‫با�شا واقفا امام‬ ‫الكامريا‪.‬‬

‫الهالل الأحمر‪ ،‬وذلك رمبا لتبيني �أهمية م�ساهمتها يف‬ ‫جهود احلرب‪ .‬بيد �أن ال�رسد الق�ص�صي بحد ذاته‪ ،‬على ما‬ ‫ي�صب يف م�صلحة اجلي�ش وال�ضباط امل�س�ؤولني �أكرث‬ ‫يبدو‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫منه يف م�صلحة وكالة �إغاثة كالهالل الأحمر‪.‬‬ ‫بناء على طلب جمال با�شا �أو �أحد‬ ‫ هل ُان ِتج هذا الألبوم ً‬ ‫قادته البارزين يف القد�س؟ هذا ممكن حتم ًا‪ ،‬وخ�صو�ص ًا‬ ‫يف �ضوء ادعاء �أحد �أع�ضاء ق�سم الت�صوير يف امل�ستعمرة‬ ‫�أنهم كانوا امل�صورين الر�سميني جلمال با�شا‪ .5‬لكن هذا‬ ‫ال عن ذلك‪ ،‬لدينا �صور كثرية‬ ‫االدعاء مل يثبت متام ًا‪ .‬ف�ض ً‬ ‫�أخرى التقطها م�صورون �آخرون اتخذوا من القد�س مقر ًا‬ ‫لهم مثال خليل رعد‪.6‬‬ ‫ يف املح�صلة‪� ،‬أو ّد �أن �أو�ضح نقطتني مهمتني يف ما‬ ‫يتعلق بال�صور بحد ذاتها ولي�س بالألبوم كق�صة‪ .‬ترتبط‬ ‫الأوىل بواقع � ّأن �صور احلرب متثل نطاق ًا �آخر ا�س ُت ِ‬ ‫عمل‬ ‫فيه �أ�سلوب التالعب بال�صور‪ .‬جرى التح�ضري م�سبق ًا‬ ‫قدم‬ ‫وبدقة لكل ما نراه يف ال�صور‪ ،‬وذلك مل�صلحتنا‪ .‬مل ُي َّ‬

‫�أي �شيء يرتبط مبا�رشة مبعاناة اجلنود �أو بالقتال احلقيقي‪.‬‬ ‫ال يهدف �إىل‬ ‫عو�ض ًا عن ذلك‪ ،‬ابتكر امل�صورون واقع ًا بدي ً‬ ‫تغذية ر�ؤية امل�شاهد التي تن�ضوي �ضمن �إطار عقائدي‪.‬‬ ‫مبعنى �آخر‪� ،‬إن ما نراه مل يعك�س متام ًا الظروف املادية التي‬ ‫كانت �سائدة يف مع�سكرات اجلي�ش �أو يف �ساحة املعركة‪.‬‬ ‫�أما النقطة الثانية‪ ،‬فتتمثل يف � ّأن غياب جتربة حرب‬ ‫«حقيقية» يف ال�صور ال يجعلها غري جديرة باالهتمام‪.‬‬ ‫على العك�س متام ًا‪ ،‬باعتبارها �صور جنود وزعماء ومواقع‬ ‫حقيقية‪ ،‬هي تتيح لنا ر�ؤية هالة تلك الفرتة الزمنية كما‬ ‫تعك�سها تفا�صيل ال�صور والنية الأيديولوجية الت�صويرية‬ ‫التي تكمن وراءه��ا يف �آن واحد‪ .‬تظهر لنا هذه الهالة‬ ‫�أ�شخا�ص ًا حقيقيني �سي�شاركون يف نهاية املطاف يف احلرب‬ ‫وحميطهم‪ .‬يف الوقت عينه‪ ،‬هي تعك�س ال�صورة التي �أراد‬ ‫قادتهم �أن يقدموها لنا على الأرجح‪� :‬صورة جمموعة من‬ ‫الأبطال على و�شك �أن ت�أخذ على عاتقها املهمة الكربى‬ ‫املتمثلة يف ا�ستعادة م�رص‪.‬‬

‫اال�ستعرا�ض الأخري‬ ‫الذي قام به جمال‬ ‫با�شا وكري�س‬ ‫فون كر�سن�شتاين‬ ‫يف القد�س عام‬ ‫‪.1917‬‬ ‫تظهر ال�صورة‬ ‫الأوىل يف الألبوم‬ ‫البيك (العظيم)‬ ‫جمال با�شا‪ ،‬على‬ ‫�شاطئ البحر امليت‪،‬‬ ‫يف ‪� 3‬أيار (مايو)‪،‬‬ ‫‪.1915‬‬ ‫ازالة �صندوق‬ ‫بريد فرن�سي‬ ‫تزامنا مع التخل�ص‬ ‫من اتفاقيات‬ ‫اال�ست�سالم االجنبية‪.‬‬


‫‪ 158‬‬ ‫ ‬ ‫‪163‬‬ ‫ ‬

‫عاكف بيك‪ ،‬جراح‬ ‫يعمل يف الهالل‬ ‫الأحمر وممر�ضات‪،‬‬ ‫عام ‪.1917‬‬ ‫ن�ش�أت بيك وطاقم‬ ‫العاملني يف‬ ‫الهالل الأحمر‬ ‫يف امل�ست�شفى‬ ‫الإنكليزي يف‬ ‫القد�س عام ‪.1917‬‬

‫إيالن هاليفي‬ ‫يكتشف دير ياسني‬

‫شريكو بيكه يس‬ ‫عندما يتدفق‬ ‫الشعر كالينبوع‬ ‫ِ‬


‫‪...‬كان امل�ست�شفى م�ؤ�س�سة عتيقة عبارة‬ ‫متداع ومظلم‪ ،‬يقع يف‬ ‫عن مبنى كبري‬ ‫ٍ‬ ‫قلب املدينة القدمية‪ ،‬عند منعطف «ڤيا‬ ‫دولورو�سا»‪ .‬كان الوقت ع�شية �أعياد‬ ‫احلجاج‪ ،‬من امل�سيحيني‬ ‫الف�صح‪ ،‬حيث ّ‬ ‫ّ‬ ‫الغربيني بغالبيتهم‪ ،‬يكتظون يف‬ ‫الطرقات املجاورة‪.‬‬ ‫ منذ مغادرتهما امل�صنع‪ ،‬مل يك�رس‬ ‫� ٌّأي من م�صطفى وجعفر �صمتهما‬ ‫َق� ّ‬ ‫�ط‪� ،‬إال من �أج��ل تبادل احلديث‬ ‫ب�صوت خافت‪ ،‬يف ثرثرات مل يكن‬ ‫نعيم ي�سمعها‪ .‬فقد �سبق له �أن �رشح‬ ‫لهما‪ ،‬عند كل مرحلة‪ ،‬ما الذي كان‬ ‫يفعله وملاذا‪ ،‬ومل يطرحا �أي �س�ؤال‬ ‫عليه‪ .‬كان نعيم يبدو ك�أنه النقي�ض‬ ‫الطبيعي لإ�صابتهما‪ ،‬وهما كانا‬ ‫يتعاطيان مع الأمور على طبيعتها‪.‬‬ ‫يف احلقيقة‪ ،‬مل يكن م�صطفى‬ ‫ي��ع��اين �إال م��ن ج��رح يف قدمه‪،‬‬ ‫وكانت الإ�سعافات الأولية التي‬ ‫تلقّاها يف «روميما»‪� ،‬شمال غرب‬ ‫القد�س‪ ،‬كافية ملعاجلته‪ .‬وبعدما �أُزيل‬ ‫و�ض ِّمد‪،‬‬ ‫االلتهاب من جرح م�صطفى ُ‬ ‫كان قادر ًا على العودة �إىل امل�صنع �أو‬ ‫م�صمم ًا‬ ‫�إىل منزله‪ .‬غري �أن نعيم كان‬ ‫ّ‬ ‫على اال�ستمرار حتى النهاية يف‬ ‫املو�ضوع‪ .‬مل يكن الأم��ر بالن�سبة‬ ‫جمرد م�س�ألة طبية‪ .‬طلب من‬ ‫�إليه‬ ‫ّ‬ ‫م�صطفى مرافقته �إىل امل�ست�شفى‪،‬‬ ‫لي�س فقط بهدف معاجلة جعفر الذي‬ ‫كان يعاين من جرح كبري يف اجلبني‪،‬‬ ‫أي�ضا ملحاولة توثيق ما ح�صل‬ ‫بل � ً‬ ‫معه على �أنه حادث عمل‪.‬‬ ‫لطاملا كان نعيم يكره امل�ست�شفيات‬ ‫وروائحها وال�صمت ال��ذي ي�سود‬ ‫ال�سجني‪ .‬لكن حال‬ ‫فيها وطابعها ِّ‬ ‫امل�ست�شفى كانت خمتلفة‪ .‬مل تكن‬ ‫جدرانه بي�ضاء‪ ،‬وكانت اللوحات‬ ‫معرو�ضة على اجل���دران‪� .‬أن��ا���س ال‬ ‫التجول بني احل�شود‬ ‫يتوقفون عن‬ ‫ّ‬

‫إيالن هاليفي‬

‫يكتشف دير ياسني‬ ‫سمى إي�لان هاليفي يف مدينة‬ ‫سي ّ‬ ‫الظروف اليت ُول��د فهيا تقول الكثري عنه وعن م�ساره الالحق‪ُ .‬ول��د ذلك ال��ذي ُ‬ ‫خمبأ للمقاومة الفرنسية‪ ،‬لوالدين شيوعيني ماشركني يف المقاومة‬ ‫ليون الفرنسية عام ‪ ١٩٤٣‬يف مركز للربيد كان ً‬ ‫الفرنسية ضد االح��ت�لال ال��ن��ازي األل��م��اين‪ .‬ولدته أم��ه دون ماسعدة من قابلة أو طبيب‪ُ ،‬وس ّ��ج��ل باسم مستعار‬ ‫مقاومة‪ ،‬أممية‪ ،‬معادية للصهيونية»‪.‬‬ ‫«جورج آالن البري»‪ .‬يصف أرسته بأهنا «هيودية‪ ،‬شيوعية‪ ،‬علمانية‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ اكتشف القضية الفلسطينية يف اجلزائر مطلع استقاللها‪ .‬وعندما غ��ادر إىل فلسطني المحتلّ ة‪ ،‬ع��ام ‪،١٩٦٣‬‬ ‫ليتعرف إىل احلياة فهيا‪ ،‬كان الاشب إيالن موسيقيا ً (جاز) وروائياً وكاتباً الفتاً بمواهبه‪ ،‬ينرش يف «األزمنة احلديثة»‬ ‫ّ‬ ‫منضد حروف يف مطبعة ومراسالً جلريدة «ليرباسيون»‬ ‫جلان بول اسرتر‪ .‬تقلّ ب يف عدة مهن‪ ،‬عمل يف المرفأ ثم ّ‬ ‫الباريسية‪ .‬ويف القدس‪ ،‬أهسم يف تأسيس جمموعة أقىص الياسر المناهضة للصهيونية «ماتسنب» (البوصلة)‪،‬‬ ‫تفرق معظم أعضائه أو هاجروا‪.‬‬ ‫تعرض لقمع شديد ما لبث ان ّ‬ ‫والحقاً «التحالف الشيوعي الثوري» الذي ّ‬ ‫ عاد إىل باريس وأهسم يف تنظيم اللقاءات األوىل بني فلسطينيني وإرسائيليني‪ .‬يف أول زيارة لبريوت بعد ‪،١٩٦٧‬‬ ‫وعينه مستاشراً له‪ .‬وإيالن تعاطى مع «اخلتيار»‬ ‫تعرف إىل يارس عرفات‪ .‬ىّ‬ ‫تبن أبو ّ‬ ‫ّ‬ ‫عمار هذا الفلسطيين الهيودي ّ‬ ‫بوالء االبن ألبيه‪ .‬انضم إىل حركة «فتح»‪ ،‬حامالً خربته يف العمل احلزيب وناشطه الذي ال ّ‬ ‫يكل‪ ،‬وشغل منصب ممثل‬ ‫لمنظمة التحرير لدى جلنة األمم المتحدة من أجل حقوق اإلناسن ولدى الدولية االشرتاكية‪.‬‬ ‫ أهسم إي�لان يف مؤمتر مدر يد وواشنطن‪ .‬وعند انتقال منظمة التحر ير إىل رام الله‪ ،‬سكن المدينة حيث‬ ‫أهسم يف تأسيس جهاز وزارة اخلارجية للسلطة الوطنية الفلسطينية الوليدة وشغل فهيا منصب نائب وز ير‪.‬‬ ‫وما لبث أن عاد جم��دداً إىل بار يس عام ‪ ،١٩٨١‬حيث انضم إىل أرسة حتر ير «جملة ال��درااست الفلسطينية»‬ ‫ال ب�ين بار يس‬ ‫باللغة الفرنسية‪ ،‬إىل جانب إل��ي��اس صنرب وف���اروق م��ردم ب��ك‪ ،‬وأم�ضى السنوات األخ�يرة متنق ً‬ ‫وبرلني‪ ،‬حيث زوجته كريستني ماس وابنه سليم‪.‬‬ ‫ من مؤلفاته عرشات المقاالت والمداخالت والدرااست‪ ،‬وعدد من الكتب مهنا‪« :‬إرسائيل من اإلرهاب إىل‬ ‫دمرها‬ ‫جمازر الدولة » (‪« ،)١٩٨٤‬حتت إرسائيل‪ :‬فلسطني!» (‪ )١٩٨٧‬الذي كشف فيه عن أكرث من ‪ ٤٠٠‬قرية عربية ّ‬ ‫االحتالل الصهيوين‪« ،‬راسلة من رام الله» (‪ ،)٢٠٠٣‬وشبه سرية ذاتية روائية بعنوان «ذهابات وإيابات» (‪)٢٠٠٥‬‬ ‫اليت نقتطف مهنا هذه الصفحات‪.‬‬ ‫كرهسا للنضال عىل حاسب أرسته وصحته‬ ‫ تويف إيالن هاليفي يف باريس يف ‪ ١٠‬تموز ‪ ،٢٠١٣‬خمتتماً حياة ّ‬ ‫وم��واه��ب��ه األدب��ي��ة والموسيقية‪ .‬رف��ض تلخيص اإلن�س�ان خبتم القبيلة ال�تي ول��د فهيا (ينتمي وال���ده إىل أرسة‬ ‫هيودية يمنية عر يقة)‪.‬‬ ‫حيب أن يقول عن نفسه إنه ليس إرسائيلياً ‪ ،‬بل هو فلسطيين وهيودي‪ ٪١٠٠ ،‬هيودي و‪ ٪١٠٠‬فلسطيين‪.‬‬ ‫ كان ّ‬ ‫ يف ما ييل مقطع من سرية ذاتية شبه روائية إليالن هاليفي بعنوان «ذهاب وإياب» (‪ .)٢٠٠٥‬يروي بطل‬ ‫أن حادث عمل وقع لعامل عريب يف مطبعة قاده إىل موقع اشهتر باالسم والرمز كأنه لم يكن له‬ ‫الرواية كيف ّ‬ ‫وجود حقيقي عىل األرض‬ ‫‪160‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫‪161‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫وال�ضجيج‪ .‬كان هناك ح�شد حقيقي‬ ‫يف املمرات ويف الغرف‪ .‬والفو�ضى‬ ‫املطلقة مهيمنة على املكان‪ .‬هكذا‬ ‫كانت حال الطب يف ظل االحتالل‪.‬‬ ‫ ا�ستقبلهم طبيب فل�سطيني على‬ ‫ر�أ�س ال�سالمل املركزية للم�ست�شفى‪.‬‬ ‫كان الطبيب �شاباً‪ ،‬وقد الحظ نعيم‬ ‫فور ًا �إىل �أي درجة كان الطبيب ممزق ًا‬ ‫بني طبعه املحب من جهة‪ ،‬ورف�ضه‬ ‫التطبيع مع املحتل من جهة ثانية‪ .‬قال‬ ‫لنعيم بنربة حا ّدة‪« :‬ال نتكلم العربية‬ ‫هنا»‪ ،‬فما ك��ان من نعيم‪ ،‬ال�شاعر‬ ‫باخلجل من لغته العربية الرديئة‪� ،‬إال �أن‬ ‫عر�ض عليه احلديث بالإنكليزية‪.‬‬ ‫ هكذا �أخربه تفا�صيل احلادث‪.‬‬ ‫ال‬ ‫توجه الطبيب �إىل نعيم �سائ ً‬ ‫ثم ّ‬ ‫ّ‬ ‫�إياه‪« :‬و�أنت‪ ،‬من تكون؟»‪� .‬رشح له‬ ‫نعيم �أ ّن��ه منتدب من قبل موظفي‬ ‫ِ‬ ‫يق�ض‬ ‫امل�ؤ�س�سة‪ ،‬علم ًا ب� ّأن ذلك مل‬ ‫ّ‬ ‫قط على العداء ال�شديد البادر من‬ ‫تفح�ص الطبيب‬ ‫الطبيب ال�شاب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫�ضمادات م�صطفى‪ ،‬و�أعاد ت�ضميده‬ ‫من جديد‪ ،‬و� ّأكد له � ّأن جرحه حميد‪.‬‬ ‫ثم بد�أ بنف�سه بخياطة الغرز اخلم�س‬ ‫يف جبهة جعفر العجوز‪ ،‬الذي كان‬ ‫جال�س ًا على كر�سي ب�سيط‪ .‬و�ضع‬ ‫نعيم يده يف يد اجلريح‪ ،‬وق��ال له‬ ‫بالعربية‪�« :‬إن كان ذلك ي�سبب لك‬ ‫ت�شد على‬ ‫الأمل‪ ،‬فما عليك �إال �أن‬ ‫ّ‬ ‫يدي»‪ .‬وما كان من العجوز �إال � ّأن‬ ‫�شد على يده‪ .‬دامت العملية اجلراحية‬ ‫ّ‬ ‫ب�ضع دقائق‪ّ .‬‬ ‫ظل جعفر رزيناً‪ ،‬لكن‬ ‫نعيم كان ي�ست�شعر ال�ضغط القوي‬ ‫جتولت �أنظار‬ ‫ملرات متتالية‪ّ ،‬‬ ‫ليده‪ّ .‬‬ ‫الطبيب حول اليدين املت�شابكتني‪.‬‬ ‫لكنه مل يقل �شيئاً‪.‬‬ ‫ بعد خياطة اجلرح وت�ضميده على‬ ‫جبني جعفر‪ ،‬جل�س نعيم يف مواجهة‬ ‫الطبيب‪ ،‬وخاطبه قائالً‪�« :‬أريد منك‬ ‫الآن �أن مت�ل�أ لكليهما ال�شهادات‬

‫والإف������ادات ال��ت��ي ت�سمح لهما‬ ‫مر�ضية‪ ،‬و�أن‬ ‫باال�ستفادة من �إجازة‬ ‫ّ‬ ‫تكتبها بطريقة يكون فيها التوقف‬ ‫عن العمل لأط��ول فرتة ممكنة‪.»...‬‬ ‫عندها‪ ،‬طلب الطبيب‪ ،‬الذي بدت‬ ‫احلرية على وجهه‪ ،‬من نعيم �أن يكرر‬ ‫طلبه‪ ،‬وهو ما فعله نعيم‪« .‬ال �أريد بتات ًا‬ ‫أ�رص على �أن‬ ‫�شهادة ا�سرتحامية‪� .‬إنيّ � ّ‬ ‫يتمتع هذان املوظفان بالراحة الكاملة‬ ‫وبجميع التعوي�ضات التي يحق لهما‬ ‫تعر�ضا له»‪.‬‬ ‫بها مبوجب احلادث الذي ّ‬ ‫وبعدما ت� ّأكد الطبيب من �أنه فهم ما‬ ‫انكب على‬ ‫الذي يريده نعيم منه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ملء الوثائق ال�رضورية‪ ،‬من دون �أن‬ ‫يتوقف عن رمق نعيم بنظرات الريبة‪.‬‬ ‫ وفيما كان الأ�شخا�ص الثالثة‬ ‫يغادرون‪ ،‬قال نعيم جلعفر � ّإن ب�إمكانه‬ ‫ثم عاد �إىل امل�صنع‬ ‫املغادرة �إىل منزله‪ّ ،‬‬ ‫برفقة م�صطفى‪ ،‬و�أعطيا الأوراق‬ ‫أ�رصا على �رضورة نيله‬ ‫ملوري�س‪ ،‬و� ّ‬ ‫أ��صر الطبيب على‬ ‫كافة حقوقه‪ّ � .‬‬ ‫مرافقتهم‪ .‬ول��دى و�صولهم �إىل‬ ‫الباب‪� ،‬أم�سك بيد نعيم بحرارة وقال‬ ‫له بالإنكليزية‪ ،‬وب�صوت ت�شوبه‬ ‫الرجفة‪�« :‬أنت رجل طيب للغاية»‪.‬‬ ‫ ف��ج���أة‪ ،‬ان��ت��اب نعيم �شعور‬ ‫باال�ستياء‪ .‬ما كانت �صحوة ال�ضمري‬ ‫تلك‪ ،‬التي كانت نظرات الطبيب‬ ‫مفعمة بها؟ �أال ت�ضفي وجه ًا �إن�ساني ًا‬ ‫على هذا النظام الذي كان يعتربه هو‬ ‫نف�سه غري قابل للإ�صالح؟‬ ‫ ك��ان��وا ق��د غ����ادروا «جفعات‬ ‫���ش��ا�ؤول» قبل الظهر‪ ،‬وق��د باتت‬ ‫ال�ساعة الثالثة والن�صف من بعد‬ ‫الظهر‪ .‬انتهى يوم العمل‪ّ .‬‬ ‫فكر يف‬ ‫�أنه كان يوم ًا جيداً‪� .‬شم�س الربيع‬ ‫تلفحهم بينما ي�سريون نحو «بوابة‬ ‫ي�سميها العرب «باب‬ ‫دم�شق» التي‬ ‫ّ‬ ‫العمود»‪ ،‬بينما يطلق عليها اليهود‬ ‫ت�سمية «ب��اب �سي�شم»‪� ،‬أي باب‬


‫نابل�س‪ .‬افرتق جعفر عنهما وقال‬ ‫م�صطفى‪�« :‬إن كنا �سنذهب �إىل‬ ‫ّ‬ ‫فلن�ستقل تاك�سي‬ ‫احلانة بالتاك�سي‪،‬‬ ‫قريبي �إىل باب العمود!»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أحبها‬ ‫مرا �أمام‬ ‫ ‬ ‫املحال التي لطاملا � ّ‬ ‫ّ‬ ‫م�صطفى‪� ،‬أمام املقهى حيث يلعب‬ ‫يدخنون الرنجيلة‪،‬‬ ‫الرجال الرند وهم ّ‬ ‫�إىل جانب «�صيدلية �سنيورة»‪ .‬عند‬ ‫«�سور ال�صليبيني»‪ ،‬ال��ذي �أ�ضاف‬ ‫�إليه العثمانيون طابق ًا �إ�ضافياً‪.‬‬ ‫دورية‬ ‫اجلنود الإ�رسائيليون ينفّذون‬ ‫ّ‬ ‫و�أ�صابعهم على الزناد‪ .‬وال�رصافون‬ ‫ي�شرتون م��ن ال�سياح عمالتهم‬ ‫ب�أ�سعار ��صرف ال ُتنافَ�س‪ .‬وباعة‬ ‫الأ�سطوانات املو�سيقية يعر�ضون‬ ‫ن�سخ ًا لآخر �أعمال فريوز‪.‬‬ ‫ و�صل �سائق التاك�سي‪ ،‬قريب‬ ‫فهما �إليه م�ستعجلني‪،‬‬ ‫م�صطفى‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وطلب م�صطفى من ال�سائق �أن‬ ‫ني!»‪.‬‬ ‫يتوجه بهما «�إىل دير يا�س َ‬ ‫ّ‬ ‫ دي��ر يا�سني‪ ...‬قالها م�صطفى‬ ‫بنربة عابرة ُت�ستخدم عاد ًة للإحالة‬ ‫�إىل عنوان ال قيمة كبرية له‪ .‬ارتع�ش‬ ‫نعيم‪ ،‬ذلك � ّأن اال�سم يعرفه جيداً‪،‬‬ ‫فهو ي�شري �إىل املدنيني الـ ‪٢٥٠‬‬ ‫ال��ذي��ن ار ُت��ك��ب��ت بحقهم جم��زرة‬ ‫عام ‪١٩٤٨‬؛ كانت الكلمة حتيل‬ ‫�إىل موكب الأ��س�رى الناجني يف‬ ‫�شوارع القد�س‪ .‬وكانت دير يا�سني‬ ‫هي «اورادور �سور غالن»‪ ،‬البلدة‬ ‫تعر�ض املئات من‬ ‫الفرن�سية التي ّ‬ ‫�سكانها للإبادة على �أيدي القوات‬ ‫النازية يف ع��ام ‪ ١٩٤٤‬خالل‬ ‫احل��رب العاملية الثانية‪ .‬وخ�لال‬ ‫الأح��ادي��ث ال�ساخنة التي لطاملا‬ ‫خا�ضها نعيم ورفاقه مع حماورين‬ ‫التنوع‪ ،‬كان ي�ستح�رض‬ ‫�شديدي‬ ‫ّ‬ ‫ب�شكل متكرر طيف دير يا�سني‪ .‬لكنه‬ ‫جثث �ضحايا على الرغم من ذلك‪ ،‬كان ي�صعب‬ ‫جمزرة دير يا�سني‪ .‬عليه حتديد موقع القرية ال�شهيدة‪.‬‬ ‫‪162‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫‪163‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫ّ‬ ‫بد �أن تقع يف‬ ‫جل ما يعرفه �أ ّنها ال ّ‬ ‫ج��وار القد�س‪ .‬كانت دي��ر يا�سني‬ ‫بالن�سبة �إىل نعيم حدث ًا �أك�ثر مما‬ ‫كانت تعني له مكان ًا جغرافياً‪.‬‬ ‫ غري � ّأن نعيم كان يدرك التوا�صل‬ ‫اخلفي بني التاريخ مع عامل احلا�رض‬ ‫احل�سي‪� .‬أحياناً‪ ،‬تربز ت�شققات يف ذاك‬ ‫ّ‬ ‫التوا�صل‪ ،‬و�أحيان ًا �أخرى تناق�ضات‬ ‫فا�ضحة‪ .‬يف ع��ام ‪ُ ،١٩٥٠‬ط��رد‬ ‫�سكان قرية جمدل الآمنون‪ .‬حتى � ّإن‬ ‫نعيم بنف�سه جمع �شهادات حول هذا‬ ‫املو�ضوع‪ .‬ومل ُيفاج�أ الرجل عندما كان‬ ‫م�سافر ًا يف �أحد الأيام باجتاه «�أ�شكلون»‬ ‫العربية‪ ،‬التي �أعيد بنا�ؤها على �أنقا�ض‬ ‫ع�سقالن العربية‪ ،‬فوقع نظره على‬ ‫بلدة جمدل‪ ،‬التي كانت قد ا�ستعادت‬ ‫لتوها ا�سمها فوق �أ�شجار الربتقال‬ ‫ّ‬ ‫وامل�ساحات الفارغة‪ .‬بدا وك �� ّأن كل‬ ‫�شيء ال يزال يف مكانه‪ .‬لربهة‪ ،‬كادت‬ ‫ر�ؤية الن�ساء احلافيات تكن�سن الأر�ض‬ ‫مبكان�سهن‪ ،‬جتعله ّ‬ ‫ي�شك يف واقع‬ ‫الرتابية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يندد بح�صوله‬ ‫طرد ال�سكان الذي ظل ّ‬ ‫منذ �أعوام‪ .‬لكن بالطبع‪� ،‬رسعان ما زال‬ ‫الوهم؛ �إذ � ّإن ه�ؤالء الذين ر�آهم يف ذلك‬ ‫اليوم كانوا يهود ًا عراقيني ومغاربة‬ ‫ُجلبوا ليقيموا يف البلدة وفق نظام‬ ‫�صارم‪ ،‬بعدما ّمت �إفراغها من �سكانها‬ ‫بالقوة‪ .‬منذ ع�رشين �سنة‪ ،‬وه ��ؤالء‬ ‫املهاجرون يعي�شون يف تلك املنازل‬ ‫التي ال يزال ميكن ا�ست�شعار حيوات‬ ‫الأ�شخا�ص الذين كانت حتت�ضنهم‬ ‫حتى ع�شية «تبادل ال�سكان»‪ ،‬بح�سب‬ ‫التعبري الر�سمي‪ .‬لكن هل كان ه�ؤالء‬ ‫خمتلفني عن ال�سكان الأ�صليني؟ كانوا‬ ‫يت�شابهون باملظهر اجل�سدي وبال�شكل‬ ‫اخلارجي‪ .‬وكان ب�إمكان �أي م�سافر‬ ‫ّ‬ ‫�ضل طريقه �أن يالحظ طابع املجدل‬ ‫العربي‪ .‬ف�سلوك �سكانها وعباراتهم‬ ‫ت�شبه كثري ًا �سلوك وعبارات ال�سكان‬ ‫املغيبني عن منازلهم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪164‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ كان الو�ضع م�شابه ًا يف دير يا�سني‬ ‫ويف كفرقا�سم‪ ،‬حيث ارتكب حر�س‬ ‫احلدود الإ�رسائيليون‪ ،‬جمزرة بحق‬ ‫‪ ٤٢‬قروي ًا فل�سطيني ًا ع�شية حرب‬ ‫ال�سوي�س‪ ،‬وك��ان ه���ؤالء ُيعتربون‬ ‫ر�سمي ًا مواطنني �إ�رسائيليني‪« ،‬ذنبهم»‬ ‫�أنهم عادوا من �أعمالهم منتهكني حظر‬ ‫جتوال كانوا يجهلون �أنه مفرو�ض‪ .‬لقد‬ ‫�أثارت امل�س�ألة �ضجة كبرية يف حينها‪،‬‬ ‫حتى �أن��ه �صدرت �أح��ك��ام خمفّفة‬ ‫بال�سجن بحق �ضباط �إ�رسائيليني‬ ‫�أُدينوا بامل�س�ؤولية عن املجزرة‪ ،‬قبل‬ ‫�أن ُيعفى عنهم الحقاً‪ .‬و�ش�أنها �ش�أن‬ ‫دي��ر يا�سني‪ ،‬ظ ّلت كفرقا�سم ذات‬ ‫وقع �سيئ يف �أعماق الوعي اجلماعي‬ ‫الإ�رسائيلي‪ .‬خلعت عن نف�سها ق�شور‬ ‫حدثيتها‪ .‬و�صار ا�سم القرية بالن�سبة‬ ‫ّ‬ ‫�إىل غالبية الإ�رسائيليني مرتبط ًا‬ ‫حم��دد‪ :‬يحيل‬ ‫مب�صدر �إزع���اج غري‬ ‫َّ‬ ‫�سارة‪ ،‬مظلمة‪� ،‬شبه‬ ‫�إىل ق�صة غري‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫من�سية‪ ،‬من النوع الذي ال يتم تذكره‬ ‫ّ‬ ‫�إال على �سبيل قلة االنتباه‪ .‬حتى � ّأن‬ ‫تخيلوا � ّأن اليهود �أ ّدوا يف تلك‬ ‫كرث ًا ّ‬ ‫املجزرة‪ ،‬جري ًا على عادتهم‪ ،‬دور‬ ‫ال�ضحية وكب�ش الفداء‪.‬‬ ‫ ظ ّلت كفرقا�سم على قيد احلياة‪،‬‬ ‫وكانت يف حينها ال تزال �صامدة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يتذكر احلدث‬ ‫ومل يكن �أي متحف‬ ‫املرعب‪ .‬الحقاً‪ ،‬راح �سكان القرية‬ ‫ي�شيدون على نفقتهم اخلا�صة‪ ،‬بدعم‬ ‫ّ‬ ‫من بع�ض اليهود الدميوقراطيني‪،‬‬ ‫ثم‬ ‫ن�صب ًا تذكاري ًا ل�ضحايا املجزرة‪ّ .‬‬ ‫�ضد‬ ‫تتميز يف ن�ضالها ّ‬ ‫راحت القرية ّ‬ ‫م�صادرة الأرا�ضي‪ .‬ويف النهاية‪ ،‬بعد‬ ‫مرور فرتة طويلة‪ ،‬برز �شيخ �صاحب‬ ‫�شخ�صية كاريزماتية‪ ،‬هو �إ�سالمي‬ ‫ميز نف�سه عن الآخرين‪� ،‬أ ّدى‬ ‫معتدل ّ‬ ‫الحق ًا دور ًا �سيا�سي ًا مهماً‪ .‬حتى تلك‬ ‫احلقبة‪ ،‬كان نعيم يعرف كفرقا�سم‬ ‫جيداً‪ ،‬ال املجزرة فح�سب‪ ،‬بل القرية‬

‫�أي�ضاً‪ :‬كان له رفاق من كفرقا�سم‪،‬‬ ‫وخلية حزبية نا�شطة فيها‪ ،‬وحتى‬ ‫ّ‬ ‫�أ�صدقاء متحدرون منها‪ .‬لكنه مل‬ ‫يكن يعرف �أين تقع دير يا�سني‪.‬‬ ‫ثم ّ‬ ‫تذكر نعيم دانيال‪ ،‬اجلميلة‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫دانيال التي قالت له يوم ًا � ّإن دير‬ ‫يا�سني تقع يف �ضاحية قريبة من‬ ‫القد�س‪ ،‬يف مكان �أعيد بنا�ؤه على‬ ‫و�سميت «كريات‬ ‫�أنقا�ض القرية‬ ‫ّ‬ ‫�شا�ؤول»‪ ،‬حيث كانت تعمل دانيال‬ ‫معالجِ ة نف�سانية‪ .‬الواقع � ّأن منازل دير‬ ‫يا�سني‪ ،‬التي هجرها الناجون من‬ ‫جمزرة عام ‪ ،١٩٤٨‬باتت حتت�ضن‬ ‫م�صح ًا عقلي ًا وم�أوى للمجانني‪ ،‬متام ًا‬ ‫ّ‬ ‫مثل ال�سجن الربيطاين القدمي يف‬ ‫أخالقيا يف‬ ‫عكا‪ ،‬بدا لهما عبثي ًا و�‬ ‫ً‬ ‫�آن واح��د‪ .‬وك��أن م�صري بعد املوت‬ ‫من �ش�أنه �إنقاذ املباين من الإهانة‬ ‫الكربى ‪ -‬من الدمار امل��ادي‪ ،‬على‬ ‫�شاكلة ما ح�صل لأكرث من ‪٣٠٠‬‬ ‫ثم‬ ‫قرية �أف��رغ��ت م��ن �ساكنيها‪ّ ،‬‬ ‫ُ�س ّويت بالأر�ض يف عامي ‪-١٩٤٨‬‬ ‫‪� - ١٩٤٩‬أو من امل�صادرة الكاملة‬ ‫مل�صلحة الوافدين اجلدد‪.‬‬ ‫ كان نعيم يعرف �أي�ض ًا �أن «كريات‬ ‫�شا�ؤول» بالكاد يف�صلها كيلومرت‬ ‫واحد عن «جفعات �شا�ؤول»‪ ،‬حيث‬ ‫يقع م�صنعه‪ .‬على الرغم من ذلك‪ ،‬مل‬ ‫التجمعني‬ ‫يكن من طريق يربط بني‬ ‫ّ‬ ‫ال�سكنيني‪ ،‬ومل يدفعه دافع يوم ًا �إىل‬ ‫ّ‬ ‫املغامرة بالتوجه �إىل اجلهة الأخرى‬ ‫من �أ�سفل الت ّلة‪.‬‬ ‫ كان على نعيم ان يتلفّط بالكلمة‬ ‫ دير يا�سني ‪ -‬خالل دخوله �إىل‬‫�سيارة التاك�سي اخلا�صة بقريب‬ ‫م�صطفى‪ ،‬عند «بوابة دم�شق» يف‬ ‫ذلك اليوم الربيعي اجلميل‪ ،‬ليفهم‬ ‫�أنه كان يعمل نحو خم�سني �ساعة يف‬ ‫الأ�سبوع‪ ،‬و�أنه كان يعي�ش ويعمل يف‬ ‫دير يا�سني‪ ،‬فوق �أنقا�ض املجزرة‪.‬‬

‫شريكو بيكه يس‬

‫الشعر كالينبوع‬ ‫عندما يتدفق ِ‬ ‫يف مطلع آب‪/‬أغسطس المنرصم‪ ،‬ت��ويف يف ستوكهولم كبري شعراء كردستان شريكو بيكه يس بعد معاناة‬ ‫ط��وي��ل��ة م��ع م���رض ال�س�رط���ان‪ .‬ع���اش ش�يرك��و ال��ق��س��م اال ك�ب�ر م��ن ح��ي��ات��ه م�ترح�لا‪ :‬يف ج��ب��ال ك��ردس��ت��ان م��ع اب��ي��ه‬ ‫ال�شاع��ر ال��م��ق��اوم وال��م��ط��ارد‪ ،‬ح��ي��ث ن�شأت حاسسيته ال��م��ره��ف��ة للطبيعة واالرض‪ ،‬ث��م متنقال ب�ين المنايف‬ ‫ع��ن��دم��ا ان��ض��م ه��و ن��ف��س��ه اىل ال��م��ق��اوم��ة ال��ك��وردي��ة‪ .‬ع��اد اىل ال��س��ل��ي��م��ان��ي��ة ال��ع��ام ‪ ١٩٩١‬وان��ت��خ��ب ن��ائ��ب��ا يف اول‬ ‫برلمان القليم كردستان وعينّ بعده وز يرا للثقافة‪ .‬باكرا‪ ،‬دعا شريكو اىل حتر ير اللغة الكوردية من القوالب‬ ‫اجلامدة والتفخيم والزتيني والتكلّ ف‪ ،‬عىل ان داعية احلداثة يف الشعر هذا ظل شعره موسوما بشطحات‬ ‫المعة من الرعوية والرومنطيقية المطبوعة بزنعة اناسنية شغوفة‪ .‬من شعره الملزتم قصيدة هشرية من‬ ‫وح��ي جم��زرة حلبجا ال�تي قصفها جيش ص��دام حسني ب��ال��س�لاح ال��ك��ي��م��اوي يف ال��ع��ام ‪ ١٩٨٨‬ب��ع��ن��وان «راسل��ة‬ ‫�����رب»‪ .‬ل��ش�يرك��و ب��ي��ك��ه س اك�ث�ر م���ن ع�شري��ن دي����وان ش��ع��ر‪ .‬ت��رج��م ش��ع��ره اىل اك�ث�ر م���ن ع�ش�ر ل���غ���ات‪ ،‬بما‬ ‫اىل ال ّ‬ ‫ف�يه��ا ال��ع��ر ب��ي��ة‪ .‬وك��ان ش�يرك��و ي�شرف شخصيا ع�لى ت��رمج��ة ق��ص��ائ��ده اىل ال��ع��ر ب��ي��ة‪ .‬ول��ه‪ ،‬اىل ال��ش��ع��ر‪ ،‬مرسحيات‬ ‫وسرية ذاتية بعنوان «ثقل الرماد» صدرت العام ‪ .١٩٩١‬دفن شريكو حسب وصيته يف «باركي آزادي»‪/‬‬ ‫«حديقة احلر ية» يف السليمانية‪ .‬ماسهمة يف استحضار غياخب‪ ،‬ننرش يف ما ييل قصائد من جمموعته «نَ ْغمة‬ ‫َح َج ّر ية» (االهايل‪ ،‬دمشق ‪.)١٩٩٩‬‬

‫�ضابط عادي‬ ‫عندما منحوه كوكبة �أخرى‬ ‫كان قد قتل كوكبا‬ ‫وعندما �صارت كوكبتني‬ ‫َ‬ ‫حبال م�شانق‬ ‫�صارت يداه‬ ‫وعندما �صارت ثالثة كواكب‬ ‫ثم تاجا وما فوق‬ ‫�إ�ستيقظ التاريخ‬ ‫ذات �صباح‬ ‫فوجد البالد‬ ‫مملكة �أرامل!‬

‫‪165‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫�صورة‬ ‫ر�سمت طائرا‬ ‫ُ‬ ‫وجعلت من «كلمة» ر�أ�سا له‬ ‫وجعلت من «نبلة القلم» منقاره‬ ‫ومن «حفنة تراب» ج�سده‬ ‫ومن «وتر» رقبته‬ ‫«حبة زيتون» قلبه‬ ‫ومن ّ‬ ‫«الع�شب» ذيله‬ ‫ومن ُ‬ ‫ِ‬ ‫ولكنه مل يطر‬ ‫جعلت من فر�شاة ڤان غوخ‬ ‫حتى‬ ‫ُ‬ ‫جناحا له‬


‫حمبة دائمة‬ ‫ّ‬ ‫اكتب بورقة ع�شب‬ ‫و�أقر�أ غابة‬ ‫�أرى قطرة مطر‬ ‫و�أ�سمع زجمرة بحر‬ ‫على كفّي حبة قمح‬ ‫ويف روحي بيادر‬ ‫�أحمل َ�شعرة من �ضفرية حبيبتي‬ ‫وجنبني حمبة‬ ‫انا عندي الآن‬ ‫بيت واحد من ِ�شعر «نايل»‬ ‫ومعي كرد�ستان كلها‬ ‫ق�صائد كردية‬ ‫‪.٢‬‬ ‫النهر من الرك�ض‬ ‫تعب‬ ‫ُ‬ ‫وراء البحر‬ ‫وتعبت الكلم ُة من اجلري‬ ‫ْ‬ ‫وراء الق�صيدة‬ ‫لكن �أملي مل يتعب مطلقا‬ ‫من ِحمل الزالزل‬ ‫‪.٤‬‬ ‫كردي‬ ‫الرماد يف �أ�صله‬ ‫ّ‬ ‫ملاذا؟‬ ‫ال ّله وحده يعرف اجلواب‪.‬‬ ‫‪.٨‬‬ ‫وقعت يف ُحب الينبوع‬ ‫عندما‬ ‫ُ‬ ‫بد� ْأت ق�صائدي‬ ‫تتدفق‬ ‫‪.٩‬‬ ‫فم اجلبل‬ ‫الكهف ُ‬ ‫فم لل�رصخة فقط‬ ‫ٌ‬

‫‪ 166‬قراءة غراميش يف زمن الثورات العربية‬ ‫‪ 174‬العلوم االجتماعية العربية‬ ‫نقديني‬ ‫تقليدين‬ ‫بني‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫غ�شان احلاج‬ ‫ّ‬

‫‪ 182‬العراق مثاالً وحنا بطاطو دليالً [‪]2‬‬ ‫من أهل الدولة إىل دولة األهل‬

‫و�شاح �رسارة‬

‫‪166‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫منحى التفكك واالن��ه��ي��ار‪� ،‬إذذاك‬ ‫�ل «العفوية» حم� ّ‬ ‫حت� ّ‬ ‫�ل «الإرغ���ام»‬ ‫ليتوج‬ ‫الذي يزداد �سفور ًا وانك�شاف ًا ّ‬ ‫ب��الإج��راءات البولي�سية املبا�رشة‬ ‫وباالنقالبات الع�سكرية‪.‬‬

‫قراءة غراميش‬

‫اليعقوبية والربجوازية‬ ‫(‪ )...‬ينبغي �إلقاء الأ�ضواء الكا�شفة‬ ‫على حقيقة � ّأن اليعاقبة قد ت�س ّنموا‬ ‫دور احل��زب القائد باللجوء �إىل‬ ‫ال����صراع ال��دم��وي و�أن��ه��م فر�ضوا‬ ‫�أنف�سهم فر�ض ًا على الربجوازية‬ ‫الفرن�سية باملعنى احل��ريف للكلمة‬ ‫وقادوها �إىل موقع �أكرث تقدم ًا بكثري‬ ‫م��ن ذل��ك ال��ذي كانت ترغب يف‬ ‫احتالله �أ�صلب النوى الربجوازية‬ ‫لو �أنها ُترِكت خليارها العفوي‪.‬‬ ‫بل �إنهم ق��ادوه��ا �إىل موقع �أكرث‬ ‫تقدم ًا من ذلك الذي كانت ت�سمح‬ ‫به املعطيات التاريخية‪ .‬وقد �أدى‬ ‫هذا �إىل ا�ستثارة ال � ِر ّدات امل�ضادة‬ ‫ومهد‬ ‫تنوع �أ�شكالها‪ّ ،‬‬ ‫للثورة‪ ،‬على ّ‬

‫يف زمن الثورات العربية‬ ‫ه��ذه ال��م��خ��ت��ارات مستلّ ة م��ن م��ؤل��ف ل��غ��رام�شي غ�ير م��ع��روف ك ً‬ ‫��ث�يرا‪ ،‬ه��و «م�لاح��ظ��ات ح��ول الهنضة القومية‬ ‫ً‬ ‫وخصوصا من الفصول الثاين واخلامس والاسدس‪ .‬تتعلّ ق المختارات بمحاولة تنظري‬ ‫اإليطالية» (‪،)١٩٣٣‬‬ ‫لتجارب الوحدة اإليطالية واأللمانية والثورات اجلمهور ية األوروبية يف القرنني الثامن عرش والتاسع عرش‬ ‫يقوم هبا الذهن النقدي اإلستثنايئ ألنطونيو غراميش‪ ،‬المفكر والقائد الشيوعي اإليطايل الكبري‪ .‬القراءة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بالتفكر االستلهام ال التطبيق اآل يل‪ .‬فكل نص نظري ‪ -‬تارخيي‬ ‫للتفكر بالثورات العربية‪ .‬ونقصد‬ ‫مناسبة‬ ‫ن��ق��ط��ة ان��ط�لاق ال هن��اي��ة م��ط��اف‪ .‬ال��م��ه��م يف ت��ن��اول غ��رام�شي ل��ه��ذه ال��ت��ج��ارب‪ ،‬م��ق��ي��اس��ه ال��م�نه��ج��ي األاسس عن‬ ‫السيطرة وال��ق��ي��ادة يف مم��ارس��ة السلطة‪ ،‬وع��دد م��ن مفاهيمه المفتاحية مثل مفهوم «ال��ث��ورات السلبية»‬ ‫ومفهومه ع��ن ح��رب المواقع وح��رب ال��م��ن��اورة‪ ،‬واستخدامه اخل�لاق للتحليل الطبقي‪ ،‬ومقاربته المبتكرة‬ ‫لمأسلة التمثيل السيايس للطبقات يف الثورات كما يف عملية التوحيد القومي‪ ،‬والعالقة بني العسكري‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫آخرا‪ ،‬إضاءاته الدائمة عىل أدوار المثقفني‪.‬‬ ‫وأخريا ليس‬ ‫والسيايس يف الثورات‪،‬‬

‫الف�صل الثاين‬

‫�صورة لغرام�شي‬ ‫بعد اعتقاله‪.‬‬ ‫‪168‬‬

‫القيادة وال�سيطرة‬ ‫�إن املقيا�س املنهجي ال��ذي يتعني‬ ‫على درا�ستنا �أن تعتمده هو الآتي‪:‬‬ ‫تفوق فئة اجتماعية معينة يتجلى‬ ‫�إن ّ‬ ‫بطريقتني‪ ،‬مبا هو «�سيطرة» �أو مبا هو‬ ‫«قيادة فكرية و�أخالقية»‪ّ � .‬إن فئة‬ ‫اجتماعية معينة ت�سيطر على الفئات‬ ‫املعادية‪ ،‬فت�سعى �إىل «ت�صفيتها»‬ ‫�أو �إىل �إخ�ضاعها‪ ،‬ما قد ي�ضطرها‬ ‫�إىل اللجوء �إىل القوة امل�سلحة‪� .‬إال‬ ‫�أنها تقود فئات منا�رصة �أو حليفة‪.‬‬ ‫ويف مقدور الفئة املعنية �أن متار�س‬ ‫«القيادة» حتى قبل ا�ستيالئها على‬ ‫�سلطة الدولة‪ ،‬ال بل يجب عليها‬ ‫ذلك؛ (لأن هذه القيادة �رشط �أ�سا�سي‬ ‫من �رشوط اال�ستيالء على ال�سلطة)‪.‬‬ ‫بدايات‬

‫‪201320‬‬ ‫ربيع‬ ‫‪13 |5‬‬ ‫العدد ‪6‬‬

‫ولن حتقق الفئة املعنية �سيطرتها �إال‬ ‫عندما تبا�رش ممار�سة ال�سلطة‪ .‬لكن‬ ‫مهما كانت �سيطرتها مكينة على‬ ‫مقاليد ال�سلطة‪ ،‬تبقى م�ضطرة �إىل‬ ‫اال�ستمرار يف ممار�سة «القيادة» �إىل‬ ‫جانب ممار�ستها «ال�سيطرة»‪.‬‬ ‫املثقفون والطبقات‬ ‫‪ ...‬هنا نكت�شف الثبات املنهجي‬ ‫ملقيا�س من مقايي�س البحث التاريخي‬ ‫ ال�سيا�سي القائل ب�أنه ال توجد‬‫طبقة م�ستقلة من املثقفني‪ ،‬بل �إن‬ ‫لكل طبقة �رشيحتها اخلا�صة من‬ ‫املثقفني‪� ،‬أو �إنها تتجه نحو ت�شكيل‬ ‫مثل تلك ال�رشيحة‪� .‬إال � ّأن مثقفي‬ ‫الطبقة التقدمية تاريخي ًا (وعملي ًا) قد‬ ‫ينجحون يف ظروف معينة يف اجتذاب‬ ‫مثقفي الطبقات االجتماعية الأخرى‬

‫و�إخ�ضاعهم‪ ،‬يف نهاية املطاف‪،‬‬ ‫في�ؤ�س�سون بالتايل نظام ًا من الت�ضامن‬ ‫ت�شده روابط‬ ‫ي�ضم جميع املثقفني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ذات طابع نف�ساين (االعتداد بالنف�س‪،‬‬ ‫ت�شده ع�صبية املرتبة‬ ‫�إلخ‪ ،)...‬وغالب ًا ما ّ‬ ‫املغلقة (ذات الطابع الثقايف‪ -‬احلقوقي‬ ‫�أو التعا�ضدي‪� ،‬إلخ‪.)...‬‬ ‫ وتتجلى هذه الظاهرة «عفوياً» �إبان‬ ‫تلك الفرتات التاريخية التي ت�ؤدي‬ ‫فيها الطبقة املعنية دور ًا تقدمي ًا فعلي ًا‪،‬‬ ‫�أي عندما تدفع املجتمع ككل �إىل �أمام‪،‬‬ ‫فال تكتفي بتلبية حاجاتها املعا�شية‪،‬‬ ‫بل تعمل با�ستمرار على م�ضاعفة‬ ‫عدد كوادرها من �أجل غزو جماالت‬ ‫متجددة �أبد ًا من الن�شاط االقت�صادي‬ ‫والإنتاجي‪ .‬ولكن‪ ،‬ما �إن ت�ستنفد‬ ‫الطبقة االجتماعية امل�سيطرة وظيفتها‪،‬‬ ‫حتى تنحو هذه الكتلة الأيديولوجية‬

‫ ميكن تو�صيف ذلك على النحو‬ ‫الآتي‪ :‬كانت «املرتبة الثالثة» � ّ‬ ‫أقل‬ ‫الطبقات االجتماعية متتع ًا بالتما�سك‬ ‫الداخلي‪ ،‬فنخبتها املثقفة �شديدة‬ ‫التنوع والبعرثة‪ ،‬وهي على وجه‬ ‫الإج��م��ال طبقة متقدمة ج��د ًا يف‬ ‫ميالة‬ ‫امليدان االقت�صادي‪ ،‬لكنها ّ‬ ‫�إىل االع��ت��دال �سيا�سي ًا‪ .‬غري � ّأن‬ ‫منحى‬ ‫تطور الأو���ض��اع �سيتخذ‬ ‫ً‬ ‫�شديد الإث���ارة‪ .‬يف البدء‪ ،‬اكتفى‬ ‫ممثلو «املرتبة الثالثة» بطرح امل�سائل‬ ‫تتكون‬ ‫تهم الأف���راد الذين‬ ‫التي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫منهم الطبقة فقط‪� ،‬أي املطالب‬ ‫التي تعبرّ عن م�صاحلهم «الفئوية»‬ ‫فح�سب (ون�ستخدم «فئوية» باملعنى‬ ‫التقليدي‪� ،‬أي مبعنى امل�صالح‬ ‫الأنانية ال�ضيقة واملبا�رشة لفئة‬ ‫معينة)‪ .‬وال��واق��ع � ّأن رواد الثورة‬ ‫كانوا �إ�صالحيني معتدلني‪� ،‬أ�صواتهم‬ ‫لكن مطالبهم متوا�ضعة‪.‬‬ ‫مرتفعة‪ّ ،‬‬ ‫ تدريجي ًا‪ ،‬منت نخبة جديدة ال‬ ‫تق�رص اهتمامها على الإ�صالحات‬

‫لوال د�أب اليعاقبة على معار�ضة �أية‬ ‫«هدنة» يف العملية الثورية‪ ،‬ف�أر�سلوا‬ ‫�إىل املق�صلة ممثلي املجتمع القدمي‪ ،‬ثم‬ ‫�أحلقوهم بثوريي الأم�س وقد باتوا‬ ‫رجعيني مبقايي�س احلا�رض‪ .‬وهكذا كان‬ ‫اليعاقبة احلزب الوحيد للثورة اجلارية‪،‬‬ ‫بالقدر الذي مل يكتفوا فيه بتمثيل‬ ‫الأفراد احلقيقيني الذين تتكون منهم‬ ‫الربجوازية الفرن�سية‪ ،‬و�إمن��ا م ّثلوا‬ ‫احلركة الثورية بعامة‪ ،‬مبا هي �سريورة‬ ‫تاريخية متكاملة‪ .‬وكانوا احلزب‬ ‫الوحيد للثورة اجلارية �أي�ض ًا لأنهم‬ ‫م ّثلوا �أي�ض ًا احلاجات امل�ستقبلية‪،‬‬ ‫لي�س فقط حاجات ه ��ؤالء الأف��راد‬ ‫الفعليني وح�سب‪ ،‬بل �أي�ض ًا حاجات‬ ‫كافة املجموعات القومية التي كان‬ ‫يتعينّ ا�ستيعابها يف �إط��ار الطبقة‬ ‫الأ�سا�سية القائمة‪ :‬الربجوازية‪.‬‬ ‫ن�شدد‪ ،‬يف وجه‬ ‫ وال بد من �أن‬ ‫ّ‬ ‫تيار فكري منحاز والتاريخي‪،‬‬ ‫على � ّأن اليعاقبة كانوا واقعيني على‬ ‫طريقة ماكيافللي‪ ،‬ومل يكونوا حاملني‬

‫ال�سمة املميزة لليعقوبية‪ ...‬وبالتايل ال�سمة املميزة ملجمل الثورة الفرن�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــية‪،‬‬ ‫هي �أنها قامت على دفع الو�ضع عنو ًة �إىل الأمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــام‪...‬‬ ‫وعلى مبادرة قب�ضة من الرجال البالغي الن�شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاط‬ ‫واحلزم ي�سوقون الربجوازية �إىل �أمام بركلها على قفاهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‬ ‫الطريق �أم���ام ال���دور ال��ذي �أ ّداه‬ ‫نابليون بونابارت‪� .‬إن ال�سمة املميزة‬ ‫لليعقوبية (وقبلها �أي�ض ًا لكرومويل‬ ‫وج��ن��وده امللقبني بـ«م�ستديري‬ ‫الر�ؤو�س») ‪ -‬وبالتايل ال�سمة املميزة‬ ‫ملجمل الثورة الفرن�سية ‪ -‬هو �أنها‬ ‫قامت على دفع الو�ضع عنوة �إىل‬ ‫ظاهريا على الأق��ل‪ ،‬وعلى‬ ‫الأم��ام‪،‬‬ ‫ً‬ ‫فر�ض الأمر الواقع‪ ،‬وعلى مبادرة‬ ‫قب�ضة من الرجال البالغي الن�شاط‬ ‫واحلزم ي�سوقون الربجوازية �إىل �أمام‬ ‫بركلها على قفاها‪.‬‬ ‫‪169‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫«ال��ف��ئ��وي��ة»‪ ،‬ب��ل ت��ن��زع نحو فهم‬ ‫الربجوازية ب�صفتها الطبقة املهيمنة‬ ‫على �سائر القوى ال�شعبية‪ .‬وقد مت هذا‬ ‫اال�صطفاء بفعل عاملني اثنني‪ :‬مقاومة‬ ‫القوى االجتماعية القدمية من جهة‪،‬‬ ‫والأخطار اخلارجية من جهة ثانية‪.‬‬ ‫فقد رف�ضت قوى العهد القدمي تقدمي‬ ‫التنازالت‪ .‬وحيث ارت�ضت التنازل عن‬ ‫النزر الي�سري‪ّ ،‬مت ذلك من �أجل ك�سب‬ ‫الوقت والتهيئة للهجمات املعاك�سة‪.‬‬ ‫مقدر ًا لـ«املرتبة الثالثة» �أن‬ ‫ وكان َّ‬ ‫ت�سقط يف هذه «املنزلقات» املتتالية‬

‫جمردين‪ .‬كانوا مقتنعني كل االقتناع‬ ‫ّ‬ ‫باحلقيقة املطلقة ال��ت��ي تنطوي‬ ‫عليها �شعاراتهم ع��ن امل�ساواة‬ ‫والأخ��وة واحلرية‪ ،‬والأهم من ذلك‬ ‫� ّأن اجلماهري ال�شعبية العري�ضة‬ ‫وزجوها يف‬ ‫عب�أها اليعاقبة‬ ‫ّ‬ ‫التي ّ‬ ‫ال�رصاع كانت مقتنعة هي �أي�ضا ً‬ ‫بتلك احلقيقة‪ .‬ولقد عبرّ اليعاقبة‬ ‫يف لغتهم و�أيديولوجيتهم و�أ�ساليب‬ ‫ال عن متطلبات‬ ‫عملهم تعبري ًا �أ�صي ً‬ ‫حقبتهم التاريخية‪ ،‬و�إن كانوا يبدون‬ ‫«جتريديني» و«مهوو�سني» مبقايي�س‬


‫«ال��زم��ن احل��ا��ضر»‪� ،‬أي يف و�ضع‬ ‫خمتلف‪ ،‬وبعد انق�ضاء �أكرث من قرن‬ ‫من التطور الثقايف‪.‬‬ ‫ بالطبع‪ ،‬عبرّ اليعاقبة عن تلك‬ ‫املتطلبات وفق ًا للتقليد الثقايف‬ ‫الفرن�سي‪ .‬و�أحد الأمثلة على ذلك‬ ‫هو حتليل اخلطاب اليعقوبي كما تلقاه‬ ‫يف «العائلة املقد�سة»‪ .‬ومثال �آخر‬ ‫هو اعرتاف هيغل نف�سه ب� ّأن اخلطاب‬ ‫احلقوقي ‪ -‬ال�سيا�سي اليعقوبي‬ ‫ومفاهيم الفل�سفة الكال�سيكية‬ ‫الأملانية ‪ -‬املعرتف بها اليوم ب�أنها‬ ‫حتوي احلد الأق�صى من التحديد‪،‬‬ ‫والتي �شكلت منبع التاريخانية‬ ‫احلديثة ‪ -‬متوازيان موازاة تامة وقابل‬ ‫واحدهما لأن يرتجم �إىل لغة الآخر‪.‬‬ ‫ كانت ال����ضرورة الأوىل (التي‬ ‫ا�ست�شعرتها اليعقوبية) هي �رضورة‬ ‫�إبادة القوى املعادية �أو ّ‬ ‫�شل حركتها‬ ‫�إىل درجة تنعدم معها �إمكانية قيام ر ّدة‬ ‫م�ضادة للثورة‪� .‬أما ال�رضورة الثانية‪،‬‬ ‫فهي تو�سيع الإط��ارات التي تتكون‬ ‫منها الربجوازية بحد ذاتها وو�ضعها‬ ‫يف املوقع القيادي ل�سائر قوى الأمة‪.‬‬ ‫ا�ستقطاب الفالحني‬ ‫وكان هذا يعني ا�ستنباط امل�صالح‬ ‫واملتطلبات امل�شرتكة بني كافة تلك‬ ‫ال��ق��وى لتحريكها وقيادتها يف‬ ‫ال�رصاع مبا يحقق نتيجتني اثنتني‪:‬‬ ‫�أوالهما َج ْبه ال�رضبات التي يكيلها‬ ‫العدو بوا�سطة �أو�سع هدف ممكن‪،‬‬ ‫�أي �إيجاد ت��وازن قوى �سيا�سي ‪-‬‬ ‫ع�سكري مل�صلحة الثورة‪ .‬وثانيتهما‪،‬‬ ‫حرمان ذاك العدو �أية منطقة �آمنة‬ ‫ي�ستطيع فيها جتنيد اجليو�ش من منط‬ ‫جي�ش «الڤانديه»‪.‬‬ ‫ ولوال ال�سيا�سة الزراعية التي‬ ‫اعتمدها اليعاقبة‪ ،‬لكانت «الڤانديه»‬ ‫ق��د و�صلت �إىل �أب���واب باري�س‪.‬‬ ‫‪170‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫‪ ١٨٦٤‬و ‪ ١٨٦٦‬و ‪ ١٨٧٠‬قد‬ ‫حلت امل�س�ألة القومية كما حلت امل�س�ألة‬ ‫الطبقية انتقالي ًا‪ .‬ففازت الربجوازية‬ ‫بال�سلطة االقت�صادية ال�صناعية‪ ،‬غري‬ ‫�أن الطبقات الإقطاعية القدمية ظلت‬ ‫هي الفئة ال�سيا�سية احلاكمة يف الدولة‬ ‫حتظى بامتيازات فئوية وا�سعة النطاق‬ ‫يف اجلي�ش والإدارة وامللكية العقارية‪.‬‬ ‫ و�إذا كانت هذه الطبقات القدمية‬ ‫ق��د حافظت على ذاك ال��ق��در من‬ ‫الأه��م��ي��ة يف �أمل��ان��ي��ا ومتتعت مبثل‬ ‫تلك االمتيازات‪ ،‬فلأنها مار�ست‬ ‫وظيفة قومية‪ ،‬لأن �أف��راده��ا �أدوا‬ ‫دور «مثقفي» الربجوازية الذين‬ ‫ميلكون مزاج ًا خا�ص ًا بهم متح�ضهم‬ ‫�إياه �أ�صولهم الفئوية والتقاليد‪ .‬يف‬ ‫�إنكلرتا‪ ،‬التي �سبقت فرن�سا يف‬ ‫ثورتها الربجوازية‪ ،‬نلقى ظاهرة‬ ‫�شبيهة بالظاهرة الأملانية‪ ،‬هي ظاهرة‬ ‫االندماج بني القدمي واجلديد‪ ،‬على‬ ‫الرغم من الن�شاط الكثيف الذي‬ ‫بذله «اليعاقبة» الربيطانيون ‪� -‬أي‬ ‫كرومويل و«م�ستديرو الر�ؤو�س»‪.‬‬ ‫فقد ظلت الأر�ستقراطية القدمية ت�ؤدي‬

‫ وع��ل��ى ال��رغ��م م��ن ه��ذا كله‪،‬‬ ‫نقول �إن اليعاقبة مل يغادروا �أر�ض‬ ‫ال�برج��وازي��ة ق��ط‪ ،‬كما يتبني من‬ ‫الأح���داث التي �أعلنت نهايتهم‬ ‫كحزب مقولب يف قالب جامد‬ ‫و�ضيق �إىل ابعد ح��دود ال�ضيق‪،‬‬ ‫كما يتبني من حالهم بعد م�رصع‬ ‫«ل‬ ‫روب�سبيري‪ .‬فقد مت�سكوا بقانون ُ‬ ‫�شاپلييه» ورف�ضوا تقدمي �أي تنازل‬ ‫للعمال حول حق التنظيم‪ .‬فا�ضطروا‬ ‫بالتايل �إىل �إ�صدار القانون املعروف‬ ‫فق�سموا‬ ‫بـ«قانون احلد الأق�صى»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ب��ذل��ك اجلبهة الباري�سية‪ .‬و�إذا‬ ‫املجمعة يف‬ ‫بقواهم الهجومية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫«عامة باري�س» تتفرق خائبة الأمل‬ ‫وينت�رص «الرثميدور»‪.‬‬ ‫ بذلك كانت الثورة قد بلغت حدها‬ ‫الطبقي الأق�صى‪ .‬و�أف�ضت �سيا�سة‬ ‫التحالفات والثورة امل�ستمرة �إىل‬ ‫طرح ق�ضايا جديدة مل تكن قادرة‬ ‫على حلها �آنذاك‪ ،‬وهي التي �أطلقت‬ ‫العنان لقوى بدائية ال ميكن احتوا�ؤها‬ ‫�إال بوا�سطة دكتاتورية ع�سكرية‪.‬‬

‫والواقع � ّأن مقاومة منطقة «الڤانديه»‬ ‫بحد ذاتها وثيقة ال�صلة بامل�س�ألة‬ ‫ّ‬ ‫القومية التي احتدمت بني �شعوب‬ ‫منطقة «بريتانيا» وب�شكل عام بني‬ ‫جميع املناوئني ل�شعار «اجلمهورية‬ ‫الواحدة التامة غري القابلة للتجزئة»‬ ‫وبني ال�سيا�سة املركزية الإداري��ة‬ ‫�شعار ونهج‬ ‫ الع�سكرية‪ ،‬وهما‬‫ٌ‬ ‫�سيا�سي مل يكن لليعاقبة �أن يتخلوا‬ ‫عنهما دون �أن ي�سوقهم ذلك �إىل‬ ‫االنتحار ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫ حاول «اجلريونديون» ا�ستغالل‬ ‫�شعار الفيدرالية لكي ي�سحقوا‬ ‫باري�س اليعقوبية‪ ،‬غري � ّأن اجليو�ش‬ ‫الريفية التي احت�شدت للزحف على‬ ‫العا�صمة ما لبثت �أن ان�ضمت �إىل‬ ‫�صفوف الثوار‪ .‬وخال بع�ض املناطق‬ ‫الهام�شية ‪ -‬حيث التمايزات القومية‬ ‫واللغوية الفاقعة ‪ -‬تبينّ �أن امل�س�ألة‬ ‫الزراعية �أقوى من نزعات اال�ستقالل‬ ‫الذاتي‪ .‬فارت�ضت فرن�سا الريفية‬ ‫هيمنة باري�س‪� ،‬أي �إنها �أدركت �أن‬ ‫الت�صفية النهائية للعهد القدمي‬ ‫كانت تقت�ضي التحالف مع العنا�رص‬ ‫الأكرث تقدم ًا من «املرتبة الثالثة» ال يف اختالف طرائق‬ ‫التحالف مع «اجلريونديني»‪� .‬صحيح ت�س ّلم الربجوازية لل�سلطة‬ ‫� ّأن اليعاقبة �أرغموها على ذلك يف فرن�سا كان امل�سار هو الأغنى‬ ‫�إرغ��ام� ًا‪ ،‬لكن ال�صحيح �أي�ض ًا �أن م��ن حيث ال��ت��ط��ورات‪ ،‬وم��ن حيث‬ ‫عملية الإرغ��ام هذه كانت حت�صل اح��ت��وا�ؤه على العنا�رص ال�سيا�سية‬ ‫دوم ًا يف اجتاه من�سجم واجتاه التطور احلية والإيجابية‪� .‬أما يف �أملانيا‪ ،‬فقد‬ ‫�أخذ منحى ي�شبه‪ ،‬يف بع�ض جوانبه‪،‬‬ ‫التاريخي احلقيقي‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫يكتف اليعاقبة بتنظيم حكومة ما ح�صل يف �إيطاليا‪ ،‬مثلما ي�شبه ما‬ ‫ ومل‬ ‫برجوازية‪� ،‬أي حتويل الربجوازية ح�صل يف �إنكلرتا يف جوانبه الأخرى‪.‬‬ ‫�إىل طبقة مهيمنة‪ .‬فعلوا �أكرث من لقد ف�شلت حركة ‪ ١٨٤٨‬يف‬ ‫ذل��ك‪� :‬أ�س�سوا الدولة الربجوازية �أملانيا نتيجة �ضعف التمركز الربجوازي‬ ‫وجعلوا الربجوازية الطبقة القائدة (حيث كان �أق�صى الي�سار الدميقراطي‬ ‫واملهيمنة يف الأمة‪ .‬بعبارة �أخرى‪ ،‬هو ال��ذي ط��رح �شعار ًا من الطراز‬ ‫�أر�سوا الدولة اجلديدة على قاعدة اليعقوبي‪ :‬الثورة امل�ستمرة) ولأن‬ ‫را�سخة وبنوا الأمة الفرن�سية احلديثة م�س�ألة جتديد الدولة كانت مت�شابكة‬ ‫مع امل�س�ألة القومية‪ .‬والواقع �أن حروب‬ ‫املر�صو�صة البنيان‪.‬‬

‫يف حكم �أملانيا على ال��رغ��م من‬ ‫التطور الر�أ�سمايل الكبري الذي‬ ‫عرفته‪ ،‬فتف�سري يجانب التف�سري‬ ‫ال�صحيح‪ّ � :‬أن العالقات الطبقية‬ ‫التي و ّل��ده��ا التطور ال�صناعي‪،‬‬ ‫�ضمن حدود الهيمنة التي بلغتها‬ ‫الربجوازية ونظر ًا �إىل االنقالب‬ ‫يف موقف الطبقات التقدمية‪َ ،‬ح َدت‬ ‫الربجوازية �إىل عدم الإلقاء بكل‬ ‫ثقلها يف الن�ضال �ضد النظام القدمي‪.‬‬ ‫فحافظت على جزء من واجهة ذاك‬ ‫النظام كي ت�ستطيع �أن تتوارى خلفه‬ ‫وتخفي بوا�سطته �سيطرتها الفعلية‪.‬‬ ‫ وحقيقة الأمر �أنه لي�س يكفي �أن‬ ‫نربط جتلي عملية تاريخية واحدة‬ ‫يف بلدان خمتلفة باختالف تركيبات‬ ‫العالقات الداخلية للأمم املختلفة‬ ‫وح�سب‪ ،‬بل ينبغي ربطها �أي�ض ًا‬ ‫باالختالف يف العالقات الدولية‬ ‫(وهي غالب ًا ما يجري التقليل من‬ ‫�أهميتها يف مثل ه��ذه الأب��ح��اث)‪.‬‬ ‫يوجد بالت�أكيد راب��ط بني ال��روح‬ ‫اليعقوبية‪ ،‬املقدامة واجلريئة‪ ،‬وبني‬ ‫الهيمنة التي مار�ستها فرن�سا لفرتة‬

‫هائل للطاقات الب�رشية التي كانت‬ ‫ت�ضم �أكرث الرجال جر�أة ون�شاط ًا‪.‬‬ ‫القيادة الع�سكرية‬ ‫والقيادة ال�سيا�سية‬ ‫ثم � ّإن اجلي�ش هو �أي�ض ًا «�أداة»‬ ‫لتحقيق هدف معني‪ .‬غري �أنه يت�ألف‬ ‫من ب�رش فاكرون ال من �آالت يجري‬ ‫ا�ستخدامها �إىل حد انهيار متا�سكها‬ ‫الآيل واجل�سدي‪ .‬وحتى لو ا�ستطعنا‪،‬‬ ‫عما‬ ‫بل وجب علينا‪ ،‬احلديث هنا ّ‬ ‫هو مالئم للهدف وم�ستعجل يف‬ ‫حتقيقه‪ ،‬فال بد من �أن ن�رشط تلك‬ ‫ال�رشوط جميع ًا مبا يتوافق وطبيعة‬ ‫الأداة ذات��ه��ا‪� .‬إن ال����ضرب على‬ ‫م�سمار بوا�سطة مطرقة خ�شبية‬ ‫بالقوة ذاتها التي ي�رضب فيها عليه‬ ‫بوا�سطة مطرقة فوالذية ي�ؤدي �إىل‬ ‫انغراز امل�سمار يف املطرقة اخل�شبية‬ ‫بدل �أن ينغرز يف اجلدار‪� .‬إن القيادة‬ ‫الع�سكرية ال�صائبة �رضورية حتى‬ ‫بالن�سبة �إىل جي�ش من املرتزقة‬ ‫(حتى �أفواج املرتزقة تتطلب حد ًا‬ ‫�أدنى من القيادة ال�سيا�سية �إ�ضافة‬

‫ظلت الأر�ستقراطية القدمية ت�ؤدي دورها كفئة حاكمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‪،‬‬ ‫وتتمتع بعدد من االمتيازات‪ ،‬فتحولت هي �أي�ض ًا �إلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى‬ ‫ال�رشيحة املثقفة للربجوازية الإنكليزيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫دوره��ا كفئة حاكمة‪ ،‬وتتمتع بعدد‬ ‫من االمتيازات‪ ،‬فتحولت هي �أي�ض ًا‬ ‫�إىل ال�رشيحة املثقفة للربجوازية‬ ‫الإنكليزية (ال بد من �أن ن�ضيف هنا‬ ‫�أن للأر�ستقراطية الإنكليزية ُبنية‬ ‫مفتوحة و�أنها كانت تتجدد با�ستمرار‬ ‫ب��ول��وج عنا�رص �إليها وف��دت من‬ ‫�أو�ساط املثقفني والربجوازية)‪.‬‬ ‫ �أم���ا التف�سري ال���ذي يعطيه‬ ‫�أن��ط��ون��ي��و الب���ري���وال ع���ن ك��ون‬ ‫«اليونكرز» والقي�رصية قد ا�ستمروا‬ ‫‪171‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫طويلة على �سائر بلدان �أوروب��ا‪،‬‬ ‫مثلما يوجد رابط بني تلك النزعة‬ ‫اليعقوبية وبني وجود مركز مديني‬ ‫مثل باري�س والدرجة العالية من‬ ‫املركزية التي بلغتها فرن�سا بف�ضل‬ ‫النظام امللكي‪ .‬وم��ن جهة ثانية‪،‬‬ ‫�إن احلروب التي �أدت دور ًا فكري ًا‬ ‫خم�صب ًا بالن�سبة �إىل نه�ضة �أوروبا‪،‬‬ ‫�أدت على عك�س ذلك‪� ،‬إىل ا�ستنزاف‬ ‫احليوية ال�سيا�سية الن�ضالية لفرن�سا‬ ‫كما ل�سائر الأمم‪ ،‬ملا �سببته من تدمري‬

‫�إىل القيادة الفنية ‪ -‬الع�سكرية)‬ ‫فكيف بنا �إذا ك��ان الأم��ر يتعلق‬ ‫بجي�ش قومي من املجندين؟‬ ‫ وتزداد امل�س�ألة تعقيد ًا و�صعوبة‬ ‫يف ح��روب املواقع التي تخو�ضها‬ ‫جماهري عري�ضة لي�ست تقوى‬ ‫على احتمال املجهودات الع�ضلية‬ ‫والع�صيبة والنف�سانية اجلبارة �إال‬ ‫�إذا توافر لها خمزون وافر من القوة‬ ‫املعنوية‪ .‬وحدها القيادة ال�سيا�سية‬ ‫احلاذقة‪ ،‬القادرة على مت ُّثل �أعماق‬


‫الف�صل اخلام�س‬

‫امل�شاعر والتطلعات اجلماهريية قادرة‬ ‫على احليلولة دون التفكك والهزمية‪.‬‬ ‫ ينبغي �إخ�ضاع القيادة الع�سكرية يف النه�ضة القومية الإيطالية‪� ،‬أدت‬ ‫للقيادة ال�سيا�سية على ال��دوام‪[ .‬مملكة] پييدمونت دور «الطبقة‬ ‫بعبارة �أخرى‪ ،‬ينبغي �أن تكون اخلطة احلاكمة»‪ .‬فالواقع �أن �إيطاليا مل‬ ‫اال�سرتاتيجية هي الرتجمة الع�سكرية ت�شهد ظاهرة ن�شوء �أنوية لطبقة‬ ‫ل�سيا�سة �شاملة معينة‪ .‬بالطبع‪ ،‬قد حاكمة على امتداد �شبه اجلزيرة‬ ‫ّ‬ ‫حتكمت نزعتها الوحدوية الكا�سحة‬ ‫يكون ال�سيا�سيون عدميي الكفاءة‪،‬‬ ‫الف�صل ال�ساد�س‬ ‫بتكون الدولة القومية الإيطالية‬ ‫يف حالة معينة‪ ،‬فيما ميلك اجلي�ش‬ ‫ّ‬ ‫ق��ادة يجمعون الكفاءة الع�سكرية اجلديدة‪ .‬بالت�أكيد كانت تلك الأنوية‬ ‫�إىل اجل��دارة ال�سيا�سية‪ .‬هكذا كان موجودة‪� .‬إال �أن نزعتها الوحدوية مفهوم الثورة ال�سلبية‬ ‫الأمر بالن�سبة �إىل يوليو�س قي�رص كان يلفّها �إ�شكال كبري‪ .‬والأهم من يجب ا�ستخال�ص مفهوم «الثورة‬ ‫ونابليون‪ .‬غري �أننا ر�أينا كيف �أن تغيري ذلك �أن �أي ًا منها مل ي�ضطلع ب�أداء ال�سلبية» ا�ستخال�ص ًا �صارم ًا من‬ ‫النهج ال�سيا�سي‪ ،‬يف حالة نابليون‪ ،‬الدور «القيادي» يف نطاقه اخلا�ص‪ .‬مبد�أين �أ�سا�سيني من مبادئ علم‬ ‫واالفرتا�ض �أنه ميلك �أداة ع�سكرية وملا كان وجود «القائد» يفرت�ض ال�سيا�سة‪[ :‬يقول] املبد�أ الأول‪� :‬إن‬ ‫(مل تكن ع�سكرية �إال باملعنى املجرد) وج��ود «امل��ق��ود»‪ ،‬فمن ه��م الذين ما من ت�شكيلة اجتماعية تختفي ما‬ ‫«قادتهم» تلك النوى؟ الواقع �أنها مل دامت قوى الإنتاج التي منت داخلها‬ ‫�أديا �إىل انهيار الرجل‪.‬‬ ‫ وحتى يف احلاالت التي تندمج تكن ترغب يف قيادة �أحد‪� ،‬أي �إنها جتد مت�سع ًا للنمو‪[ .‬ويقول] املبد�أ‬ ‫فيها القيادة الع�سكرية وال�سيا�سية يف مل تكن ترغب يف رب��ط م�صاحلها الثاين‪� :‬إن املجتمع ال يطرح على‬ ‫�شخ�ص واحد‪ ،‬ينبغي �أن تكون الغلبة وتطلعاتها مب�صالح وتطلعات �أي من نف�سه من املهمات �إال تلك التي‬ ‫للن�صاب ال�سيا�سي على الن�صاب الفئات الأخ��رى‪ .‬كانت ترغب يف ن�ضجت الظروف ال�رضورية حل ّلها‪.‬‬ ‫غني عن القول � ّأن هذه املبادئ‬ ‫الع�سكري‪� .‬إن [كتاب] «مالحظات ممار�سة «اال�ستتباع» ال «القيادة»‪ .‬ثم ‬ ‫ٌّ‬ ‫و��ش�روح» ليوليو�س قي�رص مثال � ّإن هذه الأنوية كانت ترغب يف تغليب ال ب��د م��ن بلورتها ن��ق��دي� ًا بكل‬ ‫بد من تطهريها من‬ ‫كال�سيكي على الدمج الذكي بني م�صاحلها ال �أ�شخا�صها‪� ،‬أي �إنها كانت مرتتباتها‪ ،‬وال ّ‬ ‫تر�سب من تر�سبات النزعتني‬ ‫الفن ال�سيا�سي والفن الع�سكري‪ .‬تطمح �إىل قيام قوة جديدة من ّزهة كل‬ ‫ّ‬ ‫�دري��ة‪ .‬من هنا يجب‬ ‫مل يكن اجلنود يكتفون بالنظر �إىل عن كل م�ساومة �أو ��شرط‪ ،‬لت�ؤدي الآل��ي��ة وال � َق� َ‬ ‫القي�رص على �أنه جمرد قائد ع�سكري دور احلكم بالن�سبة �إىل الأمة ب�أ�رسها‪� .‬إرج��اع��ه��ا �إىل و�صف اللحظات‬ ‫متيز «و�ضع ًا»‬ ‫عظيم‪ ،‬بل نظروا �إليه �أي�ض ًا‪ ،‬وبنوع وكانت پييدمونت تلك القوة‪ ،‬ومن هنا الثالث الأ�سا�سية التي ّ‬ ‫معينة‪،‬‬ ‫خا�ص‪ ،‬على �أنه زعيمهم ال�سيا�سي‪ ،‬ا�ستمد النظام امللكي وظيفته‪.‬‬ ‫من الأو�ضاع �أو توازن قوى ّ‬ ‫زعيم الدميقراطية‪ .‬كذلك ينبغي �أن هكذا �أدت پييدمونت دور ًا ميكن مع الت�شديد الكبري على اللحظة‬ ‫ن�ستح�رض هنا كيف حافظ ب�سمارك‪ ،‬ت�شبيهه‪ ،‬من بع�ض جوانبه على الثانية (ت��وازن القوى ال�سيا�سي)‬ ‫م�ستلهم ًا كالوزفت�س‪ ،‬على غلبة الأقل‪ ،‬بدور احلزب‪� ،‬أي بالدور الذي وخ�صو�ص ًا على اللحظة الثالثة‬ ‫اللحظة ال�سيا�سية على اللحظة ي�ؤديه اجلهاز القيادي بالن�سبة �إىل (التوازن ال�سيا�سي ‪ -‬الع�سكري)‪.‬‬ ‫الع�سكرية‪ ،‬يف حني �أن غليوم الثاين فئة اجتماعية معينة‪ .‬بالفعل‪ ،‬كان‬ ‫ ح�سب رواية لودفيغ ‪ -‬كان يكتفي النا�س يتكلمون دوم ًا على «حزب حرب املواقع‪ ،‬حرب املناورة‬‫بتدوين املالحظات الغا�ضبة على پييدمونت»‪ .‬وكان لپييدمونت ميزة هل ميكن �إقامة ال�صلة بني مفهوم‬ ‫هوام�ش ال�صحيفة التي كانت تنقل �إ�ضافية‪ ،‬هي �أنها دولة متلك جي�شها «الثورة ال�سلبية» ‪ -‬باملعنى الذي‬ ‫يعطيه فين�سنزو كووكو للمرحلة‬ ‫ت�رصيحات ب�سمارك‪ .‬وهكذا ك�سب وجهازها الدبلوما�سي‪� ،‬إلخ‪.‬‬ ‫الأملان كل املعارك برباعة‪ ،‬غري �أنهم � ّإن لهذه الواقعة �أهمية بالغة الأوىل من النه�ضة القومية الإيطالية‬ ‫بالن�سبة �إىل م��ف��ه��وم «ال��ث��ورة ‪ -‬وب�ين مفهوم «ح���رب امل��واق��ع»‬ ‫خ�رسوا احلرب‪.‬‬ ‫‪172‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫باملقارنة مع «حرب املناورة»؟ بعبارة‬ ‫�أخ��رى‪ ،‬هل بقي لهذين املفهومني‬ ‫من معنى بعد قيام الثورة الفرن�سية‪،‬‬ ‫وهل ميكن تف�سري‪/‬فهم �شخ�صيتي‬ ‫بناء على‬ ‫پرودون وجيوبرتي التو�أمني ً‬ ‫الذعر الذي �أث��اره «عهد الإرهاب‬ ‫» �سنة ‪ ١٧٩٣‬مثلما نف�رس‪/‬‬ ‫بناء على الذعر‬ ‫نفهم «ال�سوريلية» ً‬ ‫ال��ذي �أعقب جم��ازر باري�س �سنة‬ ‫‪١٨٧١‬؟ �أعني‪ :‬هل يوجد تطابق‬ ‫تام بني «حرب املواقع» وبني «الثورة‬ ‫ال�سلبية»؟ �أم هل يوجد‪� ،‬أق ّله‪ ،‬حقبة‬ ‫تاريخية كاملة‪ ،‬فعلية كانت �أو‬ ‫حمتملة‪ ،‬يتطابق فيها املفهومان‪� ،‬إىل‬ ‫�أن تتحول حرب املواقع جمدد ًا �إىل‬ ‫حرب مناورة؟‬ ‫ يجب احلكم على فرتات «الردة»‬ ‫حكم ًا «دينامي ًا» مبا هي «مراوغة‬ ‫ي�سميها فيكو‪� .‬إال � ّأن‬ ‫الق َ​َدر» كما‬ ‫ّ‬ ‫امل�س�ألة هنا هي‪ :‬يف النزاع بني كافور‬ ‫وماتزيني ‪ -‬حيث كان كافور يدعو‬ ‫للثورة ال�سلبية‪/‬حرب املواقع‪ ،‬فيما‬ ‫ماتزيني داعية املبادرة ال�شعبية‪/‬حرب‬ ‫املناورة ‪� -‬أمل يكن كالهما واجب‬ ‫الوجود ال ي�ستغنى عنه بنف�س القدر‬ ‫من الأهمية؟ ولكن يجب الأخذ يف‬ ‫احل�سبان �أنه فيما كان كافور واعيا ً‬ ‫ل��دوره (�إىل حد ما‪� ،‬أقله) مبقدار ما‬ ‫كان واعي ًا لدور ماتزيني‪ ،‬ال يبدو �أن‬ ‫هذا الأخري كان واعي ًا لدوره هو �أو‬ ‫لدور كافور‪ .‬ولو � ّأن ماتزيني‪ ،‬على‬ ‫عك�س ذلك‪ ،‬امتلك مثل هذا الوعي‬ ‫ بعبارة �أخرى‪ ،‬لو �أنه كان �سيا�سيا ً‬‫ال ر�ؤيوي ًا (�أي‪ ،‬لو � ّأن‬ ‫واقعي ًا ال ر�سو ً‬ ‫ماتزيني مل يكن ماتزيني) ‪ -‬الختلف‬ ‫التوازن احلا�صل عن ن�شاط الرجلني‪،‬‬ ‫ولرجح رجحانا ّبين ًا مل�صلحة ماتزيني‬ ‫وتياره‪ .‬بعبارة �أخرى‪ ،‬لكانت الدولة‬ ‫الإيطالية قد انبنت على قاعدة �أقل‬ ‫تخلف ًا و�أكرث حداثة‪.‬‬

‫ال�سلبية»؛ فنحن مل نكن يف �إزاء فئة‬ ‫اجتماعية «تقود» فئات اجتماعية‬ ‫�أخرى‪ ،‬بل �أمام دولة‪ ،‬على الرغم من‬ ‫تكبل �سلطتها‪« ،‬تقود»‬ ‫القيود التي ّ‬ ‫الطبقة التي كانت متار�س «القيادة»‬ ‫وت�ضع يف ت�رصفها جي�ش ًا و�إمكانات‬ ‫�سيا�سية ‪ -‬دبلوما�سية‪.‬‬

‫‪173‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫دور التعبئة ال�شعبية‬ ‫وال ب��د هنا م��ن وق��ف��ة للنظر يف‬ ‫م�س�ألة حت� ّ�ول ال�رصاع ال�سيا�سي‬ ‫من «ح��رب م��ن��اورة» �إىل «حرب‬ ‫التحول‬ ‫م��واق��ع»‪ .‬ح��دث مثل ه��ذا‬ ‫ّ‬ ‫يف �أوروب��ا بعد ‪ ،١٨٤٨‬وهذا ما‬ ‫مل ي�ستوعبه ماتزيني و�أتباعه‪ ،‬على‬ ‫عك�س ما فعله �آخ��رون‪ ،‬وقد تكرر‬ ‫التحول نف�سه بعد ‪� ،١٨٧١‬إلخ‪.‬‬ ‫�صعب على �أمثال ماتزيني‬ ‫�إذذاك َ ُ‬ ‫ا�ستيعاب امل�س�ألة‪ ،‬نظر ًا �إىل � ّأن‬ ‫احلروب الع�سكرية مل تكن قد وفّرت‬ ‫النموذج لذلك ‪ -‬واحلال � ّأن النظرية‬ ‫الع�سكرية كانت تنحو منحى حرب‬ ‫عما‬ ‫املناورة‪ .‬وعلينا هنا �أن نبحث ّ‬ ‫�إذا ك��ان من تلميحات دال��ة لهذا‬ ‫املو�ضوع عند پي�ساكاين الذي كان‬ ‫ّ‬ ‫املنظر الع�سكري ملاتزيني‪.‬‬ ‫ ومي��ك��ن درا���س��ة �أوج���ه �أخ��رى‬ ‫للعالقة ب�ين «ال��ث��ورة ال�سلبية»‬ ‫و«حرب املواقع» يف النه�ضة القومية‬ ‫الإيطالية‪ .‬و�أهمها الوجه املتعلق‬ ‫بـ«العن�رص الب�رشي» و«التعبئة‬ ‫الثورية»‪ .‬ميكن مقارنة الوجه املتعلق‬ ‫بـ«العن�رص الب�رشي» بدقة مع ما‬ ‫جرى يف احلرب العاملية الأوىل من‬ ‫حيث العالقة بني ال�ضباط املحرتفني‬ ‫وب�ين �ضباط االحتياط من جهة‬ ‫والعالقة بني املجندين واملتطوعني‪/‬‬ ‫الفدائيني من جهة �أخرى‪� .‬إن املعادل‬ ‫لل�ضباط املحرتفني يف النه�ضة‬ ‫القومية الإيطالية هو الأح��زاب‬ ‫ال�سيا�سية النظامية‪ ،‬الع�ضوية‪،‬‬ ‫التقليدية‪� ،‬إل��خ‪ ...‬التي ما �إن دقت‬ ‫�ساعة الفعل (�سنة ‪ )١٨٤٨‬حتى‬ ‫تك�شفت عن عجزها‪� ،‬أو ما ي�شبه‬ ‫املد ال�شعبي‬ ‫العجز‪ ،‬فجرفتها �أمواج ّ‬ ‫ املاتزيني ‪ -‬الدميقراطي العاتي‪.‬‬‫ك��ان��ت تلك الأم����واج فو�ضوية‪،‬‬ ‫هالمية‪� ،‬إذا جاز التعبري‪ ،‬ومهما يكن‪،‬‬

‫فقد حققت‪ ،‬يف ظل قيادة مرجتلة‪...‬‬ ‫جناحات كانت دون �أدنى �شك �أعظم‬ ‫من تلك التي حققها املعتدلون‪:‬‬ ‫�إذ �أظهرت اجلمهورية الرومانية‬ ‫والبندقية طاقة مقاومة عظيمة‪،‬‬ ‫ويف فرتة ما بعد ‪ ،١٨٤٨‬انتظمت‬ ‫العالقة بني القوتني‪ ،‬القوة النظامية‬ ‫زمية»‪ ،‬حول �شخ�صي‬ ‫والقوة «الكا ِر ّ‬ ‫كافور وغاريبالدي و�أنتجت �أعظم‬ ‫النتائج (على الرغم من �أن كافور‬ ‫هو الذي �صادر النتائج)‪.‬‬ ‫ وم�س�ألة «العن�رص الب�رشي»‬ ‫هذه وثيقة ال�صلة مب�س�ألة «التعبئة»‪.‬‬ ‫وجت��در الإ�شارة �إىل �أن ال�صعوبة‬ ‫التقنية التي �أحبطت م��ب��ادرات‬ ‫ماتزيني على الدوام كانت «التعبئة‬ ‫الثورية»‪ .‬و�إنه ملثري يف هذا املنظار‬ ‫�أن ندر�س حماولة رامورينو احتالل‬ ‫�ساڤوا‪ ،‬جنب ًا �إىل جنب مع حماوالت‬ ‫الإخوة بانديريا وپي�ساكاين‪� ،‬إلخ‪.‬‬ ‫و�إج��راء املقارنة يف ما بينها وبني‬ ‫الو�ضع الذي واجهه ماتزيني يف‬ ‫ميالنو ع��ام ‪ ١٨٤٨‬ويف روم��ا‬ ‫ع��ام ‪ ،١٨٤٩‬وه��ي �أو���ض��اع مل‬ ‫ميلك ماتزيني القدرة على �ضبطها‪،‬‬ ‫وكان حمكوم ًا على تلك املحاوالت‬ ‫التي اقت�رصت على قب�ضة من‬ ‫الأفراد �أن يق�ضى عليها يف املهد‪.‬‬ ‫�إن معجزة كانت مطلوبة للحيلولة‬ ‫دون �أن تتوىل القوى الرجعية‪،‬‬ ‫املمركزة واملالكة حلرية احلركة‬ ‫(لأنها مل تكن تواجه �أي��ة حركة‬ ‫�شعبية عري�ضة) �سحق مبادرات‬ ‫من منط تلك التي قام بها رامورينو‬ ‫وپي�ساكاين وب��ان��دي�يرا‪ ،‬حتى لو‬ ‫حظيت تلك امل��ح��اوالت ب��إع��داد‬ ‫�أف�ضل مما ح�صل‪� .‬أم��ا يف الفرتة‬ ‫الثانية (‪ ،)١٨٥٩-١٨٦٠‬فقد‬ ‫�أمكن حتقيق «تعبئة ثورية» (وهذا‬ ‫ما كانه «جي�ش الألف» الذي قاده‬


‫ال؛ لأن غاريبالدي‬ ‫غاريبالدي) �أو ً‬ ‫جنح يف �أن يتمف�صل على القوى‬ ‫القومية الپييدمونتية‪ ،‬وثاني ًا لأن‬ ‫البحرية الربيطانية وفرت حماية‬ ‫فعلية للإنزال يف مار�ساال والحتالل‬ ‫پا ِلرمو و�ش ّلت ق��درات بحرية �آل‬ ‫بوربون‪ .‬والواقع � ّأن الفر�صة �سنحت‬ ‫ملاتزيني ‪ -‬يف ميالنو بعد «انتفا�ضة‬ ‫الأي���ام اخلم�سة»‪ ،‬كما يف روم��ا‬ ‫تطوع‬ ‫اجلمهورية ‪ -‬لكي يقيم مراكز ّ‬ ‫من �أج��ل تعبئة قتالية ع�ضوية‪،‬‬ ‫لكنه مل تكن لديه �أية نية للقيام‬ ‫بذلك‪ .‬وكان هذا م�صدر نزاعه مع‬ ‫غاريبالدي يف روم��ا و�سبب عدم‬ ‫فاعلية م�ساعيه يف ميالنو باملقارنة‬ ‫مع كاتانيو واملجموعة الدميقراطية‬ ‫امليالنية‪.‬‬ ‫دور احلركات ال�شعبية «العفوية»‬ ‫ومهما يكن من �أم��ر‪ ،‬فعلى الرغم‬ ‫من �أن �أح��داث النه�ضة القومية‬ ‫�أظهرت الأهمية الكربى للحركات‬ ‫ال�شعبية «الغوغائية» التي يقودها‬ ‫قادة ارجتاليون رمت بهم الأق��دار‬ ‫على ر�أ�سها‪� ،‬إال � ّأن حقيقة الأمر‬ ‫� ّأن القوى التقليدية الع�ضوية هي‬ ‫التي �سيطرت على تلك احلركات‪،‬‬ ‫بعبارة �أخ���رى‪� ،‬سيطرت عليها‬ ‫الأح���زاب العريقة‪ ،‬ذات القادة‬ ‫املتكونني على نحو عقالين‪ .‬واحلال‬ ‫� ّأن �أحداث ًا �سيا�سية مماثلة قد ولدت‬ ‫نتائج متطابقة‪( .‬ومن الأمثلة على‬ ‫ذلك‪ ،‬غلبة الأورليانيني على القوى‬ ‫ال�شعبية الدميقراطية اجلذرية يف‬ ‫فرن�سا عام ‪ ،١٨٣٠‬بل �إن الثورة‬ ‫الفرن�سية عام ‪ ١٧٨٩‬هي مثال‬ ‫على ذلك �أي�ض ًا‪ ،‬حيث م ّثل نابليون‪،‬‬ ‫يف نهاية املطاف‪ ،‬انت�صار القوى‬ ‫الربجوازية الع�ضوية على القوى‬ ‫الربجوازية ال�صغرية اليعقوبية)‪.‬‬ ‫‪174‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫والأم���ر ذات��ه يتكرر م��ع انت�صار‬ ‫ق��دام��ى ال�ضباط املحرتفني على‬ ‫�ضباط االحتياط يف احلرب العاملية‬ ‫الأوىل‪� ،‬إلخ‪ .‬ويف �أي حال‪ّ � ،‬إن غياب‬ ‫�أي �إدراك لدور الطرف الآخر لدى‬ ‫القوى ال�شعبية الراديكالية منعها‬ ‫من �أن تدرك دوره��ا هي‪ ،‬الإدراك‬ ‫الكامل‪ ،‬وحرمها بالتايل �أن يكون‬ ‫لها وزنها يف ميزان القوى النهائي‬ ‫بن�سبة قوة تدخلها الفعلية [فيه]‪،‬‬ ‫وبالتايل من �أن تفر�ض نتيجة �أكرث‬ ‫تقدم ًا ترتكز على �أ�س�س �أك�ثر‬ ‫تقدمية و�أكرث حداثة‪.‬‬ ‫الظروف املو�ضوعة والذاتية‬ ‫و�أي�����ض � ًا ب�صدد مفهوم «ال��ث��ورة‬ ‫ال�سلبية» �أو «ال��ث��ورة‪/‬ال��ردة» يف‬ ‫النه�ضة القومية الإيطالية‪ ،‬جتدر‬ ‫املالحظة �أن��ه يجب ط��رح عظيم‬ ‫الدقة للم�س�ألة التي ت�سميها بع�ض‬ ‫مدار�س كتابة التاريخ م�س�ألة العالقة‬ ‫بني الظروف املو�ضوعية والظروف‬ ‫الذاتية يف �صنع احلدث التاريخي‪.‬‬ ‫ويبدو بديهي ًا � ّأن ما ي�سمى الظروف‬ ‫الذاتية ال ميكن �أن تكون مفقودة‬ ‫عندما تتوافر الظروف املو�ضوعية‪� ،‬إال‬ ‫مبقدار ما يكون التمييز جمرد متييز ذي‬ ‫طابع تعليمي‪ .‬وبالتايل‪ّ � ،‬إن النقا�ش �إمنا‬ ‫يطاول حجم القوى الذاتية ودرجة‬ ‫متركزها‪ ،‬وبالتايل العالقة اجلدلية يف‬ ‫ما بني قوى ذاتية مت�صارعة‪.‬‬ ‫الكف عن طرح امل�س�ألة‬ ‫ يجب‬ ‫ّ‬ ‫ال من‬ ‫على �أ�س�س «مثقفاتية» ب��د ً‬ ‫طرحها على �أ���س�����س تاريخية‬ ‫ �سيا�سية‪ .‬ال �أح��د ي��ج��ادل يف‬‫� ّأن «الب�صرية» الفكرية لظروف‬ ‫ال�رصاع �أمر ال غنى عنه‪� .‬إال � ّأن‬ ‫هذه الب�صرية ت�صري قيمة �سيا�سية‬ ‫مبقدار ما ت�صري هوى موزع ًا ومبقدار‬ ‫ما ت�شكل ركيزة لإرادة �صلبة‪.‬‬ ‫‪175‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫العلوم االجتماعية العربية‬ ‫بني تقليد َين نقد َيني‬

‫غساّ ن احلاج‬ ‫استاذ االنرثوبولوجيا‬ ‫والنظرية االجتماعية‬ ‫يف جامعة ملبورن‪،‬‬ ‫اسرتاليا‪.‬‬

‫ماذا يعني �أن تكون عامل اجتماع يف العامل العربي اليوم؟‬ ‫علماء االجتماع �أن يفكروا‬ ‫ب�صياغة خمتلفة‪ :‬كيف ميكن‬ ‫َ‬ ‫يف املجتمع العربي نقدي ًا و�سط انتفا�ضات ال�سنوات‬ ‫املا�ضية؟ �إن �أ�سئلة كهذه ال ت�ستلزم �أجوبة عالجية‪،‬‬ ‫ال‪ .‬الأحرى‬ ‫علم ًا ب� ّأن مثل هذه الأجوبة لي�ست ممكنة �أ�ص ً‬ ‫�أن تخدم الأ�سئلة يف فتح حقل للت�أمل ي�سمح لعلماء‬ ‫ال على طريقته‪،‬‬ ‫اجتماع متنوعني ب�أن يكونوا نقديني‪ ،‬ك ً‬ ‫�إزاء احلاالت العينية التي يحللون‪ .‬و�إين �أريد �أن �أ�سهم‬ ‫يف حقل الت�أمل هذا يف م�ساهمتي احلالية‪.‬‬ ‫النقدي لي�س هو اجلذري‬ ‫ّ‬ ‫لعل من املفيد �أن �أبد�أ بتو�ضيح‪ّ � .‬إن «النقدي» ال يعادل‬ ‫«اجلذري»‪ .‬النقد ميزة فكرية‪ ،‬فيما اجلذرية‪/‬الراديكالية‬ ‫ميزة �سيا�سية‪ .‬ميكن �أن يوجد‪ ،‬وقد وجد تاريخي ًا‪ ،‬تقارب‬ ‫حميم بني الفكر النقدي وال�سيا�سات اجلذرية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ال‬ ‫يهم الت�شديد على هذا يف البيئة‬ ‫يجوز اخللط بني االثنني‪ّ .‬‬ ‫العالية الت�سيي�س التي �أطلقتها االنتفا�ضات العربية حيث‬ ‫امل�س�ألة مل تعد م�س�ألة هذا الوجه من ال�سيا�سة �أو ذاك‪ ،‬بل‬ ‫هي م�س�ألة «ال�سيا�سة بعامة»‪ ،‬ال�سيا�سة التي ت�شتغل مبا هي‬ ‫جبارة كلية احل�ضور‪ْ � .‬أن تكون عامل اجتماع‬ ‫�آلة ا�ستحواذ ّ‬ ‫نقدي ًا ال يعني �أن تكون المبالي ًا يف ال�سيا�سة‪ ،‬لكنه يعني‬ ‫�أن تكون قادر ًا على �إنتاج �سيا�سات �أكادميية مميزة‪� .‬أي �أن‬ ‫ي�سميه الفرن�سيون‬ ‫تكون قادر ًا على حفر جمال‬ ‫متحرر مما ّ‬ ‫ّ‬ ‫«ال�سيا�سة ال�سيا�سوية»‪� ،‬سيا�سة ال�سيا�سيني املحرتفني‪.‬‬ ‫لي�ست �سيا�سة علماء االجتماع «معادية» لهذا النوع من‬ ‫ال �أن‬ ‫ال�سيا�سة‪ ،‬لكنها ترف�ض �أن ُت�ستعبد لها‪ ،‬ترف�ض مث ً‬ ‫تطيع منطق ال�صديق‪/‬العدو الذي تفر�ضه تلك ال�سيا�سة‪.‬‬ ‫يجب على عالمِ االجتماع النقدي �أن يت�ساءل‪ :‬ب�أي‬ ‫طريقة يتمايز علم االجتماع؟ وكيف له �أن يقدم �شيئا ً‬

‫‪176‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫جديد ًا‪� ،‬شيئ ًا ُيحرِج ال�سيا�سيني ويجعلهم يرتددون عن‬ ‫يروجون‪� ،‬أكانوا من �سيا�سيي‬ ‫الرتويج لنمط احلقائق التي ّ‬ ‫اليمني �أم الي�سار‪ ،‬حمرتفني �أم نا�شطني‪.‬‬ ‫ هنا ينف�صل النقدي عن اجل��ذري‪ .‬ذلك �أن عالمِ‬ ‫اجتماع نقدي ًا ميكنه �أن يوفر �أدوات وتربيرات ل�سيا�سات‬ ‫جذرية دون �أن يفر�ض على تلك ال�سيا�سات �أن ترتدد‬ ‫و�أن تتفكر يف نف�سها‪� .‬أريد يف ما ي�أتي �أن �أ�ستك�شف‬ ‫تقليدين فكريني وفّرا �أدوات فعالة‪/‬مهمة للتفكري مبثل‬ ‫هذا املوقف ال�سو�سيولوجي النقدي‪� .‬س�أ�سميهما التقليد‬ ‫ال�سو�سيولوجي والتقليد الأنرثوبولوجي‪ .‬ولكن غر�ضي‬ ‫لي�س التمييز بني املذاهب بقدر ما هو التمييز بني مراحل‬ ‫حتليلية نقدية‪ .‬وبالت�أكيد‪ ،‬فاملفكران اللذان ارتبطا مع‬ ‫اللحظة الأنرثوبولوجية واللحظة ال�سو�سيولوجية‪،‬‬ ‫برونو التور وپيري بورديو‪ ،‬معروف كل منهما على �أنه‬ ‫�سو�سيولوجي و�أنرثوبولوجي يف �آن واحد‪.‬‬ ‫بورديو والعنف الرمزي‬ ‫حجر الزاوية‬ ‫ُت َع ّد �سيو�سيولوجيا بورديو يف �أيامنا هذه‬ ‫َ‬ ‫لتقليد نقدي مهم مو�ضوعه عالقات ال�سلطة والهيمنة‬ ‫يف املجتمع‪ّ � .‬إن �أمناط الهيمنة عند بورديو تهدف دوم ًا �إىل‬ ‫الو�صول �إىل حالة ي�سميها «العنف الرمزي»‪ .‬وهذه هي‬ ‫النقطة حيث �أولياء ال�سلطة يتدبرون فيها جلعل م�صلحتهم‬ ‫تبدو على �أنها م�صلحة اجلميع‪ .‬وحني تتحول هذه امل�صلحة‬ ‫مبا هي عقيدة‪� ،‬أي عندما ت�صري بديهية ولي�س فيها ما يقال‪،‬‬ ‫ي�سميه غرام�شي «احل�س العام»‪ ،‬ومثال على‬ ‫مبا ي�شبه ما‬ ‫ّ‬ ‫ذلك عندما يقول النا�س � ّإن من الطبيعي �أن يكون املرء‬ ‫تناف�سي ًا و�ساعي ًا �إىل �أغرا�ضه اخلا�صة‪� ،‬أو � ّأن من الطبيعي‬ ‫للرجال �أن ي�سيطروا على الن�ساء‪� ،‬أو � ّأن املغايرة اجلن�سية‬ ‫هي الأمر الطبيعي باملقارنة مع المِ ْثلية‪� ،‬أو � ّأن «العرب‬

‫ِ‬ ‫ي�سيطر عليهم دكتاتوريون �أقوياء»‪ .‬تدخل‬ ‫يحبون �أن‬ ‫ّ‬ ‫ال�سو�سيولوجيا النقدية �إىل امليدان لتظهر �أن ما يبدو �أنه‬ ‫«طبيعي» �أو «قدري» يولد من �ضمن م�سار الهيمنة‪ .‬هذا‬ ‫ي�سميه بورديو وظيفة «التحرر من الطبيعية » و«التحرر‬ ‫ما ّ‬ ‫من القدرية» يف جمال العلوم االجتماعية‪.‬‬ ‫ لأن جعل م�صلحتهم تبدو «طبيعية» هو جزء من‬ ‫الطريقة التي بها ي�سيطر امل�سيطرون‪ ،‬ف� ّإن ال�سو�سيولوجيا‬ ‫النقدية‪ ،‬التي تك�شف تلك امل�سارات‪ ،‬هي بطبيعتها �إىل‬ ‫جانب �ضحايا ال�سيطرة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فاملجتمع لي�س مكون ًا‬

‫ا�ستخدام مقولة «ال�سيطرة» �إىل احلديث عن «حقل‬ ‫القوة» داخل املجتمعات املخ�صو�صة‪� .‬إن حقل القوة هو‬ ‫بناء‬ ‫و�صف‪ ،‬لكنه �أي�ض ًا دعوة مل�شاهدة الذين يف ال�سلطة ً‬ ‫على انق�سامهم وفق كمية ونوعية ر�أ�س املال الذي ميلكونه‬ ‫بناء‬ ‫(اقت�صادي‪ ،‬اجتماعي‪ ،‬ثقايف‪� ،‬إلخ‪ )...‬وانخراطهم‪ً ،‬‬ ‫عليه‪ ،‬يف ن�ضاالت يف ما بينهم الحتالل موقع ال�سيطرة‬ ‫يف حقل القوة‪� .‬إن النظر �إىل ال�سيطرة من هذا املنظار‬ ‫يتحا�شى املفاهيم ال�سهلة �أو الفار�ضة للتجان�س التي‬ ‫يجري اللجوء �إليها كبديل من الأبحاث التجريبية‪ .‬وال‬

‫ولكي ي�ستطيع �أن يكونــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوا‬ ‫هذه «الآلة النقدية» الالمتناهيــــــــــــــــــــــــــــــــة‪،‬‬ ‫من احليوي لعلماء االجتمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاع‬ ‫ت�أ�سي�س ا�ستقاللهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم‬ ‫لي�س فقط جتاه �سيا�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات‬ ‫جماعة م�سيطرة واحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدة‪،‬‬ ‫بل ا�ستقاللهم عن ال�سيا�سة برمّ تهـــــــــــــــــــــــــــا‬

‫ونظراً �إىل اتكال العلوم االجتماعيـــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫على التمويل من م�صادر حكوميــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫�أو من القطاع اخلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا�ص‪،‬‬ ‫فهذا ي�ستلزم الن�ضال لتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ�أمني‬ ‫احرتام م�صادر لتمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــويل‬ ‫هذه اال�ستقاللية الذاتيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫للعلوم االجتماعيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬

‫مكون من فئة‬ ‫من فئة واحدة من امل�سيطرين‪ ،‬وال هو ّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫امل�سيطرين وامل�سيطر‬ ‫واحدة من �ضحايا ال�سيطرة‪ .‬بني‬ ‫ِ‬ ‫عليهم‪ ،‬يف عالقة خم�صو�صة‪ ،‬يوجد �أي�ض ًا م�سيطرون‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫وم�سيطر عليهم �إىل ما‬ ‫م�سيطرون‬ ‫وم�سيطر عليهم‪ .‬يوجد‬ ‫ال نهاية‪� ،‬إذا جاز التعبري‪ ،‬ويجب �أن يكون علماء االجتماع‬ ‫جاهزين لال�ستمرار يف اكت�شاف م�سارات ال�سيطرة‪� ،‬إىل‬ ‫ما ال نهاية �أي�ض ًا‪ .‬وخالف ًا للذين يريدون �إنهاء ال�سيطرة‬ ‫في�س ِقطون نقدهم لل�سيطرة عندما‬ ‫با�سم جماعة �أو �أخرى ُ‬ ‫يتعلق الأمر ب�سيطرة جماعتهم ذاتها‪ ،‬ف�إن عالمِ االجتماع‬ ‫النقدي لي�س يع ّلق نقده لل�سيطرة عموم ًا‪ .‬ولكي ي�ستطيع‬ ‫�أن يكونوا هذه «الآلة النقدية» الالمتناهية‪ ،‬من احليوي‬ ‫لعلماء االجتماع ت�أ�سي�س ا�ستقاللهم‪ ،‬لي�س فقط جتاه‬ ‫�سيا�سات جماعة م�سيطرة واحدة‪ ،‬بل ا�ستقاللهم عن‬ ‫برمتها‪ ،‬عن الإعالم وعن الدولة‪ ،‬وبالت�أكيد عن‬ ‫ال�سيا�سة ّ‬ ‫خمتلف امل�صالح االقت�صادية �أي�ض ًا‪ .‬لهذا يرى بورديو‪ّ � ،‬أن‬ ‫مثل هذه ال�سو�سيولوجيا النقدية هي ذاتها معتمدة على‬ ‫ال�سو�سيولوجيا االرتدادية لعلماء االجتماع �أنف�سهم‪ ،‬مبا‬ ‫هم فئة اجتماعية‪ ،‬وعلى موقعهم يف البنى ال�سلطوية‪.‬‬

‫بد من �أن نالحظ هنا �أن «النيوليربالية» ت�ستخدم بهذه‬ ‫ّ‬ ‫الطريقة يف �أيامنا وتخدم مبا هي مبد�أ تف�سريي تب�سيطي‬ ‫للعديد من الظواهر‪.‬‬ ‫يعني بورديو للأكادمييني‪ ،‬ولعلماء االجتماع حتديد ًا‪،‬‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫موقعهم يف �صف �ضحايا ال�سيطرة داخل حقل القوة‪.‬‬ ‫فبف�ضل امتالكهم ر�أ�سمال اجتماعي ًا وثقافي ًا كبري ًا‪ ،‬فهم‬ ‫ي�شكلون جزء ًا من حقل القوة يف معظم املجتمعات‪.‬‬ ‫ولكن ب�سبب امتالكهم ر�أ�سمال اقت�صادي ًا زهيد ًا‪ ،‬ونظر ًا‬ ‫�إىل � ّأن ر�أ�س املال االقت�صادي هو �صاحب القيمة الأكرب‬ ‫يف حقل القوة‪ ،‬ينتهي الأم��ر بهم �إىل موقع �ضحايا‬ ‫ال�سيطرة يف هذا احلقل‪ .‬ويحاجج بورديو ب�أنه فيما‬ ‫ي�ستطيع علماء االجتماع �إنتاج املعرفة على نحو غري‬ ‫ارتكا�سي ي�شارك يف م�سارات ال�سيطرة االجتماعية‪،‬‬ ‫ف�إن علماء االجتماع النقديني قادرون �أي�ض ًا على تنمية‬ ‫غري ارتكا�سية للتعاطف مع الفئات املخ�ضعة من خالل‬ ‫ِ‬ ‫امل�سيطر‬ ‫عملية متاثل بنيوي معها‪� ،‬أي حتويل موقعهم‬ ‫يف حقل القوة �إىل تعاطف مع �ضحايا ال�سيطرة يف ذاك‬ ‫احلقل‪ .‬بيد � ّأن امل�شكلة بالن�سبة �إىل بورديو لي�ست هي‬ ‫ي�سميهم‬ ‫التعاطف بقدر ما هو االعتقاد ال�سائد بني من‬ ‫ّ‬ ‫ال عن ماك�س ڤيرب «املثقفني �شبه الربوليتاريني» ب� ّأن‬ ‫نق ً‬ ‫التعاطف هو مقيا�س من مقايي�س االحرتافية يف علم‬ ‫االجتماع‪ .‬وكما يردد بورديو يف غري منا�سبة‪ ،‬ال�سيا�سة‬

‫«حقل القوة»‬ ‫لكي يتحا�شى بورديو فر�ض التماثل على القوى‬ ‫االجتماعية امل�سيطرة يف املجتمع‪ ،‬انتقل تدريج ًا من‬ ‫‪177‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫جيد‪.‬‬ ‫اجليدة لي�ست ت�صدر بال�رضورة عن علم اجتماع ّ‬ ‫واملفارقة امل�ؤكدة هنا � ّأن علماء االجتماع ي�ستطيعون‬ ‫الو�صول �إىل �أوج الأثر ال�سيا�سي يف كتاباتهم بال�سعي‬ ‫�إىل اال�ستقالل يف احلقل ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫اال�ستقاللية الذاتية‬ ‫وتت�ضمن اال�ستقاللية الذاتية فوق �أي �شيء �آخر �إعطاء‬ ‫الأولوية مل�صلحة علم االجتماع بالتمييز عن امل�صالح‬ ‫ال�سيا�سية والإعالمية �أو االقت�صادية‪ .‬ونظر ًا �إىل اتكال‬ ‫العلوم االجتماعية على التمويل من م�صادر حكومية‬ ‫�أو من القطاع اخلا�ص‪ ،‬فهذا ي�ستلزم الن�ضال لت�أمني‬ ‫احرتام م�صادر التمويل هذه اال�ستقاللية الذاتية للعلوم‬ ‫االجتماعية‪ .‬ومن خ�صائ�ص امل�ؤ�س�سات الدميقراطية‬ ‫قدرتها على متويل �أعمال نقدية موجهة �ضدها هي‬ ‫نف�سها‪ ،‬ولعلماء االجتماع م�صلحة يف الن�ضال من �أجل‬ ‫احلفاظ على هذه القيمة الدميقراطية �ضد القوى ال�سيا�سية‬ ‫واالقت�صادية التي ترى يف التمويل و�سيلة لإلزام عالمِ‬ ‫االجتماع ب�إيالء الأولوية لنمط من البحث على �آخر‪،‬‬ ‫وت�أكيد ًا �ضد �أولئك الذين ي�ستخدمون التمويل للت�أثري‬ ‫على نتائج البحث العلمي‪.‬‬ ‫ �إال � ّأن اال�ستقاللية الذاتية لي�ست جمرد ا�ستقاللية‬ ‫ذاتية بنيوية‪� .‬إنها ا�ستقاللية ذاتية ثقافية �أي�ض ًا تت�ضمن‬ ‫الن�ضال من �أجل حماية العقل العلمي االجتماعي من‬ ‫العقل ال�سيا�سي والإعالمي‪ .‬فمن �أجل تفادي �أمناط‬ ‫ال‪� ،‬أ ّلف جريميي بنثام‬ ‫املحاججة ال�سيا�سية يف الربملان‪ ،‬مث ً‬ ‫كتابه ال�صغري واملغمور «دليل املغالطات ال�سيا�سية»‬ ‫وي�سمي �أوىل املغالطات «مغالطة ال�سلطة‬ ‫(‪.)١٨٢٤‬‬ ‫ّ‬ ‫(مبا فيها مغالطات ال�شخ�صيات املمدوحة) ومادتها‬ ‫ال�سلطة يف �أ�شكالها املختلفة ‪ -‬والغر�ض املبا�رش لها هو‬ ‫قمع كل ممار�سة مللكة العقل حتت �ضغط هذه ال�سلطة»‪.‬‬ ‫وثانية املغالطات هي «مغالطات اخلطر (مبا فيها مغالطات‬ ‫ال�شخ�صيات املذمومة) ومو�ضوعها الإيحاء بوجود خطر‬ ‫ما بطرق خمتلفة‪ ،‬والغر�ض هنا القمع احلا�سم القرتاح‬ ‫اخلو�ض يف �أي نقا�ش مبا�رش‪ ،‬بحجة وجود مثل هذا‬ ‫اخلطر»‪� .‬إن �إدخال طرق النقا�ش هذه �إىل علم االجتماعي‬ ‫هو يف نظر بروديو �إ�ضعاف ال�ستقاللية العقل العلمي‬ ‫االجتماعي وخل�صو�صيته‪.‬‬ ‫ واال�ستقاللية الذاتية تعني �أي�ض ًا اال�ستقاللية الذاتية‬ ‫الحظت �أحيانا ً كثرية بني علماء االجتماع‬ ‫للأ�سلوب‪ .‬وقد‬ ‫ُ‬ ‫العرب �أ�سلوب ًا ذُكوري ًا مميز ًا يف فر�ض ال�سلطة الفكرية‪،‬‬ ‫‪178‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫حمجوبة بف�ضل �سيطرة وقائع مو�سومة بعالقات القوة‪.‬‬ ‫�أي �إنه يرى‪� ،‬إىل جانب ر�ؤيته م�سارات ال�سيطرة يف‬ ‫واقع خم�صو�ص‪ ،‬يرى �أي�ض ًا م�سارات �سيطرة حيث واقع‬ ‫ي�سيطر على واقع �آخر‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ �إذا كان الفكر ال�سيا�سي الراديكايل منب ّثا يف «حلظة‬ ‫«�ضد» وحلظة «ب��دي��ل»‪� ،‬أي يف رغبة جمابهة القمع‬ ‫وال�سيطرة واال�ستغالل القائمة ورغبة موازية خللق‬ ‫عامل �أف�ضل‪ ،‬ميكن القول � ّإن التقليد ال�سو�سيولوجي‬ ‫الأول منا�سب �أكرث ل�سيا�سة «�ضد»‪ ،‬فيما التقليد الثاين‬ ‫أ�شعر ب� ّأن‬ ‫يوفّر ذخرية ل�سيا�سات «بديلة»‪ .‬بهذا املعنى‪ُ � ،‬‬ ‫التقليدين مهمان ملخاطبة علماء االجتماع العرب‪ ،‬وهم‬ ‫يواجهون �أمناط ًا من ال�سيطرة الكولونيالية القدمية يف‬ ‫فل�سطني و�أنظمة اال�ستغالل الر�أ�سمالية اجلديدة على‬ ‫امتداد املنطقة العربية وم�ساحات الإمكان اجلديدة التي‬ ‫ب�شرّ ت بها االنتفا�ضات والتحوالت يف ال�سنوات القليلة‬ ‫يقدم التقليدان دعوة لعلماء االجتماع العرب‪،‬‬ ‫املا�ضية‪ّ .‬‬ ‫حيث الن�ضال من �أجل اال�ستقاللية حجر �أ�سا�س للمعرفة‬ ‫النقدية‪ ،‬وحيث خماطبة ال�سيا�سي ال تتطلب جمرد‬ ‫االنتباه �إىل م�ساحات ال�سيطرة واملقاومة‪ ،‬بل �إىل �إيالء‬ ‫الأهمية ذاتها للبحث عن م�ساحات تقع خارج دورات‬ ‫القوة‪ ،‬وحيث ميكن توطني �إمكانات �أنظمة اجتماعية بديلة‪.‬‬ ‫ال �رسيع ًا عن الكيفية التي ميكن‬ ‫ دعوين �أُعطي مث ً‬ ‫ك�شف عالقات القوة‬ ‫بها �أن يلتقي ِعلم اجتماع ملتزم‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ك�شف وقائع �أخرى‪ ،‬وعن التوترات‬ ‫وعلم اجتماع ملتزم‬ ‫َ‬ ‫التحليلية التي ميكن �أن تن�ش�أ عن هذا اللقاء‪ ،‬والإمكانات‬ ‫التي تتفتح �أي�ض ًا عند العمل مع التقليدين مع ًا‪ .‬ثم �أنتقل‬ ‫�إىل مثال �آخر �أكرث قرب ًا �إىل ال�سيا�سة للتمثيل على طريقة‬ ‫خماطبة التقليدين ملخيلتي ال�ضد‪/‬البديل من خميالت‬ ‫ال�سيا�سة الراديكالية‪.‬‬

‫اجلدية» تنتمي �إىل‬ ‫يت�ضمن طريقة معينة يف «ممار�سة ّ‬ ‫احلقل الديني الطهراين �أكرث من انتمائها �إىل احلقل‬ ‫الأكادميي‪ .‬و�إن نقد تريي � ُ‬ ‫إيغلطن لهذا ال�شكل من �أ�شكال‬ ‫اجلدية يف كتابة «بعد النظرية» مفيد بنوع خا�ص هنا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫�إذ يقول‪�« :‬إن الطهراين يخلط بني املتعة والطي�ش‪ ،‬لأنه‬ ‫اجلدية والوقار»‪.‬‬ ‫يخلط بني ّ‬ ‫م�ساحات خارج حقول القوة‬ ‫�أ�سمح لنف�سي باالنتقال الآن �إىل التقليد النقدي الثاين‬ ‫الذي �أو ّد الت�شديد عليه‪ ،‬و�أبرز و�آخر مظاهر هذا التقليد‬ ‫هو كتاب برونو التور عن تعددية �أمناط العي�ش‪ .‬وقد جرى‬ ‫املهم للأنرثوبولوجي‬ ‫تطوير هذا التقليد �أي�ض ًا يف العمل‬ ‫ّ‬ ‫الربازيلي �إدواردو ڤيڤيريو�س دي كا�سرتو‪� .‬أخري ًا‪ ،‬ال بد‬ ‫من املالحظة � ّأن هذا التقليد النقدي ي�ستلهم �سالالت‬ ‫فل�سفية تقود �إىل جيل ُدلوز‪ .‬ينطلق هذا التقليد بنقد‪،‬‬ ‫م�ضمر حين ًا و�سافر �أحيان ًا‪ ،‬للتقليد «ال�سو�سيولوجي»‬ ‫املحدد �أعاله‪ .‬فيحاجج � ّأن التقليد النقدي ال�سو�سيولوجي‪،‬‬ ‫وه ْتك‬ ‫لفرط الرتكيز على الأ�ضاليل والهج�س بها َ‬ ‫ا ُ‬ ‫حل ُجب عن العالقات امل�ستورة لل�سيطرة واال�ستغالل‪،‬‬ ‫ونظراً �إىل التقليد الأول منا�سب �أكثــــــــــــــــــــــــــر‬ ‫ل�سيا�سة «�ضد»‪ ،‬فيما التقليد الثانـــــــــــــــــــــــــــي‬ ‫يوفّر ذخرية ل�سيا�سات «بديلـــــــــــــــــــــــــــــــــة»‬ ‫ينتهي �إىل �إعطاء الأولوية الوجودية لهذه العالقات‬ ‫واملقاومات التي ت�ستدعيها‪ .‬بل � ّإن الأمر قد يقود �إىل‬ ‫اعتبار تلك العالقات على �أنها الواقع االجتماعي‬ ‫الوحيد وكل ما عداها ثانوي‪ ،‬ينتمي �إىل البنية الفوقية‬ ‫و�إىل الإيديولوجيا �أو هو نافل ال �أك�ثر‪ .‬ومع � ّأن هذا‬ ‫التقليد النقدي الثاين ال ي�ضع مو�ضع الت�سا�ؤل �أهمية‬ ‫عالقات ال�سيطرة‪� ،‬إال �أنه ي�شدد على �أهمية الك�شف عن‬ ‫م�ساحات �أخرى متف ّلتة منها‪ :‬م�ساحات تقع خارج طائلة‬ ‫ال�سلطة‪ ،‬خارج املحكومية‪ ،‬خارج املقاومة‪ ،‬بل حتى‬ ‫خارج احلداثة‪ .‬ف�إىل جانب م�ضمار ال�سلطة المُ َم�أ�س�سة‪،‬‬ ‫املحكومة بالبحث ال�سو�سيولوجي عن ال�سببية‪ ،‬وبالتايل‬ ‫عما هو مكرر ومتوقّع وموجود وراهن‪ ،‬يهدف هذا التقليد‬ ‫ّ‬ ‫الثاين �إىل الك�شف �أي�ض ًا عن وقائع �أخرى مو�سومة مبا‬ ‫هو هالمي وطارئ ومفاجئ وغري حم�سوب‪ ،‬والك�شف‬ ‫�أي�ض ًا عن املمكن والكامن‪ .‬فريى هذا التقليد النقدي‬ ‫� ّأن تلك الظواهر ت ّ�ؤ�رش �إىل وقائع موجودة‪ ،‬وهي مع ذلك‬

‫أخوة امللتب�سة‬ ‫ال ّ‬ ‫ال اجتماعي ًا‬ ‫لننتقل �إىل �شمال لبنان ون�ستك�شف تفاع ً‬ ‫روتيني ًا ال يزال يقابله املرء يف بع�ض القرى‪ .‬يرت�سم‬ ‫االنق�سام الطبقي يف تلك القرى بوا�سطة االنتماءات‬ ‫العائلية‪� .‬أي �إنه توجد عائالت ثرية وعائالت فقرية‬ ‫كل على حاله منذ العهد العثماين‪ .‬ومنذ مطلع العهد‬ ‫العثماين‪ ،‬يعمل �أبناء العائالت الفقرية عند العائالت‬ ‫الرثية مبا هم خدم وعمال زراعيون ورعاة و�سواقون‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من هذا االنق�سام الذي ميتد عرب الأجيال‪،‬‬ ‫زرت القرية فال تزال ت�شاهد �أبناء العائالت الرثية‬ ‫ف�إن‬ ‫َ‬ ‫‪179‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫جال�سني يتناولون القهوة مع �أبناء العائالت الفقرية‬ ‫العاملني يف خدمتهم‪ .‬وقد �شاهدت ذلك يف واحدة من‬ ‫القرى حيث كنت �أجرى �أبحاثي امليدانية‪� .‬أذكر جيد ًا‬ ‫لا يدعى‬ ‫�أين خالل جت��وايل يف القرية‪� ،‬شاهدت رج� ً‬ ‫تعرفت �إليه مطلع ذلك‬ ‫مي�شال من العائلة احلاكمة‪ ،‬وقد ّ‬ ‫الأ�سبوع‪ ،‬جال�س ًا على امل�صطبة �أمام بيته يتناول القهوة‬ ‫مع رجل �آخر كنت قد عاينته مبا هو �سائقه‪ ،‬مع �أين مل‬ ‫أتعرف �إليه من قبل‪ .‬عندما �ألقيت التحية على مي�شال‪،‬‬ ‫� ّ‬ ‫وعرفني �إىل �سائقه‪« :‬هذا جري�س‪� ،‬إنه‬ ‫انت�صب واقف ًا‬ ‫ّ‬ ‫يعمل هنا‪ .‬وهو من هنا �أي�ض ًا (من القرية) وبيته يف �أ�سفل‬ ‫الطريق»‪ .‬ثم �أ�ضاف‪�« :‬أنا وجري�س ربينا مع ًا‪ ،‬ونحن مثل‬ ‫�إخوة‪ ،‬وعائلتي وعائلته حال واحد منذ ما �أ�ستطيع �أن‬ ‫�أتذكر»‪ .‬قد يبدو هذا غريب ًا‪� ،‬أو م�صطنع ًا‪� ،‬أو حتى منافق ًا‪،‬‬ ‫ل�شخ�ص لي�س معتاد ًا ثقافة القرية‪ ،‬وخ�صو�ص ًا عندما‬ ‫تكت�شف � ّأن جري�س هو �أكرث من جمرد �سائق‪� .‬إنه يف‬ ‫الواقع خادم ملي�شال‪ ،‬ينفّذ �أي �شيء وكل �شيء يريده منه‬ ‫يف البيت واحلقل �أو يف �أي مكان �آخر‪.‬‬ ‫ �إنه و�ضع مثري جد ًا يرمي اال�ضطراب بني اال�ستعدادات‬ ‫ال�سو�سيولوجية النقدية واال�ستعدادات الأنرثوبولوجية‬ ‫النقدية لعالمِ االجتماع التي حتدث عنها �أعاله‪ .‬وال�سبب‬ ‫� ّأن ما يحدث‪ ،‬من وجهة نظر �سو�سيولوجية نقدية‪ ،‬قد‬ ‫يبدو بديهي ًا‪� :‬إن هذا الرجل ي�ستخدم م�صطلحات القرابة‬ ‫لإخفاء عالقات ال�سيطرة‪ّ � .‬إن رغبة ال�سو�سيولوجي يف‬ ‫ك�شف الت�ضليل الذي تنطوي عليه عالقات القوة يطفو‬ ‫�إىل ال�سطح فور ًا‪ ،‬فيقول �أو تقول‪�« :‬أكيد‪« .‬مثل الإخوة»‬ ‫بالت�أكيد‪ .‬ها ها ها‪ .‬من يظن �أنه يخدع؟ �إين �أ�ستطيع �أن‬ ‫أتعرف �إىل ما تبطنه من‬ ‫�أنفذ من خالل لغة ال ّ‬ ‫أخوة هذه و� ّ‬ ‫علي بهذا‬ ‫عالقة �سيطرة‪ .‬ما من �أحد ي�ستطيع �أن ي�ضحك ّ‬ ‫أخوة»‪ .‬وقد يقول املارك�سي‪« :‬لدينا هنا‬ ‫التخليط عن ال ّ‬ ‫و�ضع ت�شتغل فيه م�صطلحات القرابة مبا هي ايديولوجيا‬ ‫�سيد‬ ‫للتغطية على عالقات اال�ستغالل القائمة بني ّ‬ ‫جد جري�س‬ ‫وخادمه»‪ .‬ثم �إين علمت �إ�ضافة �إىل ذلك �أن ّ‬ ‫جد مي�شال‪ .‬فيمكن املرء �أن يقول‬ ‫كان �أي�ض ًا خادما ً عند ّ‬ ‫با�ستهتار‪ :‬يكفينا ق�صة «عائلتي وعائلته حال واحد» � ْإن‬ ‫هذا �إال متويه لعالقات قوة‪.‬‬ ‫ �إال � ّأن اجلانب الأنرثوبولوجي مني‪� ،‬إذ يوافق النقد‬ ‫ال�سو�سيولوجي يف م�ستوى ما‪ ،‬يريد �أن يفهم �أي�ض ًا معنى‬ ‫هذا الو�صف «نحن مثل الإخوة» من وجهة نظر جري�س‪،‬‬ ‫وهنا يظهر �أمر �آخر‪ .‬ف�أول �شيء الحظ ُته بعد وقت من‬ ‫التعرف �إىل جري�س �أنه لي�س م�ض َّلال على الإطالق بلغة‬ ‫ّ‬



‫أخوة‪� .‬إنه يعرف جيد ًا جد ًا �أنه خادم لرجل ثري و� ّأن‬ ‫ال ّ‬ ‫عائلته كانت وال تزال حتت �سيطرة عائلة مي�شال‪ .‬وعلى‬ ‫و�سيده الرثي‬ ‫يقدر فعلي ًا �أنه‬ ‫الرغم من ذلك‪ ،‬فجري�س ّ‬ ‫ّ‬ ‫«مثل الإخ��وة»‪ .‬وقد ا�ستمتع بذلك عندما قاله مي�شال‬ ‫وكرره يف منا�سبة �أخرى‪ .‬هنا بد� ُأت �أدرك �أنه على الرغم‬ ‫ال ا�ستعارات القرابة‬ ‫من حقيقة � ّأن مي�شال ي�ستخدم فع ً‬ ‫لإع��ادة �إنتاج عالقة اال�ستغالل التي تربطه بجري�س‪،‬‬ ‫يبقى � ّأن امل�صطلحات القرابية ت�ؤدي وظيفة تتعدى تلك‬ ‫الوظيفة‪� :‬إنها حتفر م�ساحة ي�ستمتع بها كل من مي�شال‬ ‫�إن امل�صطلحات القرابيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫ت�ؤدي وظيفة تتعدى تلك الوظيفـــــــــــــــــــــــــــة‪:‬‬ ‫�إنها حتفر م�ساحة ي�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــتمتع بها‬ ‫كل من مي�شال وجريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ�س‬ ‫حيث يرتبط واحدهما بالآخـــــــــــــــــــــــــــــــــــــر‬ ‫خارج عالقة ال�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيطرة‬ ‫وجري�س حيث يرتبط واحدهما بالآخر خارج عالقة‬ ‫ال�سيطرة‪ .‬عندما تبالغ النظرة ال�سو�سيولوجية النقدية يف‬ ‫توظيف جهد كبري يف ك�شف عالقات القوة‪ ،‬ف�إنها غالبا ً‬ ‫ال �أخرى من العالئقية‪� ،‬أو‬ ‫ما تعجز عن �أن ترى �أ�شكا ً‬ ‫�أن تعجز عن التفكري ب�إمكان وجود مثل تلك الأ�شكال‬ ‫الأخرى‪� ،‬أو �أن تفكر يف � ّأن عالقة قوة قد ال تكون �أكرث‬ ‫من جمرد عالقة قوة‪ .‬بيد � ّأن العالقة بني �شخ�صني �أعقد‬ ‫ومتعددة الأبعاد لكي ميكن القب�ض عليها يف ن�سق تعريفي‬ ‫البعد‬ ‫واحد‪ ،‬مهما تكن قيمته‪ .‬قد تكون عالقة القوة هي ُ‬ ‫الأهم يف العالقة بني مي�شال وجري�س على �أنها لي�ست هي‬ ‫البعد الأوحد‪ .‬ت�شري لغة القرابة �إىل هذا ال�شكل الآخر‬ ‫للعالئقية‪ .‬ويف لغة القرية اللبنانية‪ ،‬غالب ًا ما تكون امل�ساحة‬ ‫التي حتفرها لغة القرابة املجازية هي م�ساح َة تكرمي‪.‬‬ ‫ وهكذا ف�إن النظرة ال�سو�سيولوجية لن ت�شاهد هذه‬ ‫امل�ساحة �إال وفق م�صطلحات الكيفية التي ت�شتغل بها‬ ‫لإع��ادة �إنتاج عالقات القوة‪ .‬بالت�أكيد‪ ،‬قد تخدم تلك‬ ‫امل�ساحة لإعادة �إنتاج عالقات القوة‪ ،‬بل �إنها تفعل ذلك‬ ‫ال‪ .‬ولكن �إذا كان هذا كل ما ي�شاهده عالمِ االجتماع‪،‬‬ ‫فع ً‬ ‫مهم ميلكه النا�س‪ ،‬وخ�صو�ص ًا‬ ‫ف�إنه يتغافل عن مورد‬ ‫ّ‬ ‫النا�س املخ�ضعني‪ ،‬لكي يبنوا �شخ�صياتهم مبا هم ب�رش‬ ‫ي�ستحقون احلياة‪ .‬القول �إن هذه امل�ساحة ت�ساعد على‬ ‫�إعادة �إنتاج عالقات ال�سيطرة قد يكون �صحيح ًا‪ ،‬لكنه‬ ‫لي�س يعني � ّأن ذلك هو ال�سبب الوحيد لوجودها‪� .‬إن من‬ ‫‪182‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫م�ضار م�ستدامة على الب�رش وعلى الن�سيج االجتماعي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫اللذين يخو�ضونهما‪ .‬بل ميكن القول بالت�أكيد �إن هذا‬ ‫هو البعد امل�أ�سوي للمقاومة‪� .‬إنها بطولية وال غنى عنها‪.‬‬ ‫و�إن حياة ت�ستحق �أن نعي�شها ي�ستحيل التفكري بها دون‬ ‫ت�رض بجدوى احلياة‪ .‬لي�س‬ ‫مقاومة‪ ،‬ومع ذلك فاملقاومة‬ ‫ّ‬ ‫على املرء �أن يفكر باملقاومة وبال�صمود على �أن واحدهما‬ ‫بعد‬ ‫نقي�ض للآخر‪ .‬ميكن النظر املفيد �إليهما على �أنهما ٌ‬ ‫من �أبعاد املقاومة من قبل �شخ�ص ي�ص ّنف املقاومة من‬ ‫اخلارج‪ .‬ومهما يكن من �أمر‪ ،‬فبالن�سبة �إىل الذين ميار�سون‬ ‫ال�صمود‪ ،‬يجب متييزه بعناية عن املقاومة مبا هي واقع‪.‬‬ ‫ رغم خ�شيتي التب�سيط املفرط للم�س�ألة‪ ،‬دعوين �أقدم‬ ‫ال تو�ضيحي ًا على ما �أقول‪ .‬يف منزل �شهيد فل�سطيني‬ ‫مث ً‬ ‫ا�ست�شهد حديث ًا‪ ،‬كان على �أرملته �أن تتخذ خيارات‬ ‫تتعلق مبدى ما تتذكره عنه وما تريد �أن يتذكره �أطفاله‪،‬‬ ‫وهي ذكريات تتغري مع الوقت‪ ،‬طبع ًا‪� .‬إن تعليق �صورته‬ ‫على احلائط ِفعل ّ‬ ‫تذكر‪ ،‬لكنه �أي�ض ًا احتفال مبقاومته و ِفعل‬ ‫مقاومة بذاته‪ .‬وقد تقيم الأرملة مزار ًا لزوجها ال�شهيد يف‬ ‫البيت ل�ضمان �أن يتذكر الأوالد بطولة �أبيهم على الدوام‪،‬‬ ‫ويرثوها‪ ،‬وي�شاركوا يف ثقافة املقاومة التي كان �أبوهم‬ ‫جزء ًا منها‪ .‬ولكن لنفرت�ض �أن املر�أة قررت �أنها �ستقر�أ‬ ‫م�سي�سة ثم تتمنى‬ ‫كل ليلة لأطفالها ق�ص�ص �أطفال غري ّ‬ ‫لهم ليلة �سعيدة وهي تطبع قبلة دافئة على خدودهم‬ ‫ت�سمح لهم باختبار �شعور بالوجود لي�س حمكوم ًا ذاتي ًا‬ ‫مبوت �أبيهم‪� ،‬شعور ًا بالوجود ال يحكمه اال�ستعمار وال‬ ‫مقاومة اال�ستعمار‪ .‬بعبارة �أخرى‪ ،‬ها هي �أُم جتعل �أطفالها‬ ‫يختربون بنوع من العادية التي يختربها �أي�ض ًا �أطفال‬ ‫معر�ضني ل�سيطرة اال�ستعمار ولي�سوا �أيتام �شهيد‪.‬‬ ‫لي�سوا ّ‬ ‫أ�سميه فعل �صمود‪ .‬وبديهي �أنه ي�ستبطن عن�رص‬ ‫هذا ما � ّ‬ ‫مقاومة‪ .‬ولكن �إذا ما انخرطت الأم يف ممار�سات تهدف �إىل‬ ‫حتا�شي واقع اال�ستعمار ‪ -‬على افرتا�ض � ّأن ذلك التحا�شي‬ ‫ممكن ‪ -‬ف�سوف ينظر من يريد اال�ستمرار يف االحتفال‬ ‫ب�شهادة الأب �إىل ذلك على �أنه �رضب من اخليانة‪ .‬ومع‬ ‫ذلك‪ ،‬ف�إن ا�ستغراق العائلة الكلي يف االحتفال ب�أفعال‬ ‫املقاومة وحرمان النف�س م�ساحات العادية تلك‪� ،‬إمنا هي‬ ‫ظاهرة َم َر�ضية لي�س �إال‪.‬‬ ‫ وكما قلت �أعاله‪� ،‬إذا كان املرء يريد ت�سمية ال�صمود‬ ‫ال �آخر خمتلف ًا عن �أفعال‬ ‫ُبعد ًا �آخر من �أبعاد املقاومة �أو فع ً‬ ‫املقاومة‪ ،‬فلي�س بذاك القدر من الأهمية من منظار حتليلي‬ ‫قدر ما هو من املنظور ال�سيا�سي للذين يخو�ضون املقاومة‬ ‫والذين قد ي�صيبهم اال�ضطراب من طاقة اال�ستيعاب‬

‫يكتب تاريخ العالقات الطبقية‪ ،‬وخ�صو�ص ًا عالقات‬ ‫املح�سبوية‪ ،‬يف القرى اللبنانية‪ ،‬وال يرى �إال عالقات‬ ‫ال�سيطرة والأ�شكال الأدواتية لال�ستغالل‪ ،‬يتغافل عن‬ ‫مهم �آخر‪ ،‬هو تاريخ تدهور م�ساحة متحررة من‬ ‫تاريخ ّ‬ ‫تلك العالقات الوظائفية حيث الب�رش يرتبط واحدهم‬ ‫بالآخر مبا هم �إخوان و�أخوات‪� .‬إن النظرة ال�سو�سيولوجية‬ ‫قيمة‪ ،‬لكن‬ ‫النقدية التي تلتقط عالقات ا�ستغالل نظرة ّ‬ ‫النظرة الأنرثوبولوجية النقدية التي تلتقط وجود‬ ‫م�ساحات �أو وقائع �أخرى ال تقل عنها قيمة‪.‬‬ ‫ وهذا مثال �آخر ي�شدد على الكيفية التي ِّ‬ ‫متكن ثنائية‬ ‫املت�رشبة بالقوة‪/‬امل�ساحات الأخ��رى» من‬ ‫«امل�ساحات‬ ‫ّ‬ ‫�أن تعقد عالق ًة مميزة بثنائية «�سيا�سات ال�ضد‪�/‬سيا�سات‬ ‫البديل» املذكورة �أع�لاه‪ .‬بالن�سبة �إىل علماء االجتماع‬ ‫املهتمني باحلياة االجتماعية الفل�سطينية وبا�ستمرارها يف‬ ‫وجه تو�سع اال�ستعمار ال�صهيوين‪ ،‬ووح�شيته‪ ،‬تبدو ق�ضية‬ ‫املقاومة‪ ،‬ومكونات ثقافة املقاومة‪ ،‬عظيمة الأهمية‪ .‬ولقد‬ ‫ف�صل العديد من علماء االجتماع القديرين يف تلك‬ ‫ّ‬ ‫حمور «اال�ستعمار‬ ‫لنا‬ ‫�سمح‬ ‫ي‬ ‫مدى‬ ‫أي‬ ‫�‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫ولكن‬ ‫العالقة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫اال�ستيطاين‪/‬مقاومة اال�ستعمار اال�ستيطاين» بفهم ال�سيا�سة‬ ‫بناء‬ ‫الفل�سطينية وتوفري الذخرية النقدية لها‪ .‬هنا �أي�ض ًا‪ً ،‬‬ ‫على مثال القرية الوارد �أعاله‪ ،‬يوجد غالب ًا انزياح من‬ ‫الأولوية الوجودية �إىل الواقعية الوجودية الأحدية‪� :‬أي‬ ‫االنزياح من اعتبار عالقات ال�سيطرة اال�ستعمارية ومقاومة‬ ‫تلك ال�سيطرة على �أنها �أهم واقع �سيا�سي فل�سطيني �إىل‬ ‫اعتبارها الواقع الفل�سطيني الوحيد‪.‬‬ ‫ � ّإن امل��ق��اوم��ة‪ ،‬على �أهميتها لأ�سباب �سيا�سية‬ ‫والعتبارات القيمة الذاتية الفردية‪ ،‬م�سعى متطلب‬ ‫نف�ساني ًا ميكن �أن ُينهِ ك الب�رش حتى عندما ينجحون يف‬ ‫مقاومتهم‪� .‬إن نظرة �أنرثوبولوجية لن تكتفي بتفح�ص‬ ‫خمتلف الأ�شكال والأبعاد لوجود عالقات قوة وعالقات‬ ‫مقاومة فقط‪ ،‬بل تتطلب تفح�ص كيفية اهتمام النا�س‬ ‫بحماية �أنف�سهم من ال�سيطرة ومن مقاومة ال�سيطرة‬ ‫يف �آن واحد‪ .‬هنا ميكن اعتبار مفهوم ال�صمود والواقع‪،‬‬ ‫واملمار�سات والثقافة التي حتددها املمار�سات‪ ،‬مفهوم ًا‬ ‫على القدر ذاته من الأهمية‪� .‬إن ال�صمود يف علم الفيزياء‪،‬‬ ‫كما عندما نتحدث عن �صمود مادة ما‪ ،‬له تعريف مثري‪:‬‬ ‫تتعر�ض لقوة‬ ‫�إنه يتحدث عن طاقة تلك املادة على �أن ّ‬ ‫تت�شوه بها‪ .‬يبدو يل هذا بعد ًا حا�سم ًا‬ ‫ت�شويهية دون �أن‬ ‫ّ‬ ‫من �أبعاد «ممار�سات ال�صمود»‪ .‬ذلك �أنه مهما فكرنا يف‬ ‫�أهمية املقاومة وقد�سيتها‪ ،‬ال ميكننا �أن ننكر �أنها ت�ستدعي‬ ‫‪183‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫التي تنطوي عليها �أفعال ال�صمود‪ .‬احلا�سم هنا بالن�سبة‬ ‫�إىل عالمِ االجتماع النقدي هو �أن ال�صمود م�ساحة‬ ‫�أخرى غري م�ساحة ال�سيطرة اال�ستعمارية وللمقاومة‬ ‫الن�شطة لل�سيطرة‪ .‬لي�ست م�ساحة حتكمها الأولوية‬ ‫املعطاة لل�سلطة اال�ستعمارية التي يحتاج املرء �إىل �أن‬ ‫ي�سمي ال�صمود م�ساحة للعادية‬ ‫يقاومها‪ .‬ميكن املرء �أن‬ ‫ّ‬ ‫البطولية‪ .‬وب�سبب ذلك‪ ،‬فهو م�ساحة �أكرث مالءمة لتوطني‬ ‫«ال�سيا�سات البديلة»‪� :‬سيا�سات معنية مب�أ�س�سة نوع‬ ‫من العادية ملرحلة ما بعد املقاومة‪ .‬املقاومة‪ ،‬من ناحية‬ ‫�أخرى‪ ،‬مهجو�سة تعريف ًا مبا ت�سعى �إىل مقاومته‪ ،‬فهي‬ ‫بالتايل �أر�ض لـ«�سيا�سات ال�ضد»‪ .‬واحلا�سم دوم ًا �أن ال‬ ‫نفكر �أبد ًا بال�ضد والبديل‪ ،‬وباملقاومة وال�صمود‪ ،‬مبنطق‬ ‫«�إما هذا �أو ذاك» ولكن بالكيفية التي ميكن �أن نفكر‬ ‫وحري بعالمِ االجتماع النقدي‪ ،‬الذي حتدوه‬ ‫باالثنني مع ًا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫قيم ال�سو�سيولوجيا النقدية والأنرثوبولوجيا النقدية‪� ،‬أن‬ ‫يقدم م�ساهمة ما ملهمة التفكري هذه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ �أو ّد �أن �أختم ب�إثارة ُب ٍ‬ ‫عد هام �آخر من �أبعاد النقد‬ ‫«الأنرثوبولوجي» �أو «الثقايف» للعلوم االجتماعية‪� .‬إنه‬ ‫يتعلق مب�سائل منط الكتابة يف مقابل م�ضمون الكتابة‪.‬‬ ‫فل�سفيا من �أعمال ديريدا‪ ،‬لكنه‬ ‫� ّإن هذا النقد م�ستلهم‬ ‫ً‬ ‫يتغذى �أي�ض ًا من تقليد عريق يف العلوم االجتماعية‬ ‫الن�سوية‪ .‬وامل�س�ألة هنا هي م�س�ألة طرائق علم االجتماع‬ ‫يف تف�صيل الواقع وت�صنيفه‪ ،‬وت�شديدها على ما ت�شري‬ ‫�إليه لغ ُتها على �أنه «قب�ض على واقع»‪ّ � .‬إن مثل هذه اللغة‬ ‫جتعل العلوم االجتماعية متواطئة مع �أ�شكال ال�سيطرة‬ ‫البطريركية ال�سائدة واملرتبطة برتوي�ض الآخ��ر‪� ،‬أو‬ ‫الأخروية‪ ،‬والتحكم بها وال�سيطرة عليها وا�ستغاللها‪.‬‬ ‫�إن البحث عن وقائع �أخرى ال ت�سودها مثل هذا العالقة‬ ‫يدعونا �أي�ض ًا �إىل التفكري يف �أ�سلوب كتابة ال يتعلق‬ ‫ب�إلقاء القب�ض‪� ،‬أ�سلوب كتابة «مع النا�س» �أكرث مما هو‬ ‫نت�صور منط ًا‬ ‫�أ�سلوب «كتابة عن النا�س»‪ .‬فمن ال�صعب �أن‬ ‫ّ‬ ‫من املعرفة العلمية ال يرتافق مع منطق التدجني‪ .‬ومع ذلك‬ ‫ميكن التخفيف منه اقله بوا�سطة رغبة يف عدم الك�شف‬ ‫تعر�ض ال�شيء لإلقاء‬ ‫وعدم هتك الأ�ستار‪ ،‬التي غالب ًا ما ّ‬ ‫ُ‬ ‫القب�ض ال�سلطوي عليه حتى عندما ال يكون قد �ألقي‬ ‫ال‪ّ � .‬إن «الكتابة مع» هي كتابة «مع»‬ ‫القب�ض عليه �أ�ص ً‬ ‫النا�س بالطريقة ذاتها التي نتمنى فيها لأحدهم «الله‬ ‫معية تخدم كقوة دفع يف حياة النا�س‪ ،‬وهذا‬ ‫معك»‪� .‬إنها ّ‬ ‫ما يعجز عنه �أف�ضل علم اجتماعي نقدي‪� ،‬أكان ي�ستلهم‬ ‫ال�سو�سيولوجيا �أم الأنرثوبولوجيا‪.‬‬


‫ ال�سعي يف اخت�صار املنازعات ال�سيا�سية والأهلية‬‫الكثرية واملت�شعبة ال�سابقة يف التيارات العامية وحدها‪.‬‬ ‫واقت�ضى الأمر �أو النجاح فيه �إق�صاء اجلماعات املرتبعة‬ ‫يف �سدة الن�سب واملكانة‪ ،‬وما يتفرع عليهما من �أحالف‬ ‫وعوائد وري��وع‪ ،‬وم�صادر َتها على مواردها ومكانتها‬ ‫ومعايري اجتماعها‪ ،‬قبل �إطفاء جذوتها ال�سيا�سية‬ ‫واالجتماعية‪ .‬وجمعت املكانات والأحالف هذه‪ ،‬يف باب‬ ‫واحد هو النظام القدمي �أو البائد‪ .‬وترتب على هذا �شق‬ ‫املجتمعات (�إىل) مع�سكرين اجتماعيني و�أهليني متنازعني‪،‬‬ ‫�أو متحاربني من غري و�سيط �أو و�ساطة‪ ،‬يق�ضي احرتابهما‬ ‫بانت�صار مع�سكر على �آخر انت�صار ًا ناجز ًا‪ ،‬وال تقوم بعده‬ ‫قائمة للمع�سكر «الطبقي» الأهلي املهزوم واملغلوب‪،‬‬ ‫وذلك على دعوى ن�رشها مثال �سوفياتي �شيوعي جمع‪،‬‬ ‫يف �صورة مركبة وواح��دة‪« ،‬منطق التاريخ» التطوري‬ ‫والغائي وطوبى الثورة املظفرة واحلا�سمة‪.‬‬ ‫ ومراحل اال�ستيالء البعثي ال�صدامي على دولة العراق‪،‬‬ ‫وعلى �شطر من �أبنية جمتمع العراق وجماعاته‪ ،‬تعاقبت‬ ‫على ر�سم وا�ضح تعقبه حنا بطاطو‪ ،‬وتق�صى دقائقه من‬ ‫غري �إغفال وقائعه امل�ؤثرة‪ .‬وتابع اجلزء الأول من املقالة‬ ‫بطاطو على الر�سم الذي اختطه‪ .‬فاملرحلة الأوىل ورثتها‬ ‫قيادة حزب البعث من الأع��وام الع�رشة التي انق�ضت‬ ‫بني االنقالب الأول‪ ،‬يف ‪ ١٤‬متوز ‪ ،١٩٥٨‬واالنقالب‬ ‫الثاين يف ‪ ٣٠ – ١٧‬متوز ‪ ،١٩٦٨‬وملأتها النزاعات‬ ‫الع�سكرية املتفاقمة على احلكم وقممه‪ .‬و�أدلت فيها القيادة‬ ‫البعثية بدلوها العاثر‪ ،‬ومن غري قعر‪ ،‬يف ‪.١٩٦٣‬‬ ‫ وجددت بع�ض التجديد نهج احلكم الذي ا�ستقر‪،‬‬ ‫غداة ‪ ١٤‬متوز ‪ ،١٩٥٨‬مع انفراد عبد الكرمي قا�سم‬ ‫بالزعامة �أو الرئا�سة‪ ،‬ثم مع عودة عبد ال�سالم عارف‬ ‫والنا�رصيني �إىل ال�صدارة‪ .‬فاالنعطافات واالنقالبات‬ ‫هذه غلبت عليها مبادرة اجلي�ش والقوات امل�سلحة‪ ،‬ومل‬ ‫تالب�سها امل�شاركة «ال�شعبية» �أو الأهلية واجلماهريية‬ ‫�إال مالب�سة عر�ضية‪ ،‬على رغم �رشاكة احلزب ال�شيوعي‬ ‫العراقي‪ ،‬اجلماهريي قيا�س ًا على الأح��زاب العراقية‬ ‫الأخ��رى‪ ،‬يف بع�ض ف�صول املرحلة‪ ،‬و�رشاكة التيار‬ ‫«القومي»‪ ،‬البعثي والنا�رصي‪ ،‬يف الف�صول نف�سها و�إمنا‬ ‫على منقلبها الآخر‪ .‬وعلى خالف احلزب ال�شيوعي‪ ،‬وهو‬ ‫�أوكل �إىل عبد الكرمي قا�سم الت�رصف والتدبري احلكوميني‬ ‫ونزل عنهما حني ندب قا�سم نف�سه وحده �إليهما‪( ،‬وعلى‬ ‫خ�لاف) ال�شلل الع�سكرية النا�رصية املتفرقة‪ ،‬وهي‬ ‫ت�صدرت تيارات جماهريية م�ستقلة بنف�سها وال تربطها‬

‫دليال [‪]2‬‬ ‫العراق مثا ًال وحنا بطاطو‬ ‫ً‬ ‫من أهل الدولة إىل دولة األهل‬

‫وضاح رشارة‬ ‫كاتب من لبنان‬

‫ن��ن�شر يف م���ا ي���أيت اجل����زء ال���ث���اين م���ن ق����راءة وض����اح رشارة ل��ك��ت��اب ح��ن��ا ب��ط��اط��و «ال���ع���راق‪ ،‬ال��ط��ب��ق��ات االج��ت��م��اع��ي��ة‬ ‫واحل��رك��ات ال��ث��ور ي��ة»‪ .‬فبعد حتليل أوال��ي��ات ت��س��لّ ��م ال��س��ل��ط��ة‪ ،‬ي��ت��ن��اول ال��ك��ات��ب يف ه��ذا اجل���زء أوال��ي��ات تثبيت‬ ‫البعثيني‪ ،‬يف ظل األنظمة «الوطنية الديمقراطية»‪ ،‬الذي‬ ‫السلطات يف مرص النارصية ويف العراق وسور ية‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫معارضا انطباق‬ ‫أُطلق عىل األنظمة الصادرة عن حركات التحرر الوطين يف القارات الثالث‪ .‬ويناقش رشارة‬ ‫هذا التوصيف عىل األنظمة العربية المعنية‬

‫‪1‬‬ ‫اال�ستيالء والتثبيت والتوحيد‬ ‫تعقبت حلقة �أوىل من �سمات الدولة الوطنية العربية‬ ‫النا�شئة يف رعاية �أو «قب�ضة» جهاز ا�ستيالء ع�صبي‬ ‫ريعي وبريوقراطي يف مر�آة املثال العراقي‪ِ ،‬‬ ‫و�صف َة حنا‬ ‫بطاطو �إي��اه يف عمله اجلامع الذي انق�ضت عليه‪ ،‬يف‬ ‫‪� 35 ،2013‬سنة تامة (عطف ًا على مقال الكاتب يف‬ ‫«بدايات» العدد ‪ ،5‬ربيع ‪� ،2013‬ص ‪.)207-186‬‬ ‫واحلق � ّأن جهاز اال�ستيالء هذا‪ ،‬وهو غالب ًا ما اخت�رص يف‬ ‫ا�سم �صاحبه ون�سب �إىل ر�أ�سه وجامع مقاليده‪� ،‬صدام‬ ‫ح�سني‪ ،‬بلور نظام ًا بالغ اال�ضطراب واالختالل‪ ،‬ا�ستمد‬ ‫(من) عوامل ا�ضطرابه واختالله‪ ،‬وهي ع�صبيته وريعيته‬ ‫نازعه �إىل الت�أزم‬ ‫وبريوقراطيته‪ ،‬وا�ستيال�ؤه املتجدد‪،‬‬ ‫َ‬ ‫مر القول‪ ،‬و�إىل اال�ستقرار على‬ ‫و«الراديكالية»‪ ،‬على ما ّ‬ ‫ال وخارج ًا‪ .‬وتناولت‬ ‫حال احلرب والإقامة عليها داخ ً‬ ‫احللقة الأوىل االنقالب �أو االنتقال من املناف�سة على‬ ‫الدولة العراقية‪� ،‬إىل التحكم املنفرد فيها‪ ،‬ومن ِ�شلل‬ ‫ع�سكرية �ضيقة‪ ،‬حلمتها ع�صبي ٌة حملية متحلقة حول‬ ‫وترب�ص بع�صبية �أخرى على مثالها‬ ‫فرد بارز املرتبة‬ ‫ٌ‬ ‫و�شاكلتها‪� ،‬إىل احتكار حزب منظم واحد وعري�ض‬ ‫القاعدة املنتفعة ال�سيطر َة امل�سلحة‪ ،‬ثم الإدارية والأهلية‬ ‫وال�سيا�سية واالقت�صادية على الدولة واملجتمع و�أبنيتهما‪.‬‬ ‫‪184‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ وعلى رغم فظاظة اال�ستيالء وفجاجته‪ ،‬ولبا�س‬ ‫حزب البعث العربي اال�شرتاكي يف «القطر» العراقي‬ ‫يف مناف�سته الأح��زاب والكتل الأخ��رى التي ت�شبهه‬ ‫وي�شبهها حلة الع�صابة امل�ؤا ِمر بع�ضها بع�ض ًا‪ ،‬انخرط‬ ‫اال�ستيالء يف �سياقة تاريخية عري�ضة ومو�صوفة هي‬ ‫امل�ستعمرة‬ ‫�سياقة بناء الدولة الوطنية‪ ،‬وخروج املجتمعات‬ ‫َ‬ ‫من �سيطرة الإدارات اال�ستعمارية �إىل اال�ستقالل‬ ‫والتدبري ال�سيا�سي وال��ذات��ي والت�رصف يف عوائد‬ ‫ُ‬ ‫يخل اال�ستيالء‪،‬‬ ‫الإنتاج والتوزيع‪ ،‬على وجوهها‪ .‬فلم‬ ‫وهذه حاله‪ ،‬من م�سوغات ظاهرة وقوية‪ .‬وبدا‪ ،‬يف �أعني‬ ‫ال قا�سي ًا وال �شك على‬ ‫كثرية لي�ست كلها مغر�ضة‪ ،‬متثي ً‬ ‫«مراحل» ا�ستواء اجلماعات امل�ستعمرة والتابعة املتخلفة‬ ‫ال (‪�-‬أمم ًا) وطنية ناجزة‪ ،‬وعلى �رضورات االنتقال من‬ ‫دو ً‬ ‫حال الت�صدع الأوىل والتعويل على الأجنبي �إىل حال‬ ‫التما�سك الذاتي املرجوة والآتية‪.‬‬ ‫ع�سكر اال�ستيالء وحزب احلكم‬ ‫فو�سع البعث العراقي ‪ -‬على نحو ما و�سع «النا�رصية»‬ ‫امل�رصية يف الأعوام اخلم�س ع�رشة املنق�ضية بني ‪1955‬‬ ‫ ‪ ،1970‬واجلبهة الوطنية التقدمية يف �سورية يف‬‫‪ ،1961 - 1954‬ثم البعث ال�سوري يف ‪- 1963‬‬ ‫‪ 1970‬وما بعدها‪ ،‬واحلركات «الوطنية» �أو اال�ستقاللية‬ ‫يف الأردن ولبنان وبلدان �شبه جزيرة العرب وفل�سطني‬ ‫‪185‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫بقيادات مفرت�ضة هياكل و�شبكات منظمة ومت�صلة‪،‬‬ ‫�أرادت قيادة حزب البعث رفد االنقالب الع�سكري‬ ‫التقني واملبا�رش بعمل «�شعبي» جماهريي وقاعدي‪.‬‬ ‫و�أوك��ل��ت �إىل «حر�س ق��وم��ي»‪ ،‬حزبي‪ ،‬اال�ضطالع‬ ‫بدور يف اال�ستيالء على «ال�شارع» وتخويف الأعداء‬ ‫وال�سيطرة على �أجهزة احلكم‪ ،‬ثم يف الإدارة ال�سيا�سية‬ ‫والأمنية اليومية‪ .‬و�آذن �إ�رشاك «احلر�س القومي» يف‬ ‫الأمرين بتف�شي العنف‪ ،‬يف �صورته الوبائية والأهلية‪ ،‬يف‬ ‫النزاعات ال�سيا�سية‪ ،‬ويف �إجرائها اليومي والإداري‪.‬‬ ‫ و�إذا �أف�ضى هذا التجديد يف العاجل‪� ،‬إىل خ�سارة‬ ‫قيادة البعث ال�سلطة وت�أليب التيار القومي واجلماعات‬ ‫العراقوية وبع�ض اجلماعات «القدمية» عليه‪ ،‬ر�سخ‬ ‫لا قدم احل��زب‪ ،‬يف‬ ‫التجديد «ال�شعبي» واحلر�سي �آج� ً‬ ‫‪ ،1968‬يف احلكم‪ .‬وخل�ص احلزب‪� ،‬أي قيادته ال�ضيقة‪،‬‬ ‫من اال�ستيالء الأول‪ ،‬الفوقي والعلوي‪� ،‬إىل �ضعف مثل‬ ‫هذا اال�ستيالء وه�شا�شته‪ ،‬و�إىل حاجته‪� ،‬إذا �شاء حكم ًا‬ ‫مديد ًا ورا�سخ ًا يف دولة وجمتمع عربيني ومعا�رصين‪� ،‬إىل‬ ‫غ�شيان حزب جماهريي عري�ض ومن�ضبط ومتع�صب‪،‬‬ ‫ج�سم الدولة و�أجهزتها‪ ،‬من وجه‪ ،‬و�إىل ال�سيطرة على‬ ‫�أبنية املجتمع وا�ستتباعها �أو �إحلاقها بجهاز ال�سيطرة‬ ‫ودجمها يف �إوال��ي��ات��ه‪ .‬فمن طريق احل��زب الع�صبي‬ ‫فاجلماهريي املن�ضبط‪ ،‬وعلى خالف اقت�صار ال�شلل‬ ‫الع�سكرية على تكتيل ا�صحاب املواقع العمالنية‬ ‫النافذة‪ ،‬ولكن على ال�ضد من التعويل االيديولوجي‬ ‫على ترجيح عوامل اجتماعية و�سيا�سية �رضورية غلب َة‬ ‫قوى «تاريخية» مو�صوفة على قوى �أخرى (على ما‬ ‫ن�سب ال�شيوعيون �إىل �أنف�سهم) – تغلبت قيادة حزب‬ ‫البعث على القوى املناف�سة الكثرية الأخرى‪ ،‬وجتاوزت‬ ‫اال�ستيالء االنقالبي الظريف �إىل �إن�شاء «نظامها» وتثبيته‪.‬‬ ‫ويف حايل �أو ف�صلي اال�ستيالء والتثبيت‪ ،‬مهدت الأداة‬ ‫الأمنية الطريق �إىل بناء «النظام» على �أركانه الإدارية‬ ‫واالجتماعية املتينة واملديدة‪.‬‬ ‫فقدم االنقالب اخلاطف وامللتب�س‪ ،‬واخل��ادع �أو‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫املراوغ‪ ،‬لإجراءات قلبت ر�أ�س ًا على عقب موازين عالقة‬ ‫الدولة‪� ،‬أو جهاز ال�سيطرة والتوحيد والإدارة‪ ،‬باجلماعات‬ ‫الوطنية وبـ«ال�شعب» و«املجتمع» �أي مبا ُخ ِّل�ص من‬ ‫اجلماعات وانقطع عنها‪ ،‬وائتلف يف الكيانني النا�شئني‪.‬‬ ‫فا�ستعجلت القيادة احلزبية ق�رص القوات امل�سلحة على‬ ‫�أن�صارها‪� ،‬أي على نف�سها‪ ،‬و�إق�صاء «املخالفني» من غري‬ ‫متييز‪ .‬و�سلطت عليها‪ ،‬وعلى �أطرها اجلديدة‪ ،‬معايري والء‬


‫حزبي و�شخ�صي �صارمة وقاطعة‪ .‬وع�ضدت هذه املعايري‬ ‫ببنية «طبقة منتخبة» ومتنفذة‪ ،‬و�أخرى �أو�سع من الأوىل‪،‬‬ ‫ولكنها ت�شاركها معايري االنت�ساب واملنبت وامل�صلحة‬ ‫ال�سني‬ ‫املفرت�ضة‪ .‬فمالت كتلة احلزب بكليتها نحو اجل�سم ُّ‬ ‫وبلدانا‪،‬‬ ‫والعربي‪ ،‬الو�سطي والغربي وال�شمايل جغرافي ًة‬ ‫ً‬ ‫و«البدوي» الريفي عمران ًا واجتماع ًا و�سيا�سة‪ .‬وال�سمات‬ ‫الع�صبية والأهلية هذه جنمت عن انقالب حزب البعث من‬ ‫منظمة نا�شطني دعاة‪ ،‬وحمر�ضني «فكريني»‪ ،‬ومعرت�ضني‬ ‫على �سيطرة م�صالح تقليدية �ضيقة‪� ،‬إىل حركة �سيا�سية‬ ‫مبادرة جعلت ن�صب جهدها و�سعيها الدولة وال�سلطة‪،‬‬ ‫واال�ستحواذ عليهما‪ ،‬و�إحلاقهما بقيادتها وخططها‪ .‬وهي‬ ‫انتهجت نهجها اجلديد‪ ،‬على نحو �إعدادها النقالبها‬ ‫يف �صيف ‪ ،1968‬على ما تقدم‪ ،‬يف �ضوء مناف�ستها‬ ‫«احلركة» �أو التيارات النا�رصية القومية العربية‪ ،‬من وجه‪،‬‬ ‫واحلزب ال�شيوعي العراقي‪ ،‬من وجه �آخر‪ ،‬واحللف احلاكم‬ ‫الع�سكري امل�ضطرب �أخري ًا‪ .‬وميدان املناف�سة هو «جمتمع»‬ ‫اجلماعات العراقية الأهلية وع�صبياتها و«الدولة» التي‬ ‫�أن�ش�أتها احلقبة اال�ستعمارية الربيطانية يف �أثناء العقود‬ ‫الأربعة املن�رصمة (‪ .)1958 – 1918‬وانتهت القيادة‬ ‫يف هذا الأمر �إىل مبد�أين �أو �أ�صلني‪ :‬الكتلة الع�سكرية‬ ‫والأمنية �رضورة لال�ستيالء على ال�سلطة‪ ،‬واجل�سم احلزبي‬ ‫اجلماهريي والأهلي املر�صو�ص وحده ي�ضمن البقاء فيها‪.‬‬ ‫برنامج «املرحلة الوطنية الدميقراطية»‬ ‫و«املنطق» املتما�سك والظاهر على هذه املقاالت مل يكن‬ ‫وليد ًا منطقي ًا لأفكار �أوىل موجبة‪ ،‬بل هو تبلور يف معر�ض‬ ‫حوادث ووقائع تعقبها «دليلنا» ال��د�ؤوب‪ .‬وداللته ال‬ ‫تقت�رص على روايته‪ .‬وبع�ضها ي�صدر عن �إغ�ضائه �أو عن‬ ‫ترتيبه العوامل التي ُيعملها يف الرواية‪ .‬فيالحظ القارئ‪،‬‬ ‫على �سبيل املثل‪ّ � ،‬أن �صاحبنا مل يفرد لل�صفة املذهبية �أو‬ ‫الطائفية التي �صبغت ال�شطر الأعظم من البعثيني يف‬ ‫املرحلة الثالثة من تاريخ حزبهم (بعد الإعداد لالنقالب‪،‬‬ ‫ثم اال�ستيالء الأول) معاجلة خا�صة‪ .‬وذلك � ّأن الكاتب‬ ‫اقت�ص مراحل غلبة هذه ال�صفة من طرق �أخرى هي �أزمة‬ ‫ّ‬ ‫املوا�صالت النهرية و�صناعة مراكبها‪ ،‬يف �أحوا�ض الأنهر‬ ‫جراء ت�سلط املوا�صالت البخارية‪ ،‬وانهيار الأرياف يف‬ ‫عهدة مالكني ر�ؤ�ساء ع�شائر و�أعيان وموظفني ووكالء‬ ‫(«�رساكيل») غائبني �أو ُم ْق ِوين حتت �أعباء روابط قرابة‬ ‫ووالء ثقيلة ومقيدة‪ ،‬وخ�سارة التجارة الداخلية بع�ض‬ ‫دوائرها املحلية والإقليمية‪ ،‬ووفرة اليد العاملة «احلرة»‬ ‫‪186‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ال�سيا�سة اخلارجية والتنديد ب�سيا�سات «الغرب» ونظمه‬ ‫االجتماعية و«الر�أ�سمالية» عموم ًا‪ ،‬و�ضبط العالقات‬ ‫ال�سيا�سية الداخلية على مثال قريب من احلزب (الواحد)‬ ‫ الدولة ويتخطاه فع ً‬‫ال �إىل «املجتمع»‪ .‬وحملت هذه‬ ‫ال�سيا�سة يف ال�رشق الأو�سط العربي على «النا�رصية»‪،‬‬ ‫ون�سبت �إىل م�رص يف قيادة جمال عبد النا�رص‪ ،‬يف �أثناء‬ ‫هيمنة �سيا�ساته الإقليمية على ال�سيا�سات الوطنية (و�أنكر‬ ‫�سيا�سيون بارزون مثل ال�سوري خالد العظم �سبق عبد‬ ‫النا�رص وريادته‪� ،‬إىل �إنكارهم احلاد �صدق انتهاجه هذه‬ ‫ال غاياتها)‪.‬‬ ‫ال�سيا�سة ون�شدانه فع ً‬

‫ومناف�ستها بع�ضها بع�ض ًا وتردي �أجورها‪� ،‬إلخ‪ .‬وهذه‬ ‫ال�سياقات البنيوية‪ ،‬وهي �أ�صابت الكتل الأهلية ال�سنية‬ ‫و�أولها كتلة �سكان البالد ال�شمالية الغربية‪ ،‬ما كان لها‬ ‫ال�سني من اجلمهور البعثي‬ ‫رمبا �أن ترجح كفة ال�شطر ُّ‬ ‫لوال «هزمية» علي �صالح ال�سعدي‪ ،‬ال�شيعي‪ ،‬وانفراط‬ ‫عقد احل��زب وجمهوره وقيادته وخطه‪ ،‬حتت وط ��أة‬ ‫مراجعة حادة تطاولت �إىل �أركانه ومبانيه كلها‪ .‬فالتوجه‬ ‫االجتماعي على «الدولة» و�إليها‪ ،‬وقيام اال�ستيالء عليها‬ ‫بالقوة ثم غ�شيانها ومالب�ستها مقام قطب الرحى من‬ ‫العمل ال�سيا�سي البعثي‪ ،‬ت�ضافر الأم��ران على �إنزال‬ ‫ال�سني وكتلته منزلة �سيا�سية واجتماعية‬ ‫اجلمهور‬ ‫ُّ‬ ‫(�سو�سيولوجية) مت�صدرة‪.‬‬ ‫ ولكن هذه ال�صدارة «املو�ضوعية»‪ ،‬الإح�صائية �إذا‬ ‫جازت العبارة‪ ،‬مل تحَ ِمل على �صيغة �إيديولوجية �أو‬ ‫جهازية (علمائية‪ ،‬على قول �إيراين وخميني رائج)‪ ،‬ومل‬ ‫ت�صب �إىل مثل هذه ال�صيغة‪ .‬فلم يرتتب عليها تفريق‬ ‫ُ‬ ‫فج ومنهجي يفوق قو ًة و�أثر ًا احلواجز التلقائية‬ ‫مذهبي‬ ‫ّ‬ ‫الناجمة عن الإقامة والقرابة والأعراف املتفرعة عنهما‬ ‫وعليهما‪ .‬ورمبا غلب االنق�سام القومي والتاريخي‪ ،‬العربي‬ ‫و«الإيراين» الإقليمي والداخلي الوطني‪ ،‬وبع�ض �إرثه‬ ‫احلربي والدامي‪ ،‬على االنق�سام املذهبي‪ ،‬وغلفه بغالفه‪.‬‬ ‫وهذا االنق�سام القومي والتاريخي‪ ،‬يف حال العرب‬ ‫والكرد‪ ،‬مل تك�رس الوحدة املذهبية حدته‪ .‬ومل ي�ؤ ّد‪ ،‬من‬ ‫وجه �آخر‪� ،‬إىل جبهة قوميات‪« :‬عربية» على الكرد‪ ،‬وال‬ ‫كردية و«�إيرانية» على العرب‪.‬‬ ‫َ‬ ‫العوامل االجتماعية امل�ؤثرة يف‬ ‫ ويقود ترتيب الرواية‬ ‫بناء ال�سياقات البنوية‪ ،‬على النحو الذي م َّثلت عليه الفقرة‬ ‫ال�سابقة‪ ،‬وهي تناولت «الطائفية» وع�صبيتها وتقدم‬ ‫وظائفها العملية والظرفية على حتجرها الع�صبي واملعلن‪،‬‬ ‫ال �إىل الفح�ص عن مالب�سة نهج �أثمر �إجنازات‬ ‫�أو هو قاد فع ً‬ ‫«الثورة الوطنية الدميقراطية»‪ ،‬على ما �سمى مارك�سيون‬ ‫و�شيوعيون جهازيون كرث رزمة �إجراءات عرفت جملتها‬ ‫الدولة الوطنية يف العامل الثالث وهي‪ ،‬بعد اال�ستقالل‪:‬‬ ‫الت�أميم وانتزاع مرافق �إنتاج املواد اخلام من ال�رشكات‬ ‫الغربية‪ ،‬والإ�صالحات الزراعية‪ ،‬وتويل �إدارات الدولة‬ ‫مرافق املوا�صالت والبنى التحتية واالت�صاالت والتجارة‬ ‫اخلارجية وال�صحة والتعليم �إىل ال�سلطة النقدية‪ ،‬وجهر‬ ‫�إرادة توحيد وطني �أو «قومي» �صارمة و�سو�س اجلماعات‬ ‫الأهلية وال�سيا�سية مبوجبها‪ ،‬واالنحياز �إىل ال�سيا�سات‬ ‫ال�سوفياتية واحلركات اال�ستقاللية الوطنية مع ًا يف‬

‫حلقات ال�سلطة املتما�سكة‬ ‫ويف مر�آة رواية بطاطو املعللة ترتتب �إجراءات بعث �صدام‬ ‫ح�سني (�أو �أحمد ح�سن البكر‪� -‬صدام ح�سني)‪ ،‬الإجراء‬ ‫بعد الآخر‪ ،‬على منطق عملي مت�ضايف في�ستدعي الإجراء‬ ‫الإجراء على �سبيل التالزم‪ ،‬وال ي�ستقيم الإجراء الأول‬ ‫وال يدوم �إذا مل يتبع بالإجراء الآخر �أو الثاين‪ .‬وعلى‬ ‫هذا‪ ،‬فاال�ستيالء على احلكم من طريق اجلي�ش‪ ،‬ورعاية‬ ‫احلزب وحمايته وو�صايته‪ ،‬وقطع ًا لدابر اال�ضطراب‬ ‫واملنازعة يف �صفوف القوات امل�سلحة‪ ،‬ما دامت هذه‬ ‫ميدان املناف�سة الوحيد على ال�سلطة ومقاليد الأمر‪،‬‬ ‫«اقت�ضى» �أو «�أوج��ب» بع�ض الإج��راءات املتما�سكة‪:‬‬ ‫تكوين اجلي�ش ومراتبه تكوين ًا جديد ًا يف عهدة اجلهاز‬ ‫احلزبي و�أمنه و«بولي�سه» وا�ستخباراته؛ والتكوين اجلديد‬ ‫هذا «اقت�ضى» بدوره �إغراق القوات امل�سلحة باحلزبيني‪،‬‬ ‫وم�ضاعفة عديدها �أ�ضعاف ًا‪ ،‬وق�رص التجنيد على دوائر‬ ‫�أهلية و�سكنية ووالءات معروفة وخمتربة ت�ضويها‬ ‫مراتب ال يتطرق �شك �إىل انخراط �أ�صحابها يف الوالء‬ ‫اال�ضطراري واملقيد بقيود امل�صلحة احليوية للقيادة‪.‬‬ ‫ وكان قد �سبق هذا الف�صل من ال�سيا�سة تو�سيع �أو‬ ‫تعظيم اجل�سم احلزبي‪ ،‬واحرتاف املحازبني‪ ،‬وترتيبه على‬ ‫ُ‬ ‫مرتبتي الأمر واالنقياد‪ ،‬ورفد حلمته بعوامل ُم�سكة قوية‬ ‫مثل متجيد الف�صل «الثوري» والعنيف من م�سري احلزب‬ ‫وتاريخه‪ ،‬وهو ف�صل خلف �ضغائن قوية وترب�ص ًا ث�أري ًا‬ ‫يف �صفوف الأح��زاب واجلماعات املناف�سة واخل�صم‪،‬‬ ‫وانتخاب احلزبيني اجلدد وترقيتهم على هذا املعيار‪.‬‬ ‫وا�ستمدت القيادة بع�ض اللحمة (من) ع�صبيات منابت‬ ‫احلزبيني‪ ،‬الع�شائرية واملحلية واملذهبية والعمرية‪ .‬وما‬ ‫�أعمل �أو �أج��ري يف اجلي�ش واحل��زب �أعمل يف �إدارة‬ ‫الدولة التي �أحلقت باحلزب وقيادته‪ .‬فانتفخ مع ًا يف‬ ‫‪187‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫بع�ض الأحيان‪ ،‬وتباع ًا يف �أوقات �أخرى‪ ،‬عديد املعتالني‬ ‫على «الدولة» و�أجهزتها ومرافقها‪ .‬ومتويل العديد‬ ‫املتعاظم حاجة حيوية ال ي�ستقيم بغري تلبيتها «الكرمية»‬ ‫دوام احلزب احلاكم يف «قيادة الدولة واملجتمع»‪ ،‬على‬ ‫ما ن�صت مادة يف الد�ستور البعثي ال�سوري ال�سابق هي‬ ‫ن�سخة خمففة ومهذبة من �أ�صل �أو مبد�أ «ديكتاتورية‬ ‫الربوليتاريا» يف العقيدة اللينينية – ال�ستالينية‪.‬‬ ‫و�سبيل التمويل املفرت�ض م�ضمون ًا وم�ألوف ًا‪� ،‬إذا عز �أو‬ ‫امتنع �سبيل تنمية موارد الإنتاج الذي تتواله القوى‬ ‫االجتماعية نف�سها (يف �إطار ليربايل �أو �شبه ليربايل)‪،‬‬ ‫هو �سيطرة «الدولة» على املوارد والفوائ�ض واالقتطاع‬ ‫والتوزيع واال�ستهالك‪ .‬والت�أميم هو �صورة ال�سيطرة‬ ‫الإدارية املبا�رشة‪ .‬وال ريب يف � ّأن ت�أميم املواد الأولية‬ ‫التي �سبقت الإدارات اال�ستعمارية �إىل ا�ستغاللها‪،‬‬ ‫و�إحلاقها بدورة �إنتاجها وا�ستهالكها‪ ،‬هو ر�أ�س النهج‬ ‫الوطني واال�ستقاليل االقت�صادي واالجتماعي‪ ،‬ويجمع‬ ‫قيمة رمزية عظيمة �إىل تلبيته حاجة متويلية ملحة‪.‬‬ ‫والإنفاق ال�رسيع من عوائد مرفق ت�سيطر عليه القيادة‬ ‫اجلديدة �سيطرة تامة وجتعل من ال�سيطرة التامة حمور‬ ‫ن�ضال �سيا�سي طويل‪� ،‬إذا �ضمنته القيادة وانتزعته من‬ ‫ال�رشكات الأجنبية وحرا�ستها ال�سيا�سية والأمنية‪� ،‬إجناز‬ ‫يف و�سع القيادة الإدالل به‪ ،‬و�إحكام قب�ضتها بوا�سطته‬ ‫على مرافق القوة وال�سلطة والإدارة واملجتمع جميع ًا‪.‬‬ ‫ فاملرفق النفطي‪ ،‬يف حال العراق وغريه من الدول‬ ‫املنتجة‪ ،‬لي�س رافعة ت�صنيع‪ ،‬وال لبنة �أوىل يف �أ�س�س‬ ‫الر�سملة ودورتها‪ .‬وال هو قاطرة عربات �أو حلقات‬ ‫ال من ال�سنني‬ ‫ت�صنيعية �أخرى‪ .‬فبقي‪� ،‬إىل اليوم‪ ،‬عقد ًا كام ً‬ ‫بعد �سقوط �صدام ح�سني‪� ،‬ش�أنه يف بلدان �أخرى مثل‬ ‫العراق‪ ،‬م�صدر ريوع نقدية ت�سدد ثمن م�شرتيات البلد‪،‬‬ ‫ومرتبات موظفي �إدارته املتورمة‪ ،‬ونفقات الإن�شاءات‬ ‫التحتية ال�رضورية‪� ،‬إىل النفقات الفاخرة التي «جتزي»‬ ‫املرتبعني يف قمة الهرم ال�سيا�سي الإداري والأهلي على‬ ‫�سبيل اجلرايات العبا�سية واململوكية‪ .‬والقرينة على الأمر‬ ‫� ّأن تعاظم العوائد‪ ،‬بعد ك�رس احتكار ال�رشكة «العراقية»‪،‬‬ ‫الأنغلو‪� -‬أمريكية‪ ،‬ثم بعد ت�أميم احلقول والعمليات كلها‪،‬‬ ‫قاد �إىل تعاظم احتكار احلياة ال�سيا�سية الوطنية‪ ،‬وفاقم‬ ‫نزاعاتها احلزبية‪ ،‬و�أطلق يد احلزب احلاكم فيها‪ ،‬و�ضمن‬ ‫لها موقع ًا ح�صين ًا ال ينازع‪ ،‬وال يناف�س‪ ،‬وال قيد عليه‪.‬‬ ‫وكانت احلمالت الع�سكرية على الكرد‪ ،‬والإرهابية‬ ‫على ال�شيوعيني والأن�صار‪ ،‬والإق�صائية على املناف�سني‬


‫البعثيني واملتحفظني عن القيادة «التكريتية» ال�ضيقة‪ ،‬من‬ ‫تظاهرات �سيا�سة و�صفت بالوطنية التحررية‪ ،‬وبالتقدمية‬ ‫اال�شرتاكية‪ ،‬وبالقومية الوحدوية‪ .‬واحلروب اخلارجية‪،‬‬ ‫على �إي��ران وعلى الكويت‪ ،‬و(تهديد) بلدان اخلليج‬ ‫العربية‪ ،‬توجت احلمالت الكثرية الوجوه هذه‪ ،‬وترتبت‬ ‫على املنطق الإمرباطوري �أو ال�سلطاين نف�سه‪ ،‬القا�ضي‬ ‫وتذرع �صدام‬ ‫بتعظيم الريوع وتلبية احتياجات الإنفاق‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ح�سني �إما بـ«ا�ستعادة» الأحواز وحقول عبادان‪� ،‬أو بردع‬ ‫�سعي الكويت يف «تركيع» العراق من طريق خف�ض‬ ‫�سعر برميل النفط و�إغراق �سوقه‪� ،‬أو بتلك�ؤ بلدان �شبه‬ ‫جزيرة العرب عن تعوي�ض العراق املحارب خ�سائره‬ ‫الباهظة‪ ،‬وهو يقاتل «ال�شعوبية» الفار�سية وتو�سعها‬ ‫املذهبي‪َ -‬ت ْ�صدر وجوه التذرع املتفرقة واملت�ضافرة‬ ‫كلها عن ا�ضطرار احلزب – «الدولة» ‪«( -‬املجتمع»)‬ ‫�إىل الوفاء ب�أعباء اال�ستيالء والوالء‪ .‬وهي �أعباء �إن�شاء‬ ‫الدولة الوطنية (العربية) على املثال الع�صبي الريعي‬ ‫والبريوقراطي الذي �أن�ش�أتها عليه �أجهزة ع�سكرية‬ ‫وحزبية يف الربع الثالث من القرن الع�رشين‪ .‬ومل تنفك‬ ‫هذه الذرائع‪ ،‬يف �أحوالها كلها‪ ،‬عن ربطها ربط ًا وثيق ًا‬ ‫فمرت «الطريق �إىل‬ ‫بامل�س�ألة الفل�سطينية‪ ،‬وب�إ�رسائيل‪ّ :‬‬ ‫القد�س» بعبادان‪ ،‬وتهديد الكويت كان الوجه الآخر‬ ‫للتهديد بحرق �إ�رسائيل �أو ق�صفها بـ«الكيماوي‬ ‫املثلث»‪ ...‬وقد ينبغي ا�ست�رشاف �صورة الدولة القومية‬ ‫والكبرية‪ ،‬دول��ة الأم��ة الواحدة و«اململكة» املرتامية‬ ‫الأطراف واملركزية مع ًا‪ ،‬وراء �سيا�سات �صدام ح�سني‪،‬‬ ‫ويف ثناياها‪ .‬وهذه ال�صورة لي�ست من النوافل التي ال‬ ‫يليق بـ«الباحث العلمي» االلتفات �إليها والوقوف عندها‬ ‫وتفح�صها‪� ،‬أو رميها يف �سلة «االيديولوجيا» على �أحد‬ ‫املعاين ال�سائرة‪ .‬و«الفولكلور» املَ َلكي ال�صدامي الالحق‪،‬‬ ‫يف �أثناء �سنوات احل�صار‪ ،‬ال يغمط ال�صورة قوتها‪ .‬فهي‬ ‫ر�سم تاريخي �ألهم حركات �سيا�سية و«�شعبية» فاعلة‪،‬‬ ‫وال جدوى من «التخفف» منها و�إدارة الظهر لها‪.‬‬ ‫ا َ‬ ‫حل ْمل على تقنية �سوفياتية متوطنة‬ ‫وعلى غرار النا�رصية ومنوالها‪ ،‬و�سورية البعثية يف‬ ‫�أطوارها وعهودها املتعاقبة من الفريق �أمني احلافظ فاللواء‬ ‫�صالح جديد فالفريق حافظ الأ�سد‪ ،‬برزت يف �صدد‬ ‫البعث العراقي ونظامه م�س�ألة عري�ضة تناولت‪ ،‬حقيقةً‪،‬‬ ‫تعريف الأنظمة ال�سيا�سية واالجتماعية التي تخلفت عن‬ ‫ت�صفية ال�سيطرة اال�ستعمارية املبا�رشة على �أجزاء وا�سعة‬ ‫‪188‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫فهم الوقائع واحلوادث‬ ‫احلمل‪ ،‬اتفق النظر والعمل‪� ،‬أي توحد ُ‬ ‫واملبادر ُة �إىل �إجرائها على جمرى بعينه دون غريه‪ .‬وما‬ ‫ا�ستخل�صته احلركات االجتماعية العمالية والنقابية‬ ‫والدميقراطية الربملانية (الأوروبية) من تاريخ املنازعات‬ ‫ال�سيا�سية واالقت�صادية‪ ،‬ف�صاغته منهاج ًا تاريخي ًا متجاذب ًا‬ ‫ومتناق�ض ًا‪ ،‬قدمت اجلهاز احلزبي وااليديولوجي ال�سوفياتي‬ ‫�إىل قيادات احلركات اال�ستقاللية والوطنية يف امل�ستعمرات‬ ‫�أو املحميات �أو القطائع ال�سابقة يف �صورة تقنية ا�ستيالء‬ ‫على �أجهزة �سيطرة خال�صة ترتبع يف �سدة جماعات منقادة‬ ‫من غري �رشط‪ .‬وهجمت قيادات احلركات اال�ستقاللية‬ ‫والوطنية الأهلية على هذه التقنية‪ ،‬وعلى بع�ض مفهوماتها‬ ‫امل�ضمرة‪ ،‬ف�أعملتها على وجهها التقني والذرائعي يف بناء‬ ‫حركات �أو منظمات‪ ،‬الباعث الأول والدائب على بنائها‬ ‫على املثال العام الهرمي والإنفاذي الذي بنيت عليه هو‬ ‫اال�ستيالء على ال�سلطة غري املقيدة‪ ،‬والإقامة بها‪ ،‬وجني‬ ‫ريعها وقطفها من طريق بريوقراطية متداعية‪.‬‬ ‫ ولعل بدايات الأم��ر كانت‪ ،‬يف ال�رشق (الأدن��ى)‬ ‫الأو�سط العربي‪ ،‬حني �سبقت الأجهزة الع�سكرية الوطنية‬ ‫فت كتل ًة مت�شابكة‬ ‫احلركات ال�سيا�سية العامة ب�أ�شواط‪َ ،‬‬ ‫وخ َل ْ‬ ‫من الأعيان و�شيوخ الع�شائر والأ�صناف والطرق وقمم‬ ‫الق�ضاء والفتوى وموظفي الإدارة العثمانية ومتمويل‬ ‫فروع امل�صارف و�رشكات النقل الأجنبية وجتار املحا�صيل‬ ‫والزراعات ال�صناعية‪ ،‬على ال�سلطة �أو احلكم‪ .‬ف�أ ْلفت‬ ‫احلركات ال�سيا�سية العامية املحلية نف�سها‪ ،‬وهي كانت‬ ‫جزء ًا من احلركات اال�ستقاللية ومبنزلة جناحها احلركي‬ ‫وامليداين‪ ،‬يف موقع حرج ومرتبك‪ .‬فهي �أه��ل لوراثة‬ ‫كتلة «الطبقات» امل�سيطرة �أو احلاكمة‪ ،‬القدمية‪ ،‬و«دورها»‬ ‫يلي مبا�رشة ا�ضطالع الكتلة باحلكم وظهور تق�صريها‪.‬‬ ‫ولكن هذه الأهلية تنق�صها �رشوط حيوية‪ :‬فاحلركات‬ ‫العامية املحلية منق�سمة على نف�سها انق�سامات اجتماعية‬ ‫و�إيديولوجية وثقافية عميقة وجارحة‪ .‬وتتطاول انق�ساماتها‬ ‫�إىل ت�شخي�صها �أحوال املجتمعات التي تتقلب بني �أظهرها‪،‬‬ ‫و�إىل هوية هذه املجتمعات الوطنية �أو القومية والدينية‪،‬‬ ‫وعوامل التغيري فيها‪ ،‬وغايات التغيري‪ ،‬وعالقات الأجزاء‬ ‫�أو اجلماعات بع�ضها ببع�ض �أو بالكل ال�سيا�سي واحلقوقي‪.‬‬ ‫ واخلالفات �أو الفروق واالنق�سامات هذه ال ترتدي‬ ‫معاين واحدة �أو م�شرتكة‪ ،‬وال ترتتب على معانيها مناهج‬ ‫�سيا�سية واحدة‪ .‬والوقت الذي ق�ضته هذه احلركات معار�ض ًة‬ ‫ال�سلطات احلاكمة وامل�سيطرة‪ ،‬يف �أثناء االحتالل الأجنبي‬ ‫�أو االنتداب والو�صاية القريبة والبعيدة املبا�رشة‪ ،‬مل يتح‬

‫من �آ�سيا و�أفريقيا كلها وبع�ض �أمريكا اجلنوبية الهندية‬ ‫والالتينية‪ .‬وقاد التعريف �شطر ًا من ال�سيا�سات الدولية يف‬ ‫العقود الأربعة التي �أعقبت احلرب الثانية‪ ،‬والب�س مالب�سة‬ ‫م�ؤثرة العالقات ال�سوفياتية – الأطل�سية‪ ،‬ومناف�سة‬ ‫«الكتلتني» على «حكومة العامل»‪ ،‬وعلى م�سالكه وممالكه‪،‬‬ ‫�أو ب�رشه وموارده‪ .‬وغلبة اللغة ال�سوفياتية وم�صطلحاتها‬ ‫على مناق�شة تعريف الأنظمة ال�سيا�سية واالجتماعية‬ ‫وترتيبها على مراتب التقدم والتخلف والتحديث و�أنحاء‬ ‫الثورة الوطنية والدميقراطية والنمو وتوزيع الرثوة‬ ‫وعدالته‪ ،‬هي �أثر من �آثار ميزان العالقات الدولية يف‬ ‫العامل اجلديد‪« ،‬العامل الثالث»‪ .‬وا�ستجابت هذه اللغة‬ ‫ال وعالقات داخلية افتقرت‪ ،‬فيما افتقرت �إليه‪� ،‬إىل‬ ‫�أحوا ً‬ ‫لغتها ومفهوماتها التاريخية املتعارفة‪ .‬ولكن دوام امل�س�ألة‬ ‫بعد ان�رصام احلرب الباردة وانح�سار اللغة ال�سوفياتية‪،‬‬ ‫مع جتدد حظوة الدميقراطية (على قول �أحدهم) يف �أنحاء‬ ‫متفرقة من العامل و�أوقات متباينة ومتباعدة‪ ،‬قرينة على‬ ‫ا�ضطراب الفعل ال�سيا�سي والتاريخي الذي �صنع هذا‬ ‫ال�رضب من الأنظمة من غري �أن يدري ما �صنع‪ .‬وهذه‬ ‫الأنظمة‪� ،‬أو ذ ُِّريتها البعيدة والقريبة التي حفظت منها يف‬ ‫حلل خمتلفة بع�ض الأبنية الفقرية‪ ،‬تتخبط اليوم‪ ،‬ورمبا‬ ‫�إىل عقود من الزمن‪ ،‬يف مع�ضالت الت�صدع حتت وط�أة‬ ‫غلبة ال�سلطان «الكينونية» (روح الله خميني) على طبائع‬ ‫االجتماع والعمران‪ ،‬وا�ستتباعه �أهلهما من غري بقية‪.‬‬ ‫ فغداة ت�آكل ال�سيطرة اال�ستعمارية على «ال�رشق»‪،‬‬ ‫وهو �رشق على �سبيل اال�ستعارة واملجاز‪ ،‬ثم انهيارها‪،‬‬ ‫برزت م�س�ألة قيادة املجتمعات القدمية واجلديدة مع ًا‪،‬‬ ‫وعلى معنيني متباينني‪ .‬ويف معية م�س�ألة القيادة �أو‬ ‫ال�سيطرة‪ ،‬برزت م�س�ألة «مهمات» القيادة وبرناجمها‪.‬‬ ‫وال غرو �إذا ت�صدرت اللغة ال�سوفياتية املناق�شة‪ ،‬وهي‬ ‫ت�سلطت على املفهومات االجتماعية والتاريخية العامة‬ ‫التي تدرك من طريقها‪ ،‬بذريعة «املارك�سية»‪ ،‬بع�ض‬ ‫�أبرز العوامل يف �أطوار الر�أ�سمالية وثوراتها الإنتاجية‬ ‫والتقنية واالجتماعية والع�سكرية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وحمل حوادث التاريخ االجتماعي وال�سيا�سي احلديث‬ ‫ ‬ ‫على مراحل ومهمات (برنامج) وقيادات (طبقات و�أجهزة)‪،‬‬ ‫على ما �صنعت املارك�سية ال�سوفياتية �أو «املت�سفيتة»‪ ،‬على‬ ‫ال يف‬ ‫تعريب �أحد ا�صحابنا‪ ،‬بدا مر�شد ًا �أمين ًا وال غنى عنه فع ً‬ ‫هبت على م�رسح جمتمعات‬ ‫دوامة العا�صفة التاريخية التي ّ‬ ‫م�شتبهة الر�سوم والعالقات‪ ،‬و�أ�سلمت �إىل �أهلها ومباين‬ ‫اجتماعهم الوالية على �أنف�سهم وعمرانهم‪ .‬ويف مر�آة هذا‬ ‫‪189‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫لها ما يتعدى متر�س ًا �شكلي ًا باحلكم وال�سيا�سة عموم ًا‪ .‬وقد‬ ‫تكون امل�س�ألة احلا�سمة التي �أف�ضت �إىل االنعطاف احلاد‬ ‫الالحق هي ا�ضطرار البلدان امل�ستقلة ‪ -‬واخلارجة من‬ ‫تدبري ا�ستعماري براين ومتخفف من التحكيم ال�سيا�سي يف‬ ‫اخلالفات واملوازنات واملوارد ووجوه االنخراط يف �أج�سام‬ ‫وكيانات قومية �أو دينية متنازعة وحمتملة ‪ -‬ا�ضطرارها‬ ‫فج�أة‪ ،‬وهي خالية الوفا�ض من �أبنية �إدارية وع�سكرية‬ ‫واقت�صادية متما�سكة‪� ،‬إىل اال�ضطالع باختيارات م�صريية‬ ‫يف امل�سائل واملجاالت كلها‪.‬‬ ‫ فنزلت امل�س�ألة االجتماعية – االقت�صادية على وجه‬ ‫اخل�صو�ص‪ ،‬وعلى ما �أعر�ض الحق ًا يف تف�صيل‪ ،‬على‬ ‫احلركات العامية املحلية‪ ،‬وحال ظهور عجز «الطبقات»‬ ‫القدمية عن معاجلة امل�س�ألة‪ ،‬نزول ال�صدمة‪ .‬واتفق ا�ستيالء‬ ‫الأجهزة الع�سكرية على ال�سلطة مع �أمرين‪ :‬ا�شتداد النزاع‬ ‫الدويل على ال�سيطرة العاملية يف �إطار احلرب الباردة‪،‬‬ ‫وتعاظم النزاعات الداخلية ال�سيا�سية (املركبة) واالجتماعية‬ ‫على الدولة الوطنية وعلى ملكية املوارد وتوزيعها‪ .‬وا�ستمال‬ ‫القطبان الدوليان قوى النزاعات الداخلية‪ .‬فمال معظم قوى‬ ‫كتلة «الطبقات» امل�سيطرة‪� ،‬إىل القطب الأطل�سي‪ ،‬الأمريكي‬ ‫– الأوروبي‪ ،‬ومال معظم قوى احلركات العامية �إذا ا�ستثنيت‬ ‫قوى الإ�سالم االجتماعي وال�سيا�سي النا�شئ‪� ،‬إىل القطب‬ ‫ال�سوفياتي �أو «ال�رشقي»‪ .‬وتوىل اجلهاز الع�سكري امل�ستويل‬ ‫التحكيم «القي�رصي» �أو «البونابرتي» يف اخلالفني‪ ،‬وا�ستوىل‬ ‫على احلكم �أو �سيطر على احلياة ال�سيا�سية من وراء ال�ستارة‬ ‫(وه��ي حال �سورية منذ ‪� 1954‬إىل حني تويل عبد‬ ‫احلميد ال�رساج نيابة رئا�سة اجلمهورية العربية املتحدة‪ ،‬ثم‬ ‫‪ .)1961‬وق�ضت مالب�سات النزاعات الإقليمية والدولية‪،‬‬ ‫الع�سكرية يف املرتبة الأوىل‪ ،‬يف دائرة عربية تتو�سطها‬ ‫جغرافي ًا وا�سرتاتيجي ًا امل�س�ألة الفل�سطينية؛ وق�ضت كذلك‬ ‫مالب�سات املنازعات ال�سيا�سية واالجتماعية يف دول وبلدان‬ ‫ت�ستقوي جماعاتها الأهلية على دولها؛ ق�ضى الأمران بغلبة‬ ‫نازع «�سوفياتي» قوي‪ ،‬جهازي متحزب واحتكاري‪ ،‬على‬ ‫�سريورة بناء الدولة و�شد قوامها يف هذه البلدان‪.‬‬ ‫‪٢‬‬ ‫«الربنامج» من غري ال�سريورات‬ ‫و�أراد اجلهاز الع�سكري امل�ستويل ا�ستمالة احلركات‬ ‫العامية املحلية‪ ،‬ومعظم عديد اجلهاز حتدر من �أهل‬ ‫هذه احلركات و«طبقاتها»‪ ،‬وهو ن�ش�أ يف موازاة ن�ش�أتها‬


‫ويف �سياقة هذه الن�ش�أة‪ .‬فهي �سنده االجتماعي‪ ،‬رمبا‬ ‫املفرت�ض املثايل فوق ما هي �سنده النا�شط والعملي‪.‬‬ ‫وهي خ�صم خ�صمه‪� ،‬أي كتلة «الطبقات» القدمية وبع�ض‬ ‫الطبقات اجلديدة‪ .‬وعلى رغم غلبة هاج�س وطني‬ ‫جامع‪� ،‬أو توحيدي داخلي ا�ستقاليل‪ ،‬على احلركات‬ ‫الع�سكرية االنقالبية يف م�رص و�سورية والعراق واليمن‬ ‫(ويف اجلزائر‪ ،1965 – 1962 ،‬وليبيا‪،1969 ،‬‬ ‫ا�ستطراد ًا من طرق خمتلفة)‪ ،‬وهي حركات ات�صلت على‬ ‫ال على الت�صدي‬ ‫وجه �أو �آخر‪ ،‬مل تلبث �أن حملت حم ً‬ ‫ملا عرف مب�س�ألة التنمية‪� ،‬أو اخلروج من «التخلف»‪� ،‬أو‬ ‫«الإق�لاع» االقت�صادي واالجتماعي‪ .‬وق�صد بالتنمية‬ ‫�سيا�سات بناء �أبنية حتتية تقود الت�صنيع والإ�صالح‬ ‫الزراعي‪ ،‬وتعميم التعليم والعناية ال�صحية وال�سكن‪،‬‬ ‫و�إن�شاء �سوق داخلية متوازنة وعملة م�ستقرة‪ ...‬وهو‬ ‫«برنامج» وطني دميقراطي �أو دميقراطي بورجوازي‪،‬‬ ‫واملتعارف‪ ،‬وامل�شرتك‬ ‫ال على ر�سم «املراحل» ال�شائع‬ ‫نزو ً‬ ‫َ‬ ‫بني �أجنحة احلركات العامية على ما ت�صورت يف م�رص‬ ‫ع�شية ‪ :1952‬اجلناح الليربايل و�إىل ي�ساره �أو «ميينه»‬ ‫اجلناح ال�شعبي‪ ،‬واجلناح الإ�سالمي و�إىل «ي�ساره» اجلناح‬ ‫ال�سلفي (على تبويب �أو ترتيب �أنور عبد امللك)‪.‬‬ ‫ وت�ضافرت على هذا احلمل عوامل داخلية ودولية‪،‬‬ ‫وجمعت م�صالح الطاقم الع�سكري �إىل‬ ‫مر‪َ ،‬‬ ‫على ما ّ‬ ‫م�صالح احلركات العامية و«طبقاتها»‪ .‬وتعهد الطاقم‬ ‫الع�سكري املتحدر فكر ًا وم�صالح و�أفق ًا من احلركات‬ ‫العامية‪ ،‬واجلامع يف خليط مبهم منازع توحيدية جمعية‬ ‫و�إداري��ة �أمرية ور�سالية ا�صطفائية‪ ،‬رعاية امل�صالح‬ ‫«الواحدة» هذه واملتناغمة‪ ،‬على ما افرت�ض الطاقم‪ ،‬لقاء‬ ‫الت�سليم له بالقيادة والريادة‪ .‬ومل يكن الت�سليم املرجتى‬ ‫ع�سري ًا �إال على التيار الإ�سالمي املنظم �أو الدعوي‪.‬‬ ‫وبايع التيار �أو اجلناح التقدمي والي�ساري االجتماعي‪،‬‬ ‫�أو معظمه‪ ،‬الطاقم الع�سكري الوطني على برنامج‬ ‫«دميقراطي بورجوازي» بدا دميقراطي ًا وطني ًا و�شعبيا ً‬ ‫اجتماعي ًا‪ ،‬قيا�س ًا على حال بورجوازية وطنية �أ�سالت من‬ ‫احلرب واملناق�شة فوق ما �أقامت قرائن على حقيقتها �أو‬ ‫وجودها ال�سيا�سي �أو حتى االجتماعي‪.‬‬ ‫ وتو�سطت القيادة ال�شيوعية ال�سوفياتية يف حل‬ ‫م�س�ألة الت�سليم �أو املبايعة وال��والء‪ .‬واحل��ل مل يكن‬ ‫ال‪ ،‬ال يف �ضوء موازين القوى ال�سيا�سية الداخلية‪،‬‬ ‫مع�ض ً‬ ‫وهي مل تكن واحدة وال متجان�سة العوامل‪ ،‬وال يف �ضوء‬ ‫عالقة مراتب احلركة «الأممية» بع�ضها ببع�ض‪ ،‬ورجحان‬ ‫‪190‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫املركز على الأطراف الإقليمية والوطنية �ساحق‪ .‬واحلق‬ ‫� ّأن حل اجلماعات الي�سارية والتقدمية «الليربالية»‪� ،‬أي‬ ‫ذوبانها يف تيار وطني َج ْمع �أو «�إجماعي» واجتماعي‬ ‫�شعبوي وعامي‪ ،‬كان م�س�ألة �أجهزة فوق ما كان م�س�ألة‬ ‫ال‪ .‬ومكا�سب الطاقم‬ ‫عمومية‪ ،‬وطنية و�شعبية‪ ،‬فع ً‬ ‫الع�سكري والغالب‪ ،‬وهو تدريج ًا يف الأثناء انقلب‬ ‫ع�صبي َة دولة ريعية وبريوقراطية ومل ينفك م�ستولي ًا‬ ‫على املكا�سب‪ ،‬من ذوبان اجلماعات الي�سارية والتقدمية‬ ‫«الليربالية» مل تكن عظيمة‪ .‬فهذه اجلماعات مل ت�ستو‬ ‫قوة فاعلة �أو راجحة‪ ،‬ال �سيا�سي ًا‪ ،‬يف �إطار جمتمعات‬ ‫حتظى فيها ال�سلطة و«طبقاتها» ب�أرجحية �ساحقة‪ ،‬وال‬ ‫ومراتبها وجهاز‬ ‫اجتماعي ًا‪ ،‬حيث تتقدم اللحم ُة الأهلية‬ ‫ُ‬ ‫احلكم‪ ،‬حتى يف اجلماعات املدينية املختلطة امل�صادر‪،‬‬ ‫قيام الأفراد ب�أنف�سهم وروابطهم الطوعية والتلقائية‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وعلى هذا‪ ،‬فما جنته الطواقم الع�سكرية الغالبة من‬ ‫اندماج بع�ض جماعات الي�سار التقدمي يف الإدارات‬ ‫واملنظمات «اجلماهريية» ومنابر الإع�لام �أو �أجهزته‬ ‫تفوق قيمته املعنوية ثقله ال�سيا�سي العملي مبا ال يقا�س‬ ‫(تناول �أنور عبد امللك هذا الف�صل من عالقة جمال‬ ‫عبد النا�رص بالي�سار امل�رصي يف كتابه‪ :‬م�رص جمتمع ًا‬ ‫ع�سكري ًا‪ ،١٩٦٢ ،‬باري�س‪� ،‬ص ‪ ،١٣٢-٧٨‬وعاد‬ ‫�إليه �إري��ك رولو بعد ‪� ٥٠‬سنة يف مذكراته «العربية‬ ‫والفل�سطينية»‪ :‬يف كوالي�س ال�رشق الأدنى – مذكرات‬ ‫�صحايف ديبلوما�سي» ‪ ،٢٠١٢ -١٩٥٢‬باري�س‪� ،‬ص‬ ‫‪ ،٨٠-٢٩‬ونقلت «بدايات» يف عددها الثاين بع�ض‬ ‫�صفحات من مذكرات رولو هذه)‪.‬‬ ‫ فاالندماج �أقر للطواقم الع�سكرية الغالبة‪ ،‬ومن‬ ‫حتلق حولها من �إداريني ومهنيني وو�سطاء ب�أمر حا�سم‬ ‫وجوهري‪ ،‬هو م�رشوعيتها التاريخية الكاملة ‪ -‬وم�صدر‬ ‫الإق��رار جماعات «املثقفني» من املتعلمني واملهنيني‬ ‫والتقنيني واملنظمني العموميني‪ ،‬على هذا القدر �أو‬ ‫ذاك‪ .‬وهم متولو التفكري يف ال�سريورات وال�سياقات‬ ‫واللحمات والفروق التاريخية واالجتماعية والثقافية‬ ‫احل�ضارية‪ ،‬ويف الأدوار التي ت�ضطلع بها ه��ذه‪� ،‬أي‬ ‫وج ْرحها‬ ‫رواياتها‪ ،‬وت�سويغها وت�صديقها و�إبطالها َ‬ ‫والنظر فيها ومراجعتها يف ميزان معايري مقرتحة ت�سعى‬ ‫اجلماعات املتفرقة يف عموميتها والإجماع عليها‪ .‬وهو‬ ‫(االندماج) �أقر لربنامج الطواقم الع�سكرية بحقيقته‬ ‫و�صدوره عن موجبات و�إلزامات مو�ضوعية تتخطى‬ ‫الطبقات االجتماعية ور�سومها ال�صلبة �أو املائعة‪،‬‬

‫والنظم ال�سيا�سية والوطنية‪ .‬وتتخطى‪ ،‬قبل ذلك �أو فوقه‪،‬‬ ‫ال التي‬ ‫ال�سريورات وال�سياقات املتنازعة‪ ،‬ال�سيا�سية �أو ً‬ ‫تقود �إليها املوجبات والالزمات وتف�ضي‪ .‬ويف الق�سم‬ ‫نبهت ال�صفحات الأخرية �إىل‬ ‫الأول من هذه املقالة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫انقطاع الإجراءات البارزة‪ ،‬من ت�أميم نفطي و�إ�صالح‬ ‫زراعي وتعليم عام وم�شاركة ن�سوية عري�ضة يف �سوق‬ ‫العمل وتقييد قانوين لأعراف الأحوال ال�شخ�صية‪� ،‬إىل‬ ‫الإقرار بامل�س�ألة الكردية وبالتعدد ال�سيا�سي (يف �إطار‬ ‫«جبهة وطنية»)‪ ،‬من نتائجها ومرتتباتها‪.‬‬ ‫ فاحلزب احلاكم ي�ؤمم النفط الوطني‪ ،‬ويدخل يف ملك‬ ‫ثروة وطنية عظيمة يف و�سعه �إعمالها وا�ستثمارها يف‬ ‫ت�صنيع حملي‪ ،‬و�إن�شاء �أبنية حتتية حيوية‪ ،‬و�إعالة انتقال‬ ‫الزراعة من البعرثة الع�شوائية والبدائية �إىل نظام �سوقي‬ ‫وتعاوين متوازن‪ ...‬ولكن ما يرتتب على حلقات هذا‬ ‫النهج املتما�سكة واملتالزمة �أمور اجتماعية جوهرية مثل‬ ‫ن�شوء طبقة عاملة كثيفة ومر�صو�صة وعالية الت�أهيل‬ ‫يف املوا�ضع املركزية من الن�سيج املتنامي‪ .‬ويرتتب‬ ‫عليه‪ ،‬وعلى مثاله‪ ،‬تو�سع هذه النواة يف دائرة �أعر�ض‬ ‫بكثري‪ ،‬تخلط مراتب الكثافة والر�ص والت�أهيل على‬ ‫مقادير متفاوتة‪ .‬وهذه الطبقة‪ ،‬واحل��ال هذه‪ ،‬كيان �أو‬ ‫فاعل اجتماعي تدعوه �أحواله وم�صاحله واختباراته‪،‬‬ ‫وعالقاته بكيانات اجتماعية �أخرى‪� ،‬إىل بلورة �آراء �أو‬ ‫�أحكام و«وجهات نظر» يف هذه امل�سائل كلها‪ :‬م�صاحله‬ ‫وعالقاته بكيانات اجتماعية �أخرى وعلى اخل�صو�ص‬ ‫بالدولة وب��الإدارات العمومية املوكلة �إليها‪ .‬ويفرت�ض‬ ‫هذا‪ ،‬من طرف غري خفي‪ ،‬قيام الكيان االجتماعي ب�إزاء‬ ‫الدولة‪ ،‬و�سيا�ساتها العامة‪ ،‬رقيب ًا وح�سيب ًا‪ ،‬ويف الأحوال‬ ‫كلها انف�صاله عن الدولة‪ .‬واكتمال �سريورة الت�أميم‪،‬‬ ‫وتتويجها االقت�صادي واالجتماعي وال�سيا�سي‪ ،‬رهن‬ ‫تبلور هذا الكيان‪ ،‬وا�ستقالله بنف�سه‪ ،‬وانخراطه يف حياة‬ ‫�سيا�سية عامة وم�شرتكة‪ .‬وال ت�صدق فيها ال�صفتان‪،‬‬ ‫العموم واال�شرتاك‪ ،‬ما مل ت�ست ِو كثرية الأقطاب ومتنازعة‪.‬‬

‫متثال برونزي‬ ‫للرئي�س العراقي‬ ‫ال�سابق �صدام ح�سني‬ ‫يف الق�رص الرئا�سي‬ ‫يف بغداد‪.‬‬ ‫‪191‬‬

‫بومتكني‪...‬‬ ‫واال�ستيالء الريعي والبريوقراطي املركزي على النفط‬ ‫امل�ؤمم وعوائده‪ ،‬والت�رصف به يف خدمة اجلماعة �أو القيادة‬ ‫امل�ستولية وعلى خالف بع�ض م�صالح اجلماعات القومية‬ ‫واملذهبية والدينية والبلدانية وال�سيا�سية الأخرى �أو‬ ‫املناف�سة‪ ،‬وا�ستعمال العوائد يف وجوه ع�سكرية و�إدارية‬ ‫من غري مناق�شة‪ ،‬هذا النهج حال عمد ًا بني بند الت�أميم‪،‬‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫من الربنامج «الدميقراطي البورجوازي» املفرت�ض‪،‬‬ ‫وبني مرتتباته التاريخية العامة على املجتمع العراقي‬ ‫والدولة العراقية‪ .‬فالت�صنيع املرجتى‪ ،‬وهو �أجازته‬ ‫نظري ًا عوائد النفط يف �سوق غلب عليها الطلب – يف‬ ‫‪� ،١٩٧٣‬إبان حرب ت�رشين (�أوكتوبر‪/‬رم�ضان)‪ ،‬ثم‬ ‫يف ‪ -١٩٧٨‬مل يثمر «طبقة عاملة» م�ضمرة يف ثنايا‬ ‫«ت�شكيلة اجتماعية» خمتلفة‪� ،‬أو رازخة حتت خم ّلفات‬ ‫عالقات انتاج ا�ستعمارية‪ ،‬ثم ا�ستعمارية جديدة و�أخري ًا‬ ‫«نيوليربالية»‪ .‬وكذلك حال «طبقة املزارعني» والفالحني‬ ‫امل�ستقلني‪ ،‬وطبقة العمال الزراعيني يف معيتهم‪ ،‬اللتني‬ ‫كان يفرت�ض يف الإ�صالح الزراعي‪ ،‬و�إعمال �أ�صل‬ ‫«الأر�ض ملن يفلحها» �أن يتفتق عنهما‪.‬‬ ‫ وارتد عمل الن�ساء املتعلمات والعامالت يف مرافق‬ ‫املهن احلرة‪� ،‬أو يف العمل امل�أجور عموم ًا‪ ،‬عليهن‪ ،‬وعلى‬ ‫«�صيتهن» و«�رشفهن» و«عفافهن» حني انفجرت‬ ‫«قاد�سية �صدام» يف �أيلول ‪ ،١٩٨٠‬وطالت ثمانية‬ ‫�أعوام‪ ،‬وقتلت مئات الآالف من الرجال‪ .‬وا�ستثمر املر�شد‬ ‫الإيراين �أعوامها املتطاولة يف «وعي (ال�شعب) �أكرث»‬ ‫ويف اعتياد املوت‪ ،‬على قوله‪ .‬و�رشدت مئات �آالف �أخرى‬ ‫من النا�س على جهتي احلدود (طبع ًا)‪ .‬فاملر�أة العاملة‬ ‫والرا�شدة ومعيلة الأوالد يف غيبة الرجل الطويلة‪ ،‬وبعد‬ ‫م�رصعه بالأحرى‪« ،‬خراجة والج��ة»‪ ،‬على قول �أهل‬ ‫بغداد‪ ،‬ورمبا غريها يف القرن الثالث (هجري)‪ .‬وهي حمل‬ ‫تهمة �سهلة‪ ،‬وذريعة حتري�ض نذل وو�ضيع‪ ،‬حني ينت�رص‬ ‫«الفار�س» املهزوم لفحولة مل َيك ِل ْمها‪ ،‬على زعمه‪� ،‬سوء‬ ‫التدبري واالرجت��ال الع�سكريان‪� ،‬إىل التمييز املذهبي‬ ‫واحلزبي و�شق العراقييني طبقتني‪ ،‬بل انتهكتها «خيانة»‬ ‫الن�ساء‪ ،‬وحتررهن االجتماعي وال�شخ�صي ال ِّن ْ�سبي‪ .‬فلم‬ ‫يرتدد احلزب احلاكم و َذ َرى �أدراج الرياح ح�صاد تعلم‬ ‫الفتيات‪ ،‬وعمل الن�ساء‪ ،‬ودعا �إىل قتلهن على التهمة‪،‬‬ ‫وبدد احل�صاد الثمني الذي كان هو بادر �إىل بذاره‪.‬‬ ‫ وه��ذه امل�سائل‪ ،‬منفردة وجمتمعة‪ ،‬قرينة على �أن‬ ‫الربنامج العملي الذي تولت الأنظمة الع�صبية والريعية‬ ‫البريوقراطية العربية‪ ،‬املتفرقة‪� ،‬إنفاذه منذ منت�صف‬ ‫خم�سينيات القرن الع�رشين مل يكن «وطني ًا دميقراطي ًا»‪،‬‬ ‫وال «دميقراطي ًا بورجوازي ًا» على رغم مطابقة بنوده‪،‬‬ ‫ال‪ ،‬بنود الربنامج يف حلته ال�سوفياتية واجلهازية‪ .‬فما‬ ‫�شك ً‬ ‫�أغفلته هذه احللة‪ ،‬و�أبرمت احلركات �أو التيارات الي�سارية‬ ‫والتقدمية �إغفاله من دون تردد �أو �إحلاف‪ ،‬هو دور املنازعة‬ ‫واالنق�سامات الراجح يف �صياغات بنود الربنامج العملية‪.‬‬



‫فهذه البنود هي «ر�ؤو�س» �سريورات و�سياقات‪ .‬ف�إما تلد‬ ‫ال�سريورات وال�سياقات كيانات اجتماعية و�سيا�سية‬ ‫تاريخية وفاعلة‪ ،‬يف خما�ضات و�ضع �أليمة ويرتب�ص بها‬ ‫الإجها�ض‪ ،‬و�إما تلد طروح ًا مكتملة اخللقات والق�سمات‬ ‫للوهلة الأوىل ولكنها �آلية احلركة‪ ،‬وال روح فيها �إال‬ ‫ما تنفخه فيها قيادات ُعظامية وطيفية‪ .‬وهذه‪ ،‬بدورها‪،‬‬ ‫دمى حتركها خيوط النزاعات الدولية وحماكاة املراحل‬ ‫التاريخية املدر�سية وقواها امل�ستعارة‪ .‬وعليه‪� ،‬سبحت هذه‬ ‫الأنظمة وبلدانها وجمتمعاتها يف عوامل ودنى م�سحورة‪.‬‬ ‫ف�أجنزت بناء الدولة الوطنية امل�ستقلة‪ ،‬وج�سدت �إرادة‬ ‫ال�شعب الواحد واملتما�سك‪ ،‬و�أمم��ت مرافق الإنتاج‪،‬‬ ‫ووزعت الأر�ض على الفالحني‪ ،‬وقطعت دابر الطفيليات‬ ‫والطفيليني‪ ،‬و�أر�ست �أركان قوة ع�سكرية وطنية ح�صينة‪،‬‬ ‫ولقنت ال�شعب ثقافة وطنية �أو قومية نا�صعة‪ ،‬وبعثت‬ ‫تراث الإ�سالم يف حلله البهية و�أ�سمائه املدوية‪ ،‬ومل‬ ‫تفوت دورة انتخابية واحدة �إىل جمل�س ال�شعب �أو الهيئة‬ ‫الت�رشيعية‪ ،‬و�إىل البلديات وجمال�س املحافظات‪ ،‬ودبجت‬ ‫د�ستور ًا ن�ص على ف�صل ال�سلطات وتعاونها‪...‬‬ ‫ وبع�ض هذه الأنظمة انقلب على الت�أميمات‪ ،‬وجدد‬ ‫خ�صخ�صة الأر���ض فا�شرتاها رج��ال امل��ال والأعمال‬ ‫والو�سطاء‪ ،‬وقل�ص دعم ال�سلع ال�رضورية واخلدمات‬ ‫العامة‪ ،‬من غري �أن ي�شعر النا�س بانقالب الأحوال‪ ،‬على‬ ‫ما ينبغي‪ .‬وذلك لأن بنية النظام النواتية‪� ،‬أو قلبه امل�سحور‪،‬‬ ‫هي يف احلالني واحدة‪ :‬ع�صبية ريعية وبريوقراطية تطرح‬ ‫ال�سريورات وال�سياقات وخما�ضاتها املتنازعة‪ ،‬وتزهق‬ ‫الكيانات الفاعلة والكثرية املولودة منها‪ .‬وال منا�ص من �أن‬ ‫ير�سو عمل النظام‪� ،‬أو جتد ُد �سيطرته‪ ،‬على ق�سمة الداخل‬ ‫واخلارج املتنابذين واملتناحرين على مثال �أهلي وع�صبي‬ ‫�ضمني �أو معلن‪ .‬وغلبة «البنيوية» على هذه احلال‪ ،‬وعلى‬ ‫�سيا�ساتها هي ثمرة �إخراج التاريخ و«تربيته»‪.‬‬ ‫ ف��إذا ا�ستفاق «اجلمهور»‪ ،‬جمهور املحكومني‪ ،‬من‬ ‫ال�سحر �ألفى عامله �أو دنياه �صور ًا ور�سوم ًا مزوقة‪ ،‬وديكور‬ ‫�أنقا�ض من الكرتون واخل�شب‪ ،‬على �شاكلة قرى بومتكني‬ ‫الرو�سي حمظي كاترين الثانية‪ .‬وهي (ال�صور) �شبهت على‬ ‫القي�رصة الزائرة وامل�رسعة وجود قرى عامرة ومزدهرة‪،‬‬ ‫وفالحني �سعداء‪ ،‬ف�إذا انتقلت الزائرة اجلليلة �إىل قرية‬ ‫قريبة‪� ،‬سبقها بومتكني و«رفع» هياكل عمارتها امل�صورة‬ ‫وامل�شبهة‪ ،‬و�أم��ر فالحيها بال�سعادة‪ ،‬و�ألب�سهم الثياب‬ ‫النظيفة ب�ضع �ساعات‪ ...‬وكان بوغات�شيف‪« ،‬املوجيك»‬ ‫الثائر والدموي‪ ،‬وانتفا�ضات الفالحني املدمرة‪« ،‬املرحلة»‬ ‫‪194‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫«ال�سفر» الرو�سي‪ .‬والفالحون‬ ‫التالية واملرتب�صة يف‬ ‫َّ‬ ‫املزارعون‪ ،‬اليوم‪ ،‬و«طبقتهم» بالأحرى‪� ،‬أم�سوا قلة قليلة‬ ‫حيث مل ي��ذووا ويتبددوا‪ ،‬وانقلبوا �رشكات �صناعية‬ ‫�ضخمة جتني معظم �أرباحها من تو�سيع �شطرها املمكنن‪،‬‬ ‫ومن بيع حما�صيلها ب�أ�سعار حممية ا�ستحال االتفاق‬ ‫على توحيد معايري احت�سابها‪ .‬وعمال القطاع ال�صناعي‬ ‫الغذائي �أر�ستوقراطية عمالية ال تذكر ال ببوغات�شيف‬ ‫بو�شكني وال مبارينا �سوجلنت�سني‪ .‬والأرياف‪� ،‬أو ما بقي منها‪،‬‬ ‫يف بلدان «العامل الثالث»‪ ،‬بعد انق�سام هذا منذ ال�سبعينيات‬ ‫املن�رصمة عوامل‪ ،‬هي �إما خمزن احتياطات هجرة �إىل مدن‬ ‫الداخل �أو �إىل املهاجر الغريبة البعيدة و�إما قطاع ت�صدير‬ ‫�سلع غذائية ن�صف م�صنعة‪� ،‬أو هي غالب ًا االثنان مع ًا‪.‬‬ ‫ ومل ت�شغل ه��ذه امل�صائر �صاحبنا ودليلنا‪ ،‬حنا‬ ‫بطاطو‪ .‬فهي مل تت�صور يف هذه ال�صور‪ ،‬وعلى هذه‬ ‫الأنحاء امل�ضطربة واملتقلبة‪� ،‬إال غداة ا�ستواء «�سيادة‬ ‫نائب الرئي�س»‪� ،‬صدام ح�سني‪« ،‬قائد ًا» ال راد لكلمته‪،‬‬ ‫و«زعيم ًا �أوحد» ي�ستحق لقب القا�سمي (ن�سبة �إىل عبد‬ ‫الكرمي قا�سم) فوق ا�ستحقاقات �سلفه البعيد وال�شاحب‬ ‫هذا اللقب مبا ال يقا�س‪ .‬و�رصف ا َ‬ ‫خل َلف اللقب‪ ،‬واملكانة‬ ‫�أو ال�صالحيات نظري اللقب‪� ،‬إىل ح��روب مقيمة مع‬ ‫اجلوار‪ ،‬الإيراين واخلليجي والعربي الأو�سطي‪ ،‬دارت‬ ‫كلها من غري ا�ستثناء على غاية واحدة هي اال�ستيالء‬ ‫على عوائد النفط الريعية‪ ،‬و�ضم بالد الريوع و�أهلها‬ ‫�إىل عر�ش «القائد» الأوح��د وتاجه‪ .‬فات�صل عنف‬ ‫الداخل العراقي‪� ،‬أو الدواخل العراقية‪ ،‬بحروب اخلارج‬ ‫الباهظة‪ .‬و�أف�ضت كرثة العراق املتنافرة‪ ،‬غداة �ضبطها‬ ‫ظاهر ًا يف �أبنية «�أمر» خمت�رصة وراجحة الثقل والكلفة‬ ‫على نحو قاطع‪� ،‬إىل �سل�سلة حروب طاحنة‪ ،‬مل تطوها‬ ‫حرب «التحالف» الغربي يف ‪ .٢٠٠٣‬ف� ْأ�سلمتها‪� ،‬أو‬ ‫�أ�سلمت ف�صلها الأخري‪ ،‬الغربي‪� ،‬إىل ف�صولٍ �أو ذيولِ‬ ‫حرب � ٍ‬ ‫ِ‬ ‫إرهاب هي ترددات الزلزال «الأمريكي» ال �إىل‬ ‫غاية وال �إىل نهاية‪ .‬ولكنها كذلك‪ ،‬على نحو جلي‪،‬‬ ‫ترددات ال�سلطان الذي �أر�ساه �صدام ح�سني‪ ،‬وقيادته‪،‬‬ ‫على «الدولة» واملجتمع العراقيني‪ .‬فامل�رسح البلداين‬ ‫(اجلغرايف) وال�سكاين االجتماعي وال�سيا�سي الذي‬ ‫وذهابا‪ ،‬جماعات «القاعدة» الإرهابية‬ ‫ذرعته‪ ،‬جيئة‬ ‫ً‬ ‫وجماعات مقاومة االحتالل و«عمالئه» امل�سلحة ‪-‬‬ ‫وال�صنفان متمايزان ومت�صالن على وجوه من الع�سري‬ ‫وال�سني‪ .‬ومل‬ ‫�إح�صا�ؤها ‪ -‬هو امل�رسح العروبي «البدوي» ُّ‬ ‫يفت�أ بطاطو ي�صف هذا امل�رسح و�إنزواءه �إىل الهوام�ش‬

‫العراقية امل�ستجدة‪ ،‬ال�صحراوية والريفية والتجارية‪،‬‬ ‫وانقطاعه من دوائره الأهلية القومية واملذهبية‪ ،‬وانقالبه‬ ‫من الرتبع يف مكانة �سلطانية مهيمنة �إىل املنازعة على‬ ‫مرتبة ثانية م�ضطربة وال �ضامن لها‪ .‬وامل�رسح والقوى‬ ‫والدواعي هي «حوا�ضن» حركات املعار�ضة ال�سيا�سية‬ ‫واملقاومة الإرهابية‪ ،‬العراقيتني‪ ،‬اليوم‪ .‬وهي من خملفات‬ ‫العهد البعثي ال�صدامي الطويل‪ ،‬ومن ذيول الأبنية‬ ‫ال�سيا�سية واالجتماعية الأهلية التي جرى عليها‬ ‫«الزعيم الأوح��د» وحزبه الواحد‪ ...‬وتتداعى �أ�سباب‬ ‫االرتدادات وعنفها من مالب�سات ا�ستيالء البعث على‬ ‫العراق يف ‪� ،١٩٦٨‬إىل مالب�سات ا�ستيالء ‪١٩٥٨‬‬ ‫واملنازعات الأهلية احلزبية الدامية التي �أعقبته‪ ،‬ف�إىل‬ ‫عنف احلكم الها�شمي ووزيره الأول نوري ال�سعيد على‬ ‫اخل�صو�ص‪ ،‬ف�إىل حروب الع�شائر يف ما بينها وحروبها‬ ‫الداخلية «والتناق�ض البنيوي» بني املدن النهرية الكبرية‬ ‫وبني بلدات البوادي والأرياف والوديان‪ ،‬على ما ال ميل‬ ‫الكاتب من الإح�صاء والعود على بدء‪.‬‬

‫ال�سيا�سية» �أو التقرير يف حلول امل�شكالت الوطنية العامة‬ ‫�أو التحكيم يف امل�سائل اجلزئية‪ .‬وهذا ُيق ِْد ُر تيارات تفتقر‬ ‫�إىل قاعدة اجتماعية عري�ضة‪� ،‬أو �أ�شخا�ص ًا‪ ،‬على الت�أثري يف‬ ‫جمرى احلوادث و�إخراج هذه من �سوية التفاو�ض والنزاع‬ ‫�إىل االنفجار‪ ،‬على ما ح�صل مرات يف ‪ ١٩٥٩‬باملو�صل‬ ‫ودوام ال��والءات القدمية‪،‬‬ ‫وكركوك على �سبيل املثل‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫أثر االن�شقاق بني‬ ‫�‬ ‫ة‬ ‫قو‬ ‫يفوق‬ ‫ودواعيها‪،‬‬ ‫و�أفكارها وم�شاعرها‬ ‫ً َ‬ ‫دور تق�سيم العمل االجتماعي واملذهبي‬ ‫ال�سنة وال�شيعة �أو َ‬ ‫ُّ‬ ‫ال�سنة يف الدولة وكفة �شيعة بغداد‬ ‫كفة‬ ‫يرجح‬ ‫�ذي‬ ‫ال�‬ ‫ُّ‬ ‫والب�رصة يف التجارة‪ .‬وهو ي�سد امل�سالك �إىل تنمية الطبقات‬ ‫الو�سطى «م�شاعر» م�شرتكة وخمتلطة تتخطى دوائر‬ ‫املذاهب والطوائف �إىل «دائرة» العراق الوطنية واملجتمعة‪،‬‬ ‫على رغم تعاظم الإنفاق احلكومي املركزي ومفاعيله يف‬ ‫وتعليما‪،‬‬ ‫ال وتوزيع ًا وا�ستثمار ًا وعمالة‬ ‫«حياة النا�س»‪ ،‬دخ ً‬ ‫ً‬ ‫وعلى رغم عموم الطفيلية جراء الإنفاق‪ ،‬كان ي�سع الكاتب‬ ‫لو عالج �أحوال العراق غداة ‪ ،١٩٧٨‬وهي ال�سنة التي علق‬ ‫فيها �سياقة اقت�صا�صه اخباره‪� ،‬أن يالحظ �ضعف �أثر احلرب‬ ‫«الوطنية» الكربى (على ت�سمية �سوفياتية م�أثورة للحرب‬ ‫الأملانية – ال�سوفياتية على جبهتها الرو�سية والأوكرانية)‬ ‫يف �ضوي العراقيني حتت لواء دولة واحدة‪.‬‬

‫و�شاغل الدليل �إىل العراق احلديث واملعا�رص‪ ،‬هو �شاغل‬ ‫قارئه‪ ،‬وينبغي �أن يكون �شاغله على زعمي‪ .‬ويخامر هذا‬ ‫القارئ بع�ض ال�شك يف � ّأن �صاحب الكتاب َح ِ�سب يف‬ ‫�آخر ف�صول كتابه العراقي الكبري‪� ،‬أن جمع �أحمد ح�سن‬ ‫البكر (اجلي�ش) ‪� -‬صدام ح�سني (الأمن واحلزب) مقاليد‬ ‫ال�سلطة و«الدولة» يف �أيديهما‪ ،‬و�إذعان القوى ال�سيا�سية‬ ‫الأخرى واجلماعات الأهلية لهما‪ ،‬طوى (�أو طويا‪ :‬اجلمع‬ ‫والإذعان) الف�صل امل�ضطرب واملتنازع من تاريخ العراق‬ ‫احلديث‪ .‬وكالمه على «تراكم �أويل» متاح‪ ،‬بعد التحكم‬ ‫يف ِملك النفط وا�ستخراجه وت�سويقه‪ ،‬ي�شي بذلك �أو ينم‬ ‫به‪ .‬فريى �أن النظام بهذه احلال «ال يحتاج �إىل م�صادرة‬ ‫الفائ�ض االقت�صادي الذي ت�ستدعيه التنمية» (�ص ‪٤٤٨‬‬ ‫من الكتاب �أو اجلزء االخري‪ ،‬الثالث‪ ،‬الف�صل ‪.)٢٤‬‬ ‫ ولكن حنا بطاطو بعيد من ق�رص النزاعات‪ ،‬وعلى‬ ‫الأخ�ص عواملها ومقوماتها‪ ،‬على م�صادرة الفوائ�ض‬ ‫وا�ستثمارها‪ ،‬على رغم مكانة م�س�ألة الريوع وبنود الربنامج‬ ‫«الدميوقراطي الوطني» تالي ًا‪ ،‬وحملها من م�سائل االختالف‬ ‫واال�شتباك‪ .‬فهو يالحظ �أن البعث �أبقى على قوة الروابط‬ ‫املحلية‪ ،‬و�أن «جماهري العراق (بقيت) خ��ارج الدائرة‬

‫«الواقع» من طريق الدمار‬ ‫ولكن التوحيد الوطني العراقي‪� ،‬ش�أن بنود الربنامج‬ ‫«الوطني الدميقراطي» �أو «الدميقراطي البورجوازي»‬ ‫املفرت�ض «�أجنزه» النظام الع�صبي والريعي البريوقراطي‬ ‫على نحو �إجنازه البنود الأخرى‪ :‬جرد بند التوحيد من فعل‬ ‫�أ�صحابه وجماعاته وجرد �أ�صحابه وجماعاته منه ومن‬ ‫مبا�رشته و�صنعه‪ ،‬وافرت�ضه من اخت�صا�صه وحده مبن�أى‬ ‫من متناول اجلماعات واختالفاتها وخالفاتها ونزاعاتها‪.‬‬ ‫وح�سب �أنه فوق هذه حني هو ثمرتها الفجة واملرة‪ .‬و�أوكل‬ ‫طاغ وهزيل مع ًا رفع البند الوطني‪� ،‬أو «القومي»‬ ‫�إىل تخييل ٍ‬ ‫يف م�صطلحه ولغته‪ ،‬على الراحات واجلباه‪ ،‬وخلطه بالدم‬ ‫والأنف�س‪ .‬و�أوجب على العراقيني املتفرقني وامل�رشذمني‬ ‫واملتنازعني حمل �أنف�سهم ووجداناتهم علن ًا على هوية‬ ‫واحدة‪ ،‬وطنية ورمبا �شخ�صية وقردية كاذبة ومتوهمة‪،‬‬ ‫�أو يغلب وجهها املتوهم واملفرت�ض وجهها الفعلي‪ .‬ف�إذا‬ ‫�أرادوا اخل��روج منها‪� ،‬أو ا�ضطروا �إىل هذا اخل��روج‪ ،‬مل‬ ‫ي�سعهم ذلك �إال من طريق �إعمال تدمري ذاتي وعام‪ ،‬معنوي‬ ‫�أدبي ومادي‪ ،‬واخلبط على غري هدى �أو ب�صرية‪ ،‬على نحو‬ ‫ما �صنع العراقيون يف العهد ال�صدامي الطويل‪.‬‬

‫‪٣‬‬ ‫«الدولة» رغم املجتمع‬

‫‪195‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬


‫ فمن طريق التدمري واخلبط هذين‪ ،‬وعلى هذه ال�شاكلة‪،‬‬ ‫و�سعهم بلوغ «الواقع» املنكر وامل�ستبعد واملنفي والتما�سه‬ ‫وراء �أقنعة الربنامج «الدميقراطي البورجوازي» وبنوده‬ ‫«الثورية» و«الإ�صالحية» و«الإمنائية» و«الوحدوية»‪.‬‬ ‫وكلها ت ��ؤدي �إىل تقوية اجلهاز احلزبي البريوقراطي‬ ‫وت�ضعف القوى االجتماعية‪ .‬وه��ذا قريب مما فعله‬ ‫ال�سوريون ويفعلونه اليوم يف «ظل» �سلطان ع�صبي‬ ‫وريعي بريوقراطي �أمني وع�سكري �أعماهم عن واقعهم‪،‬‬ ‫لي�س وراء «�شعارات» زائفة على ما جرى القول‪ ،‬بل حتت‬ ‫ركام ثقيل و�صفيق من الأبنية االجتماعية والعالقات‬ ‫ال�سيا�سية ومن نظم املعامالت‪ ،‬وم�سالك القول والت�صوير‬ ‫والتعبري‪ .‬ف�إذا �أرادوا تك�سري الق�رشة ال�سميكة من الأبنية‬ ‫والعالقات والنظم وامل�سالك ليبلغوا‪ ،‬حتتها‪ ،‬حقيقة ما هم‬ ‫(عليه) يف �أعقاب قرابة ن�صف قرن من �سالطة «الع�صابة»‬ ‫ال وراء الكرتون‬ ‫ونظامها‪ ،‬وحقيقة من يكونون فع ً‬ ‫الوحدوي والتحرري والفل�سطيني واملقاوم واالجتماعي‬ ‫املزوق والأ�سدي – مل يجدوا بد ًا من حتطيم بلدهم (جمتمع‬ ‫جماعاتهم و«دولتهم») وقد ا�ستحال كله قرية بومتكني‬ ‫عميقة‪� ،‬إذا جاز القول‪ ،‬ورا�سخة‪.‬‬ ‫ ول��و عمد ق��ارئ ال��ع��راق الطبقات االجتماعية‬ ‫واحل��رك��ات الثورية �إىل �إح�صاء حم��اوالت �صاحب‬ ‫الكتاب املتواترة يف جمع «التناق�ضات» العراقية‪،‬‬ ‫وا�ستنتاجاتها يف �سياقة «مرتابطة» يتو�سطها �أو يتوجها‬ ‫تناق�ض رئي�س(ي) �أو «بنيوي» – على قوله يف نزاعات‬ ‫�أهل املدن النهرية‪ ،‬وهم نواة العراق اجلديد يف ‪،١٩٢٠‬‬ ‫و�أه��ل �رشيط البداوة على �ضفتي دجلة بني �سامراء‬ ‫والكوت (�ص ‪ ،٤٣‬من ج‪ ،١‬ف�صل ‪ )١‬و�أهل ع�شائر‬ ‫الأرا�ضي ال�سهلية على �ضفاف النهرين (�ص ‪ 42‬من‬ ‫اجلزء �أو الكتاب نف�سه) ‪ -‬لوقع على �سجالت كثرية‬ ‫تع�صى على التبويب املت�صل واملتما�سك‪ .‬و�إحجام حنا‬ ‫بطاطو عن افتعال دمج النزاعات‪� ،‬أو ا�ستيالد بع�ضها من‬ ‫بع�ض ق�رس ًا‪ ،‬وتركه العنان لنازع اخلالفات يف �أوقات‬ ‫الت�أزم واالنفجار �إىل كرثة مركبة ومر�سلة‪ ،‬هو (الإحجام)‬ ‫من دواعي قراءته اليوم والعود على ابتداء معاجلته‪.‬‬ ‫ولكن معاجلته وقفت عند منعطف بدا له يومها‪ ،‬على‬ ‫ما بدا ملعظم املراقبني واملعنيني‪� ،‬إيذان ًا مبرحلة ا�ستقرار‬ ‫طويلة تتوج الإجنازات «الوطنية» و«الدميقراطية» منذ‬ ‫وت�س ِل ُمها �إىل حكم ثابت �أخرج العراق‪ ،‬قبل‬ ‫‪ْ ،١٩٥٨‬‬ ‫عقد‪ ،‬من االنقالبات واالنتفا�ضات واالن�شقاقات‪ ،‬وبلور‬ ‫عقيدة �سيا�سية وا�ضحة و«مقبولة»‪ ،‬وبنى جهاز دولة‬ ‫‪196‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫مركزية متينة‪ ،‬خلو من التجاذبات التي �أودت بالأبنية‬ ‫ال�سابقة‪ .‬وهذه املعايري هي وليدة وقت �سبق �أزمة االحتاد‬ ‫ال�سوفياتي و«مثاله»‪ ،‬عند منعطف ال�سبعينيات �إىل‬ ‫الثمانينيات‪ ،‬وظهور �أمارات الإعياء والق�صور الفادحني‬ ‫أعقاب‬ ‫على الأمنوذج «التاريخي» املفرت�ض‪ .‬وامتحنت � ُ‬ ‫‪ ،١٩٧٨‬و�أولها احلرب العراقية – الإيرانية املتخلفة‬ ‫عن الثورة الإيرانية اخلمينية ثم احتالل اجلي�ش العراقي‬ ‫الكويت طمع ًا يف اال�ستيالء على الريع الذي �ضيعه‬ ‫الإخفاق يف �إيران‪ ،...‬البناء العراقي البعثي‪ ،‬ال�صدامي‬ ‫حقيقة‪ .‬و�أخرجت �إىل العلن وامللأ املنطق امل�ضمر يف‬ ‫املثال «الوطني الدميقراطي»‪ ،‬ودعواه �إجناز برنامج املرحلة‬ ‫بقوة احلزب امل�ستويل والقائد وحده‪ ،‬هو وجي�شه و�أمنه‬ ‫وبريوقراطيته وريوعه وقاعدته الأهلية والع�صبية‪ ،‬بعد‬ ‫�إق�صائه القوى االجتماعية الأخرى‪ ،‬وخ�صيها‪ ،‬و�إدارة‬ ‫اال�ستيالء على اطراحها ونبذها وقهرها‪.‬‬ ‫ فتحقق ما مل يكن ظاهر ًا‪ ،‬ورمبا ما مل يكن موجود ًا‬ ‫�أو قائم ًا‪ ،‬وهو � ّأن الت�أميمات والإ�صالح الزراعي و�إن�شاء‬ ‫الأبنية التحتية وتوحيد ال�سوق ون�رش التعليم والعناية‬ ‫ال�صحية‪ ...‬مل تكن خطوات على طريق �إن�شاء ج�سم‬ ‫وطني م�ستقل متما�سك ومتنازع‪ ،‬يحكم نف�سه بنف�سه‬ ‫منزع حكومته‬ ‫تفرق م�صاحله وجماعاته امل�رشوع‬ ‫ويقيد‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫�إىل الت�سلط عليه ومنزع جماعاته �إىل ال�رشذمة‪.‬‬ ‫فبنود الربنامج «الوطني الدميقراطي» املعلنة كانت‬ ‫ال�س َّلم �إىل ا�ستيالء ع�صبي ريعي وبريوقراطي‪� ،‬سائقه‬ ‫ُّ‬ ‫حال اال�ستيالء هذه والتو�سع فيها على �صورة دائرة‬ ‫مفرغة‪ :‬يقود اال�ستيالء �إىل تعظيم ال�سلطان وعوائده‪،‬‬ ‫و�إىل ر�ص �صفوف ع�صبيته وتعميق الفجوة بينه وبني‬ ‫رعيته‪ ،‬وبني رعيته وبني اجلماعات الأخرى املحرومة‬ ‫واملعادية‪ ،‬فيحتاج ال�سلطان �إىل تعظيم ريوعه وتو�سيع‬ ‫م�صادرها‪ ،‬ال �إىل غاية‪ .‬وال ريب يف � ّأن كرثة اجلماعات‬ ‫«الأ�سا�سية»‪ ،‬وتفرق مبانيها القومية‪ ،‬والن�سبية الأهلية‪،‬‬ ‫واالعتقادية املذهبية‪ ،‬واملعا�شية‪ ،‬والبلدانية البيئية‪،‬‬ ‫وجوارها ومراجعها التاريخية ‪ -‬وي�ستفي�ض بطاطو‬ ‫يف �إح�صائها كلما �سنحت الفر�صة‪� ،‬أو دعا احلال‬ ‫�إىل املقال‪ ،‬يف ما ي�شبه االنت�شاء الذهني والق�ص�صي‬ ‫– (هذه الكرثة) عرثة يف طريق بلورة �سلطة ال حتكم‬ ‫بالقهر والتغلب وحدهما‪ ،‬بل ت�رشك الر�ضوخ والقبول‬ ‫يف �إر�ساء دالتها‪ .‬وهي قيا�س ًا على عمل دولة وطنية‪،‬‬ ‫حديثة ومركزية و�إدارية‪ ،‬حكم ًا‪ ،‬معوق قوي بوجه �صوغ‬ ‫�إجماعات ال غنى للدولة الوطنية عنها‪.‬‬

‫‪ 196‬‬ ‫ ‬

‫ِس ْك ِس جربان‬ ‫سيجارة واشعرة أمريكية‬

‫‪200‬‬ ‫ ‬

‫يف رثاء صنعاء القديمة‬

‫جربان خليل جربان‬ ‫جمال جربان‬


‫يف م�سامعي‪ .‬واحلكاية الثانية «مرتا البانية» هي دمعة حمرقة‬ ‫�أثارتها �أوجاع االمر�أة ال�ساقطة التي تتبع الرجل قبل �أن‬ ‫ت�سمع نداء قلبه وقبل �أن ت�شعر نف�سها باهتزازات احلب‬ ‫الإلهي التي حتدثها مالقاة الن�صف احلقيقي‪� .‬أما احلكاية‬ ‫الثالثة «يوحنا املحنون» فهي كلمة من رواية حمزنة م�ستتبة‬ ‫على م�رسح الليايل‪ ،‬رواية حية بحياة اخل�ضوع الأعمى‬ ‫واال�ستبداد املميت‪ ،‬وقد نظرت فر�أيت �أن ال�سبل التي‬ ‫اتخذها الكتاب فيما م�ضى ملقاتلة ا�ستبداد الإكلريو�س‬ ‫م�رضة مببادئ �أولئك الكتاب‬ ‫و�إماتة اخل�ضوع هي هي ذاتها‬ ‫َّ‬ ‫ونافعة ملبادئ �أعداء الهيئة‪ .‬الك ّتاب كانوا يتخذون احتقار‬ ‫الكهان القائمني بتلك‬ ‫ال لإ�سقاط‬ ‫التقاليد الدينية �سبي ً‬ ‫ّ‬ ‫التقاليد وهذا هو اخلط�أ لأن العاطفة الدينية هي �شيء‬ ‫طبيعي يف الإن�سان �أما اال�ستبداد بوا�سطة التعاليم الدينية‬ ‫فلي�س من الأمور الطبيعية بل هو بعك�سها‪ .‬من �أجل ذلك‬ ‫حمب ًا لي�سوع م�ؤمن ًا ب�إجنيله �أمين ًا على تعاليمه‪.‬‬ ‫جعلت يوحنا ّ‬ ‫ ‪ ...‬التجا�ؤك �إىل التدخني والقهوة يزيد حمبتي لهما‬ ‫وقد كنت �أتوهم �أن الزيادة على تلك املحبة هي من‬ ‫الأمور امل�ستحيلة لأين كما تعهدين �أعي�ش على القهوة‬ ‫وال�سكاير‪ .‬ها قد تذكرت حكاية �صغرية ال بد من �رسدها‬ ‫لأنها تتعلق بالقهوة وال�سكاير فا�سمعها‪:‬‬ ‫ دعتني بالأم�س �سيدة �أمريكية �إىل الع�شاء وهي �شاعرة‬ ‫متفننة وجميلة قلب ًا وقالب ًا ولها ميل طبيعي �إىل ا�ستدرار‬ ‫حما�سن احلياة‪ .‬ويف نف�سها جماعة �إىل كل ما هو جميل‬ ‫ولذيذ‪ .‬جل�سنا �إىل املائدة ومل يكن بيننا ثالث وكنا ن�أكل‬ ‫ونتحدث كيال حترم الآذان ما تتمتع به النواظر والأجواف‪،‬‬ ‫حتى �إذا ما انتهينا �إىل اللحوم وتوابعها وبلغنا احللويات‬ ‫و�رصت �أر�شف فنجاين ر�شفة‬ ‫والقهوة �أ�شعلت �سيكارة‬ ‫ُ‬ ‫و�أم�ص ثغر ال�سيكارة م�صة و�صديقتي تت� ّأملني بلذة فائقة‬ ‫وعلى مالحمها ابت�سامة ت�شابه ابت�سامة احلقول ملجيء الربيع‪،‬‬ ‫ثم �أحلقت ال�سيكارة ب�سيكارة �أخرى ومل ُأت فنجاين ثانية‬ ‫واحلديث جعال للتبغ وللقهوة نكهة �سحرية‪.‬‬ ‫لأن املحيط‬ ‫َ‬ ‫وبعد �سكينة فيها من الأقوال اخلفية ما فيها حولت �شاعرتنا‬ ‫عينيها نحو �شيء غري منظور يف ف�ضاء الغرفة وقالت بهدوء‬ ‫ال»‬ ‫«�أتعلم يا جربان ب�أن هذه �أول مرة متنيت فيها �أن �أكون رج ً‬ ‫قلت‪ :‬وملاذا؟ قالت «لأن الرجال يتمتعون باحلياة بال خوف وال‬ ‫وجل‪ ،‬وي�صعدون �إىل قمم اللذات ويهبطون �إىل �أعماقها غري‬ ‫ناظرين �إىل ما يقال عنهم‪� ،‬أما نحن الن�ساء فرناقب بع�ضنا‬ ‫بع�ض ًا وننتقد بق�ساوة جارحة ما نفعله ح�سن ًا كان �أو قبيح ًا»‪.‬‬ ‫ال‬ ‫ ‬ ‫فنظرت �إليها م�ستفهم ًا م�ستزيد ًا فقالت‪« :‬لو كنت رج ً‬ ‫ُ‬ ‫الآن لتمتعت معك يا جربان بلذة التدخني لأن رائحة هذه‬

‫ِس ْك يِس جربان‬

‫سيجارة واشعرة أمريكية‬ ‫جربان خليل جربان‬

‫عرث الاشعر المهجري شفيق معلوف‪ ،‬رئيس «رابطة العصبة االندلسية»‪ ،‬بني أوراق أخيه الاشعر فوزي معلوف‬ ‫عىل نسخ لراسئل ثالث كان قد بعث هبا جربان خليل جربان إىل صديقه جميل معلوف‪ .‬فنرشها يف جملة «العصبة»‬ ‫نص واحدة مهنا‪.‬‬ ‫صوت «رابطة العصبة االندلسية» اليت كانت تضم ادباء المهجر اجلنوب امريكي‪ .‬وهذا ّ‬

‫من لبنان‪ .‬من‬

‫يف ال�رشق‪� .‬أونذهب �إىل اللوفر ونقف �أمام ر�سوم رفائيل‬ ‫ودافن�سي وكارو ثم نعود �إىل البيت ونكتب ونكتب ونكتب‬ ‫عن احلب واجلمال وت�أثريهما يف خاليا القلب الب�رشي؟‬ ‫�آه يا �أخي‪� ،‬إنني �أ�شعر مبجاعة عميقة �إىل االقرتاب من‬ ‫الأعمال العظيمة الهائلة وب�شوق مميت �إىل الأق��وال‬ ‫الكبرية اخلالدة و�أ�شعر ب�أن هذه املجاعة وهذا ال�شوق هما‬ ‫قوة تريد �إعالن ذاتها ب�رسعة‬ ‫نتيجة قو ٍة كائنة يف �أعماقي‪ّ .‬‬ ‫فال تقدر لأن الوقت مل يجئ بعد ــ لأن النا�س الذين ماتوا‬ ‫عند والدتهم يقفون حجر عرث ٍة يف �سبيل الأحياء‪.‬‬ ‫ �صحتي كما تعهدها فهي مثل قيثارة يف يد من ال‬ ‫يح�سن ال�رضب عليها ف ُت ِ‬ ‫�سمعه �أنغام ًا ال تر�ضيه‪ .‬عواطفي‬ ‫مد وجزر ــ نف�سي كال�شحرور املك�سور اجلناح‬ ‫كالبحر ذات ّ‬ ‫املختبئ بني الأغ�صان يت�أمل �إذ يرى �أ�رساب الطيور مرفرفة‬ ‫لأنه ال يقدر �أن يجاريها ولكنه كالطيور يفرح ب�سكينة‬ ‫ُ‬ ‫�صور‬ ‫الليل وجميء الفجر و�شعاع ال�شم�س وجمال الوادي‪� .‬أ ّ‬ ‫�آونة و�أكتب �أخرى ف�أنا بني الت�صوير والكتابة مثل �سفينة‬ ‫�صغرية بني بحر ال نهاية لأعماقه و�سماء ال نهاية لأزرقاقها‬ ‫ــ �أحالم غريبة و�أماين �سامية و�آمال كبرية و�أفكار مت�صلة‬ ‫ّ‬ ‫متقطعة وبني هذه الأحالم وهذه الأماين وهذه الآمال وهذه‬ ‫الأفكار �شيء يدعونه قنوط ًا و�أنا �أُ�سميه جحيم ًا‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫كتيب ُيدعى «عرائ�س‬ ‫ بالأم�س بعثت �إليك بن�سخ ٍة من‬ ‫املروج» م�ؤ ّل ٌف من ثالث حكايات �صغرية‪ .‬احلكاية الأوىل‬ ‫«رماد الأجيال والنار اخلالدة» هي من نتيجة �أحاديثنا عن‬ ‫الن�صف احلقيقي وقد كتبتها عندما كانت نف�سك اجلميلة‬ ‫يتموج‬ ‫تالم�س عواطفي ب�أطراف و�شاحها‪ ،‬و�صدى �صوتك ّ‬

‫(‪)١٩٣١-١٨٨٣‬‬ ‫اشعر وراسم‬

‫مؤلفاته «النيب»‪،‬‬

‫«المجنون»‪«،‬يسوع‬ ‫ابن االناسن»‪،‬‬

‫«العواصف »‪،‬‬

‫«االرواح المتمردة »‪،‬‬ ‫«دمعة وابتاسمة »‪.‬‬

‫‪198‬‬

‫�أخي جميل‬ ‫تدب يف‬ ‫عندما �أقر�أ ر�سائلك �أ�شعر بوجود روح �سحرية ّ‬ ‫جوانب هذه الغرفة‪ .‬روح جميلة وحمزنة تف�صل بتموجاتها‬ ‫يرف فوق الب�رش‬ ‫ذاتي ف�أراك ذا �أقنومني متباينني‪� .‬أقنوم ّ‬ ‫والب�رشيات ب�أجنحة عظيمة ت�شابه �أجنحة ال�ساروفيم التي‬ ‫ّ‬ ‫أقنوم‬ ‫ر�آها يوحنا واقفة �أمام العر�ش بجانب املناثر ال�سبع‪ .‬و� ٌ‬ ‫قوية بني ال�صخور الهائلة مثل «برومي�س»‬ ‫مقيد ب�سال�سل ّ‬ ‫َّ‬ ‫الذي �أنزل �شعلة النار الأوىل للب�رش من ال�سماء فغ�ضبت‬ ‫عليه الآلهة و�أوثقوا جثمانه ب�صخرة على �شاطئ البحر‪� .‬أقنوم‬ ‫يفرح قلبي وي�ضبط نف�سي لأنه يتموج مع �أ�شعة ال�شم�س‬ ‫ون�سيمات الفجر‪ .‬و�أقنوم يوجع عواطفي وي�ضغط على‬ ‫قلبي و�أ�ضلعي لأنه �أ�سري �رصوف الليايل‪ ..‬كنت ولن تزال‬ ‫قادراً على ا�ستح�ضار �شعالت النار من ال�سماء وت�سليمها‬ ‫�إىل الب�رش لتنريهم ولكن �أية �رشيعة بل �أية قوة و�ضعتك يف‬ ‫�سان باولو وقيدت جثمانك بني الذين ماتوا منذ والدتهم ومل‬ ‫يدفنوا بعد؟ هل لآلهة اليونان قوة يف هذه الأجيال؟‬ ‫ �سمعت ب�أن يف نيتك الرجوع �إىل باري�س لت�سكن‬ ‫فيها و�أنا �أي�ض ًا �أريد �أن �أذهب �إليها فهل نلتقي يف مدينة‬ ‫الفنون؟ هل نلتقي يف قلب العامل ون�سكن مع ًا ونذهب‬ ‫ال �إىل الأوبرا و�إىل امللعب الفرن�ساوي ثم نعود لنتحدث‬ ‫لي ً‬ ‫عن روايات را�سني وكورنيل وموليري وهوغو و�ساردو؟‬ ‫�أنلتقي هناك ون�سري ببطء �إىل حيث كان البا�ستيل ثم‬ ‫نعود �إىل البيت �شاعرين مبالم�س روح رو�سو وفولتري‬ ‫ونكتب‪ .‬ونكتب‪ .‬ونكتب عن احلرية واال�ستبداد لنكون‬ ‫من امل�ساعدين على هدم البا�ستيل القائم يف كل بلد ٍة‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫‪199‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫ال�سكائر الرتكية وكيفية �إحراقك لها قد ولد يف نف�سي‬ ‫فقمت من مكاين �إذ ذاك وفتحت علبة‬ ‫�شهية عميقة»‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سكاير وو�ضعتها �أمامها على املائدة وقلت مرمز ًا بطريقة‬ ‫معنوية �إىل �أ�شياء كثرية «خلقنا لنفرح ونتمتع بكل �شيء يف‬ ‫هذه احلياة على قدر ما تر�سم احلكمة الكائنة يف �أعماقنا ف�إذا‬ ‫ما امتنع الإن�سان عن ا�ستخال�ص اللذة من الكائنات كان‬ ‫ونت�شبه بالأيام التي‬ ‫ندخن مع ًا‬ ‫هو اجلاين على نف�سه‪ ،‬تعايل ّ‬ ‫َّ‬ ‫تتخذ لها من �أعمارنا �سكاير وتدخنها يف ال�سكينة»‪.‬‬ ‫ ف�أخذت �شاعرتي �سيكارة وو�ضعتها بني �أ�صابعها‬ ‫مت�صها بلهفة‬ ‫اللطيفة البي�ضاء و�أ�شعلت ر�أ�سها و�أخذت ُّ‬ ‫وتت� ّأمل دخانها املت�صاعد كاخليوط الف�ضية ولكنها ما‬ ‫ال ف�أ�سندت ر�أ�سها‬ ‫بلغت �آخرها حتى‬ ‫ا�صفر وجهها قلي ً‬ ‫َّ‬ ‫مبع�صمها وبقيت �شفتاها مبت�سمتني فقلت‪ :‬ماذا �أ�صابك؟‬ ‫ال ولكن‬ ‫ف�أجابت بهدوء �سحري‪�« :‬إن ر�أ�سي ثقيل قلي ً‬ ‫نف�سي مملوءة باخلياالت ال�رشقية اجلميلة»‪.‬‬ ‫ تركنا املائدة وذهبنا �إىل املكتبة وهناك جل�ست على‬ ‫مدت‬ ‫مقعد بني امل�ساند الناعمة و�أنا �أحدثها وبعد �ساعة ّ‬ ‫كهربائي ًا بجانبها فجاءت‬ ‫يدها احلريرية ومل�ست زر ًا‬ ‫ّ‬ ‫�إحدى اخلادمات فقالت لها‪« :‬اعملي لنا �إبريق ًا من القهوة‬ ‫القوية يا جوزفني»‪.‬‬ ‫فذهبت اخلادمة وبعد هنيهة عادت بالقهوة‪ ،‬و�إذ َه ّم ْت‬ ‫ ‬ ‫ْ‬ ‫بالرجوع �أوقفتها �شاعرتنا وقالت لها‪�« :‬إن جاء �أحد ليزورين‬ ‫�صبت من القهوة فنجانني وقالت‬ ‫متغيبة»‪ .‬ثم َّ‬ ‫قويل له �إين ّ‬ ‫فقلت‪« :‬قد ي�رضك‬ ‫مبت�سمة‪�« :‬أعطني �سيكار ًة يا جربان»‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫إكثار بادئ بدء» ف�أجابت بهذه الكلمات البديعة‪�« :‬إن اللذة‬ ‫ال ُ‬ ‫احلقيقية يف هذه احلياة ال ت�صل �إلينا �إلاَّ عن �سبيل الأمل»‪.‬‬ ‫ وهكذا يا عزيزي �رصفنا تلك الليلة بني ال�سكاير‬ ‫والقهوة وال�شعر وما جان�سه‪ ،‬ويف اليوم التايل كتبت � َّ‬ ‫إيل‬ ‫تقول «�إبعث � َّ‬ ‫ففعلت م�رسع ًا وقد‬ ‫إيل بهدي ٍة من �سكايرك»‬ ‫ُ‬ ‫�أهدت � َّ‬ ‫إيل لقاء ذلك ق�صيدة جميلة َن َظمتها يف ال�سكاير‬ ‫الرتكية‪.‬‬ ‫‪...‬‬ ‫ا�صبع ال�ساعة تومئ �إىل الثانية بعد ن�صف الليل‪ .‬والنوم‬ ‫العميق يتالعب ب�أرواح الب�رش والثلج يت�ساقط بهدوء‬ ‫وقد �ألب�س املدينة ح ّلة بي�ضاء‪ ،‬وجربان ما برح �ساهر ًا‬ ‫يناجيك‪ .‬وقد دحرت ُ‬ ‫أبناء �آدم �إىل‬ ‫لمة والثلوج � َ‬ ‫الظ َ‬ ‫أنفا�س املخلوقات ومل �أعد‬ ‫الأوكار وامتلكت ال�سكينة � َ‬ ‫�أ�سمع غري تنهدات الأرباح الطويلة املخزنة‪ ،‬ما �أجمل‬ ‫الليل! فهو يهب النفو�س �أجنحة معنوية لتطري وحت ِّلق‬ ‫فوق الغيوم وما وراء الغيوم‪...‬‬



‫تتجاوز ت�سميتها لت�صري كلية وجامعة و�إىل هذا تفا�صيل‬ ‫الوقت احللو الذي كان بينك وبني �أ�صدقاء تلك املرحلة!‬ ‫ نكت�شف فج�أ ًة �أن ال �صور لدينا فيها ومعها‪ .‬وال‬ ‫�صورة واحدة تدل على �أننا كنا هناك يوم ًا ما ومررنا‬ ‫فيه‪� .‬إنه يخ�صنا ولنا منه ن�صيب كبري‪ .‬مل ننتبه وقتها‬ ‫�إىل � ّأن زمن ًا كهذا �سي�أتي‪ ،‬فلم نتخذ االحتياطات الالزمة‬ ‫وتفرغنا لأخذ الكثري من ال�صور‪ ،‬يف ال�ساحة ويف‬ ‫الف�صول ويف امللعب الف�سيح حيث كنا منار�س ريا�ضتنا‬ ‫املف�ضلة‪� .‬أهملنا امل�س�ألة‪ ،‬ومل نرتك لها م�ساحة �شاغرة‬ ‫يف بالنا‪ .‬ونتمنى الآن لو كنا نحمل بع�ض ًا من حنكة‬ ‫�شباب هذه الأيام‪ ،‬من ال يتحركون خطوة يف الأر�ض‬ ‫�إال وكامرياتهم الرقمية ال�شخ�صية يف جيوبهم‪ ،‬لعل‬ ‫لقطة ما ت�ستحق �أن تكون خمزونة يف ذاكرة �أجهزتهم‬ ‫في�ستعيدوها وقتما �شا�ؤوا‪� ،‬أو ليتناف�سوا يف ما بينهم‬ ‫ب�ش�أن من هو الأكرث حظ ًا منهم وا�ستطاع يف يومه جمع‬ ‫ح�صيلة وافرة من ال�صور وي�ستطيع �إدخالها يف �صفحته‬ ‫اخلا�صة على موقع الفي�س بوك‪ ،‬حا�صد ًا �أكرب عدد من‬ ‫التعليقات و�إ�شارات الإعجاب‪.‬‬

‫يف رثاء صنعاء القديمة‬ ‫جمال جربان‬ ‫كاتب وصحايف‬ ‫من اليمن‬

‫‪202‬‬

‫ن�ضبطها ذات م�صادفة تتحدث ب�صوت مرتفع‪ .‬كان كالمها‬ ‫هم�س ًا‪� ،‬أو ما ي�شبه مل�س �أ�صابع ت�سري على �صفحة بي�ضاء‪،‬‬ ‫فال حتدث فيها خد�ش ًا �أو حتى �أثر ًا خفيفاً‪.‬‬

‫�صدق؟‬ ‫من ُي ّ‬ ‫كان لنا يف �صنعاء م�ساءات حلوة وبرامج مقرتحة لل�سهرة‪،‬‬ ‫على غرار‪� :‬أين تذهب هذا امل�ساء؟ كانت �صنعاء �ساعة‬ ‫ونحن نقوم ب�ضبط جداول مواعيدنا ال�صغرية تبع ًا لها‬ ‫�صدق؟‬ ‫وحلركة م�ؤ�رشها الكبري‪ ،‬ومل تكن تخدعنا �أبد ًا �أو تت�أخر عن من ُي ّ‬ ‫موعدها ولو مر ًة واحدة‪ .‬ننتهي من واجباتنا املدر�سية لنقرر «لو مل تخرج هذي الليلة‪� ،‬س�أل ّغم هذا ال�سور بقلبي‪ ،‬و�أبيح‬ ‫بعدها �أين نق�ضي ما بقي من وقت‪ .‬ال�سينما عادة كانت مدينة �صنعاء لقبائل حبي»‪ .‬قالها ال�شاعر اليمني الباذخ‬ ‫خيارنا الأول‪ .‬كان لدينا دور �سينما كمثل خلق الله يف عبد الكرمي الرازحي ذات ق�صيدة بديعة كقلبه‪ ،‬وكنا �صغارا ً‬ ‫�أرجاء املعمورة‪ ،‬وكانت �صنعاء القدمية (ال �أق�صد هنا �صنعاء ال نعرف بعد ما ق�صده‪ .‬حفظناها فقط عن ظهر قلب‪ ،‬وك�أن‬ ‫القدمية املعروفة املحاطة ب�سورها)‪ ،‬مثلها كمثل عوا�صم هاتف ًا ما يقول لنا‪ :‬لكم �أن تفعلوا حفظها فهي ت�ستحق‪ .‬لكم‬ ‫الدنيا‪ ،‬فيها ما يجعل وقتنا الفائ�ض قادر ًا على ذهابه نحو �أن ت�ضعوها بداخلكم كتميمة وحرز ووقاية وكقلب‪.‬‬ ‫متعة وحالوة ال ميكن قيا�سها �أو تثمينها ب�شيء‪� .‬أربع دور وكربنا خطوة خطوة مع الق�صيدة ومع املدينة‪ ،‬وكان‬ ‫ال�رس وك�شفنا الغطاء‪ .‬ف�رسنا خلفها كمجاذيب‬ ‫لل�سينما مفتوحة �أمامنا على الدوام‪ ،‬ولنا فقط �أن نختار �أن �أدركنا‬ ‫ّ‬ ‫واحدة منها؛ فهذه اليوم‪ ،‬وتلك غدا‪ ،‬فيما الثالثة والرابعة ال يريدون ترف ًا وال متاع ًا من متاع الدنيا �سوى البقاء‬ ‫مي�سنا تبديل‪� .‬أن تبقى ال�صورة على ما‬ ‫لأيام �أخرى‪ .‬ونحن نختار بهدوء ويف راحة بالنا التامة‪ ،‬على �سرينا وال ّ‬ ‫فلي�س هناك من داع للعجلة‪ .‬وملاذا العجلة �أ�سا�س ًا ونحن هي عليه‪ .‬مل نكن نريد زيادة �أو كماليات‪ ،‬مل نكن نعطي‬ ‫من�سك بالأربعة من �أطرافها‪ ،‬كما وهي مقيمة على طول ولن لها باالً‪� ،‬أو بالأ�صح مل نكن نعلم �أنها موجودة �أ�صالً‪ ،‬فقد‬ ‫تغادر ولن ي�صيبها �إغالق �أو �سوء �أو �أذية‪ .‬هكذا كنا نظن! كان لنا يف �صنعاء ومنها كفايتنا‪ ،‬فلم ننظر لأبعد منها‪،‬‬ ‫�أو طلبنا �أكرث مما كانت تعطيه لنا‪.‬‬ ‫�صدق؟‬ ‫من ُي ّ‬ ‫�صدق؟‬ ‫كان لنا يف �صنعاء املدينة‪ ،‬ما تقدمه �أي مدينة لع�شاقها من من ُي ّ‬ ‫حمبب ومرغوب‪ ،‬بل وواجب يف مثل هذه الأي��ام من العام الفائت‪� ،‬إن مل تخدعني‬ ‫دالل وحب وتهتك خفيف ّ‬ ‫فعلها له كما تفعل �أي عا�شقة ملن يجل�س ب�صرب ووله طوال ذاكرتي‪ ،‬طلبت من �صديقي �إيقاف �سيارته والرتيث‬ ‫ليلة باردة حتت �شُ ّب ِ‬ ‫ال يف املكان‪ .‬كنا يف مفرتق الطريق امل�ؤدي �إىل �شارع‬ ‫اكها‪ ،‬ع ّله ينال طلة منها �أو تلويحة من قلي ً‬ ‫بعيد‪ .‬وكانت �صنعاء تفعل دائم ًا وال تبخل‪ .‬ال تر ّد عا�شق ًا وال الق�رص (و�سط �صنعاء)‪ ،‬ووقفنا نرى من بعيد هدم مبنى‬ ‫توبخ مراهق ًا �أوقعته حما�سته يف زلة �أو ه ّنة‪ ،‬بل تقيم عاثر ًا ثانوية جمال عبد النا�رص يف �صنعاء‪ .‬من �أي��ن ي�أتي‬ ‫ّ‬ ‫ال �إىل عقله ور�شده‪ .‬مل تكن تعرف الأذية‪ .‬نعم‪ ،‬مل الكالم املنا�سب كي يقال عن حلظة �أنت فيها تنظر بعينني‬ ‫وتعيد �ضا ً‬ ‫تكن �صنعاء تعرف الأذية‪ ،‬ومل تفعلها يوماً‪ ،‬بح�سب علمنا‪ .‬مفتوحتني للمدر�سة التي ع�شت فيها �أجمل �سني حياتك‬ ‫مل ي�صلنا �أنها فعلت ق�سوة �أو �صفاقة‪ .‬مل تنهر �أحد ًا ومل وهي تروح يف هدمها و�إىل زوال‪ .‬املدر�سة التي كانت‬ ‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫�صدق؟‬ ‫من ُي ّ‬ ‫�سيقنع القارئ الآن ب� ّأن ما �أقوله من �شهادة عن‬ ‫�أو من ُ‬ ‫�سينمات �صنعاء ودور العر�ض التي كانت فيها‪ ،‬حقيقة وال‬ ‫�أخرتع �شيئ ًا من ر�أ�سي؟! من داخل قلبي؟!‬ ‫ حدث ذلك يف منا�سبتني‪ .‬مرة مع طلبة ال�سنة الرابعة‬ ‫يف كلية الإعالم‪ ،‬ومرة �أخرى يف قاعة م�ؤ�س�سة العفيف‬ ‫الثقافية يف �صنعاء �أي�ضاً‪ ،‬وال�سبب يف املرتني كان ال�سينما‪.‬‬ ‫ ال ت�ستغرب و�أنت ترى عالمات ا�ستفهام كبرية تظهر‬ ‫خفيفة وببطء من بني م�سامات القاعة‪ ،‬كما ومن بني هم�سات‬ ‫الطلبة وال�شباب احلا�رضين‪� .‬أنت حتكي لفئة من النا�س مل‬ ‫تر �سينما يف حياتها‪ ،‬وبالتايل مل تدخلها‪ .‬فئة خرجت‬ ‫َ‬ ‫للحياة �أو بد�أت ترى املكان هنا ب�شكل وا�ضح‪ ،‬وقد �صار‬ ‫خالي ًا من �أية �سينما‪ .‬فئة ّ‬ ‫تقل �أعمارها عن خم�سة وع�رشين‬ ‫عاماً‪ .‬عليك �إذ ًا �أن ال ترهق نف�سك يف كيفية �إيجاد طريقة‬ ‫تقنعهم من خاللها ب� ّأن ما تتحدث عنه كان واقع ًا ومل جتلبه‬ ‫من بيتكم خمرتع ًا �إياه‪ّ � ،‬أن ما تتحدث عنه كان حقيقة تامة‬ ‫وكنا نلم�سها كل م�ساء عندما ي�أتي وقت الرتفيه‪.‬‬ ‫ لي�س لك غري �أن تتحدث فقط وتكمل حما�رضتك‬ ‫ب�أ�رسع ما ميكن‪ ،‬وهذا على الأقل كي تنقذ نف�سك من‬ ‫هطل عالمات ا�ستفهاماتهم الكثرية على ر�أ�سك �أو حتى‬ ‫قبل اتهامهم لك ب�أنك �رصت عجوز ًا م�صاب ًا بخرف �أفقده‬ ‫‪203‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫قدرة �إالدراك والتمييز ومل يعد قادر ًا على ف�صل املعقول‬ ‫من غري املعقول يف كالمه‪ .‬ورمبا كان لهم عذرهم‪ ،‬فكيف‬ ‫ميكن �إقناعهم ب� ّأن �صنعاء كانت م�ساحة مفتوحة ومدينة‬ ‫جممع حدة ال�سينمائي‬ ‫بدور عر�ض �سينمائية كثرية‪ :‬يف ّ‬ ‫جميال‬ ‫الذي �صار �أثر ًا بعد عني و�أطالالً‪ ،‬تقول �إن �شيئ ًا‬ ‫ً‬ ‫وحلو ًا كان هناك وحتول �إىل خراب وم�سخ؛ فال هو بقي‬ ‫على حاله‪ ،‬وال هو �صار �شيئ ًا له منطق وعقل‪ .‬دار ال�سينما‬ ‫الأهلية‪ ،‬دار �سينما بلقي�س‪ .‬و�إىل كل هذا �صاالت �صاحلة‬ ‫للعر�ض وممكنة يف قاعة جمال عبد النا�رص بجامعة �صنعاء‬ ‫واملركز الثقايف اليمني وم�رسح وزارة الإعالم‪.‬‬ ‫ماذا ُيخيف يف ال�سينما!‬ ‫و�أقول‪:‬‬ ‫هل ّكنا حمظوظني‪ ،‬نحن الذين �شهدنا جمد املدينة وزهوها‬ ‫الأول‪ ،‬هل نحن هكذا وقد مترغنا يف ترابها الأبي�ض وقمنا‬ ‫بلم�س م�ساءاتها الباهية اللذيذة‪ ،‬وهذا قبل �أن يتحول‬ ‫الرتاب الأبي�ض �إىل �أ�سفلت متحرك لزج يعوق ال�سائرين‬ ‫عن احلركة بطريقة �سليمة و�سهلة‪ ،‬وقبل �أن تتحول تلك‬ ‫امل�ساءات الباهية �إىل ليل معتم طويل بال بداية وال نهاية‪،‬‬ ‫تزين كل‬ ‫على الرغم من الأ�ضواء الكثرية التي �صارت ّ‬ ‫�شيء من طرف املدينة �إىل طرفها! �أم نعلن ا�ستياءنا رافعني‬ ‫رايات الرثاء فاحتني العني لذرف دموع كثرية!‬ ‫ �أن نقول �إن كل هذا انتهى و�صار �أر�شيفاً‪ ،‬ويف‬ ‫نكف عن مت�ضية ما بقي من‬ ‫املا�ضي‪ ،‬وما علينا �إال �أن‬ ‫ّ‬ ‫�أيامنا ونحن ننظر �إىل الوراء‪.‬‬ ‫ قد يقول �أحدهم‪ :‬ملاذا كل هذا البكاء الطويل والكتابة‬ ‫ال�سوداء؛ فقد �صارت املدينة �أجمل و�أكرث حداثة‪ ،‬ومل‬ ‫تتوقف امل�س�ألة عند جمرد وجود �سينما من عدمه؟!‬ ‫ نعم‪ .‬قد يكون هذا القول �صائب ًا كما وعلى حق‬ ‫ويالم�س املنطق متاماً‪ .‬لكن وال بد من لكن‪.‬‬ ‫ نعم‪� .‬صارت املدينة �أنظف وب�شوارع وا�سعة وم�ضاءة‬ ‫وت�شي بحداثة ما‪ .‬مقا ٍه ومطاعم كما و«موالت» و«بيتزا‬ ‫هت» ودجاج �أمريكي‪ .‬حمالت على درجة رفيعة من الأناقة‬ ‫والرفاهية وتلمع من بعيد حني ر�ؤيتها �شاخمة يف و�سط‬ ‫التجمعات التجارية ك�أنها عرو�س املكان‪ .‬نعم‪ .‬هذا �صحيح‪.‬‬ ‫ لكن كل هذا مزيف وغري حقيقي‪ .‬جمرد ق�رشة مقلدة‬ ‫والمعة‪ ،‬تربق فقط وال روح فيها وال حياة‪ .‬ن�سخة م�أخوذة‬ ‫من اخلارج وجرى تطبيقها هنا مع �إ�ضافة ت�شويهات من‬ ‫عندنا‪� .‬أمكنة ا�صطناعية متام ًا كالورود البال�ستيكية امل�صنوعة‬ ‫كي تكون جمرد ديكور للمكان الذي �ستو�ضع فيه وال يكون‬


‫مطلوب ًا منها �أن متنح الناظر �إليها رائحة‪� .‬أنت ت�صنع املكان‬ ‫فقط‪ ،‬وتقدر �أن متنحه متيزه وفرادته بني الأماكن‪ ،‬لكنك لن‬ ‫ت�ستطيع منحه الروح التي ال ميكن اخرتاعها �أو وهبها له‪.‬‬ ‫هي �أ�شياء ال ُتخرتع وال توهب ب�صك‪ ،‬هي ت�أتي من الوقت‬ ‫نف�سه وتواكب حالوة زمنها الطيب وتوافقه‪ .‬كلما كانت‬ ‫�أ�صيلة وغري مزورة وال ت�رسق هوية غريها‪ ،‬بدت حقيقية‬ ‫وملمو�سة‪ .‬ال ميكن �أن ت�ستبدل بطريقة �سحرية مثل حا ٍو‬ ‫ال �إياه �إىل‬ ‫ماهر‪� ،‬أن ت�ستبدل اخلبز ال�صنعاين املحلي حمو ً‬ ‫فطرية �أو برغر! ال ميكن قطعة اخلبز تلك �أن تتحول �إىل بيتزا‬ ‫يف غم�ضة عني‪ .‬ال ميكن �أن يتحول ك�أ�س احلليب ال�ساخن‬ ‫الرائع �إىل كوب كابت�شينو ب�ضغطة زر واحدة‪.‬‬ ‫وبناء عليه‪ ،‬تدخل �إىل تلك الأماكن فال جتد نف�سك‪.‬‬ ‫ ‬ ‫ً‬ ‫حتاول �أن تت�أقلم مع املناخ املوجود هناك‪ ،‬فال ت�ستطيع حتى‬ ‫ولو �ضغطت على قلبك وجعلته يبدو �أقل رغبة و�إ�رصار ًا‬ ‫على البقاء يف زمنه املا�ضي‪ ،‬ولو ب�أثر رجعي‪ .‬حتاول �أن تبدو‬ ‫�شخ�ص ًا جديد ًا يعي�ش يف الع�رص ومعه‪ ،‬وال يبدو غريب ًا �أو‬ ‫ن�شاز ًا عنه‪ ،‬يدخل «الكايف» ويلقي التحية على احلا�رضات‬ ‫واحلا�رضين بلغة �أجنبية (هذا من متطلبات املكان)‪ ،‬يرفع‬ ‫بعد ذلك الئحة الطعام الـ«مينيو» وينظر �إليها ملي ًا قبل �أن‬ ‫يختار ما يرغب يف �رشبه �أو �أكله فيجده مكتوب ًا بالإنكليزية‬ ‫مع قليل من الفرن�سية �أو العك�س‪ ،‬وال مكان للكتابة‬ ‫بالعربية‪( .‬يحدث هذا يف عا�صمة قالت �إح�صاءات تعليمية‬ ‫ر�سمية �إن ثمانني باملئة من عدد الأ�ساتذة يف جامعة �صنعاء‬ ‫ال يجيدون لغة ثانية غري العربية!)‪ .‬ت�س�أل نف�سك مبا�رشة‪:‬‬ ‫لكن ماذا يفعل �أولئك الذين مل متنحهم احلياة فر�صة تعلم‬ ‫لغة ثانية غري العربية؟ كيف ميكنهم �إن قرروا مرة احل�ضور‬ ‫هنا برفقة عائالتهم لق�ضاء وقت لطيف؟ ال مكان لهم هنا‪.‬‬ ‫متيز بني‬ ‫ال �إجابة غري هذه‪� .‬أي �أن هذه �أماكن عن�رصية ّ‬ ‫النا�س ولو من غري �أن تق�صد‪.‬‬ ‫ ال نظرة انتقا�صية هنا من حالة احلداثة التي تبدو‬ ‫عليها تلك الأماكن �أو هو نيل من نقلة حتاول �أن تفعلها‬ ‫ل�صالح املدينة‪ .‬ال هذا وال ذاك‪.‬‬ ‫ تبدو الأ�شياء طبيعية و�سليمة عندما تكون �ضمن �سياقها‬ ‫العام وال تكون متنافرة معه‪� .‬أن تكون متطابقة مع ال�سياق‬ ‫العام‪� .‬أن ال يكون هذا اجلزء منقوال من اخلارج بحذافريه ومت‬ ‫زرعه يف بيئة ال تالئمه بتاتا‪� .‬سيبدو بال �شك هزليا وب�شعا‬ ‫ونافرا‪� .‬سيبدو كم يح�رض حفلة عر�س مرتديا بدلة ع�سكرية‪.‬‬ ‫ لكن من زاوية �أخرى‪ ،‬قد ال يبدو هذا التنافر غريباً‪،‬‬ ‫وهو ي�سري مع ما حوله‪ .‬وجود خدمة �إنرتنت وحوا�سيب‬ ‫حممولة وه��وات��ف حديثة‪ ،‬يف ظل انقطاع م�ستمر‬ ‫‪204‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫للكهرباء‪ .‬املطالبة بوجود مهرجان لل�سينما يف عا�صمة‬ ‫لي�س فيها �سينما �أ�صال‪ .‬الدعوة لإن�شاء دار للأوبرا‬ ‫يف عا�صمة لي�س فيها فرقة مو�سيقية واحدة متكاملة‬ ‫وح�سب الأ�صول‪ .‬ذلك لي�س غريباً‪ ،‬فنحن ال نبحث يف‬ ‫الأ�سا�س حماولني �إيجاده وت�أكيد �رضورة وجوده‪ .‬على‬ ‫العك�س من ذلك‪ ،‬ال ندخر فر�صة ل�رضب �أي بادرة لها‬ ‫�أن تقوم بهذا ال�شيء‪ .‬و�س�أذكر هنا حادثة يف هذا الإطار‪.‬‬ ‫ من يتذكر منكم ما حدث لفيلم «يوم جديد يف �صنعاء‬ ‫القدمية»‪ ،‬للمخرج اليمني الربيطاين بدر بن حر�سي؟ هذا‬ ‫الفيلم الذي كان بالإمكان جعله �أ�سا�س ًا لقيام �صناعة‬ ‫�سينمائية ممكنة يف العا�صمة‪ ،‬ولو يف �شكلها الأول والبدائي‪،‬‬ ‫كان بالإمكان و�ضعه كلبنة �أوىل يف بناء �ضخم يحتاج وقت ًا‬ ‫وجهد ًا و�صرب ًا كي ي�ؤتي �أُكله‪ .‬لكن ماذا ح�صل؟ حلظات‬ ‫مر بها الفيلم و�أ�صحابه وهم يرون فيلمهم معرو�ض ًا‬ ‫�صعبة ّ‬ ‫للنيل والتنكيل والتكفري والقيل والقال‪ ،‬و�أنه يرغب ويريد‬ ‫ي�شوه و�سوف ي�سيء و�سوف‪...‬‬ ‫وينوي و�سوف يعمل و�سوف ّ‬ ‫�إلخ‪ .‬حلظات �صعبة وغريبة ع�شناها ونحن نرى حالة فريدة‬ ‫ال حتدث �إال عندنا‪ ،‬والفيلم يتعر�ض لنه�ش وتنكيل لي�س من‬ ‫ال�سلطة (يا للغرابة)‪ ،‬بل من فئة بعينها من املعار�ضة‪ .‬نحن‬ ‫ال لها و�أمامها بدت وزارة الثقافة يتيمة‬ ‫فقط من ميتلك مثي ً‬ ‫وت�ستحق الرثاء‪ ،‬وهي ال ت�ستطيع ت�سيري �أمور فيلم دعمته‬ ‫مادي ًا ولو بنحو جزئي‪ .‬تركته بني يدي �أنا�س جهلة بع�ضهم‬ ‫ي�شدد على �إدخال‬ ‫ي�رص على �أن يبدو مزهو ًا بجهله وهو ّ‬ ‫ّ‬ ‫تعديالت جوهرية على الفيلم كي ي�ستقيم �أمره وي�صبح‬ ‫�صاحل ًا للعر�ض وامل�شاهدة‪�( .‬أتذكر اجلرائد الر�سمية التي كنا‬ ‫نعمل فيها كيف فتحت لنا �صفحاتها كي ندافع عن الفيلم‬ ‫و�ضد �صحيفة معار�ضة يفرت�ض بها �أن تكون مكاننا ون�أخذ‬ ‫نحن مكانها بح�سب دميقراطيات العامل الثالث‪ ،‬لكن هذا مل‬ ‫يح�صل ل ُت�سجل حالة فريدة نادر ًا ما تتكرر �أو ال تتكرر �أبداً)‪.‬‬ ‫ لكن الفيلم‪ ،‬رغم ًا عن كل هذا‪ ،‬م�ضى وتقدم �إىل‬ ‫مقدم ًا �صنعاء القدمية يف �أبهى �صورها‬ ‫�آخره‪ .‬خرج الفيلم ّ‬ ‫وك�أجمل ما تكون‪ ،‬ناجح ًا يف ح�صوله على تكرمي‬ ‫وتقدير عامليني‪ .‬كل هذا وكان معرو�ض ًا وم�شارك ًا با�سم‬ ‫اليمن‪( .‬الفيلم �أخذ اجلائزة الر�سمية الأوىل من مهرجان‬ ‫القاهرة ال�سينمائي الدويل)‪.‬‬ ‫واملدون‬ ‫ يبدو �أين ذهبت بعيدا ً عن العنوان الكبري‬ ‫َّ‬ ‫�أعاله‪� .‬أردتها كتابة يف مديح الزمن الفائت واملدينة احللوة‬ ‫التي كانت وانتهيت �إىل �أبعد من ذلك‪.‬‬ ‫يبدو �أين فتحت �صندوق ًا مليئ ًا بالأمل‪.‬‬ ‫هل قلت �شيئاً؟! اعذروين ‪� .‬أنا حزين‪.‬‬

‫‪ 204‬‬ ‫ ‬

‫موسيقى «المهرجانات» يف مرص‬ ‫«انشقاق يف إمرباطورية الصوت»‬

‫اأدهم حافظ‬


‫زال علينا ا�ستك�شافه‪ .‬لكن‪� ،‬أي م�ؤ�س�سة مو�سيقية قد ترغب‬ ‫يف �أن تدير �أذنها وت�صغي بتعمق �إىل ما تقرتحه مو�سيقى‬ ‫املهرجانات؟ �أي م�ؤ�س�سة حكومية م�ستعدة �أو مهتمة �أو‬ ‫قادرة الآن على �أن ت�ستمع بتعمق �إىل ما يود «من يعي�شون‬ ‫خارج املدينة» قوله عن احلقائق املدنية؟‬ ‫ متثل الالمباالة (�أو العجز) امل�ؤ�س�ساتي عقبة يف الطريق‬ ‫امل�ؤدي �إىل درا�سة حلظة والدة هذا النوع‪ ،‬والطريقة التي‬ ‫ا�ستطاع من خاللها باحث التعبري عنه وحتديد موقعه‬ ‫�ضمن �شبكة من الإ�شارات والقوى املوجهة‪ .‬هذا‪� ،‬إ�ضافة‬

‫موسيقى «المهرجانات» يف مرص‬

‫«انشقاق يف إمرباطورية الصوت»‬ ‫ال‬ ‫أدهم حافظ فيما كنت �أ�ستقل �سيارة �أج��رة يف القاهرة‪ ،‬حماو ً‬ ‫الو�صول �إىل ا�ستوديو للإ�رشاف على جتربة �أداء من �أجل‬ ‫ِّ‬ ‫ومنظر للفن‪� ،‬إنتاج فني جديد يتطرق �إىل الأ�ساليب املعقدة يف قراءة‬ ‫فنان‬ ‫ّ‬ ‫مرص‪ .‬أسس عام ‪ 2003‬تاريخ املو�سيقى‪ ،‬وبخا�صة تاريخ الأوبرا الكال�سيكية‬ ‫«فرقة أدهم حافظ» الغربية‪ ،‬كان �سائق التاك�سي ي�ستمع بال توقف �إىل‬ ‫تقدم العروض مو�سيقى املهرجانات‪ .‬بالن�سبة �إىل �أولئك الذين ال‬ ‫اليت‬ ‫ّ‬ ‫الفنية وجتمع يعرفون هذا النوع‪ ،‬مو�سيقى املهرجانات هي �شكل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بني الرقص المعارص ممار�سة �أو نوع جديد من املو�سيقى التي �أب�رصت النور‬ ‫والموسيقى‪ .‬يف م�رص الآن‪ ،‬ومنذ خم�س �سنوات رمبا‪ .‬من ال�صعب‬ ‫يدير منذ ‪ 2006‬حتديد الوقت احلقيقي لن�شوئها بالنظر �إىل الإط��ار‬ ‫�ستعمل كلمة «مهرجان»‬ ‫مرشوع «ح ر ك» االجتماعي الذي تطورت فيه‪ُ .‬ت‬ ‫َ‬ ‫المكرس لألحباث وجمعها «مهرجانات» لو�صف هذا ال�شكل ال�صوتي‬ ‫ّ‬ ‫والتنمية عن الرقص‪ .‬واملو�سيقي املك ّثف‪ .‬تطرح مو�سيقى املهرجانات‪ ،‬وهي‬ ‫بحد ذاتها ممار�سة غري م�ؤ�س�ساتية‪ ،‬ت�سا�ؤالت م�صريية‬ ‫يف م�رص اليوم ب�ش�أن العالقة بني الفن وامل�ؤ�س�سات‪،‬‬ ‫والفن والأ�سواق‪ ،‬والفن والتمثيل‪ .‬عندما ينجح نوع‬ ‫فني يف دولة نا�شئة يف طرح هذه الت�سا�ؤالت كلها من‬ ‫يطبق ذلك من خالل ا�سرتاتيجيات توجيهية‪،‬‬ ‫دون �أن َّ‬ ‫و�أ�ساليب دعائية‪ ،‬من دون �أن يكون ذلك ج��زء ًا من‬ ‫�صياغة اخلطاب‪ ،‬ومن دون ا�ستعمال جمموعة من الرموز‬ ‫للم�شاركة مع جماهري تقوم مبمار�سات فنية معا�رصة‪ ،‬ثم‬ ‫يعلن هذا النوع عن نف�سه باعتباره موقع ًا للم�شاركات‬ ‫اخلطابية‪ ،‬وهو ذو �أهمية �سيا�سية بالن�سبة �إىل امل�شهد‬ ‫الفني‪ ،‬م�شهد املمار�سات الفنية امل�رصية املعا�رصة‪.‬‬ ‫ �إذا ا�ستعمل امل��رء كلمة «ن��وع» لتعريف مو�سيقى‬ ‫املهرجانات عو�ض ًا عن كلمة «ممار�سة» �أو «�شكل»‪ ،‬فذلك‬ ‫لأنه نوع مو�سيقي يجمع بني املو�سيقى الإلكرتونية‪،‬‬ ‫مو�سيقى ال�ضجيج‪ ،‬املو�سيقى امل�رصية ال�شعبية يف فرتة‬ ‫ما بعد �سبعينيات القرن املا�ضي‪ ،‬مو�سيقى الإلكرتونيكا‪،‬‬ ‫‪206‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫تطرح مو�سيقى املهرجانـــــــــــــــــــــــــــــــــــــات‪،‬‬ ‫وهي بحد ذاتها ممار�سة غري م�ؤ�س�ســـــــــــــــــــــاتية‪،‬‬ ‫ت�سا�ؤالت م�صرييــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫يف م�رص اليوم ب�ش�أن العالقــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫بني الفن وامل�ؤ�س�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات‪،‬‬ ‫والفن والأ�سواق‪ ،‬والفن والتمثيـــــــــــــــــــــــــــــل‬

‫و�إيقاعات حديثة‪ .‬ت�ستعمل �أغنية املهرجانات النموذجية‬ ‫كلمات ذات حمتوى مفاجئ‪ ،‬تتطرق �إىل امل�شاكل‬ ‫االجتماعية‪ ،‬احلياة اجلن�سية واملوا�ضيع ال�سيا�سية‪ ،‬من دون‬ ‫�أن تخ�ضع لرقابة ذاتية من ناحية املنتج والفنان‪ .‬كذلك‪ ،‬هي‬ ‫تعتمد ب�شدة على برامج «ال�ضبط التلقائي للحن»‪ ،‬ت�شري‬ ‫�إىل اخل�صائ�ص ال�صوتية التي طبعت نهاية ت�سعينيات‬ ‫القرن املا�ضي وبداية الألفية الثانية من مو�سيقى البوب‬ ‫جت�سد فعلي ًا وب�شكل غري مربر وجود‬ ‫الدولية‪ ،‬وهي ّ‬ ‫التكنولوجيا ودورها يف الإبداعات املو�سيقية املعا�رصة‬ ‫يف م�رص‪ ،‬وبخا�صة يف ما يتعلق بال�صوت الب�رشي‪.‬‬

‫�إىل االفتقار التام �إىل الإطار النظري حول هذا النوع (�أو‬ ‫املمار�سة �إذا ما نظرنا �إليه من منظور �آخر‪ ،‬عرب تتبع من�سقي‬ ‫�أغانٍ وم�ؤلفني مو�سيقيني بارزين ودرا�سة الأعمال املن�شورة‬ ‫درا�سة تقنية‪ ،‬بالنظر من حيث املحتوى �إىل املواد الأخرى‬ ‫التي �أنتجها �أبناء ع�رصهم‪� ،‬أو بالنظر �إىل الإنتاجات الفنية‬ ‫املعا�رصة يف م�رص)‪ ،‬يجعل عملية حتديد موقع مو�سيقى‬ ‫املهرجانات �أو ت�أريخها �أ�شبه بعملية تنقيب �أثرية‪ ،‬ت�ساهم‬ ‫فيها ب�شكلٍ كامل رواي��ات �شفهية‪ ،‬مقابالت ومقاربة‬ ‫املحتوى مع ال�سياق احلايل‪ ،‬و�إعادة النظر يف حلظات معينة‬ ‫ملعرفة كيف ميكن فهم ال�صوت واملو�سيقى من خالل ق�ص�ص‬ ‫�سيا�سية وثقافية واقت�صادية يف م�رص‪.‬‬ ‫ تواجه الدولة التي تتباهى بقطاع �صناعة مو�سيقية‬ ‫�ضخم كجزء من موقعها «الرمزي» يف املنطقة الناطقة باللغة‬ ‫العربية منتج ًا ثقافي ًا متغرياً‪ :‬مو�سيقى املهرجانات‪ .‬ان�شقاق‬ ‫يف «الإمرباطورية ال�صوتية» املتجان�سة التي تفتخر بامتالك‬ ‫منتجات مو�سيقى البوب املربحة‪� ،‬أو الأعمال ال�رشقية‬ ‫الكال�سيكية التي تت�سم باحلنني وت�شري �إىل �أيام و ّلت‪� ،‬أو‬ ‫حتى �إىل املو�سيقى ال�رسية ال�صارمة والرائجة جداً‪ .‬هذا‬ ‫النوع م�ستقل نوع ًا ما‪ .‬لي�س جزء ًا مما هو رائج وع�رصي‪،‬‬ ‫ولي�س جزء ًا من جتربة قاعة احلفالت جلو�ساً‪ ،‬ولي�س جزء ًا‬ ‫من االحتفاالت ال�صيفية يف املنتجعات البحرية التي‬ ‫ي�شارك فيها م�شاهري عرب يف جمال مو�سيقى البوب‪.‬‬ ‫واجلدير بالذكر �أي�ضاً‪ ،‬هو «فقدان الذاكرة» العام الذي يحكم‬

‫مو�سيقى من خارج املدينة‬ ‫«ال نعاين امل�شاكل التي تعانونها‪ .‬لي�ست لدينا �أي م�شكلة يف‬ ‫اال�ستماع �إىل �أغنية عن اجلن�س‪� ،‬أو عن لقاء مع موم�س‪� ،‬أو‬ ‫عن املخدرات‪ .‬نحن ل�سنا من املدينة‪ ،‬بل من خارج املدينة‪.‬‬ ‫ما يحدث خارج املدينة �أ�شبه مبا يحدث يف هذه الأغاين‪.‬‬ ‫هذه الأغاين حقيقية‪ .‬هذا لي�س الراديو �أو التلفاز‪ .‬لدي‬ ‫فح�شا‬ ‫�أغنية �أخرى لك على ذاكرة الـ«يو‪ .‬ا�س‪ .‬بي‪� ،».‬أكرث‬ ‫ً‬ ‫بكثري‪ ،‬و�أكرث متعة‪ ،‬مو�ضوعها ا ُ‬ ‫جلماع‪ ...‬هذه �أغانٍ �أ ّلفها نا�س‬ ‫يف �شوارعنا‪ .‬ال ت�شرتيها �أينما كان‪ .‬تذهب وحت�صل على‬ ‫ن�سخة منها على قر�ص ذاكرة فال�ش �أو من خالل البلوتوث‪.‬‬ ‫من�سق �أغانٍ (دي جي) يف حفالت‬ ‫�شقيق زوجتي يعمل‬ ‫َ‬ ‫الزفاف‪ ،‬وقد �أعطاين ن�سخة عن جمموعته‪ .‬هو �صديق‬ ‫لـ«�أورتيغا»‪ ،‬قال �سائق التاك�سي وهو ي�ستمع �إىل مو�سيقى‬ ‫املهرجانات ال�صاخبة‪ ،‬م�شري ًا باحرتام فائق �إىل دي‪ .‬جي‪.‬‬ ‫�أورتيغا؛ من�سق �أغانٍ م�شهور يف عامل مو�سيقى املهرجانات‪.‬‬ ‫يف هذا ال�سياق‪ ،‬متثل درا�سة التطورات املدنية التي طاولت‬ ‫الع�شوائيات غري الر�سمية يف القاهرة يف ما يتعلق ب�إنتاج‬ ‫ال غني ًا باملعلومات ما‬ ‫(�أو بروز) مو�سيقى املهرجانات جما ً‬ ‫‪207‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫�إنتاج الروايات‪ ،‬وبالتايل توليد خطابات تتناول املمار�سات‬ ‫الفنية املعا�رصة يف م�رص‪ .‬ندرة املوارد البالغة الأهمية التي‬ ‫ت� ِّؤطر �أو ت� ّؤرخ ممار�سات �صوتية ومو�سيقية �أخرى يف م�رص‬ ‫(�أو التي تو ّثق الفنون امل�رسحية عموماً)‪� ،‬سواء كانت �أوبرا‬ ‫م�رصية‪ ،‬مثال �أعمال غارانا وحميي الدين‪� ،‬أو م�ؤلفات‬ ‫املو�سيقى الإلكرتونية التي طبعت ت�سعينيات القرن املا�ضي‪،‬‬ ‫�أو الإنتاج احلايل الذي ين�ضوي حتت لواء ما ي�سمى «م�شهد‬ ‫الفنون يف و�سط املدينة» يف القاهرة‪ ،‬لي�ست �إال حالة �شائعة‬ ‫تر�سم جتربة الباحثني والعلماء الذين يتعاملون مع عمليات‬ ‫حتليل �أو توثيق مماثلة‪ .‬غري � ّأن ما يح�صل ّ‬ ‫يذكرنا �أي�ض ًا مبا‬ ‫كانت عليه الظروف عندما برز املغني �أحمد عدوية يف‬ ‫عامل الكاباريهات يف م�رص يف �سبعينيات القرن املا�ضي‪،‬‬ ‫و�أحدث ثورة �صوتية يف املو�سيقى‪ ،‬وكان نذير حتول نحو‬ ‫م�ساحة �أخرى يف تاريخ املو�سيقى و�صناعة الأغاين يف‬ ‫م�رص واملنطقة الناطقة باللغة العربية‪ .‬وفيما كان عدوية‬ ‫«املغني غري املحرتف» ومعبود اجلماهري يف عدد من‬ ‫الأفالم‪ ،‬مل يكن يوم ًا النجم يف هذا املجال‪ .‬بيد � ّأن جنوميته‬ ‫وموقفه ال�سيا�سي كانا وا�ضحني بالن�سبة �إليه‪ ،‬متام ًا كما كانا‬ ‫وا�ضحني بالن�سبة �إىل حمبي املو�سيقى التي �أن�ش�أها‪ .‬وفيما‬ ‫جاهدت امل�ؤ�س�سة يف �سبيل املتاجرة به‪ ،‬ال�ستيعابه عن‬ ‫عمد �أو عن غري ق�صد‪ ،‬واملق�صود هنا بامل�ؤ�س�سة م�ؤ�س�سة‬ ‫الإنتاج ال�سينمائي يف م�رص‪� ،‬ألهمت م�ساهمة عدوية يف‬ ‫تاريخ املو�سيقى امل�رصية املعا�رصة وموقفه حيال امل�ؤ�س�سة‬ ‫�شخ�صيات �أدبية مثال جنيب حمفوظ‪.‬‬ ‫�ضد جمالية ال�صوت‬ ‫فيما تتجاوب امل�ؤ�س�سة ال�سينمائية حالي ًا مع هذا النوع من‬ ‫املو�سيقى النا�شئة احليوي واحلما�سي‪ ،‬من خالل ال�سعي‬ ‫فور ًا �إىل �إع��ادة متثيل الأغ��اين التي �أداه��ا جنوم الأفالم‬ ‫با�ستعمال كلمات و�أ�ساليب �إنتاج �صوتي «�أنقى»‪� ،‬أو من‬ ‫خالل اللجوء مبا�رشة �إىل ا�ست�ضافة م�شاهري من مو�سيقى‬ ‫املهرجانات بد�أ جنمهم ي�سطع ب�صفتهم ممثلني يف م�شهد �أو‬ ‫م�شهدين‪ ،‬يت�صدى هذا النوع من املو�سيقى لعملية التطويع‬ ‫هذه‪ .‬ويف �إطار �شبيه بق�صة �أحمد عدوية‪ ،‬بالكاد تلج�أ‬ ‫امل�ؤ�س�سة هنا �إىل مغني فرقة «مهرجان»‪ ،‬وذلك غالب ًا لت�أكيد‬ ‫موقف مهيمن حيال موقع كل ما هو هام�شي يف الإنتاج‬ ‫الثقايف يف م�رص‪ .‬وفنانو مو�سيقى املهرجانات يف �أفالم‬ ‫مماثلة ال يج�سدون �إال ف�شل الدولة الذريع على ال�صعيد‬ ‫امل�ؤ�س�ساتي‪ ،‬والبنية التحتية الثقافية امل�شلولة يف م�رص‬ ‫التي تعجز عن تف�سري مو�سيقى املهرجانات‪ ،‬وغري القادرة‬


‫جت�سد ما تقدمه‪ .‬من خالل متثيل وتو�صيف منتجي‬ ‫على �أن ِّ‬ ‫مو�سيقى مماثلة‪ ،‬ت�ساهم امل�ؤ�س�سة عن غري ق�صد يف متكني‬ ‫مو�سيقى املهرجانات عو�ض ًا عن ا�ستيعابها‪ .‬ت�شدد امل�ؤ�س�سة‬ ‫على احليوية والأهمية احلا�سمة لهذا النوع‪ ،‬فيما حتاول‬ ‫تزييف عملية ت�سليع «فا�شلة حتى الآن» لبدعة جديدة‪.‬‬ ‫ �أثناء �أول ا�ستك�شاف «تقني» لهذا النوع‪ ،‬ويف ما‬ ‫يتعلق بامل�ؤ�س�ساتية من منظور الإنتاج ال�صوتي‪ ،‬ميثل‬ ‫اعتماد مو�سيقى املهرجانات ب�شدة على «ال�ضبط التلقائي‬ ‫ال م�صريي ًا يف تاريخ املو�سيقى امل�رصية‪ .‬يف‬ ‫للحن» حتو ً‬ ‫هذا الإطار‪ُ ،‬يحتفى باحتاد ال�صوت والآلة (احتاد ا�ستمر‬ ‫على امتداد التجربة املو�سيقية‪ ،‬من �أجهزة ع�رص النه�ضة‬ ‫و�إع��دادات الهند�سة ال�صوتية الغريبة‪� ،‬أو املايكروفون‬ ‫بعد قرون‪� ،‬أو املعجزات التكنولوجية التي قد حتدث يف‬ ‫ال عن‬ ‫ا�ستوديو ت�سجيل و�ضبط يعالج �صوت مغنٍ ‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫بروز التالعب التقني والتحويل الرقمي‪� ،‬إلخ)‪ .‬فيما تكافح‬ ‫فرق البوب وفرق الروك البديل‪ ،‬املو�سيقى ال�رشقية وحتى‬ ‫امل�ؤلفات املعا�رصة جاهدة يف �سبيل �إخفاء �أي «�شائبة»‬ ‫يف ال�صوت الب�رشي الذي يغني‪ ،‬و�إخفاء العمل التقني‬ ‫م�سجل يف‬ ‫الهائل الالزم لإنتاج �صوت ب�رشي �أ�صلي‬ ‫ّ‬ ‫�إطار �إجناز خفي المع م�شرتك بني الإن�سان والآلة‪ ،‬ت�سعى‬ ‫مو�سيقى املهرجانات �إىل �إنتاج النقي�ض متاماً‪ .‬يف �إطار‬ ‫هذا االختيار التقني املتطرف‪ ،‬يتم الإعالن عن موقف‬ ‫�سيا�سي من امل�ؤ�س�سة‪ .‬ال ميلك عازفو ومغنو مو�سيقى‬ ‫املهرجانات جمموعة القوانني اجلمالية نف�سها يف ما يتعلق‬ ‫حتمل‬ ‫بـ«ال�صوت الغنائي اجلميل» يف م�رص اليوم‪ُ .‬‬ ‫وي َ‬ ‫�أنه – بالنظر �إىل اخليارات املتكررة التي يتخذها جميع‬ ‫امل�ؤلفني املو�سيقيني واملغنني‪ /‬من�سقي �أغاين املهرجانات‪،‬‬ ‫�سواء كانت ناجتة من المباالة تامة بـ«الأ�صوات اجلميلة»‪،‬‬ ‫�أو بب�ساطة لأنهم يقدمون لنا الئحة جديدة من القوانني‬ ‫اجلمالية‪ ،‬التي كانت تعتمد يف مكان ما بدائي جداً‪ ،‬يف‬ ‫�شوارع القاهرة خالل ال�سنوات القليلة املا�ضية‪.‬‬ ‫ كذلك‪ ،‬يو�ضح هذا القرار التقني موقف هذا النوع من‬ ‫امل�ؤ�س�سات املو�سيقية‪ ،‬ب�شكل حريف‪ ،‬مثال نقابة املو�سيقيني‪.‬‬ ‫ال يريد امل�ؤلفون املو�سيقيون‪ /‬من�سقو �أغاين هذا النوع‬ ‫ح�ضور اجتماع لتقدمي طلب ع�ضوية يف النقابة‪ ،‬ال يريدون‬ ‫�أن ينتجوا «اجلمال» و«املالءمة»‪ ،‬ال من خالل ال�صوت وال‬ ‫من خالل الكلمات‪ ،‬بغية االندماج يف النظام النقابي‪ .‬ال‬ ‫يحتاجون �إىل �إخفاء اعتمادهم الأ�ساليب الرقمية والتقنية‬ ‫�أثناء عملية �إنتاج ال�صوت‪ .‬هم يعلنون عن وجود «الآلة»‬ ‫واحتادها مع ال�صوت الب�رشي يف املنتج النهائي‪ .‬مع اختيار‬ ‫‪208‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫كلمات ال يتوانى �أب��د ًا عن ا�ستعمال لغة «غري الئقة»‬ ‫اجتماعياً‪ ،‬هم ي�ؤكدون جمدد ًا على هذه الفر�ضية يف ما‬ ‫يتعلق بعالقتهم مع العامل امل�ؤ�س�ساتي للمو�سيقى وال�صوت‬ ‫يف م�رص الآن‪ .‬من املمكن �سماع ال�شتائم يف �أغنية‪ ،‬متام ًا‬ ‫كما يحتمل �سماع ال�شتائم يومي ًا يف حافلة للنقل العام‬ ‫يف القاهرة‪ .‬من خالل هذا االختيار الفني‪ ،‬تورد مو�سيقى‬ ‫املهرجانات تعليقات على امل�ؤ�س�سات املو�سيقية يف م�رص‬ ‫يف ما يتعلق بالواقع الثقايف املدين اليومي‪.‬‬ ‫ �ضمن هذا ال�سيل من احلقائق‪ ،‬ينم اختيار مو�سيقى‬ ‫املهرجانات عن حرية التعبري مبعنى التحدث بلغة النا�س‬ ‫بحرية تامة‪ ،‬اللغة اليومية‪ ،‬اللغة الغا�ضبة والبذيئة‬ ‫التي ت�ستعمل �أثناء �شجار يف حافلة‪ ،‬اجليل ال�شاب‬ ‫املحبط وهو يتحدث عن الثمالة‪ ،‬الأدوات اال�صطناعية‬ ‫وحلقاتها التي تت�ألف من تراكيب قائمة على ال�ضجيج‪،‬‬ ‫بالتايل عن �أنها تقف يف �صف ال�شعب (�أو �رشيحة منه‬ ‫على الأقل) ال يف �صف امل�ؤ�س�سة‪ .‬مهما بدت مناه�ضة‬ ‫للم�ؤ�س�سات‪ ،‬هي جمرد انعكا�س لتطور م�رص بعد ف�شل‬ ‫الكثري من العمليات الأيديولوجية وا�سرتاتيجيات‬ ‫التنمية الهيكلية‪ .‬من دون رومن�سية‪ ،‬متثل مو�سيقى‬ ‫املهرجانات حتدي ًا بنيوي ًا «للم�ؤ�س�سة» متام ًا كالع�شوائيات‬ ‫غري الر�سمية حول الطرق ال�رسيعة يف القاهرة‪ .‬متتد‬ ‫�أ�صوات هذا النوع على م�شارف النظام وهيمنته؛ �أ�صوات‬ ‫ال يفهمها «النظام»‪ ،‬وال يبذل جهد ًا يف �سبيل فهمها‪.‬‬ ‫ يعمل من�سقو �أغ��انٍ وعازفو مو�سيقى املهرجانات‬ ‫�ضمن �إطار اقت�صادي خمتلف‪� .‬سواء تعلق الأمر بحفلة يف‬ ‫ال�شارع‪ ،‬الرتويج الفتتاح متجر جديد �أو �سوق مفتوحة‪� ،‬أو‬ ‫حفل زفاف؛ ي�ستمتع الفنانون يف هذا الإطار باحلرية بعيد ًا‬ ‫عن الكيانات‪ /‬الأنظمة اال�ستبدادية من خالل وجودهم‬ ‫وح�سب �ضمن اقت�صاد بديل ال حتكمه �أو ت�رشف عليه‬ ‫الدولة وم�ؤ�س�ساتها‪ .‬كذلك‪ ،‬ال حتكمه �أو حتتكره ماكينات‬ ‫�إنتاج البوب �أو ال�سينما‪ .‬ي�سمح هذا املوقف ال�سيا�سي‬ ‫املُ َم َّكن لهذا النوع بالوفاء مبا يعد به؛ كل ما تتوانى امل�ؤ�س�سة‬ ‫عن تقدميه‪ .‬ال داعي �إىل �أن يطبق الفنانون قانون الربجوازية‬ ‫ال�صغرية يف ما يتعلق باللياقة االجتماعية‪ ،‬وال داعي لرقابة‬ ‫ذاتية وال داعي لـ«ر�سالة» فنية قدمية‪ .‬كذلك‪ ،‬ال داعي �إىل‬ ‫التعامل مع الأجندات املحلية والإقليمية والدولية التي‬ ‫تعتمدها �شبكات متويل املمار�سات الفنية املعا�رصة‪ ،‬وتنفيذ‬ ‫(مبعنى �إجناز‪ ،‬ومبعنى امل�شاركة يف �صياغة قانون ت�أ�سي�سي)‬ ‫احلي الذي يعي�ش فيه‬ ‫ر�سالة هيئات التمويل هذه‪ .‬كان ّ‬ ‫�سهلت بروز هذا النوع‪ ،‬مع جمموعة‬ ‫الفنانون ال�سوق التي ّ‬


‫من احلاجات �إىل الرتفيه وامل�شاركة‪ ،‬والتنفي�س العاطفي‬ ‫يخيم على هذا‬ ‫يف بع�ض احلاالت‪ .‬غري �أن ال�س�ؤال الذي ّ‬ ‫النون الفني املرن على ما يبدو هو ما �سيقرره فنانوه يف ما‬ ‫يتعلق بامل�ساعي امل�ؤ�س�ساتية امل�ستمرة يف �سبيل املتاجرة به‬ ‫عما �إذا كانت مو�سيقى املهرجانات‬ ‫وتطويعه‪ .‬يبقى الت�سا�ؤل ّ‬ ‫حدث مبا يتما�شى مع تطلعات الطبقة الو�سطى» �أو ال‬ ‫«�س ُت َّ‬ ‫ال يرتبط ارتباط ًا وثيق ًا مبوقف امل�ؤ�س�سات من ال�شوارع‬ ‫�س�ؤا ً‬ ‫والأحياء التي ت�صدح مبو�سيقى املهرجانات‪.‬‬ ‫�صوت للمقاومة واحلرية‬ ‫عالقة منتج فني معني مبفهوم التمثيل عبارة عن مناو�شة‬ ‫حرجة حتتل حلظة التفكري احلالية يف عامل الفن املعا�رص‪.‬‬ ‫في�صبح التمثيل غالب ًا �أمر ًا ال بد من تفاديه لكي يعترب‬ ‫منتج فني معني «معا�رصاً»‪ .‬ويتحول التمثيل �إىل مو�ضوع‬ ‫ٌ‬ ‫على الفنانني التعاطي معه بطريقة حا�سمة‪ ،‬يف �سبيل‬ ‫التعامل مع �إرث طويل من البعد‪ ،‬اخلداع‪ ،‬والهيمنة غري‬ ‫املعلنة للمفاهيم التي تتمثل يف تقاليد الأداء الغربية قبل‬ ‫بدء احلرب على التمثيل‪� .‬إنه �أي�ض ًا مفهوم يعترب فنانو‬ ‫وناقدو ع�رصنا �أنه يطرح �إ�شكالية‪.‬‬ ‫�سيتطلب الأمر وقتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ًا‬ ‫ال قبل �أن يتمكن تدفق املعلومـــــــــــــــــــــــات‬ ‫طوي ً‬ ‫من اخرتاق املمار�سات الفنيــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬ ‫يف العامل العربي املوجودة �ضمن النـــــــــــــــــــــطاق‬ ‫امل�ؤ�س�ساتي‪ .‬و�سي�ستغرق ال�شـــــــــــــــــــــــــــــكل‬ ‫طويال قبل �أن يتمكن من تلقف املعلومــــــــــــات‬ ‫وقت ًا‬ ‫ً‬ ‫التي من �ش�أنها �أن تبدّ لــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه‪،‬‬ ‫ومن تغيري موقعه بالن�ســــــــــــــــــــــبة �إىل التمثيل‬ ‫ عندما ا�شتعل فتيل االنتفا�ضات ال�سيا�سية امل�ستمرة‬ ‫يف املنطقة الناطقة باللغة العربية‪ ،‬مع الثورات يف تون�س‬ ‫يف كانون الأول‪ /‬دي�سمرب ‪ ٢٠١٠‬وال�صدمة الناجتة من‬ ‫ذلك يف خريطة املنطقة العربية‪ ،‬ومع �أخذ م�سافة م�ؤقتة‬ ‫من الأحداث الآن‪ ،‬يرى املرء النا�س يتعاملون مع هيئات‬ ‫متثيلية مثرية للجدل وخطابات ق�صرية النظر‪ .‬يتعامل النا�س‬ ‫مع روايات تاريخية ناق�صة تغفل ب�شكل انتقائي بع�ض‬ ‫اجلي�شان ال�سيا�سي‪،‬‬ ‫التفا�صيل‪ .‬خالل حلظة عنيفة كهذه من َ‬ ‫يتعامل الفنانون �أي�ض ًا مع التمثيل من خالل الت�شكيك يف‬ ‫ال�شكل وال�سياق متام ًا كما ي�شككون يف امل�ضمون‪ .‬بيد � ّأن‬ ‫املمار�سات الفنية يف املنطقة كانت حتى الآن حمكومة من‬ ‫‪210‬‬

‫بدايات‬

‫العدد ‪2013 |6‬‬

‫قبل الدولة‪ ،‬وذلك من خالل عملية �إ�ضفاء الطابع امل�ؤ�س�ساتي‬ ‫التي ت�ضطلع بها اال�شرتاكية القومية العربية‪� ،‬أو �أن ال�سوق‬ ‫وتوجهاته يحتكرانها‪� ،‬أو حتى املبادرات واملنظمات الفنية‬ ‫«امل�ستقلة» ذات الطابع امل�ؤ�س�ساتي التي تعترب جزء ًا ال‬ ‫يتجز�أ من �شبكات التعامالت الدولية ذات التمثيل اجلغرايف‬ ‫ال قبل �أن يتمكن تدفق‬ ‫ال�سيا�سي‪� .‬سيتطلب الأمر وقت ًا طوي ً‬ ‫املعلومات من اخرتاق املمار�سات الفنية يف العامل العربي‬ ‫املوجودة �ضمن النطاق امل�ؤ�س�ساتي‪ .‬و�سي�ستغرق ال�شكل‬ ‫ال قبل �أن يتمكن من تلقف املعلومات التي من‬ ‫وقت ًا طوي ً‬ ‫تبدله‪ ،‬ومن تغيري موقعه بالن�سبة �إىل التمثيل‪.‬‬ ‫�ش�أنها �أن ّ‬ ‫ ال�شكل هو الذي يقاوم التغيري لدى ت�صادم التدفق‪،‬‬ ‫�أو على الأقل يقاوم التغيري الذي قد ُين ِتج يف النهاية‬ ‫ال �إىل �أ�شكال وطبائع ومواد وجتليات �أخرى للوظيفة‬ ‫حتو ً‬ ‫ال�سابقة واجلودة الت�شغيلية لذلك ال�شكل‪ .‬كانت مو�سيقى‬ ‫املهرجانات منذ البداية غري وا�ضحة املعامل وي�سهل النفاذ‬ ‫�إليها يف الوقت عينه‪ .‬ت�ستند الرتكيبة املو�سيقية �إىل التكرار‪،‬‬ ‫وقد ت�شكلت من خالل مراجعة الأ�صوات و�أخذ عينات‬ ‫عنها‪ .‬كلمات الأغاين فريدة‪ ،‬وتندرج فيها نكات �سيا�سية‪،‬‬ ‫جمل كال�سيكية من �أغانٍ و�أفالم‪ .‬الرتكيبة التي تنتج من‬ ‫ذلك معقدة ومتكررة‪ ،‬غري �أنها جم ّز�أة �إىل طبقات ال تتخالط‬ ‫�ضمن نظام «ال�سالمل املو�سيقية»‪� ،‬سواء يف لوائح املو�سيقى‬ ‫الغربية الكال�سيكية �أو املو�سيقى ال�رشقية‪ .‬املو�سيقى‬ ‫والأغاين ت�شكك بامل�ؤ�س�سة‪ ،‬وت�شكك باللوائح اجلمالية‬ ‫يف دولة لها تاريخ مو�سيقي �ضخم‪ .‬ال جت�سد هذه الأغاين‬ ‫املو�سيقى ال�شعبية التي ي�ؤديها �أمثال عدوية‪ ،‬حتى و�إن‬ ‫متكن املرء من تتبع الت�أثريات ال�صوتية والرواية التاريخية‬ ‫املحتملة التي ال تزال تنك�شف حتى اللحظة احلالية بالذات‪.‬‬ ‫ �إنه �شكل مو�سيقي حترر من عقاله‪ ،‬غري �أنه متحد‬ ‫مع ما ّ‬ ‫�شكله يف الأ�صل – هذا �إن ا�ستطاع املرء �صياغة‬ ‫نظريات حول �أ�صله‪� ،‬أي املقاومة واحلرية‪� .‬إىل من يتوجه؟‬ ‫ّ‬ ‫ي�شكل؟ �أ�سئلة رهن‬ ‫�أي �رشيحة من النا�س ميثل؟ ماذا‬ ‫اجلمهور ليجيب عنها‪ ،‬وللم�ؤ�س�سات ملراجعة مواقفها يف‬ ‫زمن تغيري ورف�ض �شعبي عام للتمثيل ال�سيئ‪.‬‬ ‫ التمثيل �ضمن مو�سيقى املهرجانات ال يحدث‬ ‫من خالل �إع��ادة ت�رشيع جمموعة معينة من القوانني‬ ‫واال�سرتاتيجيات‪� ،‬أو من خالل �أداء ي�شبع الرغبات‬ ‫امل�ؤ�س�ساتية يف ما يتعلق بعامة ال�شعب‪ .‬تتعامل‬ ‫املو�سيقى مع التمثيل من خالل التحديد‪ ،‬عدم االهتمام‬ ‫ب�إمكانية الرتجمة‪ ،‬املرونة ال�سيا�سية‪ ،‬وجت�سيد التحوالت‬ ‫والتغريات يف ال�شكل وامل�ضمون وال�سياق‪.‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.