فصلية ثقافية فكرية العدد 2013 6
الرجال ،عمرو ا�سماعيل عديل، سورية حتقيق عن حتقيق يف جمزرة مو�سوفة ملف مرصدينا اخلواجة ،يا�رسعلوي ،علي ّ حممد جاد ،ابراهيم اله�سيبي ،جنالء مكاوي ،يا�سمني اأحمد ،فاطمة رم�سان ،واأدهم حافظ البحرين من حقوق االن�سان ُ صري عراسل احلدود والهجرة اىل الثورة ال�سيا�سية الن�ساء و«الربيع العربي» :درو�س من ايران واليمن الق َ
«السيدة العربية االوىل» يف الصحافة الغربية
متاريس إسطنبول
صور فلسطني يف احلرب الكونية االوىل
غراميش
والثورات العربية العلوم االجتماعية العربية بني تقليدين نقد َيني رثاء صنعاء القديمة راسلة جمهولة جلربان خليل جربان
فصلية ثقافية فكرية العدد ٢٠١٣ 6
subscriptions@bidayatmag.com
احل�ساب امل�رصيف
Bidayat sarl Banque Libano Française Agence Gefinor, Beyrouth-Liban Account Number: 169102231 Swift:BLFSLBBX IBAN:35001000000000000169192231LB
ت�صوير �سافيد�س� ،ص 8 من فيلم «ن�ساء بال رجال» ل�شريين ن�شاط� ،2010 ،ص23-22 � ،www.tunisia-live.netص38 � ،www.aljadeed.tvص42 � ،news.in.msn.comص53 � ،sansretouches.comص55 � ،www.alsadat2.4t.comص57 � ،www.nytimes.comص59 � ،egyjourno.blogspot.comص67 ت�صوير حممد عبد الغني – رويرتز� ،ص75-74 ت�صوير فيكتوريا هازو � -أ ب� ،ص95-94 يا�سمني �أحمد� ،ص113 ت�صوير جينا بوب� ،ص113 ت�صوير و .اندرون� ،ص138 � ،designgears.blogspot.comص142 � ،palitsmine.wordpress.comص160 � ،elunicomodo.wordpress.comص166 ت�صوير جيم غوردون� ،ص191-190 Gibran, K., The Earth Gods, New York:
� ، Alfred A. Knopf, 1945ص199 - 198 حاولنا جهدنا العثور على ا�صحاب حقوق الن�رش والت�صوير املن�شورة. الرجاء ممن �أغفل �إ�سمه االت�صال بنا.
www.bidayatmag.com
بدايات رئي�س التحرير :فواز طرابل�سي رحال االدارة :زهري ّ غ�سان عي�سى االلكرتوين: املوقع ّ �إدارة ف ّنية :جنى طرابل�سي ت�صميم و�إخراجُ :ز ْم َرة املدير امل�س�ؤول :زينب ياغي �شارك يف انتاج هذا العدد: �سليمان تقي الدين ،ع�ساف كفوري، دميا ال�رشيف ،مي�سون ّ �سكرية، ر�شا ال�سلطي� ،إرن�ست خوري، �سحر مندور ،دينا اخلواجه. ت�صدر عن :بدايات� ،ش.م.ل. �صندوق الربيد،٦٧٧٧/١٣ : (�شوران) بريوت -لبنان التوزيع� :رشكة «نا�رشون» لتوزيع ال�صحف واملطبوعات� ،ش.م.م .بريوت -لبنان. �سعر الن�سخة لبنان ١٠،٠٠٠ل.ل ،.االردن ٥دينار، الكويت ٢،٥دينار ،م�رص ٢٥جنيه، املغرب ٥٠درهم ،فرن�سا ٥يورو. اال�شرتاكات لبنان :افراد ،$٣٥م�ؤ�س�سات ،$٧٥ �إ�شرتاك ت�شجيعي$١٠٠ البلدان العربية :افراد ،$٥٠امل�ؤ�س�سات$١٥٠ اوروبا :افراد ،$٦٠م�ؤ�س�سات $١٨٠ باقي البلدان :افراد ،$٨٠م�ؤ�س�سات $٢٤٠
احلقوق �شكر خا�ص لدينا اخلواجه أعدت وجمعت امللف عن م�رص التي � ّ
مت انتاج هذه املطبوعة بدعم مايل من م�ؤ�س�سة هيرن�ش -بل مكتب ال�رشق الأو�سط .الآراء الواردة هنا تعرب عن ر�أي امل�ؤلف (امل�ؤلفني) وبالتايل ال تعك�س بال�رضورة وجهة نظر امل�ؤ�س�سة.
المحتويات
العدد 2013 | 6
4
حتقيق عن حتقيق يف جمزرة موصوفة
10
جتاوز احلدود السياسية أم تثبيهتا؟ من حقوق اإلناسن اىل الثورة السياسية يف البحرين
فواز طرابل�سي
�آالء ال�شهابي
17الناسء و«الربيع العريب» دروس من إيران
هايده مغيثي
الالح َبل إىل اجلدار 28من َ قراءة يف الربيع النسوي اليمين
40عراسل بني دولة وأخرى دوماً عىل الهامش
مي�شال عبيد
45هشادات من تغريبة أهايل القصري السورية « 51السيدة العربية األوىل» يف الصحافة الغربية
مي�سون �سكرية
�أروى عبده عثمان
36أين هي المصلحة العامة يف الثورة التونسية؟
62
يا�رس علوي
68ال وقت للحق عن صنع اإلجماع بعد « 30يونيو»
دينا اخلواجة
73احللم االجتماعي والسلطة والثورة عما بقي من وعود وآمال ّ
علي الرجال
جمهضة وأخرى حمتملة 84بني فاشية َ
عمرو عادل
92التنمية باالستبداد منوذج يداعب خيال صناع القرار
حممد جاد
الغالف 1و ٢و٣ جمموعة �صور غرافيتي، جيجي ابراهيم
www.flickr.com/ photos/gigiibrahim
الغالف 4 مل�صق ،غرافيتي من م�رص2013،
twicsy.com/i/dN6udd
با�شاك �إرتور
136ثورة جيل ضد التعقيم اإليديولوجي
�إيجه متلكوران
163شريكو بيكه يس الشعر كالينبوع عندما يتدفق ِ
غ�سان احلاج ّ
107تاليق األضداد الموقفان اإليراين والرتكي من سقوط «إخوان» مرص
196
111الفالحون والثورة استعادة األرض
200يف رثاء صنعاء القديمة
جنالء مكاوي
يا�سمني �أحمد
117احلريات النقابية القانون الكاشف
فاطمة رم�ضان
1المجموعات الشبابية 21 بعد « 25يناير»
كرمية خليل
�إبراهيم اله�ضيبي
130
158
140حتالف سرييزا الياسري ظاهرة سياسية واعدة يف اليونان
تينا �سرتيكو
ن�صار ع�صام ّ
إيالن هاليفي يكتشف دير ياسني
1 74العلوم االجتماعية العربية نقديني تقليدين بني َ َ
97معارك التغيري المتوازية إىل المتاريس! مقاومة «حديقة الغازي» والفضاء العام
�سليم متاري
1 66قراءة غراميش يف زمن الثورات العربية
ليلى داخلي
الموجة الثالثة للثورة المرصية تعقد الظروف والتباس التحالفات ّ
144
احلرب العظمى يف فلسطني يصور احلداثة العثمانية خليل رعد ّ
152فلسطني بالعدسة االمريكية غياب احلرب احلقيقية
ِس ْك يِس جربان سيجارة واشعرة أمريكية
جربان خليل جربان جمال جربان
204
موسيقى «المهرجانات» يف مرص «انشقاق يف إمرباطورية الصوت»
�أدهم حافظ
1 82العراق مثاالً وحنا بطاطو دليالً []2 من أهل الدولة إىل دولة األهل
و�ضاح �رشارة
حتقيق عن حتقيق يف جمزرة موصوفة فواز طرابليس مع انعقاد االتفاق االمريكي -الرو�سي على ا�ستبدال ال�رضبة الع�سكرية االمريكية بنزع ال�سالح الكيماوي تدخل �سورية ،ومعها املنطقة ،يف مرحلة جديدة ال�سوريُ ، تعج باال�سئلة واالحتماالت. من تطورها ّ ال يزال الوقت مبكرا للت�أمل والتحليل يف معاين هذه االحداث و�أبعادها ،وا�ستيعاب مع ت�ستتبعه من حتوالت وانقالبات يف توازنات القوى والتحالفات االقليمية والدولية ،وقد �إنعقدت حول جمزرة ذهب �ضحيتها مئات عديدة من املواطنني ال�سوريني بينهم عدد كبري من الن�ساء واالطفال. يف االنتظار ،ال يجوز �أن يغيب احلدث ذاته ،املجزرة، ومتابعة الطريقة التي جرى التحقيق فيها وما �صدر عن الهيئات الدولية املعنية من خال�صات واحكام ب�ش�أنها. من هنا هذا التحقيق. �سالح اجلرمية قرار جمل�س االمن الدويل رقم ٢١١٨ال�سالح اعترب ُ الكيماوي ال�سوري خطرا على االمن الدويل ف�أدان �إمتالكه وحرم ا�ستخدامه على االرا�ضي ال�سورية ،من اي طرف ّ كان .بناء عليه� ،ألزم القرار ال�سلطات ال�سورية بالت�رصيح عن تر�سانتها الكيماوية وق�ضى بتفكيكها يف موعد �أق�صاه منت�صف العام « ٢٠١٤ي�صدف» انه يقارب موعد االنتخابات الرئا�سية ال�سورية .واىل هذا ،ملّح القرار اىل �إمكان جلوء جمل�س االمن اىل البند ال�سابع �ضد من يخالف هذا القرار .ومعلوم ان البند ال�سابع ي�ضم عدة �إجراءات عقابية� ،آخرها التدخل الع�سكري �ضد الطرف املخالف. اول ما يجدر ت�سجيله �أن القرار ٢١١٨تغا�ضى ِ م�ستخدم ال�سالح ،مت�شيا مع قرار جمل�س االمن عن ال�سابق بح�رص مهمة بعثة حتقيق دولية اىل �سورية 6
بدايات
العدد 2013 |6
قراهم واملنازل! على م�ستوى ادنى من التزوير الفا�شي ،كان اخلال�صة� ،صادر «املجتمع ال��دويل» ،ومعه «عدالته يتفجع يف م�ؤمتراته ال�صحفية االنتقالية»� ،سالح املجزرة وتخلى عن مهمة التحري عن ممثل �سورية يف االمم املتحدة ّ مالحقة املجرمني والعقاب. متباكيا :هل يعقل ان يت�صور �أحد ان النظام يقتل �شعبه؟ من جهته ،اكتفى الرئي�س اال�سد بالقول �إن اتهام النظام ال�سوري «غري منطقي» .والإ�شارة ،يف االمثولة ال�سالح الآخر الفل�سفية الرتبوية املعتادة من الرئي�س ال�سوري ،اىل ان �صمت قرار جمل�س االمن �َ ٢١١٨ص ْمت القبور عن املجزرة ارتكبت ع�شية جميء الفريق الدويل للتحقيق �أ�سلحة القتل اجلمعي االخرى � -صواريخ �أر�ض�-أر�ض يف ا�ستخدام الكيماوي يف الغوطتني يوم � ٢١آب /البال�ستية وطائرات «ميغ» واملروحيات القا�صفة بالرباميل واملتفجرة والقنابل العنقودية والفو�سفورية مثال اوغ�سط�س .اال ان اال�سد عاد فتحدث بال�صفة ال�شخ�صية احلارقة ّ لينفي م�س�ؤوليته عن ا�صدار االمر با�ستخدام ال�سالح .وهو -وقد فتكت اىل الآن باكرث من مئة الف مواطن ومواطنة حمرما دوليا؟ بعد �أي ت�رصيح معبرّ ترافق مع تداول الإعالم �أ�سماء �ضباط كبار يف �سورية .فمتى ي�صري اي �سالح ّ يف جي�شه والأجهزة االمنية اتهموا با�صدار �أوامر الق�صف م�ستوى من «الفتك»؟ وبعد اي عدد من ال�ضحايا؟ بالغازات القاتلة .كاد املريب ان يقول «خذوين» .لكن قبل ان ي�صري ال�سالح الكيماوي �سالحا يف حرب النظام ال�سوري �ضد �شعبه ،وقبل ان يتقرر م�صادرته املجتمع الدويل لي�س يرتاب على ما يبدو. يف تلك الفرتة ،وا�صل الرئي�س بوتني حملة التربئة دولياّ ، �شكل �أكرب تر�سانة �أ�سلحة كيماوية يف املنطقة جرى زوده مبعلومات تثبت ان ت�صنيعها وتخزينها ومراكمتها ،عرب عقود من الزمن ،على معلن ًا �أن الطرف ال�سوري ّ املجزرة من �صنع املعار�ضة امل�س ّلحة .مل تعر�ض مو�سكو حتقيق «توازن رعب» مع ا�رسائيل :الكيماوي ال�سوري �أد ّلتها اجلديدة على ما نعلم .ومع ان انباء تواترت عن مقابل الكيماوي اال�رسائيلي ،او الكيماوي مقابل النووي، رت�ض ان «�سالح ويف َ ان املهمة اجلديدة لوفد املحققني الدوليني �سوف تت�ضمن او الكيماوي مقابل التفوق اجلويُ . التحقيق يف ا�ستخدام الكيماوي يف �سبعة مواقع ا�ضافية الفقراء » هذا �إكت�سب �أهمية متزايدة بعد ان َد ّمرت الطائرات خمتلفة ،مبا فيها خان الع�سل يف حلب ،جرى الرتكيز اال�رسائيلية املفاعل النووي يف دير الزور. على مهمة البعثة يف التحقق من املخازن واال�رشاف على ويبدو ان هذا الوجه من ا�ستخدام الكيماوي هو ما �أثار تدمري اال�سلحة .فال عجب بعد ان طم�ست ،حتى ال نقول حفيظة «املجتمع الدويل» وهيئته التنفيذية وعدالته االممية. طويت م�س�ألة امل�س�ؤولية عن ا�ستخدام ال�سالح املحظور اعتمد جمل�س االمن بالدرجة االوىل التف�سري «االقليمي دوليا وال��ذي يهدد االمن ال��دويل ،ان ال يكون لدى والدويل» خلطر ال�سالح الكيماوي ال�سوري ،جري ًا على ما ال�سيد الفروف ما يقوله عن م�س�ؤولية املعار�ضة ،مطلع اعلنه الرئي�س اوباما من انه ي�شكل خطرا على �أمن الواليات ت�رشين االول/اكتوبر غري التحذير من انها قد تلج�أ اىل املتحدة وعلى جريان �سورية ويف املقدمة منهم ا�رسائيل .وقد ّ فحل «خطر ا�ستخدام» امتثل النظام ال�سوري «املمانع» لقرار تدمري �سالحه الرادع ا�ستخدام ال�سالح الكيماوي. �ضد ا�رسائيل ،املدججة باال�سلحة الكيماوية ومبئتي ر�أ�س حمل الأد ّلة التي «تثبت اال�ستخدام».
للتحقيق يف الت�أكد من ا�ستخدام ال�سالح الكيماوي يف ثالثة مواقع يف الغوطتني الغربية وال�رشقية ،يوم ٢١ �آب/اوغ�سط�س املا�ضي ،بغ�ض النظر عن تعيني م�صدر �إطالق القذائف احلاملة للغازات القاتلة. يتطرق يف قراره اىل ال�ضحايا ثم �إن جمل�س االمن مل ّ من مدخل التعوي�ض على �أهلهم مثال ،او التخفيف من هدفت بالكيماوي والتي ال تزال م�أ�ساة املناطق التي ا�س ُت ْ ومعر�ضة للق�صف اليومي حما�رصة من اجلي�ش النظامي ّ وهي ت�ضم ع�رشات اجلرحي وحتتاج اىل اب�سط و�سائل البقاء من غذاء وحمروقات. من حيث تعيني امل�س�ؤوليات عن ا�ستخدام ال�سالح املحرم دوليا ،مل يتخذ جمل�س االمن اي قرار بالتحقيق ّ الكت�شاف امل�س�ؤولني عن �إ�صدار االوام��ر با�ستخدام ال�سالح الكيماوي و�إحالتهم اىل حمكمة اجلزاء الدولية، مثال ،على اعتبار انهم ارتكبوا جرمية مو�صوفة بحق ن�سميها جرمية حرب او جرمية االمن الدويل ،حتى ال ّ يف حق االن�سانية .كان الإعالم العربي والدويل ملهي ًا يت�ضمن القرار العتيد ا�شارة اىل فيما �إذا كان �سوف ّ البند ال�سابع ام ال ،انطم�ست حقيقة �أن العقوبات التي يت�ضمنها البند ال�سابع ،يف هذه احلالة ،تتع ّلق بعدم تنفيذ قرار تفكيك ال�سالح الكيماوي ولي�س بتنفيذ جمزرة بوا�سطة ال�سالح الكيماوي. حتمل مهما يكن ،ظل الطرف الرو�سي متم�سك ًا برواية ّ املعار�ضة امل�س ّلحة امل�س�ؤولية عن املجزرة الكيماوية .جاءه تتلب�س دعم من م�ست�شارة رئا�سية تدعى بثينة �شعبانّ ، لبو�س غوبلز النازي ،اخرتعت �أكذوبة مذهبية �سافلة تقول �إن مئات االطفال القتلى بالكيماوي َق َت َلتهم املعار�ضة امل�س ّلحة يف منطقة ال�ساحل ،ونقلتهم اىل الغوطتني ،مع اال�ستنتاج البديهي ب�أن ال�ضحايا �أطفال علويون ُق َتلوا يف 7
بدايات
العدد 2013 |6
نووي يف اقل تقدير .وثمة من ال يزال يهلل ملمانعته وير�سل «مقاومني» للقتل واملوت يف �سورية من اجل احلفاظ عليه! اما احلجة التي تتحدث عن التعوي�ض عن خ�سارة ال�سالح الكيماوي مبظلة نووية رو�سية ،فك�أنها تقول لنا ان ال فرق ُي َ ذكر بني ان يكون ل�سورية قوة ردع ذاتية وبني ان ت�سرتهن حلماية رو�سية وقد باتت ،يف عهد بوتني، التفوق الع�سكري تناف�س الواليات املتحدة يف رعاية ّ واالمني للدولة ال�صهيونية.
ما يعني التفريط بذاك اخليار الذي جاء انتخاب ال�شيخ ح�سن روحاين للرئا�سة االيرانية ،لريجح كفته. لي�ست ثورة ال�شعب ال�سوري وال مطالبه يف احلرية والعدالة قابلة لأن ُتخت َزل بوجود تنظيمات جهادية م�س ّلحة. ولكن مل يعد باالمكان التغا�ضي عن تنامي دور وجرائم تلك التنظيمات وقد حتولت اىل القرين الرببري التكفريي املت�سترّ بالدين لنظام بربري تكفريي يت�سترّ بالعلمانية. تكفي اال�شارة اىل ارتكابات الإم��ارات «الداع�شية» و«ال ُن�رصتية» يف ال�شمال ال�رشقي من البالد لكي يكت�شف تعده هذه املجموعات لل�شعب امللأ اي غد م�أ�سوي مظلم ّ وتق�سم قوى ال�سوري .فهي تكفِّ ر امل�سلمني قبل �سواهم؛ ّ املعار�ضة امل�س ّلحة بتنظيم حرب �أهلية �ضمن احلرب االهلية �ضد كتائب اجلي�ش ال�سوري احلر التي ترف�ض تقدمي الوالء والطاعة المرائها؛ وتفتح جبهة ع�سكرية مع التنظميات الكردية امل�س ّلحة؛ وقد حاولت احتالل �أحد اهم مواقع �سورية الدينية والتاريخية واالثرية يف معلوال، ودمرت واحرقت كنائ�س يف غري موقع منها الرقّة ،وهددت ّ بدق �أعناق من ال يعتنق اال�سالم ،ونفذت التهديد ب�شبان رف�ضوا التخلي عن دينهم يف معلوال ذاتها .ب�إيجاز ،قدمت تلك التنظيمات كل ما من �ش�أنه تعزيز حجة النظام ب�أن القتال الدائر يف �سورية هو �ضد غزوة «�إرهابية» ،و�أ�سهمت وت�سهم يف متزيق الن�سيج االجتماعي ال�سوري على ا�سا�س ديني ومذهبي و�إثني ،فت�س ّلم بذلك االدار َة االمريكية ما حتتاج �إليه من براهني الختزال االزمة ال�سورية داخليا مبا هي م�س�ألة حماية وتطمني لالقليات.
مهما تكن العوامل املبا�رشة التي دفعت بالرئي�س االمريكي اىل التهديد بال�رضبة الع�سكرية ل�سورية - ومنها «اخلط االحمر» وهيبة امريكا -فقد �أوقع نف�سه يف ورطة ،خ�صو�صا لعدم تقديره حجم املعار�ضة عند حلفائه ولدى �أو�ساط وا�سعة من الر�أي العام االمريكي واالوروبي، يحجمها والعاملي ،للمغامرة الع�سكرية خ�صو�صا بعد ان اخذ ّ بحيث مل يعد وا�ضحا ما وظيفتها وما اخلطوة التالية بعد اجنازها .ومن ح�سن حظه انه جاء من ينت�شله منها. غري �أن ادارة ب��اراك اوباما مل تكن متلك خيار ًا ع�سكري ًا يف �سورية ،على عك�س متنيات ك�ثرة من املعار�ضني ال�سوريني و�أوهام ان�صار النظام .وال كانت تت�صور تغيريا للنظام خارج تر�سيمة تنحي الرئي�س ّ التي اعتمدتها يف م�رص وليبيا وتون�س واليمن .ومنذ ان خرجت االزمة الدموية ال�سورية من �إطارها االقليمي (الو�ساطة الرتكية فالقطرية فمبادرة اجلامعة العربية) انحاز املوقف االمريكي اىل امل��ب��ادرة الرو�سية كما جت ّلت يف م�ؤمتر جنيف :حوار بني ممثلني عن النظام وعن املعار�ضة؛ ت�شكيل حكومة ائتالفية يتخ ّلى لها الرئي�س اال�سد عن بع�ض �صالحياته؛ و�صوال اىل انتخابات نيابية ورئا�سية قبل متن�صف .٢٠١٤واحتفظ اوباما لنف�سه بحق احلديث عن تنحي اال�سد بني حني و�آخر. تدخلت يف ّ �شل خيار التدخل الع�سكري عوامل ّ واعتبارات عديدة .منها �سيا�سة اوباما الواعدة باالن�سحاب الع�سكري من مواقع التدخل الع�سكرية االمريكية ا�صال، و�صعوبة ال�رضبة الع�سكرية ا�صال وكلفتها املالية اال�ستثنائية على بلد مثقل بالديون؛ واثر املعار�ضة الرو�سية وال�صينية؛ واالهتمام باحلفاظ على «متا�سك اجلي�ش ال�سوري» ،خ�صو�صا نتائج اولية لدوره يف حفظ االمن على حدود ا�رسائيل ال�شمالية؛ وعدم � -صادر املجتمع الدويل ال�سالح الكيماوي ال�سوري خلطره و�ضوح البديل لال�سد ونظامه ،خ�صو�صا امام ت�شقق اخلارجي اكرث منه الداخلي وامتنع عن البحث والفعل فيما املعار�ضة اخلارجية و�ضعف متثيلها الداخلي ،ومنو اجلناح يتع ّلق بخطر ال�سالح الكيماوي والنووي اال�رسائيلي على غريبا �أن يرى هرني �أمن املنطقة واالمن وال�سالم الدوليني. اجلهادي يف كتائبها امل�سلحة .ومل يكن ً جرمت العدالة الدولية ال�سالح الكيماوي و�أعفت كي�سنجر يف ت�رصيح اخري له ان ذهاب اال�سد يعني الفو�ضى . ّ وهذه هي حرفيا الر�سالة التي يب ّثها النظام منذ البداية :انا او امل ّتهمني با�ستخدامه من التحري واملالحقة واملحاكمة واملحا�سبة والعقاب. الفو�ضى ،والفو�ضي بالتعبري هذا تعني اجلهادييني. ويجب االعرتاف ب�أن الكثري من التحليالت والتقديرات اغفل املجتمع الدويل معاجلة �آثار املجزرة وخ�صو�صا حول املوقف االمريكي من الثورة واحلرب يف �سورية �أغفلت التعوي�ض عن �أ�رس ال�ضحايا وانقاذ من تبقى من �سكان خيار ًا �آخر كان يختمر حتى قبل والية باراك الثانية وهو يف املناطق التي ا�ستهدفها ال�سالح الكيماوي وال تزال تغليب احلل ال�سيا�سي التفاو�ضي للنووي االيراين ومل�ستقبل ت�ستهدفها ال�صواريخ البال�ستية والرباميل املتفجرة العالقة مع اجلمهورية اال�سالمية .وكان لهذا اخليار دوره يف واحلارقة وح�صار قوات النظام. جلم التدخل الع�سكري او اي تغيري فعلي للنظام ال�سوري ،والتحقيق م�ستمر...
ال�سالح الكيماوي ومنع وقوعها يف يد «االرهابيني» يف حال �سقوط النظام .ويفيد التذكري �أي�ضا مبا �صدر حول هذا املو�ضوع من مواقف خالل زيارة الرئي�س اوباما اىل ا�رسائيل. أ�رص نتنياهو على �أن اخلطر الرئي�سي لي�س الكيماوي فقد � ّ ال�سوري وامنا النووي االيراين .ويبدو �أن الرئي�س االمريكي �أقنع نتنياهو بابقاء ال�سالح الكيماوي ب�إ�رشاف اال�سد ،على ما اعلمنا ت�رصيح علني لوزير الدفاع اال�رسائيلي ايهود باراك. إمتنعت القوى الغربية عن تقدمي بحجة هذا اخلواف املزدوج � ْ �سالح نوعي اىل املعار�ضة ال�سورية امل�سلحة خ�شية ان تقع هذه �أي�ضا «يف �أيدي اجلماعات االرهابية» ما ّ مكن النظام ي�سجل بع�ض املكا�سب الع�سكرية و�سمح له بالرتاجع من ان ّ واملراوغة يف ما يتع ّلق باحلل ال�سيا�سي وم�ؤمتر جنيف.
فزاعتان مل يعرف التاريخ املعا�رص ،على ما نعلم ،حالة ابت ّز هدد ب�إبادة اجزاء وا�سعة من �شعبه فيها حاكم العامل �إذ َّ ٌ بوا�سطة اال�سلحة الكيماوية .ومع ذلك فهذه هي الر�سالة الب�سيطة التي وجهها احلاكم ال�سوري ل�شعبه من خالل الدوافع طاملا ان ال بحث يف املجرم ،ال بحث يف الدوافع. العامل وللعامل من خالل �شعبه. فمنذ بداية الثورة �ضده والرئي�س ال�سوري ال�سوري يبقى �س�ؤال حميرّ ال جواب ب�سيط ًا عليه هو ال�سبب عمد انتفا�ضة ال��ذي دفع النظام ال�سوري اىل �رضب الغوطتني بغاز يحاور الغرب ويربط حربه بقاطرة اولوياتهّ . الكي» بعد ان ف�شلت الرباميل �سلمية من اجل احلرية ملاليني من ال�سوريني ،بد�أت باملطالبة ال�سارين .هل كان «�آخر ّ املتفجرة و�صواريخ طائرات «امليغ» وال�صواريخ البال�ستية بالغاء قانون ال��ط��وارىء ،ب�أنها من �صنع «جمموعات ّ ان اال�سد فقد �أع�صابه ف�أمر ارهابية م�س ّلحة» .ف�ألغى قانون الطوارىء وا�ستبدله يف فك الطوق عن دم�شق؟ ام ّ قيادي يف «حزب بقانون «مكافحة االرهاب» قبل ان يعلن انت�ساب تلك بهذا التدبري االنتقامي ،على ما �أبلغ ٌ كرر الله» م�س�ؤوال ايرانيا يف مكاملة هاتفية ر�صدتها وك�شفتها املجموعات اىل تنظيم «القاعدة» .وت�أكيدا على ذلكّ ، اال�سد يف غري منا�سبة ان «�سوريا» تقف يف خندق واحد اال�ستخبارات الأملانية؟ بعبارة اخرىَ :فق ََد احلاكم �أع�صابه ف�رضب �شعبه بغاز االع�صاب! وترى هل ان الق�صف حيلة مع الغرب يف «احلرب الكونية �ضد االرهاب». اعتمدت اللقاء التهمة على املعار�ضة امل�سلحة حرك ا�سلحته الكيماوية .ر�صدت �إ�ستخباراتية ْ ثم ما لبث النظام ان ّ االجهزة الغربية نقل عبوات منه من امكنة اىل اخرى .على اعتبار انه «ال يعقل» ان يفعلها النظام ع�شية و�صول (ان�شق فيما فريق التحقيق الدويل عن اال�سلحة الكيماوية؟ ام ان احلاكم فخرج ناطق ر�سمي با�سم احلكومة ال�سورية ّ بعد) لي�ؤكد �أن النظام لن ي�ستخدم اال�سلحة الكيماوية �أراد من ق�صف الغوطتني بغاز ال�سارين تذكري املجتمع «حماة ديار» خمازن الكيماوي من �ضد �شعبه .وكان ذلك النفي على �سبيل التحذير والتهديد .الدويل باحلاجة اىل نظام ُ حتركت ا�سلحته الكيماوية جمدد ًا ،و�أعلن عن �سقوط «االرهابيني» ولو على اجلثث املخت ِنقة لـ� ١٤٠٠ضحية، ثم ّ �ضحايا بالغازات ال�سامة ،فعاد النظام اىل نفي النية يف معظمهم من الن�ساء واالطفال؟ ام تراه ،اخريا لي�س �آخرا، ا�ستخدام الكيماوي بل �شكك يف اقتنائها �أ�صال ،على ل�سان كان يطلق �رصخة ا�ستغاثة بوا�سطة الق�صف الكيماوي تو�سال لنجدته ّ بحل ما؟ امل�ؤكد ان الرئي�س الرو�سي �سمع في�صل املقداد ،نائب وزير اخلارجية. لعب النظام بحذاقة على �إثنتني من «خوافات» الغرب� :رصخة اال�ستغاثة ف�أجند الرئي�س ال�سوري مببادرته. خواف االرهاب ،وخواف «�أ�سلحة الدمار ال�شامل » وقد هذه ا�سئلة مل يطرحها التحقيق الدويل لأنه طرح جانبا �إن�صهرا كيماويا يف خواف واحد :وقوع اال�سلحة الكيماوية البحث يف اجلرمية ومرتكبيها و�ضحاياها والعقاب. يف يد «االرهابيني» .وكانت ال�سلطات اال�رسائيلية ابرز من تلقّف املو�ضوع .ون�شطت حينها التح�ضريات والتدريبات يف يف العقاب االنفرادي االردن ،ب�إ�رشاف خرباء ع�سكريني وامنيني امريكيني� ،إ�ستعدادا يف غياب العقاب اجلمعي الدويل ،جتدر متابعة الدوافع وراء للتدخل يف النزاع ال�سوري من �أجل ال�سيطرة على خمازن تعليق العقاب االنفرادي. 8
بدايات
العدد 2013 |6
9
بدايات
العدد 2013 |6
10
جتاوز احلدود السياسية أم تثبيهتا؟ من حقوق اإلناسن اىل الثورة السياسية يف البحرين
17
الناسء و«الربيع العريب» دروس من إيران
28
الالح َبل إىل اجلدار من َ قراءة يف الربيع النسوي اليمين
اآالء ال�شهابي هايده مغيثي
اأروى عبده عثمان
36
أين هي المصلحة العامة يف الثورة التونسية؟
40
عراسل بني دولة وأخرى دوماً عىل الهامش
45
هشادات من تغريبة أهايل القصري السورية
ليلى داخلي
مي�شال عبيد
51
«السيدة العربية األوىل» يف الصحافة الغربية
مي�شون �شكرية
على ال�صعيد املحلي ،باتت الأحزاب املعار�ضة مثل ميالة �أي�ض ًا �إىل احلديث عن حقوق «جمعية الوفاق» ّ الإن�سان ،وقد �أعادت ا�ستجماع تركيزها على حقوق الإن�سان من خالل تكليف عدد من �أع�ضائها البارزين مبهمات يف وا�شنطن وجنيف ولندن ملمار�سة ال�ضغط على م�ستوى دويل من �أجل حتقيق املزيد من املحا�سبة يف جمال حقوق الإن�سان. ّ ي�شكل انت�شار املنظمات غري احلكومية الرئي�سية املحلية ــ العاملية ،و�أدبياتها وم�ؤ�س�ساتها الفاعلة ،قيمة م�ضافة مهمة للر�أ�سمال امل�ؤ�س�ساتي بني الفاعلني اجلدد يف املجتمع املدين ،لي�س يف البحرين وح�سب ،بل يف منطقة اخلليج عموماً« .هيومان رايت�س ووت�ش» ،و«منظمة ال» ،و«فيزيائيون العفو الدولية» ،و«حقوق الإن�سان �أو ً من �أجل حقوق الإن�سان» ،هي اجلمعيات الدولية غري احلكومية الأكرث ن�شاط ًا يف مراقبة الو�ضع بالبحرين، و�إن كان ذلك يح�صل عن ُبعد ،على اعتبار �أن دخولهم البالد حمظور ب�شكل روتيني. � ّإن التهمي�ش ال�سيا�سي املحلي الهادف �إىل معاقبة نا�شطي املجتمع املدين و�إ�ضعافهم� ،أ ّدى حالي ًا �إىل خلق منظمات غري حكومية �أقوى و�أف�ضل تنظيم ًا لأنها باتت اليوم م�ستقلة قانوني ًا ومادي ًا و�سيا�سي ًا عن الدولة ،بطريقة كانت م�ستحيلة يف ال�سابق� .سيكون لر�أ�س املال التنظيمي ّ ّ التحكم املفرو�ضة من املت�شكل خارج احلدود ،ولأمناط قبل الدولة ،ت�أثري طويل الأمد على �صعيد خلق عنا�رص جديدة للتغيري .لقد �أ�صبح �أع�ضاء هذه املنظمات على مفوهني ،وباتوا مرتابطني عاملياً ، ال�صعيد الفردي متحدثني ّ وقد قاموا بتمثيل احلراك يف م�ؤمترات دولية مدنية ،بطريقة بات معها ال�سيا�سيون غري معروفني. حتولت منابر عاملية مثل جمل�س الأمم املتحدة حلقوق ّ الإن�سان �إىل جبهة جديدة يف املعركة الدائرة �ضد الدولة. يف �أيلول�/سبتمرب ،٢٠١٢موعد عقد جمل�س حقوق الإن�سان اجتماع ًا ملراجعة حالة البحرين� ،سافر ما ال يقل عن ٧٠نا�شط ًا معار�ض ًا �إىل جنيف ،بينما �أر�سلت ال من املمثلني عنها. احلكومة البحرينية عدد ًا �أقل �أو مماث ً هكذا� ،أ�صبحت �أروقة جمل�س حقوق الإن�سان يف الأمم تعج مبئة مراقب بحريني على الأقل يف ذلك اليوم. املتحدة ّ
جتاوز احلدود السياسية أم تثبيهتا؟
من حقوق اإلناسن اىل الثورة السياسية يف البحرين ت�صور احلقوق ال�سيا�سية آالء الهشايب «يف اللحظة التي نحاول فيها ّ للمواطنني مبعزل عن مرجعية عاملية «فوق �سيا�سية» جامعية وكاتبة حلقوق الإن�سان ،ف�إننا نفقد ال�سيا�سة نف�سها .بكالم نحجم ال�سيا�سة �إىل جمرد لعبة «ما من البحرين .أحد �آخر ،ف�إننا حينها ّ مؤسيس «حبرين» بعد �سيا�سية» قائمة على التفاو�ض على قاعدة م�صالح (مرصاد البحرين) فردية»( .جيجيك)٢٠٠٥: للشفافية وكشف من بني جميع البلدان التي �شهدت انتفا�ضات ثورية تتخذ حقوق الإن�سان �شـــــــــــــــــــــــــــــــــــكل الفاسد .هذا المقال منذ عام ،2011ميكن القول �إن � ّأي� ًا منها مل يعرف خطاب �أخالقي متمحور حول الألــــــــــــــــــــــــــــم ورقة حبثية قدمت العبِني �سيا�سيني (من احلكومة �أو من خارجها) يتب ّنون واملعاناة،بدل �أن تكون خطاب ًا �سيا�ســـــــــــــــــــــــــي ًا يف ندوة باجلامعة �أجندة حقوق الإن�سان وخطابها مب�ستوى العناد نف�سه حول العدالة ال�شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاملة األمريكية يف بريوت الذي �شهدناه يف البحرين .ففي مواجهة النهج الأمني، عن المجتمع المدين والقمع ،والطائفية واملزيد من التهمي�ش بحق املواطنني من الطبيعي �أن يكون نا�شطو حقوق الإن�سان م�شغولني يف أيار/مايو 2013واملجموعات املعار�ضة ،جاء الر ّد الغريزي للعديد من بق�ضايا التعذيب والتوقيف غري القانوين والقمع اجل�سدي لل�سمو فوق لالحتجاجات وك�رس �أغالل ال�رشطة ،لكن ذلك يح�صل الالعبني ال�سيا�سيني على �شكل حماولة ّ امليدان ال�سيا�سي من �أجل الو�صول �إىل دولة «فوق ب�شكل متزايد على ح�ساب الأغالل االقت�صادية وال�سيا�سية �سيا�سية» من خالل ا�ستخدام خطاب «عاملي» حلقوق امل�ستمرة .لقد حان الوقت للت�أمل و�إعادة التفكري والعودة �سماه براون �إىل الق�ضايا ال�سيا�سية واالقت�صادية النعدام امل�ساواة الإن�سانّ � .إن �شعبية هذا اخلطاب جزء مما ّ (« )٢٠٠٤امل�رشوع الأخالقي ــ ال�سيا�سي»ّ ، مركز ًا والعدالة ،التي جعلت من الكرامة واحلرية والعدالة من خالله على حقوق �إن�سان عاملية (ما قبل �سيا�سية) االجتماعية ،الأ�سا�س لن�ضال ال�شعوب يف هذا البلد. ميتلكها كل �إن�سان بدل احلديث عن حقوق �إن�سان حمددة اخللفية للمواطن �أو لع�ضو يف جمموعة �سيا�سية معينة. �أحاول يف هذا املقال النقدي تقومي الن�شاط الن�ضايل ن�شهد انت�شار ًا ملنظمات «حقوق �إن�سان» جديدة يف ال�ساعي �إىل تعزيز حقوق الإن�سان يف انتفا�ضات الربيع البحرين .توجد حالي ًا ثماين جمعيات غري حكومية جديدة العربي ،من خالل اعتماد البحرين حال ًة للدرا�سة .معنية بهذا ال�ش�أن ،هي «مر�صد البحرين حلقوق الإن�سان» حتول يف �أدوار و«منتدى البحرين حلقوق الإن�سان» ،و«�شبكة البحرين �أحاول هنا �إثبات �أ ّنه ح�صل� ،إىل ّ حد ماّ ، كل من نا�شطي حقوق الإن�سان والنا�شطني ال�سيا�سيني حلقوق الإن�سان» ،و«املنظمة الأوروبية ــ البحرينية حلقوق يف �أعقاب االنتفا�ضة اجلارية يف البحرين حول حدود الإن�سان» ،و«املنظمة البحرينية للت�أهيل ومناه�ضة العنف» يحددها اخلطاب املهيمن حلقوق الإن�سان( ،براڤو) ،و«مركز البحرين حلقوق الإن�سان» ،و«مر�صد املنامة اخلالفات التي ّ واملواقف �إزاء �سلطة الدولة .و من وحي ال�سجال املثري حلقوق الإن�سان» و«اجلمعية البحرينية حلقوق الإن�سان». للجدل بني �إيغناتييف وبراون وجيجيك� ،أرى � ّأن امل�رشوع الأخالقي -ال�سيا�سي حلقوق الإن�سان �أتى ليتناف�س مع م�شاريع �سيا�سية �أخرى هادفة �إىل حتقيق العدالة ،وهو يب ِعد ال�ضحايا عن �أي ذاتية �سيا�سية تعيد �إنتاج دولة القمع ال�سابقة على االنتفا�ضات العربية.
12
بدايات
العدد 2013 |6
الرباغماتية لتجاوز املذهبية �روج مفهوم حقوق الإن�سان ملوقف معياري م�شرتك ي� ّ «جيداً» وغري نزاعي ،ولديه كذلك يكون يف الوقت نف�سه ّ 13
بدايات
العدد 2013 |6
القوة على «ت�أمني خطاب احلد الأدنى الذي من �ش�أنه �أن يتيح لأجندات خمتلفة جذري ًا �أن تلتحم فيه» (موين: ّ .)٢٠١٠ �شكل ذلك قوة توحيدية ملختلف املجموعات البحرينية املعار�ضة .و�إن كان احلراك قد اكتفى بالدفاع عن �ضحايا االعتداءات والت�ضامن معهم ،مع التم�سك الثوار يف ال�شوارع ونا�شطي بهدف احلد الأدن��ى ،ف� ّإن ّ حقوق الإن�سان وال�سيا�سيني كانوا ميلكون �أر�ضية �أ�سا�سية للعمل مع ًا عليها ،ولت�سوية خالفاتهم. «تتخذ حقوق الإن�سان �شكل خطاب �أخالقي متمحور حول الأمل واملعاناة ،بدل �أن تكون خطاب ًا �سيا�سي ًا حول يف�ضل اخلطاب املهيمن العدالة ال�شاملة» .ويف املمار�سةّ ، َ ي�صور نف�سه على �أنه «معا ٍد لل�سيا�سة» حلقوق الإن�سان �أن ّ (ب��راون )٢٠٠٤ :ومدافع عن مبادئ �أخالقية عاملية م�صوغة بطريقة هادفة لنزع ال�رشعية عن االدعاءات «ال�سيا�سية» ،كالتربيرات املذهبية التي ت�ستخدمها الدولة النتهاك حقوق مواطنيها مثالً. فيما كان اال�ضطهاد املذهبي ي�ستعر يف البحرين بعد تدخل قوات «درع اجلزيرة» بقيادة ال�سعودية يف عام ،٢٠١٢و�إ�صدار الأحكام العرفية (قانون الأمن الوطني) ،قُتل ٣٦مواطن ًا يف ال�سجون �أو خالل االحتجاجات ،واح ُتجز الآالف و�أٌقيلوا من وظائفهم. ولقد عمل نا�شطو حقوق الإن�سان بال كلل لف�ضح هذه االنتهاكات ووقف املعاناة ،ونالوا تقدير ًا رفيع امل�ستوى. لقد وجد ه�ؤالء �أنف�سهم يف تلك الو�ضعية� ،إما نتيجة جتربتهم ال�شخ�صية يف ال�سجون� ،أو بف�ضل جتربة واحد من �أقاربهم �أو �أ�صدقائهم .و�صف البع�ض هذا الدور ب�أنه «عر�ضي» ،وهو ما فعله العديد من الأطباء امل�سجونني ممن ُحرموا الحق ًا حقَّهم يف ممار�سة مهنة الطب .بالطبع� ،شعر ه�ؤالء ب� ّأن حقوق الإن�سان وفّرت جمرد «�إنهاء املعاناة»، قوة .لكن متحورها حول لهم ّ ّ يجعل من هذه احلدادنوية والرباغماتية «�إ�شكالية»، على حد تعبري براون (.)٢٠٠٤ مل يكن �صدفة �أن ي�ستهدف النظام العديد من ه ��ؤالء النا�شطني اجل��دد� ،أو ال�شهود على انتهاكات ال�رشطة .الأك�ثر �شعبية من بني ه��ؤالء من انخرطوا بن�شاط وب�شكل مبا�رش يف حركة االحتجاج الثوري، وهم يقبعون يف ال�سجن منذ مطلع االنتفا�ضة يف �آذار/ مار�س ،٢٠١١مثل عبد الهادي خواجة ،والدكتور علي عبد الله ح�سن �سنغا�س .وقد قام �آخرون يف الفرتة الأخرية بخرق ّ خط �أحمر كان ممنوع ًا االقرتاب منه،
مثل نبيل رجب وزينب اخلواجة ويو�سف املحافظة .وما يثري املزيد من العجب ر ّد الفعل الدويل ال�ضعيف �إزاء �سجن ه�ؤالء النا�شطني ،مقارنة بال�ضجة التي ُتثار حيال اعتقال نا�شطني من ال�صني ورو�سيا .عندما ُ�سئ َل ْت وزارة اخلارجية الأمريكية عن موقفها من َ�سجن نبيل رجب، على �سبيل املثال ،قال املتحدث با�سم الوزارة ،مايكل بو�سرن � ّإن «الأمر معقد». وحتى لو مل تتمكن حمالت حقوق الإن�سان من منع احلكومة من موا�صلة �سلوكها ،ف�إنها بالت�أكيد ع ّززت قوة
املرجح �أن تبقى من دون «ثورة املنا�رصة» ،كان من َّ حمنة الكثري من �ضحايا االنتهاكات غري معروفة داخل البحرين وخارجها� .سبق يل �أن حتدثت �إىل ع�رشات ال�ضحايا ،وتبني يل � ّأن الت�ضامن الذي لقيه �ضحايا االنتهاكات وال�سجناء هو �أداة متكني مهمة يف املعركة النف�سية �ضد النظام .ففور توقيف �شخ�ص ما ،يجري االت�صال بالنا�شطني املحليني يف جمال حقوق الإن�سان، ويبد�أ �أف��راد العائلة والأ�صدقاء با�ستخدام و�سائل التوا�صل االجتماعي من �أجل القيام بحمالت هادفة �إىل �إطالق �رساح املعتقلني .ويف �إطار تلك احلمالت ،يتم ن�رش تفا�صيل التوقيف على الإنرتنت ،و�صوره ،و ُتطلق عرائ�ض مفتوحة للتوقيع و ُت َّ نظم االحتجاجات .هناك املئات من احل�سابات على الإنرتنت املخ�ص�صة لتلك تقدر بثمن يف �إطار احلمالت .باتت الإنرتنت �أداة ال َّ ن�رش �أخبار انتهاكات حقوق الإن�سان وتوثيقها.
زودت منظمات حقوق ال�ضحايا واملعار�ضة معاً .لقد ّ الإن�سان ،املتظاهرين وال�شهود على عنف الدولة ،بدعم يف مواجهة الع�سف والقمع داخل احلدود وخارجها ،ومنذ �سمى «ثورة املنا�رصة» ،وهي عبارة ذلك احلني بات ذلك ُي ّ عن بروز �شبكة ملنظمات حقوق �إن�سان غري حكومية، تطبق ما حملية و�أجنبية ،لل�ضغط على احلكومة لكي ّ تب�شرّ به ،وهو م�ستقى من املنظمات غري احلكومية التقليدية املحلية يف البحرين ،مثل «مركز البحرين
الدولة تلعب لعبة حقوق الإن�سان �أخذ ًا يف االعتبار �أ ّنه حتى دولة قمعية كالبحرين ميكن �أن ت�ضطر �إىل االنخراط يف االحرتام اللفظي حلقوق الإن�سان، ّ ف� ّإن بع�ض منظمات حقوق الإن�سان ميكن �أن تقع فري�سة اال�ستغالل وال�سيطرة بطرائق عدة .وعلى �سبيل املثال ،ف� ّإن خطوة ملك البحرين غري االعتيادية ب�إن�شاء جلنته «امل�ستقلة» �سماها «جلنة للتحقيق حيال انتهاكات حقوق الإن�سان ،التي ّ التحقيق البحرينية امل�ستقلة» ( ،)BICIجديرة بالدرا�سة .وقد
ما يثري العجب ر ّد الفعل الدولـــــــــــــــــــــــــــــــي ال�ضعيف �إزاء �سجن النا�شـــــــــــــــــــــــــــــــــطني البحرينيني ،مقارنة بال�ضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــجة التي تُثار حيال اعتقال نا�شـــــــــــــــــــــــــــــــــطني من ال�صني ورو�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيا
التي قامت بها الدولة منذ ن�رش التقرير ي�شهد على �أق�صى درجات �إنكار امل�س�ؤولية عن االنتهاكات الفا�ضحة حلقوق الإن�سان املوثقة يف التقرير .لقد اختار النظام «جلنة التحقيق البحرينية امل�ستقلة» ( )BICIمن �أجل �أن يعيد اكت�ساب امل�رشوعية ال�شعبية واالحرتام الدويلّ � .إن الت�شكيك مب�سار عمل «جلنة التحقيق البحرينية امل�ستقلة» ( ،)BICIو�/أو دور النظام يف �صياغة تو�صياتها ،هو يف الوقت نف�سه ت�شكيك يف م�ساعي النظام �إىل اكت�ساب ال�رشعية وا�ستعادتها. تنال احلكومة البحرينية ب�شـــــــــــــــــــــــــــــــــكل متوا�صل الإ�شادات من حكومـــــــــــــــــــــــــــــات �أجنبية على خلفية �إقدامهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا على املبادرة «غري امل�سبوقة» ب�إن�شــــــــــــــــــــــــــاء جلنة حتقيق ،يف الوقت الذي يجدر فيه �إدانتها على التعذيب النظامي واملنهجي الذي متار�ســـــــــــــــــــه لقد اخ ُتزلت الذاتيات ال�سيا�سية �إىل جمرد تنازع حول تطبيق تو�صيات تقرير «جلنة التحقيق البحرينية طبقت تقريب ًا امل�ستقلة»ّ . تدعي احلكومة البحرينية �أنها ّ جميع تو�صيات تقرير اللجنة ،يف حني � ّأن منظمات تدعي � ّأن حقوق الإن�سان غري احلكومية واملعار�ضةّ ، احلكومة مل تفعل ذلك. لقد �أ�صبحت «جلنة التحقيق البحرينية امل�ستقلة» نقطة مرجعية �أو عالمة لـ«الإ�صالح» ،لكن بعد �أكرث من عامني على ن�رش تقريرها ،تجُ مع جميع امل�صادر امل�ستقلة على � ّأن احلكومة ف�شلت يف �إجناز تغيري ،ولو �صغرياً، يف و�ضعية حقوق الإن�سان .كذلك � ّإن ت�أكيد تقرير َ ح�صول انتهاكات يف جمال حقوق الإن�سان اللجنة كان له الأثر ال�ضئيل على منا�رصي النظام الذين نفوا ب�شدة اال ّدعاءات التي تتحدث عن ارتكابهم التعذيب ّ والتجاوزات على حقوق الإن�سان بحق مواطنيهم البنى املعار�ضني .غري � ّأن التقرير ف�شل يف ت�سمية قادة ُ امل�س�ؤولة عن هذه التجاوزات ،رغم �أن الربوفي�سور �رشيف ب�سيوين ،الذي توىل رئا�سة اللجنة ،قال يف مقابلة تلت �إعالن التقريرّ � ،إن قادة املراتب الثالث العليا يف وزارة الداخلية يجب �أن يخ�ضعوا للمحا�سبة. تطرق تقرير «جلنة التحقيق البحرينية امل�ستقلة» كذلك ّ �إىل الدورين الإي��راين وال�سعودي يف البحرين ،وهما تكرر احلكومة البحرينية مو�ضوعان �شديدا احل�سا�سيةّ . با�ستمرار � ّأن �إيران كانت منخرطة يف االحتجاجات ،وقد
فور توقيف �شخ�ص ما ،يجري االت�صال بالنا�شــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــطني املحليني يف جمال حقوق الإن�سان ،ويبد�أ �أفراد العائلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة والأ�صدقاء با�ستخدام و�سائل التوا�صل االجتماعي للقيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــام بحمالت هادفة �إىل �إطالق �رساح املعتقلني ...بــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاتت تقدر بثمن يف �إطار ن�رش �أخبار انتهاكات حقوق الإن�سان وتوثيقهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا الإنرتنت �أداة ال َّ حلقوق الإن�سان» ،BCHRالذي يعمل ب�شكل وثيق مع «منظمة العفو الدولية» و«هيومان رايت�س ووت�ش». وبف�ضل «ثورة املنا�رصة» تلك ،اكت�سب ال�ضحايا قوة تاريخية غري م�سبوقة لإي�صال ق�ضيتهم �إىل العامل .فمن خالل ر�صد االنتهاكات على �صعيد حقوق الإن�سان، والإ�ضاءة عليهاُ ،تبقي هذه املنظمات اتفاقيات حقوق الإن�سان التي �سبق للدولة �أن وقّعتها مك�شوفة ،وبذلك ت�صبح امل�سافة الفا�صلة بني الوعود والتعهدات من جهة ،واملمار�سة احلكومية من جهة ثانية ،قابلة للقيا�س. 14
بدايات
العدد 2013 |6
�أ�صبح ذلك اليوم جزء ًا من «احتفال الدولة بنف�سها» .ونالت احلكومة البحرينية الإ�شادات املتوا�صلة من حكومات �أجنبية على خلفية �إقدامها على هذه املبادرة «غري امل�سبوقة» ،يف الوقت الذي كان يجدر فيه �إدانتها ب�سبب التعذيب النظامي واملنهجي ال��ذي متار�سه ،وح��االت القتل غري القانوين املحددة يف تقرير اللجنة املذكورة .على الرغم من �أنه جرى ّ التعاطي مع االحتفال الباذخ لإعالن تقرير اللجنة على �أنه �إ�شهار ملوافقة احلكومة على نتائج التقرير (كيف لها �أن عينتها بنف�سها؟) ،ف� ّإن كل املمار�سات ترف�ض تقرير ًا للجنة ّ 15
بدايات
العدد 2013 |6
ا�ستخدمت ذلك االتهام لتربير دخول قوات «درع اجلزيرة» �إىل البحرين .لكن احلكومة ف�شلت يف تقدمي الدليل على �زود «جلنة التحقيق البحرينية هذا االدع��اء ،وهي مل ت� ّ امل�ستقلة» بالأدلة .ومن خالل دح�ض اللجنة لهذا االدعاء، �أ�سهمت يف نزع الطابع الإقليمي عن ال�رصاع يف البحرين، وذلك عرب رف�ض االدع��اءات التي تتحدث عن انخراط �إيران يف االحتجاجات� ،أو عن � ّأن «قوات درع اجلزيرة» م�س�ؤولة عن انتهاكات حلقوق الإن�سان. ل�سنا هنا يف معر�ض تقدمي قراءة حتليلية نقدية لهذا تتج�سد يف التقرير ،لكن يجدر القول � ّإن �أهم �إجنازاته ّ ت�أكيده بالتفا�صيل الدامغة ح�صول انتهاكات حلقوق الإن�سان يف البحرين .لكن تو�صيات تقرير اللجنة ظلت بعيدة جد ًا عن الإ�صالح ال�سيا�سي ال�رضوري� ،أو عن حتديد كيف جتدر حما�سبة امل�س�ؤولني .وظلت اخلامتة املفتوحة للتقرير غري مرفقة بربنامج عمل �أو بجدول زمني لتطبيق التو�صيات. كانت و�ضعية حقوق الإن�سان يف البحرين مو�ضوع ًا للمراجعة الدورية التي يجريها جمل�س حقوق الإن�سان التابع للأمم املتحدة يف عام .2012لقد حاول النظام حتقيق التوازن الدقيق من خالل �إبقائه على انتهاكاته حلقوق الإن�سان يف م�ستوى مقبول بالن�سبة �إىل املجتمع جدية له ،بينما الدويل ،من �أجل تفادي �إ�صدار �إدانات ّ حافظ على موا�صلة ممار�سة هذه التجاوزات ب�شكل ّ تظل ال معه درجة عدم القدرة على احتمالها ق�صا�ص ًا فعا ً ورادع ًا لالحتجاج .كان ر ّد الدولة قائم ًا على خطاب القوة الفوكودي (ن�سبة �إىل فوكو) مبعنى �أنه ا�ستخدم «جلنة التحقيق البحرينية امل�ستقلة» من �أجل الـتحول �إىل الذاتية بوا�سطة اخلطاب القانوين» (براون )2004 ويف �إعادة �إنتاج مو�ضوعاتها. كذلك ف� ّإن احلكومة �أن�ش�أت وزارة حلقوق الإن�سان، مبوازاة «امل�ؤ�س�سة الوطنية حلقوق الإن�سان» والعديد من املنظمات احلقوقية املدعومة واملمولة مبا�رشة �أو غري مبا�رشة من احلكومة ،رغم ادعائها اال�ستقاللية ،مثل «جمعية البحرين ملراقبة حقوق الإن�سان» و«مر�صد البحرين» و«مركز املنامة حلقوق الإن�سان» .هكذا ،يبقى �أداء احلكومة البحرينية قاطع ًا يف االنخراط مب�س�ألة حقوق الإن�سان ،لي�س بروحية «الإعالن العاملي حلقوق الإن�سان»، لكن لناحية �إلغاء مفاعيل �أجهزة معاهدات حقوق الإن�سان ،ولإحباط جهود املنظمات احلقوقية املبتدئة املحلية والأجنبية العاملة يف البحرين.
�سيا�سة �أم ال �سيا�سة؟ على الرغم من الك�شف عن انتهاكات حقوق الإن�سان وا�ستثمار امل��وارد واجلهد ،ف �� ّإن دور املنا�رصة خلطاب ومنظمات حقوق الإن�سان �أ ّدى حتى الآن �إىل الكثري من الكالم و�إىل تغيري ذي معنى يف ال�سيا�سة احلكومية .ومن �ش�أن ذلك �أن يثبت النق�ص يف الت�أثري الوقائي الذي متلكه منظمات حقوق الإن�سان يف العامل حيث تعمل ،و� ّأن النظام حالي ًا يت�رصف بجر�أة �أكرث من �أي وقت م�ضى ،ويوا�صل توقيف نا�شطني رئي�سيني يف جم��ال حقوق الإن�سان ويتحر�ش بهم ،مثل نبيل رجب وعبد الهادي اخلواجة. ي�س�أل مقدم برنامج � ،Hardtalkستيفن �ساكر ،النا�شطة احلقوقية البحرينية مرمي اخلواجة« :من املهم التمييز بني �أن يكون املرء نا�شط ًا يف جمال حقوق الإن�سان ،و�أن يكون ويطرح ثورياً»� .س�ؤال كما هو وا�ضح هنا ،ا�ستفزازي ُ على �سبيل التحدي ،ويك�شف عن مفهوم حلقوق الإن�سان ي�صور النا�شطني على �أنهم جمرد جال�سني يف ال�صالونات ّ املريحة مع لوحات ذكية يف �أيديهم لتوثيق االنتهاكات. وي�ستخدم امل�س�ؤولون البحرينيون منطق ًا مماثالً .على �سبيل املثالّ ،بررت ال�سلطات توقيف نبيل رجب بدوره ال�سيا�سي يف االحتجاجات .وعلى الرغم من �أن ذلك قد يكون ذريعة وا�ضحة� ،إال �أن الكثريين يعتقدون � ّأن قرار رجب باملوافقة على امل�شاركة يف برنامج جوليان �أ�ساجن التلفزيوين ،كان جتاوز ًا لـ«اخلط الأحمر» املمنوع خرقه، على اعتبار �أنه ا�ستفزاز للواليات املتحدة التي احتملت حتدي رجب للنظام البحريني حتى تلك احلادثة .حينها، ّ �أوقفت الإدارة الأمريكية ،احلليف القوي للعائلة احلاكمة يف البحرين ،الدعم ال�ضئيل الذي كانت توفّره لرجب. ويف م�ؤمتر �صحايف�ُ ،سئلت املتحدثة با�سم البيت الأبي�ض: «هل تقولون للبحرينيني �إنكم تعتقدون بوجوب الإفراج عن نبيل رج��ب؟» ،فما كان من املتحدثة �إال الإجابة بـ«الآن وقد �صدر احلكم ،ال �أعتقد ذلك .نحن ال نتدخل يف هذه الق�ضية .لقد قلنا منذ البداية �إننا نعتقد �أ ّنه ما كان يجدر ال�سري قدم ًا بهذه الق�ضية». كذلك ف� ّإن املعار�ضة البحرينية ان ُتقدت على خلفية ظهورها وك�أنها تناف�س على نيل الدعم الغربي ،يف حني �أنه بر�أيي ،على حركة الن�ضال من �أجل حقوق الإن�سان، والتزامها ال�رضوري مع املنظمات غري احلكومية العاملية، ومقارها وجمل�س حقوق الإن�سان التابع للأمم املتحدة... ّ يف العوا�صم الغربية مثل جنيف ونيويورك ومنا�ضليها املحليني� ،أن تطلب هي ،ال املعار�ضة الت�ضامن والدعم 16
بدايات
العدد 2013 |6
من الغرب .هذا على النقي�ض من املزاعم املتكررة للنظام ،التي تفيد ب� ّأن االنتفا�ضة التي قادها �شباب البحرين مدعومة من �إيران. بح�سب املفهوم احلديث حلقوق الإن�سانُ ،ينتظر من النا�شط يف جمال حقوق الإن�سان �أن ّ يفك الرتابط بني ال�سيا�سة وخطاباتها ،و�أن يتماهى مع الو�ضع الذي يحاول العديد من ال�ضحايا التخل�ص منه ،وذلك با�سم «احلياد» و«التوازن» .بالتايلّ � ،إن اخلوف ينبع مما يح ّذر «موين» منه يف كتابه ،The Last Utopiaالذي ُيخت�رص ب� ّأن خطاب حقوق الإن�سان ميكن �أن ُين َزع عنه الطابع فخ الإف��راط يف التب�سيط ،لأن ال�سيا�سي �أو يقع يف ّ حقوق الإن�سان م� ّؤطرة بطريقة تبعدها عن �أي م�ساءلة عميقة لل�سيا�سة .من خالل التمثيل املتزامن للأ�شخا�ص على اعتبار �أنهم �ضحايا ،ومن خالل منا�شدة النظام احلايل ،ف�إن بع�ض منظمات حقوق الإن�سان حتقّق له حتمل خطاب ال�رشعية ،لذلك ف�إن الدولة تو�صلت �إىل ّ حقوق الإن�سان ومنظماتها ،ما دامت ال تطرح م�س�ألة �سلطة الدولة نف�سها .من هنا تنبع مفارقة تقارير حقوق ال �إىل الإن�سان .بعد كتابة ع�رشات التقارير التي ت�شري مث ً كيفية انتهاك الدولة البحرينية حلقوق الإن�سان ،ي�ضع املوجهة �إىل منتهِ ك التقرير جمموعة من «التو�صيات» ّ املتكرر، حقوق الإن�سان .هكذاُ ،يطلب من الدولة ،اجلاين ّ �أن ت�صلح نف�سها ،لتنتقل من منتهِ ك حلقوق الإن�سان �إىل ويتوقع منها �أن تكبح جماح بنيتها اجلرمية حا ٍم لهاُ ، التي تعتمد على البنية التحتية للتعذيب واالنتهاك.
«الدر�س هنا هو � ّأن الأمر املدمر احلقيقي لي�س يف الت�شديد على مطالب «نهائية» نعرف � ّأن من هم يف ال�سلطة ال ي�ستطيعون حتقيقها .فهم يعرفون �أننا نعرف ذلك ،وت�رصف متطلب مماثل ال ي�شكل �أي م�شكلة ملن هم يف ال�سلطة، «وهو �أمر عظيم لدرجة �أ ّنه مع مطالبكم الأ�سا�سية تذكروننا بنوع العامل الذي نريد جميعنا �أن نعي�ش فيه .ول�سوء احلظ، نعي�ش يف العامل احلقيقي ،حيث يجب علينا �أن ندبر �أمرنا مبا هو ممكن» .ما يجب فعله هو على العك�س من ذلك� ،أي �إمطار من هم يف ال�سلطة مبطالب دقيقة وحمددة ومنتقاة ب�شكل ا�سرتاتيجي ،ال ميكن الرد عليها بالعذر نف�سه». يف�ضل براون احلديث عن «م�شاريع للعدالة» ،فيما ينتقد جيجك االنتقال من م�س�ألة العدالة �إىل احلقوق ،ويعتربها �سمة من �سمات الر�أ�سمالية املت�أخرة التي ت�سحب من عدم امل�ساواة �صفة ال�سيا�سة ،وهو �أمر يعزز معظم انتهاكات حقوق الإن�سان حول العامل ،وي�ضع الدولة يف رتبة ا َ حل َكم �أمام عدم امل�ساواة تلك ،وبو�صفها الطرف الوحيد الذي ميكنه �أن يعيد هذه احلقوق .من جهة �أخرى ،تتطلب العدالة احلاجة العتماد �إجراءات �سيا�سية جذرية لتحدي الظلم واملخاطر العامليني .يعني الن�ضال احلقوقي يف النهاية االنحياز و�أخذ موقف وعدم احلياد ،والقدرة على حت�شيد النا�س (كما فعل نبيل رجب) ب�شكل يجرب احلكومة على �إيقاف االنتهاكات. وبنتيجة ذلك ،يجب على الن�ضال احلقوقي الفعال �أن يكون حمايد ًا وم�سي�ساً� .سجن النا�شطون احلقوقيون على الأر�ض، الذين حاولوا االبتعاد عن هذا املفهوم النيوليربايل حلقوق الإن�سان� ،أي نبيل رجب وعبد الهادي خواجة ،وذلك لي�س
�أعداء النظام و�أ�صدقا�ؤه ...يف الوقت نف�سه لكن يف ما نتحدث عن ت�سيي�س حقوق الإن�سان يف زمن الثورات ،هناك �أي�ض ًا قوة م�ضادة تعرقل ال�سيا�سة داخل حدود دائرة حقوق الإن�سان .منذ جلنة التحقيق البحرينية امل�ستقلة ،ركزت املعار�ضة ب�شكل غري مق�صود على تطبيق تو�صيات اللجنة اخلا�صة بحقوق الإن�سان كمطلب �أ�سا�سي ،فيما ُه ِّم�شت املطالب الأ�سا�سية الأخرى ،وهي حكومة متثيلية ،الف�ساد ،وحتقيق امل�صري .ال ميكن متييز ذلك عن موقف احلكومة ،حيث التحدي هو تطبيق تو�صيات اللجنة اخلا�صة بحقوق الإن�سان ،ولي�س الق�ضايا الوا�سعة اخلا�صة بال�سلطة والقوة .حتاجج احلكومة � ّأن التغيري �إ�ضايف ولي�س �أ�سا�سياً ،واملعار�ضة امل�سموح بها ا�ست�سلمت لهذه احلجة وللحديث عن الرباغماتية والرغبة بالتو�صل �إىل ت�سوية .وفق جيجك ،وهو بارع يف حتديد التناق�ضات ،ف� ّإن
املتكرر� ،أن ت�ص ِلح نف�سها ،لتنتقل من منتهِ ك حلقوق الإن�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــان ُيطلب من الدولة ،اجلاين ّ ويتوقع منها �أن تكبح جماح ُبنيتهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا �إىل ٍ حام لهاُ ، اجلرمية التي تعتمد على البنية التحتية للتعذيب واالنتهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاك �صدفة؛ فهو يعود ملقاربتهم الثورية حلقوق الإن�سان ،التي اعتربت الدولة � ّأن من ال�رضوري احتواءها .امل�س�ألة احلقيقية هنا لي�ست التزام النا�شطني احلقوقيني يف ال�سيا�سة ،لكن الرد على الدولة املهددة وحلفائها الذين يربرون التوقيف على قاعدة �أن مطالب حقوق الإن�سان مقبولة ما دامت ال ت�شكل خطر ًا على الدولة نف�سها .رغم � ّأن ثورة املنا�رصة متنح الأفراد ال�رشعية ،وبالتايل تعزز قوتهم ،ف� ّإن النا�شطني احلقوقيني يحتاجون �أن يفهموا كيف � ّأن اللغة احلقوقية نف�سها تفر�ض ح��دود ًا و�رشوط ًا عليهم .حني تحُ َ � َّ�ول املطالب ال�سيا�سية �إىل حقوقية ،هناك خطر حقيقي ب�أن 17
بدايات
العدد 2013 |6
ي�ؤدي ذلك �إىل تعزيز �سيطرة الدولة و�إ�ضعاف النا�س، وخ�صو�ص ًا حني ت�صبح انتهاكات حقوق الإن�سان «حتت ال�سيطرة» كما يدعي النظام اليوم. هنا ن��رى التناق�ض اخل��ا���ص بحقوق الإن�سان: النا�شطون احلقوقيون هم يف الوقت نف�سه معادون و�أ�صدقاء للنظام .يعادونه حني يتهمونه مع حلفائه ب�أ ّنه عما يح�صل وال يقوم مبا يكفي لتغيري الو�ضع، م�س�ؤول ّ ويحبونه حني يوجهون دعواتهم �إىل الدولة لتح�سني الو�ضع ويعيدون ال�رشعية �إليها .يعطي ذلك انطباع ًا ب� ّأن النا�شطني احلقوقيني يعار�ضون احلكومة ،لكن مدى هذه املعار�ضة يهم�ش حدود النقا�ش حول الو�ضع ال�سيا�سي. حني و�صلت حدود النقا�ش تلك �إىل الدعوة لـ«�إ�سقاط» النظام وم�ساندة احلق بالدعوة �إىل نظام «جمهوري» ،يف حالة عبد الهادي مثالً� ،أ�صبح العداء مربر ًا لل�سجن. ميكن بالتايل املحاججة ب� ّأن عبد الهادي خواجة ونبيل رجب موجودان يف ال�سجن حتديد ًا لأ ّنهما افرتقا عن التمثيل ال�شائع للنا�شطني احلقوقيني واعتربا «متطرفني» �أو «مت�شددين» لتربير �سجنهما. �إذ ًا ميكن تلخي�ص احلالة اخلا�صة يف البحرين بو�صفها بتلك التي فيها ت�سيي�س نا�شطي حقوق الإن�سان ،وعدم ت�سيي�س النا�شطني ال�سيا�سيني يف املجموعات املعار�ضة امل�سموح بها .على الأر���ض ،ت�ؤدي هذه القوة املتناق�ضة �إىل عرقلة الطريقة التي تتعاون من خالها املجموعات وتتناف�س .على �سبيل املثال ،يعرف اجلميع �أن دعوات نبيل رجب الثورية للتظاهر يف املنامة كانت حمرجة للمجموعات
املعار�ضة التي اتهمت ب�أ ّنها «تفتقر �إىل ال�شجاعة» حني رف�ضت التجاوب مع الدعوات �إىل التظاهر يف العا�صمة حيث كان نا�شطو حقوق الإن�سان يقومون بذلك .يف الوقت نف�سه ،ت�ستثمر هذه املجموعات املعار�ضة الكثري من ن�شاطاتها يف حقوق الإن�سان ،وهو جمال تعمل فيه منظمات غري حكومية ال متلك الكثري من املوارد. بغ�ض النظر ،ميكن تخطي هذه املناف�سة ،ويجب حتقيق ذلك من خالل فهم الأ�سباب وراء هذه الأدوار املتحولة ،و�إعادة التفكري با�سرتاتيجيات الطريقة الأمثل لإعادة ت�أكيد امل�سائل ال�سيا�سية املو�ضوعية التي ت�ؤ�س�س حلركة «� 14شباط».
عدم التوازن الدميوغرايف (االعتماد على العمال الأجانب، والتجني�س ال�سيا�سي) املواطنية �أي�ضاً. ميكن املحاججة ب �� ّأن «احل��ق باملدينة» هو يف قلب ال�سيا�سةّ � .إن احتالل دوار الل�ؤل�ؤة كان ت�أكيد ًا لقدرة ال�شعب على تقرير م�صري مدينتهم ،وا�ستخدام الف�ضاء العام كما ينا�سب حاجاتهم اليومية والتعبريية .يف بحث �آخ��ر ،ناق�شت فكرة � ّأن ما يجمع كل هذه العوامل مع بع�ضها البع�ض ب�شكل كارثي ،هو «�أزمة ال�سيادة» ،و�إذا مل تحُ َ ّل ف�ستعود االنتفا�ضات الدورية كل عقد من الزمن.
�إنهاء املعاناة وفق براون (� ،)2004إذا كانت م�شكلة البحرين اليوم هي معاناة �إن�سانية رهيبة نتيجة عدم وجود حقوق للإن�سان مقابل قوة الدولة التع�سفية ،ف� ّإن الن�ضال احلقوقي هو �أف�ضل تكتيك �ضد هذه امل�شكلة .لكن �إذا �شُ ِّخ�صت امل�شكلة على �أ ّنها حرمان النا�س املمنهج من حقوقهم من وجهة نظر احلق بتقرير امل�صري ودمقرطة القوة ب�شكل حقيقي والعدالة االقت�صادية يف توزيع الرثوات ب�شكل مت�ساوٍ، ف� ّإن الغطاء الرباغماتي والأخالقي وغري ال�سيا�سي خلطاب حقوق الإن�سان مييل �إىل جتنب وحتى رف�ض هذه امل�سائل عو�ض مناق�شتها ومعاجلتها .بالتايلّ � ،إن امل�رشوع ال�سيا�سي اخلامتة يف البحرين يعتمد على ا�ستعادة العدالة لقاء عقود من «� ّإن الن�ضال احلقوقي هو م�رشوع �أخالقي– �سيا�سي ،و�إذا احلرمان االقت�صادي ،واحلكم امل�ستبد ،والظلم ال�سيا�سي ،كان يطيح امل�شاريع ال�سيا�سية الأخرى (ومنها تلك التي والف�ساد امل�ؤ�س�ساتي ،والتالعب الدميوغرايف ،وانتهاكات تهدف �أي�ض ًا �إىل �إحقاق العدل) �أو يتناف�س معها� ،أو يرف�ضها، حقوق الإن�سان كلها جمتمعة ،وكذلك ق�ضية الأر�ض التي ف� ّإن الأمر يتخطى كونه تكتيكاً ،لي�صبح نوع ًا معين ًا من القوة ت�شكل قاعدة �أ�سا�سية للظلم وعدم امل�ساواة االقت�صادية -ال�سيا�سية التي حتمل �صورة خا�صة من العدالة� ،سي�ضطرنا �إىل ر�ؤيته وتقوميه واحلكم عليه بهذا ال�شكل .تتطلب منا هذه االجتماعية .تتهاوى هذه الق�ضايا على الهام�ش. امل�ضمون الأهم لالنتفا�ضة هو خطط الف�ساد العميقة االعتبارات التخلي عن مفهوم الرباغماتية املينيمالية ومفهوم واملعقدة التي متيز الأنظمة املتهاوية ،ومن �ضمنها ممار�سات الأخالق وما ي�أتي معها من �أجل مواجهة �أكرث تعقيد ًا مع قوى اال�ستيالء على الأرا�ضي .يف وقت من الأوقات ،خالل ال�سياقات ال�سيا�سية واخلطاب ال�سيا�سي مما ميكن عبارات احتالل دوار الل�ؤل�ؤة يف ،2011ف�ضحت جمعية املفهومني ال�سالفي الذكر تقدميه» (براون.)2004 «الوفاق» حقيقة � ّأن رئي�س وزراء البحرين املوجود يف ال�سلطة منذ 42عام ًا ا�شرتى �أر�ض ًا ا�سرتاتيجية يف «احلق باملدينة» هو يف قلب ال�سيا�ســـــــــــــــــــــــــة. جتمع املحتجون وهم �إنّ احتالل «دوار الل�ؤل�ؤة» كـــــــــــــــــــــــــــــــــــان موقعها مقابل 3دوالرات فقطّ . ت�أكيداً لقدرة النـــــــــا�س على تقرير م�صري مدينتهم، يحملون �أوراق ًا نقدية من فئة دينار واحد احتجاجاً. قبل ذلك ،ويف �آذارُ ،2010ن�رش حتقيق برملاين ح�صل وا�ستخدام الف�ضاء العـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــام على م�ستوى وطني ،وجد � ّأن 65كلم مربع ًا من الأرا�ضي كما ينا�سب حاجاتهم اليومية والتعبرييــــــــــــــــــــة التي متلكها الدولة تقدر قيمتها ب�أكرث من 40مليار دوالر انتقلت ملكيتها �إىل القطاع اخلا�ص من ،2003من لقد �أعطت ثورة املنا�رصة ،على م�ستوى فردي ،القوة دون دفع املبالغ الالزمة خلزينة الدولة ،يف ما يعرف ب�أ ّنه للمتظاهرين ،وك�رست حاجز اخل��وف من امل�ستبدين، «ا�ستيالء على � ٍ هم�ش الن�ضال احلقوقي أرا�ض» و«�سلب ملكية ممنهج» (�شي�شال وف�ضحت الظلم اليومي .ال يجب �أن ُي ِّ ّ � .)2012إن اال�ستيالء على الأرا�ضي ،من خالل عملية بو�صفه م�رشوع ًا �سيا�سي ًا �أخالقي ًا جماعي ًا قوة ومركزية قدم ردم البحر الذي زاد م�ساحة اجلزيرة بن�سبة � 10إىل الق�ضايا الأخرى ،و�أهمها الف�ساد وعدم امل�ساواة؛ �إذ ُت َّ 15يف املئة ،كان �رضوري ًا لإ�شباع نهم احلكومة بتنفيذ م�أ�ساة البحرينيني بو�صفها نق�ص ًا يف احلقوق الأ�سا�سية، م�شاريع عمالقة تعطي الدولة وجه ًا جديد ًا �رضوري ًا لكنها �أي�ض ًا تتعلق مب�س�ألة الأر�ض وامللكية (البالد مملوكة لت�صبح دولة عاملية .لقد بقي 3يف املئة فقط من ال�شاطئ من قبل جزء �صغري من نخبة تت�ألف من �أ�شخا�ص ي�صادرون يف البحرين ملكية للدولةّ � .إن ثلث ثروة الدولة على الأرا�ضي) التي هي جزء �أ�سا�سي من هذه امل�أ�ساة .ي�ضع الأقل قد ا�ستولت عليه العائلة املالكة مع مرور الوقت� .شعار احلقوق البحرين على الطريق ال�صحيح ،لكن ال ميكنه ب�شكل ن�سبيّ � ،إن هذا الإثراء ال�شخ�صي حلكام الدولة وحده طرح ق�ضية امللكية يف القرن احلادي والع�رشين ،وهو هم�ش �أمر يتطلب �صيغ ًا خمتلفة من العدالة. هو الأكرب يف العامل العربي .يف الوقت نف�سه ،لقد ّ 18
بدايات
العدد 2013 |6
الناسء و«الربيع العريب» دروس من إيران
هايده مغييث قد تعترب قلة من النا�س التغريات يف الأنظمة يف الدول العربية والدة لنظا ٍم جديد �سيغيرّ �أوجه املجتمعات التي استاذة العلوم و ّلدت الثورات .التغريات يف النظام التي �أُ ِ جن َزت من خالل حدد االجتماعية الثورة لي�ست �إال اخلطوة الأوىل يف م�سرية طويلة �س ُت َّ تدخلت والدرااست الناسئية نتيجتها النهائية ،من بني عنا�رص �أخرى ،و�إذا ّ يف جامعة يورك القوى اخلارجية ،من خالل اال�سرتاتيجيات التي جرى بتورونتو ،كندا .تبنيها خالل الفرتة التي تلت الثورة .والأبرز � ّأن النتيجة �ستتبدل ا�ستناد ًا �إىل ما �إذا كانت اجلهود �س ُتبذَ ل يف �سبيل لها مؤلفات وكتابات ّ عديدة عن المرأة ال�سيطرة على مطالب الثوار �أو تغيريها ،وما �إذا كانت يف ايران والعالم امل�شاركة ال�سيا�سية من قبل املواطنني تلقى الت�شجيع ،تحُ فَّز االسالمي� .أو تحُ َّظر .عادة ،ترغب النخب ال�سيا�سية التي ت�ستويل على ال�سلطة عقب الثورة يف تر�سيخ مكانتها وكبح املعار�ضة والتغلب عليها .وترغب القوى الدميقراطية التي تتمرد على احلرمان وعدم امل�ساواة والطغيان يف �أن ت�شهد على تنفيذ املطالب الثورية والوفاء بالوعود. ن�شهد اليوم هذه الظاهرة يف ما يتعلق باالنتفا�ضات التي عرف جمتمعة بـ«الربيع العربي» .وللأ�سف ،تو ّلدت ما باتت ُت َ بعد الن�شاط الثوري تغيريات تتناق�ض مع ت�صورات القوى التي ت�سعى �إىل التغيري ومع ُم ُثلها العليا .ولعل الأبرز يف التحول ال�رسيع مل�صلحة الأحزاب الإ�سالمية هذا ال�سياق � ّأن ّ الذي حدث عقب هذه االنتفا�ضات ،يف م�رص وتون�س على �سبيل املثال ،رغم �أ ّنه كان غري متوقّع ،يدعو بالفعل �إىل القلق .لأ�سباب متعددة ،من املتوقع اليوم �إقامة دول �إ�سالمية لكن جتربة �إيران حتديد ًا مكتملة ،على الطراز الإي��راينّ . حتذّرنا من التحديات اخلطرية التي تنتظر القوى الدميقراطية. �إيران :من ديكتاتورية �إىل �أخرى ال �شك يف � ّأن العواقب االجتماعية وال�سيا�سية لثورة عام 1979يف �إيران ،يف و�سط �سيا�سي كنت جزء ًا منه ،قد 19
بدايات
العدد 2013 |6
�أ ّثرت على نظرتي القامتة .فمن جهة ،كان من ال�صعب �أال �أت�أثر �إيجاب ًا باالنتفا�ضات ال�شعبية التي اجتاحت املنطقة يف ال�سنوات القليلة املا�ضية .لكن من جهة �أخرى، جعلتني جتاربي ال�سابقة ح��ذرة يف ردود فعلي على الن�شوة الثورية .وقد �أخربين �أخري ًا زميل يل ،وهو م� ّؤرخ، � ّأن امل�شكلة مع الباحثني خارج جمال التاريخ تتمثل يف �أ ّنهم ال ميلكون فهم ًا طويل الأمد الجتاه الأحداث ال�سيا�سية احلالية .وقد يكون ذلك �صحيحاً .لكن ت�أملوا مرة مترد فيها ال�شعب يف الدولة التي و ِلدت فقط كم ّ فيها� ،أي �إي��ران ،على حاكم م�ستبد ليقع الحق ًا حتت �سحر حاكم م�ستبد فا�سد �آخر يخدم م�صاحله الذاتية. يف القرن الع�رشين وحده� ،شارك ال�شعب االيراين يف حركات ا�شرتاكية كربى عدة ،وطنية و�إقليمية ،اجتمعت يف ثورتني تغيرييتني بارزتني ملكافحة الديكتاتورية، و�أج�برت �أربعة ملوك على الذهاب �إىل املنفى .ولعل حتول التطلعات �أكرث مثال يثري ال�صدمة والذهول على ّ واملطالب الثورية ،هو ما ظهر طبع ًا بعد ث��ورة عام � :1979أدت �إطاحة النظام امللكي �إىل �إقامة �سلطة دينية قدمية معادية للمر�أة تلغي احلقوق .ترتبت عن تلك النتيجة �أكالف هائلة دفعتها الن�ساء ،اللواتي � ّأيدن الثورة باملاليني وب�أ�شكال خمتلفة .بالن�سبة �إىل الن�ساء ب�شكلٍ خا�ص ،حتولت الثورة ذات املطالب التعبوية املتمثلة يف احلرية والدميقراطية والعدالة االجتماعية� ،إىل �سجن كبري يف عهد من عينوا �أنف�سهم حرا�س ًا لل�رشيعة .والواقع � ّأن ت�أثريات الهزائم املتكررة التي حلقت باحلركات ال�سيا�سية واالجتماعية التقدمية يف �إيران خالل القرن الع�رشين كانت عميقة على الن�ساء الإيرانياتّ � :إن �أبرز مطالب النا�شطني يف جمال حقوق امل��ر�أة املدافعني عن «احلق يف التم ّتع باحلقوق»� ،إذا ما اقتب�سنا مفهوم حنة �آرندت
املعمق ،ما زالت نف�سها تلك التي �أُع ِل َنت للمرة الأوىل يف مطلع القرن الع�رشين وبقيت غري منجزة منذ ذلك احلني. �أبرز مطالب النا�شطني يف جمــــــــــــــــــــــــــــــــال حقوق املر�أة املدافعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــني عن «احلق يف التم ّتع باحلقوق»� ،إذا ما اقتب�ســــــــــــــنا مفهوم ح ّنة �آرندت املعمق ،ما زالت نف�ســـــــــــــــــها تلك التي �أع ِل َنت للمرة الأوىل يف مطلع القرن الع�رشين وبقيت غري منجزة منذ ذلك احلــــــــــــــــــــــــــــــني
ل�سن الزواج للفتيات (وهو 18عام ًا �إلغاء احلد الأدنى ّ حالياً) ،وثمة تقارير عن م�سودة قانون �سيلغي احلظر على ت�شويه الأع�ضاء التنا�سلية للأنثى (ختان الإناث)� .سبق وت�شتتت كل الآمال بامل�ساواة بفعل االعتداءات املمنهجة واملتعمدة على الن�ساء ،من اختبارات العذرية التي تخ�ضع لها النا�شطات املعتقالت� ،إىل التحر�ش اجلن�سي باملتظاهرات ،ما يهدف �إىل �إذالل الن�ساء و�إخافتهن ودفعهن �إىل اخلروج من ال�شوارع. ت�شري الأحداث يف تون�س �إىل التوجه نف�سه .حتى الآن �شهدنا� :إدراج عبارة يف الد�ستور القائم ت�صف املر�أة ب�أنها «مكملة للرجل» ،ما يعتربه الكثريون خطوة لتحديد مكانة الن�ساء يف احلياة العامة يف تون�س؛ مناظرات تلفزيونية ب�ش�أن �إعادة عهد تعدد الزوجات �إىل تون�س يف �سبيل معاجلة اختالل التوازن الدميغرايف؛ �سلفيني مت�شددين يهاجمون الفنادق واحل��ان��ات وي�شتبكون مع طالب ليرباليني مييلون �إىل الي�سار يف اجلامعات؛ ورقابة �أخالقية ف�ضال عن ذلك ،يبدو ال�رصاع على الأعمال الفنية. ً املتزايد بني القوى العلمانية والدينية جلي ًا من خالل االعتداءات العنيفة املتعددة على ال�صحافيني والنا�شطني على �أيدي اجلهاديني الذين ي�ستوحون من ال�سلفية قوة �سيا�سية �صغرية �إمنا قوية يف �شمال �أفريقيا ،عازمة على �أ�سلمة املجتمع من جديد .كذلك � ّإن االعتداءات على مقر االحتاد العام التون�سي لل�شغل والأحزاب الي�سارية ،من قبل من يطلقون على �أنف�سهم ا�سم رابطة حماية الثورة، �إىل جانب �أعمال �إرهابية �أخرى ،بال عقاب حتى الآن، بلغت ذروتها من خالل �شكري بلعيدُ ،تعتبرَ مدعاة للقلق.
من جتارب الن�ساء يف �إيران وحذّرتهن من اقرتاف الأخطاء نف�سها .وهذا ما فعلته الباحثات اجلزائريات والنا�شطات يف جمال حقوق املر�أة ،ومن بينهن مريام هيلي لوكا�س وكرمية بنون وغريهما .من بني الأحداث التي ح�صلت يف مطلع القرن الع�رشين يف اجلزائر ،عرفن خري معرفة الأعمال الوح�شية التي يقدر املنا�ضلون الإ�سالميون على ارتكابها ال عن ر ّد اجلي�ش الوح�شي. با�سم العدالة الإ�سالمية ،ف�ض ً فهمنا جيد ًا املعنى اخلفي لت�رصيح الرئي�س حممد مر�سي بعد فوزه يف االنتخابات ،ومفاده � ّأن جناح الإخوان امل�سلمني يعبرّ عن االحتالل الثاين مل�رص على يد الإ�سالم.
م ّثلت الثورة الإيرانية وعواقبها جتارب حا�سمة بالن�سبة �إىل املنطقة والعامل .لذا ،من امللهم �أن ندر�س جتارب القوى تراجع حقوق املر�أة العربية الدميقراطية التي �شنت الثورة ،وبخا�صة جتارب الن�ساء التطورات التي ح�صلت يف املنطقة ،تدعم حتى الآن النا�شطات �أثناء الثورة ،بل و�أكرث من ذلك ،بعد الثورة .على خماوفنا .على �سبيل املثال ،فكروا يف �أنه بعد االنتفا�ضات �سبيل املثال ،ملاذا وكيف فقدت الن�ساء الإيرانيات بعد تغيري الدامية املدمرة يف ليبيا ،كان الت�رصيح «الثوري» الأول النظام عام ،1979ب�سهولة كبرية ،املكا�سب القانونية الذي �أدلت به احلكومة االنتقالية ،كما �أعلنه م�صطفى املتوا�ضعة وح�صتهن ال�ضئيلة يف موارد البالد االقت�صادية عبد اجلليل ،وع��د ًا برفع القيود على تعدد الزوجات واالجتماعية ،التي كانت مبثابة مكاف�آت حمدودة عن قرنٍ والتقيد ب�أحكام ال�رشيعة يف امل�سائل القانونية .ومن تقريب ًا من الن�ضال يف �سبيل الدميقراطية اجلندرية والعدالة؟ يعلم كيف �سي�أتي رد النخبة التي يف ال�سلطة على حملة ما يقلقني ،ول�ست بالت�أكيد الوحيدة التي تتخوف من ذلك ،ال�سلفيني الداعية �إىل الف�صل بني اجلن�سني يف جمال هو ما �إذا كان م�صري م�شابه ينتظر الن�ساء يف الدول العربية التعليم وميادين �أخرى يف احلياة العامة .ما من حتريف �إثر التغيريات احلديثة يف الأنظمة يف جمتمعاتهن .هل �أو ت�شويه للحقيقة ميكن �أن يغري واقع �أ ّنه عندما ت�صبح �سيبقى املجال ال�سيا�سي الذي فتحته االنتفا�ضات ال�شعبية ال�رشيعة �أ�سا�س الت�رشيع يف دولة ذات �أكرثية م�سلمة، مفتوح ًا �أمام الن�ساء اللواتي يتمتعن بوعي جندري و�أمام ينعدم �أي �أمل يف �أن حتظى الن�ساء مبعاملة عادلة ومن�صفة النا�شطات العلمانيات؟ وهل �ستدعم القوى العلمانية يف ما يتعلق بامل�سائل االجتماعية والقانونية. الي�سارية والليربالية التي متردت على الأنظمة الديكتاتورية يف م�رص� ،شدد الد�ستور الذي �صاغه على عجل على �أ�سا�س برنامج الدميقراطية والعدالة االجتماعية �أع�ضاء اجلمعية التي ت�ضم ح�شد ًا كبري ًا من ال�سلفيني واحلقوق ،هل �ستدعم الن�ضال يف �سبيل الدميقراطية والإخوان امل�سلمني ،ثم جرى الت�صويت عليه يف �إطار كبعد �أ�سا�سي للثورة� ،أم تنحيه �إىل مكانة ثانوية ،ا�ستفتاء �رسيع – �شارك فيه 32يف املئة فقط من الناخبني اجلندرية ُ مع منح الأولوية للمطالب الثورية الأخ��رى �أكرث منه – على «�أحكام ال�رشيعة» باعتبارها �أ�سا�س ًا للت�رشيع .ال لهواج�س املواطنات؟ هذه �أ�سئلة مهمة ،بخا�ص ٍة يف �ضوء ت�أتي هذه الوثيقة على ذكر حقوق املر�أة �إال يف �إطار العائلة، احلركات الفا�سدة البارزة يف تون�س وم�رص والهادفة �إىل وت�ستعمل لغة التلميح �إىل حماية كرامتهن و�أخالقياتهن ال عن تقوي�ض حقوقهن املدنية ب�أ�سلوب ي�شبه ب�شكلٍ ملحوظ الد�ستور الإيراين .يلوح قمع ن�شاط الن�ساء ،ف�ض ً والقانونية القائمة .بالن�سبة �إىل الن�ساء الإيرانيات ،ما اخلوف الآن فوق ر�ؤو�س الن�ساء اللواتي ظ ّ هن من نن �أ ّن ّ ال �إىل جانب الرجال يف ن�شهده يف ما يتعلق بتون�س وم�رص م�ألوف �إىل حد خطري .خ�لال امل�شاركة نهار ًا ولي ً ال عن قلقنا منذ البداية ب�ش�أن الأو�ضاع امل�ستجدة يف الدول احتجاجات �ساحة التحرير ،ك�سنب االحرتام ،ف�ض ً بهن كمواطنات يتمتعن بحقوق م�ساوية حلقوق العربية .يف �آذار /مار�س 2012عبرّ ت �شريين عبادي ،االعرتاف ّ تعرف الرجال .والآن تخ�شى الن�ساء تراجع الإ�صالحات التي احلائزة جائزة نوبل لل�سالم لعام ،2003والتي ّ عن نف�سها ب�أ ّنها حمامية م�سلمة تدافع عن حقوق الإن�سان ،طاولت قانون الأ�رسة و�أُ ِقّرت يف 2000و،2005 عبرّ ت عن خماوفها عندما دعت الن�ساء العربيات �إىل التعلم �إىل جانب ال�ضغط الذي ميار�سه الإ�سالميون يف �سبيل 20
بدايات
العدد 2013 |6
حقوق املر�أة الإيرانية بعد الثورة بالن�سبة �إىل الكثريين منا الذين عاي�شوا �إقامة النظام الإ�سالمي يف �إي��ران ومتكنوا من البقاء ،تعترب هذه الأعمال حمزنة ،على الرغم من �أنها لي�ست مفاجئة. كذلك� ،شاركت الن�ساء الإيرانيات ،من جميع مناحي احلياة ،يف ثورة عام .1979والأهم من ذلك� ،ش ّنت الن�ساء العلمانيات ،امل�ؤمنات وغري امل�ؤمنات على حد �سواء ،االحتجاجات اجلماهريية الأوىل �ضد مطالبة �آية الله اخلميني بعودة الن�ساء �إىل و�ضع احلجاب يف الأماكن أمر �صدر بعد �أ�سابيع قليلة من انهيار نظام ال�شاه العامةٌ � . و�صادف ،يا لل�سخرية ،ع�شية يوم امل��ر�أة العاملي لعام .1979لقد اعتربنا ،وكنا على حق يف ذلك ،ت�رصيح �آية الله مبثابة �ضوء �أخ�رض �أمام تدابري رجعية �أخرى، 21
بدايات
العدد 2013 |6
تبعت ذلك بالفعل� .أف�ضت انتفا�ضة الن�ساء العفوية ،غري املدعومة من � ٍّأي من املنظمات والأحزاب الي�سارية �أو الليربالية� ،إىل جتمعات حا�شدة �أمام مكاتب احلكومة امل�ؤقتة ،تبعتها اعت�صامات وتوقف عن العمل يف الوزارات وامل�ست�شفيات والهيئات احلكومية واملدار�س الثانوية املخ�ص�صة للفتيات .دامت هذه الن�شاطات �أ�سبوعني ،على الرغم من االعتداءات امل�ستمرة على املتظاهرات التي ارتكبها من ي�سمون �أنف�سهم �سفاحي حزب الله .مت ت�شكيل الكثري من اجلمعيات واملجموعات الن�سائية يف امل�ؤ�س�سات والوكاالت العامة واخلا�صة ،ويف كل جامعة� .أجربت قوة التحرك الن�سائي �ضد العودة �إىل و�ضع احلجاب تراجع ًا م�ؤقت ًا من جهة الدولة الدينية. ال وم�ؤقتاً .فقد �أ�صبح بيد � ّأن هذا النجاح كان �ضئي ً احلجاب �إلزامي ًا بعد ب�ضعة �أ�شهر ،بعد القمع الدموي للقوى الي�سارية املناه�ضة للحكومة يف اجلامعات ،واجتياح النظام لكرد�ستان و�صحراء تركمان ،و�أغالق كافة اجلامعات وطرد الأ�ساتذة والطالب الي�ساريني بذريعة «الثورة الثقافية» الإ�سالمية� .أُق ِف َلت كافة ال�صحف اليومية الليربالية ب�أم ٍر مبا�رش من �آية الله للع�صابات بـ«ك�رس �أقالم ال�صحافيني». وتقدم الإ�سالميني، تطلب مناخ القمع اجلديد هذا ّ ت�شكيل ائتالف وتعبئة الطبقات الو�سطى �إىل جانب الطبقة العاملة التي �شاركت يف االنتفا�ضة بطرقٍ خمتلفة، ال بتح�سني حياتهم وو�ضع حد للحكم اال�ستبدادي يف �أم ً �إيران .كان املطلوب �أن ن�أخذ على حممل اجلد الإ�شارات التي تنذر بارتفاع موجة اال�ستبداد �ضمن العباءة الدينية، ّ موحدة على �أو�سع نطاق ممكن �ضد ون�شكل جبهة ّ االعتداءات الفكرية والتنظيمية التي يرتكبها الإ�سالميون. «لو اجتمع الرجال ذوو العقلية الليربالية والن�ساء اللواتي حتالف يتمتعن بوعي جندري يف خندقٍ واحد ،لتحول ٌ �رج �سيا�سي وحلافظ على بني قوى املعار�ضة �إىل خم� ٍ الديناميكية الأوىل النتفا�ضة الن�ساء الإيرانيات دفاع ًا عن حقوق املر�أة واحلريات الفردية ،والدميقراطية االجتماعية وال�سيا�سية» .مل يغري �أي �شيء حدث منذ ذلك احلني وجهة النظر هذه ،ومفادها � ّأن قلة منا يف قيادة االحتاد الوطني للن�ساء يف �إيران جادلت با�ستمرار �ضد املوقف ال�شعبوي لبع�ض الن�ساء اللواتي �أ َّدين دور الو�سيطات بني منظمتنا ومنظمة فدائي� ،أكرب منظمة ي�سارية يف ذلك الوقت .بيد �أ ّنه ،وكما هو معروف ،مل يت�شكل ائتالف مماثل. �سهل غياب الدعم الكامل وامل�ساعدة من يف النهايةّ ، قبل جمتمع املثقفني العلمانيني و�صمت الي�سار والتبا�ساته
النظرية� ،أو يف �أح�سن الأحوال النقد اخلفيف والواهي لتعديات النظام الإ�سالمي على احلريات الدميقراطية، وبخا�صة على حقوق امل��ر�أة ،امل�سرية التي جعلت من �آية الله اخلميني قائد الثورة املت�شدد الذي ال يردعه رادع .ف�أ�صبحت النا�شطات عاجزات يف وجه االجتياح ال�سيا�سي الذي تعر�ضت له �إيران .روجت و�سائل الإعالم التي تديرها الدولة � ّأن امللكيني وم�ؤيدي الواليات املتحدة قد ت�سللوا داخل احلركة الن�سائية .كذلك ،بد�أت �رشيحة كبرية من الي�سار بالتلفظ بخطاب فحواه � ّأن امل�سائل التي تطرحها الن�ساء هام�شية مقارنة ب�أهداف الن�ضال الوطني ومناه�ضة الإمربيالية .انخدع الكثريون ،وبخا�صة من هم �ضمن الي�سار ،بدعم اخلميني ال�ستيالء الطالب امل�سلمني على ال�سفارة الأمريكية ،وظنوا � ّأن النظام «مناه�ض للإمربيالية» .وقد فاقمت حرب �إيران والعراق الو�ضع، و�أ�سكتت يف ال�سياق نف�سه الأ�صوات الن�سائية املعار�ضة للأجندة اجلندرية التي يتبناها الإ�سالميون ،و�ساعدت يف تراجع املكا�سب القانونية املتوا�ضعة التي حققتها الن�ساء يف ظل نظام ال�شاه كما يف و�ضع قيود جديدة ال ميكن تخيلها على الو�ضع االجتماعي للن�ساء وتنقالتهن. م�س�ؤولية احلركة الن�سائية الإيرانية مل تكن احلركة الن�سائية مبن�أى عن اللوم يف هذه العملية. يف البداية ،ف�شلنا يف اال�ستماع بدقة �إىل بيانات اخلميني اخلطابية التي تفيد ب� ّأن «الن�ساء والرجال مت�ساوون يف عيني ال��رب» .كان معنى ت�رصيحه ب� ّأن «احلكومة اجلديدة �ستمنح الن�ساء كافة احلقوق التي ُحرِمن �إياها، �ضمن نطاق ال�رشيعة» وا�ضح ًا وجلياً .بيد � ّأن �سيطرة امليول ال�شعبوية املناه�ضة للإمربيالية �أو التوقعات غري الواقعية ب�ش�أن الثورة �ضمن �صفوف فئات ال�سكان الإناث الأكرث ن�شاط ًا اللواتي يتمتعن بوعي جندري� ،أي الن�ساء املدنيات واملثقفات اللواتي ينتمني �إىل الطبقة الو�سطى ،منعتنا من حتقيق الوعود الثورية واتباع �أجندة القرون الو�سطى امللفوفة حتت العباءة الوطنية. ثانياً ،اعتربنا حقوقنا القائمة وحرياتنا ال�شخ�صية �أمر ًا م�سلم ًا به .مل نقم ب�أي ربط بني جتارب الن�ساء يف حركات مناه�ضة اال�ستعمار يف م�رص واجلزائر وفل�سطني و�أجزاء �أخرى من املنطقة .ومل نحاول �أي�ض ًا �أن نتعلم من جتارب الرائدات يف جمال حقوق املر�أة يف دولتنا :مت ّثلت مكاف�أتهن مقابل امل�شاركة يف الثورة الد�ستورية التي حدثت يف مطلع حق الت�صويت على الد�ستور القرن الع�رشين يف حرمانهن َّ 22
بدايات
العدد 2013 |6
م�س�ؤولية الفو�ضى يف ال�صعود الإ�سالمي دع��وين �أ�شدد على �أ ّن��ه ال �شيء مما قيل يهدف �إىل الإيحاء ب� ّأن كفاحات ال�شعوب يف الدول العربية يف �سبيل حتقيق العدالة االجتماعية والدميقراطية والعي�ش بكرامة كفاحات خا�رسة �سلف ًا ب�سبب الطابع الإ�سالمي للأنظمة اجلديدة� .أوالً ،كما يعرف اجلميع خري معرفة ،ال تنح�رص معاناة ال�شعوب يف املنطقة بالإ�سالم وح�سب، �أو حتى بارتفاع موجة الأ�سلمة .واملق�صود بذلك � ّأن ظاهرة الأ�سلمة املعا�رصة لي�ست ال�سبب ،بل هي نتيجة طبقة جمموعة �سيا�سات مفرو�ضة على املنطقة ُ وم ّ طوع ًا من قبل طغاة حمليني فا�سدين� .أ ّدت عقود من ال�سيا�سة االقت�صادية النيوليربالية وتقاع�س الدولة عن تقدمي خدمات الرعاية ،واخل�صخ�صة ،وتقا�سم الأموال العامة وتوزيعها على املتحالفني مع الأنظمة� ،إىل �إثراء �أقلية �صغرية مع ال�ضغط على باقي ال�شعب ،و�إغ�ضاب و�إحباط �أكرثية الطبقة العاملة الفقرية يف �آن واحد .كان الف�ساد احلكومي ،والتفاوت الهائل يف املداخيل ،والفقر والبطالة ،وقمع احلريات ال�سيا�سية وحرية التعبري واملناق�شات املفتوحة ،واحتواء البدائل الدميقراطية ،مع بع�ض التفاوتات ،النمط امل�ألوف يف كل مكان. كذلك � ّإن اال�ستياء العام حيال القوى الغربية ب�سبب �سعيها وراء م�صاحلها االقت�صادية واجلغرافية وال�سيا�سية� ،إىل جانب مغامراتها الع�سكرية ومعايريها املزدوجة ،وبخا�ص ٍة يف ما يتعلق بالعالقات الإ�رسائيلية/ �شوهت الفل�سطينية قد زادت جميعها من �سخط ال�شعبّ . هذه الظروف كلها مفاهيم الدميقراطية الغربية وحقوق الإن�سان وجعلتها مو�ضع �سخرية ،و�ساعدت الإ�سالميني يف الظهور كمدافعني عن الكرامة الوطنية والعدالة� .أدت �سبب �إ�ضعاف هذه ال�رشيحة عقود من قمع الي�سار ،ما ّ من املعار�ضة و�إمكانات التعبئة لديها� ،إىل جعل امل�ساجد و�ضع �ساعد على منو املكان الوحيد لتعبئة ال�سخط. ٌ الأحزاب الإ�سالمية ويف تنظيمها مل�ؤيديهاّ � .أكدت نتائج االنتخابات التي �أجريت بعد االنتفا�ضات على ما هو وا�ضح؛ �أي � ّأن الي�سار والقوى امل�ستقلة ما كانا يتمتعان بالفر�ص نف�سها على �صعيد التنظيم وال ي�ستطيعان التناف�س بفاعلية مع الأحزاب اال�سالمية. منا اخلمينيون يف �إيران ،والإخوان امل�سلمون يف م�رص، وجبهة الإنقاذ الإ�سالمية يف اجلزائر ،وحزب العدالة والتنمية يف املغرب ،وفروع �أخرى كثرية من الإ�سالم، وازدهرت كنتيجة لهذه الفو�ضى االقت�صادية وال�سيا�سية.
الأول للبالد �إىل جانب الأوالد واملجانني واملجرمني .كذلك، نقدر النقا�شات وال�رصاعات مل نكن ندرك� ،أو مل نكن ّ املحتدمة التي كانت جزء ًا ال يتجز�أ من عملية الفوز مبكا�سب دنيا للن�ساء يف ما يتعلق بقوانني الأحوال ال�شخ�صية خالل �ستينيات و�سبعينيات القرن املا�ضي .والأ�سو�أ من ذلك، اختارت �رشيحة كبرية من املعار�ضة �إما �أن ت�صمت �أو �أن تن�ضم �إىل النظام يف خطابه العدواين املناه�ض للإ�صالحات االجتماعية والقانونية للنظام ال�سابق ،باعتبارها ناجتة من ت�أثري الغرب املُ ِ ف�سد .غاب عن بالهم � ّأن الهدف والنتيجة النهائية لهذه الربوباغاندا كان ت�شويه �سمعة النا�شطات يف الدفاع عن حقوق املر�أة ومطالبها. الت�صور الأحادي اجلانب اليوم يف يرتدد �صدى هذا ّ م�رص .فكما �أ�شارت هدى ال�سادات ،النا�شطة يف الدفاع عن حقوق املر�أة يف حديث لها مع دينيز كانديوتي ،يتمثل �أحد العوائق الأ�سا�سية التي تواجهها النا�شطات املعنيات بحقوق املر�أة يف م�رص يف: ت�صور عام م�سيطر يربط الن�شاطات املعنيات بحقوق امل��ر�أة ون�شاطاتهن ب�سيدة م�رص الأوىل �سابق ًا �سوزان مبارك واملحيطني بها� ،أي ب�سيا�سات النظام الفا�سدة� .سبق وخ�ضع هذا الت�صور العام للتالعب ال�سيا�سي يف �سبيل �إلغاء القوانني والإجراءات الت�رشيعية التي مت متريرها يف ال�سنوات الع�رش املا�ضية بغية حت�سني الو�ضع القانوين للن�ساء ،بخا�صة يف �إطار قوانني الأحوال ال�شخ�صية. يف �إي��ران ،ترافق القمع الهائل واملنهجي للحركة الن�سائية مع تفكيك الإ�صالحات القانونية املحدودة التي �أجنزت خالل العقود املا�ضية باعتبارها �إمالءات �صادرة عن الأجانب وغري الإ�سالميني وال ت�ستفيد منها �إال الن�ساء من الطبقة العليا والطبقة الو�سطى العليا .من هنا ،بعد ثالثة �أ�سابيع فقط من الثورة� ،أُلغي قانون حماية الأ�رسة تبوء املراكز الق�ضائية .تبع ذلك القائمُ ، ومنعت الن�ساء من ّ تدابري �صارمة �أخرى �أعادت �إىل الن�ساء و�ضعهن ك�شبه مواطنات يف القوانني املدنية واجلزائية التي ت�ستند �إىل ٍ عندئذ بالتحديد ،عرفت الن�ساء وما ميكن ت�سميته ال�رشيعة. الأقليات ،الأهمية اال�سرتاتيجية للتغريات الأيديولوجية قيد حقوق وت�أثريها يف النظام ال�سيا�سي وقيادته ،وكيف ُت َّ املر�أة ب�إحكام عند طرح �إ�صالحات قانونية واجتماعية ٍ عندئذ بالتحديد، مالئمة من قبل نظا ٍم م�ستبد غري �شعبي. �سيقدرون عمق اخل�سائر �أو املكا�سب بالن�سبة �إىل الن�ساء، نتيجة التغيريات يف القوى ال�سيا�سية ،وذلك على �صعيد احلماية القانونية والو�صول �إىل املوارد. 23
بدايات
العدد 2013 |6
إح�سا�سها و�سلبها � و�أدى حرمان ال�شعوب الرتبي َة ال�سيا�سية َ ُ بالكرامة ،الأمن االقت�صادي والأمل� ،إىل جعلها �سهلة الت�أثر واالنقياد ومتلقفة لفكرة � ّأن الإ�سالم هو الرد الوحيد القابل للتطبيق واملنا�سب ثقافي ًا على الظلم االجتماعي قدم الوظائف واخلدمات الطبية والب�ؤ�س ،وبخا�ص ٍة عندما ُت َّ وغريها من خدمات الرعاية االجتماعية باعتبارها م�ساعدة خفية من الله ،وطبع ًا مع تدفق الدوالرات من قوى �إقليمية ّ غنية بالنفط .كذلك ،ثمة جي�ش من الطبقة الدنيا م�ستعد لتنفيذ �أوامر �أخالقية ودينية مبتدعة ّ تركز على التحكم باحلياة اجلن�سية للمر�أة و�سلوكها الأخالقي. فلنفرت�ض ك�أمر ُم�س َّلم به � ّأن الإ�سالميني ال ي�شكلون كتلة غري متمايزة .ال �شك يف � ّأن اخلالفات موجودة بني الإخوان امل�سلمني يف م�رص وحزب النه�ضة وبني جمرمي تنظيم القاعدة /حركة طالبان يف �أفغان�ستان ،و�أن�صار ال�رشيعة يف تون�س ،وع�سكر الإ�سالم يف �سوات يف �شمال باك�ستان �أو ع�صابات �أن�صار الدين املتهورة يف مايل .بيد �أ ّنه عندما يتعلق الأمر مب�سائل عائلية ،والن�ساء واحلياة تركيز الإ�سالميني على الأج�ســــــــــــــــــــــــــــــاد، وطهارة الن�ساء و�رشفهن يعني �أنّهــــــــــــــــــــــــــم �سيقفلون بعنف كافة امل�ساحات العامـــــــــــــــــــــــة يف وجه النا�شطات العلمانيـــــــــــــــــــــــــــــــــات املعنيات بحقوق املر�أة ،و�سيحاولون يف �أح�ســــــــــــن الأحوال ال�سيطرة عليهن �ضمن حدود ال�رشيعة بالتايل، �أينما كان ترتافق املكا�سب ال�ســـــــــــــــــــــــــيا�سية التي يحققها الإ�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالميون مع خ�سائر تتكبدها الن�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء غني اجلن�سية ،تختلف درجة اخلالفات بني هذه املجموعاتٌّ . عن القول � ّأن قوة �سلطة هذه املجموعات االيديولوجية وال�سيا�سية تحُ َّدد بح�سب م�ستوى التقدم االقت�صادي واالجتماعي يف املجتمعات التي تن�شط فيها ،وقوة القوى التي تكافح الهيمنة .غري � ّأن تركيز الإ�سالميني على الأج�ساد ،وطهارة الن�ساء و�رشفهن بح�سب التعريف الذكوري لهما ،يعني �أ ّنهم � -إذا ما ح�صلوا على فر�صة - �سيقفلون بعنف كافة امل�ساحات العامة يف وجه النا�شطات العلمانيات املعنيات بحقوق امل��ر�أة ،و�سيحاولون ـ يف �أح�سن الأحوال -ال�سيطرة عليهن �ضمن حدود ال�رشيعة. بالتايل� ،أينما كان ترتافق املكا�سب ال�سيا�سية التي يحققها الإ�سالميون مع خ�سائر تتكبدها الن�ساء.
لهذا ال�سبب ،من غري املجدي ت�ضخيم اخلالفات بني الإ�سالميني ،والأ�سو�أ من ذلك ،جتاهل واقع �أ ّنه مع ازدياد ت�أثري الأ�سلمة منذ منت�صف �سبعينيات القرن املا�ضي، تغيرّ الطابع اجلندري للممار�سات املرتبطة بالعالقة بني ال عن ذلك ،تعترب االيديولوجيات الدولة واملجتمع .ف�ض ً وامل�ؤ�س�سات البطريركية والنيو بطريركية يف املنطقة � ّأن مهمتها التي �أعلنتها ب�شغف كبري تتمثل يف �إعادة �إر�ساء العقيدة والتعاليم الدينية املحافظة املرتبطة بو�ضع املر�أة .والواقع � ّأن ازدراء ذكاء املر�أة وا�ستقرارها العاطفي متيز الأوام��ر الدينية والنظام والأخالقي عالم ٌة فارقة ّ الأخالقي الذي تتبعه �أنواع خمتلفة من الأ�صولية. بالتايل� ،سيكون من امل�ضلل القول ،كما يفعل البع�ضّ � ،إن الأح��زاب اال�سالمية يف م�رص ،وتون�س و�أماكن �أخرى ت�شبه متام ًا الدميقراطيني امل�سيحيني يف �أملانيا �أو ال�سويد� .أو القول � ّإن «الإ�سالميني اليوم لي�سوا هم �أنف�سهم �إ�سالميي عام ،1979و�إ ّنهم ال ي�ستبعدون �أح���داً ،يحرتمون ال��ت��داول الدميقراطي ،وه��م مرنون يف تف�سريهم لل�رشيعة» .من امل�ؤكد � ّأن مقيا�س هذا االعتدال الذي يح�سدون عليه ،وهذا النوع الدميقراطي من الإ�سالم ،هو ما �إذا كان حزب �أو نظام �إ�سالمي ما معادي ًا للغرب .فالإخوان امل�سلمون يف م�رص ،على �سبيل ال مرتفع ًا على هذا ال�صعيد ،وتقوميهم املثال� ،سجلوا معد ً جنى ثمار و�ساطتهم بني الواليات املتحدة� /إ�رسائيل وحركة حما�س خالل اجلولة الأخرية من االعتداءات الإ�رسائيلية على غزة عام .2012 م�س�ؤولية الغرب والي�سار ينبغي �ألاّ يفاجئنا التعتيم املتعمد على الأجندة التي يتبعها الإ�سالميون ب�إ�رصار� ،أجندة �إعادة �صياغة احلقوق و�إعادة ر�سم حياة املواطنات ،على الرغم من � ّأن الدفاع عن حقوق املر�أة كان الذريعة الجتياح �أفغان�ستان والعراق .من ال يعرف � ّأن قمع الن�ساء امل�سلمات على �أيدي الرجال امل�سلمني كان �أداة �شيطانية لتربير املغامرات الع�سكرية يف املنطقة؟ رغم ذلك ،من املذهل � ّأن احلكومتني الأمريكية والربيطانية تعمالن الآن بكامل قواهما على الرتويج لـ«الإ�سالم املعتدل» يف املنطقة� ،آملتني ال�سيطرة على موجة املقاومة املرتفعة املناه�ضة ل�سيا�ساتهما االقت�صادية اال�ستعمارية اجلديدة والنيوليربالية يف املنطقة .هما ت�ستمران يف اتباع ا�سرتاتيجية احلرب الباردة التي تق�ضي بتو�صيف الي�سار العلماين والقوى الوطنية يف املنطقة ب�أ ّنهما عدوان ،وال�سعودية والوهابيني 26
بدايات
العدد 2013 |6
�إىل َمن �سيميل ميزان القوى يف املنطقة؟ تقدم ،ال �أعتقد � ّأن �أحد ًا ي�ستطيع على الرغم من كل ما ّ �أن يتوقّع حق ًا املنحى الذي �ست�ؤول �إليه االنتفا�ضات العربية يف امل�ستقبل القريب .الآن ،تواجه املجتمعات التي �شهدت انتفا�ضات ثورية خالل ال�سنوات القليلة املا�ضية نظام ًا جديد ًا مل تتو�ضح بعد معامله وتعقيداته ال طبعاً، وتناق�ضاتهُ .يحتمل ،وعلى املرء �أن يبقى متفائ ً �أن ُتن ِتج الثورات غري املنتهية يف املنطقة نتائج مواتية �أكرث مل�صلحة القوى الدميقراطية التي �أ�شعلت فتيل هذه االنتفا�ضات .ب�رصف النظر عن وجود جمتمعات مدنية ناب�ضة باحلياة ترف�ض التوقف عن ممار�سة ن�شاطاتها، قد ت�ؤثر بع�ض الفوارق بني الثورات يف �إيران مقارنة بالثورات يف تون�س وم�رص ب�شكلٍ �إيجابي على جمرى الأحداث وتعك�س موجة اال�ستبداد الإ�سالمي. بداية� ،أُجهِ َ�ضت الثورات يف الدول العربية التي جنحت يف حتقيق تغيري يف النظام من خالل ن�صيحة القوى الأجنبية وم�ساعدتها الفعالةَ .ه َد َف خروج بن علي ومبارك املبكر �إىل احل�ؤول دون االنهيار التام للنظام ب�أكمله ،وعدم امل�سا�س باجلي�ش والقوى الأمنية ،بخالف ما ح�صل يف �إيران .جنح الإخوان امل�سلمون وحزب النه�ضة يف الفوز باالنتخابات ،وهما الآن ي�سيطران على الربملان، ويف حالة م�رص ،الرئا�سة �أي�ضاً .ولكن مبا � ّأن النظام كله ينه ْر ،مل يتمكنا من ال�سيطرة على القوات امل�سلحة مل َ واكتفيا ب�إبرام ال�صفقات على الرغم من � ّأن الت�رصيحات احلديثة لوزير الدفاع اجلرنال ال�سي�سي التي تفيد ب� ّأن «اجلي�ش لن يقف مكتوف اليدين فيما ت�صل الدولة �إىل نقطة الالعودة على طريق احلرب الأهلية» ،جتعل املرء يت�ساءل كم من الوقت بعد �س ُتحترَ َ م هذه ال�صفقات. املعار�ضة امل�رصية نا�شطة جداً ،ولديها بع�ض النفوذ كما يتبينّ ،من بني �أ�شياء �أخرى ،من خالل �إلغاء املر�سوم الرئا�سي لالنتخابات النيابية من قبل املحكمة الإدارية يف م�رص يف �شهر ني�سان� /أبريل .مل تكن هذه احلال يف �إيران حيث غادر البالد �أع�ضاء كثريون من طبقة ال�صناعيني ورجال الأعمال الرائدة يف البالد ،جرناالت ح�سم م�صري ال�شاه. و�صفوة البريوقراطيني ،قبل �أن ُي َ ما نراه يف الدول العربية هو عدم ا�ستقرار �سيا�سي وا�شتباكات م�ستمرة ،مع م�شاركة طبقة �أ�صحاب الأمالك ورج��ال الأعمال يف الن�ضال للح�صول على ح�صة يف ال�سلطة .بيد � ّأن وجود م�صالح خمتلفة يف بيئة ما بعد االنتفا�ضة قد يوفّر فر�صة �سانحة للقوى الدميقراطية،
املدعومني من قطر ب�أنهم �رشكاء �أهل للثقة يف �أفغان�ستان واليمن والبحرين وم�رص و�أماكن �أخرى. ما ي�ضايق �أكرث هو الت�أييد غري املربر الذي تتلقاه املجموعات الإ�سالمية املتطرفة من �رشيحة من الي�سار، والباحثني املناه�ضني للعن�رصية واملناه�ضني للحرب ونا�شطني من الغرب .يبدو � ّأن االع�تراف بالتحديات ال�سيا�سية والأخالقية التي يطرحها الإ�سالميون �أمام هيمنة ال عن ممار�ساتهم اجلندرية، الغرب وقيمه الليربالية ،ف�ض ً ويف بع�ض الأحيان حتى وح�شيتهم �ضد الن�ساء ،ال تثري ال عن �إدانة �رصيحة .ولعل املنطقي يف قلقا كبري ًا ،ف�ض ً ً بع�ض الأحيان هو � ّأن ال�شعوب التي تعاين الفقر والبطالة والعدوان اال�ستعماري اجلديد ينبغي �أال تكون منق�سمة ب�شدة من خالل طرح �أ�سئلة مرتبطة باجلندر .يف�شل منطق مماثل يف االعرتاف ب� ّأن الن�ساء ميثلن الأغلبية ال�ساحقة من جيو�ش الفقراء والعاطلني من العمل وامل�ست َغلني يف هذه املجتمعات ،بالإ�ضافة �إىل �أ ّنهن �أهداف يومية للإذالل امليزوجيني (الكاره للن�ساء) والعنف. جعل منط التفكري ه��ذا ال�صحافية امل�رصية منى الطحاوي حمط االنتقادات ب�سبب خماوفها التي عبرّ ت عنها حيال ال�سيا�سات التي يعتمدها الإخوان امل�سلمون �ضد الن�ساء ،على الرغم من �أ ّنها كانت تدين �أي�ض ًا اجلي�ش ب�سبب وح�شيته جتاه النا�شطات .ويف منا�سبات �أخرى ،كانت ت�ست�شهد بواقع العن�رصية املناه�ضة للم�سلمني يف الغرب لإ�سكات االنتقادات التي تناولت املمار�سات اجلندرية الإ�سالمية .هذه كانت احلال عندما �أُدينت فرقة الهيب هوب الفل�سطينية «دام» ب�سبب �رشيط فيديو مو�سيقي �صورت �أنتجته وتناول جرائم ال�رشف .قال النقاد � ّإن الفرقة ّ ٍ أ�شخا�ص غري متح�رضين ،يلومون املجتمع «الفل�سطينيني ك� ّ ويحطون من قدر الثقافة» و�إ ّنها «اتبعت �سيناريو حملة عاملية �ضد» ما ي�سمونه «جرمية ال�رشف املزعومة» .انطالق ًا من املنطق نف�سه ،يدين �آخرون الدفاع عن حقوق املر�أة يف املنطقة ،وذلك عامة من خالل الدعم الغربي الذي ي�شمل هن غالب ًا الن�ساء «العلمانيات واملواليات للغرب واللواتي ّ مناه�ضات للإ�سالم» وال ي�أخذ يف االعتبار معاناة «الن�ساء اللواتي ينتمني �إىل الإخوان امل�سلمني» يف ظل عهد مبارك. النقطة التي �أُغ ِفلت هنا هي م�س�ألة التوازن .واملق�صود بذلك � ّأن احلقائق االجتماعية متعددة الأبعاد ومتكاملة، ولي�س علينا �أن نختار من بني قوى القمع يف حماولة لتحديد ما �إذا كانت �إحداها �أكرث �إ��ضرار ًا من الأخ��رى باحلياة ال�سلمية والكرمية للن�ساء. 27
بدايات
العدد 2013 |6
وال�شبان العاطلني من العمل الذين ي�سعون �إىل التغيري، النا�شطني يف الدفاع عن حقوق املر�أة ،النقابات العمالية، والطبقتني الفقرية واملتو�سطة ،لتتكتل جمدد ًا وتعيد ت�شكيل نف�سها كي تنقل �إىل ال�شعب وجهات نظرها وا�سرتاتيجياتها البديلة الهادفة �إىل حتقيق التغيري وو�ضع حد للهجوم االيديولوجي وال�سيا�سي الذي ي�شنه الإ�سالميون. ال بد من �إيالء اهتمام خا�ص �إىل عاملني مهمني �آخرين و� /أو اختالفني ما بني جتارب �إيران والدول الثورية اجلديدة يف املنطقة� .أوالً ،تفادت تون�س وم�رص الأحداث الدامية املبا�رشة التي ح�صلت يف مرحلة ما بعد الثورة يف �إيران التي �شهدت الذبح الفعلي ملئات ال�شخ�صيات البارزة يف النظام ال�سابق ،جرناالت يف اجلي�ش ،وزراء� ،أع�ضاء يف الربملان ،بريوقراطيون بارزون ،و�ضباط �أدنى مرتبة يف اجلي�ش وقوات الأمن ،وذلك خالل الأ�سابيع والأ�شهر الأوىل بعد الثورة .و ّلدت هذه املجزرة حالة من الغ�ضب العارم امل�ستمر بني فئات ال�سكان الذين كانوا على عالقة بال�ضحايا �أو الذين �أملوا ،بب�ساطة ،حماكم ًة عادلة وعلنية له�ؤالء الأفراد .ا�ستمرت عمليات القتل التي ال ترحم حتى ٍ وقت الحق ،بعد حرب �إيران والعراق .كذلك� ،أمر اخلميني قبل موته بقتل عدة �آالف من ال�سجناء ال�سيا�سيني ،وتال ذلك عمليات خطف واغتياالت ُعرفَت بـ«القتل املت�سل�سل» ل�شخ�صيات بارزة داخل �إيران وخارجها. كانت عواقب عنف الإ�سالميني متعددة .جعلوا النا�س تف�شت بعمق يف عدميي الإح�سا�س جتاه العنف ،م�شكلة ّ املجتمع الإيراين ،وهي الآن م�صدر قلق اجتماعي كبري وم�صدر خوف بالن�سبة �إىل املواطنني العاديني .كذلك �أدى عنف الدولة و�سفك الدماء امل�ستمر �إىل �إحباط و�إخافة الآخرين الذين �شاركوا بحما�سة يف تظاهرات ال�شوارع مبح�صلتها ،لكنهم قبل الثورة ،والذين خابت �آمالهم ّ �أ�صبحوا خائفني� ،أو م�شلولني ،ب�سبب وح�شية النظام اجلديد. ثمة عامل ثانٍ مهم� ،إذ على خالف الو�ضع يف �إيران، مل تعتمد االنتفا�ضات يف الدول العربية على خطاب مناه�ض للغرب ومناه�ض للإمربيالية لتعبئة الدعم ال�شعبي .ومل تكن �إقامة دولة �إ�سالمية �أو حكم ال�رشيعة وحد القوى املختلفة كان �رضورة م�شرتكة مطلباً .ما ّ ّ تق�ضي با�ستبدال الأنظمة القائمة بدولة م�س�ؤولة تفكر مب�صلحة النا�س وتقدر على و�ضع حد للأزمات ال�سيا�سية يب�سط البع�ض هذه املطالب ويقول � ّإن واالقت�صادية .قد ّ مطالب االنتفا�ضات عك�ست «الفكر الإ�سالمي املعا�رص»، وبالتايل كانت االنتفا�ضات يف العامل العربي ،وبخا�ص ٍة
دفاع ًا عن الإ�سالم ،ال من �أجل مكاف�آت اقت�صادية. وتظهر كلماته ال�شهرية « -االقت�صاد للحمري ولي�س للم�ؤمنني» -بو�ضوح ما كنا نتعامل معه.
يف م�رص وتون�س« ،ثورات �إ�سالمية» والتطورات التي ح�صلت يف ما بعد جاءت كما كان ينبغي �أن تكون. والواقع �أ ّنه نظر ًا �إىل � ّأن مطالب الثورات يف � ٍّأي من الدول العربية مل تت�ضمن حكم ال�رشيعة �أو العودة �إىل ممار�سات ذات طابع �إ�سالمي �أكرث ،ي�ستطيع املرء �أن يقول هل يبد�أ �أفول الإ�سالميني؟ بعقالنية �إنها كانت انتفا�ضات �شعبية ملجموعة �شعوب �أي خال�صة ميكننا �أن ن�ستمدها من ذلك كله؟ ال �شك يف � ّأن م�سلمة ب�أغلبيتها ال�ساحقة ولديها مطالب علمانية �إ�شارات كثرية تدل على التحديات ال�صعبة التي تواجه وا�ضحة .بالتايل ف� ّإن الإ�سالميني الذين يف احلكم عاجزون ال�شعوب يف الدول العربية ،وبخا�صة املعار�ضة التي مت ّثل عن التالعب بالعواطف الدينية لل�شعوب وي�صفون الن�ساء جزءًا منها .لكننا نرى �أي�ض ًا �إ�شارات كثرية تدل حتديات املعار�ضة ب�أنها مناه�ضة للإ�سالم ،كما فعل على � ّأن املنا�ضلني الإ�سالميني يفقدون �سيطرتهم على نظرا�ؤهم يف �إيران .هم ال ميلكون قائد ًا ذا �شعبية طاغية ال�شعب يف كل دولة ذات �أكرثية م�سلمة ذاقت جرعة من ك�آية الله اخلميني ،لديه خمطط ايديولوجي عن نوع عنف الإ�سالميني وخططهم الوهمية الهادفة �إىل �إعادة النظام الذي �سي�ستبدل النظام امللكي (والية الفقيه) ،لديه �إر�ساء التقاليد الإ�سالمية التي ال متت ب�صلة �إىل خماوف موهبة رائعة يف التوا�صل مع النا�س والتالعب بعواطفهم ال�شعوب احلقيقية وحاجاتها امللحة .املقاومة امل�ستمرة الدينية ،ويفلت من العقاب ب�سبب �أ�شكال ال ميكن يف وجه الأحزاب الإ�سالمية احلاكمة يف تون�س وم�رص، مقر ت�صورها من العنف ارتكبها �ضد املعار�ضة .ف�ض ً ال عن ت�شهد جميعها على حقيقة واحدة ،اقتحام النا�س ّ ذلك ،امل�شاركة املت�أخرة ن�سبي ًا حلزب النه�ضة وللإخوان امليلي�شيا الإ�سالمية يف ليبيا� ،إثر قتل ال�سفري الأمريكي، امل�سلمني يف التظاهرات ال�شعبية ،حترمهما �أي ادعاء �ضد م�سريات احتجاجية يف باك�ستان عقب �إطالق النار القوى الأخرى ب�أنها �أ�شعلت فتيل االنتفا�ضة ،وبالتايل على مالال يو�سف زاي وذب��ح العالمِ يف جمال لقاح الأنفلونزا ،التظاهرات احلا�شدة يف ال�شارع �ضد حزب متلك �أ�سباب ًا �رشعية للحكم. من �ش�أن هذه العوامل كلها �أن ت�ساعد املعار�ضة يف اجلماعة الإ�سالمية يف بنغالد�ش ت�شهد على واقع واحد: الرتكيز على الق�ضايا التي حفّزت اندالع هذه الثورات :ثمة الكثري من الرجال والن�ساء يف �صف الإ�سالميني، الأنظمة الع�سكرية اال�ستبدادية؛ معدل البطالة املرتفع لكن هناك العدد نف�سه على الأقل من الرجال والن�ساء يف �صفوف ال�شباب الذين ي�شكلون ما بني � 50إىل 65الذين يعار�ضون رفع ال�شعار الإ�سالمي لليمني الديني يف املئة من جمموع ال�سكان يف الدول العربية؛ الأجور يف دولهم .كذلك ،ي�شعر النا�س ب�أنهم لي�سوا بحاجة �إىل املتدنية ،م�ضايقات ال�رشطة ،ف�ساد الدولة ال�صارخ؛ ال�سلفيني �أو حركة طالبان� ،أو غريها من فروع تنظيم وتركز ال�ثروة والأع��م��ال وفر�ص العمل بني �أي��دي القاعدة ليخربوهم كيف يكونون م�سلمني �صاحلني. �أوردت رنا جواد من ليبيا يف �شهر �أيلول� /سبتمرب � ّأن الأ�شخا�ص املرتبطني بالنظام. ال من النا�س �أخربها � ّأن وجود الأحزاب الدينية كان رجال الفكر الي�ساريون والليرباليون الذين بد�أوا «عدد ًا هائ ً التظاهرات يف �إيران �ضد ال�شاه يعانون من مظامل مماثلة .بحد ذاته مفهوم مهني» .طبعاً ،جعلت حالة �إيران ،بعد �إر�ساء بيد � ّأن عجز النظام عن التجاوب مع مطالبهم بفاعلية النظام الإ�سالمي يف البالد ،النا�س يف املنطقة يدركون وب�رسعة� ،إىل جانب مهارة اخلميني ومعاونيه املراوغة واقع �أ ّنه عندما يتعلق الأمر مب�س�ألة احلرية والكرامة والعدالة ال من دولة ا�ستبدادية يف جمع النا�س حول فكرة التهديد اخلارجي ،ما جنح االجتماعية ،لي�ست الدولة الدينية بدي ً يف حتويل االنتباه� ،أقله م�ؤقتاً ،عن املطالب االقت�صادية �شبه علمانية .كذلك ف�إنه عندما ميتزج التحفظ الديني وال�سيا�سية الأ�سا�سية للثورة .ومت ّثل رد �آية الله اخلميني بالتمييز على �أ�سا�س اجلن�س والطبقية والتمييز العرقي على مئات �آالف النا�س الذين ُدفعوا �إىل الفقر يف �أعقاب والديني� ،إىل جانب ال�سيا�سات االقت�صادية النيوليربالية، حتقيق الوعود الكاذبة التي ت�صبح املعركة يف �سبيل بلوغ احلقوق الدميقراطية وحتقيق الثورة ،والذين كانوا ي�أملون َ قطعها الإ�سالميون قبل الثورة ،ومنها على �سبيل املثال العدالة االجتماعية �أكرث خطورة حتى. �إغاثة على �شكل قرو�ض م�رصفية ،كهرباء جمانية بد�أت املقال بنظرة قامتة نوع ًا ما ،لكن �أود �أن �أختتمه وتوزيع مت�سا ٍو لعائدات النفط ،يف � ّأن النا�س انتف�ضوا بالأمل والتفا�ؤل .تثبت مقاومة رجال الفكر والعمال 28
بدايات
العدد 2013 |6
وال�شباب واملجموعات الن�سائية �ضد الإ�سالميني الذين يف �سدة احلكم ،اجلي�ش وطبقة رجال الأعمال و�أ�صحاب الأمالك يف الدول العربية الثورية � ّأن �آفاق م�ستقبل �أكرث دميقراطية للنا�س ،وللن�ساء ب�شكلٍ خا�ص ،مل َت ِ�ضع يف وجه التطورات التي تلت االنتفا�ضة .ن�شهد اليوم على ت�شكل حتالفات �سيا�سية كربى يف م�رص وتون�س وليبيا ودول عربية �أخرى ،وذلك على �أيدي �أفراد و�أحزاب �سيا�سية ت�سعى �إىل التغيري ،الي�سار ،الليرباليني ،الأقليات الدينية ،ال�شباب، النقابات العمالية و�رشائح منظمة �أخ��رى من املجتمع املدين .وفق ًا للم�ؤ�رشات كلها ،هي عازمة على حماية احلقوق القائمة وامل�ؤ�س�سات القانونية املدنية ،وال�ضغط يف �سبيل حتقيق املطالب الدميقراطية لالنتفا�ضات. جعلت حالة �إيران ،بعد �إر�ساء النظام الإ�ســــــــــالمي يف البالد ،النا�س يف املنطقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة يدركون واقع �أنّه عندما يتعلق الأمر مب�ســــ�ألة احلرية والكرامة والعدالة االجتماعيـــــــــــــــــــــــــــــــــة، لي�ست الدولة الدينية بدي ً ال من دولــــــــــــــــــــــــــة ا�ستبدادية �شبه علمانيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة ت�رص املعار�ضة امل�رصية على الإبقاء على موقفها ّ املعار�ض لدعم الواليات املتحدة املق ّنع للإ�سالميني، الهادف �إىل ال�سيطرة على االنتفا�ضات ال�شعبية ،كما يتبني من خالل رف�ضها القبول بدعوة الأمريكي جون كريي �إىل االجتماع به �أثناء زيارته الر�سمية للمنطقة يف �شباط/ فرباير املا�ضي ب�صفته وزير اخلارجية اجلديد .واجلدير بالذكر � ّأن حتالف ًا ن�ش�أ يف م�رص بني 33منظمة تدافع عن توحدت جميعها حول املوا�ضيع التي حقوق املر�أة ،وقد ّ مثال �أرادت الن�ساء ر�ؤيتها مدرجة يف الد�ستور ،ومنها ً قانون يجرم التحر�ش اجلن�سي� .أدى النا�شطون يف هذا ال يف زيادة الوعي اجلماهريي من خالل التحالف دور ًا فعا ً التظاهرات يف ال�شارع و�أداء الأدوار يف قطارات الأنفاق �ضد التحر�ش اجلن�سي بالن�ساء ،الذي يعتربونه �أي�ض ًا �سيا�سة خفية ينتهجها الإ�سالميون لإخراج الن�ساء من ال�ساحات العامة .كذلك ،مي ّثل ن�شوء حتالف �آخر ،التحالف الدميقراطي الثوري ،الذي ي�ضم ع�رشة �أحزاب وحركات ذات ميول ي�سارية خطوة بناءة �أخرى قامت بها املعار�ضة متر بـ«مرحلة خطرية تتطلب احتاد عندما �أدركت � ّأن م�رص ّ كافة القوى الوطنية ،ال الي�سار فح�سب» ،كما �أ�شار �أحد قادة التحالف ،كمال خليلّ . �شكل الليرباليون حتالفهم 29
بدايات
العدد 2013 |6
اخلا�ص ،جبهة الإنقاذ الوطني ،التي ت�ضم التيار ال�شعبي، وحزب الد�ستور وغريه. ُ ِ نرى الت�صميم نف�سه يف تون�س� .أعلن «التحالف من �أجل ن�ساء تون�س» الذي يت�ألف من 15منظمة غري حكومية م�سجلة ،يف �أيلول� /سبتمرب ،2012ا�ستناد ًا �إىل «املثال الأعلى امل�شرتك للم�ساواة بني اجلن�سني كقيا�س حلقوق الإن�سان» .ال يقت�رص هدف التحالف على «احلفاظ على احلقوق املكت�سبة للن�ساء التون�سيات املن�صو�ص عليها يف القانون التون�سي منذ اال�ستقالل والدفاع عنها (قانون الأحوال ال�شخ�صية الذي �أُ ِ �صدر عام ،1956مبا يف ذلك كافة التعديالت التي �أُ�ضيفت حتى عام ،»)2010بل ي�شمل �أي�ض ًا جعل املواطنة الكاملة للمر�أة حقيقة واقعة .ا ُّت ِخذت يف ليبيا خطوات م�شابهة ،رغم �أ ّنها على نطاق �أ�ضيق ،من خالل �إطالق منتدى املر�أة الليبية الذي مي ّثل 8منظمات معنية بحقوق امل��ر�أة ،وذلك مبا�رشة بعد �إعالن نتائج امل�ؤمتر الوطني العام �سنة ،2011وقد متثل الهدف يف الدفاع عن حقوق املر�أة الليبية املُدرجة �ضمن ًا يف الد�ستور املقبل. حدثت تطورات مهمة �سيكون لنجاحها ت�أثري حا�سم على التوجه ال�سيا�سي امل�ستقبلي يف املنطقة ،مبا يف ذلك يف حتو ً ال ثقافي ًا واجتماعيا ً �سورية و�إيران .ما ال �شك فيهّ � ،أن ّ دائم ًا و�أعمق يف املجتمع ،وتغيرّ ًا يف العالقات اجلندرية والأدوار اجلن�سية �ضمناً ،يتطلب «ثورة جذرية يف الفكر»، بح�سب املفهوم الغرام�شي .بيد � ّأن الت�أمل يف جتارب الن�ساء يف �إيران خالل العقود الثالثة املا�ضية جعلنا ندرك مدى ه�شا�شة احلقوق االجتماعية والقانونية املكت�سبة يف ظل الأنظمة اال�ستبدادية وندرك �أي�ض ًا � ّأن الن�ساء يرتقني �إىل م�ستوى التحدي ،ويقفن يف وجه القيود اجلندرية ،ويقمن بالرد ب�شكلٍ خلاّ ق على ال�سيا�سات الهادفة �رصاحة �إىل فر�ض املفاهيم الذكورية والعائلية لـ«الأخوات امل�سلمات». على امتداد ال�رشق الأو�سط و�شمال �أفريقيا ،ترفع الن�ساء �أ�صواتهن �ضد جت��اوزات االيديولوجيني واملوظفني الإ�سالميني يف �سياق ت�ضييق اخليارات احلياتية للن�ساء وجعل املجاالت الثقافية واالقت�صادية واالجتماعية يف البالد ذكورية �أكرث .لقد و�ضعن الق�ضايا املرتبطة بحقوق امل��ر�أة ومطالبها القانونية واالجتماعية يف قلب كافة اخلطابات ال�سيا�سية ب�ش�أن الدميقراطية يف املنطقة ،كذلك طالنب ب�أن تت�ضمن كل حركة ت�سعى �إىل �إزالة هياكل ال�سلطة وعالقاتها ،واالمتيازات غري املكت�سبة ،والظلم االجتماعي واالقت�صادي ،الدميقراطية اجلندرية والعدالة.
الالح َبل إىل اجلدار من َ
قراءة يف الربيع النسوي اليمين
أروى عبده عثمان ظل اليمن لقرون طويلة ينق�سم مت�شظي ًا �إىل �شمال وجنوب ،وكل جزء ينق�سم �إىل �سلطنات ،وم�شيخيات، ناشطة وباحثة وقبائل ،والكل يع�صف ببع�ض ،ومنطق الغلبة هو الطرف يف مركز الدرااست املنت�رص .يف تلك الأزماتّ ، احلل يكون دوماً� :صلح ًا قبلياً، ه�شة ،ليعود االقتتال مرة �أخرى �أعنف. والبحوث اليمنية .هدنة� ،أو ت�سوية ّ للأ�سف ،هذه �صورة اليمن الذي كان ي�سمى �سعيد ًا يف املا�ضي .مين القرن الع�رشين والألفية الثالثة الذي تنهب أر�ضه و�إن�سا َنه الفقر ،الأمية ،ال�سالح ،واجلفاف .مين � َ خالٍ من بنى حتتية ،مين بال م�رسح وال �سينما ،وال معهد للمو�سيقى .مين اختزل كل تنوعه الطبيعي والإن�ساين يف ب�ضعة هموم :الفقر ،والنظام العائلي الفا�سد ومراكز القوى املتنفذة ،جميعها حتتكر كل مقدرات هذا البلد وتتقا�سمها. ما هي مراكز القوى التي حتكمت بالبالد لعقود طويلة؟ �إنها املنظومة التقليدية املتوحدة بفكر وحلمة «القبيلة وامل�شيخيات ،والع�سكر وامل�ؤ�س�سة الدينية» .هي ظلت وما زالت مهيمنة على كل مفا�صل اليمن ،وكلما الحت بوادر وجود دولة وارتفاع �صوت القانون فيها، أنق�ضت على �أي بادرة توحدت هذه القوى ب�شكل �رسيع و� ّ قد ت�شكل بارقة �أمل يف التحول اىل دولة ،وم�ؤ�س�سات، وقانون ،ومواطنة مت�ساوية ،وعدالة اجتماعية� ...إلخ. هذا ما حدث مع الرئي�س ال�شهيد �إبراهيم احلمدي ( )1977-1974الذي �أراد يف البداية �أن يزحزح ويحد ال تلك القوى ،ثم ي�رشع يف و�ضع �أ�س�س الدولة قلي ً ّ ُ من ن�شاط هذه القوى ،لكن �رسعان ما �أنهيت حياته مبوت م�شهدي �صارخ ما زال يف الذاكرة اليمنية حتى اليوم. يف املقابل ،ظل نظام علي عبد الله �صالح (-1978 )2012متحكم ًا بالدولة وحزب امل�ؤمتر ال�شعبي (الذي �أُن�شئ يف عام ،)1982وهيمن على كل مفا�صل �شكل الدولة وم�ؤ�س�ساتها يف اليمن لأك�ثر من 33 30
بدايات
العدد 2013 |6
ت�سيد عاماً ،وا�ستمراريته الطويلة مردها �إىل �إبداعه يف ّ كر�سي ال�سلطة لفرتة زمنية طويلة بالقيا�س مع من �سبقوه، ومعرفته مبا تريده مراكز النفوذ وحتقيق طموحاتها ،وبذا ت�ضمن له حكم ًا �أبدياً؛ فاملحاباة بني القبائل ومراكز النفوذ ،و�إه��دار موارد الدولة خدمة لهذا الغر�ض هما الطريق لدميومة ال�سلطة� ،أو ما ي�سميه �صالح «الرق�ص مع، وعلى ر�ؤو�س الثعابني» .ويف ال�شطر اجلنوبي ..كان احلزب اال�شرتاكي اليمني ( )1978هو احلزب الواحد الذي حتكم �أي�ضًا مبفا�صل الدولة والقانون التي كانت ظاهرة، وتوا�صل ح�ضورها القليل نتيجة لثقافة اال�ستعمار الربيطاين (.)1967 -1839 يف 22ايار /مايو 1990حتققت وحدة ال�شطرين مبا ي�سمى اجلمهورية اليمنية؛ فقد كانت مبثابة �إنقاذ للبلدين؛ �إذ و�صل احلزب اال�شرتاكي يف اجلنوب بعد �سقوط النظام اال�شرتاكي يف االحتاد ال�سوفياتي �إىل م�أزق ،يف �أن يكون حاكم ًا لدولة كانت تعتمد اعتماد ًا كبري ًا على م�ساعدات االحتاد ال�سوفييتي ،وكذلك كان حال امل�ؤمتر ال�شعبي الذي ظهرت �شيخوخته مبكرة، ال وجنوباً. فكانت الوحدة منقذ ًا للطرفني �شما ً ومل ت�صمد هذه الوحدة التي كانت حلم اجلماهري ال وجنوب ًا؛ فقد كانت وح��دة ظاهرية ،عمقت �شما ً ينق�ض على االنق�سامات ،وبد�أ نظام عبدالله �صالح ّ احلزب اال�شرتاكي والوحدة يف �آن واحد ،ويعترب الوحدة واجلنوب غنيمة ،لتبد�أ معار�ضة �ضد ا�ستباحة اجلنوب. كان الرد بحرب مبا ي�سمى (الردة واالنف�صال) يف عام ،1994ليطيح �صالح احلزب اال�شرتاكي وي�ستقوي بتلك القوى املتنفذة ،القبائل وامل�ؤ�س�سة الدينية والع�سكرية املتمثلة بحزب التجمع اليمني للإ�صالح بانت�صارها يف .1994/7/7 31
ت�أ�س�س حزب الإ�صالح يف ( 13ايلول � /سبتمرب )1990بقيادة ال�شيخ عبدالله بن ح�سني الأحمر ،وهو حزب عقائدي �أ�صوىل ،قبائلي ،م�شيخي ،ع�سكري ،ب�إيعاز من نظام �صالح (كما �أتت مذكرات ال�شيخ عبدالله ح�سني الأحمر) ليكون جبهة �ضد احلزب اال�شرتاكي .وبعد الوحدة عام ،1990ظهرت �أي�ض ًا الكثري من الأحزاب ال عن وجود التي كانت متار�س العمل ال�رسي ،ف�ض ً بع�ض الأحزاب ال�ضعيفة قبل الوحدة ،لكن ّ ظل امل�ؤمتر ال�شعبي العام ،وحزب التجمع اليمني للإ�صالح هما �أقوى الأحزاب .هذا الثنائي الذي قاد حرب الردة واالنف�صال على اجلنوب عرب فتوى حزب الإ�صالح ،1994بل وت�صدرت ميلي�شيات احلزب احلرب لقتال اجلنوب. هيمن نظام �صالح على مقدرات اجلنوب بعد جناح حتالفه مع الإ�صالح وحتقيق الن�رص يف 7متوز /يوليو � 1994ضد احلزب اال�شرتاكي واجلنوب .متلكته ن�شوة الن�رص ،فانفرد بامل�ؤمتر وتخلى عن حليفه (الإ�صالح)، لينفرط حتالفهما ،ولي�شكل الأخ�ي�ر م��ع احل��زب اال�شرتاكي و�أطياف خمتلفة من الأح��زاب ما ي�سمى «امل�شرتك» ملواجهة هيمنة امل�ؤمتر ال�شعبي العام يف 6 �شباط /فرباير ،2003هي :التجمع اليمني للإ�صالح، احلزب اال�شرتاكي اليمني ،التنظيم الوحدوي ال�شعبي النا�رصي ،حزب البعث العربي اال�شرتاكي القومي، حزب احلق ،حزب التجمع ،واحت��اد القوى ال�شعبية). وبدوره ،كان حزب الإ�صالح هو الأقوى واملهيمن على باقي �أح��زاب ما ي�سمى «امل�شرتك» ،وي�ضم بني دفتيه نف�س تلك القوى من القبائل وامل�شايخ والع�سكر ورموز الفتوى الدينية ،بينهم مطلوبون على قائمة الإرهاب العاملي ،كـعبد املجيد الزنداين.
مدرع بعد جمزرة الكرامة يف � 18آذار /مار�س 2011 مبا ي�سمى «حماة الثورة» .وبد�أ اال�ستقطاب الع�سكري لينذر مبواجهات ع�سكرية اندلعت يف �صنعاء يف يوليو \ متوز ،2011ومل تتوقف دوائ��ر احل��رب بن النظام ومن�شقيه ،ل ُتحتوى هذه احلرب بعملية دولية متثلت باملبادرة اخلليجية التي ُوق َِّعت يف � 23شباط /فرباير ،2011 ليخرج اليمن من حرب �أهلية �أو�شك على الوقوع فيها. وباعتبار �أن ما حدث يف اليمن لي�س �سوى �أزمة، ولي�س بثورة تغيري على نظام ال�سلطة الفا�سدة التي حكمت اليمن ملدة 33عام ًا �أفقرت الأر�ض والإن�سان، ولي�س من �أجل بناء اليمن بنظام جديد ،ومتثلت يف انتقال ال�سلطة من �صالح الرئي�س ال�سابق �إىل عبد ربه من�صور هادي يف انتخابات (� 21شباط /فرباير ،)2012ثم الإعداد لإن�شاء م�ؤمتر احلوار الوطني ،مبا ي�سمى اللجنة الفنية للإعداد والتح�ضري مل�ؤمتر احلوار الوطني ال�شامل ( 14متوز /يوليو )2012الذي ميثل �أطراف ًا عديدة يف �أحزاب ال�سلطة واملعار�ضة ومكونات احلراك اجلنوبي وممثلني عن اجلماعة احلوثية ومنظمات املجتمع املدين .هذا احلوار الذي يراهن عليه ال�شعب خلروج البالد من هذه الأزمة /الكارثة الطاحنة ،واملزمع انعقاده قريباً. خالل الفرتة املمتدة من نهاية ،2012ت�ستعر ا�ستقطابات مراكز قوى املا�ضي/احلا�رض لالنق�ضا�ض على امل�ستقبل ،وكلما اقرتب موعد انعقاد م�ؤمتر احلوار� ،سارعت ب�إنزال تر�سانتها الع�سكرية واحلربية �إىل ال�شوارع ،م�ؤذنة ببدء احلرب (اجلميع �ضد اجلميع)� .إنه التقاتل من �أجل حما�ص�صة �أكرب ،لكن �رسعان ما تتدخل القوى الدولية ورعاة املبادرة اخلليجية للتهدئة ،وال�ضغط على القوى املتقاتلة لإجناح م�ؤمتر احلوار الوطني ب�سالم و�أمان.
البداية على �أثر ظهور ما ي�سمى «الربيع العربي» واالحتجاجات ال�شعبية يف تون�س وم�رص ،خرجت اجلماهري اليمنية �أي�ض ًا �إىل ال�شوارع �ضد نظام �صالح حتت �شعار «ال�شعب يريد �إ�سقاط النظام» ،وت�صاعدت االحتجاجات يف معظم مدن اليمن .يف هذه الأثناء حتركت �أحزاب امل�شرتك بكل كوادرها للنزول �إىل ال�ساحات ،وبد�أت مبحاولة االحتواء الناعم للربيع الثوري ال�شبابي يف اليمن ،لي�ستكمل االحتواء باحتواء ع�سكري متثل بانق�سام اخللية الع�سكرية للنظام والتحاقها بامليادين الثورية ،يف � 21آذار /مار�س ال باجلرنال علي حم�سن قائد الفرقة الأوىل ،2011متمث ً
عن ربيع اخ ُتطف قبل �أن ُيزهر عندما نزلت اجلموع �إىل ال�ساحات وامليادين يف ،2011/1/15متوحدة حول مطلب «حياة كرمية يف دولة مدنية حديثة» ،رافعة �شعارات «ارحل»« ،ال�شعب يريد �إ�سقاط النظام» و«�سلمية� ..سلمية» ،مل ُتعرف من هي هذه اجلموع ،ماهيتها ،هويتها ،منطلقاتها ال�سيا�سية والدينية والثقافية ،ومن هو حمركها وموجهها .غاب الرمز /البطل والقائد/والزعيم .كان التغيري مطلب ًا لكل من الرجل واملر�أة ،لل�شباب من اجلن�سني ،ومن خمتلف الأعمار والأطياف« .يف �ساحة التحرير �شعرت لأول مرة ب� ّأن املر�أة م�ساوية للرجل» (نوال ال�سعداوي).
بدايات
العدد 2013 |6
كان هذا هو الوجه امل�رشق لثورة الربيع ،جت�سدت امل�ساواة يف هذا املربع (امليدان/ال�ساحة) التي مثلت �صفحة جديدة من تاريخ العمل اجلماعي امل�شرتك. امل�ؤ�سف �أنه بعد انق�ضاء �أ�سابيع تبدلت �صورة امل�شهد، و�أ�صبح ذلك الربيع مع�سكر ًا وجمنزر ًا بالأيديولوجيا الدينية والع�سكرية والقبلية ،وغرقت ال�ساحات بطوفان العقائد املتناحرة� .إنهم حماة الثورة� ،أولئك الذين نزلوا �إىل ال�ساحات وامليادين الثورية ليحموا الثوار والثورة، فكانوا اخلنجر الذي �رضب خا�رصة الربيع. ن�ساء بال وجوه اليمن بلد �أكرث من ن�صف �سكانه يعي�شون حتت خط الفقر 1 ٪54.5و�أكرث من ن�صف �سكانه من الن�ساء ،حيث تبلغ 2 ق�صف �أعمارهن ن�سبة الأمية يف �أو�ساطهن %65و ُت َ وت�رسب الفتيات بالزواج املبكر وانعدام الرعاية ال�صحية ّ من التعليم ب�سبب الفقر والزواج املبكر .اليمن بلد �أ�سري امل�ؤ�سف �أنه بعد انق�ضاء �أ�ســــــــــــــــــــــــــــــــابيع تبدلت �صورة امل�شــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهد، و�أ�صبح ذلك الربيع مع�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــكراً وجمنزراً بالأيديولوجيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا الدينية والع�سكرية والقبليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــة
1تقرير البنك الدويل .2011 2تقرير الأ�سكوا ل�سنة .2010 3فر�ص ومعوقات املرحلة االنتقالية– نبيلة املفتي، ورقة عمل -اللجنة الوطنية للمر�أة.
32
لرتكيبة قبلية جتعله يف م�صاف الدول الأكرث تخلف ًا يف العامل ،بلد تن�ضب فيه املياه ويت�آكله اجلفاف والف�ساد املركب واملت�ضخم يف كل م�ؤ�س�سات الدولة .بلد مكونه الرئي�سي القبيلة مب�ستتبعاتها الفكرية واملادية :ال�سالح والتع�صب والدين والقات والثارات واجلباية ،بالإ�ضافة �إىل مفاهيم ال�سلطة وقيم الذكورة وال�رشف والعيب واحلرام. بلد تتخ�صب ّ جل تفا�صيل حياته الراهنة بالدين الوهابي امل�ستند �إىل منظومة اجلهل واالنغالق بحجة التقاليد، لي�صبح ا�ستثمار ًا اقت�صادي ًا وحربياً .و�سط هذا املناخ ،تت�آكل حالة الن�ساء كما يت�آكل هذا البلد الذي يحمل ا�سم «اليمن». فيهن الطفالت ،منقبات مينع حتركهن بلد غالبية ن�سائه ،مبن ّ أي�ضا. �إال ب�إذن ويل الأمر امل�سنود بالعرف والقانون � ً حرب «الردة واالنف�صال» التي قادها نظام �صنعاء يف عام 1994على اجلنوب حتت �شعار «الوحدة �أو املوت» بانقالب �سافر على وحدة �سلمية حتققت عام ،1990 ال على الإن�سان ،وعلى الن�ساء يف �شمال كانت وب��ا ً اليمن وجنوبه ،قا�صفة لكل اال�ستحقاقات واملكا�سب بدايات
العدد 2013 |6
التي ح�صلت عليها املر�أة يف اجلنوب قبل اال�ستقالل 1967وبعده .وقد خرجن بعد اال�ستقالل بقانون من �أهم القوانني� ،أال وهو «قانون الأ�رسة» ،ويقال �إنه القانون الثاين بعد قانون الأح��وال ال�شخ�صية يف تون�س .يف ا�شتغلت مراكز القوى الرجعية هذه احلرب االجتثاثية ْ املهيمنة من فقهاء الفتوى وم�شائخ القبيلة وجرناالت احلرب وتابعهم الربملان وانقلبوا على الد�ستور ،وغيرّ وه مبواد تتنا�سب وتوجهاتهم الأيديولوجية بن�ص «وفق ال�رشيعة الإ�سالمية» جلنوب ملحد �شيوعي! وتبدى التمييز ال�سافر �ضد الن�ساء يف تعديل املادة ّ التي تن�ص على «املواطنة املت�ساوية» يف د�ستور الوحدة لعام « :1990املواطنون مت�ساوون يف احلقوق والواجبات دومنا متييز» ليعدل بعد � 1994إىل «الن�ساء �شقائق لهن من الواجبات وعليهن احلقوق مبا تفر�ضه الرجال ّ ُ ال�رشيعة الإ�سالمية» .كذلك �ألغي الن�ص القانوين الذي مينع تزويج ال�صغريات دون �سن 15يف عام ،1999 لي�ستبدل مبادة ف�ضفا�ضة عن «تزويجها حتت �أي عمر» يف عام .2010و�أُف�شل م�رشوع املنظمات الن�سوية �سن الـ١٧؛ �إذ «�أعيد لتعديل القانون ب�سن الزواج يف ّ ّ امل�رشوع من قاعة الربملان نتيجة �ضغط املت�شددين .كذلك �أوقف الربملان م�رشوع قانون «الأمومة امل�أمونة» الذي كان يوفرها للأمهات يف فرتة احلمل والوالدة الن�ساء».3 ولعقود من الزمن ،كانت املر�أة ت�شارك كمقرتعة فقط، وبعد الوحدة ُ 1990منحت حقيبتان وزاريتان غري �سياديتني للن�ساء ،هما حقوق الإن�سان وال�ش�ؤون االجتماعية. ويف الفرتة االنتقالية عام � 2011أعطيت حقيبة جديدة هي وزارة الدولة .يف انتخابات 2003فازت يف الربملان �سيدتان ،ويف انتخابات عام 2006فازت مر�شحة واحدة من �أ�صل 301من الرجال .وهذا هو احلال حتى يومنا هذا� .أما بنود املبادرة اخلليجية ،فقد �أكدت ال�رشاكة للمر�أة، وخ�صو�ص ًا يف مراكز �صنع القرار بن�سبة ال تقل عن .%30 ويف جلنة احلوار الوطني يف الفرتة االنتقالية 2012كان هناك 6ن�ساء مقابل 25رجالً. البحث عن الربيع املفقود يف 15كانون الثاين /يناير ،2011دخل اليمن ما ي�سمى ثورة الربيع ،التي تزامنت مع هرب زين العابدين بن علي من تون�س ،وازدهرت مع ثورة 25كانون الثاين عجت ال�ساحات /يناير يف م�رص .ويف �شباط /فرباير ّ بالن�ساء ،و�شكلن مع الرجال �صورة ربيعية عك�ست �رشاكة
مبهرة بني الرجال والن�ساء .الهدف وا�ضح هو «�إ�سقاط النظام» و«احلرية والتغيري وبناء دولة مدنية حديثة» .حتى �شعائر ال�صالة كانت تقام يف مربع واحد بال حواجز تف�صل بني الرجال والن�ساء ،وكان لن�صب �أول خيمة يف �ساحة التغيري يف 2011/2/20الأثر الكبري على الوجود الن�سوي يف ال�ساحة ملمار�سة الأن�شطة الثورية ،واملبيت �أي�ضاً .فالرجل اليمني هو وعائلته كانوا يجتمعون يف ال�ساحة ،ويت�شاركون يف الأدوار واملهمات حتى منت�صف الليل يف م�شهد غري م�سبوق يف احلياة اليمنية .بل كان بع�ضهن ينمن يف ال�ساحة من �أول يوم اعت�صام ،وال�شاهد على ذلك � ّأن �أول خيمة ن�صبت يف �ساحة التغيري كانت خيمة الرتبوية فريدة و�أوالدها «�أم الثوار»؛ �إذ كانت ت�ؤوي قرابة ثالثني امر�أة« ،ومل تبارح فريدة ال�ساحة واخليمة مدة �أربعة �أ�شهر» ،4وبعدها تكاثرت خيم الن�ساء. يف �ساحات الثورة ،تكاد تكون الأدوار مت�شابهة مع ما حدث يف دول الربيع العربي .وهناك منطية مكرورة ،كطبخ وتبدّ ى التمييز ال�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــافر �ضد الن�ساء يف تعديل املــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادة التي تن�ص على «املواطنة املت�ســـــــــــــــــــــــــاوية» يف د�ستور الوحدة لت�صـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبح بعد� 1994إىل «الن�ساء �شقائق الرجـــــــــــــــــــــــــال لهنّ من الواجبات وعليهن احلقوق مبـــــــــــــــــــــــــا تفر�ضه ال�رشيعة الإ�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــالمية» الأكل وجمع التربعات والتطبيب ،والهتافات وامل�سريات، وتنظيف ال�ساحات ،والتفتي�ش ،وحماية ن�ساء امل�سريات من خالل ت�شكيل �سياج ج�سدي ،وهذا ما كانت تنفرد به ن�ساء حزب الإ�صالح املدربات تدريب ًا كبرياً. �أم��ا العمل النوعي � -إن ج��از التعبري -فقد متثل بالت�صوير ب�أنواعه ،وقيادة التظاهرات ،واال�شتغال على امليديا ،والتعريف بالثورة اليمنية يف املحافل الدولية. الن�ساء غري املرئيات قدن و�شاركن الرجال يف امل�سريات وتعر�ضن للعديد من االنتهاكات ال�صارخة ،كال�رضب املدمي والتخوين والتكفري ،بل و�سقط بع�ضهن �شهيدات ال عن � ّأن بع�ض الن�ساء فقدن معيلهن يف مدينة تعز ،ف�ض ً الوحيد و�أبناءهن و�أزواجهن ،ووا�صلن الن�ضال ،حتى عندما تقا�سم ال�سلطة كل من النظام والثورة ممثلة بحزب الإ�صالح .فت�صاعدت حدة االنتهاكات املمنهجة �ضد الثوار ،وخ�صو�ص ًا الن�ساء ،بحيث كلما كان ح�ضور الن�ساء
4مقابلة خا�صة.
33
بدايات
العدد 2013 |6
متنوع ًا ومميز ًا يف ال�ساحة ،ا�شتدت �رضاوة الهجمة عليهن. ويرجع �أول انتهاك موثق للن�ساء من قبل ع�ساكر النظام �إىل ما تعر�ضت له الكاتبة والنا�شطة توكل كرمان يف 23 كانون الثاين /يناير 2011من اعتقال (بح�سب بالغ �صحايف من نقابة جامعة �صنعاء يف التاريخ نف�سه) ،تاله بعد ذلك انتهاك و�رضب كل من الكاتبتني والنا�شطتني �سامية الأغربي و�أختها فاطمة الأغربي ،2011/2/13من قبل ع�سكر النظام (بح�سب قول �سامية ــ مقابلة �شخ�صية). وجوه ا ِ حلبال واحلواجز يف الأ�سابيع الأوىل للربيع ،امتدت �ساحات احلرية والتغيري يف اليمن �إىل 17حمافظة تقريباً ،جميعها كانت تكتظ باملئات من الن�ساء من �أطياف خمتلفة ،تعر�ضن لتحر�شات وانتهاكات منظورة وغري مرئية ،بدت يف الوهلة الأوىل فردية وغري الفتة ،برغم �أنها كانت ت�أتي �أحيان ًا من املن�صة الثورية الوحيدة والأحادية (التابعة حلزب الإ�صالح) .على �سبيل املثال ،يتحدث �أحدهم يف خطبته عن «الن�ساء الكا�سيات العاريات» وعندما يالقي ا�ستهجان ًا من الن�ساء ،ي�أتي �آخر ويقول« :ملاذا حتتجني، فالله لن ين�رصنا و�أن ّ نت هنا بهذا ال�شكل؟»!! وللعلم� ،إن ّ كن حمجبات ومنقبات بال�رش�شف اليمني جل الن�ساء ّ كن �سافرات. التقليدي ،وقلة منهن ّ لقد بد�أ خطاب املن�صة «الثوري» منذ �أيامه الأوىل ا�ستئثاري ًا تابع ًا لتوجه �أ�صويل مت�شدد .ت�صاعد وا�ستمر حتى اليوم .فمنذ اليوم الأول جرى تكري�س �ألقاب ومقوالت ذات هوية دينية ليختزلن فيها مثل :ال�شقائق واحلرائر، ال عن الرتكيز واملاجدات ،والقوارير ،و�أم��ة الله ،ف�ض ً والتمحور حول تبني خطاب اخلالفة الإ�سالمية ،وا�ستدعاء خطاب اجلهاد وغزواته ،واخلرافة املمنهجة املكر�سة لرتويج املعجزات امل�شبعة بروح التع�صب ،و�شوفينية «خري �أمة» ميار�سها دعاة معروفون بت�شددهم الديني ،حيث انتفت مفاهيم املواطنة ،والعدالة االجتماعية ،وامل�ساواة ،والدولة املدنية� ،إلخ .ولعل �أ�شهر اخلطب كانت لرئي�س «جامعة الإميان»� ،أحد زعماء «حزب الإ�صالح» عبد املجيد الزنداين على املن�صة يف � 1آذار /مار�س .2011 كان خطاب التع�صب والت�شدد «الثوري» انتهاكي ًا وعدواني ًا لكل ما يخالفه .وكانت ن�ساء ال�ساحة �ضحيته الأوىل .تقول فريدة« :منذ �أن ن�صبت خيمتي وقررت املبيت فيها ،وبد�أت امل�ضايقات مبربر احلر�ص واخلوف علينا من ع�ساكر النظام .يف الأ�سبوع الثاين ،بد�أ ال�شغب
واالنتهاكات �صارخة ،وخ�صو�ص ًا عندما بد�أ تدفق الن�ساء �إىل اخليمة ،و�إ�رصارهن على املبيت مع �أطفالهن». بعد انق�ضاء الأيام الأوىل للثورة� ،شيدت احلواجز ابتداء باحلبل واملجاميع الفا�صلة بني الرجال والن�ساء، ً الب�رشية «حواجز ن�سائية ورجالية» ،بلغت ذروة املنع/ الف�صل يف �آذار /مار�س بعد جمزرة الكرامة (� 18آذار / مار�س � ،)2011أي عندما دخل «حماة الثورة» من جي�ش النظام املن�شق بقيادة علي حم�سن والقوى التقليدية من قبائل وم�شائخ و�أ�صوليات دينية ،كالداعية الإرهابي عبد املجيد الزنداين ،ودعاة �آخرون مثل حممد احلزمي بطل وامل�رشع له يف الربملان ،وعبد الوهاب زواج ال�صغريات ّ الديلمي املفتي بقتل اجلنوبيني يف حرب 1994وغريهم. احلبل يغلظ وت�ضاعفت غالظة احلبل مع تدفق جموع «حماة الثورة» �إىل ال�ساحات وارتفاع احلاجز بني الرجال والن�ساء، ومتركز احلرا�سات وت�سوير امل�صلى ،والت�ضييق على جتمعات الن�ساء ،وتر�صد حتركاتهن ،وتفتي�ش اخليم والبوفيهات وامل�ست�شفى امليداين� ،إلخ� .أ�صبح احلبل حاجزا خ�شبياً ،وثم حديدي ًا حاجز ًا قما�شي ًا �سميكاً ،ثم ً و�إ�سمنتياً� ،إىل �أن انتهى املطاف بقف�ص ال يختلف عن امل�سيجة بكل �أن��واع �أدوات املنع حظرية احليوانات ّ والرتهيب واخل�شية من اق�تراب �أي رج��ل� ،أو حتى �أي «جِ ّني» ،ليظل ذلك القف�ص مرتبط ًا ق�رسي ًا باحلبل ال�رسي خلطاب املن�صة. الأك�ثر خطورة من هذه الكوابح املانعة والأ�ستار املختلفةّ � ،أن الأمر �صار م�ألوف ًا ومعتاداً؛ �إذ �أ�صبح املرء ي�شاهد ميلي�شيات ح��زب الإ���ص�لاح وجامعة الإمي��ان وع�ساكر الفرقة الأوىل م��درع يتجولون ب�أ�سلحتهم وهراواتهم ،مينعون االختالط ،وي�أمرون النا�س بال�صالة، لينتهي املطاف بال�رضب وال�سجن ،والأكرث عنف ًا من كل هذا ،التخوين والتكفري. ومع كل فا�صل جدار يرتفع ،تتزايد حدة االنتهاكات للرجال وللن�ساء ،وهي م�ضاعفة يف حالة الن�ساء، وتعر�ض بع�ض ال�شباب لالعتقال بتهم االختالط ّ بالن�ساء والتحر�ش بهن� ،أو �أن �أ�شكالهم ناعمة .مع العلم �أن �أولئك ال�شباب «الناعمني» كانوا �أول من �سقطوا �شهداء .وال تكاد حت�صى املرات التي اجتاحت فيها امليلي�شيات اخليم ال�سكنية ،بحجة �أنه يجري فيها اختالط� ،أو اق ُتحمت اخليم التي تنظم فعاليات و�أن�شطة 34
بدايات
العدد 2013 |6
ثقافية و�سيا�سية �إلخ ،مثل خيمة «�شباب مع احلدث» وخيمة «املواطنة املت�ساوية» و«خيمة ال�شباب احلر» و«خيمة جيفارا» وخيم «�شباب ال�صمود»� ،إلخ. غزوات اخليمة واجل�رس و«ب�رشى» تكرر الهجوم على خيمة فريدة �أكرث من مرة منذ بداية الثورة يف �شباط /فرباير؛ لأنها مل متتثل لأوامرهم .حتكي وتقول« :دخلت امر�أة �إىل اخليمة ،و�أغلقتها من الداخل/ الواجهة ،ثم فتحت اخليمة من اخللف املال�صق جلدار حديقة اجلامعة لتدخلها امليلي�شيا وحتتلها» .دافعت فريدة عن خيمتها .كانت احلجة نف�سها� ،أنها ت�ؤوي ال�شبان وال�شابات يف �أو�ضاع خم ّلة ب��الآداب ،و�أنها �أمن قومي ومند�سة ،ومن �أحداث غزوة خيمة فريدة دخلت ال�ساحة ّ يف غزوات كثرية ومثرية (الكاتبة كانت �شاهدة عيان). عندما �ألقى رئي�س النظام ال�سابق علي عبدالله �صالح خطابه ،يف 14ني�سان /ابريل 2011عن االختالط يف �ساحة التغيري ،قال ...« :ندعوهم �إىل منع االختالط بني الرجال والن�ساء الذي ال يقره ال�رشع يف �شارع اجلامعة». جاء الر ّد م�سريات �صاخبة ت�ستنكر خطابه اال�ستفزازي يف كل �ساحات اليمن ،وقد حملت �شعارات «يا علي يا خراط ،ما في�ش بيننا اختالط» ،و«ثورتنا ثورة ن�ضال، ّ الن�ساء مع الرجال» ،و«علي قل خري ًا �أو ا�صمت»� ،إلخ. يف هذه الأثناء ،ويف امل�سرية نف�سها املناه�ضة خلطاب �صالح يف 16ني�سان /ابريل ،2011مل يكن ر ّد اخلطاب التقليدي وال�سلفي يف ال�ساحة خمتلف ًا ،بل �أكرث تخلف ًا وهمجية من خطاب �صالح؛ �إذ جتلى يف احلادثة ال�شهرية �أو ما ت�سمى «غزوة اجل�رس» ،التي متثلت ب�رضب النا�شطات ب�أعقاب البنادق و�إطالق الر�صا�ص عليهن، والت�شهري والتخوين والتكفري من قبل ميلي�شيا الإ�صالح حد منعهن (ثوار ال�ساحة) ،بل تطاول االنتهاك بق�سوة �إىل ّ من االحتجاج� ،أو ت�سجيل بالغ احلادثة ،بحجة احلفاظ على ال�صف الثوري من االن�شقاق وحتى ال يتخذها العدو (�صالح) نقطة يف م�صلحته. كالعادة ،جرى التهوين من احلادثة والقول �إنها عر�ضية ،وفردية و ..و� ..شكلت اال�ستهانة باالنتهاكات �رشخ ًا عميق ًا يف نفو�س الن�ساء ،فه ّزت �صدقية العمل وحتد من قبل �س هذا الأمل نف�سه ب�إ�رصار ٍّ الثوريَ .ع َك َ النا�شطات ،بقولهن« :الثورة التي ت�رضب وتخون لي�ست ثورة ،فلت�سقط الثورة» ،ثم بد�أن بكتابة البيانات ون�رشها على و�سائل الإعالم املختلفة.
5مقابلة خا�صة. � 6صحيفة الو�سط .2012/8/7 � 7صحيفة الأوىل، 8متوز /يوليو - 2012العدد - 476النا�شطة احلقوقية �أمل البا�شا ،رئي�سة منظمة ال�شقائق العربية حلقوق الإن�سان ،ومن �أوائل الن�ساء اللواتي �شاركن يف ثورة الربيع، تعر�ضت مرار ًا حلملة التكفري من قبل الأ�صوليات الدينية ،اختريت الناطقة الر�سمية للجنة الفنية مل�ؤمتر احلوار الوطني ال�شامل. 8فخ الدولة املدنية وعلمنة اليمن،
www.aljumhor.net/
portal/news -11635.htm.
9مقابلة يف نيويورك تاميز 23ايار / مايو .2012 10امل�صدر نف�سه/ مقابلة مع ب�رشى.
35
ب�رشى املقطري ال�شخ�صية املرتبطة بالثورة منذ �أول يومُ ،كفِّ رت و�أُهدر دمها ب�سبب مقالة كتبتها بعد «م�سرية احلياة» يف 2011/12/20التي قطعت فيها نحو 300كيلومرت م�شي ًا على الأقدام ،ا�ستغرقت خم�سة �أيام .وقبلها كانت قد تعر�ضت هي و�صاحباتها وال�شباب ب�ساحة تعز للعديد من االنتهاكات والت�شويه عرب املن�صة؛ �إذ «اجتمع حولنا ثالثمئة من الإ�صالحيني، ولوال تدخل البع�ض ملا ا�ستطعنا النجاة .بعدها توالت عملية القمع والت�شهري من املن�صة �ضدي .ا�شتدت احلملة بالأفكار التي كانت تقدمها خيمة ال�شباب التقدمي» تقول ،وت�ضيف« :فكلما قمنا بندوةُ ،نفاج�أ بجوامع املدينة ت�شن حملة تكفريية �ضدي».5 ّ �أفتى �أكرث من 70من علماء الدين بتكفري ب�رشى، و�صدرت الفتوى يف 29كانون الثاين /يناير .2012 ومل يكتفوا بذلك ،بل طالبوا ب�إقامة احلد عليها باعتبارها وه ِّددت حياتها مرتدة ،وب�سحب اجلن�سية اليمنية منهاُ ، و�ض ِّيق على �أهلها ،و�أ�صدرت ب�رشى بيان ًا مهم ًا مبا تتعر�ض ُ 6 له تناقلته و�سائل الإعالم .
للغرب وم�شاركون يف تنفيذ م�ؤامرة لعلمنة اليمن وخمالفة �أحكام ال�رشيعة الإ�سالمية ،حتى �إنه هاجم جمموعة من �سماهم و«دعاة العلمنة».8 الدعاة ّ عندما قال جمال بن عمر عن فرقاء احلكم �إنهم «يختلفون يف كل �شيء ،لكنهم يتفقون على املر�أة» ،مل ي�أت بحديثه من فراغ ،بل من واقع معي�ش .اتفق «الإخوة الأعداء» على التفنن يف تعنيف الن�ساء .فهذا حميد الأحمر (�شيخ الثورة وممولها وحاميها) يهاجم ن�ساء ال�ساحات، حولت ال�ساحة �إىل فيقول« :كانت هناك �سلوكيات �سيئة ّ مرق�ص دي�سكو ،تريد تلك الن�ساء �أن ي�رسن يد ًا بيد مع مقبوال �أ�صدقائهن وع�شاقهن يف التظاهرات ،هذا لي�س ً وهو �ضد ديننا» .9وهو هنا ال يختلف عن رئي�سه يف النظام ال�سابق؛ فقد كان جزء ًا منه بخطاب موحد وموجه �ضد الن�ساء ،وبختم «ال�رشع والدين». يف هذا اخل�ضم ،تقف احلركات الن�سوية واملنظمات املدنية موقف املتفرج والبليد �إزاء ما يحدث للن�ساء، و«امل�ؤ�سف � ّأن احلركات الن�سوية واملنظمات اخلا�صة باملجتمع املدين وبحقوق املر�أة على كرثتها مل ت�صدر بيان �إدانة �أو ت�ضامن معي ،بالإ�ضافة �إىل احلزب اال�شرتاكي الذي �أنتمي �إليه .وللأ�سف� ،شعرت ب� ّأن اجلميع تخلى عني»، تقول ب�رشى املقطري ،وت�ضيف�« :أما الأخريات ،و�أق�صد فكن يبتززن ق�ضيتي املرتبعات على منا�صب املنظماتّ ، �أمام الأوروبيني وال�صحافيني الأجانب� .أما يف الواقع ،فلم يقمن ب�أي دور ،وكنت �أ�ستغرب هذا التناق�ض» .10للأ�سف، ما قالته ب�رشى ينعك�س على كل االنتهاكات التي حدثت لن�ساء اليمن خالل 2011و.2012
خريف الفرتة االنتقالية ها هي مبادرة الت�سوية ال�سيا�سية برعاية �إقليمية ودولية قد دخلت حيز التنفيذ ،وجرت االنتخابات ،وجرى تقا�سم ال�سلطة منا�صفة ،لكن هل توقفت احلمالت �ضد الن�ساء؟ ال. بل ات�سعت وتف�شت و�شملت �أكرث من ذي قبل يف ال�شارع و�أماكن العمل والتجمعات ومرافق احلياة املختلفة .فكان التحر�ش اجلن�سي ،وتزويج القا�رصات ،وتهجري الن�ساء وقتلهن يف احلروب القبلية وحروب تنظيم «القاعدة»، ال عن «احلروب» بني �رشكاء ال�ساحة «ال�سلميني»« ،مني اللي ن ّزلها امليدان؟» ف�ض ً الإ�صالح واحلوثيني واحلراكيني يف اجلنوب ،والنظام ال يختلف و�ضع املر�أة يف اليمن عن و�ضع الن�ساء يف دول الربيع العربي �إال من حيث الدرجة :ن�ساء ا�ست�شهدن، ال�سابق واجلناح املن�شق ونظام احلكم اليوم. وغدت ميلي�شيات حزب الإ�صالح تنتهك الن�ساء غري ون�ساء تعر�ضن لل�رضب وال�سجن ،واالغت�صاب� ،إلخ. املنتميات �إىل احلزب .فهذه �أمل البا�شا ،مقررة جلنة احلوار ،فر�أينا ب��وادر انت�صار الربيع يف بع�ض ال��دول ،لي�أتي جتابه باعرتا�ض القيادي والربملاين حممد احلزمي �صاحب ب�ضده .فهذه ليبيا� ،أول ما �أتى الفرج بانت�صار الثورة، م�رشوع تزويج القا�رصات ،ي�س�أل بلهجة �ساخرة مت�سائالً :ي�رصح م�صطفى عبد اجلليل رئي�س املجل�س االنتقايل «من �أين لأمل البا�شا �أن متثل القطاع الن�سائي لن�ساء الوطني يف بيانه املعروف�« :إن �أي قوانني تتعار�ض مع اليمن؟» ،7واملق�صود �أنها امر�أة �سافرة ،على اعتبار �أنه ال�رشيعة �سيتم �إلغا�ؤها ،وعلى وجه اخل�صو�ص ،و�إن تعدد يوجد من ميثلهن يف جلنة احلوار ،من �أمثال توكل كرمان .الزوجات �سي�صبح قانونياً» ،وا�ستقبل الت�رصيح ب�إطالق وبالوترية نف�سها ،يوا�صل الزنداين حروبه على الن�ساء ،الر�صا�ص و�صيحات الله �أكرب. في�شن هجوم ًا على وزيرة حقوق الإن�سان والنا�شطني وت��ك��ررت �صيغة امل�شهد/اخلطاب يف م�رص ملن ّ املدنيني ومنظمات حقوق املر�أة ،على اعتبار �أنهم عمالء يريدون �إلغاء قانون اخللع «بحجة �أنه �ساهم يف تدمري بدايات
العدد 2013 |6
� 11صحيفة احلياة 18كانون االول /دي�سمرب 2011العدد 17789وحيد عبد املجيد «املر�أة يف االنتخابات بني الإخوان وال�سلفيني.
12
bokranews.com
� 2219صحيفة الأهايل ،العدد � 1585سنة ،25 4متوز /يوليو .2012
� 13صحيفة التجمع – 26ايلول / �سبتمرب � 26آذار / مار�س – 2012 العدد .758 14انظر مقالة د� .أمال قرامي« ،الن�ساء والثورات والعنف»
metransparent.com/ spip.php?page
=article&id_article =16960&var_lang =ar&lang=ar،
15
arabic.upi.com/ News/2012/03/07/ UPI-93901331124851/.
« 16الفاين�شال تاميز» يف 4حزيران / يونيو .2012 � 17صحيفة «احلياة»، 15ايار /مايو 2011العدد .17572
36
الأ��سرة امل�رصية وارت��داد ال��وع��ي .11كذلك ك�شوف العذرية ،وعودة ختان الإناث� ،إنهما الأخطر انتهاك ًا ال عن حماولة «�إلغاء املجل�س القومي للإن�سانية ،ف�ض ً للمر�أة» ،بحجة �أنه من رموز النظام وارتباطه ب�سوزان مبارك وعدم �إظهار �صور املر�شحات حلزب الإخوان، وا�ستبدالها بالوردة احلمراء ،بحجة �أنها عورة� ،إلخ. وعندما �أ�صبحت ال�سلطة يف متناول جماعة الإخوان يف م�رص ،علت �أ�صوات «مني اللي نزلها امليدان؟» و«جه الرئي�س اللي هيلمكم»« ،وقرن يف بيوتكن»� .أما عندما انتخب الرئي�س حممد مر�سي ،فكانت االعتداءات والعنف بال�رضب وال�شتم والتحر�ش اجلن�سي ،وال تكاد تخلو �أية �صحيفة �أو و�سيلة �إعالمية من ذكر هذه االنتهاكات التي �أ�صبحت ظاهرة تهدد بتمزيق املجتمع امل�رصي ،والن�ساء عامة وغري املحجبات بوجه �أخ�ص ،الأمر الذي ا�ستنفر املنظمات املدنية لإدانة ما يحدث.12 ومل ت�سلم ن�ساء الكويت مما يحدث لأخواتهن يف الدول العربية ،فت�صدر فتاوى «حترم الت�صويت للن�ساء، وبعدم �صالحيتهن للوالية» ،وحادثة �إغالق معر�ض �إحدى الفنانات «بعد � 3ساعات من افتتاحه» .13ويف تون�س جرى الت�سابق يف حتجيب امل��ر�أة وحتجيمها؛ ف�أحزاب �سلفية مثل حزب «من �أجل فر�ض النقاب» الذي طرد مديرة الإذاعة الدينية يف الزيتونة من مكتبها، بدعوى � ّأن املر�أة لي�س لها الكفاءة الذهنية والعلمية لإدارة و�سيلة �إعالمية» .وهو الفكر نف�سه الذي مت فيه طرد �أ�ستاذتني يف مدر�سة الفنون اجلميلة و�إجبارهما على تالوة ال�شهادتني على مر�أى من النا�س ،كي ي�سمحوا لهما باخلروج بعدما تلقيهما تهديد ًا بالطرد .14والأكرث �سن الزواج، ل�س ّن ّ رعب ًا ما ي�شتغل عليه يف الد�ستور َ وتعدد الزوجات؛ فهذا البحري اجلال�صي ،رئي�س حزب االنفتاح والوفاء – املجل�س الوطني الت�أ�سي�سي يف املطالبة بد�ستور جديد يقول � ّإن «من حق كل تون�سي اتخاذ جارية �إىل جانب زوجته والتمتع مبا ملكت ميينه»، وكانت احلجة التي ا�ستند �إليها � ّأن «اجلارية هي احلل الأجنع لإعادة التوازن االجتماعي واالخالقي التون�سي الذي ت�رضر بالعلمانية».15 �إنه الهو�س مبا ي�سمى ال�صحوة الإ�سالمية ،حيث يناق�ش قانون ما ي�سمى «م�ضاجعة الوداع» ،ب�أن ُي�سمح للرجل �أن يو ّدع زوجته ملدة � 6ساعات بعد موتها .يف هذا اخلريف الحت نفحة من الربيع على ن�ساء ال�سعودية، يف خطوة و�صفت بالتاريخية؛ فقد �أ�صدر و ّ يل العهد بدايات
العدد 2013 |6
بحق املر�أة يف الرت�شح والت�صويت ،لكن ال�سعودي قرار ًا ّ يظل التناق�ض وال�سخرية ب� ّأن املر�أة ال�سعودية ال ت�ستطيع قيادة ال�سيارة حتى اليوم. �إعالم الربيع� :صناعة الأمنوذج–الأيقونة لقد �ساهم الإعالم املحلي واخلارجي واحلزبي بالإيجابي وال�سلبي؛ فالإيجابي هو �إبراز دور الن�ساء وم�شاركتهن يف امل�سريات ،وتتبع ن�شاطاتهن املختلفة ،وتتبع مفا�صل امل�شاركات ،وخ�صو�ص ًا امل�شاركات النوعية ،و�إن كان الرتكيز على ال�ساحات يف املدن الرئي�سية� .أما الدور ال�سلبي ،فللأ�سف � ّإن بع�ض قنوات الإعالم حمكومة ب�أفكار م�سبقة �ضمن �أجندة �صناعة الزعيم ،والنموذج الأوحد الكاريزمي الأ�سطوري ،ومبوجب ذلك ،جرى �إظهار جانب �أحادي للن�ساء( ،الوجه املغلق بالأ�سود/املل ّثم /املجلبب)، �أو مبا يطلق عليه «املوج الأ�سود» �أو «الثورة ال�سوداء». مل ي�ألف العامل م�شهد ًا حلركة جموع من الن�ساء الثائرات «املوج الأ�سود» من كافة املهن ،مدر�سات، ربات بيوت ،حماميات ،حقوقيات ،وطبيبات� ...إلخ ،وكافة من خرجن لي�ستنجدن بالقبائل و�أعرافها حلمايتهن من نظام علي عبدالله �صالح. مل تكن �سلطة النظام ال�سابق هي الوحيدة التي انتهكت امل��ر�أة وحولتها �إىل رق��م راب��ح يف بور�صة ال�صفقات املحلية والإقليمية والدولية ،بل �ساهمت �أي�ض ًا الأحزاب «الثورية» التي ان�ضمت �إىل ال�ساحات، ب�صناعتها لزعامات �أو�صلتها �إىل م�صاف «الأيقونات الثورية» ،وخ�صو�ص ًا تلك الزعامات التي �أتت من رحم فكن �إلهات للثورة بالعنف اجلهادي ،نحتت الأحزاب، ّ من خالل هذه الأيقونة �شعارات ومفاهيم قدا�سة الثورة ال قائد ًا للن�رص. كحق الهي ،وبط ً يف ه��ذا املنحى تبدت �صورتنا للعامل ككائنات كاريكاتورية حمنطة ،مبهرة رغم الغليان ذي الكلفة الب�رشية الباهظة الثمن .على �سبيل املثال ،قالت �صحيفة احلياة «�إن �أح��داث اليمن ُت َع ّد مر�آة مهمة لع�رص ربيع الثورات يف العامل العربي» 16وباملثل يف مقالة «اليمن الذي �أفحمنا» تقول الكاتبة نهلة ال�شهال ...« :وبرزت توكل كرمان و�أظهرت ن�ساء يرتدين النقاب ويدلني بت�رصيحات من خلفه وعي ًا يح�سدن عليه».17 هذه ال�صورة النمطية لن�ساء الثورة يف اليمن توكل كرمان« ،الرمز» الوحيد ،وخلفها الن�ساء املنتقبات «املوج الأ�سود» كانت وظلت وما زالت �صورة املر�أة يف اليمن،
ووجه الإ�سالم ال�سيا�سي لليمن الذي جعل «ال�رش�شف» لي�س لبا�س ًا تقليدي ًا فح�سب ،بل وهوية دينية �أي�ضاً، ليظهر للعاملّ � ،أن الثورة ثورة حزب الإ�صالح وحماة الثورة ،و�أن ال�شهداء �شهدا�ؤهم ،وهذا ما قالته توكل ّ حمط كرمان على �صفحتها على الفي�سبوك ،وك��ان اال�ستنكار من �أطياف الثورة املختلفة .18 �صناعة الأمن��وذج مل حت�صل ب� ٍ أياد عربية فقط ،بل وب�صناعة غربية وغرائبية� ،أ�سهمت يف ت�سويق «الأيقونة» وت�أطري احلالة املتحفية ،واختزال كل التنوع وتفا�صيل الثورة واحلياة ،ب�أيقونة ال تختلف عن �شخ�صية «باربي» الأمريكية .فـ«باربي الثورة» ،تختلف ب�أنها حالة ثورية �إ�سالموية تلب�س حجاباً ،وجرت �أ�سلمتها لتكون على نف�س
للمجتمع وللمر�أة ،لكنه ممكن املواجهة؛ ف�إذا احتدت احلركة الن�سوية ون�سقت مع القوى املدنية من مثقفني وليرباليني وغريهم ،ف�إنهم �سي�سهمون يف تفكيك امل�ؤ�س�سات التي تقف عائق ًا �أمام تنمية املجتمع وتطوره. والتحديات هنا هي الأمية املتف�شية مبا يتجاوز %65من ال�سكان والفقر والبطالة والتزويج املبكر ،وال�صحة املرتدية، أي�ضا ،وتنامي حاالت العنف وارتفاع م�ستوى اخل�صوبة � ً يفرخ التع�صب والإرهاب، الأ�رسي واملجتمعي ،وتعليم ّ كذلك تنامي م�شاريع الفتاوى اجلائرة بحق الن�ساء. وثمة حتديات ازدادت حدتها مع �أحداث .2011 و�سواء نظرنا �إىل ما حدث يف اليمن على �أنه ثورة �أو �أزمة، فال بد من التوافق على ما ي�أتي:
ا�ستعادة وجوهنا املغلقة وامل�صفّدة ب�أقفال الفتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاوى، حتى نتمكن من ر�ؤية �صورنا الطبيعية وهي تغت�سل مباء ال�شمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ�س منوذج الت�أ�سلم يف لعبة «فلة» اخلليجية ،و«�سارة الإيرانية»، ومثلما جرى ت�سويق منوذج املحجبة التي ت�صنع الدمية يف الغرب مبوا�صفات �إ�سالمية ،كما فعلت «�رشكة �أمريكية يف والية ميت�شيغان بت�سويق دمية حمجبة ا�سمها «رزان» وتباع للم�سلمني يف �أمريكا وبريطانية» ،19فقد جرت �صناعة باربي الثورية للربيع العربي ،وربيع اليمن خا�صة. وقد �ساعد على �صناعة باربي و�سائل الإعالم املقاولة على ثورة الربيع ،ويف ال�صدارة قناة «�سهيل» التابعة حلزب الإ�صالح مينياً ،وقناة «اجلزيرة» عربياً ،وعربها جرى ت�سويق الوهم ،وبروباغندا الثورة؛ �إذ يجب على ال�شعب �أن ي�صدق وي�ؤمن مبا تقوله وتفعله باربي؛ فما قالته باربي «حق» قاطع ب� ّأن «الربيع ي�سري يف االجتاه ال�صحيح ،و� ّأن الثورة حققت �أهدافها ،و� ّأن الثورة من�صورة» 20 ...بهذه املتحفية الثورية الإ�سالمية ،و�إذا بنا �أمام فا�شية خ�رضاء حت�صد الربيع والف�صول واجلغرافيا ،ويدار بزر الفتوى، وال�شيخ ،والقبائل الغازية ،وزر اجلرنال. 18
www.14october.
?com /News.aspx newsno=3024415.
� 19صحيفة «احلياة» 20ايلول / �سبتمرب .2000 20مقابالت من و�سائل �إعالمية خمتلفة.
37
حتديات ال ينف�صل حتدي امل��ر�أة اليمنية عن التحدي للمجتمع ب�أطيافه املختلفة؛ فما زال املجتمع يواجه الرتكيبة احللزونية واملتداخلة لفكر القوى الرجعية واملهيمنة (امل�ؤ�س�سة القبلية والدينية والع�سكرية) امل�ست�أ�سدة بالرثوة وال�سلطة ومفا�صل العملية التعليمية ،وم�ؤ�س�سة القانون، حتد كبري وامل�ؤ�س�سة ال�سيا�سية واالقت�صادية برمتها� .إنه ٍّ بدايات
العدد 2013 |6
متكني املر�أة بن�سبة %30يف كافة امل�ؤ�س�سات ومناحي ال �إىل .%50 احلياة ،وال�سلطة و�صنع القرار ،و�صو ً العمل احلثيث لأن تكون املر�أة م�شاركة يف �صياغة الد�ستور :ذلك هو التحدي الأكرب واملقلق. �إ�صالح قانون الأحوال ال�شخ�صية الذي تعر�ض للعبث با�سم «ال�رشيعة» ،وا�ستعادة قانون «املواطنة املت�ساوية» و«العدالة االجتماعية» مبا ن�صت عليه املواثيق الدولية التي وافق عليها اليمن. احلد من حاالت العنف املمنهج التي متار�س العمل على ّ على املر�أة با�سم احلرام والعيب وبا�سم الدين واملوروث الثقايف واخل�صو�صيات والعادات والتقاليد. التحدي وفر�ض ال��ـ %30للو�صول �إىل امل�شاركة باملنا�صفة ،كما يف تون�س ،و�أن تتوىل الن�ساء منا�صب �سيادية. �ألاّ ت�صنف الن�ساء على �أ�سا�س هوياتي ،وخ�صو�ص ًا الهوية الدينية ،يف امللب�س �أو الأن�شطة املختلفة. جتديد اخلطاب الن�سوي و�إدخ��ال العنا�رص ال�شابة لإدارة امل�ؤ�س�سات الن�سوية ،كذلك مللمة حاالت الت�شظي يف احلركات الن�سوية حتت حتالف واحد ي�شتغل على ق�ضايا املر�أة ،والت�شبيك مع التحالفات الن�سوية يف العامل، واال�ستفادة من جتارب تلك احلركات. �أخ�يراً ،ا�ستعادة وجوهنا املغلقة وامل�صفّدة ب�أقفال الفتاوى ،حتى نتمكن من ر�ؤية �صورنا الطبيعية وهي تغت�سل مباء ال�شم�س.
�رصاع الإعالم يجب و�ضع هذه احلما�سة الوطنية يف �سياقها� ،سياق اخلوف �ضخ املعلومات املتف�شي الذي تقطر به خمتلف قنوات ّ واخلطابات ال�سيا�سية .هذا اخلوف ،الذي ظننا �أنه �سقط ال �آخر: كجدا ٍر مع ثورات عام ،2011اتخذ لنف�سه �شك ً ت�سميه مل يعد اخلوف من النظام ،من الدولة التي تبني ما ّ بياتري�س هيبو «قوة الطاعة» ،بل بات خوف ًا �أكرث انت�شار ًا ميزج ما بني ال�صعوبة احلقيقية يف اخل�ضوع �أو احرتام َ املواطنة ،خلل وظيفي وا�ضح يف اخلدمات الهرمية (تر ّدي ّ العامة) والهلع غري ّ املنظم يف مواجهة املخاطر احلقيقية مهدد ًا ب�سيناريو حمتمل «على �أو فيلوح البع�ض ّ املتخيلةّ . ّ يقدم الطريقة امل�رصية» كف ّزاعة �أو خطر �رصيح ،بينما ّ عليه البع�ض الآخر اخلطر ال�سلفي� ،أو انعدام الأمان بلغة متفرقة.)... ، �أكرث عمومية (بيدوفيليا ،اعتداءات ،حوادث ّ يقود ذلك كله الالعبني ال�سيا�سيني �إىل �إ�شهار رغبتهم ب�إنقاذ تون�س وثورتها .ولكن ،خلف هذا الإ�شهار الوطني �رصاع �ضا ٍر على ال�رشعية الوطنية ،يحمل اجلامع ،يتوارى ٌ كل منهم تون�سـ«ـه» اخلا�صة .في�ضحي ال�س�ؤال املحوري فيه ٌّ «�أين هي امل�صلحة الوطنية؟» ومن يخدمها ب�شكل �أف�ضل اليوم؟ ك ٌّل يجد خيانتها املفرت�ضة يف ثنائية جديدة يكرث التعليق حولها («النه�ضة»� /ضد «النه�ضة») .بالن�سبة �إىل البع�ض ،مل يعمل الإ�سالميون ــ ومن �ضمنهم «النه�ضة» ــ يف خدمة امل�صلحة الوطنية التون�سية يوماً .لي�سوا �سوى حتركهم �أيا ٍد عاملية� ،أكانت �أيادي «الإخوان امل�سلمني» دمى ّ �أم اجلهاديني .املعلومات املن�شورة على املواقع الإخبارية ال � ّإن الهدف الفعلي تروج ل�شائعات ،فتقول مث ً التون�سية ّ من زيارة را�شد الغ ّنو�شي لإ�سطنبول يف منت�صف متوز/ ال�رسي للتنظيم العاملي يوليو ،هو امل�شاركة يف االجتماع ّ جلماعة «الإخوان امل�سلمني» .وقد عينّ الغ ّنو�شي خالله رئي�س ًا للمكتب ال�سيا�سي ،بحيث �أ�صبح الرجل رقم 2 ت�صور حركة �شخ�صيات يف «اجلماعة» .و�أتت فيديوات ّ ر�سمية على الأقدام يف ما ي�شبه بهو فندق ،لتخدم كدليلٍ على انعقاد هذا االجتماع ،بح�سب قناة �إماراتية. يف مواجهة اتهامهم بخيانة الوطن ،يتبارى م�ؤيدو «النه�ضة» ال�ستعرا�ض وطنيتهم� ،ساعني �إىل التمايز عن ال�سلفيني الذين ارتبطت �صورتهم بالعلم الأ�سود. فحادثة ا�ستبدال العلم الوطني بالعلم ال�سلفي يف ح��رم «جامعة منوبة» يف � 7آذار /مار�س 2012
أين هي المصلحة العامة يف الثورة التونسية؟ ليىل داخيل
تعي�ش تون�س يف الفرتة الراهنة مرحلة �صعو ٍد حاد يف العلم �أ�سبابه يف عوامل التعبري الوطني .ويجد متجيد َ عديدة .ففيما ّ دل العلم ،خالل التظاهرات الأوىل التي تلت �إ�سقاط النظام ،على �شكلٍ من التعاون الوطني ،تراه �أ�ضحى اليوم م�ساحة �رصاع .من ميتلك ال�رشعية الوطنية الفعلية؟ احلزب املنتخب؟ معار�ضته التي تطالب ب�رشعية من ٍ منط خمتلف؟ � ّأية � ٍ أرا�ضّ � ،أية �أجيال... ،؟ وتطول الئحة الأ�سئلة �إىل ما ال نهاية؛ �إذ ي�صعب حتديد موقع الفرد نظر ًا تعدد االنتماءات التي تتزاوج فيه. �إىل ّ
()2009
املهمة� :إنقاذ الثورات العربية ّ ميكنتف�سريالفورةالوطنيةبعواملظرفيةعديدةقديخت�رصها امللحة لـ«�إنقاذ الثورة التون�سية» .فبعد � إح�سا�س بال�رضورة ّ ٌ مهم ًة و�صفها بـ«الأمل الأخري» ،ك ّلفت الثورة التون�سيني ّ مقد�سة .هكذا �أعلنها فرن�سوا ينظرون �إليها بو�صفها �شبه ّ هوالند يف اخلطاب الذي �ألقاه �أمام الربملان التون�سي يف مطلع ال يذهب �إىل �أبعد بكثري من متوز /يوليو« :2013جتلبون �أم ً ال�شعب التون�سي� ،أبعد بكثري من ال�شعوب العربية». �أمام هذه الوظيفة غري الوا�ضحة املعامل ،والتي ينظر �إليها تنوعت ردود الأفعال. اجلميع رغم ذلك كـ«واجب وطني»ّ ، ال منو خ�صو�صي ٍة تون�سية تظهر يف عبارات فهي حتفّز �أو ً من نوع «تون�س لي�ست م�رص» (�أو لي�ست �سورية ،لي�ست قطر ،لي�ست �أوروبا� ،)... ،أو يف ت�رصيحات عامة مثل« :يف تون�س ،الأمر خمتلف» .وبح�سب املتحادثني ،ي�ست�شهد هذا اخلطاب على �صوابيته بطبيعة التون�سيني امل�ساملة ،و�إجنازات ال يف الدميوغرافيا) وعلى التعليم� ،أو حتى بورقيبة (و�أثره مث ً املناخ .و�أحياناً ،تكون املفارقة يف �سوق هام�شية البلد �ضمن ٍ حد ال�سياق العاملي كحظ من حظوظه .تون�س� ،صغرية �إىل ّ ان�رصاف الأطماع عنها ،مبا يتيح �إمكانية �إجناح ثور ٍة فيها...
باحثة من تونس
يف «المركز الوطين لألحباث العلمية يف فرناس».
ٌ «جيل آخر مؤلفاهتا
مالمثقفني العرب يف سورية ولبنان:
«»1940 - 1908
38
بدايات
العدد 2013 |6
تنت�رش الأعالم يف البالد �إذ ًا لت�شهر الفخر الوطني، ولكن ُينظر �إىل جناح الثورة �أو ف�شلها ك�إمكاني ٍة م�ستقلة عن �إرادة ال�شعب �أو �أفعال التون�سيني .ف�شعار الواجب الوطني ،ذاك اخلا�ص بالإ�رصار ،يتغذّى من عجزٍ :يف مواجهة امل�ؤامرات الدولية التي تتفاوت �إمكانية التحقق منها ،والنظريات اجليو�سيا�سية ،وال�شكوك التي ال تنفك وي�شد هذا ت�ضغط على الطبقة ال�سيا�سية مبجملها... ّ اخلطاب �إىل البعيد �أحيان ًا حتى ت�ضحي الثورة التون�سية، تلك نف�سها التي يجب �إنقاذها ،اخرتاع ًا (غربياً� ،أمريكياً، �إ�رسائيلياً ،قطرياً� ،سعودياً )... ،لإع��ادة ر�سم خريطة �سخر انتخابات 2014لتغذية ال�شك :جرى املنطقة .ف ُت ّ التالعب بها لإي�صال الإ�سالميني �إىل ال�سلطة ،لكونهم حلفاء �أمريكا (�أو �سواها ،تبع ًا للأدبيات امل�ستعملة) .يجب عدم �إهمال هذا النوع من املحاججات .فهي �إ�شار ٌة �إىل الإر�ساء الطويل الأمد لنظا ٍم قائم على ّ �شك م�ستمر يف الت�ضخم ،يغرق البالد يف مناخ من اخلوف املتف�شي ،لي�سود ّ إح�سا�س ب�أن «كل �شيء قابل للحدوث يف �أية حلظة». � ٌ جانب �أخري من جوانب الواجب الوطني ي�ستح�رضه ٌ ع��اد ًة رج��ال ال�سيا�سة ب�صدقٍ متفاوت ،هو «الوحدة املقد�سة» التي تتطلبها «الأح���داث»� ،أو�ضاع البلد، ّ ومفاهيم مقلقة �أخرى ال يتم تعريفها بال�رضورة ك�أزم ٍة �سيا�سية �أو اقت�صادية ،بل كحالة �أزمة �شاملة �سيطول �أمدها .فيكون التوافق ال�سيا�سي املطلب الدائم كالتعويذة، ما دامت التوترات واملعار�ضات م ّتقدة بني خمتلف التيارات ال�سيا�سية .وهو ،يف املقابل ،ي�ستند �إىل ٍ متعمد ما بني خلط ّ ال�شعور الوطني والوحدة الوطنية .فالوحدة تفرت�ض حالة ٍ حرب يجب �أن ُت�سكت املعار�ضات ،بينما ال�شعور الوطني، �إذا �أملى احرتام البلد والأمة ،فهو ال يفر�ض بال�رضورة �إ�سكات اخلالفات واملعار�ضات املوجودة يف الداخل.
(mayfootekchay.tv/isctube_show.php?sti=Un-salafiste-en)leve-le-drapeau-tunisien-la-fac-de-Manouba&tubeid=6949
39
بدايات
العدد 2013 |6
وال�سخط الذي �أثارته ،طبعا الأذهان� .أما خولة ر�شيدي، ت�صدت للطالب ال�سلفي رافع العلم الطالبة ال�شابة التي ّ و�سام �شك ٍر الأ�سود ،حامي ًة العلم التون�سي ،فقد حازت َ ال من رئي�س اجلمهورية �آنذاك. جلي ً ّ منذ ذلك احلني ،ركزت التعبئة التي مار�سها منا�رصو احلكومة يف ال�شارع ،على �رشعية احلزب الإ�سالمي احلاكم وعلى طابعه الوطني .وهم ي�ستخدمون املثال الرتكي هنا للقول � ّإن الإ�سالميني التون�سيني ،كحال نظرائهم الأتراك، ال ي�سعون �إىل ت�صدير منوذج ،بل �إىل �إر�سائه �ضمن ال�سياق الوطني .وبالنظر �إىل حراكهم التعبوي �أخرياً� ،إثر اغتيال حممد برهامي يف 25متوز /يوليو املا�ضي ،يظهر بو�ضوح طغيان اللون الأحمر عليها ،يف حني �أن التظاهرات امل�ؤيدة لـ«النه�ضة» �إثر اغتيال �شكري بلعيد (� 9شباط /فرباير � )2013سارت حتت �أعالم احلزب (�أبي�ض ،ب�شعا ٍر �أزرق) الذي ح�رض حينها بكثافة� ،إىل جانب الأعالم ال�سلفية. التجمعات ،ا�س ُتبدلت ال�صورة احلزبية التي �سادت تلك ّ بال�رشعية الوطنية املركزية ولونها الأحمر ،اليوم. وعلى ال�ساحة ذاتها ،حجز عامل الأعمال لنف�سه ح�صة« .ال والء �إال لتون�س» ،تقول اللوحات الإعالنية ّ ال�ضخمة املنت�رشة يف �أرجاء تون�س .املعادلة غريبة ،وت�أتي على خلفية العلم الوطني ،لت�ستح�رض �ضمني ًا �شهادة احليز العام قد �إميان امل�سلمني (ال �إله �إال الله) .بذلك ،ف�إن ّ تعر�ض حرفي ًا للغزو الأحمر :حمطات البا�صات ،اللوحات ّ الإعالنية بكافة �أحجامها ،ب�شعا ٍر �أو من دونه. هذا النمط ّ املنظم واملم�أ�س�س من الإ�شهار ال�سيا�سي، يف ٍ وقت يخلو من احلمالت االنتخابية ،يبدو الفتاً .كذلك، نرى �صور �شهداء ،مطبوعة بالألوان ومع ّلقة هنا �أو هناك، على الواجهات ،على اجلدران ...و�أحياناً ،تربز ع�صبات إحياء لذكرى ال�شهداء. عند مداخل امل�ؤ�س�ساتً � ، املتفرج يف ه��ذه احلملة هو كثافة ما يطبع عني ّ ح�ضورها .لقد ح ّلت مكان الإعالنات يف املدينة ،بكل ما للكلمة من معنى .وعندما يكون املرء على ّبينة من ال�صعوبات االقت�صادية التي تواجهها تون�س ،ي�صبح ٍ غياب �شبيه بالن�سبة �إىل �رشكات االت�صاالت تخيل كلفة ّ حميرّ اً .ما الذي تعنيه تعبئ ٌة �شبيهة؟ وما �سببها؟ يف مطلع كانون الثاين /يناير املا�ضي ،بد�أ ح�ضور الأو�ساط االقت�صادية يف احلياة ال�سيا�سية التون�سية يتزايد تدريجياً .فتم تقدمي �سليم الرياحي ،وهو رئي�س حزب كعراب اللقاء ما بني احلر») ّ ليربايل نا�شئ («االحتاد الوطني ّ BCSوالغ ّنو�شي يف باري�س� ،أوا�سط �شهر �آب� /أغ�سط�س .من
املتعهدين ،يظهر �أ�صحاب االت�صاالت وملاّ كو و�سائل بني ّ الإعالم يف ال�صف الأول .ف ُت�ست�شف من ذلك رغب ٌة م�رشوعة هددتها ب�شكل خا�ص الإدانة حرية التعبري (وقد ّ يف حماية ّ الق�ضائية ملدير قناة «التون�سية» وم�ؤ�س�س �رشكة الإنتاج «كاكتو�س» �سامي الفهري ،كما اتهامات كثرية ا�ستهدفت ٍ اجنراف «ا�ستبدادي» لـ«حزب ال�صحافيني) ،يف مقابل �أي النه�ضة» .هذا جزء من ال�رشح املمكن .لكن يجب �أي�ض ًا متييز ح�ضور لوبي ليربايل يف هذه املبادرة ،يقف على مقرب ٍة من املعار�ضة ،لأ�سباب معظمها مت�صلة بالتقارب االجتماعي واملناطقي ،كما بالروابط العائلية .كذلك� ،أتت املبادرة �إثر ي�سخرون جناحهم االقت�صادي بروز جيل من «القادة» الذين ّ يف خدمة الن�شاط ال�سيا�سي يف ال�سياق الدميقراطي اجلديد. املتعهدين الأربعينيني بد�أ حياته املهنية حتت معظم ه�ؤالء ّ �سلطة بن علي ،وانتقد حينها بتفاوت وبعالنية الف�ساد يف حميط الرئي�س ،والأثر ال�سلبي لهذا الف�ساد امل�ست�رشي على ح�سن �سري الأعمال .بعد فرتة من التحفّظ ،عادت تلك الأو�ساط اليوم لتكون �شديدة احل�ضور يف امل�شهد ،بوا�سطة النفوذ االقت�صادي واحلمالت الإعالنية ّ املنظمة ،وعرب الدعم امل�سن الباجي تقدمه حلزب «نداء تون�س» ورئي�سه الذي ّ ّ قائد ال�سب�سي ،يف �آن واحد� .إن �أب�سط التناق�ضات يف لغة التوا�صل ال�سيا�سي اجلديدة هذه ،هو تزاوج ال�شعارات املتحيزة لل�شباب مع الدعم الهائل لقائد ثمانيني. ّ
النقا�شات واملناظرات التي طالت مدتها ،الهزليون ي�أخذون م�ساحتهم �شيئ ًا ف�شيئ ًا (مبا يف ذلك ن�سخة حملية عن دمى الأخبار الفرن�سية «غينيول» ،التي اختفت اليوم) .الربامج الأك�ثر �شعبية (مبا يف ذلك الربامج ال�سيا�سية) تخ�ضع للتعليق والت�رشيح الفوريني على مواقع التوا�صل االجتماعي و�أبعد منها .الثنائية التي ت�صنعها التلفزيونات اخلا�صة وو�سائل التوا�صل متخيلة، متخيلة جزئي ًا (جماعة تر�سم عن تون�س �صورة ّ ّ بح�سب تعريف ب� .أندر�سن) ،باتت كالأمة ال�ضمنية جزء ال ب�أ�س به من النخب املدينية التي ي�ست�شهد بها ٌ التون�سية .وهي تتغذى �أكرث ف�أكرث من ا�ستطالعات ال الر�أي ،ودرا�سات اال�ستهالك ،وال ت�رصف وقت ًا طوي ً املعمق للعوامل التي على حماوالت الفهم �أو التحليل ّ تدفع بجزء ال ب�أ�س به من ال�شعب �إىل دعم النظام القائم �أو هجر النقا�ش ال�سيا�سي متاماً.
عمار .هما اليوم معتكفان ،ي�ست�ضيفان على �شبكة اللوحات ّ الإعالنية التي ميلكانها حملة «ال والء �إال لتون�س». �سامي الفهري هو �أي�ض ًا رجل �إعالم� .أن�ش�أ �رشكة الإن��ت��اج «كاكتو�س» يف ع��ام ،2002وت�شارك مع �صهر بن علي ،بلح�سن طرابل�سي ،يف متويل برامج ترفيهية وم�سل�سالت رم�ضانية («مكتوب»)ّ � .أ�س�س قناته التلفزيونية اخلا�صة «التون�سية تي يف» منذ �آذار /مار�س .2011وقد �أ ّدت م�شاكله مع العدالة �إىل �سجنه ،علم ًا ٍ �رشعي �شكوك يف �أنه ا�ستغل ب�شكل غري ب�أنها ُبنيت على ّ موارد التلفزيون الوطني التون�سي� .أما القناة التي � ّأ�س�سها، فهي اليوم متوقفة عن العمل ،ت�ست�ضيف بثها قنا ٌة تابعة ل�شبكة خا�صة �أخ��رى« ،احل��وار التون�سي» ،وهي تعترب القناة التي حتقّق �أعلى ن�سب م�شاهدة يف البالد. قد يكون �سليم الرياحي ،من بني عد ٍد من الأربعينيني، الأكرث التزام ًا بالعمل ال�سيا�سي� .إذ �شارك يف االنتخابات الرئا�سية يف ت�رشين الأول /اكتوبر 2012على ر�أ�س ّ انتخابي ب�سيط ت�شكالت جديدة؟ حزبه «االحت��اد الوطني احل� ّ�ر» ،ب�شعا ٍر ّ وفعال ترافقه حركة يد يفهمها اجلمهور التون�سي .بالتزامن مع حملة الإعالنات الوطنية ،انطلقت حركة ّ ويجل�س رجل الأعمال هذا ،ميلك ثرو ٍة جمعها بف�ضل «ارح��ل» يف � 24آب� /أغ�سط�س� ،أمام �أب��واب جمل�س ّ وت�شكلت كحركة خال�ص وطني .يف عالقاته بالأو�ساط الليبية ،يف جمايل البناء واخلدمات النواب يف الباردو، املنتخبون على �أنهم حماة ال�رشعية .ويف ي�رص النفطية .وهو مثال رجل الأعمال امللتزم ال�سيا�سة مواجهتها، َ ّ ٍ مقلب �آخر �أي�ضاً ،ي�ؤكد م�ست�شار الرئا�سة «�أولوية االعتناء اال�ستعرا�ضية :ير�أ�س نادي ًا لكرة القدم ،وي�ستثمر يف بال�صالح العام» .هكذا هو امل�شهد ال�سيا�سي الظاهر �أمامنا الن�شاطات االجتماعية واملجموعات ال�صحافية. إخراج م�رسحي، املتعهدون ورجال الإعالم ال�شباب �صور ًة اليوم يف تون�س ،وهو يكاد يكون م�شهد ًا ب� ينقل ه�ؤالء ٍ ّ عن تون�س تبدو وك�أنها عمود �سيا�ستهم« :تون�سهم» منفتحة حموك ًا ك�سيناريو .ومع ذلك ،بعيد ًا عن حركة الكامريات ّ ت�شكالت جديدة� .إذ يبدو البلد ومتعهدة .وهي تتقاطع مع هذه ،يرتقّب املرء بزوغ على العامل ،ليربالية ،مت�ساحمة، ّ حما�سة حلقوق املر�أة التون�سية ،وعز ٍم على �صون ال�سوق وك�أنه يختنق يف �أح�ضان ه�ؤالء الذين ينادون با�سمه. مت�س بالنظام والأمن هل هناك �سيا�سة قادرة على االت�ساع لنخب ٍة حداثية املفتوحة ،و�ضبط التهديدات التي ّ احلر» املتمحور حول كلمة عازمة على مناه�ضة الإ�سالميني (يجب التذكري ب� ّأن نخب التون�سيني� .إعالن «االحتاد الوطني ّ امللحة بن علي اجتمعت جزئي ًا على املعاهدة املعادية للإ�سالميني) «توا»� ،أي «الآن» ،ي�ضيف �إىل ذلك �سياق ال�رضورة ّ ّ «توا» .)www.youtube.com/watch?v=A7kH8VHGSps ،وملجتمع �أكرث �أ�سلم ًة ،يف �آن واحد؟ وهل هذا هو االن�شقاق (حملة ّ �شخ�صيات يفرت�ض بها �أن مت ّثل تون�س الذي ي�ست�أهل �أن يكون الأ�شد بروزاً؟ �أال توجد م�ساحات فتظهر يف الإعالن ٌ أ�شد و�ضوحاً؟ يف لعبة ا�ستمالك الرموز بتنوع نا�سها ،تطالب ب�إنهاء فوري للعبودية ،البطالةُ ،تهمل ،وتفاوتات � ّ ّ �صور الإع�لان باعتناء وا�ضح باجلماليات (العلم ،الن�شيد« ،الإ�سالم» التون�سي يف مقابل �إ�سالم وقد أمل. ل وا ّ ب�شدة الرهان على فر�ضية �أن الب�رصية التلفزيونية ،بعيد ًا جد ًا عن واقع البلد. «اخلليج» ،اللغة ،)...يجوز ّ تعك�س القنوات التلفزيونية اخلا�صة ،مبجموعها ،هذه املواجهات الثنائية �إمنا تخفي وراءها ،مر ًة �أخرى، اجلوهرية :الفقر الذي يت�ضخم ،الدين وعدم تلك الرغبة يف �إعطاء الكلمة للتون�سيني والتون�سيات ،امل�سائل ّ ولكنها �أي�ض ًا تنقل ال��روح اخلفيفة ،احل� ّ�رة ،احلديثة .ا�ستقرار البيوت ،انعدام الأفق �أمام ال�شباب... موقع إىل � املل�صقات ا�ستوديوات الربامج احلوارية هي ن�سخة عن �شبيهاتها لذلك ،لي�س مفاجئ ًا حت� ّ�ول ٍ الأوروبية �أو الأمريكية ،املحطات الإخبارية تقاطع ل�رصاع �أكرث خفوتاً.
حتول على طريقة برلو�سكوين؟ ّ يف طبقة رجال الأعمال هذه ،تربز �أربع �شخ�صيات على وجه اخل�صو�ص� :سامي الفهري� 41 ،سنة ،مدير قناة «التون�سية» وم�ؤ�س�س �رشكة الإنتاج «كاكتو�س» ،وهو م�سجون راهناً؛ الأخ��وان القروي (نبيل � 48 -سنة، ٌ وغازي � 46 -سنة) مالكا القناة املغربية «تلفزيون ن�سمة»، و�رشكة االت�صاالت «قروي �أند قروي وورل��د»؛ �سليم الرياحي� 39 ،سنة ،رجل �أعمال دخل �أخري ًا �إىل قطاع االت�صاالت («ال�صباح») ،ميلك نادي كرة القدم التون�سي احلر». «النادي الأفريقي» ،وهو م�ؤ�س�س «االحتاد الوطني ّ بث �أ�صبح الأخ���وان القروي حم��ور الأخ��ب��ار عند ّ قناتهما التلفزيونية لفيلم «بر�سيبولي�س»� .شاهدنا نبيل ويالحق بتهمة الإخالل بالنظام العام ،وقد اعتربت يعتذرُ ، بحرية مي�س ّ حماكمته �أنها �أ�صدرت احلكم الأول الذي ّ التعبري ،منذ نهاية عهد بن علي .وكان الأخوان القروي قد بنيا �إمرباطوريتهما منذ ت�سعينيات القرن املا�ضي ما بني اجلزائر وتون�س ،بالت�شارك مع برلو�سكوين واملنتج طارق بن 40
بدايات
العدد 2013 |6
41
بدايات
العدد 2013 |6
ا�سم م�ستعار للخوة التي ينتزعونها من �سائقي ال�شاحنات الذين ينقلون ال�صخور من املقالع التي يف اجلرود ،هذا �إذا رغبوا يف �ضمان ا�ستمرارية م�صدر رزقهم. كانت هذه «ال�رضيبة» مربحة جداً ،لدرجة � ّأن غرفة من الأ�سمنت ُبنيت على م�سافة كيلومرتات قليلة من موقع نقطة التفتي�ش� ،شكلت حمطة دائمة لتجميع «ال�رضائب»، وكان على عنا�رص اجلي�ش املتمركزين يف عر�سال �أن ُيبطئوا �رسعتهم عند نقطة التفتي�ش تلك ،مثلهم مثل �أي بغ�ض النظر عن املنطق املعقول الذي �سعى �شخ�ص �آخرّ . اخلطاب الر�سمي �إىل انتهاجه ،بحجة �أن اال�ستخبارات ال�سورية ت�ساعد الدولة اللبنانية يف مراقبة «جمموعة عد لقانون جديد للمقالع �إرهابية»؛ �أو �أن «احلكومة ُت ّ (ك�سارات) ،ومل تكن «ال�رضيبة» �إال بداية مرحلة تنظيم ّ الأرا�ضي» .ال ب�أ�س ،ولكن ملاذا يطلب ذلك ن�رش قوات �سورية يف املنطقة؟ �شارك الأهايل يف هذه اللعبة لفرتة طويلة مبا يكفي ليفهموا � ّأن معاناتهم عند احلدود تعني يلق غ�ضبهم و�شكواهم �أنهم بعيدون عن �أنظار دولتهم .مل َ آذانا �صاغية ،وامل�سائل نف�سها التي تثري ال�سخط يف �سائر � ً �أنحاء البالد اليوم لي�ست �سوى ممار�سات يومية اعتيادية عند �أهايل عر�سال :اختطاف الرعاة على �أيدي �رشطة احلدود ال�سورية يف اجلرود؛ ب�ساتني على الأرا�ضي اللبنانية يدعي مزارعون �سوريون امتالكها؛ تدخل اال�ستخبارات ّ ال�سورية يف ال�ش�ؤون الداخلية بعد وقت طويل من ان�سحاب اجلي�ش ال�سوري من باقي �أنحاء البالد؛ �إلخ .ثم �إن معاينة جي�شهم اللبناين ،وهو يخ�ضع ل�سلطة ع�سكرية �أو �أمنية �أخرى ،مل ُت�سهم �إال يف تعزيز امل�شاعر املت�ضاربة لدى �أهايل عر�سال جتاه الدولتني اللبنانية وال�سورية.
عراسل بني دولة وأخرى دوم ًا عىل الهامش
مياشل عبيد منذ ب�ضعة �أ�سابيع ،انت�رش على موقع «يوتيوب» الإلكرتوين �صور بني بلدتني على حدود �رشيط فيديو ا�ستفزازي ُم َّ استاذة مادة لبنان ال�شمالية ال�رشقية ،هما عر�سال والهرمل .يف الأ�شهر االنرتوبولوجيا ،جامعة ،املا�ضية ،باتت هاتان البلدتان مت ّثالن قطبني متناق�ضني: المملكة المتحدة .ف�إحداهما (الهرمل) ت�ضم جمهور ًا من الناخبني ال�شيعة ي�ؤيدون حزب الله بقوة ،فيما ت�ضم الأخ��رى (عر�سال) ال�س ّنة يعار�ضون بحما�سة متقدة النظام جمهور ًا من الناخبني ُّ ال�سوري ،حتى �إنه ُيقال � ّإن البلدة ت�ؤوي ثوار ًا �سوريني. وقفت �صحافية �أم��ام جمموعة من رجال امليلي�شيا ْ يلوحون ببنادقهم عند نقطة تفتي�ش يف بلدة اللبوة ،قطع ّ �أهلها الطريق امل�ؤدية �إىل عر�سال ،ووجهت حديثها �إىل الكامريا لتخت�رص تقريرها على ن�رشة الأخبار والإبالغ مرت بالفريق عن �إطالق نار بني اجلانبني� .أثناء حديثهاّ ، التلفزيوين �صدفة �آلية تابعة للجي�ش اللبناين يف طريقها �إىل عر�سال .وبدا امل�سلحون ك�أنهم �أ�شجار مر�صوفة �إىل جانب الطريق .يف ا�ستوديو املحطة ،عبرّ ت مذيعة ن�رشة الأخبار عن عدم ت�صديقها ما ت�شاهده ،وطلبت ت�أكيداً« :هل هذا حقيقة ما ح�صل؟ �أمل ي�شاهد اجلي�ش امل�سلحني؟» .يف الأيام التي تلت ذلك ،ن�رشت جمموعة من املراقبني الق�صة لت�أكيد تراجع الدولة اللبنانية (مع اجلي�ش كرمز �أ�سا�سي لها) �إىل حالة من العجز .حتى � ّإن معلق ًا على موقع «يوتيوب» ت�ساءل« :ما هي اخلطوة التالية؟ هل �سيوقف امل�سلحون عنا�رص اجلي�ش وي�س�ألونهم عن بطاقات هوياتهم ليت�أكدوا مما �إذا كانوا ُ�س ّنة �أو �شيعة؟» .يف املقابل ،اعترب م�ؤيدو اجلي�ش � ّأن الق�صة تطرح �إ�شكالية خمتلفة بع�ض ال�شيء؛ فهي تلقي ال�ضوء على ما �آلت اليه �أمور �سكان هذه البلدات «الغريبة» (�إذا ما و�ضعنا خالفاتهم جانباً). متتعت العبارة املبتذلة «خارج عن القانون» ،امل�ستعملة يف البقاع ال�شمايل ،مبرونة كبرية لوقت طويل يف لبنان. 42
بدايات
العدد 2013 |6
غالب ًا ما غذتها و�سائل الإعالم يف تغطية �أحداثها عن كثب وعن ُبعد ،مع الرتكيز على �أوقات الأزمات وح�سب، �أو فورات الغ�ضب ،التي تبلور ال�صورة النمطية لرجل الع�شرية البقاعي العنيد اخلارج عن القانون الذي ي�رضب عر�ض احلائط بالقانون وبالدولة .ويبدو � ّأن هذه العبارة املبتذلة ت� ّؤطر الفهم احلديث للتطورات ال�سيا�سية يف البقاع ال�شمايل؛ �إذ يقرتن بتف�سريات طائفية جاهزة تطيح التعقيدات والتحوالت على تلك احلدود ويح�رصها مبو�ضوع واحد :عداوة �شيعية � -س ّنية م�ستوطنة تنعك�س ب�شكل خمتلف �أكرث فو�ضوية ،على هوام�ش املجتمع اللبناين� .إن تغيري العالقات االجتماعية بني بلدات هذه املنطقة وقراها ،وتغيري الروابط ال�سيا�سية واالقت�صادية مع الدولة ال�سورية و�شعبها� ،إىل جانب تزايد النزعة القومية اللبنانية يف عر�سال ،ووجود حدود مفتوحة تاريخي ًا عرب اجلرود ،بالإ�ضافة �إىل حتول ملحوظ �أخري ًا عن االنتماءات التاريخية الي�سارية املنحى (ال�شيوعية والقومية العربية) ت�صب من حيث باجتاه هوية �س ّنية جديدة .هذه كلها ّ الزمان واملكان يف �إطار رواية عن «الع�شائرية الطائفية». ب�صفتي باحثة عملت عن كثب يف عر�سال منذ عام ،1996وقد منّيت عالقات �شخ�صية ونوع ًا من الأُلفة مع العديد من العائالت والأف��راد فيها ،فوجئت كثري ًا للوهلة الأوىل بر ّد فعل اجلمهور على مثل هذا امل�شهد الذي ّ �شكل م�شهد ًا «عادياً» لعقود من الزمن بالن�سبة �إ ّ يل و�إىل �أهايل عر�سال .فه�ؤالء امل�سلحون الذين يرتدون ثياب ًا مدنية لي�سوا �أول من منع �أهايل عر�سال من الو�صول �إىل منازلهم .قبل ع�رش �سنوات بالتحديد ،كان رجال اال�ستخبارات ال�سورية الذين يرتدون ثياب ًا مدنية هم �أي�ض ًا يو ِقفون �أهايل عر�سال عند نقطة تفتي�ش مماثلة ومينعونهم من املرور ما مل يدفعوا «�رضيبة» .وهذه ال�رضيبة
على اجلانب اخلاطئ من ال�سلطة فكيف ويف �أي خندق �سيا�سي حتديد ًا �سيقف �أهايل عر�سال، عالقني يف فخ عدم القدرة على توقع منحى العالقات املتغرية با�ستمرار بني الدولتني؟ منذ اال�ستقالل ،بدا �أنهم بغ�ض النظر �أهالٍ اختاروا «اجلانب اخلاطئ من ال�سلطة»ّ ، عن مكمن هذه ال�سلطة .فقد انح�رصت خياراتهم ال�سيا�سية املتغرية بالعبارة املجازية نف�سها� ،أي «الع�شائري» الذي ال ي�ستطيع �أن يرى ما هو �أبعد من الوالء الع�شائري (وقد ا�س ُتبدل به الآن الوالء املذهبي) ،والذي ال يعبرّ عن �سيا�ساته �إال من خالل العنف ،فال ميكن جلمه بالتايل �إال بالعنف .وقد �شاركت و�سائل الإع�لام و�أجهزة الدولة يف ن�رش هذه ْ املقوالت .وانت�رشت مقاالت موجزة تعيد �إنتاج هذه ال�صورة 43
بدايات
العدد 2013 |6
ب�شكل فو�ضوي يف ال�صحف اللبنانية منذ خم�سينيات القرن املا�ضي� :أخبار عن مناو�شات بني عائلة و�أخرى ،م�سلحون يتبادلون �إطالق النار مع رجال ال�رشطة ،و�إخ�ضاع الدولة �سكان اجلرود املتعنتني .مل تكن هذه ال�صور تنوي التعبري عن «طبيعة» النا�س يف منطقة معينة من لبنان وح�سب، بل �أن حتجب �أي�ض ًا م�شاريعهم ال�سيا�سية التي تغيرّ ت مع الوقت من خالل ح�رصهم �ضمن نطاق اخلالفات املحلية – بني ع�شائر ،وعيل ،وقرى – عو�ض ًا عن �أخذ عالقتهم بال�سيا�سة الوطنية والإقليمية على حممل اجلد .وخري مثال على ذلك العالقة املتغرية مع الدولتني اللبنانية وال�سورية. عر�سال يف �أحداث ١٩٥٨ خالل احلرب الأهلية اللبنانية الأوىل (عام ،)1958 ا�صطف �أه��ايل عر�سال يف اجلانب املواجه لدولتهم. ان�سجمت انتماءاتهم ال�سيا�سية مع الأيديولوجيات امل�سيطرة يف �سورية ولي�س يف لبنان� .شاركوا يف التمرد الذي قاده القوميون العرب �ضد الرئي�س كميل �شمعون ذي الدعوات امل�ستهجنة �إىل تدخل غربي من خالل موافقته على مبد�أ تورط «الدول �أيزنهاور .جتاهل م�ؤرخو تلك احلقبة �إىل ٍّ حد ما ّ الهام�شية» ،كذلك � ّإن و�سائل الإعالم التي كانت خا�ضعة لرقابة م�شددة يف خم�سينيات القرن املا�ضي بالكاد متكنت من تغطية الأحداث على حدود لبنان .بيد � ّأن الروايات ال�شفهية واملحلية تك�شف عن تورط كبري لأهايل عر�سال يف معار�ضة عهد �شمعون .كذلك ف�إنها ت�س ّلط ال�ضوء على كيفية تردد �صدى اخلالفات ال�سيا�سية التي تن�شب يف الو�سط وتنتقل �إىل مناطق خمتلفة من البالد .فعندما بد�أ التمرد على �شمعون ،ر ّد �سكان القرى املجاورة ،من م�ؤيدي الرئي�س، على موقف �أهايل عر�سال ،فا�شتعل اخلالف و�سعى �أهايل انعكا�سا عر�سال �إىل طلب م�ساعدة نظرائهم ال�سوريني، ً لكيفية ارتباط التوترات املحلية بني القرى بالتوترات الوطنية والإقليمية .ويخرب ناجون م�س ّنون �شاركوا يف التمرد � ّأن �أهايل عر�سال اقرت�ضوا الأ�سلحة ،وهي مزيج من البنادق والقنابل اليدوية ،من ال�سلطات ال�سورية (زمن اجلمهورية العربية املتحدة) التي �س ّلحت نحو ٤٠٠رجل ،ومتكنوا من �إخ�ضاع خ�صومهم املجاورين .لكن هذا الن�رص كان له ثمنه وتداعياته الوح�شية ،بع�ضها علني ،والبع�ض الآخر �أكرث �رسية .ولعل الأكرث و�ضوح ًا من بني تلك التداعيات هو ر ّد الفعل الأول والوحيد رمبا من قبل الدولة �ضد �شعبها، وقد انطوى على ق�صف البلدة من اجلو .فكان على الأهايل املرتعبني الهرب من حقولهم لالختباء .وقال �أحد الرجال،
�سيما يف العا�صمة) ،وان�سحبت القوات ال�سورية �إىل عدد من القواعد اال�سرتاتيجية مع ت�سليم الأمن �إىل الأجهزة اللبنانية التي تعاونت يف �شتى الأحوال معها .بيد �أنه يف البقاع ال�شمايل ،كان الوجود ال�سوري �أقل �رسية مع عدة نقاط تفتي�ش دائمة مزروعة على الطريق الرئي�سي، ودرجة عالية من ال�سيطرة والتدخل يف ال�ش�ؤون املحلية.
وقد كان جمرد طفل �أثناء االعتداء� ،إن والده اختب�أ من الق�صف ،لكنه �أح�صى عدد القذائف من خالل و�ضع حجر كلما انفجرت قذيفة .فاح�صى جمموعا قدره ٣٠٠قذيفة. أدق ،ا�ستمرت �أجهزة الدولة يف التدخل على م�ستوى � ّ لكبح «خيانة» �أهايل عر�سال للأجندة ال�سيا�سية التي تتبناها .جرى ذلك من خالل ن�رش ا�سرتاتيجية خفية هي «فرق َت ُ�سد» التي ا�ستغلت م�شاعر العائلية ا�سرتاتيجية ِّ منو نفوذ الإ�سالميني القوية عند اقرتاب موعد االنتخابات البلدية عام .١٩٦٣ ّ يعتقد الكثريون � ّأن �أجهزة اال�ستخبارات ا�ضطلعت بدور كان �أه��ايل البقاع ال�شمايل يعرفون متام ًا من ي�سيطر «املقدم ال�سوري» وحياتهم يف ت�أليب العائالت بع�ضها على بع�ض ،وبخا�صة عندما عليهم .كان م�صريهم بني يدي َّ هم�شت النتائج �إحدى العائالت البارزة ،فكان رد الفعل تراقبها اال�ستخبارات ال�سورية .ويف ظل غياب الدولة، ّ العنيف و�شيكًا� .أدت �سل�سلة من احلوادث املفتعلة �إىل م ّثل حزب الله ال�سلطة احلقيقية على الأر�ض� ،أق ّله يف حاالت قتل و�إطالق النار على عدة �أ�شخا�ص يف البلدة ،البلدات ال�شيعية ،وبطريقة ما ّ ال من الدولة عرب �شكل بدي ً �رسعان ما حتولت �إىل ا�شتباكات مع رجال ال�رشطة ،توفري اخلدمات االجتماعية من خالل بناء امل�ست�شفيات انتهت ب�سيطرة قوى الأمن على عر�سال .اندرجت هذه وامل�ستو�صفات واملدار�س وجمموعة متنوعة من املنظمات الأحداث يف �إطار ال�صورة النمطية «للرجل الع�شائري غري احلكومية .وق��د ج��رى ا�ستثناء عر�سال من هذه اخلارج عن القانون» ،وهو خطاب ر�سمي �أزاح الغطاء اخلدمات ،والآن ال ي�شعر �سكانها ب�أنهم مهم�شون من يتعر�ضون لال�ستغالل وقو�ض قبل دولتهم وح�سب ،بل �أنهم ال�سيا�سي عن ن�شاط �أهايل عر�سال �ضد الدولة ّ ّ ّ العالقة الأيديولوجية التي تربط هذه البلدة ب�سورية ،وهي �أي�ض ًا من قبل حليفهم التاريخي .وما زاد الطني بلة � ّأن عالقة بقيت حتى ن�شوب حرب ١٩٧٥الأهلية ،وهي هذا اال�ستغالل يح�صل بح�ضور دولتهم وعلى مر�أى من اجلي�ش الذي �أقام قاعدة ع�سكرية يف عر�سال عام عالقة ا�ستمرارية وتوجه �سيا�سي م�شرتك. مع بداية �سنوات احلرب الأهلية ،بات تفكك الدولة ٢٠٠٠وال يزال فيها �إىل اليوم .بيد � ّأن االنتهاكات اللبنانية وعجزها �أك�ثر و�ضوحاً .غري � ّأن العالقة مع املتزايدة التي تقوم بها ال�سلطات ال�سورية تقع خارج الدولة ال�سورية ،التي كانت خالل اخلم�سينيات حليفة نطاق �صالحية اجلي�ش اللبناين .زادت املطالبات باملواطنة ال خمتلفاً؛ التي كان �أهايل عر�سال يعلنونها الآن ،وقو�ضت نظرتهم عر�سال يف توجهها العروبي ،بد�أت تتخذ �شك ً فدخول اجلي�ش ال�سوري �إىل لبنان عام ١٩٧٦و�ضع �إىل اجلي�ش الذي يعترب بر�أيهم �أداة «تزيينية» ت�ستعملها لبنان ،وبخا�صة البقاع ،حتت �سيطرة �سورية �سافرة حتى الدولة �ضد مواطنيها ال مل�صلحتهم. عر�ض �سيادة الدولة اللبنانية للخطر .الأ�صوات املناه�ضة للنظام ال�سوري التي باتت �أعلى عام ،٢٠٠٥ما ّ يف نهاية املطاف ،تراجع الوجود الع�سكري ال�سوري من �أي وقت م�ضى يف بريوت يف مطلع عام ،٢٠٠٠ مر ال�سنني يف معظم املناطق اللبنانية (وال ظلت �أكرث كتمان ًا يف عر�سال .مل ت�ستنبط بعد �صيغة تدريج ًا على ّ
44
بدايات
العدد 2013 |6
�رشيط ن�رشته حمطة «اجلديد» يف 20حزيران 2013من اللبوة يف البقاع.
45
تخيم �سيا�سية �سهلة للتعامل مع «امل�س�ألة ال�سورية» التي ّ على ال�سيا�سات اللبنانية .بيد � ّأن ال�ضغوط ال�سيا�سية كانت تت�صاعد يف عر�سال ،وقد غذت املخالفات ال�سورية على �أرا�ضيها الغ�ضب املتزايد .ا�ستغل الأهايل فر�صة متاحة للتعبري عن م�شاعرهم ،رغم � ّأن �أيديهم مكبلة .فقد �أف�سحت انتخابات عام ٢٠٠٤البلدية املجال �أمام ا�ستعمال �أدوات الدميقراطية لإجناز تغيريات �سيا�سية �ضمن احلدود التي ت�سمح بها هذه العمليات .مثلت نتائج االنتخابات �صدمة لدى بع�ض املراقبني؛ لأنها مهدت الطريق النت�صار غري م�سبوق للإخوان امل�سلمني .وال�صدمة نابعة من تاريخ عر�سال ال�سيا�سي الي�ساري ولقبها كـ«�أم ال�شهداء» الذي اكت�سبته من خالل عدد كبري من ال�شبان الذين �ضحوا بحياتهم وهم يقاتلون اجلي�ش الإ�رسائيلي يف ثمانينيات القرن املا�ضي ،عندما كان لـ«جبهة املقاومة الوطنية اللبنانية» طابع وطني ال طابع �إ�سالمي .طغت التغطية الإعالمية لهذه االنتخابات ،ورمبا ا�ستخال�ص العرب من �أحداث عام ،١٩٦٣مرة �أخرى على التكهنات املرتبطة باحتماالت حدوث �أعمال عنف بني العائالت واخلوف من أدق للنقا�شات التي �سبقت الع�صبية العائلية .بيد � ّأن حتلي ً ال � ّ االنتخابات ي�شري �إىل � ّأن الأهايل ر�أوا � ّأن خ�سارة مر�شحي حزب البعث املوايل للنظام ال�سوري لها مدلوالت �أكرب من فوز الإ�سالميني .حتى �إنهم ابتهجوا لقدرتهم على مواجهة ال�سلطة ال�سورية التي بدا �أنها ال ُتقهر ،وذلك من خالل الت�سيي�س الدميقراطي. �أم��ا يف ما يخ�ص الإخ��وان امل�سلمني ،فقد ن�سب فوزهم �إىل منطق «التجربة واخلط�أ» .فبعد �أن ا�ستنفد الأهايل ثقتهم مبجموعة من الأحزاب ال�سيا�سية (احلزب ال�شيوعي ،حزب البعث ،وغريهما) باتوا م�ستعدين الآن �شوه �سمعتهم من خالل ما لـ«جتربة» العبني جدد مل ُت َّ كان يعترب �سيا�سة فا�سدة �سابقة .بدا هذا املوقف منطقي ًا
بدايات
العدد 2013 |6
يف بيئة مل تكن ت�أخذ الإ�سالميني على حممل اجلد ،فيما ر�أى البع�ض �إ�شارات �إىل التو�سع ،ت�شهد عليه مدر�سة �شيدها الإ�سالميون وح�ضور ملحوظ (لكن غري منذر باخلطر بعد) ل ّلحى والعباءات الإ�سالمية ،بدا من خالل امل�شهد العام �أن عر�سال لن ت�سلك هذا الطريق. َ يف ال��ف�ترة التي تلت احل��رب الأه��ل��ي��ة ،مل تعلن ال�سيا�سات املرتبطة بعر�سال من خالل اخلطاب الطائفي؛ فالعداء الذي يك ّنه العر�ساليون لل�سلطة ال�سورية ما كان ي�ستند �إىل انتماءات طائفية ،بل �إىل ممار�سات يومية نفّرت الأه��ايل ب�صفتهم مواطنني �رشعيني يف لبنان وهددت �سيادة الدولة .وتندرج امل�شاعر جتاه حزب الله يف خانة تعلقه بالنظام ال�سوري� ،أكرث مما كانت ذات �صلة بالتوترات الطائفية بذاتها .وال بد من التذكري هنا باملدار�س التي يت�شاركها �أع�ضاء من خمتلف الطوائف يف تلك املنطقة ،وروابط اجلوار والزيجات امل�شرتكة بني القرى وتقا�سم الأرا�ضي امل�شاع يف اجل��رود ،وهذه مل تكن لتعوق االنتماءات الطائفية �أيًا منها عرب الفرتات الطويلة .املطالبات بدولة فاعلة ،يف �ضوء الوجود ال�سوري ،كانت دعوة ملحة ملعاجلة حالة انعدام الوالء الوطني على وجه اخل�صو�ص التي دائم ًا ما كان �سكان تهمون بها .بيد � ّأن هذه املطالبات ال متت تلك املنطقة ُي َ ب�صلة �إىل الوجود الع�سكري �أو الأمني ،بل ترتبط بتح�سني الو�ضع العام :الأرا�ضي الزراعية التي تطلبت تنظيم ًا يف ظل قطاع مقالع يتنامى ع�شوائياً ،وحاجات جمموعة �سكانية متكاثرة حتتاج �إىل بنية حتتية منظمة و�شبكة جماري �رصف �صحي ،وتيار كهربائي ،طرقات، ووظائف ،ومدار�س ،وم��وارد وغريها .بب�ساطة ،كانت تن�صب على اخلدمات املنا�سبة التي يتعينّ على املطالبات ّ الدولة تقدميها يف بيئة مهم�شة جغرافي ًا و�سيا�سياً. رمبا مل تربز «الورقة ال�س ّنية» يف عر�سال ب�شكل
ملمو�س �إال عقب اغتيال رئي�س الوزراء رفيق احلريري عام .٢٠٠٥وجتدر الإ�شارة يف هذا ال�سياق �إىل �أنه خالل �سني حياته ،مل ِ يبد رئي�س ال��وزراء وال تيار امل�ستقبل الذي ير�أ�سه �أي اهتمام بدعم عر�سال .االرتباط ال�س ّني بعر�سال يف ذلك الوقت مل يكن يتعلق بال�سيا�سة، وحتى �أواخر ت�سعينيات القرن املا�ضي ،كان جمرد ذكر احلريري ي�ستدعي موجة من االنتقادات التي تطاول منوذجه الإمنائي الذي �أ�سهم يف حتقيق منو غري متوازن قدروا وزيادة تهمي�ش املناطق الريفية .حتى �أولئك الذين ّ املح�سوبية كنظام �سيا�سي انتقدوه رغم ذلك لتخليه ،على وجه التحديد ،عن هذه الدائرة االنتخابية ال�سنية الكبرية يف البقاع .بيد �أن الظروف تغريت عندما بد�أ حتالف قوى � ١٤آذار ،يف امتداد حملته املناه�ضة ل�سورية ،ين�رش خطابه املتعلق باحلدود واحلاجة �إىل مراقبة دولية لها� ،إن مل يكن �إغالقها بالكامل� .أما و�سائل الإعالم التي ت�سعى وراء �أزمة مثرية لالهتمام ،فتذكرت احلدود املفتوحة و�أ�صبحت عر�سال بطلة الدراما التي تعر�ض االنتهاكات التي ارتكبها النظام ال�سوري على الأرا�ضي اللبنانية، وك�أنها ظاهرة جديدة .يف غمرة هذه اللحظة رمبا اغتنم بع�ض �أهايل عر�سال هذه الفر�صة ونادوا ب�صوت �أعلى مطالبني ب�إغالق احلدود .هل يعقل �أنهم ا�ستقروا �أخري ًا يف اجلانب ال�صحيح من ال�سلطة؟ حدود مفتوحة :جمازفة �أم فر�صة؟ ال ليفهموا � ّأن التغطية مل ي�ستغرق �أهايل عر�سال وقت ًا طوي ً الإعالمية التي ح�صلوا عليها كانت جمرد اهتمام �إعالمي ال �أكرث وال �أقل ،و� ّأن معاناتهم مفيدة ما دامت ت�شكل اخلطاب ال�سيا�سي �أو تخدمه .والأهم من ذلك كله �أنه مل ِ مي�ض وقت طويل قبل �أن يدركوا �أنهم �سيكونون �أول �ضحايا احلدود «املغلقة»؛ �إذ بقدر ما �أ�صبح مو�ضوع النظام ال�سوري مدعاة لالنفعال ،كانت احلدود املفتوحة عن�رص ًا �أ�سا�سي ًا يف حياة �أهايل عر�سال .تاريخياً ،كان �أهايل عر�سال يعربون مع قطعانهم �إىل املناطق املنخف�ضة من �سورية يف ف�صل ال�شتاء حيث املراعي �أكرث وفرة مما هي يف لبنان .وقد انعقدت روابط عديدة مع بلدات على املقلب الآخر وتزاوج النا�س يف كثري من الأحيان .ومنذ �سبعينيات القرن املا�ضي ،باع �أهايل عر�سال الفاكهة مبقدار �أقل �إىل ال�سوق اللبنانية ،ومبقدار �أكرب �إىل الو�سطاء ال�سوريني الذين �أقاموا �أ�سواق ًا متنقلة خالل املو�سم الزراعي يف �أجزاء خمتلفة من جرود عر�سال على املقلب 46
بدايات
العدد 2013 |6
وغني عن الذكر � ّأن عمليات التهريب اللبناين من احلدود. ٌّ ي�سميها الأهايل) كانت حت�صل �أي�ض ًا (�أو «التجارة» كما ّ على نطاق وا�سع عرب احلدود .يف �أ�سو�أ الأيام ،راوحت املنتجات املتداولة بني ال�سجائر والغ�ساالت. و�أخرياً ،وخ�صو�ص ًا خالل احلرب الإ�رسائيلية الأخرية على لبنان عام ،٢٠٠٦ن�شط �أهايل عر�سال يف تهريب امل��ازوت عرب احل��دود يف �سبيل توفريه للم�ست�شفيات وغريها من م�ؤ�س�سات منطقة حتى عندما كان الأهايل يعار�ضون عالنية النظام ال�سوري .كان �أهايل عر�سال، و�سائر البلدات املن�سية على احلدود مع �سورية يف الطرف ال�شمايل ال�رشقي وال�شمايل الغربي من لبنان ،يعتمدون اقت�صادي ًا على احلدود لك�سب قوتهم اليومي .وا�ستمرت احلال على هذا املنوال حتى �أخ��ذت العالقة بني لبنان و�سورية تت�أرجح مينة وي�رسة .فعلى �سبيل املثال ،درج �أهايل عر�سال على القيام برحالت يومية �إىل �سورية بداعي الت�سوق و�إجناز املهمات التي ال ميكنهم حتمل كلفتها يف بعلبك� ،أقرب مدينة �إليهم .كل �صباح ،كانت حافلة تعرب احلدود ال�شمالية اىل �سورية وتعود يف امل�ساء وهي حتمل �ضعف حجمها من الب�ضائع .وقد راوحت الب�ضائع التي مت �رشا�ؤها من البقالة �إىل الأجهزة املنزلية ،والأثاث، واملالب�س ال�شخ�صية واجلواهر .يف �أواخر ت�سعينيات القرن املا�ضي ،حتى الكعك كان ي�شرتى من �سورية .كذلك اعتمد �سكان البقاع على �سورية للح�صول على اخلدمات الطبية التي كانت �أرخ�ص بكثري مما هي عليه يف لبنان. وعلى الرغم من � ّأن �إغالق احلدود كان جذاب ًا من الناحية ال�سيا�سية يف �أوقات الأزمات الإن�سانية وال�سيا�سية ،لكن كانت �سترتتب عنه يف �أي وقت انعكا�سات مدمرة على �صعيد العالقات االقت�صادية واالجتماعية اليومية. ال ميكن �أن ينظر �إىل تدفق النازحني ال�سوريني �أخري ًا �إىل عر�سال وعربها (ما زاد عدد ال�سكان مبعدل ال�ضعفني ال على تلك احلدود التي ي�سهل تقريباً) �إال باعتباره دلي ً اخرتاقها والتي جلبت ع��دد ًا من الفر�ص يفوق عدد املخاطر يف �أوقات خمتلفة من تاريخ عر�سال املعا�رص. لي�ست اخلطابات ال�سيا�سية التي تطوف يف البلدة اليوم ببديهية؛ فهي ال تنبع بطبيعة احلال من هوية �س ّنية وميل التطرف .كذلك ال ي�ستند العداء ع�شائري طبيعي العتناق ّ جتاه حزب البعث �أو حزب الله �إىل االنتماءات الطائفية فهم ب�شكل �أو�ضح كنتاج تاريخ من دون غريها .يجب �أن ُت َ العالقات املتغرية بني الدولتني اللبنانية وال�سورية وكيفية م�شاركة املقيمني على هوام�ش هاتني الدولتني فيها.
هشادات من تغريبة أهايل القصري السورية �شهادة الطبيب قا�سم الزين ما ح�صل يف الق�صري م�أ�ساة حقيقية يجب �أن تو ّثق للتاريخ .يف الأيام الأخرية قبل الهجرة ،كانت املدينة حتوي خم�سة ع�رش �ألف مواطن ،بينهم �ألف ومئتا جريح، وكان عدد املقاومني ثالثمئة م�س ّلح ،كلهم من �أهل املدينة ،نعرف �أ�سماءهم وبيوتهم ،وكل ال�شهداء مو ّثقون. كلهم من �أهل املدينة .مل يكن هناك حتى �أع�ضاء من احلر من خارج املدينة .حاول بع�ض املقاتلني من اجلي�ش ّ حلب �أن يدخلوا �إىل الق�صري ،ولكنهم مل ي�ستطيعوا. الظلم الذي عانيناه كنا نتمنى �أن ي�أتينا من �إ�رسائيل، ال من دولتنا مبعاونة حزب الله .مقابل ثالثمئة مقاوم يف املدينة ،كان هناك �آالف املقاتلني من النظام ومن حزب الله .وقد ا�شرتك احلزب بكل �أنواع الأ�سلحة. الهجوم الأخري تعر�ضت املدينة لنحو ٢٥طلعة طريان يف ال�ساعة .القذائف تنهال علينا بالثواين .معظم ال�شهداء من املدنيني .كثري منهم ق�ضوا حتت الأنقا�ض؛ لأ ّننا مل ن�ستطع �أن ن�صل �إليهم من َ �شدة الق�صف� ،أو لأنه مل تكن هناك �آليات لرفع الأنقا�ض. �آخر �أيام احل�صار ...عندما مل ي�ستطع النظام ومقاتلو حزب الله الدخول ّبر ًا ،بالرغم من تفوقهم يف العدد قرروا تدمري املدينة .عندها� ،أ�صبح البقاء والأ�سلحةّ ، يف الق�صري �رضب ًا من االنتحار ،فقرر املقاومون مع وجتمع �أهل املدينة االن�سحاب .حمل املقاومون بواريد، ّ �أهل املدينة للرحيل .كان يوم ًا م�ؤمل ًا جد ًا؛ لأنه ال �أحد يرتك بلده و�أر�ضه طوع ًا .الكثري من املقاومني وبع�ض من الأهايل قرروا البقاء ،لكن ك ّنا نعلم � ّأن من �سيبقى �سيقتل ،وكانت البيا�ضة التي علمنا ب�أحداثها مث ً ال ُ 47
بدايات
العدد 2013 |6
�أمامنا .ما ح�صل يف البيا�ضة كان �أكرث من نكبة .ال ت�صور القتل بهذه الطريقة .يف البداية، ي�ستطيع الإن�سان ّ حاولنا �إخراج املدنيني قبل االن�سحاب ،ولكنهم كانوا يعتقلونهم على احلواجز وجتري ت�صفية الرجال مبا�رشة، وهذا ما دفع الكثري من املدنيني �إىل البقاء .ا�ستنجدنا ّ ّ ومنظمات حقوق الإن�سان ،ولكن ال باملنظمات الدولية جدوى .ك ّنا نريد فقط �إخراج اجلرحى. �سقوط الق�صري هو عنوان ل�سقوط الإن�سانية .مل نعد نر ن�ؤمن باملنظمات الدولية ،وال بهراء حقوق الإن�سان .مل َ من ه�ؤالء �إال ال�صمت �أمام كل ما ح�صل للمدينة. التهجري بعد التدمري قررنا الهجرة .وملّا كان عندما بد�أ تدمري املدينة بالكاملّ ، التدمري من جهة اجلنوب ،قررنا االن�سحاب من ال�شمال. ات�صلت بطبيب �أعرفه مقرب من «احلزب» لكي ي� ّؤمن ُ ً ويعني اجلرحى ،وقلت له« :نحن لالن�سحاب ا طريق لنا ُ جماعة احل�سني واملظلومون ،ويجب �أن تتعاطف معنا». وذكرت �أنه كان هناك �ألف ومئتا جريح ،ثالثمئة منهم للحمل على الأكتاف .وعد الدكتور ب� ّأن كانوا بحاجة َ فتم تبليغ «احلزب» املهاجرين لن يتعر�ضوا للق�صفّ ، والدولة ال�سورية بطريق الهجرة ،لكننا فوجئنا بهم يخلفون االتفاق ويق�صفون املهاجرين .بد�أنا بالهجرة ليلة ٦/٥حزيران/يونيو ،وهي ليلة النكبة .يف البداية كانت املدينة حتوي خم�سة ع�شـــــــــــــــــــــــــر �ألف مواطن ،بينهم �ألف ومئتــــــــــــــــــــــــــــــــا جريح، وكان عدد املقاومني ثالثمئة م�ســــــــــــــــــــــــــلّح، كلهم من �أهل املدينة ،نعرف �أ�ســــــــــــــــــــــــماءهم وبيوتهم ،وكل ال�شـــــــــــــــــــــــــــــــهداء موثّقون
انتقلنا �إىل البوي�ضة ،لكننا مل نتحرك مبمر حلول الظالم .بالرغم من وعدنا ّ للق�صف اجلوي من الليلة الأوىل؛ فقد
م�ساء بعد �إال ً �آم��ن ،تعر�ضنا ق�صف اجلي�ش
�أي�ض ًا اعتقد � ّأن اجلي�ش �سيعتقلهم فيبقى على قيد احلياة. ولكن كل من �س ّلم نف�سه للحاجز يف ذلك اليوم ،جرت ت�صفيته .فقدت �أربعة من �أقربائي قت ً ال على احلاجز.
�أهايل الق�صري ،ان�ضم �إىل الهجرة �أهايل البيا�ضة ،ومن كان قد هرب من حم�ص �إىل البيا�ضة �أي�ض ًا ،ف�أ�صبح عددنا هائ ً ال وكنا مك�شوفني على الطريان .عند نحو
عندما بد�أ تدمري املدينة ال�شامل قرّرنا الهجرة ،وملّا كــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان التدمري من جهة اجلنوب ،قررنا االن�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــحاب من ال�شمال... كان هناك �ألف ومئتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا جريح، ثالثمئة منهم كانوا يحتاجون للحَ مل على الأكتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاف البوي�ضة وا�ست�شهد اثنان من املهاجرين املدنيني ،واحد من اجلرحى والآخر كان بجانب امل�ست�شفى امليداين. م�ساء ٦حزيران/يونيو اجتمعنا يف طريق واحد عدت بني طريق حم�ص -الق�صري وقرية ال�صاحلية ،و�أُ ّ خطة للم�شي لي ً ال بني احلواجز .يف ال�ساعة ال�سابعة، حمل ثالثمئة بد�أنا رحلة الهجرة ،وكان الرتتيب �أن ُي َ جريح على الأكتاف .مل جنلب معنا �إال بع�ض الأغرا�ض ال�شخ�صية التي ا�ضطررنا �إىل �أن نرتك معظمها على نف�سه بالعكازات، الطريق .كان على بع�ضنا �أن ُي�سند َ والبع�ض الآخ��ر امتطى املوتو�سيكالت و�ساعد يف حمل الأغرا�ض للمهاجرين .الذين تركوا املدينة كان عددهم خم�سة ع�رش �ألف ًا .كل من بقي يف املدينة بعد �أن �أخالها املقاومون ،جرت ت�صفيته �أو اع ُتقل؛ �إذ اع ُترب كل من بقي يف الق�صري عدو ًا .فمث ً ال ،بيت �إدري�س بقوا على �أ�سا�س �أنهم مع النظام و�آمنون ،ولكن متّت ت�صفية بع�ضهم واع ُتقل الآخرون. ك��ان امل�شي لي ً ال ،وعند ب��زوغ النهار نرتاح يف الب�ساتني بني الأ�شجار لكي ال يرانا جي�ش النظام .بعد م�شي ثالثني كيلومرت ًا ليل ال�ساد�س من حزيران ،و�صلنا �إىل «احلمرا» عند الرابعة �صباح ًا .كنا نحاول الو�صول �إىل طريق دم�شق لنقل اجلرحى قبل �أن يطلع ال�ضوء. فقبل الهجرة الأخرية ،كنا نحاول �إخراج اجلرحى لتلقّي العالج ،ولكنهم كانوا يتعر�ضون للقتل .يف نهاية �شهر � ّأيار جرت حماولة �إنقاذ خم�سني �شهيد ًا تعر�ضوا للق�صف على طريق دم�شق ،عاد منهم ثالثة ع�رش �شهيد ًا ،ومن حينها ،رف�ض اجلرحى اخلروج على �أ�سا�س تف�ضيل املوت يف الدار على املوت على احلواجز. م�ساء و�صلنا �إىل قرب «احل�سينية» نحو ال�ساد�سة ً ولكن اجلي�ش ب��د�أ الق�صف علينا. من جهة الغرب، ّ ا�ست�شهد ع�رشة منا .بد�أنا نهرب عائدين �إىل الب�ساتني. رجعنا نحو �أربعة كيلومرتات �إىل الوراء .بالإ�ضافة �إىل 48
بدايات
العدد 2013 |6
�صباح ًا ،وه�ؤالء كانوا حمظوظني؛ لأنهم تابعوا ال�سري لي ً ال حتى و�صلوا �إىل «قارة» .يف ليلة ٦/١٠يف ح�سيا ّمت ق�سم ت�أمني �سيارات لنقل املهاجرين ح ّتى «قارة» ،فبقي ٌ ق�سم ثانٍ �إىل «الديبة» .ومن «قارة» تو َّز َع يف قارة ،و�أكمل ٌ وق�سم �أكمل �إىل املهاجرون ،فانتقل ق�سم �إىل يربود، ٌ عر�سال يف لبنان .كان الهدف الأ�سا�سي �إي�صال النا�س �إىل «قارة» ،وبعدها يقرر كل واحد ما يريد �أن يفعل.
«مدينة الأحالم» مهجورة جتمعنا ،وكان علينا حماولة ليلة � ٧/٦أو ليلة ّ ٨/٧ ّ تخطي حاج َزي �شم�سني والديبة ،وبني والواحد والآخر كيلومرتان اثنان .بد�أنا من�شي على غري هدى .و�صلنا قريب ًا من احلاجز ،فبد�أ الق�صف عليناُ .عدنا �أدراجنا «تغريبة الق�صري» ومزاعم «املنار» م�ساء عدنا كانت «قارة» �آمنة ولي�ست حتت �سيطرة اجلي�ش ال�سوري. واختب�أنا حتى حلول الظالم .ال�ساعة التا�سعة ً وبع�ض �آخر ومل ّ يفكر �أحد يف ما قد يفعله بعد الو�صول �إىل ِّبر الأمان �إىل الب�ساتني .بع�ضنا �س ّلم نف�سه للحاجز، ٌ و�شن املقاومون هجوم ًا على احلاجز خالل الرحلة .الهدف الوحيد كان الو�صول .مل يكن لدينا قرر موا�صلة ال�سري، ّ أطباء مير الأهايل .كنا من�شي حتت الق�صف �أمل يف �أن نحيا .يف «قارة» جمموعة من �أ�صدقائنا ال ّ و�أطلقوا النار حتى ّ وكل واحد يفكر يف نف�سه ،ومن ُي َ�صب ال يجد �أحد ًا زمالء الدرا�سة .وال�صليب الأحمر ن�صحني ب�رضورة ترك حت بالذهاب أحتدث مع الإعالم .و ُن ِ�ص ُ ممر�ضة يف امل�شفى امليداين ،قُ�صفت البلد؛ لأ ّنني كنت � ّ ينظر �إليه� .أم ّ عمارّ ، هي وابنتها و�صهرها .تركناها على الطريق ومل ن�ستطع �إىل عر�سال؛ ل ّأن �أحد ًا لن يحميني يف �سورية. ممر�ض �آخر ا�سمه فار�س الدايخ كان م�صاب ًا يف هذه الأثناء ،كان ثالثمئة مهاجر واثنان وثالثون حتى دفنها. ٌ جريح ًا يف�شلون يف اجتياز «الفتحة» ،فعادوا �أدراجهم يف عينيه وا�س ُت�شهد على «الفتحة». تعر�ضوا للق�صف .وه ��ؤالء هم من مقابل «الفتحة» جمموعة عقارية تدعى «مدينة �إىل البوي�ضة حيث ّ وحلمنا الو�صول �إليها ،ومن نقل مقاتلو «حزب الله» �صورهم على �أ ّنهم �أ�سعفوهم مع الأحالم» .املدينة مهجورةُ ، ّ ً �سيارات تنتظرنا لتقلنا م�سافة ثالثني ال�صليب الأحمر وهم اثنان وثالثون جريحا ،وذلك كدليل املفرت�ض � ّأن هناك ّ ً كيلومرت ًا �إىل قرية «الديبة» ،ومنها �إىل «ح�سيا» .عند على �أ ّنهم �إن�سانيون ومل يقتلوا الأبرياء .غ�ضبنا كثريا لر�ؤية البث التلفزيوين ،لهذه البطولة وال�شهامة من «حزب الله». ال�سيارات. «مدينة الأحالم» مل يكن هناك الكثري من ّ ّ البيا�ضة أطباء عادوا �أدراجهم �إىل ّ �سيارة تق ّلنا بع�ض ًا فوق بع�ض .البا�ص احلقيقة � ّأن خم�سة � ّ املحظوظ يالقي ّ وطلبت من الطبيب علي زعيرت �أن الذي يقل ثالثني ي�ستقبل مئة راك��ب .ومن مل يكن وتوا�صلنا معهم ُ حمظوظ ًا ب�سيارة �أو با�ص ،تابع �سري ًا على الأقدام .بع�ض يتوا�صل مع «احلزب» لنقل اجلرحى ،فما كان من «احلزب» ّ إعالمي ًا مل�صلحته ،يف حني �أ ّنهم منعونا ا�ستغل ذلك � الأهايل و�صل �إىل قرية «الديبة» وبقي فيها ،وبع�ض �آخر �إلاّ �أن ّ من ال ّنوم طوال ثالثة � ّأيام ،حيث مل يكن لدينا ماء وال تابع �إىل «ح�سيا» وبقي فيها. تابعنا ال�سري رغم الق�صف .مل يكن لدينا ّ حل �آخر .طعام� .أذكر يف اليوم الأول حني و�صلنا �إىل ب�ستان ال ّلوز، كانت رحلة �أمل .ت�سقط القذائف ،ي�سقط رفاق �أو �أقارب لك �أننا بد�أنا نبحث عن �أي م�صدر للمياه ،ولكننا مل جند �إىل جانبك ،لكنك تتابع ال�سري .ال تنظر �إىل الوراء .ال تتوقف � ّأي �شيء .وجدنا بع�ض ال ّلوز ال يزال على ال�شجر ،فبد�أ أف�ضلية تريد �أن ت�صل �إىل ّبر الأمان .و�صلنا �إىل «مدينة الأحالم» ،الأهايل يقطفونه ليح�صلوا على املاء ،وكانت ال ّ وكان الهدف العبور �إىل �رشق الطريق؛ ل ّأن اجلهة ال�رشقية للجرحى .يف الليلة التالية وجدنا كرم عنب ،ف�أكلنا �أوراق لي�ست حتت �سيطرة اجلي�ش ،ويعرف املقاومون االلتفاف حول العنب لأّ ّنها حتتوي على املياه .وكذلك فعلنا بالبطاطا احلواجز هناك .منذ بداية الثورة وهم ينقلون اجلرحى �إىل النيئة التي اقتلعها الأهايل وق�شرّ وها و�أعطوها للمر�ضى يربود ،ومنها �إىل عر�سال ،لذلك �أ�صبحوا يعرفون الطريق .من �أجل احل�صول على بع�ض املاء .ومل نح�صل على املاء م�ساء ٦/٩كان بني «مدينة الأحالم» و«الديبة» خط ح ّتى و�صلنا �إىل «مدينة الأحالم» .ك ّنا نعتقد �أننا �سرنوي احلمامات. متوا�صل من الب�رش على امتداد نحو ثالثة كيلومرتات .عط�شنا .للأ�سف كان هنالك بع�ض املاء يف بع�ض ّ من «الديبة» �إىل «ح�سيا» م�سافة ١٢كيلومرت ًا� .صباح «�إ ّنها فع ً الفل�سطينية» ،وعندما ال كـ«التغريبة ّ الفل�سطينية» نتحدث عن «تغريبة الق�صري»« ،التغريبة ٦/٩و�صلنا �إىل «ح�سيا»� .آخ��رون و�صلوا يف الثالثة ّ ّ
ال�ساعة ال�سابعة والن�صف وقع الهجوم علينا بالدبابات ال�صد بينما كنا نختبئ يف الب�ساتني .حاول املقاومون ّ بالبواريد و�سقط �سبعة ع�رش �شهيد ًا بالق�صف املدفعي. مل يكن لدينا ماء وال دواء ،والكثري ممن ا�ست�شهدوا كان من املمكن �إنقاذهم ،ولكن مل تكن لدينا الإ�سعافات الكافية .من اجلرحى الذين كان ميكن �إنقاذهم �أ�سامة جبنة ،ابن اخلم�سة ع�رش ربيع ًا الذي �أ�صيب يف �صدره بقيت �إىل جانبه نحو �أربع �ساعات �أراه ينزف ويف بطنه. ُ حتى ا�ست�شهد ،وكنت عاجز ًا عن فعل �أي �شيء له .قبل �أن ميوت قال يل�« :أنا �أعرف �أنني مرحوم ،ولكن �أرجوك �أعطني نقطة ماء» .للأ�سف مل يكن لدينا ماء لنعطيه .مل يكن لدينا �أي�ض ًا �أدوات لدفن املوتى .بع�ض الأهايل حفروا ب�أيديهم وباحلجارة فقط ملجرد �أن يغطوا اجلثث، والبع�ض و�ضعوا حفنة من الرتاب على املوتى. بالإ�ضافة �إىل ال�سبعة ع�رش �شهيد ًا جراء الق�صف املدفعي ،ق�ضى �سبعة من جرحانا �أي�ض ًا ب�سبب اجلفاف ق�سم من اجلرحى قد ا�س ُت�شهد والق�صور الكلوي ،وكان ٌ خالل رحلة الليل .للأ�سف ،كان ال�شباب الذين يحملون اجلرحى على الأك��ت��اف ي�شعرون بالفرح؛ لأ ّنهم لن قبل �أن ميوت قــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــال يل: «�أنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا �أعرف �أنني مرحوم، ولكن �أرجوك �أعطني نقطة مــــــــــــــــــــــــــــــاء». للأ�سف مل يكن لدينا ماء لنعطيــــــــــــــــــــــــــــــه ميت اجلثث على �أطراف الطرق ويف ي�ضطروا حلملهمُ .ر َ ّ ّ تعر�ضنا للق�صف يف الليلة الأوىل مل يبق بعد الب�ساتني. ّ لدينا �أمل باحلياة وال � ّأي �أمل ب�شيء .بقينا حيث نحن ح ّتى ّ حل الظالم .قرر كثري من الأهايل ت�سليم �أنف�سهم حلاجز احل�سينية على �أ�سا�س «�أ ّنهم ميتون ميتون»؛ فالأف�ضل ّ �أن منوت وندفن ،على �أن منوت ُونرتك يف العراء .بع�ضهم 49
بدايات
العدد 2013 |6
التجمع، بال�سيارات .مل نكن نعلم مكان نعتقد �أننا �سنذهب ّ ّ فبد�أنا نرك�ض من ناحية لناحية .يف البداية ،ذهبنا �إىل التجمع عند امل�شفى امليداين، «ال�صاحلية »،لك ّنهم قالوا � ّإن ّ ّ فذهبنا �إىل هناك .مل نكن نعلم � ّأن الرحلة �ستكون على تركت احلقيبة و�أخذت فقط قطعة الأقدام .حني بد�أنا امل�سري ُ ِ غيار يل وقطعة غيار �أخرى مله ّند .مل ن�أت ب�أي طعام �أو ماء.
در�ست الطب يف رو�سيا، ما بتيجي �شي حدها»� .أنا ُ العاملية الثانية ،وح ّتى �أ ّنني وقر� ُأت الكثري عن احلرب ّ وكنت �أ�س�ألهم كيف مت مع �أهلها ُ ُ زرت لينينغراد وتك ّل ُ عاي�شوا احلرب .كانوا يقولون �إن الق�صف العنيف من الطريان كان يتوقّف عند �سقوط عدد كثري من اجلرحى. فكانوا ي�ضعون مو�سيقى يف الكنائ�س ليتوقّف الق�صف، فيذهب الأهايل لي�شرتوا ما يحتاجون �إليه من مياه وطعام النازيون يف «الق�صري» املاء من حبات اللوز وعالج للجرحى .ه�ؤالء الأملان ّ �ضيعوا بع�ضهم. عندما كانوا ي�سمعون املناداة يف اجلامع كانوا يق�صفون الفو�ضى عند ّ التجمع كبرية ،والنا�س ّ ممر�ضة يف امل�شفى ،بالإ�ضافة اجلامع .ال يوجد مثيل ملا ح�صل يف «الق�صري» .احلروب م�شيت �أنا مع �أمي ،وكانت ّ عدة هي بني جيو�ش ،ونحن قر�أنا عن حرب ت�رشين وحروب �إىل زوجي مه ّند و�أبناء عمي و�أهل زوجي .لكننا بعد ّ �ساعات �أ�ضعنا بع�ضنا .عندما و�صلنا �إىل ب�ستان اللوز، �إ�رسائيل ،ولك ّننا مل نقر�أ عن �إجرام بهذه الطريقة. خالل �شهر ون�صف من احل�صار مل ن�ستطع �أن ُن ِ دخل بد�أنا نبحث عن �أهلنا .وجدت �أهلي ،ولكننا مل جند �أهل طحين ًا وال �أي مواد غذائية �أخرى� .إدخال الدواء كان زوجي .الب�ستان مليء بالب�رش ،و�أنا كنت �أبحث عن بيت جرمية كربى .كان احل�صول على الدواء جرمية يعاقَب عليها عمي حني بد�أ الق�صف علينا و�سقط جرحى و�شهداء .مل بالت�صفية اجل�سدية .يف امل�شفى امليداين كان «اجلي�ش احلر يكن لدينا � ّأي ماء لإ�سعاف اجلرحى اجلدد واجلرحى الذين ـ الكتيبة »٢٠ينقل بع�ض الدواء ،ولك ّنهم قتلوا جميع ًا� .أتوا من الق�صري .ر�أيت بع�ض الأهايل يحاولون �سحب ليبث �صور ًا بع�ض نقاط املاء من داخل «نربيج» ،وبع�ض ه�ؤالء حاول �أتاك تلفزيون «املنار» بعد «حترير الق�صري» ّ حبات اللوز. ويدعي �أنه كانت لدينا ّ من امل�شفى امليداينّ ، معدات �أي�ض ًا ا�ستخراج املاء من ّ ن�ستعد للحرب كذلك ،و� ّأن «الإرهابيني» حديثة ،و�أننا ك ّنا ّ املعدات من بد�أت �أ�رصخ�« :أرجوك �أ�ســــــــــــــــــــــــــــــــــعفه. هم من �أتوا باملعدات �إلينا .ح�صلنا على بع�ض ّ ّ نداءات كنت �أقوم بها؛ فامل�شفى احلكومي بالق�صري �أقفل �أنا متزوجة حديثاً� ،ســــــــــــــــــــــــــــــــــــاعدين!» وحولوه �إىل مركز تعذيب وقتل .حاولت �أن �أحمل زوجي ،لكني مل �أ�ســــــــــــــــــتطع. يف �شهر ّ ٢٠١١/١١ فتحنا امل�شفى امليداين ،وك ّنا نعالج جرحى التظاهرات �رصخت بــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالطبيب: أطباء كانوا من الق�صري ،مل يكن معنا «ملاذا تقول له �أن يت�شهّ د؟ �سوف يعيـــــــــــــــــــــ�ش» يف البداية .كل ال ّ وممر�ضة ،ك ّلنا من � ّأي طبيب «�إرهابي» .ك ّنا ثمانني طبيب ًا ّ �أهايل الق�صري .بقينا �إىل �آخر حلظة يف املدينة ،وهاجرنا عند حلول امل�ساء قيل لنا �إننا �سنبد�أ بامل�شي .كنا مع �أهلها .مل ن�ستطع ترك الأهايل ،وك ّنا امل�شفى الوحيد من�شي مع ًا ،ولكن يبدو � ّأن ق�سم ًا منا ّ �ضل الطريق .حاولنا كنت �أعمل يف النهار و�أ�ستجدي �أ�صدقائي يف الرجوع ،ف�ضللنا الطريق نحن �أي�ض ًا .كنا نحو مئة املوجودُ . ٍ طبية .ا�ضطررنا �شخ�ص .كنت �أم�شي مع �أمي وزوجي .كانت �أمي تعبة �أنحاء العامل كي ير�سلوا لنا م�ساعدات ّ تعر�ضه امل�ستمر جد ًا؛ فهي ممر�ضة يف امل�شفى امليداين ،ومل تذق النوم �إىل نقل امل�شفى �إىل ّ عدة �أحياء ب�سبب ّ وقعت �أر�ض ًا مرتني ،وكنت �أنا وزوجي ن�سندها حية ،وقد منذ �شهر. ْ للق�صف .املكان الأخري كان يف الرابطة الفلاّ ّ قُ�صف ،ومن ثم انتقلنا �إىل مبنى �آخر �إىل حني «الهجرة» .لكي تتابع امل�سري .فج�أة ،فيما كنا نبحث عن الآخرين، انهمرت علينا القذائف و«�ضرَ ْ ب الر�صا�ص» ،وكنا قد جل�سنا لرنتاح قبل املتابعة .مل ُن�صب .طلبنا امل�ساعدة؛ �شهادة خلود عبدالله خلف لأننا �ضللنا الطريق ،ف�أتى خم�سة �أ�شخا�ص لي�صطحبونا، �أنا كنت �أ�سكن مع زوجي� ،أو بالأحرى عري�سي مه ّند وقبل �أن ي�صلوا �إلينا بنحو مئة مرت� ،سقطت قذيفة علينا. مت ،ولكن بعد قليل حت�س�ست تزوجنا �أخري ًا يف اجلا ّدة القبلية يف البداية� ،شعرت ب�أنني ّ حممد مهدي حمرك ،وقد ّ ّ ّ من الق�صري� .أتى مه ّند خالل النهار الذي �آ ّتخذنا فيه قرار نف�سي و�أردت �أن �أع��رف م��اذا ح�صل يل ولزوجي. أحت�س�س ج�سد � ّأمي .كانت الرحيل ،وطلب م ّني �أن �أح�رض بع�ض املالب�س يل وله .ك ّنا كانت الدنيا مظلمة ،وبد�أت � ّ 50
بدايات
العدد 2013 |6
أحت�س�س ج�سدها حتى و�صلت �إىل ج ّثة هامدة ،وبقيت � ّ ر�أ�سها ،وعلمت �أنها �أ�صيبت يف الر�أ�س وقد توفيت فور ًا. زوجي كان بعيد ًا عني بخطوتني .اقرتبت منه وكان �أحد ماء، الطباء بجانبه ،وهو ال يزال على قيد احلياة .طلب ً «ت�شهد» .بد�أت �أ�رصخ�« :أرجوك ولكن الطبيب قال له: ّ ً �أ�سعفه� .أنا متزوجة حديثا� ،ساعدين» .حاولت �أن �أحمل زوجي ،لكني مل �أ�ستطع� .رصخت بالطبيب« :ملاذا تقول يت�شهد؟ �سيعي�ش» .لكن الطبيب �أعلمني �أنه له �أن ّ �سيتابع ال�سري ،فطلب مني زوجي �أن �أم�شي معهم و�أن �أتركه .رف�ضت يف البداية ،ولكنه قال يل« :اتركيني، حاجي تعذبيني» .قلت له �إنني �س�أعود لأحمله .م�شيت قلي ً ال وندمت لأنني تركته .طلبت من الدكتور والآخرين جر ًا ملتابعة ولكن �أحد ًا مل يقبل. العودة معي، ّ وجروين ّ ّ امل�سري .مل �أكن �أ�ستطيع �سماع �أي �شيء من جراء القذيفة. و�صلنا �إىل «مدينة الأحالم» ،وكنت ُمنهكة غري قادرة على الكالم ،ولكنني ا�ستجديت �أن يعود معي �أحدهم حتى ندفن زوجي و�أمي على الأقل ،ولكنهم و�ضعوين يف �سيارة ،وو�صلت �إىل حيث كان �إخوتي و�أبي و�أخربتهم مبا جرى .بعدها �أتينا ب�سيارة �إىل «عر�سال». �أن �أدفن �أمي وزوجي على الأقل يف عر�سال ،بد� ُأت �أ�سائل الأهايل عن ق�ص�صهم .كنت �أو ّد �أن �أعرف ما �إذا كان �أحدهم قد وجد �أمي وزوجي .لكن ّ الكل كانوا قد �أخذوا طريق ًا �آخر� .أعتقد �أنهما مل ُيدفَنا. بقيا على الطريق .امل�شهد الأخري بعد �سقوط القذيفة ال يفارق خميلتيّ � . أتذكر كيف وعيت ووجدتهما حويل، وكيف ا�ستجديت الطبيب الذي غ�ضبت منه لأنه مل ي�ساعد زوجي .كنت مت�أملة رغم معرفتي �أ ّنه لن يعي�ش... �إ ّنني �أ�شعر بامل�س�ؤولية .كان من املفرو�ض �أن �أبقى معهما �أ�ؤكد لك �أنّ اجلي�ش ال�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــوري مل يكن لي�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتطيع دخول الق�صري لــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوال م�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاعدة «حزب الله» و�أموت معهما ،ال �أن �أتركهما� .أو رمبا كان يجب �أن �أعود �إليهما ب�أي طريقة� ،أو على الأقل كان يجب �أن �أدفنهما. ّ «م�سكر» ،وما كنت �أفكر يف �شيء ...هو لكن عقلي كان ّ مل يكن يريد �أن يرتك الق�صري .قال يل« :طلعي �إنت و�أنا ّ قرر الهجرة .ال �أعرف كيف علي ّ ب�ضل» ،لكن من خوفه ّ 51
بدايات
العدد 2013 |6
�سائق �سيارة �إ�سعاف تركته ميوت على الطريق .كان يعمل َ يف امل�ست�شفى الأهلي ،وقد �أخرج جرحى �إىل «عر�سال» يف بداية احل�صار ،و�أُوقف وقال للجي�ش � ّإن «املجموعات الإرهابية �أجربته على �أخذ اجلرحى» .عملنا وا�سطة لكي يطلع من ال�سجن ،ولكنه فقد وظيفته ورف�ضوا �أن يعطوه ورقة «ال حكم عليه» .ولكن كان لدينا �أمل يف �أن تتح�سن الأو�ضاع ويجد عم ً ال .الآن مل �أعد �آمل �شيئ ًا .ال �أريد �سوى العودة �إىل «الق�صري». ال �أعرف ما الذي دفعني �إىل �أن �أتركه ،ولكني �أذكر ُ ريح له �ضمريه و�آخذ الأمانة التي كلماته الأخرية ب�أن �أ َ �أر�سلها �أحد �أهايل الق�صري �إىل �أهله .قال يل� :أو ّد �أن �أم��وت و�ضمريي مرتاح .يجب �أن تو�صلي الأمانة. �أعطاين ظرف ًا فيه بع�ض املال ودفعني �إىل تركه لكي ال يتحمل ذنب عدم تو�صيل الأمانة .ال �أعرف �إن كنت قد تركته لأنني �أو ّد �إراحة �ضمريه �أم لأنني كنت خائفة على نف�سي؟ كل ما �أعرفه هو �أنني �أمتنى لو كنت مكانه. املدر�س �أحمد رحمة �شهادة ّ ا�ست�شهد مئتان من اجلرحى على الطريق ،ونحو ثالثمئة من املهاجرين .عدد �شهداء الهجرة بلغ نحو خم�سمئة، وهناك �ألف مفقود مل نعرف �أين ذهبوا. «ب ِْعنا ذهباتنا لن�شرتي بواريد للثوار» يبد�أ الرجل حديثه بالت�أكيد � ّأن اجلي�ش ال�سوري مل يكن لي�ستطيع دخول الق�صري لوال م�ساعدة «حزب الله» .كان عدد الثوار قلي ً ال يف الق�صري .نحو خم�سمئة رجل ،ومل ي�ستطع النظام �أن يدخل املدينة .ي�ضيف �أن «اجلي�ش ال�سوري ك��ان �سينهار ل��وال م�ساعدة «ح��زب الله» الذي �أر�سل ّ كل قواته لقتل ال�شعب ال�سوري ،ف�أ�صبح هذا الأخري يحارب نظامه و�إيران و«حزب الله» وكل العامل ...ال�سعودية وقطر وكل العامل الباقي �أر�سلوا لنا فقط كالم ...كالم ...كالم ...يف حني � ّأن النظام ح�صل على امل�ساعدات الع�سكرية من �إيران ورو�سيا بالإ�ضافة �إىل تر�سانته ...ال�سعودية تركت املليارات والأ�سلحة ّ وكل العامل مع على احل��دود؛ ل ّأن �أمريكا و�إ�رسائيل ّ احتل املدينة ...اكتبي هذا �أرجوك... النظام .حزب الله» هو والنظام قوات احتالل». نر �أ�سلحة من �أحد .مل «مل تقاطعه زوجته فاطمة: َ يدخل الق�صري � ّأي م�ساعدات ع�سكرية من � ّأي طرف كان،
وما كان فيها رجال بتقاتل من برا الق�صري .بدك تعريف كيف ح�صلنا على الأ�سلحة؟ بعنا ذهباتنا لن�شرتي �أ�سلحة- بواريد يعني للثوار -خل�ص الذهب من الق�صري ،والكل �أعطى لوالده لي�شرتوا بواريد ويدافعوا عن املدينة». ويكمل �أحمد قائ ً ال« :قبل احل�صار الأخ�ير ومنذ بداية الثورة ،ا�ستعمل الثوار البواريد فقط ،وكان اجلي�ش النظامي يطلق النار على احلواجز .معظم الوقت كان �إطالق النار من النظام يف الهواء هدفه الرتهيب فقط �شبان املدينة مينعون و�إدخال الرعب .مقابل ذلك ،كان ّ � ّأي ًا من عنا�رص اجلي�ش من النزول �إىل ال�شوارع .كنا يف امل�ستوى نف�سه :اجلي�ش يحارب بالبواريد ،ونحن نحارب بالبواريد �أي�ض ًا .هكذا كانت احلال خالل ال�سنتني الأوليني للثورة� .أحيان ًا كان يح�صل �رضب (ق�صف) على �أحياء
خالل الليل� .أكلت بطاطا وورق عنب .مل �أ�شعر ب�أّنني متم�سك باحلياة كما �شعرت ذلك اليوم .كان معنا �شاب و�أب��وه .ترك �أباه وغادر .وقال يل� :إذا كنت �إىل جانبه و�أُ�صيب فلن �أق��در على حمله ،و�إذا تركته �س�أُح�س بالذنب ،فرتكته مي�شي وحده .خالل عبور «الفتحة» ما منومة مغناطي�سي ًا. حدا تط ّلع بحدا .النا�س مت�شي ك�أنها ّ عند �سقوط القذائف بع�ض النا�س ت�ستلقي على الأر�ض والبع�ض الآخر يتابع امل�سري .احلياة واملوت يت�ساويان ب�شكل مطلق عند «الفتحة» قبل الو�صول �إىل «مدينة الأح�لام» .بعد الو�صول �إىل مدينة الأحالم ذهبنا �إىل «�شت�شاء» ثم «�شم�سني» ،ومن بعدها «ح�سيا» ،ثم �إىل يربود فعر�سال .وا�ستقررنا يف «العني» حيث كان ابني وعائلته قد �سبقونا �إليها منذ عام».
بعد ان�سحاب املقاومني �أتى ال�شــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبيحة و�رسقوا البيوت ،وما مل ي�ستطيعوا �ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرقته �أحرقوه... قاموا بحرق الب�ساتني وقطع اال�شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــجار ك�أنهم يقولون لنا �إنّه ال عودة لكم بعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد الآن. فعلوا كمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا فعل اليهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــود معينة جتابهه مقاومة .يرحل الأهايل �إىل �أحياء �أخرى من ّ املدينة ثم يعودون �إىل بيوتهم .كان هناك توازن رعب بني حي النظام واملقاومني .مل ي�ستطع النظام �أن يدخل � ّأي ّ من �أحياء املدينة حتى �أول �شهر حزيران عندما ا�ستعان بالإيرانيني و«حزب الله» .عند دخول قوات «حزب الله» املعركة بد�أنا ن�شعر بالفارق .يف ٢حزيران �أ�صبح الق�صف احلي الو�سط كثيف ًا ،فرتكنا البيت و�سك ّنا مع بنات �أخي يف ّ احلي اجلنوبي حيث ن�سكن) ،و�أخذنا «غيار ًا» للمدينة (من ّ واحد ًا لأننا ك ّنا ن�أمل �أن نعود بعد هدوء الق�صف .كنا خم�سة وع�رشين �شخ�ص ًا يف غرفتني .ما كان فيه مازوت وال كهرباء وبالتايل مل يكن فيه ماء ،والق�صري كانت تعتمد يف الفرتة الأخرية على مياه الآبار؛ ل ّأن النظام قطع احلي الو�سط .تركناه وانتقلنا املياه ع ّنا .حلقنا ال�رضب �إىل ّ �إىل بيت البنتي كان ال يزال قيد الإن�شاء� ،سك ّنا فيه ثالثة ثم حلقنا ال�رضب �إىل هناك. �أيام ،ومن ّ بقينا على ه��ذه احل��ال �إىل �أن اتخذ الثوار قرار الرحيل .بد�أنا امل�شي لي ً ال� .أنا عمري خم�س و�سبعون �سنة ،وكنت �أم�شي مع جمموعات من الب�رش لي�س لدي �أي رابط معهم .ك ّلهم �أ�صغر مني �س ّن ًا .مل يكن معنا ماء وال طعام .كان النوم نهار ًا حتت فيَ ء ال�شجر ،وامل�شي 52
بدايات
العدد 2013 |6
ت�ضيف ال��زوج��ة« :ك��ان هناك حما�س ع��ام لدى ال�شباب ،لكن �إجوا «احلزب» وقلبوا كل موازين الرعب. كلنا باحلي بعنا الذهب لنعطيه لل�شباب املتحم�س فقدت ابني وابن بنتي ومل � َأر �أحفادي لي�شرتي بواريد. ُ منذ ت�سعة �أ�شهر .احلمد لله هناك تليفونات وعرفنا �أنهم يف طرابل�س لأنهم حكوا مع �إبني اللي �صار �صلة الو�صل مع كل اللي و�صلوا على بريوت». يكمل �أحمد« :بعد ان�سحاب املقاومني �أتى ال�شبيحة و�رسقوا البيوت ،وما مل ي�ستطيعوا �رسقته �أحرقوه .قالت لنا ابنتي التي حاولت زيارة بيتها �إ ّنها وجدت حتى ّ حمطمة .لقد قاموا بحرق الب�ساتني وقطع قنينة الغاز الأ�شجار ك�أنهم يقولون لنا �إ ّنه ال عودة لكم بعد الآن. لقد فعلوا كما فعل اليهود� .أنا حزين لأنني مل �أكتب �شيئ ًا يف ّ مذكراتي؛ ف�أنا �أ�ستاذ تاريخ وع ّلمت يف ثانوية «الق�صري» ،وكنت �أحتفظ بيومياتي منذ ثالثني عام ًا عن كل ما تغيرّ حويل يف الق�صري ،من تو�سيع للمدينة يوم ًا بعد يوم� ،إىل ارتفاع �أ�سعار اخل�ضار واملواد الغذائية� ،إىل كل ما كان يدخل املدينة من مواد جديدة ...لدي نحو ٢٨جملد ًا ال حتتاج �إال �إىل تبويبّ . كل عمري راح مع تلك الأوراق� .إ ّنه اال�ستعمار بثياب جديدة».
«السيدة العربية األوىل» يف الصحافة الغربية
تمكني المرأة والوجود االستعماري يف العالم العريب المعارص
ميسون سكرية مقدمة «كيف ميكن ثور ًة عظيمة كالثورة امل�رصية �أن ت�ؤدي �إىل جامعية من لبنان ،وجود �سيدة �أوىل حمجبة من ر�أ�سها �إىل قدميها؟»� ،س�أل استاذة انرتوبولوجيا مهند�س يف الثالثني من العمر ،يف معر�ض تعليقه على جامعة براون� ،صورة انت�رشت على الإنرتنت تقارن ملكة م�رص يف الواليات المتحدة .الثالثينيات ناظلي -ترتدي «ف�ستان ًا ع�رصياً» ب�شعرها امل�صفف واملكياج يغطي وجهها -بنجالء حممود ،زوجة �أول رئي�س م�رصي منتخب بعد ثورة 2011يف لبا�س تقليدي ،وهي ت�ضع احلجاب على ر�أ�سها ،وترتدي عباءة. بعد انتخاب حممد مر�سي رئي�س ًا مل�رص ،تناقلت مواقع التوا�صل االجتماعي هذه ال�صورة ،وغريها ،التي تقارن جنالء بال�سيدتني الأوليني ال�سابقتني :جيهان ال�سادات و�سوزان مبارك ،غري املحجبتني .ثم تداولت املواقع النكات التي ت�سخر على نطاق وا�سع من لبا�س جنالء التقليدي ولهجتها ال�شعبية؛ وقلقت النخبة امل�رصية من �صورة جنالء ،وبالتايل �صورة م�رص يف اخلارج« .ال أ�سميها �سيدة �أوىل حتت �أي ظرف» ،قال �أ�ستطيع �أن � ّ �أحمد �صالح ،امل�رصيف ذو الت�سعة والع�رشين عام ًا الذي كان يتناول القهوة يف الزمالك على �شاطئ النيل مع �أ�صدقائه .و�أ�ضاف« :ال ميكنها �أن تكون �صورة ن�ساء م�رص» .بالن�سبة �إىل هذا اجليل ال�شاب ،مثلت جنالء الرجعية وال�صعيد الذي يخ�شونه (ال�شيخ.)2012 ، انت�رشت نقا�شات موازية عن جن�لاء يف ال�صحافة الغربية .فعلى على �سبيل املثال ،حلظت �صورة �شخ�صية عنها يف �صحيفة «نيويورك تاميز» �أ ّنها «على عك�س من �سبقها من �سيدات �أول مل�رص �أنيقات ويحملن اجلن�سية الربيطانية ،ف� ّإن الق�رص الرئا�سي امل�رصي يرحب بربة منزل من مدينة �صغرية حتب �أن ت�سمى بطريقة تقليدية بو�صفها والدة ابنها البكر» .فئات اجتماعية �أخرى يف 53
بدايات
العدد 2013 |6
م�رص اعتربتها متثل «�صورة التغيري» ومتثل املر�أة امل�رصية احلقيقية ،ال الأخريات؛ لأ ّنها ت�شبه «� ّأمنا» �أو «�أختنا» ومعظم «الن�ساء اللواتي تلتقي بهن يف �شوارع م�رص». ملاذا ّ يركز �شبان م�رص بعد الثورة على �صورة «ال�سيدة الأوىل» ولي�س على ما متثله �سيا�سياً؟ ما هو منوذج ال�سيدة الأوىل الذي �أراد البع�ض احلفاظ عليه ،فيما كان �آخرون �سعداء ب�أ ّنه �أ�صبح جزء ًا من التاريخ؟ يف هذا العر�ض �س�أناق�ش �صورة وممار�سات ال�سيدات الأول اللواتي اع ُتبرِ ن مثال املر�أة املُ�سلمة والعربية الع�رصية ،يف العامل العربي والغرب على حد �سواء� .أوىل املتقدمات لهذا الدور التقليدي كانت جيهان ال�سادات و�سوزان مبارك من م�رص ،وامللكة نور من الأردن ،وال�شيخة موزة من قطر .لكن �أكرث ال�سيدات الأول �أهمية ،رمزي ًا بالطبع ،كانتا امللكة رانيا من الأردن ،و�أ�سماء الأ�سد من �سورية� .أكرث من �أي مواطن يف املنطقة ،ر�أت ال�صحافة العربية والغربية والعاملية ،وال�سيا�سيون واملنظمات الدولية� ،إىل هاتني املر�أتني على �أنهما �أهم ممثلتني للمر�أة العربية اجلديدة :امر�آة «حتديثية» ،متمكنة ،وملتزمة مبا�رشة يف مروحة وا�سعة من «�سد الن�شاطات االجتماعية وال�سيا�سية التي تهدف �إىل ّ الفجوة» بني ال�رشق والغرب ،بني «التقليدي» و«احلديث». بذلك تعطي �صورتا رانيا و�أ�سماء فر�صة ثمينة مل�ساءلة نقدية جتاه خطاب متكني املر�أة و�سيا�سات التمثيل. �س�أحاجج يف هذا املقال � ّأن �صورة وممار�سات رانيا و�أ�سماء ت�ساعد على الرتكيز على الطرق املختلفة ترفع الثقافة من خاللها �إىل مراكز القوة يف احلا�رض الكولونيايل. يف كل �أدبيات التمكني ،نلقى و�ضع رانيا و�أ�سماء «القوي»، هو و�ضع م�رشوط وخا�ضع ،وال يعتمد على �صفتهما كزوجتي رجلني قويني ،بل على ا�ستعدادهما وقدرتهما على م�ساندة م�رشوع نيوليربايل وا�ستعماري جديد ــ
يوم ًا ما من خرق املراتب القمعية لنظام الأ�سد» .وعلى الغرار ذاته ،تو�صف امللكة رانية منذ و�صولها �إىل العر�ش، ب�أ ّنها «ملكة ع�رصية» �آلت على نف�سها حتديث الأردن. وتقول �صحيفة «�سانداي تلغراف» � ّإن امللكة ذات الـ ٣٨ �سنة ع�رصية ومتابعة لآخر التقليعات» ،فيما جملة «فوغ» تدعي � ّأن «الأردن والعائلة املالكة الع�رصية جد ًا ي�ؤدون دور ًا متزايد الأهمية على ال�ساحة العاملية». كرر ال�سيا�سيون الغربيون كل هذه الأقوال .يروي وزير اخلارجية الفرن�سي الأ�سبق برنارد كو�شنريّ � ،أن الرئي�س الفرن�سي ال�سابق نيكوال �ساركوزي قال رد ًا على ما يقال ب� ّأن الرئي�س ال�سوري يت�رصف بعنف يف قمعه االنتفا�ضة يف �سورية« :بوجود زوجة ع�رصية مثل زوجته ال ميكن �أن يكون �سيئ ًا باملطلق» .يف املقابل ،قال ال�سفري الفرن�سي �إىل �سورية� ،إريك �شوفالييه ،بعيد زيارة �أ�سماء الأ�سد
ال كذاك يف املقابل ،ال تنال �أ�سماء الأ�سد تو�صيف ًا مف�ص ً الذي تناله رانيا ،لكن ال�صحافة الغربية مليئة بو�صف ل�شكلها اخلارجيُ ،و�شار �إليها بو�صفها «جميلة ،و�أنيقة»، خديها الورديني ،و�شعرها الطبيعي، مع تعليقات على َّ وابت�سامتها اجلميلة ،و�ساقيها الطويلتني النحيفتني، وم�شيتها التي ت�شبه م�شية عار�ضات الأزياء. �شكل �آخ��ر من تو�صيف الإع�لام لرانيا و�أ�سماء هو الرتكيز املهوو�س مبالب�سهما ،واملاركات واملو�ضة والت�سوق .حني حلت رانيا �ضيف ًة على برنامج «�أوبرا وينفري» التلفزيوين ،و�صفتها املذيعة ال�شهرية ب�أ ّنها «رمز عاملي للمو�ضة» .فقد ُ�ص ِّنفت رانيا واح��د ًة من إغراء» يف العامل ،وامللكة الثانية الن�ساء الع�رش الأكرث � ً الأك�ثر �أناقة ،وامل��ر�أة العا�رشة الأك�ثر متيزاً .يف معظم البورتريهات عن رانيا و�أ�سماء ُت َ ذكر �أ�سماء كثرية
م�رشوع يقوم ب�شكل �أكرب على �إ�ضعاف الن�ساء (والرجال) يف املنطقة عموماً .وكما ت�شري كل الأحداث الناجتة من الربيع العربي يف عام ،2011ف� ّإن ه�ؤالء الن�ساء حني ال يخدمن م�صالح ذاك امل�رشوع العام ،ميكن التخل�ص منهن ب�سهولة (مثل �أ�سماء الأ�سد)� ،أو �إخفا�ؤهن عن احلياة العامة (مثل رانيا) ،وكل ما كان يحتفى به يف هوياتهن وممار�ساتهن ي�صبح ب�رسعة نقطة �سوداء على �سجالتهن.
يف كل �أدبيات التمكني ،و�ضع رانيا و�أ�سماء «القوي» هو و�ضع م�رشوط وخـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا�ضع، وال يعتمد على �صفتهما كزوجتي رجلني قويني ،بل على ا�ستعدادهمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا وقدرتهما على م�ساندة م�رشوع نيوليربايل وا�ستعماري جديـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد
تركز ال�صحافة الغربيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة على الطريقة التي تظهر بها املر�أتـــــــــــــــــــــــــان، وكيف مت�شيان ،وتتحدثان وتلب�ســـــــــــــــــــــــــــان. حتى حني يغطي الإعالم ن�شــــــــــــــــــــــــــــــــاط رانيا و�أ�سماء االجتماعي وال�سيا�ســــــــــــــــــــــــي، يُ�شار �إليهما ب�شكل متكرر بو�صفهمــــــــــــــــــــــــا «ع�رصيات»« ،جميالت» ،و«�أنيقـــــــــــــــــــــــــات»
�صورة ال�سيدات الأوىل يف الإعالم لأك�ثر من عقد من ال��زم��ان ،منذ ع��ام ( 1999يف حالة رانيا) وعام ( 2000يف حالة �أ�سماء) كانت امللكة رانيا و�أ�سماء الأ�سد من �أكرث الن�ساء العربيات وامل�سلمات اللواتي يظهرن يف ال�صحافة الغربية، ولي�س فقط يف ق�سم الأخبار الدولية ،بل يف جمالت
الأزي���اء ،والثقافة ال�شعبية والكتابات عن �أخبار امل�شاهري ،مثل جملة «فوغ» ،و«پاري مات�ش» و«�إيل» ( .)Vogue Magazine, Paris Match, Elleبحث ب�سيط على الإنرتنت ينتج 4ماليني مو�ضع ذكرت فيه امللكة رانيا ونحو 800،000ذكرت فيه �أ�سماء الأ�سد .ولرانيا مئتا �ألف �صورة على الإنرتنت ،باملقارنة بـ 22،000لأ�سماء. ُي�شار يف معظم هذه املقاالت والتقارير الإعالمية، �إىل املر�أتني بو�صفهما امر�أتني «ع�رصيتني» حتاوالن «حتديث» و«لربلة» بلديهما ،العامل العربي ب�شكل �أعم (يف حالة رانيا)؛ �إذ �إن �أ�سماء الأ�سد �سورية مولودة يف بريطانيا ،وعملت لدى م�رصف «جي بي مورغان» ودر�ست يف «كينغز كوليدج» يف كامربيدج ،وكذلك يف جامعة هارفرد ،فيما رانيا در�ست يف اجلامعة الأمريكية يف القاهرة ،و«تتحدث لغة �إنكليزية جميلة» .على �سبيل املثال ،ت�صف «روي�ترز» �أ�سماء ب�أنها «جميلة ،حديثة، متعلمة ،وهي كنفحة من الهواء املنع�ش» ،فيما �صحيفة «الغارديان» ر�أتها مبا هي «الأمرية ديانا ال�سورية ل�شبابها ِ وغواها والتزامها يف م�شاريع تتنوع من مراكز للأطفال وت�صور تقارير �أخرى� ،أ�سماء �إىل احلفاظ على الآثار». ّ الأ�سد على �أنها «قوة حترر وحداثة يف �سورية» ،و�أنها �أي�ض ًا «...امر�أة جميلة وذكية قد تتمكن �أفكارها الليربالية 54
بدايات
العدد 2013 |6
لفرن�سا� ،إ ّنها «ا�ستطاعت �أن جتعل النا�س ي�أخذون يف االعتبار �إمكانات دولة حتاول حتديث نف�سها ومتثل علمانية مت�ساحمة يف منطقة تقع على برميل متفجر بوجود متطرفني و�أ�صوليني ي�ضغطون يف كل اجلهات والقوة الدافعة لكل هذا تقع على عاتق ثنائي واح��د» .ب�شكل مماثل ،قال ال�سفري الأمريكي ال�سابق �إىل الأردن �إن «رانيا ع�رصية للغاية :فهي ترى �إىل كونها ملكة على �أنه وظيفة». طغيان ال�شكل اخلارجي �إن �أكرث التجليات ال�صادمة يف ت�صوير �أ�سماء ورانيا هو الرتكيز على ج�سديهما ومظهريهما اخلارجيني .تركز ال�صحافة الغربية على الطريقة التي تظهر فيها املر�أتان، وكيف مت�شيان ،وتتحدثان وتلب�سان .حتى حني ّ يغطي الإعالم ن�شاط رانيا و�أ�سماء االجتماعي وال�سيا�سي، ُي�شار �إليهما ب�شكل متكرر بو�صفهما «ع�رصيات»، «جميالت» و«�أنيقات» .وتو�صف رانيا ب�أ ّنها «مم�شوقة القوام» وذات «عنق مثل عنق البجعة»�« ،أنيقة ،مده�شة، جميلة ،طويلة ،ر�شيقة ،نحيفة ،ناعمة الأ�صابع ،كثيفة ال�شعر ،لونه بني ،وعيناها داكنتان» ،وتتمتع بـ«ابت�سامة غنج»« ،حاجب كثيف» ،و«�شكل قلب ميتد من عظمة وجنتيها حتى رقبتها يف ات�ساق حليبي ناعم».
ال�سيدة ال�سورية االوىل ا�سماء اال�سد خالل احتفال يف ال�سويداء يف 14 ت�رشين االول .2008 55
أزياء من عند مل�صممني�« :إذا كانت (�أي رانيا) ترتدي � ً غاليانو �أو ديور �أو امل�صمم اللبناين �إيلي �صعب ،كما يف تلك الليلة ،فهي دوم ًا �أجمل امر�أة بني احل�ضور». ويروى � ّأن �أ�سماء �صديقة لكري�ستيان لوبوتان ،م�صمم الأحذية الفرن�سي الذي ميلك ق�رص ًا يف حلب .و�أ�سلوب «الب�ساطة والطبيعية» ،وتلب�س «بطريقة غري الفتة للنظر»، وتتجنب «الف�ساتني الالفتة» وتف�ضل «الأ�سلوب الب�سيط والع�رصي» .وخالل زيارات ر�سمية للغرب ،ركز الإعالم الت�سوق الذي قامت به رانيا و�أ�سماء .تقول الغربي على ّ رانيا�« :أحاول �أن �أقتطع �ساعتني من وقتي للت�سوق يف لندن �أو �أمريكا .رمبا الثياب هي طريقة للتعبري املبتكر لدي ،لأين ال �أ�ستطيع �أن �أعبرّ عن نف�سي ب�شكل مبدع خالل مهماتي الر�سمية» .هذا الرتكيز الكثيف على ج�سدي رانيا و�أ�سماء هو طريقة للت�شي�ؤ وجلن�سنة الن�ساء، ويثري القلق من مدى ما �صار املثال الأعلى للن�ساء العرب وامل�سلمات يتكئ على الرتويج للت�شي�ؤ اجلن�سي وال�صور النمطية اجلن�سية� .إخ�ضاع ج�سد الن�ساء العاري بدايات
العدد 2013 |6
لنظرة الرجل التي حتوله �إىل �شيء هي �أي�ض ًا طريقة لقمع الن�ساء و�إ�ضعافهن .وهو الوجه الآخ��ر للرتكيز على الن�ساء املحجبات بو�صفهن مقموعات .بالطريقة ذاتها� ،إن ت�أطري الن�ساء العربيات وامل�سلمات الع�رصيات واملتحررات بو�صفهن ال يهتممن �إال با�ستهالك الب�ضائع الفاخرة يوحي �أي�ض ًا بتنميط جن�سي لدور الن�ساء يف املجتمع اال�ستهالكي املعا�رص. و�إذا كانت �إحدى امل�سائل هي م�س�ألة الت�شي�ؤ الكامل لتلك الن�سوة ،ف�إن امل�س�ألة الأخرى هي كيف يتم ت�صوير �أولئك الن�ساء باعتبارهن نوع ًا خمتلف ًا من النا�س يف املجتمع والدولة. هل هما فع ً ال خمتلفتان؟ بالإ�ضافة �إىل �شكليهما اخلارجيني وعاداتهما يف اال�ستهالك ،هناك تركيز كبري على ن�شاطات �أ�سماء ورانيا. يجري احلديث عنهما يف العادة بو�صفهما عنا�رص �شابة، جديدة ،تعمالن للتغيري بالطرق الدميقراطية ،ومتثالن قطع ًا راديكالي ًا مع بنى ال�سلطة التقليدية يف العامل العربي. على �سبيل املثال ،يتم و�صفهما ب�أنهما جزء من «احلر�س اجلديد» الذي ميثل «التغيري واملرونة ،واالنفتاح ،والعوملة» تخو�ضان ال�رصاع مع «احلر�س القدمي» الذي لطاملا تورط يف ممار�سات ا�ستبدادية ،زبائنية وفا�سدة ،ويقاوم التغيري. تروج املر�أتان للدميقراطية. وعلى عك�س احلر�س القدميّ ، من وقت لآخر ،يتم الرتكيز على الن�شاطات املحلية لل�سيدتني الأوليني من اجل اعتبارهما دميقراطي َتني، ليربالي َتني ،حنونتني ،ومتعاطفتني ،وداعي َتني للم�ساواة و� َّأمني وزوجتني .يف احد التقارير ،تو�صف �أ�سماء ب�أنها ال «دميقراطي ًا ج��داً» حيث �أوالده��ا الثالثة تدير منز ً يقررون عن الأهل (ومن �ضمنهم رئي�س �سورية) حول الأثاث الذي يجب �رشا�ؤه للمنزل ،و�أين يجب و�ضعه. ت�صور على �أنها «متار�س الدميوقراطية يف فيما رانيا َّ املنزل .فيجب �أن نع ّلم الأوالد كيف يكونون دميوقراطيني و�إال فلن يتغري �شيء .لدينا نظام ت�صويت يف البيت و�أ�صوات البنات ت�ساوي �أ�صوات ال�صبيان» ،تقول وهي ت�ضحك .ت�صويرهن على �أنهن حر�س جديد يحارب احلر�س القدمي ،هو �سوء متثيل �أ�سا�سي يف قواعد القوى واملمار�سات ال�سيا�سية لدى رانيا و�أ�سماء يف الأردن و�سورية .و�صلت االثنتان �إىل احليز العام بعد زواجهما بـ«حر�س ق��دمي» .واالثنتان متهمتان مبمار�سة طويلة لال�ستبداد .على �سبيل املثال ،يقال �إن رانيا ا�ستخدمت 56
بدايات
العدد 2013 |6
تتحدث امللكة رانيا عن عدم الت�ســــــــــــــــــــــــامح كمر�ض يف املجتمعات العربيــــــــــــــــــــــــــــــــة، وتعترب �أنه يتعلق مب�شاكل ثقافيـــــــــــــــــــــــــــــــة ولي�ست بنيوية .وتتحدث عن «فجوة �أمل» يجب مل�ؤها يف العامل العربي للو�صول �إىل الت�ســـــــــــــــــــــامح
جنود ًا �إىل �أفغان�ستان ،و�سمح للواليات املتحدة با�ستخدام �أرا�ضيه قاعدة ع�سكرية) ف�إن امللكة رانيا تتحدث عن عدم الت�سامح كمر�ض يف املجتمعات العربية ،وتعترب �أنه يتعلق مب�شاكل ثقافية ولي�ست بنيوية .مل تتحدث عن الر�ؤية الأردنية الر�سمية ل�رصاع احل�ضارات .تتحدث رانيا عن «فجوة �أمل» يجب مل�ؤها يف العامل العربي للو�صول �إىل الت�سامح .ومبا � ّأن عدم الت�سامح يف العامل العربي متجذر يف الثقافة ،ف�إن احلل يكون عرب برامج تعليمية وثقافية مثل «بِن و�إيزي» ،وهو �سل�سلة �صور متحركة ترعاها. «بن» مراهق �أمريكي وع�صام مراهق �أردين يك ّنى «�إي��زي» ،هم بطال هذا امل�سل�سل الذي ترى فيه رانيا واحدة من الأدوات «لبدء حوار بني ال�رشق والغرب». الهدف من هذا امل�سل�سل كما قالت يف خالل حفل ع�شاء يف نيويورك للرتويج له« ،م�ساعدة ال�شباب العرب والأمريكيني على االبتعاد عن الأفكار امل�سبقة اخلا�صة ب�أهلهم و�أجدادهم ،التي ت�أثرت باعتداءات � ١١أيلول وبحرب العراق« .بن» رمز لأمريكا و«�إيزي» ميثل العرب. يف احللقات الأوىل ال يعجب �أحدهما بالآخر ،لكنهما ال يتقاتالن بامل�سد�سات وال�سكاكني ،ويف النهاية يتعلمان � ّأن التعاون يجعلهما يتفوقان على اجلميع» (�ستنربغ � .)2006إىل جانب بن و�إي��زي ،كتبت رانيا ق�صة بالعربية عن �سلمى ،وهي مراهقة عربية ،وعن ليلي، مراهقة �أمريكية ،اللتني حت��اوالن «بناء اجل�سور رغم االختالفات الثقافية» (جوردان تاميز.)2006 ، لكونها يف املحور الآخر يف احلرب على الإره��اب ،مل تتحدث �أ�سماء عن �رصاع احل�ضارات .لقد كانت تطلق نداء عاملي ًا للغرب يقول ب�أن «ال�سوريني ي�شبهونكم، دوم ًا ً وكلنا كائنات حية ويجب �أن تنظروا �إلينا بهذه الطريقة. فال�سوريون يريدون ال�سالم واحلب واالزدهار والتعليم. وهذا ما �أنا �أعمل من �أجله». والأه��م هو ممار�سة ال�سيدتني يف املجتمع التي ت�ساعد يف ت�سليط ال�ضوء على الطرق التي يتم من خاللها ت�صويرهما والتعريف بهما ...فبماذا تنخرط رانيا و�أ�سماء؟
�سلطتها ال�سيا�سية يف الأردن ل�رسقة �أموال من خزينة الدولة ،وت�سجيل �أرا��ٍ�ض با�سم عائلتها .و�أ�سماء� ،إىل جانب قدرتها على الو�صول �إىل ٪٩٠يف املئة من امل�ساعدات الأجنبية ،يقال �إنها �ساعدت �شقيقها لتنفيذ م�شاريع تنموية كبرية يف �سورية. ت�صور من خاللها رانيا و�أ�سماء على الطريقة التي ّ �أنهما ع�رصيتان و�شابتان �أمر �أ�سا�سي ،لكن ال يتم االكتفاء بذلك ،بل يتم الرتويج لهما ب�صفتهما ج�سور ثقافية بني ال�رشق والغرب.
تهدف �إىل ن�رش ثقافة جديدة ع�رصية ومت�ساحمة .قد ي�ساعد الت�أطري الثقايف هذا م�صالح �أبناء النخب العربية �أمثال �أ�سماء ورانيا ،لكنه ال ينا�سب �سائر �شعوب املنطقة. تتبع االمر�أتان طريقتني خمتلفتني للرتويج للت�سامح، انطالقا من دور بلد كل منهما يف املنطقة ويف �سيا�ساتها. ً مبا � ّأن الأردن جزء من احلرب على الإرهاب (وقد �أر�سل
خطاب متكني م�رشوط وخا�ضع يف احلقيقةّ � ،إن ا�ستعداد �أ�سماء ورانيا للم�شاركة الفعالة يف حزمة من الإ�صالحات النيوليربالية والنيوكولونيالية يف بلديهما والرتويج لها ،وهو ما اعتربه البع�ض ي�ؤدي �إىل �إ�ضعاف الن�ساء والرجال يف املنطقة على حد �سواء، هذا اال�ستعداد هو ما �أدى �إىل �شهرتهما .مت ت�صوير
ر�ؤى ثقافوية للعامل العربي نتاج النظام التعليمي الأمريكي والربيطاين، لكونهما َ ومتلكان م�صالح م�شرتكة مع النخب العاملية ،قامت ال�سيدتان باعتناق الطرق الغربية يف ر�ؤيتهما �إىل امل�شاكل املعا�رصة يف العامل العربي والرتويج لهذه الر�ؤية .ومثل العديد من املع ّلقني الغربيني ،تتحدث رانيا و�أ�سماء عن العامل العربي بو�صفه يعاين من �سل�سلة من «الفجوات» �أو «الرتاجعات» �أو «النق�ص» مقارنة مع دول الغرب املتقدمة .وتقدمان نف�سيهما بو�صفهما متلكان القدرة على �أن تكونا ج�رسين بني ال�رشق والغرب ب�سبب تعليمهما الغربي .ف�أ�سماء على �سبيل املثال ،تقول �إ ّنها «كربت بني ثقافتني ،ما يعطيني ر�ؤية مميزة �أرى من خاللها جانبي امل�سائل ّ وميكنني ذلك من �أداء دوري ك�أم وك�شخ�صية عامة» .وتتحدث رانيا كثري ًا عن احلاجة لتعليم «الت�سامح» يف العامل العربي من �أجل حل امل�شاكل العديدة يف املنطقة ،وكي ي�صبح يف م�صاف العامل الع�رصي ،وقد رعت العديد من امل�شاريع الثقافية والتعليمية يف الأردن
ملكة االردن رانيا يف ثياب واك�س�سوارات من م�صممني عامليني. 57
بدايات
العدد 2013 |6
�أ�سماء ورانيا قائدتني حمليتني يف عملية تنمية املجتمع املدين يف العامل العربي ،حيث م�سار تطبيع املقاومة وفق ال�سيا�سات النيوليربالية قد ح�صل بالفعل .ولقد برزت �أ�سماء ورانيا يف فرتة عدم ا�ستقرار بالن�سبة �إىل امللكية واجلمهورية على حد �سواء .يف جزء منه ،كان عدم اال�ستقرار ذاك �سيا�سياً ،ب�سبب التذمر ال�شعبي والنق�ص يف الت�أييد للنظام اجلديد بقيادة امللك عبد الله، الذي و�صل فج�أة �إىل العر�ش بعد موت والده يف عام ،١٩٩٩ولنظام الأ�سد الذي ورث الرئا�سة عن �أبيه الراحل هو �أي�ضاً .لكن عدم اال�ستقرار كان يف جزء �آخر منه ،عدم ا�ستقرار اقت�صادي. رغ��م � ّأن اللربلة االقت�صادية ب��د�أت يف الأردن يف ،1987ويف �سورية يف ،1989توىل زوجا ال�سيدتني ت�رسيع العملية .خ�صخ�ص امللك عبد الله معظم امل�ؤ�س�سات احلكومية الكبرية� .أما الأ�سد ،فقد بد�أ بتحويل االقت�صاد �إىل ما ي�سميه «اقت�صاد ال�سوق اال�شرتاكي»� .أدت هذه ال�سيا�سات �إىل زيادة البطالة يف الأردن و�سورية اللتني ان�ضمتا �إىل الدول الريعية ،و�أدت �أي�ض ًا �إىل تعميق االنق�سامات الطبقية بني النخبة اجلديدة
الريفية واملهم�شة ،عرب بناء القدرات وكذلك توفري التعليم والقرو�ض ال�صغرية ،وهي ت�سعى �إىل ا�ستهداف الن�ساء يف حماولة ت�شجيع توظيفهن وت�أمني دخل ثابت لهن .وقد تخطت ميزانية املنظمة الع�رشة ماليني درهم �أردين يف عام .٢٠٠٩وت�أتي ٪٦٠يف املئة من الأموال من املنظمات الدولية ٣٠ ،يف املئة من الدعم احلكومي ١٠ ،يف املئة من القطاع اخلا�ص. و�صلت امللكة رانيا �إىل ال�سلطة ،كان املجتمع حني ْ املدين قد بد�أ ن�شاطه منذ فرتة .يف احلقيقة ،ت�أ�س�ست �أول منظمة غري حكومية يف الأردن يف عام ،١٩٨٧مبا�رشة �إثر بدء تطبيق برامج الت�صحيح الهيكلي وكانت ترت�أ�سها الأمرية ب�سمة� ،شقيقة امللك .هذه املنظمة غري احلكومية امللكية حلقها عدد من املنظمات امللكية الأخرى ،تر�أ�ستها ن�ساء العائلة املالكة ومن �ضمنهن امللكة نور .لكن ذلك مل يكن حال �أ�سماء؛ �إذ حني تزوجت «مل يكن مفهوم املجتمع املدين قد انت�رش يف �سورية ،وكانت الدولة أعرفهم به». م�س�ؤولة عن كل �شيء ،فا�ضطررت �إىل �أن � ّ يف ال�سنة الأوىل من عهده الرئا�سي ،كان على الثنائي �أن يبقى بعيد ًا عن الأ�ضواء خالل فرتة احلداد الإجبارية
من ال�سخرية مبكان �أنّ رانيا و�أ�سماء اللتني تعتربان مثـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالني على الع�رصية والتمكني والرتويج للدميقراطية والت�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــامح، ح�صلتا على �سلطتهما لأنهما جزء من دول �أوتوقراطية ووراثيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة: الأردن هو ملكية ،و�سورية جمهورية تديرها �ساللة عائليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة (التي �أفادت من اخل�صخ�صة ) واجلماهري الأردنية (التي فقدت وظائفها يف القطاع العام من دون الدمج يف القطاع اخلا�ص) .وقد �أ ّث��ر تراجع القطاع العام على توظيف الن�ساء ب�شكل عميق ،مبا � ّأن القطاع كان يعتمد كثري ًا على العمالة الن�سائية� .أ�صبح املجتمع املدين احللبة التي يتم من خاللها الرتويج للثقافة النيوليربالية التي ت�ؤله ال�رشكات وال�سوق احلرة. ت�تر�أ���س امللكة رانيا منظمات ع��دة يف الأردن، وخ�صو�ص ًا «منظمة نهر الأردن» وهي �أك�بر منظمة غري حكومية ،وتنال نحو ٦٠يف املئة من كل متويل املنظمات غري احلكومية يف البالد ،وخ�صو�ص ًا من قبل «وكالة التنمية الأمريكية» والقطاع اخلا�ص .وقد ن�ش�أت املنظمة امللكية مبر�سوم ملكي يف عام ١٩٩٧برعاية امللكة نور ،ولكن رانيا ما لبثت �أن �أزاحتها وا�ستولت على املنظمة .وت�ستهدف املنظمة املجموعات االجتماعية 58
بدايات
العدد 2013 |6
التي دامت � ١٢شهراً� .سمح ذلك لأ�سماء ب�أن تتجول يف البالد ،لي�س ب�صفتها زوجة احلاكم ،بل كزائر غريب. «�أردت �أن التقي ال�سوريني العاديني قبل �أن يلتقوا بي. كنت �أ�شارك يف امل�شاريع التي يجري العمل بها يف املناطق الريفية .ولأن النا�س مل يكونوا يعرفون من �أنا، ا�ستطعت �أن �أراهم على طبيعتهم و�أعرف ما هي م�شاكلهم احلقيقية ،وما ي�شتكون منه ،وما هي �آمالهم وطموحاتهم. ور�ؤية ذلك بنف�سي تعني �أنني ال �أراه عرب عيون الآخرين». قررت �أ�سماء ت�أ�سي�س منظمتها اخلا�صة، بعد ذلك ْ وهي «م�سار» التي تعنى مب�ساعدة الفقراء واملهم�شني عرب ا�ستخدام خرباتها كم�رصفية يف قطاع �صناديق التحوط .وكما هو حال املنظمة غري احلكومية اخلا�صة ّ بامللكة رانيا ،ت�أ�س�ست منظمة �أ�سماء بوا�سطة مر�سوم جمهوري ،يف وقت افتق ََدت فيه البالد لبنية قانونية خا�صة باملنظمات غري احلكومية .ومثل رانيا ،اقت�رص
دور منظمة �أ�سماء يف اللربلة االقت�صادية على املجتمع املدين ،كو�سيلة لتحقيق التغيري الذي من املفرت�ض �أن متثله .لكن بو�صفها �أول �سيدة �أوىل ن�شطة� ،أ�صبحت �أ�سماء متثل املجتمع املدين بنف�سها وجت�سده. �إىل جانب «م�سار» ،تر�أ�ست �أ�سماء منظمة «فردو�س» و«ال�صندوق ال�سوري للتنمية» ،الذي يهدف �إىل متكني الأف��راد واملجتمعات من �أج��ل امل�شاركة يف التنمية امل�ستدامة ،والرتويج للإ�صالح وتو�سيع ف�ضاء املجتمع املدين ودوره يف التخطيط القومي .ومثل «منظمة نهر الأردن» ،كانت الفئة امل�ستهدفة هي املجتمعات الريفية واملجموعات املهم�شة ،الن�ساء وال�شباب الذين هم الأكرث ت�أثر ًا يف العادة بالإ�صالحات النيوليربالية .كان هذا ال�صندوق �رشيك ًا للوزارات والبلديات ،واملانحني الدوليني ،والبنك ال��دويل ،والعديد من ال�سفارات الأجنبية يف �سورية� ،إىل جانب القطاع اخلا�ص .كانت ميزانية «ال�صندوق» يف عام ٢٠١٠ثالثة ماليني دوالر �أمريكي� ،رصفت ٪٧٠يف املئة منها على الرتويج اليديولوجية ال�سوق ٪١٠ ،يف املئة على التنمية الريفية ،و ٪٧يف املئة على الرتاث ٪١٠ ،يف املئة على الأق�سام الإدارية .ونال «ال�صندوق» ٩٠يف املئة من الأموال املخ�ص�صة للمجتمع املدين يف �سورية يف عام .٢٠٠٩وكما يف حال «منظمة نهر الأردن» ،هناك تخمة يف متثيل النخب املدينية بني املوظفني ونق�ص يف متثيل الن�ساء الريفيات الفقريات اللواتي من املفرت�ض �أن يكن امل�ستفيدات من هذه املنظمات غري احلكومية .ي�ؤكد ّ ذلك النظرية التي تقول �إ ّنه يف ظل النيوليربالية خدمت املنظمات غري احلكومية �أع�ضاء الطبقات الو�سطى والفئة العليا منها ،وهم الذين جل�أوا �إىل املجتمع املدين بعد اخل�صخ�صة (عبد الرحمن.)٢٠٠٨ ، من ال�سخرية مبكان � ّأن رانيا و�أ�سماء اللتني تعتربان مثالني على احلداثة والتمكني والرتويج للدميقراطية والت�سامح ،ح�صلتا على �سلطتهما لأنهما جزء من دول �أوتوقراطية ووراثية :الأردن هو ملكية ،و�سورية جمهورية تديرها �ساللة عائلية .واالثنتان جزء من ال�سيطرة الكاملة للدولة والنظام على منظمات املجتمع املدين يف بلديهما والتي تراها النخب ُة احلاكمة كمكان منا�سب لل�سيطرة على ال�شعب والتحكم به .بالتايل ،يجب �أن تطرح ا�سئلة عن املعنى احلقيقي لن�شاط �أ�سماء ورانيا يف املجتمع املدين زفاف �أنور اخلا�ص بالتمكني والتحديث وحترير املر�أة يف بلديهما. وجيهان ال�سادات .لأننا حني نلقي نظرة قريبة على م�شاريع التنمية لـ«م�سار» 59
بدايات
العدد 2013 |6
و«منظمة نهر الأردن» جند �أنهما تروجان لأيديولوجية معنية من النيوليربالية عرب برامج القرو�ض ال�صغرية وبرامج التدريب اخلا�صة بهما. يجب �إثارة العديد من الأ�سئلة عن الن�شاط املدين لرانيا و�أ�سماء .بداية ،هو يف احلقيقة نوع من التنظيم املت�أثر ب�شكل كبري بالدولة التي ت�سيطر عليه :رانيا و�أ�سماء هما بطبيعة احلال متجذرتان يف ال�شبكات الداخلية لنخبة الدولتني ال�سورية والأردن��ي��ة .ت�ستهدف املنظمتان املجموعات امله�شمة التي ت�أثرت �أكرث من غريها باجتذاب خدمات الدولة� ،أي املجموعات التي ت�أثرت ب�إجراءات التق�شف. متول �صناديق املنظمتني ب�شكل كبري من املانحني ثانياًّ ، الدوليني للدولة يف هذا البلد �أو ذاك ،ومن ثم يح�صل حتويل املال �إىل املنظمات عرب عملية توكيل خدمات الدولة للمجتمع املدين .ثالثاً ،الأهداف املعلنة للمنظمتني هي متكني املجموعات امل�ستهدفة وامل�ساعدة يف بناء القدرات والرتويج ت�صب للم�شاركة والقيادة عرب القرو�ض ال�صغرية ،وبرامج ّ يف ال�سيا�سات النيوليربالية .رابعاً ،تهدف هذه الربامج �إىل خلق �شخ�ص نيوليربايل هو املتطوع ،القائد ،املقاول ،الذي ي�ضفي على م�شاكل املجتمع ال�صفة الذاتية ويبحث عن حلول فردية كو�سيلة لقمع االحتجاج االجتماعي �ضد ال�سيا�سات التي تعترب ا�ستبدادية (�سكرية .)٢٠١٢
وح�سب ،و�إمن��ا يتبني � ّأن عملهن ي��روج ب�شكل مبا�رش للأ�شكال التقليدية لعمل املر�أة وو�ضعها يف املنطقة. ينمي العمل مع املجتمعات املحلية يف احلالتنيّ ، والرتكيز على القرو�ض ال�صغرية وبناء القدرات هويات القرية واملجتمع والعائلة عرب التدريب على بناء القدرات من خالل القرو�ض ال�صغرية التي ت�ستهلك معظم الأموال، وهي ٪٧٠يف املئة يف حالة �صندوق التنمية اخلا�ص ب�أ�سماء ٪٦٠يف املئة يف حالة «منظمة نهر الأردن». لقد �أ�صبحت هاتان املنظمتان �صلة الو�صل بني املجتمع والدولة� .أ�صبحت منظمات املجتمع املدين متثل املجتمع عند الدولة ،ويف الوقت نف�سه تع ّلم الن�ساء االعتماد على �شبكة اجتماعية من �أجل ا�ستقالليتهن .يبد�أ تدريب بناء القدرات التقليدي بالرتكيز على � ّأن «الثقافة العربية» هي «ثقافة جماعية» وكيف � ّأن العرب يعرفون �أنهم ي�ساعد بع�ضهم بع�ض ًا ويهتم بع�ضهم ببع�ض .فنحن «ثقافة تعاطف» وفق امللكة رانيا� ،أو «ثقافة تعاون وتبادل» وفق �أ�سماء الأ�سد� .إذاً ،تتعامل النيوليربالية مع التقاليد وال�شبكات االجتماعية يف املناطق الريفية بو�صفها ر�أ�سمال ،ومع يروج من خاللها لثقافة حتميل الثقافة بو�صفها جتارة َّ امل�س�ؤولية .هكذا تتحول ثقافة امل�ساعدة التي �ساعدت املزارعني والفقراء على اال�ستمرار� ،إىل م�صدر اقت�صادي ملبد�أ القرو�ض ال�صغرية .وال�شبكة االجتماعية للن�ساء اللواتي يعتربن يف قلب النظام البطريركي الذي حتاربه املنظمات غري احلكومية ،مت حتويلها �إىل م�رشوع اقت�صادي حتت م�سمى جديد :ر�أ�سمال اجتماعي يتم احل�صول عليه عرب قيمة �أمنية جديدة يف �سياق يبقى العاطلون من خالله م�شغولني ويعملون .وبالتايل ،فاملمار�سات الثقافية التي من خاللها �أعادت الن�ساء الفقريات �إنتاج �أنف�سهن ،مل تعد تعترب رجعية ،بل هي و�سيلة يعتمدها الفقراء مل�ساعدة �أنف�سهم والتوفري يف الوقت نف�سه.
�إىل مقاول �صناعي ن�شيط .هذه ال�صور الإيجابية يجري قراءتها يف �سياق خطابات عن �أخالق العمل وامل�س�ؤولية الفردية ،ويف �سياق فكرة � ّأن الن�ساء الفقريات هن اللواتي ي�ستحققن امل�ساعدة مقابل الرجال الفقراء الذين ال ي�ستحقون ذلك .التمكني هو هدية من قبل ال�سيدات الأول، ون�شاط املقاوالت �سيحل امل�شاكل االقت�صادية ،لي�س فقط للن�ساء ،بل �أي�ض ًا ملجتمعاتهن وي�ؤدي �إىل امل�ساواة اجلندرية. �إذاً ،ال�صورة الإيجابية للن�ساء يف م�س�ألة القرو�ض ال�صغرية تتطلب �أي�ض ًا تقومي ًا �إيجابي ًا لثقافتهن وتقاليدهن. الطرق ال�سلبية التي من خاللها ينظر �إىل الثقافة العربية من �أجل ال�سماح لتدخل على م�ستوى الدول ُيحتفى به على م�ستوى املجتمع املدين يف الثقافة ،وكم�رشوع جتاري يف تلك املنظمات غري احلكومية« .نحاول العمل داخل بنى العائلة عرب ت�أمني عمل للن�ساء ي�ستطعن القيام به يف منازلهن من �أجل املحافظة على الأدوار التقليدية» ،تقول مهى اخلطيب وهي مديرة «منظمة نهر الأردن» ،يف مقابلة خا�صة .ن�سمع ذلك يف ادعاء �أ�سماء � ّأن ما هو مميز يف عمل منظمتها مع الن�ساء هو «احرتام التقاليد والقيم الثقافية للمجتمعات الريفية حني يرتبط املو�ضوع بدور الن�ساء يف املجتمع» .معظم برامج القرو�ض ال�صغرية مف�صلة ب�شكل يعزز العمل التقليدي للن�ساء :احلياكة ،التطريز ،احلرف
معظم برامج القرو�ض ال�صغرية مف�صلة ب�شــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكل يعزز العمل التقليدي للن�ساء :احلياكة ،التطريز ،احلرف التقليديــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة، وكذلك امل�ؤن .ما تفعله الن�ساء يف بيوتهن ي�صبح �ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلعة تباع من خالل منظمات املجتمع املدين �إىل امل�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتهلك يف املدينة� ،أو املجتمع الدويل عرب املعار�ض التي تروج للتقاليد واحلياة القرويــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة �إذاً ،حني نراقب عمل منظمات املجتمع املدين اخلا�ص ب�أ�سماء ورانيا ،ف� ّإن �أبرز ما يجب االنتباه �إليه هو التناق�ض الذي يربز؛ �إذ جند ال�سيدتني بو�صفهما املثال املفرت�ض للمر�أة العربية الع�رصية ،لكن يروج لعك�س ذلك متاماً ،وهو الثقافة العربية التقليدية اخلا�صة باملر�أة. الثقافة بو�صفها «بِزن�س» املن�شورات اخلا�صة بكل من «منظمة نهر الأردن» و«فردو�س» ال حرفية ،ال ينظرن �إىل الكامريا، تظهر ن�ساء ميار�سن �أ�شغا ً ً بل �إىل الأعمال التي يقمن بها ،لكنهن يبت�سمن .هن يف ال بيئتهن الطبيعية ،و�سعيدات دوماً ،وهن ملتزمات عم ً حتول املر�أة الفقرية منتجاً ،ولو على نطاق �ضيق ،بطريقة ّ 60
بدايات
العدد 2013 |6
التقليدية ،وكذلك التموين .ما تفعله الن�ساء يف بيوتهن يتحول �إىل �سلعة تباع من خالل منظمات املجتمع املدين �إىل امل�ستهلك يف املدينة� ،أو �إىل املجتمع الدويل عرب تروج للتقاليد واحلياة القروية. املَعار�ض ،حيث ِّ يف بع�ض تلك احلاالت ،كما يف حال الرتويج للأزياء التقليدية ،ف� ّإن الن�ساء �أنف�سهن اللواتي يحكن هذه الثياب ال ميلكن القدرة على �رشائها ،وي�صنعنها لتباع وت�ستهلك من قبل ن�ساء الفئة العليا من الطبقة الو�سطى يف املدن. ول�سخرية القدر ،ف� ّإن هاتني ال�سيدتني املقدمتني مبا هما مثاالن على املر�أة العربية امل�سلمة واملتمكنة ال ت�ساهمان فقط يف تقدمي �أ�شكال حكومة نيوليربالية جديدة تقوم ب�إ�ضعاف املر�أة ب�شكل كبري (والرجال �أي�ضاً) يف بالدهما
جنالء علي حممود، زوجة الرئي�س امل�رصي املعزول حممد مر�سي �صورة من جريدة «اليوم ال�سابع» امل�رصية – ت�صوير مي ال�شيخ وديفيد كريكباتريك. 61
يف خدمة احلا�رض الكولونيايل الطبيعة امل�رشوطة واخلا�ضعة لو�ضع رانيا و�أ�سماء «املتمكن َتني» و«الع�رصي َتني» ظهرت ب�شكل فاقع �إثر ابتداء من عام الأح��داث التي رافقت الربيع العربي ً ٢٠١١؛ �إذ فيما تغريت ال�سياقات ال�سيا�سية ب�رسعة يف املنطقة ،مل تتمكن � ٌّأي من ال�سيدتني من اال�ستمرار يف خدمة م�صالح الر�أ�سمال الغربي والدويل ،فتم التخلي ب�رسعة عن ال�سيدة �أ�سماء واختفت امللكة رانيا من الإعالم� .أ�صبحت املمار�سات نف�سها واملميزات نف�سها التي مت االحتفاء بها بدايات
العدد 2013 |6
من املتوقع �أن ت�صفق احل�شود حني ُي َ ذكر ا�سم الرئي�س حتى يف �أكرث املنا�سبات ب�ساطةً .وقد �أُجرب الآالف من العنا�رص الأمنيني يف الثياب املدنية اجلميع على االن�صياع .وال�سيدة ال�شباب �أ�سماء التي يع ّلم برنامج «م�سار» اخلا�ص بها َ ن�سيت �أن تذكر يف م�شاريعها على «املواطنية الن�شطة»، ْ وبراجمها � ّأن ال�شباب الذين ا�ستخدموا الإنرتنت للتعبري عن معار�ضتهم كانوا ي�سجنون ب�شكل روتيني (�سعيد، .)٢٠١٢ومن امل�ؤكد �أنها �سمعت عن الطالب املدونني الذين �سجنوا خم�س �سنوات ب�سبب «جرائم �أمنية» مثل «التج�س�س» .ورغم �إ�شارة �أ�سماء املتكررة �إىل «التجان�س الديني» ،فقد كان والد زوجها هو من �أمر بقتل � ٢٠ألف ُ�س ّني يف حماه عام .١٩٨٢وما يح�صل يف درعا هو عما ح�صل يف حماه (في�سك .)١٩٨٦لقد �أبقت ن�سخة ّ ممار�سات مماثلة �ساللة الأ�سد يف احلكم ملدة واحد و�أربعني عاماً ،وال �شك �أن �أ�سماء والقادة الغربيني الذين حتدثوا عنها بو�صفها «حتديثية» يعرفون تاريخ العائلة .لكن هذه الأخرية كانت مقبولة ،ما دامت حتمي م�صالح الغرب.
ب�سببها قبالً� ،سبب ًا للرقابة ال�شعبية والإعالمية �ضدهما. يف الأردن ،ظهور امللكة رانيا العلني� ،أو حجبها ،مرتبط ب�شكل وثيق باال�ستقرار ال�سيا�سي �أو عدمه ،وكما ي�رشح الرنتي�سي ،وهو عالمِ اجتماع ورئي�س مركز �أبحاث ،حني يكون هناك «توتر يف البالد ،يتم �إ�سكات امللكة ويطلب منها االن�سحاب من احلياة العامة من �أجل امت�صا�ص النقمة .وتظهر من جديد حني يكون لديها دور لتلعبه جمددا» (مقابلة خا�صة� ١٢ ،آذار � .)٢٠١٢أكرث من ذلك ،وخ�صو�ص ًا بعد الربيع العربي ،نالت رانيا انتقادات من امللك والعائلة املالكة و�أ�صبحت هدف ًا للنقد من قبل داعمي امللكية �أي قبائل الأردن .ففي بيان وقّعه ٣٦ من �شيوخ قبائل البدو يف الأردنُ ،دعي امللك �إىل «�إعادة الأر�ض واملزرعة التي ُمنحت لعائلة امللكة �إىل اخلزينة. اتهمت الر�سالة رانيا الأر�ض ميلكها ال�شعب الأردين» .وقد َ ببناء مراكز لتعزيز �سطوتها وخدمة م�صاحلها عرب �رسقة الأموال العامة .وقد �أتى البيان بعد احتفال امللكة بعيدها الأربعني يف وادي رام الذي دعي �إليه ٦٥٠من امل�شاهري من كل �أنحاء العامل ،جيء بهم بالطائرات�« .إنها تنفق الأموال الطائلة على الثياب واملجوهرات والأحذية� ...أريد خال�صة أ�شري �إىل جنالء بو�صفها ال�سيدة الأوىل ،رف�ضت من امللك �أن مينعها من ذلك .بع�ض النا�س ي�رصفون املاليني حني � َ و�آخرون ال ميلكون ما ي�أكلونه �سوى اخلبز وال�شاي .هذا اللقب ،وقالت �إ ّنها تف�ضل �أن تنادى بـ«خادمة م�رص م�ؤمل وحزين» ،يقول فار�س الفايز زعيم قبيلة بني �شاكر .الأوىل» .فقد ادعت زوجة الرئي�س حممد مر�سي � ّأن بعد �أ�شهر قليلة على ان��دالع االنتفا�ضة ال�سورية« ،الت�صنيف ك�سيدة �أوىل ت�صنيف غربي ،وقد انتهى الوقت احليز العام بعد ظهور واحد مع �أوالدها الذي يفر�ض فيه الغرب علينا ما ن�سمي �أنف�سنا به» ،كما ان�سحبت �أ�سماء من ّ يف خالل تظاهرة م�ؤيدة لزوجها .لقد �أثار ت�رسيب ر�سائل �رصحت يف مقابلتها الأوىل .مل ين�رش ذلك يف و�سائل الربيد الإلكرتوين اخلا�ص ب�أ�سماء يف جريدة «الغارديان» الإعالم العربية فقط ،بل يف الغربية منها ،فقامت كل من الكثري من النقا�شات يف الإعالم .توجه اللوم �إىل �أ�سماء على �صحف «هريالد ترايبيون» و«نيويورك تاميز» و«غارديان» القيم نف�سها التي و�ضعتها يف م�صاف الن�ساء الع�رصيات :وكذلك «بو�سطن غلوب» بن�رش مقاالت عن حياة ال�سيدة الت�سوق امل�رصية الأوىل اجلديدة .وعلقت «هريالد ترايبيون» اال�ستهالك« .ال�سيدة ال�سورية الأوىل تنغم�س يف ّ املكثف» ،كان عنوان ال�صحيفة .فهي قد �أو�صت على جهاز بالقول � ّإن جنالء على «عك�س �سابقتيها� ،سوزان مبارك �صنع اجلبنة املنزيل ،وعلى �أحذية «لوبوتان» ،بينها حذاء وجيهان ال�سادات ،مبعزل عن ا ّتباعها املو�ضة الربيطانية مر�صع بالكري�ستال و�سعره ٣٧٩٥جنيه ًا �إ�سرتلينياً ،و�شعرها امل�صفف دائم ًا و�شهاداتها العديدة ،ف�إ ّنها مل و�أو�صت على �أثاث منزيل من متاجر «ه��ارودز» ،وعلى تذهب �إىل اجلامعة ،واحتفظت با�سم عائلتها بعد الزواج». جموهرات مر�صعة بالأحجار الكرمية ،كما قالت �صحيفة هل �ست�صبح �صورة جنالء �صورة لل�سيدة العربية الأوىل «التلغراف» .وها هي �أحذية لوبوتان نف�سها التي كانت رمز ًا وقد تطلبت فرتة ما بعد الربيع العربي زواج ًا بني ر�أ�س املال والإ�سالم ال�سيا�سي؟ �إذا كانت النيوليربالية امل�ؤمنة لع�رصية �أ�سماء �أ�صبحت �سبب ًا ل�شيطنتها. �شعر الإعالم الغربي ب�صدمة حني قررت �أ�سماء البقاء تتطلب �سيدة �أوىل حمجبة ،فهل �ستكون ممثلة للن�ساء مع «الديكتاتور» .ما ن�سيه هذا الإعالم � ّأن الأ�سد مل يكن العربيات اللواتي حتررن من «الغرب» ككيان ثقايف ،فيما قط دميوقراطياً ،و�أ ّنه «انتخب» رئي�س ًا يف عام ٢٠٠٠حني هم ي�ستمرون بالتحالف مع الر�أ�سمالية الغربية؟ وافق ٩٧يف املئة من ال�سوريني على خالفته لأبيه .وكان الوقت وحده �سيجيب عن هذه الأ�سئلة. 62
بدايات
العدد 2013 |6
107
تاليق األضداد الموقفان اإليراين والرتكي من سقوط «إخوان» مرص
62
الموجة الثالثة للثورة المرصية تعقد الظروف والتباس التحالفات ّ
الفالحون والثورة استعادة األرض
68
ال وقت للحق عن صنع اإلجماع بعد « 30يونيو»
111
73
احللم االجتماعي والسلطة والثورة عما بقي من وعود وآمال ّ
117
84
جمهضة وأخرى حمتملة بني فاشية َ
احلريات النقابية القانون الكاشف
92
التنمية باالستبداد منوذج يداعب خيال صناع القرار
121
المجموعات الشبابية بعد « 25يناير»
97
معارك التغيري المتوازية
يا�رس علوي
دينا اخلواجة
علي الرجال
عمرو عادل حممد جاد
اإبراهيم اله�شيبي
جنالء مكاوي
يا�شمني اأحمد
فاطمة رم�شان كرمية خليل
وباملنطق نف�سه ،قامت املوجة الثالثة للثورة على �أ�سا�س «حتالف الراف�ضني للممار�سات اال�ستئثارية للإخوان»، ال��ذي �ضم مروحة وا�سعة ــ ومتناق�ضة ــ من القوى االجتماعية جمعتها فقط الرغبة يف �إ�سقاط الإخوان. تبد�أ هذه املروحة من القوى الثورية (الغا�ضبة من جتاهل «تفاهمات فندق الفريمونت» ال�شهرية التي على �أ�سا�سها ح�صل حممد مر�سي على 8ماليني �صوت انتخابي �إ�ضايف مكنته من الفوز ب�صعوبة يف اجلولة الثانية من الرئا�سة) وقطاع وا�سع من بريوقراطية الدولة (لي�س فقط ب�شقها الع�سكري والأمني ،بل �أي�ض ًا بقطاع وا�سع من موظفي الدولة الذين وجدوا يف حكم مر�سي تهديد ًا حقيقيا ً لوجودهم الوظيفي من خالل ظاهرة «�أخونة امل�ؤ�س�سات») وقطاع كبري من املواطنني غري امل�سي�سني� ،أي ما يعرف م�رصياً بـ«حزب الكنبة» ا�ستنفره �سوء الأداء الإخواين يف احلكم ،والأزمات االقت�صادية واملعي�شية املتتالية (نق�ص الوقود ،انقطاع الكهرباء� ،أزمات اخلبز� ...إلخ).
الموجة الثالثة للثورة المرصية ت ُّ َعقد الظروف والتباس التحالفات يارس علوي يتحدد م�سار الثورة امل�رصية وفق تفاعل/جدل الرغبة والقدرة لدى خمتلف الالعبني على ال�ساحة الداخلية باحث يف العلوم وم�صاحلهم ال�سيا�سية املتمايزة ،ومن هنا �أهمية و�ضع تقدير السياسية .عضو موقف دقيق يحدد �أولويات املعارك وجبهاتها ،ويدرك جملس أمناء المنتدى موازين القوى ب�شكل علمي ومو�ضوعي ،ويف الوقت العريب للبدائل .نف�سه ال يخلط الواقع بالتمنيات ،وال «يتعاىل �أخالقي ًا» آخر أحباثه :أشكال على ال�سيا�سة ،ويكتفي باحلوقلة و�إبداء الأ�سف على م�آالت الماشركة السياسية الثورة التي فر�ضت معارك مل نكن نتمناها ،وائتالفات غري التقليدية ظرفية ال ي�سعدنا ن�شو�ؤها .هذا هو مفتاح فهم الفر�ص يف مرص .وال�رضورات و�إمكانات التغيري والتجاوز ،وهو ال�رشط الأول لأي اجتهاد لل�س�ؤال الأهم للثورة :ما العمل الآن؟ املعارك واجلبهات تفر�ض ترتيب ًا معين ًا للأولويات، وتفر�ض �أحيان ًا التبا�سات يف التحالفات ب�شكل يعك�س تعقد الو�ضع .وموازين القوى حتدد �أفق ما ميكن حت�صيله يف املدى القريب ،وتر�سم �أولويات حت�سني العمل ملعاجلة االختالالت ،وحت�سني الفر�ص يف اجلوالت القادمة على املدى الأبعد .وبديهي �أنه مل يكن منتظر ًا وال متوقع ًا وال ال تاريخي ًا جذري ًا منطقي ًا �أن تنجز الثورة امل�رصية حتو ً ي�سقط نظام ًا فقد بو�صلته الأخالقية وال�سيا�سية داخلي ًا وخارجي ًا ،وت�آكلت قاعدته االجتماعية ،وت�ستبدله برتتيبات �أكرث عدالة ودميوقراطية يف املجال ال�سيا�سي و�أماكن العمل ،ب�رضبة واحدة نظيفة ومبعركة حا�سمة يتحقق فيها انت�صار �ساحق وغري مكلف ،ودون ا�ضطرار للجوء �إىل حتالفات ملتب�سة حمكومة ب�رضورات الكر والفر املتغرية يف كل حلظة. من هنا ،اتخذ م�سار الثورة امل�رصية �شكل موجات متتابعة ر�أينا منها ثالث ًا حتى هذه اللحظة� .أجنزت املوجة الأوىل �إ�سقاط «م�رشوع التوريث» ،والثانية ثبتت الطابع املدين للثورة ب�رضب ال�سيطرة الع�سكرية/الأمنية 64
بدايات
العدد 2013 |6
املبا�رشة على احلكم وفر�ض �إجراء انتخابات رئا�سية بني مر�شحني مدنيني� .أما املوجة الثالثة ،فكانت حتت �شعار تعميق الطابع املدين والدميوقراطي للثورة يف مواجهة نظام فا�شي بديباجة دينية. ويف كل من املوجتني الأوىل والثالثة ب�شكل خا�ص (مو�ضع اهتمام هذه ال��ورق��ة) ،ا�ستلزم حتقيق الهدف املبا�رش (�إ�سقاط ح�سني مبارك ،و�إ�سقاط حممد مر�سي) ن�شوء ائتالف عري�ض يجمع مروحة وا�سعة من القوى ال�سيا�سية واالجتماعية ذات امل�صالح املتناق�ضة .ومبجرد �إجناز الهدف املبا�رش ،يبد�أ ال�رصاع بني مكونات االئتالف الف�ضفا�ض حل�سم وجهة امل�سار ومدى التغيري والقطيعة مع احلكم الذي �أ�سقطته كل موجة. ال ن�ش�أ حتالف الإخ��وان والبريوقراطية هكذا مث ً الع�سكرية من �آذار /مار�س ( 2011تاريخ اال�ستفتاء ال�شهري) و َقبِل الإخوان بوراثة بنى اال�ستبداد املباركي ال �أي حماولة لإع��ادة هيكلة دون تغيري (مل حت�صل مث ً وزارة الداخلية ،ب��ل �أُعطيت على ل�سان رئي�س اجلمهورية املعزول �صك براءة دامغ ًا ،و�إعالن �أنها كانت «�رشيك ًا �أ�سا�سي ًا يف الثورة»!!) ،وعززوها مبمار�سات م�ستحدثة (مثال :اغتيال املعار�ضني ال�سيا�سيني كما حدث يف واقعتي حممد جابر م�س�ؤول �إدارة «�صفحة» مناه�ضة للإخوان على الفي�س بوك ،وحممد اجلندي النا�شط يف «التيار ال�شعبي») وبقانونني �شهريين (قانون لف�ض االعت�صامات ،وقرار �إداري من وزير اال�ستثمار ّ الإخواين يتيح للحكومة �إغالق القنوات الف�ضائية دون حكم ق�ضائي) .و�شاءت �سخرية القدر �أن يكون هذان القانونان بالتحديد هما الذريعة التي ا�ستندت �إليها املواجهة الأمنية مع الإخوان ومع القنوات التلفزيونية القريبة منهم بعد 30يونيو !2013
م�ساحة التناق�ضات فــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي «ائتالف املناه�ضني للإخــــــــــــــــــــــــــــــــــــوان» �شديدة االت�سـاع؛ �إذ ي�ضم هذا التحالــــــــــــــــــــــــف قوى ثورية جذرية ،بالإ�ضافة �إلـــــــــــــــــــــــــــــى قوى را�سخة من قلب النظام املباركــــــــــــــــــــــي. وقد فر�ضت هذه التناق�ضــــــــــــــــــــــــــــــــــــات خالفات من اللحظة الأولــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى على م�سار املرحلة االنتقاليــــــــــــــــــــــــــــــــــــة، وهيكل قيادتها وجدول �أعمالهــــــــــــــــــــــــــــــــا املعركة املزدوجة مع اخل�صوم واحللفاء مفر من االعرتاف ب� ّأن ما ح�صل بفعل الزحف اجلماهريي ال ّ غري امل�سبوق يف 30حزيران /يونيو 2013كان ن�رصاً ناق�ص ًا .فالإخوان وحلفا�ؤهم مبا امتلكوه من حداثة يف احلكم، وحيوية �سيا�سي ًا وقاعدة ت�أييد افتقدهما احلزب الوطني املهرتئ ,ما زالوا يقاتلون يف معركة «ا�سرتداد الكر�سي الرئا�سي» .من ناحية ثانية� ،إن م�ساحة التناق�ضات يف «ائتالف املناه�ضني للإخوان» �شديدة االت�ساع؛ �إذ ي�ضم هذا التحالف قوى ثورية جذرية ،بالإ�ضافة �إىل قوى را�سخة من قلب النظام املباركي .وقد فر�ضت هذه التناق�ضات خالفات من اللحظة الأوىل على م�سار املرحلة االنتقالية ،وهيكل ال على و�ضع حممد الربادعي قيادتها (مثال :املعركة مث ً والفيتو على قيامه بت�شكيل احلكومة) وجدول �أعمالها. 65
بدايات
العدد 2013 |6
فر�ض ذل��ك معركتني متزامنتني على كل �أط��راف املرحلة االنتقالية .فكل موقف يتخذ جتاه كل ق�ضية من ق�ضايا املرحلة االنتقالية (بدء ًا بت�شكيل احلكومة ،ومرور ًا «ف�ض اعت�صامي ال �إىل املوقف من ّ بخريطة الطريق ،وو�صو ً الإخوان») هو دالة يف معركتني ،ويجب ح�سابه لي�س فقط من زاوية ت�أثريه على ا�ستكمال ال�رصاع مع الإخوان وح�سم معركة «ا�سرتداد الكر�سي» التي يخو�ضونها ب�رشا�سة ،بل �أي�ض ًا من زاوية ت�أثريه على توازن القوى داخل ائتالف حكم املرحلة االنتقالية. هذه «املعركة املزدوجة» متثل مفتاح ًا �أ�سا�سي ًا لفهم التطورات ال�سيا�سية التي �شهدناها منذ 30يونيو/ ح��زي��ران ،التي ج��اءت جميعها لتعك�س ت�سويات ه�شة فر�ضتها توازنات املرحلة االنتقالية املحكومة ّ ب�رصاعني متزامنني (�رصاع «احللفاء» يف حكم املرحلة االنتقالية ،ومعركة فر�ض الهزمية ال�سيا�سية على «اخل�صم ال (مبا هو الإخواين») .فال�رصاع على ت�شكيل احلكومة مث ً انعكا�س مليزان القوى داخل ائتالف املنت�رصين) ،عك�س ال يف حزب النور ،والبريوقراطي قدرة اليمني (الديني ممث ً املمثل يف امل�ؤ�س�سة الأمنية الراف�ضة لتوجهات حممد الربادعي الليربالية واحلقوقية) على و�ضع فيتو حا�سم على تويل الربادعي قيادة املرحلة االنتقالية ر�سمي ًا عرب رئا�سة احلكومة .لكن ظروف ال�رصاع امل�ستمر مع الإخوان وما تفر�ضه من حاجة للحفاظ على متا�سك القوى املتناق�ضة امل�شاركة يف حكم املرحلة االنتقالية �أدت ه�شة مفادها ا�ستحداث من�صب غري م�سبوق �إىل ت�سوية ّ يف تاريخ الدولة امل�رصية احلديثة ملحمد الربادعي ،هو «نائب رئي�س اجلمهورية للعالقات الدولية» ،مع �إبعاده عن ت�شكيل احلكومة والإدارة اليومية للمرحلة االنتقالية. منطق «املعركة املزدوجة» نف�سه نراه يف النقا�ش «ف�ض اعت�صامي رابعة العدوية واجليزة» .فهناك حول ّ تناق�ض وا�ضح يف ال��ر�ؤى بني الربادعي الراغب يف الف�ض وترك االعت�صام يذبل ميداني ًا مع الوقت جتنب ّ ّ (بفعل الرتاجع املطرد يف �أعداد امل�شاركني) مع التفاو�ض على ّ حل �سيا�سي مع الإخوان �سي�أخذ وقت ًا ريثما يدرك الإخ��وان �أنهم خ�رسوا املعركة �شعبي ًا ،والبريوقراطية ت�رص على ح�سم ميداين فوري يخدم م�صاحلها الأمنية ّ من زاويتني :الأوىل هي ا�ستعادة �أجواء «ال �صوت يعلو فوق �صوت املعركة مع الإرهاب» التي �سادت يف م�رص يف العقدين الأخريين من القرن الع�رشين و�أتاحت متدد ًا وا�سع ًا ب�شكل غري م�سبوق يف تعداد وعتاد وموازنة
الإطار الد�ستوري الذي جاء على �أ�سا�سه ب�إعالن د�ستوري �أكرث مالءمة له ،ال تعني �شيئ ًا!).
ونفوذ الأجهزة الأمنية ،والثانية هي تثبيت �شهادة براءة �شعبية لأ�ساليب �أجهزة الأمن القمعية التقليدية (التي �ستعمد بنار املعركة مع الإخوان) ومن ثم ت�سقط معها كل مطالبة بالعدالة االنتقالية والق�صا�ص من قيادات ال�صدام امليداين وت�أثريه الداخلية (وخا�صة �إن �أخذنا يف االعتبار التوجه املتنامي على امل�سار ال�سيا�سي للموجة الثالثة للثورة ــ كجزء من تكتيكات الأجهزة الأمنية ــ نحو ما ميكن ق��رار احل�سم امليداين العت�صامي الإخ���وان يف 14 ت�سميته «�أخونة اجلرائم» واعتبار الإخوان م�س�ؤولني عن �أغ�سط�س�/آب ،2013ميثل حمطة مف�صلية يف م�سار ال نقل ال�رصاع بني كل اجلرائم ،مبا فيها جرائم قتل الثوار قبل 25يناير املوجة الثالثة من الثورة .القرار �أو ً ال�سلطة االنتقالية والإخوان وحلفائهم �إىل مرحلة الإلغاء و�أثناءه وبعده). منطق �رصاع القوى داخل االئتالف رجح قرار احل�سم الأمني ،وهو ما يعني تو�سيع نطاق املواجهات التي خرجت امليداين (وهو ما انعك�س يف قرار احلكومة االنتقالية من ب�ؤرتي االعت�صام �إىل خمتلف �شوارع العا�صمة وعدة باعتبار االعت�صامني «ب�ؤر ًا تهدد الأمن القومي» وتكليف مناطق يف املحافظات .ثم �إن هذا القرار نقل ال�رصاع ف�ضهما)� ،أما منطق احلاجة للحفاظ على �إىل معادلة �إلغائية على الأر�ض وعطل �أي �صيغ للحلول وزارة الداخلية ّ ح�ضور ليربايل مدين داخل ائتالف احلكم ،فقد �أدى �إىل ال�سيا�سية لفرتة من الوقت قد متتد لعدة �أ�سابيع تراق فيها مهلة «للحل ال�سيا�سي» امتدت خالل الأي��ام الع�رشة كمية من الدماء جتعل احلل ال�سيا�سي بعدها �أكرث كلفة الأخرية من �شهر رم�ضان وخالل عيد الفطر ،وبعدها بد�أ و�صعوبة .و�أخري ًا� ،إن القرار ،برغم ح�صوله على غطاء احل�سم (الذي حتر�ص عليه البريوقراطية الأمنية) فا�ستقال �سيا�سي من احلكومة التي يتمثل فيها خمتلف مكونات حممد الربادعي ،وبد�أت ب�شائر �إعادة الهيكلة لالئتالف ائتالف املرحلة االنتقالية ،ينقل مركز الثقل ب�شكل حا�سم للجناح املحافظ (املطالب باحل�سم الأمني ،واملت�صدر احلاكم وبلورة ميزان القوى داخله تت�ضح. اال�ستثناء الظاهري من منطق املعركة املزدوجة كان لل�صورة مبجرد بدء هذا احل�سم). «خريطة الطريق» التي بدا � ّأن اجلميع متوافق عليها .من ب��د�أت امل�س�ألة بطلب غري م�ألوف من وزير الدفاع وجهة نظر املوجة الثالثة من الثورة التي كان �شعارها «بتفوي�ض �شعبي» ملكافحة الإره��اب .برغم غرابة هذا الوحيد هو �إ�سقاط حممد مر�سي (وما يعنيه ذلك من الطلب ،وكونه �أمر ًا خالفي ًا داخل مع�سكر الثورة ،ف�إن حجم انتخابات رئا�سية مبكرة)ّ � ،إن خريطة الطريق التي جرى احل�شود التي نزلت م�ؤيدة لوزير الدفاع يوم 26يوليو/ التوافق عليها ،والتي جتعل االنتخابات الرئا�سية هي �آخر متوز ،2013كان كافي ًا ملنحه التفوي�ض املطلوب� .أ�صبح املحطات ،وتفر�ض م�سار ًا فوقي ًا لإعادة كتابة الد�ستور ال�س�ؤال عندئذ :كيف يرتجم هذا التفوي�ض لأمر عمليات؟ (بلجنة معينة ال منتخبة) ،تعك�س جتاه ً ال �رصيح ًا لأولويات نظري ًا ،كان هناك ميدانان حمتمالن للعمليات� :إما احلراك ال�شعبي غري امل�سبوق يف 30يونيو/حزيران .معركة ع�سكرية مع اجلهاديني املتمرت�سني يف �سيناء، فلماذا وافق عليها اجلناح املح�سوب على الثورة داخل الذين ينفذون عمليات �شبه يومية �ضد اجلي�ش وقوات املرحلة االنتقالية؟ امل�س�ألة بب�ساطة � ّأن جدول الأعمال ال�رشطة هناك ،و�إما معركة �أمنية مع الإخوان وحلفائهم الفوقي مثل نقطة تقاطع بني ر�ؤى البريوقراطية (الراغبة يف العا�صمة عرب �إخالء اعت�صامي رابعة العدوية واجليزة. يف ت�أجيل االنتخابات الرئا�سية لأبعد نقطة ،لعل مرور امليدان الأول «�سيناء» ،ميزته �أنه كان يحظى ب�إجماع ال بني الوقت يتيح لها تقدمي مر�شح ع�سكري للرئا�سة جمدد ًا� ،شعبي عابر لالنق�سامات ال�سيا�سية ،ويتبنى ف�ص ً على وقع ا�ستنفار «نا�رصي الهوى» للوطنية امل�رصية) ،املكونات اجلهادية و�سائر ف�صائل الإ�سالم ال�سيا�سي، ال يف الربادعي مبا يتيح الإبقاء على قنوات احلل ال�سيا�سي .م�شكلته مع ر�ؤى اجلناح الليربايل من الثورة (ممث ً legalistic » يبد�أ باملقابل هي ال�صعوبات الطوبوغرافية وال�سيا�سية ب�شكل خا�ص) املتم�سك مب�سار «قانونوي ال ،وينظر لكتابة الد�ستور ــ بوا�سطة (املت�صلة باتفاقيات كامب ديفيد وت�أثريها على حجم بكتابة الد�ستور �أو ً «خرباء» قانونيني يلتزمون «الأعراف واملعايري العاملية» احل�ضور الع�سكري امل�رصي ونوعيته يف منطقة «جبل ــ ب�صفتها �ضمانة �ضد ا�ستبداد �أي رئي�س (وك�أن جتربة احلالل» التي يرتكز فيها اجلهاديون يف �سيناء ،والتي حممد مر�سي ،الذي كان �أول قرار له بعد الرئا�سة ا�ستبدال تتكون من �سل�سلة جبال وعرة طولها يقرتب من 40 66
بدايات
العدد 2013 |6
كيلومرت ًا)� .أم��ا اخليار الثاين« ،خيار رابعة العدوية ال» ،فميزته من وجهة نظر اجلناح الأمني �أنه �أ�سهل �أو ً يف التنفيذ ،و�أنه يوفر فر�صة للقوى الأمنية للح�صول على �صك براءة «لأ�ساليبها وتقنياتها» (التي �ستعترب هنا �رضورة ملواجهة الإرهاب) مبا ميهد لي�س فقط لإعفائها من امل�ساءلة عن تلك املمار�سات نف�سها قبل 25يناير و�أثناءه وبعده (ق�ضية العدالة االنتقالية) ،بل �أي�ض ًا ميهد ت�صدر امل�شهد ال�سيا�سي يف م�رص. لعودتها �إىل ّ كانت امل�شكلة يف هذا اخليار هي �أنه يفتح املعركة على كل ف�صائل الإ�سالم ال�سيا�سي يف الوقت نف�سه مبا يعقد فر�ص الت�سوية ال�سيا�سية مع بع�ض هذه الف�صائل، ويحمل كلفة ب�رشية و�سيا�سية باهظة (�سقوط قتلى ّ مدنيني� ...إلخ) .وقد بدا وا�ضح ًا �أنه من وجهة نظر اجلناح الأمني ،ف�إن هذه ال�صعوبات ال تفوق «املزايا» التي ال» ،وهكذا بد�أ تنفيذ هذا اخليار يتيحها خيار «رابعة �أو ً يوم � 14أغ�سط�س�/آب ،2013بعد مناورة ق�صرية مع الو�ساطات الدولية وجهود حممد الربادعي ،ا�ستهلكت �شهر رم�ضان وعطلة عيد الفطر ،مبا يفرت�ض �أن يخفف والف�ض .ال�س�ؤال من الوط�أة النف�سية ل�سيناريو االقتحام ّ الف�ض هذا من املعادلة ال�سيا�سية هو :كيف يغري قرار ّ والأمنية يف م�رص؟ على �صعيد املواجهة مع الإخ��وان وحلفائهم ،تت�شكل ي�رص «اجلناح الأمني القائد» يف حالي ًا معادلة جديدة. ّ ال�سلطة االنتقالية على ح�سم �أمني يك�رس تنظيم الإخوان امل�سلمني ،وي�سيطر على حمافظات القاهرة الكربى الأربع ال (القاهرة ــ اجليزة ــ حلوان ــ القليوبية) ،ثم يخو�ض �أو ً حرب تروي�ض ومت�شيط يف �سائر حمافظات م�رص الحق ًا مهما كلفته من ا�ستنزاف .باملقابل ،تقوم ا�سرتاتيجية قيادة الإخوان على ت�صدير م�شهد «اقتتال �أهلي» يف م�رص، وا�ستدراج �أكرب قدر من الدم ،مبا يتيح �ضغوط ًا دولية تفر�ض تفاو�ض ًا يحقق �أولويات القيادة بعد �سقوط حممد مر�سي .ما هي هذه الأولويات؟ هي بب�ساطة احلفاظ على التنظيم ،وهو ما يتطلب �أمرين: ال :الإفراج عن قيادات التنظيم ،و�إ�سقاط �أي اتهامات �أو ً موجهة �إليها على قاعدة �أنها اتهامات �سيا�سية كيدية. ثاني ًا ّ : فك جميع القيود عن الإمرباطورية املالية للتنظيم (التي تت�ضمن ،من بني �أ�شياء عديدة ،احتكار ًا �شبه كامل لتجارة التجزئة يف م�رص ،وح�ضور ًا قوي ًا يف قطاعات الت�شييد واحلديد وال�صلب و�صناعة الألبان� ...إلخ). 67
بدايات
201320 ربيع 13 |5 العدد 6
يف هذا ال�سياق ،ميكن توقع فرتة �صعبة قد متتد حتى منت�صف �سبتمرب�/أيلول (موعد انتهاء �رسيان حالة الطوارئ ال، التي فر�ضتها احلكومة امل�رصية مع بدء خيار رابعة �أو ً واتخاذ قرار ب�إعالن انتهاء الطوارئ �أو جتديدها ل�شهر �آخر)� ،سيرتكز خالل هذه الفرتة جهد طريف القتال على اجلانب امليداين ،وبنا ًء على ميزان القوى الذي �سيتبلور يف نهايته ميكن �أن تت�أ�س�س الت�سويات. غري �أن معادلة ال�رصاع يف م�رص مزدوجة كما �سبق �أن �أو�ضحنا .وبالتايل �إن فرتة من ال�رصاع الأمني ال�رصف ال ت�ؤثر فقط على املعادلة بني ال�سلطة االنتقالية والإخوان، ولكنها ت�ؤثر بال�رضورة على تزايد وزن ونفوذ اجلناح الأمني ورديفه املدين (ال�رشائح االجتماعية املحافظة التي تدعم اخليار الأمني) .فهي �ستح�سم من ح�ساب الأجنحة تغول هذا اجلناح املح�سوبة على الثورة ،وتزيد من احتمال ّ الأمني وحماولته ا�ستعادة موقعه املركزي يف �صناعة القرار امل�رصي ،على نحو ما كان الو�ضع عليه قبل ثورة 25يناير، واالكتفاء بح�ضور �شكلي ورمزي لأ�شخا�ص حم�سوبني على الثورة يف مراكز لل�سلطة لي�ست بال�رضورة هي مراكز القرار. تكفي �أي مراجعة �رسيعة للخطاب الإعالمي ال�سائد يف و�سائل الإعالم احلكومية واخلا�صة يف م�رص ،التي تت�صدرها «وجوه مباركية» بد�أت تنتقل للحديث عن ثورة وحيدة يف م�رص ،هي ثورة « 30يونيو» ،التي �صححت وتلح يف «اخلط�أ التاريخي» الذي حدث يف 25يناير، ّ دعم اخليار الأمني لدرجة تعطيل كل برامج البث يوم 26يوليو/متوز 2013ــ يف �سابقة مل حتدث يف تاريخ الإعالم امل�رصي ــ لتتفرغ جميعها لدعوة املواطنني لتلبية دعوة وزير الدفاع وتفوي�ضه يف مواجهة الإرهاب� ،أقول � ّإن مراجعة �رسيعة لهذا اخلطاب الإعالمي تكفي لتو�ضيح لت�صدر امل�شهد مدى جدية احتمال عودة اجلناح الأمني ّ ال�سيا�سي ،وا�ستغالل الأزمة احلالية لفر�ض جدول �أعمال ينهي عملي ًا مفاعيل ثورة 25يناير .ال�س�ؤال �إذن هو، ما املطلوب عمله من وجهة نظر ثورية ودميقراطية؟ ماذا يفعل من يرف�ض االختيار واملفا�ضلة بني فا�شية متغطية بالدين ،وعودة النظام الأمني للدولة املباركية؟ الأفق ال�سيا�سي للثورة على املدى املبا�رش ما بني تعقيدات احل�صاد املختلط الذي �أفرزته املوجة الثالثة للثورة حتى الآن ،واملخاطر الأمنية وال�سيا�سية ال» ،ال �إمكانية التي يحملها �سيناريو «رابعة العدوية �أو ً النت�صار �رسيع للثورة يف املدى املبا�رش (املتمثل باحلد
الأدنى ،يف ال�شهر املمتد حتى منت�صف �سبتمرب�/أيلول .)2013يف مثل هذه الظروف ،ميكن حتديد الأهداف التكتيكية للمرحلة يف ثالثة عناوين �أ�سا�سية ،هي:
68
هنا �سيكون التحدي �أمام القوى الثورية� ،أن يكون هذا احلل ال�سيا�سي دميقراطي ًا وثوري ًا ،عرب �إعادة النظر يف ترتيب الأولويات احلايل يف خريطة الطريق ،والتبكري با�ستحقاق انتخابي ذي طبيعة �سيا�سية �شاملة (االنتخابات الرئا�سية و/ �أو الربملانية) كمخرج يكر�س ال�شارع واملواطنني كفي�صل ال من حل «تفاو�ضي» برعاية «دولية» لن بني املختلفني ،بد ً يزيد على ت�سوية بني «قادة القتال» على اجلانبني� ،سيكون �أول �أثمانها «عفو قانوين» عن اجلرائم يهدر �إىل الأبد فكرة ومبد أ� «العدالة االنتقالية» (�أحد �أهم �أهداف الثورة) ،ويكر�س فكرة احتكار الأمنيني للعمل ال�سيا�سي �رصاع ًا وت�سوية.
ال :تثبيت مكا�سب اجلوالت ال�سابقة للثورة ،وعلى �أو ً ر�أ�سها مبد�أ الدولة املدنية (مبعناها املخالف للع�سكرة والثيوقراطية على حد �سواء) ،وا�ستمرار حماكمات مبارك وحا�شيته. ثاني ًا :حتقيق �رضبة �سيا�سية حا�سمة (ولي�س �أمنية) للفا�شية امللتحفة بالدين ،وفر�ض مواجهتها با�ستحقاق انتخابي يف �أق��رب وقت ممكن ،يعيد ر�سم الأحجام والأوزان ال�سيا�سية لتيارات الإ�سالم ال�سيا�سي مبا يعك�س تراجع �شعبيتها. ثالث ًا :االنتقال من و�ضعية مراقبة «�رصاع الأفيال» و«�إبداء الأ�سف» لكلفتها الب�رشية الباهظة� ،إىل ا�ستعادة زمام التحرك واملبادرة النتزاع �أفق �أو�سع للعمل ال�سيا�سي، يح�سن �رشوط املعارك القادمة ،وذلك من خالل اتخاذ مواقف ثورية من اال�ستحقاقات ال�سيا�سية القادمة.
املواجهة الأمنية بني الإخـــــــــــــــــــــــــــــــــــــوان والبريوقراطية الأمنيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة، التي متثل الإطار الأ�سا�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــي حلركة اجلميع الآن مهمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا كان الر�أي فيها �أخالقي ًا ومبدئيــــــــــــــــــــــــــــــــاً، مفتوحة على �سيناريو ا�ستمرار الت�أزم �أو �سيناريو احل�سم الأمني يف العا�صمة وحميطهــــــــــــــــــــــــا
يف جميع الأحوال� ،سيفر�ض منطق «املعركة املزدوجة» نف�سه على جميع التحركات .فكل موقف يتخذ �سيت�أثر يف الوقت نف�سه بال�رصاع ال�صاخب مع الإخوان وحلفائهم، وبال�رصاع ال�صامت حول موازين القوى داخل االئتالف احلاكم للمرحلة االنتقالية .ويف املرحلة احلالية� ،ستكون الأولوية دائم ًا لنتائج ال�صدام الأمني الدائر بني «اليمني الأمني» و«اليمني الديني» .وهناك �سيناريوهان:
ال�سيناريو الثاين :وهو انت�صار احلل الأمني (على الأقل يف حمافظات القاهرة الكربى الأربع) ،مبا يفر�ض نوع ًا من اال�ستقرار الأمني .حتى لو حتقق هذا احلل ــ برغم �صعوبة حتقيقه وارتفاع كلفته ــ ف�إن اجلناح الأمني �سيخرج منه منهك ًا وبحاجة لغطاء �سيا�سي ما (على الأقل لتخفيف حدة ال�ضغط الدويل الذي �سيتزايد ب�شكل كبري ،مع ارتفاع وترية امل�صادمات الأمنية املطلوبة لتحقيق هذا احل�سم).
ال�سيناريو الأول :ا�ستمرار الت�أزم ،وجناح الإخوان وحلفائهم ،برغم �أي هزائم �أمنية يتلقونها ،يف �إبقاء قدر كاف من التوتر ملنع «تطبيع الو�ضع الأمني» (عرب القيام بتظاهرات �صغرية احلجم ن�سبي ًا ولكنها م�ستمرة ب�شكل يومي ،وا�شتباكات يومية حمدودة ،ولكنها تكفي لإر�سال ر�سالة ب� ّأن الو�ضع غري م�ستقر ،و�أنه مل يتم �إخ�ضاع الإخ��وان �أمني ًا) .ويف هذه احلالة� ،إن احلائط امل�سدود الذي �سي�صطدم به اخليار الأمني (مع تذمر القطاعات املحافظة التي فو�ضت اجلي�ش وال�رشطة ب�أمل احل�سم ال�رسيع ،واعرتا�ضات الأجنحة الأكرث راديكالية على �سيادة املنطق الأمني وتبعاته ،وت���أزم الو�ضع الدويل) �سيفر�ض العودة �إىل �صيغة �سيا�سية ما حلل الأزمة ب�سبب عقم احلل الأمني.
لذلك ،ف�إنه من الناحية ال�سيا�سية� ،سي�ؤدي انت�صار احلل الأمني �إىل فر�ض «خريطة الطريق» املعلنة للمرحلة االنتقالية دون �أي تعديل يف مواعيدها .عندئذ �سيكون التحدي �أمام الأجنحة الثورية هو بلورة مواقف وا�ضحة من اال�ستحقاقات املختلفة (�إنتاج د�ستور دميقراطي ال تكون ن�صو�صه هي و�سيلة اليمني الأمني ال�سرت�ضاء اليمني الديني بعد هزميته �سيا�سي ًا ،وقانون انتخابي ال يتمركز حول دوائر فردية �صغرية احلجم تكر�س نفوذ املال ال�سيا�سي بطبعتيه الدينية والفلولية ،وا�ستدعاء وتكرار ت�رصيحات الفريق ال�سي�سي حول عدم تر�شحه للرئا�سة وت�رصيح رئي�س احلكومة االنتقالية حازم الببالوي حول التزام حكومته دولة مدنية ال دينية وال ع�سكرية ،بغر�ض حتويل هذه الت�رصيحات �إىل التزامات
بدايات
العدد 2013 |6
�سيا�سية تنعك�س يف رئا�سة مدنية ت�أتي عرب انتخابات دميقراطية مراقبة دولي ًا كما تعهد الفريق ال�سي�سي). حتى يحني موعد املوجة الرابعة فر�ض تعقد الو�ضع ال�سيا�سي والأمني يف م�رص �أن تتخذ الثورة امل�رصية م�سار ًا متعرج ًا تتواكب فيه الإجنازات والعرثات ،من خالل موجات ثورية متتابعة (ر�أينا منها ثالث ًا حتى الآن) يحقق كل منها �إجناز ًا جزئي ًا ثم ي�صطدم بتحالفات الأجنحة املحافظة (الأمنية و�/أو الدينية) امل�رصة على حتجيم عمق التغيري ال�سيا�سي املطلوب ونوعيته. ما يجعل الأمل غالب ًا على الأمل ،رغم كل العرثات، هو �أن م�سار الثورة املتعرج مل يتوقف بعد كل انتكا�سة ،بل ا�ستجمع �أنفا�سه وجدد نف�سه يف موجة تالية تعك�س باحلد الأدنى حجم الت�صميم املوجود لدى احلراك ال�شعبي على �إنفاذ ا�ستحقاقات الثورة. امل�سار املتعرج نف�سه ،فر�ض �أحيان ًا الدخول يف ائتالفات ظرفية غري مواتية ،وفر�ض �أحيان ًا �أخرى خو�ض معارك متزامنة مع «اخل�صم» و«احلليف» يف نف�س الوقت. كل ذلك ي�ستوجب تكتيكات ثورية مرنة تتيح تثبيت ما يتحقق من �إجنازات ،وحت�سن �رشوط املعارك القادمة. املوجة الثالثة للثورة �أك�ثر تعقيد ًا من �سوابقها، وهي تتطلب مناورات تكتيكية مركبة لتثبيت الإجنازات وحت�سني �رشوط امل�ستقبل .املواجهة الأمنية بني الإخوان والبريوقراطية الأمنية ،التي متثل الإطار الأ�سا�سي حلركة اجلميع الآن مهما كان الر�أي فيها �أخالقي ًا ومبدئي ًا ،مفتوحة على �سيناريو ا�ستمرار الت�أزم (الذي يثري حتدي �إعادة ترتيب خريطة الطريق وجعلها �أكرث دميقراطية و�أقل نخبوية) �أو �سيناريو احل�سم الأمني يف العا�صمة وحميطها (الذي يثري حتدي «دمقرطة» خريطة الطريق الر�سمية ،وجتنب ال�سقوط يف هوية املحا�ص�صة الربملانية بني اليمني الفلويل والديني، وح�صول البريوقراطية الأمنية على رئا�سة الدولة). ال يوجد �أفق مبا�رش النت�صار كامل يتيح حتقيق العدالة ب�شقيها (االنتقايل واالجتماعي) الذي قامت من �أجله الثورة ،والذي جت�سد يف �شعارها ال�شهري «العي�ش ،واحلرية، والعدالة االجتماعية» .ولكن هناك بالت�أكيد ما ميكن عمله يف كال ال�سيناريوهني املحتملني للموجة الثورية الثالثة. ربحنا جوالت ،وقابلتنا عرثات وانتكا�سات ،وبقيت معارك كبرية كتب علينا خو�ضها ،حتى تتحقق الب�شارة على احد اجلدران ال�شهرية التي اختتم بها جنيب حمفوظ روايته «�أوالد حارتنا»، يف الزمالك .ونرى يف حارتنا م�رصع الطغيان وم�رشق النور والعجائب. 69
بدايات
العدد 2013 |6
جمايل احلد الأدنى للأجور وحق التنظيم النقابي امل�ستقل للعمال) .ومن اجلدير بالذكر �أي�ض ًا �أن احلقوقيني �شكلوا عن حق ب�ؤرة مركزية ل�سائر القوى االحتجاجية منذ يناير/ كانون الثاين � ،٢٠١١سواء من حيث توفري موارد تقنية ومعرفية للتوثيق �أو امل�ساعدة القانونية �أو لف�ضح ممار�سات النظام ال�سابق على امل�ستويني ال�سيا�سي واالقت�صادي. وجتدر الإ�شارة �أي�ض ًا �أخري ًا �إىل �أن العديد من املبادرات ال�شبابية التي تلت ثورة يناير قد اتخذت من احلقوقية مرجعية لها كمجموعات «ال للمحاكمات الع�سكرية» �أو «يال نكتب د�ستورنا» �أو «�إحياء باال�سم فقط». وق��د جتلت املوجة اجل��دي��دة من و�صم احلقوقيني وا�ستهدافهم ــ بعد الثالثني من يونيو/حزيران ــ يف ظهور التعبريين ال�ساخرين اللذين اجتاحا ب�شكل متواتر ال من و�سائل الإعالم وو�سائط التوا�صل االجتماعي ك ً لو�صف احلقوقيني بـ»احلكوكيني» والن�شطاء ال�سيا�سيني بـ«النو�شتاء» ال�سيا�سيني ،تعبري ًا عن ميوعتهم وتغربهم ــ ن�سبة �إىل الغرب الداعم ملبادئهم ال�سيا�سية ــ و�شجب ًا ملرجعيات ن�شاطهم التي اعتربها الكثريون غري مالئمة يف حلظة ح�شد جماهريي ينادي بالتخل�ص من الإخوان، لي�س فقط كنظام حاكم ،بل من الإ�سالميني كلهم كخطر �إرهابي حم��دق .وجتلى �إق�صا�ؤهم كذلك عرب امتناع معظم �أجهزة الإعالم عن ا�ست�ضافتهم �أو التحدث معهم والتعتيم على ن�شاطهم حفاظ ًا على روح احل�شد .وجتلى أخ�يرا يف جلوء �أكرث الإح�سا�س باحلذر واال�ستهداف � ً من 18جمموعة من املجموعات احلقوقية �إىل العمل اجلماعي ،وهي ممار�سات ارتبطت يف التاريخ الق�صري للحركة احلقوقية بلحظات اخلوف من اال�ستهداف �إعالمي ًا �أو �أمني ًا وحماولة التكاتف لتعزيز ال�صوت احلقوقي. وتبدو املفارقة يف نبذ احلقوقيني كمجموعات �سيا�سية ذات مرجعية قانونية ،حني نتذكر اللجوء املحوري للتفوي�ض ك�آلية لإ�سقاط النظام الإخواين، �سواء من طريق جمموعة مترد ال�شبابية منذ مار�س�/آذار � ،٢٠١٣أو عرب طلب وزير الدفاع الفريق �أول عبد الفتاح ال�سي�سي يف ال�ساد�س والع�رشين من يوليو/متوز تفوي�ض ًا من ال�شعب للتعامل «مع الفو�ضى» التي �سببتها اعت�صامات الإخوان يف القاهرة واملدن الكربى؛ �إذ ُي َع ّد إجراء قانوني ًا ي�سمح لإرادة التفوي�ض يف كلتا احلالتني � ً جمتمعية مفتتة بالتبلور عرب منح التفوي�ض ل�شخ�ص �أو جمموعة �أو م�ؤ�س�سة ،لت�شكيل قوة �ضاغطة يف �إطار يحتكم �إىل مبادئ ال�رشعية والقانون �أكرث من ا�ستلهامه
ال وقت للحق
عن صنع اإلجماع بعد « 30يونيو» دينا اخلواجة أستاذة جامعية ومديرة برناجم
احلركات االجتماعية بمبادرة اإلصالح العريب -باريس
70
ا�شتهر يف �أوائل ال�ستينيات فيلم م�رصي ا�سمه «ال وقت للحب» ،يتحدث عن فدائيي مدن القناة �أثناء العدوان الثالثي عام ،١٩٥٦وكيف � ّأن معركة الوطن ال ت�سمح ال .ي�ستلهم لأحد باختبار احلب قبل �أن يتحرر الوطن �أو ً حتول احل�شد هذا املقال عنوانه من الفيلم ملناق�شة كيفية ّ اجلماهريي الأكرب يف تاريخ م�رص واملنطقة ،يف �أواخر يونيو/حزيران � ٢٠١٣إىل �سياق �إق�صائي وقومي النزعة ،على �شاكلة حلظات تعبئة التحرر الوطني ،وما ات�سمت به من تغليب مل�صلحة الوطن على ح�ساب �صوت املواطن �أو ر�ؤى الأفراد وخ�صومة لفكرة التعددية .الإحالة للفيلم ال تتوقف عند عنوانه اجلاذب فقط ،بل ت�ستدعي �سياق عقد اخلم�سينيات الذي �أر�سى يف املخيلة اجلماعية امل�رصية مبد�أ �أولوية حترر الوطن على حرية املواطن، وكيف �أ�صبح هذا املبد�أ �إحدى مناطق ا�سرتاحة للعقل اجلماعي يف مواجهة الأزمات ،مهما اختلفت �أو تنوعت. اال�ست�شهاد بالفيلم يحاول �أي�ض ًا �أن ّ يذكر القارئ ب�أهمية رموز حروب التحرر التي خا�ضها جمال عبد النا�رص كع�رص ذهبي يجري الركون �إليه وفق املنطق نف�سه الذي ي�ستدعي به الإ�سالميون ال�سرية النبوية �أو عدالة اخللفاء الرا�شدين .يف هذا الإط��ار ،يحاول املقال عرب الرتكيز على �آلية تعامل املجال ال�سيا�سي مع ف�صيل حمدد من الن�شطاء ،احلقوقيني امل�رصيني� ،إظهار كيف جرت حماولة �إ�سكات هذه احلركة االحتجاجية التي هي قيد الت�شكل، عرب عملية ممتدة من �صنع الإجماع و�إذكاء الإح�سا�س املد الدميقراطي الذي تبلور بتهديد الأمن القومي لإخماد ّ �أ�سا�س ًا حول ه�ؤالء الن�شطاء احلقوقيني املطالبني بف�ضح االنتهاكات والتجاوزات املختلفة التي قام بها كل من املجل�س الأعلى للقوات امل�سلحة والنظام الإخواين بهدف حترير املجال العام من املمار�سات القمعية وال�سلطوية. بدايات
العدد 2013 |6
يف الواقع ،مل ت�شهد �أي من الف�صائل الثورية ما تعر�ضت له جمموعات احلقوقيني من حمالت اغتيال معنوي وت�شهري �إعالمي على مدار العقدين الأخريين، مير احلقوقيون �أنف�سهم بحمالت و�صم و�سخرية يف ومل ّ املجال العام ،كتلك التي تعر�ضوا لها �أخري ًا منذ اندالع املوجة الثورية الثانية يف ٣٠من حزيران /يونيو؛ �إذ على مدار العقدين املا�ضيني اقت�رص االتهام املوجه �إىل هذا الف�صيل من منظمات املجتمع املدين على تهمتني حمددتني :الإ�صالحية وقبول مبد�أ التمويل الأجنبي. وكان املق�صود ب�إ�صالحية نهج احلقوقيني حماولتهم ال من الد�ؤوبة لإ�صالح ممار�سات النظام ال�سلطوي بد ً االنخراط يف �صفوف حركات االحتجاج التي اتخذت من الإ��ضراب والتظاهر �أدات�ين رئي�سيتني لها .كذلك �شكلت تهمة قبول مبد�أ التمويل من املنظمات الغربية كعب �أخيل لك�رس �صدقية ن�شاط هذه املنظمات احلقوقية، �سواء من قبل نظام مبارك �أو من ف�صائل الي�سار القومي، وو�صمهم ب�أنهم ينتجون خطاب ًا حقوقي ًا يخاطب اخلارج �أكرث من حماولته جتذير مبادئه يف املجال العام. نحن �إذ ًا ب�صدد حركة اعتادت النقد واالتهام والرتويع، لكن من املهم الإ�شارة �إىل � ّأن هذا التوج�س كان قد خفت، بل انقلب �إىل �إعجاب وت�أييد عام منذ ظهور احلركات االحتجاجية ال�شبابية املهتمة بف�ضح ممار�سات وزارة الداخلية من تعذيب واعتقاالت يف ( ٢٠١٠وحتديد ًا حركة «كلنا خالد �سعيد») .ويعود ذلك �إىل الدور املهم الذي �أداه احلقوقيون وقتئذ يف ن�رش �آليات التوثيق وتوفري امل�ساعدة القانونية والت�أهيل ال�صحي والنف�سي ل�ضحايا التعذيب ،وتر�سيخ مبادئ التقا�ضي اال�سرتاتيجي يف جمال احلريات� ،سواء ال�سيا�سية واملدنية (حق التظاهر وحرية العقيدة) �أو االجتماعية واالقت�صادية (وحتديد ًا يف 71
بدايات
العدد 2013 |6
ديناميات ثورية �أو انقالبية .ملاذا مت �إذ ًا نقد احلقوقيني بهذه الق�سوة ،وملاذا مت ت�صعيد و�صمهم ك�أطراف ذات منطق دخيل منذ خروج احل�شد اجلماهريي يف الثالثني من يونيو/حزيران؟ هذا ما �ستحاول هذه الأ�سطر الإجابة عنه اعتماد ًا على حتليل طبيعة ال�سياق الذي �ساد منذ خروج اجلماهري خللع الرئي�س حممد مر�سي من جانب، وعلى ر�صد بع�ض الأمثلة لتحركات وممار�سات احلقوقيني كحركة احتجاجية ت�سعى �إىل حتكيم القانون يف �سياق غري م�سبوق من اال�ستقطاب واالخت�صام. التفوي�ض هو �إجراء قانونـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي ي�سمح لإرادة جمتمعية مفتتـــــــــــــــــــــــــــــــــــة بالتبلور عرب منح التفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوي�ض ل�شخ�ص �أو جمموعة �أو م�ؤ�س�ســـــــــــــــــــــــــــــة، لت�شكيل قوة �ضاغطة يف �إطار يحتكم �إلــــــــــــــــــى مبادئ ال�رشعية والقانـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون �أكرث من ا�ستلهامه ديناميـــــــــــــــــــــــــــــــــــــات ثوريــــــــــــــــــــــــــة �أو انقالبيـــــــــــــــــــــــــــة جتيي�ش امليادين :من االحتجاج �إىل �صنع الإجماع مل يتوقع �أحد �أن ي�سفر احل�شد الذي دعت �إليه جمموعة من ال�شباب غري املعروفني ،حتت ا�سم «حملة مترد» احتجاج ًا على حكم الإخوان الإق�صائي ،جلمع توقيعات من �أجل خلع الرئي�س حممد مر�سي و�إجراء انتخابات رئا�سية مبكرة ،مل يتوقع �أحد �أن ي�سفر عن حراك بهذا الزخم ،وال �أن ي�ؤدي �إىل �أزمة �رشعية بهذا احلجم ،وال �إىل انق�سام املجتمع امل�رصي بالطريقة غري امل�سبوقة التي ن�شهدها اليوم .على العك�س ،بدت هذه احلملة منذ �إطالقها يف مار�س�/آذار ٢٠١٣وحتى �أوائل �شهر يونيو /حزيران املن�رصم� ،أقل راديكالية و�أكرث مت�سك ًا بامل�سلك القانوين عما �سبقها من يف االحتجاج واملطالبة ب�إ�سقاط الرئي�س ّ دعوات للع�صيان املدين �أو للإ�رضاب العام .ولو�سطيتها تلك ،ا�ستطاعت احلملة جمع توقيعات من كل حمافظات م�رص ،راوحت يف تقدير عددها بني ١٥و ٢٢مليون توقيع .ونظر ًا �إىل ت�شبهها ب�سابقة تاريخية �شهرية ارتبطت بتفوي�ض ال�شعب امل�رصي ل�سعد زغلول ورفاقه لبدء املفاو�ضات مع االحتالل الربيطاين ،ح�صدت هذه احلملة �إجماع ًا مل ت�ستطع حمالت ذات طابع �أكرث ثورية حتقيقه .واملق�صود هنا حمالت جمع توقيعات دعم تر�شح حممد الربادعي للرئا�سة يف � ٢٠١٠أو حمالت التوعية
التي قامت بها جمموعات ثورية كـ«ع�سكر كاذبون» �أو �رصين» �أو «يال نكتب د�ستورنا» التي حاولت جتذير ُ «م ّ حركاتها لفرتات �أطول بكثري من تلك التي احتاجت �إليها جمموعة مترد خللق حالة احتجاجية عامة �أدت �إىل نزول �أكرب عدد من املتظاهرين الراف�ضني حلكم الإخوان �إىل ال�شارع .بالطبع �شجع الأداء الكارثي للرئا�سة واحلكومة يف ت�صعيد احل�شد املعار�ض ،وبالطبع �صعدت نربة الوعيد والتهديد التي ا�ستخدمهما الرئي�س يف �أ�سابيع حكمه االخرية من تزايد الرف�ض ال�شعبي له ولكامل النظام ال�سيا�سي الذي مثلته الأغلبية الإخوانية .لذا اتخذت ح�شود ٣٠حزيران (يونيو) منذ البداية طابع ًا جماهريي ًا، مبعنى �سو�سيولوجيا احل�شود بالتي يدر�سها غابرييل تارد وغو�ستاف لوبون ،وذلك من حيث تعدد وغمو�ض دوافعها وانفعاليتها وتركيزها على اخل�صومة واالنتقام �أكرث من البعد املطالبي املحدد ،مقارنة بح�شد يناير الذي ا�ستهدف وزارة الداخلية وال�رشطة امل�رصية بالأ�سا�س .من اجلدير الإ�شارة �إىل � ّأن �سمة احل�شد «اجلماهريي» كان قد غذاها ا�ستدعاء لقوى اجتماعية مل ي�ستطع �أحد ح�شدها كفاعل ن�شط يف امل�شهد االحتجاجي من قبل ،ولذا �سميت «الأكرثية ال�صامتة» �أو «حزب اال�ستقرار» �أو «حزب الكنبة» .ذلك بالإ�ضافة �إىل الدعم القوي الذي وفره جناح ثالث ،جمع بني العديد من التيارات الأخرى التي اهتمت ب�إ�سقاط الإخوان كهدف وحيد ــ �أو على الأقل �أكرث �إحلاح ًا ــ من ا�سرتداد امل�سار الثوري و�إعادة بناء إق�صاء مما قام به الإخوان وحلفا�ؤهم خطة انتقالية �أقل � ً من الأحزاب والقوى الدينية على مدار عام كامل. تعبئة وت�أطري وبعيد ًا عن �أ�سئلة امل�ؤامرة التي ترى يف ح�شود٣٠ حزيران وما تالها من خروج جماهريي ،عالمات لتعبئة مدعومة من الأجهزة ورموز النظام القدمي وما متلكه من �سطوة ونفوذ وموارد مالية و�إعالمية ورمزية ،تهتم هذة الورقة بالأ�سا�س بر�صد وتف�سري �آليات التحول من ح�شد ميهد لت�أ�سي�س نظام جماهريي �إىل عمل تعبوي بامتياز ّ �سلطوي جديد يبني �رشعيته على حماية الوطن من اال�ستهداف وي�ستدعي خربة دولة اال�ستقالل لإجها�ض امل�سار املنادي بامل�شاركة وامل�ساءلة ك�أ�سا�سني جديدين لأي نظام �سيا�سي نا�شئ .الآن بعد خروج املوجة الثورية وف�ض اعت�صامي رابعة الثانية لإ�سقاط حكم الإخوان، ّ العدوية والنه�ضة وت�صويرهما على �أنهما تهديد 72
بدايات
العدد 2013 |6
متجد امل�ؤ�س�سة من دونها .كذلك بد�أ �إنتاج �أغانٍ و�شعارات ّ الع�سكرية حامي ًا للوطن .وا�س ُتدعي املطربون ال�شعبيون جلذب اجلماهري .تبارت حتى الإعالنات التلفزيونية املدفوعة ل�شجب حكم الإخ��وان وغبائهم ،و�أُطلقت مئات ال�صفحات يف املجال االفرتا�ضي ــ على فاي�س بوك وتويرت ــ تدعو �إىل دعم اجلي�ش �أو الفريق ال�سي�سي �شخ�صي ًا يف مهمة «ا�سرتداد الوطن» من خمطط الإرهاب الإخواين� ،أو لن�رش �أخبار ــ �صحيحة �أو وهمية ــ عن احلقوقيون والن�شطاء كدخالء على امل�شهد الوطني يخربنا هوارد بيكر يف رائعته «الدخالء» )(outsiders تفا�صيل امل�ؤامرة الدولية الإخوانية لتحويل م�رص �إىل قاعدة للعنف (امل�سمى �إرهاب ًا) مبباركة �أمريكية و�أوروبية �أنه ال ميكن �إنتاج وحدة جمتمعية ــ م�ؤقتة �أو دائمة ــ تريد �إزاحة العنا�رص الإرهابية من �أرا�ضيها وترحيلها �إىل من دون �إق�صاء نحو الهام�ش للمختلفني مع املعتقدات م�رص .هنا �أي�ض ًا ا�ستب�سل الإعالم يف ت�صوير دور اجلي�ش املركزية للجماعة (واملق�صود هنا �أي جماعة ت�شرتك على �أنه يتحدى الإرادة الدولية التي ت�ستهدف �إ�ضعاف يف جمال جغرايف واجتماعي وتخ�ضع للإطار القانوين م�رص وخلخلة حموريتها الإقليمية ويقف لها باملر�صاد .احلاكم نف�سه) .كذلك يو�ضح كيف � ّأن تلك العمليات وقد غذى من انت�شار وتغلغل هذة الرموز عمليات �إنتاج تختلف يف العادة عن �إنتاج معاين اخل�صومة والعداء معنى تكميلية ،تطلق عليها الأدبيات م�صطلح «ن�رش �أطر القوميني ،وتن�صب بالأ�سا�س على و�صم من يقفون يف املعنى» .framing amplificationهكذا ،ت�ضافرت �إجراءات مكان ما بني مركز املجتمع املعياري وخ�صومه املعلنني. متنوعة لإ�ضفاء نكهة قومية بامتياز على عملية �إ�سقاط هنا ي�أتي تعبري الدخالء outsidersليحدد هذه الفئة التي احلكم الإخواين :فمن حتليق الطائرات فوق امليادين وهي ت�شكل اخلطر القرتابها واختالطها باملجتمع رغم �إعالنها تر�سم الأعالم والألوان كعالمة للن�رص� ،إىل رمي �صور االنتماء �إىل �أ�شكال ثقافية �أو ممار�سات رمزية ،ت�ستنفر �شهداء يناير يف قلب ميدان التحرير لربط حركة اجلي�ش املتوج�سني الغيورين على جتان�س اجلماعة الأخالقي بالث�أر لهم ،مرور ًا بطلب نزول فرق ال�رشطة املو�سيقية واملعياري .ي�ضيف بيكر هنا مفهوم ًا �أكرث �إبداع ًا ،هو �إىل ميدان التحرير مل�ساندة اجلموع يف جمع «امل�ساندة»« ،املنحرفون» ،deviantsوي�رشح كيف ُت�س َتنفَر قوى وخا�صة تلك التي تلت طلب الفريق ال�سي�سي تفوي�ض ًا اجتماعية لتعقب املنحرفني و�شجبهم وو�صمهم و«تعريف من ال�شعب امل�رصي للجي�ش وال�رشطة ليت�صديا خلطر املجتمع مبمار�ساتهم املري�ضة وحتديد �آليات للتعرف �إليهم الإرهاب .هكذا �أُعيد �صنع مزاج «نا�رصي» ي�ؤكد اللحمة تفادي ًا النت�شار خطرهم» .وقد طبق هوارد بيكر فكرته تلك عرب درا�سة ميدانية لكل من خطابات الإق�صاء التي الوطنية يف مواجهة �أعداء الوطن. ترتب على تعبئة الرموز تلك انتقال حمور الفعل من ركزت على مو�سيقيي اجلاز يف مطلع ال�ستينيات للقرن احل�شود يف امليادين وال�شوارع �إىل اجلي�ش وال�رشطة ،الع�رشين ،كفئة اجتماعية منحرفة -تدمن املخدرات وانتقل كذلك م�ضمون احل�شد من االحتجاج على عدم ومتار�س اجلن�س احلر -وكذلك ردود فعل املو�سيقيني كفاءة وانعدام دميقراطية الإخ��وان �إىل امل�ساندة غري على االتهامات وتبنيهم طواعية ملا �سماه «مهن ًا منحرفة» امل�رشوطة للنظام النا�شئ كمنفذ م�ؤ�س�ساتي موثوق منه devi-ant careersلتو�ضيح �أمناط مقاومتهم للو�صم ،عرب للإرادة الوطنية .وقد كانت النتيجة املنطقية لهذا التحول االبتعاد عن قلب املجتمع واالنكفاء يف دوائر اجتماعية ال من اال�شتباك مع املدافعني عن قيم ومعايري بدء �إط�لاق حمالت تخوين و�شجب لكل من رف�ض مهم�شة بد ً ُ االن�ضمام �إىل احلركة ال�شعبية الهادرة .ومل تقت�رص اجلماعة الأخالقية الذين �أطلق عليهم ه��وارد بيكر عمليات الو�صم على �أجهزة الإعالم ،بل جتاوزتها �إىل امل�صطلح ال�ساخر :مقاويل الأخالق. �صفوف الي�سار القومي والدميقراطي وقطاعات حزبية تفيدنا الإحالة ال�سابقة يف فهم كيف قام الإعالم عري�ضة ،تبارت يف «ف�ضح» ما �أطلقت عليه ا�سم «اخلاليا و�أجهزة الدولة املختلفة بتنويعاتها والنخبة ال�سيا�سية الإخوانية النائمة»« ،الطابور اخلام�س»« ،الإن�سانيني» �أو املعرتف بها ببناء �رسدية جديدة مفادها �أن ثورة ــ ولي�س املثاليني �أو الال�سيا�سيني ،ك�شكل من �أ�شكال ال�سخرية املوجة الثورية فح�سب ــ الثالثني من يونيو/حزيران من القلة القليلة من الن�شطاء واحلقوقيني الذين عبرّ وا عالنية عن توج�سهم من هذا التحول يف معاين احل�شود ورف�ضهم ملطالب الإق�صاء والتعقب والتنكيل و�إلغاء الأحزاب الدينية �أو لت�صاعد نغمة «احلرب على الإرهاب» يف ن�سختها امل�رصية ،ولت�صميمهم على تفنيد نغمة اخلطر اخلارجي وامل�ؤامرة الدولية ،ولو على ا�ستحياء.
�إرهابي ي�ستقوي باخلارج ،تبدو الأ�سابيع الأخرية متهيد ًا مت�صاعد الوترية لعمل تعبوي .عمل ا�ستدعى جهاز الدولة وامل�ؤ�س�سة الع�سكرية لإ�سقاط النظام ال�سيا�سي الإخواين ــ وذلك على الرغم من �سقوطه الفعلي على يد �أكرب خروج للجماهري يف تاريخ املنطقة .عمل تعبوي �سارع �إثر تبلور احل�شد االعت�صامي الإخواين يف كل بد�أ الت�أطري ب�إيجاد رمز قائد للح�شـــــــــــــــــــــــــود، هو الفريق ال�سي�سي ممث ً ال جليــــــــــــــــــــــــــــــــ�ش م�رص كبديل �أكرث ائتمانًا علــــــــــــــــــــــــــــــــــى مقدرات الوطن من الإخــــــــــــــــــــــــــــــــــــوان، وكمنقذ ومنفذ للإرادة ال�شـــــــــــــــــــــــــــــــعبية. هنا ظهرت �صور الفريق ال�سي�ســــــــــــــــــــــــــــي وبد�أ بيعها يف امليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادين، كذلك بد�أ �إنتاج �أغانٍ و�شــــــــــــــــــــــــــــــــعارات كحــــــــــــــــــــــام للوطن متجد امل�ؤ�س�سة الع�سكرية ٍ ّ من رابعة العدوية وميدان النه�ضة �إىل �صنع �إجماع وطني وطرحه ك�شعار للمرحلة اجلديدة وا�ستخدام الإع�لام ب�شدة لإجن��از هذا التحول .عمل تعبوي قرر ا�ستخدام جلوء العنا�رص الإخوانية حلمل ال�سالح وترويع املواطنني من �أجل ت�صويرهم كمرادف حملي لتنظيم القاعدة .وي�ستند املقال هنا �إىل �أدبيات درا�سة احلركات االجتماعية وبالتحديد �إىل مفاهيم عمليات �إنتاج املعنى الرمزي لر�صد هذا التحول الذي ت�سميه الأدبيات مهمات «الت�أطري» ،framingواملق�صود بها جملة املمار�سات التي ُتن َتج يف �إطار ح�شد جماعي لإنتاج هوية ملطالب ما ومعنى للزخم اجلماهريي ور�ؤية حتدد �أهدافه و�أعداءه وامل�ساندين له. وقد تبدت مهمات الت�أطري منذ الرابع من يوليو/متوز ــ حلظة �إ�صدار الإعالن الد�ستوري املنفذ للإرادة ال�شعبية يف خلع حممد مر�سي واملحدد خلريطة طريق انتقالية ثانية ،لي�س فقط عرب حملة منظمة �شنتها �أجهزة الإعالم املكتوبة وامل�سموعة واملرئية ،بل ب�شكل �أكرث عمومية، عرب �سل�سلة من انت�شار رموز «موحدة» للح�شد باعتباره ح�شد ًا «قومي ًا» �أكرث منه جماهريي ًا .بد�أ الت�أطري ب�إيجاد ال جلي�ش م�رص رمز قائد للح�شود ،هو الفريق ال�سي�سي ممث ً كبديل �أكرث ائتمان ًا على مقدرات الوطن من الإخوان، وكمنقذ ومنفذ للإرادة ال�شعبية .هنا ظهرت �صور الفريق ال�سي�سي وبد�أ بيعها يف امليادين ،مع �صورة عبد النا�رص �أو 73
بدايات
العدد 2013 |6
تتميز عن ثورة يناير يف �أ ّنها حملية ومل ت�ستند �إىل دعم قوى خارجية ،وهي مدعومة من كل فئات ال�شعب ولي�س من الن�شطاء املتغربني فقط ،وتف�ضح مطامع الغرب ،ودول اخلليج (املق�صود هنا قطر) يف التدخل يف ال�ش�أن امل�رصي عرب الإخوان �أو عرب من يت�صدى للدفاع عن كونهم قوى �سيا�سية ال ميكن جترميها �أو �شيطنتها عن بكرة �أبيها .من املفيد �أي�ض ًا الإ�شارة �إىل � ّأن مفردات هذا اخلطاب قد تبلورت بو�ضوح �إثر حدثني :الأول والأهم كان �صدور تقرير حقوقي موثق بال�صور والفيديو ،بعد الثامن من يوليو/متوز ،تناول قتل عدد من �ضحايا الإخوان عند مبنى احلر�س اجلمهوري ،ذاكر ًا الأعداد والأ�سلحة امل�ستخدمة عما �أ�صدرته ال�سلطات يف قتلهم يف رواية خمتلفة جد ًا ّ من ت�رصيحات ،وتوقيع التقرير من عدة منظمات حلقوق الإن�سان .وكان ثانيهما �صدور بيان لألف وثمامنئة مثقف ونا�شط يدعون فيه �إىل عدم �شيطنة الإخوان كف�صيل، واالحتكام ال�رسيع النتخابات رئا�سية وبرملانية لبناء �رشعية جديدة قبل تبني خريطة طريق ُتق َّر ب�شكل فوقي وارجت��ايل .واجلدير بالإ�شارة هو ت�سابق قوى �سيا�سية عديدة ال يجمعها �إال النزر القليل عادة� ،إىل �شجب املبادرتني واعتبارهما ك�رس ًا للحراك والزخم اجلماهريي الذي ا�ستند �إىل امل�ؤ�س�سة الع�سكرية يف �إق�صاء الإخوان، وتفتيت ًا للتوحد حول خريطة الطريق كحل «ال�سرتداد الوطن» .هنا ظهر بو�ضوح �أول �أمثلة الت�ضحية بحقوق الإخوان كخ�صوم �سيا�سيني ،باعتبارها ق�ضايا م�ؤجلة ــ على �أح�سن تقدير ــ �أو م�سمار ًا يف دوالب احلراك الثوري �ضدهم .كذلك ،بد�أت النخب ال�سيا�سية والثقافية والإعالمية باملناداة �رصاح ًة مبنع كل الأحزاب الدينية باعتبارها خطر ًا على الوطن ،وذلك قبل �أن تعلن �رصاحة تبنيها لتو�صيف املنظمات الإرهابية يف ما يتعلق بجماعة الإخوان امل�سلمني ودعوتها لقرار �سيادي للتعامل معهم على هذا الأ�سا�س. وقد جتلى ثاين �أمثلة �صنع الإجماع عرب الإق�صاء �سمت والو�صم ،يف ما تعر�ضت له املبادرة ال�شبابية التي ّ نف�سها «امليدان الثالث» من اغتيال معنوي وت�شهري وتخوين ملجرد �أنها ق��ررت التجمع يف وقفة رمزية يوم ال�ساد�س والع�رشين من يوليو /متوز ،رف�ضت فيها االختيار ما بني نظام الإخوان ورجوع امل�ؤ�س�سة الع�سكرية لل�صدارة ،عرب رفعها ملل�صقات �شجبت فيها مر�سي وال�سي�سي مع ًا ،وبالدرجة نف�سها .ورغم قلة امل�شاركني يف هذه الوقفة� ،أفردت عدة برامج حوارية و�أعمدة �صحافية 74
بدايات
العدد 2013 |6
م�ساحات للتنديد مبوقف تلك املجموعات «العميلة» التي «�ساوت بني الإرهابيني وبني جي�ش م�رص العظيم» ،وفقا ً لت�رصيح الإعالمي ال�شهري عمرو �أدي��ب .حدث ذلك بالتوازي يف ثالث حمطات ف�ضائية خمتلفة ويف �أكرث من �أربع �صحف قومية وم�ستقلة ،وا�س ُتدعيت الرموز املركزية للإعالم الغتيال هذة املبادرة ال�شبابية يف املهد. �أما املثال الثالث على ديناميات الت�شويه ،فقد ظهر عند قيام عدد من منظمات حقوق الإن�سان بتن�سيق وفد ميداين لزيارة اعت�صام رابعة العدوية بغر�ض التفاو�ض ال اتهامات بالتدخل على ّ الف�ض ال�سلمي .هنا ظهرت �أو ً ال�سيا�سي مل�صلحة ر�ؤى النظم الغربية ،ثم حلت ال�شائعات حمل ال�شجب ال�رصيح وظلت القنوات التلفزيونية وو�سائل التوا�صل االجتماعي تتحدث عن �رضب و�سحل احلقوقيني لت�أكيد الطابع الإرهابي للمعت�صمني وعدم جدوى �أي تفاو�ض �سيا�سي معهم. هكذا تكر�ست بالتدريج ثنائية ال�شعب و�أع��داء ال�شعب ،ك�إطار م�ؤ�س�س لل�رسدية املهيمنة ،بني حلظة ف�ض خروج اجلماهري احتجاج ًا على حكم مر�سي وحلظة ّ االعت�صامات الإخوانية بالقوة مبباركة �شعبية طاحنة. �سادت من جديد حالة التوج�س من �أي طرح قانوين �أو حقوقي ك�سيناريو حمتمل لإنهاء الأزم��ة �سيا�سيا ً مل�صلحة تبني الطرح الأمني .ومل يقت�رص هذا التوج�س امتد لي�شمل رموز ًا يف قمة على احلقوقيني والن�شطاء ،بل ّ النظام ال�سيا�سي مثل حممد الربادعي ،ملجرد مطالبته بعدم �إق�صاء الإخوان من �أية عملية �سيا�سية يف امل�ستقبل. كذلك طاول كل الت�رصيحات الدولية والإعالمية ملمثلي احلكومات والربملانات الغربية وحتى اخلليجية ،التي كان اهتمامها من�صب ًا على امل�ساهمة يف التفاو�ض بني القوى املت�صارعة .هكذا توجت املوجة الثورية الثانية ب�أداء �شبه بونابرتي عرب �صنع الإجماع على ما �سمي «الر�أي العام الدويل» الذي ُ�ص ِّور كظهري م�ساند للإخوان رغم تذبذبه امل�ستمر� .صنع الإجماع با�سم �رضورة ا�سرتداد الدولة وال�سيادة املهدورتني على يد الإخ��وان ،وجرى ت�أميم ما اكت�سبته املجموعات ال�سيا�سية الوليدة من هام�ش للحركة با�سم احلقوق واحلريات باعتبارها فذلكة �أو تعالي ًا على �إرادة اجلماهري .وهكذا ُه ِّم�ش مبد�أ احلق �أي ًا كان، �سواء حق امل�شاركة �أو حق امل�ساءلة �أو حق االعت�صام االحتجاجي ،ففقدت املوجة الثورية الثانية طابعها احلقوقي ،الذي �أطلقته اجلموع ال�شبابية يف يناير كمطلب حموري ،مل�صلحة بعدها الدولتي ،ولو �إىل حني.
احللم االجتماعي والسلطة والثورة عما بقي من وعود وآمال ّ
الر ّجال ت�شغل ال�ساحة امل�رصية حالي ًا ثالثة �أ�سئلة :هل انتهى عيل ِ الإ�سالم ال�سيا�سي؟ هل تعود فلول احلزب الوطني �إىل احلياة كاتب وباحث ال�سيا�سية مرة �أخرى؟ هل تنجح منظومة ال�سلطة القدمية سيايس ،مرص .ودولة مبارك يف �إعادة �إنتاج نف�سها وال�سيطرة جمدد ًا؟ للإجابة عن هذه الأ�سئلة� ،أو على الأقل حماولة ذلك، املكونة لتلك املنظومات ينبغي الك�شف عن عالقات ال�سلطة ِّ وخطاباتها وممار�ستها .ورمبا كان ينبغي الرجوع �إىل ما قبل الثورة لنتبني �أين كنا نقف و�إىل �أين �رصنا .فهناك ثورة قامت حتى الآن ب�أربع موجات ثورية عميقة ومركبة ومتناق�ضة ال ،املوجة الثورية كثري ًا يف بنية فاعليها ويف ظاهرها .فمث ً الأوىل رفعت �شعار «اجلي�ش وال�شعب �إيد واحدة» .على النقي�ض ،فاملوجة الثورية الثانية املتمثلة يف معركة حممد حممود نادت ب�إ�سقاط الع�سكر .وجاءت الثالثة لتتمرد على ا�ستمرار النهج الأمني يف ذكرى الثورة ،2012 ثم احتكار الإخوان للمجال العام وال�سيا�سي واال�ستبداد بال�سلطة عرب حماولة مر�سي اال�ستئثار بال�سلطة من خالل الإع�لان الد�ستوري .يف املقابل ،جاءت املوجة الرابعة ( 30يونيو) لتعيد طرح �شعار املوجة الأوىل .وبالطبعّ � ،إن التناق�ضات �أو�سع و�أعمق من ذلك .على ّ كل ،فالتناق�ض هو ال�سمة الرئي�سية لأي ثورة ،وبالأخ�ص الثورات الكربى واملمتدة .بل كما ي�شري �آلتو�سري ،دوم� ًا ما يكون جناح ّ الثورات مرتبط ًا بدخول عنا�رص من بنية النظام القدمي على نف�س خطوط الثورة ،وبهذا تتوافر �إمكانات �أو�سع لإحداث قطيعة مع املا�ضي .بهذه الطريقة ،ترى �أطراف من النظام القدمي ا�ستحالة �إمكانية الدفاع عن نظامها املخلوع حتى النهاية ،وت�صبح منا�رصته تهديد ًا وجودي ًا لها .وهذا هو احلال مع �أجهزة الدولة املختلفة وفلول نظام مبارك التي نا�رصت املوجة الرابعةّ . ولعل �أبرز هذه العنا�رص هو اجلي�ش تدخله �س�ؤال االنقالب وامل�ؤامرة. امل�رصي ،وتطرح �رسعة ّ 75
بدايات
العدد 2013 |6
ثمة �شيء مل يتغري كثري ًا بني املوجة الأوىل يف 25 ّ يناير 2011واملوجة الأخرية .منذ البداية ،كانت هناك ثالثة خطوط للفعل ّ توجه �شكلت عملية ثورية بداخلها ّ مد الثورة على �إ�صالحي حمافظ (�أي م�تر ّدد جد ًا يف ّ ا�ستقامتها حتى تتمكن من هدم كلي يف بنية النظام واملجتمع القدمي) ،يحيط به انقالب ع�سكري. ّ ولعل �أبرز ما طرحته الثورة امل�رصية هو م�شكلة ما ي�صطلح على ت�سميته اخليال ال�سيا�سي .ويرى البع�ض � ّأن «اخليال ال�سيا�سي هو �إعمال العقل واملخيلة مع ًا ل�صياغة ر�ؤى متكاملة حلل م�شكالت احلا�رض»� .إال � ّأن الأمر يبدو �أكرث تعقيد ًا من �إيجاد حلول ابتكارية لواقع م��أزوم. َّ ومركب بع�ضها مع فعمليات التخيل متر مبراحل خمتلفة بع�ض من فهم الواقع �إىل �إمكانية تفكيكه و�إعادة تركيبه تخيل واقع مفارق بالكلية ملا �سبقه. �إىل القدرة على ّ وهنا ي�أتي اخليال �إما لإعادة تر�سيخ الواقع نف�سه ،ولكن بتح�سني ظروفه ن�سبي ًا� ،أو لفتح �سبل و�إمكانات �أو�سع ان�سدادا لالنعتاق والقطيعة مع ما �سبقه .ويبدو �أن ثمة ً كبري ًا يف عمليات القدرة على التخيل ال�سيا�سي بعيد ًا تر�سخ يف �أبنيتنا ّ عما مت ر�سمه �سلف ًا �أو ما يفر�ضه علينا ما ّ العقلية .ولقد �أكد ماركوزا� ،أحد �أبرز فال�سفة مدر�سة فرانك فورتّ � ،أن تغري الواقع وحده ال يكفي �إذا مل نقم بتغيري احللم االجتماعي وال�سيا�سي .ولهذا جاء اهتمام الورقة ّ بكل من اخليال ال�سيا�سي عند الفاعلني الرئي�سيني يف موجة 30يونيو ،والتفتي�ش عن احللم االجتماعي عرب ال�رشائح االجتماعية املختلفة. يجب علينا ربط اخليال ال�سيا�سي مع �أحد تعريفات الثورة التي تراها كحدث يفتح املجال لإع��ادة تخيل م�ساحات املمكن واملتاح ،بحيث هي م�ساحات مل تكن غري موجودة من قبل فح�سب ،بل مل تكن متخيلة �أ�سا�س ًا؛
فاجلانب الثوري املتمثل يف قطاعات وا�سعة من املجتمع، كان وال يزال يعني �شعار �إ�سقاط النظام بالكلية ،ويهدف مو�سع �إىل �إحداث تغيري جذري يف منظومة ال�سلطة ب�شكل ّ على جميع امل�ستويات .هو جانب ثوري يطمح �إىل تغيري منط ال�سلطة وتركيبتها يف هياكلها العليا مثل الدولة، وتفكيك ال�سلطة الذكورية والأبوية يف املجتمع .وحتاول الثورة تغيري العالقة بني امل�ؤ�س�سات املختلفة يف املجتمع والدولة والأفراد و�إعادة هيكلة البنى املختلفة املتحكمة يف العملية ال�سيا�سية والثقافية واالجتماعية .وهي ت�سعى �أي�ض ًا �إىل تغيري ممار�سات ال�سلطة التي ات�سمت بقدر كبري من الإخ�ضاع وال�سيطرة من خالل العنف والقمع .وهذه القطاعات الثائرة ال تعرتف ب�آليات الإ�صالح القائمة التدرج .والثورة تعني لها عملية ممتدة و�ضخمة من على ّ التحول ال تنح�رص فى 18يوم ًا و�إطاحة ج�سد الرئي�س. وميكن القول �إن هناك خم�سة خطوط تتحرك فيها الثورة لإحداث قطيعة مع املا�ضي ،وميكن قراءة منوذج كامن داخل حركتها والأهداف التي تتحرك عليها :هناك خط املواجهة مع املنظومة الأمنية ،وخط العدالة االجتماعية الذي يعبرّ من قبل الثورة عن نف�سه يف الإ�رضابات العمالية واملهنية حتاول الثورة تغيري العالقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة بني امل�ؤ�س�سات املختلفة يف املجتمــــــــــــــــــــــــــع، وعالقة الدولة والأفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــراد، و�إعادة هيكلة البنى املختلفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــة املتحكمة يف العمليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة ال�سيا�سيـــــــــــة والثقافيــــــــــة واالجتماعيــــــــــة الوا�سعة ،ثم خط املر�أة وحريتها يف املجال العام والتعبري. والتعدد الذي حر�صت عليه الثورة وعلى وي�أتي التنوع ّ تر�سيخه وعدم ا�ستئثار طيف باملجالني العام وال�سيا�سي ال عن خط خام�س هو املجال العام كخط راب��ع ،ف�ض ً كم�ساحة جغرافية وم�ساحة حوار وت�أثري يف �صنع القرار. وي ّت�ضح للمدقق يف هذه اخلطوط �أنها املقابل لطبيعة النظام القدمي ،مبا فيه �أحالم جمتمعه وخياله �أي�ض ًا كما �سيت�ضح. «ال�سيد» وهيبة الدولة �أحالم ّ �إن ذلك االن�سداد يف اخليال ال�سيا�سي هو ما يقوم با�ستدعاء حلظة تاريخية ما يف حماولة فر�ضها على واقع و�سياق مغايرين لها .بل � ّإن تلك اللحظة التي يتم ا�ستدعا�ؤها دائم ًا، كثري ًا ما تت�سم باجلمود والغمو�ض وتخيلها ب�شكل متجيدي 78
بدايات
العدد 2013 |6
للتطبيق �أو ّ احلط من �ش�أنها بدوافع ال�شيطنة والتهمي�ش. وهو الأمر الذي يبدو وا�ضح ًا على ال�ساحة امل�رصية يف اجلدل الدائم يف كل من عبد النا�رص من جهة ،والأندل�س ك�أبهى حمطات اخلالفة الإ�سالمية من جهة ثانية .املثري يف الأمر � ّأن عمليات اال�ستدعاء هذه حت�صل بعد ثورة يعدها بع�ض الباحثني ثورة على منط الثورات .والغر�ض ّ من هذا القول لي�س متجيد الثورة امل�رصية ،بل الإ�شارة عما �سبق عليها. �إىل اختالفها بنيوي ًا وتنظيمي ًا وحركي ًا ّ وبالتايل ،هناك مفارقة وا�ضحة بني طبيعة الفعل الثوري وعملياته املبا�رشة من ناحية ،وبني اخليال ال�سيا�سي لكثري من الأطراف ال�سيا�سية امل� ّؤطرة واملتما�سكة تنظيمي ًا من ناحية �أخرى .وال �شك � ّأن فهم الواقع احلايل ،وبالأخ�ص مع �صعود الإ�سالميني متمثلني يف «الإخوان امل�سلمني» �إىل ال�سلطة يف عالقة جدلية بني ما يجتازه الواقع بالفعل ال�سيا�سي واملجتمعي ،وبني اخليال ال�سيا�سي للتيارات الإ�سالمية وغريها بالطبع� .إال � ّأن وجود الإ�سالميني يف م�صب االهتمام الأول بالبحث والفهم. احلكم يجعلهم ّ وميكن ر�صد ثالث فئات كان وال يزال لديها طموح وا�سع للبحث عن ال�سيد وا�ستعادة هيبة الدولة .فالفلول �سيد. و«الإخوان» وبع�ض القوميني يف حماولة حثيثة خللق ّ وما �أق�صده بال�سيد هنا هو �أقرب ملفهوم كارل �شميت. هو هذا ال�شخ�ص القادر على فر�ض اال�ستثناء ،القادر على �صنع قطيعة وعمل حدث متجاوز للتاريخ ،القادر على احل�سم يف ما يتعلق باملوت واحلياة .و�ساعدت حالة الفو�ضى والذعر الأمني يف ان�ضمام قطاعات جماهريية �إىل هذا احللم .فهناك حاجة لفر�ض �إرادة على احلدث التاريخي نف�سه ،وفر�ض �سيادة عامة على اجلميع .فالفلول، على الرغم من � ّأن م�صاحلهم االقت�صادية مل ت�رضب يف العمق� ،إال �أن هناك احتياج ًا حقيقي ًا لديهم لوقف احلدث الثوري وا�ستعادة املكانة ال�سيا�سية وال�سيادية لهم. وكذلك الداخلية امل�رصية التي تلقت هزمية وا�سعة النطاق، وخ�صو�ص ًا على امل�ستوى النف�سي حيث انك�رست هيمنتهم وجربوتهم على املجتمع .بالتايل ،فكالهما يف بحث عن خم ّل�ص يوقف التاريخ ويرجع به �إىل ما قبل 25يناير .2011وبالن�سبة �إىل الداخلية ،فقد كانت �سلطتها قائمة على منط ال�سيد التحتي للمجتمع ،حتى يف الرتب الأدنى منها ،وبالأخ�ص يف �سنواتها الأخرية ،ولذلك انت�رشت حاالت القتل اخلارج عن القانون؛ ل ّأن ال�سيد �أعلى من القانون ،هو ذلك ال�شخ�ص الذي يفر�ضه وال يفر�ض عليه. ومن هنا كان حر�ص هذه اجلهة الدائم على ا�ستمرار حالة
اال�ستثناء العامة لأنها مبثابة فر�ض لقانونهم على اجلميع، وتر�سيخ �رشعنته ال�سيا�سية واملجتمعية. وا�ستدعاء القوميني و�آخرين لعبد النا�رص له دالالت عدة ال تنح�رص فقط يف �إفال�س اخليال ال�سيا�سي .فمنذ الثمانينيات ،هناك �شعور عميق بفقدان الأب وال�سيد الذي ال من الأمان والعزة امل�سلوبة .وقد عبرّ ت عن يج�سد ك ً هذا ال�شعور بدقة �شديدة ،الكثري من الأعمال الأدبية ،لعل �أبرز �أبطالها �أ�سامة �أنور عكا�شة .وهو ما ي�صفه الباحث الأنرثوبولوجي ف�ؤاد احللبوين بـ«نو�ستاجليا و�رسديات احلنني �إىل الأب بعد فرط عقد العائلة وانحاللها». ويجب ربط فقدان ال�سيد يف الداخل ،بفقدان ال�سيادة يف اخلارج .فمنذ «كامب ديفيد» وم�رص منح�رسة متام ًا، �سواء على م�ستوى املنظومة الإقليمية العربية �أو الدور العاملي .ويرتبط هنا �أي�ض ًا بحلم عودة ال�سيد لتقدمي الأمان االجتماعي واالقت�صادي بعدما انهارت قطاعات وا�سعة يف براثن النيوليربالية والف�شل املتالحق للدولة. ال �شك يف � ّأن م�رص يف الآونة الأخرية �شهدت نزوع ًا نحو الفا�شية� ،سواء يف مواجهة «الإخ��وان» �أخ�ير ًا� ،أو �سابق ًا من خالل حماوالت «الإخوان» الفا�شلة لتكوين
عدة حتاول بناء �سيد جديد وخلق حالة مفارقة من رحم احلدث الثوري لبناء �سيادة �إ�سالمية عامة .فتلك التنظيمات ال على �أ�سا�س ب�سيط هو حلول الفكرة والقيمة يف تقوم �أو ً الأن�سجة املجتمعية من خالل خاليا رخوة .وهي بذلك ت�ستبدل التنظيم بالقيمة ،وتحُ دث عملية ت�سييل لها ،بحيث يكون انتقالها �أ�سهل ،ويكون االنت�ساب �إىل الفكرة من خالل �إعالن الوالء لها ومن خالل اعتماد التن�سيق .وعو�ض ًا عن البنية الثقيلة ،والتنظيم ،وحتديد �أدوار وتكليفات ب�شكل هرمي �أو «�شجري» ،يكون التكليف هنا ب�شكل تن�سيقي وت�شاركي .وهذه النوعية من التنظيمات الإ�سالمية هى الأخطر ،وهي كثرية ومتعددة .فداخل الطيف الوا�سع لتيار ال�سلفية اجلهادية حركات تولد ومتوت ،مثل «حركة حازمون» و«اجلبهة ال�سلفية»� ...أما خارج م�رص ،فكل تنويعات تنظيم القاعدة لي�ست خا�ضعة بال�رضورة للتنظيم الرئي�سي يف �أفغان�ستان ،بل قد ال تكون لها �أي عالقة تنظيمية به غري االنتماء �إىل منظومة القيم نف�سها ،والنهج التنفيذي ،والتع�ضيد املتبادل للتحركات امل�شرتكة .وتلك احلركات يف م�رص هي الأقرب �إىل طبيعة الثورة امل�رصية، وقمعها �أو حماولة قمعها ي�ؤدي �إىل انفجارات و�إعادة
التنظيمات الإ�سالمية امل�رصية ذات طبيعة ثورية وراديكاليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة، قيمها م�ستمدة دوم ًا من و�ضع فيه قهر خارجي ،حتاربه وت�ستب�سل يف مقاومتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه. ويتمحور وعد هذا اخلطاب دائم ًا و�أبداً حول الكرامة والعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــزة، ويعمل خطابها بطريقة عك�سية ملظلومية التنظيمات الكربى مثل «الإخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوان» �سلطوية �إ�سالمية .وت�شري كتابات �أرندت �إىل � ّأن �صلب لكن هناك جوهر �آخر ،هو العزة �أو الفا�شية هو الإرهابْ . �أوهام العزة والإح�سا�س بالقدرة� ،سواء متمثلة وجم�سدة يف ال�سيد� ،أو �أهمية اخلنوع والتماهي للتابعني ل�شيوع ال�سيادة لفكرة �أكرث جترد ًا ومتجاوزة عنهم .ويعبرّ هذا النزوع �أخري ًا يف ج�سد ال�سي�سي .فهناك جمموعة من الهو�س تكون حول الرجل ،من الهو�س اجلن�سي �إىل �أحالم ال�سيادة واال�ستقالل؛ لأنه يواجه الواليات املتحدة. لقد حاول «الإخ��وان» بناء ال�سيد من خالل مر�سي و�سمو التنظيم حتى على الدولة .وت�صاحب هذا مع خطاب مماثل للفلول والداخلية واجلي�ش حول هيبة الدولة .وذلك التمجيد و�إعادة بناء هيبة الدولة وتقدي�سها مرة �أخرى كان نابع ًا من حلم وراثة الدولة؛ ل ّأن هذا ال�سيد اجلديد ال بد له من جهاز عمالق ليعبرّ عنه وليدير املجتمع من خالله. وعلى ال�ضفّة الإ�سالمية ،كانت هناك تنظيمات �شبكية 79
بدايات
العدد 2013 |6
ت�شكل خلالياها ب�شكل متوا�صل .ولهذه الت�شكيالت طبيعة ثورية وراديكالية .فقيمها م�ستمدة دوم ًا من و�ضع فيه قهر خارجي ،حتاربه وت�ستب�سل يف مقاومته .ووعد هذا اخلطاب يتمحور دائم ًا و�أبد ًا حول الكرامة والعزة ،وهي �أمور �إيجابية .واحرتام هذه القيم وتوفريها لهذه التنظيمات متدد التطرف وتو�سع تلك الإ�سالمية ينزع من �أيديها فر�ص ّ التنظيمات التي �رسعان ما تت�شنج وجتنح �إىل ا�ستخدام هدد �أو ت�ست�شعر ب�أنه وقت اجلهاد .ويعمل عنف وا�سع حينما ُت َّ خطاب هذه اخلاليا والت�شكيالت بطريقة عك�سية ملظلومية التنظيمات الكربى مثل «الإخوان» .وهي ت�ستدعي حلظة تاريخية حتقق من خاللها �إنتاج العزة يف نفو�س �أتباعها �أو من حتاول ا�ستقطابهم ،وبالتايل فهي تنطلق من املجد ال من الظلم .وتنتج خطاب ًا للمظلومية ولكن يف حيز �آخر هو احليز العاملي ،مربزة �أن هناك ا�ضطهاد ًا للفكرة والقيمة الإ�سالمية على م�ستوى عاملي ال داخلي وال
حملي فح�سب .وبذلك ،تعطي هذه التنظيمات بعد ًا �أكرب و�أعظم لق�ضيتها .ور�أ�سمالها الرمزي قائم على ا�ستدعاء �صور �أ�شخا�ص قاموا بالفعل ب�إرباك املنظومة العاملية، وبع�ضهم كانوا مقاتلني �أ�شاو�س مثل ّ «خطاب» (�سامر بن �صالح بن عبد الله ال�سويلم) يف ال�شي�شان .وقد بد�أ ينمو اجتاه وا�ضح يف م�رص يتباهى ب�صور الزرقاوي و�أ�سامة بن الدن� ،سواء على �صفحاتهم اخلا�صة يف «الفاي�سبوك» �أو حتى ب�شكل ميداين يف التظاهرات التي يح�شد لها هذا التيار .وتثري هذه الت�شكيالت يف النف�س �أمر ًا يف غاية اخلطورة ،هو �إمكانية التحرر واالنعتاق .ولقد عبرّ ت عن هذا التجريد والقيمة العامة حملة «الزم حازم» التي كانت تدعم املر�شح ال�سابق حازم �صالح �أبو �إ�سماعيل يف �سباق الرئا�سة .ف�شعار احلملة «�سنحيا ِكرام ًا» ،كان الأكرث ات�ساق ًا مع مبادئ الثورة و�شعاراتها ،وحاكى وداعب حلم ًا �شعبي ًا ُدفن لعقود طويلة ،وجاءت الثورة لتعبرّ عنه. اجلي�ش و�س�ؤال احللم بني املمكن واملتاح مل��اذا نا�رص اجلي�ش املوجة الرابعة؟ ا ّت�سمت حتليالت ال�سيا�سيني والأكادمييني يف م�رص للجي�ش منذ الثورة بالعمل من خالل م�ستويني :حتليل قيم اجلي�ش ودفاعه عن املمجد للجي�ش .وكثري ًا ما الوطن ،وهو خطاب الوطنية ّ يت�سم هذا اخلطاب برطانة وكلي�شيهات متمثلة يف مقوالت مثل «جي�شنا العظيم� ،أعظم اجليو�ش ،حامي امل�رصيني» وما �إىل ذلك من مقوالت و�أغانٍ .والثاين هو التعامل مع اجلي�ش كحفنة من املرتزقة ال ي�سعون �إال وراء الأموال. ومعب�أين واحلقيقة � ّأن كال امل�ستويني يبدوان يل اختزاليني ّ بااليديولوجيا �أكرث من التحليل والتف�سري. لقد �أراد الع�سكر قطع ر�أ�س امللك فح�سب � -أو الإيهام بذلك -لتهدئة غ�ضب الثورة �أو �إخمادها مبا ي�سمح باحلفاظ على النظام العام وتركيبة ال�سلطة ومنطها ،ما يتيح لهم ال�سيطرة على مقاليد احلكم� ،سواء ب�شكل مبا�رش �أو غري مبا�رش و�إعادة �إنتاج النظام القدمي للحفاظ على مكت�سباتهم االقت�صادية واالجتماعية .ورمبا �ساندوا الثورة فى بدايتها لإعاقة م�رشوع التوريث واحلفاظ على اجلمهورية� .إال � ّأن علينا �أن نت�ساءل :ماذا تعني اجلمهورية للع�سكر؟ الإجابة بب�ساطة هي :ديكتاتورية ع�سكريةّ � .إن هذه الإجابة ال�رسيعة والب�سيطة م�ستمدة من عمق التجربة التاريخية امل�رصية احلديثة .فبداية ن�شوب تلك الفكرة كانت مع �أحمد عرابي .والقراءات اجلديدة للتاريخ تو�ضح �أن الع�سكريني املحيطني بعرابي ،وعرابي �شخ�صي ًا ،كانوا 80
بدايات
العدد 2013 |6
جعلت ال�سلطة ال ترتكز على جهاز الدولة فح�سب، ولكن داخل �شبكات م�صالح على م�ستوى داخلي وعاملي متجاوز للدول �أحيان ًا .وارتبطت االنقالبات الع�سكرية يف اخلم�سينيات وال�ستينيات من القرن املا�ضي باحتالل نخبة ع�سكرية ما للدولة وااللت�صاق بها وبناء ما �سمي ر�أ�سمالية الدولة� .أما الآن ،فالأمر �أكرث تعقيد ًا .فجهاز الدولة ال يزال ال لأق�صى درجة� ،إال �أنه �أ�صبح عقدة يف �شبكة مهم ًا وفعا ً معقدة ومل ي�صبح كل يف ذاته ولذاته .وبهذا ن�ستطيع فهم حر�ص املجل�س الع�سكري على حكومة مثل اجلنزوري التي تر�سخ الدولة القدمية العميقة وحتافظ على نف�س نخب النظام ال�سابق وقياداته ،وبالأخ�ص يف ال�صفني الثاين والثالث .ويف الوقت نف�سه ،ن�ستطيع فهم عدم قفز املجل�س الع�سكري كلي ًا على ال�سلطة يف �شكل انقالب خم�سيني �أو �ستيني .فم�صالح املجل�س الع�سكري مرتبطة بالدولة ومتجاوزة لها يف الوقت نف�سه ،وال يوجد لدى املجل�س م�رشوع �سيا�سي يتطلب تر�ؤّ�سه للدولة مبا�رشة، ولكن توجد م�صالح اقت�صادية واجتماعية تتطلب توغله يف الدولة ووجوده فوقها وخارجها ال على ر�أ�سها .فمثلما تطورت النظم و�أمناط احلكم وحتى �أمناط الثورات ،يجب �أن ن�أخذ يف االعتبار تطور االنقالبات.
يطمحون �إىل �إن�شاء تلك الديكتاتورية ،بل و�أحيان ًا كان الت�صور ي�صل الأمر �إىل احتقار املدنيني .وهذا ال�شكل �أو ّ للنظام كان هو الوحيد القادر على �إعطاء غطاء �رشعي لوجودهم ك�أ�شخا�ص ميكن �أن ي�ستمروا يف احلديث با�سم اجلماهري .ويو�ضع اجلي�ش فوق كل الكيانات ال�سيا�سية واالجتماعية الأخرى التي من املمكن �أن تعبرّ عن الدولة واملجتمع .وكان ذلك ال�سبب الرئي�سي يف تراجع الكثري من النخب املدنية والدينية عن عرابي الذي مل يتورع من �إ�شهار �سيفه يف حاالت اختالف وجهات النظر. والت�صور عند ال�ضباط الأحرار وتكرر نف�س الطموح ّ الذين كان معظمهم ينتمون �إىل تنظيمات فا�شية و�سلطوية �أو كانوا مت�أثرين بها .ومنذ الأيام الأوىل للحركة املباركة ــ انقالب 1952الذي حتول الحق ًا �إىل ثورة ــ دار نقا�ش طويل بني ال�ضباط الأحرار حول اجتاهني :الأول حتقيق ديكتاتورية ع�سكرية ،والثاين �إن�شاء دميقراطية� .إال � ّأن اجلمهورية كانت تعني لهم اخليار الأول .ومن هنا ن�ستطيع فهم هذا القدر من عدم التجان�س واختالف الر�ؤى بني املجل�س الع�سكري واحلركة الثورية يف ال�شارع امل�رصي. حد و�صف فالثورة كانت تريد ا�ستعادة اجلمهورية على ّ د .هبة ر�ؤوف .وتهدف الثورة �إىل بناء جمهورية جديدة على قواعد و�أ�س�س تواكب طموح الثورة و�شبابها ،ولي�س ا�ستعادة اجلمهورية فح�سب .ويدور ال�رصاع احلقيقي حول منط ال�سلطة وجتلياتها يف �شكل املمار�سات املختلفة. فالثوار جممعون على رف�ض �شديد للدولة البولي�سية. وهم مل يقوموا بالثورة لإحالل ت�سلط الداخلية بت�سلط الع�سكر .بل هناك عداء �شديد لنمط ال�سلطة املع�سكرة يف العموم .فالثورة قامت �ضد بنى القمع والقهر املختلفة من ال�سلطة الأبوية �إىل هيمنة الأم��ن على ال�سيا�سة والنواحي االجتماعية املختلفة .وهما خا�صيتان �أ�صيلتان يف تركيبة ال�سلطة املع�سكرة .وامل�رشوع الثوري يتجه نحو تفكيك تلك ال�سلطة ــ يف امل�ساحات املدنية ــ بخطوات مت�سارعة �أحيان ًا ومرتبكة ومتعرثة �أحيان ًا �أخرى .والع�سكر يعتقدون �أنهم من خالل ذلك االنقالب املتداخل مع الثورة ،ميكنهم �إخ�ضاع اجلماهري مرة �أخرى، وبهذا يتفوق االنقالب على احلالة الثورية . ويجب الأخذ يف االعتبار � ّأن االنقالب هنا ال يعني بال�رضورة ا�ستمرارية الع�سكر يف احلكم املبا�رش على ر�أ�س الدولة .فهناك تغريات اجتماعية واقت�صادية و�سيا�سية على امل�ستوى امل�رصي والعاملي يجعل هذا الهدف �أمر ًا ع�سري ًا للغاية .فتطور نظم احلكم و�أمناط االقت�صاد والإنتاج
اجلي�ش بني حلظات اال�ستثناء واال�ستقرار ولكي نفهم التدخل الأخري للجي�ش ،علينا النظر �إليه من خالل م�صاحله االقت�صادية واالجتماعية يف حاالت اال�ستقرار ،ومن خالل الدولة يف حاالت اال�ستثناء مثل الثورة .فاملدخل االقت�صادي وحده عاجز عن تف�سري تدخله الأخ�ير ،بب�ساطة لأن «الإخ��وان» قاموا بتنفيذ وثبتوها كل تطلعات اجلي�ش االجتماعية واالقت�صادية ّ يف الد�ستور ال�سابق رغم �أنف الثوار .ومل يتورع مر�سي عن التهديد باملحاكمات الع�سكرية ،وغ��ازل اجلي�ش يف كل حمفل .بل � ّإن اجلماعة كم�ؤ�س�سة كانت تتعمد ت�شويه الثورة وت�صوير �أبنائها على �أنهم معادون للجي�ش امل�رصي «العظيم» ،ويهددون �سيادة الوطن وي�سعون �إىل �إيقاع الفتنة بني ال�شعب واجلي�ش .واحلقيقة �أنه مل يكن هناك توجه ثوري معا ٍد للجي�ش يف ذاته �أو ل�سيادته ودوره مترد حقيقي على ع�سكرة العام ،بل كان وال يزال هناك ّ املجتمع والدولة وال�سلطة. ويعمل اجلي�ش يف حلظات اال�ستثناء من خالل منطق الدولة واحلفاظ عليها ،حتى لو كان ذلك عك�س م�صاحله �رسع تدخل اجلي�ش هو االقت�صادية واالجتماعية .ومما ّ 81
بدايات
العدد 2013 |6
تهديد الإ�سالم ال�سيا�سي ب�سيناريوات احلرب ،وحتديد ًا احلرب الأهلية ،مثل اجلزائر وال�صومال و�سورية .وقد �أعرب ال�سي�سي عن قيم الو�صاية واحلماية يف خطاباته املختلفة، حد بحيث جاءت ب�صيغة «�إحنا ميبقا�ش لينا الزمه لو �سبنا ّ يهدد ال�شعب امل�رصي» ،و�أي�ض ًا معبرّ ًا عن اخلوف من تفكك ّ الدولة امل�رصية «العظيمة» .ومما زاد من متا�سك اجلي�ش يف الأحداث الأخرية ،املحاوالت امل�ستمرة من قبل الإ�سالميني للرتويج لفكرة �أن اجلي�ش قد انق�سم على نف�سه ،و�أن �أ�سلحة كثرية تدعم مر�سي وال�رشعية املزعومة. ولكي ي�ؤدي اجلي�ش دور ال�سيد ،عليه تقدمي �رضيبة العزة قبل القمع .هو �أمر تكلفته مرتفعة وخارجة عن تطلعات اجلي�ش وارتباطاته العاملية وتبعيته ،فالأمر يحتاج �إىل �أكرث من حماية اجلموع من عدو داخلي. جمرد ت�أدية هذا وال ت�ستطيع فكرة الوطن ب�شكل ّ الدور القمعي والفا�شي �إال بوجود حرب خارجية ،بل وحتقيق قدر من االنت�صار فيها .فما � ّأ�س�س ال�ستبداد عبد النا�رص وديكتاتوريته الع�سكرية مل يكن البط�ش بالإخوان يف ،54ولكن احلرب والن�رص ال�سيا�سي يف � ،1956أم��ام ثالث دول مع تكاتف �شعبي ومقاومة م�سلحة وبا�سلة غري م�سبوقة يف م�رص� .أ�ضف �إىل هذا �إع��ادة توزيع الرثوة وحتقيق �رشائح اجتماعية وا�سعة مكت�سبات اجتماعية واقت�صادية جديدة .هذا مع الأخذ يف االعتبار � ّأن خطاب عبد النا�رص كان قادر ًا على دغدغة حلم اجتماعي وا�سع متمثل يف التحرر الوطني والتخ ّل�ص من اال�ستعمار .كل ذلك و�سط غياب �أي و�سائل للتمثيل ال�شعبي �إال عرب �أحزاب كان قد مت الق�ضاء عليها ،وعرب الدولة ذاتها وكانت قد متت ال�سيطرة عليها� .أما الآن، فنحن يف ع�رص �أتاح �أدوات جديدة للتمثيل والتعبري ال�سيا�سي خارجة عن امل�ؤ�س�سات وعن الدولة يف الوقت نف�سه .فعلى مدار ثالث �سنوات ،مل يخفت �صوت الثورة �س، وممار�ستها ووجودها ،على الرغم من �أن الدولة مل تمُ ّ ولي�س ثمة تنظيم �أو حزب جامع لها. �أحالم قدمية ميكن بحث العملية االنتخابية من خالل منهجية ّ مركبة حيث ال تنظر للفاعلني ال�سيا�سيني وقدراتهم على احل�شد التعمق يف درجات والتعبئة فح�سب ،بل حتاول �أي�ض ًا ّ الوعي لدى الناخب وما يقدم له من وعود �سيا�سية ومدى تالقيها مع احللم االجتماعي لدى قطاعات وا�سعة من اجلماهري؛ ل ّأن النظر يف درجات احللم االجتماعي
والتخيل ال�سيا�سي قد يعطي �صورة �أعمق عن �إمكانية ّ التغيري اجلذري يف املجتمع .حيث ي�ؤكد ماركوزة� ،أحد رواد مدر�سة فرانكفورتّ � ،أن تغيرّ الواقع فقط ال يكفي؛ خميالتنا� ،رسعان ما حيث �إنه ما مل تتغري الأحالم يف ّ حتدث ردة لي�ست فقط للواقع اجلديد ،ولكن للواقع الذي قد مت تغريه �أي�ض ًا. الوعي اجلماهريي والعملية االنتخابية �أثارت م�س�ألة الوعي اجلماهريي ودورها يف العملية ال كبري ًا لدى الباحثني وال�سيا�سيني ،الأمر االنتخابية ،جد ً الذي دعا البع�ض �إىل ت�سفيه اجلماهري �رصاحة واتهامها باجلهل .ذلك لأن العمليات االنتخابية ال�سابقة املتمثلة يف انتخابات 2005و ،2010كانت كارثية بكل املقايي�س؛ �إذ ا ّت�سمت ب�رشاء الأ�صوات والنزاعات التي حد �سفك الدماء وو�صول �سفهاء ــ على حد و�صلت �إىل ّ قول كثريين ــ �إىل �أهم م�ؤ�س�سة ت�رشيعية يف م�رص. �إال �أن التعجل يف مثل هذه االتهامات يحمل الكثري من املغالطة والتعجرف على وعي قطاعات كثرية من النا�س .من هنا �س�أحاول حتليل بع�ض النقاط يف العمليتني االنتخابيتني ال�سابقتني اللتني قمت بتغطيتهما ومراقبتهما. و�س�ؤال البحث املحوري هنا :ما هو احللم االجتماعي والوعد ال�سيا�سي يف العمليتني ال�سابقتني؟ من متابعة كل منهما ،ميكن القول �إن احللم االجتماعي متحور ب�شكل رئي�سي حول نقطتني :الأوىل هي ت�أمني وظيفة عمل ،والثانية هي اخلدمات العامة للمنطقة ،التي من املفرت�ض �أن تقوم بها الدولة ولي�س جمل�س ال�شعب. � ّإن غياب دور الدولة يف التوظيف واملحور االقت�صادي وتوح�ش �سيا�سات اخل�صخ�صة خ�صو�ص ًا ،قاما عموم ًا، ّ بتحويل جذري يف العملية االنتخابية ،حيث متحور حلم قطاعات وا�سعة من املجتمع من الطبقات املعدمة وغري املعدمة حول ت�أمني وظيفة عمل .فالأهايل – من خمتلف حتملوا معاناة كبرية يف تعليم �أبنائهم، الطبقات -الذين ّ ال من العملية التعليمية �أ�صبحوا �أمام عبء �آخر �أكرث ثق ً ذاتها ،وهو توظيف هذه الأعداد الهائلة من املتخرجني. ولقد تخ ّلت الدولة عن هذا الدور ب�شكل كامل تقريب ًا مع اكتمال م�رشوع اخل�صخ�صة وتب ّني ال�سيا�سات النيوليربالية مع حلول الألفية .و�صارت عملية التوظيف يف �أيدي رجال الأعمال �إما ب�شكل مبا�رش من طريق التعيني يف ما ميلكون من م�ؤ�س�سات و�رشكات اقت�صادية� ،أو من خالل الو�ساطة يف �رشكات �أجنبية وم�ؤ�س�سات دولية تربطهم بها �شبكة 82
بدايات
201320 ربيع 13 |5 العدد 6
الدولة وتنظيمها ،وامتالكهم بنية حتتية موازية .بهذا ،ت�ستطيع اجلماعة مناورة احلزب الوطني حيث ال يتفاعل كالهما ك�أحزاب �أو حركات ،ولكن كدول مع فارق الإمكانات وتفوق كل منهم على الآخر يف مواقع خمتلفة. والقدرات ّ
عالقات وا�سعة من امل�صالح االقت�صادية واالجتماعية. ولقد �ضم احلزب الوطني �أغلب رجال الأعمال يف م�رص. �أ�ضف �إىل هذا هيمنته الكاملة على النظام العام ،حيث كان ميثل النظام ال�سيا�سي واالقت�صادي والدولة مع ًا. ال ،حر�ص مر�شحي من هنا ،ن�ستطيع فهم �أمرين� :أو ً «الوطني» من رجال الأعمال على الو�صول �إىل الربملان ل�ضمان ا�ستمرار م�صاحلهم االقت�صادية من خالل احتالل البنية الت�رشيعية يف الدولة .ثانياً ،جناح �أغلب ه�ؤالء املر�شحني ودعمهم من قطاعات جماهريية وا�سعة .فلقد مت اختزال اجلانب االقت�صادي يف رجال الأعمال ،ومت اختزال الدولة يف احلزب الوطني .فهذا التماهي بني النظام ال�سيا�سي والدولة واحلزب الوطني جعلنا �أمام الدولة متج�سدة يف كيان واحد يحظى َمن يف داخلها ببع�ض ما ميكن �أن تقدمه له الدولة من خدمات ،بينما الذي يبقى ّ يظل خارج العملية بالكامل ،وعليه البحث خارجها، يف منافذ �أخرى ال عالقة لها بالدولة .ومن هنا حدث تزاوج بني احللم االجتماعي والوعد ال�سيا�سي .واحلقيقة � ّأن الوعود املقدمة من مر�شحي احلزب الوطني املنحل مل تكن متثل وعود مر�شحني �سيا�سيني على الإطالق ،بل كانت وعود دولة .ومن هنا ن�ستطيع �أي�ض ًا فهم �صعوبة مناف�سة �أحزاب �أخرى للحزب الوطني با�ستثناء «الإخوان عدة: امل�سلمني» ،لأ�سباب ّ
وبهذا يت�ضح �أن وعي الناخب �أكرث عمق ًا وتركيب ًا من وعي ال�سيا�سيني والكثري من الباحثني .فهو يعلم علم اليقني � ّأن االنتخابات ال عالقة لها بالت�رشيع ،و� ّأن احلزب الوطني يك�سبها �إما من طريق متثيل دور الدولة �أو من خالل التزوير .وبالتايل كان الناخب يحاول اخلروج ب�أكرب املكا�سب املمكنة .ولذلك كان جناح كثري من �أع�ضاء احلزب الوطني يف الإ�سكندرية مثل طارق طلعت م�صطفى �صاحب �رشكات املقاوالت ورجل الأعمال ال�شهري وحممد م�صليحي ،م�س�ألة �شبه م�ضمونة على الرغم من ال�شوائب والف�ساد الذي ميكن �أن يتهمهما به الكثريون� .أ�ضف �إىل حر�ص االثنني حتديد ًا على تقدمي خدمات عامة يف كثري من الأوقات وتوظيف الكثريين ال ،لدى م�صليحي �أكرث من يف �رشكاتهم اخلا�صة .فمث ً توكيل مالحي ،وهو متوغّ ل داخل عمليات اال�سترياد والت�صدير ،وهما م�صدر رزق لكثريين يف مدينة �ساحلية فيها �أكرب ميناء م�رصي� .أ�ضف �إىل �سيطرته على نادي االحتاد ال�سكندري ،وهو النادي الرئي�سي يف املحافظة قدم الكثري وذو جماهريية وا�سعة .ويف حقيقة الأمر �أنه ّ من اخلدمات وقام بتطوير ن�سبي يف فرتته للنادي� .أمر ما كان يدفع الكثري من م�شجعي النادي �إىل دعمه مع الأخذ يف االعتبار � ّأن النادي يقع جغرافي ًا يف دائرته االنتخابية. متتد وكذلك بالن�سبة �إىل طارق طلعت م�صطفى ،حيث ّ م�شاريع عائلته و�رشكاتهم بطول كورني�ش الإ�سكندرية وعر�ضه .وبالتايل انح�رست العملية االنتخابية يف هذا النطاق املمتد بني احللم االجتماعي والوعد ال�سيا�سي.
ال :تغلغلهم داخل البنية االجتماعية وح�ضورهم �أو ً الدائم مع اجلماهري من خالل م�ؤ�س�ساتهم املمتدة من التعليم �إىل ال�صحة وب�ساطة الأفكار وقدرتهم على فهم الواقع اليومي املعي�ش للجماهري. ثاني ًا :خطابهم املمزوج بني الديني واخلدماتي. ثالث ًا� :شبكة امل�صالح االقت�صادية القادرة على منح خدمات للمواطن ب�شكل يومي. رابع ًا :قدرتهم على الوفاء بالوعد ال�سيا�سي �إىل اجلماهري قبل الو�صول �إىل �سدة احلكم ،ثم الف�شل الذريع يف الوفاء بتلك الوعود. خام�س ًا :ثقة قطاعات وا�سعة من اجلماهري يف هذه اخلدمات؛ حيث ال تنقطع بعد االنتخابات وال ترتبط ال ،امل�ؤ�س�سات باملك�سب �أو اخل�سارة ال�سيا�سية .فمث ً الطبية املختلفة التابعة للإخوان امل�سلمني املوجودة يف الإ�سكندرية ،ال تتوقف عن تقدمي خدماتها ،بل ت ّت�سم يف كثري من الأحيان باجلودة. �ساد�س ًا :ت�شابه بنية تنظيم اجلماعة وحماكاته لفكرة
ماذا عن احللم االجتماعي والوعد ال�سيا�سي بعد الثورة؟ التمخ�ض الدائم للو�ضع العام ي�صعب القيا�س يف ظل ّ يف م�رص ،والذي مل ي�سفر عن �شيء حقيقي حتى الآن، حيث ال تزال العملية الثورية يف تفاعل م�ستمر� .إال �أنه تلم�س ب�ضعة �أمور حول مو�ضوع البحث وتفاعله مع ميكن ّ درجات وعي اجلماهري. تعك�س انتخابات ،2012التي و�صفها الكثريون بـ «برملان الثورة» ،تغيرّ ات مهمة ،ولكنها لي�ست جذرية .لي�ست جذرية لأنها مل تعك�س �أي تغري حقيقي يف �أمناط التفاعل 83
بدايات
العدد 2013 |6
ال�سيا�سي وال يف الوعود ال�سيا�سية وال حتى يف احللم االجتماعي العام كما �س�أو�ضح يف هذا اجلزء من البحث. وبالتايل نعت هذا الربملان بـ«برملان الثورة» يعترب مقولة مع ّلبة وكلي�شيه كبري ًا وغري دقيق من الناحية الأكادميية. ال لفراغ احلزب يف املقابل ،تعترب هذه االنتخابات ا�ستكما ً ال مع البنية القدمية. الوطني وتوا�ص ً فاملالحظات العامة التي �أوردها الكثري من املتابعني واملرا�سلني – وكما ر�أينا على الهواء مبا�رشة -والتي تفيد ب� ّأن العملية متت من دون نزاعات دموية وبال تزوير وال انتهاكات من النوع الذي يلزم ببطالن العملية االنتخابية .ال �شك � ّأن هذا كله يعترب �أمر ًا �إيجابي ًا للغاية على الرغم من وجود بع�ض االنتهاكات التي تتمثل معظمها يف الدعاية االنتخابية يوم االقرتاع من قبل عموما ،وبع�ض مر�شحي التيار اال�سالمي و�أن�صاره ً املناو�شات وامل�شادات بينهم وبني بع�ض النا�شطني ال�سيا�سيني .والالفت لالنتباه هو غياب � ّأي عملية من عمليات البلطجة التي ا ّت�سمت بهما انتخابات 2005 ينم عن � ّأن هذه العمليات ممنهجة و .2010وهو ما ّ ولي�ست ع�شوائية ،و�أنها �أي�ض ًا مرتبطة ب�شكل وثيق برغبة ال�سلطة احلاكمة ،ال بقدرتها .ما يعني وجود تن�سيق بينها وبني بع�ض امل�ؤ�س�سات الأمنية مثل ال�رشطة وجهاز �أمن الدولة املنحل التي �أوردت كثري من التقارير عالقتهم بالبلطجية وجتنيدهم �إياهم� .أي �أن الأمر يتعلق بب�ساطة برغبة ال�سلطة املتحكمة يف مثل هذه امل�ؤ�س�سات. وع ّلق الكثريون بفرحة عارمة �إزاء ن�سبة امل�شاركة يف االنتخابات ،ما دفعهم �إىل حتليل هذا الأمر على اعتبار � ّأن اجلماهري �صارت �أكرث �إيجابية وفاعلية ،و�أنها بد�أت مت�سك بزمام الأمور ،و�أنها تتطلع لبناء م�ستقبل م�رص بعد الثورة. �إال � ّأن هذا الأمر قد ال يكون مبثل هذه الدقة؛ �إذ انخف�ضت ن�سبة امل�شاركة يف جولة الإعادة ب�شكل كبري ،بالأخ�ص بعد ت�رصيحات بع�ض امل�س�ؤولني عن عدم حتقيق الغرامة االنتخابية التي كانت 500جنيه م�رصي مقابل امتناع الفرد عن الإدالء ب�صوته. جاءت نتائج االنتخابات يف الإ�سكندرية بتفوق حزب العدالة واحلرية املمثل جلماعة الإخوان امل�سلمني، يتبعه حزب النور املمثل للدعوة ال�سلفية ،ثم ن�سب �ضئيلة من «الكتلة امل�رصية» و«قائمة الثورة م�ستمرة» التي �سمحت بها العملية االنتخابية من خالل القوائم الن�سبية. التفوق امللحوظ للحرية والعدالة يف مناف�سات ويالحظ ّ تفوقت قوائم «احلرية والعدالة» على امل�ستقلني .وقد ّ
اجلميع ،وخ�صو�ص ًا مر�شحي حزب النور با�ستثناء دائرة العجمي والعامرية البعيدة عن مركز املدينة .وهذا يعك�س تفوق «الإخوان» يف مراكز املدينة يف مقابل هوام�شها. ّ ويرجع هذا �إىل الفارق يف البنية التنظيمية لكل منهما. فجماعة الإخوان �إذا ح�رضت يف مكان ما ،فهي حت�رض ب�شكل اجلماعة والتنظيم املحكم� .أما الدعوة ال�سلفية، فب�إمكانها احل�ضور من خالل �أفراد و�أفكار وت�شكيالت خفيفة ال ت�ستتبع وجود تنظيم حمكم يف منطقة جغرافية معينة .من هذا املنطلق ،ميلك بع�ض �شيوخ ال�سلفية ح�ضور ًا ومكانة اجتماعية فريدة من نوعها يف تلك املنطقة .هذا بالإ�ضافة �إىل بع�ض التفا�صيل اال�سرتاتيجية يف هذه الدائرة بالتحديد ،حيث كان نهج ال�سلفيني �أكرث ا�ستيعاب ًا للقبلية املوجودة يف تلك املنطقة ،وتوا�صلهم مع كربى القبائل و�إر�ضا�ؤهم يح�صل من خالل الإقناع والتوا�صل ال من املناف�سة وفر�ض �أمر املر�شحني عليهم. ال�سيا�سي بد ً ومن املالحظ �أي�ض ًا خ�سارة ال�شباب يف مواقع كثرية يف مناف�سات امل�ستقلني .وكان من املبهر هزمية جميع فلول احلزب الوطني؛ �إذ مل يتمكن � ّأي منهم ،ال من خالل القوائم �أو مناف�سات امل�ستقلني ،من الو�صول �إىل الربملان. و�س�أقوم بتحليل هذه النتائج وتقدمي تف�سري لها من خالل املنهجية التي طرحتها يف �أول البحث. هل نحن امام انقالب جذري؟ ال تعترب خ�سارة الفلول بهذا ال�شكل العنيف ،وتفوق التيار الإ�سالمي ،انقالب ًا جذري ًا يف جوهر العملية االنتخابية، ملئا لفراغ البنية القدمية بثنائيتها نف�سها� :إما الفلول و�إمنا ً و�إما الإ�سالميون.
اال�سرتاتيجية خلو�ض هذه املعركة وما تتطلبه من �أدوات ور�أ�س مال �ضخم ال متلكه معظم القوى الثورية .ور�أى البع�ض الآخر �أهمية وجود القوى الثورية يف الربملان لتمثيل تطلعات الثورة ،و�أنه على الرغم من غياب ر�أ�س املال ،فال�شارع �سيدعم ال�شباب والثورة يف مواجهة القوى القدمية� .إال � ّأن بع�ض الذين �أعلنوا نيتهم للرت�شح مثل ح�سن م�صطفى وحممد �صفوان (وهما من �أبرز النا�شطني ال�سيا�سيني يف الإ�سكندرية) مل يقوموا بالإعداد الالزم لهذه املعركة .ولقد انغم�ست �أغلب القوى الثورية يف فعاليات وحتركات جماهريية وميدانية ثورية ا�ستنزفت كل قواها ال�سيا�سية الالزمة خلو�ض املعركة االنتخابية ،وخ�صو�ص ًا يف �أحداث حممد حممود يف التحرير ،ومديرية الأمن يف الإ�سكندرية .ومل يقم املر�شحون الثوريون بالتخطيط اال�سرتاتيجي املطلوب من دعاية وتوا�صل جماهريي واالنخراط ال�رضوري يف دوائرهم بو�ضع برامج و�أفكار وا�ضحة .حتى �إنه ميكننا القول � ّإن الوعد واحللم ال�سيا�سي لدى هذه القوى الثورية مل يكن بالو�ضوح الكايف الذي يدفع الناخب �إىل ترك مر�شح «احلرية والعدالة» �أو «النور» اللذين مت اختبارهما يف متطلبات احلياة اليومية العادية حللم يدعو لآفاق التغيري الثوري الراديكايل يف امل�ستقبل. من هنا ف�شل الثوار يف ت�صوير حلمهم الثوري للناخب ،وجنح الإ�سالميون يف ت�صوير حلمهم الإ�صالحي من خالل التوا�صل وت�أكيد قدراتهم يف تنفيذه .حتى مل�صقات «النور» و«العدالة واحلرية» متكنت من �إي�صال الوعد .يف املقابل ،مل يكن هناك مل�صق ثوري معبرّ عن حلم ما .و�إذا قمنا بتحليل ال�صورتني الأبرز ،وهما �صورة حزب احلرية والعدالة املتمثلة يف طفل نظيف يبدو عليه الرخاء والإ�رشاق وهو جال�س داخل مدر�سة حديثة على طاولة جمهزة ويف ف�صل ف�سيح من جهة ،و�صورة «قائمة الثورة م�ستمرة» التي ات�سمت بلون غامق ويف اخللفية جماهري ثائرة من جهة ثانية� ،سنجد �أن الثوار مل ي�ستوعبوا الفارق بني الثورة وال�سيا�سة .فالثورة تعنى مبفردات املعركة والن�ضال والت�ضحية واال�شتباك� .أما ال�سيا�سة ،فهي تعنى بالوعود التي تفر�ضها معطيات القوة والقدرة على التنفيذ املبا�رش وتتزامن مع االحتياجات العامة للمواطن� .أ�ضف � ّأن مفردات اخلطاب بني الفريق الثوري والإ�سالمي كانت ال مهم ًا يف الو�صول �إىل مداعبة احللم االجتماعي .ففي عام ً الوقت الذي �أ�صيب فيه الكثريون بهو�س الأمن واال�ستقرار، تخاطبهم القوى الثورية يف معركتها االنتخابية عن �رضورة ا�ستكمال الكفاح الثوري .ومن هنا ،لعب كل من اخلطاب
من الد�ستور .وعلى الرغم من � ّأن اجلدل حول هذه املادة يبدو م�صطنع ًا ــ حيث � ّإن اجلميع مبن فيهم مر�شحو الكتلة امل�رصية � ّأكدوا عدم امل�سا�س بها ــ �إال �أنه كان م�ؤثر ًا �إىل درجة كبرية يف ح�شد كتل جماهريية كبرية وتعبئتها للت�صويت للإ�سالميني. ثاني ًا :لقد �ش ّنت القوى الثورية والإ�سالمية عموم ًا هجوم ًا �رش�س ًا على بقايا احلزب الوطني يف الإ�سكندرية، حد حمالت متزيق للوح ومل�صقات طارق و�صل �إىل ّ طلعت م�صطفى من قبل بع�ض احلركات الثورية. ثالث ًا :النقطة الأهم هي غياب دور الدولة يف م�ساندة ف�صيل على الآخر وتفكك احلزب الوطني .فالدولة غائبة حتى الآن ،ثم � ّإن احلزب هو �أي�ض ًا غري موجود ،والفلول يتعر�ضون حلرب �رضو�س ،وال يوجد مر�شحون� أقوياء ّ ال: عدة� .أو ً من احلزب ،ومن هنا �أدرك الناخب عنا�رص ّ القوى الإ�سالمية �ستحافظ على هوية الدولة من خالل الت�رشيعات القانونية والد�ستورية – الهاج�س الأكرب منذ خلع مبارك .ثاني ًا :قدمت هذه القوى الإ�سالمية خطاب ًا ثالثي الأبعاد قادر ًا على خماطبة احللم االجتماعي لدى الناخبني املتمثل يف -1 :اخلدمات -2الوعد بتوفري وظائف -3الأمن الذي �أ�صبح حاجة ملحة �أخري َا بالأخ�ص مع الت�ضخيم الإعالمي لتلك الأزمة .ولقد اخ ُتربت هذه القوى يف تلبية حلمني على الأقل من الثالثة .ففي �أثناء �أيام املوجة الأوىل من الثورة ،قام ال�سلفيون والإخوان امل�سلمون بدور بارز يف ت�أمني الأحياء املتجذّرين فيها وبع�ض املن�ش�آت .وقاموا �أي�ض ًا بتوفري ال�سلع و�ضبط �أ�سعار اللحوم واخل�رضوات يف املدينة من طريق �شبكة عالقاتهم املمتدة بالريف واملناطق الزراعية القريبة من الإ�سكندرية. وواجهوا حماوالت بع�ض التجار يف ا�ستغالل املوقف، ور�سخ من وجودهم االجتماعي. ب�شكل ّ دعم ّ
ال :مل يرت�شح � ٌّأي من املر�شحني الأقوياء لدى احلزب �أو ً الوطني با�ستثناء طارق طلعت م�صطفى الذي خا�ض معركة �رش�سة مع اخل�ضريي ،مر�شح الإخوان امل�سلمني .لقد كانت هناك �أ�سباب عدة �أخرى �أدت �إىل تفوق التيار تفوق اخل�ضريي يف الإع��ادة بفارق ب�سيط (ت�سعة الإ�سالمي الإ�صالحي على بع�ض القوى الثورية املتمثلة يف وقد ّ الآف �صوت فقط) ،بعدما كانت النتائج واال�ستطالعات قائمة «الثورة م�ستمرة» وبع�ض امل�ستقلنيّ � .إن تر ّدد القوى الأولية ت�شري �إىل تفوق ن�سبي لطارق طلعت م�صطفى .الثورية يف خو�ض االنتخابات من عدمه ،هو �أول العوامل ينم عن � ّأن قطاعات كبرية مل تتغري لديها التوجهات و�أهمها .لقد دار نقا�ش مو�سع بني كثري من القوى ال�شبابية وهذا ّ الرئي�سية احلاكمة للعملية االنتخابية� .أ�ضف �إىل ذلك � ّأن حتديد ًا حول جدوى خو�ض االنتخابات ،ور�أى البع�ض � ّأن النهج املت�أ�سلم الذي يتبعه طارق طلعت م�صطفى جعله هذه املعركة لي�ست معركتهم الآن ،و� ّأن االنخراط يف العمل ال يختلف كثري ًا من الناحية العاطفية وال الت�رشيعية عند ال�سيا�سي �سي�ؤثر كثري ًا على دورهم الثوري ،و� ّأن املعركة الكثريين؛ فاجلانب الت�رشيعي يف هذه العملية االنتخابية الثورية مل ت�ستكمل بعد ،و� ّأن االنتخابات مبثابة ا�ستنزاف مت ّثل لدى قطاعات كبرية يف احلفاظ على املادة الثانية لقواهم الثورية ،بالإ�ضافة �إىل عدم ا�ستعدادهم من الناحية 84
بدايات
العدد 2013 |6
85
بدايات
العدد 2013 |6
وال�صورة على �أوتار خمتلفة لدى الناخب جعل كثريين �أقرب �إىل القوى املختربة �سابق ًا يف مفردات ال�سيا�سة، وجعل دعمهم لل�شباب يف ميدان املعركة الثورية الذين مت اختبارهم فيه وجنحوا .و�أتذكر تعليق �أحد الناخبني يل ال � ّإن الثوار �أثبتوا �أنهم الأجدر يف ميدان على الأحداث قائ ً املعركة الثورية ال املعركة ال�سيا�سية .ويجب الت�أكيد � ّأن �أحد �أهم الفوارق بني حزبي النور واحلرية والعدالة والقوى الثورية يف املعركة االنتخابية يف الإ�سكندرية ،هو غياب العمل املمنهج والد�ؤوب واملعد ا�سرتاتيجي ًا ب�شكل جيد عند الأخري يف العملية االنتخابية. يف الأخري ،ي ّت�ضح �أن العملية االنتخابية مل تتغري ب�شكل جذري .وقد �أو�ضح املقال �أعاله عدم تغري احللم االجتماعي وال حتى تغري الوعد ال�سيا�سي املقدم للجماهري .ومل يقم �أحد من خالل العملية االنتخابية مبحاولة تغيري للحلم االجتماعي .ومل تتغري قنوات و�أمناط التفاعل ال�سيا�سي بني ا�ستمرت ا�سرتاتيجيات و�أدوات الناخبني واملر�شحني .ولقد ّ احل�شد والتعبئة نف�سها ،با�ستثناء �رشاء الأ�صوات – �إال يف ما ندر -هي املهيمنة على العملية االنتخابية. من هنا ،ف�� ّإن الإ�شكالية الرئي�سية التي يتمحور حولها ف�شل الثوريني يف الو�صول �إىل الربملان يف الإ�سكندرية ،هي قدرتهم على التعاطي وتغيري احللم ال�سيا�سي والتق�صري يف التخطيط والإعداد .وهو �أي�ض ًا ما يعك�س عجز الثورة عموم ًا عن التج ّذر العميق يف املجتمع من خالل �أمناط وممار�سات �أخرى غري العمل الثوري املبا�رش الذي يتعار�ض �أحيان ًا كثرية مع �إيقاع احلياة اليومية للمواطن. على كل حال ،يف�صح 30يونيو عن �رصاع الأحالم ال�سيا�سية املتناحرة يف م�رص .ولكي ينجح حلم منهم يف ت�سيد امل�شهد ،عليه خلق بنية حتتية ت�سمح له ذلك ،بل ّ عليه توفري وا�ستغالل �رشوط مو�ضوعية وذاتية للتحقق. �إال � ّأن الثورة غيرّ ت وخلقت جمتمع ًا جديد ًا ب�أحالم خمتلفة ويطمح �إىل وعود �سيا�سية جديدة وخيال �سيا�سي مفارق للما�ضي ،وهو ما ينذر ب� ّأن االنتخابات لي�ست مقيا�س ًا حتدثنا �صاحل ًا للقيا�س على احلالة العامة يف م�رص� .إذا ما ّ أعم ،فلن على م�ستوى ال�سيا�سة وال�سلطة ب�شكل �أو�سع و� ّ تنجح الوعود ال�سيا�سية القدمية يف اال�ستمرار وال�سيطرة؛ قادرا على التفاعل مع الواقع ل ّأن خيالها ال�سيا�سي مل يعد ً و�إر�ضاء قطاعات وا�سعة .وال �أظن �أنه �سيكون من ال�سهل �أن ي�ستبدل احلزب الوطني مرة �أخرى موقعه الذي فقده الإخوان بعد �سقوطهم الأخري.
ال على �أهم للإجابة عن هذا ال�س�ؤال ينبغي الوقوف �أو ً مقومات الفا�شية رجوع ًا لتجاربها يف فرتة ما بني احلربني يف �أوروبا .ميكن القول �إن الفا�شية كانت حركة تلتم�س �أدوات التعبئة واحل�شد والتنظيم اال�شرتاكي ل�رضب اال�شرتاكية نف�سها والق�ضاء على احلركة العمالية ،لذا فلي�س من قبيل املبالغة القول ب�أن الفا�شية هي ثورة �ضد الثورة، هي ثورة حمافظة �إن جاز التعبري بالتما�س املجموعات والطبقات املعادية للدميقراطية ولال�شرتاكية لأدوات الثورة لإجها�ض ما تراه ثورة اجتماعية حمتملة �أو قيد التحقق� .أما الهدف الثاين للحركة الفا�شية ،فكان تقوي�ض �أ�س�س النظام ال�سيا�سي الربملاين ،واال�ستيالء على �أدوات الدولة القمعية من �رشطة وجي�ش وق�ضاء ،وعلى موارد الدولة للت�أ�سي�س لنظام �سيا�سي ي�صادر ال�سيا�سة وي�شيع الإرهاب ويتم مهمة �سحق احلركة ال�شعبية الدميقراطية� .إن اخلال�صة هي � ّأن جوهر الفا�شية هو حركة حمافظة اختارت الثورية �أدا ًة لتق�ضي على الثورة ذاتها.
جمهضة وأخرى حمتملة بني فاشية َ عمرو عاديل باحث يف االقتصاد السيايس جامعة ستانفورد.
آخر مؤلفاته:
«األصول السياسية للتنمية»)٢٠١٣( .
يدفع هذا املقال ب� ّأن ثمة �شواهد عدة ت�شري �إىل � ّأن النظام ال�سيا�سي الذي �سعى الإخوان امل�سلمون �إىل �إن�شائه يف غ�ضون ال�سنة املا�ضية يحمل بالفعل بع�ض مالمح النظم الفا�شية ،وهو بالقطع نظام �سلطوي ،و� ّأن احلراك ال�شعبي من جهة ،وحترك �أجهزة الدولة ،وخا�صة �أدوات القمع من �رشطة وجي�ش يف مواجهته من جهة �أخرى ،قد �أجه�ض حماولة تثبيت دعائم هذا النظام الذي كان منتظر ًا �أن يهيمن عليه الإخوان امل�سلمون .بيد � ّأن هذا احلراك لي�س بال�رضورة دميقراطي ًا �أو معادي ًا لل�سلطوية بقدر ما �أنه �أتى ليعك�س خماوف قطاعات جماهريية وا�سعة يف املجتمع امل�رصي، و�أخرى داخل جهاز الدولة من �إن�شاء �سلطوية جديدة (مبالمح فا�شية دينية) حتت �سيطرة جماعة الإخوان ،وهو ما يعني �أنه قد تكون هناك قابلية لدى هذه القواعد ذاتها لتقبل نظام �سلطوي �أو دميقراطي خا�ضع للو�صاية الع�سكرية يف امل�ستقبل .ويف الوقت ذاته ،يرى املقال � ّأن امتداد ال�رصاع احل��ايل بني قوى الثالثني من يونيو وجماعة الإخ��وان واحتماالت حتوله �إىل �أ�شكال �صدام �أ�شد عنف ًا يحمل يف طياته خماطر ظهور حركة ذات مالمح فا�شية وطنية هذه املرة ،والت�أ�سي�س لنظام �سلطوي جديد بهذه املالمح بالفعل، ومن ثم بالإمكان تو�صيف امل�شهد امل�رصي يف جانب منه على الأقل ب�أنه فا�شية جمه�ضة وفا�شية حمتملة. ما جدوى ا�ستدعاء الفا�شية للم�شهد ال�سيا�سي احلايل؟ �إن الفا�شية جتربة �سيا�سية خا�ضها عدد من بلدان �أوروبا يف فرتة ما بني احلربني العامليتني ،ومن هنا فالفا�شية هي �أيديولوجية من ناحية ،وجتربة تاريخية حلركة �سيا�سية قدر خوان ونظم �سيا�سية �أ�س�ستها تلك احلركات .وكما ّ لينز ،ف�إن �إيطاليا واحلركة الفا�شية فيها ،متثل النموذج �أو املثال الذي تقا�س عليه التجارب الالحقة عليه ،ل ّأن
86
بدايات
العدد 2013 |6
�إيطاليا هي مهد احلركة الفا�شية كحركة �سيا�سية واعية بذاتها ،وهي �أول البلدان التي ت�أ�س�س فيها نظام فا�شي. يرى لينز يف درا�سته للظاهرة الفا�شية � ّأن التجربة هذه تنتمي قلب ًا وقالب ًا �إىل حقبتها ال�سابقة على احلرب العاملية الثانية ،التي �شهدت الهزمية املادية والأيديولوجية للفا�شية ،و� ّأن الفا�شية كنظام �سيا�سي يقوم على العداء للدميقراطية واال�شرتاكية (واحلركة العمالية خا�صة) وعلى �صياغات قومية �أو دينية مت�شددة ال ميكن خلطه مع �أ�شكال ال�سلطويات املتعددة واملتنوعة ،ل ّأن الفا�شية ظاهرة نادرة ن�سبي ًا ،لأنها مرتبطة بال�شمولية (التوتاليتارية) .وهذه بدورها بنت حقبة تاريخية معينة نحن اليوم �أبعد ما نكون عنها� ،سواء من حيث الهيمنة الأيديولوجية ملفردات الليربالية من الدميقراطية التمثيلية وحقوق الإن�سان� ،أو من ال�سياق االقت�صادي وال�سيا�سي العاملي الذي مل يعد ممكن ًا فيه ظهور دولة �شمولية (با�ستثناء جتارب متحفية ككوريا ال�شمالية) .ورغم هذا ،فالفا�شية عند لينز ظاهرة مهمة على امل�ستوى ال�سيا�سي ،وت�ستحق الدرا�سة حتى يف �سياق ما بعد احلرب العاملية الثانية وما بعد احلرب الباردة ،والأمر مالمح الفا�شية التي قد توجد هنا راجع �إىل ما ي�سميه لينز َ يف بع�ض النظم رغم عدم اكتمال باقي العنا�رص التي ميكن بها و�صف نظام �سيا�سي ما بالفا�شية .ويقدم خوان لينز هنا ت�شبيها مثري ًا ،فيقول �إن وجود تيجان الأعمدة الرومانية يف الكنائ�س وامل�ساجد ال يعني � ّأن هناك معابد رومانية، بل ي�شري فح�سب �إىل وجود مالمح ملعابد رومانية يف �أبنية خمتلفة عنها متام االختالف ،لذا فقد يوجد نظام �سيا�سي يحمل مالمح الفا�شية وال يكون فا�شي ًا بالكامل .ولعل هذه النقطة هي املدخل الذي يحملنا �إىل ا�ستخدام املفهوم وامل�صطلح لتو�صيف جتربة الإخوان امل�سلمني الق�صرية يف م�رص .هل حمل نظامهم ال�سيا�سي املزمع مالمح فا�شية؟
هل نظام الإخوان م�رشوع فا�شي جمه�ض؟ ال �شك يف �أن الإخ��وان امل�سلمني ــ وهم �أكرب تنظيم �سيا�سي مدين يف م�رص بعد ثورة يناير ٢٠١١ــ مل ي�سعوا �إىل تكوين حتالف دميقراطي بعد �إطاحة مبارك، ي�ضم القوى املجتمعية وال�سيا�سية التي �شاركت يف الثورة ،وهي قوى رغبت يف موا�صلة الن�ضال لتفكيك الدولة الأمنية والبنية ال�سلطوية املوروثة من دولة يوليو. بل ميكن القول �إن ا�سرتاتيجية الإخوان يف الت�أ�سي�س لنظام �سيا�سي يهيمنون عليه على املدى البعيد كانت تقف على قدمني اثنتني: الأوىل هي �إقامة نظام �سيا�سي يقوم على �آليات الدميقراطية الإجرائية من انتخابات وا�ستفتاءات حرة، ولكن االحتفاظ بالدميقراطية عند م�ستواها الإجرائي فح�سب ،مبا يربر �إقامة نظام �سلطوي منتخب �أو دميقراطية حمافظة على حد تو�صيف عمرو عبد الرحمن .ويق�صد بهذا � ّأن الإخ��وان مل يكونوا مت�ساحمني مع �إدخ��ال �أية تعديالت جذرية على عالقة الدولة امل�رصية التي ورثوها على �سلطويتها وا�ستبداديتها باملجتمع ،فلم تكن ثمة نية كما ظهر من جميع �آليات الت�رشيع التي امتلكها الإخوان �إبان ت�أ�سي�س نظامهم من جمل�س �شعب ثم جمل�س �شورى باخت�صا�صات الت�رشيع بعد حل الأول ويف الد�ستور بالطبع ،مل يكن ثمة توجه ل�ضمان احلريات واحلقوق الأ�سا�سية ،ال النقابية منها وال اخلا�صة ،بحرية الإعالم 87
بدايات
العدد 2013 |6
والتعبري ،وال باحلق يف االحتجاج والتظاهر والإ�رضاب، ال عن املوقف من وال ما يخ�ص باملجتمع امل��دين ،ف�ض ً الأقليات الدينية والن�ساء. �أم��ا القدم الثانية التي قامت عليها ا�سرتاتيجية الإخوان ،فكانت �إيجاد �صيغ ما للتعاي�ش ورمبا التحالف املتوتر مع الأجهزة الأمنية واال�ستخبارية ،واجلي�ش على ر�أ�سها ،فما من �شك يف � ّأن حماوالت الإخوان لإر�ضاء �أجهزة القمع املوروثة من دولة مبارك خالل املرحلة االنتقالية ،ثم خالل رئا�سة مر�سي ،متثلت يف تقدمي كل ال�ضمانات يف د�ستور ،٢٠١٢ويف ال�سكوت عن �إعادة ال عن امل�ساءلة �أو املحا�سبة على انتهاكات الهيكلة ،ف�ض ً حدثت يف عهد مبارك املديد ويف خالل املرحلة االنتقالية ويف خالل حكم مر�سي. ي�ضاف �إىل هذين امللمحني �أن الإخوان امل�سلمني كنواة لنظام �سيا�سي جديد ذي حمتوى �سلطوي م�ؤكد ـ ولي�س بال�رضورة فا�شي ًا ـ قد �رشعوا يف �إقامة حتالف �سيا�سي ـ بجانب حتالفهم املتوتر مع �أجهزة الدولة القمعية ـ مع الكتلة الإ�سالمية التي تقع على ميينهم ب�شكل �أ�سا�سي، قامت ا�سرتاتيجية الإخوان علــــــــــــــــــــــــــــــــى �إيجاد �صيغ ما للتعايـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ�ش، ورمبا للتحالف املتوتر مع الأجهــــــــــــــــــــــــــــــزة الأمنية واال�ستخبارية ،واجلي�ش على ر�أ�ســـــــــــــــها، فحاولوا �إر�ضاء �أجهزة القمع املوروثــــــــــــــــــــــــة عن دولة مبارك خالل املرحلة االنتقاليـــــــــــــــــــــة ثم خالل رئا�سة مر�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي وقد ظهرت هذه امل�ساعي بجالء بعد انتخابات جمل�س ال�شعب يف نوفمرب/ت�رشين الثاين ،٢٠١١التي �شهدت قدر ًا حمدود ًا من انفتاح الإخوان على رموز ليربالية ونا�رصية وم�ستقلة و�ضعتهم يف املنت�صف بني ما عرف بالقوى املدنية على ي�سارهم ،وال�سلفيني على ميينهم .لكن مع ا�شتداد اخلالف حول الد�ستور مع غري الإ�سالميني بالأ�سا�س ،والذي ظهر مع الت�شكيل الأول للجمعية التا�سي�سية التي نالها حل الق�ضاء الإداري، �أ�صبح �سعي الإخوان وا�ضح ًا يف تكوين حتالفهم مع �شيئا القوى الإ�سالمية .ومع انح�سار �شعبية الإخوان ً ف�شيئ ًا يف املراكز احل�رضية ،ويف �شمال البالد عامة، �أ�صبحت احلاجة للعودة �إىل ادعاء متثيل الإ�سالم ال�سيا�سي �رضورة للبقاء يف مقاعد الأغلبية الن�سبية ،وهو ما ظهر
بو�ضوح يف كتاب الد�ستور ،الذي جاء يف التحليل الأخري لري�ضي القوى الإ�سالمية املحافظة من �سلفيني و�أزهر من ناحية ،واجلي�ش من ناحية �أخرى على ح�ساب القوى الليربالية والنا�رصية والي�سار واالئتالفات الثورية وممثلي املجتمع املدين واحلركة النقابية امل�ستقلة واملثقفني وممثلي حقوق الن�ساء والق�ضاء. كل ما �سبق ي�شي بنيات الإخ���وان ال�سلطوية، وبتكوينهم الفعلي لتحالف �سلطوي يجمع اليمني الديني والقلب ال�صلب� ،إذا جاز التعبري لدولة يوليو .فهل من مالمح فا�شية يف نظام الإخوان املو�ؤود؟
تطبيق ال�رشيعة والدولة الإ�سالمية واحلاكم ال�رشعي وقامو�س امل�صطلحات القدمي للإ�سالم ال�سيا�سي. ويف ت�صوريّ � ،إن مفهوم «ال�رشعية» الذي ظهر �أول ما ظهر يف �أزمة الإعالن الد�ستوري ،يج�سد املزج املده�ش بني الدميقراطية الإجرائية ـ التمثيلية بالأ�سا�س ـ والأفكار ال�شمولية القدمية للإ�سالم ال�سيا�سي الذي ال يزال ميثل الر�صيد الوحيد للإخوان امل�سلمني بعد ف�شلهم يف تكوين حتالف اجتماعي حمافظ ي�ضم اليمني عموم ًا ،ال اليمني الديني فح�سب؛ �إذ � ّإن ال�رشعية مفردة قريبة للغاية من ال�رشيعة ،وثمة جنا�س �شبه تام بينهما ،وا�ستخدامهما يتم ب�شكل متبادل يف خطابات الإخوان وحلفائهم لقواعدهم، التي ال تزال حتلم بدولة دينية ،ويف الوقت نف�سه ال�رشعية ت�شري �إىل نتاج �آليات الدميقراطية املجردة التي قد تنتج �أية �سلطة متثل �إرادة ال�شعب ،مبا يف ذلك القوى غري الدميقراطية -الدميقراطية كمحتوى ولي�س فح�سب كانتخابات .ولعل هذا يذكرنا مبا نظر له كارل �شميت يف ر�سالته ال�شهرية «يف مفهوم ال�سيا�سي» من � ّأن الدميقراطية كنموذج هي جت�سيد لإرادة ال�شعب العامة واملطلقة بال قيد، ولذا فهي يف �صورتها الأثينية الأ�صيلة -ن�سبة �إىل �أثينا الإغريقية -ال تنتج �سوى ديكتاتوريات تعبرّ عن ال�شعب املطلق الإرادة ،و� ّأن الدميقراطية الليربالية هي نتاج م�شوه وم�شو�ش للجمع بني الدميقراطية كتعبري عن �إرادة ال�شعب املطلقة ،والليربالية التي هي نقد لل�سلطة ذاتها مل�صلحة حريات وحقوق الأف��راد يف مواجهة امللك واملجموع. وكان ت�صور �شميت �أن هذا التناق�ض املميت ميكن �أن ينتج ال كم�صطلح ديكتاتور ًا بني �آن و�آخر ،بل � ّإن الديكتاتور �أ�ص ً �أتى �إلينا من اجلمهورية الرومانية لقن�صل مطلق ال�سلطات ينتخبه جمل�س ال�شيوخ� ،أي � ّأن الديكتاتور بحكم التعريف منتخب ب�شكل دميقراطي يعرب عن �إرادة ال�شعب! ال �شك � ّأن ح�ضور هذا املكون ال�شمويل ـ ولو على ا�ستحياء وب�شكل انتهازي للغاية ـ ي�شي بوجود عنا�رص للفا�شية يف نظام الإخوان املجه�ض ،وخا�صة �أن خوان لينز يرى �أن الفا�شية لي�ست فح�سب ثورة م�ضادة �أو حتالف ًا حمافظ ًا ورجعي ًا ،بل هي عادة ذات مكون �شمويل مياهي بني ال�شعب والدولة ،وي�صادر التعددية با�سم متثيل اجلوهر احلق لل�شعب .ويثبت هذا العن�رص ال�شمويل يف خطاب الإخوان ويف تكتيكاتهم يف رف�ضهم الإقرار حلق املعار�ضة يف الوجود ،ورد االحتجاج ال�سيا�سي واملعار�ضة با�ستمرار خلالفات هوياتية ووجودية بالقول �إن معار�ضي الإخوان من فلول النظام ال�سابق �أو من البلطجية �أو من
هذا -والإ�سالميني عامة -يف ظل رئا�سة مر�سي ،ويف حمتوى القوانني والقرارات التي �صدرت عنهم ،التي كانت دوم ًا تخطب و ّد �أجهزة الدولة القمعية ،وتكر�س ل�سلطوية على ح�ساب احلريات واحلقوق امل�أمولة بعد �إ�سقاط نظام مبارك .وهو ما ي�ضع ملمح ًا مبدئي ًا للفا�شية يف املع�سكر الإ�سالمي بقيادة الإخوان ،لكونه يعبرّ عن حراك جماهريي ثوري الطابع ـ يف �شكله و�أدواته ومفرداته ـ ولكن مبحتوى حمافظ للغاية ،ومع ا�ستدعاء كثيف للجماهري املحافظة هذه لإ�سباغ «الثورية» على م�صادرة احلريات واحلقوق والتكري�س ل�سلطوية حتت قيادة جديدة ،هي للإخوان.
ال ميكن تف�سري مدلول جُ معتي قندهار الأوىل والثانيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة التي خرج فيها الإ�سالميون بقدهم وقديدهم الحتالل ميدان التحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرير، �إال يف �ضوء ت�أكيد حتالفهم مع اجلي�ش ،بل بالرتويج لأنف�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهم باعتبارهم الطرف ال�سيا�سي الأكرث �شعبية والأ�شد تنظيم ًا وح�ضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوراً، وبالتايل الأقدر على االتفاق مع الع�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكر مالمح ثالثة لفا�شية النظام الإخواين املجه�ض ميكن احلديث عن ثالثة مالمح رئي�سية لفا�شية نظام الإخوان املرتدي �إىل جانب �سلطويته املثبتة: امللمح الأول هو الدور الوظيفي الذي �أداه الإخوان والكتلة الإ�سالمية عامة يف ح�صار احلركة الدميقراطية الثورية وا�ستنزافها و�إجها�ضها بعد �إطاحة مبارك مل�صلحة يروج له البع�ض من �أن القوى املحافظة؛ �إذ خالف ًا ملا ّ االنق�سام املبكر يف �صفوف القوى الوطنية على خلفية ا�ستفتاء مار�س�/آذار ٢٠١١بني �إ�سالميني وغري �إ�سالميني هو امل�س�ؤول الأول عن تراجع �أجندة الثورة يف مواجهة امل�صالح املحافظة داخل دولة يوليو ال�سلطوية ،ف�إن دور الإخوان يف �إجها�ض املحتوى الدميقراطي للتحول ال�سيا�سي كان واعي ًا ،وكان جزء ًا �أ�سا�سي ًا من ا�سرتاتيجية اجلماعة يف مرحلة ما بعد مبارك؛ �إذ ال ميكن تف�سري مدلول جمعتي قندهار الأوىل والثانية التي خرج فيها الإ�سالميون بق�ضهم وق�ضي�ضهم الحتالل ميدان التحرير، �إال يف �ضوء ت�أكيد حتالفهم مع اجلي�ش (يا م�شري �أنت الأمري) ،بل بالرتويج لأنف�سهم باعتبارهم الطرف ال�سيا�سي الأكرث �شعبية والأ�شد تنظيم ًا وح�ضور ًا ،وبالتايل الأقدر على االتفاق مع الع�سكر( .حرا�س دولة يوليو �أو ما بقي منها ،وكذلك يف �ضوء العداء الأيديولوجي الوا�ضح ل ّأي �أجندة حرياتية �أو حقوقية تعيد ر�سم العالقات بني الدولة واملجتمع يف م�رص بعد الثورة) .وقد ا�ستمر دور الإخوان 88
بدايات
العدد 2013 |6
�أما امللمح الثاين للفا�شية لدى نظام الإخوان الوئيد، فهو املحتوى الأيديولوجي ال�شمويل الذي احتفظ به الإخ��وان يف خطابهم لقواعدهم وللمتعاطفني معهم جنب ًا �إىل جنب مع الرتكيز على �آليات الدميقراطية التي �أو�صلتهم �إىل احلكم ،وخا�صة االقرتاع؛ �إذ �إن الإخوان كحركة تنتمي يف املقام الأول �إىل الف�ضاء الديني ،ودورها ال من خالل ادعائها متثيل الإ�سالم ال�سيا�سي ي�أتي �أ�ص ً ال�سيا�سي يف جمال ال�سيا�سة ،وبهدف اال�ستيالء على دولة ما بعد الكولونيالية لأ�سلمة املجتمع ،هذه احلركة مل تتنب الدميقراطية من خالل �أية مراجعات فكرية �أو من خالل ت�أ�صيل عقيدي �أو فقهي ،بل ترك الأمر للنفعية البحتة ،وللدميقراطية كانتخابات و�سيل ًة للو�صول �إىل ال�سلطة ،ومتا�شت رغبة الإخوان يف احلفاظ على هويتهم ال�سيا�سية «الإ�سالمية» بعد �سقوط مبارك ور�ؤيتهم الإجرائية وال�ضحلة للدميقراطية باعتبارها ال حتمل �أي مكون حقوقي �أو حرياتي ،بل تقت�رص على �آليات �إنتاج �سلطة -قد تكون هي ذاتها ديكتاتورية �أو حتى �شمولية وهو التناق�ض القدمي بني الدميقراطية والليربالية الذيف�صله كارل �شميت يف نقده للدميقراطية الليربالية يف ثالثينيات القرن املا�ضي .واملتابع للتكتيكات التي اتبعها الإخ��وان منذ فرباير ،٢٠١١يجد � ّأن ثمة ال انتهازي ًا للغاية ملفاهيم كالثورة والدميقراطية ا�ستعما ً والدولة املدنية -مبعنى نقي�ض احلكم الع�سكري -مع 89
بدايات
العدد 2013 |6
العلمانيني وامللحدين �أو من الأقباط على نحو مياهي فعلي ًا بني الدولة التي يحكمها الإخوان ،والتي يفرت�ض �أنها يف طريقها للأ�سلمة بف�ضلهم ،وبني �شعب م�رص امل�سلم الذي ال ي�أتي يف عداده بالطبع غري امل�سلمني دين ًا كامل�سيحيني، �أو �أيديولوجي ًا باعتبار � ّأن الإ�سالم ال�سيا�سي هو الإ�سالم، و� ّأن الإ�سالميني هم امل�سلمون. ال مدخ كانت إجرائية ل ا الدميقراطية ومن املعروف �أن ً للعديد من ال�سلطويات ،وللفا�شيات كذلك ،ولعل احلالة املدر�سية بالطبع هي حالة هتلر و�أملانيا النازية ،وكذا فوز احلزب الفا�شي الإيطايل بالأغلبية الربملانية يف انتخابات ١٩٢٤املقيدة بعد االنقالب الناجح الذي قاده مو�سوليني .فقد كانت الدميقراطية الإجرائية عند الإ�سالميني هي عنوان حكمهم ال�رسمدي يف �ضوء تفوقهم التنظيمي من ناحية ،ويف �ضوء ر�أ�سمالهم الثقايف الكبري الذي كونوه من خالل �أربعة عقود من �أ�سلمة املجال العام يف ظل رئا�سة ال�سادات ومبارك من ناحية �أخ��رى .ولكن لي�س ثمة �ضمانات لتم�سك الإخوان ب�آليات الدميقراطية الإجرائية �أو بعقد انتخابات حرة يف حال ما �إذا كانت �ستهدد حكمهم .ورغم �أن هذا احلكم افرتا�ضي� ،إال �أنه ي�ستند �إىل واقعتني يف ظل حكم مر�سي :الأوىل هي ا�ستخدام �أدوات الدولة لتمرير الت�صويت على د�ستور ،٢٠١٢وما �أُثري حول دعاوى التزوير يف ظل غياب الإ�رشاف الق�ضائي .والثانية هي قانون مبا�رشة احلقوق ال�سيا�سية وانتخابات جمل�س ال�شعب الذي �أعده جمل�س ال�شورى الإخواين الأغلبية، أ�رص على توزيع غري متوازن للدوائر مبا يزيد والذي � ّ من ح�صة ال�صعيد واملحافظات الطرفية بنحو �سبعني مقعد ًا على ح�ساب املدن الكربى ،التي و�ضح �أنها معاقل مناه�ضة للإخوان ،وهي وقائع ّ تدل على �أن التزام الإخوان الدميقراطية حتى ك�إجراءات كان مرتوك ًا لنفعها بالن�سبة �إليهم يف ت�أمني و�صولهم املتكرر لل�سلطة. �أما امللمح الثالث والأخري ملحتوى فا�شي ما للنظام الإخواين ال�ساقط ،فهو ا�ستدعاء �أدوات القمع غري النظامية لل�سيطرة على املجال العام �ضد اخل�صوم ،وقد ظهر هذا بجالء يف ا�ستدعاء اجلماهري «الإخوانية» �أو «الإ�سالمية» املتكررة لدعم قرارات الرئي�س املنتخب ،رغم ما يعنيه هذا من �إ�ضعاف البنى امل�ؤ�س�سية التي �أقامها الإخوان �أنف�سهم من خالل �آليات االقرتاع .وظهر كذلك يف تقريب العنا�رص الإرهابية املتقاعدة كاجلماعة الإ�سالمية وبقايا اجلهاد الإ�سالمي ،والعالقات غري الوا�ضحة املعامل حتى اليوم ،بني
الإخوان والعنا�رص اجلهادية يف �سيناء ،ك�أدوات قمع بديلة من ال�رشطة واجلي�ش ،يف �ضوء عدم رغبتهما يف �أداء الدور القمعي مبا�رشة مل�صلحة نظام الإخوان .على الرغم من �أن ح�ضور وا�ستح�ضار هذه املجموعات �شبه الع�سكرية يف امل�شهد كداعم لل�سلطة الإخوانية يف مواجهة اخل�صوم قد �أتى نتيجة عدم ت�شديد قب�ضة الإخوان على الأجهزة الأمنية والع�سكرية� ،إال �أن هذه املجموعات لي�ست غري نظامية فح�سب ،مثل بلطجية احلزب الوطني ،بل هي عنا�رص متثل حركة جماهريية ذات مرجعية �أيديولوجية تدافع عن الدولة ،وكلها مالمح فا�شية بامتياز. كان امل�سار ال�سيا�سي الذي �سلكه الإخوان بالت�أ�سي�س لنظام يخ�ضع لهيمنتهم على املدى البعيد بقواعد ت�أتي على ح�ساب العديد من القوى ال�سيا�سية واملجتمعية يف�ضي قطع ًا �إىل اللجوء للمزيد من القمع ،وكان عقب �أخيل يف هذه التجربة املبكرة هو تعقد �صيغ التعاي�ش مع �أجهزة القمع املوروثة من ع�رص مبارك ،التي مل تنهر نتيجة لثورة يناير ،بل احتفظت بنف�سها ،و�أعادت بناء قدراتها كما هو با ٍد اليوم .وبالتايل مل يكن مبقدور الإخوان �أن ي�ستولوا على هذه الأجهزة ب�شكل فوري حتى ت�ؤدي خدمات القمع لهم للت�أ�سي�س ل�سلطتهم ،بل �إن هذه الأجهزة كانت هي ذاتها م�صدر تهديد -كما ثبت يف ما بعد -ال�ستمرار حكم الإخ��وان نف�سه ،ومن هنا كان اللجوء �إىل فكرة جتيي�ش القواعد املنتمية �إىل امل�رشوع الإ�سالمي والطائفة الإخوانية ،وخا�صة � ّأن التنظيم ذاته م�ؤ�س�سة �شبه ع�سكرية بحكم جذورها الفا�شية القدمية يف الثالثينيات من القرن املا�ضي .وال �شك � ّأن م�صري �أجهزة الأمن واجلي�ش نف�سه على املدى البعيد ،باعتبارها قوى غري موالية للإخوان �أو على الأقل حمايدة ،م�صدر قلق وا�سع؛ ل ّأن كل الطرق كانت ت�ؤدي �إىل �إخ�ضاع هذه الأجهزة حلكم الطائفة� ،إن ال ،وحني توفر القدرة على ذلك .وهو ما قد ال �أو عاج ً �آج ً �رس حترك الأجنحة الع�سكرية والأمنية يف�رس ـ ولو جزئي ًا ـ ّ واال�ستخبارية �ضد الإخوان يف حزيران /يونيو ،٢٠١٣ رغم �أنها قد �أمنت كافة مكت�سباتها املبا�رشة ،ولكن ال ،ويبدو �أن اجلميع كان مدرك ًا لهذا. ال�رصاع كان م�ؤج ً الفا�شية املحتملة �أت��ت تظاهرات ٣٠يونيو/حزيران وم��ا تالها من احتجاجات �ضد الإخوان لتظهر احل�ضور القوى للعن�رص اجلماهريي ،الذي لواله ملا كان ممكن ًا اتخاذ اجلي�ش لقرار �إق�صاء مر�سي عن ال�سلطة .وخالف ًا لتظاهرات يناير/كانون 90
بدايات
العدد 2013 |6
الثاين وفرباير�/شباط ٢٠١١حينما كان الرتكز يف املدن الكربى يف �شمال م�رص ،ف� ّإن ٣٠يونيو/حزيران �شهد خروج ًا للريف ،وتظاهرات يف املراكز واملدن ال�صغرية بالدلتا بجانب حراك م�شهود يف مدن ال�صعيد �ضد حكم الإخ��وان .وقد كان هذا اخل��روج اجلماهريي م�صحوب ًا بالكثري من معامل العنف الذي ميكن و�صفه ب�أنه ثوري -ما مل يثبت العك�س بالطبع يف ما بعد -لأنه كان تلقائي ًا من جهة ،وم�ستهدف ًا لرموز ال�سلطة من جهة �أخرى .وجند � ّأن �صب جام غ�ضبه اجلمهور املحتج على حكم مر�سي قد ّ مقار الإخ��وان امل�سلمني وحزب احلرية والعدالة على ّ والأحزاب ال�صغرية التابعة للإخوان كالو�سط ،وهو �سلوك مقار احلزب الوطني و�أق�سام ال�رشطة ،ثم �شبيه با�ستهداف ّ مقار �أمن الدولة يف يناير/كانون الثاين وفرباير�/شباط ّ ،٢٠١١باعتبارها رموز ال�سلطة .ومبا � ّأن متلك الإخوان لأجهزة الدولة مل يكن متحقق ًا بالكامل ،ف �� ّإن رموز مقار اجلماعة ،تعبري ًا كذلك عن قناعة ال�سلطة كانت يف ّ اجلمهور املناه�ض للإخوان برتكز ال�سلطة خارج الدولة، وكون ال�سلطة احلقيقية يف مكتب الإر�شاد. املقار الإخوانية وما مل يثبت يف ما بعد � ّأن ا�ستهداف ّ كان منظم ًا من قبل �أمن الدولة �أو �أجهزة اال�ستخبارات كما يقول الإخ���وان ،ف �� ّإن هذا العنف يكون تلقائي ًا وجماهريي ًا ،ويكون �شبيه ًا بالعنف الثوري الذي حتدث ال ،باعتباره الأفعال اخلارقة للقانون عنه �سوريل طوي ً بغ�ض النظر بالطبع التي ت�ستهدف حتطيم رموز ال�سلطةّ ، عن كون هذه ال�سلطة منتخبة من عدمه .و�أما �إن كان �صحيح ًا � ّأن ج��زء ًا من هذا العنف موجه بالفعل من جمموعات تتبع الأمن ،كالبلطجية امل�أجورين على �سبيل املثال� ،أو عنا�رص �أمنية متخفية ،فيكون الأمر �ساعتها بالفعل �أق��رب �إىل تكتيكات احلركة الفا�شية ،على م�ستوى التكتيك على الأقل ،حيث تقوم �أجهزة الدولة بدعم ت�شكيالت �أهلية �أو بتوجيه احلركة اجلماهريية �ضد خ�صومها ملحو متثيلهم يف املجال العام. �إال � ّأن الت�شابه ال�شكلي بني ميلي�شيات �أو جمموعات �أهلية مدعومة من الدولة والت�شكيالت الفا�شية ال يعني بال�رضورة � ّأن م�رص ب�صدد �سيناريو فا�شي ،ل ّأن جمموعات البلطجية امل�أجورين من ال�رشطة (ال�سيا�سية �أو ال�رسية) ال ترقى �إىل م�ستوى الت�صنيف كحركة ال عن كونها جماهريية -يف املقام �سيا�سية -ف�ض ً الأول ،بل هي �أقرب �إىل توظيف الدولة لظواهر �إجرامية لعدم قدرتها على توظيف �أجهزة القمع الر�سمية لديها
لإمتام مهام قمع اخل�صوم .وقد كان هذا هو الو�ضع مع احلزب الوطني ،وبلطجية الأق�سام املح�سوبني عليه، الذين كانوا ُي�ستخدمون لتزوير االنتخابات ،ثم جرى جمعهم يف موقعة اجلمل ك�أق�صى ما ميكن حت�صيله من ا�ستخدام املجرمني اجلنائيني لتحقيق مهمات �سيا�سية على الأر���ض .بيد �أنه �شتان ما بني جمرمني م�أجورين ُي�ستخدمون لأغرا�ض �سيا�سية ،وتنظيمات ع�سكرية �أو �شبه ع�سكرية مكونة من مدنيني منتمني �إىل �أيديولوجيا �أو فكر �سيا�سي �أو اجتماعي معني كحال التنظيمات الفا�شية يف الن�صف الأول من القرن الع�رشين ،حتى ولو كان االثنان مدعومني من الدولة ب�شكل مبا�رش �أو غري مبا�رش .وهنا مربط الفر�س ،فلي�س يف م�رص حركة فا�شية مناه�ضة للحركة الإ�سالمية ،وال ميكن اختزال احلراك
�أو ل�سقوط �رشعية مر�سي ب�شكل مبكر� ،أو لف�شل النظام الدميقراطي �إجرائي ًا يف ا�ستيعاب ال�رصاع االجتماعي وال�سيا�سي .وقد يثبت يف ما بعد � ّأن الأجهزة اال�ستخباراتية واجلي�ش قد ا�ستثمروا ا�ستثمار ًا يف تعرث حكم الإخ��وان ،ويف ت�صاعد املعار�ضة �ضدهم ،ويف فقدانهم لل�شعبية ،وفاقموا من م�شكالت احلكم لدى الإخوان بعدم تعاون جهاز الدولة معهم على امل�ستويات املركزية واملحلية .ولكن هذا كله ال يجعل احلراك اجلماهريي جت�سيد ًا حلركة فا�شية ب�أي حال من الأحوال، ولو كان املطلب هو ع��ودة اجلي�ش للحكم ،ولو كان املطلب هو �إزالة الدميقراطية الإجرائية ،و�إقامة �سلطوية ع�سكرية ب�شكل مبا�رش �أو غري مبا�رش ،فهذا كله يندرج حتت بند ال�سلطوية ال الفا�شية.
ال ميكن اختزال احلراك اجلمـــــــــــــــــــــــــــــــاهريي ال�شديد ال�ضخامة الذي وقع فـــــــــــــــــــــــــــــــي الثالثني من يونيو/حزيران ،ولو كـــــــــــــــــــــــــــان �ضمن مطالبه القيام بانقالب ع�ســـــــــــــــــــــــكري على رئي�س منتخب ،ال ميكن اختزالــــــــــــــــــــــــــه يف �صورة حركة فا�شية؛ لأن غالب احلــــــــــــــــــــراك كان �سلمياً ،والعنف كان هام�شـــــــــــــــــــــــــــــــي ًا
ُّ ت�شكل مزاج مناه�ض للإخوان يف ت�صاعد الأحداث �إىل ٣٠يونيو/حزيران� ،شهدت قرى ومدن الدلتا خا�صة ا�شتباكات عنيفة بني املنتمني �إىل جماعة الإخوان و�أهالٍ حانقني على حكم الإخوان لأ�سباب �شتى ،وقد ا�ستمرت هذه اال�شتباكات التي قد ترقى �إىل م�ستوى االقتتال الأهلي حتى بعد �إزاح��ة مر�سي عن احلكم ،يف �إ�شارة �إىل االنق�سام ال�شعبي احلا ّد حول رئا�سة مر�سي واالنقالب عليه �سواء ب�سواء .وتظهر كذلك درجة انعزال الإخوان والتيار الإ�سالمي عامة عن قواعد عري�ضة من امل�رصيني الذين ال يزالون يبحثون عن هوية �سيا�سية تعرفهم يف مواجهة الإ�سالميني �أ�صحاب الهوية ال�سيا�سية الوا�ضحة .وقد يكون الإخوان بالفعل هم «الآخر» الذي تت�شكل هوية جماعية م�رصية يف مواجهته ،وخا�صة � ّأن املجتمع امل�رصي ال�ضعيف الذي خلفته �ستة عقود من ا�ستبداد دولة يوليو ،وم�صادرتها للحريات العامة ،مل يجد بعد يناير/كانون الثاين � ٢٠١١سوى تنظيم الإخوان امل�سلمني كتيار �سيا�سي ذي هوية جماعية حمددة ووا�ضحة املعامل ،بل وج�سم تنظيمي �أ�شبه بالطائفة الدينية داخل حد تعبري وتو�صيف الراحل ح�سام الأغلبية امل�سلمة ،على ّ متام .وهو ما يجعل التفاعالت ال�سيا�سية منذ �إطاحة مبارك وحتى اللحظة ت�شكل هويات جماعية يف مواجهة الهوية اجلماعية الوحيدة املعرفة :الإخوان .وهي حلظة عاي�شناها عدة لعل �أبرزها كان الت�صويت حلمدين �صباحي مرات ّ و�أبو الفتوح يف املرحلة الأوىل لالنتخابات ،ثم الت�صويت ل�شفيق يف املرحلة الثانية ،ثم اال�صطفاف وراء جبهة الإنقاذ �إبان �أزمة الإعالن الد�ستوري يف نوفمرب/ت�رشين
اجلماهريي ال�شديد ال�ضخامة الذي وقع يف الثالثني من يونيو/حزيران ،ولو كان �ضمن مطالبه القيام بانقالب ع�سكري �ضد رئي�س منتخب ،ال ميكن اختزاله يف �صورة حركة فا�شية؛ ل ّأن غالب احلراك كان �سلمي ًا ،والعنف كان هام�شي ًا .بل �إن و�صف احلركة الفا�شية مبعنى تنظيم �شبه ع�سكري ي�ضم منتمني على �أ�سا�س �أيديولوجي داعم لل�سلطة �ضد املعار�ضني ينطبق �أكرث ما ينطبق على الإخوان امل�سلمني والإ�سالميني عموم ًا يف ال�سنة الوحيدة التي حكم خاللها حممد مر�سي و�إخوانه ،وهي امل�س�ألة التي �سبقت مناق�شتها. �إذنّ � ،إن تو�صيف احلركة املناه�ضة للإخوان وحلكمهم، �سواء من جانب الدولة �أو من جانب اجلمهور على �أنها �رضب من الفا�شية ،هو �أمر بعيد كل البعد عن الدقة ال�ستخدام وتوظيف م�صطلح كالفا�شية مبا حتمله من �إ�شارة لفرتة زمنية ولتجارب يف تاريخ ما بني احلربني العامليتني .قد ي�صدق و�صف االنقالب الع�سكري على �إزاحة مر�سي ،وي�صبح احلراك اجلماهريي جمرد �سياق �سيا�سي لالنقالب باعتباره عنوان ًا لالنق�سام ال�شعبي، 91
بدايات
العدد 2013 |6
الثاين ودي�سمرب/كانون الأول ،٢٠١٢وكلها جتليات لكتلة ال يعرفها �سوى مناه�ضتها للإخوان ،واخلوف من �سيطرتهم على الدولة وتثبيت دعائم حكمهم ،وقد ي�صبح عبد الفتاح ال�سي�سي حال تر�شحه للرئا�سة عنوان ًا لهذه الكتلة يف امل�ستقبل. نحن �إذن ب�صدد مزاج عام مناه�ض للإخوان ،كان هذا املزاج العام مداد ًا حلركة احتجاجية تريد �إنهاء حكم مر�سي با�ستدعاء القوات امل�سلحة للم�شهد ،وهو ما جرى ،ولكن ا�ستمرار مقاومة الإخ��وان ،واحتالل الطائفة الإخوانية و�أن�صارها حليز مادي من املجال العام يف رابعة العدوية ويف ميدان النه�ضة ،ويف امل�سريات التي تخرج بني �آن و�آخر لتعطيل امل�سار ال�سيا�سي البديل ،الذي يقوم عليه اجلي�ش ،ير�شح ا�ستمرار �أداء الإخ��وان لدور الآخر يف �رصاع لي�س فح�سب هوياتي ًا ،بل وجودي كذلك .ويتما�شى هذا مع دور الإعالم اخلا�ص والعام يف ر�سم ثنائية الإخوان يف مواجهة ال�شعب امل�رصي ودولته ،وهو اخلطاب الذي �أتى مع ت�صاعد العمليات الع�سكرية يف �سيناء ،وا�ستدعاء مفردات اخلطاب ال�ساداتي للقومية امل�رصية املبغ�ضة للفل�سطينيني ،واملنكبة على الذات .و�أتى ذلك �أي�ض ًا مع ت�رصيحات م�س�ؤويل الإخ��وان املتكررة عن ان�شقاقات يف اجلي�ش ،وا�ستدعاء الأط��راف الأمريكية والأوروبية لإعادة مر�سي �إىل �سدة احلكم ،وهو ما دفع باجتاه الت�أليف بني رافدين متنافرين عادة من اخلطاب القومي امل�رصي: الرافد ال�ساداتي التايل على كامب ديفيد الكاره للعرب، والرافد النا�رصي املعادي لال�ستعمار واملتحدث با�سم العزة والكرامة .ولي�س من قبيل ال�صدفة �أن تخرج اجلماهري يف ٣٠يونيو/حزيران ويف ٢٦يوليو/متوز حاملة ل�صور ال�سادات وعبد النا�رص بجانب عبد الفتاح ال�سي�سي. وقد �سعى اجلي�ش يف �إزاحته ملر�سي يف ٣يوليو/ متوز �إىل ا�ستدعاء ممثلني لكافة مكونات املجتمع امل�رصي يف م�شهد الإعالن عن �إنهاء حكم مر�سي والإخوان، وبجانبهم ممثلون عن الدولة امل�رصية ،فر�أينا �شيخ الأزهر ال عن حزب النور �أكرب وبطريرك الكني�سة القبطية ،وممث ً الأحزاب ال�سلفية ،م�ضاف ًا �إليهم حممد الربادعي عن جبهة الإنقاذ ،وبالتايل التيار املدين مبكوناته الليربالية والنا�رصية والي�سارية ،وكذلك ائتالفات الثورة ،وممثلون عن ال�رشطة واجلي�ش والق�ضاء �أي اجلميع عدا الإخوان. كان هذا هو مبد�أ امل�سار ال�سيا�سي البديل لفكرة �أن م�رص �ضد الإخوان ،ولكن نظر ًا �إىل ه�شا�شة الو�ضع، واحتماالت اندالع حروب �أهلية م�صغرة ،ف�إن الهدف 92
بدايات
العدد 2013 |6
�سيا�سي لي�س من �صنعهم هذه املرة بعد انهيار م�سارهم التعي�س الذي بلغ متامه يف د�ستور .٢٠١٢ لكن يف الوقت نف�سهّ � ،إن هذا اخلطاب الذي ي�رشف يف واقع الأمر على �إنتاج هوية جماعية م�رصية يف مواجهة الإخوان ،قد ي�صبح مع ا�ستطالة الأزمة �أمر ًا الزم ًا لظهور وا�ستمرار امل�سار ال�سيا�سي ملا بعد خلع الإخوان ،وذلك بالتكري�س ال�ستبعادهم ،ال دجمهم ،ويكون هذا باملطالبة باملزيد من احلراك اجلماهريي الداعم للجي�ش وال�رشطة ال�ستخدام العنف �ضد اعت�صامات الإخوان وتظاهراتهم، وبت�أجيج فر�ص االقتتال الأهلي بني الإخ��وان وغري الإخوان ،وتتمة هذا امل�سار هي الدفع باال�ستفتاء على تعديالت الد�ستور ،و�إقرارها ومن ثم �إ�سباغ �رشعية �إجرائية دميقراطية على امل�سار اجلديد متحو االنقالب، ثم �إجراء انتخابات رئا�سية يفوز فيها مر�شح للجي�ش ي�صبح جت�سيد ًا للتحالف املناه�ض للإخوان من ناحية، وللتماهي بني �إرادة ال�شعب و�إرادة الدولة يف مواجهة عدو الدولة/ال�شعب. ال �إن �سيناريو كهذا �سي�ؤ�س�س لنظام �سيا�سي عنوانه �أ�ص ً مواجهة الإخوان ال دجمهم ،وهو �أمر بالطبع يتما�شى مع رغبات النخب الأمنية يف عودة �سيطرة الأمن على املجال العام من �أجل �إدارته ،وو�صاية اجلي�ش والق�ضاء على املجال ال�سيا�سي اجلديد من �أجل «تر�شيده» ،وخا�صة � ّأن االنهيار املبكر للتجربة الدميقراطية يثبت �أن النخب ال�سيا�سية قاطبة غري �أهل لإدارة البالد .وي�صبح نتاج امل�سار هذا �شبيه ًا مب�سار الإخوان من حيث ف�شله يف و�ضع قواعد لعبة مقبولة من جميع الأطراف ،بل يكون فح�سب �رشعنة قواعد لعبة لطرف على ح�ساب طرف ،متام ًا كما فعل الإخوان يف دي�سمرب/كانون الأول ٢٠١٢بتمرير اال�ستفتاء على د�ستورهم ،وهو �أمر بالطبع مل يجد مع نظامهم ال�سيا�سي الذي �رسعان ما تهاوى يف مواجهة معار�ضيه الذين كان النظام م�صنوع ًا لإق�صائهم .وقد ير ّد البع�ض بالطبع ب� ّأن خالفا حلال الفارق �سيكون تعاون الدولة مع احلكام اجلدد ً الإخوان �إبان حكمهم ،وهو ما يغري ب�رشعنة القمع حتى النهاية بحيث ت�صبح مهمة النظام ال�سيا�سي اجلديد هي �إق�صاء الإخوان و�أن�صارهم ،والعمل على ر ّد �رضباتهم التي ت�ستهدف ا�ستقرار النظام اجلديد وفاعليته يف �إدارة ال�ش�أن العام .وهذا �أمر بالطبع يعني �إدامة الأزمة اجلارية ،وزيادة ال فر�ص العنف املدعوم من الدولة يف مواجهة الإخوان ،ف�ض ً بالطبع عن �أنه �سي�ؤ�س�س لنظام �سيا�سي�/أمني ال يحمل من الدميقراطية �إال �إجراءاتها و�شكلياتها على �أق�صى تقدير،
املبدئي كان �إجبار الإخوان على �إقرار الهزمية ،ودجمهم يف امل�سار ال�سيا�سي اجلديد ،وهو ما ف�شل فيه اجلميع حتى الآن با�ستمرار االعت�صام ،واالجتاه نحو الت�صعيد من اجلانبني حتى تاريخ كتابة هذه ال�سطور .ومع ت�صاعد العنف بني الإخ���وان وغ�ير الإخ���وان ،وب�ين الإخ��وان وال�رشطة واجلي�ش يف �أح��داث احلر�س اجلمهوري ثم املن�صة بطريق الن�رص ،تتزايد حاجة التحالف املناه�ض للإخوان ال�ستدعاء مفردات القومية امل�رصية بروافدها املتعددة ال�ساداتية والنا�رصية �ضد الإخ���وان ،يف خطاب وطني �شوفيني (معا ٍد يف جوهره للفل�سطينيني وال�سوريني) ،والرتكيز على ال��دور الت�آمري للتنظيم ال��دويل للإخوان امل�سلمني ،ودع��م الواليات املتحدة والغرب لهم بغية تق�سيم الوطن ،وان�شقاق اجلي�ش امل�رصي ،وتكرار �سيناريو �سورية. واحلق � ّأن هذا اخلطاب الذي يعمل الإعالم اخلا�ص واع من �أطراف جتل مده�ش ،وغري ٍ والعام على �إنتاجه هو ٍّ ال�رصاع ،لت�صورات كارل �شميت عن عدو الدولة ،وهو بناء هوية قومية جامعة يف مواجهة �أقلية ما ،ت�صبح هي عنوان التهديد واخلطر ،وترتبط بعدو خارجي ،وهو ما كان متحقق ًا مع اليهود يف �أملانيا النازية قبيل �صعود هتلر لل�سلطة وبعده بالطبع؛ فقد كان ينظر لليهود باعتبارهم على �ض�آلة �أعدادهم -العدو الداخلي الذي يواجهالدولة الأملانية ،وبالتايل ال�شعب .ويف الوقت نف�سه كان ه�ؤالء اليهود مرتبطني باخلطر الأكرب اخلارجي� ،أال وهو االحتاد ال�سوفياتي وال�شيوعية .ويبدو �أن هذا هو التكتيك امل�ستخدم مرحليا ً على الأقل لعزل الإخ��وان عن �أية قواعد �شعبية خارج التنظيم ،ورمبا خارج التيار الإ�سالمي (وخا�صة مع خذالن الدعوة ال�سلفية لهم يف �رصاعهم املرير) ،وهو ما ي�ضمن التماهي بني الدولة وال�شعب (فكرة التفوي�ض يف تظاهرات ٢٦يونيو/حزيران والنفي املتكرر لأن يكون ما جرى انقالب ًا ع�سكري ًا) يف مواجهة اخلطر املاثل واجلاثم على �صدر الأمة يف رابعة العدوية ويف ميدان النه�ضة (االعت�صامان م�سلحان ويهددان الأمن القومي). يبدو � ّأن هذا اخلطاب الت�صعيدي والإق�صائي بالطبع يجري �إنتاجه يف خ�ضم �أزمة وجودية تتهدد عنا�رص التحالف املناه�ض للإخوان مع ا�ستمرار تعطيل الإخوان للم�سار التايل على خلع مر�سي ،وقد يكون الغر�ض منه �إن كان هناك غر�ض عقالين يف خ�ضم الأزمة اجلارية -هو ك�رس �إرادة الإخوان نهائي ًا ،و�إعادة دجمهم يف م�سار 93
بدايات
العدد 2013 |6
ولكنه �سيكون يف جوهره نظام ًا �سلطوي ًا منتخب ًا ،متام ًا كالنظام الذي كان يريد الإخوان تثبيت �أركانه. امل�شكلة مع هذا الت�صور �أنه ال يقوم �إال على ا�ستئ�صال الإخوان من املجال العام ،مبعنى �أن يكون للدولة ظهري �شعبي منظم يعبرّ عن �إق�صاء الإخوان ،وتدمري مقاومتهم ب�شكل مادي ،وهو �أمر غري ممكن با�ستبعاد الإخوان من املجال ال�سيا�سي فح�سب (بحظر الأحزاب الدينية على �سبيل املثال �أو حل جماعة الإخ��وان) ،بل يكون مبحو الإخوان كتنظيم من املجال العام .ويكون هذا بتكثيف ال�شعور ال�شعبي املعادي للإخوان/الداعم للجي�ش باعتباره م�ؤيد ًا للدولة ،وت�شكيل ميلي�شيات منظمة ع�سكرية �أو �شبه ع�سكرية تتوىل ت�صفية وجود الإخوان ككيان اجتماعي، وهذا هو �سيناريو الفا�شية املحتملة يف م�رص حال امتداد الأزمة وا�شتدادها يف ال�شهور وال�سنوات القادمة. وذلك ل ّأن مثل هذا ال�سيناريو لتثبيت دعائم النظام اجلديد التايل على خلع الإخوان �سيكون لإنهاء ما يبدو �أنه انق�سام �شعبي� ،إن مل يرق حلرب �أهلية منخف�ضة التكاليف حتى احلني ،وهو و�ضع �شبيه ب�إيطاليا بعد احلرب العاملية الأوىل ،ومع �صعود احلركة الفا�شية (-١٩١٩ � )١٩٢٢سيكون حلركة جماهريية منظمة وال�ؤه��ا للدولة وللنظام القائم يف مواجهة حركة �أخرى ،هذه املرة �ستكون احلركة الإ�سالمية �أو تنظيم الإخوان ،مع الفارق العظيم بالطبع بينها وبني احلركة العمالية يف �إيطاليا يف تلك الفرتة ،التي كانت تعبرّ عن مطالب التحول ال�سيا�سي لنظام �أكرث دميقراطية وعدالة اجتماعية ،يف حني �أن احلركة الإ�سالمية والإخ��وان خا�صة طوائف حمافظة للغاية، ف�شل م�سعاها �إىل احلكم نتيجة لف�شلها يف االتفاق مع م�ؤ�س�سات و�أجهزة الدولة القمعية ال �أكرث وال �أقل .ولكن الت�شابه هنا يكون على م�ستوى التكتيكات ،وهو عنف �أهلي مدعوم من الدولة ب�شكل مبا�رش �أو غري مبا�رش� ،ضد جماعات �سيا�سية لها �أر�ضية اجتماعية كبرية -رغم ما نالها من انخفا�ض �شديد يف ال�شعبية �إبان حكم الإخوان الق�صري .ويكون الهدف هو �إلغاء هذه احلركة من املجال مقار العام ،فال يكون لها تظاهرات ،وال �إ�رضابات ،وال ّ وال اجتماعات� ،إلخ ...ويكون �إ�سناد �أفعال العنف هذه لغري عداء �أجهزة الدولة ،ولكن هذه املرة ملجموعات حتمل ً �أيديولوجي ًا للإخوان ،فرمبا يكون هذا هو املدخل لنوع ما من الفا�شية التي تظل حمتملة ،ولكن مرجحة يف �ضوء تعرث امل�سار ال�سيا�سي احلايل ،وا�ستمرار ت�صعيد الإخوان ورف�ضهم االعرتاف بانهيار م�سارهم ال�سيا�سي.
ويقول الكتاب �إن م�صالح احتاد ال�صناعات ،الذي كان �صدقي �أحد قادته «كانت دائم ًا قريبة من قلبه». �إال � ّأن كوابح �صدقي خلقت حالة من الغليان بني قطاعات من املتظاهرين ال�سيا�سيني ،و�شارك العمال يف االحتجاج على منظومة �صدقي اال�ستبدادية« .كان لدى الفقراء والعمال �سبب وجيه ملعار�ضة تلك االج��راءات؛ فقانون �سن االنتخاب االنتخابات �ألغى االنتخاب املبا�رش ورفع ّ وو�ضع موا�صفات (للناخبني) تتعلق مب�ستوى التعليم وامللكية» ،كما يو�ضح بنني ولوكمان .ومل ي�سفر حتدي �صدقي للجماهري املتطلعة للدميقراطية ،بو�ضع د�ستور جديد يقلل من ال�سلطات ال�شعبية ،عن ا�ستقرار االو�ضاع ال�سيا�سية التي اراده��ا ،اذ تبعتها ا�ضطرابات دفعت ال�سلطة يف النهاية اىل الرتاجع عن الد�ستور و�سقوط هذا النموذج ال�سلطوي ،وان كان الرجل قد عاد اىل ال�سلطة بعد �إلغاء د�ستوره يف �سياقات �سيا�سية خمتلفة.
التنمية باالستبداد
ص ّناع القرار نموذج يداعب خيال ُ حممد جاد باحث وحمرر
اقتصادي يف جريدة الرشوق المرصية.
94
بعد عامني من اندالع ثورة يناير ،وبينما تتزايد اعداد املنتمني �إىل االح��زاب ال�سيا�سية والنقابات العمالية اجلديدة يف م�رص ،قد جتد من مييل على اذنك هام�س ًا «ب�رصاحة ال ميكن ان ي�ستمر احلال هكذا ،فاالقت�صاد لن يتح�سن يف ظل الدميقراطية» .ال تنده�ش؛ فهذا �صوت احد خرباء االقت�صاد الذين ميثلون النخبة املهيمنة على عقل ال�سلطة يف م�رص منذ عقود طويلة. هذا الإميان الرا�سخ ب�رضورة اال�ستبداد ال�سيا�سي لتحقيق التنمية االقت�صادية كان �سبب ًا رئي�سي ًا يف تعطيل احلياة الدميقراطية واالقت�صادية على مدار العقود املا�ضية ،لذا فالعودة اىل التاريخ ومقارنته بالأطروحات االقت�صادية يف مرحلة التحول احلالية �أمر ��ضروري لر�سم �صورة �أو�ضح ل�سيناريوهات امل�ستقبل. الباحث عن جذور فكرة «التنمية باال�ستبداد» ،يجد بع�ض حلظاتها الأبرز يف التاريخ ال�سيا�سي ال�سماعيل �صدقي، الرجل الذي �شكل حكومة م�رص ثالث مرات قبل ثورة يوليو ،يف حقبة مل تكن فيها ال�سيا�سة منف�صلة عن االقت�صاد .وهو ما قد يف�رس لنا ملاذا جمع الرجل ،لأكرث من مرة ،بني تويل وزارتي الداخلية واملالية. كان ا�سم �صدقي يحظى بثقة كبرية يف االو�ساط ال�سيا�سية لعدة ا�سباب ،من �ضمنها خربته االقت�صادية ،وكان ي�أخذ على حزب الوفد ،احلزب االكرث جماهريية �آنذاك ،عدم متتعه بربنامج اقت�صادي ي�شتمل على ر�ؤي��ة وا�ضحة. ويف �أوىل جتاربه كرئي�س وزراء ،خا�ض �صدقي جتربة �صعبة مع اقت�صاد او�شك على االنهيار ب�سبب ت�أثريات ازمة الك�ساد الكبري العاملية �آنذاك على مزارعي القطن امل�رصي وباقي القطاعات التجارية وال�صناعية .و�أثبت �صدقي كفاءته بتطبيق حزمة من �سيا�سات الت�شغيل من خالل امل�رشوعات العامة ،ك�إن�شاء كورني�ش اال�سكندرية، بدايات
العدد 2013 |6
وال�سيطرة على ارتفاع اال�سعار يف اال�سواق التجارية و�أ�سعار ايجارات املحا ّل وامل�ساكن .كما اكمل امل�رشوع الذي بد�أه �سلفه ،حممد حممود ،ب�إن�شاء بنك االئتمان ال للمزارعني الذين عانوا من الزراعي الذي وفر متوي ً �ضغوط كبرية يف هذا الوقت. �إال �أ ّنه يف املقابل ،كان �صدقي ي�ؤمن ب�رضورة و�ضع كوابح للعملية الدميقراطية يف م�رص .ويف جمال احلديث عن عالقة �صدقي بالدميقراطية ،يذكر امل�ؤرخون ق�صة جتربته ال�سيا�سية بعد ثورة ،1919عندما تر�شح للربملان يف الدائرة التي ن�ش�أ فيها ،وله عالقة حميمة ب�أهلها ،وفوجئ بفوز املر�شح الوفدي فيها ،االمر الذي عزاه اىل �شعبية �سعد زغلول .وقد افقده ذلك الثقة يف اجلماهري وقدرتها على اختيار قادتها من وجهة نظره.
دولة يوليو :مع العمال و�ضدهم تعد ثورة يوليو �إنت�صار ًا على النخبة الراف�ضة للإ�صالح االجتماعي� ،إذ اتت قياداتها بتوجهات وا�ضحة لإعادة توزيع الرثوة و�إطالق عملية التنمية التي مل تنجح يف حتقيقها االح��زاب املت�صارعة قبل عام 1952على النحو املرجو .ويف هذا ال�سياق ،ا�س ُتدعي رجل �آخر اىل امل�شهد االقت�صادي يحمل للم�صادفة اال�سم نف�سه� ،أي �صدقي� ،أق�صد هنا عزيز �صدقي ،وهو اول وزير �صناعة
�سعى �صدقي �أثناء توليه رئا�سة الـــــــــــــــــــــوزراء �إىل و�ضع قيود على حرية النـــــــــــــــــــــــــــاخبني يف اختيار نواب الربملـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان، وتقنينها من خالل تغييــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر قانون االنتخابات وو�ضع د�ســـــــــــــــــــــتور جديد �ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنة 1933 و�سعى �صدقي اثناء توليه رئا�سة الوزراء �إىل و�ضع قيود على حرية الناخبني يف اختيار نواب الربملان ،وتقنينها من خالل تغيري قانون االنتخابات وو�ضع د�ستور جديد �سنة .1933ود�أب �أي�ض ًا على و�ضع كوابح للحركة االجتماعية من خالل التعامل مع االحتجاجات العمالية بعقلية �أمنية .وات�سمت «�سنوات �صدقي بالقمع وانخفا�ض م�ستويات الن�شاط العمايل» ،وفق امل�ؤرخني جويل بنني وزاكاري لوكمان ،يف كتاب «عمال على �ضفاف النيل».
قدراتهم التنظيمية .وكان ت�أميم احلركة العمالية جزء ًا من عملية جتميد كامل للحياة الدميقراطية ،وهو الو�ضع الذي مل يدم� ،إذ تفاقمت االزمة االقت�صادية لأ�سباب عدة كان من ابرزها غياب الدميقراطية الذي �أدى �إىل �سوء االدارة وتف�شي الف�ساد .وفيما اجته النظام اىل �سحب امتيازاته االجتماعية من خالل �سيا�سات االنفتاح� ،شكلت كل من احلركة الطالبية الدميقراطية وعمال القطاع العام طليعة االحتجاجات يف انتفا�ضة ،1977وموجة التظاهرات التي تلتها خالل حقبة الثماننيات. االقت�صاديون اجلدد يف عام ،2007اعترب يو�سف بطر�س غايل ،احد ابرز اقت�صاديي دولة مبارك ،يف حوار مع �صحيفة «الدايلي نيوز» �أن «الوزير الذي يقوم بواجبه ال يحظى بال�شعبية». كان ذلك يف احد اعوام النمو االقت�صادي القوي لآخر حكومات مبارك التي مل متنع ال�سخط ال�شعبي ب�سبب غياب العدالة يف توزيع ثمار هذا النمو واالمتيازات القوية التي منحت للم�ستثمرين كقانون ال�رضائب على الدخل الذي و�ضعه غايل عام 2005وخف�ض �رشائح �رضائب ت�صاعدية اىل .%20 وواج��ه غ��ايل ،ال��ذي خدم اط��ول مدة كوزير مالية يف عهد الرئي�س املخلوع ،ا�رضاب ًا قوي ًا من موظفي م�صلحة ال�رضائب العقارية انتهى بنجاح العمال يف ت�أ�سي�س نقابة م�ستقلة عن االحتاد «الكوربوراتي» النا�رصي .و�شكل
بعد ثورة يوليو كان ت�أميم احلركة العمالية جزءاً من عمليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة جتميد كامل للحياة الدميقراطية ،وهو الو�ضع الذي مل يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدم، �إذ تفاقمت االزمة االقت�صادية ال�سباب عدة كان من ابرزها غياب الدميقراطيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة الذي �أدى �إىل �سوء االدارة وتف�شي الف�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاد
خالل اال�شتباكات يف القاهرة بني املحتجني املعار�ضني للحكومة وال�رشطة يف 28كانون الثاين .2011 95
يف العهد النا�رصي .لكن رجل الدولة االقت�صادي هذه املرة مل ي�أت من قلب ال�سيا�سة ،اذ ُدعي اىل العمل مع النظام ب�سبب ر�سالة دكتوراه عن حتمية الت�صنيع ،ففي دولة يوليو بد�أ الف�صل بني ال�سيا�سة واالقت�صاد. وبينما كان عزيز �صدقي يطبق احدث �سيا�سات التنمية من خالل الت�صنيع يف تلك احلقبة ،كان وزير ال�صناعة ال�شاب جزء ًا من م�رشوع �سيا�سي ا�ستبدادي اي�ض ًا .فقد �أ�س�س للحركة العمالية قطاع ًا عام ًا قوي ًا ،ولكنه و�ضع حركتها النقابية حتت �سلطة احتاد غري دميقراطي ،ت�أ�س�س عام 1957وال يزال قائم ًا ،وهو ما افقد العمال الكثري من بدايات
العدد 2013 |6
ذلك البداية حلركة ا�ستقالل نقابي انت�رشت كالعدوى يف القطاعني العام واخلا�ص .ولكن غايل واحلكومة النيوليربالية بقوا مبعزل عن هذا احلراك ال�شعبي .و�سعى وزير الداخلية القوي يف احلكومة ،حبيب العاديل ،اىل حما�رصة تظاهرات ال�شباب املطالبة بالتغيري ال�سيا�سي. هذا اجلو املتوتر جعل جهود غايل يف «القيام بواجبه» لتمهيد بيئة اال�ستثمار جلذب ر�ؤو�س االموال غري كافية، �إذ كان العديد من امل�ستثمرين الأجانب يعبرّ ون عن خماوفهم من املخاطر ال�سيا�سية يف حال نقل ال�سلطة من مبارك الأب اىل جنله جمال.
هل تغيرّ اخلطاب بعد الثورة؟ مع قيام ال��ث��ورة ،اعترب العديد من رج��ال االعمال واالقت�صاديني� ،أن للثورة وجه ًا ايجابي ًا يتمثل يف انهاء م�شكلة التوريث ب�شكل �سلمي ،ما يقلل من خماوف امل�ستثمرين ،وتركز خطابهم على �رضورة وقف اال�شكال االحتجاجية فور ًا لتمهيد بيئة اال�ستثمار جلذب االموال. وانت�رش تعبري «اال�رضابات الفئوية» لي�صور احتجاجات العمال على انها اعمال انانية منف�صلة عن الثورة .والواقع ان هذا اخلطاب مل يركز ،كاملعتاد ،على الت�أثري ال�سلبي لال�ستبداد ال�سيا�سي يف ف�شل االقت�صاد� ،إذ �إن تقارير الت�صنيف االئتماين للوكاالت الدولية منذ عام ،2011 ال يزال منوذج «امل�ســــــــــــــــتبد امل�ســـــــــــــــــتنري» يغازل م�شاعر البعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ�ض، بالرغم من ان الدر�س التاريخـــــــــــــــــــــــــــــــــي من كل �ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنوات الف�شل االقت�صادي املا�ضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي هو ان اال�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتبداد ال يحقق اال�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتقرار كانت تر�صد كيف �أثرت �أعمال العنف �ضد التظاهرات الدميقراطية �سلب ًا على ر�ؤي��ة تلك امل�ؤ�س�سات للو�ضع عدة امل�رصي ،فرتاجع الت�صنيف االئتماين مل�رص مرات ّ ب�سبب احداث كموقعة اجلمل ومذبحة ما�سبريو ،و�ضبابية الر�ؤية ب�ش�أن خطة املجل�س الع�سكري لنقل ال�سلطة وعجز حممد مر�سي ،اول رئي�س منتخب ،عن خلق بيئة من التوافق ال�سيا�سي. كذلك عانى العمال من ت�أخر ال�سلطة يف ا�صدار قانون ينظم احلريات العمالية ،ومن ا�شكال خمتلفة للقمع ،من الهجوم على اعت�صاماتهم بالبلطجية وا�شكال العنف املختلفة وا�ستهداف م�ؤ�س�سي النقابات الدميقراطية بالف�صل التع�سفي وعدم تعديل قانون العمل الذي �صدر يف عهد مبارك ( ،)2003والذي ي�سهل على �صاحب العمل ف�صل العامل؛ اذ قد ت�صل مدة التقا�ضي يف هذه الق�ضايا لعدة �سنوات ،واذا �صدر احلكم مل�صلحة العامل فال يوجد ما يلزم �صاحب العمل ب�إعادته اىل �رشكته، وي�ستطيع االكتفاء بتعوي�ضه .وبالرغم من كل ادوات اال�ستبداد التي ظلت متاحة يف يد الر�أ�سمالية ،متكنت احلركة العمالية من ت�أ�سي�س �أكرث من الف نقابة م�ستقلة. واىل جانب ملف العمال� ،سببت حرية التعبري والتظاهر 98
بدايات
العدد 2013 |6
ف�ضح اوجه الف�ساد ،فحذر البع�ض من �أن حما�سبة نخب االعمال القدمية نوع من تخويف اال�ستثمار؛ �إذ تلقى الكثري من االقت�صاديني بامتعا�ض الأحكام الق�ضائية ال�صادرة ببطالن �صفقات اخل�صخ�صة الفا�سدة يف عهد مبارك ،بالرغم من حديثهم الدائم عن انه ال اقت�صاد �صحي ًا دون �سيادة للقانون. باخت�صار ،ال تزال الدميقراطية ال تلقى احلما�سة الكافية بني العديد من االقت�صاديني بالرغم من كل التطورات التي حدثت منذ يناير ،2011وال يزال منوذج «امل�ستبد امل�ستنري» يغازل م�شاعرهم ،بالرغم من ان الدر�س التاريخي من كل �سنوات الف�شل االقت�صادي املا�ضي هو ان اال�ستبداد ال يحقق اال�ستقرار� .إذ �رسعان ما �سيثور عليه ال�شعب ،وي�سبب بيئة متوترة ال جتذب اال�ستثمارات طويلة االجل؛ �إذ � ّإن حريات العمال يف التنظيم واالحتجاج هي اف�ضل ال�سبل لتحقيق توزيع عادل للمداخيل يف املن�ش�آت االقت�صادية ومن ثم للرثوة داخل املجتمع ب�أكمله ،مبا ين�شط اال�ستهالك املحلي ويدفع النمو االقت�صادي .كذلك � ّإن الدر�س االكرب هو ان ف�شل الدميقراطية ي�ؤدي اىل ف�ساد امل�ؤ�س�سات القائمة على التنمية.
لقطات من مذكرات �إ�سماعيل �صدقي: قدر ا�ستعداد �أهل بالده ولكن مو�سوليني ...مل يكن قد ّ للرقي االخالقي ...وهذا هو �رس االنقالب و�رس الف�شل الذريع يف م�شاريعه ال�سيا�سية واحلزبية. ان ال�صحافة قوة ت�ستطيع �أن تبني ،وت�ستطيع �أن تهدم، وا�ستطاعتها يف الهدم �أ�شد منها يف البناء. ال �أراين م�رسف ًا اذا قلت ان فريق الدميقراطية كان قد جرب عدة مرات يف احلكم ف�أبدى عجز ًا ،و�أو�شك ان ّ يلحق يف كل مرة بالبالد و�سمعتها �رضر ًا بليغ ًا ...ذلك �أنه مل ي�سلك يف احلكم ال�سبيل امل�ستقيم ،فقد �شغل با�ستدامة ا�سباب النفوذ وال�سلطان لنف�سه ،وبتوفريه عما يقت�ضيه وجوه املنافع لأن�صاره والث�أر من خ�صومهّ ، احلكم من توافر على النظر يف حاجات البالد و�رضوب ورقيها. الإ�صالح ،وت�ضحية يف �سبيل �إ�سعاد البالد ّ
معارك التغيري المتوازية إبراهيم الهضييب مل تزل معارك التغيري يف م�رص م�ستمرة ،ومل تزل كل اخليارات مطروحة وجميع البدائل ممكنة ،رغم مرور �أكرث ناشط وجامعي من �سنتني على خلع الرئي�س مبارك ،واملعارك الدائرة ومدون مرصي من التنوع والتعقيد بحيث ت�ستحق بع�ض الت�أمل ّ لفك ّ ت�شابكاتها ،وهو ما تهدف �إليه هذه الورقة ،التي تنظر �إىل املعارك كتجليات لأزمة ال�رشعية التي تعانيها الدولة، ال رئي�سي ًا قادر ًا على بعدما �أعادت الثورة اجلماهري فاع ً 1 مواجهتها ،و�إ�صابتها -ي مب�ؤ�س�سات الهيمنة والقيادة فيها -ب�رشوخ عميقة جعلت حتديها ممكن ًا ،ويتجلى هذا 1املق�صود بالهيمنة هنا ما عبرّ عنه التحدي يف ت�آكل �رشعية الأمن��اط املفرو�ضة يف �إدارة �أنطونيو غرام�شي املجتمع ب�أبعاده املختلفة. بـ ،domination وبالقيادة ما عرب عنه بـ .hegemonyوتذهب الورقة �إىل � ّأن الدولة امل�رصية احلديثة ،منذ ن�ش�أتها �إب��ان حكم حممد علي ،قد �سلكت م�سارات � 2سامي زبيدة، التم�صري والتحديث والدولنة ،و� ّأن هذه امل�سارات ظلت ال�شظايا تتخيل حاكمة حتى اندالع الثورة ،التي هددت �أمناط ال�رشعية �أمة :حالة العراق، يف كيف نقر�أ القائمة على نحو يتجلى يف ثالث ق�ضايا رئي�سية ،هي العامل العربي عالقة الدولة باملجتمع ،وتعريفها للدين وتنظيمها لعالقتها اليوم؟ ر�ؤى بديلة يف العلوم االجتماعية ،حترير به ،وتعريفها لالقت�صاد وتنظيمها �إياه ،و� ّأن املتغريات يف �إميان حمدي ،حنان هذه الق�ضايا هي املرايا الأكرث �صدق ًا يف عك�س م�سارات �سبع ،رمي �سعد، ترجمة ملك التغيري يف م�رص. ر�شدي، �رشيف يون�س ،دار فـ«الدولة امل�رصية» ،التي بد�أت يف الت�شكل مع و�صول العني للن�رش- ،2013حممد علي �إىل احلكم يف ،1805كانت �أ�سبق يف القاهرة، الوجود من «الأمة امل�رصية» ،كما هي احلال يف العديد من �ص .306 دول العامل الثالث ،بل كان لها الف�ضل يف �صناعة الهوية 3فينا دا�س« ،توقيع امل�رصية ،وذلك بو�سائل عدة ،منها «الوظائف االقت�صادية الدولة ،مفارقة الغمو�ض ،يف كيف ال�رضيبية للدولة وتخ�صي�صها للموارد وتوظيف النا�س نقر�أ العامل العربي يف �صفوفها املت�ضخمة ،وي�ستكمل ذلك بنظام تعليم قومي اليوم؟» ر�ؤى بديلة يف العلوم ينتج كفاءات للتوظيف ،وحقل ثقايف من و�سائل الإعالم االجتماعية، يعمل بلغة قومية معيارية» ،2وكانت عملية �إعادة �صناعة �ص .325 99
بدايات
العدد 2013 |6
الهوية والأمة �سبب ًا يف تهمي�ش الوجود الذاتي لأ�شكال التنظيم االجتماعي املتداخل ال�سابق على الدولة ،و�صعود االنتماء �إىل تلك الدولة -تدريجي ًا -كهوية مطلقة، و�صناعة جماعة وطنية على هذا الأ�سا�س ،نخبتها تت�شكل من خليط من املنتمني �إىل اجلماعات الفرعية التقليدية املختلفة (اجلغرافية والوظيفية والطبقية وغريها) ،بعد �أن يعاد ت�صنيعهم يف م�ؤ�س�ساتها. و�صناعة الدولة بهذه الطريقة قوبلت مبقاومة جمتمعية، حتاول احلفاظ على الهويات والأمناط االجتماعية والثقافية املتوارثة (و�إن كان وجود متثيل متخيل للفئات املختلفة على ر�أ�س الدولة يخفف منها) ،غري �أنها ا�ستبطنت -عرب الزمن � -أ�ساليب الدولة ومنطقها� ،إذ «مبجرد �أن ت�ؤ�س�س ال للحكم من خالل تكنولوجيات الكتابة، الدولة �أ�شكا ً تكون قد �أ�س�ست يف الوقت نف�سه �إمكانية �أ�شكال التزوير والتقليد واملحاكاة لأداء قوتها»� ،3أي �إنها ت�ضع الأمناط والأ�س�س احلاكمة ملعار�ضتها واخلروج عليها ،التي ت�أتي يف طبقات متعددة� ،إذا ُنزع �أحدها وجد الذي يليه، وت�صري جل �أ�شكال املعار�ضة بذلك �إ�شارة �إىل الوقوع حتت �سلطان الدولة ،ومن ثم ت�ساهم يف �إ�ضفاء املزيد من ال�رشعية عليها .غري �أن الت�آكل الكبري للدولة وقت الثورة فتح �آفاق ًا وا�سعة لإعادة تعريف ال�رشعية وفق معايري غري قانونية (م�ستمدة من ت�صورات لقيم دينية �أو �إن�سانية متجاوزة) ،ف� ّأ�س�س ذلك ل�رشعية اخلروج على ال�رشعية، ويبقى ال�رصاع حمتدم ًا بني �رشعية القانون وال�رشعية غري القانونية حلني الو�صول �إىل نقطة توازن. من املجتمع �إىل الدولة كان تنظيم �ش�ؤون الأفراد قبل و�صول حممد علي �إىل احلكم يتم بالأ�سا�س من خالل امل�ؤ�س�سات الأهلية� ،أهمها
4
Egypt’s Nineteenth- Century Armaments Industry. Dunn, John. 2, s.l. : Society for Military History, 1997, Vol. 61, p. 233.
5امل�ست�شار طارق الب�رشي ،امل�سلمون والأقباط يف �إطار اجلماعة الوطنية، دار ال�رشوق، القاهرة -م�رص ،2004 �ص .17-16 6
Afifi, Muhammad. «The State and the Church in Nineteenth Century Egypt». 3 November 1999, Die Welt des Islams, Vol. 39, pp. 273-288, p. 282.
7
Farah, Egypt’s Political Economy, p. 100.
8امل�ست�شار طارق الب�رشي ،امل�سلمون والأقباط� ،ص .36 9امل�ست�شار طارق الب�رشي ،امل�سلمون والأقباط� ،ص .35 10امل�ست�شار طارق الب�رشي ،امل�سلمون والأقباط� ،ص .37 1امل�ست�شار 1 طارق الب�رشي، �شخ�صيات ت�أريخية ،ال�رشوق- القاهرة،2010 ، �ص .12
12
Farah, Egypt’s Political Economy, p. 29.
13حممد ح�سني، احلركة العمالية امل�رصية.
100
الطرق ال�صوفية ،وعلماء الأزه��ر ،و�شيوخ احلرفيني، والأوقاف ،والكني�سة الأرثوذك�سية ،ونظم العمد وامل�شايخ، وامل�ساجد ،وكانت العالقات بني هذه امل�ؤ�س�سات مت�شابكة؛ �إذ كان الأزهر «م�ؤ�س�سة �صوفية» ب�سبب انتماء طالبه و�شيوخه �إىل الطرق ،وا�ستندت كلتا امل�ؤ�س�ستني ،الأزهرية وال�صوفية� ،إىل م�ؤ�س�سة الوقف لتمويل �أن�شطتهما، وتعاظمت الروابط بني الطرق ال�صوفية والنقابات، ف�أن�شئت -على �سبيل املثال -طرق �صوفية للجزارين والنحا�سني ،وتقاطعت هذه امل�ؤ�س�سات جميع ًا يف مواقعها اجلغرافية بامل�ؤ�س�سات املحلية ،كالعمد وامل�ساجد، فتداخلت بوظائفها املختلفة «لتحقيق غايات اجلماعة يف �ش�ؤونها املتعددة واملتنوعة واملتداخلة» ،وكانت حركة املجتمع ناجتة من جممل هذه التداخالت ،مبعنى � ّأن ت�أثري الدولة كان حم��دود ًا ،وكانت امل�ؤ�س�سات الأهلية هي الفاعل الرئي�سي يف حركة املجتمع. و�شُ غل علي � -إبان و�صوله �إىل ال�سلطة -بت�أمني حكمه من طريق �إن�شاء دولة قوية ،ف�أممّ الأرا�ضي الزراعية من املماليك ،و�أدخل العديد من ال�صناعات اململوكة للدولة، و�أن�ش�أ نظام ًا للتعليم احلديث لتوفري الكوادر املطلوبة لإدارة البريوقراطية ،و�أن�ش�أ جي�ش ًا حمرتف ًا ،بلغ ن�صيبه ما ي��راوح بني 33%و 60%من الإنفاق ال�سنوي يف الفرتة بني 1805و ،41847وكانت بريوقراطية علي وجي�شه نواة الدولة امل�رصية احلديثة ،وفيهما ت�شكلت الهوية ،ومن خاللهما �أعيد ت�شكيل منط العالقات والإدارة كنتيجة للم�سارات التي �سلكها علي ومن جاء بعده. �سلك حممد علي وخلفا�ؤه ثالثة م�سارات متوازية، �أولها م�سار التم�صري ،الذي بد�أ �سنة 1822بان�ضمام �أربعة �آالف من امل�رصيني امل�سلمني �إىل اجلي�ش ،5قبل �أن يج ّند خلفه �سعيد الأقباط ،6ثم �إلغاء اجلزية وا�ستبدال التجنيد الإجباري للم�رصيني -بقطع النظر عن الدين بها �سنة ،71855و«مت�صري الق�ضاء ال�رشعي» بتعينيالق�ضاة من قبل الوايل بدل اخلليفة العثماين يف نف�س ال�سنة ،8وتعريب رفاعة الطهطاوي �صحيفة «الوقائع امل�رصية» عند توليه �إدارتها ،بعدما كانت الرتكية لغتها الرئي�سية ،9و�إن�شاء �أول جمل�س نيابي م�رصي -و�إن بغري �سلطات ت�رشيعية جادة � -سنة ،1866وحتول اللغة العربية للغة الر�سمية للمخاطبات احلكومية �سنة ،1869وتعيني ق�ضاة من الأقباط يف املحاكم خالل حكم اخلديوي �إ�سماعيل ،بالتزامن مع �إن�شاء املحاكم ق�ضاء م�رصي ًا يخ�ضع له امل�رصيون احلديثة ،بحيث «�صار ً بدايات
العدد 2013 |6
عامة على �أ�سا�س اجلامعة الوطنية» ،10و�إن�شاء احلزب الوطني الأهلي يف 1879على �أر�ضية م�رصية ،داعي ًا «من يحرث �أر�ض م�رص ويتكلم لغتها (�أن) ين�ضم لهذا احلزب ف�إنه ال ينظر الختالف املعتقدات» ،11وجتلى ذلك ب�شكل �أكرث و�ضوح ًا يف �أعقاب ثورة ،1919بقانون منع متلك الأجانب للأرا�ضي ،12وكذا �إن�شاء بنك م�رص �سنة ( 1920لتمويل الأن�شطة ال�صناعة) ،واحتاد ال�صناعات بالقطر امل�رصي ،الذي �ضم 90ع�ضو ًا بر�ؤو�س �أموال بلغت 40مليون جنيه ،ي�ستخدمون � 150ألف عامل 97%منهم م�رصيون.13 ثاين امل�سارات املُ�شكلة مل�رص القرنني ال�سابقني كان التحديث� ،أي الإدارة احلديثة للمجتمع واالقت�صاد، والقائمة على �أن تقتحم الدولة «املجتمع وتنظم العالقات االجتماعية وت�ستخرج امل��وارد وت�ستخدمها بطريقة حمددة �سلف ًا» ،14وقد ظهر ذلك يف �سيطرة الدولة على املوارد االقت�صادية ،وت�أميم الأرا�ضي الزراعية (�إال ما كان مملوك ًا لأ��سرة علي) ،و�إن�شائها م�رشوعات للري �ضاعفت م�ساحة الأرا�ضي الزراعية ،وفر�ضها حما�صيل بعينها على املزارعني ،ا�شرتتها منهم ب�أ�سعار منخف�ضة، ثم �أعادت بيعها يف ال�سوق املحلي �أو اخلارجي ،15ثم اهتمامها بـ«ت�شجيع الت�صدير وبناء البنية التحتية الالزمة لتعظيم �إنتاج القطن» ،16وا�ستقدام العبيد للم�شاركة يف الأن�شطة الزراعية ،17وا�ستخدام عوائد الت�صدير يف البنية التحتية ،على نحو �أدى �إىل تزايد الوجود الأجنبي والربط باالقت�صاد العاملي؛ �إذ جنحت بريطانيا يف احل�صول على م�رشوع ال�سكة احلديد بني الإ�سكندرية وال�سوي�س مبباركة الوايل عبا�س حلمي ،18ثم ا�ستخدم اخلديوي �إ�سماعيل عوائد الت�صدير يف م�رشوع حتديث القاهرة على النمط الفرن�سي ،يف �إطار ما يذهب بع�ض الك ّتاب أعم لتغيري «منط حياة الإن�سان امل�رصي... �إىل كونه حماولة � ّ غيرّ التقومي من الهجري �إىل امليالدي ،وغيرّ ال�ساعة من العربي �إىل الإفرجني ،وغيرّ الأزياء ،وغيرّ منط املعي�شة»،19 وقد جتلى التحديث كذلك يف «قوانني الفالح» التي �صدرت وقت حممد علي ،والتي �أحالت الفالحني �إىل و�سائل �إنتاج ،ومنعتهم من الت�رصف يف �إنتاج الأرا�ضي الزراعي على النحو الذي يرغبون. �أما ثالث امل�سارات فكان الدولنة� ،أي �سطو الدولة على امل�ؤ�س�سات الأهلية التي مكنت املجتمع من التنظيم الذاتي ل�ش�ؤونه� ،إذ ر�أت فيها الدولة تهديد ًا ل�سيادتها، ف�أخذت يف ب�سط نفوذها التدريجي عليها ،حتى �صارت
14
Owen, Roger. «Egyptian Political Economy», MERIP www.merip.org/ mer/mer169/ egyptian-politicaleconomy.
15
Farah, Egypt’s Political
16
Economy, p. 26.
Farah, Egypt’s Political
17
Economy, p. 27. Cuno, Kenneth M. «African Slaves in 19th-Century Rural Egypt», International Journal of Middle East Studies, v 41, 2009, pp. 186-188.
18الدكتورة لطيفة حممد �سامل ،القوى االجتماعية يف الثورة العرابية، �ص .13 19الدكتور علي جمعة ،التجربة امل�رصية ،نه�ضة م�رص -القاهرة، � ،2008ص .19 20الدكتور عمار علي ح�سن ،التن�شئة ال�سيا�سية للطرق ال�صوفية. 21امل�ست�شارطارق الب�رشي ،تقدمي كتاب الأوقاف وال�سيا�سة يف م�رص، �إبراهيم البيومي غامن� ،ص .9 22
Richards and Waterbury. A Political Economy, p. 18.
23
«From national bourgeois development to Infitah: Egypt 1952-1992». Aoude, Ibrahim G. 1, s.l. Arab Studies Quarterly, 1994, Vol. 16.
101
تبع ًا لها ،كما حدث مع الأوقاف (ب�إن�شاء ديوان عمومي للأوقاف �سنة 1835م ،ثم منع �إن�شاء الأوقاف اجلديدة �سنة 1846م ،و�إلغاء الديوان ثم �إعادته �سنة ،1851 وحتويله اىل نظارة �سنة ،1878وعودته ديوان ًا �سنة ،1884ثم وزارة �سنة ،1913ثم حتول التدخل لـ«م�صارف» الأوقاف ،بقانون رقم 48ل�سنة 1946 الذي �سمح ب�إلغاء الأوقاف القائمة ،ثم القانون 547 ل�سنة 1953الذي ق�رص النظارة على الدولة وانتزعها من باقي النظار �إال لو كان الواقف هو نف�س الناظر ،ثم القانون 30ل�سنة ،)1957والطرق ال�صوفية (ب�إ�صدار فرمانات اعتماد �شيخ م�شايخ الطرق ،ثم تدخل الدولة لـ»حتديد جم��االت ال�سلطة لكل من �شيخ ال�سجادة البكرية و�شيخ الأزهر» ،ثم �إ�صدار الئحة الطرق ال�صوفية يف 1895م ،فالئحة 1903م ،وتعديالتها 1905م، ال للقانون 118ل�سنة ،20)1976والأزه��ر و�صو ً ال�رشيف (بتعيني �شيخه بعد وفاة ال�شيخ �إبراهيم الباجوري �سنة 1860م ،فالتنظيم القانوين لطريقة احل�صول على العاملية وموادها يف ،1872فالتحديد القانوين مل�ؤهالت املدر�س الأزهري يف ،1885فت�أليف جمل�س عالٍ لإدارة الأزهر ،1908فتحديد اخت�صا�ص �شيخ الأزهر يف ،1911فتحديد نظم التعليم يف الأزهر �سنة ،1930و�إعطاء امللك حق تعيني وعزل القادة الدينيني ال لقانون 103 يف د�ستوري 1923و ،1930وو�صو ً ل�سنة 1961الذي �أحال الأزهر جامعة حكومية و�شيخه موظف ًا تابع ًا للدولة) ،ونقابات احلرفيني (احتكار الدولة للخامات والت�سويق ،ثم جمع احلرفيني للعمل باجلرب يف امل�صانع احلربية ،ثم �إلغاء �صالحيات �شيوخ احلرف يف جمع ال�رضائب والق�ضاء والت�أديب ر�سمي ًا يف عهد �سعيد)، ومل يكن الو�ضع مغاير ًا يف ما يتعلق بنظام العمد وغريه من التنظيمات االجتماعية ،فكانت املح�صلة النهائية �أن قامت الدولة بت�صفية «م�ؤ�س�سات املجتمع التقليدية، لي�س لإحالل امل�ؤ�س�سات الأهلية ال�شعبية اجلديدة حملها، ولكن لإحالل ال�سيطرة املركزية للدولة احلديثة حملها، وهي التي ق�ضت تباع ًا على التكوينات الأهلية التقليدية، ال لتف�سح لتكوينات �شعبية �أهلية �أحدث و�أكف�أ من حيث الإدارة الالمركزية واتخاذ القرارات الذاتية ،ولكنها ق�ضت على القدمي لتنهي الوجود الذاتي مل�ؤ�س�سات تعتمد على فكر و�أعراف و�صالت اجتماعية را�سخة ،ولتن�شئ واجهات م�ؤ�س�سات حديثة تن�ش�أ وتعمل حتت الهيمنة ال�سيادية جلهاز الدولة القاب�ض».21 بدايات
العدد 2013 |6
كانت ثورة يوليو جتلي ًا لهذه امل�سارات الثالثة؛ قادها �أبناء الدولة من الع�سكريني ،وت�شابكت فيها م�سارات التم�صري والدولنة والتحديث يف �إج��راءات مثل �إلغاء املحاكم ال�رشعية ،1955و�إلغاء الأحزاب ال�سيا�سية، وو�ضع الأوقاف اخلريية حتت �سيطرة وزارة الأوقاف ،وتوكيد �إخ�ضاع الأزهر ل�سلطان الدولة� .أما �أهم التجليات ،فكانت يف البنية االقت�صادية واالجتماعية� ،إذ فر�ضت الدولة قيود ًا على متلك الأرا�ضي الزراعية ،وفر�ضت �رضائب على القطاع الزراعي بغر�ض ا�ستثمارها يف �أن�شطة �صناعية،22 وبد�أت ب�إ�سهام متوا�ضع للقطاع العام يف الناجت القومي مل يتجاوز ،2313%قبل موجة الت�أميمات التي بد�أت �سنة ( 1956مدفوعة بال�رصاع ال�سيا�سي لتمويل بناء ال�سد العايل ،و�شملت جل الأ�صول الفرن�سية والربيطانية يف �أعقاب العدوان الثالثي) وتنامت لتوجد قطاع ًا عاما �ضخما ً يف ال�ستينيات ،24وحاولت الدولة تعميق اال�ستقالل االقت�صادي عن اخلارج باال�ستثمار يف �صناعات كالن�سيج لتقليل اال�سترياد ورب��ط ذلك بزراعة القطن وتطوير �صناعات احلديد ،25و�أوجد ذلك حاجة لت�ضخم اجلهاز الإداري امل�س�ؤول عن �إدارة القطاع العام ،ف�صارت �أكرث من ن�صف القوى العاملة يف غري الزراعة موظفة حكومي ًا،26 وجل�أت م�رص لالقت�صاد املخطط مركزي ًا ،و�ضعت �أوىل خططه �سنة 1957ورفعت اال�ستثمار يف ثالث �سنوات من مليونيَ جنيه �إىل 49.3مليون ًا �سنة ،1960 وت�ضخمت يف الفرتة ذاتها القوى العاملة بن�سبة 8.5% �سنوي ًا ،وت�ضاعف اال�ستثمار يف ال�صناعة بن�سبة 82% خالل ع�رش �سنوات ،كان الرتكيز خاللها على ال�صناعات الثقيلة كاحلديد والأ�سمنت والأ�سمدة.27 كانت الثمرة الأه���م للحقبة النا�رصية احل��راك االجتماعي؛ �إذ ات�سع نطاق التعليم بزيادة عدد الطلبة املقيدين باملدار�س مبعدل � 14%سنوي ًا بني 1952 و ،281976وارتفعت ن�سبة القيد يف اجلامعات مبعدل � 32%سنوي ًا يف الفرتة ذاتها ،وانخف�ضت ن�سبة فقراء الريف من 35%يف � 1958إىل 27%يف ،1964 وانخف�ضت ن�سبة فقراء احل�رض من � 30%إىل 27.8% يف الفرتة ذاتها ،وزادت ن�سبة الأجور �إىل �إجمايل الدخل من 38%يف � 1950إىل � 50%سنة .291967 من حكم الدولة اىل لتحكم ال�سوق و�صلت الدولة امل�رصية اىل �أوج �سلطانها يف احلقبة النا�رصية ،ثم بد�أت يف الرتاجع ،ال مل�صلحة املجتمع الذي
24
Farah, Egypt’s Political
25
Economy, p. 33. Richards and Waterbury, A Political Economy, p. 24.
26
Richards and Waterbury, A Political Economy, p. 179.
27
Farah, Egypt’s Political Economy, p. 34.
28
Richards and Waterbury, A Political Economy, p. 120.
29
Farah, Nadia Ramsis, «Political Regimes and Social Performance: The Case of Egypt», in Ibrahim, Keyder and Oncu eds Developmentalism and Beyond, p. 144.
30
Farah, Nadia. Egypt’s Political Economy, p. 38.
31
Farah, Nadia. Egypt’s Political Economy, p. 39-40.
32
Farah, Nadia. Egypt’s Political Economy, p. 39.
33
Elehway, Naglaa and Nassar, Heba. «Poverty, Employment and Policy Making in Egypt: A country profile». Cairo, ILO, Area Office, 2001.
34
Farah, Nadia. Egypt’s Political Economy, p. 41.
35
Farah, Nadia. Egypt’s Political Economy, p. 41.
102
�سطت عليه ،بل ل�صالح ال�سوق الذي فككت امل�ؤ�س�سات املقاومة له (�سواء التنظيمات النقابية �أو امل�ؤ�س�سات الأهلية احلادة من �أثره املجتمعي) ،فلم يحتج الرئي�س ال�سادات بعد و�صوله �إىل احلكم �إال لأ�شهر ليعيد توجيه االقت�صاد ال �إعادة ربط بعيد ًا عن �سيا�سات االكتفاء الذاتي ،حماو ً م�رص بالنظام العاملي من خالل �سيا�سات االنفتاح ،فحفز اال�ستثمار الأجنبي وعظم من �ش�أن القطاع اخلا�ص يف �إدارة امل�رشوعات التنموية ،و�أمنه �ضد الت�أميم ،و�أعفاه من قوانني العمل النا�صة على وجوب تثبيت العمال ومتثيلهم يف الإدارة وم�شاركتهم الأرب��اح ،30واجته االقت�صاد يف جممله للن�شاط الريعي ال الإنتاجي ،معتمد ًا على الطفرة يف �أ�سعار البرتول التي �أدت �إىل زي��ادة العوائد (من 187مليون دوالر �سنة � 1974إىل 3329مليون ًا يف ،)1981وحتويالت العاملني باخلارج (من 189 مليون دوالر يف � 1974إىل 2855يف ،)1980 وعلى انتهاء �أجواء احلرب ،التي �أدت �إىل زيادة عوائد قناة ال�سوي�س (من 85مليون دوالر �سنة � 1975إىل 909 ماليني �سنة )1981وال�سياحة (من 265مليون دوالر �سنة � 1975إىل 611مليون ًا �سنة ،)1981وقد ترجمت هذه الزيادات يف الدخل مل�ؤ�رشات �إيجابية يف النمو ال�سنوي لالقت�صاد (راوحت بني 8%و21.5% بني �سنتي 1975و� .31)1981إال �أن حتكم ال�سوق �أدى �إىل �أدواء اقت�صادية واجتماعية ج�سيمة ،فرتكزت ا�ستثمارات القطاع اخلا�ص يف الأن�شطة غري الإنتاجية، كالإ�سكان املتميز ،وامل�ضاربة يف الأرا�ضي ،وا�سترياد �سلع الرفاهية على نحو غري م�سبوق ،32و�أدى �إغفال الأن�شطة الت�شغيلية لزيادة معدالت هدم فر�ص العمل عن معدالت �صناعتها ،33ومن ثم زيادة معدالت البطالة من 4.3% يف � 1976إىل 11%يف ،341986وتراجع متو�سط الأجر الأ�سبوعي احلقيقي للعامل من 70دوالر ًا �سنة دوالرا �سنة .351991 � 1980إىل 11 ً �سلمت الدولة املجتمع لل�سوق ،فبد�أت يف التخلي ال برفع الدعم ،من طريق عن م�س�ؤولياتها االجتماعية (�أو ً ال�صدمة التي ولدت �أحداث يناير ،1977ثم من طريق ا�سرتاتيجية بديلة تقوم على االن�سحاب التدريجي) ،مع ا�ستمرار فر�ض قيود على التنظيمات العمالية (كالنقابات) وا�ستعمال القانون لإيجاد الظرف املمكن لر�أ�س املال، ومتت «معاملة العمالة والبيئة (الت�رشيعية واالقت�صادية) كمح�ض �سلع» 36يتم توظيفها مل�صلحة تلك املنظومة، وان�سحبت الدولة من قطاعات ال�صحة ،والتعليم، بدايات
العدد 2013 |6
واخلدمات االجتماعية ،وكان من �آثار ذلك على �سبيل املثال بقاء 44%من امل�رصيني �أميني ،37رغم مرور �أكرث من � 60سنة على �سيا�سات عبد النا�رص الرامية �إىل دمقرطة التعليم ،وبقي 13%من امل�رصيني حمرومني مياه ال�رشب ال�صحية يف ،1998و 12%منهم حمرومني خدمات ال�رصف ال�صحي ،38وكذا كان احلال يف ما يتعلق بالغذاء (الذي انخف�ض دعمه خالل �سنوات حكم مبارك بن�سبة 39)50%والإ�سكان وغريها من الوظائف االجتماعية للدولة� ،أي �إن املواطن مل يعد هدف عملية التنمية ،بل وقودها �إنتاج ًا وا�ستهالك ًا ،وكان الإجناز يف ما يتعلق بالتنمية الإن�سانية «فقري ًا»؛ �إذ تراجع �إجمايل اال�ستثمار يف التنمية الإن�سانية (خالف ًا لباقي املنطقة) لي�صل �إىل 4.1%من �إجمايل امليزانية يف .401992/1991 بدا متكني ال�سوق اخليار الأوحد املقبول من ال�سلطة يف �سنوات مبارك ،فكانت اال�ستجابة للأزمة االقت�صادية الطاحنة مطلع الت�سعينيات ت�سليم ال�سوق زمام الأمور بالكلية ،وفق برنامج دويل يقوم على «زيادة ا�ستقالل �رشكات القطاع العام ،و�إغالق بع�ض ال�رشكات اخلا�رسة منها ،وخ�صخ�صة ال�رشكات الأخ��رى» مع ر�أ�س املال وزيادة اال�ستثمار يف القطاع اخلا�ص ،41وتوازى ذلك مع تقييد قدرة البريوقراطية على املقاومة بحزمة من القوانني مكنت من تطويع البريوقراطية ،كالقانون 203 ل�سنة 1991الذي حول «امل�ؤ�س�سات امل�رشفة على (�رشكات القطاع العام) الإنتاجية �إىل �رشكات قاب�ضة، ومنحها �شكل ال�رشكة ،ثم جمع كل هذه ال�رشكات من جميع �أنواعها وتخ�ص�صاتها ...حتت �إمرة وزير واحد»، والقوانني 23ل�سنة 1994و 20ل�سنة 1998 التي انتق�صت من مهنية جهاز ال�رشطة وجعلت ا�ستمرار ال�رشطي يف وظيفته معتمد ًا على ر�ضا القيادة ال�سيا�سية عنه ،والقانون 142ل�سنة 1994الذي «جعل اختيار العمداء بالتعيني ال االنتخاب» ،فر�سخ تبعية اجلهاز الإداري يف اجلامعات لل�سلطة ال�سيا�سية ،وغريها من القوانني التي زادت من �أهمية الوالء ال�سيا�سي يف اجلهاز البريوقراطي ،42فانتق�صت من قدر املهنية فيه ،ومن قدرة �صغار موظفيه على االحتكام للوائح والقوانني مقابل ان�صياعهم لتعليمات كبار املوظفني ،ومت ا�ستثناء الأن�شطة االقت�صادية التابعة للم�ؤ�س�سة الع�سكرية من اخل�صخ�صة، التي اقت�رصت على جمموعة من املحا�سيب ،بنيت بينهم وبني رجال احلكم والع�سكر �شبكة من امل�صالح ا�ستمرت حتى ال�سنوات الأخرية من حكم مبارك.
36
Harvey, David. A Brief History of Neoliberalism, p. 70.
37
Richards and Waterbury, A Political Economy of the Middle East, p. 120.
38
UNDP Arab Human Development Report, 2002.
39
Maher, Stephen. The Political Economy of the Egyptian Uprising.
40
Lofgren, Hans «Egypt’s Program for Stabilization and Structural Adjustment: An Assessment». Cairo Papers In Social Science. Cairo: The American University in Cairo Press, Fall 1993, Volume 16, Monograph 3, p. 33.
41
Lofgren, Hans Egypt’s Program for Stabilization and Structural Adjustment, p. 9.
42امل�ست�شار طارق الب�رشي ،م�رص بني الع�صيانوالتفكك، �ص.74-68
43
Farah, Nadia. Egypt’s Political Economy, p. 45.
� 44أحمد ال�سيد النجار ،تقرير االجتاهات االقت�صادية اال�سرتاتيجية، مركز الدرا�سات ال�سيا�سية واال�سرتاتيجية بالأهرام-القاهرة، .2004
45
Farah, Nadia. Egypt’s Political Economy, p. 51.
103
ومع �صعود جنم جمال مبارك يف العقد الأخري من حكم مبارك ،حل منطق ال�رشكة ب�شكل (�شبه) كامل حمل الدولة ،على نحو جتلى يف �صعود وزارة رجال الأعمال يف ،2004وتوليها عمليات خ�صخ�صة على نطاق �أو�سع� ،شملت بيع � 80رشكة قطاع عام يف �سنتني ،ب�إجمايل 19.948مليار جنيه ،مع اتخاذ تدابري خف�ض العمالة لت�شجيع اخل�صخ�صة �أ�سهمت يف تعميق م�شكلة البطالة ،43التي و�صلت يف � 2004إىل 44 فرفع . 24%كذلك تراجع الدور االجتماعي للدولةُ ، الدعم جزئي ًا على نحو �أدى � -سنة � - 2006إىل زيادة ملحوظة يف �أ�سعار املوا�صالت والكهرباء واالت�صال،45 و�صلت يف الغذاء �إىل نحو ،24%وزادت بالتايل يف الفرتة من � 2005إىل 2008ن�سبة الأطفال دون اخلم�س �سنوات الذين يعانون من م�شكالت التعذية ،من � 5%إىل ،7%و�صارت قرابة 75%من الأ�رس امل�رصية تنفق �أكرث من ن�صف دخلها على الطعام« ،46وزادت ن�سبة من يعي�شون حتت خط الفقر �إىل ما يقرب من ،40%كما �شهدت الفرتة ذاتها الزيادة املطردة يف معدل الت�ضخم ،ليعود �إىل الرقم 20%يف منت�صف عام ،47»2008ففر�ض على �أغلبية امل�رصيني الدخول يف معارك يومية من �أجل اال�ستمرار يف احلياة. عانت الفئات الأفقر يف املجتمع من متكني ال�سوق �أك�ثر من غريها ،فانخف�ض دخل اخلم�س الأفقر من املجتمع بن�سبة 16.4%لي�صل �إىل متو�سط 102جنيه ال يف م�أمن من �شهريا ،48فيما كانت الفئات الأوفر دخ ً ً �آثار تلك ال�سيا�سات ،بل �إنها ا�ستفادت من ال�سيا�سات االقت�صادية التي «بد�أت م�رشوعات �إ�سكانية وجتارية تتوجه �إىل ال�رشيحة الرثية من املجتمع ،والقت رواج ًا ،ما يدل على ات�ساع الفجوة الطبقية» ،49وعلى � ّأن الأزمة مل تكن يف قلة املوارد فح�سب ،بل يف �سوء توزيعها ،ونالت حكومات نظيف مع ذلك امتداح امل�ؤ�س�سات االقت�صادية الدولية ،فامتدح �صندوق النقد جهود احلكومة التي «تتحرك ب�شكل عنيف يف الإ�صالحات الهيكلية الرئي�سة يف التجارة وال�رضائب وال��دع��م ...وو�ضعت خطط ًا خل�صخ�صة جل القطاع العام» 50يف ،2005وكرم وزير املالية يو�سف بطر�س غايل يف ،2008و�سمى م�رص �صحح خم�س �سنوات �ضمن �أف�ضل ع�رشة اقت�صادات ُت ّ متتالية� ،51آخرها كان يف � ،2010أي قبل �أيام قليلة من قيام الثورة ،التي فتحت �أبواب ًا وا�سعة لتحدي �سلطان ال�سوق ،و�رشعية الدولة الداعمة له. بدايات
العدد 2013 |6
�رصاع الدولة واملجتمع ّ كانت الدولة -كما �سبق -هي املُ َ�ش ِكل الرئي�سي لهوية الأمة امل�رصية ،ومل يكن غريب ًا بالتايل �أن تكون م�ؤ�س�ساتها مفرخة �إنتاج النخب ال�سيا�سية وقيادات «احلركة الوطنية» (من عرابي ملبارك مرور ًا بزغلول ونا�رص وال�سادات ،وكل رو�ساء الوزارات) ،و�أن يكون املعيار الأهم لكفاءة ال�سا�سة هو انتما�ؤهم �إليها ،ومع تزايد «دولنة» م�ؤ�س�سات املجتمع، ومن ثم غياب امل�ؤ�س�سات القادرة على �إفراز القيادات، حتولت هيمنة الدولة -بحلول نظام نا�رص � -إىل االحتكار، �إذ تزايد االعتماد على رجال اجلي�ش والبريوقراطية يف �سائر املنا�صب ال�سيا�سية كالوزارات واملحافظات ،بل ودعمت الدولة تر�شح الكثري منهم للربملان بغرفتيه، و�صارت الدولة هي املُع ِّرفة مل�صلحة الأمة ،وملاهية الأمن القومي ،وحلقيقة الهوية امل�رصية بتجلياتها الدينية والثقافية واالجتماعية ،وظهرت قيادة الدولة -يف العهد النا�رصي -يف �أكرث �صورها �رصامة وجمود ًا ،ب�سبب تزايد ال من البريوقراطيني يف ميل الكفة مل�صلحة الع�سكريني بد ً الإدارة ،وخا�صة يف املنا�صب العليا. �أدى �صعود ال�سوق يف ع�رص ال�سادات وما بعده �إىل تنامي الأن�شطة االقت�صادية غري الع�سكرية للجي�ش، ك�إن�شاء جهاز م�رشوعات اخلدمة الوطنية الذي �أقام م�رشوعات غري ع�سكرية ،وم��رور ًا مبمار�سة الن�شاط االقت�صادي يف جم��االت كثرية ،فدخول امل�ؤ�س�سة يف «�رشاكات ا�سرتاتيجية» مع رجال الأعمال خالل �سنوات حكم مبارك ،52وتنامي امل�صالح امل�شرتكة بني كبار البريوقراطيني ورجال الأعمال بفعل برامج �إعادة ال �إىل عودة جمال مبارك و�إن�شاء هيكلة االقت�صاد ،و�صو ً جلنة ال�سيا�سات يف احلزب الوطني ،وكان من ثمار هذه التغيريات �أن ان�ضم طرف ثالث �إىل معادلة احلكم يف م�رص ،م�شارك ًا البريوقراطية واجلي�ش ،وهو رجال الأعمال؛ �إذ كانت من الثمار الطبيعية للم�سار النيوليربايل «التحول من احلكومة (�سلطة الدولة وحدها) �إىل احلوكمة (حتالف �أو�سع من الدولة والعنا�رص الأهم يف املجتمع؛ حتديد ًا ال رجال الأعمال)» 53و�أخذ �صعود رجال الأعمال �شك ً تدريجي ًا ،بد�أ باقرتابهم من رجال احلكم يف غياب �أوعية ر�سمية ت�ضمهم ،ثم ظهر هذا الوعاء يف 2003يف م�ؤمتر احلزب الوطني ،ثم �شارك رجل الأعمال حممد ر�شيد يف حكومة �أحمد نظيف يف 2004يف «خطوة جديدة مل ت�شهد مثلها منذ ثورة ،54»1952تبعها تعيني �ستة رجال �أعمال يف احلكومة التالية ،وتراجع دور الع�سكريني
46
Maher, Stephen. The Political Economy of Egypt’s Uprising.
47حممد العجاتي، احلركة االحتجاجية يف م�رص، �ص .232 48امل�صدر نف�سه، ال�صفحة ذاتها. 49امل�صدر نف�سه، �ص .218
50
. Arab Republic of Egypt IMF Country Report No. 05/177. Washington DC : s.n., July 2005.
51
Mishrif, Ashraf «The Political Economy of Egypt in Post-Arab Spring», paper presented at BRISMES Annual Conference 2012: Revolution and Revolt: Understanding the Causes of Change. 26-28 March 2012, London School of Economics and Political Science
52
Henry and Springborg, Globalization and the Politics of Development, p. 192-193.
53
Harvey, A Brief History of Neoliberalism, New York: Oxford University Press, 2005, p. 77.
54
Farah, Egypt’s Political Economy, p.49.
104
مقابل رجال الأعمال يف العديد من منا�صب البريوقراطية، وقد انعك�س هذا الأمر كذلك على القوى املعار�ضة ،التي �شهدت �صعود ًا كبري ًا لرجال الأعمال ،ال يف الأحزاب الـ«ليربالية» التي ميكن توقع ذلك فيها فح�سب (تويل حممود �أباظة ثم ال�سيد البدوي رئا�سة حزب الوفد) ،بل لدى الأطراف الإ�سالمية كذلك (بال�صعود الكبري لتيار رجال الأعمال يف تنظيم الإخ��وان على �سبيل املثال)، فكانت النخبة -ع�شية الثورة -مكونة من رجال الدولة و«املحا�سيب» من رجال الأعمال. يف املقابل ،مل يكن املجتمع قادر ًا على �إفراز نخب متثل � -سيا�سي ًا -تياراته املختلفة؛ �إذ كان ال�ضمور وال�شلل الذي �أ�صاب م�ؤ�س�ساته التقليدية (الأزهر ،الطرق ال�صوفية ،نقابات احلرفيني ،نظام العمد� ،إلخ) مع عدم �إيجاد كيانات بديلة (بان�سداد احلياة احلزبية ،و�سيطرة الدولة على النقابات واالحت��ادات الطالبية ،والت�ضييق على املجتمع املدين عموم ًا) ،مانع ًا من �إيجاد بيئات �صحية للتن�شئة ال�سيا�سية خارج ح�ضانات الدولة ،وات�سع ب�سبب ذلك البون بني �سا�سة الدولة و�سا�سة املجتمع ،بحيث �صار الأولون وحدهم مطلعني على دوالب العمل يف الدولة، ملمني بالقوانني وال ُّث َغر عارفني بكيفية ت�سيري �أمورهاّ ، وكيفية ا�ستغاللها وجتنبها ،وقادرين على معرفة املعلومات وحتديد �سبل �إدارة هذا اجلهاز العمالق ،وكانت عقليتهم (الأمنية بالتحديد) هي احلاكمة يف التعامل مع الأمور، ب�سبب الرغبة يف �إبقاء الأمور يف نطاق ال�سيطرة ،واحلفاظ على الدور الرئي�سي (ورمبا الأوحد) يف تنظيم املجتمع، فكانت امل�ؤ�س�سة الأمنية (مع القوانني) �أهم و�سائل الدولة يف تفكيك التنظيم الأهلي للمجتمع ال�سابق لوجودها، ويف احلفاظ على بنية النظام متما�سكة ،ما ي�سبب من م�شكالت اقت�صادية واجتماعية ،وهي م�ؤ�س�سة مثلت ركن ًا رئي�سي ًا لدولة علي منذ وجدت ،بدء ًا من �إن�شاء ديوان الوايل �سن ،1805ومرور ًا برفع م�ستوى ثالثة دواوين (�ضمنهم اجلهادية والداخلية) �إىل م�ستوى النظارة يف عهد �سعيد ،وحتول النظارة لوزارة مع �إعالن احلماية ال �إىل ما �سبق احلديث عنه من الربيطانية ،55وو�صو ً «ع�سكرة» و«�أمننة» م�ؤ�س�سات الدولة يف العقود ال�سابقة للثورة .فلما قامت الثورة ،كان �أول �إجنازاتها �إعادة املجتمع �إىل واجهة امل�شهد (و�إن ب�شكل غري منظم) ،ودفع الدولة للخلفية بك�رس تلك الع�صا الأمنية. وبغياب الع�صا الأمنية القادرة على تنفيذ ما متليه �إرادة الدولة انفتحت جبهة �رصاع مل ينته بني الدولة واملجتمع؛ بدايات
العدد 2013 |6
فرجال الدولة ببريوقراطيتها وع�سكريتها يرون �أنف�سهم �أو�صياء على املجتمع ،ويلخ�صون �أزمة الثورة يف حتكم ال�سوق بال�صعود الكبري لرجال الأعمال (الأم��ر الذي حاولت القوات امل�سلحة عك�سه بامل�سارعة �إىل ا�سرتداد املواقع و�إزاحة بع�ض رجال الأعمال غري املرتبطني مب�صالح معها وحب�سهم يف �أعقاب الثورة) ،ورجال الأعمال قبلوا بالرتاجع لل�صفوف اخللفية يف احلكم مع حفظ م�صاحلهم و�ضمان بقاء ت�أثريهم على �سري الأمور (كما ظهر ب�شكل متكرر يف ت�رصيحات رجال الأعمال امل�صاحبني للرئي�س يف جوالته اخلارجية) ،و�أما املجتمع الذي �أعادته الثورة ال ،ومل يعد لقلب امل�شهد فلم يعد ا�ستبعاده خيار ًا مقبو ً فر�ض الإبعاد عليه متاح ًا مع ت�آكل ع�صا الدولة ،وبالتايل ظلت ال�سلطة «ملقاة يف ال�شوارع ،ومن يحاول التقاطها حت��رق ي���ده»56؛ لأن��ه مل يتقدم �إليها بعد من يحظى بال�رشعية الالزمة لذلك؛ فالإدارة بال�سوق �رضرها املبا�رش يدفع فئات وا�سعة ملقاومتها ،والدولة �رشعيتها حتت الق�صف ب�سبب منطقها الفوقي ،واملجتمع عاجز عن �إفراز القيادات القادرة على الإدارة ،وعاجز -قبل ذلك -عن تقدمي قيادات حتظى بقدر مقبول من امل�رشوعية املجتمعية (ظهر هذا مبكر ًا جد ًا ،باجلدل هو اجلهة التي ميكنها ت�سلم ال�سلطة من مبارك ،وكانت جل اخليارات املطروحة تتجه للدولة لعدم وجود البديل يف املجتمع ،فاقترُ ح رئي�س املحكمة الد�ستورية ،والقوات امل�سلحة ،و�أما االختيار من خارج الدولة فلم تنجح �أي �أ�سماء مطروحة يف بناء توافق حولها ،ومل يحظ � ٌّأي منها -فرد ًا �أو جماعة -بالقدر ال جاد ًا ،وا�ستمر هذا الكايف من ال�رشعية الذي يجعله بدي ً الأمر يف ا�ستطالعات الر�أي التي تظهر تراجع ًا يف �شعبية الرئي�س ال يقابله تقدم يف �رشعية خ�صومه). ال�رصاع على ال�رشعية بني الدولة واملجتمع (مع الرتاجع اجلزئي ،واملرحلي على الأق��ل لفكرة �سيادة ال�سوق) يتجلى ،على �سبيل املثال يف اجلدل املحتدم حول م�رشوعات القوانني املنظمة للمجتمع املدين ،وحلرية تداول املعلومات؛ فمنطق الدولة فيها �إحكام ال�سيطرة والرقابة يف ما يت�صل باملجتمع املدين ل�ضمان تبعيته، والتو�سع يف احلظر يف تداول ون�رش واملعلومات حفاظ ًا على «الأمن القومي» ،واملجتمع يرى �أنه -يف احلالتني - �صاحب ال�سيادة ،و�أنه لي�س ثمة ما ي�ستدعي املبالغة يف �إخ�ضاع �إرادة م�ؤ�س�ساته للدولة .ويتجلى ال�رصاع كذلك يف الأزمات املتكررة يف �سيناء التي تنظر الدولة املركزية للمواطنني فيها بريبة ،لأنهم ال «ي�شبهون» املركز بالدرجة
الكافية� ،أي � ّإن هوياتهم ال تتما�شى مع تلك التي ت�صنعها الدولة وتقوم على حمايتها ،ومن ثم فاللجوء للحلول الأمنية معهم متكرر ،كما يظهر يف ا�ضطرار الرئي�س �إىل اللجوء لبع�ض رجال الدولة ال�سابقة ،لعجز القادمني من املجتمع عن �إدارة اجلهاز البريوقراطي العمالق ،ويظهر �أخرياً -يف املطالبات املتزايدة باللجوء للجي�ش (قلبالدولة) باعتباره الأق��در على �إدارة املجتمع مع تنامي الأزم��ات االجتماعية واالقت�صادية وزي��ادة االحتقان والعنف ال�سيا�سي. وهذا ال�رصاع بني الدولة واملجتمع مر�شح لال�ستمرار ردح ًا من الزمن؛ �إذ العودة للإق�صاء الكامل للمجتمع تبدو بعيدة يف ظل تغري الأو�ضاع بعد الثورة ،وب�سبب غياب احتكار الدولة للعنف ال�رشعي ،و�ضعف �آلتها القمعية مقارنة بات�ساع دوائر االحتجاج ال�سيا�سي واالجتماعي، واملجتمع -يف اجلهة الأخ��رى -مل ي��زل حتركه غري من�ضبط مب�ؤ�س�سات تعرب عنه ،ومل ي�ستعمل بعد املن�صات ال�صاحلة لإفراز القيادات والتعبري عن املجتمع بتنوعاته، ومنها املحليات والنقابات� ،أو ما يقوم مقامها يف الإدارة املبا�رشة لأمور املجتمع من خارج الدولة ،والتما�س معها ومتثيلهم لديها ،بحيث يكون التعامل مع جهاز الدولة وفهمه من خارجه.
55ب�سمة عبد العزيز، �إغراء ال�سلطة املطلقة :م�سار العنف يف عالقة ال�رشطة باملواطن عرب التاريخ، �صف�صافة-القاهرة، � ،2011ص .18 56بالل عالء ،ال�سلطة ال تزال ملقاة يف ال�شوارع ظلت ال�سلطة «ملقاة يف ال�شوارع ،ومن يحاول التقاطها حترق يده »،لأنه مل يتقدم �إليها بعد من يحظى بال�رشعية الالزمة لذلك.
105
ال�رصاع على الإ�سالم ال�رصاع على الإ�سالم -من حيث تعريفه ،وحتديد �شكل عالقته باحلكم -ال تخطئه عني باحث يف م�رص الثورة ،وهو �رصاع ميكن قراءته يف �إطار االنتقال من �إدارة املجتمع لل�سوق عرب الدولة ،ويح�سن تق�سيمه �إىل �س�ؤالني فرعيني� :أولهما يتعلق بتعريف الإ�سالم ،وثانيهما يتعلق بالعالقة بني امل�ؤ�س�سات ال�رشعية وال�سيا�سية وم�ؤ�س�سات احلكم يف م�رص. �أم��ا من حيث التعريف ،فقد ك��ان مدلول لفظة «ال�رشيعة» حتى الثلث الأخري من القرن التا�سع ع�رش ين�رصف �إىل االعتقاد الأ�شعري ،والفقه املذهبي (�أي اتباع املذاهب ال�سنية الأربعة امل�شهورة) ،وال�سلوك ال�صويف الطرقي ،وكان التجلي الرئي�سي لها يتمثل على امل�ستوى العلمي يف م�ؤ�س�سة الأزه���ر ،وعلى امل�ستوى االجتماعي يف الطرق ال�صوفية التي انتظم فيها جل امل�رصيني ،ويف التعليم الذي كان يف جممله خا�ضع ًا للأزهر ،وكانت تلك املنظومة -يف �شقها العلمي م�ستقلة �إىل حد بعيد عن الدولة ،وحملت من التنوعبدايات
العدد 2013 |6
يف بعديها الفقهي وال�صويف ،ويف ما يت�صل بهماكنقابات احلرفيني -قدر ًا ال ب�أ�س به ،و�إن ظل مقيد ًا. وا�ستبدل دين الدولة بدين املجتمع من خالل دولنة امل�ؤ�س�سة الدينية ووظائفها ،وهو ما بد�أ ب�إن�شاء التعليم احلديث الذي ك�رس هيمنة الأزهر على املجال العام ،ثم ك�رس احتكار الأزهر للمجال العلمي ال�رشعي ب�إن�شاء مدر�سة دار العلوم �سنة ،1872ودار الإفتاء �سنة ،1895ومدر�سة الق�ضاء ال�رشعي يف ،1907بالتوازي مع زيادة تدخل الدولة يف تنظيم الأزهر (من خالل القوانني امل�شار �إليها �أعاله) ،وبالتزامن مع م�سارين مهمني� ،أولهما نزع الأزهر من بيئته التي �ضمنت ا�ستقالله ،وذلك بال�سيطرة على الأوقاف والطرق ،وثانيهما اال�ستناد �إىل القوانني اجلديدة يف متكني �أبناء الأزهر من املطالبني بتغيري مالمح منهجه العلمي ،مثل حممد عبده وم�صطفى املراغي وم�صطفى عبد الرازق وحممود �شلتوت ،وكانت حم�صلة تلك التطورات �أن مفهوم لفظة «ال�رشيعة» مل يعد بالو�ضوح الذي كان عليه من قبل؛ �إذ �صارت هناك �صور �شديدة التباين لتعريفها ،وغاب تدريجي ًا املعيار امل�ستند �إليه جمتمعي ًا مع حتول الأزهر من مدر�سة ذات منهاج وا�ضح �إىل «ملتقى» لأ�صحاب املدار�س املختلفة ،كالأ�شاعرة مبذاهبهم الفقهية الأربعة ،والوهابية بفقههم الذي غلبت عليه الظاهرية، و�أ�صحاب امليل االعتزايل بفقه حممد عبده ،ومدر�سة �أكرث حداثية بفقه املراغي ،وهي مدار�س ات�سعت وان�ضم �إليها غريها عند حتول تعريف الدين من املجتمع �إىل ال�سوق، وما �صاحبه من منو التيار الوهابي ،ثم تيار الدعاة اجلدد� ،أو الإ�سالم النيوليربايل .وال يزال ال�رصاع بني تلك املدار�س جميع ًا حمتدم ًا يف م�رص الثورة ،على نحو يتجلى -على �سبيل املثال -يف ال�رصاعات الدائرة داخل وزارة الأوقاف وحولها ،واملتعلقة بتعيني الأئمة بها ،وتعيني املفتي ،ويف الأحزاب ال�سيا�سية التي قام بت�أ�سي�سها بع�ض الدعاة، وال�رصاع حول تعريف ماهية منهج الأزهر ،وخا�صة بعد اعتماده كمرجعية �رشعية يف الد�ستور اجلديد. �أما ت�صور عالقة امل�ؤ�س�سات الدينية بالدولة ،فتنبني تبايناته على تباينات الأفهام يف ما يت�صل بدور الدولة ب�سبب ما �أحدثه م�سار التحديث من تغيريات؛ فالدولة احلديثة هي -بالتعريف -حمتكرة اال�ستخدام ال�رشعي للقوة ،املنح�رص يف نطاق جغرايف حمدد ،وثمة تعار�ض بني احتكار الدولة للعنف والو�ضع ال�سائد قبلها (بوجود الفتوات التابعني للطرق ال�صوفية من جهة ،واالحت�ساب من جهة �أخرى) ،وبني احل�رص النهائي يف نطاق جغرايف
57الدكتور عبد الوهاب امل�سريي، العلمانية اجلزئية والعلمانية ال�شاملة، املجلد الثاين: التطبيق ،ال�رشوق - القاهرة،2005 ، �ص .20 -18 58انظر على �سبيل املثال Arendt, Hannah. The
Human Condition, Chicago University Press, 1998, pp. 7-58.
59الدكتور يو�سف القر�ضاوي ،الدين وال�سيا�سة :ت�أ�صيل ورد �شبهات، ال�رشوق -القاهرة، ،2007 �ص .76 -75 60الدكتور �إبراهيم البيومي غامن، تقنني ال�رشيعة بني املجتمع والدولة، �ص .26 � 61إبراهيم البيومي غامن ،تقنني ال�رشيعة بني املجتمع والدولة، ال�رشوق الدولية - القاهرة،2011 ، �ص .46 62الدكتور علي جمعة، التجربةامل�رصية، �ص .35 -34 63الدكتور �إبراهيم البيومي غامن، تقننيال�رشيعة بني املجتمع والدولة� ،ص .33 64الدكتور وليد حممود عبد النا�رص ،التيارات الإ�سالمية يف م�رص ومواقفها جتاه اخلارج :من النك�سة �إىل املن�صة ،ال�رشوق - ّ القاهرة،2001 ، �ص .70
106
ومفهوم الأمة املتجاوز ،وهذه التغيريات �أدت �إىل �إعادة �صياغة املجتمع «باعتباره �سوق ًا وم�صنع ًا ،و�إعادة �صياغة الإن�سان باعتباره منتج ًا وم�ستهلك ًا» ،57و�أ ّدت �إىل الت�آكل التدريجي للم�ؤ�س�سات الو�سيطة ،بحيث �صارت الدولة «مدبرة منزل» تهتم بتوزيع الأدوار فيه على امل�ستوى الوطني ،58و�صارت «مت�سك �أزِمة احلياة كلها يف �أيديها، من التعليم� ،إىل الق�ضاء� ،إىل الثقافة� ،إىل الإعالم� ،إىل امل�ساجد� ،إىل االقت�صاد واالجتماع» ،بحيث مل يعد «ميكن مل�صلح �أن يتجاوزها» ،59فيما كانت تلك الدولة حمدودة القوة والنفوذ قبل ذلك. وكانت �أوىل جتليات هذا التغري �إعادة النظر يف معنى وجود ال�رشيعة يف املجتمع و�سبل تطبيقها ،ون�ش�أة فكرة «التقنني»� ،أي �صوغ �أحكام ال�رشيعة «يف ن�صو�ص مرتبة، وو�ضع هذه الن�صو�ص يف جمموعة مبوبة �أو مرقمة على غرار القوانني احلديثة من مدنية وجنائية و�إدارية» 60وربط املخالفات بالعقوبات ،وهي الفكرة التي مثلت جت�سيد ًا لفكرتي التم�صري والدولنة كذلك ،فجاءت �أوىل حماوالت التقنني كرد فعل «م�رصي» ملجلة «الأحكام العدلية» ال�صادرة من الباب العايل �سنة ،611876ومتثلت يف جلان تر�أ�سها حممد قدري با�شا -وزير احلقانية -انتهت �إىل �إ�صدار جمموعة من القوانني �سنة « ،1883ن�صت يف مادتها الأوىل �أنها ال تنفي �أي حق مقرر يف ال�رشيعة الإ�سالمية» ،62وعربت عن قبول بالإدارة من خالل الدولة املركزية ،القائمة على �أ�س�س �رشعية قانونية مكتوبة، والتي ر�أت �رضورة التقنني باعتبار القانون �أ�سا�س احلكم فيها ،ولأن «تعدد الآراء الفقهية وكرثة االختالفات يف امل�س�ألة الواحدة؛ لي�س فقط بني فقهاء املذاهب املختلفة، و�إمنا �أي�ض ًا بني فقهاء املذهب الواحد ...جعل من الع�سري على ق�ضاة املحاكم االهتداء �إىل احلكم الواجب التطبيق يف احلاالت املتماثلة ،وهو ما يعني بدوره �إه��دار ًا ملبد�أ امل�ساواة �أمام القانون (وفق منطق الدولة القومية احلديثة، احلري�ص على التنميط ،واملمهد حلكم ال�سوق)» ،63و�صار تقنني ال�رشيعة هدف ًا رئي�سي ًا للإ�سالميني الذين ازداد ان�شغالهم بال�سيا�سي على ح�ساب االجتماعي ،مع انتقال الإدارة من املجتمع للدولة ،وتراجع الت�صور االجتماعي لل�رشيعة املتج�سد بالأ�سا�س يف الطرق ال�صوفية ،وقد �صاحب انتقال الإدارة من الدولة لل�سوق -املحمي بها ات�ساع «�سوق» امل�ؤ�س�سات الدينية ،فا�ستعمل املال يف�إن�شاء م�ساجد ومعاهد م�ستقلة عن الدولة ،كان لر�أ�س املال دور رئي�سي يف حتديد توجهاتها ،وظهرت بعد ذلك بدايات
العدد 2013 |6
الف�ضائيات الإ�سالمية (م�صحوبة بدعاية وا�سعة للمنتجات «الإ�سالمية» يف الطب واملفرو�شات واملالب�س على �سبيل املثال) ،ثم حاول الأزهر مالحقتها بقناة ف�ضائية منت�سبة �إليه ،معلن ًا االنت�صار الكامل لل�سوق. وقد �صاحبت هذه تغيريات �أخرى يف طبيعة العالقة بني امل�ؤ�س�سات الدينية وم�ؤ�س�سات الدولة؛ فاالنتقال �إىل حكم الدولة امل�صحوب بعمليات الدولنة الوا�سعة �أدى �إىل تبعية الأوىل للثانية ،على نحو تبدى -على �سبيل املثال -يف تغري موقف الأزه��ر من �إ�رسائيل مع تغري موقف الدولة؛ ففي �سنة � 1973أكد �شيخ الأزهر حممد الفحام «حتمية اجلهاد �ضد �إ�رسائيل لإنقاذ الأرا�ضي الإ�سالمية من �سيطرة الأعداء عليها» ،64ثم �أعلن خلفه ال�شيخ عبد احلليم حممود «ت�أييده زيارة الرئي�س ال�سادات للقد�س» ،65قبل �أن يف�رس الأزهر تغيري موقفه بالقول �إن «معار�ضته لل�سالم مع �إ�رسائيل (وقت عبد النا�رص) كانت ب�سبب االقتناع ب�إمكانية �إحلاق الهزمية بها» ،66ومع �صعود ال�سوق �صارت «�سوق الفتاوى» مفتوحة للجميع، مع بقاء االختيار للم�ستهلك ،وا�ستبدل القبول املجتمعي بالت�أهيل ال�رشعي العلمي كمعيار ل�صحة الفتوى ،ومن ثم علت قيمة «االعتدال» و«الت�سامح» (وحلتا حمل ومعنى) و�صارت التيارات حتاول �إثبات الو�سطية لفظ ًا ً �أهليتها بالو�سم بهما ،ويف املعارك الدائرة بعد الثورة يقدم الأزه��ر نف�سه يف «�سوق» الدين مركز ًا على اعتداله ال �أ�صالته ،وت�سوق التيارات الإ�سالمية لنف�سها باال�ستناد �إىل معايري مغايرة لتلك التي حكمت ال�ساحة الدينية وقت حكم املجتمع. ويف املجمل ،يبدو ال�رصاع حمتدم ًا يف ما يت�صل بتحكيم ال�رشيعة بني التيارات الإ�سالمية (املنحازة �إىل حكم الدولة ،على الأق��ل ب�سبب «الفر�صة») ،والتي ين�صب خطابها على التقنني على �أ�سا�س التخري بني املذاهب الأربعة ،والتيارات احلداثية القائلة بااللتجاء للمقا�صد (مدر�سة املراغي وعبده) ،وتيارات الإ�سالم النيوليربايل املنحازة �إىل �إ�سالم ال�سوق (البعيد متام ًا عن احلكم �إال مبعنى حتفيز حركة التنمية الر�أ�سمالية)، والتيارات ال�صوفية املبتعدة عن ال�رصاع ال�سيا�سي، واملن�شغلة بالعمل املجتمعي ،وهو ال�رصاع الذي ظهر يف تردد الأزهر (مبيوله ال�صوفية) من ق�ضايا تقنني ال�رشيعة، مع حر�صه يف تعريفها على �ضبط ذلك باملذاهب الأربعة، ويف ت�أخر التيارات الإ�سالمية املختلفة عن تقدمي ت�صورات لكيفية تطبيق ال�رشيعة.
65الدكتور وليد حممود عبد النا�رص ،التيارات الإ�سالمية، �ص .71 66الدكتور وليد حممود عبد النا�رص ،التيارات الإ�سالمية، �ص .72
67
Mishrif, Ashraf The Political Economy of Egypt.
68حممد العجاتي، احلركة االحتجاجية يف م�رص، �ص.225– 224 69حممد العجاتي، احلركة االحتجاجية يف م�رص، �ص .226
70
Maher, Stephen The Political Economy of the Egyptian Uprising.
71حممد العجاتي، احلركة االحتجاجية يف م�رص، �ص .230– 228
107
�رصاعات امللكية والإنتاج والتوزيع جزءا رئي�سي ًا من معارك الثورة ،التي ميثل ال�رصاع الطبقي ً قامت -يف �أحد �أبعادها -على نظام نيوليربايل يت�آكل فيه الدور االجتماعي للدولة مل�صلحة رجال الأعمال وال�سوق، فيما تبقى وظيفتها القمعية ذات �أهمية مركزية يف ت�أمني هذا ال�سوق و�ضمان �إيجاد الأو�ضاع املالئمة لر�أ�س املال، �سواء بالأ�ساليب العنيفة كال�رشطة� ،أو الأ�ساليب الأقل عنف ًا كالقوانني املقيدة للحركة العمالية ،والتو�سع يف �إ�رشاك رجال الأعمال يف �صناعة القرار ،ومتكينهم من امل�ؤ�س�سات الإعالمية ،وغري ذلك. كانت م�رص قد مرت منذ ن�ش�أة الدولة احلديثة بعدة حتوالت اقت�صادية (�أجملتها الفقرات ال�سابقة من الورقة)، انتهت �إىل تزايد ت�آكل دور الدولة يف االقت�صاد وم�س�ؤوليتها االجتماعية -بدء ًا من �سيا�سات االنفتاح التي �أ�س�س لها ال لل�سيا�سات النيوليربالية التي الرئي�س ال�سادات ،وو�صو ً قاد الدعوة �إليها وت�شجيعها جمال مبارك ،وقد �أدى �سوء التوزيع وال�شعور بالظلم االجتماعي يف العقد الأخري من حكم مبارك �إىل «غ�ضب على ال�سيا�سات النيوليربالية، وخا�صة بني �أو�ساط الطبقات العاملة و�شباب الطبقات الو�سطى» ،67الأمر الذي دفع �أعداد ًا متزايدة من املواطنني لالحتجاج ،فنمت حركة االحتجاج االجتماعي ،وخا�صة مع منو حركتني موازيتني لالحتجاج� ،أوالهما تتعلق بق�ضايا اال�ستقالل والأمة (انطلقت مع االنتفا�ضة الفل�سطينية يف ،)2000وثانيتهما تتعلق بالق�ضايا ال�سيا�سية املحلية (بد�أت يف االت�ساع مع ن�ش�أة حركة كفاية يف ،)2004 الأم��ر الذي فتح �آفاق ًا للعمل االحتجاجي ،ب��د�أت يف القطاع ال�صناعي ثم امتدت لباقي القطاعات وات�سعت خالل ال�سنوات ،فكان «عدد االحتجاجات امل�سجلة عام 2005نحو 202احتجاج ،وارتفع عام 2006 لي�صبح � ،266أما عام 2007فقد قفز هذا الرقم ليتجاوز 614احتجاجا ً» كانت يف جمملها «ذات �أبعاد اقت�صادية اجتماعية يف املقام الأول ،وذات ارتباط مبا�رش باحلياة اليومية للمواطن العادي» ،68كان بع�ضها يتمحور حول ق�ضايا معينة (كنق�ص املياه �أو اخلبز� ،أو حوادث الطرق) والبع�ض الآخر كان فئوي ًا ،يتعلق بالعاملني يف جهة حمددة ب�سبب مطالبات تت�صل بالأجور وظروف العمل ،وظهرت تنظيمات �شعبية موازية للنقابات الر�سمية (املفرغة من م�ضامينها بالتجميد �أو الدولنة) كـ«�أطباء بال حقوق» ،و«معلمون بال نقابة» ،و«�أخوات كفاية» من املنظمات املختلفة التي ذيلت �أ�سماءها بكلمة «من �أجل بدايات
العدد 2013 |6
التغيري» ،و�رسعان ما امتدت حركة االحتجاج لت�شمل موظفي الدولة -التي مل تعد مرتباتها جمزية لغري كبار املوظفني -فبلغت االحتجاجات يف الهيئات احلكومية 267احتجاج ًا ،ويف قطاع الأعمال العام (�أو ما بقي منه) ،107مقابل 235احتجاج ًا يف القطاع اخلا�ص يف ،692008ويف اجلملة �شهدت الفرتة من � 2004إىل � 2010أكرث من 3000احتجاج عمايل ،70تباينت طبيعتها (بني التجمهر واالعت�صام والإ�رضاب ،والإ�رضاب عن الطعام يف قليل من الأحيان) ودرجة جناحها (كان من �أكرثها جناح ًا القطاع ال�صحي ب�إ�رضاب ال�صيادلة 2009 - 2008الذي �أو�صلت بع�ض التقديرات ن�سبة امل�شاركة فيه �إىل ،90%و�إغالق العيادات الطبية احتجاج ًا على تدين �أجور الأطباء يف �أبريل .71)2009 ومل تزل ال�رصاعات االقت�صادية بعيدة عن احل�سم �أو اال�ستقرار املرحلي مل�صلحة �أي طرف ،وميكن تلخي�صها يف ثالث معارك رئي�سية� ،أوالها تتعلق بتعريف حدود امللكية؛ �إذ متثل الثورة رف�ض ًا لت�سييد ال�سوق وتو�سيع نطاقه لي�شمل الت�سليع العام (ال�شامل للعمال ،ولكافة الب�ضائع واخل��دم��ات والأرا���ض��ي) ،غري �أنها لي�ست بال�رضورة �شيوعية تلغي امللكية اخلا�صة لأدوات الإنتاج باجلملة ،وامل�ساحة بني هذين اخليارين وا�سعة ،مل تقدم الأط��راف املختلفة �إىل الآن ر�ؤاه��ا حيالها ،فلم تقدم تعريف ًا حلدود ال�سوق ،وعالقته باملجتمع ،وهو ق�صور ٍ ما�ض و�آخر م�ستقبل. يكت�سب �أهمية خا�صة ل�سبب �أما املا�ضي فهو الآثار االجتماعية املرتتبة على تو�سيع رقعة ال�سوق يف ال�سنوات الأخ�يرة من حكم مبارك، واملتمثلة -على �سبيل املثال -يف خ�صخ�صة املجال العام واملنافع العامة ،كخ�صخ�صة ال�شواطئ يف ال�ساحل ال�شمايل (على نحو �صار مينع ال�سكان الأ�صليني ملدينتي العلمني واحلمام على �سبيل املثال من ر�ؤية ال�شاطئ، ال عن التنزه) ،وت�آكل املتنزهات العامة يف املدن، ف�ض ً وخ�صخ�صة خدمات جمع القمامة ،وخطوط الهواتف. و�أما امل�ستقبل فيتعلق باملطروح كحل للأزمة االقت�صادية من بيع وت�أجري للأ�صول العامة يف �صورة �أ�سهم و�صكوك، و�صعود نغمة «ت�شجيع اال�ستثمار» كحل �أوحد لـ«�إنقاذ» االقت�صاد ،على نحو ي�ؤدي ،يف حقيقة الأمر� ،إىل �إعادة متكني رجال الأعمال ،و�إن غابوا عن �صدارة امل�شهد ال�سيا�سي جزئي ًا ،والآث��ار االجتماعية املبا�رشة و�شبه الفورية لبع�ض هذه ال�سيا�سات (الناجتة يف بع�ض الأحيان من غياب ال�سيا�سة والر�ؤية ،ومن ثم حتكم ال�سوق ،ويف
بع�ضها من �شبكات امل�صالح التي ت�شكلت �رسيع ًا حول ال�سلطة اجلديدة ،مب�ؤ�س�سات رجال الأعمال اجلامعة بني رجال �أعمال الإخوان واحلزب الوطني ،واملت�صلة -بغري ا�ستحياء ،وب�شكل ح�رصي -بالرئي�س) ت�ؤدي �إىل مزيد من االحتقان االجتماعي الذي ي�صري التحكم فيه �صعب ًا يف غياب الع�صا الأمنية ،على نحو قد يدفع �إىل �إعادة التوازن يف ق�ضية امللكية وت�سييد ال�سوق. يت�صل بهذا ال�رصاع� ،رصاع ٍ ثان متعلق بالأن�شطة أحد �أ�سباب الرئي�سية التي يقوم عليها االقت�صاد؛ �إذ كانت � َ الأزمة االقت�صادية قبل الثورة ،والدافعة �إىل التعجيل باخل�صخ�صة ،قل ُة املوارد ،الناجتة -كما �سبق -من تراجع القطاعات الإنتاجية يف االقت�صاد وتزايد االعتماد على الريع واخلدمات ،وهو و�ضع يت�شابه �إىل حد ما مع ما كانت عليه م�رص عند و�صول حممد علي للحكم ،واجلدل حول البدائل يف ما يتعلق بـ«قاطرات التنمية» والأن�شطة الرئي�سية التي ميكن �أن يقوم عليها االقت�صاد ،وعالقة ذلك بالأو�ضاع االجتماعية والتوزيع اجلغرايف لل�سكان، وبالعوامل احلاكمة ل�رصاعات امل�ستقبل كم�صادر الطاقة واملياه ،مل يزل غائب ًا عن امل�شهد ،غري �أن غيابه ي�سمح بت�سييد ال�سوق ،ا�ستناد ًا �إىل منطق اليد اخلفية لآدم �سميث، وهو ما �سي�ضع الدولة -الراغبة يف دعم اال�ستثمار ،ب�أي ثمن -يف مواجهة مبا�رشة مع التكوينات االجتماعية والأهايل الذين تتعر�ض حياتهم القتحام من قبل ال�سوق يهدد وجودهم ،وهو ما قد ينتج �رصاعات وا�سعة -على �سبيل املثال -يف مدن القناة ،التي تواجه مبحاولة ت�سييد وا�سع لل�سوق ،قد تنتج -يف حالة ا�ستمرارها -ر ّد فعل �شعبياً يعيد الأمور �إىل املربع الأول. �أم��ا ثالث ال�رصاعات ،فيتعلق بتعريف احلقوق االقت�صادية واالجتماعية الأ�سا�سية للمواطنني وحدود م�س�ؤولية الدولة يف توفريها؛ �إذ بينما تبدو جل الأطراف ال�سيا�سية متفقة يف كون التعليم وال�صحة وامل�سكن والغذاء حقوق ًا �أ�سا�سية ينبغي توفريها لكل املواطنني - بقطع النظر عن �إمكاناتهم املالية �أو مواقعهم اجلغرافية يظهر اخلالف يف خم�س ق�ضايا� ،أوالها تعريف احلقوقو�أولوياتها (هل تقت�رص على التعليم وال�صحة فقط؟ �أم متتد للأربع املذكورة؟ �أم ت�ضيف عليها) ،وثانيتها القدر الذي ينبغي توفريه للكافة من تلك احلقوق (هل تتوقف ال عند التعليم الإلزامي، م�س�ؤولية الدولة يف التعليم مث ً �أم عموم التعليم املدر�سي� ،أم اجلامعي؟) ،وثالثتها اجلهة امل�س�ؤولة عن توفريه (هل تقوم الدولة بذلك؟ �أم يقوم 108
بدايات
العدد 2013 |6
القطاع الأهلي من خالل امل�ؤ�س�سات اخلريية؟ �أم تقوم به امل�ؤ�س�سة الوقفية؟ �أم يقوم على �أ�س�س غري ذلك؟)، ورابعتها تعريف ماهية العدالة يف م�س�ؤولية الدولة يف هذه الق�ضايا (هل تكون الرعاية ال�صحية جمانية للجميع؟ �أم لغري القادرين؟ وما الآث��ار االجتماعية واالقت�صادية الناجتة من كال اخليارين؟ وما الإمكانات التي يحتاجها كل منهما؟) ،وخام�ستها �رشوط البدائل وحدود املناف�سة (هل ي�سمح باملدار�س اخلا�صة ملناف�سة احلكومية؟ وما هي القيود على ذلك؟ وكيف ن�ضمن ا�ستمرار كفاءة احلكومي؟) ،واخلالفات هنا حت�سمها ال�رصاعات على الأر�ض ،التي ت�ؤثر بدورها يف (وتت�أثر) بال�رصاعات امل�شار �إليها �سابق ًا. خامتة ال�رصاع اجلاري على �أنقا�ض دولة حممد علي لن يح�سم ال من الأ�سئلة على جمتمع تعر�ض ب�رسعة ،لأنه يطرح �سي ً «للدولنة» بكثافة ثم غابت الدولة عن الوجود احل�سي يبق لها �إال ذكريات الهيبة والقمع ،فيما تفككت ومل َ م�ؤ�س�ساته التقليدية ومل يوجد البديل .هكذا مل يعد قادر ًا على �إيجاد �آليات التفاو�ض التي تدير �ش�ؤون املجتمع بتقاطعاته االجتماعية والوظيفية واجلغرافية املختلفة. واالنتقال للإجابة عن تلك الأ�سئلة يحتاج �إىل جتاوز �رصاع ال�شعارات الذي يحتل ال�صدارة منذ الثورة، والبدء يف متكني املجتمع -الذي كانت عودته للم�شهد ودائ��رة �صنع القرار الإجن��از الرئي�سي للثورة -بحيث ي�صري حاكم ًا لأمره ،ومينع عودة الدولة الت�سلطية بت�سلمه زمام �أم��وره .والباب الرئي�سي لتمكني املجتمع يكون ب�إعادة بناء م�ؤ�س�سات و�سيطة تعبرّ عنه� ،سواء كان ذلك ب�إحياء امل�ؤ�س�سات ال�سابقة (كالطرق ،والأوقاف ،ونقابات احلرفيني ،ونظام العمد)� ،أو �إيجاد م�ؤ�س�سات بديلة تقوم بالوظائف ذاتها �أو وظائف م�شابهة (كاملحليات ،والنقابات، وم�ؤ�س�سات املجتمع املدين ،مع تغيري الأطر القانونية احلاكمة لها يف م�رص ،التي فرغتها من م�ضامينها)� ،أو خليط منهما .وهذه امل�ؤ�س�سات هي التي �ستقود عملية التغيري املبنية على متكني املجتمع ،واملنتجة لإرادت��ه احلقيقية املتجنبة لكل عيوب الدميقراطيات التمثيلية التقليدية التي يظهر فيها ال�شعب يف امل�شهد مرة كل ب�ضع �سنني ،ثم يعاود االن�سحاب ،فتكون قدرته على فر�ض �إرادت��ه �ضئيلة ،وت�أ�رسه الهياكل الفار�ضة لنظم اقت�صادية واجتماعية بعينها.
تاليق األضداد
الموقفان اإليراين والرتكي من سقوط «إخوان» مرص جنالء مكاوي باحثة وكاتبة سياسية مرصية .آخر مؤلفاهتا «مرشوع سورية
الكربى» و«الياسر اجلديد يف امريكا الالتينية».
�أحد �أهم تناق�ضات امل�شهد الإقليمي حالي ًا هو تالقي �أ�شد اخل�صوم يف املوقف من حدث �أو �أزمة �أو ق�ضية �إقليمية ،فيما يقفان على طريف نقي�ض ،و�أحيان ًا يف تواجههما يف �أزمة �أو ق�ضية �أخرى .وقد كان موقف كل من �إيران وتركيا من �إ�سقاط حكم جماعة الإخوان امل�سلمني يف م�رص جت�سيد ًا حي ًا ملثل هذا التناق�ض ،حيث التقى اخل�صمان الإقليميان يف موقفهما الراف�ض لإنهاء حكم اجلماعة ،و�إدانة وجود اجلي�ش امل�رصي يف امل�شهد ال�سيا�سي ،لكن اختلفت لغة الرف�ض وخطابه ،وبالت�أكيد دوافع كل طرف ،التي تعبرّ بالأ�سا�س عن طبيعة م�صاحله ،وحجم خ�سائره من تغيري ال�سلطة يف م�رص ،بعد �أن كان على ر�أ�سها جماعة �أقرب انتماء (�أيديولوجي ًا و�سيا�سي ًا) �إىل تركيا من �إيران .فهذه ً الأخرية كان العامل امل�شرتك بينها وبني تلك اجلماعة هو كونها تنظيم �إ�سالم �سيا�سي ،و�إن اختلف �أيديولوجي ًا .لذا بدا املوقفان متقاطعني ،ما يتعني معه �رضورة قراءة �أ�سباب التالقي ،وحدوده ،وطبيعته ،للإجابة عن ت�سا�ؤل« :هل هو تالقٍ ميكن اعتباره ا�صطفاف ًا خل�صمني؟»� ،أم � ّأن الظرف املو�ضوعي فر�ض على �أحدهم (�إيران) اتخاذ موقف يبدو متقاطع ًا مع خ�صمه ،فحاول بكل الطرق ،وعلى م�ستوى اخلطاب والت�رصيحات ،الت�أكيد �أن موقفه يف حمدداته، وحدوده ،يختلف عن مواقف خ�صومه؟ االختالف يف درجة الرف�ض وطبيعة اخلطاب يبد � ّأن ثمة اختالف ًا كبري ًا بني موقف يف البداية ،مل ُ �إيران وموقف تركيا من عزل الرئي�س حممد مر�سي يف 3يوليو /متوز الفائت ،فكما �أدان رئي�س وزراء تركيا، رجب طيب �أردوغ��ان ،عزل الرئي�س مر�سي ،واعتربه الرئي�س ال�رشعي مل�رص ،وممثل �إرادة ال�شعب امل�رصي، ورف�ض ب�شدة ما و�صفه باالنقالب الع�سكري على حاكم
109
بدايات
العدد 2013 |6
جاء عرب انتخابات دميقراطية ،وذلك يف موقف تتوافر كل دوافعه لدى تركيا ،احلليف الإقليمي الأكرب جلماعة الإخوان� ،أدانت �إيران �أي�ض ًا عزل مر�سي ،على الرغم من �أن عالقاتها مع الإخوان ،عندما كانوا على ر�أ�س ال�سلطة، ات�سمت بالتقارب احلذر من ِقبلهم ،واملحاوالت احلثيثة من ِقبل �إيران خللق �أي �صيغة للتعاون .ومع ذلك انتقدت اخلارجية الإيرانية ،على ل�سان املتحدث با�سمها ،عبا�س عراقجي ،يف 7يوليو /متوز« ،تدخل اجلي�ش يف ال�سيا�سية لكن بيان اخلارجية لإطاحة من ّمت انتخابه دميقراطي ًا»ّ . الإيرانية اعرتف يف الوقت نف�سه «بعدم كفاءة الرئي�س مر�سي يف �إدارة البالد ،وخا�صة ال�ش�ؤون اخلارجية» ،وال �سيما � ّأن �سيا�سته جتاه �إيران ذاتها كانت �أبرز دالئل انعدام ّ ر�ؤيته اخلارجية ،وع�شوائية �سيا�ساته ،وتخبطها. يف مقابل ا�ستمرار حدة خطاب �أردوغان جتاه ما يحدث يف م�رص ،خف�ضت �إيران من لهجتها بعد غ�ضب الإدارة ال يف ال�ش�أن امل�رصي امل�رصية امل�ؤقتة ،ما اعتربته تدخ ً من ِقبل �إيران ،ما ا�ضطر وزير خارجيتها للت�رصيح ب� ّأن «ال�شعب امل�رصي هو الذي يجب �أن يحدد م�صري بالده»، و� ّأن «اجلي�ش امل�رصي هو جي�ش وطني» ،مع ت�أكيده �إدانة مقتل الأبرياء .وهو ما بدا حر�ص ًا على عدم قطع ما و�صل بني البلدين �أثناء حكم مر�سي ،و�إن مل يكن على امل�ستوى الذي تريده �إيران. ف�ض اعت�صامي «رابعة العدوية» ،و«النه�ضة» جاء ّ وما جنم عنه من �ضحايا و�أحداث ،ليجمع اخل�صمني مرة �أخرى ،و�إن مل يكن �أي�ض ًا يف م�ستوى الت�صعيد ،لكنه التقاء على م�ستوى تو�صيف احلدث واالتفاق على كان ً �إدانته ،فقد اتفقت �إيران مع تركيا يف و�صف ما حدث يف ف�ض اعت�صامي جماعة الإخوان بـ«املجزرة» ،كما جاء يف ّ بيان للخارجية الإيرانية �أدانت فيه ما قامت به احلكومة
امل�رصية ،واعتربته يهدد بن�شوب «حرب �أهلية» .ويف عزاء قدمه الرئي�س الإيراين ،ح�سن روحاين� ،إىل ال�شعب مبديا تعاطفه معه، امل�رصي يف «الفاجعة التي �أملّت به»، ً وجه روحاين حديثه �إىل اجلي�ش يف � 17أغ�سط�س� /آبّ ، امل�رصي ،مذكر ًا �إياه ب� ّأن «ال�شعب امل�رصي �شعب حر وعظيم ،وطريق ال�شعب هو طريق الدميقراطية والإ�سالم؛ فعلى العامل ب�أ�رسه �أن يحرتم �إرادة ال�شعب امل�رصي». على الرغم من هذا املوقف الوا�ضح واحلاد من قبل ف�ض االعت�صامني مبا�رشة، �إيران ،الذي �أعقب �أحداث ّ ف�إن الت�صعيد عملي ًا كان من ناحية تركيا ،التي ا�ستدعت يف اليوم التايل (� 15أغ�سط�س� /آب) �سفريها لدى القاهرة للت�شاور ،وهو ما ردت عليه اخلارجية امل�رصية و�صعدت احلكومة با�ستدعاء ال�سفري امل�رصي لدى تركيا، ّ امل�رصية يف اليوم التايل ب�إعالنها وقف التدريبات البحرية ال عن � ّأن رئي�س امل�شرتكة «بحر �صداقة» مع �أنقرة ،ف�ض ً الوزراء الرتكي دعا الأ�رسة الدولية ،وعلى ر�أ�سها جمل�س الأمن الدويل واجلامعة العربية ،يف � 15أغ�سط�س� /آب، �إىل وقف ما و�صفه بـ«املجزرة» يف م�رص فور ًا. يف مقابل ارتفاع ح��دة �أردوغ���ان ،على م�ستوى الت�رصيحات ،خفّت حدة املوقف الإيراين ،الذي ت�ضمن منذ البداية ،وبرغم رف�ضه خلع مر�سي ،االعرتاف ب�أخطائه وف�شل جماعة الإخوان ،بينما ا�ستمر �أردوغان ُيثني على مر�سي وحكمه ،ويتهم كل معار�ضيه .ويف ت�رصيح له ،يف � 17أغ�سط�س� /آب ،و�صف «الذين �صمتوا عن االنقالب الع�سكري يف م�رص» ب�أنهم «�أثبتوا ازدواجية معايريهم؛ لأنهم يعرفون �أن مر�سي كان �سيطور م�رص ،ويعطيها دفعة للأمام ،وهو الأمر الذي ال ينا�سبهم» .بل �إن �أردوغان ادعى �أن لديه وثائق تثبت «وقوف �إ�رسائيل وراء االنقالب يف م�رص» ،فيما اكتفت �إيران بتمنياتها للقائمني على احلكم يف م�رص ب�أن «يتحلوا بالوعي الالزم ،واالنتباه �إىل � ّأن املنتفع احلقيقي من وراء النزاع يف م�رص هو ال�صهاينة». ه�شة �إيران وحماولة احلفاظ على مكا�سب ّ مل يكن لإيران �أن تثبت وت�صمم على موقف معار�ض حا ّد من احلكم اجلديد يف م�رص مثل خ�صومها� ،إقليمي ًا ودولي ًا، تركيا والواليات املتحدة؛ فبالن�سبة �إىل الأخ�يرة ثمة م�صلحة �إيرانية يف توتري العالقات بينها وبني م�رص� ،أي ًا كان ال�سياق؛ �إذ � ّإن �أي ح�سم من نفوذ الواليات املتحدة يف ي�صب يف م�صلحة �إيران ،وخا�صة � ّأن دفء العالقات م�رص ّ امل�رصية -الأمريكية بعد ثورة يناير /كانون الثاين ،فرتتي 110
بدايات
العدد 2013 |6
�إيران ،لكونها ذات نظام ديني ،وبالأ�سا�س لأنها تعاونت مع الإخوان .وي�أتي هذا احلر�ص خ�شية �أن تخ�رس املكا�سب اله�شة التي ح�صلت عليها يف عالقتها مع م�رص ،فرتة حكم الإخوان .ثاني ًا :ا�ستغالل حالة التوتر ،و�إن كانت م�ؤقتة ،بني الإدارة الأمريكية واحلكومة احلالية يف م�رص، حتى �إن كانت لن ت�ؤدي �إىل تغيري ا�سرتاتيجي ،مبا ي�ؤثر على �أمن «�إ�رسائيل»� ،أو يدفع تلك احلكومة جتاه �إيران، نظر ًا �إىل عدة اعتبارات �أهمها عدم وجود نظام �سيا�سي وا�ضح التوجهات بعد يف م�رص ،وارتباك الو�ضع الداخلي، �أمني ًا و�سيا�سي ًا ،وعدم قدرة امل�ؤ�س�سة الع�سكرية امل�رصية خالل هذه الفرتة االنتقالية على القيام مبثل بتغيري كهذا؛ �إذ َت�شكل �شبه حتالف بني احلكم اجلديد ودول اخلليج التي �سارعت �إىل دعم حترك اجلي�ش ،وحكومة ما بعد 3 يوليو /متوز ،يف وقت يواجه فيه ا�صطفاف ًا دولي ًا معار�ض ًا، وتهديدات بقطع امل�ساعدات الأمريكية والأوروبية ،وهو ما �أجادت ا�ستغالله بع�ض دول اخلليج التي �أ�رسعت بتقدمي الدعم املادي للحكومة ،ما جعلها الداعم الرئي�سي للحكم اجلديد ،الذي من غري املتوقع تخليه عن بقاء ق�ضية «�أمن اخلليج» على ر�أ�س �أولوياته يف الأجندة اخلارجية.
حكم املجل�س الع�سكري وجماعة الإخوان ،كان من عوامل عدم تقدم العالقات الإيرانية مع م�رص ،وفق ًا لرغبة �إيران و�إرادتها ،التي ارتكزت على جتنب العودة �إىل �سيا�سات نظام مبارك ،واعتبار �إيران خ�صم ًا مل�رص. ت��درك �إي��ران � ّأن �سيا�سة الإخ��وان الإقليمية جلهة العالقات معها ،كانت حذرة وبراغماتية ،ومل تعبرّ عن �أي تغيري جذري يف اال�سرتاتيجية والتوجهات ،وقامت على رد الفعل .لكن يبدو جلي ًا اليوم �أمام �إيران �أنها �أخط�أت التقدير يف التعويل على براغماتية جماعة الإخ��وان، التي مل يخف على �أحد ترددها وتذبذبها وتقدمها خطوة وتراجعها خطوتني يف عالقتها مع �إيران ،نتيجة �ضغوطات داخلية من ِقبل التيار ال�سلفي ،و�أخرى خارجية تتعلق بالتزامات اجلماعة جتاه داعميها من الغرب؛ �إذ فقدت �إيران بذلك كثري ًا من التيار املدين الذي رحب بعد الثورة ب�إقامة عالقات معها من منطلق التوازن الإقليمي ،و�إعادة هيكلة ال�سيا�سة اخلارجية امل�رصية ورف�ض توجيهها من ِقبل �أي طرف �إقليمي �أو دويل ،كان يمُ لي على م�رص ال�سيا�سات التي تتوافق وم�صاحله .لكن الدعوات لتفعيل العالقات مع �إي��ران ما لبثت �أن جتمدت �إث��ر التدخل الإيراين يف الأزمة ال�سورية ،ثم حماوالت نظام مر�سي التقارب من �إيران ،التي كانت مثار انتقاد معظم التيار املدين ،باختالفاته وتبايناته الأيديولوجية ،من منطلق معار�ضة النظام الإخواين وكل ممار�ساته ،وانعدام الثقة يف نيات اجلماعة على امل�ستويني ،الداخلي والإقليمي ،ف�ضال ً عن حر�ص جزء من التيار املدين على العالقات مع دول اخلليج ،ورف�ض �أي حماولة من قبل الإخوان لتوتريها، وفقدان الدعم اخلليجي مل�رص .وثمة �سبب �آخر يتعلق بطبيعة النظام الإيراين الديني الذي يجل�س على قمته مر�شد �أعلى ،وهو ما مثل فزاعة للتيار املدين من �سيطرة مر�شد الإخوان على النظام واحلكم ،ومتثيله لإرادة فوقية تع�صف مبدنية الدولة وم�سار حتولها �إىل الدميقراطية. لذلك ،يف �إطار مراجعة ح�ساباتها ،حر�صت �إيران على عدم ت�صعيد موقفها ،وتبني خطاب معا ٍد ب�شكل وا�ضح حلكم ما بعد الإخوان يف م�رص؛ من �أجل الإبقاء م�ستقبال ،فجاء اعرتا�ضها على على �إمكانية التعاون ً تدخل اجلي�ش يف ال�سيا�سة ،ال هجوم ًا مبا�رش ًا على احلكم اجلديد ،الذي ينفي بدوره � ّأن اجلي�ش يتدخل يف امل�سار ال :حت�سني ال�صورة ال�سيا�سي ،وذلك حر�ص ًا منها على� :أو ً لدى معظم التيارات امل�رصية بعد ت�أثري حكم اجلماعة املرفو�ض من قبل هذه التيارات على تفعيل العالقات مع
�أن يكون موقع م�رص الإخوان فيه حتت مظلة تركيا ،على الرغم من تعار�ض ذلك مع م�رشوع الإخوان الأيديولوجي، لكن التزاماتهم جتاه الواليات املتحدة ،وحر�صهم على ا�ستمرار دعمها ،من �أجل البقاء يف احلكم ،كان من املمكن �أن ي�ضمن تبلور هذا التحالف ،ور�ضوخ الإخوان للدخول فيه بال�رشوط الأمريكية وبقيادة تركية �إقليمية. وبغ�ض الطرف عن عدم بلورة حتالف كهذا حتى الأيام الأخرية من حكم الإخوان ،ف�إن تركيا ا�ستفادت بعالقاتها معهم� ،أكرث مما قدمته لهم ،فبدت الطرف الإقليمي الأقوى، الداعم الرئي�سي لتنظيم �إ�سالم �سيا�سي ،يحكم دولة مركزية ،ويبدو يف حاجة لدعمها على عدة م�ستويات لك�رس احل�صار املفرو�ض حوله �إقليمي ًا .وبرغم تعاليه على فكرة االن�ضواء حتت منوذجها ،مل ي�ستطع فر�ض منوذجه اخلا�ص ،بل �أ�ضحى �أكرث ما ي�ستطيع فعله هو التغني بنجاح احلليف الإقليمي الإ�سالمي «املعتدل» ،و�إثبات �أن ثمة �إمكانية لتحقيق جناح مماثل. لذلك ف�سقوط اجلماعة يف م�رص ،وتزامنه مع ت�صاعد حركة املعار�ضة الداخلية �ضد حكم �أردوغ��ان ،يهدد م�رشوع حزب العدالة والتنمية ،ويزلزل الأر�ض حتت �أقدام الإ�سالم ال�سيا�سي «املعتدل» يف املنطقة برمتها ،ويهدد م�رشوعات الزعامة الإقليمية الرتكية .فمن الطبيعي �أن يناه�ض احلكم يف تركيا احلكم اجلديد يف م�رص ،مبا مييزه عن �أي موقف �آخر ،من حيث الدوافع والأهداف.
تركيا وتهديد امل�رشوع والنموذج بالن�سبة �إىل تركيا ،فخ�سائرها من �سقوط جماعة الإخوان �أكرب ،ما يف�سرّ موقفها الأكرث حدة على الإطالق يف كل املواقف الإقليمية والدولية ،ولي�س فح�سب مقارنة باملوقف الإي��راين؛ �إذ بخالف االنتماء الأيديولوجي اجلامع بني املرجعية الدينية �أم امل�صالح اال�سرتاتيجية؟ �إخوان م�رص وتركيا ،ف�إن ف�شل جتربة الإخوان يف م�رص يطرح تف�سري تقاطع املوقفني الإيراين والرتكي من �إزاحة ال عن يعر�ض م�رشوع تركيا الإقليمي للإجها�ض ،لي�س فح�سب جماعة الإخوان عن حكم م�رص وتداعياته ،ت�سا�ؤ ً ّ امل�رشوع الذي بد�أت تد�شينه بعد و�صول حزب العدالة ال�سبب الرئي�سي يف هذا التقاطع ،واملتعلق باملرجعية والتنمية �إىل احلكم يف تركيا ،والذي حاولت بلورته يف الدينية ،وحدود ت�أثريها يف موقف كل طرف� ،أم �أن الأمر ما �سمي «النموذج الرتكي» ،و�سعت لت�صديره �إىل املنطقة يتجاوزها ويتعلق بامل�صالح فح�سب. كنموذج حلكم دولة يجل�س على ر�أ�س ال�سلطة فيها حزب بالن�سبة �إىل تركيا ،فقد ارتكزت نظرة الإخوان �إىل �إ�سالمي «معتدل» ا�ستطاع حتقيق جناحات على م�ستويات النموذج الرتكي على «�إ�سالميته» وبراغماتيته ،وكونه عدة ،لكن �أي�ض ًا امل�رشوع اجلديد ،الذي كان قيد التد�شني منوذج ًا ُملهم ًا لل�سيطرة على م�ؤ�س�سات الدولة ،ويف يف الفرتة الأخرية من حكم جماعة الإخ��وان .ويتمثل القلب منها امل�ؤ�س�سة الع�سكرية ،فهو منوذج ناجح حلكم هذا امل�رشوع يف �إعطاء تركيا الوكالة كالقوة الإقليمية الإ�سالم ال�سيا�سي ،فكان هذا هو الدافع الرئي�سي لالجتاه الأكرب يف املنطقة من ِقبل الواليات املتحدة ،بعد امل�صاحلة بقوة �إىل تركيا� ،أي اعتبارات م�صالح التنظيم ولي�س بينها وبني «�إ�رسائيل» برعاية �أمريكية ،ولرعاية م�صاحلها ،الدولة� .إذ مل تكن اعتبارات امل�صالح الإقليمية مل�رص، التي ي�ضمنها وجود حتالف ا�سرتاتيجي بني حليفيها وهي تندفع باجتاه قوة �إقليمية مناف�سة� ،ضمن ح�سابات الإخ��وان ،لذا فقد ا�ستمر ذلك هو الدافع حتى بعد اال�سرتاتيجيني ،على حد قول �أوباما. ويف هذا التحالف الذي تتقدمه تركيا و�إ�رسائيل تحَ دد �إعالن �إخوان م�رص حتفظهم على فكرة تطبيق «النموذج 111
بدايات
العدد 2013 |6
ال �أعقبه حادث عنف طائفي ب�شع يف حمافظة اجليزة ،ف�ض ً عن هجوم مر�سي �شخ�صي ًا على «حزب الله». مع ذلك ،ف�إن البعد الأيديولوجي كان حا�رض ًا لدى �إيران ،و�إن كانت امل�صالح تتقدم كل االعتبارات بالن�سبة هما بالن�سبة �إىل الإخوان ،بل �شكل �إليها ،لكنه مل يكن ُم ً �إزعاج ًا لهم من ِقبل حلفائهم الداخليني الذين يعتربون �أن ال�شيعة لي�سوا م�سلمني بالأ�سا�س ،وال جتمعهم بهم مرجعية .بيد �أن الإخ��وان اعتربوا العالقات مع �إيران ورقة لالبتزاز اخلليجي ،ومناورة �إقليمية .ب�شكل عام� ،إن الغلبة للم�صالح على ح�ساب الأيديولوجيا بالن�سبة �إىل الطرفني ،الإيراين والرتكي.
الرتكي» ،عندما �صدمتهم ت�رصيحات رجب �أردوغان، وقت وجوده يف م�رص يف �أول زيارة له بعد الثورة ،يف �سبتمرب /ايلول ،2011عن هوية تركيا العلمانية .ثم جاء تطور الأحداث �إبان حكم اجلماعة ليفر�ض �سبب ًا �آخر يتعلق بالعزلة الإقليمية التي فر�ضت حول النظام، فلم يكن �أمامه �سوى تركيا كحليف �إقليمي قوي ،يف حني �أن حاكم تركيا ال�شديد الرباغماتية كانت الأولوية، يف �أ�سباب حتالفه مع �إخوان م�رص ،هي لإن�ضوائها حتت القيادة الإقليمية لرتكيا ،و�إن وقفت �أمام ذلك عقبات عدة ،منها موقف ال�سلفيني الراف�ض للنموذج الرتكي، و�صعوبة قبول اجلماعة ذلك لأ�سباب تتعلق بجوهر م�رشوعها .ثم جاء االنتماء الأيديولوجي يف الرتتيب الثاين ،لذا فتف�سري موقف تركيا احلايل من �إزاحة الإخوان الإخوان اعتربوا العالقات مع �إيـــــــــــــــــــــــــــران عن حكم م�رص ال يرتبط بهذا االنتماء فح�سب ،الذي ورقة لالبتزاز اخلليجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي، بالت�أكيد له ت�أثري قوي على وجود الإ�سالم ال�سيا�سي يف ومناورة �إقليمية ،وب�شـــــــــــــــــــــــــــــــــكل عام، جممله كنموذج للحكم يف املنطقة ،ومنوذج قدم نف�سه ف�إن الغلبة للم�صــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالح على �أنه «الإ�سالم املعتدل» ،وما لبث �أن �سقط يف م�رص ،على ح�ساب الأيديولوجيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا بعد عام واحد من احلكم� ،سقط مبمار�ساته وبخطابه بالن�سبة �إلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى الطرفني، «املعتدل» ،لكنه يرتبط �أي�ض ًا بت�سبب هذا ال�سقوط يف الإيرانــــــــــــــــــــــــــي والرتكــــــــــــــــــــــــــي �إف�شال م�رشوع �إقليمي ارتكز على دور حموري لرتكيا ال ،ف�إن امل�شهد الإقليمي تت�سم تفاعالته بال�سيولة يف ترتيبات ما بعد الربيع العربي. �إجما ً كما تختلف جماعة الإخوان �أيديولوجي ًا مع منوذج والرباغماتية ،وعدم وجود حتالفات متما�سكة� ،أو مواقف حزب العدالة والتنمية احلاكم يف تركيا� ،صاحب الطبيعة متقاطعة يف املطلق من �أزمات وق�ضايا املنطقة ،لذا ف�إن ال�صوفية ،تختلف �أي�ض ًا مع �إيران الدولة الدينية ،ال�شيعية التقاء تركيا و�إيران يف موقفهما مما حدث يف م�رص هو املذهب ،اختالف ًا �أ�شد ،لكن �إيران التي انح�رصت ر�ؤيتها جزء من �سياق عام ،اتفقت فيه تركيا يف املوقف من للثورة امل�رصية على �أنها «�صحوة �إ�سالمية» ،الأمر الذي �سورية مع من اختلفت معها يف ما يتعلق مب�رص ،وهي دول �أثار ا�ستياء كثري من القوى امل�رصية املدنية ،وقتذاك ،اخلليج ،التي تدعم املعار�ضة ال�سورية ،ب�إخوانها ،ع�سكري ًا ف�ضلت وجود قوة �إ�سالمية املرجعية على ر�أ�س ال�سلطة و�سيا�سي ًا ،يف الوقت الذي وقفت فيه تلك الدول مع احلكم ّ يف م�رص ،مع االختالف ،ودعمت وحليفها« ،حزب الله» ،يف م�رص يف مواجهته جلماعة الإخوان .و�إيران التي كانت �صعود مر�سي �إىل احلكم ،اعتقاد ًا منها �أن الف�صيل �إ�سالمي تف�ضل حكم الإخوان يف م�رص و�أعلنت رف�ضها لإزاحته، التوجه ،و�إن اختلف ،فهو الوحيد الذي �سي�سمح باخلروج وتقاطعت يف ذلك مع �أ�شد خ�صومها الإقليميني (تركيا) - من دائرة جتمد العالقات .لكنها ُووجهت ب� ّأن االختالف مع اختالف درجة الرف�ض و�أ�سبابه -تواجهه يف �سورية أهم العقبات �أمام الإخوان يف �سعيهم �إىل بتحالفها مع نظام ب�شار الأ�سد. املذهبي كان من � ّ �إقامة عالقات مع �إيران ،بل كان محُ ِدد ًا رئي�سي ًا لرف�ض �إذن ،فالوقوف �أم��ام نقاط التالقي واالختالف بني ال�سلفيني هذه العالقات ،و�ضغطهم على اجلماعة من � ًّأي من القوى الإقليمية �أثناء حماولة ق��راءة املواقف �أجل جتميدها ،ما ا�ضطر الإخوان يف �أيام مر�سي الأخرية وتف�سريها ،يرتبط ب�رضورة القراءة ال�شاملة للتفاعالت �إىل الت�ضحية بها متام ًا ،حفاظ ًا على حتالفهم الداخلي الإقليمية ،و�سياقها العام ،وحتديد ًا م�صالح كل طرف مع ال�سلفيني يف مواجهة التكتل املعار�ض ،وهو ما بدا كمحدد رئي�س يحكم مواقفه ،واخل��روج من دائ��رة ب�سب ال�شيعة التق�سيمات ال�ساكنة التي حكمت تف�سريات امل�شهد يف �سماح مر�سي حللفائه من الإ�سالميني ّ وتكفريهم ،على مر�أى وم�سمع من اجلميع ،الأمر الذي الإقليمي قبل عام .2011 112
بدايات
العدد 2013 |6
الفالحون والثورة استعادة األرض
ياسمني أحمد باحثة مرصية،
مرشحة للدكتوراه يف االنرثوبولوجيا
االجتماعية ،جامعة كيمربدج ،انكلرتا.
عالم ت�شهد؟ رئي�س املحكمةَ : خمتار عبد العظيم ،ف�ّل�اّ ح� :أن��ا كنت يف القوات امل�سلحة يف ،1965قعدت � 8شهور تدريب وطلعنا اليمن ،وفوجئنا ب�أنهم كرمونا بقطعة �أر���ض 2فدان، ووالدتي ا�ستلمت الأر�ض �شهر � 11سنة ...1966 �أنا ب�شتكي حممود �أمني وايل ...دخل يف الأر�ض و�رضبنا وحرمنا وعيالنا وحجب البهائم عن الأكل ،وبعد ذلك جت احلكومة �أخذتنا و�سجنونا �أ�سبوع و�رضبونا و�شتمونا وو�صوا نا�س علينا بهدلونا ...ولو حد من عيايل رح ي�شتغل مينعوه �أو يو�صوا مبنعه. مقتطف من تقرير التحقيق الذي �أجرته الن�ص �أعاله ٌ املحكمة املدنية يف م�رص ،يف يونيو/حزيران .1999رفع الدعوى م�ست�أجرون جرى �إخال�ؤهم من الأر�ض� ،ضد ورثة اجلد الأكرب لوزير الزراعة وا�ست�صالح حممد �أمني وايلّ ، الأرا�ضي ال�سابق يو�سف وايل ،وهو �أي�ض ًا رئي�س �سابق لـ«احلزب الوطني الدميقراطي»� .أمر الأخري القوات الأمنية تقدر بنحو 400 بطرد 245فالح ًا من م�ساحة �أر�ض ّ للمدعني �أو �أهاليهم الرئي�س ال�سابق جمال فدان ،منحها ّ ّ عبد النا�رص يف عام � ،1967ضمن تطبيق بنود قانون الإ�صالح الزراعي الأول ال�صادر بعد �أ�سابيع قليلة من ثورة و�ضمت الئحة امل�ستفيدين �آنذاك الفالحني عام .1952 ّ الذين �شاركوا يف احلرب الأهلية يف اليمن ال�شمايل كما يف حرب عام 1967امل�رصية الإ�رسائيلية ،بالإ�ضافة �إىل الفالحني الذين يفتقرون �إىل م�صدر دخل �آخر غري الزراعة .لثالثني عام ًا ،من 1967وحتى ،1997دفع الفالحون ال�رضائب �إىل الهيئة العامة للإ�صالح الزراعي، �ستخولهم امتالك الأر�ض يف نهاية وقد ظ ّنوا �أن ال�رضيبة ّ املطاف .يف عام ،1986دفع الفلاّ حون الر�سوم ال ّأولية
113
بدايات
العدد 2013 |6
ال�ستمالك الأر�ض .ومع �أن امل�ست�أجرين ّلبوا ال�رشوط القانونية ل�رشاء الأر�ض� ،إال �أن �سلطات الإ�صالح الزراعي رف�ضت تلبية مطالبهم ال�رشعية ،و�أُعلن بيع الأر�ض يف �رسية لعائلة وايل يف عام .1997بعد حتقيق مناق�صة ّ ق�ضائي ا�ستمر ب�ضعة �أعوام ،مل تلق �شكوى امل�ست�أجرين �آذان ًا �صاغية .يف عام ،2003تويف حماميهم خم ّلف ًا على مكتبه يف و�سط البلد القاهري ،ملفات الق�ضية. يف 12فرباير�/شباط � ،2011أي بعد مرور يو ٍم واحد على �إطاحة ح�سني مبارك� ،أقدم امل�ست�أجرون الذين جرى �إخال�ؤهم من الأر�ض على خطوة جريئة ،رافعني دعوى ق�ضائية �ضد يو�سف وايل و�أف��راد من عائلته. حاليا الق�ضية .يف املقابل، «م�صلحة اخل�براء» تدر�س ً رفع �أفراد عائلة وايل �أكرث من 57ق�ضية جنائية �ضد الفالحني ،متهمني �إياهم مبهاجمة فيلاّ ت �آل وايل ،زاعمني مكد�سة على الأر�ض �أنهم �رسقوا املحا�صيل التي كانت ّ قبل حلول ثورة 25يناير/كانون الثاين. بتحرك تناق�ش هذه املقالة اخلطاب ال��ذي �أح��اط ّ امل�ست�أجرين من �أجل حقوقهم ،وطبيعة هذا اخلطاب ،كما املعنية يف جتاوبها الأ�ساليب التي اعتمدتها املجموعات ّ بالتحرك ،وف�سرّ ته كنتيجة معه .جمموعات كثرية احتفت ّ لـ«ك�رس حاجز اخلوف» الذي �أر�ساه نظام مبارك ــ الزم ٌة �سادت �أدبيات 25يناير الثورية� .إال �أن كثريين �أي�ض ًا عار�ضوا ،على �أر�ضيات خمتلفة ،الدعاوى القانونية التي رفعها امل�ست�أجرون الذين جرى �إخال�ؤهم من الأر�ض. القراءات التي قدمها املحامون اخلرباء يف حقوق الإن�سان واحلقوق املدنية للحقوق العقارية ،تعك�س �إميان ًا عميق ًا بحكم القانون .يف املقابل ،هناك انعدام ثقة متزايد ووا�سع االنت�شار بني امل�ست�أجرين ،يفيد ب�أن املظ ّلة القانونية لن ت�أتيهم بالعدالة« :القانون زي الغربال» ،ح�سبما قال يل
يوم ًا احلاج ح�سن بينما كنا نحت�سي ال�شاي .فهو مليء بال ُّث َغر ،بحيث ي�سهل اخرتاقه ،والتالعب فيه ،واعرتا�ض تطبيقه .و�أ�ضاف« :القانون معمول ع�شان القوي .حمتاجني حد زي جمال عبد النا�رص». �إرادة �سيا�سية ،عايزين ّ �إىل ذلك ،يجادل م�ست�أجرون كرث ب�أن النظام الق�ضائي م�شكوك ب�إذعانه ل�سطوة وايل ال�سيا�سية ،التي ميار�سها حتى من ال�سجن� .أما البديل الذي يحتاجونه لتحقيق العدالة فيكمن بالن�سبة �إليهم يف ت�أمني الإرادة ال�سيا�سية. أقدم يف هذه املقالة عدد ًا من القراءات التحليلية الأولية � ّ لتحرك الفالحني يف م�رص �ضمن ال�سياق الثوري ،وجتاوب ّ العديد من اخلرباء القانونيني معه .ف�أعالج النقا�ش حول �رصاعات اال�ستمالك التي انفجرت خالل الع�رشين �سنة املا�ضية يف ريف م�رص ،يف حماولة معاينة الأ�ساليب التي ا�ستخدمها امل�ست�أجرون ملواجهة ال�سلطات القانونية والدينية التي تدير معايري التفاهم حول �آليات التم ّلك ،وهو تفاهم ت�سيطر عليه الإيديولوجيات النيوليربالية .بذلك، ٌ أحتدى القناعة ال�شعبية التي تفيد ب�أن الريف امل�رصي هو � ّ «احل�صن� ،أو اخل ّزان اال�سرتاتيجي للثورة امل�ضادة» .فمن خالل مطالبتهم بحقّهم يف الأر�ض ،ينخرط امل�ست�أجرون يف الأحداث الثورية ،حتى ولو من كوالي�سها. ت�ستند هذه املقالة �إىل املالحظات التفاعلية ،والبحث الأر�شيفي ،واملقابالت التي �أجريتها على مدى � 12شهر ًا أبعادية ،اخللطة، الفيوم (ال ّ يف خم�س قرى يف حمافظة ّ �أحمد �أفندي ،قوتة ،وقارون) ،بدء ًا من �أيلول � /سبتمرب 2011حتى ني�سان � /أبريل ،2012وثم من ت�رشين الثاين /نوفمرب 2012وحتى ني�سان � /أبريل .2013 وجهات نظر اخلرباء املخت�صون باحلقوق املدنية وحقوق يقدم املحامون ّ ّ الإن�سان الق�ضية كق�صة باتت كال�سيكية ،يطالب فيه الفلاّ حون با�ستعادة منفذ �إىل �أر�ض ُحرموها خالل فرتة حكم �سلطوية وفا�سدة .البيانات ال�صادرة عن املجموعات النا�شطة يف جمال حقوق الإن�سان دعم ًا للم�ست�أجرين، ٍ خطاب يعترب فئة «الفالح الب�سيط» ت� ّؤطر امل�شكلة يف بحد ذاتها �ضحي ًة ل�سيا�سات حترير الزراعة ،ولف�ساد ّ متج�سد ًا يف ا�ستغالل ال�سلطة ال�سيا�سية يو�سف وايل ّ لأغرا�ض الربح اخلا�ص� .إىل ذل��ك ،تعترب �أن��ه يجب تطهري اجلهاز الق�ضائي من املوظفني الفا�سدين بحيث ّ يتمكن امل�ست�أجرون من املطالبة بحقوقهم كم�ست�أجرين. يتكرر ذلك يف البيان التايل ال�صادر عن منظمة غري ّ 114
بدايات
العدد 2013 |6
حكومية ا�سمها «نواة» يف � 17آذار /مار�س ،2013 �إثر �سجن خم�سة م�ست�أجرين بتهمة �رسقة حما�صيل �أرا�ضي وايل« :ماذا يفعل الفالحون الب�سطاء �أمام �سيل املحا�رض امللفقة التي قامت بها عائلة وايل (الوزير ال�سابق للزراعة واملتهم يف ق�ضايا ف�ساد و�أحد �أهم عنا�رص النظام البائد) ،بدعم من �أجهزة الدولة �ضد أبعادية؟ فالحني قرية قوته واخللطة وعزبة زكي وال ّ �أين الرئي�س واملر�شد والوزير واملحافظ ليحمي حقوق �صغار املزارعني يف حيازة �آمنة لأرا�ضيهم الزراعية� ،أم �أنهم يحمون املعاينات املزورة والكاذبة كي يدعموا نفوذ ع�صابات مبارك ونظامه الفا�سد �ضد فالحني كل �أملهم �أن يزرعوا الأر�ض وينتجوا اخلري للم�رصيني؟!». �أظهرت املقابالت مع املحامني �أنهم بدورهم ي�ؤيدون النظرية التي تفيد ب�أنه حتى الفلاّ حون ،وهم �أكرث �رشائح املجتمع تهمي�ش ًا ،ك�رسوا حاجز اخلوف الذي �ساد ع�رص يقدمون ر�ؤو�س الف�ساد للعدالة .مع ذلك، مبارك ،وهم اليوم ّ هناك نقاط خالف كثرية ما بني امل�ست�أجرين وحماميهم. فيجادل املحامون ب���أن امل�ست�أجرين ي�ستندون يف ادعاءاتهم �إىل وثائق عتيقة مل تعد تعترب قانونية .الأ�ستاذ أبعادية، �سيد حما ٍم باحلق املدين يف ق�ضية ال ّ ح�سني ّ قوي يف جماعة «الإخوان امل�سلمني» ،وهو اليوم وكادر ّ يتبو�أ مركز ًا قيادياً يف حزبها «احلرية والعدالة» .طلب منه ال، امل�ست�أجرون رفع دعوى ق�ضائية �ضد وايل .وافق �أو ً قرر رف�ض ّ توكل الق�ضية لكنه ،بعد مراجعة الوثائقّ ، القتناعه ب�أن �أغلبية امل�ست�أجرين ال ت�ستحق الأر�ض، من وجهتي النظر القانونية والإ�سالمية .ويلفت �إىل �أن امل�ست�أجرين �أ�سا�ؤوا تف�سري العقد الذي منحهم �إياه عبد فلما مت تعديل النا�رص« :كانوا م�ست�أجرين ،ال ملاّ كنيّ . قانون الإ�صالح ،باتت الأر�ض خا�ضعة لقوانني ال�سوق». ويدعم الأ�ستاذ ح�سني ر�أيه القائل ب�أن امل�ست�أجرين ال ّ ي�ستحقون الأر�ض ،م�ستند ًا �إىل �أحكام ال�رشيعة التي تفيد ب� ّأن قيمة الأر�ض تخ�ضع لل�سوق .امتلك �آل وايل القدرة على دفع ثمنها ،وبالتايل ا�ستحقوا ملكيتها .ينظر �إىل املحامني املعنيني بالق�ضية كل�صو�ص يطيلون �أمد الق�ضية ليتقا�ضوا املزيد من املال بدل �أتعابهم ،لكنهم يعرفون جيد ًا �أن ال جدوى منها .يف قراءته ،يح�رص الأ�ستاذ ح�سني ال�رشعية بالنظم الر�سمية التي تعرتف بها روج الدولة ،مبا يعك�س �شك ً ال خا�ص ًا من (انعدام) العدالة ّ له مع تطبيق قوانني الرتاجع عن الإ�صالح الزراعي ،التي ٍ أ�سباب دينية. دعمها «الإخوان امل�سلمون» ل
ال يجد املحامون النا�شطون يف جمال حقوق الإن�سان جدوى قانونية يف املطالبة با�ستعادة احلقول .كثريون منهم غ�ضبوا من الفلاّ حني ،على اعتبار �أن الأخريين ال ي�أخذون بن�صائحهم القانونية .بع�ضهم امتنع عن منح الفلاّ حني الدعم القانوين ،بينما رف�ض �آخ��رون تقدمي امل�ساعدة منذ البدء .على فنجان �شاي بعد ظهر ذاك اليوم ،التقيت ب�أ�رشف ،وهو مدير «نواة» -منظمة غري حكومية بارزة تن�شط يف جمال احلقوق االجتماعية وال�سيا�سية ،مع تركيز خا�ص على ق�ضايا الفلاّ حني .قال يل �أ�رشف ب�شجاعة �إنها معركة خا�رسة ،ولي�س ال�سبب يف ذلك افتقار الفلاّ حني �إىل الوثائق املنا�سبة فح�سب ،بل �أي�ض ًا لأنها ق�ضية قدمية. ال، ُط ِّبق قانون اال�ستئجار ال�صادر يف عام 1997كام ً بحيث ت�ستحيل اليوم �إمكانية �إزالة مفاعيله .ومع �أنهم ح�صلوا على الأر�ض مقابل م�شاركتهم يف احلرب ،ولكن عند �أخذها منهم ،عادت �إىل عائلة وايل ،و�أ�ضحوا يف املوقع ذاته الذي وجد م�ست�أجرون �آخرون �أنف�سهم فيه ملا جرى �إخال�ؤهم مبوجب قانون اال�ستئجار ال�صادر يف عام � .1997أ�رشف ،والعديد من املحامني الذين حاورتهم، ينظرون �إىل «احلق» مبعاين التعوي�ض ،قطعة � ٍ أر�ض يف مبلغ من املال. مكان �آخر� ،أو ٌ لاّ من جهة �أخرى ،يبدو وك�أن الف حني يطالبون ب�أن تعرتف الدولة بهم� ،أكرث مما ي�شقّون طريقهم يف دعوى املجردة، امللكية مطلب كهذا ال يقوم على حقوق ق�ضائية. ٌ ّ ّ بل على تلك التي تعرتف لهم بالتاريخ الفردي واجلماعي كمواطنني مكتملي املواطنة :جنود ال ّأمة ،حارثو الأر�ض، مواطنون جديرون بثقة الدولة. جنود ال ّأمة يخولهم املدعون � ّأن د�ستور 1971امل�رصي يزعم ّ ّ احل�صول على معاملة مميزة ب�صفتهم جنود ًا حماربني. وي�ستندون يف ذلك �إىل املادة 15التي تقول« :للمحاربني القدماء وامل�صابني يف احلرب ولزوجات ال�شهداء و�أبنائهم الأولية يف فر�ص العمل وفق ًا للقانون». لدعم مطالبهمّ ، رك��ز امل�ست�أجرون على �شهادات ت�ضم �صور ًا لهم مبالب�س اجلي�ش اجلندية اخلا�صة بهم ،وهي ّ تعود بالزمن خم�سني عاماً �إىل الوراء مرفقة ب�سنة التجنيد وموقعه ــ ،1964اليمن .وبذلك ،هم ي�شريون بالتحديد �إىل م�شاركتهم يف احلرب الأهلية اليمنية ،التي حاربت م�رص فيها �إىل جانب اجلمهوريني �ضد امللكيني من عام 1962حتى عام ،1970ويطلقون على �أنف�سهم 116
بدايات
العدد 2013 |6
ينظرون �إىل الأر�ض مثلما ينظرون �إىل �أطفالهم :عزيزة وقيمة» (فتحي ،2005ذكرت يف بو�ش .)67:2009 ّ فيكرر ا�ستخدام أجرين، � امل�ست أحد � وهو حامد، ال�شيخ �أما ّ ّ ي�شددان على متلك املرء ملا عمل فيه« :ما حديثني نبويني ّ �إحنا عندنا ال�رشع بيقول« :من �أحيا �أر�ض ًا ميتة فهي له»، و«من حفر بئر ًا ،فله حرميها» ،يعنى اللي حوليها». يطبقان عند مراجعة هذين احلديثني ،وجدت �أنهما ّ على الأر�ض ال�شاغرة .فعدت �إىل ال�شيخ حامد و�س�ألته عن هذا التناق�ض� ،إذ �إن الأر�ض مو�ضع اخل�صام امتلكتها يف ٍ وقت �سابق عائلة وايل .وتبع ًا للتاريخ املحلي ،كانت ٍ ال .بثقة �أجاب عائلة وايل من زرع احلياة يف الأر�ض �أو ً حراث الأر�ض، ال�شيخ حامد ،معتربا ً �أن الفلاّ حني كانوا ّ حتى وهي مملوكة ر�سمي ًا من قبل وايل ،يف ظل الإدارة العثمانية للعقارات.
ولكن ،الكت�ساب ه��ذا املقام ،وج��ب عليهم الكدح، ٍ ظروف �صعبة .ونظر ًا �إىل غياب الرجال يف اخلدمة ويف ّ �رسدية جندرية ت�سلط الع�سكرية ،جل�أ الفلاّ حون �إىل ّ حي ًة حتى ال�ضوء على دور الن�ساء يف احلفاظ على الأر�ض ّ تو�ضح الفكرة: عودتهم �إليها .ق�صة �أم خالد املذكورة �أدناه ّ وحديا من 67لـ 74ما هو كان غايب، «كنت بزرع ّ و�أنا بقى ربنا يخ ّلي بقيت معايا �أربع عيال :خالد وجمال ون�رص وهدى� .أروح �أ�شتغل �أجيب واحد يحرث بجوز بهامي وجنيبلوا تقاوى ذرة ،تقاوى قطن وتقاوى قمح، واحد يبدرها يل ويلفها ويزرعها� ،أي حاجة ،و�أروح �أ�سقى� ،أحطلها كيماوي و�أ�سقيها� ،أحتزم و�أ�سقيها .كان �إبني على �صدري كده مولود و�أروح برده ،وييجي وقت احل�صاد نح�صد ونروح القمح البيت ،ما هو غايب م�ش هنا ،والدي ميوتوا من اجلوع� .إخوته م�ساعدوني�ش ،كانوا عايزين يخدوها ،وكانوا بي�رسقوين ،ملا يالقوا الزرعة حلوة يروحوا يقلعوها ويخدوها� ،إخواتي �أن��ا م�ش مواطنون جديرون بثقة الدولة فالحني ،ده �إخواتي جنارين م�ش فالحني ملهم�ش دعوة ...ثالثة احلجج التي ي�سوقها امل�ست�أجرون تقوم على الرتابط ّ تت�شكل �رسديات امل�ست�أجرين امللكية وامل�س�ؤولية. و�أنا اللي �أعمل كل حاجة ،حلد ما ربنا كرمنا جه ،جه ما بني ّ ّ املحلي و«الق�ضايا القومية» لقى عندنا بهامي .رحت بعت الكردان وجبت به عجل بـ من التفاعل ما بني �رصاعهم ّ 9جنيه ...وربنا كرمني جه لقاين �شارية بيت ...وبنيناه الأو�سع .وتنمو «الق�ضايا القومية» حول �إ�ساءة وايل ليتعهد م�شاريع اال�ستثمار يف الع�رش �سنني بقى ،بنيته بالطوب وع�ش�شت فيه �أنا ا�ستخدام ال�سلطة ال�سيا�سية ّ ال�رسية مع امل�ستوردين وعيايل والبهامي ،وعندى زرعة وعندي حم�صول يف ال��زراع��ي وعقد ال�صفقات ّ حجتهم يف �إطار الأدبيات القومية علي النعمة بقيت الأجانب .ي�صوغون ّ البيت ،وبقيت راجل �أ�رضب الرجالةّ ، امليه ،و�أ�رضبه و�أخنقه �أقول له التي تنظر �إىل الفلاّ ح كمنتج الغذاء الأ�سا�سي للأمة ،يف �أنزل على الراجل �أقفله ّ و�سمم ميتي كيف؟ ده قوت والدي ..طب ما هي الزرعة مقابل يو�سف وايل الذي ا�ستنزف موارد البالد ّ تاخدوا ّ امليه متوت ،طب ما والدي ح ميوتوا و�أبوهم غايب ال ّأمة لرياكم الرثوات. تفوتها ّ م�صطلحات اجتماعية ع��دي��دة ا�ستثمرت يف يف اجلي�ش ،يا �أنا يا �أنت! والله العظيم حق». ُت َو َّظف القرابة ال�شخ�صية والتعابري الدينية لو�صف معر�ض تو�صيف الم�س�ؤولية وايل وال�أخالقيته .ويجادل غنية باملعاين ال�شائعة امل�ست�أجرون معتربين �أن اجلوع نا ٌجت من ف�ساد وايل .هنا، فعل منح احلياة للأر�ض ــ ا�ستعارة ّ حمورية على الكفر؛ �إذ ي�ستدعي اال�ستخدام للداللة على قيمة الأر�ض .يف زيارة حديثة يح�رض اجلوع كدالل ٍة ّ �سيد« :ملاذا ،ا�ستخدام ًا �شعبي ًا للكلمة املتجذّرة يف التعاليم القر�آنية العهد للقرية مو�ضوع الدرا�سة� ،س�ألت احلاج ّ الغذاء ت�رص على امتالك هذه الأر�ض؟» .وال�رسديات الفلكلورية ،التي تعالج حرمان الفقري رغم كل هذه امل�شقات، َ ّ َ و�سبل احلياة (�أبو زهرة .)1987وكان ال�سياق كهذا علي نحوه ابني املولود حديث ًا كان معي� .أ�شار احلاج ّ بالأ�صبع وقال يل�« :أديك �إنتي ربنا �أطعمك وبقيتي �أم ،عندما ا�ستخدم ح�سن املثل ال�شعبي «اجلوع كافر» للقول دقتي الأمومة يعني وال�ضنا غايل ...لو جم �أقولك ياخدوا ب�أن اجلوع يقود �إىل الكفر ،وب�أن �أولئك الذين ي�سببون ويدولك الفيوم دي كلها ،تقويل �إيه؟» .اجلوع ُيعتربون من الكفّار. �صباع ابنك ده ّ �أجبته بـ«ال» .تلك اال�ستعارة القائمة على الأمومة وال ّأبوة تتخذ الم�س�ؤولية وايل وال�أخالقيته م�ساحة �أو�سع ٍ جدية عندما تلقيان ال�ضوء على �أدوار نخبة رجال ظهرت يف درا�سات تعالج ال�رصاعات على الأرا�ضي .و�أكرث ّ ال ،يف نقا�ش حول ال�سبب الذي يبقي الأر�ض �ضمانة الأعمال ،والإمربيالية الأمريكية ،و�إ�رسائيل ،يف �إعادة مث ً ال�ستمرار الن�ضال ال�شعبي ،كتب راي بو�ش �أن «النا�س الت�شكيل اجلذرية التي خ�ضعت لها ال�سيا�سات الزراعية
تعبري «بتوع حرب اليمن» ،كذلك حت�رض �إ�شارات عابرة �إىل ح� ٍ �روب �أخ��رى ،وحتديد ًا حربي العامني 1967 ليميزوا �أنف�سهم و .1973ي�ستخدمون تلك ال�صفّة ّ عن «املنتفعني» الذين ح�صلوا على قطع �أر�ض بوا�سطة القانون (قانون الإ�صالح) .فقد ُع َّد حدث ت�سليم الأر�ض حتولٍ يف نظرتهم �إىل الدولة ــ من كيان لعائالتهم نقطة ّ يهددهم �إىل كيان يكافئهم .ويتج ّلى ذلك يف ا�ستعادة ّ احلاج ح�سن لق�صة ت�س ّلم زوجته قطعة الأر�ض« :يف الفرتة اللي �أنا كنت فيها يف اليمن ،جه الإ�صالح الزراعي طلب �صحبتنا (زوجتنا) دي ،قالت لهم �إنتو عايزين مني �إيه؟ �صوتت كان زمان اللي بيتطلب بريوح عند بيت العمدةّ ، وقالت يبقى الراجل مات ما دام �إنتو جايبني يل الغفر ت�صوت، هنا ،يبقى الراجل عليه العو�ض مات ...قعدت ّ أبوي ،قالوا له :هي بت�صوت ليه؟ راحوا جابولها املرحوم � َ نديها فدانني ،تاكل وت�رشب فيهم من الإ�صالح ده �إحنا ح ّ الزراعي هي وعيالها ع�شان جوزها يف اليمن ...فم�ضت على الفدانني وا�ستلمتهم ،و�أنا قعدت يف اجلي�ش ،هي بتزرع فيهم وبتاكل وبت�رشب فيهم». املدعون �أنه مبوجب املادة 40من الد�ستور وي�ضيف ّ امل�رصي ،ف�إن «املواطنني لدى القانون �سواء ،وهم مت�ساوون يف احلقوق والواجبات العامة». �أدرجت ثالث حاالت من التعوي�ض على ال�شهداء ال ،الفلاّ حون يف مناطق �أخرى واملقاتلني يف احلرب� .أو ً ُمنحوا �أرا�ضي يف ظروف متطابقة ،بعد دفعهم ال�رضيبة املفرو�ضةّ ، مبلكية الأر�ض .ثاني ًا ،اجلنود ومتكنوا من التم ّتع ّ الذين ُو ِّظفوا يف القطاع العام يف مقابل م�شاركتهم يف احلروب ذاتها ،وهم اليوم يتم ّتعون ّ بخطة كل منهم التقاعدية .ثالث ًا�« ،شهداء الثورة» (�شهداء ثورة 25يناير تعر�ضوا لإ�صابات خطرة يف و�/أو عائالتهم) الذين ماتوا �أو ّ �أحداث ثورية ،وهم اليوم ما�ضون يف �آلية تلقّي التعوي�ض. حارثو الأر�ض ينظر امل�ست�أجرون �إىل قطع الأر�ض اخلا�صة بهم كاملنتج املادية التي تربطهم بالدولة املادي لعملهم ــ «الأغرا�ض ّ ّ كمواطنني» (هيذيرنغنت � .)225:2009إذ بوا�سطة الإ�صالح ،اكتمل كيان امل�ست�أجرين .ومثلما �أظهر عمل �أميتاي غو�ش يف حمافظة البحرية والإثنوغرافيا التي نفذتها رمي �سعد عن الفيوم ،ر�أى الفلاّ ح يف الإ�صالح حتول ت�صيب عالقته بالدولة ،مبا ي�شبه عالقة اجلاهلية نقطة ّ (جهل بالإر�شاد الإلهي) والإ�سالم (غو�ش .)2002 117
بدايات
العدد 2013 |6
يف م�رص ،البلد الذي ذُكرت موارده يف القر�آن ،ف�إذا به ي�ستورد �أكرث من 50يف املئة من مواده الأولية ،مبا يف وي�صدر العنب لإ�رسائيل ،العدو الأكرب ذلك القمح، ّ للمنطقة .يظهر ذلك جلي ًا يف �أقوال احلاج ح�سن هذه: «مفي�ش قمح خال�ص عند حاجة ا�سمها وايل وال �أباظة، وال اجلماعة دول ،بيعملوا عنب ويهرمنوه ويبيعوا الكيلو بع�رشين جنيه ،وبيطلع يت�صدر لإ�رسائيل وبي�شرتي �أمينات البلد ويحطوا يف اخلزنة تبعه ...مفي�ش حاجة برتجع للبلد خال�ص ،هو فيه �أح�سن من �أيام عبد النا�رص اللي قال له: عيطنا على عبد النا�رص دم ،الله من �أين لك هذا؟ ده �إحنا ّ يرحمه والله ،الله يرحمه». العالقات التجارية احلميمة بني وايل ورجال�/سيدات الأعمال الإ�رسائيليني فازت بتغطية مك ّثفة يف جريدة «ال�شعب» .تفا�صيل الدعوى �صنعت عناوين عديدة يف «ال�شعب» .يف عدد يوم الثالثاء ال�صادر يف 5كانون الثاين خ�ص�صت مان�شيت اجلريدة لك�شف /يناير ّ ،1999 تفا�صيل «�شبكة وايل ــ �إ�رسائيل» .وت�رشح التغطية ال�صحافية ،مت�س ّلح ًة بالوثائق ،كيف تعاون وايل و«�شبكة ع�ساف التطبيع» التابعة له مع رجل الأعمال «ال�صهيوين» ّ ياغوري ليعرقل تو�صيل �شحنة حمولتها � 3606أطنان من بذور البطاطا �إىل ال�شعب العراقي ،بالتزامن مع احلرب التي اعتربت منذ ذلك احلني كحرب �أمريكا على العراق .جرى اعرتا�ض ال�شحنة يف ميناء الإ�سكندرية �رسية بني يو�سف وايل ،ورجل�/سيدة �أعمال �ضمن اتفاقية ّ ّ وركز التحقيق ال�صحايف وع�ساف ياغوري. �أردين/ة، ّ على �أن ياغوري هو �ضابط �سابق يف اجلي�ش الإ�رسائيلي، وقد قب�ض عليه ك�أ�سري حرب يف م�رص عام ،1973 ليعود �رشيك ًا ليو�سف وايل �ضد الأخوة العراقيني .لهذا التف�صيل الأخري حتديد ًا �أهمية ق�صوى يف حبك امل�ؤامرة. ين وقع يوم ًا حتت رحمة القوات ففي تعامله مع �صهيو ّ �ضحى وايل مبوارد املنطقة وكرامتها الع�سكرية امل�رصيةّ ، ال�سيا�سية لتحقيق الربح اخلا�ص. كثريون من بني امل�ست�أجرين الذين قابلتهم ا�ستعادوا هذه الق�صة .فمن خالل التذكري بعالقات وايل ب�إ�رسائيل املتحدة ،ينقل امل�ست�أجرون املعركة �إىل اجلبهة والواليات ّ م�ضخمني م�صلحة النا�س يف حما�سبة وايل الوطنية، ّ ال�سامة عر�ض ال�شعب للجوع واملواد ّ (ورفاقه) لكونه ّ يح�صل منافع اال�ستغالل الذي ميار�سه والإهانة ،بينما ّ على نطاق وا�سع .فهدفت ق�صتهم �إىل ح�شد الت�أييد والدعم االجتماعيني بني املواطنني العاديني الذين عانوا 118
بدايات
العدد 2013 |6
من االرتفاع اجلنوين يف �أ�سعار املواد الغذائية واخلبز على مر ال�سنني ،ورثوا يوميا ً �ضياع الكرامة امل�رصية .كذلك ّ ف�إنها تغذي �شعور ًا ثوري ًا عميق ًا يهدف �إىل حتقيق �شكلٍ من �إثبات الرباءة من خالل تقدمي �أحد رجال نظام مبارك الأقوياء للمحاكمة .بالن�سبة �إىل امل�ست�أجرين ،توازي حماكمة وايل حماكمة مبارك �أهميةً� ،إن مل تزد عنها. ولذلك ،ابتاع احلاج ح�سن ّ نظارات جديدة وابتاع كر�سي ًا النجار ،بهدف متابعة املحاكمات ،وخا�ص ًة تلك من جاره ّ املخ�ص�صة ليو�سف وايل. من خالل التذكري بعالقات وايل ب�إ�ســـــــــــــــــــرائيل والواليات املتحدّ ة ،ينقل امل�ســـــــــــــــــــــــــت�أجرون املعركة �إىل اجلبهة الوطنيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة، م�ضخّ مني م�صلحة النــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا�س يف حما�سبة وايل؛ لأنه عرّ�ض ال�شـــــــــــــــــــــــــعب للجوع واملواد ال�سامّ ة والإهانــــــــــــــــــــــــــــــــــة اخلامتة من خالل ق�ضية ال�رصاع على ملكية �أر�ض� ،ألقينا ال�ضوء احلدة والتوتر بني وجهات نظر امل�ست�أجرين من جهة على ّ وبني تلك اخلا�صة باخلرباء القانونيني ،ومن �ضمنهم �أقرب داعميهم -حمامو حقوق الإن�سان ،من اجلهة الأخرى. وعلى الرغم من �أن املحامني ،عموم ًا ،يحتفون ب�إقدام امل�ست�أجرين على نقل ق�ضيتهم �إىل املحكمة ،كدليل ت�سوقه القاعدة ال�شعبية على ك�رسها حاجز اخلوف الذي ميز نظام مبارك� ،إال �أنهم يلتزمون تقدمي حلول اقت�صادية ّ للم�شكلة ،بينما ي�ستندون �إىل �أ�س�س قانونية .بذلك ،هم ال ي�أخذون يف االعتبار احل�سا�سيات ال�سيا�سية التي يبني عليها املزارعون دعواهم القانونية .كذلك ف�إنهم يتغا�ضون عن دينامية العالقات التاريخية وال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية بني املزارعني والأر�ض والدولة .يف ح�رص النقا�ش بال�ساحة القانونية -االقت�صادية ،ي�ضع اخلرباء القانونيون ،مبن فيهم النا�شطون ،الن�ضال من �أجل الأر�ض يف منزلة ثانوية �ضمن ال�سياق الثوري -منزلة خا�صة بـ«املطالب الفئوية» .باال�ستناد �إىل عمل روزا لوك�سمبورغ ،لفتت مهى عبد الرحمن ()614:2012 �إىل ان�شقاقٍ وقع ما بني «االقت�صادي» و«ال�سيا�سي» ٍ كغريب قدم فيه الأول لعرقلة �سياق م�رص الثوريُ ،ي ّ مي�س �سلباً بالن�ضال من �أجل املطالب عن �آلية الثورة ،مبا ّ بحد ذاته. االقت�صادية كفعلٍ �سيا�سي ّ
احلريات النقابية القانون الكاشف
فاطمة رمضان خرج املاليني يف 30حزيران/يونيو �إىل ال�شارع، مطالبني ب�إنهاء حكم الإخوان امل�سلمني الذي زادهم فقراً، عضو المكتب وازدادت معه معاناتهم ،حتى و�صل الأمر �إىل انقطاع التنفيذي لالحتاد دائم للمياه والكهرباء ،واالنتظار يف طوابري للح�صول المرصي للنقابات على البنزين وال�سوالر ،ما كاد يوقف احلياة متاماً ،ومع المستقلة ،عضو ا�ستمرارهم يف ال�سري ب�سيا�سات ح�سني مبارك نف�سها االمانة العامة حلزب التي ثار ال�شعب امل�رصي عليها .ومع تدخل قيادة اجلي�ش التحالف الشعيب يف امل�شهد و�إزاح��ة حممد مر�سي وجماعة الإخ��وان االشرتاكي .امل�سلمني عن �سدة احلكم ،والإتيان بحكومة تف�صيل، الرتكيبة الغالبة عليها وزراء معروفون بانتمائهم �إىل الليربالية اجلديدة ،وعلى ر�أ�سهم حازم الببالوي� ،أُتي ببع�ض الوزراء من الوجوه الثورية لكي يقال لنا كذبا ً �إنها حكومة الثورة .وكان �ضمن هذه الوجوه وزير القوى العاملة كمال �أبو عيطة ،املنا�ضل العمايل ورمز اال�ستقالل النقابي يف م�رص ،ورئي�س االحتاد امل�رصي للنقابات امل�ستقلة. منذ انت�شار الأخبار عن تر�شيح �أبو عيطة للوزارة، ارتفعت �آمال العمال وطموحاتهم يف حتقيق مطالبهم التي طال انتظار حتقيقها ،والتي طاملا �أ�رضبوا واعت�صموا وتظاهروا للمطالبة بها .فقد �أتى واحد منهم ،يعرف همومهم وم�شاكلهم جيد ًا ،وعليه الآن تنفيذ هذه املطالب، وحل هذه امل�شكالت. وارتفع �سقف املطالب والآمال �أكرث و�أكرث ،وخ�صو�ص ًا عندما قال �أبو عيطة �إنه ا�شرتط لقبول الوزارة �إ�صدار قانون احلريات النقابية ،وعودة املف�صولني ،و�إ�صدار قانون واحلد الأق�صى للأجور ،وت�شغيل امل�صانع باحلد الأدنى ّ ّ املغلقة وغريها من املطالب التي طاملا طالب بها العمال، وطاملا طالب بها �أبو عيطة نف�سه عندما كان �أحد الوجوه املعبرّ ة عن العمال. 119
بدايات
العدد 2013 |6
وهناك بع�ض املحللني� ،سواء يف احلركة ال�سيا�سية �أو العمالية ،الذين ر�أوا � ّأن �أبو عيطة لن ي�ستطيع يف حكومة بهذا ال�شكل �أن يحقق ما وعد به ،و�أنه لو ا�ستطاع �إ�صدار قانون احلريات النقابية ف�سيكون ذلك �إجناز ًا يح�سب له، وخ�صو�ص ًا � ّأن هذا القانون ال يحتاج �إىل �أموال لإ�صداره. �أبو عيطة لن ي�ستطيع يف حكومـــــــــــــــــــــــــــــة بهذا ال�شكل �أن يحقق ما وعد بــــــــــــــــــــــــــــــه، و�إن ا�ستطاع �إ�صدار قانون احلريات النقابيـــــــــــــــــة ف�سيكون ذلك �إجنازاً يح�سب لـــــــــــــــــــــــــــــــه، وخ�صو�ص ًا �أنّ هذا القانــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون ال يحتاج �إىل �أموال لإ�صــــــــــــــــــــــــــــــــــــداره ما هي �أهمية قانون النقابات العمالية؟ «القانون كخيط العنكبوت يقع فيه ال�ضعفاء ،ويع�صف به الأقوياء» .كانت هذه مقولة الراحل طه �سعد عثمان النقابي املعروف يف �شربا اخليمة يف الأربعينياتواخلم�سينيات ،وه��ي الفرتة التي �شهدت ت�أ�سي�س نقابات قوية ،والتي �أتت حركة ال�ضباط يف 1952 و�أممتها .قال عثمان جملته تلك لعدد من العمال الذين كانوا يجتمعون يف اللجان التي ي�ؤ�س�سونها عو�ض ًا عن النقابات التي كانت م�ؤممة مل�صلحة النظام ،وخ�صو�ص ًا مع بداية الألفية ،ومن هذه اللجان :اللجنة التن�سيقية للحقوق واحلريات النقابية ،وجلنة الت�ضامن مع عمال �شربا اخليمة ،وغريهما .وكان عم طه -كما ي�سمى - يردد هذه املقولة عندما كان العمال يطرحون م�س�ألة ما هو قانوين وما هو غري قانوين� ،سواء من مطالبهم� ،أو من الطرق التي يلج�أون �إليها من �أجل احل�صول على مطالبهم تلك.
انطالق ًا من مقولة عم طه ،ومن �إمياننا الكامل ب� ّأن القانون ال ي�صنع واقع ًا ،و� ّأن القوانني ت�صدر معربة عن م�صالح الطبقة امل�سيطرة ،نناق�ش قانون النقابات العمالية، الذي بد�أ احلديث عنه عقب �إزاحة مبارك عن �سدة احلكم، بت�سميته قانون احلريات النقابية ،ثم عدنا الآن �إىل اال�سم القدمي ما قبل الثورة� ،أي قانون النقابات العمالية .فهل حق ًا �سي�ستطيع كمال �أبو عيطة �إ�صدار قانون يعبرّ عن طموحات العمال وي�ساعدهم يف بناء نقابات حقيقية تعبرّ عنهم وتدافع عن حقوقهم ،وي�ستطيعون عزلها �إن مل تقم بدورها جتاه مطالبهم� ،أم ال؟ وملاذا يكت�سب هذا القانون هذه الأهمية؟ ملا كان التنظيم هو امل�س�ألة الفارقة يف ثورة ال�شعب امل�رصي التي مرت مبرحلة املخا�ض لأكرث من ع�رشة �سنوات ،وبد�أت �أوىل مراحلها يف 25يناير ،2011وما بد�أ احلديث عن قانون النقابات العماليـــــــــــــــــــــــة عقب �إزاحة مبارك عن �ســــــــــــــــــــــــــــدة احلكم، بت�سميته قانون احلريات النقابيـــــــــــــــــــــــــــــــة، ثم عدنا الآن �إىل اال�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم القدمي ما قبل الثـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــورة زالت م�ستمرة ،ف� ّإن ال�شعب امل�رصي الذي خرج باملاليني واعت�صم ملدة ثمانية ع�رش يوم ًا حتى �إزاحة مبارك ،جمعه هدف واحد هو �إزاحة الرئي�س ،ولكنه ب�سبب عدم وجود تنظيمات� ،سواء يف �شكل �أحزاب �أو نقابات �أو �أي �أ�شكال تنظيمية �أخرى ت�سمح باالتفاق على البديل وال�صمود من �أجل فر�ضه ،ا�ضطر �إىل قبول املجل�س الع�سكري يف �سدة ال من مبارك .هكذا ا�ستكمل املجل�س �سيا�سات احلكم بدي ً مبارك نف�سها دون تغيري ،وحاول بكل الطرق �إجها�ض وكتم �أي مبادرة �أو �أي �صوت يطالب با�ستكمال الثورة حتى حتقيق �شعارها «العي�ش واحلرية والعدالة االجتماعية». يف 30يونيو/حزيران خرجت املاليني التي قدرت مبا بني 17مليون ًا و 30مليون ًا� ،إىل �شوارع القاهرة ،ويف ميادين الثورة يف املحافظات .خرج النا�س من القرى هذه املرة ليقولوا ال حلكم الإخوان ،ولكن ب�سبب عدم تنظيمهم �أتت القوى اليمينية ،ومنها القوى املعادية للثورة والتي حتارب من �أجل �إيقاف م�سريتها من اجلي�ش وال�رشطة وفلول النظام ال�سابق ،ومن الليرباليني ،ليت�صدروا هم امل�شهد ،ولي�ستولوا على �سدة احلكم� ،سواء ب�شكل مبا�رش �أو ب�شكل غري مبا�رش. 120
بدايات
العدد 2013 |6
على تعيينه .كذلك مل ي�صدر قانون احلريات النقابية ،بل �صدرت قوانني لتجرمي االعت�صام والإ�رضاب والتظاهر. وملا كان العمال يف مرحلة انتقالية بني الدفاع ،من طريق االعت�صام والإ��ضراب والوقفات االحتجاجية، وبني الهجوم من �أجل مكت�سبات جديدة ،بقوا يطالبون باحلد الأدنى والأق�صى ،ولكنهم ال ي�ستطيعون فر�ضه ّ بحركتهم مع ًا .كذلك طالبوا بقانون لتقنني و�ضع نقاباتهم، وللتخفيف من التع�سف الذي يقع عليهم ،وخ�صو�ص ًا �أنهم ال ي�ستطيعون �إجبار احلكومات املتتابعة على �إ�صداره. �أكرث من ذلك ،بقيت احلركة العمالية رهينة قوة قوى الثورة �أو �ضعفها ،و�أ�صبح انت�صار الثورة امل�ضادة يف احتالل مواقع جديدة على ح�ساب قوى الثورة ي�ؤثر مبا�رشة على العمال والطبقة العاملة امل�رصية ،وهذا ما �سيت�ضح من مر بها قانون احلريات النقابية. خالل عر�ض املحطات التي ّ
وملا كان التنظيم م�س�ألة حياة �أو موت بالن�سبة �إىل ال�شعب امل�رصي ،و�رشط ًا �رضوري ًا من �أجل ا�ستكمال ثورته وجناحها يف حتقيق �أهدافها ،ف�إن تنظيم العمال يعترب يف القلب من هذه العملية .وكانت م�س�ألة النقابات امل�ستقلة التي بد�أت �إرها�صاتها قبل 25يناير،2011 قد ظهرت من خالل �إع�لان العمال عرب �إ�رضاباتهم واعت�صاماتهم رف�ضهم للتنظيم النقابي الأ�صفر التابع للنظام واملتمثل يف احتاد عمال م�رص ،وذلك من خالل الإدانة الوا�ضحة له؛ لأنه ال يقف بجوار العمال ومطالبهم. ففي املعارك الكربى ،كان دائم ًا يختار خندق النظام احلاكم �ضد العمال وم�صلحتهم ،ومن املعارك الفا�ضحة لالحتاد ا�شرتاكه يف التخطيط ملوقعة اجلمل �ضد املعت�صمني (�ضمنهم العمال) يف التحرير والعازمني على �إزاحة مبارك ونظامه وتنفيذها .وكان العمال يف معظم معاركهم يرف�ضون �أن يتفاو�ض نقابيو االحتاد الأ�صفر با�سمهم، وي�رصون على �أن يختاروا هم املتحدثني واملفاو�ضني با�سمهم بعيد ًا عن االحتاد ورجاله .وقد خطا العمال خطوة �أخرى يف �ش�أن التنظيم ،فقد ت�أ�س�ست �أربع نقابات قبل 25يناير ،ورف�ضت وزارة القوى العاملة وقتها قبول �أوراق �إيداعها .وقد �أخذت م�س�ألة حق التنظيم دفعة قوية بعد �إزاحة مبارك عندما فتح الباب للعمال لتنظيم �أنف�سهم بحرية وال�سماح بو�ضع �أوراق الت�أ�سي�س لنقاباتهم امل�ستقلة يف مديريات القوى العاملة والهجرة. ي�شن حرب ًا �رش�سة على العمال �إال � ّأن من يحكم اليوم ّ وقياداتهم الطبيعية ،ونقاباتهم امل�ستقلة ،وبالذات املنا�ضلة منها ،تارة من خالل حملة الت�شويه الإعالمي التي حتدثت عن فئوية مطالب العمال ،وتارة �أخرى من خالل جترمي االعت�صامات والإ�رضابات ب�إ�صدار قوانني جديدة لذلك، و�أخري ًا ا�ستكمال حمالت التع�سف �ضد العمال التي كانت �أيام مبارك ،وا�ستمرت بعد �إزاحته .فقد ازداد الف�صل التع�سفي ،وكذلك القب�ض على العمال وحماكمتهم بتهمة الإ�رضاب ،التي �أ�صبحت م�س�ألة ت�ستعمل كثري ًا لك�رس �إرادة العمال .هذا بالإ�ضافة �إىل �أ�شكال التع�سف الأخرى مثل الإيقاف عن العمل �أو احل�سم من الراتب �أو النقل التع�سفي� ،أو حرمان احلقوق يف الرتقيات. وقد ا�ستمر املجل�س الع�سكري وحممد مر�سي يف ال�سري يف �سيا�سات مبارك نف�سها التي ثار ال�شعب امل�رصي عليها ،فلم ن�صل �إىل و�ضع حدين �أدنى و�أق�صى حقيقيني عدل قانون العمل ،ومل ُت َّثبت كل العمالة للأجور ،ومل ُي َّ امل�ؤقتة� ،إال من ا�ستمر منها يف االحتجاج ،ف�أجرب احلكومة
بقيت احلركة العماليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة رهينة قوة �أو �ضعف قوى الثـــــــــــــــــــــــــــــورة، و�أ�صبح انت�صار الثورة امل�ضـــــــــــــــــــــــــــــــــادة يف احتالل مواقع جديدة على ح�ســــــــــــــــــــــــــاب قوى الثورة ي�ؤثر مبا�رش ًة على العمـــــــــــــــــــــــــال والطبقة العاملة امل�رصيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة قانون احلريات النقابية :حمطات ومواقف كانت املحطة الأوىل يف �آذار /مار�س 2011عندما قررت منظمة العمل الدولية -يف حتية للثورة امل�رصية - عما ي�سمى القائمة ال�سوداء .لكن يف رفع ا�سم م�رص ّ احلقيقة� ،إن التعهد الذي تقدمت به احلكومة امل�رصية ال .فقد اقت�رص وقتها� ،أي حكومة ع�صام �رشف ،كان هزي ً على قرار من وزير القوى العاملة والهجرة وقتها د. �أحمد ح�سن الربعي ،مبا �سمي �إعالن احلريات النقابية، الذي �سمح ب�إيداع �أوراق النقابات ،مع وعد من احلكومة امل�رصية ب�إجناز قانون احلريات النقابية ولكن من خالل حوار اجتماعي ت�شارك فيه كل الأطراف .وجرى التو�صل �إىل �صيغة نهائية مل�رشوع القانون نتيجة التوافق بني هذه الأطراف ،ون�رش يف الأهرام بتاريخ � 1أيلول � /سبتمرب ،2011وهو امل�رشوع الذي وافق عليه جمل�س الوزراء وقتها ،ورف�ض �إ�صداره املجل�س الع�سكري. وعلى الرغم من � ّأن هذا القانون كان قا�رص ًا يف بع�ض جوانبه ،مثل العقوبات على �أ�صحاب الأعمال ،ويفر�ض �رشوط ًا تعجيزية على تكوين االحت��ادات� ،أو يف عدم 121
بدايات
العدد 2013 |6
احتواء الإعفاءات واملميزات التي تقدم للنقابات� ،إال �أ ّنه كان متوازن ًا ير�سي دعائم احلق يف التنظيم على �أر�ض الواقع ،لأنه كان ي�سمح للعمال بت�شكيل نقاباتهم بحرية دون تدخل من �أحد� ،سواء �أ�صحاب الأعمال �أو احلكومة، �أو حتى الأحزاب وامل�ؤ�س�سات .وميكن �أي�ض ًا اعتبار القانون اللبنة الأوىل يف بناء نقابات قاعدية ،ترتبط بقواعدها العمالية وتدافع عن حقوقها ،وتعمل على تنفيذ مطالبها، وعلى حت�سني �أو�ضاع العمال على كل امل�ستويات� ،سواء االقت�صادية �أو االجتماعية �أو ال�سيا�سية .كانت �ستن�ش�أ نقابات دميقراطية يدخلها العمال ب�إرادتهم الكاملة، وينتخبون جمال�س �إدارتها من دون تدخل من �أحد وي�ستطيعون عزلها عندما تنحرف عن �أهداف النقابة التي و�ضعتها جمعيتها العمومية .وبالتايل كان من املفرت�ض �أن تكون نقابات قوية ،ت�ستمد قوتها من ثقة عمالها فيها، والعمل مع ًا بداخلها من �أجل حتقيق املطالب وانتزاع جزءا احلقوق .نقابات تعمل من �أجل �أن يكون العمال ً من �صناعة القرار يف م�رص ،ولي�س فقط العمل على رفع مطالب العمال لدى م�ؤ�س�سات اتخاذ القرار يف البالد. املحطة الثانية كانت عندما �أ�صبح الإخوان امل�سلمون �أغلبية يف جمل�س ال�شعب ،ف�أقرت اللجنة الت�رشيعية يف جمل�س ال�شعب ،قبل حله ،م�رشوع قانون للنقابات (م�رشوع قانون حزب احلرية العدالة) ،ومل ت�أخذ �شيئ ًا من ثالثة م�شاريع �أخرى تقدم بها النواب يف املجل�س وقتها، كمال �أبو عيطة� ،أبو العز احلريري وعمرو حمزاوي ،وكانت هذه امل�شاريع عبارة عن م�رشوع قانون احلريات النقابية الذي جرى التو�صل �إليه يف عهد الربعي. وبالنظر يف امل�رشوع الذي �أقرته اللجنة ،يظهر وك�أنه قد �أقر مبد�أ احلرية النقابية وحق التنظيم ،الذي انتزعه العمال امل�رصيون بعد ثورة 25يناير على �أر�ض الواقع .فقد تعدى وقتها عدد النقابات التي �أ�س�سها العمال خالل عام واحد �أكرث من 600نقابة� ،أغلبها نقابات منا�ضلة وقاعدية، عملت كي ينال �أع�ضا�ؤها حقوقهم املنهوبة منذ �سنوات. لكن بقراءته بت� ٍّأن ،تكت�شف �أن جوهر هذا امل�رشوع كان تفريغ ًا لعمل النقابات من كل ما يجعلها تدخل فى مرحلة جديدة .فقد حرم هذا امل�رشوع العديد من الفئات العمالية، كالعاملني املدنيني يف ال�رشطة واجلي�ش واملناطق اال�ستثمارية وغريهم ،حق ت�أ�سي�س النقابات ،و�أعادنا �إىل ال�شكل الهرمي الذي ترتكز فيه ال�صالحيات يف ر�أ�س الهرم ،وتنتزع من النقابات القاعدية املرتبطة بالعمال كل ال�صالحيات .لقد عمل امل�رشوع على ف�صل العمال عن ال�سيا�سة وغريها.
ثم ت�أتي املرحلة الثالثة منذ انتخاب حممد مر�سي رئي�سًا للجمهورية وحتى 30يونيو ،وهي املرحلة التي حاول فيها نظام احلكم ال�سري يف اجتاهني بخ�صو�ص العمال والنقابات .فمن ناحية ،حاول �إيقاف النقابات معوقات امل�ستقلة التي تت�أ�س�س يومي ًا من خالل و�ضع ّ من قبل وزارة القوى العاملة (بعد تعيني الإخواين خالد الأزهري على ر�أ�س هذه الوزارة) ،وو�ضع �رشوط لت�س ّلم الأوراق مل تكن موجودة من قبل .ويف الوقت نف�سه، ا�ستمر م�سار تك�سري عظام النقابات والنقابيني والقيادات الطبيعية للعمال يف املواقع التي لي�س فيها نقابات ،وهي ال�سيا�سة التي بد�أت يف عهد املجل�س الع�سكري ،و�سبقه �إليها ،و�إن بدرجة �أقل ،نظام مبارك. وك��ان االجت��اه الثاين هو العمل على تقوية وجود احتاد عمال م�رص ،وحمايته من ال�سقوط ،وخ�صو�ص ًا يف كل مرة يقرتب فيها موعد انتهاء واليته املمدة ،و�أي�ضا ً ال�سيطرة على هذا االحتاد وجعله تابع ًا للنظام بقيادة حممد مر�سي كما كان تابع ًا ل�سابقيه .ويف هذا الإطار ميكن فهم �إ�صدار مر�سي القانون 97لعام 2012عقب الإعالن �سبب �أزمة كربى داخل املجتمع ،التي الد�ستوري الذي ّ �أعقبها �إ�صدار الد�ستور بال�شكل الهزيل الذي حدث. �أخ�ير ًا ،مع اق�تراب انتهاء التمديد الأخ�ير الحتاد العمال ،ومع اقرتاب موعد انعقاد االجتماع ال�سنوي ملنظمة العمل الدولية يف حزيران /يونيو ،2013 وجدنا وزير القوى العاملة يخرج علينا بجولة جديدة من احلوار حول قانون النقابات .ولكنه هذه املرة قدم مقرتح ًا من الوزارة حول قانون للنقابات� ،أ�سو�أ بكثري
املرحلة الرابعة بد�أت منذ تويل كمال �أبو عيطة وزارة القوى العاملة ،الذي �سارع �إىل عقد اجتماع ملناق�شة قانون النقابات ،لكن للأ�سف ال�شديد كانت �أول الق�صيدة كفر ًا، ال من �أن يعمل على �إ�صدار قانون احلريات الذي طاملا فبد ً نادى به ،وتقدم به ملجل�س ال�شعب عندما كان ع�ضو ًا فيه، وجدناه يكمل طريق خالد الأزهري من حيث طرحه لآخر ن�سخة من قانون هذا الأخري ،وبطريقة الت�ضييق نف�سها يف الدعوة للمناق�شة بعيد ًا عن �أعني العمال والنقابات �إال ال من املختارين من االحتادات املختلفة .وقانون عدد ًا قلي ً ال يف �ش�ؤون النقابات وفر�ض �رشوط �أبو عيطة يحوي تدخ ً تعجيزية على الوحدة ،وا�ستبعاد ممثلي العمال احلقيقيني من احلماية ،وعزل العمال عن ال�سيا�سة ،وحماولة �رشاء البريوقراطية النقابية� ،سواء القدمية �أو اجلديدة .هذه كلها �إ�شكاليات تفرغ م�س�ألة النقابات من م�ضمونها ،متام ًا كما كان يفعل الإخوان امل�سلمون ب�أ�شكال خمتلفة. وت�ستمر حتى الآن عملية التع�سف وتك�سري العظام يف ظل الفراغ القانوين بالن�سبة �إىل النقابات امل�ستقلة .كذلك �إن عمال م�رص م�ستمرون رغم كل �شيء يف احتجاجاتهم ت�صب يف م�سار ي�ؤدي �إىل تغيري املتفرقة التي ما زالت ال ّ و�ضعها ليكون م�ؤثر ًا يف موازين القوى بني الثورة والثورة امل�ضادة ،وخ�صو�ص ًا مع عدم اهتمام معظم الأح��زاب والقوى ال�سيا�سية مبعركة العمال وحقهم يف التنظيم كحق دميقراطي �أ�صيل ،يجري ت�صديرها كق�ضية �أ�سا�سية ت�ستوجب الن�ضال من �أجل �إ�صدار قانون احلريات النقابية ووقف نزف الف�صل واحلب�س الذي يتعر�ض له العمال. وما �سيحدث يف مو�ضوع قانون احلريات النقابية
ت�ستمر حتى الآن عملية التع�سف وتك�سري العظام يف ظل الفراغ القــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــانوين بالن�سبة �إىل النقابات امل�ستقلة .كذلك �إن عمال م�رص م�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتمرون ت�صب يف م�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــار ّ رغم كل �شيء يف احتجاجاتهم املتفرقة التي ما زالت ال ي�ؤدي �إىل تغيري و�ضعها ليكون م�ؤثراً يف موازين القوى بني الثورة والثورة امل�ضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادة من كل امل�شاريع ال�سابق ذكرها؛ �إذ بالإ�ضافة �إىل زيادة القيود والتدخالت يف �ش�ؤون النقابات� ،سواء من قبل وزارة القوى العاملة والهجرة �أو من قبل امل�ستويات الأعلى يف االحتادات ،ت�ضمن مادة لها عالقة بحل النقابة التي تدعو �أو حتبذ على �أو ت�شجع الإ�رضاب ،وك�أ ّنه بهذا ال�شكل يحكم على كل النقابات لكي ت�ستمر باخل�ضوع التام ،وعدم ممار�سة الإ�رضاب ،وبالتايل عدم الدفاع عن �أي حق من حقوق العمال. 122
بدايات
العدد 2013 |6
�سيكون املر�آة التي ميكننا �أن نعرف من خاللها �إذا كنا ن�سري يف طريق الدميقراطية القاعدية ،من خالل قوانني ت�سمح ب�شكل حقيقي بالتنظيم بعيد ًا عن تدخل الدولة و�أجهزتها املختلفة� ،أو �سنكت�شف �أننا ن�سري يف طريق حماربة الأ�شكال القاعدية للتنظيم ،وفر�ض املزيد من ت�شوه النقابات التي نا�ضل العمال من ال�رشوط التي ّ �أجل ت�أ�سي�سها ،وجتعلها جزء ًا من البريوقراطية النقابية الفا�سدة التي �سبق �أن رف�ضها العمال.
المجموعات الشبابية بعد « 25يناير»
كريمة خليل ظهر على ال�ساحة امل�رصية ما بعد 25كانون الثاين /يناير 2011ما يزيد على مئة جمموعة �شبابية عدة � ٍ آالف من ال�شباب امل�رصيني. طبيبة يف نا�شطة �سيا�سي ًا، ت�ضم ّ ّ جمال الصحة العامة اليوم ،يف �أوا�سط عام ،2013اختفى الكثري من هذه وباحثة يف شؤون املجموعات �أو �ضمرت ،بينما ا�ستمر �سواها. المجموعات الشبابية ،هذه املقالة املوجزة هي جزء من حماولة م�ستمرة قيد آخر مؤلفاهتا :االكتمال لتوثيق عدد من �أمناط املجموعات ال�سيا�سية Messages fromالتي ن�شطت ب�شكل خا�ص خالل العامني 2011 Tahrir, Americanو .2012ويهدف البحث �إىل تو�ضيح ن�سق املبادرات University of Cairoالتي ظهرت بعد 25كانون الثاين /يناير 2011ومدى Press, June, 2011انت�شارها ،ويهدف �إىل ر�سم خريطة اال�سرتاتيجيات الناجحة ،وحتديد �أمناط امل�آزق والتحديات التي واجهتها. ويف مرحلة تالية من املقال ،نعر�ض القراءات اخلا�صة بالأع�ضاء النا�شطني يف املجموعات ال�شباب لتجاربهم، وتقوميهم للأثر الذي خ ّلفه عملهم. تعدد �أ�شكال عدد املجموعات كبري جد ًا ،كذلك � ّإن ّ ٌ حد بعيد .ل�رضورات امل�ساحة، املقاربات و�أمناطها ٌ الفت �إىل ّ يجب اعتبار املقال حماولة موجزة لإلقاء نظرة عامة على خمتارات قليلة من املجموعات ال�شبابية ،ور�صد عدد ب�سيط ال عن ا�ستعرا�ض من اال�سرتاتيجيات التي اعتمدتها ،ف�ض ً ملكامن القوة والتحديات التي عك�ستها تلك احلركات كنموذج مبتكر للفعل ال�سيا�سي. يحدد البحث �إطار ًا لعمل املجموعات ال�شبابية التي ّ ّ ت�شكلت ما بعد �شباط /فرباير «( 2011با�ستثناء كل من «� 6أبريل»« ،كلنا خالد �سعيد» ،وغريهما من حركات �أدت دور ًا ريادي ًا يف حراك كانون الثاين /يناير � ،)٢٠١١أكرثية املنت�سبني �إليها �شباب ،تقوم على ر�ؤى وا�سرتاتيجيات ون�شاطات ّ �شباب �أي�ض ًا. وطبقها نظر لها ٌ ٌ �شبابّ ، وطورها ّ جمدد ًا ،ال هذه املقالة املوجزة وال اجلهد التوثيقي الإجمايل 123
بدايات
العدد 2013 |6
يعترب وافي ًا ،لكن اختريت املجموعات املذكورة يف البحث عينة معربة ت�ستند �إىل عدد من املعايري ،منها نوعية لتعر�ض ّ وتخ�ص�ص عملها ،درجة ن�شاطها ،مدى ظهورها، املجموعة ّ اجلمهور الذي ت�ستهدفه ،انت�شارها ،ر�ؤاها ،ا�سرتاتيجياتها املعتمدة� ،أثرها وتفرد مقاربتها. اعتمدت املجموعات على مقاربـــــــــــــــــــــــــــات متتاز بدرجة عاليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة من الإبداع واالبتكار واملرونـــــــــــــــــــــــــــــــــة، فا�ستخدمت الفن واملو�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــيقى على نحو مكثّف وفعّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــال، والت�شبيك االجتماعي لن�شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــر توثيقها و�إنتاجاتهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا املكتوبة وامل�سموعة واملرئية وامليدانيـــــــــــــــــــــــة نظرة عامة ركزت جمموعات �شبابية كثرية من تلك التي تفوز مبتابعة عامة عالية ،عملها على موا�ضيع �سيا�سية وا�سعة، وا�شتغلت على امل�ستويني الفردي واجلماعي كحركات �ضغط مركزية (مبعنى متركز معظمها يف القاهرة) ،مع تركيز خا�ص على فع َلي االعت�صام والتظاهر .عدد قليل من املجموعات ال�شبابية الأكرث ا�ستدامة وانت�شار ًا ّ ركز على احلمالت ذات املطلب الواحد ،مثل رف�ض �إخ�ضاع املدنيني للمحاكمات الع�سكرية« ،ع�سكر كاذبون»، «مت��رد» .كافة املجموعات ،بال و«م�رصين» ،و�أخ�ير ًا ّ ّ ا�ستثناء ،امتلكت فطن ًة �إعالمية وح�ضور ًا قوي ًا على مواقع التوا�صل االجتماعي ،وب�شكل خا�ص «تويرت»، و«يوتيوب» ،و«بامبوزر» ،و«فاي�سبوك» .واعتمدت هذه املجموعات على مقاربات متتاز بدرجة عالية من الإبداع
واالبتكار واملرونة ،فا�ستخدمت الفن واملو�سيقى على وفعال ،والت�شبيك االجتماعي لن�رش توثيقها نحو مك ّثف ّ و�إنتاجاتها املكتوبة وامل�سموعة واملرئية وامليدانية. بالتوازي ،انت�رش يف خمتلف �أنحاء البلد ،وعلى ٌ ن�شاط �سيا�سي �شبابي �أقل جذب ًا حملية، م�ستوى �أكرث ّ لالنتباه ،لكنه معبرّ جد ًا عن روح املبادرة والتوق �إىل ّ ت�شكل عفوي ًا يف �أول �أ�شكاله يف «اللجان امل�شاركة� ،إذ ال�شعبية» ،وراوح عدد م�ؤيدي كل منها ما بني الآالف وب�ضع ع�رشات .وهناك م�ساحة وا�سعة من التداخل يف ما بينها على م�ستوى االهتمامات والأه���داف، وحتى التكتيك .وهي بتنوعها ّ تغطي كافة �ألوان الطيف ال�سيا�سي ،من �أق�صى الي�سار �إىل �أق�صى اليمني. وتت�شارك املجموعات ال�شبابية النا�شطة �سيا�سي ًا يف عده ٍ التحديات امل�شرتكة، و�ضعف ،وتواجه العديد من نقاط قو ٍة ّ �سيتم �إيجازها يف ختام هذه املقالة .وعموم ًا ،فقد نا�ضلت هذه املجموعات يف جو من التهديد والتجرمي ،وذلك ال بالإ�ضافة �إىل �ضعف التنظيم ونق�ص املوارد واخلربة ،ف�ض ً عن الإنهاك ال�شعبي واالنخفا�ض امللمو�س يف الت�أييد العام «مترد»، حتى حلول �أحداث 30حزيران /يونيو (حملة ّ و�إ�سقاط الرئي�س حممد مر�سي)� .إال � ّأن عملية التع ّلم من قيمة التجارب ظلت يف ت�صاعد ،وا�س ُتخل�صت درو�س ّ كثرية اكت�سبها ال�شباب ــ وخا�ص ًة يف ما يتعلق باالهتمام بالتوا�صل مع القاعدة ال�شعبية ،ما ميكن مالحظته بو�ضوح «مترد» ،و«�أحياء باال�سم فقط». يف مبادرات مثل ّ امل�شاركة ال�شبابية يف احلياة ال�سيا�سية قبل 2011 العقود اخلم�سة التي ف�صلت ما بني االنقالب الع�سكري الذي عرفته م�رص يف عام 1952ومطلع الألفية اجلديدة� ،شهدت ما ي�شبه ال�شلل يف الن�شاط ال�سيا�سي املدين امل�ؤثر عموم ًا ،وعلى م�ستوى ن�شاط ال�شباب ال�سيا�سي خ�صو�ص ًا .الأح��زاب ال�سيا�سية الرمزية القليلة التي ُ�سمح لها بالعمل �ضمن خطوط �صارمة ر�سمها حولها النظام� ،سادها اجليل الأكرب �س ّن ًا ،تارك ًا م�ساحة �ضيقة �إن مل تكن معدومة للم�شاركة الواقعية واملت�ساوية مع �أع�ضائها ال�شباب .فبا�ستثناء التظاهرات الطالبية يف ال�سبعينيات ،اقرتن �أداء �أجهزة الدولة القمعية بالقواعد االجتماعية التي مل تخ�ضع مل�ساءلة، لي�ساهما يف تقييد امل�شاركة ال�سيا�سية ال�شبابية ال ،فت�شكل التزامهم وم�ستواه ومداه ،يف املحدودة �أ�ص ً �إطار من و�صاية ال�سيا�سيني الأكرب �س ّن ًا. 124
بدايات
العدد 2013 |6
ق ّلة من املنظمات غري احلكومية وفّ��رت فر�ص ًا لإ�رشاك ال�شباب ،ف�أتاحت جمعيات مثل «مركز ه�شام مبارك للقانون» ،و«مركز الندمي لت�أهيل �ضحايا العنف والتعذيب» و«املركز امل�رصي للحقوق االقت�صادية حد ما �أمام عدد قليل واالجتماعية» التزام ًا �سيا�سي ًا �إىل ّ من ال�شباب ذوي النهج املدين. وقد �شهد مطلع الألفية بزوغ ردود �أفعال �شبابية على �أحداث جيو�سيا�سية ،كاللجان ال�شبابية التي ّ ت�شكلت يف عام 2000دعم ًا لالنتفا�ضة الفل�سطينية ،كما يف عام � 2003إثر غزو العراق .كذلك ،بد�أت ال�ساحة ال�سيا�سية ت�شهد بدايات حراك �شبابي �أكرث تنظيم ًا� ،أظهره وعك�سه بقوة تعاون ال�شباب مع «حركة كفاية» («�شباب من �أجل التغيري») .وقد مثلت تلك احلركة اجلنينية دور ًا حا�سم ًا يف بعث ثقافة االحتجاج؛ �إذ بدا �إ��ضراب الق�ضاة يف عمال املح ّلة يف عام 2006 عام 2005و�إ�رضابات ّ و ،2008ك�أحداث حمفّزة �شديدة الأهمية �ساهمت يف جمع مروحة عري�ضة ومتنوعة من النا�شطني ال�شباب للمرة الأوىل مع ًا ،وعرفت تلك املرحلة �أي�ض ًا بروز التدوين ال�سيا�سي للمرة الأوىل �أي�ض ًا (يف املجال العام يف .)2005 �أنتج ذلك مهارات جديدة من الت�شبيك واخلربة الناجتني من امل�شاركة بهذه الإ�رضابات ،وقد كان لن�رش املدونني ملعلومات اخلا�صة بالإ�رضابات وجت��اوزات الأم��ن� ،أثر �أ�سا�سي يف تكوين الزخم الذي قاد �إىل كانون الثاين /يناير .2011 فقبل عام ،2011كان النا�شطون ال�سيا�سيون ال�شباب يعملون �إما على نحو فردي �أو �ضمن جمموعات �صغرية ّ معينة .ولكن بعد كانون الثاين / تنظمت حول عناوين ّ تبدل متام ًا معنى الإرادة ال�شبابية ،من حيث يناير ّ ،2011 قدراتها ومدى ت�أثريها.
ال�سيا�سية حول النقل العام والغرافيتي هي �أمثلة عنها. وعلى الرغم من م�ساءلة جمموعات �أخرى كثرية ل�صدقية احلركة ال�سيا�سية لأ�سباب كثرية من �ضمنها دعمها ملحمد مر�سي مر�شح ًا للرئا�سة يف حملة عام 2012 متقدم يف ال�ش�أن االنتخابية� ،إال �أنها حافظت على موقع ّ العام .وقد رافقت الع�ضوية الكثيفة التي متتعت بها احلركة ات معقّدة على م�ستوى المركزية �آلية �صناعة القرار، حتدي ٌ ّ و�ضمان �آلية ت�شارك املعلومات باالجتاهني :من القيادة �إىل القاعدة ،ومن القاعدة �إىل القيادة .كذلك �شكل نق�ص حتدي ًا �سلبي ًا .هكذا انف�صلت جمموع ٌة عن املوارد بدوره ّ احلركة نتيج ًة ل�رصاعات داخلية ارتبطت مب�صادر التمويل ّ لت�شكل «حركة �شباب 6 الأجنبية وم�رشوعية قبولها، �أبريل – اجلبهة الدميقراطية» .وقد �شملت التحديات الأخرى ا�ستهداف النظام و�أجهزته الأمنية لها ،وانعك�س ال�رصاع املركزي احلركة على الأطراف� ،أي املجموعات املحلية يف املحافظات. www.facebook.com/shabab6april
«كلنا خالد �سعيد» جمموعة افرتا�ضية ن�ش�أت على «فاي�سبوك» يف حزيران / يونيو 2010ر ّد ًا على عملية القتل الوح�شية التي ق�ضى فحركت املجموعة فيها ال�شاب خالد �سعيد يف الإ�سكندريةّ ، الر�أي العام �ضدها ،و�أطلقت حملة �إلكرتونية �ضد وح�شية رجال ال�رشطةُ ،ترجمت يف وقفات �شعبية يف خمتلف �أنحاء البالد .على هذه ال�صفحة� ،أطلقت الدعوة الأوىل للتظاهر يف 25كانون الثاين /يناير 2011بعدد �أع�ضاء فاق يف �أوجه مليون ًا وثمامنئة �ألف ،وما زالت ال�صفحة اليوم ت�ؤدي دور ًا �أقل ت�أثري ًا يف ن�رش املعلومات ،وذلك ناجت ب�شكل �أ�سا�سي من ات�ساع رقعة املبادرات الثورية وعدد �صفحاتها.
جمموعات ال�ضغط ما قبل 2011
www.facebook.com/ElShaheeed
جمموعات �ضغط �أخرى
«حركة �شباب � 6أبريل» ولدت «حركة �شباب � 6أبريل» مبا�رشة �إثر �إ�رضاب املح ّلة ،و�أطلقت ر�سمي ًا يف ني�سان � /أبريل .2008ومع الفعال الذي �أ ّدته يف الدعوة �إىل التظاهر يف 25 الدور ّ كانون الثاين /يناير ،2011امتلكت احلركة قوة جذب للكثريين ،نظر ًا �إىل عدم وجود �إيديولوجية يف موقفها وهدفها الب�سيط غري القابل للتفاو�ض� :إ�سقاط النظام. ّ نظمت «� 6أبريل» ن�شاطات دورية على م�ستوى القاعدة نفذتها ب�أ�ساليب مبتكرة :م�رسح ال�شارع والنقا�شات
تطول الئحة الأمثلة عن جمموعات ال�ضغط الأخرى التي تبقى ب�سوادها الأعظم متمركزة الطابع من حيث الهياكل« :رابطة ال�شباب التقدمي»« ،حتالف ال�شباب الثوري» (مت ح ّله)« ،اجلبهة الوطنية للعدالة والدميقراطية»، احلر»« ،اللوت�س»« ،اللجان ال�شعبية للدفاع «امل�رصي ّ عن ال��ث��ورة»« ،ح��زب العمال الدميقراطيني»« ،حزب اال�شرتاكيني الدميقراطيني امل�رصي»« ،حركة امل�شاركة»، 125
بدايات
العدد 2013 |6
«حزب التحالف ال�شعبي اال�شرتاكي»« ،حركة بداية»، «حركة الوعي»« ،جلنة التن�سيق لتحالف الوعي ال�شعبي»، «الربادعي رئي�س ًا» امل�ستقل (مت ح ّله)« ،حركة �شباب العدالة واحلرية»« ،تيار التجديد اال�شرتاكي»« ،احتاد �شباب الثورة»« ،حزب اجلبهة الدميقراطية»« ،الثوريون اال�شرتاكيون» (منذ ما قبل ،)2011و«احتاد �شباب ما�سبريو» .ت�ستحق كل من هذه املجموعات التوقف عندها يف هذا ال�سياق ،وهذا ما ال تتيحه امل�ساحة للأ�سف. �شباب الأحزاب ال�سيا�سية ومنطق التحالفات واحد من التحالفات ال�سيا�سية الر�سمية الذي كانت ّ ت�شكل خالل الإع��داد الغلبة فيه للأع�ضاء ال�شباب، النتخابات 2012-2011النيابية .وقد �ضم «حتالف أع�ضاء �سابقني الثورة م�ستمرة» �إ�سالميني وا�شرتاكيني و� ً يف «الإخ��وان امل�سلمني» ،وذلك للتمايز عن العديد من الأحزاب املن�ضوية �ضمن حتالف «الكتلة امل�رصية» .وقد تكون �أع�ضاء «حتالف الثورة م�ستمرة» من «حزب التحالف ّ ال�شعبي اال�شرتاكي»« ،احل��زب اال�شرتاكي امل�رصي»، «حزب التيار امل�رصي»« ،حزب احلرية امل�رصي»« ،حزب احلرية والتنمية»« ،حتالف �شباب الثورة» ،و«حزب التحالف امل�رصي» .وارتكز برنامج عمل «حتالف الثورة م�ستمرة» الذي مال �إىل ي�سار العدالة االجتماعية� ،إلغاء الهوة الناجتة من تفاوت الدخل� ،إنهاء الف�ساد ،و�إعادة تر�سيخ القانون �سن الأربعني ،من �أ�صل والنظام .وقد ّ �سجل مئة مر�شح حتت ّ 280مر�شح ًا للتحالف يف االنتخابات .وفاز التحالف ّ املنحل راهن ًا. بثمانية مقاعد يف برملان عام 2012 جمموعات عمل على ق�ضية واحدة ّ ت�شكلت جمموعات عديدة� ،إثر االنتخابات النيابية التي �أجريت يف ،2012-2011ورك��زت عملها على رفع م�ستوى الوعي ال�سيا�سي والتوعية �إىل اللوج�ستيات االنتخابية والإ�رشاف على عملية االقرتاع على م�ساحة اجلمهورية .وكان من �ضمنها :جمموعة «�صوتي» (�أنتجت مواد �سمعية ب�رصية تتناول العملية االنتخابية) ،جمموعة «ال�صحوة» (لإدارة نقا�شات يف موا�ضيع انتخابية معينة)، احلرية» و«ميكروبا�ص» (جمموعتان وجمموعة «�أوتوبي�س ّ ي�ستقل �أع�ضا�ؤهما البا�صات �إىل الأماكن ال�شعبية لإثارة نقا�شات �سيا�سية جماعية مع �سكان املناطق املهم�شة)،
وجمموعة «ال�صوت ال��واع��ي» (لإط�ل�اق نقا�شات يف اللوجي�ستيات االنتخابية وخطورة تزوير الأ�صوات)، وكذلك جمموعة «اح� ِ�م �صوتك» (حلث املر�شّ حني على تو�ضيح مواقفهم) ،وحركات «�صوتك بيفرق»« ،مراقبة» (مواطنون ي�رشفون على عملية االقرتاع) ،و«حتالف حركات �ضم خم�سني جمموعة تعمل على ن�رش توعية م�رص» الذي ّ تتجمع املوارد والطاقة الب�رشية .وقد �أوقفت التوعية ،بحيث ّ معظم هذه املجموعات ن�شاطاتها بعد انتهاء االنتخابات. ٍ لق�ضية مطلبية واحدة جمموعات عمل تعك�س املجموعات التالية ا�ستمرار احل�شد ال�شبابي يف فعال، �أ�شكال تعبوية ويف ح�صد اهتمام وا�سع و�أداء دور ّ وتعترب �أمثلة بارزة للأداء ال�شبابي يف عمليتي التن�سيق والتعبئة. «ال للمحاكمات الع�سكرية للمدنيني» ٍ �ضغط وا�سعة االنت�شار وبارزةّ ، تركز عملها هي جمموعة حد ملحاكمة املدنيني وتوقيفهم على عنوانٍ واحد ــ و�ضع ّ ع�سكري ًا ــ وقد �أثبتت على مدار �أكرث من عام ون�صف �أنها م�ستدامة وفاعلة .ففي العامني 2011و ،2012اح ُتجز م�رصي لدى الق�ضاء الع�سكري، ين �أكرث من � 12ألف مد ّ ّ وال يزال عدد منهم ينفّذ عقوبته يف ال�سجون الع�سكرية املجهولة .وقد كانت «ال للمحاكمات الع�سكرية للمدنيني» هي املجموعة الوحيدة التي تو ّثق تلك احلاالت منهجي ًا. وبالإ�ضافة �إىل حملتها املطالبة بوقف املحكمات الع�سكرية للمدنيني ،عملت املجموعة على توفري امل�ساعدة القانونية للمدنيني خالل جل�سات التحقيق ،ومتابعة الق�ضايا املرفوعة ،وحتديد مواقع املعتقلني .وكانت �إحدى �أبرز نقاط قوة عملها هي التوثيق املنهجي ،ون�رش ق�ص�ص (و�أر�شيف) للحاالت التي ا�ستدعي فيها املدنيون �إىل املحاكم الع�سكرية ،بالإ�ضافة �إىل توثيق �سمعي ب�رصي لأفراد �أو عائالت �أفرا ٍد خ�ضعوا للمحاكمات �أو احلجز الع�سكريني، يحكون عنهما .وقد و ّثقت املجموعة بال�صوت وال�صورة �شهادات ملعتقلني �أو �أهاليهم ،ي�صفون فيها ظروف توقيفهم، احلكم يف ق�ضاياهم� ،أو االعتقال (ميكن م�شاهدتها عرب الرابط .)www.nomiltrials.comوقد ا�شتهر �شعار جمموعة «ال للمحاكمات الع�سكرية» على نطاق وا�سع يف البالد، ومتتعت املجموعة بح�ضور بارز يف ال�صحافة املطبوعة كما يف الإعالم ال�شبكي ،افرتا�ضي ًا وعلى الأر�ض. 126
بدايات
العدد 2013 |6
و�سجلت املجموعة �شهادات واملعدات ،ومكتبة. التقني، ّ ّ �ضحايا التعذيب� ،ضحايا املحاكمات الع�سكرية ،عائالت ال�شهداء ،و�شهادات �أخرى ذات �صلة بالثورة. «م�رصين» وراء املبادرة ال�سينمائية وكانت جمموعة ّ يف «ميدان التحرير» التي القت جناح ًا وا�سع ًا؛ اذ ُعر�ضت خاللها م�شاهد من الثورة مل ي�سبق عر�ضها التقطها مواطنون ،على �شا�شة م�ؤقتة ا�ستحدثت خ�صي�ص ًا ف�ض فوق ر�صيف يف امليدان .وعند اندالع العنف �إثر ّ اعت�صام الربملان يف ت�رشين الثاين /نوفمرب 2012 (معركة جمل�س ال�شعب) ،قفز عدد امل�شاهدات على قناة «م�رصين» على موقع «يوتيوب» من مئة � ٍ ألف �إىل مليونني ّ ألفا ،ما ّ يدل على الإقبال املتزايد على و�أربعمئة و�ستني � ً منتجات املجموعة كم�صدر بديل وم�ستقل للمعلومات. «م�رصين» على «فاي�سبوك» و«يوتيوب»: ّ
«ع�سكر كاذبون» و«�إخوان كاذبون» ال «ع�سكر كاذبون» ،وهي حملة �إعالمية على ت�أ�س�ست �أو ً م�ستوى القاعدة عالية الفاعلية لتفنيد ال�رسدية الر�سمية ملا يجري يف البالد ،فلج�أت �إىل الأماكن العامة وامليادين لتعر�ض فيها موا ّد ب�رصية و�سمعية متاحة للجميع ،وميكن وت�صور انتهاكات القوات الع�سكرية حتميلها عن الإنرتنت، ّ حلقوق املتظاهرين .واعتمدت احلملة على مقاربة ب�سيطة جد ًا :ن�رش �أفالم ي�سهل حتميلها عن الإنرتنت ،وتنفيذ عرو�ض عامة لها يف كافة �أنحاء البالد .وقد كانت تعر�ض الأفالم على �شا�شات تن�صب م�ؤقت ًا للغر�ض� ،أو على جدران املباين .ويف 29كانون الأول /دي�سمرب ُ ،2011عر�ضت امل�شاهد وال�صور على جدار املحكمة العليا يف و�سط عرو�ض على مبنى الإذاعة والتلفزيون القاهرة ،و ُنفّذت �أي�ض ًا ٌ الر�سمي (ما�سبريو) .وقد ا�ستوحت املجموعة ا�سمها و�آلية تتعر�ض عملها من ال�صورة التي باتت م�شهورة اليوم المر�أة ّ لل�رضب والتعرية على �أيدي ال�رشطة الع�سكرية خالل ف�ض اعت�صام جمل�س ال�شعب يف كانون الأول /دي�سمرب ّ حتولت املبادرة اليوم لتحمل ا�سم «�إخوان كاذبون». ّ .2011
www.facebook.com/pages/Tahrir-Cinema-
www.youtube.com/user/Mosireen/featured
حتر�ش جن�سي ّ تنظمها وظهرت �أد ّلة على وجود حمالت ّ ّ �أجهزة الدولة �ضد املتظاهرات لثنيهن عن امل�شاركة مرت�سخة مثل «نظرة يف التظاهر .وقد اهتمت منظمات ّ للدرا�سات الن�سوية» ،بالت�صدي بفاعلية مل�س�ألتي م�شاركة والتحر�ش اجلن�سي (�ضمن ن�شاطات الن�ساء بال�سيا�سة ّ �أخرى كثرية) .وظهرت جمموعات �أخرى كثرية� ،أقل التحر�ش اجلن�سي تر�سخ ًا ،وابتكرت على م�ستوى مكافحة ّ ّ �أ�ساليب عملٍ ميدانية وتعبوية خمتلفة. «بهية يا م�رص» هي جمموعة ت�أ�س�ست يف عام ّ 2012ملراقبة عمل املجال�س التمثيلية والت�رشيعية يف ما يخ�ص الن�ساء .وقد �أطلقت لهذا الغر�ض م�رشوع غرافيتي و�أنتجت �أفالم ًا توعوية ،بالإ�ضافة �إىل حملة بعنوان «ح � ّق��ي» و�أخ���رى بعنوان «م��ا ت�ص ّنفني�ش». www.facebook.com/BaheyaYaMasr
التحر�ش» ،فقد جمعت املعلومات من �أما «خريطة ّ التحر�ش يف م�رص ،وتلقت القاعدة ال�شعبية عن حاالت ّ التحر�ش عرب الإنرتنت �أو الر�سائل البالغات عن حاالت ّ ال�رسية ال�شخ�صية للمت�صالت. اخللوية ،وحافظت على ّ وقد زاد تاثري املجموعة التي ت�أ�س�ست يف عام ،2010مع التحر�ش اجلن�سي يف العامني ...2012-2011 ازدياد ّ التحر�ش وما رافقها وبالإ�ضافة �إىل ك�شفها حل��االت ّ من معلومات مفيدة �أمام ال��ر�أي العام ،وفّرت «خريطة التحر�ش» جمموعة من اخلدمات (كيفية ت�سجيل بالغ لدى ّ ال�رشطة ،امل�ساعدة القانونية والنف�سية ،الدفاع عن النف�س، حتر�ش. �إلخ) التي تعترب �رضورية يف التعامل مع كل حالة ّ
«�أحياء باال�سم فقط» ّ ت�شكلت من بنات �أفكار جلنة جمموع ٌة نا�شطة ج��د ًا الطالب يف «حزب التحالف ال�شعبي اال�شرتاكي» ،وتركزّ عملها على احلقوق االجتماعية واالقت�صادية .وهي ٌ مثال جيد عن جناح جمموعة �شبابية يف العمل على املطالب ّ �سجلت املجموعة ال�شعبية ،وعلى م�ستوى القاعدة .وقد ّ ن�شاط ًا الفت ًا يف منطقة «رملة بوالق» وهي ع�شوائية يف قلب القاهرة ،تتاخم الأبراج املرتفة على كورني�ش النيل؛ harassmap.org �إذ �شهدت «رملة بوالق» مواجهات عنيفة يف مطلع �آب / �أغ�سط�س ،2012تلتها حملة تهديد وخطف واعتقالٍ ت�أ�س�ست «كتائب املوناليزا» يف �شباط /فرباير مكونة من فنانني ومن ليلي لل�سكان من منازلهم ،ال تزال م�ستمرة حتى اليوم ،2012 .وهي جمموعة ف�ضفا�ضة ّ ّ وقد عمل فريق «�أحياء باال�سم فقط» على الأر�ض يف را�سمي الغرافيتي ي�ستهدف عملها الأحياء غري ال�رشعية وحددت من �ضمن �أهدافها توعية ال�سكان «رملة بوالق» منذ ما قبل �أحداث �آب � /أغ�سط�س ( ،2012الع�شوائيات)ّ . وامتد ن�شاطه راهن ًا على امل�سائل ال�سيا�سية بوا�سطة الفن .يف �صيف عام واكت�سب �صدقية عالية بني ال�سكان، ّ فن ال�شارع �إىل مناطق فقرية ح�رضية �أخرى �أي�ض ًا. � ،2012أنتجت املجموعة �سل�سلة �صو ٍر من ّ www.facebook.com/AhyaBelesmFqt/info التحر�ش اجلن�سي وم�شاركة الن�ساء يف احلياة تعالج م�س�ألتي ّ ال�سيا�سية .وعملت مثل املجموعات الأخرى التي تهدف �إىل ن�رش التوعية بوا�سطة الفن ،على التقاط ال�صور الفوتوغرافية املجموعات املعنية بق�ضايا الن�ساء ون�رشها على نطاق وا�سع عرب و�سائل التوا�صل االجتماعي. www.facebook.com/kta2eb.monalisa?sk=info �شهدت البالد يف املرحلة التي تلت 25يناير ارتفاع ًا التحر�ش/االعتداء اجلن�سي اجلماعي» هي «قوة �ضد التحر�ش اجلن�سي بالن�ساء يف املجال العام . حا ّد ًا يف ن�سبة ّ ّ ّ وقد �ساهم ا�ستمرار غياب ال�رشطة يف الأحداث الوطنية واحدة من املجموعات العديدة («بنات م�رص ّ خط �أحمر»، التحر�ش اجلن�سي« ،التحرير بودي غ��ارد») ،ت�أ�س�ست لتنظيم �آلية مكافحة واملحلية ب�شكل وا�ضح يف ازدي��اد ّ
www.youtube.com/user/3askarKazeboon
�رصين» ُ «م ّ «م�رصين» ب�صفتها املخزن الرئي�سي برزت جمموعة ّ ل�صحافة املواطنة يف ث��ورة م�رص .و�أ�س�ست مركز ًا �إعالمي ًا ال يبتغي الربح ،يقع يف و�سط القاهرة� ،أدارته جمموعة �صغرية من العاملني يف �صناعة ال�سينما، واملواطنني ال�صحافيني ،والنا�شطني ،لتوفري م�ساحة عمل جماعي خم�ص�ص لدعم املادة ال�صحافية التي ينتجها «م�رصين» عن حق ،دور املواطنون .وقد �أدت جمموعة ّ خمزن ال�صحافة امل�ستقلة ،من حيث ن�رش م�شاهد خام ٍ أحداث ثورية ،وكذلك �أو ممنتجة التقطها مواطنون يف � «م�رصين» .وقد كان لهذه امل�شاهد التي التقطها �أع�ضاء ّ قوة املادة التي �أنتجها امل�ستخدمون من عامة الن�شطاء ّ ق�صوى يف الإف�لات من الرقابة واخل��روج عن الرواية املتحيزة التي تبناها الإعالم الر�سمي يف �أغلب الر�سمية ّ الأحداث ،وهي �أ�سهمت يف متكني �صوت ال�شارع عرب دمقرطة املادة املمنتجة وغري املمنتجة وتوفريها على قناة بن�سخ ميكن حتميلها «م�رصين» على «يوتيوب» ،و�إرفاقها ٍ ّ على الهواتف اخللوية ،بحيث ميكن ن�رشها بني الهواتف و�سواها من الأل��واح الإلكرتونية بوا�سطة «بلوتوث». «م�رصين» �أي�ض ًا التدريب ،والدعم وقد وفرت جمموعة ّ 127
بدايات
العدد 2013 |6
التحر�ش اجلن�سي .وقد �أن�شئت يف «التحرير» يف مطلع ّ عام 2012ر ّد ًا على االعتداءات اجلن�سية اجلماعية والهجمات ّ املنظمة على املتظاهرات ،وتكونت من جمموعة تتدخل لوقف متطوعة من الن�ساء والرجال ،و� ّأمنت دوريات ّ االعتداءات اجلماعية على الن�ساء خالل التظاهرات ،وتوفّر الطبي والقانوين والنف�سي الفوري يف احلماية والدعم ّ مواقع التظاهر ،كذلك تنقل طلبات امل�ساعدة عرب و�سائل املدربني على التعامل التوا�صل االجتماعي للمتطوعني ّ مع هذه املواقف على الأر�ض .وتقوم كذلك بالتوعية على التحر�ش ،وقد �أطلقت يف هذا الإطار ّ خط ًا �ساخن ًا خلدماتها. ّ الغرافيتي اجتاح الغرافيتي االحتجاجي �أرج��اء م�رص منذ يناير امل�سي�س ،2011كو�سيلة للتعبري الفني اعتمدها ال�شباب ّ للتعبري عن �أفكاره .وهي لي�ست جمموعة ّ منظمة� ،إال �أن الظاهرة ت�ستحق الإ�شارة �إليها نتيجة االنت�شار الوا�سع ال�ستخدام الغرافيتي ال�سيا�سي يف البالد ،وملا �أنتجته من تعاون غري م�ألوف �سابق ًا بينها وبني العامل االفرتا�ضي. فقد ن�رش فنانو غرافيتي ال�شباب ر�سوم ًا من ت�صميمهم، نفّذوها بالر�صا�ص لكي ي�سهل حتميلها ،تع ّلق مبا�رشة على الأحداث الراهنة ،مع روابط لها على �صفحات التوا�صل ال) مرفقة بفيديوات االجتماعي («تويرت» و «فاي�سبوك» مث ً وق�صها ور�شّ ها على اجلدران .وكحال ّ تو�ضح كيفية طباعتها ّ مبادرة «ع�سكر كاذبون» ،جمع ال�شباب املواد ون�رشوها يف خمتلف �أنحاء م�رص (من دون �سابق جتربة مع الغرافيتي)، بحيث يظهر الفن االعرتا�ضي يف كل مكان. www.scribd.com/doc/77577801/Zeftawi-Stencils-Booklet
«مترد» ّ «مترد» �أ�سا�س ًا على يد خم�سة نا�شطني م�س ّلحني ن�ش�أت حركة ّ بحوا�سيبهم املحمولة وهواتفهم اخللوية فح�سب ،جنحوا يف �ضد حممد مر�سي انت�رشت يف خمتلف �إطالق عري�ضة �شعبية ّ ويزعم �أنها جمعت نحو 22مليون توقيع �أنحاء البالدُ ، يف غ�ضون �شهرينُ .يعرف الكثري عن املتحدث الر�سمي با�سم احلركة؛ حممد بدر ،البالغ من العمر 28عام ًا .بدر هو �صاحب م�سرية يف ال�صحافة والإنتاج الإعالمي ،وكان من�سق ًا حلركة «كفاية» املعار�ضة حلكم مبارك التي كانت �صاحبة �شعبية كبرية يف ال�شارع امل�رصي .وكان بدر �أي�ض ًا ع�ضو ًا يف «اجلمعية الوطنية للتغيري» التي ير�أ�سها حممد الربادعي .وحتى كتابة هذه ال�سطور ،كان حجم ومدى 128
بدايات
العدد 2013 |6
انخراط ودعم قوى خارجية يف حركة «مترد» غري وا�ضح. وقد ُر ِّوج � ّأن فاعلني وافدين من مرحلة ما قبل ثورة 25 يناير قد تالعبوا باحلركة ،من �أجهزة �أمنية حكومية ،و�أن�صار مبارك واجلي�ش ومروحة من الأحزاب ال�سيا�سية ورجال �أعمال بارزين .غري � ّأن املتحدث با�سم احلركة ي�ستنكر جميع «مترد» ّمت الأنباء التي ت�شري �إىل �أنه هو �شخ�صي ًا �أو حركة ّ حتريكهم على يد قوى �رسية .وبح�سب بدر« ،قد تكون مترد بع�ض املجموعات قد قفزت �إىل قطار حركته ،غري � ّأن ّ ظ ّلت وحدها �صاحبة القيادة» .لدى احلركة خطاب نا�رصي تدخل �أمريكي يف وا�ضح و�رصيح يف انتقاد ما ترى �أنه ّ ال�ش�ؤون امل�رصية الداخلية.
اللوحات الإعالنية يف و�سط البلد يف الإ�سكندرية، بالإ�ضافة �إىل توفري احلماية اجل�سدية للعائالت. ولأن اللجان ال�شعبية متج ّذرة ٌّ حيها ،امتلكت كل يف ّ ن�شاطاتها ور�سائلها �صدقية و�رشعية عاليتني .الزخم، دار �شبابي ًا .ومعظم اللجان يف �آن واحد ،حمف ٌّز �شبابي ًا ُ وم ٌ ال�شعبية ال ين�ضوي حتت �أي لواء �سيا�سي .وقد حارب «الإخوان امل�سلمون» جلان ًا �شعبية كثرية؛ لأن «اجلماعة» حتى ال�ساعة ت�سيطر على اخلدمات االجتماعية على م�ستوى القاعدة .من املفيد هنا ذكر درا�س ٍة ت�ستحق التحديات التي واجهت املراجعة �أجرتها �آ�سيا حميي عن ّ جمموعة خمتارة من �أربع جلان.
جمموعات الأحياء والعمل على م�ستوى القاعدة :اللجان ال�شعبية
جمموعات �أخرى
ال�شارع املحلية ،وقد �شاركت بانتظام يف التظاهرات واملواجهات مع ق��وات الأم��ن يف الأع���وام 2011 و 2012و .2013يف �شباط /فرباير ،2012 تعر�ض «�ألرتا�س» فريق «الأهلي» لهجوم يف مباراة يف ّ بور�سعيد �سبب مقتل � 74شخ�ص ًا (طعن ًا ،خنق ًا� ،شنقا ً ّ ودو�س ًا بالأقدام) ،وجرح املئات يف ما بات يعرف با�سم «جمزرة بور�سعيد» .املحاكمة التي خ�ضع لها عنا�رص الأمن التابعون ل��وزارة الداخلية واملوكلة �إليهم مهمة حماية املباراة ،انتهت (يف مطلع �أيلول � /سبتمرب )2012 املوجهة �إليهم. بتربئة جميع الر�سميني من جميع التهم ّ �ضغط جمهور «الألرتا�س» ملقا�ضاة امل�س�ؤولني عن كارثة بور�سعيد ،وهو مطلب التفّت حوله جمموعات ح�ضور يلفت الأنظار يف �سيا�سية عديدة .ولـ«الألرتا�س» ٌ ال�شارع ،وهو يكون بارز ًا يف التظاهرات واالعت�صامات، تتابعه و�سائل الإعالم بانتظام .وال تزال �إمكانية اهتمامهم مبوا�ضيع �سيا�سية �أخرى مو�ضع جدل.
«�سلفيو الكو�ستا» «�سلفيو الكو�ستا» هي جمموعة �صغرية ن�سبي ًا تدعو �سلفيون �شباب ،وهي ت�ستخدم للتعاي�شّ � ،أ�س�سها ّ ّ نقاط القوة والتحديات مقاربات مبتكرة خللق م�ساحة تتيح احل��وار .ت�شكلت «�سلفيو الكو�ستا» من �إ�سالميني وليرباليني ،ومن بع�ض ّ املت�شدد ،ب�شكل عام ،بعد 25يناير ،امتازت املجموعات ال�شبابية الأقباط ،يلتقون على دعم التعاي�ش ونبذ املنظور ّ وقد �أطلقت املجموعة �صفحة على «فاي�سبوك» جمعت مب�ستوى رفيع من الإبداع ،املرونة ،الكفاءات واملوهبة، ٍ منت�سب افرتا�ضي .ال�شجاعة ،االلتزام والعزم العميقني ،ومهارة عالية يف يف وقت من الأوقات ع�رشين �ألف تعتمد املجموعة �أ�سا�س ًا على الفكاهة يف ن�رش ر�سالتها .ا�ستخدام و�سائل التوا�صل االجتماعي (و�أدوات �أخرى ت�صدر ا�سمها الأخبار يوم �أنتجت فيلم ًا ق�صري ًا كثرية) بطرقٍ مبتكرة� .إىل نقاط القوة ه��ذهُ ،ت�ضاف وقد ّ على «يوتيوب» ا�سمه «�أين �أذين؟» ،يف �إ�شارة �إىل جرمية ال�صدقية وغياب االنتماء احلزبي. التحديات التي واجهها ال�شباب ،فتت�ضمن الكراهية التي �شهدتها قنا يف ال�صعيد امل�رصي عام �أما ّ ال م�سيحي ًا وقطعوا �ضعف التنظيم ،نق�ص الر�ؤية وق ّلة امل��وارد� ،ضعف ،2011حيث خطف �سلفيون رج ً حتدي ًا واقعي ًا جد ًا �أذنه .فيلمان فكاهيان �آخران فازا مب�شاهدة كثيفة على التن�سيق ما بني املجموعات (كان ذلك ّ «يوتيوب» هما�« :أين حملي؟» و«�أين بطيخي؟» ،وهما يف مرحلة مبكرة) ،واالن�شقاق لأ�سباب �إيديولوجية. ّ �أي�ض ًا ّ و�شكل يركزان على التعاون والت�شابه ما بني اجلماعات .كذلك �إن جمموعات كثرية تتمركز يف املدينة. حتدي ًا �صعب ًا ال يزال حا�رض ًا «ده م�ش طبيعي» هي مبادرة �أخرى �أطلقتها املجموعة ا�ستمرار النظام القدمي ّ تظهر امل�شاكل االجتماعية التي يعانيها ال�شعب يف احلياة حتى وقت كتابة هذه ال�سطور ،وكذلك حال التهديد ّ اليومية ،وقد بات ُينظر �إليها على �أنها «طبيعية» .وعلى واالعتقال (مع �أن ن�سبتهما انخف�ضت يف زمن كتابة الرغم من �صغر حجمها� ،إال �أن املجموعة �أ ّدت دور ًا ب ّن ًاء هذه ال�سطور) ،والربوباغندا املعادية للنا�شطني ،والعمل واجلذرية ،واخلطاب غري الدميقراطي الذي التطوعي، يف اعت�صام متوز /يوليو .2011 ّ �ساد احلياة ال�سيا�سية ،جميعها عوامل �أ ّدت �إىل �إنهاك هذه املجموعات و�/أو خ�سارتها لل�صدقية ال�شعبية. الألرتا�س (جمهور كرة القدم) و�سبب غياب القيادة ال�سيا�سية املالئمة عن املعار�ضة هذه الكوكبة من جمهور كرة القدم امللتزم بت�شجيع فريقه ّ �أ ّدت دور ًا بارز ًا يف معارك ال�شوارع يف 25كانون الثاين وامل�شهد ال�سيا�سي� ،إحباط ًا عميق ًا و ّلد �إح�سا�س ًا بني معنية بعمق يف �سيا�سة كثريين بت�ضييع الفر�ص. /يناير ،وباتت منذ ذلك احلني ّ
وثراء يف مرحلة ما بعد التطورات انت�شار ًا يف �أحد �أكرث ً ّ ّ الت�شكل العفوي للجان يناير 2011يف م�رص� ،أتى (ال�شعبية) يف الأحياء ،على امتداد البالد .تلك املجموعات تعرف بها اجلغرافيا �أو املوقع ،انبثقت من املجال�س التي ّ ّ املحلية� ،أو جمموعات احلرا�سة التي �شكلها املواطنون عفوي ًا عندما ان�سحبت ال�رشطة من كافة �شوارع م�رص يف 28كانون الثاين /يناير .2011مع مرور الوقت، ومع غياب الإدارة املحلية ،منا عمل جمموعات املواطنني امللحة �إىل �إدارة اخلدمات هذه من تلبية احلاجات الأمنية ّ ال �إىل �إثارة موا�ضيع حملية ع ّلقتها من جمع القمامة مث ً الدولة منذ زمنٍ يف االنتظار .ت�شمل الأمثلة عن اللجان الفيوم ،العمرانية ،بوالق �أبو العال ،حلوان، ال�شعبية مناطق ّ والإ�سكندرية .ومن الأمثلة على املبادرات املبتكرة التي �سجلتها بع�ض اللجانُ ،يذكر ت�سجيل نقا�شات توعوية ّ �سيا�سية وبثها �إىل منازل يف الأحياء عرب مفاتيح الت�شفري الف�ضائي املحلي («تلفزيون احل��ارة» يف العمرانية)، وم��ب��ادرة ح ّلت مبكر ًا جل��ذب انتباه الإدارة املحلية ّ ال�سكان �إىل �إلقاء �أكيا�س على جمع القمامة؛ �إذ دعت قمامتهم املنزلية �أمام بيت املحافظ (يف الإ�سكندرية) ،ما دفع ال�سلطات املحلية �إىل توفري ّ حل �رسيع للم�شكلة. ويف مبادرة �إ�سكندرية �أخرىُ ،وفِّرت احلماية لعائالت تعر�ضت العائالت املتظاهرين الذين قُتلوا �أو ُجرحوا؛ �إذ ّ ل�ضغوط القوات الأمنية الهادفة �إىل ثنيها عن الإدالء بال�شهادة �ضدها ،وذل��ك من خالل ت�سجيل تقنيات الرتهيب بال�صوت وال�صورة وعر�ضها جماهريي ًا على 129
بدايات
العدد 2013 |6
نقاط �أخرى ر ّد الفعل يف مقابل الفعل على م�ستوى الأولويات الإجراءات التي اتخذها الطاقم ال�سيا�سي ب�أكمله ،مبا يف ذلك املجموعات ال�شبابية كما «املجل�س الأعلى للقوات امل�سلحة» ،ما بني العامني 2012-2011وما تالها من ت�شكيل حلكومة «الإخ��وان امل�سلمني» (يوليو /متوز – 2012متوز /يوليو ُ ،)2013و�سمت بطابع �شديد االنفعالية؛ �إذ تفوقت الأح��داث املتتالية على ال��ر�ؤى واال�سرتاتيجيات املخطط لها .لأ�سباب ميكن فهمها، ت�شو�ش انتباه املجموعات ال�شبابية .م�شاركاتهم يف ّ تعر�ض إ�صابات � من تالها وما والتظاهرات، االعت�صامات ّ النا�شطون لها ورعايتهم ل�سواهم من جرحى املتظاهرين، وكذلك تن�سيقهم للبيانات وردود الفعل على الأحداث، حمددة عوامل أ� ّدت �إىل تقدمي ر ّد الفعل يف �سياق �أولويات ّ �سابق ًا .جمدد ًا ،ال بد من التذكري ب� ّأن تلك كانت حال جميع الالعبني على كافة م�ستويات ال�ساحة ال�سيا�سية.
نكث الوعودّ : حكام م�رص الع�سكريون يقو�ضون حقوق ّ الإن�سان .منظمة العفو الدولية
www.amnesty.org/ en/library/info/x
�شحاتة ،دينا .عودة ال�سيا�سة :احلركات االحتجاجية اجلديدة يف م�رص. القاهرة :مركز الأهرام للدرا�سات اال�سرتاتيجية، .2010 �شحاتة ،دينا. احلركات ال�شبابية وثورة 25يناير. القاهرة :مركز الأهرام للدرا�سات اال�سرتاتيجية، .2011
130
الإنهاك واجلذرية �ساهمت طبيعة الأحداث القا�سية وتواترها يف ت�شكيل �إنهاك وطني جماعي ،ف�أ ّدت احلرب الإعالمية التي �ش ّنتها الدولة ،واالعتقاالت ،واملحاكمات الع�سكرية ،وجترمي املتظاهرين ،دور ًا يف �إحالل هذا الإنهاك قبل احلركة التي «مترد»؛ �إذ �شهدت تلك املرحلة انخفا�ض ًا ملمو�سا ً �أطلقتها ّ يف الدعم ال�شعبي للتظاهرات. املهم جد ًا التوقف عند التهديدات املبا�رشة وغري من ّ املبا�رشة التي تلقاها العديد من النا�شطني ال�شباب ،بالإ�ضافة املتكررة املو ّثقة – والأ�سو�أ منها – التي �إىل عمليات اخلطف ّ تعر�ض لها النا�شطون واملتطوعون من �أفراد اجل�سم الطبي، ّ تعر�ض لها اجلرحى من التي والتوقيفات التهديدات وكذلك ّ املتظاهرين عند ت�رسيحهم من امل�ست�شفيات .حمالت ت�شويه ال�صورة والتحري�ض على «البلطجية» عموم ًا (بعدما ُ�س ّمي امل�شاركون يف االعت�صامات «بلطجية») ،هي من التكتيكات التي اعتمدها الإعالم التقليدي �ضدهم ،بالتزامن مع حمالت �إلكرتونية �شبيهة �شهدها موقعا «فاي�سبوك» و«تويرت». خ�سارة الزخم خالل عام 2012 انح�سار اخليارات الرئا�سية يف املر�شح الإ�سالمي من جهة وحليف مبارك من اجلهة الأخرى ،وانتخاب مر�شح بدايات
العدد 2013 |6
ٍ إح�سا�س «الإخ��وان امل�سلمني» بالنتيجة� ،ساهما بن�رش � بخيبة الأمل وانعدام اجلدوى بني نا�شطي املجتمع املدين. تو�سع املجموعات الإ�سالمية على اختالف م�شاربها و�أ ّدى ّ يف احلياة املدنية وال�سيا�سية �إىل ا�ستقطاب وجهات النظر و�إر�ساء �إح�سا�س بالف�شل بني املجموعات العلمانية .انتخاب جمل�س �شعب ب�أكرثية �إ�سالمية ،كتابة الد�ستور اجلديد يف هيئة ت�أ�سي�سية ي�سودها الإ�سالميون ،ورئا�سة مر�سي ،هي حد كبري يف ترويج نوع من الي�أ�س بني عوامل أ� ّدت �إىل ّ مروحة كبرية من النا�شطني ال�شباب. االنبعاث يف 30حزيران /يونيو ،بعثت حركة «مت� ّ�رد» حركة االعرتا�ض ال�شعبي يف ال�شارع من جديد وعلى نطاق جمددة تفا�ؤل كثريين من ناحية ،ومثرية هائل االت�ساعّ ، قلق �آخرين جتاه النيات الع�سكرية من ناحية �أخرى .بعد عزل الرئي�س مر�سي ،غدت املجموعات �أ�شد ا�ستقطاب ًا وجذري ًة ،وبات اختالف وجهات النظر اال�سرتاتيجيات التحول املحورية هذه تطرف ًا� .ستكون لنقطة ّ املعتمدة �أ�شد ّ تبعات كربى على االجتاه الذي �سي�سلكه البلد والثورة خالل ال�شهور وال�سنوات املقبلة. اخلامتة ي�شهد العدد الهائل من املجموعات التي ظهرت على ال�ساحة بعد 25كانون الثاين /يناير 2011على �إرادة �صلبة يبديها عدد كبري من ال�شباب امل�رصيني لأن يكونوا �رشكاء يف �إحداث التغيريات ال�سيا�سية يف البالد، بوا�سطة مروحة وا�سعة من اال�سرتاتيجيات واملقاربات. ا�ستخدم الكثري من هذه املجموعات تكتيكات عمل حد يف �إبداعية ،وابدوا روح ًا مرنة وابتكار ًا �إىل �أق�صى ّ ا�ستخدامهم ملختلف املقاربات ،و�أ�س�سوا لدرجات عالية درو�س عملية كثرية جرى من االنت�شار والتفاعلية .هناك ٌ تع ّلمها وتطبيقها خالل هاتني ال�سنتني ون�صف ال�سنة التي هباء ،و�ست�ستمر تلت خلع مبارك ،ال ميكنها �أن ت�ضيع ً كمورد للفعل والزخم بني الأجيال ال�شابة لعقود. �شكر �أ�شكر كل من قابلته لإجناز هذا البحث – عددهم �أكرب من أخ�ص بال�شكر دينا اخلواجة، �أن �أذكرهم باال�سم هنا – و� ّ القيمة التي آرائهم � على ومنى فتح الباب ،وحنني حنفي ّ منحوين �إياها بكل كرم.
130
إىل المتاريس! مقاومة «حديقة الغازي» والفضاء العام
136
ثورة جيل ضد التعقيم اإليديولوجي
140
حتالف سرييزا الياسري ظاهرة سياسية واعدة يف اليونان
با�شاك اإرتور
اإيجه متلكوران تينا �شرتيكو
إىل المتاريس!
مقاومة «حديقة الغازي» والفضاء العام بااشك إرتور على مدى ع�رشة �أيام خالل �شهر حزيران/يونيو ،٢٠١٣ ر�سم عدد ال ُيح�صى من املتاري�س حدود ًا ل�ساحة كبرية باحثة وحمارضة يف خالية من الوجود احلكومي الر�سمي يف قلب �إ�سطنبول. متحركة رائعة قسم احلقوق بكلية كانت تلك املتاري�س عبارة عن من�ش�آت ّ بريكبك ،بلندن .تتغيرّ يومياً .تبدو م�ؤقتة ،لكنها يف الوقت نف�سه �صلبة، آخر اعمالها حترير وهي رغم ه�شا�شتها من�ش�آت م�ضا ّدة مذهلة .كانت تقام كتاب «يف انتظار املتاري�س ويجري تفكيكها و�إعادة تركيبها يومي ًا ب�شكل الربابرة :حتية جماعي ،ما يعك�س دينامية رئي�سية تك�شفت يف الف�ضاء طوقته تلك احلواجز ،دينامية حترير ال�سيا�سة الدوارد سعيد» العام الذي ّ (لندن .)٢٠٠٨من الأن�صاب التاريخية. تقدم هذه املقالة ت�أمالت مبكرة حول املعنى املفاهيمي واجلمايل وال�سيا�سي للمطالبة ال�شعبية العامة با�ستعادة و�سط مدينة �إ�سطنبول خالل مقاومة حديقة الغازي. ذات �صباح مبكر من الثامن والع�رشين من �أيار/مايو ،٢٠١٣ا�ستيقظت خيم «حديقة الغازي» على الأغنية املحببة على قلوب ال�شيوعيني الأناركيني يف �إ�سطنبول، وهي �أغنية من �صنف الريغيُ ،تعترب ن�سخة �صاخبة من ن�شيد �أناركي يعود �إىل احلرب الأهلية الإ�سبانيةُ ،تدعى «� ،»A Las Barricadasأي «�إىل املتاري�س»: �إىل املتاري�س �إىل املتاري�س من �أجل اخلري واحلرية والعدالة بني الذين ق�ضوا �أيامهم ولياليهم نيام ًا يف اخليم ،ع�ضو �ساخط من هذه الفرقة� ،أعرب الحق ًا عن متلمله �إزاء نداء ن�رشت هذه املقالة اليقظة الذي �أطلقته الفرقة قائالً« :ح�سناً ،الت�شبيه معيب فلنتخيل �رضب ر�أ�س مايكل �أجنلو باعرتاف اجلميع ،لكن باللغة االنكليزية ّ بتكليف من جملة «�إبراز» ibrazونعيد بتمثال دافيد من �أجل �إيقاظه؟» .مل تكن هناك متاري�س ن�رشها هنا مرتجمة الجتيازها من �أجل الو�صول �إىل اخلبز واحلرية �أو العدالة اىل العربية خميم «حديقة الغازي» يعي�ش بالتعاون يف تلك املرحلة .كان ّ مع املجلة املذكورة. www.ibraz.com. �صباحه الأول ،والن�ضال من �أجل احلفاظ على احلديقة 132
بدايات
العدد 2013 |6
العامة و�أ�شجارها بدا كمعركة خا�رسة جديدة يف �إطار الهجمة الليربالية التي ال هوادة فيها ،بت�سهيل من �سلطة �ضد حكومية جاهزة لإطالق العنان لأدواتها العنفية ّ �أي معار�ضة ،مهما كانت �صغرية .عند هذه املرحلة ،مل ميكن �أحد يتخيل �إقامة متاري�س يف غ�ضون ب�ضعة �أيام، واحلديث هنا لي�س عن احلواجز التي تقيمها ال�رشطة ،بل عن متاري�س يدوية من �صنع حركة املقاومة .يف الواقع، ُوجدت الكثري من احلواجز التي �صنعت حدود ًا ملنطقة هائلة متفلتة من �سلطة الدولة يف قلب املدينة. بات الأمر �أ�شبه مبثال يجري التمثيل به :يف منت�صف ليل � ٢٧أيار/مايو ،بد�أت اجلرافات بتحطيم جزء من «حديقة الغازي» يف خرق فا�ضح لأذونات التخطيط. هرع املعنيون �إىل املكان ،وقد بات ب�ضع ع�رشات ليلتهم هناك .ويف اليوم التايل ،مل ي�صل عدد الذين اعت�صموا يف احلديقة يراقبون الأ�شغال �إىل مئة �شخ�ص ،لكنهم �صمدوا �أمام هجمات عنا�رص ال�رشطة الذين �أُر�سلوا لـ«توفري الأم��ن» لأعمال التدمري املخالفة للقانون، بالقنابل امل�سيلة للغاز والقوة املفرطة .ح�صل ذلك حني ال ُت َ قط ْت ال�صورة ال�شهرية للمر�أة ذات الف�ستان الأحمر، جت�سد عبثية عنف وهي باتت اليوم ال�صورة/الأيقونة التي ّ ال�رشطة اليومي املفرط �ضد املواطن العادي .بعد ظهر ذلك اليوم ،أ� ّدى و�صول النائب �سريي ثريا �أوندر �إىل احلديقة ،ومطالبته بر�ؤية �أذون��ات التدمري� ،إىل تعليق م�ؤقت للأعمال .يف تلك الليلة ،و�صل عدد اخليم �إىل نحو ٤٠خيمة .ويف اليوم الذي تاله� ،أي يف � ٢٩أيار/مايو، توجه رئي�س احلكومة رجب طيب �أردوغان �إىل املعت�صمني ّ و�سنطبقه» ،يف قائالً« :افعلوا ما �شئتم .لقد اتخذنا قرارنا ّ �إ�شارة �إىل خطط �إزالة احلديقة العامة لإحالل مكانها ت�سوق مع واجهة ثكنة ع�سكرية من طراز عثماين مركـز ّ
1بح�سب الأرقام الر�سمية التي �أعلنتها وزارة الداخلية الرتكية يف 22حزيران/ يونيو� ،شارك 2.5 مليون �شخ�ص يف تظاهرات حديقة الغازي يف 79 مدينة من �أ�صل .81اقر�أ ‘2.5 Milyon İnsan 79
İlde Sokaga İndi’, Milliyet, 23rd June 2013, «gundem. milliyet.com .tr/25-milyon-insan-79 -ilde-sokaga/
يعود �إىل القرن الثامن ع�رش ،كانت موجودة يف املكان نف�سه .وغداة خطاب �أردوغان املليء بالتحدي ،بات نحو � ١٥٠شخ�ص ًا ليلتهم يف احلديقة العامة .ويف ال�صباح، عند اخلام�سة فجر ًا من الثالثني من �أيار/مايو ،هاجمت ال�رشطة املخيم بالغازات امل�سيلة للدموع ،و�أحرقت خيمهم ،وفتحت الطريق للجرافات لكي توا�صل تدمري احلديقة العامة لب�ضع �ساعات� ،إىل حني و�صول النائب �أوندر عند ال�ساعة الثامنة �إال ع�رش دقائق �صباحاً ،مانع ًا ال�شاحنات من موا�صلة تدمريها جمدداً. يف تلك الليلة ،توافد الآالف �إىل احلديقة العامة ،وبات املئات ليلتهم فيها ،قبل �أن تهاجمهم جمدد ًا عند اخلام�سة من فجر � ٣١أيار/مايو �رشطة مكافحة ال�شغب ،لكن ال عن الغازات ر�ش املياه ،ف�ض ً هذه املرة بوا�سطة مدافع ّ امل�سيلة للدموع .وعلى وقع ا�ستمرار حرب ال�شوارع خالل ذلك اليوم ،قررت حمكمة �إدارية تعليق �أ�شغال �إزالة احلديقة ،م ّتخذ ًة بذلك موقف ًا م�ؤيد ًا للمعرت�ضني. وبعد �صدور دعوة للتظاهر امل�سائي يف حديقة الغازي، حاول ع�رشات �آالف الأ�شخا�ص الو�صول �إىل املكان، لكن ال�رشطة كانت م�صممة على منع جناح التجمع، فخنقت «�ساحة تق�سيم» والأحياء املجاورة لها بغيمة اجلو طوال من الغازات امل�سيلة للدموع ا�ستمرت يف ّ ّ ذلك امل�ساء حتى الليل .وت�ضاعف ال�شعور بال�سخط على عنف ال�رشطة وهذه الطريقة اال�ستبدادية يف احلكم بفعل االنف�صام الكامل بني ما كانت ت��ورده و�سائل التوا�صل االجتماعي من جهة ،والغياب التام لأي
وعندما كان الأ�شخا�ص املتمركزون يف مقدمة امل�سرية ُيدفَعون بالقوة �إىل اخللف ،كان الأ�شخا�ص الواقفون يف اخللف ي�أخذون �أمكنتهم يف املقدمة .يف الواقع ،متّت ا�ستعادة «�ساحة تق�سيم» يف اليوم التايل ،بعد ظهر النا�س ال�رشطة الأول من حزيران/يونيو ،حني �أرغم ُ على االن�سحاب من املكان ومغادرة ال�ساحة ،ف�أ�صبحت «حديقة الغازي» ومنطقة وا�سعة حميطة بها خالية متام ًا من �أي ح�ضور ر�سمي لع�رشة �أيام. «�أمي ،هل �أنا ب�رشي �أم بربري؟» حتولت املنطقة �إىل �ساحة من ف��وران غري م�سبوق ّ للنقا�شات ،ولعدوى من ال�ضحك ونوبات من النكات. وبد�أ احلديث عن �رضورة �إلغاء الن�سخة الثالثة ع�رشة من «بينايل �إ�سطنبول» املقرر يف �أيلول ،٢٠١٣مبا �أ ّنه قد ح�صل عملي ًا يف «حديقة الغازي» .كان الأمر ذا �صلة ا�ستثنائية باملعر�ض؛ ل ّأن مو�ضوع البينايل الذي �أُعلن باكر ًا هذا العامُ ،ح ّدد بـ«فكرة الف�ضاء العام كمنتدى �سيا�سي» .2وحت��ت عنوان «�أم��ي ،هل �أن��ا بربري؟»، امل�أخوذ عن ال�شاعر الرتكي املحبوب اليل مولدور ،كان مقرر ًا للربنامج التنظيمي للبينايل �أن يطرح ال�سجال وحتدي حول الأ�شكال املعا�رصة للتمثيل الدميقراطي، ّ للتحول احل�رضي ،واخلو�ض يف ال�سلوكيات الإق�صائية ُّ �أثر �صناعة الفن يف تلك ال�سلوكيات .ويبدو � ّأن امل�ستوى النقدي للإطار املفاهيمي للبينايل� ،إما �أنه اع ُترب غري ٍ طبقت عليه ا�سرتاتيجية للتطعيم كاف� ،أو خمادعاً� ،أو ّ
ت�ضاعف ال�شعور بال�سخط بفعل االنف�صام الكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــامل بني ما كانت تورده و�سائل التوا�صل االجتمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاعي، وغياب �أي �إ�شارة �إىل عنف ال�رشطة جتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاه املعرت�ضني يف جميع التلفزيونات الرتكية تقريبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ًا، املرغمة على �إطاعة احلكومة �أو التي جرت ر�شوتها من قبلهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
gundem/det ay/1726600 / »default.htm
( 15متوز/يوليو .)2013 �« 2أعلن عن الربنامج املفاهيمي للمهرجان» «bienal.iksv.
org/en/archive/ newsarchive /p/1 /622».
133
�إ�شارة �إىل العنف الذي متار�سه ال�رشطة بحق املعرت�ضني يف جميع حمطات التلفزيون الرتكية تقريباً ،والغالبية العظمى منها قنوات خا�صة �أرغمت على الطاعة �أو ر�شتها احلكومة طوال ال�سنوات املا�ضية .مل يعد ب�إمكان النا�س ،النا�س العاديني ،من كل �أنحاء املدينة ،وال عاد ب�إمكان مواطني تركيا كلها� ،أن يحتملوا �أكرث من ذلك. خرجوا �إىل ال�شوارع .نهر ال ينتهي من الب�رش ظلوا يتوافدون نحو ال�رشطة ب�أياديهم العارية وب�أنا�شيدهم.1 بدايات
العدد 2013 |6
الذاتي من قبل منتقدي البينايل ،الذين كانوا ينظمون �سل�سلة من االعرتا�ضات ت�سبق العرو�ض ،لف�ضح ارتباطات �إدارة البينايل باملجموعات الر�أ�سمالية التي التحول املديني لإ�سطنبول .وقد ُكتب على تقود عملية ُّ �إحدى الالفتات�« :أمي ،هل �أنا ب�رشي؟» ،وقد انت�رشت هذه الالفتة الحق ًا يف «حديقة الغازي» �أثناء احتاللها. ميكن القول �إن الت�أثري املفاهيمي واجلمايل لال�ستعادة امللمو�سة لو�سط املدينة جتاوز ت�أثري �أي حدث ثقايف
�أو فني �سبق �أن ا�ست�ضافته �إ�سطنبول� .أ�صبح حطام حافالت النقل ال��ع��ام ،و�سيارات ال�رشطة والنقل التلفزيوين ،وبع�ضها مقلوبة ر�أ�س ًا على عقب ،ك�آثار ملا قبال .كذلك �إن ر�سوم الغرافيتي تخيل ح�صوله ْ ا�ستحال ُّ املارة بالفكاهة وبالنفَ�س التي ملأت اجلدران �أ ّثرت على ّ ال�شعري .باتت العرو�ض الأدائية �أمر ًا عادياً� .أ�صبح ِّ ميكن م�شاهدة النا�س يقر�أون الكتب �أمام دروع ال�رشطة، ومعاينة دروي�ش �صويف ي�ؤدي دورانه يف و�سط «�ساحة تق�سيم» ،وهو يرتدي القناع الواقي من الغاز .و�أمكن ي�شاهد الحق ًا ه�ؤالء الذين ا�شتهروا بوقوفهم �أي�ض ًا �أن َ يف و�سط ال�شارع �صامتني .كانت املتاري�س بذاتها من�ش�آت متنقلة مذهلة تتغيرّ بوترية يوميةُ ،يعاد �صنعها وتعزيزها وت�سميتها وجتميلها ب�شكل جماعي. �إقامة املن�ش�آت امل�ضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادة هي تعبري منا�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــب لو�صف ما كان يح�صل يف تلك امل�ســــــــــــــــــــاحة امل�سوّ رة باملتاري�س� :إعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادة ا�ستمالك وك�رس لهالة املكـــــــــــــــــــــــــــــــــــان، باملعنيني اجلمايل وال�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــيا�سي وذات �صباح ،ا�ستيقظ خميم احتالل ال�ساحة على متاري�س م�صنوعة من �أحجار فخارية ُر�سمت عليها وجوه مبت�سمة .ويف �صباح �آخر� ،أُعيد تركيب �أحجار مرتا�س �آخر لي�صبح من �س ّتة �أقوا�س مبقا�سات مرت ون�صف مرت مكعب للقو�س .وكان �أحد املتاري�س عبارة عن �إطار لوحة �إعالنات �صودرت وحتولت اىل ٍ باب لدخول امل�شاة. و�ص ّمم مرتا�س �آخر بطريقة ّ متكنه من ا�ست�ضافة عازيف ُ طبول لإحياء مو�سيقى ت�صويرية لفيلم عن احتالل ال�ساحة .كانت م�شاهدة هذه املتاري�س تثري احلرية :هي وه�شة ب�شكل وا�ضح يف �آن واحد. �صلبة للغاية ّ
املتاري�س قرب �ساحة تق�سيم يف ا�سطنبول �صباح 10حزيران.2013 134
مع املتاري�س �أو �ضدها منذ اليوم الأول لالحتالل ،كانت املتاري�س نقطة مركزية يف نقا�شات اجتماعات التن�سيق التي كانت تعقد حتت �إطار املنظمة الأم «تن�سيقية «احتلوا تق�سيم»»� .شعر البع�ض ب� ّأن ّ �شل احلياة اليومية بوا�سطة املتاري�س يف �ساحة �أكرب بع�رش مرات من «حديقة الغازي» نف�سها، قد نزع ال�رشعية عن احتالل احلديقة وعن مطالب بدايات
العدد 2013 |6
135
بدايات
العدد 2013 |6
«املحت ّلني» .وقد �أعرب �آخرون عن اعتقادهم ب� ّأن هذه ّ ت�شكل خطر ًا على حركة االحتالل ،وتوفّر املتاري�س لل�سلطات العذر لكي تتدخل وت�ستخدم القوة ،وك�أ ّنها كانت تنتظر توافر العذر لكي تفعل ذلك� .أكرث من ذلك، �شعر �آخ��رون بالقلق �إزاء الن�شاط اخلفي الذي تقوم به ال�رشطة عند املتاري�س ،م�ستف ّز ًة �شبابا ً �إىل العراك ثم مع عنا�رص ال�رشطة املرتدين زيهم الر�سمي ،ومن ّ اعتقالهم .ومل جتعل املتاري�س احلياة يف احلديقة املحتلة �أ�سهل؛ ففي الليايل الأوىل التي �أعقبت خروج ال�رشطة تعر�ضت احلديقة جمدد ًا لهجمات من الغاز ك�رس املحظورات من «تق�سيم»ّ ، امل�سيل للدموع الوافدة من فوق املتاري�س ،حيث دارت �إن �إقامة املن�ش�آت امل�ضا ّدة تعبري منا�سب لو�صف ما كان امل�سورة باملتاري�س خالل تلك ا�شتباكات كان ميكن تفاديها ،ما جعل احلديقة مكان ًا غري يح�صل يف تلك امل�ساحة ّ ال�سن .و�أُثريت اعرتا�ضات تقنية الأيام الع�رشة التي عا�شتها املنطقة املتحررة من �أي وجود �آمن للأطفال وللكبار يف ّ �أي�ضاً .فبح�سب البع�ض ،كان يجدر �إزالة بع�ض املتاري�س حكومي ر�سمي :كان هناك �إعادة ا�ستمالك وك�رس لهالة لأنها تعرقل الو�صول �إىل امل�ست�شفيات( .خالل �أيام املكان ،باملعنيني اجلمايل وال�سيا�سي .فالوزن الرمزي اال�شتباكات احلامية التي �شهدتها املقاومة ،ا�ستخدمت ل�ساحة تق�سيم ،وهي «املوقع الرمزي يف الوجدان املديني احليز ال�سيا�سي و�إنتاجه و�إعادة ال�رشطة �سيارات الإ�سعاف لنقل �أ�سطوانات الغاز). العام لكل ما يتعلق ّ ب�سن ّ 3 مدعم ًا بعدد من املن�ش�آت والأن�صاب لكن طوال فرتة احتالل احلديقة ،وخالل �أوقات �إحيائه» ،كان َّ اال�سرتاحة ،وعندما كانت �أعداد الأ�شخا�ص ت�صل �إىل التذكارية� ،أ�شهرها «ن�صب اجلمهورية» الذي يتو�سط �أدنى م�ستوياتها ويف ع ّز فرتات الإرهاق ،كان ال�شعور ال�ساحة ،ومبنى «مركز �أتاتورك الثقايف» التاريخي العام يف احلديقة جتاه املتاري�س مليئ ًا بعرفان اجلميل ،ال�شهري .غُ ّطي كال املعلمني بالالفتات والأع�لام خالل على اعتبار �أنها هي من حمتهم .ذلك � ّأن �إدراك النا�شطني احتالل ال�ساحة ،وهو امل�شهد ال��ذي كان يعيد طرح � ّأن املتاري�س موجودة ،وفّر لهم �شعور ًا �ضعيف ًا بالأمان ،الت�سا�ؤل نف�سه :هل ما يح�صل حقيقي؟ لكنه كان ذا معنى ،بعدما كان ع�رشات الآالف من املكان التاريخي بح�سب تعريف هرني لوفيفرُ :ي َح َّدد الأ�شخا�ص الذين زاروا احلديقة و�ساحة تق�سيم يذهبون مبا ميكن �أن يح�صل يف ذلك املكان ،وبالتايل مبا مل يح�صل 4 حتول ما يف �إىل منازلهم يف ال�ساعات املت�أخرة من الليل ،ليعودوا (املحلل/املحرم؛ املرئي/املخفي) .كان ثمة ّ ّ جمدد ًا �إليهما يف اليوم التايل .لقد خفّفت هذه املن�ش�آت النموذج النظري عند ر�ؤية النا�س على �سطح مركز جزئي ًا من رعب �ساعات الفجر الأوىل ،لت�شكل تلك �أتاتورك الثقايف ،ومن ثم عند م�شاهدة النا�س جال�سني ممددين �أو ين�صبون خيمهم على امل�ساحات اخل�رضاء املتاري�س ما ي�شبه املنازل للمعت�صمني. �أو ّ كان الأ�شخا�ص الذين بنوا هذه املتاري�س وحر�سوها املحيطة بن�صب اجلمهورية ،وهو الأمر الذي كان ي�ستحيل ت�صور ح�صوله على هذه البقعة التي كان حمظور ًا بغالبيتهم �شبان ًا مراهقني مل يبلغوا الع�رشين من عمرهم، ّ �أو بالكاد دخلوا العقد الثاين من حياتهم ،بع�ضهم دو�سها حتى دون حاجة لو�ضع الالفتات املعتادة التي لكن غالبيتهم مل متنع اجلري على الع�شب الأخ�رض لإبقاء النا�س خارجها. �أع�ضاء يف منظمات ي�سارية راديكاليةّ ، تكن ذات انتماء �سيا�سي وا�ضح .كانوا مزيج ًا غريب ًا من ثم � ّإن «حديقة الغازي» نف�سها هي حديقة تاريخية� .إنها حمرومي الأحياء املجاورة ،و�أفراد ًا من الطبقتني الو�سطى حديقة ُب َنيت على م�ستوى مرتفع من ال�ساحة ،حتى �إن ال للم�شاركة يف الداخل �إليها من جميع املداخل عليه �أن يت�سلق ال�سالمل، والعليا .لقد وفّرت املتاري�س له�ؤالء جما ً ّ املقاومة ،وم�ساحة للتمف�صل على عتبة �صناعة ال�سيا�سة ،وللو�صول �إليها من «�ساحة تق�سيم» ،على الزائر ت�سلق وكان ذلك احتاد ًا هام�شي ًا من دون ّ �شك ،لكنه ميلك كرامته ١٩درج��ة .رمبا ب�سبب ت�صميمها غري الرحب الذي �ستخدم «حديقة الغازي» اخلا�صة .عندما حاولت ال�سلطات التفاو�ض مع املقاومة ،يجعلها �أقرب �إىل املعبد ،مل ُت َ واقرتحت عليها ال�سماح لها مبوا�صلة احتالل احلديقة كفاي ًة باملقارنة مع احلدائق العامة الأخرى ،مثل «حديقة املفوهني �شبان املتاري�س ّ ب�رشط �إزالة املتاري�س� ،أتى �أحد ّ �إىل اجتماع «تن�سيقية «احتلوا تق�سيم»» ليقول�« :إن كنتم تريدون منا �إزالة املتاري�س ،ميكننا فعل ذلك ،و�سيحتاج بنا الأمر �إىل ن�صف يوم فقط لإعادتها �إن لزم الأمر». هذه القدرة الالمتناهية على فعل الأمر وعك�سهّ ، �شكلت ه�شة ،قابلة بال�ضبط روحية تلك املتاري�س .كانت عابرةّ ، للتدمري ،ولإعادة ن�صبها ،فكانت بذلك من�ش�آت م�ضا ّدة ي�ستحيل التخل�ص منها.
3
Yael Navaro-Yashin, Faces of The State: Secularism and Public Life in Turkey, Princeton, Princeton University Press, 2002, p. 1.
4
Henri Lefebvre, The Production of Space, trans. Donald Nicholson-Smith, Oxford, Blackwell, 1991, p. 224.
136
بدايات
العدد 2013 |6
اخلالية من �أي وجود حكومي ر�سمي �إىل �ساحة للتوا�صل تخيل ال�سيا�سي بني جمموعات ومنظمات كان ي�ستحيل ّ تالقيها �سابقاً .قانون هذه امل�ساحة املنتظمة ذاتي ًا كان املتفجرة التي ال�سلوك احل�ضاري والت�ضامن والفكاهة ّ تحُ ّطم الت�صنيفات املتخ�شبة التي تف�صل بني �أع�ضاء اجل�سم ال�سيا�سي وتنظم وظائفه .وقد ّ �شكل ذلك بدايات ُّ لتفكك الأحكام امل�سبقة املتجذرة والعداوات البالية ،و�إعادة متف�صل لقوة ت�أ�سي�سية بجميع تنويعاتها ،ول�صعود ذاتيات جديدة ظاهرة وقابلة للحياة بعيد ًا عن الأيديولوجيا الر�سمية املتحجرة للدولة ــ الأمة .وبالإمكان و�صف هذه العملية ب�أنها حتطيم �أ�صنام املخيالت ال�سيا�سية.
5
Meltem Ahıska, ‘Monsters that Remember: Tracing the Story ’of the Workers Monument in Tophane, Istanbul’, Red Thread 3, 2011, pp. 1-23.
6
Aysegül Baykan and Tali Hatuka, ‘Politics and culture in the making of public space: Taksim Square, 1st May 1977, Istanbul’, Planning Perspectives 25:1, 2010, p. 55.
7
‘May Day in Istanbul: 72 Detained, Scores Injured’, Bianet, 2nd May 2013. www.bianet.org /english/lab or/146303-may-dayin-istanbul -72- detainedscores-injured. www.bianet.org/ english/labor/ 14630 3-may-dayin-istan bul-72detained- scoresinjured.
( 15متوز/يوليو.)2013
137
عبا�س �آغ��ا» املحببة على قلوب �أبناء �إ�سطنبول يف حي بي�شيكتا�ش ،و«حديقة يوغورت�شو» يف كاديكوي ّ منتدى عام ًا منذ لت�سعني ا عنوان اليوم أ�صبحتا � (وكلتاهما ً ً �إنهاء احتالل حديقة الغازي بالقوة). لي�ست املعامل التاريخية جمرد رموز للقوة ،بح�سب ما ّ تذكرنا به عاملة االجتماع واملفكرة النقدية ملتم متخيلة من خالل �أحي�سكا� .إنها تنتج �أي�ض ًا جماعة ّ تخليد الذاكرة الأ�سطورية جلذور الأمة ،فار�ض ًة نقطة نهاية لتاريخ تكوين هذه الأم��ة ،حيث ال تتوافر مثل نقطة النهاية تلك ،وحتنيط الأحياء يف متاثيل من حجر. ووفق �أحي�سكاّ � ،إن املعامل التاريخية «ت�أبيد احلا�رض مبا هو ا�ستكمال للحظة للو�صول» .5والدولة -الأمة التي فر�ضتها املعامل التاريخية يف «�ساحة تق�سيم» هي دولة ميكن بناء املتاري�س وتدمريهــــــــــــــــــــــــــــــــــــا �إق�صائية ،بطريركية وقمعية ،مبا يتوافق مع الإيديولوجيا و�إعادة بنائها وتدمريهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا الر�سمية للدولة الرتكية ،و� ّإن الرمزية ال�سيا�سية لـ«�ساحة جمدداً .لكن ما ال ميكن تفــــــــــــــــــــــــــــادي فعله حولتها ،خ�صو�ص ًا منذ �سبعينيات القرن املا�ضي ،هو حتطيم الأ�صنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــام تق�سيم» ّ �إىل عنوان رئي�سي للن�شاط ال�سيا�سي وللمعار�ضة .يف احليّز ال�سيا�سي نف�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه �إن �أردنا فهم الدينامية املكانية حلركة االعرتا�ض من ُ نواحي «�إعادة اال�ستحواذ على الف�ضاء الوطني واملحلي �أزيلت معظم املتاري�س يف احلادي ع�رش من حزيران/ واجلماعي وعلى مميزاته الرمزية» ،6ف� ّإن معظم حركات يونيو .وا�ستعادت الدولة �ساحة تق�سيم والطرقات االعرتا�ض التي ُن ِّظ َمت حول ال�ساحة يف العقود املا�ضية ،امل�ؤدية �إليها .وبعد ب�ضعة �أيام ،يف اخلام�س ع�رش من وخ�صو�ص ًا منذ تظاهرة الأول من �أيار/مايو ١٩٧٧حزيران/يونيوُ ،طرد حمت ّلو «حديقة الغازي» بالقوة الدموية ،قادتها رغبة مركزية� ،أال وهي «ا�ستعادة �ساحة �أي�ضاً .وا�س ُتبد َلت بالفتات حركة املقاومة و�شعاراتها تق�سيم» ،وك� ّأن تلك ال�ساحة كانت يف يوم من الأيام على مبنى «مركز �أتاتورك الثقايف» �أعالم تركية كبرية ملك ًا لل�شعب .ولقد قُوبلت الرغبة باال�ستعادة الرمزية ب�شكل ا�ستفزازي وب�صورة عمالقة لأتاتورك ،وعاد لـ«�ساحة تق�سيم» بح�ضور كثيف لل�رشطة يف املكان ن�صب اجلمهورية �إىل حالته العقيمة ال�سابقة. تتبدد، تفرقت حركة املقاومة ومل َّ طوال العقود املا�ضية ،وقد بلغ ذروته مع الإعالن ال�ضمني بجميع الأحوالّ ، لتطبيق الأحكام العرفية ملنا�سبة تظاهرة الأول من �أيار /بدليل � ّأن حدائق عامة حملية على امتداد �إ�سطنبول مايو للعام اجلاري 7وما تاله من حظر لتظاهرات جميع توا�صل ا�ست�ضافة جمعيات عمومية ليلية ،و�أ�صبحت طرقات و�سط املدينة حمطة لتظاهرات ون�شاطات خلاّ قة الأحزاب ال�سيا�سية يف ال�ساحة وحميطها. يف العديد من جت�سيداتها ،جرت فانتازيا ا�ستعادة مرات عدة يف الأ�سبوع .مع �أنه ال يزال من املبكر جد ًا «�ساحة تق�سيم» بقيادة خميالت �سيا�سية �أغرتها �أي�ض ًا تقومي االنت�صارات ال�سيا�سية امللمو�سة ملقاومة الغازي؛ فكرة الأن�صاب ال�ضخمة� .أحد �أ�شكال ترجمة ذلك خالل فقد �أُطلق العنان لدينامية خا�صة يف املجال العام احتالل ال�ساحة يف حزيران/يونيو املا�ضي ،عبرّ عنها تعد بتحويله �إىل الأبد .ميكن تعريف ذلك ب�أنه املعادل الإ�رصار ال�شديد للأحزاب الي�سارية التقليدية على �إبقاء «ال�سيا�سي» ملا ح�صل عملي ًا يف املنطقة اخلالية من �أعالمهم يف ال�ساحة ،على الرغم من الطلبات العديدة �أي ح�ضور ر�سمي خالل الأيام الع�رشة تلك :تخريب ٍ أن�صاب م�ضا ّدة. بـ«�إنزال الأعالم لنتمكن من ر�ؤية وجوه بع�ضنا البع�ض» .الن�صب التاريخية ،والبناء املتوا�صل ل روحية حركة االحتالل كان حتديد ًا حركة نعم ،ميكن بناء املتاري�س وتدمريها و�إع���ادة بنائها حدد لكن ما ّ ّ �أبعد من ال�سيا�سة التقليدية .ومثلما ورد يف العديد من وتدمريها جمدداً .لكن ما ال ميكن تفادي فعله هو �إلغاء احليز ال�سيا�سي نف�سه. املقاالت حول مقاومة «حديقة الغازي»ّ ، حتولت املنطقة حتطيم الأ�صنام يف ّ بدايات
العدد 2013 |6
ثورة جيل ضد التعقيم اإليديولوجي إجيه تملكوران صحافية وروائية وناشطة تركية.
«هذه لي�ست بالدنا� ،إ ّنها تخ�ص من يريدون قتلنا» .هذا ما قالته تزار �أوزلو�« ،أمرية الأدب الرتكي احلزينة» .ماتت م�صح للأمرا�ض النف�سية يف �أملانيا ،بعد �ست �أوزلو يف ّ �سنوات على االنقالب الع�سكري عام .1980يف الأ�شهر املا�ضية ،كان ال�شباب يتذكرون كلمات �أوزلو ويغردونها على موقع تويرت بعد كل اعتداء من قبل ال�رشطة على �ساحة تق�سيم .ويف كل مرة ،ت�شجع هذه اجلملة الدعوات �إىل املقاومة للحفاظ على املعنويات العالية .لكن حني اجتاح الطرقات ع�رشات ال�شبان يف لبا�س مدين م�سلحني بال�سكاكني والع�صي ،وطاردوا املتظاهرين ال�سلميني يف �شوارع املدينة ،بدت كلمات �أوزلو وك�أ ّنها تتحقق على ال بالدنا؟ �أم هي تخ�ص من يريدون الأر�ض .هل هذه فع ً قتلنا؟ يف ما ي�أتي الق�صة باخت�صار ،كي تقرروا �أنتم.
له ،هما ح�سني اينان ويو�سف �أ�صالن ،كتب ال�شاب ر�سالة �إىل والده�« :أريد �أن �أُدفن �إىل جانب تايالن �أوزغور»، قال .وتايالن هو طالب ي�ساري قتلته ال�رشطة قبل ثالث �سنوات من ذلك التاريخ خالل تظاهرة �سلمية .حلق دنيز بتايالن ،كما حلق تايالن مبن �سبقه .ومنذ ذلك الوقت، وحتى قبله ،ا�ستمرت الأمهات بت�سمية �أبنائهن تيمن ًا بالثوار ،يف اعرتا�ض �صامت على الدولة الظاملة .لهذا، � ّإن �أ�سماء ال�شبان يف �ساحة تق�سيم هي ا�ستمرار لتقليد أعداء للدولة»، قدمي .اعترب كل ه�ؤالء الثوار يف �أيامهم «� ً مثل ثوار �ساحة تق�سيم .ورغم � ّأن تاريخ «الدولة الظاملة» يبد�أ قبل ،1971ف�إ ّنه بالن�سبة �إىل العديد من النا�س يف تق�سيم ويف مدن �أخرى ت�شارك يف االنتفا�ضة ،كان وجه دنيز الطفويل رمز ًا لكل الأبرياء الذين قتلوا عرب التاريخ .كذلك ،يذكرنا وجهه ب� ّأن الكثري من الذكريات مل تمُ َح كما كان خمطط ًا لها.
�أ�سما�ؤنا «باري�ش ،دنيز� ،أوزغ��ور ...هل كل �شاب موجود يف �ساحة تق�سيم يحمل اال�سم نف�سه؟»� ،س�ألت �شابة على جيل مع ّقم تويرت ،حني كانت الأو�ضاع هادئة .الأ�سماء الثالثة هذه «�سنقوم بخلق جيل م��ن دون �إي��دي��ول��وج��ي��ا!» .يف وح ّر( ...نعم نحن ن�شبه �شعب �أمريكا الثمانينيات� ،أعلن اجلرنال كينان �إيفرين ،زعيم النظام تعني �سالم ،بحر ُ الأ�صلي� ،أ�سما�ؤنا كلها لها معنى!) ،لكن ال يكفي �أن الع�سكري� ،أ ّنه �سيقوم بـ«تعقيم» اجليل اجلديد .يف تلك نفهم الكلمات .علينا �أن نعود �إىل عام ،1971لنفهم اللحظة� ،أ�صبح التعليم الديني �إجباري ًا يف املدار�س، وانتهت حرية التعبري .رغم � ّأن ال�صحف مل ت�صدر ملدة الق�صة امل�ؤملة وراء هذه الأ�سماء. من بني الالفتات العمالقة املعلقة على مركز �أتاتورك 300يوم ،ف �� ّإن جت��اوزات االنقالب الع�سكري لعام الثقايف يف �ساحة تق�سيم ،كانت هناك �صورة ل�شاب 1980معروفة اليوم �أكرث من تلك اخلا�صة بانقالب ال ب�أ�رسه من املثقفني والي�ساريني. تعرفه تركيا كلها ،لكن للأ�سف ال تعرفه � ٌّأي من و�سائل ،1971التي �أزالت جي ً الإعالم العاملية التي تبحث عن �إ�شارت «ربيع عفوي» يف �أعقاب انقالب ُ ،1980عذب مليون �شخ�ص على يف تركيا .تعود ال�صورة لدنيز غزمي�س ،ال��ذي كان الأقل ،لأكرث من ت�سعني يوماً .حكمت املحكمة الع�سكرية يف اخلام�سة والع�رشين من العمر حني �أعدمه النظام على � 517شخ�ص ًا بالإعدام ،و ُنفِّ ذ احلكم بخم�سني منهم. الع�سكري يف .1972قبل �أن ُيعدم دنيز مع �صديقني اتهم � 98404أ�شخا�ص بالإرهاب ،وطرد � 30ألف ًا من 138
بدايات
العدد 2013 |6
139
وظائفهم ،و�سحبت اجلن�سية الرتكية من � 14ألف �شخ�ص، وحتول � 30ألف ًا �إىل الجئني �سيا�سيني .الالئحة تطول ،مع ّ �أعداد كبرية من النا�س الذين ماتوا يف ظروف م�شبوهة .مل يعرف عدد املختفني حتى اليوم .كان ذلك من �أكرث الأوقات ظالم ًا يف التاريخ الرتكي� .أما اجلرنال �إيفرين ،فهو اليوم متقاعد ،ومي�ضي وقته يف الر�سم و�إعطاء املقابالت التي تتحدث عن خط�أ ر�سم العراة. اجليل الذي خلقه �إيفرين هو اليوم فوق الثالثني من العمر .وفق جامعة بيلغي التي ا�ستفتت 3000متظاهر، ي�شكل هذا اجليل ربع املتظاهرين .الثالثون يف املئة الآخ��رون ولدوا خالل الت�سعينيات .نعم ،يحمل ه�ؤالء �أ�سماء مثل باري�ش� ،أوموت ،و�أوزغور ...وهي تعني �سالم، �أملُ ،ح ّر ...نعم نحن مثل �سكان �أمريكا الأ�صليني ،نعطي أ�سماء تعطي الأمل بامل�ستقبل. �أوالدنا � ً
«ال ت�أخذوا ابنتي ،هي �صغرية جداً»� ،رصخت والدة فتاة يف الرابعة ع�رشة من العمر وهي ترك�ض خلف ال�سيارة التي حملت ابنتها اىل ال�سجن .كانت الفتاة واحدة من «�أوالد ماني�سا» .كانوا �ستة ع�رش مراهق ًا ومراهقة ،بني الرابعة ع�رشة وال�ساد�سة ع�رشة من العمرُ ،عذِّ بوا لأيام وحكم عليهم بال�سجن ل�شهور و�سنوات يف .1995 ُ عولج �أغلبيتهم من االكتئاب لع�رش �سنوات ،وبعد 16 �سنة اعرتف وزير الداخلية مبا مروا به .كل ما فعلوه كان كتابة «تعليم حر!» على عربة قطار .اختريوا لي�شكلوا ال للآخرين ،وهذا ما ح�صل .كانت الت�سعينيات مثا ً مظلمة كال�سنوات التي تلت انقالب 1980بالن�سبة �إىل كل من �آمن بالفكر احلر والدميقراطية .لكن املجزرة ميزت هذا العقد كانت يف �سيفا�س يف احلقيقية التي ّ .1993احرتق � 37شخ�ص ًا حتى املوت يف فندق
العداد الدموي للت�سعينيات ّ «�إذاً ،هذه هي و�سائل الإعالم التي كانت تف�سرّ الق�ضية الكردية للنا�س كل هذه ال�سنوات!» .كانت تلك �أكرث التغريدات �شهرة يف �ساحة تق�سيم بعدما ف�شلت و�سائل �إعالمنا يف تغطية عنف ال�رشطة الذي ا�ستمر ال �أ�سبوعني .وكان ر ّد الأكراد للمتظاهرين الأتراك�« :أه ً بكم �إىل حياتنا اليومية». بلغت احل���رب غ�ير املعلنة �ضد ح��زب العمال الكرد�ستاين ومنا�رصيه م��ن املثقفني ذروت��ه��ا يف الت�سعينيات .نحن �أوال َد الت�سعينيات اعتدنا �أن نرى جثث «الإرهابيني» الذين كان ُيق�ضى عليهم يف «كهوف»، قب�ض عليهم «ميتني» .كانت ن�رشات الأخبار تبث �أو ُي َ هذه ال�صور يف وقت ال��ذروة ،لذا فقد اعتدنا �أن نرى اجلثث امل�شوهة ونحن ن�أكل� .شكلت حاالت االختفاء جزء ًا من احلياة اليومية ،وكان ال�شعار ال يزال «التنظيف الإيديولوجي» .لهذا ال�سبب ،كان معظم الأتراك الذين ولدوا بعد الثمانينيات يرون � ّأن الكلمات «تنظيم� ،أكراد، �إيديولوجية� ،سيا�سة» ،هي كلمات خطرة وغري �رشعية. كان من املتوقع �إلقاء «القب�ض عليك ميتاً» �إذا كنت «�إرهابياً» .تنوعت �أعمال العنف من االختفاء �إىل �إجبار الفالحني الأكراد على �أكل بذارهم ،ومل يقت�رص ذلك على الق�سم الكردي من تركيا .لقد تعر�ض غرب البالد �إىل القمع �أي�ضاً .ورغم وجود الئحة طويلة بانتهاكات ال واحد ًا قد يكون لكن مثا ً حقوق الإن�سان لهذا العقدّ ، �أكرث من ٍ كاف لإعطاء فكرة عن حجم ال�رش.
ت�سمي الأمهات �أبناءهن تيمنـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ًا بالثوار ،يف اعرتا�ض �صـــــــــــــــــــــــــــــــــــــامت على الدولة الظاملـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة. لهذا� ،إنّ �أ�سماء ال�شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبان يف �ساحة تق�سيم هي ا�ســــــــــــــــــــــــــــــــــتمرار لتقليد قدمي .اعترب كل ه�ؤالء الثوار يف �أيـــــــــــــامهم «�أعدا ًء للدولة» ،مثل ثوار �ساحة تق�ســـــــــــــــــــــيم
بدايات
العدد 2013 |6
خالل احتفال مبهرجان علوي .حرق حمافظون �إ�سالميون مثقفني وطالب ًا وك ّتاباً .ال �أزال �أذكر والدة فتاتني ممن قتلوا حينها وهي حتاول �شم رائحتهما يف �رسيرهما وتبحث عنها ل�سنوات .كانت تلك �أول مقابلة �صحافية يل حني �أ�صبحت ،يف عمر الع�رشين. االحتفال بالألفية! ثم �أتت الألفية اجلديدة ،التي احتفل بها يف تركيا عرب «عملية العودة �إىل احلياة» .كان هذا اال�سم الذي �أُطلق على عمليات كبرية ح�صلت يف � 20سجن ًا �أدت �إىل اح�تراق � 30سجين ًا وهم على قيد احلياة �أو موتهم اختناقاً .كانت ال�رشطة تغني «احلياة حلوة» للم�ساجني ال��ـ 357الذين كانوا ي�أكلون وجبتهم الأخ�يرة قبل الإع��دام ،وال��ـ 1656الذين كانوا يف �إ��ضراب عن الطعام لأكرث من 90يوماً .ورغم � ّأن و�سائل الإعالم التقليدية كانت �صامتة حيال انتهاكات حقوق الإن�سان اجلارية ،كان ممنوع ًا عليها �أي�ض ًا ذكر العملية بعد املجزرة.
كان الكالم على احلادثة غري قانوين� .أُغلق 18مركز ًا ثقافياً ،وم�ؤ�س�سة ،وحزب اعرت�ضوا على العملية. يف � ،2001أتى حزب العدالة والتنمية �إىل احلكم، وكف يد وكان حديثه كله يتمحور حول الدميقراطية، ّ اجلي�ش عن ال�سيا�سة واحلقوق املدنية .كان كالفينيو تركيا �سموا �أنف�سهم ينه�ضون من و�سط �أنطاليا املحافظة، كما ّ وي�صفون �أنف�سهم بـ«املحافظني الدميقراطيني» .انتظر رئي�س الوزراء رجب طيب �أردوغان �سبع �سنوات ليقول ب�رصاحة � ّإن «الدميقراطية لي�ست هدف ًا لنا بل و�سيلة». يف هذا الوقت ،اغتيل ال�صحايف الأرمني هرانت دينك يف و�ضح النهار يف �إ�سطنبول و�أعطت احلكومة ترقية للم�س�ؤولني عن �إخفاء الأدلة على االغتيال. فج�أة ،تغريت �سيا�سة احل��زب التي كان �شعارها «االنفتاح على اجلميع» .ر ّد احلزب على الآالف الذين �رصخوا «كلنا �أرم��ن» اعرتا�ض ًا على االغتيال ،ب�شعار الربوباغندا «علم واحد� ،أمة واحدة» ،يف الفرتة املمهدة لالنتخابات حينها .قال رئي�س الوزراء يف خطاب الن�رص ي�صوتوا وهو يبد�أ فرتته الثانية يف احلكم � ّإن «الذين مل ّ حلزب العدالة واحلرية هم الألوان الأخرى يف البالد» .كان املعنى وا�ضحاً� :سيتم «حتمل» كل «الآخرين» بو�صفهم «اللون الآخر» يف «علم واحد».
العاملية ب� ّأن منتقدي احلكومة كانوا يتعر�ضون خلطاب حتري�ضي من قبل رئي�س الوزراء. هناك ق�صة ،من بني ق�ص�ص عدة ،مل يج ِر احلديث عنها يف حينها ،وقد يكون اليوم الوقت منا�سب ًا لذكرها لتو�ضيح ال�سبب وراء انتفا�ضة النا�س .الأطفال يف هذه الق�صة يطلق عليهم ا�سم «رماة احلجارة» .كان ذلك يف عام ،2006يف دياربكر يف الق�سم الكردي من تركيا. خالل ت�شييع �أحد مقاتلي حزب العمال الكرد�ستاين ،بد�أ الأطفال ب�إلقاء احلجارة على ال�رشطة .ومبا � ّأن املنطقة هي من �أ�شد املناطق الأمنية يف البالد ب�سبب �سنوات من القمع ،زاد عدد الأطفال ب�رسعة .من �أ�شهر ما قاله رئي�س الوزراء ،كان يف اليوم التايل للحادثة« :ال يهم �إذا كانوا ن�ساء ،فيجب �أن نفعل ما يلزم». �أوالد ًا �أو ً ُعذِّ ب مئات الأطفال يف الأيام التالية� .أتذكر مقابلة طفل يف ال�ساد�سة انك�رست يده .مبا �أ ّنهم كانوا �أ�صغر من �أن ُيعتقَلوا� ،ضرُ ب ال�صغار يف �سيارات ال�رشطة ،و�أُعيد رميهم يف ال�شارع .بعد عدة �أ�شهر ،غيرّ حزب العدالة والتنمية قانون مكافحة الإرهاب الفظيع �أ�صالً ،مبا ي�سمح باحلكم على الأوالد الذين يبلغون ال�ساد�سة ع�رشة من متر به البالد العمر بو�صفهم �إرهابيني بالغني .كان هذا ما ّ حني و�صفت جملة «تامي» ال�سيد �أردوغ��ان ب�أ ّنه «قائد عاملي» ،وحني كانت العديد من و�سائل الإعالم حتتفل برتكيا بو�صفها «منارة ال�رشق الأو�سط» �أو متثل «الزواج املثايل بني الإ�سالم والدميقراطية».
�ضحايا النموذج الرتكي كانت وظيفة املعار�ضني داخل البالد وخارجها �صعبة للغاية .لقد ُ�ص ِّنف منتقدو احلكومة على �أنهم «�أعداء الدميقراطية» يف اخلطاب ال�سيا�سي املهيمن ،مبا � ّأن حزب العدالة والتنمية كان ُي َع ّد جت�سيد ًا للدميقراطية .بعد فرتة، �أ�صبحوا �إرهابيني .لقد ورث حزب العدالة والتنمية �سيا�سات نظام الثمانينيات الع�سكري ،وا�ستخدمها ب�شكل عنيف ،حتى �أ ّنه يف فرتته الثالثة يف احلكم ،وجد ا�ستفتاء �أجرته وكالة «�أ�سو�شييتد بر�س» � ّأن ثلث �إرهابيي العامل يعي�شون يف تركياُ .بنيت �سجون �ضخمة جديدة، واخترُ عت منظمات �إرهابية �رسية مللئها بهم� .أ�صبحت اعتقاال لل�صحافيني. تركيا �أخري ًا على الئحة الدولة الأكرث ً لذلك على و�سائل الإعالم العاملية التي فاجئتها اليوم االنتفا�ضة �أن تبحث جيد ًا يف �أر�شيفها لرتى �أين خدعها �سحرة حزب العدالة والتنمية� .أذكر بع�ضهم يف جامعة �أوك�سفورد وهم يرفعون ك�أ�س النبيذ ليربهنوا للغرب �أنهم مت�ساحمون و� ّأن كل منتقديهم هم متمردون مناه�ضون للدميقراطية .يف تلك الأيام ،كان �صعب ًا �إقناع ال�صحافة 140
بدايات
العدد 2013 |6
الغ�ضب امل�رشوع من هم ه�ؤالء اال�شخا�ص؟! «كان النا�س ي�س�ألون على تويرت ،وهم يت�شاركون �صور البلطجية الذين يحملون ال�سكاكني والع�صي .كان ه��ؤالء املجرمون ي�رصخون «الله �أكرب» وهم يطاردون النا�س يف �شوارع �إ�سطنبول و�أنقرة ال�ضيقة ،وغريها من املدن ،بعد اعتداءات ال�رشطة بالغازات امل�سيلة للدموع .بعد خطابات رئي�س الوزراء امل�ستفزة �أمام منا�رصيه ،اندفع «ال�شباب» ليقوموا بعمله القذر .ه�ؤالء ال�شباب الذين قبل عام من الآن دعاهم رئي�س ال��وزراء كي «يتم�سكوا بغ�ضبهم ودينهم» هم حرفي ًا على �أعتاب بيوت املتظاهرين يف «�شيهانكري» يف �إ�سطنبول ويدعون النا�س �إىل اخلروج من بيوتهم .يف اليوم نف�سه الذي طلب فيه رئي�س الوزراء من جمهوره �أن «يحرتم الإرادة ال�شعبية» ويظهر �صورة «تركيا احلقيقية» ف�سيعاقَب!». للعامل ،قال اي�ضاً« :من يقاوم ُ 141
بدايات
العدد 2013 |6
خالل االحتفال ،منحت املحطة الوطنية الكالم ل�سيدة يف منت�صف العمر كانت غا�ضبة جد ًا من «امل�ؤامرة الدولية على رئي�س الوزراء» .قالت له�« :أُريد �أن �أكون �شعرة يف م�ؤخرتك!» .يف هذا الوقت كان بع�ض �شباب احلرية والعدالة يت�شاركون �شعار ًا �آخر« :نريد �أن نكون اخلراف �إذا كنت �أنت الراعي» .كان مكان االحتفال مليئ ًا ب�صور عمالقة لل�سيد �أردوغان ،وكتبت �إحدى الفتيات �شعار ًا على يدها يقول« :ال �أريد زوج ًا �سكري ًا و�سارقاً، �أريد زوج ًا م�ؤمناً!». يف الوقت الذي بثت فيه 12حمطة حملية املهرجان مبا�رشة ،كانت ال�رشطة ترمي قنابل الغاز على امل�ست�شفيات والفنادق التي جل�أ �إليها املتظاهرون يف و�سط �إ�سطنبول. نر هذه ال�صور �إال على فاي�سبوك وتويرت للأ�سف ،فيما مل َ مت�س .كان كان رئي�س الوزراء يحتفل ب�سلطته التي مل ّ و�سط �إ�سطنبول ي�شبه يوم القيامة ،والنا�س مذهولة وهي ترى الغ�ضب على وجوه ال�شباب يف الثياب املدنية وهم يطاردون املتظاهرين يف ال�شوارع اخللفية� .س�ألوا بع�ضهم على تويرت« :هل كنا نعي�ش جنب ًا �إىل جنب مع ه�ؤالء الأ�شخا�ص؟ ماذا �سيح�صل بعد انتهاء ذلك؟ هل �سنتمكن من �أن نعي�ش مع ًا مرة �أخرى؟». كان النا�س يت�شاركون نتائج ت�رشيح جثة ايثم �ساري�سولوك ،وهو �أول متظاهر ُيقتل .كانت هناك ر�صا�صة يف دماغه .كان ال�شباب� ،أي اجليل الذي ُي َع ّد «معقم ًا �إيديولوجياً» يرى احلقيقة .كان �شباب حزب العدالة والتنمية املنظم على مواقع التوا�صل االجتماعي يبث معلومات خاطئة وتهديدات .مل يكن املتظاهرون ال�شباب يعرفون املا�ضي الدموي للدولة الظاملة؛ �إذ ب�سبب الذاكرة عمن �سبقهم. املفقودة للبالد ،مل يكن لديهم �أي معلومات ّ ومن جديد كانت اجلملة ال�شهرية مكتوبة حتت �صورة لأيثم« :هذه لي�ست بالدنا� ،إ ّنها تخ�ص من يريدون قتلنا». لكن هل هذا �صحيح؟ �سرنى ذلك يف الأيام القادمةْ . هناك �أمر واحد �أكيد ،هذه لي�ست «حرب ثقافات» �أو �صدام بني «علمانيني وغري علمانيني» .كذلك هي لي�ست انتفا�ضة «من العدم» كما ي�صفها العديد من و�سائل الإعالم العاملية .هي حرب بني من يريدون من تركيا �أن تكون �سنية ،تركية ،حمافظة ،ومطيعة ،و�آخرين يقولون فقط «م�ستحيل!» ،كما فعل العديدون قبلهم ،يف تاريخ هذه الدولة التي ال ترحم .الفرق هذه املرة �أ ّنهم �أكرث عددا ً من �أي وقت م�ضى .وعندما �أقول �أكرث من �أي وقت م�ضى، �أعني «�أكرث من �أي وقت م�ضى».
هذه النتائج والإح�صاءات االنتخابية قد تكون ال م�ؤ�رش ًا على دور كبري قد ي�ؤديه احلزب ،بو�صفه ممث ً لل�شيوعيني والي�سار الراديكايل يف م�ستقبل اليونان، وخ�صو�ص ًا � ّأن ت�سيربا�س وحزبه �أ�صبحا اليوم يتزعمان املعار�ضة ر�سمياً؛ فالأزمات املالية املتالحقة وال�سيا�سات النيوليربالية التي تريد الرتويكا الأوروبية فر�ضها على �أثينا و�إجبارها على تطبيقها ،قد تدفع املزيد من الناخبني �إىل ح�ضن «�سرييزا» ومنذ بداياته ،بدا � ّأن التكتل يعبرّ عن رغبة جزء كبري من املجتمع اليوناين يف ن�ضال م�شرتك للي�سار .وفيما مييل اجلزء الأكرب من منظمات التكتل �إىل ال�شيوعية الأوروبية ،متيل بع�ض �أحزابه �إىل ال�شيوعية اليونانية ومتيز التكتل منذ بداياته وتيار املقاومة الوطنية. ّ برتكيزه على ق�ضايا الدميقراطية ،واحلقوق املدنية، وكان القوة ال�سيا�سية الوحيدة التي �ساندت التحركات االجتماعية ،لدرجة اتهامه بالرتويج للفو�ضى .كان ذلك يف ال�سنوات الثالث الأخرية ،وكذلك يف انتفا�ضة ال�شباب يف .2008 بعد م�ؤمتر � ،2013أ�صبح «�سرييزا» حزب ًا موحداً، وهو يف طور بناء بنية موحدة .ذلك �أن الهدف الأبرز الذي و�ضعه «�سرييزا» ن�صب عينيه هو «قلب ميزان
حتالف سرييزا الياسري
ظاهرة سياسية واعدة يف اليونان تينا سرتيكو جامعية ومناضلة يف حتالف سرييزا.
142
قد يكون تكتل «�سرييزا» الي�ساري اليوناين املجموعة ال�سيا�سية الأب��رز اليوم على ال�ساحة ،يف هذا البلد املثقل بالديون وامل�شاكل .ر�أى «�سرييزا» ال�ضوء يف ،2004كجبهة ل�ل�أح��زاب واملنظمات الي�سارية، وبحلول انتخابات 2012الت�رشيعية كان قد �أ�صبح ي�ضم 12منظمة .هو ي�ضم يف �صفوفه نا�شطني مل يعودوا يتماهون مع الي�سار التقليدي .و«�سرييزا» هو مر االئتالف اخت�صار لـ«تعاون الي�سار الراديكايل»ّ . عدة بعد االنتخابات الت�رشيعية يف ،2004 ب�أزمات ّ وعانى ب�ضعة ان�شقاقات .مل يكن �أحد يتوقع بعد ذلك �أن يكون مفاج�أة انتخابات 2007حني نال 5.04 يف املئة من الأ���ص��وات .ويف �أول انتخابات داخل االئتالف بعد ذلك ،انتخب اليك�سي�س ت�سيربا�س الذي كان م�ست�شار ًا يف بلدية �أثينا ،رئي�ساً .رمبا كان ذلك نقطة التغيري الكبرية؛ �إذ ا�ستطاع ت�سيربا�س �أن يبني �شعبية كبرية له بني الناخبني؛ لأنه مل يكن نائب ًا حتى يف ذلك الوقت ،ما جعله نظيف ًا بنظر النا�س ،يف زمن الف�ضائح املالية املتكررة .هكذا ا�ستطاع �أن ي�صل ب�سهولة �إىل الربملان يف انتخابات 2009املبكرة ،رغم تراجع ح�صة االئتالف �إىل 4.7يف املئة من الأ�صوات على امل�ستوى الوطني�« .سرييزا» �أ�صبح اليوم حزباً� ،أكرث من ال �شيوعي ًا خمتلفاً، كونه ائتالف �أحزاب ي�ضم 13ف�صي ً وتقدم �إىل انتخابات �أيار وحزيران 2012وفق هذا التو�صيف (على �أمل احل�صول على «منحة» اخلم�سني نائب ًا �إ�ضافي ًا التي مينحها القانون للرابح الأول يف االنتخابات �إن ح�صل على ثلث الأ���ص��وات) .وهو يعبرّ عن هذه الأحزاب التي يت�ألف منها ،وت�شمل �أطياف الي�سار كلها: من اخل�رض و�أن�صار البيئة� ،إىل املاويني ،والرتوت�سكيني، والي�سار الأوروبي ،والي�سار الراديكايل ،ويتكلم با�سم بدايات
العدد 2013 |6
�أطياف الي�سار كلها .وت�شري الأرقام بو�ضوح �إىل التقدم الكبري الذي حققه «�سرييزا» بني 16.78يف املئة يف انتخابات �أيار ،2012و 26.89يف املئة يف حزيران ،2012حمقق ًا املركز الثاين يف املرتني ،ومتفوق ًا على اال�شرتاكيني ،واحلزب ال�شيوعي الر�سمي الذي يتخذ موقف ًا عدائي ًا من ت�سيربا�س وحزبه؛ �إذ رف�ضت الأمينة العامة للحزب اليكا باباريغا حتى اللقاء بت�سيربا�س حني كلفه الرئي�س اليوناين كارولو�س بابوليا�س مبحاولة ت�شكيل احلكومة يف ايار ،2012وفكر بجمع الي�سار كله يف حكومة تناه�ض امل�ساعدات الأوروبية. �إزاحة احلزب ال�شيوعي عن عر�شه يتفوق على احلزب ال�شيوعي ا�ستطاع «�سرييزا» �أن ّ اليوناين يف معركة احل�صول على �أ�صوات الي�سار (وغ�ير الي�سار ،وخ�صو�ص ًا بني ال�شباب واملرتددين واملت�رضرين من الأزمة ومن حزم الإنقاذ والتق�شف) ب�سبب قيادته ال�شابة وعدم انح�صار نظرته بالداخل اليوناين فقط ،وذلك رغم � ّأن االثنني يعار�ضان حزمة التق�شف وال�سيا�سات املفرو�ضة �أوروبياً .وفيما يحافظ احلزب ال�شيوعي على قاعدته االنتخابية ن�سبياً ،يخرتق «�سرييزا» �صفوف جمموعات �سكانية و�شعبية جديدة يف كل ا�ستحقاق انتخابي .وناخبو «�سرييزا» هم من ال�شباب ب�أغلبهم ،وهذا كان وا�ضح ًا يف انتخابات 17 حزيران 2012؛ �إذ �أظهرت الأرقام � ّأن ن�سبة املقرتعني للأحزاب التي ت�ؤيد خطة الإنقاذ الأوروبية كانت م�ؤلفة ال�سن ،واملتقاعدين، ب�شكل �ساحق من الكبار يف ّ و�أ�صحاب الأعمال ،الذين ي�أملون �أن ت�أتي حكومة �صوتت �أغلبية تنفّذ الإمالءات الأوروبية وتنقذهم ،فيما ّ �شبابية لـ«�سرييزا».
القاعدة االجتماعية ل�سرييزا ا�ستطاع التكتل الي�ساري يف انتخابات � 2012أن ينال �أعلى ن�سبة �أ�صوات يف منطقة كوكينيا الفقرية التي كانت لعقود معقل احلزب ال�شيوعي اليوناين .لقد �أدى �إغالق م�صانع بناء ال�سفن يف هذه املنطقة �إىل على ن�سبة بطالة .وخالل خطاب �ألقاه قائد التكتل الك�سي�س ت�سيربا�س يف املنطقة يف حزيران ،2013كان احل�شد هائالً .لكن الق�سم الأكرب من القاعدة ال�شعبية للتكتل هو ال�شباب املتعلم (ويف بع�ض املدن ت�صل ن�سبة الت�أييد بني الفئة العمرية � 40 – 18إىل 95يف املئة) ،وهي الطبقة الو�سطى ال�شابة التي ال ترى �أي م�ستقبل لها يف ظل الأو�ضاع ال�سائدة .لكن رغم هذا الت�أييد ،ف�إن هاتني الطبقتني� ،أي الفقراء والطبقة الو�سطى ال�شابة ،ترتددان يف االنخراط يف �صفوف التكتل والعمل يف جلانه املحلية .الفاعلون داخل التكتل كان �أغلبهم نا�شطني �سابقني يف �أحزاب �أخرى ويف الفئة العمرية بني �أربعني و�ستني عاماً .ال�شباب الذين انتف�ضوا و�أ�صبح لديهم وعي �سيا�سي متقدم ،يرون �أن �سرييزا هو الأمل ،لكنهم ال ينت�سبون �إليه .ي�شكل ذلك حتدي ًا ملقاربة �سرييزا الذي ال يزال دون التوقعات .وال ميكن القدرة اخلطابية الهائلة التي يتمتع بها قائد التكتل وفاعليته �أن تغطي على
يتفوق على احلزب ال�شــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيوعي ا�ستطاع «�سرييزا» �أن ّ اليوناين يف معركة احل�صول على �أ�صوات الي�سار ب�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبب قيادته ال�شابة وعدم انح�صار نظرته بالداخل اليونــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاين فقط، وذلك رغم � ّأن االثنني يعار�ضان حزمة التق�شف وال�سيا�سات املفرو�ضة �أوروبيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ًا القوى النيوليربالية وت�شكيل حكومة تعاون ي�ساري وحتالف اجتماعي وا�سع ،وعودة الدميقراطية ،وم�ساعدة النا�س الذين ت�أثروا بالأزمة والإج��راءات القا�سية، وو�ضع خطة �إعادة بناء» .و�إعادة البناء هي ملا �أطاحته الإجراءات التي فر�ضها �صندوق النقد الدويل والبنك املركزي الأوروب��ي مب�ساعدة احلكومات اليونانية .وقد �أدت هذه الإج��راءات �إىل تدمري االقت�صاد والنا�س، وهي ت�ضمنت �إغالق امل�ست�شفيات العامة واملدار�س، وفر�ض �رضائب جديدة ،وخف�ض املعا�شات التقاعدية، و�رصف موظفني من القطاع العام وبيع م�ؤ�س�سات الدولة. يف الوقت نف�سه ،مت حتقيق ذلك بطرق غري دميقراطية، لي�س من خالل قمع النا�س فقط ،ولكن �أي�ض ًا من خالل تخطي الربملان يف تنفيذ هذه الإجراءات. 143
بدايات
العدد 2013 |6
هذا النق�ص .كذلك �إن االبتعاد عن االحتادات العمالية ال ي�ساعد ،حتى لو كانت الثقة ببع�ض هذه االحتادات منعدمة داخل الأحزاب ،ومن �ضمنها �سرييزا. يف �أيام الإفقار ال�رسيع لليونانيني ،ي�ؤدي �أع�ضاء �سرييزا دور ًا مهم ًا يف �شبكات التعا�ضد واحلفاظ على ا�ستقاللية هذه ال�شبكات يف الوقت نف�سه .وهذه ال�شبكات هي بنى ت�شاركية ت�ساعد ب�شكل �أ�سا�سي يف توفري الطعام والدواء لعدد متزايد من املحرومني .و�إىل جانب هذه ال�شبكات ،هناك العديد من املبادرات مثل «من دون و�سطاء» التي تربط بني منتجي ال�سلع الزراعية وامل�ستهلكني ،وتدعم بالتايل الطرفني .وثمة حركات �أخرى تعيد و�صل الكهرباء بعد �أن تقطعها ال�رشكة لعدم دفع العائالت الفقرية الفاتورة .هنا يجب الت�شديد على املوقف
من حزب «الفجر الذهبي» الذي يعبرّ عن �أيديولوجية النازية اجلديدة .ففيما يحاول �سرييزا الإ�شارة �إىل دور احلزب النازي يف م�ساندة النظام القائم و�إعادة �إنتاجه� ،إال �أنه ال يحاول تركيز جهوده على معاداته ،لكنه ي�شدد على �أنه ال ميكن هزمية احلزب �إال من خالل اخلروج من الأزمة. العامل اجليو�سيا�سي� ،إ�ضعاف اليونان ،دقة التطورات يف املنطقة ،كلها عوامل ال يجري التطرق �إليها كثري ًا مهم ،ا�ست�ضاف التكتل يف التكتل .لكن رمبا يف موقف ّ زعيم «اجلبهة ال�شعبية لتحقيق �أهداف الثورة يف تون�س» حمة الهمامي يف متوز املا�ضي ،يف مهرجان املقاومة يف ّ �أثينا الذي حتدث خالله ت�سيربا�س عن احلاجة لقيام جبهة ل�شعوب املتو�سط ،وهي فكرة تبدو يوم ًا بعد يوم �رضورية وممكنة التحقيق. ال�شباب الذين انتف�ضوا و�أ�صبــــــــــــــــــــــــــــــــح لديهم وعي �ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــيا�سي متقدم، يرون �أن �ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرييزا هو الأمل، لكنهم ال ينت�سبون �إليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه هاجم ت�سيربا�س الطبقة اليونانية احلاكمة ،والرتويكا الأوروبية التي تتحكم مب�صري اليونان .يف خطاب �ألقاه يف م�ؤمتر احلزب يف ربيع ،2013وقال � ّإن احلكومة اجلديدة التي مت ت�شكيلها بداية العام �أت��ت لتكمل الكارثة على ال�شعب .كيف ال وهي تنفّذ �أوامر من تدين لهم اليونان باملال واجنيال مريكل ،على حد تعبريه .لكنه �أ�ضاف � ّأن الوقت لي�س منا�سب ًا للبكاء على الأطالل ،بل تدمر البالد ب�أكملها .وا�ستغل للتحرك واملقاومة قبل �أن ّ املنا�سبة لتوجيه نداء للأمة جمعاء با�سم �سرييزا ،قال فيه � ّإن الوقت حان لتحقيق الدميقراطية للتخل�ص «ممن توحد �أغلبية ال�شعب ّ يدعون حمايتنا» والت�أ�سي�س لر�ؤية ّ كي ت�صبح اليونان حرة ودميقراطية وحتافظ على �أوالدها. و�أ�ضاف« :نحن يف كفاح ال هوادة فيه �ضد اال�ستبداد، والقمع ،واالنتهاكات الد�ستورية ،ونريد حتقيق اخلال�ص و�إع��ادة بناء اليونان من دون م�صالح النيوليربالية وخططها وف�سادها وزبائنيتها ووح�شيتها». يبقى «�سرييزا» ظاهرة متناق�ضة ،لي�س ب�سبب التيارات املختلفة التي ي�ضمها حتت عباءته ،بل ب�سبب مواقفه و�إ��ص�راره على حتقيق التغيري االجتماعي، وهي مواقف متداخلة مع اخلوف من القدرة على �إدارة الدميقراطية اال�شرتاكية ،والدعوات �إىل اال�شرتاكية.
مل�صق حلزب �سرييزا لالنتخابات العامة يف :2012 «ر�سائل الن�رص من كل مكان! �سرييزا». «دميقراطية - ا�شرتاكية -حرية». 144
بدايات
العدد 2013 |6
نية
14 4
طني ثما لس الع يف ف داثة مى احل عظ صور كية ب ال ي ّ مري عد اال حلر ر ا خليل متاري دسة قية بالع حلقي يم �شل طني ب ا لس حلر 1ف ب ا �شار 5 2غيا ام ن ّ
ع�ش
احلرب العظمى يف فلسطني
يصور احلداثة العثمانية خليل رعد ّ سليم متاري مؤرخ وعالم اجتماع، جامعة بريزيت، فلسطني ،مدير
مؤسسة الدرااست الفلسطينية .آخر
مؤلفاته «عام اجلراد: مذكرات جندي
مقديس يف احلرب
العظمىى».٢٠٠٧ ،
ظهرت هذه املقالة يف �شكل �سابق يف «معر�ض مئوية خليل رعد» الذي نظمته ڤريا متاري ل�صالح م�ؤ�س�سة الدرا�سات الفل�سطينية يف رام الله وبريوت.
146
يعترب الت�صوير احلربي عند خليل رعد حمطة مف�صلية لأ�سباب عدة :فهو يلقي �ضوء ًا جديد ًا على ناحية من عمله ال نعرف عنها �إال القليل ،وتتعار�ض مع اعتباره م�صور ًا للم�شاهد الطبيعية وال�صور ال�شخ�صية يف املقام الأول� ،إ�ضافة �إىل تغري املفهوم ال�سائد ب�ش�أنه ب�أنه م�صور توراتي تبنى وا�ستبطن ال�صورة اال�ست�رشاقية للأرا�ضي املقد�سة .على �سبيل املثال ،ت�شري �أنالي�س مورز �إىل �أن «رعد ا�ستخدم معظم الأحيان يف تقدميه للفل�سطينيني العرب الدالالت التوراتية التي اختزلت حياتهم يف حلظة واحدة من الزمن» .ويف �صوره مل�شاهد احلرب والقتال، التي �س�أناق�شها هنا ،كان رعد مو�ضوعي ًا و«واقعي ًا» وكثري االنغما�س بالأجندة ال�سيا�سية للدولة العثمانية يف �سورية وفل�سطني .ولكن يف امللخ�ص ال�شامل لأعمال رعد الذي ن�رشته رونا �سيالع ،ال تتوافر �صورة واحدة عن الت�صوير احلربي .ويف م�ؤلفني �آخرين ي�ستخدمان �أعمال رعد الت�صويرية « -قبل ال�شتات» لوليد اخلالدي و«الفل�سطينيون� :صورة �أر�ض و�شعب» الليا�س �صنرب - توجد مراجع قليلة ل�صور احتجاجات جماهريية و�صور قادة ع�سكريني �أتراك مثل �أنور وجمال با�شا ،ولكن هذه ال�صور مهم�شة ب�سبب الرتكيز على رعد كم�صور م�شاهد طبيعية وفنان ا�ستوديو. من الت�صوير ال�سياحي اىل احلربي م�ساء االثنني � ٢٩آذار ،١٩١٥ا�ستدعي خليل رعد من قبل نائب قائد حامية القد�س ،نهاد بيك� ،إىل «املنزل»، �أي مفو�ضية اجلي�ش ال�سلطاين الرابع يف بناية نوتردام املنعزلة قرب باب اجلديد ،حيث نظم الأم�يراالي علي رو�شن بيك ،رئي�س املنزل ،ب�أمر من جمال با�شا جل�سة ت�صوير �سينمائية دعائية لتح�ضريات اجلي�ش العثماين يف بدايات
العدد 2013 |6
فل�سطني ،وخ�صو�ص ًا يف مناطق النبي �صموئيل والبقعة يف القد�س .1وكانت الغاية من فعالية � ٣١آذار ١٩١٥ املخ�ص�صة للتعبئة اجلماهريية لقوارب تابعة للبحرية العثمانية يف البحر امليت ،توفري م�ؤن القمح عرب الأردن �إىل �أر�ض املعركة يف بئر ال�سبع � -سيناء يف جبهة �سيناء. اختري رعد لتلك الفعالية اخلا�صة اللتقاط �صور �ساكنة -بينما ُكلف ال�سويدي الر�س الر�سون الذي كان رئي�س الق�سم الفوتوغرايف يف البعثة االمريكية يف القد�س ت�صوير �أفالم �سينمائية .التقط رعد �صورة تاريخية لقائد مفو�ضية املنزل الع�سكري وطاقمه بينما كانوا ُي َح ِّملون القارب على العوامة اخل�شبية املتحركة التي تنقل املعدات �إىل �أريحا والبحر امليت .ومنذ ذلك احلني ،بد�أ رعد رحلة طويلة من التعاون مع جمال با�شا واجلي�ش العثماين ،ذهب خاللها �إىل بئر ال�سبع وغزة والعري�ش وحافر وجبهة �سيناء وال�سوي�س. انخرط رعد يف الت�صوير الفوتوغرايف يف احليز العام �سنة ١٩١٣بعد �أن كان متخ�ص�ص ًا يف الت�صوير الداخلي (ا�ستوديو) ،وامل�شاهد التوراتية عندما تزوجت ابنة �أخته جنال جون ابن معلمه ،والحق ًا مناف�سه يف �شارع يافا ،امل�صور كرابيد كريكوريان .عقد هذا الزواج �رشاكة �أنهت مناف�سة �رش�سة ل�سنوات طويلة بني رعد وكريكوريان .ت�ضمنت ال�صفقة تق�سيم العمل ،بحيث يتخ�ص�ص ا�ستوديو كريكوريان يف الت�صوير ال�شخ�صي، يكر�س رعد عمله يف جمال ت�صوير الفعاليات العامة بينما ّ 2 و�أحداث القد�س وفل�سطني وكانت �أوىل �أعماله يف تلك الفرتة عدد ًا من اللقطات �أخذها رعد لعملية تنفيذ �أحكام �شنق نفذها اجلي�ش الرابع يف جنود متهمني بالتعاون مع الربيطانيني .التقط رعد هذه ال�صور عند باب العمود يف منت�صف عام ١٩١٥قبل الإعدامات امل�شهورة لقيادات
1هذا احلدث م�شتق من مذكرات اح�سان ح�سن الرتجمان ،الذي كان �شاهدا على الت�صوير ال�سينمائي� .أنظر �سليم متاري .عام اجلراد :احلرب العظمى وحمو املا�ضي العثماين من فل�سطني. بريوت :م�ؤ�س�سة الدرا�سات الفل�سطينية. .2008 2بدر احلاج« ,خليل رعد ،م�صور القد�س» ،جي كيو، .38-11:37 3احلاج ،جي كيو, .38 :11 4منقولة عن احلاج.
147
وجمال با�شا .3وفق ًا لبدر احلاج ،كلف جمال با�شا خليل رعد التقاط جمموعة من ال�صور لتكون مبثابة دعاية ملن�ش�آت اجلي�ش العثماين و�أن�شطته ،والتي «كان وا�ضح ًا ا�ستخدامها كدعاية للقوات العثمانية» .كما تتذكر روث رعد ،ابنة خليل� ،أن �أحمد جمال با�شا �أعطى والدها حرية كاملة بالو�صول �إىل جبهة م�رص وفل�سطني ليقوم بهذه املهمة .4وبا�ستثناء املجموعة املحفوظة يف �أر�شيف كلية �سانت �أنتوين يف �أوك�سفورد ،فقد اختفت كل املراجع املتعلقة بهذه املجموعة .ومن املحتمل جد ًا � ّأن رعد �أخفى هذه ال�صور خوف ًا من معرفة �سلطات االحتالل الربيطاين بها مما كان �سيعر�ضه التهامات التعاون مع العدو .ومن امل�ؤكد �أي�ض ًا � ّأن هذه ال�صور ال تظهر �ضمن موجودات كتالوغ رعد لعام 1933؛ �إذ �إن الربيطانيني كانوا قد عاقبوا عدد ًا من ال�شخ�صيات الفل�سطينية العامة من �ضمنها عبد القادر امل�صغر وال�شيخ �أ�سعد ال�شقريي ،مفتي اجلي�ش الرابع ،لتورطهما يف �إدارة جمال با�شا ل�سورية.
وطنية عربية يف بريوت ودم�شق .ولكن رعد ا�ستمر يف العمل يف جمال الت�صوير اخلا�ص داخ��ل اال�ستوديو طور نف�سه يف هذا املجال �أثناء خالل احلرب ،وكان قد ّ عمله مع كريكوريان .وب�إمكان امل�شاهد الت�أمل يف املزايا اال�ستثنائية لل�صور ال�شخ�صية التي نفّذها يف البورتريه ال�شهري خلليل ال�سكاكيني (رعد ،)١٩٠٦وهي �صورة التقطها رعد للكاتب كتذكار خلطيبته �سلطانة عبدو ،قبل رحلته امل�ش�ؤومة �إىل �أمريكا .نرى يف هذه ال�صورة درا�سة نف�سية مت�أملة لل�سكاكيني يف مطلع �شبابه �أ�صبحت الحق ًا �أيقونة ملجموعة ال�صعاليك الأدبية التي تزعمها. خالل احلرب� ،أ�صبح �شائع ًا بني املجندين من الطبقة زيهم الو�سطى يف بالد ال�شام �أن يلتقطوا �صور ًا لهم يف ّ الع�سكري وهم يحملون البنادق وال�سيوف ومعدات ع�سكرية �أخرى متوافرة لدى اال�ستوديو يف و�ضع متناق�ض مع اخللفية الطبيعية الرعوية (غالبا الأوروبية) .ولأ�سباب عديدة� ،شكلت الطرقات الريفية املحاطة بالأ�شجار على اجلانبني والغابات املجاورة خلفية ملعظم ال�صور .وكانت غالبية هذه ال�صور تت�ضمن و�ضعيات بطولية معيارية، والق�صد منها �أن تكون �صور ًا تذكارية للعائلة �أو اخلطيبة �أو الأ�صدقاء قبل نقل ه�ؤالء الأ�شخا�ص �إىل اجلبهة �أو مواقع ع�سكرية �أخ��رى .نرى �صور ًا عديدة �شبيهة يف �أعمال كريكوريان و�سافيدي�س و�صابوجني و�صوابيني وم�صورين �آخرين حمليني� ،أغلبهم من الأرمن .وعلى �أية حال ،وخالل احلرب ،ورمبا ب�سبب انخراطه املبا�رش يف الع�سكرية ،بد�أ رعد بالتقاط �صور للجنود يف و�ضعيات �أكرث حراك ًا وحيوية اختلفت عن �صور اجلنود التقليدية. ن�شاهد هذا التنوع يف �صور �أخوين من عائلة اخلالدي، وهما طبيبان �شابان من مدينة القد�س مت جتنيدهما يف �أوائل عام ١٩١٥بعيد تخرجهما من كلية الطب يف بريوت .التقط رعد �صورة ح�سن �شكري وح�سني فخري اخلالدي وجه ًا لوجه ينظران �إىل ما وراء الكامريا ،مع �إدراك وخوف مرتقب للأحداث التي �ستحدث لهما؛ �إذ �رسعان ما نقل ح�سن �إىل «جناق قلعة» (غاليبويل) ،حيث �أ�صيب بجروح خطرة ،بينما ا�ستطاع ح�سني البقاء قريب ًا من مدينته و�أ�صبح يف ما بعد رئي�س بلدية القد�س.
ميكن ت�صنيف �صور رعد احلربية �ضمن خم�س فئات: �صور �شخ�صية لقادة ع�سكريني عثمانيني (و�أمل��ان) التقطت يف الفرتة بني � ،1918 – 1915إ�ضافة �إىل عدد هائل من ال�صور النمطية ملجندين �إلزاميني و�ضباط جي�ش يف الفرتة ذاتها. من�ش�آت ع�سكرية وحت�ضريات معارك وم�شاهد معارك من اجلبهة العثمانية ( ،)1918-1915ومعظم هذه ال�صور التقطها رعد بتكليف من �أحمد جمال با�شا ك�صور دعائية. دخول اجلي�ش الربيطاين �إىل فل�سطني واحتالل الق�سم اجلنوبي يف كانون الأول .1917 م�شاهد من تظاهرات جرت يف الفرتة -1928 1929وث���ورة ،1939-1936تظهر منع التجوال ونقاط تفتي�ش اجلي�ش ومطاردة �سكان مدنيني وم�شاهد �شوارع من �إ�رضابات املدن .واملالحظ هنا هو الغياب الكلي للثوار �ضمن �صور رعد( .با�ستثناء ال�صورة املفرت�ضة للق�سام املن�شورة هنا). الوجود الع�سكري الربيطاين يف �أربعينيات القرن املا�ضي.
الزي الع�سكري �شباب الطبقة الو�سطى يف ّ يف بداية احل��رب ،ا�ستطاع رعد الو�صول �إىل الدوائر الر�سمية واملن�ش�آت الع�سكرية العثمانية -وتعززت هذه الإمكانية من خالل �صداقة �شخ�صية بني والده
تراوح الأعمال التي ُكلف رعد القيام بها من قبل القوات العثمانية بني �صور �شخ�صية ر�سمية للقادة الع�سكريني (علي ف�ؤاد با�شا� ،أنور� ،أحمد ف�ؤاد ،اجلرنال فالنهاين، علي رو�شن بيك) ،وملن�ش�آت ع�سكرية (مدافع م�ضادة
بدايات
العدد 2013 |6
كنعان بعد�سة كريكوريان1915- امل�صدر :كريكوريان. اجلرنال فردريك كر�س فون كر�سنثتاين.
5خليل رعد، جمموعة �ساوندرز الفوتوغرافية. �أر�شيفات �سانت �أنتوين .جامعة �أوك�سفورد. 6ملجموعة يلدز، �أنظر بال�سي كرمي.2009 . القد�س يف ال�صور التاريخية، ا�سطنبول.IRCICA : ملجموعة مكتبة الكونغر�س� ،أنظر www.loc.
gov/pictures/ item/2005676184/
ال يظهر ا�سم رعد يف املجموعة ال�سابقة وهو مذكور يف ثالث �أو اربع �صور يف جمموعة مكتبة الكونغر�س. 7جمموعة �ساوندرز. رقم ايتام 10/1/5البوم رعد يف جمموعة �سانت �أنتوتي. جامعة �أوك�سفورد. 8جمموعة �ساوندرز. رقم ايتام 7/1/5 البوم رعد يف جمموعة �سانت �أنتوتي .جامعة �أوك�سفورد. 9ميكن احل�صول على مرجعية هذه ال�صورة وم�ؤلفها رعد يف «منتدى املحور»
forumaxishistory. com/viewtopic. php?f=80&start+30
جرى الدخول على هذا املوقع يف ت�رشين الأول ،1 .2012 10املرجع هنا ويف �أي مكان �آخر لرقم كتالوج رعد يف IPSجمموعة رعد الفوتوغرافية يف بريوت.
150
للطريان ،وحدات �إ�شارة ،خنادق ،ور�ش عمل هند�سية، م�ست�شفيات للجي�ش ،ومطابخ ميدانية) ،ومناورات يف القد�س وبئر ال�سبع و�سيناء ،وخطوط تلغراف و�سكك حديد ،وفعاليات �سيا�سية (احتفاالت عيد ميالد ال�سلطان يف املنزل الع�سكري وا�ستعرا�ض اجلي�ش قبل الذهاب �إىل املعركة) ،والوفود الربملانية من �إ�سطنبول تزور اجلبهة (�أعيان القد�س ي�ست�ضيفون �ضباط ًا �أملانيني� ،إلخ).5 ميكن �إيجاد الكثري من هذه ال�صور يف املجموعات الفوتوغرافية العثمانية (مثل جمموعات مات�سن ويلدز)،6 وخ�صو�ص ًا تلك التي ت�ضمنت �شخ�صيات رفيعة املقام. ولكن قلة من ال�صور كانت ذات �صفة ع�سكرية م�أخوذة يف مناطق حم�صورة �أو يف جبهة املعركة .ومبا �أن هذه ال ال�صور كانت مطبوعة كبطاقات بريدية و�أحرزت تداو ً وا�سع ًا ،ال بد �أن الق�صد من ذلك كان نيل �إعجاب اجلمهور الأوروب��ي (ومن املحتمل �أي�ض ًا زرع الإيهام يف ا�ستخبارات العدو) �أو رفع معنويات اجلماهري يف جبهة الوطن .وتعترب �صور املدافع امل�ضادة للطائرات التي التقطت عندما كان �سالح ط�يران العدو يهدد مواقع عثمانية متقدمة يف ال�سوي�س وبئر ال�سبع ذات �أهمية خا�صة .7وتبني �صورة �أخرى (جمموعة �ساوندرز )10/1/5اجلنود من وحدة الإ�شارة يف النبي �صموئيل. ويف معظم تلك ال�صور يقف اجلنود يف و�ضعيات معينة �أو يف خالل متارين تدريبية منظمة ،والق�صد منها �إظهار من اخلط�أ افرتا�ض �أن عمل رعــــــــــــــــــــــــــــــــد االن�ضباط واال�ستعداد والقيادة احلديثة يف التقنيات مع اجلي�ش العثمانـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي الع�سكرية (خطوط التلغراف ،الهواتف امليدانية ،البنادق كان حم�صوراً يف الدعاية للنظـــــــــــــــــــــــــــــام؛ امل�ضادة للطائرات ذات القوة العالية وما �إىل ذلك)� .إحدى فقد ا�ستطاع رعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد �أكرث ال�صـور الالفتة لالنتباه بني تلك التي التقطها� ،صورة برباعـــــــــــــــــــــــــــــة وذكـــــــــــــــــــــــــــــاء تظهر خمب�أً �رسي ًا يف النقب للمن�ش�آت الع�سكرية ،وتقنيني �أن يظهر يف عدة منا�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــبات �رسيني لإ�صدار «جريدة ج��ول» ،ل�سان حال اجلي�ش يف �صوره الطابع الهمجي للحــــــــــــــــــــــــــــرب العثماين يف بئر ال�سبع( .8انظر ال�صور املرافقة للمقالة). تظهر �صور �أحمد جمال با�شا (احلاكم الع�سكري من اخلط�أ افرتا�ض �أن عمل رعد مع اجلي�ش العثماين ل�سورية وفل�سطني) ،وجمال با�شا املر�سيني (قائد فيلق كان حم�صور ًا يف الدعاية للنظام .فقد ا�ستطاع رعد اجلي�ش اخلام�س يف فل�سطني) ،وفردريك كر�س فون برباعة وذك��اء� ،أن يظهر يف عدة منا�سبات يف �صورة كر�سن�شتاين ( 1948-1870قائد فيلق اجلي�ش الطابع الهمجي للحرب ،وهنالك حالتان على الأقل ميكن الثامن يف الدفاع عن غزة) والأمرياالي علي ف�ؤاد با�شا �أن ت�ستخدما كدليل دامغ على �سلوك جمال با�شا القامع (قائد فيلق اجلي�ش الع�رشين و�آخر من دافع عن القد�س) جتاه ال�سكان املدنيني .ال�صورة الأوىل «�إعدام خائن يف ال مروع ًا لرجل م�شنوق وغريهم كثريون ،درجة من الود واحلميمية والألفة مع بوابة دم�شق» ( )55-Rتظهر �شك ً الأ�شخا�ص ،وذلك يف حالة تعار�ض مع �صور ر�سمية مع الفتة بالرتكية والعربية ت�شري �إىل جرميته املفرت�ضة �أخرى لأ�شخا�ص ر�سميني التقطها خليل رعد .9وهذا ما (التعاون مع العدو) .ال�صورة الثانية لكتائب العمل نالحظه ب�شكل خا�ص يف جمموعة ال�صور التي التقطها التطوعي العثماين (طوابري ال�شغيلة) وهي تظهر عدد ًا
رعد جلمال با�شا املر�سيني على ظهر ح�صان يف جممع �سانت جورج و�صور �أخرى مع م�ساعده وطفلني يلعبان مع امل�صور .وثمة �صورة م�أخوذة من م�سافة قريبة لأحمد جمال با�شا ،وكان �آنذاك وزير البحرية املعروف ب�سفاح �سورية وفل�سطني ،و�صورة ثانية له �أي�ض ًا وهو يتناول ال�شاي مع �أطفال و�سيدات «الأمريكان كولوين» ( ُتن�سب �إىل رعد) توحيان ب�أن خليل رعد كان يتق�صد �إظهار عداء «وجه �إن�ساين» للقيادة العثمانية ،التي بد�أت تظهر ً وا�ضح ًا لل�سكان املدنيني. كان جمال با�شا على �إدراك تام ل�رضورة حت�سني �سمعته واحلاجة لتعميم الإجنازات الع�سكرية يف فل�سطني. وقد كلف خليل رعد التقاط جمموعة من � 40صورة ملناورات اجلي�ش وم�شاهد من معارك اجلبهة� .رسعان ما حتولت هذه املهمة مل�رشوع ت�صوير �سينمائي للقوات العثمانية يف �أريحا والبحر امليت (امل�شار �إليها �أعاله) ثم انتقلت �إىل غزة وبئر ال�سبع و�سيناء وجبهة ال�سوي�س. كما رافق رعد القيادة الع�سكرية �أثناء مهامها والتقط لها عدد ًا من ال�صور امل�شهدية� ،أ�شهرها �صورة ال�سيارة الع�سكرية وعلى متنها اجلرنال كر�س فون كر�سن�شتاين ومعه اجلرنال فلكنهاين والأمري هوهنلوك التي التقطها رعد لهم يف �شارع يافا قبيل حملة ال�سوي�س.10
بدايات
العدد 2013 |6
من الرجال الكبار ال�سن وال�ضعفاء املغلوب على �أمرهم يقومون ب�أعمال �شاقة تك�رس الظهر وهم يحملون ال�صخر ب�أيديهم لت�شييد الطريق الع�سكري اجلنوبي �إىل بئر ال�سبع ( .)15 ،516-Rلقد كان الإعدام وعمل ال�سخرة الق�رسي ق�ضيتي خالف بني ال�سكان املدنيني مثلما كانت ق�ضية نفي و�إبعاد املجموعات «امل�شكوك» يف �أمرها .ال �شك �أن اختيار رعد التقاط هاتني ال�صورتني وعر�ضهما يف ما بعد ،خفف من دوره ك�أداة دعاية لل�سلطات.
«طوابري العمالة» العثمانية �أثناء بناء طريق ع�سكرية يف بئر ال�سبع. اجلرنال كر�س فون كر�سنثتاين واجلرنال فالكنهاين و الأمري هوهنلوك. قارب �أثناء حتميله من القد�س اىل البحر امليت. 151
ح�ضور القمع الربيطاين وغياب الثوار وعلى نقي�ض الفرتة العثمانية ،كان عمل رعد خالل فرتة االنتداب �أكرث جتاوب ًا مع نظرة النا�س جتاه وجود جي�ش احتالل .وبا�ستثناء الفرتة الأوىل للحكم الع�سكري الربيطاين ( )1920-1918التي �أظهرت الدخول املنت�رص للجرنال اللنبي وجنود احللفاء �إىل القد�س، ف�إن فرتة الع�رشينيات والثالثينيات حتتوي على �صور كثرية لظروف فر�ض منع التجوال و�أعمال ال�رشطة �ضد التظاهرات وتفتي�ش اجلنود الهنود والربيطانيني للمدنيني بحث ًا عن ال�سالح ووجود ال�سيارات الع�سكرية واجلنود امل�سلحني يف ال�شوارع. كذلك تخلو �أعمال رعد ب�شكل ملحوظ من �صور الثوار والأن�شطة الثورية ،على الرغم من �أن بدر احلاج يدعي �أن رعد هو الذي التقط ال�صورة الوحيدة املعروفة للمقاوم عز الدين الق�سام� .إال � ّأن من غري املحتمل �أن يكون رعد هو الذي التقط هذه ال�صورة وال يوجد دليل على ذلك .ال ُتظهر �صور رعد خالل فرتة �أواخر الع�رشينيات والثالثينيات ال�صدامات املدنية مع ال�رشطة يف التظاهرات �أية نزعة �أو حاالت بطولة مثل التي �شاهدناها للجنود العثمانيني وال تظهر كذلك احلميمية التي �شاهدناها يف �صور رعد للقادة العثمانيني من �أمثال جمال با�شا وعلي ف�ؤاد ومر�سينلي ورو�شن بيك واجلرنال كر�س فون كر�سن�شتاين. ا�ستمر خليل رعد يف ر�صد الأحداث العامة خالل االنتداب .وتت�ضمن �صوره الرئي�سية ذات العالقة باحلرب: دخول اجلرنال اللنبي �إىل املدينة من �شارع يافا؛ قمع ال�رشطة للتظاهرات املعادية لبلفور يف نوفمري ١٩٢٩؛ من�ش�آت اجلي�ش الربيطاين خ��ارج مدينة القد�س؛ اجلنود الهنود والربيطانيون يقومون ب�أعمال احلرا�سة يف الأماكن العامة؛ �رشطة مكافحة ال�شغب �أثناء قمع التظاهرات (ال يوجد تواريخ)؛ منع التجوال والإ�رضابات خالل ثورة ١٩٣٦يف يافا والقد�س؛ الوحدات الآلية بدايات
العدد 2013 |6
الربيطانية تتحرك �إىل املدن (,1291 ,1289-R .)1290 ,1296وتوجد �صور عديدة تظهر اجلنود ورجال ال�رشطة الهنود والربيطانيني يفت�شون املدنيني يف ال�شوارع ( .)1337-1318-Rوهذه ال�صور عربا ويهود ًا والعديد من ال�شخ�صيات الدينية تت�ضمن ً وامل�سيحية ،وهذه هي ال�صور الوحيدة التي تظهر فيها الن�ساء يف حميط ال�صورة كمتفرجات �أو م�شاهدات �أو رفيقات الرجال الذين يجري تفتي�شهم ،ولوال هذه ال�صور لكانت �صور احلرب عند رعد حم�صورة بالرجال. يف �أعمال رعد ،ثمة خ�صو�صية متيز ال�شخ�صيات الع�سكرية العثمانية (�أت���راك و�أل��ب��ان وع��رب) عن ال�شخ�صيات الربيطانية� ،أال وهي درج��ة احلميمية والألفة التي �أعطاها رعد للمجموعة الأوىل والبعد واجلفاء الذي �أظهره جتاه الثانية .ومما ال �شك فيه� ،أن ذلك كان نتيجة العالقة العائلية واملهنية التي �أن�ش�أها مع القادة الع�سكريني العثمانيني يف القد�س حتى يف زمن توتر العالقات بني الإدارة العثمانية وقيادة اجلي�ش الرابع مع املواطنني العرب .ويف ما يتعلق بالربيطانيني، ثمة انطباع ب�أن رعد كان يتعامل مع جي�ش احتالل يعمل على ال�سيطرة على ال�سكان وقمع ثورتهم .ومن ال�صعب معرفة �إذا ما كان هذا التمييز يف�ضح وجهات النظر ال�سيا�سية للم�صور جتاه احلكم الرتكي والربيطاين، ولكن ما ن�ستطيع قوله هو �أن خليل رعد ،كفنان م�صور وحريف ،بقي نتاج ًا للعهد العثماين .فقد ن�ش�أ وتبلور مهني ًا خالل احلكم العثماين لفل�سطني ثم طور عالقات عمل وزم��االت مع رج��االت الإدارة العثمانية ومن �ضمنهم رو�ش بيك ونهاد بيك واجلماالن -جمال با�شا القائد العام ،وجمال با�شا ال�صغري قائد اجلي�ش اخلام�س. ومن الوا�ضح �أي�ض ًا �أن تطوره الفكري ت�أثر باملدينة والبلد كنتاج للمعتقدات التوراتية -التي حكمت عمله كم�صور جتاري لل�سائحني واحلجاج .لقد ت�شكل فن الت�صوير عنده من خالل تدربه �ضمن التقاليد العثمانية الأرمنية للت�صوير الفوتوغرايف (كريكوريان وعبدالله�إخوان) ،ولكن احلرب العظمى خلقت ان�سالخ ًا عن هذه التقاليد و�أجربت رعد على التفكري بحداثة فل�سطني مب�صطلحات جديدة متليها الآليات الع�سكرية والطائرات و�سكك احلديد والتلغراف و�آالف الرجال الذين عملوا يف هذه التكنولوجيا .يف ال�سنوات الع�صيبة من �سنوات ال لهذه الأحداث بعيد ًا عن احلرب ،قدم لنا رعد �سج ً نظرة امل�ست�رشق والر�ؤية التوراتية.
فلسطني بالعدسة االمريكية غياب احلرب احلقيقية
نصار ت�صوير احلروب فن قدمي قدم الت�صوير الفوتوغرايف بحد عصام ّ ذاته .ولعل ال�صور الأوىل التي منلكها تعود �إىل حرب القرم باحث ومؤرخ يف تارخي ( ،)1856 – 1853التي ن�شبت بعد �أقل من عقدين التصوير يف الرشق على االخ�تراع «الر�سمي» للت�صوير الفوتوغرايف يف االوسط ،استاذ يف .1839كذلك ،ا�س ُت ِ عملت ال�صور الفوتوغرافية لتوثيق جامعة الينوي .احلرب الأهلية الأمريكية ( )1865 – 1861واحلرب آخر مؤلفاته العظمى (�أو احلرب العاملية الأوىل) عام .1914وعلى «لقطات مغايرة الرغم من � ّأن بع�ض ال�صور التي منلكها عن هاتني احلربني �صور بتكليف من «الهالل االحمر» ّ ي�شكل �ألبوما �صور جون وايتينغ املحفوظان يف مكتبة :1948-1850الأخريتني كانت مركبة يف الواقع ،تبقى جميعها وثائق ال على التوثيق بال�صور من اجلانب العثماين التصوير المحيل تاريخية مهمة1؛ فهي تقدم لنا معلومات ملمو�سة عن اللوازم الكونغر�س مثا ً المبكر يف فلسطني» اللوج�ستية للحرب ،مع التلميح يف الوقت عينه �إىل دوافع ثم من اجلانب الربيطاين .هذان االلبومان ،اللذان �أهديا امل�صور (امل�صورين) .يف ما ي�أتي� ،إىل وايتينغ وزوجته غراي�س ،مكر�سان بالكامل لفل�سطني ( )2005و� /أو نيات حمتملة لدى ّ �س�أعاين عدد ًا من ال�صور التي تظهر اجلبهة الفل�سطينية و�سيناء يف الفرتة املمتدة من عام 1915حتى عام خالل احلرب العاملية الأوىل ،وهي �صور حمفوظة حالي ًا يف .1917كان وايتينغ نف�سه م�صور ًا يف ق�سم الت�صوير يف �صور معظم� ،إن �أر�شيف مكتبة الكونغر�س. البعثة الأمريكية يف القد�س ،ولرمبا هو الذي ّ 2 بالنظر �إىل �أهمية ال�صور كمرجع رئي�سي لدرا�سة مل يكن كافة ،ال�صور التي يت�ضمنها الألبومان . تاريخ احلروب ،من امل�ستغرب � ّأن قلة قليلة من امل�ؤرخني عام � ،1915إث��ر �إقامة فرع القد�س يف جمعية ي�ستعملونها يف �أبحاثهم .حتفظ ال�صور حلظة م�ضت ،وتبقى الهالل الأحمر العثمانية برئا�سة ح�سني احل�سيني ،رئي�س جامدة لنتمكن من ر�ؤيتها كما بدت للكامريا عندما �أ�صدر البلدية املطرود �آنذاك ،فو�ضت اجلمعية �إىل وايتينغ توثيق غطاء العد�سة �صوته (طقطقة) .من هذا املنطلق ،تخرب ن�شاطاتها .وبهذه ال�صفة ،ا�ستطاع توثيق حياة اجلنود على مكر�س بالكامل ال�صور ما نراه فيها وما ال نراه على حد �سواء .فهي تعر�ض جبهتي فل�سطني و�سيناء .الألبوم الأول ّ عنا�رص مهمة بالن�سبة �إىل امل�ؤرخني ،مثل �أ�سلوب اللبا�س ،مل�رسح احلرب العثمانية� ،أما الثاين فيغطي احلرب بعد �أن الأدوات والأ�سلحة ،وتغني خيالنا التاريخي .ولعل الأهم احتل الربيطانيون القد�س.3 من ذلك كله �أنها حتفظ ما ميكننا �أن ن�سميه «هالة التاريخ» .يحوي الألبوم الأول يف طياته � 243صورة ،الكثري مبا�رشا بالن�شاطات الع�سكرية؛ �إذ � ّإن غني عن الذكر � ّأن احلرب العظمى� ،أو «احلرب ال�شاملة» منها مرتبط ارتباط ًا 1يحتمل � ّأن ال�صور ً ٌّ املركبة كانت يج�سد مواقع بالقرب من �ساحات املعركة .تو ّثق الأوىل� ،شُ َّنت على جبهات عدة .وعلى الرغم من م�ساحة بع�ض ًا منها ّ ت�ستعمل �أي�ض ًا خالل حرب القرم .الأرا�ضي الوا�سعة التي ّ غطتها ،ت�سلطت عليها عد�سات �صور الأ�ساطيل يف البحر امليت ،على �سبيل املثال ،التي بيد �أنني ل�ست على الكامريات ب�شدة .لكن م�سارح احلروب مل َ حتظ جميعها تظهر نقل احلبوب من ال�سواحل ال�رشقية ،ن�شاط ًا حا�سما ً علم ب�أي درا�سات بالقدر نف�سه من االهتمام .بعد م�ضي قرابة قرن على �سكوت بالن�سبة �إىل القوات يف زمن املجاعة الكربى� .أما الأ�سباب ت�شري �إىل ذلك. املدافع يف ت�رشين الثاين (نوفمرب) ،1918ال تزال �صور اجلنود يف خنادقهم واجلثث املتفحمة على اجلبهة الغربية، �إىل جانب �صور القادة يف لبا�سهم الع�سكري الكامل، متوافرة على نطاق وا�سع حتى يف يومنا هذا .وعلى اجلبهة ال�رشقية ،ا�ستعمل الربيطانيون والفرن�سيون الت�صوير� ،أكرث من العثمانيني رمبا ،على الرغم من � ّأن ه�ؤالء �أي�ض ًا ا�ستعملوه.
154
بدايات
العدد 2013 |6
2وايتينغ هو ابن �أمريكيني انتقال �إىل القد�س ليكونا جزء ًا من جمموعة م�ؤ�س�سي امل�ستعمرة الأ�صليني .ولد وايتينغ يف املدينة عام .1882وقد افتتحت امل�ستعمرة الأمريكية يف عام 1898ق�سم الت�صوير فيها ب�إدارة �إيليا ماير� ،أحد �أبرز �أع�ضائه .مار�س ماير الت�صوير قبل ت�أ�سي�س الق�سم. ويف النهاية ظهر ال�سويدي الر�س (لوي�س) الر�سن ب�صفته امل�س�ؤول عن �إدارة الق�سم مع وايتينغ� ،إىل جانب �آخرين مبا يف ذلك �إيريك مات�سون ،كان �أحد �أف�ضل امل�صورين. املعلومات عن تاريخ امل�ستعمرة الأمريكية وق�سم الت�صوير فيها متوافرة على املوقع الإلكرتوين ملكتبة الكونغر�س على العنوان الآتي: www.loc.gov/pictures/ collection/matpc/ background.html.
3ملزيد من املعلومات، انظر املوقع ال�سابق ال عن ذكره ،ف�ض ً املوقع الآتي: www.loc.gov/rr/mss/ acquisitions-adds. html#whiting.
4بالإمكان تقييم الألبوم عرب الإنرتنت على املوقع الإلكرتوين hdl.loc.gov/ loc.
.pnp/pmsca13709 كافة ال�صور التي تظهر هنا من الألبوم وحقوق طبعها ون�رشها حمفوظة ملكتبة الكونغر�س.
155
الرئي�سية للمجاعة ،فتمثلت يف احل�صار البحري الربيطاين وهجمات اجلراد عام 1915واقت�صاد احلرب .من املنطلق نف�سهّ � ،إن ال�صور القليلة التي تظهر �إقفال مكاتب الربيد الأجنبية يف القد�س هي �صور حرب .جاء �إقفال مكاتب الربيد نتيجة لقرار احلكومة �إلغاء اتفاقيات اال�ست�سالم التي �أتاحت �إقامة هذه املكاتب يف البالد .رغم ذلك ،جوهر املجموعة التي يف الألبوم مكر�س للن�شاطات امليدانية مع اجلنود ،الطاقم الطبي وال�ضباط الذين يت�صدرون الواجهة. وم َع ّد يبدو � ّأن الألبوم منظم بح�سب الت�سل�سل الزمني ُ بدقة .بدء ًا ب�صورة جلمال با�شا ،قائد اجلي�ش العثماين الرابع، مرور ًا بـ«االحتفاالت» التي نظمت دعم ًا للمجهود احلربي، يعر�ض هذا الألبوم بح�سب الت�سل�سل الزمني ن�شاطات اجلنود يف اخلنادق وهم ي�صوبون بنادقهم ،ويظهر الطاقم الطبي واقف ًا �أمام عد�سات الكامريا .جمتمعة ،تروي ال�صور يف الألبوم ق�صة يف �إطار ما يبدو �رسد ًا ر�سمي ًا يظهر الزعيم، وال�شعب املبتهج ،واجلنود يف م�سرية والطاقم الطبي على اجلبهة ،وك�أنها ق�صة جناح.4
يف خطر �شديد .يبدو اجلنود منظمني يف ال�صفوف ،وواقع �أنهم يبدون جميعهم يف و�ضعيات ال حتجب جنود ًا �آخرين �إ�شارة �أخرى �إىل � ّأن ال�صور قد �أخذت بعد ق�ضاء مت�سع من الوقت يف تنظيم من يظهر فيها وخالل �أوقات توقف القتال .كذلك ،ت�شري وجوه بع�ض اجلنود ال�ضاحكة �أو وقفاتهم امل�سرتخية �إىل غياب ذاك النوع من التوتر الذي يرافق عادة القتال. رغم ذلك� ،إن التخطيط الدقيق لل�صور ال يجعلها بال�رضورة مزيفة �أو غري جديرة باهتمامنا .فبادئ ذي بدء، �إنها �صور التقطت يف املوقع نف�سه ،والأ�شخا�ص الذين يظهرون فيها هم جنود �أ�صليون متركزوا يف الأماكن نف�سها التي جرى ت�صويرها .الأ�سلحة التي مي�سكونها هي نف�سها الأ�سلحة التي ا�س ُت ِ عم َلت يف القتال؛ واخلنادق قد ُح ِف َرت ا�ستعداد ًا للمعركة. الأمر نف�سه ينطبق على ال�صور حيث يتخذ الطاقم الطبي الو�ضعية املنا�سبة �أمام الكامريا� ،أو تلك التي تظهره منكبا على معاجلة مري�ض يف م�ست�شفى يف القد�س �أو يف ً م�ست�شفى ميداين .يوحي نق�ص اجلثث املتداخلة والق�سوة يف التقاط ال�صورة ب�أنها �صور مركبة .بيد � ّأن �صور ًا �أخرى تظهر اجليو�ش يف ت�شكيالت ع�سكرية �أو يف م�سريات يف القد�س �أو يف �أماكن �أخرى ،ال توحي ب�أي نوع من الرتكيب يتعدى اختيار املوقع الأمثل والتوقيت املنا�سب اللتقاط ال�صورة.
�صور حربية ّ مركبة يف هذا املقال الق�صري ،ال �أ�ستطيع مناق�شة الألبوم بكامله. الرف بانتظار مقال �أكرث على هذه املهمة �أن تبقى على ّ ال �آمل كتابته يف امل�ستقبل القريب .مع �إ�سهاب ًا وتف�صي ً ذلك ،ثمة خ�صائ�ص معينة مميزة يف هذا الألبوم ب�شكل عام �أود �أن �أ�سرتعي االنتباه �إليها� .أولها كرثة ال�صور املركبة �ضمن هذه املجموعة� .أعتقد � ّأن معظم ال�صور التي بروباغندا �أو تغطية م�صورة؟ يج�سد عدد من ال�صور زعماء و�ضباط ًا خالل زياراتهم ت�شمل اجلنود مركبة .فهي تظهر اجلنود يف ما يبدو �أنه ّ ا�شتباك ع�سكري ،كاال�صطفاف يف اخلنادق على بطونهم لفل�سطني �أو للجبهة� .صور زيارة �أنور با�شا للقد�س برفقة م�صوبني بنادقهم نحو ما يبدو �أنه مواقع العدو .وتظهر جمال با�شا� ،أو ال�صور التي الت ِقطت لأطباء م�شهورين �صور �أخرى اجلنود وال�ضباط واقفني يف �صور فردية �أو (مثال د .توفيق كنعان) ،و�ضباط �آخرين (مثال جمال جماعية �أمام مبانٍ حكومية �أو �أمام مع�سكراتهم .يظهر الثاين) ،واحلاكم زكي بيك �أو ن�ش�أت بيك� ،صور �إخبارية الرتكيب ب�شكل وا�ضح يف ال�صور اجلماعية من خالل تتعلق مب�ساعي احلرب ،وقد كانت ذات فائدة بالن�سبة �إىل طريقة ا�صطفاف اجلنود واالختيار الدقيق لإطار ال�صورة ،الأ�شخا�ص الذين يظهرون فيها يف �إطار عملهم. فيما يبدو الرتكيب �أقل و�ضوح ًا يف ال�صور الفردية .مع على الرغم من �صور قليلة يعر�ض فيها جنود ينم جوهر املجموعة ذلك ،يك�شف تفح�ص �صور مماثلة عن درجة من الرتكيب .م�صابون جروحهم �أمام الكامرياّ ، فيما يبقى اجلنود منخف�ضني يف خنادقهم ،للإيحاء رمبا التي يف الألبوم عن تنظيم كبري وا�ستعداد للحرب. ب�أنهم كانوا يحاولون تفادي نريان العدو ،ت�شري الزوايا من وبالعودة �إىل مو�ضوع الق�صة التي يرويها الألبوم ،يرى حيث التقطت ال�صورة �إىل � ّأن الكامريا كانت مو�ضوعة املرء فيه منوذج ًا عن الربوباغندا املرئية �أكرث منه تغطية على م�ستوى �أعلى ،وامل�صور يقف على مر�أى وم�سمع فعلية للحرب وتكلفتها الباهظة .الألبوم بحد ذاته منظم من كل �شيء .لو كانت نريان العدو م�صدر قلق ،لكان ب�أ�سلوب «وطني» يعر�ض نوع ًا ما �رسد ًا بطولي ًا للأحداث. امل�صور يقف على مر�أى وا�ضح من العدو خارج اخلنادق من البديهي � ّأن مهمة امل�صور متثلت يف توثيق عمل جمعية بدايات
العدد 2013 |6
5يظهر ذلك يف الن�ص الذي كتبه الر�سن. 6يظهر عدد من ال�صور املتوافرة يف مكتبة معهد الدرا�سات الفل�سطينية يف بريوت والتي التقطها رعد �صور م�شابهة لتلك الوارد و�صفها اعاله ف�ضال عن �صور جلمال با�شا واقفا امام الكامريا.
الهالل الأحمر ،وذلك رمبا لتبيني �أهمية م�ساهمتها يف جهود احلرب .بيد �أن ال�رسد الق�ص�صي بحد ذاته ،على ما ي�صب يف م�صلحة اجلي�ش وال�ضباط امل�س�ؤولني �أكرث يبدو، ّ منه يف م�صلحة وكالة �إغاثة كالهالل الأحمر. بناء على طلب جمال با�شا �أو �أحد هل ُان ِتج هذا الألبوم ً قادته البارزين يف القد�س؟ هذا ممكن حتم ًا ،وخ�صو�ص ًا يف �ضوء ادعاء �أحد �أع�ضاء ق�سم الت�صوير يف امل�ستعمرة �أنهم كانوا امل�صورين الر�سميني جلمال با�شا .5لكن هذا ال عن ذلك ،لدينا �صور كثرية االدعاء مل يثبت متام ًا .ف�ض ً �أخرى التقطها م�صورون �آخرون اتخذوا من القد�س مقر ًا لهم مثال خليل رعد.6 يف املح�صلة� ،أو ّد �أن �أو�ضح نقطتني مهمتني يف ما يتعلق بال�صور بحد ذاتها ولي�س بالألبوم كق�صة .ترتبط الأوىل بواقع � ّأن �صور احلرب متثل نطاق ًا �آخر ا�س ُت ِ عمل فيه �أ�سلوب التالعب بال�صور .جرى التح�ضري م�سبق ًا قدم وبدقة لكل ما نراه يف ال�صور ،وذلك مل�صلحتنا .مل ُي َّ
�أي �شيء يرتبط مبا�رشة مبعاناة اجلنود �أو بالقتال احلقيقي. ال يهدف �إىل عو�ض ًا عن ذلك ،ابتكر امل�صورون واقع ًا بدي ً تغذية ر�ؤية امل�شاهد التي تن�ضوي �ضمن �إطار عقائدي. مبعنى �آخر� ،إن ما نراه مل يعك�س متام ًا الظروف املادية التي كانت �سائدة يف مع�سكرات اجلي�ش �أو يف �ساحة املعركة. �أما النقطة الثانية ،فتتمثل يف � ّأن غياب جتربة حرب «حقيقية» يف ال�صور ال يجعلها غري جديرة باالهتمام. على العك�س متام ًا ،باعتبارها �صور جنود وزعماء ومواقع حقيقية ،هي تتيح لنا ر�ؤية هالة تلك الفرتة الزمنية كما تعك�سها تفا�صيل ال�صور والنية الأيديولوجية الت�صويرية التي تكمن وراءه��ا يف �آن واحد .تظهر لنا هذه الهالة �أ�شخا�ص ًا حقيقيني �سي�شاركون يف نهاية املطاف يف احلرب وحميطهم .يف الوقت عينه ،هي تعك�س ال�صورة التي �أراد قادتهم �أن يقدموها لنا على الأرجح� :صورة جمموعة من الأبطال على و�شك �أن ت�أخذ على عاتقها املهمة الكربى املتمثلة يف ا�ستعادة م�رص.
اال�ستعرا�ض الأخري الذي قام به جمال با�شا وكري�س فون كر�سن�شتاين يف القد�س عام .1917 تظهر ال�صورة الأوىل يف الألبوم البيك (العظيم) جمال با�شا ،على �شاطئ البحر امليت، يف � 3أيار (مايو)، .1915 ازالة �صندوق بريد فرن�سي تزامنا مع التخل�ص من اتفاقيات اال�ست�سالم االجنبية.
158 163
عاكف بيك ،جراح يعمل يف الهالل الأحمر وممر�ضات، عام .1917 ن�ش�أت بيك وطاقم العاملني يف الهالل الأحمر يف امل�ست�شفى الإنكليزي يف القد�س عام .1917
إيالن هاليفي يكتشف دير ياسني
شريكو بيكه يس عندما يتدفق الشعر كالينبوع ِ
...كان امل�ست�شفى م�ؤ�س�سة عتيقة عبارة متداع ومظلم ،يقع يف عن مبنى كبري ٍ قلب املدينة القدمية ،عند منعطف «ڤيا دولورو�سا» .كان الوقت ع�شية �أعياد احلجاج ،من امل�سيحيني الف�صح ،حيث ّ ّ الغربيني بغالبيتهم ،يكتظون يف الطرقات املجاورة. منذ مغادرتهما امل�صنع ،مل يك�رس � ٌّأي من م�صطفى وجعفر �صمتهما َق� ّ �ط� ،إال من �أج��ل تبادل احلديث ب�صوت خافت ،يف ثرثرات مل يكن نعيم ي�سمعها .فقد �سبق له �أن �رشح لهما ،عند كل مرحلة ،ما الذي كان يفعله وملاذا ،ومل يطرحا �أي �س�ؤال عليه .كان نعيم يبدو ك�أنه النقي�ض الطبيعي لإ�صابتهما ،وهما كانا يتعاطيان مع الأمور على طبيعتها. يف احلقيقة ،مل يكن م�صطفى ي��ع��اين �إال م��ن ج��رح يف قدمه، وكانت الإ�سعافات الأولية التي تلقّاها يف «روميما»� ،شمال غرب القد�س ،كافية ملعاجلته .وبعدما �أُزيل و�ض ِّمد، االلتهاب من جرح م�صطفى ُ كان قادر ًا على العودة �إىل امل�صنع �أو م�صمم ًا �إىل منزله .غري �أن نعيم كان ّ على اال�ستمرار حتى النهاية يف املو�ضوع .مل يكن الأم��ر بالن�سبة جمرد م�س�ألة طبية .طلب من �إليه ّ م�صطفى مرافقته �إىل امل�ست�شفى، لي�س فقط بهدف معاجلة جعفر الذي كان يعاين من جرح كبري يف اجلبني، أي�ضا ملحاولة توثيق ما ح�صل بل � ً معه على �أنه حادث عمل. لطاملا كان نعيم يكره امل�ست�شفيات وروائحها وال�صمت ال��ذي ي�سود ال�سجني .لكن حال فيها وطابعها ِّ امل�ست�شفى كانت خمتلفة .مل تكن جدرانه بي�ضاء ،وكانت اللوحات معرو�ضة على اجل���دران� .أن��ا���س ال التجول بني احل�شود يتوقفون عن ّ
إيالن هاليفي
يكتشف دير ياسني سمى إي�لان هاليفي يف مدينة سي ّ الظروف اليت ُول��د فهيا تقول الكثري عنه وعن م�ساره الالحقُ .ول��د ذلك ال��ذي ُ خمبأ للمقاومة الفرنسية ،لوالدين شيوعيني ماشركني يف المقاومة ليون الفرنسية عام ١٩٤٣يف مركز للربيد كان ً الفرنسية ضد االح��ت�لال ال��ن��ازي األل��م��اين .ولدته أم��ه دون ماسعدة من قابلة أو طبيبُ ،وس ّ��ج��ل باسم مستعار مقاومة ،أممية ،معادية للصهيونية». «جورج آالن البري» .يصف أرسته بأهنا «هيودية ،شيوعية ،علمانية، ِ اكتشف القضية الفلسطينية يف اجلزائر مطلع استقاللها .وعندما غ��ادر إىل فلسطني المحتلّ ة ،ع��ام ،١٩٦٣ ليتعرف إىل احلياة فهيا ،كان الاشب إيالن موسيقيا ً (جاز) وروائياً وكاتباً الفتاً بمواهبه ،ينرش يف «األزمنة احلديثة» ّ منضد حروف يف مطبعة ومراسالً جلريدة «ليرباسيون» جلان بول اسرتر .تقلّ ب يف عدة مهن ،عمل يف المرفأ ثم ّ الباريسية .ويف القدس ،أهسم يف تأسيس جمموعة أقىص الياسر المناهضة للصهيونية «ماتسنب» (البوصلة)، تفرق معظم أعضائه أو هاجروا. تعرض لقمع شديد ما لبث ان ّ والحقاً «التحالف الشيوعي الثوري» الذي ّ عاد إىل باريس وأهسم يف تنظيم اللقاءات األوىل بني فلسطينيني وإرسائيليني .يف أول زيارة لبريوت بعد ،١٩٦٧ وعينه مستاشراً له .وإيالن تعاطى مع «اخلتيار» تعرف إىل يارس عرفات .ىّ تبن أبو ّ ّ عمار هذا الفلسطيين الهيودي ّ بوالء االبن ألبيه .انضم إىل حركة «فتح» ،حامالً خربته يف العمل احلزيب وناشطه الذي ال ّ يكل ،وشغل منصب ممثل لمنظمة التحرير لدى جلنة األمم المتحدة من أجل حقوق اإلناسن ولدى الدولية االشرتاكية. أهسم إي�لان يف مؤمتر مدر يد وواشنطن .وعند انتقال منظمة التحر ير إىل رام الله ،سكن المدينة حيث أهسم يف تأسيس جهاز وزارة اخلارجية للسلطة الوطنية الفلسطينية الوليدة وشغل فهيا منصب نائب وز ير. وما لبث أن عاد جم��دداً إىل بار يس عام ،١٩٨١حيث انضم إىل أرسة حتر ير «جملة ال��درااست الفلسطينية» ال ب�ين بار يس باللغة الفرنسية ،إىل جانب إل��ي��اس صنرب وف���اروق م��ردم ب��ك ،وأم�ضى السنوات األخ�يرة متنق ً وبرلني ،حيث زوجته كريستني ماس وابنه سليم. من مؤلفاته عرشات المقاالت والمداخالت والدرااست ،وعدد من الكتب مهنا« :إرسائيل من اإلرهاب إىل دمرها جمازر الدولة » (« ،)١٩٨٤حتت إرسائيل :فلسطني!» ( )١٩٨٧الذي كشف فيه عن أكرث من ٤٠٠قرية عربية ّ االحتالل الصهيوين« ،راسلة من رام الله» ( ،)٢٠٠٣وشبه سرية ذاتية روائية بعنوان «ذهابات وإيابات» ()٢٠٠٥ اليت نقتطف مهنا هذه الصفحات. كرهسا للنضال عىل حاسب أرسته وصحته تويف إيالن هاليفي يف باريس يف ١٠تموز ،٢٠١٣خمتتماً حياة ّ وم��واه��ب��ه األدب��ي��ة والموسيقية .رف��ض تلخيص اإلن�س�ان خبتم القبيلة ال�تي ول��د فهيا (ينتمي وال���ده إىل أرسة هيودية يمنية عر يقة). حيب أن يقول عن نفسه إنه ليس إرسائيلياً ،بل هو فلسطيين وهيودي ٪١٠٠ ،هيودي و ٪١٠٠فلسطيين. كان ّ يف ما ييل مقطع من سرية ذاتية شبه روائية إليالن هاليفي بعنوان «ذهاب وإياب» ( .)٢٠٠٥يروي بطل أن حادث عمل وقع لعامل عريب يف مطبعة قاده إىل موقع اشهتر باالسم والرمز كأنه لم يكن له الرواية كيف ّ وجود حقيقي عىل األرض 160
بدايات
العدد 2013 |6
161
بدايات
العدد 2013 |6
وال�ضجيج .كان هناك ح�شد حقيقي يف املمرات ويف الغرف .والفو�ضى املطلقة مهيمنة على املكان .هكذا كانت حال الطب يف ظل االحتالل. ا�ستقبلهم طبيب فل�سطيني على ر�أ�س ال�سالمل املركزية للم�ست�شفى. كان الطبيب �شاباً ،وقد الحظ نعيم فور ًا �إىل �أي درجة كان الطبيب ممزق ًا بني طبعه املحب من جهة ،ورف�ضه التطبيع مع املحتل من جهة ثانية .قال لنعيم بنربة حا ّدة« :ال نتكلم العربية هنا» ،فما ك��ان من نعيم ،ال�شاعر باخلجل من لغته العربية الرديئة� ،إال �أن عر�ض عليه احلديث بالإنكليزية. هكذا �أخربه تفا�صيل احلادث. ال توجه الطبيب �إىل نعيم �سائ ً ثم ّ ّ �إياه« :و�أنت ،من تكون؟»� .رشح له نعيم �أ ّن��ه منتدب من قبل موظفي ِ يق�ض امل�ؤ�س�سة ،علم ًا ب� ّأن ذلك مل ّ قط على العداء ال�شديد البادر من تفح�ص الطبيب الطبيب ال�شاب. ّ �ضمادات م�صطفى ،و�أعاد ت�ضميده من جديد ،و� ّأكد له � ّأن جرحه حميد. ثم بد�أ بنف�سه بخياطة الغرز اخلم�س يف جبهة جعفر العجوز ،الذي كان جال�س ًا على كر�سي ب�سيط .و�ضع نعيم يده يف يد اجلريح ،وق��ال له بالعربية�« :إن كان ذلك ي�سبب لك ت�شد على الأمل ،فما عليك �إال �أن ّ يدي» .وما كان من العجوز �إال � ّأن �شد على يده .دامت العملية اجلراحية ّ ب�ضع دقائقّ . ظل جعفر رزيناً ،لكن نعيم كان ي�ست�شعر ال�ضغط القوي جتولت �أنظار ملرات متتاليةّ ، ليدهّ . الطبيب حول اليدين املت�شابكتني. لكنه مل يقل �شيئاً. بعد خياطة اجلرح وت�ضميده على جبني جعفر ،جل�س نعيم يف مواجهة الطبيب ،وخاطبه قائالً�« :أريد منك الآن �أن مت�ل�أ لكليهما ال�شهادات
والإف������ادات ال��ت��ي ت�سمح لهما مر�ضية ،و�أن باال�ستفادة من �إجازة ّ تكتبها بطريقة يكون فيها التوقف عن العمل لأط��ول فرتة ممكنة.»... عندها ،طلب الطبيب ،الذي بدت احلرية على وجهه ،من نعيم �أن يكرر طلبه ،وهو ما فعله نعيم« .ال �أريد بتات ًا أ�رص على �أن �شهادة ا�سرتحامية� .إنيّ � ّ يتمتع هذان املوظفان بالراحة الكاملة وبجميع التعوي�ضات التي يحق لهما تعر�ضا له». بها مبوجب احلادث الذي ّ وبعدما ت� ّأكد الطبيب من �أنه فهم ما انكب على الذي يريده نعيم منه، ّ ملء الوثائق ال�رضورية ،من دون �أن يتوقف عن رمق نعيم بنظرات الريبة. وفيما كان الأ�شخا�ص الثالثة يغادرون ،قال نعيم جلعفر � ّإن ب�إمكانه ثم عاد �إىل امل�صنع املغادرة �إىل منزلهّ ، برفقة م�صطفى ،و�أعطيا الأوراق أ�رصا على �رضورة نيله ملوري�س ،و� ّ أ��صر الطبيب على كافة حقوقهّ � . مرافقتهم .ول��دى و�صولهم �إىل الباب� ،أم�سك بيد نعيم بحرارة وقال له بالإنكليزية ،وب�صوت ت�شوبه الرجفة�« :أنت رجل طيب للغاية». ف��ج���أة ،ان��ت��اب نعيم �شعور باال�ستياء .ما كانت �صحوة ال�ضمري تلك ،التي كانت نظرات الطبيب مفعمة بها؟ �أال ت�ضفي وجه ًا �إن�ساني ًا على هذا النظام الذي كان يعتربه هو نف�سه غري قابل للإ�صالح؟ ك��ان��وا ق��د غ����ادروا «جفعات ���ش��ا�ؤول» قبل الظهر ،وق��د باتت ال�ساعة الثالثة والن�صف من بعد الظهر .انتهى يوم العملّ . فكر يف �أنه كان يوم ًا جيداً� .شم�س الربيع تلفحهم بينما ي�سريون نحو «بوابة ي�سميها العرب «باب دم�شق» التي ّ العمود» ،بينما يطلق عليها اليهود ت�سمية «ب��اب �سي�شم»� ،أي باب
نابل�س .افرتق جعفر عنهما وقال م�صطفى�« :إن كنا �سنذهب �إىل ّ فلن�ستقل تاك�سي احلانة بالتاك�سي، قريبي �إىل باب العمود!». ّ أحبها مرا �أمام املحال التي لطاملا � ّ ّ م�صطفى� ،أمام املقهى حيث يلعب يدخنون الرنجيلة، الرجال الرند وهم ّ �إىل جانب «�صيدلية �سنيورة» .عند «�سور ال�صليبيني» ،ال��ذي �أ�ضاف �إليه العثمانيون طابق ًا �إ�ضافياً. دورية اجلنود الإ�رسائيليون ينفّذون ّ و�أ�صابعهم على الزناد .وال�رصافون ي�شرتون م��ن ال�سياح عمالتهم ب�أ�سعار ��صرف ال ُتنافَ�س .وباعة الأ�سطوانات املو�سيقية يعر�ضون ن�سخ ًا لآخر �أعمال فريوز. و�صل �سائق التاك�سي ،قريب فهما �إليه م�ستعجلني، م�صطفى، ّ وطلب م�صطفى من ال�سائق �أن ني!». يتوجه بهما «�إىل دير يا�س َ ّ دي��ر يا�سني ...قالها م�صطفى بنربة عابرة ُت�ستخدم عاد ًة للإحالة �إىل عنوان ال قيمة كبرية له .ارتع�ش نعيم ،ذلك � ّأن اال�سم يعرفه جيداً، فهو ي�شري �إىل املدنيني الـ ٢٥٠ ال��ذي��ن ار ُت��ك��ب��ت بحقهم جم��زرة عام ١٩٤٨؛ كانت الكلمة حتيل �إىل موكب الأ��س�رى الناجني يف �شوارع القد�س .وكانت دير يا�سني هي «اورادور �سور غالن» ،البلدة تعر�ض املئات من الفرن�سية التي ّ �سكانها للإبادة على �أيدي القوات النازية يف ع��ام ١٩٤٤خالل احل��رب العاملية الثانية .وخ�لال الأح��ادي��ث ال�ساخنة التي لطاملا خا�ضها نعيم ورفاقه مع حماورين التنوع ،كان ي�ستح�رض �شديدي ّ ب�شكل متكرر طيف دير يا�سني .لكنه جثث �ضحايا على الرغم من ذلك ،كان ي�صعب جمزرة دير يا�سني .عليه حتديد موقع القرية ال�شهيدة. 162
بدايات
العدد 2013 |6
163
بدايات
العدد 2013 |6
ّ بد �أن تقع يف جل ما يعرفه �أ ّنها ال ّ ج��وار القد�س .كانت دي��ر يا�سني بالن�سبة �إىل نعيم حدث ًا �أك�ثر مما كانت تعني له مكان ًا جغرافياً. غري � ّأن نعيم كان يدرك التوا�صل اخلفي بني التاريخ مع عامل احلا�رض احل�سي� .أحياناً ،تربز ت�شققات يف ذاك ّ التوا�صل ،و�أحيان ًا �أخرى تناق�ضات فا�ضحة .يف ع��ام ُ ،١٩٥٠ط��رد �سكان قرية جمدل الآمنون .حتى � ّإن نعيم بنف�سه جمع �شهادات حول هذا املو�ضوع .ومل ُيفاج�أ الرجل عندما كان م�سافر ًا يف �أحد الأيام باجتاه «�أ�شكلون» العربية ،التي �أعيد بنا�ؤها على �أنقا�ض ع�سقالن العربية ،فوقع نظره على بلدة جمدل ،التي كانت قد ا�ستعادت لتوها ا�سمها فوق �أ�شجار الربتقال ّ وامل�ساحات الفارغة .بدا وك �� ّأن كل �شيء ال يزال يف مكانه .لربهة ،كادت ر�ؤية الن�ساء احلافيات تكن�سن الأر�ض مبكان�سهن ،جتعله ّ ي�شك يف واقع الرتابية ّ ّ يندد بح�صوله طرد ال�سكان الذي ظل ّ منذ �أعوام .لكن بالطبع� ،رسعان ما زال الوهم؛ �إذ � ّإن ه�ؤالء الذين ر�آهم يف ذلك اليوم كانوا يهود ًا عراقيني ومغاربة ُجلبوا ليقيموا يف البلدة وفق نظام �صارم ،بعدما ّمت �إفراغها من �سكانها بالقوة .منذ ع�رشين �سنة ،وه ��ؤالء املهاجرون يعي�شون يف تلك املنازل التي ال يزال ميكن ا�ست�شعار حيوات الأ�شخا�ص الذين كانت حتت�ضنهم حتى ع�شية «تبادل ال�سكان» ،بح�سب التعبري الر�سمي .لكن هل كان ه�ؤالء خمتلفني عن ال�سكان الأ�صليني؟ كانوا يت�شابهون باملظهر اجل�سدي وبال�شكل اخلارجي .وكان ب�إمكان �أي م�سافر ّ �ضل طريقه �أن يالحظ طابع املجدل العربي .ف�سلوك �سكانها وعباراتهم ت�شبه كثري ًا �سلوك وعبارات ال�سكان املغيبني عن منازلهم. ّ 164
بدايات
العدد 2013 |6
كان الو�ضع م�شابه ًا يف دير يا�سني ويف كفرقا�سم ،حيث ارتكب حر�س احلدود الإ�رسائيليون ،جمزرة بحق ٤٢قروي ًا فل�سطيني ًا ع�شية حرب ال�سوي�س ،وك��ان ه���ؤالء ُيعتربون ر�سمي ًا مواطنني �إ�رسائيليني« ،ذنبهم» �أنهم عادوا من �أعمالهم منتهكني حظر جتوال كانوا يجهلون �أنه مفرو�ض .لقد �أثارت امل�س�ألة �ضجة كبرية يف حينها، حتى �أن��ه �صدرت �أح��ك��ام خمفّفة بال�سجن بحق �ضباط �إ�رسائيليني �أُدينوا بامل�س�ؤولية عن املجزرة ،قبل �أن ُيعفى عنهم الحقاً .و�ش�أنها �ش�أن دي��ر يا�سني ،ظ ّلت كفرقا�سم ذات وقع �سيئ يف �أعماق الوعي اجلماعي الإ�رسائيلي .خلعت عن نف�سها ق�شور حدثيتها .و�صار ا�سم القرية بالن�سبة ّ �إىل غالبية الإ�رسائيليني مرتبط ًا حم��دد :يحيل مب�صدر �إزع���اج غري َّ �سارة ،مظلمة� ،شبه �إىل ق�صة غري ّ ّ من�سية ،من النوع الذي ال يتم تذكره ّ �إال على �سبيل قلة االنتباه .حتى � ّأن تخيلوا � ّأن اليهود �أ ّدوا يف تلك كرث ًا ّ املجزرة ،جري ًا على عادتهم ،دور ال�ضحية وكب�ش الفداء. ظ ّلت كفرقا�سم على قيد احلياة، وكانت يف حينها ال تزال �صامدة، ّ يتذكر احلدث ومل يكن �أي متحف املرعب .الحقاً ،راح �سكان القرية ي�شيدون على نفقتهم اخلا�صة ،بدعم ّ من بع�ض اليهود الدميوقراطيني، ثم ن�صب ًا تذكاري ًا ل�ضحايا املجزرةّ . �ضد تتميز يف ن�ضالها ّ راحت القرية ّ م�صادرة الأرا�ضي .ويف النهاية ،بعد مرور فرتة طويلة ،برز �شيخ �صاحب �شخ�صية كاريزماتية ،هو �إ�سالمي ميز نف�سه عن الآخرين� ،أ ّدى معتدل ّ الحق ًا دور ًا �سيا�سي ًا مهماً .حتى تلك احلقبة ،كان نعيم يعرف كفرقا�سم جيداً ،ال املجزرة فح�سب ،بل القرية
�أي�ضاً :كان له رفاق من كفرقا�سم، وخلية حزبية نا�شطة فيها ،وحتى ّ �أ�صدقاء متحدرون منها .لكنه مل يكن يعرف �أين تقع دير يا�سني. ثم ّ تذكر نعيم دانيال ،اجلميلة ّ دانيال التي قالت له يوم ًا � ّإن دير يا�سني تقع يف �ضاحية قريبة من القد�س ،يف مكان �أعيد بنا�ؤه على و�سميت «كريات �أنقا�ض القرية ّ �شا�ؤول» ،حيث كانت تعمل دانيال معالجِ ة نف�سانية .الواقع � ّأن منازل دير يا�سني ،التي هجرها الناجون من جمزرة عام ،١٩٤٨باتت حتت�ضن م�صح ًا عقلي ًا وم�أوى للمجانني ،متام ًا ّ مثل ال�سجن الربيطاين القدمي يف أخالقيا يف عكا ،بدا لهما عبثي ًا و� ً �آن واح��د .وك��أن م�صري بعد املوت من �ش�أنه �إنقاذ املباين من الإهانة الكربى -من الدمار امل��ادي ،على �شاكلة ما ح�صل لأكرث من ٣٠٠ ثم قرية �أف��رغ��ت م��ن �ساكنيهاّ ، ُ�س ّويت بالأر�ض يف عامي -١٩٤٨ � - ١٩٤٩أو من امل�صادرة الكاملة مل�صلحة الوافدين اجلدد. كان نعيم يعرف �أي�ض ًا �أن «كريات �شا�ؤول» بالكاد يف�صلها كيلومرت واحد عن «جفعات �شا�ؤول» ،حيث يقع م�صنعه .على الرغم من ذلك ،مل التجمعني يكن من طريق يربط بني ّ ال�سكنيني ،ومل يدفعه دافع يوم ًا �إىل ّ املغامرة بالتوجه �إىل اجلهة الأخرى من �أ�سفل الت ّلة. كان على نعيم ان يتلفّط بالكلمة دير يا�سني -خالل دخوله �إىل�سيارة التاك�سي اخلا�صة بقريب م�صطفى ،عند «بوابة دم�شق» يف ذلك اليوم الربيعي اجلميل ،ليفهم �أنه كان يعمل نحو خم�سني �ساعة يف الأ�سبوع ،و�أنه كان يعي�ش ويعمل يف دير يا�سني ،فوق �أنقا�ض املجزرة.
شريكو بيكه يس
الشعر كالينبوع عندما يتدفق ِ يف مطلع آب/أغسطس المنرصم ،ت��ويف يف ستوكهولم كبري شعراء كردستان شريكو بيكه يس بعد معاناة ط��وي��ل��ة م��ع م���رض ال�س�رط���ان .ع���اش ش�يرك��و ال��ق��س��م اال ك�ب�ر م��ن ح��ي��ات��ه م�ترح�لا :يف ج��ب��ال ك��ردس��ت��ان م��ع اب��ي��ه ال�شاع��ر ال��م��ق��اوم وال��م��ط��ارد ،ح��ي��ث ن�شأت حاسسيته ال��م��ره��ف��ة للطبيعة واالرض ،ث��م متنقال ب�ين المنايف ع��ن��دم��ا ان��ض��م ه��و ن��ف��س��ه اىل ال��م��ق��اوم��ة ال��ك��وردي��ة .ع��اد اىل ال��س��ل��ي��م��ان��ي��ة ال��ع��ام ١٩٩١وان��ت��خ��ب ن��ائ��ب��ا يف اول برلمان القليم كردستان وعينّ بعده وز يرا للثقافة .باكرا ،دعا شريكو اىل حتر ير اللغة الكوردية من القوالب اجلامدة والتفخيم والزتيني والتكلّ ف ،عىل ان داعية احلداثة يف الشعر هذا ظل شعره موسوما بشطحات المعة من الرعوية والرومنطيقية المطبوعة بزنعة اناسنية شغوفة .من شعره الملزتم قصيدة هشرية من وح��ي جم��زرة حلبجا ال�تي قصفها جيش ص��دام حسني ب��ال��س�لاح ال��ك��ي��م��اوي يف ال��ع��ام ١٩٨٨ب��ع��ن��وان «راسل��ة �����رب» .ل��ش�يرك��و ب��ي��ك��ه س اك�ث�ر م���ن ع�شري��ن دي����وان ش��ع��ر .ت��رج��م ش��ع��ره اىل اك�ث�ر م���ن ع�ش�ر ل���غ���ات ،بما اىل ال ّ ف�يه��ا ال��ع��ر ب��ي��ة .وك��ان ش�يرك��و ي�شرف شخصيا ع�لى ت��رمج��ة ق��ص��ائ��ده اىل ال��ع��ر ب��ي��ة .ول��ه ،اىل ال��ش��ع��ر ،مرسحيات وسرية ذاتية بعنوان «ثقل الرماد» صدرت العام .١٩٩١دفن شريكو حسب وصيته يف «باركي آزادي»/ «حديقة احلر ية» يف السليمانية .ماسهمة يف استحضار غياخب ،ننرش يف ما ييل قصائد من جمموعته «نَ ْغمة َح َج ّر ية» (االهايل ،دمشق .)١٩٩٩
�ضابط عادي عندما منحوه كوكبة �أخرى كان قد قتل كوكبا وعندما �صارت كوكبتني َ حبال م�شانق �صارت يداه وعندما �صارت ثالثة كواكب ثم تاجا وما فوق �إ�ستيقظ التاريخ ذات �صباح فوجد البالد مملكة �أرامل!
165
بدايات
العدد 2013 |6
�صورة ر�سمت طائرا ُ وجعلت من «كلمة» ر�أ�سا له وجعلت من «نبلة القلم» منقاره ومن «حفنة تراب» ج�سده ومن «وتر» رقبته «حبة زيتون» قلبه ومن ّ «الع�شب» ذيله ومن ُ ِ ولكنه مل يطر جعلت من فر�شاة ڤان غوخ حتى ُ جناحا له
حمبة دائمة ّ اكتب بورقة ع�شب و�أقر�أ غابة �أرى قطرة مطر و�أ�سمع زجمرة بحر على كفّي حبة قمح ويف روحي بيادر �أحمل َ�شعرة من �ضفرية حبيبتي وجنبني حمبة انا عندي الآن بيت واحد من ِ�شعر «نايل» ومعي كرد�ستان كلها ق�صائد كردية .٢ النهر من الرك�ض تعب ُ وراء البحر وتعبت الكلم ُة من اجلري ْ وراء الق�صيدة لكن �أملي مل يتعب مطلقا من ِحمل الزالزل .٤ كردي الرماد يف �أ�صله ّ ملاذا؟ ال ّله وحده يعرف اجلواب. .٨ وقعت يف ُحب الينبوع عندما ُ بد� ْأت ق�صائدي تتدفق .٩ فم اجلبل الكهف ُ فم لل�رصخة فقط ٌ
166قراءة غراميش يف زمن الثورات العربية 174العلوم االجتماعية العربية نقديني تقليدين بني َ َ
غ�شان احلاج ّ
182العراق مثاالً وحنا بطاطو دليالً []2 من أهل الدولة إىل دولة األهل
و�شاح �رسارة
166
بدايات
العدد 2013 |6
منحى التفكك واالن��ه��ي��ار� ،إذذاك �ل «العفوية» حم� ّ حت� ّ �ل «الإرغ���ام» ليتوج الذي يزداد �سفور ًا وانك�شاف ًا ّ ب��الإج��راءات البولي�سية املبا�رشة وباالنقالبات الع�سكرية.
قراءة غراميش
اليعقوبية والربجوازية ( )...ينبغي �إلقاء الأ�ضواء الكا�شفة على حقيقة � ّأن اليعاقبة قد ت�س ّنموا دور احل��زب القائد باللجوء �إىل ال����صراع ال��دم��وي و�أن��ه��م فر�ضوا �أنف�سهم فر�ض ًا على الربجوازية الفرن�سية باملعنى احل��ريف للكلمة وقادوها �إىل موقع �أكرث تقدم ًا بكثري م��ن ذل��ك ال��ذي كانت ترغب يف احتالله �أ�صلب النوى الربجوازية لو �أنها ُترِكت خليارها العفوي. بل �إنهم ق��ادوه��ا �إىل موقع �أكرث تقدم ًا من ذلك الذي كانت ت�سمح به املعطيات التاريخية .وقد �أدى هذا �إىل ا�ستثارة ال � ِر ّدات امل�ضادة ومهد تنوع �أ�شكالهاّ ، للثورة ،على ّ
يف زمن الثورات العربية ه��ذه ال��م��خ��ت��ارات مستلّ ة م��ن م��ؤل��ف ل��غ��رام�شي غ�ير م��ع��روف ك ً ��ث�يرا ،ه��و «م�لاح��ظ��ات ح��ول الهنضة القومية ً وخصوصا من الفصول الثاين واخلامس والاسدس .تتعلّ ق المختارات بمحاولة تنظري اإليطالية» (،)١٩٣٣ لتجارب الوحدة اإليطالية واأللمانية والثورات اجلمهور ية األوروبية يف القرنني الثامن عرش والتاسع عرش يقوم هبا الذهن النقدي اإلستثنايئ ألنطونيو غراميش ،المفكر والقائد الشيوعي اإليطايل الكبري .القراءة ّ ّ بالتفكر االستلهام ال التطبيق اآل يل .فكل نص نظري -تارخيي للتفكر بالثورات العربية .ونقصد مناسبة ن��ق��ط��ة ان��ط�لاق ال هن��اي��ة م��ط��اف .ال��م��ه��م يف ت��ن��اول غ��رام�شي ل��ه��ذه ال��ت��ج��ارب ،م��ق��ي��اس��ه ال��م�نه��ج��ي األاسس عن السيطرة وال��ق��ي��ادة يف مم��ارس��ة السلطة ،وع��دد م��ن مفاهيمه المفتاحية مثل مفهوم «ال��ث��ورات السلبية» ومفهومه ع��ن ح��رب المواقع وح��رب ال��م��ن��اورة ،واستخدامه اخل�لاق للتحليل الطبقي ،ومقاربته المبتكرة لمأسلة التمثيل السيايس للطبقات يف الثورات كما يف عملية التوحيد القومي ،والعالقة بني العسكري ً ً آخرا ،إضاءاته الدائمة عىل أدوار المثقفني. وأخريا ليس والسيايس يف الثورات،
الف�صل الثاين
�صورة لغرام�شي بعد اعتقاله. 168
القيادة وال�سيطرة �إن املقيا�س املنهجي ال��ذي يتعني على درا�ستنا �أن تعتمده هو الآتي: تفوق فئة اجتماعية معينة يتجلى �إن ّ بطريقتني ،مبا هو «�سيطرة» �أو مبا هو «قيادة فكرية و�أخالقية»ّ � .إن فئة اجتماعية معينة ت�سيطر على الفئات املعادية ،فت�سعى �إىل «ت�صفيتها» �أو �إىل �إخ�ضاعها ،ما قد ي�ضطرها �إىل اللجوء �إىل القوة امل�سلحة� .إال �أنها تقود فئات منا�رصة �أو حليفة. ويف مقدور الفئة املعنية �أن متار�س «القيادة» حتى قبل ا�ستيالئها على �سلطة الدولة ،ال بل يجب عليها ذلك؛ (لأن هذه القيادة �رشط �أ�سا�سي من �رشوط اال�ستيالء على ال�سلطة). بدايات
201320 ربيع 13 |5 العدد 6
ولن حتقق الفئة املعنية �سيطرتها �إال عندما تبا�رش ممار�سة ال�سلطة .لكن مهما كانت �سيطرتها مكينة على مقاليد ال�سلطة ،تبقى م�ضطرة �إىل اال�ستمرار يف ممار�سة «القيادة» �إىل جانب ممار�ستها «ال�سيطرة». املثقفون والطبقات ...هنا نكت�شف الثبات املنهجي ملقيا�س من مقايي�س البحث التاريخي ال�سيا�سي القائل ب�أنه ال توجدطبقة م�ستقلة من املثقفني ،بل �إن لكل طبقة �رشيحتها اخلا�صة من املثقفني� ،أو �إنها تتجه نحو ت�شكيل مثل تلك ال�رشيحة� .إال � ّأن مثقفي الطبقة التقدمية تاريخي ًا (وعملي ًا) قد ينجحون يف ظروف معينة يف اجتذاب مثقفي الطبقات االجتماعية الأخرى
و�إخ�ضاعهم ،يف نهاية املطاف، في�ؤ�س�سون بالتايل نظام ًا من الت�ضامن ت�شده روابط ي�ضم جميع املثقفني، ّ ذات طابع نف�ساين (االعتداد بالنف�س، ت�شده ع�صبية املرتبة �إلخ ،)...وغالب ًا ما ّ املغلقة (ذات الطابع الثقايف -احلقوقي �أو التعا�ضدي� ،إلخ.)... وتتجلى هذه الظاهرة «عفوياً» �إبان تلك الفرتات التاريخية التي ت�ؤدي فيها الطبقة املعنية دور ًا تقدمي ًا فعلي ًا، �أي عندما تدفع املجتمع ككل �إىل �أمام، فال تكتفي بتلبية حاجاتها املعا�شية، بل تعمل با�ستمرار على م�ضاعفة عدد كوادرها من �أجل غزو جماالت متجددة �أبد ًا من الن�شاط االقت�صادي والإنتاجي .ولكن ،ما �إن ت�ستنفد الطبقة االجتماعية امل�سيطرة وظيفتها، حتى تنحو هذه الكتلة الأيديولوجية
ميكن تو�صيف ذلك على النحو الآتي :كانت «املرتبة الثالثة» � ّ أقل الطبقات االجتماعية متتع ًا بالتما�سك الداخلي ،فنخبتها املثقفة �شديدة التنوع والبعرثة ،وهي على وجه الإج��م��ال طبقة متقدمة ج��د ًا يف ميالة امليدان االقت�صادي ،لكنها ّ �إىل االع��ت��دال �سيا�سي ًا .غري � ّأن منحى تطور الأو���ض��اع �سيتخذ ً �شديد الإث���ارة .يف البدء ،اكتفى ممثلو «املرتبة الثالثة» بطرح امل�سائل تتكون تهم الأف���راد الذين التي ّ ّ منهم الطبقة فقط� ،أي املطالب التي تعبرّ عن م�صاحلهم «الفئوية» فح�سب (ون�ستخدم «فئوية» باملعنى التقليدي� ،أي مبعنى امل�صالح الأنانية ال�ضيقة واملبا�رشة لفئة معينة) .وال��واق��ع � ّأن رواد الثورة كانوا �إ�صالحيني معتدلني� ،أ�صواتهم لكن مطالبهم متوا�ضعة. مرتفعةّ ، تدريجي ًا ،منت نخبة جديدة ال تق�رص اهتمامها على الإ�صالحات
لوال د�أب اليعاقبة على معار�ضة �أية «هدنة» يف العملية الثورية ،ف�أر�سلوا �إىل املق�صلة ممثلي املجتمع القدمي ،ثم �أحلقوهم بثوريي الأم�س وقد باتوا رجعيني مبقايي�س احلا�رض .وهكذا كان اليعاقبة احلزب الوحيد للثورة اجلارية، بالقدر الذي مل يكتفوا فيه بتمثيل الأفراد احلقيقيني الذين تتكون منهم الربجوازية الفرن�سية ،و�إمن��ا م ّثلوا احلركة الثورية بعامة ،مبا هي �سريورة تاريخية متكاملة .وكانوا احلزب الوحيد للثورة اجلارية �أي�ض ًا لأنهم م ّثلوا �أي�ض ًا احلاجات امل�ستقبلية، لي�س فقط حاجات ه ��ؤالء الأف��راد الفعليني وح�سب ،بل �أي�ض ًا حاجات كافة املجموعات القومية التي كان يتعينّ ا�ستيعابها يف �إط��ار الطبقة الأ�سا�سية القائمة :الربجوازية. ن�شدد ،يف وجه وال بد من �أن ّ تيار فكري منحاز والتاريخي، على � ّأن اليعاقبة كانوا واقعيني على طريقة ماكيافللي ،ومل يكونوا حاملني
ال�سمة املميزة لليعقوبية ...وبالتايل ال�سمة املميزة ملجمل الثورة الفرن�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــية، هي �أنها قامت على دفع الو�ضع عنو ًة �إىل الأمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــام... وعلى مبادرة قب�ضة من الرجال البالغي الن�شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاط واحلزم ي�سوقون الربجوازية �إىل �أمام بركلها على قفاهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا الطريق �أم���ام ال���دور ال��ذي �أ ّداه نابليون بونابارت� .إن ال�سمة املميزة لليعقوبية (وقبلها �أي�ض ًا لكرومويل وج��ن��وده امللقبني بـ«م�ستديري الر�ؤو�س») -وبالتايل ال�سمة املميزة ملجمل الثورة الفرن�سية -هو �أنها قامت على دفع الو�ضع عنوة �إىل ظاهريا على الأق��ل ،وعلى الأم��ام، ً فر�ض الأمر الواقع ،وعلى مبادرة قب�ضة من الرجال البالغي الن�شاط واحلزم ي�سوقون الربجوازية �إىل �أمام بركلها على قفاها. 169
بدايات
العدد 2013 |6
«ال��ف��ئ��وي��ة» ،ب��ل ت��ن��زع نحو فهم الربجوازية ب�صفتها الطبقة املهيمنة على �سائر القوى ال�شعبية .وقد مت هذا اال�صطفاء بفعل عاملني اثنني :مقاومة القوى االجتماعية القدمية من جهة، والأخطار اخلارجية من جهة ثانية. فقد رف�ضت قوى العهد القدمي تقدمي التنازالت .وحيث ارت�ضت التنازل عن النزر الي�سريّ ،مت ذلك من �أجل ك�سب الوقت والتهيئة للهجمات املعاك�سة. مقدر ًا لـ«املرتبة الثالثة» �أن وكان َّ ت�سقط يف هذه «املنزلقات» املتتالية
جمردين .كانوا مقتنعني كل االقتناع ّ باحلقيقة املطلقة ال��ت��ي تنطوي عليها �شعاراتهم ع��ن امل�ساواة والأخ��وة واحلرية ،والأهم من ذلك � ّأن اجلماهري ال�شعبية العري�ضة وزجوها يف عب�أها اليعاقبة ّ التي ّ ال�رصاع كانت مقتنعة هي �أي�ضا ً بتلك احلقيقة .ولقد عبرّ اليعاقبة يف لغتهم و�أيديولوجيتهم و�أ�ساليب ال عن متطلبات عملهم تعبري ًا �أ�صي ً حقبتهم التاريخية ،و�إن كانوا يبدون «جتريديني» و«مهوو�سني» مبقايي�س
«ال��زم��ن احل��ا��ضر»� ،أي يف و�ضع خمتلف ،وبعد انق�ضاء �أكرث من قرن من التطور الثقايف. بالطبع ،عبرّ اليعاقبة عن تلك املتطلبات وفق ًا للتقليد الثقايف الفرن�سي .و�أحد الأمثلة على ذلك هو حتليل اخلطاب اليعقوبي كما تلقاه يف «العائلة املقد�سة» .ومثال �آخر هو اعرتاف هيغل نف�سه ب� ّأن اخلطاب احلقوقي -ال�سيا�سي اليعقوبي ومفاهيم الفل�سفة الكال�سيكية الأملانية -املعرتف بها اليوم ب�أنها حتوي احلد الأق�صى من التحديد، والتي �شكلت منبع التاريخانية احلديثة -متوازيان موازاة تامة وقابل واحدهما لأن يرتجم �إىل لغة الآخر. كانت ال����ضرورة الأوىل (التي ا�ست�شعرتها اليعقوبية) هي �رضورة �إبادة القوى املعادية �أو ّ �شل حركتها �إىل درجة تنعدم معها �إمكانية قيام ر ّدة م�ضادة للثورة� .أما ال�رضورة الثانية، فهي تو�سيع الإط��ارات التي تتكون منها الربجوازية بحد ذاتها وو�ضعها يف املوقع القيادي ل�سائر قوى الأمة. ا�ستقطاب الفالحني وكان هذا يعني ا�ستنباط امل�صالح واملتطلبات امل�شرتكة بني كافة تلك ال��ق��وى لتحريكها وقيادتها يف ال�رصاع مبا يحقق نتيجتني اثنتني: �أوالهما َج ْبه ال�رضبات التي يكيلها العدو بوا�سطة �أو�سع هدف ممكن، �أي �إيجاد ت��وازن قوى �سيا�سي - ع�سكري مل�صلحة الثورة .وثانيتهما، حرمان ذاك العدو �أية منطقة �آمنة ي�ستطيع فيها جتنيد اجليو�ش من منط جي�ش «الڤانديه». ولوال ال�سيا�سة الزراعية التي اعتمدها اليعاقبة ،لكانت «الڤانديه» ق��د و�صلت �إىل �أب���واب باري�س. 170
بدايات
العدد 2013 |6
١٨٦٤و ١٨٦٦و ١٨٧٠قد حلت امل�س�ألة القومية كما حلت امل�س�ألة الطبقية انتقالي ًا .ففازت الربجوازية بال�سلطة االقت�صادية ال�صناعية ،غري �أن الطبقات الإقطاعية القدمية ظلت هي الفئة ال�سيا�سية احلاكمة يف الدولة حتظى بامتيازات فئوية وا�سعة النطاق يف اجلي�ش والإدارة وامللكية العقارية. و�إذا كانت هذه الطبقات القدمية ق��د حافظت على ذاك ال��ق��در من الأه��م��ي��ة يف �أمل��ان��ي��ا ومتتعت مبثل تلك االمتيازات ،فلأنها مار�ست وظيفة قومية ،لأن �أف��راده��ا �أدوا دور «مثقفي» الربجوازية الذين ميلكون مزاج ًا خا�ص ًا بهم متح�ضهم �إياه �أ�صولهم الفئوية والتقاليد .يف �إنكلرتا ،التي �سبقت فرن�سا يف ثورتها الربجوازية ،نلقى ظاهرة �شبيهة بالظاهرة الأملانية ،هي ظاهرة االندماج بني القدمي واجلديد ،على الرغم من الن�شاط الكثيف الذي بذله «اليعاقبة» الربيطانيون � -أي كرومويل و«م�ستديرو الر�ؤو�س». فقد ظلت الأر�ستقراطية القدمية ت�ؤدي
وع��ل��ى ال��رغ��م م��ن ه��ذا كله، نقول �إن اليعاقبة مل يغادروا �أر�ض ال�برج��وازي��ة ق��ط ،كما يتبني من الأح���داث التي �أعلنت نهايتهم كحزب مقولب يف قالب جامد و�ضيق �إىل ابعد ح��دود ال�ضيق، كما يتبني من حالهم بعد م�رصع «ل روب�سبيري .فقد مت�سكوا بقانون ُ �شاپلييه» ورف�ضوا تقدمي �أي تنازل للعمال حول حق التنظيم .فا�ضطروا بالتايل �إىل �إ�صدار القانون املعروف فق�سموا بـ«قانون احلد الأق�صى»، ّ ب��ذل��ك اجلبهة الباري�سية .و�إذا املجمعة يف بقواهم الهجومية، ّ «عامة باري�س» تتفرق خائبة الأمل وينت�رص «الرثميدور». بذلك كانت الثورة قد بلغت حدها الطبقي الأق�صى .و�أف�ضت �سيا�سة التحالفات والثورة امل�ستمرة �إىل طرح ق�ضايا جديدة مل تكن قادرة على حلها �آنذاك ،وهي التي �أطلقت العنان لقوى بدائية ال ميكن احتوا�ؤها �إال بوا�سطة دكتاتورية ع�سكرية.
والواقع � ّأن مقاومة منطقة «الڤانديه» بحد ذاتها وثيقة ال�صلة بامل�س�ألة ّ القومية التي احتدمت بني �شعوب منطقة «بريتانيا» وب�شكل عام بني جميع املناوئني ل�شعار «اجلمهورية الواحدة التامة غري القابلة للتجزئة» وبني ال�سيا�سة املركزية الإداري��ة �شعار ونهج الع�سكرية ،وهماٌ �سيا�سي مل يكن لليعاقبة �أن يتخلوا عنهما دون �أن ي�سوقهم ذلك �إىل االنتحار ال�سيا�سي. حاول «اجلريونديون» ا�ستغالل �شعار الفيدرالية لكي ي�سحقوا باري�س اليعقوبية ،غري � ّأن اجليو�ش الريفية التي احت�شدت للزحف على العا�صمة ما لبثت �أن ان�ضمت �إىل �صفوف الثوار .وخال بع�ض املناطق الهام�شية -حيث التمايزات القومية واللغوية الفاقعة -تبينّ �أن امل�س�ألة الزراعية �أقوى من نزعات اال�ستقالل الذاتي .فارت�ضت فرن�سا الريفية هيمنة باري�س� ،أي �إنها �أدركت �أن الت�صفية النهائية للعهد القدمي كانت تقت�ضي التحالف مع العنا�رص الأكرث تقدم ًا من «املرتبة الثالثة» ال يف اختالف طرائق التحالف مع «اجلريونديني»� .صحيح ت�س ّلم الربجوازية لل�سلطة � ّأن اليعاقبة �أرغموها على ذلك يف فرن�سا كان امل�سار هو الأغنى �إرغ��ام� ًا ،لكن ال�صحيح �أي�ض ًا �أن م��ن حيث ال��ت��ط��ورات ،وم��ن حيث عملية الإرغ��ام هذه كانت حت�صل اح��ت��وا�ؤه على العنا�رص ال�سيا�سية دوم ًا يف اجتاه من�سجم واجتاه التطور احلية والإيجابية� .أما يف �أملانيا ،فقد �أخذ منحى ي�شبه ،يف بع�ض جوانبه، التاريخي احلقيقي. ِ يكتف اليعاقبة بتنظيم حكومة ما ح�صل يف �إيطاليا ،مثلما ي�شبه ما ومل برجوازية� ،أي حتويل الربجوازية ح�صل يف �إنكلرتا يف جوانبه الأخرى. �إىل طبقة مهيمنة .فعلوا �أكرث من لقد ف�شلت حركة ١٨٤٨يف ذل��ك� :أ�س�سوا الدولة الربجوازية �أملانيا نتيجة �ضعف التمركز الربجوازي وجعلوا الربجوازية الطبقة القائدة (حيث كان �أق�صى الي�سار الدميقراطي واملهيمنة يف الأمة .بعبارة �أخرى ،هو ال��ذي ط��رح �شعار ًا من الطراز �أر�سوا الدولة اجلديدة على قاعدة اليعقوبي :الثورة امل�ستمرة) ولأن را�سخة وبنوا الأمة الفرن�سية احلديثة م�س�ألة جتديد الدولة كانت مت�شابكة مع امل�س�ألة القومية .والواقع �أن حروب املر�صو�صة البنيان.
يف حكم �أملانيا على ال��رغ��م من التطور الر�أ�سمايل الكبري الذي عرفته ،فتف�سري يجانب التف�سري ال�صحيحّ � :أن العالقات الطبقية التي و ّل��ده��ا التطور ال�صناعي، �ضمن حدود الهيمنة التي بلغتها الربجوازية ونظر ًا �إىل االنقالب يف موقف الطبقات التقدميةَ ،ح َدت الربجوازية �إىل عدم الإلقاء بكل ثقلها يف الن�ضال �ضد النظام القدمي. فحافظت على جزء من واجهة ذاك النظام كي ت�ستطيع �أن تتوارى خلفه وتخفي بوا�سطته �سيطرتها الفعلية. وحقيقة الأمر �أنه لي�س يكفي �أن نربط جتلي عملية تاريخية واحدة يف بلدان خمتلفة باختالف تركيبات العالقات الداخلية للأمم املختلفة وح�سب ،بل ينبغي ربطها �أي�ض ًا باالختالف يف العالقات الدولية (وهي غالب ًا ما يجري التقليل من �أهميتها يف مثل ه��ذه الأب��ح��اث). يوجد بالت�أكيد راب��ط بني ال��روح اليعقوبية ،املقدامة واجلريئة ،وبني الهيمنة التي مار�ستها فرن�سا لفرتة
هائل للطاقات الب�رشية التي كانت ت�ضم �أكرث الرجال جر�أة ون�شاط ًا. القيادة الع�سكرية والقيادة ال�سيا�سية ثم � ّإن اجلي�ش هو �أي�ض ًا «�أداة» لتحقيق هدف معني .غري �أنه يت�ألف من ب�رش فاكرون ال من �آالت يجري ا�ستخدامها �إىل حد انهيار متا�سكها الآيل واجل�سدي .وحتى لو ا�ستطعنا، عما بل وجب علينا ،احلديث هنا ّ هو مالئم للهدف وم�ستعجل يف حتقيقه ،فال بد من �أن ن�رشط تلك ال�رشوط جميع ًا مبا يتوافق وطبيعة الأداة ذات��ه��ا� .إن ال����ضرب على م�سمار بوا�سطة مطرقة خ�شبية بالقوة ذاتها التي ي�رضب فيها عليه بوا�سطة مطرقة فوالذية ي�ؤدي �إىل انغراز امل�سمار يف املطرقة اخل�شبية بدل �أن ينغرز يف اجلدار� .إن القيادة الع�سكرية ال�صائبة �رضورية حتى بالن�سبة �إىل جي�ش من املرتزقة (حتى �أفواج املرتزقة تتطلب حد ًا �أدنى من القيادة ال�سيا�سية �إ�ضافة
ظلت الأر�ستقراطية القدمية ت�ؤدي دورها كفئة حاكمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة، وتتمتع بعدد من االمتيازات ،فتحولت هي �أي�ض ًا �إلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى ال�رشيحة املثقفة للربجوازية الإنكليزيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة دوره��ا كفئة حاكمة ،وتتمتع بعدد من االمتيازات ،فتحولت هي �أي�ض ًا �إىل ال�رشيحة املثقفة للربجوازية الإنكليزية (ال بد من �أن ن�ضيف هنا �أن للأر�ستقراطية الإنكليزية ُبنية مفتوحة و�أنها كانت تتجدد با�ستمرار ب��ول��وج عنا�رص �إليها وف��دت من �أو�ساط املثقفني والربجوازية). �أم���ا التف�سري ال���ذي يعطيه �أن��ط��ون��ي��و الب���ري���وال ع���ن ك��ون «اليونكرز» والقي�رصية قد ا�ستمروا 171
بدايات
العدد 2013 |6
طويلة على �سائر بلدان �أوروب��ا، مثلما يوجد رابط بني تلك النزعة اليعقوبية وبني وجود مركز مديني مثل باري�س والدرجة العالية من املركزية التي بلغتها فرن�سا بف�ضل النظام امللكي .وم��ن جهة ثانية، �إن احلروب التي �أدت دور ًا فكري ًا خم�صب ًا بالن�سبة �إىل نه�ضة �أوروبا، �أدت على عك�س ذلك� ،إىل ا�ستنزاف احليوية ال�سيا�سية الن�ضالية لفرن�سا كما ل�سائر الأمم ،ملا �سببته من تدمري
�إىل القيادة الفنية -الع�سكرية) فكيف بنا �إذا ك��ان الأم��ر يتعلق بجي�ش قومي من املجندين؟ وتزداد امل�س�ألة تعقيد ًا و�صعوبة يف ح��روب املواقع التي تخو�ضها جماهري عري�ضة لي�ست تقوى على احتمال املجهودات الع�ضلية والع�صيبة والنف�سانية اجلبارة �إال �إذا توافر لها خمزون وافر من القوة املعنوية .وحدها القيادة ال�سيا�سية احلاذقة ،القادرة على مت ُّثل �أعماق
الف�صل اخلام�س
امل�شاعر والتطلعات اجلماهريية قادرة على احليلولة دون التفكك والهزمية. ينبغي �إخ�ضاع القيادة الع�سكرية يف النه�ضة القومية الإيطالية� ،أدت للقيادة ال�سيا�سية على ال��دوام[ .مملكة] پييدمونت دور «الطبقة بعبارة �أخرى ،ينبغي �أن تكون اخلطة احلاكمة» .فالواقع �أن �إيطاليا مل اال�سرتاتيجية هي الرتجمة الع�سكرية ت�شهد ظاهرة ن�شوء �أنوية لطبقة ل�سيا�سة �شاملة معينة .بالطبع ،قد حاكمة على امتداد �شبه اجلزيرة ّ حتكمت نزعتها الوحدوية الكا�سحة يكون ال�سيا�سيون عدميي الكفاءة، الف�صل ال�ساد�س بتكون الدولة القومية الإيطالية يف حالة معينة ،فيما ميلك اجلي�ش ّ ق��ادة يجمعون الكفاءة الع�سكرية اجلديدة .بالت�أكيد كانت تلك الأنوية �إىل اجل��دارة ال�سيا�سية .هكذا كان موجودة� .إال �أن نزعتها الوحدوية مفهوم الثورة ال�سلبية الأمر بالن�سبة �إىل يوليو�س قي�رص كان يلفّها �إ�شكال كبري .والأهم من يجب ا�ستخال�ص مفهوم «الثورة ونابليون .غري �أننا ر�أينا كيف �أن تغيري ذلك �أن �أي ًا منها مل ي�ضطلع ب�أداء ال�سلبية» ا�ستخال�ص ًا �صارم ًا من النهج ال�سيا�سي ،يف حالة نابليون ،الدور «القيادي» يف نطاقه اخلا�ص .مبد�أين �أ�سا�سيني من مبادئ علم واالفرتا�ض �أنه ميلك �أداة ع�سكرية وملا كان وجود «القائد» يفرت�ض ال�سيا�سة[ :يقول] املبد�أ الأول� :إن (مل تكن ع�سكرية �إال باملعنى املجرد) وج��ود «امل��ق��ود» ،فمن ه��م الذين ما من ت�شكيلة اجتماعية تختفي ما «قادتهم» تلك النوى؟ الواقع �أنها مل دامت قوى الإنتاج التي منت داخلها �أديا �إىل انهيار الرجل. وحتى يف احلاالت التي تندمج تكن ترغب يف قيادة �أحد� ،أي �إنها جتد مت�سع ًا للنمو[ .ويقول] املبد�أ فيها القيادة الع�سكرية وال�سيا�سية يف مل تكن ترغب يف رب��ط م�صاحلها الثاين� :إن املجتمع ال يطرح على �شخ�ص واحد ،ينبغي �أن تكون الغلبة وتطلعاتها مب�صالح وتطلعات �أي من نف�سه من املهمات �إال تلك التي للن�صاب ال�سيا�سي على الن�صاب الفئات الأخ��رى .كانت ترغب يف ن�ضجت الظروف ال�رضورية حل ّلها. غني عن القول � ّأن هذه املبادئ الع�سكري� .إن [كتاب] «مالحظات ممار�سة «اال�ستتباع» ال «القيادة» .ثم ٌّ و��ش�روح» ليوليو�س قي�رص مثال � ّإن هذه الأنوية كانت ترغب يف تغليب ال ب��د م��ن بلورتها ن��ق��دي� ًا بكل بد من تطهريها من كال�سيكي على الدمج الذكي بني م�صاحلها ال �أ�شخا�صها� ،أي �إنها كانت مرتتباتها ،وال ّ تر�سب من تر�سبات النزعتني الفن ال�سيا�سي والفن الع�سكري .تطمح �إىل قيام قوة جديدة من ّزهة كل ّ �دري��ة .من هنا يجب مل يكن اجلنود يكتفون بالنظر �إىل عن كل م�ساومة �أو ��شرط ،لت�ؤدي الآل��ي��ة وال � َق� َ القي�رص على �أنه جمرد قائد ع�سكري دور احلكم بالن�سبة �إىل الأمة ب�أ�رسها� .إرج��اع��ه��ا �إىل و�صف اللحظات متيز «و�ضع ًا» عظيم ،بل نظروا �إليه �أي�ض ًا ،وبنوع وكانت پييدمونت تلك القوة ،ومن هنا الثالث الأ�سا�سية التي ّ معينة، خا�ص ،على �أنه زعيمهم ال�سيا�سي ،ا�ستمد النظام امللكي وظيفته. من الأو�ضاع �أو توازن قوى ّ زعيم الدميقراطية .كذلك ينبغي �أن هكذا �أدت پييدمونت دور ًا ميكن مع الت�شديد الكبري على اللحظة ن�ستح�رض هنا كيف حافظ ب�سمارك ،ت�شبيهه ،من بع�ض جوانبه على الثانية (ت��وازن القوى ال�سيا�سي) م�ستلهم ًا كالوزفت�س ،على غلبة الأقل ،بدور احلزب� ،أي بالدور الذي وخ�صو�ص ًا على اللحظة الثالثة اللحظة ال�سيا�سية على اللحظة ي�ؤديه اجلهاز القيادي بالن�سبة �إىل (التوازن ال�سيا�سي -الع�سكري). الع�سكرية ،يف حني �أن غليوم الثاين فئة اجتماعية معينة .بالفعل ،كان ح�سب رواية لودفيغ -كان يكتفي النا�س يتكلمون دوم ًا على «حزب حرب املواقع ،حرب املناورةبتدوين املالحظات الغا�ضبة على پييدمونت» .وكان لپييدمونت ميزة هل ميكن �إقامة ال�صلة بني مفهوم هوام�ش ال�صحيفة التي كانت تنقل �إ�ضافية ،هي �أنها دولة متلك جي�شها «الثورة ال�سلبية» -باملعنى الذي يعطيه فين�سنزو كووكو للمرحلة ت�رصيحات ب�سمارك .وهكذا ك�سب وجهازها الدبلوما�سي� ،إلخ. الأملان كل املعارك برباعة ،غري �أنهم � ّإن لهذه الواقعة �أهمية بالغة الأوىل من النه�ضة القومية الإيطالية بالن�سبة �إىل م��ف��ه��وم «ال��ث��ورة -وب�ين مفهوم «ح���رب امل��واق��ع» خ�رسوا احلرب. 172
بدايات
العدد 2013 |6
باملقارنة مع «حرب املناورة»؟ بعبارة �أخ��رى ،هل بقي لهذين املفهومني من معنى بعد قيام الثورة الفرن�سية، وهل ميكن تف�سري/فهم �شخ�صيتي بناء على پرودون وجيوبرتي التو�أمني ً الذعر الذي �أث��اره «عهد الإرهاب » �سنة ١٧٩٣مثلما نف�رس/ بناء على الذعر نفهم «ال�سوريلية» ً ال��ذي �أعقب جم��ازر باري�س �سنة ١٨٧١؟ �أعني :هل يوجد تطابق تام بني «حرب املواقع» وبني «الثورة ال�سلبية»؟ �أم هل يوجد� ،أق ّله ،حقبة تاريخية كاملة ،فعلية كانت �أو حمتملة ،يتطابق فيها املفهومان� ،إىل �أن تتحول حرب املواقع جمدد ًا �إىل حرب مناورة؟ يجب احلكم على فرتات «الردة» حكم ًا «دينامي ًا» مبا هي «مراوغة ي�سميها فيكو� .إال � ّأن الق ََدر» كما ّ امل�س�ألة هنا هي :يف النزاع بني كافور وماتزيني -حيث كان كافور يدعو للثورة ال�سلبية/حرب املواقع ،فيما ماتزيني داعية املبادرة ال�شعبية/حرب املناورة � -أمل يكن كالهما واجب الوجود ال ي�ستغنى عنه بنف�س القدر من الأهمية؟ ولكن يجب الأخذ يف احل�سبان �أنه فيما كان كافور واعيا ً ل��دوره (�إىل حد ما� ،أقله) مبقدار ما كان واعي ًا لدور ماتزيني ،ال يبدو �أن هذا الأخري كان واعي ًا لدوره هو �أو لدور كافور .ولو � ّأن ماتزيني ،على عك�س ذلك ،امتلك مثل هذا الوعي بعبارة �أخرى ،لو �أنه كان �سيا�سيا ًال ر�ؤيوي ًا (�أي ،لو � ّأن واقعي ًا ال ر�سو ً ماتزيني مل يكن ماتزيني) -الختلف التوازن احلا�صل عن ن�شاط الرجلني، ولرجح رجحانا ّبين ًا مل�صلحة ماتزيني وتياره .بعبارة �أخرى ،لكانت الدولة الإيطالية قد انبنت على قاعدة �أقل تخلف ًا و�أكرث حداثة.
ال�سلبية»؛ فنحن مل نكن يف �إزاء فئة اجتماعية «تقود» فئات اجتماعية �أخرى ،بل �أمام دولة ،على الرغم من تكبل �سلطتها« ،تقود» القيود التي ّ الطبقة التي كانت متار�س «القيادة» وت�ضع يف ت�رصفها جي�ش ًا و�إمكانات �سيا�سية -دبلوما�سية.
173
بدايات
العدد 2013 |6
دور التعبئة ال�شعبية وال ب��د هنا م��ن وق��ف��ة للنظر يف م�س�ألة حت� ّ�ول ال�رصاع ال�سيا�سي من «ح��رب م��ن��اورة» �إىل «حرب التحول م��واق��ع» .ح��دث مثل ه��ذا ّ يف �أوروب��ا بعد ،١٨٤٨وهذا ما مل ي�ستوعبه ماتزيني و�أتباعه ،على عك�س ما فعله �آخ��رون ،وقد تكرر التحول نف�سه بعد � ،١٨٧١إلخ. �صعب على �أمثال ماتزيني �إذذاك َ ُ ا�ستيعاب امل�س�ألة ،نظر ًا �إىل � ّأن احلروب الع�سكرية مل تكن قد وفّرت النموذج لذلك -واحلال � ّأن النظرية الع�سكرية كانت تنحو منحى حرب عما املناورة .وعلينا هنا �أن نبحث ّ �إذا ك��ان من تلميحات دال��ة لهذا املو�ضوع عند پي�ساكاين الذي كان ّ املنظر الع�سكري ملاتزيني. ومي��ك��ن درا���س��ة �أوج���ه �أخ��رى للعالقة ب�ين «ال��ث��ورة ال�سلبية» و«حرب املواقع» يف النه�ضة القومية الإيطالية .و�أهمها الوجه املتعلق بـ«العن�رص الب�رشي» و«التعبئة الثورية» .ميكن مقارنة الوجه املتعلق بـ«العن�رص الب�رشي» بدقة مع ما جرى يف احلرب العاملية الأوىل من حيث العالقة بني ال�ضباط املحرتفني وب�ين �ضباط االحتياط من جهة والعالقة بني املجندين واملتطوعني/ الفدائيني من جهة �أخرى� .إن املعادل لل�ضباط املحرتفني يف النه�ضة القومية الإيطالية هو الأح��زاب ال�سيا�سية النظامية ،الع�ضوية، التقليدية� ،إل��خ ...التي ما �إن دقت �ساعة الفعل (�سنة )١٨٤٨حتى تك�شفت عن عجزها� ،أو ما ي�شبه املد ال�شعبي العجز ،فجرفتها �أمواج ّ املاتزيني -الدميقراطي العاتي.ك��ان��ت تلك الأم����واج فو�ضوية، هالمية� ،إذا جاز التعبري ،ومهما يكن،
فقد حققت ،يف ظل قيادة مرجتلة... جناحات كانت دون �أدنى �شك �أعظم من تلك التي حققها املعتدلون: �إذ �أظهرت اجلمهورية الرومانية والبندقية طاقة مقاومة عظيمة، ويف فرتة ما بعد ،١٨٤٨انتظمت العالقة بني القوتني ،القوة النظامية زمية» ،حول �شخ�صي والقوة «الكا ِر ّ كافور وغاريبالدي و�أنتجت �أعظم النتائج (على الرغم من �أن كافور هو الذي �صادر النتائج). وم�س�ألة «العن�رص الب�رشي» هذه وثيقة ال�صلة مب�س�ألة «التعبئة». وجت��در الإ�شارة �إىل �أن ال�صعوبة التقنية التي �أحبطت م��ب��ادرات ماتزيني على الدوام كانت «التعبئة الثورية» .و�إنه ملثري يف هذا املنظار �أن ندر�س حماولة رامورينو احتالل �ساڤوا ،جنب ًا �إىل جنب مع حماوالت الإخوة بانديريا وپي�ساكاين� ،إلخ. و�إج��راء املقارنة يف ما بينها وبني الو�ضع الذي واجهه ماتزيني يف ميالنو ع��ام ١٨٤٨ويف روم��ا ع��ام ،١٨٤٩وه��ي �أو���ض��اع مل ميلك ماتزيني القدرة على �ضبطها، وكان حمكوم ًا على تلك املحاوالت التي اقت�رصت على قب�ضة من الأفراد �أن يق�ضى عليها يف املهد. �إن معجزة كانت مطلوبة للحيلولة دون �أن تتوىل القوى الرجعية، املمركزة واملالكة حلرية احلركة (لأنها مل تكن تواجه �أي��ة حركة �شعبية عري�ضة) �سحق مبادرات من منط تلك التي قام بها رامورينو وپي�ساكاين وب��ان��دي�يرا ،حتى لو حظيت تلك امل��ح��اوالت ب��إع��داد �أف�ضل مما ح�صل� .أم��ا يف الفرتة الثانية ( ،)١٨٥٩-١٨٦٠فقد �أمكن حتقيق «تعبئة ثورية» (وهذا ما كانه «جي�ش الألف» الذي قاده
ال؛ لأن غاريبالدي غاريبالدي) �أو ً جنح يف �أن يتمف�صل على القوى القومية الپييدمونتية ،وثاني ًا لأن البحرية الربيطانية وفرت حماية فعلية للإنزال يف مار�ساال والحتالل پا ِلرمو و�ش ّلت ق��درات بحرية �آل بوربون .والواقع � ّأن الفر�صة �سنحت ملاتزيني -يف ميالنو بعد «انتفا�ضة الأي���ام اخلم�سة» ،كما يف روم��ا تطوع اجلمهورية -لكي يقيم مراكز ّ من �أج��ل تعبئة قتالية ع�ضوية، لكنه مل تكن لديه �أية نية للقيام بذلك .وكان هذا م�صدر نزاعه مع غاريبالدي يف روم��ا و�سبب عدم فاعلية م�ساعيه يف ميالنو باملقارنة مع كاتانيو واملجموعة الدميقراطية امليالنية. دور احلركات ال�شعبية «العفوية» ومهما يكن من �أم��ر ،فعلى الرغم من �أن �أح��داث النه�ضة القومية �أظهرت الأهمية الكربى للحركات ال�شعبية «الغوغائية» التي يقودها قادة ارجتاليون رمت بهم الأق��دار على ر�أ�سها� ،إال � ّأن حقيقة الأمر � ّأن القوى التقليدية الع�ضوية هي التي �سيطرت على تلك احلركات، بعبارة �أخ���رى� ،سيطرت عليها الأح���زاب العريقة ،ذات القادة املتكونني على نحو عقالين .واحلال � ّأن �أحداث ًا �سيا�سية مماثلة قد ولدت نتائج متطابقة( .ومن الأمثلة على ذلك ،غلبة الأورليانيني على القوى ال�شعبية الدميقراطية اجلذرية يف فرن�سا عام ،١٨٣٠بل �إن الثورة الفرن�سية عام ١٧٨٩هي مثال على ذلك �أي�ض ًا ،حيث م ّثل نابليون، يف نهاية املطاف ،انت�صار القوى الربجوازية الع�ضوية على القوى الربجوازية ال�صغرية اليعقوبية). 174
بدايات
العدد 2013 |6
والأم���ر ذات��ه يتكرر م��ع انت�صار ق��دام��ى ال�ضباط املحرتفني على �ضباط االحتياط يف احلرب العاملية الأوىل� ،إلخ .ويف �أي حالّ � ،إن غياب �أي �إدراك لدور الطرف الآخر لدى القوى ال�شعبية الراديكالية منعها من �أن تدرك دوره��ا هي ،الإدراك الكامل ،وحرمها بالتايل �أن يكون لها وزنها يف ميزان القوى النهائي بن�سبة قوة تدخلها الفعلية [فيه]، وبالتايل من �أن تفر�ض نتيجة �أكرث تقدم ًا ترتكز على �أ�س�س �أك�ثر تقدمية و�أكرث حداثة. الظروف املو�ضوعة والذاتية و�أي�����ض � ًا ب�صدد مفهوم «ال��ث��ورة ال�سلبية» �أو «ال��ث��ورة/ال��ردة» يف النه�ضة القومية الإيطالية ،جتدر املالحظة �أن��ه يجب ط��رح عظيم الدقة للم�س�ألة التي ت�سميها بع�ض مدار�س كتابة التاريخ م�س�ألة العالقة بني الظروف املو�ضوعية والظروف الذاتية يف �صنع احلدث التاريخي. ويبدو بديهي ًا � ّأن ما ي�سمى الظروف الذاتية ال ميكن �أن تكون مفقودة عندما تتوافر الظروف املو�ضوعية� ،إال مبقدار ما يكون التمييز جمرد متييز ذي طابع تعليمي .وبالتايلّ � ،إن النقا�ش �إمنا يطاول حجم القوى الذاتية ودرجة متركزها ،وبالتايل العالقة اجلدلية يف ما بني قوى ذاتية مت�صارعة. الكف عن طرح امل�س�ألة يجب ّ ال من على �أ�س�س «مثقفاتية» ب��د ً طرحها على �أ���س�����س تاريخية �سيا�سية .ال �أح��د ي��ج��ادل يف� ّأن «الب�صرية» الفكرية لظروف ال�رصاع �أمر ال غنى عنه� .إال � ّأن هذه الب�صرية ت�صري قيمة �سيا�سية مبقدار ما ت�صري هوى موزع ًا ومبقدار ما ت�شكل ركيزة لإرادة �صلبة. 175
بدايات
العدد 2013 |6
العلوم االجتماعية العربية بني تقليد َين نقد َيني
غساّ ن احلاج استاذ االنرثوبولوجيا والنظرية االجتماعية يف جامعة ملبورن، اسرتاليا.
ماذا يعني �أن تكون عامل اجتماع يف العامل العربي اليوم؟ علماء االجتماع �أن يفكروا ب�صياغة خمتلفة :كيف ميكن َ يف املجتمع العربي نقدي ًا و�سط انتفا�ضات ال�سنوات املا�ضية؟ �إن �أ�سئلة كهذه ال ت�ستلزم �أجوبة عالجية، ال .الأحرى علم ًا ب� ّأن مثل هذه الأجوبة لي�ست ممكنة �أ�ص ً �أن تخدم الأ�سئلة يف فتح حقل للت�أمل ي�سمح لعلماء ال على طريقته، اجتماع متنوعني ب�أن يكونوا نقديني ،ك ً �إزاء احلاالت العينية التي يحللون .و�إين �أريد �أن �أ�سهم يف حقل الت�أمل هذا يف م�ساهمتي احلالية. النقدي لي�س هو اجلذري ّ لعل من املفيد �أن �أبد�أ بتو�ضيحّ � .إن «النقدي» ال يعادل «اجلذري» .النقد ميزة فكرية ،فيما اجلذرية/الراديكالية ميزة �سيا�سية .ميكن �أن يوجد ،وقد وجد تاريخي ًا ،تقارب حميم بني الفكر النقدي وال�سيا�سات اجلذرية .ومع ذلك ،ال يهم الت�شديد على هذا يف البيئة يجوز اخللط بني االثننيّ . العالية الت�سيي�س التي �أطلقتها االنتفا�ضات العربية حيث امل�س�ألة مل تعد م�س�ألة هذا الوجه من ال�سيا�سة �أو ذاك ،بل هي م�س�ألة «ال�سيا�سة بعامة» ،ال�سيا�سة التي ت�شتغل مبا هي جبارة كلية احل�ضورْ � .أن تكون عامل اجتماع �آلة ا�ستحواذ ّ نقدي ًا ال يعني �أن تكون المبالي ًا يف ال�سيا�سة ،لكنه يعني �أن تكون قادر ًا على �إنتاج �سيا�سات �أكادميية مميزة� .أي �أن ي�سميه الفرن�سيون تكون قادر ًا على حفر جمال متحرر مما ّ ّ «ال�سيا�سة ال�سيا�سوية»� ،سيا�سة ال�سيا�سيني املحرتفني. لي�ست �سيا�سة علماء االجتماع «معادية» لهذا النوع من ال �أن ال�سيا�سة ،لكنها ترف�ض �أن ُت�ستعبد لها ،ترف�ض مث ً تطيع منطق ال�صديق/العدو الذي تفر�ضه تلك ال�سيا�سة. يجب على عالمِ االجتماع النقدي �أن يت�ساءل :ب�أي طريقة يتمايز علم االجتماع؟ وكيف له �أن يقدم �شيئا ً
176
بدايات
العدد 2013 |6
جديد ًا� ،شيئ ًا ُيحرِج ال�سيا�سيني ويجعلهم يرتددون عن يروجون� ،أكانوا من �سيا�سيي الرتويج لنمط احلقائق التي ّ اليمني �أم الي�سار ،حمرتفني �أم نا�شطني. هنا ينف�صل النقدي عن اجل��ذري .ذلك �أن عالمِ اجتماع نقدي ًا ميكنه �أن يوفر �أدوات وتربيرات ل�سيا�سات جذرية دون �أن يفر�ض على تلك ال�سيا�سات �أن ترتدد و�أن تتفكر يف نف�سها� .أريد يف ما ي�أتي �أن �أ�ستك�شف تقليدين فكريني وفّرا �أدوات فعالة/مهمة للتفكري مبثل هذا املوقف ال�سو�سيولوجي النقدي� .س�أ�سميهما التقليد ال�سو�سيولوجي والتقليد الأنرثوبولوجي .ولكن غر�ضي لي�س التمييز بني املذاهب بقدر ما هو التمييز بني مراحل حتليلية نقدية .وبالت�أكيد ،فاملفكران اللذان ارتبطا مع اللحظة الأنرثوبولوجية واللحظة ال�سو�سيولوجية، برونو التور وپيري بورديو ،معروف كل منهما على �أنه �سو�سيولوجي و�أنرثوبولوجي يف �آن واحد. بورديو والعنف الرمزي حجر الزاوية ُت َع ّد �سيو�سيولوجيا بورديو يف �أيامنا هذه َ لتقليد نقدي مهم مو�ضوعه عالقات ال�سلطة والهيمنة يف املجتمعّ � .إن �أمناط الهيمنة عند بورديو تهدف دوم ًا �إىل الو�صول �إىل حالة ي�سميها «العنف الرمزي» .وهذه هي النقطة حيث �أولياء ال�سلطة يتدبرون فيها جلعل م�صلحتهم تبدو على �أنها م�صلحة اجلميع .وحني تتحول هذه امل�صلحة مبا هي عقيدة� ،أي عندما ت�صري بديهية ولي�س فيها ما يقال، ي�سميه غرام�شي «احل�س العام» ،ومثال على مبا ي�شبه ما ّ ذلك عندما يقول النا�س � ّإن من الطبيعي �أن يكون املرء تناف�سي ًا و�ساعي ًا �إىل �أغرا�ضه اخلا�صة� ،أو � ّأن من الطبيعي للرجال �أن ي�سيطروا على الن�ساء� ،أو � ّأن املغايرة اجلن�سية هي الأمر الطبيعي باملقارنة مع المِ ْثلية� ،أو � ّأن «العرب
ِ ي�سيطر عليهم دكتاتوريون �أقوياء» .تدخل يحبون �أن ّ ال�سو�سيولوجيا النقدية �إىل امليدان لتظهر �أن ما يبدو �أنه «طبيعي» �أو «قدري» يولد من �ضمن م�سار الهيمنة .هذا ي�سميه بورديو وظيفة «التحرر من الطبيعية » و«التحرر ما ّ من القدرية» يف جمال العلوم االجتماعية. لأن جعل م�صلحتهم تبدو «طبيعية» هو جزء من الطريقة التي بها ي�سيطر امل�سيطرون ،ف� ّإن ال�سو�سيولوجيا النقدية ،التي تك�شف تلك امل�سارات ،هي بطبيعتها �إىل جانب �ضحايا ال�سيطرة .ومع ذلك ،فاملجتمع لي�س مكون ًا
ا�ستخدام مقولة «ال�سيطرة» �إىل احلديث عن «حقل القوة» داخل املجتمعات املخ�صو�صة� .إن حقل القوة هو بناء و�صف ،لكنه �أي�ض ًا دعوة مل�شاهدة الذين يف ال�سلطة ً على انق�سامهم وفق كمية ونوعية ر�أ�س املال الذي ميلكونه بناء (اقت�صادي ،اجتماعي ،ثقايف� ،إلخ )...وانخراطهمً ، عليه ،يف ن�ضاالت يف ما بينهم الحتالل موقع ال�سيطرة يف حقل القوة� .إن النظر �إىل ال�سيطرة من هذا املنظار يتحا�شى املفاهيم ال�سهلة �أو الفار�ضة للتجان�س التي يجري اللجوء �إليها كبديل من الأبحاث التجريبية .وال
ولكي ي�ستطيع �أن يكونــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوا هذه «الآلة النقدية» الالمتناهيــــــــــــــــــــــــــــــــة، من احليوي لعلماء االجتمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاع ت�أ�سي�س ا�ستقاللهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم لي�س فقط جتاه �سيا�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات جماعة م�سيطرة واحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدة، بل ا�ستقاللهم عن ال�سيا�سة برمّ تهـــــــــــــــــــــــــــا
ونظراً �إىل اتكال العلوم االجتماعيـــــــــــــــــــــــــــة على التمويل من م�صادر حكوميــــــــــــــــــــــــــــة �أو من القطاع اخلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا�ص، فهذا ي�ستلزم الن�ضال لتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ�أمني احرتام م�صادر لتمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــويل هذه اال�ستقاللية الذاتيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة للعلوم االجتماعيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة
مكون من فئة من فئة واحدة من امل�سيطرين ،وال هو ّ َ ِ امل�سيطرين وامل�سيطر واحدة من �ضحايا ال�سيطرة .بني ِ عليهم ،يف عالقة خم�صو�صة ،يوجد �أي�ض ًا م�سيطرون َ َ ِ وم�سيطر عليهم �إىل ما م�سيطرون وم�سيطر عليهم .يوجد ال نهاية� ،إذا جاز التعبري ،ويجب �أن يكون علماء االجتماع جاهزين لال�ستمرار يف اكت�شاف م�سارات ال�سيطرة� ،إىل ما ال نهاية �أي�ض ًا .وخالف ًا للذين يريدون �إنهاء ال�سيطرة في�س ِقطون نقدهم لل�سيطرة عندما با�سم جماعة �أو �أخرى ُ يتعلق الأمر ب�سيطرة جماعتهم ذاتها ،ف�إن عالمِ االجتماع النقدي لي�س يع ّلق نقده لل�سيطرة عموم ًا .ولكي ي�ستطيع �أن يكونوا هذه «الآلة النقدية» الالمتناهية ،من احليوي لعلماء االجتماع ت�أ�سي�س ا�ستقاللهم ،لي�س فقط جتاه �سيا�سات جماعة م�سيطرة واحدة ،بل ا�ستقاللهم عن برمتها ،عن الإعالم وعن الدولة ،وبالت�أكيد عن ال�سيا�سة ّ خمتلف امل�صالح االقت�صادية �أي�ض ًا .لهذا يرى بورديوّ � ،أن مثل هذه ال�سو�سيولوجيا النقدية هي ذاتها معتمدة على ال�سو�سيولوجيا االرتدادية لعلماء االجتماع �أنف�سهم ،مبا هم فئة اجتماعية ،وعلى موقعهم يف البنى ال�سلطوية.
بد من �أن نالحظ هنا �أن «النيوليربالية» ت�ستخدم بهذه ّ الطريقة يف �أيامنا وتخدم مبا هي مبد�أ تف�سريي تب�سيطي للعديد من الظواهر. يعني بورديو للأكادمييني ،ولعلماء االجتماع حتديد ًا، ّ موقعهم يف �صف �ضحايا ال�سيطرة داخل حقل القوة. فبف�ضل امتالكهم ر�أ�سمال اجتماعي ًا وثقافي ًا كبري ًا ،فهم ي�شكلون جزء ًا من حقل القوة يف معظم املجتمعات. ولكن ب�سبب امتالكهم ر�أ�سمال اقت�صادي ًا زهيد ًا ،ونظر ًا �إىل � ّأن ر�أ�س املال االقت�صادي هو �صاحب القيمة الأكرب يف حقل القوة ،ينتهي الأم��ر بهم �إىل موقع �ضحايا ال�سيطرة يف هذا احلقل .ويحاجج بورديو ب�أنه فيما ي�ستطيع علماء االجتماع �إنتاج املعرفة على نحو غري ارتكا�سي ي�شارك يف م�سارات ال�سيطرة االجتماعية، ف�إن علماء االجتماع النقديني قادرون �أي�ض ًا على تنمية غري ارتكا�سية للتعاطف مع الفئات املخ�ضعة من خالل ِ امل�سيطر عملية متاثل بنيوي معها� ،أي حتويل موقعهم يف حقل القوة �إىل تعاطف مع �ضحايا ال�سيطرة يف ذاك احلقل .بيد � ّأن امل�شكلة بالن�سبة �إىل بورديو لي�ست هي ي�سميهم التعاطف بقدر ما هو االعتقاد ال�سائد بني من ّ ال عن ماك�س ڤيرب «املثقفني �شبه الربوليتاريني» ب� ّأن نق ً التعاطف هو مقيا�س من مقايي�س االحرتافية يف علم االجتماع .وكما يردد بورديو يف غري منا�سبة ،ال�سيا�سة
«حقل القوة» لكي يتحا�شى بورديو فر�ض التماثل على القوى االجتماعية امل�سيطرة يف املجتمع ،انتقل تدريج ًا من 177
بدايات
العدد 2013 |6
جيد. اجليدة لي�ست ت�صدر بال�رضورة عن علم اجتماع ّ واملفارقة امل�ؤكدة هنا � ّأن علماء االجتماع ي�ستطيعون الو�صول �إىل �أوج الأثر ال�سيا�سي يف كتاباتهم بال�سعي �إىل اال�ستقالل يف احلقل ال�سيا�سي. اال�ستقاللية الذاتية وتت�ضمن اال�ستقاللية الذاتية فوق �أي �شيء �آخر �إعطاء الأولوية مل�صلحة علم االجتماع بالتمييز عن امل�صالح ال�سيا�سية والإعالمية �أو االقت�صادية .ونظر ًا �إىل اتكال العلوم االجتماعية على التمويل من م�صادر حكومية �أو من القطاع اخلا�ص ،فهذا ي�ستلزم الن�ضال لت�أمني احرتام م�صادر التمويل هذه اال�ستقاللية الذاتية للعلوم االجتماعية .ومن خ�صائ�ص امل�ؤ�س�سات الدميقراطية قدرتها على متويل �أعمال نقدية موجهة �ضدها هي نف�سها ،ولعلماء االجتماع م�صلحة يف الن�ضال من �أجل احلفاظ على هذه القيمة الدميقراطية �ضد القوى ال�سيا�سية واالقت�صادية التي ترى يف التمويل و�سيلة لإلزام عالمِ االجتماع ب�إيالء الأولوية لنمط من البحث على �آخر، وت�أكيد ًا �ضد �أولئك الذين ي�ستخدمون التمويل للت�أثري على نتائج البحث العلمي. �إال � ّأن اال�ستقاللية الذاتية لي�ست جمرد ا�ستقاللية ذاتية بنيوية� .إنها ا�ستقاللية ذاتية ثقافية �أي�ض ًا تت�ضمن الن�ضال من �أجل حماية العقل العلمي االجتماعي من العقل ال�سيا�سي والإعالمي .فمن �أجل تفادي �أمناط ال� ،أ ّلف جريميي بنثام املحاججة ال�سيا�سية يف الربملان ،مث ً كتابه ال�صغري واملغمور «دليل املغالطات ال�سيا�سية» وي�سمي �أوىل املغالطات «مغالطة ال�سلطة (.)١٨٢٤ ّ (مبا فيها مغالطات ال�شخ�صيات املمدوحة) ومادتها ال�سلطة يف �أ�شكالها املختلفة -والغر�ض املبا�رش لها هو قمع كل ممار�سة مللكة العقل حتت �ضغط هذه ال�سلطة». وثانية املغالطات هي «مغالطات اخلطر (مبا فيها مغالطات ال�شخ�صيات املذمومة) ومو�ضوعها الإيحاء بوجود خطر ما بطرق خمتلفة ،والغر�ض هنا القمع احلا�سم القرتاح اخلو�ض يف �أي نقا�ش مبا�رش ،بحجة وجود مثل هذا اخلطر»� .إن �إدخال طرق النقا�ش هذه �إىل علم االجتماعي هو يف نظر بروديو �إ�ضعاف ال�ستقاللية العقل العلمي االجتماعي وخل�صو�صيته. واال�ستقاللية الذاتية تعني �أي�ض ًا اال�ستقاللية الذاتية الحظت �أحيانا ً كثرية بني علماء االجتماع للأ�سلوب .وقد ُ العرب �أ�سلوب ًا ذُكوري ًا مميز ًا يف فر�ض ال�سلطة الفكرية، 178
بدايات
العدد 2013 |6
حمجوبة بف�ضل �سيطرة وقائع مو�سومة بعالقات القوة. �أي �إنه يرى� ،إىل جانب ر�ؤيته م�سارات ال�سيطرة يف واقع خم�صو�ص ،يرى �أي�ض ًا م�سارات �سيطرة حيث واقع ي�سيطر على واقع �آخر. ً �إذا كان الفكر ال�سيا�سي الراديكايل منب ّثا يف «حلظة «�ضد» وحلظة «ب��دي��ل»� ،أي يف رغبة جمابهة القمع وال�سيطرة واال�ستغالل القائمة ورغبة موازية خللق عامل �أف�ضل ،ميكن القول � ّإن التقليد ال�سو�سيولوجي الأول منا�سب �أكرث ل�سيا�سة «�ضد» ،فيما التقليد الثاين أ�شعر ب� ّأن يوفّر ذخرية ل�سيا�سات «بديلة» .بهذا املعنىُ � ، التقليدين مهمان ملخاطبة علماء االجتماع العرب ،وهم يواجهون �أمناط ًا من ال�سيطرة الكولونيالية القدمية يف فل�سطني و�أنظمة اال�ستغالل الر�أ�سمالية اجلديدة على امتداد املنطقة العربية وم�ساحات الإمكان اجلديدة التي ب�شرّ ت بها االنتفا�ضات والتحوالت يف ال�سنوات القليلة يقدم التقليدان دعوة لعلماء االجتماع العرب، املا�ضيةّ . حيث الن�ضال من �أجل اال�ستقاللية حجر �أ�سا�س للمعرفة النقدية ،وحيث خماطبة ال�سيا�سي ال تتطلب جمرد االنتباه �إىل م�ساحات ال�سيطرة واملقاومة ،بل �إىل �إيالء الأهمية ذاتها للبحث عن م�ساحات تقع خارج دورات القوة ،وحيث ميكن توطني �إمكانات �أنظمة اجتماعية بديلة. ال �رسيع ًا عن الكيفية التي ميكن دعوين �أُعطي مث ً ك�شف عالقات القوة بها �أن يلتقي ِعلم اجتماع ملتزم َ ِ ك�شف وقائع �أخرى ،وعن التوترات وعلم اجتماع ملتزم َ التحليلية التي ميكن �أن تن�ش�أ عن هذا اللقاء ،والإمكانات التي تتفتح �أي�ض ًا عند العمل مع التقليدين مع ًا .ثم �أنتقل �إىل مثال �آخر �أكرث قرب ًا �إىل ال�سيا�سة للتمثيل على طريقة خماطبة التقليدين ملخيلتي ال�ضد/البديل من خميالت ال�سيا�سة الراديكالية.
اجلدية» تنتمي �إىل يت�ضمن طريقة معينة يف «ممار�سة ّ احلقل الديني الطهراين �أكرث من انتمائها �إىل احلقل الأكادميي .و�إن نقد تريي � ُ إيغلطن لهذا ال�شكل من �أ�شكال اجلدية يف كتابة «بعد النظرية» مفيد بنوع خا�ص هنا، ّ �إذ يقول�« :إن الطهراين يخلط بني املتعة والطي�ش ،لأنه اجلدية والوقار». يخلط بني ّ م�ساحات خارج حقول القوة �أ�سمح لنف�سي باالنتقال الآن �إىل التقليد النقدي الثاين الذي �أو ّد الت�شديد عليه ،و�أبرز و�آخر مظاهر هذا التقليد هو كتاب برونو التور عن تعددية �أمناط العي�ش .وقد جرى املهم للأنرثوبولوجي تطوير هذا التقليد �أي�ض ًا يف العمل ّ الربازيلي �إدواردو ڤيڤيريو�س دي كا�سرتو� .أخري ًا ،ال بد من املالحظة � ّأن هذا التقليد النقدي ي�ستلهم �سالالت فل�سفية تقود �إىل جيل ُدلوز .ينطلق هذا التقليد بنقد، م�ضمر حين ًا و�سافر �أحيان ًا ،للتقليد «ال�سو�سيولوجي» املحدد �أعاله .فيحاجج � ّأن التقليد النقدي ال�سو�سيولوجي، وه ْتك لفرط الرتكيز على الأ�ضاليل والهج�س بها َ ا ُ حل ُجب عن العالقات امل�ستورة لل�سيطرة واال�ستغالل، ونظراً �إىل التقليد الأول منا�سب �أكثــــــــــــــــــــــــــر ل�سيا�سة «�ضد» ،فيما التقليد الثانـــــــــــــــــــــــــــي يوفّر ذخرية ل�سيا�سات «بديلـــــــــــــــــــــــــــــــــة» ينتهي �إىل �إعطاء الأولوية الوجودية لهذه العالقات واملقاومات التي ت�ستدعيها .بل � ّإن الأمر قد يقود �إىل اعتبار تلك العالقات على �أنها الواقع االجتماعي الوحيد وكل ما عداها ثانوي ،ينتمي �إىل البنية الفوقية و�إىل الإيديولوجيا �أو هو نافل ال �أك�ثر .ومع � ّأن هذا التقليد النقدي الثاين ال ي�ضع مو�ضع الت�سا�ؤل �أهمية عالقات ال�سيطرة� ،إال �أنه ي�شدد على �أهمية الك�شف عن م�ساحات �أخرى متف ّلتة منها :م�ساحات تقع خارج طائلة ال�سلطة ،خارج املحكومية ،خارج املقاومة ،بل حتى خارج احلداثة .ف�إىل جانب م�ضمار ال�سلطة المُ َم�أ�س�سة، املحكومة بالبحث ال�سو�سيولوجي عن ال�سببية ،وبالتايل عما هو مكرر ومتوقّع وموجود وراهن ،يهدف هذا التقليد ّ الثاين �إىل الك�شف �أي�ض ًا عن وقائع �أخرى مو�سومة مبا هو هالمي وطارئ ومفاجئ وغري حم�سوب ،والك�شف �أي�ض ًا عن املمكن والكامن .فريى هذا التقليد النقدي � ّأن تلك الظواهر ت ّ�ؤ�رش �إىل وقائع موجودة ،وهي مع ذلك
أخوة امللتب�سة ال ّ ال اجتماعي ًا لننتقل �إىل �شمال لبنان ون�ستك�شف تفاع ً روتيني ًا ال يزال يقابله املرء يف بع�ض القرى .يرت�سم االنق�سام الطبقي يف تلك القرى بوا�سطة االنتماءات العائلية� .أي �إنه توجد عائالت ثرية وعائالت فقرية كل على حاله منذ العهد العثماين .ومنذ مطلع العهد العثماين ،يعمل �أبناء العائالت الفقرية عند العائالت الرثية مبا هم خدم وعمال زراعيون ورعاة و�سواقون. وعلى الرغم من هذا االنق�سام الذي ميتد عرب الأجيال، زرت القرية فال تزال ت�شاهد �أبناء العائالت الرثية ف�إن َ 179
بدايات
العدد 2013 |6
جال�سني يتناولون القهوة مع �أبناء العائالت الفقرية العاملني يف خدمتهم .وقد �شاهدت ذلك يف واحدة من القرى حيث كنت �أجرى �أبحاثي امليدانية� .أذكر جيد ًا لا يدعى �أين خالل جت��وايل يف القرية� ،شاهدت رج� ً تعرفت �إليه مطلع ذلك مي�شال من العائلة احلاكمة ،وقد ّ الأ�سبوع ،جال�س ًا على امل�صطبة �أمام بيته يتناول القهوة مع رجل �آخر كنت قد عاينته مبا هو �سائقه ،مع �أين مل أتعرف �إليه من قبل .عندما �ألقيت التحية على مي�شال، � ّ وعرفني �إىل �سائقه« :هذا جري�س� ،إنه انت�صب واقف ًا ّ يعمل هنا .وهو من هنا �أي�ض ًا (من القرية) وبيته يف �أ�سفل الطريق» .ثم �أ�ضاف�« :أنا وجري�س ربينا مع ًا ،ونحن مثل �إخوة ،وعائلتي وعائلته حال واحد منذ ما �أ�ستطيع �أن �أتذكر» .قد يبدو هذا غريب ًا� ،أو م�صطنع ًا� ،أو حتى منافق ًا، ل�شخ�ص لي�س معتاد ًا ثقافة القرية ،وخ�صو�ص ًا عندما تكت�شف � ّأن جري�س هو �أكرث من جمرد �سائق� .إنه يف الواقع خادم ملي�شال ،ينفّذ �أي �شيء وكل �شيء يريده منه يف البيت واحلقل �أو يف �أي مكان �آخر. �إنه و�ضع مثري جد ًا يرمي اال�ضطراب بني اال�ستعدادات ال�سو�سيولوجية النقدية واال�ستعدادات الأنرثوبولوجية النقدية لعالمِ االجتماع التي حتدث عنها �أعاله .وال�سبب � ّأن ما يحدث ،من وجهة نظر �سو�سيولوجية نقدية ،قد يبدو بديهي ًا� :إن هذا الرجل ي�ستخدم م�صطلحات القرابة لإخفاء عالقات ال�سيطرةّ � .إن رغبة ال�سو�سيولوجي يف ك�شف الت�ضليل الذي تنطوي عليه عالقات القوة يطفو �إىل ال�سطح فور ًا ،فيقول �أو تقول�« :أكيد« .مثل الإخوة» بالت�أكيد .ها ها ها .من يظن �أنه يخدع؟ �إين �أ�ستطيع �أن أتعرف �إىل ما تبطنه من �أنفذ من خالل لغة ال ّ أخوة هذه و� ّ علي بهذا عالقة �سيطرة .ما من �أحد ي�ستطيع �أن ي�ضحك ّ أخوة» .وقد يقول املارك�سي« :لدينا هنا التخليط عن ال ّ و�ضع ت�شتغل فيه م�صطلحات القرابة مبا هي ايديولوجيا �سيد للتغطية على عالقات اال�ستغالل القائمة بني ّ جد جري�س وخادمه» .ثم �إين علمت �إ�ضافة �إىل ذلك �أن ّ جد مي�شال .فيمكن املرء �أن يقول كان �أي�ض ًا خادما ً عند ّ با�ستهتار :يكفينا ق�صة «عائلتي وعائلته حال واحد» � ْإن هذا �إال متويه لعالقات قوة. �إال � ّأن اجلانب الأنرثوبولوجي مني� ،إذ يوافق النقد ال�سو�سيولوجي يف م�ستوى ما ،يريد �أن يفهم �أي�ض ًا معنى هذا الو�صف «نحن مثل الإخوة» من وجهة نظر جري�س، وهنا يظهر �أمر �آخر .ف�أول �شيء الحظ ُته بعد وقت من التعرف �إىل جري�س �أنه لي�س م�ض َّلال على الإطالق بلغة ّ
أخوة� .إنه يعرف جيد ًا جد ًا �أنه خادم لرجل ثري و� ّأن ال ّ عائلته كانت وال تزال حتت �سيطرة عائلة مي�شال .وعلى و�سيده الرثي يقدر فعلي ًا �أنه الرغم من ذلك ،فجري�س ّ ّ «مثل الإخ��وة» .وقد ا�ستمتع بذلك عندما قاله مي�شال وكرره يف منا�سبة �أخرى .هنا بد� ُأت �أدرك �أنه على الرغم ال ا�ستعارات القرابة من حقيقة � ّأن مي�شال ي�ستخدم فع ً لإع��ادة �إنتاج عالقة اال�ستغالل التي تربطه بجري�س، يبقى � ّأن امل�صطلحات القرابية ت�ؤدي وظيفة تتعدى تلك الوظيفة� :إنها حتفر م�ساحة ي�ستمتع بها كل من مي�شال �إن امل�صطلحات القرابيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة ت�ؤدي وظيفة تتعدى تلك الوظيفـــــــــــــــــــــــــــة: �إنها حتفر م�ساحة ي�ســـــــــــــــــــــــــــــــــــتمتع بها كل من مي�شال وجريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ�س حيث يرتبط واحدهما بالآخـــــــــــــــــــــــــــــــــــــر خارج عالقة ال�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيطرة وجري�س حيث يرتبط واحدهما بالآخر خارج عالقة ال�سيطرة .عندما تبالغ النظرة ال�سو�سيولوجية النقدية يف توظيف جهد كبري يف ك�شف عالقات القوة ،ف�إنها غالبا ً ال �أخرى من العالئقية� ،أو ما تعجز عن �أن ترى �أ�شكا ً �أن تعجز عن التفكري ب�إمكان وجود مثل تلك الأ�شكال الأخرى� ،أو �أن تفكر يف � ّأن عالقة قوة قد ال تكون �أكرث من جمرد عالقة قوة .بيد � ّأن العالقة بني �شخ�صني �أعقد ومتعددة الأبعاد لكي ميكن القب�ض عليها يف ن�سق تعريفي البعد واحد ،مهما تكن قيمته .قد تكون عالقة القوة هي ُ الأهم يف العالقة بني مي�شال وجري�س على �أنها لي�ست هي البعد الأوحد .ت�شري لغة القرابة �إىل هذا ال�شكل الآخر للعالئقية .ويف لغة القرية اللبنانية ،غالب ًا ما تكون امل�ساحة التي حتفرها لغة القرابة املجازية هي م�ساح َة تكرمي. وهكذا ف�إن النظرة ال�سو�سيولوجية لن ت�شاهد هذه امل�ساحة �إال وفق م�صطلحات الكيفية التي ت�شتغل بها لإع��ادة �إنتاج عالقات القوة .بالت�أكيد ،قد تخدم تلك امل�ساحة لإعادة �إنتاج عالقات القوة ،بل �إنها تفعل ذلك ال .ولكن �إذا كان هذا كل ما ي�شاهده عالمِ االجتماع، فع ً مهم ميلكه النا�س ،وخ�صو�ص ًا ف�إنه يتغافل عن مورد ّ النا�س املخ�ضعني ،لكي يبنوا �شخ�صياتهم مبا هم ب�رش ي�ستحقون احلياة .القول �إن هذه امل�ساحة ت�ساعد على �إعادة �إنتاج عالقات ال�سيطرة قد يكون �صحيح ًا ،لكنه لي�س يعني � ّأن ذلك هو ال�سبب الوحيد لوجودها� .إن من 182
بدايات
العدد 2013 |6
م�ضار م�ستدامة على الب�رش وعلى الن�سيج االجتماعي، ّ اللذين يخو�ضونهما .بل ميكن القول بالت�أكيد �إن هذا هو البعد امل�أ�سوي للمقاومة� .إنها بطولية وال غنى عنها. و�إن حياة ت�ستحق �أن نعي�شها ي�ستحيل التفكري بها دون ت�رض بجدوى احلياة .لي�س مقاومة ،ومع ذلك فاملقاومة ّ على املرء �أن يفكر باملقاومة وبال�صمود على �أن واحدهما بعد نقي�ض للآخر .ميكن النظر املفيد �إليهما على �أنهما ٌ من �أبعاد املقاومة من قبل �شخ�ص ي�ص ّنف املقاومة من اخلارج .ومهما يكن من �أمر ،فبالن�سبة �إىل الذين ميار�سون ال�صمود ،يجب متييزه بعناية عن املقاومة مبا هي واقع. رغم خ�شيتي التب�سيط املفرط للم�س�ألة ،دعوين �أقدم ال تو�ضيحي ًا على ما �أقول .يف منزل �شهيد فل�سطيني مث ً ا�ست�شهد حديث ًا ،كان على �أرملته �أن تتخذ خيارات تتعلق مبدى ما تتذكره عنه وما تريد �أن يتذكره �أطفاله، وهي ذكريات تتغري مع الوقت ،طبع ًا� .إن تعليق �صورته على احلائط ِفعل ّ تذكر ،لكنه �أي�ض ًا احتفال مبقاومته و ِفعل مقاومة بذاته .وقد تقيم الأرملة مزار ًا لزوجها ال�شهيد يف البيت ل�ضمان �أن يتذكر الأوالد بطولة �أبيهم على الدوام، ويرثوها ،وي�شاركوا يف ثقافة املقاومة التي كان �أبوهم جزء ًا منها .ولكن لنفرت�ض �أن املر�أة قررت �أنها �ستقر�أ م�سي�سة ثم تتمنى كل ليلة لأطفالها ق�ص�ص �أطفال غري ّ لهم ليلة �سعيدة وهي تطبع قبلة دافئة على خدودهم ت�سمح لهم باختبار �شعور بالوجود لي�س حمكوم ًا ذاتي ًا مبوت �أبيهم� ،شعور ًا بالوجود ال يحكمه اال�ستعمار وال مقاومة اال�ستعمار .بعبارة �أخرى ،ها هي �أُم جتعل �أطفالها يختربون بنوع من العادية التي يختربها �أي�ض ًا �أطفال معر�ضني ل�سيطرة اال�ستعمار ولي�سوا �أيتام �شهيد. لي�سوا ّ أ�سميه فعل �صمود .وبديهي �أنه ي�ستبطن عن�رص هذا ما � ّ مقاومة .ولكن �إذا ما انخرطت الأم يف ممار�سات تهدف �إىل حتا�شي واقع اال�ستعمار -على افرتا�ض � ّأن ذلك التحا�شي ممكن -ف�سوف ينظر من يريد اال�ستمرار يف االحتفال ب�شهادة الأب �إىل ذلك على �أنه �رضب من اخليانة .ومع ذلك ،ف�إن ا�ستغراق العائلة الكلي يف االحتفال ب�أفعال املقاومة وحرمان النف�س م�ساحات العادية تلك� ،إمنا هي ظاهرة َم َر�ضية لي�س �إال. وكما قلت �أعاله� ،إذا كان املرء يريد ت�سمية ال�صمود ال �آخر خمتلف ًا عن �أفعال ُبعد ًا �آخر من �أبعاد املقاومة �أو فع ً املقاومة ،فلي�س بذاك القدر من الأهمية من منظار حتليلي قدر ما هو من املنظور ال�سيا�سي للذين يخو�ضون املقاومة والذين قد ي�صيبهم اال�ضطراب من طاقة اال�ستيعاب
يكتب تاريخ العالقات الطبقية ،وخ�صو�ص ًا عالقات املح�سبوية ،يف القرى اللبنانية ،وال يرى �إال عالقات ال�سيطرة والأ�شكال الأدواتية لال�ستغالل ،يتغافل عن مهم �آخر ،هو تاريخ تدهور م�ساحة متحررة من تاريخ ّ تلك العالقات الوظائفية حيث الب�رش يرتبط واحدهم بالآخر مبا هم �إخوان و�أخوات� .إن النظرة ال�سو�سيولوجية قيمة ،لكن النقدية التي تلتقط عالقات ا�ستغالل نظرة ّ النظرة الأنرثوبولوجية النقدية التي تلتقط وجود م�ساحات �أو وقائع �أخرى ال تقل عنها قيمة. وهذا مثال �آخر ي�شدد على الكيفية التي ِّ متكن ثنائية املت�رشبة بالقوة/امل�ساحات الأخ��رى» من «امل�ساحات ّ �أن تعقد عالق ًة مميزة بثنائية «�سيا�سات ال�ضد�/سيا�سات البديل» املذكورة �أع�لاه .بالن�سبة �إىل علماء االجتماع املهتمني باحلياة االجتماعية الفل�سطينية وبا�ستمرارها يف وجه تو�سع اال�ستعمار ال�صهيوين ،ووح�شيته ،تبدو ق�ضية املقاومة ،ومكونات ثقافة املقاومة ،عظيمة الأهمية .ولقد ف�صل العديد من علماء االجتماع القديرين يف تلك ّ حمور «اال�ستعمار لنا �سمح ي مدى أي � إىل � ولكن العالقة. َ ُ اال�ستيطاين/مقاومة اال�ستعمار اال�ستيطاين» بفهم ال�سيا�سة بناء الفل�سطينية وتوفري الذخرية النقدية لها .هنا �أي�ض ًاً ، على مثال القرية الوارد �أعاله ،يوجد غالب ًا انزياح من الأولوية الوجودية �إىل الواقعية الوجودية الأحدية� :أي االنزياح من اعتبار عالقات ال�سيطرة اال�ستعمارية ومقاومة تلك ال�سيطرة على �أنها �أهم واقع �سيا�سي فل�سطيني �إىل اعتبارها الواقع الفل�سطيني الوحيد. � ّإن امل��ق��اوم��ة ،على �أهميتها لأ�سباب �سيا�سية والعتبارات القيمة الذاتية الفردية ،م�سعى متطلب نف�ساني ًا ميكن �أن ُينهِ ك الب�رش حتى عندما ينجحون يف مقاومتهم� .إن نظرة �أنرثوبولوجية لن تكتفي بتفح�ص خمتلف الأ�شكال والأبعاد لوجود عالقات قوة وعالقات مقاومة فقط ،بل تتطلب تفح�ص كيفية اهتمام النا�س بحماية �أنف�سهم من ال�سيطرة ومن مقاومة ال�سيطرة يف �آن واحد .هنا ميكن اعتبار مفهوم ال�صمود والواقع، واملمار�سات والثقافة التي حتددها املمار�سات ،مفهوم ًا على القدر ذاته من الأهمية� .إن ال�صمود يف علم الفيزياء، كما عندما نتحدث عن �صمود مادة ما ،له تعريف مثري: تتعر�ض لقوة �إنه يتحدث عن طاقة تلك املادة على �أن ّ تت�شوه بها .يبدو يل هذا بعد ًا حا�سم ًا ت�شويهية دون �أن ّ من �أبعاد «ممار�سات ال�صمود» .ذلك �أنه مهما فكرنا يف �أهمية املقاومة وقد�سيتها ،ال ميكننا �أن ننكر �أنها ت�ستدعي 183
بدايات
العدد 2013 |6
التي تنطوي عليها �أفعال ال�صمود .احلا�سم هنا بالن�سبة �إىل عالمِ االجتماع النقدي هو �أن ال�صمود م�ساحة �أخرى غري م�ساحة ال�سيطرة اال�ستعمارية وللمقاومة الن�شطة لل�سيطرة .لي�ست م�ساحة حتكمها الأولوية املعطاة لل�سلطة اال�ستعمارية التي يحتاج املرء �إىل �أن ي�سمي ال�صمود م�ساحة للعادية يقاومها .ميكن املرء �أن ّ البطولية .وب�سبب ذلك ،فهو م�ساحة �أكرث مالءمة لتوطني «ال�سيا�سات البديلة»� :سيا�سات معنية مب�أ�س�سة نوع من العادية ملرحلة ما بعد املقاومة .املقاومة ،من ناحية �أخرى ،مهجو�سة تعريف ًا مبا ت�سعى �إىل مقاومته ،فهي بالتايل �أر�ض لـ«�سيا�سات ال�ضد» .واحلا�سم دوم ًا �أن ال نفكر �أبد ًا بال�ضد والبديل ،وباملقاومة وال�صمود ،مبنطق «�إما هذا �أو ذاك» ولكن بالكيفية التي ميكن �أن نفكر وحري بعالمِ االجتماع النقدي ،الذي حتدوه باالثنني مع ًا. ّ قيم ال�سو�سيولوجيا النقدية والأنرثوبولوجيا النقدية� ،أن يقدم م�ساهمة ما ملهمة التفكري هذه. ّ �أو ّد �أن �أختم ب�إثارة ُب ٍ عد هام �آخر من �أبعاد النقد «الأنرثوبولوجي» �أو «الثقايف» للعلوم االجتماعية� .إنه يتعلق مب�سائل منط الكتابة يف مقابل م�ضمون الكتابة. فل�سفيا من �أعمال ديريدا ،لكنه � ّإن هذا النقد م�ستلهم ً يتغذى �أي�ض ًا من تقليد عريق يف العلوم االجتماعية الن�سوية .وامل�س�ألة هنا هي م�س�ألة طرائق علم االجتماع يف تف�صيل الواقع وت�صنيفه ،وت�شديدها على ما ت�شري �إليه لغ ُتها على �أنه «قب�ض على واقع»ّ � .إن مثل هذه اللغة جتعل العلوم االجتماعية متواطئة مع �أ�شكال ال�سيطرة البطريركية ال�سائدة واملرتبطة برتوي�ض الآخ��ر� ،أو الأخروية ،والتحكم بها وال�سيطرة عليها وا�ستغاللها. �إن البحث عن وقائع �أخرى ال ت�سودها مثل هذا العالقة يدعونا �أي�ض ًا �إىل التفكري يف �أ�سلوب كتابة ال يتعلق ب�إلقاء القب�ض� ،أ�سلوب كتابة «مع النا�س» �أكرث مما هو نت�صور منط ًا �أ�سلوب «كتابة عن النا�س» .فمن ال�صعب �أن ّ من املعرفة العلمية ال يرتافق مع منطق التدجني .ومع ذلك ميكن التخفيف منه اقله بوا�سطة رغبة يف عدم الك�شف تعر�ض ال�شيء لإلقاء وعدم هتك الأ�ستار ،التي غالب ًا ما ّ ُ القب�ض ال�سلطوي عليه حتى عندما ال يكون قد �ألقي الّ � .إن «الكتابة مع» هي كتابة «مع» القب�ض عليه �أ�ص ً النا�س بالطريقة ذاتها التي نتمنى فيها لأحدهم «الله معية تخدم كقوة دفع يف حياة النا�س ،وهذا معك»� .إنها ّ ما يعجز عنه �أف�ضل علم اجتماعي نقدي� ،أكان ي�ستلهم ال�سو�سيولوجيا �أم الأنرثوبولوجيا.
ال�سعي يف اخت�صار املنازعات ال�سيا�سية والأهليةالكثرية واملت�شعبة ال�سابقة يف التيارات العامية وحدها. واقت�ضى الأمر �أو النجاح فيه �إق�صاء اجلماعات املرتبعة يف �سدة الن�سب واملكانة ،وما يتفرع عليهما من �أحالف وعوائد وري��وع ،وم�صادر َتها على مواردها ومكانتها ومعايري اجتماعها ،قبل �إطفاء جذوتها ال�سيا�سية واالجتماعية .وجمعت املكانات والأحالف هذه ،يف باب واحد هو النظام القدمي �أو البائد .وترتب على هذا �شق املجتمعات (�إىل) مع�سكرين اجتماعيني و�أهليني متنازعني، �أو متحاربني من غري و�سيط �أو و�ساطة ،يق�ضي احرتابهما بانت�صار مع�سكر على �آخر انت�صار ًا ناجز ًا ،وال تقوم بعده قائمة للمع�سكر «الطبقي» الأهلي املهزوم واملغلوب، وذلك على دعوى ن�رشها مثال �سوفياتي �شيوعي جمع، يف �صورة مركبة وواح��دة« ،منطق التاريخ» التطوري والغائي وطوبى الثورة املظفرة واحلا�سمة. ومراحل اال�ستيالء البعثي ال�صدامي على دولة العراق، وعلى �شطر من �أبنية جمتمع العراق وجماعاته ،تعاقبت على ر�سم وا�ضح تعقبه حنا بطاطو ،وتق�صى دقائقه من غري �إغفال وقائعه امل�ؤثرة .وتابع اجلزء الأول من املقالة بطاطو على الر�سم الذي اختطه .فاملرحلة الأوىل ورثتها قيادة حزب البعث من الأع��وام الع�رشة التي انق�ضت بني االنقالب الأول ،يف ١٤متوز ،١٩٥٨واالنقالب الثاين يف ٣٠ – ١٧متوز ،١٩٦٨وملأتها النزاعات الع�سكرية املتفاقمة على احلكم وقممه .و�أدلت فيها القيادة البعثية بدلوها العاثر ،ومن غري قعر ،يف .١٩٦٣ وجددت بع�ض التجديد نهج احلكم الذي ا�ستقر، غداة ١٤متوز ،١٩٥٨مع انفراد عبد الكرمي قا�سم بالزعامة �أو الرئا�سة ،ثم مع عودة عبد ال�سالم عارف والنا�رصيني �إىل ال�صدارة .فاالنعطافات واالنقالبات هذه غلبت عليها مبادرة اجلي�ش والقوات امل�سلحة ،ومل تالب�سها امل�شاركة «ال�شعبية» �أو الأهلية واجلماهريية �إال مالب�سة عر�ضية ،على رغم �رشاكة احلزب ال�شيوعي العراقي ،اجلماهريي قيا�س ًا على الأح��زاب العراقية الأخ��رى ،يف بع�ض ف�صول املرحلة ،و�رشاكة التيار «القومي» ،البعثي والنا�رصي ،يف الف�صول نف�سها و�إمنا على منقلبها الآخر .وعلى خالف احلزب ال�شيوعي ،وهو �أوكل �إىل عبد الكرمي قا�سم الت�رصف والتدبري احلكوميني ونزل عنهما حني ندب قا�سم نف�سه وحده �إليهما( ،وعلى خ�لاف) ال�شلل الع�سكرية النا�رصية املتفرقة ،وهي ت�صدرت تيارات جماهريية م�ستقلة بنف�سها وال تربطها
دليال []2 العراق مثا ًال وحنا بطاطو ً من أهل الدولة إىل دولة األهل
وضاح رشارة كاتب من لبنان
ن��ن�شر يف م���ا ي���أيت اجل����زء ال���ث���اين م���ن ق����راءة وض����اح رشارة ل��ك��ت��اب ح��ن��ا ب��ط��اط��و «ال���ع���راق ،ال��ط��ب��ق��ات االج��ت��م��اع��ي��ة واحل��رك��ات ال��ث��ور ي��ة» .فبعد حتليل أوال��ي��ات ت��س��لّ ��م ال��س��ل��ط��ة ،ي��ت��ن��اول ال��ك��ات��ب يف ه��ذا اجل���زء أوال��ي��ات تثبيت البعثيني ،يف ظل األنظمة «الوطنية الديمقراطية» ،الذي السلطات يف مرص النارصية ويف العراق وسور ية َّ ً معارضا انطباق أُطلق عىل األنظمة الصادرة عن حركات التحرر الوطين يف القارات الثالث .ويناقش رشارة هذا التوصيف عىل األنظمة العربية المعنية
1 اال�ستيالء والتثبيت والتوحيد تعقبت حلقة �أوىل من �سمات الدولة الوطنية العربية النا�شئة يف رعاية �أو «قب�ضة» جهاز ا�ستيالء ع�صبي ريعي وبريوقراطي يف مر�آة املثال العراقيِ ، و�صف َة حنا بطاطو �إي��اه يف عمله اجلامع الذي انق�ضت عليه ،يف � 35 ،2013سنة تامة (عطف ًا على مقال الكاتب يف «بدايات» العدد ،5ربيع � ،2013ص .)207-186 واحلق � ّأن جهاز اال�ستيالء هذا ،وهو غالب ًا ما اخت�رص يف ا�سم �صاحبه ون�سب �إىل ر�أ�سه وجامع مقاليده� ،صدام ح�سني ،بلور نظام ًا بالغ اال�ضطراب واالختالل ،ا�ستمد (من) عوامل ا�ضطرابه واختالله ،وهي ع�صبيته وريعيته نازعه �إىل الت�أزم وبريوقراطيته ،وا�ستيال�ؤه املتجدد، َ مر القول ،و�إىل اال�ستقرار على و«الراديكالية» ،على ما ّ ال وخارج ًا .وتناولت حال احلرب والإقامة عليها داخ ً احللقة الأوىل االنقالب �أو االنتقال من املناف�سة على الدولة العراقية� ،إىل التحكم املنفرد فيها ،ومن ِ�شلل ع�سكرية �ضيقة ،حلمتها ع�صبي ٌة حملية متحلقة حول وترب�ص بع�صبية �أخرى على مثالها فرد بارز املرتبة ٌ و�شاكلتها� ،إىل احتكار حزب منظم واحد وعري�ض القاعدة املنتفعة ال�سيطر َة امل�سلحة ،ثم الإدارية والأهلية وال�سيا�سية واالقت�صادية على الدولة واملجتمع و�أبنيتهما. 184
بدايات
العدد 2013 |6
وعلى رغم فظاظة اال�ستيالء وفجاجته ،ولبا�س حزب البعث العربي اال�شرتاكي يف «القطر» العراقي يف مناف�سته الأح��زاب والكتل الأخ��رى التي ت�شبهه وي�شبهها حلة الع�صابة امل�ؤا ِمر بع�ضها بع�ض ًا ،انخرط اال�ستيالء يف �سياقة تاريخية عري�ضة ومو�صوفة هي امل�ستعمرة �سياقة بناء الدولة الوطنية ،وخروج املجتمعات َ من �سيطرة الإدارات اال�ستعمارية �إىل اال�ستقالل والتدبري ال�سيا�سي وال��ذات��ي والت�رصف يف عوائد ُ يخل اال�ستيالء، الإنتاج والتوزيع ،على وجوهها .فلم وهذه حاله ،من م�سوغات ظاهرة وقوية .وبدا ،يف �أعني ال قا�سي ًا وال �شك على كثرية لي�ست كلها مغر�ضة ،متثي ً «مراحل» ا�ستواء اجلماعات امل�ستعمرة والتابعة املتخلفة ال (�-أمم ًا) وطنية ناجزة ،وعلى �رضورات االنتقال من دو ً حال الت�صدع الأوىل والتعويل على الأجنبي �إىل حال التما�سك الذاتي املرجوة والآتية. ع�سكر اال�ستيالء وحزب احلكم فو�سع البعث العراقي -على نحو ما و�سع «النا�رصية» امل�رصية يف الأعوام اخلم�س ع�رشة املنق�ضية بني 1955 ،1970واجلبهة الوطنية التقدمية يف �سورية يف ،1961 - 1954ثم البعث ال�سوري يف - 1963 1970وما بعدها ،واحلركات «الوطنية» �أو اال�ستقاللية يف الأردن ولبنان وبلدان �شبه جزيرة العرب وفل�سطني 185
بدايات
العدد 2013 |6
بقيادات مفرت�ضة هياكل و�شبكات منظمة ومت�صلة، �أرادت قيادة حزب البعث رفد االنقالب الع�سكري التقني واملبا�رش بعمل «�شعبي» جماهريي وقاعدي. و�أوك��ل��ت �إىل «حر�س ق��وم��ي» ،حزبي ،اال�ضطالع بدور يف اال�ستيالء على «ال�شارع» وتخويف الأعداء وال�سيطرة على �أجهزة احلكم ،ثم يف الإدارة ال�سيا�سية والأمنية اليومية .و�آذن �إ�رشاك «احلر�س القومي» يف الأمرين بتف�شي العنف ،يف �صورته الوبائية والأهلية ،يف النزاعات ال�سيا�سية ،ويف �إجرائها اليومي والإداري. و�إذا �أف�ضى هذا التجديد يف العاجل� ،إىل خ�سارة قيادة البعث ال�سلطة وت�أليب التيار القومي واجلماعات العراقوية وبع�ض اجلماعات «القدمية» عليه ،ر�سخ لا قدم احل��زب ،يف التجديد «ال�شعبي» واحلر�سي �آج� ً ،1968يف احلكم .وخل�ص احلزب� ،أي قيادته ال�ضيقة، من اال�ستيالء الأول ،الفوقي والعلوي� ،إىل �ضعف مثل هذا اال�ستيالء وه�شا�شته ،و�إىل حاجته� ،إذا �شاء حكم ًا مديد ًا ورا�سخ ًا يف دولة وجمتمع عربيني ومعا�رصين� ،إىل غ�شيان حزب جماهريي عري�ض ومن�ضبط ومتع�صب، ج�سم الدولة و�أجهزتها ،من وجه ،و�إىل ال�سيطرة على �أبنية املجتمع وا�ستتباعها �أو �إحلاقها بجهاز ال�سيطرة ودجمها يف �إوال��ي��ات��ه .فمن طريق احل��زب الع�صبي فاجلماهريي املن�ضبط ،وعلى خالف اقت�صار ال�شلل الع�سكرية على تكتيل ا�صحاب املواقع العمالنية النافذة ،ولكن على ال�ضد من التعويل االيديولوجي على ترجيح عوامل اجتماعية و�سيا�سية �رضورية غلب َة قوى «تاريخية» مو�صوفة على قوى �أخرى (على ما ن�سب ال�شيوعيون �إىل �أنف�سهم) – تغلبت قيادة حزب البعث على القوى املناف�سة الكثرية الأخرى ،وجتاوزت اال�ستيالء االنقالبي الظريف �إىل �إن�شاء «نظامها» وتثبيته. ويف حايل �أو ف�صلي اال�ستيالء والتثبيت ،مهدت الأداة الأمنية الطريق �إىل بناء «النظام» على �أركانه الإدارية واالجتماعية املتينة واملديدة. فقدم االنقالب اخلاطف وامللتب�س ،واخل��ادع �أو ّ املراوغ ،لإجراءات قلبت ر�أ�س ًا على عقب موازين عالقة الدولة� ،أو جهاز ال�سيطرة والتوحيد والإدارة ،باجلماعات الوطنية وبـ«ال�شعب» و«املجتمع» �أي مبا ُخ ِّل�ص من اجلماعات وانقطع عنها ،وائتلف يف الكيانني النا�شئني. فا�ستعجلت القيادة احلزبية ق�رص القوات امل�سلحة على �أن�صارها� ،أي على نف�سها ،و�إق�صاء «املخالفني» من غري متييز .و�سلطت عليها ،وعلى �أطرها اجلديدة ،معايري والء
حزبي و�شخ�صي �صارمة وقاطعة .وع�ضدت هذه املعايري ببنية «طبقة منتخبة» ومتنفذة ،و�أخرى �أو�سع من الأوىل، ولكنها ت�شاركها معايري االنت�ساب واملنبت وامل�صلحة ال�سني املفرت�ضة .فمالت كتلة احلزب بكليتها نحو اجل�سم ُّ وبلدانا، والعربي ،الو�سطي والغربي وال�شمايل جغرافي ًة ً و«البدوي» الريفي عمران ًا واجتماع ًا و�سيا�سة .وال�سمات الع�صبية والأهلية هذه جنمت عن انقالب حزب البعث من منظمة نا�شطني دعاة ،وحمر�ضني «فكريني» ،ومعرت�ضني على �سيطرة م�صالح تقليدية �ضيقة� ،إىل حركة �سيا�سية مبادرة جعلت ن�صب جهدها و�سعيها الدولة وال�سلطة، واال�ستحواذ عليهما ،و�إحلاقهما بقيادتها وخططها .وهي انتهجت نهجها اجلديد ،على نحو �إعدادها النقالبها يف �صيف ،1968على ما تقدم ،يف �ضوء مناف�ستها «احلركة» �أو التيارات النا�رصية القومية العربية ،من وجه، واحلزب ال�شيوعي العراقي ،من وجه �آخر ،واحللف احلاكم الع�سكري امل�ضطرب �أخري ًا .وميدان املناف�سة هو «جمتمع» اجلماعات العراقية الأهلية وع�صبياتها و«الدولة» التي �أن�ش�أتها احلقبة اال�ستعمارية الربيطانية يف �أثناء العقود الأربعة املن�رصمة ( .)1958 – 1918وانتهت القيادة يف هذا الأمر �إىل مبد�أين �أو �أ�صلني :الكتلة الع�سكرية والأمنية �رضورة لال�ستيالء على ال�سلطة ،واجل�سم احلزبي اجلماهريي والأهلي املر�صو�ص وحده ي�ضمن البقاء فيها. برنامج «املرحلة الوطنية الدميقراطية» و«املنطق» املتما�سك والظاهر على هذه املقاالت مل يكن وليد ًا منطقي ًا لأفكار �أوىل موجبة ،بل هو تبلور يف معر�ض حوادث ووقائع تعقبها «دليلنا» ال��د�ؤوب .وداللته ال تقت�رص على روايته .وبع�ضها ي�صدر عن �إغ�ضائه �أو عن ترتيبه العوامل التي ُيعملها يف الرواية .فيالحظ القارئ، على �سبيل املثلّ � ،أن �صاحبنا مل يفرد لل�صفة املذهبية �أو الطائفية التي �صبغت ال�شطر الأعظم من البعثيني يف املرحلة الثالثة من تاريخ حزبهم (بعد الإعداد لالنقالب، ثم اال�ستيالء الأول) معاجلة خا�صة .وذلك � ّأن الكاتب اقت�ص مراحل غلبة هذه ال�صفة من طرق �أخرى هي �أزمة ّ املوا�صالت النهرية و�صناعة مراكبها ،يف �أحوا�ض الأنهر جراء ت�سلط املوا�صالت البخارية ،وانهيار الأرياف يف عهدة مالكني ر�ؤ�ساء ع�شائر و�أعيان وموظفني ووكالء («�رساكيل») غائبني �أو ُم ْق ِوين حتت �أعباء روابط قرابة ووالء ثقيلة ومقيدة ،وخ�سارة التجارة الداخلية بع�ض دوائرها املحلية والإقليمية ،ووفرة اليد العاملة «احلرة» 186
بدايات
العدد 2013 |6
ال�سيا�سة اخلارجية والتنديد ب�سيا�سات «الغرب» ونظمه االجتماعية و«الر�أ�سمالية» عموم ًا ،و�ضبط العالقات ال�سيا�سية الداخلية على مثال قريب من احلزب (الواحد) الدولة ويتخطاه فع ًال �إىل «املجتمع» .وحملت هذه ال�سيا�سة يف ال�رشق الأو�سط العربي على «النا�رصية»، ون�سبت �إىل م�رص يف قيادة جمال عبد النا�رص ،يف �أثناء هيمنة �سيا�ساته الإقليمية على ال�سيا�سات الوطنية (و�أنكر �سيا�سيون بارزون مثل ال�سوري خالد العظم �سبق عبد النا�رص وريادته� ،إىل �إنكارهم احلاد �صدق انتهاجه هذه ال غاياتها). ال�سيا�سة ون�شدانه فع ً
ومناف�ستها بع�ضها بع�ض ًا وتردي �أجورها� ،إلخ .وهذه ال�سياقات البنيوية ،وهي �أ�صابت الكتل الأهلية ال�سنية و�أولها كتلة �سكان البالد ال�شمالية الغربية ،ما كان لها ال�سني من اجلمهور البعثي رمبا �أن ترجح كفة ال�شطر ُّ لوال «هزمية» علي �صالح ال�سعدي ،ال�شيعي ،وانفراط عقد احل��زب وجمهوره وقيادته وخطه ،حتت وط ��أة مراجعة حادة تطاولت �إىل �أركانه ومبانيه كلها .فالتوجه االجتماعي على «الدولة» و�إليها ،وقيام اال�ستيالء عليها بالقوة ثم غ�شيانها ومالب�ستها مقام قطب الرحى من العمل ال�سيا�سي البعثي ،ت�ضافر الأم��ران على �إنزال ال�سني وكتلته منزلة �سيا�سية واجتماعية اجلمهور ُّ (�سو�سيولوجية) مت�صدرة. ولكن هذه ال�صدارة «املو�ضوعية» ،الإح�صائية �إذا جازت العبارة ،مل تحَ ِمل على �صيغة �إيديولوجية �أو جهازية (علمائية ،على قول �إيراين وخميني رائج) ،ومل ت�صب �إىل مثل هذه ال�صيغة .فلم يرتتب عليها تفريق ُ فج ومنهجي يفوق قو ًة و�أثر ًا احلواجز التلقائية مذهبي ّ الناجمة عن الإقامة والقرابة والأعراف املتفرعة عنهما وعليهما .ورمبا غلب االنق�سام القومي والتاريخي ،العربي و«الإيراين» الإقليمي والداخلي الوطني ،وبع�ض �إرثه احلربي والدامي ،على االنق�سام املذهبي ،وغلفه بغالفه. وهذا االنق�سام القومي والتاريخي ،يف حال العرب والكرد ،مل تك�رس الوحدة املذهبية حدته .ومل ي�ؤ ّد ،من وجه �آخر� ،إىل جبهة قوميات« :عربية» على الكرد ،وال كردية و«�إيرانية» على العرب. َ العوامل االجتماعية امل�ؤثرة يف ويقود ترتيب الرواية بناء ال�سياقات البنوية ،على النحو الذي م َّثلت عليه الفقرة ال�سابقة ،وهي تناولت «الطائفية» وع�صبيتها وتقدم وظائفها العملية والظرفية على حتجرها الع�صبي واملعلن، ال �إىل الفح�ص عن مالب�سة نهج �أثمر �إجنازات �أو هو قاد فع ً «الثورة الوطنية الدميقراطية» ،على ما �سمى مارك�سيون و�شيوعيون جهازيون كرث رزمة �إجراءات عرفت جملتها الدولة الوطنية يف العامل الثالث وهي ،بعد اال�ستقالل: الت�أميم وانتزاع مرافق �إنتاج املواد اخلام من ال�رشكات الغربية ،والإ�صالحات الزراعية ،وتويل �إدارات الدولة مرافق املوا�صالت والبنى التحتية واالت�صاالت والتجارة اخلارجية وال�صحة والتعليم �إىل ال�سلطة النقدية ،وجهر �إرادة توحيد وطني �أو «قومي» �صارمة و�سو�س اجلماعات الأهلية وال�سيا�سية مبوجبها ،واالنحياز �إىل ال�سيا�سات ال�سوفياتية واحلركات اال�ستقاللية الوطنية مع ًا يف
حلقات ال�سلطة املتما�سكة ويف مر�آة رواية بطاطو املعللة ترتتب �إجراءات بعث �صدام ح�سني (�أو �أحمد ح�سن البكر� -صدام ح�سني) ،الإجراء بعد الآخر ،على منطق عملي مت�ضايف في�ستدعي الإجراء الإجراء على �سبيل التالزم ،وال ي�ستقيم الإجراء الأول وال يدوم �إذا مل يتبع بالإجراء الآخر �أو الثاين .وعلى هذا ،فاال�ستيالء على احلكم من طريق اجلي�ش ،ورعاية احلزب وحمايته وو�صايته ،وقطع ًا لدابر اال�ضطراب واملنازعة يف �صفوف القوات امل�سلحة ،ما دامت هذه ميدان املناف�سة الوحيد على ال�سلطة ومقاليد الأمر، «اقت�ضى» �أو «�أوج��ب» بع�ض الإج��راءات املتما�سكة: تكوين اجلي�ش ومراتبه تكوين ًا جديد ًا يف عهدة اجلهاز احلزبي و�أمنه و«بولي�سه» وا�ستخباراته؛ والتكوين اجلديد هذا «اقت�ضى» بدوره �إغراق القوات امل�سلحة باحلزبيني، وم�ضاعفة عديدها �أ�ضعاف ًا ،وق�رص التجنيد على دوائر �أهلية و�سكنية ووالءات معروفة وخمتربة ت�ضويها مراتب ال يتطرق �شك �إىل انخراط �أ�صحابها يف الوالء اال�ضطراري واملقيد بقيود امل�صلحة احليوية للقيادة. وكان قد �سبق هذا الف�صل من ال�سيا�سة تو�سيع �أو تعظيم اجل�سم احلزبي ،واحرتاف املحازبني ،وترتيبه على ُ مرتبتي الأمر واالنقياد ،ورفد حلمته بعوامل ُم�سكة قوية مثل متجيد الف�صل «الثوري» والعنيف من م�سري احلزب وتاريخه ،وهو ف�صل خلف �ضغائن قوية وترب�ص ًا ث�أري ًا يف �صفوف الأح��زاب واجلماعات املناف�سة واخل�صم، وانتخاب احلزبيني اجلدد وترقيتهم على هذا املعيار. وا�ستمدت القيادة بع�ض اللحمة (من) ع�صبيات منابت احلزبيني ،الع�شائرية واملحلية واملذهبية والعمرية .وما �أعمل �أو �أج��ري يف اجلي�ش واحل��زب �أعمل يف �إدارة الدولة التي �أحلقت باحلزب وقيادته .فانتفخ مع ًا يف 187
بدايات
العدد 2013 |6
بع�ض الأحيان ،وتباع ًا يف �أوقات �أخرى ،عديد املعتالني على «الدولة» و�أجهزتها ومرافقها .ومتويل العديد املتعاظم حاجة حيوية ال ي�ستقيم بغري تلبيتها «الكرمية» دوام احلزب احلاكم يف «قيادة الدولة واملجتمع» ،على ما ن�صت مادة يف الد�ستور البعثي ال�سوري ال�سابق هي ن�سخة خمففة ومهذبة من �أ�صل �أو مبد�أ «ديكتاتورية الربوليتاريا» يف العقيدة اللينينية – ال�ستالينية. و�سبيل التمويل املفرت�ض م�ضمون ًا وم�ألوف ًا� ،إذا عز �أو امتنع �سبيل تنمية موارد الإنتاج الذي تتواله القوى االجتماعية نف�سها (يف �إطار ليربايل �أو �شبه ليربايل)، هو �سيطرة «الدولة» على املوارد والفوائ�ض واالقتطاع والتوزيع واال�ستهالك .والت�أميم هو �صورة ال�سيطرة الإدارية املبا�رشة .وال ريب يف � ّأن ت�أميم املواد الأولية التي �سبقت الإدارات اال�ستعمارية �إىل ا�ستغاللها، و�إحلاقها بدورة �إنتاجها وا�ستهالكها ،هو ر�أ�س النهج الوطني واال�ستقاليل االقت�صادي واالجتماعي ،ويجمع قيمة رمزية عظيمة �إىل تلبيته حاجة متويلية ملحة. والإنفاق ال�رسيع من عوائد مرفق ت�سيطر عليه القيادة اجلديدة �سيطرة تامة وجتعل من ال�سيطرة التامة حمور ن�ضال �سيا�سي طويل� ،إذا �ضمنته القيادة وانتزعته من ال�رشكات الأجنبية وحرا�ستها ال�سيا�سية والأمنية� ،إجناز يف و�سع القيادة الإدالل به ،و�إحكام قب�ضتها بوا�سطته على مرافق القوة وال�سلطة والإدارة واملجتمع جميع ًا. فاملرفق النفطي ،يف حال العراق وغريه من الدول املنتجة ،لي�س رافعة ت�صنيع ،وال لبنة �أوىل يف �أ�س�س الر�سملة ودورتها .وال هو قاطرة عربات �أو حلقات ال من ال�سنني ت�صنيعية �أخرى .فبقي� ،إىل اليوم ،عقد ًا كام ً بعد �سقوط �صدام ح�سني� ،ش�أنه يف بلدان �أخرى مثل العراق ،م�صدر ريوع نقدية ت�سدد ثمن م�شرتيات البلد، ومرتبات موظفي �إدارته املتورمة ،ونفقات الإن�شاءات التحتية ال�رضورية� ،إىل النفقات الفاخرة التي «جتزي» املرتبعني يف قمة الهرم ال�سيا�سي الإداري والأهلي على �سبيل اجلرايات العبا�سية واململوكية .والقرينة على الأمر � ّأن تعاظم العوائد ،بعد ك�رس احتكار ال�رشكة «العراقية»، الأنغلو� -أمريكية ،ثم بعد ت�أميم احلقول والعمليات كلها، قاد �إىل تعاظم احتكار احلياة ال�سيا�سية الوطنية ،وفاقم نزاعاتها احلزبية ،و�أطلق يد احلزب احلاكم فيها ،و�ضمن لها موقع ًا ح�صين ًا ال ينازع ،وال يناف�س ،وال قيد عليه. وكانت احلمالت الع�سكرية على الكرد ،والإرهابية على ال�شيوعيني والأن�صار ،والإق�صائية على املناف�سني
البعثيني واملتحفظني عن القيادة «التكريتية» ال�ضيقة ،من تظاهرات �سيا�سة و�صفت بالوطنية التحررية ،وبالتقدمية اال�شرتاكية ،وبالقومية الوحدوية .واحلروب اخلارجية، على �إي��ران وعلى الكويت ،و(تهديد) بلدان اخلليج العربية ،توجت احلمالت الكثرية الوجوه هذه ،وترتبت على املنطق الإمرباطوري �أو ال�سلطاين نف�سه ،القا�ضي وتذرع �صدام بتعظيم الريوع وتلبية احتياجات الإنفاق. ُ ح�سني �إما بـ«ا�ستعادة» الأحواز وحقول عبادان� ،أو بردع �سعي الكويت يف «تركيع» العراق من طريق خف�ض �سعر برميل النفط و�إغراق �سوقه� ،أو بتلك�ؤ بلدان �شبه جزيرة العرب عن تعوي�ض العراق املحارب خ�سائره الباهظة ،وهو يقاتل «ال�شعوبية» الفار�سية وتو�سعها املذهبيَ -ت ْ�صدر وجوه التذرع املتفرقة واملت�ضافرة كلها عن ا�ضطرار احلزب – «الدولة» «( -املجتمع») �إىل الوفاء ب�أعباء اال�ستيالء والوالء .وهي �أعباء �إن�شاء الدولة الوطنية (العربية) على املثال الع�صبي الريعي والبريوقراطي الذي �أن�ش�أتها عليه �أجهزة ع�سكرية وحزبية يف الربع الثالث من القرن الع�رشين .ومل تنفك هذه الذرائع ،يف �أحوالها كلها ،عن ربطها ربط ًا وثيق ًا فمرت «الطريق �إىل بامل�س�ألة الفل�سطينية ،وب�إ�رسائيلّ : القد�س» بعبادان ،وتهديد الكويت كان الوجه الآخر للتهديد بحرق �إ�رسائيل �أو ق�صفها بـ«الكيماوي املثلث» ...وقد ينبغي ا�ست�رشاف �صورة الدولة القومية والكبرية ،دول��ة الأم��ة الواحدة و«اململكة» املرتامية الأطراف واملركزية مع ًا ،وراء �سيا�سات �صدام ح�سني، ويف ثناياها .وهذه ال�صورة لي�ست من النوافل التي ال يليق بـ«الباحث العلمي» االلتفات �إليها والوقوف عندها وتفح�صها� ،أو رميها يف �سلة «االيديولوجيا» على �أحد املعاين ال�سائرة .و«الفولكلور» املَ َلكي ال�صدامي الالحق، يف �أثناء �سنوات احل�صار ،ال يغمط ال�صورة قوتها .فهي ر�سم تاريخي �ألهم حركات �سيا�سية و«�شعبية» فاعلة، وال جدوى من «التخفف» منها و�إدارة الظهر لها. ا َ حل ْمل على تقنية �سوفياتية متوطنة وعلى غرار النا�رصية ومنوالها ،و�سورية البعثية يف �أطوارها وعهودها املتعاقبة من الفريق �أمني احلافظ فاللواء �صالح جديد فالفريق حافظ الأ�سد ،برزت يف �صدد البعث العراقي ونظامه م�س�ألة عري�ضة تناولت ،حقيقةً، تعريف الأنظمة ال�سيا�سية واالجتماعية التي تخلفت عن ت�صفية ال�سيطرة اال�ستعمارية املبا�رشة على �أجزاء وا�سعة 188
بدايات
العدد 2013 |6
فهم الوقائع واحلوادث احلمل ،اتفق النظر والعمل� ،أي توحد ُ واملبادر ُة �إىل �إجرائها على جمرى بعينه دون غريه .وما ا�ستخل�صته احلركات االجتماعية العمالية والنقابية والدميقراطية الربملانية (الأوروبية) من تاريخ املنازعات ال�سيا�سية واالقت�صادية ،ف�صاغته منهاج ًا تاريخي ًا متجاذب ًا ومتناق�ض ًا ،قدمت اجلهاز احلزبي وااليديولوجي ال�سوفياتي �إىل قيادات احلركات اال�ستقاللية والوطنية يف امل�ستعمرات �أو املحميات �أو القطائع ال�سابقة يف �صورة تقنية ا�ستيالء على �أجهزة �سيطرة خال�صة ترتبع يف �سدة جماعات منقادة من غري �رشط .وهجمت قيادات احلركات اال�ستقاللية والوطنية الأهلية على هذه التقنية ،وعلى بع�ض مفهوماتها امل�ضمرة ،ف�أعملتها على وجهها التقني والذرائعي يف بناء حركات �أو منظمات ،الباعث الأول والدائب على بنائها على املثال العام الهرمي والإنفاذي الذي بنيت عليه هو اال�ستيالء على ال�سلطة غري املقيدة ،والإقامة بها ،وجني ريعها وقطفها من طريق بريوقراطية متداعية. ولعل بدايات الأم��ر كانت ،يف ال�رشق (الأدن��ى) الأو�سط العربي ،حني �سبقت الأجهزة الع�سكرية الوطنية فت كتل ًة مت�شابكة احلركات ال�سيا�سية العامة ب�أ�شواطَ ، وخ َل ْ من الأعيان و�شيوخ الع�شائر والأ�صناف والطرق وقمم الق�ضاء والفتوى وموظفي الإدارة العثمانية ومتمويل فروع امل�صارف و�رشكات النقل الأجنبية وجتار املحا�صيل والزراعات ال�صناعية ،على ال�سلطة �أو احلكم .ف�أ ْلفت احلركات ال�سيا�سية العامية املحلية نف�سها ،وهي كانت جزء ًا من احلركات اال�ستقاللية ومبنزلة جناحها احلركي وامليداين ،يف موقع حرج ومرتبك .فهي �أه��ل لوراثة كتلة «الطبقات» امل�سيطرة �أو احلاكمة ،القدمية ،و«دورها» يلي مبا�رشة ا�ضطالع الكتلة باحلكم وظهور تق�صريها. ولكن هذه الأهلية تنق�صها �رشوط حيوية :فاحلركات العامية املحلية منق�سمة على نف�سها انق�سامات اجتماعية و�إيديولوجية وثقافية عميقة وجارحة .وتتطاول انق�ساماتها �إىل ت�شخي�صها �أحوال املجتمعات التي تتقلب بني �أظهرها، و�إىل هوية هذه املجتمعات الوطنية �أو القومية والدينية، وعوامل التغيري فيها ،وغايات التغيري ،وعالقات الأجزاء �أو اجلماعات بع�ضها ببع�ض �أو بالكل ال�سيا�سي واحلقوقي. واخلالفات �أو الفروق واالنق�سامات هذه ال ترتدي معاين واحدة �أو م�شرتكة ،وال ترتتب على معانيها مناهج �سيا�سية واحدة .والوقت الذي ق�ضته هذه احلركات معار�ض ًة ال�سلطات احلاكمة وامل�سيطرة ،يف �أثناء االحتالل الأجنبي �أو االنتداب والو�صاية القريبة والبعيدة املبا�رشة ،مل يتح
من �آ�سيا و�أفريقيا كلها وبع�ض �أمريكا اجلنوبية الهندية والالتينية .وقاد التعريف �شطر ًا من ال�سيا�سات الدولية يف العقود الأربعة التي �أعقبت احلرب الثانية ،والب�س مالب�سة م�ؤثرة العالقات ال�سوفياتية – الأطل�سية ،ومناف�سة «الكتلتني» على «حكومة العامل» ،وعلى م�سالكه وممالكه، �أو ب�رشه وموارده .وغلبة اللغة ال�سوفياتية وم�صطلحاتها على مناق�شة تعريف الأنظمة ال�سيا�سية واالجتماعية وترتيبها على مراتب التقدم والتخلف والتحديث و�أنحاء الثورة الوطنية والدميقراطية والنمو وتوزيع الرثوة وعدالته ،هي �أثر من �آثار ميزان العالقات الدولية يف العامل اجلديد« ،العامل الثالث» .وا�ستجابت هذه اللغة ال وعالقات داخلية افتقرت ،فيما افتقرت �إليه� ،إىل �أحوا ً لغتها ومفهوماتها التاريخية املتعارفة .ولكن دوام امل�س�ألة بعد ان�رصام احلرب الباردة وانح�سار اللغة ال�سوفياتية، مع جتدد حظوة الدميقراطية (على قول �أحدهم) يف �أنحاء متفرقة من العامل و�أوقات متباينة ومتباعدة ،قرينة على ا�ضطراب الفعل ال�سيا�سي والتاريخي الذي �صنع هذا ال�رضب من الأنظمة من غري �أن يدري ما �صنع .وهذه الأنظمة� ،أو ذ ُِّريتها البعيدة والقريبة التي حفظت منها يف حلل خمتلفة بع�ض الأبنية الفقرية ،تتخبط اليوم ،ورمبا �إىل عقود من الزمن ،يف مع�ضالت الت�صدع حتت وط�أة غلبة ال�سلطان «الكينونية» (روح الله خميني) على طبائع االجتماع والعمران ،وا�ستتباعه �أهلهما من غري بقية. فغداة ت�آكل ال�سيطرة اال�ستعمارية على «ال�رشق»، وهو �رشق على �سبيل اال�ستعارة واملجاز ،ثم انهيارها، برزت م�س�ألة قيادة املجتمعات القدمية واجلديدة مع ًا، وعلى معنيني متباينني .ويف معية م�س�ألة القيادة �أو ال�سيطرة ،برزت م�س�ألة «مهمات» القيادة وبرناجمها. وال غرو �إذا ت�صدرت اللغة ال�سوفياتية املناق�شة ،وهي ت�سلطت على املفهومات االجتماعية والتاريخية العامة التي تدرك من طريقها ،بذريعة «املارك�سية» ،بع�ض �أبرز العوامل يف �أطوار الر�أ�سمالية وثوراتها الإنتاجية والتقنية واالجتماعية والع�سكرية. ُ وحمل حوادث التاريخ االجتماعي وال�سيا�سي احلديث على مراحل ومهمات (برنامج) وقيادات (طبقات و�أجهزة)، على ما �صنعت املارك�سية ال�سوفياتية �أو «املت�سفيتة» ،على ال يف تعريب �أحد ا�صحابنا ،بدا مر�شد ًا �أمين ًا وال غنى عنه فع ً هبت على م�رسح جمتمعات دوامة العا�صفة التاريخية التي ّ م�شتبهة الر�سوم والعالقات ،و�أ�سلمت �إىل �أهلها ومباين اجتماعهم الوالية على �أنف�سهم وعمرانهم .ويف مر�آة هذا 189
بدايات
العدد 2013 |6
لها ما يتعدى متر�س ًا �شكلي ًا باحلكم وال�سيا�سة عموم ًا .وقد تكون امل�س�ألة احلا�سمة التي �أف�ضت �إىل االنعطاف احلاد الالحق هي ا�ضطرار البلدان امل�ستقلة -واخلارجة من تدبري ا�ستعماري براين ومتخفف من التحكيم ال�سيا�سي يف اخلالفات واملوازنات واملوارد ووجوه االنخراط يف �أج�سام وكيانات قومية �أو دينية متنازعة وحمتملة -ا�ضطرارها فج�أة ،وهي خالية الوفا�ض من �أبنية �إدارية وع�سكرية واقت�صادية متما�سكة� ،إىل اال�ضطالع باختيارات م�صريية يف امل�سائل واملجاالت كلها. فنزلت امل�س�ألة االجتماعية – االقت�صادية على وجه اخل�صو�ص ،وعلى ما �أعر�ض الحق ًا يف تف�صيل ،على احلركات العامية املحلية ،وحال ظهور عجز «الطبقات» القدمية عن معاجلة امل�س�ألة ،نزول ال�صدمة .واتفق ا�ستيالء الأجهزة الع�سكرية على ال�سلطة مع �أمرين :ا�شتداد النزاع الدويل على ال�سيطرة العاملية يف �إطار احلرب الباردة، وتعاظم النزاعات الداخلية ال�سيا�سية (املركبة) واالجتماعية على الدولة الوطنية وعلى ملكية املوارد وتوزيعها .وا�ستمال القطبان الدوليان قوى النزاعات الداخلية .فمال معظم قوى كتلة «الطبقات» امل�سيطرة� ،إىل القطب الأطل�سي ،الأمريكي – الأوروبي ،ومال معظم قوى احلركات العامية �إذا ا�ستثنيت قوى الإ�سالم االجتماعي وال�سيا�سي النا�شئ� ،إىل القطب ال�سوفياتي �أو «ال�رشقي» .وتوىل اجلهاز الع�سكري امل�ستويل التحكيم «القي�رصي» �أو «البونابرتي» يف اخلالفني ،وا�ستوىل على احلكم �أو �سيطر على احلياة ال�سيا�سية من وراء ال�ستارة (وه��ي حال �سورية منذ � 1954إىل حني تويل عبد احلميد ال�رساج نيابة رئا�سة اجلمهورية العربية املتحدة ،ثم .)1961وق�ضت مالب�سات النزاعات الإقليمية والدولية، الع�سكرية يف املرتبة الأوىل ،يف دائرة عربية تتو�سطها جغرافي ًا وا�سرتاتيجي ًا امل�س�ألة الفل�سطينية؛ وق�ضت كذلك مالب�سات املنازعات ال�سيا�سية واالجتماعية يف دول وبلدان ت�ستقوي جماعاتها الأهلية على دولها؛ ق�ضى الأمران بغلبة نازع «�سوفياتي» قوي ،جهازي متحزب واحتكاري ،على �سريورة بناء الدولة و�شد قوامها يف هذه البلدان. ٢ «الربنامج» من غري ال�سريورات و�أراد اجلهاز الع�سكري امل�ستويل ا�ستمالة احلركات العامية املحلية ،ومعظم عديد اجلهاز حتدر من �أهل هذه احلركات و«طبقاتها» ،وهو ن�ش�أ يف موازاة ن�ش�أتها
ويف �سياقة هذه الن�ش�أة .فهي �سنده االجتماعي ،رمبا املفرت�ض املثايل فوق ما هي �سنده النا�شط والعملي. وهي خ�صم خ�صمه� ،أي كتلة «الطبقات» القدمية وبع�ض الطبقات اجلديدة .وعلى رغم غلبة هاج�س وطني جامع� ،أو توحيدي داخلي ا�ستقاليل ،على احلركات الع�سكرية االنقالبية يف م�رص و�سورية والعراق واليمن (ويف اجلزائر ،1965 – 1962 ،وليبيا،1969 ، ا�ستطراد ًا من طرق خمتلفة) ،وهي حركات ات�صلت على ال على الت�صدي وجه �أو �آخر ،مل تلبث �أن حملت حم ً ملا عرف مب�س�ألة التنمية� ،أو اخلروج من «التخلف»� ،أو «الإق�لاع» االقت�صادي واالجتماعي .وق�صد بالتنمية �سيا�سات بناء �أبنية حتتية تقود الت�صنيع والإ�صالح الزراعي ،وتعميم التعليم والعناية ال�صحية وال�سكن، و�إن�شاء �سوق داخلية متوازنة وعملة م�ستقرة ...وهو «برنامج» وطني دميقراطي �أو دميقراطي بورجوازي، واملتعارف ،وامل�شرتك ال على ر�سم «املراحل» ال�شائع نزو ً َ بني �أجنحة احلركات العامية على ما ت�صورت يف م�رص ع�شية :1952اجلناح الليربايل و�إىل ي�ساره �أو «ميينه» اجلناح ال�شعبي ،واجلناح الإ�سالمي و�إىل «ي�ساره» اجلناح ال�سلفي (على تبويب �أو ترتيب �أنور عبد امللك). وت�ضافرت على هذا احلمل عوامل داخلية ودولية، وجمعت م�صالح الطاقم الع�سكري �إىل مرَ ، على ما ّ م�صالح احلركات العامية و«طبقاتها» .وتعهد الطاقم الع�سكري املتحدر فكر ًا وم�صالح و�أفق ًا من احلركات العامية ،واجلامع يف خليط مبهم منازع توحيدية جمعية و�إداري��ة �أمرية ور�سالية ا�صطفائية ،رعاية امل�صالح «الواحدة» هذه واملتناغمة ،على ما افرت�ض الطاقم ،لقاء الت�سليم له بالقيادة والريادة .ومل يكن الت�سليم املرجتى ع�سري ًا �إال على التيار الإ�سالمي املنظم �أو الدعوي. وبايع التيار �أو اجلناح التقدمي والي�ساري االجتماعي، �أو معظمه ،الطاقم الع�سكري الوطني على برنامج «دميقراطي بورجوازي» بدا دميقراطي ًا وطني ًا و�شعبيا ً اجتماعي ًا ،قيا�س ًا على حال بورجوازية وطنية �أ�سالت من احلرب واملناق�شة فوق ما �أقامت قرائن على حقيقتها �أو وجودها ال�سيا�سي �أو حتى االجتماعي. وتو�سطت القيادة ال�شيوعية ال�سوفياتية يف حل م�س�ألة الت�سليم �أو املبايعة وال��والء .واحل��ل مل يكن ال ،ال يف �ضوء موازين القوى ال�سيا�سية الداخلية، مع�ض ً وهي مل تكن واحدة وال متجان�سة العوامل ،وال يف �ضوء عالقة مراتب احلركة «الأممية» بع�ضها ببع�ض ،ورجحان 190
بدايات
العدد 2013 |6
املركز على الأطراف الإقليمية والوطنية �ساحق .واحلق � ّأن حل اجلماعات الي�سارية والتقدمية «الليربالية»� ،أي ذوبانها يف تيار وطني َج ْمع �أو «�إجماعي» واجتماعي �شعبوي وعامي ،كان م�س�ألة �أجهزة فوق ما كان م�س�ألة ال .ومكا�سب الطاقم عمومية ،وطنية و�شعبية ،فع ً الع�سكري والغالب ،وهو تدريج ًا يف الأثناء انقلب ع�صبي َة دولة ريعية وبريوقراطية ومل ينفك م�ستولي ًا على املكا�سب ،من ذوبان اجلماعات الي�سارية والتقدمية «الليربالية» مل تكن عظيمة .فهذه اجلماعات مل ت�ستو قوة فاعلة �أو راجحة ،ال �سيا�سي ًا ،يف �إطار جمتمعات حتظى فيها ال�سلطة و«طبقاتها» ب�أرجحية �ساحقة ،وال ومراتبها وجهاز اجتماعي ًا ،حيث تتقدم اللحم ُة الأهلية ُ احلكم ،حتى يف اجلماعات املدينية املختلطة امل�صادر، قيام الأفراد ب�أنف�سهم وروابطهم الطوعية والتلقائية. َ وعلى هذا ،فما جنته الطواقم الع�سكرية الغالبة من اندماج بع�ض جماعات الي�سار التقدمي يف الإدارات واملنظمات «اجلماهريية» ومنابر الإع�لام �أو �أجهزته تفوق قيمته املعنوية ثقله ال�سيا�سي العملي مبا ال يقا�س (تناول �أنور عبد امللك هذا الف�صل من عالقة جمال عبد النا�رص بالي�سار امل�رصي يف كتابه :م�رص جمتمع ًا ع�سكري ًا ،١٩٦٢ ،باري�س� ،ص ،١٣٢-٧٨وعاد �إليه �إري��ك رولو بعد � ٥٠سنة يف مذكراته «العربية والفل�سطينية» :يف كوالي�س ال�رشق الأدنى – مذكرات �صحايف ديبلوما�سي» ،٢٠١٢ -١٩٥٢باري�س� ،ص ،٨٠-٢٩ونقلت «بدايات» يف عددها الثاين بع�ض �صفحات من مذكرات رولو هذه). فاالندماج �أقر للطواقم الع�سكرية الغالبة ،ومن حتلق حولها من �إداريني ومهنيني وو�سطاء ب�أمر حا�سم وجوهري ،هو م�رشوعيتها التاريخية الكاملة -وم�صدر الإق��رار جماعات «املثقفني» من املتعلمني واملهنيني والتقنيني واملنظمني العموميني ،على هذا القدر �أو ذاك .وهم متولو التفكري يف ال�سريورات وال�سياقات واللحمات والفروق التاريخية واالجتماعية والثقافية احل�ضارية ،ويف الأدوار التي ت�ضطلع بها ه��ذه� ،أي وج ْرحها رواياتها ،وت�سويغها وت�صديقها و�إبطالها َ والنظر فيها ومراجعتها يف ميزان معايري مقرتحة ت�سعى اجلماعات املتفرقة يف عموميتها والإجماع عليها .وهو (االندماج) �أقر لربنامج الطواقم الع�سكرية بحقيقته و�صدوره عن موجبات و�إلزامات مو�ضوعية تتخطى الطبقات االجتماعية ور�سومها ال�صلبة �أو املائعة،
والنظم ال�سيا�سية والوطنية .وتتخطى ،قبل ذلك �أو فوقه، ال التي ال�سريورات وال�سياقات املتنازعة ،ال�سيا�سية �أو ً تقود �إليها املوجبات والالزمات وتف�ضي .ويف الق�سم نبهت ال�صفحات الأخرية �إىل الأول من هذه املقالة، َ انقطاع الإجراءات البارزة ،من ت�أميم نفطي و�إ�صالح زراعي وتعليم عام وم�شاركة ن�سوية عري�ضة يف �سوق العمل وتقييد قانوين لأعراف الأحوال ال�شخ�صية� ،إىل الإقرار بامل�س�ألة الكردية وبالتعدد ال�سيا�سي (يف �إطار «جبهة وطنية») ،من نتائجها ومرتتباتها. فاحلزب احلاكم ي�ؤمم النفط الوطني ،ويدخل يف ملك ثروة وطنية عظيمة يف و�سعه �إعمالها وا�ستثمارها يف ت�صنيع حملي ،و�إن�شاء �أبنية حتتية حيوية ،و�إعالة انتقال الزراعة من البعرثة الع�شوائية والبدائية �إىل نظام �سوقي وتعاوين متوازن ...ولكن ما يرتتب على حلقات هذا النهج املتما�سكة واملتالزمة �أمور اجتماعية جوهرية مثل ن�شوء طبقة عاملة كثيفة ومر�صو�صة وعالية الت�أهيل يف املوا�ضع املركزية من الن�سيج املتنامي .ويرتتب عليه ،وعلى مثاله ،تو�سع هذه النواة يف دائرة �أعر�ض بكثري ،تخلط مراتب الكثافة والر�ص والت�أهيل على مقادير متفاوتة .وهذه الطبقة ،واحل��ال هذه ،كيان �أو فاعل اجتماعي تدعوه �أحواله وم�صاحله واختباراته، وعالقاته بكيانات اجتماعية �أخرى� ،إىل بلورة �آراء �أو �أحكام و«وجهات نظر» يف هذه امل�سائل كلها :م�صاحله وعالقاته بكيانات اجتماعية �أخرى وعلى اخل�صو�ص بالدولة وب��الإدارات العمومية املوكلة �إليها .ويفرت�ض هذا ،من طرف غري خفي ،قيام الكيان االجتماعي ب�إزاء الدولة ،و�سيا�ساتها العامة ،رقيب ًا وح�سيب ًا ،ويف الأحوال كلها انف�صاله عن الدولة .واكتمال �سريورة الت�أميم، وتتويجها االقت�صادي واالجتماعي وال�سيا�سي ،رهن تبلور هذا الكيان ،وا�ستقالله بنف�سه ،وانخراطه يف حياة �سيا�سية عامة وم�شرتكة .وال ت�صدق فيها ال�صفتان، العموم واال�شرتاك ،ما مل ت�ست ِو كثرية الأقطاب ومتنازعة.
متثال برونزي للرئي�س العراقي ال�سابق �صدام ح�سني يف الق�رص الرئا�سي يف بغداد. 191
بومتكني... واال�ستيالء الريعي والبريوقراطي املركزي على النفط امل�ؤمم وعوائده ،والت�رصف به يف خدمة اجلماعة �أو القيادة امل�ستولية وعلى خالف بع�ض م�صالح اجلماعات القومية واملذهبية والدينية والبلدانية وال�سيا�سية الأخرى �أو املناف�سة ،وا�ستعمال العوائد يف وجوه ع�سكرية و�إدارية من غري مناق�شة ،هذا النهج حال عمد ًا بني بند الت�أميم، بدايات
العدد 2013 |6
من الربنامج «الدميقراطي البورجوازي» املفرت�ض، وبني مرتتباته التاريخية العامة على املجتمع العراقي والدولة العراقية .فالت�صنيع املرجتى ،وهو �أجازته نظري ًا عوائد النفط يف �سوق غلب عليها الطلب – يف � ،١٩٧٣إبان حرب ت�رشين (�أوكتوبر/رم�ضان) ،ثم يف -١٩٧٨مل يثمر «طبقة عاملة» م�ضمرة يف ثنايا «ت�شكيلة اجتماعية» خمتلفة� ،أو رازخة حتت خم ّلفات عالقات انتاج ا�ستعمارية ،ثم ا�ستعمارية جديدة و�أخري ًا «نيوليربالية» .وكذلك حال «طبقة املزارعني» والفالحني امل�ستقلني ،وطبقة العمال الزراعيني يف معيتهم ،اللتني كان يفرت�ض يف الإ�صالح الزراعي ،و�إعمال �أ�صل «الأر�ض ملن يفلحها» �أن يتفتق عنهما. وارتد عمل الن�ساء املتعلمات والعامالت يف مرافق املهن احلرة� ،أو يف العمل امل�أجور عموم ًا ،عليهن ،وعلى «�صيتهن» و«�رشفهن» و«عفافهن» حني انفجرت «قاد�سية �صدام» يف �أيلول ،١٩٨٠وطالت ثمانية �أعوام ،وقتلت مئات الآالف من الرجال .وا�ستثمر املر�شد الإيراين �أعوامها املتطاولة يف «وعي (ال�شعب) �أكرث» ويف اعتياد املوت ،على قوله .و�رشدت مئات �آالف �أخرى من النا�س على جهتي احلدود (طبع ًا) .فاملر�أة العاملة والرا�شدة ومعيلة الأوالد يف غيبة الرجل الطويلة ،وبعد م�رصعه بالأحرى« ،خراجة والج��ة» ،على قول �أهل بغداد ،ورمبا غريها يف القرن الثالث (هجري) .وهي حمل تهمة �سهلة ،وذريعة حتري�ض نذل وو�ضيع ،حني ينت�رص «الفار�س» املهزوم لفحولة مل َيك ِل ْمها ،على زعمه� ،سوء التدبري واالرجت��ال الع�سكريان� ،إىل التمييز املذهبي واحلزبي و�شق العراقييني طبقتني ،بل انتهكتها «خيانة» الن�ساء ،وحتررهن االجتماعي وال�شخ�صي ال ِّن ْ�سبي .فلم يرتدد احلزب احلاكم و َذ َرى �أدراج الرياح ح�صاد تعلم الفتيات ،وعمل الن�ساء ،ودعا �إىل قتلهن على التهمة، وبدد احل�صاد الثمني الذي كان هو بادر �إىل بذاره. وه��ذه امل�سائل ،منفردة وجمتمعة ،قرينة على �أن الربنامج العملي الذي تولت الأنظمة الع�صبية والريعية البريوقراطية العربية ،املتفرقة� ،إنفاذه منذ منت�صف خم�سينيات القرن الع�رشين مل يكن «وطني ًا دميقراطي ًا»، وال «دميقراطي ًا بورجوازي ًا» على رغم مطابقة بنوده، ال ،بنود الربنامج يف حلته ال�سوفياتية واجلهازية .فما �شك ً �أغفلته هذه احللة ،و�أبرمت احلركات �أو التيارات الي�سارية والتقدمية �إغفاله من دون تردد �أو �إحلاف ،هو دور املنازعة واالنق�سامات الراجح يف �صياغات بنود الربنامج العملية.
فهذه البنود هي «ر�ؤو�س» �سريورات و�سياقات .ف�إما تلد ال�سريورات وال�سياقات كيانات اجتماعية و�سيا�سية تاريخية وفاعلة ،يف خما�ضات و�ضع �أليمة ويرتب�ص بها الإجها�ض ،و�إما تلد طروح ًا مكتملة اخللقات والق�سمات للوهلة الأوىل ولكنها �آلية احلركة ،وال روح فيها �إال ما تنفخه فيها قيادات ُعظامية وطيفية .وهذه ،بدورها، دمى حتركها خيوط النزاعات الدولية وحماكاة املراحل التاريخية املدر�سية وقواها امل�ستعارة .وعليه� ،سبحت هذه الأنظمة وبلدانها وجمتمعاتها يف عوامل ودنى م�سحورة. ف�أجنزت بناء الدولة الوطنية امل�ستقلة ،وج�سدت �إرادة ال�شعب الواحد واملتما�سك ،و�أمم��ت مرافق الإنتاج، ووزعت الأر�ض على الفالحني ،وقطعت دابر الطفيليات والطفيليني ،و�أر�ست �أركان قوة ع�سكرية وطنية ح�صينة، ولقنت ال�شعب ثقافة وطنية �أو قومية نا�صعة ،وبعثت تراث الإ�سالم يف حلله البهية و�أ�سمائه املدوية ،ومل تفوت دورة انتخابية واحدة �إىل جمل�س ال�شعب �أو الهيئة الت�رشيعية ،و�إىل البلديات وجمال�س املحافظات ،ودبجت د�ستور ًا ن�ص على ف�صل ال�سلطات وتعاونها... وبع�ض هذه الأنظمة انقلب على الت�أميمات ،وجدد خ�صخ�صة الأر���ض فا�شرتاها رج��ال امل��ال والأعمال والو�سطاء ،وقل�ص دعم ال�سلع ال�رضورية واخلدمات العامة ،من غري �أن ي�شعر النا�س بانقالب الأحوال ،على ما ينبغي .وذلك لأن بنية النظام النواتية� ،أو قلبه امل�سحور، هي يف احلالني واحدة :ع�صبية ريعية وبريوقراطية تطرح ال�سريورات وال�سياقات وخما�ضاتها املتنازعة ،وتزهق الكيانات الفاعلة والكثرية املولودة منها .وال منا�ص من �أن ير�سو عمل النظام� ،أو جتد ُد �سيطرته ،على ق�سمة الداخل واخلارج املتنابذين واملتناحرين على مثال �أهلي وع�صبي �ضمني �أو معلن .وغلبة «البنيوية» على هذه احلال ،وعلى �سيا�ساتها هي ثمرة �إخراج التاريخ و«تربيته». ف��إذا ا�ستفاق «اجلمهور» ،جمهور املحكومني ،من ال�سحر �ألفى عامله �أو دنياه �صور ًا ور�سوم ًا مزوقة ،وديكور �أنقا�ض من الكرتون واخل�شب ،على �شاكلة قرى بومتكني الرو�سي حمظي كاترين الثانية .وهي (ال�صور) �شبهت على القي�رصة الزائرة وامل�رسعة وجود قرى عامرة ومزدهرة، وفالحني �سعداء ،ف�إذا انتقلت الزائرة اجلليلة �إىل قرية قريبة� ،سبقها بومتكني و«رفع» هياكل عمارتها امل�صورة وامل�شبهة ،و�أم��ر فالحيها بال�سعادة ،و�ألب�سهم الثياب النظيفة ب�ضع �ساعات ...وكان بوغات�شيف« ،املوجيك» الثائر والدموي ،وانتفا�ضات الفالحني املدمرة« ،املرحلة» 194
بدايات
العدد 2013 |6
«ال�سفر» الرو�سي .والفالحون التالية واملرتب�صة يف َّ املزارعون ،اليوم ،و«طبقتهم» بالأحرى� ،أم�سوا قلة قليلة حيث مل ي��ذووا ويتبددوا ،وانقلبوا �رشكات �صناعية �ضخمة جتني معظم �أرباحها من تو�سيع �شطرها املمكنن، ومن بيع حما�صيلها ب�أ�سعار حممية ا�ستحال االتفاق على توحيد معايري احت�سابها .وعمال القطاع ال�صناعي الغذائي �أر�ستوقراطية عمالية ال تذكر ال ببوغات�شيف بو�شكني وال مبارينا �سوجلنت�سني .والأرياف� ،أو ما بقي منها، يف بلدان «العامل الثالث» ،بعد انق�سام هذا منذ ال�سبعينيات املن�رصمة عوامل ،هي �إما خمزن احتياطات هجرة �إىل مدن الداخل �أو �إىل املهاجر الغريبة البعيدة و�إما قطاع ت�صدير �سلع غذائية ن�صف م�صنعة� ،أو هي غالب ًا االثنان مع ًا. ومل ت�شغل ه��ذه امل�صائر �صاحبنا ودليلنا ،حنا بطاطو .فهي مل تت�صور يف هذه ال�صور ،وعلى هذه الأنحاء امل�ضطربة واملتقلبة� ،إال غداة ا�ستواء «�سيادة نائب الرئي�س»� ،صدام ح�سني« ،قائد ًا» ال راد لكلمته، و«زعيم ًا �أوحد» ي�ستحق لقب القا�سمي (ن�سبة �إىل عبد الكرمي قا�سم) فوق ا�ستحقاقات �سلفه البعيد وال�شاحب هذا اللقب مبا ال يقا�س .و�رصف ا َ خل َلف اللقب ،واملكانة �أو ال�صالحيات نظري اللقب� ،إىل ح��روب مقيمة مع اجلوار ،الإيراين واخلليجي والعربي الأو�سطي ،دارت كلها من غري ا�ستثناء على غاية واحدة هي اال�ستيالء على عوائد النفط الريعية ،و�ضم بالد الريوع و�أهلها �إىل عر�ش «القائد» الأوح��د وتاجه .فات�صل عنف الداخل العراقي� ،أو الدواخل العراقية ،بحروب اخلارج الباهظة .و�أف�ضت كرثة العراق املتنافرة ،غداة �ضبطها ظاهر ًا يف �أبنية «�أمر» خمت�رصة وراجحة الثقل والكلفة على نحو قاطع� ،إىل �سل�سلة حروب طاحنة ،مل تطوها حرب «التحالف» الغربي يف .٢٠٠٣ف� ْأ�سلمتها� ،أو �أ�سلمت ف�صلها الأخري ،الغربي� ،إىل ف�صولٍ �أو ذيولِ حرب � ٍ ِ إرهاب هي ترددات الزلزال «الأمريكي» ال �إىل غاية وال �إىل نهاية .ولكنها كذلك ،على نحو جلي، ترددات ال�سلطان الذي �أر�ساه �صدام ح�سني ،وقيادته، على «الدولة» واملجتمع العراقيني .فامل�رسح البلداين (اجلغرايف) وال�سكاين االجتماعي وال�سيا�سي الذي وذهابا ،جماعات «القاعدة» الإرهابية ذرعته ،جيئة ً وجماعات مقاومة االحتالل و«عمالئه» امل�سلحة - وال�صنفان متمايزان ومت�صالن على وجوه من الع�سري وال�سني .ومل �إح�صا�ؤها -هو امل�رسح العروبي «البدوي» ُّ يفت�أ بطاطو ي�صف هذا امل�رسح و�إنزواءه �إىل الهوام�ش
العراقية امل�ستجدة ،ال�صحراوية والريفية والتجارية، وانقطاعه من دوائره الأهلية القومية واملذهبية ،وانقالبه من الرتبع يف مكانة �سلطانية مهيمنة �إىل املنازعة على مرتبة ثانية م�ضطربة وال �ضامن لها .وامل�رسح والقوى والدواعي هي «حوا�ضن» حركات املعار�ضة ال�سيا�سية واملقاومة الإرهابية ،العراقيتني ،اليوم .وهي من خملفات العهد البعثي ال�صدامي الطويل ،ومن ذيول الأبنية ال�سيا�سية واالجتماعية الأهلية التي جرى عليها «الزعيم الأوح��د» وحزبه الواحد ...وتتداعى �أ�سباب االرتدادات وعنفها من مالب�سات ا�ستيالء البعث على العراق يف � ،١٩٦٨إىل مالب�سات ا�ستيالء ١٩٥٨ واملنازعات الأهلية احلزبية الدامية التي �أعقبته ،ف�إىل عنف احلكم الها�شمي ووزيره الأول نوري ال�سعيد على اخل�صو�ص ،ف�إىل حروب الع�شائر يف ما بينها وحروبها الداخلية «والتناق�ض البنيوي» بني املدن النهرية الكبرية وبني بلدات البوادي والأرياف والوديان ،على ما ال ميل الكاتب من الإح�صاء والعود على بدء.
ال�سيا�سية» �أو التقرير يف حلول امل�شكالت الوطنية العامة �أو التحكيم يف امل�سائل اجلزئية .وهذا ُيق ِْد ُر تيارات تفتقر �إىل قاعدة اجتماعية عري�ضة� ،أو �أ�شخا�ص ًا ،على الت�أثري يف جمرى احلوادث و�إخراج هذه من �سوية التفاو�ض والنزاع �إىل االنفجار ،على ما ح�صل مرات يف ١٩٥٩باملو�صل ودوام ال��والءات القدمية، وكركوك على �سبيل املثل... ُ أثر االن�شقاق بني � ة قو يفوق ودواعيها، و�أفكارها وم�شاعرها ً َ دور تق�سيم العمل االجتماعي واملذهبي ال�سنة وال�شيعة �أو َ ُّ ال�سنة يف الدولة وكفة �شيعة بغداد كفة يرجح �ذي ال� ُّ والب�رصة يف التجارة .وهو ي�سد امل�سالك �إىل تنمية الطبقات الو�سطى «م�شاعر» م�شرتكة وخمتلطة تتخطى دوائر املذاهب والطوائف �إىل «دائرة» العراق الوطنية واملجتمعة، على رغم تعاظم الإنفاق احلكومي املركزي ومفاعيله يف وتعليما، ال وتوزيع ًا وا�ستثمار ًا وعمالة «حياة النا�س» ،دخ ً ً وعلى رغم عموم الطفيلية جراء الإنفاق ،كان ي�سع الكاتب لو عالج �أحوال العراق غداة ،١٩٧٨وهي ال�سنة التي علق فيها �سياقة اقت�صا�صه اخباره� ،أن يالحظ �ضعف �أثر احلرب «الوطنية» الكربى (على ت�سمية �سوفياتية م�أثورة للحرب الأملانية – ال�سوفياتية على جبهتها الرو�سية والأوكرانية) يف �ضوي العراقيني حتت لواء دولة واحدة.
و�شاغل الدليل �إىل العراق احلديث واملعا�رص ،هو �شاغل قارئه ،وينبغي �أن يكون �شاغله على زعمي .ويخامر هذا القارئ بع�ض ال�شك يف � ّأن �صاحب الكتاب َح ِ�سب يف �آخر ف�صول كتابه العراقي الكبري� ،أن جمع �أحمد ح�سن البكر (اجلي�ش) � -صدام ح�سني (الأمن واحلزب) مقاليد ال�سلطة و«الدولة» يف �أيديهما ،و�إذعان القوى ال�سيا�سية الأخرى واجلماعات الأهلية لهما ،طوى (�أو طويا :اجلمع والإذعان) الف�صل امل�ضطرب واملتنازع من تاريخ العراق احلديث .وكالمه على «تراكم �أويل» متاح ،بعد التحكم يف ِملك النفط وا�ستخراجه وت�سويقه ،ي�شي بذلك �أو ينم به .فريى �أن النظام بهذه احلال «ال يحتاج �إىل م�صادرة الفائ�ض االقت�صادي الذي ت�ستدعيه التنمية» (�ص ٤٤٨ من الكتاب �أو اجلزء االخري ،الثالث ،الف�صل .)٢٤ ولكن حنا بطاطو بعيد من ق�رص النزاعات ،وعلى الأخ�ص عواملها ومقوماتها ،على م�صادرة الفوائ�ض وا�ستثمارها ،على رغم مكانة م�س�ألة الريوع وبنود الربنامج «الدميوقراطي الوطني» تالي ًا ،وحملها من م�سائل االختالف واال�شتباك .فهو يالحظ �أن البعث �أبقى على قوة الروابط املحلية ،و�أن «جماهري العراق (بقيت) خ��ارج الدائرة
«الواقع» من طريق الدمار ولكن التوحيد الوطني العراقي� ،ش�أن بنود الربنامج «الوطني الدميقراطي» �أو «الدميقراطي البورجوازي» املفرت�ض «�أجنزه» النظام الع�صبي والريعي البريوقراطي على نحو �إجنازه البنود الأخرى :جرد بند التوحيد من فعل �أ�صحابه وجماعاته وجرد �أ�صحابه وجماعاته منه ومن مبا�رشته و�صنعه ،وافرت�ضه من اخت�صا�صه وحده مبن�أى من متناول اجلماعات واختالفاتها وخالفاتها ونزاعاتها. وح�سب �أنه فوق هذه حني هو ثمرتها الفجة واملرة .و�أوكل طاغ وهزيل مع ًا رفع البند الوطني� ،أو «القومي» �إىل تخييل ٍ يف م�صطلحه ولغته ،على الراحات واجلباه ،وخلطه بالدم والأنف�س .و�أوجب على العراقيني املتفرقني وامل�رشذمني واملتنازعني حمل �أنف�سهم ووجداناتهم علن ًا على هوية واحدة ،وطنية ورمبا �شخ�صية وقردية كاذبة ومتوهمة، �أو يغلب وجهها املتوهم واملفرت�ض وجهها الفعلي .ف�إذا �أرادوا اخل��روج منها� ،أو ا�ضطروا �إىل هذا اخل��روج ،مل ي�سعهم ذلك �إال من طريق �إعمال تدمري ذاتي وعام ،معنوي �أدبي ومادي ،واخلبط على غري هدى �أو ب�صرية ،على نحو ما �صنع العراقيون يف العهد ال�صدامي الطويل.
٣ «الدولة» رغم املجتمع
195
بدايات
العدد 2013 |6
فمن طريق التدمري واخلبط هذين ،وعلى هذه ال�شاكلة، و�سعهم بلوغ «الواقع» املنكر وامل�ستبعد واملنفي والتما�سه وراء �أقنعة الربنامج «الدميقراطي البورجوازي» وبنوده «الثورية» و«الإ�صالحية» و«الإمنائية» و«الوحدوية». وكلها ت ��ؤدي �إىل تقوية اجلهاز احلزبي البريوقراطي وت�ضعف القوى االجتماعية .وه��ذا قريب مما فعله ال�سوريون ويفعلونه اليوم يف «ظل» �سلطان ع�صبي وريعي بريوقراطي �أمني وع�سكري �أعماهم عن واقعهم، لي�س وراء «�شعارات» زائفة على ما جرى القول ،بل حتت ركام ثقيل و�صفيق من الأبنية االجتماعية والعالقات ال�سيا�سية ومن نظم املعامالت ،وم�سالك القول والت�صوير والتعبري .ف�إذا �أرادوا تك�سري الق�رشة ال�سميكة من الأبنية والعالقات والنظم وامل�سالك ليبلغوا ،حتتها ،حقيقة ما هم (عليه) يف �أعقاب قرابة ن�صف قرن من �سالطة «الع�صابة» ال وراء الكرتون ونظامها ،وحقيقة من يكونون فع ً الوحدوي والتحرري والفل�سطيني واملقاوم واالجتماعي املزوق والأ�سدي – مل يجدوا بد ًا من حتطيم بلدهم (جمتمع جماعاتهم و«دولتهم») وقد ا�ستحال كله قرية بومتكني عميقة� ،إذا جاز القول ،ورا�سخة. ول��و عمد ق��ارئ ال��ع��راق الطبقات االجتماعية واحل��رك��ات الثورية �إىل �إح�صاء حم��اوالت �صاحب الكتاب املتواترة يف جمع «التناق�ضات» العراقية، وا�ستنتاجاتها يف �سياقة «مرتابطة» يتو�سطها �أو يتوجها تناق�ض رئي�س(ي) �أو «بنيوي» – على قوله يف نزاعات �أهل املدن النهرية ،وهم نواة العراق اجلديد يف ،١٩٢٠ و�أه��ل �رشيط البداوة على �ضفتي دجلة بني �سامراء والكوت (�ص ،٤٣من ج ،١ف�صل )١و�أهل ع�شائر الأرا�ضي ال�سهلية على �ضفاف النهرين (�ص 42من اجلزء �أو الكتاب نف�سه) -لوقع على �سجالت كثرية تع�صى على التبويب املت�صل واملتما�سك .و�إحجام حنا بطاطو عن افتعال دمج النزاعات� ،أو ا�ستيالد بع�ضها من بع�ض ق�رس ًا ،وتركه العنان لنازع اخلالفات يف �أوقات الت�أزم واالنفجار �إىل كرثة مركبة ومر�سلة ،هو (الإحجام) من دواعي قراءته اليوم والعود على ابتداء معاجلته. ولكن معاجلته وقفت عند منعطف بدا له يومها ،على ما بدا ملعظم املراقبني واملعنيني� ،إيذان ًا مبرحلة ا�ستقرار طويلة تتوج الإجنازات «الوطنية» و«الدميقراطية» منذ وت�س ِل ُمها �إىل حكم ثابت �أخرج العراق ،قبل ْ ،١٩٥٨ عقد ،من االنقالبات واالنتفا�ضات واالن�شقاقات ،وبلور عقيدة �سيا�سية وا�ضحة و«مقبولة» ،وبنى جهاز دولة 196
بدايات
العدد 2013 |6
مركزية متينة ،خلو من التجاذبات التي �أودت بالأبنية ال�سابقة .وهذه املعايري هي وليدة وقت �سبق �أزمة االحتاد ال�سوفياتي و«مثاله» ،عند منعطف ال�سبعينيات �إىل الثمانينيات ،وظهور �أمارات الإعياء والق�صور الفادحني أعقاب على الأمنوذج «التاريخي» املفرت�ض .وامتحنت � ُ ،١٩٧٨و�أولها احلرب العراقية – الإيرانية املتخلفة عن الثورة الإيرانية اخلمينية ثم احتالل اجلي�ش العراقي الكويت طمع ًا يف اال�ستيالء على الريع الذي �ضيعه الإخفاق يف �إيران ،...البناء العراقي البعثي ،ال�صدامي حقيقة .و�أخرجت �إىل العلن وامللأ املنطق امل�ضمر يف املثال «الوطني الدميقراطي» ،ودعواه �إجناز برنامج املرحلة بقوة احلزب امل�ستويل والقائد وحده ،هو وجي�شه و�أمنه وبريوقراطيته وريوعه وقاعدته الأهلية والع�صبية ،بعد �إق�صائه القوى االجتماعية الأخرى ،وخ�صيها ،و�إدارة اال�ستيالء على اطراحها ونبذها وقهرها. فتحقق ما مل يكن ظاهر ًا ،ورمبا ما مل يكن موجود ًا �أو قائم ًا ،وهو � ّأن الت�أميمات والإ�صالح الزراعي و�إن�شاء الأبنية التحتية وتوحيد ال�سوق ون�رش التعليم والعناية ال�صحية ...مل تكن خطوات على طريق �إن�شاء ج�سم وطني م�ستقل متما�سك ومتنازع ،يحكم نف�سه بنف�سه منزع حكومته تفرق م�صاحله وجماعاته امل�رشوع ويقيد ُ َ ّ �إىل الت�سلط عليه ومنزع جماعاته �إىل ال�رشذمة. فبنود الربنامج «الوطني الدميقراطي» املعلنة كانت ال�س َّلم �إىل ا�ستيالء ع�صبي ريعي وبريوقراطي� ،سائقه ُّ حال اال�ستيالء هذه والتو�سع فيها على �صورة دائرة مفرغة :يقود اال�ستيالء �إىل تعظيم ال�سلطان وعوائده، و�إىل ر�ص �صفوف ع�صبيته وتعميق الفجوة بينه وبني رعيته ،وبني رعيته وبني اجلماعات الأخرى املحرومة واملعادية ،فيحتاج ال�سلطان �إىل تعظيم ريوعه وتو�سيع م�صادرها ،ال �إىل غاية .وال ريب يف � ّأن كرثة اجلماعات «الأ�سا�سية» ،وتفرق مبانيها القومية ،والن�سبية الأهلية، واالعتقادية املذهبية ،واملعا�شية ،والبلدانية البيئية، وجوارها ومراجعها التاريخية -وي�ستفي�ض بطاطو يف �إح�صائها كلما �سنحت الفر�صة� ،أو دعا احلال �إىل املقال ،يف ما ي�شبه االنت�شاء الذهني والق�ص�صي – (هذه الكرثة) عرثة يف طريق بلورة �سلطة ال حتكم بالقهر والتغلب وحدهما ،بل ت�رشك الر�ضوخ والقبول يف �إر�ساء دالتها .وهي قيا�س ًا على عمل دولة وطنية، حديثة ومركزية و�إدارية ،حكم ًا ،معوق قوي بوجه �صوغ �إجماعات ال غنى للدولة الوطنية عنها.
196
ِس ْك ِس جربان سيجارة واشعرة أمريكية
200
يف رثاء صنعاء القديمة
جربان خليل جربان جمال جربان
يف م�سامعي .واحلكاية الثانية «مرتا البانية» هي دمعة حمرقة �أثارتها �أوجاع االمر�أة ال�ساقطة التي تتبع الرجل قبل �أن ت�سمع نداء قلبه وقبل �أن ت�شعر نف�سها باهتزازات احلب الإلهي التي حتدثها مالقاة الن�صف احلقيقي� .أما احلكاية الثالثة «يوحنا املحنون» فهي كلمة من رواية حمزنة م�ستتبة على م�رسح الليايل ،رواية حية بحياة اخل�ضوع الأعمى واال�ستبداد املميت ،وقد نظرت فر�أيت �أن ال�سبل التي اتخذها الكتاب فيما م�ضى ملقاتلة ا�ستبداد الإكلريو�س م�رضة مببادئ �أولئك الكتاب و�إماتة اخل�ضوع هي هي ذاتها َّ ونافعة ملبادئ �أعداء الهيئة .الك ّتاب كانوا يتخذون احتقار الكهان القائمني بتلك ال لإ�سقاط التقاليد الدينية �سبي ً ّ التقاليد وهذا هو اخلط�أ لأن العاطفة الدينية هي �شيء طبيعي يف الإن�سان �أما اال�ستبداد بوا�سطة التعاليم الدينية فلي�س من الأمور الطبيعية بل هو بعك�سها .من �أجل ذلك حمب ًا لي�سوع م�ؤمن ًا ب�إجنيله �أمين ًا على تعاليمه. جعلت يوحنا ّ ...التجا�ؤك �إىل التدخني والقهوة يزيد حمبتي لهما وقد كنت �أتوهم �أن الزيادة على تلك املحبة هي من الأمور امل�ستحيلة لأين كما تعهدين �أعي�ش على القهوة وال�سكاير .ها قد تذكرت حكاية �صغرية ال بد من �رسدها لأنها تتعلق بالقهوة وال�سكاير فا�سمعها: دعتني بالأم�س �سيدة �أمريكية �إىل الع�شاء وهي �شاعرة متفننة وجميلة قلب ًا وقالب ًا ولها ميل طبيعي �إىل ا�ستدرار حما�سن احلياة .ويف نف�سها جماعة �إىل كل ما هو جميل ولذيذ .جل�سنا �إىل املائدة ومل يكن بيننا ثالث وكنا ن�أكل ونتحدث كيال حترم الآذان ما تتمتع به النواظر والأجواف، حتى �إذا ما انتهينا �إىل اللحوم وتوابعها وبلغنا احللويات و�رصت �أر�شف فنجاين ر�شفة والقهوة �أ�شعلت �سيكارة ُ و�أم�ص ثغر ال�سيكارة م�صة و�صديقتي تت� ّأملني بلذة فائقة وعلى مالحمها ابت�سامة ت�شابه ابت�سامة احلقول ملجيء الربيع، ثم �أحلقت ال�سيكارة ب�سيكارة �أخرى ومل ُأت فنجاين ثانية واحلديث جعال للتبغ وللقهوة نكهة �سحرية. لأن املحيط َ وبعد �سكينة فيها من الأقوال اخلفية ما فيها حولت �شاعرتنا عينيها نحو �شيء غري منظور يف ف�ضاء الغرفة وقالت بهدوء ال» «�أتعلم يا جربان ب�أن هذه �أول مرة متنيت فيها �أن �أكون رج ً قلت :وملاذا؟ قالت «لأن الرجال يتمتعون باحلياة بال خوف وال وجل ،وي�صعدون �إىل قمم اللذات ويهبطون �إىل �أعماقها غري ناظرين �إىل ما يقال عنهم� ،أما نحن الن�ساء فرناقب بع�ضنا بع�ض ًا وننتقد بق�ساوة جارحة ما نفعله ح�سن ًا كان �أو قبيح ًا». ال فنظرت �إليها م�ستفهم ًا م�ستزيد ًا فقالت« :لو كنت رج ً ُ الآن لتمتعت معك يا جربان بلذة التدخني لأن رائحة هذه
ِس ْك يِس جربان
سيجارة واشعرة أمريكية جربان خليل جربان
عرث الاشعر المهجري شفيق معلوف ،رئيس «رابطة العصبة االندلسية» ،بني أوراق أخيه الاشعر فوزي معلوف عىل نسخ لراسئل ثالث كان قد بعث هبا جربان خليل جربان إىل صديقه جميل معلوف .فنرشها يف جملة «العصبة» نص واحدة مهنا. صوت «رابطة العصبة االندلسية» اليت كانت تضم ادباء المهجر اجلنوب امريكي .وهذا ّ
من لبنان .من
يف ال�رشق� .أونذهب �إىل اللوفر ونقف �أمام ر�سوم رفائيل ودافن�سي وكارو ثم نعود �إىل البيت ونكتب ونكتب ونكتب عن احلب واجلمال وت�أثريهما يف خاليا القلب الب�رشي؟ �آه يا �أخي� ،إنني �أ�شعر مبجاعة عميقة �إىل االقرتاب من الأعمال العظيمة الهائلة وب�شوق مميت �إىل الأق��وال الكبرية اخلالدة و�أ�شعر ب�أن هذه املجاعة وهذا ال�شوق هما قوة تريد �إعالن ذاتها ب�رسعة نتيجة قو ٍة كائنة يف �أعماقيّ . فال تقدر لأن الوقت مل يجئ بعد ــ لأن النا�س الذين ماتوا عند والدتهم يقفون حجر عرث ٍة يف �سبيل الأحياء. �صحتي كما تعهدها فهي مثل قيثارة يف يد من ال يح�سن ال�رضب عليها ف ُت ِ �سمعه �أنغام ًا ال تر�ضيه .عواطفي مد وجزر ــ نف�سي كال�شحرور املك�سور اجلناح كالبحر ذات ّ املختبئ بني الأغ�صان يت�أمل �إذ يرى �أ�رساب الطيور مرفرفة لأنه ال يقدر �أن يجاريها ولكنه كالطيور يفرح ب�سكينة ُ �صور الليل وجميء الفجر و�شعاع ال�شم�س وجمال الوادي� .أ ّ �آونة و�أكتب �أخرى ف�أنا بني الت�صوير والكتابة مثل �سفينة �صغرية بني بحر ال نهاية لأعماقه و�سماء ال نهاية لأزرقاقها ــ �أحالم غريبة و�أماين �سامية و�آمال كبرية و�أفكار مت�صلة ّ متقطعة وبني هذه الأحالم وهذه الأماين وهذه الآمال وهذه الأفكار �شيء يدعونه قنوط ًا و�أنا �أُ�سميه جحيم ًا. ٍ كتيب ُيدعى «عرائ�س بالأم�س بعثت �إليك بن�سخ ٍة من املروج» م�ؤ ّل ٌف من ثالث حكايات �صغرية .احلكاية الأوىل «رماد الأجيال والنار اخلالدة» هي من نتيجة �أحاديثنا عن الن�صف احلقيقي وقد كتبتها عندما كانت نف�سك اجلميلة يتموج تالم�س عواطفي ب�أطراف و�شاحها ،و�صدى �صوتك ّ
()١٩٣١-١٨٨٣ اشعر وراسم
مؤلفاته «النيب»،
«المجنون»«،يسوع ابن االناسن»،
«العواصف »،
«االرواح المتمردة »، «دمعة وابتاسمة ».
198
�أخي جميل تدب يف عندما �أقر�أ ر�سائلك �أ�شعر بوجود روح �سحرية ّ جوانب هذه الغرفة .روح جميلة وحمزنة تف�صل بتموجاتها يرف فوق الب�رش ذاتي ف�أراك ذا �أقنومني متباينني� .أقنوم ّ والب�رشيات ب�أجنحة عظيمة ت�شابه �أجنحة ال�ساروفيم التي ّ أقنوم ر�آها يوحنا واقفة �أمام العر�ش بجانب املناثر ال�سبع .و� ٌ قوية بني ال�صخور الهائلة مثل «برومي�س» مقيد ب�سال�سل ّ َّ الذي �أنزل �شعلة النار الأوىل للب�رش من ال�سماء فغ�ضبت عليه الآلهة و�أوثقوا جثمانه ب�صخرة على �شاطئ البحر� .أقنوم يفرح قلبي وي�ضبط نف�سي لأنه يتموج مع �أ�شعة ال�شم�س ون�سيمات الفجر .و�أقنوم يوجع عواطفي وي�ضغط على قلبي و�أ�ضلعي لأنه �أ�سري �رصوف الليايل ..كنت ولن تزال قادراً على ا�ستح�ضار �شعالت النار من ال�سماء وت�سليمها �إىل الب�رش لتنريهم ولكن �أية �رشيعة بل �أية قوة و�ضعتك يف �سان باولو وقيدت جثمانك بني الذين ماتوا منذ والدتهم ومل يدفنوا بعد؟ هل لآلهة اليونان قوة يف هذه الأجيال؟ �سمعت ب�أن يف نيتك الرجوع �إىل باري�س لت�سكن فيها و�أنا �أي�ض ًا �أريد �أن �أذهب �إليها فهل نلتقي يف مدينة الفنون؟ هل نلتقي يف قلب العامل ون�سكن مع ًا ونذهب ال �إىل الأوبرا و�إىل امللعب الفرن�ساوي ثم نعود لنتحدث لي ً عن روايات را�سني وكورنيل وموليري وهوغو و�ساردو؟ �أنلتقي هناك ون�سري ببطء �إىل حيث كان البا�ستيل ثم نعود �إىل البيت �شاعرين مبالم�س روح رو�سو وفولتري ونكتب .ونكتب .ونكتب عن احلرية واال�ستبداد لنكون من امل�ساعدين على هدم البا�ستيل القائم يف كل بلد ٍة بدايات
العدد 2013 |6
199
بدايات
العدد 2013 |6
ال�سكائر الرتكية وكيفية �إحراقك لها قد ولد يف نف�سي فقمت من مكاين �إذ ذاك وفتحت علبة �شهية عميقة» ُ ّ ال�سكاير وو�ضعتها �أمامها على املائدة وقلت مرمز ًا بطريقة معنوية �إىل �أ�شياء كثرية «خلقنا لنفرح ونتمتع بكل �شيء يف هذه احلياة على قدر ما تر�سم احلكمة الكائنة يف �أعماقنا ف�إذا ما امتنع الإن�سان عن ا�ستخال�ص اللذة من الكائنات كان ونت�شبه بالأيام التي ندخن مع ًا هو اجلاين على نف�سه ،تعايل ّ َّ تتخذ لها من �أعمارنا �سكاير وتدخنها يف ال�سكينة». ف�أخذت �شاعرتي �سيكارة وو�ضعتها بني �أ�صابعها مت�صها بلهفة اللطيفة البي�ضاء و�أ�شعلت ر�أ�سها و�أخذت ُّ وتت� ّأمل دخانها املت�صاعد كاخليوط الف�ضية ولكنها ما ال ف�أ�سندت ر�أ�سها بلغت �آخرها حتى ا�صفر وجهها قلي ً َّ مبع�صمها وبقيت �شفتاها مبت�سمتني فقلت :ماذا �أ�صابك؟ ال ولكن ف�أجابت بهدوء �سحري�« :إن ر�أ�سي ثقيل قلي ً نف�سي مملوءة باخلياالت ال�رشقية اجلميلة». تركنا املائدة وذهبنا �إىل املكتبة وهناك جل�ست على مدت مقعد بني امل�ساند الناعمة و�أنا �أحدثها وبعد �ساعة ّ كهربائي ًا بجانبها فجاءت يدها احلريرية ومل�ست زر ًا ّ �إحدى اخلادمات فقالت لها« :اعملي لنا �إبريق ًا من القهوة القوية يا جوزفني». فذهبت اخلادمة وبعد هنيهة عادت بالقهوة ،و�إذ َه ّم ْت ْ بالرجوع �أوقفتها �شاعرتنا وقالت لها�« :إن جاء �أحد ليزورين �صبت من القهوة فنجانني وقالت متغيبة» .ثم َّ قويل له �إين ّ فقلت« :قد ي�رضك مبت�سمة�« :أعطني �سيكار ًة يا جربان»، ُ إكثار بادئ بدء» ف�أجابت بهذه الكلمات البديعة�« :إن اللذة ال ُ احلقيقية يف هذه احلياة ال ت�صل �إلينا �إلاَّ عن �سبيل الأمل». وهكذا يا عزيزي �رصفنا تلك الليلة بني ال�سكاير والقهوة وال�شعر وما جان�سه ،ويف اليوم التايل كتبت � َّ إيل تقول «�إبعث � َّ ففعلت م�رسع ًا وقد إيل بهدي ٍة من �سكايرك» ُ �أهدت � َّ إيل لقاء ذلك ق�صيدة جميلة َن َظمتها يف ال�سكاير الرتكية. ... ا�صبع ال�ساعة تومئ �إىل الثانية بعد ن�صف الليل .والنوم العميق يتالعب ب�أرواح الب�رش والثلج يت�ساقط بهدوء وقد �ألب�س املدينة ح ّلة بي�ضاء ،وجربان ما برح �ساهر ًا يناجيك .وقد دحرت ُ أبناء �آدم �إىل لمة والثلوج � َ الظ َ أنفا�س املخلوقات ومل �أعد الأوكار وامتلكت ال�سكينة � َ �أ�سمع غري تنهدات الأرباح الطويلة املخزنة ،ما �أجمل الليل! فهو يهب النفو�س �أجنحة معنوية لتطري وحت ِّلق فوق الغيوم وما وراء الغيوم...
تتجاوز ت�سميتها لت�صري كلية وجامعة و�إىل هذا تفا�صيل الوقت احللو الذي كان بينك وبني �أ�صدقاء تلك املرحلة! نكت�شف فج�أ ًة �أن ال �صور لدينا فيها ومعها .وال �صورة واحدة تدل على �أننا كنا هناك يوم ًا ما ومررنا فيه� .إنه يخ�صنا ولنا منه ن�صيب كبري .مل ننتبه وقتها �إىل � ّأن زمن ًا كهذا �سي�أتي ،فلم نتخذ االحتياطات الالزمة وتفرغنا لأخذ الكثري من ال�صور ،يف ال�ساحة ويف الف�صول ويف امللعب الف�سيح حيث كنا منار�س ريا�ضتنا املف�ضلة� .أهملنا امل�س�ألة ،ومل نرتك لها م�ساحة �شاغرة يف بالنا .ونتمنى الآن لو كنا نحمل بع�ض ًا من حنكة �شباب هذه الأيام ،من ال يتحركون خطوة يف الأر�ض �إال وكامرياتهم الرقمية ال�شخ�صية يف جيوبهم ،لعل لقطة ما ت�ستحق �أن تكون خمزونة يف ذاكرة �أجهزتهم في�ستعيدوها وقتما �شا�ؤوا� ،أو ليتناف�سوا يف ما بينهم ب�ش�أن من هو الأكرث حظ ًا منهم وا�ستطاع يف يومه جمع ح�صيلة وافرة من ال�صور وي�ستطيع �إدخالها يف �صفحته اخلا�صة على موقع الفي�س بوك ،حا�صد ًا �أكرب عدد من التعليقات و�إ�شارات الإعجاب.
يف رثاء صنعاء القديمة جمال جربان كاتب وصحايف من اليمن
202
ن�ضبطها ذات م�صادفة تتحدث ب�صوت مرتفع .كان كالمها هم�س ًا� ،أو ما ي�شبه مل�س �أ�صابع ت�سري على �صفحة بي�ضاء، فال حتدث فيها خد�ش ًا �أو حتى �أثر ًا خفيفاً.
�صدق؟ من ُي ّ كان لنا يف �صنعاء م�ساءات حلوة وبرامج مقرتحة لل�سهرة، على غرار� :أين تذهب هذا امل�ساء؟ كانت �صنعاء �ساعة ونحن نقوم ب�ضبط جداول مواعيدنا ال�صغرية تبع ًا لها �صدق؟ وحلركة م�ؤ�رشها الكبري ،ومل تكن تخدعنا �أبد ًا �أو تت�أخر عن من ُي ّ موعدها ولو مر ًة واحدة .ننتهي من واجباتنا املدر�سية لنقرر «لو مل تخرج هذي الليلة� ،س�أل ّغم هذا ال�سور بقلبي ،و�أبيح بعدها �أين نق�ضي ما بقي من وقت .ال�سينما عادة كانت مدينة �صنعاء لقبائل حبي» .قالها ال�شاعر اليمني الباذخ خيارنا الأول .كان لدينا دور �سينما كمثل خلق الله يف عبد الكرمي الرازحي ذات ق�صيدة بديعة كقلبه ،وكنا �صغارا ً �أرجاء املعمورة ،وكانت �صنعاء القدمية (ال �أق�صد هنا �صنعاء ال نعرف بعد ما ق�صده .حفظناها فقط عن ظهر قلب ،وك�أن القدمية املعروفة املحاطة ب�سورها) ،مثلها كمثل عوا�صم هاتف ًا ما يقول لنا :لكم �أن تفعلوا حفظها فهي ت�ستحق .لكم الدنيا ،فيها ما يجعل وقتنا الفائ�ض قادر ًا على ذهابه نحو �أن ت�ضعوها بداخلكم كتميمة وحرز ووقاية وكقلب. متعة وحالوة ال ميكن قيا�سها �أو تثمينها ب�شيء� .أربع دور وكربنا خطوة خطوة مع الق�صيدة ومع املدينة ،وكان ال�رس وك�شفنا الغطاء .ف�رسنا خلفها كمجاذيب لل�سينما مفتوحة �أمامنا على الدوام ،ولنا فقط �أن نختار �أن �أدركنا ّ واحدة منها؛ فهذه اليوم ،وتلك غدا ،فيما الثالثة والرابعة ال يريدون ترف ًا وال متاع ًا من متاع الدنيا �سوى البقاء مي�سنا تبديل� .أن تبقى ال�صورة على ما لأيام �أخرى .ونحن نختار بهدوء ويف راحة بالنا التامة ،على �سرينا وال ّ فلي�س هناك من داع للعجلة .وملاذا العجلة �أ�سا�س ًا ونحن هي عليه .مل نكن نريد زيادة �أو كماليات ،مل نكن نعطي من�سك بالأربعة من �أطرافها ،كما وهي مقيمة على طول ولن لها باالً� ،أو بالأ�صح مل نكن نعلم �أنها موجودة �أ�صالً ،فقد تغادر ولن ي�صيبها �إغالق �أو �سوء �أو �أذية .هكذا كنا نظن! كان لنا يف �صنعاء ومنها كفايتنا ،فلم ننظر لأبعد منها، �أو طلبنا �أكرث مما كانت تعطيه لنا. �صدق؟ من ُي ّ �صدق؟ كان لنا يف �صنعاء املدينة ،ما تقدمه �أي مدينة لع�شاقها من من ُي ّ حمبب ومرغوب ،بل وواجب يف مثل هذه الأي��ام من العام الفائت� ،إن مل تخدعني دالل وحب وتهتك خفيف ّ فعلها له كما تفعل �أي عا�شقة ملن يجل�س ب�صرب ووله طوال ذاكرتي ،طلبت من �صديقي �إيقاف �سيارته والرتيث ليلة باردة حتت �شُ ّب ِ ال يف املكان .كنا يف مفرتق الطريق امل�ؤدي �إىل �شارع اكها ،ع ّله ينال طلة منها �أو تلويحة من قلي ً بعيد .وكانت �صنعاء تفعل دائم ًا وال تبخل .ال تر ّد عا�شق ًا وال الق�رص (و�سط �صنعاء) ،ووقفنا نرى من بعيد هدم مبنى توبخ مراهق ًا �أوقعته حما�سته يف زلة �أو ه ّنة ،بل تقيم عاثر ًا ثانوية جمال عبد النا�رص يف �صنعاء .من �أي��ن ي�أتي ّ ال �إىل عقله ور�شده .مل تكن تعرف الأذية .نعم ،مل الكالم املنا�سب كي يقال عن حلظة �أنت فيها تنظر بعينني وتعيد �ضا ً تكن �صنعاء تعرف الأذية ،ومل تفعلها يوماً ،بح�سب علمنا .مفتوحتني للمدر�سة التي ع�شت فيها �أجمل �سني حياتك مل ي�صلنا �أنها فعلت ق�سوة �أو �صفاقة .مل تنهر �أحد ًا ومل وهي تروح يف هدمها و�إىل زوال .املدر�سة التي كانت بدايات
العدد 2013 |6
�صدق؟ من ُي ّ �سيقنع القارئ الآن ب� ّأن ما �أقوله من �شهادة عن �أو من ُ �سينمات �صنعاء ودور العر�ض التي كانت فيها ،حقيقة وال �أخرتع �شيئ ًا من ر�أ�سي؟! من داخل قلبي؟! حدث ذلك يف منا�سبتني .مرة مع طلبة ال�سنة الرابعة يف كلية الإعالم ،ومرة �أخرى يف قاعة م�ؤ�س�سة العفيف الثقافية يف �صنعاء �أي�ضاً ،وال�سبب يف املرتني كان ال�سينما. ال ت�ستغرب و�أنت ترى عالمات ا�ستفهام كبرية تظهر خفيفة وببطء من بني م�سامات القاعة ،كما ومن بني هم�سات الطلبة وال�شباب احلا�رضين� .أنت حتكي لفئة من النا�س مل تر �سينما يف حياتها ،وبالتايل مل تدخلها .فئة خرجت َ للحياة �أو بد�أت ترى املكان هنا ب�شكل وا�ضح ،وقد �صار خالي ًا من �أية �سينما .فئة ّ تقل �أعمارها عن خم�سة وع�رشين عاماً .عليك �إذ ًا �أن ال ترهق نف�سك يف كيفية �إيجاد طريقة تقنعهم من خاللها ب� ّأن ما تتحدث عنه كان واقع ًا ومل جتلبه من بيتكم خمرتع ًا �إياهّ � ،أن ما تتحدث عنه كان حقيقة تامة وكنا نلم�سها كل م�ساء عندما ي�أتي وقت الرتفيه. لي�س لك غري �أن تتحدث فقط وتكمل حما�رضتك ب�أ�رسع ما ميكن ،وهذا على الأقل كي تنقذ نف�سك من هطل عالمات ا�ستفهاماتهم الكثرية على ر�أ�سك �أو حتى قبل اتهامهم لك ب�أنك �رصت عجوز ًا م�صاب ًا بخرف �أفقده 203
بدايات
العدد 2013 |6
قدرة �إالدراك والتمييز ومل يعد قادر ًا على ف�صل املعقول من غري املعقول يف كالمه .ورمبا كان لهم عذرهم ،فكيف ميكن �إقناعهم ب� ّأن �صنعاء كانت م�ساحة مفتوحة ومدينة جممع حدة ال�سينمائي بدور عر�ض �سينمائية كثرية :يف ّ جميال الذي �صار �أثر ًا بعد عني و�أطالالً ،تقول �إن �شيئ ًا ً وحلو ًا كان هناك وحتول �إىل خراب وم�سخ؛ فال هو بقي على حاله ،وال هو �صار �شيئ ًا له منطق وعقل .دار ال�سينما الأهلية ،دار �سينما بلقي�س .و�إىل كل هذا �صاالت �صاحلة للعر�ض وممكنة يف قاعة جمال عبد النا�رص بجامعة �صنعاء واملركز الثقايف اليمني وم�رسح وزارة الإعالم. ماذا ُيخيف يف ال�سينما! و�أقول: هل ّكنا حمظوظني ،نحن الذين �شهدنا جمد املدينة وزهوها الأول ،هل نحن هكذا وقد مترغنا يف ترابها الأبي�ض وقمنا بلم�س م�ساءاتها الباهية اللذيذة ،وهذا قبل �أن يتحول الرتاب الأبي�ض �إىل �أ�سفلت متحرك لزج يعوق ال�سائرين عن احلركة بطريقة �سليمة و�سهلة ،وقبل �أن تتحول تلك امل�ساءات الباهية �إىل ليل معتم طويل بال بداية وال نهاية، تزين كل على الرغم من الأ�ضواء الكثرية التي �صارت ّ �شيء من طرف املدينة �إىل طرفها! �أم نعلن ا�ستياءنا رافعني رايات الرثاء فاحتني العني لذرف دموع كثرية! �أن نقول �إن كل هذا انتهى و�صار �أر�شيفاً ،ويف نكف عن مت�ضية ما بقي من املا�ضي ،وما علينا �إال �أن ّ �أيامنا ونحن ننظر �إىل الوراء. قد يقول �أحدهم :ملاذا كل هذا البكاء الطويل والكتابة ال�سوداء؛ فقد �صارت املدينة �أجمل و�أكرث حداثة ،ومل تتوقف امل�س�ألة عند جمرد وجود �سينما من عدمه؟! نعم .قد يكون هذا القول �صائب ًا كما وعلى حق ويالم�س املنطق متاماً .لكن وال بد من لكن. نعم� .صارت املدينة �أنظف وب�شوارع وا�سعة وم�ضاءة وت�شي بحداثة ما .مقا ٍه ومطاعم كما و«موالت» و«بيتزا هت» ودجاج �أمريكي .حمالت على درجة رفيعة من الأناقة والرفاهية وتلمع من بعيد حني ر�ؤيتها �شاخمة يف و�سط التجمعات التجارية ك�أنها عرو�س املكان .نعم .هذا �صحيح. لكن كل هذا مزيف وغري حقيقي .جمرد ق�رشة مقلدة والمعة ،تربق فقط وال روح فيها وال حياة .ن�سخة م�أخوذة من اخلارج وجرى تطبيقها هنا مع �إ�ضافة ت�شويهات من عندنا� .أمكنة ا�صطناعية متام ًا كالورود البال�ستيكية امل�صنوعة كي تكون جمرد ديكور للمكان الذي �ستو�ضع فيه وال يكون
مطلوب ًا منها �أن متنح الناظر �إليها رائحة� .أنت ت�صنع املكان فقط ،وتقدر �أن متنحه متيزه وفرادته بني الأماكن ،لكنك لن ت�ستطيع منحه الروح التي ال ميكن اخرتاعها �أو وهبها له. هي �أ�شياء ال ُتخرتع وال توهب ب�صك ،هي ت�أتي من الوقت نف�سه وتواكب حالوة زمنها الطيب وتوافقه .كلما كانت �أ�صيلة وغري مزورة وال ت�رسق هوية غريها ،بدت حقيقية وملمو�سة .ال ميكن �أن ت�ستبدل بطريقة �سحرية مثل حا ٍو ال �إياه �إىل ماهر� ،أن ت�ستبدل اخلبز ال�صنعاين املحلي حمو ً فطرية �أو برغر! ال ميكن قطعة اخلبز تلك �أن تتحول �إىل بيتزا يف غم�ضة عني .ال ميكن �أن يتحول ك�أ�س احلليب ال�ساخن الرائع �إىل كوب كابت�شينو ب�ضغطة زر واحدة. وبناء عليه ،تدخل �إىل تلك الأماكن فال جتد نف�سك. ً حتاول �أن تت�أقلم مع املناخ املوجود هناك ،فال ت�ستطيع حتى ولو �ضغطت على قلبك وجعلته يبدو �أقل رغبة و�إ�رصار ًا على البقاء يف زمنه املا�ضي ،ولو ب�أثر رجعي .حتاول �أن تبدو �شخ�ص ًا جديد ًا يعي�ش يف الع�رص ومعه ،وال يبدو غريب ًا �أو ن�شاز ًا عنه ،يدخل «الكايف» ويلقي التحية على احلا�رضات واحلا�رضين بلغة �أجنبية (هذا من متطلبات املكان) ،يرفع بعد ذلك الئحة الطعام الـ«مينيو» وينظر �إليها ملي ًا قبل �أن يختار ما يرغب يف �رشبه �أو �أكله فيجده مكتوب ًا بالإنكليزية مع قليل من الفرن�سية �أو العك�س ،وال مكان للكتابة بالعربية( .يحدث هذا يف عا�صمة قالت �إح�صاءات تعليمية ر�سمية �إن ثمانني باملئة من عدد الأ�ساتذة يف جامعة �صنعاء ال يجيدون لغة ثانية غري العربية!) .ت�س�أل نف�سك مبا�رشة: لكن ماذا يفعل �أولئك الذين مل متنحهم احلياة فر�صة تعلم لغة ثانية غري العربية؟ كيف ميكنهم �إن قرروا مرة احل�ضور هنا برفقة عائالتهم لق�ضاء وقت لطيف؟ ال مكان لهم هنا. متيز بني ال �إجابة غري هذه� .أي �أن هذه �أماكن عن�رصية ّ النا�س ولو من غري �أن تق�صد. ال نظرة انتقا�صية هنا من حالة احلداثة التي تبدو عليها تلك الأماكن �أو هو نيل من نقلة حتاول �أن تفعلها ل�صالح املدينة .ال هذا وال ذاك. تبدو الأ�شياء طبيعية و�سليمة عندما تكون �ضمن �سياقها العام وال تكون متنافرة معه� .أن تكون متطابقة مع ال�سياق العام� .أن ال يكون هذا اجلزء منقوال من اخلارج بحذافريه ومت زرعه يف بيئة ال تالئمه بتاتا� .سيبدو بال �شك هزليا وب�شعا ونافرا� .سيبدو كم يح�رض حفلة عر�س مرتديا بدلة ع�سكرية. لكن من زاوية �أخرى ،قد ال يبدو هذا التنافر غريباً، وهو ي�سري مع ما حوله .وجود خدمة �إنرتنت وحوا�سيب حممولة وه��وات��ف حديثة ،يف ظل انقطاع م�ستمر 204
بدايات
العدد 2013 |6
للكهرباء .املطالبة بوجود مهرجان لل�سينما يف عا�صمة لي�س فيها �سينما �أ�صال .الدعوة لإن�شاء دار للأوبرا يف عا�صمة لي�س فيها فرقة مو�سيقية واحدة متكاملة وح�سب الأ�صول .ذلك لي�س غريباً ،فنحن ال نبحث يف الأ�سا�س حماولني �إيجاده وت�أكيد �رضورة وجوده .على العك�س من ذلك ،ال ندخر فر�صة ل�رضب �أي بادرة لها �أن تقوم بهذا ال�شيء .و�س�أذكر هنا حادثة يف هذا الإطار. من يتذكر منكم ما حدث لفيلم «يوم جديد يف �صنعاء القدمية» ،للمخرج اليمني الربيطاين بدر بن حر�سي؟ هذا الفيلم الذي كان بالإمكان جعله �أ�سا�س ًا لقيام �صناعة �سينمائية ممكنة يف العا�صمة ،ولو يف �شكلها الأول والبدائي، كان بالإمكان و�ضعه كلبنة �أوىل يف بناء �ضخم يحتاج وقت ًا وجهد ًا و�صرب ًا كي ي�ؤتي �أُكله .لكن ماذا ح�صل؟ حلظات مر بها الفيلم و�أ�صحابه وهم يرون فيلمهم معرو�ض ًا �صعبة ّ للنيل والتنكيل والتكفري والقيل والقال ،و�أنه يرغب ويريد ي�شوه و�سوف ي�سيء و�سوف... وينوي و�سوف يعمل و�سوف ّ �إلخ .حلظات �صعبة وغريبة ع�شناها ونحن نرى حالة فريدة ال حتدث �إال عندنا ،والفيلم يتعر�ض لنه�ش وتنكيل لي�س من ال�سلطة (يا للغرابة) ،بل من فئة بعينها من املعار�ضة .نحن ال لها و�أمامها بدت وزارة الثقافة يتيمة فقط من ميتلك مثي ً وت�ستحق الرثاء ،وهي ال ت�ستطيع ت�سيري �أمور فيلم دعمته مادي ًا ولو بنحو جزئي .تركته بني يدي �أنا�س جهلة بع�ضهم ي�شدد على �إدخال ي�رص على �أن يبدو مزهو ًا بجهله وهو ّ ّ تعديالت جوهرية على الفيلم كي ي�ستقيم �أمره وي�صبح �صاحل ًا للعر�ض وامل�شاهدة�( .أتذكر اجلرائد الر�سمية التي كنا نعمل فيها كيف فتحت لنا �صفحاتها كي ندافع عن الفيلم و�ضد �صحيفة معار�ضة يفرت�ض بها �أن تكون مكاننا ون�أخذ نحن مكانها بح�سب دميقراطيات العامل الثالث ،لكن هذا مل يح�صل ل ُت�سجل حالة فريدة نادر ًا ما تتكرر �أو ال تتكرر �أبداً). لكن الفيلم ،رغم ًا عن كل هذا ،م�ضى وتقدم �إىل مقدم ًا �صنعاء القدمية يف �أبهى �صورها �آخره .خرج الفيلم ّ وك�أجمل ما تكون ،ناجح ًا يف ح�صوله على تكرمي وتقدير عامليني .كل هذا وكان معرو�ض ًا وم�شارك ًا با�سم اليمن( .الفيلم �أخذ اجلائزة الر�سمية الأوىل من مهرجان القاهرة ال�سينمائي الدويل). واملدون يبدو �أين ذهبت بعيدا ً عن العنوان الكبري َّ �أعاله� .أردتها كتابة يف مديح الزمن الفائت واملدينة احللوة التي كانت وانتهيت �إىل �أبعد من ذلك. يبدو �أين فتحت �صندوق ًا مليئ ًا بالأمل. هل قلت �شيئاً؟! اعذروين � .أنا حزين.
204
موسيقى «المهرجانات» يف مرص «انشقاق يف إمرباطورية الصوت»
اأدهم حافظ
زال علينا ا�ستك�شافه .لكن� ،أي م�ؤ�س�سة مو�سيقية قد ترغب يف �أن تدير �أذنها وت�صغي بتعمق �إىل ما تقرتحه مو�سيقى املهرجانات؟ �أي م�ؤ�س�سة حكومية م�ستعدة �أو مهتمة �أو قادرة الآن على �أن ت�ستمع بتعمق �إىل ما يود «من يعي�شون خارج املدينة» قوله عن احلقائق املدنية؟ متثل الالمباالة (�أو العجز) امل�ؤ�س�ساتي عقبة يف الطريق امل�ؤدي �إىل درا�سة حلظة والدة هذا النوع ،والطريقة التي ا�ستطاع من خاللها باحث التعبري عنه وحتديد موقعه �ضمن �شبكة من الإ�شارات والقوى املوجهة .هذا� ،إ�ضافة
موسيقى «المهرجانات» يف مرص
«انشقاق يف إمرباطورية الصوت» ال أدهم حافظ فيما كنت �أ�ستقل �سيارة �أج��رة يف القاهرة ،حماو ً الو�صول �إىل ا�ستوديو للإ�رشاف على جتربة �أداء من �أجل ِّ ومنظر للفن� ،إنتاج فني جديد يتطرق �إىل الأ�ساليب املعقدة يف قراءة فنان ّ مرص .أسس عام 2003تاريخ املو�سيقى ،وبخا�صة تاريخ الأوبرا الكال�سيكية «فرقة أدهم حافظ» الغربية ،كان �سائق التاك�سي ي�ستمع بال توقف �إىل تقدم العروض مو�سيقى املهرجانات .بالن�سبة �إىل �أولئك الذين ال اليت ّ الفنية وجتمع يعرفون هذا النوع ،مو�سيقى املهرجانات هي �شكل، ّ بني الرقص المعارص ممار�سة �أو نوع جديد من املو�سيقى التي �أب�رصت النور والموسيقى .يف م�رص الآن ،ومنذ خم�س �سنوات رمبا .من ال�صعب يدير منذ 2006حتديد الوقت احلقيقي لن�شوئها بالنظر �إىل الإط��ار �ستعمل كلمة «مهرجان» مرشوع «ح ر ك» االجتماعي الذي تطورت فيهُ .ت َ المكرس لألحباث وجمعها «مهرجانات» لو�صف هذا ال�شكل ال�صوتي ّ والتنمية عن الرقص .واملو�سيقي املك ّثف .تطرح مو�سيقى املهرجانات ،وهي بحد ذاتها ممار�سة غري م�ؤ�س�ساتية ،ت�سا�ؤالت م�صريية يف م�رص اليوم ب�ش�أن العالقة بني الفن وامل�ؤ�س�سات، والفن والأ�سواق ،والفن والتمثيل .عندما ينجح نوع فني يف دولة نا�شئة يف طرح هذه الت�سا�ؤالت كلها من يطبق ذلك من خالل ا�سرتاتيجيات توجيهية، دون �أن َّ و�أ�ساليب دعائية ،من دون �أن يكون ذلك ج��زء ًا من �صياغة اخلطاب ،ومن دون ا�ستعمال جمموعة من الرموز للم�شاركة مع جماهري تقوم مبمار�سات فنية معا�رصة ،ثم يعلن هذا النوع عن نف�سه باعتباره موقع ًا للم�شاركات اخلطابية ،وهو ذو �أهمية �سيا�سية بالن�سبة �إىل امل�شهد الفني ،م�شهد املمار�سات الفنية امل�رصية املعا�رصة. �إذا ا�ستعمل امل��رء كلمة «ن��وع» لتعريف مو�سيقى املهرجانات عو�ض ًا عن كلمة «ممار�سة» �أو «�شكل» ،فذلك لأنه نوع مو�سيقي يجمع بني املو�سيقى الإلكرتونية، مو�سيقى ال�ضجيج ،املو�سيقى امل�رصية ال�شعبية يف فرتة ما بعد �سبعينيات القرن املا�ضي ،مو�سيقى الإلكرتونيكا، 206
بدايات
العدد 2013 |6
تطرح مو�سيقى املهرجانـــــــــــــــــــــــــــــــــــــات، وهي بحد ذاتها ممار�سة غري م�ؤ�س�ســـــــــــــــــــــاتية، ت�سا�ؤالت م�صرييــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة يف م�رص اليوم ب�ش�أن العالقــــــــــــــــــــــــــــــــــــة بني الفن وامل�ؤ�س�ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات، والفن والأ�سواق ،والفن والتمثيـــــــــــــــــــــــــــــل
و�إيقاعات حديثة .ت�ستعمل �أغنية املهرجانات النموذجية كلمات ذات حمتوى مفاجئ ،تتطرق �إىل امل�شاكل االجتماعية ،احلياة اجلن�سية واملوا�ضيع ال�سيا�سية ،من دون �أن تخ�ضع لرقابة ذاتية من ناحية املنتج والفنان .كذلك ،هي تعتمد ب�شدة على برامج «ال�ضبط التلقائي للحن» ،ت�شري �إىل اخل�صائ�ص ال�صوتية التي طبعت نهاية ت�سعينيات القرن املا�ضي وبداية الألفية الثانية من مو�سيقى البوب جت�سد فعلي ًا وب�شكل غري مربر وجود الدولية ،وهي ّ التكنولوجيا ودورها يف الإبداعات املو�سيقية املعا�رصة يف م�رص ،وبخا�صة يف ما يتعلق بال�صوت الب�رشي.
�إىل االفتقار التام �إىل الإطار النظري حول هذا النوع (�أو املمار�سة �إذا ما نظرنا �إليه من منظور �آخر ،عرب تتبع من�سقي �أغانٍ وم�ؤلفني مو�سيقيني بارزين ودرا�سة الأعمال املن�شورة درا�سة تقنية ،بالنظر من حيث املحتوى �إىل املواد الأخرى التي �أنتجها �أبناء ع�رصهم� ،أو بالنظر �إىل الإنتاجات الفنية املعا�رصة يف م�رص) ،يجعل عملية حتديد موقع مو�سيقى املهرجانات �أو ت�أريخها �أ�شبه بعملية تنقيب �أثرية ،ت�ساهم فيها ب�شكلٍ كامل رواي��ات �شفهية ،مقابالت ومقاربة املحتوى مع ال�سياق احلايل ،و�إعادة النظر يف حلظات معينة ملعرفة كيف ميكن فهم ال�صوت واملو�سيقى من خالل ق�ص�ص �سيا�سية وثقافية واقت�صادية يف م�رص. تواجه الدولة التي تتباهى بقطاع �صناعة مو�سيقية �ضخم كجزء من موقعها «الرمزي» يف املنطقة الناطقة باللغة العربية منتج ًا ثقافي ًا متغرياً :مو�سيقى املهرجانات .ان�شقاق يف «الإمرباطورية ال�صوتية» املتجان�سة التي تفتخر بامتالك منتجات مو�سيقى البوب املربحة� ،أو الأعمال ال�رشقية الكال�سيكية التي تت�سم باحلنني وت�شري �إىل �أيام و ّلت� ،أو حتى �إىل املو�سيقى ال�رسية ال�صارمة والرائجة جداً .هذا النوع م�ستقل نوع ًا ما .لي�س جزء ًا مما هو رائج وع�رصي، ولي�س جزء ًا من جتربة قاعة احلفالت جلو�ساً ،ولي�س جزء ًا من االحتفاالت ال�صيفية يف املنتجعات البحرية التي ي�شارك فيها م�شاهري عرب يف جمال مو�سيقى البوب. واجلدير بالذكر �أي�ضاً ،هو «فقدان الذاكرة» العام الذي يحكم
مو�سيقى من خارج املدينة «ال نعاين امل�شاكل التي تعانونها .لي�ست لدينا �أي م�شكلة يف اال�ستماع �إىل �أغنية عن اجلن�س� ،أو عن لقاء مع موم�س� ،أو عن املخدرات .نحن ل�سنا من املدينة ،بل من خارج املدينة. ما يحدث خارج املدينة �أ�شبه مبا يحدث يف هذه الأغاين. هذه الأغاين حقيقية .هذا لي�س الراديو �أو التلفاز .لدي فح�شا �أغنية �أخرى لك على ذاكرة الـ«يو .ا�س .بي� ،».أكرث ً بكثري ،و�أكرث متعة ،مو�ضوعها ا ُ جلماع ...هذه �أغانٍ �أ ّلفها نا�س يف �شوارعنا .ال ت�شرتيها �أينما كان .تذهب وحت�صل على ن�سخة منها على قر�ص ذاكرة فال�ش �أو من خالل البلوتوث. من�سق �أغانٍ (دي جي) يف حفالت �شقيق زوجتي يعمل َ الزفاف ،وقد �أعطاين ن�سخة عن جمموعته .هو �صديق لـ«�أورتيغا» ،قال �سائق التاك�سي وهو ي�ستمع �إىل مو�سيقى املهرجانات ال�صاخبة ،م�شري ًا باحرتام فائق �إىل دي .جي. �أورتيغا؛ من�سق �أغانٍ م�شهور يف عامل مو�سيقى املهرجانات. يف هذا ال�سياق ،متثل درا�سة التطورات املدنية التي طاولت الع�شوائيات غري الر�سمية يف القاهرة يف ما يتعلق ب�إنتاج ال غني ًا باملعلومات ما (�أو بروز) مو�سيقى املهرجانات جما ً 207
بدايات
العدد 2013 |6
�إنتاج الروايات ،وبالتايل توليد خطابات تتناول املمار�سات الفنية املعا�رصة يف م�رص .ندرة املوارد البالغة الأهمية التي ت� ِّؤطر �أو ت� ّؤرخ ممار�سات �صوتية ومو�سيقية �أخرى يف م�رص (�أو التي تو ّثق الفنون امل�رسحية عموماً)� ،سواء كانت �أوبرا م�رصية ،مثال �أعمال غارانا وحميي الدين� ،أو م�ؤلفات املو�سيقى الإلكرتونية التي طبعت ت�سعينيات القرن املا�ضي، �أو الإنتاج احلايل الذي ين�ضوي حتت لواء ما ي�سمى «م�شهد الفنون يف و�سط املدينة» يف القاهرة ،لي�ست �إال حالة �شائعة تر�سم جتربة الباحثني والعلماء الذين يتعاملون مع عمليات حتليل �أو توثيق مماثلة .غري � ّأن ما يح�صل ّ يذكرنا �أي�ض ًا مبا كانت عليه الظروف عندما برز املغني �أحمد عدوية يف عامل الكاباريهات يف م�رص يف �سبعينيات القرن املا�ضي، و�أحدث ثورة �صوتية يف املو�سيقى ،وكان نذير حتول نحو م�ساحة �أخرى يف تاريخ املو�سيقى و�صناعة الأغاين يف م�رص واملنطقة الناطقة باللغة العربية .وفيما كان عدوية «املغني غري املحرتف» ومعبود اجلماهري يف عدد من الأفالم ،مل يكن يوم ًا النجم يف هذا املجال .بيد � ّأن جنوميته وموقفه ال�سيا�سي كانا وا�ضحني بالن�سبة �إليه ،متام ًا كما كانا وا�ضحني بالن�سبة �إىل حمبي املو�سيقى التي �أن�ش�أها .وفيما جاهدت امل�ؤ�س�سة يف �سبيل املتاجرة به ،ال�ستيعابه عن عمد �أو عن غري ق�صد ،واملق�صود هنا بامل�ؤ�س�سة م�ؤ�س�سة الإنتاج ال�سينمائي يف م�رص� ،ألهمت م�ساهمة عدوية يف تاريخ املو�سيقى امل�رصية املعا�رصة وموقفه حيال امل�ؤ�س�سة �شخ�صيات �أدبية مثال جنيب حمفوظ. �ضد جمالية ال�صوت فيما تتجاوب امل�ؤ�س�سة ال�سينمائية حالي ًا مع هذا النوع من املو�سيقى النا�شئة احليوي واحلما�سي ،من خالل ال�سعي فور ًا �إىل �إع��ادة متثيل الأغ��اين التي �أداه��ا جنوم الأفالم با�ستعمال كلمات و�أ�ساليب �إنتاج �صوتي «�أنقى»� ،أو من خالل اللجوء مبا�رشة �إىل ا�ست�ضافة م�شاهري من مو�سيقى املهرجانات بد�أ جنمهم ي�سطع ب�صفتهم ممثلني يف م�شهد �أو م�شهدين ،يت�صدى هذا النوع من املو�سيقى لعملية التطويع هذه .ويف �إطار �شبيه بق�صة �أحمد عدوية ،بالكاد تلج�أ امل�ؤ�س�سة هنا �إىل مغني فرقة «مهرجان» ،وذلك غالب ًا لت�أكيد موقف مهيمن حيال موقع كل ما هو هام�شي يف الإنتاج الثقايف يف م�رص .وفنانو مو�سيقى املهرجانات يف �أفالم مماثلة ال يج�سدون �إال ف�شل الدولة الذريع على ال�صعيد امل�ؤ�س�ساتي ،والبنية التحتية الثقافية امل�شلولة يف م�رص التي تعجز عن تف�سري مو�سيقى املهرجانات ،وغري القادرة
جت�سد ما تقدمه .من خالل متثيل وتو�صيف منتجي على �أن ِّ مو�سيقى مماثلة ،ت�ساهم امل�ؤ�س�سة عن غري ق�صد يف متكني مو�سيقى املهرجانات عو�ض ًا عن ا�ستيعابها .ت�شدد امل�ؤ�س�سة على احليوية والأهمية احلا�سمة لهذا النوع ،فيما حتاول تزييف عملية ت�سليع «فا�شلة حتى الآن» لبدعة جديدة. �أثناء �أول ا�ستك�شاف «تقني» لهذا النوع ،ويف ما يتعلق بامل�ؤ�س�ساتية من منظور الإنتاج ال�صوتي ،ميثل اعتماد مو�سيقى املهرجانات ب�شدة على «ال�ضبط التلقائي ال م�صريي ًا يف تاريخ املو�سيقى امل�رصية .يف للحن» حتو ً هذا الإطارُ ،يحتفى باحتاد ال�صوت والآلة (احتاد ا�ستمر على امتداد التجربة املو�سيقية ،من �أجهزة ع�رص النه�ضة و�إع��دادات الهند�سة ال�صوتية الغريبة� ،أو املايكروفون بعد قرون� ،أو املعجزات التكنولوجية التي قد حتدث يف ال عن ا�ستوديو ت�سجيل و�ضبط يعالج �صوت مغنٍ ،ف�ض ً بروز التالعب التقني والتحويل الرقمي� ،إلخ) .فيما تكافح فرق البوب وفرق الروك البديل ،املو�سيقى ال�رشقية وحتى امل�ؤلفات املعا�رصة جاهدة يف �سبيل �إخفاء �أي «�شائبة» يف ال�صوت الب�رشي الذي يغني ،و�إخفاء العمل التقني م�سجل يف الهائل الالزم لإنتاج �صوت ب�رشي �أ�صلي ّ �إطار �إجناز خفي المع م�شرتك بني الإن�سان والآلة ،ت�سعى مو�سيقى املهرجانات �إىل �إنتاج النقي�ض متاماً .يف �إطار هذا االختيار التقني املتطرف ،يتم الإعالن عن موقف �سيا�سي من امل�ؤ�س�سة .ال ميلك عازفو ومغنو مو�سيقى املهرجانات جمموعة القوانني اجلمالية نف�سها يف ما يتعلق حتمل بـ«ال�صوت الغنائي اجلميل» يف م�رص اليومُ . وي َ �أنه – بالنظر �إىل اخليارات املتكررة التي يتخذها جميع امل�ؤلفني املو�سيقيني واملغنني /من�سقي �أغاين املهرجانات، �سواء كانت ناجتة من المباالة تامة بـ«الأ�صوات اجلميلة»، �أو بب�ساطة لأنهم يقدمون لنا الئحة جديدة من القوانني اجلمالية ،التي كانت تعتمد يف مكان ما بدائي جداً ،يف �شوارع القاهرة خالل ال�سنوات القليلة املا�ضية. كذلك ،يو�ضح هذا القرار التقني موقف هذا النوع من امل�ؤ�س�سات املو�سيقية ،ب�شكل حريف ،مثال نقابة املو�سيقيني. ال يريد امل�ؤلفون املو�سيقيون /من�سقو �أغاين هذا النوع ح�ضور اجتماع لتقدمي طلب ع�ضوية يف النقابة ،ال يريدون �أن ينتجوا «اجلمال» و«املالءمة» ،ال من خالل ال�صوت وال من خالل الكلمات ،بغية االندماج يف النظام النقابي .ال يحتاجون �إىل �إخفاء اعتمادهم الأ�ساليب الرقمية والتقنية �أثناء عملية �إنتاج ال�صوت .هم يعلنون عن وجود «الآلة» واحتادها مع ال�صوت الب�رشي يف املنتج النهائي .مع اختيار 208
بدايات
العدد 2013 |6
كلمات ال يتوانى �أب��د ًا عن ا�ستعمال لغة «غري الئقة» اجتماعياً ،هم ي�ؤكدون جمدد ًا على هذه الفر�ضية يف ما يتعلق بعالقتهم مع العامل امل�ؤ�س�ساتي للمو�سيقى وال�صوت يف م�رص الآن .من املمكن �سماع ال�شتائم يف �أغنية ،متام ًا كما يحتمل �سماع ال�شتائم يومي ًا يف حافلة للنقل العام يف القاهرة .من خالل هذا االختيار الفني ،تورد مو�سيقى املهرجانات تعليقات على امل�ؤ�س�سات املو�سيقية يف م�رص يف ما يتعلق بالواقع الثقايف املدين اليومي. �ضمن هذا ال�سيل من احلقائق ،ينم اختيار مو�سيقى املهرجانات عن حرية التعبري مبعنى التحدث بلغة النا�س بحرية تامة ،اللغة اليومية ،اللغة الغا�ضبة والبذيئة التي ت�ستعمل �أثناء �شجار يف حافلة ،اجليل ال�شاب املحبط وهو يتحدث عن الثمالة ،الأدوات اال�صطناعية وحلقاتها التي تت�ألف من تراكيب قائمة على ال�ضجيج، بالتايل عن �أنها تقف يف �صف ال�شعب (�أو �رشيحة منه على الأقل) ال يف �صف امل�ؤ�س�سة .مهما بدت مناه�ضة للم�ؤ�س�سات ،هي جمرد انعكا�س لتطور م�رص بعد ف�شل الكثري من العمليات الأيديولوجية وا�سرتاتيجيات التنمية الهيكلية .من دون رومن�سية ،متثل مو�سيقى املهرجانات حتدي ًا بنيوي ًا «للم�ؤ�س�سة» متام ًا كالع�شوائيات غري الر�سمية حول الطرق ال�رسيعة يف القاهرة .متتد �أ�صوات هذا النوع على م�شارف النظام وهيمنته؛ �أ�صوات ال يفهمها «النظام» ،وال يبذل جهد ًا يف �سبيل فهمها. يعمل من�سقو �أغ��انٍ وعازفو مو�سيقى املهرجانات �ضمن �إطار اقت�صادي خمتلف� .سواء تعلق الأمر بحفلة يف ال�شارع ،الرتويج الفتتاح متجر جديد �أو �سوق مفتوحة� ،أو حفل زفاف؛ ي�ستمتع الفنانون يف هذا الإطار باحلرية بعيد ًا عن الكيانات /الأنظمة اال�ستبدادية من خالل وجودهم وح�سب �ضمن اقت�صاد بديل ال حتكمه �أو ت�رشف عليه الدولة وم�ؤ�س�ساتها .كذلك ،ال حتكمه �أو حتتكره ماكينات �إنتاج البوب �أو ال�سينما .ي�سمح هذا املوقف ال�سيا�سي املُ َم َّكن لهذا النوع بالوفاء مبا يعد به؛ كل ما تتوانى امل�ؤ�س�سة عن تقدميه .ال داعي �إىل �أن يطبق الفنانون قانون الربجوازية ال�صغرية يف ما يتعلق باللياقة االجتماعية ،وال داعي لرقابة ذاتية وال داعي لـ«ر�سالة» فنية قدمية .كذلك ،ال داعي �إىل التعامل مع الأجندات املحلية والإقليمية والدولية التي تعتمدها �شبكات متويل املمار�سات الفنية املعا�رصة ،وتنفيذ (مبعنى �إجناز ،ومبعنى امل�شاركة يف �صياغة قانون ت�أ�سي�سي) احلي الذي يعي�ش فيه ر�سالة هيئات التمويل هذه .كان ّ �سهلت بروز هذا النوع ،مع جمموعة الفنانون ال�سوق التي ّ
من احلاجات �إىل الرتفيه وامل�شاركة ،والتنفي�س العاطفي يخيم على هذا يف بع�ض احلاالت .غري �أن ال�س�ؤال الذي ّ النون الفني املرن على ما يبدو هو ما �سيقرره فنانوه يف ما يتعلق بامل�ساعي امل�ؤ�س�ساتية امل�ستمرة يف �سبيل املتاجرة به عما �إذا كانت مو�سيقى املهرجانات وتطويعه .يبقى الت�سا�ؤل ّ حدث مبا يتما�شى مع تطلعات الطبقة الو�سطى» �أو ال «�س ُت َّ ال يرتبط ارتباط ًا وثيق ًا مبوقف امل�ؤ�س�سات من ال�شوارع �س�ؤا ً والأحياء التي ت�صدح مبو�سيقى املهرجانات. �صوت للمقاومة واحلرية عالقة منتج فني معني مبفهوم التمثيل عبارة عن مناو�شة حرجة حتتل حلظة التفكري احلالية يف عامل الفن املعا�رص. في�صبح التمثيل غالب ًا �أمر ًا ال بد من تفاديه لكي يعترب منتج فني معني «معا�رصاً» .ويتحول التمثيل �إىل مو�ضوع ٌ على الفنانني التعاطي معه بطريقة حا�سمة ،يف �سبيل التعامل مع �إرث طويل من البعد ،اخلداع ،والهيمنة غري املعلنة للمفاهيم التي تتمثل يف تقاليد الأداء الغربية قبل بدء احلرب على التمثيل� .إنه �أي�ض ًا مفهوم يعترب فنانو وناقدو ع�رصنا �أنه يطرح �إ�شكالية. �سيتطلب الأمر وقتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ًا ال قبل �أن يتمكن تدفق املعلومـــــــــــــــــــــــات طوي ً من اخرتاق املمار�سات الفنيــــــــــــــــــــــــــــــــــــة يف العامل العربي املوجودة �ضمن النـــــــــــــــــــــطاق امل�ؤ�س�ساتي .و�سي�ستغرق ال�شـــــــــــــــــــــــــــــكل طويال قبل �أن يتمكن من تلقف املعلومــــــــــــات وقت ًا ً التي من �ش�أنها �أن تبدّ لــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه، ومن تغيري موقعه بالن�ســــــــــــــــــــــبة �إىل التمثيل عندما ا�شتعل فتيل االنتفا�ضات ال�سيا�سية امل�ستمرة يف املنطقة الناطقة باللغة العربية ،مع الثورات يف تون�س يف كانون الأول /دي�سمرب ٢٠١٠وال�صدمة الناجتة من ذلك يف خريطة املنطقة العربية ،ومع �أخذ م�سافة م�ؤقتة من الأحداث الآن ،يرى املرء النا�س يتعاملون مع هيئات متثيلية مثرية للجدل وخطابات ق�صرية النظر .يتعامل النا�س مع روايات تاريخية ناق�صة تغفل ب�شكل انتقائي بع�ض اجلي�شان ال�سيا�سي، التفا�صيل .خالل حلظة عنيفة كهذه من َ يتعامل الفنانون �أي�ض ًا مع التمثيل من خالل الت�شكيك يف ال�شكل وال�سياق متام ًا كما ي�شككون يف امل�ضمون .بيد � ّأن املمار�سات الفنية يف املنطقة كانت حتى الآن حمكومة من 210
بدايات
العدد 2013 |6
قبل الدولة ،وذلك من خالل عملية �إ�ضفاء الطابع امل�ؤ�س�ساتي التي ت�ضطلع بها اال�شرتاكية القومية العربية� ،أو �أن ال�سوق وتوجهاته يحتكرانها� ،أو حتى املبادرات واملنظمات الفنية «امل�ستقلة» ذات الطابع امل�ؤ�س�ساتي التي تعترب جزء ًا ال يتجز�أ من �شبكات التعامالت الدولية ذات التمثيل اجلغرايف ال قبل �أن يتمكن تدفق ال�سيا�سي� .سيتطلب الأمر وقت ًا طوي ً املعلومات من اخرتاق املمار�سات الفنية يف العامل العربي املوجودة �ضمن النطاق امل�ؤ�س�ساتي .و�سي�ستغرق ال�شكل ال قبل �أن يتمكن من تلقف املعلومات التي من وقت ًا طوي ً تبدله ،ومن تغيري موقعه بالن�سبة �إىل التمثيل. �ش�أنها �أن ّ ال�شكل هو الذي يقاوم التغيري لدى ت�صادم التدفق، �أو على الأقل يقاوم التغيري الذي قد ُين ِتج يف النهاية ال �إىل �أ�شكال وطبائع ومواد وجتليات �أخرى للوظيفة حتو ً ال�سابقة واجلودة الت�شغيلية لذلك ال�شكل .كانت مو�سيقى املهرجانات منذ البداية غري وا�ضحة املعامل وي�سهل النفاذ �إليها يف الوقت عينه .ت�ستند الرتكيبة املو�سيقية �إىل التكرار، وقد ت�شكلت من خالل مراجعة الأ�صوات و�أخذ عينات عنها .كلمات الأغاين فريدة ،وتندرج فيها نكات �سيا�سية، جمل كال�سيكية من �أغانٍ و�أفالم .الرتكيبة التي تنتج من ذلك معقدة ومتكررة ،غري �أنها جم ّز�أة �إىل طبقات ال تتخالط �ضمن نظام «ال�سالمل املو�سيقية»� ،سواء يف لوائح املو�سيقى الغربية الكال�سيكية �أو املو�سيقى ال�رشقية .املو�سيقى والأغاين ت�شكك بامل�ؤ�س�سة ،وت�شكك باللوائح اجلمالية يف دولة لها تاريخ مو�سيقي �ضخم .ال جت�سد هذه الأغاين املو�سيقى ال�شعبية التي ي�ؤديها �أمثال عدوية ،حتى و�إن متكن املرء من تتبع الت�أثريات ال�صوتية والرواية التاريخية املحتملة التي ال تزال تنك�شف حتى اللحظة احلالية بالذات. �إنه �شكل مو�سيقي حترر من عقاله ،غري �أنه متحد مع ما ّ �شكله يف الأ�صل – هذا �إن ا�ستطاع املرء �صياغة نظريات حول �أ�صله� ،أي املقاومة واحلرية� .إىل من يتوجه؟ ّ ي�شكل؟ �أ�سئلة رهن �أي �رشيحة من النا�س ميثل؟ ماذا اجلمهور ليجيب عنها ،وللم�ؤ�س�سات ملراجعة مواقفها يف زمن تغيري ورف�ض �شعبي عام للتمثيل ال�سيئ. التمثيل �ضمن مو�سيقى املهرجانات ال يحدث من خالل �إع��ادة ت�رشيع جمموعة معينة من القوانني واال�سرتاتيجيات� ،أو من خالل �أداء ي�شبع الرغبات امل�ؤ�س�ساتية يف ما يتعلق بعامة ال�شعب .تتعامل املو�سيقى مع التمثيل من خالل التحديد ،عدم االهتمام ب�إمكانية الرتجمة ،املرونة ال�سيا�سية ،وجت�سيد التحوالت والتغريات يف ال�شكل وامل�ضمون وال�سياق.