bayt_alshier_2

Page 1


‫من أعامل الفنان بول غراغوسيان‬


‫بيت الشعر‬

‫تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫مفترق طرق‬ ‫إن انقطاع التواصل الفعيل بني الشعر والقارئ يف عامل اليوم‪ ،‬قاد إىل اغرتاب الشعر‬ ‫الذي يهلل له املبرشون منذ عقود وفق نظرية «موت الشعر»‪ .‬هؤالء ينظرون للمسألة‬ ‫من خارجها‪ ،‬عرب رشخ فكري وتاريخي‪ ،‬من دون أن يقدموا أي رؤية نقدية من شأنها‬ ‫تشخيص األزمات التي يعيشها الشعر‪ ،‬ذلك ان الشعر ليس انهامكاً جاملياً فحسب‪ ،‬بل‬ ‫هو معطى حيايت ويشء نصنعه ويصنعنا‪.‬‬ ‫حيال ذلك علينا أن نقف بجرأة ملواجهة التجني الواقع عىل الشعر‪ ،‬وأول ما نسترصخه‬ ‫هو النقد‪ ،‬وندعوه ملامرسة دوره الفعيل حيال منجز شعري عريب كبري زاخر ميتد ألكرث‬ ‫من نصف قرن‪ ،‬وال بد أن نعرتف اليوم بتقصري النقد العريب يف زمن انتكاس املعاين‬ ‫الكبرية‪ ،‬إىل حد وصل إىل نقطة خطرية‪ ،‬أباحت ملنابر «امليديا» املعارصة طرح السؤال‬ ‫حول جدوى الشعر‪.‬‬ ‫وحني نرصخ ونسترصخ النقد فإننا عىل يقني بأن الشعر العريب عىل مفرتق طرق‪ ،‬ولذا‬ ‫ال نرىض للنقد االستقرار يف الوضع الراهن الذي يستمر يف فوىض التجريب والبالغة‪،‬‬ ‫بل ندعوه للعودة إىل املعايري التي أتاح غيابها للجهل أن يتبطن يف ادعاء املوضوعية‪.‬‬ ‫نطالب النقد‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬بإعادة النظر يف حركة الشعر العريب الحديث‪ ،‬وأكرث‬ ‫من ذلك أن يتورط ليخلصنا من الهذيان التأميل وإعالء شأن العقل النقدي إىل حد‬ ‫اخرتاق حدود حصانة النص الشعري من داخله وخارجه‪.‬‬ ‫يف وسع النقد أن يكون اّ‬ ‫خلقاً ومتحركاً وحيوياً‪ ،‬فالنص هو دامئاً نفسه ويختلف عند كل‬ ‫قراءة‪ ،‬فالقراءة تأويل ييضء وين ّوع النص‪ ،‬ويف هذا التنوع يتحقق النص فعلياً‪ ،‬وهنا‬ ‫تعيدنا القراءة إىل القصيدة ‪.‬‬ ‫حني نطرح هذه الهواجس فذلك ألننا نشعر برضورة النقد الذي تتقاطع فيه األزمنة‪،‬‬ ‫املايض والحارض واملستقبل‪ .‬ماضينا الشعري الرثي وحارضنا املفتوح عىل التجريب‬ ‫واملستقبل غري املسكون‪ .‬فشعرنا اليوم ليس بال بداية وال من دون مستقبل‪ .‬إن زمن‬ ‫قصيدة اليوم هو داخل التاريخ‪ ،‬ال خارجه‪ ،‬وإذ ال ميكن فصل النص عن النقد‪ ،‬فإننا‬ ‫نعلن تبني دعوة النقد إىل البحث عن الزمن املفقود يف النص‪ ،‬والكف عن اعتبار‬ ‫القصيدة حادثاً نصياً عابراً‪ ،‬فبدون نص ليس هناك قراءة‪ ،‬وبال قراءة ليس هناك نص‪.‬‬ ‫نطمح أن تكون «بيت الشعر» منرباً لهذا اإلعالن‪ ،‬فلم يكن تاريخ الثورات الشعرية‬ ‫عىل مر العصور أكرث من حوار بني النص والنقد‪ .‬بل نكاد نجزم بأن الفن الحديث‬ ‫حديث ألنه نقدي أوالً‪ ،‬رشيطة أال يتحول النقد إىل بالغة‪ ،‬وتكرار طقيس غري معني‬ ‫بفاعلية الكتابة‪ ،‬وسواء ابتدأ العامل بالشعراء أو انتهى بهم‪ ،‬فإنه ال ميكن فصل الشعر‬ ‫عن مصرينا عىل األرض‪ .‬الشعر هو اإلنسان ولكنه العامل كذلك‪ .‬هو التاريخ والسرية‪:‬‬ ‫اآلخرون ونحن‬

‫املحرر‬

‫تصدر كل أول شهر عن بيت الشعر يف أبوظبي‬ ‫نادي تراث اإلمارات‬

‫املرشف العام‬

‫حبيب الصايغ‬ ‫رئيس التحرير‬ ‫إبراهيم محمد إبراهيم‬ ‫مدير التحرير‬ ‫بشير البكر‬ ‫سكرتري التحرير‬ ‫عبد اهلل أبو بكر‬ ‫التحرير‬

‫جهاد هديب‬ ‫رنا زيد‬

‫املدير الفني‬ ‫فواز ناظم‬ ‫االخراج والتنفيذ‬ ‫ناصر بخيت‬

‫املراسلون‬

‫بيروت‪ -‬فيديل سبيتي‬ ‫الرباط‪ -‬حكيم عنكر‬ ‫باريس‪ -‬محمد المزديوي‬ ‫القاهرة‪ -‬حمزة قناوي‬ ‫روما‪ -‬حذام الودغيري‬ ‫صنعاء‪ -‬أحمد السالمي‬

‫الهيئة االستشارية‪:‬‬ ‫حسن نجمي‬ ‫سالم أبوجمهور‬ ‫عارف الخاجة‬ ‫علي الشعالي‬ ‫نوري الجراح‬

‫‪3‬‬


‫السياب‪ :‬تمثال وقبر من حجر‬

‫‪147‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪ 26‬نصوص‪ :‬مدار الحديث‪ ،‬تغريبة بني ِقامطني‪ ،‬صهوة الرثثرة‪ ،‬أمواج حرير‪ ،‬زاوية‪،‬‬ ‫عبد العزيز جاسم ‪ ..‬شعري ُة غضب وندم‬

‫الحب‪ ،‬ثلج‪ ،‬عامئة يف الهواء‪،‬‬ ‫مثل ضوء غريب نسيه النهار‪ ،‬جنسية‪ ،‬رشفة قدمية‪ ،‬قصائد‪ ،‬يسمونه ّ‬ ‫بيتي‪ ،‬كون عام‪.‬‬ ‫‪ 38‬محاوالت‪ :‬عبد القادر ميك ‪ -‬نداءات عالية‪ ،‬جامل املال ‪ -‬وكان عرشه عىل املاء‪،‬‬ ‫الحسن عبد العزيز ‪ -‬ونسيت أن أحيا‪ ،‬منى حسن محمد ‪ -‬نزف الغامم‪.‬‬

‫‪ 41‬رأي الناقد‬ ‫من ديوان العرب إىل ديوان هواجس العرب‬

‫ من قصيدة الخطاب إىل قصيدة املشهد‬‫ قصيدة النرث العربية ‪ -‬مرشوع تساؤل‬‫‪ -‬أيّها الشعر‬

‫‪ 60‬حوار‬ ‫تشارلز سيميك‪ :‬حيايت رحمة شعري والقصيدة أشبه بلعبة بوكر‬ ‫‪ 74‬شعر وتشكيل‬ ‫امللفوظ واملبصور‬ ‫‪ 79‬فضاءات‬ ‫ مقاهي الشعر يف بريوت‬‫‪ -‬الفضاء الشعري يف عماّ ن‬

‫‪ 88‬شرق غرب‬ ‫بورخيس ‪ ..‬الرحلة اليابانية‬ ‫املواد املنشورة تعرب عن رأي اصحابها وال تعرب بالرضورة عن رأي املجلة‬ ‫‪4‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫‪www.poetryhouse-ad.ae‬‬

‫‪ 52‬في الشعر‬ ‫‪ -‬قوة الشعر ونقر الصمت‬

‫الغالف‪:‬‬

‫ اللوحة للفنان إرنست ويليام‬‫‪ -‬لوغو بيت الشعر للفنانة الرا قبطان‬

‫عناوين املجلة‬ ‫االدارة والتحرير‪:‬‬ ‫االمارات العربية املتحدة‪-‬ابوظبي‬ ‫هاتف‪024916333 :‬‬ ‫امييل‪bashir@cmc.ae :‬‬

‫أبوظبي لإلعالم‪-‬توزيع‬ ‫الرقم املجاين ‪8002220 :‬‬ ‫فاكس ‪+971 - 02-4145050 :‬‬

‫‏‪distribution@admedia.ae‬‬ ‫مسؤول التوزيع‪ :‬زياد النجار‬

‫حقوق نرش الصور واملوضوعات الخاصة محفوظة للمجلة‬


‫المحتويات‬

‫‪88‬‬

‫‪134‬‬

‫‪ 93‬ملف‬ ‫الصوت الشعري الجديد يف الجزائر‬

‫‪ 102‬فيسبوك‬ ‫قصيدة الفيسبوك ‪ ..‬كالم افرتايض فوق رقعة بيضاء‬ ‫‪ 107‬مختارات‬ ‫شعر الهنود الحمر املعارص يف أمريكا الالتينية‬ ‫‪ 118‬تجارب‬ ‫مصطفى سند ‪ ..‬شاعر األسطورة واألرض‬

‫‪ 121‬بورتريه‬ ‫حمد أبو شهاب ‪ ..‬شاعر وذاكرة وطن‬

‫‪ 126‬بيت الشعر‬ ‫بيت الشعر الفلسطيني ‪ ..‬فضاء لالختالف وحراسة الحلم‬

‫‪ 129‬تحقيق‬ ‫شعراء الجنوب املرصي بعد أمل دنقل‬

‫سعر النسخة‬ ‫اإلمارات العربية املتحدة‪ 10 :‬دراهم ‪ -‬اململكة العربية السعودية ‪10‬‬ ‫رياالت ‪ -‬الكويت دينار واحد ‪ -‬سلطنة عامن ‪ 800‬بيسة ‪ -‬قطر ‪ 10‬رياالت‬ ‫ مملكة البحرين دينار واحد ‪ -‬اليمن ‪ 200‬ريال ‪ -‬مرص ‪ 5‬جنيهات ‪-‬‬‫السودان ‪ 250‬جنيهاً ‪ -‬لبنان ‪ 5000‬لرية ‪ -‬سورية ‪ 100‬لرية ‪ -‬اململكة‬ ‫األردنية الهاشمية ديناران ‪ -‬العراق ‪ 2500‬دينار ‪ -‬فلسطني ديناران ‪-‬‬ ‫اململكة املغربية ‪ 20‬دره ًام ‪ -‬الجامهريية الليبية ‪ 4‬دنانري ‪ -‬الجمهورية‬ ‫التونسية ديناران ‪ -‬بريطانيا ‪ 3‬جنيهات ‪ -‬سويرسا ‪ 7‬فرنكات ‪ -‬دول االتحاد‬ ‫األورويب ‪ 4‬يورو ‪ -‬الواليات املتحدة األمريكية وكندا ‪ 5‬دوالرات‪.‬‬ ‫االشتراكات‬ ‫لألفراد داخل دولة اإلمارات‪ 100 :‬درهم‪ /‬لألفراد من خارج الدولة‪150 :‬‬ ‫درهم ‪ -‬للمؤسسات داخل الدولة‪ 150 :‬درهم‪ /‬للمؤسسات خارج الدولة‬ ‫‪200‬درهم‪.‬‬

‫‪143‬‬

‫‪156‬‬

‫‪ 134‬خارج السرب‬ ‫دعد حدّاد ‪ ..‬شاعرة ماتت يف بحرية منسية‬

‫‪ 137‬نقد‪ ..‬املكان كاستعارة‬ ‫ إنشاء لغة فلسطني‬‫‪ -‬املكان يف تجربة نجوم الغانم‬

‫‪ 147‬زيارة‬ ‫السياب والربيكان وعبد الوهاب يف ضيافة الحسن البرصي‬ ‫‪ 152‬قصيد األسالف‬ ‫القول الشعري يف مواجهة التفتت‬

‫‪ 156‬شعر وفلك‬ ‫قراءة فلكية يف شخصية عبد الوهاب البيايت‬ ‫‪ 160‬البيت‬ ‫بيت الشعر يف أبوظبي‬

‫؟‬

‫‪45‬‬

‫«القطيعة المعرفية»‬ ‫بين األجيال الشعرية‬ ‫مظاهرها ومآالتها‬ ‫في اإلمارات‬

‫‪5‬‬


‫ُكتاب العدد‬

‫‪15‬‬

‫‪14‬‬

‫‪13‬‬

‫‪23‬‬

‫تخطيطات ُ‬ ‫الكتاب‪ :‬نارص بخيت‬

‫‪1‬‬

‫‪2‬‬

‫‪3‬‬

‫‪9‬‬

‫‪ .1‬مفيد نجم‬

‫• ناقد من سوريا‪ ،‬يقيم يف أبو ظبي‪ ،‬أصدر‬ ‫العديد من الكتب يف حقل النقد من بينها‪:‬‬ ‫"األفق والصدى ـ دراسات يف الشعر السوري‬ ‫املعارص"‪ ،‬و"الربيع األسود"‪ ،‬و"أرض األبد ّية"‪،‬‬ ‫"طائر بأكرث من جناح"‪.‬‬

‫‪ .2‬حمدة خميس‬

‫‪ .7‬الطايع الحداوي‬

‫ناقد من املغرب‪ ،‬صدر له‪ :‬يف معنى‬ ‫القراءة ‪ -‬قراءات يف تلقي النصوص‪،‬‬ ‫"املغرب العريب يف ‪ 2000‬عنوان"‪،‬‬ ‫"سيميائيات التأويل‪،‬اإلنتاج ومنطق‬ ‫الدالئل"‪" ،‬النص واملفهوم"‪ ،‬و"البحث‬ ‫السيميايئ باملغرب"‪.‬‬

‫شاعرة من اإلمارات‪ ،‬من بني ما صدر لها‪:‬‬ ‫األعامل الكاملة‪" ،‬اعتذار للطفولة "‪" ،‬الرتانيم"‪،‬‬ ‫"مسارات"‪" ،‬أضداد"‪" ،‬عزلة الرمان"‪" ،‬مس من‬ ‫املاء"‪" ،‬غبطة الهوى‪ ..‬عناقيد الفتنة"‪" ،‬يف بهو‬ ‫النساء"‪" ،‬تراب الروح"‪ ،‬و"إس إم إس"‪.‬‬

‫‪ .8‬وليد السويريك‬

‫• شاعر من فلسطني‪ ،‬صدر له‪" :‬حيفا تطري إىل‬ ‫الشقيف"‪" ،‬نشيد الحجر"‪" ،‬وطن يف املخيم"‬ ‫"دفاتر الغيم"‪ ،‬و"ذئب األربيعني"‪.‬‬

‫‪ .9‬تحسني الخطيب‬

‫‪ .3‬يوسف عبد العزيز‬

‫‪ .4‬محمد العديني‬ ‫شاعر وناقد من اليمن‪.‬‬

‫‪ .5‬ميلود خيزار‬

‫شاعر من الجزائر‪ ،‬صدر له يف حقل الشعر‪" :‬إين‬ ‫أرى"‪ ،‬و"رشق الجسد"‪.‬‬

‫‪ .6‬عابد اسامعيل‬

‫شاعر ومرتجم وناقد من سوريا‪ ،‬صدر له‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫أكلم‬ ‫"طواف اآلفل"‪" ،‬باتجا ِه متا ٍه آخر"‪" ،‬لن َ‬ ‫ُ‬ ‫العاصفة"‪" ،‬ساعة ْ‬ ‫و"ملع رساب"‪.‬‬ ‫رمل"‪ُ ،‬‬

‫‪6‬‬

‫بيت الشعر‬

‫شاعر ومرتجم من فلسطني‪ ،‬صدر‬ ‫له‪" :‬أجنحة بيضاء لليأس" و"طردت‬ ‫اسمك من بايل" ‪ -‬ترجمة‪ ،‬وأساتذة‬ ‫اليأس ‪ -‬النزعة العدمية يف األدب‬ ‫األورويب"‪.‬‬

‫شاعر ومرتجم من فلسطني‪ ،‬صدر له‬ ‫يف حقل الرتجمة‪" :‬الجذور الثقافية‬ ‫لإلسالموية األمريكية"‪ ،‬و"العامل ال‬ ‫ينتهي"‪.‬‬

‫‪ .10‬ابراهيم الحيسن‬ ‫ناقد مغريب‬

‫‪ .11‬محمد آيت لعميم‬

‫ناقد ومرتجم من املغرب‪ ،‬صدر له‪:‬‬ ‫"املتنبي‪ ..‬الروح القلقة والرتحال‬ ‫األديب"‪" ،‬بورخيس أسطورة األدب"‪،‬‬ ‫"قصيدة النرث العربية‪ ..‬إيقاع املعنى‬ ‫وذكاء الكلم" ‪.‬‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫‪ .12‬محمد عريقات‬

‫شاعر من فلسطني‪ ،‬صدر له‪" :‬هروبا‬ ‫من الشعر"‪ ،‬و"حني أمسك بالفرح"‪،‬‬ ‫و"أرمل السكينة"‪.‬‬

‫‪ .13‬بشري مفتي‬

‫روايئ من الجزائر‪ ،‬صدر له‪ " :‬املراسيم‬ ‫والجنائز"‪" ،‬أرخـبـيـل الـذباب"‪،‬‬ ‫"شاهد العتمة"‪" ،‬أشجار القيامة"‬ ‫"دمية النار"‪ ،‬فضال عن عدد من‬ ‫املجموعات القصصية‪.‬‬

‫‪ .14‬مازن معروف‬

‫شاعر ومرتجم من فلسطني‪ ،‬يقيم يف‬ ‫آيسالند‪ ،‬صدر له‪" :‬الكامريا ال تلتقط‬ ‫العصافري" "مالك عىل حبل الغسيل"‪،‬‬ ‫كام ترجم رواية "يدا أيب" لألمرييك‬ ‫مريون ألبريغ‪.‬‬

‫‪ .15‬معن البياري‬

‫صحايف وكاتب من فلسطني يقيم‬ ‫ويعمل يف ديب‪.‬‬

‫‪ .16‬دميا الشكر‬

‫ناقدة من سوريا تقيم يف دمشق‪.‬‬

‫‪ .17‬حسام الرساي‬

‫شاعر وصحايف من العراق‪ ،‬صدر له‪:‬‬ ‫"وحده الرتاب يقهقه"‪.‬‬

‫‪ .18‬خالد بلقاسم‬

‫ناقد من املغرب‪ ،‬من بني ما صدر له‬ ‫يف حقل النقد‪" :‬أدونيس والخطاب‬ ‫الصويف"‪" ،‬الكتابة والتصوف عند ابن‬ ‫عريب"‪" ،‬الكتابة وإعادة الكتابة يف‬ ‫الشعر املغريب املعارص"‪.‬‬

‫‪.19‬ياسني الزبيدي‬

‫أستاذ جامعي من العراق يقيم يف‬ ‫دولة اإلمارات العربية املتحدة‪ .‬درس‬ ‫كواكب املجموعة الشمسية وتحليل‬ ‫مدى تأثريها عىل شخصية اإلنسان‪.‬‬ ‫وفي الشعر‬

‫‪ -20‬سامل أبوجمهور‬ ‫‪ -21‬حسن املطرويش‬ ‫‪ -22‬جعفر العقييل‬ ‫‪ -23‬عيل الشعايل‬ ‫‪ -24‬صالحة غابش‬ ‫‪ -25‬عبدالزهرة زيك‬ ‫‪ -26‬ابراهيم الوايف‬ ‫‪ -27‬بريهان الرتك‬ ‫‪ -28‬عبد الله أبو شميس‬ ‫‪ -29‬جوالن حاجي‬ ‫‪ -30‬عبيد عباس‬ ‫‪ -31‬نور البواردي‬ ‫‪ -32‬راسم املدهون‬ ‫‪ -33‬محمد عنيبة الحمري‬


‫االفتتاحية‬

‫الشاعر‬

‫املمثل‬

‫البارع هو من يتقمص دورا ما ويتقنه متثيال إىل درجة التوحد‪ ،‬أما الشاعر البارع فهو من تتقمصه الحالة‬ ‫الشعرية وتنقله إىل عوامل مل يكن يخطط للوصول إليها‪ ،‬فهو بذلك كالطفل الذي يكتشف األشياء املحيطة‬ ‫به ألول مرة‪ ،‬وبقدر دهشته من تلك االكتشافات تكون دهشة قارئه وبقدر خوفه منها يكون خوف قارئه وكذلك عندما‬ ‫يفرح فإنه ينقل تلك الفرحة إىل اآلخرين‪ .‬وقد يتبادر سؤال منطقي بهذا الصدد بالنسبة إىل القارئ‪ :‬وماذا إذا مل يستطع‬ ‫الشاعر ايصال تلك املشاعر إىل الجمهور؟ والجواب بكل بساطة‪ :‬عليه أن يسلم بأن ذلك (الحمل) كان كاذبا وكان عليه أال‬ ‫يتعجل يف كتابة القصيدة‪ ،‬أما إذا تكرر لديه ذلك كثريا‪ ،‬فعليه أن يشك يف شاعريته وموهبته‪ .‬وعندما أقول الجمهور هنا‬ ‫ال أعني الذين ال يحبون الشعر أو الذين بينهم وبني اللغة قطيعة ب ّينة إمنا أعني تلك الرشيحة التي متتلك الحد األدىن من‬ ‫الثقافة واإلملام باللغة والقدر الكايف من الخيال الشعري الذي يؤهلها للتواصل مع القصيدة وال أقول لفهمها‪ ،‬ألن األولوية‬ ‫يف التواصل مع القصيدة ملعايشتها والتحليق مع جاملياتها وصورها‪ ،‬وذلك ال يتأىت بالعقل وإمنا باإلحساس‪ ،‬وإن كان للعقل‬ ‫ئلت كثريا كام ُس َ‬ ‫يف ذلك دور بنسبة معينة‪ ،‬فإنه دور متأخر بعض اليشء عن دور املشاعر‪ .‬لقد ُس ُ‬ ‫ئل غريي من الشعراء من‬ ‫خالل الحوارات الصحفية‪ :‬هل أنت تكتب لنفسك أم للجمهور؟ وكان جوايب دامئا وإن بطرق مختلفة‪ :‬أنا ال أكتب لنفيس‬ ‫لحة جدا‪،‬‬ ‫وال للجمهور‪ ،‬أنا أكتب فقط‪ ،‬أكتب ألنني أحس بالرغبة يف التعبري عن أشياء ال بد أن ُتقال فورا وبال تردد‪ ،‬أشياء ُم ّ‬ ‫فكتابة الشعر كام أحاول فهمها هي حاجة ورضورة بالنسبة إىل الشاعر‪ ،‬كاملاء والغذاء والهواء‪ ،‬فكام أنني آكل وأرشب‬ ‫وأتنفس فأنا أكتب الشعر‪ ،‬أفعل ذلك قبل أن أفكر إن كنت أفعل ذلك لنفيس أو لآلخرين‪ ،‬أما بعد االنتهاء من الكتابة‪ ،‬فإننا‬ ‫نتشارك جميعا يف هذا املنتج ونتعامل معه كل بطريقته الخاصة‪ .‬أقول ذلك ألن كتابة القصيدة ال تكون بالنية وال بالتخطيط‬ ‫املسبق وإال كانت قصة أو رواية أو خطبة منربية مع احرتامي لجميع تلك األلوان األدبية التي أحبها‪ ،‬إال أن للقصيدة‬ ‫خصوصيتها التي تتجىل يف التكثيف واالختزال والذاتية املفرطة ْ‬ ‫وإن حرض فيها اآلخر‪.‬‬ ‫كثريا ما يتهم الشعراء بالرنجسية واملزاجية واالنعزالية والبعد عن الواقع‪ ،‬ويرجع ذلك إىل تركيبة هذا املخلوق الذهنية‬ ‫والنفسية امليالة إىل الكشف والتأمل والتخييل وعدم الرضا بالعادي واملتكرر والرتيب‪ ،‬فالشاعر يجد نفسه يف الهروب الدائم‪،‬‬ ‫حتى عندما يلجأ للعزلة يف غرفة ضيقة فإنه يفعل ذلك ليرسح بعيدا يف الالمحدود من أجل قصيدة أغوته وج ّرته من خيط‬ ‫فؤادة إىل عواملها الحرة حيث ال ممنوع وال أطر ضيقة وال سقوف يحدد ارتفاعها اآلخرون‪ .‬سألني أحد األخوة الصحفيني منذ‬ ‫أيام‪ :‬ماذا أعطاك الشعر؟ فأجبته‪ :‬قل‪ :‬ماذا أخذ مني أوال؟ ‪ ..‬لقد أخذ مني الكثري من الوقت والراحة البدنية وأحيانا فهم‬ ‫اآلخرين يل ‪ ..‬وأعطاين ما ال يقدر بثمن‪ ،‬لقد أعطاين (الحيلة) نعم‪ ،‬لقد علمني كيف أحتال عىل الطرق املغلقة واملشاكل‬ ‫املعقدة واألوضاع غري السوية التي ال أستطيع التعايش معها‪ ،‬علمني التحليق بعيدا حيث األفق الرحب والفضاء الفسيح‪،‬‬ ‫علمني كيف أصنع يل كونا أرحب من الكون الذي يعرفه الناس‪ ،‬أختار فيه أصدقايئ وأحبتي وأزهاري املفضلة وأنهاري‬ ‫التي تجري كام أهوى وتقف إذا أردت لها أن تقف‪ .‬أليس من حق الشاعر بعد كل هذا أن يبقى شاعرا؟ وهل يلومه عىل‬ ‫نرجسيته وعزلته وجنونه إال من مل يذق طعم الشعر؟‬

‫رئيس التحرير‬ ‫‪7‬‬


‫كاريكاتير‬ ‫عنوان املجموعة الأخرية لل�شاعر م�ؤيد ال�شيباين «هكذا �أو العك�س»‬

‫‪8‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫شعر وشعراء‬

‫بدءا‬ ‫محمد بن عبد الله الربييك‬

‫هذا‬

‫الشهر والشهر املقبل سوف نسمع‬ ‫بانتقاالت عديدة للشعراء العرب‬ ‫بني البالد العربية‪ ،‬وبعض الدول األجنبية‪ ،‬ففض ًال‬ ‫عن عدد من املهرجانات التي ُتقام لهذا الصيف‬ ‫يف برلني وباريس ويشارك فيها عدد من الشعراء‬ ‫العرب‪ ،‬سوف تقام العديد من املهرجانات‬ ‫وامللتقيات الشعرية بدءاً من مهرجان جرش‬ ‫للثقافة والفنون يف األردن‪.‬‬ ‫لتتعدد بعد ذلك امللتقيات فتمر مبدينة الطائف‬ ‫بالسعودية وسواها وتنتهي أواخر هذا العام‬ ‫تم‬ ‫مع ملتقى اإلمارات لإلبداع الخليجي الذي ّ‬ ‫تخصيص دورته املقبلة للشعر ونقده‪ ،‬ثم مهرجان‬ ‫الشارقة للشعر العريب الذي ينعقد أواخر العام‪.‬‬ ‫الالفت أن الشاعر أدونيس الذي كرثت مشاركاته‬ ‫يف مهرجانات شعرية عاملية وغري عاملية قد شارك‬ ‫الشهر املايض يف مهرجان إسباين يف غرناطة‪،‬‬ ‫ووجه نقداً الذعاً للغرب وسياساته يف املنطقة‬ ‫ّ‬ ‫خاصة تلك املتعلقة بفلسطني‪.‬‬ ‫أيضاً‪ ،‬رحل الشاعر السوداين أحمد سيد الحردلو‪.‬‬ ‫واملفارقة أن الكثري من أبناء األجيال الشعرية‬ ‫الجديدة يعرفون من هو صاحب "الخرطوم‬ ‫حبيبتي"‪.‬‬ ‫فض ًال عن عروض الدواوين الصادرة حديثاً وكتب‬ ‫نقدها‪ ،‬تتابع «بيت الشعر» الغياب القرسي‬ ‫إلحدى املجالت املتخصصة بالشعر يف فرنسا‪:‬‬ ‫"الفعل الشعري"‪ ،‬التي قدمت الكثري للحركة‬ ‫الشعرية الناطقة بالفرنسية عىل امتداد خمسني‬ ‫عاماً‬ ‫التحرير‬

‫الشاعر البريكي‪ ..‬مدير ًا لبيت الشعر بالشارقة‬ ‫شغل الشاعر محمد بن عبد الله الربييك "اإلمارات" موقع مدير بيت الشعر بإمارة‬ ‫الشارقة مؤخراً‪ ،‬بحيث سيكون مسؤوالً عن تفعيل برامجه وأنشطته التي يربز من بينها‬ ‫مهرجان الشعر العريب‪ ،‬ويشهد عادة تكرمياً ألحد الشعراء اإلماراتيني إىل جوار شاعر عريب‬ ‫بارز‪ ،‬باإلضافة إىل قراءات شعرية وندوة نقدية فكرية موازية‪.‬‬ ‫وبحسب بيان صحفي أصدرته دائرة الثقافة واإلعالم بالشارقة‪ ،‬فإن ذلك قد جاء تنفيذاً‬ ‫لتوجيهات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو املجلس‬ ‫األعىل لالتحاد حاكم الشارقة‪ ،‬وقال عبد الله العويس رئيس الدائرة يف البيان ذاته‪" :‬متيز‬ ‫بيت الشعر يف إمارة الشارقة عاصمة العرب الثقافية لعام ‪ 1998‬بطرح رؤى مستقبلية‬ ‫تقدم خدمة لهذا الحراك الثقايف املتوافق مع عجلة الزمن الدوارة‪ ،‬وذلك من أجـل غـد‬ ‫مرشق وحياة أكرث غنى حضارياً وإنسانياً" مؤكداً أن "ذلك قد تحقق من خالل النـدوات‬ ‫الفكـرية والثقـافية واملـلتقيات واألمسيات والورش التدريبية‪ ،‬فضـ ًال عن اللقاءات‬ ‫املفتوحة عرب االتصال املبارش برشائح املجتمع كافة"‪.‬‬ ‫وكان الناقد د‪ .‬بهجت الحديثي "العراق" قد أدار بيت الشعر بالشارقة خالل السنوات‬ ‫األخرية‪ ،‬أما الشاعر محمد الربييك فقد شغل سابقاً موقع املدير التنفيذي ملركز الشعر‬ ‫الشعبي بالشارقة‪ ،‬وله عدة إصدارات ودواوين شعرية يف مجال الشعر الفصيح والنبطي‪.‬‬

‫يخص الشعر ويستضيف الجزائر‬ ‫ملتقى اإلمارات لإلبداع الخليجي‬ ‫ّ‬ ‫قررت األمانة العامة مللتقى اإلمارات لإلبداع الخليجي‪ ،‬الذي دأب عىل إقامته سنوياً اتحاد كتاب وأدباء اإلمارات‪ ،‬أن تكون دورة امللتقى لهذا‬ ‫العام خاصة بالشعر‪ ،‬وأن تتناول الندوة املصاحبة موضوع القصيدة الحديثة‪ :‬مالمحها‪ ،‬وإشكالياتها‪ ،‬وآفاقها‪.‬‬ ‫جاء ذلك خالل االجتامع الذي عقدته األمانة العامة مؤخراً يف مقر االتحاد يف الشارقة بحضور األديبة أسامء الزرعوين بصفتها أميناً عاماً‪ ،‬وإبراهيم‬ ‫الهاشمي‪ ،‬وإسالم أبو شكري‪ ،‬وطالل سامل‪ ،‬وعبد الفتاح صربي بصفتهم أعضاء‪ .‬وتم االتفاق خالل االجتامع عىل أن تكون دولة الجزائر «ضيف‬ ‫رشف» الدورة الثالثة التي تنعقد خالل شهر كانون األول‪ /‬ديسمرب من هذا العام‪ .‬وذكرت الزرعوين أن "االستعدادات لهذا امللتقى بدأت يف وقت‬ ‫مبكر لضامن أقىص ما ميكن من فرص النجاح‪ ،‬وأن معايري املشا َركة ستكون دقيقة وصارمة‪ ،‬ألننا حريصون عىل أن تكون للملتقى سمعته الطيبة‬ ‫ومستواه الرصني‪ ،‬وهام من أهم مربرات استمراره"‪.‬‬ ‫ملتقى اإلمارات لإلبداع الخليجي‪ ،‬الذي انطلق منذ ثالثة أعوام مببادرة من مجلس اإلدارة الحالية لالتحاد‪ ،‬حيث تتسع دائرة املشاركة فيه دورة‬ ‫فأخرى‪ُ ،‬يقام أيضاً بدعم ومشاركة من مركز سلطان بن زايد للثقافة واإلعالم‪.‬‬ ‫‪9‬‬


‫شعر وشعراء‬

‫المربد‪ 20 :‬شاعر ًا لكل‬ ‫أمسية‬

‫أقيمت الشهر املايض يف البرصة‬ ‫الدورة التاسعة ملهرجان املربد‬ ‫الشعري‪ ،‬التي حملت اسم الشاعر‬ ‫العراقي ألفريد سمعان‪ ،‬مبشاركة‬ ‫عراقية وعربية وعاملية‪.‬‬ ‫وقد شارك نحو ‪ 200‬شاعر من‬ ‫بينهم‪ :‬حسن املطرويش «عامن»‪،‬‬ ‫وعبد الله أبو شميس‪ ،‬ومحمد‬ ‫العزام «األردن»‪ ،‬وأحمد الصويري‬ ‫وفرات اسرب «سوريا»‪ ،‬ورابح ظريف‬ ‫وحنني عمر وحنان شبشوب وزينب‬ ‫األعوج «الجزائر»‪ ،‬ومحمود رشف‬ ‫وحسن شهاب الدين ومحمد‬ ‫آدم وعاطف عبد العزيز «مرص»‪،‬‬ ‫وياسني عدنان ومحمد بن متيم‬ ‫وصباح الديب «املغرب»‪ ،‬وعامر‬ ‫محمد املعتصم «السودان»‪ ،‬واحمد‬ ‫بزون «لبنان»‪ ،‬وهاين الصلوي‬ ‫«اليمن»‪ ،‬وروز مصلح «فلسطني»‪.‬‬ ‫غري أن املهرجان الذي انطلق يف‬ ‫التاسع من أيار‪ /‬مايو‪ ،‬واستمر‬ ‫لثالثة أيام مل يسلم من توجيه النقد‬ ‫إليه حيث انخفض عدد الشعراء‬ ‫املشاركني يف كل أمسية من ‪ 30‬إىل‬ ‫‪ 20‬شاعراً! كام سا َد اعتقاد لدى‬ ‫الحضور بأن استضافة شعراء عرب‬ ‫قد جرى بناء عىل عالقات شخصية‬ ‫مع املك ّلفني بتوجيه الدعوات‪.‬‬

‫‪10‬‬

‫بيت الشعر‬

‫توقيع ديوان في موقع تاريخي‬

‫الشعار يف مدخل الطائف‬

‫«سوق عكاظ» تشكيلي –‬ ‫شعري في السعودية‬

‫بدأت جمعية الثقافة والفنون مبدينة الطائف مؤخراً‬ ‫استقبال أعامل الفنانني التشكيليني السعوديني والعرب‬ ‫املقيمني عىل أرض الدولة من الراغبني يف املشاركة مبسابقة‬ ‫«لوحة وقصيدة»‪ ،‬التي تنظمها أمانة سوق عكاظ يف دورة‬ ‫مهرجان سوق عكاظ السادس‪.‬‬ ‫وتشهد املسابقة بدءاً من هذا العام إضافة أخرى تتمثل‬ ‫بجائزتني‪ ،‬لتصبح جوائز املسابقة ثالثاً بدالً من جائزة‬ ‫واحدة كام كانت عليه الحال يف السنوات املاضية‪ ،‬حيث‬ ‫سيحصل الفائز األول عىل خمسني ألف ريال‪ ،‬وثالثني ألف‬ ‫ريال للفائز الثاين‪ ،‬بينام ينال الفائز الثالث عرشين ألف‬ ‫ريال‪ ،‬بقيمة إجاملية للجائزة قدرها مائة ألف ريال‪.‬‬ ‫وقد اشرتطت إدارة املسابقة يف الجمعية للدخول يف‬ ‫املنافسة عىل الجائزة‪ :‬أن يتقدم املتسابق بلوحة تشكيلية‬ ‫ال يزيد مقاسها عن ‪ 1.20‬مرت × مرت واحد‪ ،‬وأن يستلهم‬ ‫الفنان يف اللوحة إحدى القصائد‪ ،‬ويستوحي مضمونها‬ ‫وإيحاءاتها‪ ،‬وأن يرفق القصيدة ومصدرها باللوحة‪ ،‬وأال‬ ‫يكون العمل الذي يتقدم به الفنان قد حصل به صاحبه‬ ‫عىل جائزة أخرى‪ ،‬وأن يوافق املتسابق عىل عرض لوحته‬ ‫ضمن أعامل معرض سوق عكاظ للفن التشكييل‪ ،‬وال‬ ‫يطالب باستعادتها قبل انتهاء فرتة املعرض‪.‬‬ ‫وتهدف املسابقة إىل تشجيع الفنون عامة وما يرتبط منها‬ ‫بفن العرب األول وهو الشعر‪ ،‬ولهذا فإنها توضح العالقة‬ ‫الوثيقة بني الشعر والرسم‪ ،‬وتشجع الفنانني التشكيليني‬ ‫السعوديني والعرب املقيمني يف اململكة عىل ارتياد هذه‬ ‫املساحات وتقديم ما يكشف عن إمكاناتهم وقدراتهم‬ ‫اإلبداعية‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫وقع الشاعر جالل برجس "األردن"‬ ‫كتابيه الجديدين‪« :‬رذاذ عىل زجاج‬ ‫الذاكرة ‪ -‬حكايات مكانية» و«قمر‬ ‫بال منازل» وذلك يف الساحة األمامية‬ ‫لدير «نيبو» يف أعىل قمة «جبل نيبو»‬ ‫التاريخي وهو املكان الذي ّ‬ ‫أطل منه‬ ‫النبي موىس عليه السالم ألول مرة عىل‬ ‫«أرض كنعان» حيث تعترب هذه اإلطاللة‬ ‫األهم عىل املستوى الجغرايف يف العامل‬ ‫عىل فلسطني وسائر جغرافيا الحراك‬

‫الديني املسيحي يف سوريا الطبيعية‪.‬‬ ‫وقد جاء حفل التوقيع هذا مببادرة من‬ ‫"ملتقى ني ّبو للثقافة والرتاث" وضمن‬ ‫فعاليات مادبا مدينة للثقافة األردنية‬ ‫‪ ،2012‬وجاءت االحتفالية بالكتابني عرب‬ ‫تقاطع بني الشعر والنص املكاين املفتوح‪،‬‬ ‫الذي قدمه الشاعر جالل برجس وبني‬ ‫املوسيقى املصاحبة‪.‬‬ ‫واحتفاء بتجربة الشاعر واملكان قدم‬ ‫راشد عيىس ورقة نقدية عن ديوان‬ ‫«قمر بال منازل»‪ ،‬كام قدم نزار قبيالت‬ ‫ورقة نقدية عن كتاب "رذاذ عىل زجاج‬ ‫الذاكرة"‪ ،‬وأدار الحفل الشاعر ماهر‬ ‫القييس‪.‬‬


‫أدونيس ينتقد سياسات‬ ‫الغرب‬

‫عصام أبو زيد‪ ..‬جدل على‬ ‫الفيسبوك‬

‫رمبا عىل نحو غري متوقع هاجم‬ ‫الغرب وسياسته بل‬ ‫الشاعر أدونيس‬ ‫َ‬ ‫ونفاقه أيضاً‪ ،‬يف ليلة افتتاح الدورة‬ ‫التاسعة ملهرجان غرناطة الشعري‬ ‫الدويل‪ ،‬الذي انعقد يف غرناطة‬ ‫اإلسبانية يف أيار‪ /‬مايو املايض‪.‬‬ ‫وقال أدونيس‪« :‬إن الغرب ال‬ ‫يقول شيئاً وال يفعل شيئاً للدفاع‬ ‫عن الحقوق املهضومة للشعب‬ ‫الفلسطيني‪ ،‬الذي طرد من أرضه»‬ ‫معترباً أن «الغرب ال يدافع عن‬ ‫حقوق اإلنسان‪ ،‬بقدر ما يدافع‬ ‫عن مصالحه االسرتاتيجية وعن‬ ‫البرتول والغاز والطاقة» مؤكداً «أن‬ ‫الغرب يتظاهر بالدفاع عن حقوق‬ ‫اإلنسان»‪.‬‬ ‫مثلام كشف أدونيس عن موقفه‬ ‫من التدخل األجنبي يف ثورات‬ ‫الربيع العريب فرفض‪« :‬التدخل‬ ‫األجنبي واألمرييك عىل وجه‬ ‫الخصوص‪ ،‬ألن هذا التدخل لن‬ ‫يفيض سوى للعنف»‪.‬‬ ‫وبصدد الربيع العريب‪ ،‬رأى أدونيس‬ ‫«أن الشباب العرب قد قام بحركة‬ ‫رائعة‪ ،‬وعىل الرغم من العراقيل‬ ‫فإن هذا الشباب سيستمر يف‬ ‫ثورته» داعياً الشعراء والكتاب إىل‬ ‫الوقوف إىل جانب املقهورين‪.‬‬

‫أطلق الشاعر والروايئ املرصي عصام أبو‬ ‫زيد مؤخراً ديوانه الجديد عىل صفحته‬ ‫الخاصة بالفيسبوك‪ .‬حمل الديوان هذا‬ ‫العنوان الذي ال يخلو من مفارقة‪ :‬كيف‬ ‫تصنع كتاباً يحقق أعىل مبيعات؟ هكذا‬ ‫من دون إ ْذن من أحد أو من دون‬ ‫اضطرار للتفكري بأي مرجعية ثقافية‬ ‫سوى أبو زيد وحده‪.‬‬ ‫أثار الديوان منذ نرشه ردود فعل‬ ‫متباينة خاصة يف ما يتعلق بالعنوان‪،‬‬ ‫فالعديد من املتابعني لتجربة أبو زيد‬

‫«جرش الشعري» الشهر المقبل‬ ‫تو ّلت رابطة الكتّاب األردنيني هذه السنة‪ ،‬ألول مرة يف‬ ‫تاريخها منذ انطالقة مهرجان جرش للثقافة والفنون‪،‬‬ ‫اختيار أسامء الشعراء‪ ،‬من األردنيني والعرب‪ ،‬الذين‬ ‫سيحيون األمسيات الشعرية‪ ،‬وقد أرشف عىل برنامج‬ ‫األمسيات الروايئ مؤيد العتييل نائب رئيس رابطة الكتاب‬ ‫األردنيني‪ ،‬الذي قال إن الرابطة ش ّكلت لجنة تم من خالل‬ ‫التشاور بني أعضائها اعتامد أسامء الشعراء األردنيني‬ ‫والعرب املشاركني لهذا العام‪ ،‬وتض ّمنت االختيارات أكرث‬ ‫من عرشين شاعراً أردنياً هم‪ :‬يوسف عبد العزيز‪ ،‬سعد‬ ‫الدين شاهني‪ ،‬مها العتوم‪ ،‬راشد عيىس‪ ،‬صالح أبو الوي‪،‬‬ ‫أحمد الخطيب‪ ،‬محمد ضمرة‪ ،‬محمد العزام‪ ،‬مهدي‬ ‫نصري‪ ،‬غازي الذيبة‪ ،‬أحمد أبو اسليم‪ ،‬مريم الصيفي‪ ،‬عيل‬ ‫شنينات‪ ،‬موىس حوامدة‪ ،‬مهند ساري‪ ،‬نضال برقان‪ ،‬إسالم‬ ‫سمحان‪ ،‬تريك عبد الغني‪ ،‬عبد الكريم أبو الشيح‪ ،‬رفعة‬ ‫يونس‪ ،‬محمد اليف‪ ،‬وأديب نارص‪.‬‬ ‫وأ ّما املشاركات العرب ّية فسيمثلها الشعراء‪ :‬حميد سعيد‪،‬‬ ‫عبد الرزاق عبد الواحد‪ ،‬وعبود الجابري «العراق»‪ ،‬ومراد‬ ‫السوداين ويوسف املحمود "فلسطني"‪ ،‬وفاروق شوشة‬ ‫وسيد حجاب «مرص»‪ ،‬وعيل عبدالله خليفة «البحرين»‪،‬‬ ‫وأحمد الصويري «سوريا»‪.‬‬ ‫وسيقوم بإدارة األمسيات الشعرية األدباء والشعراء‪:‬‬ ‫عيل البتريي‪ ،‬حسني نشوان‪ ،‬جالل برجس‪ ،‬هشام عودة‪،‬‬ ‫هيثم رسحان‪ ،‬مؤيد العتييل‪ ،‬هزاع الرباري‪ ،‬محمد عبيد‬ ‫الله‪ ،‬ومحمد مقدادي‪ .‬يف حني تتوزع الفعاليات الشعرية‬ ‫والنقدية املصاحبة بني محافظتي جرش وعامن‪ ،‬ومحافظة‬ ‫مادبا باعتبارها مدينة الثقافة لهذا العام‬

‫الشعرية مل يرق لهم العنوان عىل اعتبار‬ ‫أنه يناسب إعالناً تجارياً‪ ،‬أكرث من كونه‬ ‫عنواناً يليق بالشعر‪ ،‬إال أن آخرين رأوا‬ ‫يف هذا العنوان مقاربة ملضمون القصائد‬ ‫تتناسب مع نزعة أبو زيد إىل التجريب‪.‬‬ ‫هذا الديوان تناولت أخباره الصحافة‬ ‫املرصية‪ ،‬لكن موقع الجدل األسايس ظل‬ ‫يف الفيسبوك بني مرتادي موقع التواصل‬ ‫االجتامعي هذا‪.‬‬ ‫بالتوازي مع ذلك صدر الديوان يف طبعة‬ ‫أنيقة عن دار روافد للنرش والتوزيع‪.‬‬

‫‪11‬‬


‫شعر وشعراء‬

‫يوم للشعر والموسيقى‬ ‫والرقص في اإلمارات‬

‫ملتقى الشعر الخليجي في‬ ‫المنامة‬

‫أقامت هيئة أبوظبي للسياحة‬ ‫والثقافة‪ ،‬بالتعاون مع املنطقة‬ ‫الثقافية يف جزيرة السعديات‬ ‫وناشيونال جيوغرافيك رشيكاً‬ ‫إعالمياً‪ ،‬يوماً ثقافياً عىل هامش‬ ‫معرض ثقافات العامل الذي يستمر‬ ‫حتى الثامن عرش من هذا الشهر‪،‬‬ ‫وكان للقراءات الشعرية والشعر‬ ‫نصيب فيه إىل جوار فنون أخرى‪.‬‬ ‫وقد بدأت القراءات الشعرية‬ ‫مع الشاعر واملؤلف املرسحي‬ ‫واملمثل كايو تشينجوين «اململكة‬ ‫املتحدة» فقدم قصائد له ولسواه‬ ‫من الشعراء بطريقته املميزة يف‬ ‫األداء‪ ،‬كذلك قدم العازفان مولودي‬ ‫وإيتان ترون توليفة من اإليقاعات‬ ‫املوسيقية التي تنتمي إىل آسيا‬ ‫وأفريقيا وأسرتاليا وأمريكا الجنوبية‪،‬‬ ‫حيث تتصل هذه اإليقاعات‬ ‫بطريقة تقديم الشعر يف موطن‬ ‫كل موسيقي إىل الجمهور مبارشة‪،‬‬ ‫ويف السياق نفسه قدمت مجموعة‬ ‫من الراقصني والراقصات من الهند‬ ‫عدة رقصات مستلهمة من األساطري‬ ‫القدمية واألعامل الفنية النحتية‬ ‫الدينية والقصائد الكالسيكية‪.‬‬

‫يف إطار برنامج املنامة عاصمة الثقافة‬ ‫العربية ‪ ،2012‬أقامت وزارة الثقافة‬ ‫البحرينية "ملتقى الشعر لدول مجلس‬ ‫التعاون الخليجي"‪ ،‬يف املنامة منتصف‬ ‫الشهر املايض مبشاركة عدد من الشعراء‬ ‫البحرينيني ومن دول الخليج العريب‪ :‬عيل‬ ‫الشعايل "االمارات" وعائشة بنت محمد‬ ‫السيفية "عامن" وطالل الطويرقي‬ ‫"السعودية" باإلضافة إىل البحرينية‬ ‫بروين حبيب حيث شاركوا جميعا يف‬ ‫األمسية االفتتاحية‪.‬‬

‫فؤاد رفقة‬

‫فؤاد رفقة الغائب يحضر في‬ ‫ميونيخ‬

‫رمبا مل يتذكر أحد الشاعر الراحل فؤاد رفقة «لبنان»‪ ،‬الذي‬ ‫رحل يف الثالث عرش من أيار‪ /‬مايو العام املايض يف بريوت‪،‬‬ ‫غري أنه ولهذه املناسبة تحديداً قد احتفت به املدينة‬ ‫األملانية ميونخ‪ .‬فأقيمت الشهر املايض ويف الذكرى السنوية‬ ‫األوىل لرحيله‪ ،‬أمسية ثقافية أحياها مجلس الشعر يف‬ ‫العاصمة البافارية تكرمياً للشاعر‪ ،‬الذي كان جرساً بني‬ ‫الثقافتني األملانية والعربية‪.‬‬ ‫بدأت األمسية بكلمة للمديرة الحالية ملجلس الشعر يف‬ ‫ميونيخ ماريا غاتسيتي‪ ،‬ثم عرض فيلم تسجييل قصري‬ ‫تخللته لقطات لرفقة يف ميونخ‪ ،‬وبعض أمسياته وحواراته‬ ‫يف مجلس الشعر‪.‬‬ ‫من بني املتحدثني عن رفقة كان املثقف ميخائيل كروغر‬ ‫وبادر إىل القول‪« :‬صوت رفقة الشعري يذكرين بهايدغر‪،‬‬ ‫الذي طرح يف شعره موضوع الزمن واملكان أيضاً‪ .‬وبعض‬ ‫األحيان يذكرين بكافكا‪ ،‬الصوت املنخفض امليلء بالحزن‬ ‫والذي يدفع الروح إىل التأمل»‪ .‬وعن الثيامت التي اختارها‬ ‫صاحب «العشب الذي ال ميوت» يف قصائده قال كروغر‪:‬‬ ‫«ما إن قرأت قصائده حتى اتضح يل أن هذا الشخص عريب‬ ‫الخط واللغة لكنه أملاين الفكر»‪ ،‬مشرياً إىل دوره يف لفت‬ ‫االنتباه نحو كالسيكيات الشعر األملاين‪ .‬كام تحدث فؤاد‬ ‫آل عواد الذي ترجم بعضاً من قصائد رفقة إىل األملانية‪،‬‬ ‫عن اإلسهامات القيمة يف إيصال الشعر األملاين إىل القارئ‬ ‫العريب‪ ،‬هو الذي ترجم هولدرلني وريلكة‪ .‬وقال‪« :‬لو مل‬ ‫يكن رفقة شاعراً ملا نجح يف ترجمة الشعر األملاين إىل‬ ‫العربية»‬

‫ثقافات العامل‬ ‫‪12‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫عيل الشعايل‬

‫وتحدثت وزيرة الثقافة الشيخة مي‬ ‫بنت محمد آل خليفة يف االفتتاح‪،‬‬ ‫فأكدت "أن العمل الثقايف ينطلق من‬ ‫لبنة خليجية موحدة ومتنوعة بكل‬ ‫األصناف الثقافية والفكرية التي تساهم‬ ‫يف العطاء املغاير لكل اللغات الشعرية"‪.‬‬ ‫كام ألقى عبيد الشاميس كلمة األمانة‬ ‫العامة لدول مجلس التعاون لدول‬ ‫الخليج العربية قائ ًال‪ :‬إن "مملكة‬ ‫البحرين تساهم يف تفعيل العمل الثقايف‬ ‫املشرتك‪ ،‬واستمرار مثل هذه امللتقيات‪،‬‬ ‫يعد أصدق تعبري يف تعزيز العالقات‬ ‫املتبادلة الثقافية‪ ،‬ويريس روابط دول‬ ‫مجلس التعاون‪ ،‬بخاصة مع احتفالية‬ ‫املنامة عاصمة الثقافة العربية"‬


‫ملتقى يجمع الشعر إلى‬ ‫الفنون األخرى بتونس‬

‫غالف االسطوانة‬

‫«سقوط القمر»‪ :‬خليفة يعود‬ ‫أقامت جمعية مجاز للثقافة‬ ‫والفنون بالتعاون مع املعهد العريب ألشعار درويش‬

‫اختتم املؤلف املوسيقي واملغني مرسيل خليفة «لبنان‪61،‬‬ ‫لحقوق اإلنسان مبدينة مدنني‬ ‫«‪ 500‬كلم جنويب العاصمة تونس» عاماً» أخرياً‪ ،‬جولة فنية موسيقية شملت مناطق من‬ ‫الدورة األوىل مللتقى «ديوان الشعر األمريكيتني وأوروبا‪ ،‬وبعض البلدان العربية‪ ،‬قدم فيها عمله‬ ‫الجديد «سقوط القمر« من قصائد ملحمود درويش‪.‬‬ ‫والفنون» الذي هدف إىل البحث‬ ‫العمل عبارة عن أسطوانتني جديدتني تلتحم فيهام موسيقى‬ ‫عن عالقة جديدة للشعر ببقية‬ ‫خليفة مع شعر درويش‪ .‬يقول خليفة حول العمل‪« :‬يف هذا‬ ‫الفنون وخاصة املرسح حيث‬ ‫العمل تعود يب الذاكرة إىل صباح باكر من صباحات شهر آب‪/‬‬ ‫تم صناعة عروض شعرية جرت‬ ‫اغسطس من سنة ‪ ،1976‬إذ دخلت إحدى األستديوهات‪،‬‬ ‫مرسحتها يف إطار رؤية جاملية‬ ‫وسجلت «وعود من العاصفة» أوىل أعاميل من شعر محمود‬ ‫مختلفة‪ .‬امللتقى محاولة للبحث‬ ‫درويش‪ ،‬وكنت قد كتبت املوسيقى لهذه القصائد‪ ،‬وأنا يف‬ ‫عن صيغة بديلة لعالقة الشعر‬ ‫سجني القرسي يف ضيعتي «عمشيت» يف بداية األحداث؛‬ ‫باملنرب والتلقي‪ ،‬حيث بات من‬ ‫وبعد أخذ ور ّد ولقاءات مع مسؤويل رشكة األسطوانات‬ ‫الكالسييك جداً أن يصعد الشاعر‬ ‫الفرنسية أصدرت «وعود من العاصفة» يف أسطوانة‪ ،‬يف‬ ‫إىل املنرب ويقرأ شعره‪ ،‬ثم يتواىل‬ ‫احتفاالت صحيفة «اإلنسانية»‪ .‬ويتابع خليفة‪« :‬يف «سقوط‬ ‫الشعراء عىل املنرب ذاته فيقرؤون‬ ‫قصائدهم األمر الذي أحدث نوعاً القمر»‪ ،‬ويف هذه الجولة الجديدة‪ ،‬سنعلو مع شعر محمود‬ ‫درويش‪ ،‬حباً‪ ،‬ولن نستكني‪ .‬وليس لنا إ ّال الريح نسكنها؛‬ ‫من القطيعة مع التلقي‪.‬‬ ‫وقبل انعقاد امللتقى كانت إدارته ندمنها؛ نتنفسها‪ .‬أتذكر عوديت مع درويش ذات مساء من‬ ‫جنويب الجنوب؛ تقاسمنا الطريق وقطيع املاعز الذاهب إىل‬ ‫قد طلبت من الشعراء املشاركني‬ ‫حظريته يخفي ثغا ًء مبحوحاً من فرط وطأة املساء وكانت‬ ‫أن ال تتجاوز مدة قراءة القصائد‬ ‫الطريق مفتوحة عىل القرى املمتدة‪ .‬قال يل يومها‪« :‬ما أجمل‬ ‫تم نقل هذه‬ ‫العرشين دقيقة‪ ،‬ثم ّ‬ ‫املدونات الشعرية وكل مدونة إىل هذه البالد وهؤالء الناس الطيبني يحلمون بصياغة الحياة وال‬ ‫مرسحي بهدف االشتغال عليها يتوبون عن أحالمهم؛ يعشقون وال يأبهون من خسارة غدهم؛‬ ‫فنان‬ ‫ّ‬ ‫أعلن انتاميئ إىل جهاتهم»‪.‬‬ ‫سينوغرافياً‪ ،‬بحيث يكون الشاعر‬ ‫نحب الحياة»‪ ،‬و«اآلن‬ ‫ومن أغنيات «سقوط القمر»‪« :‬ونحن ّ‬ ‫رشط العرض األسايس‪.‬‬ ‫يف املنفى»‪ ،‬و«غيتارتان»‪ ،‬و«رسير الغريبة»‪ ،‬و«آه يا جرحي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫استضاف امللتقى طيفا واسعا من‬ ‫املكابر»‪« ،‬سقوط القمر»‪ ،‬و«يف دمشق»‪ ،‬و«م ّوال فلسطيني»‪،‬‬ ‫الشعراء واملرسحيني التونسيني‬ ‫و«قصيدة األرض»‬ ‫والعرب‪.‬‬

‫سيد أحمد الحردلو‬

‫رحيل الشاعر السوداني أحمد‬ ‫الحردلو‬

‫رحل الشهر املايض يف السودان الشاعر‬ ‫والدبلومايس السوداين املعروف سيد‬ ‫أحمد الحردلو عن ‪ 72‬عاماً أمضاها يف‬ ‫العمل الدبلومايس والصحفي والرتبوي‪.‬‬ ‫وقد ولد الحردلو عام ‪ 1940‬يف السودان‪،‬‬ ‫وحصل عىل بكالوريوس يف اللغة‬ ‫اإلنجليزية وآدابها عام ‪ .1965‬كان من‬ ‫أوائل الشعراء العرب الذين صدرت لهم‬ ‫األعامل الشعرية ضمن سلسلة شهرية‬ ‫عن دار العودة يف بريوت‪ ،‬وقد ارتبط‬ ‫مطلع السبعينيات بعالقات وثيقة بعدد‬ ‫من أبرز املثقفني والكتّاب العرب‪.‬‬ ‫عمل الحردلو محرراً ومراس ًال لبعض‬ ‫الصحف السودانية والعربية‪ .‬شارك‬ ‫يف العديد من املؤمترات الرسمية‪،‬‬ ‫واللقاءات واملهرجانات الثقافية‪ .‬وله‬ ‫مجموعة مؤلفات شعرية منها‪ :‬مقدمات‬ ‫‪ ،1970‬كتاب مفتوح إىل حرضة اإلمام‬ ‫‪ ،1985‬بكائية عىل بحر القلزم ‪،1985‬‬ ‫خربشات عىل دفرت الوطن ‪،1997‬‬ ‫الخرطوم يا حبيبتي ‪ ،1999‬أنتم الناس‬ ‫أيها اليامنون ‪ 1999‬إىل جانب الكثري‬ ‫من األشعار بالعامية السودانية‪ .‬وله‬ ‫مجموعة قصصية بعنوان «ملعون‬ ‫أبويك بلد»‪ ،‬وغريها من الكتب الشعرية‬ ‫بالعامية السودانية‪.‬‬ ‫‪13‬‬


‫شعر وشعراء‬

‫جزالة نحوية في «كم نحن…»‬ ‫الكتاب‪ :‬كم نحن وحيدتان يا سوزان‬ ‫الشاعر‪ :‬سعدية املفرح «الكويت»‬ ‫النارش‪ :‬الدار العربية للعلوم «نارشون» ‪ -‬بريوت‬

‫عدد الصفحات‪85 :‬‬

‫العنوان تشري داللته إىل الشاعرة والفنانة التشكيلية اللبنانية سوزان‬ ‫عليوان‪ ،‬ويف تقدميها للديوان تقول الشاعرة الكويتية سعدية مفرح‪:‬‬ ‫يول ُ‬ ‫ستدرجنا ُخ ُ‬ ‫ات‪َ ،‬تكمنُ لنا َ‬ ‫بواب‬ ‫« َت‬ ‫املرس ِ‬ ‫ُ‬ ‫األلف ِة نح َو ُج ِّب ّ‬ ‫خلف األَ ِ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫رسي يف حدائق معلق ٍة بسرُّ ِة السام ِء‪،‬‬ ‫املفتوح ِة ُجزئيا‪َ ،‬تدعونا لعشا ٍء ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫بقلم‬ ‫َتتهادى بني أشجا ٍر ال مرئي ٍة ُتو ِق ُظنا عن رؤى خرضاء وتستبدلها ِ‬ ‫ُ‬ ‫غنيات السيد ِة‬ ‫رصاص و َممحا ٍة و َتتذ َّم ُر بص ْم ٍت ُكلام َس َمعت ْـنا ُنغنّي أ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫العظيم ِة بنشا ِز أصوا ِتنا املتقاطع ِة‪ ،‬لكنها ُت ُ‬ ‫كمل ُخ ّطتَها الطفولي َة يف‬ ‫اللحظات‬ ‫َتعلي ِقنا عىل حبالِ الغواي ِة ُكلام َتضاح ْكنا يف َغفل ٍة من ْيأ ِس‬ ‫ِ‬ ‫ّرص ِم ُنداهنُ الكلامت واألَ َ‬ ‫لوان‬ ‫ا ُملتالحق ِة‪ .‬وحيدتانِ يف هَ دْأ ِة ُ‬ ‫الع ْم ِر ا ُملت ِّ‬ ‫َ‬ ‫غلق إال قلي ًال‬ ‫َنخرتعُ حروفاً جديد ًة للع ّل ِة و ُنودِعُ ها‬ ‫صندوق اللغ ِة ا ُمل ِ‬ ‫َن ُ‬ ‫تم‪َ ...‬ف ُ‬ ‫تزحف َنحونا أرسا ٌر»‪.‬‬ ‫ــك ُ‬ ‫تعتمد قصيدة الشاعرة عىل مباغتات شعرية ذات منحى حكايئ‪،‬‬ ‫حافظت فيه الشاعرة عىل أسلوبها مع يشء من التجديد يف آليات‬ ‫توصيل املعنى للقارئ‪ ،‬فقد بدت لغتها قياساً إىل أكرث من مثانية‬ ‫دواوين سابقة‪ ،‬أقرب إىل الرتكيز عىل الجزالة النحوية يف مسعى منها‬ ‫النتقاء مفردات سياقها الحكمة‬ ‫قصائد جذرها الحب‬

‫الكتاب‪ :‬اآلتية كغ ٍد مألوف‬ ‫الشاعر‪ :‬نشمي مهنا «الكويت»‬ ‫النارش‪ :‬مسعى للنرش والتوزيع‬ ‫عدد الصفحات‪ 88 :‬من القطع املتوسط‬

‫يف هذا الديوان الجديد القصائد قصرية ترفعها النربة الهادئة والفكرة‬ ‫املتأملة‪ ،‬جذرها جميعاً هو الحب الذي يشـغل القــصائد وشاعرهـا‪،‬‬ ‫ومن خالله نعرث عىل تلك النــظرة إىل العــامل برمــته‪ ،‬وإىل وعي‬ ‫الشاعر وإدراكه هذا العامل من خالل تفاصيل ال تلحظ غالباً‪ ،‬لكنها‬ ‫تتوهج حتى أنها تصري حياة القصيدة وسؤالها األسايس‪ .‬من أجواء‬ ‫القصائد‪« :‬كام الشاخص يف املرآة‪ /،‬مغدوراً أفاق من موته ‪ /‬يتحسس‬ ‫جسده ‪ /‬ليتيقن ‪ /‬أنه مغدور أفاق من موته ‪ /‬يتحسس جسده‪ /،‬وبال‬ ‫يقني ‪ /‬يفتش عن أثر للطعنات ‪ /‬أو ظرف رصاصة طائشة»‬ ‫‪14‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫بوح شعري في قمر يتخلّق‬ ‫الكتاب‪ :‬قمر يتخ ّلق من مجهول‬ ‫الشاعر‪ :‬عبد الله زهري «البحرين»‬ ‫النارش‪ :‬الدار العربية للعلوم نارشون‬ ‫عدد الصفحات‪ 101 :‬من القطع املتوسط‬

‫يف الكتاب بوح شعري يغوص يف جوهر‬ ‫األشياء‪ ،‬يبحث عن كنهها‪ ،‬مستهدفاً كل فكرة‬ ‫ثابتة وساكنة ليكرس من خاللها الثنائيات‬ ‫التي حكمت نظرتنا إىل مفاهيم متعددة يف‬ ‫الواقع ويف املثال‪ .‬فيكون الشعر معه وسيلة‬ ‫لفهم العامل ومعاناة البرش وتضميد جراحهم‪.‬‬ ‫فالشاعر يحمل بني ضلوعه جراحات العرب‬ ‫مآس‪.‬‬ ‫«فلسطني‪ ،‬لبنان‪ ،‬العراق»‪ .‬وغريها من ٍ‬ ‫يضم الكتاب قصائد متنوعة تراوحت بني الشعر املوزون‪ ،‬والنرث‬ ‫توزعت عىل مثانية أقسام تحت عدد من العناوين‪.‬‬ ‫من أجواء الديوان‪" :‬يف خدرت ِه َ‬ ‫كان كح ٍرب يتل ّوى‪ / ،‬يف أخدو ٍد أضيقَ‬ ‫األبواب‪ / ،‬يلوكُ‬ ‫َ‬ ‫من ُثقب اإلبر ِة‪َ / .‬‬ ‫الشحاذينَ ‪ / ،‬يج ُّر فراغ‬ ‫كان كمثل ّ‬ ‫ِ‬ ‫رساباً شبحياًّ ُيدعى وطنـاً‪ / .‬يف يقظت ِه أضحى ملكاً‪ / ،‬يتو ّغ ُل يف‬ ‫يسوس أعايل ما يف األرض وأسف َلها‪ / .‬ما بني الخدر ِة‬ ‫التاريخ‪/ ،‬‬ ‫جوف‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫تلتبس‬ ‫واليقظ ِة‪/ ‬‬ ‫املأتم ُ‬ ‫يختلط ُ‬ ‫بالع ِ‬ ‫رس‪ / .‬مابني الخدر ِة واليقظ ِة‪ُ / ‬‬ ‫ُ‬ ‫اليأس"‬ ‫يجلس َوعْدٌ ضو ٌّيئ‬ ‫اللحظ ُة ‪/‬‬ ‫يتداخل يف مايض ِ‬ ‫ُ‬ ‫اإلغريقي "كفافيس" مرة أخرى‬ ‫في االسكندرية‬ ‫الكتاب‪ :‬الحياة الثانية لقسطنطني كافافيس‬ ‫املؤلف‪ :‬طارق إمام (مرص)‬ ‫النارش‪ :‬دار العني ‪ -‬القاهرة ‪2012‬‬

‫يعود الشاعر اليوناين ‪ -‬االسكندري قسنطني كافافيس (‪)1933-1863‬‬ ‫إىل واجهة الحدث مع هذه الرواية التي تتناول حياة سليل الشعراء‬ ‫األغارقة يف مدينة االسكندرية‪ ،‬خالل النصف الثاين من القرن التاسع‬ ‫عرش‪ ،‬حيث كانت هذه املدينة كوزموبوليتية الطابع بسبب مينائها‬ ‫األكرث أهمية مبوقعه االسرتاتيجي عىل الساحل املتوسطي‪ ،‬فكانت‬ ‫تختلط فيها العادات والتقاليد بأمزجة شعوب عديدة وثقافاتهم‬ ‫وخاصة من شعوب البحر األبيض املتوسط‪.‬‬


‫تطرح الرواية عددا من األسئلة حول مفهوم "الهوية" متخذة‬ ‫من الشاعر الشهري واملثري للجدل منوذجاً لقدر غري قليل من‬ ‫األسئلة املعقدة‪ ،‬منها طبيعة عالقته كمغرتب‪ ،‬باملفهوم الثقايف‬ ‫األشمل الذي يحوي بدوره أكرث من منحى يعمق ذلك االغرتاب‪،‬‬ ‫ومنها مثليته وطبيعة أفكاره واختالفه حتى يف سياق القصيدة‬ ‫اليونانية التي كانت تكتب يف وطنه األم أثناء حياته‪ ،‬وعالقة كل‬ ‫ذلك بعيشه اليومي يف مدينة جنوب املتوسط متشعبة الطبقات‪،‬‬ ‫املتجاوزة لحدودها الجغرافية عىل املستوى الثقايف‪ ،‬والقلقة‬ ‫ً‬ ‫بدورها يف الوقوف عىل ملمح مينحها هويتها‪ ،‬التي ظلت دامئا غري‬ ‫املستقرة‪ ،‬ومستقطبة‪ ،‬بني أوروبيتها ومرصيتها‪.‬‬ ‫وبالتوازي بني كفافيس واإلسكندرية يتحرك الرسد كاشفاً عن‬ ‫العالقة امللتبسة بني الفرد واملكان‪ ،‬مع حضور لعدد غري قليل من‬ ‫الشخصيات‪ ،‬مختلفة الجنسيات واألطياف واملعتقدات‪ ،‬والكاشفة‬ ‫لعدد من جوانب كفافيس و"إسكندريته" يف نفس الوقت‬ ‫حافظ الشيرازي بالعربية‬

‫الكتاب‪ :‬حافظ الشريازي «جزء رابع» – شعر‬ ‫الشاعر‪ :‬حافظ الشريازي «إيران»‬ ‫املرتجم‪ :‬عمر شبيل «لبنان»‬

‫يف مثانينيات القرن املايض‪ ،‬وملدة تفوق العرشين عاماً هو الذي‬ ‫أمده بكل الوقت الالزم للتفكر واالشتغال‪ ،‬كام للتفاعل مع شعر‬ ‫حافظ واإلنتشاء بجاملياته‪ .‬أما اللفتة اإلنسانية األهم يف تقديم شبيل‬ ‫لرتجمته فهي إشارته اللامحة إىل أنه وجد يف شعر حافظ ما جعله‬ ‫يدفع بالرصاع السيايس الذي سجن من أجله إىل الهامش‪ ،‬ويرى يف‬ ‫مثل هذا الشعر تجاوزاً ملا س ّمي برصاع الحضارات‪ ،‬وتأكيد الوحدة‬ ‫الجوهرية بني بني البرش‪.‬‬ ‫تكشف الرتجمة عن الطبيعة اإلرشاقية والعرفانية لشعر حافظ‬ ‫الشريازي الذي ينأى عن العابر والعارض والشكيل ليالمس القيعان‬ ‫العميقة للنفس اإلنسانية‪ .‬لكل عبارة عنده باطن وظاهر ولكل عنرص‬ ‫طبيعتان‪ :‬إحداهام ميكن تلمسها بالحواس‪ ،‬واألخرى ال تدرك إال‬ ‫بالحدس والتأمل وكشوف البصرية‬ ‫"سيمياء الحلم" ‪ ..‬أو كيف يعيش الطير‬

‫الكتاب‪ :‬سيمياء الحلم‬ ‫الشاعر‪ :‬زهراء املتغوي (البحرين)‬ ‫النارش‪ :‬دار فراديس للنرش والتوزيع‬ ‫عدد الصفحات‪ 82 :‬من القطع املتوسط‬

‫النارش‪ :‬دار الطليعة بريوت ‪2012‬‬

‫املرتجم هنا يقدم هذا الشاعر بالفاريس‬ ‫كله ترجم ًة بالشعر‪ ،‬فقابل نصوص‬ ‫الشريازي بشكل شعري مقابل‪ ،‬أي‬ ‫استخدم الشكل العمودي للنص األصيل‬ ‫نفسه‪ ،‬مع ما تقتضيه الرتجمة من‬ ‫تقديم وتأخري للحفاظ عىل الوزن‪ ،‬ومع‬ ‫الحفاظ عىل املعاين والصور التي رسمها‬ ‫الشريازي‪ .‬وقد اعتمد املرتجم وضع‬ ‫النص الفاريس األصيل مقابل الرتجمة‪ ،‬ليستبني العارف ما فعله‪،‬‬ ‫ويدرك األسلوب الذي اعتمده للوصول إىل نص مواز‪.‬‬ ‫ُيعترب هذا النوع من الرتجمة نادراً لصعوبة أن يكون النص يف‬ ‫اللغة املنقول إليها موازياً للنص يف لغته األصلية‪ ،‬غري أن الرتجمة‬ ‫تقدم منوذجاً فريداً يف هذا الباب نظراً لنجاحها‪ ،‬إىل أن يتساءل‬ ‫املرء‪ :‬أين تع ّلم الشاعر عمر شبيل الفارسية عىل هذا النحو من‬ ‫االتقان؟ لكن تتبدد هذه الحرية إذ نكتشف عن أن وجوده يف‬ ‫السجون اإليرانية‪ ،‬ألسباب تتصل بالرصاع املرير بني العراق وإيران‬

‫بدءا من الغالف وانتها ًء بالقصائد‪ ،‬يتجىل الفارق يف تجربة املتغوي‪ .‬يف‬ ‫هذا الديوان تعالج الشاعرة الكثري من القضايا اإلجتامعية والسياسية‬ ‫يف قوالب متعددة تيش بالتنوع ونضج التجربة‪ .‬جاء يف قصيدة "عُ ْت َمةٌ‬ ‫"أفهم كيف ُ‬ ‫قفص النَّار‬ ‫ُّ‬ ‫والصور ُة َم ْق ُلو َبة"‪ُ :‬‬ ‫يعيش الط ُري ‪ /‬وحيدا يف ِ‬ ‫أعرف َّأن الصور َة ‪ /‬أيضاً مقلوبة ‪ /‬لكنِّي ال ُ‬ ‫‪ُ /‬‬ ‫ُ‬ ‫تدوزن‬ ‫أعرف ‪ /‬كيف‬ ‫بال َّرملِ ‪ /‬طفول َة عم ٍر؟ "‬

‫‪15‬‬


‫شعر وشعراء‬

‫السيّاب متأثر ًا بترجماته‬

‫الصلت وشعره‬ ‫لغة أميّة بن أبي ّ‬

‫الصلت ـ‬ ‫الكتاب‪ :‬الدّخيل واألثيل يف شعر أم ّية بن أيب ّ‬ ‫دراسة لغو ّية دالل ّية مقارنة‪.‬‬ ‫املؤلف‪ :‬نذير جعفر‬ ‫النارش‪ :‬الهيئة العامة السورية للكتاب ‪ -‬وزارة الثقافة‪،‬‬ ‫دمشق ‪2012‬‬

‫الكتاب‪ :‬بدر شاكر السياب‪ ،‬أصوات الشاعر املرتجم‬ ‫املؤلف‪ :‬حسن توفيق «مرص»‬ ‫النارش‪ :‬منشورات الدوحة الثقافية – الدوحة‬ ‫عدد الصفحات‪ 167 :‬من القطع املتوسط‬

‫عدد الصفحات‪ 232 :‬من القطع الكبري‬

‫عن الهيئة العامة السورية للكتاب صدر كتاب «الدخيل واألثيل يف‬ ‫شعر أمية بن أيب الصلت» ملؤلفه الناقد نذير جعفر ومراجعة د‪.‬‬ ‫الصلت‬ ‫صالح كزارة وهو يهدف إىل تأثيل الدخيل يف لغة أم ّية بن أيب ّ‬ ‫الشعرية‪ ،‬والكشف عن الظواهر الصوتية والنحوية والرصفية فيها‪،‬‬ ‫وبيان الصالت العميقة بني العربية وشقيقاتها من جهة‪ ،‬وتفاعلها مع‬ ‫الجوار الجغرايف والحضاري من جهة ثانية‪.‬‬ ‫الصلت الشعر ّية ُمشبعة باملؤثرات‬ ‫يرى املؤلف أن لغة أمية بن أيب ّ‬ ‫الحضارية عىل مستوى املفردة والرتكيب والداللة‪ ،‬بحكم قراءته كتب‬ ‫األولني‪ ،‬وإملامه أو اطالعه عىل اللغتني الرسيان ّية والعرب ّية كام ذكر‬ ‫القدماء من العلامء الثقات‪ ،‬مثل‪ :‬ابن س ّالم‪ ،‬وابن قتيبة‪ ،‬وابن دريد‪،‬‬ ‫واحتكاكه بشعراء وأعالم الحوارض الدينية والثقافية يف عرصه‪ ،‬وتن ّقله‬ ‫وارتحاله ما بني الشام والحبشة والبحرين‪.‬‬ ‫واأللفاظ الدّخيلة يف لغته كام يشري الكاتب عامل قوة ال ضعف‪،‬‬ ‫ودليل عىل مت ّثله للثقافات املجاورة من فارسية وروم ّية وحبش ّية‬ ‫وآرامية ّ‬ ‫وترشبها‪ ،‬وإعادة إنتاج مخزونها اللغوي وفق سياقاته‬ ‫ومنظوماته اللغوية واإليقاعية والغنائية‪ .‬وإن ما دُرس من هذه‬ ‫األلفاظ‪ ،‬مل ُت َقل فيه الكلمة األخرية بعد‪ ،‬وما مل يدرس آن له أن ُيؤثلّ‬ ‫السامية املعارصة من نتائج مهمة‪ ،‬وأن‬ ‫يف ضوء ما قدّمته الدراسات ّ‬ ‫التقص العلمي ال الهوى والتخمني واالفتئات والرجم‬ ‫يوضع عىل محك يّ‬ ‫يف الغيب‬

‫أحمد راشد ثاني‬ ‫يوميات جزائرية‬ ‫الكتاب‪ :‬جزائر حبيبتي‬ ‫الشاعر‪ :‬أحمد راشد ثاين‬ ‫النارش‪ :‬مركز سلطان بن زايد للثقافة واإلعالم‬ ‫– أبوظبي‬ ‫عدد الصفحات‪ 84 :‬من القطع املتوسط‬ ‫‪16‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫يف‬

‫هذا الكتاب يرى الشاعر والناقد حسن توفيق أن «دراسة‬ ‫مدى تأثر السياب «‪ »1964-1926‬بغريه قضية جديرة‬ ‫باالهتامم بعيداً عن أحاديث السياب نفسه عن تأثراته التي‬ ‫يجب أن نقرتب منها بيشء من الحذر فال نغفلها متاماً وال نصدقها‬ ‫متاماً»‪ .‬ويضيف توفيق يف مقدمة كتابه‪« :‬إن هذه التأثرات يجب أن‬ ‫تكون من خالل الدراسة املقارنة لقصائد السياب وغريه من الذين‬ ‫تأثر بهم»‪ .‬ويضم الكتاب مختارات من قصائد السياب وترجامته‬ ‫ألشعار ‪ 16‬شاعراً أجنبياً منهم اإلسباين فدريكو جارسيا لوركا واألمرييك‬ ‫إزرا باوند والهندي طاغور والرتيك ناظم حكمت واإليطايل أرتورو‬ ‫جيوفاين والربيطانيان يت إس إليوت وإديث سيتويل ومن تشييل بابلو‬ ‫نريودا‪.‬‬ ‫ويقول أيضاً‪ :‬إن السياب تأثر بشعراء عرب وأجانب يف مراحل تطور‬ ‫تجربته الشعرية وبخاصة يف الخمسينيات «يف مرحلة االلتزام املاركيس‬ ‫وما تالها» ناق ًال عن السياب قوله «وأكاد أعترب نفيس متأثراً بعض‬ ‫التأثر بكيتس من ناحية االهتامم بالصور بحيث يعطيك كل بيت‬ ‫صورة وبشكسبري من ناحية االهتامم بالصور الرتاجيدية العنيفة‪ .‬وأنا‬ ‫معجب بتوماس إليوت‪ ..‬متأثر بأسلوبه ال أكرث‪ ...‬وال تنس دانتي فأنا‬ ‫أكاد أفضله عىل كل شاعر»‪.‬‬ ‫وكانت ترجامت السياب قد صدرت ألول مرة عام ‪ 1955‬بعنوان‪:‬‬ ‫«قصائد مختارة من الشعر العاملي الحديث»‬

‫يف العام ‪ ،2007‬عندما كانت العاصمة الجزائرية عاصمة للثقافة العربية‪،‬‬ ‫دُعي الراحل أحمد راشد ثاين إىل هناك بوصفه شاعراً مشاركاً يف أحد‬ ‫املهرجانات وأقام ألسبوع ثم قام بتمديد إقامته أليام أخرى‪ .‬عاد بعدها‬ ‫إىل اإلمارات ويف جعبته كتاب‪« :‬جزائر حبيبتي‪ :‬عن أيام يف مدينة الجزائر»‬ ‫الذي أصدره مؤخراً مركز سلطان بن زايد للثقافة واإلعالم‪.‬‬ ‫يبدو الفتاً يف هذا الكتاب مقدرة الشاعر عىل التعبري عن مشاعره اإلنسانية‬ ‫العادية والبسيطة‪ ،‬ال وجود لتنظريات أو تأمالت يف أحوال الناس والبالد‬ ‫التي يطأها ألول مرة‪ .‬فقط كتب ما رأى وما شعر به‪ .‬ومن الواضح‪،‬‬ ‫تبعاً لبنية الحيك والكالم واألحاديث التي كان يخوضها الشاعر مع الناس‬


‫درويش وإيقاعاته‬

‫الكتاب‪ :‬التجريب وتحوالت اإليقاع يف شعر محمود‬ ‫درويش‬ ‫الناقد‪ :‬محمود مرعي «فلسطني»‬ ‫النارش‪ :‬مجمع اللغة العربية يف أكادميية القاسمي – باقة‬ ‫الغربية‬

‫اشتباك مشحون باأللم مع الواقع اليومي‬ ‫الكتاب‪ :‬كأنك تراك‬ ‫الشاعر‪ :‬إيهاب بسيسو‬ ‫النارش‪ :‬املؤسسة العربية للدراسات والنرش ‪2012‬‬ ‫عدد الصفحات‪ 200 :‬صفحة من القطع املتوسط‬

‫عدد الصفحات‪ 460 :‬من القطع الكبري‬

‫تناول مرعي يف بحثه هذا الجانب العرويض يف شعر محمود درويش يتخذ إيهاب بسيسو من الحرب عىل غزة ‪ 2009/2008‬محوراً أساسياً‬ ‫يف تشكيل صوره الشعرية لينطلق منها إىل مساحات أوسع من حاالت‬ ‫منذ أول مجموعة صدرت عام ‪ 1960‬حتى آخر مجموعة صدرت‬ ‫بعد وفاة الشاعر‪ .‬ويعترب هذا البحث الرائد األول من نوعه لشاعر االشتباك مع الواقع اليومي املشحون باألمل والحزن واملوت والغياب‪.‬‬ ‫فلسطيني‪ ،‬يتناول هذا الجانب من أعامل درويش الشعرية‪ ،‬ويقع يف وبهذا املعنى فإن «كأنك تراك» حالة شعرية تفتح أمام القارئ مجاالً‬ ‫مجلد ضخم‪ ،‬فيه عرض مستفيض لألوزان الشعرية ومزجها وتحوالتها خصباً للتأمل الذايت وقراءة املشهد الفلسطيني بلغة شعرية جذابة‬ ‫من دون تكلف‪.‬‬ ‫يف القصيدة الدرويشية‪.‬‬ ‫ويقول الدكتور ياسني كتاين‪ ،‬رئيس مجمع اللغة العربية يف أكادميية مشهد الحرب عند إيهاب بسيسو يستمد كثافته من تقاطع التجارب‬ ‫الفردية وحالة التأمل الذاتية التي صاغ من خاللها صوره الشعرية‪،‬‬ ‫القاسمي‪ ،‬يف سياق تظهريه للبحث‪« :‬هذا الكتاب هو أول دراسة‬ ‫وانطلق لينسج فضاء إنسانياً يرتكز عىل مفردات الحالة الفلسطينية‪.‬‬ ‫متكاملة للجانب العرويض يف شعر محمود درويش‪َ ،‬يبعث‪ ،‬عرب‬ ‫معالجة التجريب وتحوالت اإليقاع يف شعره‪ ،‬دفقة أخرى يف أوصاله يف الديوان فضاء ات عدة للوقت وحوارات مختلفة للذات الشعرية‬ ‫مع التفاصيل‪ ،‬يأيت هذا من خالل توظيف عميق لكثري من مشاهد‬ ‫تسهم يف خلوده عرب الزمان»‪.‬‬ ‫ويضيف‪« :‬لقد أسهم الشاعر العرويض محمود مرعي يف كتابه هذا‪ ،‬القلق واالنتظار والغياب وصوت القذائف والدَّوي يف القصائد‪ .‬أيضا‪ً،‬‬ ‫الديوان فرصة إضافية الكتشاف الحياة املنبعثة من أدق التفاصيل‬ ‫يف تعميق املعرفة بعروض الشعر لدى درويش‪ .‬واملؤلف من خرية‬ ‫الباحثني الذين يرشحهم تخصصهم للكتابة يف هذا امليدان؛ ملا تتسم وترجمتها إىل صور شعرية تحمل يف طياتها الكثري من معاين األمل‬ ‫به دراسته من ُّ‬ ‫والصمود والبقاء‪ .‬ففي ديوانه الجديد يرص إيهاب بسيسو عىل‬ ‫متكن وحذق وبراعة»‪.‬‬ ‫التمسك بالحياة رغم القذائف وصور‬ ‫ليختم كتاين بالقول‪« :‬مجمع القاسمي للغة العربية إذ يشيد‬ ‫املوت‪ ،‬وال يكف عن التقاط شحنات‬ ‫بهذا اإلنجاز‪ ،‬ويقدم هذا الكتاب للباحثني واملثقفني ومحبي شعر‬ ‫درويش‪ ،‬فإنه يتوقع أن يسد نقصاً بحث ّياً ملا فيه من إغناء وتعمق يف األمل من زخم األحداث رغم مشاهد‬ ‫الركام والدمار‪.‬‬ ‫شعر محمود درويش يف مختلف أبعاده ومستوياته‪ ،‬من حيث إن‬ ‫يأيت «كأنك تراك» بعد ثالث سنوات من‬ ‫املوسيقى تشرتك يف تشكيل القصيدة وآفاقها الداللية»‬ ‫الحرب عىل غزة‪ ،‬لكنه يقدم مزيجاً شعرياً‬ ‫تقصد مسبقاً تجربة الكتابة عن بلد عريب بات مميزاً بني الصور اإلبداعية والرؤية الفنية‬ ‫العاديني أنه قد ّ‬ ‫مؤملاً جداً ملتابعي أحواله من املثقفني العرب منذ مطالع تسعينيات القامئة عىل شعرية الرسد‪ .‬غري أن إيهاب‬ ‫القرن املايض‪ .‬وبدا أن ذكريات الناس‪ ،‬من عاملني يف فندق «ألبري بسيسو مل يشهد الحرب عىل غزة وإمنا‬ ‫األول» وجلساء مقاهي األرصفة والعابرين أن أحمد راشد قد عاش تفاصيلها من مكان اقامته يف بريطانيا‪ ،‬قبل أن يعود مطلع هذا‬ ‫اختارها مدخ ًال للحديث عن أحوال الناس املعيشية السائدة‪ ،‬إذ مل العام إىل فلسطني‪ ،‬أستاذاً لإلعالم يف جامعة بريزيت‪.‬‬ ‫يكن من الصعب عىل شخص مثل أحمد راشد‪ ،‬عُ رف مبيله لصناعة من الديوان‪« :‬أد ّون هذا الوقت ‪ /‬كأنني‪ / ...‬مسار حرب أسود عىل‬ ‫النكتة حتى لو عرب حديث عابر أن يعود من هناك بالكثري من ورق ‪ /‬أفلت من حريق األمكنة ‪ /‬ليبحث عام تركته القذائف يف‬ ‫املفارقات اليومية‪ ،‬التي تيش بالكثري من طبائع الشخصية الجزائرية األعني‪ /‬من ذكريات ‪ /‬وصور…»‪.‬‬ ‫سواء تلك التي كتبها‪ ،‬أم تلك التي نقلها إىل أصدقائه‬ ‫‪17‬‬


‫شعر وشعراء‬

‫مطاردة الحياة من مسافة تليق‬ ‫بالقصيدة‬

‫عن النسيان واأللم واآلخرين‬

‫الكتاب‪ :‬إجازة جريي‬ ‫الشاعر‪ :‬محمد اللوزي «اليمن»‬ ‫النارش‪ :‬مركز عبادي للطباعة والنرش‬

‫النارش‪ :‬دار بالثاي خينيس‪2012 -‬‬

‫الكتاب‪ :‬ملاذا ّ‬ ‫الشعر؟‬ ‫الشاعر‪ :‬خوان كوبوس ويلكينز‬

‫عدد الصفحات‪ 100 :‬من القطع الصغري‬

‫منذ مجموعته األوىل «الشباك تهتز ‪ ..‬العنكبوت يبتهج»‪ ،‬انحاز‬ ‫الشاعر اليمني محمد اللوزي لقصيدة نرث مشذبة؛ تصل إىل هدفها‬ ‫من دون استطرادات ال تخدم سياقها‪.‬‬ ‫باالحتكام لالسرتاتيجيا ذاتها؛ مع استثناءات قليلة سمحت بحضور‬ ‫بعض التداعيات غري املخلة؛ جاءت مجموعته الشعرية الثانية «إجازة‬ ‫جريي»‪ ،‬التي تشرتك أيضاً مع سابقتها يف توظيف املفارقة‪ ،‬بل والسعي‬ ‫إىل توليدها يف النصوص بدأب وقصدية‪.‬‬ ‫كام أنه يدفع لحظة الكتابة إىل التسلح بتفكري شعري ال يتنازل‬ ‫عن روح التهكم والسخرية؛ حتى يف النصوص التي تبدو معنية‬ ‫مبوضوعات ال تحتمل مزاج التهكم‪« :‬أصدقاؤك املوىت ‪ /‬أولئك الذين‬ ‫رست يف جنازاتهم ‪ /‬واحدا ً واحدا ً ‪ /‬يخافون اآلن عىل زوجاتهم منك ‪/‬‬ ‫أصدقاؤك املوىت ‪ /‬ماتوا وشبعوا موتاً ‪ /‬وأنت مل تشبع حياة»‪.‬‬ ‫وميكن ملن يقرأ نصوص املجموعة‪ ،‬االستنتاج بأن غواية الكتابة‬ ‫واملحرض األساس الذي يقود اللوزي إليها؛ هو متكنه من الوقوف عىل‬ ‫مسافة كافية من شؤونه الخاصة؛ لينقيها بعد ذلك من الذايت املفرط‬ ‫يف الخصوصية؛ وليمنحها أفقاً مجردا ً؛ يقبل التسلل برفق إىل املتلقي‪.‬‬ ‫األمر الذي مينح النص لكنته الشعرية‪ ،‬وقابليته للتعاطي القرايئ‪ .‬وهذا‬ ‫ما يخفق يف إنجازه بعض من يرصون عىل تسويق ما ال يعرث فيه‬ ‫القارئ عىل تلك الرشارة التي يود أن يحس بها تلمع بداخله‪.‬‬ ‫يف وقوف الشاعر أيضاً عىل مبعدة من مشاهد حياته الخاصة‪ ،‬ما‬ ‫يجعله يبدو كمراقب محايد‪ ،‬بوسعه أن يسخر من كل يشء‪ .‬كأن‬ ‫الحياة التي يتأملها تخص إنساناً آخر‪ ،‬ال تربطه به أية عالقة‪ ،‬إال‬ ‫باعتباره موضوعاً لقصائده‪« :‬السنوات التي عشتها ‪ /‬ليست لك ‪/‬‬ ‫أيها الشاعر ‪ /‬الذي لست أنت تعيش حياة غريك ‪ /‬وتكتب قصائد‬ ‫عن الحياة»‪ .‬أخريا ً‪ ،‬ال ميكن إغفال داللة استحضار املجموعة للثنايئ‬ ‫الكرتوين الذي اشتهر يف التلفاز بـ «توم وجريي»‪ .‬ليس ألن العنوان‬ ‫الذي يتصدرها مأخوذا ً من قصيدة «صيف توم»‪ ،‬بل ألن فعل‬ ‫املطاردة الالنهائية بني القط والفأر‪ ،‬يكاد أن يكون ثيمة محورية يف‬ ‫هذا العمل‪ ،‬حيث تدور مطاردة من نوع آخر بني الشاعر والحياة‬

‫أحمد سالمي‬

‫‪18‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫هي مجموعة شعريّة عن ال ّنسيان‪ ،‬واألمل‪ ،‬وعجز اإلنسان الحديث‬ ‫عن التواصل مع اآلخرين ومع نفسه ومحيطه‪ .‬واملفارقة هي أ ّن‬ ‫الخيط الذي أوصل إليها هو الّزهامير‪ ،‬ذلك املرض الذي يحول‬ ‫بني األشخاص الذين يصابون به والبقاء عىل اتصال مع الواقع‪:‬‬ ‫فمن خالل معرفته عن قرب بأشخاص أصيبوا بهذا املرض‪ ،‬خطرت‬ ‫للشاعر فكرة إعادة تعريف العامل عرب الشعر‪ ،‬أي أن يغدو الشعر‬ ‫وسيلة اتصال تُبنى عرب النسيان‪ .‬يطرح الشاعر فكرة النسيان‬ ‫باعتبارها تجربة الوجود األعمق‪ ،‬التي يرتتب عليها ايجاد طرق‬ ‫لغوية جديدة من أجل التواصل‪ ،‬ويستشهد بقصيدة للويس ثرينودا‬ ‫يقول يف ختامها‪« :‬أريد أن أقولها لك‪ ،‬فيام أبعد من الحب‪ ،‬يف‬ ‫النسيان‪ ،‬أح ّبك»‪ .‬وهذه التجربة الجديدة ال تبتعد كثريا ً عن الرؤية‬ ‫التي ينطلق منها الشاعر املوزع بني انتامءين‪ :‬أصوله اإلنجليزية‬ ‫ولغته اإلسبانية حيث يقول‪« :‬املابني هو مكاين‪ ،‬يف الحياة كام يف‬ ‫الكتابة»‪.‬‬ ‫ولد الشاعر عام ‪ ،1957‬أنشأ مؤسسة خوان رامون خمينيث‪ .‬تن ّوع‬ ‫إنتاجه بني الشعر واملرسح وال ّنرث‪ ،‬ت ُرجم إىل لغات عدة وأُنجزت‬ ‫حول أعامله الكثري من الدراسات‪ .‬من أعامله الشعرية األخرى‪:‬‬ ‫«حديقة موحلة» ‪ ،1981‬و«ج ّنة أم كتابة؟» ‪1998‬‬ ‫شعر من األرجنتين يصدر في المكسيك‬ ‫الكتاب‪ :‬قصائد مع ّلقة‬ ‫الشاعر‪ :‬رودولفو ألونسو «األرجنتني»‬

‫النارش‪ :‬منشورات جامعة بري ّركروثانا ‪2011‬‬

‫يضم هذا الكتاب قصائد ت ُنرش ألول مرة كتبها واحد من أبرز‬ ‫شعراء األرجنتني األحياء بني العامني «‪ »1993-1957‬وكذلك قصائده‬ ‫الحديثة‪ ،‬صادرا ً عن واحدة من أهم دور النرش يف القارة األمريكية‬ ‫الالتينية‪ .‬قدّم للديوان الشاعر الربازييل الشهري ليدو ايفو‪ ،‬الذي‬ ‫وصف رودولفو ألونسو بأنّه أحد أعظم شعراء أمريكا الالتينية‬ ‫املعارصين و«أمري املرتجمني»‬


‫«الفعل الشعري» الفرنسية‪..‬‬ ‫إلى غياب أبدي‬

‫ُتع ّد‬

‫مجلة «الفعل الشعري» ‪Action poétique‬‬ ‫أهم املجالت الشعرية‪ ،‬وأطولها عمراً‬ ‫واحدة من ّ‬ ‫وأعمقها تأثرياً يف املشهد الشعري الفرنيس الحديث‪ ،‬وهي مت ّثل‪ ،‬إىل‬ ‫جانب مجلة « شعر» التي يصدرها الشاعر ميشيل ديغي و«املجلة‬ ‫الفرنسية الجديدة»‪ ،‬مرجعاً ال غنى عنه ّ‬ ‫لكل من أراد أن يفهم‪،‬‬ ‫مسار تطور الشعر الفرنيس املعارص وتح ّوالته‪ .‬لقد باتت املجلة منذ‬ ‫انطالقها كمطبوعة شعرية نضالية بداية األمر«سنة ‪ »1950‬عىل يد‬ ‫كل من جريالد نيفو وجان مارليو؛ بعد إرضاب اّ‬ ‫ّ‬ ‫عمل املواىنء يف مدينة‬ ‫مرسيليا وحتّى لحظة توقفها «صدر العدد األخري منها يف الشهر املايض‬ ‫مصحوباً ب "دي يف دي" يضم مجموعة األعداد الكاملة التي صدرت‬ ‫خالل ‪ 62‬عاماً كونها تعد فضا ًء رحباً تعانقت فيه تجارب وتنظريات‬ ‫شعرية بالغة األهمية وشديدة التنوع»‪.‬‬ ‫التف حول الشاعر واملرتجم هرني ديلوي الذي رأس تحريرها منذ‬ ‫‪ ،1958‬عدد من كبار شعراء الفرنسية املعارصين مثل جاك روبو‪،‬‬ ‫بول‪-‬لوي روسو‪ ،‬ليونيل راي‪ ،‬فرانك فيناي‪ ،‬اميانويل هوكار‪ ،‬باسكال‬ ‫بوالنجيه‪ ،‬شارل دوبزينسيك‪ ،‬اليزابيث رودينسكو وغريهم ممن‬ ‫ساهموا بنصوصهم وترجامتهم يف إحداث تحوالت يف الشعر الفرنيس‬ ‫عىل مستوى األشكال والرؤى واملضامني‪ .‬واحتضنت املجلة عرب‬ ‫مسريتها الطويلة مختلف التجارب واألجيال والحساسيات الشعرية‪،‬‬ ‫فأعادت قراءة الرتاث الشعري الفرنيس واألورويب «الشعر اإلغريقي‬ ‫وشعر الرتوبادور وسواهام» وأولت اهتامماً كبرياً للرتجامت الشعرية‪،‬‬ ‫وهكذا قدمت «الفعل الشعري» ملفات حول شعر الرنجا اليابانية‪،‬‬ ‫وشعر الشامان الهنود‪ ،‬والشعر األمرييك‪ ،‬وشعر املستقبليني الروس‪،‬‬ ‫والشعر الكردي‪ ،‬وشعر السكان األصليني يف املكسيك‪ ،‬والشعر‬ ‫الهولندي‪ ،‬وشعر أمريكا الالتينية‪ّ .‬‬ ‫كل ذلك من دون أن تغفل الدرس‬ ‫النظري املفتوح عىل املناهج النقدية والحقول املعرفية الجديدة؛‬ ‫فأصبحت مبرور الزمن موسوعة حقيقية للشعر وقضاياه‪.‬‬ ‫تمثّل الفعل الشعري‪ ،‬إلى جـانب‬ ‫«شعر» و«المجلة الفرنسية الجديدة»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لكل من أراد أن‬ ‫مرجعـ ًا ال غنى عنه‬ ‫يفهم‪ ،‬مسار تطور الشعر الفرنسي‬ ‫المعاصر وتح ّوالته‬

‫يف كتابه «فعل شعري‪ ..‬من ‪ 1950‬إىل يومنا هذا»‪ ،‬الصادر عن‬ ‫دار فالماريون سنة ‪ ،1998‬يرسد الشاعر باسكال بوالنجيه فصول‬ ‫املغامرة الطويلة والغنية للمجلة‪ :‬رصاعها يف الستينيات ض ّد مجلة‬ ‫«تل كيل» الرافضة للشعر امللتزم‪ ،‬سنوات األزمة أمام تخلخل‬ ‫اليقينيات ووالدة حداثة شعرية جديدة يف فرنسا‪ ،‬دورها يف‬ ‫السجاالت واملعارك األدبية والفكرية الكربى مثل ثورة مايو ‪،1968‬‬ ‫وربيع براغ‪ ،‬والواقعية االشرتاكية وحرب فيتنام‪...‬الخ»‪ ،‬ثم انفتاحها‬ ‫عىل اللسانيات والتحليل النفيس‪ ،‬والتنظريات حول الشعر املوزون‬ ‫وقصيدة النرث والشعر الصويت وشعر الحاسوب والوسائط املتعددة‪.‬‬ ‫مثة جانب آخر يف تجربة املجلة ال ميكن إغفاله وهو ارتباطها منذ‬ ‫البدايات بالرصاعات السياسية واإليديولوجية التي شهدتها فرنسا‪،‬‬ ‫فمؤسسوها كانوا عدداً من الشعراء اليسار ّيني املنحدرين من‬ ‫أوساط شعبية‪ ،‬واملتأثرين بشعر املقاومة «ضد االحتالل النازي‬ ‫لفرنسا» والتجربة السوريالية‪ ،‬واملنحازين لشعر ملتزم بالقضايا‬ ‫االجتامعية والناشطني يف تأييد ودعم حركات التحرر من االستعامر‬ ‫يف خمسينيات وستينيات القرن العرشين‪ .‬يؤكد هرني ديلوي يف‬ ‫أحد حواراته ّ‬ ‫"أن النشاط السيايس ال يعني يف نظره أن يكون الشعر‬ ‫ملتزماً بالرضورة‪ ،‬فالشاعر يكتب ما يريد وإن كانت هنالك فرتات‬ ‫يجد الشاعر نفسه فيها منخرطاً يف أوضاع ومواقف ال ميكنه معها‬ ‫رس قدرة املجلة عىل‬ ‫أن يغفل محيطه وسياقه االجتامعيني"‪ .‬ولعل ّ‬ ‫الصمود واالستمرار طوي ًال يكمن يف هذا التقارب الفكري وعمق‬ ‫الصداقة التي جمعت بني هيئة تحرير املجلة وكتا ّبها‪ ،‬إضافة إىل‬ ‫قدرتها عىل التطور واالستجابة للتحوالت الشعرية والثقافية‪.‬‬ ‫وتشهد باريس يف السادس عرش من هذا الشهر‪ ،‬وبدعوة من رئيس‬ ‫تحرير املجلة ندوة تستعرض دورها وتاريخها مبشاركة برنار نويل‪،‬‬ ‫اميانويل هوكار‪ ،‬جريوم غام‪ ،‬اريك سوشري وآخرين‬

‫وليد السويريك‬ ‫‪19‬‬


‫شعر وشعراء‬

‫آالم طويلة‬ ‫كظالل القطارات‬ ‫عبد العزيز جاسم‪ ..‬شعرية غضب وندم‬

‫يقرتن‬

‫هذا الكتاب َ‬ ‫بآخر للشاعر ذاته صدر‬ ‫عن هيئة أبوظبي للثقافة والرتاث –‬ ‫وطر»‪،‬‬ ‫مرشوع قلم يف السنة ذاتها بعنوان‪« :‬افتح تابوتك ِ‬ ‫وال يجمعهام معا سوى أمرين يتعلقان بالصنيع الشعري‪:‬‬ ‫يتمثل األول منهام يف سعي الشاعر إىل كتابة خاصة ومتفردة‬ ‫يف كتابة قصيدة النرث عربياً وليس عىل املستوى اإلمارايت‬ ‫فحسب‪ ،‬يف ما يتمثل الثاين باملوقف النقدي – الفكري من‬ ‫العامل واملعرفة ومن املحيط والبيئة بكل عنارصهام املتعينة‬ ‫يف الكائنات الح ّية والجامدة‪.‬‬ ‫ال يعني ذلك وجود نسق فلسفي محدد او متبلور وال حتى‬ ‫خيط فلسفي ناظم للقصائد يف العملني معاً بل توجد يف‬ ‫الخلفية البعيدة لـ «املشهد الشعري»‪ ،‬إذا جاز التوصيف‪،‬‬ ‫جملة أفكار «أدبية ‪ -‬نصية» هي أساس ذلك املوقف‬ ‫النقدي‪ ،‬لكنّ تجلياتها مشغولة بأدوات التخييل الشعري‬ ‫وصوره التي تفاجئ يف أماكن عديدة من القصيدة فتيش‬ ‫ب َق ْدر كبري من الغضب يف «آالم طويلة كظالل القطارات»‬ ‫كام تيش بالقدر نفسه من الندم يف «افتح تابوتك وطر»‪،‬‬ ‫لكن االثنني معاً يختلطان مبشاعر أخرى كاألمل بالدرجة‬ ‫األوىل ثم العتب والوهن الروحي الذي يؤجج رصاعاً بني‬ ‫الذات الساردة يف القصيدة و«ذاتها» أي بني الشاعر وذاته‪:‬‬ ‫تس ُعني‪ ،‬أو لعيل مل أكن َأس ُع‬ ‫"مل تكن الحيا ُة امللول ُة هذه َ‬ ‫الحياة! الواحد منّا كان يضيق باآلخر‪ :‬يكنس خطوه ويهيل‬ ‫الرصاص بني‬ ‫الغبار عىل أ َثره‪ .‬أو رمبا شخصاً ثالثاً‪ ،‬كان يطلق‬ ‫َ‬ ‫كتفينا ويف ّرق ما بيننا‪ .‬كان هذا العدو وأقول‪ :‬رمبا نفيس أو‬ ‫الحياة‪ ،‬أو شخص ثالث يعمل يف الخفاء كمن يحفر نفقاً يف‬ ‫رئتي"‪ .‬يقول عبد العزيز جاسم يف قصيدته «من أنت فينا‬ ‫أيها العدو؟»‪.‬‬

‫‪20‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫تتجىل نربة الغضب يف هذا الديوان يف تلك التعابري‬ ‫واأللفاظ التي يتجرأ عبد العزيز جاسم عىل استدخالها‬ ‫إىل منت القصيدة‪ ،‬تعابري من ذلك النوع الذي تهرب منه‬ ‫الذائقة الشعرية السائدة سواء يف قصيدة النرث أو القصيدة‬ ‫املوزونة‪ ،‬ومتثل بداية ذلك الخيط الذي يقود قارئ الديوان‬ ‫إىل برئ الغضب ذاك إذ يتفجر وينكشف وكأن النص‪ ،‬كلام‬ ‫استبطن استوضح والعكس صحيح‪ ،‬يف الوقت نفسه الذي‬ ‫يلحظ القارئ أن «الذات» الشاعرة يف هذا الديوان قد‬ ‫استطاعت تجريد الحياة والتجربة املخيضة فيها عرب عمر‬ ‫كأنه ألف عام‪ ،‬وفقاً لتعبري الشاعر شارل بودلري تقريباً‪،‬‬ ‫من كل تفاصيلها الخف ّية واملرئية عىل نحو ما كان يصنع‬ ‫التعبرييون الفرنسيون يف الطبيعة فيجردونها إىل أشكالها‬ ‫شعب من األسامك‬ ‫الهندسية األوىل‪:‬‬ ‫"شعب من القصائد‪ٌ .‬‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫النقي‪ ،‬املعطر‪ ،‬واملجروح‬ ‫امللونة والقتىل‪ .‬هذا هو دمي ّ‬ ‫ك ِع ْرق الذهب يف ساحة الكالب‪ .‬هذه هي أريض الوحيدة‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫طلل األختام‪ ،‬يف الكأس والجمرة واملعنى‪ .‬وهذا هو مجدكم‬ ‫املتفحم‪ ،‬كرأس مومياء فوق الحا ّفة الحافية"‪.‬‬ ‫غري أن مزاج الشعر يف «افتح تابوتك وطر» يختلف‪ ،‬وبعيداً‬ ‫عن «آالم طويلة كظالل القطارات»‪ ،‬فهو ليس أرسطياً‪ ،‬إال‬ ‫أنه تحوير ما ملعنى الشعر عند أرسطو‪ .‬فالشاعر مل يأخذ‬ ‫من الرشوط األرسطية القاسية الستة سوى اثنني منها‬ ‫ليقلبهام رأساً عىل عقب‪ :‬الرتاجيديا تأيت هنا بصفتها تعبرياً‬ ‫عن «الذات» التي تكتمل فرديتُها املتعالية فيام تواجه‬ ‫العامل‪ ،‬فاملصري الفردي‪ ،‬ثم النشيد‪ ،‬الذي جعل منه الشاعر‬ ‫إصغاء عميقاً من ِق َبل الفرد لذاته وملا هو خفي ويع ّز عىل‬ ‫التوصيف يف تجربة مرور اإلنسان بالعامل والوجود‪ .‬وقد‬ ‫امتزج هذا النشيد بغنائية نرثية‪ ،‬تقوم عىل َن َفس رسدي‬


‫الكتاب‪ :‬آالم طويلة كظالل القطارات‬ ‫الشاعر‪ :‬عبد العزيز جاسم «اإلمارات»‬ ‫النارش‪ :‬املؤسسة العربية للدراسات‬ ‫والنرش ‪2011‬‬ ‫عدد الصفحات‪ 195 :‬من القطع‬ ‫املتوسط‬

‫ملحمي‪ /‬شخيص طويل‪ ،‬وإحساس رفيع ومهذب بقيمة‬ ‫املوسيقى يف النرث الفني املحض‪.‬‬ ‫أهم قصائد الديوان‪:‬‬ ‫يدور الحديث هنا عن واحدة من ّ‬ ‫«أوبرا ملدينة يف الطنجرة»‪ ،‬التي استغرقت خمسني صفحة‬ ‫من كتاب جاء يف مئة وخمسني صفحة‪ .‬حتى أنه‪ ،‬عىل رغم‬ ‫العنوان الته ّكمي‪ ،‬إال أنها تتجاوز منطق الجغرافيا وحدودها‬ ‫الشعرية لتح ّلق يف الفضاء الواسع للغة العربية‪ ،‬ثم لتضيف‬ ‫إىل املنجز املهم لقصيدة النرث العربية ما وسعها أن تضيف‪.‬‬ ‫يشعر القارئ أن القصيدة تقوم عىل بنية موسيقية نرثية‬ ‫بالتأكيد‪ ،‬لكنّ قراءتها يف «عزلة مضاءة» تجعل من هذه‬ ‫البنية املوسيقية متخ َّيلة ومختلفة باختالف إعادة القراءة‬ ‫وعاداتها لدى القارئ الفرد‪ ،‬لكنّ هذا األمر بدا ذكياً أيضاً‬ ‫يف املعنى التّقني لكتابة القصيدة وتقطيعها إىل بنية نصية‬ ‫تقوم عىل «دو ري مي فا صو ال يس»‪ ،‬إمنا ليس عىل‬ ‫يرص‬ ‫الرتتيب‪ ،‬فمنها ما هو محذوف متاماً ومنها الـ «ال» التي ّ‬ ‫عليها الشاعر أكرث من مرة لتأخذ بالتايل تأويالت من نوع‬ ‫آخر وبصوت آخر حيث تكون «الذات» ذاتاً واحدة م ّر ًة ثم‬ ‫تنشطر إىل «ذوات» أخرى عدة كأمنا هي جوقة يف الصوت‬ ‫وصداه‪ ،‬أو لتتوارى «الذات» خلف ضمري الغائب‪.‬‬ ‫غري أن الشعر يف القصيدة‪ ،‬يف جوهره املخاتل‪ ،‬ليس سوى‬ ‫تصفية حساب عميقة مع األمل والذات والعامل‪« :‬كان يقف‬ ‫يف غياب روحه؛ روحه التي هي وجه نوح يف الطوفان‪.‬‬ ‫يفرتس سأمه ويرمي بعظامه للقرف الذي يعوي»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تقوم هذه القصيدة «أوبرا ملدينة يف طنجرة» أساسا عىل‬ ‫ّأن الحياة هي تجربة إنسانية فردية فيها اختالط املصائر‬ ‫باملصادفات ثم اصطدام روح بالكتل اإلسمنتية الصلبة‬ ‫والقوى الغامضة التي تسعى بدأب إىل قذف كل ما هو‬

‫متفرد بذاته وكينونته إىل خارج املجرة ذاتها‪ ،‬ال العامل‬ ‫فحسب‪.‬‬ ‫أيضاً‪ ،‬ليس الغموض هو الجذر الكامن يف أصل هذا الشعر‬ ‫بل خليط القلق والحزن من ذلك النوع الذي يو ِرث رصاخاً‬ ‫يأخذ شكل الرغبة ببوح صامت‪ .‬غري أن التحديق فيه‪،‬‬ ‫وقراءته بطريقة مائلة‪ ،‬يجعالنه يقول شيئاً ما يدركه كل‬ ‫قارئ بحسبه‪ .‬ألنه شعر مراوغ و ُمتط ّلب ويستدعي القراءة‬ ‫ألكرث من مرة‪ ،‬أي يستدعي أن يخوض املرء أكرث من تجربة‬ ‫جاملية مع هذا القول الشعري إلدراك خصوصيته بسبب‬ ‫هذا التدفق يف الصور وغزارة إنتاجها شعرية ما‪ ،‬رمبا تكون‬ ‫شعرية األمل بامتياز‪ ،‬بل شعرية ندم ما أيضاً‪.‬‬ ‫ويستفيد عبدالعزيز جاسم يف قصيدته‪ ،‬مثلام يف قصائد‬ ‫أخرى كثرية يف الكتاب‪ ،‬من املنطق الشعري لألسطورة‬ ‫ُ‬ ‫«لحاظ َك يا حور‪.‬‬ ‫القدمية السابقة عىل الديانات التوحيدية‪:‬‬ ‫َ‬ ‫أذرعتك الصلبة يا سنديان‪َ .‬شعرك ُ‬ ‫ُبي يا شرِ بني‪ .‬أفخاذك‬ ‫الشه ُّ‬ ‫امللساء يا صندل‪ .‬قل ُبك الف ّياض يا أرز‪ .‬حليبك يا دردار‪.‬‬ ‫َ‬ ‫رحمك الخشبي!»‪.‬‬ ‫وأنت يا بلوط‪ ،‬احفظ ما تب ّقى منا يف‬ ‫القصيدة ذهاب ومجيء لذات تتجول يف أرجاء متعددة من‬ ‫التاريخ‪ ،‬أكرث مام هو بني ماض وحارض‪ ،‬لكن االختصار أو‬ ‫التجريد هو الذي ميحو الحدود الدالة عىل ٍأي منهام‪ .‬أيضاً‪،‬‬ ‫وعىل مستوى تقنية كتابة قصيدة النرث‪ ،‬فإن من الواضح‬ ‫أن لدى الشاعر عبدالعزيز جاسم مسعى ما‪ ،‬ال إىل تطوير‬ ‫أدواته الشعرية الخاصة وحدها‪ ،‬بل إىل اإلسهام يف تشكيل‬ ‫وعي مختلف بقصيدة النرث عربياً‪.‬‬

‫جهاد هديب‬ ‫‪21‬‬


‫شعر وشعراء‬

‫«حطب»‪ ..‬عتبة الفقدان‬ ‫الكتاب‪ :‬حطب‬ ‫الشاعرة‪ :‬كواللة نوري «العراق»‬ ‫النارش‪ :‬دار آراس للطباعة والنرش ‪ -‬أربيل‬ ‫عدد الصفحات‪ 80 :‬صفحة من القطع املتوسط‬

‫ُّ‬ ‫يستهل‬

‫هذا الديوان مجراه الشعري بقصيدة‬ ‫تتمحور حول عنرص«الورد» «ملن أهدي‬ ‫الورود؟»‪ ،‬مهداة إىل السيدة ناتاشا بائعة الورود التي‪:‬‬ ‫«تغيب طوي ًال بني زهورها ‪ /‬بعينيها السامويتني ‪ /‬بسنيها‬ ‫الذهبيني ‪ /‬تبتسم أحياناً وحدها ‪ /‬ال تغلق بابها أبداً‬ ‫بوجه الثلج» وينتهي بقصيدة «غري أنيس» التي تستقطب‬ ‫موضوعة القراءة وأشكال التعبري الجاميل‪« :‬يستسلم كل‬ ‫هذا الشتاء السيبريي ‪ /‬لثورة التخمد‪ / ،‬لجليس غري أنيس…‬ ‫كتابك»‪.‬‬ ‫إن القول الشعري‪ ،‬يتخري متثيل عنارصه وتجسيد مقوماته‬ ‫يف فضاء مخصوص‪ :‬الفضاء الرويس‪ .‬مستثمراً ما متده به‬ ‫طبائع أفراد هذا الفضاء وبيان طبيعته الحية‪ ،‬من تخييالت‬ ‫تنثال عىل كيان الذات الشاعرة انثيال الثلج من السامء‬ ‫إىل األرض بحيث مل يبق أمام العملية اإلبداعية وتشكلها‬ ‫اإلنتاجي إال انتقاء ما يطابق الغرض الذي إليه يؤول املعنى‪.‬‬ ‫نربهن عىل هذا الكالم بالقصيدة األوىل ومحاكاتها ملحيك‬ ‫ناتاشا الروسية التي متتهن بيع الورد وحوارها املسرتسل‬ ‫بضمري املتكلم املؤنث؛ ضمريان يتضايفان ليكونا معاً صوتني‬ ‫رسديني يتألف منهام املشهد الشعري ومؤرشاته الخطابية‪.‬‬ ‫إن الداللة السياقية للنص توحد هذه املعاين يف النفي‬ ‫واإلرضاب والعدمية املفضية إىل اإلحساس بدنو املوت وقرب‬ ‫حدوثه‪« :‬لن يتأخر املوت ‪ /‬سيأيت مبكراً ‪ /‬وسأعد له ديوين‬ ‫عىل الحياة» لتكون املحصلة النهائية لهذا الرتاكم يف املعنى‬ ‫مجسدة يف تلك الثنائية الرسمدية التي طاملا أ ّرقت العامل‬ ‫الداليل للذوات سواء يف تباشري عاملها الصغري‪ ،‬أو يف هباء‬ ‫عاملها الكبري وهي ثنائية‪ :‬الحياة «مقابل» املوت‪.‬‬ ‫وتتشعب هذه الوحدة الداللية يف معظم النصوص الشعرية‬ ‫التي يشتمل عليها الديوان ويجري تحققها بصور مختلفة‬

‫‪22‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫وبتقنية أسلوبية متنوعة بدءاً من املوت نفسه ومجازاته‬ ‫االنشطارية‪« :‬املوت كأس الكسور العرشية تقسم روحي»‪،‬‬ ‫أو ما تؤرش عليه أعيانه كالشاهدة واللحد والحداد وشظايا‬ ‫الرصاص وسواها التي غالباً ما تظهر يف مرسح أحداث‬ ‫العراق‪ ،‬وما يعمر ترابه من حقيقة فظة للفواجع وحصاد‬ ‫سخي لألرواح‪« :‬قد ينظر الله للعراق من هوة ‪ /‬وينفخ‬ ‫ببعض الربد ‪ /‬أو بعض الوقت لنغري كسوة الحداد ‪ /‬كسوة‬ ‫الصباح واملساء ‪ /‬كسوة الصيف والشتاء والعقود الثالثة»‪.‬‬ ‫وإذا اعتربنا أحوال الشعراء غري جميلة يف األكرث‪ ،‬فإن توظيف‬ ‫املحيك الذايت والسريي لغرض تشخيص مدارات التخييل‬ ‫الشعري‪ ،‬ميكن اعتباره يعكس جانباً من هذه الحال ما دام‬ ‫يسم نربة صوت ضمري املتكلم املؤنث بطابع الجمع بني‬ ‫األضداد واستيحاء وشومات الطفولة ومرابع الصبا من أصل‬ ‫كردي وبيئة العراق‪« :‬ورثت من أيب الكردي تعاريف البلح ‪/‬‬ ‫ومن الرصاص تعلمت اإللحاح ـ وأحيانا ـ الطيش»‪.‬‬ ‫إن رسيان هذه القسوة الوجودية يحثها‪ ،‬بعد مناوبة‬ ‫الفشل واليأس‪ ،‬عىل االستغاثة والنداء والدعاء واالحتامء‬ ‫بفكرة املطلق للتعبري عن الخيبة والقطيعة مع املوجودات‪:‬‬ ‫«‪...‬ريب ‪ /‬إذا سألك عبادك عن وجهتي ‪ /‬فأنا بعيدة»‪.‬‬ ‫صحيح أن هذا النداء املبتور األداة ال يذهب مصريه سدى‬ ‫وال زبده جفاء ألن القارئ تستبني لديه بالتجيل كيف تدخل‬ ‫الذات يف البعد والنأي يف كون الغربة ويف املنفى بكل‬ ‫جراحاته التي يشتمل عليها‪ ،‬ومتزقاته التي يفرتضها‪ .‬فيتلبس‬ ‫الكائن الذي يتحدث منط هذا الوجود املؤمل‪ ،‬ويسكن بيت‬ ‫اللبس القائم بني دراما املسافة ودهشة الفضاء‪ ،‬أو بني‬ ‫البقاء عىل عتبة املكان «الجهة» وعتبة املسافة «البعد»‪،‬‬ ‫أو بني سؤال الرشط وجزائه كإشكال توسطي لالتصال بني‬ ‫شيئني‪.‬‬

‫الطائع الحداوي‬


‫قصائد باريس‬ ‫تدوين سيرة المكان‬ ‫الكتاب‪ :‬قصائد باريس‬ ‫الشاعر‪ :‬الياس لحود «لبنان»‬ ‫النارش‪ :‬دار الفارايب – بريوت ‪2012‬‬ ‫عدد الصفحات‪ 120 :‬من القطع املتوسط‬

‫َيرمق‬

‫نصاً‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫الشاع ُر‬ ‫ني بالغية‪ ،‬مفطورة عرفت كيف تنتشل الفلسفة من برئ الحقيقة‪ ،‬وتقدّم ّ‬ ‫املكان البارييس بع ٍ‬ ‫يندلع‪/‬‬ ‫عىل الرتميز‪ ،‬ومنسجمة مع املجاز‪ ،‬مستحرضاً مجنوناً ال ينتمي إىل منط أديب بعينه‪« :‬رأينا زمناً ُ‬ ‫اندلع نيتشة يف الحجارة‪ /‬انهم َر علينا غابرييل غارسيا ماركيز‬ ‫ورسامني وفالسفة غابوا عن عاملنا‪ ،‬لكنّ أرواحهم‬ ‫َ‬ ‫صور شعراء ّ‬ ‫ّ‬ ‫من خريف سقو ِفنا‪ /‬سمعنا لوركا ونريودا يومئان من رعشة‬ ‫ظ ّلت عالقة عىل األشياء حولنا‪ ،‬يوقظها الشاعر من سباتها‪،‬‬ ‫ربيع بارع‪ .‬قسنا رصخ َة محمود درويش‬ ‫ويقتفي أثر خطوا ِتها يف مقاهي باريس ومتاحفها وحدائقها‪ .‬دولوز املع ّلقة يف ٍ‬ ‫يدمج لحود ّ‬ ‫باألعامر املصفودة»‪ .‬ويف قصيدة أخرى بعنوان «بيت بودلري‬ ‫الشخيص باألديب‪ ،‬والذايت باملوضوعي‪ ،‬جاع ًال‬ ‫تتقاطع فيها الذاكرة مع املخيلة‪ ،‬يف استجابة الشعري» يستخدم الشاعر املناسبة منطلقاً لرؤيته الشعرية‪،‬‬ ‫القصيدة بؤرة‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫جاملية لنداء املشهد الشعري‪ ،‬وربط سرية املكان بشخوصه‪ ،‬راسام مالمح املشهد مبفردات مفعمة بالحنني‪ ،‬كمن يعيد‬ ‫ترتيب أجزائه وحجارته وزهوره‪ ،‬مستحرضاً روح بودلري يف‬ ‫مهتدياً باملشكاة الجربانية التي تقوده يف رحلته الرؤيوية‪،‬‬ ‫ياسمينة بيضاء وحيدة‪« :‬هنا كان بيته‪ /‬ال يف قرص وال يف‬ ‫كام يشري العنوان الفرعي «سرية باملواكب الجربانية»‪.‬‬ ‫ال ُ‬ ‫قرب‪ /،‬هنا كان بيته عىل مقربة من جان جينيه‪ /‬يف هذه‬ ‫يفلت الشاع ُر من االستعارة الجربانية يف معظم قصائده‪،‬‬ ‫الشوك وحدها»‪.‬‬ ‫الياسمينة املنصوبة يف‬ ‫ونراه ينزع إىل التعبريية الذاتية‪ ،‬وإطالق العنان لعاطفته‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫لكن قصيدة لحود تعمد إىل استحضار روح ّ‬ ‫الشخصية‬ ‫وتلوين جملته بإيقاعات نفسية ووجدانية عارمة‪ .‬لكنّه‪،‬‬ ‫باملقابل‪ ،‬يق ّوض ّ‬ ‫األدبية‪ ،‬والتع ّرف إىل مالمحها من خالل مالمسة منجزها‬ ‫كل أث ٍر للروحانية الجربانية‪ ،‬ويتع ّمدُ ‪ ،‬ربمّ ا‪،‬‬ ‫الفني ذاته‪ ،‬كام يف قصيدته «الطريق إىل غريب كامو»‪،‬‬ ‫كرس الصفاء اإلنجييل الذي مي ّيز االبتكار الجرباين‪ .‬يحاول‬ ‫لحود االنفتاح عىل فوىض الحضارة الحديثة‪ ،‬ونقل قساوتها التي تسرب ثيمة االغرتاب الروحي التي لطاملا افتنت بها كامو‪،‬‬ ‫أو نبضها إىل قارئه‪ ،‬لكنّه‪ ،‬يف املجمل‪ّ ،‬‬ ‫ويقتبس شيئاً من نربتها‬ ‫فيلج لحود إىل رواية «الغريب»‪،‬‬ ‫يظل حذراً من‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫«أعرف ّأن ّ‬ ‫ُ‬ ‫الطريقَ‬ ‫متوجساً من كرس حكمة البالغة الكالسيكية التي يف قراءته الرمزية لشخصية كامو نفسه‪:‬‬ ‫التجريب‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫تطول وتحف ُر يف ّ‬ ‫مت ّيز أسلو َبه‪ّ ،‬‬ ‫الشج ِر املتنايئ اكتشافاتها حيث تعلو‬ ‫مفض ًال موسيقى التفعيلة عىل إيقاع النرث‪ ،‬مع‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫املسافات تلهث خلفك ُ‬ ‫تنحت باملقلتني ارتجافك»‪.‬‬ ‫نصية ضئيلة‪ ،‬تدمج النمطني معا‪.‬‬ ‫تنويعات ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومثة شخصيات عديدة أخرى يستحرضها لحود يف ديوانه‬ ‫وألن الشاعر منشغل بسرية املكان البارييس وشخوصه‬ ‫كمحمد املاغوط وسلفادور دايل إميل زوال وكفايف وأمني‬ ‫ودالالته‪ ،‬نرى قصيدته تنطلق دامئاً من مناسبة ما‪ ،‬كرؤية‬ ‫معلوف‪ ،‬وسواهم‪ .‬لكنه ُيبقي قنديل جربان مشعشعاً‬ ‫لوحة فنية‪ ،‬أو إلقاء نظرة عىل قرب‪ ،‬أو زيارة منزل أثري‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫يف يده‪ ،‬محلقا بأجنحته املتكسرّ ة‪ .‬ومثلام افتتح الديوان‬ ‫مبعنى آخر‪ ،‬يستثمر لحود املناسبة لنسج خيوط نصه‪،‬‬ ‫بصوت النّاي‪ ،‬الذي ُ‬ ‫يحيل إىل قصيدة جربان «أعطني النّاي‬ ‫واإليقاع بشخوصه التاريخيني‪ .‬هكذا‪ ،‬يف قصيدة بعنوان‬ ‫«نظرة عىل قرب دريدا»‪ ،‬يرسم لحود املكان‪ ،‬مستخدماً‬ ‫وداع‬ ‫وغنّي»‪ ،‬يختتمه مبوسيقى جربانية هادئة خالل «حفلة ٍ‬ ‫ريشته الجربانية‪ ،‬ومستحرضاً صورة دريدا‪ ،‬بوصفه التفكييك جربانية» يف القصيدة األخرية التي جمعت عىل مائدة واحدة‬ ‫البارع‪ .‬يقرأ لحود شعراءه ّ‬ ‫املفضلني بعني دريدا الثاقبة التي أبرز شخوص الديوان‬

‫عابد اسامعيل‬ ‫‪23‬‬


‫شعر وشعراء‬

‫كما أشاء‪ ..‬قصيدة بضجيج أقل‬ ‫الكتاب‪ :‬كام أشاء‬ ‫الشاعر‪ :‬أحمد كتوعة «اليمن»‬ ‫النارش‪ :‬املركز الثقايف العريب والنادي األديب بالرياض‬ ‫عدد الصفحات‪ 92 :‬من القطع املتوسط‬

‫القصيدة‬

‫هنا عابرة كالريح‪ ،‬فكرتها تالمس‬ ‫سطح األشياء من دون أن تتوغل يف‬ ‫العمق‪ ،‬وهنا مكمن روعتها وقدرتها عىل الجريان من دون‬ ‫أن تفقد لياقتها وحيويتها‪ .‬وهي إذ تعرب ال تكرس األغصان‪،‬‬ ‫أو تبعرث أوراقها‪ ،‬إمنا ترتك أثراً خفيفاً يستحيل عالمة تدلنا‬ ‫عىل دهشة العبور‪ .‬هذه الدهشة التي تالزم قصيدته وثيقة‬ ‫الصلة بتصاعد منسوب االحتفاء بالحياة باعتبارها ملتقى‬ ‫الحلم اإلنساين وشقائه؛ وطموحه وانتكاساته؛ وهشاشته‬ ‫أمام الطبيعة ورغبته يف التامهي معها‪ .‬هذا االحتفاء عنده‬ ‫ال يتغذى عىل األعشاب الضارة كالبالغة املتخشبة‪ ،‬أو االدعاء‬ ‫الزائف الذي تحمله األنا الشاعرة عن نفسها‪ ،‬أو الرصاخ‬ ‫عايل الرتدد الذي يوقظ املوىت من قبورهم داخل القصيدة‪،‬‬ ‫أو تلك املعاين املصنوعة من قش وليس من حرير‪ .‬هو‬ ‫احتفاء ال يراوغ وال يقول أكرث مام تقوله الحياة ذاتها‪ .‬وفيام‬ ‫هو يحتفي بها تكون القصيدة قد فتحت مجرى للنهر يف‬ ‫عروقها‪ ،‬ال ينضب وال يتيبس‪ .‬وجهان لعملة واحدة‪ :‬الحياة‬ ‫والقصيدة‪ ،‬وما بينهام يضع الشاعر قصيدته موضع التفرد‬ ‫والتميز بلغة أكرث عفوية‪ ،‬وأقل ضجيجاً‪ .‬هذه السامت‬ ‫الحيوية التي تتلبسها قصيدته ال ترسم مالمح تلك الدهشة‬ ‫فقط‪ ،‬لكنها تذهب إىل أكرث من ذلك‪ ،‬إىل الوعي مبفارقات‬ ‫الحياة بالنقيض وضده‪ .‬هذا التوتر شديد الحساسية‪ ،‬الناتج‬ ‫من هذا الوعي باملفارقة‪ ،‬يتحول يف قصيدة أحمد إىل نوع‬ ‫من التهكم املشوب بروح االستهزاء كام يف قصيدة « حرب»أو‬ ‫« نتوءات»‪.‬‬ ‫إنه تحول يعزز من شأن تفرد القصيدة الحديثة يف مشهدنا‬ ‫الشعري‪ ،‬ويأخذها إىل مناطق تعبريية مل تسع هذه القصيدة‬ ‫إىل ارتيادها سابقاً‪ ،‬قد يبدو هذا التحول‪ ‬مجرد ملمح يف‬ ‫قصيدة أحمد كتوعة‪ ،‬لكنه بالتأكيد يدل داللة قاطعة عىل‬

‫‪24‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫الوعي املتطور ملفهوم القصيدة يف تجربته من جهة‪ ،‬وعىل‬ ‫أثر السامت الروحية والنفسية والثقافية التي هي وثيقة‬ ‫الصلة بشخصية أحمد ذاته وعىل تجربة الكتابة لديه من‬ ‫جهة أخرى‪ .‬إنها تجربة أمينة لرشطها الوجودي والحيايت‬ ‫والشخيص‪.‬‬ ‫أيضاً‪ ،‬تجربته وثيقة الصلة بالبعد التأميل املستل من تجربة‬ ‫التصوف‪ .‬يحقن الشاعر قصيدته بحموالت ومعاين أقرب إىل‬ ‫ْأن تكون جزءاً من سرية حياة عابرة يف األمكنة والطرقات‪.‬‬ ‫لذلك فثيمة «امليش» هاجس شعري يغذي فكرة التأمل‬ ‫ويخصب رؤيتها من الداخل‪ ،‬واألهم أنها تقوم بوظيفة‬ ‫تشييد وبناء الصور الشعرية‪ ،‬وجعلها مشدودة إىل نفسها‪،‬‬ ‫كام هي قصيدة «الشارع عىل حني غرة» أو «تلوث» أو‬ ‫«غابة» أو «جلوس»‪ .‬فالقصائد هنا تنهض عىل توليد شعرية‬ ‫قامئة عىل فكرة الجمع بني عنرصين متناقضني كانا وال زاال‬ ‫مل يلتقيا يف القصيدة العربية التقليدية‪ ،‬وهام فكرة التأمل‬ ‫من جانب وفكرة امليش من جانب آخر‪ .‬بالتايل فإن استثامر‬ ‫التأمل كعنرص وجودي يف حياة اإلنسان يصطدم مبحدودية‬ ‫توظيفه شعرياً‪ .‬لكن إدخال فكرة التأمل إىل سياق امليش‬ ‫أعطى الفكرة ذاتها دالالت ومعاين ّ‬ ‫قل حضورها يف القصيدة‬ ‫العربية‪ .‬لنتأمل هذا املقطع‪« :‬أحمل كفني ساهمتني ظلتا زمناً‬ ‫تدفع جدراناً خلفها جبال ‪ /‬أميش كمن يسمم الهواء بحرضته‬ ‫ال أعرف من امليش سوى أطراف تتأرجح‪ ،‬وشارع يلهم عابريه‬ ‫املقاصد‪ ،‬نهايته بحرية ُتطبخ فيها األسامك والعابرون أعشاب‬ ‫تعلق بني الصخور»‪ .‬هكذا يأيت تأمله ممزوجاً برائحة املكان‬ ‫عىل الرغم من ضجيج الحياة وصخبها سوى أن قصيدته ال‬ ‫تعلق يف مثل هذا الضجيج‪ ،‬وكأنها تدربت عىل امليش من‬ ‫دون أن تسقط يف منزلقات الطريق‬

‫محمد الحرز‬


‫نصوص‬

‫لوحة للفنان ضياء العزاوي‬

‫سالم أبوجمهور‬ ‫حسن المطروشي‬ ‫جعفر العقيلي‬ ‫علي الشعالي‬ ‫صالحة غابش‬ ‫عبدالزهرة زكي‬ ‫ابراهيم الوافي‬ ‫بريهان الترك‬ ‫عبد اهلل أبو شميس‬ ‫جوالن حاجي‬ ‫عبيد عباس‬ ‫نور البواردي‬ ‫راسم المدهون‬ ‫محمد عنيبة الحمري‬ ‫‪25‬‬


‫نصوص‬

‫حسن المطروشي‬ ‫ٌ‬ ‫تغريبة بني ِقامطني‬ ‫لوحة للفنان عادل السيوي‬

‫سالم أبوجمهور‬ ‫مدا ُر الحديث‬ ‫ُ‬ ‫الحديث عىل َن ْف ِس ِه َبيننا‬ ‫َيدُ و ُر‬ ‫َ‬ ‫َندُ و ُر َعلي ِه‬ ‫َندُ و ُر َع َلي ِه‬ ‫ندُ و ُر َن ُط ُ‬ ‫وف َندُ ُ‬ ‫وخ‬ ‫وي ْغ َمى َع َلينا‬ ‫َفنَس ُقط َب َ‬ ‫ني َيدَي ِه‬ ‫***‬ ‫ُ‬ ‫الح ِّب‬ ‫َيدُ و ُر‬ ‫الحديث ع َِن ُ‬ ‫سح ُبنا َق ْي ُس ِمنْ َق ْل ِبنا‬ ‫َي َ‬ ‫بالح ِّب ِفينا‬ ‫َفن َْش ُع ُر ُ‬ ‫وقد ال َنرا ُه وال َن َّد ِعي ِه‬ ‫***‬ ‫ُ‬ ‫الحديث‬ ‫َيدُ و ُر‬ ‫يس‬ ‫ُن َر ِّد ُد أشعا َر َق ٍ‬ ‫شاهدُ أحال َم لَ ْيل‬ ‫ُن ِ‬ ‫َفن َْس ُك ُب َن ْه َر َ‬ ‫الخيالِ‬ ‫عىل َن ْه ِر ِع ْط ٍر‬ ‫و َن ْخ َل ُع أجسادَنا د َ‬ ‫عي‬ ‫ُون َو ٍ‬ ‫غطس ِفي ِه‬ ‫و َن ُ‬ ‫‪26‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫***‬

‫ُ‬ ‫الحديث‬ ‫َيدُ و ُر‬ ‫و َق ْد ال َيدُ و ُر‬ ‫سجلِ‬ ‫َفنَض َغ ُط ِز َّر ا ُمل ِّ‬ ‫كيَ ْ َن ْس َت ِعي َد األغان‬ ‫والح ِّب‬ ‫ع َِن‬ ‫العشق ُ‬ ‫ِ‬ ‫لَ ِكنَّنا فجأ ًة‬ ‫ُيبا ِغتُنا ُ‬ ‫ني‬ ‫صوت طائرت ِ‬ ‫ني‬ ‫ُمقا ِت َل َت ِ‬ ‫ني‬ ‫َتطريانِ َمقلوبت ِ‬ ‫عىل َمع ِر ِض األسلح ْة‬ ‫ُ‬ ‫الحديث‬ ‫يدو ُر‬ ‫ُيغا ِز ُلنا َش ْك ُل َد َّبا َب ٍة ُح ْل َو ٍة‬ ‫وت َش ْك ًال أنيقاً َج ِمي ًال‬ ‫ُت َق ِّد ُم لِل َم ِ‬ ‫ِب ْأسنا ِننا َنش َت ِه ِيه‬ ‫***‬ ‫ُ‬ ‫الحديث‬ ‫َيدُ و ُر‬ ‫الحرب‬ ‫ع َِن‬ ‫ِ‬ ‫يمَ ُألنا بالرصاص‬ ‫شحنُنا بالبنا ِدق‬ ‫و َي َ‬ ‫َف َي ْح ُل ُم ُك ٌّل بقتل ِأخي ِه‬

‫ُل َغتي ال َق ْف ُر‪،‬‬ ‫ف َمنْ مييض طريقي؟‬ ‫فض ُ‬ ‫إنني الطالِ ُع مام َت ْر ُ‬ ‫األرض‪،‬‬ ‫و ِمنْ ب ْر ِد األقايص‪،‬‬ ‫حروب ال ّز ْن ِج‪،‬‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫من َش ِّد املطايا‪،‬‬ ‫اإلبادات‪،‬‬ ‫وتواريخ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ني‪،‬‬ ‫امط‬ ‫ق‬ ‫بني‬ ‫ة‬ ‫تغريب‬ ‫ومن‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫أغالطي الصغرى‪،‬‬ ‫ومن‬ ‫َ‬ ‫وك ّفارا َيت ُ‬ ‫الكثرْ ِ‪،‬‬ ‫ومن ِو ْز ِر براهيني‬ ‫وطوفاين العميق ِ‬ ‫ُل َغتي ال َق ْف ُر‪،‬‬ ‫ف َمنْ مييض طريقي؟‬ ‫ك َّذبوين‬ ‫ثم نامت َق ْريتي إذ ْأخ َر َجتْني‬ ‫ني‪،‬‬ ‫ثا َين اثن ِ‬ ‫وكان البح ُر ي ْق ُفوين‪،‬‬ ‫ويقفوين حام ُم الحقلِ ‪،‬‬ ‫واألشجا ُر واألحجا ُر‪،‬‬ ‫الحي‪،‬‬ ‫تقفوين ِجرا ُء ِّ‬ ‫نعاج الجار ِة السمرا ِء يف املرعى‪،‬‬ ‫تقفوين ُ‬ ‫ني‪،‬‬ ‫ويقفوين غر ُ‬ ‫اب الب ِ‬ ‫وال َب ُّط صديقي‬ ‫ُل َغتي ال َق ْف ُر‪،‬‬ ‫ف َمنْ مييض طريقي؟‬ ‫عيناك‬ ‫قلت‪ِ :‬‬ ‫وو ّد ْع ُت سفوحي‬ ‫ُ‬ ‫سأ َغنِّي‪،‬‬


‫وأسوق َ‬ ‫ُ‬ ‫اإلبل العطىش‬ ‫إىل غدرانِ روحي‬ ‫كنبي يتقصىَّ أَ َث َر الركبانِ‬ ‫ٍّ‬ ‫والريح‪،‬‬ ‫يف البيدا ِء‬ ‫ِ‬ ‫سأرمي اآلن أضالعي‬ ‫الس ْب َس ِب الضاري‪،‬‬ ‫لط ِري َ‬ ‫وأميض َخ ْل َف َمنْ مروا‬ ‫عىل ر ْملِ جروحي‬ ‫َّ‬ ‫أَ َبتي ‪ ..‬هذا ا ْبن َُك َ‬ ‫الخطا ُء‪،‬‬ ‫هذا الن ِز ُق‪،‬‬ ‫الكتاتيب لِ َتدْليسا ِته‪،‬‬ ‫يص من َد ْر ِس‬ ‫املَ ْق ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ات‪،‬‬ ‫امل ْذمو ُم يف الحوز ِ‬ ‫ُ‬ ‫إين قد س َق ْي ُت القو َم ط ّراً قهو َة الهيلِ ‪،‬‬ ‫لس‪،‬‬ ‫أ َد ْر ُت ال َّت ْم َر ْ‬ ‫للمج ِ‬ ‫الج ْم ِع‬ ‫رؤوس َ‬ ‫ح َّد ْث ُت َ‬ ‫عن سيفي وأساليف‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وكنت َ‬ ‫َ‬ ‫األمثل‬ ‫املاثل‬ ‫يف أعامقِ صويت ووضوحي‬ ‫أبتي ‪...‬‬ ‫هذا ا ْبنُك املفقو ُد‬ ‫الحلم‪،‬‬ ‫يف مفرتقِ‬ ‫الحلم إىل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫تحت عُ كا َز ْي ِه ث ْور ُ‬ ‫تهاوت َ‬ ‫ْ‬ ‫ات‬ ‫كقرصانٍ‬ ‫الرقيق ِ‬

‫ُل َغتي ال َق ْف ُر‪،‬‬ ‫ف َمنْ مييض طريقي؟‬ ‫ُ‬ ‫قــلت‪ :‬عيناك الدفـات ْر‬ ‫طائ ُر الليلِ املهــــاجـ ْر‬ ‫ُ‬ ‫جئت‪ ،‬إمياين كـــــبائـ ْر‬ ‫َق ِلقٌ‬ ‫والدرب كــــافــ ْر‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بعض إخواين َصغـــائ ْر‬ ‫َ‬ ‫هــا كبرِ ْنا كـــالدوائــ ْر‬ ‫ُ‬ ‫ســـــأ َغني ُوأجاهــــ ْر‬ ‫قـلب ثائ ْر‬ ‫فاجمعيـني َ‬

‫و َر َســـــ ْم ُ‬ ‫األندلـس‬ ‫ـت‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ـس‬ ‫فوق ُشــــــ َّبايك َن َع ْ‬ ‫وغــــــــوايايت َفـــ َر ْس‬ ‫جـرس‬ ‫وســــــــاموايت ْ‬ ‫ُ‬ ‫بعـــض جـــرياين َح َر ْس‬ ‫كالنفــــــس‬ ‫وي ِب ْســـنا‬ ‫ْ‬ ‫كلمــــا َ‬ ‫قيـل‪ :‬احتـ ِر ْس‬ ‫ـس‬ ‫َخ َّر من أيدي ال َع َس ْ‬

‫ُ‬ ‫قلت‪ :‬عيناك‬ ‫تعاليَ ْ ‪،‬‬ ‫الروح‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫أنت مني َم ْو َ‬ ‫ضع الس ْه ِم من ِ‬ ‫ُ‬ ‫سأ ْعيل خيم َة الذكرى‪،‬‬ ‫أخريين‪،‬‬ ‫تعايل ن ْق ِطف الليل َة ْ‬ ‫ِ‬ ‫نج َمينْ ِ‬ ‫اشات‬ ‫ونصطا ُد الفر ِ‬ ‫والشمس‪،‬‬ ‫للباصات‬ ‫باب الفج ِر‬ ‫ِ‬ ‫تح َ‬ ‫التي َت ْف ُ‬ ‫ِ‬ ‫لئال البح ُر ْميحونا‪،‬‬ ‫لئال تستفيقي‬ ‫عيناك‪،‬‬ ‫ِو ْجهَتي ِ‬ ‫نا ِمي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قلب يف الطريق ِ!‬ ‫َي ْس ُقط الليل َة ٌ‬

‫لوحة للفنان اسامعيل فتاح‬ ‫‪27‬‬


‫نصوص‬

‫جعفر العقيلي‬ ‫صهو ُة الرثثرة‬ ‫‪1‬‬

‫ُ‬ ‫تخربش‪،‬‬ ‫األصابع‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫تخربش‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أنفاسها‬ ‫فال ت ْقطعي َ‬ ‫لِ ُت َغنِّ عىل م ّوالِها‬ ‫وحس ُبنا ْأن نن ِْص َت الرتجا ِفها‬ ‫ْ‬ ‫تبوح‬ ‫‪ ..‬هي ُ‬ ‫ْيك ال نبوح‪..‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬

‫األصابع‬ ‫"دوايل"‬ ‫ُ‬ ‫تتعربش الهوا َء‬ ‫وال تأ َب ُه بالتضاريس‪..‬‬

‫‪4‬‬

‫ال ُ‬ ‫تقرأ الخريط َة‬ ‫أصابعي‪،‬‬ ‫اليم‬ ‫‪ ..‬متيض يف عباب ّ‬ ‫الج ّب‬ ‫وتتل ّوى يف َغياب ِة ُ‬ ‫" َين ُْط ُف" قل ُبها كلام ضاعت‬

‫‪28‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫‪5‬‬

‫ُم َد ّر َب ًة‪،‬‬ ‫حس ْبتُها أصابعي‬ ‫ُ‬ ‫لكنّها كلام َد َن ْت من قطو ِف ِك‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫تأتأت‬ ‫ُ‬ ‫ولَع َث َمتْها حروف ِك األوىل‬ ‫فتعود أدر َاجها مثقل ًة بخيبة العطش‪..‬‬ ‫‪6‬‬

‫أصابعي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بك‬ ‫ذاكر ٌة كلام تعلقَ األم ُر ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ونسيان‬ ‫يف حرضة اآلخرين‬ ‫لوحة للفنان فاتح املدرس‬

‫رضير ٌة‬ ‫أصابعي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تسرت ّد بصري َتها كلام ال َم َست ِْك‪..‬‬ ‫فال تنأيْ‬ ‫ْيك أرى‪..‬‬

‫وكلام اهْ َتد َْت إىل ُر ْش ِدها أصابها‬ ‫"الزهامير"‪..‬‬


‫صالحة غابش‬

‫كأنه عندليب دائم السفر‬ ‫يفتش عن قلوب تشبه الصحراء صامتة‬ ‫وما زالت تخاف الليل واألحالم‬ ‫تخىش بنبضة املطر‬ ‫مالمح تشبه اإلنسان‬ ‫وفيه يبحث االثنان عن بعض‬ ‫وتتعب منهام األسفار‬ ‫والطرقات‬ ‫وكل خرائط الدنيا‬ ‫وإن مل يلتق النبضان يف نبض‬ ‫وإن رفضتهام أنشودة العشق‬ ‫ستبقى رحلة العشاق‬ ‫الرفض‬ ‫ترفض مبدأ ِ‬

‫أمواج وحرير‬

‫كلون القصائد يف خدرها‬ ‫دافئٌ‬ ‫كالرغيف‬ ‫طازج‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫شفيف‬ ‫َ‬ ‫وطعمك يا صوتها‬ ‫ناعم‬ ‫ٌ‬ ‫ماك ٌر‬ ‫كالرحيق املوشح باألمنيات‬ ‫كفى‬

‫غريب‬

‫كأنه صوت أغنية‬ ‫عىل باب الشتاء هجرت بال موقد‬ ‫يبيت عىل وسادة حزنها‬ ‫من دون أغطية‬ ‫سوى بعض القصاصات التي كانت‬ ‫دفاتر تحفظ املوعد‬ ‫غريب يف مدائننا‬ ‫يقال بأنه أسطورة مرت‬ ‫قريباً من مساكننا‬

‫لوحة للفنان سمري رفاعي‬

‫لوحة للفنان فاتح املدرس‬

‫علي الشعالي‬

‫ٌ‬ ‫موجة ترشئب الشموس ليك ترتديها‬ ‫كفى‬ ‫يا حضور النجوم إذا ضاعت القافلة‬ ‫يا حروف الضياء‪..‬‬ ‫سالمل تنبجس اآلن نحو السامء‬ ‫تسابق أجنحة الحاملني‪..‬‬ ‫يا سامء اصعدي نحوها‬ ‫وقويل كام ينبغي أن يقول الحرير‬ ‫وقوس القزح‪..‬‬ ‫قويل سام ًء إضافي ًة‪..‬‬ ‫قويل محيطاً‪ ‬وشمساً‬ ‫وقويل ول ْه‬

‫‪29‬‬


‫نصوص‬

‫عبدالزهرة زكي‬

‫نس َي ْت شفتَيها عىل الفنجان‬

‫َ‬ ‫غريب نس َي ُه النهار‬ ‫مثل ضو ٍء‬ ‫ٍ‬

‫ْ‬ ‫فنجان القهو ِة‪،‬‬ ‫تركت شفتيها عىل‬ ‫ِ‬ ‫ونس َيتْه عىل النافذ ِة‪..‬‬ ‫نس َي ْت‪،‬‬ ‫اقب الشجر َة امليت َة يف الساح ِة‪،‬‬ ‫وهي تر ُ‬ ‫َ‬ ‫والفنجان والشفتني‪.‬‬ ‫قهو َتها‬ ‫ُ‬ ‫الفنجان‬ ‫حتى اذا ما انكفأ‬ ‫وساحت القهو ُة منه‬ ‫عىل الحائطِ‬ ‫اىل السجاد ِة‬ ‫َ‬ ‫الباب‬ ‫واسفل ِ‬ ‫الرصيف‪،‬‬ ‫ومبجرى‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫وامتزجت‬ ‫اب الساح ِة وغبا ِر هوا ِئها وبجذ ِر‬ ‫برت ِ‬ ‫الشجر ِة امليت ِة‪..‬‬ ‫ْ‬ ‫عادت هي‬ ‫لتتحس َس عىل شفتيها‬ ‫َّ‬ ‫املرار َة التي مل ترتش ْفها‪..‬‬ ‫فيام كانت شفتاها‪،‬‬ ‫ذائبتني يف القهو ِة‪،‬‬ ‫تنبضان بحيا ٍة أخرى‬ ‫الحي‬ ‫يف الجذ ِر ِّ‬ ‫للشجر ِة املنتصب ِة يف الساحة‬

‫‪30‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫لوحة للفنان صبيح كلش‬

‫كوكب األرض‪.‬‬ ‫متيش عىل ِ‬ ‫متيش عىل الساحل‬ ‫قرب البحر‬ ‫َ‬ ‫سفح جبلٍ‬ ‫عىل ِ‬ ‫قلب الصحرا ِء‬ ‫يف ِ‬ ‫يف غابة‪.‬‬ ‫متيش‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫والحاممة ظلها‪،‬‬ ‫األرض‬ ‫عىل ِ‬ ‫َ‬ ‫فوق املا ِء‬ ‫وفوق النا ِر‬ ‫ويف العاصفة‪.‬‬ ‫متيش‬ ‫عىل الهوا ِء‪،‬‬ ‫ً‬ ‫فتسمع كالما كثرياً‬ ‫ُ‬ ‫تسهو عنه‪..‬‬ ‫نجم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ويتبع أث َرها ٌ‬ ‫متحف‬ ‫يف‬ ‫ٍ‬ ‫يف ميدانٍ حر ٍّيب‬ ‫يف جزير ِة عرا ٍة‬ ‫يف مقربة‪..‬‬ ‫متيش‪،‬‬ ‫وال أث َر لها عىل الرتاب‪،‬‬ ‫ومثل ضو ٍء‬ ‫نسيه النها ُر غريباً‬ ‫يف سال ِم ِه‬ ‫متيض‬ ‫إىل بي ِتها الال مريئ‬ ‫الكوكب الذي يدور‬ ‫عىل‬ ‫ِ‬


‫ابراهيم الوافي‬ ‫جنسية‬

‫يف العطور القدمي ِة ‪..‬‬ ‫كنت ُ‬ ‫أقول ألخرى ُ‬ ‫ُ‬ ‫األمس‬ ‫تتوق إىل ك ِت ِف ِ‬ ‫مثيل َّ‬ ‫بأن الذي بيننا‬ ‫َ‬ ‫الحزن فينا‬ ‫يشب ُه‬ ‫ً‬ ‫وقفنا معا يف املكانِ الوحي ِد الذي ال‬ ‫ُ‬ ‫الرفاق القدامى‬ ‫يجيء إلي ِه‬ ‫وال ُ‬ ‫للربيع ‪...‬‬ ‫شمس ِه غيم ًة‬ ‫يرتك البح ُر يف ِ‬ ‫ْ‬ ‫كانت‪ ..‬تو ُّد التحدُّ ث مثيل‬ ‫ولكنها ْ‬ ‫غرقت بالعطو ِر القدمي ِة حني‬ ‫نجوت وحيداً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫زوارق غرقى‬ ‫شاطئ أو‬ ‫بال‬ ‫ٍ‬ ‫مينح التائهني الرجوعَ‬ ‫وطن آخ ٍر ُ‬ ‫سوى ٍ‬ ‫ألسامئهم ‪!..‬‬

‫عمى‬

‫كتاب النهاي ِة ‪..‬‬ ‫يف ِ‬ ‫ُ‬ ‫الهوامش ‪...‬‬ ‫ما أغفلتني‬

‫عبيد عباس‬ ‫ٌ‬ ‫رشفة قدمية‬

‫ني سام ٍء‪ٌ -‬‬ ‫ما ب َ‬ ‫كالنجم‪ -‬وأرض‬ ‫واقفة‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫لم‬ ‫ما‬ ‫ِ‬ ‫اشتكت الرشفة يوماً من هذا الظ ِ‬ ‫الواقع‬ ‫ِ‬ ‫الواقع‬ ‫بطش‬ ‫أومن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أقرب لل ِه من الناس‬ ‫صمت الشارع‬ ‫ني يف‬ ‫ِ‬ ‫تناجي كسج ٍ‬ ‫صاح يؤانسها‬ ‫ما من أح ٍد يا ِ‬ ‫ظالم دامس ‪.‬‬ ‫إن داهمها يف الليلِ ٌ‬ ‫الرشف ُة ٌ‬ ‫أرملة‬

‫كنت ُ‬ ‫ُ‬ ‫أقول ألمي التي ال تراين ‪..‬‬ ‫أنا ْأشب ُه َ‬ ‫الليل يخطو وحيداً عىل ما ِء‬ ‫عينيك‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫للصباح ‪...‬‬ ‫سوف أفتّش عن ضف ٍة‬ ‫ْ‬ ‫وأجمع للفقراء الصغا ِر غناء العصافري يف‬ ‫سدرة املنتهى ‪!..‬‬ ‫أنا أشب ُه َ‬ ‫ظالمي‬ ‫الليل ‪ ..‬ال تفزعي من‬ ‫ْ‬ ‫سأبدأ حيث انتهى ‪!..‬‬

‫لوحة للفنان نارص املوىس‬

‫مرآة‬

‫تراءى عىل املاء وجهي ‪..‬‬ ‫قال يف ِّ‬ ‫صباح‬ ‫الظل ُ‬ ‫‪..‬فالح قريتنا أليب يف ٍ‬ ‫ْ‬ ‫طويل‬ ‫الريح للام ِء ‪..‬‬ ‫سوف تدفع ُه‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫النحيل ‪...‬‬ ‫هذا‬ ‫ُ‬ ‫كنت ق ْر َب أيب ‪..‬‬ ‫ممسكاً يب ‪ ..‬كنا عىل املاء والريح مرجف ًة‬ ‫ْ‬ ‫كالصهيل‬ ‫شمس ُّ‬ ‫تطل ‪ ..‬ويب‬ ‫كان ظل أيب لون ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫شامة من ْ‬ ‫نخيل ‪!..‬‬ ‫فقدت سوسنها وربيع تحضرُّ ِها‬ ‫مل يعد الور ُد يخارصها بغنا ِء الطيب‬ ‫وال أطيا ُر الحقلِ بألحانِ النور‬ ‫ُ‬ ‫الناس عىل ظه ِر‬ ‫وإن كانت‬ ‫تحمل أحزان ِ‬ ‫وجيعتها‬ ‫صباح‬ ‫لكن ما ِ‬ ‫قابلت املا َّر َة يف أي ٍ‬ ‫عابس ‪.‬‬ ‫ني ْ‬ ‫بجب ٍ‬ ‫الرشف ُة دمع ُة حزنِ حكايتنا‬ ‫رح بنايتنا‬ ‫ُج ُ‬ ‫ُ‬ ‫تساقط ٌ‬ ‫متتمة للعاشق‬ ‫منها ال َّ‬ ‫يرقب قم َر الليل‬ ‫إذ ُ‬ ‫وال ٌ‬ ‫أمنية لفتا ٍة مازال شذاها‬

‫يجمع َ‬ ‫الشارع يف‬ ‫فتيان‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫التو‬ ‫وال أندا ٌء‬ ‫وغنا ٌء‬ ‫ونوارس‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫سوسنة طائر ٌة‬ ‫الرشف ُة‬ ‫تتدىل منها أشال ُء الغبط ِة‬ ‫وموا ُء القط ِة‬ ‫وثغا ُء الفاق ِة‬ ‫ني‬ ‫وشجار الزوجني املنتهك ِ‬ ‫من الفق ِر‬ ‫وأحالم األطفالِ ‪..‬‬ ‫وبعض مالبس‬ ‫‪31‬‬


‫نصوص‬

‫قمراً‬ ‫يسقط متمه ًال‬ ‫أعىل الرقبة‪.‬‬

‫‪4‬‬

‫بريهان الترك‬ ‫قصائد‬

‫شاعر ما‬ ‫ركلته األفراح‪..‬‬ ‫يكتب عن الحياة كل يوم‬ ‫يف صفحة الوفيات‪.‬‬

‫‪5‬‬

‫‪1‬‬

‫نحول النهار وسمنة الليل‬ ‫لحنٌ نتجمع فيه فينكرس‪..‬‬ ‫ننتظر الربق من خلف الزجاج‬ ‫حني يحبس كل يشء عن كل يشء‬ ‫فننام عىل حدة‬ ‫خارج رقعة األحالم‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫هل تشعر بالعتمة‬ ‫واملوت املندلق من السقف‬ ‫يف راحة األوجاع؟‬ ‫هكذا متوت األشياء دامئاً‬ ‫و ُتجس الشواهد‬ ‫يف التجمعات‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫الباب يف نصف الشارع‬ ‫واألمومة مرشوقة عىل الجدران‬ ‫والخليقة طافية عىل أسطح البيوت‬ ‫نساء الحي تنأى عنهم‬ ‫فضيلة الصمت‬ ‫والرذيلة تلك الجارة املفضلة‬ ‫تصنع لها يف البيداء‬

‫الحرف أخرس‬ ‫إىل أن يقع يف فمنا‪.‬‬

‫‪6‬‬

‫مأتم آخر بغيابك‪..‬‬ ‫مبسمك الخجول كان حارضاً‬ ‫جوف قلبي‪..‬‬ ‫كالعطر مررت اليوم يب‬ ‫بكيت عىل صورتك‬ ‫وقبلت الهواء‬ ‫وأرسلت لك مع املالئكة‬ ‫قافلة من الدعوات‬ ‫أي فرح هذا دونك؟‬ ‫‪7‬‬

‫الخري؟‬ ‫ٌ‬ ‫مكلف صباحك!‬ ‫كم هو‬

‫‪8‬‬

‫قافلة من الجياع‪ ،‬تعوي‪ ،‬يف دمي‪..‬‬

‫‪9‬‬

‫يف املرآة فقط‬ ‫أكرث من أربعني شبيهاً يل‪..‬‬ ‫لوحة للفنانه زينه عايص‬

‫‪32‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫عبد اهلل أبوشميس‬ ‫يسمونه الحب‬ ‫‪1‬‬

‫أنا امرأ ٌة ح ّر ٌة وسعيد ْة‬ ‫ُأ ُّ‬ ‫طل عىل الكونِ من شرُ ف ِة الفج ِر‪:‬‬ ‫أكرس خب َز فطوريَ‬ ‫ُ‬ ‫بيني وبني عصاف َري‬ ‫صوت (فريو َز)‬ ‫تخرج من ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫تلقط ِح ّصتَها‪ ،‬وتساف ُر‬ ‫خلف التّالل البعيد ْة‬ ‫وأفتح نافذيت للحديق ِة‬ ‫ُ‬ ‫باب الخزان ِة‪:‬‬ ‫أفتح َ‬ ‫ُ‬ ‫يليقُ‬ ‫بيوم جدي ٍد؟‬ ‫ماذا‬ ‫ٍ‬ ‫وماذا يليقُ بأنثى جديد ْة؟!‬ ‫" كأنيّ أرى ّ‬ ‫كل يش ِء‬ ‫أل ّول م ّر ْة‬ ‫قوا ِم َي غصنٌ نديٌّ‬ ‫وثوبيِ َ زهر ْة‬ ‫وأنا َن ٌ‬ ‫حلة ّ‬ ‫أترش ُف نفيس‬ ‫رس ْة‬ ‫وأملؤين با ْل َم ّ‬ ‫أختي ّ‬ ‫مس‪ ،‬ح ّر ْة‬ ‫الش َ‬ ‫لَ َكم أنا‪ ،‬يا َ‬ ‫لَ َكم أنا ح ّر ْة!"‬ ‫رت‪ ،‬يا لَحامق ِت َي الكاملة!ْ‬ ‫تأخ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫باب دا ِر ِك"‬ ‫" ُاخ ُرجي‪ ،‬يا غب ّية‪ ،‬من ِ‬ ‫باب داري!‬ ‫أَ ُ‬ ‫خرج من ِ‬ ‫" و ُردّي َتح ّي َة جا ِر ِك"‬ ‫َح ّي ُ‬ ‫يت جاري‪..‬‬ ‫" وأَ ْل ِقي التّح ّي َة"‬ ‫ُأل ِقي التّح ّي ْة‬ ‫عىل جارت‬ ‫وَهْ َي متيش بس ّت ِة أَ ْر ُجل!ْ‬ ‫وص ُل توأَ َمها ( النَّبويَّ ) إىل روض ِة‬ ‫و ُت ِ‬ ‫ا ْل َح ِّي‪..‬‬

‫ْ‬ ‫وقرنفل‬ ‫أشتم أغني ًة من ندىً‬ ‫ُّ‬ ‫وأسعى إىل موقف الحافل ْة‬ ‫ُخطايَ‬ ‫( كام قال يل شاع ٌر يف زمانٍ مىض)‬ ‫كالسحاب ِة‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫مرسعة ووئيد ْة‬ ‫أنا امرأ ٌة ح ّر ٌة وسعيد ْة‬ ‫‪2‬‬

‫تع ّو ُ‬ ‫دت أن أكتفي بالجريد ْة‬ ‫يف ّ‬ ‫ريق إىل َع َميل‪..‬‬ ‫الط ِ‬ ‫ليس يلفتُني عاب ٌر حائ ٌر يف َجاميل‬ ‫تتفح ُص تطري َز ( شايل)‬ ‫وال ( َح ّج ٌة) ّ‬ ‫ُ‬ ‫وتبحث يف خنرصي‬ ‫عن دليلِ املكيد ْة!‬ ‫تع ّو ُ‬ ‫دت أن أختفي يف صفاتيِ‬ ‫إذا َ‬ ‫ّاس ْأن يرسقوا ْاسمي‬ ‫حاول الن ُ‬ ‫تع ّو ُ‬ ‫دت أن أكتفي ب‬ ‫وأن أحتفي بظاليل املديد ْة!‬ ‫أنا امرأ ٌة ح ّر ٌة وعنيد ْة‬ ‫يرفع ثويب‬ ‫وال يش َء ُ‬ ‫يح‬ ‫سوى ال ّر ِ‬ ‫يجرح قلبي‬ ‫ال يش َء ُ‬ ‫السعيد ْة!‬ ‫سوى‬ ‫ِ‬ ‫األغنيات ّ‬ ‫فيا سائقَ الحافل ْة‬ ‫امللح يف أغنيا ِت َك‬ ‫َض ْع قلي ًال من ِ‬ ‫الس ّك َر املستب َّد‬ ‫ال َتترْ ُِك ُّ‬ ‫قلب الجريد ْة‬ ‫يع ّذ ُب َ‬ ‫َ‬ ‫خلفك امرأ ٌة ُح ّر ٌة‪..‬‬ ‫فمن‬ ‫وعنيد ْة!‬ ‫‪33‬‬


‫نصوص‬

‫جوالن حاجي‬ ‫ثلج‬

‫ُتبكيني حيايت كسخا ِء املحرومني‬ ‫كحمقاء تتملىّ َقسام ِتها يف مرآ ِة مصعد‪.‬‬ ‫س ّميتُم دموعي أخطا ًء يف التفسري‪.‬‬ ‫س ّميتُم العامل خالفاً بيني وبيني‪.‬‬ ‫ناضلتُم نياب ًة عني‪ ،‬وتك ّل ُ‬ ‫مت عوضاً عن‬ ‫النباتات‬ ‫ُ‬ ‫حتى ّ‬ ‫النسغ الذي ضخختموه يف ورو ِد‬ ‫تبخر‬ ‫البالستيك‬ ‫ُ‬ ‫النهايات ألسن َة البدايات‪.‬‬ ‫وبرتت‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫قلت‪ :‬مجوين ثأ ٌر من الخجل‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫أضعف ِمن أن أحيا‪ ،‬ولآلخرين‬ ‫كنت‬ ‫األجنحة‪.‬‬ ‫أمرتمُ وين‪ :‬يحقُّ لك أن تحيا‪.‬‬ ‫مهم ما قلتُموه ُم ٌ‬ ‫حال سامعُ ه‪.‬‬ ‫ٌّ‬ ‫ح ّذرتمُ وين‪ :‬أنت وحيد‪.‬‬ ‫فاغفروا يل ما فهمت‪ .‬لن أنساه‪:‬‬ ‫َ‬ ‫الوحل ببصقا ِتنا يف الربد ونس ّميه ثلجاً‪.‬‬ ‫نطيل‬ ‫يتش ّققُ‬ ‫السطح‬ ‫ُ‬ ‫سطح آخر‬ ‫فتغنّي الشقوق عن ٍ‬ ‫ُ‬ ‫يستيقظ الببغا ُء فوقه‬ ‫حني‬ ‫ويرجع الصدى‪:‬‬ ‫تقع الجرمي ُة‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫"مثة ندبة عىل األقل تحرق أحيانا‪ ،‬ال ترى‬ ‫وال ُتنْىس‪.‬‬ ‫دع املصادفات تفسرّ الواقع‬ ‫ِ‬ ‫فالكلامت ال تزه ُر وال تزدا ُد وال تطري"‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫فاحش حقاً‪.‬‬ ‫الوعي‬ ‫ُ‬ ‫كنت وحيداً فأحببتُكم‪.‬‬ ‫أجلستُموين مثل بيض ٍة نصف مسلوقة‬ ‫صحن طفلٍ محموم‪،‬‬ ‫يف ِ‬ ‫وحثثتُموين‪:‬‬ ‫‪34‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫" ُك ْل عينيك‪.‬‬ ‫تع ّل ْم َّ‬ ‫تخرس وتحترض"‪.‬‬ ‫كل ليل ٍة كيف ُ‬ ‫مداعبني َشعري‬ ‫ألصقتُم رذا َذ قهقهاتكم إىل وجهي‬ ‫مني طائشة‬ ‫ِ‬ ‫كرشقات ٍّ‬ ‫ثم نهضتُم بغت ًة‬ ‫وأوليتُموين ظهوركم لتتص ّفحوا الجرائد‪.‬‬ ‫هل ُأغ ِم َي ع ّ‬ ‫يل فرتكتُموين‬ ‫أمللم ُبراد َة الكلامت مثل حج ٍر ممغنَط‬ ‫ُ‬ ‫احتي ما يقتلني‬ ‫أقرأ يف ر ّ‬ ‫وأس ّد ُد مثنَ اللطف؟‬ ‫َ‬ ‫أض ِجر ُتم ف َل َه ْو ُتم برتويعي‬ ‫برفع‬ ‫وألبستُموين القناعَ ُمومئني ِ‬

‫نور البواردي‬ ‫ٌ‬ ‫عامئة يف الهواء‬ ‫‪1‬‬

‫يف أقىص قلبي‬ ‫فر ٌ‬ ‫اشة تغزل من ُح ُّب َك قصائد ُمل َّونة‬ ‫‪2‬‬

‫يصعدُ ويهبط‬ ‫الفراغ وحيد يف مصع ِد البناية املهجورة‬ ‫‪3‬‬

‫تس ُري ِبجين ٍز ض ّيق‬ ‫العصافري ال تلقى مكاناً لِلعب‬ ‫بحرستها تتسلىّ خارج الجسد!‬ ‫‪4‬‬

‫الشارع تح َّرك من مكان ِه صباحاً‬


‫الحواجب‪ :‬هذا مه ّرجنا؟‬ ‫هل اغتصبتُموين وأنا نائم‪-‬‬ ‫تحت غصونِ البيلسان‬ ‫أوعىل كنب ٍة أوثقتُموين إليها‬ ‫الكمشة إىل اّ‬ ‫كاسم اّ‬ ‫الكمشة؟‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أستطيع أن أتذكر‪.‬‬ ‫ال أدري‪ .‬ال أتذكر‪ .‬ال‬ ‫ُ‬ ‫ال أريد‪.‬‬ ‫(ا ّتفق كثريون‪ ،‬واآلخرون كثريون دامئاً‪،‬‬ ‫خرباء وحكامء يعرفون كيف يسرتخون‬ ‫وكيف تزل ِز ُل َ‬ ‫ُ‬ ‫رعشات الفحولة‪،‬‬ ‫املدن‬ ‫حني قالوا‪ :‬أيحقُّ‬ ‫لضيف أن يغضب!؟‬ ‫ٍ‬ ‫تحلم أو مت ّثل‪ .‬هذا ما َ‬ ‫أردت‪.‬‬ ‫انس‪ .‬أنت ُ‬ ‫َ‬ ‫فابتهج وال تل ّفقْ أكذوب ًة أخرى‪).‬‬ ‫ْ‬

‫ُ‬ ‫حملقت بالهاتف‬ ‫كم‬ ‫ُ‬ ‫يستعطف ّ‬ ‫األصم‬ ‫كالعب ِد‬ ‫نخ َاس ُه ّ‬ ‫أتوهّ ُم رن َ‬ ‫ني نوره‬ ‫رسال ًة أو صوتاً‬ ‫ذه ُب عنّي أو ُيفحمني‪.‬‬ ‫ُي ِ‬ ‫فليأخذوين إىل جهنّم‪.‬‬ ‫بقدمي إىل جهنّم‪.‬‬ ‫فألذهب‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ألرتاح وأش َفى‪.‬‬ ‫ال ألتباهى بل َ‬ ‫ال أصد ُّق ما أقول‬ ‫العا ُمل متم ّه ًال يعو ُد إ ّيل‪،‬‬ ‫رس أو حقيقة‪،‬‬ ‫دون ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫متط ُر وأنا أفك ُر بالثلج‬

‫َت ِب َع يف الليلِ صوت املوسيقى‬

‫أترك ُه يف الصفح ِة ما قبل األخرية‬ ‫قلبي ا ّلذي َ‬ ‫مات فوق صدر ُجمل ٍة‬

‫َ‬ ‫شفتاك كالكر ِز باردة‬ ‫الصيف ال تدفأ !‬ ‫يف‬ ‫ِ‬

‫جميلة‬

‫‪5‬‬

‫‪6‬‬

‫بني ضفتني‬ ‫ينام املوت هادئاً‬ ‫فوق ِس ّكة ال ِق َ‬ ‫ـطار‬

‫‪10‬‬

‫ُكتبي ف ّر ْت لي ًال من مكتبتي‬ ‫تحت ما ِء الصنبور تغتسل‬ ‫ضبطتهُا تتخ ّلص من لوث ِة الكلامت‬

‫‪7‬‬

‫‪8‬‬

‫يدي ُتصافح يدي ُ‬ ‫األخرى‬ ‫تعتادان عىل الوداع‬

‫لوحة للفنان شهريار أحمدي‬

‫تتس ّلق رسيري‬ ‫شجرة ب َر ْ‬ ‫زت للتو‬ ‫َ‬ ‫كان يسقيها دمعي‬

‫‪9‬‬

‫‪35‬‬


‫نصوص‬

‫راسم المدهون‬ ‫بيتي‬

‫يل بيت أحمله عىل ظهر ذاكريت‬ ‫وأميش به‬ ‫ويراه السائرون‪ ‬‬ ‫يف البوادي البعيدة‬ ‫البحارة يف مراكبهم‬ ‫يراه ّ‬ ‫لكنني ال أراه‬ ‫أنا وبيتي القديم كالعيس يف البيد‬ ‫أذكره بعيون خيايل‬ ‫فأرتوي‬ ‫وحني يقبل الليل ييضء للعشاق‬ ‫يدعوهم أن يفتحوا بابه‬ ‫أن يدخلوه حفاة سوى من رنني القبل‬ ‫بيت يسكنني مرة‬ ‫فأسكنه ألف مرة‬ ‫ال غبار عىل نوافذه‬ ‫ال تصله ضوضاء املدائن‬ ‫أنا أؤثثه باملرايا‬ ‫لكل عاشقة تدخل بابه مرآتها‬ ‫ومشطها العاج‬ ‫ويل أن أسمع وشوشاتهنَ‬ ‫ينادين عشاقاً من كل األلوان‬ ‫والقبائل‬ ‫عشاقاً يحفظون عن ظهر قلب‬ ‫أناشيدهم‬ ‫بيت يل‬ ‫يصعد عىل ظهر ذاكريت‬ ‫ال ينام‬ ‫ولكنه ال يدعني أنام‬

‫‪36‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫لوحة للفنان آسادور‬


‫محمد عنيبة الحمري‬ ‫كون عام‬

‫ُ‬ ‫وركبت الفضا ْء‬ ‫املواقيت‬ ‫ُمستعينا بع ْلم‬ ‫ِ‬ ‫م ْركبة للمس ْري‬ ‫ِسنْدباد أنا‬ ‫والبح ُر‬ ‫سامني ال ُّرب ْ‬ ‫خسفا‬ ‫ْ‬ ‫فرمت ُاألث ْري‬ ‫أسرتيح إىل قد ِري‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫بنجوم‬ ‫تهاوت‬ ‫ٍ‬ ‫نتهى‬ ‫إلىَ ا ُمل َ‬ ‫‪2‬‬

‫با ملَ َج ّرة ق ْد يلتقي الوالهون‬ ‫الربوج‬ ‫وبباب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ني متيلْ‬ ‫الكواكب ح َ‬ ‫احتفا ُء‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫فالجميل‬ ‫ْ‬ ‫املكان‬ ‫أن ُيضا َء‬ ‫تبوح‬ ‫بسحاب ِة ص ْي ٍف ْ‬ ‫ُ‬ ‫النجيامت يف م ْهدها‬ ‫تتل َّون تلك‬ ‫ْ‬ ‫امللكوت‬ ‫تتناث ُر يف‬ ‫ي َ‬ ‫الهم أنفاسها‬ ‫رش ُب ُّ‬ ‫ْ‬ ‫فتموت‬ ‫‪3‬‬

‫القلب‬ ‫ك َّلام كبرُ ت كو ُة ِ‬ ‫كان ِّ‬ ‫تس ٌع للمزي ْد‬ ‫لظل‬ ‫ِ‬ ‫هيامك ُم َ‬ ‫وإذا َّ‬ ‫غيم‬ ‫شل نو َر املح َّبة ٌ‬ ‫ميا ِن ُعني ما أري ْد‬

‫َسيضيئُ جام ُل ِك ْيك أستضيئْ‬ ‫والغام ُم ْ‬ ‫دليل‬ ‫بص َمت ُه دوا ِعي األس‬ ‫فا ْكتس‬ ‫ْ‬ ‫املستحيل‬ ‫ُجبة‬ ‫تجى يف حام ْه‬ ‫لفضا ٍء تداعَى وال ُم ْر ً‬ ‫‪4‬‬

‫ُ‬ ‫وتعيش حياة َالبحا ْر‬ ‫بني م ِّد وجزر‬ ‫كاملحا ْر‬ ‫ك َّلام غمر ْت ُه امليا ْه‬ ‫يحت ِفي بالقم ْر‬ ‫فاتحا صدف ْه‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫انسحبت ‪:‬‬ ‫وإذا‬ ‫ثم استدا ْر‬ ‫أغلق َ‬ ‫الباب َّ‬ ‫ساح ًبا ِم ْعطف ْه‬ ‫باحثا عنْ مكان ٍسوا ْه‬ ‫ِ‬

‫‪6‬‬

‫ترسو‬ ‫َوعَىل ِ‬ ‫فلك البرُ ج ُ‬ ‫سفين ُة ِع ْشقي‬ ‫أقو ُد حامقة َظنّ‬ ‫بأين أ ْقوى علىَ ص ّد قلبي‬ ‫ْ‬ ‫الخفقان‬ ‫عن‬ ‫ِ‬ ‫وأنت املدا ْر‬ ‫النجم ْأحيا ِ‬ ‫فأنا ُ‬ ‫ْ‬ ‫منك‪ ،‬لكنّني‬ ‫نشأيت ِ‬ ‫عشقي ْ‬ ‫ٌ‬ ‫أزرق من شساع ِة ْ‬ ‫إليك‬ ‫ني ال متنح َ‬ ‫أحم ٌر ح َ‬ ‫ني‬ ‫غيايب ُشعاعْ‬

‫‪5‬‬

‫تتح َّر ُك ْيك تستك ْني‬ ‫َ‬ ‫من مكانٍ‬ ‫إلىَ أمكن ْه‬ ‫أ ْو تدو ُر َر ًحى‬ ‫ْ‬ ‫تطحن العم َر إ ْذ تحتوي ْه‬ ‫و َمكاين الذي أمت َّد ُد في ْه‬ ‫أضيقُ َ‬ ‫اآلن‬ ‫ْ‬ ‫قل يل ‪:‬‬ ‫َ‬ ‫فكيف انتقا َيل‬ ‫من ُه إلي ْه‬

‫‪37‬‬


‫نصوص‬

‫محاوالت محاوالت محاوالت محاوالت محاوالت محاوالت محاوالت‬

‫عبدالقادر مكي‬ ‫نداءات عالية‬

‫زمناً عربت دواخيل‪..‬‬ ‫لحرف ما‬ ‫وتطلعت لغتي ٍ‬ ‫ورايئ املقام‬ ‫وغفوت أمتحن الرؤي أبدو رشوداً‬ ‫نازح التفكري منرسباً‬ ‫كلحن صيغ من ماء السكون‬ ‫ٍ‬ ‫بالنبض‬ ‫افه‬ ‫ر‬ ‫أط‬ ‫تلونت‬ ‫خالٍ‬ ‫من نواقيس الزحام‬ ‫ودنوت أجهل ما بنفيس‬ ‫قد تع ّري الغيم عند نواظري‬ ‫تقمصني الشتا‬ ‫قصداً ّ‬ ‫رعشت عصافريي فعانقها املسام‬ ‫قدري يحك الشمس ‪-‬يغمس همتي يف الصرب‬ ‫يكتبني رشيداً الهب التكوين‬ ‫صخريَّ القوام‬ ‫تتلو تصاويري صالة الع ِّز‬ ‫أصبغ ما جرى يف خاطري بالحب أشهد‬ ‫ما درت (سنار) مذ نامت بجنبي‬ ‫أنني وحدي حملت عىل دمي‬ ‫شهد الرجولة والسالم‬ ‫وعلوت أمشاج الذين تواثبوا‬ ‫من (دامر املجذوب)‬ ‫وعبأين الهيام‬ ‫هبني قد نظرت ببطن كفي‬ ‫هل أري قبساً بلوح أيب‬ ‫وذي طمرين يسهب يف الدعاء‬ ‫وعلمت كيف تفوح نفيس‬ ‫تشتهي لغ ًة معطرة الدوا ِة‬ ‫تلفني بعاممة األخيا ِر والبيت الرشيف‬ ‫‪38‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫وما أشاء‬ ‫لهف‬ ‫رهف ومن ٍ‬ ‫تتقطع األوصال من ٍ‬ ‫فنيت وال أزال‬ ‫ياااا قب ًة خلدت بذات الطني‬ ‫حطمت القرون‬ ‫رس بك باقٍ‬ ‫فأي ٍ‬ ‫واألمور اىل زوال‬ ‫ولعل أجنحة الزمان ترفُّ‬ ‫ّتذهب بالبىل تستاق عنك الهدم‬ ‫تطمح أن يزور مقامك الزايك املسيح‬ ‫و َتها ُف ِت األرض الحبيب ِة إذ ّ‬ ‫تغشاها‬ ‫السحاب‬ ‫قدر ما عمرت لدي( الحريان) فكرة أت‬ ‫يف ذات (الرشافة)‬ ‫صيغة العيش الفسيح‬ ‫وجلست قرب فتايت الولهى أحدّثها‬ ‫تخاف ع َّ‬ ‫يل أن أغفو‬ ‫بباب فراش ٍة ربطت بذات الدرب‬ ‫تحلم أن يواتيها نسيم الروح ترشع يف‬ ‫الرجاء‬ ‫ركن‬ ‫وعجبت إذ عمدت اىل ٍ‬ ‫وسالت من يديّ تحدّر املحراب‬ ‫(شيخي ههنا)‬ ‫عذراً فباركني أضوع اليك مسكاً‬ ‫يأتني طفيل معبق ًة خطاه‬ ‫نه ًام أق ّبل رأسه‪--‬يحنو‬ ‫ّ‬ ‫تغطينا أياديه الدفيئة‪-‬أنتهي وفتايت‬ ‫الولهى‬ ‫اىل النوم العميق‬ ‫ورأيت يف نومي أنادي يااا أيب‬ ‫خذين معك‪-‬من حاسة الشعر القيص اىل‬ ‫الحريق‬


‫ت محاوالت محاوالت محاوالت محاوالت محاوالت‬

‫جمال المال‬ ‫وكان عرشه عىل املاء‬

‫أشار لألفق صمتاً أيها الشفق‬ ‫ففوق أفقك هذا يل أنا أفق‬ ‫ومد سهواً لخلف املنتهى يده‬ ‫فقال‪ :‬جربيل مه ًال ‪ ،،،،‬سوف تحرتق‬ ‫ألقى عىل الغيب مندي ًال وقال‪ :‬أنا‬ ‫ومن سواي بهذا الليل قد شنقوا‬ ‫فأرخ الدهر تابوتاً يطوف به‬ ‫وخلفه الريح يغريها فتنطلق‬ ‫أعار كل نجوم العمر زرقتها‬ ‫حتى استحى منه وجه الفجر والفلق‬ ‫أغفى السحاب يقيناً فوق اصبعه‬ ‫السحب تتفق‬ ‫أىن يشري فم ْعه ْ‬ ‫وقال‪ :‬إين نبي املاء ‪ ،‬فانطفأت‬ ‫كل اللغات ‪ ،‬وظل الصمت والعرق !‬ ‫ونسوة قال إن يف القرص سيدة‬ ‫وإن فتاها أباه اإلثم والشبق‬ ‫إذ كلام غلقت باباً يقول لها‬ ‫نسيت باباً لروحي ليس ينغلق ‪....‬‬ ‫نادته للخلق إذ كل مبتىك ٍء‬ ‫مل يأت بعد ‪ ..‬ولكن باسمه صعقوا‬ ‫جاء الشتاء فضم العاملني به‬ ‫وقال ناموا ويل وحدي أنا األرق‬ ‫له املعري‪..‬أبومتام‪ ...‬بل وله‬ ‫(‪..‬الخيل والليل والبيداء‪ )..‬والورق‬ ‫وظل يشهر لألسامء قامته‬ ‫الجند من خلفه ‪ ،‬والبحر ينفلق‬ ‫حتى أفاق بياضاً حيث ال جسداً‬ ‫وحيث ال "أين" فيها عنه يفرتق‬ ‫هناك ال يشء إال أن يكون "أنا"‬

‫ومنتهى عمر هذا الكون يل رمق‬ ‫كل الجهات لوجهي تنتمي مق ًال‬ ‫فعريش املاء ال ريب وال قلق‬ ‫ماذا ستصنع يا نوح لتقنعه‬ ‫لنئ تساوى لديه الفلك والغرق‬ ‫خذ ما تشاء وقل ما أنت قائله‬ ‫إين الحقيقة ‪ ..‬واملاضون ‪ ..‬والطرق ‪..‬‬

‫الحسن عبدالعزيز‬ ‫ونسيت أن أحيا‬

‫متمسكاً بوجوده يف الـ ال وجود ‪..‬‬ ‫مقلتي ‪ -‬ع َّ‬ ‫يل ‪ ،‬أفيش ما‬ ‫متآمراً ‪-‬مع‬ ‫َّ‬ ‫أخبئ يف أضابري الهوي للريح ‪،‬‬ ‫تذروين ألصلب حيث ال يبيك عىل مويت‬ ‫أحد ‪.‬‬ ‫وكأنني ما جئت إال من دمي ‪ ،‬ألعود‬ ‫اب‬ ‫ملحاً للرت ِ‬ ‫وموطئاً لشوارع األسفلت ‪ ..‬تفلتني‬ ‫أناي‪. .‬‬ ‫وعىل الرصيف أحس من فوقي خطاي‬ ‫قبلتها ‪ ،‬ابتسمت ‪ ،‬وقالت‪ " :‬نلتقي عند‬ ‫الحصاد عىل السنابل والغبار"‬ ‫أخربتها أين سأزهر عن قريب ‪..‬‬ ‫منها الكؤوس ‪ ،‬ونحتيس ‪ ،‬مني العصارة‪،‬‬ ‫ننتيش حد الثاملة ‪..‬‬ ‫نلتقي يف زهريت يا خطويت ‪..‬‬ ‫فلتسليك هذا الطريق‬ ‫تفيض إيل هواجيس ‪ ،‬لغتي ‪ ،‬السنابل‬ ‫والرحيق‬ ‫حتى الدموع إذا جرت من مقلتي‬ ‫تفيض إىل‬

‫لوحة للفنان ضياء العزاوي‬

‫‪39‬‬


‫نصوص‬ ‫محاوالت محاوالت محاوالت محاوالت محاوالت محاوالت محاوال‬

‫إن تبحثي عني هنالك ‪ ،‬أوهنا ‪ ..‬سيان‬ ‫محض انتاميئ للبطولة زائف‬ ‫قابلت روميو‪ -‬يف الطريق لسيبويه ‪ " -‬أنعم‬ ‫صباحاً يا شهيد الحب ‪ ،‬لست مبعتب‪،‬‬ ‫أيقال عني ‪ -‬أيها العريب ‪ -‬حقاً ‪ ،‬ما تقول ؟‬ ‫" جولييت مل تك من حسان الحور ‪،‬‬ ‫مل يك يف الغدائر موطئ للحب يف الرمق‬ ‫األخري‬ ‫وقد التقينا ‪ -‬ال كام قيس ولياله عىل شفة‬ ‫الغدير –‬ ‫كمسافرين إىل أقايص األغنيات‬ ‫وقضيت مثل اآلخرين ‪ ،‬كام قضت هي ‪-‬‬ ‫مثلام عاشت ‪ -‬بال جسد يؤرقه املدى ‪،‬‬ ‫فألي مأكمة يحاكمني الردى ؟‬ ‫مل ينتحر روميو إذن ‪،‬‬ ‫لكنه ‪ -‬متمسكاً بوجوده يف الـ الوجود ‪-‬‬ ‫رشب الخلود ‪ ،‬ونسيت أن أحيا ‪..‬‬ ‫ُّ‬ ‫فمت ليك أسود‪..‬‬

‫منى حسن محمد‬ ‫َنز ُْف ال َغماَ ْم‬

‫هبان َش َ‬ ‫ُر ُ‬ ‫وقك أوقدوا َش ْم َع املَ َواو ِيلِ ال َع ِتي َق ِة‬ ‫أَ ْي َق َظ َوا َما َنا َم فيِ ُمدُ نِ ال ِغ َواي ِة َز ِاهدًا‬ ‫ِمنْ أَ ْل ِف عَا ْم!‬ ‫**‬ ‫رُهْ َب ُان َو ْج ِد َك أَسرْ َ ُفوا فيِ ال َو ْج ِد‬ ‫َقا ُموا َي ْق َر ُؤ َ‬ ‫ون َصلاَ َته ُْم‬ ‫الض َيا ِء الـ َي ْس َت ِقي َف ْر َط التَوهُّ ِج ِمنْ‬ ‫َت ْح َت ِ‬ ‫َو ِم ِي ِض عُ ُيو ِننَا‪..‬‬ ‫ِمنْ لَ ْم َع ٍة َشا َب ْت َب ِر ِيقَ َس َوا ِدهَ ا‬ ‫َذ َ‬ ‫ات ا ْن ِس َجا ْم‬ ‫‪40‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫**‬ ‫َيا أَ ُّيهَا املَ ْو ُشو ُم فيِ َق ْل ِبي‬ ‫ُس ُكونـاً‪َ ،‬وال ِت َحا ْم‬ ‫َيا أَ ُّيهَا املَ ْع ُج ُ‬ ‫ون ِمن ُح ُل ِمي‬ ‫َو ِمنْ أَلَ ِمي‬ ‫َو ِمنْ ُحزْنٍ ُيخالِ ُط ُه ا ْن ِهزَا ْم!‬ ‫رُهْ َب ُان َو ْج ِد َك َع َّم ُقوا فيِ َق ْل ِب َي الدَّا ِمي‬ ‫السهَا ْم!‬ ‫ِ‬ ‫**‬ ‫أَ َس ِفي َعلىَ َن ْه ٍر َتسرَ َّ َب ِمنْ أَ َيا ِد ِينَا‬ ‫َو َك َان ُزال ُل ُه َي ْر ُن َ‬ ‫وأل ْر ِض ال َب ْو ِح‬ ‫َي ْر ُجوأَ ْن تمَ ُ َّد ُسهولَهَا َن ْح َو ْاح ِت َي ِاج َي َد ْي ِه‬ ‫َن ْح َو َر َجا ِئ ِه‪..‬‬ ‫أَ ْن ُيز ِْه َر ال ُن َّوا ُر َح ْو َل ِض َفا ِف ِه‬ ‫أَ ْن ُي ُو ِر َق ال َف َر ُح ا ُمل َخ َّب ُأ فيِ ِمدَا ٍد ال َينَا ْم‬ ‫**‬ ‫الش ُ‬ ‫َف َ‬ ‫الش ْع ِر‬ ‫وق ِظ ُّل ِ‬ ‫َي ْت َب ُع َخ ْط َوهُ أنىَّ َي ِس ُري‬ ‫ات َن ْه َر َبال َغ ٍة‬ ‫َو ُي ْر ِس ُل اآلهَ ِ‬ ‫الحماَ ْم‬ ‫َي ْأ ِوي إلي ِه ِب َله َف ٍة َو َج ُع َ‬ ‫َيسرْ ِي ِب ِه ِسح ُر املَ َود ِة‬ ‫عَا ِبراً ُمدناً َت َرا َم ْت َح ْو َل َد ْر ِب َم َب ِاه ٍج‬ ‫سيت َمال ِم َحها ال ُل َغ ُ‬ ‫َن ْ‬ ‫ات َوأَ ْج َد َب ْت‬ ‫أَ ْف َيا ُؤهَ ا‬ ‫ِمنْ َب ْع ِد ُخضرْ َ ِة َو ْج ِه َك املَ ْغ ُر ُو ِس فيِ‬ ‫أَ ْن َحا ِئهَا‬ ‫ُمن ُْذ ا ْنـتـِدَا ِء ال َن ْب ِض‬ ‫الخ ْف َق ِة ُ‬ ‫ُمن ُْذ َ‬ ‫األ ُول‬ ‫َو َفا ِت َح ِة الت َ​َش ُّوقِ َوال َغ َرا ْم‪..‬‬


‫رأي الناقد‬

‫من ديوان العرب‬ ‫إلى ديوان هواجس العرب‬ ‫قراءة في نصوص العدد األول من «بيت الشعر»‬ ‫ً‬ ‫ناقدا ليقوم بقراءة لنصوص العدد السابق‪ ،‬والهدف من ذلك إرساء‬ ‫نستضيف في هذه الفسحة من كل عدد‬ ‫تقليد جديد يستدرج النقد إلى حقل الشعر‬

‫حكمت النوايسة‬ ‫نصا كون ًّيا بامتياز‪ ،‬من خالل ما متنحه الضامئر‬ ‫فرحي باملجلة حفزين لقراءة نصوص العدد‬ ‫ًّ‬ ‫النص إىل نبوءته التي قد‬ ‫األول قراءة متلق‪ ،‬متذ ّوق‪ ،‬ال قراءة ناقد يع ّقد‬ ‫من إحاالت تقود ّ‬ ‫يكون السومريّ قبالها أصغر بكثري من حلمه‪،‬‬ ‫السهل‪ ،‬ويل ّفق املستحيل‪ ،‬ومن هنا رحت يف‬ ‫ّ‬ ‫لك ّنه أكرب من العامل الذي يحاول أن يصادر‬ ‫رحلة شائقة مع هذه النصوص‪ ،‬أحاول أن‬ ‫هذا الحلم‪ ،‬وتظل نكهة اّ‬ ‫العلق ماثلة وبصمته‬ ‫أستبطنها‪ ،‬وأرى إليها بوصفها قد تج ّمعت من‬ ‫الخاصة جميلة متجدّدة‪.‬‬ ‫مناطق عديدة يف فضائنا العريب‪ ،‬ومن تجارب‬ ‫ّ‬ ‫ومن الفضاء الكوين لعيل جعفر العالق‬ ‫غري مؤتلفة يف عمر أو انشغال‪ ،‬وكنت أبحث‬ ‫انتقلت إىل فضاء يوسف أبو لوز‪ ،‬وإىل نكهته‬ ‫فيها عن «ديوان العرب» الذي قيل إنه غادر‬ ‫ً‬ ‫ال ّرب ّية التي تنقلنا من التوق إىل الخلود واستمرارية مباهج‬ ‫الشعر‪ ،‬وإحساس العريب الذي قيل إنه مل يعد موجودا يف‬ ‫النزق والعشق‪ ،‬إىل فاجعة أن نكون عىل قيد الدنيا‪ ،‬ثم ننسج‬ ‫«شعركم الجديد»‪.‬‬ ‫بدأت مع الشاعر عيل جعفر اّ‬ ‫العلق‪ ،‬ومعه رأيت العامل يقف مالءة األفكار بـ «ال»‪ ،‬هي أيضاً تصلح أن تكون لسقراط‪،‬‬ ‫أو لديوجني وهو يفتش عن الحقيقة يف ماملك خالية من‬ ‫يف نصوصه‪ ،‬والعامل هنا املرجع وظالله‪ ،‬ويحرد النص عندها‬ ‫الخاصة‪ ،‬ويرسم بالكتابة الشعر تترسب بني الكلامت‪ .‬وبعدئ ٍذ تقودنا القصيدة الثالثة‬ ‫ليقف خارج هذا‪ ،‬وميارس نرجسيته ّ‬ ‫ً‬ ‫إىل املوازنة بني أرض الشعر التي يصنعها الشعراء معادالً‬ ‫قوانني الحياة التي عاشها الشاعر يف عامله‪ ،‬مقاوما فيها أن‬ ‫للماملك التي يصنعها الطغاة‪ ،‬فالشعراء يو ّرثون أبناءهم عاملاً‬ ‫يكون «سواه»‪ ،‬منترصاً فيها عىل ما كان‪ ،‬وعىل قوانني أخرى‬ ‫يتواضع عليها العامل لتغيب فيها الحقيقة‪ ،‬الحقيقة التي يراها مؤ ّنثاً أموم ّياً‪ ،‬فيام يو ّرث اآلخرون املوت وأدواته‪ ،‬والشعراء‬ ‫الشاعر من دون غريه‪ ،‬الحقيقة التي يرى فيها الشاعر األبوين هنا ليس ناظمي الشعر‪ ،‬وإمنا أولئك األذكياء الذين يعرفون‬ ‫ّأن وجودهم توازن الحياة وبهاؤها‪ ،‬لريى الشاعر ما مل تره‬ ‫«كالغيم القديم»‪ ،‬ويرى أثرهام يف تسديد خطاه للمرايث‪،‬‬ ‫األعني «دولة الفلسفة يتيمة هذا الزمان عىل شاطئ املتوسط‬ ‫لتكون «ربمّ ا» عنوان القصيدة‪ ،‬وينقلها من فضائها الداليل‬ ‫القديم إىل الفضاء الجديد‪ ،‬حيث كانت تعني ّ‬ ‫الشك‪ ،‬وصارت بالقرب من دولة الطائفة»‪.‬‬ ‫ومن فضاء املوسيقى الكرنفال ّية يف نشيد الحياة الشاعرة عند‬ ‫تعني اليقني‪ ،‬ومن «ربمّ ا» إىل «عشبتان عىل طلل» ننتقل‬ ‫اّ‬ ‫العلق وأبو لوز‪ ،‬ننتقل إىل قصيدة النرث مع أحمد العسم‪،‬‬ ‫يجاجه بـ «ربمّ ا‪ ،‬وغري‬ ‫من الصوت املفرد الذي يتخ ّيل آخر ّ‬ ‫ونبحر يف فضاء الكتابة‪ /‬توأم قصيدة النرث التي ولدت يف‬ ‫خفي‪ ،‬حيث يبني‬ ‫أنيّ » إىل مزج األصوات يف صوت متعال ّ‬ ‫أحضانها‪ ،‬ومعه نسري يف تضاعيف العبارة التي تتوالد بتكثيفها‬ ‫ثم ننتقل إىل‬ ‫القصيدة عىل التنقل بني الخلفية والصوت‪ّ ،‬‬ ‫لتستكشف دائرة الفضاء ال لتقول‪ ،‬وإنمّ ا لتصف ما ترى‪ ،‬وال‬ ‫«عشبة السومري» التي يس ّيجها التكثيف السرّ دي فيجعلها‬ ‫‪41‬‬


‫رأي الناقد‬

‫الشعر حالة خروج مستم ّرة يغ ّلفها إقبال شغف‪ ،‬ويف ط ّياتها‬ ‫ترسل الوصف‪ ,‬إمنا لتستغرق فيه‪ ،‬إذ هو الحالة يف قصيدة‬ ‫الحالة‪ ،‬التي «تمُ ْشهد» العادي‪ ،‬وتنفض عنه األلفة‪ ،‬وتضعه يف وجنباتها القلق العميق‪ ،‬بل الـ «ال» الجميلة التي تحاول أن‬ ‫و«ترسد» املتبادل بني الشاعر واألشياء‪ .‬تكون أكرب من جواب‪ ،‬وأعمق من مظهر‪ ،‬تسافر يف نصوص‬ ‫دائرة الغرابة‪ ،‬والج ّدة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫املال يف التفاصيل التي تؤنسن الغياب‪ ،‬وتبني للحنني جسداً‬ ‫أ ّما الشاعرة شيخة املطريي‪ ،‬فإنها ترسم بقصيدتها «املقهى»‬ ‫من االحتامالت التي تجعل الوردة سوداء‪ ،‬والغرف تفيض‬ ‫غابة جميلة من أسئلة‪ ،‬وتستغرق يف صوغ عامل متكامل‬ ‫بالـ «صحراء» وحيث يتعادل الكائن مع ورقة «نصفها حي‬ ‫من حنني وأمنيات ال يستطيع إال الفن‪ ،‬وهو الشعر هنا‪،‬‬ ‫ونصفها ميت» تسقط عن شجرة الحياة‪.‬‬ ‫أن ينسجه ويجعلنا نذوب فيه كأ ّنه الحقيقة‪ ،‬لكنّ الشاعرة‬ ‫ومع عبدالله العرميي يف «الطريق إىل البيت» نستمع إىل‬ ‫تنقلنا من حالة التأ ّمل تلك إىل قفلة مو ّفقة تنترص للشعر‬ ‫وإمكاناته يف رسم عوامل موازية قابلة للحياة ولو يف القصيدة‪ ،‬موسيقى هادئة مت ّرر رشيط الطفولة وانفالتها من قوانني‬ ‫التواضع‪ ،‬ونصغي إىل لحن متجانس يفتح الباب لتضا ّد الصور‬ ‫بلغة تؤثث الفراغ‪ ،‬وتؤنسن مفردات العزلة‪ ،‬وتجعلها قادرة‬ ‫بني زمانني‪ ،‬وبني بيتني‪ ،‬بيت الطفولة الذي يتل ّون فيه الرتاب‬ ‫عىل حمل املشاعر«هل كان هنالك مقهى‪ /‬أم ّأن الشعر‬ ‫مثل الفراشة‪ ،‬وزمان الطفولة الذي يخىش صعود درج العمر‪،‬‬ ‫أذاب الحلم بقهوة روحي ومت ّناك»‪.‬‬ ‫أو يغادره يف حالة وجد عابرة تلملم ظالل الطفولة يف الذاكرة‬ ‫وأما فاتحة مرشيد‪ ،‬فبهدوء األحرف وانشغالها يف تل ّمس‬ ‫الفراغ‪ ،‬وفتح أبوابه‪ ،‬تنساب نرثيتها «ما مل يقل بيننا»‪ ،‬لتجرتح لتستعني بها عىل ما كان وما يكون من عمر مل يعد يعت ّد بـ‬ ‫أسئلة الذهاب إىل النهايات البعيدة التي نقف عندها ونقرر‪« ،‬صيد الكواكب»‪.‬‬ ‫ومع يوسف املحمود نذهب يف الحنني إىل املستقبل‪ ،‬الحنني‬ ‫النهايات املرشوعة‪ ،‬واملرشوع الوصول إليها‪ ،‬بل املطلوب‬ ‫الوصول إليها يف أعامر ال تحتمل كثرياً من الضباب والغموض‪ ،‬الذي مل نعشه‪ ،‬وإذ يرجئ هذا الحنني عىل شكل أسئلة‪ ،‬فإنهّ‬ ‫يتّكئ عىل ثالثني عاما تك ّثف فيها األخرض يف عينني تخضرّ ان‬ ‫فـ «كم يلزمني من مجيء ألبتعد أكرث» سؤال ينشد تلك‬ ‫حتّى الغيم‪ ،‬وعندما يتجاوز ا ُملرجأ إىل املستقبل‪ ،‬واملك ّثف‬ ‫النهاية‪ ،‬نهاية املجيء ليكون البعد‪ ،‬ونهاية السقوط ليبدأ‬ ‫يف العشق‪ ،‬يتجاوزه إىل بدء الخليقة‪ ،‬وإىل املشاكسة األوىل‬ ‫النهوض‪ ،‬والشعر هنا ليس يف السؤال وال يف املعنى‪ ،‬إ ّنه يف‬ ‫عندما كان الوطن براري ليس فيها إال عاشقان يتقاسامن‬ ‫الحالة التي تتم ّثلها القصيدة وتتأ ّملها‪ ،‬حني يعيش الكائن‬ ‫َ‬ ‫طفولة األشياء و ُمبتدأها‪« ،‬قطفت لك النار عن شجر النهر»‪،‬‬ ‫شغف واحد‪.‬‬ ‫الحالة وضدّها تحت سقف ٍ‬ ‫قبل سبعة آالف عام‪ ،‬وهناك كان العاشق ال يحمل إال اسمه‪،‬‬ ‫وإذ يهدي إبراهيم املال نصوصه إىل املرحوم أحمد راشد‬ ‫ثاين‪ ،‬فإ ّنه يلتزم قوانني اإلهداء األديب غري املجاين‪ ،‬حيث يكون وال يشاركه يف اسمه إال ظ ّله‪ ،‬وكان ييضء الخيام بقلبه‪ ،‬لتكون‬ ‫القفلة باإلرجاء أيضاً‪ ،‬وبالرحيل إىل الغياب‪،‬‬ ‫النص بني املتهادين‬ ‫إىل االسم املحبوس فيه‪ ،‬حيث هناك‬ ‫حالة‪ ،‬واشتغاالً‪ ،‬وحيث‬ ‫الحضور العيصّ عىل التغييب‪.‬‬ ‫تجسرّ القصائد بني‬ ‫تجمعت‬ ‫نصوص العدد‬ ‫ّ‬ ‫ويف قصيدة دخيل الخليفة «دمية يف شوارع‬ ‫عاملي املال وأحمد‬ ‫في‬ ‫عديدة‬ ‫مناطق‬ ‫من‬ ‫نيويورك» تأخذنا اللغة والصورة واإليقاع‬ ‫راشد ثاين‪ ،‬وهو عامل‬ ‫فضائنا العربي‪ ،‬ومـن‬ ‫يف رقصة رسيعة‪ ،‬مليئة بالصور الجديدة‬ ‫آخر‪ ،‬أكرث وحشة‪ ،‬وأقل‬ ‫ّ‬ ‫املحلقة‪ ،‬والتواشج اإليقاعي الذي يربط‬ ‫إقباالً يف معرتك املتاح‬ ‫تجارب غير مؤتلفة في‬ ‫بينها عندما يتنافر املعنى إىل ح ّد ما‪ ،‬فتصري‬ ‫واملقبول‪ ،‬منذ «هبوط‬ ‫عمر أو انشغال‬ ‫القصيدة أغنية بإيقاع رسيع‪ ،‬قد ال تستقيم‬ ‫الحب بثوبه األسود»‬ ‫قراءتها إذا قرأناها ببطء‪ ،‬ألن ذلك يض ّيع‬ ‫إىل إنصات الحامئم‬ ‫ملمحاً بنائياً مه ًام فيها‪.‬‬ ‫«ألنني الرماد»‪ ،‬وهنا‬

‫‪42‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫لوحة للفنان فاتح املدرس‬

‫وأ ّما قصيدة أحمد الصويري «خذين إىل الشام» فإنها بالتزامها‬ ‫عمود الشعر العريب مل تغادر إىل أنساقه القدمية‪ ،‬وإنمّ ا‬ ‫ارتهنت إىل حارضها‪ ،‬ووقفت شاهدة تقول ّإن هذا العمود‬ ‫قادر عىل أن يتج ّدد مع الشعراء‪ ،‬فجاءت الصورة مق ّدرة عىل‬ ‫اإليقاع بال إسفاف‪ ،‬وباستفادة واضحة من الطاقة الدالل ّية‬ ‫والرصف ّية يف اللغة‪.‬‬ ‫وأ ّما قصيدة روجيه عوطة «سرية شوبان بعد أن نفد الورق‬ ‫مني» فإنها تذ ّكرنا بلوحة انطباع ّية مفعمة باستبطان األثر‪،‬‬ ‫واألثر هنا أثر شوبان‪ ،‬حيث تفتح املوسيقى خاليا الروح‪،‬‬ ‫ويعرب الكائن نهراً لن يعود إليه‪ ،‬أو لن يكون نفسه إذا عاد‬ ‫إليه‪ .‬وإذا كانت القصيدة تحتكم إىل إشاراتها‪ ،‬ومرجع ّياتها‬ ‫الخاصة‪ّ ،‬‬ ‫فإن هذا ديدن قصيدة األثر‪ ،‬أو االنطباع بوجهه‬ ‫ّ‬ ‫اإليجايب‪ ،‬حيث ينحاز الفن إىل الفن‪ ،‬وتغادر روح الشاعر‬ ‫العامل ومتع ّلقاته لتبدو الكرة األرضية «ج ّثة هامدة أمام‬ ‫عدسات التصوير»‪.‬‬ ‫وإذا انتقلنا إىل قصيدة نبيلة الزبري «يشء آخر يف السقيفة»‪،‬‬ ‫فإننا حينئذ أمام نص رشيد األزمنة‪ ،‬حيث تؤ َّثث الكلمة‬ ‫بتاريخها وحضورها الداليل‪ ،‬وتغادره لتصبح عجينة طيعة‬

‫يف رؤيا حضار ّية‪ ،‬رؤيا تتكئ عىل مشهد ّية تعانق الفضاء‬ ‫النص زمان ّيا‪ً،‬‬ ‫الداليل للسقيفة مبا هو متحقق وواقعي‪ ،‬يجعل ّ‬ ‫يف الوقت الذي تؤثث فيه خلف ّية املشهد بفلتات تشده إىل‬ ‫أزمنة أخرى‪ ،‬لتتش ّكل الرؤية من مفارقه هذا وذاك‪.‬‬ ‫قصيدة محمد عزام «الحر ّية» ُشدّت إىل واقعها بخطابها‬ ‫الواصف‪ ،‬ونربتها التي ارتهنت لإليقاع‪ ،‬فتعانق مع الخطاب‬ ‫يف أداء نشيد الحر ّية التي ك ّبلتها الضامئر فصارت الحر ّية‬ ‫الخاصة‪ ،‬أي الحر ّية غري الشعرية‪ ،‬الحر ّية التي ينشدها العر ّيب‬ ‫ّ‬ ‫النص‪ ،‬وفق هذا‪ ،‬صوت الـ «نا»‬ ‫ليصبح‬ ‫امللتبس‪،‬‬ ‫زمنها‬ ‫يف‬ ‫ّ‬ ‫وليس صوت الـ «أنا» الذي هو صوت الشاعر‪.‬‬ ‫وتعيدنا مليس سعيدي يف قصيدة «عند الحا ّفة» إىل صوت‬ ‫الخاصة‪ ،‬من‬ ‫الشعر الذي يستشعر األشياء‪ ،‬وميارس «غرابته» ّ‬ ‫خالل هذه التوقيعات النرث ّية التي تصنعها كـ «كتل» شعرية‬ ‫غري متح ّررة من املعنى‪ ،‬تح ّررها من ذاكرته‪ ،‬وصناعة ذاكرة‬ ‫جديدة للعبارة‪ ،‬وذلك ببناء مشهد ّية كاريكاتور ّية تسلسل ّية‬ ‫تك ّثف فيها عني الشاعرة تجاه األشياء التي ليست مج ّرد‬ ‫أشياء‪ ،‬وإمنا ظاللنا فيها‬

‫‪43‬‬


‫ً‬ ‫نظريا‬

‫‪.‬‬

‫صبحي حديدي‬ ‫‪.............................................................................................................‬‬

‫روح الصوت‬

‫العالقة‬

‫ثم األثر السحري الذي متارسه املوسيقى عىل الروح‪ ،‬وبالتايل عىل الشعر بوصفه‬ ‫بني املوسيقى واملطلق‪ّ ،‬‬ ‫أحد أبرز الفنون التي تخاطب الروح‪ ،‬كانت قد شغلت الوجدان اإلنساين منذ أقدم العصور‪ .‬وكان اإلغريق‬ ‫قد فسرّ وا هذه العالقة عىل نحو مثري بالفعل‪ ،‬حني اعترب الفالسفة والرياضيون الفيثاغوريون ّأن «العامء السدميي» غري‬ ‫املحدود كان يخ ّيم عىل الكون بأرسه‪ ،‬حتى ولدت هرمونية املوسيقى‪ ،‬فانترص النظام عىل العشوائية‪ ،‬والخري عىل الرش‪،‬‬ ‫وألن املوسيقى تج ّلت أوالً يف أصوات الطبيعة من خرير وحفيف وتغريد‪ ،‬ثم ّ‬ ‫واملحدود عىل الالمحدود‪ّ .‬‬ ‫ألن البرش صنعوا‬ ‫موسيقى خاصة بهم حني نجحوا يف محاكاة موسيقى الطبيعة‪ّ ،‬‬ ‫فإن النقلة «التقنية» الكربى التالية كانت ابتكار مختلف‬ ‫إيقاعات الشعر وأوزانه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مثري أيضاً ما و َق َع من تباين يف تفسري الثقافات ملدى ما يكمن يف املوسيقى من خري أو ّ‬ ‫رش‪ ،‬طبقا لفيزيائية تك ّون وانطالق‬ ‫الصوت أو النغمة‪ ،‬األمر الذي عنى أيضاً نوعاً من إسناد «معنى» ما لهذا الشكل أو ذاك من إيقاعات الشعر‪ .‬ففي الرشق‬ ‫كانت النفخة متنفس الروح ومبتدأ الخلق‪ ،‬واحتلت آالت النفخ مكانتها كأسلحة يف أيدي الشخوص األسطورية الخيرّ ة؛ أما‬ ‫يف اليونان فإن آالت النفخ كانت أداة إغواء الروح‪ ،‬واقتيادها إىل عوامل ّ‬ ‫الرش السفلية‪ .‬وليس التباين يف التأثريات الصوتية‪/‬‬ ‫ثم جاملياً‬ ‫ً‬ ‫الداللية ألوزان الشعر‪ ،‬بني ثقافة غربية وأخرى رشقية مث ًال‪ ،‬إال انعكاس ذلك التضارب يف استقبال النفخة روحيا‪ّ ،‬‬ ‫بعدئذ بالطبع‪.‬‬ ‫من هذا كله تتضح عالقة وثيقة بني املوسيقى والروح‪ ،‬ثم بني الروح والشعر باعتباره رديف املوسيقى وتوأمها الفنّي منذ‬ ‫أقدم الحضارات اإلنسانية‪ .‬وحني نتحدث عن العالقة بني املوسيقى والشعر فإننا نتحدث عن األغنية‪ ،‬واملزاج الغنايئ‪،‬‬ ‫واإلنشاد‪ ،‬والرتنيم‪ ،‬وما إىل هذا كله‪ .‬ويجدر التذكري ّ‬ ‫وحسان بن ثابت صاحب‬ ‫بأن العرب كانت تقول « ِم ْق َود الشعر الغناء»‪ّ ،‬‬ ‫بيت شهري يقول‪« :‬تغنّ يف كل شعر أنت قائ ُله‪ّ /‬إن الغنا َء لهذا الشعر مضام ُر»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ولعل أبسط‪ ،‬ورمبا ّ‬ ‫أدق‪ ،‬تعريفات األغنية هو ذاك الذي يصفها بأنها « َق ْول لفظي يعتمد عىل املوسيقى للتعبري عن املشاعر»‪،‬‬ ‫أي التعريف الذي يقرنها بالشعر عىل وجه التحديد‪ ،‬ويجعلها مزيجاً موفقاً من تأثري الشعر وتأثري املوسيقى‪ .‬ومن وجهة‬ ‫النص الشعري من دون النرث‪ ،‬ويندر أن نجد أغنية مصاغة من مقطع نرثي ال يتصف‬ ‫تاريخية‪ ،‬اعتمدت املوسيقى عىل ّ‬ ‫بالحدود الدنيا من كثافة التعبري الشعري‪.‬‬ ‫صح القول‪ ،‬هنالك تصنيفان أساسيان‪ .‬األ ّول شكيل يدور حول األوزان الشعرية‪ ،‬واإليقاعات‪،‬‬ ‫ويف «معاملة» الشعر غنائياً‪ ،‬إذا ّ‬ ‫وتقسيم القصيدة إيل مقاطع قصرية أو طويلة‪ ،‬واستخدام القافية‪ ،‬وما إىل ذلك‪ .‬والثاين داليل يتع ّلق باملوضوع‪ ،‬واللغة‬ ‫املستخدمة‪ ،‬والعاطفة السائدة يف القصيدة‪ ،‬وسواها‪ .‬ويصعب يف الواقع فصل هذه االعتبارات إال يف أغراض التحليل النقدي‪،‬‬ ‫تتوحد لتحقيق درجة كافية من االندماج بني الكلمة والنغمة‪ ،‬أو تتفكك فال ُتح ّقق‬ ‫ألنها جميعاً مبثابة عوامل متكاملة ّ‬ ‫املوسيقى‪ ،‬وال ُتبقي الشعر عىل حاله األصلية‪.‬‬ ‫وألن املوسيقى ارتبطت عىل الدوام بالرحلة األسطورية للروح يف العامل القديم‪ ،‬وبالتجربة السحرية والروحية والدينية والجاملية‬ ‫يف العصور الالحقة من الوعي اإلنساين‪ّ ،‬‬ ‫فإن التقاء املوسيقى بالشعر يف األغنية يع ّد االتصال األكمل بني قدرة املوسيقى عىل‬ ‫ّ‬ ‫التعبري اإليحايئ عن طريق األنغام الدا ّلة املج ّردة‪ ،‬وبني قدرة الشعر عىل التعبري اإليحايئ عن طريق الكلامت الدالة املحسوسة‬ ‫املعنى‪ .‬وقد ال ّ‬ ‫ميل املرء‪ ،‬هنا‪ ،‬من استعادة تعبري «هيئة الصوت»‪ ،‬الذي أطلقه الشاعر اإلنكليزي ديالن توماس ذات يوم‬ ‫‪44‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫تحقيق‬

‫؟‬

‫هل هي ظاهرة عربية؟‬

‫«القطيعة المعرفية»‬ ‫بين األجيال الشعرية‬ ‫مظاهرها ومآالتها في اإلمارات‬

‫حقا هناك «قطيعة»‪ ،‬بالمعنى المعرفي للكلمة بين األجيال الشعرية العربية؟ ً‬ ‫ً‬ ‫إذا ماذا عن اإلمارات‬ ‫هل‬

‫ً‬ ‫جزءا من المشهد الشعري العربي والحراك الشعري بكل أسئلته وقلقه؟ بل وقبل ذلك ما تجليات‬ ‫بوصفها‬ ‫هذه «القطيعة»؟ هل يمكن القول إنها تتحدد في عدم قراءة المنجز الشعري الراهن من قِ َبل الشعراء من‬

‫بين أبناء الجيل الشعري الواحد وكذلك أبناء األجيال األخرى الالحقة والسابقة؟‬

‫ً‬ ‫عربيا‪ ،‬وكيف ينظر الشعراء‬ ‫ثم هل تشهد اإلمارات هذا النوع من «القطيعة»؟ مثلما هي الحال السائدة‬

‫ً‬ ‫تحديدا‪ ،‬إلى هذه الظاهرة على المستوى المحلي؟‬ ‫اإلماراتيون‪ ،‬بل مَ ْن يوصفون بأنهم حداثيون من بينهم‬

‫إن اقتراحات اإلجابة عن هذه األسئلة في هذا التحقيق‪ ،‬الذي بدأناه بمقاربة لهذه الظاهرة مع الشاعر‬ ‫اّ‬ ‫ً‬ ‫عربيا ثم مع عدد من الشعراء‬ ‫العلق‪ ،‬هي محاولة لتأطير هذه الظاهرة وتجلياتها‬ ‫والناقد علي جعفر‬

‫اإلماراتيين فكانت هذه الحصيلة‪:‬‬

‫جهاد هديب‬

‫‪45‬‬


‫تحقيق‬

‫فرضية تحتاج إلى نص يختبرها‬ ‫خلود املعل‬

‫أغلب‬

‫الظن أن يف األمر افرتاضات مسبقة‪ .‬عىل‬ ‫األقل يحتاج املرء إىل أن يتأكد من أنه‬ ‫بالفعل هناك «قطيعة» ما بني أجيال‬ ‫الشعر يف اإلمارات‪ ،‬إذ أننا هنا بصدد فرضية تحتاج إىل اختبار‬ ‫وبرهنة بناء عىل القصيدة ذاتها‪ ،‬أو تحتاج إىل أن نتأمل فيها‬ ‫أكرث‪.‬‬ ‫أن تكون هناك «قطيعة» يعني أن القصيدة التي أنجزها‬ ‫الشعراء هنا يف اإلمارات أو يف أي مكان آخر ليست مختلفة‬ ‫بل هي تراكمية عىل صعيدي اللغة والتعبري إن مل نضف إىل‬ ‫ذلك الصورة الشعرية أيضاً‪ ،‬غري أن حدوث هذه «القصيدة» املقروء‪ ،‬عىل مستوى رؤية الشاعر يف بناء القصيدة وموقع‬ ‫أو هذا املنجز الشعري نادر إن مل يكن من غري املمكن‬ ‫«الذات» منها وبأية أفكار‪.‬‬ ‫مع‬ ‫أختلف‬ ‫حدوثه ألنه ضد منطق الشعر ذاته‪ .‬من هنا أنا‬ ‫فالشاعر الذي ال يتصل مباضيه الشعري العريب وموروثه‬ ‫هذا املفهوم‪« :‬القطيعة» ألن الرتاكم واالختالف ال ميكن أن‬ ‫الفني ال ميكن له أن يكتب قصيدة حديثة إال إذا انبنت عىل‬ ‫يصدرا إال عن «ذات» واحدة هي «ذات» الشاعر‪ .‬فالذات‬ ‫رؤية غامئة أو غري واضحة أو مل تنضج بعد مبا يكفي لوالدة‬ ‫هنا هي رشط التعبري عن «ذات» الشاعر التي عالقتها بأشياء قصيدة حديثة‪.‬‬ ‫أضيف إىل ذلك‪ ،‬أن ّ‬ ‫العامل من حولها هي عُ رضة للتغيرّ والتبدّل‪.‬‬ ‫كل واحد منا‪ ،‬نحن شعراء الحداثة هنا‬ ‫بناء‬ ‫ألي‬ ‫ومقصود‬ ‫أيضاً «القطيعة» هي عملية هدم منظم‬ ‫له أسلوبه وأداؤه وموقفه من العامل املحيط به‪ ،‬أي أن لديه‬ ‫سابق‪ ،‬عل ًام أن الشعر ليس نسيجاً أو معامراً مكتم ًال وناجزاً‬ ‫مخزونه الثقايف الخاص به وكذلك الحيايت الذي جعل ّ‬ ‫كل منا‬ ‫قد انبنى من قصيدة‬ ‫يختلف عن اآلخر‪ .‬وأظن‬ ‫فقصيدة أخرى تجاورها‬ ‫أنه لوال هذا األمر ملا أمكن‬ ‫إن التعبير عن الخبرات اإلنسانية والمـيول‬ ‫ّ‬ ‫يف البناء وأخرى تعلوها‬ ‫لقصائد وشعراء من اإلمارات‬ ‫والرغبات والطبائع الشـخصية يختلف‬ ‫مع أنه من املمكن‬ ‫أن يصلوا إىل ما هو أبعد من‬ ‫باختالف الزمان والمكان‬ ‫حدوث تقارب ما بني‬ ‫الجغرافيا التي تخصهم مبا‬ ‫قصيدة وأخرى عىل‬ ‫لهذه القصائد من إرث ثقايف‬ ‫مستوى أساليب التعبري عن «الذات» وطرائقه‪.‬‬ ‫وإنساين وامتداد‪ .‬وقد حدث ذلك عىل نحو طبيعي إذ أنه‬ ‫ً‬ ‫من جهة أخرى‪ ،‬ال ميكن للشاعر إال أن يكون قد اطلع عىل‬ ‫لو مل تكن هناك يوما عربة يجرها الحصان ملا أمكن للبرشية‬ ‫املوروث الشعري العريب بطريقة أو بأخرى وبهذا ال َقدْر أو‬ ‫التقدم باتجاه طائرة تحلق يف السامء‪ ،‬ورغم أنه ال تشابه‬ ‫ذاك‪ ،‬لكن ما يكتشفه املرء إذ يتأمل ما كتب هو يف هذا‬ ‫بينهام إال أنهام يهدفان إىل تحقيق الغرض ذاته األمر الذي‬ ‫الحقل أن التعبري عن الخربات اإلنسانية وامليول والرغبات‬ ‫مي ّثل فكرة جامعة بينهام‪ ،‬وهذا متاماً ما حدث عىل املستوى‬ ‫والطبائع الشخصية مختلف متاماً باختالف الزمان واملكان‪.‬‬ ‫الشعري فلو مل يكن هناك جيل آباء ملا أمكن لجيل يكتب‬ ‫قصيدة الحداثة أن يظهر أبداً‬ ‫من دون أن مينع ذلك االستفادة من املوروث الشعري‬

‫‪46‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫القطيعة المعرفية بين األجيال الشعرية‬

‫أي شعر يشبه ماضيه‬ ‫يُحدث «قطيعة»‬ ‫جامل عيل‬ ‫رمبا من املفهوم جيداً ْأن تكون هناك «قطيعة» ما‪ ،‬لكن‬ ‫«القطيعة» بحد ذاتها املوجودة والراهنة ليست مفهومة‬ ‫متاماً‪ .‬أيضاً مثة سؤال يطرحه الشاعر عىل نفسه هنا‪ :‬هل‬ ‫ع ّ‬ ‫يل أن أكتب تلك القصيدة التي سبقني إىل كتابتها شعراء‬ ‫آخرون بحكم العمر ومرور الزمن وظهور األجيال؟ بالنسبة يل‬ ‫ستكون اإلجابة بالتأكيد ال‪.‬‬ ‫إذ من الطبيعي ّأن لكل جيل أحالمه وطموحاته وأشواقه‬ ‫العليا التي هي من طبيعة مختلفة ليس بني أجيال شعرية‬ ‫بل كذلك بني أبناء الجيل الواحد‪.‬‬ ‫يدرك املرء ذلك عندما يقرأ قصيدة تبتعد عن ماضيها‬ ‫الشعري وموروثها وتنتمي إىل الواقع عىل مستويي الحلم‬ ‫وطريقة التفكري فأنت تكتشف حداثتها وانتامءها لعرصها‬ ‫إذ تكون أقدر عىل التعبري عنه‪ .‬بالتايل الشاعر الذي ال يهضم‬ ‫ويستوعب الواقع من حوله جيداً ويعبرّ عن ذاته وأحاسيسه‬ ‫ومشاعره جيداً فهو غري قادر عىل هضم واستيعاب معنى أن‬ ‫تكون القصيدة جديدة وابنة زمنها الراهن تعبرياً وطريقة يف‬ ‫التعبري‪ ،‬أضف إىل ذلك التعبري عن املكان املشرتك بني األجيال‬ ‫الذي يتغري بتغيرّ الحياة نفسها وطريقة تقديم القصيدة‬ ‫لقارئها ومن قبل ذلك االشتغال عليها وتحريرها واالنتباه إىل‬ ‫لغتها ومفرداتها إذ من غري املمكن لشاعر حديث أن يكتب‬ ‫اآلن قصيدته بلهجة قبيلة من القبائل العربية التي سادت‬

‫قبل ظهور اإلسالم‪.‬‬ ‫هنا نحن نتحدث عن تقاليد كتابة ووسائط انتشار هذه‬ ‫الكتابة التي باتت مختلفة عن املايض القريب بالتأكيد‪،‬‬ ‫فالقصيدة التي ال تحتاج إىل غري زمانها لتعيش فيه وتتفاعل‬ ‫معه ومع مكانها ونبضه واإلحساس به هي التي تبقى‪ ،‬والتي‬ ‫تصنع تراك ًام يف املنجز الشعري بالتايل‪ .‬ما يعني يف آخر األمر‬ ‫أن الحديث عن «قطيعة» بني األجيال هو حديث صحيح‬ ‫يف واقع الحال إمنا ليس «القطيعة» مع الحياة التي تتطور‬ ‫القصيدة التي ال تحتاج إلى غير‬ ‫زمانها لتعيش فيه وتتفاعل معه ومع‬ ‫مكانها ونبضه واإلحساس به‬ ‫هي التي تبقى‬

‫لوحة للفنانة اإلماراتية فاطمه لوتاه‬

‫باستمرار بل ويف كل لحظة‪.‬‬ ‫إذا كانت هناك كتابة شعرية قد انكتبت بطريقة جعلتها‬ ‫تشبه الكتابة يف املايض فإنها ستكون غري مفهومة حتى من‬ ‫قبل شخص يحيا مع كاتبها زمنياً ومكانياً وتاريخياً‪ ،‬بهذا‬ ‫املعنى يكون االنتامء إىل مايض الكتابة هو املسؤول عن‬ ‫إحداث «القطيعة» مع الواقع‬ ‫‪47‬‬


‫تحقيق‬

‫أسمي «القطيعة» امتداد ًا‬ ‫هاشم املعلم‬

‫لكل مجموعة من الشعراء طريقة في‬ ‫التعبير إلـى ح ّد أنه فــي بعض مـراحل‬ ‫نضجهم الشعري لو قمت بمحو االسم عن‬ ‫ب عليك تحديد اسم صانعها‬ ‫القصيدة‬ ‫ُ‬ ‫لصع َ‬

‫سأسمي هذه «القطيعة» امتداداً‪ .‬لجهة الصورة الشعرية‬ ‫ودورها يف بناء القصيدة ولجهة التعبري عن الذات وكذلك‬ ‫لجهة اللغة املستخدمة يف هذا التعبري‪ ،‬وهنا ال أتحدث عن‬ ‫مراحل نضجهم الشعري لو قمت مبحو االسم عن القصيدة‬ ‫نظري‬ ‫جيل بعينه بل عن الصف األول من الشعراء من وجهة‬ ‫لصع َب عليك تحديد اسم صانعها‪.‬‬ ‫وقرأتها‬ ‫ُ‬ ‫الشخصية‪ .‬إنه امتداد وليس «قطيعة»‪.‬‬ ‫يف اإلمارات هنا لدينا ُبعدان شعريان أو خطان شعريان‬ ‫عن نفيس‪ ،‬أقول إنني قد تأثرت بقراءايت للشعراء‪ :‬ظبية‬ ‫متوازيان وال يلتقيان‪ :‬عبد العزيز جاسم أو الخط الوجودي‬ ‫خميس وعبد العزيز جاسم وابراهيم املال وخالد بدور ونجوم والتأمل يف العذابات الفردية وخرابات الروح‪ ،‬وابراهيم املال‬ ‫الغانم وأحمد راشد وأحمد العسم‪ ،‬ال أستطيع إنكار ذلك‬ ‫الذي كأن شعره غيمة عابرة عىل الروح إىل حد أنه يشبه‬ ‫فهم موجودون بيننا ونعيش معاً يف املكان ذاته وقراءايت‬ ‫طيفاً‪ .‬إنها قراءيت البسيطة واطالعي الخجول عىل واقع‬ ‫ملنجز كل واحد منهم بعني نقدية جعلتني أكتشف أن لكل‬ ‫املشهد الشعري املحيل‬ ‫منهم رؤية خاصة يف صياغة القصيدة وكتابتها‪ ،‬إنهم صنّاع‬ ‫‪...........................................................................................‬‬ ‫قصيدة سواء أكانت هناك أجيال أم ال‪.‬‬ ‫أما أن يأيت شاعر جديد من مكان شعري غري متوقع ويقوم منح اللغة حقها الطبيعي‬ ‫بإحداث «قطيعة» ما مع قصائدهم بصوته الخاص‬ ‫وبحسه في التعبير‬ ‫الجديد فهذه ما ميكن أن نسميها «فلتة»‪ .‬لكن هو قائم‬ ‫وعلينا أن نتعامل معه اآلن أن لكل مجموعة من الشعراء‪ ،‬أحمد العسم‬ ‫يك ال أقول لكل جيل شعري‪ ،‬طريقة يف التعبري عن الذات‬ ‫ومتقاربون كثرياً من بعضهم بعضاً إىل حد أنه يف بعض‬ ‫يعيش مجتمع الشباب العريب يف هذه األيام حالة متأرجحة‬ ‫عرب لغة التواصل‪ ،‬حيث إن السوق العربية بدأت تتجه وبقوة‬ ‫نحو اللغات األجنبية‪ ،‬وعىل األخص اإلنجليزية التي يعتقد‬ ‫الكثريون بأن نجاحهم والوصول إىل املراتب الوظيفية العالية‬ ‫سيكون عن طريقها‪ ،‬ولهذا افتتحت املدارس املختصة بهذه‬ ‫اللغة وأرشعت املعاهد والرصوح العلمية أبوابها بتعميق‬ ‫املعرفة بها‪ .‬ودعا البعض إىل أن تكون املراسالت واالجتامعات‬ ‫باللغة االنجليزية بسبب وجود من يعرف هذه اللغة وال‬ ‫يعرف عن أرسارها شيئاً‪.‬‬ ‫والحقيقة أن العربية لغة مطواعة وقادرة عىل مواكبة العرص‬ ‫واملخرتعات الحديثة وقد دل عىل ذلك أنها متتلك مفردات‬ ‫وألفاظاً شملت االخرتاعات كلها‪.‬‬ ‫ومن الطبيعي أن يثق ابن هذا العرص بلغة أجداده وآبائه‬ ‫وأن يحرص عليها لكونها تشكل هويته وتربطه بصلة القرىب‬ ‫‪48‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫القطيعة المعرفية بين األجيال الشعرية‬

‫عندما نثق بهذه اللغة نحمي تراثنا‬ ‫ونحافظ على قرآننا العظيم وندافع‬ ‫عن هويتنا‪ ،‬ونندفع نحو المستقبل‬ ‫بقوة ونعبّر عن ذواتنا بمصداقية‬

‫مع األشقاء العرب‪ ،‬إضافة إىل أنها صلة الوصل بينه وبني‬ ‫الذاكرة املاضوية التي تتضمن تراثاً عبقرياً مفع ًام بالدرر‬ ‫والجواهر واملكنونات التي ال تصدأ عرب العصور والدهور‪.‬‬ ‫عندما نثق بهذه اللغة نحمي تراثنا ونحافظ عىل قرآننا‬ ‫العظيم وندافع عن هويتنا‪ ،‬ولهذا فقد دعا الدارسون‬ ‫والباحثون إىل حامية اللغة العربية والحفاظ عليها لتجسري‬ ‫التواصل بني املايض والحارض واالندفاع نحو املستقبل بقوة‬ ‫والتعبري عن الذات مبصداقية تقنع اآلخر وتعرفه إىل اإلبداع‬ ‫العريب وما فيه من عطاء‪.‬‬ ‫لقد أخطأ الكثريون عندما ظنوا أن اإلنجليزية أو اللغات‬ ‫األجنبية هي البديل عن العربية وهي لغة الحارض‬ ‫واملستقبل‪ ..‬والحقيقة تتلخص بأن أبناء العربية أهملوا هذه‬ ‫اللغة ومل يعودوا يهتمون بها كام كان األمر يف سالف العصور‬ ‫بسبب الدعوات الهدامة التي تريد أن تفصل الجيل عن‬ ‫لغته‪ ،‬ولهذا فإن دعوة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد‬ ‫بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله‪ ،‬إىل الحرص‬ ‫عىل اللغة العربية والحفاظ عليها هي دعوة سديدة وجاءت‬

‫يف مكانها‪ ،‬وما مبادرات صاحب السمو الشيخ محمد بن‬ ‫راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء‬ ‫حاكم ديب إال ترجمة واعية وعميقة وتجسيد كبري لدعوة‬ ‫صاحب السمو رئيس الدولة‪.‬‬ ‫وعلينا نحن أبناء العربية أن نسارع إىل وضع منهجيات‬ ‫جديدة واسرتاتيجيات فاعلة للحفاظ عىل لغتنا واالهتامم‬ ‫بها ومنحها حقها الطبيعي ليك نرسخ هويتنا ونحافظ عىل‬ ‫تراثنا وندخل بوابة الحضارة بقوة‪ ،‬وهذا ال يتحقق إال بدعم‬ ‫املبدعني واملشتغلني عىل اللغة وال يكون إال بوضع الخطط‬ ‫الناجعة لتحقيق هذه األهداف‪ ،‬وأنا عىل ثقة بأن هذا األمر‬ ‫سيكون من خالل اإلميان بلغة قل مثيلها يف السامت وامليزات‬ ‫والتفرد‪ ،‬وإن غداً لناظره قريب‬ ‫‪...........................................................................................‬‬

‫األجيال كواكب والمدارات‬ ‫فكرتُها الجامعة‬ ‫الهنوف محمد‬ ‫ال‪ ..‬ال‪ ..‬ال أوافق عىل «القطيعة» بوصفها حاجزاً أو سوراً‬ ‫عالياً بني األجيال الشعرية يف اإلمارات‪ ،‬لنس َت ِعض عن ذلك‬ ‫بالتوصيف‪ :‬ابتعاد أو انفصال‪ .‬كل جيل شعري هو كوكب‬ ‫آخر بح ّد ذاته‪ ،‬مثة مجموعة من الكواكب لكنها جميعاً تدور‬

‫‪49‬‬


‫تحقيق‬ ‫بدء ًا من تأسيس الدولة حتى اآلن لكل‬

‫يف مداراتها الخاصة واملتعددة‪ .‬املدارات هي اإلطار الجامع‬ ‫بني هذه األجيال جميعاً‪.‬‬ ‫لكن مثة انجذاباً ال إراديا بني أبناء الجيل الواحد فهم بدأوا‬ ‫الكتابة والنرش يف املالحق الثقافية معاً‪ ،‬إذ أن هناك ثالثة‬ ‫أجيال شعرية إماراتية بدءاً من تأسيس الدولة حتى اآلن‬ ‫ولكل من هذه األجيال سامته التي متيزه عن جيل آخر مثلام‬ ‫أن له حساسيته األدبية وذائقته الخاصة يف الكتابة‪.‬‬ ‫يختلف الجيل السابق علينا كثرياً‪ ،‬وكذلك هي الحال بالنسبة‬ ‫للجيل الالحق علينا‪ .‬التجاذب بني أبناء كل جيل عىل حدة‬ ‫يجعله أكرث نأياً وابتعاداً عن األجيال األخرى‪ .‬لكن هذه هي‬ ‫طبيعة الحال وليست «قطيعة»‪ ،‬وإذا كانت هناك «قطيعة»‬ ‫ما فلندع النص هو الذي يحكم ولنأخذ بعني االعتبار وجود‬

‫من األجيال الشعرية سماته التي تميزه‬ ‫عـن جيل آخر‪ ،‬مثلمـا أن له حسـاسـيته‬ ‫األدبية وذائقـته الخاصة فـي الكـتابة‬

‫الخطوط املشرتكة بني أبناء كل جيل التي تتعلق بالنضج‬ ‫الفني والفكري وهو أمر مير مبراحل متعددة ومتفاوتة بحكم‬ ‫أن كل جيل يعيش الحياة ومتناقضاتها ومتطلباتها بطريقة‬ ‫مختلفة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أرى أنني أكرث ميال إىل أن مسألة النضج هي أمر حاسم يف‬ ‫تحديد مسار كل جيل‪ ،‬حيث يبدأ كل جيل أشتاتاً وال تكتمل‬ ‫مالمحه إال بنضج أبنائه‪ .‬النضج هو املسؤول‪ ،‬وكذلك العمر‬ ‫والتجربة التي خيضت ومامرسة الكتابة‬

‫«القطيعة»‪ ..‬إذ تستر عورة العجز‬ ‫الناقد عيل جعفر العالق‬

‫"القطيعة"‬

‫بني األجيال ليست حكراً عىل زمن بعينه‪ ،‬وال عىل زمننا‬ ‫الراهن‪ ،‬إمنا شهدتها عصور اآلداب كلها عربياً وعاملياً‪.‬‬ ‫األجيال الشعرية تتعاقب ولكل جيل الحق يف التجاوز واإلضافة‪ .‬لكن يف خضم ذلك‬ ‫املسعى إىل التجاوز واإلضافة يحدث عدم التوازن ذاك وتلك «القطيعة» عىل مستوى‬ ‫األجيال‪.‬‬ ‫اللب الحقيقي لكل جيل‪ ،‬فسوف نكتشف أن هناك تضاربات‬ ‫أرى أنه إذا نظرنا إىل ّ‬ ‫وتقاطعات يف الجيل الواحد لكنه يتضخم ويصبح حالة مرضية‪ ،‬بحيث نجد أن اإللغاء لألجيال الالحقة أو السابقة يأيت من األسامء‬ ‫األقل أهمية التي أضحت عاجزة عن تقديم ما هو جديد وذلك يف سبيل َسترْ عورة العجز الشعري والنضوب الذي أصابها‪ .‬إن‬ ‫اإلحساس بهذا العجز هو الذي يتسبب بهذه الحالة غري األصيلة‪.‬‬ ‫باملقابل‪ ،‬ميكن العثور ببساطة عىل بعض األسامء من األجيال الجديدة التي يتسم خطابها بنربة التعايل ونزعة قتل األب وتكتفي‬ ‫بذاتها‪.‬‬ ‫غري أن السجال اإلبداعي األصيل بني هذه األجيال‪ ،‬وهو الغائب واملفقود‪ ،‬أهم من الجانب العدواين الذي بات يسم جزءاً كبرياً‬ ‫من حياتنا الثقافية العربية‪ ،‬ولعل من بني أبرز مظاهر غياب هذا السجال اإلبداعي اإلعراض عن متابعة اإلصدارات الشعرية من‬ ‫قبل الشعراء أنفسهم‪ ،‬فقراءة أي منجز جديد من قبل أي شاعر تكاد تنحرص بني أبناء الجيل الواحد ثم البعض من األسامء املهمة‬ ‫واملميزة جداً يف أجيال سابقة أو أخرى الحقة‪ .‬يعني هذا األمر أننا نعيش اآلن عرصاً ثقافياً شعرياً تزدهر فيه األمية التي ترضب‬ ‫أطنابها رشقاً وغرباً‪ ،‬حتى أن من الطبيعي أن تجد زميلك الذي يجاورك عىل مقعد يف الجيل نفسه ال يدري مبا أصدرت مؤخراً‪.‬‬

‫‪50‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫القطيعة المعرفية بين األجيال الشعرية‬

‫غياب النقد الموضوعي‬ ‫طالل سامل‬ ‫يعترب موضوع التواصل بني األجيال الشعرية موضاعاً مه ًام ال‬ ‫ميكن أن نغفله‪ ،‬خصوصاً أن الحركة الشعرية يف اإلمارات متتد‬ ‫امتداداً منذ املؤسسني األوائل‪.‬‬ ‫لكن املطلع عىل الساحة يالحظ عدم وجود مالمح املشهد‬ ‫الشعري اإلمارايت املتكامل بني الفرد واملؤسسة واملتلقي‪،‬‬ ‫فأغلب الشعراء يبنون تجاربهم‪ ‬من الجهد الشخيص واالطالع‬ ‫واالحتكاك كام ال نغفل وجود إلغاء لآلخر ال االستفادة من‬ ‫التجارب األخرى يف التيارات الشعرية بشكل عام‪ ،‬حتى أن‬ ‫الجيل الشعري الحديث يبني تجربته أيضاً عىل الطريقة‬ ‫نفسها التي ك ّرس عربها الشعراء أسامءهم يف الساحة الثقافية‬ ‫اإلماراتية‪.‬‬

‫أضف إىل ذلك أنه ينبغي أن ال ننىس غياب النقد املوضوعي‬ ‫وغياب اإلعالم الذي يتيح الفرصة لجميع التجارب دون انحياز‬ ‫فردي أيضاً بحيث يكون هذا النقد أو الظهور اإلعالمي للشاعر‬ ‫مبتعدا عن املجاملة وبحيث يكون الهدف األوحد هو بناء‬ ‫مشهد شعري متكامل يتقبل كل التيارات الشعرية التي تتالقح‬ ‫وتتقبل بعضها البعض وتجلس عىل طاولة واحدة يف تذوق‬ ‫الجامل وإبداء الرأي املوضوعي الذي يرثي الكاتب الناشئ‬ ‫ويضيف للكاتب املعروف فض ًال عن وجود آلية أو صالونات‬ ‫أدبية تعزز التواصل االجتامعي بني الشعراء بشكل أكرب حيث‬ ‫أن هذا التواصل اإلنساين يضيف ملحة من التواصل الشعري مع‬ ‫النص و الكتاب املطروح‪.‬‬ ‫يف نهاية األمر أريد أن أشري إىل أن عدم وجود روابط إجتامعية‬ ‫بني الشعراء ال يحقق التالقح الفكري الثقايف اإلبداعي الحقيقي‬ ‫الذي قد يطور املشهد ككل ويبني جيال جديدا يتكئ عىل‪ ‬‬ ‫اإلرث الشعري اإلمارايت املمتد إىل التاريخ الشعري العريب‬ ‫املطلع واملتأثر بالحركة الشعرية العاملية‬

‫مثة قاعدة ذهبية مفادها‪« :‬اقرأ أكرث مام تقول‪ ،‬وم ّزق أكرث مام تنرش»‪ .‬مل يعد أحد يعمل وفقاً لهذه القاعدة‪ ،‬فالكثري من الشعراء‬ ‫العرب يقولون أكرث مام يقرأون إىل ح ّد أن ذواتهم قد تضخمت وأصيبت بإحساس األلوهية التي ال يأيت إليها النقص من أي‬ ‫ماسة إىل فضيلة التواضع والتواصل يف ما بينها‪ ،‬فهذا‬ ‫جانب‪ ،‬ويحدث ذلك مع أن األصل يف األشياء هو أن هذه األجيال بحاجة ّ‬ ‫هو الذي يخلق األخذ والعطاء والتحاور األصيل الذي يرثي اإلبداع الشعري‪.‬‬ ‫أما عن مستقبل هذه الظاهرة التي تتفىش بال هوادة‪ ،‬أي «القطيعة» بني األجيال الشعرية العربية‪ ،‬فالحل ال يأيت بوصايا‪ ،‬بل هو‬ ‫ذو طابع فردي متاماً ونتاج نضج عقل ووجدان ومخيلة‪ .‬فأرى أن الثامر ا ُمل ّرة لهذه «القطيعة» تشيع اآلن بسبب حالة االختناق‬ ‫واالزدحام يف املشهد الشعري العريب إجامالً بوصفه نوعاً من عدم املقدرة‬ ‫عىل التعايش االبداعي‪ ،‬فتنعقد املؤمترات يف حني يتنادى آخرون إىل عقد‬ ‫إلغاء األجيال الالحقة أو السابقة يأتي‬ ‫مؤمتر مضاد تصدر عنه بيانات وتجمعات يف سبيل التعويض عن نص‬ ‫من األسماء األقل أهمية‪ ،‬التي أضحت‬ ‫مفقود بأسلحة وأدوات من خارج الشعر ذاته‪ .‬إن أفضل طريقة للدفاع عن‬ ‫القصيدة هو أن ال تخرج هذه القصيدة يف مظاهرة للرد والدفاع عن ذاتها عاجزة عن تقديم ما هو جديد كي تستر‬ ‫ضد أعدائها‪ ،‬إذ َّأن هذا التظاهر َق َب ٌّ‬ ‫يل يف حني أن الرد دفاعاً عن القصيدة‬ ‫عـورة العـجز الشعري الذي أصابهـا‬ ‫هو كتابة قصيدة جيدة نرصة للشعر‪ْ .‬أن تكتب شعراً جيداً فأنت تنرص‬ ‫شعراً جيداً‪.‬‬ ‫لهذا السبب أشعر أن حركة الشعر العريب تعيش نوعاً من الحركة املت َّوهَ مة‪ ،‬فليس هناك خروقات جديدة يف الرؤى واألشكال‬ ‫واملضامني‪ ،‬وحقيقة يشعر املرء باألىس عندما يكون شاعراً حقيقياً من الشام أو العراق غري معروف يف املغرب العريب إال عىل‬ ‫مستوى الدوائر الضيقة‪ ،‬والعكس صحيح‪ ،‬ما يشري إىل أم ّية ضاربة الجذور يف حياتنا الثقافية التي بات الشللية وغياب السجال‬ ‫بني األجيال وبني أبناء الجيل الواحد‪ ،‬أبرز مظاهرها التي تتجىل يف املهرجانات الشعرية واحتكار الدعوات إليها‪ ،‬وكذلك سيطرتها‬ ‫عىل اإلعالم مرئياً ومكتوباً‪ ،‬إنها مظاهر راسخة ناجمة عن هذه «القطيعة» الحادثة اآلن وهنا‬

‫‪51‬‬


‫في الشعر‬

‫قوة الشعر ونقر الصمت‬ ‫حمدة خميس‬

‫ال‬

‫أحد يعرف عىل وجه الدقة متى بدأ االنسان قول الشعر ثم كتابته وحفره عىل الرقيامت‪ ،‬التي حفظت لنا جزءاً من‬ ‫تاريخ الحضارات وسالمل التطور منذ عرص الكهوف اىل العصور الحديثة‪ .‬ومقولة إن الشعر طفولة العامل تحتمل بعدين‪:‬‬ ‫إن اإلنسان قال الشعر منذ بداية اكتامله ككائن إنساين يختلف عن سائر الكائنات ويتفرد بخصائص ال متلكها‪ .‬وإن الشعر هو‬ ‫طفولة أي إنسان «شاعر» يف أي عرص ومكان‪ .‬هل يعني ذلك أن الشاعر حني يدخل اللحظة الشعرية فإمنا هو طفل «يلهو‬ ‫بالكلامت» وكأن اللغة هي حبات الرمل التي يبني بها قصور الحلم والخيال‪ .‬أو هي املاء ينرثه رذاذاً ويضحك مبتهجاً‪ .‬رمبا هو‬ ‫هذا أو ذاك لكنه الفعل الجميل الذي يهدهدنا يف لحظة التعب‪ ،‬ويواسينا يف لحظة الفجيعة‪ ،‬ويغري منظورنا للحياة والعامل‬ ‫عىل غفلة منا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫هل كان الشعر ترجيعا لحالة الحزن أو الفرح؟ وهل اتخذ ذلك الرتجيع شكال واحدا أم أشكاال عديدة؟ حيث األشكال بعد مل‬ ‫تنشأ والقوالب مل تتشكل وتتسيد لتحدد أمناط القول‪ :‬هذا شعر وذاك نرث أو رسد‪ .‬رمبا هو رجع األنني أو الحنني أو البهجة أو‬ ‫التأمل العميق الشارد‪ ،‬ذلك الذي منح نوعاً من الكالم والتعبري صفة الشعر‪.‬‬ ‫ذلك الرجع‪ ،‬الخفي للوجد واألىس‪ ،‬والغرابة خارج داللة املنطق‪ ،‬والخيال خارج سياق املوضوعية واملتعارف‪ .‬هو ما يجعلنا ننتبه‬ ‫اىل أن هذا القول شعر وليس غريه‪ ،‬وليس ألنه صيغ بهذا الشكل أوذاك‪.‬‬ ‫الخالف حول قوالب الشعر ومعياره ما زال قامئاً‪ ،‬مرة بسبب اختالف األجيال‪ ،‬ومرة بسبب اختالف روافد الثقافات والحداثة‬ ‫وانتشار وسائل االتصال التكنولوجي‪ ،‬ومرة بسبب رصاع القديم واملعارصة‪ .‬ويف كل مرة ليس مثة حسم وال انتصار لفريق‪ .‬ويف‬ ‫دوران الطواحني هذه يتوالد الشعراء ويظل الشعر يدل عىل نفسه تحت أي قالب سبك فيه‪ ،‬فليس كل مقفى هو شعر‪ ،‬وليس‬ ‫كل منثور أو موزون بتفعيلة هو شعر‪ .‬وليس كل نرث هو شعر‪ .‬الشعر حالة غامضة تلف الكائن الشاعر يف حالة غامضة تدل‬ ‫به عليه‪ .‬إال أن الغموض ليس ارتباك الدالالت وال عشوائيتها وال التباس األفكار والرؤية الشعرية‪ .‬وليس الغموض سوى إشارة‬ ‫الشاعر اىل القارئ الرتياد عوامله الخفية‪.‬‬ ‫الشعر خصوصية غامضة وهي أشد عىل الشاعر منها عىل القارئ‪ ،‬لذا فأكرث من يحتار يف أمره هم الشعراء أنفسهم يليهم النقاد‬ ‫الذين يفرتضون معرفة هي قيد البحث الدائم‪ .‬إذ «إن البحث عن حقيقة الشعر» هو باألساس إقرار بوجود مجاهيل كثرية‪ ،‬كام‬ ‫قال املرحوم عزيز السيد جاسم‪ ،‬يليهم بعد ذلك علامء النفس واالجتامع باختالف مدارسهم السلوكية والوراثية واالجتامعية‪.‬‬

‫الشعر ليس بدي ًال عن الفقد‬

‫كتب يل صديق شاعر‪ ،‬يسألني عن حايل‪ ،‬ويرجو يل أن أكون بخري‪ .‬قلت له‪ :‬كيف ال أكون بخري وبني يدي هذه الكنوز‪« :‬األوالد‬ ‫والشعر واملستقبل واألمل» فرد عيل إنه لو كان ميلك كل ما أمتلك ملا كتب قصيدة واحدة‪ ،‬فالشعر لديه «النافذة الوحيدة‬ ‫التي يطل من خاللها عىل العامل‪ »..‬وقد أيقظ قوله شهيتي للتأمل يف كنه الشعر والشاعر‪ ،‬ألدرك أن الشعر‪ ،‬ليس بدي ًال عن‬ ‫‪52‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫الفقد‪ ،‬لكنه اكتناز حضور الشاعر يف الحياة‪ .‬وليس تعويضاً عام ال منلك‪ ،‬ألنه امتالك ومملكة‪ .‬وليس نافذة يف غرفة مغلقة أو‬ ‫كوة يف جدار نرقب منها‪ -‬محاذرين‪ -‬أقدام املشاة‪ ..‬هو انغامر ك َ‬ ‫يل يف لجة الحياة وغوص عميق يف محيطها‪ .‬وهو نبض الكون‬ ‫والكائنات تلتقطه الحدوس‪ ،‬ومتتلئ به شغاف القلب‪ ،‬وشعاب البصرية‪ .‬وتفيض به الروح يف أعظم وأنبل تجليات الحب‪ .‬وحتى‬ ‫حني نكتب الحزن واليأس أمنا نبث يف خفاء الكتابة إشارات الفرح واألمل!‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫امتلكت من مفرداتها ودالالتها‪،‬‬ ‫والشاعر ليس مجرد فرد تعرب عن أنينه أو بهجته أو أبصاره‪ ،‬اللغة‪ ،‬فاللغة قارصة أبدا مهام‬ ‫ومحايدة وباردة اذا مل تنسج من رصير التجربة الحية املعاشة للشاعر‪ ،‬الشاعر الذي يرى ما وراء املريئ والظاهر والساكن‪،‬‬ ‫ويسمع النشي َد يف النشيج!‬ ‫وألن الشاعر فضاء شاسع طلق يستقبل الضياء من الجهات كلها‪ ،‬ومن أعامق الروح والقلب والعقل والبصرية‪ ،‬ويرسل الضياء‬ ‫مرتعاً بنعمة الوجود‪ ،‬إىل الوجود‪ ،‬فال جدران تشد عليه حصارها وال سياج يسور رؤاه وأحالمه‪.‬‬ ‫أما أن الشعر ال يكتب إال يف حالة الفقد والحزن واليأس‪ ،‬فإنها مراوغة وخديعة ووهم نتيجة قول سائد ومفاهيم ساكنة‪ .‬فلو‬ ‫َ‬ ‫لبقي شاعراً‪ :‬حراً‪ ،‬طلقاً‪ ،‬كونياً‪ ،‬تائقاً‪ ،‬متشهياً‪ ،‬ذلك أننا ال نختار أن نكون شعراء بل هو قانون‬ ‫ملك الشاعر كنوز األرض كلها‪َ ،‬‬ ‫الطبيعة يف االنتقاء‪ ،‬ورس هذا العقل البرشي الغامض‪ .‬فحني نكتب القول ‪ -‬أي قول – قد نعتقد أننا قد نجعل اإلنسان أرقى‪،‬‬ ‫لكننا حني نكتب الشعر نؤمن أننا نجعل الحياة أجمل! وحني نكون كذلك ال يعني – كام يجري التداول – أن للشعر وظيفة‪،‬‬ ‫والشاعر موظف يف مؤسسة الثقافة واملثقفني واإلصالح بل يعني متاماً‪ ،‬أن الشاعر خارج أبداً عىل القوانني واملواضعات‪ ،‬وسلطة‬ ‫األسالف واملايض والتاريخ والحارض‪ ،‬ومتحد بأفق جديد دوماً‪ ،‬يوقظ حدوسه‪ ،‬ويسترشفه ببصريته‪.‬‬ ‫والشعر ليس أداة نعرب بها عام منلك أو ال منلك‪ ،‬بل هو ليس أداة أص ًال‪ ،‬ألنه إبداع وخلق وال ينبع من هذا االمتالك أو ذلك‬ ‫الفقد‪ ،‬بل يتدفق من ذلك النبع الهائل الرثاء‪ ،‬الهائل القدرة‪ .‬النبع الذي يضيئنا دوماً‪ ،‬ويشعلنا حيناً حد االحرتاق لننهض‪-‬‬ ‫كالعنقاء‪ -‬من رمادنا‪ .‬إنه الطاقة العظيمة للحب أو الروح العظيم «الدندي» بتعبري لوركا‪ .‬وهذا النبع الهائل الرثاء ميلكه كامل‬ ‫االمتالك كل إنسان وشاعر‪ ،‬لكن أن يكونه أو ال‪ .‬هذا هو السؤال ‪/‬املعضلة الذي هتف به شكسبري عىل لسان هاملت‪ .‬لكن مثة‬ ‫الكثري يف حياتنا وبنيتنا الثقافية ما يسيج هذه الطاقة ويربك تدفقها‪.‬‬ ‫الشعر بعض تنفس الورد‪ ،‬والشاعرية جدلية فيزيائية بني الطبيعة بعنارصها وكائناتها‪ ،‬والكائن اإلنساين‪ .‬ويف هذه الجدلية‬ ‫ينكشف للشاعر رس العنارص وسحرها‪ ،‬وثراء الكون والحياة‪.‬‬

‫آراء يف تفسري الشاعرية‬

‫حقيقة الشاعرية مل تدرك بعد ومل يستطع علم أن يعرفها إال بوصفها منجزاً تم يف صيغة نص‪ ،‬لغة شعرية‪ .‬ذلك أنها كالحياة‬ ‫تدرس متظهراتها لكن ال يدرك رسها‪ .‬واذا تساءلنا «ما الشاعرية؟»‪ ،‬كأننا نتساءل «ما الحياة؟» وسوف تتجاوز النظريات‬ ‫الشعرية هذا السؤال لتبحث يف الشعر كمنجز‪ ،‬كفعل ماض وحارض يف اآلن ذاته‪.‬‬ ‫جون كوين يف كتابه اللغة العليا «النظرية الشعرية» يقول‪« :‬يعرف الشعر بأنه قوة ثانية للغة‪ ،‬وطاقة سحر وافتنان» ويف‬ ‫إطار هذا التعريف ستدور النظريات وتتفحص تبعاً لرتكيزها عىل املحتوى والشكل‪ ،‬لكنها‪ ،‬تلتقي عىل ملمح أسايس يتمثل‬ ‫يف مقابلة الشعر بالنرث‪ .‬فالشعر ليس شيئاً آخر غري «النرث مضافاً اىل‪ »...‬لكن أال يكمن يف الجملة الناقصة هذه‪ ،‬رس الشعر‬ ‫وغموضه الخاص؟‬ ‫علم النفس يرى‪« :‬أن الشعر لغة مزدوجة لها معنى ظاهري ومعنى خفي‪ .‬وهو الذي تتم اإلحالة إليه قصدا»‪ً.‬‬ ‫النظرية التصويرية ترى أن الشعر لغة متجاوزة للغة‪ ،‬وإذا فقد هذا التجاوز اختفت الشعرية‪.‬‬ ‫‪53‬‬


‫في الشعر‬

‫فردريك نيتشه يرى «أن الشعر تحريك للخيال بواسطة األلفاظ لذا فإنه أكرث قدرة عىل إدراك الطبيعة اإلنسانية»‪.‬‬ ‫أما وظيفة الشعر التي فهمت خطأ عىل إنها وعظ وإرشاد وتوجيه اجتامعي فإنها تكمن يف قدرة الشاعرية عىل التحول من‬ ‫معنى تصوري إىل معنى شعوري‪ .‬وحيث إن اللغة الشعرية ال تخلق شاعريتها إمنا تستعريها من العامل الذي تصفه‪ ،‬فإنه ميكن‬ ‫إدراك النص الشعري لكن ال ميكن التعبري الكامل عنه‪.‬‬ ‫«ماالراميه» يقول‪« :‬إن األشياء موجودة‪ ،‬نحن مل نخلقها‪ .‬إننا التقطنا فقط خيوط العالقات بينها‪ ،‬هذه الخيوط هي التي تنسج‬ ‫الشعر‪ ..‬وتشكل جوقته املوسيقية»‪.‬‬ ‫الشاعر الفرنيس«فالريي» يتساءل‪« :‬عن أي يشء يتحدثون عندما يتحدثون عن الشعر؟ إنهم يعالجون القصيدة كام لو أنها تجزأ‬ ‫إىل خطاب نرثي‪ ،‬أما الخطاب النرثي فإنهم يعتربون انه ميكن أن يجزأ إىل نصوص صغرية‪.»!..‬‬ ‫هنا ينبغي مالحظة االلتباس الذي ساد مفهوم الشعر عند بعض الشعراء الجدد‪ ،‬فأغلب النصوص الشعرية تبدو وكأنها تجزيء‬ ‫للخطاب النرثي‪ ،‬لكن من دون تلك الومضة السحرية الخاصة التي متيز الشعر من النرث‪.‬‬

‫العالقة بني الشعر واملتلقي‬

‫يف التباس مفهوم الحداثة كرث الشعراء وتكدست كتب الشعر حتى بدا ان الشعر ليس سوى قول عادي ومألوف ال يفرتق‪ ،‬وال‬ ‫يغاير‪ .‬بل إن أغلبه يفتقر إىل وهج الروح وتألق الخيال ونزق الخروج‪ .‬والشعر إذا صار هكذا ما الذي يجعلنا نسميه شعراً‬ ‫وليس مقاالً أو حديثاً مسرتسلاً حول فكرة ما؟ سواء ادخل يف تشكيل قديم القالب أو جديد‪ ،‬يظل من دون ذلك الوهج الغامض‬ ‫الذي يالمس الوجدان ويتامس مع حالة باطنية غامضة يف الشعور والذاكرة عند القارئ‪/‬املتلقي‪.‬‬ ‫لكن هل للشعر قوة التجدد والتجديد يف زمننا هذا؟‬ ‫ً‬ ‫هل يستطيع أن «ينقذ حكومات متهاوية‪ ،‬وجيوشاً ضعيفة‪ ،‬ومينح صوتا لريح الفضيلة اإلنسانية املحترضة»؟‬ ‫هذه هي قوة الشعر كام ورد يف «االستهالل العظيم» «كتاب األناشيد الكونفشيوسية» وهو أقدم املوسوعات عن الشعر‬ ‫الصيني‪ ،‬والنبع الرث للشعرية والفكر الشعري الصيني‪.‬‬ ‫يشري الباحث «توين بارنستون»يف كتابه «فن الكتابة» إىل أن نصوص الشاعر الصيني «لو‪-‬جي» متثل تحفة أدبية يف األدب‬ ‫العاملي‪ ،‬وقد ألهمت أجياالً متعاقبة من الشعراء األمريكيني‪ .‬فالصيغة الشعرية تنتقل من العصور القدمية عىل منت قارب‬ ‫الكلمة ومتنح لكل جيل القدرة عىل صياغة ثقافته الجديدة‪..‬‬ ‫ً‬ ‫هنا علينا مالحظة أن األدب الذي درجنا عىل تسميته «عامليا» نسبة إىل أوروبا وأمريكا فقط‪ ،‬مل ينغلق عىل تراثه كام نفعل‬ ‫نحن العرب‪ ،‬بل إن التجديد والحداثة وتيارات األدب املتعاقبة التي استنسخناها بفخر واعتزاز قد تثاقفت ومتازجت بآداب‬ ‫الرشق القديم‪ ،‬واستمدت من قوة روحها‪ ،‬قوة التجدد‪.‬‬ ‫الشاعر الصيني «لو‪ -‬جي» يقسم فن الكتابة إىل أربع وعرشين قصيدة معنونة يف فن الكتابة شعراً ونرثا‪ً.‬‬ ‫يف قصيدته األوىل وعنوانها «الدافع» يقول‪ :‬يقف الشاعر بني السامء واألرض ويراقب الغموض املظلم‪...‬‬ ‫ويف «التأمل»‪ :‬يف البدء أغلق عيني‪/‬ال أسمع شيئاً‪/‬عرب الفضاء الداخيل‪ /‬أبحث يف كل مكان‪.‬‬ ‫يف «املسار»‪ :‬أطلق رساح األشكال املرشقة وانقر عىل الصور يك تسمع كيف تغني‪.‬‬ ‫يف «متعة الكتابة»‪ :‬الكتابة متعة‪ ،‬لذلك ميتهنها القديسون واملفكرون‪.‬‬ ‫يف «األجناس»‪ :‬الشعر «‪ »chi‬شبكة مضيئة من العواطف‪.‬‬ ‫«املقال» «‪ »fu‬واضح ومتامسك بوصفه رشحا‪.‬‬ ‫«موسيقى الكلامت»‪ :‬دع إيقاعات مختلفة تستخدم بالتناوب مثل خمسة ألوان يف حالة تناغم‪.‬‬ ‫‪54‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫«التنقيح»‪ :‬مسألة حساسة أن تقرر أي فكرة أو كلمة هي األنسب‪ ،‬اختالف يكاد يكون أوهى من زغب سنبلة!…‬ ‫عن األسلوب املضمر يقول‪ :‬دون كلمة واحدة يعبرّ عن الجوهر‪ ،‬دون الحديث عن البؤس يطلع حزن جامح‪ ..‬األسلوب الجريء‬ ‫يراقب الخلق دون محرمات‪ ..‬إذا كنت تستخدم فرجاراً لرسم دائرة‪ ،‬ومسطرة لرسم مربع‪ ،‬سوف تظل عبداً دامئاً!‬ ‫الشاعر «هوانغ لوزهي» يقول‪« :‬إذا تبعت أحدهم سوف تظل دامئاً يف الخلف‪ ..‬التابو األول يف الكتابة هو أن متيش خلف‬ ‫اآلخرين‪»..‬‬ ‫* يهبط اإللهام عند الحد الفاصل بني العمل والكسل‪.‬‬ ‫* ليك تؤلف تحتاج إىل تنوير‪.‬‬ ‫* ال ميكن فرض الشعر فهو يباغتك عندما يتضافر املزاج والزمان واملكان‪.‬‬ ‫* ملاذا تبذل قصارى جهدك عندما تكتب قصائدك؟‬ ‫* حتى يكون األسلوب بسيطاً وطبيعياً أتقن أوالً األناقة ومن ثم ابحث عن األسلوب البسيط‪ ..‬الشعراء يعرفون بأن البساطة‬ ‫صعبة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫* أولئك الذين يبذلون جهدا مفرطا ال يتقنون‪.‬‬ ‫* رس الكتابة يكمن يف القراءة أكرث والكتابة أكرث‪.‬‬ ‫* يف كل سطر يجب أن تكون هناك كلمة مفصلية لها فعل عقار سحري أو ملسة «ميدوزا» ليك تحرك البيت الشعري‪..‬‬ ‫سؤال‪ :‬ما الفرق بني الشعر والنرث؟‬ ‫جواب‪ :‬الكتابة مثل األرز‪ ،‬عندما تكتب نرثاً‪ ،‬أنت تطبخ األرز‪ ،‬عندما تكتب الشعر فأنت تحول األرز إىل نبيذ‪ .‬طهو األرز ال يغري‬ ‫شيئاً من شكله‪ ،‬لكن تحويله إىل نبيذ يغري شكله وخصائصه‪ .‬األرز املطبوخ يجعل املرء شبعاً‪ ،‬أما النبيذ فإن أثره وبكل رفعة‪،‬‬ ‫يقع خارج الرشح!‬

‫الشعر مترد عىل السائد‬

‫حين نكتب السرد نعتقد أننا نجعل‬ ‫اإلنسان أرقى وحين نكتب الشعر‬ ‫نؤمن إننا نجعل الحياة أجمل!‬

‫يف محاواليت األوىل لكتابة الشعر‪ ،‬حدث أن كنت يف زيارة لجريدة األضواء‬ ‫يف البحرين‪ ،‬وكان الشاعر إبراهيم العريض جالساً يتبادل الحديث مع‬ ‫القاص محمد املاجد‪ ،‬فقدمني محمد إىل الشاعر الكبري‪ ،‬وناوله قصيديت‬ ‫األوىل «شظايا»‪ .‬قرأها بتمعن‪ ،‬وابتسم يل وقال‪ :‬بداية جيدة‪ ..‬لكن أنصحك‬ ‫بأمرين‪ :‬أوالً اقرتح تغيري كلمة قدمي بساقي‪ ،‬يف هذا الشطر «ويف قدمي أصفاد القيود» ألن لفظة الساق أقرب إىل األنوثة‪..‬‬ ‫وضحك مازحاً‪ ..‬ثم وبقناعة شاعر كالسييك‪ ،‬قال‪« :‬وحتى تتمكني من الشعر احفظي غيباً خمسامئة بيت‪ ،‬من الشعر العريب‬ ‫القديم»‪.‬‬ ‫وللحق‪ ،‬مل أفعل‪ ،‬ال هذا وذاك‪ .‬ومع ذلك كتبت ‪ 15‬ديوانا!ً‬ ‫لكن قبل وبعد كل ما قلت ويقال لالنصات اىل الشاعر الفرنيس «بينو» الذي وضع وصفة دقيقة‪ ،‬ملن يريد أن يكون شاعراً‬ ‫عىل حد قوله‪:‬‬ ‫اعترب الكلمة أساساً‪ .‬وعىل النار ضع الكلمة‪.‬‬ ‫خذ نتفة من الحكمة‪ .‬ومن السذاجة قطعة كبرية‪.‬‬ ‫بعض النجوم‪ ..‬بعض الفلفل‪ .‬من القلب الخافق قطعة‪.‬‬ ‫وعىل موقد املقدرة‪ ،‬اغل مرة‪ .‬ثم مرتني‪ ..‬ثم مرات كثرية‪ ..‬كثرية جداً‬ ‫اآلن اكتب‪ ..‬ولكن يف البداية‪ ،‬عليك رغم كل يشء أن تولد شاعراً!!‬

‫‪55‬‬


‫في الشعر‬

‫من قصيدة الخطاب إلى قصيدة المشهد‬ ‫يوسف عبد العزيز‬

‫شهدت‬

‫القصيدة العربية خالل العقود الثالثة املاضية‪ ،‬مجموعة كبرية من التّح ّوالت التي طالت بنيتها‬ ‫وموضوعاتها‪ .‬حتى سبعين ّيات القرن العرشين كانت تلك القصيدة مشغولة بالقضايا الكربى‪ ،‬وعىل رأسها‬ ‫الساخنة‪ ،‬وكانت القصيدة‬ ‫القضية الفلسطينية‪ .‬كان الشعر العريب هو املرسح الذي تتح ّرك عليه األحداث التّاريخية والوقائع ّ‬ ‫املبارشة الحامسية هي ّ‬ ‫املفضلة لدى الجامهري التي راحت تص ّفق لها طوي ًال يف املهرجانات ومتتدح دورها‪ .‬كانت تلك الجامهري‬ ‫ً‬ ‫تم‬ ‫املح َبطة تع ّلق آماالً كبرية عىل الشعر باعتباره ملجأ ومن ِقذاً‪ .‬يف بداية الثامنين ّيات‪ ،‬وتحديداً يف العام ‪ ،1982‬وهو العام الذي ّ‬ ‫فيه حصار واحتالل بريوت «عاصمة الثقافة وال ّثورة العربية معاً»‪ ،‬خاب أمل تلك الجامهري ّ‬ ‫بالشعر‪ ،‬الذي مل يفلح يف ص ّد الغزاة‪.‬‬ ‫يف مطلع األلفية الجديدة أيضاً‪ ،‬ويف العام ‪ 2003‬جرى رضب العراق واحتالله‪ .‬وكان هذا اّ‬ ‫مم فاقم األزمة بني ّ‬ ‫الشعر وجامهريه‪،‬‬ ‫التي تركته هذه امل ّرة‪ ،‬وراحت تبحث لها عن منقذين آخرين‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫«فك االرتباط» هذا الذي وقع بني ّ‬ ‫الشعر وجمهوره‪ ،‬ربمّ ا يكون هو املح ّرك ال ّرئيس الذي دفع باألجيال الجديدة إىل املغامرة‬ ‫والتّجريب‪ ،‬األمر الذي أدّى إىل ظهور نصوص جديدة مغايرة ومتن ّوعة‪ ،‬وذات حساس ّية مختلفة اّ‬ ‫عم كان سائداً يف املايض‪.‬‬ ‫يف ّ‬ ‫ظل هذه املناخات حدثت النّقلة التّالية لقصيدة النّرث العربية‪ ،‬التي شهدت امتداداً عظي ًام لها‪ ،‬ليس فقط يف املراكز الثقافية‬ ‫الخاصة وجمهورها ومم ّثلوها الجدد من ّ‬ ‫الشعراء‪.‬‬ ‫املعروفة‪ ،‬وإنمّ ا يف األطراف أيضاً‪ ،‬بحيث بات لهذه القصيدة منابرها‬ ‫ّ‬ ‫الشعر‪ ،‬أضافت للكتابة ّ‬ ‫هذه ال ّرياح الجديدة التي ه ّبت عىل ّ‬ ‫الشعرية أبعاداً جديدة‪ ،‬كام دخلت بها يف مناطق جديدة مل تكن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تم إنجازها‪ ،‬فقد ظلت هناك «تقاليد متوا َرثة» تتحكم يف بنية‬ ‫معروفة من قبل‪ .‬لكن‪ ،‬وعىل ال ّرغم من كل تلك اإلضافات التي ّ‬ ‫الخاصة لفهم ّ‬ ‫الشعر‪ ،‬والنّظرة‬ ‫السياق ّ‬ ‫أحب أن أشري إىل الطبيعة ّ‬ ‫القصيدة‪ ،‬وتتسبب لها مبزيد من االنزالقات واملط ّبات‪ .‬يف هذا ّ‬ ‫املتدا َولة إىل وظيفته لدى ّ‬ ‫كل من الشاعر والقارئ العرب ّيني عىل ح ٍّد سواء‪ .‬لقد بقيت القصيدة العربية يف الكثري من مناذجها‬ ‫نصه ّ‬ ‫ظل مشغوالً برسالة القصيدة‪ ،‬أو مبا يريد أن يوص َله عرب القصيدة‪،‬‬ ‫املقدّمة واقع ًة تحت إسار الخطاب‪ ،‬فالشاعر وهو يكتب ّ‬ ‫النص ّ‬ ‫الشعري الكثري من الجفاف‪.‬‬ ‫وذلك أكرث من انشغاله بكيف ّية هذا اإليصال من خالل الفن‪ .‬ونتيج ًة لهذه النظرة فقد اعرتى ّ‬ ‫ترسبت إىل هذه القصيدة املشاكل والهنات التي عانت منها‬ ‫لقد وقعت قصيدة النرث مث ًال يف املط ّبات التي ح ّذرت منها! وقد ّ‬ ‫السياق ميكن اعتبار الكثري من النامذج املطروحة من قبل شعراء قصيدة النرث‪ ،‬عىل‬ ‫قصيدة الوزن الشعري فيام مىض‪ .‬ويف هذا ّ‬ ‫اللهم أ ّنها خالية من الوزن ّ‬ ‫الشعري!‬ ‫أ ّنها مناذج من قصيدة التفعيلة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ما ميكن أن نقوله هنا ّأن مسألة «الخطاب»‪ ،‬ظلت هي ال ّثابت األكرب يف مراحل التّط ّور الشعرية التي شهدها الشعر العريب‪،‬‬ ‫الشعر الحديث‪ ،‬أو ما ُ‬ ‫سواء من خالل ثورة ّ‬ ‫اصط ِلح عىل تسميته بقصيدة التفعيلة التي ظهرت يف نهاية أربعين ّيات القرن‬ ‫ّ‬ ‫تم تكريسها يف نهاية الخمسين ّيات‪ .‬مناذج كثرية تقرأها من الشكلني‬ ‫املايض‪ ،‬أو من خالل ظهور قصيدة النّرث العربية‪ ،‬التي ّ‬ ‫السابقني‪ ،‬فال تجد بني يديك سوى عبارات تتناسل من بعضها البعض‪ ،‬وبالقليل من املجاز‪ ،‬لتفصح يف آخر األمر عن رسالة‬ ‫ّ‬ ‫محدّدة يريد ّ‬ ‫الشاعر أن يوصلها إىل القارئ‪.‬‬

‫‪56‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫مشكلة الخطاب هذه ربمّ ا تكون املأزق األخطر عىل اإلطالق الذي يواجه ّ‬ ‫الشعر‪ .‬وهي مشكلة قدمية‪ ،‬وربمّ ا يكون لها اشتباكات‬ ‫متأصلة يف الثقافة العربية‪ّ ،‬‬ ‫ولعل هذه املشكلة نشأت تاريخ ّياً من خالل تداخل مفهوم الشعر مبفهوم الخطابة‪ .‬يف‬ ‫وظالل ّ‬ ‫ً‬ ‫الخطبة يلجأ الخطيب عادة إىل شحذ صوته‪ ،‬وإىل اختيار الجمل املسجوعة ال ّرنانة التي تلهب حامس الجمهور‪ .‬الجمل التي‬ ‫يختارها الخطيب أيضاً ال ب ّد أن تكون مفهومة للحارضين‪ّ ،‬‬ ‫ألن الغموض هنا يطيح بالخطبة‪ ،‬ومن أجل أن يحصل الخطيب يف‬ ‫نهاية خطبته عىل تصفيق مد ٍّو‪ ،‬فليس أمامه سوى أن يرفع وترية صوته‪ ،‬ويك ّرر العبارات التي تتم ّلق الجمهور‪ .‬واآلن إذا ما‬ ‫تأ ّملنا «قصيدة الخطاب»‪ ،‬فسوف نرى الكثري من التّطابق بينها وبني الخطبة‪ ،‬فهي أي قصيدة الخطاب تقوم عىل األسس التي‬ ‫نص واضح خالٍ من الغموض‪،‬‬ ‫تقوم عليها الخطبة‪ .‬الشاعر هنا يختار العبارات ال ّرنانة نفسها‪ ،‬ويحرص كل الحرص عىل تقديم ٍّ‬ ‫املهم يف األمر أن ينال الشاعر رضا الجمهور‪،‬‬ ‫ويف أحسن األحوال يز ّينه ببعض االستعارات ّ‬ ‫والصور الخفيفة التي ال تشتّت املعنى‪ّ .‬‬ ‫ويت ّوج نهاية قصيدته بالتّصفيق‪.‬‬ ‫اّ‬ ‫مم ساعد عىل تكريس كل هذه األهم ّية للخطاب يف القصيدة‪ ،‬هو ّأن مفهوم الشعر عند العرب قد ارتبط منذ عصور بعيدة‪،‬‬ ‫مبفهوم الثقافة الشاملة لأل ّمة العربية‪ ،‬مبا فيها من أخبار ووقائع وعادات وتقاليد‪ ،‬ولذلك فقد قيل قدمياً ّ‬ ‫«الشعر ديوان العرب»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫«سجل» الحياة العربية‪ ،‬مبا فيها من أحداث وغزوات‪ ،‬وكان الشاعر هو النّاطق ال ّرسمي‬ ‫كان الشعر العريب القديم هو كتاب أو‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يترسب إىل النّصوص املعارصة‪ .‬يتّضح ذلك أكرث‬ ‫ظل‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬ ‫متوارث‬ ‫ظل‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫عر‬ ‫الش‬ ‫لدور‬ ‫باسم القبيلة‪ .‬مثل هذا الفهم القديم‬ ‫بمّ‬ ‫بمّ‬ ‫ّ‬ ‫ما يتّضح يف النّصوص الشعرية الطويلة‪ ،‬التي يحشد فيها الشاعر ّ‬ ‫كل يشء‪ .‬مثل هذا الحشد ال ب ّد أن يحمل طابعاً إخبارياً يف‬ ‫العادة‪ ،‬ولذلك فال ب ّد أن يصاغ بلغة سهلة ومبارشة‪.‬‬ ‫نضيف إىل ذلك ك ّله هو ّأن اصطالح كلمة القصيدة‪ ،‬يشري بشكل أسايس إىل وضوح الخطاب املتعينّ فيها‪ ،‬فث ّمة معنى محدّد هنا‬ ‫توجه الشاعر ليقول فكرة معروفة‬ ‫يف الجذر الثاليث َق َصدَ‪ ،‬أي ّ‬ ‫وواضحة لديه‪ ،‬ومثل هذا الفهم ربمّ ا ترك منذ البداية أثره يف‬ ‫تعتمد قصيدة المشهد على عدد من‬ ‫النصوص الشعرية املكتوبة‪ ،‬واستبطن يف ال وعي ّ‬ ‫الشعراء فيام‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ولعل السينما هي‬ ‫المرجعيّات البصرية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بعد‪ .‬هذا مع األخذ بعني االعتبار أن الشعر يف جوهره هو ض ّد‬ ‫األهم‪ .‬وكما كانت الموسيقى‬ ‫المرجعيّة‬ ‫ّ‬ ‫القصد‪ ،‬فالشاعر يبدأ كتابة قصيدته عن يشء محدد يف ذهنه‪،‬‬ ‫أن السينما‬ ‫أ ّم ًا أولى للفنون‪ ،‬أعتقد ّ‬ ‫ثم ال يلبث أن ترسق أصابعه الكتابة إىل يشء آخر مختلف‬ ‫ّ‬ ‫ستكون أ ّم ًا ثانية‬ ‫متاماً‪.‬‬ ‫مقابل قصيدة الخطاب التي تستأثر بغالبية النتاج الشعري‬ ‫الض ّفة األخرى قصيدة املشهد‪ ،‬التي أعتربها بحقّ الشكل األقرب إىل جوهر ّ‬ ‫العريب – وهذا رأيي – تقف عىل ّ‬ ‫الشعر‪ .‬مناذج هذا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫النّوع من الكتابة الشعرية ميكن أن نراها مبثوثة يف قصائد الترّ اث‪ ،‬ولكن بشكل قليل‪ ،‬كأن نرى ّأن الشاعر قد رسم مشهدا ما‬ ‫من خالل بيتني من الشعر أو ثالثة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬ ‫يف ّ‬ ‫الشعر العريب الحديث نعرث عىل مم ّثلني لقصيدة املشهد‪ ،‬أمثال الشعراء سعدي يوسف‪ ،‬حسب الشيخ جعفر‪ ،‬يوسف‬ ‫الشعراء ما ميكن أن نعتربه كتابة مغايرة يف ّ‬ ‫الصائغ‪ ،‬ومحمود درويش‪ .‬لقد ك ّرس هؤالء ّ‬ ‫الشعر العريب‪ ،‬معتمدين عىل ّ‬ ‫ضخ‬ ‫ّ‬ ‫الصور املبت َكرة التي تؤ ّلف فيام بينها مشهداً شعر ّياً كل ّياً هو القصيدة‪.‬‬ ‫مجموعة من ّ‬ ‫تعتمد قصيدة املشهد عىل عدد من املرجع ّيات البرصية املوجودة يف السينام واملرسح والفن التشكييل والسرّ د‪ّ .‬‬ ‫ولعل السينام‬ ‫الصعيد‪ .‬وكام كانت املوسيقى األ ّم األوىل للفنون‪ ،‬أعتقد ّأن السينام ستكون أ ّماً ثانية‪ ،‬ففيها ّ‬ ‫كل‬ ‫األهم عىل هذا ّ‬ ‫هي املرجع ّية ّ‬ ‫تلك الغواية البرص ّية التي يحتاجها ّ‬ ‫الشعر‬

‫‪57‬‬


‫في الشعر‬

‫قصيدة النثر العربية‪..‬مشروع تساؤل‬ ‫محمد العديني‬

‫كل‬

‫محاولة للتعريف أو الحكم أو التصنيف تتضمن نوعاً من املصادرة‪ ،‬وتكشف عن رغبة يف النسيان‪ .‬لكن‪ ،‬أليست‬ ‫الحياة عموماً والكتابة اإلبداعية بشكل خاص هي فعل من هذا القبيل‪ :‬اختيار‪ ،‬انحياز‪ ،‬تجاوز‪ ،‬تجربة‪ ،‬محو وفناء؟‬ ‫ملحة‪ ،‬ال مناص لنا من استدراج سلطته‪ ،‬واستكناه كينونته‪ ،‬ال مناص لنا من مواجهة تحدياته‬ ‫حني يغدو السؤال رضورة وجودية ّ‬ ‫واشرتاطاته املعرفية والتاريخية‪ .‬هل حقا أن تاريخ قصيدة النرث هو تاريخ االستعالم عن الشكل وتجنب اإلجابة؟‪ .‬هل قصيدة‬ ‫النرث قصيدة فصامية ألنها تنزع للتدمري يف نرثيتها ولالنتظام يف قصد ّيتها؟ هل متثل التعبري الراديكايل لرفض األيديولوجيا؟ هل‬ ‫نحن أمام نوع جديد من الثورة املضادة من الفاشية اللغوية أو السفسطة الشعرية؟ هل ّمثة جدل بيزنطي يتح ّكم بلعبة اللغة‬ ‫يف قصيدة النرث؟ «فتاة حلمت أنها فراشة وحني استيقظت مل تعرف إذا كانت فتاة حلمت أنها فراشة أو أنها فراشة حلمت أنها‬ ‫فتاة»‪ .‬هل قصيدة النرث قصيدة منذورة– بطبيعتها – لسوء الفهم؟‬ ‫قصيدة النرث قصيدة تؤرخ للغياب والفقدان واملسكوت عنه‪ ،‬يف محاولة لالحتجاج الفردي الصامت عىل ليل العامل ‪ /‬القصيدة‪،‬‬ ‫والقصيدة ‪ /‬العامل‪ ،‬والحفر عميقاً يف أقايص الروح وهوامشها املهملة‪.‬‬ ‫قصيدة متتلك هوية شعرية متجددة ومفتوحة عىل تساؤلها وقلقها واستبصارها الذايت‪ ،‬تساؤل يظل دامئاً مرشوعاً‪ .‬قصيدة‬ ‫تبتني وتكتسب مرشوعيتها من رهانها عىل مستقبلية الكلمة «اللغة» وتحوالتها‪ ،‬وقدرتها املربكة واملدهشة عىل اخرتاق الواقع‬ ‫وتأويله وخلخلة بناه السائدة واالنفالت من دوغامئية التصنيفات الجاهزة‪.‬‬ ‫عندما تكف اللغة عن دورها األدايت االعتيادي‪ ،‬وتنشق عىل قوانني التامثل‪ ،‬وتخرج من رشنقة االصطالح والتواضع وسجن‬ ‫املفاهيم‪ ،‬لتلتحق وتنصهر بأفق اإلبداع‪ ،‬أفق الشعر وحدوسه الالمتناهية‪.‬‬ ‫هذا االنتهاك هو الذي يجعل االستخدام الشعري للغة ممكناً‪ ،‬ومن دون هذا االنتهاك لن يكون شعر‪ .‬هذا الدور أو الوظيفة‬ ‫الجاملية لقصيدة النرث العربية ال ميكن أن نبحث عنه خارج التزامن الياكبيس «نسبة إىل عامل اللغة الشكالين ياكبسون»‪،‬‬ ‫فقد توافرت عوامل قوية وحاسمة عملت عىل خلق وإيجاد حساسية شعرية جديدة كان أهمها‪ :‬خروج الشعر العريب من‬ ‫البالطات واختالف رؤيته للغة ووظيفتها الشعرية‪ ،‬أي رفض املوقف االتباعي التقليدي للشعر بشكليه التاريخي والجاميل ‪-‬‬ ‫ظهور ترجامت للشعر الغريب ونقده‪ ،‬إثر اتصال العرب بالثقافة الغربية ‪ -‬املناداة بخلط األجناس األدبية واإلفادة من تداخلها‪.‬‬ ‫متثلت اإلرهاصات األوىل لقصيدة النرث العربية يف الحركة الرومانسية لدى املهجريني «جربان خليل جربان – ميخائيل نعيمة –‬ ‫أمني الريحاين» عىل اختالف وتفاوت بينهم من حيث التأثري‪ ،‬فقد كان جربان أكرثهم اشتغاالً عىل تجديد النص الشعري وخلق‬ ‫لغة جديدة داخل اللغة القدمية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫عىل أن املساهمة الكربى واملوجة األهم لقصيدة النرث العربية التي تولت التبشري والتنظري والكتابة جاءت مع حركة مجلة‬ ‫«شعر»‪ ،‬التي ظهرت نهاية الخمسينيات من القرن املنرصم‪ ،‬والتي م ّثلها أدونيس ويوسف الخال وأنيس الحاج ومحمد املاغوط‬ ‫وشوقي أبو شقرا‬ ‫‪58‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫أيها ّ‬ ‫الشعر‬

‫‪.‬‬

‫ميلود خيزار‬

‫نهبت‬

‫عيني الثالثة‪ ...‬لتغطي عىل « ّ‬ ‫رش َك» برسقة روح نار العابر والنرثي من جحيم الحياة‪ ...‬أخذت عيني لتبرص ما ال‬ ‫يراه سواك يف غابتي البعيدة يف الذات‪...‬أيها «الهدهد» األعمى أي سامء تريد بجناحني مهيضني وقلب مكسور؟‪.‬‬ ‫الحب عىل فراش عمر بارد‪ .‬ماذا بوسعك سوى أن «تغنّي» كنهر‬ ‫ها نحن وحدنا‪ ...‬فلنعرتف كام يعرتف زوجان خائبان بعقم شجرة ّ‬ ‫تتناهبه املنحدرات والبساتني؟ سيقولون عىل موائدهم «كل الفضل للامء» وهم يغمزون األشجار ويربزون سواعدهم املفتولة‪.‬‬ ‫ستقول عابرة يف مركبة ملكية يجرها حصان أخرس وأصم «يا لهذا الجميل»‪ ،‬وقد ترمي إليك بوردة قبلة «هوائية»‪ ،‬ثم تختفي‬ ‫يف الحقول الزرقاء‪ .‬أنت لست أكرث من محاولة بائسة إلبعاد هاجسنا املركزي «املوت» كام تفعل بحيلة السرّ د كل «شهرزاد»‪.‬‬ ‫عت اليوم من أحذية قبل ّ‬ ‫َ‬ ‫كم ملّ َ‬ ‫الذهبي» الشبيه بقفص «التملق»‬ ‫رسقت من عصاف َري وجئت بها يف «كتابك‬ ‫البغي؟ كم‬ ‫خف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ألطفال الس ّيد؟ أيها الصوت امللعون يف كورال الحياة الحا ّرة كرقصة تانغو‪ .‬ستقول يل «الشعر حفل راقص يف مأتم املعنى»‪ ،‬ولكنك‬ ‫مل تتأثر ألمل األشجار وأنت تشعل سوقها الطرية مل تفكر بخراب األعشاش وال بهجرة الطري من غابة القاموس‪ .‬ستقول «الخراب‬ ‫الجميل مهنتي»‪.‬‬ ‫الرنجيس‬ ‫تعال نتحدث عن الجامل‪ .‬انظر إىل مرآتك «املح ّدبة»‪ .‬انظر إىل انعكاس الروح املش ّوهة يف بحرية أوهامك الراكدة! أيها‬ ‫ّ‬ ‫قلت يل َ‬ ‫املريض‪َ ،...‬‬ ‫جئت لتزعج مملكة «الجواب» هذه‪ ،‬ولكنك تو ّرطت يف التربير‪ .‬جلست عىل حجر الهامش املرمريّ ‪ .‬تبيع‬ ‫ٌ‬ ‫الصمت؟‬ ‫األحالم اللذيذة ملفوفة «بورق التوت»‪ .‬أ ّية «عورة صوتية أنت» يف نشيد ّ‬ ‫مدجج» من «أصوات» و«أصداء»‪.‬‬ ‫و«هجني‬ ‫«جاميل» ال الجامل‪ .‬هذه سلعتي الكاسدة‪ .‬مزيج من «أصيل يتيم»‬ ‫قل هذا َ‬ ‫ّ‬ ‫أيها «االنكيدو» األبديّ عىل مذبح «الرغبة املقدسة» «ألشخارا» الحياة‪.‬‬ ‫صمت عىل عطيش الضرّ ير‪ .‬نداء أغنية‪ ..‬أنام بحضنها نوم الحقيقة يف رسير الغيب‪ .‬كم‬ ‫هبي يف ٍ‬ ‫عواء ال ّريح‪ .‬مصباح يسيل كال ُمه ال ّذ ّ‬ ‫سنموت يك ننىس؟ وكم سرنافق املوىت إىل أنقاضنا؟ ه ّيا اسبقيني‪ .‬واسبقي نهري إىل الغابات‪ّ .‬مثة ٌ‬ ‫ُ‬ ‫العبثي‪ّ .‬مثة‬ ‫حفلة وحش ّي ٌة س ُيقيمها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫امللح اللعنيُ‪ .‬تذكري‬ ‫خمر ٌة‬ ‫ورقص موجع‪ .‬هيا اركيض معصوبة العينني مثل الدمع‪ .‬ال تتل ّفتي فيصيبك ُ‬ ‫ستفك أسرْ َ ال ّروح‪ .‬موسيقى ٌ‬ ‫َّ‬ ‫صويت إذا خلع الغام ُم قميصه الصويف عند حديقة منبوذة‪ .‬وتذكري أملي إذا فتح الصباح نوافذ الرشق الحزين ون ّفضت صفصافة‬ ‫فستانها فصحت عصافري األىس وعال النشيدُ ‪.‬‬ ‫كالحب‪...‬‬ ‫أيها الخطاب املنبوذ لريح األسئلة املريرة يف عراء املعنى‪ .‬أيها‬ ‫املنفي يف برد الكالم البصري‪ .‬أيها الغامض كالجامل‪ ...‬الرسيّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املمتع كالقامر‪ ...‬الشفاف كالفرح العابر‪...‬الحارق كالدمع‪ ...‬الحكيم كاملوت‪ ...‬هذا هو «العشاء األخري»‪ ،‬عصتك «عصاك»‪ ،‬وخذلتك‬ ‫«القراءات» الكفيفة ألنك غريت إيقاع الرقص‪ ،‬ب ّدلت نداء املياه يف حلق الناي‪ .‬طمست ذاكرة األخرض بال ّرمل‪ .‬متاهيت مع الصحراء‬ ‫وهي تزحف كأمساة لتبتلع البحر‪ .‬دخلت عرس «العبث الكبري» أعزل من خصائص الحجر‪ ،‬ألنه مل يعد هناك ما يكفي من الشمع‬ ‫لصنع أجنحة لطائر الشوق الجريح‪ .‬مل يعد هناك الكثري من األرسار لقد عبث الضوء «املذكر األبيض» بكل أثاث البيت‪.‬‬

‫‪59‬‬


‫حوار‬

‫خاص‬ ‫الشاعر األميركي تشارلز سيميك‪:‬‬

‫شعـري‬ ‫حياتي رحمـ ُة ِ‬

‫والقصيدة أشبه بلعبة بوكر‬

‫ّ‬ ‫يحتلها تشارلز سيميك في‬ ‫ال مكانة تضاهي المنزلة الفريدة التي‬ ‫األميركي اليوم‪ ،‬وال قراءة واحدة‪ ،‬مهما تعمّ قت‪،‬‬ ‫خزانة الشعر‬ ‫ّ‬

‫كفيلة بأن تحيط بعوالمه الشعرية ُ‬ ‫الحلميّ ة‪ ،‬المتداخلة‪ ،‬العصيّ ة على‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال ّنسيان‪ .‬ليست موضوعة شعره سوى «موضوعة الشعر في زمن الجنون»‪ :‬أن «يذكر الناس‬ ‫ّ‬ ‫الشاعر‪ ،‬عنده‪ ،‬سوى «ميتافيزيقي في ّ‬ ‫بمخيّ لتهم وإنسانيّ تهم»؛ وليس ّ‬ ‫شك‬ ‫الظالم»‪« .‬ممّ ا ال‬ ‫ّ‬

‫أن «سيميك» هو أكثر شعرائنا العظام أصالة»‪ ،‬كتب فريد موراتوري‪ ،‬في اليبراري‬ ‫فيه ّ‬ ‫ً‬ ‫جورنال‪ ،‬قائال؛ فيما أعلنت لوس أنجيليس تايمز بوك ورلد‪« :‬ال يوجد شاعر آخر يكتب‪،‬‬

‫في أميركا‪ ،‬بإحساس عظيم من وضوح ّ‬ ‫الصورة»‪ ،‬مثلما يفعل سيميك‪.‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نثرية‪ ،‬ونحو‬ ‫شعرية‪ ،‬وثمانية كتب‬ ‫أصدر سيميك‪ ،‬لغاية اآلن‪ ،‬أكثر من ثالثين مجموعة‬

‫شعرية مترجمة من لغات ّ‬ ‫ّ‬ ‫عدة‪.‬منحته أكاديميّ ة الشعراء األميركيين‪،‬‬ ‫ثالث عشرة مجموعة‬ ‫في العام ‪ ،2007‬جائزة واالس ستيفنز‪ ،‬البالغ قدرها مئة ألف دوالر؛ كما اختاره جيمز‬

‫بيلنغتن‪ ،‬أمين مكتبة الكونغرس‪ ،‬في العام ذاته‪ ،‬ليشغل منصب شاعر أميركا الرّ سمي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫خلفا للشاعر دونالد هوول‪« .‬منصب يعادله‪ ،‬في بريطانيا‪ ،‬منصب‪ :‬شاعر البالط»‬

‫حوار‪ :‬تحسين الخطيب‬

‫‪60‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫تشارلز سيميك‬ ‫‪61‬‬


‫حوار‬

‫مسودة قصيدة للشاعر‬

‫ نعرف ّأن شعر ّيات‪ /‬جامل ّيات الجاز «وحتّى ال ْب ُلوز‬‫أيضاً» قد طرحت تأثريات‪ /‬ظالل عميقة‪ ،‬ليس يف شعرك‬ ‫فحسب‪ ،‬وإنمّ ا يف املشهد الشعري األمرييك بر ّمته‪ ،‬منذ‬ ‫تفجرها املب ّكر يف بدايات القرن العرشين‪ :‬من حركة نهضة‬ ‫ّ‬ ‫هارمل يف العرشين ّيات والثالثين ّيات‪ ،‬إىل حركة جيل «ال ِب ْييت‬ ‫‪ »Beat‬يف الخمسين ّيات؛ ومن حركة شعراء مدرسة نيويورك‬ ‫يف الستين ّيات‪ ،‬إىل املشهد الشعريّ املعارص‪ .‬ويف مقابلة‪،‬‬ ‫أجريت معه يف العام ‪ ،1955‬قال واينت مارساليس ّإن أكرث‬ ‫ثم ع ّرف معنى‬ ‫العنارص جوهر ّية يف الجاز هو «ال ْبلوز»‪ّ .‬‬ ‫كلمة «بلوز»‪ ،‬بقوله‪« :‬أعني فلسفتها‪ .‬متنح موسيقى البلوز‬ ‫العازف نظر ًة غري عاطف ّية عن العامل‪ .‬البلوز هي موسيقى‬ ‫ال ّراشدين الدنيو ّية‪ ،‬أ ّول موسيقى راشدين دنيو ّية أوجدتها‬ ‫أمريكا‪ .‬أنت تتق ّبل املأساة ومتيض قدماً‪ّ .‬إن لها طبيعة‪/‬‬ ‫البلقان‪ ،‬والتي كربت عليها‪ ،‬بتأثريها الرت ّيك والغجريّ ‪ ،‬نوعٌ من‬ ‫خاص ّية ال نهائ ّية»‪ّ .‬إن تلك «النظرة غري العاطفية عن‬ ‫الخاص بها‪ ،‬أغنيات بنغامت ثانو ّية طافحة بالشعر‬ ‫ال ْبلوز‬ ‫ّ‬ ‫العامل»‪ ،‬التي يتحدّث عنها مارساليس‪ ،‬تبدو‪ ،‬بالنسبة إ ّيل‪،‬‬ ‫نيّ‬ ‫والرتاجيديا‪ .‬لقد شعرت باأللفة‪ ،‬وكأ يف البيت‪ ،‬وأنا أنصت‬ ‫ميزة أساس ّية يف تكوين قصائدك‪ .‬وكأ ّنك‪ ،‬بتلك النزعة غري‬ ‫العاطف ّية وفلسفتها‪ ،‬تسعى إىل كتابة قصيدة دنيو ّية أبد ّية‪ :‬إىل ال ْبلوز‪.‬‬ ‫ أهي تلك «الواقع ّية املتجهّمة» التي تح ّول الرتاجيديا إىل‬‫قصيدة تتق ّبل الرتاجيديا‪« ،‬تلك «الكآبة ال ّلذيذة»»‪ ،‬تعيش‬ ‫فيها‪ ،‬ومتيض قدماً‪ ،‬كموسيقى الجاز نفسها‪ ،‬حيث الشاعر «ال نوع من ّ‬ ‫«السعادة القدمية وقد‬ ‫السعادة‪ّ :‬‬ ‫الشعر الذي هو ّ‬ ‫تح ّولت إىل سعادة جديدة»‪ ...‬ترشيح الكآبة الذي يفيض إىل‬ ‫ميتلك تاريخاً‪ ،‬بل نوستالجيا ال تنتهي»‪.‬‬ ‫«الغرف الج ّوانية» للنّفس؟‬ ‫مل ّ‬ ‫تتأت نظريت «غري العاطف ّية عن العامل» من اإلنصات إىل‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أجلس متسائ ًال هل ستحمل‬ ‫ني‬ ‫ن‬ ‫«إ‬ ‫‪.‬‬ ‫ا‬ ‫أحيان‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫تفعل‬ ‫ها‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫نمّ‬ ‫ُ‬ ‫الكثري من ال ْبلوز فحسب‪ ،‬وإ ا من سقوط القنابل فوق‬ ‫رأيس خالل الحرب العامل ّية الثانية يف بلغراد‪ .‬كنت يف ال ّثالثة علبة ثقاب ثيايب»‪ ،‬غنّى باليند ليمون جيفرسن قبل تسعني‬ ‫مرسة‪ ،‬يف تلك الصورة الح ّية‪ ،‬وشعر‬ ‫سنة‪ ،‬واصفاً فقره‪ّ .‬مثة ّ‬ ‫السادسة حني تو ّقف‪.‬‬ ‫من العمر حني بدأ القصف‪ ،‬ويف ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫عالوة عىل االحتالل النّازي‪ ،‬كانت الحرب األهل ّية املحتدمة أيضا‪ .‬ومثة‪ ،‬يف الجهة األخرى‪ ،‬مثلام تعلم‪ ،‬حقائق يف غاية‬ ‫التجهّم لدرجة ّأن استخدام استعارة‬ ‫يف ال ّريف بني ‪ 4 - 3‬فصائل‬ ‫جميلة لوصفها سيكون إهانة‪ .‬أعتقد‬ ‫مختلفة تتحارب فيام بينها‬ ‫ّأن املرء‪ ،‬يف مثل حاالت كتلك‪ ،‬مجرب‬ ‫«وفقاً للمكان الذي تتواجد‬ ‫مـاضية‬ ‫النثر‬ ‫قـصيدة‬ ‫عىل وصف ما هو أمام عينيه بال‬ ‫فيه» واألملان يقومون بالقتل‬ ‫زخرفة أو تزيني‪ ،‬كام لو كان املرء‬ ‫الخاصة‪ .‬حني‬ ‫عىل طريقتهم‬ ‫ّ‬ ‫في طـريقهـا والجيد‬ ‫كامريا‪ .‬لديّ تلك الرؤية املزدوجة يف‬ ‫سمعت ال ْبلوز ال ّريف ّية‪ ،‬قلت يف‬ ‫منهـا سيواصل إبهاج قصائدي‪ :‬العامل الذي نراه حني نغمض‬ ‫نفيس‪ :‬ها أناس ال يتظاهرون‬ ‫عيوننا‪ ،‬والعامل الذي نراه حني نفتحها‬ ‫ّ‬ ‫بأن الحياة رسير من الزّهور‪.‬‬ ‫القــــــراء‬ ‫ّ‬ ‫عىل ا ّتساعها‪ .‬بكلامت أخرى‪ ،‬تأثري‬ ‫لقد أثرت واقع ّيتهم املتجهّمة‬ ‫عميقاً ّيف‪ّ .‬‬ ‫املخ ّيلة وتأثري الحقيقة «عىل ح ّد‬ ‫بالطبع‪ ،‬كان‬ ‫سواء»‪.‬‬ ‫للموسيقى يف مكان عييش يف‬ ‫‪62‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫الشاعر األميركي تشارلز سيميك‬

‫ يبدو يل ّأن معظم قصائدك تحيا عىل الحا ّفة— يف‬‫الحوايش‪ ،‬وعميقاً حولها؛ يف الحوايش دامئاً‪« ،‬حيث ّ‬ ‫كل يشء‬ ‫يرت ّنح عىل حا ّفة ّ‬ ‫كل يشء»‪ .‬عىل ذلك الجرس املع ّلق بني‬ ‫الزّمن والتاريخ‪ ،‬وبني الزّمن واألبد ّية‪ .‬كام لو تصبح ال ّلغة‪،‬‬ ‫يف ح ّد ذاتها‪ ،‬تلك الحالة الربزخ ّية‪ /‬املؤ ّقتة ملا ال يوصف أو‬ ‫الصوت‬ ‫يقال‪ .‬كام لو ّأن القصيدة‪ ،‬ذاتها‪ ،‬ليست سوى ذلك ّ‬ ‫الذي يسمعه املرء‪ ،‬عميقاً يف ال ّليل‪.‬‬ ‫هذا وصف رائع لنوع التجربة التي يحظى بها املرء وهو‬ ‫ينصت إىل ذلك النّوع من املوسيقى‪ .‬ال ّلحن نفسه وكلامت‬ ‫األغن ّية ُتلمح إىل الكثري اّ‬ ‫مم ال ميكن نقله‪« ،‬إىل» الذي يراوغ‬ ‫اللغة ويتم ّلص منها‪ ،‬ولكنّه يشاركنا كينونتنا األعمق‪ .‬لقد‬ ‫تأ ّثرت‪ ،‬بذات ّ‬ ‫الطريقة‪ ،‬وأنا أصغي إىل األغنيات العرب ّية التي‬ ‫ال أفهم كلامتها‪ ،‬أل ّنني أدرك املشاعر التي ترسي فيها‪ .‬ومماّ‬ ‫ال ّ‬ ‫شك فيه ّأن عشقي لنوع املوسيقى الذي نتحدّث عنه قد‬ ‫كان ذا أثر بالغ‪ ،‬ليس عىل شعري فحسب‪ ،‬وإنمّ ا عىل األفكار‬ ‫رس امللكوت وحيواتنا الفرد ّية‪.‬‬ ‫التي أحملها بشأن الله و ّ‬ ‫السابق عن النظرة املزدوجة — من املتخ ّيل‬ ‫ ّإن حديثك ّ‬‫ّ‬ ‫والحقيقي — يف قصائدك‪ ،‬يجعلني أفكر بالعوامل الرسيال ّية‬ ‫ّ‬ ‫التي ما ّ‬ ‫ينفك شعرك يف ب ّثها‪ ،‬يف ّ‬ ‫كل م ّرة أقرأه فيها‪ :‬تصادم‬ ‫اليومي مبا هو وراءه‪.‬‬ ‫امليثولوجي باملبتذل‪ /‬العاديّ ‪ ،‬وتصادم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لقد قلت‪ ،‬م ّرة‪« :‬حني تغمض عينيك‪ ،‬فإ ّنك ترى العامل عىل‬ ‫نحو أفضل»‪ .‬أتتّفق مع هذه النّظرة؟ وإن كان كذلك‪ ،‬كيف‬ ‫والحقيقي يف صورك الشعر ّية؟‬ ‫توازن بني الرسيا ّيل‬ ‫ّ‬ ‫كيف أوازن بني مقدار املخيال ومقدار الحقيقة اللذين‬ ‫يتوجب أن يكونا يف القصيدة؟ ال توجد قاعدة محدّدة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتو ّقف األمر «عىل املرء نفسه»‪ .‬تالحظ أنني تكلمت عن‬ ‫املخيال وليس عن «السرّ يا ّيل»‪ّ .‬إن اعرتايض عىل السوريال ّية‬ ‫األدب ّية نابع من كون تأثرياتها مفتعلة يف الغالب‪ .‬ال ميكن‬ ‫للتّحليقات الحقيق ّية للمخ ّيلة أن تكون رهن اإلرادة‪.‬‬ ‫والصور تقفز يف أذهاننا‪،‬‬ ‫املجازات واالستعارات ّ‬ ‫ليس إ ّال‪ .‬نغمض عيوننا ونسأل أنفسنا كيف‬ ‫يبدو يشء ما‪ ،‬فتخضع املخ ّيلة وتأيت بيشء‬ ‫امليثولوجي والعاديّ املبتذل‬ ‫ما‪ّ .‬إن تصادم‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫جزء من ذلك‪ .‬يتوقف ذلك تقريبا عىل‬ ‫الكيف ّية التي نحيا بها‪.‬‬ ‫‪ -‬إذن‪ ،‬أنت ال تؤمن بالسوريال ّية‪،‬‬

‫باللوعي‪ ،‬وفقاً‬ ‫بوصفها «حقيقة مطلقة»‪ :‬حيث يتّحد الوعي اّ‬ ‫لربيتون‪ ،‬وإنمّ ا باالستعارات‪ ،‬وما تحمله الصور «وال ّلقطات‬ ‫الخاطفة» يف داخلها؟‬ ‫قد تكون نظر ّية بريتون‪ ،‬التي استوحاها من فرويد‪،‬‬ ‫صحيحة‪ ،‬ولكنها ال تعني شيئاً بالنّسبة إىل شاعر يزاول‬ ‫الكتابة الشعر ّية مثيل‪ .‬لقد أ ّثرت السوريال ّية يف عديد شعراء‬ ‫ورسامني عظام يف أنحاء العامل عرب تبيان كيف يطلقون‬ ‫ّ‬ ‫العنان ملخ ّيلتهم‪ ،‬لكنّ أفكارها الفلسف ّية مل تكن ذات أثر‬ ‫دائم‪ .‬حني كنت يافعاً‪ ،‬أطلقوا ع ّ‬ ‫يل لقب سوريا ّيل‪ ،‬رفقة‬ ‫جيمز تييت ومارك سرتاند وراسل إدسن وبضعة شعراء‬ ‫آخرين‪ ،‬لكننّا مل نكن مهت ّمني بالكتابة عىل ّ‬ ‫الشاكلة التي‬ ‫كتب بها بريتون وإليوار وبريييه قبل نحو خمسني سنة‬ ‫من زماننا‪ .‬كنّا متأ ّثرين‪ ،‬عىل نحو عميق‪ ،‬بأبولينري وماكس‬ ‫جاكوب يف فرنسا‪ ،‬وبلوركا وألبرييت ونريودا وبا ّييخو يف إسبانيا‬ ‫وأمريكا الجنوب ّية‪.‬‬ ‫ لربمّ ا تتّفق‪ ،‬إذن‪ ،‬مع لوركا حني يقول‪« :‬املخ ّيلة مقصورة‬‫عىل الحقيقة‪ :‬ال يستطيع املرء تخ ّيل ما ال هو موجود‬ ‫فع ًال‪ .‬إ ّنها تحتاج إىل األشياء‪ ،‬واملشاهد الطبيع ّية‪ ،‬واألرقام‪،‬‬ ‫والكواكب‪ ،‬وتتط ّلب النّوع األنقى من املنطق لربط تلك‬

‫‪63‬‬


‫حوار‬

‫األشياء ببعضها‪ .‬تح ّوم املخيلة فوق الفكر مثلام يح ّوم العبري ‪ -‬بعد نحو ‪ 13‬سنة من تصويت لويس سمبسون ض ّد منح‬ ‫فوق الزّهرة‪ ،‬منطلقاً بخ ّفة ولكنّه مربوط‪ ،‬دامئاً‪ ،‬باملركز الذي جائزة بوليتز للشعر لقطعات النرث الشعريّ التي ض ّمها‬ ‫كتاب مارك سرتاند‪ ،‬الن ُّصب‪ ،‬يفوز كتابك العامل ال ينتهي‬ ‫ال يوصف ألصلها»‪.‬‬ ‫أ ّتفق مع لوركا‪ ،‬عدا زعمه ّ‬ ‫بالجائزة يف العام ‪ .1990‬كانت تلك هي امل ّرة األوىل التي‬ ‫بأن املرء ال ميكنه تخ ّيل ما ال‬ ‫يتم فيها منح هذه الجائزة املرموقة لكتاب قصائد نرث‪.‬‬ ‫يوجد‪ّ .‬إن األطفال والبالغني يقومون بذلك النّوع من التخ ُّيل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫هل تعتقد أن ذلك الفوز قد مهّد الطريق أمام اعرتاف‬ ‫دوماً‪.‬‬ ‫«مؤسسا ّيت» أكرث بقصيدة النرث بوصفها نوعاً أدب ّياً يسعى‬ ‫ تركت بلغراد وأنت يف الخامسة عرشة‪ .‬سنة يف باريس‪،‬‬‫ّ‬ ‫إىل انتهاك الحدود التقليد ّية بني الشعر والنرث؟ وما رأيك‬ ‫ومن َث ّم وصلت إىل نيويورك‪ .‬يف قصيدتك‪ ،‬شيليل‪ ،‬تقول‬ ‫مبستقبل قصيدة النرث يف عامل أد ّيب ما زالت تسيطر عليه‬ ‫«مخاطباً شاعر»أوراق األشجار املنساقة كأشباح‪ /‬املنساقة‬ ‫كجموع رضبها ّ‬ ‫«الطاعون»‪ :‬لقد َ‬ ‫طرائق ّ‬ ‫الشعر الح ّر‪ /‬الشعر يف الشكل املفتوح وجامل ّياتهام‬ ‫قرأتك أ ّوالً‪ /‬ذات مساء‬ ‫من جهة؛ والدعوات األخرية التي أطلقها ّ‬ ‫الجدد‬ ‫ماطر يف مدينة نيويورك‪ ،‬بلكنتي السالف ّية الوحش ّية‪،‬‬ ‫الشكالن ّيون ُ‬ ‫الشعر ّية التقليد ّية «العودة إىل ّ‬ ‫إلحياء األشكال ّ‬ ‫الشعر‬ ‫«ثم تتحدّث أيضاً عن سقط متاع العامل»‪ ،‬وعن خوفك‬ ‫ّ‬ ‫املوزون املق ّفى» من جهة أخرى؟‬ ‫من غرفتك «الصغرية املصمتة‪ /‬الباردة كقرب إمرباطور‬ ‫اّ‬ ‫كل‪ ،‬البتّة‪ .‬ما زال شعر النّرث ُيع ّد خدعة‪ ،‬فضيحة واستحالة‬ ‫رضيع»‪ .‬هل لك أن تحدّثنا عن تجربتك يف تلك املدن‬ ‫الكوزموبوليتان ّية؟ وهل تع ّد نفسك ّ‬ ‫منطق ّية من طرف معظم النّقاد والكثري من الشعراء‪ .‬لكنّني‬ ‫مشا ًء‪ ،‬ليس فقط‬ ‫أعتقد‪ ،‬بال ّرغم من ذلك‪ّ ،‬أن قصائد النرث ستواصل انكتابها‪،‬‬ ‫باملعنى البودلرييّ ‪ ،‬وال عىل شاكلة فالرت بنجامني فحسب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وأن الج ّيدة منها ستواصل إبهاج الق ّراء الذين ال يكرتثون‬ ‫وإنمّ ا وفقاً «للنظرة الفلسف ّية» األعمق لطرائق العيش‬ ‫ّ‬ ‫بأن لويس سمبسون قد زعم م ّرة ّأن النرث والشعر طريقتان‬ ‫والتّفكري‪.‬‬ ‫اّ‬ ‫كل ّ‬ ‫مختلفتان للكتابة ال ميكن أن تتامزجا معاً‪.‬‬ ‫«املشاء» رجل عىل مهله‪ .‬كنت‪ ،‬من ناحية أخرى‪،‬‬ ‫ لقد كتبت قصائد كثرية تندرج ضمن ما يعرف بقصيدة‬‫مهاجراً فقرياً‪ ،‬عاط ًال عن العمل يف الغالب‪ ،‬أطوف شوارع‬ ‫الشيّ ء ّ‬ ‫«الشوكة؛ امللعقة؛ الحجر»‪ .‬ويف يوم ّياتك‪ ،‬املسخ‬ ‫الصغر يف فندق قذر‬ ‫نيويورك أل ّنني عشت يف غرفة بالغة ّ‬ ‫الصاخبني‪ .‬ما أعني قوله‪ :‬مل يكن ّمثة يشء يعشق متاهته‪ ،‬تتحدّث عن قصيدة الشيّ ء بوصفها هاجساً‬ ‫بالسكارى ّ‬ ‫محاط ّ‬ ‫«فلسفي» يتع ّلق بالعيش عىل هذه ّ‬ ‫الشاكلة‪ .‬تلك القصيدة عن «أخرو ّية الشيّ ء ا ُملطلقة»‪ .‬هيدغر يتحدّث عن «شيئ ّية‬ ‫ّ‬ ‫مج ّرد نشيد إىل تلك الفرتة من حيايت‪ .‬مل يخطر ببايل حينئذ‪ ،‬الشيّ ء»‪ ،‬و«بأ ّننا لن نستطيع الوصول إىل الشيّ ء‪ ،‬يف ذاته‪،‬‬ ‫وال حتّى اآلن‪ْ ،‬‬ ‫الصعبة‪ .‬حتّى يكون فكرنا قد وصل‪ ،‬أ ّوالً‪ ،‬إىل الشيّ ء بوصفه شيئاً»‪.‬‬ ‫بأن ّمثة شيئاً استثنائ ّياً يتع ّلق بحيايت ّ‬ ‫ّ‬ ‫نيّ‬ ‫ّ‬ ‫كيف يستطيع الشاعر‪ ،‬بفكره‪ ،‬الوصول‬ ‫يتوجب عليك تذكر أ‬ ‫ّ‬ ‫إىل املطلق يف الشيّ ء‪ ،‬ما دام الفراغ‪/‬‬ ‫قدمت من بلد نصف‬ ‫الخواء هو ّ‬ ‫كل ما تحمله األشياء عميقاً يف‬ ‫مد ّمر «يوغسالفيا»‪ ،‬ومن‬ ‫ً‬ ‫أمضي شهورا وسنين دواخلها؟‬ ‫أورو ّبا فقرية بائسة‪ .‬أعرف‬ ‫عندما يتحدّث الشاعر عن املطلق فإنهّ‬ ‫ّأن األمور كان ميكن لها‬ ‫أن تكون أسوأ بكثري اّ‬ ‫أحـــيان ًا وأنا أصـــلح يكون أقرب إىل املتص ّوف املتد ّين منه إىل‬ ‫مم‬ ‫الفيلسوف‪ .‬يعتمد التفكري الشعريّ إن‬ ‫كانت عليه‪ ،‬فرغم لحظات‬ ‫اإلشفاق عىل ال ّذات‪ّ ،‬‬ ‫استطعنا تسميته بذلك بدرجة كبرية عىل‬ ‫فإن‬ ‫والكلمات‬ ‫الصور‬ ‫املخ ّيلة والحدْس أكرث اّ‬ ‫مم يعتمد عىل‬ ‫الشوارع الغن ّية ملدينة‬ ‫ّ‬ ‫نيويورك كانت دوماً‬ ‫مهتم مبا يقوله هيدغر‪،‬‬ ‫أنا‬ ‫بع‪،‬‬ ‫بالط‬ ‫الفكر‪.‬‬ ‫ّد‬ ‫د‬ ‫تتج‬ ‫ّ‬ ‫لكنّني ال أظنّ ّأن «ملقولته تلك» أيّ أثر‬ ‫تعج فيها‪.‬‬ ‫بالحشود التي ّ‬ ‫‪64‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫الشاعر األميركي تشارلز سيميك‬

‫‪III‬‬

‫‪S. RES. 304‬‬

‫‪110TH CONGRESS‬‬ ‫‪1ST SESSION‬‬

‫‪Congratulating Charles Simic on being named the 15th Poet Laureate of‬‬ ‫‪the United States of America by the Library of Congress.‬‬

‫‪IN THE SENATE OF THE UNITED STATES‬‬ ‫‪AUGUST 3, 2007‬‬ ‫;‪Mr. SUNUNU (for himself and Mr. GREGG) submitted the following resolution‬‬ ‫‪which was considered and agreed to‬‬

‫‪RESOLUTION‬‬ ‫‪Congratulating Charles Simic on being named the 15th Poet‬‬ ‫‪Laureate of the United States of America by the Library‬‬ ‫‪of Congress.‬‬ ‫‪Whereas Charles Simic was born in Yugoslavia on May 9,‬‬ ‫;‪1938, and lived through the events of World War II‬‬ ‫‪Whereas, in 1954, at age 16 Charles Simic immigrated to the‬‬ ‫;‪United States, and moved to Oak Park, Illinois‬‬ ‫‪Whereas Charles Simic served in the United States Army‬‬ ‫;‪from 1961 to 1963‬‬ ‫‪Whereas Charles Simic received a bachelor’s degree from‬‬ ‫;‪New York University in 1966‬‬

‫شهادة تقدير‬

‫‪SR304‬‬

‫‪E:\BILLS\SR304.ATS‬‬

‫‪Sfmt 6300‬‬

‫‪Fmt 6652‬‬

‫‪Frm 00001‬‬

‫‪PO 00000‬‬

‫‪Jkt 059200‬‬

‫‪05:57 Aug 05, 2007‬‬

‫‪VerDate Aug 31 2005‬‬

‫‪bajohnson on PROD1PC77 with BILLS‬‬

‫‪Whereas Charles Simic has been a United States citizen for‬‬ ‫‪36 years and currently resides in Strafford, New Hamp‬‬‫;‪shire‬‬

‫عىل الكيف ّية التي أكتب بها قصائدي عن األشياء الجامدة‪.‬‬ ‫مل أنظر إليها كمسألة معرف ّية‪ /‬إبستمولوج ّية وميتافيزق ّية‬ ‫يتوجب ح ّلها‪ ،‬بل كمحاولة لوصف ما رأيته وما شعرت به‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للصويف املتد ّين هو االتحاد مع‬ ‫ ولكنّ الهدف األسمى ّ‬‫املطلق؟‬ ‫بىل‪ّ ،‬‬ ‫بالطبع‪ ،‬ولكنّ األمر كان كذلك مع الشعراء‬ ‫ال ّرومانتيكيينّ يف إنكلرتا وأملانيا عىل ح ّد سواء‪ ،‬أو مع شعراء‬ ‫أمريك ّيني من أمثال ويتمن وديكنسن‪ .‬كانوا يدعون متص ّويف‬ ‫ّ‬ ‫الطبيعة‪ ،‬زاعمني بوجود لحظات ٍّ‬ ‫تجل حني تع ُرج أوراحنا‬ ‫فوق املظاهر معاين ًة حقيقة أسمى‪ .‬إ ّننى أؤمن بذلك أيضاً‪.‬‬ ‫ يف مقالته‪« ،‬مديح األحجية‪ :‬تشارلز سيميك وفنّ جوزيف‬‫كورنيل»‪ ،‬يقول بيوتور فلورجيك إ ّنك قد «أرشت إىل أ ّنك‬ ‫يتم فيها توضيب ال ّلغة‬ ‫تع ّد القصائد بوصفها صناديقَ ّ‬ ‫والصور وال ّرموز‪ ،‬وإعادة توضيبها‪ ،‬حتّى ّ‬ ‫تتكشف معانيها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تتوسع يف الحديث عن هذا املفهوم‪:‬‬ ‫العميقة»‪ .‬هل لك أن ّ‬ ‫القصيدة بوصفها صندوقاً‪ ،‬بوصفها أحجية؟‬ ‫إ ّنها تشبه صندوقاً أكرث من كونها أحجية‪ .‬إن كنت تكتب‬ ‫فإن شيئاً اّ‬ ‫قصائد قصرية مثيل‪ّ ،‬‬ ‫مم يصفه فلورجيك يحدث‪.‬‬ ‫أجرب نفيس‪ ،‬حني أق ّرر ّأن القصيدة لن تتجاوز ‪12 - 10‬‬

‫سطراً‪ ،‬فأقيض شهوراً‪ ،‬وسن َ‬ ‫ني أحياناً‪ ،‬وأنا أصلح الصور‬ ‫والكلامت حتّى تكتسب ذلك املعنى العميق‪.‬‬ ‫ َ‬‫ميتافيزيقي‬ ‫قلت‪ ،‬مقتبساً من واالس ستيفنز‪ّ ،‬إن «الشاعر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يف الظالم»‪ .‬يعلن ستيفنز أن القصيدة «تحتوي العقل‪ ،‬فال‬ ‫يستطيع الهبوط تحتها‪ ،‬وال رغبة لديه يف أن يصعد أبعد»‪.‬‬ ‫فيام تبحث أنت عن «ميتافيزيقا بال ن ْفس أو إله! أهذا ما‬ ‫تريده «ح ّقاً»؟ »‪.‬‬ ‫أ ّتفق مع العبارة األوىل‪ ،‬لكن ليس للثانية أ ّية عالقة مبا أومن‬ ‫مم ال ّ‬ ‫به‪ .‬اّ‬ ‫شك فيه أ ّننا منتلك ن ْفساً‪ .‬أ ّما بالنسبة إىل اإلله‪،‬‬ ‫فهذا أمر منوط ّ‬ ‫بكل واحد منّا‪ :‬أن يجده‪ ،‬أو اّأل يجده‪ .‬تشري‬ ‫«ميتافيزيقي يف الظالم» إىل عبث ّية حالتنا كأفراد‪.‬‬ ‫عبارة‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ ال َهزْل والظ ْرف وحضور البديهة والتهكم سامت أساس ّية يف‬‫بنية مرشوعك الشعريّ ‪ .‬يف «أوقفوا املسخرة» تقول‪ّ :‬‬ ‫«كل ما‬ ‫روحي وجليل ومج ّرد يع ّد ال َه ْز ّيل رجساً وتجديفاً»‪ ،‬كام‬ ‫هو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ثم تقول ّإن‬ ‫«يتعذر تخ ُّيل نظر ّية هَ زْل مسيح ّية أو فاش ّية»‪ّ .‬‬ ‫«ال َهزْل‪ّ ،‬‬ ‫تتوسع يف‬ ‫كالشعر‪ُ ،‬منت ِهك‪ /‬ومح ّرض»‪ .‬هل لك أن ّ‬ ‫الحديث عن النّزعة «االنتهاك ّية‪ /‬التّقويض ّية» لل َهزْل؟‬ ‫السائرة‬ ‫كان أفضل نقد لالتحاد‬ ‫السوفيتي موجود يف النّكات ّ‬ ‫ّ‬ ‫الشيوعي‪ .‬انتهى األمر بأناس كثريين‬ ‫يف روسيا خالل الحكم‬ ‫ّ‬ ‫‪65‬‬


‫حوار‬

‫الصدفة»‪ .‬ويف‬ ‫يف معسكرات العمل القرسيّ «الغوالغ» ج ّراء روايتهم لتلك «ميكن للشعر الغنا ّيئ أن يتأتىّ من عمل ّيات ُّ‬ ‫«الصدفة بوصفها وسيلة يكرس بها‬ ‫النّكات‪ .‬أ ّما يف الدول املسيح ّية‪ ،‬فالنّكات حول القساوسة‬ ‫يوم ّياتك تتحدّث عن ّ‬ ‫الصدفة بـ‬ ‫والبابوات تقال منذ قرون‪ .‬لقد كابد الكتّاب ال َهزْل ّيون‪ ،‬الذين املرء تداعياته املألوفة»‪ ،‬وعن فيرتاك الذي وصف ّ‬ ‫قاربوا موضوعات سياس ّية ودين ّية‪ ،‬املش ّقة يف ّ‬ ‫كل مكان‪ .‬هذا «الق ّوة الغنائ ّية»‪ .‬هل يعني ذلك ّأن القصيدة «رمية نرد»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وأن الشاعر يلعب بالنرّ د مع حدوسه «ليقذف نفسه يف‬ ‫هو الفارق‪ ،‬بالنسبة إ ّيل‪ ،‬بني البلد الح ّر وما هو غري ذلك‪.‬‬ ‫ َ‬‫قلت‪ ،‬يف «ملحوظات عن الشعر والفلسفة»‪ّ ،‬إن «الشاعر املجهول»؟‬ ‫ليست القصيدة بر ّمتها‪ .‬بعضها متع ّمد‪ ،‬محسوب بدقةّ‬ ‫ّ‬ ‫تحت رحمة استعاراته‪ .‬كل يشء تحت رحمة استعارات‬ ‫الصدفة تلعب دوراً اّ ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مهم أيضاً‪ .‬لطاملا‬ ‫ة‪،‬‬ ‫ق‬ ‫بد‬ ‫ذ‬ ‫ف‬ ‫ومن‬ ‫وموالتهم»‪.‬‬ ‫الشاعر‪ -‬حتّى اللغة التي هي س ّيدة الشعراء‬ ‫ولكنّ‬ ‫ُّ‬ ‫قال الشعراء ْ‬ ‫بأن ّمثة أوقات قادتهم فيها ق ّوة ما فقالوا أشياء‬ ‫ويف يوم ّياتك تقول‪« :‬حيايت رحمة شعري»‪ .‬هل ذلك يعني‬ ‫مل يحلموا بقولها البتّة‪ .‬وحني يتع ّلق األمر ّ‬ ‫بالشعر‪ ،‬فإ ّنني أثق‬ ‫ّأن «القصيدة محاولة الستعادة ال ّذات وإدراكها‪« ،‬محاولة»‬ ‫بالصدفة أكرث من ثقتي بالفكر‪ .‬إ ّنها أشبه بلعبة بوكر حيث‪،‬‬ ‫للتذ ّكر ال ّذايت‪ ،‬أعجوبة أن تكون «ذاتك» ثانية»؟‬ ‫ّ‬ ‫ليس متاماً‪ .‬ال يستطيع املرء‪ ،‬مثلام تعرف‪ ،‬أن يشاء استعار ًة أحياناً‪ ،‬يصيبك ّ‬ ‫الحظ بسهمه فتحصل عىل مجموعة كاملة‬ ‫‪ ،full deck‬ويف أحايني أخرى تحاول جهدك باألوراق التي‬ ‫عظيمة‪ ،‬أو مجازاً عظي ًام‪ .‬إ ّنهام عمل مخياالتنا‪ ،‬وتجلبان‬ ‫يف يديك‪...‬‬ ‫معهام طريقة جديدة يف النّظر إىل العامل‪ .‬االستعارات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واملجازات الج ّيدة هي دَهْ شة متاماً‪ .‬ما هو هذا اليشء الذي ‪ -‬رغم إشارتك املتواصلة إىل أنك شاعر أمرييك‪ ،‬ورغم تجربتك‬ ‫الحيات ّية الطويلة يف الكتابة باإلنجليز ّية‬ ‫خطر ببايل فجأة؟ يحدّث‬ ‫السالف ّية األ ّم‪ّ ،‬‬ ‫فإن الكثري‬ ‫املرء نفسه‪ .‬غالباً ما يجد‬ ‫وليس بلغتك ّ‬ ‫من أعاملك تنهل من ذكريات طفولتك يف‬ ‫املرء نفسه يعشق «تلك‬ ‫أحـب الشـعـراء‬ ‫ّ‬ ‫بلغراد‪ ،‬كام أن عواملك الشعر ّية هي أقرب‬ ‫االستعارات واملجازات»‪،‬‬ ‫إىل العوامل األوروب ّية منها إىل األمريك ّية‪ .‬يف‬ ‫وال يفهمها‪ ،‬عىل ح ّد سواء‪.‬‬ ‫العرب الكالسيكيين‪،‬‬ ‫إحدى قصائدك الرؤيو ّية‪« ،‬ال ّريح»‪ ،‬نقرأ‪:‬‬ ‫هذا ما قصدته بأنيّ تحت‬ ‫نفاك»‪.‬‬ ‫رحمتها‪.‬‬ ‫«تلمسيني‪ /‬تلمسنيَ‪ /‬الوطنَ الذي ِ‬ ‫ِ‬ ‫وأكن إعجاب ًا عظيم ًا‬ ‫يف ضوء املعنى الذي تثريه هذه القصيدة‪،‬‬ ‫بالصدفة‪ ،‬ولطاملا‬ ‫ تؤمن ُّ‬‫هل تع ّد نفسك شاعراً يف املنفى؟‬ ‫وصفت نفسك بأ ّنك‬ ‫لدرويش وأدونيس‬ ‫ال أحد يف أورو ّبا يعدّين شاعراً أوروب ّياً‪ّ ،‬‬ ‫ألن‬ ‫شاعر غنا ّيئ‪ .‬تقول بأ ّنه‬

‫‪66‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫الشاعر األميركي تشارلز سيميك‬

‫معظم األشياء التي أكتب عنها ذات صلة‬ ‫بأمريكا‪ .‬نعم‪ ،‬كانت لديّ طفولة مش ّوقة‬ ‫إذ كربت خالل الحرب العامل ّية ال ّثانية يف‬ ‫يوغسالفيا‪ ،‬لكنّني أعيش هنا منذ ‪،1954‬‬ ‫ومل تتم ّلكني رغبة يف أن أعود إىل أورو ّبا‬ ‫والعيش فيها‪ .‬هناك‪ ،‬لن أشعر باأللفة ح ّقاً‪،‬‬ ‫كمنفي‪.‬‬ ‫لذلك ال أستطيع وصف نفيس‬ ‫ّ‬ ‫ يف «املسخ يعشق متاهته»‪ ،‬تقول‪:‬‬‫«تتط ّلب الوحش ّية والعنف أخالق ّية‬ ‫جديدة متف ّوفة»‪ ،‬ولهذا يحتاج رجال‬ ‫الدّولة إىل «املث ّقفني لتقسيم القتلة إىل‬ ‫أخيار وأرشار‪ ،‬ولتربير أ ّننا نؤذي أولئك‬ ‫النّاس من أجل مصلحتهم»‪ .‬برأيك‪ ،‬ما‬ ‫والسلطة‬ ‫شكل العالقة الواجبة بني املث ّقف ّ‬ ‫والقوى املهيمنة؟ وهل تؤمن بوجود‬ ‫ّ‬ ‫املستقل»؟ فإن كان األمر كذلك‪،‬‬ ‫«املث ّقف‬ ‫يتوجب عىل املث ّقف‬ ‫فام هو الدّور الذي ّ‬ ‫«الحقيقي» القيام به؟‬ ‫ّ‬ ‫لطاملا ُوجد املث ّقفون املستق ّلون‪ ،‬ولكنّهم ق ّلة‪ .‬قول الحقيقة‬ ‫للسلطة ليس أمراً شائعاً حتّى يف الدول الدميقراط ّية‪ ،‬ناهيك‬ ‫ّ‬ ‫عن األنظمة االستبداد ّية‪ .‬أ ّما الدور الذي يقوم به املث ّقفون‬ ‫فهو أمر منوط بهم‪ .‬يف ّ‬ ‫أحتج فيها عىل يشء قامت‬ ‫كل م ّرة ّ‬ ‫به الواليات املتّحدة‪ ،‬ال يكون نابعاً من تحقيق ما أظنّه‬ ‫يتوجب عىل املث ّقف القيام به‪ ،‬بل ّ‬ ‫ألن ضمريي‬ ‫الدور الذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫يقلقني وال أستطيع النّوم يف الليل‪.‬‬ ‫ ولكن‪ ،‬هل تع ّد القصيدة التي كتبها غونرت غراس‪« ،‬ما‬‫ينبغي أن يقال»‪ ،‬والتي نرشت ّ‬ ‫مؤخراً‪ ،‬منتقداً فيها «نفاق‬ ‫الغرب تجاه املرشوع النّووي اإلرسائي ّ‬ ‫يل»‪ ،‬نوعاً من وخز‬ ‫ّ‬ ‫الضمري فقط‪ ،‬وأ ّنه كتبها ملج ّرد أ ّنه ال «يستطيع النوم يف‬ ‫ال ّليل»؟‬ ‫ما قاله غراس صحيح مبا يكفي‪ ،‬لكنّ الذي كتبه ليس‬ ‫يتوجب عليه كتابة ما قاله نرثاً‪ .‬أعتقد بأ ّنه قد‬ ‫قصيدة‪ .‬كان ّ‬ ‫ظنّ أ ّنه سيحصل عىل مزيد من ردود الفعل إن أطلق عليها‬ ‫ومم ال ّ‬ ‫اسم قصيدة‪ ،‬اّ‬ ‫شك فيه أ ّنه قد نال ما أراد‪.‬‬ ‫ لقد ترجمت العديد من األعامل الشعر ّية‪ ،‬من «حدائق‬‫النّار» إليفان الليتش‪ ،‬و «الصندوق الصغري» لفاسكو بوبا يف‬

‫‪ ،1970‬مروراً بـ «بعض نبيذ آخر أو ضياء»‬ ‫أللكسندر ريستوفتش يف ‪ ،1989‬و«بريد‬ ‫ال ّليل» لنوفيكا تادتش يف ‪ ،1992‬وصوالً إىل‬ ‫ترجامتك عن األملان ّية ضمن املختارات من‬ ‫أعامل غونرت غراس التي صدرت يف العام‬ ‫‪ .2004‬لقد قال روبرت فروست ّإن «الشعر‬ ‫هو ما يضيع يف الترّ جمة»‪ ،‬فيام قال جوزيف‬ ‫برودسيك إ ّنه «الذي يتح ّقق» فيها‪ .‬بني ما‬ ‫«يضيع» يف الرتجمة و«ما يتح ّقق فيها»‪ ،‬هل‬ ‫لك أن تحدّثنا عن تجربتك يف ترجمة ّ‬ ‫الشعر؟‬ ‫وهل ّمثة دور مارسته تلك الرتجامت عىل‬ ‫صنعة القصيدة لديك؟ وهل تؤمن بالرتجمة‬ ‫بوصفها سريورة ثقاف ّية؟‬ ‫ليس من قراءة لصيقة للقصيدة أكرث من تلك‬ ‫التي يقوم بها املرتجم‪ .‬لقد تع ّلمت‪ ،‬عىل نحو‬ ‫هائل‪ ،‬من ترجمة عديد الشعراء املختلفني‪،‬‬ ‫ومم ال ّ‬ ‫كيف تصنع القصائد‪ .‬اّ‬ ‫شك فيه ّأن‬ ‫بعض الشعراء الذين ترجمت أعاملهم‪،‬‬ ‫كفاسكو بوبا وألكسندر ريستوفيتش‪ ،‬قد أ ّثروا ّيف حينئذ‪.‬‬ ‫ما يفعله املرء يف الرتجمة‪ ،‬مثلام تعرف ج ّيداً‪ ،‬ليس ترجمة‬ ‫القصيدة بعينها فحسب‪ ،‬بل ال ّثقافة التي كتبت بها أيضاً‪.‬‬ ‫الصعب من الرتجمة‪ ،‬الشقّ الذي يخفق املرء‬ ‫هذا هو الشقّ ّ‬ ‫يف تحقيقه أو ينجح‪.‬‬ ‫ هل أنت ّ‬‫مطلع عىل ّ‬ ‫الشعر العريبّ؟‬ ‫أحب الشعراء العرب الكالسيك ّيني‪ ،‬وأكنّ إعجاباً عظيامً‬ ‫ّ‬ ‫لدرويش وأدونيس‪.‬‬ ‫ أيّ خصائص جامل ّية‪ /‬شعر ّية لفتت انتباهك‪ ،‬بشدّة‪ ،‬يف‬‫شعر محمود درويش؟‬ ‫لقد قرأت كتبه عند ترجمتها‪ ،‬ولكنّ قصائده ليست حارضة‬ ‫اآلن يف ذهني متاماً‪ ،‬لذلك ال أستطيع افرتاض الحديث عن‬ ‫خصائص عمل شاعر عظيم‪ ،‬واسع النّطاق‪ ،‬من طرازه هو‪.‬‬ ‫ تقول‪« :‬وحده ّ‬‫الشعر الذي يستطيع قياس املسافة بني‬ ‫أنفسنا واآلخر»‪ ،‬هل من كلمة أخرية لهذا «اآلخر»‪ :‬القارئ‬ ‫العر ّيب الذي يقرؤك اآلن؟‬ ‫أنا فخور وسعيد‪ ،‬لقراءة أشعاري يف البالد العرب ّية‪ ،‬ويف غاية‬ ‫االمتنان ملرتجم أعاميل لجعله ذلك ممكنا‬ ‫‪67‬‬


‫نصوص‬

‫تشارلز سيميك‪:‬‬

‫الكلمات التي على طرف اللّسان‬ ‫«أنثولوجيا صغيرة»‬ ‫اختار القصائد وترجمها‪ :‬تحسين الخطيب‬

‫األشياء تحتاجني‬

‫يا مدينة الكرايس املعشوقة عىل نحو بائس‪ ،‬يا خفاف غرف‬ ‫النوم‪ ،‬ويا املقايل‪،‬‬ ‫إليك‬ ‫إنيّ أهرعُ عائداً ِ‬ ‫كل س ّيارة عىل ّ‬ ‫عابراً ّ‬ ‫الطريق السرّ يع‪،‬‬ ‫باحثاً عنك بأضواء س ّياريت األمام ّية الساطعة‬ ‫يف ّ‬ ‫الشوارع املعتمة الفارغة‪.‬‬ ‫آه يا العدميي ال ّرحمة يا من ال تطيقون االنتظار‬ ‫لل ّذهاب إىل ّ‬ ‫الشاطئ صبيحة الغد‪،‬‬ ‫ماذا عن صورة األبيض واألسود ألجدادكم‬ ‫الذين تهجرونهم؟‬ ‫املؤصصة واملشاجب‪.‬‬ ‫والنباتات‬ ‫وماذا عن املرايا‬ ‫ّ‬ ‫الساعة ذات املن ّبه ّ‬ ‫املعطل‪ ،‬يا قفص العصفور الفارغ‪،‬‬ ‫أ ّيتها ّ‬ ‫ويا البيانو الذي مل أعزف عليه قط‪ّ،‬‬ ‫سأكون نادلكم ال ّليل َة‬ ‫متح ّفزاً لتدوين طلباتكم‪،‬‬ ‫وسوف تكونون ضيوف عشايئ الغامضني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كل واحد بحكاية يرويها‪.‬‬

‫أبد ّيات‬

‫اعي أ ّمه ليشاهد عرضاً ما‬ ‫طفل مرفوع بني ذر ّ‬ ‫وذلك الرجل العجوز الذي ينرث فتات الخبز‬ ‫إىل الحامم املحتشد حوله يف الحديقة العموم ّية‪،‬‬ ‫أهام ّ‬ ‫الشخص ذاته؟‬

‫‪68‬‬

‫بيت الشعر‬

‫‪ -‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫املرأة العمياء التي قد تعرف اإلجابة تتذ ّكر‬ ‫حي مدينة‬ ‫بأ ّنها رأت سفينة كِبرَ َ ِّ‬ ‫ك ّلها مضاءة يف الليل وتبحر عابرة نافذة مطبخها‬ ‫األطلنطي العاصف املعتم‪.‬‬ ‫يف طريقها إىل‬ ‫ّ‬

‫موسيقى عابرة‬

‫فاجع تاريخنا ومضحك‪.‬‬ ‫اقرعوا الطبول الكبرية‪ ،‬أ ّيها ال ّرفاق!‬ ‫يا فرسان سفر الرؤيا‪،‬‬ ‫أيّ بهجة كانت يف ش ّد ذيول خيولكم!‬ ‫فلقد زلزلت األرض‪.‬‬ ‫هوت أبراج هائلة‪.‬‬ ‫أبراج من مقاعد ما زالت دافئة‬ ‫لها مساند ملكات وملوك‪،‬‬ ‫وأبراج من صفائح بول أيضاً‪،‬‬ ‫حيث جلس فالسفتنا يف ّكرون‪.‬‬ ‫فاغري األفواه وقفنا‬ ‫معجبني بغامءات الخيول‬ ‫وما ارتدى الحوذي من قلنسوات أنيقة‬ ‫ك ّلام نقلوا قاممة املطلق‪.‬‬ ‫اقرعوا الطبول الكبرية‪ ،‬أ ّيها ال ّرفاق!‬ ‫ّمثة امرأة تهرع صارخة‪،‬‬ ‫يف ساحة السعادة األبد ّية‪،‬‬ ‫تحضن قميصاً ّ‬ ‫ملطخاً بالدّماء‪.‬‬


‫الشاعر األميركي تشارلز سيميك‬

‫حوار إذاعي عىل الهاتف‬

‫ُ‬ ‫«كنت محظوظاً لوجود اإلنجيل معي‬ ‫حني اختطفني غرباء الفضاء‪» ..‬‬ ‫ُ‬ ‫صحت بال ّراديو‪،‬‬ ‫«أمريكا»‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أنت مستشفى مجانني!‬ ‫»‪.‬‬ ‫ا‬ ‫صباح‬ ‫الثانية‬ ‫يف‬ ‫«أحتّى‬ ‫ِ‬ ‫اّ‬ ‫كل‪ ،‬أتراجع عن ذلك!‬ ‫أنت مالك حجريّ يف املقربة‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫مصغية لإلوزات التي يف السامء‬ ‫عيناك‪.‬‬ ‫تعمى‪ ،‬عند أ ّول ثلجنا‪،‬‬ ‫ِ‬

‫بعض نوافذ‬

‫يف الليل‬

‫كانت ال ّريح تع ّد حسا ًء‬ ‫ملن طار النّوم من عيونهم‬ ‫حسا َء «ديك ال ّرياح»‪.‬‬

‫قصاب‬ ‫د ّكان ّ‬

‫أحياناً‪ ،‬وأنا أمتشىّ يف آخر الليل‪،‬‬ ‫قصاب مغلق‪.‬‬ ‫أتو ّقف أمام د ّكان ّ‬ ‫ّمثة ضوء وحيد يف املخزن‬ ‫السجني نفق هروبه‪.‬‬ ‫يشبه الضوء الذي يحفر فيه ّ‬ ‫و ّمثة وزرة تتدلىّ من عىل ّ‬ ‫خطاف‪:‬‬ ‫كان الدّم الذي عليها قد ّ‬ ‫لطخها بخريط ِة‬ ‫ات الدّم العظيمة‪،‬‬ ‫قا ّر ِ‬ ‫ومحيطات الدّم العظيمة‪.‬‬ ‫االنهار العظيمة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫و ّمثة سكاكني تلمع كمذابح‬ ‫يف كنيسة معتمة‬ ‫حيث أحرضوا ا ُملقعد واألبله‬ ‫ليتم ّ‬ ‫الشفاء‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫عظام‪،‬‬ ‫و ّمثة وضم‬ ‫خشبي حيث ُكسرّ ت ٌ‬ ‫ّ‬ ‫رمت — ونه ٌر ّ‬ ‫ثم ُج ْ‬ ‫جف حتّى القاع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫حيث أطعموين‪،‬‬ ‫أسمع صوتاً يف الليل‪.‬‬ ‫وحيث عميقاً ُ‬

‫يا ح ّفار قبور السامء‬ ‫يا صائد العصافري‪،‬‬ ‫ويا بائع أعواد ثقاب الليايل املعتمة —‬ ‫أو كيفام تكون؟‬ ‫قرب مسطور ككتاب‪.‬‬ ‫قاعة رقص مقالٍ وقدور‪.‬‬ ‫امي املجهول‪.‬‬ ‫موعد ال ّل ِص الغر ُّ‬ ‫مم ّرضة األرق السقيمة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وأنت يف األعايل هناك‪،‬‬ ‫مرسح راقصة التع ّري املعتم‬ ‫قرب شهيد مقدّس‬ ‫سلخت جلده الشمس الغاربة‪.‬‬

‫العويل‬

‫كام لو ال يش َء نحيا من أجل ِه‪..‬‬ ‫كام لو ال‪ ...‬يشء‪.‬‬ ‫الرأس‪،‬‬ ‫يف ضو ٍء يخبو‪ ،‬منحني َة ِ‬ ‫جلست أ ّمنا ُ‬ ‫تخيط‪.‬‬ ‫التامع‬ ‫هلِ ارتعشت يدها؟ عند أ ّول‬ ‫ٍ‬ ‫اك‬ ‫ر‬ ‫ٍ‬ ‫باهت لليل يجي ُء‪ ،‬كم بال ح ٍ‬ ‫الصوت‪:‬‬ ‫ترقدُ األشيا ُء‪ ،‬اّإل من ذكرى ذلك ّ‬ ‫صوت من أخذته الحيا ُة الجامح ُة بعيداً‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫كانت أوقات من صمت طويلٍ ‪.‬‬ ‫ساع ُة حائط تك ّلم ساعة حائط أخرى‪.‬‬ ‫الكالب‬ ‫مرشئ ّب َة اآلذان‪ ،‬عىل براثنها تربض‬ ‫ُ‬ ‫‪69‬‬


‫نصوص‬

‫وأنت‪ ،‬خائفان من أن نتن ّفس‪.‬‬ ‫وأنا ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫أخرياً‪ ،‬ذهبت تسرتق النّظر‪ .‬مثة من‬ ‫ّ‬ ‫صيف جريد ٌة‪.‬‬ ‫تغطيه عىل ال ّر ِ‬ ‫ال أح َد يف الجوا ِر سواهُ‪ّ .‬‬ ‫الشارعُ خالٍ‬ ‫السام ُء‪.‬‬ ‫والغيو ُم الغجر ّية ُّ‬ ‫تعج بها ّ‬

‫عقول متط ّوفة‬

‫كانت جاريت تحدّثني‬ ‫عن ّ‬ ‫قطتها العمياء‬ ‫التي تذهب يف الليل —‬ ‫إىل أينَ ‪ُ ،‬‬ ‫سألت؟‬ ‫حينها‪ ،‬متاماً‪ ،‬نادتني أ ّمي امل ّيتة‬ ‫ألغسل يديّ‬ ‫ّ‬ ‫فالعشاء جاهز عىل الطاولة‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫الفأر الصغري الذي اصطادته القطة‪.‬‬

‫كلامت متداخلة‬

‫مختبئاً‪ ،‬بشكويك الرشيرة‪،‬‬ ‫يف الخزانة‬ ‫وجنتي ثوبان من ثياب نومها‬ ‫المس‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫وقفت مرتعشاً‪.‬‬ ‫حني‬ ‫يف الجنازة‪ُ ،‬‬ ‫ظننت بأن لديّ الكثري ألقوله‪،‬‬ ‫بينام‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬ال يشء لديّ ‪.‬‬ ‫كنت مج ّرد غراب آخر‬ ‫يتع ّقب حاميل بساط ال ّرحمة‪.‬‬ ‫مسكون باألرواح هذا املنزل‪،‬‬ ‫رغم ْأن ال أشباح رأيت‪.‬‬ ‫ال أحسبني‪ّ ،‬‬ ‫بالطبع‪،‬‬ ‫وال أحسب أقدامهم العارية يف السرّ ير‪،‬‬ ‫َح ُض ْو ٌن يفرد أجنحته السوداء‬ ‫عليها يف ساعات األصيل البطيئة‬ ‫ك ّلام تل ّوت عىل األرض‬ ‫كح ّية عىل طرف عصا‪.‬‬

‫ّ‬ ‫كل وقد أضاع سبيل الزّمن‬ ‫باب الكنيسة املفتوح متاماً‪.‬‬

‫‪70‬‬

‫بيت الشعر‬

‫‪ -‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫عربة املوىت بإطاراتها الجرداء‪.‬‬ ‫الجدّة عىل الرصيف‬ ‫تتّكئ عىل ع ّكاز‪ ،‬مك ّوبة يدها حول أذنها‪.‬‬ ‫النّزيل الذي مل يره أحد ّ‬ ‫قط‬ ‫يزيح ماء استحاممها يف األعىل‪.‬‬ ‫ويف النّافذة‪ ،‬يحرس‬ ‫ّ‬ ‫القط األشياء‪.‬‬ ‫عجوز يحمل كرس ّياً‬ ‫يف الباحة الخلف ّية‬ ‫وحب ًال طوي ًال‬ ‫كام لو سيشنق نفسه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫آ ٍه‪ ،‬أ ّيتها الكلامت التي عىل طرف اللسان‪.‬‬

‫رحلة إىل سيثريا‬

‫بال ّ‬ ‫شك‪ ،‬سأذهب إىل جزيرة سيثريا‬ ‫مشياً عىل األقدام‪،‬‬ ‫سأه ّيئ بعض مساء من أ ّيار‪،‬‬ ‫خفيفاً كريشة‪،‬‬ ‫هناك‪ ،‬حيث اآللهة‪ ،‬وكام تقول األسطورة‪،‬‬ ‫قد نهضت عارية من البحر‪.‬‬ ‫سأقفز من فوق سياج الحديقة‬ ‫حيث يتفتّح ال ّليلك‬ ‫وحيث األشجار محمومة بأوراق جديدة‪.‬‬ ‫ال ُب ّد وأ ّنها هُ نا‪ ،‬يف مكان ما‪َ ،‬‬ ‫تلك‬


‫الشاعر األميركي تشارلز سيميك‬

‫األرجوحة التي رأيتها م ّر ًة يف لوحة‬ ‫َ‬ ‫وتلك التي بثوب طويل أبيض‪،‬‬ ‫وعينني معصوبتني‬ ‫طريقي أسفل منعطف‬ ‫مس‬ ‫تت ّل ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫بني رفاقها املقنّعني‬ ‫الذين بأردية سوداء‪ ،‬بال أكامم‪ ،‬يحملون خناجرهم‪.‬‬ ‫سأقول لهم‪ ،‬بعد أن يفرغوا جيويب‪:‬‬ ‫«كان مج ّرد حلم‪ ،‬يا رفاق»‪.‬‬ ‫وأنت كذلك يا ح ّبي‬ ‫ِ‬ ‫حاملة مشكاة صين ّية‬ ‫هاربة مبحفظة جيبي‬ ‫يف العتمة التي تهبط‪.‬‬

‫مترين تظليل‬

‫قد يدمن الشارع بعضاً من ظالل‬ ‫والصبي َ‬ ‫كذلك‬ ‫ّ‬ ‫الذي‪ ،‬وحيداً‪ ،‬يلعب تحت ّ‬ ‫الشمس‬ ‫يندفع وراءه ٌّ‬ ‫ظل كهريرة سوداء‪.‬‬ ‫يف غرفة غارقة يف ّ‬ ‫الظالل يجلس أبواه‪.‬‬ ‫درج القبو‬ ‫منيس متاماً‬ ‫ّ‬ ‫اّإل من طائف خلسة‪ ،‬من حني آلخر‪.‬‬ ‫ظالل املساء‬ ‫كفرقة مرسح ّيني جوالني بكامل هيئتهم ألداء «هاملت»‪.‬‬ ‫مختبئني يف األشجار‪ ،‬يقضون أ ّيامهم‬ ‫خارج املحكمة العجوز‪.‬‬ ‫واآلن‪ ،‬نصل إىل أصعب األدوار‪:‬‬ ‫ماذا نفعل بالحجارة التي يف املقربة؟‬ ‫ال تكرتث ّ‬ ‫الشمس بالكلامت الغامضة‪،‬‬ ‫غري أنيّ ‪ ،‬بخالفها‪ ،‬أفتح بايب وأدخلها‪.‬‬

‫ْب ُلوز الصباح الثلجي‬

‫املرتجم قارئ حميم‬ ‫يرتدي نظارات سميكة‬ ‫ك ّلام حدّق من النافذة‬ ‫صوب اآلجام والحقول الثلج ّية‬

‫التي تشبه ورقة‬ ‫ُحجبت بخربشة رسيعة‬ ‫بلغة يعرفها ج ّيداً —‬ ‫دون أن يعرف أ ّياً من كلامتها‪،‬‬ ‫فقط ما تدركه العينان‪،‬‬ ‫وما يحدسه القلب من طبيعتها املم ِّيزة‪.‬‬ ‫اآلن سكون مطبقاً‪ ،‬وال حتّى حفيف‬ ‫خافت لصفحة ُتقلب‬ ‫يف معجم أبيض بال كلامت‬ ‫ليستفيد املرتجم‬ ‫قبل أن تكرب الكلامت التي هناك‪،‬‬ ‫محجوبة‪ ،‬يف العتمة القادمة‪.‬‬

‫مخلوقات خراف ّية ومناظر طبيع ّية‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫شعرت به‬ ‫ذلك النّفس البارد الذي‬ ‫فوق عنقك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وتلك الذراع الطويلة‬ ‫الخارجة من رسداب حانو ّيت‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫اختطفت ساعة يدك‪.‬‬ ‫والتي‬ ‫َ‬ ‫رأيت ريشها يتطاير‪،‬‬ ‫ورأيت أجنحة تعتم‬ ‫شوارب الجرذ ما رأيت؟‬ ‫أ ْم‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ثم إنك قد رأيت أذنيك تختفيان‬ ‫ّ‬ ‫يف جيبه‪.‬‬ ‫ُق ْ‬ ‫رصت‪ ،‬مسلوخ ًة بربد‪،‬‬ ‫أذنا حارس الكنيسة‬ ‫خيميائ ّيو كر ّيات الغبار‬ ‫تحت الرسير‪،‬‬ ‫صانعو نسيج العنكبوت‪،‬‬ ‫ومرايا مل ينظر إليها بعد‪.‬‬ ‫لسان‪ ،‬وحده‪،‬‬ ‫يف قفص عصفور‬ ‫بقميص‬ ‫محجوب‬ ‫ِ‬ ‫عملٍ لييل‪ّ.‬‬ ‫ُيردّد ما تقوله الدّقائق‪،‬‬

‫‪71‬‬


‫نصوص‬

‫وما تقوله ال ّريح الحمراء‪،‬‬ ‫خس‪.‬‬ ‫والحلزون الزّاحف عىل ورقة ّ‬ ‫وال ّد ُم املتد ّفقُ‬ ‫كنه ٍر‬ ‫الغابات‬ ‫يف‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫وأنت تنا ُم‪.‬‬ ‫َ‬ ‫أنت ورقة شجر تطفو‬ ‫يف اندفاعات ِه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫األبيض َ‬ ‫الزّبدُ‬ ‫أنت‬ ‫اّ‬ ‫والشل ُل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫نه ٌر ال يعرف اس َم ُه‬ ‫والبحر الذي يف الليل‬ ‫كبائع ج ّوال لح ّ‬ ‫يل صغرية ورخيصة ُيع ّد منضدته‬ ‫والقمر لحم خنزير الجزّار‬ ‫يعرج‬ ‫ال َك ْر ُش ُ‬ ‫يف قباقيب خشب ّية‬ ‫متع ّكزاً عىل‬ ‫س ّكني وشوكة‪.‬‬ ‫يف داخله — ّ‬ ‫كل العامل هادئ‬ ‫كدار سينام معتمة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وأنت‪ ،‬كذلك‪،‬‬ ‫بآلة طباعتك الصدئة‪.‬‬ ‫كربكة مطر صغرية يف جهنّم‪،‬‬ ‫يحلم بك‪،‬‬ ‫راغباً ببصقة‪،‬‬ ‫وت ّفاحة يف فمك‪.‬‬

‫جدجد األرق‬

‫َ‬ ‫الصغر فوق وساديت‪.‬‬ ‫سأصطادك‪ ،‬بقفص بالغ ّ‬ ‫ستؤنسني‪،‬‬ ‫ومن حني آلخر‪ ،‬تدفئني‬ ‫الصمت‪.‬‬ ‫ك ّلام غار ّ‬ ‫لقد قىض أيب ليا َيل يف غرفة اّ‬ ‫الحمم‪،‬‬ ‫يف ّكر يف معنى حياته‪.‬‬

‫‪72‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫كنّا اعتدنا نسيانه متاماً‪،‬‬ ‫لنجده‪ ،‬يف الصباح‪ ،‬وقد نام هناك‪.‬‬ ‫السقوف‬ ‫آه‪ ،‬أ ّيتها الجدران املاكرة‪ ،‬أ ّيتها ّ‬ ‫أ ّيتها املرايا التي يف العتمة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫سمعت ساعة جيبه ُتتكتك فوق قربه —‬ ‫لقد‬ ‫ُ‬ ‫رصار الليل؟‬ ‫أ ْم تراه ّ‬ ‫يف ذات العشب الطويل‬ ‫حيث كان يتش ّكل الخلود‬ ‫متوحدة‬ ‫بقليل يراعات ّ‬ ‫يف ذيول معطف أسود ألحد ما‪.‬‬

‫يوم االستقالل‬

‫خاصة‬ ‫شارع مبستشفيات مجانني ّ‬ ‫ّ‬ ‫لكل مرجة خرضاء‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫رشاش ماء ومكان شواء‬ ‫يتصاعد ّ‬ ‫دخانه من الساحة الخلفية‪.‬‬ ‫وهناك متاماً‪ ،‬حيث تغرب الشمس‬ ‫شخص ما يف أرجوحة الشجرة‪،‬‬ ‫شخص كرب عىل التأرجح‪،‬‬ ‫وأن يكون بال ثياب أبداً‪،‬‬ ‫بوجه يعلوه األىس‪،‬‬


‫الشاعر األميركي تشارلز سيميك‬

‫ينفخ يف بوق ‪ -‬دمية نغامت عشوائ ّية‬ ‫للعتمة التي تحتشد‬ ‫والغيمة البيضاء الوحيدة يف السامء‪.‬‬

‫«دكان حالقة» الصرّ صار‬

‫ُ‬ ‫سقطت عنه‪.‬‬ ‫إىل الغصن الذي‬

‫رصصار‬

‫حني أرى رصصاراً‪،‬‬ ‫ال يتم ّلكني الغضب مثلكم‪.‬‬ ‫أتو ّقف‪ ،‬كام لو أن تح ّية حميمة‬ ‫قد رست بيننا‪.‬‬

‫املقص‪،‬‬ ‫قصات ّ‬ ‫ّ‬ ‫واألصوات‪،‬‬ ‫يتع ّذر سامعها أ ّوالً‪،‬‬ ‫حتّى عندما أضغط أذ ّين عىل الجدار‪.‬‬ ‫اّ‬ ‫الحلق وزبونه‬ ‫يتحدّثان عن املطاعم الصغرية الرخيصة‪،‬‬ ‫األز ّقة الخلف ّية يف آخر الليل‪،‬‬ ‫والجرذان تقفز من صفائح الزبالة‪.‬‬ ‫حينها‪ ،‬ال يشء آخر‪..‬‬ ‫هل غابا يف الجدار‬ ‫يطوفان فيه‪،‬‬ ‫أ ْم ربمّ ا داخل رأيس؟‬ ‫وأين أيضاً؟ أين أيضا؟ً‬ ‫ْ‬ ‫أجابت إحداهنّ بابتهاج‪،‬‬ ‫كان مكان وجودها وشخص ّيتها‬ ‫رساً كبرياً‪ ...‬ال بل فضيحة‪.‬‬ ‫ّ‬

‫يحمل أوراقاً مز ّيفة —‬ ‫ال تسألوين كيف ُ‬ ‫أعرف‪.‬‬ ‫نعم‪ ،‬أوراقاً مز ّيفة‬ ‫ببصمة إبهامي املل ّوثة بالدّهن عليها‪.‬‬

‫مقربة عىل ّ‬ ‫تل‬

‫قصيدة الشارع الرابع عرش‬

‫دعْ أولئك ال ّراغبني طوي ًال أن يكملوا أحالمهم‬ ‫بقصور سامو ّية‬ ‫ذات حجرات رحبة ورشفات‬ ‫ذهبي‪،‬‬ ‫يغمرها ضيا ُء أصيلٍ‬ ‫ّ‬ ‫سأصعد ريح يناير هذه‪ ،‬ال ّريح الخبيثة‬ ‫التي ال تسمح بوجود أفكار ثانية‬ ‫غري تلك التي تؤ ّكد حضورها‬ ‫بني شواهد القبور هذه‪ ،‬كثرية األعشاب‪،‬‬ ‫وهذا الشجر الخارج من َن ْقر مصاص دماء‪،‬‬ ‫ينحني إىل النقطة الفاصلة‬ ‫ثم يستقيم ثانية — من غري سوء‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫حيث الريح مشغولة يف مكان آخر‪،‬‬ ‫أثب قلي ًال ُمرسعاً‬ ‫أدفع برفق أوراق أشجار م ّيتة يك َ‬ ‫ُ‬

‫أعرف هذا الرصصار ج ّيداً‪.‬‬ ‫لقد التقينا‪ ،‬هنا وهناك‪،‬‬ ‫يف املطبخ‪ ،‬عند انتصاف الليل‪،‬‬ ‫وعىل وساديت اآلن‪.‬‬ ‫أراه وشعرتني‬ ‫من شعري األسود‬ ‫تتطاوالن يف رأسه‪،‬‬ ‫ومن يدري ماذا أيضاً؟‬

‫ْ‬ ‫رصخت‬ ‫ر ّث َة الثياب التي‬ ‫ليست سوى فينوس‪،‬‬ ‫الحب‪،‬‬ ‫إلهة ّ‬ ‫بال رضسني أماميينّ ‪.‬‬ ‫كان ّ‬ ‫صف بيوت طويل‪،‬‬ ‫أثرياً كان ألنبياء القيامة‬ ‫الع ْمي‬ ‫لعازيف الشوارع ُ‬ ‫وللكالب التي تلعق أقفالها‪.‬‬ ‫صور فوتوغراف ّية ألطفال مفقودين‬ ‫ترقبنا ونحن نلتقي ونفرتق‪:‬‬ ‫أنا — بانحناءة خفيضة‪،‬‬ ‫وهي — بإصبع فوق ّ‬ ‫الشفتني‬ ‫رسنا‬ ‫ليكون ّ‬ ‫‪73‬‬


‫شعر وتشكيل‬

‫المعايشة الجمالية‬ ‫بين الملفوظ والمبصور‬ ‫يبرز الشعر والتشكيل كحقلين إبداعيين متفاعلين لدرجة يكاد كل منهما ينصهر داخل روح اآلخر‪ ،‬وذلك بفعل‬

‫عالقات االلتقاء والتقارب الكثيرة التي ينهضان عليها‪ ،‬بل ويقومان على خطاب جمالي ‪-‬ملفوظ ومرئي‪ -‬يشتغل‬

‫على الرمز واإلشارة واالستعارة والتورية والمجاز‬

‫ابراهيم َ‬ ‫الحيْ سن‬

‫من أعامل كاندنيسيك‬

‫‪74‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫يعود‬

‫تاريخ العالقة بني الشعر والتشكيل إىل‬ ‫ما قبل العرصين اإلغريقي والروماين‪،‬‬ ‫حيث ساد التأثري بني األجناس الفنية‬ ‫خصوصاً بني الرسم والشعر‪ ،‬وأصبح الحديث عن قصيدة‬ ‫اللوحة‪ ،‬أو لوحة القصيدة أمراً َبدَه ّياً ال وجود ألثر ِّ‬ ‫الشك‬ ‫فيه‪.‬‬ ‫ولعل أقدم َن ٍّص يف تاريخ األدب والنقد الغريب ُيربز هذه‬ ‫العالقة الساحرة الغامضة بني الشعر والتصوير‪ ،‬هو العبارة‬ ‫املنسوبة إىل «سيمونيدس الكيويس» «من جزيرة كيوس‬ ‫يف بالد اليونان‪ ،‬وعاش من حوايل ‪ 556‬إىل حوايل ‪ 468‬ق‪.‬‬ ‫اطقٌ ‪َّ ،‬‬ ‫م‪ ،».‬ويقول فيها‪َّ :‬‬ ‫«إن ِّ‬ ‫وإن ال َّر ْس َم ِش ْع ٌر‬ ‫الش ْع َر َر ْس ٌم َن ِ‬ ‫َصا ِمت»‪ ،‬واملهم يف هذه املقولة‪ ،‬املتعددة الرشوحات‬ ‫من أعامل الفنان إرنست ويليام‬ ‫َ‬ ‫التامثل ‪Analogie‬‬ ‫والتأويالت عرب العصور‪ ،‬هو أنها أ َّكدت‬ ‫القائم بني األجناس اإلبداعية‪ ،‬وبخاصة بني الشعر والتشكيل‪ ،1991 ،‬عن ديوانه «الشمس يف غرفة فارغة»‪ ،‬وهو عبارة‬ ‫ما دفع النقاد يف عرص النهضة «الرونيسانس» إىل قراءتها‬ ‫عن متتاليات نرثية شعرية كتبها انطالقاً من لوحات إدوارد‬ ‫الش ْع ُر َي ُك ُ‬ ‫بشكل مغاير‪«:‬كَماَ َي ُك ُ‬ ‫ون ِّ‬ ‫ون ال َّر ْس ُم»‪.‬‬ ‫هوبر‪.‬كام بنى املستقبليون ‪ ،Futuristes‬أيضاً‪ ،‬الشعر عىل‬ ‫البداية أيضاً ْ‬ ‫كانت مع الشاعر الالتيني‪ ،‬يف القرن األول قبل دالالت غري لغوية تتجه ناحية الرسم واملوسيقى‪ ،‬ومل تكتف‬ ‫املسيح‪ ،‬هوراس صديق فرجيل ‪ ،Virgile‬وجملته‪ِّ :‬‬ ‫«الش ْع ُر‬ ‫القصيدة لديهم بالتأثر بهذين الفنني‪ ،‬وإمنا استفادت من‬ ‫َن ِظ ُري الت َّْص ِوير» ‪ .Ut pictura poesis‬ومنذ خمسينيات‬ ‫وسائل فنية كثرية يف النظم والتشكيل‪ .‬يف سياق ذلك ظهر ما‬ ‫القرن املايض‪ ،‬شهد تاريخ األدب العاملي نوعاً من الشعر‬ ‫ُسمي بـ«قصيدة الضجيج» (تجريد شعري)‪.‬‬ ‫ُس ِّمي بالشعر املادي ‪ُ « Poésie concrète‬يس ِّميه البعض‬ ‫أما الدادائيون والسورياليون ‪ ،‬فقد عاشوا أخصب الفرتات‬ ‫بالشعر الكونكريتي»‪ ،‬وبرع فيه شعراء من سويرسا والسويد التي التقت فيها الفنون بعضها ببعض‪ ،‬إذ نظم الشعر‬ ‫والربازيل‪ .‬ويف سياق هذه العالقة املزدوجة بني الشعر‬ ‫فنانون مثل‪ :‬هانز آرب‪ ،‬وفاسيليل كاندانسيك‪ ،‬وبابلو‬ ‫والتشكيل‪ ،‬يربز الشاعر الفرنيس شارل بودلري‬ ‫بيكاسو‪ ،‬وقد مارس شعراء وأدباء الرسم باملقابل كبول إيلوار‬ ‫‪ Ch. Beaudelaire‬الذي ارتبط بعالقة وطيدة مع الرسام‬ ‫وأندريه بروتون وجان كوكتو وجاك بريفري؛ وكان كاندانسيك‬ ‫الفرنيس أوجني دوالكراو ‪« E. Delacroix‬الذي احتل موقع من املتح ِّمسني لصهر الفنون التشكيلية واملوسيقية واألدبية‬ ‫النموذج اإلبداعي يف حياته»‪ ،‬دون الحديث عن القصائد‬ ‫يف بوتقة واحدة‪.‬‬ ‫الشعرية التي نظمها عىل‬ ‫ضوء أعامل تصويرية‬ ‫«سيكون رسام المستقبل القصيدة املرئية‪:‬‬ ‫وتشكيلية عديدة‪ ،‬أبرزها‬ ‫الحقيقي شاعـــر ًا صامت ًا من بالغة األذن إىل بالغة العني‬ ‫املجموعة الشعرية املسماَّ ة‬ ‫«املنارات» ‪.Les phares‬‬ ‫ال يكتب شــيئ ًا‪ ،‬وإنَّما يروي تندرج القصيدة املرئية ضمن ما ُيعرف‬ ‫نضيف إىل ذلك تجربة‬ ‫باسم «التشكيل البرصي للشعر»‪ ،‬وهو‬ ‫بصمـت وبال ربط لوحة‬ ‫كلود استبان «من الشعراء‬ ‫صيغة جديدة وطارئة يف كتابة القصيدة‬ ‫فائقــة وبال حدود»‬ ‫املحدثني» الفائز بجائزة‬ ‫باالستناد إىل اشكال وتوليفات مستعارة‬ ‫فرنسا للثقافة‪ ،‬يف عام‬ ‫(إيف كالين)‬ ‫‪75‬‬


‫شعر وتشكيل‬

‫من تجارب أدونيس التشكيلية‬

‫عىل ُخطى الجاحظ‬

‫من حقول هندسية ورياضية متن ِّوعة ومن فن التختيم‬ ‫الذي طبع الكثري من النصوص الشعرية العربية القدمية‪.‬‬ ‫«مفاتيح شعري هي شعري نفسه‪ ،‬وقصائدي هي الصورة‬ ‫وظهرت القصيدة املرئية منذ ستينات القرن املايض‪ ،‬ويعود‬ ‫الفوتوغرافية الوحيدة التي ُتشبهني «نزار قباين»‪.‬‬ ‫أصلها إىل الشعر الكونكريتي ‪ Concrete poetry‬الذي شاع يف مجال الشعر العريب‪ ،‬رمبا يكون الجاحظ أول من التفت‬ ‫لدى جامعة من شعراء الطليعة يف الغرب‪ .‬وسامت هذه‬ ‫إىل طبيعة الشعر من حيث هو «رضب من النسيج وجنس‬ ‫القصيدة هي اللعب بالحروف واملقاطع الصوتية‪ ،‬بحيث‬ ‫من التصوير»‪ ،‬وهذا ُي َبينِّ أن الشاعر عند الجاحظ صانع‪،‬‬ ‫تتك َّون منها تشكيالت مع َّينة يف مساحات تنضم أو تتمدَّد‬ ‫ونساج ومص ِّور‪ .‬تط َّورت املسألة تدريجياً عند عبد القادر‬ ‫َّ‬ ‫أمام العني‪ .‬ومن الشعراء البارزين يف القصيدة املرئية نذكر‬ ‫الجرجاين الذي يقارن بني عمل الشاعر وعمل الرسام‬ ‫األمرييك كومنغ ‪ ،E. E. Cuming‬واإلنجليزي بوب كوبنغ‬ ‫التشكييل عىل أساس أن االحتفال واإلبداعية يف التصويرات‬ ‫‪ ،Bob Cobbing‬واألسكتلندي جورج ماكبث ‪ ،G. McBeth‬والتخ ُّيالت الشعرية تفعل فع ًال مامث ًال مبا يقع يف نفس‬ ‫إضافة إىل الفرنسيني بول إيلوار ‪ P. Eluard‬وماالرميه‬ ‫املشاهد للوحات التشكيلية‪.‬‬ ‫‪ Mallarmé‬وغيوم أبولينري ‪،Guillaume Apollinaire‬‬ ‫لقد أشار الفارايب إىل العالقة بني الشعر والرسم محدِّداً‬ ‫عندهم‬ ‫وغريهم من الشعراء الذين تتخذ كتابة القصيدة‬ ‫ِّ‬ ‫ويشخص ابن سينا هذه العالقة بالقول‪:‬‬ ‫طبيعة كل منهام‪،‬‬ ‫أشكاالً متن ِّوعة عىل هيئة حاممة‪ ،‬شجرة‪ ،‬حذاء‪ ،‬إجاصة‪ ،‬برج «إن الشعراء يجرون مجرى املص ِّور‪ ،‬فكل واحد منهم‬ ‫إيفيل‪ ،‬أو شخوص‪.‬‬ ‫محاك»‪ ،‬مؤكداً بأنه عىل املص ِّور‬ ‫يف التجربة العربية‪ ،‬يمُ كن‬ ‫محاكاة اليشء الواحد بأحد أمور‬ ‫كان كاندنيسكي من‬ ‫االستشهاد بأعامل شعراء‬ ‫ثالثة‪ :‬إما بأمور موجودة يف‬ ‫الفنون‬ ‫لصهر‬ ‫المتحمسين‬ ‫معارصين أمثال أدونيس وصادق‬ ‫الحقيقة‪ ،‬وإما بأمور يقال إنها‬ ‫الصائغ يف قصيدته «هذا قرب‬ ‫التشكيلية والموسيقية‬ ‫موجودة وكانت‪ ،‬وإما بأمور يظن‬ ‫املرحوم»‪ ،‬وتجربة عبد القادر‬ ‫أنها ستوجد وتظهر‪.‬‬ ‫واألدبية فـي بوتقة واحدة‬ ‫«املوت‬ ‫أرناؤوط مع نذير نبعة يف‬ ‫يف التجربة الشعرية العربية‬ ‫طفل أعمى»‪ ،‬و«بكت املرآة»‪.‬‬ ‫الحديثة‪ُ ،‬تشري بعض املراجع إىل‬ ‫‪76‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫الملفوظ والمبصور‬

‫أن دخول الشعر عىل الرسم بدأ عىل َي ِد أحمد زيك أيب شادي‬ ‫الذي نرش يف مجلة أبولو «بني سبتمرب ‪1932‬م وأكتوبر‬ ‫‪1934‬م» مناذج منه وضعها يف باب مستقل سماَّ ه «شعر‬ ‫التصوير»‪ .‬غري أن أهم تح ُّول يشهده الزواج بني الشعر‬ ‫والرسم يف لبنان‪ ،‬بدأ منذ عام ‪ ،1957‬أي مع ظهور مجلة‬ ‫شعر التي أسسها يوسف الخال مبعية شعراء الحداثة‪ ،‬أمثال‬ ‫أنىس الحاج وأدونيس وشوقي أبو شقرا ومحمد املاغوط‪.‬‬ ‫ويف وقت متأخر اشتغل الرسام العراقي ضياء العزاوي‬ ‫مع الشاعر محمد بنيس يف «كتاب الحب» إلنجازه رسوم‬ ‫تعبريية ُخ ِّصصت مللحمة جلجامش‪ .‬أما الشاعرة والرسامة‬ ‫إيتل عدنان فقد عالجت نصوص بدر شاكر السياب‪ ،‬من‬ ‫خالل إنجاز دفرت مل َّون َض َّم رسومات إيضاحية وموازية‬ ‫ومتخ ِّللة لقصيدة أنشودة املطر‪ .‬ويف عام ‪ ،1967‬ك َّررت‬ ‫التجربة مع نفس الشاعر حول ديوانه‪« :‬املعبد الغريق»‪،‬‬ ‫قبل أن تبدع رسومات تعبريية متن ِّوعة يف شعر يوسف‬ ‫الخال وأدونيس والبيايت وجورج شحادة «ترجمة أدونيس»‪،‬‬ ‫ورسومات حول قصيدة عن أم كلثوم لعبد اللطيف اللعبي‬ ‫«مجلة أنفاس»‪ .‬كام أنجزت الناقدة التشكيلية اليمنية آمنة‬ ‫النصريي مع الشاعر اليمني أحمد العوايض كتابا مشرتكا‬ ‫تجاور فيه النص الرسدي والشعري مع التشكيل‪.‬‬ ‫ويف التجربة العراقية نذكر خاصية الرسم عند الفنان‬ ‫التشكييل العراقي الراحل شاكر حسن آل سعيد‪ ،‬وهناك‬ ‫العمل الفني املشرتك الذي َّ‬ ‫دشنه كل من جواد سليم وبلند‬ ‫الحيدري وحسني مردان‪ ،‬وأيضاً املنجز الجاميل الذي اشرتك‬ ‫يف إبداعه كل من نوري الراوي ومردان والسياب؛ مع اإلشارة‬ ‫إىل ديوان «الوجه اآلخر لتأمالت الخيام يف الوجود والعدم»‬ ‫للشاعر العراقي عبد الوهاب البيايت «رسوم الفنان آدم‬ ‫حنني»‪.‬‬ ‫ويف نفس االتجاه يربز الشاعر محمود درويش من خالل‬ ‫عالقته اإلبداعية مع التشكييل الفلسطيني الراحل إسامعيل‬ ‫شموط‪ ،‬وأيضاً الشاعر أدونيس الذي قدم مختاراته الرتاثية‬ ‫ضمن سلسلة «كتاب يف جريدة» مصحوبة برسوم إيضاحية‪.‬‬ ‫ويتميز أدونيس بلجوئه إىل أسلوب التغرية والكوالج‪،‬‬ ‫وهي أعامل كان عرضها‪ ،‬عام ‪ ،2000‬يف معهد العامل العريب‬ ‫بباريس مبناسبة بلوغه السبعني‪ ،‬يف حني أصدر التشكييل‬ ‫السوري الراحل فاتح املدرس ديوان «الزمن اليشء» مع‬

‫الفنان جواد سليم‬

‫صديقه الشاعر حسني راجي‪.‬‬ ‫وأنجزت النحاتة األردنية منى السعودي كتاباً مشرتكاً مع‬ ‫الشاعر الفرنيس ميشيل بوتور وفيه مزاوجة جاملية بني‬ ‫شعر بوتور «ترجمه أدونيس إىل العربية» ومنحوتات‬ ‫منى السعودي‪ .‬وجمعت الشاعرة اإلماراتية ميسون صقر‬ ‫القاسمي بني اإلبداع الشعري والتصوير ‪ .Peinture‬ويف‬ ‫رصيدها عدَّة مجموعات شعرية متن ِّوعة ذات َن َف ٍس تشكييل‬ ‫«هكذا أسمي األشياء‪ ،‬جريان يف مادة الجسد‪ ،‬تشكيل‬ ‫األذى‪..‬إلخ»‪ ،‬فض ًال عن الشاعرة والتشكيلية اللبنانية باسمة‬ ‫بطويل التي لها ثالثة دواوين‪ ،‬هي‪« :‬مع الحب حتى املوت»‪،‬‬ ‫«مك َّللة بالشوق» و«عربات الصدى»‪َّ .‬‬ ‫ودشن الشاعر‬ ‫البحريني قاسم حداد تجربة «أيقظتني الساحرة» واضعاً‬ ‫قصائده مع لوحات الفنانني األردنيني محمد العامري وهيلدا‬ ‫الحياري يف تجانس إبداعي شهد مشاركة املبدع املوسيقي‬ ‫طارق النارص‪ ،‬وأخرياً قدم الفنان العراقي إحسان الخطيب‬ ‫املقيم يف الشارقة‪ ،‬رسومات تعبريية أغلبها بالرمادي واألسود‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫شعرية ذات‬ ‫نصوص‬ ‫تتصدَّرها املرأة والفرس وتتخ َّل ُلها‬ ‫ٌ‬ ‫موضوعات مستوحاة من الحب والغزل العريب‬ ‫‪77‬‬


‫جدل الشعر‬

‫موريتانيا‬ ‫الرئيس يهجو الشعراء‬ ‫معن البياري‬

‫عرث‬

‫رئيس موريتانيا‪ ،‬الجرنال محمد ولد عبد العزيز‪ ،‬عىل ٍ‬ ‫واحد من أَسباب «تخلف» بالده‪ ،‬و«مأساتها»‪ ،‬بتعبرييْه‪ ،‬وهو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫معرض جوابِه عىل سؤال مجل ٍة فرنسي ٍة له‪ ،‬قبل أسابيع‪ ،‬بشأن الوضعِ املتأزّم الراهن يف‬ ‫أَنها «بلد املليون شاعر»‪ ،‬يف‬ ‫ينقصها املهندسون وأَ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫التخصصات الفني ِة‬ ‫صحاب‬ ‫موريتانيا‪ ،‬بسبب البطال ِة‬ ‫واالحتجاجات منذ شهو ٍر فيها‪ ،‬حيث رأى أَ َّن موريتانيا ُ‬ ‫ُ‬ ‫والحرفية‪ ،‬فيام ُ‬ ‫الشباب متخصصون يف القانون واآلداب والشعر‪ .‬ومل يكن لترصي ٍح مثل هذا‪ ،‬وبهذه السخري ِة الحادّة فيه‪،‬‬ ‫آالف‬ ‫ِ‬ ‫أَ ْن مي َّر عىل املوريتانيني ونخبِهم بأَريحية‪ ،‬فقد واجه ولد عبد العزيز غضباً واسعاً مام قال‪ ،‬اضط َّره إِىل محاول ِة اسرتضا ِء املثقفني‬ ‫ِ‬ ‫مقصدها‪ ،‬حني «أُخرجت من سيا ِقها»‪ .‬وبادر إِىل استقبال أَعضا َء‬ ‫والشعراء‪ ،‬وجه َر بأَ َّن حزناً أَصابه من تأويل ترصيحاتِه عىل غري‬ ‫بحسب «العربية نت»‪ ،‬أَنه إِمنا أَراد التأشري إِىل مشكل ِة طغيان التخصصات األَدبية‬ ‫يف اتحاد األُدباء والكتاب املوريتانيني‪ ،‬وأَبلغهم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫بني حملة الشهادات‪ ،‬ما يح ُّد من ِ‬ ‫مستويات قياسية‪.‬‬ ‫نسب البطال ِة إِىل‬ ‫فرص التشغيل ويرف ُع َ‬ ‫رئيس ِ‬ ‫ونصطف معهم‪ ،‬يف محاول ِة ِ‬ ‫بلدهم تحميلَهم املسؤولية عن بؤس التخطيط الحكومي العام‬ ‫نتضام ُن مع شعرا ِء موريتانيا‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫الحق مع من تصدّوا‬ ‫يفشل يف توفري‬ ‫الذي ُ‬ ‫الكفاءات املحلية يف الصناع ِة والعمرانِ والتقني ِة والطب واملهن الحرفية وغريِها‪ .‬ومث ّة كل ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ميحض شعرا َء موريتانيا التقدير‬ ‫كتب أنه كان عىل األخري أن َ‬ ‫لسخري ِة ولد عبد العزيز‪ ،‬ومنهم الناقد محمود ولد الخريش الذي َ‬ ‫ِ‬ ‫وتعريب التعليم‪ ،‬وتو ّجه غالبية الطلبة للتخصص‬ ‫الذي يستحقونه‪ ،‬ال أَ ْن يعم َد إِىل «تحميلِهم وزر تواضعِ املؤسسات التعليمية‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫األَديب»‪ .‬وأَصاب الخريش يف أَنه «كان ممكناً للرئيس أَ ْن يُن ِّبه إِىل رضورة االعتنا ِء بالتخصصات العلمي ِة التي يحتا ُجها سوق العمل‪،‬‬ ‫من دون التقليل من ولع املوريتانيني بالشعر واألَدب»‪ .‬والبادي أَ َّن غضباً مكيناً أَصاب ولد عبد العزيز من حمل ٍة نشطت ض ّده‪،‬‬ ‫بسبب قول ِته تلك‪ ،‬يف الصحاف ِة ومواقع التواصل االجتامعي‪ ،‬فقد استبعد من استقبالِه وفد اتحاد األُدباء والكتاب مثقفني هاجموه‪،‬‬ ‫ومنهم مسؤول اإلعالم يف مكتب االتحاد‪ ،‬املختار السامل ولد أَحمد سامل‪ ،‬والذي سخ َر بح ّد ٍة من الرئيس وكالمه‪ .‬وقد أُفيد بأَ َّن ولد‬ ‫ِ‬ ‫وتخصيص دعمٍ ما ٍّيل مستم ٍر ألنشطته‪ ،‬ما َّ‬ ‫دل عىل أَنه أَدرك خطرا ً‬ ‫عبد العزيز تع َّه َد يف اللقاء بدعم االتحاد‪ ،‬وتأْجري مق ٍّر دائمٍ له‪،‬‬ ‫بشغف كبري‪ ،‬س ّيام وأَ َّن حراكاً احتجاجياً عليه ينش ُط يف مظاهر ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ات‬ ‫عىل ما تبقّى له من شعبي ٍة بني املوريتانيني الذين يُقدّرون الشعر‬ ‫تطالب برحيله و«إِسقاط النظام»‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫شعب تعوزه الكفاءاتُ العلمي ُة يف‬ ‫بعيدا ً من «املسألة املوريتانية» هذه‪ ،‬وقريباً منها أيضاً‪ ،‬ليكن السؤال مرشوعاً عام إِذا كان‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫السؤال عىل هذا النحو مفتعالً بعض اليشء‪ ،‬فالشع ُر‬ ‫يحتاج إِىل شع ٍر غزي ٍر يف فضائه العام‪ .‬يبدو‬ ‫الزراعة والصناعة واإلنتاج والتقنية‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ونحسب أَ َّن الشعر يف موريتانيا‪ ،‬كام يف غريِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بلد‬ ‫حاجته‪.‬‬ ‫عدم‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫ليه‬ ‫إ‬ ‫شعب‬ ‫ة‬ ‫حاج‬ ‫ىل‬ ‫إ‬ ‫ري‬ ‫نش‬ ‫حتى‬ ‫يغيب بآخر‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ال يتوافَّر بقرا ٍر وال ُ‬ ‫ٍ‬ ‫منتوج جاميل‪ ،‬يُعبرِّ ُص ّناعه فيه عن أَشواقٍ‬ ‫عريض وكث ٌري وهناك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫عريب‪،‬‬ ‫ومشاغل جامعية‪ ،‬وألَنه ٌ‬ ‫وتطلعات ومشاع َر فردي ٍة وهمومٍ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ف ِإ َّن فحصاً يُدق ُّق فيه سيؤكد بالرضور ِة أ َّن الشعر الجميل منه ليس بالوفر ِة التي قد نظ ّن أو نتوقع‪ ،‬غري أ َّن حرص التعامل مع‬ ‫وجب هو االحتفا ُء بالحالة‪ ،‬من دون انرساقٍ إِىل املديح‬ ‫املسأل ِة عىل هذا الصعيد من دون غريه سيكون فعالً نخبوياً وفوقياً‪ .‬األَ ُ‬ ‫ونرتجل بشأن ِه إِنشائيات تتو َّر ُم فيها ذوات ُنا‪ ،‬فنصبح أُمة الشعر‪ ،‬فيام األُمم األُخرى‬ ‫ُ‬ ‫الفائض لها‪ ،‬والتسليمِ بها مبعثَ زه ٍو ننقط ُع له‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ونستغرق يف الحديث إِياه عن األَصالة والتقاليد وروح الشعر فينا‪ ،‬برطان ٍة ال تزيَّ َد وال شط َط يف القول هنا إِ َّن مجتمعاتِنا‬ ‫بال شعر‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫االلتفات إىل بديهيّة أَ َّن الشعر‪ ،‬أَياً كانت مستوياتُ اإلبداع والتجليّ والغنى فيه‪ ،‬ال‬ ‫العربية يف حاج ٍة كربى إِىل التح ّر ِر منها‪ ،‬وإِىل‬ ‫َ‬ ‫يجو ُز أَن يص َري مصدر انتشا ِء أُم ٍة تعاين ًعورا ً يف كل يشء‪ ،‬سيّام يف ضحال ِة حضورِها يف اإلنتاج املعريف والعلمي يف العامل‪ ،‬وسيّام وأنها‬ ‫ِ‬ ‫استهالك ما ت ُنتجه أَدمغ ُة األُمم املتقدمة ومصانِعها ومعاملِها‬ ‫أُم ٌة منكبة عىل‬

‫‪78‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫فضاءات‬

‫للفنان حسن جوين‬

‫مقاهي‬ ‫الشــعر‬ ‫في بيروت‬ ‫خروج من مالجئ الحرب‬ ‫النتزاع االعـتراف‬

‫شهدت بيروت منذ أواسط التسعينيات من القرن‬

‫الماضي ظاهرة القراءات الشعرية في المقاهي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومكانيا‪ ،‬وأخرجت‬ ‫زمانيا‬ ‫وقد امتدت هذه الظاهرة‬

‫في بعض مراحلها الشعر والشعراء من الكتب إلى‬

‫الفضاء العام الليلي والمديني لشارع الحمراء‬ ‫البيروتي‪ .‬ومرت هذه الظاهرة بأوقات ذهبية‬

‫تارة وبكبوات ناتجة عن تدهور األوضاع األمنية‬

‫والسياسية تارة أخرى‪ ،‬وهنا عرض سريع لبدايات‬

‫القراءات الشعرية في مقاهي السهر‪ ،‬وما آلت إليه‪.‬‬

‫بيروت‪ -‬فيديل سبيتي‬

‫‪79‬‬


‫فضاءات‬

‫يف‬

‫أواسط التسعينيات من القرن املنرصم كان‬ ‫خجىل ومن دون تنسيق وتنظيم‪ ،‬سبباً لدب الحامسة يف‬ ‫مقهى «يش أندريه» الشهري ما زال يستقطب‬ ‫شعراء آخرين لقراءة قصائدهم‪ ،‬وح ّمست املستنكفني عن‬ ‫املثقفني والشعراء والرسامني والصحافيني‪ .‬وتعود الكتابة للعودة إىل قرض الشعر‪ ،‬ثم اتسعت دائرة القراءات‬ ‫شهرة هذا املقهى املنزوي يف مدخل أحد األبنية يف شارع‬ ‫لتشمل كل الساهرين يف املقهى بعدما كانت تدور عىل‬ ‫الحمراء والذي ال يتسع ألكرث من عرشين شخصاً‪ ،‬اىل أواسط طاولة أو طاولتني فقط‪ ،‬ثم راحت تستقطب العديد من‬ ‫الستينيات خالل سنوات لبنان الذهبية‪ ،‬حني كان ال يزال‬ ‫الرواد الجدد محبي الشعر والحرشيني تجاه ما يكتبه‬ ‫يستحق لقب «سويرسا الرشق» وحني كان شارع الحمراء‬ ‫الشباب ممن عايشوا الحرب أطفاالً‪.‬‬ ‫يسمى «شانزلزيه الرشق»‪ ،‬وذاع صيت هذا املقهى بسبب‬ ‫رويداً رويداً راحت هذه السهرات تأخذ شكل التنظيم‬ ‫سهر زياد الرحباين ورفاقه فيه يومياً‪ ،‬وبعدما زارته داليدا‬ ‫الرسمي‪ ،‬فأخذ الشاعران يوسف بزي وناظم السيد عىل‬ ‫وشارل أزنافور وجوين هوليداي وكانت تعرج عليه دورياً‬ ‫عاتقهام الدعوة إليها يف يوم محدد يف األسبوع‪ ،‬عىل أن‬ ‫ملكة جامل الكون جورجينا رزق‪ .‬بالطبع هذا املجد مل‬ ‫يدعى شاعر أو أكرث للقراءة ويقوم أحدهام بتقدميه‪ .‬وصار‬ ‫يدم طوي ًال فمنجل الحرب حصد كل األمجاد التي كانت‬ ‫يعلن عن تلك السهرة األسبوعية يف الصفحات الثقافية‬ ‫بريوت تدأب عىل صناعتها وبلورتها‪ .‬لذا اقترص الرواد بعد‬ ‫للصحف‪ ،‬وأخذ بعض الشعراء املعروفني يطلبون دعوتهم اىل‬ ‫الحروب اللبنانية املنتهية أوائل التسعينيات‪ ،‬عىل شعراء ما القراءة بعدما صارت الباحة القريبة من املقهى متتىلء عن‬ ‫سمي بجيل الحرب ومنهم يوسف بزي ويحيى جابر وشارل بكرة أبيها بالساهرين القادمني لالستامع إىل الشعر‪.‬‬ ‫شهوان وفادي بوخليل وعيل مطر وفادي الطفييل‪ ،‬يخالطهم كان الشعر يخرج من مالجئ الحروب اللبنانية وعفنها‬ ‫شعراء الجيل السابق أو جيل ما بعد الرواد بحسب تصنيف ورطوبتها ليعود براقاً متجدداً يف مقهى «يش أندريه» يف‬ ‫األجيال يف بريوت‪ ،‬ومنهم حسن العبدالله ومحمد العبدالله شارع الحمراء البريويت‪ ،‬وكانت اللعبة كلها تخرج الشعر‬ ‫وعباس بيضون أحياناً وبول شاوول يف زيارات متقطعة‪ .‬ثم‬ ‫من كالسيكيته «اإلعالنية» التي تحمل موقعي املجموعات‬ ‫استقطب ذلك املقهى شعراء من جيل ما بعد الحرب أو‬ ‫الشعرية إىل صاالت وزارة الثقافة أو األندية والجمعيات‬ ‫جيل الشباب وكان هؤالء إما قد نرشوا مجموعة واحدة أو البريوتية‪ ،‬والتي يرتدي فيها الشاعر بذلة أنيقة ليبدو نجامً‬ ‫مل ينرشوا بعد‪.‬‬ ‫استعراضياً يف صور املجالت التي تعنى باالجتامعيات‪ .‬الشعر‬ ‫املقروء يف املقهى والصدى الذي لقيته تلك التجربة كان‬ ‫مبثابة االنقالب عىل القالب الشعري «الحريب»‪ ،‬من حيث‬ ‫خليط الشعراء‬ ‫الشكل عرب صفة املكان والرواد‪،‬‬ ‫كان خليط الشعراء هذا يتواجد‬ ‫ومن حيث املضمون يف نوع‬ ‫يف املقهى الضيق واملعتم‪ ،‬فراح‬ ‫كــان الشـعر يخرج مـن‬ ‫القصائد املقروءة‪.‬‬ ‫الشعراء الشباب ومنهم غسان‬ ‫مالجئ الحرب ورطـوبتـهـا فالشعراء الشباب كانوا قد بدؤوا‬ ‫جواد وناظم السيد ومحمد‬ ‫يكتبون قصيدة مدينية منفعلة‬ ‫بركات ورامي األمني ومازن‬ ‫ليعود براق ًا متجدد ًا فـي‬ ‫بحالة «السلم األهيل» الالحق‬ ‫معروف وكاتب هذه السطور‪،‬‬ ‫مقهى «شي أندريه» فـي عىل عقدين من الحروب‪ ،‬وكانت‬ ‫يقرأون قصائدهم عىل مسمع‬ ‫قصائدهم يف أغلبها قد كتبت يف‬ ‫شـارع الحمراء‪ ،‬وكانت‬ ‫الشعراء اآلخرين‪ ،‬إما طلباً‬ ‫شارع الحمراء وعن شارع الحمراء‪.‬‬ ‫ملشورة أو بحثاً عن اعرتاف‬ ‫اللعبة كلها تخرج الشعر‬ ‫وقبول يف قبيلة الشعراء أو‬ ‫من كالسيكيته «اإلعالنية»‬ ‫ملجرد التسلية ومتضية الوقت‪.‬‬ ‫اتساع التجربة‬ ‫كانت تلك القراءات التي بدأت‬ ‫كربت التجربة واتسعت ومل يعد‬

‫‪80‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫مقاهي الشعر في بيروت‬

‫تفصيل ‪ :‬محمد شمس الدين‬

‫«يش أندريه» قادراً عىل احتوائها‪ ،‬فكان من حسن الحظ أن‬ ‫صاحب املحل قد قرر إقفاله ليفتتح مقهى آخر أكرب منه‬ ‫يف وسط شارع الحمراء أيضاً‪ .‬وهكذا انتقلت القراءات إىل‬ ‫«الريغوستو»‪ ،‬وكان القرن الواحد والعرشون قد و ّلد سنته جدل بيزنطي‬ ‫األوىل‪.‬‬ ‫كان القتدار شبيب األمني مالياً دوراً أساسياً يف تحويل «جدل‬ ‫افتتح الشاعر الشاب سمعان خوام مبعونة النارش وصاحب‬ ‫بيزنطي» إىل مركز القراءات الشعرية يف بريوت بعدما‬ ‫دار «مختارات» جورج فغايل مقهى «ليىل» يف منطقة‬ ‫أضعف األماكن األخرى‪ .‬فهو قد جه ّز املكان هندسياً مبا‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫الجميزة رشق بريوت‪ ،‬وكان شارع الجميزة آخذاً بالتح ّ‬ ‫يتناسب مع الجو الثقايف والقراءات الشعرية‪ ،‬واكتظ «جدل‬ ‫حينها‪ ،‬من شارع يسكنه العجزة الذين هاجر أوالدهم إىل‬ ‫بيزنطي» بالساهرين من لبنان ومن مختلف أنحاء العامل‬ ‫بالد الله الواسعة‪ ،‬إىل شارع للسهر من الدرجة األوىل طارت العريب‪ ،‬وقرأ فيه عدد كبري من الشعراء الشباب الذين كانوا‬ ‫شهرته إىل أنحاء العامل‪.‬‬ ‫قد أصدروا املجموعة الشعرية الثانية يف تلك املرحلة‪ ،‬وقد‬ ‫هكذا راحت القراءات الشعرية التي باتت شبه «مأمسسة»‬ ‫تم االعرتاف بشاعريتهم إما مشافهة أو بواسطة املقاالت‬ ‫تتوزع بني «الريغوستو» و«الليىل»‪ .‬فدعي شعراء من سوريا‬ ‫التي دبجها «نقاد» الشعر يف‬ ‫ومنهم لقامن ديريك وحازم العظمة‬ ‫الصحف اللبنانية‪ ،‬وقرأ شعراء من‬ ‫وإبراهيم الجبني وصالح دياب‪،‬‬ ‫األجيال املتعاقبة‪ ،‬بدءا بأدونيس‬ ‫الشـعر المقروء في‬ ‫وشعراء من مرص ومن املغرب‬ ‫وعباس بيضون وحسن ومحمد‬ ‫المقهى والصدى الذي‬ ‫العريب‪ ،‬واستقطبت تلك القراءات‬ ‫وعصام العبدالله ووديع سعادة‬ ‫مجموعات من املستمعني من‬ ‫لقيته تلك التجربة‬ ‫وشارل شهوان ويوسف بزي وعىل‬ ‫أعامر مختلفة بعضهم مل يكن‬ ‫كان بمثابة االنقالب‬ ‫مطر ويحيى جابر وغسان جواد‬ ‫يستهويه الشعر قبل تلك الظاهرة‬ ‫على القالب الشعري‬ ‫وناظم السيد وغريهم‪.‬‬ ‫الجديدة يف بريوت‪ ،‬ثم راحت‬ ‫ويف تلك املرحلة أسس شعراء‬ ‫«الحربي»‪ ،‬من حيث‬ ‫تكتب املقاالت والتحقيقات عن‬ ‫سوريون «بيت القصيد» يف دمشق‬ ‫تلك السهرات التي يختلط فيها‬ ‫الشكل‬ ‫عىل شاكلة «جدل بيزنطي»‪،‬‬ ‫السهر بالشعر‪ .‬حتى انفجرت‬ ‫وارتاده عدد من الشعراء اللبنانيني‬ ‫ظاهرة القراءات الشعرية مع‬ ‫افتتاح الشاعر شبيب األمني والرسام محمد شمس الدين‬ ‫مقهى «جدل بيزنطي» يف آخر شارع الحمراء‪.‬‬

‫‪81‬‬


‫فضاءات‬

‫مقاهي الشعر في بيروت‬

‫للقراءة ولالستامع‪ .‬ثم أقام أصدقاء مرصيون أمسيات‬ ‫الشعراء الذين ينرشون يف هذه املرحلة عىل أن تتم تصفية‬ ‫يف‬ ‫شعرية متنقلة بني املنازل يف القاهرة‪ ،‬وكذلك األمر‬ ‫«الغث من الثمني» من خالل قراءات املهتمني واملتابعني لها‬ ‫تونس العاصمة‪ ،‬ثم برز بيت الشعر يف بغداد بعد االستقرار ومن خالل أعامل النقد‪ ،‬وهذا ما جرى فع ًال‪ ،‬فبعض الشعراء‬ ‫النسبي لألوضاع األمنية‪ ،‬وهذا ال يعني أن بريوت كانت‬ ‫عاد وأصدر مجموعات شعرية أخرى خالل سنوات من بدء‬ ‫ولكن‬ ‫السبب األوحد يف نقل العدوى إىل سائر املدن األخرى‪،‬‬ ‫كريدية مرشوعها‪ ،‬أما بعضهم فقد اختفى عن الساحة كأنه‬ ‫بالتأكيد كان لها الدور املبارش واألسايس‪.‬‬ ‫مل ينرش أبداً‪ .‬وكان لدور نرش مثل «مختارات» و«الغاوون»‬ ‫و«الجمل» دورها أيضاً يف رفد سوق الكتاب باملجموعات‬ ‫التدهور‬ ‫الشعرية املزدهرة مبوازاة ازدهار القراءات الشعرية‪ ،‬وطاملا‬ ‫أدى تدهور األوضاع األمنية والسياسية يف لبنان عىل إثر‬ ‫أن عملية إصدار الكتاب تتم بعقد ضمني بني الشاعر ودار‬ ‫اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري يف العام‬ ‫النرش‪ ،‬أي أن يو ّقع الكاتب مجموعته يف معرض الكتاب‪،‬‬ ‫‪ ،2005‬إىل تقطع السهرات الشعرية‪ ،‬ثم جاءت حرب متوز‬ ‫‪ 2006‬لتقيض عليها متاماً‪ ،‬وكانت تلك الحرب وقبلها االغتيال فتحصل الدار عىل مثن الطبعة مام يجمعه التوقيع‪ .‬هكذا‬ ‫قد دمرا البنى التحتية املادية والنفسية للبنانيني وقسمتهم ارتفع عدد موقعي املجموعات الشعرية يف معرض الكتاب‬ ‫إىل فريقني متواجهني‪ .‬وخالل ثالث سنوات امتدت من العام العريب والدويل يف بريوت‪ ،‬حتى بات يجري توقيع أكرث من‬ ‫‪ 2006‬إىل العام ‪ ،2009‬عاد الشعر يف بريوت إىل كبوته‪،‬‬ ‫خمس مجموعات شعرية يف اليوم الواحد خالل أيام املعرض‬ ‫وانرصف الناس عنه إىل متابعة نرشات األخبار‪ .‬ويف سنة‬ ‫التي متتد عىل مدى ‪ 15‬يوماً‪.‬‬ ‫سد‬ ‫‪ 2010‬افتتح الشاعر عيل نصار مقهى «دينمو» الذي‬ ‫لكن هذه الطفرة يف النرش والتواقيع خفتت مع خفوت‬ ‫فراغاً كبرياً‪ ،‬وصار ينافس مقهى «جدل بيزنطي» بنوعية‬ ‫القراءات الشعرية يف املطاعم واملقاهي‪ ،‬ورمبا يكون السبب‬ ‫مختلفة من الجمهور‪.‬‬ ‫هو التخمة التي أصيب بها «السوق الشعري»‪ ،‬ورمبا تكون‬ ‫فجأة انتقلت املبادرة إىل أشخاص آخرين بعضهم قادم من‬ ‫تجربة النرش الكثيف قد أستنفدت أهدافها ونتائجها‪ ،‬ولو أن‬ ‫عامل الشعر وبعضهم من خارجه‪ .‬فافتتح الشاعر حسن م‬ ‫العبدالله «وهو غري حسن العبدالله صاحب راعي الضباب» القراءات الشعرية يف املقاهي كانت أقل ترضراً‪ ،‬إذ أن السهر‬ ‫يف املقهى لالستامع إىل الشعر هو فعل سهر أسبوعي‪ ،‬ميكنه‬ ‫مطعم ومقهى شبابيك‪ ،‬فحاول استعادة تجربة «جدل‬ ‫أن يندرج يف إطار تقضية الوقت ولقاء األصدقاء‪ ،‬وال تحتاج‬ ‫بيزنطي» الذي أقفل أبوابه‪ ،‬فدامت التجربة عدة أشهر‬ ‫القراءات الشعرية فيها إىل كثري متحيص ونقد‪ ،‬كام هو حال‬ ‫ثم أقفل املطعم بدوره‪ ،‬وافتتحت إحدى السيدات «سالم‬ ‫القراءة يف كتاب شعري بغية اتخاذ موقف منه سواء كان‬ ‫حمود» مقهى «درابزين» يف أحد شوارع الحمراء الخلفية‪،‬‬ ‫واستقبلت فيه عدداً من األمسيات الشعرية وقد دامت‬ ‫إيجاباً أم سلبياً‪.‬‬ ‫التجربة أيضاً عدة أشهر قبل أن تتالىش‪.‬‬ ‫تجربة مقاهي الشعر يف بريوت والنرش الكثيف يف دور‬ ‫النرش البريوتية تباطأت قلي ًال يف هذه اآلونة ولكن استمرارها‬ ‫دور النرش‬ ‫وتنقلها من مقهى إىل آخر خالل السنوات العرش املاضية‬ ‫اللييل‪،‬‬ ‫السهر‬ ‫مقاهي‬ ‫يف‬ ‫الشعرية‬ ‫اءات‬ ‫ر‬ ‫الق‬ ‫طفرة‬ ‫ترافقت‬ ‫ييش بأن هذه الظاهرة لن تختفي نهائياً‪ .‬وطاملا أن بعض‬ ‫مع ازدهار نرش املجموعات الشعرية لشعراء لبنانيني وعرب‪،‬‬ ‫أصحاب املقاهي الجديدة التي اكتظ بها شارع الحمراء‬ ‫و أخذت «دار النهضة» التي تديرها الكاتبة لينا كريدية‬ ‫خالل السنوات األخرية ما زال يعتني بالشعر ويحب‬ ‫عىل عاتقها نرش مجموعات شعرية لشعراء من مختلف‬ ‫استقباله يف مقهاه وطاملا أن توالد الشعراء ال يتوقف إذ‬ ‫الجنسيات ومن أجيال مختلفة‪ ،‬فأصدرت خالل السنوات‬ ‫يصدر سنويا عدد كبري من الدواوين الجديدة لشعراء جدد‪،‬‬ ‫املاضية عدداً كبرياً من املجموعات الشعرية‪ ،‬بعضها كان‬ ‫فإن قراءة الشعر يف األمسيات الشعرية لن يختفي من‬ ‫يستحق النرش‪ ،‬وبعضها كان ميكن إعادة النظر فيه‪ ،‬لكن‬ ‫الحياة الثقافية البريوتية‪ ،‬عىل األقل يف املدى املنظور‬ ‫املرشوع «النرشي» هذا بدا وكأنه يريد تقديم أغلب‬ ‫‪82‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫عمان‬ ‫الفضاء الشعري في ّ‬ ‫بروز مقاهي الشعر مقابل تراجع المؤسسات الرسمية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خاصا في إيصال التجارب الشعرية الجديدة‪،‬‬ ‫دورا‬ ‫للشعر في األردن فضاءاته الخاصة‪ ،‬حيث يلعب المقهى‬

‫وقد تعددت في العقد األخير األماكن في عمان‪ ،‬ولكنها تظل عبارة عن حلقة مغلقة على مجموعات صغيرة‬

‫ّ‬ ‫عمان‪ -‬محمد عريقات‬

‫لطاملا‬

‫كانت املقاهي من أبرز األمكنة التي‬ ‫ارتبط بها املثقف واملبدع‪ ،‬وكانت‬ ‫مصدر إلهامه حيث االحتكاك املبارش‬ ‫مع رشيحة اجتامعية واسعة ومختلفة‪ ،‬يقرأ الوجوه عن‬ ‫قرب‪ ،‬وينصت إىل صمت مالمحها املتلونة مبأساتها وملهاتها‪،‬‬ ‫باإلضافة إىل أنها كانت وال تزال‪ ،‬فضاء ال منازع له يتحلق‬ ‫حول طاوالته الشعراء والنخب األدبية متجاورة مع الناشئة‬ ‫واملبتدئني إلثارة جداالت ونقاشات ثرية حول قضايا شعرية‬ ‫وثقافية‪.‬‬ ‫ومن الفضاءات الشعرية األخرى يف األردن‪ ،‬تأخذ الصالونات‬ ‫الثقافية أو األدبية‪ ،‬التي كام عهدناها يف بلدان أخرى‬ ‫من مثل بريوت ودمشق‪ ،‬حيزاً ثقافياً وفكرياً يرسخ هوية‬ ‫املجتمع وبيئته الثقافية من خالل تعزيز مفهوم النقاش‬ ‫والحوار وتعميم املعرفة وتقويم اإلبداعات وتوجيهها‬ ‫وتبادل اآلراء حولها‪ ،‬إال أنها‪ ،‬يف األردن‪ ،‬وعىل قلة تواجدها‬ ‫وفاعليتها خاصة يف وقتنا الحارض‪ ،‬متارس نشاطها ضمن‬ ‫دائرة مغلقة تتألف من مجموعة منطوية عىل أفرادها يف‬ ‫اللقاءات‪ ،‬يتحاورون يف ما بينهم حول ما ينتجونه من أدب‬ ‫وإبداع‪ ،‬من دون أن يكون لذلك أفق أو فضاء منتج ومؤثر‬ ‫يف محيطهم‪.‬‬ ‫يف األردن كان الشاعر واملثقف هو من يعطي للمقهى بعده‬

‫الثقايف‪ ،‬أي أن املكان مل يكن مؤه ًال بن ّية مسبقة ليكون‬ ‫ثقافياً‪ ،‬فأغلبية املقاهي كانت أمكنة شعبية مفتوحة أمام‬ ‫مختلف الفئات من املجتمع‪ ،‬وهنا كان املثقفون يجدون‬ ‫فضاءهم الخصب للتواصل الشفاهي املبارش‪ ،‬ومع ابتعاد‬ ‫املؤسسة الرسمية‪ ،‬واحتكار مخصصاتها ومنحها لفئة من‬ ‫دون أخرى‪ ،‬وانسالخها عن دورها يف أن تكون حاضنة‬ ‫للمبدع كان املقهى هو الحل‪.‬‬ ‫ولهذه األسباب وتلك‪ ،‬التفتت منذ بداية هذا العقد‬ ‫مجموعة من املثقفني واملبدعني إىل رضورة تأسيس أماكن‬ ‫مؤهلة الحتضان هذه النخبة أو الفئة من املجتمع‪ ،‬آخذة‬ ‫بعني االعتبار يف تأثيث صاالتها ومرافقها فضاء املبدع وبيئته‬ ‫وانتامءاته‪ ،‬عىل سبيل املثال من حيث املوسيقى واألغاين‬ ‫فلم تعد أم كلثوم هي الذائقة الوحيدة التي تتمتع بها‬ ‫املقاهي‪ ،‬بل استبدلت بأغاين الشيخ إمام‪ ،‬ومارسيل خليفة‪،‬‬ ‫وسميح شقري وغريهم من املغنني امللتزمني بالقضايا الوطنية‪.‬‬ ‫كام وزينت جدرانها بصور شعراء وسياسيني وفنانني كان لهم‬ ‫إسهاماتهم يف الحركة العربية اإلبداعية‪ ،‬إضافة إىل اختيار‬ ‫أثاث يتشابك مع الرتاث وعراقته‪.‬‬ ‫ومن هذه املقاهي يف عامن نذكر‪ :‬ركوة عرب‪ ،‬محرتف رمال‪،‬‬ ‫بيت بلدنا‪ ،‬حيث إنها من أبرز األمثلة التي ميكننا أن نطلق‬ ‫عليها فضاءات الشعراء واملبدعني يف املدينة‪ ،‬والتي حققت‬ ‫‪83‬‬


‫فضاءات‬

‫أمسية يف محرتف رمال‬

‫مسؤول النشاطات الثقافية يف مقهى ركوة عرب الكاتب‬ ‫بدائل ك ّرست الفعل الثقايف واإلبداعي اجتامعياً بشتى‬ ‫والباحث يحيى أبو صافية‪ ،‬يرى "أن أهم ما مييز إنتاج‬ ‫فنونه كالشعر والفن ليصري ارتيادها أسلوب حياة ميارس‬ ‫املؤسسات الثقافية الخاصة هو التنوع الغني يف املنتج‬ ‫كبقية األشياء اليومية‪ .‬ومن أبرز ما قدمته هذه املقاهي‬ ‫هو الربط بني األجيال الشعرية وإتاحة فرص تالقيها واطالع الثقايف ما يبرش بنهوض نوعي للحراك الثقايف العام يف‬ ‫املدينة‪ ،‬والذي سينعكس بالرضورة عىل الوعي العام‬ ‫األجيال السابقة عىل تجارب شعراء جدد‪ ،‬ولعل الجيل‬ ‫الشعري واألديب الجديد‪ ،‬جيل األلفية الثالثة يف األردن‪ ،‬كان للمجتمع املحيل‪ ،‬وطرائق تناوله للمنتج الثقايف من‬ ‫حيث النوع‪ ،‬والكم‪ ،‬ويف الوقت الذي تعاين فيه كثري من‬ ‫األكرث انسجاماً مع هذه األماكن‪ ،‬حيث ال تخلو ليلة من‬ ‫ً‬ ‫ليايل املقاهي التي ذكرت من حلقاتهم ونقاشاتهم مبا يشبه املؤسسات الرسمية واقعا يحف بكثري من املعوقات‪ ،‬مام‬ ‫يحول يف أغلب األحيان دون تقديم‬ ‫الندوة أو األمسية املفتوحة‪.‬‬ ‫خدمة ثقافية متكاملة ومتطورة‬ ‫فـي األردن كان الشاعر‬ ‫تسمح برتسيخ إنتاجها يف الحراك‬ ‫ركوة عرب‬ ‫يعد مقهى «ركوة عرب» من أبرز والمثقف هو من يعطي الثقايف العام"‪.‬‬ ‫للمقهى بعده الثقـافي‪ ،‬ويلفت أبو صافية إىل أن هذا ما‬ ‫املقاهي الثقافية التي نشأت يف‬ ‫يحسب عىل الفضاء الشعري‪ ،‬حيث‬ ‫السنوات العرش األخرية يف عامن‪،‬‬ ‫أي أن المكان لم يكن‬ ‫هنالك إشكالية واضحة يف رعاية‬ ‫وتخصصت يف عدة مجاالت‬ ‫ً‬ ‫مسبقة‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫بن‬ ‫ال‬ ‫مؤه‬ ‫ّ‬ ‫املؤسسات الثقافية الرسمية للحراك‬ ‫ثقافية‪ ،‬وتنوعت أنشطته‬ ‫األديب يف األردن‪ ،‬عىل وجه الخصوص‬ ‫وطبيعة الخدمات التي يقدمها‬ ‫ليكون ثقافي ًا‪ ،‬فأغلبية‬ ‫رعاية وتطوير «املشهد الشعري»‪،‬‬ ‫للجمهور‪ ،‬حيث أسهم بشكلٍ‬ ‫المقاهي كانت أمكنة‬ ‫وهناك تخبط واضح يف سياسات‬ ‫فعال يف دفع الحراك الثقايف‬ ‫شعبية مفتوحة‬ ‫الدولة تجاه التعامل مع الشعر‬ ‫العام يف املدينة‪.‬‬

‫‪84‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫عمان‬ ‫مقاهي الشعر في ّ‬

‫محرتف رمال‬

‫والشعراء‪ .‬من هنا جاءت املؤسسات الثقافية الخاصة التي‬ ‫أخذت عىل عاتقها رعاية واحتضان ما أخفقت يف رعايته‬ ‫محرتف رمال‪ ،‬مكان مختلف يف أجوائه ويف ما يتيحه لزائره‬ ‫املقاهي‬ ‫واحتضانه املؤسسات الثقافية الرسمية‪ ،‬ومنها ظهور‬ ‫عن بقية املقاهي الثقافية‪ ،‬إذ هو‪ ،‬ولتعدد مرافقه وحجراته‬ ‫الثقافية يف قلب العاصمة عامن‪.‬‬ ‫واهتامماته‪ ،‬بيت للشعراء والفنانني واألدباء واملثقفني‪،‬‬ ‫وحول فلسفة مقهى ركوة عرب يقول أبو صافية‪« :‬جاءت‬ ‫وملحبي هذه الفنون التي تجتمع تحت سقفه املشغول‬ ‫فلسفة مقهى ركوة عرب الثقايف معربة‪ ،‬عن أهمية توفر‬ ‫بالحجر والزهر واللوحات‪ .‬املحرتف الذي يكاد يكون الوحيد‬ ‫الحاضنة التي تجمع مثقفي املدينة يف مكان يعكس‬ ‫من بني املؤسسات الثقافية الذي يحتضن ويرعى مهرجانني‬ ‫القدمية‪،‬‬ ‫من خالل مكوناته املادية واملعنوية روح عامن‬ ‫شعريني شبابيني هام «مهرجان مجاز» و«مهرجان ربيع‬ ‫بشوارعها ومبانيها ومثقفيها وتاريخها الذي تكاد متحوه‬ ‫حلم» الذي يرشف عليه امللتقى األديب يف املحرتف ويربز من‬ ‫طرائق العمران الحداثية‪ ،‬من هنا حرص القامئون عىل‬ ‫خالله املواهب األدبية الشابة الجديدة‪.‬‬ ‫املقهى عىل أن يكون حاضنة ثقافية ملبدعي املدينة‪،‬‬ ‫الفنان عزيز أبو غزالة‪ ،‬صاحب ومدير املحرتف لفت إىل‬ ‫أن املحرتف يسعى إىل تقديم كل ما هو حقيقي ويسهم‬ ‫ومساهم حقيقي يف إثراء املشهد الثقايف سواء عىل صعيد‬ ‫بشكل أو بآخر يف خلق حالة حراك ثقايف وفني يف الوقت‬ ‫الشعر أو القصة أو الرواية أو املوسيقى أو التشكيل أو‬ ‫الذي نشعر فيه بالفراغ من حولنا والذي يخيم عىل الساحة‬ ‫املرسح»‪.‬‬ ‫وأضاف‪« :‬لذلك فالزائر للمقهى يستطيع أن يلمس املختلف الثقافية والفنية‪.‬‬ ‫ويشري أبو غزالة إىل أن املبدع بأمس الحاجة إىل رصف ولو‬ ‫الحقيقي يف مكونات املقهى من حيث موقعه وتصميمه‬ ‫بعض االهتامم الجاد من قبل املؤسسات الرسمية عىل الفن‬ ‫الخارجي والداخيل‪ ،‬الذي ميزج ما بني الروح الشامية‬ ‫والثقافة‪ ،‬بوصفهام أدوات فاعلة ومؤثرة يف بناء وتوجيه‬ ‫القدمية‪ ،‬والعبق ال َعماَّ ين الذي يعكسه أبواب وشبابيك‬ ‫البنية الفكرية للمجتمع‪ ،‬وتأكيداً عىل رضورة االهتامم‬ ‫املقهى‪ ،‬كذلك فإن املقهى يزدان يومياً برواده حيث إن‬ ‫بالفنان واملبدع القادر عىل إدارة مرشوعه‪.‬‬ ‫أغلبهم من مثقفي وفناين وشعراء املدينة‪ ،‬ويؤلفون فيام‬ ‫ويرى أن املطلوب من الجهات الرسمية أيضاً هو الرتكيز عىل‬ ‫بينهم يف الكثري من األحيان جلسات يغلب عليها الطابع‬ ‫النوع ال عىل الكم‪ ،‬فليس مه ًام كم نقدم من الدعم املادي‬ ‫الثقايف‪ ،‬أو جلسات الشعر‪ ،‬وقراءات القصة أو الفن‬ ‫التشكييل‪ ،‬وينظم املقهى يف العديد من املناسبات أمسيات عىل أهميته‪ ،‬بل املهم كيف يقدم هذا الدعم والجدوى منه‬ ‫ثقافية مختلفة مام يعزز من فرص تحقيق املقهى لألهداف يف سبيل االرتقاء مبستوى الفعل الفني والثقايف‪ ،‬ويصيف‪:‬‬ ‫"أعتقد بأنه لغاية اآلن مل تتمكن‬ ‫العامة التي تأسس ألجلها»‪.‬‬ ‫املؤسسات الرسمية املعنية بالثقافة‬ ‫ويخلص أبو صافية‪« :‬إن املشهد‬ ‫في األردن يعيش كثير من‬ ‫من تحديد اسرتاتيجيات ثقافية‬ ‫الثقايف السيام فضاءات الشعر يف‬ ‫الشعراء حالة المكان‪،‬‬ ‫فاعلة ومؤثرة يف الحياة الثقافية‪،‬‬ ‫املدينة‪ ،‬يتجه نحو التطور بفضل‬ ‫وكذلك ضبط اآلليات الخاصة‬ ‫وبخاصة الشعراء الجدد‪،‬‬ ‫املؤسسات الثقافية الخاصة‪ ،‬التي‬ ‫أعادت الدماء للحياة الثقافية فيها منهمكين بالتفاعل معه بتطبيقها بشكل دقيق من أجل‬ ‫الخروج بأفضل النتائج ورفع سوية‬ ‫يف سياق تخبط حكومي واضح يف‬ ‫رسم السياسات الثقافية‪ ،‬مام يؤكد باعتباره عالمهم الشعري العمل الفني والثقايف"‪.‬‬ ‫ومجالهم الحـيوي‪ ،‬مما‬ ‫ويختم أبو غزالة قائ ًال‪« :‬املحرتف‬ ‫عىل أهمية وجود تلك الكيانات‬ ‫مرشع لكل من اقرتفت يداه حرفاً‪،‬‬ ‫شجعهم على تكـوين‬ ‫الثقافية يف تنمية اإلبداع ورعاية‬ ‫أو كلمة‪ ،‬جملة أو نصاً وصورة‪،‬‬ ‫املبدعني»‪.‬‬ ‫جماعات شعرية متنوعة‬ ‫لتصبح الفكرة مرشوعاً‪ ،‬فالفكرة‬ ‫‪85‬‬


‫فضاءات‬

‫عمان‬ ‫مقاهي الشعر في ّ‬

‫جانب من مقهى ركوة عرب‬

‫املبدعة مل تعد تحتاج إىل رأس واحد لحملها بل تحتاج لرحم واملزاجية املكونة للحالة الشعرية أينام كانت يف مجالها‬ ‫الحيوي الذي يتسع‪ ،‬فال املقهى وال دور النرش وال املؤسسات‬ ‫حنونة ومهد متأله املحبة‪ ،‬حتى تكون حل ًام وحقيقة تكرب‬ ‫الرسمية املعنية بالثقافة‪ ،‬وال حتى الحراك الشعري كله‬ ‫فينا ونكرب فيها»‪.‬‬ ‫يصنع القصيدة املتألقة‪.‬‬ ‫ويرى أبو صبيح "أن من املمكن أن ميتزج الشاعر ونتاجه‬ ‫بيت بلدنا‬ ‫هو رشفة مطلة عىل عامن القدمية‪ ،‬أسسته فرقة بلدنا التي الشعري مبكونات املكان‪ ،‬سواء املنرب أو املقهى أو املؤسسة‬ ‫يحمل اسمها وتتكون من الفنان كامل خليل وأرسته‪ ،‬سعياً‬ ‫الثقافية لتكون جميعها فضاء الشعر‪ ،‬أو أكرث تحديداً الفضاء‬ ‫املكون للنص‪ ،‬ويف األردن يعيش كثري من الشعراء حالة‬ ‫منهم اليجاد فضاء أديب وفني متنوع‪.‬‬ ‫املكان‪ ،‬وبخاصة الشعراء الجدد‪ ،‬منهمكني بالتفاعل معه‬ ‫يؤكد الفنان كامل خليل صاحب ومدير البيت أن الهدف‬ ‫باعتباره عاملهم الشعري ومجالهم الحيوي‪ ،‬مام شجعهم عىل‬ ‫من تأسيس «بيت بلدنا» هو تحقيق فضاء يجمع الناس‬ ‫تكوين جامعات شعرية وأدبية متنوعة‪ ،‬تحاول كل مجموعة‬ ‫للقاء والتعارف‪ ،‬ولعرض املواهب واإلبداعات الفنية‬ ‫والثقافية‪ ،‬ولكل من أراد أن يغني أو يستمع للغناء األصيل‪ ،‬إيجاد منربها الخاص"‪.‬‬ ‫وملن أراد أن يتعلم املوسيقى أو أن يعزفها‪ ،‬ولعرض اللوحات ويضيف‪« :‬عىل املؤسسات واملنابر أن تصنع للمبدعني‬ ‫فضاءهم من حيث النرش والتسويق‪ ،‬فلدينا شعراء جدد‬ ‫الفنية التشكيلية واالشغال اليدوية وغريها‪ ،‬وملشاهدة‬ ‫حقيقيني‪ ،‬تنوعت أساليبهم وأنواع نصوصهم‪ ،‬ويتفاعلون مع‬ ‫األعامل املرسحية وإقامة األمسيات الشعرية واألدبية‪.‬‬ ‫الفضاء الشعري العام»‪.‬‬ ‫ويشري أبو صبيح "إىل أن أساس التحليق عالياً يف الفضاء‬ ‫رابطة الكتاب األردنيني‬ ‫الشعري يكمن يف القدرة عىل صناعة النص عايل الجامليات‪،‬‬ ‫وكان لرابطة الكتاب األردنيني دور يف هذا التحقيق‪ ،‬من‬ ‫ومن ثم التعامل مع املكان واملنرب واملؤسسة‪ ،‬فمنابر رابطة‬ ‫خالل رئيس لجنة الشعر فيها الشاعر جميل أبو صبيح‪،‬‬ ‫الكتاب األردنيني يف عدد من املحافظات والعاصمة‪ ،‬مفتوحة‬ ‫الذي يؤكد عىل أن الفضاء الشعري ليس املنرب أو املؤسسة‬ ‫عىل جميع املبدعني بال استثناء"‬ ‫أو املكان الذي ينتج الشعر ويس ِّوقه‪ ،‬إنه الحالة الشعورية‬ ‫‪86‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫حائط أبيض‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫الجراح‬ ‫نوري‬ ‫‪.............................................................................................................‬‬

‫طريد القلب‬

‫حول الشاعر العربي في مكان أوروبي‬

‫كلام‬

‫قرأت قصيدة لشاعر وجدتني أسافر معها إىل جهة من العامل‪ .‬ومرات عامل ما وراء العامل‪ .‬واليوم بعد خربة مع القراء‬ ‫وخربة مع الكتابة يف مكان يقع خارج العربية أرضاً‪ ،‬ويف قلبها لغة‪ ،‬وبعد عقود من السفر بعيداً عن البيت األول يف‬ ‫دمشق‪ ،‬أكاد أخال أن كل كتابة شعرية قامئة عىل التجربة البد أن تكون لها صلة بعيدة الغور باملكان‪ :‬مرئياته‪ ،‬أحواله‪ ،‬حاالته‪،‬‬ ‫مميزاته الخاصة‪ ،‬تحوالته‪ ،‬ثباته‪ ،‬من حيث إن الكتابة مرسح يف مرسح يتجىل فيه وجود الكائن‪.‬‬ ‫الشاعر‪ ،‬بداهة‪ ،‬كائن أريض‪ ،‬شخصية يومية‪ ،‬قد تكون لها تطلعاتها وأشواقها املطلقة العابرة لألمكنة‪ ،‬لكن هذا البد أن يبدأ‬ ‫من موضع‪ ،‬ويدرج عىل ميل‪ ،‬ال بد من حائط حتى يعرج الرايئ من عليه‪ ،‬ويسافر أبعد يف اآلماد التي يستطيع أن يح ّلق فيها‪.‬‬ ‫يف التجربة الشعرية الحديثة تنحل العنارص املختلفة ليتشكل منها النسيج الشعري‪ .‬الرؤى الحديثة تبني تعارضاتها مع الرؤى‬ ‫الكالسيكية لألشياء‪ ،‬ومن درجات التناقض مع الذات‪ ،‬من جهة‪ ،‬ومع املوضوعات واملشاهد واألفكار‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬تتخلق‬ ‫الحواس الشعرية الجديدة يف شعر شاعر وميكننا الوقوف عىل الحس العميق باالغرتاب‪.‬‬ ‫لكن النوستالجيا نحو مكان أول ال أثر لها يف قصيدة الشاعر عندما يتحول الوجود إىل كينونة متصلة‪ .‬إذ ذاك تحتل الغربة‬ ‫الوجودية مساحة الغربة املكانية‪ ،‬أو تدفنها يف خرباتها دفناً يجعلها كتيمة الصوت يف القصيدة‪.‬‬ ‫يف الشعر يتحول االنتامء إىل املكان األول املرتوك إىل انتامء لإلنساين الشاسع يف مواجهة القدر الوجودي لإلنسان‪ .‬هنا تولد يف اللغة‬ ‫الرغبات العميقة يف حب العامل‪ ،‬حب االختالف‪ ،‬من دون أن ينزع هذا الحب العصب األول‪ ،‬حب املكان األول وجاذبيته القاتلة‪،‬‬ ‫بل يجعل هذا العصب يتوهج‪ ،‬إمنا‪ ،‬هذه املرة‪ ،‬بوصفه جذوة يف كينونة تتفوق بإنسانيتها عىل املساحات والعصبيات واأللوان‬ ‫واألعراق‪ .‬وهو ما يضاعف من قوة ورشاسة االنتامء إىل الحرية‪ ،‬م ّرة بصفتها اليتم الكامل ومرة بصفتها أرض االختيار‪ .‬وهو‪ ،‬أيضاً‪،‬‬ ‫ما يجعل الشاعر الكائن األكرث مترداً يف األرض‪ ،‬واألكرث دفاعاً عن الوجود بصفته ك ًال؛ تتحول البلدة الصغرية التي ولد فيها الشاعر‬ ‫قيص محليّ إىل عاصمة للعامل‪ ،‬والعامل إىل ناحية صغرية يف أرض الحواس‪.‬‬ ‫يف ٍّ‬ ‫ميكن النظر إىل مجموعة من قصائد الشاعر‪ ،‬كام هو الحال بالنسبة إىل كل شعره الذي كتبه يف مكان غريب‪ ،‬عىل أنه يوميات‬ ‫الشعور واالنفعال والعمل والتطلع يف مكان مختلف‪ ،‬أرض مختلفة‪ ،‬طقس مختلف‪ ،‬ثقافات مختلفة‪ ،‬وكفاح إنساين وثقايف له‬ ‫خصوصيته عام ميكن أن يواجهه شاعر يف مدن الرشق‪.‬‬ ‫فالشاعر العريب الذي رصف ردحاً طوي ًال من الزمن يف أوروبا‪ ،‬ليس مثله مثل الشاعر العريب يف دياره‪ .‬األخري أقدر يف شعره عىل‬ ‫توليد عنارص االنسجام بني تجربته الذاتية ومحيطه املكاين‪ ،‬مبا يف ذلك عالقته بالفضاء اإلنساين‪ ،‬بينام األول هو ذاك الذي مل يعد‬ ‫من كان قبل أن يصل إىل املكان الجديد‪ .‬ولرمبا يكون من الصعب عىل كلمة موجزة اجرتاح معجزة توصيف جامع لوضع الشاعر‬ ‫املنفي واملهاجر‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ولو شئنا أن نعقد املسألة قليال‪ ،‬فإن الشاعر‪ ،‬قبل املكان وبعده‪ ،‬هو أصال طريد القلب‪ .‬هل للقلب مكان وعنوان دامئان ومعرتف‬ ‫بهام يف العامل؟ كل موعد يحرض فيه الشاعر هو موعد أخري‪ ،‬هكذا يشعر املنقطع عن مكان طفولته مع كل قصيدة‪ ،‬كل ر َّفة فرح‬ ‫هي عبور هارب‪ .‬وبالتايل فإن كل قصيدة هي‪ ،‬بطريقة أو أخرى مرثية يف عامل عن عامل آخر مفقود‬ ‫‪87‬‬


‫شرق غرب‬

‫بورخيس الرحلة اليابانية‬

‫الوصول إلى قمة هرم الهايكو‬ ‫كان سفر الشاعر األرجنتيني بورخيس مع‬ ‫زوجته ماريا كداما إلى اليابان فرصة للتعرف‬

‫على هذه الحضارة وأدبها‪ ،‬وأثمر هذا اللقاء ‪17‬‬ ‫قصيدة تنتمي إلى شكل الهايكو‪ .‬وبذلك كان‬ ‫بورخيس من الرواد الذين أدخلوا هذا الشكل‬ ‫إلى أمريكا الالتينية بمعية الشاعر المكسيكي‬ ‫أوكتافيو باث‪.‬‬ ‫هنا أجزاء من مقال يسلط الضوء على تأثير‬ ‫الهايكو في شعر بورخيس‪ ،‬وخصوصية الكتابة‬ ‫في هذا الشكل؛ كتبته زوجته ماريا كداما‬

‫ترجمة‪ :‬محمد آيت لعميم‬

‫صاغ‬

‫بورخيس‪ ،‬يف مقدمة أعاملة الكاملة‬ ‫(‪ ،)1969‬ويف كتب أخرى‪ ،‬مجموعة‬ ‫أحكام حول الشعر واألسلوب تبني كيف‬ ‫جعل بالتدريج‪ ،‬من األشكال الشعرية ل"التانكا" و"الهايكو"‬ ‫اليابانيني أقرباءه‪ .‬ففي ديوانيه "ذهب النمور" (‪)1972‬‬ ‫و"العدد" (‪ )1981‬تدرب عىل هذه األشكال للمرة األوىل‪.‬‬ ‫وبدأ بورخيس مقدمة أعامله الكاملة بهذه الكلامت‪ " :‬مل ُأ ِع ْد‬ ‫كتابة الكتاب‪ .‬خففت من إفراطات الباروك‪ ،‬ل َّينْت خشونات‪.‬‬ ‫شطبت حساسيات زائفة وأشياء غامضة‪ ،‬وأثناء هذا الكد‬ ‫الجميل أحياناً‪ ،‬واملزعج أحياناً أخرى‪ ،‬أحسست أن الشاب‬ ‫الذي كان قد كتبه عام ‪ 1923‬كان يف األساس هو هذا السيد‬ ‫الذي إىل اآلن ينقاد أو يصحح‪ .‬إننا الرجل نفسه‪ ،‬أنا وهو‬ ‫نشك يف اإلخفاق والنجاح‪ ،‬ويف املدارس األدبية ومعتقداتها‪،‬‬ ‫أنا وهو نبجل شوبنهاور وستفنسن ووايتامن‪ .‬يف رأيي‪ ،‬يجسد‬

‫‪88‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫ديوان "حمية بيوس آيرس" مقدّما كل ما سأقوم به بعد‬ ‫ذلك"‪ .‬وينهي مقدمته بهذه الكلامت‪" :‬يف ذلك الزمن‪ .‬كنت‬ ‫أبحث عن املساءات‪ ،‬والضواحي‪ ،‬والتعاسة؛ أما اآلن‪ ،‬فأبحث‬ ‫عن الصباحات‪ ،‬واملركز‪ ،‬والهدوء"‪.‬‬ ‫ال تعرب هذه الكلامت فقط عن إحساس الكاتب حول عمله‬ ‫وحول ذاته‪ ،‬لكنها ترتجم أيضاً بحثاً جوهرياً‪ ،‬مجسداً مقد َماً‪،‬‬ ‫كام قال ذلك‪ ،‬منذ البداية‪.‬‬ ‫هذا البحث‪ ،‬وهذه املحاولة‪ ،‬هي األقدم يف العامل‪ .‬بدأت‬ ‫مع هومريوس وستستمر ما كتب اإلنسان‪ .‬هدفها اكتشاف‬ ‫املركز‪ ،‬واألبدية‪ ،‬بنوع من الرصامة الشكلية العالية‪ُ .‬ج ّرب‬ ‫هذا البحث يف الغالب يف الرشق‪ ،‬وبالخصوص يف اليابان‪ .‬ويف‬ ‫الغرب‪ ،‬وخصوصاً عند بورخيس‪.‬‬ ‫يبدأ األدب‪ ،‬يف الغرب‪ ،‬مع امللحمة‪ .‬مع القصائد التي تحيك‪،‬‬ ‫يف أوروبا كلها‪ ،‬قصة أبطال من خالل املئات من األبيات‬


‫املرآة مثال) كان مساوياً لعدد ال نهايئ من األشياء‪ ،‬ألنني كنت‬ ‫أراه بوضوح من كل زوايا الكون‪ ...‬رأيت األرض فوق األلف‬ ‫عيني‬ ‫‪ ...‬رأيت وجهي وأحشايئ ‪ ...‬أصبت بدوار وبكيت‪ .‬ألن ّ‬ ‫رأتا ذلك اليشء الخفي واملفرتض الذي يغتصب البرش اسمه‬

‫الشعرية‪.‬ولكن هذه القصائد أصبحت شيئاً فشيئاً قصرية مع‬ ‫مر العصور‪ ،‬حتى وصلت إىل املدارس الطليعية وخصوصاً‬ ‫"ا ُملغالني" (‪ l’ultraïsme‬حركة شعرية إسبانية ظهرت مطلع‬ ‫القرن املايض)‪ .‬ويف ما يتعلق باألدب اإلسباين‪ ،‬كان هذا‬ ‫األمر أحد أهم التحوالت التي حصلت منذ دخول السوناتة‬ ‫االيطالية عىل يد ‪ ،Garcileso‬ليس يف حد ذاتها‪ ،‬ولكن عرب‬ ‫بيت الشعر الياباني ليس موجه ًا‬ ‫التحوالت التي أجريت من خالل تحريضها‪.‬‬ ‫فقط لكي يُسمع‪ ،‬لكن أيض ًا‬ ‫بدأ مشوار بورخيس بافتتانه بحركة ‪ ،ultraïsme‬وبعد ذلك‬ ‫لكي يُرى‪ .‬فقصائد الكانجـي‬ ‫استمر من خالل مساره الخاص‪ ،‬مسار قاده‪ ،‬عرب حركة دائرية‬ ‫طويلة‪ ،‬حتى وصل إىل اليابان‪ ،‬هو املبدع‪ ،‬الذي كان يبحث‬ ‫تشكل صورة ينبغي أن تسـر‬ ‫عن الجوهري يف كل شعر‪ ،‬وبالخصوص الشعر الياباين‪ .‬هذا‬ ‫الناظرين‬ ‫الشعر الذي يحاول اإلمساك‪ ،‬يف أسطر قليلة‪ ،‬مشذبة بعناية‪،‬‬ ‫من دون أن يروه‪ :‬الكون كام مل يخطر عىل بال أحد‪ ،‬شعرت‬ ‫من تسعة عرش مقطعاً‪ ،‬بالتقاء الزمن بالفضاء يف نقطة‬ ‫بإجالل ال حد له وبحزن غامض"‪.‬‬ ‫واحدة‪ .‬املبدع يسعى إىل تدمري التتابع يف الفضاء‪.‬‬ ‫لهذه املكونات مظاهر عديدة متحدة االتجاه‪ ،‬وتتناغم‬ ‫أجهد بورخيس نفسه للتعبري عن هذه الرغبة نفسها يف‬ ‫مقدمة كتاب "تاريخ األبدية"( ‪" :)1936‬ال أعلم كيف متكنت مع أهداف الشعر الياباين‪ ،‬الذي ينبغي تفحصه بنوع من‬ ‫التفصيل‪ ،‬يك نفهم يف اآلن نفسه هذه الخطاطات الشعرية‬ ‫من مقارنة ُم ُثل أفالطون بقطع ثابتة يف متحف‪ ،‬وكيف مل‬ ‫والهدف الذي تقرتحه‪.‬‬ ‫أشعر‪ ،‬وأنا أقرأ سكوت ُأرجني‪ ،‬وشوبنهور‪ ،‬أن هذه األشكال‪،‬‬ ‫باشو (‪ )1694-1644‬هو الذي رسم بشكل نهايئ طريق‬ ‫عىل العكس من ذلك‪ ،‬حية وقوية وعضوية‪ .‬كنت أفهم‬ ‫"الهايكو" وكان يؤكد أن "الهايكو" يجب أن يستعمل اللغة‬ ‫أن ليس هناك حركة خارج الزمن (شغر أماكن مختلفة‬ ‫املألوفة لكل واحد‪ ،‬متجنباً‪ ،‬االبتذال‪ ،‬كان يستعمل بغزارة‬ ‫يف لحظات مختلفة)‪ .‬مل أكن أعرف أنه ليس هناك ثبات‬ ‫(شغر املكان نفسه يف لحظات مختلفة)‪ ،‬كيف أمكنني عدم الصور والكلامت املمنوعة يف "التانكا"‪ .‬كان ال ّدوري يحل‬ ‫مالحظة أن األبدية‪ ،‬التي يبحث عنها ويحبها شعراء كثريون‪ ،‬محل العندليب‪ ،‬وحلزون املاء محل الزهور‪ .‬وكان عىل‬ ‫هي خدعة براقة‪ ،‬تحررنا ولو للحظة واحدة‪ ،‬من العبء الذي الشاعر أن يتظاهر بأنه مع الحشد يف حني أن روحه تكون‬ ‫دامئاً خالصة‪ .‬يجب عىل الشاعر أن "يستعمل اللغة املشرتكة‪،‬‬ ‫ال يطاق لألشياء املتتابعة"‪ .‬ويف قصة األلف يقول‪" :‬كان عىل‬ ‫قطر األلف أن يكون سنتيمرتين أو ثالثة‪ ،‬لكن الفضاء الكوين ومن خالل فنه‪ ،‬يحولها إىل يشء جميل‪ .‬عليه أن يحس‬ ‫بالرأفة تجاه هشاشة األشياء املخلوقة"‪ .‬يجب أن يكون لديه‬ ‫كان هناك‪ ،‬من دون نقصان يف حجمه‪ .‬كل يشء (صفحة‬ ‫‪89‬‬


‫شرق غرب‬

‫إحساس وثيق بـ ‪ ،sabi‬كلمة تعني العزلة‪ ،‬والحزن املوحش‬ ‫وكآبة الطبيعة‪ .‬وبالخصوص‪ ،‬عليه أن يعرب عن الجوهر‬ ‫الخاص بطريقة متكن من القبض عليه‪ ،‬عرب التفصيل‪ ،‬وجوهر‬ ‫كل الخلق‪ .‬هذه املقاطع السبعة عرش ينبغي أن متسك برؤية‬ ‫جوهر العامل‪.‬‬ ‫أفضل مثال عىل هذا املفهوم قصيدة ال "هايكو" الشهرية‬ ‫"املستنقع القديم "‪" ،‬ضفدعة تنط‪ .‬صوت املاء"‪.‬‬ ‫بداية هناك يشء ثابت‪ ،‬املستنقع‪ ،‬ثم هناك يشء رسيع‬ ‫ومتحرك الضفدع‪ ،‬وأخرياً صوت املاء الذي ينضح‪ .‬يعني‬ ‫النقطة التي يلتقيان فيها‪.‬‬

‫بورخيس الياباين‬

‫إن تأمل وفحص قصيدة لبورخيس‪ ،‬مأخوذة من ديوانه‬ ‫"حمية بيونس آيرس" ‪1923‬؛ "ال ِفناء" يظهر مجموعة من‬ ‫العنارص املشرتكة‪ ،‬وهي تجريد مكون من عروض ووزن‪:‬‬

‫"بحلول املساء‬ ‫تتعب ألوان ِفناء الدار‬ ‫دائرة القمر املنرية مل تغمر هذه الليلة الفضاء‬ ‫فناء الدار‪ ،‬سامء متحولة‬ ‫الفناء منحدر تترسب منه السامء إىل البيت‬ ‫هادئة‪،‬‬ ‫األبدية تنتظر عند ملتقى النجوم‬ ‫ناعمة هي الحياة بصداقة غامضة لقبة‪،‬‬ ‫وخزان ماء‪ ،‬ودوايل تع ّرش"‪.‬‬

‫من دون علم املؤلف‪ ،‬هذه القصيدة‪ ،‬تتبع قواعد وتعاليم‬ ‫"باشو"‪ .‬فكيف تسنى لشاعر من أمريكا الجنوبية‪ ،‬تفصله‬ ‫عنه قرون عديدة‪ ،‬أن يتمكن من إعادة اكتشاف الجوهر‬ ‫نفسه ل"الهايكو"؟ هناك تفسري ممكن‪ .‬هو أن جوهر الشعر‪،‬‬ ‫ال زمني وكوين‪ .‬وحني يصل إليه شاعر‪ ،‬كام هو الحال عند‬ ‫الشعراء الرتاجيديني اليونان‪ ،‬فالنجاح يكون يف كل زمن‪.‬‬ ‫وهناك تفسري آخر يختلف عن هذا باملرة‪ ،‬من املمكن أن‬ ‫تيرسه لنا طفولة بورخيس‪ ،‬فجدته ألمه كانت انجليزية‪،‬‬ ‫كانت تحفظ العهد القديم عن ظهر قلب‪ ،‬وكانت تتذكر‬ ‫باستمرار مقاطع كاملة منه‪ .‬فبعد قراءة قصص جريم‪ ،‬قرأ‬ ‫بورخيس وأعاد قراءة ألف ليلة وليلة‪ .‬يف طبعة انجليزية‪،‬‬

‫‪90‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫وأتبعه بكتاب هو اليوم كتاب منيس "الحكايات الشعبية‬ ‫لليابان القدمية" مؤلفه أحد العلامء املحققني األمريكيني اسمه‬ ‫‪ .Mitford‬أثناء الحرب العاملية األوىل‪ ،‬قادته أعامل شوبنهاور‬ ‫إىل دراسة "البوذية"‪ .‬التهم بورخيس برشاهة كتب هرمان‬ ‫أولدنريغ حول بوذا وتعاليمه‪ .‬هذه االهتاممات املتعددة‬ ‫منحته عق ًال منفتحاً‪ ،‬عق ًال مضيافاً‪ ،‬شديد الحساسية للثقافات‬ ‫األكرث اختالفاً‪ .‬هكذا‪ ،‬من دون أن يعي مساره‪ ،‬اتبع الطريق‬ ‫العريق للشعر الياباين‪ ،‬الذي ُيوصل إىل اكتشاف "الهايكو"‪ .‬ما‬ ‫أنجز ال شعورياً أنجز بطريقة جيدة‪ ،‬وعىل الكتاب االحرتاس‬ ‫من السهر عن قرب حول ما يكتبون‪ .‬وإال فإن الحلم‬ ‫سيخونهم‪.‬‬ ‫رشع بورخيس يف بداية السبعينيات‪ ،‬يف تأليف قصائد‬ ‫"التانكا" بنوع من الرتوي‪ ،‬وتوج هذه املحاولة‪ ،‬يف‬ ‫الثامنينيات‪ ،‬بتأليفه لقصائد "هايكو"‪ ،‬تتشكل فيها الفقرة من‬ ‫‪ 17‬مقطعاً؛ كتب بورخيس ‪ 17‬قصيدة هايكو‪ ،‬من املمكن أن‬ ‫نختار بعضاً منها لنفحصها بنوع من التيقظ‪ .‬فهو لن يأخذ‬ ‫بعني االعتبار الشكل؛ ألن ‪ 17‬مقطعاً انجليزية أو إسبانية‪ ،‬من‬ ‫دون شك‪ ،‬ال تدركها آذاننا كام تدرك باألذن الرشقية‪ .‬والعكس‬ ‫بالعكس‪ .‬فالبيت الياباين ليس موجهاً فقط ليك ُيسمع‪ ،‬لكن‬ ‫أيضاً ليك ُيرى‪ .‬فقصائد ال"كانجي" تشكل صورة ينبغي‬ ‫أن ترس الناظرين وتؤثر يف العني تأثرياً بليغاً‪ .‬هذا النوع‬ ‫من اللوحات الفنية ُفقد مع األسف يف هذا النقل الغريب‬ ‫ل"الهايكو"‪.‬‬ ‫فمن املمكن أن يحدد "الهايكو" باعتباره فناً تقشفياً‪،‬‬ ‫فالتقشف هو العنرص األكرث أهمية وصعب الوصول إليه‪.‬‬ ‫وهنا يوجد اختالف جوهري بني الرشق والغرب‪ .‬فالزهد يف‬ ‫الغرب وسيلة من أجل الوصول إىل غاية‪ ،‬نتصور غريزياً املرور‬ ‫من اللذة إىل املعاناة‪ ،‬من السعادة إىل القداسة‪ .‬يف الرشق‪،‬‬ ‫الزهدُ غاية يف ذاته‪ ،‬ولهذا فليس يف حاجة إىل أن يفرس أو‬ ‫ي َّربر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫يشء غريب‪ ،‬أنه يف الرشق‪ ،‬تستدعي رصامة الزاه ِد الفنَّ‬ ‫وترتبط به‪ ،‬أما يف الغرب‪ ،‬مير الفن من الحياة إىل الصنعة‪،‬‬


‫بورخيس الرحلة اليابانية‬

‫ومن البسيط إىل املركب‪" .‬الهايكو" قريب جداً هو اآلخر‬ ‫من الحياة الطبيعية التي ميكن أن يكونها‪ ،‬وهو أيضاً بعيد‬ ‫ما أمكن عن األدب وعن األسلوب الكبري‪ .‬هذا التقشف هو‬ ‫نقيض االبتذال‪.‬‬ ‫إن الرابط األساس لليابان مع األدب العاملي‪ ،‬هو شعر خالص‬ ‫من األحاسيس والتي ال تحرض يف اآلداب الغربية إال بشكل‬ ‫جزيئ‪ .‬فالفرق الكبري بني "الهايكو" والشعر الغريب‪ ،‬هو هذه‬ ‫الخاصية املادية والفيزيقية واملبارشة‪ .‬إنها إثارة للجسد وليس‬ ‫للجنس‪ .‬نجد يف "الهايكو"‪ ،‬من خالل أبيات مربوطة حسب‬ ‫جمل متساوية‪ ،‬الشعر واإلحساس املادي‪ ،‬املادة والروح‪،‬‬ ‫الخالق واملخلوق‪ ،‬واختيار املوضوعات ذو داللة‪ :‬فموضوعات‬ ‫تركت جانباً‪ ،‬كالحرب والجنس‪ ،‬والنباتات السامة‪ ،‬والحيوانات‬ ‫املتوحشة‪ ،‬واملرض‪ ،‬والزالزل‪ ،‬أي كل األشياء الخطرية أو التي‬ ‫تجعل الحياة يف خطر‪ .‬إن ها هنا رشوراً سيكون من الحكمة‬ ‫نسيانها إذا كنا نتطلع إىل حياة سليمة عقلياً‪ .‬ففن "الهايكو"‬ ‫يرفض القبح‪ ،‬والكراهية والكذب‪ ،‬والعاطفية واالبتذال‪ ،‬ومن‬ ‫جهة أخرى‪ ،‬فالزن‪ ،‬يقبل بهذه الرشور مادامت أنها جزء من‬ ‫العامل‪ .‬فحرارة يوم صيفي‪ ،‬وملوسة الحجرة‪ ،‬وبياض كريك‬ ‫وحيش‪ ،‬هي بعيدة عن أي تفكري‪ ،‬عن أي عاطفة‪ ،‬عن أي‬ ‫جامل‪ ،‬و"الهايكو" وحده هو الذي يسعى إىل اإلمساك به‪.‬‬ ‫األدب الياباين‪ ،‬و"الهايكو" عىل وجه الخصوص‪ ،‬ليس أدباً‬ ‫روحياً صوفياً‪ .‬فمن بني األشكال الفنية‪ ،‬ميكن اعتبار "الهايكو"‬ ‫الفن األكرث طموحاً‪ .‬إذ من خالل ‪ 17‬مقطعاً ميتلك الواقع‬ ‫أو يسعى إىل امتالكه واإلمساك به‪ .‬فالعنارص الثقافية أو‬ ‫األخالقية مقصية‪.‬‬ ‫ال عالقة ل "الهايكو" بالخري أو الرش أو الجامل‪ .‬إنه منط من‬ ‫التفكري مير عرب حواسنا‪" ،‬الهايكو" ليس رمزاً‪ ،‬ليس لوحة‬ ‫تحمل عىل ظهرها بطاقة تحدد معناها بدقة‪ .‬حينام أكد‬ ‫باشو بأنه يجب البحث عن الصنوبر يف الصنوبر‪ ،‬وعن‬ ‫الخيزران يف الخيزران‪ ،‬فإنه يدعونا إىل أن نتعاىل ونتعلم‪.‬‬ ‫التعلم هو االرمتاء يف املوضوع حتى تتكشف لنا طبيعته‬ ‫الداخلية ويطلق اندفاعنا الشعري‪ .‬فالورقة التي تسقط‬ ‫ليست عالمة أو رمزاً عىل الخريف‪ .‬وليست حتى عنرصاً من‬ ‫الخريف إنها الخريف نفسه‪.‬‬ ‫ها هي قصيدة "هايكو" لبورخيس وأخرى لكيتو‪ ،‬تلميذ‬

‫باشو‪« :‬ال سعادة قرب شجرات اللوز يف الحديقة‪ .‬ليس سوى‬ ‫ذكراك‪ ».‬وكتب كيتو‪" :‬ملا أفكر يف ضبابات املساء‪ ،‬تكون‬ ‫بعيد ًة األيام الخوايل"‪.‬‬ ‫يف القصيدة األخرية‪ ،‬تذ ّكر ضبابة املساء باأليام القدمية‪.‬‬ ‫فاألفول الغامض يقرتن مباض غامض‪ .‬وبالنسبة إىل بورخيس‪،‬‬ ‫فشجرات اللوز املورقة ستستدعي ماضياً سعيداً ورمبا‬ ‫ماضياً قريباً‪ .‬تشرتك القصيدتان يف نقطة االنطالق التي هي‬ ‫الطبيعة‪ .‬يف "هايكو" آخر يقول بورخيس‪« :‬منذ هذا اليوم‬ ‫مل أملس قطعة فوق رقعة الشطرنج‪ ».‬وكانت قصيدة هايكو‬ ‫لشييك قد عربت عن الفكرة نفسها‪«:‬أال زلت تنتظرين؟ مرة‬ ‫أخرى تتحول العواصف املخرتقة إىل مطر بارد»‪ .‬يلقي شييك‬ ‫نظرة إىل الوراء‪ ،‬ويحلم بامرأة ستستمر رمبا يف انتظاره‪.‬‬ ‫فهبات الريح املخرتقة والشتاء من املمكن أن تكون ايحا ًء‬

‫الهايكو قريب جد ًا هو اآلخر من‬ ‫الحـياة الطبيعية التي يمكن أن‬ ‫يكونها‪ ،‬وهو أيض ًا بعيد ما أمكن‬ ‫عن األدب وعن األسلوب الكبير‪.‬‬ ‫هذا التقـشف هو نقيض االبتذال‬ ‫بعزلة هذه املرأة‪( .‬أو عزلة الشاعر)‪ .‬وموضوعة العزلة هي‬ ‫موضوعة "هايكو" بورخيس‪ .‬فرقعة الشطرنج املتوحدة متثل‬ ‫الرجل املتوحد‪ .‬ويف هذا "الهايكو"‪ ،‬العزلة هي عزلة الشاعر‪،‬‬ ‫ويف "هايكو" ‪ ،Shiki‬العزلة هي عزلة اآلخر‪.‬‬ ‫يف هايكو آخر‪ ،‬يشري بورخيس‪" :‬قال يل الجبل واملاء شيئا مل‬ ‫أكن أعرفه أبدا"‪ .‬ويقرتح علينا تاشيشو فكرة مشابهة‪« :‬هيا‪،‬‬ ‫هيا ! ماذا عسانا أن نقول ونحن نلمح االزهار فوق جبل‬ ‫يوشينو؟»‪ .‬لقد اضطرب تاشيشو أمام جامل أخاذ ال ميكن‬ ‫وصفه؛ يف حالة بورخيس‪ ،‬ألهم بواسطة لحظة عابرة‪ ،‬إلها ًما مل‬ ‫يكن قادرا عىل التعبري عنه‪.‬‬ ‫بعيدا عن هذا‪ ،‬يكتب بورخيس‪" :‬مات هذا الرجل‪ .‬لحيته ال‬ ‫تدري شيئاً‪ .‬أظافره تنمو"‪.‬هذا "الهايكو" قريب من تأليف‬ ‫باشو " األرسة بكاملها‪ ،‬بعكاكيز والرأس أشيب‪ ،‬تزور القبور"‪.‬‬ ‫يف "هايكو" بورخيس‪ ،‬مل يرسم املوت باعتباره شيئاً مثرياً‬ ‫‪91‬‬


‫بورخيس مع زوجته ماريا كداما‬

‫للعواطف أو جديراً بالذكر‪ ،‬مؤمل أو قدري‪ .‬لكنه عرض كيشء‬ ‫مقزز وغريب‪ .‬مثل ظاهرة فيزيقية عجيبة‪ .‬نفذ بورخيس يف‬ ‫هذا "الهايكو" رشطاً أرشنا إليه سالفاً‪ .‬عل ًام‪ ،‬أن املقطع هو‬ ‫نقطة التقاء بني يشء دائم‪ ،‬هو املوت‪ ،‬ويشء ميتد لِ ّلحظة‪،‬‬ ‫مثال‪ ،‬التفصيل املخيف للحية واألظافر التي تستمر يف النمو‪.‬‬ ‫املوت‪ ،‬يف هايكو‪ ،‬باشو‪ ،‬معروض بطريقة غري مبارشة‪ .‬وبنوع‬ ‫من االنفصال‪ ،‬يرى الشاعر األرسة وهي بصدد زيارة القبور‪،‬‬ ‫نحس بأن هؤالء الرجال والنساء طاعنون يف السن‪ ،‬سيصريون‬ ‫قريباً أمواتاً بدورهم‪ .‬كانت موضوعة املوت ممنوعة عىل‬ ‫كتاب "الهايكو"‪ .‬لكن باشو‪ ،‬نصري البوذية اآلن‪ ،‬تجرأ عىل‬ ‫معالجته‪.‬‬ ‫ميثل القمر صورة أخرى عند بورخيس‪" :‬تحت السقف ال‬ ‫تحايك املرآة القمر"‪ .‬وميكن لهذا "الهايكو" أن يكون تكملة‬ ‫ل"هايكو" قديم لكيكاكو (‪ )1701-1661‬الذي كتب‪" :‬البدر‬ ‫امليضء‪ .‬يف بيتي يسقط ظل أشجار الصنوبر عىل حصائر‬ ‫القصب"‪ .‬ويصور كيكاكو لوحة تنبثق أمام أعيننا‪ .‬فظل‬ ‫أشجار الصنوبر مريئ ألن القمر يف السامء‪ .‬يف القصيدتني‬ ‫معا يدل البدر عىل العزلة‪ .‬والغياب هو املوضوع الحقيقي‬ ‫لهذا وذاك‪ .‬ونقطة هاربة للزمن متبثة بواسطة الكلامت‪.‬‬ ‫يف القصيدة اليابانية‪ ،‬القمر يف اكتامله هو الذي مينحنا‬ ‫صورة األبدية‪ ،‬ويف "هايكو" بورخيس األبدية تنعكس يف‬ ‫مرآة صافية‪ .‬فقصيدتا ال"هايكو" لدى بورخيس تعربان عن‬ ‫إحساس بالعزلة‪" :‬تحت القمر هذا الظل املمدود‪ ،‬وحيد‪.‬قمر‬ ‫جديد‪ ،‬هو اآلخر ينظر إلينا من باب آخر"‪.‬‬ ‫لنقارن اآلن قصيدة "هايكو" غربية مع قصيدة هايكو رشقية‪.‬‬ ‫بداية‪ ،‬هاهي قصيدة هايكو لبورخيس‪" :‬بارقة تنطفئ‪.‬‬ ‫‪92‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫امرباطورية أو رمبا ُح َباحب"‪.‬والقصيدة الثانية لباشو‪" :‬عشب‬ ‫الصيف‪ .‬أثر األحالم‪ .‬رجال األسلحة"‪.‬‬ ‫موضوع القصيدتني مبتذل‪ ،‬فناء كل األشياء‪ .‬وتعربان عن‬ ‫تفاهة كل مرشوع إنساين‪.‬‬ ‫لنمر اآلن إىل قصيدة هايكو لبورخيس‪" :‬الزالت اليد العجوز‬ ‫ترسم بيتاً شعرياً حتى النسيان"‪.‬‬ ‫تبدو قصيدة هايكو جوسو أنها تجعل من قصيدة هايكو‬ ‫بورخيس صدى لها‪" :‬سهول وجبال مكسوة بالثلج‪ ،‬مل يبق‬ ‫يشء"‪.‬‬ ‫كان جوسو (‪ )1704-1662‬أحد األتباع العرشة املفضلني لباشو‬ ‫ونصرياً لبوذية الزن‪ .‬يقول لنا أن ال يشء يدوم‪ .‬حتى الجبال‬ ‫وقوتها تفنى بأشياء أثريية مثل الثلج‪ .‬يف "هايكو" بورخيس‪،‬‬ ‫كتب "الهايكو" نفسه من أجل النسيان النهايئ واملحتوم‪.‬‬ ‫حينام نفحص هذه القصائد‪ ،‬يجدر بنا أن نتساءل هل توجد‬ ‫ميزة ما‪ ،‬مشرتكة لكل الشعر ولكل األعامر وكل البلدان؟‪.‬‬ ‫الجواب أعطاه بورخيس يف مقدمة ديوانه «ذهب النمور»‪،‬‬ ‫حيث كتب‪« :‬بالنسبة إىل الشاعر الحقيقي كل لحظة يف‬ ‫الحياة‪ ،‬كل حدث ينبغي أن يكون شعرياً‪ ،‬مادام أنه يف العمق‬ ‫ليس شيئاً آخر »‪ ،‬ويكتب يف موضع آخر‪« :‬يف هذا العامل‬ ‫الجامل يشء مشرتك»‪.‬‬ ‫يقول بورخيس يف مقدمة ديوانه «اآلخر‪ ،‬نفسه»‪« :‬ال وجود‬ ‫ملصري غريب كغرابة مصري الكاتب‪ .‬يف بداياته‪ ،‬كان باروكيا‪،‬‬ ‫باروكيا بزهو‪ ،‬مع نهاية السنني الطويلة ميكنه الوصول‪،‬‬ ‫لو ساعده القدر‪ ،‬ليس فقط للبساطة‪ ،‬التي ليست شيئا‪ً،‬‬ ‫ولكن إىل التعقيد املتواضع والرسي»‪ .‬إنها طريقة "الهايكو"‪،‬‬ ‫ف"الهايكو" القصري هو قمة هرم ضخم‬


‫ملف‬

‫الصوت الشعري الجديد في الجزائر‬ ‫شكل البدايات ومأزق الجغرافيا الشعرية‬ ‫ً‬ ‫كثيرا ما أطرحه على بعض أصدقائي من كتاب‬ ‫ما الذي تعرفونه عن الشعر الجزائري الجديد؟ سؤال‬ ‫المشرق فال أجد عندهم إجابة كاملة‪ ،‬يتردد اسم أو اسمان ال غير‪ ،‬وأكتشف أنهم يعرفون هذه األسماء‬ ‫حتى من دون قراءة‪ .‬فهل الخلل سببه الشاعر الجزائري المنعزل في «جغرافية المأساة الوطنية» كما قد‬ ‫ً‬ ‫بلدا كالجزائر وعاش خارج السياقات الثقافية العربية‪ ،‬أو على حافتها‪ ،‬أو هامشها ولم يدخل في‬ ‫نسمي‬

‫سياق الحداثة الشعرية العربية التي بقيت مقتصرة على الشام والعراق ومصر لتلتحق بها المغرب وتونس‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومغتربا؟ أم هو تجاهل مشرقي ممثل بالمركزية الثقافية المتوارثة والتي‬ ‫غريبا‬ ‫الحقا فظل هذا الشعر‬

‫ً‬ ‫مركزا لألبد؟‬ ‫جعلت المركز‬

‫ً‬ ‫عددا من شعراء المرحلة الجديدة أن يجاب على أسئلة‬ ‫ليست غايتي من هذا الملف الذي حاورت فيه‬ ‫كهذه‪ ،‬بقدر ما كنت أهدف من خالله إلى أن تتعرفوا على بعض األصوات من بين فسيفساء شعرية‬

‫ً‬ ‫شعريا من أجل أن يكون للشعر حضور نقي‬ ‫متنوعة ومختلفة‪ ،‬تقاوم فراغ اللحظة وتقوقعها‪ ،‬وتناضل‬ ‫في بلد واسع كقارة‪ ،‬ومؤلم كتاريخ وتجربة‪ .‬لذلك قمت بطرح مجموعة من األسئلة التي يمكن من خاللها‬

‫ً‬ ‫عموما‪،‬‬ ‫االقتراب من فهم هؤالء للشعر ورؤيتهم العامة حول حضوره في الجغرافيا الجزائرية والعربية‬ ‫وجاءت كالتالي‪:‬كتاريخ وتجربة‪.‬‬

‫الجزائر‪ -‬بشير مفتي‬

‫‪93‬‬


‫ملف‬

‫‪ - 1‬كيف جئت إلى الشعر؟‬ ‫‪ - 2‬ماذا يعني لك الشعر؟‬ ‫‪ - 3‬ما رأيك في الشعر الجزائري‬ ‫الراهن؟‬ ‫‪ - 4‬هل يشعر الشعراء الجزائريون‬ ‫بالتهميش على الخريطة العربية؟‬

‫لميس سعيدي‬

‫الشـعر الجـزائري يعاني الكثير‬ ‫على مسـتوى الـمقـروئية‬ ‫واالهتمام فـي ظل مشـهد‬ ‫ثقافــي مشـتت حـيث يزداد‬ ‫تهـميشـ ًا وعزلة في الداخل‬ ‫قبل الخـارج‬ ‫‪ .1‬يولد الشاعر شاعراً‪ ،‬أي بحساسية خاصة تجاه الوجود‪،‬‬ ‫تجعله يكتشف أن صورة العامل كام هي لغة وسيطة بني‬ ‫البرش‪ ،‬إلخفاء عواملهم الداخلية أو حتى تجاهلها‪ ،‬و لخلق‬ ‫حالة مزيفة من الحوار تبدأ بقمع ذات الفرد املختلفة‪.‬‬ ‫والشعر هو لحظة الوعي بصوتنا الداخيل‪ ،‬لحظة الوعي‬ ‫ِ‬ ‫بفرديتنا وبرضورة أن يكون اإلنسان ذاته‪ ،‬وقد يبدو األمر‬ ‫بسيطاً للوهلة األوىل‪ ،‬إال أنك تكتشف برسعة أن من الصعب‬ ‫أن تكون ذاتك‪ ،‬أي أن تغادر الكورس وتر ّدد لحنك الخاص‪،‬‬ ‫يف عامل يعترب كل ما هو خاص و فردي نشازاً‪ .‬وال أذكر كيف‬ ‫تش ّكلت لحظة الوعي هذه‪ ،‬لكنني أتورط كل يوم يف هذه‬ ‫اللعبة املمتعة‪ ،‬لعبة املرايا التي منيش فوقها بهدوء وخفة‬ ‫وبهلوانية أحياناً‪ ،‬لنبرص أنفسنا من خالل خطانا‪.‬‬

‫الشعر بالنسبة يل هو أن تكون مختلفاً من دون أن‬ ‫‪ِ .2‬‬ ‫تتصنع االختالف‪ ،‬وأن تكون حراً من دون أن تتصنع التح ّرر‪،‬‬ ‫‪94‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫وأن تكون حقيقياً أي هشاً كام يليق باإلنسان‪ ،‬وأن تحاور‬ ‫ذاتك واآلخرين ببالغة الهشاشة وصدقها‪.‬‬

‫‪ .3‬الشعر يف الجزائر يعرف تحوالً حقيقياً يف الرؤية‬ ‫الشعرية عىل مستوى اللغة والعوامل الفكرية والحسية‬ ‫والشعورية‪ ،‬وهذا التحول يواكب التحوالت الكبرية واملستمرة‬ ‫التي يعرفها الشعر يف العامل‪ ،‬لكنه يبقى محصوراً يف تجارب‬ ‫محدودة‪ ،‬رمبا ألن الشعر بطبيعته قليل‪ ،‬لكن مام ال شك فيه‬ ‫أن املشهد الشعري الجزائري يفتقد لحراك وتفاعل حقيقيني‬ ‫عىل مستوى الكم والرؤى الفنية املختلفة‪ ،‬هذا الحراك الذي‬ ‫يفرز بالرضورة تجارب متميزة‪ ،‬ألن كل تط ّور لألدب وللفنون‬ ‫يأيت يف ظل الرتاكم والحوار من خالل القراءة والنقد‪.‬‬

‫‪ .4‬مبدئياً الشعر يعاين الكثري عىل مستوى املقروئية‬ ‫واالهتامم يف العامل العريب‪ ،‬والشعر الجزائري تحديداً يعاين‬ ‫الصعوبات ذاتها داخل الجزائر خصوصاً يف ظل مشهد ثقايف‬ ‫مشتت حيث يزداد الشعر تهميشاً وعزلة يف الداخل قبل‬ ‫الخارج‪.‬‬ ‫وال أعتقد أنه يحق للشعراء الجزائريني التذمر من التهميش‬ ‫عربياً قبل محاربته داخلياً‪ ،‬وهذا ال مينع بأن بعض التجارب‬ ‫املتميزة والجادة تلقى االهتامم عىل املستوى العريب كلام‬ ‫سمحت ظروف التواصل والنرش بذلك‬

‫شاعرة ومرتجمة من مواليد عام‬ ‫‪ ،1981‬صدر لها يف الشعر «نسيت‬ ‫حقيبتي ككل مرة» ‪ ،2007‬و«اىل‬ ‫السينام»‬


‫الصوت الشعري الجديد في الجزائر‬

‫الطيش والهبوب نفتح بابه لندخل يف ملكوت عذابه الجميل‬ ‫والرهيب‪ .‬هكذا نكتشف الشعر أو مينحنا لعنة أن نتبعه يف‬ ‫املجاهيل األكرث وحشة‪.‬‬

‫ميلود حكيم‬

‫شاعر ومرتجم وأستاذ جامعي من‬ ‫مواليد تلمسان عام ‪ ،1970‬صدر له يف‬ ‫الشعر «جسد يكتب أنقاضه» ‪،1996‬‬ ‫و«امرأة للرياح كلها» ‪« ،2000‬أكرث من‬ ‫قرب‪ ..‬أقل من أبدية»‪« ،2003‬مدارج‬ ‫العتمة» ‪.2007‬‬

‫ال شـك أن نسـيان المـشـرق‬ ‫للمغرب له أسـبابه المتعـددة‪،‬‬ ‫لكن نحن أيض ًا نتحمل مسؤولية‬ ‫الترويج إلبداعنا وهذا ما تقوم به‬ ‫بعض الدور والمؤسسات الجادة‬ ‫فـي السنوات األخيرة‬ ‫‪ .1‬الشعر ال نأيت إليه ألنه يخطفنا يف منعطف ما من‬ ‫منعطفات السرية الصامتة أليام نربيها يك تتحول إىل حياة أو‬ ‫عمر بحيث متتلك الوهج الذي ميسها بفيض األبدية وهسيس‬ ‫املطلق‪ .‬والشعر يتحرك مثل املياه الجوفية يف أغوار بعيدة‬ ‫فينا تختار وقتها املناسب يك تتفجر ينابيع يف التضاريس‬ ‫املنسية والجغرافيات الرحالة‪ .‬لهذا يحافظ عىل دهشة‬ ‫املفاجأة وسطوة الالمتوقع‪ .‬وإذ نوتر قوس ذهابنا إىل جهات‬

‫‪ .2‬إن سؤال الشعر أبعد من سؤال املعنى ألنه يحيا يف‬ ‫التخوم الباذخة لهبات الفراغ والصمت‪ .‬هو العتمة التي نقرأ‬ ‫فيها وحشة الوجود‪ .‬باحثني عن ضوء ال يتشكل إال منفلتاً وال‬ ‫نلمسه إال يف تالشيه‪ .‬هو االنتصار ألرضيتنا وتناهينا‪ ،‬ومتجيد‬ ‫الحياة يف نقصانها البهي وتفاصيلها املنسية‪ ،‬وهو مطاردة‬ ‫الظالل واألشباح يف سهو تحرسه الحرقة وترعاه عني الجنون‪،‬‬ ‫هو أثر «العابر بنعال من ريح» وكتابة الدم املسفوح من‬ ‫جرح يرصخ منذ العدم األول إىل اتساع املجهول عىل آفاقه‬ ‫املرعبة‪ .‬لهذا ال نسأل عن معناه إذ منه الفاين والخالد‪.‬‬ ‫وأعتقد أنه البصمة الوحيدة التي ستبقى بعد أن يختفي‬ ‫كل يشء لتدل عىل عبور اإلنسان الرسيع يف صحراء وجوده‪.‬‬ ‫أنا ال أربط الشعر بالتجيل الخطي ملدونات تتآكل بفعل‬ ‫النسيان‪ .‬هو نزف متواصل منذ التهجي األول لألبجدية إىل‬ ‫سم وقول ما مل يقل‪ .‬هو رصخة‬ ‫السحر الرائع لتسمية ما مل ُي ّ‬ ‫العزلة األصلية واألولية وبقايا نداء مل يتشكل يف قوام ميتحن‬ ‫األشكال‪ .‬هو الالشكل املبثوث يف كل يشء‪ ،‬واألنفاس الحية يف‬ ‫الكائنات التي نعرفها وال نعرفها‪ .‬هو بكل بساطة الحياة‪.‬‬

‫‪ .3‬الحديث عن الشعر الجزائري كان عىل الدوام عسرياً‬ ‫ومتعباً‪ ،‬ألنه سؤال الغياب واليتم‪ ،‬سؤال امللتبس يف فوىض‬ ‫املقاربات املعطوبة بخرسها وعجزها‪ ،‬والتي دوماً ترمي به‬ ‫يف مآزق األيديولوجيات العمياء أوالقراءات العرجاء‪ ،‬التي‬ ‫مل متنحه أبداً وجوداً قامئاً بذاته وداخ ًال يف ثرائه املتجيل يف‬ ‫كتابات ونصوص حية‪ .‬لهذا كان هناك دامئاً نقصان يف قراءة‬ ‫املشهد الشعري الجزائري خاصة حني نهمل ثراءه اللغوي‬ ‫املتشكل يف أبجديات رحالة متتد من الدارجة إىل األمازيغية‬ ‫إىل الفرنسية واإلسبانية والعربية ولغات أخرى‪ .‬قراءة‬ ‫النقصان تنىس كل هذا لتتوقف عند تاريخ مشوه ومغلوط‪،‬‬ ‫لهذا ما زال البحث عن الشعر الجزائري جارياً وأحياناً يدلنا‬ ‫آخرون عىل حيويته‪ .‬هل ننىس إذن أنه يكتب يف االختالف‬ ‫املرجأ واالنفتاح املدهش حارضاً من عمق الطاسييل إىل‬ ‫رشفات جرجرة ومن فجر التاريخ إىل آخر صوت ينشد يف‬ ‫الخراب لتنترص الحياة‪.‬‬

‫‪95‬‬


‫ملف‬

‫البحث عن الشعر الجزائري يجب أن يتحرر من سطوة‬ ‫الذين رهنوه بخيارات دوغامئية أجلت البحث فيه وتوجت‬ ‫عىل رأسه نظامني تحتفي بهم السلطة‪ .‬لنعد إىل ما تركوه يف‬ ‫الهامش ولننتسب لشجرة أسامئه املهملة منذ ابن خميس‬ ‫إىل محمد ديب وكاتب ياسني ومالك حداد واملهدي أرششور‬ ‫وجامل الدين بن شيخ والطاهر جاعوط وغريهم‪.‬‬

‫‪ .4‬ميكن أن نشري يف البداية إىل أن املشهد الثقايف العريب‬ ‫تشوبه الكثري من االختالالت‪ ،‬والتي تعيدنا إىل أسئلة أكرث‬ ‫إلحاحاً حول املآزق التي تعانيها أص ًال الثقافة العربية‬ ‫واألمراض التي تتخبط فيها‪ .‬وهنا لن أعود إىل الرصاع القديم‬ ‫بني املرشق واملغرب أو املركز واألطراف‪ ،‬ألن مواقع املساءلة‬ ‫تغريت إذ مل يعد هناك مركز وأطراف‪ .‬املأزق هنا هو غياب‬ ‫التواصل والجدية‪ ،‬وموت الحيوية التي حركت املشهد الثقايف‬ ‫يف الستينيات والسبعينيات‪ ،‬وأنتجت حركات أدبية ثورية‬ ‫أعطت الدفع القوي للكتابة وجعلتها تأخذ موقعها املحرك‬ ‫يف حركة التاريخ ويف الحساسيات الجاملية‪ .‬كان هناك مناخ‬ ‫عام ينترص ملا هو ثقايف وحدايث‪ ،‬كان هناك ديناميكية خالقة‬ ‫اغتالتها النزعات االستهالكية واملشاريع التدمريية التي تعود‬ ‫بنا إىل الحضيض‪ ،‬ثم تفيش ظواهر الشللية والعصابات‬ ‫الثقافية والتكتالت الهشة التي ال تنبني عىل القراءة الجادة‬ ‫ملا يبدع فع ًال‪ ،‬ولكن ملا يروج حتى أننا نقرأ نصاً واحداً‬ ‫بتنويعات مشوهة‪.‬‬ ‫أين هو اإلبداع الشعري واألديب الحقيقي الذي يغري‬ ‫الحساسيات الجاملية ويفجر‪ ،‬ما عدا بعض األسامء التي‬ ‫ما زالت مخلصة لجدية الشعر وخطورته‪ .‬ال أرى شعراً‬ ‫يحفر عميقاً يف أسئلة الراهن واملستقبل ويحمل بشارات‬ ‫جغرافيات مجهولة‪ ،‬وعلينا أن نعيد اكتشاف قارات شعرية‬ ‫أخرى ونذهب أبعد يف سؤال الشعر يف عالقاته املتشابكة مع‬ ‫كل إبداع البرشية منذ فجرها األول إىل آخر زلزال‪ .‬ال شك‬ ‫أن نسيان املرشق للمغرب له أسبابه املتعددة‪ ،‬لكن نحن‬ ‫أيضاً نتحمل مسؤولية الرتويج إلبداعنا وهذا ما تقوم به‬ ‫بعض الدور واملؤسسات الجادة يف السنوات األخرية‪ .‬كام أن‬ ‫معرفة الغرب خاصة فرنسا لكتاب املغرب العريب وشعرائه ما‬ ‫زالت سباقة‪ .‬ينتظرنا عمل كثري للقضاء عىل إساءات الفهم‬ ‫والتفاهم املتواصلة‬ ‫‪96‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫خالد بن صالح‬

‫شاعر من مواليد عام ‪ ،1979‬صدرت‬ ‫له مجموعة أوىل «سعال مالئكة‬ ‫متعبني» ‪ 2010‬وقريباً مجموعة‬ ‫ثانية‪ .‬ينرش أغلب قصائده يف مجلة‬ ‫«أوكسجني» اإللكرتونية وبعض‬ ‫املالحق الثقافية بالجزائر‪.‬‬ ‫‪ .1‬السؤال عن كيفية املجيء إىل الشعر لن تكون اإلجابة‬ ‫عنه سهلة وساذجة كام أعتقد‪ ،‬إمنا يلفها الغموض كام تلف‬ ‫مالءة بيضاء جسد امرأة جميلة‪ ،‬إجابة مفخخة كسيارة تع ُرب‬ ‫شارعاً مليئاً بالراجلني‪ ،‬لتنفجر يف الوقت الخاطئ كالعادة‬ ‫موت أكيد لو أنها استيقظت‬ ‫بفارق زمني مينع تلك املرأة من ٍ‬ ‫لحلم عا ٍر صار فيه الشاعر ظالالً متناثرة‬ ‫كعادتها ومل تستسلم ٍ‬ ‫ألشالء من متزقت أجسادهم يف الشارع‪ .‬من تلك املناطق‬ ‫الشائكة بني املوت والحياة ومن األبواب الخلفية للغة وما‬ ‫التصق عىل جدرانها الهشة من تفاصيل يومية‪ ،‬عجزت‬ ‫أناميل أن تحولها إىل لوحات‪ ،‬من خيبة ومن خسارة وانكسار‬ ‫أطياف‬ ‫وجنون خفي وجرأة عىل حمل سكني صدئة ومصارعة‬ ‫ِ‬ ‫جثث تنام عىل الورق‪ ،‬من ق ٍرب أحمله‬ ‫الذاكرة وتحويلها إىل ٍ‬ ‫كتميمة حب‪ ،‬من باقة أزها ٍر أختلف مع العامل بشأنها‪ ،‬من‬ ‫هوس قديم لتدمري العامل من دون التفكري يف إعادة بنائه عىل‬ ‫شكل قصيدة أو رؤية ناقصة‪ ،‬من كل هذا وأكرث ال أعرف من‬ ‫الهامش الذي أتنفس فيه جرعات إضافية‬ ‫جاء إىل اآلخر يف‬ ‫ِ‬ ‫من أوكسجني الكتابة‪.‬‬


‫الصوت الشعري الجديد في الجزائر‬

‫الحديث عـن الشعـر الجـزائري‬ ‫الراهن ال يكون بمعزل عن غياب‬ ‫سياسة ثقافية ورؤية نخبوية‬ ‫جادة تدير الحوارات وتفتح اآلفاق‬ ‫للموهوبين إلسماع أصواتهم‬

‫‪ .2‬الشعر بالنسبة يل هو تلك الحرب األهلية التي اشتعلت‬ ‫بداخيل وأحيص ضحاياها يف ساحة ال أرى فيها غريي قات ًال‬ ‫ومقتوالً‪ .‬ورمبا هو تلك الجنازة التي أميش فيها محتفياً‬ ‫بالحياة قبل أن أصل إىل القرب‪.‬‬

‫‪ .3‬هناك أسامء شعرية جميلة تبحث عن مكان لها يف‬ ‫زحمة مشه ٍد ال عالقة له بالثقافة واألدب‪ .‬ولعل الحديث‬ ‫عن الشعر الجزائري الراهن ال يكون مبعزل عن غياب سياسة‬ ‫ثقافية ورؤية نخبوية جادة تدير الحوارات وتفتح اآلفاق‬ ‫للموهوبني إلسامع أصواتهم البعيدة واملغيبة بشكل من‬ ‫األشكال‪.‬‬ ‫أسامء نرشت مجموعاتها الشعرية بهدوء من مييش حافياً‬ ‫عىل شاطئ بحر يف يوم مشمس‪ ،‬وال يهم بعدها أن ينتبه‬ ‫الناس لخطاه عىل رملٍ مبلل أم ال‪ ،‬ألن ذاكرة الجامل ال‬ ‫أسباب اإلقصاء‪ .‬وكام قلت سابقاً ُّ‬ ‫يظل للهامش نبضه‬ ‫متحوها‬ ‫ُ‬ ‫املسموع وأصابعه املشاكسة التي تصنع الحدث‪ ،‬وإن وصل‬ ‫صداه متأخراً‪.‬‬ ‫أصدقاء أتواصل معهم بشكل دوري‪ ،‬نتقاسم هذا الهم‬ ‫الجميل‪ ،‬الكتابة الشعرية‪ ،‬ورغم وعورة الطريق وكرثة املآزق‬ ‫استطاعت أن تيضء شيئاً من العتمة‪ .‬وألن الحديث عن‬ ‫الشعر ال يكون حديث عموميات‪ ،‬فإن هناك نصوصاً وقصائد‬ ‫نرثية وتجارب‪ ،‬نقرأ يف اختالف مالمحها نفساً شعرياً جديداً‬ ‫يعرب عن ذاته ويتجاوز عقبات الهيئة الرسمية التي تغرد‬ ‫خارج الرسب‪.‬‬

‫‪ .4‬اإلبداع الحقيقي ال يجزأ‪ ،‬ولن أضيف له صفة أخرى‪.‬‬ ‫ميكنه أن يجد طريقه انطالقاً من القصيدة‪ ،‬من الكتابة يف حد‬ ‫ذاتها‪ ،‬خاصة يف ظل االنفتاح والتواصل التكنولوجي الحديث‬

‫عرب مختلف الوسائط واملواقع اإللكرتونية‪« .‬الفيسبوك» مث ًال‪،‬‬ ‫يحقق ما عجزت الكثري من املنابر الثقافية عىل إنجازه‪ ،‬ودون‬ ‫نوايا مسبقة أو محاوالت محسوبة يجد الشاعر‪ ،‬مهام كانت‬ ‫جنسيته َّ‬ ‫محط إعجاب واهتامم أسامء شعرية مهمة ونقاد‬ ‫وقراء جدد وحتى أصدقاء من مختلف دول العامل العريب‪.‬‬ ‫ما أردت قوله أخرياً وإن كان يل حظ نرش مجموعتي األوىل‬ ‫لدى االختالف بالجزائر والدار العربية للعلوم ببريوت‪ .‬إن‬ ‫التهميش الذي يتحدث عنه البعض ال َّ‬ ‫محل له عىل الخريطة‬ ‫العربية كام يسمونها‪ ،‬أنا شخصياً احتفى يب أصدقاء من‬ ‫سوريا والعراق ولبنان‪ ،‬وآمنوا بتجربتي الشعرية يف بدايتها‪،‬‬ ‫ألتق بهم‪ ،‬قبل أن يلتفت‬ ‫كام كتب عنها نقاد ال أعرفهم ومل ِ‬ ‫إليها أبناء بلدي‪ ،‬وأنا ال ألوم أحداً وليس يل أية مالحظات‬ ‫جانبية أضيفها يف هذا السياق‪ ،‬إمنا أقول أكتبوا أيها الشعراء‪،‬‬ ‫فسيقرأ من ال تتخيلون قصائدكم‬

‫محمد األمين سعيدي‬

‫شاعر من مواليد عام ‪ 1987‬مبدينة‬ ‫املرشية‪ ،‬حاصل عىل ماجستري يف مرشوع‬ ‫الشعرية العربية بني الرتاث والحداثة‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫صدرت له ثالثة أعامل شعرية «أنا يا‬ ‫َ‬ ‫أنت» ‪ ،2008‬و«ضجيج يف الجسد املنيس»‬ ‫‪« ،2009‬ما ٌء لهذا القلق الرميل»‪.2011‬‬ ‫ُ‬ ‫اإلنسان إىل أيّ مكان أرادَ‪ ،‬إىل أي‬ ‫‪ .1‬يحدُ ث ْأن يذهب‬ ‫ُ‬ ‫يحدث ْأن يختا َر‬ ‫جغرافيا قص ّية‪ ،‬حتى ولو كانت يف املخيالِ ‪،‬‬ ‫لنفسه حرفة مع ّينة مهام كانت فيتقنها‪ ،‬لكنه سيتع ّذر عليه‬ ‫‪97‬‬


‫ملف‬

‫حت ًام ْأن يذهب إىل الشعر أو ْأن يختاره ّ‬ ‫ألن ذلك يبدو‬ ‫مستحي ًال فالشعر كام أتص ّو ُر هو الذي يجيء‪ ،‬وهو الذي‬ ‫يختا ُر الوقت املناسب ليمنح لبعض الناس هوية شعرية‬ ‫تضاف إىل هويتهم اإلنسانية فيتم ّلكهم نوع من االنفصام‬ ‫الجميل‪ ،‬ويتجاذبهم عاملان‪ :‬العامل الحقيقي والعامل املتخ ّيل‬ ‫أوضح كيف جاءين الشعر ُ‬ ‫الذي ينتجه الشعر‪ .‬وليك ّ‬ ‫أعرتف‬ ‫ّ‬ ‫بأن أ ّول اصطدامي به يف صباي كان عن طريق الرسم‪ ،‬هذا‬ ‫الفن التشكييل الذي تجمعه بالفنّ الشعري أكرث من عالقة‬ ‫ّ‬ ‫لعل أغلبها تجتمع يف عنرص التشكيل‪ ،‬وقد حدث هذا اللقاء‬ ‫األول ببساطة ألنني ُ‬ ‫كنت عىل كل ورقة أحاول تشكيل مالمح‬ ‫معينة لكائن ال أعرفه‪ ،‬كائن غامض بداخيل‪ ،‬عرفت وبوعي‬ ‫رهيب ّأن الرسم الذي أبرع فيه لن يتم ّكن من التعبري عنه‪،‬‬ ‫وكان ذلك الكائن هو الشعر الذي تك ّرم فأرشق يف حيايت يف‬ ‫سلب مني لذة تشكيل رؤاي باأللوان‬ ‫سن مبكرة‪ .‬وهو إذ َ‬ ‫املعروفة منحني كوناً من لغة أمزجه كام شئت‪ ،‬وأل ّون به‬ ‫العامل بحرية وبهجة أكرب حتى يف أكرث اللحظات حزناً‪.‬‬ ‫أستطيع‬ ‫‪ .2‬الشعر بالنسبة يل يعني أشيا َء كثرية‪ ،‬لكنني‬ ‫ُ‬ ‫حرصها يف أمرين مهمني؛ األول هو ّأن الشعر إيقاع وجود‬ ‫مختلف‪ ،‬والثاين أنه زمن بال بداية وال نهاية‪ .‬وإذ أرجع كل‬ ‫تجربة أعيشها إىل ذلك اإليقاع وأربطها به سلباً أو إيجاباً‪،‬‬ ‫أرى األشياء التي أعرفها تختلف يف كل مرة أنظر إليها‪،‬‬ ‫وتتح ّول إىل مرآة تكشف يل مالمح ذايت ومالمح العامل يف كل‬ ‫مرة من زاوية معينة وبدرجات لونية متفاوتة‪ .‬أما ما ميثله‬

‫بأن اإلخـوة المشـارقـة‬ ‫أعتقد ّ‬ ‫يجـهلـون كــثير ًا مـن إنتاجنا‬ ‫الشـعري واألدبي إن لـم يكن‬ ‫أغـلبه‪ ،‬ويغـفلون أهـمية هذا‬ ‫دم‬ ‫الشعـر العربي الذي أنتجـه ٌ‬ ‫آخـر وبيئة جزائرية مغايرة‬

‫‪98‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫الشعر بالنسبة يل من حيث إنه زمن ممت ّد بال بداية وال‬ ‫نهاية‪ ،‬فهو ما يجعلني عىل وعي ّ‬ ‫ْ‬ ‫ليست‬ ‫بأن اللحظة الشعرية‬ ‫كل ما نعبرِّ عنه أو نقو ُله شعراً‪ ،‬ولكنها تلك التي تكشف عن‬ ‫قيمة باقية يف اإلنسان تستطيع البقاء واالستمرار أمام أمواج‬ ‫الفناء القادمة عام قليل‪.‬‬ ‫الشعر إذن إيقاع مختلف وزمن ممتدّ‪ ،‬هو هذا يف نظري‪،‬‬ ‫غري ّأن كل مصيبة وكل بلية تخرج حني يتح ّول اإليقاع الذي‬ ‫ينظر به الشاعر إىل الوجود‪ ،‬وهو يف الغالب إيقاع كئيب‪،‬‬ ‫ألن ّ‬ ‫وسيتح ّول حت ًام‪ ،‬إىل زمن ممتدّ‪ّ ،‬‬ ‫كل أمل سيتضاعف‬ ‫ويستمر‪ ،‬وكل تناقضات العامل املعارص ستصبح غذاء‬ ‫شعرياً يحولنا إىل كائنات مأساوية بامتياز‪َّ ،‬‬ ‫ولعل هذا ما‬ ‫ُ‬ ‫يجعل نظريت إىل األشياء‪ ،‬وأنا ال أزال شاباً من حيث الزمن‬ ‫البيولوجي‪ ،‬تكاد تكون نظرة جنائزية تكشف عن رغبة يف‬ ‫استكناه أرسار األشياء لكنها تضمر وجعاً م ًّراً تحتضنه كثافة‬ ‫الزمن الشعري التي تكفل لهذا الفن قول كل يشء ّ‬ ‫بأقل كالم‬ ‫ممكن‪.‬‬

‫‪ .3‬أعتقد وأنا من املتابعني للشعر الجزائري بحكم‬ ‫تخصيص‪َّ ،‬‬ ‫بأن الراهن الشعريّ الجزائري قد أنتج شعراء‬ ‫يختلفون يف الحساسيات ويف األشكال الشعرية‪ ،‬وهذا أمر‬ ‫جيد‪ ،‬بل إنني أرى ّ‬ ‫بأن جيل الشباب الذي أنتمي إليه يكتب‬ ‫متحرراً من كثري من اإلرغامات التي ْ‬ ‫عانت منها األجيال‬ ‫السابقة له‪ ،‬وعليه باستطاعته ْأن ينصت بعمق لصوت الشعر‬ ‫بعيداً عن ضجيج األيديولوجيات والشعارات القاتلة‪ .‬غري ّأن‬ ‫املشهد الشعري عندنا بحاجة إىل تصفية‪ ،‬فالساحة الشعرية‬


‫الصوت الشعري الجديد في الجزائر‬

‫تعج بأسام ٍء عديدة بعضها يفتقر إىل تحقيق أدىن معايري الفن‬ ‫ّ‬ ‫الشعريّ ‪ ،‬وبعضها اآلخر يعيش وهم الدونكيشوتية املعارصة‬ ‫التي تعيشها أسامء أدبية كثرية يف مختلف الدول العربية‪.‬‬ ‫ويبدو يل ّ‬ ‫بأن سبب هذا كله هو غياب النقد الحقيقي الذي‬ ‫النص بالشكل املطلوب‪ ،‬بل ّإن النصوص التي تكتب‬ ‫يتابع ّ‬ ‫وتنرش عندنا ّ‬ ‫تظل بعيدة عن عني الناقد املنشغل بإعادة‬ ‫اجرتار النظريات النقدية التي انتهت منها األمم منذ عقود‪،‬‬ ‫وامللتهي عن النص الجزائري بنصوص أخرى خارجية لها من‬ ‫يتابعها أو يدرسها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وللحقيقة ّ‬ ‫فإن عديدا من األسامء الشعرية الجيدة والجادة‬ ‫ميلود خيزار‬ ‫شح الفضاءات التي‬ ‫يف الجزائر تظل مه ّمشة داخلياً أمام ّ‬ ‫شاعر من مواليد عام ‪ 1963‬ببسكرة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫اإلنسان يزعم ّ‬ ‫بأن أفضل األعامل‬ ‫تحتضن الشعر‪ ،‬حتى ليكاد‬ ‫صدرت له مجموعتان شعريتان «رشق‬ ‫ترزح تحت جبالٍ من اإلهامل واإلقصاء‪ ،‬وهي برصاحة تقاوم‬ ‫الجسد»‪ ،‬و «إين أرى»‪ .‬حائز عىل عدة‬ ‫بصعوبة‪ ،‬أمام استفحال األسامء الرديئة التي تصادفنا يف كثري جوائر شعرية ويعمل استاذاً ويشتغل‬ ‫ْ‬ ‫أصبحت بفعل فاعل تسمح‬ ‫من امللتقيات الشعرية‪ ،‬التي‬ ‫باملرسح والرتجمة‪.‬‬ ‫لبعض من ال عالقة له بالشعر ال من قريب وال من بعيد‬ ‫بالظهور عىل حساب الشعراء الحقيقيني‪.‬‬

‫بأن اإلخوة املشارقة يجهلون كثرياً من إنتاجنا ‪ .1‬تتسع الحياة كمعنى وكصورة‪ ،‬وتصبح الكتابة تحريراً‬ ‫‪ .4‬أنا أعتقد ّ‬ ‫الشعري واألديب إن مل يكن أغلبه‪ ،‬ويغفلون أهمية هذا الشعر للغة من سجن القاموس‪ ،‬وتحريراً لإلنسان من «معنى‬ ‫دم آخر وبيئة جزائرية مغايرة تشتمل‬ ‫العريب الذي أنتجه ٌ‬ ‫الوجود» إىل «الوجود مبعنى»‪ .‬هكذا أعي الكتابة وأدرك‬ ‫عىل خصوصيات وانتامءات عربية وأمازيغية وإسالمية‬ ‫الشعر‪ ،‬الشعر الذي ال يصف الحياة بل يقولها‪ ،‬يقبض عليها‬ ‫ائري‬ ‫ومغاربية وإفريقية‪ ،‬وكل هذا تن ّوع مينح للنص الجز‬ ‫متلبسة بخيانة اللغة‪ ،‬عىل رسير املعنى‪.‬‬ ‫خصوصيته وأهميته الكبرية‪.‬‬ ‫‪ .2‬أنا أفهم الشعر بوصفة محاولة عابثة ال لفهم الحياة‬ ‫ويف الحقيقة ّإن الشعراء الجزائريني مهمشون عربياً‪ ،‬وهذا‬ ‫«العبثية» بل لخلق «معادل رمزي» متعال وشفاف وحا ّر‬ ‫أمر محزن‪ ،‬فنحن نكتب شعراً يوغل يف هويته الجزائرية‬ ‫ألبعادها السطحية الكثيفة الباردة‪ ،‬وال أعتقد أن مشكلة‬ ‫املوغلة أساساً يف خصوصيات األمة والحضارة العربية‪ ،‬ولنئ‬ ‫الكتابة هي يف «ماذا نقول» بل يف «كيف نقول»‪.‬‬ ‫كنا نحن الجزائريني واملغاربة عموماً نبحث عن اإلنتاج‬ ‫ً‬ ‫مثة زعم مبوت الشعر‪ ،‬خصوصا يف املجتمعات املتخلفة‪ ،‬بعد‬ ‫األديب املرشقي ونحتفي به أميا احتفاء‪ّ ،‬‬ ‫فإن كثرياً من اإلخوة‬ ‫أن تراجعت أشواقها من سؤال الحياة إىل مطلب العيش‪ .‬إنها‬ ‫املشارقة الذين يزوروننا ونلتقيهم يف املهرجانات وامللتقيات‬ ‫أعراض مرض الحياة بعد أن تفىش االستبداد مبختلف أشكاله‬ ‫يعرتفون بأنهم ال يعرفون عن األدب والشعر الجزائريني إال‬ ‫يف أوصالها‪ .‬ثم إن الشعر ذاته مل يعد يحتمل ضجيج «صبيان‬ ‫القليل‪ ،‬هذا ْإن مل يكن بعضهم يعرتف بأنه يجهله متاماً‪.‬‬ ‫األيديولوجيا» يف بيته‪ .‬الكتابة مئة باملئة تجربة والباقي‬ ‫وأمتنى حقاً أن يعاد بناء جسور التواصل الثقايف بني الدول‬ ‫العربية حتى تزاح هذه الغربة التي يعيشها كثري من الكتاب موهبة‪ .‬ال وحي وال نبوءات وال تفاسري «أسطورية» لفعل‬ ‫هو من لحم التاريخ الحي‪ .‬إنه تفاعل واع مع تلك النصوص‬ ‫الذين تقربهم الحدود السياسية و«الثقافية» داخل بلدانهم‬ ‫العظيمة والتجارب الخصبة لإلنسان يف عالقته بالحياة ورؤيته‬ ‫وبعيداً عن متناول القارئ العريب‬ ‫‪99‬‬


‫ملف‬

‫لها وتعبريه الخاص عنها‪.‬‬ ‫وال يزال الكالم الشعري يتوق إىل الوحدة الكونية‪ ،‬مفجوعاً‬ ‫بضياع املعنى ‪ -‬اإلشارة‪ ،‬وممزقاً بني العودة «املنفى»‬ ‫ونداءات التاليش‪ .‬ولهذا يبدو كاغنية جريحة تحاول الرقص‬ ‫عىل ايقاع يشبه الدوامة‪.‬‬ ‫الشعر بالنسبة يل‪ ،‬هو تعويض رمزي عن «فشيل الذريع» يف‬ ‫استعادة «أمي» من قبضة الفقد وعن تقبيل العبثي لهدية‬ ‫الحياة امللغمة بالشعور الفادح بأن «طف ًال مذبوحاً يتخبط‬ ‫بداخيل يف دم الكالم»‪ .‬يساورين شعور دائم حني أكتب بأنني‬ ‫أدون مويت‪ ،‬ال أدري ملاذا كل يشء ينتهي أو يبدأ من املوت‪،‬‬ ‫كام لو أن املوت هو الثابت الوحيد يف معادلة الوجود‪ .‬كل‬ ‫يشء ينتهي إىل تلك الرغبة اآلرسة يف املحو والتاليش‪ ،‬إىل‬ ‫عدمية األبيض‪ .‬كأن الحياة تنتظرين عند الضفة األخرى من‬ ‫الحب برغبة التاليش‪ ،‬وإىل الشعر برغبة‬ ‫الوجود‪ ،‬أذهب إىل ّ‬ ‫كتابة مويت‪ .‬الشعر حفل عزاء فادح الرقص‪ .‬إذن فليكن‬ ‫الرقص عىل ايقاع حا ّر وليكن الجسد هو «الطعم» و«اللغم»‪.‬‬ ‫مل أكن يوماً سعيداً مبا أكتب ألنني ال أكتب أشياء سعيدة‪،‬‬ ‫قد أصاب بنوبة فرح عابر نتيجة انجاز عابر ما‪ .‬ثم إن الكتابة‬ ‫مرض مزمن و لذيذ متاماً كفعل الحب‪.‬‬ ‫‪ .3‬يف رصده الذيك والبصري للخطاب الشعري الجزائري‬ ‫الراهن يكون الدكتور «أحمد يوسف» يف «نص اليتم أو‬ ‫الجينيالوجيا الضائعة» قد وضع أصابعه عىل السامت‬ ‫املهمة لهذا النص‪ .‬أوال بكونه «يتي ًام» أي ال يتىكء إىل مرياث‬ ‫شعري أو مرجعية شعرية يعتد بها‪ ،‬وثانياً بكونه تعبرياً عن‬

‫«حساسية» ملغمة باسئلة الهوية واللغة والوجود واملصري‪،‬‬ ‫وهذا ما تضمنته ما سامه «تيامت النص» كتيمة األب‬ ‫والجسد واملوت واملاء‪ .‬يف بيت هذه «الحساسية» تتعانق‬ ‫أصوات ربيعة جلطي‪،.‬عثامن لوصيف‪ ،‬لطيب لسلوس‪،‬‬ ‫مصطفى دحية‪ ،‬عيل مغازي‪ ،‬سليمى رحال‪ ،‬عبد الله الهامل‪،‬‬ ‫ميلود حكيم‪ ،‬أبو بكر زمال‪ ،‬بوزيد حرزالله‪ ،‬ابراهيم صديقي‪،‬‬ ‫مليس سعيدي‪ ،‬محمد األمني سعيدي‪.‬‬ ‫وأعتقد أن هذه األصوات اكتسبت غناها من كونها مفتوحة‬ ‫عىل الرتاث العريب «املتحول» بتعبري أدونييس وعىل تجارب‬ ‫الشعر األورويب والفرنيس تحديداً وتلك غنائم الحرب ومنها‬ ‫«غنيمة اللغة»‪ .‬وهذا مل ميس أصالتها يف يشء بقدر ما منحها‬ ‫الرثاء والتنوع وروح املغامرة بتجربة الكتابة‪ .‬فيام اسرتاحت‬ ‫«القافلة» عند مشارف الخطابة مطمئنة لصيغة «الجمع»‬ ‫فكراً و تعبرياً‪.‬‬

‫‪ .4‬هناك الكثري من الشغل تقوم به أقالم أكادميية شابة‬ ‫عىل مستوى املعاهد األدبية الجامعية ولكن انفصال البحث‬ ‫األكادميي عن حركة الحياة الثقافية وطابعها الكرنفايل‬ ‫هناك الكثير من الشـغل‬ ‫البائس‪ ،‬وألسباب غري علمية يتم تجاهل هذه التجارب ألن‬ ‫تقـوم به أقـالم اكاديمية شابة الجزائر هي بلد الفرص التاريخية املهدورة بامتياز‪ ،‬وألن‬ ‫على مسـتوى المعاهد األدبية‬ ‫املؤسسات الثقافية غارقة يف وحل السيايس واأليديولوجي‬ ‫الجامعية وبسبب انفصال البحث والعابر‪ ،‬وألنهم يكتبون بعربية «مختلفة» وبحرية أكرب‬ ‫وبحساسية لغوية أعمق وبرؤية «محرجة» لتلك الوثوقية‬ ‫األكاديمي عـن حركة الـحياة‬ ‫العمياء باملايض‪ .‬ال أظن أنهم جاهزون للوقوع يف حفرة‬ ‫الثقافية‪ ،‬يتم تجاهل هذه التجارب «املغرب و املرشق»‪ ،‬وال يف املربعات الضيقة التي ترسمها‬ ‫دوائر «اللعب الصغري» باألسئلة الكبرية‬

‫‪100‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫الصوت الشعري الجديد في الجزائر‬

‫عبد القادر حميدة‬

‫شاعر صدر له «أثاث من‬ ‫رائحتها»‪ .2011‬حائز عىل الجائزة‬ ‫األوىل يف مسابقة الشاعر الكويتي‬ ‫الراحل عيل الصايف عام ‪ ،2004‬التي‬ ‫نظمها موقع مدينة عىل هدب طفل‪.‬‬

‫‪2-1‬‬

‫هناك أسئلة نتهرب منها دامئا داخل ذواتنا‪ ،‬رمبا لعجزنا عن‬ ‫فهم كيمياء األحاسيس واإلحاطة بكنهها‪ ،‬أو ألننا ال ندري‪،‬‬ ‫هناك من يكون مجافيا لرغبة الحفر داخله‪ ،‬فيقول بكل‬ ‫بساطة (ال أدري)‪ ،‬وهناك من يكون مسكونا برغبة عارمة‬ ‫للفهم‪ ،‬فيواجه رشاسة السؤال مبا ميلكه من أدوات‪ ،‬وألن‬ ‫(الجواب شقاء السؤال) كام يقول موريس بالنشو‪ ،‬فإن يب‬ ‫رغبة القتناص هذه اللحظة ملحاولة تعرية ما ظل ينتابني‬ ‫طوال أربعة عقود (هي عمري الدياكروين لحد اآلن) وأنا‬ ‫الذي ظللت عازفا عن ذلك ال أرتضيها إال نصا يقولني مبا شاء‬ ‫من تجل‪ ..‬كتابة متحو فعل الكتابة ذاته‪ ..‬كتابة تقتفي أثري‬ ‫حينام أهم باقتفاء أثرها‪..‬‬ ‫الشعر هو روح الحياة وجوهرها‪ ،‬وهو رس الوجود‪ ،‬بلور‬ ‫مبثوث يف العامل ال يراه إال املبرصون‪ ،‬أدرك أن أصل األشياء‬ ‫لحظة شعر جميل‪ ،‬وأن نهاية األشياء شعر أجمل‪ ،‬وأنه ما‬ ‫بني البداية والنهاية يقف الشعر عند كل منعطف‪ ،‬بكل‬ ‫بهاء يحيي املارة الذين ال يلقون عليه التحية إال ملاماً‪ .‬وال‬ ‫يكون الشعر شعراً‪ ،‬إال إذا كان مختلفاً‪ ،‬فلغة االختالف هي‬ ‫أسمى تجلياته‪ .‬أؤمن أن للشعر تجلياته‪ ،‬وأن اللغة تتطلع‬

‫في الجزائر ما يزال الشعر‬ ‫الراهن أسـير ًا‪ ،‬سـاكن ًا‪ ،‬يمـشي‬ ‫الهـوينى‪ ،‬يدور في فلك الشكل‪،‬‬ ‫ال تكـاد استفهامـاته تجـاوز ذلك‪،‬‬ ‫والسـبب فـي ظـني يعـود إلى‬ ‫قـصور في رؤيتنا للحداثة ومـا‬ ‫بعدها‪.‬‬

‫دامئاً الحتواء تلك التجليات‪ ،‬وأنها تضيق عن ذلك أحياناً‪،‬‬ ‫وتضيق بذلك أحياناً‪ ،‬لكنها قلقة ال تستكني‪ ،‬وقلقها هو‬ ‫جاملها‪.‬‬

‫‪ .3‬هنا يف الجزائر ما يزال الشعر الراهن أسرياً‪ ،‬ساكناً‪،‬‬ ‫مييش الهوينى‪ ،‬يدور يف فلك الشكل‪ ،‬ال تكاد استفهاماته‬ ‫تتجاوز ذلك‪ ،‬والسبب يف ظني يعود إىل قصور يف رؤيتنا‬ ‫للحداثة وما بعدها‪ ،‬هنا أضم صويت لصوت الشاعر الكبري‬ ‫أدونيس الذي الحظ أن كتاب قصيدة النرث هم أيضاً مل‬ ‫يستوعبوا الحداثة‪ ،‬حيث انتقلوا من شكل إىل شكل‪ ،‬وظل‬ ‫املعنى ساكناً‪ ،‬كأنهم غريوا لباساً بلباس‪ .‬إنني أرى أننا‬ ‫بحاجة إىل وخزات أو هزات كهربائية‪ ،‬تجعلنا ندرك أنه‬ ‫منذ عرص النهضة العربية‪ ،‬عرص األسئلة التي مل نجب عليها‬ ‫بعد ونحن نراوح مكاننا‪ ،‬ذات االستفهامات مر عليها أكرث‬ ‫من نصف قرن‪ ،‬واجتاحتها عواصف ورعود‪ ،‬وهي ما تزال‬ ‫تراوح مكانها‪ ،‬علينا أن نعطي مسألة بعث العقل العريب‪،‬‬ ‫وإعادة تكوينه‪ ،‬أهمية قصوى‪ ،‬فال ميكن ملجتمع مل يدخل‬ ‫جوهر الحداثة أن يكتب شعراً حديثاً‪ ،‬وإمنا شعرنا ال يكاد‬ ‫يجاوز ناطحات السحاب التي نبنيها هنا وهناك‪ ،‬لكننا‬ ‫عاجزون عن إنتاج اآلليات التي توصلنا لبنائها‬ ‫الرسومات ‪ :‬هرني ماتيس‬

‫‪101‬‬


‫فيسبوك‬

‫قصيدة الفيسبوك‬

‫كالم افتراضي فوق رقعة بيضاء‬ ‫تفتقر قصيدة الفيسبوك للديناميكية والقدرة على التحاور‪ ،‬خمولة وسلبية إلى حد بعيد‪ ،‬بحيث ال‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫تحول صفحة الشاعر إلى منبر نقاش‪.‬‬ ‫جداال‪ ،‬وال تطرح إشكالية بين القراء وال‬ ‫تستفز وال تقيم‬

‫مازن معروف‬

‫قدمياً‬

‫وحديثاً‪ ،‬سادت العبارة امللتبسة‬ ‫والشهرية «يحق للشاعر ما ال يحق‬ ‫لغريه»‪ .‬وكان من حق الشاعر‬ ‫التالعب بالقواعد‪ ،‬والبديهيات اإلنشائية‪ ،‬وكتابة العبارة‪،‬‬ ‫قص حرف فيها أو استبعاده‪،‬‬ ‫والتحريك ومط الكلمة أو ّ‬ ‫إىل ما هنالك‪ .‬فالشاعر مل مينح إلنجاز فنِّه‪ ،‬سوى مستوعب‬ ‫لغوي محدد‪ ،‬وتفويض باستعامل العنارص الجوانية وال ّربانية‬ ‫املحيطة به‪ ،‬سواء تلك التي تعلقت باألنا وتفاعالتها‬ ‫وذاكرتها أو الطبيعة والتفاصيل واألحداث اليومية والسياسة‬ ‫والدين‪ ..‬إلخ‪ .‬كل هذه كانت ما ميكن تسميته «وسائط‬ ‫املضمون»‪ ،‬أما بالنسبة لوسائط متثيل القصيدة أو إظهارها‪،‬‬ ‫فقد تساوى الشاعر متاماً مع آخرين يف استخدامها‪ .‬ومل‬ ‫يشط يف الحق عن سواه‪ .‬وسواء َكت َ​َب متناوالً السياسة‬ ‫العامة‪ ،‬أو الدين أو النظام العائيل‪ ،‬أو االجتامعي‪ ،‬أو حتى‬ ‫الفني والشعري‪ ،‬كان محتاجاً بداية‪ ،‬وكغريه من الكتبة‬ ‫والتالميذ ومنشدي املعرفة‪ ،‬أللواح الصلصال والطني‪،‬‬ ‫والصخر‪ ،‬ويف مرحلة الحقة الورق املفروط‪ ،‬ومن ثم املج ّمع‬ ‫بشكله الحايل‪ ،‬ككتاب‪ .‬قبل أن ينصاع أخرياً‪ ،‬إىل سلطة‬ ‫وسائط اإلنرتنت‪ ،‬وتحديداً‪ ،‬الفيسبوك‪.‬‬ ‫تح ُّول الفيسبوك‪ ،‬كمنصة للشاعر‪ ،‬وراءه جملة من األسباب‪،‬‬ ‫قد يكون أهمها‪ ،‬عدم اهتامم دور النرش بالشعر قياساً‬

‫‪102‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫بالكتب األخرى‪ ،‬وحاجة الشاعر «يك ال نقول جوعه»‬ ‫لجمهور يتفاعل معه أو يفتعل معه‪ ،‬أو فيه‪ ،‬القصيدة‪.‬‬ ‫الفيسبوك ميديا‪ ،‬وامليديا مل ُتستحدث إال لتَست ِغل و ُتس َت َغل‪.‬‬ ‫وطأت َ‬ ‫ْ‬ ‫أرض‬ ‫وإذا كانت رشيحة العامة «أو الجمهور» قد‬ ‫الفيسبوك قبل أغلب الشعراء‪ ،‬وتنبهت له‪ ،‬كمساحة عرض‬ ‫و«تواصل»‪ .‬فإن الشاعر‪ ،‬بإنزال صورته «مجازياً»‬ ‫و«تفاعُ ل»‬ ‫ُ‬ ‫يف الفيسبوك والقبول به كفضاء تواصيل رضوري‪ ،‬يكون قد‬ ‫انساق إىل حيث يتواجد الجمهور‪ ،‬بدل التفرد يف مساحة‬ ‫شعرية ُ‬ ‫يفلش فيها صوته عىل املأل ويستدعي جمهوره إليه‬ ‫بالتفاعل مع هذا الصوت‪ ،‬سلباً أو إيجاباً‪ .‬ذلك أن أغلب‬ ‫بروفايالت الشعراء‪ ،‬تح ّو ْ‬ ‫لت يف الفيسبوك إىل صفحات دعاية‬ ‫لقصائدهم‪ ،‬قصائد تبث عىل مدى األربع وعرشين ساعة‪،‬‬ ‫كرشيط األخبار‪ ،‬الذي يريدك أن تفجع ملحتواه‪ ،‬أو ُتذهل‪،‬‬ ‫وإن بالقوة‪.‬‬ ‫بحث الشاعر عن الجمهور‪ ،‬ومن ثم رمى نفسه يف أحضانه‪،‬‬ ‫ومن بعدها التفاعل معه برسعة فائقة‪ ،‬مظاهر ملتبسة‬ ‫تناقض بشكل صارخ األزمة التي مير بها الشعر وواقع‬ ‫افتقاده إىل التواصل مع الجمهور‪ ،‬عىل األقل بالصيغة‬ ‫الورقية‪ .‬فلو كان كل هذا الجمهور‪ ،‬موجوداً بفاعلية عىل‬ ‫أرض الواقع وسوق النرش ومعارض الكتب‪ ،‬لكان الشعر يف‬ ‫كتب الشعراء تحديداً‪ ،‬عام ًال قوياً يف‬ ‫أحسن حال‪ ،‬وألَ ّل َف ْت ُ‬


‫قالت عالمك اصبر اصبر ياذا‬ ‫الصحراء‬ ‫يصفون لي‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫حب َة رمل‬ ‫وينسون َّ‬ ‫َ‬

‫ُ‬ ‫تركض‬ ‫في موجةٍ مازالت‬ ‫على البح ِر‬

‫الحنًان‬ ‫تركد وخلك فبالك الفذ‬

‫والمشكوك اذا فاض الشوق منى‬ ‫واضرم فى الضلوع هيامى‬

‫تننزهت روحى سكرى من فرط‬

‫يصفون خطواتي الكثيرة‬ ‫َ‬

‫االشجان ود مستهام‬

‫بينما ال يعرف البحر‬

‫جمالها البسام‬

‫مفتونة احالمى اطياف تزاور‬

‫على شاطئ البحر‬ ‫أي موجة َ‬ ‫غ ِر ْقت‬ ‫في ِّ‬

‫‪364٫500‬‬

‫يا لوعة قلبى من عيون فتك‬ ‫نظراتها السهام‬

‫تيهى انت عشق بقلوب مكمن‬ ‫عشقها الغرام‬

‫بالنسبة لجمهوره عرب الفيسبوك‪ ،‬إىل مادة شبيهة بتلك‪،‬‬ ‫للمرا َقبة واالستهالك‪ ،‬ومرضاة هذا الجمهور‪ .‬بدل أن يحافظ‬ ‫«وقد يكون هذا مستحي ًال بالنظر إىل املنهج الذي يعمل‬ ‫مبوجبه الفيسبوك» عىل موقعه يف مبتغاه األسايس‪ ،‬بصفته‬ ‫ُم ْخ ِر َج القصيدة‪ ،‬أي القصيدة التي ال ميكن أن تخلو من‬ ‫قيمة أدبية ما يف كل ّيتها‪.‬‬

‫تغذية االقتصاد‪ ،‬وتنشيط دور النرش‪ ،‬وعليه‪ ،‬لكانت دور‬ ‫النرش قد أولت الشعر االهتامم األسايس‪ ،‬وبحثت بدورها‬ ‫عن الشعراء‪ ،‬وو ّفرت عليهم كل العناء وأحياناً التذلل أو‬ ‫استجداء الوساطات لنرش أعاملهم‪ .‬هذه الظاهرة إذاً‪ ،‬زاهرة‬ ‫انتياب الشاعر إىل الجمهور‪ُ ،‬ت َس َّجل أوالً وأخرياً‪ ،‬نقط ًة ضد‬ ‫الشاعر‪ .‬فهي ال تكشف فقط اعرتافه ضمنياً بوجود مشكلة‬ ‫ما «قد تكون تتعلق بقصيدته أو اسلوب كتاباته‪ ،‬أو مواقفه‬ ‫أو أو‪ ،»..‬وإمنا تبينِّ هلع هذا الشاعر من وحدته‪ ،‬وتوقه‬ ‫رضا إلكرتوين‬ ‫لصب صوته يف الجامعة‪ .‬األمر مشابه لتلفزيون الواقع‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫لكننا نشري إىل نقطتني إيجابيتني هنا‪ ،‬األوىل تتعلق بغاية‬ ‫ويومياته‬ ‫الضيف‪،‬‬ ‫خطوات‬ ‫اقبة‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫للمشاهدين‬ ‫ميكن‬ ‫بحيث‬ ‫الشاعر‪ .‬فهو إذ يدفع بنفسه يف قنوات الفيسبوك وغريها‬ ‫من خلف الشاشة «وقد‬ ‫من مواقع التواصل‬ ‫يكون تلفزيون الواقع‬ ‫االفرتايض‪ ،‬يحمل‪،‬‬ ‫الشاعر‪ ،‬يتحول بالنسبة لجمهـوره‬ ‫أحسن حاالً ألنك عىل‬ ‫بغض النظر عن‬ ‫َ‬ ‫عبر الفيسبوك‪ ،‬إلى مادة للمـراقبة‬ ‫األقل تسمع الشخص‪،‬‬ ‫مستوى شهوته‬ ‫وبإمكانك أن تتعرف‬ ‫واالستهالك‪ ،‬ومرضاة هذا الجمهور‪ .‬بدل‬ ‫يف تعزيز اإليغو‬ ‫ً‬ ‫عىل منط حياته‪ ،‬وأحيانا‬ ‫الخاص به‪ ،‬اّ ً‬ ‫هم‬ ‫أن يحافظ على موقعه في مبتغاه‬ ‫يأتيك بال أقنعة‪ ،‬باهتاً‬ ‫نبي ًال لنرش قصيدته‬ ‫ْ‬ ‫ج القصيدة‬ ‫األساسي‪ ،‬بصفته ُمخ ِر َ‬ ‫وسخيفاً‪ ،‬لكن شفافاً»‪،‬‬ ‫والرتويج لها‪ .‬هو‬ ‫ليصبح هذا الكائن‬ ‫أيضا يدرك هنا‪ ،‬أن‬ ‫ا ُملشاهَ د عام ًال يضاف إىل العوامل التي تدفع بحياة الناس‬ ‫اعرتاف الجمهور بقصيدته أوالً وتثبيت هذا االعرتاف ثانياً‪،‬‬ ‫يف طاحونة االستهالك وإهدار الوقت‪ .‬الشاعر هنا‪ ،‬يتحول‬ ‫هام العامد األساس لرفع أناه‪ ،‬وإن عدم وجودهام يد ِّمر تلك‬ ‫‪103‬‬


‫فيسبوك‬

‫األنا‪ .‬اعرتاف يأيت معطوفاً عىل رشط تواصل الجمهور معه‬ ‫وتجسيد هذا التواصل مبوقف إلكرتوين «الـ«اليك» مث ًال»‪،‬‬ ‫رسياً‪ ،‬يفقده‬ ‫بدالً من إبقائه تواص ًال روحياً‪ ،‬عاطفياً‪ ،‬خاصاً‪ّ ،‬‬ ‫إظهاره بهذا الشكل االستعرايض‪ ،‬واملتفجع «ميكن تخ ّيل فم‬ ‫مفتوح وعينني واسعتني إىل أقىص حد أمام نص»‪ .‬ونعني‬ ‫بالجمهور ككتلة‪ ،‬أو عدد عليه أن يكون هائ ًال و«ناطقاً»‬ ‫«أي مع ّلقاً إيجاباً عىل القصيدة»‪ .‬النقطة االيجابية الثانية‪،‬‬ ‫أن هذا الجمهور الشعري «العريض»‪ ،‬ش ّغال أساساً عىل‬ ‫فيسبوك‪ ،‬ومثله مثل الشاعر‪ ،‬محتاج لوسيلة ما‪ ،‬أو حيلة‪،‬‬ ‫للتحاور مع صاحب القصيدة‪ ،‬وإن أذعن هذا الجمهور‬ ‫لواقع حفظ التواصل بينهام بطريقة ال تخلو من شبهة‬ ‫بطريركية‪.‬‬ ‫إن ما بني الشاعر وجمهوره أو قارئه‪ ،‬عىل الفيسبوك‪ ،‬هو‬ ‫نوع من العالقة التواطوئية االنتفاعية‪ ،‬إىل أبعد الحدود‪.‬‬ ‫فالشاعر الذي يبتغي كسب تأييد لقصيدته‪ ،‬عليه‪ ،‬تأدية‬ ‫امتصاص االعجاب‬ ‫عجب بدوره مبا ّ‬ ‫يخطه القارئ أو‬ ‫واجب اجتامعي‪ ،‬بأن ُي َ‬ ‫والقصيدة الفيسبوكية «إذا صحت تسميتها» مل تتمكن‬ ‫الجمهور عىل فيسبوك‪ ،‬من دون أن يرفقه مبالحظات أو‬ ‫حتى اآلن من إثارة أي جدال وال طرح نقاشات حول ماهية‬ ‫إشارات أو أي درجة من درجات النقد‪ .‬بذلك‪ ،‬يعطي‬ ‫الشعر واألسلوبية‪ ،‬واحتاملية استنباط موقف شعري ما‪ ،‬أو‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫متخصص‬ ‫الشاعر جمهوره‪ ،‬الرشعية يف املقابل‪ ،‬كجمهور‬ ‫كتابة مانيفستو‪ ،‬فرديا كان أو جامعيا‪ ،‬فيام يخص القصيدة‪.‬‬ ‫بالكتابة واألدب‪ .‬يعرتف به كجمهور ممهور من قبله هو‪،‬‬ ‫فهي قصيدة ُتكت َُب لإلعجاب‪ ،‬ال للصدم‪ ،‬ولحشد األسامء‬ ‫الشاعر نفسه‪ ،‬ومن ثم يرده إليه‪ .‬بالتايل‪ ،‬فإن املحافظة‬ ‫االفرتاضية حولها‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬تنتهي صالحيتها بانتهاء وقتها‪.‬‬ ‫عىل هذا الجمهور‪ ،‬وصقله كمرجعية تقييمية هام يف غاية‬ ‫الزحام شديد يف بطن الفيسبوك‪ ،‬وال بد لقصيدة واحدة أن‬ ‫األهمية بالنسبة للشاعر‪ .‬تصبح مرجعية هذا الجمهور‪،‬‬ ‫يتاح لها الوقت لتأملها ومراجعتها‪ .‬من هنا‪ ،‬يكون الشعر‬ ‫الشاعر نفسه‪ .‬ويف اتجاه معكوس‪ ،‬تصبح مرجعية الشاعر‪،‬‬ ‫يف فيسبوك قد تحول من مادة جاملية للمساءلة واالستفزاز‬ ‫الجمهور نفسه‪ .‬من هنا‪،‬‬ ‫والرفض وإعادة النظر «بـ»‪،‬‬ ‫إىل مادة للتسليم بأمر ما‪ُ ،‬ت َبثُّ‬ ‫يصبح استمداد الشاعر‬ ‫القـصيدة الفـيسبوكية لم‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫لرشعية قصيدته منوط‬ ‫ساخنة‪ ،‬ورسعان ما تربد‪ .‬وكل‬ ‫تتمكن حـتى اآلن من إثارة أي‬ ‫باعرتافه برشعية قصيدة‬ ‫همها إيفاء قواعد الفيسبوك‪.‬‬ ‫جدال وال طرح نقـاشات حول‬ ‫القارئ‪ .‬أي إنه كنوع من‬ ‫وهو ما يفقد القصيدة بعض‬ ‫الرصافة‪ .‬تبديل عملة‬ ‫قيمتها‪ ،‬إن مل نقل الكثري من‬ ‫ماهـية الشعر واألسلوبية‪،‬‬ ‫ال‬ ‫وبدوره‪،‬‬ ‫بعملة أخرى‪.‬‬ ‫هذه القيمة‪ .‬عجز قصيدة‬ ‫واحتمالية اسـتنباط موقف‬ ‫يستطيع القارئ التعليق‬ ‫الفيسبوك عن توليد جدال‪،‬‬ ‫شعري ما‪ ،‬أو كتابة مانيفـسـتو‪،‬‬ ‫عىل قصيدة عىل صفحة‬ ‫خصوصاً مع تكاثر األدوات‬ ‫الشاعر‪ ،‬بقوله رصاحة‬ ‫الشعرية واألساليب واحتامالت‬ ‫فردي ًا كان أو جماعي ًا‪ ،‬فيما يخص‬ ‫أن‬ ‫إنها «مل تعجبني» أو‬ ‫التعبري‪ ،‬يضعها كربواز يف حائط‬ ‫القصيدة‬ ‫يبدي مالحظات نقدية‪.‬‬ ‫متأخر عن نوافذ ما نشتهيه‪.‬‬

‫سيورطه هذا يف مشكالت مع القراء اآلخرين‪ ،‬هذا إن مل‬ ‫تتفاقم املسألة بينه وبني الشاعر‪ .‬أما أسباب هذا الرتاجع‬ ‫املفزع يف التعبري عن الرأي رصاحة‪ ،‬قد تكون مبجملها غري‬ ‫معروفة متاماً‪ .‬إال أنها تبقى يف أحد جوانبها رهناً بالنفاق‬ ‫الذي ميارسه البعض سواء من هذه الجهة‪ ،‬أو تلك‪ .‬فمن غري‬ ‫املنطق أن تكون كل التعليقات التي ترد أسفل قصيدة ما‪،‬‬ ‫مشتملة عىل عبارات تعني أن كاتب السطور مبدع‪ ،‬ورائع‪،‬‬ ‫ومتفوق‪ ،‬و و و‪ ..‬بدون أن نلحظ اية إشارة نقدية‪ .‬فإذا كان‬ ‫كل كتّاب الشعر عىل فيسبوك مبدعني‪ ،‬كيف نفسرِّ إذاً ّ‬ ‫تأخر‬ ‫الشعر‪ ،‬واللغة‪ ،‬قياساً بالفنون البرصية أو السمعية األخرى‪.‬‬ ‫بل وحتى تراجع القصيدة‪ ،‬عىل مستوى الصورة والداللة‬ ‫واملعنى‪ ،‬قياساً بنصوص الخمسينيات والستينيات «يك ال‬ ‫نقول الثامنينيات» مث ًال‪.‬‬

‫‪104‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫قصيدة الفيسبوك‬

‫غالف كتاب "معرش الفسابكة"‬

‫إننا نطل من نوافذنا القريبة‪ ،‬عىل نص هو يف املقام األول‬ ‫شعري‪ ،‬ومؤلفه شاعر‪ ،‬إال أنه نص ينتمي إىل زمن أفل‪،‬‬ ‫وأسلوب كتايب مستعمل بكرثة وصياغات متعبة ومكررة‪ ،‬وال‬ ‫جدوى من إعادة نبشه وابتذاله بهذه الطريقة‪.‬‬ ‫بهذا املعنى‪ ،‬وعطفاً عىل ما نقوله‪ ،‬فإن قصيدة الفيسبوك‬ ‫مل تستطع اخرتاق امليديا الورقية‪ ،‬وهي الوسيط األعىل‬ ‫قيمة من حيث رمزيته الحسية‪ ،‬وتاريخه أيضاً وارتباطه‬ ‫بثقافات عدة تعاقبت ولعب فيها الورق دوراً بارزاً يف إثرائها‬ ‫وتفعيلها‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فإن ما ينرش يف الفيسبوك‪ ،‬ال ميكن أن‬ ‫يستنبط جدالً ينتقل إىل الورقة‪ .‬األمر الذي يجعل من أرض‬ ‫قصيدة الفيسبوك عموماً‪ ،‬أرضاً مس ّور ًة ال ميكن أن تتمدد‪،‬‬ ‫ولو بفعل فيضان مهيب من القراء أو أصحاب «أعجبني»‪.‬‬ ‫فالقصيدة الفيسبوكية‪ ،‬إىل اآلن‪ ،‬متتاز بشخصية تجعلها‬ ‫تعمل بهدف أسايس كالقطن‪ :‬امتصاص إعجاب الجمهور‬ ‫وااللتصاق به‪ .‬إنها إذاً قصيدة ال َت ُر ُّد شيئاً معنوياً أو فنياً‬ ‫للقارئ‪ ،‬وقلام تضيف إىل عموم الشعر العريب شيئاً جديداً‪..‬‬ ‫هي يف كثري من األحيان مفتقرة للديناميكية والقدرة عىل‬ ‫التحاور‪ ،‬خمولة وسلبية إىل حد بعيد‪ ،‬بحيث ال تستفز وال‬ ‫تقيم جداالً‪ ،‬وال تطرح إشكالية بني القراء وال تح ّول صفحة‬ ‫الشاعر إىل منرب نقاش‪ .‬والشاعر يعمل كحارس لكتاباته‪،‬‬ ‫والكل يعلم أنه يف مكان ما‪ ،‬يراقب‪ ،‬ويتحني الفرصة للرد‪،‬‬ ‫وأنه أغلب األحيان مزوقاً ملطفاً مساملاً حريصاً عىل االملام‬ ‫بجميع العواطف املحتشدة حوله‪.‬‬ ‫الجدير قوله هنا‪ ،‬إن الفيسبوك‪ ،‬يؤمن بالنسبة للشاعر‪،‬‬ ‫تعويضاً أو مكافأة من نوع ما‪ .‬بل وحتى نوعاً من التكريم‬ ‫املتواصل واليومي‪ .‬إمنا‪ ،‬بحلة افرتاضية‪ .‬األمر الذي يتناقض‬

‫أيضاً مع موجبات والدة القصيدة‪ :‬الحياة‪ .‬أي التامس مع‬ ‫الواقع بصورة أو بأخرى‪ .‬فام يكتب عىل فيسبوك عموماً‪،‬‬ ‫موضوعه عموماً عاطفي‪ ،‬أو سيايس‪ .‬وكام أي قصيدة أخرى‪،‬‬ ‫أو عمل فني ما‪ ،‬فإن هذا النص املكتوب هو املنجز الذي‬ ‫يتم باحتكاك الشاعر‪ ،‬برصياً وعاطفياً وحسياً مع بيئته‪.‬‬ ‫أسباب والدة القصيدة تكون غالباً حياتية‪ ،‬واقعية‪ ،‬أي‬ ‫غري افرتاضية‪ .‬إنها يف املقام األول قصيدة غري افرتاضية‪،‬‬ ‫لكنها تنقل برسعة إىل ماكينة الفيسبوك‪ ،‬وتتحول إىل قراء‬ ‫افرتاضيني‪ ،‬وتنجرف إىل السكون املطلق بعد أن تغزوها‬ ‫املواقف اإليجابية افرتاضياً‪ .‬والفيسبوك يسمح أحياناً‬ ‫بتكريس شعراء وهم يف بداية تجربتهم‪ .‬يبدون من خالل‬ ‫كتاباتهم‪ ،‬غري مطلعني كفاية عىل النتاج الشعري الحديث‪،‬‬ ‫وينهلون بفطرية الشاعر وبرباءة من عاملهم – محيطهم –‬ ‫بيئتهم ‪ ،‬مكررين بعلم أو بدون علم‪ ،‬سابقات يف الصورة‬ ‫والتشابيه وتظهري العالقة بني مفردات الطبيعة وتفجعات‬ ‫األنا‪ .‬ومام يسهم يف إيقاف هؤالء عند عتبة معينة‪ ،‬هو‬ ‫جمدون يف هذا‬ ‫اعرتاف شاعر «كبري» بهم‪ ،‬كشعراء‪ُ .‬ي َّ‬ ‫االعتبار‪ ،‬وال يعود من مربر‪ ،‬للكثريين منهم‪ ،‬ألن يطوروا‬ ‫أنفسهم‪ .‬وتكون هذه أوىل مسامري نعوشهم كشعراء‪.‬‬ ‫أما املساحة التي يتيحها الفيسبوك لعرض القصيدة‪ ،‬فهي‬ ‫تقلص الفرص إىل حدود الصفر‪ ،‬أمام أية محاولة تجريبية‬ ‫مجددة يف القصيدة‪ .‬وال نعني هنا عىل مستوى طريقة‬ ‫الكتابة‪ ،‬بل التعاطي الجديد مع الشعر‪ ،‬وفتحه عىل‬ ‫إمكانيات برصية وسمعية وتآلفات منوعة مع أشكال فنية‬ ‫أخرى كالفيديو أو اللوحة‪ .‬وهو األمر الذي يحتاج صالة‪ ،‬أو‬ ‫فضاء مفتوحاً ال مجرد رقعة بيضاء افرتاضية‪ .‬فالقصيدة عرب‬ ‫فيسبوك‪ ،‬تبقى رهناً بهذا املستطيل الذي بعد سطور يتحول‬ ‫من أفقي إىل عمودي‪ .‬إال أنه يبقى جامداً كقطعة الثلج‪ ،‬وال‬ ‫ميكن ألي شاعر أن يقيم تجربة صوتية مث ًال‪ ،‬أو برفورمانس‬ ‫«أداء شعري» عرب الفيسبوك‪ .‬فمحاوالت شعراء الواليات‬ ‫املتحدة وأوروبا وبعض بلدان آسيا يف اختبار اللغة الخاصة‬ ‫بهم‪ ،‬ووضع خصائصها الصوتية كمكون أسايس «إن مل يكن‬ ‫رئيساً» مرن ومؤثر يف القصيدة‪ ،‬ال ميكن إنجازها إال يف فضاء‬ ‫محسوس‪ ،‬وأمكنة مدروسة جدا‪ ،‬تتيح التفاعل والتناظر‬ ‫ما بني مواد مختلفة تكون معروضة مث ًال ومرتبطة بالنص‬ ‫الشعري املقروء‬ ‫‪105‬‬


‫حاشية‬

‫‪.‬‬

‫حسن نجمي‬ ‫‪.............................................................................................................‬‬

‫البدائي‬

‫َ‬ ‫سأ َل ْت ِني‪:‬‬

‫َ‬ ‫من أين جئ َْت إِىل القصيدة ؟ كيف َ‬ ‫اكتشفت طريقك ؟ من س َّد َد‬ ‫جئت ؟ كيف تكتبها ؟ كيف‬ ‫احب عزلتك ؟‬ ‫وجه فكرتك عنها ؟ من َص َ‬ ‫خطوتك األوىل ؟ من أَضاء قصيدتك ؟ من َّ‬ ‫كلامت مل تكن‬ ‫وجهُها يف وجهي‪ ،‬عيناها تلمعان يف نظريت‪ .‬كأنها كانت تقول‬ ‫ٍ‬ ‫كانت أَمامي تسألني‪ْ .‬‬ ‫َت ِص ُلني‪ .‬كأنها كانت تجلس يف لغ ٍة ُ‬ ‫أسمع صو َتها‪َ ،‬كأَ َّن زجاجاً فاص ًال بيننا‪.‬‬ ‫وكنت أجلس يف بهو لغ ٍة أخرى‪ .‬ومل أدرك ملاذا مل أكن ُ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ماَّ‬ ‫كنت ُ‬ ‫سمعت و َع مل أسمع (ذكريني بأسئلتك إِ ْن ُ‬ ‫ُ‬ ‫استعطفت عي َن ْيها أل ُر َّد عام ُ‬ ‫ُ‬ ‫نسيت‪! ‬‬ ‫كنت‬ ‫وكأمنا اس َت ْق َط ْع ُت وقتاً صغرياً لهدن ٍة‪،‬‬ ‫ما ُك ُّل أَسئل ِتك يف رأيس اآلن‪ .).‬ثم أَ ُ‬ ‫دركت أَنها تريد أن تتع َّرف عىل ُط ُقويس يف كتابة الشعر‪ ،‬ولعلها تريد أن تعرف شيئاً عن‬ ‫طقويس يف الحياة‪ ،‬أن َتتَع َّر َفني يف الحقيقة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫كنت أعرف أَن الوجود االنساين ُك ُّله تحركه وتصوغه الطقوس واألفعال الرمزية‪ ،‬وأن الطقوس جزء ال يتجزأ من خربتنا اليومية‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وميكننا أن َن َتبينَّ ذلك من ترصفات الشاعر‪ ،‬من حركاته الجسدية‪ ،‬من إِمياءاته وهو يحاول أن يخفي أ ْع َر َ‬ ‫اض القصيدة يك ال‬ ‫الس ْحر‪! ‬‬ ‫يراها اآلخرون فيبطلون ِّ‬ ‫ليتأمل الشاعر نفسه وهو يحاول تدبري حياته الصغرية يف تشابكاتها مع الحياة العمومية‪ ،‬وهو يبحث عن كلامته التي تليق‬ ‫بتمرينه الروحي‪ ،‬بحالته كمريض بالكون‪ ،‬وهو يتمدد يف املكان والزمان‪ ،‬يف الحارض ويف الذاكرة‪ ،‬ثم وهو ينكمش كحلزون‪ .‬‬ ‫وكيف يالحق يف صمت فكرته الصغرية وهي َتن ُْغ ُل يف رأْسه كنملة‪ ،‬وكيف ينظر إىل الصورة التي داه َمتْه عىل سطح شاشته‬ ‫الباطنية‪ ،‬وكيف يحاول التوسط بني َو ْض ِع ِه كخ َّالقٍ للجامل وبني األشياء ال َّالمبالية من حوله التي ينتجها الواقع‪.‬‬ ‫كشف وليست‬ ‫مثة طقوس بدائية يف طقوس الكتابة الشعرية‪ .‬الشاعر بدايئ‪ ،‬حتى حني تنتج قصيد ُته معرف ًة معين ًة فهي معرف ُة ٍ‬ ‫معرفة عاقلة‪ .‬الجسد الشعري هو الذي ُينتج هذه املعرفة وليست َس ْطو ُة العقل‪ .‬الطقوس مامرسة ُم َش َّفرة‪ ،‬وهي ال تخلو‬ ‫من جانب ِس ْحري‪ ،‬ومن جانب أسطوري (باملعنى القديم وباملعنى املعارص كام َب ْل َوره ُروالَ ْن َبا ْر ْت)‪ .‬هناك لعب باللغة داخل‬ ‫توسط ُم َعينَّ بني ُبعد دنيوي وبعد ُم َقدَّس يف طقوس الشاعر‪ُ ،‬مقد ٌَّس النهتم به‪ ،‬ال‬ ‫اللغة‪ .‬هناك احتفال‪ .‬هناك رقص‪ .‬هناك ُّ‬ ‫ُنعريه أي اعتبار ألَننا نحرص عىل القصيدة أن تكون أرضية الروح وال َه َوى وأال تتحول إِىل ترتيل أو إنشاد ديني‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإِن‬ ‫فيها شيئاً من ذلك‪.‬‬ ‫َ‬ ‫يف ‪ ،1912‬قال إِمييل دوركايم "بخصوص األفعال االجتامعية‪ ،‬التزال لدينا ذهنية البدائيني"‪ .‬ومن يتأمل الفعل الش ْعري باعتباره‬ ‫فع ًال اجتامعياً أيضاً‪ ،‬س ُيدرك إِىل أَيِّ ح ٍّد هي ذهنية الشعراء بدائية‪ .‬بدائية تصلح للشعر فع ًال حني تو ّفر للشاعر رشط الطفولة‬ ‫والدهشة والرباءة يك يكتب كتابة بيضاء‪ ،‬ويخوض تجربة الصمت‪ ،‬ويبقى يف قصيدته قريباً من أنفاسه‪ ،‬ومن رقة ِظ ِّل ِه‪ ،‬ومن‬ ‫صحرائه‪ ،‬ومن ر ْم ِل ِه‪ ،‬ومن َف َرا ِغ ِه‪ ،‬ومن أفقه ال َغ َجري املفتوح ساعياً وراء ما ُيح ِّر ُره و ُيح ِّر ُر الحيا َة من حوله‪ .‬وله أيضاً َت َو ُاض ُعه‬ ‫كشاعر إِىل الحد الذي يعترب َن ْف َسه "اليشء" تقريباً‪ ،‬كام يقول فرناندو ّبيسوا‪" ،‬أَنا اليشء‪ .‬أبداً لن أكون شيئاً‪ .‬ال أَستطيع أن أر َغ َب‬ ‫يف أَن أكون شيئاً‪ .‬هذا يعني‪ ،‬أَنني أحمل يف داخيل كل أحالم ال َعالَم"‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫يتصادَى يف قيعاين الجوانية عن كلامت وأصوات تليق‪ ،‬كيف أنتبه إىل أثر‬ ‫تأميل معي هذه الطقوس‪ ،‬أقول لَهَا‪ ،‬إِ ْذ أَبحث لِماَ َ‬ ‫باب" كام قال‬ ‫الفراشة‪ ،‬إىل ملسة الظل‪ ،‬إىل انحناءة الضوء عىل خشب النافذة‪ ،‬وكيف أنظر "والنظر ليس هو املعرفة‪ ،‬ولكنه ٌ‬ ‫َ‬ ‫إِ ْد ُم ْ‬ ‫الحبرْ ُ عىل البياض ساعياً إِىل أعامقِ َن ْفيس‪ ،‬ملتحقاً بال َعالم‪ ،‬ال‬ ‫ون َجا ْب ْس‪ ،‬وكيف أبحث عن املمكن‪ .‬وبهدو ٍء‪ ،‬ب ُبط ٍء‪ ،‬يتقدم ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫يس‪ .‬أقول‬ ‫يهمني أن تدل القصيدة عىل يشء‪ ،‬املهم أن تكون‪ .‬أميش عىل الصفحة‪ ،‬وأميش يف الضوء والظل‪ ،‬أق ِّبل األرض مثل أولِ ْ‬ ‫وات يف حيايت‪ ،‬وكم من آخرين يف داخيل‪ ،‬شعرا َء وفالسف ٍة وروائيني وفنانني‪! ‬‬ ‫كم من َح َي ٍ‬

‫‪106‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫مختارات‬

‫شعر‬

‫الهنود الحمر المعاصر‬

‫في أميركا الالتينية‬

‫اختارها وترجمها‪ :‬وليد السويركي‬

‫‪107‬‬


‫مختارات‬

‫والحياة مت ّر مرسعة ًأحياناً‬ ‫فال نعرفها كامل ًة‪.‬‬ ‫خوان غريغوريو ريخينو (املكسيك)‬ ‫دعيني أموت بصحبة وجو ٍه‬ ‫من مواليد‪ .1960‬يكتب بلغة أحد شعوب املكسيك‬ ‫األصلية‪ :‬املازاتيك‪ ،‬وهي لغة شفاهية ابتكر لها الشاعر الذي تذ ّكرين باملايض‬ ‫خاصة‪ .‬يرأس ريخينو‬ ‫يناضل إلنقاذ تراثه وإحيائه أبجدية ّ‬ ‫مبن احتفلوا معي‬ ‫رابطة كتّاب اللغات األصلية يف املكسيك‪ .‬أصدر العديد‬ ‫وأرشعوا يل درباً إىل جانبهم‪.‬‬ ‫من املجموعات الشعرية بطبعات ثنائية اللغة ( مازاتيك‪/‬‬ ‫أحالم‬ ‫دعيني أموت بصحبة ٍ‬ ‫اسباين)‪ .‬من أعامله‪" :‬املوت ليس أبد ّياً"‪ ،1992 ،‬و" ليستم ّر مل تكن يوماً أحالمي‬ ‫املطر"‪ .1999 ،‬ترجمت قصائده إىل االنجليزية والفرنسية‬ ‫ربيعي‬ ‫تلك التي جاءت ومضت كاعتدالٍ‬ ‫ّ‬ ‫واألملانية وحاز عام ‪ 1996‬الجائزة الوطنية لألدب املكتوب‬ ‫لِتكرس جمود الليل والنهار‪،‬‬ ‫بلغات أصلية‬ ‫تلك التي رأتني ألوي الخيوط‬ ‫عىل وجه السامء‬ ‫السامء تبدّل زرقتها‬ ‫ألهديَ لها نشيدي وشعري؛‬ ‫ليس عبثاً هذا النهار‪،‬‬ ‫يومي وغدي‬ ‫فالسامء تبدّل زرقتها‬ ‫وتتناثر الصور املنقوشة عىل صفحتها‬ ‫لويس دي ليون (غواتيامال) (‪)1985-1941‬‬ ‫معلن ًة أخبار مسريتنا‪،‬‬ ‫من مواليد سان خوان ديل أوبيسبو ‪ ،‬إحدى قرى إثن ّية‬ ‫تنمو األوراق والبذور التي سقطت وقت العاصفة‬ ‫الكاكيشيكل الهندية يف غواتيامال‪ .‬اعتقل يف العام ‪1985‬‬ ‫وتولد الحروف؛‬ ‫واعترب مفقوداً‪ .‬مل يكتشف أيّ اثر له حتى العام ‪1999‬‬ ‫تنمو األوراق ونبتات القطيفة‬ ‫حيث ب ّينت سجالت الرشطة الرس ّية أنه كان ضمن عرشات‬ ‫متس ّلقة الالنها ّيئ‪.‬‬ ‫املعتقلني الذين متت تصفيتهم جسدياً ألسباب سياسية‪ .‬كان‬ ‫ف ْلت َْستَسلم لسامع صوت املنس ّيني‬ ‫قد درس يف آنتيغا غواتيامال عىل بعد كيلومرتات من قريته‬ ‫أ ّيها الجاهل الذي يبصق الحروف‪،‬‬ ‫بفضل تضحيات عائلته البسيطة وعمل مدرساً يف املناطق‬ ‫فاللغة التي ولدت مع الشمس‬ ‫الريفية ‪.‬باإلضافة اىل نشاطه األديب‪ ،‬مارس دورا قيادياً يف‬ ‫ومل تفقد جوهرها‬ ‫العمل النقايب‪ .‬قام أصدقاؤه من الكتاب بنرش أعامله‬ ‫بعد وفاته و تتض ّمن روايته " الزمن يبدأ يف كسيبالباه "و‬ ‫تطلب مكاناً يف السامء ويف الكتب‪،‬‬ ‫مجموعته الشعرية" قصائد بركان املاء"‬ ‫ف ْلتَنتبه لكالمي‪ ،‬ولتَسمعني‪:‬‬ ‫فأنا مللمت يوماً بيوم شتات حقيقتك‬ ‫عن الحنان‬ ‫وعرفتها؛‬ ‫لو أنيّ ماعرفت جسدك‬ ‫لكنّك ال تعرف حقيقتي‪.‬‬ ‫لو أن مالئكته وطيوره‬ ‫الخالس ّية بالطبع‪-‬‬‫دعيني أموت للحظ ٍة‬ ‫مل تتلقّ مداعبايت‬ ‫دعيني أموت للحظ ٍة‬ ‫لو أين ما ملست عذوبة قيثارته‪،‬‬ ‫فال يشء يدوم يف النهاية‬ ‫‪108‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫شعر الهنود الحمر المعاصر في أميركا الالتينية‬

‫نشيده وحرير زغبه‪،‬‬ ‫لكان حت ًام لهذه اليد ‪،‬‬ ‫يدي‪،‬‬ ‫قساوة الحجر‪.‬‬

‫عن وظيفة الص ّفة‬

‫أيها األطفال!‬ ‫بوسعي أن أس ّميكم‬ ‫أسامكاً‬ ‫عصاف َري‬ ‫اعم‬ ‫بر َ‬ ‫عشباً‬ ‫مثاراً‬ ‫بذوراً‬ ‫اشات‬ ‫فر ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ولكن يستحيل اّال أضيف صف ًة ‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫أسامك مقهورة‬ ‫ٌ‬ ‫أطفال عصاف ُري سجينة‬ ‫اعم ذابلة‬ ‫بر ُ‬ ‫ٌ‬ ‫عشب ُمداس‬ ‫أطفال ٌ‬ ‫بذو ٌر مطحونة‬ ‫فر ٌ‬ ‫اشات جريحة‬ ‫غري أنيّ أعلم أن الصفات ستتبدّل غداً‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫أسامك ثائرة‬ ‫ٌ‬ ‫أطفال عصاف ُري حرة‬ ‫ٌ‬ ‫اعم تدفق بالحياة‬ ‫أطفال بر ُ‬ ‫عشب نديّ‬ ‫ٌ‬ ‫فر ٌ‬ ‫اشات منترصة‬ ‫وبذو ٌر عص ّية عىل التدجني‪.‬‬

‫ٌ‬ ‫نقش عىل شاهدة‬

‫لِ َم يجهد املوت نفسه عبثاً‬ ‫يف ال َّن ْيل من الحياة‪،‬‬ ‫ما دامت أصغر بذر ٍة‬

‫تشقّ أعتى صخرة؟‬

‫قصيدة الرجل الذي ظنّ أن لديه خطيبة‬

‫فوق حجارة الشوارع‬ ‫أو تحت مطر الورد الجوريّ وأزهار البوجانفيليه‬ ‫تحت أب ّهة أقواس قرص الض ّباط الجرناالت‬ ‫و دار البلدية‬ ‫أو تحت قباب األديرة الحطام ‪،‬‬ ‫يف ظالل أشجار الحور‬ ‫أو يف عطر الجنائن و موسيقى النوافري‬ ‫أو يف صمت الساحات ‪،‬‬ ‫صاعداً جبل الصليب‬ ‫أو ذارعاً شارع الخطى ‪،‬‬ ‫خطاك ‪ ،‬خطاي ‪،‬‬ ‫يدك ‪ ،‬يدي ‪.‬‬ ‫رغم الغزو‬ ‫املهجنني تطرفاً‪،‬‬ ‫و ض ّد رأي أكرث ّ‬ ‫الشاب‬ ‫أنا الهنديُ‬ ‫ّ‬ ‫أتأبط ذراع فتاة إسبانية‬ ‫كنت أظن أ ّنه ذات أحد ‪،‬‬ ‫ستدُ ّق أجراس قريتي يف القدّاس‬ ‫وأنك ‪ ،‬بيضاء كأشجار ال ّنب املزهرة يف حقول كبار‬ ‫اّ‬ ‫امللكني ‪،‬‬ ‫ستط ّلني بصحبتي يف ساحة الكنيسة‬ ‫يك ترافقيني لألبد‬ ‫ولكن حني أدركت الحقيقة ‪:‬‬ ‫أنيّ مل أكن خطيبك أبداً‬ ‫أ ّنك مل تكرتيث يب يوماً‬ ‫بل كنت تزدرينني‬ ‫أ ّنك أنسيتني من أح ّبوين حقاً ‪،‬‬ ‫لت من طفلة إىل‬ ‫تح ّو ِ‬ ‫عجوز غريبة مست ِغ ّلة‬ ‫ينبغي طردها من هذا الوادي ‪.‬‬ ‫واآلن تبد َّل موقفي متاماً‪:‬‬ ‫كرب ح ّبي كاملحيط‬ ‫‪109‬‬


‫مختارات‬

‫و نضج قلبي كثمرة كرز‬ ‫فلم أعد أرى فيك‬ ‫ال الطفلة وال العجوز‬ ‫ال املستغ ّلة و ال األجنب ّية‬ ‫بل املرأة التي صارت أ ّماً ‪،‬‬ ‫ آه ‪ ،‬يا جرس الكاتدرائية الزرقاء ‪/‬الخرضاء‬‫يا زوجة النهر الغارق يف أفكاره‪ ،‬يا بالغة النبل الوفاء‪،‬‬ ‫يا ميامتي الغواتياملية من قشتالة‪،‬‬ ‫يا أ ّم هذا الوطن وشقيقاته األربع‬ ‫سني مراهقتي‪،‬‬ ‫يا امرأة ّ‬ ‫أ ّيتها العذوبة‪،‬‬ ‫و اآلن‪ :‬يا سيدّيت!‬

‫يف التقاويم‪ ،‬بالتواريخ‪،‬‬ ‫ويف بتالت الورد املتفتّحة‬ ‫يف بيوت باتزكوارو**‪.‬‬

‫تلك امله ّمة الشا ّقة‬

‫لقد كانت شا ّق ًة تلك امله ّمة الطويلة‪:‬‬ ‫أن تصبح رج ًال‪،‬‬ ‫أن تتج ّرع ‪ ،‬يوماً بعد يوم‪ ،‬عصارة الحياة اليوم ّية‬ ‫امل ّرة‪-‬العذبة‬ ‫ً‬ ‫كم كان قاسيا أن يشت ّد عودك‬ ‫يف هذا الرصح الذي ينهار!‬ ‫أال تسمع رصير الهياكل القدمية‬ ‫تحت أقدامنا‬ ‫فيكتور دوال كروز (املكسيك)‬ ‫من قبو التعذيب الرطب إىل‬ ‫مواليد ‪،1948‬يف مقاطعة اواكساكا‪ ،‬يكتب بلغتي الزابوتيك سارية الراية أعىل القرص‪،‬‬ ‫واإلسبانية‪ ،‬باحث ومرتجم وأستاذ جامعي‪ .‬عضو األكادميية عُ ملتنا تتدحرج‬ ‫املكسيكية‪ّ .‬أسس مجلة ثنائية اللغة ( ‪)Guchachi'Reza‬‬ ‫يف منحدر الدوالر‬ ‫تعنى بنرش األدب املكتوب باللغات األصلية يف املكسيك مع مرسع ًة تحت ثقل الفساد‪،‬‬ ‫ترجامت إىل اإلسبانية (‪ .)2000-1970‬ترجمت بعض أعامله ووطننا ينهار‪،‬‬ ‫إىل االنجليزية والفرنسية واإليطالية واألملانية ونذكر منها ‪":‬‬ ‫فيام نحن نحيا وكأن شيئاً مل يكن‪،‬‬ ‫أربع مرايث‪ ،1979 ،‬حديقة ّصبار‪ ،1991،‬و زهرة الكالم‪1999 ،‬‬ ‫لقد كانت مه ّمة شا ّقة‪:‬‬ ‫أن تحيا وسط الحطام‪.‬‬

‫بطاقة بريد من تزاراراكوا‬

‫إ ّنه الخريف طيلة النهار‪،‬‬ ‫نتس ّلق بعد الظهر سفحاً‬ ‫تاركني وراءنا نهراً يسقط‬ ‫يف الهاوية‬ ‫مثل وشاح أبيض عىل وجه العروس‬ ‫ُ‬ ‫ورق الشجر األصف ُر‬ ‫يح ّمر‪،‬‬ ‫من دون أن يعرف‬ ‫أهو الربيع قد ّ‬ ‫حل‪،‬‬ ‫أم أ ّنه الخريف الدافئ؟‬ ‫يف وسعنا أن نعرف ذلك‬ ‫‪110‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫خوسيه لويس اياال (البريو)‬ ‫ولد يف اياال يف بونو‪ ،‬بريو‪ ،‬سنة ‪ .1942‬ينتمي إل شعب‬ ‫األميارا‪ .‬شاعر وكاتب وصحايف ‪ .‬درس يف الجامعة الوطنية‬ ‫مايور دو سان ماركوس وواصل دراساته العليا يف باريس‪.‬‬ ‫من أعامله ‪ :‬االحتفال بالكون (‪ ،)1976‬باتشاماما (‪، )1986‬‬ ‫الشاعر يف تالتيلولكو (‪ ،)1998‬واملحر ر بني الحب والحرب‬ ‫(‪ .)2007‬يف عام ‪ ،1990‬حصل عىل الجائزة األوىل للشعر‬ ‫التي تحمل اسم سيزار باييخو‬

‫إ ّنها متطر يف البريو‬

‫إ ّنها متطر يف البريو‬


‫شعر الهنود الحمر المعاصر في أميركا الالتينية‬

‫ومن قلبي ينبعث الدخان‬ ‫عيني الوطن الغائب‬ ‫إنها متطر يف ِّ‬ ‫وعىل كتفيه الصلصال ّيني؛‬ ‫ّ‬ ‫فتصطك عظامي من الحنني‪.‬‬ ‫إ ّنها متطر يف أمريكا‬ ‫الصغار‬ ‫يف طفولتي ويف املواقد التي تدفئ ّ‬ ‫تلك التي ت ّود ال ّريح لو تطفئها‬ ‫إ ّنها متطر يف القرى البعيدة‬ ‫و دمعي يجري نحو الجروف‪.‬‬ ‫إ ّنها متطر وال ّ‬ ‫تكف عن املطر عىل األرض األ ّم‬ ‫لكنّ املطر الالنها ّيئ هذا‬ ‫لن ميحو أبداً‬ ‫وجه بريو ّ‬ ‫املغطى بالدم‪.‬‬

‫رضيح رامبو‬

‫ال يشء يف مقربة شارل فيل‪،‬‬ ‫وال الريح حتّى‬ ‫أهو ٌ‬ ‫فصل آخ ُر يف الجحيم؟‬ ‫ّ‬ ‫أنظف شاهدة القرب‪،‬‬ ‫والحارس العر ّيب العجوز يخربين‪:‬‬ ‫ال أحد يزوره‬ ‫غري اليامم واملطر‬

‫ليونيل ل ِينْالف (تشييل)‬ ‫ّ‬ ‫وموسيقي ينتمي لشعب‬ ‫مواليد عام ‪.1969‬شاعر‪ ،‬سيناميئ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫املابوش‪،‬أصدر مجموعته الشعرية األوىل "صحا طائر قلبي"‬ ‫ثم أصوات مابوش‪ ،"2002 ،‬و كلامت حلمت‬ ‫سنة ‪ّ .1989‬‬ ‫بها‪2003 ،‬‬

‫طريق‬

‫ركضت عرب السهول‪،‬‬ ‫عىل الشطـآن‬ ‫ويف الجبال‬ ‫ألمللم أقوال أساليف الضائعة‪.‬‬

‫ركضت أللتقط صمت شعبي‬ ‫وأحفظه يف األنفاس‬ ‫التي تنساب عىل جسدي‬ ‫وتنبض راعش ًة يف رشاييني؛‬ ‫عىل الشمس التي ترشق‪،‬‬ ‫وعىل سفوح الجبال‪،‬‬ ‫ليك تغدو ال ّروح ريحاً‬ ‫تنفذ من فجوات الكالم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫حلم شعبي‬ ‫مللم َ‬ ‫ركضت ُأل َ‬ ‫يتنفسه هذا العامل‪.‬‬ ‫ليك يصبح الهوا َء الذي ّ‬

‫السامء‬ ‫نهر ّ‬

‫السامء العظيم‬ ‫نهر ّ‬ ‫نام يف منتصف ّ‬ ‫الطريق‬ ‫ويف مياهه تبرتد أرواح األسالف‪.‬‬ ‫تستحم األرض‬ ‫السامء‬ ‫ّ‬ ‫يف نهر ّ‬ ‫يف مياهه الصافية العالية‬ ‫مرصعة بالنّجوم ومقمرة‬ ‫ذات ليلة ّ‬ ‫أو ذات ليلة باردة‬ ‫ظل النهر نامئاً‬ ‫ّ‬ ‫يسرتيح‬ ‫منتظراً مياه أرواحنا‪.‬‬ ‫السامء العظيم ينا ُم‬ ‫نهر ّ‬ ‫وينتظرين‪.‬‬

‫مت ّرد‬

‫كلامت‬ ‫يداي ترفضان كتابة‬ ‫ٍ‬ ‫مع ّل ٍم عجوز‬ ‫يدي ترفض أن تكتب ما ليس يل‬ ‫وتقول‪:‬‬ ‫الصمت الذي يولَدُ "‪.‬‬ ‫"عليك أن تكون ّ‬ ‫يدي تخربين أن العامل‬ ‫‪111‬‬


‫مختارات‬

‫ال ميكن أن ُيكتب‪.‬‬

‫آثار عىل وجهك‬

‫أ ّمي‪،‬‬ ‫غريب‪ ،‬تبدّت عىل وجهك همس ُة املاء‬ ‫يف ثوب ٍ‬ ‫احتضنَت الذكريات ُك ُّلها ذاك الصوت‬ ‫ويشء ما حدّق ّيف‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت شجرة من آالف الوجوه‬ ‫تطلع من وجهك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مررت‪ ،‬عىل امتداد جذعها‪ ،‬مبئات األجيال‪،‬‬ ‫متأ ّلام‪ ،‬وضاحكاً؛‬ ‫رأيت صليباً احت ّز رأيس‬ ‫ورأيت سيفاً باركني‬ ‫قبيل مويت‪.‬‬ ‫أ ّمي‪ ،‬أنا الجذع الذي يحرتق‬ ‫يف نار كوخنا‬ ‫ناتاليا توليدو (املكسيك)‬ ‫مواليد ‪1966‬يف مقاطعة أواكساكا‪ ،‬تكتب بلغة الزابوتيك‬ ‫و ُترتجم نصوصها بنفسها إىل اإلسبان ّية‪ .‬من أعاملها‪ :‬نساء‬ ‫من شمس‪ ،‬نساءمن ذهب‪ ،2002 ،‬شجرة الزيتون السوداء‬ ‫‪ ،2004‬املوت خفيف القدمني‪2005 ،‬‬

‫ٌ‬ ‫بنت بجذور‬

‫يل صور ٌة بحرب السيبيا‬ ‫بعينني مائ ّيتني وزهرة بني ّ‬ ‫الشفتني‬ ‫اقتحم أحدهم الصورة‬ ‫واقتلع الزهرة من جذورها‪.‬‬

‫فلورندا‬

‫(مع ّلمة ومغنّية)‬ ‫غناؤك يشقّ بذرة اللوز‬ ‫ويجرح‪ ،‬شفيفاً‪ ،‬قلب الليل‬ ‫مثلام يشقّ عصفو ٌر كبد السامء‪.‬‬

‫‪112‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫شعر الهنود الحمر المعاصر في أميركا الالتينية‬

‫إىل ت‪.‬س‪ .‬إليوت‬ ‫يك أنىس‪ ،‬ربمّ ا‪،‬‬ ‫الخوف الذي ج ّردين من ّ‬ ‫كل يقني‬ ‫منت يف يديّ أزها ٌر حمرا ُء كبري ٌة ورائعة‬ ‫ُ‬ ‫مشيت عىل يديّ ‪،‬‬ ‫طمرت جسدي يف الطني‪،‬‬ ‫وامتألت عيناي برملٍ ناعم‪.‬‬ ‫أسموين زنبقة املاء‬ ‫ّ‬ ‫ألن صفحة املاء كانت جذري‬ ‫ُ‬ ‫فعميت‪،‬‬ ‫غري ّأن ثعباناً كان يواقع أفعى لدغني‬ ‫ُ‬ ‫رصت ترييزياس يتنقل بال عصاً لريوي حكايته‪.‬‬ ‫أيّ جذور ستمت ّد عميقاً؟‬ ‫أيّ أغصان ستنمو من هذا الحطام؟‬ ‫ربمّ ا أكون آخر غصن سيتك ّلم الزابوتيك‪،‬‬ ‫الصفري باللغة‬ ‫سيكون عىل أوالدي أن يستبدلوا ّ‬ ‫أعشاش يف غابة النسيان‪.‬‬ ‫أن يصبحوا طيوراً بال‬ ‫ٍ‬ ‫أنا يف الجنوب‪ ،‬يف ّ‬ ‫كل الفصول‪،‬‬ ‫قارب صدئ تحلم به عيناي‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫مثرتا اإليكاكيا السوداء‪،‬‬ ‫أشتم رائحة أريض سأميض‪،‬‬ ‫حني ّ‬ ‫يك أرقص تحت عريشة مهجور ٍة‬ ‫وبعد أن أس ّد رمقي أواصل‪،‬‬ ‫أجتاز الساحة‪ ،‬ولن توقفني ريح الشامل‬ ‫سأصل يف املوعد؛‬ ‫يك أعانق جدّيت قبل سقوط النّجمة األخرية‪.‬‬ ‫سأعود ألصري ثانية تلك البنت‬ ‫التي تحمل يف جفنها األمين تويجة صفراء‪،‬‬ ‫الفتاة التي دمعها من حليب الورد‬ ‫لعيني‪ ،‬سوف أميض‬ ‫بحثاً عن دواء‬ ‫ّ‬

‫أومربتو أكابال (غواتيامال)‬ ‫مواليد‪ 1952‬يف موميستنانغو‪/‬غواتيامال‪.‬يكتب شعره بلغة‬ ‫املايا‪ -‬كيتيش ويرتجمه بنفسه إىل اإلسبانية‪ .‬يع ّد أحد أبرز‬ ‫شعراء القا ّرة‪ُ .‬ترجمت أشعاره إىل أهم اللغات العاملية‪.‬‬ ‫حاز جائزة كانتو دي أمريكا عام‪ 1999‬وجائزة بليز ساندرار‬ ‫السويرسية عام ‪ 1997‬وجائزة بازوليني اإليطالية ‪2004‬‬ ‫ورفض جائزة ميغيل أنخيل أستورياس الغواتيامل ّية يف العام‬ ‫نفسه بسبب ما عده مواقف مهينة لحضارة املايا كان قد‬ ‫تبنّاها أستورياس‪ .‬أصدر ما يزيد عن ‪ 15‬مجموعة شعرية‬ ‫نساج الكالم‬ ‫نذكر منها‪ :‬ال ّراعي ‪ ،1990‬حارس الشالل‪ّ ،1993‬‬ ‫‪ ،1996‬سامء صفراء ‪ ،2000‬الكلامت تنمو ‪ .2010‬وصدرت‬ ‫اّ‬ ‫أزمنة‪/‬عمن عام ‪ 2009‬بعنوان‬ ‫له بالعربية مختارات عن دار‬ ‫"طردت اسمك من بايل"‬

‫عودة‬

‫حني اكتشفت الشعر‬ ‫بدأت أتذ ّكر‪...‬‬ ‫شعري رحل ُة عودة‪.‬‬

‫حامل‬

‫***‬

‫ حرضتك الس ّيد "حامل" ؟‬‫ نعم ‪ ،‬س ّيديت‪ ،‬أنا هو‪.‬‬‫ال أفهم كيف يض ّيع شخص بذكائك‬‫وقته يف كتابة الشعر؛‬ ‫وأنت ترى كم من شعر قد ُكتب‬ ‫والعامل يزداد سوءاً‬ ‫وأنت‪ ،‬أتظنينّ أ ّننا إن مل نكتب الشعر‬‫ِ‬ ‫سيغدو العامل أفضل؟‬

‫رسوة وحيدة‬

‫وحيدة يف هذا املرج‬ ‫بال أوراق‪ ،‬بال حياة‪،‬‬ ‫ظ ّلت الرسوة منتصبة‬ ‫وظ ّلها املمت ّد‬ ‫‪113‬‬


‫مختارات‬

‫يرتاح بصمت‪.‬‬ ‫الرسوة العتيقة‬ ‫تنتظر وحيد ًة‬ ‫غروب الشمس األخري‪.‬‬

‫رأيتك يف منامي‬ ‫ِ‬ ‫ترتدين نسيج عنكبوت‬ ‫فبقيت شاخص العينني مقطوع األنفاس‬ ‫العنكبوت أدركت‪:‬‬ ‫جسدك ال يحتاج إىل ما هو أكرث‬

‫حني بجوع املرء‬ ‫تتّسع عيناه‬ ‫ويبدو له الصحن الفارغ أكرب‪...‬‬ ‫أختي الصغرية غادرت للت ّو طفولتها‪،‬‬ ‫مبشاعرها الربيئة‬ ‫بصندلها العتيق‬ ‫وصدارها املهرتىء‪،‬‬ ‫اصطحبتها إىل املدينة بحثاً عن‬ ‫عمل‬ ‫مل تعرف أمي أبداً‬ ‫ّأن ابنتها ستكون جارية‪.‬‬

‫ايرما بينيدا (املكسيك)‬ ‫شاعرة ومرتجمة ‪ .‬من مواليد ‪ ،1974‬يف والية اواكساكا‬ ‫‪.‬تكتب بلغتها األصلية " الزابوتيك" ‪ .‬نرشت قصائدها‬ ‫التي ترتجمه بنفسها إىل اإلسبانية يف دوريات مختلفة يف‬ ‫املكسيك ودول أمريكا الالتينية‪ .‬أصدرت خمس مجموعات‬ ‫شعرية ثنائية اللغة منها‪ :‬يف بطن الليل‪ ،2005 ،‬وحنني‬ ‫البحر‪2006 ،‬‬

‫الجارية‬

‫العجوز أناكليتو‬

‫كيف حال الس ّيد أناكليتو؟‬ ‫ّ‬ ‫كل يوم أنهض بعناء أكرب‬‫وتصطك مفاصيل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫استيقظت تساءلت إن كنت يف هذه الدّنيا أم‬ ‫ك ّلام‬ ‫يف تلك‪.‬‬ ‫يف عمري هذا‪ ،‬س ّيان‬ ‫أن أصحو هنا أو هناك‪.‬‬

‫يف النبع‬

‫يف املاء الساكن‬ ‫كان يعسوب ّ‬ ‫ملون الجناحني‬ ‫يبحر فوق ورقة يابسة‬

‫نسيج عنكبوت‬ ‫ليلة أمس‬

‫‪114‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫"ناداكس يل"‬

‫"ناداكس يل" كائنٌ من هوا ٍء وشجن‬ ‫لها عينان واسعتان حزينتان‪،‬‬ ‫يدان ناحلتان ونهدان صغريان‪،‬‬ ‫ترتاقص أصابعها فوق الصلصال‬ ‫تهب شك ًال للفانتازيا‬ ‫لِ َ‬ ‫وترسم الذكريات؛‬ ‫َ‬ ‫لكنّ الذكرى موجعة‬ ‫وليك تنجو من األمل‬ ‫تث ّبته عىل األرض مبسامري من تراب‬ ‫وتبيك‬ ‫حني تنحت‪ ،‬حني ترسم ّ‬ ‫العشاق‬ ‫يف ح ّر العناق‬ ‫الذي ربمّ ا ما عرفته‬ ‫وتبيك‬ ‫حني ُتنضج ذكريات طفول ٍة جريحة‬ ‫بدمى قاسية‬ ‫وتز ّينها ً‬ ‫تعجز عن مسح الدمع‬ ‫من عينيها الواسعتني الحزينتني‬ ‫"ناداكس يل" كائنٌ من هواء وشجن‪......‬‬


‫شعر الهنود الحمر المعاصر في أميركا الالتينية‬

‫يحدث أحياناً‬ ‫حب األشجار‬ ‫يحدث أحياناً أن يقع املرء يف ّ‬ ‫من أجل ظ ّلها‪ ،‬قوة أغصانها‪ ،‬أو حالوة مثارها‬ ‫يحدث أيضاً‪ ،‬يف بعض األحيان‪،‬‬ ‫نحب إنساناً‬ ‫أن تغدو الشجرة التي ّ‬ ‫فنحب أفكاره‪ ،‬شفتيه‪ ،‬قلبه‪ ،‬ذراعيه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ولألشجار أعضاؤها أيضا‪ً.‬‬ ‫ثم يحدث أحياناً‬ ‫ّ‬ ‫أن تغدو الشجرة التي أحببنا‬ ‫قريبة ج ّداً حتّى الفزع‪،‬‬ ‫فال تعود شجر ًة؛‬ ‫بل شمساً‬ ‫تبهر العينني العاشقتني‪،‬‬ ‫عندها‪،‬يحدث أن ال يعود املرء يدرك‪:‬‬ ‫هل توارى مغمضاً عينيه‬ ‫أم ّأن عيناه عميتا‬ ‫َ‬ ‫اإلنسان‪ -‬الشمس‬ ‫لفرط ما تأ ّمل الشجر َة‪-‬‬

‫كمهر صغري‪ ،‬يحترض قلبي‬ ‫السا ّمة‪.‬‬ ‫وقد لدغتُه أفعى احتقارك ّ‬

‫يف تلك اللحظة‬

‫كلامت وداعك ترتدّد يف أذ ّين‬ ‫كرصير زيز الحصاد‬ ‫يف تلك اللحظة‪،‬‬ ‫صخرة كبرية أنا‪،‬‬ ‫صخرة كبرية وثقيلة تل ّفها العتمة‪.‬‬ ‫وأنت لست هنا‪ ،‬لتدرك كم ّ‬ ‫تتمطى تلك ا ّللحظة‪،‬‬ ‫كيف ّ‬ ‫تتمطى آخر غيمة عابرة‪،‬‬ ‫بريسيدا كويباس كوب (املكسيك)‬ ‫ذاكريت؟‬ ‫شاعرة من املايا من مواليد ‪ ،1969‬يف مقاطعة يوكاتان‪.‬‬ ‫لقد توارت يف جذع التينة‬ ‫عضو مؤسس يف رابطة الكتاب من السكان األص ّليني‪ .‬إىل‬ ‫قد تعود إ ّيل غداً‬ ‫جانب الشعر أصدرت كتاباً حول الحياة اليومية لنساء املايا‪.‬‬ ‫وقد ال تعود أبداً‬ ‫نرشت أشعارها يف ترجامت إسبانية وفرنسية وإنكليزية‬ ‫نظريت؟‬ ‫وشاركت يف العديد من املهرجانات العاملية‪ .‬من أعاملها‪:‬‬ ‫أنني الكلب‪ ،1995 ،‬مثل الشمس‪ ،1998 ،‬و من حاشية ثويب‪ ،‬لقد مضت يف طريقها نحو األفق‬ ‫وهي تغمز بطرفها السمك‪.‬‬ ‫‪2008‬‬ ‫يف تلك اللحظة‪،‬‬ ‫صخر ٌة كبرية أنا‪ ،‬بني صخور أخرى‪،‬‬ ‫طرف وشاحي‬ ‫حيث تتثاءب العتمة‪.‬‬ ‫قلت لك‪ ،‬وطرف وشاحي بني أسناين‪:‬‬ ‫يف تلك اللحظة‪،‬‬ ‫كمهر صغري يتقافز قلبي‪ ،‬يصهل‪،‬‬ ‫ويشب بني ّ‬ ‫جرحتها األغصان‬ ‫أحس مقدمك‬ ‫آن تنزف الشمس التي ّ‬ ‫ّ‬ ‫الضلوع إذا ّ‬ ‫مثلام ينزف قلبي الذي ج ّرحته‬ ‫واليوم‪ :‬يب ّلل حزنه طرف وشاحي بدمعي‬ ‫مخالب ليلٍ قاتل‬ ‫وأقول‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫‪115‬‬


‫مختارات‬

‫أحالماً جديدة‬ ‫هوغو جاميوي (كولومبييا)‬ ‫من مواليد ‪ 1971‬يف مقاطعة بوتومايو الكولومبية‪ ،‬من‬ ‫ألبنا َء بعيونٍ خرض مل يحلمن بهم أبدا‬ ‫شعب الكامنتسا‪ .‬درس الهندسة الزراعية يف جامعة كالداس‪ .‬أين البالد‬ ‫ناشط يف الدفاع عن حقوق السكان األصل ّيني يف كولومبيا‪.‬‬ ‫التي أنجبتك ياجدّي‬ ‫ً‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬ ‫رش‬ ‫من أعامله‪ :‬ناري ودخاين‪ ،‬أريض وشميس‪ ، 1999، ،‬لسنا ب‬ ‫أين املياه‬ ‫‪ ،2002‬و راقصات الريح‪2005 ،‬‬ ‫التي تج ّ‬ ‫ىل فيها وجهك يا جدّيت‪.‬‬ ‫حيث أنا اآلن هم حارضون‬ ‫أينهم‬ ‫وكل يشء‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫كل يشء‬ ‫أينهم‪ ،‬من وحدهم‬ ‫بالنسبة يل‬ ‫كانوا يبذرون الذرة‬ ‫ليس سوى ذكرى‪.‬‬ ‫يف ضامئرنا‬ ‫يرسمون أصواتهم‬ ‫مكاين املقدّس‬ ‫يف دوائر الدخان‬ ‫أريد أن أبيك‬ ‫تدعو ل ّلقاء‬ ‫رشط أن ال يسقط دمعي أينام كان‬ ‫وتروي حكاية الفرح‬ ‫أريد أن تتل ّقاه األ ّم التي منحتني املهد‬ ‫َ‬ ‫هناك حيث احت َفظت بدموعي األوىل‬ ‫أين من زرعوا أشجار التالقي‬ ‫يف هذه الحياة‪.‬‬ ‫ثم جعلوها‬ ‫أريد أن أبيك حيث بىك أجدادي‬ ‫سالسل حجارة تفصل بني القرى‬ ‫أريد أن أبيك يف املكان املقدس‬ ‫أينهم من نسجوا‬ ‫حيث مل يكن آباء أجدادي يعرفون معنى البكاء‬ ‫رموز الكون‬ ‫أريد أن أبيك ألنيّ ورثت عن أهيل‬ ‫جمعوا القمر والشمس يف لحاف واحد‬ ‫مكاناً يسعني أن أبيك فيه‪.‬‬ ‫َظ ّل يحفظ أحالمهم الدافئة‬ ‫أريد أن أبيك وأريد البني أن يتع ّلم البكاء‬ ‫أينهم من ّ‬ ‫رشط أن ال يبيك إ ّال‬ ‫خطوا عىل األرض‬ ‫حصته من األرض األم*‬ ‫ّأن الجوع لن يكون أبداً رفيقنا‬ ‫بعد أن يرث ّ‬ ‫فيكون لديه مكان يبيك فيه‬ ‫أينهم من حفظوا يف أيديهم‬ ‫وأنتم‪،‬‬ ‫براعم أهلهم‬ ‫أتعرفون البكاء؟‬ ‫ترقص بانتظار شمس جديدة‬ ‫ألديكم مكان تبكون فيه؟‬ ‫وقمر جديد‬ ‫أينهم أجدادي‬ ‫من رأوا عرب ب ّلور دمعهم‬ ‫هول الكارثة‬ ‫أين جدّايت‬ ‫من غ ّذين يف أرحامهن‬ ‫‪116‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫شعر الهنود الحمر المعاصر في أميركا الالتينية‬

‫التي تعلن الحياة واملوت‬ ‫نحن هنا يف هذه األرض‬ ‫لكننا أيضا من األعىل‪ ،‬مام هو أبعد منها‬ ‫ومام هو ُسفيل والذي هو دمنا‬ ‫نحن ذلك الحيوان السف ّ‬ ‫يل‬ ‫الذي ُحرم من أمه األوىل‬ ‫و ُترك وحيدا‬ ‫قلب قويّ‬ ‫إال من ٍ‬ ‫ليبدأ ّ‬ ‫‪،‬كل لحظة‪ ،‬من جديد‪.‬‬

‫ليس عندي ما أقول‬

‫فريدي شيكانغانا (كولومبيا)‬ ‫مواليد ‪ 1964‬ينتمي لشعب ياناكونا‪ .‬أستاذ األنرثبولوجيا‬ ‫حب إلبعاد‬ ‫يف جامعة كولومبيا الوطنية‪ .‬من أعامله‪ :‬أغاين ّ‬ ‫املوت‪ ،1992 ،‬ياناكونا كلم ًة وذاكرة‪1992 ،‬‬

‫تحت األرض‬

‫نحن ذلك الحيوان املل ّون‬ ‫الساكن عمق األرض‬ ‫املقتات عىل جوهرها‬ ‫الذي يغني صاعدا للقاء الشمس‬ ‫نحن قوقعة الزّمن ذاتها‬ ‫التي تحمل أثر األجداد األوائل‬ ‫من جعلوا الحياة عىل هذه األرض ممكنة‬ ‫لذا‪،‬‬ ‫نطلب ح ّقنا يف القمر‪،‬‬ ‫يف الشمس‪ ،‬يف املاء الصايف‬ ‫يف الكلمة التي صارت دماء يانكونا*‬ ‫وخيوط قوس قزح‬

‫ليس عندي ما أقول‬ ‫ال عن الزمان وال عن الفضاء‬ ‫الذي وقع فوق رؤوسنا‬ ‫ّ‬ ‫فكل يشء قيل‪:‬‬ ‫فلرت ِو األنها ُر بدءاً من احتضارها‬ ‫فلرتو األفاعي الزاحفة عرب املدن والقرى‬ ‫وليتك ّلم اليام ُم يف أعشاشه املد ّماة؛‬ ‫أ ّما انا‪،‬‬ ‫ابن األرض العتيقة‬ ‫فليس عندي ما أقول‬ ‫ّ‬ ‫فكل يشء قيل‪.‬‬ ‫هذه الشموس اآلفلة‬ ‫ستحفظ شيئاً ما يف ذاكرتها‬ ‫هذه األقامر التي تبيك مع املطر‬ ‫ستعرف مرارة الذكرى‪،‬‬ ‫األشجار‪ ،‬واألسامك ‪،‬‬ ‫وآخر قوس قزح مذهّ ب‬ ‫سيطوي ّ‬ ‫رساً يف شكواه؛‬ ‫كل منها ّ‬ ‫أ ّما أنا‪،‬‬ ‫ابن اآلالم واآلمال‬ ‫فليس عندي ما أقول‬ ‫ّ‬ ‫فكل يشء قيل‬ ‫‪117‬‬


‫تجارب‬

‫مصطفى سند‪..‬‬

‫شاعر األسطورة واألرض‬ ‫ً‬ ‫مانحا نفسه تلك المساحة الخضراء‬ ‫هو واحد من شعراء السودان الذين كتبوا أسماءهم بريشة الشعر‪،‬‬ ‫من الحب والجمال يعيش اليوم في ذاكرة كل سوداني وعربي أحب الشعر في جغرافيا الجباه السمراء‬

‫منذ‬

‫ما يقارب األربع سنوات‪ ،‬روعت بالد‬ ‫النيلني مرة أخرى بفقد جلل من كرام‬ ‫بنيها‪ ،‬إذ اختطف املوت الشاعر السوداين مصطفى سند‬ ‫بعد رصاع طويل مع املرض‪ .‬الذي أوقف نبض تلك املسرية‬ ‫الشعرية املليئة بالنور‪.‬‬ ‫يعد الشاعر مصطفى سند من الرواد األوائل لحركة الشعر‬ ‫الحديث يف السودان‪ ،‬والذين امتد تأثريهم ألجيال عديدة‬ ‫أتت بعدهم‪ ،‬خاصة يف فرتة الستينيات‪ ،‬ومنهم صالح أحمد‬ ‫إبراهيم‪ ،‬محمد امليك إبراهيم‪ ،‬النور عثامن أبكر‪ ،‬محمد‬ ‫عبد الحي وغريهم من الذين شكلوا إضافة متميزة لشعر‬ ‫السودان‪.‬‬ ‫متيز شعره بنربة غنائية عالية‪ ،‬وموسيقى متفردة‪ ،‬ولغة جزلة‬ ‫محتشدة بالتصاوير واألخيلة‪ .‬وإضافة إىل كتاباته يف الشعر‪،‬‬ ‫فقد كتب أيضاً يف النقد وله فيه إسهامات مشهود لها‪ ،‬كام‬

‫ولد عام ‪ 1939‬بأم درمان‪ ،‬هذه‬ ‫املدينة التي منحتنا الكثري من املبدعني‬ ‫يف شتى حقول األدب‪ .‬حصل عىل‬ ‫بكالوريوس التجارة كام درس الحقوق‪،‬‬ ‫بدأ حياته املهنية يف وزارة املواصالت‪،‬‬ ‫كام عمل باالنتداب يف وزارة الخارجية‬ ‫ملدة أربعة أعوام‪ .‬غادر السودان بعدها‬ ‫للعمل بدولة قطر حيث تم تعيينه مديراً لتحرير جريدة‬ ‫الخليج اليوم‪ ،‬ثم عاد إىل السودان فعمل بالصحافة‬ ‫‪118‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫كتب القصة القصرية واملقالة الصحفية‪ ،‬وكان دائم الحضور‬ ‫يف املحافل واملنابر العربية‪ ،‬بشعره الرصني وإلقائه الجذاب‪.‬‬ ‫مصطفى سند أعطى بسخاء كبري لفرتة طويلة‪ ،‬وهو من‬ ‫الذين وظفوا جامليات اللغة بأسلوب عذب والفت‪ ،‬ويقع‬ ‫شعرهم يف دائرة الغموض‪ ،‬ال اإلبهام‪ ،‬ويتعامل مع شعر‬ ‫الجملة الطويلة الذي يلغي فيها نظام الوقف‪ ،‬كام يرتك‬ ‫نفسه كثرياً لتيار الشعور‪ ،‬وتداخل األزمنة‪ ،‬والهبوط داخل‬ ‫النفس‪ ،‬وكثرياً ما يبدو وكأنه يتحدث من وراء قناع‪ ،‬وبصفة‬ ‫عامة فشعره يتميز بالتداخل‪ ،‬والكثافة‪ ،‬والغموض‪ ،‬واإلضاءة‬ ‫الداخلية التي تنبثق فجأة لتيضء عامله املركب ثم تغيب‬ ‫لتعود كلام اشتدت عتمة الشعر‪.‬‬ ‫هو شاعر يسطع ويعطي عطاء من ال يخىش فقر املعاين‪.‬‬ ‫منذ أن أصدر ديوانه األول «البحر القديم» ومن ثم ديوانه‬ ‫الثاين «مالمح من الوجه القديم»‪ .‬وظل مصطفى سند هو‬

‫اليومية‪ ،‬ثم عني رئيساً ملجلس إدارة الهيئة القومية‬ ‫للثقافة والفنون ملدة أربعة أعوام‪ ،‬كام كان عضواً‬ ‫باملجلس الوطني االنتقايل‪.‬‬ ‫أول دواوينه الشعرية «البحر القديم» عام ‪1971‬م‬ ‫والذي قال فيه‪:‬‬ ‫بيني وبينك تستطيل حوائط ليل‪..‬‬ ‫بيني وبينك تستبني كهولتي‪..‬‬ ‫وتذوب أقنعة الشباب‪..‬‬ ‫ماذا يقول الناس‬ ‫إذ يتاميل النخل العجوز سفاهة‪..‬‬


‫مصطفى سند ‪ ..‬شاعر األسطورة والوطن‬

‫ذاته ذاك الشاعر املتوهج‪ ،‬شاعر يسطع فيه الشعر نهاراً‬ ‫ومثة أحزان تتألق‪ ..‬لكن أين العمر؟‬ ‫وكل عنارص هذي الدنيا غنت لألشواق الكربى‬ ‫أو غنت لإلنسان‪ ..‬فهل غنيت؟‬ ‫تفوق مصطفى سند عىل الكثري من شعراء جيله‪ ،‬واستطاع‬ ‫بتمكن واقتدار أن يرتكز عىل موضوعية الرؤيا‪ ،‬واألداء‬ ‫الشعري الذي يربهن به دامئاً عىل موهبته األنيقة‪ ،‬ولعل من‬ ‫أبرز ما درج عليه يف الكتابة هو استخدامه لألسطورة كداللة‬ ‫ورمز يف مرشوع بحثه عن الذات واالنتامء‪.‬‬ ‫مصطفى سند يبتكر الصورة‪ ،‬ويخلق الرمز‪ ،‬وميأل اآلفاق‬ ‫ألواناً تربق بالجامل‪ ،‬والجامل عنده هو القيمة‪ ،‬والقيمة هي‬ ‫الوطن وأمجاده وبطوالت إنسانه‪:‬‬

‫نجده يكثف الرمز‪ ،‬ويستخدم األسطورة باعتبارها جوهر‬ ‫الوجدان الجمعي‪ ،‬والخيال الشعبي الذي يحتوي عىل‬ ‫الطاقة السحرية الدافقة للتوحد يف ح ّده األدىن يف فضاء‬ ‫إيحايئ من االعتامد واإلميان "ففي األسطورة ليس مثة مادة‬ ‫ميتة أو هامدة بل كل يش حي‪ ..‬خيرّ أو رشير‪ ،‬مألوف‬ ‫أو غريب حسب قول أرنست كاسربر‪ ،‬وهي بهذا تعمق‬ ‫الشعور بالوحدة بني أفراد املجتمع‪ ،‬وتتيح قدراً من التواشج‬ ‫اإلنساين وتبعث معنى االنتامء‪ ،‬فاألسطورة والرمز يتشكالن‬ ‫ويتكونان عند مصطفى سند بكل هذا النقاء املستقبيل‬ ‫الذي يبرش به‪:‬‬

‫أنا هنا رفيق هذه الروافد املزغردات‬

‫يا وجه إين جائع لصباك‬ ‫إين فاتح صدري لسيفك‬ ‫فانغرس‬ ‫ورداً عىل لحم املرارة أو عىل نار السعري‬ ‫يا وجه كن لسواتري شغ ًال‬ ‫به أتفرس املعنى‬ ‫هنالك حيث ال معنى سواك‬ ‫وال حدائق أو شموس‪.‬‬

‫إذا كان الشعر هو «خلق لغة من لغة» كام يقول جان‬ ‫ستاروبنسيك‪ ،‬فإن مصطفى سند استطاع أن يخلص اللغة‬ ‫من السكون‪ ،‬ويحررها من دوائر املامرسة الضيقة‪ ،‬فهو‬ ‫شاعر ينقي األشياء ويصفي عتامتها عرب التأمل املتبرص‪.‬‬

‫ويعود لألرض الخراب‬ ‫ديوانه الثاين حمل عنوان‬ ‫«مالمح من الوجه القديم»‬ ‫وصدر يف العام ‪ ،1978‬ثم‬ ‫أصدر بعد ذلك «عودة‬ ‫البطريق البحري» ‪،1988‬‬ ‫و«أوراق من زمن املحنة»‬ ‫‪ ،1990‬و «نقوش عىل ذاكرة‬ ‫الخوف» ‪ ،1990‬و«بيتنا يف‬ ‫البحر» ‪.1993‬‬

‫‪119‬‬


‫تجارب‬ ‫من أعامل الفنان عمر خريي‬

‫دندنات خلقها ّ‬ ‫املرن‬ ‫يف وسائد الرمل والحجارة‬

‫عندما نظر الشاعر مصطفى سند إىل الجنوب السوداين الذي‬ ‫يحرتق يف أتون الحرب‪ ،‬تلك الحرب األهلية بني أبناء الوطن‬ ‫الواحد‪ ،‬رنا شاعرنا ببرصه بعيداً هناك يف عمق اإلنسان‬ ‫السوداين الجنويب املتأمل املتامهي يف الطبيعة بغاباتها‬ ‫الخالبة‪ ،‬رأى مصطفى سند يف مخيلته أن ذلك اإلنسان الذي‬ ‫يعيش يف تلك الطبيعة ال ميكن له إ ّال أن يكون رقيقاً وودوداً‬ ‫ألن الطبيعة ودودة حانية‪ .‬فمن إذن أوغر يف الناس أسباب‬ ‫االحرتاب ؟ ومن أشعل النار بني أبناء الوطن؟ مصطفى سند‬ ‫يدرك ويعي ويشري إىل الفاعل الحقيقي‪:‬‬

‫املرسجات تنوح من تعب‬ ‫ويرشب زيتها الليل املع ّلق يف مطارات السهر‬ ‫املرسجات الخرض نازفة‬ ‫كأن األرض تنتظر الزالزل‬ ‫والرياح مت ّد أذرعها وتعترص القمر‬ ‫املرسجات‪ ..‬مشارق األرض القدمية يف مغاربها‬ ‫وإرث النيل من زمن العنارص‬ ‫تستحيل الرمل تسكن مواجعه‬ ‫وتنتظر املطر‬ ‫وضع الغزاة عليه ميسم حقدهم‬ ‫وتسلقوا جدرانه الخرضاء أرتاالً‬ ‫ميدون العيون إىل منابعه النبيلة‬ ‫يزحفون من الشامل إىل الجنوب‬ ‫ميزقون هوى الرباعم‬

‫هذا هو مصطفى سند الذي يرسم الحرف من وهج القمر‪،‬‬ ‫وضوء النجوم‪ ،‬وحيداً نراه اليوم يستلهم ويستوحي ما‬ ‫امتألت به روحه من أرواح األجداد‪ ،‬وبكل ما يف األرض من‬ ‫بساطة يقف يف بهو األشعار مرشق الجبني‪ ،‬صادق اليقني‪،‬‬ ‫ناصع الطهارة‪.‬‬ ‫مصطفى سند شاعرنا الذي نلجأ إىل منابعه كلام ظأمت‬ ‫أرواحنا للكلمة الجديدة‪ ،‬أو الرؤية األنيقة‪ .‬هو الشاعر‬ ‫الوحيد الذي منيش عىل موج كلامته وال نبتل باملاء كام قيل‬ ‫عنه دامئاً‬

‫إعداد الفاضل أبوعاقلة‬

‫‪120‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫بيني وبينك تستطيل حوائط ‪..‬‬ ‫ليل ‪ ...‬وينهض ألف باب‬ ‫بيني وبينك تستبني كهولتي‬ ‫وتذوب أقنعة الشباب‬ ‫ماذا يقول الناس إذ يتاميل النخل العجوز سفاهة‬ ‫ويعود لألرض الخراب‪....‬‬ ‫شبق الجروف البكر لألمطار‬ ‫حني ّ‬ ‫تصل يف القيعان رقرقة الرساب‬ ‫عربت مالمحك النضرية خاطري‬ ‫فهتفت ليتك ال تزال‬ ‫للريح خمرك للمساء وللظالل‬ ‫والربق يل ‪ ..‬والرعد والسحب الخطاطيف الطوال‬ ‫تروى هجري النار تحت أضالعي الح ّرى‬ ‫وتلحف يف السؤال‬ ‫ِّ‬ ‫العيش‬ ‫كيف ارتحالك يف‬ ‫بال حقائب أو لحاف؟‬ ‫ترتاد أقبية املكاتب والرفوف السود‬ ‫والصحف العجاف‬ ‫ميص الضوء من عينيك‬ ‫زمنا ّ​ّ‬ ‫املنيس يف الدرج العتيق‬ ‫يصلب وجهك‬ ‫ّ‬ ‫أثرا كومض رشارة تعبى عىل خشب الحريق‬ ‫كيف ارتحالك أيها املصلوب مثل شواهد املوىت‬ ‫بزاوية الطريق‬ ‫سكن السحاب وم ّر طيفك من جديد‬ ‫نرثته ّ‬ ‫كف الربق حني تالحق اإلمياض‬ ‫وانعتقت رشارات الرعود‬ ‫أرخى وأزهر ثم طار زنابق كالفجر المعة الخدود‬ ‫حلق املرايا ّ‬ ‫رن كالناقوس‬ ‫وانفرطت ماليني العقود ‪...‬‬ ‫"من ديوان البحر القديم"‬


‫بورتريه‬

‫حمد أبو شهاب‬

‫شاعر مخضرم‬ ‫‪121‬‬


‫بورتريه‬

‫حمد أبو شهـاب ‪ ..‬ذاكرة وطن‬ ‫أجمع النقاد والباحثون في الشعر اإلماراتي على ريادة الشاعر حمد خليفة أبو شهاب‪ ،‬في التجربة‬ ‫اإلبداعية والشعرية في اإلمارات‪ ،‬ليس في ميدان الشعر النبطي والفصيح فحسب‪ ،‬بل في ميدانين‬

‫ً‬ ‫شأنا عن الشعر وهما التاريخ وعلم األنساب‪ ،‬اللذين خاض غمارهما طيلة مسيرة عطائه‬ ‫آخرين ال يقالن‬ ‫الفكرية‪ ،‬وهو الذي أطلق عليه الباحث في التراث اإلماراتي‪ ،‬بالل البدور لقب «الهزار الشادي»‪ ،‬وقال عنه‬ ‫الباحث علي المطروشي «إنه أحد أبرز الشعراء المخضرمين‪ ،‬الذين عايشوا حقبتين متمايزتين من تاريخ‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫عاما‪ ،‬وتلك تعتبر فترة‬ ‫عاما من حياته قبل االتحاد ثم عاش في ظل االتحاد ‪31‬‬ ‫اإلمارات‪ ،‬حيث أمضى ‪39‬‬ ‫التألق واإلنتاج الغزير في حياته الثقافية»‪.‬‬

‫سامح كعوش‬

‫أسهم‬

‫حمد أبو شهاب يف تأسيس‬ ‫وتقديم أول برامج الشعر يف‬ ‫اإلمارات‪ ،‬وذلك يف أوائل السبعينيات يف تلفزيون‬ ‫ديب‪ ،‬وأرشف عىل إصدار أول صفحة متخصصة يف‬ ‫األدب الشعبي يف صحيفة يومية يف الدولة العام‬ ‫‪ ،1981‬وكانت هذه الصفحة منطلقاً للعديد من‬ ‫اإلصدارات الشعرية البحثية والتوثيقية لعدد كبري‬ ‫من شعراء الدولة‪.‬‬ ‫لقد قدّم الشاعر والباحث حمد أبو شهاب منجزاً شعرياً‬ ‫وبحثياً إماراتياً متميزاً‪ ،‬يستحق به أن يكون فع ًال ذاكرة‬ ‫وطن يف كيان شاعر‪ .‬ومن عظيم شغفه بالرتاث والشعر‬ ‫الشعبي‪ ،‬عمل من خالل عضويته يف لجنة الرتاث والتاريخ‬ ‫واألدوار املتعددة التي شغلها يف الثقافة‪ ،‬عىل التأريخ‬ ‫لإلمارات دول ًة وشعباً‪ ،‬يف كتابه «إطاللة عىل مايض‬ ‫اإلمارات»‪ ،‬حيث تناول تاريخ العوائل الحاكمة والقبائل‬ ‫يف اإلمارات‪ ،‬والحكم والقضاء والثقافة والتعليم واملدارس‪،‬‬ ‫واملعامالت التجارية‪ ،‬والغوص واألشعار الخاصة به‪ ،‬مجتمع‬ ‫البادية والتعريف بالرتاث‪ ،‬كام أسهم يف توثيق الشعر‬ ‫الشعبي يف اإلمارات يف مرحلة متقدمة من البحث يف الرتاث‬ ‫الشعبي مل يسبقه إليها أحد‪ ،‬فقد برز باحثاً يف تاريخ حياة‬ ‫الشاعر املاجدي بن ظاهر وتجربته‪ ،‬يف كتابه «املاجدي بن‬ ‫ظاهر‪ :‬حياته وشعره»‪ ،‬وعام ًال عىل توثيق أشعار عدد من‬

‫‪122‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫شعراء وشاعرات اإلمارات‪ ،‬إذ تناول بالجمع‬ ‫والتدوين تجارب املغفور له الشيخ زايد بن‬ ‫سلطان آل نهيان‪ ،‬الشيخ محمد بن راشد آل‬ ‫مكتوم‪ ،‬ربيع بن ياقوت‪ ،‬حمد بن عبد الله‬ ‫العويس‪ ،‬محمد بن عيل الكوس وفتاة العرب‪،‬‬ ‫كام عمل يف كتابه «شاعرات من اإلمارات» عىل‬ ‫جمع وتحقيق نصوص الشاعرات‪ :‬فتاة الخليج‪،‬‬ ‫املياسة‪ ،‬فتاة جلفار‪ ،‬شيمه زعبيل‪ ،‬آمنة أم خالد‪ ،‬فتاة‬ ‫أبوظبي‪ ،‬زينه زعبيل‪ ،‬أنغام الخلود‪ ،‬هيفاء عجامن‪ ،‬دانة‬ ‫الخليج‪ ،‬الحصباه‪ ،‬فتاة ديب‪ ،‬فتاة الشارقة‪ ،‬األمرية ديب‪ ،‬أريج‬ ‫زعبيل‪ ،‬شوق‪ ،‬فتاة الوصل‪ ،‬ريم الرياض‪ ،‬فتاة البوادي‪ ،‬بنت‬ ‫عجامن‪ ،‬ابتسام الشارقة‪ ،‬نور العيون‪ ،‬ليايل أبوظبي‪ ،‬مي‪،‬‬ ‫زهرة البوادي‪ ،‬مرية ديب‪ ،‬عالية‪ ،‬نودية‪ ،‬ريم البوادي‪ ،‬فتاة‬ ‫الصحاري‪ ،‬شام بنت أحمد‪ ،‬فتاة الحي‪ ،‬فتاة ديرة‪ ،‬أيام‪ ،‬ليىل‬ ‫العامرية‪ ،‬صحارى وغريهنّ ‪.‬‬ ‫توثقت عالقة الشاعر حمد أبو شهاب مع املغفور له الشيخ‬ ‫زايد بن سلطان آل نهيان‪ ،‬مؤسس دولة اإلمارات العربية‬ ‫املتحدة‪ ،‬رحمه الله‪ ،‬فكانت له الحظوة لديه‪ ،‬وليس غريباً‬ ‫أن يطوي املوت صفح ًة زاهي ًة من عمر رائد من رواد املنجز‬ ‫الشعري اإلمارايت يف لحظات ألق البدايات املواكبة للتأسيس‪،‬‬ ‫بصفحات مرشق ٍة من هذا املنجز‬ ‫بني يدي امللهم واملوحي‬ ‫ٍ‬ ‫نفسه‪ ،‬أال وهو املغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان‬


‫حمد أبو شهاب ‪ ...‬شاعر وذاكرة وطن‬

‫آل نهيان‪ ،‬رحمه الله‪ ،‬إذ يسقط الشاعر‬ ‫الراحل يف مقام املغفور له الشيخ زايد‬ ‫رحمه الله‪ ،‬يف مجلسه بقرصه يف جنيف‪،‬‬ ‫حيث تلقفته أيدي األصدقاء عندما‬ ‫أصابته الجلطة وهوى‪ ،‬ويحدّث عن‬ ‫ذلك حمد بن سوقات‪ ،‬يقول‪« :‬كانت‬ ‫ً‬ ‫الساعة تشري إىل العارشة صباحاً تقريبا يوم الثامن من‬ ‫أغسطس «من العام ‪ ،»2002‬عندما وصل أبوشهاب إىل قرص‬ ‫الشيخ زايد يف جنيف‪ ،‬فسلمنا عليه وجلست معه نتحدث‬ ‫فكلمني عن أحواله‪ ،‬وعن العملية الجراحية التي أجريت‬ ‫له قبل سنوات لتغيري خمسة رشايني يف قلبه‪ ،‬وحمد الله‬ ‫أنه ال يشكو من يشء اآلن‪ ،‬ثم ألقى ع ّ‬ ‫يل قصيدة وفعلت أنا‬ ‫كذلك‪ ،‬ثم دعينا إىل الحضور ملجلس الشيخ زايد فجلست أنا‬ ‫قرب الشيخ تفصلني عنه طاولة‪ ،‬بينام جلس أبوشهاب ليس «يا زائد والخري جم وافر‬ ‫بعيداً عنا‪ ،‬ثم وقف أمام الشيخ وتحدث عن سرية الشيخ‬ ‫ويد الكريم عىل الكريم توسع‬ ‫زايد منذ أن كان يف العني وعدد مناقبه وصفاته واستدل‬ ‫لكنك الشمس املضيئة يف الضحى‬ ‫عىل مواقفه النبيلة بأبيات شعرية‪ ،‬وكانت من أفضل السري تذر النجوم شواخصاً إذ تسطع»‬ ‫التي رسدها أبوشهاب ود ّونها‪ ،‬وأظن أنه قرأ ثالث صفحات نعم‪ ،‬ال ميكن لقارئ يف حياة هذا الشاعر أن يغفل إحساسه‬ ‫بثبات ومن دون أن يتغري فيه يشء‪ ،‬ورأيته يجمع األوراق‬ ‫العرويب‪ ،‬واليقني العميق للشاعر اإلنسان بانتامئه إىل‬ ‫بني يديه‪ ،‬واعتقدت أنه سيتقدم بها إىل سمو رئيس الدولة‬ ‫العروبة الكيان‪ ،‬فقد كان الشاعر حمد أبو شهاب عربياً‬ ‫«آنذاك»‪ ،‬ولكنه وقع فجأة عىل الطاولة فتلقفته بني يدي‬ ‫َ‬ ‫شعب عريب أبكته الهزمية‪ ،‬فردد أبيات الرثاء‬ ‫تق ّمص‬ ‫أحوال ٍ‬ ‫وحملته وشعرت كأن روحه قد فارقت جسده‪ ،‬فاجتمع‬ ‫زمن الهزمية‬ ‫والغضب لهزمية أشقائه يف الشام ومرص‪ ،‬يف ِ‬ ‫عليه الحضور ومددوه يف وسط املجلس‪ ،‬وجاء رجال‬ ‫والنكسة التي مزقت قلب الشاعر وجعلته يرصخ ذات‬ ‫اإلسعاف ودلكوا قلبه فلم يستجب‪ ،‬فاستعانوا بجهاز الصعق قصيدة كتبها إثر هزمية العرب يف حرب عام ‪:1967‬‬ ‫الكهربايئ فاستجاب‪ ،‬وذهبوا به إىل املستشفى‪ ،‬و«يقال إنه «أردد يف دجى الليل البهيم‬ ‫أصيب بنوبتني يف أثناء نقله وجاءته الثالثة يف املستشفى‪،‬‬ ‫زفرياً من سويداء الصميم‬ ‫وبقي يف االنعاش حوايل أسبوع مل يتحدث خاللها مع أحد»‪ ،‬وأبيك ال لفقد أب ولكن‬ ‫حتى انتقلت روحه إىل بارئها يوم ‪.»2002/8/19‬‬ ‫لفقد كرامة الوطن الكريم»‬ ‫يستحرض الشاعر حمد خليفة أبو شهاب يف مدحه للشيخ‬ ‫كان الشاعر َّ‬ ‫شعب وأم ٍة يف رجل‪ ،‬وهو الذي‬ ‫سجل تاريخ ٍ‬ ‫آل‬ ‫زايد يف كتابه «قصائد مهداة إىل الشيخ زايد بن سلطان‬ ‫عاش متنق ًال بني اإلمارات من‬ ‫نهيان»‪ّ ،‬‬ ‫كل الصفات‬ ‫عجامن مسقط رأسه يف العام‬ ‫جمــع تراث الشيخ زايد الشـعري‬ ‫التي للممدوح زايد‬ ‫‪ ،1936‬إىل اليمن‪ ،‬والكويت‪،‬‬ ‫الخري‪ ،‬فهو صاحب الخري‬ ‫وخـصـه بمـجمـوعة شـعرية‪،‬‬ ‫والسعودية‪ ،‬ثم اإلمارات من‬ ‫الوفري ويد الكرم‪ ،‬بل‬ ‫لمـا رأى فيه مـن مثال الحاكــم‬ ‫جديد‪ ،‬وكان األمني يف توثيقه‬ ‫يصفه بالشمس املضيئة‬ ‫لتاريخ مفص ٍّ‬ ‫يل يف‬ ‫بالشعر‬ ‫ٍ‬ ‫العـادل‪ ،‬والوالـد واألخ والصديق‬ ‫يف الضحى‪ ،‬التي تذر‬ ‫النجوم حني سطوعها‪ ،‬وهو الباين ملجد‬ ‫الوطن واألمة‪ ،‬املتفاين يف حمل همومها‬ ‫والتفرغ لقضاياها‪ ،‬وهو زايد الذي متتد‬ ‫يده البيضاء ملساعدة أبناء العروبة يف‬ ‫كل مكان‪ ،‬حتى لرناها تسهم يف إعادة‬ ‫بناء س ّد مأرب يف اليمن‪ ،‬مستعيداً‬ ‫املجد القديم بارتباط اسمه ببناء هذا السد الذي حمى‬ ‫أرض اليمن من الطوفان والسيول‪ ،‬وكأننا بالشاعر يرتقي‬ ‫مبمدوحه مقامات األسطورة العليا‪ ،‬حيث يصري للممدوح‬ ‫اسامن أو اسم واحد بداللتني‪ ،‬األوىل قريبة وهي اسمه‬ ‫«زايد» والثانية بعيدة وهي ما يرتبط باسم السد «مأرب»‬ ‫من دالالت التاريخ واألسطورة‪ ،‬يقول الشاعر حمد خليفة‬ ‫أبو شهاب‪:‬‬

‫‪123‬‬


‫بورتريه‬

‫بحرشجات‬ ‫عمر العروبة‪ ،‬التي أبكته وجعلته يزفر األمل‬ ‫ٍ‬ ‫يحاول أن يخفيها يف ثنايا قصيده وال يستطيع‪ ،‬فتظهر جليةً‬ ‫للقارئ والسامع‪ ،‬منبثق َة من قلبه املتأمل وسويداء صميمه‪،‬‬ ‫أب ولكن لفقد كرام ٍة‪.‬‬ ‫باكياً ال لفقد ٍ‬ ‫يستنطق الشاعر حمد أبو شهاب التاريخ العريب كأنه‬ ‫خالدات‪ ،‬بل يصنعه‪ ،‬وهو يرصخ أن‬ ‫يسجله يف قصائد‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫نفدت قدراته الشعرية فناء الورق بحمل األرق‪ ،‬هذا األرق‬ ‫الجمعي ال الفردي فحسب‪ ،‬وهنا ينكأ الشاعر جرح القوم‬ ‫بأن يخربهم مبا غفلوا أو تغافلوا عنه من انهزام وتخاذل‪،‬‬ ‫مرجعيات داللية مغايرة‪،‬‬ ‫مع ميزة إحالة اللغة الشعرية إىل‬ ‫ٍ‬ ‫مفردات‬ ‫كأن يربز الوجع الذايت ليشري إىل الهم الجمعي‪ ،‬يف‬ ‫ٍ‬ ‫منها «ليحزنني ‪ > - -‬أنا»‪« ،‬إرهاقي ‪ > - -‬أنا»‪ ،‬يتبعها‬ ‫مبساحة الفراغ الداليل حني تصري براء ًة من جرم الخضوع‬ ‫عرب القطيعة مع الراهن باملوقف الشعري الجازم الحازم‪،‬‬ ‫يف قوله «برئت من العروبة إن رضيتم‪ /‬بهذا الواقع امل ّر‬ ‫األليم»‪ ،‬وانعتاقاً من فعل الجامعة املتخاذل بالصمت عرب‬ ‫فعل األنا الشاعرة بالقول ُ‬ ‫«قلت»‪ ،‬والفعل الحارض مع‬ ‫التوكيد «إين ألبرأ»‪ ،‬يقول‪:‬‬

‫«إين ألبرأ من تخاذل أمة‬ ‫ما انفك يحكمها الهوى األمار‬ ‫وإذا أ ّمل بها مصاب فادح‬ ‫أمىس ردود فعالها استنكار»‬

‫الفعيل عرب رفض الواقع والتمرد عليه بالقصيدة كأداة‬ ‫وعنرص تغيري‪ ،‬يقول‪:‬‬

‫«إين ليحزنني تخاذل أمتي‬ ‫عن حقها ويزيد يف إرهاقي‬ ‫لو قلت ألف قصيدة وقصيدة‬ ‫خرجت شظاياها من األعامق‬ ‫ما حركت منا ضمرياً ميتاً‬ ‫أفني ليايل العمر يف اإلخفاق»‬

‫يستعيد الدور التاريخي للشاعر العريب القديم‪ ،‬فيشكو‬ ‫صعلوك جاه ٍّ‬ ‫يل متمر ٍد‬ ‫تخاذل القوم يف نسخة حديثة عن‬ ‫ٍ‬ ‫عىل قومه كطرفة بن العبد‪ ،‬ومع ّذب يف قومه كام عنرتة بن‬ ‫زمن تعاظمت فيه األخطار وتقطعت أوارص‬ ‫شداد‪ ،‬ولكن يف ٍ‬ ‫الكيان املمتد من خليج إىل محيط‪ ،‬لينضم يف هذا املوقف‬ ‫إىل شعراء عرب كنزار قباين والس ّياب والبيايت وعبد الصبور‬ ‫والفيتوري ودنقل‪ ،‬شعراء عايشوا النكسة وكتبوا فيها قصائد‬ ‫أح ّد من العلقم وأم ّر من الحنظل‪ ،‬إذ ينظم بو شهاب شعره‬ ‫األنيق باكياً عروب ٍة انهزمت‪ ،‬مستذكراً أمجاد عروب ٍة تعيث‬ ‫بعزّتها أيدي األعداء‪ ،‬تعمل فيها متزيقاً يتواىل نكس ًة إث َر‬ ‫العرب باتوا النديم لهذا األمل املقيم‪ ،‬يف قلب‬ ‫نكسة‪ ،‬فكأن‬ ‫َ‬ ‫هذه األمة‪ ،‬يف املساحة الواقعة بني قدس رشيفة وقاهرة‬ ‫املعز املنكرسة بجراح النكسة‪ ،‬يقول‪:‬‬

‫«فوا ٍه للعروبة كيف عاثت‬ ‫بعزتها يد الوغد األثيم‬ ‫أرى النكسات ال ّ‬ ‫تنفك ترتى‬ ‫ونحن ضحية الفهم السقيم‬ ‫كأن لتلكم النكسات ثأراً‬ ‫لدينا أو تفتش عن نديم»‬

‫يتميز حمد أبو شهاب مبواقفه الحازمة تجاه أوليات االنتامء‬ ‫العرويب والوالء لألمة يف مصريها املشرتك وهمها املتوزع‬ ‫عىل كافة الجسد العريب من املحيط إىل الخليج‪ ،‬وهي‬ ‫األمة التي تخاذلت عن ح ّقها يف رأي الشاعر‪ ،‬األمر الذي‬ ‫زاد من إرهاقه وتعب روحه‪ ،‬حيث يصل الشاعر بالحقل‬ ‫املعجمي لقصيدته مص ّعداً موقفه الشعري إىل املشرتك‬ ‫ويبقى االشتهار األول للشاعر حمد خليفة أبو شهاب كشاعر‬ ‫الداليل الجمعي يف عبارته «ما ح ّركت منّا»‪ ،‬ليربز الشاعر‬ ‫غزيل بامتياز‪ ،‬ميتلك من املشاعر الرقيقة وامليول الرومانسية‬ ‫مستنهضاً نخوة‬ ‫ما امتلك شعراء لبنان ومرص‬ ‫الخريين الغيارى من‬ ‫أسهم في توثيق الشعر الشعبي الرومانسيون‪ ،‬فهو يقيم عالقة‬ ‫أبناء األمة وشعرائها‪،‬‬ ‫التوازي والتشابه بني ضفاف‬ ‫وهو يف ذلك يح ّفز‬ ‫في اإلمارات فـي مرحلة متقدمـة‬ ‫بردى يف دمشق‪ ،‬والربدوين يف‬ ‫املوقف القويل‬ ‫من البحث في التراث الشـعبي‬ ‫لبنان والنيل يف مرص‪ ،‬وضفاف‬ ‫ويؤسس للموقف‬ ‫بحر عجامن يف اإلمارات الشاملية‬ ‫لم يســبقه إليها أحـد‬ ‫‪124‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫حمد أبو شهاب ‪ ...‬شاعر وذاكرة وطن‬

‫من الدولة‪ ،‬حيث يبدأ شعره األول يف الغزل بقصيدة‬ ‫«أتذكرين»‪ ،‬وهي قصيدته الغزلية األوىل كام يعتربها هو‬ ‫يف قوله عنها يف إحدى جلسات القراءات الشعرية قبل أن‬ ‫يقرأها‪« :‬لعلها أول قصيدة قلتها يف الغزل»‪.‬‬ ‫يقيم الشاعر أبو شهاب مجداً أزلياً للقصيدة الرومانسية يف‬ ‫اإلمارات‪ ،‬وهو يف خطابه حبيبته التي يسميها «ليىل» يف‬ ‫القصيدة‪ ،‬ورمبا يكنّي بها عن أسامء أخرى يف الواقع واملكان‪،‬‬ ‫ال تسمح أعراف املكان بذكرها رصاح ًة‪ ،‬وهو يضفي عىل‬ ‫محبوبته تلك الهالة األسطورية مجدداً كام يفعل يف املديح‪:‬‬

‫وهي الفاعلة يف الطبيعة بجاملها وسحرها األنثوي الفتان‪،‬‬ ‫تشري للرذاذ فيتفجر ويحيي الروايب‪ ،‬وتأمر البدر فيسكب‬ ‫النور من ألقه‪ ،‬كام يربع الشاعر يف تحريكه للتوتر النيص‬ ‫كحراك عشقي تباديل وصوالً إىل ما يشاؤه من تحفيز عىل‬ ‫معاودة اللقاءات الغرامية‪« ،‬أتذكرين ‪ >- -‬أم تذكرين ‪> - -‬‬ ‫ٌ‬ ‫أعائدات ليالينا التي سلفت ‪ > - -‬ليىل فديت ُِك ما أحىل‬ ‫ليالينا»‪ ،‬يقول‪:‬‬

‫«أم تذكرين رذاذ القطر ليلتها‬ ‫ذاك الرذاذ الذي يحيي روابينا‬ ‫والبدر يسكب نوراً من تألقه‬ ‫حيناً وتحجبه سحب السام حينا‬ ‫أعائدات ليالينا التي سلفت‬ ‫ليىل فديتك ما أحىل ليالينا»‬ ‫ً‬ ‫وهو إذ يشري إليها بالجحيم والجنة معا‪ ،‬يؤكد عىل حالة‬ ‫«أتذكرين عىل الشاطئ تالقينا‬ ‫الرومانسية الخالصة التي برع فيها شاع ٌر من اإلمارات‬ ‫ليىل وعطر الضفاف الخرض يهدينا‬ ‫ال ّ‬ ‫يقل شأواً وشأناً عن شعراء الشام ومرص يف محاكاة‬ ‫من النسيم شذا يهنا الفؤاد به‬ ‫الرومانسية الغربية‪ ،‬والفرنسية تحديداً طوال عقود‬ ‫ونحن عن طيبه إذ ذاك الهينا‬ ‫متتالية يف القرن املايض‪ ،‬فال رومانسية بال عذاب وموت‬ ‫ال ٍه كالنا بألحان يرددها‬ ‫يف الحب وفناء يف ذات الحبيبة‪ ،‬وال رومانسية بعيداً‬ ‫عرب األثري وصايف الحب يسقينا»‬ ‫عن ملحمي ٍة أورد مالمحها عنرتة يف معلقته حني أشار‬ ‫وهو الشاعر الذي يخترص يف تجربته ّ‬ ‫كل ما عرفه‬ ‫ٌ‬ ‫نواهل مني‪ /‬وبيض الهند‬ ‫العرب من تجارب شعرية يف الغزل والحب‪ ،‬مستخدماً إىل «ولقد ذكرتك والرماح‬ ‫ُ‬ ‫فوددت تقبيل السيوف ألنها ملعت‬ ‫أساليب لغوية فيها الكثري من الحداثة والجدة قياساً إىل تقطر من دمي‪/‬‬ ‫كبارق ثغرك املتبسم»‪ ،‬بل كأنه يذهب إىل ملحمية‬ ‫العرص الذي عاشه‪ ،‬وهو سبعينيات ومثانينيات القرن‬ ‫خاصة بالشعراء وحدهم خارج أوار املعارك وصليل‬ ‫املايض‪ ،‬فهو يستخدم االستفهام ليدل عىل الجواب‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫مقتول‬ ‫السيوف‪ ،‬حيث األنثى قاتلة بلحظها‪ ،‬والشاعر‬ ‫«أنت» املخاطبة‪،‬‬ ‫ويحرك الشخصيات عرب ضامئر ِ‬ ‫ّ‬ ‫بحظه منها‪ ،‬كام يف تجربة امرئ القيس وقوله «أغ ّر ِك‬ ‫ً‬ ‫و«نا» الجامعة‪ ،‬حيث أنا الشاعر غائبة متاما وهي‬ ‫مني أن حبك قاتيل»‪ ،‬فها هو حمد خليفة أبو شهاب‬ ‫يف غيهب العشق والشغف واللهو عن الذات بذاتها‬ ‫يرصح بعذابه يف الحب والفناء يف حرضة سطوتها‬ ‫ّ‬ ‫الحبيبة األخرى‪ ،‬هذه الذات التي يراها الشاعر الروح‪،‬‬ ‫املهجة‪ ،‬العيون‪ ،‬الجحيم‪ ،‬الجنة‪ ،‬الجنون‪ ،‬النور والبهجة وسحرها‪ ،‬وهو القائل‪:‬‬ ‫«أناديك هل تدرين ما سبب الندا‬ ‫والرسور‪ ،‬يقول عنها ذات قصيدة‪« :‬أنت روحي‬ ‫ومهجتي وعيوين‪ /‬وجحيمي وجنتي وجنوين‪ /‬أنت أحىل فؤاد عليه جفنك الفاتن اعتدى‬ ‫فخلفه شلوا رصيعاً ممزقاً‬ ‫من املنى يا حيايت‪ /‬بل وأحىل من الكرى يف الجفون‪/‬‬ ‫أنت نوري وبهجتي ورسوري‪ /‬وأنييس وراحتي وفتوين»‪ .‬يساق بسيف اللحظ قرساً إىل الردى»‬ ‫‪125‬‬


‫بيت الشعر‬

‫بيت الشعر الفلسطيني‬ ‫فضاء لالختالف وحراسة الحلم‬ ‫خالل فترة زمنية وجيزة استطاع بيت الشعر الفلسطيني أن يصبح أحد الفاعلين األساسيين على ساحة‬ ‫العمل الثقافي الفلسطيني‪ ،‬وهو يضع اليوم نصب عينيه إقامة أكاديمية للشعر‪ ،‬وتوحيد بيوت الشعر‬ ‫العربية‪.‬‬

‫مراد السوداني‬

‫تم‬

‫تأسيس «بيت‬ ‫الشعر» يف‬ ‫فلسطني ليكون البيت الرابع‬ ‫يف وطننا العريب الواحد‪ ،‬بعد‬ ‫تونس والشارقة واملغرب‪،‬‬ ‫ومن بعدها أقيمت بيوت‬ ‫الشعر يف غري بلد عريب‪.‬‬ ‫إن بيتنا – بيت الشعر يف‬ ‫فلسطني – الذي أعلن حضوره األكيد يف الحياة الثقافية‬ ‫الفلسطينية والعربية هو وعد بالتواصل والحراسة عرب‪:‬‬ ‫إننا نرى يف «بيت الشعر» يف فلسطني وسيلة للمثقفني‬ ‫الفلسطينيني لتعميق مرشوعهم اإلبداعي وتكريس دورهم‬ ‫يف تأكيد الحرية وبنائها‪ ،‬ورغبتهم يف اإلضاءة عىل الشعر‬ ‫الفلسطيني يف إغناء الحياة وحراسة الحلم‪.‬‬ ‫ّإن تأسيس «بيت الشعر» يف فلسطني ال يعني عىل اإلطالق‬ ‫اقرتاحاً للنص أو للكتابة‪ ،‬وال يحدد اتجاهاً بعينه‪ ،‬بقدر‬ ‫ما يؤسس لفضاء االختالف والجدل واالقرتاح والتجريب‬ ‫والتجديد والبحث عام هو أعمق يف تجاربنا‪ ،‬وهو محاولة‬ ‫من شعراء ومبدعي فلسطني لتجاوز حاجز الجغرافيا‬ ‫والسياسة الذي فرض تقسيامته عىل واقعهم‪ ،‬نحو وحدة‬ ‫املرشوع الثقايف الفلسطيني‪ ،‬الوحدة املبنية عىل الجدل‬ ‫والحوار والتواصل وتثبيت جسورهم مع عمقهم العريب‬ ‫واإلنساين‪.‬‬

‫‪126‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫عرب سريته اإلبداعية خطا‬ ‫«بيت الشعر» خطوات رائدة‬ ‫وملموسة عىل طريق تأصيل‬ ‫الرتاث الشعري والنهوض‬ ‫بالحركة الشعرية الفلسطينية يف‬ ‫إطار استعادة املبادرة الثقافية‬ ‫وتحريك عجالت اإلبداع نحو‬ ‫مسافات أكرث رحابة وأبعد مدى‪.‬‬ ‫وإليصال الصوت إىل األعامق واألقايص فقد أسس «بيت‬ ‫الشعر» دار (الزاهرة) للنرش والتوزيع‪ ،‬حيث يصدر‬ ‫عن هذه الدار كل مطبوعات املركز الشعرية والنقدية‬ ‫والشهادات التوثيقية‪ .‬وقد جاءت (الزاهرة) لتس ّد ثغرة‬ ‫يف سياق الطباعة والنرش لعدم توفر دار نرش وطنية يف‬ ‫فلسطني‪.‬‬ ‫وألن من حقّ الجيل الجديد علينا أن نأخذ بيده ونساهم يف‬ ‫دعمه فقد احتضن «بيت الشعر» اإلبداعات الجديدة وفتح‬ ‫لها األبواب مرشعة لرتى النور‪ ..‬فنرش لهم غري مجموعة عن‬ ‫وشجع األصوات الشابة بدعم الديوان األول لهم‪،‬‬ ‫(الزاهرة) ّ‬ ‫إضافة لنرش إبداعاتهم يف فصليتي «الشعراء» و«أقواس»‪.‬‬ ‫يف السياق ذاته فإن فصلية «الشعراء» الثقافية املتخصصة‬ ‫التي يصدرها املركز حققت حضوراً عربياً وعاملياً باعتامدها‬ ‫واحدة من أهم ثالث فصليات ثقافية يف حوض البحر‬ ‫األبيض املتوسط‪ ،‬وباعتامدها عدداً من املكاتب يف البلدان‬


‫بيت الشعر الفلسطيني‪ ..‬فضاء لالختالف وحراسة الحلم‬

‫بيت الشعـر الفلسـطيني يضع‬ ‫بين األشقـاء الزمالء فـي بيوت‬ ‫الشـعـر العربية مقترحـ ًا بضرورة‬ ‫توحيد بيوت الشعر العربي تحت‬ ‫مسمـى «بيت الشعـر العربي»‬ ‫ّ‬

‫العربية واألجنبية‬ ‫أوصلت «الشعراء»‬ ‫صوتها واضحاً وجلياً‬ ‫إىل بؤر اإلبداع لتحقق‬ ‫تواص ًال ثقافياً الفتاً‪ ،‬وقد‬ ‫صدر منها حتى اآلن‬ ‫(‪ )30‬عدداً‪ ،‬باإلضافة لطبعة عربية‪.‬‬ ‫كام أنجح «بيت الشعر» ملتقى فلسطني الشعري األول‪،‬‬ ‫وكذلك تم عقد ملتقى الشعراء الشباب يف غزة‪ ،‬حيث شارك‬ ‫عدد من املبدعني والشعراء الشباب تخللها أمسيات شعرية‬ ‫وندوات‪ ،‬والعمل جا ٍر ليكون هذا امللتقى سنوياً‪.‬‬ ‫أ ّما بالنسبة للنرش فقد أصدر املركز عن «الزاهرة» للنرش‬ ‫والتوزيع ما يزيد عىل مائة وخمسني إصداراً يف السرية‬ ‫الشعرية واملختارات واملجموعات الشعرية‪ .‬كام تم إصدار‬ ‫«كتاب الشعراء» وهو كتاب لشاعر مح ّ‬ ‫يل أو عر ّيب يوزع‬ ‫فصلياً مع مجلة «الشعراء»‪ ،‬وعن «الزاهرة»‪ ،‬أيضاً‪ ،‬صدرت‬ ‫عرشة كتب عراقية ملبدعني عراقيني داخل الحصار ‪.‬‬ ‫ومن أجل تثبيت األصيل يف الروح والتجربة فقد أع ّد املركز‬ ‫«معجم الشعراء الفلسطينيني» والذين يزيد عددهم عىل‬ ‫‪ 350‬شاعراً منذ بداية القرن وغريها من األنطولوجيات‬ ‫الشعرية‪ ،‬ثم وضعهم عىل اإلنرتنت ليفيد من ذلك الباحثون‬ ‫والدارسون وحامية للذاكرة من النهب والنسيان‪.‬‬ ‫وبتأسيس «النوادي الشعرية» يف الجامعات الفلسطينية‬ ‫وربطها بـ «بيت الشعر» يكون «بيت الشعر» قد وضع يده‬ ‫عىل منابع اإلبداع واألصوات الجديدة واملشاريع اإلبداعية‬ ‫التي تحتاج لالهتامم والرعاية‪ .‬ويذكر أن املميز والالفت‬ ‫من هذه اإلبداعات يتم نرشه يف مجلة «أقواس» لألخذ بيد‬ ‫هؤالء املبدعني وتشجيعاً لهم‪.‬‬ ‫وأعلن «بيت الشعر» عن جائزة «بيت الشعر» ألفضل‬ ‫وتم تشكيل لجنة عرب املركز لتكريس تقليد‬ ‫منجز شعري‪ّ ،‬‬ ‫ثقايف بأبعاد معنوية ومادية وتكتسب الجائزة أهمية خاصة‬ ‫كونها تصدر عن مركز متخصص يعنى بالشعر وفضاءاته‪.‬‬ ‫وفق ما سبق وغريه يواصل «بيت الشعر» الحفر اإلبداعي‬ ‫وم ّد جسور املثاقفة والتواصل حتى ّ‬ ‫تظل فلسطني رأس‬ ‫حربة ثقافية ضد التغريب والهيمنة والوصاية والنهب‪.‬‬ ‫واستطاع «بيت الشعر» أن ينفد إىل العمق العريب عرب‬

‫تكريم عدد من املبدعني‬ ‫والشعراء العرب تحقيقاً‬ ‫للتواصل وتأسيساً عىل الوفاء‬ ‫قنطرة للناجز واألكيد‪ .‬حيث‬ ‫تم تكريم الشاعر الراحل‬ ‫محمد عفيفي مطر وصدر‬ ‫عدد مزدوج عن تجربته يف مجلة (الشعراء) العام ‪،2005‬‬ ‫وكذلك الشاعر محمد بنيس وعدد مزدوج عن تجربته‬ ‫الشعرية واالحتفاء بدوره الريادي يف محاولة من بيت‬ ‫الشعر للتواصل مع األشقاء العرب من املثقفني والشعراء‬ ‫الذين كتبوا وانحازوا لفلسطني قضية وثقافة‪ ،‬كام تم تظهري‬ ‫عدد من املشاريع الثقافية لعدد من املبدعني الفلسطينيني‬ ‫يف الشتات‪،‬فتم استزراع مقولة كل من الشعراء املؤسسني يف‬ ‫الثقافة الفلسطينية من الكتيبة األوىل وتم جمع أعاملهم‪:‬‬ ‫برهان الدين العبويش‪ ،‬حسن البحريي‪ ،‬يوسف الحسون‪،‬‬ ‫يوسف الحطيني‪ ،‬يوسف الخطيب‪ ،‬ناجي علوش‪ ،‬خليل‬ ‫زقطان‪ ،‬وغريهم من األسامء الوازنة التي أسست مداميك‬ ‫الثقافة الوطنية يف سياق تواصل األجيال وتجاور التجارب‬ ‫الشعرية لإلفادة وتحقيق األصيل والحقيقي يف الروح‬ ‫والتجربة‪ .‬وك ّرس «البيت» تكريم الشعراء الفلسطينيني يف‬ ‫حياتهم سياقاً عالياً يليق بدورهم وتجاربهم‪.‬‬ ‫ّإن الحصار الذي تع ّرض ويتع ّرض له بيت الشعر بق ّلة الزاد‬ ‫عىل الرغم من وحشة الطريق وفداحة املسؤولية‪ ،‬مل يحل‬ ‫من دون إكامل البيت لسريته ومسريته التي يطمح أن‬ ‫تت ّوج بـ «أكادميية الشعر يف فلسطني» لتكون الثانية بعد‬ ‫«أكادميية الشعر يف أبوظبي» ملا للشعرية الفلسطينية من‬ ‫حضور وأهمية يف املعامر الشعري العريب واإلنساين‪.‬‬ ‫وملناسبة اليوم العاملي للشعر فإن بيت الشعر الفلسطيني‬ ‫يضع بني األشقاء الزمالء يف بيوت الشعر العربية مقرتحاً‬ ‫برضورة توحيد بيوت الشعر العريب تحت مس ّمى «بيت‬ ‫الشعر العريب» أسوة باالتحاد العام لألدباء والكتّاب العرب‪.‬‬ ‫ويف سياق تكريم بيت الشعر لألسامء الوازنة يف الشعرية‬ ‫الفلسطينية انحاز للتعريف بإرث أربعة من األسامء العالية‪،‬‬ ‫يوسف الخطيب‪ ،‬خالد أبو خالد‪ ،‬ناجي علوش‪ ،‬ومحمد اليف‪،‬‬ ‫فهم مربع شعري وثقايف بامتياز نيضء عليهم مبقولة الوفاء‬ ‫هنا تأكيداً عىل السرية واملسرية‬ ‫‪127‬‬


‫فن القول‬

‫«سالم»‬ ‫ْ‬ ‫تعبير من القول‬ ‫الشعري!‬ ‫محمد المزديوي‬

‫"سالم"‬ ‫ْ‬

‫ٌ‬ ‫لحظة ما‪ ...‬إنه لحظة إنصات‪ ،‬لحظة تسامح‪ ،‬لحظة لقاءات‪ ،‬لحظة‬ ‫هو رمبا فنّ ‪ ،‬هو رُبمّ ا حركة‪ ،‬ولكنه‪ ،‬يقيناً‪،‬‬ ‫تقاسم‪ .‬ما هو ْسالم؟ إن كلمة ْسالم تعني يف اللهجة الشعبية األمريكية "‪( "claque‬رضبة‪ /‬طرقة‪ /‬صدمة) و"‬ ‫ُ‬ ‫‪( "impact‬تأثري‪/‬مفعول)‪ ،‬وهو تعبري مستعا ٌر من تعبري "سالم ذي دور"‪ ،‬أي "صفق الباب"‪ .‬ويف إطار الشعر‬ ‫والص َور‪ ،‬من أجل زعزعته‪ ،‬والتأثري‬ ‫الشفهي والعمومي‪ ،‬يتعلق األم ُر باإلمساك بياقة (قميص) املستمع وط ْرقه ورضبه بالكلامت ُّ‬ ‫عليه‪ .‬الشعر الحي الناتج من إنجازات "البيت جرنايشن" (جيل البيت‪ /‬جيل املتعبني)‪ .‬هذا الشعر الذي استوىل عليه شعراء‬ ‫الشارع ومغنو الراب‪ ،‬الراغبون يف الخروج من إطار "الهيب بوب"‪ .‬وقد ابتدأ األمر‪ ،‬يف بداية سنوات ‪ ،1980‬مارك سميث يف‬ ‫شيكاغو‪ ،‬تحت شكل قراءات عمومية‪ ،‬من أجل تعزيز شعبية هذا الجنس الشعري وبهدف عبور األطليس يف سنوات التسعينيات‬ ‫السالم مينح إمكانية للجميع لقول الشعر مبناسبة أمسيات منظمة يف مقا ٍه وأماكن عمومية‪ .‬وسواء كان‬ ‫من القرن العرشين‪ْ .‬‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫رتجال فهو يتناسب مع لحظة ميكن خاللها قول كل شكل من أشكال الشعر أو يش ٍء َما له عالقة‪ ،‬من‬ ‫"سالم" مقروءاً أو ُمر َّت ًال أو ُم َ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫"سالم" هي لحظة نقول حينها الشعر يف‬ ‫قريب أو من بعيد‪ ،‬بهذا الفن‪ .‬وألن هذا الفن ليس عىل اإلطالق شكال خاصا من الشعر‪ْ .‬‬ ‫كل أشكاله‪ ،‬موزونة كانت أو غري موزونة ومقفاة أو غري مقفاة‪ ،‬نابعة من أي تيار شعري‪ .‬وإن فن ْسالم مينح نوعاً من اإلدراك غري‬ ‫املتميز‪ ،‬وهو أحياناً يكون مفاجئاً‪ ،‬رها ُن ُه ليس هو املطلق األديبّ‪ .‬إنه شع ُر اللحظة‪ ،‬والذي له نزوعٌ يف معظم األحيان أ ّال يتجاو َز‬ ‫مكان حياة وتفكري و ُردود ِف ْعل تلقائية‪ .‬إنه مكان ُ‬ ‫السالم ُ‬ ‫السالم يجعل من‬ ‫تقاطع أيضاً‪ ،‬وتجارب‪ْ .‬‬ ‫إطار هذه اللحظة‪ .‬إن َم ْشهَد ْ‬ ‫"سالم"‬ ‫املمكن‪ ،‬أثناء إنشاد قصيدة‪ ،‬إعادة بناء نسيج اجتامعي يعاين من كل ما يصنعه عاملنا من تفاوتات وعنف وعدم فهم‪ْ .‬‬ ‫"سالم" اكتسح‪ ،‬شيئاً فشيئاً‪ ،‬املدارس والثانويات واملراكز االجتامعية‬ ‫هو مكان تعبري شعري وتعبري وتسا ُمح‪ .‬من املدهش أن ْ‬ ‫والجمعيات‪ ،‬عىل الرغم من أن رشيحة املراهقني محرومة من حضور األمسيات‪ .‬كيف ميكن االنتقال من الحانات إىل مقاعد‬ ‫املدرسة؟ الفاعلون االجتامعيون رأوا األمر بعني الرضا‪ ،‬ألنه يف املقام األول يتيح التشجيع عىل الكتابة واالشتغال عليها تحت كل‬ ‫أشكالها‪ ،‬ثم إن األمر يتيح القول واكتشاف التعبري الشفهي‪ ،‬وأخرياً يقود األمر لتع ّلم اإلنصات لآلخرين‪ .‬يتعلق األمر بالكتابة‪ ،‬ألنه‪،‬‬ ‫حتى يف إطار الشفهية وحتى يف ميدان االرتجال‪ ،‬تظل الكتاب ُة ُمحت َّل ًة للر ّيادة‪ ،‬سواء كانت شك ًال خطياً‪ ،‬موضوعاً عىل ورق‪ ،‬أو غري‬ ‫خطي‪ ،‬أي مكتوباً بطريقة شفهية أو يف رأس الشاعر‪ .‬األوراش التي تنطلق من إكراهات أو من ألعاب كتابية وشفهية بسيطة‪،‬‬ ‫يك تتجه إىل أشكال أكرث تعقيداً وأكرث حميمية‪ ،‬تقود املشاركني إىل امتالك وعي بكتابتهم وبأصواتهم الخاصة و َن َف ِسهم الداخيل‪.‬‬ ‫إنها تزن الكلامت وتنظفها ومتنحها حمولة شخصية‪ .‬ورشة كتابة ْسالم‪ ،‬من جهة أصولها‪ُ ،‬تد ِرج‪ ،‬دفعة واحدة‪ ،‬الكتابة يف مامرسة‬ ‫متنوعة ومفتوحة‪ .‬إن ْسالم‪ ،‬يف حقيقة األمر‪ ،‬ال يتميز بجنس واحد بل باإلضافة والكوالج واملزج بني ثراء اللغة الشفهية وأيضاً‬ ‫"سالم"‬ ‫التعبري الصويت والرنة والريتم (اإليقاع) وكل أساليب الكتابة من شعر وأغنية وهيب هوب وشكل رسدي وارتجال‪ .‬ال يدخل ْ‬ ‫يف تنافس مع الشعر‪ ،‬ألنه جز ٌء منه‪ ،‬ولكنه يناضل يك يجد مكاناً له تحت شمس الشعر الواسعة‪ ،‬ولو اضطره األمر إىل االستعانة‬ ‫بأشكال وتعبريات وتجارب أخرى‪ ...‬يكتب الفنان الفرنيس ‪ Grand Corps Malade‬وهو من أهم ممثيل هذا الجنس الغنايئ‬ ‫لقص حياتهم‪ ،‬إنها هي‪ ،‬إ ّن ُه هو‪ ،‬هو أنا‪ ،‬هُ ْم نحنُ ‪ ،‬نأيت‬ ‫ْسالم‪ ،‬يف هذه املرحلة‪َ :‬منْ هُ م هؤالء األشخاص الغامضون الذين يأتون ّ‬ ‫هم بالنسبة لنا‬ ‫م‬ ‫ر‬ ‫األم‬ ‫وهذا‬ ‫سعيدة‬ ‫حتى إن مل تكن لديك رغبة‪ ،‬لكن إذا أ ْن َص ِّت لنفسك قلي ًال‪ ،‬ربمّ ا ستكونني‬ ‫ُ ُ ٌّ‬

‫‪128‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫تحقيق‬

‫شعراء الجنوب المصري بعد أمل دنقل‬

‫أيتام المنابر‬ ‫ظل شعراء الجنوب المصري غائبين عن دوائر الضوء واإلعالم منذ رحيل الشاعر أمل دنقل‪ ،‬وكان ذلك‬ ‫مثار حيرة وأسئلة‪ ،‬أولها تركيز المنابر على شعراء العاصمة‪ ،‬ثم لماذا لم يظهر في الجنوب شاعر بقامة أمل‬ ‫دنقل‪ ،‬وهل يعني ذلك أن صعيد مصر يفتقر للشعراء المتميزين؟‬

‫القاهرة‪ -‬حمزة قناوي‬

‫شعراء من جنوب مرص لهم دواوينهم‪ ،‬ونال بعضهم جوائز‬ ‫وحظي بالتكريم وشارك يف مهرجانات‪ ،‬لكن هذا مل مينحهم‬ ‫بطاقة عبور إىل «منت» املشهد املرصي الحديث كالكثري‬ ‫من شعراء العاصمة واألقاليم الكربى الذين ميلؤون املنابر‬ ‫واملطبوعات‪.‬‬ ‫«بيت الشعر» طرحت االسئلة عىل كوكبة من شعراء‬ ‫الجنوب للوقوف عىل نظرة هؤالء تجاه التمييز واسبابه‪،‬‬ ‫وموقعهم عىل خارطة الشعر‪.‬‬ ‫أشرف البوالقي‬

‫لديه عدة دواوين منها «جسدي وأشياء تقلقني كثرياً»‪،‬‬ ‫و«واحدٌ مييش بال أسطور ٍة»‪« ،‬وسلوى ِورد الغواية»‪.‬‬ ‫كانت البداية من سؤال‪ :‬شعراء الجنوب يف مرص‪ ..‬أين هم‬ ‫وملاذا ميارسون هذا الغياب منذ أمل دنقل؟‪.‬‬ ‫البوالقي يح ّور السؤال‪« ،‬إن اإلجاب َة عن هذا السؤال تدفعنا‬ ‫مرص‬ ‫دفعاً لتغيري صياغته لتصبح‪ :‬أين املشهد الشعري يف َ‬

‫منذ أمل دنقل؟ ألن إجابتَنا ستكون عىل الصياغة األوىل أن‬ ‫شعراء الجنوب موجودون‪ ،‬وبعضهم تجاوز منجز أمل دنقل‬ ‫وليغضب َمن يغضب ‪ -‬لكن املشكل َة‬ ‫عىل املستوى الفني ‪-‬‬ ‫ْ‬ ‫املناخ الذي عاش فيه أمل دنقل هو الذي تغري متاماً‬ ‫أن َ‬ ‫بعد تراجع القيمة التي كان ميثلها الشع ُر والشاعر معا»‪.‬‬ ‫وال ميكننا الزعم أن مستوى تلقي الفنون يف زماننا الراهن ‪-‬‬ ‫بسبب التعليم والثقافة وبرامج األنظمة السياسية ‪ -‬يقرتب‬ ‫يصدح بالشعر والقصيد‪،‬‬ ‫من مستواها أيام كان أمل دنقل‬ ‫ُ‬ ‫كام أن التجرب َة النقدية التي عاش دنقل بني ظهرانيها كانت‬ ‫تجربة شديد َة الخصوبة وشديدة اإلخالص ملفهوم األدب‬ ‫والنقد معا وهو ما تفتقر إليه حالتُنا الثقافية املعارصة‪ .‬ومع‬ ‫خالص تقديرنا واحرتامنا واعرتافنا بقيمة وتجربة أمل دنقل‬ ‫عىل املستوى العريب واإلنساين عامة‪ ،‬إال أن كرث َة استدعائه‬ ‫واملقارنة بينه وبني ممثيل التجربة الشعرية املعارصة فيها‬ ‫ظلم بينِّ للشاعر املعارص الذي أصبح مطالبا مبا هو أكرث‬ ‫ٌ‬ ‫من القصيدة يف ظل اتساع الشبكة الثقافية‪ ،‬ويف ظل سيادة‬ ‫‪129‬‬


‫تحقيق‬

‫أرشف البوالقي‬

‫مأمون الحجاجي‬

‫فتحي عبد السميع‬

‫واستعذاب حالة أن يتلبس الشاع ُر دو َر «الضحية» أو تآمر‬ ‫ثقافة الرسد وتداخل الفنون واآلداب‪ .‬ولعلنا متفقون عىل‬ ‫املؤسسة عليه إلقصائه أو نفيه مل ُيع ْد حقيقيا فالشاعر‪/‬‬ ‫أن أمل دنقل مل يكن مطالباً بقراءة النقد وال مبامرسته‬ ‫نفسه بقصيدته‪ .‬ميكننا فقط‬ ‫وال مبشاهدة السينام وال بالدخول عىل شبكة اإلنرتنت‪،‬‬ ‫الشاعر قاد ٌر عىل أن يفرض َ‬ ‫ُ‬ ‫الحديث عن دور اإلعالم أو عن مركزيته الشديدة وتسليط‬ ‫وما إىل ذلك مام هو جز ٌء ال يتجزأ اآلن من تكوين وثقافة‬ ‫ً‬ ‫الجنوب موجودون الضوء فقط عىل أبناء العاصمة‪ ،‬وهو أمر يبدو طبيعيا مع‬ ‫الشاعر املعارص‪ .‬الخالصة إذن أن شعرا َء‬ ‫ِ‬ ‫سياسات األنظمة السياسية التي تعتمد املركزية‪ ،‬ورغم كل‬ ‫ومنترشون يف ظروف أقىس وأصعب من تلك التي عاشها‬ ‫ينفصل ُ‬ ‫َ‬ ‫ذلك أيضاً استطاعت الشبكة العنكبوتية أن تتجاوز كل هذا‬ ‫سؤال التأث ِري عن سؤال «أين‬ ‫الشاعر الراحل‪ ،‬ولن‬ ‫بفضائها الرحب والعريض»‪.‬‬ ‫شعراء الجنوب منذ أمل دنقل‪ ،‬ألن املض َم َر يف السؤال أن‬ ‫وهل اختلف الوضع بعد الثورة عام كان عليه قبلها؟ يجيب‬ ‫أمل ‪-‬رحمه الله‪ -‬وأترا َبه كانوا ذوي تأثري قوي يف الحركة‬ ‫ً‬ ‫البوالقي‪ :‬بعد مرور عام ونصف تقريبا عىل الثورة ال ميكن‬ ‫االجتامعية والسياسية وليس فقط يف الحركة األدبية أو‬ ‫الثقافية‪ ،‬وهو ما سيجرنا مرة أخرى لإلشارة إىل ظلم املقارنة الزعم أو االدِّعاء بأن شيئا يف الحالة الثقافية قد تغري بعدُ ‪.‬‬ ‫املتغيرَّ الوحيد يف املزاج املرصي الذي بات غاضباً وثورياً‬ ‫بني الفرتتني التاريخيتني‪ ،‬وبرغم ذلك فإن تأث َري شعرا ِء‬ ‫وقادراً عىل الجهر برأيه بل والتعبري عنه‪ ،‬ورمبا مل متس الثورةُ‬ ‫الجنوب ال يختلف عن تأثري غريهم يف إطار التأثري العام‬ ‫َ‬ ‫بعدُ الرتكيبة الثقافية الرتباطها بالتعليم واإلعالم‪ .‬ويكفي‬ ‫الضيق للقصيدة يف مرص والوطن العريب بعد سيادة فنون‬ ‫أن تعلم أن وزارة الثقافة املرصية هي الوحيدة من بني‬ ‫أخرى كالسينام والرواية وغريهام‪ ،‬فضال عن استفحال أزمة‬ ‫التلقي بني الشاعر واملتلقي ووجو ِد فجوات ورمبا خصومات كل الوزارات التي حمل حقيبتَها أك ُرث ِمن مثانية وزراء عىل‬ ‫التوايل يف تعديالت وزارية متعاقبة‪ !..‬ويكفي أن تعلم أيضا‬ ‫واتهامات متبادلة بينهام»‪.‬‬ ‫أن كل برامج مرشحي انتخابات‬ ‫السؤال الثاين هو هل يشعر‬ ‫فــرصة الشـاعر الحقيقـى الربملان وكل برامج مرشحي رئاسة‬ ‫البوالقي باإلقصاء‪ ‬من طرف‬ ‫فـي الجنوب أكبر مـن فرصة الجمهورية خلت متاما من أي‬ ‫املؤسسة الثقافية الرسمية‬ ‫إشارة للثقافة‪ !!..‬لقد كنا يف أشد‬ ‫لشعراء الجنوب يف مرص‬ ‫الشاعر القاهرى‪ ،‬وهــناك‬ ‫الحاجة لثورة يف الفكر والثقافة‬ ‫لصالح شعراء العاصمة؟‬ ‫القاهــرة‬ ‫في‬ ‫الشعراء‬ ‫مئات‬ ‫والتعليم قبل ثورة الشوارع‬ ‫ويرى‪« :‬إن الكال َم عن‬ ‫أكثر موهبة منه‪ ،‬ورغــم ذلك وامليادين‪.‬‬ ‫التهميش والنفي واإلقصاء مل‬ ‫يعانون مثل الشاعر الجنوبى ‪ -‬وعن التغيري الذي طال لجنة‬ ‫يعد ُمجدياً وال مق ِنعاً اآلن‪،‬‬ ‫‪130‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫شعراء الجنوب المصري ‪ ...‬أيتام المنابر‬

‫عبد الرحيم طايع‬

‫عبيد عباس‬

‫الشعر مبرص واختالف تركيبتها‪ ،‬وهل له تأثري عىل مسألة‬ ‫التمييز الذي يعاين منه شعراء الجنوب؟‪ ،‬يرى البوالقي انها‬ ‫ْ‬ ‫تختلف ُ‬ ‫آليات تشكيلِ لجن ِة الشعر باملجلس األعىل عن‬ ‫«مل‬ ‫اآلليات السابقة‪ ،‬رمبا تغريت بعض األسامء أو اختفت بعض‬ ‫الوجوه لكن اآلليات كام هي‪ ،‬ورمبا كانت سياسات اللجنة‬ ‫كام هي مل يحدث أن تم اختيا ُر شاع ٍر من الجنوب يف‬ ‫لجنة الشعر لكن من املهم اإلشارة إىل أنه ليس صحيحا أن‬ ‫سياسات العمل الشعري يف مرص‪ ،‬فالشعر ال‬ ‫ترسم‬ ‫ِ‬ ‫اللجن َة ُ‬ ‫سياسة له وال ميكن وضع خارطة أو تصورات تتفق وطبيعة‬ ‫الفعل الشعري‪ .‬وبعيدا عن هذا فإن اللجنة تضع َ‬ ‫خططها‬ ‫القريب من العاصمة ومل يحدث‬ ‫امجها لتخدم املواطنَ‬ ‫َ‬ ‫وبر َ‬ ‫قط أن أقامت لجنة الشعر مهرجانا وال ندوة وال أمسية يف‬ ‫الصعيد من قبل‪ ،‬إمنا هي تستدعي شاعرا كل عام لتنفحه‬ ‫بضعة جنيهات وليصفق له عرش ُة أنفار من الحضور ثم‬ ‫يعود مزهوا إىل بالده»!‬ ‫عبد الرحيم طايع‬

‫شاعر من الجنوب له أكرث‬ ‫من ديوان‪ ،‬آخرها «وجه كبري‬ ‫مخيف»‪ .‬يرى األمر من منظور‬ ‫يخفف من قتامة الصورة‬ ‫«فشعراء الجنوب حارضون‬ ‫يف املشهد املرصي بثقلٍ ‪،‬‬ ‫ولكنهم مختلفون يف اإلعالن‬ ‫عن انفسهم»‪ .‬نحن موجودون‬ ‫بكثافة يف املشهد الشعري‬

‫املعارص مبرص منذ أمل دنقل‪ ،‬ومتس ِّيدون ايضاً‪ .‬ومعظمنا يف‬ ‫الحقيقة جاوز الكثري من األسامء التي تقرتن مبرحلة الريادة‪،‬‬ ‫وإن بقيت عقدة الشهرة تحول بني املبدع الجديد وأخذ‬ ‫فرصته‪ .‬وفيام يخص شعراء العاصمة ‪ -‬الذين هم قريبون‬ ‫من وزارة الثقافة فهناك األقرب الذي يجدونه أمامهم‬ ‫بشكل دائم‪ ،‬نحن بعيدون يف التحافنا هنا بالصعيد‪ ،‬لكن‬ ‫ال أعتقد أن العمد وارد‪ .‬وباملناسبة فحالة الجنوب وعالقته‬ ‫مع العاصمة كاملناطق األخرى مبرص «واسعة الجغرافيا»‬ ‫كالدلتا وسيناء ومدن القناة‪ ..‬مادمت بعيداً فلست يف‬ ‫دائرة االهتامم من القامئني عىل العمل الثقايف وتكثيف‬ ‫مركزيته حول القاهرة‪ .‬أما لجنة الشعر فتنحرص اختياراتها‬ ‫بني جملة من األسامء املشهورة ما بني األكادمييني و«أدباء‬ ‫اإلعالم»‪ .‬و ُيفهَم من ذلك أن املجلس محروم من وجود‬ ‫شعراء متحققني كبار وموهوبني ممتازين «ال تنطبق عليهم‬ ‫الرشوط»‪ .‬وإجامالً فإن سياسات العمل الشعري يف مرص‬ ‫مرتبكة‪ .‬واالستبعاد يحدث من باب املحاباة والعالقات التي‬ ‫ال عالقة لها باإلبداع وقيمته!‬

‫عـلى عكس ما يدعـي‬

‫عبيد عبَّ اس‬

‫من أبرز شعراء الجنوب يف‬ ‫الكثير من هـؤالء الشعراء‬ ‫جيله‪ ،‬وحاصل عىل جائزتني‬ ‫بأن المؤسســـة الثقــافـية محلية وإماراتية‪ ،‬طرحنا عليه‬ ‫تهمشـهـم‪ ،‬هناك الكـثير األسئلة نفسها‪ ،‬فجاءت اجاباته‬ ‫من الفـرص التي تمنحهــا عىل النحو التايل‪« :‬ال أستطيع‬ ‫أن أقول إن لهم تأثرياً أو ليس‬ ‫المؤسسـة لهم‪ ،‬لكنهم‬ ‫لهم تأثري‪ ،‬فعوامل التأثري والتأثر‬

‫يميلون لإلحسـاس باإلقصاء‬

‫‪131‬‬


‫تحقيق‬

‫ال تعود بالرضورة إىل غياب الجودة أو املنتج الحقيقي‪،‬‬ ‫وإمنا هناك عوامل أخرى أثرت وما زالت تؤثر يف غياب دور‬ ‫الشاعر ليس يف الجنوب فقط ولكن يف مرص بشكل عام‪،‬‬ ‫منها رمبا غياب الجمهور وغياب املعايري التي تستخلص‬ ‫الشاعر من «املتشاعر»‪ ،‬وال أستطيع أن أقول إن هناك‬ ‫إقصا ًء ممنهجاً من الثقافة الرسمية لشعراء الجنوب يف‬ ‫مرص لصالح شعراء العاصمة‪ ،‬وإمنا هناك إهامل للشاعر‬ ‫الحقيقي سواء يف العاصمة أو يف األقاليم‪ ،‬فاملؤسسة ال‬ ‫متارس دورها اإلحرتايف وإمنا تقوم بدور وظيفي روتينى‬ ‫يقوم عىل «االستسهال» واالعتامد عىل العالقات واملداهنات‬ ‫والصداقات‪ ،‬سواء مبا يتعلق بشعراء الجنوب أو العاصمة‬ ‫فهناك من شعراء العاصمة املوهوبني من يعاين اإلهامل‬ ‫واإلنكار‪ ،‬بل أقول لك ما قد يدهشك ففرصة الشاعر‬ ‫الحقيقي يف الجنوب أكرب من فرصة الشاعر القاهري ما‬ ‫مل ميتلك من عوامل أخرى سوى املوهبة تجعله يصل إىل‬ ‫املكان الذي يليق به يف القاهرة‪ ،‬وال يظن الشاعر الجنوىب‬ ‫أنه لو ذهب للقاهرة سيصري «هشام الجخ» فهناك مئات‬ ‫الشعراء يف القاهرة الذين ميلكون موهبة أكرب منه‪ ،‬وبرغم‬ ‫ذلك يعانون بدرجة قد يعاين مثلها الشاعر الجنويب‪ .‬‬ ‫مأمون الحجاجي‬

‫و«أحالم للبيع»‪ .‬تقاطع يف‬ ‫له عدة دواوين منها «رق َّية»‬ ‫ٌ‬ ‫نقاط كثرية مع سابقيه‪ ،‬لكنه حمل عىل شعراء الجنوب‬ ‫أنهم "فقدوا حاسة القتال وركنوا للظل‪ ،‬وتركوا الجمل مبا‬ ‫حمل لناقيص األهلية اإلبداعية وملدّعي الكتابة ومزيفيها"‪.‬‬ ‫يقول الحجاجي‪ :‬إن الكثريين منهم ال يحملون طاقة الرفض‬ ‫التي م ّيزت دنقل برغم أن البعض منهم اليقل إبداعاً عنه‪،‬‬ ‫‪132‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫ورمبا كان بعض بعضهم أكرث شاعرية منه‪ ،‬ولألسف فإن‬ ‫تأثري شعراء الجنوب يف املشهد صار أشبه بالكومبارس الذي‬ ‫يكمل الصورة وال يتصدرها‪ .‬وعىل عكس ما يدعي الكثري من‬ ‫هؤالء الشعراء بأن املؤسسة الثقافية تهمشهم‪ ،‬أرى عكس‬ ‫ذلك متاماً‪ ،‬فهناك الكثري من الفرص التي متنحها املؤسسة‬ ‫لهم‪ ،‬لكنهم مييلون لهذا الشعور املتمثل يف اإلحساس‬ ‫باإلقصاء والتجاوز‪ ،‬النرش أصبح مثل الصنبور املفتوح دون‬ ‫توقف فينزل منه املاء دون تنقية ومؤمترات ال حرص لها‪،‬‬ ‫والوضع مل يتأثر بالثورة عىل اإلطالق سوى يف عناوين‬ ‫املؤمترات والقصائد!‬ ‫وعن املؤسسة الثقافية الرسمية‪ ،‬ودورها يف إقصاء أو دعم‬ ‫شعراء الجنوب مبرص‪-‬خاص ًة الثقافة الجامهريية «التي‬ ‫أنشئت يف األساس لخدمة األقاليم الثقافية مبرص فعلياً‬ ‫وااللتصاق مببدعيها» يؤكد الحجاجي أن الثقافة الجامهريية‬ ‫تركت دورها وح َّرضت املبدعني عىل القتال عىل املغنم‬ ‫الضيق من فتات‪ ،‬فمن انتخابات لنوادي األدب ونوادي‬ ‫األدب املركزية إىل التهافت عىل الفوز بالنرش اإلقليمي‪،‬‬ ‫للتكالب عىل حضور املؤمترات‪ ،‬وما إىل غري ذلك «اآلن‬ ‫رمبا تغري الحال قلي ًال» ولكن مرياث عرشات السنوات كبري‪،‬‬ ‫الثقافة الجامهريية هي البوابة للدخول إىل عامل التحقق‬ ‫اإلبداعى ُلكتَّاب األقاليم‪ ،‬والتي رمبا تقدم الوهم بأنها‬ ‫مفتوحة ولكن لتؤدي لطريق آخر‪ .‬وحتى بعد تغري تركيبة‬ ‫لجنة الشعر باملجلس األعىل للثقافة نجد أن شعراء الجنوب‬ ‫تواجدوا نعم ولكن بال روح وال معرفة حقيقية بالدور‬ ‫املنوط بهم‪ ،‬وهناك قاعدة راسخة تقول إذا اردت أن تفسد‬ ‫شيئاً ِّ‬ ‫ول أمره لجاهلٍ أو ُمدّع‪ ،‬فلم يتغري يف األمر يشء سوى‬ ‫أن لون برشة املسؤولني صار مييل لسمرة الجنوب!‬


‫شعراء الجنوب المصري ‪ ...‬أيتام المنابر‬

‫فتحي عبد السميع‬

‫أحد أبرز األصوات الشعرية يف الجنوب‪ ،‬وقد فاز بالجائزة‬ ‫املركزية لهيئة قصور الثقافة املرصية عام ‪ ،1994‬وله أكرث‬ ‫من مجموعة شعرية منها «الخيط يف يدي» و«خازنة املاء»‬ ‫و«تقطيبة املحارب»‪ .‬يرى أن «شعراء الجنوب حارضون يف‬ ‫املشهد الشعري املرصي‪ ،‬فال توجد دورية من الدوريات‬ ‫املتخصصة ال تنرش لهم‪ ،‬وإن كانت املساحة ال تناسب‬ ‫العدد‪ ،‬وإن كان األمر قد استلزم كفاحاً ووقتاً أطول بكثري‬ ‫مام ينبغي‪ ،‬يف الوقت الذي سهل فيه عىل آخرين‪ ،‬كام‬ ‫أن هناك انفراجة هائلة من حيث إصدار املجموعات‬ ‫الشعرية‪ ،‬لكنهم كغريهم من الشعراء يدفعون مثناً‬ ‫لسلبيات كثرية يف الحياة الثقافية‪ ،‬منها ما هو نقدي‪ ،‬خاص‬ ‫بقصور الحركة النقدية عن املتابعة ألسباب متنوعة‪ ،‬أهمها‬ ‫ندرة نقاد الشعر أساساً‪ ،‬ومنها ما هو إعالمي وسلبياته‬ ‫مؤسفة للغاية‪ ،‬ومنها ما هو مؤسيس‪ ،‬وهناك ظلم مؤسيس‬ ‫كبري لشعراء الصعيد‪ ،‬خذ مثال جوائز الدولة‪ ،‬كم نسبة‬ ‫وجود شعراء الصعيد يف تاريخها؟ ال أعتقد أنها تبلغ واحداً‬ ‫يف املائة‪ ،‬هذا يعني إما أن إبداع شعراء الصعيد جيد‬ ‫ويتعرض للظلم‪ ،‬أو أن إبداعهم ال يستحق التشجيع‪ ،‬وال‬ ‫أقول التقدير والتفوق‪ ،‬يف الحالة األوىل هناك جرمية‪ ،‬ويف‬ ‫الحالة األخرى هناك جرمية أكرب‪ ،‬ألنه شهادة عىل فشل‬ ‫املؤسسات الثقافية يف تكوين شاعر يستحق التشجيع‪،‬‬ ‫والحقيقة أن هناك أصواتاً شعرية كافحت بشكل فردي‪،‬‬ ‫وقدمت تجارب أفضل بكثري من تجارب شعراء حصلوا عىل‬ ‫جائزة الدولة التشجيعية‪ ،‬وباختصار فإن مظاهر الفساد‬ ‫كثرية يف حياتنا الثقافية‪ ،‬وكلها تؤثر بشكل سلبي عيل‬

‫الفعل اإلبداعي يف مرص‪ ،‬ومن الطبيعي أن يكون املبدع‬ ‫املقيم يف الصعيد أبرز الضحايا‪ ،‬ألنه أعزل‪ ،‬ال ميلك ما يجعل‬ ‫الفاسدين يضعونه يف اعتبارهم‪ ،‬واضاف «ال يوجد مردود‬ ‫واحد للثورة حتى اآلن‪ ،‬بل ما حدث هو العكس‪ ،‬أثبتت‬ ‫الثورة بؤس الوضع الثقايف بشكل أكرب‪ ،‬وتدهورت مكانة‬ ‫وزارة الثقافة‪ ،‬بل وخرجت من اللعبة‪ ،‬وهذا أم ٌر فادح‪.‬‬ ‫فكل مشكالتنا ثقافية بالدرجة األوىل‪ .‬أما هيئة قصور‬ ‫الثقافة فهي مؤسسة هامة جداً لكل الشعراء املقيمني‬ ‫خارج القاهرة‪ ،‬وهي بيتهم الرشعي‪ ،‬وقد ساهمت عرب‬ ‫مسابقاتها ومطبوعاتها وأنشطتها يف تقديم عدد كبري منهم‪،‬‬ ‫غري أن إمكانياتها يف الحقيقة أكرب بكثري من مردودها‪،‬‬ ‫وإدارتها تعاين مشكالت خطرية جداً‪ ،‬تجعل الكثري من تلك‬ ‫اإلمكانيات تذهب هدراً‪ ،‬بل ومردودها يذهب يف أحيان‬ ‫كثرية إيل نتائج عكسية متاماً‪ ،‬وهي أيضاً تهمش شعراء‬ ‫الصعيد وغريهم وتؤكد عىل اعتبارهم من الدرجة الثانية‪،‬‬ ‫بل هم يف نظرهها أطفال لن يبلغوا سن الرشد أبداً‪ ،‬ومن‬ ‫ثم فهي يف الغالب متنحهم فتاتا ليتسلوا ويفرحوا‪ ،‬إنها‬ ‫تستعرض بهم‪ ،‬وتستخدمهم للدعاية‪ ،‬وتتعاىل عليهم‪،‬‬ ‫وتقصيهم عن أمور كثرية والشواهد ال ُتحىص»‪ .‬وبصدد‬ ‫لجنة الشعر يعترب أن ال مكان يف الحقيقة للمجلس األعىل‬ ‫للثقافة ب ُر َّم ِته يف ذاكرة شعراء الصعيد‪ .‬ويقول‪" :‬نحن ال‬ ‫نشعر بوجود عالقة بيننا وبني لجنة الشعر عىل اإلطالق‪،‬‬ ‫ويف التشكيل األخري الذي جاء بعد الثورة‪ ،‬تم استبعاد‬ ‫شعراء الصعيد متاماً‪ ،‬فال يوجد من ميثلهم‪ ،‬ومنهم من لديه‬ ‫الكفاءة عىل نحو يفوق أغلب أعضاء تلك‬ ‫اللجنة"‬ ‫‪133‬‬


‫خارج السرب‬

‫دعد ح ّداد‬

‫شاعرة ماتت في بُحيرة منسيّة‬ ‫ّ‬ ‫بقاء‪،‬‬ ‫ً‬ ‫لعل قلب الشاعرة السورية الراحلة دعد حداد (‪ )1991 - 1937‬البائس الخائف هو ثيمتها الشعرية األكثر‬ ‫ٍّ‬ ‫َ‬ ‫الراسخين‪ ،‬تجاه ُكل من األم والرجل‪،‬‬ ‫حان من طائر بطريق‪ ،‬إذ ما من فاصل بين ُح َّب ْيها‬ ‫قلب يبتهج بعناق‬ ‫ٍ‬ ‫األمومي والفطري؛ وفي قصيدتها "سأع ّد خطواتي"‪ ،‬تبوح بشيء مشابه‬ ‫فكالهما يتخذ شكالً من الحب‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يوما"‪ ،‬وكطفلة صغيرة‪ ،‬تحسب خطواتها األولى أو األخيرة‪،‬‬ ‫يوما‪ ،‬وأنت‪ ،‬أوقعتني‬ ‫لهذا‪" :‬أمي حملتني‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫بعد األرقام لتتذكر مصيرها‪.‬‬ ‫وحيدة تتسلى‬

‫رنا زيد‬

‫هي‬

‫أيضاً‪ ،‬امرأة وحيدة يف غرفة مظلمة باردة‪،‬‬ ‫وليس يف قصيدتها أي ترانيم لغوية صاخبة‪،‬‬ ‫رس قديم تبوح به‪ ،‬دون تو ُّقف‪،‬‬ ‫إن الشعر عندها مجرد ٍّ‬ ‫لكن بحكمة‪ ،‬ويف الديوان ذاته‪ ،‬يكاد يكون بعض ما تقوله‬ ‫مشابهاً للمونولوج املرسحي‪" :‬الرعب س ّيد البحار‪ ،‬أنت قلت‬ ‫يل‪ /‬املوت س ّيدي وأنت قلت يل‪ /‬بأنني‪ ..‬بأنني التي بأنني‪/..‬‬ ‫نسيت‪ ..‬ما قد قلت يل‪( "..‬قصيدة أسري ريح‪ .)1976 /‬تلك‬ ‫التأتأة تصنع لغز "أنا" الشاعرة املضطربة‪.‬‬ ‫يف "تصحيح خطأ املوت" أول الدواوين املنشورة للشاعرة‪،‬‬ ‫وعي حقيقي بانعدام الحياة أو بانعدام األمل يف العيش‪،‬‬ ‫ّمث َة ٌ‬ ‫إنها تعرف منذ اللحظة األوىل أنها لن تحصل عىل ما تريد‪،‬‬ ‫لذا كانت القصائد نوعاً من االستدالل الذايت عىل هيئة‬ ‫ْ‬ ‫عاشت الحقاً دون مردود إنساين يعادل‬ ‫املستقبل‪ ،‬فقد‬ ‫إنسانيتها‪ ،‬وكأنها تعلم أنها لن تتزوج ولن تنجب‪ ،‬لذا‬ ‫فثمرة القصيدة‪ ،‬ومعادلها الوجودي‪ ،‬هو ابنة وهمية‪ ،‬هشة‬ ‫الجسد‪" :‬أأنا ابنتي القشية من زئبق؟‪ /‬وتنام بأمر الجرذان؟‪/‬‬ ‫تصحو يف ثوب من عاج؟‪ /‬وسبائك من ذهب الخصيان؟‪/‬‬ ‫وينادون ابنتي‪ ..‬الـ‪ /..‬ال‪ ،‬فأنا ابنتي القشية من دائرة‬ ‫املوت‪( ".‬قصيدة العيش املر‪ ،)1977/‬وأكرث ما ُيتعب القارئ‬ ‫يف هذه القصيدة هو الهذيان الكثيف‪ ،‬حيث ليس هناك إال‬ ‫األفكار السوداوية‪ ،‬و ُمسا َءلة الذات عن مصري مصنوع بيد‬ ‫اآلخر‪ ،‬هو العدم إذاً‪.‬‬ ‫إن حداد بوصفها شاعرة سوداوية‪ ،‬ال ترى حرجاً يف مصارحة‬ ‫‪134‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫اآلخر مبخاوفها‪ ،‬إنها تفضح رغبته اللئيمة يف القتل‪ ،‬إمنا‬ ‫بهدوء‪ ،‬إىل درجة تدعو إىل التساؤل‪ ،‬أي زمن هذا الذي‬ ‫كانت تعيش فيه؟ أ ُوجدت حقاً أم أنها مجرد طيف عابر‬ ‫منذ والدتها يف مدينة الالذقية الساحلية‪ ،‬إىل وفاتها يف‬ ‫دمشق؟ يف قصيدة "اقتلني واربح دوالراً‪ ،"1976 /‬تحاول‬ ‫حداد خداع قاتلها‪ ،‬منطلق ًة من فكرة جميلة وهادئة عن‬ ‫الحب‪ ،‬لتتساءل بإلحاح‪( :‬من الذي سريبح دوالراً من موت‬ ‫دعد حداد؟)‪" :‬الحب جميل هذا اليوم‪ /‬وطيور العامل‬ ‫واجفة‪ ،‬تبحث عن دفء اليوم‪ /‬وأنا وحدي‪ /‬ال أملك شيئاً‪ /‬ال‬ ‫أملك الحرية‪ /..‬إال قلبي‪ ..‬قلبي العارم حباً‪ /،‬اقتلني‪ ..‬واربح‬ ‫دوالراً"‪.‬‬ ‫من هو عدو دعد حداد التي تبدو من خالل سرية حياتها‬ ‫املأساوية‪ ،‬عدوة لدودة للجميع؟ لقد خاضت حروباً رشسة‬ ‫لرتسيخ وجودها املادي والذايت‪ ،‬ودون الخوض يف تفاصيل‬ ‫حياتها العائلية‪ ،‬إال أنها امتلكت يوماً آلة كامن قدمية‪،‬‬

‫ال يظهر في قصائد حداد أي مدلول‬ ‫إيروتيكي صريح‪ ،‬ويكاد يكون‬ ‫الشعر عندها مبني ًا على أساس‬ ‫عميق من الصراع النفسي مع‬ ‫فكـرة الحياة‬


‫دعد حدّ اد ‪ ..‬شاعرة ماتت في بحيرة منسية‬

‫كانت تعزف عليها يف خوائها الدائم كام يقول مقربون‬ ‫منها‪ ،‬كام كانت تنحت قطعاً فني ًة‪ ،‬وأ ّلفت مرسحيات عدّة‬ ‫منها‪"( :‬اثنان يف األرض‪ ،‬واحد يف السامء"‪/‬مجلة املوقف‬ ‫األديب‪ -‬عدد أكتوبر ‪" ،1977‬سأحيك لكم قصتي"‪ /‬ملحق‬ ‫الثورة الثقايف– ‪ ،1976‬ومخطوط مل ُينرش هو "الهبوط‬ ‫مبظ ّلة مغلقة")‪ ،‬إن دفاترها املمتلئة بقصائد ال يعرف أحد‬ ‫عنها شيئاً‪ ،‬ما زالت حبيسة العتمة‪ .‬وما عدا ديوانني آخرين‬ ‫نرشتهام لها وزارة الثقافة السورية ("كرسة خبز تكفيني‪/‬‬ ‫‪ ،"1987‬و"الشجرة التي متيل نحو األرض‪ ،‬صدر بعد وفاتها‬ ‫يترسب إىل العلن‪ ،‬غ َري منشو ٍر‪ ،‬سوى‬ ‫يف عام ‪ ،)"1991‬مل ّ‬ ‫القصيدة الطويلة "مثة ضوء‪ /‬صيف ‪ُ ،"1987‬وضعت عىل‬ ‫شبكة اإلنرتنت (غري من ّقحة‪ ،‬وناقصة)‪.‬‬ ‫ال يظهر يف قصائد حداد أي مدلول إيروتييك رصيح‪ ،‬ويكاد‬ ‫يكون الشعر عندها مبنياً عىل أساس عميق من الرصاع‬ ‫النفيس مع فكرة الحياة ومغزاها فقط‪ ،‬كام لو أنها تستدرج‬ ‫املوت بروية! ولكن‪ ،‬يبدو أن العالقة العشقية النفسية‬ ‫عندها‪ّ ،‬‬ ‫تخطت حدود جسد الرجل‪ ،‬إىل أشياء ملموسة‬ ‫أمامها‪ ،‬أكرث اتساعاً‪ ،‬من كائنات وأحالم وهوامات‪ .‬ويف‬ ‫قصيدة "املعزى‪ /‬نيسان ‪ "1986‬من ديوان "كرسة خبز‬ ‫لفظي ما‪:‬‬ ‫جنيس‬ ‫تكفيني‪ ،"1987 /‬ميكن استئناس إلغاز‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫"قال لها الجبل‪ :‬اصعدي‪ /‬ثم اسرتيحي عىل القمة‪ ،‬وتأديب يا‬ ‫معزيت‪ ..‬فوق القمم‪ ،‬وأين ذلك الحليب؟! وأي سؤال عجيب‪،‬‬ ‫يا حامل الربتقال؟!‪ /‬يا حامل املهرجان الطفويل‪ /‬وأي سؤال‬ ‫سعيد؟!‪ /‬وأي سؤال؟!"‪.‬‬ ‫ُيخ ّيل ملن يقرأ حداد‪ ،‬أنه رمبا التقاها دون أن يعلم‪ ،‬يف‬ ‫حديقة وسط دمشق‪ ،‬قريبة من منزلها‪ ،‬حديقة السبيك‪،‬‬

‫حيث تطعم البط الخبز‪ ،‬وتضع فوق ماء البحرية الصغرية‬ ‫أزهاراً يابسة‪ ،‬وليس كام يقال‪ ،‬إنها كانت تحمل قطتها‬ ‫وتطعمها‪ ،‬سائر ًة بها بني (باب توما والعامرة يف دمشق)‪،‬‬ ‫لكن‪ّ ،‬مثة يف الديوان السابق داللة عىل هذا املكان‪،‬‬ ‫(السبيك)‪ ،‬إذ ُتذ ّيل قصيدة مهداة إىل الشاعرة السورية‬ ‫الراحلة عزيزة هارون (‪ ،)1986 1923-‬مبكان كتابة القصيدة‬ ‫(السبيك)‪ ،‬والتاريخ كام يف كل قصائدها (‪ ،)1986‬ورمبا‬ ‫كانت تقصد بيت أمها املجاور لتلك الحديقة‪ ،‬تقول يف رثاء‬ ‫هارون‪" :‬رحلت إذاً يا عزيزة‪ /‬وهذا الرداء األخرض‪ /‬وهذي‬ ‫بيوتك‪ ..‬منثورة‪ /‬يف جبايل‪ /‬يف بساتيني‪ /‬وتنأى تلك الدمشق‪،‬‬ ‫عن قبوري‪ /‬وتنأى زهوري‪ /‬وتنأى‪ ..‬الحكايات‪ /‬التي تشعل‬ ‫الغصة‪ /‬ومن يفرح اآلن يف سطوح‪ ..‬الدور؟"‪ .‬هارون عاشت‬ ‫يف سرية حياتها‪ ،‬دالالً ما‪ ،‬مل تكن حداد لتحصل عىل القليل‬ ‫منه‪ ،‬لكنها أنتجت من مأساتها شعراً ليس هناك حدود‬ ‫لجاملياته وعمقه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ورغم أنها توحي مبدى قوتها واتزانها إال أن حداد محكومة‬ ‫مبكانها‪ ،‬ومبا يجري حولها‪ ،‬وبالضباب القابع عىل صدور‬ ‫البرش املحيطني بها‪ ،‬إنها ترى بوضوح‪ ،‬رغم وحدتها‪ .‬ويف‬ ‫ليلة باردة‪ ،‬من كانون الثاين (يناير) يف عام ‪ ،1986‬رغم كل‬ ‫وحشة شاعرة كدعد‪ ،‬تأنس بصوت األقدام تحت نافذتها‪،‬‬ ‫تخاطبها يف قصيدة (إىل دمشق) كموجود وحيد يف مسائها‪،‬‬ ‫ىس يضع قناعاً من الفرح الكاذب‪" :‬تصبحون عىل خري‬ ‫بأ ً‬ ‫ً‬ ‫أيها األصدقاء‪ /‬تصبحون عىل خري‪ /‬وفجر يأيت نديا كالعادة‪/‬‬ ‫وأحذية مفقوعة‪ /‬وانتظار"‪ ،‬هذا الصوت رمبا يكون آتياً من‬ ‫خطوات املغادرين بيت الشاعر السوري بندر عبد الحميد‬ ‫املستأجرة‪ ،‬يف‬ ‫(مفتوح الباب دامئاً)‪ ،‬املالصق لغرفتها الصغرية‬ ‫َ‬ ‫شارع العابد‪ ،‬يف دمشق‪ ،‬كانت نافذة الغرفة الداخلية تطل‬ ‫عىل نافذة الشاعر أيضاً‪ ،‬وأصوات أصدقائه تتسلل إىل ليل‬ ‫وترص‬ ‫حداد‪ ،‬كام يهمس بعضهم‪ ،‬رمبا كانت تكابر وحدتها‪ّ ،‬‬

‫الصورة الشعرية عند ح ّداد‬ ‫متنامية ومترابطة‪ ،‬فكل مفردة‬ ‫شعرية‪ ،‬تردف ما قبلها وتزيد ما‬ ‫بعدها وضوح ًا‪ ،‬تمام ًا كما هو‬ ‫النحـت‬ ‫‪135‬‬


‫خارج السرب‬

‫عىل البقاء وحيدة‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ّإن مقدار التعاسة عند الشاعرة الراحلة هائل‪ ،‬وهي‬ ‫تترصف كاملتصوفني‪ ،‬جامع ًة بني مالمح التزهُّ د‬ ‫رغم ذلك ّ‬ ‫والرشاسة من شخص يعيش يف دغل عميق‪ ،‬ال بد من أن‬ ‫يكون متوحشاً وعدوانياً أمام آخر اعتاد الحديث اليومي‬ ‫مع البرش‪ .‬إن قصيدة دعد حداد‪ ،‬قصيدة متولدة مام هو‬ ‫غري مر ّيئ بالنسبة إىل الكثريين‪ ،‬إن شخصاً بهذه الحساسية‬ ‫للمعنى البرشي‪ ،‬يلتوي أمام الكلامت العذبة‪ ،‬ينتجها طلقةً‬ ‫ومرتاحة‪ ،‬ولو كان يقتسم حبة البطاطا مع الرعاة املتخيلني‪،‬‬ ‫كام فعلت دعد يف قصيدتها‪ ،‬تقول‪" :‬ها هو الحليب يتدفق‪/‬‬ ‫إنه يتدفق‪ ..‬يتدفق‪ /‬ها هي املزاهر‪ /‬ها هو املطر‪ ..‬املتخيل‬ ‫والطحالب"‪( .‬قصيدة "حني الجدار حديقة‪.)"1986 /‬‬ ‫يف "كرسة خبز تكفيني"‪ ،‬هذا العنوان الذي يوحي بنضال‬ ‫كبري‪ ،‬تهدي حداد تحية إىل زعيم الحزب الشيوعي الصيني‬ ‫ماو تيس تونغ‪ ،‬يف قصيدة "إىل الشاعر األصفر املجهول‪/‬‬ ‫نيسان (أبريل) ‪ ،"1986‬وتذكر هنا شيئاً ُيذ ّكر بعيد ما‪" :‬ها‬ ‫هو عيدك الثاين‪ ،‬مهرجانك الثاين‪ ،‬وبدء الربيع"‪ ،‬وليس مؤكداً‬ ‫إن كانت حداد تقصد يف تحية الثورة هذه‪ ،‬اللحظة التي‬ ‫كتب فيها ماو تيس تونغ‪" ،‬عرش العالقات الكربى"‪ ،‬يف نيسان‬ ‫(أبريل) ‪ ،1956‬التي تمُ ّثل أساسيات استمرار جمهورية‬ ‫الصني‪ ،‬تقول‪" :‬أيها السارح يف الليل األصفر‪ ،‬مح ّم ًال بالفستق‬ ‫األصفر‪ ،‬والربتقال األصفر"‪ .‬ال تناجي الشاعرة يف هذا الديوان‬ ‫أحداً عىل صلة لصيقة بها‪ ،‬وليس من الغريب مناجاتها‬ ‫فيه املؤلف املوسيقي الرويس تشايكوفسيك‪ ،‬أو التذكري‬ ‫بآلة الكامن خاصتها‪ ،‬وببطة افرتاضية متلكها‪ ،‬يف (قصيدة‬ ‫إىل ميشيل كوستنتينيدس‪ )1986 /‬تقول‪" :‬عاشت كامين‬ ‫املرسوقة‪ /‬عاشت قويس املكسورة‪ /‬عاشت‪ ..‬داري‪ /‬عاشت‬ ‫بطتي‪ ..‬فولوديا‪ /‬وعاشت ابنتي‪ ..‬مايا‪ /‬كوفسيك‪ /‬عاش أبو‬ ‫محمد‪"/‬جاجة" يف صحن الفقر"‪.‬‬ ‫إنها لوثة الهرب نحو البعيد‪ ،‬وكأن حداد تعلن أنها ستصنع‬ ‫من كلامتها القليلة (كرسة خبزها) طعاماً يكفي ملن هم عىل‬ ‫الكرة األرضية‪ ،‬وميكن أن يكون ديوان "كرسة خبز تكفيني"‬ ‫هو األمثل لرؤية تفاعل حداد مع الكون الحقيقي‪ ،‬إنها تكاد‬ ‫تلتق بهم أو تعرفهم‪.‬‬ ‫تكون منسجم ًة حتى مع من مل ِ‬ ‫يف سياق لغة مرا ِوحة بني الخوف والعزلة‪ ،‬تصلح دعد ثوب‬ ‫الطفلة من جديد‪ ،‬ثوبها‪ ،‬الذي قد ال يتسع النهار لخياطة‬ ‫‪136‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫دعد حدّ اد ‪ ..‬شاعرة ماتت في بحيرة منسية‬

‫أطرافه املمزقة‪ ،‬ففي النهار تكون دعد شخصاً حبيس املادة‪،‬‬ ‫ووجودها يشبه وجود كائن مرفوض من اآلخر‪ ،‬وتتم ّكن‬ ‫يف الليل الطويل فقط‪ ،‬من أن تتكلم بصدق وحرية‪" :‬كيف‬ ‫يهجون‬ ‫يخربون العامل‪ /‬هؤالء الشعراء الصامتون‪ /‬كيف ّ‬ ‫الغرية‪ /‬ويصمدون كآلهة؟‪ /‬كيف يتداولون فتات الخبز؟‪ /‬آه‪،‬‬ ‫كيف يبكون من كرثة الحب؟‪ /‬آه‪ ،‬هذه الزوايا العينية‪ /‬هذه‬ ‫الحالوات‪ /‬هذه الضحكات‪ /‬خذ هذه السوسنة‪ /‬خذ هذا‬ ‫الرشاب املسكر‪ /‬وخذ حرية"‪( .‬قصيدة الشعراء الصامتون‪/‬‬ ‫‪.)1986‬‬ ‫"امرأة ال تشبه إال نفسها‪ ،‬تتفرد‪ ،‬بني جميع من عرفت من‬ ‫شعراء‪ ،‬بكتابة بريئة من آثار بصامت اآلخرين‪ ..‬كتويجة‬ ‫ممهورة بالدم‪ ،‬أو شفرة نصل جارحة تخرتق جدار القلب‬ ‫مبهارة تليق مبالك‪ ،‬أو كنحلة طائشة تنزلج يف الفراغ الكوين‬ ‫غري عابئة بالرحيق املسموم"‪ .‬بهذه الكلامت يقدّم الشاعر‬ ‫السوري نزيه أبو عفش‪ ،‬ديوان دعد حداد الثالث املنشور‬ ‫"الشجرة التي متيل نحو األرض"‪ ،‬هذا الديوان هو مناجاة ما‬ ‫للم ِّ‬ ‫يض األخري‪ ،‬من أوىل ُج َمله‬ ‫قبل الرحيل‪ ،‬وتهيئة رصيحة ُ‬ ‫"بدأت ترحلني"‪ ،‬إنها تتخ ّيل حتى الطريقة التي سرتحل بها‪،‬‬ ‫ويكاد يكون موتها مرتبطاً بالثلج‪ ،‬أي باللون األبيض‪ ،‬وهي‬ ‫تشري بذلك إىل مخرج طهرا ّين من حياتها الصعبة املريرة‪:‬‬ ‫"ثالثة أطفال‪ /‬يحفرون قربي يف الثلج‪ /‬الوحدة والحزن‬ ‫والحرية‪ /‬ثالثة أطفال‪ ..‬أبرياء‪ /‬إنهم حمر الوجوه من‬ ‫التعب‪ /‬ومن الشوق لدفني‪ ..‬تحت وابل املطر‪ ..‬أو الثلج‪/‬‬ ‫يحفرون‪ /‬إنهم يحفرون بعمق والثلج‪ /‬عميق‪ ..‬عميق‪..‬‬ ‫عميق‪ ،‬بحرية منسية"‪( .‬بال عنوان‪.)1989 ،‬‬ ‫إن الصورة الشعرية عند حدّاد متنامية ومرتابطة‪ ،‬فكل‬ ‫مفردة شعرية‪ ،‬تردف ما قبلها وتزيد ما بعدها وضوحاً‪ ،‬متاماً‬ ‫تدريجي ليتبدّى الشكل األخري‪ ،‬أي أن تراكم‬ ‫كام هو النحت‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫صورها الشعرية وتراكبها‪ ،‬يتالحق كأمواج البحر‪ ،‬إال أن شكل‬ ‫القصيدة األخري هنا‪ ،‬يبدو ُملت ّفاً و ُمرا ِوغاً يف املعنى اللغويّ ‪،‬‬ ‫اض بنتيجة واحدة للمفردة‪ ،‬فمع الصمت واملوت‪،‬‬ ‫وغري ر ٍ‬ ‫رائحة قدمية ولصيقة بالشاعرة‪ ،‬رائحة الرتاب‪ ،‬وهناك بح ٌر‬ ‫وبجعات ِب ٌ‬ ‫يض‪ ،‬وحني تكون "املقربة قريبة"‪ ،‬فالنجاة الوحيدة‬ ‫للشاعرة هي يف العودة إىل الطفولة‪ ،‬موت ووالدة‪ ،‬حيث‬ ‫تكون األم قد سبقتها إىل السامء‪ ،‬أي أنها طفلة عىل األرض‪،‬‬ ‫وطفلة يف السامء أيضاً‬


‫نقد‬

‫المكان كاستعارة‬

‫إنشاء لغة فلسطين‬ ‫طرق ظهور «المكان» في ّ‬ ‫الشعر الفلسطيني‪ُ ،‬تعين النقد في التعرّ ف عن كثب على تلك العالقة الدقيقة بين‬

‫المفردات من جهة‪ ،‬وطرق تشكيلها للمعاني من جهة أخرى‪ ،‬وصوالً إلى ما يود الشاعر قوله في النهاية‪.‬‬

‫ديمة الشكر‬

‫يستطيع‬

‫قارئ الشعر املتم ّرس أن يعرف إن‬ ‫كان صاحب القصيدة عراق ّياً‪ ،‬فثمة‬ ‫خاص‪ ،‬وطرق غري محددة بد ّقة‪ ،‬لكنها‬ ‫كلامت معينة‪ ،‬ووقع ّ‬ ‫ً‬ ‫ملموسة‪« ،‬توحي» بعراق ّية الشاعر عادة‪ .‬ورمبا يعود الفضل‬ ‫يف طبع الجزء العراقي من ّ‬ ‫الشعر الحديث‪ ،‬بهذا امليسم‬ ‫اللغوي إىل بدر شاكر الس ّياب «‪ ،»1964-1926‬صاحب‬ ‫اإلنجازات الشعرية الكربى‪ -‬والعمر القصري‪ ،‬التي من أهمها‬ ‫إعطاء رشع ّية راسخة للشعر الحديث بشقه املوزون «شعر‬ ‫التفعيلة»‪ .‬صحيح أن الشعراء العراقيني الذين عارصوه‬ ‫أو ظهروا من بعده اختلفوا عنه كثرياً أو قلي ًال‪ ،‬بيد أن مثة‬ ‫ْ‬ ‫صح التعبري‪ْ ،‬‬ ‫برحت‬ ‫بقيت مستم ّرة‪ ،‬وما‬ ‫«درجة» لغوية إن ّ‬ ‫ُتبطن الهو ّية الشعر ّية العراق ّية‪ ،‬وإن بصورة متفاوتة‪ .‬وال‬ ‫يرتبط األمر باإلشارة إىل املكان فحسب‪ ،‬بل يرتبط بصورة‬ ‫غامئة بـ «أم ٍر شعريّ » غري مح ّدد؛ يسيل من اللغة‬ ‫رجع ميلء باإليحاءات‪ ،‬من‬ ‫وتراكيبها‪ ،‬من‬ ‫ٍ‬ ‫مفردات ذات ٍ‬ ‫اقرتان لفظني ببعضهام‪ ،‬وغريها من األمور التي ال ميكن‬ ‫لنظرية شعر ّية ضبطها‪ ،‬إذ هي تتعلق بحساس ّية التفاعل‬ ‫مع املفردات‪ ،‬عىل نح ٍو تغدو فيه «األجواء» بطريقة ما‬ ‫عراق ّية‪.‬‬ ‫وينطبق هذا األم ُر عىل بعض ّ‬ ‫الشعر‬ ‫الفلسطيني‪ ،‬لكن ألسباب مختلفة‬ ‫باملطلق‪ .‬ورمبا يصلح موضوع «املكان‬ ‫ فلسطني»‪ ،‬للنظر يف «درجة» اللغة‬‫ّ‬ ‫التأمل يف بعض املفردات التي‬ ‫الشعر ّية‪ ،‬أو‬ ‫يقصد الشاعر‪ ،‬أو ال يقصد‪ ،‬شحنها مبعانٍ قد‬ ‫تكون واضحة الداللة يف ذهنه‪ ،‬أو ال تكون‪.‬‬

‫فطرق ظهور «املكان» يف ّ‬ ‫الشعر الفلسطيني‪ُ ،‬تعني النقد يف‬ ‫التع ّرف عن كثب عىل تلك العالقة الدقيقة بني املفردات من‬ ‫جهة‪ ،‬وطرق تشكيلها للمعاين من جهة أخرى‪ ،‬وصوالً إىل ما‬ ‫يود الشاعر قوله يف النهاية‪ .‬فاملفردات ال تكون بريئ ًة البتة‬ ‫يف القصائد‪ ،‬لكأنها تنازع الشاعر عىل ما يريد قوله‪ ،‬وهي‬ ‫الخاصة يف الترسب والتف ّلت من بني‬ ‫تحتفظ لنفسها بطرقها‬ ‫ّ‬ ‫وعيه وال وعيه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫والناظر يف بعض قصائد الشعراء الفلسطينيني التي ك ْ‬ ‫تبت‬ ‫عش ّية النكبة «‪ ،»1948‬كمثل ابراهيم طوقان «‪-1905‬‬ ‫‪ »1941‬ومطلق عبد الخالق «‪ ،»1937-1909‬وعبد الرحيم‬

‫‪137‬‬


‫نقد‬

‫لتصبح‬ ‫محمود «‪ ،»1948-1913‬لن تفوته مالحظة أن الشاعر يكتب س ّكانه‪ ،‬اعرتافاً متبادالً بني الطبيعة وبني البرش‪.‬‬ ‫َ‬ ‫أهم الوسائل يف تكوين‬ ‫عن فلسطني باعتبارها فردوساً ال جنّة‪ ،‬إذ اعتمد الشعراء‬ ‫القصيد ُة وفقاً لهذا املنظور من ّ‬ ‫واألهم البدء بامتالك‬ ‫الهو ّية الجامعية‪ ،‬وشحذ الذاكرة‬ ‫عىل وصف طبيعة املكان األخرض الخ ّلبي لكن غري املعني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ينقص املشهد هو املس ِبب يف إبعاد‬ ‫ويف الوقت نفسه أغفلوا اإلشارة إىل أهله‪ .‬األم ُر الذي ُيبطن املكان عرب اللغة‪ .‬ل ّكن ما ُ‬ ‫أن ّ‬ ‫مغتصب‬ ‫الشعراء عدوا املكان ‪ -‬فلسطني وطنهم بالبداهة‪ ،‬وظنّوا الطبيعة عن ُسكانها‪ ،‬إذ ال توجد أي إشارة إىل‬ ‫ِ‬ ‫املكان‪.‬‬ ‫أن القارئ يوافقهم ذلك وال ريب‪ ،‬وأنه «سيفهم»‪ ،‬وأن‬ ‫ْ‬ ‫ظهرت العالقة بني الفلسطينيني وأرضهم بعد ذلك‪ ،‬بصو ٍر‬ ‫وصف الطبيعة مدحاً يساوي التع ّلق بالوطن‪ ،‬وأن الخرضة‬ ‫الوافرة ٌ‬ ‫شتّى‪ ،‬وإن كانت البداية املتفق عليها واضح ًة صلب ًة لدى‬ ‫دليل عىل هوية صلبة‪ .‬وفاتتهم أمو ٌر كثرية تتع ّلق‬ ‫بانكسار الخريطة وتصدّع الهو ّية‪ ،‬مام يفسرّ ولو جزئ ّياً‬ ‫شعراء املقاومة الشهريين «محمود درويش‪ ،‬سميح القاسم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫توفيق زياد‪..‬الخ»‪ ،‬قد رك ْ‬ ‫زت عىل استثامر ثيمة التعلق‬ ‫الفصل التام بني املواضيع يف تلك القصائد املب ّكرة؛ فثمة‬ ‫باألرض «زراع ّياً» إن جاز التعبري‪ ،‬فإن طرق التعبري عن‬ ‫قصائد للتغني بخرضة الوطن وجامله‪ ،‬وأخرى مختلفة‬ ‫تفضح العدو وتتوعد بنرص قريب‪ ،‬يسانده تاريخ متعاطف امتالك املكان لغوياً تأخ ّرت‪ ،‬وسبقتها طرق التعبري عن‬ ‫ْ‬ ‫استندت بهذا القدر أو ذاك إىل‬ ‫الهو ّية الفلسطين ّية التي‬ ‫مع أصحاب األرض بالرضورة‪ .‬وبدا أن «إدخال» أصحاب‬ ‫املصادر التاريخية‪ ،‬وإىل تواتر إيراد لفظ فلسطني ومشتقاته‬ ‫صح التعبري‪ ،‬أدّى دوراً مه ًام‪ ،‬إذ‬ ‫األرض إىل القصيدة إن ّ‬ ‫ّ‬ ‫السيايس يف‬ ‫يف الشعر وكان ذلك تحت مذهب االلتزام‬ ‫انتقلت فلسطني من فردوسها الساموي األخرض‪ ،‬لتصبح‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الشعر الحديث‪ .‬وال تجانب الناقدة الفلسطين ّية سلمى‬ ‫جن ًة عرب تكامل جامل الطبيعة فيها مع السكان‪ ،‬وتناغمهام‬ ‫معاً‪ ،‬يف قصيدة هارون هاشم رشيد الشهرية «سرنجع يوماً»‪ .‬الخرضاء الجيويس الصواب حني تش ُري إىل وطأة الحدث‬ ‫كان ُم ْغ َ‬ ‫فاملكان‪ ،‬وإن َ‬ ‫يتضح منذ البيت األ ّول السيايس عىل ّ‬ ‫الشعر الفلسطيني‪« :‬إن النظر يف هذه‬ ‫فل االسم متاماً‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫املشكالت العا ّمة‪ ،‬يف مقدّمة لألدب الفلسطيني‪ ،‬رضوري‪،‬‬ ‫مبفردة «ح ّينا» الذي يحيل إىل أهل املكان‪ .‬أ ّما الطبيعة فال‬ ‫تستم ّد جاملها من تشبيهها بالجنّة‪ ،‬بل من خالل الرتكيز عىل أ ّوالً ألن شعراء فلسطينيني كثريين قد وقعوا يف شرَ َكها‪ ،‬وثانياً‬ ‫أل ّنها ْ‬ ‫جانب منها بسبب املعضلة الفلسطين ّية‬ ‫العالقة التي تجمع بينها وبينهم‪ .‬فـ «التالل» متتلك صفات‬ ‫نشأت يف ٍ‬ ‫جعلت املواضيع ّ‬ ‫ْ‬ ‫الشعرية التقليد ّية األخرى تبدو‬ ‫ذاتها‪ ،‬التي‬ ‫برش ّية‪ ،‬إذ هي تنام وتصحو وتحنّ إىل أهلها‪ ،‬أ ّما الطري‬ ‫ُ‬ ‫يواصل الحياة من خالل أقرب إىل الهرطقة وفرضت عىل ّ‬ ‫الشعر موضوع املقاومة‬ ‫املنفي عىل فعله‪،‬‬ ‫فيفعل ما ال يقد ُر‬ ‫ّ‬ ‫القصيدة‪ .‬وال ّ‬ ‫ّ‬ ‫املهيمنة‪ ،‬وهو يف جوهره‬ ‫شك يف أن‬ ‫موضوعٌ فلسطيني»‪.‬‬ ‫اجتامع األمور عىل هذا‬ ‫مستعمل‬ ‫لفظ‬ ‫من‬ ‫المنفى‬ ‫تحول‬ ‫ثم كان عىل «الهو ّية‬ ‫النحو يشري إىل فلسطني‬ ‫في القصيدة الى موضوع شعري الفلسطين ّية» كموضوع‬ ‫رش‬ ‫باعتبارها وطناً لب ٍ‬ ‫فلسطيني بامتياز‪،‬وهو ما أدى الى شعري‪ ،‬أن تتسع عىل إيقاع‬ ‫وطبيع ٍة حقيقيني‪ ،‬من‬ ‫الشتات الفلسطيني املتبدلّ‬ ‫دون إيراد اللفظ ذاته‪،‬‬ ‫تطور الشعر الفلسطيني بشكل‬ ‫وفقاً لألحداث السياس ّية‪،‬‬ ‫بل من خالل «تقن ّيات»‬ ‫حقيقي‬ ‫فاختلط موضوع «الحنني إىل‬ ‫شعر ّية متقدّمة‪ ،‬تستند‬ ‫األرض» مبوضوع «املنفى»‪،‬‬ ‫إىل الكناية واالستعارة‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫وظهرت قصائد منسجمة مع ما كان سائدا من االهتامم‬ ‫وتدمج بني األرض وأهلها بصورة جديدة‪ ،‬فاألرض‬ ‫واملجاز‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫التي تش ُري إىل سكانها وتفتقدهم وتنتظرهم‪ ،‬تعينّ هويتهم‪ ،‬بالتفاصيل اليومية‪ ،‬قصائد أشارت إىل «فلسطينيتها» من‬ ‫ويف الوقت نفسه ّ‬ ‫خالل التع ّلق بالبيت وأشيائه الصغرية‪ .‬إذ ال ريب يف أن‬ ‫يضطلع‬ ‫كموضوع شعري‪،‬‬ ‫فإن «الحنني»‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫طبع إىل ح ّد كبري قصائد‬ ‫بدور اإلشارة إىل املكان‪ ،‬الذي تبطن العالقة بينه وبني‬ ‫االبتعاد القرسي عن املكان‪َ ،‬‬ ‫‪138‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫إنشاء لغة فلسطين‬

‫الشعراء الفلسطينيني يف الشتات‪ ،‬ويظه ُر أن استعادة املكان‬ ‫طريق بناء لغته قد تسلل إىل ّ‬ ‫الشعر بصورة تدريج ّية‪،‬‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫فصحيح ّأن ّ‬ ‫الشعر‬ ‫وبقطع النظر عن األحداث السياس ّية‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫الفلسطيني تأثر باألحداث السياس ّية‪ ،‬ال بل هي حدّدته‬ ‫ووسمته بطابع املبارشة والخطابة‪ ،‬إال ّأن ذلك مل مينع‬ ‫الشعراء املوهوبني من تدارك األمر عرب تطوير ّ‬ ‫الشعر من‬ ‫خاللِ ما هو ذايت وشخيص بعيداً من مذهب االلتزام الذي‬ ‫استهلك جامليات ّ‬ ‫الشعر الفلسطيني‪ .‬ويظه ُر أن «املنفى»‬ ‫تح ّول من لفظٍ مستعملٍ يف القصيدة إىل‬ ‫موضوع شعريّ‬ ‫ٍ‬ ‫فلسطيني بامتياز‪ .‬وهو أدّى إىل تط ّور الشعر الفلسطيني‬ ‫ّ‬ ‫بشكلٍ حقيقي حني انتبه الشعراء إىل املعنى املوارب خلف‬ ‫اللفظ نفسه‪ :‬املكان‪ ،‬إذ ّإن هذا اللفظ يومئ إىل املكان‬ ‫األ ّول ويشري إليه بصورة غري مبارشة‪ .‬من هنا قا َم الشعراء‬ ‫القصة‬ ‫الفلسطينيون مبقاربته بطريق ٍة حداثية تر ّك ُز عىل ّ‬ ‫الشخص ّية‬ ‫للمنفي‪ ،‬األم ُر الذي سمح للمعنى الباطن للفظِ‬ ‫ّ‬ ‫املنفى أي املكان بالظهور‪ .‬وتبدو واحدة من قصائد وليد‬ ‫خازندار مثاالً ممتازاً لذلك‪:‬‬ ‫«غيمة الهجرات يف عينيه‪ /‬ويف الحقيبة الجلد الكتاب‪،‬‬ ‫والقلم الرصاص‪ ،‬وصورة العائلة‪ /.‬يف يديه قصدير املقاعد‪،‬‬ ‫قصدير األفاريز واأل ُكرات‪ /‬يف يديه قصدير املصافحة ‪/‬مالت‬ ‫خرج‪ ،‬يف البدء‪ ،‬تذكاراته أم‪،‬‬ ‫عىل الجدار الحقيبة‪ /...‬هل ُي ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خرج وطناً‪ / :‬منزالً‪ /‬وشارعا‪ /‬وعاصمة‪/ .‬أغلق‬ ‫كام الساحر‪ُ ،‬ي ُ‬ ‫عينيه‪ ،‬واتكأ عىل كتف عاداته املستباحة‪ / :‬لن يصادق‬ ‫مزهرية أخرى‪ /،‬ولن يعرتف لرسير سينفجر يف الحرب‬ ‫القادمة‪ /‬لن يصنع الشاي‪ ،‬لن يغني»‪.‬‬ ‫القصة الشخص ّية‬ ‫يربط خازندار منذ الجملة األ ّوىل بني ّ‬ ‫عيني املنفي‪ .‬ويختار‬ ‫واملأساة الجامع ّية فالهجرات تظه ُر يف ّ‬ ‫األلفاظ بعناية فائقة‪ ،‬إذ إن «صورة العائلة» تؤدّي دوراً‬ ‫مهم ُ‬ ‫إيحائياً اّ ً‬ ‫يرتبط مع لفظي «تذكاراته» و«منزالً»‪ ،‬وهو ما‬

‫يعا ُد استثامره يف املقطع األخري‪ :‬املزهرية‪ ،‬الرسير‪ ،‬الشاي‪.‬‬ ‫فهذه األلفاظ الساكنة ُتش ُري إىل حياة منزل ّية شخص ّية تتعطلّ‬ ‫باستمرار و ُتستباح نظراً إىل اضطرار «أنا» الشاعر املتامهية‬ ‫مع «أنا» الجامعة بعفو ّية إىل الهجرة بشكلٍ متكرر‪ ،‬وهو‬ ‫ما ينسجم متاماً مع استعامل لفظ الهجرة بصيغة الجمع‪.‬‬ ‫لكنّ هذا االستعامل الدقيق الذي ُ‬ ‫القصة الشخص ّية‬ ‫يحيل إىل ّ‬ ‫يندغم باملأساة الجامع ّية عند استعامل لفظِ «الوطن»‪،‬‬ ‫شارع فعاصمة ال مدينة مث ًال‪ .‬ويف‬ ‫الذي يرتتب من منزلٍ إىل ٍ‬ ‫الجملة‪ّ ،‬‬ ‫قصة املنفي هو ما يتيح للشاعر أن‬ ‫فإن الرتكيز عىل ّ‬ ‫يضع «املنفى» يف إطاره باعتباره حالة جامعية وشخص ّية يف‬ ‫آن معاً‪ ،‬تؤث ُر يف ضحيتها لكنّها تش ُري دامئ ُا إىل املكان األ ّول‪.‬‬ ‫كذا‪ ،‬بدت القصيدة الفلسطينية الحديثة قادر ًة عىل االهتامم‬ ‫بشؤونها «الوطنية» إن جاز التعبري‪ ،‬من دون أن تفقد صلتها‬ ‫الوثيقة بالشعر العريب الحديث عام ًة‪ .‬فاالهتامم مبا هو ذايت‪،‬‬ ‫وبالتفاصيل اليومية كان ‪ -‬وما يزال ‪ -‬رائجاً يف ّ‬ ‫الشعر العريب‬ ‫الحديث‪ .‬بيد أن ما مي ّيز قصيدة خازندار وقصائد فلسطين ّية‬ ‫أخرى‪ ،‬يكمن يف نربة الشكوى الواضحة فيها‪ ،‬تلك النربة التي‬ ‫طبعت الفلسطيني بصورة البايك دامئاً‪ّ .‬‬ ‫ولعل العودة الناقصة‬ ‫ْ‬ ‫أبعدت املنفى‬ ‫لجز ٍء من الفلسطينيني إىل جز ٍء من أرضهم‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫وطرحت عليهم للم ّرة األوىل فرصة‬ ‫الخارجي عن قصيدتهم‪،‬‬ ‫حلم بالفردوس‬ ‫شابها‬ ‫طويلة‬ ‫سنني‬ ‫الكالم عن املكان بعد‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫استندت إىل ق ّوة الذاكرة يف‬ ‫والجنّة‪ ،‬وجبلتها جهودٌ كبرية‬ ‫ِحفظِ صورة املكان أثناء الغياب عنه‪ .‬وأصبحت «العودة»‬ ‫إىل املكان من أجلِ وص ِفه موضوعاً شعرياً فلسطينياً‪ ،‬أخذ يف‬ ‫بعض األحيان طابعاً تسجيلياً‪ ،‬أو ظهر كجردة حساب ل ِنظرة‬ ‫الفلسطينيني إىل مكانهم‪ .‬تقول هال الرشوف مث ًال‪:‬‬ ‫يشم الزعرت‬ ‫ثم عاد ليك ّ‬ ‫«قال الذي عرف البالد وغاب عنها‪ّ /‬‬ ‫الربي والنعناع‪ /‬من حضن الرتاب‪ /‬وليس يف حوض عىل‬ ‫سور املخ ّيم‪ /‬واستطاع بق ّلة الكلامت أن يصف الحياة‪/‬وكلّ‬ ‫خيبات الحياة ّ‬ ‫بكل منفى م ّر فيه‪ /‬ومل يقل‪ :‬هذي بالدي‬ ‫جنة األرض الوحيدة ‪ /‬لكن شيئاً فيه قال بأنها ّ‬ ‫كل البالد‪/‬‬ ‫وأنها ّ‬ ‫كل املنايف‪ /‬ال يشء ينقصنا هنا‪ ../‬ولنا ٌ‬ ‫دليل يف الرتاب‪/‬‬ ‫لنا ٌ‬ ‫دليل يف السامء‪ /‬لنا أحبتنا هنا‪ /‬وقبور من ذهبوا إىل‬ ‫أقامرهم عند املساء»‪.‬‬ ‫بيد أن نربة االطمئنان املخا ِتل يف نهاية القصيدة ُتظهر‬ ‫وينبع هذا‬ ‫املكان وكأ ّنه قد عا َد ساملاً كام ًال إىل أهله ولغته‪ُ ،‬‬ ‫‪139‬‬


‫نقد‬

‫الشعور من خاللِ املبارشة يف املعنى التي تظه ُر من خاللِ‬ ‫املزج بني ّ‬ ‫الشخيص والجامعي‬ ‫ع ّد «عنارص» مجردة ُ‬ ‫متنع َ‬ ‫األهم الذي مي ّيزها‪،‬‬ ‫اإلنجاز‬ ‫أي‬ ‫يف القصيدة الفلسطين ّية‬ ‫ّ‬ ‫صح التعب ِري‪ ،‬ذلك ألن‬ ‫وهو ما ُيبعدُ القصيدة عن أرضها إن ّ‬ ‫العودة الكاملة إىل مكان ذي عنارص غري محدّدة ال ُ‬ ‫تحيل‬ ‫بالرضورة إىل فلسطني‪ .‬يظه ُر من هذه القصيدة‪ ،‬أن ما كسبه‬ ‫ّ‬ ‫الشعر الفلسطيني قبل «أوسلو»‪ ،‬خرسه عرب املبارشة وانتفاء‬ ‫صدق ّية التجربة يف مقاربة موضوع «العودة»‪ .‬فالقصيدة‬ ‫ستضم «العودة» كموضوع شعري جديد‪ ،‬عليها أن‬ ‫التي‬ ‫ّ‬ ‫تكون أكرث حساسية يف مقاربة املكان‪ ،‬إذ إنها تفقد صدق ّيتها‪،‬‬ ‫وتدخل يف باب املبالغات العاطفية بسهولة‪ ،‬فاملكان ُمدح‬ ‫و ُرفع إىل مصاف الفردوس وأبعد اللغة عن أرضها كام رأينا‪.‬‬ ‫قياس‬ ‫وميكن النظر يف الصحيح من الشعر ألن يف املقارنة به‪ٌ ،‬‬ ‫عليه‪ ،‬كذا تخطر يف البال قصيدة محمود درويش عن تلك‬ ‫العودة الناقصة «كام لو فرحت‪ :‬رجعت»‪ .‬فهذه القصيدة‬ ‫تفصح عن‬ ‫التي تبدو يف ظاهرها بريئة ترس ُد ه ًام شخص ّياً أو‬ ‫ُ‬ ‫ذات الشاعر‪ ،‬تبطنُ مستويني عىل األقل‪ :‬األ ّول بريء يوحي‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫يتحدث عن ذاته فحسب‪ ،‬والثاين يحمل الجامعة‬ ‫ّأن الشاعر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فيخص األ ّول عودة شخص ّية لكن مرتدّدة إىل‬ ‫يف وجدانه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫واثق من أنه قد رجع فعال‪« :‬كام‬ ‫مكانٍ ما‪ ،‬فالشاعر غ ُري ٍ‬ ‫لو فرحت‪ :‬رجعت»‪ُ ،‬‬ ‫حيث ّإن نقصان الفرح وعدم اكتامله‬ ‫ُ‬ ‫يحيل إىل‬ ‫املعبرّ عنه بأداة الرشط‪ :‬لو‪-‬‬‫رجوع غري مكتملٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ناقص‪ .‬وهذا الرتدّد بني قرع الجرس أو استعامل‬ ‫أو‬ ‫رجوع ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫املفاتيح‪« :‬تذك ّرت أن مفاتيح بيتي معي» يزيدُ من وطأة‬ ‫طرف خفي إىل أن «أنا الشاعر»‬ ‫الرجوع الناقص‪ ،‬ويش ُري من ٍ‬ ‫التي ال تتكلم عن ذاتها فحسب بل عن ذات الجامعة‪ ،‬إذ‬ ‫ّإن استعامل لفظي املفاتيح والبيت‪ُ ،‬‬ ‫يحيل فوراً يف حالة‬ ‫الفلسطينيني إىل «حلم العودة» إىل املكان‪ .‬لكنّ العودة‬ ‫الناقصة إىل جز ٍء من املكان ّ‬ ‫النص من خالل جملة‪:‬‬ ‫تطل يف ّ‬ ‫«أنا الضيف يف منزيل واملضيف» «مبا أن العودة ليست‬ ‫تسلس‬ ‫عودة يلتبس األمر فهو ضيف ومضيف يف آن» التي‬ ‫ُ‬ ‫لدمج أنا الشاعر مع أنا الجامعة‪ ،‬فكأ ّنها ليست ذاتاً‬ ‫القياد ِ‬ ‫تحمل يف وجدانها ذات الجامعة‪ ،‬فينتقلُ‬ ‫ُ‬ ‫فردية بل هي‬ ‫الصوت الفردي «أنا» إىل هذا الصوت الجديد «أنا‪/‬نحن»‬ ‫من خاللِ املقطع الثاين من القصيدة املك ّون من مجموع ٍة‬ ‫ُ‬ ‫«نظرت إىل كل محتويات الفراغ‪ ،‬فلم أ َر يل‬ ‫من التساؤالت‪:‬‬ ‫‪140‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫ُ‬ ‫ففكرت‪ :‬أين‬ ‫أثراً‪ ،‬رمبا مل أكن ههنا‪ .‬مل أجد شبهاً يف املرايا‪.‬‬ ‫أنا»‪ ،‬وهو ٌ‬ ‫سؤال عن املكان الجدي ِد بامتيا ِز‪ ،‬وهو يش ُري إىل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫املكان مل يعدُ عىل حاله «مل أجد يل أثرا» ّ‬ ‫وأن نقصا ما‬ ‫ّأن‬ ‫قد شابه‪ ،‬فهو ال يتطابق مع الحلم‪ ،‬ما حتّم السؤال‪« :‬ملاذا‬ ‫َ‬ ‫رجعت إذاً؟»‪ .‬ويزدا ُد معنى الحلم وضوحاً حني يتجسد‬ ‫ككائن ينتظر الشاعر يف البيت‪ ،‬فالحلم بالفردوس املفقود‬ ‫واضح بني املكان‪/‬‬ ‫أو بصورة املكان مل يعد ممكناً‪ ،‬مثة ٌ‬ ‫نقص ٌ‬ ‫اآلن واملكان‪ /‬الحلم‪ ،‬ومع ذلك ّ‬ ‫فإن درويش ال يعادي‬ ‫ُ‬ ‫ويقبل أن يكون يف جز ٍء من املكان‪ّ .‬‬ ‫ولعل يف تجنّب‬ ‫حلمه‬ ‫درويش الكالم عن «صدمة» العودة إىل املكان نظراً إىل‬ ‫استحالة تطابق الحلم مع الواقع‪ ،‬ما يعطي هذه القصيدة‬ ‫بوضوح إىل مكانٍ محدّد ‪/‬‬ ‫لغتها الشعرية الرفيعة التي تش ُري‬ ‫ٍ‬ ‫فلسطني– وهو املعنى األساس‪ -‬هو جز ٌء من املكان‪ /‬الحلم‪.‬‬ ‫الواقع القايس املتم ّثل يف قيام إرسائيل فوق‬ ‫ويظه ُر ّأن‬ ‫َ‬ ‫دفع الشعراء أحياناً إىل تصوير املكان من خاللِ‬ ‫فلسطني‪َ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫قدح‬ ‫وصف واقعه‪ :‬إرسائيل فوق فلسطني‪ ،‬ولعل هذا ما َ‬ ‫زناد إحدى أجمل القصائد التي كتبها محمود درويش‪ ،‬إذ‬ ‫تصور فلسطني ك ّلها ال جز َء منها «طريق الساحل»‪ .‬ودرويش‬ ‫الذي يعتني عناي ًة بالغ ًة بشكل القصيدة‪ ،‬اختار لـ«طريق‬ ‫الساحل» شك ًال يشبه الشعر القديم‪ :‬القصيد ذو الشطرين‬ ‫املق ّفى‪ ،‬من دون أن يكون َقصيداً من الناحية ال َعروضية‪.‬‬ ‫فوضع بدالً من كل شط ٍر عَرويض جملتني موزونتني ‪-‬‬ ‫َ‬ ‫فوق األخرى‪ّ ،‬‬ ‫املتقارب‪ -‬واحدة َ‬ ‫متثل ك ًال منهام صوتاً‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫خافت يت ّمم كالم‬ ‫واحدٌ قويٌ واثقٌ من صواب كالمه‪ ،‬وآخ ٌر‬ ‫األ ّول‪ُ ،‬‬ ‫يصح أن نعطي الصوت األ ّول صفة حياد ّية‬ ‫حيث ّ‬ ‫يكون صوت الشاعر فيها منضوياً تحت صوت الجامعة‪ ،‬أ ّما‬ ‫ّ‬ ‫فيمثل الصوت الشخيص الذي يع ّلق عىل كالم األ ّول‬ ‫الثاين‬ ‫ويفسرّ ه‪ّ .‬‬ ‫صح التعبري‪ -‬صورة‬ ‫وميثل البيتان األ ّوالن ‪ -‬إن ّ‬ ‫املكان كام هو‪« :‬طريقٌ يؤدّي إىل مرص والشام ‪« /‬قلبي ّ‬ ‫يرن‬


‫إنشاء لغة فلسطين‬

‫من الجهتني»‪ /‬طريقُ السنونو ورائحة الربتقال عىل البح ِر ‪/‬‬ ‫األ ّول من خالل االستعارة والكناية واملجاز‪ ،‬وآخر من خالل‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫وليست الثنائية الواضحة يف هذه القصيدة‪:‬‬ ‫نالحظ عند البيت الثالث أن اللفظ الرصيح‪،‬‬ ‫«إن الحنني ه َو الرائح ْة»‪ .‬لكننا‬ ‫دخول «الغزاة» إىل املكان‪ّ ،‬‬ ‫يدل عليهم درويش بـ «يريدون صوتان‪ ،‬سطران‪ ،‬طريقان‪ ،‬أمراً شكلياً متاماً بل هي مندغمة‬ ‫ترميم تاريخهم»‪ ،‬كإشارة النقطاع يف التاريخ‪ ،‬فيت ّمم الصوت يف بنية القصيدة‪ ،‬إذ إن املعنى ُ‬ ‫يصل من خالل الشكل‬ ‫الثاين الكالم من طريق االستناد إىل املفارقة والسخر ّية‪:‬‬ ‫واملضمون يف آن معاً‪.‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫تستجيب إىل التكنولوجيا»‪.‬‬ ‫مودع يف البنوك»‪« ،‬فقد‬ ‫التفت باكرا إىل «صورة»‬ ‫من الصحيح‪ ،‬أن درويش االستثنايئ‬ ‫ُ‬ ‫«بغ ٍد ٍ‬ ‫ّ‬ ‫فطريقُ‬ ‫ويستفيدُ درويش كذلك من األدوات البالغية‪:‬‬ ‫املحتل يف قصائده واشتغل عليها بتنوع الفت‪ ،‬إال أن‬ ‫الساحل ٌ‬ ‫كناية عن فلسطني‪ ،‬ورائحة الربتقال وزه ِر لو ٍز مجا ُز الصحيح كذلك التفاته إىل األرض باعتبارها محتل ًة لغ ًة‬ ‫لها‪ .‬وليس ُ‬ ‫شكل القصيدة هنا معطى‪ ،‬بل لع ّله صورة املكان ومكاناً وذكريات‪ .‬فاملايض الذي ّ‬ ‫يطل من قصائده يختزن‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫الوقت نفسه‪ ،‬مل ي ّوفر درويش شيئا من‬ ‫العا ّم والخاص‪ ،‬ويف‬ ‫املقطعة أوصاله‪ ،‬فمن خاللِ الشكل تبدو عبارة «الطرق‬ ‫الوعرة» متوامئ ًة مع الصوت الثاين الذي يت ّمم األ ّول «طريقٌ‬ ‫املصادر التاريخ ّية إلدخالها إىل حارض فلسطني لغ ًة ومكاناً‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ويتضح املكان بشكلٍ أفضل من خالل‬ ‫طويل بال أنبياء»‪،‬‬ ‫وإن كان من الصعب مقاومة االسرتسال يف الحديث عنه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فإن بعض األصوات التي ْ‬ ‫البيت اآليت‪« :‬طريقٌ يؤدّي إىل طللِ البيت‪( /‬تحت حديقـة‬ ‫تأثرت إيجابياً بنهجه وطرقه يف‬ ‫مستوطنة)»‪ُ ،‬‬ ‫حيث تنهض صورة فلسطني من خالله‪ ،‬فشط ٌر ترصيف القول الشعري‪ ،‬واالنتباه إىل ق ّوة ّ‬ ‫الشعر يف تفنيد‬ ‫اآلخر ورواياته ظلت تستحق التوقف عندها‪ .‬كذا هي حال‬ ‫ملا تب ّقى من املكان وشط ٌر للمكان الذي طم َر األ ّول‪ ،‬وقد‬ ‫اعتمد درويش عىل استعامل «طلل البيت» ككناية عن‬ ‫واحدة من أملع الشاعرات ‪ -‬التي ك ّفت عن كتابة الشعر‬ ‫فلسطني‪ ،‬أ ّما إرسائيل فقد اختار لها لفظاً رصيحاً ُ‬ ‫ينهض‬ ‫لألسف واختفت‪ ،-‬غادة الشافعي‪ ،‬التي اختارت موضوع‬ ‫«التيه» يف قصيدتها أدناه‪ ،‬وهو املوضوع الذي يرتبطُ‬ ‫من الكالم اليومي ّ‬ ‫رفع املكان‬ ‫ليدل عليها‪ ،‬أي أن درويش َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ارتباطا تاريخيا بـ اليهودي‪ ،‬فهو التائه األبدي‪:‬‬ ‫األ ّول من خالل لغة شعرية وترك اللغة التسجيلية للمكان‬ ‫« ُرسيل إىل الصحراء منسيون كرسائلهم‪ /‬وعازفون عن كل‬ ‫الذي طمر األ ّول‪ ،‬عىل نح ٍو أعطى املكان فلسطني لغته من‬ ‫خالل مزج الكناية مع اللفظ الرصيح‪ ،‬الذي يفسرّ ُ تلقائياً‬ ‫بـ‬ ‫صمت أو كالم‪ /‬يهيمون يف هوا ٍء ال يحىص‪ /‬ويتكاثرون‬ ‫ٍ‬ ‫يل الطريق» ُ‬ ‫«طريق يس ّد ع ّ‬ ‫تتناغم هذه الجملة مع‬ ‫حيث‬ ‫يف هجرات تن ّقل الخطى‪ /‬من تي ٍه‪ /‬إىل تي ٍه‪/‬هامئني حتّى‬ ‫ُ‬ ‫جملة قبلها «فقد آثروا الطرق الوعرة»‪ ،‬لرتسم صورة املكان‪ ،‬الغياب‪ /‬كمن ال تهدأ روحه‪ /‬يسريون ‪ /‬وهم يتوارثون‬ ‫الحنني ‪ /‬ويخزنونه يف الجرار‬ ‫ومته ّد للجملة األخرية‬ ‫املعدّة ملاء الرشب‪ /‬رسيل‬ ‫التي تص ّوب نحو املعنى‪:‬‬ ‫بدت القصيدة الفلسـطينية‬ ‫يستطيع‬ ‫أن الشاعر ال‬ ‫إىل الصحراء ‪ /‬كثريون هم‪/‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫االهتمام‬ ‫علـى‬ ‫قادرة‬ ‫الحديثة‬ ‫الوصول إىل نفسه يف‬ ‫وال بيت واحداً لهم‪ /‬يؤلفون‬ ‫مكانٍ مك ّونٍ من طريقني‪:‬‬ ‫بشؤونها «الوطنية» إن جاز التعبير‪ ،‬النشيد يك يسكنوه ضجيج‬ ‫من دون أن تفقد صلتها الوثيقة أحالمهم‪ /‬ثم يغادرون تاركني‬ ‫الطرق الوعرة والطرق‬ ‫فيه نوافذ ال تف ّكك عتمة‬ ‫الواضحة‪ ،‬فاألوىل طرق‬ ‫ً‬ ‫عامة‬ ‫بالشعر العربي الحديث‬ ‫املكان فلسطني والثانية‬ ‫األشياء‪ /‬وهم ال يبرصون‬ ‫طرق املكان أيضاً وبينهام‬ ‫سوى الروح املهاجر كالسهم‪/‬‬ ‫املستوطنات‪ ،‬وهو ما يشري إىل فلسطني ك ّلها اآلن‪ .‬يف هذه‬ ‫وال يدفنون موتاهم‪ /‬مسفوح ًة يف التيه أجسادهم‪ /‬وقد‬ ‫النسيم ويذروها كالرمل‪ /‬عىل طول العدم»‪.‬‬ ‫يتخاطفها‬ ‫القصيدة ط ّور درويش من لغة املكان باالستناد إىل الواقع‬ ‫ُ‬ ‫امللموس من دون أن ينزلق نحو املبارشة والخطابة‪َ ،‬‬ ‫وكان‬ ‫يكتب الفلسطيني قصيدته فوق كالم اآلخر وتاريخه‪ ،‬ال‬ ‫ُ‬ ‫حذراً يف لغته‪ ،‬إذ قسمها إىل قسمني واحدٌ يش ُري إىل املكان‬ ‫تش ُري غادة الشافعي إىل الفلسطينيني باسمهم الرصيح وال‬ ‫‪141‬‬


‫نقد‬

‫تخص املكان وال إىل استعارات أنجزها‬ ‫تستندُ إىل أسام ٍء ّ‬ ‫الشعراء الفلسطينيون قبلها‪ ،‬بل هي تبدأ قصيد ًة منبتةً‬ ‫تقريباً عن ّ‬ ‫الشعر الفلسطيني‪ .‬ويقوم بناء القصيدة عىل‬ ‫ُ‬ ‫تخص التيه‬ ‫دعامتني أساسيتني‪:‬‬ ‫األلفاظ الرصيحة التي ّ‬ ‫وتبطنُ التيه اليهودي‪ ،‬واأللفاظ الرصيحة التي تبطنُ‬ ‫مالمح ّ‬ ‫الشعر الفلسطيني‪ :‬الحنني «قصائد الفلسطينيني‬ ‫األوائل‪ :‬الحنني إىل املكان»‪ ،‬النشيد «إعادة املكان من خالل‬ ‫القصيدة» والبيت «قصائد البيت والعودة إليه» ومسفوحة‬ ‫«قصائد البكاء عىل املأساة الفلسطينية»‪ ،‬وأحالم «الحلم‬ ‫بالعودة»‪ ،‬ومن خالل التناوب بني هاتني املجموعتني من‬ ‫تنجح الشافعي يف تبديل وجهة «التيه» كموضوع‬ ‫األلفاظ‪ُ ،‬‬ ‫يهودي باستمرار‪ ،‬نحو الفلسطيني املعارص‪ .‬وتلجأ غادة‬ ‫متتح من الرتاث‬ ‫الشافعي إىل هذه اللغة اإلشار ّية التي ُ‬ ‫الصويف العريب‪ ،‬من أجلِ إعطاء القصيدة بعداً تراجيدياً‬ ‫عربياً‪ ،‬متجنب ًة قدْر اإلمكان الوقوع يف املرايث والبكائيات‪:‬‬ ‫فالروح املهاجر والعدم والعتمة ترم ُز إىل املعاناة واملكابدة‬ ‫وعدم الوصول‪ ،‬وهذه األخرية «مفاهيم» صوفية بامتياز‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ولعل تأثر الشافعي اإليجايب بدرويش‪ ،‬يظهر من خالل‬ ‫اختيارها ملوضوع املحتل األثري‪ ،‬وتفكيكه عرب لغة شعر ّية‬ ‫بالدرجة األوىل‪ ،‬لكنها ال تنساق وراء جامليات الصور‪ ،‬بل‬ ‫تتسق عرب تضافر املبنى واملعنى الذي يؤدّي إىل صوغ قولها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الشعري باتقان‪ .‬فام يعطي إنجازها هذا صدق ّية الجامل‪،‬‬ ‫يكمن يف َن َفسها املطمنئ إىل صالبة التاريخ الفلسطيني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫املحتل‪ ،‬لذا‬ ‫وإىل معرفتها مبسارب الكلامت التي احتكرها‬ ‫فهي تسوسها باقتدار نحو أرض أخرى‪ ،‬ومتزجها بيشء من‬ ‫الصوف ّية‪ ،‬من دون أن تقع يف ّ‬ ‫فخ القديم‪ .‬لكأن قصيدتها‬ ‫هذه تطلع به ّية من أرض مفخخة برواية اآلخر‪ ،‬تنقضها‪،‬‬ ‫لتكتب لغ ًة شعر ّية فلسطين ّية إشار ّية‪ .‬اللغة اإلشارية ملعب‬ ‫درويش األثري‪ ،‬فالناظر يف قصيدته اآلرسة «ال كام يفعل‬ ‫السائح األجنبي»‪ ،‬لن تفوته مالحظة كيف أن درويش‬ ‫الرصيح ملسقطِ رأسه‬ ‫ال يبدأ قصيدته باستعامل اللفظِ‬ ‫ِ‬ ‫تجمع‬ ‫«الربوة»‪ ،‬بل يبدأ املقطع األ ّول وينهيه بجملتني‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫مشيت عىل ما تب ّقى من القلب‬ ‫األوىل بني اإلخبار والكناية‪:‬‬ ‫حيث ّإن َ‬ ‫صوب الشامل‪ُ ،‬‬ ‫لفظ القلب فيها وحده الذي‬ ‫يح ّولها باتجاه الكناية ليضمن لها انزياحاً شعرياً عن اإلخبار‬ ‫ُ‬ ‫«مشيت صوب الشامل»‪ ،‬أ ّما الجملة الثانية‪ -‬قرىً كنقاطٍ‬ ‫‪142‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫عىل أحرف ُم ْ‬ ‫حيت ‪ -‬فتجمع بني اإلخبار والتشبيه‪ :‬تشبيه‬ ‫ْ‬ ‫يتضح‬ ‫القرى بالحروف واإلخبار بـ« ُمحيت»‪ ،‬وبني الجملتني ّ‬ ‫أن‪ :‬ما تب ّقى‪ ،‬الكنائس املهجورة‪ ،‬املآذن املكسورة‪ ،‬السنديان‬ ‫عىل الجانبني‪ ،‬ليس إال وصفاً دقيقاً لقرية ممحوة عن‬ ‫الخريطة‪ .‬يقوم املقطع الثاين من القصيدة عىل اإلخبار إذ‬ ‫يضم قصائد يف‬ ‫فيه سيحرض اآلخر‪« :‬ودلييل ٌ‬ ‫كتاب صغ ٌري ‪ّ /‬‬ ‫وصف هذا املكان‪ /‬ألكرث من شاع ٍر أجنبي»‪ ،‬وهي التقنية‬ ‫ِ‬ ‫التي يتبعها درويش وغريه من الشعراء الفلسطينيني أي‬ ‫استعامل اللفظ الرصيح واإلخبار واالبتعاد قدر ما أمكن‬ ‫عن االنزياحات اللغوية الشعرية للمفردات‪ ،‬ذلك ّ‬ ‫ألن هذه‬ ‫األخرية هي التي تش ُري إىل لغة املكان‪ ،‬ويورد درويش يف‬ ‫املقطع ذاته‪« :‬مشيت‪ ،‬كام ُ‬ ‫يفعل السائح األجنبي» وهو ما‬ ‫يناقض عنوان القصيدة متاماً‪ :‬ال كام ُ‬ ‫ُ‬ ‫يفعل السائح األجنبي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ويعمدُ درويش إىل ذلك ال ليصف نفسه بل ليصف اآلخر‬ ‫ويحتاج إىل دليلٍ يرشده إىل املكان‪ .‬وليس‬ ‫الذي أخذ مكانه‬ ‫ُ‬ ‫اختيار ديوان شع ٍر بأمر عفوي‪ ،‬بل مقصود متاماً لإلشارة إىل‬ ‫ّأن امتالك املكان قد يطول أيضاً امتالك لغته‪ ،‬ومبا أن الشاعر‬ ‫واثقٌ من مكانه فال يضريه أن يجد «أناه» يف قصائد اآلخر‬ ‫األجنبي‪ .‬أ ّما يف املقطع الثالث فيورد درويش لفظاً رصيحا‪ً:‬‬ ‫الجليل‪ ،‬لكنه ميزجه بعنرص من الطبيعة‪ :‬الهواء‪ ،‬وهو عنرص‬ ‫ّ‬ ‫هش لكنه ال يظهر هشاً إذ يربطه باملاعز الجبيل ليعطيه‬ ‫ثم ُ‬ ‫يبدل درويش من‬ ‫صالب ًة ويحيله إىل الطبيعة مجدّداً‪ّ .‬‬ ‫ُ‬ ‫مشيت ملرتني يف صيغة املايض‪،‬‬ ‫زمن القصيدة‪ :‬فبعد تكرار‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫سيستطيع االلتقاء مع نفسه‬ ‫ينتقل إىل الحارض‪ :‬أميش‪ ،‬حيث‬ ‫ُ‬ ‫يف الحارض ال املايض‪ ،‬من خالل متاهيه مع املكان‪« :‬أنت يا‬ ‫نفس إحدى صفات املكان»‪ .‬فالعالقة بينه وبني املكان ال‬ ‫تحتاج سؤاالً عن الهوية وال عن اسم املكان‪ ،‬يكفي اللقاء‬ ‫الذي ع ّب ْ‬ ‫دت دربه لغة شعرية ساحرة‪ ،‬امتلك درويش من‬ ‫خاللها هذا املكان‪ :‬فلسطني‬ ‫اللوحات ‪ :‬الفنان سليامن منصور‬


‫المكان في تجربة نجوم الغانم‬

‫جدل الذات والعام‬ ‫في تجربة نجوم الغانم الشعرية يبرز المكان بأشكال مختلفة تحيل على ما هو ذاتي وموضوعي أو واقعي‬ ‫ِّ‬ ‫الضدية بين تلك األمكنة ما يمنح تلك العالقة‬ ‫ومتخيل‪ ،‬حيث تتجلى طبيعة العالقة الجدلية أو الثنائية‬

‫طابعها الدرامي المتوتر‪.‬‬

‫مفيد نجم‬

‫يكشف‬

‫املكان لدى الشاعرة نجوم الغانم عن‬ ‫رؤية إىل الذات والعامل وما تنطوي‬ ‫عليه تلك العالقة من دالالت وأبعاد ذاتية واجتامعية‬ ‫ونفسية‪ .‬ويظهر عامل الغرف والبيوت والرساديب والرواق‬ ‫مهيمناً عىل الفضاء املكاين يف نصوص الشاعرة‪ ،‬ويتميز‬ ‫هذا الفضاء بأنه مغلق ومحدود وأليف يحيل عىل ما هو‬ ‫داخيل وخاص وحميم‪ ،‬كام تتسم تلك األمكنة بالقدم‬ ‫والضيق والفراغ بصورة توحي بطبيعة التجربة التي تعرب‬ ‫عنها الذات الشعرية‪ ،‬األمر الذي يجعل هذا الفضاء مستوراً‬ ‫بغطاء نفيس بصورة ال يبدو فيه معزوالً عن حركة النفس‬ ‫والشعور بالذات وهي تحاول أن تجعل منه عنرصاً مشاركاً‬ ‫يف التجربة‪ ،‬ومعرباً عنها يف أبعادها النفسية والوجودية‬ ‫والفكرية‪ .‬ولعل القارئ لتجربة الشاعرة يلحظ أهمية‬ ‫املكان كعنرص مكون وفاعل ومتعدد الداللة يف تلك التجربة‬ ‫بدءاً من العنوان الرئيس الذي يتصدر عدداً من أعاملها‬ ‫التي صدرت حتى اآلن‪ ،‬أو العناوين الفرعية التي تتصدر‬ ‫قصائدها‪ ،‬وتشكل مفاتيحها الداللية‪ ،‬إضافة إىل دوره يف‬ ‫تشكيل الصورة االستعارية يف شعرها‪.‬‬

‫املكان األليف املتمثل يف فضاء الغرف والبيوت والرواق‬ ‫واملمرات أن توحي بطبيعة التجربة التي تعيشها الذات‪،‬‬ ‫ليس ألن هذه األمكنة تحيل عىل ما هو داخيل وحسب‪،‬‬ ‫بل ألن صورة املكان التي تكتسب أبعاداً نفسية تتداخل‬ ‫مع صورة الذات الدالة عىل حالة الجمود والفراغ والرتهل‪،‬‬ ‫حيث يتبادل كل من املكان والذات وظيفة تكثيف وتجسيد‬ ‫الحالة التي تعرب عن معاناة الشاعرة وموقفها من الذات‬ ‫والعامل‪ ،‬خاصة وأن بالغة ظهور املكان يف القصيدة تتأىت من‬ ‫خالل حركة الذات فيه وما تحمله من دالالت تفصح عن‬ ‫عالقة الذات باملكان الذي يتعني وجودنا به‪ ،‬ما يكشف‬ ‫من جهة عن تداخل مستويات مكانية مختلفة واقعية‬ ‫«الرواق‪ -‬عتبة الباب»‪ ،‬وذاتية تتبدى يف التحول الذي‬

‫قراءة يف املنت‬

‫يهيمن ضمري املتكلم غالباً عىل خطاب الشاعرة التي‬ ‫تحاول من خالل مجموعة األوصاف التي تضفيها عىل‬ ‫‪143‬‬


‫نقد‬ ‫من أعامل الفنان عبد الرحيم سامل‬

‫يطرأ عىل شخصية الشاعرة عندما تقرتب من حدود العامل‬ ‫الخارجي «الباب» الذي ميثل منطلق العبور نحو املكان‬ ‫العام والواسع‪ ،‬ما يدل عىل جدل العالقة بني الذات واملكان‬ ‫عىل مستوى التجربة النفسية والروحية‪ ،‬ويكشف عن عالقة‬ ‫التقابل أو الثنائية الضدية القامئة بني املكان الداخيل الذي‬ ‫يحيل عىل ما هو داخيل واملكان الخارجي العام بصورة‬ ‫تبدو معه الذات التي تفقد مشاعر األلفة والدفء والفرح‬ ‫يف املكان األليف‪ ،‬فتحاول أن تخرج منه عرب الرواق نحو‬ ‫العامل الخارجي‪ ،‬لكن رهاب ذلك املكان وما يشف عنه‬ ‫من خوف وتوتر عىل مستوى عالقتها بالعامل تجعلها تشعر‬ ‫بالكهولة والعجز عن عبور الحد الفاصل بني عاملني بسبب‬ ‫حالة الشعور بالضعف والخوف‪ ،‬التي تفقدها القدرة عىل‬ ‫االنطالق والتجدد والخروج من حالة الغربة والوحدة‬ ‫والحزن التي تكابدها‪:‬‬

‫ها أنا يف الرواق العتيق‬ ‫ساعداي مضمومتان‬ ‫وقدمي ُّ‬ ‫تحف الفراغ‬ ‫تلميذة بائسة‬ ‫تشيخ كلام وطئت عتبة الباب‬

‫ويظهر الطابع التقريري يف خطاب الشاعرة‪ ،‬وهي تصف‬ ‫الصورة التي تبدو عليها الغرفة‪ ،‬ال بوصفها مكاناً واقعياً‬ ‫وحسب‪ ،‬بل باعتبارها املكان الذي تضفي عليه حالتها‬ ‫الشعورية الحزينة التي تعرب من خالل ما يكتسبه املكان‬ ‫من صفات حية عرب بث الحياة والحركة يف جامداته اي‬ ‫«التشخيص» عن مضمون تجربتها الدال عىل حالة املوات‬ ‫والغياب والرتهل التي تيش بها صورة املكان املريعة‪،‬‬ ‫والتي تحاول من خاللها تجسيد طبيعة التجربة‪ ،‬وجعل‬ ‫القارئ يشاركها تلك الحالة التي تعيشها‪ .‬ومن أجل التعبري‬ ‫عن مدى حضور تلك الحالة الشعورية امللحة‪ ،‬وتعميق‬ ‫إحساس القارئ بها تستخدم الشاعرة التكرار االستهاليل‬ ‫لعبارة فاتحة القصيدة‪ ،‬محاولة كذلك التعويض عن إيقاع‬ ‫مفقود يف القصيدة‪ ،‬كام تستخدم التكرار العباري للفعل‬ ‫املايض الناقص الذي يأيت يف منتصف الكالم‪ ،‬حيث يشكل‬ ‫هذا التكرار بؤرة داللية مهمة ومكثفة‪ .‬إن صورة الحجرة أو‬ ‫الرواق أو البيت ال تتجاوز هذه املالمح الدالة التي تعكس‬ ‫‪144‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫طبيعة التجربة ودور املكان عىل صعيد تشكيل الصورة‬ ‫الشعرية يف تجسيد تلك املعاين والتعبري عنها أواإليحاء‬ ‫مبضمونها‪:‬‬

‫لعامني أو أكرث‬ ‫كانت الحجرة مغربة ومعتمة‬ ‫كانت العناكب تبني فيها قبائل ومحميات‬ ‫لعامني أو أكرث‬ ‫تهدلت الستائر‬ ‫كجلد عجوز يف التسعني‬ ‫النوافذ َّ‬ ‫رشعت مزاليجها للطرائد ‪.‬‬

‫ال يشء يف فضاء الغرف والبيوت ميكن أن يوحي بالحياة‬ ‫والحيوية والحركة‪ ،‬سوى حركة العيون التي تتنقل بني‬ ‫تفاصيل األمكنة التي توحي بالجمود أيضاً‪ .‬والشاعرة التي‬ ‫تستخدم غالباً الرسد بضمري املتكلم تجعل من املكان الذي‬ ‫تكسبه بالغة حضوره يف النص مرآة‪ ،‬تتجىل فيها صورة العامل‬ ‫الداخيل للشاعرة وحركة شعورها‪ ،‬التي تحاول أن تقيم من‬ ‫خاللها نوعاً من التامثل بني صورة كل منهام وكأنه جزء‬ ‫من تلك التجربة‪ ،‬بحيث تحقق التعاضد الداليل عىل هذا‬ ‫املستوى‪ .‬وإذا كانت اليدان هام أدايت الفعل عند اإلنسان‪،‬‬ ‫فإن صورة جمودهام تكون مبثابة تعبري عن حالة الجمود‬ ‫التي تعيشها‪ ،‬لتظل حاسة البرص هي الوحيدة القادرة‬ ‫عىل الحركة داخل تفاصيل هذا الفضاء املغلق عىل حزنها‬ ‫ومعاناتها القاسية‪:‬‬

‫عيناي تهاجران بني الغرف وتفاصيل البيوت‬ ‫يداي جامدتان‬ ‫وصويت ال يقوى عىل ترك زنزانته‪.‬‬


‫المكان في تجربة نجوم الغانم‬

‫تحمل تجربة الشاعرة يف عمقها ودالالتها صورة عن عالقة‬ ‫االنقطاع مع املكان الخارجي‪ ،‬وعن الرغبة الطامحة باخرتاقه‬ ‫الحي والعميق معه‪ ،‬بصورة تحقق‬ ‫وخلق حالة من التفاعل ٍّ‬ ‫فيها ومعها االنطالق والتجدد والحرية‪ ،‬لكن هذه الرغبات‬ ‫تظل تقف عند التخوم واخرتاقها برصياً ال حركياً‪ ،‬فتكون‬ ‫الخيبة والخذالن واليأس‪ ،‬والعجز عن التفاعل هي العالمة‬ ‫الدالة عىل عالقة الشاعرة به‪ .‬يجري التعبري عن هذه الحالة‬ ‫من خالل استخدام الصورة القامئة عىل التجسيد وتشخيص‬ ‫عنارص الطبيعة‪ ،‬إلنتاج الداللة التي توحي مبعاناة الشاعرة‪،‬‬ ‫وتعرب عن هذه املكابدة الشقية للذات التي تكتفي مبراقبة‬ ‫حركة األشياء من حولها من دون أن تستطيع تحقيق أحالم‬ ‫عبورها نحو العامل واستعادة عالقتها الحميمة والجميلة‬ ‫معه‪:‬‬

‫منذ قليل كنت أرقب الطريق‬ ‫األشجار املرتوكة يف فوضاها‬ ‫وأحالمي الجائعة للتنزه تحت الشمس‬ ‫ُ‬ ‫قطفت ورد النهار‬ ‫وزعته يف اآلنية‬ ‫وأرسجت الورق الزمردي‬ ‫مل تستيقظ واحدة‬ ‫ومل تنتخبني الحدائق‪.‬‬

‫إن هذا التامهي بني املكان والذات الشعرية يف هذه‬ ‫التجربة‪ ،‬يجعل املكان ال يظهر مبعزل عن حركة الشعور‬ ‫وعاملها الداخيل الذي يفتقد إىل الطأمنينة وسالم الروح‬ ‫والفرح‪ ،‬وال شك أن هذه الصورة الدالة التي تكشف عن‬

‫يهيمن ضمير المتكلم غالب ًا‬ ‫على خـطاب الشاعــرة التي‬ ‫تحاول من خالل مجموعـة‬ ‫األوصاف التي تضفيهـا على‬ ‫المكان األليف أن توحـي‬ ‫بطبيعة التجربة التي تعيشها‬ ‫الذات‬

‫انقطاع االتصال والتواصل الحي بني العامل الداخيل والعامل‬ ‫الخارجي للمكان تجسد من خالل جدل العالقة القامئة‪ ،‬بني‬ ‫العامل الداخيل والعامل الخارجي‪ ،‬مضمون التجربة الشعورية‪،‬‬ ‫وحالة التأزم التي تعيشها الذات الشعرية بسبب الشعور‬ ‫بالخيبة واإلحباط التي تعيشها هذه الذات عىل مستوى‬ ‫عالقتها بالعامل الخارجي‪ ،‬الذي ال يستطيع أن يلبي رغباتها‪،‬‬ ‫وال أن مينحها طأمنينة النفس‪ ،‬والشعور بالجامل واملودة‬ ‫واالنطالق‪ .‬والعامل املقصود به هنا ليس العامل املادي‪ ،‬بل‬ ‫العامل االجتامعي الذي تشعر فيه بالغربة الكاملة واالنقطاع‬ ‫والخوف‪ ،‬بصورة تجعلها تفتقد حرارة التواصل الروحي‬ ‫والوجداين معه‪ ،‬وهي تعرب أرصفته وشوارعه‪ ،‬كأنها تعيش‬ ‫خوف الدخول األول فيه‪ ،‬فالوجوه تبدو لها ميتة وال توحي‬ ‫بالحياة واملودة «والعيون تزجرين – وتربكني األسئلة‪،»-‬‬ ‫وهي بذلك تسقط عليه أحاسيسها ومشاعرها وانفعاالتها‪،‬‬ ‫وهي تدرك مرارة الغربة واألمل واالستالب عىل مستوى‬ ‫العالقة معه بعد مغامرة خروجها ومحاولة اجتياز مسافة‬ ‫العزلة التي تفصل بينهام‪:‬‬

‫أخرج محرية يف االتجاهات‬ ‫حتى ليكاد الزحام يدعسني بنعليه الكبريين‬ ‫أتطلع حويل‬ ‫الوجوه يابسة‬ ‫األصوات تختفي يف أذين بال أثر‬ ‫أو مودة‬ ‫وإذ تنظرين مياه امليناء‬ ‫تنتابني رعدة الخارج تواً‬ ‫إىل الهواء الطلق‬ ‫لكن الدكاكني مكتظة‬ ‫وكذلك القوارب امللقاة يف فوضاها‬ ‫عىل الرصيف‪.‬‬

‫وتظهر عالقة الخوف واالنقطاع بني الداخل والخارج بصورة‬ ‫مبارشة يف تعبري الشاعرة‪ ،‬من دون أن تكون هناك مثة عالقة‬ ‫اتصال أو تفاعل وسالم مع الداخل‪ ،‬الذي متوت فيه الروح‬ ‫أيضاً‪ .‬لكن الخوف من الخارج يدفعها من جديد إىل االنكفاء‬ ‫عىل غربتها وأحزانها وخوفها‪ ،‬األمر الذي يوحي بغربة‬ ‫الشاعرة الكلية يف املكان‪ ،‬وعجزها عن اخرتاقه‪ ،‬أو التأسيس‬ ‫‪145‬‬


‫نقد‬

‫لعالقة وجدانية حية وعميقة ميكنها أن متنحها سالم الروح‬ ‫وطأمنينة النفس‪ ،‬وتسهم يف تجديد إحساسها بالحياة‪.‬‬ ‫وتستخدم الشاعرة تكرار االستهالل الذي يركز عىل الفعل‬ ‫الدال عىل الوحشة والخوف مع استخدام إيقاع الصمت‬ ‫املعرب عنه بالتنقيط للتأكيد عىل طبيعة الحالة الشعورية‬ ‫املسيطرة عىل النص الشعري من جهة‪ ،‬وتعميق حضورها‬ ‫الشعوري عند املتلقي من جهة أخرى‪ ،‬خاصة وأن الشاعرة‬ ‫تستخدم التعيني املكاين للتعبري عن تلك الحالة من الشعور‬ ‫بالغربة‪:‬‬

‫الريح متوء قرب الباب‬ ‫الصمت مشتعل يف الدار‬ ‫وقلبي مشغول باألنات املرتاعة هناك‬ ‫الريح متوء‬ ‫دون أن أجرؤ عىل فتح الباب‬ ‫كانت الظلامت الشقية‬ ‫تثبت نبالها‬ ‫الصطياد املارة‬ ‫بينام روحي متوت‪.‬‬

‫وتربز حالة الضياع وانسداد األفق عند الشاعرة من خالل‬ ‫تعدد صيغ األفعال يف القصيدة عىل نحو يؤدي إىل منو‬ ‫القصيدة فضائياً وزمنياً‪ ،‬بحيث تفصح عن صريورة التجربة‬ ‫التي تحكمها الغربة واالنقطاع‪ .‬ولعل استخدام الضمري الدال‬ ‫عىل املكان البعيد «هناك» مقرتناً مع تعدد صيغ األفعال‬ ‫يحدد حركة النص يف الزمان واملكان‪ ،‬وبالتايل يلخص مضمون‬ ‫تلك التجربة عىل املستوى الشعوري والوجودي‪ .‬وميكن‬ ‫لحذف أداة الربط املتمثلة بالواو بني الصور املتالحقة يف‬ ‫املقطع التايل‪ ،‬أن تعرب عن حالة اإلحساس باملكان أو التجربة‬ ‫الشعورية التي تعيشها الذات يف عالقتها مع املكان‪ ،‬تلك‬ ‫العالقة التي تقودها يف النهاية إىل الخيبة واليأس والعجز‬ ‫عىل الرغم من محاولتها اخرتاق حدود املكان وتأثيث هذا‬ ‫الفضاء مبشاعر الود والجامل واملحبة‪:‬‬

‫كنت هناك أذرع ما بقي من األقاليم‬ ‫الطرق محشوة بزغب الظلمة‬ ‫السكنى متحصنني خلف أسوارهم‬ ‫ُ‬ ‫والنحيب يصم أذين كأجراس الكنيسة‬

‫‪146‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫لكن أقدامي ال تبغي التمهل‬ ‫إىل أي املنافذ أصوب سفري‬ ‫واألزقة تحرتس كلام د نوت منها‪.‬‬

‫تالزم صفة الظلمة املكان الخارجي يف أكرث من نص لها‪.‬‬ ‫وبقدر ما توحي هذه الصفة بالخوف والوحشة والرهبة‪،‬‬ ‫فإنها تدل عىل ضياع مالمح املكان‪ ،‬واتصافه بصفة كلية‬ ‫تجعل العبور فيه مغامرة شاقة‪ ،‬ولذلك ال ينفصل الحديث‬ ‫عن املكان‪ ،‬عن حالة الشعور بالخوف والضياع التي تتولد‬ ‫من غياب قيم األلفة والتواصل والتوافق عن العالقة بني‬ ‫ذات الشاعرة والعامل‪ ،‬حتى ال نج َّد يف كل قصائدها أي إشارة‬ ‫تدل عىل عكس ذلك‪ ،‬أو توحي مبا ميكن أن ينم عن التوافق‬ ‫واالنسجام‪.‬‬ ‫إن ما تعكسه هذه العالقة من شعور مأزوم بالغربة‬ ‫والخوف‪ ،‬نابع من العالقة املأزومة مع الواقع االجتامعي‬ ‫املحيط بها ومع اآلخر‪ ،‬وهو ما تعرب عنه عىل مستوى آخر يف‬ ‫هذه القصائد‪ ،‬يتمثل يف شعورها الفاجع بالخيبة والوحدة‪،‬‬ ‫وغياب عالقات التواصل الوجداين والحب مع اآلخرين‪ ،‬كام‬ ‫تكثف صيغة السؤال معاين للوعة والحزن والوحشة‪:‬‬

‫وإذا‬ ‫فعىل أيِّ كتف سيتمرغ‬ ‫نشيجي؟‪.‬‬

‫وتتخذ هذه العالقة داللة أخرى نجدها تتجىل يف البنية‬ ‫الوصفية والخربية للجملة الشعرية يف قصائد الشاعرة‪ ،‬بينام‬ ‫تكون الجملة الفعلية بدالالتها املوحية تجسيداً للحالة‬ ‫الشعورية التي يتكثف فيها إحساسها باملكان‪ ،‬وخوفها الذي‬ ‫يالحقها وهي تعرب فيه متاهة حياتها التي تنتهي‪:‬‬

‫الطرقات تقودين للمتاهة‬ ‫األشجار الكحلية بعيونها‬ ‫املنثورة فوق األغصان‬ ‫تطاردين يف الظلمة‪.‬‬

‫ولعل من الغريب أن ال تنفتح رؤية الشاعرة عىل العامل‬ ‫الخارجي‪ ،‬إال لتجد الصور التي تدل عىل الحزن واألمل‪ ،‬ما‬ ‫يجعل العامل لديها يفتقد قيم الجامل واأللفة والفرح‪ .‬إن مثة‬ ‫تقاب ًال يف هذه الصورة يقوم عىل أساس الرتاسل الداليل بني‬ ‫الخارج والداخل‪ ...‬بني العامل والذات‬


‫زيارة‬

‫قبورالشعراء‬

‫السياب والبريكان وعبد الوهاب‬ ‫في ضيافة الحسن البصري‬ ‫أن‬ ‫من غير الممكن لذاكرة الحداثة الشعرية العربية في العراق ْ‬

‫السياب‬ ‫تنسى ثالثة من أبنائها الذين قدموا من البصرة‪ :‬بدر شاكر‬ ‫ّ‬ ‫ومحمود البريكان ومحمود عبد الوهاب‪ .‬لقد رحلوا ثالثتهم‪ ،‬وكما‬

‫تجاوروا في األعمار والزمن نفسه فقد خلدوا إلى إغفاءة طويلة‬ ‫في المكان ذاته‪ :‬مقبرة حسن البصري‪.‬‬

‫البصرة‪ -‬حسام السراي‬

‫أن‬

‫تدخل مقربة الحسن البرصيّ يف منطقة‬ ‫الزبري بالبرصة (‪ 545‬كم عن العاصمة‬ ‫بغداد)‪ ،‬ال لتقرأ فقط شواهد القبور التي تجد‬ ‫فيها من رحل قبل أ ّيام وهو بعمر الورد‪ ،‬مع أسامء‬ ‫راحلني من أبناء عائالت عراق ّية معروفة‪ ،‬تسأل‬ ‫بعدها‪ :‬اذن‪ ،‬ماالذي بقي من العائلة الفالنية اذا‬ ‫كان جميع هؤالء قد ماتوا؟‬ ‫لكن ولوج هذا العامل والتجوال بني جنبات هذا‬ ‫املدفن الذي اقرتن باسم "الحسن البرصي"‪،‬‬ ‫يعني االقرتاب من مشهد كثرياً ما ننساه يف غمرة‬ ‫مصاعب الحياة ويومياتها القاسية‪.‬‬

‫أرض وأجساد‬

‫متثال السياب‬

‫لعل ّـنا سرندّد‪ ،‬بعد خطواتنا األوىل يف هذا املكان‪ ،‬ما‬ ‫العبايس‪ ":‬خ ّفف‬ ‫قاله أبو العالء املعري يف العرص‬ ‫ّ‬ ‫الوطء ما أظنّ أديم األرض إال من هذه األجساد"‪.‬‬ ‫ومعروف ّان الحسن البرصي(‪21‬هـ ‪110 -‬هـ) هو‬ ‫‪147‬‬


‫زيارة‬

‫مقربة الحسن البرصي‬

‫الشعر ّية‪ ،‬وتذهب باحثاً عن قبور ثالثة من أبرز شعراء‬ ‫العراق وأدبائه‪.‬‬

‫أشهر علامء عرصه ومفتي البرصة حتّى وفاته فيها‪.‬‬ ‫نعم‪ ،‬إن امليش إىل جوار املوىت وتأ ّمل مشهد دفن هذا العدد‬ ‫ك ّله‪ ،‬مرعب ومربك حق ّـاً‪ ،‬وتعرف ّان هذه األرض التي تقف‬ ‫عليها اليوم‪ ،‬احتضنت جسد ّ‬ ‫كل من الحسن البرصي‪ ،‬اإلمام الس ّياب‪ :‬مرحى أ ّيها املوت‬ ‫محمد بن سريين‪ -‬مفرس األحالم األشهر‪ ،‬الزبري بن العوام‪،‬‬ ‫كيف ال نتوجه أوالً اىل قرب بدر شاكر الس ّياب(‪1926-‬‬ ‫طلحة بن عبيد الله‪ ،‬أبناء أرسة آل النقيب وعىل رأسهم‬ ‫أهم املج ّددين يف تاريخ الحداثة الشعر ّية العرب ّية‪،‬‬ ‫‪ّ ،)1964‬‬ ‫املوصل‪،‬‬ ‫عبدالرحمن النقيب نفسه‪ ،‬عبدالغفار األخرس شاعر‬ ‫ابن قرية جيكور التي خل ّـدها يف شعره يف قصيدة "جيكور‬ ‫الشيخ محمد النبهاين صاحب كتاب "التحفة النبهان ّية"‪ ،‬اىل‬ ‫أ ّمي"‪" :‬تلك أ ّمي وإن أجئها كسيحاً ‪ /‬المثاً أزهارها واملاء‬ ‫مثوى شهداء الحروب التي فتكت بالبالد منذ مثانينيات‬ ‫فيها والرتابا"‪ ..‬صاحب مجموعات "أزهار ذابلة"‪" ،‬املومس‬ ‫القرن املايض‪ ،‬وصوالً اىل ضحايا‬ ‫العمياء"‪" ،‬حف ّـار القبور"‪،‬‬ ‫الطائفي الذي رضب العراق‬ ‫العنف‬ ‫ّ‬ ‫"األسلحة واألطفال"‪" ،‬أنشودة‬ ‫وأكثر‬ ‫أبهى‬ ‫السياب‬ ‫قبر‬ ‫‪.2006‬‬ ‫العام‬ ‫املطر"‪" ،‬املعبد الغريق"‪،‬‬ ‫تعرف ا ّنك متيش عىل أثر ميت ّد‬ ‫"منزل األقنان"‪" ،‬شناشيل ابنة‬ ‫أناقة‪ ،‬تحسب أنه بمنأى‬ ‫ألربعة عرش قرناً‪ ،‬وتدرك ّان ِسيرَ‬ ‫الجلبي"‪.‬‬ ‫عن العطب الذي أصاب‬ ‫أعالم ورموز قد توقفت هنا‪ ،‬حيث‬ ‫الشاعر الذي أغرم بأكرث من‬ ‫من‬ ‫فيه‬ ‫ومـا‬ ‫العام‬ ‫الفضاء‬ ‫ووريت الرثى يف هذه البقعة‪.‬‬ ‫امرأة يف حياته‪ ،‬بعد رحلة‬ ‫غري أن ما يحدث‪ ،‬وبالتحديد يف‬ ‫أحياء‪ ،‬وحافظ على شكله مضنية مع املرض العضال‬ ‫أجواء املربد (آيار من العام) ‪2012‬‬ ‫والشتات‪ ،‬بجسد ناحلٍ أخذ‬ ‫األصلي‪ ،‬بين قبور بعضها‬ ‫الذي يحتشد فيه جمهرة من‬ ‫يذوب أكرث فأكرث‪ ،‬توىف يف‬ ‫َمسحت زخة مطر واحدة‬ ‫أنك‬ ‫الشعراء العراق ّيني والعرب‪،‬‬ ‫املستشفى األمريي بالكويت‪،‬‬ ‫المكتوب على شواهدها‬ ‫تهرب من ضجيج قاعات القراءات‬ ‫لينقل جثامنه إىل البرصة‪ ،‬حينها‬ ‫‪148‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫قبور شعراء العراق‬

‫قصيدة للشاعر محمود عبد الوهاب‬

‫مل يحرض إىل دفنه يف مقربة‬ ‫"الحسن البرصيّ "‪ ،‬سوى‬ ‫زوجته إقبال وابنه غيالن‬ ‫وشقيق زوجته وصديقه‬ ‫الكويتي عيل‬ ‫الشاعر‬ ‫ّ‬ ‫السبتي‪.‬‬ ‫موت كان يتوقعه الس ّياب‬ ‫تجسد يف قصيدة‬ ‫شعراً‪ّ ،‬‬ ‫"مرحى غيالن" التي يقول‬ ‫فيها‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫"يا ُسلم الدم والزمان‪ :‬من املياه إىل السام ِء ‪ /‬غيالن يصعدُ‬ ‫ثم يدي‬ ‫فيه نحوي‪ ،‬من تراب أيب وجدي ‪ /‬ويداه تلتمسان َّ‬ ‫وتحتضنان خدّي ‪ /‬فأرى ابتدايئ يف انتهايئ‪ / .‬يا ظليّ املمت َّد‬ ‫حني أموت‪ ،‬يا ميالد عمري من جديد "‪.‬‬

‫األبهى واألكرث أناقة‬

‫لكن ما الجديد بعد ّ‬ ‫كل هذه األعوام عىل وفاته‪ ،‬اذ تع ّرض‬ ‫خاللها العراق إىل الكثري من املتغيرّ ات وبل الكوارث‬ ‫والخيبات الوطن ّية‪ ،‬التي بدأت باملجازر املتتالية التي‬ ‫ارتكبت لالستحواذ عىل السلطة يف ستينيات القرن املايض‪،‬‬ ‫إىل الحروب الدموية واملقابر الجامع ّية والحصار واالجتياح‬ ‫السيايس الحاد بعد خروج آخر‬ ‫األمري ّيك‪ ،‬وليس آخرها الرصاع‬ ‫ّ‬ ‫الجنود األمريكيني‪.‬‬ ‫الجديد وأنت تتم ّعن يف قرب الس ّياب ويف الطابوق األصفر‬ ‫املرصوف فوقه وعليه آالف الذكريات ألح ّبته من النساء‬ ‫والرجال والشابات والشباب‪ ،‬ث ّبتوا تواريخ زيارتهم ملثواه‬ ‫ومعها عبارات اجرتحتها لحظات استثنائ ّية‪ ،‬ناهيك عن‬ ‫شاهدته التي تظهر وكأ ّنها تتوهج باسمه‪ ،‬تنظر اليها‬ ‫فتنسبها إىل زمن ميضء لعل ّـه لن يعود‪ ،‬تجد عقب ذلك‬ ‫ومبعاينة رسيعة لقبور ش ّيد بعضها منذ أ ّيام أو شهور أو‬ ‫حتّى سنوات‪ّ ،‬ان قرب السياب أبهى وأكرث أناقة منها‪ ،‬تحسب‬ ‫أنه مبنأى عن العطب الذي أصاب الفضاء العام وما فيه من‬ ‫أحياء‪.‬‬ ‫املفارقة‪ -‬حتّى مع الكالم عن إعادة تأهيل له قبل عقدين‪-‬‬ ‫ّإن القرب حافظ عىل شكله األصيل‪ ،‬بني قبور بعضها َمسحت‬ ‫زخة مطر واحدة املكتوب عىل شواهدها‪.‬‬

‫ويتذكر البرصيون كيف ّأن "وفاة‬ ‫الس ّياب كانت حدثاً جل ًال شغل‬ ‫املدينة لفرتة غري قليلة‪ ،‬وراحت‬ ‫املؤسسات الثقاف ّية تتبارى يف‬ ‫ّ‬ ‫استذكاره والتأكيد عىل فرادته‬ ‫الشعر ّية وحسه التجديديّ "‪.‬‬

‫شاعر ال ب ّد ْأن يعيش‬

‫تت ّـجه صوب قرب محمود الربيكان‬ ‫(‪ )2002-1931‬الذي يقع يف الجهة‬ ‫املقابلة ملثوى صاحب "أنشودة املطر"‪ ،‬ومعك دليل طاعن‬ ‫يف السن‪ ،‬ميارس مهنته بأريحية عالية‪ ،‬مرتاح لنأيه عن‬ ‫صخب املدينة‪ ،‬ربمّ ا أن الحياة مع املوىت أكرث أماناً من أن‬ ‫يعيشها مع األحياء‪ ،‬تسأله عن اسمه؟ فيجيب بعبثية‪:‬‬ ‫األهم اآلن أن تصل إىل "الربيكان"‪ .‬هناك‬ ‫اسمي ال قيمة له‪ّ ،‬‬ ‫اكتشفنا ا ّننا نفتقد ذاك الطابوق بلونه املحبب وتلك األناقة‬ ‫التي لألسف مل تحتضن عظام صاحب قصيدة " البــــدوي‬ ‫الــذي لـــم يـــر وجهــه أحـــد"‪.‬‬ ‫يحب‬ ‫مدرس اللغة العرب ّية املولود يف البرصة‪ ،‬كان ال ّ‬ ‫األضواء وال النرش‪ ،‬قال عنه الس ّياب يف جريدة "الشعب"‬ ‫العام ‪ ":1957‬سأبذل ّ‬ ‫كل جهد إلخراجه من صمته ليتبوأ‬ ‫يهتم بطبع قصائده يف كتاب‪،‬‬ ‫املكانة الالئقة به"‪ ،‬بل إ ّنه مل ّ‬ ‫لكنّ عدداً من الن ّقاد كتب عنها‪ ،‬من بينهم حاتم الصكر‪،‬‬ ‫وعبدالرحمن طهامزي الذي قدّم إضاءة عن شعره ضمنها يف‬ ‫كتاب جمع فيه نصوصه املتفرقة‪.‬‬ ‫هو أيضاً خاطب املوت يف قصيدته "أغنية رعب هادىء"‪:‬‬ ‫"ما يغرق الروح إذا اشتاقت إىل الفناء !‪ /‬ألنه ليس وراء‬ ‫املوت من عذاب !‪ /‬ليس ع ّ‬ ‫يل متد ليس ‪ /‬عىل اغرتاب ‪/‬‬ ‫عقوبة أقىس من املوت وال أكرب! ‪ /‬أل ّننا جميعنا نأوي إىل‬ ‫الرتاب ‪ /‬يوماً‪ّ ،‬‬ ‫ألن جوعنا املخيف ال يقهر !‪ /‬أل ّننا نحتمل‬ ‫املحال‪ /‬يف دغلنا‪ ،‬ونطرح الشكوك يف الظالل ‪ /‬أل ّننا ال ب ّد أن‬ ‫نعيش‪ /‬نعيش‪ ،‬ال أكرث!"‪.‬‬ ‫نعم يا أ ّيها الشاعر املغدور‪ ،‬عشت ومل تحظ بقرب يليق‬ ‫باسمك وبقصائدك‪ ،‬حيث جدران رضيحك متشققة أهلكتها‬ ‫السنوات وخطوط اسمك عىل الشاهدة أنهكها الرتاب الذي‬ ‫صار مالزماً لحياة أبنائك وأخوتك يف العراق‪ّ ،‬‬ ‫لعل قربك ابن‬ ‫‪149‬‬


‫زيارة‬ ‫شواهد قبور السياب‪ ،‬الربيكان‪ ،‬عبد الوهاب‬

‫الحجاج‪":‬امليت كان مدل ًال‪ ،‬واليوم ال يثري خربه سوى الحزن‬ ‫الذي رسعان ما يغدو من املايض املنيس"‪.‬‬

‫بار لحياة قلقة ومضطربة نحياها ونتصالح مع خرابها بشكل‬ ‫غريب ومثري لألىس‪ ،‬وها أنت تشاركنا هذه مصالحة الواقع‬ ‫بضياع أثرك وسط آالف القبور لجنود ومنسيني ومغدورين‬ ‫وأطفال أهلكتهم كوارث البالد‪.‬‬ ‫قبس من شعلة الحداثة األوىل‬ ‫أحد أدباء البرصة ّ‬ ‫فضل عدم الكشف عن اسمه‪ ،‬قال‪":‬لآلن‬ ‫يوم األربعاء الذي صادف الـ ‪ 7‬من نوفمرب العام املايض‪ ،‬مل‬ ‫قصة مقتل الربيكان مل تحسم بعد‪ ،‬إذ ّأن غالبية البرص ّيني‬ ‫ّ‬ ‫يكن يوماً ساراً للبرصة وأهلها‪ ،‬اذ تويف حينها القاص والشاعر‬ ‫يخشون الحديث عن الكيفية التي جرى فيها؛ ّ‬ ‫ألن القاتل‬ ‫محمود عبدالوهاب بعد إصابته بفشل كلوي‪ُ ،‬ش ّيع بعدها‬ ‫أطلق رساحه مبوجب قرار للنظام السابق قبيل الغزو‬ ‫الراحل من مقر االتحاد يف منطقة "البرصة القدمية" صوب‬ ‫فتبعات‬ ‫األمري ّيك للعراق‪ ،‬وهو اليوم ح ّر وطليق يف البرصة‪،‬‬ ‫مقربة "الحسن البرصي"‪.‬‬ ‫قتله مل تنته بعد برغم اعرتاف املجرم بفعلته التي حوكم‬ ‫ومن املفيد أن نستدرك للتوضيح‪ ,‬ولجهة التوصيف األديبّ‪،‬‬ ‫عليها وخرج"‪.‬‬ ‫للقصة‪ ،‬وعلينا‬ ‫فالراحل مل ُيعرف شاعراً وإنمّ ا اشتهر بكتابته ّ‬ ‫سبب آخر لإلهامل الذي بدا عليه قرب الربيكان‪ ،‬يوضحه‬ ‫هنا أن نسأل‪ :‬هل يغيب عن أصدقائه وزمالئه يف الوسط‬ ‫ّ‬ ‫الشاعر البرصي نفسه هو ّأن "كل أهل الربيكان هم يف‬ ‫الثقايف قصائد النرث التي كتبها يف سبعينيات القرن املايض؟‬ ‫السعودية اليوم‪ ،‬ومل يبق منهم سوى ابنه ماجد الذي يحاول‬ ‫خاصة تلك التي نحتفظ ببعض منها وتحمل توقيعه أثناء‬ ‫ّ‬ ‫أن يعتني برضيح والده"‪ .‬إال‬ ‫سفره إىل وارسو وبراغ‪.‬‬ ‫ّأن الشاعر كاظم الحجاج‪،‬‬ ‫وأل ّنه عاش العزلة يف السنوات األخرية‬ ‫لحياة‬ ‫بار‬ ‫ابن‬ ‫البريكان‬ ‫قبر‬ ‫يف شقة صغرية‪ّ ،‬‬ ‫رأى أن "ما ينقصنا اليوم هو‬ ‫فإن األدباء هم‬ ‫نحياها‬ ‫ومضطربة‬ ‫قلقة‬ ‫ومن‬ ‫اإلتقان يف إنجاز األشياء‬ ‫من حمله عىل األكتاف يف مراسيم‬ ‫بينها قبور أح ّبتنا‪ ،‬فنحن ال‬ ‫الوداع األخري‪ .‬كم كانت صعبة تلك‬ ‫ونتصالح مع خـرابهـا‬ ‫نهتم بإحيائنا‪ ،‬فكيف إذن هي‬ ‫ّ‬ ‫األ ّيام التي قضاها يف العناية املركزة‬ ‫بشـكل غريب ومثير‬ ‫الحال مع املوىت‪ ،‬يف حني كان‬ ‫ألحد مستشفيات البرصة؟ وكم‬ ‫يشاركنا‬ ‫هو‬ ‫وها‬ ‫لألسى‪،‬‬ ‫يف‬ ‫بالحي وامليت‬ ‫االهتامم أكرث‬ ‫هي مؤملة الشهادة التي كتبها عنه‬ ‫ّ‬ ‫مصالحة الواقع هذه‬ ‫عقد الستينيات (حيث تويف‬ ‫صديق عمره القاص محمد خضيرّ ‪،‬‬ ‫السياب)‪ ،‬من دون إغفال جانب‬ ‫ومنها نطالع‪ُ ":‬ر ِبط أخرياً إىل أنابيب‬ ‫بضياع أثره وسط آالف‬ ‫آخر هو ّأن املوت واألحزان‬ ‫التغذية وضغط الدم وجهاز التنفس‬ ‫القبور‬ ‫ّ‬ ‫العراق ّية كانت أقل"‪ .‬هنا يوضح‬ ‫االصطناعي‪ ،‬بعد أن فك ارتباطه بقوى‬ ‫‪150‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫قبور شعراء العراق‬

‫االجتامعي وكلامت‬ ‫النضال‬ ‫املحببة" تويت مي تشياما نوبيوندا"‬ ‫ّ‬ ‫ويف الصباح حدّق من خالل ماسورة‬ ‫الحياة الفوضو ّية ذلك‬ ‫قبر الراحل محمود عبدالوهاب‬ ‫املشهور بني الجموع‪َ ،‬‬ ‫رحل‬ ‫بندقيته‪ ،‬إىل وجه املوت‪ ،‬ودوت‬ ‫أصدق برهـان على تراجع‬ ‫طلقة"‪.‬‬ ‫وحيداً بال شهرة‪ .‬الشهرة‬ ‫التي صنعها لنفسه انتقلت‬ ‫االهـتمام بالثقافة ورموزها‪ ،‬خالل زيارة قربه‪ ،‬يصدم املرء من‬ ‫إىل حلقة ض ّيقة أحاطت به‬ ‫الطريقة املتعجلة التي ُبني فيها‬ ‫ّ‬ ‫يتذكر كثيرون‬ ‫في حين‬ ‫ً‬ ‫وقت رحيله‪ٌ ،‬‬ ‫َ‬ ‫كل أخذ حصة‬ ‫قربه كيفام كان‪ ،‬حيث املطر قد‬ ‫وكيف‬ ‫اب‬ ‫ي‬ ‫الس‬ ‫موت‬ ‫تفاصيل‬ ‫ّ‬ ‫منها لنفسه‪ ،‬و ِرثت قبساً‬ ‫أسقط شيئاً من أحرف اسم "محمود‬ ‫السبتي‬ ‫علي‬ ‫صديقه‬ ‫أن‬ ‫ّ‬ ‫عبدالوهاب" ومسح تقريباً عباريت‪:‬‬ ‫من شعلة الحداثة األوىل‬ ‫ّ‬ ‫"كل نفس ذائقة املوت" و"قرب‬ ‫أرفعها يف درب املستقبل‬ ‫ُ‬ ‫جلبه بسيارة مرسـيدس‬ ‫املوحش‪ ،‬و ِرثت (شعر ّية‬ ‫األديب واملريب الفاضل"‪ ،‬وعدنا‬ ‫سوداء اللون‬ ‫العمر) امللفوف برششف‬ ‫نسأل وسط حالة من الغثيان‪ :‬هل‬ ‫املستشفى املتسخ"‪.‬‬ ‫فع ًال كان صعباً بناء يشء أفضل مام‬ ‫هو عليه اآلن‪ ،‬وبرصف منتظم للطابوق الذي يحيط به؟!‬ ‫أية مصادفة أن تحمل سرية عبدالوهاب‪ ،‬هذه املعلومة‪،‬‬ ‫إ ّنه زامل بدر شاكر السياب ومحمود الربيكان ّ‬ ‫وكل رواد‬ ‫َ‬ ‫وشارك أساطني النرث العراقي منذ‬ ‫الشعر العريب الحديث‪،‬‬ ‫رحيل يف عرص التويرت‬ ‫فرتة الخمسينيات يف إنتاج إبداع متميز‪.‬كتب الشعر وعمل إزاء هذا الحال‪ّ ،‬‬ ‫فإن الشاعر البرصي طالب عبدالعزيز يع ّد‬ ‫يف املرسح وأخرج مرسحية "أهل الكهف" لتوفيق الحكيم‬ ‫شكل قرب الراحل "محمود عبدالوهاب" "أصدق برهان عىل‬ ‫عام ‪ ،1957‬ومرسحية "عرس الدم" للوركا‪ ،‬ومرسحية "سوء‬ ‫تراجع االهتامم بالثقافة ورموزها‪ ،‬يف حني يتذك ّـر كثريون‬ ‫تفاهم" لكامو عام ‪ .1958‬واشرتك مع الشاعر كاظم نعمة‬ ‫تفاصيل موت الس ّياب وكيف ّأن صديقه عيل السبتي جلبه‬ ‫التميمي عام ‪ 1973‬يف تقديم برنامج "مسائل ثقافية"‬ ‫بسيارة مرسيدس سوداء اللون (حديثة يف وقتها)‪ ،‬وقفت‬ ‫القصة والرواية عن‬ ‫لتلفزيون البرصة‪ .‬كام مارس ترجمة ّ‬ ‫قبالة مسجد «أبو منارتني» يف البرصة ليدفن بعدها بعدد‬ ‫االنجليز ّية يف الخمسينيات‪ ،‬صدر له‪ ":‬رائحة الشتاء"‬ ‫محدود من املش ّيعني»‪.‬‬ ‫مجموعة قصص ّية‪" ،‬رغوة السحاب" رواية‪" ،‬ثريا ّ‬ ‫املؤسسات الثقاف ّية‬ ‫النص" كتاب هنا يستدرك عبدالعزيز‪« :‬حينام تن ّبهت ّ‬ ‫وكتاب‬ ‫نقدي‪" ،‬سرية بحجم الكف" رواية‪ ،‬و"شعر ّية العمر"‬ ‫لخرب الرحيل وقيمة صاحبه‪ ،‬بادرت إىل إقامة مناسبات‬ ‫نقديّ أيضاً‪ ،‬وقصائده منشورة هنا وهناك يف مطبوعات‬ ‫ثم ش ّيدت نصباً له‬ ‫استذكارية ك ّرست له وملنجزه ومن ّ‬ ‫ودوريات محل ّية‪ .‬‬ ‫دُعيت إىل كرنفال افتتاحه األسامء الكبرية من األدباء العرب‬ ‫قبل ذلك بعرش سنوات‪ ،‬كان "عبدالوهاب" قد حاىك نهايته يف أحد مهرجانات املربد سبعينيات القرن املايض»‪.‬‬ ‫نص‬ ‫التي تشبه ميتة الغريب يف منفاه‪ ،‬ووث ّـق لها يف ّ‬ ‫غري ّأن عبدالعزيز مل تفته اإلشارة إىل فكرة مفادها‪« :‬إشاعة‬ ‫"الفجيعة"‪:‬‬ ‫اقي‪ ،‬جعل من عامة‬ ‫املوت وتعدّد طرائقه ض ّد اإلنسان العر ّ‬ ‫"الفجيعة ُ ْأن تفتح عينيك فجأة ً ‪ /‬وترى عم َرك ال يصل ُـح‬ ‫الناس قلييل االعتناء مبن مات سواء أكان من األسامء الكبرية‬ ‫ليشء ‪ /‬الفجيعة ُ ْأن تحدّق إىل رسيرك ‪ /‬الغطاءات كام هي‪ ،‬أم الصغرية؛ فقضية املوت أصبحت شائعة ومألوفة‪ ،‬لذا من‬ ‫وال أحد ‪ /‬الفجيعة ْأن تعي الفجيعة"‪.‬‬ ‫الطبيعي أن يكون قرب السياب املدفون قبل أكرث من أربعة‬ ‫ً‬ ‫كام ا ّنه وصف املوت يف ّ‬ ‫قصة "دروكوكو" التي جاء فيها‪":‬إ ّننا عقود أبهى من قرب الربيكان وعبدالوهاب‪ ،‬حيث األخري‬ ‫منوت مثل ما ّ‬ ‫تتحطم األشياء القدمية‪ ،‬لكنّ نهاية همنغواي‬ ‫دفن يف عرص املفخخات والفيسبوك والتويرت والكالم الطويل‬ ‫تختلف‪ ،‬تناول عشاءه وأنشد مع زوجته ماري أغنيتهام‬ ‫العريض عن الحر ّيات والدميقراط ّية يف عاملنا اليوم»‬ ‫‪151‬‬


‫قصيد األسالف‬

‫هة التَّفتّت‬ ‫في ُموا َ‬ ‫ج ِ‬ ‫َص ّدى َ‬ ‫لله ِّش الذي َينْخرُ‬ ‫العي َش من الداخل وَ َح ْسب‪،‬‬ ‫صاغ الشاعرُ الجاهلي الوُ جو َد بما هو لغة عالية‪ .‬لغة ال تت َ‬ ‫ْ‬ ‫القول ِّ‬ ‫الشعْ ري مُ ضمِ ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫أن ي َّ‬ ‫را لِنِدائِهِ العَ مِ يق‬ ‫َظل‬ ‫وإنما ُتراهِ ُن‪ ،‬أبْعَ د مِ ْن ذلك‪ ،‬على ْ‬ ‫ُّ‬

‫خالد بلقاسم‬

‫َ‬ ‫قال متيم بنُ ُمقبل‪:‬‬ ‫ــــص ال َّدهــــ ْـ ُر ِمنّي فال َفتَى َغ َر ٌض‬ ‫ْإن َي ْن ُق ِ‬ ‫وإن َي ُكــــــنْ َ‬ ‫ْ‬ ‫أص ْب ُ‬ ‫ـت بـــ ِه‬ ‫ذاك ِمقــــداراً ِ‬ ‫ْ‬ ‫ـب ال َعـــ ْي َ‬ ‫ـش ل ْو َّأن الفتى َح َجـــــر‬ ‫ما أط َي َ‬ ‫َ‬ ‫ال ُي ْحـــــر ُز املـــــ ْر َء أنصـــــــا ٌر وراب َيــــة‬

‫‪152‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫واف َو َمثلـو ُ ِم‬ ‫لِلدَّهْ ـــــر ِمــــــنْ عُ ـــــوده ٍ‬ ‫َ‬ ‫قويــم‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫ـــويـج‬ ‫فســــ َري ُة الدَّهْ ـــــــر َت ْع‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫الحـــــوا ِد ُث ع ْن ُه وَهْ ـــــــ َو َملمو ُم‬ ‫َتنْبو َ‬ ‫َ‬ ‫اثيم‬ ‫تأ َبـى اله‬ ‫َــــــوان إذا عُ ـ َّد الجـــــــر ُ‬

‫من رسومات الواسطي‬

‫ل ِّ‬ ‫القو ُ‬ ‫ري‬ ‫ْ‬ ‫الش ْع ّ‬


‫القول الشعري في مواجهة التفتت‬

‫لهَذا‬

‫الق ْولِ ِّ‬ ‫ُ‬ ‫الش ْعريّ أج َّن ُت ُه يف ما أ ْرسا ُه ُش َعرا ُء‬ ‫التداخل بينْ داليّ ْ ‪ :‬الع ْيش والدّهر‪ .‬وهو ما َي ْج َع ُل‬ ‫القديم‪ ،‬إىل‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫إعا َدة قرا َء ِة هذا الش ْعر ُمل َز َمة ال فقط ب َر ْص ِد َسفر الدّال‬ ‫الجاهلية ق ْبل الشاعر ُمقبل بن متيم ب َز َم ٍن‬ ‫اإلنصات لِ ُم ْم ِكن الق ْول‪ِ ،‬دالل ّياً‪ ،‬يتط َّل ُب َح ْفراً يف َد َوالِّه‪ ،‬يف الخطابات‪ ،‬وإنمّ ا أيضاً ْ‬ ‫ُ‬ ‫َبعيد‪.‬‬ ‫بالكش ِف عَنْ َس َفر التجا ُور بينْ‬ ‫َّ‬ ‫دوال ُمح َّد َد ٍة‪ ،‬أي تلك الد ّ‬ ‫إشعاع ِدال ٍّيل‬ ‫ّوال التي َتن َْطوي عىل‬ ‫أيْ َع ْود ًة إىل َت َج ّليا ِت ِه األوىل‪ ،‬عىل َن ْح ٍو ُيؤ ِّمنُ ال ّن ْب َش يف‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫تيح ُه‬ ‫خاص‪.‬‬ ‫البدايات ِمنْ َر ْص ٍد لِل ُبذور‪ ،‬و ِمنْ‬ ‫ّ‬ ‫طاب البدايات‪ ،‬لِام ُت ُ‬ ‫ِخ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وص الال ِحقة‪.‬‬ ‫إىل جانب ِه ْج َر ِة دال "النقص" ِمنْ َب ْي ِت طرفة بن العبد‬ ‫تاج ه ِذ ِه ال ُبذور يف الن ُُّص ِ‬ ‫ُمتا َب َع ٍة لِ ِن ِ‬ ‫ّ‬ ‫إىل قصيد ِة متيم بن ُمقبل‪ّ ،‬مثة أيضاً ِهجر ٌة للتجا ُور بينْ داليّ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ريات الخطاب‪ ،‬إال بالتن ُّب ِه‬ ‫أس َحف ِ‬ ‫ال َي ْس ُ‬ ‫تقيم ال َّن ْبش‪ ،‬مبا هو ُّ‬ ‫َّوال ولِ ُلم ْض َمر فيها‪َ .‬‬ ‫لِذاك َر ِة الد ّ‬ ‫العيش والدَّهْ ر‪ .‬وأ ْب َعد من ذلك‪ّ ،‬‬ ‫وذلك بتَقليب ُت ْر َب ِة ال ُبذور‬ ‫فإن العالقة بينْ الدّالّينْ‬ ‫َب ْ‬ ‫لغت َح َّد التامهي الدِّال ّيل يف ب ْي ِت طرفة‪ ،‬الذي َو َردَ‪ ،‬يف‬ ‫ق ْب َل ِه ْج َر ِتها الالنهائي ِة‪ ،‬الحقاً‪ ،‬يف النُّصوص‪ ،‬مادا َم ْت هذه‬ ‫النحو التايل‪" :‬أرى الدّهْ َر كنزاً ناقصاً" َبدَلَ‬ ‫وس ُع ذا ِك َر َة الد ّ‬ ‫داالت‬ ‫َّوال و ُي َض ِّمنُها اإل ْب ِ‬ ‫رواي ٍة أخرى‪ ،‬عىل ْ‬ ‫ال ِه ْج َر ُة هي ما ُي ِّ‬ ‫املعرف َّية التي َتشهَدُ ها األز ِمنة‪ .‬وهي أيضاً ما ُيلز ُم َّ‬ ‫َ‬ ‫العيش كنزاً ناقصاً"‪ .‬وال َينْبغي إلعا َد ِة القرا َءة ْأن ت ْنسىَ ‪،‬‬ ‫كل ُمقا َرب ٍة "أ َرى‬ ‫امل التأوي َّ‬ ‫هاجس التحقيق‪ ،‬االح ِت َ‬ ‫فتح ُه‬ ‫نات الدّالل َّية بتَوجي ٍه ِمنْ‬ ‫شاف الوشا ِئج التي تتخ َّلقُ بينْ اللو ْي ِ‬ ‫تأويل ّي ٍة باك ِت ِ‬ ‫يل الذي َي ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫فأن َيتَباد َ​َل ُّ‬ ‫مع ِّ‬ ‫اختالف ال ِّروايات‪ْ .‬‬ ‫يف َس َفر الدّال‪.‬‬ ‫دال‬ ‫ُ‬ ‫دال "الع ْيش" املَ ْعنى َ‬ ‫وشائج تقو ُم عىل اال ْم ِتداد‪ ،‬ولك َّن ُه ام ِتدادٌ عبرْ َ‬ ‫ً‬ ‫خصيب ِمنَ الناحية التأويل َّية‪ .‬ذلك ما َي ْج َع ُل‬ ‫الفصل‪" ،‬الدّهْ ر" أ ْم ٌر‬ ‫ٌ‬ ‫بالفصل ويف ْ‬ ‫املَ ْحو‪ ،‬الذي َي ْب ُلغ‪ ،‬أحيانا‪َ ،‬د َر َجة ال َو ْصل ْ‬ ‫َّقص‪ ،‬الذي َيسرْ ي فيهام‪َ ،‬خصيصة بانية لِحقيق ِة ال َع ْيش‪.‬‬ ‫طاب الصوفية‪.‬‬ ‫إن ْاست َع ْرنا ِخ َ‬ ‫الن َ‬ ‫ُ‬ ‫ّال‪ْ ،‬اس ِتناداً إىل هذا ا ُمل ْر َت َكز التأوي ّ‬ ‫فتفكيك الد ّ‬ ‫يل‪،‬‬ ‫ثم‪،‬‬ ‫حقيقة ُم َح ِّد َد ٌة لهُ‪ ،‬ال ِمنْ خارجه بل ِمنَ الدّاخل‪ .‬ما ُي ْب ِه ُج‬ ‫و ِمنْ ّ‬ ‫هو عينْ ُ ما ُي ْت ِلف‪ ،‬هو ذا ْاح ِت ُ‬ ‫َمد ٌ‬ ‫نتوج يف إعا َد ِة قرا َء ِة ِّ‬ ‫املفتوح‬ ‫الش ْعر العر ّيب القديم‪،‬‬ ‫واصل ِة‬ ‫امل تبادُل املَ ْعنى ق ْبل ُم َ‬ ‫ْخل ٌ‬ ‫ِ‬ ‫تجدي ِد الن ََّظر إليه‪ ،‬انطالقاً ِمنْ َسبرْ ُم ْم ِك ِن املَ ْعنى‬ ‫نفصلينْ و ُمتبا ِع َد ْين‪ ،‬مبا ُييض ُء اإلشعاعَ‬ ‫ِ‬ ‫اإلنصات للدّالينْ ُم ِ‬ ‫َد ْوماً عىل ْ‬ ‫الش ْعر الجاهيل أ ّوالَ‪ ،‬ث ّمُ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫وسبرْ العالق ِة التي َن َس َجتْها لغ ُت ُه مع الوجود‪ .‬وال َيخفى الدِّاليل الذي ُي ْض ِم ُرهُ دال الدَّهْ ر يف ِّ‬ ‫فيه‪َ ،‬‬ ‫الش ْعر الذي تال ُه الحقا‪ً.‬‬ ‫ّأن إعا َد َة القرا َءة‪َ ،‬وفقَ ما ُيع ِّل ُمنا بورخيس‪ ،‬أشقُّ ِمنَ القرا َءة‪ .‬يف ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّمثة يف ّ‬ ‫دال الدّهْ ر ِمنَ الد ّ‬ ‫دال " َي ُن ُقص"‪ ،‬ا ُملتصدِّر للب ْي ِت األ ّول ِمنْ َمقطع الشاعر‬ ‫ئيس ِة يف االقترِ اب ِمنْ َت َص ُّور ال َّز َمن‬ ‫ّوال ال َّر َ‬ ‫الش ْعر القديم‪ُ .‬ي ُ‬ ‫يف ِّ‬ ‫لبيت يف ُمع ّلق ِة طرفة بن العبد‪ ،‬جاء‬ ‫حيل‪ ،‬وفقَ ما جا َء يف "لسان العرب"‬ ‫متيم بن ُمقبل‪َ ،‬صدىً ٍ‬ ‫َ‬ ‫فيه‪:‬‬ ‫البن منظور‪ ،‬عىل األ َم ِد امل ْمدود‪ ،‬وعىل الزّمان ب َو ْج ٍه عا ّم‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫أ َرى ال َعـــ ْيش كنزا نا ِقـــصا كـــل ل ْيل ٍة‬ ‫وقد اقرتَن‪ ،‬يف الش ْعر الجاهيل‪ ،‬بامل ْوت وال َه َرم والنَّوا ِئب‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫‪،‬‬ ‫ر‬ ‫ــــ‬ ‫د‬ ‫وال‬ ‫‪،‬‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫األ‬ ‫وبالجملة‪ ،‬اقرت َ​َن بالهَالك‪ ،‬عىل ح ِّد ما‬ ‫َّوازل‪.‬‬ ‫ن‬ ‫وال‬ ‫ث‬ ‫د‬ ‫وا‬ ‫والح‬ ‫ْ‬ ‫َ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ــــص ّ ُ َّهْ ُ َ ِ‬ ‫ومــا َت ْن ُق ِ‬ ‫كن ٌز هو ال َع ْي ُش‪ ،‬لك َّن ُه عُ ْر َضة لِ َنز ٍْف ُم ْس َت ِم ٍّر يقوده إىل النّفاد‪.‬‬ ‫ْأس َن َد ْت ُه سور ُة الجاثية إىل الجاهليني‪ ،‬إذ جاء فيها‬ ‫﴿وقالوا ما ِه َي إ ّال َحيا ُتنا الدُّ نيا نمَ ُ ُ‬ ‫بسلط ِة َز َمن‬ ‫ونح َيا وما ُي ْهلكنا إ ّال‬ ‫وت ْ‬ ‫َن َ‬ ‫فاسة الع ْيش وما ُيولِّدُ ُه ِمن ا ْب ِتهاج ُمس َّيجان ُ‬ ‫ّ‬ ‫الدَّهْ ر﴾‪ ،‬اآلية ‪.23‬‬ ‫ُم َد ِّمر‪ ،‬ز َم ٍن ُم ْن ِت ٍج للنّقص‪ .‬مثة ماء‪ ،‬ولكنْ ‪َ ،‬م ْهام ه َّيأ ُه ِمنْ‬ ‫إخصاب‪َ ،‬منذو ٌر للجفاف‪َ .‬‬ ‫ذلك ما يتك َّف ُل ُ‬ ‫البيت الثالث‬ ‫ٍ‬ ‫ِمنْ مقطع الشاعر متيم بإضا َء ِت ِه وهو َي َت َو َّغ ُل با ُملفا َرق ِة إىل‬ ‫لل َّد ْهر‪ ،‬في ِّ‬ ‫الح َّدة بينْ َ َمص ٍري ال َ‬ ‫فكاك منه و َرغب ٍة‬ ‫الش ْعر الجاهلي‪،‬‬ ‫أقصاها‪ ،‬كاشفاً عَن ِ‬ ‫ُم ْستحيلة‪ .‬إ ّنها َر ْغ َبة الت َّصدّي ال لِنفا ٍد َح ْت ِم ٍّي َو َح ْسب‪ ،‬وإنمّ ا‪،‬‬ ‫صور ُة الهالك‪ .‬وهي البانية في‬ ‫ق ْبل ذلك‪ ،‬لِ َس ْط َو ِة ال َّز َمن و"ت ْعويج ِه" عىل َح ِّد ت ْعبري متيم بن‬ ‫ّ‬ ‫ص ُّور عن‬ ‫ال َ‬ ‫عدي ِد من قصائ ِد ِه للت َ‬ ‫ُمقبل‪.‬‬ ‫الح ْفر عَن‬ ‫السابق عىل َ‬ ‫ال ُب َّد ِمنَ التن ُّب ِه‪ ،‬يف سياق التنْصيص ّ‬ ‫هر‬ ‫سلطة ال تُق َ‬ ‫الزَّمن‪ ،‬بما هو ُ‬ ‫امالت الد ّ‬ ‫ّوال يف ِّ‬ ‫الش ْعر العر ّيب‬ ‫الح ِت ِ‬ ‫التح ّق ِ‬ ‫قات الدِّالل ّية األوىل ْ‬ ‫‪153‬‬


‫قصيد األسالف‬

‫وإذا َ‬ ‫ترس ُم حقيقة هذا الع ْيش بالح ِّيز الذي نال ُه يف َت ْركيبها‪.‬‬ ‫كان متيم بنُ ُمقبل ق ْد ْأس َن َد للدّهْ ر‪ ،‬يف املقطع أ ْعاله‪ ،‬ال اللغة ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫نمّ‬ ‫ُ‬ ‫"التقويم"‪ ،‬فذلك ِمنْ أثر اإلسالم‬ ‫ويج" فقط‪ ،‬وإ ا أيضا‬ ‫"الت ْع َ‬ ‫َ‬ ‫َب ْع َد ذلك‪ُ ،‬ييض ُء بيت متيم املستحيل عبرْ َ صور ِة َح ْر ٍب غيرْ‬ ‫فاملقطع الذي نتأ ّمل ُه ينت َِس ُب‪ ،‬يف َحيا ِة متيم بن‬ ‫ره‪.‬‬ ‫يف ِش ْع‬ ‫ُمتكا ِفئة‪ .‬فا ُملتخ َّي ُل ا ُملت َ​َح ّك ُم يف اخ ِتيار كلمة " َت ْن ُبو" َمشدودٌ‬ ‫ُ‬ ‫الح ْريبّ‪ .‬ك ِل َمة "ن َبا" َت ْعني‪ِ ،‬م اّم َت ْعنيه‪ ،‬إخطا َء‬ ‫بيت‬ ‫واضح ِمنْ ٍ‬ ‫إىل املجال َ‬ ‫ُمقبل‪ ،‬إىل َم ْرحل ِة ظهور اإلسالم‪ .‬وهو أ ْم ٌر ٌ‬ ‫ثم ّإن الفتى‪،‬‬ ‫يف القصيد ِة التي ْاجتزأنا منها املقطع‪ .‬فيه ُيش ُري إىل عالق ِت ِه‬ ‫تسديدا ِته‪ّ .‬‬ ‫ال َّر ْمي‪ .‬لكنّ ال َّز َمن ال ُيخطئُ ْ‬ ‫قيم يف هَ شاش ِته‪ .‬هشاشة تتجا َو ُز الفر َد‬ ‫بامرأ ِته التي كانت زوجة أبيه يف الجاهلية‪ .‬يقول‪:‬‬ ‫حس َب ق ْول متيم‪ُ ،‬م ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫عاشـــقٌ َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ترَ‬ ‫ُ‬ ‫حاج َت ُه‬ ‫لِ ْتبط بال ُوجو ِد اإلنساين كام َر َس َم ْته القصيدة الجاهل ّية منذ‬ ‫نال ِمــنْ دَهْ ــام َء َ‬ ‫هَ ْل ِ‬ ‫ّين َم ْرحــــو ُم البدايات‪ ،‬عىل َن ْح ٍو م ّكنَ ِّ‬ ‫قلق‬ ‫الش ْع َر ِمن اخترِ اق ُم ِ‬ ‫يف الجاهــل َّي ِة ق ْب َل الد ِ‬ ‫حيط ِه إىل ٍ‬ ‫للدَّهْ ر‪ ،‬يف ِّ‬ ‫إنسا ٍّين يتج ّد ُد بتجدُّ د ال َّز َمن‪ .‬لنا ْأن ُنن ِْص َت لِهَذا القلق يف‬ ‫الش ْعر الجاهيل‪ ،‬صور ُة الهالك‪ .‬وهي البانية‬ ‫َ‬ ‫أج َّن ِت ِه األوىل‪ْ ،‬‬ ‫وح ْسب‪ ،‬بل‬ ‫يف ال َعدي ِد من قصائ ِدهِ للت َّص ُّور عن الزَّمن‪ ،‬مبا هو ُسلطة‬ ‫وأن َن ْحف َر عَنْ َو ْج ِه ِه ال يف األ لم َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫أ ْيضا يف ذ ْر َو ِة االب ِتهاج الذي كان الشاع ُر الجاهيل َي ْحتَفي به‪.‬‬ ‫ال ُتقهَر‪ُ .‬سلطة ْمل َي ُكنْ ُيس ِّي ُجها أيُّ َتعالٍ يمُ ْ ِكنُ ْأن َيخ ُلق‬ ‫َ‬ ‫ذلك ّأن لِل َّن ْقص‪ ،‬مبا هو إ ْرسا ٌء للموت‪ُ ،‬صو َر َة ما ُي ْب ِهج‪ ،‬أي‬ ‫غات يف‬ ‫االطمئنان تجا َه هذه ال ُق َّوة‪ ،‬بالبحث لها عن ُمس ِّو ٍ‬ ‫عاملٍ ْأخ َروي‪ .‬ذلك ما سي ْنه َُض به اإلسال ُم يف ما َب ْعد‪ .‬بظهور ِه‪ ،‬صور َة الكنز‪.‬‬ ‫اإلنصات للد ّ‬ ‫ّوال‪،‬‬ ‫توسلنا ب ِه يف‬ ‫نحو ما ُيستفا ُد ِمنَ الحديث‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫تمَ اهَ ى الدّهْ ُر بالله‪ ،‬عىل ْ‬ ‫وانسجاماً َم َع ال َّن ْبش الذي َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫الح ْرف املشؤوم‪ ،‬ثاوية‬ ‫كشف عَن التّعايل الذي‬ ‫يمُ ْ ِكنُ أن ن ْع َت َرب االس ِتحالة‪ ،‬التي أ ْب َر َزها َ‬ ‫النبويّ ‪" :‬ال َت ُس ّبوا الدَّهْ ر"‪ .‬متا ٍه َي ِ‬ ‫ّ‬ ‫البيت األ َّول ِمنْ مع ّلقة امرئ القيس؛ الشاعر األ ّول‪ ،‬الذي‬ ‫يف‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫دالل‬ ‫لوينات‬ ‫َّوال‬ ‫د‬ ‫لل‬ ‫َم َّس مفهو َم الز َمن ملّا أ ْرسىَ اإلسال ُم‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ال َتن ُّ‬ ‫نصوص ُه َتدْعو إىل إعاد ِة القرا َءة‪ ،‬اش ِتثامراً لِ ُم ْم ِكن‬ ‫ْفك‬ ‫أص َب َح ْت نوا ِئ ُب الدَّهْ ر‬ ‫ُ‬ ‫َوفقَ ُرؤي ِته للوجود‪ .‬وبهَذا التَّعاليِ ‪ْ ،‬‬ ‫البدايات ِمنْ جهة‪ ،‬ولِت َ​َجدُّ ِد‬ ‫نح ٍو َعزَا إىل‬ ‫َمشيئة إله ّية‪ ،‬عىل ْ‬ ‫هذ ِه املَشيئة ما َ‬ ‫التأويل بت َ​َجدُّ ِد املعرف ِة اإلنسان ّية‬ ‫كان الجاهليون‬ ‫قول تميم‪،‬‬ ‫ب ْ‬ ‫َيت َ​َص َّورو َن ُه هَ الكاً‪ ،‬مبا اق َتضىَ ق ْلباً‬ ‫حس َ‬ ‫الفتى‪َ ،‬‬ ‫ِمنْ جه ٍة أخرى‪.‬‬ ‫َّإن ال َع ْو َد َة إىل خطاب‬ ‫التص ُّور‪ ،‬ويف َتدْبري العالقة‬ ‫يف هذا َ‬ ‫هشاش ِته‪.‬‬ ‫ُم‬ ‫قيم في َ‬ ‫ٌ‬ ‫وجهُها ْاس ِتجال ُء‬ ‫مع ال َّز َمن‪.‬‬ ‫َ‬ ‫البدايات ال ُي ِّ‬ ‫هشاشة تتجا َوز ُ الفر َد ِلت َ ْر َ‬ ‫تبط‬ ‫أصلٍ ثابت َي ْرقدُ يف ثنايا اللغة‪،‬‬ ‫خطئ‪،‬‬ ‫ْمل َيكن الشا ِع ُر الجاهيل ُي ِ‬ ‫ْ‬ ‫بل هي رضور ٌة لِف ْه ِم ُن َس ِخ هذا‬ ‫نفاسة‬ ‫اإلنساني كما‬ ‫بال ُوجو ِد‬ ‫ّ‬ ‫وفقَ تص ّور الكنز الناقص‪َ ،‬‬ ‫صاح َب ِت ِه يف َسيرْ و َر ِة‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ل‪،‬‬ ‫األص‬ ‫تيح ُه‬ ‫هاج الذي ُي ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫الع ْيش‪ ،‬واالب ِت َ‬ ‫ْ‬ ‫م ْت ُه القصيد ُة الجاهليّة‬ ‫س‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫املَ ْعنى ِّ‬ ‫الش ْعريّ ‪ .‬فف ْه ُم السيرْ و َر ِة‬ ‫بحكم حقيق ِته‬ ‫هذا الكن ُز اآليل‪ُ ،‬‬ ‫البدايات‬ ‫منذ‬ ‫الوجود ّية‪ ،‬إىل النفاد‪َ .‬‬ ‫السامع؛‬ ‫لذلك‬ ‫ال َي ْست ُ‬ ‫َقيم إ ّال بت َْجدي ِد َّ‬ ‫َ‬ ‫ماَ‬ ‫َ‬ ‫بقلق الزَّوال‪ .‬قلقٌ‬ ‫اقرتن‬ ‫َس ِع ِندا ِء امل ْعنى القا ِد ِم ِمنْ‬ ‫ُ‬ ‫االبتهاج ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫تنفصل حقيق ُته عن النفا ِد الذي كل َس ِحيق‪.‬‬ ‫ُوجودِيّ ُم ْس َت َمدٌّ ِمنْ كنْز ال ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫الح ْرف املشؤوم‬ ‫يف‬ ‫حال‬ ‫للم‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ض‬ ‫مل‬ ‫ا‬ ‫قة‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫مل‬ ‫ا‬ ‫طلع‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫ْص‬ ‫ن‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫قطع‬ ‫م‬ ‫يف‬ ‫‪،‬‬ ‫الثالث‬ ‫البيت‬ ‫َينْخ ُرهُ ِمنَ الداخل‪ .‬فام ْإن أق َّر‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ ِ َِ‬ ‫لِ َب ْي ِت متيم‪َ .‬ت ْبدَأ املع ّلقة كام هو معلوم بالقول‪:‬‬ ‫الشاعر متيم بن ُمقبل‪ ،‬بطيب الع ْيش حتّى سا َرعَ ‪ ،‬ت ّواً‪ ،‬إىل‬ ‫شؤوم َح َس َب تعبري ابن‬ ‫بيب و َمنْزلِ‬ ‫اس ِتحضار َح ْر ِف "ل ْو"‪ .‬وهو َح ْر ٌف َم ٌ‬ ‫ِقفــــــا َن ْب ِك ِمنْ ِذكــــرى َح ٍ‬ ‫الح ْر َف ال َي ُ‬ ‫عريب‪َّ ،‬‬ ‫قرتن إ ّال مبا ال يكون‪ .‬ب ُبزو ِغ ِه يف‬ ‫بســ ْقطِ ال ِّل َوى بينْ َ الد َُّخــولِ َو َح ْومَلِ‬ ‫ألن هذا َ‬ ‫ِ‬ ‫جسدَها ُب ُ‬ ‫جم لِطيب‬ ‫َت ْركيب اللغة‪ ،‬ان َبثقَ ِظ ُّل ُم ْستَحيلٍ َمكني‪ُ ،‬م ْستَحيلٍ سا ٍر يف‬ ‫زوغ َ‬ ‫َّإن لِ ْ‬ ‫الس ِتحالة‪ ،‬التي َّ‬ ‫الح ْر ِف الم ُ ْل ِ‬ ‫أساسها الخ ِف َّي يف مطلع‬ ‫َرغب ٍة تن َبني عىل هشاش ٍة ُم ِّ‬ ‫تأصلة‪ .‬وارتكازاً عىل هذا ال ُبزوغ‪ ،‬الع ْيش يف ب ْي ِت متيم بن ُمقبل‪َ ،‬‬ ‫خاطف‪ّ .‬‬ ‫السقط وال ِّلوى‪،‬‬ ‫كأن‬ ‫َت َسنَّى لِ ُّلغة ْأن َت ْحت ِف َظ لِطيب ال َع ْيش بظهو ٍر ِ‬ ‫ُمع ّلق ِة امرئ القيس‪ٌ .‬‬ ‫أساس را ِقدٌ يف داليَّ ْ ِّ‬ ‫‪154‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬


‫القول الشعري في مواجهة التفتت‬

‫من رسومات الواسطي‬

‫اللذ ْين ق َّلام َن َب َش ِت القراء ُة يف ُم ْم ِكنهام التأوي ّ‬ ‫يل‪ .‬إ ّنهام‬ ‫وح ْسب‪ ،‬وإنمّ ا أيضاً لِق ّو ِة‬ ‫ئيسان يف‬ ‫ِ‬ ‫اإلنصات ال لِ ُلمع ّلقة َ‬ ‫َر َ‬ ‫د ِّ‬ ‫َوال ِّ‬ ‫الش ْعر الجاهيل يف النّفا ِذ بعيداً َن ْح َو َم ْجهُولِ ال ُوجو ِد‬ ‫اإلنسا ّين‪ .‬وهو ما ُي َس ِّوغ َر َجاَحة الد ّ‬ ‫ّال يف إعاد ِة قرا َء ِة هذا‬ ‫ِّ‬ ‫الش ْعر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫لِهَذ ْين الدّالينْ ا ْم ِتدادٌ يف ِّ‬ ‫الش ْعر الذي جا َء َب ْع َد املع ّلقة‪ .‬فق ْد‬ ‫صامت‬ ‫قلق‬ ‫ٍ‬ ‫أ ْر َس َيا تفاعُ ًال عَميقاً بينْ املكان وال َّز َمن‪ ،‬وفقَ ٍ‬ ‫الس ْق ُط َي ْعني ما‬ ‫ال َيب ُني لِلقراء ِة ا ُملتسرَ ِّعة‪ .‬لِ ُنن ِْصت لِ ّلغة‪ّ :‬‬ ‫َ‬ ‫تساقط ِمنَ ال َّر ْمل‪ ،‬أ ّما ال ِّل َوى فام َي ْسترَ ُّق ِمنَ ال َّر ْملِ ف َيخ ُر ُج‬ ‫السقط وال ّل َوى‪ُ ،‬ي ْر ِسيان ِداللة التفتُّت‪،‬‬ ‫ِمن ُه َ‬ ‫الج َددُ‪ .‬هُ ام معاً‪ّ ،‬‬ ‫تأسييس‪.‬‬ ‫مطلع‬ ‫م‬ ‫َها‬ ‫ت‬ ‫قيم‬ ‫َيس‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫التي َت‬ ‫ِ نْ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫البدايات األوىل ّ‬ ‫ُ‬ ‫للش ْعر العر ّيب تقو ُم عىل التفتّت‪ .‬ال ي ْن َبغي‬ ‫ْأن َن ْنسىَ هذا التأسيس َ‬ ‫الجدَد‪ .‬فهُو ما ُييض ُء َ‬ ‫رهان‬ ‫فوق َ‬ ‫ِّ‬ ‫الش ْعر و َمه َّ​َم َت ُه ال ُو ُجود ّية‪.‬‬ ‫ّمثة صو َر ُة َص ْخر ُمفت ٍَّت يف خطاب البدايات‪ ،‬وعبثاَ س ْو َف‬ ‫بح ْر ٍف مشؤوم‪ ،‬إىل‬ ‫َي ْس َعى متيم بنُ ُمقبل‪ ،‬وهو َي ْحتَمي َ‬ ‫نحو َج َعل َرغ َب َت ُه ُمستحيلة‬ ‫االس ِتنجا ِد َ‬ ‫بصالب ٍة ُمتم ِّن َعة‪ ،‬عىل ْ‬ ‫ُمنذ ال َبدْء‪.‬‬ ‫مطلع ا ُملع ّلقة‪ ،‬إالّ‬ ‫ُ‬ ‫ال َّ‬ ‫يتكش ُف التفاعُ ل بينْ َ املكان والزَّمن‪ ،‬يف ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫باإلنصات للتجا ُوب ب َ‬ ‫ني شط َريْ هذا الب ْي ِت الذي ل ُه َو ْض ُع‬ ‫ِ‬ ‫الش ْطر األ ّول‪ ،‬عبرْ َ ما ا َّمحى‪ .‬مثةّ‬ ‫التأسيس‪َ .‬يحضرُ ُ الزَّمنُ ‪ ،‬يف َّ‬ ‫يش ٌء َ‬ ‫ثم عَفا‪ْ .‬مل ي ْبقَ ِمن ُه غ ُري الذك َرى‪ .‬حقيقة ال َّز َمن‪،‬‬ ‫كان‪َّ ،‬‬

‫َوفقَ هذا َّ‬ ‫الحضو َر يف الزّمن‬ ‫الش ْطر‪ِ ،‬ذ ْك َرى‪ ،‬وهو ما َي ْج َع ُل ُ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫الغياب بانيا لِكل ُحضور‪.‬‬ ‫صبح‬ ‫ُ‬ ‫باس ِت ْمرار‪ ،‬لِ ُي َ‬ ‫ُمنف ِلتاً ْ‬ ‫الح ِّب واملأ َوى غيرْ ُ االن ِفالت‪ .‬بهذا ابتدأ‬ ‫ل ْي َس لإلنسان ِمنَ ُ‬ ‫ُ‬ ‫القول الشعريّ ‪ .‬وق ْد ع َّ​َض َد الشط ُر الثاين هذ ِه الحقيقة‬ ‫ا ُمل ْر ِع َبة بصو َر ِة التفت ُِّت َم ْر ُسو َمة عىل َج َس ِد املكان‪َّ .‬‬ ‫كأن‬ ‫َ‬ ‫تتجسدُ‬ ‫املكان يكت ُ​ُب حقيقة ال َّز َمن‪ ،‬و ُيك ِّث ُف هَ شاشة ُق ْصوى‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫ترَ‬ ‫وانح َد َر‪ ،‬ب َت ْعب ٍري ُم ْس َت َم ٍّد من لسان‬ ‫يف ما ْاس َق من ال َّر ْمل َ‬ ‫العرب‪.‬‬ ‫الح َج ُر‪ ،‬الذي ب ِه َي ْحتَمي متيم‪ ،‬مص ُريهُ ال ّل َوى‪ ،‬أي التفت ُُّت‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الح َجر َر ْم ٌل يتجا َو ُب مع‬ ‫يف أقىص َت َج ّليا ِته‪ .‬ما َت َساقط ِمنَ َ‬ ‫ّ‬ ‫الغياب الذي ب ِه َي ْحضرُ ُ ال َّز َمن يف البيت األول ِمن ُمعلق ِة‬ ‫شاهدٌ عىل ما َت َ‬ ‫الع ْمر‪ .‬وهو‬ ‫امرئ القيس‪ٌ .‬‬ ‫ساقط ِمنَ ُ‬ ‫غياب ِ‬ ‫َ‬ ‫الج َددُ‪ ،‬يف‬ ‫ى‪.‬‬ ‫ح‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫ثم‬ ‫‪،‬‬ ‫كان‬ ‫ك‬ ‫متاس‬ ‫إىل‬ ‫بذلك َجدَدٌ ُيش ُري‬ ‫َ‬ ‫َّ َّ َ‬ ‫ُ ٍ‬ ‫ني واملكا ّين‪ ،‬هو التفت ُُّت األقصىَ ‪ .‬و َمتى تأ َّولنا ُه يف‬ ‫ُب ْع َد ْي ِه‪ ،‬ال َّز َم ّ‬ ‫عالق ِت ِه ب ِذك َرى الحبيب واملأ َوى َيغدو هو التفت ُُّت األقسىَ ‪.‬‬ ‫ا ُمل ْر َت َك ُز ِّ‬ ‫أساس َفت ٌ‬ ‫ُوت‪ .‬اإل ْرسا ُء األ ّول‬ ‫الش ْعريُّ َجدَدٌ ‪َ ،‬‬ ‫والج َد ُد ٌ‬ ‫للق ْول العايل َت َّم ف ْو َق ما ْاسترَ َّ​َق ِمنَ ال َّر ْمل‪ .‬عىل الهشاش ِة‬ ‫ا ْن َبنَى الق ْول‪ .‬إ ّنها الحقيقة ال ُوجو ِد َّية ا ُمل ْض َم َر ُة يف بداي ِة‬ ‫باهرة‪ ،‬مبا م ّك َن ُه‬ ‫ا ُملع ّلقة‪ .‬صاغها ام ُرؤ القيس بقدْر ٍة تكثيف َّي ٍة ِ‬ ‫ِمنْ تأمني ال َّت َو ُّغلِ يف ما يتجا َو ُز َز َم َنهُ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫ْمل َي ُكن الق ْو ُل ِّ‬ ‫نفصال عَنْ هذا ال َّت َوغل‬ ‫الش ْعريُّ ‪ ،‬بهذا املَ ْعنى‪ُ ،‬م ِ‬ ‫الذي َيصو ُن ُه ِمنْ ِّ‬ ‫سياج َم ْحدو ٍد يف َز َم ِن إنتاجه‪ .‬فالحقيقة‬ ‫كل ٍ‬ ‫ذا ُتها‪ ،‬ال َّرا ِق َد ُة يف هذا املَطلع‪َ ،‬‬ ‫سوف ُيؤ ّكدُ ها‪ ،‬حديثاً‪ ،‬الشاع ُر‬ ‫الخاص‪ ،‬ملّا قال‪:‬‬ ‫والكاتب األرجنتيني بورخيس‪ِ ،‬منْ َم ِو ِق ِع ِه‬ ‫ّ‬ ‫الح َجر‪ُّ ،‬‬ ‫كل ْ‬ ‫يش ٍء ُيقا ُم عىل ال َّر ْمل"‪ .‬وقد‬ ‫"ال شيَ ْ َء ُي ْبنَى عىل َ‬ ‫بتنصيص ِه عىل واجب البنا ِء كام ل ْو أنَّ‬ ‫أ ْرد َ​َف هذا الق ْول‬ ‫ِ‬ ‫ال َّر ْم َل ِمنْ َح َجر‪ .‬إ َّن ُه القلقُ الوجوديُّ يف َس َفر ِه العابر لِألز ِمنة‪،‬‬ ‫وا ُملتل ِّون بإبداال ِتها ا ُملؤ ِّمنَة ال ْم ِتدادا ِته يف ُص َو ٍر النهائ ّية‪.‬‬ ‫عل ال َّر ْم َل َح َجراً؟ ما الذي َي ْج ُ‬ ‫ما الذي َي ْج ُ‬ ‫َ‬ ‫اإلنسان َي ْبني‬ ‫عل‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫فوق ال ّرمل كام ل ْو َ‬ ‫كان ال َّر ْمل ِمنْ َح َجر؟ إ ّنها َم َه ّمة الق ْول‬ ‫الجاهيل ُمنذ القديم‪ .‬بهذا‬ ‫العايل‪ ،‬التي أ ْد َركها الشاع ُر ِ‬ ‫اك املَكني‪ ،‬صاغ الشاع ُر َسكناً لغو ّياً‪ .‬في ِه َ‬ ‫صان ال ُوجو َد مبا‬ ‫اإل ْدر ِ‬ ‫هو لغة عالية‪ .‬لغة ال تت َ​َصدّى لله ِّ‬ ‫َش الذي َينْخ ُر الع ْي َش من‬ ‫الداخل َو َح ْسب‪ ،‬وإنمّ ا ُتر ِاهنُ ‪ ،‬أ ْب َعد ِمنْ ذلك‪ ،‬عىل ْأن َي َّ‬ ‫ظل‬ ‫ُ‬ ‫القول ِّ‬ ‫الش ْعريُّ ُمض ِمراً لِ ِندا ِئ ِه ال َع ِميق‪ ،‬يف َد ْع َو ٍة ُم ْس َت ِم َّر ٍة إىل‬ ‫امع َ‬ ‫الخصيب‬ ‫َّ‬ ‫الس ِ‬ ‫‪155‬‬


‫شعر وفلك‬

‫قراءة فلكية‬ ‫في شخصية عبد الوهاب البياتي‬ ‫ً‬ ‫بعيدا عن عالم التنجيم واألبراج‪ ،‬يمكن لعلم الفلك أن يساعد في قراءة الشخصية اإلنسانية‪ ،‬وبوسعه أن‬

‫ً‬ ‫ضوءا على عوالم الشاعر‪ .‬هنا محاولة لفهم قصيدة الشاعر عبد الوهاب البياتي من منظور فلكي‬ ‫يسلط‬

‫ياسين الزبيدي‬

‫متثل‬

‫ساعة امليالد ألي شخص ساعة مصريية‬ ‫بالنسبة إليه‪ ،‬فهي متثل انتقاله من الجانب‬ ‫غري املنظور من العامل إىل الجانب املنظور‪ ،‬وهي تحمل‬ ‫سامت نظام الطاقة لكواكب املجموعة الشمسية بسلبياته‬ ‫وايجابياته‪ ،‬قراءة مواقع كواكب املجموعة الشمسية ألي‬ ‫إنسان هي محاولة لتفسري البعض من جوانبه الظاهرة‬ ‫والباطنة‪ ،‬وهذا ما يسمى بالقراءة الفلكية لخريطة امليالد‬ ‫«‪.»Natal Chart‬‬ ‫واليوم نعود بالزمن إىل بغداد‪ ،‬وبالتحديد إىل أحد األحياء‬ ‫القريبة من مسجد الشيخ عبد القادر الكيالين‪ ،‬حيث ولد‬ ‫البيايت يف السابع من شهر مايو ‪ ،1926‬لنحاول أن نصف‬ ‫ما حدثنا به الفلك عن مميزات هذا الشاعر الذي يعد من‬ ‫أبرز املؤسسني للحداثة الشعرية‪ .‬بيد أنني سأبتعد عن نقد‬ ‫أشعاره تاركاً هذه املهمة لغريي من النقاد واألدباء‪ ،‬محاوالً‬ ‫الرتكيز يف وصف أبرز مزاياه الشخصية معتمداً عىل مواقع‬ ‫ببعض مام قاله عن‬ ‫الكواكب يف يوم ميالده مقارناً إياها ٍ‬ ‫نفسه نرثاً أو شعراً‪ ،‬أو ما قيل يف حقه‪.‬‬ ‫تخربنا إحدى برمجيات الحاسوب أن الشمس كانت يف ساعة‬ ‫ميالده يف برج الثور‪ ،‬لذلك فإنه يشرتك مع مواليد الثور يف‬ ‫الصفات األساسية املتمثلة بالبساطة وحب الطبيعة والرغبة‬ ‫يف صنع السعادة والراحة يف البيت الذي يقطنه‪ .‬كام أنه‬ ‫يحب الرفاهية والجامل وكل ما يتعلق بهام من مأكل جيد‬ ‫ومرشب جيد ومكان رحب وعطر أخاذ وامرأة حسناء‪.‬‬ ‫إحساسه بالفن عال جداً ال يضاهيه إال عناده وتشبثه برأيه‬

‫‪156‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫عبد الوهاب البيايت‬

‫حتى النهاية‪.‬‬ ‫القمر وهو املسؤول عن املشاعر واألحاسيس كان متواجداً‬ ‫يف برج الحوت يف زاوية سلبية‪ ،‬وهذا ما أضاف إىل شخصية‬ ‫البيايت نوعاً من الحساسية واملزاجية‪ ،‬فرناه تارة يف حال‬ ‫حسنة‪ ،‬ومن جراء موقف صغري أو كلمة عابرة نرى مزاجه‬ ‫ينقلب ويغدو سوداوياً ويرد بأسلوب جاف يزعج املقابل‪.‬‬ ‫كام أن هذا الزاوية جعلته يقاطع األلوان الزاهية يف الحياة‪،‬‬ ‫ومييل إىل كل األلوان الرمادية ومشتقاتها‪ ،‬لذا نرى خط‬ ‫التشاؤم بارزاً يف لوحة حياته‪ ،‬وهو يؤمن بأن «اإلنسان‬


‫تخطيط فليك لشخصية البيايت‬

‫ميوت من الحياة وال ميوت من املوت»‬ ‫كام رصح يف حواره مع عيل الشاله‪ .‬يف‬ ‫حني يقول محمد بن صالح إن لفظة‬ ‫املوت استطاعت أن تخرتق قصيدة‬ ‫البيايت ‪ 900‬مرة تقريباً‪:‬‬

‫ُأولدُ يف مدن مل ُتولَد‬ ‫لكنّي يف ليل خريف املدن العربية‬ ‫ مكسور القلب ‪ -‬أموت‬‫أدفن يف غرناطة حبي‬ ‫وأقول‬ ‫ّ‬ ‫«ال غالب إال الحب»‬ ‫وأحرق شعري وأموت‬ ‫وعىل أرصفة املنفى‬ ‫ُ‬ ‫أنهض من بعد املوت‬ ‫َ‬ ‫ُألولد يف مدن مل ت ُولد وأموت‪.‬‬

‫الغربة والسفر واملنفى مرتادفات متالزمة يف أشعار البيايت‪،‬‬ ‫لعل كوكب املريخ يستطيع أن يجيبنا عن هذا السؤال‪،‬‬ ‫فهو يقول يف لقائه مع المع الحر إن السفر هو نوع من‬ ‫فاملريخ هو املسؤول عن الطاقة والنشاط‪ .‬وقد تواجد أيضاً‬ ‫وال‬ ‫يأيت‬ ‫التعبري عن القلق وانتظار حالة اإللهام‪ ،‬انتظار الذي‬ ‫يف برج الحوت يف زاوية سلبية كام كان القمر‪ ،‬ويف ذلك‬ ‫يأيت‪ ،‬تحدي الزمن اآليت الذي قد يبدو ثقي ًال وأنت تقيم يف‬ ‫إشارة إىل رغبة يف الهروب من الواقع عرب االنغامس برشب‬ ‫مكان واحد طول عمرك‪ .‬بيد أن هناك سؤاالً يطوف فوق‬ ‫الكحوليات أو العزلة أو السفر‪ ،‬ولقد اختار البيايت السفر‬ ‫الشفاه مستفرساً‪ :‬هل كان السفر و الرتحال الدائم لدى‬ ‫ألنه ديدن الشعراء‪ ،‬وأطلق مسمى «املنفى» عىل كل املدن‬ ‫ً‬ ‫البيايت قدرا ال ميكن أن يحيد عنه‪ ،‬وهل االغرتاب والتنقل بني التي لبث فيها ردحاً من الزمن‪ ،‬ويف ديوان «نصوص رشقية»‬ ‫مدن العامل املختلفة أمر مفروض عليه ال يستطيع تغيريه أم يقول‪:‬‬ ‫أن هناك هاجساً نفسياً داخلياً يدفعه نحو التغيري واالنتقال‪.‬‬

‫الغربة والسفر والمنفى‬ ‫مترادفات متالزمة في أشعار‬ ‫البياتي‪ ،‬فهو يقول في لقائه‬ ‫مع المع الحر إن السفر هو نوع‬ ‫من التعبير عن القلق وانتظار‬ ‫حالة اإللهام‪ ،‬انتظار الذي‬ ‫يأتي وال يأتي‬

‫ما بني الوردة والسكني‬ ‫روحي قطرة ضوء تخب‬ ‫وأنا أخبو معها‬ ‫سنموت كالنا يف املنفى امللعون‬ ‫فلامذا يا ابتي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫انجبت حصانا غجريا أعمى‬ ‫ال يعرف يف الصقع الشاسع‬ ‫أين ميوت‪.‬‬

‫يف تحليل الخريطة الفلكية للشعراء واألدباء‪ ،‬نرنو بعني‬ ‫االهتامم إىل موقع كوكب عطارد‪ ،‬ذلك ألنه كوكب التفكري‬ ‫والتواصل االجتامعي‪ ،‬ليفرس لنا كيف ميكن أن تتخذ‬

‫‪157‬‬


‫شعر وفلك‬ ‫آلة تقويم قمري اسالمية‬

‫القرارات وكيف يتم‬ ‫التعامل مع أجواء‬ ‫العمل وزمالء املهنة‪،‬‬ ‫وعطارد كان متواجداً يف‬ ‫خريطة البيايت يف برج‬ ‫الحمل الناري‪ ،‬ويف ذلك‬ ‫داللة عىل أن عنرص املنافسة‬ ‫والتحدي هو ركن أساس من أركان‬ ‫فكر البيايت‪ ،‬فهو ذو فكر خالق وروح عدائية تحب الظهور‬ ‫واملناقشة يف كل املحافل‪ ،‬فهو يقول يف حواره مع شوقي‬ ‫بزيع «التمرد ولد يف داخيل من رصختي األوىل وأنا بني يدي‬ ‫القابلة» ويضيف أن مجموعة «أباريق مهشمة» كانت‬ ‫هي السهم الناري الحقيقي الذي أطلقته نحو الغابة امليتة‬ ‫فاشعلتها ليشتعل معها الجدل يف كل مكان‪ .‬كام جعل‬ ‫عطارد من البيايت شخصاً شجاعاً يف التعبري عن آرائه‪ ،‬فام‬ ‫استقر يف فكره يكشفه لسانه‪ ،‬وفيه اجتمعت الثقة العمياء‬ ‫بالنفس وحرية التعبري التي ال تخىش من أحد‪ ،‬وال تعرف‬ ‫املجاملة والنفاق‪ ،‬وهو يقول يف حواره مع المع الحر «كل‬ ‫الناس يقولون عن األعور إنه أعور لكنهم يقولون ذلك يف‬ ‫الكواليس ويكونون مفرتين ومنامني وأحياناً يكذبون‪ ،‬لكنني‬ ‫أقول ذلك بأعىل صويت ويف العلن‪ ،‬إنني أعرب عن لسان‬ ‫الذين يجبنون وال يتحدثون‪ ،‬أنا ليس يل مصلحة وليس‬ ‫بيتي من زجاج‪ ،‬وأعتقد أن الشاعر الحقيقي ال يستطيع أن‬ ‫يهزمه أحد»‪ .‬ولذلك كان البيايت ناري التفكري كموقع عطارد‬ ‫وجريئاً يف النقد جرأة تصل حد الشتيمة والسب‪ ،‬ويف هذا‬ ‫يسأله عدنان الصائغ عن قاموس الشتائم الذي انفرد به‬ ‫عن العديد من الشعراء‪ ،‬عام إذا كان فخوراً به‪ ،‬ويجيب‬ ‫البيايت «هذا القاموس مستمد من الواقع اليومي السيايس‬ ‫واالجتامعي ألن هذا الواقع واقع فاسد البد من تعريته‬ ‫وتحطيمه»‪.‬‬ ‫خلف كل شاعر وجع وامرأة ‪ ،‬فيا ترى من هي املرأة التي‬ ‫وراء البيايت‪ ،‬أهي امرأة واحدة أم هي قبيلة من النساء؟‬ ‫يساعدنا يف اإلجابة عن هذا السؤال موقع كوكب الزهرة‪،‬‬ ‫كوكب العشق والجامل يف خريطة ميالده‪ ،‬وملا كان يف‬ ‫العرشية األوىل من برج الحمل‪ ،‬أدى ذلك إىل جعل البيايت‬ ‫عاشقاً حامسياً‪ ،‬ليس خجوالً عندما يحب‪ ،‬فبوسعه التعبري‬ ‫‪158‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫عن كل ما يجول يف قلبه من دون وجل‪،‬‬ ‫أنيس املعشرَ تحبه النساء ويحب‬ ‫صحبتهن‪ ،‬متهور يف عشقه‪ ،‬إذا ما‬ ‫أحب مىش يف الطريق حتى النهاية غري‬ ‫آبه لعذول أو الئم‪ ،‬من السهل أن يقع‬ ‫يف الحب‪ ،‬وقد وقع فيه مرات عديده‪ .‬بيد‬ ‫أن هناك ميزة أخرى تظهر يف هذا العاشق‬ ‫الجريء من جراء كوكب الزهرة وارتباطه بالقمر‪،‬‬ ‫إنها ميزة التقييد العاطفي‪ ،‬ميزة تجعل عرشات النساء‬ ‫يتوحدن يف امرأة واحدة‪ ،‬نعم هي امرأة واحدة فقط التي‬ ‫أحبها البيايت رغم عرشات النساء اللوايت وقعن يف حبه‪،‬‬ ‫ووقعن تحت تأثري سحر كلامته‪ ،‬فالتقييد العاطفي يجعله‬ ‫أسرياً تحت تأثري امرأة واحدة‪ ،‬تجعله مخلصاً لها‪ ،‬حتى أن‬ ‫«عائشة» و«الرا» وأخريات تغنى بعشقهن‪ ،‬ما هن إال صدى‬ ‫لتلك املرأة التي ق ُـيد بها طيلة حياته فأصبحت رمزاً يشدو‬ ‫به قلبه يف كل وقت وحني‪ ،‬ويف حواره مع عدنان الصائغ‬ ‫عندما سأله عن املرأة األوىل يف حياته‪ ،‬أجابه البيايت «لقد‬ ‫اختفت هذه املرأة إىل األبد وال أعرف أين هي اآلن‪ .‬هل‬ ‫تزوجت وانجبت اطفاالً أم أنها ماتت ورحلت إىل العامل‬ ‫اآلخر أو إىل بالد بعيدة ولكنني لن أنىس حرارة يدها وبريق‬ ‫عينيها الذي أراه يتألأل يف ظلامت الليل كلام أصابني مس‬ ‫شعري أو وجع‪ .‬لقد فجرت الينبوع واختفت اىل األبد‪ .‬لقد‬ ‫توالد منها أو توالدت آالف العصور والوجوه فهي املحبوبة‬ ‫األزلية‪ ،‬وكام تحولت عشتار إىل نجم فهي قد تحولت أيضاً‬ ‫بفضل معجزة الحب»‪ .‬لقد ظل البيايت أسرياً طيلة حياته‬ ‫المرأة واحدة ظل يدافع عنها حتى الرمق األخري‪ ،‬وعندما‬ ‫سأله يوسف أبو لوز عن شيخوخة عائشة هتف البيايت‬ ‫مدافعاً «ال‪ ،‬إنها باقية أبداً كام هي يف الواقع وكام هي يف‬ ‫صورتها يف املرآة‪ ،‬ال تهرم وال تشيخ وال متوت»‪.‬‬ ‫ويبقى الحديث عن البيايت كالحديث عن كل رموز التاريخ‬ ‫التي تثري الجدل‪ ،‬كالحالج وابن عريب واملعري وكل فرسان‬ ‫الكلامت الذين عذبوا وصلبوا وقتلوا وبقيت كلامتهم خالدة‬ ‫يرددها كل متذوق لألدب والقصيدة‪ ،‬فهو حكاية بحار قديم‬ ‫جال العامل وخاض كل معارك الكلمة بكل شجاعة وإقدام‪،‬‬ ‫وكان يعرف دوماً أنه املنترص‪ ،‬أو كام يصف نفسه بأنه‬ ‫«ميتلك مفاتيح خزائن الشعر»‬


‫شعرية الكاميرا‬

‫عدسة‪ :‬ابراهيم محمد ابراهيم‬

‫‪159‬‬


‫أخبار البيت‬

‫الفصيح والنبطي في فضاء‬ ‫بيت الشعر بـ أبوظبي‬ ‫واصل بيت الشعر في أبوظبي التابع لنادي تراث اإلمارات فعالياته األسبوعية التي تقام مساء كل يوم‬ ‫ثالثاء في مقره بمركز زايد للدراسات والبحوث‪ ،‬حيث نظم البيت عدة أمسيات اتسمت بتنوع في الطرح‬ ‫وحضور الفت لجمهور الشعر تقدمه في كل مرة الشاعر حبيب الصايغ رئيس الهيئة اإلدارية لبيت الشعر‪،‬‬ ‫وقد جمعت األمسيات بين الشعر الفصيح والنبطي والبحث والنقد‪ .‬شارك فيها عدد من الشعراء‪ ،‬من‬ ‫الجزائر عياش يحياوي‪ ،‬ومن لبنان هنري زغيب‪ ،‬ومن اإلمارات راشد الرميثي وأحمد المنصوري‪ ،‬ومن‬ ‫مصر محمد أبو الفضل‪.‬‬

‫راشد الرميثي وأحمد املنصوري‪ /‬اإلمارات‬

‫ضمن اهتاممه بالتجارب الشعرية اإلماراتية واالحتفاء بها‬ ‫استضاف بيت الشعر بأبوظبي الشاعر اإلمارايت الفائز ببريق‬ ‫«شاعر املليون» راشد الرميثي‪ ،‬ووصيفه الشاعر اإلمارايت‬ ‫أحمد املنصوري يف أمسية تكرميية عىل مرسح كارس األمواج‪،‬‬ ‫يف تاريخ ‪ 15‬مايو املايض‪ ،‬أدارها الشاعر راشد رشار الذي‬ ‫عرب عن فرحة الشعراء اإلماراتيني بهذا الفوز اإلمارايت‪،‬‬ ‫مشرياً إىل أن هذه األمسية تأيت يف إطار اهتامم بيت الشعر‬ ‫بإبراز إنجازات شعراء اإلمارات‪ .‬وشكر رشار باسمه وباسم‬ ‫هيئة إدارة بيت الشعر سمو الشيخ سلطان بن زايد آل‬ ‫نهيان ممثل صاحب السمو رئيس الدولة‪ ،‬والشاعر الدكتور‬ ‫الشيخ هزاع بن سلطان بن زايد آل نهيان عىل جهودهام‬ ‫وتقديرهام للشعر والشعراء‪.‬‬ ‫وقرأ الشاعران مختارات من قصائدهام عن الوطن والحب‬ ‫والشعر‪ ،‬واستهل األمسية راشد الرميثي بقصيدة مهداة إىل‬ ‫صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة‬ ‫حفظه الله‪ ،‬حملت عنوان «سالم بوسلطان قبله تحيات»‪.‬‬ ‫ثم قرأ الرميثي قصائد يف وصف املحبوبة وأخرى يف العتاب‪،‬‬ ‫واتسم شعره بغزارة يف التصوير والجمل الشعرية الغنية‬ ‫بالداللة‪ .‬أما الشاعر أحمد املنصوري فقرأ مجموعة أخرى‬ ‫من القصائد التي عكست مقدار قوة املوهبة الشعرية‬ ‫‪160‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )2‬تموز‪/‬يوليو ‪2012/‬‬

‫والتمكن‪ ،‬وقد أهدى قصيدته األوىل إىل الفريق أول سمو‬ ‫الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ويل عهد أبوظبي نائب‬ ‫القائد األعىل للقوات املسلحة‪ ،‬وأعقبها بقصائد أخرى عن‬ ‫الطري والغزل متيزت مبفردات الصحراء والبداوة والبيئة‬ ‫اإلماراتية عموماً‪.‬‬

‫هرني زغيب‪ /‬لبنان‬

‫أما من لبنان فقد كان ضيف البيت الشاعر هرني زغيب‬ ‫مساء يوم الثالثاء املوافق ‪ 22‬مايو املايض‪ ،‬والذي قرأ ثالث‬ ‫قصائد هي «الزمن الهارب»‪ ،‬و«بريوت العنارص»‪ ،‬و«علبة‬ ‫التلوين»‪.‬‬ ‫وقدم زغيب تجربة فريدة يف قراءة الشعر وتحليل تراكيبه‬ ‫عرض إلكرتوين عىل شاشة ترتاقص‬ ‫ومك ّوناته ومفاتيحه عرب ٍ‬ ‫فيها مفردات األبيات الشعرية «خارج ًة من بيوتها» بدءاً‬ ‫بالكلامت األساس وعنارصه البنيوية التي بنيت عليها‬ ‫القصيدة‪ ،‬وهي ثنائيات من كتابه «ربيع الصيف الهندي»‬ ‫هديك ما‬ ‫الذي افتتحه الشاعر بإهداء «كيف؟! وهل ُأ ِ‬ ‫منك؟» وحكاية عنوان الكتاب منبثقة من خصوصية‬ ‫هو ِ‬ ‫الصيف الهندي الذي سحبه الشاعر إىل خانة الربيع الدائم‬ ‫وتم بذلك إطالق الكتاب هدي ًة ال لحبيبته فحسب‬ ‫فأنقذه‪ّ ،‬‬ ‫وإمنا لجمهوره الذي جال مع األبيات الخارجة من بيوتها‬ ‫مبداميكها وأعمدتها وأقواسها‪.‬‬


‫راشد رشار يتوسط أحمد املنصوري وراشد الرميثي‬

‫تصوير‪ :‬طارق البوريني‬

‫هرني زغيب‬

‫محمد أبو الفضل بدران‪ /‬مرص‬

‫و أقام البيت يف تاريخ ‪ 29‬مايو املايض أمسية يف فندق‬ ‫فريمونت قرص البحر بأبوظبي للشاعر املرصي الدكتور‬ ‫محمد أبو الفضل بدران‪ ،‬قرأ فيها مختارات من قصائده يف‬ ‫الشعر الفصيح واللهجة املرصية‪ .‬وشارك يف األمسية الشاعر‬ ‫األملاين الدكتور مانفرد مالزان أستاذ األدب اإلنجليزي يف‬ ‫جامعة اإلمارات والعميد املشارك لكلية العلوم اإلنسانية‬ ‫واالجتامعية‪ ،‬وأتت األمسية عىل هامش ندوة العالقات‬ ‫اإلماراتية األملانية التي أقامها مركز سلطان بن زايد للثقافة‬ ‫واالعالم يف وقت متزامن‪.‬‬ ‫أدارت األمسية اإلعالمية منال أحمد‪ ،‬واستهلها أبو الفضل‬ ‫بدران بقراءة قصيدة للوطن‪ ،‬ثم انتقل بدران إىل قصيدة‬ ‫«أقوال امرؤ القيس األخرية» وقصائد أخرى جاءت معظمها‬ ‫متشابهة من حيث البناء واملوضوع‪ ،‬لينتقل بعد ذلك إىل‬ ‫قراءة الشعر باللهجة العامية‪.‬‬

‫عياش يحياوي‪ /‬الجزائر‬

‫وتلت هذه الفعاليات أمسية عن «العادات القولية يف‬ ‫الشعر النبطي يف اإلمارات» للباحث والشاعر الجزائري‬ ‫عياش يحياوي‪ .‬أدار األمسية الباحث محمد نور الدين‪،‬‬ ‫واستهلها يحياوي بتقديم ملمح عام عن موضوع األمسية‪،‬‬ ‫متسائ ًال يف بداية حديثه عن ماهية العادات القولية‪ .‬ومؤكدا‬ ‫أن للشعر النبطي قوالبه اللغوية الثابتة‪.‬‬

‫محمد أبو الفضل‬

‫عياش يحياوي‬

‫وقال يحياوي «البيئة التاريخية واالجتامعية ألهل اإلمارات‬ ‫من بدايات القرن السابع عرش امليالدي إىل نهايات القرن‬ ‫املوايل حيث عاش املاجدي بن ظاهر‪ ،‬ومن نهايات القرن‬ ‫التاسع عرش إىل بدايات القرن العرشين حيث عاش سعد‬ ‫بن عتيج الهاميل‪ ،‬الذي تويف سنة ‪ 1919‬وعاش يف عهد حكم‬ ‫الشيخ حمدان بن زايد بن خليفة آل نهيان «‪،»1922-1912‬‬ ‫ومن الخمسني سنة األخرية من القرن املايض إىل يومنا هذا‬ ‫حيث تعيش فتاة العرب وابن عزيز املنصوري»‪.‬‬ ‫وتطرق يحياوي إىل عدد من املواضيع يف حديثه عن‬ ‫العادات القولية‪ ،‬ويف مقدمتها موضوع «إشكالية التكرار»‬ ‫وقال «الوعي الجمعي يف بيئة القصيدة النبطية جعل منها‬ ‫مسطرة ّ‬ ‫وضخم قيودها ومنحها صفات مميزة‪ ،‬وجعل من‬ ‫الخروج عنها خروجاً عن العرف األديب واالجتامعي»‪.‬‬ ‫كام تحدث يحياوي عن «مظاهر التشابهات اللفظية»‪ ،‬وأكد‬ ‫أن تقاليد القول يف الشعر النبطي فرضت حزمة التزامات‬ ‫ك َبحت خيال الشاعر‪ ،‬ومنعته من التامدي يف التجريب‬ ‫الشعري باعتبار ذلك مغامرة غري مضمونة ميجها الذوق‬ ‫القبيل وتنأى بالشاعر عن مجاراة فحول الشعراء الذين متثل‬ ‫قصائدهم مسطرة القياس يف اإلجادة والتفوق‪.‬‬ ‫وعن موضوع «وصف املحبوبة الصفات الحسية» قال‬ ‫يحياوي إن الخرائط السوسيولوجية العربية حولت املظهر‬ ‫البيولوجي لجسد املرأة إىل مؤسسة اجتامعية‬ ‫‪161‬‬


‫أجنحة‬

‫‪....................................................................................................................‬‬ ‫أجنحة وأسوار‬ ‫وأسوار‬

‫سبب الفن‬ ‫حبيب الصايغ‬

‫هذه مهمة الفن‪ :‬أال تصل اىل مكان؛ ملجرد أنك متمسك به أو تأىب مغادرته‪ ،‬بل املطلوب ان تغادره‬ ‫ثم تنظر اليه من بعيد أو من فوق‪ ،‬حتى تكون نظرتك أشمل وأعمق وأكرث موضوعية‪.‬‬ ‫إنها دعوة إىل استعامل الحواس الخمس‪ ،‬والحاسة السادسة ان شئت‪ ،‬استعامال كلياً‪ ،‬استعامال‬ ‫يشعرنا بانسانيتنا‪ ،‬وبأماكننا الحميمة‪ ،‬وأوقاتنا املفضلة التي هي بعبارة ثانية أجمل العمر‪.‬‬ ‫والزائر ملدينة مث ًال يراها بعيون فاحصة ناقدة‪ ،‬تختلف عن عيون أهلها واصحابها األصليني‪ ،‬والعائد‬ ‫اىل مدينته بعد سفر يراها ايضاً بعيون جديدة‪ .‬ثم اننا نستطيع تحمل حواسنا الخمس لسبب‬ ‫وحيد‪ :‬احساساتنا من يوم اىل يوم تتبدل‪ ،‬وتصوغ‪ ،‬باقتدار‪ ،‬أسلوبها الفني الخاص بها‪.‬‬ ‫الفن غري املبارش‪ ،‬انطالقاً من ذلك‪ ،‬هو االنسب للحياة وللواقع‪ ،‬حيث مواجهة الحياة كام هي وكام نحن‪،‬‬ ‫هي مواجهة يف األصل‪ ،‬ظاملة ألنها غري متكافئة‪.‬‬ ‫من منا يقدر عىل مواجهة األيام والحوادث والظروف واألحوال واالهوال‪ ،‬من دون ان يغمض عينيه قلي ًال‪،‬‬ ‫ومن دون ان يحلم كثرياً؟‬ ‫ان تجريد الواقع ليس محاولة للقفز عليه‪ ،‬بقدر ما هو محاولة جريئة واصيلة للقفز به ومعه‪.‬‬ ‫والطموح االنساين‪ ،‬حتى لدى رجل الشارع البسيط‪ ،‬ال يخلو أبداً‪ ،‬وال ميكن ان يخلو من عنرص التخيل الذي‬ ‫هو أول خطوة نحو التجريد‪.‬‬ ‫انسان الشارع‪ ،‬والتسمية باملناسبة مديح ال ذم‪ ،‬يطرب منذ أول الكون للموسيقا‪ ،‬واملوسيقا فن قائم عىل‬ ‫التجريد‪ ،‬حيث ال يشء يلمس‪ ،‬وحيث انتقال كل ملموس من هيئته اىل هيئة املحسوس‪.‬‬ ‫وحتى املشاعر البدائية البسيطة جداً‪ ،‬كالشعور بالحب‪ ،‬تأكيد متواصل عىل أهمية التجريد‪ ،‬ورضورته‬ ‫بالنسبة لنا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ولنتصور‪ ،‬مثال‪ ،‬عاشقا من عشاق العرص الحجري وهو يحمل وردة حجرية حمراء ويرميها عىل رشفة‬ ‫حبيبته‪ ..‬أال يعد ذلك الفعل الرائع محاولة الختصار كل الحدائق يف وردة وكل الحركات يف لفتة‪ ،‬وكل‬ ‫النساء يف امرأة؟‬ ‫إن الكرة األرضية مدورة مثل رؤوسنا‪ ،‬وكل نقطة نهاية فيها هي يف الوقت نفسه نقطة بداية‬

‫‪.‬‬


‫ملحمة جلجامش‪ :‬الخطاط منري الشعراين‬

‫‪163‬‬


‫من أعامل الفنان شاكر حسن آل سعيد‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.