من أعامل الفنان بول غراغوسيان
بيت الشعر
تموز/يوليو 2012/
مفترق طرق إن انقطاع التواصل الفعيل بني الشعر والقارئ يف عامل اليوم ،قاد إىل اغرتاب الشعر الذي يهلل له املبرشون منذ عقود وفق نظرية «موت الشعر» .هؤالء ينظرون للمسألة من خارجها ،عرب رشخ فكري وتاريخي ،من دون أن يقدموا أي رؤية نقدية من شأنها تشخيص األزمات التي يعيشها الشعر ،ذلك ان الشعر ليس انهامكاً جاملياً فحسب ،بل هو معطى حيايت ويشء نصنعه ويصنعنا. حيال ذلك علينا أن نقف بجرأة ملواجهة التجني الواقع عىل الشعر ،وأول ما نسترصخه هو النقد ،وندعوه ملامرسة دوره الفعيل حيال منجز شعري عريب كبري زاخر ميتد ألكرث من نصف قرن ،وال بد أن نعرتف اليوم بتقصري النقد العريب يف زمن انتكاس املعاين الكبرية ،إىل حد وصل إىل نقطة خطرية ،أباحت ملنابر «امليديا» املعارصة طرح السؤال حول جدوى الشعر. وحني نرصخ ونسترصخ النقد فإننا عىل يقني بأن الشعر العريب عىل مفرتق طرق ،ولذا ال نرىض للنقد االستقرار يف الوضع الراهن الذي يستمر يف فوىض التجريب والبالغة، بل ندعوه للعودة إىل املعايري التي أتاح غيابها للجهل أن يتبطن يف ادعاء املوضوعية. نطالب النقد ،عىل سبيل املثال ،بإعادة النظر يف حركة الشعر العريب الحديث ،وأكرث من ذلك أن يتورط ليخلصنا من الهذيان التأميل وإعالء شأن العقل النقدي إىل حد اخرتاق حدود حصانة النص الشعري من داخله وخارجه. يف وسع النقد أن يكون اّ خلقاً ومتحركاً وحيوياً ،فالنص هو دامئاً نفسه ويختلف عند كل قراءة ،فالقراءة تأويل ييضء وين ّوع النص ،ويف هذا التنوع يتحقق النص فعلياً ،وهنا تعيدنا القراءة إىل القصيدة . حني نطرح هذه الهواجس فذلك ألننا نشعر برضورة النقد الذي تتقاطع فيه األزمنة، املايض والحارض واملستقبل .ماضينا الشعري الرثي وحارضنا املفتوح عىل التجريب واملستقبل غري املسكون .فشعرنا اليوم ليس بال بداية وال من دون مستقبل .إن زمن قصيدة اليوم هو داخل التاريخ ،ال خارجه ،وإذ ال ميكن فصل النص عن النقد ،فإننا نعلن تبني دعوة النقد إىل البحث عن الزمن املفقود يف النص ،والكف عن اعتبار القصيدة حادثاً نصياً عابراً ،فبدون نص ليس هناك قراءة ،وبال قراءة ليس هناك نص. نطمح أن تكون «بيت الشعر» منرباً لهذا اإلعالن ،فلم يكن تاريخ الثورات الشعرية عىل مر العصور أكرث من حوار بني النص والنقد .بل نكاد نجزم بأن الفن الحديث حديث ألنه نقدي أوالً ،رشيطة أال يتحول النقد إىل بالغة ،وتكرار طقيس غري معني بفاعلية الكتابة ،وسواء ابتدأ العامل بالشعراء أو انتهى بهم ،فإنه ال ميكن فصل الشعر عن مصرينا عىل األرض .الشعر هو اإلنسان ولكنه العامل كذلك .هو التاريخ والسرية: اآلخرون ونحن
املحرر
تصدر كل أول شهر عن بيت الشعر يف أبوظبي نادي تراث اإلمارات
املرشف العام
حبيب الصايغ رئيس التحرير إبراهيم محمد إبراهيم مدير التحرير بشير البكر سكرتري التحرير عبد اهلل أبو بكر التحرير
جهاد هديب رنا زيد
املدير الفني فواز ناظم االخراج والتنفيذ ناصر بخيت
املراسلون
بيروت -فيديل سبيتي الرباط -حكيم عنكر باريس -محمد المزديوي القاهرة -حمزة قناوي روما -حذام الودغيري صنعاء -أحمد السالمي
الهيئة االستشارية: حسن نجمي سالم أبوجمهور عارف الخاجة علي الشعالي نوري الجراح
3
السياب :تمثال وقبر من حجر
147 20 26نصوص :مدار الحديث ،تغريبة بني ِقامطني ،صهوة الرثثرة ،أمواج حرير ،زاوية، عبد العزيز جاسم ..شعري ُة غضب وندم
الحب ،ثلج ،عامئة يف الهواء، مثل ضوء غريب نسيه النهار ،جنسية ،رشفة قدمية ،قصائد ،يسمونه ّ بيتي ،كون عام. 38محاوالت :عبد القادر ميك -نداءات عالية ،جامل املال -وكان عرشه عىل املاء، الحسن عبد العزيز -ونسيت أن أحيا ،منى حسن محمد -نزف الغامم.
41رأي الناقد من ديوان العرب إىل ديوان هواجس العرب
من قصيدة الخطاب إىل قصيدة املشهد قصيدة النرث العربية -مرشوع تساؤل -أيّها الشعر
60حوار تشارلز سيميك :حيايت رحمة شعري والقصيدة أشبه بلعبة بوكر 74شعر وتشكيل امللفوظ واملبصور 79فضاءات مقاهي الشعر يف بريوت -الفضاء الشعري يف عماّ ن
88شرق غرب بورخيس ..الرحلة اليابانية املواد املنشورة تعرب عن رأي اصحابها وال تعرب بالرضورة عن رأي املجلة 4
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
www.poetryhouse-ad.ae
52في الشعر -قوة الشعر ونقر الصمت
الغالف:
اللوحة للفنان إرنست ويليام -لوغو بيت الشعر للفنانة الرا قبطان
عناوين املجلة االدارة والتحرير: االمارات العربية املتحدة-ابوظبي هاتف024916333 : امييلbashir@cmc.ae :
أبوظبي لإلعالم-توزيع الرقم املجاين 8002220 : فاكس +971 - 02-4145050 :
distribution@admedia.ae مسؤول التوزيع :زياد النجار
حقوق نرش الصور واملوضوعات الخاصة محفوظة للمجلة
المحتويات
88
134
93ملف الصوت الشعري الجديد يف الجزائر
102فيسبوك قصيدة الفيسبوك ..كالم افرتايض فوق رقعة بيضاء 107مختارات شعر الهنود الحمر املعارص يف أمريكا الالتينية 118تجارب مصطفى سند ..شاعر األسطورة واألرض
121بورتريه حمد أبو شهاب ..شاعر وذاكرة وطن
126بيت الشعر بيت الشعر الفلسطيني ..فضاء لالختالف وحراسة الحلم
129تحقيق شعراء الجنوب املرصي بعد أمل دنقل
سعر النسخة اإلمارات العربية املتحدة 10 :دراهم -اململكة العربية السعودية 10 رياالت -الكويت دينار واحد -سلطنة عامن 800بيسة -قطر 10رياالت مملكة البحرين دينار واحد -اليمن 200ريال -مرص 5جنيهات -السودان 250جنيهاً -لبنان 5000لرية -سورية 100لرية -اململكة األردنية الهاشمية ديناران -العراق 2500دينار -فلسطني ديناران - اململكة املغربية 20دره ًام -الجامهريية الليبية 4دنانري -الجمهورية التونسية ديناران -بريطانيا 3جنيهات -سويرسا 7فرنكات -دول االتحاد األورويب 4يورو -الواليات املتحدة األمريكية وكندا 5دوالرات. االشتراكات لألفراد داخل دولة اإلمارات 100 :درهم /لألفراد من خارج الدولة150 : درهم -للمؤسسات داخل الدولة 150 :درهم /للمؤسسات خارج الدولة 200درهم.
143
156
134خارج السرب دعد حدّاد ..شاعرة ماتت يف بحرية منسية
137نقد ..املكان كاستعارة إنشاء لغة فلسطني -املكان يف تجربة نجوم الغانم
147زيارة السياب والربيكان وعبد الوهاب يف ضيافة الحسن البرصي 152قصيد األسالف القول الشعري يف مواجهة التفتت
156شعر وفلك قراءة فلكية يف شخصية عبد الوهاب البيايت 160البيت بيت الشعر يف أبوظبي
؟
45
«القطيعة المعرفية» بين األجيال الشعرية مظاهرها ومآالتها في اإلمارات
5
ُكتاب العدد
15
14
13
23
تخطيطات ُ الكتاب :نارص بخيت
1
2
3
9
.1مفيد نجم
• ناقد من سوريا ،يقيم يف أبو ظبي ،أصدر العديد من الكتب يف حقل النقد من بينها: "األفق والصدى ـ دراسات يف الشعر السوري املعارص" ،و"الربيع األسود" ،و"أرض األبد ّية"، "طائر بأكرث من جناح".
.2حمدة خميس
.7الطايع الحداوي
ناقد من املغرب ،صدر له :يف معنى القراءة -قراءات يف تلقي النصوص، "املغرب العريب يف 2000عنوان"، "سيميائيات التأويل،اإلنتاج ومنطق الدالئل"" ،النص واملفهوم" ،و"البحث السيميايئ باملغرب".
شاعرة من اإلمارات ،من بني ما صدر لها: األعامل الكاملة" ،اعتذار للطفولة "" ،الرتانيم"، "مسارات"" ،أضداد"" ،عزلة الرمان"" ،مس من املاء"" ،غبطة الهوى ..عناقيد الفتنة"" ،يف بهو النساء"" ،تراب الروح" ،و"إس إم إس".
.8وليد السويريك
• شاعر من فلسطني ،صدر له" :حيفا تطري إىل الشقيف"" ،نشيد الحجر"" ،وطن يف املخيم" "دفاتر الغيم" ،و"ذئب األربيعني".
.9تحسني الخطيب
.3يوسف عبد العزيز
.4محمد العديني شاعر وناقد من اليمن.
.5ميلود خيزار
شاعر من الجزائر ،صدر له يف حقل الشعر" :إين أرى" ،و"رشق الجسد".
.6عابد اسامعيل
شاعر ومرتجم وناقد من سوريا ،صدر له: ُ أكلم "طواف اآلفل"" ،باتجا ِه متا ٍه آخر"" ،لن َ ُ العاصفة"" ،ساعة ْ و"ملع رساب". رمل"ُ ،
6
بيت الشعر
شاعر ومرتجم من فلسطني ،صدر له" :أجنحة بيضاء لليأس" و"طردت اسمك من بايل" -ترجمة ،وأساتذة اليأس -النزعة العدمية يف األدب األورويب".
شاعر ومرتجم من فلسطني ،صدر له يف حقل الرتجمة" :الجذور الثقافية لإلسالموية األمريكية" ،و"العامل ال ينتهي".
.10ابراهيم الحيسن ناقد مغريب
.11محمد آيت لعميم
ناقد ومرتجم من املغرب ،صدر له: "املتنبي ..الروح القلقة والرتحال األديب"" ،بورخيس أسطورة األدب"، "قصيدة النرث العربية ..إيقاع املعنى وذكاء الكلم" .
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
.12محمد عريقات
شاعر من فلسطني ،صدر له" :هروبا من الشعر" ،و"حني أمسك بالفرح"، و"أرمل السكينة".
.13بشري مفتي
روايئ من الجزائر ،صدر له " :املراسيم والجنائز"" ،أرخـبـيـل الـذباب"، "شاهد العتمة"" ،أشجار القيامة" "دمية النار" ،فضال عن عدد من املجموعات القصصية.
.14مازن معروف
شاعر ومرتجم من فلسطني ،يقيم يف آيسالند ،صدر له" :الكامريا ال تلتقط العصافري" "مالك عىل حبل الغسيل"، كام ترجم رواية "يدا أيب" لألمرييك مريون ألبريغ.
.15معن البياري
صحايف وكاتب من فلسطني يقيم ويعمل يف ديب.
.16دميا الشكر
ناقدة من سوريا تقيم يف دمشق.
.17حسام الرساي
شاعر وصحايف من العراق ،صدر له: "وحده الرتاب يقهقه".
.18خالد بلقاسم
ناقد من املغرب ،من بني ما صدر له يف حقل النقد" :أدونيس والخطاب الصويف"" ،الكتابة والتصوف عند ابن عريب"" ،الكتابة وإعادة الكتابة يف الشعر املغريب املعارص".
.19ياسني الزبيدي
أستاذ جامعي من العراق يقيم يف دولة اإلمارات العربية املتحدة .درس كواكب املجموعة الشمسية وتحليل مدى تأثريها عىل شخصية اإلنسان. وفي الشعر
-20سامل أبوجمهور -21حسن املطرويش -22جعفر العقييل -23عيل الشعايل -24صالحة غابش -25عبدالزهرة زيك -26ابراهيم الوايف -27بريهان الرتك -28عبد الله أبو شميس -29جوالن حاجي -30عبيد عباس -31نور البواردي -32راسم املدهون -33محمد عنيبة الحمري
االفتتاحية
الشاعر
املمثل
البارع هو من يتقمص دورا ما ويتقنه متثيال إىل درجة التوحد ،أما الشاعر البارع فهو من تتقمصه الحالة الشعرية وتنقله إىل عوامل مل يكن يخطط للوصول إليها ،فهو بذلك كالطفل الذي يكتشف األشياء املحيطة به ألول مرة ،وبقدر دهشته من تلك االكتشافات تكون دهشة قارئه وبقدر خوفه منها يكون خوف قارئه وكذلك عندما يفرح فإنه ينقل تلك الفرحة إىل اآلخرين .وقد يتبادر سؤال منطقي بهذا الصدد بالنسبة إىل القارئ :وماذا إذا مل يستطع الشاعر ايصال تلك املشاعر إىل الجمهور؟ والجواب بكل بساطة :عليه أن يسلم بأن ذلك (الحمل) كان كاذبا وكان عليه أال يتعجل يف كتابة القصيدة ،أما إذا تكرر لديه ذلك كثريا ،فعليه أن يشك يف شاعريته وموهبته .وعندما أقول الجمهور هنا ال أعني الذين ال يحبون الشعر أو الذين بينهم وبني اللغة قطيعة ب ّينة إمنا أعني تلك الرشيحة التي متتلك الحد األدىن من الثقافة واإلملام باللغة والقدر الكايف من الخيال الشعري الذي يؤهلها للتواصل مع القصيدة وال أقول لفهمها ،ألن األولوية يف التواصل مع القصيدة ملعايشتها والتحليق مع جاملياتها وصورها ،وذلك ال يتأىت بالعقل وإمنا باإلحساس ،وإن كان للعقل ئلت كثريا كام ُس َ يف ذلك دور بنسبة معينة ،فإنه دور متأخر بعض اليشء عن دور املشاعر .لقد ُس ُ ئل غريي من الشعراء من خالل الحوارات الصحفية :هل أنت تكتب لنفسك أم للجمهور؟ وكان جوايب دامئا وإن بطرق مختلفة :أنا ال أكتب لنفيس لحة جدا، وال للجمهور ،أنا أكتب فقط ،أكتب ألنني أحس بالرغبة يف التعبري عن أشياء ال بد أن ُتقال فورا وبال تردد ،أشياء ُم ّ فكتابة الشعر كام أحاول فهمها هي حاجة ورضورة بالنسبة إىل الشاعر ،كاملاء والغذاء والهواء ،فكام أنني آكل وأرشب وأتنفس فأنا أكتب الشعر ،أفعل ذلك قبل أن أفكر إن كنت أفعل ذلك لنفيس أو لآلخرين ،أما بعد االنتهاء من الكتابة ،فإننا نتشارك جميعا يف هذا املنتج ونتعامل معه كل بطريقته الخاصة .أقول ذلك ألن كتابة القصيدة ال تكون بالنية وال بالتخطيط املسبق وإال كانت قصة أو رواية أو خطبة منربية مع احرتامي لجميع تلك األلوان األدبية التي أحبها ،إال أن للقصيدة خصوصيتها التي تتجىل يف التكثيف واالختزال والذاتية املفرطة ْ وإن حرض فيها اآلخر. كثريا ما يتهم الشعراء بالرنجسية واملزاجية واالنعزالية والبعد عن الواقع ،ويرجع ذلك إىل تركيبة هذا املخلوق الذهنية والنفسية امليالة إىل الكشف والتأمل والتخييل وعدم الرضا بالعادي واملتكرر والرتيب ،فالشاعر يجد نفسه يف الهروب الدائم، حتى عندما يلجأ للعزلة يف غرفة ضيقة فإنه يفعل ذلك ليرسح بعيدا يف الالمحدود من أجل قصيدة أغوته وج ّرته من خيط فؤادة إىل عواملها الحرة حيث ال ممنوع وال أطر ضيقة وال سقوف يحدد ارتفاعها اآلخرون .سألني أحد األخوة الصحفيني منذ أيام :ماذا أعطاك الشعر؟ فأجبته :قل :ماذا أخذ مني أوال؟ ..لقد أخذ مني الكثري من الوقت والراحة البدنية وأحيانا فهم اآلخرين يل ..وأعطاين ما ال يقدر بثمن ،لقد أعطاين (الحيلة) نعم ،لقد علمني كيف أحتال عىل الطرق املغلقة واملشاكل املعقدة واألوضاع غري السوية التي ال أستطيع التعايش معها ،علمني التحليق بعيدا حيث األفق الرحب والفضاء الفسيح، علمني كيف أصنع يل كونا أرحب من الكون الذي يعرفه الناس ،أختار فيه أصدقايئ وأحبتي وأزهاري املفضلة وأنهاري التي تجري كام أهوى وتقف إذا أردت لها أن تقف .أليس من حق الشاعر بعد كل هذا أن يبقى شاعرا؟ وهل يلومه عىل نرجسيته وعزلته وجنونه إال من مل يذق طعم الشعر؟
رئيس التحرير 7
كاريكاتير عنوان املجموعة الأخرية لل�شاعر م�ؤيد ال�شيباين «هكذا �أو العك�س»
8
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
شعر وشعراء
بدءا محمد بن عبد الله الربييك
هذا
الشهر والشهر املقبل سوف نسمع بانتقاالت عديدة للشعراء العرب بني البالد العربية ،وبعض الدول األجنبية ،ففض ًال عن عدد من املهرجانات التي ُتقام لهذا الصيف يف برلني وباريس ويشارك فيها عدد من الشعراء العرب ،سوف تقام العديد من املهرجانات وامللتقيات الشعرية بدءاً من مهرجان جرش للثقافة والفنون يف األردن. لتتعدد بعد ذلك امللتقيات فتمر مبدينة الطائف بالسعودية وسواها وتنتهي أواخر هذا العام تم مع ملتقى اإلمارات لإلبداع الخليجي الذي ّ تخصيص دورته املقبلة للشعر ونقده ،ثم مهرجان الشارقة للشعر العريب الذي ينعقد أواخر العام. الالفت أن الشاعر أدونيس الذي كرثت مشاركاته يف مهرجانات شعرية عاملية وغري عاملية قد شارك الشهر املايض يف مهرجان إسباين يف غرناطة، ووجه نقداً الذعاً للغرب وسياساته يف املنطقة ّ خاصة تلك املتعلقة بفلسطني. أيضاً ،رحل الشاعر السوداين أحمد سيد الحردلو. واملفارقة أن الكثري من أبناء األجيال الشعرية الجديدة يعرفون من هو صاحب "الخرطوم حبيبتي". فض ًال عن عروض الدواوين الصادرة حديثاً وكتب نقدها ،تتابع «بيت الشعر» الغياب القرسي إلحدى املجالت املتخصصة بالشعر يف فرنسا: "الفعل الشعري" ،التي قدمت الكثري للحركة الشعرية الناطقة بالفرنسية عىل امتداد خمسني عاماً التحرير
الشاعر البريكي ..مدير ًا لبيت الشعر بالشارقة شغل الشاعر محمد بن عبد الله الربييك "اإلمارات" موقع مدير بيت الشعر بإمارة الشارقة مؤخراً ،بحيث سيكون مسؤوالً عن تفعيل برامجه وأنشطته التي يربز من بينها مهرجان الشعر العريب ،ويشهد عادة تكرمياً ألحد الشعراء اإلماراتيني إىل جوار شاعر عريب بارز ،باإلضافة إىل قراءات شعرية وندوة نقدية فكرية موازية. وبحسب بيان صحفي أصدرته دائرة الثقافة واإلعالم بالشارقة ،فإن ذلك قد جاء تنفيذاً لتوجيهات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو املجلس األعىل لالتحاد حاكم الشارقة ،وقال عبد الله العويس رئيس الدائرة يف البيان ذاته" :متيز بيت الشعر يف إمارة الشارقة عاصمة العرب الثقافية لعام 1998بطرح رؤى مستقبلية تقدم خدمة لهذا الحراك الثقايف املتوافق مع عجلة الزمن الدوارة ،وذلك من أجـل غـد مرشق وحياة أكرث غنى حضارياً وإنسانياً" مؤكداً أن "ذلك قد تحقق من خالل النـدوات الفكـرية والثقـافية واملـلتقيات واألمسيات والورش التدريبية ،فضـ ًال عن اللقاءات املفتوحة عرب االتصال املبارش برشائح املجتمع كافة". وكان الناقد د .بهجت الحديثي "العراق" قد أدار بيت الشعر بالشارقة خالل السنوات األخرية ،أما الشاعر محمد الربييك فقد شغل سابقاً موقع املدير التنفيذي ملركز الشعر الشعبي بالشارقة ،وله عدة إصدارات ودواوين شعرية يف مجال الشعر الفصيح والنبطي.
يخص الشعر ويستضيف الجزائر ملتقى اإلمارات لإلبداع الخليجي ّ قررت األمانة العامة مللتقى اإلمارات لإلبداع الخليجي ،الذي دأب عىل إقامته سنوياً اتحاد كتاب وأدباء اإلمارات ،أن تكون دورة امللتقى لهذا العام خاصة بالشعر ،وأن تتناول الندوة املصاحبة موضوع القصيدة الحديثة :مالمحها ،وإشكالياتها ،وآفاقها. جاء ذلك خالل االجتامع الذي عقدته األمانة العامة مؤخراً يف مقر االتحاد يف الشارقة بحضور األديبة أسامء الزرعوين بصفتها أميناً عاماً ،وإبراهيم الهاشمي ،وإسالم أبو شكري ،وطالل سامل ،وعبد الفتاح صربي بصفتهم أعضاء .وتم االتفاق خالل االجتامع عىل أن تكون دولة الجزائر «ضيف رشف» الدورة الثالثة التي تنعقد خالل شهر كانون األول /ديسمرب من هذا العام .وذكرت الزرعوين أن "االستعدادات لهذا امللتقى بدأت يف وقت مبكر لضامن أقىص ما ميكن من فرص النجاح ،وأن معايري املشا َركة ستكون دقيقة وصارمة ،ألننا حريصون عىل أن تكون للملتقى سمعته الطيبة ومستواه الرصني ،وهام من أهم مربرات استمراره". ملتقى اإلمارات لإلبداع الخليجي ،الذي انطلق منذ ثالثة أعوام مببادرة من مجلس اإلدارة الحالية لالتحاد ،حيث تتسع دائرة املشاركة فيه دورة فأخرىُ ،يقام أيضاً بدعم ومشاركة من مركز سلطان بن زايد للثقافة واإلعالم. 9
شعر وشعراء
المربد 20 :شاعر ًا لكل أمسية
أقيمت الشهر املايض يف البرصة الدورة التاسعة ملهرجان املربد الشعري ،التي حملت اسم الشاعر العراقي ألفريد سمعان ،مبشاركة عراقية وعربية وعاملية. وقد شارك نحو 200شاعر من بينهم :حسن املطرويش «عامن»، وعبد الله أبو شميس ،ومحمد العزام «األردن» ،وأحمد الصويري وفرات اسرب «سوريا» ،ورابح ظريف وحنني عمر وحنان شبشوب وزينب األعوج «الجزائر» ،ومحمود رشف وحسن شهاب الدين ومحمد آدم وعاطف عبد العزيز «مرص»، وياسني عدنان ومحمد بن متيم وصباح الديب «املغرب» ،وعامر محمد املعتصم «السودان» ،واحمد بزون «لبنان» ،وهاين الصلوي «اليمن» ،وروز مصلح «فلسطني». غري أن املهرجان الذي انطلق يف التاسع من أيار /مايو ،واستمر لثالثة أيام مل يسلم من توجيه النقد إليه حيث انخفض عدد الشعراء املشاركني يف كل أمسية من 30إىل 20شاعراً! كام سا َد اعتقاد لدى الحضور بأن استضافة شعراء عرب قد جرى بناء عىل عالقات شخصية مع املك ّلفني بتوجيه الدعوات.
10
بيت الشعر
توقيع ديوان في موقع تاريخي
الشعار يف مدخل الطائف
«سوق عكاظ» تشكيلي – شعري في السعودية
بدأت جمعية الثقافة والفنون مبدينة الطائف مؤخراً استقبال أعامل الفنانني التشكيليني السعوديني والعرب املقيمني عىل أرض الدولة من الراغبني يف املشاركة مبسابقة «لوحة وقصيدة» ،التي تنظمها أمانة سوق عكاظ يف دورة مهرجان سوق عكاظ السادس. وتشهد املسابقة بدءاً من هذا العام إضافة أخرى تتمثل بجائزتني ،لتصبح جوائز املسابقة ثالثاً بدالً من جائزة واحدة كام كانت عليه الحال يف السنوات املاضية ،حيث سيحصل الفائز األول عىل خمسني ألف ريال ،وثالثني ألف ريال للفائز الثاين ،بينام ينال الفائز الثالث عرشين ألف ريال ،بقيمة إجاملية للجائزة قدرها مائة ألف ريال. وقد اشرتطت إدارة املسابقة يف الجمعية للدخول يف املنافسة عىل الجائزة :أن يتقدم املتسابق بلوحة تشكيلية ال يزيد مقاسها عن 1.20مرت × مرت واحد ،وأن يستلهم الفنان يف اللوحة إحدى القصائد ،ويستوحي مضمونها وإيحاءاتها ،وأن يرفق القصيدة ومصدرها باللوحة ،وأال يكون العمل الذي يتقدم به الفنان قد حصل به صاحبه عىل جائزة أخرى ،وأن يوافق املتسابق عىل عرض لوحته ضمن أعامل معرض سوق عكاظ للفن التشكييل ،وال يطالب باستعادتها قبل انتهاء فرتة املعرض. وتهدف املسابقة إىل تشجيع الفنون عامة وما يرتبط منها بفن العرب األول وهو الشعر ،ولهذا فإنها توضح العالقة الوثيقة بني الشعر والرسم ،وتشجع الفنانني التشكيليني السعوديني والعرب املقيمني يف اململكة عىل ارتياد هذه املساحات وتقديم ما يكشف عن إمكاناتهم وقدراتهم اإلبداعية
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
وقع الشاعر جالل برجس "األردن" كتابيه الجديدين« :رذاذ عىل زجاج الذاكرة -حكايات مكانية» و«قمر بال منازل» وذلك يف الساحة األمامية لدير «نيبو» يف أعىل قمة «جبل نيبو» التاريخي وهو املكان الذي ّ أطل منه النبي موىس عليه السالم ألول مرة عىل «أرض كنعان» حيث تعترب هذه اإلطاللة األهم عىل املستوى الجغرايف يف العامل عىل فلسطني وسائر جغرافيا الحراك
الديني املسيحي يف سوريا الطبيعية. وقد جاء حفل التوقيع هذا مببادرة من "ملتقى ني ّبو للثقافة والرتاث" وضمن فعاليات مادبا مدينة للثقافة األردنية ،2012وجاءت االحتفالية بالكتابني عرب تقاطع بني الشعر والنص املكاين املفتوح، الذي قدمه الشاعر جالل برجس وبني املوسيقى املصاحبة. واحتفاء بتجربة الشاعر واملكان قدم راشد عيىس ورقة نقدية عن ديوان «قمر بال منازل» ،كام قدم نزار قبيالت ورقة نقدية عن كتاب "رذاذ عىل زجاج الذاكرة" ،وأدار الحفل الشاعر ماهر القييس.
أدونيس ينتقد سياسات الغرب
عصام أبو زيد ..جدل على الفيسبوك
رمبا عىل نحو غري متوقع هاجم الغرب وسياسته بل الشاعر أدونيس َ ونفاقه أيضاً ،يف ليلة افتتاح الدورة التاسعة ملهرجان غرناطة الشعري الدويل ،الذي انعقد يف غرناطة اإلسبانية يف أيار /مايو املايض. وقال أدونيس« :إن الغرب ال يقول شيئاً وال يفعل شيئاً للدفاع عن الحقوق املهضومة للشعب الفلسطيني ،الذي طرد من أرضه» معترباً أن «الغرب ال يدافع عن حقوق اإلنسان ،بقدر ما يدافع عن مصالحه االسرتاتيجية وعن البرتول والغاز والطاقة» مؤكداً «أن الغرب يتظاهر بالدفاع عن حقوق اإلنسان». مثلام كشف أدونيس عن موقفه من التدخل األجنبي يف ثورات الربيع العريب فرفض« :التدخل األجنبي واألمرييك عىل وجه الخصوص ،ألن هذا التدخل لن يفيض سوى للعنف». وبصدد الربيع العريب ،رأى أدونيس «أن الشباب العرب قد قام بحركة رائعة ،وعىل الرغم من العراقيل فإن هذا الشباب سيستمر يف ثورته» داعياً الشعراء والكتاب إىل الوقوف إىل جانب املقهورين.
أطلق الشاعر والروايئ املرصي عصام أبو زيد مؤخراً ديوانه الجديد عىل صفحته الخاصة بالفيسبوك .حمل الديوان هذا العنوان الذي ال يخلو من مفارقة :كيف تصنع كتاباً يحقق أعىل مبيعات؟ هكذا من دون إ ْذن من أحد أو من دون اضطرار للتفكري بأي مرجعية ثقافية سوى أبو زيد وحده. أثار الديوان منذ نرشه ردود فعل متباينة خاصة يف ما يتعلق بالعنوان، فالعديد من املتابعني لتجربة أبو زيد
«جرش الشعري» الشهر المقبل تو ّلت رابطة الكتّاب األردنيني هذه السنة ،ألول مرة يف تاريخها منذ انطالقة مهرجان جرش للثقافة والفنون، اختيار أسامء الشعراء ،من األردنيني والعرب ،الذين سيحيون األمسيات الشعرية ،وقد أرشف عىل برنامج األمسيات الروايئ مؤيد العتييل نائب رئيس رابطة الكتاب األردنيني ،الذي قال إن الرابطة ش ّكلت لجنة تم من خالل التشاور بني أعضائها اعتامد أسامء الشعراء األردنيني والعرب املشاركني لهذا العام ،وتض ّمنت االختيارات أكرث من عرشين شاعراً أردنياً هم :يوسف عبد العزيز ،سعد الدين شاهني ،مها العتوم ،راشد عيىس ،صالح أبو الوي، أحمد الخطيب ،محمد ضمرة ،محمد العزام ،مهدي نصري ،غازي الذيبة ،أحمد أبو اسليم ،مريم الصيفي ،عيل شنينات ،موىس حوامدة ،مهند ساري ،نضال برقان ،إسالم سمحان ،تريك عبد الغني ،عبد الكريم أبو الشيح ،رفعة يونس ،محمد اليف ،وأديب نارص. وأ ّما املشاركات العرب ّية فسيمثلها الشعراء :حميد سعيد، عبد الرزاق عبد الواحد ،وعبود الجابري «العراق» ،ومراد السوداين ويوسف املحمود "فلسطني" ،وفاروق شوشة وسيد حجاب «مرص» ،وعيل عبدالله خليفة «البحرين»، وأحمد الصويري «سوريا». وسيقوم بإدارة األمسيات الشعرية األدباء والشعراء: عيل البتريي ،حسني نشوان ،جالل برجس ،هشام عودة، هيثم رسحان ،مؤيد العتييل ،هزاع الرباري ،محمد عبيد الله ،ومحمد مقدادي .يف حني تتوزع الفعاليات الشعرية والنقدية املصاحبة بني محافظتي جرش وعامن ،ومحافظة مادبا باعتبارها مدينة الثقافة لهذا العام
الشعرية مل يرق لهم العنوان عىل اعتبار أنه يناسب إعالناً تجارياً ،أكرث من كونه عنواناً يليق بالشعر ،إال أن آخرين رأوا يف هذا العنوان مقاربة ملضمون القصائد تتناسب مع نزعة أبو زيد إىل التجريب. هذا الديوان تناولت أخباره الصحافة املرصية ،لكن موقع الجدل األسايس ظل يف الفيسبوك بني مرتادي موقع التواصل االجتامعي هذا. بالتوازي مع ذلك صدر الديوان يف طبعة أنيقة عن دار روافد للنرش والتوزيع.
11
شعر وشعراء
يوم للشعر والموسيقى والرقص في اإلمارات
ملتقى الشعر الخليجي في المنامة
أقامت هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة ،بالتعاون مع املنطقة الثقافية يف جزيرة السعديات وناشيونال جيوغرافيك رشيكاً إعالمياً ،يوماً ثقافياً عىل هامش معرض ثقافات العامل الذي يستمر حتى الثامن عرش من هذا الشهر، وكان للقراءات الشعرية والشعر نصيب فيه إىل جوار فنون أخرى. وقد بدأت القراءات الشعرية مع الشاعر واملؤلف املرسحي واملمثل كايو تشينجوين «اململكة املتحدة» فقدم قصائد له ولسواه من الشعراء بطريقته املميزة يف األداء ،كذلك قدم العازفان مولودي وإيتان ترون توليفة من اإليقاعات املوسيقية التي تنتمي إىل آسيا وأفريقيا وأسرتاليا وأمريكا الجنوبية، حيث تتصل هذه اإليقاعات بطريقة تقديم الشعر يف موطن كل موسيقي إىل الجمهور مبارشة، ويف السياق نفسه قدمت مجموعة من الراقصني والراقصات من الهند عدة رقصات مستلهمة من األساطري القدمية واألعامل الفنية النحتية الدينية والقصائد الكالسيكية.
يف إطار برنامج املنامة عاصمة الثقافة العربية ،2012أقامت وزارة الثقافة البحرينية "ملتقى الشعر لدول مجلس التعاون الخليجي" ،يف املنامة منتصف الشهر املايض مبشاركة عدد من الشعراء البحرينيني ومن دول الخليج العريب :عيل الشعايل "االمارات" وعائشة بنت محمد السيفية "عامن" وطالل الطويرقي "السعودية" باإلضافة إىل البحرينية بروين حبيب حيث شاركوا جميعا يف األمسية االفتتاحية.
فؤاد رفقة
فؤاد رفقة الغائب يحضر في ميونيخ
رمبا مل يتذكر أحد الشاعر الراحل فؤاد رفقة «لبنان» ،الذي رحل يف الثالث عرش من أيار /مايو العام املايض يف بريوت، غري أنه ولهذه املناسبة تحديداً قد احتفت به املدينة األملانية ميونخ .فأقيمت الشهر املايض ويف الذكرى السنوية األوىل لرحيله ،أمسية ثقافية أحياها مجلس الشعر يف العاصمة البافارية تكرمياً للشاعر ،الذي كان جرساً بني الثقافتني األملانية والعربية. بدأت األمسية بكلمة للمديرة الحالية ملجلس الشعر يف ميونيخ ماريا غاتسيتي ،ثم عرض فيلم تسجييل قصري تخللته لقطات لرفقة يف ميونخ ،وبعض أمسياته وحواراته يف مجلس الشعر. من بني املتحدثني عن رفقة كان املثقف ميخائيل كروغر وبادر إىل القول« :صوت رفقة الشعري يذكرين بهايدغر، الذي طرح يف شعره موضوع الزمن واملكان أيضاً .وبعض األحيان يذكرين بكافكا ،الصوت املنخفض امليلء بالحزن والذي يدفع الروح إىل التأمل» .وعن الثيامت التي اختارها صاحب «العشب الذي ال ميوت» يف قصائده قال كروغر: «ما إن قرأت قصائده حتى اتضح يل أن هذا الشخص عريب الخط واللغة لكنه أملاين الفكر» ،مشرياً إىل دوره يف لفت االنتباه نحو كالسيكيات الشعر األملاين .كام تحدث فؤاد آل عواد الذي ترجم بعضاً من قصائد رفقة إىل األملانية، عن اإلسهامات القيمة يف إيصال الشعر األملاين إىل القارئ العريب ،هو الذي ترجم هولدرلني وريلكة .وقال« :لو مل يكن رفقة شاعراً ملا نجح يف ترجمة الشعر األملاين إىل العربية»
ثقافات العامل 12
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
عيل الشعايل
وتحدثت وزيرة الثقافة الشيخة مي بنت محمد آل خليفة يف االفتتاح، فأكدت "أن العمل الثقايف ينطلق من لبنة خليجية موحدة ومتنوعة بكل األصناف الثقافية والفكرية التي تساهم يف العطاء املغاير لكل اللغات الشعرية". كام ألقى عبيد الشاميس كلمة األمانة العامة لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية قائ ًال :إن "مملكة البحرين تساهم يف تفعيل العمل الثقايف املشرتك ،واستمرار مثل هذه امللتقيات، يعد أصدق تعبري يف تعزيز العالقات املتبادلة الثقافية ،ويريس روابط دول مجلس التعاون ،بخاصة مع احتفالية املنامة عاصمة الثقافة العربية"
ملتقى يجمع الشعر إلى الفنون األخرى بتونس
غالف االسطوانة
«سقوط القمر» :خليفة يعود أقامت جمعية مجاز للثقافة والفنون بالتعاون مع املعهد العريب ألشعار درويش
اختتم املؤلف املوسيقي واملغني مرسيل خليفة «لبنان61، لحقوق اإلنسان مبدينة مدنني « 500كلم جنويب العاصمة تونس» عاماً» أخرياً ،جولة فنية موسيقية شملت مناطق من الدورة األوىل مللتقى «ديوان الشعر األمريكيتني وأوروبا ،وبعض البلدان العربية ،قدم فيها عمله الجديد «سقوط القمر« من قصائد ملحمود درويش. والفنون» الذي هدف إىل البحث العمل عبارة عن أسطوانتني جديدتني تلتحم فيهام موسيقى عن عالقة جديدة للشعر ببقية خليفة مع شعر درويش .يقول خليفة حول العمل« :يف هذا الفنون وخاصة املرسح حيث العمل تعود يب الذاكرة إىل صباح باكر من صباحات شهر آب/ تم صناعة عروض شعرية جرت اغسطس من سنة ،1976إذ دخلت إحدى األستديوهات، مرسحتها يف إطار رؤية جاملية وسجلت «وعود من العاصفة» أوىل أعاميل من شعر محمود مختلفة .امللتقى محاولة للبحث درويش ،وكنت قد كتبت املوسيقى لهذه القصائد ،وأنا يف عن صيغة بديلة لعالقة الشعر سجني القرسي يف ضيعتي «عمشيت» يف بداية األحداث؛ باملنرب والتلقي ،حيث بات من وبعد أخذ ور ّد ولقاءات مع مسؤويل رشكة األسطوانات الكالسييك جداً أن يصعد الشاعر الفرنسية أصدرت «وعود من العاصفة» يف أسطوانة ،يف إىل املنرب ويقرأ شعره ،ثم يتواىل احتفاالت صحيفة «اإلنسانية» .ويتابع خليفة« :يف «سقوط الشعراء عىل املنرب ذاته فيقرؤون قصائدهم األمر الذي أحدث نوعاً القمر» ،ويف هذه الجولة الجديدة ،سنعلو مع شعر محمود درويش ،حباً ،ولن نستكني .وليس لنا إ ّال الريح نسكنها؛ من القطيعة مع التلقي. وقبل انعقاد امللتقى كانت إدارته ندمنها؛ نتنفسها .أتذكر عوديت مع درويش ذات مساء من جنويب الجنوب؛ تقاسمنا الطريق وقطيع املاعز الذاهب إىل قد طلبت من الشعراء املشاركني حظريته يخفي ثغا ًء مبحوحاً من فرط وطأة املساء وكانت أن ال تتجاوز مدة قراءة القصائد الطريق مفتوحة عىل القرى املمتدة .قال يل يومها« :ما أجمل تم نقل هذه العرشين دقيقة ،ثم ّ املدونات الشعرية وكل مدونة إىل هذه البالد وهؤالء الناس الطيبني يحلمون بصياغة الحياة وال مرسحي بهدف االشتغال عليها يتوبون عن أحالمهم؛ يعشقون وال يأبهون من خسارة غدهم؛ فنان ّ أعلن انتاميئ إىل جهاتهم». سينوغرافياً ،بحيث يكون الشاعر نحب الحياة» ،و«اآلن ومن أغنيات «سقوط القمر»« :ونحن ّ رشط العرض األسايس. يف املنفى» ،و«غيتارتان» ،و«رسير الغريبة» ،و«آه يا جرحي ً ً استضاف امللتقى طيفا واسعا من املكابر»« ،سقوط القمر» ،و«يف دمشق» ،و«م ّوال فلسطيني»، الشعراء واملرسحيني التونسيني و«قصيدة األرض» والعرب.
سيد أحمد الحردلو
رحيل الشاعر السوداني أحمد الحردلو
رحل الشهر املايض يف السودان الشاعر والدبلومايس السوداين املعروف سيد أحمد الحردلو عن 72عاماً أمضاها يف العمل الدبلومايس والصحفي والرتبوي. وقد ولد الحردلو عام 1940يف السودان، وحصل عىل بكالوريوس يف اللغة اإلنجليزية وآدابها عام .1965كان من أوائل الشعراء العرب الذين صدرت لهم األعامل الشعرية ضمن سلسلة شهرية عن دار العودة يف بريوت ،وقد ارتبط مطلع السبعينيات بعالقات وثيقة بعدد من أبرز املثقفني والكتّاب العرب. عمل الحردلو محرراً ومراس ًال لبعض الصحف السودانية والعربية .شارك يف العديد من املؤمترات الرسمية، واللقاءات واملهرجانات الثقافية .وله مجموعة مؤلفات شعرية منها :مقدمات ،1970كتاب مفتوح إىل حرضة اإلمام ،1985بكائية عىل بحر القلزم ،1985 خربشات عىل دفرت الوطن ،1997 الخرطوم يا حبيبتي ،1999أنتم الناس أيها اليامنون 1999إىل جانب الكثري من األشعار بالعامية السودانية .وله مجموعة قصصية بعنوان «ملعون أبويك بلد» ،وغريها من الكتب الشعرية بالعامية السودانية. 13
شعر وشعراء
جزالة نحوية في «كم نحن…» الكتاب :كم نحن وحيدتان يا سوزان الشاعر :سعدية املفرح «الكويت» النارش :الدار العربية للعلوم «نارشون» -بريوت
عدد الصفحات85 :
العنوان تشري داللته إىل الشاعرة والفنانة التشكيلية اللبنانية سوزان عليوان ،ويف تقدميها للديوان تقول الشاعرة الكويتية سعدية مفرح: يول ُ ستدرجنا ُخ ُ اتَ ،تكمنُ لنا َ بواب « َت املرس ِ ُ األلف ِة نح َو ُج ِّب ّ خلف األَ ِ ً ّ رسي يف حدائق معلق ٍة بسرُّ ِة السام ِء، املفتوح ِة ُجزئياَ ،تدعونا لعشا ٍء ّ َ ُ َ بقلم َتتهادى بني أشجا ٍر ال مرئي ٍة ُتو ِق ُظنا عن رؤى خرضاء وتستبدلها ِ ُ غنيات السيد ِة رصاص و َممحا ٍة و َتتذ َّم ُر بص ْم ٍت ُكلام َس َمعت ْـنا ُنغنّي أ ِ ٍ العظيم ِة بنشا ِز أصوا ِتنا املتقاطع ِة ،لكنها ُت ُ كمل ُخ ّطتَها الطفولي َة يف اللحظات َتعلي ِقنا عىل حبالِ الغواي ِة ُكلام َتضاح ْكنا يف َغفل ٍة من ْيأ ِس ِ ّرص ِم ُنداهنُ الكلامت واألَ َ لوان ا ُملتالحق ِة .وحيدتانِ يف هَ دْأ ِة ُ الع ْم ِر ا ُملت ِّ َ غلق إال قلي ًال َنخرتعُ حروفاً جديد ًة للع ّل ِة و ُنودِعُ ها صندوق اللغ ِة ا ُمل ِ َن ُ تمَ ...ف ُ تزحف َنحونا أرسا ٌر». ــك ُ تعتمد قصيدة الشاعرة عىل مباغتات شعرية ذات منحى حكايئ، حافظت فيه الشاعرة عىل أسلوبها مع يشء من التجديد يف آليات توصيل املعنى للقارئ ،فقد بدت لغتها قياساً إىل أكرث من مثانية دواوين سابقة ،أقرب إىل الرتكيز عىل الجزالة النحوية يف مسعى منها النتقاء مفردات سياقها الحكمة قصائد جذرها الحب
الكتاب :اآلتية كغ ٍد مألوف الشاعر :نشمي مهنا «الكويت» النارش :مسعى للنرش والتوزيع عدد الصفحات 88 :من القطع املتوسط
يف هذا الديوان الجديد القصائد قصرية ترفعها النربة الهادئة والفكرة املتأملة ،جذرها جميعاً هو الحب الذي يشـغل القــصائد وشاعرهـا، ومن خالله نعرث عىل تلك النــظرة إىل العــامل برمــته ،وإىل وعي الشاعر وإدراكه هذا العامل من خالل تفاصيل ال تلحظ غالباً ،لكنها تتوهج حتى أنها تصري حياة القصيدة وسؤالها األسايس .من أجواء القصائد« :كام الشاخص يف املرآة /،مغدوراً أفاق من موته /يتحسس جسده /ليتيقن /أنه مغدور أفاق من موته /يتحسس جسده /،وبال يقني /يفتش عن أثر للطعنات /أو ظرف رصاصة طائشة» 14
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
بوح شعري في قمر يتخلّق الكتاب :قمر يتخ ّلق من مجهول الشاعر :عبد الله زهري «البحرين» النارش :الدار العربية للعلوم نارشون عدد الصفحات 101 :من القطع املتوسط
يف الكتاب بوح شعري يغوص يف جوهر األشياء ،يبحث عن كنهها ،مستهدفاً كل فكرة ثابتة وساكنة ليكرس من خاللها الثنائيات التي حكمت نظرتنا إىل مفاهيم متعددة يف الواقع ويف املثال .فيكون الشعر معه وسيلة لفهم العامل ومعاناة البرش وتضميد جراحهم. فالشاعر يحمل بني ضلوعه جراحات العرب مآس. «فلسطني ،لبنان ،العراق» .وغريها من ٍ يضم الكتاب قصائد متنوعة تراوحت بني الشعر املوزون ،والنرث توزعت عىل مثانية أقسام تحت عدد من العناوين. من أجواء الديوان" :يف خدرت ِه َ كان كح ٍرب يتل ّوى / ،يف أخدو ٍد أضيقَ األبواب / ،يلوكُ َ من ُثقب اإلبر ِةَ / . الشحاذينَ / ،يج ُّر فراغ كان كمثل ّ ِ رساباً شبحياًّ ُيدعى وطنـاً / .يف يقظت ِه أضحى ملكاً / ،يتو ّغ ُل يف يسوس أعايل ما يف األرض وأسف َلها / .ما بني الخدر ِة التاريخ/ ، جوف ِ ُ ِ ُ تلتبس واليقظ ِة/ املأتم ُ يختلط ُ بالع ِ رس / .مابني الخدر ِة واليقظ ِةُ / ُ اليأس" يجلس َوعْدٌ ضو ٌّيئ اللحظ ُة / يتداخل يف مايض ِ ُ اإلغريقي "كفافيس" مرة أخرى في االسكندرية الكتاب :الحياة الثانية لقسطنطني كافافيس املؤلف :طارق إمام (مرص) النارش :دار العني -القاهرة 2012
يعود الشاعر اليوناين -االسكندري قسنطني كافافيس ()1933-1863 إىل واجهة الحدث مع هذه الرواية التي تتناول حياة سليل الشعراء األغارقة يف مدينة االسكندرية ،خالل النصف الثاين من القرن التاسع عرش ،حيث كانت هذه املدينة كوزموبوليتية الطابع بسبب مينائها األكرث أهمية مبوقعه االسرتاتيجي عىل الساحل املتوسطي ،فكانت تختلط فيها العادات والتقاليد بأمزجة شعوب عديدة وثقافاتهم وخاصة من شعوب البحر األبيض املتوسط.
تطرح الرواية عددا من األسئلة حول مفهوم "الهوية" متخذة من الشاعر الشهري واملثري للجدل منوذجاً لقدر غري قليل من األسئلة املعقدة ،منها طبيعة عالقته كمغرتب ،باملفهوم الثقايف األشمل الذي يحوي بدوره أكرث من منحى يعمق ذلك االغرتاب، ومنها مثليته وطبيعة أفكاره واختالفه حتى يف سياق القصيدة اليونانية التي كانت تكتب يف وطنه األم أثناء حياته ،وعالقة كل ذلك بعيشه اليومي يف مدينة جنوب املتوسط متشعبة الطبقات، املتجاوزة لحدودها الجغرافية عىل املستوى الثقايف ،والقلقة ً بدورها يف الوقوف عىل ملمح مينحها هويتها ،التي ظلت دامئا غري املستقرة ،ومستقطبة ،بني أوروبيتها ومرصيتها. وبالتوازي بني كفافيس واإلسكندرية يتحرك الرسد كاشفاً عن العالقة امللتبسة بني الفرد واملكان ،مع حضور لعدد غري قليل من الشخصيات ،مختلفة الجنسيات واألطياف واملعتقدات ،والكاشفة لعدد من جوانب كفافيس و"إسكندريته" يف نفس الوقت حافظ الشيرازي بالعربية
الكتاب :حافظ الشريازي «جزء رابع» – شعر الشاعر :حافظ الشريازي «إيران» املرتجم :عمر شبيل «لبنان»
يف مثانينيات القرن املايض ،وملدة تفوق العرشين عاماً هو الذي أمده بكل الوقت الالزم للتفكر واالشتغال ،كام للتفاعل مع شعر حافظ واإلنتشاء بجاملياته .أما اللفتة اإلنسانية األهم يف تقديم شبيل لرتجمته فهي إشارته اللامحة إىل أنه وجد يف شعر حافظ ما جعله يدفع بالرصاع السيايس الذي سجن من أجله إىل الهامش ،ويرى يف مثل هذا الشعر تجاوزاً ملا س ّمي برصاع الحضارات ،وتأكيد الوحدة الجوهرية بني بني البرش. تكشف الرتجمة عن الطبيعة اإلرشاقية والعرفانية لشعر حافظ الشريازي الذي ينأى عن العابر والعارض والشكيل ليالمس القيعان العميقة للنفس اإلنسانية .لكل عبارة عنده باطن وظاهر ولكل عنرص طبيعتان :إحداهام ميكن تلمسها بالحواس ،واألخرى ال تدرك إال بالحدس والتأمل وكشوف البصرية "سيمياء الحلم" ..أو كيف يعيش الطير
الكتاب :سيمياء الحلم الشاعر :زهراء املتغوي (البحرين) النارش :دار فراديس للنرش والتوزيع عدد الصفحات 82 :من القطع املتوسط
النارش :دار الطليعة بريوت 2012
املرتجم هنا يقدم هذا الشاعر بالفاريس كله ترجم ًة بالشعر ،فقابل نصوص الشريازي بشكل شعري مقابل ،أي استخدم الشكل العمودي للنص األصيل نفسه ،مع ما تقتضيه الرتجمة من تقديم وتأخري للحفاظ عىل الوزن ،ومع الحفاظ عىل املعاين والصور التي رسمها الشريازي .وقد اعتمد املرتجم وضع النص الفاريس األصيل مقابل الرتجمة ،ليستبني العارف ما فعله، ويدرك األسلوب الذي اعتمده للوصول إىل نص مواز. ُيعترب هذا النوع من الرتجمة نادراً لصعوبة أن يكون النص يف اللغة املنقول إليها موازياً للنص يف لغته األصلية ،غري أن الرتجمة تقدم منوذجاً فريداً يف هذا الباب نظراً لنجاحها ،إىل أن يتساءل املرء :أين تع ّلم الشاعر عمر شبيل الفارسية عىل هذا النحو من االتقان؟ لكن تتبدد هذه الحرية إذ نكتشف عن أن وجوده يف السجون اإليرانية ،ألسباب تتصل بالرصاع املرير بني العراق وإيران
بدءا من الغالف وانتها ًء بالقصائد ،يتجىل الفارق يف تجربة املتغوي .يف هذا الديوان تعالج الشاعرة الكثري من القضايا اإلجتامعية والسياسية يف قوالب متعددة تيش بالتنوع ونضج التجربة .جاء يف قصيدة "عُ ْت َمةٌ "أفهم كيف ُ قفص النَّار ُّ والصور ُة َم ْق ُلو َبة"ُ : يعيش الط ُري /وحيدا يف ِ أعرف َّأن الصور َة /أيضاً مقلوبة /لكنِّي ال ُ ُ / ُ تدوزن أعرف /كيف بال َّرملِ /طفول َة عم ٍر؟ "
15
شعر وشعراء
السيّاب متأثر ًا بترجماته
الصلت وشعره لغة أميّة بن أبي ّ
الصلت ـ الكتاب :الدّخيل واألثيل يف شعر أم ّية بن أيب ّ دراسة لغو ّية دالل ّية مقارنة. املؤلف :نذير جعفر النارش :الهيئة العامة السورية للكتاب -وزارة الثقافة، دمشق 2012
الكتاب :بدر شاكر السياب ،أصوات الشاعر املرتجم املؤلف :حسن توفيق «مرص» النارش :منشورات الدوحة الثقافية – الدوحة عدد الصفحات 167 :من القطع املتوسط
عدد الصفحات 232 :من القطع الكبري
عن الهيئة العامة السورية للكتاب صدر كتاب «الدخيل واألثيل يف شعر أمية بن أيب الصلت» ملؤلفه الناقد نذير جعفر ومراجعة د. الصلت صالح كزارة وهو يهدف إىل تأثيل الدخيل يف لغة أم ّية بن أيب ّ الشعرية ،والكشف عن الظواهر الصوتية والنحوية والرصفية فيها، وبيان الصالت العميقة بني العربية وشقيقاتها من جهة ،وتفاعلها مع الجوار الجغرايف والحضاري من جهة ثانية. الصلت الشعر ّية ُمشبعة باملؤثرات يرى املؤلف أن لغة أمية بن أيب ّ الحضارية عىل مستوى املفردة والرتكيب والداللة ،بحكم قراءته كتب األولني ،وإملامه أو اطالعه عىل اللغتني الرسيان ّية والعرب ّية كام ذكر القدماء من العلامء الثقات ،مثل :ابن س ّالم ،وابن قتيبة ،وابن دريد، واحتكاكه بشعراء وأعالم الحوارض الدينية والثقافية يف عرصه ،وتن ّقله وارتحاله ما بني الشام والحبشة والبحرين. واأللفاظ الدّخيلة يف لغته كام يشري الكاتب عامل قوة ال ضعف، ودليل عىل مت ّثله للثقافات املجاورة من فارسية وروم ّية وحبش ّية وآرامية ّ وترشبها ،وإعادة إنتاج مخزونها اللغوي وفق سياقاته ومنظوماته اللغوية واإليقاعية والغنائية .وإن ما دُرس من هذه األلفاظ ،مل ُت َقل فيه الكلمة األخرية بعد ،وما مل يدرس آن له أن ُيؤثلّ السامية املعارصة من نتائج مهمة ،وأن يف ضوء ما قدّمته الدراسات ّ التقص العلمي ال الهوى والتخمني واالفتئات والرجم يوضع عىل محك يّ يف الغيب
أحمد راشد ثاني يوميات جزائرية الكتاب :جزائر حبيبتي الشاعر :أحمد راشد ثاين النارش :مركز سلطان بن زايد للثقافة واإلعالم – أبوظبي عدد الصفحات 84 :من القطع املتوسط 16
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
يف
هذا الكتاب يرى الشاعر والناقد حسن توفيق أن «دراسة مدى تأثر السياب « »1964-1926بغريه قضية جديرة باالهتامم بعيداً عن أحاديث السياب نفسه عن تأثراته التي يجب أن نقرتب منها بيشء من الحذر فال نغفلها متاماً وال نصدقها متاماً» .ويضيف توفيق يف مقدمة كتابه« :إن هذه التأثرات يجب أن تكون من خالل الدراسة املقارنة لقصائد السياب وغريه من الذين تأثر بهم» .ويضم الكتاب مختارات من قصائد السياب وترجامته ألشعار 16شاعراً أجنبياً منهم اإلسباين فدريكو جارسيا لوركا واألمرييك إزرا باوند والهندي طاغور والرتيك ناظم حكمت واإليطايل أرتورو جيوفاين والربيطانيان يت إس إليوت وإديث سيتويل ومن تشييل بابلو نريودا. ويقول أيضاً :إن السياب تأثر بشعراء عرب وأجانب يف مراحل تطور تجربته الشعرية وبخاصة يف الخمسينيات «يف مرحلة االلتزام املاركيس وما تالها» ناق ًال عن السياب قوله «وأكاد أعترب نفيس متأثراً بعض التأثر بكيتس من ناحية االهتامم بالصور بحيث يعطيك كل بيت صورة وبشكسبري من ناحية االهتامم بالصور الرتاجيدية العنيفة .وأنا معجب بتوماس إليوت ..متأثر بأسلوبه ال أكرث ...وال تنس دانتي فأنا أكاد أفضله عىل كل شاعر». وكانت ترجامت السياب قد صدرت ألول مرة عام 1955بعنوان: «قصائد مختارة من الشعر العاملي الحديث»
يف العام ،2007عندما كانت العاصمة الجزائرية عاصمة للثقافة العربية، دُعي الراحل أحمد راشد ثاين إىل هناك بوصفه شاعراً مشاركاً يف أحد املهرجانات وأقام ألسبوع ثم قام بتمديد إقامته أليام أخرى .عاد بعدها إىل اإلمارات ويف جعبته كتاب« :جزائر حبيبتي :عن أيام يف مدينة الجزائر» الذي أصدره مؤخراً مركز سلطان بن زايد للثقافة واإلعالم. يبدو الفتاً يف هذا الكتاب مقدرة الشاعر عىل التعبري عن مشاعره اإلنسانية العادية والبسيطة ،ال وجود لتنظريات أو تأمالت يف أحوال الناس والبالد التي يطأها ألول مرة .فقط كتب ما رأى وما شعر به .ومن الواضح، تبعاً لبنية الحيك والكالم واألحاديث التي كان يخوضها الشاعر مع الناس
درويش وإيقاعاته
الكتاب :التجريب وتحوالت اإليقاع يف شعر محمود درويش الناقد :محمود مرعي «فلسطني» النارش :مجمع اللغة العربية يف أكادميية القاسمي – باقة الغربية
اشتباك مشحون باأللم مع الواقع اليومي الكتاب :كأنك تراك الشاعر :إيهاب بسيسو النارش :املؤسسة العربية للدراسات والنرش 2012 عدد الصفحات 200 :صفحة من القطع املتوسط
عدد الصفحات 460 :من القطع الكبري
تناول مرعي يف بحثه هذا الجانب العرويض يف شعر محمود درويش يتخذ إيهاب بسيسو من الحرب عىل غزة 2009/2008محوراً أساسياً يف تشكيل صوره الشعرية لينطلق منها إىل مساحات أوسع من حاالت منذ أول مجموعة صدرت عام 1960حتى آخر مجموعة صدرت بعد وفاة الشاعر .ويعترب هذا البحث الرائد األول من نوعه لشاعر االشتباك مع الواقع اليومي املشحون باألمل والحزن واملوت والغياب. فلسطيني ،يتناول هذا الجانب من أعامل درويش الشعرية ،ويقع يف وبهذا املعنى فإن «كأنك تراك» حالة شعرية تفتح أمام القارئ مجاالً مجلد ضخم ،فيه عرض مستفيض لألوزان الشعرية ومزجها وتحوالتها خصباً للتأمل الذايت وقراءة املشهد الفلسطيني بلغة شعرية جذابة من دون تكلف. يف القصيدة الدرويشية. ويقول الدكتور ياسني كتاين ،رئيس مجمع اللغة العربية يف أكادميية مشهد الحرب عند إيهاب بسيسو يستمد كثافته من تقاطع التجارب الفردية وحالة التأمل الذاتية التي صاغ من خاللها صوره الشعرية، القاسمي ،يف سياق تظهريه للبحث« :هذا الكتاب هو أول دراسة وانطلق لينسج فضاء إنسانياً يرتكز عىل مفردات الحالة الفلسطينية. متكاملة للجانب العرويض يف شعر محمود درويشَ ،يبعث ،عرب معالجة التجريب وتحوالت اإليقاع يف شعره ،دفقة أخرى يف أوصاله يف الديوان فضاء ات عدة للوقت وحوارات مختلفة للذات الشعرية مع التفاصيل ،يأيت هذا من خالل توظيف عميق لكثري من مشاهد تسهم يف خلوده عرب الزمان». ويضيف« :لقد أسهم الشاعر العرويض محمود مرعي يف كتابه هذا ،القلق واالنتظار والغياب وصوت القذائف والدَّوي يف القصائد .أيضاً، الديوان فرصة إضافية الكتشاف الحياة املنبعثة من أدق التفاصيل يف تعميق املعرفة بعروض الشعر لدى درويش .واملؤلف من خرية الباحثني الذين يرشحهم تخصصهم للكتابة يف هذا امليدان؛ ملا تتسم وترجمتها إىل صور شعرية تحمل يف طياتها الكثري من معاين األمل به دراسته من ُّ والصمود والبقاء .ففي ديوانه الجديد يرص إيهاب بسيسو عىل متكن وحذق وبراعة». التمسك بالحياة رغم القذائف وصور ليختم كتاين بالقول« :مجمع القاسمي للغة العربية إذ يشيد املوت ،وال يكف عن التقاط شحنات بهذا اإلنجاز ،ويقدم هذا الكتاب للباحثني واملثقفني ومحبي شعر درويش ،فإنه يتوقع أن يسد نقصاً بحث ّياً ملا فيه من إغناء وتعمق يف األمل من زخم األحداث رغم مشاهد الركام والدمار. شعر محمود درويش يف مختلف أبعاده ومستوياته ،من حيث إن يأيت «كأنك تراك» بعد ثالث سنوات من املوسيقى تشرتك يف تشكيل القصيدة وآفاقها الداللية» الحرب عىل غزة ،لكنه يقدم مزيجاً شعرياً تقصد مسبقاً تجربة الكتابة عن بلد عريب بات مميزاً بني الصور اإلبداعية والرؤية الفنية العاديني أنه قد ّ مؤملاً جداً ملتابعي أحواله من املثقفني العرب منذ مطالع تسعينيات القامئة عىل شعرية الرسد .غري أن إيهاب القرن املايض .وبدا أن ذكريات الناس ،من عاملني يف فندق «ألبري بسيسو مل يشهد الحرب عىل غزة وإمنا األول» وجلساء مقاهي األرصفة والعابرين أن أحمد راشد قد عاش تفاصيلها من مكان اقامته يف بريطانيا ،قبل أن يعود مطلع هذا اختارها مدخ ًال للحديث عن أحوال الناس املعيشية السائدة ،إذ مل العام إىل فلسطني ،أستاذاً لإلعالم يف جامعة بريزيت. يكن من الصعب عىل شخص مثل أحمد راشد ،عُ رف مبيله لصناعة من الديوان« :أد ّون هذا الوقت /كأنني / ...مسار حرب أسود عىل النكتة حتى لو عرب حديث عابر أن يعود من هناك بالكثري من ورق /أفلت من حريق األمكنة /ليبحث عام تركته القذائف يف املفارقات اليومية ،التي تيش بالكثري من طبائع الشخصية الجزائرية األعني /من ذكريات /وصور…». سواء تلك التي كتبها ،أم تلك التي نقلها إىل أصدقائه 17
شعر وشعراء
مطاردة الحياة من مسافة تليق بالقصيدة
عن النسيان واأللم واآلخرين
الكتاب :إجازة جريي الشاعر :محمد اللوزي «اليمن» النارش :مركز عبادي للطباعة والنرش
النارش :دار بالثاي خينيس2012 -
الكتاب :ملاذا ّ الشعر؟ الشاعر :خوان كوبوس ويلكينز
عدد الصفحات 100 :من القطع الصغري
منذ مجموعته األوىل «الشباك تهتز ..العنكبوت يبتهج» ،انحاز الشاعر اليمني محمد اللوزي لقصيدة نرث مشذبة؛ تصل إىل هدفها من دون استطرادات ال تخدم سياقها. باالحتكام لالسرتاتيجيا ذاتها؛ مع استثناءات قليلة سمحت بحضور بعض التداعيات غري املخلة؛ جاءت مجموعته الشعرية الثانية «إجازة جريي» ،التي تشرتك أيضاً مع سابقتها يف توظيف املفارقة ،بل والسعي إىل توليدها يف النصوص بدأب وقصدية. كام أنه يدفع لحظة الكتابة إىل التسلح بتفكري شعري ال يتنازل عن روح التهكم والسخرية؛ حتى يف النصوص التي تبدو معنية مبوضوعات ال تحتمل مزاج التهكم« :أصدقاؤك املوىت /أولئك الذين رست يف جنازاتهم /واحدا ً واحدا ً /يخافون اآلن عىل زوجاتهم منك / أصدقاؤك املوىت /ماتوا وشبعوا موتاً /وأنت مل تشبع حياة». وميكن ملن يقرأ نصوص املجموعة ،االستنتاج بأن غواية الكتابة واملحرض األساس الذي يقود اللوزي إليها؛ هو متكنه من الوقوف عىل مسافة كافية من شؤونه الخاصة؛ لينقيها بعد ذلك من الذايت املفرط يف الخصوصية؛ وليمنحها أفقاً مجردا ً؛ يقبل التسلل برفق إىل املتلقي. األمر الذي مينح النص لكنته الشعرية ،وقابليته للتعاطي القرايئ .وهذا ما يخفق يف إنجازه بعض من يرصون عىل تسويق ما ال يعرث فيه القارئ عىل تلك الرشارة التي يود أن يحس بها تلمع بداخله. يف وقوف الشاعر أيضاً عىل مبعدة من مشاهد حياته الخاصة ،ما يجعله يبدو كمراقب محايد ،بوسعه أن يسخر من كل يشء .كأن الحياة التي يتأملها تخص إنساناً آخر ،ال تربطه به أية عالقة ،إال باعتباره موضوعاً لقصائده« :السنوات التي عشتها /ليست لك / أيها الشاعر /الذي لست أنت تعيش حياة غريك /وتكتب قصائد عن الحياة» .أخريا ً ،ال ميكن إغفال داللة استحضار املجموعة للثنايئ الكرتوين الذي اشتهر يف التلفاز بـ «توم وجريي» .ليس ألن العنوان الذي يتصدرها مأخوذا ً من قصيدة «صيف توم» ،بل ألن فعل املطاردة الالنهائية بني القط والفأر ،يكاد أن يكون ثيمة محورية يف هذا العمل ،حيث تدور مطاردة من نوع آخر بني الشاعر والحياة
أحمد سالمي
18
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
هي مجموعة شعريّة عن ال ّنسيان ،واألمل ،وعجز اإلنسان الحديث عن التواصل مع اآلخرين ومع نفسه ومحيطه .واملفارقة هي أ ّن الخيط الذي أوصل إليها هو الّزهامير ،ذلك املرض الذي يحول بني األشخاص الذين يصابون به والبقاء عىل اتصال مع الواقع: فمن خالل معرفته عن قرب بأشخاص أصيبوا بهذا املرض ،خطرت للشاعر فكرة إعادة تعريف العامل عرب الشعر ،أي أن يغدو الشعر وسيلة اتصال تُبنى عرب النسيان .يطرح الشاعر فكرة النسيان باعتبارها تجربة الوجود األعمق ،التي يرتتب عليها ايجاد طرق لغوية جديدة من أجل التواصل ،ويستشهد بقصيدة للويس ثرينودا يقول يف ختامها« :أريد أن أقولها لك ،فيام أبعد من الحب ،يف النسيان ،أح ّبك» .وهذه التجربة الجديدة ال تبتعد كثريا ً عن الرؤية التي ينطلق منها الشاعر املوزع بني انتامءين :أصوله اإلنجليزية ولغته اإلسبانية حيث يقول« :املابني هو مكاين ،يف الحياة كام يف الكتابة». ولد الشاعر عام ،1957أنشأ مؤسسة خوان رامون خمينيث .تن ّوع إنتاجه بني الشعر واملرسح وال ّنرث ،ت ُرجم إىل لغات عدة وأُنجزت حول أعامله الكثري من الدراسات .من أعامله الشعرية األخرى: «حديقة موحلة» ،1981و«ج ّنة أم كتابة؟» 1998 شعر من األرجنتين يصدر في المكسيك الكتاب :قصائد مع ّلقة الشاعر :رودولفو ألونسو «األرجنتني»
النارش :منشورات جامعة بري ّركروثانا 2011
يضم هذا الكتاب قصائد ت ُنرش ألول مرة كتبها واحد من أبرز شعراء األرجنتني األحياء بني العامني « »1993-1957وكذلك قصائده الحديثة ،صادرا ً عن واحدة من أهم دور النرش يف القارة األمريكية الالتينية .قدّم للديوان الشاعر الربازييل الشهري ليدو ايفو ،الذي وصف رودولفو ألونسو بأنّه أحد أعظم شعراء أمريكا الالتينية املعارصين و«أمري املرتجمني»
«الفعل الشعري» الفرنسية.. إلى غياب أبدي
ُتع ّد
مجلة «الفعل الشعري» Action poétique أهم املجالت الشعرية ،وأطولها عمراً واحدة من ّ وأعمقها تأثرياً يف املشهد الشعري الفرنيس الحديث ،وهي مت ّثل ،إىل جانب مجلة « شعر» التي يصدرها الشاعر ميشيل ديغي و«املجلة الفرنسية الجديدة» ،مرجعاً ال غنى عنه ّ لكل من أراد أن يفهم، مسار تطور الشعر الفرنيس املعارص وتح ّوالته .لقد باتت املجلة منذ انطالقها كمطبوعة شعرية نضالية بداية األمر«سنة »1950عىل يد كل من جريالد نيفو وجان مارليو؛ بعد إرضاب اّ ّ عمل املواىنء يف مدينة مرسيليا وحتّى لحظة توقفها «صدر العدد األخري منها يف الشهر املايض مصحوباً ب "دي يف دي" يضم مجموعة األعداد الكاملة التي صدرت خالل 62عاماً كونها تعد فضا ًء رحباً تعانقت فيه تجارب وتنظريات شعرية بالغة األهمية وشديدة التنوع». التف حول الشاعر واملرتجم هرني ديلوي الذي رأس تحريرها منذ ،1958عدد من كبار شعراء الفرنسية املعارصين مثل جاك روبو، بول-لوي روسو ،ليونيل راي ،فرانك فيناي ،اميانويل هوكار ،باسكال بوالنجيه ،شارل دوبزينسيك ،اليزابيث رودينسكو وغريهم ممن ساهموا بنصوصهم وترجامتهم يف إحداث تحوالت يف الشعر الفرنيس عىل مستوى األشكال والرؤى واملضامني .واحتضنت املجلة عرب مسريتها الطويلة مختلف التجارب واألجيال والحساسيات الشعرية، فأعادت قراءة الرتاث الشعري الفرنيس واألورويب «الشعر اإلغريقي وشعر الرتوبادور وسواهام» وأولت اهتامماً كبرياً للرتجامت الشعرية، وهكذا قدمت «الفعل الشعري» ملفات حول شعر الرنجا اليابانية، وشعر الشامان الهنود ،والشعر األمرييك ،وشعر املستقبليني الروس، والشعر الكردي ،وشعر السكان األصليني يف املكسيك ،والشعر الهولندي ،وشعر أمريكا الالتينيةّ . كل ذلك من دون أن تغفل الدرس النظري املفتوح عىل املناهج النقدية والحقول املعرفية الجديدة؛ فأصبحت مبرور الزمن موسوعة حقيقية للشعر وقضاياه. تمثّل الفعل الشعري ،إلى جـانب «شعر» و«المجلة الفرنسية الجديدة»، ّ لكل من أراد أن مرجعـ ًا ال غنى عنه يفهم ،مسار تطور الشعر الفرنسي المعاصر وتح ّوالته
يف كتابه «فعل شعري ..من 1950إىل يومنا هذا» ،الصادر عن دار فالماريون سنة ،1998يرسد الشاعر باسكال بوالنجيه فصول املغامرة الطويلة والغنية للمجلة :رصاعها يف الستينيات ض ّد مجلة «تل كيل» الرافضة للشعر امللتزم ،سنوات األزمة أمام تخلخل اليقينيات ووالدة حداثة شعرية جديدة يف فرنسا ،دورها يف السجاالت واملعارك األدبية والفكرية الكربى مثل ثورة مايو ،1968 وربيع براغ ،والواقعية االشرتاكية وحرب فيتنام...الخ» ،ثم انفتاحها عىل اللسانيات والتحليل النفيس ،والتنظريات حول الشعر املوزون وقصيدة النرث والشعر الصويت وشعر الحاسوب والوسائط املتعددة. مثة جانب آخر يف تجربة املجلة ال ميكن إغفاله وهو ارتباطها منذ البدايات بالرصاعات السياسية واإليديولوجية التي شهدتها فرنسا، فمؤسسوها كانوا عدداً من الشعراء اليسار ّيني املنحدرين من أوساط شعبية ،واملتأثرين بشعر املقاومة «ضد االحتالل النازي لفرنسا» والتجربة السوريالية ،واملنحازين لشعر ملتزم بالقضايا االجتامعية والناشطني يف تأييد ودعم حركات التحرر من االستعامر يف خمسينيات وستينيات القرن العرشين .يؤكد هرني ديلوي يف أحد حواراته ّ "أن النشاط السيايس ال يعني يف نظره أن يكون الشعر ملتزماً بالرضورة ،فالشاعر يكتب ما يريد وإن كانت هنالك فرتات يجد الشاعر نفسه فيها منخرطاً يف أوضاع ومواقف ال ميكنه معها رس قدرة املجلة عىل أن يغفل محيطه وسياقه االجتامعيني" .ولعل ّ الصمود واالستمرار طوي ًال يكمن يف هذا التقارب الفكري وعمق الصداقة التي جمعت بني هيئة تحرير املجلة وكتا ّبها ،إضافة إىل قدرتها عىل التطور واالستجابة للتحوالت الشعرية والثقافية. وتشهد باريس يف السادس عرش من هذا الشهر ،وبدعوة من رئيس تحرير املجلة ندوة تستعرض دورها وتاريخها مبشاركة برنار نويل، اميانويل هوكار ،جريوم غام ،اريك سوشري وآخرين
وليد السويريك 19
شعر وشعراء
آالم طويلة كظالل القطارات عبد العزيز جاسم ..شعرية غضب وندم
يقرتن
هذا الكتاب َ بآخر للشاعر ذاته صدر عن هيئة أبوظبي للثقافة والرتاث – وطر»، مرشوع قلم يف السنة ذاتها بعنوان« :افتح تابوتك ِ وال يجمعهام معا سوى أمرين يتعلقان بالصنيع الشعري: يتمثل األول منهام يف سعي الشاعر إىل كتابة خاصة ومتفردة يف كتابة قصيدة النرث عربياً وليس عىل املستوى اإلمارايت فحسب ،يف ما يتمثل الثاين باملوقف النقدي – الفكري من العامل واملعرفة ومن املحيط والبيئة بكل عنارصهام املتعينة يف الكائنات الح ّية والجامدة. ال يعني ذلك وجود نسق فلسفي محدد او متبلور وال حتى خيط فلسفي ناظم للقصائد يف العملني معاً بل توجد يف الخلفية البعيدة لـ «املشهد الشعري» ،إذا جاز التوصيف، جملة أفكار «أدبية -نصية» هي أساس ذلك املوقف النقدي ،لكنّ تجلياتها مشغولة بأدوات التخييل الشعري وصوره التي تفاجئ يف أماكن عديدة من القصيدة فتيش ب َق ْدر كبري من الغضب يف «آالم طويلة كظالل القطارات» كام تيش بالقدر نفسه من الندم يف «افتح تابوتك وطر»، لكن االثنني معاً يختلطان مبشاعر أخرى كاألمل بالدرجة األوىل ثم العتب والوهن الروحي الذي يؤجج رصاعاً بني الذات الساردة يف القصيدة و«ذاتها» أي بني الشاعر وذاته: تس ُعني ،أو لعيل مل أكن َأس ُع "مل تكن الحيا ُة امللول ُة هذه َ الحياة! الواحد منّا كان يضيق باآلخر :يكنس خطوه ويهيل الرصاص بني الغبار عىل أ َثره .أو رمبا شخصاً ثالثاً ،كان يطلق َ كتفينا ويف ّرق ما بيننا .كان هذا العدو وأقول :رمبا نفيس أو الحياة ،أو شخص ثالث يعمل يف الخفاء كمن يحفر نفقاً يف رئتي" .يقول عبد العزيز جاسم يف قصيدته «من أنت فينا أيها العدو؟».
20
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
تتجىل نربة الغضب يف هذا الديوان يف تلك التعابري واأللفاظ التي يتجرأ عبد العزيز جاسم عىل استدخالها إىل منت القصيدة ،تعابري من ذلك النوع الذي تهرب منه الذائقة الشعرية السائدة سواء يف قصيدة النرث أو القصيدة املوزونة ،ومتثل بداية ذلك الخيط الذي يقود قارئ الديوان إىل برئ الغضب ذاك إذ يتفجر وينكشف وكأن النص ،كلام استبطن استوضح والعكس صحيح ،يف الوقت نفسه الذي يلحظ القارئ أن «الذات» الشاعرة يف هذا الديوان قد استطاعت تجريد الحياة والتجربة املخيضة فيها عرب عمر كأنه ألف عام ،وفقاً لتعبري الشاعر شارل بودلري تقريباً، من كل تفاصيلها الخف ّية واملرئية عىل نحو ما كان يصنع التعبرييون الفرنسيون يف الطبيعة فيجردونها إىل أشكالها شعب من األسامك الهندسية األوىل: "شعب من القصائدٌ . ٌ ّ النقي ،املعطر ،واملجروح امللونة والقتىل .هذا هو دمي ّ ك ِع ْرق الذهب يف ساحة الكالب .هذه هي أريض الوحيدة: ُ طلل األختام ،يف الكأس والجمرة واملعنى .وهذا هو مجدكم املتفحم ،كرأس مومياء فوق الحا ّفة الحافية". غري أن مزاج الشعر يف «افتح تابوتك وطر» يختلف ،وبعيداً عن «آالم طويلة كظالل القطارات» ،فهو ليس أرسطياً ،إال أنه تحوير ما ملعنى الشعر عند أرسطو .فالشاعر مل يأخذ من الرشوط األرسطية القاسية الستة سوى اثنني منها ليقلبهام رأساً عىل عقب :الرتاجيديا تأيت هنا بصفتها تعبرياً عن «الذات» التي تكتمل فرديتُها املتعالية فيام تواجه العامل ،فاملصري الفردي ،ثم النشيد ،الذي جعل منه الشاعر إصغاء عميقاً من ِق َبل الفرد لذاته وملا هو خفي ويع ّز عىل التوصيف يف تجربة مرور اإلنسان بالعامل والوجود .وقد امتزج هذا النشيد بغنائية نرثية ،تقوم عىل َن َفس رسدي
الكتاب :آالم طويلة كظالل القطارات الشاعر :عبد العزيز جاسم «اإلمارات» النارش :املؤسسة العربية للدراسات والنرش 2011 عدد الصفحات 195 :من القطع املتوسط
ملحمي /شخيص طويل ،وإحساس رفيع ومهذب بقيمة املوسيقى يف النرث الفني املحض. أهم قصائد الديوان: يدور الحديث هنا عن واحدة من ّ «أوبرا ملدينة يف الطنجرة» ،التي استغرقت خمسني صفحة من كتاب جاء يف مئة وخمسني صفحة .حتى أنه ،عىل رغم العنوان الته ّكمي ،إال أنها تتجاوز منطق الجغرافيا وحدودها الشعرية لتح ّلق يف الفضاء الواسع للغة العربية ،ثم لتضيف إىل املنجز املهم لقصيدة النرث العربية ما وسعها أن تضيف. يشعر القارئ أن القصيدة تقوم عىل بنية موسيقية نرثية بالتأكيد ،لكنّ قراءتها يف «عزلة مضاءة» تجعل من هذه البنية املوسيقية متخ َّيلة ومختلفة باختالف إعادة القراءة وعاداتها لدى القارئ الفرد ،لكنّ هذا األمر بدا ذكياً أيضاً يف املعنى التّقني لكتابة القصيدة وتقطيعها إىل بنية نصية تقوم عىل «دو ري مي فا صو ال يس» ،إمنا ليس عىل يرص الرتتيب ،فمنها ما هو محذوف متاماً ومنها الـ «ال» التي ّ عليها الشاعر أكرث من مرة لتأخذ بالتايل تأويالت من نوع آخر وبصوت آخر حيث تكون «الذات» ذاتاً واحدة م ّر ًة ثم تنشطر إىل «ذوات» أخرى عدة كأمنا هي جوقة يف الصوت وصداه ،أو لتتوارى «الذات» خلف ضمري الغائب. غري أن الشعر يف القصيدة ،يف جوهره املخاتل ،ليس سوى تصفية حساب عميقة مع األمل والذات والعامل« :كان يقف يف غياب روحه؛ روحه التي هي وجه نوح يف الطوفان. يفرتس سأمه ويرمي بعظامه للقرف الذي يعوي». ً تقوم هذه القصيدة «أوبرا ملدينة يف طنجرة» أساسا عىل ّأن الحياة هي تجربة إنسانية فردية فيها اختالط املصائر باملصادفات ثم اصطدام روح بالكتل اإلسمنتية الصلبة والقوى الغامضة التي تسعى بدأب إىل قذف كل ما هو
متفرد بذاته وكينونته إىل خارج املجرة ذاتها ،ال العامل فحسب. أيضاً ،ليس الغموض هو الجذر الكامن يف أصل هذا الشعر بل خليط القلق والحزن من ذلك النوع الذي يو ِرث رصاخاً يأخذ شكل الرغبة ببوح صامت .غري أن التحديق فيه، وقراءته بطريقة مائلة ،يجعالنه يقول شيئاً ما يدركه كل قارئ بحسبه .ألنه شعر مراوغ و ُمتط ّلب ويستدعي القراءة ألكرث من مرة ،أي يستدعي أن يخوض املرء أكرث من تجربة جاملية مع هذا القول الشعري إلدراك خصوصيته بسبب هذا التدفق يف الصور وغزارة إنتاجها شعرية ما ،رمبا تكون شعرية األمل بامتياز ،بل شعرية ندم ما أيضاً. ويستفيد عبدالعزيز جاسم يف قصيدته ،مثلام يف قصائد أخرى كثرية يف الكتاب ،من املنطق الشعري لألسطورة ُ «لحاظ َك يا حور. القدمية السابقة عىل الديانات التوحيدية: َ أذرعتك الصلبة يا سنديانَ .شعرك ُ ُبي يا شرِ بني .أفخاذك الشه ُّ امللساء يا صندل .قل ُبك الف ّياض يا أرز .حليبك يا دردار. َ رحمك الخشبي!». وأنت يا بلوط ،احفظ ما تب ّقى منا يف القصيدة ذهاب ومجيء لذات تتجول يف أرجاء متعددة من التاريخ ،أكرث مام هو بني ماض وحارض ،لكن االختصار أو التجريد هو الذي ميحو الحدود الدالة عىل ٍأي منهام .أيضاً، وعىل مستوى تقنية كتابة قصيدة النرث ،فإن من الواضح أن لدى الشاعر عبدالعزيز جاسم مسعى ما ،ال إىل تطوير أدواته الشعرية الخاصة وحدها ،بل إىل اإلسهام يف تشكيل وعي مختلف بقصيدة النرث عربياً.
جهاد هديب 21
شعر وشعراء
«حطب» ..عتبة الفقدان الكتاب :حطب الشاعرة :كواللة نوري «العراق» النارش :دار آراس للطباعة والنرش -أربيل عدد الصفحات 80 :صفحة من القطع املتوسط
ُّ يستهل
هذا الديوان مجراه الشعري بقصيدة تتمحور حول عنرص«الورد» «ملن أهدي الورود؟» ،مهداة إىل السيدة ناتاشا بائعة الورود التي: «تغيب طوي ًال بني زهورها /بعينيها السامويتني /بسنيها الذهبيني /تبتسم أحياناً وحدها /ال تغلق بابها أبداً بوجه الثلج» وينتهي بقصيدة «غري أنيس» التي تستقطب موضوعة القراءة وأشكال التعبري الجاميل« :يستسلم كل هذا الشتاء السيبريي /لثورة التخمد / ،لجليس غري أنيس… كتابك». إن القول الشعري ،يتخري متثيل عنارصه وتجسيد مقوماته يف فضاء مخصوص :الفضاء الرويس .مستثمراً ما متده به طبائع أفراد هذا الفضاء وبيان طبيعته الحية ،من تخييالت تنثال عىل كيان الذات الشاعرة انثيال الثلج من السامء إىل األرض بحيث مل يبق أمام العملية اإلبداعية وتشكلها اإلنتاجي إال انتقاء ما يطابق الغرض الذي إليه يؤول املعنى. نربهن عىل هذا الكالم بالقصيدة األوىل ومحاكاتها ملحيك ناتاشا الروسية التي متتهن بيع الورد وحوارها املسرتسل بضمري املتكلم املؤنث؛ ضمريان يتضايفان ليكونا معاً صوتني رسديني يتألف منهام املشهد الشعري ومؤرشاته الخطابية. إن الداللة السياقية للنص توحد هذه املعاين يف النفي واإلرضاب والعدمية املفضية إىل اإلحساس بدنو املوت وقرب حدوثه« :لن يتأخر املوت /سيأيت مبكراً /وسأعد له ديوين عىل الحياة» لتكون املحصلة النهائية لهذا الرتاكم يف املعنى مجسدة يف تلك الثنائية الرسمدية التي طاملا أ ّرقت العامل الداليل للذوات سواء يف تباشري عاملها الصغري ،أو يف هباء عاملها الكبري وهي ثنائية :الحياة «مقابل» املوت. وتتشعب هذه الوحدة الداللية يف معظم النصوص الشعرية التي يشتمل عليها الديوان ويجري تحققها بصور مختلفة
22
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
وبتقنية أسلوبية متنوعة بدءاً من املوت نفسه ومجازاته االنشطارية« :املوت كأس الكسور العرشية تقسم روحي»، أو ما تؤرش عليه أعيانه كالشاهدة واللحد والحداد وشظايا الرصاص وسواها التي غالباً ما تظهر يف مرسح أحداث العراق ،وما يعمر ترابه من حقيقة فظة للفواجع وحصاد سخي لألرواح« :قد ينظر الله للعراق من هوة /وينفخ ببعض الربد /أو بعض الوقت لنغري كسوة الحداد /كسوة الصباح واملساء /كسوة الصيف والشتاء والعقود الثالثة». وإذا اعتربنا أحوال الشعراء غري جميلة يف األكرث ،فإن توظيف املحيك الذايت والسريي لغرض تشخيص مدارات التخييل الشعري ،ميكن اعتباره يعكس جانباً من هذه الحال ما دام يسم نربة صوت ضمري املتكلم املؤنث بطابع الجمع بني األضداد واستيحاء وشومات الطفولة ومرابع الصبا من أصل كردي وبيئة العراق« :ورثت من أيب الكردي تعاريف البلح / ومن الرصاص تعلمت اإللحاح ـ وأحيانا ـ الطيش». إن رسيان هذه القسوة الوجودية يحثها ،بعد مناوبة الفشل واليأس ،عىل االستغاثة والنداء والدعاء واالحتامء بفكرة املطلق للتعبري عن الخيبة والقطيعة مع املوجودات: «...ريب /إذا سألك عبادك عن وجهتي /فأنا بعيدة». صحيح أن هذا النداء املبتور األداة ال يذهب مصريه سدى وال زبده جفاء ألن القارئ تستبني لديه بالتجيل كيف تدخل الذات يف البعد والنأي يف كون الغربة ويف املنفى بكل جراحاته التي يشتمل عليها ،ومتزقاته التي يفرتضها .فيتلبس الكائن الذي يتحدث منط هذا الوجود املؤمل ،ويسكن بيت اللبس القائم بني دراما املسافة ودهشة الفضاء ،أو بني البقاء عىل عتبة املكان «الجهة» وعتبة املسافة «البعد»، أو بني سؤال الرشط وجزائه كإشكال توسطي لالتصال بني شيئني.
الطائع الحداوي
قصائد باريس تدوين سيرة المكان الكتاب :قصائد باريس الشاعر :الياس لحود «لبنان» النارش :دار الفارايب – بريوت 2012 عدد الصفحات 120 :من القطع املتوسط
َيرمق
نصاً َ ّ الشاع ُر ني بالغية ،مفطورة عرفت كيف تنتشل الفلسفة من برئ الحقيقة ،وتقدّم ّ املكان البارييس بع ٍ يندلع/ عىل الرتميز ،ومنسجمة مع املجاز ،مستحرضاً مجنوناً ال ينتمي إىل منط أديب بعينه« :رأينا زمناً ُ اندلع نيتشة يف الحجارة /انهم َر علينا غابرييل غارسيا ماركيز ورسامني وفالسفة غابوا عن عاملنا ،لكنّ أرواحهم َ صور شعراء ّ ّ من خريف سقو ِفنا /سمعنا لوركا ونريودا يومئان من رعشة ظ ّلت عالقة عىل األشياء حولنا ،يوقظها الشاعر من سباتها، ربيع بارع .قسنا رصخ َة محمود درويش ويقتفي أثر خطوا ِتها يف مقاهي باريس ومتاحفها وحدائقها .دولوز املع ّلقة يف ٍ يدمج لحود ّ باألعامر املصفودة» .ويف قصيدة أخرى بعنوان «بيت بودلري الشخيص باألديب ،والذايت باملوضوعي ،جاع ًال تتقاطع فيها الذاكرة مع املخيلة ،يف استجابة الشعري» يستخدم الشاعر املناسبة منطلقاً لرؤيته الشعرية، القصيدة بؤرة ُ ً جاملية لنداء املشهد الشعري ،وربط سرية املكان بشخوصه ،راسام مالمح املشهد مبفردات مفعمة بالحنني ،كمن يعيد ترتيب أجزائه وحجارته وزهوره ،مستحرضاً روح بودلري يف مهتدياً باملشكاة الجربانية التي تقوده يف رحلته الرؤيوية، ياسمينة بيضاء وحيدة« :هنا كان بيته /ال يف قرص وال يف كام يشري العنوان الفرعي «سرية باملواكب الجربانية». ال ُ قرب /،هنا كان بيته عىل مقربة من جان جينيه /يف هذه يفلت الشاع ُر من االستعارة الجربانية يف معظم قصائده، الشوك وحدها». الياسمينة املنصوبة يف ونراه ينزع إىل التعبريية الذاتية ،وإطالق العنان لعاطفته، ِ لكن قصيدة لحود تعمد إىل استحضار روح ّ الشخصية وتلوين جملته بإيقاعات نفسية ووجدانية عارمة .لكنّه، باملقابل ،يق ّوض ّ األدبية ،والتع ّرف إىل مالمحها من خالل مالمسة منجزها كل أث ٍر للروحانية الجربانية ،ويتع ّمدُ ،ربمّ ا، الفني ذاته ،كام يف قصيدته «الطريق إىل غريب كامو»، كرس الصفاء اإلنجييل الذي مي ّيز االبتكار الجرباين .يحاول لحود االنفتاح عىل فوىض الحضارة الحديثة ،ونقل قساوتها التي تسرب ثيمة االغرتاب الروحي التي لطاملا افتنت بها كامو، أو نبضها إىل قارئه ،لكنّه ،يف املجملّ ، ويقتبس شيئاً من نربتها فيلج لحود إىل رواية «الغريب»، يظل حذراً من ُ ُ «أعرف ّأن ّ ُ الطريقَ متوجساً من كرس حكمة البالغة الكالسيكية التي يف قراءته الرمزية لشخصية كامو نفسه: التجريبّ ، ُ تطول وتحف ُر يف ّ مت ّيز أسلو َبهّ ، الشج ِر املتنايئ اكتشافاتها حيث تعلو مفض ًال موسيقى التفعيلة عىل إيقاع النرث ،مع ُ َ ً املسافات تلهث خلفك ُ تنحت باملقلتني ارتجافك». نصية ضئيلة ،تدمج النمطني معا. تنويعات ّ ّ ومثة شخصيات عديدة أخرى يستحرضها لحود يف ديوانه وألن الشاعر منشغل بسرية املكان البارييس وشخوصه كمحمد املاغوط وسلفادور دايل إميل زوال وكفايف وأمني ودالالته ،نرى قصيدته تنطلق دامئاً من مناسبة ما ،كرؤية معلوف ،وسواهم .لكنه ُيبقي قنديل جربان مشعشعاً لوحة فنية ،أو إلقاء نظرة عىل قرب ،أو زيارة منزل أثري. ِّ يف يده ،محلقا بأجنحته املتكسرّ ة .ومثلام افتتح الديوان مبعنى آخر ،يستثمر لحود املناسبة لنسج خيوط نصه، بصوت النّاي ،الذي ُ يحيل إىل قصيدة جربان «أعطني النّاي واإليقاع بشخوصه التاريخيني .هكذا ،يف قصيدة بعنوان «نظرة عىل قرب دريدا» ،يرسم لحود املكان ،مستخدماً وداع وغنّي» ،يختتمه مبوسيقى جربانية هادئة خالل «حفلة ٍ ريشته الجربانية ،ومستحرضاً صورة دريدا ،بوصفه التفكييك جربانية» يف القصيدة األخرية التي جمعت عىل مائدة واحدة البارع .يقرأ لحود شعراءه ّ املفضلني بعني دريدا الثاقبة التي أبرز شخوص الديوان
عابد اسامعيل 23
شعر وشعراء
كما أشاء ..قصيدة بضجيج أقل الكتاب :كام أشاء الشاعر :أحمد كتوعة «اليمن» النارش :املركز الثقايف العريب والنادي األديب بالرياض عدد الصفحات 92 :من القطع املتوسط
القصيدة
هنا عابرة كالريح ،فكرتها تالمس سطح األشياء من دون أن تتوغل يف العمق ،وهنا مكمن روعتها وقدرتها عىل الجريان من دون أن تفقد لياقتها وحيويتها .وهي إذ تعرب ال تكرس األغصان، أو تبعرث أوراقها ،إمنا ترتك أثراً خفيفاً يستحيل عالمة تدلنا عىل دهشة العبور .هذه الدهشة التي تالزم قصيدته وثيقة الصلة بتصاعد منسوب االحتفاء بالحياة باعتبارها ملتقى الحلم اإلنساين وشقائه؛ وطموحه وانتكاساته؛ وهشاشته أمام الطبيعة ورغبته يف التامهي معها .هذا االحتفاء عنده ال يتغذى عىل األعشاب الضارة كالبالغة املتخشبة ،أو االدعاء الزائف الذي تحمله األنا الشاعرة عن نفسها ،أو الرصاخ عايل الرتدد الذي يوقظ املوىت من قبورهم داخل القصيدة، أو تلك املعاين املصنوعة من قش وليس من حرير .هو احتفاء ال يراوغ وال يقول أكرث مام تقوله الحياة ذاتها .وفيام هو يحتفي بها تكون القصيدة قد فتحت مجرى للنهر يف عروقها ،ال ينضب وال يتيبس .وجهان لعملة واحدة :الحياة والقصيدة ،وما بينهام يضع الشاعر قصيدته موضع التفرد والتميز بلغة أكرث عفوية ،وأقل ضجيجاً .هذه السامت الحيوية التي تتلبسها قصيدته ال ترسم مالمح تلك الدهشة فقط ،لكنها تذهب إىل أكرث من ذلك ،إىل الوعي مبفارقات الحياة بالنقيض وضده .هذا التوتر شديد الحساسية ،الناتج من هذا الوعي باملفارقة ،يتحول يف قصيدة أحمد إىل نوع من التهكم املشوب بروح االستهزاء كام يف قصيدة « حرب»أو « نتوءات». إنه تحول يعزز من شأن تفرد القصيدة الحديثة يف مشهدنا الشعري ،ويأخذها إىل مناطق تعبريية مل تسع هذه القصيدة إىل ارتيادها سابقاً ،قد يبدو هذا التحول مجرد ملمح يف قصيدة أحمد كتوعة ،لكنه بالتأكيد يدل داللة قاطعة عىل
24
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
الوعي املتطور ملفهوم القصيدة يف تجربته من جهة ،وعىل أثر السامت الروحية والنفسية والثقافية التي هي وثيقة الصلة بشخصية أحمد ذاته وعىل تجربة الكتابة لديه من جهة أخرى .إنها تجربة أمينة لرشطها الوجودي والحيايت والشخيص. أيضاً ،تجربته وثيقة الصلة بالبعد التأميل املستل من تجربة التصوف .يحقن الشاعر قصيدته بحموالت ومعاين أقرب إىل ْأن تكون جزءاً من سرية حياة عابرة يف األمكنة والطرقات. لذلك فثيمة «امليش» هاجس شعري يغذي فكرة التأمل ويخصب رؤيتها من الداخل ،واألهم أنها تقوم بوظيفة تشييد وبناء الصور الشعرية ،وجعلها مشدودة إىل نفسها، كام هي قصيدة «الشارع عىل حني غرة» أو «تلوث» أو «غابة» أو «جلوس» .فالقصائد هنا تنهض عىل توليد شعرية قامئة عىل فكرة الجمع بني عنرصين متناقضني كانا وال زاال مل يلتقيا يف القصيدة العربية التقليدية ،وهام فكرة التأمل من جانب وفكرة امليش من جانب آخر .بالتايل فإن استثامر التأمل كعنرص وجودي يف حياة اإلنسان يصطدم مبحدودية توظيفه شعرياً .لكن إدخال فكرة التأمل إىل سياق امليش أعطى الفكرة ذاتها دالالت ومعاين ّ قل حضورها يف القصيدة العربية .لنتأمل هذا املقطع« :أحمل كفني ساهمتني ظلتا زمناً تدفع جدراناً خلفها جبال /أميش كمن يسمم الهواء بحرضته ال أعرف من امليش سوى أطراف تتأرجح ،وشارع يلهم عابريه املقاصد ،نهايته بحرية ُتطبخ فيها األسامك والعابرون أعشاب تعلق بني الصخور» .هكذا يأيت تأمله ممزوجاً برائحة املكان عىل الرغم من ضجيج الحياة وصخبها سوى أن قصيدته ال تعلق يف مثل هذا الضجيج ،وكأنها تدربت عىل امليش من دون أن تسقط يف منزلقات الطريق
محمد الحرز
نصوص
لوحة للفنان ضياء العزاوي
سالم أبوجمهور حسن المطروشي جعفر العقيلي علي الشعالي صالحة غابش عبدالزهرة زكي ابراهيم الوافي بريهان الترك عبد اهلل أبو شميس جوالن حاجي عبيد عباس نور البواردي راسم المدهون محمد عنيبة الحمري 25
نصوص
حسن المطروشي ٌ تغريبة بني ِقامطني لوحة للفنان عادل السيوي
سالم أبوجمهور مدا ُر الحديث ُ الحديث عىل َن ْف ِس ِه َبيننا َيدُ و ُر َ َندُ و ُر َعلي ِه َندُ و ُر َع َلي ِه ندُ و ُر َن ُط ُ وف َندُ ُ وخ وي ْغ َمى َع َلينا َفنَس ُقط َب َ ني َيدَي ِه *** ُ الح ِّب َيدُ و ُر الحديث ع َِن ُ سح ُبنا َق ْي ُس ِمنْ َق ْل ِبنا َي َ بالح ِّب ِفينا َفن َْش ُع ُر ُ وقد ال َنرا ُه وال َن َّد ِعي ِه *** ُ الحديث َيدُ و ُر يس ُن َر ِّد ُد أشعا َر َق ٍ شاهدُ أحال َم لَ ْيل ُن ِ َفن َْس ُك ُب َن ْه َر َ الخيالِ عىل َن ْه ِر ِع ْط ٍر و َن ْخ َل ُع أجسادَنا د َ عي ُون َو ٍ غطس ِفي ِه و َن ُ 26
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
***
ُ الحديث َيدُ و ُر و َق ْد ال َيدُ و ُر سجلِ َفنَض َغ ُط ِز َّر ا ُمل ِّ كيَ ْ َن ْس َت ِعي َد األغان والح ِّب ع َِن العشق ُ ِ لَ ِكنَّنا فجأ ًة ُيبا ِغتُنا ُ ني صوت طائرت ِ ني ُمقا ِت َل َت ِ ني َتطريانِ َمقلوبت ِ عىل َمع ِر ِض األسلح ْة ُ الحديث يدو ُر ُيغا ِز ُلنا َش ْك ُل َد َّبا َب ٍة ُح ْل َو ٍة وت َش ْك ًال أنيقاً َج ِمي ًال ُت َق ِّد ُم لِل َم ِ ِب ْأسنا ِننا َنش َت ِه ِيه *** ُ الحديث َيدُ و ُر الحرب ع َِن ِ يمَ ُألنا بالرصاص شحنُنا بالبنا ِدق و َي َ َف َي ْح ُل ُم ُك ٌّل بقتل ِأخي ِه
ُل َغتي ال َق ْف ُر، ف َمنْ مييض طريقي؟ فض ُ إنني الطالِ ُع مام َت ْر ُ األرض، و ِمنْ ب ْر ِد األقايص، حروب ال ّز ْن ِج، من ِ من َش ِّد املطايا، اإلبادات، وتواريخ ِ ِ ني، امط ق بني ة تغريب ومن ِ ٍ ِ أغالطي الصغرى، ومن َ وك ّفارا َيت ُ الكثرْ ِ، ومن ِو ْز ِر براهيني وطوفاين العميق ِ ُل َغتي ال َق ْف ُر، ف َمنْ مييض طريقي؟ ك َّذبوين ثم نامت َق ْريتي إذ ْأخ َر َجتْني ني، ثا َين اثن ِ وكان البح ُر ي ْق ُفوين، ويقفوين حام ُم الحقلِ ، واألشجا ُر واألحجا ُر، الحي، تقفوين ِجرا ُء ِّ نعاج الجار ِة السمرا ِء يف املرعى، تقفوين ُ ني، ويقفوين غر ُ اب الب ِ وال َب ُّط صديقي ُل َغتي ال َق ْف ُر، ف َمنْ مييض طريقي؟ عيناك قلتِ : وو ّد ْع ُت سفوحي ُ سأ َغنِّي،
وأسوق َ ُ اإلبل العطىش إىل غدرانِ روحي كنبي يتقصىَّ أَ َث َر الركبانِ ٍّ والريح، يف البيدا ِء ِ سأرمي اآلن أضالعي الس ْب َس ِب الضاري، لط ِري َ وأميض َخ ْل َف َمنْ مروا عىل ر ْملِ جروحي َّ أَ َبتي ..هذا ا ْبن َُك َ الخطا ُء، هذا الن ِز ُق، الكتاتيب لِ َتدْليسا ِته، يص من َد ْر ِس املَ ْق ُّ ِ ات، امل ْذمو ُم يف الحوز ِ ُ إين قد س َق ْي ُت القو َم ط ّراً قهو َة الهيلِ ، لس، أ َد ْر ُت ال َّت ْم َر ْ للمج ِ الج ْم ِع رؤوس َ ح َّد ْث ُت َ عن سيفي وأساليف، َ وكنت َ َ األمثل املاثل يف أعامقِ صويت ووضوحي أبتي ... هذا ا ْبنُك املفقو ُد الحلم، يف مفرتقِ الحلم إىل ِ ِ ّ تحت عُ كا َز ْي ِه ث ْور ُ تهاوت َ ْ ات كقرصانٍ الرقيق ِ
ُل َغتي ال َق ْف ُر، ف َمنْ مييض طريقي؟ ُ قــلت :عيناك الدفـات ْر طائ ُر الليلِ املهــــاجـ ْر ُ جئت ،إمياين كـــــبائـ ْر َق ِلقٌ والدرب كــــافــ ْر ُ ُ بعض إخواين َصغـــائ ْر َ هــا كبرِ ْنا كـــالدوائــ ْر ُ ســـــأ َغني ُوأجاهــــ ْر قـلب ثائ ْر فاجمعيـني َ
و َر َســـــ ْم ُ األندلـس ـت ْ َ ـس فوق ُشــــــ َّبايك َن َع ْ وغــــــــوايايت َفـــ َر ْس جـرس وســــــــاموايت ْ ُ بعـــض جـــرياين َح َر ْس كالنفــــــس وي ِب ْســـنا ْ كلمــــا َ قيـل :احتـ ِر ْس ـس َخ َّر من أيدي ال َع َس ْ
ُ قلت :عيناك تعاليَ ْ ، الروح، ِ أنت مني َم ْو َ ضع الس ْه ِم من ِ ُ سأ ْعيل خيم َة الذكرى، أخريين، تعايل ن ْق ِطف الليل َة ْ ِ نج َمينْ ِ اشات ونصطا ُد الفر ِ والشمس، للباصات باب الفج ِر ِ تح َ التي َت ْف ُ ِ لئال البح ُر ْميحونا، لئال تستفيقي عيناك، ِو ْجهَتي ِ نا ِمي، ُ قلب يف الطريق ِ! َي ْس ُقط الليل َة ٌ
لوحة للفنان اسامعيل فتاح 27
نصوص
جعفر العقيلي صهو ُة الرثثرة 1
ُ تخربش، األصابع.. ُ ُ تخربش، َ أنفاسها فال ت ْقطعي َ لِ ُت َغنِّ عىل م ّوالِها وحس ُبنا ْأن نن ِْص َت الرتجا ِفها ْ تبوح ..هي ُ ْيك ال نبوح.. 2
3
األصابع "دوايل" ُ تتعربش الهوا َء وال تأ َب ُه بالتضاريس..
4
ال ُ تقرأ الخريط َة أصابعي، اليم ..متيض يف عباب ّ الج ّب وتتل ّوى يف َغياب ِة ُ " َين ُْط ُف" قل ُبها كلام ضاعت
28
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
5
ُم َد ّر َب ًة، حس ْبتُها أصابعي ُ لكنّها كلام َد َن ْت من قطو ِف ِك، ْ تأتأت ُ ولَع َث َمتْها حروف ِك األوىل فتعود أدر َاجها مثقل ًة بخيبة العطش.. 6
أصابعي ّ ّ بك ذاكر ٌة كلام تعلقَ األم ُر ِ ٌ ونسيان يف حرضة اآلخرين لوحة للفنان فاتح املدرس
رضير ٌة أصابعي، ّ تسرت ّد بصري َتها كلام ال َم َست ِْك.. فال تنأيْ ْيك أرى..
وكلام اهْ َتد َْت إىل ُر ْش ِدها أصابها "الزهامير"..
صالحة غابش
كأنه عندليب دائم السفر يفتش عن قلوب تشبه الصحراء صامتة وما زالت تخاف الليل واألحالم تخىش بنبضة املطر مالمح تشبه اإلنسان وفيه يبحث االثنان عن بعض وتتعب منهام األسفار والطرقات وكل خرائط الدنيا وإن مل يلتق النبضان يف نبض وإن رفضتهام أنشودة العشق ستبقى رحلة العشاق الرفض ترفض مبدأ ِ
أمواج وحرير
كلون القصائد يف خدرها دافئٌ كالرغيف طازج ِ ٌ ٌ شفيف َ وطعمك يا صوتها ناعم ٌ ماك ٌر كالرحيق املوشح باألمنيات كفى
غريب
كأنه صوت أغنية عىل باب الشتاء هجرت بال موقد يبيت عىل وسادة حزنها من دون أغطية سوى بعض القصاصات التي كانت دفاتر تحفظ املوعد غريب يف مدائننا يقال بأنه أسطورة مرت قريباً من مساكننا
لوحة للفنان سمري رفاعي
لوحة للفنان فاتح املدرس
علي الشعالي
ٌ موجة ترشئب الشموس ليك ترتديها كفى يا حضور النجوم إذا ضاعت القافلة يا حروف الضياء.. سالمل تنبجس اآلن نحو السامء تسابق أجنحة الحاملني.. يا سامء اصعدي نحوها وقويل كام ينبغي أن يقول الحرير وقوس القزح.. قويل سام ًء إضافي ًة.. قويل محيطاً وشمساً وقويل ول ْه
29
نصوص
عبدالزهرة زكي
نس َي ْت شفتَيها عىل الفنجان
َ غريب نس َي ُه النهار مثل ضو ٍء ٍ
ْ فنجان القهو ِة، تركت شفتيها عىل ِ ونس َيتْه عىل النافذ ِة.. نس َي ْت، اقب الشجر َة امليت َة يف الساح ِة، وهي تر ُ َ والفنجان والشفتني. قهو َتها ُ الفنجان حتى اذا ما انكفأ وساحت القهو ُة منه عىل الحائطِ اىل السجاد ِة َ الباب واسفل ِ الرصيف، ومبجرى ِ ْ وامتزجت اب الساح ِة وغبا ِر هوا ِئها وبجذ ِر برت ِ الشجر ِة امليت ِة.. ْ عادت هي لتتحس َس عىل شفتيها َّ املرار َة التي مل ترتش ْفها.. فيام كانت شفتاها، ذائبتني يف القهو ِة، تنبضان بحيا ٍة أخرى الحي يف الجذ ِر ِّ للشجر ِة املنتصب ِة يف الساحة
30
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
لوحة للفنان صبيح كلش
كوكب األرض. متيش عىل ِ متيش عىل الساحل قرب البحر َ سفح جبلٍ عىل ِ قلب الصحرا ِء يف ِ يف غابة. متيش، ُ ُّ والحاممة ظلها، األرض عىل ِ َ فوق املا ِء وفوق النا ِر ويف العاصفة. متيش عىل الهوا ِء، ً فتسمع كالما كثرياً ُ تسهو عنه.. نجم، ُ ويتبع أث َرها ٌ متحف يف ٍ يف ميدانٍ حر ٍّيب يف جزير ِة عرا ٍة يف مقربة.. متيش، وال أث َر لها عىل الرتاب، ومثل ضو ٍء نسيه النها ُر غريباً يف سال ِم ِه متيض إىل بي ِتها الال مريئ الكوكب الذي يدور عىل ِ
ابراهيم الوافي جنسية
يف العطور القدمي ِة .. كنت ُ أقول ألخرى ُ ُ األمس تتوق إىل ك ِت ِف ِ مثيل َّ بأن الذي بيننا َ الحزن فينا يشب ُه ً وقفنا معا يف املكانِ الوحي ِد الذي ال ُ الرفاق القدامى يجيء إلي ِه وال ُ للربيع ... شمس ِه غيم ًة يرتك البح ُر يف ِ ْ كانت ..تو ُّد التحدُّ ث مثيل ولكنها ْ غرقت بالعطو ِر القدمي ِة حني نجوت وحيداً ُ َ زوارق غرقى شاطئ أو بال ٍ مينح التائهني الرجوعَ وطن آخ ٍر ُ سوى ٍ ألسامئهم !..
عمى
كتاب النهاي ِة .. يف ِ ُ الهوامش ... ما أغفلتني
عبيد عباس ٌ رشفة قدمية
ني سام ٍءٌ - ما ب َ كالنجم -وأرض واقفة ِ ُ ُ لم ما ِ اشتكت الرشفة يوماً من هذا الظ ِ الواقع ِ الواقع بطش أومن ِ ِ أقرب لل ِه من الناس صمت الشارع ني يف ِ تناجي كسج ٍ صاح يؤانسها ما من أح ٍد يا ِ ظالم دامس . إن داهمها يف الليلِ ٌ الرشف ُة ٌ أرملة
كنت ُ ُ أقول ألمي التي ال تراين .. أنا ْأشب ُه َ الليل يخطو وحيداً عىل ما ِء عينيك ِ ّ ُ للصباح ... سوف أفتّش عن ضف ٍة ْ وأجمع للفقراء الصغا ِر غناء العصافري يف سدرة املنتهى !.. أنا أشب ُه َ ظالمي الليل ..ال تفزعي من ْ سأبدأ حيث انتهى !..
لوحة للفنان نارص املوىس
مرآة
تراءى عىل املاء وجهي .. قال يف ِّ صباح الظل ُ ..فالح قريتنا أليب يف ٍ ْ طويل الريح للام ِء .. سوف تدفع ُه ُ ْ النحيل ... هذا ُ كنت ق ْر َب أيب .. ممسكاً يب ..كنا عىل املاء والريح مرجف ًة ْ كالصهيل شمس ُّ تطل ..ويب كان ظل أيب لون ٍ ٌ شامة من ْ نخيل !.. فقدت سوسنها وربيع تحضرُّ ِها مل يعد الور ُد يخارصها بغنا ِء الطيب وال أطيا ُر الحقلِ بألحانِ النور ُ الناس عىل ظه ِر وإن كانت تحمل أحزان ِ وجيعتها صباح لكن ما ِ قابلت املا َّر َة يف أي ٍ عابس . ني ْ بجب ٍ الرشف ُة دمع ُة حزنِ حكايتنا رح بنايتنا ُج ُ ُ تساقط ٌ متتمة للعاشق منها ال َّ يرقب قم َر الليل إذ ُ وال ٌ أمنية لفتا ٍة مازال شذاها
يجمع َ الشارع يف فتيان ُ ِ التو وال أندا ٌء وغنا ٌء ونوارس. ٌ سوسنة طائر ٌة الرشف ُة تتدىل منها أشال ُء الغبط ِة وموا ُء القط ِة وثغا ُء الفاق ِة ني وشجار الزوجني املنتهك ِ من الفق ِر وأحالم األطفالِ .. وبعض مالبس 31
نصوص
قمراً يسقط متمه ًال أعىل الرقبة.
4
بريهان الترك قصائد
شاعر ما ركلته األفراح.. يكتب عن الحياة كل يوم يف صفحة الوفيات.
5
1
نحول النهار وسمنة الليل لحنٌ نتجمع فيه فينكرس.. ننتظر الربق من خلف الزجاج حني يحبس كل يشء عن كل يشء فننام عىل حدة خارج رقعة األحالم. 2
هل تشعر بالعتمة واملوت املندلق من السقف يف راحة األوجاع؟ هكذا متوت األشياء دامئاً و ُتجس الشواهد يف التجمعات. 3
الباب يف نصف الشارع واألمومة مرشوقة عىل الجدران والخليقة طافية عىل أسطح البيوت نساء الحي تنأى عنهم فضيلة الصمت والرذيلة تلك الجارة املفضلة تصنع لها يف البيداء
الحرف أخرس إىل أن يقع يف فمنا.
6
مأتم آخر بغيابك.. مبسمك الخجول كان حارضاً جوف قلبي.. كالعطر مررت اليوم يب بكيت عىل صورتك وقبلت الهواء وأرسلت لك مع املالئكة قافلة من الدعوات أي فرح هذا دونك؟ 7
الخري؟ ٌ مكلف صباحك! كم هو
8
قافلة من الجياع ،تعوي ،يف دمي..
9
يف املرآة فقط أكرث من أربعني شبيهاً يل.. لوحة للفنانه زينه عايص
32
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
عبد اهلل أبوشميس يسمونه الحب 1
أنا امرأ ٌة ح ّر ٌة وسعيد ْة ُأ ُّ طل عىل الكونِ من شرُ ف ِة الفج ِر: أكرس خب َز فطوريَ ُ بيني وبني عصاف َري صوت (فريو َز) تخرج من ِ ُ ُ تلقط ِح ّصتَها ،وتساف ُر خلف التّالل البعيد ْة وأفتح نافذيت للحديق ِة ُ باب الخزان ِة: أفتح َ ُ يليقُ بيوم جدي ٍد؟ ماذا ٍ وماذا يليقُ بأنثى جديد ْة؟! " كأنيّ أرى ّ كل يش ِء أل ّول م ّر ْة قوا ِم َي غصنٌ نديٌّ وثوبيِ َ زهر ْة وأنا َن ٌ حلة ّ أترش ُف نفيس رس ْة وأملؤين با ْل َم ّ أختي ّ مس ،ح ّر ْة الش َ لَ َكم أنا ،يا َ لَ َكم أنا ح ّر ْة!" رت ،يا لَحامق ِت َي الكاملة!ْ تأخ ُ ّ ُ باب دا ِر ِك" " ُاخ ُرجي ،يا غب ّية ،من ِ باب داري! أَ ُ خرج من ِ " و ُردّي َتح ّي َة جا ِر ِك" َح ّي ُ يت جاري.. " وأَ ْل ِقي التّح ّي َة" ُأل ِقي التّح ّي ْة عىل جارت وَهْ َي متيش بس ّت ِة أَ ْر ُجل!ْ وص ُل توأَ َمها ( النَّبويَّ ) إىل روض ِة و ُت ِ ا ْل َح ِّي..
ْ وقرنفل أشتم أغني ًة من ندىً ُّ وأسعى إىل موقف الحافل ْة ُخطايَ ( كام قال يل شاع ٌر يف زمانٍ مىض) كالسحاب ِة: ّ ٌ مرسعة ووئيد ْة أنا امرأ ٌة ح ّر ٌة وسعيد ْة 2
تع ّو ُ دت أن أكتفي بالجريد ْة يف ّ ريق إىل َع َميل.. الط ِ ليس يلفتُني عاب ٌر حائ ٌر يف َجاميل تتفح ُص تطري َز ( شايل) وال ( َح ّج ٌة) ّ ُ وتبحث يف خنرصي عن دليلِ املكيد ْة! تع ّو ُ دت أن أختفي يف صفاتيِ إذا َ ّاس ْأن يرسقوا ْاسمي حاول الن ُ تع ّو ُ دت أن أكتفي ب وأن أحتفي بظاليل املديد ْة! أنا امرأ ٌة ح ّر ٌة وعنيد ْة يرفع ثويب وال يش َء ُ يح سوى ال ّر ِ يجرح قلبي ال يش َء ُ السعيد ْة! سوى ِ األغنيات ّ فيا سائقَ الحافل ْة امللح يف أغنيا ِت َك َض ْع قلي ًال من ِ الس ّك َر املستب َّد ال َتترْ ُِك ُّ قلب الجريد ْة يع ّذ ُب َ َ خلفك امرأ ٌة ُح ّر ٌة.. فمن وعنيد ْة! 33
نصوص
جوالن حاجي ثلج
ُتبكيني حيايت كسخا ِء املحرومني كحمقاء تتملىّ َقسام ِتها يف مرآ ِة مصعد. س ّميتُم دموعي أخطا ًء يف التفسري. س ّميتُم العامل خالفاً بيني وبيني. ناضلتُم نياب ًة عني ،وتك ّل ُ مت عوضاً عن النباتات ُ حتى ّ النسغ الذي ضخختموه يف ورو ِد تبخر البالستيك ُ النهايات ألسن َة البدايات. وبرتت ِ ُ قلت :مجوين ثأ ٌر من الخجل. َ ُ أضعف ِمن أن أحيا ،ولآلخرين كنت األجنحة. أمرتمُ وين :يحقُّ لك أن تحيا. مهم ما قلتُموه ُم ٌ حال سامعُ ه. ٌّ ح ّذرتمُ وين :أنت وحيد. فاغفروا يل ما فهمت .لن أنساه: َ الوحل ببصقا ِتنا يف الربد ونس ّميه ثلجاً. نطيل يتش ّققُ السطح ُ سطح آخر فتغنّي الشقوق عن ٍ ُ يستيقظ الببغا ُء فوقه حني ويرجع الصدى: تقع الجرمي ُة ُ ُ ٌ ً ُ ُ ُ "مثة ندبة عىل األقل تحرق أحيانا ،ال ترى وال ُتنْىس. دع املصادفات تفسرّ الواقع ِ فالكلامت ال تزه ُر وال تزدا ُد وال تطري". ٌ فاحش حقاً. الوعي ُ كنت وحيداً فأحببتُكم. أجلستُموين مثل بيض ٍة نصف مسلوقة صحن طفلٍ محموم، يف ِ وحثثتُموين: 34
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
" ُك ْل عينيك. تع ّل ْم َّ تخرس وتحترض". كل ليل ٍة كيف ُ مداعبني َشعري ألصقتُم رذا َذ قهقهاتكم إىل وجهي مني طائشة ِ كرشقات ٍّ ثم نهضتُم بغت ًة وأوليتُموين ظهوركم لتتص ّفحوا الجرائد. هل ُأغ ِم َي ع ّ يل فرتكتُموين أمللم ُبراد َة الكلامت مثل حج ٍر ممغنَط ُ احتي ما يقتلني أقرأ يف ر ّ وأس ّد ُد مثنَ اللطف؟ َ أض ِجر ُتم ف َل َه ْو ُتم برتويعي برفع وألبستُموين القناعَ ُمومئني ِ
نور البواردي ٌ عامئة يف الهواء 1
يف أقىص قلبي فر ٌ اشة تغزل من ُح ُّب َك قصائد ُمل َّونة 2
يصعدُ ويهبط الفراغ وحيد يف مصع ِد البناية املهجورة 3
تس ُري ِبجين ٍز ض ّيق العصافري ال تلقى مكاناً لِلعب بحرستها تتسلىّ خارج الجسد! 4
الشارع تح َّرك من مكان ِه صباحاً
الحواجب :هذا مه ّرجنا؟ هل اغتصبتُموين وأنا نائم- تحت غصونِ البيلسان أوعىل كنب ٍة أوثقتُموين إليها الكمشة إىل اّ كاسم اّ الكمشة؟ ِ ّ ّ أستطيع أن أتذكر. ال أدري .ال أتذكر .ال ُ ال أريد. (ا ّتفق كثريون ،واآلخرون كثريون دامئاً، خرباء وحكامء يعرفون كيف يسرتخون وكيف تزل ِز ُل َ ُ رعشات الفحولة، املدن حني قالوا :أيحقُّ لضيف أن يغضب!؟ ٍ تحلم أو مت ّثل .هذا ما َ أردت. انس .أنت ُ َ فابتهج وال تل ّفقْ أكذوب ًة أخرى). ْ
ُ حملقت بالهاتف كم ُ يستعطف ّ األصم كالعب ِد نخ َاس ُه ّ أتوهّ ُم رن َ ني نوره رسال ًة أو صوتاً ذه ُب عنّي أو ُيفحمني. ُي ِ فليأخذوين إىل جهنّم. بقدمي إىل جهنّم. فألذهب ّ ُ ألرتاح وأش َفى. ال ألتباهى بل َ ال أصد ُّق ما أقول العا ُمل متم ّه ًال يعو ُد إ ّيل، رس أو حقيقة، دون ٍّ ّ متط ُر وأنا أفك ُر بالثلج
َت ِب َع يف الليلِ صوت املوسيقى
أترك ُه يف الصفح ِة ما قبل األخرية قلبي ا ّلذي َ مات فوق صدر ُجمل ٍة
َ شفتاك كالكر ِز باردة الصيف ال تدفأ ! يف ِ
جميلة
5
6
بني ضفتني ينام املوت هادئاً فوق ِس ّكة ال ِق َ ـطار
10
ُكتبي ف ّر ْت لي ًال من مكتبتي تحت ما ِء الصنبور تغتسل ضبطتهُا تتخ ّلص من لوث ِة الكلامت
7
8
يدي ُتصافح يدي ُ األخرى تعتادان عىل الوداع
لوحة للفنان شهريار أحمدي
تتس ّلق رسيري شجرة ب َر ْ زت للتو َ كان يسقيها دمعي
9
35
نصوص
راسم المدهون بيتي
يل بيت أحمله عىل ظهر ذاكريت وأميش به ويراه السائرون يف البوادي البعيدة البحارة يف مراكبهم يراه ّ لكنني ال أراه أنا وبيتي القديم كالعيس يف البيد أذكره بعيون خيايل فأرتوي وحني يقبل الليل ييضء للعشاق يدعوهم أن يفتحوا بابه أن يدخلوه حفاة سوى من رنني القبل بيت يسكنني مرة فأسكنه ألف مرة ال غبار عىل نوافذه ال تصله ضوضاء املدائن أنا أؤثثه باملرايا لكل عاشقة تدخل بابه مرآتها ومشطها العاج ويل أن أسمع وشوشاتهنَ ينادين عشاقاً من كل األلوان والقبائل عشاقاً يحفظون عن ظهر قلب أناشيدهم بيت يل يصعد عىل ظهر ذاكريت ال ينام ولكنه ال يدعني أنام
36
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
لوحة للفنان آسادور
محمد عنيبة الحمري كون عام
ُ وركبت الفضا ْء املواقيت ُمستعينا بع ْلم ِ م ْركبة للمس ْري ِسنْدباد أنا والبح ُر سامني ال ُّرب ْ خسفا ْ فرمت ُاألث ْري أسرتيح إىل قد ِري ُ ْ بنجوم تهاوت ٍ نتهى إلىَ ا ُمل َ 2
با ملَ َج ّرة ق ْد يلتقي الوالهون الربوج وبباب ِ ِ ني متيلْ الكواكب ح َ احتفا ُء ِ ْ فالجميل ْ املكان أن ُيضا َء تبوح بسحاب ِة ص ْي ٍف ْ ُ النجيامت يف م ْهدها تتل َّون تلك ْ امللكوت تتناث ُر يف ي َ الهم أنفاسها رش ُب ُّ ْ فتموت 3
القلب ك َّلام كبرُ ت كو ُة ِ كان ِّ تس ٌع للمزي ْد لظل ِ هيامك ُم َ وإذا َّ غيم شل نو َر املح َّبة ٌ ميا ِن ُعني ما أري ْد
َسيضيئُ جام ُل ِك ْيك أستضيئْ والغام ُم ْ دليل بص َمت ُه دوا ِعي األس فا ْكتس ْ املستحيل ُجبة تجى يف حام ْه لفضا ٍء تداعَى وال ُم ْر ً 4
ُ وتعيش حياة َالبحا ْر بني م ِّد وجزر كاملحا ْر ك َّلام غمر ْت ُه امليا ْه يحت ِفي بالقم ْر فاتحا صدف ْه ً ْ انسحبت : وإذا ثم استدا ْر أغلق َ الباب َّ ساح ًبا ِم ْعطف ْه باحثا عنْ مكان ٍسوا ْه ِ
6
ترسو َوعَىل ِ فلك البرُ ج ُ سفين ُة ِع ْشقي أقو ُد حامقة َظنّ بأين أ ْقوى علىَ ص ّد قلبي ْ الخفقان عن ِ وأنت املدا ْر النجم ْأحيا ِ فأنا ُ ْ منك ،لكنّني نشأيت ِ عشقي ْ ٌ أزرق من شساع ِة ْ إليك ني ال متنح َ أحم ٌر ح َ ني غيايب ُشعاعْ
5
تتح َّر ُك ْيك تستك ْني َ من مكانٍ إلىَ أمكن ْه أ ْو تدو ُر َر ًحى ْ تطحن العم َر إ ْذ تحتوي ْه و َمكاين الذي أمت َّد ُد في ْه أضيقُ َ اآلن ْ قل يل : َ فكيف انتقا َيل من ُه إلي ْه
37
نصوص
محاوالت محاوالت محاوالت محاوالت محاوالت محاوالت محاوالت
عبدالقادر مكي نداءات عالية
زمناً عربت دواخيل.. لحرف ما وتطلعت لغتي ٍ ورايئ املقام وغفوت أمتحن الرؤي أبدو رشوداً نازح التفكري منرسباً كلحن صيغ من ماء السكون ٍ بالنبض افه ر أط تلونت خالٍ من نواقيس الزحام ودنوت أجهل ما بنفيس قد تع ّري الغيم عند نواظري تقمصني الشتا قصداً ّ رعشت عصافريي فعانقها املسام قدري يحك الشمس -يغمس همتي يف الصرب يكتبني رشيداً الهب التكوين صخريَّ القوام تتلو تصاويري صالة الع ِّز أصبغ ما جرى يف خاطري بالحب أشهد ما درت (سنار) مذ نامت بجنبي أنني وحدي حملت عىل دمي شهد الرجولة والسالم وعلوت أمشاج الذين تواثبوا من (دامر املجذوب) وعبأين الهيام هبني قد نظرت ببطن كفي هل أري قبساً بلوح أيب وذي طمرين يسهب يف الدعاء وعلمت كيف تفوح نفيس تشتهي لغ ًة معطرة الدوا ِة تلفني بعاممة األخيا ِر والبيت الرشيف 38
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
وما أشاء لهف رهف ومن ٍ تتقطع األوصال من ٍ فنيت وال أزال ياااا قب ًة خلدت بذات الطني حطمت القرون رس بك باقٍ فأي ٍ واألمور اىل زوال ولعل أجنحة الزمان ترفُّ ّتذهب بالبىل تستاق عنك الهدم تطمح أن يزور مقامك الزايك املسيح و َتها ُف ِت األرض الحبيب ِة إذ ّ تغشاها السحاب قدر ما عمرت لدي( الحريان) فكرة أت يف ذات (الرشافة) صيغة العيش الفسيح وجلست قرب فتايت الولهى أحدّثها تخاف ع َّ يل أن أغفو بباب فراش ٍة ربطت بذات الدرب تحلم أن يواتيها نسيم الروح ترشع يف الرجاء ركن وعجبت إذ عمدت اىل ٍ وسالت من يديّ تحدّر املحراب (شيخي ههنا) عذراً فباركني أضوع اليك مسكاً يأتني طفيل معبق ًة خطاه نه ًام أق ّبل رأسه--يحنو ّ تغطينا أياديه الدفيئة-أنتهي وفتايت الولهى اىل النوم العميق ورأيت يف نومي أنادي يااا أيب خذين معك-من حاسة الشعر القيص اىل الحريق
ت محاوالت محاوالت محاوالت محاوالت محاوالت
جمال المال وكان عرشه عىل املاء
أشار لألفق صمتاً أيها الشفق ففوق أفقك هذا يل أنا أفق ومد سهواً لخلف املنتهى يده فقال :جربيل مه ًال ،،،،سوف تحرتق ألقى عىل الغيب مندي ًال وقال :أنا ومن سواي بهذا الليل قد شنقوا فأرخ الدهر تابوتاً يطوف به وخلفه الريح يغريها فتنطلق أعار كل نجوم العمر زرقتها حتى استحى منه وجه الفجر والفلق أغفى السحاب يقيناً فوق اصبعه السحب تتفق أىن يشري فم ْعه ْ وقال :إين نبي املاء ،فانطفأت كل اللغات ،وظل الصمت والعرق ! ونسوة قال إن يف القرص سيدة وإن فتاها أباه اإلثم والشبق إذ كلام غلقت باباً يقول لها نسيت باباً لروحي ليس ينغلق .... نادته للخلق إذ كل مبتىك ٍء مل يأت بعد ..ولكن باسمه صعقوا جاء الشتاء فضم العاملني به وقال ناموا ويل وحدي أنا األرق له املعري..أبومتام ...بل وله (..الخيل والليل والبيداء )..والورق وظل يشهر لألسامء قامته الجند من خلفه ،والبحر ينفلق حتى أفاق بياضاً حيث ال جسداً وحيث ال "أين" فيها عنه يفرتق هناك ال يشء إال أن يكون "أنا"
ومنتهى عمر هذا الكون يل رمق كل الجهات لوجهي تنتمي مق ًال فعريش املاء ال ريب وال قلق ماذا ستصنع يا نوح لتقنعه لنئ تساوى لديه الفلك والغرق خذ ما تشاء وقل ما أنت قائله إين الحقيقة ..واملاضون ..والطرق ..
الحسن عبدالعزيز ونسيت أن أحيا
متمسكاً بوجوده يف الـ ال وجود .. مقلتي -ع َّ يل ،أفيش ما متآمراً -مع َّ أخبئ يف أضابري الهوي للريح ، تذروين ألصلب حيث ال يبيك عىل مويت أحد . وكأنني ما جئت إال من دمي ،ألعود اب ملحاً للرت ِ وموطئاً لشوارع األسفلت ..تفلتني أناي. . وعىل الرصيف أحس من فوقي خطاي قبلتها ،ابتسمت ،وقالت " :نلتقي عند الحصاد عىل السنابل والغبار" أخربتها أين سأزهر عن قريب .. منها الكؤوس ،ونحتيس ،مني العصارة، ننتيش حد الثاملة .. نلتقي يف زهريت يا خطويت .. فلتسليك هذا الطريق تفيض إيل هواجيس ،لغتي ،السنابل والرحيق حتى الدموع إذا جرت من مقلتي تفيض إىل
لوحة للفنان ضياء العزاوي
39
نصوص محاوالت محاوالت محاوالت محاوالت محاوالت محاوالت محاوال
إن تبحثي عني هنالك ،أوهنا ..سيان محض انتاميئ للبطولة زائف قابلت روميو -يف الطريق لسيبويه " -أنعم صباحاً يا شهيد الحب ،لست مبعتب، أيقال عني -أيها العريب -حقاً ،ما تقول ؟ " جولييت مل تك من حسان الحور ، مل يك يف الغدائر موطئ للحب يف الرمق األخري وقد التقينا -ال كام قيس ولياله عىل شفة الغدير – كمسافرين إىل أقايص األغنيات وقضيت مثل اآلخرين ،كام قضت هي - مثلام عاشت -بال جسد يؤرقه املدى ، فألي مأكمة يحاكمني الردى ؟ مل ينتحر روميو إذن ، لكنه -متمسكاً بوجوده يف الـ الوجود - رشب الخلود ،ونسيت أن أحيا .. ُّ فمت ليك أسود..
منى حسن محمد َنز ُْف ال َغماَ ْم
هبان َش َ ُر ُ وقك أوقدوا َش ْم َع املَ َواو ِيلِ ال َع ِتي َق ِة أَ ْي َق َظ َوا َما َنا َم فيِ ُمدُ نِ ال ِغ َواي ِة َز ِاهدًا ِمنْ أَ ْل ِف عَا ْم! ** رُهْ َب ُان َو ْج ِد َك أَسرْ َ ُفوا فيِ ال َو ْج ِد َقا ُموا َي ْق َر ُؤ َ ون َصلاَ َته ُْم الض َيا ِء الـ َي ْس َت ِقي َف ْر َط التَوهُّ ِج ِمنْ َت ْح َت ِ َو ِم ِي ِض عُ ُيو ِننَا.. ِمنْ لَ ْم َع ٍة َشا َب ْت َب ِر ِيقَ َس َوا ِدهَ ا َذ َ ات ا ْن ِس َجا ْم 40
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
** َيا أَ ُّيهَا املَ ْو ُشو ُم فيِ َق ْل ِبي ُس ُكونـاًَ ،وال ِت َحا ْم َيا أَ ُّيهَا املَ ْع ُج ُ ون ِمن ُح ُل ِمي َو ِمنْ أَلَ ِمي َو ِمنْ ُحزْنٍ ُيخالِ ُط ُه ا ْن ِهزَا ْم! رُهْ َب ُان َو ْج ِد َك َع َّم ُقوا فيِ َق ْل ِب َي الدَّا ِمي السهَا ْم! ِ ** أَ َس ِفي َعلىَ َن ْه ٍر َتسرَ َّ َب ِمنْ أَ َيا ِد ِينَا َو َك َان ُزال ُل ُه َي ْر ُن َ وأل ْر ِض ال َب ْو ِح َي ْر ُجوأَ ْن تمَ ُ َّد ُسهولَهَا َن ْح َو ْاح ِت َي ِاج َي َد ْي ِه َن ْح َو َر َجا ِئ ِه.. أَ ْن ُيز ِْه َر ال ُن َّوا ُر َح ْو َل ِض َفا ِف ِه أَ ْن ُي ُو ِر َق ال َف َر ُح ا ُمل َخ َّب ُأ فيِ ِمدَا ٍد ال َينَا ْم ** الش ُ َف َ الش ْع ِر وق ِظ ُّل ِ َي ْت َب ُع َخ ْط َوهُ أنىَّ َي ِس ُري ات َن ْه َر َبال َغ ٍة َو ُي ْر ِس ُل اآلهَ ِ الحماَ ْم َي ْأ ِوي إلي ِه ِب َله َف ٍة َو َج ُع َ َيسرْ ِي ِب ِه ِسح ُر املَ َود ِة عَا ِبراً ُمدناً َت َرا َم ْت َح ْو َل َد ْر ِب َم َب ِاه ٍج سيت َمال ِم َحها ال ُل َغ ُ َن ْ ات َوأَ ْج َد َب ْت أَ ْف َيا ُؤهَ ا ِمنْ َب ْع ِد ُخضرْ َ ِة َو ْج ِه َك املَ ْغ ُر ُو ِس فيِ أَ ْن َحا ِئهَا ُمن ُْذ ا ْنـتـِدَا ِء ال َن ْب ِض الخ ْف َق ِة ُ ُمن ُْذ َ األ ُول َو َفا ِت َح ِة الت ََش ُّوقِ َوال َغ َرا ْم..
رأي الناقد
من ديوان العرب إلى ديوان هواجس العرب قراءة في نصوص العدد األول من «بيت الشعر» ً ناقدا ليقوم بقراءة لنصوص العدد السابق ،والهدف من ذلك إرساء نستضيف في هذه الفسحة من كل عدد تقليد جديد يستدرج النقد إلى حقل الشعر
حكمت النوايسة نصا كون ًّيا بامتياز ،من خالل ما متنحه الضامئر فرحي باملجلة حفزين لقراءة نصوص العدد ًّ النص إىل نبوءته التي قد األول قراءة متلق ،متذ ّوق ،ال قراءة ناقد يع ّقد من إحاالت تقود ّ يكون السومريّ قبالها أصغر بكثري من حلمه، السهل ،ويل ّفق املستحيل ،ومن هنا رحت يف ّ لك ّنه أكرب من العامل الذي يحاول أن يصادر رحلة شائقة مع هذه النصوص ،أحاول أن هذا الحلم ،وتظل نكهة اّ العلق ماثلة وبصمته أستبطنها ،وأرى إليها بوصفها قد تج ّمعت من الخاصة جميلة متجدّدة. مناطق عديدة يف فضائنا العريب ،ومن تجارب ّ ومن الفضاء الكوين لعيل جعفر العالق غري مؤتلفة يف عمر أو انشغال ،وكنت أبحث انتقلت إىل فضاء يوسف أبو لوز ،وإىل نكهته فيها عن «ديوان العرب» الذي قيل إنه غادر ً ال ّرب ّية التي تنقلنا من التوق إىل الخلود واستمرارية مباهج الشعر ،وإحساس العريب الذي قيل إنه مل يعد موجودا يف النزق والعشق ،إىل فاجعة أن نكون عىل قيد الدنيا ،ثم ننسج «شعركم الجديد». بدأت مع الشاعر عيل جعفر اّ العلق ،ومعه رأيت العامل يقف مالءة األفكار بـ «ال» ،هي أيضاً تصلح أن تكون لسقراط، أو لديوجني وهو يفتش عن الحقيقة يف ماملك خالية من يف نصوصه ،والعامل هنا املرجع وظالله ،ويحرد النص عندها الخاصة ،ويرسم بالكتابة الشعر تترسب بني الكلامت .وبعدئ ٍذ تقودنا القصيدة الثالثة ليقف خارج هذا ،وميارس نرجسيته ّ ً إىل املوازنة بني أرض الشعر التي يصنعها الشعراء معادالً قوانني الحياة التي عاشها الشاعر يف عامله ،مقاوما فيها أن للماملك التي يصنعها الطغاة ،فالشعراء يو ّرثون أبناءهم عاملاً يكون «سواه» ،منترصاً فيها عىل ما كان ،وعىل قوانني أخرى يتواضع عليها العامل لتغيب فيها الحقيقة ،الحقيقة التي يراها مؤ ّنثاً أموم ّياً ،فيام يو ّرث اآلخرون املوت وأدواته ،والشعراء الشاعر من دون غريه ،الحقيقة التي يرى فيها الشاعر األبوين هنا ليس ناظمي الشعر ،وإمنا أولئك األذكياء الذين يعرفون ّأن وجودهم توازن الحياة وبهاؤها ،لريى الشاعر ما مل تره «كالغيم القديم» ،ويرى أثرهام يف تسديد خطاه للمرايث، األعني «دولة الفلسفة يتيمة هذا الزمان عىل شاطئ املتوسط لتكون «ربمّ ا» عنوان القصيدة ،وينقلها من فضائها الداليل القديم إىل الفضاء الجديد ،حيث كانت تعني ّ الشك ،وصارت بالقرب من دولة الطائفة». ومن فضاء املوسيقى الكرنفال ّية يف نشيد الحياة الشاعرة عند تعني اليقني ،ومن «ربمّ ا» إىل «عشبتان عىل طلل» ننتقل اّ العلق وأبو لوز ،ننتقل إىل قصيدة النرث مع أحمد العسم، يجاجه بـ «ربمّ ا ،وغري من الصوت املفرد الذي يتخ ّيل آخر ّ ونبحر يف فضاء الكتابة /توأم قصيدة النرث التي ولدت يف خفي ،حيث يبني أنيّ » إىل مزج األصوات يف صوت متعال ّ أحضانها ،ومعه نسري يف تضاعيف العبارة التي تتوالد بتكثيفها ثم ننتقل إىل القصيدة عىل التنقل بني الخلفية والصوتّ ، لتستكشف دائرة الفضاء ال لتقول ،وإنمّ ا لتصف ما ترى ،وال «عشبة السومري» التي يس ّيجها التكثيف السرّ دي فيجعلها 41
رأي الناقد
الشعر حالة خروج مستم ّرة يغ ّلفها إقبال شغف ،ويف ط ّياتها ترسل الوصف ,إمنا لتستغرق فيه ،إذ هو الحالة يف قصيدة الحالة ،التي «تمُ ْشهد» العادي ،وتنفض عنه األلفة ،وتضعه يف وجنباتها القلق العميق ،بل الـ «ال» الجميلة التي تحاول أن و«ترسد» املتبادل بني الشاعر واألشياء .تكون أكرب من جواب ،وأعمق من مظهر ،تسافر يف نصوص دائرة الغرابة ،والج ّدة، ّ املال يف التفاصيل التي تؤنسن الغياب ،وتبني للحنني جسداً أ ّما الشاعرة شيخة املطريي ،فإنها ترسم بقصيدتها «املقهى» من االحتامالت التي تجعل الوردة سوداء ،والغرف تفيض غابة جميلة من أسئلة ،وتستغرق يف صوغ عامل متكامل بالـ «صحراء» وحيث يتعادل الكائن مع ورقة «نصفها حي من حنني وأمنيات ال يستطيع إال الفن ،وهو الشعر هنا، ونصفها ميت» تسقط عن شجرة الحياة. أن ينسجه ويجعلنا نذوب فيه كأ ّنه الحقيقة ،لكنّ الشاعرة ومع عبدالله العرميي يف «الطريق إىل البيت» نستمع إىل تنقلنا من حالة التأ ّمل تلك إىل قفلة مو ّفقة تنترص للشعر وإمكاناته يف رسم عوامل موازية قابلة للحياة ولو يف القصيدة ،موسيقى هادئة مت ّرر رشيط الطفولة وانفالتها من قوانني التواضع ،ونصغي إىل لحن متجانس يفتح الباب لتضا ّد الصور بلغة تؤثث الفراغ ،وتؤنسن مفردات العزلة ،وتجعلها قادرة بني زمانني ،وبني بيتني ،بيت الطفولة الذي يتل ّون فيه الرتاب عىل حمل املشاعر«هل كان هنالك مقهى /أم ّأن الشعر مثل الفراشة ،وزمان الطفولة الذي يخىش صعود درج العمر، أذاب الحلم بقهوة روحي ومت ّناك». أو يغادره يف حالة وجد عابرة تلملم ظالل الطفولة يف الذاكرة وأما فاتحة مرشيد ،فبهدوء األحرف وانشغالها يف تل ّمس الفراغ ،وفتح أبوابه ،تنساب نرثيتها «ما مل يقل بيننا» ،لتجرتح لتستعني بها عىل ما كان وما يكون من عمر مل يعد يعت ّد بـ أسئلة الذهاب إىل النهايات البعيدة التي نقف عندها ونقرر« ،صيد الكواكب». ومع يوسف املحمود نذهب يف الحنني إىل املستقبل ،الحنني النهايات املرشوعة ،واملرشوع الوصول إليها ،بل املطلوب الوصول إليها يف أعامر ال تحتمل كثرياً من الضباب والغموض ،الذي مل نعشه ،وإذ يرجئ هذا الحنني عىل شكل أسئلة ،فإنهّ يتّكئ عىل ثالثني عاما تك ّثف فيها األخرض يف عينني تخضرّ ان فـ «كم يلزمني من مجيء ألبتعد أكرث» سؤال ينشد تلك حتّى الغيم ،وعندما يتجاوز ا ُملرجأ إىل املستقبل ،واملك ّثف النهاية ،نهاية املجيء ليكون البعد ،ونهاية السقوط ليبدأ يف العشق ،يتجاوزه إىل بدء الخليقة ،وإىل املشاكسة األوىل النهوض ،والشعر هنا ليس يف السؤال وال يف املعنى ،إ ّنه يف عندما كان الوطن براري ليس فيها إال عاشقان يتقاسامن الحالة التي تتم ّثلها القصيدة وتتأ ّملها ،حني يعيش الكائن َ طفولة األشياء و ُمبتدأها« ،قطفت لك النار عن شجر النهر»، شغف واحد. الحالة وضدّها تحت سقف ٍ قبل سبعة آالف عام ،وهناك كان العاشق ال يحمل إال اسمه، وإذ يهدي إبراهيم املال نصوصه إىل املرحوم أحمد راشد ثاين ،فإ ّنه يلتزم قوانني اإلهداء األديب غري املجاين ،حيث يكون وال يشاركه يف اسمه إال ظ ّله ،وكان ييضء الخيام بقلبه ،لتكون القفلة باإلرجاء أيضاً ،وبالرحيل إىل الغياب، النص بني املتهادين إىل االسم املحبوس فيه ،حيث هناك حالة ،واشتغاالً ،وحيث الحضور العيصّ عىل التغييب. تجسرّ القصائد بني تجمعت نصوص العدد ّ ويف قصيدة دخيل الخليفة «دمية يف شوارع عاملي املال وأحمد في عديدة مناطق من نيويورك» تأخذنا اللغة والصورة واإليقاع راشد ثاين ،وهو عامل فضائنا العربي ،ومـن يف رقصة رسيعة ،مليئة بالصور الجديدة آخر ،أكرث وحشة ،وأقل ّ املحلقة ،والتواشج اإليقاعي الذي يربط إقباالً يف معرتك املتاح تجارب غير مؤتلفة في بينها عندما يتنافر املعنى إىل ح ّد ما ،فتصري واملقبول ،منذ «هبوط عمر أو انشغال القصيدة أغنية بإيقاع رسيع ،قد ال تستقيم الحب بثوبه األسود» قراءتها إذا قرأناها ببطء ،ألن ذلك يض ّيع إىل إنصات الحامئم ملمحاً بنائياً مه ًام فيها. «ألنني الرماد» ،وهنا
42
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
لوحة للفنان فاتح املدرس
وأ ّما قصيدة أحمد الصويري «خذين إىل الشام» فإنها بالتزامها عمود الشعر العريب مل تغادر إىل أنساقه القدمية ،وإنمّ ا ارتهنت إىل حارضها ،ووقفت شاهدة تقول ّإن هذا العمود قادر عىل أن يتج ّدد مع الشعراء ،فجاءت الصورة مق ّدرة عىل اإليقاع بال إسفاف ،وباستفادة واضحة من الطاقة الدالل ّية والرصف ّية يف اللغة. وأ ّما قصيدة روجيه عوطة «سرية شوبان بعد أن نفد الورق مني» فإنها تذ ّكرنا بلوحة انطباع ّية مفعمة باستبطان األثر، واألثر هنا أثر شوبان ،حيث تفتح املوسيقى خاليا الروح، ويعرب الكائن نهراً لن يعود إليه ،أو لن يكون نفسه إذا عاد إليه .وإذا كانت القصيدة تحتكم إىل إشاراتها ،ومرجع ّياتها الخاصةّ ، فإن هذا ديدن قصيدة األثر ،أو االنطباع بوجهه ّ اإليجايب ،حيث ينحاز الفن إىل الفن ،وتغادر روح الشاعر العامل ومتع ّلقاته لتبدو الكرة األرضية «ج ّثة هامدة أمام عدسات التصوير». وإذا انتقلنا إىل قصيدة نبيلة الزبري «يشء آخر يف السقيفة»، فإننا حينئذ أمام نص رشيد األزمنة ،حيث تؤ َّثث الكلمة بتاريخها وحضورها الداليل ،وتغادره لتصبح عجينة طيعة
يف رؤيا حضار ّية ،رؤيا تتكئ عىل مشهد ّية تعانق الفضاء النص زمان ّياً، الداليل للسقيفة مبا هو متحقق وواقعي ،يجعل ّ يف الوقت الذي تؤثث فيه خلف ّية املشهد بفلتات تشده إىل أزمنة أخرى ،لتتش ّكل الرؤية من مفارقه هذا وذاك. قصيدة محمد عزام «الحر ّية» ُشدّت إىل واقعها بخطابها الواصف ،ونربتها التي ارتهنت لإليقاع ،فتعانق مع الخطاب يف أداء نشيد الحر ّية التي ك ّبلتها الضامئر فصارت الحر ّية الخاصة ،أي الحر ّية غري الشعرية ،الحر ّية التي ينشدها العر ّيب ّ النص ،وفق هذا ،صوت الـ «نا» ليصبح امللتبس، زمنها يف ّ وليس صوت الـ «أنا» الذي هو صوت الشاعر. وتعيدنا مليس سعيدي يف قصيدة «عند الحا ّفة» إىل صوت الخاصة ،من الشعر الذي يستشعر األشياء ،وميارس «غرابته» ّ خالل هذه التوقيعات النرث ّية التي تصنعها كـ «كتل» شعرية غري متح ّررة من املعنى ،تح ّررها من ذاكرته ،وصناعة ذاكرة جديدة للعبارة ،وذلك ببناء مشهد ّية كاريكاتور ّية تسلسل ّية تك ّثف فيها عني الشاعرة تجاه األشياء التي ليست مج ّرد أشياء ،وإمنا ظاللنا فيها
43
ً نظريا
.
صبحي حديدي .............................................................................................................
روح الصوت
العالقة
ثم األثر السحري الذي متارسه املوسيقى عىل الروح ،وبالتايل عىل الشعر بوصفه بني املوسيقى واملطلقّ ، أحد أبرز الفنون التي تخاطب الروح ،كانت قد شغلت الوجدان اإلنساين منذ أقدم العصور .وكان اإلغريق قد فسرّ وا هذه العالقة عىل نحو مثري بالفعل ،حني اعترب الفالسفة والرياضيون الفيثاغوريون ّأن «العامء السدميي» غري املحدود كان يخ ّيم عىل الكون بأرسه ،حتى ولدت هرمونية املوسيقى ،فانترص النظام عىل العشوائية ،والخري عىل الرش، وألن املوسيقى تج ّلت أوالً يف أصوات الطبيعة من خرير وحفيف وتغريد ،ثم ّ واملحدود عىل الالمحدودّ . ألن البرش صنعوا موسيقى خاصة بهم حني نجحوا يف محاكاة موسيقى الطبيعةّ ، فإن النقلة «التقنية» الكربى التالية كانت ابتكار مختلف إيقاعات الشعر وأوزانه. ً مثري أيضاً ما و َق َع من تباين يف تفسري الثقافات ملدى ما يكمن يف املوسيقى من خري أو ّ رش ،طبقا لفيزيائية تك ّون وانطالق الصوت أو النغمة ،األمر الذي عنى أيضاً نوعاً من إسناد «معنى» ما لهذا الشكل أو ذاك من إيقاعات الشعر .ففي الرشق كانت النفخة متنفس الروح ومبتدأ الخلق ،واحتلت آالت النفخ مكانتها كأسلحة يف أيدي الشخوص األسطورية الخيرّ ة؛ أما يف اليونان فإن آالت النفخ كانت أداة إغواء الروح ،واقتيادها إىل عوامل ّ الرش السفلية .وليس التباين يف التأثريات الصوتية/ ثم جاملياً ً الداللية ألوزان الشعر ،بني ثقافة غربية وأخرى رشقية مث ًال ،إال انعكاس ذلك التضارب يف استقبال النفخة روحياّ ، بعدئذ بالطبع. من هذا كله تتضح عالقة وثيقة بني املوسيقى والروح ،ثم بني الروح والشعر باعتباره رديف املوسيقى وتوأمها الفنّي منذ أقدم الحضارات اإلنسانية .وحني نتحدث عن العالقة بني املوسيقى والشعر فإننا نتحدث عن األغنية ،واملزاج الغنايئ، واإلنشاد ،والرتنيم ،وما إىل هذا كله .ويجدر التذكري ّ وحسان بن ثابت صاحب بأن العرب كانت تقول « ِم ْق َود الشعر الغناء»ّ ، بيت شهري يقول« :تغنّ يف كل شعر أنت قائ ُلهّ /إن الغنا َء لهذا الشعر مضام ُر». ّ ولعل أبسط ،ورمبا ّ أدق ،تعريفات األغنية هو ذاك الذي يصفها بأنها « َق ْول لفظي يعتمد عىل املوسيقى للتعبري عن املشاعر»، أي التعريف الذي يقرنها بالشعر عىل وجه التحديد ،ويجعلها مزيجاً موفقاً من تأثري الشعر وتأثري املوسيقى .ومن وجهة النص الشعري من دون النرث ،ويندر أن نجد أغنية مصاغة من مقطع نرثي ال يتصف تاريخية ،اعتمدت املوسيقى عىل ّ بالحدود الدنيا من كثافة التعبري الشعري. صح القول ،هنالك تصنيفان أساسيان .األ ّول شكيل يدور حول األوزان الشعرية ،واإليقاعات، ويف «معاملة» الشعر غنائياً ،إذا ّ وتقسيم القصيدة إيل مقاطع قصرية أو طويلة ،واستخدام القافية ،وما إىل ذلك .والثاين داليل يتع ّلق باملوضوع ،واللغة املستخدمة ،والعاطفة السائدة يف القصيدة ،وسواها .ويصعب يف الواقع فصل هذه االعتبارات إال يف أغراض التحليل النقدي، تتوحد لتحقيق درجة كافية من االندماج بني الكلمة والنغمة ،أو تتفكك فال ُتح ّقق ألنها جميعاً مبثابة عوامل متكاملة ّ املوسيقى ،وال ُتبقي الشعر عىل حاله األصلية. وألن املوسيقى ارتبطت عىل الدوام بالرحلة األسطورية للروح يف العامل القديم ،وبالتجربة السحرية والروحية والدينية والجاملية يف العصور الالحقة من الوعي اإلنساينّ ، فإن التقاء املوسيقى بالشعر يف األغنية يع ّد االتصال األكمل بني قدرة املوسيقى عىل ّ التعبري اإليحايئ عن طريق األنغام الدا ّلة املج ّردة ،وبني قدرة الشعر عىل التعبري اإليحايئ عن طريق الكلامت الدالة املحسوسة املعنى .وقد ال ّ ميل املرء ،هنا ،من استعادة تعبري «هيئة الصوت» ،الذي أطلقه الشاعر اإلنكليزي ديالن توماس ذات يوم 44
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
تحقيق
؟
هل هي ظاهرة عربية؟
«القطيعة المعرفية» بين األجيال الشعرية مظاهرها ومآالتها في اإلمارات
حقا هناك «قطيعة» ،بالمعنى المعرفي للكلمة بين األجيال الشعرية العربية؟ ً ً إذا ماذا عن اإلمارات هل
ً جزءا من المشهد الشعري العربي والحراك الشعري بكل أسئلته وقلقه؟ بل وقبل ذلك ما تجليات بوصفها هذه «القطيعة»؟ هل يمكن القول إنها تتحدد في عدم قراءة المنجز الشعري الراهن من قِ َبل الشعراء من
بين أبناء الجيل الشعري الواحد وكذلك أبناء األجيال األخرى الالحقة والسابقة؟
ً عربيا ،وكيف ينظر الشعراء ثم هل تشهد اإلمارات هذا النوع من «القطيعة»؟ مثلما هي الحال السائدة
ً تحديدا ،إلى هذه الظاهرة على المستوى المحلي؟ اإلماراتيون ،بل مَ ْن يوصفون بأنهم حداثيون من بينهم
إن اقتراحات اإلجابة عن هذه األسئلة في هذا التحقيق ،الذي بدأناه بمقاربة لهذه الظاهرة مع الشاعر اّ ً عربيا ثم مع عدد من الشعراء العلق ،هي محاولة لتأطير هذه الظاهرة وتجلياتها والناقد علي جعفر
اإلماراتيين فكانت هذه الحصيلة:
جهاد هديب
45
تحقيق
فرضية تحتاج إلى نص يختبرها خلود املعل
أغلب
الظن أن يف األمر افرتاضات مسبقة .عىل األقل يحتاج املرء إىل أن يتأكد من أنه بالفعل هناك «قطيعة» ما بني أجيال الشعر يف اإلمارات ،إذ أننا هنا بصدد فرضية تحتاج إىل اختبار وبرهنة بناء عىل القصيدة ذاتها ،أو تحتاج إىل أن نتأمل فيها أكرث. أن تكون هناك «قطيعة» يعني أن القصيدة التي أنجزها الشعراء هنا يف اإلمارات أو يف أي مكان آخر ليست مختلفة بل هي تراكمية عىل صعيدي اللغة والتعبري إن مل نضف إىل ذلك الصورة الشعرية أيضاً ،غري أن حدوث هذه «القصيدة» املقروء ،عىل مستوى رؤية الشاعر يف بناء القصيدة وموقع أو هذا املنجز الشعري نادر إن مل يكن من غري املمكن «الذات» منها وبأية أفكار. مع أختلف حدوثه ألنه ضد منطق الشعر ذاته .من هنا أنا فالشاعر الذي ال يتصل مباضيه الشعري العريب وموروثه هذا املفهوم« :القطيعة» ألن الرتاكم واالختالف ال ميكن أن الفني ال ميكن له أن يكتب قصيدة حديثة إال إذا انبنت عىل يصدرا إال عن «ذات» واحدة هي «ذات» الشاعر .فالذات رؤية غامئة أو غري واضحة أو مل تنضج بعد مبا يكفي لوالدة هنا هي رشط التعبري عن «ذات» الشاعر التي عالقتها بأشياء قصيدة حديثة. أضيف إىل ذلك ،أن ّ العامل من حولها هي عُ رضة للتغيرّ والتبدّل. كل واحد منا ،نحن شعراء الحداثة هنا بناء ألي ومقصود أيضاً «القطيعة» هي عملية هدم منظم له أسلوبه وأداؤه وموقفه من العامل املحيط به ،أي أن لديه سابق ،عل ًام أن الشعر ليس نسيجاً أو معامراً مكتم ًال وناجزاً مخزونه الثقايف الخاص به وكذلك الحيايت الذي جعل ّ كل منا قد انبنى من قصيدة يختلف عن اآلخر .وأظن فقصيدة أخرى تجاورها أنه لوال هذا األمر ملا أمكن إن التعبير عن الخبرات اإلنسانية والمـيول ّ يف البناء وأخرى تعلوها لقصائد وشعراء من اإلمارات والرغبات والطبائع الشـخصية يختلف مع أنه من املمكن أن يصلوا إىل ما هو أبعد من باختالف الزمان والمكان حدوث تقارب ما بني الجغرافيا التي تخصهم مبا قصيدة وأخرى عىل لهذه القصائد من إرث ثقايف مستوى أساليب التعبري عن «الذات» وطرائقه. وإنساين وامتداد .وقد حدث ذلك عىل نحو طبيعي إذ أنه ً من جهة أخرى ،ال ميكن للشاعر إال أن يكون قد اطلع عىل لو مل تكن هناك يوما عربة يجرها الحصان ملا أمكن للبرشية املوروث الشعري العريب بطريقة أو بأخرى وبهذا ال َقدْر أو التقدم باتجاه طائرة تحلق يف السامء ،ورغم أنه ال تشابه ذاك ،لكن ما يكتشفه املرء إذ يتأمل ما كتب هو يف هذا بينهام إال أنهام يهدفان إىل تحقيق الغرض ذاته األمر الذي الحقل أن التعبري عن الخربات اإلنسانية وامليول والرغبات مي ّثل فكرة جامعة بينهام ،وهذا متاماً ما حدث عىل املستوى والطبائع الشخصية مختلف متاماً باختالف الزمان واملكان. الشعري فلو مل يكن هناك جيل آباء ملا أمكن لجيل يكتب قصيدة الحداثة أن يظهر أبداً من دون أن مينع ذلك االستفادة من املوروث الشعري
46
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
القطيعة المعرفية بين األجيال الشعرية
أي شعر يشبه ماضيه يُحدث «قطيعة» جامل عيل رمبا من املفهوم جيداً ْأن تكون هناك «قطيعة» ما ،لكن «القطيعة» بحد ذاتها املوجودة والراهنة ليست مفهومة متاماً .أيضاً مثة سؤال يطرحه الشاعر عىل نفسه هنا :هل ع ّ يل أن أكتب تلك القصيدة التي سبقني إىل كتابتها شعراء آخرون بحكم العمر ومرور الزمن وظهور األجيال؟ بالنسبة يل ستكون اإلجابة بالتأكيد ال. إذ من الطبيعي ّأن لكل جيل أحالمه وطموحاته وأشواقه العليا التي هي من طبيعة مختلفة ليس بني أجيال شعرية بل كذلك بني أبناء الجيل الواحد. يدرك املرء ذلك عندما يقرأ قصيدة تبتعد عن ماضيها الشعري وموروثها وتنتمي إىل الواقع عىل مستويي الحلم وطريقة التفكري فأنت تكتشف حداثتها وانتامءها لعرصها إذ تكون أقدر عىل التعبري عنه .بالتايل الشاعر الذي ال يهضم ويستوعب الواقع من حوله جيداً ويعبرّ عن ذاته وأحاسيسه ومشاعره جيداً فهو غري قادر عىل هضم واستيعاب معنى أن تكون القصيدة جديدة وابنة زمنها الراهن تعبرياً وطريقة يف التعبري ،أضف إىل ذلك التعبري عن املكان املشرتك بني األجيال الذي يتغري بتغيرّ الحياة نفسها وطريقة تقديم القصيدة لقارئها ومن قبل ذلك االشتغال عليها وتحريرها واالنتباه إىل لغتها ومفرداتها إذ من غري املمكن لشاعر حديث أن يكتب اآلن قصيدته بلهجة قبيلة من القبائل العربية التي سادت
قبل ظهور اإلسالم. هنا نحن نتحدث عن تقاليد كتابة ووسائط انتشار هذه الكتابة التي باتت مختلفة عن املايض القريب بالتأكيد، فالقصيدة التي ال تحتاج إىل غري زمانها لتعيش فيه وتتفاعل معه ومع مكانها ونبضه واإلحساس به هي التي تبقى ،والتي تصنع تراك ًام يف املنجز الشعري بالتايل .ما يعني يف آخر األمر أن الحديث عن «قطيعة» بني األجيال هو حديث صحيح يف واقع الحال إمنا ليس «القطيعة» مع الحياة التي تتطور القصيدة التي ال تحتاج إلى غير زمانها لتعيش فيه وتتفاعل معه ومع مكانها ونبضه واإلحساس به هي التي تبقى
لوحة للفنانة اإلماراتية فاطمه لوتاه
باستمرار بل ويف كل لحظة. إذا كانت هناك كتابة شعرية قد انكتبت بطريقة جعلتها تشبه الكتابة يف املايض فإنها ستكون غري مفهومة حتى من قبل شخص يحيا مع كاتبها زمنياً ومكانياً وتاريخياً ،بهذا املعنى يكون االنتامء إىل مايض الكتابة هو املسؤول عن إحداث «القطيعة» مع الواقع 47
تحقيق
أسمي «القطيعة» امتداد ًا هاشم املعلم
لكل مجموعة من الشعراء طريقة في التعبير إلـى ح ّد أنه فــي بعض مـراحل نضجهم الشعري لو قمت بمحو االسم عن ب عليك تحديد اسم صانعها القصيدة ُ لصع َ
سأسمي هذه «القطيعة» امتداداً .لجهة الصورة الشعرية ودورها يف بناء القصيدة ولجهة التعبري عن الذات وكذلك لجهة اللغة املستخدمة يف هذا التعبري ،وهنا ال أتحدث عن مراحل نضجهم الشعري لو قمت مبحو االسم عن القصيدة نظري جيل بعينه بل عن الصف األول من الشعراء من وجهة لصع َب عليك تحديد اسم صانعها. وقرأتها ُ الشخصية .إنه امتداد وليس «قطيعة». يف اإلمارات هنا لدينا ُبعدان شعريان أو خطان شعريان عن نفيس ،أقول إنني قد تأثرت بقراءايت للشعراء :ظبية متوازيان وال يلتقيان :عبد العزيز جاسم أو الخط الوجودي خميس وعبد العزيز جاسم وابراهيم املال وخالد بدور ونجوم والتأمل يف العذابات الفردية وخرابات الروح ،وابراهيم املال الغانم وأحمد راشد وأحمد العسم ،ال أستطيع إنكار ذلك الذي كأن شعره غيمة عابرة عىل الروح إىل حد أنه يشبه فهم موجودون بيننا ونعيش معاً يف املكان ذاته وقراءايت طيفاً .إنها قراءيت البسيطة واطالعي الخجول عىل واقع ملنجز كل واحد منهم بعني نقدية جعلتني أكتشف أن لكل املشهد الشعري املحيل منهم رؤية خاصة يف صياغة القصيدة وكتابتها ،إنهم صنّاع ........................................................................................... قصيدة سواء أكانت هناك أجيال أم ال. أما أن يأيت شاعر جديد من مكان شعري غري متوقع ويقوم منح اللغة حقها الطبيعي بإحداث «قطيعة» ما مع قصائدهم بصوته الخاص وبحسه في التعبير الجديد فهذه ما ميكن أن نسميها «فلتة» .لكن هو قائم وعلينا أن نتعامل معه اآلن أن لكل مجموعة من الشعراء ،أحمد العسم يك ال أقول لكل جيل شعري ،طريقة يف التعبري عن الذات ومتقاربون كثرياً من بعضهم بعضاً إىل حد أنه يف بعض يعيش مجتمع الشباب العريب يف هذه األيام حالة متأرجحة عرب لغة التواصل ،حيث إن السوق العربية بدأت تتجه وبقوة نحو اللغات األجنبية ،وعىل األخص اإلنجليزية التي يعتقد الكثريون بأن نجاحهم والوصول إىل املراتب الوظيفية العالية سيكون عن طريقها ،ولهذا افتتحت املدارس املختصة بهذه اللغة وأرشعت املعاهد والرصوح العلمية أبوابها بتعميق املعرفة بها .ودعا البعض إىل أن تكون املراسالت واالجتامعات باللغة االنجليزية بسبب وجود من يعرف هذه اللغة وال يعرف عن أرسارها شيئاً. والحقيقة أن العربية لغة مطواعة وقادرة عىل مواكبة العرص واملخرتعات الحديثة وقد دل عىل ذلك أنها متتلك مفردات وألفاظاً شملت االخرتاعات كلها. ومن الطبيعي أن يثق ابن هذا العرص بلغة أجداده وآبائه وأن يحرص عليها لكونها تشكل هويته وتربطه بصلة القرىب 48
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
القطيعة المعرفية بين األجيال الشعرية
عندما نثق بهذه اللغة نحمي تراثنا ونحافظ على قرآننا العظيم وندافع عن هويتنا ،ونندفع نحو المستقبل بقوة ونعبّر عن ذواتنا بمصداقية
مع األشقاء العرب ،إضافة إىل أنها صلة الوصل بينه وبني الذاكرة املاضوية التي تتضمن تراثاً عبقرياً مفع ًام بالدرر والجواهر واملكنونات التي ال تصدأ عرب العصور والدهور. عندما نثق بهذه اللغة نحمي تراثنا ونحافظ عىل قرآننا العظيم وندافع عن هويتنا ،ولهذا فقد دعا الدارسون والباحثون إىل حامية اللغة العربية والحفاظ عليها لتجسري التواصل بني املايض والحارض واالندفاع نحو املستقبل بقوة والتعبري عن الذات مبصداقية تقنع اآلخر وتعرفه إىل اإلبداع العريب وما فيه من عطاء. لقد أخطأ الكثريون عندما ظنوا أن اإلنجليزية أو اللغات األجنبية هي البديل عن العربية وهي لغة الحارض واملستقبل ..والحقيقة تتلخص بأن أبناء العربية أهملوا هذه اللغة ومل يعودوا يهتمون بها كام كان األمر يف سالف العصور بسبب الدعوات الهدامة التي تريد أن تفصل الجيل عن لغته ،ولهذا فإن دعوة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله ،إىل الحرص عىل اللغة العربية والحفاظ عليها هي دعوة سديدة وجاءت
يف مكانها ،وما مبادرات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم ديب إال ترجمة واعية وعميقة وتجسيد كبري لدعوة صاحب السمو رئيس الدولة. وعلينا نحن أبناء العربية أن نسارع إىل وضع منهجيات جديدة واسرتاتيجيات فاعلة للحفاظ عىل لغتنا واالهتامم بها ومنحها حقها الطبيعي ليك نرسخ هويتنا ونحافظ عىل تراثنا وندخل بوابة الحضارة بقوة ،وهذا ال يتحقق إال بدعم املبدعني واملشتغلني عىل اللغة وال يكون إال بوضع الخطط الناجعة لتحقيق هذه األهداف ،وأنا عىل ثقة بأن هذا األمر سيكون من خالل اإلميان بلغة قل مثيلها يف السامت وامليزات والتفرد ،وإن غداً لناظره قريب ...........................................................................................
األجيال كواكب والمدارات فكرتُها الجامعة الهنوف محمد ال ..ال ..ال أوافق عىل «القطيعة» بوصفها حاجزاً أو سوراً عالياً بني األجيال الشعرية يف اإلمارات ،لنس َت ِعض عن ذلك بالتوصيف :ابتعاد أو انفصال .كل جيل شعري هو كوكب آخر بح ّد ذاته ،مثة مجموعة من الكواكب لكنها جميعاً تدور
49
تحقيق بدء ًا من تأسيس الدولة حتى اآلن لكل
يف مداراتها الخاصة واملتعددة .املدارات هي اإلطار الجامع بني هذه األجيال جميعاً. لكن مثة انجذاباً ال إراديا بني أبناء الجيل الواحد فهم بدأوا الكتابة والنرش يف املالحق الثقافية معاً ،إذ أن هناك ثالثة أجيال شعرية إماراتية بدءاً من تأسيس الدولة حتى اآلن ولكل من هذه األجيال سامته التي متيزه عن جيل آخر مثلام أن له حساسيته األدبية وذائقته الخاصة يف الكتابة. يختلف الجيل السابق علينا كثرياً ،وكذلك هي الحال بالنسبة للجيل الالحق علينا .التجاذب بني أبناء كل جيل عىل حدة يجعله أكرث نأياً وابتعاداً عن األجيال األخرى .لكن هذه هي طبيعة الحال وليست «قطيعة» ،وإذا كانت هناك «قطيعة» ما فلندع النص هو الذي يحكم ولنأخذ بعني االعتبار وجود
من األجيال الشعرية سماته التي تميزه عـن جيل آخر ،مثلمـا أن له حسـاسـيته األدبية وذائقـته الخاصة فـي الكـتابة
الخطوط املشرتكة بني أبناء كل جيل التي تتعلق بالنضج الفني والفكري وهو أمر مير مبراحل متعددة ومتفاوتة بحكم أن كل جيل يعيش الحياة ومتناقضاتها ومتطلباتها بطريقة مختلفة. ً أرى أنني أكرث ميال إىل أن مسألة النضج هي أمر حاسم يف تحديد مسار كل جيل ،حيث يبدأ كل جيل أشتاتاً وال تكتمل مالمحه إال بنضج أبنائه .النضج هو املسؤول ،وكذلك العمر والتجربة التي خيضت ومامرسة الكتابة
«القطيعة» ..إذ تستر عورة العجز الناقد عيل جعفر العالق
"القطيعة"
بني األجيال ليست حكراً عىل زمن بعينه ،وال عىل زمننا الراهن ،إمنا شهدتها عصور اآلداب كلها عربياً وعاملياً. األجيال الشعرية تتعاقب ولكل جيل الحق يف التجاوز واإلضافة .لكن يف خضم ذلك املسعى إىل التجاوز واإلضافة يحدث عدم التوازن ذاك وتلك «القطيعة» عىل مستوى األجيال. اللب الحقيقي لكل جيل ،فسوف نكتشف أن هناك تضاربات أرى أنه إذا نظرنا إىل ّ وتقاطعات يف الجيل الواحد لكنه يتضخم ويصبح حالة مرضية ،بحيث نجد أن اإللغاء لألجيال الالحقة أو السابقة يأيت من األسامء األقل أهمية التي أضحت عاجزة عن تقديم ما هو جديد وذلك يف سبيل َسترْ عورة العجز الشعري والنضوب الذي أصابها .إن اإلحساس بهذا العجز هو الذي يتسبب بهذه الحالة غري األصيلة. باملقابل ،ميكن العثور ببساطة عىل بعض األسامء من األجيال الجديدة التي يتسم خطابها بنربة التعايل ونزعة قتل األب وتكتفي بذاتها. غري أن السجال اإلبداعي األصيل بني هذه األجيال ،وهو الغائب واملفقود ،أهم من الجانب العدواين الذي بات يسم جزءاً كبرياً من حياتنا الثقافية العربية ،ولعل من بني أبرز مظاهر غياب هذا السجال اإلبداعي اإلعراض عن متابعة اإلصدارات الشعرية من قبل الشعراء أنفسهم ،فقراءة أي منجز جديد من قبل أي شاعر تكاد تنحرص بني أبناء الجيل الواحد ثم البعض من األسامء املهمة واملميزة جداً يف أجيال سابقة أو أخرى الحقة .يعني هذا األمر أننا نعيش اآلن عرصاً ثقافياً شعرياً تزدهر فيه األمية التي ترضب أطنابها رشقاً وغرباً ،حتى أن من الطبيعي أن تجد زميلك الذي يجاورك عىل مقعد يف الجيل نفسه ال يدري مبا أصدرت مؤخراً.
50
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
القطيعة المعرفية بين األجيال الشعرية
غياب النقد الموضوعي طالل سامل يعترب موضوع التواصل بني األجيال الشعرية موضاعاً مه ًام ال ميكن أن نغفله ،خصوصاً أن الحركة الشعرية يف اإلمارات متتد امتداداً منذ املؤسسني األوائل. لكن املطلع عىل الساحة يالحظ عدم وجود مالمح املشهد الشعري اإلمارايت املتكامل بني الفرد واملؤسسة واملتلقي، فأغلب الشعراء يبنون تجاربهم من الجهد الشخيص واالطالع واالحتكاك كام ال نغفل وجود إلغاء لآلخر ال االستفادة من التجارب األخرى يف التيارات الشعرية بشكل عام ،حتى أن الجيل الشعري الحديث يبني تجربته أيضاً عىل الطريقة نفسها التي ك ّرس عربها الشعراء أسامءهم يف الساحة الثقافية اإلماراتية.
أضف إىل ذلك أنه ينبغي أن ال ننىس غياب النقد املوضوعي وغياب اإلعالم الذي يتيح الفرصة لجميع التجارب دون انحياز فردي أيضاً بحيث يكون هذا النقد أو الظهور اإلعالمي للشاعر مبتعدا عن املجاملة وبحيث يكون الهدف األوحد هو بناء مشهد شعري متكامل يتقبل كل التيارات الشعرية التي تتالقح وتتقبل بعضها البعض وتجلس عىل طاولة واحدة يف تذوق الجامل وإبداء الرأي املوضوعي الذي يرثي الكاتب الناشئ ويضيف للكاتب املعروف فض ًال عن وجود آلية أو صالونات أدبية تعزز التواصل االجتامعي بني الشعراء بشكل أكرب حيث أن هذا التواصل اإلنساين يضيف ملحة من التواصل الشعري مع النص و الكتاب املطروح. يف نهاية األمر أريد أن أشري إىل أن عدم وجود روابط إجتامعية بني الشعراء ال يحقق التالقح الفكري الثقايف اإلبداعي الحقيقي الذي قد يطور املشهد ككل ويبني جيال جديدا يتكئ عىل اإلرث الشعري اإلمارايت املمتد إىل التاريخ الشعري العريب املطلع واملتأثر بالحركة الشعرية العاملية
مثة قاعدة ذهبية مفادها« :اقرأ أكرث مام تقول ،وم ّزق أكرث مام تنرش» .مل يعد أحد يعمل وفقاً لهذه القاعدة ،فالكثري من الشعراء العرب يقولون أكرث مام يقرأون إىل ح ّد أن ذواتهم قد تضخمت وأصيبت بإحساس األلوهية التي ال يأيت إليها النقص من أي ماسة إىل فضيلة التواضع والتواصل يف ما بينها ،فهذا جانب ،ويحدث ذلك مع أن األصل يف األشياء هو أن هذه األجيال بحاجة ّ هو الذي يخلق األخذ والعطاء والتحاور األصيل الذي يرثي اإلبداع الشعري. أما عن مستقبل هذه الظاهرة التي تتفىش بال هوادة ،أي «القطيعة» بني األجيال الشعرية العربية ،فالحل ال يأيت بوصايا ،بل هو ذو طابع فردي متاماً ونتاج نضج عقل ووجدان ومخيلة .فأرى أن الثامر ا ُمل ّرة لهذه «القطيعة» تشيع اآلن بسبب حالة االختناق واالزدحام يف املشهد الشعري العريب إجامالً بوصفه نوعاً من عدم املقدرة عىل التعايش االبداعي ،فتنعقد املؤمترات يف حني يتنادى آخرون إىل عقد إلغاء األجيال الالحقة أو السابقة يأتي مؤمتر مضاد تصدر عنه بيانات وتجمعات يف سبيل التعويض عن نص من األسماء األقل أهمية ،التي أضحت مفقود بأسلحة وأدوات من خارج الشعر ذاته .إن أفضل طريقة للدفاع عن القصيدة هو أن ال تخرج هذه القصيدة يف مظاهرة للرد والدفاع عن ذاتها عاجزة عن تقديم ما هو جديد كي تستر ضد أعدائها ،إذ َّأن هذا التظاهر َق َب ٌّ يل يف حني أن الرد دفاعاً عن القصيدة عـورة العـجز الشعري الذي أصابهـا هو كتابة قصيدة جيدة نرصة للشعرْ .أن تكتب شعراً جيداً فأنت تنرص شعراً جيداً. لهذا السبب أشعر أن حركة الشعر العريب تعيش نوعاً من الحركة املت َّوهَ مة ،فليس هناك خروقات جديدة يف الرؤى واألشكال واملضامني ،وحقيقة يشعر املرء باألىس عندما يكون شاعراً حقيقياً من الشام أو العراق غري معروف يف املغرب العريب إال عىل مستوى الدوائر الضيقة ،والعكس صحيح ،ما يشري إىل أم ّية ضاربة الجذور يف حياتنا الثقافية التي بات الشللية وغياب السجال بني األجيال وبني أبناء الجيل الواحد ،أبرز مظاهرها التي تتجىل يف املهرجانات الشعرية واحتكار الدعوات إليها ،وكذلك سيطرتها عىل اإلعالم مرئياً ومكتوباً ،إنها مظاهر راسخة ناجمة عن هذه «القطيعة» الحادثة اآلن وهنا
51
في الشعر
قوة الشعر ونقر الصمت حمدة خميس
ال
أحد يعرف عىل وجه الدقة متى بدأ االنسان قول الشعر ثم كتابته وحفره عىل الرقيامت ،التي حفظت لنا جزءاً من تاريخ الحضارات وسالمل التطور منذ عرص الكهوف اىل العصور الحديثة .ومقولة إن الشعر طفولة العامل تحتمل بعدين: إن اإلنسان قال الشعر منذ بداية اكتامله ككائن إنساين يختلف عن سائر الكائنات ويتفرد بخصائص ال متلكها .وإن الشعر هو طفولة أي إنسان «شاعر» يف أي عرص ومكان .هل يعني ذلك أن الشاعر حني يدخل اللحظة الشعرية فإمنا هو طفل «يلهو بالكلامت» وكأن اللغة هي حبات الرمل التي يبني بها قصور الحلم والخيال .أو هي املاء ينرثه رذاذاً ويضحك مبتهجاً .رمبا هو هذا أو ذاك لكنه الفعل الجميل الذي يهدهدنا يف لحظة التعب ،ويواسينا يف لحظة الفجيعة ،ويغري منظورنا للحياة والعامل عىل غفلة منا. ً ً ً ً هل كان الشعر ترجيعا لحالة الحزن أو الفرح؟ وهل اتخذ ذلك الرتجيع شكال واحدا أم أشكاال عديدة؟ حيث األشكال بعد مل تنشأ والقوالب مل تتشكل وتتسيد لتحدد أمناط القول :هذا شعر وذاك نرث أو رسد .رمبا هو رجع األنني أو الحنني أو البهجة أو التأمل العميق الشارد ،ذلك الذي منح نوعاً من الكالم والتعبري صفة الشعر. ذلك الرجع ،الخفي للوجد واألىس ،والغرابة خارج داللة املنطق ،والخيال خارج سياق املوضوعية واملتعارف .هو ما يجعلنا ننتبه اىل أن هذا القول شعر وليس غريه ،وليس ألنه صيغ بهذا الشكل أوذاك. الخالف حول قوالب الشعر ومعياره ما زال قامئاً ،مرة بسبب اختالف األجيال ،ومرة بسبب اختالف روافد الثقافات والحداثة وانتشار وسائل االتصال التكنولوجي ،ومرة بسبب رصاع القديم واملعارصة .ويف كل مرة ليس مثة حسم وال انتصار لفريق .ويف دوران الطواحني هذه يتوالد الشعراء ويظل الشعر يدل عىل نفسه تحت أي قالب سبك فيه ،فليس كل مقفى هو شعر ،وليس كل منثور أو موزون بتفعيلة هو شعر .وليس كل نرث هو شعر .الشعر حالة غامضة تلف الكائن الشاعر يف حالة غامضة تدل به عليه .إال أن الغموض ليس ارتباك الدالالت وال عشوائيتها وال التباس األفكار والرؤية الشعرية .وليس الغموض سوى إشارة الشاعر اىل القارئ الرتياد عوامله الخفية. الشعر خصوصية غامضة وهي أشد عىل الشاعر منها عىل القارئ ،لذا فأكرث من يحتار يف أمره هم الشعراء أنفسهم يليهم النقاد الذين يفرتضون معرفة هي قيد البحث الدائم .إذ «إن البحث عن حقيقة الشعر» هو باألساس إقرار بوجود مجاهيل كثرية ،كام قال املرحوم عزيز السيد جاسم ،يليهم بعد ذلك علامء النفس واالجتامع باختالف مدارسهم السلوكية والوراثية واالجتامعية.
الشعر ليس بدي ًال عن الفقد
كتب يل صديق شاعر ،يسألني عن حايل ،ويرجو يل أن أكون بخري .قلت له :كيف ال أكون بخري وبني يدي هذه الكنوز« :األوالد والشعر واملستقبل واألمل» فرد عيل إنه لو كان ميلك كل ما أمتلك ملا كتب قصيدة واحدة ،فالشعر لديه «النافذة الوحيدة التي يطل من خاللها عىل العامل »..وقد أيقظ قوله شهيتي للتأمل يف كنه الشعر والشاعر ،ألدرك أن الشعر ،ليس بدي ًال عن 52
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
الفقد ،لكنه اكتناز حضور الشاعر يف الحياة .وليس تعويضاً عام ال منلك ،ألنه امتالك ومملكة .وليس نافذة يف غرفة مغلقة أو كوة يف جدار نرقب منها -محاذرين -أقدام املشاة ..هو انغامر ك َ يل يف لجة الحياة وغوص عميق يف محيطها .وهو نبض الكون والكائنات تلتقطه الحدوس ،ومتتلئ به شغاف القلب ،وشعاب البصرية .وتفيض به الروح يف أعظم وأنبل تجليات الحب .وحتى حني نكتب الحزن واليأس أمنا نبث يف خفاء الكتابة إشارات الفرح واألمل! ً َ امتلكت من مفرداتها ودالالتها، والشاعر ليس مجرد فرد تعرب عن أنينه أو بهجته أو أبصاره ،اللغة ،فاللغة قارصة أبدا مهام ومحايدة وباردة اذا مل تنسج من رصير التجربة الحية املعاشة للشاعر ،الشاعر الذي يرى ما وراء املريئ والظاهر والساكن، ويسمع النشي َد يف النشيج! وألن الشاعر فضاء شاسع طلق يستقبل الضياء من الجهات كلها ،ومن أعامق الروح والقلب والعقل والبصرية ،ويرسل الضياء مرتعاً بنعمة الوجود ،إىل الوجود ،فال جدران تشد عليه حصارها وال سياج يسور رؤاه وأحالمه. أما أن الشعر ال يكتب إال يف حالة الفقد والحزن واليأس ،فإنها مراوغة وخديعة ووهم نتيجة قول سائد ومفاهيم ساكنة .فلو َ لبقي شاعراً :حراً ،طلقاً ،كونياً ،تائقاً ،متشهياً ،ذلك أننا ال نختار أن نكون شعراء بل هو قانون ملك الشاعر كنوز األرض كلهاَ ، الطبيعة يف االنتقاء ،ورس هذا العقل البرشي الغامض .فحني نكتب القول -أي قول – قد نعتقد أننا قد نجعل اإلنسان أرقى، لكننا حني نكتب الشعر نؤمن أننا نجعل الحياة أجمل! وحني نكون كذلك ال يعني – كام يجري التداول – أن للشعر وظيفة، والشاعر موظف يف مؤسسة الثقافة واملثقفني واإلصالح بل يعني متاماً ،أن الشاعر خارج أبداً عىل القوانني واملواضعات ،وسلطة األسالف واملايض والتاريخ والحارض ،ومتحد بأفق جديد دوماً ،يوقظ حدوسه ،ويسترشفه ببصريته. والشعر ليس أداة نعرب بها عام منلك أو ال منلك ،بل هو ليس أداة أص ًال ،ألنه إبداع وخلق وال ينبع من هذا االمتالك أو ذلك الفقد ،بل يتدفق من ذلك النبع الهائل الرثاء ،الهائل القدرة .النبع الذي يضيئنا دوماً ،ويشعلنا حيناً حد االحرتاق لننهض- كالعنقاء -من رمادنا .إنه الطاقة العظيمة للحب أو الروح العظيم «الدندي» بتعبري لوركا .وهذا النبع الهائل الرثاء ميلكه كامل االمتالك كل إنسان وشاعر ،لكن أن يكونه أو ال .هذا هو السؤال /املعضلة الذي هتف به شكسبري عىل لسان هاملت .لكن مثة الكثري يف حياتنا وبنيتنا الثقافية ما يسيج هذه الطاقة ويربك تدفقها. الشعر بعض تنفس الورد ،والشاعرية جدلية فيزيائية بني الطبيعة بعنارصها وكائناتها ،والكائن اإلنساين .ويف هذه الجدلية ينكشف للشاعر رس العنارص وسحرها ،وثراء الكون والحياة.
آراء يف تفسري الشاعرية
حقيقة الشاعرية مل تدرك بعد ومل يستطع علم أن يعرفها إال بوصفها منجزاً تم يف صيغة نص ،لغة شعرية .ذلك أنها كالحياة تدرس متظهراتها لكن ال يدرك رسها .واذا تساءلنا «ما الشاعرية؟» ،كأننا نتساءل «ما الحياة؟» وسوف تتجاوز النظريات الشعرية هذا السؤال لتبحث يف الشعر كمنجز ،كفعل ماض وحارض يف اآلن ذاته. جون كوين يف كتابه اللغة العليا «النظرية الشعرية» يقول« :يعرف الشعر بأنه قوة ثانية للغة ،وطاقة سحر وافتنان» ويف إطار هذا التعريف ستدور النظريات وتتفحص تبعاً لرتكيزها عىل املحتوى والشكل ،لكنها ،تلتقي عىل ملمح أسايس يتمثل يف مقابلة الشعر بالنرث .فالشعر ليس شيئاً آخر غري «النرث مضافاً اىل »...لكن أال يكمن يف الجملة الناقصة هذه ،رس الشعر وغموضه الخاص؟ علم النفس يرى« :أن الشعر لغة مزدوجة لها معنى ظاهري ومعنى خفي .وهو الذي تتم اإلحالة إليه قصدا»ً. النظرية التصويرية ترى أن الشعر لغة متجاوزة للغة ،وإذا فقد هذا التجاوز اختفت الشعرية. 53
في الشعر
فردريك نيتشه يرى «أن الشعر تحريك للخيال بواسطة األلفاظ لذا فإنه أكرث قدرة عىل إدراك الطبيعة اإلنسانية». أما وظيفة الشعر التي فهمت خطأ عىل إنها وعظ وإرشاد وتوجيه اجتامعي فإنها تكمن يف قدرة الشاعرية عىل التحول من معنى تصوري إىل معنى شعوري .وحيث إن اللغة الشعرية ال تخلق شاعريتها إمنا تستعريها من العامل الذي تصفه ،فإنه ميكن إدراك النص الشعري لكن ال ميكن التعبري الكامل عنه. «ماالراميه» يقول« :إن األشياء موجودة ،نحن مل نخلقها .إننا التقطنا فقط خيوط العالقات بينها ،هذه الخيوط هي التي تنسج الشعر ..وتشكل جوقته املوسيقية». الشاعر الفرنيس«فالريي» يتساءل« :عن أي يشء يتحدثون عندما يتحدثون عن الشعر؟ إنهم يعالجون القصيدة كام لو أنها تجزأ إىل خطاب نرثي ،أما الخطاب النرثي فإنهم يعتربون انه ميكن أن يجزأ إىل نصوص صغرية.»!.. هنا ينبغي مالحظة االلتباس الذي ساد مفهوم الشعر عند بعض الشعراء الجدد ،فأغلب النصوص الشعرية تبدو وكأنها تجزيء للخطاب النرثي ،لكن من دون تلك الومضة السحرية الخاصة التي متيز الشعر من النرث.
العالقة بني الشعر واملتلقي
يف التباس مفهوم الحداثة كرث الشعراء وتكدست كتب الشعر حتى بدا ان الشعر ليس سوى قول عادي ومألوف ال يفرتق ،وال يغاير .بل إن أغلبه يفتقر إىل وهج الروح وتألق الخيال ونزق الخروج .والشعر إذا صار هكذا ما الذي يجعلنا نسميه شعراً وليس مقاالً أو حديثاً مسرتسلاً حول فكرة ما؟ سواء ادخل يف تشكيل قديم القالب أو جديد ،يظل من دون ذلك الوهج الغامض الذي يالمس الوجدان ويتامس مع حالة باطنية غامضة يف الشعور والذاكرة عند القارئ/املتلقي. لكن هل للشعر قوة التجدد والتجديد يف زمننا هذا؟ ً هل يستطيع أن «ينقذ حكومات متهاوية ،وجيوشاً ضعيفة ،ومينح صوتا لريح الفضيلة اإلنسانية املحترضة»؟ هذه هي قوة الشعر كام ورد يف «االستهالل العظيم» «كتاب األناشيد الكونفشيوسية» وهو أقدم املوسوعات عن الشعر الصيني ،والنبع الرث للشعرية والفكر الشعري الصيني. يشري الباحث «توين بارنستون»يف كتابه «فن الكتابة» إىل أن نصوص الشاعر الصيني «لو-جي» متثل تحفة أدبية يف األدب العاملي ،وقد ألهمت أجياالً متعاقبة من الشعراء األمريكيني .فالصيغة الشعرية تنتقل من العصور القدمية عىل منت قارب الكلمة ومتنح لكل جيل القدرة عىل صياغة ثقافته الجديدة.. ً هنا علينا مالحظة أن األدب الذي درجنا عىل تسميته «عامليا» نسبة إىل أوروبا وأمريكا فقط ،مل ينغلق عىل تراثه كام نفعل نحن العرب ،بل إن التجديد والحداثة وتيارات األدب املتعاقبة التي استنسخناها بفخر واعتزاز قد تثاقفت ومتازجت بآداب الرشق القديم ،واستمدت من قوة روحها ،قوة التجدد. الشاعر الصيني «لو -جي» يقسم فن الكتابة إىل أربع وعرشين قصيدة معنونة يف فن الكتابة شعراً ونرثاً. يف قصيدته األوىل وعنوانها «الدافع» يقول :يقف الشاعر بني السامء واألرض ويراقب الغموض املظلم... ويف «التأمل» :يف البدء أغلق عيني/ال أسمع شيئاً/عرب الفضاء الداخيل /أبحث يف كل مكان. يف «املسار» :أطلق رساح األشكال املرشقة وانقر عىل الصور يك تسمع كيف تغني. يف «متعة الكتابة» :الكتابة متعة ،لذلك ميتهنها القديسون واملفكرون. يف «األجناس» :الشعر « »chiشبكة مضيئة من العواطف. «املقال» « »fuواضح ومتامسك بوصفه رشحا. «موسيقى الكلامت» :دع إيقاعات مختلفة تستخدم بالتناوب مثل خمسة ألوان يف حالة تناغم. 54
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
«التنقيح» :مسألة حساسة أن تقرر أي فكرة أو كلمة هي األنسب ،اختالف يكاد يكون أوهى من زغب سنبلة!… عن األسلوب املضمر يقول :دون كلمة واحدة يعبرّ عن الجوهر ،دون الحديث عن البؤس يطلع حزن جامح ..األسلوب الجريء يراقب الخلق دون محرمات ..إذا كنت تستخدم فرجاراً لرسم دائرة ،ومسطرة لرسم مربع ،سوف تظل عبداً دامئاً! الشاعر «هوانغ لوزهي» يقول« :إذا تبعت أحدهم سوف تظل دامئاً يف الخلف ..التابو األول يف الكتابة هو أن متيش خلف اآلخرين».. * يهبط اإللهام عند الحد الفاصل بني العمل والكسل. * ليك تؤلف تحتاج إىل تنوير. * ال ميكن فرض الشعر فهو يباغتك عندما يتضافر املزاج والزمان واملكان. * ملاذا تبذل قصارى جهدك عندما تكتب قصائدك؟ * حتى يكون األسلوب بسيطاً وطبيعياً أتقن أوالً األناقة ومن ثم ابحث عن األسلوب البسيط ..الشعراء يعرفون بأن البساطة صعبة. ً ً * أولئك الذين يبذلون جهدا مفرطا ال يتقنون. * رس الكتابة يكمن يف القراءة أكرث والكتابة أكرث. * يف كل سطر يجب أن تكون هناك كلمة مفصلية لها فعل عقار سحري أو ملسة «ميدوزا» ليك تحرك البيت الشعري.. سؤال :ما الفرق بني الشعر والنرث؟ جواب :الكتابة مثل األرز ،عندما تكتب نرثاً ،أنت تطبخ األرز ،عندما تكتب الشعر فأنت تحول األرز إىل نبيذ .طهو األرز ال يغري شيئاً من شكله ،لكن تحويله إىل نبيذ يغري شكله وخصائصه .األرز املطبوخ يجعل املرء شبعاً ،أما النبيذ فإن أثره وبكل رفعة، يقع خارج الرشح!
الشعر مترد عىل السائد
حين نكتب السرد نعتقد أننا نجعل اإلنسان أرقى وحين نكتب الشعر نؤمن إننا نجعل الحياة أجمل!
يف محاواليت األوىل لكتابة الشعر ،حدث أن كنت يف زيارة لجريدة األضواء يف البحرين ،وكان الشاعر إبراهيم العريض جالساً يتبادل الحديث مع القاص محمد املاجد ،فقدمني محمد إىل الشاعر الكبري ،وناوله قصيديت األوىل «شظايا» .قرأها بتمعن ،وابتسم يل وقال :بداية جيدة ..لكن أنصحك بأمرين :أوالً اقرتح تغيري كلمة قدمي بساقي ،يف هذا الشطر «ويف قدمي أصفاد القيود» ألن لفظة الساق أقرب إىل األنوثة.. وضحك مازحاً ..ثم وبقناعة شاعر كالسييك ،قال« :وحتى تتمكني من الشعر احفظي غيباً خمسامئة بيت ،من الشعر العريب القديم». وللحق ،مل أفعل ،ال هذا وذاك .ومع ذلك كتبت 15ديوانا!ً لكن قبل وبعد كل ما قلت ويقال لالنصات اىل الشاعر الفرنيس «بينو» الذي وضع وصفة دقيقة ،ملن يريد أن يكون شاعراً عىل حد قوله: اعترب الكلمة أساساً .وعىل النار ضع الكلمة. خذ نتفة من الحكمة .ومن السذاجة قطعة كبرية. بعض النجوم ..بعض الفلفل .من القلب الخافق قطعة. وعىل موقد املقدرة ،اغل مرة .ثم مرتني ..ثم مرات كثرية ..كثرية جداً اآلن اكتب ..ولكن يف البداية ،عليك رغم كل يشء أن تولد شاعراً!!
55
في الشعر
من قصيدة الخطاب إلى قصيدة المشهد يوسف عبد العزيز
شهدت
القصيدة العربية خالل العقود الثالثة املاضية ،مجموعة كبرية من التّح ّوالت التي طالت بنيتها وموضوعاتها .حتى سبعين ّيات القرن العرشين كانت تلك القصيدة مشغولة بالقضايا الكربى ،وعىل رأسها الساخنة ،وكانت القصيدة القضية الفلسطينية .كان الشعر العريب هو املرسح الذي تتح ّرك عليه األحداث التّاريخية والوقائع ّ املبارشة الحامسية هي ّ املفضلة لدى الجامهري التي راحت تص ّفق لها طوي ًال يف املهرجانات ومتتدح دورها .كانت تلك الجامهري ً تم املح َبطة تع ّلق آماالً كبرية عىل الشعر باعتباره ملجأ ومن ِقذاً .يف بداية الثامنين ّيات ،وتحديداً يف العام ،1982وهو العام الذي ّ فيه حصار واحتالل بريوت «عاصمة الثقافة وال ّثورة العربية معاً» ،خاب أمل تلك الجامهري ّ بالشعر ،الذي مل يفلح يف ص ّد الغزاة. يف مطلع األلفية الجديدة أيضاً ،ويف العام 2003جرى رضب العراق واحتالله .وكان هذا اّ مم فاقم األزمة بني ّ الشعر وجامهريه، التي تركته هذه امل ّرة ،وراحت تبحث لها عن منقذين آخرين. ّ «فك االرتباط» هذا الذي وقع بني ّ الشعر وجمهوره ،ربمّ ا يكون هو املح ّرك ال ّرئيس الذي دفع باألجيال الجديدة إىل املغامرة والتّجريب ،األمر الذي أدّى إىل ظهور نصوص جديدة مغايرة ومتن ّوعة ،وذات حساس ّية مختلفة اّ عم كان سائداً يف املايض. يف ّ ظل هذه املناخات حدثت النّقلة التّالية لقصيدة النّرث العربية ،التي شهدت امتداداً عظي ًام لها ،ليس فقط يف املراكز الثقافية الخاصة وجمهورها ومم ّثلوها الجدد من ّ الشعراء. املعروفة ،وإنمّ ا يف األطراف أيضاً ،بحيث بات لهذه القصيدة منابرها ّ الشعر ،أضافت للكتابة ّ هذه ال ّرياح الجديدة التي ه ّبت عىل ّ الشعرية أبعاداً جديدة ،كام دخلت بها يف مناطق جديدة مل تكن ّ ّ ّ تم إنجازها ،فقد ظلت هناك «تقاليد متوا َرثة» تتحكم يف بنية معروفة من قبل .لكن ،وعىل ال ّرغم من كل تلك اإلضافات التي ّ الخاصة لفهم ّ الشعر ،والنّظرة السياق ّ أحب أن أشري إىل الطبيعة ّ القصيدة ،وتتسبب لها مبزيد من االنزالقات واملط ّبات .يف هذا ّ املتدا َولة إىل وظيفته لدى ّ كل من الشاعر والقارئ العرب ّيني عىل ح ٍّد سواء .لقد بقيت القصيدة العربية يف الكثري من مناذجها نصه ّ ظل مشغوالً برسالة القصيدة ،أو مبا يريد أن يوص َله عرب القصيدة، املقدّمة واقع ًة تحت إسار الخطاب ،فالشاعر وهو يكتب ّ النص ّ الشعري الكثري من الجفاف. وذلك أكرث من انشغاله بكيف ّية هذا اإليصال من خالل الفن .ونتيج ًة لهذه النظرة فقد اعرتى ّ ترسبت إىل هذه القصيدة املشاكل والهنات التي عانت منها لقد وقعت قصيدة النرث مث ًال يف املط ّبات التي ح ّذرت منها! وقد ّ السياق ميكن اعتبار الكثري من النامذج املطروحة من قبل شعراء قصيدة النرث ،عىل قصيدة الوزن الشعري فيام مىض .ويف هذا ّ اللهم أ ّنها خالية من الوزن ّ الشعري! أ ّنها مناذج من قصيدة التفعيلةّ ، ّ ما ميكن أن نقوله هنا ّأن مسألة «الخطاب» ،ظلت هي ال ّثابت األكرب يف مراحل التّط ّور الشعرية التي شهدها الشعر العريب، الشعر الحديث ،أو ما ُ سواء من خالل ثورة ّ اصط ِلح عىل تسميته بقصيدة التفعيلة التي ظهرت يف نهاية أربعين ّيات القرن ّ تم تكريسها يف نهاية الخمسين ّيات .مناذج كثرية تقرأها من الشكلني املايض ،أو من خالل ظهور قصيدة النّرث العربية ،التي ّ السابقني ،فال تجد بني يديك سوى عبارات تتناسل من بعضها البعض ،وبالقليل من املجاز ،لتفصح يف آخر األمر عن رسالة ّ محدّدة يريد ّ الشاعر أن يوصلها إىل القارئ.
56
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
مشكلة الخطاب هذه ربمّ ا تكون املأزق األخطر عىل اإلطالق الذي يواجه ّ الشعر .وهي مشكلة قدمية ،وربمّ ا يكون لها اشتباكات متأصلة يف الثقافة العربيةّ ، ولعل هذه املشكلة نشأت تاريخ ّياً من خالل تداخل مفهوم الشعر مبفهوم الخطابة .يف وظالل ّ ً الخطبة يلجأ الخطيب عادة إىل شحذ صوته ،وإىل اختيار الجمل املسجوعة ال ّرنانة التي تلهب حامس الجمهور .الجمل التي يختارها الخطيب أيضاً ال ب ّد أن تكون مفهومة للحارضينّ ، ألن الغموض هنا يطيح بالخطبة ،ومن أجل أن يحصل الخطيب يف نهاية خطبته عىل تصفيق مد ٍّو ،فليس أمامه سوى أن يرفع وترية صوته ،ويك ّرر العبارات التي تتم ّلق الجمهور .واآلن إذا ما تأ ّملنا «قصيدة الخطاب» ،فسوف نرى الكثري من التّطابق بينها وبني الخطبة ،فهي أي قصيدة الخطاب تقوم عىل األسس التي نص واضح خالٍ من الغموض، تقوم عليها الخطبة .الشاعر هنا يختار العبارات ال ّرنانة نفسها ،ويحرص كل الحرص عىل تقديم ٍّ املهم يف األمر أن ينال الشاعر رضا الجمهور، ويف أحسن األحوال يز ّينه ببعض االستعارات ّ والصور الخفيفة التي ال تشتّت املعنىّ . ويت ّوج نهاية قصيدته بالتّصفيق. اّ مم ساعد عىل تكريس كل هذه األهم ّية للخطاب يف القصيدة ،هو ّأن مفهوم الشعر عند العرب قد ارتبط منذ عصور بعيدة، مبفهوم الثقافة الشاملة لأل ّمة العربية ،مبا فيها من أخبار ووقائع وعادات وتقاليد ،ولذلك فقد قيل قدمياً ّ «الشعر ديوان العرب». ّ «سجل» الحياة العربية ،مبا فيها من أحداث وغزوات ،وكان الشاعر هو النّاطق ال ّرسمي كان الشعر العريب القديم هو كتاب أو ً ّ ّ ّ يترسب إىل النّصوص املعارصة .يتّضح ذلك أكرث ظل ا ر و ، ا متوارث ظل ا ر عر الش لدور باسم القبيلة .مثل هذا الفهم القديم بمّ بمّ ّ ما يتّضح يف النّصوص الشعرية الطويلة ،التي يحشد فيها الشاعر ّ كل يشء .مثل هذا الحشد ال ب ّد أن يحمل طابعاً إخبارياً يف العادة ،ولذلك فال ب ّد أن يصاغ بلغة سهلة ومبارشة. نضيف إىل ذلك ك ّله هو ّأن اصطالح كلمة القصيدة ،يشري بشكل أسايس إىل وضوح الخطاب املتعينّ فيها ،فث ّمة معنى محدّد هنا توجه الشاعر ليقول فكرة معروفة يف الجذر الثاليث َق َصدَ ،أي ّ وواضحة لديه ،ومثل هذا الفهم ربمّ ا ترك منذ البداية أثره يف تعتمد قصيدة المشهد على عدد من النصوص الشعرية املكتوبة ،واستبطن يف ال وعي ّ الشعراء فيام ّ ّ ولعل السينما هي المرجعيّات البصرية. ّ ّ بعد .هذا مع األخذ بعني االعتبار أن الشعر يف جوهره هو ض ّد األهم .وكما كانت الموسيقى المرجعيّة ّ القصد ،فالشاعر يبدأ كتابة قصيدته عن يشء محدد يف ذهنه، أن السينما أ ّم ًا أولى للفنون ،أعتقد ّ ثم ال يلبث أن ترسق أصابعه الكتابة إىل يشء آخر مختلف ّ ستكون أ ّم ًا ثانية متاماً. مقابل قصيدة الخطاب التي تستأثر بغالبية النتاج الشعري الض ّفة األخرى قصيدة املشهد ،التي أعتربها بحقّ الشكل األقرب إىل جوهر ّ العريب – وهذا رأيي – تقف عىل ّ الشعر .مناذج هذا ً ً النّوع من الكتابة الشعرية ميكن أن نراها مبثوثة يف قصائد الترّ اث ،ولكن بشكل قليل ،كأن نرى ّأن الشاعر قد رسم مشهدا ما من خالل بيتني من الشعر أو ثالثة ،وهكذا. يف ّ الشعر العريب الحديث نعرث عىل مم ّثلني لقصيدة املشهد ،أمثال الشعراء سعدي يوسف ،حسب الشيخ جعفر ،يوسف الشعراء ما ميكن أن نعتربه كتابة مغايرة يف ّ الصائغ ،ومحمود درويش .لقد ك ّرس هؤالء ّ الشعر العريب ،معتمدين عىل ّ ضخ ّ الصور املبت َكرة التي تؤ ّلف فيام بينها مشهداً شعر ّياً كل ّياً هو القصيدة. مجموعة من ّ تعتمد قصيدة املشهد عىل عدد من املرجع ّيات البرصية املوجودة يف السينام واملرسح والفن التشكييل والسرّ دّ . ولعل السينام الصعيد .وكام كانت املوسيقى األ ّم األوىل للفنون ،أعتقد ّأن السينام ستكون أ ّماً ثانية ،ففيها ّ كل األهم عىل هذا ّ هي املرجع ّية ّ تلك الغواية البرص ّية التي يحتاجها ّ الشعر
57
في الشعر
قصيدة النثر العربية..مشروع تساؤل محمد العديني
كل
محاولة للتعريف أو الحكم أو التصنيف تتضمن نوعاً من املصادرة ،وتكشف عن رغبة يف النسيان .لكن ،أليست الحياة عموماً والكتابة اإلبداعية بشكل خاص هي فعل من هذا القبيل :اختيار ،انحياز ،تجاوز ،تجربة ،محو وفناء؟ ملحة ،ال مناص لنا من استدراج سلطته ،واستكناه كينونته ،ال مناص لنا من مواجهة تحدياته حني يغدو السؤال رضورة وجودية ّ واشرتاطاته املعرفية والتاريخية .هل حقا أن تاريخ قصيدة النرث هو تاريخ االستعالم عن الشكل وتجنب اإلجابة؟ .هل قصيدة النرث قصيدة فصامية ألنها تنزع للتدمري يف نرثيتها ولالنتظام يف قصد ّيتها؟ هل متثل التعبري الراديكايل لرفض األيديولوجيا؟ هل نحن أمام نوع جديد من الثورة املضادة من الفاشية اللغوية أو السفسطة الشعرية؟ هل ّمثة جدل بيزنطي يتح ّكم بلعبة اللغة يف قصيدة النرث؟ «فتاة حلمت أنها فراشة وحني استيقظت مل تعرف إذا كانت فتاة حلمت أنها فراشة أو أنها فراشة حلمت أنها فتاة» .هل قصيدة النرث قصيدة منذورة– بطبيعتها – لسوء الفهم؟ قصيدة النرث قصيدة تؤرخ للغياب والفقدان واملسكوت عنه ،يف محاولة لالحتجاج الفردي الصامت عىل ليل العامل /القصيدة، والقصيدة /العامل ،والحفر عميقاً يف أقايص الروح وهوامشها املهملة. قصيدة متتلك هوية شعرية متجددة ومفتوحة عىل تساؤلها وقلقها واستبصارها الذايت ،تساؤل يظل دامئاً مرشوعاً .قصيدة تبتني وتكتسب مرشوعيتها من رهانها عىل مستقبلية الكلمة «اللغة» وتحوالتها ،وقدرتها املربكة واملدهشة عىل اخرتاق الواقع وتأويله وخلخلة بناه السائدة واالنفالت من دوغامئية التصنيفات الجاهزة. عندما تكف اللغة عن دورها األدايت االعتيادي ،وتنشق عىل قوانني التامثل ،وتخرج من رشنقة االصطالح والتواضع وسجن املفاهيم ،لتلتحق وتنصهر بأفق اإلبداع ،أفق الشعر وحدوسه الالمتناهية. هذا االنتهاك هو الذي يجعل االستخدام الشعري للغة ممكناً ،ومن دون هذا االنتهاك لن يكون شعر .هذا الدور أو الوظيفة الجاملية لقصيدة النرث العربية ال ميكن أن نبحث عنه خارج التزامن الياكبيس «نسبة إىل عامل اللغة الشكالين ياكبسون»، فقد توافرت عوامل قوية وحاسمة عملت عىل خلق وإيجاد حساسية شعرية جديدة كان أهمها :خروج الشعر العريب من البالطات واختالف رؤيته للغة ووظيفتها الشعرية ،أي رفض املوقف االتباعي التقليدي للشعر بشكليه التاريخي والجاميل - ظهور ترجامت للشعر الغريب ونقده ،إثر اتصال العرب بالثقافة الغربية -املناداة بخلط األجناس األدبية واإلفادة من تداخلها. متثلت اإلرهاصات األوىل لقصيدة النرث العربية يف الحركة الرومانسية لدى املهجريني «جربان خليل جربان – ميخائيل نعيمة – أمني الريحاين» عىل اختالف وتفاوت بينهم من حيث التأثري ،فقد كان جربان أكرثهم اشتغاالً عىل تجديد النص الشعري وخلق لغة جديدة داخل اللغة القدمية. ّ عىل أن املساهمة الكربى واملوجة األهم لقصيدة النرث العربية التي تولت التبشري والتنظري والكتابة جاءت مع حركة مجلة «شعر» ،التي ظهرت نهاية الخمسينيات من القرن املنرصم ،والتي م ّثلها أدونيس ويوسف الخال وأنيس الحاج ومحمد املاغوط وشوقي أبو شقرا 58
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
أيها ّ الشعر
.
ميلود خيزار
نهبت
عيني الثالثة ...لتغطي عىل « ّ رش َك» برسقة روح نار العابر والنرثي من جحيم الحياة ...أخذت عيني لتبرص ما ال يراه سواك يف غابتي البعيدة يف الذات...أيها «الهدهد» األعمى أي سامء تريد بجناحني مهيضني وقلب مكسور؟. الحب عىل فراش عمر بارد .ماذا بوسعك سوى أن «تغنّي» كنهر ها نحن وحدنا ...فلنعرتف كام يعرتف زوجان خائبان بعقم شجرة ّ تتناهبه املنحدرات والبساتني؟ سيقولون عىل موائدهم «كل الفضل للامء» وهم يغمزون األشجار ويربزون سواعدهم املفتولة. ستقول عابرة يف مركبة ملكية يجرها حصان أخرس وأصم «يا لهذا الجميل» ،وقد ترمي إليك بوردة قبلة «هوائية» ،ثم تختفي يف الحقول الزرقاء .أنت لست أكرث من محاولة بائسة إلبعاد هاجسنا املركزي «املوت» كام تفعل بحيلة السرّ د كل «شهرزاد». عت اليوم من أحذية قبل ّ َ كم ملّ َ الذهبي» الشبيه بقفص «التملق» رسقت من عصاف َري وجئت بها يف «كتابك البغي؟ كم خف ّ ّ ألطفال الس ّيد؟ أيها الصوت امللعون يف كورال الحياة الحا ّرة كرقصة تانغو .ستقول يل «الشعر حفل راقص يف مأتم املعنى» ،ولكنك مل تتأثر ألمل األشجار وأنت تشعل سوقها الطرية مل تفكر بخراب األعشاش وال بهجرة الطري من غابة القاموس .ستقول «الخراب الجميل مهنتي». الرنجيس تعال نتحدث عن الجامل .انظر إىل مرآتك «املح ّدبة» .انظر إىل انعكاس الروح املش ّوهة يف بحرية أوهامك الراكدة! أيها ّ قلت يل َ املريضَ ،... جئت لتزعج مملكة «الجواب» هذه ،ولكنك تو ّرطت يف التربير .جلست عىل حجر الهامش املرمريّ .تبيع ٌ الصمت؟ األحالم اللذيذة ملفوفة «بورق التوت» .أ ّية «عورة صوتية أنت» يف نشيد ّ مدجج» من «أصوات» و«أصداء». و«هجني «جاميل» ال الجامل .هذه سلعتي الكاسدة .مزيج من «أصيل يتيم» قل هذا َ ّ أيها «االنكيدو» األبديّ عىل مذبح «الرغبة املقدسة» «ألشخارا» الحياة. صمت عىل عطيش الضرّ ير .نداء أغنية ..أنام بحضنها نوم الحقيقة يف رسير الغيب .كم هبي يف ٍ عواء ال ّريح .مصباح يسيل كال ُمه ال ّذ ّ سنموت يك ننىس؟ وكم سرنافق املوىت إىل أنقاضنا؟ ه ّيا اسبقيني .واسبقي نهري إىل الغاباتّ .مثة ٌ ُ العبثيّ .مثة حفلة وحش ّي ٌة س ُيقيمها ّ ّ ّ امللح اللعنيُ .تذكري خمر ٌة ورقص موجع .هيا اركيض معصوبة العينني مثل الدمع .ال تتل ّفتي فيصيبك ُ ستفك أسرْ َ ال ّروح .موسيقى ٌ َّ صويت إذا خلع الغام ُم قميصه الصويف عند حديقة منبوذة .وتذكري أملي إذا فتح الصباح نوافذ الرشق الحزين ون ّفضت صفصافة فستانها فصحت عصافري األىس وعال النشيدُ . كالحب... أيها الخطاب املنبوذ لريح األسئلة املريرة يف عراء املعنى .أيها املنفي يف برد الكالم البصري .أيها الغامض كالجامل ...الرسيّ ّ ّ املمتع كالقامر ...الشفاف كالفرح العابر...الحارق كالدمع ...الحكيم كاملوت ...هذا هو «العشاء األخري» ،عصتك «عصاك» ،وخذلتك «القراءات» الكفيفة ألنك غريت إيقاع الرقص ،ب ّدلت نداء املياه يف حلق الناي .طمست ذاكرة األخرض بال ّرمل .متاهيت مع الصحراء وهي تزحف كأمساة لتبتلع البحر .دخلت عرس «العبث الكبري» أعزل من خصائص الحجر ،ألنه مل يعد هناك ما يكفي من الشمع لصنع أجنحة لطائر الشوق الجريح .مل يعد هناك الكثري من األرسار لقد عبث الضوء «املذكر األبيض» بكل أثاث البيت.
59
حوار
خاص الشاعر األميركي تشارلز سيميك:
شعـري حياتي رحمـ ُة ِ
والقصيدة أشبه بلعبة بوكر
ّ يحتلها تشارلز سيميك في ال مكانة تضاهي المنزلة الفريدة التي األميركي اليوم ،وال قراءة واحدة ،مهما تعمّ قت، خزانة الشعر ّ
كفيلة بأن تحيط بعوالمه الشعرية ُ الحلميّ ة ،المتداخلة ،العصيّ ة على ّ ّ ال ّنسيان .ليست موضوعة شعره سوى «موضوعة الشعر في زمن الجنون» :أن «يذكر الناس ّ الشاعر ،عنده ،سوى «ميتافيزيقي في ّ بمخيّ لتهم وإنسانيّ تهم»؛ وليس ّ شك الظالم»« .ممّ ا ال ّ
أن «سيميك» هو أكثر شعرائنا العظام أصالة» ،كتب فريد موراتوري ،في اليبراري فيه ّ ً جورنال ،قائال؛ فيما أعلنت لوس أنجيليس تايمز بوك ورلد« :ال يوجد شاعر آخر يكتب،
في أميركا ،بإحساس عظيم من وضوح ّ الصورة» ،مثلما يفعل سيميك.
ّ ّ نثرية ،ونحو شعرية ،وثمانية كتب أصدر سيميك ،لغاية اآلن ،أكثر من ثالثين مجموعة
شعرية مترجمة من لغات ّ ّ عدة.منحته أكاديميّ ة الشعراء األميركيين، ثالث عشرة مجموعة في العام ،2007جائزة واالس ستيفنز ،البالغ قدرها مئة ألف دوالر؛ كما اختاره جيمز
بيلنغتن ،أمين مكتبة الكونغرس ،في العام ذاته ،ليشغل منصب شاعر أميركا الرّ سمي، ً خلفا للشاعر دونالد هوول« .منصب يعادله ،في بريطانيا ،منصب :شاعر البالط»
حوار :تحسين الخطيب
60
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
تشارلز سيميك 61
حوار
مسودة قصيدة للشاعر
نعرف ّأن شعر ّيات /جامل ّيات الجاز «وحتّى ال ْب ُلوزأيضاً» قد طرحت تأثريات /ظالل عميقة ،ليس يف شعرك فحسب ،وإنمّ ا يف املشهد الشعري األمرييك بر ّمته ،منذ تفجرها املب ّكر يف بدايات القرن العرشين :من حركة نهضة ّ هارمل يف العرشين ّيات والثالثين ّيات ،إىل حركة جيل «ال ِب ْييت »Beatيف الخمسين ّيات؛ ومن حركة شعراء مدرسة نيويورك يف الستين ّيات ،إىل املشهد الشعريّ املعارص .ويف مقابلة، أجريت معه يف العام ،1955قال واينت مارساليس ّإن أكرث ثم ع ّرف معنى العنارص جوهر ّية يف الجاز هو «ال ْبلوز»ّ . كلمة «بلوز» ،بقوله« :أعني فلسفتها .متنح موسيقى البلوز العازف نظر ًة غري عاطف ّية عن العامل .البلوز هي موسيقى ال ّراشدين الدنيو ّية ،أ ّول موسيقى راشدين دنيو ّية أوجدتها أمريكا .أنت تتق ّبل املأساة ومتيض قدماًّ .إن لها طبيعة/ البلقان ،والتي كربت عليها ،بتأثريها الرت ّيك والغجريّ ،نوعٌ من خاص ّية ال نهائ ّية»ّ .إن تلك «النظرة غري العاطفية عن الخاص بها ،أغنيات بنغامت ثانو ّية طافحة بالشعر ال ْبلوز ّ العامل» ،التي يتحدّث عنها مارساليس ،تبدو ،بالنسبة إ ّيل، نيّ والرتاجيديا .لقد شعرت باأللفة ،وكأ يف البيت ،وأنا أنصت ميزة أساس ّية يف تكوين قصائدك .وكأ ّنك ،بتلك النزعة غري العاطف ّية وفلسفتها ،تسعى إىل كتابة قصيدة دنيو ّية أبد ّية :إىل ال ْبلوز. أهي تلك «الواقع ّية املتجهّمة» التي تح ّول الرتاجيديا إىلقصيدة تتق ّبل الرتاجيديا« ،تلك «الكآبة ال ّلذيذة»» ،تعيش فيها ،ومتيض قدماً ،كموسيقى الجاز نفسها ،حيث الشاعر «ال نوع من ّ «السعادة القدمية وقد السعادةّ : الشعر الذي هو ّ تح ّولت إىل سعادة جديدة» ...ترشيح الكآبة الذي يفيض إىل ميتلك تاريخاً ،بل نوستالجيا ال تنتهي». «الغرف الج ّوانية» للنّفس؟ مل ّ تتأت نظريت «غري العاطف ّية عن العامل» من اإلنصات إىل ً ّ ّ أجلس متسائ ًال هل ستحمل ني ن «إ . ا أحيان ذلك، تفعل ها ن إ نمّ ُ الكثري من ال ْبلوز فحسب ،وإ ا من سقوط القنابل فوق رأيس خالل الحرب العامل ّية الثانية يف بلغراد .كنت يف ال ّثالثة علبة ثقاب ثيايب» ،غنّى باليند ليمون جيفرسن قبل تسعني مرسة ،يف تلك الصورة الح ّية ،وشعر سنة ،واصفاً فقرهّ .مثة ّ السادسة حني تو ّقف. من العمر حني بدأ القصف ،ويف ّ ّ ً عالوة عىل االحتالل النّازي ،كانت الحرب األهل ّية املحتدمة أيضا .ومثة ،يف الجهة األخرى ،مثلام تعلم ،حقائق يف غاية التجهّم لدرجة ّأن استخدام استعارة يف ال ّريف بني 4 - 3فصائل جميلة لوصفها سيكون إهانة .أعتقد مختلفة تتحارب فيام بينها ّأن املرء ،يف مثل حاالت كتلك ،مجرب «وفقاً للمكان الذي تتواجد مـاضية النثر قـصيدة عىل وصف ما هو أمام عينيه بال فيه» واألملان يقومون بالقتل زخرفة أو تزيني ،كام لو كان املرء الخاصة .حني عىل طريقتهم ّ في طـريقهـا والجيد كامريا .لديّ تلك الرؤية املزدوجة يف سمعت ال ْبلوز ال ّريف ّية ،قلت يف منهـا سيواصل إبهاج قصائدي :العامل الذي نراه حني نغمض نفيس :ها أناس ال يتظاهرون عيوننا ،والعامل الذي نراه حني نفتحها ّ بأن الحياة رسير من الزّهور. القــــــراء ّ عىل ا ّتساعها .بكلامت أخرى ،تأثري لقد أثرت واقع ّيتهم املتجهّمة عميقاً ّيفّ . املخ ّيلة وتأثري الحقيقة «عىل ح ّد بالطبع ،كان سواء». للموسيقى يف مكان عييش يف 62
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
الشاعر األميركي تشارلز سيميك
يبدو يل ّأن معظم قصائدك تحيا عىل الحا ّفة— يفالحوايش ،وعميقاً حولها؛ يف الحوايش دامئاً« ،حيث ّ كل يشء يرت ّنح عىل حا ّفة ّ كل يشء» .عىل ذلك الجرس املع ّلق بني الزّمن والتاريخ ،وبني الزّمن واألبد ّية .كام لو تصبح ال ّلغة، يف ح ّد ذاتها ،تلك الحالة الربزخ ّية /املؤ ّقتة ملا ال يوصف أو الصوت يقال .كام لو ّأن القصيدة ،ذاتها ،ليست سوى ذلك ّ الذي يسمعه املرء ،عميقاً يف ال ّليل. هذا وصف رائع لنوع التجربة التي يحظى بها املرء وهو ينصت إىل ذلك النّوع من املوسيقى .ال ّلحن نفسه وكلامت األغن ّية ُتلمح إىل الكثري اّ مم ال ميكن نقله« ،إىل» الذي يراوغ اللغة ويتم ّلص منها ،ولكنّه يشاركنا كينونتنا األعمق .لقد تأ ّثرت ،بذات ّ الطريقة ،وأنا أصغي إىل األغنيات العرب ّية التي ال أفهم كلامتها ،أل ّنني أدرك املشاعر التي ترسي فيها .ومماّ ال ّ شك فيه ّأن عشقي لنوع املوسيقى الذي نتحدّث عنه قد كان ذا أثر بالغ ،ليس عىل شعري فحسب ،وإنمّ ا عىل األفكار رس امللكوت وحيواتنا الفرد ّية. التي أحملها بشأن الله و ّ السابق عن النظرة املزدوجة — من املتخ ّيل ّإن حديثك ّّ والحقيقي — يف قصائدك ،يجعلني أفكر بالعوامل الرسيال ّية ّ التي ما ّ ينفك شعرك يف ب ّثها ،يف ّ كل م ّرة أقرأه فيها :تصادم اليومي مبا هو وراءه. امليثولوجي باملبتذل /العاديّ ،وتصادم ّ ّ لقد قلت ،م ّرة« :حني تغمض عينيك ،فإ ّنك ترى العامل عىل نحو أفضل» .أتتّفق مع هذه النّظرة؟ وإن كان كذلك ،كيف والحقيقي يف صورك الشعر ّية؟ توازن بني الرسيا ّيل ّ كيف أوازن بني مقدار املخيال ومقدار الحقيقة اللذين يتوجب أن يكونا يف القصيدة؟ ال توجد قاعدة محدّدة. ّ ّ ّ يتو ّقف األمر «عىل املرء نفسه» .تالحظ أنني تكلمت عن املخيال وليس عن «السرّ يا ّيل»ّ .إن اعرتايض عىل السوريال ّية األدب ّية نابع من كون تأثرياتها مفتعلة يف الغالب .ال ميكن للتّحليقات الحقيق ّية للمخ ّيلة أن تكون رهن اإلرادة. والصور تقفز يف أذهاننا، املجازات واالستعارات ّ ليس إ ّال .نغمض عيوننا ونسأل أنفسنا كيف يبدو يشء ما ،فتخضع املخ ّيلة وتأيت بيشء امليثولوجي والعاديّ املبتذل ماّ .إن تصادم ّ ً ّ جزء من ذلك .يتوقف ذلك تقريبا عىل الكيف ّية التي نحيا بها. -إذن ،أنت ال تؤمن بالسوريال ّية،
باللوعي ،وفقاً بوصفها «حقيقة مطلقة» :حيث يتّحد الوعي اّ لربيتون ،وإنمّ ا باالستعارات ،وما تحمله الصور «وال ّلقطات الخاطفة» يف داخلها؟ قد تكون نظر ّية بريتون ،التي استوحاها من فرويد، صحيحة ،ولكنها ال تعني شيئاً بالنّسبة إىل شاعر يزاول الكتابة الشعر ّية مثيل .لقد أ ّثرت السوريال ّية يف عديد شعراء ورسامني عظام يف أنحاء العامل عرب تبيان كيف يطلقون ّ العنان ملخ ّيلتهم ،لكنّ أفكارها الفلسف ّية مل تكن ذات أثر دائم .حني كنت يافعاً ،أطلقوا ع ّ يل لقب سوريا ّيل ،رفقة جيمز تييت ومارك سرتاند وراسل إدسن وبضعة شعراء آخرين ،لكننّا مل نكن مهت ّمني بالكتابة عىل ّ الشاكلة التي كتب بها بريتون وإليوار وبريييه قبل نحو خمسني سنة من زماننا .كنّا متأ ّثرين ،عىل نحو عميق ،بأبولينري وماكس جاكوب يف فرنسا ،وبلوركا وألبرييت ونريودا وبا ّييخو يف إسبانيا وأمريكا الجنوب ّية. لربمّ ا تتّفق ،إذن ،مع لوركا حني يقول« :املخ ّيلة مقصورةعىل الحقيقة :ال يستطيع املرء تخ ّيل ما ال هو موجود فع ًال .إ ّنها تحتاج إىل األشياء ،واملشاهد الطبيع ّية ،واألرقام، والكواكب ،وتتط ّلب النّوع األنقى من املنطق لربط تلك
63
حوار
األشياء ببعضها .تح ّوم املخيلة فوق الفكر مثلام يح ّوم العبري -بعد نحو 13سنة من تصويت لويس سمبسون ض ّد منح فوق الزّهرة ،منطلقاً بخ ّفة ولكنّه مربوط ،دامئاً ،باملركز الذي جائزة بوليتز للشعر لقطعات النرث الشعريّ التي ض ّمها كتاب مارك سرتاند ،الن ُّصب ،يفوز كتابك العامل ال ينتهي ال يوصف ألصلها». أ ّتفق مع لوركا ،عدا زعمه ّ بالجائزة يف العام .1990كانت تلك هي امل ّرة األوىل التي بأن املرء ال ميكنه تخ ّيل ما ال يتم فيها منح هذه الجائزة املرموقة لكتاب قصائد نرث. يوجدّ .إن األطفال والبالغني يقومون بذلك النّوع من التخ ُّيل ّ ّ هل تعتقد أن ذلك الفوز قد مهّد الطريق أمام اعرتاف دوماً. «مؤسسا ّيت» أكرث بقصيدة النرث بوصفها نوعاً أدب ّياً يسعى تركت بلغراد وأنت يف الخامسة عرشة .سنة يف باريس،ّ إىل انتهاك الحدود التقليد ّية بني الشعر والنرث؟ وما رأيك ومن َث ّم وصلت إىل نيويورك .يف قصيدتك ،شيليل ،تقول مبستقبل قصيدة النرث يف عامل أد ّيب ما زالت تسيطر عليه «مخاطباً شاعر»أوراق األشجار املنساقة كأشباح /املنساقة كجموع رضبها ّ «الطاعون» :لقد َ طرائق ّ الشعر الح ّر /الشعر يف الشكل املفتوح وجامل ّياتهام قرأتك أ ّوالً /ذات مساء من جهة؛ والدعوات األخرية التي أطلقها ّ الجدد ماطر يف مدينة نيويورك ،بلكنتي السالف ّية الوحش ّية، الشكالن ّيون ُ الشعر ّية التقليد ّية «العودة إىل ّ إلحياء األشكال ّ الشعر «ثم تتحدّث أيضاً عن سقط متاع العامل» ،وعن خوفك ّ املوزون املق ّفى» من جهة أخرى؟ من غرفتك «الصغرية املصمتة /الباردة كقرب إمرباطور اّ كل ،البتّة .ما زال شعر النّرث ُيع ّد خدعة ،فضيحة واستحالة رضيع» .هل لك أن تحدّثنا عن تجربتك يف تلك املدن الكوزموبوليتان ّية؟ وهل تع ّد نفسك ّ منطق ّية من طرف معظم النّقاد والكثري من الشعراء .لكنّني مشا ًء ،ليس فقط أعتقد ،بال ّرغم من ذلكّ ،أن قصائد النرث ستواصل انكتابها، باملعنى البودلرييّ ،وال عىل شاكلة فالرت بنجامني فحسب، ّ وأن الج ّيدة منها ستواصل إبهاج الق ّراء الذين ال يكرتثون وإنمّ ا وفقاً «للنظرة الفلسف ّية» األعمق لطرائق العيش ّ بأن لويس سمبسون قد زعم م ّرة ّأن النرث والشعر طريقتان والتّفكري. اّ كل ّ مختلفتان للكتابة ال ميكن أن تتامزجا معاً. «املشاء» رجل عىل مهله .كنت ،من ناحية أخرى، لقد كتبت قصائد كثرية تندرج ضمن ما يعرف بقصيدةمهاجراً فقرياً ،عاط ًال عن العمل يف الغالب ،أطوف شوارع الشيّ ء ّ «الشوكة؛ امللعقة؛ الحجر» .ويف يوم ّياتك ،املسخ الصغر يف فندق قذر نيويورك أل ّنني عشت يف غرفة بالغة ّ الصاخبني .ما أعني قوله :مل يكن ّمثة يشء يعشق متاهته ،تتحدّث عن قصيدة الشيّ ء بوصفها هاجساً بالسكارى ّ محاط ّ «فلسفي» يتع ّلق بالعيش عىل هذه ّ الشاكلة .تلك القصيدة عن «أخرو ّية الشيّ ء ا ُملطلقة» .هيدغر يتحدّث عن «شيئ ّية ّ مج ّرد نشيد إىل تلك الفرتة من حيايت .مل يخطر ببايل حينئذ ،الشيّ ء» ،و«بأ ّننا لن نستطيع الوصول إىل الشيّ ء ،يف ذاته، وال حتّى اآلنْ ، الصعبة .حتّى يكون فكرنا قد وصل ،أ ّوالً ،إىل الشيّ ء بوصفه شيئاً». بأن ّمثة شيئاً استثنائ ّياً يتع ّلق بحيايت ّ ّ نيّ ّ كيف يستطيع الشاعر ،بفكره ،الوصول يتوجب عليك تذكر أ ّ إىل املطلق يف الشيّ ء ،ما دام الفراغ/ قدمت من بلد نصف الخواء هو ّ كل ما تحمله األشياء عميقاً يف مد ّمر «يوغسالفيا» ،ومن ً أمضي شهورا وسنين دواخلها؟ أورو ّبا فقرية بائسة .أعرف عندما يتحدّث الشاعر عن املطلق فإنهّ ّأن األمور كان ميكن لها أن تكون أسوأ بكثري اّ أحـــيان ًا وأنا أصـــلح يكون أقرب إىل املتص ّوف املتد ّين منه إىل مم الفيلسوف .يعتمد التفكري الشعريّ إن كانت عليه ،فرغم لحظات اإلشفاق عىل ال ّذاتّ ، استطعنا تسميته بذلك بدرجة كبرية عىل فإن والكلمات الصور املخ ّيلة والحدْس أكرث اّ مم يعتمد عىل الشوارع الغن ّية ملدينة ّ نيويورك كانت دوماً مهتم مبا يقوله هيدغر، أنا بع، بالط الفكر. ّد د تتج ّ لكنّني ال أظنّ ّأن «ملقولته تلك» أيّ أثر تعج فيها. بالحشود التي ّ 64
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
الشاعر األميركي تشارلز سيميك
III
S. RES. 304
110TH CONGRESS 1ST SESSION
Congratulating Charles Simic on being named the 15th Poet Laureate of the United States of America by the Library of Congress.
IN THE SENATE OF THE UNITED STATES AUGUST 3, 2007 ;Mr. SUNUNU (for himself and Mr. GREGG) submitted the following resolution which was considered and agreed to
RESOLUTION Congratulating Charles Simic on being named the 15th Poet Laureate of the United States of America by the Library of Congress. Whereas Charles Simic was born in Yugoslavia on May 9, ;1938, and lived through the events of World War II Whereas, in 1954, at age 16 Charles Simic immigrated to the ;United States, and moved to Oak Park, Illinois Whereas Charles Simic served in the United States Army ;from 1961 to 1963 Whereas Charles Simic received a bachelor’s degree from ;New York University in 1966
شهادة تقدير
SR304
E:\BILLS\SR304.ATS
Sfmt 6300
Fmt 6652
Frm 00001
PO 00000
Jkt 059200
05:57 Aug 05, 2007
VerDate Aug 31 2005
bajohnson on PROD1PC77 with BILLS
Whereas Charles Simic has been a United States citizen for 36 years and currently resides in Strafford, New Hamp;shire
عىل الكيف ّية التي أكتب بها قصائدي عن األشياء الجامدة. مل أنظر إليها كمسألة معرف ّية /إبستمولوج ّية وميتافيزق ّية يتوجب ح ّلها ،بل كمحاولة لوصف ما رأيته وما شعرت به. ّ ّ للصويف املتد ّين هو االتحاد مع ولكنّ الهدف األسمى ّاملطلق؟ بىلّ ، بالطبع ،ولكنّ األمر كان كذلك مع الشعراء ال ّرومانتيكيينّ يف إنكلرتا وأملانيا عىل ح ّد سواء ،أو مع شعراء أمريك ّيني من أمثال ويتمن وديكنسن .كانوا يدعون متص ّويف ّ الطبيعة ،زاعمني بوجود لحظات ٍّ تجل حني تع ُرج أوراحنا فوق املظاهر معاين ًة حقيقة أسمى .إ ّننى أؤمن بذلك أيضاً. يف مقالته« ،مديح األحجية :تشارلز سيميك وفنّ جوزيفكورنيل» ،يقول بيوتور فلورجيك إ ّنك قد «أرشت إىل أ ّنك يتم فيها توضيب ال ّلغة تع ّد القصائد بوصفها صناديقَ ّ والصور وال ّرموز ،وإعادة توضيبها ،حتّى ّ تتكشف معانيها ّ ّ تتوسع يف الحديث عن هذا املفهوم: العميقة» .هل لك أن ّ القصيدة بوصفها صندوقاً ،بوصفها أحجية؟ إ ّنها تشبه صندوقاً أكرث من كونها أحجية .إن كنت تكتب فإن شيئاً اّ قصائد قصرية مثيلّ ، مم يصفه فلورجيك يحدث. أجرب نفيس ،حني أق ّرر ّأن القصيدة لن تتجاوز 12 - 10
سطراً ،فأقيض شهوراً ،وسن َ ني أحياناً ،وأنا أصلح الصور والكلامت حتّى تكتسب ذلك املعنى العميق. َميتافيزيقي قلت ،مقتبساً من واالس ستيفنزّ ،إن «الشاعر ّ ّ يف الظالم» .يعلن ستيفنز أن القصيدة «تحتوي العقل ،فال يستطيع الهبوط تحتها ،وال رغبة لديه يف أن يصعد أبعد». فيام تبحث أنت عن «ميتافيزيقا بال ن ْفس أو إله! أهذا ما تريده «ح ّقاً»؟ ». أ ّتفق مع العبارة األوىل ،لكن ليس للثانية أ ّية عالقة مبا أومن مم ال ّ به .اّ شك فيه أ ّننا منتلك ن ْفساً .أ ّما بالنسبة إىل اإلله، فهذا أمر منوط ّ بكل واحد منّا :أن يجده ،أو اّأل يجده .تشري «ميتافيزيقي يف الظالم» إىل عبث ّية حالتنا كأفراد. عبارة ّ ُّ ّ ال َهزْل والظ ْرف وحضور البديهة والتهكم سامت أساس ّية يفبنية مرشوعك الشعريّ .يف «أوقفوا املسخرة» تقولّ : «كل ما روحي وجليل ومج ّرد يع ّد ال َه ْز ّيل رجساً وتجديفاً» ،كام هو ّ ّ ثم تقول ّإن «يتعذر تخ ُّيل نظر ّية هَ زْل مسيح ّية أو فاش ّية»ّ . «ال َهزْلّ ، تتوسع يف كالشعرُ ،منت ِهك /ومح ّرض» .هل لك أن ّ الحديث عن النّزعة «االنتهاك ّية /التّقويض ّية» لل َهزْل؟ السائرة كان أفضل نقد لالتحاد السوفيتي موجود يف النّكات ّ ّ الشيوعي .انتهى األمر بأناس كثريين يف روسيا خالل الحكم ّ 65
حوار
الصدفة» .ويف يف معسكرات العمل القرسيّ «الغوالغ» ج ّراء روايتهم لتلك «ميكن للشعر الغنا ّيئ أن يتأتىّ من عمل ّيات ُّ «الصدفة بوصفها وسيلة يكرس بها النّكات .أ ّما يف الدول املسيح ّية ،فالنّكات حول القساوسة يوم ّياتك تتحدّث عن ّ الصدفة بـ والبابوات تقال منذ قرون .لقد كابد الكتّاب ال َهزْل ّيون ،الذين املرء تداعياته املألوفة» ،وعن فيرتاك الذي وصف ّ قاربوا موضوعات سياس ّية ودين ّية ،املش ّقة يف ّ كل مكان .هذا «الق ّوة الغنائ ّية» .هل يعني ذلك ّأن القصيدة «رمية نرد»، ّ وأن الشاعر يلعب بالنرّ د مع حدوسه «ليقذف نفسه يف هو الفارق ،بالنسبة إ ّيل ،بني البلد الح ّر وما هو غري ذلك. َقلت ،يف «ملحوظات عن الشعر والفلسفة»ّ ،إن «الشاعر املجهول»؟ ليست القصيدة بر ّمتها .بعضها متع ّمد ،محسوب بدقةّ ّ تحت رحمة استعاراته .كل يشء تحت رحمة استعارات الصدفة تلعب دوراً اّ ً ّ ّ مهم أيضاً .لطاملا ة، ق بد ذ ف ومن وموالتهم». الشاعر -حتّى اللغة التي هي س ّيدة الشعراء ولكنّ ُّ قال الشعراء ْ بأن ّمثة أوقات قادتهم فيها ق ّوة ما فقالوا أشياء ويف يوم ّياتك تقول« :حيايت رحمة شعري» .هل ذلك يعني مل يحلموا بقولها البتّة .وحني يتع ّلق األمر ّ بالشعر ،فإ ّنني أثق ّأن «القصيدة محاولة الستعادة ال ّذات وإدراكها« ،محاولة» بالصدفة أكرث من ثقتي بالفكر .إ ّنها أشبه بلعبة بوكر حيث، للتذ ّكر ال ّذايت ،أعجوبة أن تكون «ذاتك» ثانية»؟ ّ ليس متاماً .ال يستطيع املرء ،مثلام تعرف ،أن يشاء استعار ًة أحياناً ،يصيبك ّ الحظ بسهمه فتحصل عىل مجموعة كاملة ،full deckويف أحايني أخرى تحاول جهدك باألوراق التي عظيمة ،أو مجازاً عظي ًام .إ ّنهام عمل مخياالتنا ،وتجلبان يف يديك... معهام طريقة جديدة يف النّظر إىل العامل .االستعارات ّ ّ واملجازات الج ّيدة هي دَهْ شة متاماً .ما هو هذا اليشء الذي -رغم إشارتك املتواصلة إىل أنك شاعر أمرييك ،ورغم تجربتك الحيات ّية الطويلة يف الكتابة باإلنجليز ّية خطر ببايل فجأة؟ يحدّث السالف ّية األ ّمّ ، فإن الكثري املرء نفسه .غالباً ما يجد وليس بلغتك ّ من أعاملك تنهل من ذكريات طفولتك يف املرء نفسه يعشق «تلك أحـب الشـعـراء ّ بلغراد ،كام أن عواملك الشعر ّية هي أقرب االستعارات واملجازات»، إىل العوامل األوروب ّية منها إىل األمريك ّية .يف وال يفهمها ،عىل ح ّد سواء. العرب الكالسيكيين، إحدى قصائدك الرؤيو ّية« ،ال ّريح» ،نقرأ: هذا ما قصدته بأنيّ تحت نفاك». رحمتها. «تلمسيني /تلمسنيَ /الوطنَ الذي ِ ِ وأكن إعجاب ًا عظيم ًا يف ضوء املعنى الذي تثريه هذه القصيدة، بالصدفة ،ولطاملا تؤمن ُّهل تع ّد نفسك شاعراً يف املنفى؟ وصفت نفسك بأ ّنك لدرويش وأدونيس ال أحد يف أورو ّبا يعدّين شاعراً أوروب ّياًّ ، ألن شاعر غنا ّيئ .تقول بأ ّنه
66
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
الشاعر األميركي تشارلز سيميك
معظم األشياء التي أكتب عنها ذات صلة بأمريكا .نعم ،كانت لديّ طفولة مش ّوقة إذ كربت خالل الحرب العامل ّية ال ّثانية يف يوغسالفيا ،لكنّني أعيش هنا منذ ،1954 ومل تتم ّلكني رغبة يف أن أعود إىل أورو ّبا والعيش فيها .هناك ،لن أشعر باأللفة ح ّقاً، كمنفي. لذلك ال أستطيع وصف نفيس ّ يف «املسخ يعشق متاهته» ،تقول:«تتط ّلب الوحش ّية والعنف أخالق ّية جديدة متف ّوفة» ،ولهذا يحتاج رجال الدّولة إىل «املث ّقفني لتقسيم القتلة إىل أخيار وأرشار ،ولتربير أ ّننا نؤذي أولئك النّاس من أجل مصلحتهم» .برأيك ،ما والسلطة شكل العالقة الواجبة بني املث ّقف ّ والقوى املهيمنة؟ وهل تؤمن بوجود ّ املستقل»؟ فإن كان األمر كذلك، «املث ّقف يتوجب عىل املث ّقف فام هو الدّور الذي ّ «الحقيقي» القيام به؟ ّ لطاملا ُوجد املث ّقفون املستق ّلون ،ولكنّهم ق ّلة .قول الحقيقة للسلطة ليس أمراً شائعاً حتّى يف الدول الدميقراط ّية ،ناهيك ّ عن األنظمة االستبداد ّية .أ ّما الدور الذي يقوم به املث ّقفون فهو أمر منوط بهم .يف ّ أحتج فيها عىل يشء قامت كل م ّرة ّ به الواليات املتّحدة ،ال يكون نابعاً من تحقيق ما أظنّه يتوجب عىل املث ّقف القيام به ،بل ّ ألن ضمريي الدور الذي ّ ّ يقلقني وال أستطيع النّوم يف الليل. ولكن ،هل تع ّد القصيدة التي كتبها غونرت غراس« ،ماينبغي أن يقال» ،والتي نرشت ّ مؤخراً ،منتقداً فيها «نفاق الغرب تجاه املرشوع النّووي اإلرسائي ّ يل» ،نوعاً من وخز ّ الضمري فقط ،وأ ّنه كتبها ملج ّرد أ ّنه ال «يستطيع النوم يف ال ّليل»؟ ما قاله غراس صحيح مبا يكفي ،لكنّ الذي كتبه ليس يتوجب عليه كتابة ما قاله نرثاً .أعتقد بأ ّنه قد قصيدة .كان ّ ظنّ أ ّنه سيحصل عىل مزيد من ردود الفعل إن أطلق عليها ومم ال ّ اسم قصيدة ،اّ شك فيه أ ّنه قد نال ما أراد. لقد ترجمت العديد من األعامل الشعر ّية ،من «حدائقالنّار» إليفان الليتش ،و «الصندوق الصغري» لفاسكو بوبا يف
،1970مروراً بـ «بعض نبيذ آخر أو ضياء» أللكسندر ريستوفتش يف ،1989و«بريد ال ّليل» لنوفيكا تادتش يف ،1992وصوالً إىل ترجامتك عن األملان ّية ضمن املختارات من أعامل غونرت غراس التي صدرت يف العام .2004لقد قال روبرت فروست ّإن «الشعر هو ما يضيع يف الترّ جمة» ،فيام قال جوزيف برودسيك إ ّنه «الذي يتح ّقق» فيها .بني ما «يضيع» يف الرتجمة و«ما يتح ّقق فيها» ،هل لك أن تحدّثنا عن تجربتك يف ترجمة ّ الشعر؟ وهل ّمثة دور مارسته تلك الرتجامت عىل صنعة القصيدة لديك؟ وهل تؤمن بالرتجمة بوصفها سريورة ثقاف ّية؟ ليس من قراءة لصيقة للقصيدة أكرث من تلك التي يقوم بها املرتجم .لقد تع ّلمت ،عىل نحو هائل ،من ترجمة عديد الشعراء املختلفني، ومم ال ّ كيف تصنع القصائد .اّ شك فيه ّأن بعض الشعراء الذين ترجمت أعاملهم، كفاسكو بوبا وألكسندر ريستوفيتش ،قد أ ّثروا ّيف حينئذ. ما يفعله املرء يف الرتجمة ،مثلام تعرف ج ّيداً ،ليس ترجمة القصيدة بعينها فحسب ،بل ال ّثقافة التي كتبت بها أيضاً. الصعب من الرتجمة ،الشقّ الذي يخفق املرء هذا هو الشقّ ّ يف تحقيقه أو ينجح. هل أنت ّمطلع عىل ّ الشعر العريبّ؟ أحب الشعراء العرب الكالسيك ّيني ،وأكنّ إعجاباً عظيامً ّ لدرويش وأدونيس. أيّ خصائص جامل ّية /شعر ّية لفتت انتباهك ،بشدّة ،يفشعر محمود درويش؟ لقد قرأت كتبه عند ترجمتها ،ولكنّ قصائده ليست حارضة اآلن يف ذهني متاماً ،لذلك ال أستطيع افرتاض الحديث عن خصائص عمل شاعر عظيم ،واسع النّطاق ،من طرازه هو. تقول« :وحده ّالشعر الذي يستطيع قياس املسافة بني أنفسنا واآلخر» ،هل من كلمة أخرية لهذا «اآلخر» :القارئ العر ّيب الذي يقرؤك اآلن؟ أنا فخور وسعيد ،لقراءة أشعاري يف البالد العرب ّية ،ويف غاية االمتنان ملرتجم أعاميل لجعله ذلك ممكنا 67
نصوص
تشارلز سيميك:
الكلمات التي على طرف اللّسان «أنثولوجيا صغيرة» اختار القصائد وترجمها :تحسين الخطيب
األشياء تحتاجني
يا مدينة الكرايس املعشوقة عىل نحو بائس ،يا خفاف غرف النوم ،ويا املقايل، إليك إنيّ أهرعُ عائداً ِ كل س ّيارة عىل ّ عابراً ّ الطريق السرّ يع، باحثاً عنك بأضواء س ّياريت األمام ّية الساطعة يف ّ الشوارع املعتمة الفارغة. آه يا العدميي ال ّرحمة يا من ال تطيقون االنتظار لل ّذهاب إىل ّ الشاطئ صبيحة الغد، ماذا عن صورة األبيض واألسود ألجدادكم الذين تهجرونهم؟ املؤصصة واملشاجب. والنباتات وماذا عن املرايا ّ الساعة ذات املن ّبه ّ املعطل ،يا قفص العصفور الفارغ، أ ّيتها ّ ويا البيانو الذي مل أعزف عليه قطّ، سأكون نادلكم ال ّليل َة متح ّفزاً لتدوين طلباتكم، وسوف تكونون ضيوف عشايئ الغامضني، ّ كل واحد بحكاية يرويها.
أبد ّيات
اعي أ ّمه ليشاهد عرضاً ما طفل مرفوع بني ذر ّ وذلك الرجل العجوز الذي ينرث فتات الخبز إىل الحامم املحتشد حوله يف الحديقة العموم ّية، أهام ّ الشخص ذاته؟
68
بيت الشعر
-تموز/يوليو 2012/
املرأة العمياء التي قد تعرف اإلجابة تتذ ّكر حي مدينة بأ ّنها رأت سفينة كِبرَ َ ِّ ك ّلها مضاءة يف الليل وتبحر عابرة نافذة مطبخها األطلنطي العاصف املعتم. يف طريقها إىل ّ
موسيقى عابرة
فاجع تاريخنا ومضحك. اقرعوا الطبول الكبرية ،أ ّيها ال ّرفاق! يا فرسان سفر الرؤيا، أيّ بهجة كانت يف ش ّد ذيول خيولكم! فلقد زلزلت األرض. هوت أبراج هائلة. أبراج من مقاعد ما زالت دافئة لها مساند ملكات وملوك، وأبراج من صفائح بول أيضاً، حيث جلس فالسفتنا يف ّكرون. فاغري األفواه وقفنا معجبني بغامءات الخيول وما ارتدى الحوذي من قلنسوات أنيقة ك ّلام نقلوا قاممة املطلق. اقرعوا الطبول الكبرية ،أ ّيها ال ّرفاق! ّمثة امرأة تهرع صارخة، يف ساحة السعادة األبد ّية، تحضن قميصاً ّ ملطخاً بالدّماء.
الشاعر األميركي تشارلز سيميك
حوار إذاعي عىل الهاتف
ُ «كنت محظوظاً لوجود اإلنجيل معي حني اختطفني غرباء الفضاء» .. ُ صحت بال ّراديو، «أمريكا»، ً أنت مستشفى مجانني! ». ا صباح الثانية يف «أحتّى ِ اّ كل ،أتراجع عن ذلك! أنت مالك حجريّ يف املقربة ِ ّ مصغية لإلوزات التي يف السامء عيناك. تعمى ،عند أ ّول ثلجنا، ِ
بعض نوافذ
يف الليل
كانت ال ّريح تع ّد حسا ًء ملن طار النّوم من عيونهم حسا َء «ديك ال ّرياح».
قصاب د ّكان ّ
أحياناً ،وأنا أمتشىّ يف آخر الليل، قصاب مغلق. أتو ّقف أمام د ّكان ّ ّمثة ضوء وحيد يف املخزن السجني نفق هروبه. يشبه الضوء الذي يحفر فيه ّ و ّمثة وزرة تتدلىّ من عىل ّ خطاف: كان الدّم الذي عليها قد ّ لطخها بخريط ِة ات الدّم العظيمة، قا ّر ِ ومحيطات الدّم العظيمة. االنهار العظيمة، ِ و ّمثة سكاكني تلمع كمذابح يف كنيسة معتمة حيث أحرضوا ا ُملقعد واألبله ليتم ّ الشفاء. ّ عظام، و ّمثة وضم خشبي حيث ُكسرّ ت ٌ ّ رمت — ونه ٌر ّ ثم ُج ْ جف حتّى القاع، ّ حيث أطعموين، أسمع صوتاً يف الليل. وحيث عميقاً ُ
يا ح ّفار قبور السامء يا صائد العصافري، ويا بائع أعواد ثقاب الليايل املعتمة — أو كيفام تكون؟ قرب مسطور ككتاب. قاعة رقص مقالٍ وقدور. امي املجهول. موعد ال ّل ِص الغر ُّ مم ّرضة األرق السقيمة. َ وأنت يف األعايل هناك، مرسح راقصة التع ّري املعتم قرب شهيد مقدّس سلخت جلده الشمس الغاربة.
العويل
كام لو ال يش َء نحيا من أجل ِه.. كام لو ال ...يشء. الرأس، يف ضو ٍء يخبو ،منحني َة ِ جلست أ ّمنا ُ تخيط. التامع هلِ ارتعشت يدها؟ عند أ ّول ٍ اك ر ٍ باهت لليل يجي ُء ،كم بال ح ٍ الصوت: ترقدُ األشيا ُء ،اّإل من ذكرى ذلك ّ صوت من أخذته الحيا ُة الجامح ُة بعيداً.. ِ ٌ كانت أوقات من صمت طويلٍ . ساع ُة حائط تك ّلم ساعة حائط أخرى. الكالب مرشئ ّب َة اآلذان ،عىل براثنها تربض ُ 69
نصوص
وأنت ،خائفان من أن نتن ّفس. وأنا ِ ّ ُ أخرياً ،ذهبت تسرتق النّظر .مثة من ّ صيف جريد ٌة. تغطيه عىل ال ّر ِ ال أح َد يف الجوا ِر سواهُّ . الشارعُ خالٍ السام ُء. والغيو ُم الغجر ّية ُّ تعج بها ّ
عقول متط ّوفة
كانت جاريت تحدّثني عن ّ قطتها العمياء التي تذهب يف الليل — إىل أينَ ُ ، سألت؟ حينها ،متاماً ،نادتني أ ّمي امل ّيتة ألغسل يديّ ّ فالعشاء جاهز عىل الطاولة: ّ الفأر الصغري الذي اصطادته القطة.
كلامت متداخلة
مختبئاً ،بشكويك الرشيرة، يف الخزانة وجنتي ثوبان من ثياب نومها المس ّ ُ وقفت مرتعشاً. حني يف الجنازةُ ، ظننت بأن لديّ الكثري ألقوله، بينام ،يف الواقع ،ال يشء لديّ . كنت مج ّرد غراب آخر يتع ّقب حاميل بساط ال ّرحمة. مسكون باألرواح هذا املنزل، رغم ْأن ال أشباح رأيت. ال أحسبنيّ ، بالطبع، وال أحسب أقدامهم العارية يف السرّ ير، َح ُض ْو ٌن يفرد أجنحته السوداء عليها يف ساعات األصيل البطيئة ك ّلام تل ّوت عىل األرض كح ّية عىل طرف عصا.
ّ كل وقد أضاع سبيل الزّمن باب الكنيسة املفتوح متاماً.
70
بيت الشعر
-تموز/يوليو 2012/
عربة املوىت بإطاراتها الجرداء. الجدّة عىل الرصيف تتّكئ عىل ع ّكاز ،مك ّوبة يدها حول أذنها. النّزيل الذي مل يره أحد ّ قط يزيح ماء استحاممها يف األعىل. ويف النّافذة ،يحرس ّ القط األشياء. عجوز يحمل كرس ّياً يف الباحة الخلف ّية وحب ًال طوي ًال كام لو سيشنق نفسه. ّ آ ٍه ،أ ّيتها الكلامت التي عىل طرف اللسان.
رحلة إىل سيثريا
بال ّ شك ،سأذهب إىل جزيرة سيثريا مشياً عىل األقدام، سأه ّيئ بعض مساء من أ ّيار، خفيفاً كريشة، هناك ،حيث اآللهة ،وكام تقول األسطورة، قد نهضت عارية من البحر. سأقفز من فوق سياج الحديقة حيث يتفتّح ال ّليلك وحيث األشجار محمومة بأوراق جديدة. ال ُب ّد وأ ّنها هُ نا ،يف مكان ماَ ، تلك
الشاعر األميركي تشارلز سيميك
األرجوحة التي رأيتها م ّر ًة يف لوحة َ وتلك التي بثوب طويل أبيض، وعينني معصوبتني طريقي أسفل منعطف مس تت ّل ُ َ ُ بني رفاقها املقنّعني الذين بأردية سوداء ،بال أكامم ،يحملون خناجرهم. سأقول لهم ،بعد أن يفرغوا جيويب: «كان مج ّرد حلم ،يا رفاق». وأنت كذلك يا ح ّبي ِ حاملة مشكاة صين ّية هاربة مبحفظة جيبي يف العتمة التي تهبط.
مترين تظليل
قد يدمن الشارع بعضاً من ظالل والصبي َ كذلك ّ الذي ،وحيداً ،يلعب تحت ّ الشمس يندفع وراءه ٌّ ظل كهريرة سوداء. يف غرفة غارقة يف ّ الظالل يجلس أبواه. درج القبو منيس متاماً ّ اّإل من طائف خلسة ،من حني آلخر. ظالل املساء كفرقة مرسح ّيني جوالني بكامل هيئتهم ألداء «هاملت». مختبئني يف األشجار ،يقضون أ ّيامهم خارج املحكمة العجوز. واآلن ،نصل إىل أصعب األدوار: ماذا نفعل بالحجارة التي يف املقربة؟ ال تكرتث ّ الشمس بالكلامت الغامضة، غري أنيّ ،بخالفها ،أفتح بايب وأدخلها.
ْب ُلوز الصباح الثلجي
املرتجم قارئ حميم يرتدي نظارات سميكة ك ّلام حدّق من النافذة صوب اآلجام والحقول الثلج ّية
التي تشبه ورقة ُحجبت بخربشة رسيعة بلغة يعرفها ج ّيداً — دون أن يعرف أ ّياً من كلامتها، فقط ما تدركه العينان، وما يحدسه القلب من طبيعتها املم ِّيزة. اآلن سكون مطبقاً ،وال حتّى حفيف خافت لصفحة ُتقلب يف معجم أبيض بال كلامت ليستفيد املرتجم قبل أن تكرب الكلامت التي هناك، محجوبة ،يف العتمة القادمة.
مخلوقات خراف ّية ومناظر طبيع ّية
َ َ شعرت به ذلك النّفس البارد الذي فوق عنقك، َ وتلك الذراع الطويلة الخارجة من رسداب حانو ّيت، ْ اختطفت ساعة يدك. والتي َ رأيت ريشها يتطاير، ورأيت أجنحة تعتم شوارب الجرذ ما رأيت؟ أ ْم َ ّ َ ثم إنك قد رأيت أذنيك تختفيان ّ يف جيبه. ُق ْ رصت ،مسلوخ ًة بربد، أذنا حارس الكنيسة خيميائ ّيو كر ّيات الغبار تحت الرسير، صانعو نسيج العنكبوت، ومرايا مل ينظر إليها بعد. لسان ،وحده، يف قفص عصفور بقميص محجوب ِ عملٍ لييلّ. ُيردّد ما تقوله الدّقائق،
71
نصوص
وما تقوله ال ّريح الحمراء، خس. والحلزون الزّاحف عىل ورقة ّ وال ّد ُم املتد ّفقُ كنه ٍر الغابات يف ِ َ وأنت تنا ُم. َ أنت ورقة شجر تطفو يف اندفاعات ِه، ُ األبيض َ الزّبدُ أنت اّ والشل ُل، ُ نه ٌر ال يعرف اس َم ُه والبحر الذي يف الليل كبائع ج ّوال لح ّ يل صغرية ورخيصة ُيع ّد منضدته والقمر لحم خنزير الجزّار يعرج ال َك ْر ُش ُ يف قباقيب خشب ّية متع ّكزاً عىل س ّكني وشوكة. يف داخله — ّ كل العامل هادئ كدار سينام معتمة، َ وأنت ،كذلك، بآلة طباعتك الصدئة. كربكة مطر صغرية يف جهنّم، يحلم بك، راغباً ببصقة، وت ّفاحة يف فمك.
جدجد األرق
َ الصغر فوق وساديت. سأصطادك ،بقفص بالغ ّ ستؤنسني، ومن حني آلخر ،تدفئني الصمت. ك ّلام غار ّ لقد قىض أيب ليا َيل يف غرفة اّ الحمم، يف ّكر يف معنى حياته.
72
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
كنّا اعتدنا نسيانه متاماً، لنجده ،يف الصباح ،وقد نام هناك. السقوف آه ،أ ّيتها الجدران املاكرة ،أ ّيتها ّ أ ّيتها املرايا التي يف العتمة، ُ سمعت ساعة جيبه ُتتكتك فوق قربه — لقد ُ رصار الليل؟ أ ْم تراه ّ يف ذات العشب الطويل حيث كان يتش ّكل الخلود متوحدة بقليل يراعات ّ يف ذيول معطف أسود ألحد ما.
يوم االستقالل
خاصة شارع مبستشفيات مجانني ّ ّ لكل مرجة خرضاء، ّ رشاش ماء ومكان شواء يتصاعد ّ دخانه من الساحة الخلفية. وهناك متاماً ،حيث تغرب الشمس شخص ما يف أرجوحة الشجرة، شخص كرب عىل التأرجح، وأن يكون بال ثياب أبداً، بوجه يعلوه األىس،
الشاعر األميركي تشارلز سيميك
ينفخ يف بوق -دمية نغامت عشوائ ّية للعتمة التي تحتشد والغيمة البيضاء الوحيدة يف السامء.
«دكان حالقة» الصرّ صار
ُ سقطت عنه. إىل الغصن الذي
رصصار
حني أرى رصصاراً، ال يتم ّلكني الغضب مثلكم. أتو ّقف ،كام لو أن تح ّية حميمة قد رست بيننا.
املقص، قصات ّ ّ واألصوات، يتع ّذر سامعها أ ّوالً، حتّى عندما أضغط أذ ّين عىل الجدار. اّ الحلق وزبونه يتحدّثان عن املطاعم الصغرية الرخيصة، األز ّقة الخلف ّية يف آخر الليل، والجرذان تقفز من صفائح الزبالة. حينها ،ال يشء آخر.. هل غابا يف الجدار يطوفان فيه، أ ْم ربمّ ا داخل رأيس؟ وأين أيضاً؟ أين أيضا؟ً ْ أجابت إحداهنّ بابتهاج، كان مكان وجودها وشخص ّيتها رساً كبرياً ...ال بل فضيحة. ّ
يحمل أوراقاً مز ّيفة — ال تسألوين كيف ُ أعرف. نعم ،أوراقاً مز ّيفة ببصمة إبهامي املل ّوثة بالدّهن عليها.
مقربة عىل ّ تل
قصيدة الشارع الرابع عرش
دعْ أولئك ال ّراغبني طوي ًال أن يكملوا أحالمهم بقصور سامو ّية ذات حجرات رحبة ورشفات ذهبي، يغمرها ضيا ُء أصيلٍ ّ سأصعد ريح يناير هذه ،ال ّريح الخبيثة التي ال تسمح بوجود أفكار ثانية غري تلك التي تؤ ّكد حضورها بني شواهد القبور هذه ،كثرية األعشاب، وهذا الشجر الخارج من َن ْقر مصاص دماء، ينحني إىل النقطة الفاصلة ثم يستقيم ثانية — من غري سوء، ّ حيث الريح مشغولة يف مكان آخر، أثب قلي ًال ُمرسعاً أدفع برفق أوراق أشجار م ّيتة يك َ ُ
أعرف هذا الرصصار ج ّيداً. لقد التقينا ،هنا وهناك، يف املطبخ ،عند انتصاف الليل، وعىل وساديت اآلن. أراه وشعرتني من شعري األسود تتطاوالن يف رأسه، ومن يدري ماذا أيضاً؟
ْ رصخت ر ّث َة الثياب التي ليست سوى فينوس، الحب، إلهة ّ بال رضسني أماميينّ . كان ّ صف بيوت طويل، أثرياً كان ألنبياء القيامة الع ْمي لعازيف الشوارع ُ وللكالب التي تلعق أقفالها. صور فوتوغراف ّية ألطفال مفقودين ترقبنا ونحن نلتقي ونفرتق: أنا — بانحناءة خفيضة، وهي — بإصبع فوق ّ الشفتني رسنا ليكون ّ 73
شعر وتشكيل
المعايشة الجمالية بين الملفوظ والمبصور يبرز الشعر والتشكيل كحقلين إبداعيين متفاعلين لدرجة يكاد كل منهما ينصهر داخل روح اآلخر ،وذلك بفعل
عالقات االلتقاء والتقارب الكثيرة التي ينهضان عليها ،بل ويقومان على خطاب جمالي -ملفوظ ومرئي -يشتغل
على الرمز واإلشارة واالستعارة والتورية والمجاز
ابراهيم َ الحيْ سن
من أعامل كاندنيسيك
74
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
يعود
تاريخ العالقة بني الشعر والتشكيل إىل ما قبل العرصين اإلغريقي والروماين، حيث ساد التأثري بني األجناس الفنية خصوصاً بني الرسم والشعر ،وأصبح الحديث عن قصيدة اللوحة ،أو لوحة القصيدة أمراً َبدَه ّياً ال وجود ألثر ِّ الشك فيه. ولعل أقدم َن ٍّص يف تاريخ األدب والنقد الغريب ُيربز هذه العالقة الساحرة الغامضة بني الشعر والتصوير ،هو العبارة املنسوبة إىل «سيمونيدس الكيويس» «من جزيرة كيوس يف بالد اليونان ،وعاش من حوايل 556إىل حوايل 468ق. اطقٌ َّ ، م ،».ويقول فيهاَّ : «إن ِّ وإن ال َّر ْس َم ِش ْع ٌر الش ْع َر َر ْس ٌم َن ِ َصا ِمت» ،واملهم يف هذه املقولة ،املتعددة الرشوحات من أعامل الفنان إرنست ويليام َ التامثل Analogie والتأويالت عرب العصور ،هو أنها أ َّكدت القائم بني األجناس اإلبداعية ،وبخاصة بني الشعر والتشكيل ،1991 ،عن ديوانه «الشمس يف غرفة فارغة» ،وهو عبارة ما دفع النقاد يف عرص النهضة «الرونيسانس» إىل قراءتها عن متتاليات نرثية شعرية كتبها انطالقاً من لوحات إدوارد الش ْع ُر َي ُك ُ بشكل مغاير«:كَماَ َي ُك ُ ون ِّ ون ال َّر ْس ُم». هوبر.كام بنى املستقبليون ،Futuristesأيضاً ،الشعر عىل البداية أيضاً ْ كانت مع الشاعر الالتيني ،يف القرن األول قبل دالالت غري لغوية تتجه ناحية الرسم واملوسيقى ،ومل تكتف املسيح ،هوراس صديق فرجيل ،Virgileوجملتهِّ : «الش ْع ُر القصيدة لديهم بالتأثر بهذين الفنني ،وإمنا استفادت من َن ِظ ُري الت َّْص ِوير» .Ut pictura poesisومنذ خمسينيات وسائل فنية كثرية يف النظم والتشكيل .يف سياق ذلك ظهر ما القرن املايض ،شهد تاريخ األدب العاملي نوعاً من الشعر ُسمي بـ«قصيدة الضجيج» (تجريد شعري). ُس ِّمي بالشعر املادي ُ « Poésie concrèteيس ِّميه البعض أما الدادائيون والسورياليون ،فقد عاشوا أخصب الفرتات بالشعر الكونكريتي» ،وبرع فيه شعراء من سويرسا والسويد التي التقت فيها الفنون بعضها ببعض ،إذ نظم الشعر والربازيل .ويف سياق هذه العالقة املزدوجة بني الشعر فنانون مثل :هانز آرب ،وفاسيليل كاندانسيك ،وبابلو والتشكيل ،يربز الشاعر الفرنيس شارل بودلري بيكاسو ،وقد مارس شعراء وأدباء الرسم باملقابل كبول إيلوار Ch. Beaudelaireالذي ارتبط بعالقة وطيدة مع الرسام وأندريه بروتون وجان كوكتو وجاك بريفري؛ وكان كاندانسيك الفرنيس أوجني دوالكراو « E. Delacroixالذي احتل موقع من املتح ِّمسني لصهر الفنون التشكيلية واملوسيقية واألدبية النموذج اإلبداعي يف حياته» ،دون الحديث عن القصائد يف بوتقة واحدة. الشعرية التي نظمها عىل ضوء أعامل تصويرية «سيكون رسام المستقبل القصيدة املرئية: وتشكيلية عديدة ،أبرزها الحقيقي شاعـــر ًا صامت ًا من بالغة األذن إىل بالغة العني املجموعة الشعرية املسماَّ ة «املنارات» .Les phares ال يكتب شــيئ ًا ،وإنَّما يروي تندرج القصيدة املرئية ضمن ما ُيعرف نضيف إىل ذلك تجربة باسم «التشكيل البرصي للشعر» ،وهو بصمـت وبال ربط لوحة كلود استبان «من الشعراء صيغة جديدة وطارئة يف كتابة القصيدة فائقــة وبال حدود» املحدثني» الفائز بجائزة باالستناد إىل اشكال وتوليفات مستعارة فرنسا للثقافة ،يف عام (إيف كالين) 75
شعر وتشكيل
من تجارب أدونيس التشكيلية
عىل ُخطى الجاحظ
من حقول هندسية ورياضية متن ِّوعة ومن فن التختيم الذي طبع الكثري من النصوص الشعرية العربية القدمية. «مفاتيح شعري هي شعري نفسه ،وقصائدي هي الصورة وظهرت القصيدة املرئية منذ ستينات القرن املايض ،ويعود الفوتوغرافية الوحيدة التي ُتشبهني «نزار قباين». أصلها إىل الشعر الكونكريتي Concrete poetryالذي شاع يف مجال الشعر العريب ،رمبا يكون الجاحظ أول من التفت لدى جامعة من شعراء الطليعة يف الغرب .وسامت هذه إىل طبيعة الشعر من حيث هو «رضب من النسيج وجنس القصيدة هي اللعب بالحروف واملقاطع الصوتية ،بحيث من التصوير» ،وهذا ُي َبينِّ أن الشاعر عند الجاحظ صانع، تتك َّون منها تشكيالت مع َّينة يف مساحات تنضم أو تتمدَّد ونساج ومص ِّور .تط َّورت املسألة تدريجياً عند عبد القادر َّ أمام العني .ومن الشعراء البارزين يف القصيدة املرئية نذكر الجرجاين الذي يقارن بني عمل الشاعر وعمل الرسام األمرييك كومنغ ،E. E. Cumingواإلنجليزي بوب كوبنغ التشكييل عىل أساس أن االحتفال واإلبداعية يف التصويرات ،Bob Cobbingواألسكتلندي جورج ماكبث ،G. McBethوالتخ ُّيالت الشعرية تفعل فع ًال مامث ًال مبا يقع يف نفس إضافة إىل الفرنسيني بول إيلوار P. Eluardوماالرميه املشاهد للوحات التشكيلية. Mallarméوغيوم أبولينري ،Guillaume Apollinaire لقد أشار الفارايب إىل العالقة بني الشعر والرسم محدِّداً عندهم وغريهم من الشعراء الذين تتخذ كتابة القصيدة ِّ ويشخص ابن سينا هذه العالقة بالقول: طبيعة كل منهام، أشكاالً متن ِّوعة عىل هيئة حاممة ،شجرة ،حذاء ،إجاصة ،برج «إن الشعراء يجرون مجرى املص ِّور ،فكل واحد منهم إيفيل ،أو شخوص. محاك» ،مؤكداً بأنه عىل املص ِّور يف التجربة العربية ،يمُ كن محاكاة اليشء الواحد بأحد أمور كان كاندنيسكي من االستشهاد بأعامل شعراء ثالثة :إما بأمور موجودة يف الفنون لصهر المتحمسين معارصين أمثال أدونيس وصادق الحقيقة ،وإما بأمور يقال إنها الصائغ يف قصيدته «هذا قرب التشكيلية والموسيقية موجودة وكانت ،وإما بأمور يظن املرحوم» ،وتجربة عبد القادر أنها ستوجد وتظهر. واألدبية فـي بوتقة واحدة «املوت أرناؤوط مع نذير نبعة يف يف التجربة الشعرية العربية طفل أعمى» ،و«بكت املرآة». الحديثةُ ،تشري بعض املراجع إىل 76
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
الملفوظ والمبصور
أن دخول الشعر عىل الرسم بدأ عىل َي ِد أحمد زيك أيب شادي الذي نرش يف مجلة أبولو «بني سبتمرب 1932م وأكتوبر 1934م» مناذج منه وضعها يف باب مستقل سماَّ ه «شعر التصوير» .غري أن أهم تح ُّول يشهده الزواج بني الشعر والرسم يف لبنان ،بدأ منذ عام ،1957أي مع ظهور مجلة شعر التي أسسها يوسف الخال مبعية شعراء الحداثة ،أمثال أنىس الحاج وأدونيس وشوقي أبو شقرا ومحمد املاغوط. ويف وقت متأخر اشتغل الرسام العراقي ضياء العزاوي مع الشاعر محمد بنيس يف «كتاب الحب» إلنجازه رسوم تعبريية ُخ ِّصصت مللحمة جلجامش .أما الشاعرة والرسامة إيتل عدنان فقد عالجت نصوص بدر شاكر السياب ،من خالل إنجاز دفرت مل َّون َض َّم رسومات إيضاحية وموازية ومتخ ِّللة لقصيدة أنشودة املطر .ويف عام ،1967ك َّررت التجربة مع نفس الشاعر حول ديوانه« :املعبد الغريق»، قبل أن تبدع رسومات تعبريية متن ِّوعة يف شعر يوسف الخال وأدونيس والبيايت وجورج شحادة «ترجمة أدونيس»، ورسومات حول قصيدة عن أم كلثوم لعبد اللطيف اللعبي «مجلة أنفاس» .كام أنجزت الناقدة التشكيلية اليمنية آمنة النصريي مع الشاعر اليمني أحمد العوايض كتابا مشرتكا تجاور فيه النص الرسدي والشعري مع التشكيل. ويف التجربة العراقية نذكر خاصية الرسم عند الفنان التشكييل العراقي الراحل شاكر حسن آل سعيد ،وهناك العمل الفني املشرتك الذي َّ دشنه كل من جواد سليم وبلند الحيدري وحسني مردان ،وأيضاً املنجز الجاميل الذي اشرتك يف إبداعه كل من نوري الراوي ومردان والسياب؛ مع اإلشارة إىل ديوان «الوجه اآلخر لتأمالت الخيام يف الوجود والعدم» للشاعر العراقي عبد الوهاب البيايت «رسوم الفنان آدم حنني». ويف نفس االتجاه يربز الشاعر محمود درويش من خالل عالقته اإلبداعية مع التشكييل الفلسطيني الراحل إسامعيل شموط ،وأيضاً الشاعر أدونيس الذي قدم مختاراته الرتاثية ضمن سلسلة «كتاب يف جريدة» مصحوبة برسوم إيضاحية. ويتميز أدونيس بلجوئه إىل أسلوب التغرية والكوالج، وهي أعامل كان عرضها ،عام ،2000يف معهد العامل العريب بباريس مبناسبة بلوغه السبعني ،يف حني أصدر التشكييل السوري الراحل فاتح املدرس ديوان «الزمن اليشء» مع
الفنان جواد سليم
صديقه الشاعر حسني راجي. وأنجزت النحاتة األردنية منى السعودي كتاباً مشرتكاً مع الشاعر الفرنيس ميشيل بوتور وفيه مزاوجة جاملية بني شعر بوتور «ترجمه أدونيس إىل العربية» ومنحوتات منى السعودي .وجمعت الشاعرة اإلماراتية ميسون صقر القاسمي بني اإلبداع الشعري والتصوير .Peintureويف رصيدها عدَّة مجموعات شعرية متن ِّوعة ذات َن َف ٍس تشكييل «هكذا أسمي األشياء ،جريان يف مادة الجسد ،تشكيل األذى..إلخ» ،فض ًال عن الشاعرة والتشكيلية اللبنانية باسمة بطويل التي لها ثالثة دواوين ،هي« :مع الحب حتى املوت»، «مك َّللة بالشوق» و«عربات الصدى»َّ . ودشن الشاعر البحريني قاسم حداد تجربة «أيقظتني الساحرة» واضعاً قصائده مع لوحات الفنانني األردنيني محمد العامري وهيلدا الحياري يف تجانس إبداعي شهد مشاركة املبدع املوسيقي طارق النارص ،وأخرياً قدم الفنان العراقي إحسان الخطيب املقيم يف الشارقة ،رسومات تعبريية أغلبها بالرمادي واألسود، ٌ شعرية ذات نصوص تتصدَّرها املرأة والفرس وتتخ َّل ُلها ٌ موضوعات مستوحاة من الحب والغزل العريب 77
جدل الشعر
موريتانيا الرئيس يهجو الشعراء معن البياري
عرث
رئيس موريتانيا ،الجرنال محمد ولد عبد العزيز ،عىل ٍ واحد من أَسباب «تخلف» بالده ،و«مأساتها» ،بتعبرييْه ،وهو ُ َ ْ َ ِ معرض جوابِه عىل سؤال مجل ٍة فرنسي ٍة له ،قبل أسابيع ،بشأن الوضعِ املتأزّم الراهن يف أَنها «بلد املليون شاعر» ،يف ينقصها املهندسون وأَ ِ ِ التخصصات الفني ِة صحاب موريتانيا ،بسبب البطال ِة واالحتجاجات منذ شهو ٍر فيها ،حيث رأى أَ َّن موريتانيا ُ ُ والحرفية ،فيام ُ الشباب متخصصون يف القانون واآلداب والشعر .ومل يكن لترصي ٍح مثل هذا ،وبهذه السخري ِة الحادّة فيه، آالف ِ أَ ْن مي َّر عىل املوريتانيني ونخبِهم بأَريحية ،فقد واجه ولد عبد العزيز غضباً واسعاً مام قال ،اضط َّره إِىل محاول ِة اسرتضا ِء املثقفني ِ مقصدها ،حني «أُخرجت من سيا ِقها» .وبادر إِىل استقبال أَعضا َء والشعراء ،وجه َر بأَ َّن حزناً أَصابه من تأويل ترصيحاتِه عىل غري بحسب «العربية نت» ،أَنه إِمنا أَراد التأشري إِىل مشكل ِة طغيان التخصصات األَدبية يف اتحاد األُدباء والكتاب املوريتانيني ،وأَبلغهم، ِ ٍ بني حملة الشهادات ،ما يح ُّد من ِ مستويات قياسية. نسب البطال ِة إِىل فرص التشغيل ويرف ُع َ رئيس ِ ونصطف معهم ،يف محاول ِة ِ بلدهم تحميلَهم املسؤولية عن بؤس التخطيط الحكومي العام نتضام ُن مع شعرا ِء موريتانيا، ُّ ِ الحق مع من تصدّوا يفشل يف توفري الذي ُ الكفاءات املحلية يف الصناع ِة والعمرانِ والتقني ِة والطب واملهن الحرفية وغريِها .ومث ّة كل ِّ َ َ َ ميحض شعرا َء موريتانيا التقدير كتب أنه كان عىل األخري أن َ لسخري ِة ولد عبد العزيز ،ومنهم الناقد محمود ولد الخريش الذي َ ِ وتعريب التعليم ،وتو ّجه غالبية الطلبة للتخصص الذي يستحقونه ،ال أَ ْن يعم َد إِىل «تحميلِهم وزر تواضعِ املؤسسات التعليمية، ِ األَديب» .وأَصاب الخريش يف أَنه «كان ممكناً للرئيس أَ ْن يُن ِّبه إِىل رضورة االعتنا ِء بالتخصصات العلمي ِة التي يحتا ُجها سوق العمل، من دون التقليل من ولع املوريتانيني بالشعر واألَدب» .والبادي أَ َّن غضباً مكيناً أَصاب ولد عبد العزيز من حمل ٍة نشطت ض ّده، بسبب قول ِته تلك ،يف الصحاف ِة ومواقع التواصل االجتامعي ،فقد استبعد من استقبالِه وفد اتحاد األُدباء والكتاب مثقفني هاجموه، ومنهم مسؤول اإلعالم يف مكتب االتحاد ،املختار السامل ولد أَحمد سامل ،والذي سخ َر بح ّد ٍة من الرئيس وكالمه .وقد أُفيد بأَ َّن ولد ِ وتخصيص دعمٍ ما ٍّيل مستم ٍر ألنشطته ،ما َّ دل عىل أَنه أَدرك خطرا ً عبد العزيز تع َّه َد يف اللقاء بدعم االتحاد ،وتأْجري مق ٍّر دائمٍ له، بشغف كبري ،س ّيام وأَ َّن حراكاً احتجاجياً عليه ينش ُط يف مظاهر ٍ ٍ ات عىل ما تبقّى له من شعبي ٍة بني املوريتانيني الذين يُقدّرون الشعر تطالب برحيله و«إِسقاط النظام». ُ َ َ شعب تعوزه الكفاءاتُ العلمي ُة يف بعيدا ً من «املسألة املوريتانية» هذه ،وقريباً منها أيضاً ،ليكن السؤال مرشوعاً عام إِذا كان ٌ ُ السؤال عىل هذا النحو مفتعالً بعض اليشء ،فالشع ُر يحتاج إِىل شع ٍر غزي ٍر يف فضائه العام .يبدو الزراعة والصناعة واإلنتاج والتقنية ُ َ ونحسب أَ َّن الشعر يف موريتانيا ،كام يف غريِ ٍ ِ ِ ِ بلد حاجته. عدم و أ ليه إ شعب ة حاج ىل إ ري نش حتى يغيب بآخر، ٍ َ ُ ال يتوافَّر بقرا ٍر وال ُ ٍ منتوج جاميل ،يُعبرِّ ُص ّناعه فيه عن أَشواقٍ عريض وكث ٌري وهناك، َ عريب، ومشاغل جامعية ،وألَنه ٌ وتطلعات ومشاع َر فردي ٍة وهمومٍ ٌ َ َ ف ِإ َّن فحصاً يُدق ُّق فيه سيؤكد بالرضور ِة أ َّن الشعر الجميل منه ليس بالوفر ِة التي قد نظ ّن أو نتوقع ،غري أ َّن حرص التعامل مع وجب هو االحتفا ُء بالحالة ،من دون انرساقٍ إِىل املديح املسأل ِة عىل هذا الصعيد من دون غريه سيكون فعالً نخبوياً وفوقياً .األَ ُ ونرتجل بشأن ِه إِنشائيات تتو َّر ُم فيها ذوات ُنا ،فنصبح أُمة الشعر ،فيام األُمم األُخرى ُ الفائض لها ،والتسليمِ بها مبعثَ زه ٍو ننقط ُع له، ُ ونستغرق يف الحديث إِياه عن األَصالة والتقاليد وروح الشعر فينا ،برطان ٍة ال تزيَّ َد وال شط َط يف القول هنا إِ َّن مجتمعاتِنا بال شعر، ِ االلتفات إىل بديهيّة أَ َّن الشعر ،أَياً كانت مستوياتُ اإلبداع والتجليّ والغنى فيه ،ال العربية يف حاج ٍة كربى إِىل التح ّر ِر منها ،وإِىل َ يجو ُز أَن يص َري مصدر انتشا ِء أُم ٍة تعاين ًعورا ً يف كل يشء ،سيّام يف ضحال ِة حضورِها يف اإلنتاج املعريف والعلمي يف العامل ،وسيّام وأنها ِ استهالك ما ت ُنتجه أَدمغ ُة األُمم املتقدمة ومصانِعها ومعاملِها أُم ٌة منكبة عىل
78
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
فضاءات
للفنان حسن جوين
مقاهي الشــعر في بيروت خروج من مالجئ الحرب النتزاع االعـتراف
شهدت بيروت منذ أواسط التسعينيات من القرن
الماضي ظاهرة القراءات الشعرية في المقاهي ً ً ومكانيا ،وأخرجت زمانيا وقد امتدت هذه الظاهرة
في بعض مراحلها الشعر والشعراء من الكتب إلى
الفضاء العام الليلي والمديني لشارع الحمراء البيروتي .ومرت هذه الظاهرة بأوقات ذهبية
تارة وبكبوات ناتجة عن تدهور األوضاع األمنية
والسياسية تارة أخرى ،وهنا عرض سريع لبدايات
القراءات الشعرية في مقاهي السهر ،وما آلت إليه.
بيروت -فيديل سبيتي
79
فضاءات
يف
أواسط التسعينيات من القرن املنرصم كان خجىل ومن دون تنسيق وتنظيم ،سبباً لدب الحامسة يف مقهى «يش أندريه» الشهري ما زال يستقطب شعراء آخرين لقراءة قصائدهم ،وح ّمست املستنكفني عن املثقفني والشعراء والرسامني والصحافيني .وتعود الكتابة للعودة إىل قرض الشعر ،ثم اتسعت دائرة القراءات شهرة هذا املقهى املنزوي يف مدخل أحد األبنية يف شارع لتشمل كل الساهرين يف املقهى بعدما كانت تدور عىل الحمراء والذي ال يتسع ألكرث من عرشين شخصاً ،اىل أواسط طاولة أو طاولتني فقط ،ثم راحت تستقطب العديد من الستينيات خالل سنوات لبنان الذهبية ،حني كان ال يزال الرواد الجدد محبي الشعر والحرشيني تجاه ما يكتبه يستحق لقب «سويرسا الرشق» وحني كان شارع الحمراء الشباب ممن عايشوا الحرب أطفاالً. يسمى «شانزلزيه الرشق» ،وذاع صيت هذا املقهى بسبب رويداً رويداً راحت هذه السهرات تأخذ شكل التنظيم سهر زياد الرحباين ورفاقه فيه يومياً ،وبعدما زارته داليدا الرسمي ،فأخذ الشاعران يوسف بزي وناظم السيد عىل وشارل أزنافور وجوين هوليداي وكانت تعرج عليه دورياً عاتقهام الدعوة إليها يف يوم محدد يف األسبوع ،عىل أن ملكة جامل الكون جورجينا رزق .بالطبع هذا املجد مل يدعى شاعر أو أكرث للقراءة ويقوم أحدهام بتقدميه .وصار يدم طوي ًال فمنجل الحرب حصد كل األمجاد التي كانت يعلن عن تلك السهرة األسبوعية يف الصفحات الثقافية بريوت تدأب عىل صناعتها وبلورتها .لذا اقترص الرواد بعد للصحف ،وأخذ بعض الشعراء املعروفني يطلبون دعوتهم اىل الحروب اللبنانية املنتهية أوائل التسعينيات ،عىل شعراء ما القراءة بعدما صارت الباحة القريبة من املقهى متتىلء عن سمي بجيل الحرب ومنهم يوسف بزي ويحيى جابر وشارل بكرة أبيها بالساهرين القادمني لالستامع إىل الشعر. شهوان وفادي بوخليل وعيل مطر وفادي الطفييل ،يخالطهم كان الشعر يخرج من مالجئ الحروب اللبنانية وعفنها شعراء الجيل السابق أو جيل ما بعد الرواد بحسب تصنيف ورطوبتها ليعود براقاً متجدداً يف مقهى «يش أندريه» يف األجيال يف بريوت ،ومنهم حسن العبدالله ومحمد العبدالله شارع الحمراء البريويت ،وكانت اللعبة كلها تخرج الشعر وعباس بيضون أحياناً وبول شاوول يف زيارات متقطعة .ثم من كالسيكيته «اإلعالنية» التي تحمل موقعي املجموعات استقطب ذلك املقهى شعراء من جيل ما بعد الحرب أو الشعرية إىل صاالت وزارة الثقافة أو األندية والجمعيات جيل الشباب وكان هؤالء إما قد نرشوا مجموعة واحدة أو البريوتية ،والتي يرتدي فيها الشاعر بذلة أنيقة ليبدو نجامً مل ينرشوا بعد. استعراضياً يف صور املجالت التي تعنى باالجتامعيات .الشعر املقروء يف املقهى والصدى الذي لقيته تلك التجربة كان مبثابة االنقالب عىل القالب الشعري «الحريب» ،من حيث خليط الشعراء الشكل عرب صفة املكان والرواد، كان خليط الشعراء هذا يتواجد ومن حيث املضمون يف نوع يف املقهى الضيق واملعتم ،فراح كــان الشـعر يخرج مـن القصائد املقروءة. الشعراء الشباب ومنهم غسان مالجئ الحرب ورطـوبتـهـا فالشعراء الشباب كانوا قد بدؤوا جواد وناظم السيد ومحمد يكتبون قصيدة مدينية منفعلة بركات ورامي األمني ومازن ليعود براق ًا متجدد ًا فـي بحالة «السلم األهيل» الالحق معروف وكاتب هذه السطور، مقهى «شي أندريه» فـي عىل عقدين من الحروب ،وكانت يقرأون قصائدهم عىل مسمع قصائدهم يف أغلبها قد كتبت يف شـارع الحمراء ،وكانت الشعراء اآلخرين ،إما طلباً شارع الحمراء وعن شارع الحمراء. ملشورة أو بحثاً عن اعرتاف اللعبة كلها تخرج الشعر وقبول يف قبيلة الشعراء أو من كالسيكيته «اإلعالنية» ملجرد التسلية ومتضية الوقت. اتساع التجربة كانت تلك القراءات التي بدأت كربت التجربة واتسعت ومل يعد
80
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
مقاهي الشعر في بيروت
تفصيل :محمد شمس الدين
«يش أندريه» قادراً عىل احتوائها ،فكان من حسن الحظ أن صاحب املحل قد قرر إقفاله ليفتتح مقهى آخر أكرب منه يف وسط شارع الحمراء أيضاً .وهكذا انتقلت القراءات إىل «الريغوستو» ،وكان القرن الواحد والعرشون قد و ّلد سنته جدل بيزنطي األوىل. كان القتدار شبيب األمني مالياً دوراً أساسياً يف تحويل «جدل افتتح الشاعر الشاب سمعان خوام مبعونة النارش وصاحب بيزنطي» إىل مركز القراءات الشعرية يف بريوت بعدما دار «مختارات» جورج فغايل مقهى «ليىل» يف منطقة أضعف األماكن األخرى .فهو قد جه ّز املكان هندسياً مبا ل و الجميزة رشق بريوت ،وكان شارع الجميزة آخذاً بالتح ّ يتناسب مع الجو الثقايف والقراءات الشعرية ،واكتظ «جدل حينها ،من شارع يسكنه العجزة الذين هاجر أوالدهم إىل بيزنطي» بالساهرين من لبنان ومن مختلف أنحاء العامل بالد الله الواسعة ،إىل شارع للسهر من الدرجة األوىل طارت العريب ،وقرأ فيه عدد كبري من الشعراء الشباب الذين كانوا شهرته إىل أنحاء العامل. قد أصدروا املجموعة الشعرية الثانية يف تلك املرحلة ،وقد هكذا راحت القراءات الشعرية التي باتت شبه «مأمسسة» تم االعرتاف بشاعريتهم إما مشافهة أو بواسطة املقاالت تتوزع بني «الريغوستو» و«الليىل» .فدعي شعراء من سوريا التي دبجها «نقاد» الشعر يف ومنهم لقامن ديريك وحازم العظمة الصحف اللبنانية ،وقرأ شعراء من وإبراهيم الجبني وصالح دياب، األجيال املتعاقبة ،بدءا بأدونيس الشـعر المقروء في وشعراء من مرص ومن املغرب وعباس بيضون وحسن ومحمد المقهى والصدى الذي العريب ،واستقطبت تلك القراءات وعصام العبدالله ووديع سعادة مجموعات من املستمعني من لقيته تلك التجربة وشارل شهوان ويوسف بزي وعىل أعامر مختلفة بعضهم مل يكن كان بمثابة االنقالب مطر ويحيى جابر وغسان جواد يستهويه الشعر قبل تلك الظاهرة على القالب الشعري وناظم السيد وغريهم. الجديدة يف بريوت ،ثم راحت ويف تلك املرحلة أسس شعراء «الحربي» ،من حيث تكتب املقاالت والتحقيقات عن سوريون «بيت القصيد» يف دمشق تلك السهرات التي يختلط فيها الشكل عىل شاكلة «جدل بيزنطي»، السهر بالشعر .حتى انفجرت وارتاده عدد من الشعراء اللبنانيني ظاهرة القراءات الشعرية مع افتتاح الشاعر شبيب األمني والرسام محمد شمس الدين مقهى «جدل بيزنطي» يف آخر شارع الحمراء.
81
فضاءات
مقاهي الشعر في بيروت
للقراءة ولالستامع .ثم أقام أصدقاء مرصيون أمسيات الشعراء الذين ينرشون يف هذه املرحلة عىل أن تتم تصفية يف شعرية متنقلة بني املنازل يف القاهرة ،وكذلك األمر «الغث من الثمني» من خالل قراءات املهتمني واملتابعني لها تونس العاصمة ،ثم برز بيت الشعر يف بغداد بعد االستقرار ومن خالل أعامل النقد ،وهذا ما جرى فع ًال ،فبعض الشعراء النسبي لألوضاع األمنية ،وهذا ال يعني أن بريوت كانت عاد وأصدر مجموعات شعرية أخرى خالل سنوات من بدء ولكن السبب األوحد يف نقل العدوى إىل سائر املدن األخرى، كريدية مرشوعها ،أما بعضهم فقد اختفى عن الساحة كأنه بالتأكيد كان لها الدور املبارش واألسايس. مل ينرش أبداً .وكان لدور نرش مثل «مختارات» و«الغاوون» و«الجمل» دورها أيضاً يف رفد سوق الكتاب باملجموعات التدهور الشعرية املزدهرة مبوازاة ازدهار القراءات الشعرية ،وطاملا أدى تدهور األوضاع األمنية والسياسية يف لبنان عىل إثر أن عملية إصدار الكتاب تتم بعقد ضمني بني الشاعر ودار اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري يف العام النرش ،أي أن يو ّقع الكاتب مجموعته يف معرض الكتاب، ،2005إىل تقطع السهرات الشعرية ،ثم جاءت حرب متوز 2006لتقيض عليها متاماً ،وكانت تلك الحرب وقبلها االغتيال فتحصل الدار عىل مثن الطبعة مام يجمعه التوقيع .هكذا قد دمرا البنى التحتية املادية والنفسية للبنانيني وقسمتهم ارتفع عدد موقعي املجموعات الشعرية يف معرض الكتاب إىل فريقني متواجهني .وخالل ثالث سنوات امتدت من العام العريب والدويل يف بريوت ،حتى بات يجري توقيع أكرث من 2006إىل العام ،2009عاد الشعر يف بريوت إىل كبوته، خمس مجموعات شعرية يف اليوم الواحد خالل أيام املعرض وانرصف الناس عنه إىل متابعة نرشات األخبار .ويف سنة التي متتد عىل مدى 15يوماً. سد 2010افتتح الشاعر عيل نصار مقهى «دينمو» الذي لكن هذه الطفرة يف النرش والتواقيع خفتت مع خفوت فراغاً كبرياً ،وصار ينافس مقهى «جدل بيزنطي» بنوعية القراءات الشعرية يف املطاعم واملقاهي ،ورمبا يكون السبب مختلفة من الجمهور. هو التخمة التي أصيب بها «السوق الشعري» ،ورمبا تكون فجأة انتقلت املبادرة إىل أشخاص آخرين بعضهم قادم من تجربة النرش الكثيف قد أستنفدت أهدافها ونتائجها ،ولو أن عامل الشعر وبعضهم من خارجه .فافتتح الشاعر حسن م العبدالله «وهو غري حسن العبدالله صاحب راعي الضباب» القراءات الشعرية يف املقاهي كانت أقل ترضراً ،إذ أن السهر يف املقهى لالستامع إىل الشعر هو فعل سهر أسبوعي ،ميكنه مطعم ومقهى شبابيك ،فحاول استعادة تجربة «جدل أن يندرج يف إطار تقضية الوقت ولقاء األصدقاء ،وال تحتاج بيزنطي» الذي أقفل أبوابه ،فدامت التجربة عدة أشهر القراءات الشعرية فيها إىل كثري متحيص ونقد ،كام هو حال ثم أقفل املطعم بدوره ،وافتتحت إحدى السيدات «سالم القراءة يف كتاب شعري بغية اتخاذ موقف منه سواء كان حمود» مقهى «درابزين» يف أحد شوارع الحمراء الخلفية، واستقبلت فيه عدداً من األمسيات الشعرية وقد دامت إيجاباً أم سلبياً. التجربة أيضاً عدة أشهر قبل أن تتالىش. تجربة مقاهي الشعر يف بريوت والنرش الكثيف يف دور النرش البريوتية تباطأت قلي ًال يف هذه اآلونة ولكن استمرارها دور النرش وتنقلها من مقهى إىل آخر خالل السنوات العرش املاضية اللييل، السهر مقاهي يف الشعرية اءات ر الق طفرة ترافقت ييش بأن هذه الظاهرة لن تختفي نهائياً .وطاملا أن بعض مع ازدهار نرش املجموعات الشعرية لشعراء لبنانيني وعرب، أصحاب املقاهي الجديدة التي اكتظ بها شارع الحمراء و أخذت «دار النهضة» التي تديرها الكاتبة لينا كريدية خالل السنوات األخرية ما زال يعتني بالشعر ويحب عىل عاتقها نرش مجموعات شعرية لشعراء من مختلف استقباله يف مقهاه وطاملا أن توالد الشعراء ال يتوقف إذ الجنسيات ومن أجيال مختلفة ،فأصدرت خالل السنوات يصدر سنويا عدد كبري من الدواوين الجديدة لشعراء جدد، املاضية عدداً كبرياً من املجموعات الشعرية ،بعضها كان فإن قراءة الشعر يف األمسيات الشعرية لن يختفي من يستحق النرش ،وبعضها كان ميكن إعادة النظر فيه ،لكن الحياة الثقافية البريوتية ،عىل األقل يف املدى املنظور املرشوع «النرشي» هذا بدا وكأنه يريد تقديم أغلب 82
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
عمان الفضاء الشعري في ّ بروز مقاهي الشعر مقابل تراجع المؤسسات الرسمية ً ً خاصا في إيصال التجارب الشعرية الجديدة، دورا للشعر في األردن فضاءاته الخاصة ،حيث يلعب المقهى
وقد تعددت في العقد األخير األماكن في عمان ،ولكنها تظل عبارة عن حلقة مغلقة على مجموعات صغيرة
ّ عمان -محمد عريقات
لطاملا
كانت املقاهي من أبرز األمكنة التي ارتبط بها املثقف واملبدع ،وكانت مصدر إلهامه حيث االحتكاك املبارش مع رشيحة اجتامعية واسعة ومختلفة ،يقرأ الوجوه عن قرب ،وينصت إىل صمت مالمحها املتلونة مبأساتها وملهاتها، باإلضافة إىل أنها كانت وال تزال ،فضاء ال منازع له يتحلق حول طاوالته الشعراء والنخب األدبية متجاورة مع الناشئة واملبتدئني إلثارة جداالت ونقاشات ثرية حول قضايا شعرية وثقافية. ومن الفضاءات الشعرية األخرى يف األردن ،تأخذ الصالونات الثقافية أو األدبية ،التي كام عهدناها يف بلدان أخرى من مثل بريوت ودمشق ،حيزاً ثقافياً وفكرياً يرسخ هوية املجتمع وبيئته الثقافية من خالل تعزيز مفهوم النقاش والحوار وتعميم املعرفة وتقويم اإلبداعات وتوجيهها وتبادل اآلراء حولها ،إال أنها ،يف األردن ،وعىل قلة تواجدها وفاعليتها خاصة يف وقتنا الحارض ،متارس نشاطها ضمن دائرة مغلقة تتألف من مجموعة منطوية عىل أفرادها يف اللقاءات ،يتحاورون يف ما بينهم حول ما ينتجونه من أدب وإبداع ،من دون أن يكون لذلك أفق أو فضاء منتج ومؤثر يف محيطهم. يف األردن كان الشاعر واملثقف هو من يعطي للمقهى بعده
الثقايف ،أي أن املكان مل يكن مؤه ًال بن ّية مسبقة ليكون ثقافياً ،فأغلبية املقاهي كانت أمكنة شعبية مفتوحة أمام مختلف الفئات من املجتمع ،وهنا كان املثقفون يجدون فضاءهم الخصب للتواصل الشفاهي املبارش ،ومع ابتعاد املؤسسة الرسمية ،واحتكار مخصصاتها ومنحها لفئة من دون أخرى ،وانسالخها عن دورها يف أن تكون حاضنة للمبدع كان املقهى هو الحل. ولهذه األسباب وتلك ،التفتت منذ بداية هذا العقد مجموعة من املثقفني واملبدعني إىل رضورة تأسيس أماكن مؤهلة الحتضان هذه النخبة أو الفئة من املجتمع ،آخذة بعني االعتبار يف تأثيث صاالتها ومرافقها فضاء املبدع وبيئته وانتامءاته ،عىل سبيل املثال من حيث املوسيقى واألغاين فلم تعد أم كلثوم هي الذائقة الوحيدة التي تتمتع بها املقاهي ،بل استبدلت بأغاين الشيخ إمام ،ومارسيل خليفة، وسميح شقري وغريهم من املغنني امللتزمني بالقضايا الوطنية. كام وزينت جدرانها بصور شعراء وسياسيني وفنانني كان لهم إسهاماتهم يف الحركة العربية اإلبداعية ،إضافة إىل اختيار أثاث يتشابك مع الرتاث وعراقته. ومن هذه املقاهي يف عامن نذكر :ركوة عرب ،محرتف رمال، بيت بلدنا ،حيث إنها من أبرز األمثلة التي ميكننا أن نطلق عليها فضاءات الشعراء واملبدعني يف املدينة ،والتي حققت 83
فضاءات
أمسية يف محرتف رمال
مسؤول النشاطات الثقافية يف مقهى ركوة عرب الكاتب بدائل ك ّرست الفعل الثقايف واإلبداعي اجتامعياً بشتى والباحث يحيى أبو صافية ،يرى "أن أهم ما مييز إنتاج فنونه كالشعر والفن ليصري ارتيادها أسلوب حياة ميارس املؤسسات الثقافية الخاصة هو التنوع الغني يف املنتج كبقية األشياء اليومية .ومن أبرز ما قدمته هذه املقاهي هو الربط بني األجيال الشعرية وإتاحة فرص تالقيها واطالع الثقايف ما يبرش بنهوض نوعي للحراك الثقايف العام يف املدينة ،والذي سينعكس بالرضورة عىل الوعي العام األجيال السابقة عىل تجارب شعراء جدد ،ولعل الجيل الشعري واألديب الجديد ،جيل األلفية الثالثة يف األردن ،كان للمجتمع املحيل ،وطرائق تناوله للمنتج الثقايف من حيث النوع ،والكم ،ويف الوقت الذي تعاين فيه كثري من األكرث انسجاماً مع هذه األماكن ،حيث ال تخلو ليلة من ً ليايل املقاهي التي ذكرت من حلقاتهم ونقاشاتهم مبا يشبه املؤسسات الرسمية واقعا يحف بكثري من املعوقات ،مام يحول يف أغلب األحيان دون تقديم الندوة أو األمسية املفتوحة. خدمة ثقافية متكاملة ومتطورة فـي األردن كان الشاعر تسمح برتسيخ إنتاجها يف الحراك ركوة عرب يعد مقهى «ركوة عرب» من أبرز والمثقف هو من يعطي الثقايف العام". للمقهى بعده الثقـافي ،ويلفت أبو صافية إىل أن هذا ما املقاهي الثقافية التي نشأت يف يحسب عىل الفضاء الشعري ،حيث السنوات العرش األخرية يف عامن، أي أن المكان لم يكن هنالك إشكالية واضحة يف رعاية وتخصصت يف عدة مجاالت ً مسبقة ة ي بن ال مؤه ّ املؤسسات الثقافية الرسمية للحراك ثقافية ،وتنوعت أنشطته األديب يف األردن ،عىل وجه الخصوص وطبيعة الخدمات التي يقدمها ليكون ثقافي ًا ،فأغلبية رعاية وتطوير «املشهد الشعري»، للجمهور ،حيث أسهم بشكلٍ المقاهي كانت أمكنة وهناك تخبط واضح يف سياسات فعال يف دفع الحراك الثقايف شعبية مفتوحة الدولة تجاه التعامل مع الشعر العام يف املدينة.
84
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
عمان مقاهي الشعر في ّ
محرتف رمال
والشعراء .من هنا جاءت املؤسسات الثقافية الخاصة التي أخذت عىل عاتقها رعاية واحتضان ما أخفقت يف رعايته محرتف رمال ،مكان مختلف يف أجوائه ويف ما يتيحه لزائره املقاهي واحتضانه املؤسسات الثقافية الرسمية ،ومنها ظهور عن بقية املقاهي الثقافية ،إذ هو ،ولتعدد مرافقه وحجراته الثقافية يف قلب العاصمة عامن. واهتامماته ،بيت للشعراء والفنانني واألدباء واملثقفني، وحول فلسفة مقهى ركوة عرب يقول أبو صافية« :جاءت وملحبي هذه الفنون التي تجتمع تحت سقفه املشغول فلسفة مقهى ركوة عرب الثقايف معربة ،عن أهمية توفر بالحجر والزهر واللوحات .املحرتف الذي يكاد يكون الوحيد الحاضنة التي تجمع مثقفي املدينة يف مكان يعكس من بني املؤسسات الثقافية الذي يحتضن ويرعى مهرجانني القدمية، من خالل مكوناته املادية واملعنوية روح عامن شعريني شبابيني هام «مهرجان مجاز» و«مهرجان ربيع بشوارعها ومبانيها ومثقفيها وتاريخها الذي تكاد متحوه حلم» الذي يرشف عليه امللتقى األديب يف املحرتف ويربز من طرائق العمران الحداثية ،من هنا حرص القامئون عىل خالله املواهب األدبية الشابة الجديدة. املقهى عىل أن يكون حاضنة ثقافية ملبدعي املدينة، الفنان عزيز أبو غزالة ،صاحب ومدير املحرتف لفت إىل أن املحرتف يسعى إىل تقديم كل ما هو حقيقي ويسهم ومساهم حقيقي يف إثراء املشهد الثقايف سواء عىل صعيد بشكل أو بآخر يف خلق حالة حراك ثقايف وفني يف الوقت الشعر أو القصة أو الرواية أو املوسيقى أو التشكيل أو الذي نشعر فيه بالفراغ من حولنا والذي يخيم عىل الساحة املرسح». وأضاف« :لذلك فالزائر للمقهى يستطيع أن يلمس املختلف الثقافية والفنية. ويشري أبو غزالة إىل أن املبدع بأمس الحاجة إىل رصف ولو الحقيقي يف مكونات املقهى من حيث موقعه وتصميمه بعض االهتامم الجاد من قبل املؤسسات الرسمية عىل الفن الخارجي والداخيل ،الذي ميزج ما بني الروح الشامية والثقافة ،بوصفهام أدوات فاعلة ومؤثرة يف بناء وتوجيه القدمية ،والعبق ال َعماَّ ين الذي يعكسه أبواب وشبابيك البنية الفكرية للمجتمع ،وتأكيداً عىل رضورة االهتامم املقهى ،كذلك فإن املقهى يزدان يومياً برواده حيث إن بالفنان واملبدع القادر عىل إدارة مرشوعه. أغلبهم من مثقفي وفناين وشعراء املدينة ،ويؤلفون فيام ويرى أن املطلوب من الجهات الرسمية أيضاً هو الرتكيز عىل بينهم يف الكثري من األحيان جلسات يغلب عليها الطابع النوع ال عىل الكم ،فليس مه ًام كم نقدم من الدعم املادي الثقايف ،أو جلسات الشعر ،وقراءات القصة أو الفن التشكييل ،وينظم املقهى يف العديد من املناسبات أمسيات عىل أهميته ،بل املهم كيف يقدم هذا الدعم والجدوى منه ثقافية مختلفة مام يعزز من فرص تحقيق املقهى لألهداف يف سبيل االرتقاء مبستوى الفعل الفني والثقايف ،ويصيف: "أعتقد بأنه لغاية اآلن مل تتمكن العامة التي تأسس ألجلها». املؤسسات الرسمية املعنية بالثقافة ويخلص أبو صافية« :إن املشهد في األردن يعيش كثير من من تحديد اسرتاتيجيات ثقافية الثقايف السيام فضاءات الشعر يف الشعراء حالة المكان، فاعلة ومؤثرة يف الحياة الثقافية، املدينة ،يتجه نحو التطور بفضل وكذلك ضبط اآلليات الخاصة وبخاصة الشعراء الجدد، املؤسسات الثقافية الخاصة ،التي أعادت الدماء للحياة الثقافية فيها منهمكين بالتفاعل معه بتطبيقها بشكل دقيق من أجل الخروج بأفضل النتائج ورفع سوية يف سياق تخبط حكومي واضح يف رسم السياسات الثقافية ،مام يؤكد باعتباره عالمهم الشعري العمل الفني والثقايف". ومجالهم الحـيوي ،مما ويختم أبو غزالة قائ ًال« :املحرتف عىل أهمية وجود تلك الكيانات مرشع لكل من اقرتفت يداه حرفاً، شجعهم على تكـوين الثقافية يف تنمية اإلبداع ورعاية أو كلمة ،جملة أو نصاً وصورة، املبدعني». جماعات شعرية متنوعة لتصبح الفكرة مرشوعاً ،فالفكرة 85
فضاءات
عمان مقاهي الشعر في ّ
جانب من مقهى ركوة عرب
املبدعة مل تعد تحتاج إىل رأس واحد لحملها بل تحتاج لرحم واملزاجية املكونة للحالة الشعرية أينام كانت يف مجالها الحيوي الذي يتسع ،فال املقهى وال دور النرش وال املؤسسات حنونة ومهد متأله املحبة ،حتى تكون حل ًام وحقيقة تكرب الرسمية املعنية بالثقافة ،وال حتى الحراك الشعري كله فينا ونكرب فيها». يصنع القصيدة املتألقة. ويرى أبو صبيح "أن من املمكن أن ميتزج الشاعر ونتاجه بيت بلدنا هو رشفة مطلة عىل عامن القدمية ،أسسته فرقة بلدنا التي الشعري مبكونات املكان ،سواء املنرب أو املقهى أو املؤسسة يحمل اسمها وتتكون من الفنان كامل خليل وأرسته ،سعياً الثقافية لتكون جميعها فضاء الشعر ،أو أكرث تحديداً الفضاء املكون للنص ،ويف األردن يعيش كثري من الشعراء حالة منهم اليجاد فضاء أديب وفني متنوع. املكان ،وبخاصة الشعراء الجدد ،منهمكني بالتفاعل معه يؤكد الفنان كامل خليل صاحب ومدير البيت أن الهدف باعتباره عاملهم الشعري ومجالهم الحيوي ،مام شجعهم عىل من تأسيس «بيت بلدنا» هو تحقيق فضاء يجمع الناس تكوين جامعات شعرية وأدبية متنوعة ،تحاول كل مجموعة للقاء والتعارف ،ولعرض املواهب واإلبداعات الفنية والثقافية ،ولكل من أراد أن يغني أو يستمع للغناء األصيل ،إيجاد منربها الخاص". وملن أراد أن يتعلم املوسيقى أو أن يعزفها ،ولعرض اللوحات ويضيف« :عىل املؤسسات واملنابر أن تصنع للمبدعني فضاءهم من حيث النرش والتسويق ،فلدينا شعراء جدد الفنية التشكيلية واالشغال اليدوية وغريها ،وملشاهدة حقيقيني ،تنوعت أساليبهم وأنواع نصوصهم ،ويتفاعلون مع األعامل املرسحية وإقامة األمسيات الشعرية واألدبية. الفضاء الشعري العام». ويشري أبو صبيح "إىل أن أساس التحليق عالياً يف الفضاء رابطة الكتاب األردنيني الشعري يكمن يف القدرة عىل صناعة النص عايل الجامليات، وكان لرابطة الكتاب األردنيني دور يف هذا التحقيق ،من ومن ثم التعامل مع املكان واملنرب واملؤسسة ،فمنابر رابطة خالل رئيس لجنة الشعر فيها الشاعر جميل أبو صبيح، الكتاب األردنيني يف عدد من املحافظات والعاصمة ،مفتوحة الذي يؤكد عىل أن الفضاء الشعري ليس املنرب أو املؤسسة عىل جميع املبدعني بال استثناء" أو املكان الذي ينتج الشعر ويس ِّوقه ،إنه الحالة الشعورية 86
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
حائط أبيض
.
ّ الجراح نوري .............................................................................................................
طريد القلب
حول الشاعر العربي في مكان أوروبي
كلام
قرأت قصيدة لشاعر وجدتني أسافر معها إىل جهة من العامل .ومرات عامل ما وراء العامل .واليوم بعد خربة مع القراء وخربة مع الكتابة يف مكان يقع خارج العربية أرضاً ،ويف قلبها لغة ،وبعد عقود من السفر بعيداً عن البيت األول يف دمشق ،أكاد أخال أن كل كتابة شعرية قامئة عىل التجربة البد أن تكون لها صلة بعيدة الغور باملكان :مرئياته ،أحواله ،حاالته، مميزاته الخاصة ،تحوالته ،ثباته ،من حيث إن الكتابة مرسح يف مرسح يتجىل فيه وجود الكائن. الشاعر ،بداهة ،كائن أريض ،شخصية يومية ،قد تكون لها تطلعاتها وأشواقها املطلقة العابرة لألمكنة ،لكن هذا البد أن يبدأ من موضع ،ويدرج عىل ميل ،ال بد من حائط حتى يعرج الرايئ من عليه ،ويسافر أبعد يف اآلماد التي يستطيع أن يح ّلق فيها. يف التجربة الشعرية الحديثة تنحل العنارص املختلفة ليتشكل منها النسيج الشعري .الرؤى الحديثة تبني تعارضاتها مع الرؤى الكالسيكية لألشياء ،ومن درجات التناقض مع الذات ،من جهة ،ومع املوضوعات واملشاهد واألفكار ،من جهة أخرى ،تتخلق الحواس الشعرية الجديدة يف شعر شاعر وميكننا الوقوف عىل الحس العميق باالغرتاب. لكن النوستالجيا نحو مكان أول ال أثر لها يف قصيدة الشاعر عندما يتحول الوجود إىل كينونة متصلة .إذ ذاك تحتل الغربة الوجودية مساحة الغربة املكانية ،أو تدفنها يف خرباتها دفناً يجعلها كتيمة الصوت يف القصيدة. يف الشعر يتحول االنتامء إىل املكان األول املرتوك إىل انتامء لإلنساين الشاسع يف مواجهة القدر الوجودي لإلنسان .هنا تولد يف اللغة الرغبات العميقة يف حب العامل ،حب االختالف ،من دون أن ينزع هذا الحب العصب األول ،حب املكان األول وجاذبيته القاتلة، بل يجعل هذا العصب يتوهج ،إمنا ،هذه املرة ،بوصفه جذوة يف كينونة تتفوق بإنسانيتها عىل املساحات والعصبيات واأللوان واألعراق .وهو ما يضاعف من قوة ورشاسة االنتامء إىل الحرية ،م ّرة بصفتها اليتم الكامل ومرة بصفتها أرض االختيار .وهو ،أيضاً، ما يجعل الشاعر الكائن األكرث مترداً يف األرض ،واألكرث دفاعاً عن الوجود بصفته ك ًال؛ تتحول البلدة الصغرية التي ولد فيها الشاعر قيص محليّ إىل عاصمة للعامل ،والعامل إىل ناحية صغرية يف أرض الحواس. يف ٍّ ميكن النظر إىل مجموعة من قصائد الشاعر ،كام هو الحال بالنسبة إىل كل شعره الذي كتبه يف مكان غريب ،عىل أنه يوميات الشعور واالنفعال والعمل والتطلع يف مكان مختلف ،أرض مختلفة ،طقس مختلف ،ثقافات مختلفة ،وكفاح إنساين وثقايف له خصوصيته عام ميكن أن يواجهه شاعر يف مدن الرشق. فالشاعر العريب الذي رصف ردحاً طوي ًال من الزمن يف أوروبا ،ليس مثله مثل الشاعر العريب يف دياره .األخري أقدر يف شعره عىل توليد عنارص االنسجام بني تجربته الذاتية ومحيطه املكاين ،مبا يف ذلك عالقته بالفضاء اإلنساين ،بينام األول هو ذاك الذي مل يعد من كان قبل أن يصل إىل املكان الجديد .ولرمبا يكون من الصعب عىل كلمة موجزة اجرتاح معجزة توصيف جامع لوضع الشاعر املنفي واملهاجر. ً ً ولو شئنا أن نعقد املسألة قليال ،فإن الشاعر ،قبل املكان وبعده ،هو أصال طريد القلب .هل للقلب مكان وعنوان دامئان ومعرتف بهام يف العامل؟ كل موعد يحرض فيه الشاعر هو موعد أخري ،هكذا يشعر املنقطع عن مكان طفولته مع كل قصيدة ،كل ر َّفة فرح هي عبور هارب .وبالتايل فإن كل قصيدة هي ،بطريقة أو أخرى مرثية يف عامل عن عامل آخر مفقود 87
شرق غرب
بورخيس الرحلة اليابانية
الوصول إلى قمة هرم الهايكو كان سفر الشاعر األرجنتيني بورخيس مع زوجته ماريا كداما إلى اليابان فرصة للتعرف
على هذه الحضارة وأدبها ،وأثمر هذا اللقاء 17 قصيدة تنتمي إلى شكل الهايكو .وبذلك كان بورخيس من الرواد الذين أدخلوا هذا الشكل إلى أمريكا الالتينية بمعية الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث. هنا أجزاء من مقال يسلط الضوء على تأثير الهايكو في شعر بورخيس ،وخصوصية الكتابة في هذا الشكل؛ كتبته زوجته ماريا كداما
ترجمة :محمد آيت لعميم
صاغ
بورخيس ،يف مقدمة أعاملة الكاملة ( ،)1969ويف كتب أخرى ،مجموعة أحكام حول الشعر واألسلوب تبني كيف جعل بالتدريج ،من األشكال الشعرية ل"التانكا" و"الهايكو" اليابانيني أقرباءه .ففي ديوانيه "ذهب النمور" ()1972 و"العدد" ( )1981تدرب عىل هذه األشكال للمرة األوىل. وبدأ بورخيس مقدمة أعامله الكاملة بهذه الكلامت " :مل ُأ ِع ْد كتابة الكتاب .خففت من إفراطات الباروك ،ل َّينْت خشونات. شطبت حساسيات زائفة وأشياء غامضة ،وأثناء هذا الكد الجميل أحياناً ،واملزعج أحياناً أخرى ،أحسست أن الشاب الذي كان قد كتبه عام 1923كان يف األساس هو هذا السيد الذي إىل اآلن ينقاد أو يصحح .إننا الرجل نفسه ،أنا وهو نشك يف اإلخفاق والنجاح ،ويف املدارس األدبية ومعتقداتها، أنا وهو نبجل شوبنهاور وستفنسن ووايتامن .يف رأيي ،يجسد
88
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
ديوان "حمية بيوس آيرس" مقدّما كل ما سأقوم به بعد ذلك" .وينهي مقدمته بهذه الكلامت" :يف ذلك الزمن .كنت أبحث عن املساءات ،والضواحي ،والتعاسة؛ أما اآلن ،فأبحث عن الصباحات ،واملركز ،والهدوء". ال تعرب هذه الكلامت فقط عن إحساس الكاتب حول عمله وحول ذاته ،لكنها ترتجم أيضاً بحثاً جوهرياً ،مجسداً مقد َماً، كام قال ذلك ،منذ البداية. هذا البحث ،وهذه املحاولة ،هي األقدم يف العامل .بدأت مع هومريوس وستستمر ما كتب اإلنسان .هدفها اكتشاف املركز ،واألبدية ،بنوع من الرصامة الشكلية العاليةُ .ج ّرب هذا البحث يف الغالب يف الرشق ،وبالخصوص يف اليابان .ويف الغرب ،وخصوصاً عند بورخيس. يبدأ األدب ،يف الغرب ،مع امللحمة .مع القصائد التي تحيك، يف أوروبا كلها ،قصة أبطال من خالل املئات من األبيات
املرآة مثال) كان مساوياً لعدد ال نهايئ من األشياء ،ألنني كنت أراه بوضوح من كل زوايا الكون ...رأيت األرض فوق األلف عيني ...رأيت وجهي وأحشايئ ...أصبت بدوار وبكيت .ألن ّ رأتا ذلك اليشء الخفي واملفرتض الذي يغتصب البرش اسمه
الشعرية.ولكن هذه القصائد أصبحت شيئاً فشيئاً قصرية مع مر العصور ،حتى وصلت إىل املدارس الطليعية وخصوصاً "ا ُملغالني" ( l’ultraïsmeحركة شعرية إسبانية ظهرت مطلع القرن املايض) .ويف ما يتعلق باألدب اإلسباين ،كان هذا األمر أحد أهم التحوالت التي حصلت منذ دخول السوناتة االيطالية عىل يد ،Garcilesoليس يف حد ذاتها ،ولكن عرب بيت الشعر الياباني ليس موجه ًا التحوالت التي أجريت من خالل تحريضها. فقط لكي يُسمع ،لكن أيض ًا بدأ مشوار بورخيس بافتتانه بحركة ،ultraïsmeوبعد ذلك لكي يُرى .فقصائد الكانجـي استمر من خالل مساره الخاص ،مسار قاده ،عرب حركة دائرية طويلة ،حتى وصل إىل اليابان ،هو املبدع ،الذي كان يبحث تشكل صورة ينبغي أن تسـر عن الجوهري يف كل شعر ،وبالخصوص الشعر الياباين .هذا الناظرين الشعر الذي يحاول اإلمساك ،يف أسطر قليلة ،مشذبة بعناية، من دون أن يروه :الكون كام مل يخطر عىل بال أحد ،شعرت من تسعة عرش مقطعاً ،بالتقاء الزمن بالفضاء يف نقطة بإجالل ال حد له وبحزن غامض". واحدة .املبدع يسعى إىل تدمري التتابع يف الفضاء. لهذه املكونات مظاهر عديدة متحدة االتجاه ،وتتناغم أجهد بورخيس نفسه للتعبري عن هذه الرغبة نفسها يف مقدمة كتاب "تاريخ األبدية"( " :)1936ال أعلم كيف متكنت مع أهداف الشعر الياباين ،الذي ينبغي تفحصه بنوع من التفصيل ،يك نفهم يف اآلن نفسه هذه الخطاطات الشعرية من مقارنة ُم ُثل أفالطون بقطع ثابتة يف متحف ،وكيف مل والهدف الذي تقرتحه. أشعر ،وأنا أقرأ سكوت ُأرجني ،وشوبنهور ،أن هذه األشكال، باشو ( )1694-1644هو الذي رسم بشكل نهايئ طريق عىل العكس من ذلك ،حية وقوية وعضوية .كنت أفهم "الهايكو" وكان يؤكد أن "الهايكو" يجب أن يستعمل اللغة أن ليس هناك حركة خارج الزمن (شغر أماكن مختلفة املألوفة لكل واحد ،متجنباً ،االبتذال ،كان يستعمل بغزارة يف لحظات مختلفة) .مل أكن أعرف أنه ليس هناك ثبات (شغر املكان نفسه يف لحظات مختلفة) ،كيف أمكنني عدم الصور والكلامت املمنوعة يف "التانكا" .كان ال ّدوري يحل مالحظة أن األبدية ،التي يبحث عنها ويحبها شعراء كثريون ،محل العندليب ،وحلزون املاء محل الزهور .وكان عىل هي خدعة براقة ،تحررنا ولو للحظة واحدة ،من العبء الذي الشاعر أن يتظاهر بأنه مع الحشد يف حني أن روحه تكون دامئاً خالصة .يجب عىل الشاعر أن "يستعمل اللغة املشرتكة، ال يطاق لألشياء املتتابعة" .ويف قصة األلف يقول" :كان عىل قطر األلف أن يكون سنتيمرتين أو ثالثة ،لكن الفضاء الكوين ومن خالل فنه ،يحولها إىل يشء جميل .عليه أن يحس بالرأفة تجاه هشاشة األشياء املخلوقة" .يجب أن يكون لديه كان هناك ،من دون نقصان يف حجمه .كل يشء (صفحة 89
شرق غرب
إحساس وثيق بـ ،sabiكلمة تعني العزلة ،والحزن املوحش وكآبة الطبيعة .وبالخصوص ،عليه أن يعرب عن الجوهر الخاص بطريقة متكن من القبض عليه ،عرب التفصيل ،وجوهر كل الخلق .هذه املقاطع السبعة عرش ينبغي أن متسك برؤية جوهر العامل. أفضل مثال عىل هذا املفهوم قصيدة ال "هايكو" الشهرية "املستنقع القديم "" ،ضفدعة تنط .صوت املاء". بداية هناك يشء ثابت ،املستنقع ،ثم هناك يشء رسيع ومتحرك الضفدع ،وأخرياً صوت املاء الذي ينضح .يعني النقطة التي يلتقيان فيها.
بورخيس الياباين
إن تأمل وفحص قصيدة لبورخيس ،مأخوذة من ديوانه "حمية بيونس آيرس" 1923؛ "ال ِفناء" يظهر مجموعة من العنارص املشرتكة ،وهي تجريد مكون من عروض ووزن:
"بحلول املساء تتعب ألوان ِفناء الدار دائرة القمر املنرية مل تغمر هذه الليلة الفضاء فناء الدار ،سامء متحولة الفناء منحدر تترسب منه السامء إىل البيت هادئة، األبدية تنتظر عند ملتقى النجوم ناعمة هي الحياة بصداقة غامضة لقبة، وخزان ماء ،ودوايل تع ّرش".
من دون علم املؤلف ،هذه القصيدة ،تتبع قواعد وتعاليم "باشو" .فكيف تسنى لشاعر من أمريكا الجنوبية ،تفصله عنه قرون عديدة ،أن يتمكن من إعادة اكتشاف الجوهر نفسه ل"الهايكو"؟ هناك تفسري ممكن .هو أن جوهر الشعر، ال زمني وكوين .وحني يصل إليه شاعر ،كام هو الحال عند الشعراء الرتاجيديني اليونان ،فالنجاح يكون يف كل زمن. وهناك تفسري آخر يختلف عن هذا باملرة ،من املمكن أن تيرسه لنا طفولة بورخيس ،فجدته ألمه كانت انجليزية، كانت تحفظ العهد القديم عن ظهر قلب ،وكانت تتذكر باستمرار مقاطع كاملة منه .فبعد قراءة قصص جريم ،قرأ بورخيس وأعاد قراءة ألف ليلة وليلة .يف طبعة انجليزية،
90
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
وأتبعه بكتاب هو اليوم كتاب منيس "الحكايات الشعبية لليابان القدمية" مؤلفه أحد العلامء املحققني األمريكيني اسمه .Mitfordأثناء الحرب العاملية األوىل ،قادته أعامل شوبنهاور إىل دراسة "البوذية" .التهم بورخيس برشاهة كتب هرمان أولدنريغ حول بوذا وتعاليمه .هذه االهتاممات املتعددة منحته عق ًال منفتحاً ،عق ًال مضيافاً ،شديد الحساسية للثقافات األكرث اختالفاً .هكذا ،من دون أن يعي مساره ،اتبع الطريق العريق للشعر الياباين ،الذي ُيوصل إىل اكتشاف "الهايكو" .ما أنجز ال شعورياً أنجز بطريقة جيدة ،وعىل الكتاب االحرتاس من السهر عن قرب حول ما يكتبون .وإال فإن الحلم سيخونهم. رشع بورخيس يف بداية السبعينيات ،يف تأليف قصائد "التانكا" بنوع من الرتوي ،وتوج هذه املحاولة ،يف الثامنينيات ،بتأليفه لقصائد "هايكو" ،تتشكل فيها الفقرة من 17مقطعاً؛ كتب بورخيس 17قصيدة هايكو ،من املمكن أن نختار بعضاً منها لنفحصها بنوع من التيقظ .فهو لن يأخذ بعني االعتبار الشكل؛ ألن 17مقطعاً انجليزية أو إسبانية ،من دون شك ،ال تدركها آذاننا كام تدرك باألذن الرشقية .والعكس بالعكس .فالبيت الياباين ليس موجهاً فقط ليك ُيسمع ،لكن أيضاً ليك ُيرى .فقصائد ال"كانجي" تشكل صورة ينبغي أن ترس الناظرين وتؤثر يف العني تأثرياً بليغاً .هذا النوع من اللوحات الفنية ُفقد مع األسف يف هذا النقل الغريب ل"الهايكو". فمن املمكن أن يحدد "الهايكو" باعتباره فناً تقشفياً، فالتقشف هو العنرص األكرث أهمية وصعب الوصول إليه. وهنا يوجد اختالف جوهري بني الرشق والغرب .فالزهد يف الغرب وسيلة من أجل الوصول إىل غاية ،نتصور غريزياً املرور من اللذة إىل املعاناة ،من السعادة إىل القداسة .يف الرشق، الزهدُ غاية يف ذاته ،ولهذا فليس يف حاجة إىل أن يفرس أو ي َّربر. ُ يشء غريب ،أنه يف الرشق ،تستدعي رصامة الزاه ِد الفنَّ وترتبط به ،أما يف الغرب ،مير الفن من الحياة إىل الصنعة،
بورخيس الرحلة اليابانية
ومن البسيط إىل املركب" .الهايكو" قريب جداً هو اآلخر من الحياة الطبيعية التي ميكن أن يكونها ،وهو أيضاً بعيد ما أمكن عن األدب وعن األسلوب الكبري .هذا التقشف هو نقيض االبتذال. إن الرابط األساس لليابان مع األدب العاملي ،هو شعر خالص من األحاسيس والتي ال تحرض يف اآلداب الغربية إال بشكل جزيئ .فالفرق الكبري بني "الهايكو" والشعر الغريب ،هو هذه الخاصية املادية والفيزيقية واملبارشة .إنها إثارة للجسد وليس للجنس .نجد يف "الهايكو" ،من خالل أبيات مربوطة حسب جمل متساوية ،الشعر واإلحساس املادي ،املادة والروح، الخالق واملخلوق ،واختيار املوضوعات ذو داللة :فموضوعات تركت جانباً ،كالحرب والجنس ،والنباتات السامة ،والحيوانات املتوحشة ،واملرض ،والزالزل ،أي كل األشياء الخطرية أو التي تجعل الحياة يف خطر .إن ها هنا رشوراً سيكون من الحكمة نسيانها إذا كنا نتطلع إىل حياة سليمة عقلياً .ففن "الهايكو" يرفض القبح ،والكراهية والكذب ،والعاطفية واالبتذال ،ومن جهة أخرى ،فالزن ،يقبل بهذه الرشور مادامت أنها جزء من العامل .فحرارة يوم صيفي ،وملوسة الحجرة ،وبياض كريك وحيش ،هي بعيدة عن أي تفكري ،عن أي عاطفة ،عن أي جامل ،و"الهايكو" وحده هو الذي يسعى إىل اإلمساك به. األدب الياباين ،و"الهايكو" عىل وجه الخصوص ،ليس أدباً روحياً صوفياً .فمن بني األشكال الفنية ،ميكن اعتبار "الهايكو" الفن األكرث طموحاً .إذ من خالل 17مقطعاً ميتلك الواقع أو يسعى إىل امتالكه واإلمساك به .فالعنارص الثقافية أو األخالقية مقصية. ال عالقة ل "الهايكو" بالخري أو الرش أو الجامل .إنه منط من التفكري مير عرب حواسنا" ،الهايكو" ليس رمزاً ،ليس لوحة تحمل عىل ظهرها بطاقة تحدد معناها بدقة .حينام أكد باشو بأنه يجب البحث عن الصنوبر يف الصنوبر ،وعن الخيزران يف الخيزران ،فإنه يدعونا إىل أن نتعاىل ونتعلم. التعلم هو االرمتاء يف املوضوع حتى تتكشف لنا طبيعته الداخلية ويطلق اندفاعنا الشعري .فالورقة التي تسقط ليست عالمة أو رمزاً عىل الخريف .وليست حتى عنرصاً من الخريف إنها الخريف نفسه. ها هي قصيدة "هايكو" لبورخيس وأخرى لكيتو ،تلميذ
باشو« :ال سعادة قرب شجرات اللوز يف الحديقة .ليس سوى ذكراك ».وكتب كيتو" :ملا أفكر يف ضبابات املساء ،تكون بعيد ًة األيام الخوايل". يف القصيدة األخرية ،تذ ّكر ضبابة املساء باأليام القدمية. فاألفول الغامض يقرتن مباض غامض .وبالنسبة إىل بورخيس، فشجرات اللوز املورقة ستستدعي ماضياً سعيداً ورمبا ماضياً قريباً .تشرتك القصيدتان يف نقطة االنطالق التي هي الطبيعة .يف "هايكو" آخر يقول بورخيس« :منذ هذا اليوم مل أملس قطعة فوق رقعة الشطرنج ».وكانت قصيدة هايكو لشييك قد عربت عن الفكرة نفسها«:أال زلت تنتظرين؟ مرة أخرى تتحول العواصف املخرتقة إىل مطر بارد» .يلقي شييك نظرة إىل الوراء ،ويحلم بامرأة ستستمر رمبا يف انتظاره. فهبات الريح املخرتقة والشتاء من املمكن أن تكون ايحا ًء
الهايكو قريب جد ًا هو اآلخر من الحـياة الطبيعية التي يمكن أن يكونها ،وهو أيض ًا بعيد ما أمكن عن األدب وعن األسلوب الكبير. هذا التقـشف هو نقيض االبتذال بعزلة هذه املرأة( .أو عزلة الشاعر) .وموضوعة العزلة هي موضوعة "هايكو" بورخيس .فرقعة الشطرنج املتوحدة متثل الرجل املتوحد .ويف هذا "الهايكو" ،العزلة هي عزلة الشاعر، ويف "هايكو" ،Shikiالعزلة هي عزلة اآلخر. يف هايكو آخر ،يشري بورخيس" :قال يل الجبل واملاء شيئا مل أكن أعرفه أبدا" .ويقرتح علينا تاشيشو فكرة مشابهة« :هيا، هيا ! ماذا عسانا أن نقول ونحن نلمح االزهار فوق جبل يوشينو؟» .لقد اضطرب تاشيشو أمام جامل أخاذ ال ميكن وصفه؛ يف حالة بورخيس ،ألهم بواسطة لحظة عابرة ،إلها ًما مل يكن قادرا عىل التعبري عنه. بعيدا عن هذا ،يكتب بورخيس" :مات هذا الرجل .لحيته ال تدري شيئاً .أظافره تنمو".هذا "الهايكو" قريب من تأليف باشو " األرسة بكاملها ،بعكاكيز والرأس أشيب ،تزور القبور". يف "هايكو" بورخيس ،مل يرسم املوت باعتباره شيئاً مثرياً 91
بورخيس مع زوجته ماريا كداما
للعواطف أو جديراً بالذكر ،مؤمل أو قدري .لكنه عرض كيشء مقزز وغريب .مثل ظاهرة فيزيقية عجيبة .نفذ بورخيس يف هذا "الهايكو" رشطاً أرشنا إليه سالفاً .عل ًام ،أن املقطع هو نقطة التقاء بني يشء دائم ،هو املوت ،ويشء ميتد لِ ّلحظة، مثال ،التفصيل املخيف للحية واألظافر التي تستمر يف النمو. املوت ،يف هايكو ،باشو ،معروض بطريقة غري مبارشة .وبنوع من االنفصال ،يرى الشاعر األرسة وهي بصدد زيارة القبور، نحس بأن هؤالء الرجال والنساء طاعنون يف السن ،سيصريون قريباً أمواتاً بدورهم .كانت موضوعة املوت ممنوعة عىل كتاب "الهايكو" .لكن باشو ،نصري البوذية اآلن ،تجرأ عىل معالجته. ميثل القمر صورة أخرى عند بورخيس" :تحت السقف ال تحايك املرآة القمر" .وميكن لهذا "الهايكو" أن يكون تكملة ل"هايكو" قديم لكيكاكو ( )1701-1661الذي كتب" :البدر امليضء .يف بيتي يسقط ظل أشجار الصنوبر عىل حصائر القصب" .ويصور كيكاكو لوحة تنبثق أمام أعيننا .فظل أشجار الصنوبر مريئ ألن القمر يف السامء .يف القصيدتني معا يدل البدر عىل العزلة .والغياب هو املوضوع الحقيقي لهذا وذاك .ونقطة هاربة للزمن متبثة بواسطة الكلامت. يف القصيدة اليابانية ،القمر يف اكتامله هو الذي مينحنا صورة األبدية ،ويف "هايكو" بورخيس األبدية تنعكس يف مرآة صافية .فقصيدتا ال"هايكو" لدى بورخيس تعربان عن إحساس بالعزلة" :تحت القمر هذا الظل املمدود ،وحيد.قمر جديد ،هو اآلخر ينظر إلينا من باب آخر". لنقارن اآلن قصيدة "هايكو" غربية مع قصيدة هايكو رشقية. بداية ،هاهي قصيدة هايكو لبورخيس" :بارقة تنطفئ. 92
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
امرباطورية أو رمبا ُح َباحب".والقصيدة الثانية لباشو" :عشب الصيف .أثر األحالم .رجال األسلحة". موضوع القصيدتني مبتذل ،فناء كل األشياء .وتعربان عن تفاهة كل مرشوع إنساين. لنمر اآلن إىل قصيدة هايكو لبورخيس" :الزالت اليد العجوز ترسم بيتاً شعرياً حتى النسيان". تبدو قصيدة هايكو جوسو أنها تجعل من قصيدة هايكو بورخيس صدى لها" :سهول وجبال مكسوة بالثلج ،مل يبق يشء". كان جوسو ( )1704-1662أحد األتباع العرشة املفضلني لباشو ونصرياً لبوذية الزن .يقول لنا أن ال يشء يدوم .حتى الجبال وقوتها تفنى بأشياء أثريية مثل الثلج .يف "هايكو" بورخيس، كتب "الهايكو" نفسه من أجل النسيان النهايئ واملحتوم. حينام نفحص هذه القصائد ،يجدر بنا أن نتساءل هل توجد ميزة ما ،مشرتكة لكل الشعر ولكل األعامر وكل البلدان؟. الجواب أعطاه بورخيس يف مقدمة ديوانه «ذهب النمور»، حيث كتب« :بالنسبة إىل الشاعر الحقيقي كل لحظة يف الحياة ،كل حدث ينبغي أن يكون شعرياً ،مادام أنه يف العمق ليس شيئاً آخر » ،ويكتب يف موضع آخر« :يف هذا العامل الجامل يشء مشرتك». يقول بورخيس يف مقدمة ديوانه «اآلخر ،نفسه»« :ال وجود ملصري غريب كغرابة مصري الكاتب .يف بداياته ،كان باروكيا، باروكيا بزهو ،مع نهاية السنني الطويلة ميكنه الوصول، لو ساعده القدر ،ليس فقط للبساطة ،التي ليست شيئاً، ولكن إىل التعقيد املتواضع والرسي» .إنها طريقة "الهايكو"، ف"الهايكو" القصري هو قمة هرم ضخم
ملف
الصوت الشعري الجديد في الجزائر شكل البدايات ومأزق الجغرافيا الشعرية ً كثيرا ما أطرحه على بعض أصدقائي من كتاب ما الذي تعرفونه عن الشعر الجزائري الجديد؟ سؤال المشرق فال أجد عندهم إجابة كاملة ،يتردد اسم أو اسمان ال غير ،وأكتشف أنهم يعرفون هذه األسماء حتى من دون قراءة .فهل الخلل سببه الشاعر الجزائري المنعزل في «جغرافية المأساة الوطنية» كما قد ً بلدا كالجزائر وعاش خارج السياقات الثقافية العربية ،أو على حافتها ،أو هامشها ولم يدخل في نسمي
سياق الحداثة الشعرية العربية التي بقيت مقتصرة على الشام والعراق ومصر لتلتحق بها المغرب وتونس
ً ً ً ومغتربا؟ أم هو تجاهل مشرقي ممثل بالمركزية الثقافية المتوارثة والتي غريبا الحقا فظل هذا الشعر
ً مركزا لألبد؟ جعلت المركز
ً عددا من شعراء المرحلة الجديدة أن يجاب على أسئلة ليست غايتي من هذا الملف الذي حاورت فيه كهذه ،بقدر ما كنت أهدف من خالله إلى أن تتعرفوا على بعض األصوات من بين فسيفساء شعرية
ً شعريا من أجل أن يكون للشعر حضور نقي متنوعة ومختلفة ،تقاوم فراغ اللحظة وتقوقعها ،وتناضل في بلد واسع كقارة ،ومؤلم كتاريخ وتجربة .لذلك قمت بطرح مجموعة من األسئلة التي يمكن من خاللها
ً عموما، االقتراب من فهم هؤالء للشعر ورؤيتهم العامة حول حضوره في الجغرافيا الجزائرية والعربية وجاءت كالتالي:كتاريخ وتجربة.
الجزائر -بشير مفتي
93
ملف
- 1كيف جئت إلى الشعر؟ - 2ماذا يعني لك الشعر؟ - 3ما رأيك في الشعر الجزائري الراهن؟ - 4هل يشعر الشعراء الجزائريون بالتهميش على الخريطة العربية؟
لميس سعيدي
الشـعر الجـزائري يعاني الكثير على مسـتوى الـمقـروئية واالهتمام فـي ظل مشـهد ثقافــي مشـتت حـيث يزداد تهـميشـ ًا وعزلة في الداخل قبل الخـارج .1يولد الشاعر شاعراً ،أي بحساسية خاصة تجاه الوجود، تجعله يكتشف أن صورة العامل كام هي لغة وسيطة بني البرش ،إلخفاء عواملهم الداخلية أو حتى تجاهلها ،و لخلق حالة مزيفة من الحوار تبدأ بقمع ذات الفرد املختلفة. والشعر هو لحظة الوعي بصوتنا الداخيل ،لحظة الوعي ِ بفرديتنا وبرضورة أن يكون اإلنسان ذاته ،وقد يبدو األمر بسيطاً للوهلة األوىل ،إال أنك تكتشف برسعة أن من الصعب أن تكون ذاتك ،أي أن تغادر الكورس وتر ّدد لحنك الخاص، يف عامل يعترب كل ما هو خاص و فردي نشازاً .وال أذكر كيف تش ّكلت لحظة الوعي هذه ،لكنني أتورط كل يوم يف هذه اللعبة املمتعة ،لعبة املرايا التي منيش فوقها بهدوء وخفة وبهلوانية أحياناً ،لنبرص أنفسنا من خالل خطانا.
الشعر بالنسبة يل هو أن تكون مختلفاً من دون أن ِ .2 تتصنع االختالف ،وأن تكون حراً من دون أن تتصنع التح ّرر، 94
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
وأن تكون حقيقياً أي هشاً كام يليق باإلنسان ،وأن تحاور ذاتك واآلخرين ببالغة الهشاشة وصدقها.
.3الشعر يف الجزائر يعرف تحوالً حقيقياً يف الرؤية الشعرية عىل مستوى اللغة والعوامل الفكرية والحسية والشعورية ،وهذا التحول يواكب التحوالت الكبرية واملستمرة التي يعرفها الشعر يف العامل ،لكنه يبقى محصوراً يف تجارب محدودة ،رمبا ألن الشعر بطبيعته قليل ،لكن مام ال شك فيه أن املشهد الشعري الجزائري يفتقد لحراك وتفاعل حقيقيني عىل مستوى الكم والرؤى الفنية املختلفة ،هذا الحراك الذي يفرز بالرضورة تجارب متميزة ،ألن كل تط ّور لألدب وللفنون يأيت يف ظل الرتاكم والحوار من خالل القراءة والنقد.
.4مبدئياً الشعر يعاين الكثري عىل مستوى املقروئية واالهتامم يف العامل العريب ،والشعر الجزائري تحديداً يعاين الصعوبات ذاتها داخل الجزائر خصوصاً يف ظل مشهد ثقايف مشتت حيث يزداد الشعر تهميشاً وعزلة يف الداخل قبل الخارج. وال أعتقد أنه يحق للشعراء الجزائريني التذمر من التهميش عربياً قبل محاربته داخلياً ،وهذا ال مينع بأن بعض التجارب املتميزة والجادة تلقى االهتامم عىل املستوى العريب كلام سمحت ظروف التواصل والنرش بذلك
شاعرة ومرتجمة من مواليد عام ،1981صدر لها يف الشعر «نسيت حقيبتي ككل مرة» ،2007و«اىل السينام»
الصوت الشعري الجديد في الجزائر
الطيش والهبوب نفتح بابه لندخل يف ملكوت عذابه الجميل والرهيب .هكذا نكتشف الشعر أو مينحنا لعنة أن نتبعه يف املجاهيل األكرث وحشة.
ميلود حكيم
شاعر ومرتجم وأستاذ جامعي من مواليد تلمسان عام ،1970صدر له يف الشعر «جسد يكتب أنقاضه» ،1996 و«امرأة للرياح كلها» « ،2000أكرث من قرب ..أقل من أبدية»« ،2003مدارج العتمة» .2007
ال شـك أن نسـيان المـشـرق للمغرب له أسـبابه المتعـددة، لكن نحن أيض ًا نتحمل مسؤولية الترويج إلبداعنا وهذا ما تقوم به بعض الدور والمؤسسات الجادة فـي السنوات األخيرة .1الشعر ال نأيت إليه ألنه يخطفنا يف منعطف ما من منعطفات السرية الصامتة أليام نربيها يك تتحول إىل حياة أو عمر بحيث متتلك الوهج الذي ميسها بفيض األبدية وهسيس املطلق .والشعر يتحرك مثل املياه الجوفية يف أغوار بعيدة فينا تختار وقتها املناسب يك تتفجر ينابيع يف التضاريس املنسية والجغرافيات الرحالة .لهذا يحافظ عىل دهشة املفاجأة وسطوة الالمتوقع .وإذ نوتر قوس ذهابنا إىل جهات
.2إن سؤال الشعر أبعد من سؤال املعنى ألنه يحيا يف التخوم الباذخة لهبات الفراغ والصمت .هو العتمة التي نقرأ فيها وحشة الوجود .باحثني عن ضوء ال يتشكل إال منفلتاً وال نلمسه إال يف تالشيه .هو االنتصار ألرضيتنا وتناهينا ،ومتجيد الحياة يف نقصانها البهي وتفاصيلها املنسية ،وهو مطاردة الظالل واألشباح يف سهو تحرسه الحرقة وترعاه عني الجنون، هو أثر «العابر بنعال من ريح» وكتابة الدم املسفوح من جرح يرصخ منذ العدم األول إىل اتساع املجهول عىل آفاقه املرعبة .لهذا ال نسأل عن معناه إذ منه الفاين والخالد. وأعتقد أنه البصمة الوحيدة التي ستبقى بعد أن يختفي كل يشء لتدل عىل عبور اإلنسان الرسيع يف صحراء وجوده. أنا ال أربط الشعر بالتجيل الخطي ملدونات تتآكل بفعل النسيان .هو نزف متواصل منذ التهجي األول لألبجدية إىل سم وقول ما مل يقل .هو رصخة السحر الرائع لتسمية ما مل ُي ّ العزلة األصلية واألولية وبقايا نداء مل يتشكل يف قوام ميتحن األشكال .هو الالشكل املبثوث يف كل يشء ،واألنفاس الحية يف الكائنات التي نعرفها وال نعرفها .هو بكل بساطة الحياة.
.3الحديث عن الشعر الجزائري كان عىل الدوام عسرياً ومتعباً ،ألنه سؤال الغياب واليتم ،سؤال امللتبس يف فوىض املقاربات املعطوبة بخرسها وعجزها ،والتي دوماً ترمي به يف مآزق األيديولوجيات العمياء أوالقراءات العرجاء ،التي مل متنحه أبداً وجوداً قامئاً بذاته وداخ ًال يف ثرائه املتجيل يف كتابات ونصوص حية .لهذا كان هناك دامئاً نقصان يف قراءة املشهد الشعري الجزائري خاصة حني نهمل ثراءه اللغوي املتشكل يف أبجديات رحالة متتد من الدارجة إىل األمازيغية إىل الفرنسية واإلسبانية والعربية ولغات أخرى .قراءة النقصان تنىس كل هذا لتتوقف عند تاريخ مشوه ومغلوط، لهذا ما زال البحث عن الشعر الجزائري جارياً وأحياناً يدلنا آخرون عىل حيويته .هل ننىس إذن أنه يكتب يف االختالف املرجأ واالنفتاح املدهش حارضاً من عمق الطاسييل إىل رشفات جرجرة ومن فجر التاريخ إىل آخر صوت ينشد يف الخراب لتنترص الحياة.
95
ملف
البحث عن الشعر الجزائري يجب أن يتحرر من سطوة الذين رهنوه بخيارات دوغامئية أجلت البحث فيه وتوجت عىل رأسه نظامني تحتفي بهم السلطة .لنعد إىل ما تركوه يف الهامش ولننتسب لشجرة أسامئه املهملة منذ ابن خميس إىل محمد ديب وكاتب ياسني ومالك حداد واملهدي أرششور وجامل الدين بن شيخ والطاهر جاعوط وغريهم.
.4ميكن أن نشري يف البداية إىل أن املشهد الثقايف العريب تشوبه الكثري من االختالالت ،والتي تعيدنا إىل أسئلة أكرث إلحاحاً حول املآزق التي تعانيها أص ًال الثقافة العربية واألمراض التي تتخبط فيها .وهنا لن أعود إىل الرصاع القديم بني املرشق واملغرب أو املركز واألطراف ،ألن مواقع املساءلة تغريت إذ مل يعد هناك مركز وأطراف .املأزق هنا هو غياب التواصل والجدية ،وموت الحيوية التي حركت املشهد الثقايف يف الستينيات والسبعينيات ،وأنتجت حركات أدبية ثورية أعطت الدفع القوي للكتابة وجعلتها تأخذ موقعها املحرك يف حركة التاريخ ويف الحساسيات الجاملية .كان هناك مناخ عام ينترص ملا هو ثقايف وحدايث ،كان هناك ديناميكية خالقة اغتالتها النزعات االستهالكية واملشاريع التدمريية التي تعود بنا إىل الحضيض ،ثم تفيش ظواهر الشللية والعصابات الثقافية والتكتالت الهشة التي ال تنبني عىل القراءة الجادة ملا يبدع فع ًال ،ولكن ملا يروج حتى أننا نقرأ نصاً واحداً بتنويعات مشوهة. أين هو اإلبداع الشعري واألديب الحقيقي الذي يغري الحساسيات الجاملية ويفجر ،ما عدا بعض األسامء التي ما زالت مخلصة لجدية الشعر وخطورته .ال أرى شعراً يحفر عميقاً يف أسئلة الراهن واملستقبل ويحمل بشارات جغرافيات مجهولة ،وعلينا أن نعيد اكتشاف قارات شعرية أخرى ونذهب أبعد يف سؤال الشعر يف عالقاته املتشابكة مع كل إبداع البرشية منذ فجرها األول إىل آخر زلزال .ال شك أن نسيان املرشق للمغرب له أسبابه املتعددة ،لكن نحن أيضاً نتحمل مسؤولية الرتويج إلبداعنا وهذا ما تقوم به بعض الدور واملؤسسات الجادة يف السنوات األخرية .كام أن معرفة الغرب خاصة فرنسا لكتاب املغرب العريب وشعرائه ما زالت سباقة .ينتظرنا عمل كثري للقضاء عىل إساءات الفهم والتفاهم املتواصلة 96
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
خالد بن صالح
شاعر من مواليد عام ،1979صدرت له مجموعة أوىل «سعال مالئكة متعبني» 2010وقريباً مجموعة ثانية .ينرش أغلب قصائده يف مجلة «أوكسجني» اإللكرتونية وبعض املالحق الثقافية بالجزائر. .1السؤال عن كيفية املجيء إىل الشعر لن تكون اإلجابة عنه سهلة وساذجة كام أعتقد ،إمنا يلفها الغموض كام تلف مالءة بيضاء جسد امرأة جميلة ،إجابة مفخخة كسيارة تع ُرب شارعاً مليئاً بالراجلني ،لتنفجر يف الوقت الخاطئ كالعادة موت أكيد لو أنها استيقظت بفارق زمني مينع تلك املرأة من ٍ لحلم عا ٍر صار فيه الشاعر ظالالً متناثرة كعادتها ومل تستسلم ٍ ألشالء من متزقت أجسادهم يف الشارع .من تلك املناطق الشائكة بني املوت والحياة ومن األبواب الخلفية للغة وما التصق عىل جدرانها الهشة من تفاصيل يومية ،عجزت أناميل أن تحولها إىل لوحات ،من خيبة ومن خسارة وانكسار أطياف وجنون خفي وجرأة عىل حمل سكني صدئة ومصارعة ِ جثث تنام عىل الورق ،من ق ٍرب أحمله الذاكرة وتحويلها إىل ٍ كتميمة حب ،من باقة أزها ٍر أختلف مع العامل بشأنها ،من هوس قديم لتدمري العامل من دون التفكري يف إعادة بنائه عىل شكل قصيدة أو رؤية ناقصة ،من كل هذا وأكرث ال أعرف من الهامش الذي أتنفس فيه جرعات إضافية جاء إىل اآلخر يف ِ من أوكسجني الكتابة.
الصوت الشعري الجديد في الجزائر
الحديث عـن الشعـر الجـزائري الراهن ال يكون بمعزل عن غياب سياسة ثقافية ورؤية نخبوية جادة تدير الحوارات وتفتح اآلفاق للموهوبين إلسماع أصواتهم
.2الشعر بالنسبة يل هو تلك الحرب األهلية التي اشتعلت بداخيل وأحيص ضحاياها يف ساحة ال أرى فيها غريي قات ًال ومقتوالً .ورمبا هو تلك الجنازة التي أميش فيها محتفياً بالحياة قبل أن أصل إىل القرب.
.3هناك أسامء شعرية جميلة تبحث عن مكان لها يف زحمة مشه ٍد ال عالقة له بالثقافة واألدب .ولعل الحديث عن الشعر الجزائري الراهن ال يكون مبعزل عن غياب سياسة ثقافية ورؤية نخبوية جادة تدير الحوارات وتفتح اآلفاق للموهوبني إلسامع أصواتهم البعيدة واملغيبة بشكل من األشكال. أسامء نرشت مجموعاتها الشعرية بهدوء من مييش حافياً عىل شاطئ بحر يف يوم مشمس ،وال يهم بعدها أن ينتبه الناس لخطاه عىل رملٍ مبلل أم ال ،ألن ذاكرة الجامل ال أسباب اإلقصاء .وكام قلت سابقاً ُّ يظل للهامش نبضه متحوها ُ املسموع وأصابعه املشاكسة التي تصنع الحدث ،وإن وصل صداه متأخراً. أصدقاء أتواصل معهم بشكل دوري ،نتقاسم هذا الهم الجميل ،الكتابة الشعرية ،ورغم وعورة الطريق وكرثة املآزق استطاعت أن تيضء شيئاً من العتمة .وألن الحديث عن الشعر ال يكون حديث عموميات ،فإن هناك نصوصاً وقصائد نرثية وتجارب ،نقرأ يف اختالف مالمحها نفساً شعرياً جديداً يعرب عن ذاته ويتجاوز عقبات الهيئة الرسمية التي تغرد خارج الرسب.
.4اإلبداع الحقيقي ال يجزأ ،ولن أضيف له صفة أخرى. ميكنه أن يجد طريقه انطالقاً من القصيدة ،من الكتابة يف حد ذاتها ،خاصة يف ظل االنفتاح والتواصل التكنولوجي الحديث
عرب مختلف الوسائط واملواقع اإللكرتونية« .الفيسبوك» مث ًال، يحقق ما عجزت الكثري من املنابر الثقافية عىل إنجازه ،ودون نوايا مسبقة أو محاوالت محسوبة يجد الشاعر ،مهام كانت جنسيته َّ محط إعجاب واهتامم أسامء شعرية مهمة ونقاد وقراء جدد وحتى أصدقاء من مختلف دول العامل العريب. ما أردت قوله أخرياً وإن كان يل حظ نرش مجموعتي األوىل لدى االختالف بالجزائر والدار العربية للعلوم ببريوت .إن التهميش الذي يتحدث عنه البعض ال َّ محل له عىل الخريطة العربية كام يسمونها ،أنا شخصياً احتفى يب أصدقاء من سوريا والعراق ولبنان ،وآمنوا بتجربتي الشعرية يف بدايتها، ألتق بهم ،قبل أن يلتفت كام كتب عنها نقاد ال أعرفهم ومل ِ إليها أبناء بلدي ،وأنا ال ألوم أحداً وليس يل أية مالحظات جانبية أضيفها يف هذا السياق ،إمنا أقول أكتبوا أيها الشعراء، فسيقرأ من ال تتخيلون قصائدكم
محمد األمين سعيدي
شاعر من مواليد عام 1987مبدينة املرشية ،حاصل عىل ماجستري يف مرشوع الشعرية العربية بني الرتاث والحداثة. ْ صدرت له ثالثة أعامل شعرية «أنا يا َ أنت» ،2008و«ضجيج يف الجسد املنيس» « ،2009ما ٌء لهذا القلق الرميل».2011 ُ اإلنسان إىل أيّ مكان أرادَ ،إىل أي .1يحدُ ث ْأن يذهب ُ يحدث ْأن يختا َر جغرافيا قص ّية ،حتى ولو كانت يف املخيالِ ، لنفسه حرفة مع ّينة مهام كانت فيتقنها ،لكنه سيتع ّذر عليه 97
ملف
حت ًام ْأن يذهب إىل الشعر أو ْأن يختاره ّ ألن ذلك يبدو مستحي ًال فالشعر كام أتص ّو ُر هو الذي يجيء ،وهو الذي يختا ُر الوقت املناسب ليمنح لبعض الناس هوية شعرية تضاف إىل هويتهم اإلنسانية فيتم ّلكهم نوع من االنفصام الجميل ،ويتجاذبهم عاملان :العامل الحقيقي والعامل املتخ ّيل أوضح كيف جاءين الشعر ُ الذي ينتجه الشعر .وليك ّ أعرتف ّ بأن أ ّول اصطدامي به يف صباي كان عن طريق الرسم ،هذا الفن التشكييل الذي تجمعه بالفنّ الشعري أكرث من عالقة ّ لعل أغلبها تجتمع يف عنرص التشكيل ،وقد حدث هذا اللقاء األول ببساطة ألنني ُ كنت عىل كل ورقة أحاول تشكيل مالمح معينة لكائن ال أعرفه ،كائن غامض بداخيل ،عرفت وبوعي رهيب ّأن الرسم الذي أبرع فيه لن يتم ّكن من التعبري عنه، وكان ذلك الكائن هو الشعر الذي تك ّرم فأرشق يف حيايت يف سلب مني لذة تشكيل رؤاي باأللوان سن مبكرة .وهو إذ َ املعروفة منحني كوناً من لغة أمزجه كام شئت ،وأل ّون به العامل بحرية وبهجة أكرب حتى يف أكرث اللحظات حزناً. أستطيع .2الشعر بالنسبة يل يعني أشيا َء كثرية ،لكنني ُ حرصها يف أمرين مهمني؛ األول هو ّأن الشعر إيقاع وجود مختلف ،والثاين أنه زمن بال بداية وال نهاية .وإذ أرجع كل تجربة أعيشها إىل ذلك اإليقاع وأربطها به سلباً أو إيجاباً، أرى األشياء التي أعرفها تختلف يف كل مرة أنظر إليها، وتتح ّول إىل مرآة تكشف يل مالمح ذايت ومالمح العامل يف كل مرة من زاوية معينة وبدرجات لونية متفاوتة .أما ما ميثله
بأن اإلخـوة المشـارقـة أعتقد ّ يجـهلـون كــثير ًا مـن إنتاجنا الشـعري واألدبي إن لـم يكن أغـلبه ،ويغـفلون أهـمية هذا دم الشعـر العربي الذي أنتجـه ٌ آخـر وبيئة جزائرية مغايرة
98
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
الشعر بالنسبة يل من حيث إنه زمن ممت ّد بال بداية وال نهاية ،فهو ما يجعلني عىل وعي ّ ْ ليست بأن اللحظة الشعرية كل ما نعبرِّ عنه أو نقو ُله شعراً ،ولكنها تلك التي تكشف عن قيمة باقية يف اإلنسان تستطيع البقاء واالستمرار أمام أمواج الفناء القادمة عام قليل. الشعر إذن إيقاع مختلف وزمن ممتدّ ،هو هذا يف نظري، غري ّأن كل مصيبة وكل بلية تخرج حني يتح ّول اإليقاع الذي ينظر به الشاعر إىل الوجود ،وهو يف الغالب إيقاع كئيب، ألن ّ وسيتح ّول حت ًام ،إىل زمن ممتدّّ ، كل أمل سيتضاعف ويستمر ،وكل تناقضات العامل املعارص ستصبح غذاء شعرياً يحولنا إىل كائنات مأساوية بامتيازَّ ، ولعل هذا ما ُ يجعل نظريت إىل األشياء ،وأنا ال أزال شاباً من حيث الزمن البيولوجي ،تكاد تكون نظرة جنائزية تكشف عن رغبة يف استكناه أرسار األشياء لكنها تضمر وجعاً م ًّراً تحتضنه كثافة الزمن الشعري التي تكفل لهذا الفن قول كل يشء ّ بأقل كالم ممكن.
.3أعتقد وأنا من املتابعني للشعر الجزائري بحكم تخصيصَّ ، بأن الراهن الشعريّ الجزائري قد أنتج شعراء يختلفون يف الحساسيات ويف األشكال الشعرية ،وهذا أمر جيد ،بل إنني أرى ّ بأن جيل الشباب الذي أنتمي إليه يكتب متحرراً من كثري من اإلرغامات التي ْ عانت منها األجيال السابقة له ،وعليه باستطاعته ْأن ينصت بعمق لصوت الشعر بعيداً عن ضجيج األيديولوجيات والشعارات القاتلة .غري ّأن املشهد الشعري عندنا بحاجة إىل تصفية ،فالساحة الشعرية
الصوت الشعري الجديد في الجزائر
تعج بأسام ٍء عديدة بعضها يفتقر إىل تحقيق أدىن معايري الفن ّ الشعريّ ،وبعضها اآلخر يعيش وهم الدونكيشوتية املعارصة التي تعيشها أسامء أدبية كثرية يف مختلف الدول العربية. ويبدو يل ّ بأن سبب هذا كله هو غياب النقد الحقيقي الذي النص بالشكل املطلوب ،بل ّإن النصوص التي تكتب يتابع ّ وتنرش عندنا ّ تظل بعيدة عن عني الناقد املنشغل بإعادة اجرتار النظريات النقدية التي انتهت منها األمم منذ عقود، وامللتهي عن النص الجزائري بنصوص أخرى خارجية لها من يتابعها أو يدرسها. ً وللحقيقة ّ فإن عديدا من األسامء الشعرية الجيدة والجادة ميلود خيزار شح الفضاءات التي يف الجزائر تظل مه ّمشة داخلياً أمام ّ شاعر من مواليد عام 1963ببسكرة، ُ اإلنسان يزعم ّ بأن أفضل األعامل تحتضن الشعر ،حتى ليكاد صدرت له مجموعتان شعريتان «رشق ترزح تحت جبالٍ من اإلهامل واإلقصاء ،وهي برصاحة تقاوم الجسد» ،و «إين أرى» .حائز عىل عدة بصعوبة ،أمام استفحال األسامء الرديئة التي تصادفنا يف كثري جوائر شعرية ويعمل استاذاً ويشتغل ْ أصبحت بفعل فاعل تسمح من امللتقيات الشعرية ،التي باملرسح والرتجمة. لبعض من ال عالقة له بالشعر ال من قريب وال من بعيد بالظهور عىل حساب الشعراء الحقيقيني.
بأن اإلخوة املشارقة يجهلون كثرياً من إنتاجنا .1تتسع الحياة كمعنى وكصورة ،وتصبح الكتابة تحريراً .4أنا أعتقد ّ الشعري واألديب إن مل يكن أغلبه ،ويغفلون أهمية هذا الشعر للغة من سجن القاموس ،وتحريراً لإلنسان من «معنى دم آخر وبيئة جزائرية مغايرة تشتمل العريب الذي أنتجه ٌ الوجود» إىل «الوجود مبعنى» .هكذا أعي الكتابة وأدرك عىل خصوصيات وانتامءات عربية وأمازيغية وإسالمية الشعر ،الشعر الذي ال يصف الحياة بل يقولها ،يقبض عليها ائري ومغاربية وإفريقية ،وكل هذا تن ّوع مينح للنص الجز متلبسة بخيانة اللغة ،عىل رسير املعنى. خصوصيته وأهميته الكبرية. .2أنا أفهم الشعر بوصفة محاولة عابثة ال لفهم الحياة ويف الحقيقة ّإن الشعراء الجزائريني مهمشون عربياً ،وهذا «العبثية» بل لخلق «معادل رمزي» متعال وشفاف وحا ّر أمر محزن ،فنحن نكتب شعراً يوغل يف هويته الجزائرية ألبعادها السطحية الكثيفة الباردة ،وال أعتقد أن مشكلة املوغلة أساساً يف خصوصيات األمة والحضارة العربية ،ولنئ الكتابة هي يف «ماذا نقول» بل يف «كيف نقول». كنا نحن الجزائريني واملغاربة عموماً نبحث عن اإلنتاج ً مثة زعم مبوت الشعر ،خصوصا يف املجتمعات املتخلفة ،بعد األديب املرشقي ونحتفي به أميا احتفاءّ ، فإن كثرياً من اإلخوة أن تراجعت أشواقها من سؤال الحياة إىل مطلب العيش .إنها املشارقة الذين يزوروننا ونلتقيهم يف املهرجانات وامللتقيات أعراض مرض الحياة بعد أن تفىش االستبداد مبختلف أشكاله يعرتفون بأنهم ال يعرفون عن األدب والشعر الجزائريني إال يف أوصالها .ثم إن الشعر ذاته مل يعد يحتمل ضجيج «صبيان القليل ،هذا ْإن مل يكن بعضهم يعرتف بأنه يجهله متاماً. األيديولوجيا» يف بيته .الكتابة مئة باملئة تجربة والباقي وأمتنى حقاً أن يعاد بناء جسور التواصل الثقايف بني الدول العربية حتى تزاح هذه الغربة التي يعيشها كثري من الكتاب موهبة .ال وحي وال نبوءات وال تفاسري «أسطورية» لفعل هو من لحم التاريخ الحي .إنه تفاعل واع مع تلك النصوص الذين تقربهم الحدود السياسية و«الثقافية» داخل بلدانهم العظيمة والتجارب الخصبة لإلنسان يف عالقته بالحياة ورؤيته وبعيداً عن متناول القارئ العريب 99
ملف
لها وتعبريه الخاص عنها. وال يزال الكالم الشعري يتوق إىل الوحدة الكونية ،مفجوعاً بضياع املعنى -اإلشارة ،وممزقاً بني العودة «املنفى» ونداءات التاليش .ولهذا يبدو كاغنية جريحة تحاول الرقص عىل ايقاع يشبه الدوامة. الشعر بالنسبة يل ،هو تعويض رمزي عن «فشيل الذريع» يف استعادة «أمي» من قبضة الفقد وعن تقبيل العبثي لهدية الحياة امللغمة بالشعور الفادح بأن «طف ًال مذبوحاً يتخبط بداخيل يف دم الكالم» .يساورين شعور دائم حني أكتب بأنني أدون مويت ،ال أدري ملاذا كل يشء ينتهي أو يبدأ من املوت، كام لو أن املوت هو الثابت الوحيد يف معادلة الوجود .كل يشء ينتهي إىل تلك الرغبة اآلرسة يف املحو والتاليش ،إىل عدمية األبيض .كأن الحياة تنتظرين عند الضفة األخرى من الحب برغبة التاليش ،وإىل الشعر برغبة الوجود ،أذهب إىل ّ كتابة مويت .الشعر حفل عزاء فادح الرقص .إذن فليكن الرقص عىل ايقاع حا ّر وليكن الجسد هو «الطعم» و«اللغم». مل أكن يوماً سعيداً مبا أكتب ألنني ال أكتب أشياء سعيدة، قد أصاب بنوبة فرح عابر نتيجة انجاز عابر ما .ثم إن الكتابة مرض مزمن و لذيذ متاماً كفعل الحب. .3يف رصده الذيك والبصري للخطاب الشعري الجزائري الراهن يكون الدكتور «أحمد يوسف» يف «نص اليتم أو الجينيالوجيا الضائعة» قد وضع أصابعه عىل السامت املهمة لهذا النص .أوال بكونه «يتي ًام» أي ال يتىكء إىل مرياث شعري أو مرجعية شعرية يعتد بها ،وثانياً بكونه تعبرياً عن
«حساسية» ملغمة باسئلة الهوية واللغة والوجود واملصري، وهذا ما تضمنته ما سامه «تيامت النص» كتيمة األب والجسد واملوت واملاء .يف بيت هذه «الحساسية» تتعانق أصوات ربيعة جلطي،.عثامن لوصيف ،لطيب لسلوس، مصطفى دحية ،عيل مغازي ،سليمى رحال ،عبد الله الهامل، ميلود حكيم ،أبو بكر زمال ،بوزيد حرزالله ،ابراهيم صديقي، مليس سعيدي ،محمد األمني سعيدي. وأعتقد أن هذه األصوات اكتسبت غناها من كونها مفتوحة عىل الرتاث العريب «املتحول» بتعبري أدونييس وعىل تجارب الشعر األورويب والفرنيس تحديداً وتلك غنائم الحرب ومنها «غنيمة اللغة» .وهذا مل ميس أصالتها يف يشء بقدر ما منحها الرثاء والتنوع وروح املغامرة بتجربة الكتابة .فيام اسرتاحت «القافلة» عند مشارف الخطابة مطمئنة لصيغة «الجمع» فكراً و تعبرياً.
.4هناك الكثري من الشغل تقوم به أقالم أكادميية شابة عىل مستوى املعاهد األدبية الجامعية ولكن انفصال البحث األكادميي عن حركة الحياة الثقافية وطابعها الكرنفايل هناك الكثير من الشـغل البائس ،وألسباب غري علمية يتم تجاهل هذه التجارب ألن تقـوم به أقـالم اكاديمية شابة الجزائر هي بلد الفرص التاريخية املهدورة بامتياز ،وألن على مسـتوى المعاهد األدبية املؤسسات الثقافية غارقة يف وحل السيايس واأليديولوجي الجامعية وبسبب انفصال البحث والعابر ،وألنهم يكتبون بعربية «مختلفة» وبحرية أكرب وبحساسية لغوية أعمق وبرؤية «محرجة» لتلك الوثوقية األكاديمي عـن حركة الـحياة العمياء باملايض .ال أظن أنهم جاهزون للوقوع يف حفرة الثقافية ،يتم تجاهل هذه التجارب «املغرب و املرشق» ،وال يف املربعات الضيقة التي ترسمها دوائر «اللعب الصغري» باألسئلة الكبرية
100
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
الصوت الشعري الجديد في الجزائر
عبد القادر حميدة
شاعر صدر له «أثاث من رائحتها» .2011حائز عىل الجائزة األوىل يف مسابقة الشاعر الكويتي الراحل عيل الصايف عام ،2004التي نظمها موقع مدينة عىل هدب طفل.
2-1
هناك أسئلة نتهرب منها دامئا داخل ذواتنا ،رمبا لعجزنا عن فهم كيمياء األحاسيس واإلحاطة بكنهها ،أو ألننا ال ندري، هناك من يكون مجافيا لرغبة الحفر داخله ،فيقول بكل بساطة (ال أدري) ،وهناك من يكون مسكونا برغبة عارمة للفهم ،فيواجه رشاسة السؤال مبا ميلكه من أدوات ،وألن (الجواب شقاء السؤال) كام يقول موريس بالنشو ،فإن يب رغبة القتناص هذه اللحظة ملحاولة تعرية ما ظل ينتابني طوال أربعة عقود (هي عمري الدياكروين لحد اآلن) وأنا الذي ظللت عازفا عن ذلك ال أرتضيها إال نصا يقولني مبا شاء من تجل ..كتابة متحو فعل الكتابة ذاته ..كتابة تقتفي أثري حينام أهم باقتفاء أثرها.. الشعر هو روح الحياة وجوهرها ،وهو رس الوجود ،بلور مبثوث يف العامل ال يراه إال املبرصون ،أدرك أن أصل األشياء لحظة شعر جميل ،وأن نهاية األشياء شعر أجمل ،وأنه ما بني البداية والنهاية يقف الشعر عند كل منعطف ،بكل بهاء يحيي املارة الذين ال يلقون عليه التحية إال ملاماً .وال يكون الشعر شعراً ،إال إذا كان مختلفاً ،فلغة االختالف هي أسمى تجلياته .أؤمن أن للشعر تجلياته ،وأن اللغة تتطلع
في الجزائر ما يزال الشعر الراهن أسـير ًا ،سـاكن ًا ،يمـشي الهـوينى ،يدور في فلك الشكل، ال تكـاد استفهامـاته تجـاوز ذلك، والسـبب فـي ظـني يعـود إلى قـصور في رؤيتنا للحداثة ومـا بعدها.
دامئاً الحتواء تلك التجليات ،وأنها تضيق عن ذلك أحياناً، وتضيق بذلك أحياناً ،لكنها قلقة ال تستكني ،وقلقها هو جاملها.
.3هنا يف الجزائر ما يزال الشعر الراهن أسرياً ،ساكناً، مييش الهوينى ،يدور يف فلك الشكل ،ال تكاد استفهاماته تتجاوز ذلك ،والسبب يف ظني يعود إىل قصور يف رؤيتنا للحداثة وما بعدها ،هنا أضم صويت لصوت الشاعر الكبري أدونيس الذي الحظ أن كتاب قصيدة النرث هم أيضاً مل يستوعبوا الحداثة ،حيث انتقلوا من شكل إىل شكل ،وظل املعنى ساكناً ،كأنهم غريوا لباساً بلباس .إنني أرى أننا بحاجة إىل وخزات أو هزات كهربائية ،تجعلنا ندرك أنه منذ عرص النهضة العربية ،عرص األسئلة التي مل نجب عليها بعد ونحن نراوح مكاننا ،ذات االستفهامات مر عليها أكرث من نصف قرن ،واجتاحتها عواصف ورعود ،وهي ما تزال تراوح مكانها ،علينا أن نعطي مسألة بعث العقل العريب، وإعادة تكوينه ،أهمية قصوى ،فال ميكن ملجتمع مل يدخل جوهر الحداثة أن يكتب شعراً حديثاً ،وإمنا شعرنا ال يكاد يجاوز ناطحات السحاب التي نبنيها هنا وهناك ،لكننا عاجزون عن إنتاج اآلليات التي توصلنا لبنائها الرسومات :هرني ماتيس
101
فيسبوك
قصيدة الفيسبوك
كالم افتراضي فوق رقعة بيضاء تفتقر قصيدة الفيسبوك للديناميكية والقدرة على التحاور ،خمولة وسلبية إلى حد بعيد ،بحيث ال ً ّ تحول صفحة الشاعر إلى منبر نقاش. جداال ،وال تطرح إشكالية بين القراء وال تستفز وال تقيم
مازن معروف
قدمياً
وحديثاً ،سادت العبارة امللتبسة والشهرية «يحق للشاعر ما ال يحق لغريه» .وكان من حق الشاعر التالعب بالقواعد ،والبديهيات اإلنشائية ،وكتابة العبارة، قص حرف فيها أو استبعاده، والتحريك ومط الكلمة أو ّ إىل ما هنالك .فالشاعر مل مينح إلنجاز فنِّه ،سوى مستوعب لغوي محدد ،وتفويض باستعامل العنارص الجوانية وال ّربانية املحيطة به ،سواء تلك التي تعلقت باألنا وتفاعالتها وذاكرتها أو الطبيعة والتفاصيل واألحداث اليومية والسياسة والدين ..إلخ .كل هذه كانت ما ميكن تسميته «وسائط املضمون» ،أما بالنسبة لوسائط متثيل القصيدة أو إظهارها، فقد تساوى الشاعر متاماً مع آخرين يف استخدامها .ومل يشط يف الحق عن سواه .وسواء َكت ََب متناوالً السياسة العامة ،أو الدين أو النظام العائيل ،أو االجتامعي ،أو حتى الفني والشعري ،كان محتاجاً بداية ،وكغريه من الكتبة والتالميذ ومنشدي املعرفة ،أللواح الصلصال والطني، والصخر ،ويف مرحلة الحقة الورق املفروط ،ومن ثم املج ّمع بشكله الحايل ،ككتاب .قبل أن ينصاع أخرياً ،إىل سلطة وسائط اإلنرتنت ،وتحديداً ،الفيسبوك. تح ُّول الفيسبوك ،كمنصة للشاعر ،وراءه جملة من األسباب، قد يكون أهمها ،عدم اهتامم دور النرش بالشعر قياساً
102
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
بالكتب األخرى ،وحاجة الشاعر «يك ال نقول جوعه» لجمهور يتفاعل معه أو يفتعل معه ،أو فيه ،القصيدة. الفيسبوك ميديا ،وامليديا مل ُتستحدث إال لتَست ِغل و ُتس َت َغل. وطأت َ ْ أرض وإذا كانت رشيحة العامة «أو الجمهور» قد الفيسبوك قبل أغلب الشعراء ،وتنبهت له ،كمساحة عرض و«تواصل» .فإن الشاعر ،بإنزال صورته «مجازياً» و«تفاعُ ل» ُ يف الفيسبوك والقبول به كفضاء تواصيل رضوري ،يكون قد انساق إىل حيث يتواجد الجمهور ،بدل التفرد يف مساحة شعرية ُ يفلش فيها صوته عىل املأل ويستدعي جمهوره إليه بالتفاعل مع هذا الصوت ،سلباً أو إيجاباً .ذلك أن أغلب بروفايالت الشعراء ،تح ّو ْ لت يف الفيسبوك إىل صفحات دعاية لقصائدهم ،قصائد تبث عىل مدى األربع وعرشين ساعة، كرشيط األخبار ،الذي يريدك أن تفجع ملحتواه ،أو ُتذهل، وإن بالقوة. بحث الشاعر عن الجمهور ،ومن ثم رمى نفسه يف أحضانه، ومن بعدها التفاعل معه برسعة فائقة ،مظاهر ملتبسة تناقض بشكل صارخ األزمة التي مير بها الشعر وواقع افتقاده إىل التواصل مع الجمهور ،عىل األقل بالصيغة الورقية .فلو كان كل هذا الجمهور ،موجوداً بفاعلية عىل أرض الواقع وسوق النرش ومعارض الكتب ،لكان الشعر يف كتب الشعراء تحديداً ،عام ًال قوياً يف أحسن حال ،وألَ ّل َف ْت ُ
قالت عالمك اصبر اصبر ياذا الصحراء يصفون لي َ َ
حب َة رمل وينسون َّ َ
ُ تركض في موجةٍ مازالت على البح ِر
الحنًان تركد وخلك فبالك الفذ
والمشكوك اذا فاض الشوق منى واضرم فى الضلوع هيامى
تننزهت روحى سكرى من فرط
يصفون خطواتي الكثيرة َ
االشجان ود مستهام
بينما ال يعرف البحر
جمالها البسام
مفتونة احالمى اطياف تزاور
على شاطئ البحر أي موجة َ غ ِر ْقت في ِّ
364٫500
يا لوعة قلبى من عيون فتك نظراتها السهام
تيهى انت عشق بقلوب مكمن عشقها الغرام
بالنسبة لجمهوره عرب الفيسبوك ،إىل مادة شبيهة بتلك، للمرا َقبة واالستهالك ،ومرضاة هذا الجمهور .بدل أن يحافظ «وقد يكون هذا مستحي ًال بالنظر إىل املنهج الذي يعمل مبوجبه الفيسبوك» عىل موقعه يف مبتغاه األسايس ،بصفته ُم ْخ ِر َج القصيدة ،أي القصيدة التي ال ميكن أن تخلو من قيمة أدبية ما يف كل ّيتها.
تغذية االقتصاد ،وتنشيط دور النرش ،وعليه ،لكانت دور النرش قد أولت الشعر االهتامم األسايس ،وبحثت بدورها عن الشعراء ،وو ّفرت عليهم كل العناء وأحياناً التذلل أو استجداء الوساطات لنرش أعاملهم .هذه الظاهرة إذاً ،زاهرة انتياب الشاعر إىل الجمهورُ ،ت َس َّجل أوالً وأخرياً ،نقط ًة ضد الشاعر .فهي ال تكشف فقط اعرتافه ضمنياً بوجود مشكلة ما «قد تكون تتعلق بقصيدته أو اسلوب كتاباته ،أو مواقفه أو أو ،»..وإمنا تبينِّ هلع هذا الشاعر من وحدته ،وتوقه رضا إلكرتوين لصب صوته يف الجامعة .األمر مشابه لتلفزيون الواقع، ِّ لكننا نشري إىل نقطتني إيجابيتني هنا ،األوىل تتعلق بغاية ويومياته الضيف، خطوات اقبة ر م للمشاهدين ميكن بحيث الشاعر .فهو إذ يدفع بنفسه يف قنوات الفيسبوك وغريها من خلف الشاشة «وقد من مواقع التواصل يكون تلفزيون الواقع االفرتايض ،يحمل، الشاعر ،يتحول بالنسبة لجمهـوره أحسن حاالً ألنك عىل بغض النظر عن َ عبر الفيسبوك ،إلى مادة للمـراقبة األقل تسمع الشخص، مستوى شهوته وبإمكانك أن تتعرف واالستهالك ،ومرضاة هذا الجمهور .بدل يف تعزيز اإليغو ً عىل منط حياته ،وأحيانا الخاص به ،اّ ً هم أن يحافظ على موقعه في مبتغاه يأتيك بال أقنعة ،باهتاً نبي ًال لنرش قصيدته ْ ج القصيدة األساسي ،بصفته ُمخ ِر َ وسخيفاً ،لكن شفافاً»، والرتويج لها .هو ليصبح هذا الكائن أيضا يدرك هنا ،أن ا ُملشاهَ د عام ًال يضاف إىل العوامل التي تدفع بحياة الناس اعرتاف الجمهور بقصيدته أوالً وتثبيت هذا االعرتاف ثانياً، يف طاحونة االستهالك وإهدار الوقت .الشاعر هنا ،يتحول هام العامد األساس لرفع أناه ،وإن عدم وجودهام يد ِّمر تلك 103
فيسبوك
األنا .اعرتاف يأيت معطوفاً عىل رشط تواصل الجمهور معه وتجسيد هذا التواصل مبوقف إلكرتوين «الـ«اليك» مث ًال»، رسياً ،يفقده بدالً من إبقائه تواص ًال روحياً ،عاطفياً ،خاصاًّ ، إظهاره بهذا الشكل االستعرايض ،واملتفجع «ميكن تخ ّيل فم مفتوح وعينني واسعتني إىل أقىص حد أمام نص» .ونعني بالجمهور ككتلة ،أو عدد عليه أن يكون هائ ًال و«ناطقاً» «أي مع ّلقاً إيجاباً عىل القصيدة» .النقطة االيجابية الثانية، أن هذا الجمهور الشعري «العريض» ،ش ّغال أساساً عىل فيسبوك ،ومثله مثل الشاعر ،محتاج لوسيلة ما ،أو حيلة، للتحاور مع صاحب القصيدة ،وإن أذعن هذا الجمهور لواقع حفظ التواصل بينهام بطريقة ال تخلو من شبهة بطريركية. إن ما بني الشاعر وجمهوره أو قارئه ،عىل الفيسبوك ،هو نوع من العالقة التواطوئية االنتفاعية ،إىل أبعد الحدود. فالشاعر الذي يبتغي كسب تأييد لقصيدته ،عليه ،تأدية امتصاص االعجاب عجب بدوره مبا ّ يخطه القارئ أو واجب اجتامعي ،بأن ُي َ والقصيدة الفيسبوكية «إذا صحت تسميتها» مل تتمكن الجمهور عىل فيسبوك ،من دون أن يرفقه مبالحظات أو حتى اآلن من إثارة أي جدال وال طرح نقاشات حول ماهية إشارات أو أي درجة من درجات النقد .بذلك ،يعطي الشعر واألسلوبية ،واحتاملية استنباط موقف شعري ما ،أو ً ً متخصص الشاعر جمهوره ،الرشعية يف املقابل ،كجمهور كتابة مانيفستو ،فرديا كان أو جامعيا ،فيام يخص القصيدة. بالكتابة واألدب .يعرتف به كجمهور ممهور من قبله هو، فهي قصيدة ُتكت َُب لإلعجاب ،ال للصدم ،ولحشد األسامء الشاعر نفسه ،ومن ثم يرده إليه .بالتايل ،فإن املحافظة االفرتاضية حولها ،وبالتايل ،تنتهي صالحيتها بانتهاء وقتها. عىل هذا الجمهور ،وصقله كمرجعية تقييمية هام يف غاية الزحام شديد يف بطن الفيسبوك ،وال بد لقصيدة واحدة أن األهمية بالنسبة للشاعر .تصبح مرجعية هذا الجمهور، يتاح لها الوقت لتأملها ومراجعتها .من هنا ،يكون الشعر الشاعر نفسه .ويف اتجاه معكوس ،تصبح مرجعية الشاعر، يف فيسبوك قد تحول من مادة جاملية للمساءلة واالستفزاز الجمهور نفسه .من هنا، والرفض وإعادة النظر «بـ»، إىل مادة للتسليم بأمر ماُ ،ت َبثُّ يصبح استمداد الشاعر القـصيدة الفـيسبوكية لم ً ا لرشعية قصيدته منوط ساخنة ،ورسعان ما تربد .وكل تتمكن حـتى اآلن من إثارة أي باعرتافه برشعية قصيدة همها إيفاء قواعد الفيسبوك. جدال وال طرح نقـاشات حول القارئ .أي إنه كنوع من وهو ما يفقد القصيدة بعض الرصافة .تبديل عملة قيمتها ،إن مل نقل الكثري من ماهـية الشعر واألسلوبية، ال وبدوره، بعملة أخرى. هذه القيمة .عجز قصيدة واحتمالية اسـتنباط موقف يستطيع القارئ التعليق الفيسبوك عن توليد جدال، شعري ما ،أو كتابة مانيفـسـتو، عىل قصيدة عىل صفحة خصوصاً مع تكاثر األدوات الشاعر ،بقوله رصاحة الشعرية واألساليب واحتامالت فردي ًا كان أو جماعي ًا ،فيما يخص أن إنها «مل تعجبني» أو التعبري ،يضعها كربواز يف حائط القصيدة يبدي مالحظات نقدية. متأخر عن نوافذ ما نشتهيه.
سيورطه هذا يف مشكالت مع القراء اآلخرين ،هذا إن مل تتفاقم املسألة بينه وبني الشاعر .أما أسباب هذا الرتاجع املفزع يف التعبري عن الرأي رصاحة ،قد تكون مبجملها غري معروفة متاماً .إال أنها تبقى يف أحد جوانبها رهناً بالنفاق الذي ميارسه البعض سواء من هذه الجهة ،أو تلك .فمن غري املنطق أن تكون كل التعليقات التي ترد أسفل قصيدة ما، مشتملة عىل عبارات تعني أن كاتب السطور مبدع ،ورائع، ومتفوق ،و و و ..بدون أن نلحظ اية إشارة نقدية .فإذا كان كل كتّاب الشعر عىل فيسبوك مبدعني ،كيف نفسرِّ إذاً ّ تأخر الشعر ،واللغة ،قياساً بالفنون البرصية أو السمعية األخرى. بل وحتى تراجع القصيدة ،عىل مستوى الصورة والداللة واملعنى ،قياساً بنصوص الخمسينيات والستينيات «يك ال نقول الثامنينيات» مث ًال.
104
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
قصيدة الفيسبوك
غالف كتاب "معرش الفسابكة"
إننا نطل من نوافذنا القريبة ،عىل نص هو يف املقام األول شعري ،ومؤلفه شاعر ،إال أنه نص ينتمي إىل زمن أفل، وأسلوب كتايب مستعمل بكرثة وصياغات متعبة ومكررة ،وال جدوى من إعادة نبشه وابتذاله بهذه الطريقة. بهذا املعنى ،وعطفاً عىل ما نقوله ،فإن قصيدة الفيسبوك مل تستطع اخرتاق امليديا الورقية ،وهي الوسيط األعىل قيمة من حيث رمزيته الحسية ،وتاريخه أيضاً وارتباطه بثقافات عدة تعاقبت ولعب فيها الورق دوراً بارزاً يف إثرائها وتفعيلها .وبالتايل ،فإن ما ينرش يف الفيسبوك ،ال ميكن أن يستنبط جدالً ينتقل إىل الورقة .األمر الذي يجعل من أرض قصيدة الفيسبوك عموماً ،أرضاً مس ّور ًة ال ميكن أن تتمدد، ولو بفعل فيضان مهيب من القراء أو أصحاب «أعجبني». فالقصيدة الفيسبوكية ،إىل اآلن ،متتاز بشخصية تجعلها تعمل بهدف أسايس كالقطن :امتصاص إعجاب الجمهور وااللتصاق به .إنها إذاً قصيدة ال َت ُر ُّد شيئاً معنوياً أو فنياً للقارئ ،وقلام تضيف إىل عموم الشعر العريب شيئاً جديداً.. هي يف كثري من األحيان مفتقرة للديناميكية والقدرة عىل التحاور ،خمولة وسلبية إىل حد بعيد ،بحيث ال تستفز وال تقيم جداالً ،وال تطرح إشكالية بني القراء وال تح ّول صفحة الشاعر إىل منرب نقاش .والشاعر يعمل كحارس لكتاباته، والكل يعلم أنه يف مكان ما ،يراقب ،ويتحني الفرصة للرد، وأنه أغلب األحيان مزوقاً ملطفاً مساملاً حريصاً عىل االملام بجميع العواطف املحتشدة حوله. الجدير قوله هنا ،إن الفيسبوك ،يؤمن بالنسبة للشاعر، تعويضاً أو مكافأة من نوع ما .بل وحتى نوعاً من التكريم املتواصل واليومي .إمنا ،بحلة افرتاضية .األمر الذي يتناقض
أيضاً مع موجبات والدة القصيدة :الحياة .أي التامس مع الواقع بصورة أو بأخرى .فام يكتب عىل فيسبوك عموماً، موضوعه عموماً عاطفي ،أو سيايس .وكام أي قصيدة أخرى، أو عمل فني ما ،فإن هذا النص املكتوب هو املنجز الذي يتم باحتكاك الشاعر ،برصياً وعاطفياً وحسياً مع بيئته. أسباب والدة القصيدة تكون غالباً حياتية ،واقعية ،أي غري افرتاضية .إنها يف املقام األول قصيدة غري افرتاضية، لكنها تنقل برسعة إىل ماكينة الفيسبوك ،وتتحول إىل قراء افرتاضيني ،وتنجرف إىل السكون املطلق بعد أن تغزوها املواقف اإليجابية افرتاضياً .والفيسبوك يسمح أحياناً بتكريس شعراء وهم يف بداية تجربتهم .يبدون من خالل كتاباتهم ،غري مطلعني كفاية عىل النتاج الشعري الحديث، وينهلون بفطرية الشاعر وبرباءة من عاملهم – محيطهم – بيئتهم ،مكررين بعلم أو بدون علم ،سابقات يف الصورة والتشابيه وتظهري العالقة بني مفردات الطبيعة وتفجعات األنا .ومام يسهم يف إيقاف هؤالء عند عتبة معينة ،هو جمدون يف هذا اعرتاف شاعر «كبري» بهم ،كشعراءُ .ي َّ االعتبار ،وال يعود من مربر ،للكثريين منهم ،ألن يطوروا أنفسهم .وتكون هذه أوىل مسامري نعوشهم كشعراء. أما املساحة التي يتيحها الفيسبوك لعرض القصيدة ،فهي تقلص الفرص إىل حدود الصفر ،أمام أية محاولة تجريبية مجددة يف القصيدة .وال نعني هنا عىل مستوى طريقة الكتابة ،بل التعاطي الجديد مع الشعر ،وفتحه عىل إمكانيات برصية وسمعية وتآلفات منوعة مع أشكال فنية أخرى كالفيديو أو اللوحة .وهو األمر الذي يحتاج صالة ،أو فضاء مفتوحاً ال مجرد رقعة بيضاء افرتاضية .فالقصيدة عرب فيسبوك ،تبقى رهناً بهذا املستطيل الذي بعد سطور يتحول من أفقي إىل عمودي .إال أنه يبقى جامداً كقطعة الثلج ،وال ميكن ألي شاعر أن يقيم تجربة صوتية مث ًال ،أو برفورمانس «أداء شعري» عرب الفيسبوك .فمحاوالت شعراء الواليات املتحدة وأوروبا وبعض بلدان آسيا يف اختبار اللغة الخاصة بهم ،ووضع خصائصها الصوتية كمكون أسايس «إن مل يكن رئيساً» مرن ومؤثر يف القصيدة ،ال ميكن إنجازها إال يف فضاء محسوس ،وأمكنة مدروسة جدا ،تتيح التفاعل والتناظر ما بني مواد مختلفة تكون معروضة مث ًال ومرتبطة بالنص الشعري املقروء 105
حاشية
.
حسن نجمي .............................................................................................................
البدائي
َ سأ َل ْت ِني:
َ من أين جئ َْت إِىل القصيدة ؟ كيف َ اكتشفت طريقك ؟ من س َّد َد جئت ؟ كيف تكتبها ؟ كيف احب عزلتك ؟ وجه فكرتك عنها ؟ من َص َ خطوتك األوىل ؟ من أَضاء قصيدتك ؟ من َّ كلامت مل تكن وجهُها يف وجهي ،عيناها تلمعان يف نظريت .كأنها كانت تقول ٍ كانت أَمامي تسألنيْ . َت ِص ُلني .كأنها كانت تجلس يف لغ ٍة ُ أسمع صو َتهاَ ،كأَ َّن زجاجاً فاص ًال بيننا. وكنت أجلس يف بهو لغ ٍة أخرى .ومل أدرك ملاذا مل أكن ُ َ ِّ َ ماَّ كنت ُ سمعت و َع مل أسمع (ذكريني بأسئلتك إِ ْن ُ ُ استعطفت عي َن ْيها أل ُر َّد عام ُ ُ نسيت! كنت وكأمنا اس َت ْق َط ْع ُت وقتاً صغرياً لهدن ٍة، ما ُك ُّل أَسئل ِتك يف رأيس اآلن .).ثم أَ ُ دركت أَنها تريد أن تتع َّرف عىل ُط ُقويس يف كتابة الشعر ،ولعلها تريد أن تعرف شيئاً عن طقويس يف الحياة ،أن َتتَع َّر َفني يف الحقيقة. َ ُ كنت أعرف أَن الوجود االنساين ُك ُّله تحركه وتصوغه الطقوس واألفعال الرمزية ،وأن الطقوس جزء ال يتجزأ من خربتنا اليومية، َ وميكننا أن َن َتبينَّ ذلك من ترصفات الشاعر ،من حركاته الجسدية ،من إِمياءاته وهو يحاول أن يخفي أ ْع َر َ اض القصيدة يك ال الس ْحر! يراها اآلخرون فيبطلون ِّ ليتأمل الشاعر نفسه وهو يحاول تدبري حياته الصغرية يف تشابكاتها مع الحياة العمومية ،وهو يبحث عن كلامته التي تليق بتمرينه الروحي ،بحالته كمريض بالكون ،وهو يتمدد يف املكان والزمان ،يف الحارض ويف الذاكرة ،ثم وهو ينكمش كحلزون . وكيف يالحق يف صمت فكرته الصغرية وهي َتن ُْغ ُل يف رأْسه كنملة ،وكيف ينظر إىل الصورة التي داه َمتْه عىل سطح شاشته الباطنية ،وكيف يحاول التوسط بني َو ْض ِع ِه كخ َّالقٍ للجامل وبني األشياء ال َّالمبالية من حوله التي ينتجها الواقع. كشف وليست مثة طقوس بدائية يف طقوس الكتابة الشعرية .الشاعر بدايئ ،حتى حني تنتج قصيد ُته معرف ًة معين ًة فهي معرف ُة ٍ معرفة عاقلة .الجسد الشعري هو الذي ُينتج هذه املعرفة وليست َس ْطو ُة العقل .الطقوس مامرسة ُم َش َّفرة ،وهي ال تخلو من جانب ِس ْحري ،ومن جانب أسطوري (باملعنى القديم وباملعنى املعارص كام َب ْل َوره ُروالَ ْن َبا ْر ْت) .هناك لعب باللغة داخل توسط ُم َعينَّ بني ُبعد دنيوي وبعد ُم َقدَّس يف طقوس الشاعرُ ،مقد ٌَّس النهتم به ،ال اللغة .هناك احتفال .هناك رقص .هناك ُّ ُنعريه أي اعتبار ألَننا نحرص عىل القصيدة أن تكون أرضية الروح وال َه َوى وأال تتحول إِىل ترتيل أو إنشاد ديني .ومع ذلك ،فإِن فيها شيئاً من ذلك. َ يف ،1912قال إِمييل دوركايم "بخصوص األفعال االجتامعية ،التزال لدينا ذهنية البدائيني" .ومن يتأمل الفعل الش ْعري باعتباره فع ًال اجتامعياً أيضاً ،س ُيدرك إِىل أَيِّ ح ٍّد هي ذهنية الشعراء بدائية .بدائية تصلح للشعر فع ًال حني تو ّفر للشاعر رشط الطفولة والدهشة والرباءة يك يكتب كتابة بيضاء ،ويخوض تجربة الصمت ،ويبقى يف قصيدته قريباً من أنفاسه ،ومن رقة ِظ ِّل ِه ،ومن صحرائه ،ومن ر ْم ِل ِه ،ومن َف َرا ِغ ِه ،ومن أفقه ال َغ َجري املفتوح ساعياً وراء ما ُيح ِّر ُره و ُيح ِّر ُر الحيا َة من حوله .وله أيضاً َت َو ُاض ُعه كشاعر إِىل الحد الذي يعترب َن ْف َسه "اليشء" تقريباً ،كام يقول فرناندو ّبيسوا" ،أَنا اليشء .أبداً لن أكون شيئاً .ال أَستطيع أن أر َغ َب يف أَن أكون شيئاً .هذا يعني ،أَنني أحمل يف داخيل كل أحالم ال َعالَم". َ َ يتصادَى يف قيعاين الجوانية عن كلامت وأصوات تليق ،كيف أنتبه إىل أثر تأميل معي هذه الطقوس ،أقول لَهَا ،إِ ْذ أَبحث لِماَ َ باب" كام قال الفراشة ،إىل ملسة الظل ،إىل انحناءة الضوء عىل خشب النافذة ،وكيف أنظر "والنظر ليس هو املعرفة ،ولكنه ٌ َ إِ ْد ُم ْ الحبرْ ُ عىل البياض ساعياً إِىل أعامقِ َن ْفيس ،ملتحقاً بال َعالم ،ال ون َجا ْب ْس ،وكيف أبحث عن املمكن .وبهدو ٍء ،ب ُبط ٍء ،يتقدم ِ ُ ُ َ َ يس .أقول يهمني أن تدل القصيدة عىل يشء ،املهم أن تكون .أميش عىل الصفحة ،وأميش يف الضوء والظل ،أق ِّبل األرض مثل أولِ ْ وات يف حيايت ،وكم من آخرين يف داخيل ،شعرا َء وفالسف ٍة وروائيني وفنانني! كم من َح َي ٍ
106
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
مختارات
شعر
الهنود الحمر المعاصر
في أميركا الالتينية
اختارها وترجمها :وليد السويركي
107
مختارات
والحياة مت ّر مرسعة ًأحياناً فال نعرفها كامل ًة. خوان غريغوريو ريخينو (املكسيك) دعيني أموت بصحبة وجو ٍه من مواليد .1960يكتب بلغة أحد شعوب املكسيك األصلية :املازاتيك ،وهي لغة شفاهية ابتكر لها الشاعر الذي تذ ّكرين باملايض خاصة .يرأس ريخينو يناضل إلنقاذ تراثه وإحيائه أبجدية ّ مبن احتفلوا معي رابطة كتّاب اللغات األصلية يف املكسيك .أصدر العديد وأرشعوا يل درباً إىل جانبهم. من املجموعات الشعرية بطبعات ثنائية اللغة ( مازاتيك/ أحالم دعيني أموت بصحبة ٍ اسباين) .من أعامله" :املوت ليس أبد ّياً" ،1992 ،و" ليستم ّر مل تكن يوماً أحالمي املطر" .1999 ،ترجمت قصائده إىل االنجليزية والفرنسية ربيعي تلك التي جاءت ومضت كاعتدالٍ ّ واألملانية وحاز عام 1996الجائزة الوطنية لألدب املكتوب لِتكرس جمود الليل والنهار، بلغات أصلية تلك التي رأتني ألوي الخيوط عىل وجه السامء السامء تبدّل زرقتها ألهديَ لها نشيدي وشعري؛ ليس عبثاً هذا النهار، يومي وغدي فالسامء تبدّل زرقتها وتتناثر الصور املنقوشة عىل صفحتها لويس دي ليون (غواتيامال) ()1985-1941 معلن ًة أخبار مسريتنا، من مواليد سان خوان ديل أوبيسبو ،إحدى قرى إثن ّية تنمو األوراق والبذور التي سقطت وقت العاصفة الكاكيشيكل الهندية يف غواتيامال .اعتقل يف العام 1985 وتولد الحروف؛ واعترب مفقوداً .مل يكتشف أيّ اثر له حتى العام 1999 تنمو األوراق ونبتات القطيفة حيث ب ّينت سجالت الرشطة الرس ّية أنه كان ضمن عرشات متس ّلقة الالنها ّيئ. املعتقلني الذين متت تصفيتهم جسدياً ألسباب سياسية .كان ف ْلت َْستَسلم لسامع صوت املنس ّيني قد درس يف آنتيغا غواتيامال عىل بعد كيلومرتات من قريته أ ّيها الجاهل الذي يبصق الحروف، بفضل تضحيات عائلته البسيطة وعمل مدرساً يف املناطق فاللغة التي ولدت مع الشمس الريفية .باإلضافة اىل نشاطه األديب ،مارس دورا قيادياً يف ومل تفقد جوهرها العمل النقايب .قام أصدقاؤه من الكتاب بنرش أعامله بعد وفاته و تتض ّمن روايته " الزمن يبدأ يف كسيبالباه "و تطلب مكاناً يف السامء ويف الكتب، مجموعته الشعرية" قصائد بركان املاء" ف ْلتَنتبه لكالمي ،ولتَسمعني: فأنا مللمت يوماً بيوم شتات حقيقتك عن الحنان وعرفتها؛ لو أنيّ ماعرفت جسدك لكنّك ال تعرف حقيقتي. لو أن مالئكته وطيوره الخالس ّية بالطبع-دعيني أموت للحظ ٍة مل تتلقّ مداعبايت دعيني أموت للحظ ٍة لو أين ما ملست عذوبة قيثارته، فال يشء يدوم يف النهاية 108
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
شعر الهنود الحمر المعاصر في أميركا الالتينية
نشيده وحرير زغبه، لكان حت ًام لهذه اليد ، يدي، قساوة الحجر.
عن وظيفة الص ّفة
أيها األطفال! بوسعي أن أس ّميكم أسامكاً عصاف َري اعم بر َ عشباً مثاراً بذوراً اشات فر ٍ ُ ولكن يستحيل اّال أضيف صف ًة : ٌ أسامك مقهورة ٌ أطفال عصاف ُري سجينة اعم ذابلة بر ُ ٌ عشب ُمداس أطفال ٌ بذو ٌر مطحونة فر ٌ اشات جريحة غري أنيّ أعلم أن الصفات ستتبدّل غداً: ٌ أسامك ثائرة ٌ أطفال عصاف ُري حرة ٌ اعم تدفق بالحياة أطفال بر ُ عشب نديّ ٌ فر ٌ اشات منترصة وبذو ٌر عص ّية عىل التدجني.
ٌ نقش عىل شاهدة
لِ َم يجهد املوت نفسه عبثاً يف ال َّن ْيل من الحياة، ما دامت أصغر بذر ٍة
تشقّ أعتى صخرة؟
قصيدة الرجل الذي ظنّ أن لديه خطيبة
فوق حجارة الشوارع أو تحت مطر الورد الجوريّ وأزهار البوجانفيليه تحت أب ّهة أقواس قرص الض ّباط الجرناالت و دار البلدية أو تحت قباب األديرة الحطام ، يف ظالل أشجار الحور أو يف عطر الجنائن و موسيقى النوافري أو يف صمت الساحات ، صاعداً جبل الصليب أو ذارعاً شارع الخطى ، خطاك ،خطاي ، يدك ،يدي . رغم الغزو املهجنني تطرفاً، و ض ّد رأي أكرث ّ الشاب أنا الهنديُ ّ أتأبط ذراع فتاة إسبانية كنت أظن أ ّنه ذات أحد ، ستدُ ّق أجراس قريتي يف القدّاس وأنك ،بيضاء كأشجار ال ّنب املزهرة يف حقول كبار اّ امللكني ، ستط ّلني بصحبتي يف ساحة الكنيسة يك ترافقيني لألبد ولكن حني أدركت الحقيقة : أنيّ مل أكن خطيبك أبداً أ ّنك مل تكرتيث يب يوماً بل كنت تزدرينني أ ّنك أنسيتني من أح ّبوين حقاً ، لت من طفلة إىل تح ّو ِ عجوز غريبة مست ِغ ّلة ينبغي طردها من هذا الوادي . واآلن تبد َّل موقفي متاماً: كرب ح ّبي كاملحيط 109
مختارات
و نضج قلبي كثمرة كرز فلم أعد أرى فيك ال الطفلة وال العجوز ال املستغ ّلة و ال األجنب ّية بل املرأة التي صارت أ ّماً ، آه ،يا جرس الكاتدرائية الزرقاء /الخرضاءيا زوجة النهر الغارق يف أفكاره ،يا بالغة النبل الوفاء، يا ميامتي الغواتياملية من قشتالة، يا أ ّم هذا الوطن وشقيقاته األربع سني مراهقتي، يا امرأة ّ أ ّيتها العذوبة، و اآلن :يا سيدّيت!
يف التقاويم ،بالتواريخ، ويف بتالت الورد املتفتّحة يف بيوت باتزكوارو**.
تلك امله ّمة الشا ّقة
لقد كانت شا ّق ًة تلك امله ّمة الطويلة: أن تصبح رج ًال، أن تتج ّرع ،يوماً بعد يوم ،عصارة الحياة اليوم ّية امل ّرة-العذبة ً كم كان قاسيا أن يشت ّد عودك يف هذا الرصح الذي ينهار! أال تسمع رصير الهياكل القدمية تحت أقدامنا فيكتور دوال كروز (املكسيك) من قبو التعذيب الرطب إىل مواليد ،1948يف مقاطعة اواكساكا ،يكتب بلغتي الزابوتيك سارية الراية أعىل القرص، واإلسبانية ،باحث ومرتجم وأستاذ جامعي .عضو األكادميية عُ ملتنا تتدحرج املكسيكيةّ .أسس مجلة ثنائية اللغة ( )Guchachi'Reza يف منحدر الدوالر تعنى بنرش األدب املكتوب باللغات األصلية يف املكسيك مع مرسع ًة تحت ثقل الفساد، ترجامت إىل اإلسبانية ( .)2000-1970ترجمت بعض أعامله ووطننا ينهار، إىل االنجليزية والفرنسية واإليطالية واألملانية ونذكر منها ": فيام نحن نحيا وكأن شيئاً مل يكن، أربع مرايث ،1979 ،حديقة ّصبار ،1991،و زهرة الكالم1999 ، لقد كانت مه ّمة شا ّقة: أن تحيا وسط الحطام.
بطاقة بريد من تزاراراكوا
إ ّنه الخريف طيلة النهار، نتس ّلق بعد الظهر سفحاً تاركني وراءنا نهراً يسقط يف الهاوية مثل وشاح أبيض عىل وجه العروس ُ ورق الشجر األصف ُر يح ّمر، من دون أن يعرف أهو الربيع قد ّ حل، أم أ ّنه الخريف الدافئ؟ يف وسعنا أن نعرف ذلك 110
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
خوسيه لويس اياال (البريو) ولد يف اياال يف بونو ،بريو ،سنة .1942ينتمي إل شعب األميارا .شاعر وكاتب وصحايف .درس يف الجامعة الوطنية مايور دو سان ماركوس وواصل دراساته العليا يف باريس. من أعامله :االحتفال بالكون ( ،)1976باتشاماما (، )1986 الشاعر يف تالتيلولكو ( ،)1998واملحر ر بني الحب والحرب ( .)2007يف عام ،1990حصل عىل الجائزة األوىل للشعر التي تحمل اسم سيزار باييخو
إ ّنها متطر يف البريو
إ ّنها متطر يف البريو
شعر الهنود الحمر المعاصر في أميركا الالتينية
ومن قلبي ينبعث الدخان عيني الوطن الغائب إنها متطر يف ِّ وعىل كتفيه الصلصال ّيني؛ ّ فتصطك عظامي من الحنني. إ ّنها متطر يف أمريكا الصغار يف طفولتي ويف املواقد التي تدفئ ّ تلك التي ت ّود ال ّريح لو تطفئها إ ّنها متطر يف القرى البعيدة و دمعي يجري نحو الجروف. إ ّنها متطر وال ّ تكف عن املطر عىل األرض األ ّم لكنّ املطر الالنها ّيئ هذا لن ميحو أبداً وجه بريو ّ املغطى بالدم.
رضيح رامبو
ال يشء يف مقربة شارل فيل، وال الريح حتّى أهو ٌ فصل آخ ُر يف الجحيم؟ ّ أنظف شاهدة القرب، والحارس العر ّيب العجوز يخربين: ال أحد يزوره غري اليامم واملطر
ليونيل ل ِينْالف (تشييل) ّ وموسيقي ينتمي لشعب مواليد عام .1969شاعر ،سيناميئ، ّ املابوش،أصدر مجموعته الشعرية األوىل "صحا طائر قلبي" ثم أصوات مابوش ،"2002 ،و كلامت حلمت سنة ّ .1989 بها2003 ،
طريق
ركضت عرب السهول، عىل الشطـآن ويف الجبال ألمللم أقوال أساليف الضائعة.
ركضت أللتقط صمت شعبي وأحفظه يف األنفاس التي تنساب عىل جسدي وتنبض راعش ًة يف رشاييني؛ عىل الشمس التي ترشق، وعىل سفوح الجبال، ليك تغدو ال ّروح ريحاً تنفذ من فجوات الكالم. ُ حلم شعبي مللم َ ركضت ُأل َ يتنفسه هذا العامل. ليك يصبح الهوا َء الذي ّ
السامء نهر ّ
السامء العظيم نهر ّ نام يف منتصف ّ الطريق ويف مياهه تبرتد أرواح األسالف. تستحم األرض السامء ّ يف نهر ّ يف مياهه الصافية العالية مرصعة بالنّجوم ومقمرة ذات ليلة ّ أو ذات ليلة باردة ظل النهر نامئاً ّ يسرتيح منتظراً مياه أرواحنا. السامء العظيم ينا ُم نهر ّ وينتظرين.
مت ّرد
كلامت يداي ترفضان كتابة ٍ مع ّل ٍم عجوز يدي ترفض أن تكتب ما ليس يل وتقول: الصمت الذي يولَدُ ". "عليك أن تكون ّ يدي تخربين أن العامل 111
مختارات
ال ميكن أن ُيكتب.
آثار عىل وجهك
أ ّمي، غريب ،تبدّت عىل وجهك همس ُة املاء يف ثوب ٍ احتضنَت الذكريات ُك ُّلها ذاك الصوت ويشء ما حدّق ّيف. ُ كنت شجرة من آالف الوجوه تطلع من وجهك، ُ مررت ،عىل امتداد جذعها ،مبئات األجيال، متأ ّلام ،وضاحكاً؛ رأيت صليباً احت ّز رأيس ورأيت سيفاً باركني قبيل مويت. أ ّمي ،أنا الجذع الذي يحرتق يف نار كوخنا ناتاليا توليدو (املكسيك) مواليد 1966يف مقاطعة أواكساكا ،تكتب بلغة الزابوتيك و ُترتجم نصوصها بنفسها إىل اإلسبان ّية .من أعاملها :نساء من شمس ،نساءمن ذهب ،2002 ،شجرة الزيتون السوداء ،2004املوت خفيف القدمني2005 ،
ٌ بنت بجذور
يل صور ٌة بحرب السيبيا بعينني مائ ّيتني وزهرة بني ّ الشفتني اقتحم أحدهم الصورة واقتلع الزهرة من جذورها.
فلورندا
(مع ّلمة ومغنّية) غناؤك يشقّ بذرة اللوز ويجرح ،شفيفاً ،قلب الليل مثلام يشقّ عصفو ٌر كبد السامء.
112
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
شعر الهنود الحمر المعاصر في أميركا الالتينية
إىل ت.س .إليوت يك أنىس ،ربمّ ا، الخوف الذي ج ّردين من ّ كل يقني منت يف يديّ أزها ٌر حمرا ُء كبري ٌة ورائعة ُ مشيت عىل يديّ ، طمرت جسدي يف الطني، وامتألت عيناي برملٍ ناعم. أسموين زنبقة املاء ّ ألن صفحة املاء كانت جذري ُ فعميت، غري ّأن ثعباناً كان يواقع أفعى لدغني ُ رصت ترييزياس يتنقل بال عصاً لريوي حكايته. أيّ جذور ستمت ّد عميقاً؟ أيّ أغصان ستنمو من هذا الحطام؟ ربمّ ا أكون آخر غصن سيتك ّلم الزابوتيك، الصفري باللغة سيكون عىل أوالدي أن يستبدلوا ّ أعشاش يف غابة النسيان. أن يصبحوا طيوراً بال ٍ أنا يف الجنوب ،يف ّ كل الفصول، قارب صدئ تحلم به عيناي: ٌ مثرتا اإليكاكيا السوداء، أشتم رائحة أريض سأميض، حني ّ يك أرقص تحت عريشة مهجور ٍة وبعد أن أس ّد رمقي أواصل، أجتاز الساحة ،ولن توقفني ريح الشامل سأصل يف املوعد؛ يك أعانق جدّيت قبل سقوط النّجمة األخرية. سأعود ألصري ثانية تلك البنت التي تحمل يف جفنها األمين تويجة صفراء، الفتاة التي دمعها من حليب الورد لعيني ،سوف أميض بحثاً عن دواء ّ
أومربتو أكابال (غواتيامال) مواليد 1952يف موميستنانغو/غواتيامال.يكتب شعره بلغة املايا -كيتيش ويرتجمه بنفسه إىل اإلسبانية .يع ّد أحد أبرز شعراء القا ّرةُ .ترجمت أشعاره إىل أهم اللغات العاملية. حاز جائزة كانتو دي أمريكا عام 1999وجائزة بليز ساندرار السويرسية عام 1997وجائزة بازوليني اإليطالية 2004 ورفض جائزة ميغيل أنخيل أستورياس الغواتيامل ّية يف العام نفسه بسبب ما عده مواقف مهينة لحضارة املايا كان قد تبنّاها أستورياس .أصدر ما يزيد عن 15مجموعة شعرية نساج الكالم نذكر منها :ال ّراعي ،1990حارس الشاللّ ،1993 ،1996سامء صفراء ،2000الكلامت تنمو .2010وصدرت اّ أزمنة/عمن عام 2009بعنوان له بالعربية مختارات عن دار "طردت اسمك من بايل"
عودة
حني اكتشفت الشعر بدأت أتذ ّكر... شعري رحل ُة عودة.
حامل
***
حرضتك الس ّيد "حامل" ؟ نعم ،س ّيديت ،أنا هو.ال أفهم كيف يض ّيع شخص بذكائكوقته يف كتابة الشعر؛ وأنت ترى كم من شعر قد ُكتب والعامل يزداد سوءاً وأنت ،أتظنينّ أ ّننا إن مل نكتب الشعرِ سيغدو العامل أفضل؟
رسوة وحيدة
وحيدة يف هذا املرج بال أوراق ،بال حياة، ظ ّلت الرسوة منتصبة وظ ّلها املمت ّد 113
مختارات
يرتاح بصمت. الرسوة العتيقة تنتظر وحيد ًة غروب الشمس األخري.
رأيتك يف منامي ِ ترتدين نسيج عنكبوت فبقيت شاخص العينني مقطوع األنفاس العنكبوت أدركت: جسدك ال يحتاج إىل ما هو أكرث
حني بجوع املرء تتّسع عيناه ويبدو له الصحن الفارغ أكرب... أختي الصغرية غادرت للت ّو طفولتها، مبشاعرها الربيئة بصندلها العتيق وصدارها املهرتىء، اصطحبتها إىل املدينة بحثاً عن عمل مل تعرف أمي أبداً ّأن ابنتها ستكون جارية.
ايرما بينيدا (املكسيك) شاعرة ومرتجمة .من مواليد ،1974يف والية اواكساكا .تكتب بلغتها األصلية " الزابوتيك" .نرشت قصائدها التي ترتجمه بنفسها إىل اإلسبانية يف دوريات مختلفة يف املكسيك ودول أمريكا الالتينية .أصدرت خمس مجموعات شعرية ثنائية اللغة منها :يف بطن الليل ،2005 ،وحنني البحر2006 ،
الجارية
العجوز أناكليتو
كيف حال الس ّيد أناكليتو؟ ّ كل يوم أنهض بعناء أكربوتصطك مفاصيل، ُ استيقظت تساءلت إن كنت يف هذه الدّنيا أم ك ّلام يف تلك. يف عمري هذا ،س ّيان أن أصحو هنا أو هناك.
يف النبع
يف املاء الساكن كان يعسوب ّ ملون الجناحني يبحر فوق ورقة يابسة
نسيج عنكبوت ليلة أمس
114
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
"ناداكس يل"
"ناداكس يل" كائنٌ من هوا ٍء وشجن لها عينان واسعتان حزينتان، يدان ناحلتان ونهدان صغريان، ترتاقص أصابعها فوق الصلصال تهب شك ًال للفانتازيا لِ َ وترسم الذكريات؛ َ لكنّ الذكرى موجعة وليك تنجو من األمل تث ّبته عىل األرض مبسامري من تراب وتبيك حني تنحت ،حني ترسم ّ العشاق يف ح ّر العناق الذي ربمّ ا ما عرفته وتبيك حني ُتنضج ذكريات طفول ٍة جريحة بدمى قاسية وتز ّينها ً تعجز عن مسح الدمع من عينيها الواسعتني الحزينتني "ناداكس يل" كائنٌ من هواء وشجن......
شعر الهنود الحمر المعاصر في أميركا الالتينية
يحدث أحياناً حب األشجار يحدث أحياناً أن يقع املرء يف ّ من أجل ظ ّلها ،قوة أغصانها ،أو حالوة مثارها يحدث أيضاً ،يف بعض األحيان، نحب إنساناً أن تغدو الشجرة التي ّ فنحب أفكاره ،شفتيه ،قلبه ،ذراعيه، ّ ولألشجار أعضاؤها أيضاً. ثم يحدث أحياناً ّ أن تغدو الشجرة التي أحببنا قريبة ج ّداً حتّى الفزع، فال تعود شجر ًة؛ بل شمساً تبهر العينني العاشقتني، عندها،يحدث أن ال يعود املرء يدرك: هل توارى مغمضاً عينيه أم ّأن عيناه عميتا َ اإلنسان -الشمس لفرط ما تأ ّمل الشجر َة-
كمهر صغري ،يحترض قلبي السا ّمة. وقد لدغتُه أفعى احتقارك ّ
يف تلك اللحظة
كلامت وداعك ترتدّد يف أذ ّين كرصير زيز الحصاد يف تلك اللحظة، صخرة كبرية أنا، صخرة كبرية وثقيلة تل ّفها العتمة. وأنت لست هنا ،لتدرك كم ّ تتمطى تلك ا ّللحظة، كيف ّ تتمطى آخر غيمة عابرة، بريسيدا كويباس كوب (املكسيك) ذاكريت؟ شاعرة من املايا من مواليد ،1969يف مقاطعة يوكاتان. لقد توارت يف جذع التينة عضو مؤسس يف رابطة الكتاب من السكان األص ّليني .إىل قد تعود إ ّيل غداً جانب الشعر أصدرت كتاباً حول الحياة اليومية لنساء املايا. وقد ال تعود أبداً نرشت أشعارها يف ترجامت إسبانية وفرنسية وإنكليزية نظريت؟ وشاركت يف العديد من املهرجانات العاملية .من أعاملها: أنني الكلب ،1995 ،مثل الشمس ،1998 ،و من حاشية ثويب ،لقد مضت يف طريقها نحو األفق وهي تغمز بطرفها السمك. 2008 يف تلك اللحظة، صخر ٌة كبرية أنا ،بني صخور أخرى، طرف وشاحي حيث تتثاءب العتمة. قلت لك ،وطرف وشاحي بني أسناين: يف تلك اللحظة، كمهر صغري يتقافز قلبي ،يصهل، ويشب بني ّ جرحتها األغصان أحس مقدمك آن تنزف الشمس التي ّ ّ الضلوع إذا ّ مثلام ينزف قلبي الذي ج ّرحته واليوم :يب ّلل حزنه طرف وشاحي بدمعي مخالب ليلٍ قاتل وأقول: ُ 115
مختارات
أحالماً جديدة هوغو جاميوي (كولومبييا) من مواليد 1971يف مقاطعة بوتومايو الكولومبية ،من ألبنا َء بعيونٍ خرض مل يحلمن بهم أبدا شعب الكامنتسا .درس الهندسة الزراعية يف جامعة كالداس .أين البالد ناشط يف الدفاع عن حقوق السكان األصل ّيني يف كولومبيا. التي أنجبتك ياجدّي ً ، ا رش من أعامله :ناري ودخاين ،أريض وشميس ، 1999، ،لسنا ب أين املياه ،2002و راقصات الريح2005 ، التي تج ّ ىل فيها وجهك يا جدّيت. حيث أنا اآلن هم حارضون أينهم وكل يشءّ ، ّ كل يشء أينهم ،من وحدهم بالنسبة يل كانوا يبذرون الذرة ليس سوى ذكرى. يف ضامئرنا يرسمون أصواتهم مكاين املقدّس يف دوائر الدخان أريد أن أبيك تدعو ل ّلقاء رشط أن ال يسقط دمعي أينام كان وتروي حكاية الفرح أريد أن تتل ّقاه األ ّم التي منحتني املهد َ هناك حيث احت َفظت بدموعي األوىل أين من زرعوا أشجار التالقي يف هذه الحياة. ثم جعلوها أريد أن أبيك حيث بىك أجدادي سالسل حجارة تفصل بني القرى أريد أن أبيك يف املكان املقدس أينهم من نسجوا حيث مل يكن آباء أجدادي يعرفون معنى البكاء رموز الكون أريد أن أبيك ألنيّ ورثت عن أهيل جمعوا القمر والشمس يف لحاف واحد مكاناً يسعني أن أبيك فيه. َظ ّل يحفظ أحالمهم الدافئة أريد أن أبيك وأريد البني أن يتع ّلم البكاء أينهم من ّ رشط أن ال يبيك إ ّال خطوا عىل األرض حصته من األرض األم* ّأن الجوع لن يكون أبداً رفيقنا بعد أن يرث ّ فيكون لديه مكان يبيك فيه أينهم من حفظوا يف أيديهم وأنتم، براعم أهلهم أتعرفون البكاء؟ ترقص بانتظار شمس جديدة ألديكم مكان تبكون فيه؟ وقمر جديد أينهم أجدادي من رأوا عرب ب ّلور دمعهم هول الكارثة أين جدّايت من غ ّذين يف أرحامهن 116
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
شعر الهنود الحمر المعاصر في أميركا الالتينية
التي تعلن الحياة واملوت نحن هنا يف هذه األرض لكننا أيضا من األعىل ،مام هو أبعد منها ومام هو ُسفيل والذي هو دمنا نحن ذلك الحيوان السف ّ يل الذي ُحرم من أمه األوىل و ُترك وحيدا قلب قويّ إال من ٍ ليبدأ ّ ،كل لحظة ،من جديد.
ليس عندي ما أقول
فريدي شيكانغانا (كولومبيا) مواليد 1964ينتمي لشعب ياناكونا .أستاذ األنرثبولوجيا حب إلبعاد يف جامعة كولومبيا الوطنية .من أعامله :أغاين ّ املوت ،1992 ،ياناكونا كلم ًة وذاكرة1992 ،
تحت األرض
نحن ذلك الحيوان املل ّون الساكن عمق األرض املقتات عىل جوهرها الذي يغني صاعدا للقاء الشمس نحن قوقعة الزّمن ذاتها التي تحمل أثر األجداد األوائل من جعلوا الحياة عىل هذه األرض ممكنة لذا، نطلب ح ّقنا يف القمر، يف الشمس ،يف املاء الصايف يف الكلمة التي صارت دماء يانكونا* وخيوط قوس قزح
ليس عندي ما أقول ال عن الزمان وال عن الفضاء الذي وقع فوق رؤوسنا ّ فكل يشء قيل: فلرت ِو األنها ُر بدءاً من احتضارها فلرتو األفاعي الزاحفة عرب املدن والقرى وليتك ّلم اليام ُم يف أعشاشه املد ّماة؛ أ ّما انا، ابن األرض العتيقة فليس عندي ما أقول ّ فكل يشء قيل. هذه الشموس اآلفلة ستحفظ شيئاً ما يف ذاكرتها هذه األقامر التي تبيك مع املطر ستعرف مرارة الذكرى، األشجار ،واألسامك ، وآخر قوس قزح مذهّ ب سيطوي ّ رساً يف شكواه؛ كل منها ّ أ ّما أنا، ابن اآلالم واآلمال فليس عندي ما أقول ّ فكل يشء قيل 117
تجارب
مصطفى سند..
شاعر األسطورة واألرض ً مانحا نفسه تلك المساحة الخضراء هو واحد من شعراء السودان الذين كتبوا أسماءهم بريشة الشعر، من الحب والجمال يعيش اليوم في ذاكرة كل سوداني وعربي أحب الشعر في جغرافيا الجباه السمراء
منذ
ما يقارب األربع سنوات ،روعت بالد النيلني مرة أخرى بفقد جلل من كرام بنيها ،إذ اختطف املوت الشاعر السوداين مصطفى سند بعد رصاع طويل مع املرض .الذي أوقف نبض تلك املسرية الشعرية املليئة بالنور. يعد الشاعر مصطفى سند من الرواد األوائل لحركة الشعر الحديث يف السودان ،والذين امتد تأثريهم ألجيال عديدة أتت بعدهم ،خاصة يف فرتة الستينيات ،ومنهم صالح أحمد إبراهيم ،محمد امليك إبراهيم ،النور عثامن أبكر ،محمد عبد الحي وغريهم من الذين شكلوا إضافة متميزة لشعر السودان. متيز شعره بنربة غنائية عالية ،وموسيقى متفردة ،ولغة جزلة محتشدة بالتصاوير واألخيلة .وإضافة إىل كتاباته يف الشعر، فقد كتب أيضاً يف النقد وله فيه إسهامات مشهود لها ،كام
ولد عام 1939بأم درمان ،هذه املدينة التي منحتنا الكثري من املبدعني يف شتى حقول األدب .حصل عىل بكالوريوس التجارة كام درس الحقوق، بدأ حياته املهنية يف وزارة املواصالت، كام عمل باالنتداب يف وزارة الخارجية ملدة أربعة أعوام .غادر السودان بعدها للعمل بدولة قطر حيث تم تعيينه مديراً لتحرير جريدة الخليج اليوم ،ثم عاد إىل السودان فعمل بالصحافة 118
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
كتب القصة القصرية واملقالة الصحفية ،وكان دائم الحضور يف املحافل واملنابر العربية ،بشعره الرصني وإلقائه الجذاب. مصطفى سند أعطى بسخاء كبري لفرتة طويلة ،وهو من الذين وظفوا جامليات اللغة بأسلوب عذب والفت ،ويقع شعرهم يف دائرة الغموض ،ال اإلبهام ،ويتعامل مع شعر الجملة الطويلة الذي يلغي فيها نظام الوقف ،كام يرتك نفسه كثرياً لتيار الشعور ،وتداخل األزمنة ،والهبوط داخل النفس ،وكثرياً ما يبدو وكأنه يتحدث من وراء قناع ،وبصفة عامة فشعره يتميز بالتداخل ،والكثافة ،والغموض ،واإلضاءة الداخلية التي تنبثق فجأة لتيضء عامله املركب ثم تغيب لتعود كلام اشتدت عتمة الشعر. هو شاعر يسطع ويعطي عطاء من ال يخىش فقر املعاين. منذ أن أصدر ديوانه األول «البحر القديم» ومن ثم ديوانه الثاين «مالمح من الوجه القديم» .وظل مصطفى سند هو
اليومية ،ثم عني رئيساً ملجلس إدارة الهيئة القومية للثقافة والفنون ملدة أربعة أعوام ،كام كان عضواً باملجلس الوطني االنتقايل. أول دواوينه الشعرية «البحر القديم» عام 1971م والذي قال فيه: بيني وبينك تستطيل حوائط ليل.. بيني وبينك تستبني كهولتي.. وتذوب أقنعة الشباب.. ماذا يقول الناس إذ يتاميل النخل العجوز سفاهة..
مصطفى سند ..شاعر األسطورة والوطن
ذاته ذاك الشاعر املتوهج ،شاعر يسطع فيه الشعر نهاراً ومثة أحزان تتألق ..لكن أين العمر؟ وكل عنارص هذي الدنيا غنت لألشواق الكربى أو غنت لإلنسان ..فهل غنيت؟ تفوق مصطفى سند عىل الكثري من شعراء جيله ،واستطاع بتمكن واقتدار أن يرتكز عىل موضوعية الرؤيا ،واألداء الشعري الذي يربهن به دامئاً عىل موهبته األنيقة ،ولعل من أبرز ما درج عليه يف الكتابة هو استخدامه لألسطورة كداللة ورمز يف مرشوع بحثه عن الذات واالنتامء. مصطفى سند يبتكر الصورة ،ويخلق الرمز ،وميأل اآلفاق ألواناً تربق بالجامل ،والجامل عنده هو القيمة ،والقيمة هي الوطن وأمجاده وبطوالت إنسانه:
نجده يكثف الرمز ،ويستخدم األسطورة باعتبارها جوهر الوجدان الجمعي ،والخيال الشعبي الذي يحتوي عىل الطاقة السحرية الدافقة للتوحد يف ح ّده األدىن يف فضاء إيحايئ من االعتامد واإلميان "ففي األسطورة ليس مثة مادة ميتة أو هامدة بل كل يش حي ..خيرّ أو رشير ،مألوف أو غريب حسب قول أرنست كاسربر ،وهي بهذا تعمق الشعور بالوحدة بني أفراد املجتمع ،وتتيح قدراً من التواشج اإلنساين وتبعث معنى االنتامء ،فاألسطورة والرمز يتشكالن ويتكونان عند مصطفى سند بكل هذا النقاء املستقبيل الذي يبرش به:
أنا هنا رفيق هذه الروافد املزغردات
يا وجه إين جائع لصباك إين فاتح صدري لسيفك فانغرس ورداً عىل لحم املرارة أو عىل نار السعري يا وجه كن لسواتري شغ ًال به أتفرس املعنى هنالك حيث ال معنى سواك وال حدائق أو شموس.
إذا كان الشعر هو «خلق لغة من لغة» كام يقول جان ستاروبنسيك ،فإن مصطفى سند استطاع أن يخلص اللغة من السكون ،ويحررها من دوائر املامرسة الضيقة ،فهو شاعر ينقي األشياء ويصفي عتامتها عرب التأمل املتبرص.
ويعود لألرض الخراب ديوانه الثاين حمل عنوان «مالمح من الوجه القديم» وصدر يف العام ،1978ثم أصدر بعد ذلك «عودة البطريق البحري» ،1988 و«أوراق من زمن املحنة» ،1990و «نقوش عىل ذاكرة الخوف» ،1990و«بيتنا يف البحر» .1993
119
تجارب من أعامل الفنان عمر خريي
دندنات خلقها ّ املرن يف وسائد الرمل والحجارة
عندما نظر الشاعر مصطفى سند إىل الجنوب السوداين الذي يحرتق يف أتون الحرب ،تلك الحرب األهلية بني أبناء الوطن الواحد ،رنا شاعرنا ببرصه بعيداً هناك يف عمق اإلنسان السوداين الجنويب املتأمل املتامهي يف الطبيعة بغاباتها الخالبة ،رأى مصطفى سند يف مخيلته أن ذلك اإلنسان الذي يعيش يف تلك الطبيعة ال ميكن له إ ّال أن يكون رقيقاً وودوداً ألن الطبيعة ودودة حانية .فمن إذن أوغر يف الناس أسباب االحرتاب ؟ ومن أشعل النار بني أبناء الوطن؟ مصطفى سند يدرك ويعي ويشري إىل الفاعل الحقيقي:
املرسجات تنوح من تعب ويرشب زيتها الليل املع ّلق يف مطارات السهر املرسجات الخرض نازفة كأن األرض تنتظر الزالزل والرياح مت ّد أذرعها وتعترص القمر املرسجات ..مشارق األرض القدمية يف مغاربها وإرث النيل من زمن العنارص تستحيل الرمل تسكن مواجعه وتنتظر املطر وضع الغزاة عليه ميسم حقدهم وتسلقوا جدرانه الخرضاء أرتاالً ميدون العيون إىل منابعه النبيلة يزحفون من الشامل إىل الجنوب ميزقون هوى الرباعم
هذا هو مصطفى سند الذي يرسم الحرف من وهج القمر، وضوء النجوم ،وحيداً نراه اليوم يستلهم ويستوحي ما امتألت به روحه من أرواح األجداد ،وبكل ما يف األرض من بساطة يقف يف بهو األشعار مرشق الجبني ،صادق اليقني، ناصع الطهارة. مصطفى سند شاعرنا الذي نلجأ إىل منابعه كلام ظأمت أرواحنا للكلمة الجديدة ،أو الرؤية األنيقة .هو الشاعر الوحيد الذي منيش عىل موج كلامته وال نبتل باملاء كام قيل عنه دامئاً
إعداد الفاضل أبوعاقلة
120
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
بيني وبينك تستطيل حوائط .. ليل ...وينهض ألف باب بيني وبينك تستبني كهولتي وتذوب أقنعة الشباب ماذا يقول الناس إذ يتاميل النخل العجوز سفاهة ويعود لألرض الخراب.... شبق الجروف البكر لألمطار حني ّ تصل يف القيعان رقرقة الرساب عربت مالمحك النضرية خاطري فهتفت ليتك ال تزال للريح خمرك للمساء وللظالل والربق يل ..والرعد والسحب الخطاطيف الطوال تروى هجري النار تحت أضالعي الح ّرى وتلحف يف السؤال ِّ العيش كيف ارتحالك يف بال حقائب أو لحاف؟ ترتاد أقبية املكاتب والرفوف السود والصحف العجاف ميص الضوء من عينيك زمنا ّّ املنيس يف الدرج العتيق يصلب وجهك ّ أثرا كومض رشارة تعبى عىل خشب الحريق كيف ارتحالك أيها املصلوب مثل شواهد املوىت بزاوية الطريق سكن السحاب وم ّر طيفك من جديد نرثته ّ كف الربق حني تالحق اإلمياض وانعتقت رشارات الرعود أرخى وأزهر ثم طار زنابق كالفجر المعة الخدود حلق املرايا ّ رن كالناقوس وانفرطت ماليني العقود ... "من ديوان البحر القديم"
بورتريه
حمد أبو شهاب
شاعر مخضرم 121
بورتريه
حمد أبو شهـاب ..ذاكرة وطن أجمع النقاد والباحثون في الشعر اإلماراتي على ريادة الشاعر حمد خليفة أبو شهاب ،في التجربة اإلبداعية والشعرية في اإلمارات ،ليس في ميدان الشعر النبطي والفصيح فحسب ،بل في ميدانين
ً شأنا عن الشعر وهما التاريخ وعلم األنساب ،اللذين خاض غمارهما طيلة مسيرة عطائه آخرين ال يقالن الفكرية ،وهو الذي أطلق عليه الباحث في التراث اإلماراتي ،بالل البدور لقب «الهزار الشادي» ،وقال عنه الباحث علي المطروشي «إنه أحد أبرز الشعراء المخضرمين ،الذين عايشوا حقبتين متمايزتين من تاريخ
ً ً عاما ،وتلك تعتبر فترة عاما من حياته قبل االتحاد ثم عاش في ظل االتحاد 31 اإلمارات ،حيث أمضى 39 التألق واإلنتاج الغزير في حياته الثقافية».
سامح كعوش
أسهم
حمد أبو شهاب يف تأسيس وتقديم أول برامج الشعر يف اإلمارات ،وذلك يف أوائل السبعينيات يف تلفزيون ديب ،وأرشف عىل إصدار أول صفحة متخصصة يف األدب الشعبي يف صحيفة يومية يف الدولة العام ،1981وكانت هذه الصفحة منطلقاً للعديد من اإلصدارات الشعرية البحثية والتوثيقية لعدد كبري من شعراء الدولة. لقد قدّم الشاعر والباحث حمد أبو شهاب منجزاً شعرياً وبحثياً إماراتياً متميزاً ،يستحق به أن يكون فع ًال ذاكرة وطن يف كيان شاعر .ومن عظيم شغفه بالرتاث والشعر الشعبي ،عمل من خالل عضويته يف لجنة الرتاث والتاريخ واألدوار املتعددة التي شغلها يف الثقافة ،عىل التأريخ لإلمارات دول ًة وشعباً ،يف كتابه «إطاللة عىل مايض اإلمارات» ،حيث تناول تاريخ العوائل الحاكمة والقبائل يف اإلمارات ،والحكم والقضاء والثقافة والتعليم واملدارس، واملعامالت التجارية ،والغوص واألشعار الخاصة به ،مجتمع البادية والتعريف بالرتاث ،كام أسهم يف توثيق الشعر الشعبي يف اإلمارات يف مرحلة متقدمة من البحث يف الرتاث الشعبي مل يسبقه إليها أحد ،فقد برز باحثاً يف تاريخ حياة الشاعر املاجدي بن ظاهر وتجربته ،يف كتابه «املاجدي بن ظاهر :حياته وشعره» ،وعام ًال عىل توثيق أشعار عدد من
122
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
شعراء وشاعرات اإلمارات ،إذ تناول بالجمع والتدوين تجارب املغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ،الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ،ربيع بن ياقوت ،حمد بن عبد الله العويس ،محمد بن عيل الكوس وفتاة العرب، كام عمل يف كتابه «شاعرات من اإلمارات» عىل جمع وتحقيق نصوص الشاعرات :فتاة الخليج، املياسة ،فتاة جلفار ،شيمه زعبيل ،آمنة أم خالد ،فتاة أبوظبي ،زينه زعبيل ،أنغام الخلود ،هيفاء عجامن ،دانة الخليج ،الحصباه ،فتاة ديب ،فتاة الشارقة ،األمرية ديب ،أريج زعبيل ،شوق ،فتاة الوصل ،ريم الرياض ،فتاة البوادي ،بنت عجامن ،ابتسام الشارقة ،نور العيون ،ليايل أبوظبي ،مي، زهرة البوادي ،مرية ديب ،عالية ،نودية ،ريم البوادي ،فتاة الصحاري ،شام بنت أحمد ،فتاة الحي ،فتاة ديرة ،أيام ،ليىل العامرية ،صحارى وغريهنّ . توثقت عالقة الشاعر حمد أبو شهاب مع املغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ،مؤسس دولة اإلمارات العربية املتحدة ،رحمه الله ،فكانت له الحظوة لديه ،وليس غريباً أن يطوي املوت صفح ًة زاهي ًة من عمر رائد من رواد املنجز الشعري اإلمارايت يف لحظات ألق البدايات املواكبة للتأسيس، بصفحات مرشق ٍة من هذا املنجز بني يدي امللهم واملوحي ٍ نفسه ،أال وهو املغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان
حمد أبو شهاب ...شاعر وذاكرة وطن
آل نهيان ،رحمه الله ،إذ يسقط الشاعر الراحل يف مقام املغفور له الشيخ زايد رحمه الله ،يف مجلسه بقرصه يف جنيف، حيث تلقفته أيدي األصدقاء عندما أصابته الجلطة وهوى ،ويحدّث عن ذلك حمد بن سوقات ،يقول« :كانت ً الساعة تشري إىل العارشة صباحاً تقريبا يوم الثامن من أغسطس «من العام ،»2002عندما وصل أبوشهاب إىل قرص الشيخ زايد يف جنيف ،فسلمنا عليه وجلست معه نتحدث فكلمني عن أحواله ،وعن العملية الجراحية التي أجريت له قبل سنوات لتغيري خمسة رشايني يف قلبه ،وحمد الله أنه ال يشكو من يشء اآلن ،ثم ألقى ع ّ يل قصيدة وفعلت أنا كذلك ،ثم دعينا إىل الحضور ملجلس الشيخ زايد فجلست أنا قرب الشيخ تفصلني عنه طاولة ،بينام جلس أبوشهاب ليس «يا زائد والخري جم وافر بعيداً عنا ،ثم وقف أمام الشيخ وتحدث عن سرية الشيخ ويد الكريم عىل الكريم توسع زايد منذ أن كان يف العني وعدد مناقبه وصفاته واستدل لكنك الشمس املضيئة يف الضحى عىل مواقفه النبيلة بأبيات شعرية ،وكانت من أفضل السري تذر النجوم شواخصاً إذ تسطع» التي رسدها أبوشهاب ود ّونها ،وأظن أنه قرأ ثالث صفحات نعم ،ال ميكن لقارئ يف حياة هذا الشاعر أن يغفل إحساسه بثبات ومن دون أن يتغري فيه يشء ،ورأيته يجمع األوراق العرويب ،واليقني العميق للشاعر اإلنسان بانتامئه إىل بني يديه ،واعتقدت أنه سيتقدم بها إىل سمو رئيس الدولة العروبة الكيان ،فقد كان الشاعر حمد أبو شهاب عربياً «آنذاك» ،ولكنه وقع فجأة عىل الطاولة فتلقفته بني يدي َ شعب عريب أبكته الهزمية ،فردد أبيات الرثاء تق ّمص أحوال ٍ وحملته وشعرت كأن روحه قد فارقت جسده ،فاجتمع زمن الهزمية والغضب لهزمية أشقائه يف الشام ومرص ،يف ِ عليه الحضور ومددوه يف وسط املجلس ،وجاء رجال والنكسة التي مزقت قلب الشاعر وجعلته يرصخ ذات اإلسعاف ودلكوا قلبه فلم يستجب ،فاستعانوا بجهاز الصعق قصيدة كتبها إثر هزمية العرب يف حرب عام :1967 الكهربايئ فاستجاب ،وذهبوا به إىل املستشفى ،و«يقال إنه «أردد يف دجى الليل البهيم أصيب بنوبتني يف أثناء نقله وجاءته الثالثة يف املستشفى، زفرياً من سويداء الصميم وبقي يف االنعاش حوايل أسبوع مل يتحدث خاللها مع أحد» ،وأبيك ال لفقد أب ولكن حتى انتقلت روحه إىل بارئها يوم .»2002/8/19 لفقد كرامة الوطن الكريم» يستحرض الشاعر حمد خليفة أبو شهاب يف مدحه للشيخ كان الشاعر َّ شعب وأم ٍة يف رجل ،وهو الذي سجل تاريخ ٍ آل زايد يف كتابه «قصائد مهداة إىل الشيخ زايد بن سلطان عاش متنق ًال بني اإلمارات من نهيان»ّ ، كل الصفات عجامن مسقط رأسه يف العام جمــع تراث الشيخ زايد الشـعري التي للممدوح زايد ،1936إىل اليمن ،والكويت، الخري ،فهو صاحب الخري وخـصـه بمـجمـوعة شـعرية، والسعودية ،ثم اإلمارات من الوفري ويد الكرم ،بل لمـا رأى فيه مـن مثال الحاكــم جديد ،وكان األمني يف توثيقه يصفه بالشمس املضيئة لتاريخ مفص ٍّ يل يف بالشعر ٍ العـادل ،والوالـد واألخ والصديق يف الضحى ،التي تذر النجوم حني سطوعها ،وهو الباين ملجد الوطن واألمة ،املتفاين يف حمل همومها والتفرغ لقضاياها ،وهو زايد الذي متتد يده البيضاء ملساعدة أبناء العروبة يف كل مكان ،حتى لرناها تسهم يف إعادة بناء س ّد مأرب يف اليمن ،مستعيداً املجد القديم بارتباط اسمه ببناء هذا السد الذي حمى أرض اليمن من الطوفان والسيول ،وكأننا بالشاعر يرتقي مبمدوحه مقامات األسطورة العليا ،حيث يصري للممدوح اسامن أو اسم واحد بداللتني ،األوىل قريبة وهي اسمه «زايد» والثانية بعيدة وهي ما يرتبط باسم السد «مأرب» من دالالت التاريخ واألسطورة ،يقول الشاعر حمد خليفة أبو شهاب:
123
بورتريه
بحرشجات عمر العروبة ،التي أبكته وجعلته يزفر األمل ٍ يحاول أن يخفيها يف ثنايا قصيده وال يستطيع ،فتظهر جليةً للقارئ والسامع ،منبثق َة من قلبه املتأمل وسويداء صميمه، أب ولكن لفقد كرام ٍة. باكياً ال لفقد ٍ يستنطق الشاعر حمد أبو شهاب التاريخ العريب كأنه خالدات ،بل يصنعه ،وهو يرصخ أن يسجله يف قصائد ٍ ّ نفدت قدراته الشعرية فناء الورق بحمل األرق ،هذا األرق الجمعي ال الفردي فحسب ،وهنا ينكأ الشاعر جرح القوم بأن يخربهم مبا غفلوا أو تغافلوا عنه من انهزام وتخاذل، مرجعيات داللية مغايرة، مع ميزة إحالة اللغة الشعرية إىل ٍ مفردات كأن يربز الوجع الذايت ليشري إىل الهم الجمعي ،يف ٍ منها «ليحزنني > - -أنا»« ،إرهاقي > - -أنا» ،يتبعها مبساحة الفراغ الداليل حني تصري براء ًة من جرم الخضوع عرب القطيعة مع الراهن باملوقف الشعري الجازم الحازم، يف قوله «برئت من العروبة إن رضيتم /بهذا الواقع امل ّر األليم» ،وانعتاقاً من فعل الجامعة املتخاذل بالصمت عرب فعل األنا الشاعرة بالقول ُ «قلت» ،والفعل الحارض مع التوكيد «إين ألبرأ» ،يقول:
«إين ألبرأ من تخاذل أمة ما انفك يحكمها الهوى األمار وإذا أ ّمل بها مصاب فادح أمىس ردود فعالها استنكار»
الفعيل عرب رفض الواقع والتمرد عليه بالقصيدة كأداة وعنرص تغيري ،يقول:
«إين ليحزنني تخاذل أمتي عن حقها ويزيد يف إرهاقي لو قلت ألف قصيدة وقصيدة خرجت شظاياها من األعامق ما حركت منا ضمرياً ميتاً أفني ليايل العمر يف اإلخفاق»
يستعيد الدور التاريخي للشاعر العريب القديم ،فيشكو صعلوك جاه ٍّ يل متمر ٍد تخاذل القوم يف نسخة حديثة عن ٍ عىل قومه كطرفة بن العبد ،ومع ّذب يف قومه كام عنرتة بن زمن تعاظمت فيه األخطار وتقطعت أوارص شداد ،ولكن يف ٍ الكيان املمتد من خليج إىل محيط ،لينضم يف هذا املوقف إىل شعراء عرب كنزار قباين والس ّياب والبيايت وعبد الصبور والفيتوري ودنقل ،شعراء عايشوا النكسة وكتبوا فيها قصائد أح ّد من العلقم وأم ّر من الحنظل ،إذ ينظم بو شهاب شعره األنيق باكياً عروب ٍة انهزمت ،مستذكراً أمجاد عروب ٍة تعيث بعزّتها أيدي األعداء ،تعمل فيها متزيقاً يتواىل نكس ًة إث َر العرب باتوا النديم لهذا األمل املقيم ،يف قلب نكسة ،فكأن َ هذه األمة ،يف املساحة الواقعة بني قدس رشيفة وقاهرة املعز املنكرسة بجراح النكسة ،يقول:
«فوا ٍه للعروبة كيف عاثت بعزتها يد الوغد األثيم أرى النكسات ال ّ تنفك ترتى ونحن ضحية الفهم السقيم كأن لتلكم النكسات ثأراً لدينا أو تفتش عن نديم»
يتميز حمد أبو شهاب مبواقفه الحازمة تجاه أوليات االنتامء العرويب والوالء لألمة يف مصريها املشرتك وهمها املتوزع عىل كافة الجسد العريب من املحيط إىل الخليج ،وهي األمة التي تخاذلت عن ح ّقها يف رأي الشاعر ،األمر الذي زاد من إرهاقه وتعب روحه ،حيث يصل الشاعر بالحقل املعجمي لقصيدته مص ّعداً موقفه الشعري إىل املشرتك ويبقى االشتهار األول للشاعر حمد خليفة أبو شهاب كشاعر الداليل الجمعي يف عبارته «ما ح ّركت منّا» ،ليربز الشاعر غزيل بامتياز ،ميتلك من املشاعر الرقيقة وامليول الرومانسية مستنهضاً نخوة ما امتلك شعراء لبنان ومرص الخريين الغيارى من أسهم في توثيق الشعر الشعبي الرومانسيون ،فهو يقيم عالقة أبناء األمة وشعرائها، التوازي والتشابه بني ضفاف وهو يف ذلك يح ّفز في اإلمارات فـي مرحلة متقدمـة بردى يف دمشق ،والربدوين يف املوقف القويل من البحث في التراث الشـعبي لبنان والنيل يف مرص ،وضفاف ويؤسس للموقف بحر عجامن يف اإلمارات الشاملية لم يســبقه إليها أحـد 124
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
حمد أبو شهاب ...شاعر وذاكرة وطن
من الدولة ،حيث يبدأ شعره األول يف الغزل بقصيدة «أتذكرين» ،وهي قصيدته الغزلية األوىل كام يعتربها هو يف قوله عنها يف إحدى جلسات القراءات الشعرية قبل أن يقرأها« :لعلها أول قصيدة قلتها يف الغزل». يقيم الشاعر أبو شهاب مجداً أزلياً للقصيدة الرومانسية يف اإلمارات ،وهو يف خطابه حبيبته التي يسميها «ليىل» يف القصيدة ،ورمبا يكنّي بها عن أسامء أخرى يف الواقع واملكان، ال تسمح أعراف املكان بذكرها رصاح ًة ،وهو يضفي عىل محبوبته تلك الهالة األسطورية مجدداً كام يفعل يف املديح:
وهي الفاعلة يف الطبيعة بجاملها وسحرها األنثوي الفتان، تشري للرذاذ فيتفجر ويحيي الروايب ،وتأمر البدر فيسكب النور من ألقه ،كام يربع الشاعر يف تحريكه للتوتر النيص كحراك عشقي تباديل وصوالً إىل ما يشاؤه من تحفيز عىل معاودة اللقاءات الغرامية« ،أتذكرين >- -أم تذكرين > - - ٌ أعائدات ليالينا التي سلفت > - -ليىل فديت ُِك ما أحىل ليالينا» ،يقول:
«أم تذكرين رذاذ القطر ليلتها ذاك الرذاذ الذي يحيي روابينا والبدر يسكب نوراً من تألقه حيناً وتحجبه سحب السام حينا أعائدات ليالينا التي سلفت ليىل فديتك ما أحىل ليالينا» ً وهو إذ يشري إليها بالجحيم والجنة معا ،يؤكد عىل حالة «أتذكرين عىل الشاطئ تالقينا الرومانسية الخالصة التي برع فيها شاع ٌر من اإلمارات ليىل وعطر الضفاف الخرض يهدينا ال ّ يقل شأواً وشأناً عن شعراء الشام ومرص يف محاكاة من النسيم شذا يهنا الفؤاد به الرومانسية الغربية ،والفرنسية تحديداً طوال عقود ونحن عن طيبه إذ ذاك الهينا متتالية يف القرن املايض ،فال رومانسية بال عذاب وموت ال ٍه كالنا بألحان يرددها يف الحب وفناء يف ذات الحبيبة ،وال رومانسية بعيداً عرب األثري وصايف الحب يسقينا» عن ملحمي ٍة أورد مالمحها عنرتة يف معلقته حني أشار وهو الشاعر الذي يخترص يف تجربته ّ كل ما عرفه ٌ نواهل مني /وبيض الهند العرب من تجارب شعرية يف الغزل والحب ،مستخدماً إىل «ولقد ذكرتك والرماح ُ فوددت تقبيل السيوف ألنها ملعت أساليب لغوية فيها الكثري من الحداثة والجدة قياساً إىل تقطر من دمي/ كبارق ثغرك املتبسم» ،بل كأنه يذهب إىل ملحمية العرص الذي عاشه ،وهو سبعينيات ومثانينيات القرن خاصة بالشعراء وحدهم خارج أوار املعارك وصليل املايض ،فهو يستخدم االستفهام ليدل عىل الجواب، ٌ مقتول السيوف ،حيث األنثى قاتلة بلحظها ،والشاعر «أنت» املخاطبة، ويحرك الشخصيات عرب ضامئر ِ ّ بحظه منها ،كام يف تجربة امرئ القيس وقوله «أغ ّر ِك ً و«نا» الجامعة ،حيث أنا الشاعر غائبة متاما وهي مني أن حبك قاتيل» ،فها هو حمد خليفة أبو شهاب يف غيهب العشق والشغف واللهو عن الذات بذاتها يرصح بعذابه يف الحب والفناء يف حرضة سطوتها ّ الحبيبة األخرى ،هذه الذات التي يراها الشاعر الروح، املهجة ،العيون ،الجحيم ،الجنة ،الجنون ،النور والبهجة وسحرها ،وهو القائل: «أناديك هل تدرين ما سبب الندا والرسور ،يقول عنها ذات قصيدة« :أنت روحي ومهجتي وعيوين /وجحيمي وجنتي وجنوين /أنت أحىل فؤاد عليه جفنك الفاتن اعتدى فخلفه شلوا رصيعاً ممزقاً من املنى يا حيايت /بل وأحىل من الكرى يف الجفون/ أنت نوري وبهجتي ورسوري /وأنييس وراحتي وفتوين» .يساق بسيف اللحظ قرساً إىل الردى» 125
بيت الشعر
بيت الشعر الفلسطيني فضاء لالختالف وحراسة الحلم خالل فترة زمنية وجيزة استطاع بيت الشعر الفلسطيني أن يصبح أحد الفاعلين األساسيين على ساحة العمل الثقافي الفلسطيني ،وهو يضع اليوم نصب عينيه إقامة أكاديمية للشعر ،وتوحيد بيوت الشعر العربية.
مراد السوداني
تم
تأسيس «بيت الشعر» يف فلسطني ليكون البيت الرابع يف وطننا العريب الواحد ،بعد تونس والشارقة واملغرب، ومن بعدها أقيمت بيوت الشعر يف غري بلد عريب. إن بيتنا – بيت الشعر يف فلسطني – الذي أعلن حضوره األكيد يف الحياة الثقافية الفلسطينية والعربية هو وعد بالتواصل والحراسة عرب: إننا نرى يف «بيت الشعر» يف فلسطني وسيلة للمثقفني الفلسطينيني لتعميق مرشوعهم اإلبداعي وتكريس دورهم يف تأكيد الحرية وبنائها ،ورغبتهم يف اإلضاءة عىل الشعر الفلسطيني يف إغناء الحياة وحراسة الحلم. ّإن تأسيس «بيت الشعر» يف فلسطني ال يعني عىل اإلطالق اقرتاحاً للنص أو للكتابة ،وال يحدد اتجاهاً بعينه ،بقدر ما يؤسس لفضاء االختالف والجدل واالقرتاح والتجريب والتجديد والبحث عام هو أعمق يف تجاربنا ،وهو محاولة من شعراء ومبدعي فلسطني لتجاوز حاجز الجغرافيا والسياسة الذي فرض تقسيامته عىل واقعهم ،نحو وحدة املرشوع الثقايف الفلسطيني ،الوحدة املبنية عىل الجدل والحوار والتواصل وتثبيت جسورهم مع عمقهم العريب واإلنساين.
126
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
عرب سريته اإلبداعية خطا «بيت الشعر» خطوات رائدة وملموسة عىل طريق تأصيل الرتاث الشعري والنهوض بالحركة الشعرية الفلسطينية يف إطار استعادة املبادرة الثقافية وتحريك عجالت اإلبداع نحو مسافات أكرث رحابة وأبعد مدى. وإليصال الصوت إىل األعامق واألقايص فقد أسس «بيت الشعر» دار (الزاهرة) للنرش والتوزيع ،حيث يصدر عن هذه الدار كل مطبوعات املركز الشعرية والنقدية والشهادات التوثيقية .وقد جاءت (الزاهرة) لتس ّد ثغرة يف سياق الطباعة والنرش لعدم توفر دار نرش وطنية يف فلسطني. وألن من حقّ الجيل الجديد علينا أن نأخذ بيده ونساهم يف دعمه فقد احتضن «بيت الشعر» اإلبداعات الجديدة وفتح لها األبواب مرشعة لرتى النور ..فنرش لهم غري مجموعة عن وشجع األصوات الشابة بدعم الديوان األول لهم، (الزاهرة) ّ إضافة لنرش إبداعاتهم يف فصليتي «الشعراء» و«أقواس». يف السياق ذاته فإن فصلية «الشعراء» الثقافية املتخصصة التي يصدرها املركز حققت حضوراً عربياً وعاملياً باعتامدها واحدة من أهم ثالث فصليات ثقافية يف حوض البحر األبيض املتوسط ،وباعتامدها عدداً من املكاتب يف البلدان
بيت الشعر الفلسطيني ..فضاء لالختالف وحراسة الحلم
بيت الشعـر الفلسـطيني يضع بين األشقـاء الزمالء فـي بيوت الشـعـر العربية مقترحـ ًا بضرورة توحيد بيوت الشعر العربي تحت مسمـى «بيت الشعـر العربي» ّ
العربية واألجنبية أوصلت «الشعراء» صوتها واضحاً وجلياً إىل بؤر اإلبداع لتحقق تواص ًال ثقافياً الفتاً ،وقد صدر منها حتى اآلن ( )30عدداً ،باإلضافة لطبعة عربية. كام أنجح «بيت الشعر» ملتقى فلسطني الشعري األول، وكذلك تم عقد ملتقى الشعراء الشباب يف غزة ،حيث شارك عدد من املبدعني والشعراء الشباب تخللها أمسيات شعرية وندوات ،والعمل جا ٍر ليكون هذا امللتقى سنوياً. أ ّما بالنسبة للنرش فقد أصدر املركز عن «الزاهرة» للنرش والتوزيع ما يزيد عىل مائة وخمسني إصداراً يف السرية الشعرية واملختارات واملجموعات الشعرية .كام تم إصدار «كتاب الشعراء» وهو كتاب لشاعر مح ّ يل أو عر ّيب يوزع فصلياً مع مجلة «الشعراء» ،وعن «الزاهرة» ،أيضاً ،صدرت عرشة كتب عراقية ملبدعني عراقيني داخل الحصار . ومن أجل تثبيت األصيل يف الروح والتجربة فقد أع ّد املركز «معجم الشعراء الفلسطينيني» والذين يزيد عددهم عىل 350شاعراً منذ بداية القرن وغريها من األنطولوجيات الشعرية ،ثم وضعهم عىل اإلنرتنت ليفيد من ذلك الباحثون والدارسون وحامية للذاكرة من النهب والنسيان. وبتأسيس «النوادي الشعرية» يف الجامعات الفلسطينية وربطها بـ «بيت الشعر» يكون «بيت الشعر» قد وضع يده عىل منابع اإلبداع واألصوات الجديدة واملشاريع اإلبداعية التي تحتاج لالهتامم والرعاية .ويذكر أن املميز والالفت من هذه اإلبداعات يتم نرشه يف مجلة «أقواس» لألخذ بيد هؤالء املبدعني وتشجيعاً لهم. وأعلن «بيت الشعر» عن جائزة «بيت الشعر» ألفضل وتم تشكيل لجنة عرب املركز لتكريس تقليد منجز شعريّ ، ثقايف بأبعاد معنوية ومادية وتكتسب الجائزة أهمية خاصة كونها تصدر عن مركز متخصص يعنى بالشعر وفضاءاته. وفق ما سبق وغريه يواصل «بيت الشعر» الحفر اإلبداعي وم ّد جسور املثاقفة والتواصل حتى ّ تظل فلسطني رأس حربة ثقافية ضد التغريب والهيمنة والوصاية والنهب. واستطاع «بيت الشعر» أن ينفد إىل العمق العريب عرب
تكريم عدد من املبدعني والشعراء العرب تحقيقاً للتواصل وتأسيساً عىل الوفاء قنطرة للناجز واألكيد .حيث تم تكريم الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر وصدر عدد مزدوج عن تجربته يف مجلة (الشعراء) العام ،2005 وكذلك الشاعر محمد بنيس وعدد مزدوج عن تجربته الشعرية واالحتفاء بدوره الريادي يف محاولة من بيت الشعر للتواصل مع األشقاء العرب من املثقفني والشعراء الذين كتبوا وانحازوا لفلسطني قضية وثقافة ،كام تم تظهري عدد من املشاريع الثقافية لعدد من املبدعني الفلسطينيني يف الشتات،فتم استزراع مقولة كل من الشعراء املؤسسني يف الثقافة الفلسطينية من الكتيبة األوىل وتم جمع أعاملهم: برهان الدين العبويش ،حسن البحريي ،يوسف الحسون، يوسف الحطيني ،يوسف الخطيب ،ناجي علوش ،خليل زقطان ،وغريهم من األسامء الوازنة التي أسست مداميك الثقافة الوطنية يف سياق تواصل األجيال وتجاور التجارب الشعرية لإلفادة وتحقيق األصيل والحقيقي يف الروح والتجربة .وك ّرس «البيت» تكريم الشعراء الفلسطينيني يف حياتهم سياقاً عالياً يليق بدورهم وتجاربهم. ّإن الحصار الذي تع ّرض ويتع ّرض له بيت الشعر بق ّلة الزاد عىل الرغم من وحشة الطريق وفداحة املسؤولية ،مل يحل من دون إكامل البيت لسريته ومسريته التي يطمح أن تت ّوج بـ «أكادميية الشعر يف فلسطني» لتكون الثانية بعد «أكادميية الشعر يف أبوظبي» ملا للشعرية الفلسطينية من حضور وأهمية يف املعامر الشعري العريب واإلنساين. وملناسبة اليوم العاملي للشعر فإن بيت الشعر الفلسطيني يضع بني األشقاء الزمالء يف بيوت الشعر العربية مقرتحاً برضورة توحيد بيوت الشعر العريب تحت مس ّمى «بيت الشعر العريب» أسوة باالتحاد العام لألدباء والكتّاب العرب. ويف سياق تكريم بيت الشعر لألسامء الوازنة يف الشعرية الفلسطينية انحاز للتعريف بإرث أربعة من األسامء العالية، يوسف الخطيب ،خالد أبو خالد ،ناجي علوش ،ومحمد اليف، فهم مربع شعري وثقايف بامتياز نيضء عليهم مبقولة الوفاء هنا تأكيداً عىل السرية واملسرية 127
فن القول
«سالم» ْ تعبير من القول الشعري! محمد المزديوي
"سالم" ْ
ٌ لحظة ما ...إنه لحظة إنصات ،لحظة تسامح ،لحظة لقاءات ،لحظة هو رمبا فنّ ،هو رُبمّ ا حركة ،ولكنه ،يقيناً، تقاسم .ما هو ْسالم؟ إن كلمة ْسالم تعني يف اللهجة الشعبية األمريكية "( "claqueرضبة /طرقة /صدمة) و" ُ ( "impactتأثري/مفعول) ،وهو تعبري مستعا ٌر من تعبري "سالم ذي دور" ،أي "صفق الباب" .ويف إطار الشعر والص َور ،من أجل زعزعته ،والتأثري الشفهي والعمومي ،يتعلق األم ُر باإلمساك بياقة (قميص) املستمع وط ْرقه ورضبه بالكلامت ُّ عليه .الشعر الحي الناتج من إنجازات "البيت جرنايشن" (جيل البيت /جيل املتعبني) .هذا الشعر الذي استوىل عليه شعراء الشارع ومغنو الراب ،الراغبون يف الخروج من إطار "الهيب بوب" .وقد ابتدأ األمر ،يف بداية سنوات ،1980مارك سميث يف شيكاغو ،تحت شكل قراءات عمومية ،من أجل تعزيز شعبية هذا الجنس الشعري وبهدف عبور األطليس يف سنوات التسعينيات السالم مينح إمكانية للجميع لقول الشعر مبناسبة أمسيات منظمة يف مقا ٍه وأماكن عمومية .وسواء كان من القرن العرشينْ . ٌ ً رتجال فهو يتناسب مع لحظة ميكن خاللها قول كل شكل من أشكال الشعر أو يش ٍء َما له عالقة ،من "سالم" مقروءاً أو ُمر َّت ًال أو ُم َ ْ ً ً "سالم" هي لحظة نقول حينها الشعر يف قريب أو من بعيد ،بهذا الفن .وألن هذا الفن ليس عىل اإلطالق شكال خاصا من الشعرْ . كل أشكاله ،موزونة كانت أو غري موزونة ومقفاة أو غري مقفاة ،نابعة من أي تيار شعري .وإن فن ْسالم مينح نوعاً من اإلدراك غري املتميز ،وهو أحياناً يكون مفاجئاً ،رها ُن ُه ليس هو املطلق األديبّ .إنه شع ُر اللحظة ،والذي له نزوعٌ يف معظم األحيان أ ّال يتجاو َز مكان حياة وتفكري و ُردود ِف ْعل تلقائية .إنه مكان ُ السالم ُ السالم يجعل من تقاطع أيضاً ،وتجاربْ . إطار هذه اللحظة .إن َم ْشهَد ْ "سالم" املمكن ،أثناء إنشاد قصيدة ،إعادة بناء نسيج اجتامعي يعاين من كل ما يصنعه عاملنا من تفاوتات وعنف وعدم فهمْ . "سالم" اكتسح ،شيئاً فشيئاً ،املدارس والثانويات واملراكز االجتامعية هو مكان تعبري شعري وتعبري وتسا ُمح .من املدهش أن ْ والجمعيات ،عىل الرغم من أن رشيحة املراهقني محرومة من حضور األمسيات .كيف ميكن االنتقال من الحانات إىل مقاعد املدرسة؟ الفاعلون االجتامعيون رأوا األمر بعني الرضا ،ألنه يف املقام األول يتيح التشجيع عىل الكتابة واالشتغال عليها تحت كل أشكالها ،ثم إن األمر يتيح القول واكتشاف التعبري الشفهي ،وأخرياً يقود األمر لتع ّلم اإلنصات لآلخرين .يتعلق األمر بالكتابة ،ألنه، حتى يف إطار الشفهية وحتى يف ميدان االرتجال ،تظل الكتاب ُة ُمحت َّل ًة للر ّيادة ،سواء كانت شك ًال خطياً ،موضوعاً عىل ورق ،أو غري خطي ،أي مكتوباً بطريقة شفهية أو يف رأس الشاعر .األوراش التي تنطلق من إكراهات أو من ألعاب كتابية وشفهية بسيطة، يك تتجه إىل أشكال أكرث تعقيداً وأكرث حميمية ،تقود املشاركني إىل امتالك وعي بكتابتهم وبأصواتهم الخاصة و َن َف ِسهم الداخيل. إنها تزن الكلامت وتنظفها ومتنحها حمولة شخصية .ورشة كتابة ْسالم ،من جهة أصولهاُ ،تد ِرج ،دفعة واحدة ،الكتابة يف مامرسة متنوعة ومفتوحة .إن ْسالم ،يف حقيقة األمر ،ال يتميز بجنس واحد بل باإلضافة والكوالج واملزج بني ثراء اللغة الشفهية وأيضاً "سالم" التعبري الصويت والرنة والريتم (اإليقاع) وكل أساليب الكتابة من شعر وأغنية وهيب هوب وشكل رسدي وارتجال .ال يدخل ْ يف تنافس مع الشعر ،ألنه جز ٌء منه ،ولكنه يناضل يك يجد مكاناً له تحت شمس الشعر الواسعة ،ولو اضطره األمر إىل االستعانة بأشكال وتعبريات وتجارب أخرى ...يكتب الفنان الفرنيس Grand Corps Maladeوهو من أهم ممثيل هذا الجنس الغنايئ لقص حياتهم ،إنها هي ،إ ّن ُه هو ،هو أنا ،هُ ْم نحنُ ،نأيت ْسالم ،يف هذه املرحلةَ :منْ هُ م هؤالء األشخاص الغامضون الذين يأتون ّ هم بالنسبة لنا م ر األم وهذا سعيدة حتى إن مل تكن لديك رغبة ،لكن إذا أ ْن َص ِّت لنفسك قلي ًال ،ربمّ ا ستكونني ُ ُ ٌّ
128
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
تحقيق
شعراء الجنوب المصري بعد أمل دنقل
أيتام المنابر ظل شعراء الجنوب المصري غائبين عن دوائر الضوء واإلعالم منذ رحيل الشاعر أمل دنقل ،وكان ذلك مثار حيرة وأسئلة ،أولها تركيز المنابر على شعراء العاصمة ،ثم لماذا لم يظهر في الجنوب شاعر بقامة أمل دنقل ،وهل يعني ذلك أن صعيد مصر يفتقر للشعراء المتميزين؟
القاهرة -حمزة قناوي
شعراء من جنوب مرص لهم دواوينهم ،ونال بعضهم جوائز وحظي بالتكريم وشارك يف مهرجانات ،لكن هذا مل مينحهم بطاقة عبور إىل «منت» املشهد املرصي الحديث كالكثري من شعراء العاصمة واألقاليم الكربى الذين ميلؤون املنابر واملطبوعات. «بيت الشعر» طرحت االسئلة عىل كوكبة من شعراء الجنوب للوقوف عىل نظرة هؤالء تجاه التمييز واسبابه، وموقعهم عىل خارطة الشعر. أشرف البوالقي
لديه عدة دواوين منها «جسدي وأشياء تقلقني كثرياً»، و«واحدٌ مييش بال أسطور ٍة»« ،وسلوى ِورد الغواية». كانت البداية من سؤال :شعراء الجنوب يف مرص ..أين هم وملاذا ميارسون هذا الغياب منذ أمل دنقل؟. البوالقي يح ّور السؤال« ،إن اإلجاب َة عن هذا السؤال تدفعنا مرص دفعاً لتغيري صياغته لتصبح :أين املشهد الشعري يف َ
منذ أمل دنقل؟ ألن إجابتَنا ستكون عىل الصياغة األوىل أن شعراء الجنوب موجودون ،وبعضهم تجاوز منجز أمل دنقل وليغضب َمن يغضب -لكن املشكل َة عىل املستوى الفني - ْ املناخ الذي عاش فيه أمل دنقل هو الذي تغري متاماً أن َ بعد تراجع القيمة التي كان ميثلها الشع ُر والشاعر معا». وال ميكننا الزعم أن مستوى تلقي الفنون يف زماننا الراهن - بسبب التعليم والثقافة وبرامج األنظمة السياسية -يقرتب يصدح بالشعر والقصيد، من مستواها أيام كان أمل دنقل ُ كام أن التجرب َة النقدية التي عاش دنقل بني ظهرانيها كانت تجربة شديد َة الخصوبة وشديدة اإلخالص ملفهوم األدب والنقد معا وهو ما تفتقر إليه حالتُنا الثقافية املعارصة .ومع خالص تقديرنا واحرتامنا واعرتافنا بقيمة وتجربة أمل دنقل عىل املستوى العريب واإلنساين عامة ،إال أن كرث َة استدعائه واملقارنة بينه وبني ممثيل التجربة الشعرية املعارصة فيها ظلم بينِّ للشاعر املعارص الذي أصبح مطالبا مبا هو أكرث ٌ من القصيدة يف ظل اتساع الشبكة الثقافية ،ويف ظل سيادة 129
تحقيق
أرشف البوالقي
مأمون الحجاجي
فتحي عبد السميع
واستعذاب حالة أن يتلبس الشاع ُر دو َر «الضحية» أو تآمر ثقافة الرسد وتداخل الفنون واآلداب .ولعلنا متفقون عىل املؤسسة عليه إلقصائه أو نفيه مل ُيع ْد حقيقيا فالشاعر/ أن أمل دنقل مل يكن مطالباً بقراءة النقد وال مبامرسته نفسه بقصيدته .ميكننا فقط وال مبشاهدة السينام وال بالدخول عىل شبكة اإلنرتنت، الشاعر قاد ٌر عىل أن يفرض َ ُ الحديث عن دور اإلعالم أو عن مركزيته الشديدة وتسليط وما إىل ذلك مام هو جز ٌء ال يتجزأ اآلن من تكوين وثقافة ً الجنوب موجودون الضوء فقط عىل أبناء العاصمة ،وهو أمر يبدو طبيعيا مع الشاعر املعارص .الخالصة إذن أن شعرا َء ِ سياسات األنظمة السياسية التي تعتمد املركزية ،ورغم كل ومنترشون يف ظروف أقىس وأصعب من تلك التي عاشها ينفصل ُ َ ذلك أيضاً استطاعت الشبكة العنكبوتية أن تتجاوز كل هذا سؤال التأث ِري عن سؤال «أين الشاعر الراحل ،ولن بفضائها الرحب والعريض». شعراء الجنوب منذ أمل دنقل ،ألن املض َم َر يف السؤال أن وهل اختلف الوضع بعد الثورة عام كان عليه قبلها؟ يجيب أمل -رحمه الله -وأترا َبه كانوا ذوي تأثري قوي يف الحركة ً البوالقي :بعد مرور عام ونصف تقريبا عىل الثورة ال ميكن االجتامعية والسياسية وليس فقط يف الحركة األدبية أو الثقافية ،وهو ما سيجرنا مرة أخرى لإلشارة إىل ظلم املقارنة الزعم أو االدِّعاء بأن شيئا يف الحالة الثقافية قد تغري بعدُ . املتغيرَّ الوحيد يف املزاج املرصي الذي بات غاضباً وثورياً بني الفرتتني التاريخيتني ،وبرغم ذلك فإن تأث َري شعرا ِء وقادراً عىل الجهر برأيه بل والتعبري عنه ،ورمبا مل متس الثورةُ الجنوب ال يختلف عن تأثري غريهم يف إطار التأثري العام َ بعدُ الرتكيبة الثقافية الرتباطها بالتعليم واإلعالم .ويكفي الضيق للقصيدة يف مرص والوطن العريب بعد سيادة فنون أن تعلم أن وزارة الثقافة املرصية هي الوحيدة من بني أخرى كالسينام والرواية وغريهام ،فضال عن استفحال أزمة التلقي بني الشاعر واملتلقي ووجو ِد فجوات ورمبا خصومات كل الوزارات التي حمل حقيبتَها أك ُرث ِمن مثانية وزراء عىل التوايل يف تعديالت وزارية متعاقبة !..ويكفي أن تعلم أيضا واتهامات متبادلة بينهام». أن كل برامج مرشحي انتخابات السؤال الثاين هو هل يشعر فــرصة الشـاعر الحقيقـى الربملان وكل برامج مرشحي رئاسة البوالقي باإلقصاء من طرف فـي الجنوب أكبر مـن فرصة الجمهورية خلت متاما من أي املؤسسة الثقافية الرسمية إشارة للثقافة !!..لقد كنا يف أشد لشعراء الجنوب يف مرص الشاعر القاهرى ،وهــناك الحاجة لثورة يف الفكر والثقافة لصالح شعراء العاصمة؟ القاهــرة في الشعراء مئات والتعليم قبل ثورة الشوارع ويرى« :إن الكال َم عن أكثر موهبة منه ،ورغــم ذلك وامليادين. التهميش والنفي واإلقصاء مل يعانون مثل الشاعر الجنوبى -وعن التغيري الذي طال لجنة يعد ُمجدياً وال مق ِنعاً اآلن، 130
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
شعراء الجنوب المصري ...أيتام المنابر
عبد الرحيم طايع
عبيد عباس
الشعر مبرص واختالف تركيبتها ،وهل له تأثري عىل مسألة التمييز الذي يعاين منه شعراء الجنوب؟ ،يرى البوالقي انها ْ تختلف ُ آليات تشكيلِ لجن ِة الشعر باملجلس األعىل عن «مل اآلليات السابقة ،رمبا تغريت بعض األسامء أو اختفت بعض الوجوه لكن اآلليات كام هي ،ورمبا كانت سياسات اللجنة كام هي مل يحدث أن تم اختيا ُر شاع ٍر من الجنوب يف لجنة الشعر لكن من املهم اإلشارة إىل أنه ليس صحيحا أن سياسات العمل الشعري يف مرص ،فالشعر ال ترسم ِ اللجن َة ُ سياسة له وال ميكن وضع خارطة أو تصورات تتفق وطبيعة الفعل الشعري .وبعيدا عن هذا فإن اللجنة تضع َ خططها القريب من العاصمة ومل يحدث امجها لتخدم املواطنَ َ وبر َ قط أن أقامت لجنة الشعر مهرجانا وال ندوة وال أمسية يف الصعيد من قبل ،إمنا هي تستدعي شاعرا كل عام لتنفحه بضعة جنيهات وليصفق له عرش ُة أنفار من الحضور ثم يعود مزهوا إىل بالده»! عبد الرحيم طايع
شاعر من الجنوب له أكرث من ديوان ،آخرها «وجه كبري مخيف» .يرى األمر من منظور يخفف من قتامة الصورة «فشعراء الجنوب حارضون يف املشهد املرصي بثقلٍ ، ولكنهم مختلفون يف اإلعالن عن انفسهم» .نحن موجودون بكثافة يف املشهد الشعري
املعارص مبرص منذ أمل دنقل ،ومتس ِّيدون ايضاً .ومعظمنا يف الحقيقة جاوز الكثري من األسامء التي تقرتن مبرحلة الريادة، وإن بقيت عقدة الشهرة تحول بني املبدع الجديد وأخذ فرصته .وفيام يخص شعراء العاصمة -الذين هم قريبون من وزارة الثقافة فهناك األقرب الذي يجدونه أمامهم بشكل دائم ،نحن بعيدون يف التحافنا هنا بالصعيد ،لكن ال أعتقد أن العمد وارد .وباملناسبة فحالة الجنوب وعالقته مع العاصمة كاملناطق األخرى مبرص «واسعة الجغرافيا» كالدلتا وسيناء ومدن القناة ..مادمت بعيداً فلست يف دائرة االهتامم من القامئني عىل العمل الثقايف وتكثيف مركزيته حول القاهرة .أما لجنة الشعر فتنحرص اختياراتها بني جملة من األسامء املشهورة ما بني األكادمييني و«أدباء اإلعالم» .و ُيفهَم من ذلك أن املجلس محروم من وجود شعراء متحققني كبار وموهوبني ممتازين «ال تنطبق عليهم الرشوط» .وإجامالً فإن سياسات العمل الشعري يف مرص مرتبكة .واالستبعاد يحدث من باب املحاباة والعالقات التي ال عالقة لها باإلبداع وقيمته!
عـلى عكس ما يدعـي
عبيد عبَّ اس
من أبرز شعراء الجنوب يف الكثير من هـؤالء الشعراء جيله ،وحاصل عىل جائزتني بأن المؤسســـة الثقــافـية محلية وإماراتية ،طرحنا عليه تهمشـهـم ،هناك الكـثير األسئلة نفسها ،فجاءت اجاباته من الفـرص التي تمنحهــا عىل النحو التايل« :ال أستطيع أن أقول إن لهم تأثرياً أو ليس المؤسسـة لهم ،لكنهم لهم تأثري ،فعوامل التأثري والتأثر
يميلون لإلحسـاس باإلقصاء
131
تحقيق
ال تعود بالرضورة إىل غياب الجودة أو املنتج الحقيقي، وإمنا هناك عوامل أخرى أثرت وما زالت تؤثر يف غياب دور الشاعر ليس يف الجنوب فقط ولكن يف مرص بشكل عام، منها رمبا غياب الجمهور وغياب املعايري التي تستخلص الشاعر من «املتشاعر» ،وال أستطيع أن أقول إن هناك إقصا ًء ممنهجاً من الثقافة الرسمية لشعراء الجنوب يف مرص لصالح شعراء العاصمة ،وإمنا هناك إهامل للشاعر الحقيقي سواء يف العاصمة أو يف األقاليم ،فاملؤسسة ال متارس دورها اإلحرتايف وإمنا تقوم بدور وظيفي روتينى يقوم عىل «االستسهال» واالعتامد عىل العالقات واملداهنات والصداقات ،سواء مبا يتعلق بشعراء الجنوب أو العاصمة فهناك من شعراء العاصمة املوهوبني من يعاين اإلهامل واإلنكار ،بل أقول لك ما قد يدهشك ففرصة الشاعر الحقيقي يف الجنوب أكرب من فرصة الشاعر القاهري ما مل ميتلك من عوامل أخرى سوى املوهبة تجعله يصل إىل املكان الذي يليق به يف القاهرة ،وال يظن الشاعر الجنوىب أنه لو ذهب للقاهرة سيصري «هشام الجخ» فهناك مئات الشعراء يف القاهرة الذين ميلكون موهبة أكرب منه ،وبرغم ذلك يعانون بدرجة قد يعاين مثلها الشاعر الجنويب . مأمون الحجاجي
و«أحالم للبيع» .تقاطع يف له عدة دواوين منها «رق َّية» ٌ نقاط كثرية مع سابقيه ،لكنه حمل عىل شعراء الجنوب أنهم "فقدوا حاسة القتال وركنوا للظل ،وتركوا الجمل مبا حمل لناقيص األهلية اإلبداعية وملدّعي الكتابة ومزيفيها". يقول الحجاجي :إن الكثريين منهم ال يحملون طاقة الرفض التي م ّيزت دنقل برغم أن البعض منهم اليقل إبداعاً عنه، 132
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
ورمبا كان بعض بعضهم أكرث شاعرية منه ،ولألسف فإن تأثري شعراء الجنوب يف املشهد صار أشبه بالكومبارس الذي يكمل الصورة وال يتصدرها .وعىل عكس ما يدعي الكثري من هؤالء الشعراء بأن املؤسسة الثقافية تهمشهم ،أرى عكس ذلك متاماً ،فهناك الكثري من الفرص التي متنحها املؤسسة لهم ،لكنهم مييلون لهذا الشعور املتمثل يف اإلحساس باإلقصاء والتجاوز ،النرش أصبح مثل الصنبور املفتوح دون توقف فينزل منه املاء دون تنقية ومؤمترات ال حرص لها، والوضع مل يتأثر بالثورة عىل اإلطالق سوى يف عناوين املؤمترات والقصائد! وعن املؤسسة الثقافية الرسمية ،ودورها يف إقصاء أو دعم شعراء الجنوب مبرص-خاص ًة الثقافة الجامهريية «التي أنشئت يف األساس لخدمة األقاليم الثقافية مبرص فعلياً وااللتصاق مببدعيها» يؤكد الحجاجي أن الثقافة الجامهريية تركت دورها وح َّرضت املبدعني عىل القتال عىل املغنم الضيق من فتات ،فمن انتخابات لنوادي األدب ونوادي األدب املركزية إىل التهافت عىل الفوز بالنرش اإلقليمي، للتكالب عىل حضور املؤمترات ،وما إىل غري ذلك «اآلن رمبا تغري الحال قلي ًال» ولكن مرياث عرشات السنوات كبري، الثقافة الجامهريية هي البوابة للدخول إىل عامل التحقق اإلبداعى ُلكتَّاب األقاليم ،والتي رمبا تقدم الوهم بأنها مفتوحة ولكن لتؤدي لطريق آخر .وحتى بعد تغري تركيبة لجنة الشعر باملجلس األعىل للثقافة نجد أن شعراء الجنوب تواجدوا نعم ولكن بال روح وال معرفة حقيقية بالدور املنوط بهم ،وهناك قاعدة راسخة تقول إذا اردت أن تفسد شيئاً ِّ ول أمره لجاهلٍ أو ُمدّع ،فلم يتغري يف األمر يشء سوى أن لون برشة املسؤولني صار مييل لسمرة الجنوب!
شعراء الجنوب المصري ...أيتام المنابر
فتحي عبد السميع
أحد أبرز األصوات الشعرية يف الجنوب ،وقد فاز بالجائزة املركزية لهيئة قصور الثقافة املرصية عام ،1994وله أكرث من مجموعة شعرية منها «الخيط يف يدي» و«خازنة املاء» و«تقطيبة املحارب» .يرى أن «شعراء الجنوب حارضون يف املشهد الشعري املرصي ،فال توجد دورية من الدوريات املتخصصة ال تنرش لهم ،وإن كانت املساحة ال تناسب العدد ،وإن كان األمر قد استلزم كفاحاً ووقتاً أطول بكثري مام ينبغي ،يف الوقت الذي سهل فيه عىل آخرين ،كام أن هناك انفراجة هائلة من حيث إصدار املجموعات الشعرية ،لكنهم كغريهم من الشعراء يدفعون مثناً لسلبيات كثرية يف الحياة الثقافية ،منها ما هو نقدي ،خاص بقصور الحركة النقدية عن املتابعة ألسباب متنوعة ،أهمها ندرة نقاد الشعر أساساً ،ومنها ما هو إعالمي وسلبياته مؤسفة للغاية ،ومنها ما هو مؤسيس ،وهناك ظلم مؤسيس كبري لشعراء الصعيد ،خذ مثال جوائز الدولة ،كم نسبة وجود شعراء الصعيد يف تاريخها؟ ال أعتقد أنها تبلغ واحداً يف املائة ،هذا يعني إما أن إبداع شعراء الصعيد جيد ويتعرض للظلم ،أو أن إبداعهم ال يستحق التشجيع ،وال أقول التقدير والتفوق ،يف الحالة األوىل هناك جرمية ،ويف الحالة األخرى هناك جرمية أكرب ،ألنه شهادة عىل فشل املؤسسات الثقافية يف تكوين شاعر يستحق التشجيع، والحقيقة أن هناك أصواتاً شعرية كافحت بشكل فردي، وقدمت تجارب أفضل بكثري من تجارب شعراء حصلوا عىل جائزة الدولة التشجيعية ،وباختصار فإن مظاهر الفساد كثرية يف حياتنا الثقافية ،وكلها تؤثر بشكل سلبي عيل
الفعل اإلبداعي يف مرص ،ومن الطبيعي أن يكون املبدع املقيم يف الصعيد أبرز الضحايا ،ألنه أعزل ،ال ميلك ما يجعل الفاسدين يضعونه يف اعتبارهم ،واضاف «ال يوجد مردود واحد للثورة حتى اآلن ،بل ما حدث هو العكس ،أثبتت الثورة بؤس الوضع الثقايف بشكل أكرب ،وتدهورت مكانة وزارة الثقافة ،بل وخرجت من اللعبة ،وهذا أم ٌر فادح. فكل مشكالتنا ثقافية بالدرجة األوىل .أما هيئة قصور الثقافة فهي مؤسسة هامة جداً لكل الشعراء املقيمني خارج القاهرة ،وهي بيتهم الرشعي ،وقد ساهمت عرب مسابقاتها ومطبوعاتها وأنشطتها يف تقديم عدد كبري منهم، غري أن إمكانياتها يف الحقيقة أكرب بكثري من مردودها، وإدارتها تعاين مشكالت خطرية جداً ،تجعل الكثري من تلك اإلمكانيات تذهب هدراً ،بل ومردودها يذهب يف أحيان كثرية إيل نتائج عكسية متاماً ،وهي أيضاً تهمش شعراء الصعيد وغريهم وتؤكد عىل اعتبارهم من الدرجة الثانية، بل هم يف نظرهها أطفال لن يبلغوا سن الرشد أبداً ،ومن ثم فهي يف الغالب متنحهم فتاتا ليتسلوا ويفرحوا ،إنها تستعرض بهم ،وتستخدمهم للدعاية ،وتتعاىل عليهم، وتقصيهم عن أمور كثرية والشواهد ال ُتحىص» .وبصدد لجنة الشعر يعترب أن ال مكان يف الحقيقة للمجلس األعىل للثقافة ب ُر َّم ِته يف ذاكرة شعراء الصعيد .ويقول" :نحن ال نشعر بوجود عالقة بيننا وبني لجنة الشعر عىل اإلطالق، ويف التشكيل األخري الذي جاء بعد الثورة ،تم استبعاد شعراء الصعيد متاماً ،فال يوجد من ميثلهم ،ومنهم من لديه الكفاءة عىل نحو يفوق أغلب أعضاء تلك اللجنة" 133
خارج السرب
دعد ح ّداد
شاعرة ماتت في بُحيرة منسيّة ّ بقاء، ً لعل قلب الشاعرة السورية الراحلة دعد حداد ( )1991 - 1937البائس الخائف هو ثيمتها الشعرية األكثر ٍّ َ الراسخين ،تجاه ُكل من األم والرجل، حان من طائر بطريق ،إذ ما من فاصل بين ُح َّب ْيها قلب يبتهج بعناق ٍ األمومي والفطري؛ وفي قصيدتها "سأع ّد خطواتي" ،تبوح بشيء مشابه فكالهما يتخذ شكالً من الحب ّ ً ً يوما" ،وكطفلة صغيرة ،تحسب خطواتها األولى أو األخيرة، يوما ،وأنت ،أوقعتني لهذا" :أمي حملتني ً ِّ بعد األرقام لتتذكر مصيرها. وحيدة تتسلى
رنا زيد
هي
أيضاً ،امرأة وحيدة يف غرفة مظلمة باردة، وليس يف قصيدتها أي ترانيم لغوية صاخبة، رس قديم تبوح به ،دون تو ُّقف، إن الشعر عندها مجرد ٍّ لكن بحكمة ،ويف الديوان ذاته ،يكاد يكون بعض ما تقوله مشابهاً للمونولوج املرسحي" :الرعب س ّيد البحار ،أنت قلت يل /املوت س ّيدي وأنت قلت يل /بأنني ..بأنني التي بأنني/.. نسيت ..ما قد قلت يل( "..قصيدة أسري ريح .)1976 /تلك التأتأة تصنع لغز "أنا" الشاعرة املضطربة. يف "تصحيح خطأ املوت" أول الدواوين املنشورة للشاعرة، وعي حقيقي بانعدام الحياة أو بانعدام األمل يف العيش، ّمث َة ٌ إنها تعرف منذ اللحظة األوىل أنها لن تحصل عىل ما تريد، لذا كانت القصائد نوعاً من االستدالل الذايت عىل هيئة ْ عاشت الحقاً دون مردود إنساين يعادل املستقبل ،فقد إنسانيتها ،وكأنها تعلم أنها لن تتزوج ولن تنجب ،لذا فثمرة القصيدة ،ومعادلها الوجودي ،هو ابنة وهمية ،هشة الجسد" :أأنا ابنتي القشية من زئبق؟ /وتنام بأمر الجرذان؟/ تصحو يف ثوب من عاج؟ /وسبائك من ذهب الخصيان؟/ وينادون ابنتي ..الـ /..ال ،فأنا ابنتي القشية من دائرة املوت( ".قصيدة العيش املر ،)1977/وأكرث ما ُيتعب القارئ يف هذه القصيدة هو الهذيان الكثيف ،حيث ليس هناك إال األفكار السوداوية ،و ُمسا َءلة الذات عن مصري مصنوع بيد اآلخر ،هو العدم إذاً. إن حداد بوصفها شاعرة سوداوية ،ال ترى حرجاً يف مصارحة 134
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
اآلخر مبخاوفها ،إنها تفضح رغبته اللئيمة يف القتل ،إمنا بهدوء ،إىل درجة تدعو إىل التساؤل ،أي زمن هذا الذي كانت تعيش فيه؟ أ ُوجدت حقاً أم أنها مجرد طيف عابر منذ والدتها يف مدينة الالذقية الساحلية ،إىل وفاتها يف دمشق؟ يف قصيدة "اقتلني واربح دوالراً ،"1976 /تحاول حداد خداع قاتلها ،منطلق ًة من فكرة جميلة وهادئة عن الحب ،لتتساءل بإلحاح( :من الذي سريبح دوالراً من موت دعد حداد؟)" :الحب جميل هذا اليوم /وطيور العامل واجفة ،تبحث عن دفء اليوم /وأنا وحدي /ال أملك شيئاً /ال أملك الحرية /..إال قلبي ..قلبي العارم حباً /،اقتلني ..واربح دوالراً". من هو عدو دعد حداد التي تبدو من خالل سرية حياتها املأساوية ،عدوة لدودة للجميع؟ لقد خاضت حروباً رشسة لرتسيخ وجودها املادي والذايت ،ودون الخوض يف تفاصيل حياتها العائلية ،إال أنها امتلكت يوماً آلة كامن قدمية،
ال يظهر في قصائد حداد أي مدلول إيروتيكي صريح ،ويكاد يكون الشعر عندها مبني ًا على أساس عميق من الصراع النفسي مع فكـرة الحياة
دعد حدّ اد ..شاعرة ماتت في بحيرة منسية
كانت تعزف عليها يف خوائها الدائم كام يقول مقربون منها ،كام كانت تنحت قطعاً فني ًة ،وأ ّلفت مرسحيات عدّة منها"( :اثنان يف األرض ،واحد يف السامء"/مجلة املوقف األديب -عدد أكتوبر " ،1977سأحيك لكم قصتي" /ملحق الثورة الثقايف– ،1976ومخطوط مل ُينرش هو "الهبوط مبظ ّلة مغلقة") ،إن دفاترها املمتلئة بقصائد ال يعرف أحد عنها شيئاً ،ما زالت حبيسة العتمة .وما عدا ديوانني آخرين نرشتهام لها وزارة الثقافة السورية ("كرسة خبز تكفيني/ ،"1987و"الشجرة التي متيل نحو األرض ،صدر بعد وفاتها يترسب إىل العلن ،غ َري منشو ٍر ،سوى يف عام ،)"1991مل ّ القصيدة الطويلة "مثة ضوء /صيف ُ ،"1987وضعت عىل شبكة اإلنرتنت (غري من ّقحة ،وناقصة). ال يظهر يف قصائد حداد أي مدلول إيروتييك رصيح ،ويكاد يكون الشعر عندها مبنياً عىل أساس عميق من الرصاع النفيس مع فكرة الحياة ومغزاها فقط ،كام لو أنها تستدرج املوت بروية! ولكن ،يبدو أن العالقة العشقية النفسية عندهاّ ، تخطت حدود جسد الرجل ،إىل أشياء ملموسة أمامها ،أكرث اتساعاً ،من كائنات وأحالم وهوامات .ويف قصيدة "املعزى /نيسان "1986من ديوان "كرسة خبز لفظي ما: جنيس تكفيني ،"1987 /ميكن استئناس إلغاز ّ ّ "قال لها الجبل :اصعدي /ثم اسرتيحي عىل القمة ،وتأديب يا معزيت ..فوق القمم ،وأين ذلك الحليب؟! وأي سؤال عجيب، يا حامل الربتقال؟! /يا حامل املهرجان الطفويل /وأي سؤال سعيد؟! /وأي سؤال؟!". ُيخ ّيل ملن يقرأ حداد ،أنه رمبا التقاها دون أن يعلم ،يف حديقة وسط دمشق ،قريبة من منزلها ،حديقة السبيك،
حيث تطعم البط الخبز ،وتضع فوق ماء البحرية الصغرية أزهاراً يابسة ،وليس كام يقال ،إنها كانت تحمل قطتها وتطعمها ،سائر ًة بها بني (باب توما والعامرة يف دمشق)، لكنّ ،مثة يف الديوان السابق داللة عىل هذا املكان، (السبيك) ،إذ ُتذ ّيل قصيدة مهداة إىل الشاعرة السورية الراحلة عزيزة هارون ( ،)1986 1923-مبكان كتابة القصيدة (السبيك) ،والتاريخ كام يف كل قصائدها ( ،)1986ورمبا كانت تقصد بيت أمها املجاور لتلك الحديقة ،تقول يف رثاء هارون" :رحلت إذاً يا عزيزة /وهذا الرداء األخرض /وهذي بيوتك ..منثورة /يف جبايل /يف بساتيني /وتنأى تلك الدمشق، عن قبوري /وتنأى زهوري /وتنأى ..الحكايات /التي تشعل الغصة /ومن يفرح اآلن يف سطوح ..الدور؟" .هارون عاشت يف سرية حياتها ،دالالً ما ،مل تكن حداد لتحصل عىل القليل منه ،لكنها أنتجت من مأساتها شعراً ليس هناك حدود لجاملياته وعمقه. ّ ّ ورغم أنها توحي مبدى قوتها واتزانها إال أن حداد محكومة مبكانها ،ومبا يجري حولها ،وبالضباب القابع عىل صدور البرش املحيطني بها ،إنها ترى بوضوح ،رغم وحدتها .ويف ليلة باردة ،من كانون الثاين (يناير) يف عام ،1986رغم كل وحشة شاعرة كدعد ،تأنس بصوت األقدام تحت نافذتها، تخاطبها يف قصيدة (إىل دمشق) كموجود وحيد يف مسائها، ىس يضع قناعاً من الفرح الكاذب" :تصبحون عىل خري بأ ً ً أيها األصدقاء /تصبحون عىل خري /وفجر يأيت نديا كالعادة/ وأحذية مفقوعة /وانتظار" ،هذا الصوت رمبا يكون آتياً من خطوات املغادرين بيت الشاعر السوري بندر عبد الحميد املستأجرة ،يف (مفتوح الباب دامئاً) ،املالصق لغرفتها الصغرية َ شارع العابد ،يف دمشق ،كانت نافذة الغرفة الداخلية تطل عىل نافذة الشاعر أيضاً ،وأصوات أصدقائه تتسلل إىل ليل وترص حداد ،كام يهمس بعضهم ،رمبا كانت تكابر وحدتهاّ ،
الصورة الشعرية عند ح ّداد متنامية ومترابطة ،فكل مفردة شعرية ،تردف ما قبلها وتزيد ما بعدها وضوح ًا ،تمام ًا كما هو النحـت 135
خارج السرب
عىل البقاء وحيدة. ٌ ّإن مقدار التعاسة عند الشاعرة الراحلة هائل ،وهي تترصف كاملتصوفني ،جامع ًة بني مالمح التزهُّ د رغم ذلك ّ والرشاسة من شخص يعيش يف دغل عميق ،ال بد من أن يكون متوحشاً وعدوانياً أمام آخر اعتاد الحديث اليومي مع البرش .إن قصيدة دعد حداد ،قصيدة متولدة مام هو غري مر ّيئ بالنسبة إىل الكثريين ،إن شخصاً بهذه الحساسية للمعنى البرشي ،يلتوي أمام الكلامت العذبة ،ينتجها طلقةً ومرتاحة ،ولو كان يقتسم حبة البطاطا مع الرعاة املتخيلني، كام فعلت دعد يف قصيدتها ،تقول" :ها هو الحليب يتدفق/ إنه يتدفق ..يتدفق /ها هي املزاهر /ها هو املطر ..املتخيل والطحالب"( .قصيدة "حني الجدار حديقة.)"1986 / يف "كرسة خبز تكفيني" ،هذا العنوان الذي يوحي بنضال كبري ،تهدي حداد تحية إىل زعيم الحزب الشيوعي الصيني ماو تيس تونغ ،يف قصيدة "إىل الشاعر األصفر املجهول/ نيسان (أبريل) ،"1986وتذكر هنا شيئاً ُيذ ّكر بعيد ما" :ها هو عيدك الثاين ،مهرجانك الثاين ،وبدء الربيع" ،وليس مؤكداً إن كانت حداد تقصد يف تحية الثورة هذه ،اللحظة التي كتب فيها ماو تيس تونغ" ،عرش العالقات الكربى" ،يف نيسان (أبريل) ،1956التي تمُ ّثل أساسيات استمرار جمهورية الصني ،تقول" :أيها السارح يف الليل األصفر ،مح ّم ًال بالفستق األصفر ،والربتقال األصفر" .ال تناجي الشاعرة يف هذا الديوان أحداً عىل صلة لصيقة بها ،وليس من الغريب مناجاتها فيه املؤلف املوسيقي الرويس تشايكوفسيك ،أو التذكري بآلة الكامن خاصتها ،وببطة افرتاضية متلكها ،يف (قصيدة إىل ميشيل كوستنتينيدس )1986 /تقول" :عاشت كامين املرسوقة /عاشت قويس املكسورة /عاشت ..داري /عاشت بطتي ..فولوديا /وعاشت ابنتي ..مايا /كوفسيك /عاش أبو محمد"/جاجة" يف صحن الفقر". إنها لوثة الهرب نحو البعيد ،وكأن حداد تعلن أنها ستصنع من كلامتها القليلة (كرسة خبزها) طعاماً يكفي ملن هم عىل الكرة األرضية ،وميكن أن يكون ديوان "كرسة خبز تكفيني" هو األمثل لرؤية تفاعل حداد مع الكون الحقيقي ،إنها تكاد تلتق بهم أو تعرفهم. تكون منسجم ًة حتى مع من مل ِ يف سياق لغة مرا ِوحة بني الخوف والعزلة ،تصلح دعد ثوب الطفلة من جديد ،ثوبها ،الذي قد ال يتسع النهار لخياطة 136
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
دعد حدّ اد ..شاعرة ماتت في بحيرة منسية
أطرافه املمزقة ،ففي النهار تكون دعد شخصاً حبيس املادة، ووجودها يشبه وجود كائن مرفوض من اآلخر ،وتتم ّكن يف الليل الطويل فقط ،من أن تتكلم بصدق وحرية" :كيف يهجون يخربون العامل /هؤالء الشعراء الصامتون /كيف ّ الغرية /ويصمدون كآلهة؟ /كيف يتداولون فتات الخبز؟ /آه، كيف يبكون من كرثة الحب؟ /آه ،هذه الزوايا العينية /هذه الحالوات /هذه الضحكات /خذ هذه السوسنة /خذ هذا الرشاب املسكر /وخذ حرية"( .قصيدة الشعراء الصامتون/ .)1986 "امرأة ال تشبه إال نفسها ،تتفرد ،بني جميع من عرفت من شعراء ،بكتابة بريئة من آثار بصامت اآلخرين ..كتويجة ممهورة بالدم ،أو شفرة نصل جارحة تخرتق جدار القلب مبهارة تليق مبالك ،أو كنحلة طائشة تنزلج يف الفراغ الكوين غري عابئة بالرحيق املسموم" .بهذه الكلامت يقدّم الشاعر السوري نزيه أبو عفش ،ديوان دعد حداد الثالث املنشور "الشجرة التي متيل نحو األرض" ،هذا الديوان هو مناجاة ما للم ِّ يض األخري ،من أوىل ُج َمله قبل الرحيل ،وتهيئة رصيحة ُ "بدأت ترحلني" ،إنها تتخ ّيل حتى الطريقة التي سرتحل بها، ويكاد يكون موتها مرتبطاً بالثلج ،أي باللون األبيض ،وهي تشري بذلك إىل مخرج طهرا ّين من حياتها الصعبة املريرة: "ثالثة أطفال /يحفرون قربي يف الثلج /الوحدة والحزن والحرية /ثالثة أطفال ..أبرياء /إنهم حمر الوجوه من التعب /ومن الشوق لدفني ..تحت وابل املطر ..أو الثلج/ يحفرون /إنهم يحفرون بعمق والثلج /عميق ..عميق.. عميق ،بحرية منسية"( .بال عنوان.)1989 ، إن الصورة الشعرية عند حدّاد متنامية ومرتابطة ،فكل مفردة شعرية ،تردف ما قبلها وتزيد ما بعدها وضوحاً ،متاماً تدريجي ليتبدّى الشكل األخري ،أي أن تراكم كام هو النحت، ّ صورها الشعرية وتراكبها ،يتالحق كأمواج البحر ،إال أن شكل القصيدة األخري هنا ،يبدو ُملت ّفاً و ُمرا ِوغاً يف املعنى اللغويّ ، اض بنتيجة واحدة للمفردة ،فمع الصمت واملوت، وغري ر ٍ رائحة قدمية ولصيقة بالشاعرة ،رائحة الرتاب ،وهناك بح ٌر وبجعات ِب ٌ يض ،وحني تكون "املقربة قريبة" ،فالنجاة الوحيدة للشاعرة هي يف العودة إىل الطفولة ،موت ووالدة ،حيث تكون األم قد سبقتها إىل السامء ،أي أنها طفلة عىل األرض، وطفلة يف السامء أيضاً
نقد
المكان كاستعارة
إنشاء لغة فلسطين طرق ظهور «المكان» في ّ الشعر الفلسطينيُ ،تعين النقد في التعرّ ف عن كثب على تلك العالقة الدقيقة بين
المفردات من جهة ،وطرق تشكيلها للمعاني من جهة أخرى ،وصوالً إلى ما يود الشاعر قوله في النهاية.
ديمة الشكر
يستطيع
قارئ الشعر املتم ّرس أن يعرف إن كان صاحب القصيدة عراق ّياً ،فثمة خاص ،وطرق غري محددة بد ّقة ،لكنها كلامت معينة ،ووقع ّ ً ملموسة« ،توحي» بعراق ّية الشاعر عادة .ورمبا يعود الفضل يف طبع الجزء العراقي من ّ الشعر الحديث ،بهذا امليسم اللغوي إىل بدر شاكر الس ّياب « ،»1964-1926صاحب اإلنجازات الشعرية الكربى -والعمر القصري ،التي من أهمها إعطاء رشع ّية راسخة للشعر الحديث بشقه املوزون «شعر التفعيلة» .صحيح أن الشعراء العراقيني الذين عارصوه أو ظهروا من بعده اختلفوا عنه كثرياً أو قلي ًال ،بيد أن مثة ْ صح التعبريْ ، برحت بقيت مستم ّرة ،وما «درجة» لغوية إن ّ ُتبطن الهو ّية الشعر ّية العراق ّية ،وإن بصورة متفاوتة .وال يرتبط األمر باإلشارة إىل املكان فحسب ،بل يرتبط بصورة غامئة بـ «أم ٍر شعريّ » غري مح ّدد؛ يسيل من اللغة رجع ميلء باإليحاءات ،من وتراكيبها ،من ٍ مفردات ذات ٍ اقرتان لفظني ببعضهام ،وغريها من األمور التي ال ميكن لنظرية شعر ّية ضبطها ،إذ هي تتعلق بحساس ّية التفاعل مع املفردات ،عىل نح ٍو تغدو فيه «األجواء» بطريقة ما عراق ّية. وينطبق هذا األم ُر عىل بعض ّ الشعر الفلسطيني ،لكن ألسباب مختلفة باملطلق .ورمبا يصلح موضوع «املكان فلسطني» ،للنظر يف «درجة» اللغةّ التأمل يف بعض املفردات التي الشعر ّية ،أو يقصد الشاعر ،أو ال يقصد ،شحنها مبعانٍ قد تكون واضحة الداللة يف ذهنه ،أو ال تكون.
فطرق ظهور «املكان» يف ّ الشعر الفلسطينيُ ،تعني النقد يف التع ّرف عن كثب عىل تلك العالقة الدقيقة بني املفردات من جهة ،وطرق تشكيلها للمعاين من جهة أخرى ،وصوالً إىل ما يود الشاعر قوله يف النهاية .فاملفردات ال تكون بريئ ًة البتة يف القصائد ،لكأنها تنازع الشاعر عىل ما يريد قوله ،وهي الخاصة يف الترسب والتف ّلت من بني تحتفظ لنفسها بطرقها ّ وعيه وال وعيه. ُ والناظر يف بعض قصائد الشعراء الفلسطينيني التي ك ْ تبت عش ّية النكبة « ،»1948كمثل ابراهيم طوقان «-1905 »1941ومطلق عبد الخالق « ،»1937-1909وعبد الرحيم
137
نقد
لتصبح محمود « ،»1948-1913لن تفوته مالحظة أن الشاعر يكتب س ّكانه ،اعرتافاً متبادالً بني الطبيعة وبني البرش. َ أهم الوسائل يف تكوين عن فلسطني باعتبارها فردوساً ال جنّة ،إذ اعتمد الشعراء القصيد ُة وفقاً لهذا املنظور من ّ واألهم البدء بامتالك الهو ّية الجامعية ،وشحذ الذاكرة عىل وصف طبيعة املكان األخرض الخ ّلبي لكن غري املعني، ّ ينقص املشهد هو املس ِبب يف إبعاد ويف الوقت نفسه أغفلوا اإلشارة إىل أهله .األم ُر الذي ُيبطن املكان عرب اللغة .ل ّكن ما ُ أن ّ مغتصب الشعراء عدوا املكان -فلسطني وطنهم بالبداهة ،وظنّوا الطبيعة عن ُسكانها ،إذ ال توجد أي إشارة إىل ِ املكان. أن القارئ يوافقهم ذلك وال ريب ،وأنه «سيفهم» ،وأن ْ ظهرت العالقة بني الفلسطينيني وأرضهم بعد ذلك ،بصو ٍر وصف الطبيعة مدحاً يساوي التع ّلق بالوطن ،وأن الخرضة الوافرة ٌ شتّى ،وإن كانت البداية املتفق عليها واضح ًة صلب ًة لدى دليل عىل هوية صلبة .وفاتتهم أمو ٌر كثرية تتع ّلق بانكسار الخريطة وتصدّع الهو ّية ،مام يفسرّ ولو جزئ ّياً شعراء املقاومة الشهريين «محمود درويش ،سميح القاسم، ّ ّ توفيق زياد..الخ» ،قد رك ْ زت عىل استثامر ثيمة التعلق الفصل التام بني املواضيع يف تلك القصائد املب ّكرة؛ فثمة باألرض «زراع ّياً» إن جاز التعبري ،فإن طرق التعبري عن قصائد للتغني بخرضة الوطن وجامله ،وأخرى مختلفة تفضح العدو وتتوعد بنرص قريب ،يسانده تاريخ متعاطف امتالك املكان لغوياً تأخ ّرت ،وسبقتها طرق التعبري عن ْ استندت بهذا القدر أو ذاك إىل الهو ّية الفلسطين ّية التي مع أصحاب األرض بالرضورة .وبدا أن «إدخال» أصحاب املصادر التاريخية ،وإىل تواتر إيراد لفظ فلسطني ومشتقاته صح التعبري ،أدّى دوراً مه ًام ،إذ األرض إىل القصيدة إن ّ ّ السيايس يف يف الشعر وكان ذلك تحت مذهب االلتزام انتقلت فلسطني من فردوسها الساموي األخرض ،لتصبح ّ ّ الشعر الحديث .وال تجانب الناقدة الفلسطين ّية سلمى جن ًة عرب تكامل جامل الطبيعة فيها مع السكان ،وتناغمهام معاً ،يف قصيدة هارون هاشم رشيد الشهرية «سرنجع يوماً» .الخرضاء الجيويس الصواب حني تش ُري إىل وطأة الحدث كان ُم ْغ َ فاملكان ،وإن َ يتضح منذ البيت األ ّول السيايس عىل ّ الشعر الفلسطيني« :إن النظر يف هذه فل االسم متاماًّ ، ُ املشكالت العا ّمة ،يف مقدّمة لألدب الفلسطيني ،رضوري، مبفردة «ح ّينا» الذي يحيل إىل أهل املكان .أ ّما الطبيعة فال تستم ّد جاملها من تشبيهها بالجنّة ،بل من خالل الرتكيز عىل أ ّوالً ألن شعراء فلسطينيني كثريين قد وقعوا يف شرَ َكها ،وثانياً أل ّنها ْ جانب منها بسبب املعضلة الفلسطين ّية العالقة التي تجمع بينها وبينهم .فـ «التالل» متتلك صفات نشأت يف ٍ جعلت املواضيع ّ ْ الشعرية التقليد ّية األخرى تبدو ذاتها ،التي برش ّية ،إذ هي تنام وتصحو وتحنّ إىل أهلها ،أ ّما الطري ُ يواصل الحياة من خالل أقرب إىل الهرطقة وفرضت عىل ّ الشعر موضوع املقاومة املنفي عىل فعله، فيفعل ما ال يقد ُر ّ القصيدة .وال ّ ّ املهيمنة ،وهو يف جوهره شك يف أن موضوعٌ فلسطيني». اجتامع األمور عىل هذا مستعمل لفظ من المنفى تحول ثم كان عىل «الهو ّية النحو يشري إىل فلسطني في القصيدة الى موضوع شعري الفلسطين ّية» كموضوع رش باعتبارها وطناً لب ٍ فلسطيني بامتياز،وهو ما أدى الى شعري ،أن تتسع عىل إيقاع وطبيع ٍة حقيقيني ،من الشتات الفلسطيني املتبدلّ دون إيراد اللفظ ذاته، تطور الشعر الفلسطيني بشكل وفقاً لألحداث السياس ّية، بل من خالل «تقن ّيات» حقيقي فاختلط موضوع «الحنني إىل شعر ّية متقدّمة ،تستند األرض» مبوضوع «املنفى»، إىل الكناية واالستعارة ً ُ ّ ْ وظهرت قصائد منسجمة مع ما كان سائدا من االهتامم وتدمج بني األرض وأهلها بصورة جديدة ،فاألرض واملجاز، ُ التي تش ُري إىل سكانها وتفتقدهم وتنتظرهم ،تعينّ هويتهم ،بالتفاصيل اليومية ،قصائد أشارت إىل «فلسطينيتها» من ويف الوقت نفسه ّ خالل التع ّلق بالبيت وأشيائه الصغرية .إذ ال ريب يف أن يضطلع كموضوع شعري، فإن «الحنني» ُ ٍ طبع إىل ح ّد كبري قصائد بدور اإلشارة إىل املكان ،الذي تبطن العالقة بينه وبني االبتعاد القرسي عن املكانَ ، 138
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
إنشاء لغة فلسطين
الشعراء الفلسطينيني يف الشتات ،ويظه ُر أن استعادة املكان طريق بناء لغته قد تسلل إىل ّ الشعر بصورة تدريج ّية، من ِ فصحيح ّأن ّ الشعر وبقطع النظر عن األحداث السياس ّية. ٌ ِ ّ الفلسطيني تأثر باألحداث السياس ّية ،ال بل هي حدّدته ووسمته بطابع املبارشة والخطابة ،إال ّأن ذلك مل مينع الشعراء املوهوبني من تدارك األمر عرب تطوير ّ الشعر من خاللِ ما هو ذايت وشخيص بعيداً من مذهب االلتزام الذي استهلك جامليات ّ الشعر الفلسطيني .ويظه ُر أن «املنفى» تح ّول من لفظٍ مستعملٍ يف القصيدة إىل موضوع شعريّ ٍ فلسطيني بامتياز .وهو أدّى إىل تط ّور الشعر الفلسطيني ّ بشكلٍ حقيقي حني انتبه الشعراء إىل املعنى املوارب خلف اللفظ نفسه :املكان ،إذ ّإن هذا اللفظ يومئ إىل املكان األ ّول ويشري إليه بصورة غري مبارشة .من هنا قا َم الشعراء القصة الفلسطينيون مبقاربته بطريق ٍة حداثية تر ّك ُز عىل ّ الشخص ّية للمنفي ،األم ُر الذي سمح للمعنى الباطن للفظِ ّ املنفى أي املكان بالظهور .وتبدو واحدة من قصائد وليد خازندار مثاالً ممتازاً لذلك: «غيمة الهجرات يف عينيه /ويف الحقيبة الجلد الكتاب، والقلم الرصاص ،وصورة العائلة /.يف يديه قصدير املقاعد، قصدير األفاريز واأل ُكرات /يف يديه قصدير املصافحة /مالت خرج ،يف البدء ،تذكاراته أم، عىل الجدار الحقيبة /...هل ُي ُ ً ً خرج وطناً / :منزالً /وشارعا /وعاصمة/ .أغلق كام الساحرُ ،ي ُ عينيه ،واتكأ عىل كتف عاداته املستباحة / :لن يصادق مزهرية أخرى /،ولن يعرتف لرسير سينفجر يف الحرب القادمة /لن يصنع الشاي ،لن يغني». القصة الشخص ّية يربط خازندار منذ الجملة األ ّوىل بني ّ عيني املنفي .ويختار واملأساة الجامع ّية فالهجرات تظه ُر يف ّ األلفاظ بعناية فائقة ،إذ إن «صورة العائلة» تؤدّي دوراً مهم ُ إيحائياً اّ ً يرتبط مع لفظي «تذكاراته» و«منزالً» ،وهو ما
يعا ُد استثامره يف املقطع األخري :املزهرية ،الرسير ،الشاي. فهذه األلفاظ الساكنة ُتش ُري إىل حياة منزل ّية شخص ّية تتعطلّ باستمرار و ُتستباح نظراً إىل اضطرار «أنا» الشاعر املتامهية مع «أنا» الجامعة بعفو ّية إىل الهجرة بشكلٍ متكرر ،وهو ما ينسجم متاماً مع استعامل لفظ الهجرة بصيغة الجمع. لكنّ هذا االستعامل الدقيق الذي ُ القصة الشخص ّية يحيل إىل ّ يندغم باملأساة الجامع ّية عند استعامل لفظِ «الوطن»، شارع فعاصمة ال مدينة مث ًال .ويف الذي يرتتب من منزلٍ إىل ٍ الجملةّ ، قصة املنفي هو ما يتيح للشاعر أن فإن الرتكيز عىل ّ يضع «املنفى» يف إطاره باعتباره حالة جامعية وشخص ّية يف آن معاً ،تؤث ُر يف ضحيتها لكنّها تش ُري دامئ ُا إىل املكان األ ّول. كذا ،بدت القصيدة الفلسطينية الحديثة قادر ًة عىل االهتامم بشؤونها «الوطنية» إن جاز التعبري ،من دون أن تفقد صلتها الوثيقة بالشعر العريب الحديث عام ًة .فاالهتامم مبا هو ذايت، وبالتفاصيل اليومية كان -وما يزال -رائجاً يف ّ الشعر العريب الحديث .بيد أن ما مي ّيز قصيدة خازندار وقصائد فلسطين ّية أخرى ،يكمن يف نربة الشكوى الواضحة فيها ،تلك النربة التي طبعت الفلسطيني بصورة البايك دامئاًّ . ولعل العودة الناقصة ْ أبعدت املنفى لجز ٍء من الفلسطينيني إىل جز ٍء من أرضهم، ْ وطرحت عليهم للم ّرة األوىل فرصة الخارجي عن قصيدتهم، حلم بالفردوس شابها طويلة سنني الكالم عن املكان بعد ٌ ْ استندت إىل ق ّوة الذاكرة يف والجنّة ،وجبلتها جهودٌ كبرية ِحفظِ صورة املكان أثناء الغياب عنه .وأصبحت «العودة» إىل املكان من أجلِ وص ِفه موضوعاً شعرياً فلسطينياً ،أخذ يف بعض األحيان طابعاً تسجيلياً ،أو ظهر كجردة حساب ل ِنظرة الفلسطينيني إىل مكانهم .تقول هال الرشوف مث ًال: يشم الزعرت ثم عاد ليك ّ «قال الذي عرف البالد وغاب عنهاّ / الربي والنعناع /من حضن الرتاب /وليس يف حوض عىل سور املخ ّيم /واستطاع بق ّلة الكلامت أن يصف الحياة/وكلّ خيبات الحياة ّ بكل منفى م ّر فيه /ومل يقل :هذي بالدي جنة األرض الوحيدة /لكن شيئاً فيه قال بأنها ّ كل البالد/ وأنها ّ كل املنايف /ال يشء ينقصنا هنا ../ولنا ٌ دليل يف الرتاب/ لنا ٌ دليل يف السامء /لنا أحبتنا هنا /وقبور من ذهبوا إىل أقامرهم عند املساء». بيد أن نربة االطمئنان املخا ِتل يف نهاية القصيدة ُتظهر وينبع هذا املكان وكأ ّنه قد عا َد ساملاً كام ًال إىل أهله ولغتهُ ، 139
نقد
الشعور من خاللِ املبارشة يف املعنى التي تظه ُر من خاللِ املزج بني ّ الشخيص والجامعي ع ّد «عنارص» مجردة ُ متنع َ األهم الذي مي ّيزها، اإلنجاز أي يف القصيدة الفلسطين ّية ّ صح التعب ِري ،ذلك ألن وهو ما ُيبعدُ القصيدة عن أرضها إن ّ العودة الكاملة إىل مكان ذي عنارص غري محدّدة ال ُ تحيل بالرضورة إىل فلسطني .يظه ُر من هذه القصيدة ،أن ما كسبه ّ الشعر الفلسطيني قبل «أوسلو» ،خرسه عرب املبارشة وانتفاء صدق ّية التجربة يف مقاربة موضوع «العودة» .فالقصيدة ستضم «العودة» كموضوع شعري جديد ،عليها أن التي ّ تكون أكرث حساسية يف مقاربة املكان ،إذ إنها تفقد صدق ّيتها، وتدخل يف باب املبالغات العاطفية بسهولة ،فاملكان ُمدح و ُرفع إىل مصاف الفردوس وأبعد اللغة عن أرضها كام رأينا. قياس وميكن النظر يف الصحيح من الشعر ألن يف املقارنة بهٌ ، عليه ،كذا تخطر يف البال قصيدة محمود درويش عن تلك العودة الناقصة «كام لو فرحت :رجعت» .فهذه القصيدة تفصح عن التي تبدو يف ظاهرها بريئة ترس ُد ه ًام شخص ّياً أو ُ ذات الشاعر ،تبطنُ مستويني عىل األقل :األ ّول بريء يوحي ِ ُ يتحدث عن ذاته فحسب ،والثاين يحمل الجامعة ّأن الشاعر ً ً فيخص األ ّول عودة شخص ّية لكن مرتدّدة إىل يف وجدانه، ّ ً ّ واثق من أنه قد رجع فعال« :كام مكانٍ ما ،فالشاعر غ ُري ٍ لو فرحت :رجعت»ُ ، حيث ّإن نقصان الفرح وعدم اكتامله ُ يحيل إىل املعبرّ عنه بأداة الرشط :لو-رجوع غري مكتملٍ ٍ ناقص .وهذا الرتدّد بني قرع الجرس أو استعامل أو رجوع ٍ ٍ املفاتيح« :تذك ّرت أن مفاتيح بيتي معي» يزيدُ من وطأة طرف خفي إىل أن «أنا الشاعر» الرجوع الناقص ،ويش ُري من ٍ التي ال تتكلم عن ذاتها فحسب بل عن ذات الجامعة ،إذ ّإن استعامل لفظي املفاتيح والبيتُ ، يحيل فوراً يف حالة الفلسطينيني إىل «حلم العودة» إىل املكان .لكنّ العودة الناقصة إىل جز ٍء من املكان ّ النص من خالل جملة: تطل يف ّ «أنا الضيف يف منزيل واملضيف» «مبا أن العودة ليست تسلس عودة يلتبس األمر فهو ضيف ومضيف يف آن» التي ُ لدمج أنا الشاعر مع أنا الجامعة ،فكأ ّنها ليست ذاتاً القياد ِ تحمل يف وجدانها ذات الجامعة ،فينتقلُ ُ فردية بل هي الصوت الفردي «أنا» إىل هذا الصوت الجديد «أنا/نحن» من خاللِ املقطع الثاين من القصيدة املك ّون من مجموع ٍة ُ «نظرت إىل كل محتويات الفراغ ،فلم أ َر يل من التساؤالت: 140
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
ُ ففكرت :أين أثراً ،رمبا مل أكن ههنا .مل أجد شبهاً يف املرايا. أنا» ،وهو ٌ سؤال عن املكان الجدي ِد بامتيا ِز ،وهو يش ُري إىل ً ً َ املكان مل يعدُ عىل حاله «مل أجد يل أثرا» ّ وأن نقصا ما ّأن قد شابه ،فهو ال يتطابق مع الحلم ،ما حتّم السؤال« :ملاذا َ رجعت إذاً؟» .ويزدا ُد معنى الحلم وضوحاً حني يتجسد ككائن ينتظر الشاعر يف البيت ،فالحلم بالفردوس املفقود واضح بني املكان/ أو بصورة املكان مل يعد ممكناً ،مثة ٌ نقص ٌ اآلن واملكان /الحلم ،ومع ذلك ّ فإن درويش ال يعادي ُ ويقبل أن يكون يف جز ٍء من املكانّ . ولعل يف تجنّب حلمه درويش الكالم عن «صدمة» العودة إىل املكان نظراً إىل استحالة تطابق الحلم مع الواقع ،ما يعطي هذه القصيدة بوضوح إىل مكانٍ محدّد / لغتها الشعرية الرفيعة التي تش ُري ٍ فلسطني– وهو املعنى األساس -هو جز ٌء من املكان /الحلم. الواقع القايس املتم ّثل يف قيام إرسائيل فوق ويظه ُر ّأن َ دفع الشعراء أحياناً إىل تصوير املكان من خاللِ فلسطنيَ ، ّ قدح وصف واقعه :إرسائيل فوق فلسطني ،ولعل هذا ما َ زناد إحدى أجمل القصائد التي كتبها محمود درويش ،إذ تصور فلسطني ك ّلها ال جز َء منها «طريق الساحل» .ودرويش الذي يعتني عناي ًة بالغ ًة بشكل القصيدة ،اختار لـ«طريق الساحل» شك ًال يشبه الشعر القديم :القصيد ذو الشطرين املق ّفى ،من دون أن يكون َقصيداً من الناحية ال َعروضية. فوضع بدالً من كل شط ٍر عَرويض جملتني موزونتني - َ فوق األخرىّ ، املتقارب -واحدة َ متثل ك ًال منهام صوتاً: ٌ خافت يت ّمم كالم واحدٌ قويٌ واثقٌ من صواب كالمه ،وآخ ٌر األ ّولُ ، يصح أن نعطي الصوت األ ّول صفة حياد ّية حيث ّ يكون صوت الشاعر فيها منضوياً تحت صوت الجامعة ،أ ّما ّ فيمثل الصوت الشخيص الذي يع ّلق عىل كالم األ ّول الثاين ويفسرّ هّ . صح التعبري -صورة وميثل البيتان األ ّوالن -إن ّ املكان كام هو« :طريقٌ يؤدّي إىل مرص والشام « /قلبي ّ يرن
إنشاء لغة فلسطين
من الجهتني» /طريقُ السنونو ورائحة الربتقال عىل البح ِر / األ ّول من خالل االستعارة والكناية واملجاز ،وآخر من خالل ُ ّ ْ وليست الثنائية الواضحة يف هذه القصيدة: نالحظ عند البيت الثالث أن اللفظ الرصيح، «إن الحنني ه َو الرائح ْة» .لكننا دخول «الغزاة» إىل املكانّ ، يدل عليهم درويش بـ «يريدون صوتان ،سطران ،طريقان ،أمراً شكلياً متاماً بل هي مندغمة ترميم تاريخهم» ،كإشارة النقطاع يف التاريخ ،فيت ّمم الصوت يف بنية القصيدة ،إذ إن املعنى ُ يصل من خالل الشكل الثاين الكالم من طريق االستناد إىل املفارقة والسخر ّية: واملضمون يف آن معاً. ً َ تستجيب إىل التكنولوجيا». مودع يف البنوك»« ،فقد التفت باكرا إىل «صورة» من الصحيح ،أن درويش االستثنايئ ُ «بغ ٍد ٍ ّ فطريقُ ويستفيدُ درويش كذلك من األدوات البالغية: املحتل يف قصائده واشتغل عليها بتنوع الفت ،إال أن الساحل ٌ كناية عن فلسطني ،ورائحة الربتقال وزه ِر لو ٍز مجا ُز الصحيح كذلك التفاته إىل األرض باعتبارها محتل ًة لغ ًة لها .وليس ُ شكل القصيدة هنا معطى ،بل لع ّله صورة املكان ومكاناً وذكريات .فاملايض الذي ّ يطل من قصائده يختزن ّ ً ْ الوقت نفسه ،مل ي ّوفر درويش شيئا من العا ّم والخاص ،ويف املقطعة أوصاله ،فمن خاللِ الشكل تبدو عبارة «الطرق الوعرة» متوامئ ًة مع الصوت الثاين الذي يت ّمم األ ّول «طريقٌ املصادر التاريخ ّية إلدخالها إىل حارض فلسطني لغ ًة ومكاناً. ٌ ويتضح املكان بشكلٍ أفضل من خالل طويل بال أنبياء»، وإن كان من الصعب مقاومة االسرتسال يف الحديث عنه، ّ فإن بعض األصوات التي ْ البيت اآليت« :طريقٌ يؤدّي إىل طللِ البيت( /تحت حديقـة تأثرت إيجابياً بنهجه وطرقه يف مستوطنة)»ُ ، حيث تنهض صورة فلسطني من خالله ،فشط ٌر ترصيف القول الشعري ،واالنتباه إىل ق ّوة ّ الشعر يف تفنيد اآلخر ورواياته ظلت تستحق التوقف عندها .كذا هي حال ملا تب ّقى من املكان وشط ٌر للمكان الذي طم َر األ ّول ،وقد اعتمد درويش عىل استعامل «طلل البيت» ككناية عن واحدة من أملع الشاعرات -التي ك ّفت عن كتابة الشعر فلسطني ،أ ّما إرسائيل فقد اختار لها لفظاً رصيحاً ُ ينهض لألسف واختفت ،-غادة الشافعي ،التي اختارت موضوع «التيه» يف قصيدتها أدناه ،وهو املوضوع الذي يرتبطُ من الكالم اليومي ّ رفع املكان ليدل عليها ،أي أن درويش َ ً ً ارتباطا تاريخيا بـ اليهودي ،فهو التائه األبدي: األ ّول من خالل لغة شعرية وترك اللغة التسجيلية للمكان « ُرسيل إىل الصحراء منسيون كرسائلهم /وعازفون عن كل الذي طمر األ ّول ،عىل نح ٍو أعطى املكان فلسطني لغته من خالل مزج الكناية مع اللفظ الرصيح ،الذي يفسرّ ُ تلقائياً بـ صمت أو كالم /يهيمون يف هوا ٍء ال يحىص /ويتكاثرون ٍ يل الطريق» ُ «طريق يس ّد ع ّ تتناغم هذه الجملة مع حيث يف هجرات تن ّقل الخطى /من تي ٍه /إىل تي ٍه/هامئني حتّى ُ جملة قبلها «فقد آثروا الطرق الوعرة» ،لرتسم صورة املكان ،الغياب /كمن ال تهدأ روحه /يسريون /وهم يتوارثون الحنني /ويخزنونه يف الجرار ومته ّد للجملة األخرية املعدّة ملاء الرشب /رسيل التي تص ّوب نحو املعنى: بدت القصيدة الفلسـطينية يستطيع أن الشاعر ال إىل الصحراء /كثريون هم/ ُ ً االهتمام علـى قادرة الحديثة الوصول إىل نفسه يف وال بيت واحداً لهم /يؤلفون مكانٍ مك ّونٍ من طريقني: بشؤونها «الوطنية» إن جاز التعبير ،النشيد يك يسكنوه ضجيج من دون أن تفقد صلتها الوثيقة أحالمهم /ثم يغادرون تاركني الطرق الوعرة والطرق فيه نوافذ ال تف ّكك عتمة الواضحة ،فاألوىل طرق ً عامة بالشعر العربي الحديث املكان فلسطني والثانية األشياء /وهم ال يبرصون طرق املكان أيضاً وبينهام سوى الروح املهاجر كالسهم/ املستوطنات ،وهو ما يشري إىل فلسطني ك ّلها اآلن .يف هذه وال يدفنون موتاهم /مسفوح ًة يف التيه أجسادهم /وقد النسيم ويذروها كالرمل /عىل طول العدم». يتخاطفها القصيدة ط ّور درويش من لغة املكان باالستناد إىل الواقع ُ امللموس من دون أن ينزلق نحو املبارشة والخطابةَ ، وكان يكتب الفلسطيني قصيدته فوق كالم اآلخر وتاريخه ،ال ُ حذراً يف لغته ،إذ قسمها إىل قسمني واحدٌ يش ُري إىل املكان تش ُري غادة الشافعي إىل الفلسطينيني باسمهم الرصيح وال 141
نقد
تخص املكان وال إىل استعارات أنجزها تستندُ إىل أسام ٍء ّ الشعراء الفلسطينيون قبلها ،بل هي تبدأ قصيد ًة منبتةً تقريباً عن ّ الشعر الفلسطيني .ويقوم بناء القصيدة عىل ُ تخص التيه دعامتني أساسيتني: األلفاظ الرصيحة التي ّ وتبطنُ التيه اليهودي ،واأللفاظ الرصيحة التي تبطنُ مالمح ّ الشعر الفلسطيني :الحنني «قصائد الفلسطينيني األوائل :الحنني إىل املكان» ،النشيد «إعادة املكان من خالل القصيدة» والبيت «قصائد البيت والعودة إليه» ومسفوحة «قصائد البكاء عىل املأساة الفلسطينية» ،وأحالم «الحلم بالعودة» ،ومن خالل التناوب بني هاتني املجموعتني من تنجح الشافعي يف تبديل وجهة «التيه» كموضوع األلفاظُ ، يهودي باستمرار ،نحو الفلسطيني املعارص .وتلجأ غادة متتح من الرتاث الشافعي إىل هذه اللغة اإلشار ّية التي ُ الصويف العريب ،من أجلِ إعطاء القصيدة بعداً تراجيدياً عربياً ،متجنب ًة قدْر اإلمكان الوقوع يف املرايث والبكائيات: فالروح املهاجر والعدم والعتمة ترم ُز إىل املعاناة واملكابدة وعدم الوصول ،وهذه األخرية «مفاهيم» صوفية بامتياز. ّ ولعل تأثر الشافعي اإليجايب بدرويش ،يظهر من خالل اختيارها ملوضوع املحتل األثري ،وتفكيكه عرب لغة شعر ّية بالدرجة األوىل ،لكنها ال تنساق وراء جامليات الصور ،بل تتسق عرب تضافر املبنى واملعنى الذي يؤدّي إىل صوغ قولها ّ ّ الشعري باتقان .فام يعطي إنجازها هذا صدق ّية الجامل، يكمن يف َن َفسها املطمنئ إىل صالبة التاريخ الفلسطيني، ّ املحتل ،لذا وإىل معرفتها مبسارب الكلامت التي احتكرها فهي تسوسها باقتدار نحو أرض أخرى ،ومتزجها بيشء من الصوف ّية ،من دون أن تقع يف ّ فخ القديم .لكأن قصيدتها هذه تطلع به ّية من أرض مفخخة برواية اآلخر ،تنقضها، لتكتب لغ ًة شعر ّية فلسطين ّية إشار ّية .اللغة اإلشارية ملعب درويش األثري ،فالناظر يف قصيدته اآلرسة «ال كام يفعل السائح األجنبي» ،لن تفوته مالحظة كيف أن درويش الرصيح ملسقطِ رأسه ال يبدأ قصيدته باستعامل اللفظِ ِ تجمع «الربوة» ،بل يبدأ املقطع األ ّول وينهيه بجملتني ُ ُ مشيت عىل ما تب ّقى من القلب األوىل بني اإلخبار والكناية: حيث ّإن َ صوب الشاملُ ، لفظ القلب فيها وحده الذي يح ّولها باتجاه الكناية ليضمن لها انزياحاً شعرياً عن اإلخبار ُ «مشيت صوب الشامل» ،أ ّما الجملة الثانية -قرىً كنقاطٍ 142
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
عىل أحرف ُم ْ حيت -فتجمع بني اإلخبار والتشبيه :تشبيه ْ يتضح القرى بالحروف واإلخبار بـ« ُمحيت» ،وبني الجملتني ّ أن :ما تب ّقى ،الكنائس املهجورة ،املآذن املكسورة ،السنديان عىل الجانبني ،ليس إال وصفاً دقيقاً لقرية ممحوة عن الخريطة .يقوم املقطع الثاين من القصيدة عىل اإلخبار إذ يضم قصائد يف فيه سيحرض اآلخر« :ودلييل ٌ كتاب صغ ٌري ّ / وصف هذا املكان /ألكرث من شاع ٍر أجنبي» ،وهي التقنية ِ التي يتبعها درويش وغريه من الشعراء الفلسطينيني أي استعامل اللفظ الرصيح واإلخبار واالبتعاد قدر ما أمكن عن االنزياحات اللغوية الشعرية للمفردات ،ذلك ّ ألن هذه األخرية هي التي تش ُري إىل لغة املكان ،ويورد درويش يف املقطع ذاته« :مشيت ،كام ُ يفعل السائح األجنبي» وهو ما يناقض عنوان القصيدة متاماً :ال كام ُ ُ يفعل السائح األجنبي، َ َ ويعمدُ درويش إىل ذلك ال ليصف نفسه بل ليصف اآلخر ويحتاج إىل دليلٍ يرشده إىل املكان .وليس الذي أخذ مكانه ُ اختيار ديوان شع ٍر بأمر عفوي ،بل مقصود متاماً لإلشارة إىل ّأن امتالك املكان قد يطول أيضاً امتالك لغته ،ومبا أن الشاعر واثقٌ من مكانه فال يضريه أن يجد «أناه» يف قصائد اآلخر األجنبي .أ ّما يف املقطع الثالث فيورد درويش لفظاً رصيحاً: الجليل ،لكنه ميزجه بعنرص من الطبيعة :الهواء ،وهو عنرص ّ هش لكنه ال يظهر هشاً إذ يربطه باملاعز الجبيل ليعطيه ثم ُ يبدل درويش من صالب ًة ويحيله إىل الطبيعة مجدّداًّ . ُ مشيت ملرتني يف صيغة املايض، زمن القصيدة :فبعد تكرار ُ ُ سيستطيع االلتقاء مع نفسه ينتقل إىل الحارض :أميش ،حيث ُ يف الحارض ال املايض ،من خالل متاهيه مع املكان« :أنت يا نفس إحدى صفات املكان» .فالعالقة بينه وبني املكان ال تحتاج سؤاالً عن الهوية وال عن اسم املكان ،يكفي اللقاء الذي ع ّب ْ دت دربه لغة شعرية ساحرة ،امتلك درويش من خاللها هذا املكان :فلسطني اللوحات :الفنان سليامن منصور
المكان في تجربة نجوم الغانم
جدل الذات والعام في تجربة نجوم الغانم الشعرية يبرز المكان بأشكال مختلفة تحيل على ما هو ذاتي وموضوعي أو واقعي ِّ الضدية بين تلك األمكنة ما يمنح تلك العالقة ومتخيل ،حيث تتجلى طبيعة العالقة الجدلية أو الثنائية
طابعها الدرامي المتوتر.
مفيد نجم
يكشف
املكان لدى الشاعرة نجوم الغانم عن رؤية إىل الذات والعامل وما تنطوي عليه تلك العالقة من دالالت وأبعاد ذاتية واجتامعية ونفسية .ويظهر عامل الغرف والبيوت والرساديب والرواق مهيمناً عىل الفضاء املكاين يف نصوص الشاعرة ،ويتميز هذا الفضاء بأنه مغلق ومحدود وأليف يحيل عىل ما هو داخيل وخاص وحميم ،كام تتسم تلك األمكنة بالقدم والضيق والفراغ بصورة توحي بطبيعة التجربة التي تعرب عنها الذات الشعرية ،األمر الذي يجعل هذا الفضاء مستوراً بغطاء نفيس بصورة ال يبدو فيه معزوالً عن حركة النفس والشعور بالذات وهي تحاول أن تجعل منه عنرصاً مشاركاً يف التجربة ،ومعرباً عنها يف أبعادها النفسية والوجودية والفكرية .ولعل القارئ لتجربة الشاعرة يلحظ أهمية املكان كعنرص مكون وفاعل ومتعدد الداللة يف تلك التجربة بدءاً من العنوان الرئيس الذي يتصدر عدداً من أعاملها التي صدرت حتى اآلن ،أو العناوين الفرعية التي تتصدر قصائدها ،وتشكل مفاتيحها الداللية ،إضافة إىل دوره يف تشكيل الصورة االستعارية يف شعرها.
املكان األليف املتمثل يف فضاء الغرف والبيوت والرواق واملمرات أن توحي بطبيعة التجربة التي تعيشها الذات، ليس ألن هذه األمكنة تحيل عىل ما هو داخيل وحسب، بل ألن صورة املكان التي تكتسب أبعاداً نفسية تتداخل مع صورة الذات الدالة عىل حالة الجمود والفراغ والرتهل، حيث يتبادل كل من املكان والذات وظيفة تكثيف وتجسيد الحالة التي تعرب عن معاناة الشاعرة وموقفها من الذات والعامل ،خاصة وأن بالغة ظهور املكان يف القصيدة تتأىت من خالل حركة الذات فيه وما تحمله من دالالت تفصح عن عالقة الذات باملكان الذي يتعني وجودنا به ،ما يكشف من جهة عن تداخل مستويات مكانية مختلفة واقعية «الرواق -عتبة الباب» ،وذاتية تتبدى يف التحول الذي
قراءة يف املنت
يهيمن ضمري املتكلم غالباً عىل خطاب الشاعرة التي تحاول من خالل مجموعة األوصاف التي تضفيها عىل 143
نقد من أعامل الفنان عبد الرحيم سامل
يطرأ عىل شخصية الشاعرة عندما تقرتب من حدود العامل الخارجي «الباب» الذي ميثل منطلق العبور نحو املكان العام والواسع ،ما يدل عىل جدل العالقة بني الذات واملكان عىل مستوى التجربة النفسية والروحية ،ويكشف عن عالقة التقابل أو الثنائية الضدية القامئة بني املكان الداخيل الذي يحيل عىل ما هو داخيل واملكان الخارجي العام بصورة تبدو معه الذات التي تفقد مشاعر األلفة والدفء والفرح يف املكان األليف ،فتحاول أن تخرج منه عرب الرواق نحو العامل الخارجي ،لكن رهاب ذلك املكان وما يشف عنه من خوف وتوتر عىل مستوى عالقتها بالعامل تجعلها تشعر بالكهولة والعجز عن عبور الحد الفاصل بني عاملني بسبب حالة الشعور بالضعف والخوف ،التي تفقدها القدرة عىل االنطالق والتجدد والخروج من حالة الغربة والوحدة والحزن التي تكابدها:
ها أنا يف الرواق العتيق ساعداي مضمومتان وقدمي ُّ تحف الفراغ تلميذة بائسة تشيخ كلام وطئت عتبة الباب
ويظهر الطابع التقريري يف خطاب الشاعرة ،وهي تصف الصورة التي تبدو عليها الغرفة ،ال بوصفها مكاناً واقعياً وحسب ،بل باعتبارها املكان الذي تضفي عليه حالتها الشعورية الحزينة التي تعرب من خالل ما يكتسبه املكان من صفات حية عرب بث الحياة والحركة يف جامداته اي «التشخيص» عن مضمون تجربتها الدال عىل حالة املوات والغياب والرتهل التي تيش بها صورة املكان املريعة، والتي تحاول من خاللها تجسيد طبيعة التجربة ،وجعل القارئ يشاركها تلك الحالة التي تعيشها .ومن أجل التعبري عن مدى حضور تلك الحالة الشعورية امللحة ،وتعميق إحساس القارئ بها تستخدم الشاعرة التكرار االستهاليل لعبارة فاتحة القصيدة ،محاولة كذلك التعويض عن إيقاع مفقود يف القصيدة ،كام تستخدم التكرار العباري للفعل املايض الناقص الذي يأيت يف منتصف الكالم ،حيث يشكل هذا التكرار بؤرة داللية مهمة ومكثفة .إن صورة الحجرة أو الرواق أو البيت ال تتجاوز هذه املالمح الدالة التي تعكس 144
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
طبيعة التجربة ودور املكان عىل صعيد تشكيل الصورة الشعرية يف تجسيد تلك املعاين والتعبري عنها أواإليحاء مبضمونها:
لعامني أو أكرث كانت الحجرة مغربة ومعتمة كانت العناكب تبني فيها قبائل ومحميات لعامني أو أكرث تهدلت الستائر كجلد عجوز يف التسعني النوافذ َّ رشعت مزاليجها للطرائد .
ال يشء يف فضاء الغرف والبيوت ميكن أن يوحي بالحياة والحيوية والحركة ،سوى حركة العيون التي تتنقل بني تفاصيل األمكنة التي توحي بالجمود أيضاً .والشاعرة التي تستخدم غالباً الرسد بضمري املتكلم تجعل من املكان الذي تكسبه بالغة حضوره يف النص مرآة ،تتجىل فيها صورة العامل الداخيل للشاعرة وحركة شعورها ،التي تحاول أن تقيم من خاللها نوعاً من التامثل بني صورة كل منهام وكأنه جزء من تلك التجربة ،بحيث تحقق التعاضد الداليل عىل هذا املستوى .وإذا كانت اليدان هام أدايت الفعل عند اإلنسان، فإن صورة جمودهام تكون مبثابة تعبري عن حالة الجمود التي تعيشها ،لتظل حاسة البرص هي الوحيدة القادرة عىل الحركة داخل تفاصيل هذا الفضاء املغلق عىل حزنها ومعاناتها القاسية:
عيناي تهاجران بني الغرف وتفاصيل البيوت يداي جامدتان وصويت ال يقوى عىل ترك زنزانته.
المكان في تجربة نجوم الغانم
تحمل تجربة الشاعرة يف عمقها ودالالتها صورة عن عالقة االنقطاع مع املكان الخارجي ،وعن الرغبة الطامحة باخرتاقه الحي والعميق معه ،بصورة تحقق وخلق حالة من التفاعل ٍّ فيها ومعها االنطالق والتجدد والحرية ،لكن هذه الرغبات تظل تقف عند التخوم واخرتاقها برصياً ال حركياً ،فتكون الخيبة والخذالن واليأس ،والعجز عن التفاعل هي العالمة الدالة عىل عالقة الشاعرة به .يجري التعبري عن هذه الحالة من خالل استخدام الصورة القامئة عىل التجسيد وتشخيص عنارص الطبيعة ،إلنتاج الداللة التي توحي مبعاناة الشاعرة، وتعرب عن هذه املكابدة الشقية للذات التي تكتفي مبراقبة حركة األشياء من حولها من دون أن تستطيع تحقيق أحالم عبورها نحو العامل واستعادة عالقتها الحميمة والجميلة معه:
منذ قليل كنت أرقب الطريق األشجار املرتوكة يف فوضاها وأحالمي الجائعة للتنزه تحت الشمس ُ قطفت ورد النهار وزعته يف اآلنية وأرسجت الورق الزمردي مل تستيقظ واحدة ومل تنتخبني الحدائق.
إن هذا التامهي بني املكان والذات الشعرية يف هذه التجربة ،يجعل املكان ال يظهر مبعزل عن حركة الشعور وعاملها الداخيل الذي يفتقد إىل الطأمنينة وسالم الروح والفرح ،وال شك أن هذه الصورة الدالة التي تكشف عن
يهيمن ضمير المتكلم غالب ًا على خـطاب الشاعــرة التي تحاول من خالل مجموعـة األوصاف التي تضفيهـا على المكان األليف أن توحـي بطبيعة التجربة التي تعيشها الذات
انقطاع االتصال والتواصل الحي بني العامل الداخيل والعامل الخارجي للمكان تجسد من خالل جدل العالقة القامئة ،بني العامل الداخيل والعامل الخارجي ،مضمون التجربة الشعورية، وحالة التأزم التي تعيشها الذات الشعرية بسبب الشعور بالخيبة واإلحباط التي تعيشها هذه الذات عىل مستوى عالقتها بالعامل الخارجي ،الذي ال يستطيع أن يلبي رغباتها، وال أن مينحها طأمنينة النفس ،والشعور بالجامل واملودة واالنطالق .والعامل املقصود به هنا ليس العامل املادي ،بل العامل االجتامعي الذي تشعر فيه بالغربة الكاملة واالنقطاع والخوف ،بصورة تجعلها تفتقد حرارة التواصل الروحي والوجداين معه ،وهي تعرب أرصفته وشوارعه ،كأنها تعيش خوف الدخول األول فيه ،فالوجوه تبدو لها ميتة وال توحي بالحياة واملودة «والعيون تزجرين – وتربكني األسئلة،»- وهي بذلك تسقط عليه أحاسيسها ومشاعرها وانفعاالتها، وهي تدرك مرارة الغربة واألمل واالستالب عىل مستوى العالقة معه بعد مغامرة خروجها ومحاولة اجتياز مسافة العزلة التي تفصل بينهام:
أخرج محرية يف االتجاهات حتى ليكاد الزحام يدعسني بنعليه الكبريين أتطلع حويل الوجوه يابسة األصوات تختفي يف أذين بال أثر أو مودة وإذ تنظرين مياه امليناء تنتابني رعدة الخارج تواً إىل الهواء الطلق لكن الدكاكني مكتظة وكذلك القوارب امللقاة يف فوضاها عىل الرصيف.
وتظهر عالقة الخوف واالنقطاع بني الداخل والخارج بصورة مبارشة يف تعبري الشاعرة ،من دون أن تكون هناك مثة عالقة اتصال أو تفاعل وسالم مع الداخل ،الذي متوت فيه الروح أيضاً .لكن الخوف من الخارج يدفعها من جديد إىل االنكفاء عىل غربتها وأحزانها وخوفها ،األمر الذي يوحي بغربة الشاعرة الكلية يف املكان ،وعجزها عن اخرتاقه ،أو التأسيس 145
نقد
لعالقة وجدانية حية وعميقة ميكنها أن متنحها سالم الروح وطأمنينة النفس ،وتسهم يف تجديد إحساسها بالحياة. وتستخدم الشاعرة تكرار االستهالل الذي يركز عىل الفعل الدال عىل الوحشة والخوف مع استخدام إيقاع الصمت املعرب عنه بالتنقيط للتأكيد عىل طبيعة الحالة الشعورية املسيطرة عىل النص الشعري من جهة ،وتعميق حضورها الشعوري عند املتلقي من جهة أخرى ،خاصة وأن الشاعرة تستخدم التعيني املكاين للتعبري عن تلك الحالة من الشعور بالغربة:
الريح متوء قرب الباب الصمت مشتعل يف الدار وقلبي مشغول باألنات املرتاعة هناك الريح متوء دون أن أجرؤ عىل فتح الباب كانت الظلامت الشقية تثبت نبالها الصطياد املارة بينام روحي متوت.
وتربز حالة الضياع وانسداد األفق عند الشاعرة من خالل تعدد صيغ األفعال يف القصيدة عىل نحو يؤدي إىل منو القصيدة فضائياً وزمنياً ،بحيث تفصح عن صريورة التجربة التي تحكمها الغربة واالنقطاع .ولعل استخدام الضمري الدال عىل املكان البعيد «هناك» مقرتناً مع تعدد صيغ األفعال يحدد حركة النص يف الزمان واملكان ،وبالتايل يلخص مضمون تلك التجربة عىل املستوى الشعوري والوجودي .وميكن لحذف أداة الربط املتمثلة بالواو بني الصور املتالحقة يف املقطع التايل ،أن تعرب عن حالة اإلحساس باملكان أو التجربة الشعورية التي تعيشها الذات يف عالقتها مع املكان ،تلك العالقة التي تقودها يف النهاية إىل الخيبة واليأس والعجز عىل الرغم من محاولتها اخرتاق حدود املكان وتأثيث هذا الفضاء مبشاعر الود والجامل واملحبة:
كنت هناك أذرع ما بقي من األقاليم الطرق محشوة بزغب الظلمة السكنى متحصنني خلف أسوارهم ُ والنحيب يصم أذين كأجراس الكنيسة
146
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
لكن أقدامي ال تبغي التمهل إىل أي املنافذ أصوب سفري واألزقة تحرتس كلام د نوت منها.
تالزم صفة الظلمة املكان الخارجي يف أكرث من نص لها. وبقدر ما توحي هذه الصفة بالخوف والوحشة والرهبة، فإنها تدل عىل ضياع مالمح املكان ،واتصافه بصفة كلية تجعل العبور فيه مغامرة شاقة ،ولذلك ال ينفصل الحديث عن املكان ،عن حالة الشعور بالخوف والضياع التي تتولد من غياب قيم األلفة والتواصل والتوافق عن العالقة بني ذات الشاعرة والعامل ،حتى ال نج َّد يف كل قصائدها أي إشارة تدل عىل عكس ذلك ،أو توحي مبا ميكن أن ينم عن التوافق واالنسجام. إن ما تعكسه هذه العالقة من شعور مأزوم بالغربة والخوف ،نابع من العالقة املأزومة مع الواقع االجتامعي املحيط بها ومع اآلخر ،وهو ما تعرب عنه عىل مستوى آخر يف هذه القصائد ،يتمثل يف شعورها الفاجع بالخيبة والوحدة، وغياب عالقات التواصل الوجداين والحب مع اآلخرين ،كام تكثف صيغة السؤال معاين للوعة والحزن والوحشة:
وإذا فعىل أيِّ كتف سيتمرغ نشيجي؟.
وتتخذ هذه العالقة داللة أخرى نجدها تتجىل يف البنية الوصفية والخربية للجملة الشعرية يف قصائد الشاعرة ،بينام تكون الجملة الفعلية بدالالتها املوحية تجسيداً للحالة الشعورية التي يتكثف فيها إحساسها باملكان ،وخوفها الذي يالحقها وهي تعرب فيه متاهة حياتها التي تنتهي:
الطرقات تقودين للمتاهة األشجار الكحلية بعيونها املنثورة فوق األغصان تطاردين يف الظلمة.
ولعل من الغريب أن ال تنفتح رؤية الشاعرة عىل العامل الخارجي ،إال لتجد الصور التي تدل عىل الحزن واألمل ،ما يجعل العامل لديها يفتقد قيم الجامل واأللفة والفرح .إن مثة تقاب ًال يف هذه الصورة يقوم عىل أساس الرتاسل الداليل بني الخارج والداخل ...بني العامل والذات
زيارة
قبورالشعراء
السياب والبريكان وعبد الوهاب في ضيافة الحسن البصري أن من غير الممكن لذاكرة الحداثة الشعرية العربية في العراق ْ
السياب تنسى ثالثة من أبنائها الذين قدموا من البصرة :بدر شاكر ّ ومحمود البريكان ومحمود عبد الوهاب .لقد رحلوا ثالثتهم ،وكما
تجاوروا في األعمار والزمن نفسه فقد خلدوا إلى إغفاءة طويلة في المكان ذاته :مقبرة حسن البصري.
البصرة -حسام السراي
أن
تدخل مقربة الحسن البرصيّ يف منطقة الزبري بالبرصة ( 545كم عن العاصمة بغداد) ،ال لتقرأ فقط شواهد القبور التي تجد فيها من رحل قبل أ ّيام وهو بعمر الورد ،مع أسامء راحلني من أبناء عائالت عراق ّية معروفة ،تسأل بعدها :اذن ،ماالذي بقي من العائلة الفالنية اذا كان جميع هؤالء قد ماتوا؟ لكن ولوج هذا العامل والتجوال بني جنبات هذا املدفن الذي اقرتن باسم "الحسن البرصي"، يعني االقرتاب من مشهد كثرياً ما ننساه يف غمرة مصاعب الحياة ويومياتها القاسية.
أرض وأجساد
متثال السياب
لعل ّـنا سرندّد ،بعد خطواتنا األوىل يف هذا املكان ،ما العبايس ":خ ّفف قاله أبو العالء املعري يف العرص ّ الوطء ما أظنّ أديم األرض إال من هذه األجساد". ومعروف ّان الحسن البرصي(21هـ 110 -هـ) هو 147
زيارة
مقربة الحسن البرصي
الشعر ّية ،وتذهب باحثاً عن قبور ثالثة من أبرز شعراء العراق وأدبائه.
أشهر علامء عرصه ومفتي البرصة حتّى وفاته فيها. نعم ،إن امليش إىل جوار املوىت وتأ ّمل مشهد دفن هذا العدد ك ّله ،مرعب ومربك حق ّـاً ،وتعرف ّان هذه األرض التي تقف عليها اليوم ،احتضنت جسد ّ كل من الحسن البرصي ،اإلمام الس ّياب :مرحى أ ّيها املوت محمد بن سريين -مفرس األحالم األشهر ،الزبري بن العوام، كيف ال نتوجه أوالً اىل قرب بدر شاكر الس ّياب(1926- طلحة بن عبيد الله ،أبناء أرسة آل النقيب وعىل رأسهم أهم املج ّددين يف تاريخ الحداثة الشعر ّية العرب ّية، ّ ،)1964 املوصل، عبدالرحمن النقيب نفسه ،عبدالغفار األخرس شاعر ابن قرية جيكور التي خل ّـدها يف شعره يف قصيدة "جيكور الشيخ محمد النبهاين صاحب كتاب "التحفة النبهان ّية" ،اىل أ ّمي"" :تلك أ ّمي وإن أجئها كسيحاً /المثاً أزهارها واملاء مثوى شهداء الحروب التي فتكت بالبالد منذ مثانينيات فيها والرتابا" ..صاحب مجموعات "أزهار ذابلة"" ،املومس القرن املايض ،وصوالً اىل ضحايا العمياء"" ،حف ّـار القبور"، الطائفي الذي رضب العراق العنف ّ "األسلحة واألطفال"" ،أنشودة وأكثر أبهى السياب قبر .2006 العام املطر"" ،املعبد الغريق"، تعرف ا ّنك متيش عىل أثر ميت ّد "منزل األقنان"" ،شناشيل ابنة أناقة ،تحسب أنه بمنأى ألربعة عرش قرناً ،وتدرك ّان ِسيرَ الجلبي". عن العطب الذي أصاب أعالم ورموز قد توقفت هنا ،حيث الشاعر الذي أغرم بأكرث من من فيه ومـا العام الفضاء ووريت الرثى يف هذه البقعة. امرأة يف حياته ،بعد رحلة غري أن ما يحدث ،وبالتحديد يف أحياء ،وحافظ على شكله مضنية مع املرض العضال أجواء املربد (آيار من العام) 2012 والشتات ،بجسد ناحلٍ أخذ األصلي ،بين قبور بعضها الذي يحتشد فيه جمهرة من يذوب أكرث فأكرث ،توىف يف َمسحت زخة مطر واحدة أنك الشعراء العراق ّيني والعرب، املستشفى األمريي بالكويت، المكتوب على شواهدها تهرب من ضجيج قاعات القراءات لينقل جثامنه إىل البرصة ،حينها 148
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
قبور شعراء العراق
قصيدة للشاعر محمود عبد الوهاب
مل يحرض إىل دفنه يف مقربة "الحسن البرصيّ " ،سوى زوجته إقبال وابنه غيالن وشقيق زوجته وصديقه الكويتي عيل الشاعر ّ السبتي. موت كان يتوقعه الس ّياب تجسد يف قصيدة شعراًّ ، "مرحى غيالن" التي يقول فيها: َّ ُ "يا ُسلم الدم والزمان :من املياه إىل السام ِء /غيالن يصعدُ ثم يدي فيه نحوي ،من تراب أيب وجدي /ويداه تلتمسان َّ وتحتضنان خدّي /فأرى ابتدايئ يف انتهايئ / .يا ظليّ املمت َّد حني أموت ،يا ميالد عمري من جديد ".
األبهى واألكرث أناقة
لكن ما الجديد بعد ّ كل هذه األعوام عىل وفاته ،اذ تع ّرض خاللها العراق إىل الكثري من املتغيرّ ات وبل الكوارث والخيبات الوطن ّية ،التي بدأت باملجازر املتتالية التي ارتكبت لالستحواذ عىل السلطة يف ستينيات القرن املايض، إىل الحروب الدموية واملقابر الجامع ّية والحصار واالجتياح السيايس الحاد بعد خروج آخر األمري ّيك ،وليس آخرها الرصاع ّ الجنود األمريكيني. الجديد وأنت تتم ّعن يف قرب الس ّياب ويف الطابوق األصفر املرصوف فوقه وعليه آالف الذكريات ألح ّبته من النساء والرجال والشابات والشباب ،ث ّبتوا تواريخ زيارتهم ملثواه ومعها عبارات اجرتحتها لحظات استثنائ ّية ،ناهيك عن شاهدته التي تظهر وكأ ّنها تتوهج باسمه ،تنظر اليها فتنسبها إىل زمن ميضء لعل ّـه لن يعود ،تجد عقب ذلك ومبعاينة رسيعة لقبور ش ّيد بعضها منذ أ ّيام أو شهور أو حتّى سنواتّ ،ان قرب السياب أبهى وأكرث أناقة منها ،تحسب أنه مبنأى عن العطب الذي أصاب الفضاء العام وما فيه من أحياء. املفارقة -حتّى مع الكالم عن إعادة تأهيل له قبل عقدين- ّإن القرب حافظ عىل شكله األصيل ،بني قبور بعضها َمسحت زخة مطر واحدة املكتوب عىل شواهدها.
ويتذكر البرصيون كيف ّأن "وفاة الس ّياب كانت حدثاً جل ًال شغل املدينة لفرتة غري قليلة ،وراحت املؤسسات الثقاف ّية تتبارى يف ّ استذكاره والتأكيد عىل فرادته الشعر ّية وحسه التجديديّ ".
شاعر ال ب ّد ْأن يعيش
تت ّـجه صوب قرب محمود الربيكان ( )2002-1931الذي يقع يف الجهة املقابلة ملثوى صاحب "أنشودة املطر" ،ومعك دليل طاعن يف السن ،ميارس مهنته بأريحية عالية ،مرتاح لنأيه عن صخب املدينة ،ربمّ ا أن الحياة مع املوىت أكرث أماناً من أن يعيشها مع األحياء ،تسأله عن اسمه؟ فيجيب بعبثية: األهم اآلن أن تصل إىل "الربيكان" .هناك اسمي ال قيمة لهّ ، اكتشفنا ا ّننا نفتقد ذاك الطابوق بلونه املحبب وتلك األناقة التي لألسف مل تحتضن عظام صاحب قصيدة " البــــدوي الــذي لـــم يـــر وجهــه أحـــد". يحب مدرس اللغة العرب ّية املولود يف البرصة ،كان ال ّ األضواء وال النرش ،قال عنه الس ّياب يف جريدة "الشعب" العام ":1957سأبذل ّ كل جهد إلخراجه من صمته ليتبوأ يهتم بطبع قصائده يف كتاب، املكانة الالئقة به" ،بل إ ّنه مل ّ لكنّ عدداً من الن ّقاد كتب عنها ،من بينهم حاتم الصكر، وعبدالرحمن طهامزي الذي قدّم إضاءة عن شعره ضمنها يف كتاب جمع فيه نصوصه املتفرقة. هو أيضاً خاطب املوت يف قصيدته "أغنية رعب هادىء": "ما يغرق الروح إذا اشتاقت إىل الفناء ! /ألنه ليس وراء املوت من عذاب ! /ليس ع ّ يل متد ليس /عىل اغرتاب / عقوبة أقىس من املوت وال أكرب! /أل ّننا جميعنا نأوي إىل الرتاب /يوماًّ ، ألن جوعنا املخيف ال يقهر ! /أل ّننا نحتمل املحال /يف دغلنا ،ونطرح الشكوك يف الظالل /أل ّننا ال ب ّد أن نعيش /نعيش ،ال أكرث!". نعم يا أ ّيها الشاعر املغدور ،عشت ومل تحظ بقرب يليق باسمك وبقصائدك ،حيث جدران رضيحك متشققة أهلكتها السنوات وخطوط اسمك عىل الشاهدة أنهكها الرتاب الذي صار مالزماً لحياة أبنائك وأخوتك يف العراقّ ، لعل قربك ابن 149
زيارة شواهد قبور السياب ،الربيكان ،عبد الوهاب
الحجاج":امليت كان مدل ًال ،واليوم ال يثري خربه سوى الحزن الذي رسعان ما يغدو من املايض املنيس".
بار لحياة قلقة ومضطربة نحياها ونتصالح مع خرابها بشكل غريب ومثري لألىس ،وها أنت تشاركنا هذه مصالحة الواقع بضياع أثرك وسط آالف القبور لجنود ومنسيني ومغدورين وأطفال أهلكتهم كوارث البالد. قبس من شعلة الحداثة األوىل أحد أدباء البرصة ّ فضل عدم الكشف عن اسمه ،قال":لآلن يوم األربعاء الذي صادف الـ 7من نوفمرب العام املايض ،مل قصة مقتل الربيكان مل تحسم بعد ،إذ ّأن غالبية البرص ّيني ّ يكن يوماً ساراً للبرصة وأهلها ،اذ تويف حينها القاص والشاعر يخشون الحديث عن الكيفية التي جرى فيها؛ ّ ألن القاتل محمود عبدالوهاب بعد إصابته بفشل كلويُ ،ش ّيع بعدها أطلق رساحه مبوجب قرار للنظام السابق قبيل الغزو الراحل من مقر االتحاد يف منطقة "البرصة القدمية" صوب فتبعات األمري ّيك للعراق ،وهو اليوم ح ّر وطليق يف البرصة، مقربة "الحسن البرصي". قتله مل تنته بعد برغم اعرتاف املجرم بفعلته التي حوكم ومن املفيد أن نستدرك للتوضيح ,ولجهة التوصيف األديبّ، عليها وخرج". للقصة ،وعلينا فالراحل مل ُيعرف شاعراً وإنمّ ا اشتهر بكتابته ّ سبب آخر لإلهامل الذي بدا عليه قرب الربيكان ،يوضحه هنا أن نسأل :هل يغيب عن أصدقائه وزمالئه يف الوسط ّ الشاعر البرصي نفسه هو ّأن "كل أهل الربيكان هم يف الثقايف قصائد النرث التي كتبها يف سبعينيات القرن املايض؟ السعودية اليوم ،ومل يبق منهم سوى ابنه ماجد الذي يحاول خاصة تلك التي نحتفظ ببعض منها وتحمل توقيعه أثناء ّ أن يعتني برضيح والده" .إال سفره إىل وارسو وبراغ. ّأن الشاعر كاظم الحجاج، وأل ّنه عاش العزلة يف السنوات األخرية لحياة بار ابن البريكان قبر يف شقة صغريةّ ، رأى أن "ما ينقصنا اليوم هو فإن األدباء هم نحياها ومضطربة قلقة ومن اإلتقان يف إنجاز األشياء من حمله عىل األكتاف يف مراسيم بينها قبور أح ّبتنا ،فنحن ال الوداع األخري .كم كانت صعبة تلك ونتصالح مع خـرابهـا نهتم بإحيائنا ،فكيف إذن هي ّ األ ّيام التي قضاها يف العناية املركزة بشـكل غريب ومثير الحال مع املوىت ،يف حني كان ألحد مستشفيات البرصة؟ وكم يشاركنا هو وها لألسى، يف بالحي وامليت االهتامم أكرث هي مؤملة الشهادة التي كتبها عنه ّ مصالحة الواقع هذه عقد الستينيات (حيث تويف صديق عمره القاص محمد خضيرّ ، السياب) ،من دون إغفال جانب ومنها نطالعُ ":ر ِبط أخرياً إىل أنابيب بضياع أثره وسط آالف آخر هو ّأن املوت واألحزان التغذية وضغط الدم وجهاز التنفس القبور ّ العراق ّية كانت أقل" .هنا يوضح االصطناعي ،بعد أن فك ارتباطه بقوى 150
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
قبور شعراء العراق
االجتامعي وكلامت النضال املحببة" تويت مي تشياما نوبيوندا" ّ ويف الصباح حدّق من خالل ماسورة الحياة الفوضو ّية ذلك قبر الراحل محمود عبدالوهاب املشهور بني الجموعَ ، رحل بندقيته ،إىل وجه املوت ،ودوت أصدق برهـان على تراجع طلقة". وحيداً بال شهرة .الشهرة التي صنعها لنفسه انتقلت االهـتمام بالثقافة ورموزها ،خالل زيارة قربه ،يصدم املرء من إىل حلقة ض ّيقة أحاطت به الطريقة املتعجلة التي ُبني فيها ّ يتذكر كثيرون في حين ً وقت رحيلهٌ ، َ كل أخذ حصة قربه كيفام كان ،حيث املطر قد وكيف اب ي الس موت تفاصيل ّ منها لنفسه ،و ِرثت قبساً أسقط شيئاً من أحرف اسم "محمود السبتي علي صديقه أن ّ عبدالوهاب" ومسح تقريباً عباريت: من شعلة الحداثة األوىل ّ "كل نفس ذائقة املوت" و"قرب أرفعها يف درب املستقبل ُ جلبه بسيارة مرسـيدس املوحش ،و ِرثت (شعر ّية األديب واملريب الفاضل" ،وعدنا سوداء اللون العمر) امللفوف برششف نسأل وسط حالة من الغثيان :هل املستشفى املتسخ". فع ًال كان صعباً بناء يشء أفضل مام هو عليه اآلن ،وبرصف منتظم للطابوق الذي يحيط به؟! أية مصادفة أن تحمل سرية عبدالوهاب ،هذه املعلومة، إ ّنه زامل بدر شاكر السياب ومحمود الربيكان ّ وكل رواد َ وشارك أساطني النرث العراقي منذ الشعر العريب الحديث، رحيل يف عرص التويرت فرتة الخمسينيات يف إنتاج إبداع متميز.كتب الشعر وعمل إزاء هذا الحالّ ، فإن الشاعر البرصي طالب عبدالعزيز يع ّد يف املرسح وأخرج مرسحية "أهل الكهف" لتوفيق الحكيم شكل قرب الراحل "محمود عبدالوهاب" "أصدق برهان عىل عام ،1957ومرسحية "عرس الدم" للوركا ،ومرسحية "سوء تراجع االهتامم بالثقافة ورموزها ،يف حني يتذك ّـر كثريون تفاهم" لكامو عام .1958واشرتك مع الشاعر كاظم نعمة تفاصيل موت الس ّياب وكيف ّأن صديقه عيل السبتي جلبه التميمي عام 1973يف تقديم برنامج "مسائل ثقافية" بسيارة مرسيدس سوداء اللون (حديثة يف وقتها) ،وقفت القصة والرواية عن لتلفزيون البرصة .كام مارس ترجمة ّ قبالة مسجد «أبو منارتني» يف البرصة ليدفن بعدها بعدد االنجليز ّية يف الخمسينيات ،صدر له ":رائحة الشتاء" محدود من املش ّيعني». مجموعة قصص ّية" ،رغوة السحاب" رواية" ،ثريا ّ املؤسسات الثقاف ّية النص" كتاب هنا يستدرك عبدالعزيز« :حينام تن ّبهت ّ وكتاب نقدي" ،سرية بحجم الكف" رواية ،و"شعر ّية العمر" لخرب الرحيل وقيمة صاحبه ،بادرت إىل إقامة مناسبات نقديّ أيضاً ،وقصائده منشورة هنا وهناك يف مطبوعات ثم ش ّيدت نصباً له استذكارية ك ّرست له وملنجزه ومن ّ ودوريات محل ّية . دُعيت إىل كرنفال افتتاحه األسامء الكبرية من األدباء العرب قبل ذلك بعرش سنوات ،كان "عبدالوهاب" قد حاىك نهايته يف أحد مهرجانات املربد سبعينيات القرن املايض». نص التي تشبه ميتة الغريب يف منفاه ،ووث ّـق لها يف ّ غري ّأن عبدالعزيز مل تفته اإلشارة إىل فكرة مفادها« :إشاعة "الفجيعة": اقي ،جعل من عامة املوت وتعدّد طرائقه ض ّد اإلنسان العر ّ "الفجيعة ُ ْأن تفتح عينيك فجأة ً /وترى عم َرك ال يصل ُـح الناس قلييل االعتناء مبن مات سواء أكان من األسامء الكبرية ليشء /الفجيعة ُ ْأن تحدّق إىل رسيرك /الغطاءات كام هي ،أم الصغرية؛ فقضية املوت أصبحت شائعة ومألوفة ،لذا من وال أحد /الفجيعة ْأن تعي الفجيعة". الطبيعي أن يكون قرب السياب املدفون قبل أكرث من أربعة ً كام ا ّنه وصف املوت يف ّ قصة "دروكوكو" التي جاء فيها":إ ّننا عقود أبهى من قرب الربيكان وعبدالوهاب ،حيث األخري منوت مثل ما ّ تتحطم األشياء القدمية ،لكنّ نهاية همنغواي دفن يف عرص املفخخات والفيسبوك والتويرت والكالم الطويل تختلف ،تناول عشاءه وأنشد مع زوجته ماري أغنيتهام العريض عن الحر ّيات والدميقراط ّية يف عاملنا اليوم» 151
قصيد األسالف
هة التَّفتّت في ُموا َ ج ِ َص ّدى َ لله ِّش الذي َينْخرُ العي َش من الداخل وَ َح ْسب، صاغ الشاعرُ الجاهلي الوُ جو َد بما هو لغة عالية .لغة ال تت َ ْ القول ِّ الشعْ ري مُ ضمِ ً ّ ُ أن ي َّ را لِنِدائِهِ العَ مِ يق َظل وإنما ُتراهِ ُن ،أبْعَ د مِ ْن ذلك ،على ْ ُّ
خالد بلقاسم
َ قال متيم بنُ ُمقبل: ــــص ال َّدهــــ ْـ ُر ِمنّي فال َفتَى َغ َر ٌض ْإن َي ْن ُق ِ وإن َي ُكــــــنْ َ ْ أص ْب ُ ـت بـــ ِه ذاك ِمقــــداراً ِ ْ ـب ال َعـــ ْي َ ـش ل ْو َّأن الفتى َح َجـــــر ما أط َي َ َ ال ُي ْحـــــر ُز املـــــ ْر َء أنصـــــــا ٌر وراب َيــــة
152
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
واف َو َمثلـو ُ ِم لِلدَّهْ ـــــر ِمــــــنْ عُ ـــــوده ٍ َ قويــم ت و ـــويـج فســــ َري ُة الدَّهْ ـــــــر َت ْع ُ ِ ٌ الحـــــوا ِد ُث ع ْن ُه وَهْ ـــــــ َو َملمو ُم َتنْبو َ َ اثيم تأ َبـى اله َــــــوان إذا عُ ـ َّد الجـــــــر ُ
من رسومات الواسطي
ل ِّ القو ُ ري ْ الش ْع ّ
القول الشعري في مواجهة التفتت
لهَذا
الق ْولِ ِّ ُ الش ْعريّ أج َّن ُت ُه يف ما أ ْرسا ُه ُش َعرا ُء التداخل بينْ داليّ ْ :الع ْيش والدّهر .وهو ما َي ْج َع ُل القديم ،إىل َ َ ِّ إعا َدة قرا َء ِة هذا الش ْعر ُمل َز َمة ال فقط ب َر ْص ِد َسفر الدّال الجاهلية ق ْبل الشاعر ُمقبل بن متيم ب َز َم ٍن اإلنصات لِ ُم ْم ِكن الق ْولِ ،دالل ّياً ،يتط َّل ُب َح ْفراً يف َد َوالِّه ،يف الخطابات ،وإنمّ ا أيضاً ْ ُ َبعيد. بالكش ِف عَنْ َس َفر التجا ُور بينْ َّ دوال ُمح َّد َد ٍة ،أي تلك الد ّ إشعاع ِدال ٍّيل ّوال التي َتن َْطوي عىل أيْ َع ْود ًة إىل َت َج ّليا ِت ِه األوىل ،عىل َن ْح ٍو ُيؤ ِّمنُ ال ّن ْب َش يف ٍ ُ تيح ُه خاص. البدايات ِمنْ َر ْص ٍد لِل ُبذور ،و ِمنْ ّ طاب البدايات ،لِام ُت ُ ِخ ِ ّ ّ وص الال ِحقة. إىل جانب ِه ْج َر ِة دال "النقص" ِمنْ َب ْي ِت طرفة بن العبد تاج ه ِذ ِه ال ُبذور يف الن ُُّص ِ ُمتا َب َع ٍة لِ ِن ِ ّ إىل قصيد ِة متيم بن ُمقبلّ ،مثة أيضاً ِهجر ٌة للتجا ُور بينْ داليّ ْ ْ ُ ريات الخطاب ،إال بالتن ُّب ِه أس َحف ِ ال َي ْس ُ تقيم ال َّن ْبش ،مبا هو ُّ َّوال ولِ ُلم ْض َمر فيهاَ . لِذاك َر ِة الد ّ العيش والدَّهْ ر .وأ ْب َعد من ذلكّ ، وذلك بتَقليب ُت ْر َب ِة ال ُبذور فإن العالقة بينْ الدّالّينْ َب ْ لغت َح َّد التامهي الدِّال ّيل يف ب ْي ِت طرفة ،الذي َو َردَ ،يف ق ْب َل ِه ْج َر ِتها الالنهائي ِة ،الحقاً ،يف النُّصوص ،مادا َم ْت هذه النحو التايل" :أرى الدّهْ َر كنزاً ناقصاً" َبدَلَ وس ُع ذا ِك َر َة الد ّ داالت َّوال و ُي َض ِّمنُها اإل ْب ِ رواي ٍة أخرى ،عىل ْ ال ِه ْج َر ُة هي ما ُي ِّ املعرف َّية التي َتشهَدُ ها األز ِمنة .وهي أيضاً ما ُيلز ُم َّ َ العيش كنزاً ناقصاً" .وال َينْبغي إلعا َد ِة القرا َءة ْأن ت ْنسىَ ، كل ُمقا َرب ٍة "أ َرى امل التأوي َّ هاجس التحقيق ،االح ِت َ فتح ُه نات الدّالل َّية بتَوجي ٍه ِمنْ شاف الوشا ِئج التي تتخ َّلقُ بينْ اللو ْي ِ تأويل ّي ٍة باك ِت ِ يل الذي َي ُ ِ ُ فأن َيتَباد ََل ُّ مع ِّ اختالف ال ِّرواياتْ . يف َس َفر الدّال. دال ُ دال "الع ْيش" املَ ْعنى َ وشائج تقو ُم عىل اال ْم ِتداد ،ولك َّن ُه ام ِتدادٌ عبرْ َ ً خصيب ِمنَ الناحية التأويل َّية .ذلك ما َي ْج َع ُل الفصل" ،الدّهْ ر" أ ْم ٌر ٌ بالفصل ويف ْ املَ ْحو ،الذي َي ْب ُلغ ،أحياناَ ،د َر َجة ال َو ْصل ْ َّقص ،الذي َيسرْ ي فيهامَ ،خصيصة بانية لِحقيق ِة ال َع ْيش. طاب الصوفية. إن ْاست َع ْرنا ِخ َ الن َ ُ ّالْ ،اس ِتناداً إىل هذا ا ُمل ْر َت َكز التأوي ّ فتفكيك الد ّ يل، ثم، حقيقة ُم َح ِّد َد ٌة لهُ ،ال ِمنْ خارجه بل ِمنَ الدّاخل .ما ُي ْب ِه ُج و ِمنْ ّ هو عينْ ُ ما ُي ْت ِلف ،هو ذا ْاح ِت ُ َمد ٌ نتوج يف إعا َد ِة قرا َء ِة ِّ املفتوح الش ْعر العر ّيب القديم، واصل ِة امل تبادُل املَ ْعنى ق ْبل ُم َ ْخل ٌ ِ تجدي ِد الن ََّظر إليه ،انطالقاً ِمنْ َسبرْ ُم ْم ِك ِن املَ ْعنى نفصلينْ و ُمتبا ِع َد ْين ،مبا ُييض ُء اإلشعاعَ ِ اإلنصات للدّالينْ ُم ِ َد ْوماً عىل ْ الش ْعر الجاهيل أ ّوالَ ،ث ّمُ َّ ُّ وسبرْ العالق ِة التي َن َس َجتْها لغ ُت ُه مع الوجود .وال َيخفى الدِّاليل الذي ُي ْض ِم ُرهُ دال الدَّهْ ر يف ِّ فيهَ ، الش ْعر الذي تال ُه الحقاً. ّأن إعا َد َة القرا َءةَ ،وفقَ ما ُيع ِّل ُمنا بورخيس ،أشقُّ ِمنَ القرا َءة .يف ِّ ُّ َّمثة يف ّ دال الدّهْ ر ِمنَ الد ّ دال " َي ُن ُقص" ،ا ُملتصدِّر للب ْي ِت األ ّول ِمنْ َمقطع الشاعر ئيس ِة يف االقترِ اب ِمنْ َت َص ُّور ال َّز َمن ّوال ال َّر َ الش ْعر القديمُ .ي ُ يف ِّ لبيت يف ُمع ّلق ِة طرفة بن العبد ،جاء حيل ،وفقَ ما جا َء يف "لسان العرب" متيم بن ُمقبلَ ،صدىً ٍ َ فيه: البن منظور ،عىل األ َم ِد امل ْمدود ،وعىل الزّمان ب َو ْج ٍه عا ّم. َ ً ً َّ َ َ ِّ أ َرى ال َعـــ ْيش كنزا نا ِقـــصا كـــل ل ْيل ٍة وقد اقرتَن ،يف الش ْعر الجاهيل ،بامل ْوت وال َه َرم والنَّوا ِئب َ د ف ن ي ، ر ــــ د وال ، م ا ي األ وبالجملة ،اقرت ََن بالهَالك ،عىل ح ِّد ما َّوازل. ن وال ث د وا والح ْ َ ِ ُ ــــص ّ ُ َّهْ ُ َ ِ ومــا َت ْن ُق ِ كن ٌز هو ال َع ْي ُش ،لك َّن ُه عُ ْر َضة لِ َنز ٍْف ُم ْس َت ِم ٍّر يقوده إىل النّفاد. ْأس َن َد ْت ُه سور ُة الجاثية إىل الجاهليني ،إذ جاء فيها ﴿وقالوا ما ِه َي إ ّال َحيا ُتنا الدُّ نيا نمَ ُ ُ بسلط ِة َز َمن ونح َيا وما ُي ْهلكنا إ ّال وت ْ َن َ فاسة الع ْيش وما ُيولِّدُ ُه ِمن ا ْب ِتهاج ُمس َّيجان ُ ّ الدَّهْ ر﴾ ،اآلية .23 ُم َد ِّمر ،ز َم ٍن ُم ْن ِت ٍج للنّقص .مثة ماء ،ولكنْ َ ،م ْهام ه َّيأ ُه ِمنْ إخصابَ ،منذو ٌر للجفافَ . ذلك ما يتك َّف ُل ُ البيت الثالث ٍ ِمنْ مقطع الشاعر متيم بإضا َء ِت ِه وهو َي َت َو َّغ ُل با ُملفا َرق ِة إىل لل َّد ْهر ،في ِّ الح َّدة بينْ َ َمص ٍري ال َ فكاك منه و َرغب ٍة الش ْعر الجاهلي، أقصاها ،كاشفاً عَن ِ ُم ْستحيلة .إ ّنها َر ْغ َبة الت َّصدّي ال لِنفا ٍد َح ْت ِم ٍّي َو َح ْسب ،وإنمّ ا، صور ُة الهالك .وهي البانية في ق ْبل ذلك ،لِ َس ْط َو ِة ال َّز َمن و"ت ْعويج ِه" عىل َح ِّد ت ْعبري متيم بن ّ ص ُّور عن ال َ عدي ِد من قصائ ِد ِه للت َ ُمقبل. الح ْفر عَن السابق عىل َ ال ُب َّد ِمنَ التن ُّب ِه ،يف سياق التنْصيص ّ هر سلطة ال تُق َ الزَّمن ،بما هو ُ امالت الد ّ ّوال يف ِّ الش ْعر العر ّيب الح ِت ِ التح ّق ِ قات الدِّالل ّية األوىل ْ 153
قصيد األسالف
وإذا َ ترس ُم حقيقة هذا الع ْيش بالح ِّيز الذي نال ُه يف َت ْركيبها. كان متيم بنُ ُمقبل ق ْد ْأس َن َد للدّهْ ر ،يف املقطع أ ْعاله ،ال اللغة ُ ُ ً َ نمّ ُ "التقويم" ،فذلك ِمنْ أثر اإلسالم ويج" فقط ،وإ ا أيضا "الت ْع َ َ َب ْع َد ذلكُ ،ييض ُء بيت متيم املستحيل عبرْ َ صور ِة َح ْر ٍب غيرْ فاملقطع الذي نتأ ّمل ُه ينت َِس ُب ،يف َحيا ِة متيم بن ره. يف ِش ْع ُمتكا ِفئة .فا ُملتخ َّي ُل ا ُملت ََح ّك ُم يف اخ ِتيار كلمة " َت ْن ُبو" َمشدودٌ ُ الح ْريبّ .ك ِل َمة "ن َبا" َت ْعنيِ ،م اّم َت ْعنيه ،إخطا َء بيت واضح ِمنْ ٍ إىل املجال َ ُمقبل ،إىل َم ْرحل ِة ظهور اإلسالم .وهو أ ْم ٌر ٌ ثم ّإن الفتى، يف القصيد ِة التي ْاجتزأنا منها املقطع .فيه ُيش ُري إىل عالق ِت ِه تسديدا ِتهّ . ال َّر ْمي .لكنّ ال َّز َمن ال ُيخطئُ ْ قيم يف هَ شاش ِته .هشاشة تتجا َو ُز الفر َد بامرأ ِته التي كانت زوجة أبيه يف الجاهلية .يقول: حس َب ق ْول متيمُ ،م ٌ َ َ عاشـــقٌ َ ُ ّ ترَ ُ حاج َت ُه لِ ْتبط بال ُوجو ِد اإلنساين كام َر َس َم ْته القصيدة الجاهل ّية منذ نال ِمــنْ دَهْ ــام َء َ هَ ْل ِ ّين َم ْرحــــو ُم البدايات ،عىل َن ْح ٍو م ّكنَ ِّ قلق الش ْع َر ِمن اخترِ اق ُم ِ يف الجاهــل َّي ِة ق ْب َل الد ِ حيط ِه إىل ٍ للدَّهْ ر ،يف ِّ إنسا ٍّين يتج ّد ُد بتجدُّ د ال َّز َمن .لنا ْأن ُنن ِْص َت لِهَذا القلق يف الش ْعر الجاهيل ،صور ُة الهالك .وهي البانية َ أج َّن ِت ِه األوىلْ ، وح ْسب ،بل يف ال َعدي ِد من قصائ ِدهِ للت َّص ُّور عن الزَّمن ،مبا هو ُسلطة وأن َن ْحف َر عَنْ َو ْج ِه ِه ال يف األ لم َ ً َ أ ْيضا يف ذ ْر َو ِة االب ِتهاج الذي كان الشاع ُر الجاهيل َي ْحتَفي به. ال ُتقهَرُ .سلطة ْمل َي ُكنْ ُيس ِّي ُجها أيُّ َتعالٍ يمُ ْ ِكنُ ْأن َيخ ُلق َ ذلك ّأن لِل َّن ْقص ،مبا هو إ ْرسا ٌء للموتُ ،صو َر َة ما ُي ْب ِهج ،أي غات يف االطمئنان تجا َه هذه ال ُق َّوة ،بالبحث لها عن ُمس ِّو ٍ عاملٍ ْأخ َروي .ذلك ما سي ْنه َُض به اإلسال ُم يف ما َب ْعد .بظهور ِه ،صور َة الكنز. اإلنصات للد ّ ّوال، توسلنا ب ِه يف نحو ما ُيستفا ُد ِمنَ الحديث ِ ِ تمَ اهَ ى الدّهْ ُر بالله ،عىل ْ وانسجاماً َم َع ال َّن ْبش الذي َّ َ ُ ُ ْ الح ْرف املشؤوم ،ثاوية كشف عَن التّعايل الذي يمُ ْ ِكنُ أن ن ْع َت َرب االس ِتحالة ،التي أ ْب َر َزها َ النبويّ " :ال َت ُس ّبوا الدَّهْ ر" .متا ٍه َي ِ ّ البيت األ َّول ِمنْ مع ّلقة امرئ القيس؛ الشاعر األ ّول ،الذي يف ة ي دالل لوينات َّوال د لل َم َّس مفهو َم الز َمن ملّا أ ْرسىَ اإلسال ُم ِ ٍ ّ ال َتن ُّ نصوص ُه َتدْعو إىل إعاد ِة القرا َءة ،اش ِتثامراً لِ ُم ْم ِكن ْفك أص َب َح ْت نوا ِئ ُب الدَّهْ ر ُ َوفقَ ُرؤي ِته للوجود .وبهَذا التَّعاليِ ْ ، البدايات ِمنْ جهة ،ولِت ََجدُّ ِد نح ٍو َعزَا إىل َمشيئة إله ّية ،عىل ْ هذ ِه املَشيئة ما َ التأويل بت ََجدُّ ِد املعرف ِة اإلنسان ّية كان الجاهليون قول تميم، ب ْ َيت ََص َّورو َن ُه هَ الكاً ،مبا اق َتضىَ ق ْلباً حس َ الفتىَ ، ِمنْ جه ٍة أخرى. َّإن ال َع ْو َد َة إىل خطاب التص ُّور ،ويف َتدْبري العالقة يف هذا َ هشاش ِته. ُم قيم في َ ٌ وجهُها ْاس ِتجال ُء مع ال َّز َمن. َ البدايات ال ُي ِّ هشاشة تتجا َوز ُ الفر َد ِلت َ ْر َ تبط أصلٍ ثابت َي ْرقدُ يف ثنايا اللغة، خطئ، ْمل َيكن الشا ِع ُر الجاهيل ُي ِ ْ بل هي رضور ٌة لِف ْه ِم ُن َس ِخ هذا نفاسة اإلنساني كما بال ُوجو ِد ّ وفقَ تص ّور الكنز الناقصَ ، صاح َب ِت ِه يف َسيرْ و َر ِة م و ل، األص تيح ُه هاج الذي ُي ُ ُ َ الع ْيش ،واالب ِت َ ْ م ْت ُه القصيد ُة الجاهليّة س ر َ َ َ املَ ْعنى ِّ الش ْعريّ .فف ْه ُم السيرْ و َر ِة بحكم حقيق ِته هذا الكن ُز اآليلُ ، البدايات منذ الوجود ّية ،إىل النفادَ . السامع؛ لذلك ال َي ْست ُ َقيم إ ّال بت َْجدي ِد َّ َ ماَ َ بقلق الزَّوال .قلقٌ اقرتن َس ِع ِندا ِء امل ْعنى القا ِد ِم ِمنْ ُ االبتهاج ِ ُ ِّ ُ تنفصل حقيق ُته عن النفا ِد الذي كل َس ِحيق. ُوجودِيّ ُم ْس َت َمدٌّ ِمنْ كنْز ال ِ ُ ُ ُ ّ ُ ْ ْ ُ الح ْرف املشؤوم يف حال للم ر م ض مل ا قة ل ع مل ا طلع م ل ت ْص ن ن ل قطع م يف ، الثالث البيت َينْخ ُرهُ ِمنَ الداخل .فام ْإن أق َّر ِ َ َ ُ ِ ِ َِ لِ َب ْي ِت متيمَ .ت ْبدَأ املع ّلقة كام هو معلوم بالقول: الشاعر متيم بن ُمقبل ،بطيب الع ْيش حتّى سا َرعَ ،ت ّواً ،إىل شؤوم َح َس َب تعبري ابن بيب و َمنْزلِ اس ِتحضار َح ْر ِف "ل ْو" .وهو َح ْر ٌف َم ٌ ِقفــــــا َن ْب ِك ِمنْ ِذكــــرى َح ٍ الح ْر َف ال َي ُ عريبَّ ، قرتن إ ّال مبا ال يكون .ب ُبزو ِغ ِه يف بســ ْقطِ ال ِّل َوى بينْ َ الد َُّخــولِ َو َح ْومَلِ ألن هذا َ ِ جسدَها ُب ُ جم لِطيب َت ْركيب اللغة ،ان َبثقَ ِظ ُّل ُم ْستَحيلٍ َمكنيُ ،م ْستَحيلٍ سا ٍر يف زوغ َ َّإن لِ ْ الس ِتحالة ،التي َّ الح ْر ِف الم ُ ْل ِ أساسها الخ ِف َّي يف مطلع َرغب ٍة تن َبني عىل هشاش ٍة ُم ِّ تأصلة .وارتكازاً عىل هذا ال ُبزوغ ،الع ْيش يف ب ْي ِت متيم بن ُمقبلَ ، خاطفّ . السقط وال ِّلوى، كأن َت َسنَّى لِ ُّلغة ْأن َت ْحت ِف َظ لِطيب ال َع ْيش بظهو ٍر ِ ُمع ّلق ِة امرئ القيسٌ . أساس را ِقدٌ يف داليَّ ْ ِّ 154
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
القول الشعري في مواجهة التفتت
من رسومات الواسطي
اللذ ْين ق َّلام َن َب َش ِت القراء ُة يف ُم ْم ِكنهام التأوي ّ يل .إ ّنهام وح ْسب ،وإنمّ ا أيضاً لِق ّو ِة ئيسان يف ِ اإلنصات ال لِ ُلمع ّلقة َ َر َ د ِّ َوال ِّ الش ْعر الجاهيل يف النّفا ِذ بعيداً َن ْح َو َم ْجهُولِ ال ُوجو ِد اإلنسا ّين .وهو ما ُي َس ِّوغ َر َجاَحة الد ّ ّال يف إعاد ِة قرا َء ِة هذا ِّ الش ْعر. ُ لِهَذ ْين الدّالينْ ا ْم ِتدادٌ يف ِّ الش ْعر الذي جا َء َب ْع َد املع ّلقة .فق ْد صامت قلق ٍ أ ْر َس َيا تفاعُ ًال عَميقاً بينْ املكان وال َّز َمن ،وفقَ ٍ الس ْق ُط َي ْعني ما ال َيب ُني لِلقراء ِة ا ُملتسرَ ِّعة .لِ ُنن ِْصت لِ ّلغةّ : َ تساقط ِمنَ ال َّر ْمل ،أ ّما ال ِّل َوى فام َي ْسترَ ُّق ِمنَ ال َّر ْملِ ف َيخ ُر ُج السقط وال ّل َوىُ ،ي ْر ِسيان ِداللة التفتُّت، ِمن ُه َ الج َددُ .هُ ام معاًّ ، تأسييس. مطلع م َها ت قيم َيس ت ك التي َت ِ نْ ّ ٍ البدايات األوىل ّ ُ للش ْعر العر ّيب تقو ُم عىل التفتّت .ال ي ْن َبغي ْأن َن ْنسىَ هذا التأسيس َ الجدَد .فهُو ما ُييض ُء َ رهان فوق َ ِّ الش ْعر و َمه ََّم َت ُه ال ُو ُجود ّية. ّمثة صو َر ُة َص ْخر ُمفت ٍَّت يف خطاب البدايات ،وعبثاَ س ْو َف بح ْر ٍف مشؤوم ،إىل َي ْس َعى متيم بنُ ُمقبل ،وهو َي ْحتَمي َ نحو َج َعل َرغ َب َت ُه ُمستحيلة االس ِتنجا ِد َ بصالب ٍة ُمتم ِّن َعة ،عىل ْ ُمنذ ال َبدْء. مطلع ا ُملع ّلقة ،إالّ ُ ال َّ يتكش ُف التفاعُ ل بينْ َ املكان والزَّمن ،يف ِ ْ َ باإلنصات للتجا ُوب ب َ ني شط َريْ هذا الب ْي ِت الذي ل ُه َو ْض ُع ِ الش ْطر األ ّول ،عبرْ َ ما ا َّمحى .مثةّ التأسيسَ .يحضرُ ُ الزَّمنُ ،يف َّ يش ٌء َ ثم عَفاْ .مل ي ْبقَ ِمن ُه غ ُري الذك َرى .حقيقة ال َّز َمن، كانَّ ،
َوفقَ هذا َّ الحضو َر يف الزّمن الش ْطرِ ،ذ ْك َرى ،وهو ما َي ْج َع ُل ُ ً ِّ الغياب بانيا لِكل ُحضور. صبح ُ باس ِت ْمرار ،لِ ُي َ ُمنف ِلتاً ْ الح ِّب واملأ َوى غيرْ ُ االن ِفالت .بهذا ابتدأ ل ْي َس لإلنسان ِمنَ ُ ُ القول الشعريّ .وق ْد ع ََّض َد الشط ُر الثاين هذ ِه الحقيقة ا ُمل ْر ِع َبة بصو َر ِة التفت ُِّت َم ْر ُسو َمة عىل َج َس ِد املكانَّ . كأن َ تتجسدُ املكان يكت ُُب حقيقة ال َّز َمن ،و ُيك ِّث ُف هَ شاشة ُق ْصوىَّ ، َّ ترَ وانح َد َر ،ب َت ْعب ٍري ُم ْس َت َم ٍّد من لسان يف ما ْاس َق من ال َّر ْمل َ العرب. الح َج ُر ،الذي ب ِه َي ْحتَمي متيم ،مص ُريهُ ال ّل َوى ،أي التفت ُُّت َ َ الح َجر َر ْم ٌل يتجا َو ُب مع يف أقىص َت َج ّليا ِته .ما َت َساقط ِمنَ َ ّ الغياب الذي ب ِه َي ْحضرُ ُ ال َّز َمن يف البيت األول ِمن ُمعلق ِة شاهدٌ عىل ما َت َ الع ْمر .وهو امرئ القيسٌ . ساقط ِمنَ ُ غياب ِ َ الج َددُ ،يف ى. ح م ا ثم ، كان ك متاس إىل بذلك َجدَدٌ ُيش ُري َ َّ َّ َ ُ ٍ ني واملكا ّين ،هو التفت ُُّت األقصىَ .و َمتى تأ َّولنا ُه يف ُب ْع َد ْي ِه ،ال َّز َم ّ عالق ِت ِه ب ِذك َرى الحبيب واملأ َوى َيغدو هو التفت ُُّت األقسىَ . ا ُمل ْر َت َك ُز ِّ أساس َفت ٌ ُوت .اإل ْرسا ُء األ ّول الش ْعريُّ َجدَدٌ َ ، والج َد ُد ٌ للق ْول العايل َت َّم ف ْو َق ما ْاسترَ ََّق ِمنَ ال َّر ْمل .عىل الهشاش ِة ا ْن َبنَى الق ْول .إ ّنها الحقيقة ال ُوجو ِد َّية ا ُمل ْض َم َر ُة يف بداي ِة باهرة ،مبا م ّك َن ُه ا ُملع ّلقة .صاغها ام ُرؤ القيس بقدْر ٍة تكثيف َّي ٍة ِ ِمنْ تأمني ال َّت َو ُّغلِ يف ما يتجا َو ُز َز َم َنهُ. ً ُّ ْمل َي ُكن الق ْو ُل ِّ نفصال عَنْ هذا ال َّت َوغل الش ْعريُّ ،بهذا املَ ْعنىُ ،م ِ الذي َيصو ُن ُه ِمنْ ِّ سياج َم ْحدو ٍد يف َز َم ِن إنتاجه .فالحقيقة كل ٍ ذا ُتها ،ال َّرا ِق َد ُة يف هذا املَطلعَ ، سوف ُيؤ ّكدُ ها ،حديثاً ،الشاع ُر الخاص ،ملّا قال: والكاتب األرجنتيني بورخيسِ ،منْ َم ِو ِق ِع ِه ّ الح َجرُّ ، كل ْ يش ٍء ُيقا ُم عىل ال َّر ْمل" .وقد "ال شيَ ْ َء ُي ْبنَى عىل َ بتنصيص ِه عىل واجب البنا ِء كام ل ْو أنَّ أ ْرد ََف هذا الق ْول ِ ال َّر ْم َل ِمنْ َح َجر .إ َّن ُه القلقُ الوجوديُّ يف َس َفر ِه العابر لِألز ِمنة، وا ُملتل ِّون بإبداال ِتها ا ُملؤ ِّمنَة ال ْم ِتدادا ِته يف ُص َو ٍر النهائ ّية. عل ال َّر ْم َل َح َجراً؟ ما الذي َي ْج ُ ما الذي َي ْج ُ َ اإلنسان َي ْبني عل ُ َ فوق ال ّرمل كام ل ْو َ كان ال َّر ْمل ِمنْ َح َجر؟ إ ّنها َم َه ّمة الق ْول الجاهيل ُمنذ القديم .بهذا العايل ،التي أ ْد َركها الشاع ُر ِ اك املَكني ،صاغ الشاع ُر َسكناً لغو ّياً .في ِه َ صان ال ُوجو َد مبا اإل ْدر ِ هو لغة عالية .لغة ال تت ََصدّى لله ِّ َش الذي َينْخ ُر الع ْي َش من الداخل َو َح ْسب ،وإنمّ ا ُتر ِاهنُ ،أ ْب َعد ِمنْ ذلك ،عىل ْأن َي َّ ظل ُ القول ِّ الش ْعريُّ ُمض ِمراً لِ ِندا ِئ ِه ال َع ِميق ،يف َد ْع َو ٍة ُم ْس َت ِم َّر ٍة إىل امع َ الخصيب َّ الس ِ 155
شعر وفلك
قراءة فلكية في شخصية عبد الوهاب البياتي ً بعيدا عن عالم التنجيم واألبراج ،يمكن لعلم الفلك أن يساعد في قراءة الشخصية اإلنسانية ،وبوسعه أن
ً ضوءا على عوالم الشاعر .هنا محاولة لفهم قصيدة الشاعر عبد الوهاب البياتي من منظور فلكي يسلط
ياسين الزبيدي
متثل
ساعة امليالد ألي شخص ساعة مصريية بالنسبة إليه ،فهي متثل انتقاله من الجانب غري املنظور من العامل إىل الجانب املنظور ،وهي تحمل سامت نظام الطاقة لكواكب املجموعة الشمسية بسلبياته وايجابياته ،قراءة مواقع كواكب املجموعة الشمسية ألي إنسان هي محاولة لتفسري البعض من جوانبه الظاهرة والباطنة ،وهذا ما يسمى بالقراءة الفلكية لخريطة امليالد «.»Natal Chart واليوم نعود بالزمن إىل بغداد ،وبالتحديد إىل أحد األحياء القريبة من مسجد الشيخ عبد القادر الكيالين ،حيث ولد البيايت يف السابع من شهر مايو ،1926لنحاول أن نصف ما حدثنا به الفلك عن مميزات هذا الشاعر الذي يعد من أبرز املؤسسني للحداثة الشعرية .بيد أنني سأبتعد عن نقد أشعاره تاركاً هذه املهمة لغريي من النقاد واألدباء ،محاوالً الرتكيز يف وصف أبرز مزاياه الشخصية معتمداً عىل مواقع ببعض مام قاله عن الكواكب يف يوم ميالده مقارناً إياها ٍ نفسه نرثاً أو شعراً ،أو ما قيل يف حقه. تخربنا إحدى برمجيات الحاسوب أن الشمس كانت يف ساعة ميالده يف برج الثور ،لذلك فإنه يشرتك مع مواليد الثور يف الصفات األساسية املتمثلة بالبساطة وحب الطبيعة والرغبة يف صنع السعادة والراحة يف البيت الذي يقطنه .كام أنه يحب الرفاهية والجامل وكل ما يتعلق بهام من مأكل جيد ومرشب جيد ومكان رحب وعطر أخاذ وامرأة حسناء. إحساسه بالفن عال جداً ال يضاهيه إال عناده وتشبثه برأيه
156
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
عبد الوهاب البيايت
حتى النهاية. القمر وهو املسؤول عن املشاعر واألحاسيس كان متواجداً يف برج الحوت يف زاوية سلبية ،وهذا ما أضاف إىل شخصية البيايت نوعاً من الحساسية واملزاجية ،فرناه تارة يف حال حسنة ،ومن جراء موقف صغري أو كلمة عابرة نرى مزاجه ينقلب ويغدو سوداوياً ويرد بأسلوب جاف يزعج املقابل. كام أن هذا الزاوية جعلته يقاطع األلوان الزاهية يف الحياة، ومييل إىل كل األلوان الرمادية ومشتقاتها ،لذا نرى خط التشاؤم بارزاً يف لوحة حياته ،وهو يؤمن بأن «اإلنسان
تخطيط فليك لشخصية البيايت
ميوت من الحياة وال ميوت من املوت» كام رصح يف حواره مع عيل الشاله .يف حني يقول محمد بن صالح إن لفظة املوت استطاعت أن تخرتق قصيدة البيايت 900مرة تقريباً:
ُأولدُ يف مدن مل ُتولَد لكنّي يف ليل خريف املدن العربية مكسور القلب -أموتأدفن يف غرناطة حبي وأقول ّ «ال غالب إال الحب» وأحرق شعري وأموت وعىل أرصفة املنفى ُ أنهض من بعد املوت َ ُألولد يف مدن مل ت ُولد وأموت.
الغربة والسفر واملنفى مرتادفات متالزمة يف أشعار البيايت، لعل كوكب املريخ يستطيع أن يجيبنا عن هذا السؤال، فهو يقول يف لقائه مع المع الحر إن السفر هو نوع من فاملريخ هو املسؤول عن الطاقة والنشاط .وقد تواجد أيضاً وال يأيت التعبري عن القلق وانتظار حالة اإللهام ،انتظار الذي يف برج الحوت يف زاوية سلبية كام كان القمر ،ويف ذلك يأيت ،تحدي الزمن اآليت الذي قد يبدو ثقي ًال وأنت تقيم يف إشارة إىل رغبة يف الهروب من الواقع عرب االنغامس برشب مكان واحد طول عمرك .بيد أن هناك سؤاالً يطوف فوق الكحوليات أو العزلة أو السفر ،ولقد اختار البيايت السفر الشفاه مستفرساً :هل كان السفر و الرتحال الدائم لدى ألنه ديدن الشعراء ،وأطلق مسمى «املنفى» عىل كل املدن ً البيايت قدرا ال ميكن أن يحيد عنه ،وهل االغرتاب والتنقل بني التي لبث فيها ردحاً من الزمن ،ويف ديوان «نصوص رشقية» مدن العامل املختلفة أمر مفروض عليه ال يستطيع تغيريه أم يقول: أن هناك هاجساً نفسياً داخلياً يدفعه نحو التغيري واالنتقال.
الغربة والسفر والمنفى مترادفات متالزمة في أشعار البياتي ،فهو يقول في لقائه مع المع الحر إن السفر هو نوع من التعبير عن القلق وانتظار حالة اإللهام ،انتظار الذي يأتي وال يأتي
ما بني الوردة والسكني روحي قطرة ضوء تخب وأنا أخبو معها سنموت كالنا يف املنفى امللعون فلامذا يا ابتي ً ً انجبت حصانا غجريا أعمى ال يعرف يف الصقع الشاسع أين ميوت.
يف تحليل الخريطة الفلكية للشعراء واألدباء ،نرنو بعني االهتامم إىل موقع كوكب عطارد ،ذلك ألنه كوكب التفكري والتواصل االجتامعي ،ليفرس لنا كيف ميكن أن تتخذ
157
شعر وفلك آلة تقويم قمري اسالمية
القرارات وكيف يتم التعامل مع أجواء العمل وزمالء املهنة، وعطارد كان متواجداً يف خريطة البيايت يف برج الحمل الناري ،ويف ذلك داللة عىل أن عنرص املنافسة والتحدي هو ركن أساس من أركان فكر البيايت ،فهو ذو فكر خالق وروح عدائية تحب الظهور واملناقشة يف كل املحافل ،فهو يقول يف حواره مع شوقي بزيع «التمرد ولد يف داخيل من رصختي األوىل وأنا بني يدي القابلة» ويضيف أن مجموعة «أباريق مهشمة» كانت هي السهم الناري الحقيقي الذي أطلقته نحو الغابة امليتة فاشعلتها ليشتعل معها الجدل يف كل مكان .كام جعل عطارد من البيايت شخصاً شجاعاً يف التعبري عن آرائه ،فام استقر يف فكره يكشفه لسانه ،وفيه اجتمعت الثقة العمياء بالنفس وحرية التعبري التي ال تخىش من أحد ،وال تعرف املجاملة والنفاق ،وهو يقول يف حواره مع المع الحر «كل الناس يقولون عن األعور إنه أعور لكنهم يقولون ذلك يف الكواليس ويكونون مفرتين ومنامني وأحياناً يكذبون ،لكنني أقول ذلك بأعىل صويت ويف العلن ،إنني أعرب عن لسان الذين يجبنون وال يتحدثون ،أنا ليس يل مصلحة وليس بيتي من زجاج ،وأعتقد أن الشاعر الحقيقي ال يستطيع أن يهزمه أحد» .ولذلك كان البيايت ناري التفكري كموقع عطارد وجريئاً يف النقد جرأة تصل حد الشتيمة والسب ،ويف هذا يسأله عدنان الصائغ عن قاموس الشتائم الذي انفرد به عن العديد من الشعراء ،عام إذا كان فخوراً به ،ويجيب البيايت «هذا القاموس مستمد من الواقع اليومي السيايس واالجتامعي ألن هذا الواقع واقع فاسد البد من تعريته وتحطيمه». خلف كل شاعر وجع وامرأة ،فيا ترى من هي املرأة التي وراء البيايت ،أهي امرأة واحدة أم هي قبيلة من النساء؟ يساعدنا يف اإلجابة عن هذا السؤال موقع كوكب الزهرة، كوكب العشق والجامل يف خريطة ميالده ،وملا كان يف العرشية األوىل من برج الحمل ،أدى ذلك إىل جعل البيايت عاشقاً حامسياً ،ليس خجوالً عندما يحب ،فبوسعه التعبري 158
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
عن كل ما يجول يف قلبه من دون وجل، أنيس املعشرَ تحبه النساء ويحب صحبتهن ،متهور يف عشقه ،إذا ما أحب مىش يف الطريق حتى النهاية غري آبه لعذول أو الئم ،من السهل أن يقع يف الحب ،وقد وقع فيه مرات عديده .بيد أن هناك ميزة أخرى تظهر يف هذا العاشق الجريء من جراء كوكب الزهرة وارتباطه بالقمر، إنها ميزة التقييد العاطفي ،ميزة تجعل عرشات النساء يتوحدن يف امرأة واحدة ،نعم هي امرأة واحدة فقط التي أحبها البيايت رغم عرشات النساء اللوايت وقعن يف حبه، ووقعن تحت تأثري سحر كلامته ،فالتقييد العاطفي يجعله أسرياً تحت تأثري امرأة واحدة ،تجعله مخلصاً لها ،حتى أن «عائشة» و«الرا» وأخريات تغنى بعشقهن ،ما هن إال صدى لتلك املرأة التي ق ُـيد بها طيلة حياته فأصبحت رمزاً يشدو به قلبه يف كل وقت وحني ،ويف حواره مع عدنان الصائغ عندما سأله عن املرأة األوىل يف حياته ،أجابه البيايت «لقد اختفت هذه املرأة إىل األبد وال أعرف أين هي اآلن .هل تزوجت وانجبت اطفاالً أم أنها ماتت ورحلت إىل العامل اآلخر أو إىل بالد بعيدة ولكنني لن أنىس حرارة يدها وبريق عينيها الذي أراه يتألأل يف ظلامت الليل كلام أصابني مس شعري أو وجع .لقد فجرت الينبوع واختفت اىل األبد .لقد توالد منها أو توالدت آالف العصور والوجوه فهي املحبوبة األزلية ،وكام تحولت عشتار إىل نجم فهي قد تحولت أيضاً بفضل معجزة الحب» .لقد ظل البيايت أسرياً طيلة حياته المرأة واحدة ظل يدافع عنها حتى الرمق األخري ،وعندما سأله يوسف أبو لوز عن شيخوخة عائشة هتف البيايت مدافعاً «ال ،إنها باقية أبداً كام هي يف الواقع وكام هي يف صورتها يف املرآة ،ال تهرم وال تشيخ وال متوت». ويبقى الحديث عن البيايت كالحديث عن كل رموز التاريخ التي تثري الجدل ،كالحالج وابن عريب واملعري وكل فرسان الكلامت الذين عذبوا وصلبوا وقتلوا وبقيت كلامتهم خالدة يرددها كل متذوق لألدب والقصيدة ،فهو حكاية بحار قديم جال العامل وخاض كل معارك الكلمة بكل شجاعة وإقدام، وكان يعرف دوماً أنه املنترص ،أو كام يصف نفسه بأنه «ميتلك مفاتيح خزائن الشعر»
شعرية الكاميرا
عدسة :ابراهيم محمد ابراهيم
159
أخبار البيت
الفصيح والنبطي في فضاء بيت الشعر بـ أبوظبي واصل بيت الشعر في أبوظبي التابع لنادي تراث اإلمارات فعالياته األسبوعية التي تقام مساء كل يوم ثالثاء في مقره بمركز زايد للدراسات والبحوث ،حيث نظم البيت عدة أمسيات اتسمت بتنوع في الطرح وحضور الفت لجمهور الشعر تقدمه في كل مرة الشاعر حبيب الصايغ رئيس الهيئة اإلدارية لبيت الشعر، وقد جمعت األمسيات بين الشعر الفصيح والنبطي والبحث والنقد .شارك فيها عدد من الشعراء ،من الجزائر عياش يحياوي ،ومن لبنان هنري زغيب ،ومن اإلمارات راشد الرميثي وأحمد المنصوري ،ومن مصر محمد أبو الفضل.
راشد الرميثي وأحمد املنصوري /اإلمارات
ضمن اهتاممه بالتجارب الشعرية اإلماراتية واالحتفاء بها استضاف بيت الشعر بأبوظبي الشاعر اإلمارايت الفائز ببريق «شاعر املليون» راشد الرميثي ،ووصيفه الشاعر اإلمارايت أحمد املنصوري يف أمسية تكرميية عىل مرسح كارس األمواج، يف تاريخ 15مايو املايض ،أدارها الشاعر راشد رشار الذي عرب عن فرحة الشعراء اإلماراتيني بهذا الفوز اإلمارايت، مشرياً إىل أن هذه األمسية تأيت يف إطار اهتامم بيت الشعر بإبراز إنجازات شعراء اإلمارات .وشكر رشار باسمه وباسم هيئة إدارة بيت الشعر سمو الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان ممثل صاحب السمو رئيس الدولة ،والشاعر الدكتور الشيخ هزاع بن سلطان بن زايد آل نهيان عىل جهودهام وتقديرهام للشعر والشعراء. وقرأ الشاعران مختارات من قصائدهام عن الوطن والحب والشعر ،واستهل األمسية راشد الرميثي بقصيدة مهداة إىل صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله ،حملت عنوان «سالم بوسلطان قبله تحيات». ثم قرأ الرميثي قصائد يف وصف املحبوبة وأخرى يف العتاب، واتسم شعره بغزارة يف التصوير والجمل الشعرية الغنية بالداللة .أما الشاعر أحمد املنصوري فقرأ مجموعة أخرى من القصائد التي عكست مقدار قوة املوهبة الشعرية 160
بيت الشعر
العدد ( - )2تموز/يوليو 2012/
والتمكن ،وقد أهدى قصيدته األوىل إىل الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ويل عهد أبوظبي نائب القائد األعىل للقوات املسلحة ،وأعقبها بقصائد أخرى عن الطري والغزل متيزت مبفردات الصحراء والبداوة والبيئة اإلماراتية عموماً.
هرني زغيب /لبنان
أما من لبنان فقد كان ضيف البيت الشاعر هرني زغيب مساء يوم الثالثاء املوافق 22مايو املايض ،والذي قرأ ثالث قصائد هي «الزمن الهارب» ،و«بريوت العنارص» ،و«علبة التلوين». وقدم زغيب تجربة فريدة يف قراءة الشعر وتحليل تراكيبه عرض إلكرتوين عىل شاشة ترتاقص ومك ّوناته ومفاتيحه عرب ٍ فيها مفردات األبيات الشعرية «خارج ًة من بيوتها» بدءاً بالكلامت األساس وعنارصه البنيوية التي بنيت عليها القصيدة ،وهي ثنائيات من كتابه «ربيع الصيف الهندي» هديك ما الذي افتتحه الشاعر بإهداء «كيف؟! وهل ُأ ِ منك؟» وحكاية عنوان الكتاب منبثقة من خصوصية هو ِ الصيف الهندي الذي سحبه الشاعر إىل خانة الربيع الدائم وتم بذلك إطالق الكتاب هدي ًة ال لحبيبته فحسب فأنقذهّ ، وإمنا لجمهوره الذي جال مع األبيات الخارجة من بيوتها مبداميكها وأعمدتها وأقواسها.
راشد رشار يتوسط أحمد املنصوري وراشد الرميثي
تصوير :طارق البوريني
هرني زغيب
محمد أبو الفضل بدران /مرص
و أقام البيت يف تاريخ 29مايو املايض أمسية يف فندق فريمونت قرص البحر بأبوظبي للشاعر املرصي الدكتور محمد أبو الفضل بدران ،قرأ فيها مختارات من قصائده يف الشعر الفصيح واللهجة املرصية .وشارك يف األمسية الشاعر األملاين الدكتور مانفرد مالزان أستاذ األدب اإلنجليزي يف جامعة اإلمارات والعميد املشارك لكلية العلوم اإلنسانية واالجتامعية ،وأتت األمسية عىل هامش ندوة العالقات اإلماراتية األملانية التي أقامها مركز سلطان بن زايد للثقافة واالعالم يف وقت متزامن. أدارت األمسية اإلعالمية منال أحمد ،واستهلها أبو الفضل بدران بقراءة قصيدة للوطن ،ثم انتقل بدران إىل قصيدة «أقوال امرؤ القيس األخرية» وقصائد أخرى جاءت معظمها متشابهة من حيث البناء واملوضوع ،لينتقل بعد ذلك إىل قراءة الشعر باللهجة العامية.
عياش يحياوي /الجزائر
وتلت هذه الفعاليات أمسية عن «العادات القولية يف الشعر النبطي يف اإلمارات» للباحث والشاعر الجزائري عياش يحياوي .أدار األمسية الباحث محمد نور الدين، واستهلها يحياوي بتقديم ملمح عام عن موضوع األمسية، متسائ ًال يف بداية حديثه عن ماهية العادات القولية .ومؤكدا أن للشعر النبطي قوالبه اللغوية الثابتة.
محمد أبو الفضل
عياش يحياوي
وقال يحياوي «البيئة التاريخية واالجتامعية ألهل اإلمارات من بدايات القرن السابع عرش امليالدي إىل نهايات القرن املوايل حيث عاش املاجدي بن ظاهر ،ومن نهايات القرن التاسع عرش إىل بدايات القرن العرشين حيث عاش سعد بن عتيج الهاميل ،الذي تويف سنة 1919وعاش يف عهد حكم الشيخ حمدان بن زايد بن خليفة آل نهيان «،»1922-1912 ومن الخمسني سنة األخرية من القرن املايض إىل يومنا هذا حيث تعيش فتاة العرب وابن عزيز املنصوري». وتطرق يحياوي إىل عدد من املواضيع يف حديثه عن العادات القولية ،ويف مقدمتها موضوع «إشكالية التكرار» وقال «الوعي الجمعي يف بيئة القصيدة النبطية جعل منها مسطرة ّ وضخم قيودها ومنحها صفات مميزة ،وجعل من الخروج عنها خروجاً عن العرف األديب واالجتامعي». كام تحدث يحياوي عن «مظاهر التشابهات اللفظية» ،وأكد أن تقاليد القول يف الشعر النبطي فرضت حزمة التزامات ك َبحت خيال الشاعر ،ومنعته من التامدي يف التجريب الشعري باعتبار ذلك مغامرة غري مضمونة ميجها الذوق القبيل وتنأى بالشاعر عن مجاراة فحول الشعراء الذين متثل قصائدهم مسطرة القياس يف اإلجادة والتفوق. وعن موضوع «وصف املحبوبة الصفات الحسية» قال يحياوي إن الخرائط السوسيولوجية العربية حولت املظهر البيولوجي لجسد املرأة إىل مؤسسة اجتامعية 161
أجنحة
.................................................................................................................... أجنحة وأسوار وأسوار
سبب الفن حبيب الصايغ
هذه مهمة الفن :أال تصل اىل مكان؛ ملجرد أنك متمسك به أو تأىب مغادرته ،بل املطلوب ان تغادره ثم تنظر اليه من بعيد أو من فوق ،حتى تكون نظرتك أشمل وأعمق وأكرث موضوعية. إنها دعوة إىل استعامل الحواس الخمس ،والحاسة السادسة ان شئت ،استعامال كلياً ،استعامال يشعرنا بانسانيتنا ،وبأماكننا الحميمة ،وأوقاتنا املفضلة التي هي بعبارة ثانية أجمل العمر. والزائر ملدينة مث ًال يراها بعيون فاحصة ناقدة ،تختلف عن عيون أهلها واصحابها األصليني ،والعائد اىل مدينته بعد سفر يراها ايضاً بعيون جديدة .ثم اننا نستطيع تحمل حواسنا الخمس لسبب وحيد :احساساتنا من يوم اىل يوم تتبدل ،وتصوغ ،باقتدار ،أسلوبها الفني الخاص بها. الفن غري املبارش ،انطالقاً من ذلك ،هو االنسب للحياة وللواقع ،حيث مواجهة الحياة كام هي وكام نحن، هي مواجهة يف األصل ،ظاملة ألنها غري متكافئة. من منا يقدر عىل مواجهة األيام والحوادث والظروف واألحوال واالهوال ،من دون ان يغمض عينيه قلي ًال، ومن دون ان يحلم كثرياً؟ ان تجريد الواقع ليس محاولة للقفز عليه ،بقدر ما هو محاولة جريئة واصيلة للقفز به ومعه. والطموح االنساين ،حتى لدى رجل الشارع البسيط ،ال يخلو أبداً ،وال ميكن ان يخلو من عنرص التخيل الذي هو أول خطوة نحو التجريد. انسان الشارع ،والتسمية باملناسبة مديح ال ذم ،يطرب منذ أول الكون للموسيقا ،واملوسيقا فن قائم عىل التجريد ،حيث ال يشء يلمس ،وحيث انتقال كل ملموس من هيئته اىل هيئة املحسوس. وحتى املشاعر البدائية البسيطة جداً ،كالشعور بالحب ،تأكيد متواصل عىل أهمية التجريد ،ورضورته بالنسبة لنا. ً ً ولنتصور ،مثال ،عاشقا من عشاق العرص الحجري وهو يحمل وردة حجرية حمراء ويرميها عىل رشفة حبيبته ..أال يعد ذلك الفعل الرائع محاولة الختصار كل الحدائق يف وردة وكل الحركات يف لفتة ،وكل النساء يف امرأة؟ إن الكرة األرضية مدورة مثل رؤوسنا ،وكل نقطة نهاية فيها هي يف الوقت نفسه نقطة بداية
.
ملحمة جلجامش :الخطاط منري الشعراين
163
من أعامل الفنان شاكر حسن آل سعيد