bayt_alshier_3

Page 1

‫العدد (‪ )3‬آب ‪ -‬أغسطس ‪2012‬‬

‫ميسون صقر‬

‫أنا ابنة زمن الصورة‬ ‫الشعرية‬ ‫جرير والفرزدق‬

‫المرآة الضدية‬ ‫‪I S S U E N O (3) A U G U S T 2 0 1 2‬‬

‫شهرية تصدر عن بيت الشعر يف أبوظبي‬

‫نادي تراث اإلمارات‬

‫عبد العزيز المقالح‬ ‫الشعر عالمي األول‬ ‫شعراء مصريون والثورة‬ ‫أناشيد ال قصائد‬ ‫شهاب غانم‬ ‫الترجمة والدة ثانية للنص‬

‫ُر مَّبا‬

‫ما ُ‬ ‫زلت ح ّياً يف‬ ‫مكان ما‪ ،‬وأَ ُ‬ ‫عرف‬ ‫ٍ‬ ‫ما ُأريدُ …‬ ‫سأص ُري يوماً ما‬ ‫ُأريدُ‬

‫مختارات‬

‫الشعر الكوري المعاصر‬

‫حارس الذاكرة‬


‫الفنان خوان مريو‬


‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫الشاعر والجنرال‬ ‫عمود حديدي بارتفاع أربعة أمتار عىل بعد خطوات قليلة من نهر السني يف باريس‪،‬‬ ‫يحمل لوحة زرقاء مكتوب عليها ساحة الشاعر محمود درويش‪ .‬ليست عىل شاكلة‬ ‫ساحات باريس‪ ،‬ال الصغرية وال الكبرية‪ ،‬تبدو وكأنها اقتطعت من املكان عىل عجل‪،‬‬ ‫لتشبه إقامة الفلسطيني عىل أرض اآلخرين‪.‬‬ ‫ال يشبه املكان شعر الشاعر الذي كان صوته عىل سعة الفضاء‪ ،‬ورحابة املدى‪ ،‬وال‬ ‫رهافة روحه األنيقة الفياضة بينابيع امللحمة‪ ،‬إنه مكان ال حيز فيه للتأمل أو االسرتخاء‪،‬‬ ‫كام هو الحال يف الساحات العامة‪ ،‬هو كحال القبور التي تتكرم بها البلديات عىل‬ ‫املوىت الذين ال أهل لهم‪ ،‬حني ال يأيت من يتربع بثمن قطعة األرض وتكاليف الدفن‪.‬‬ ‫مكان ال شعر فيه وال صفة له‪ ،‬يليق بيتيم مات عىل أرض غريبة‪.‬‬ ‫ساحة ال يستطيع اإلنسان أن ميكث فيها أكرث من دقائق معدودة‪ ،‬ألنها واقعة عىل‬ ‫الشارع العام الذي يفصلها عن نهر السني‪ .‬شارع يضج بالسيارات الرسيعة‪ ،‬وال يتيح‬ ‫فرصة للوقوف‪ .‬إن كل من يصل إىل تلك النقطة‪ ،‬ليس لديه سوى هاجس عبور الشارع‬ ‫نحو الطرف اآلخر‪ ،‬لينزل إىل محاذاة نهر السني‪ ،‬أو يتوجه إىل متحف اللوفر‪ ،‬عرب جرس‬ ‫الفنون‪.‬‬ ‫أرادت بلدية باريس تكريم الشاعر الكبري‪ ،‬وهي تستحق الشكر عىل ذلك‪ ،‬ألن وراء‬ ‫الفكرة اعرتافاً رصيحاً بالقامة العالية لهذا الشاعر‪ ،‬ليس فقط ألنه أمىض يف مدينة‬ ‫األنوار حوايل ‪ 15‬سنة‪ ،‬وكتب فيها أجمل قصائده‪ ،‬بل ألنه يستحق التكريم كشاعر‪ ،‬وأن‬ ‫يخلد اسمه ولو عىل شرب من هذه املدينة‪ ،‬التي مل تسبقها مدينة يف الكون إىل االعرتاف‬ ‫مبكانة الشعر والشعراء‪.‬‬ ‫رغم أن املكان يثري الحرية‪ ،‬وال يوحي بالشعر‪ ،‬ولكن االلتفاتة يف حد ذاتها تعترب ذات‬ ‫بعد رمزي كبري‪ .‬فليس هناك ساحات كثرية يف باريس تحمل أسامء مشاهري من شعراء‬ ‫وفنانني وعلامء‪ ،‬فالعادة درجت عىل تكريم هؤالء بإطالق أسامئهم عىل شوارع‪ ،‬أو‬ ‫مدارس ومشايف ومسارح‪ ...‬إلخ‪ ،‬ومن هنا فإن متييز درويش ال يخلو من فطنة‪ .‬وقد‬ ‫ربط البعض ذلك بقيام البلدية نفسها بإطالق اسم مؤسس دولة إرسائيل دافيد بن‬ ‫غوريون عىل ساحة يف باريس أكرث هدوءاً واتساعاً من ساحة درويش‪.‬‬ ‫قد يكون القصد هو املوازنة السياسية بني اإلرسائيليني والفلسطينيني‪ ،‬ورمبا كانت‬ ‫بلدية باريس تريد ترضية الفلسطينيني بسبب احتفائها الكبري بجرنال حرب مسؤول‬ ‫عن النكبة الفلسطينية‪ ،‬ولكنها مل تجد من بني الفلسطينيني من هو أجدر من درويش‪،‬‬ ‫صاحب الرواية املضادة‪ ،‬التي حاول الكيان أن يبني رشعيته عىل تقويضها‪ ،‬وقد كان‬ ‫املؤرخون من الطرف اآلخر يعرفون أن درويش حارس الذاكرة الفلسطينية‪ ،‬الذي نفض‬ ‫عنها الغبار‪ ،‬وأعاد لها بهاءها بشعره ونرثه‪.‬‬ ‫إنه فخر أن يقف الشاعر يف وجه الجرنال‪ ،‬الذاكرة الفلسطينية يف مواجهة القاتل‬ ‫الكولونيايل‪.‬‬ ‫الذاكرة هي التي ستبقى‪ ،‬لها حراسها من محمود درويش‪ ،‬وحتى آخر طفل فلسطيني‬ ‫يولد من رحم النكبة‬

‫املحرر‬

‫تصدر كل أول شهر عن بيت الشعر يف أبوظبي‬ ‫نادي تراث اإلمارات‬

‫املرشف العام‬

‫حبيب الصايغ‬ ‫رئيس التحرير‬ ‫إبراهيم محمد إبراهيم‬ ‫مدير التحرير‬ ‫بشير البكر‬ ‫سكرتري التحرير‬ ‫عبد اهلل أبو بكر‬ ‫التحرير‬

‫جهاد هديب‬ ‫رنا زيد‬

‫املدير الفني‬ ‫فواز ناظم‬ ‫االخراج والتنفيذ‬ ‫ناصر بخيت‬

‫املراسلون‬

‫بيروت‪ -‬فيديل سبيتي‬ ‫الرباط‪ -‬حكيم عنكر‬ ‫باريس‪ -‬محمد المزديوي‬ ‫القاهرة‪ -‬حمزة قناوي‬ ‫روما‪ -‬حذام الودغيري‬ ‫صنعاء‪ -‬أحمد السالمي‬

‫الهيئة االستشارية‪:‬‬

‫علي جعفر العالق‬ ‫عارف الخاجة‬ ‫نوري الجراح‬ ‫سالم أبوجمهور‬ ‫حسن نجمي‬ ‫علي الشعالي‬

‫‪3‬‬


‫عبد العزيز المقالح‪ :‬الشعر هو ما يتبقى لنا‬

‫‪120‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪ 25‬نصوص‪ :‬طوق الغواية‪ ،‬أنثى السالالت‪ ،‬البيت‪ ،‬الرحيل‪ ،‬جديت وعصاي‪ ،‬مائ ًال نحو‬ ‫حمدة خميس ‪ ..‬العامل كاستعارة‬

‫النهايات‪ ،‬سنجاب طفولتي‪ ،‬ميدوزا‪ ،‬عىل سفر‪ ،‬رأيت الشام‪ ،‬طفالن‪ ،‬ال أريد نسيان هذا الشتاء‪،‬‬ ‫وصية‪ ،‬عودي ناقص وترا‪ ،‬السحاب‪ ،‬عزف منفرد‪ ،‬وأدخل يف رجل من ضباب‪.‬‬

‫‪38‬‬ ‫‪ 41‬الملف‬

‫رأي الناقد‪ ..‬قراءة يف نصوص العدد الثاين «بيت الشعر»‬

‫‪90‬‬ ‫‪ 94‬حائط أبيض‪ ..‬نوري الجراح‬ ‫‪ 95‬مختارات‪ ..‬من الشعر الكوري املعارص‬ ‫‪ 106‬نظري ًا‪ ..‬صبحي حديدي‬ ‫‪ 107‬زيارة‪ :‬قرب ماتشادو‬ ‫علي العندل‪ ..‬شعرية قسوة وأمل‬

‫‪107‬‬ ‫املواد املنشورة تعرب عن رأي اصحابها وال تعرب بالرضورة عن رأي املجلة‬ ‫‪4‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫‪www.poetryhouse-ad.ae‬‬

‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬ ‫صبحي حديدي‪ ،‬جهاد هديب‪ ،‬فيديل سبيتي‪ ،‬محمد عريقات‪ ،‬مازن معروف‪ ،‬مفيد نجم‪ ،‬ياسني‬ ‫الزبيدي‪ ،‬دمية الشكر‪ ،‬مرسيل خليفة‪ ،‬عبد الله أبو بكر‬

‫الغالف‪:‬‬

‫ ناصر بخيت ‪ :‬رسم بالفحم‬‫‪ -‬لوغو بيت الشعر للفنانة الرا قبطان‬

‫عناوين املجلة‬ ‫االدارة والتحرير‪:‬‬ ‫االمارات العربية املتحدة‪-‬ابوظبي‬ ‫هاتف‪024916333 :‬‬ ‫امييل‪bashir@cmc.ae :‬‬

‫أبوظبي لإلعالم‪-‬توزيع‬ ‫الرقم املجاين ‪8002220 :‬‬ ‫فاكس ‪+971 - 02-4145050 :‬‬

‫‏‪distribution@admedia.ae‬‬ ‫مسؤول التوزيع‪ :‬زياد النجار‬

‫حقوق نرش الصور واملوضوعات الخاصة محفوظة للمجلة‬


‫المحتويات‬

‫‪90‬‬

‫‪116‬‬

‫‪ 110‬القصيدة السودانية‪..‬‬ ‫ثنائية الغابة والصحراء‬

‫‪113‬‬ ‫‪ 116‬بورتريه الظل‪ ..‬محمد القييس‬ ‫‪ 119‬حاشية‪ ..‬حسن نجمي‬ ‫‪ 120‬حوار‬

‫الشعر الجزائري بالفرنسية‬

‫عبد العزيز املقالح‬

‫‪ 128‬في الشعر‬ ‫عبد الزهرة زيك‬

‫‪ 130‬حوار‬ ‫ميسون صقر‬

‫سعر النسخة‬ ‫اإلمارات العربية املتحدة‪ 10 :‬دراهم ‪ -‬اململكة العربية السعودية ‪10‬‬ ‫رياالت ‪ -‬الكويت دينار واحد ‪ -‬سلطنة عامن ‪ 800‬بيسة ‪ -‬قطر ‪ 10‬رياالت‬ ‫ مملكة البحرين دينار واحد ‪ -‬اليمن ‪ 200‬ريال ‪ -‬مرص ‪ 5‬جنيهات ‪-‬‬‫السودان ‪ 250‬جنيهاً ‪ -‬لبنان ‪ 5000‬لرية ‪ -‬سورية ‪ 100‬لرية ‪ -‬اململكة‬ ‫األردنية الهاشمية ديناران ‪ -‬العراق ‪ 2500‬دينار ‪ -‬فلسطني ديناران ‪-‬‬ ‫اململكة املغربية ‪ 20‬دره ًام ‪ -‬الجامهريية الليبية ‪ 4‬دنانري ‪ -‬الجمهورية‬ ‫التونسية ديناران ‪ -‬بريطانيا ‪ 3‬جنيهات ‪ -‬سويرسا ‪ 7‬فرنكات ‪ -‬دول االتحاد‬ ‫األورويب ‪ 4‬يورو ‪ -‬الواليات املتحدة األمريكية وكندا ‪ 5‬دوالرات‪.‬‬ ‫االشتراكات‬ ‫لألفراد داخل دولة اإلمارات‪ 100 :‬درهم‪ /‬لألفراد من خارج الدولة‪150 :‬‬ ‫دره ًام ‪ -‬للمؤسسات داخل الدولة‪ 150 :‬دره ًام‪ /‬للمؤسسات خارج الدولة‬

‫‪142‬‬

‫‪138‬‬ ‫‪ 134‬تحقيق‬ ‫مرص‪ :‬الشعر والثورة‬

‫‪138‬‬ ‫‪ 142‬حوار‬

‫شعر وخط‪ ..‬منري الشعراين‬

‫شهاب غانم‬

‫‪ 146‬ندوة‬ ‫بيت الشعر وتجربة حبيب الصايغ‬

‫‪150‬‬ ‫‪ 155‬قضية‪ ..‬قصيدة النرث متهمة بالنمطية‬ ‫‪ 160‬البيت‪ ..‬بيت الشعر يف أبوظبي‬

‫قصيد األسالف‪ ..‬النقيضة يف الشعر‬

‫‪130‬‬

‫ميسون صقر‪:‬‬

‫حياتي في القصيدة‬

‫‪200‬درهم‪.‬‬ ‫‪5‬‬


‫ُكتاب العدد‬

‫‪19‬‬

‫‪7‬‬

‫‪9‬‬

‫‪10‬‬

‫تخطيطات ُ‬ ‫الكتاب‪ :‬نارص بخيت‬

‫‪17‬‬

‫‪21‬‬

‫‪15‬‬

‫‪11‬‬

‫‪ .1‬محمد الغزي‬

‫• شاعر وناقد وكاتب قصص لألطفال من تونس‪،‬‬ ‫صدر له العديد من املجموعات الشعرية‪ ،‬منها‬ ‫كتاب املاء كتاب الجمر‪ ،‬ما أكرث ما أعطي ما اقل‬ ‫ما أخذت‪ ،‬سليل املاء‪ ،‬كالليل استيضء بنجومي‪.‬‬

‫‪ .2‬مهند صالحات‬

‫• كاتب (قاص) وصحايف ومخرج سيناميئ‬ ‫فلسطيني يقيم يف ستوكهومل‪ ،‬له عدة مجموعات‬ ‫قصصية وكتب العديد من السيناريوات‪ ،‬واخرج‬ ‫العديد من االفالم التسجيلية‪.‬‬

‫‪ .3‬خلود الفالح‬

‫• شاعرة وصحافية ليبية تقيم يف بنغازي‪.‬صدرت‬ ‫لها مجموعة شعرية بعنوان ينتظرونك‪.‬‬

‫‪ .4‬وليد السويريك‬

‫• شاعر ومرتجم من فلسطني‪ ،‬صدر له‪ :‬أجنحة‬ ‫بيضاء لليأس‪ ،‬طردت اسمك من بايل ‪ .‬ترجمة‪،‬‬ ‫أساتذة اليأس‪ ،‬والنزعة العدمية يف األدب‬ ‫األورويب‪.‬‬

‫‪ .5‬خلدون عبد اللطيف‬

‫• شاعر من األردن يقيم يف عامن ويعمل يف‬ ‫حقل الصحافة‪ ،‬صدر له‪ :‬بني املنزلتني‪.‬‬

‫‪ .6‬محمد عريقات‬

‫صدر له‪ :‬الكامريا ال تلتقط العصافري‪،‬‬ ‫ومالك عىل حبل الغسيل‪.‬‬

‫‪ .8‬مفيد نجم‬

‫• شاعر من فلسطني‪ ،‬صدر له‪ :‬حيفا‬ ‫تطري إىل الشقيف‪ ،‬نشيد الحجر‪،‬‬ ‫وطن يف املخيم‪ ،‬دفاتر الغيم‪ ،‬وذئب‬ ‫األربيعني‪.‬‬

‫• أستاذ جامعي من العراق يقيم يف‬ ‫دولة اإلمارات العربية املتحدة‪ .‬درس‬ ‫كواكب املجموعة الشمسية وح ّلل‬ ‫مدى تأثريها عىل شخصية اإلنسان‪.‬‬

‫• شاعر وصحفي من اليمن‪ ،‬يقيم‬ ‫ويعمل يف صنعاء‪ ،‬ومن بني إصداراته‪:‬‬ ‫حياة بالباب‪ ،‬ارتباك الغريب‪ ،‬ودون‬ ‫أن ينتبه لذلك أحد‪.‬‬

‫‪ .9‬ياسني الزبيدي‬

‫‪ .10‬دميا الشكر‬

‫• ناقدة من سوريا تقيم يف دمشق‪.‬‬

‫‪ .11‬تحسني الخطيب‬

‫• شاعر ومرتجم من فلسطني‪ ،‬صدر‬ ‫له يف حقل الرتجمة‪ :‬الجذور الثقافية‬ ‫لإلسالموية األمريكية‪ ،‬والعامل ال ينتهي‪.‬‬

‫‪ .12‬نور الدين بالطيب‬

‫• شاعر من فلسطني‪ ،‬صدر له‪ :‬هروبا من‬ ‫الشعر‪ ،‬حني أمسك بالفرح‪ ،‬وأرمل السكينة‪.‬‬ ‫• شاعر ومرتجم من فلسطني‪ ،‬يقيم يف آيسالند‪،‬‬

‫• صحايف سوداين يقيم يف أبوظبي‬

‫‪6‬‬

‫بيت الشعر‬

‫• كاتب وصحايف جزائري‪ ،‬صدر له‪:‬‬ ‫بعيدا عن نجمة‪ ،‬أعراس النار‪ -‬قصة‬ ‫الراي‪ ،‬وعربت املساء حافياً‪.‬‬

‫• ناقد من سوريا‪ ،‬يقيم يف أبو ظبي‪،‬‬ ‫أصدر العديد من الكتب يف حقل‬ ‫النقد من بينها‪ :‬األفق والصدى ـ‬ ‫دراسات يف الشعر السوري املعارص‪،‬‬ ‫الربيع األسود‪ ،‬أرض األبد ّية‪ ،‬وطائر‬ ‫بأكرث من جناح‪.‬‬

‫• شاعر وصحفي من تونس‪ ،‬يقيم‬ ‫ويعمل يف العاصمة التونسية‪.‬‬

‫‪ .7‬مازن معروف‬

‫‪ .14‬سعيد خطيبي‬

‫‪ .13‬الفاضل أبو عاقلة‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫‪ .15‬يوسف عبد العزيز‬

‫‪ .16‬أحمد السالمي‬

‫‪ .17‬عبد الزهرة زيك‬

‫• شاعر عراقي يقيم يف بغداد‪ ،‬صدر‬ ‫له العديد من املجموعات الشعرية‬ ‫منها كتاب الفردوس‪ ،‬رشيط صامت‪،‬‬ ‫وطغراء النور واملاء‪.‬‬

‫‪ .18‬عزة حسني‬

‫• شاعرة وصحافية مرصية تقيم يف‬ ‫القاهرة‪.‬‬

‫‪.19‬خليل صويلح‬

‫• روايئ وصحايف سوري يقيم يف‬ ‫دمشق‪ ،‬صدرت له عدة روايات‪،‬‬ ‫منها‪ :‬وراق الحب‪ ،‬دع عنك لومي‪،‬‬

‫وبريد عاجل‪.‬‬

‫‪ .20‬خالد بلقاسم‬

‫ناقد من املغرب‪ ،‬من بني ما صدر له‬ ‫يف حقل النقد‪ :‬أدونيس والخطاب‬ ‫الصويف‪ ،‬الكتابة والتصوف عند ابن‬ ‫عريب‪ ،‬والكتابة وإعادة الكتابة يف الشعر‬ ‫املغريب املعارص‪.‬‬

‫وفي الشعر‬

‫‪ -21‬حمدة خميس (اإلمارات)‬ ‫‪ -22‬محمد الغزي (تونس)‬ ‫‪ -23‬محمد الربييك (اإلمارات)‬ ‫‪ -24‬ع ّياش يحياوي (الجزائر)‬ ‫‪ -25‬زينب الربيعي (العراق)‬ ‫‪ -26‬عبد الغني فوزي (املغرب)‬ ‫‪ -27‬حسام الدين محمد (سوريا)‬ ‫‪ -28‬مريم رشيف (فلسطني)‬ ‫‪ -29‬محمد اليف (فلسطني)‬ ‫‪ -30‬أحمد العرامي (اليمن)‬ ‫‪ -31‬عيل الزهريي (األردن)‬ ‫‪ -32‬يارس األطرش (سوريا)‬ ‫‪ -33‬حبيب الزيودي (األردن)‬


‫االفتتاحية‬

‫اإلبداع وإدارة الحياة‬

‫يخرج‬

‫من بيته يف الصباح الباكر متجها إىل عمله‪ ،‬سالكا أقرص الطرق يك ال يتأخر عن الدوام الرسمي‪ ،‬لكن أقرص‬ ‫الطرق هذه ال تكون دامئا أكرث الطرق سالسة‪ ،‬حيث أن الزحام الصباحي ولهاث السيارات وهي تنئ يف‬ ‫الشارع ُتلقي به يف خضم القلق واالحتقان النفيس ليصل يف النهاية إىل بوابة العمل مثقال مبشقة الطريق ومذعنا لعصا ساعته‬ ‫اليدوية التي تقول له‪ :‬لقد تأخرت ربع ساعة هذا الصباح‪ ،‬منتظرا صوت مسؤوله األجش الذي سوف يباغته بعد قليل‬ ‫بجملة تعب من سامعها كل يوم‪ :‬ما هذا اإلهامل؟ يحدث كل ذلك قبل أن يبارش عمله‪ ،‬حيث انعدام النظام وتفيش جميع‬ ‫الظواهر السلبية يف بيئة العمل الرشقية‪ .‬يقيض يومه يف مامرسة الروتني البائس ليعود إىل بيته سالكا ذات الشارع القصري‬ ‫الطويل‪ ،‬وجل ما يشغل باله‪ :‬لقمة سائغة وساعتان يف الفراش نادرا ما تكونان كفيلتني بامتصاص ما يرشح من دماغه من‬ ‫قلق وتوتر ومن جسده من إرهاق وإجهاد‪ .‬ثم يسأله الصحفي اللئيم بعد ذلك‪ :‬ما رس قلة إنتاجك الشعري أيها الشاعر؟ أو‬ ‫ملاذا كل هذا التوتر والقلق املسيطر عىل جل قصائدك؟ أو ملاذا ال يحرص الشعراء عىل حضور الفعاليات الثقافية املقامة يف‬ ‫األندية والجمعيات الثقافية يف الفرتات املسائية؟ هذا هو حال الشاعر العريب وهذه هي حياته اليومية‪ .‬ويتساءل صحفي‬ ‫آخر يف تحقيق حول ظاهرة انعدام الصف الثاين من الشعراء الصغار أو تقاعسهم عن اللحاق باملسرية الشعرية يف الوطن؟‬ ‫لقد أصبحت الحياة قاسية عىل اإلنسان العادي املستسلم للبريوقراطية اليومية فكيف بالشاعر النزق املتمرد عىل املعتاد‬ ‫والرتيب والنمطي بطبيعته؟ وهذا ما يدفع الكثري من الشعراء إىل البعد عن الشعر الخالص واللجوء إىل ما يشبه ردات الفعل‬ ‫الشعرية انتقاما مام يعانونه ألنهم ال يجدون وسيلة أخرى للتنفيس أو الرتويح عن أنفسهم ليأيت ذلك كله عىل حساب‬ ‫الشعر وعىل حساب اإلبداع املرتجى‪ .‬أما من استطاع من الشعراء التغلب عىل هذه املعاناة فهم قلة قليلة حباها الله قسطا‬ ‫أكرب من سعة الصدر والطاقة جعلتهم يقفزون عىل هذه املعاناة أو يحتالون عليها بوسائل محتلفة منها‪ :‬املعالجة النفسية‬ ‫الذاتية عرب إقناع النفس بأن الشعر للحياة بينام العمل للعيش فقط والحياة أمثن من مجرد العيش‪ .‬أو عن طريق استخدام‬ ‫السياسة يف التعامل مع بيئات العمل الصعبة وإدارة األزمات الخارجة عن إطار املنطق‪ ،‬وذلك يحتاج إىل ثقافة من نوع‬ ‫جديد ليس لها عالقة بالشعر واألدب بل باإلدارة وعلم النفس اإلداري‪ .‬الحياة الحديثة تحتاج إىل طاقة جبارة للتعايش معها‬ ‫أو التحايل عليها لضامن االستمرارية يف العمل واإلبداع يف آن واحد‪.‬‬ ‫فالشاعر الذي يضع نصب عينيه الشعر املتميز متجاهال باقي جوانب الحياة مبراراتها الكثرية يسقط يف امتحان الحياة حتام‪،‬‬ ‫والشاعر الذي يجعل همه مركزا يف العمل الروتيني من أجل لقمة العيش والحياة الكرمية فقط يسقط يف امتحان الشعر‪ .‬لذا‬ ‫أرى أن الشاعر الناجح هو من ينال الحسنيني عن طريق استخدام قدراته اإلبداعية وليس الشعرية إلدارة الحياة والخروج‬ ‫بأجمل القصائد يف آن واحد‬

‫رئيس التحرير‬

‫‪7‬‬


‫كاريكاتير‬ ‫عنوان املجموعة الأخرية لل�شاعر ح�سن عبد اهلل «ظل الوردة»‬

‫‪8‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫شعر وشعراء‬

‫بدءا‬ ‫حبيب الصايغ‬

‫من‬

‫تكريم الشعراء املرصيني الفائزين‬ ‫بجائزة الدولة‪ ،‬إىل االوملبياد الثقايف يف‬ ‫لندن‪ ،‬واستعادة نزار قباين يف مهرجانات «بيبلوس‬ ‫للغناء»‪ ،‬حراك شعري عريب يتواصل صيفا‪ ،‬ويف اكرث‬ ‫من مكان‪ .‬فالقاهرة التي ماتزال تعيش عىل وقع‬ ‫ثورة يناير مل تنس تكريم شعرائها محمد ابراهيم‬ ‫ابو سنة‪،‬حسن طلب‪ ،‬محمد منصور‪ ،‬ومحمد‬ ‫حسني توفيق‪ .‬وعىل الضفة األخرى يف لندن كان‬ ‫للشعر العريب حضوراً الفتاً من خالل املشاركة يف‬ ‫«االوملبياد الثقايف»‪ ،‬الذي اقيم عىل هامش االلعاب‬ ‫االولومبية‪ .‬حضور مل يخل من النقد بسبب معايري‬ ‫اختيار املشاركني العرب‪ ،‬الذين باتت وجوههم‬ ‫تتكرر يف غالبية املهرجانات العربية والدولية‪.‬‬ ‫نزار قباين الشاعر الذي رحل منذ ‪ 13‬سنة‪ ،‬كان‬ ‫نج ًام يف مهرجانات «بيبلوس» اللبنانية من خالل‬ ‫صوت املطرب كاظم الساهر‪ ،‬حيث لعبت ادارة‬ ‫املهرجان ورقة القصيدة املغناة ليك تستعيد‬ ‫الجمهور املعتكف‪ ،‬ونجح رهانها‪.‬‬ ‫ويف االصدرارت الجديدة‪ ،‬باقة كبرية من املجموعات‬ ‫والدراسات والرتجامت الشعرية‪ .‬أدونيس بالعربية‬ ‫يف ترجمة كاملة ل «فهرس العامل الريح» باالضافة‬ ‫إىل دراسة مستفيظة حول شعره وحياته‪ .‬ومجموعة‬ ‫جديدة للشاعرة االماراتية حمدة خميس‪.‬‬ ‫جمهور الشعر يف بريوت احتفل مؤخراً باصدار‬ ‫«ظل الوردة» للشاعر حسن عبد الله‪ .‬وقد اعترب‬ ‫األمر حدثا‪ ،‬فالشاعر الذي كان االبرز من بني شعراء‬ ‫الجنوب يف السبعينات والثامنينات‪ ،‬اتجه منذ‬ ‫حوايل ‪ 15‬سنة للكتابة لالطفال فقط‬ ‫التحرير‬

‫تجربة حبيب الصايغ في بيت الشعر بالشارقة‬ ‫كان الشاعر حبيب الصايغ يف الشهر املايض محل احتفاء بيت الشعر يف الشارقة‪ ،‬وذلك‬ ‫مبناسبة صدور األعامل الشعرية للصايغ‪ ،‬حديثاً‪ ،‬عن اتحاد كتاب وأدباء اإلمارات يف‬ ‫جزءين‪ .‬قرأ الصايغ يف األمسية العديد من قصائده‪ ،‬ثم تال ذلك حفل توقيع األعامل‬ ‫الشعرية‪ .‬وجاءت الفعالية مسبوقة مبقاربة نقدية قدّمها د‪ .‬هيثم الخواجة (سوريا)‬ ‫تحت عنوان‪« :‬الشاعر حبيب الصايغ‪ :‬حداثة متجددة ورؤية شمولية»‪ ،‬تلمس خاللها‬ ‫جامليات القصيدة لدى الصايغ شك ًال (العمودي والتفعيلة والنرث) ومضموناً‪ ،‬فرصد‬ ‫أشكال االبتكار يف أطر ومضامني قصيدته‪ ،‬مؤكداً أن الصايغ يقدم نصاً حداثياً يخاطب‬ ‫الحارض واملستقبل‪ ،‬ويطرح أسئلته االستفزازية عرب مصداقية واضحة‪ .‬أيضاً‪ ،‬توقف‬ ‫الخواجة عند رؤية الصايغ الشعرية‪ ،‬والبنيتني الداللية والفنية يف قصائده‪ ،‬مس ّلطا الضوء‬ ‫عىل عالقة الشاعر باملكان‪ ،‬خورفكان‪ ،‬شجرة الروال‪ ،‬واألصدقاء كالراحل أحمد راشد ثاين‪،‬‬ ‫مث ًال ال حرصاً‪.‬‬ ‫ويف نهاية محارضته‪ ،‬أ ّكد أن الصايغ يستخدم ثنائيات ضدية‪ ،‬وأخرى متجانسة‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫الحياة ‪ -‬املوت‪ ،‬الحب‪-‬الود‪ ،‬الصدق ‪ -‬الوفاء‪ ،‬ما مينح النص تو ّتراً دامئاً‪ ،‬فض ًال عن الوعي‬ ‫الزمني الذي يبدو عىل نحو جيل من خالل استخدامات الجمل االسمية والفعلية‪ ،‬مبا‬ ‫يتضمن أزمنة عدة‪ ،‬هي زمان الكتابة‪ ،‬وزمان النص‪ ،‬وزمان القراءة‪.‬‬

‫ثقافة أبوظبي تصدر «المعلقات»‬ ‫يف إطار سلسلة أدبية جديدة تحمل العنوان‪« :‬ديوان العرب»‪ ،‬بارشت هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة مؤخرا بإصدارات سالسل فرعية من الشعر‬ ‫تختص ّ‬ ‫كل منها مبجموعة من املجموعات الشعرية املشهورة‪ ،‬كانت باكورتها سلسلة املعلقات حيث أصدرت معلقتي امرئ‬ ‫العريب الكالسييك‬ ‫ّ‬ ‫القيس وعنرتة بن شدّاد يف كتابني بالحجم الذي يعرف بحجم الجيب‪ .‬وعن أسباب اختيار البدء باملعلقات تحديدا‪ ،‬قال بيان صدر عن الهيئة‪:‬‬ ‫«نظراً ألهميتها ومكانتها ورمزيتها األدبية ال ّدالة عىل منزلة الشعر عند العرب»‪ .‬وجاء يف تقديم دار الكتب الوطنية يف هيئة أبوظبي للسياحة‬ ‫والثقافة‪ :‬لقد ُشغفت العرب عرب تاريخها الطويل بالشعر‪ ،‬الذي كان مصدراً للمعرفة‪ ،‬ومورداً للثقافة‪ ،‬ومستودعاً للفكر‪ ،‬كام آمنت ّأن الشعر هو‬ ‫وعاء التجارب والحكمة‪ ،‬وديوان املعارف والعلوم‪ ،‬ولذا شاعت مقولة‪« :‬الشعر ديوان العرب»‪.‬‬ ‫ومن املعروف منذ الدرس النقدي العريب القديم أن الشعر الجاهيل يص ّور حياة العرب يف الجاهلية أصدق تصوير‪ ،‬ويعبرّ عن مكنونات نفوسهم‬ ‫وخلجاتهم ّ‬ ‫أدق تعبري‪ ،‬ألنه شعر الفطرة البعيدة عن التكلف والتصنع‪ .‬وال يزال هذا الشعر – عىل تقادم العهد بقائليه – ينبض بالحياة‪ ،‬ويعود‬ ‫ّ‬ ‫غضا طر ّياً كلام ردّدته األلسن‪.‬‬ ‫‪9‬‬


‫شعر وشعراء‬

‫شعر صالح حسن في‬ ‫جامعة تيلبيرخ‬

‫وليد القوتلي يُمسرح األيام‬ ‫السبعة‬

‫ابتداء من شهر أكتوبر القادم‬ ‫ستقوم جامعة تيلبريخ الهولندية‬ ‫العريقة بتدريس قصائد للشاعر‬ ‫العراقي صالح حسن املرتجم إىل‬ ‫الهولندية يف كلياتها‪ .‬وأقام الشاعر‬ ‫يف هولندا أكرث من عقد من الزمن‬ ‫وصدرت له أربعة دواوين شعرية‬ ‫باللغة الهولندية‪ ،‬كام فاز خالل‬ ‫هذه الفرتة بثالث جوائز شعرية‪،‬‬ ‫من بينها «جائزة دنيا» التي حصل‬ ‫عليها مرتني يف العامني ‪1996‬‬ ‫و‪ .1998‬وكان أول من استحق هذه‬ ‫الجائزة الشاعر اإلسباين روفائيل‬ ‫الربيت صاحب الغابة الحجرية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وكان الشاعر صالح حسن فاعال يف‬ ‫املشهد الثقايف طيلة فرتة إقامته يف‬ ‫هولندا‪ ،‬وشارك يف أغلب املهرجانات‬ ‫الشعرية‪ ،‬التي تقام هناك‪ ،‬كام دعي‬ ‫إىل مهرجانات عاملية كثرية‪ .‬للشاعر‬ ‫صالح حسن العديد من املؤلفات‬ ‫الشعرية واملرسحية يف ثالث لغات‬ ‫هي العربية والهولندية واإلسبانية‪،‬‬ ‫وقد فاز قبل فرتة قصرية بالجائزة‬ ‫األوىل ألدب الرحالت يف العراق‪ ،‬يف‬ ‫مسابقة ناجي جواد الساعايت‪.‬‬

‫استضاف منتدى االثنني املرسحي الذي‬ ‫تنظمه إدارة املرسح بدائرة الثقافة‬ ‫واإلعالم بالشارقة «اإلمارات» الشهر‬ ‫املايض املخرج املرسحي وليد القوتيل‬ ‫(سوريا) يف حوار حول تجربته يف‬ ‫«مرسحة القصيدة»‪ .‬واستهل قوتيل‬ ‫حديثه بالتعليق عىل عرض قصري‬ ‫عرب «الربوجكرت» ملرسحية «يف انتظار‬ ‫الربابرة» التي أخرجها ملهرجان القاهرة‬ ‫الدويل للمرسح التجريبي ‪ 2010‬عن نص‬ ‫للشاعر اليوناين كافافيس ‪ 1863‬ـ ‪1933‬‬ ‫وعمد فيه إىل تكثيف البعد البرصي‪،‬‬ ‫حيث أوضح أنه توجه إىل الشعر عندما‬ ‫مل يجد نصاً مرسحياً يغريه باالشتغال‪،‬‬ ‫مشرياً إىل أن اختياراته من النصوص‬ ‫الشعرية استجابت دامئاً ألسئلة فنية‬ ‫وفكرية شغلته‪ ،‬فهي رصينة من الناحية‬ ‫الجاملية ومؤثرة من الناحية الداللية‪.‬‬ ‫وكانت مرسحية «األيام السبعة للوقت»‬ ‫هي آخر األعامل التي أخرجها القوتيل‬ ‫جاءت عن قصيدة للشاعر نوري الجراح‬ ‫وقدمها يف إطار مهرجان «وطن يتفتح‬ ‫يف الحرية» الذي ُنظم مطلع الشهر‬ ‫املايض يف العاصمة القطرية‪ .‬وعن هذه‬ ‫املرسحية قال‪« :‬كتب الجراح قصيدته‬ ‫خالل عام‪ ،‬مرافقاً األحداث يف سوريا‬ ‫والقصيدة تصور ما يجري هناك بحس‬ ‫فني عال ومن دون وقوع يف الخطابية‬ ‫واملبارشة»‪.‬‬ ‫ويؤكد القوتيل أن عىل كل فنان «أن‬ ‫يحدد موقفاً مام يحصل وأن يطرح رأيه‬ ‫برصاحة وبطريقته الخاصة»‪ ،‬كام أشار‬ ‫إىل األبعاد الدرامية يف النصوص الشعرية‬ ‫التي ميرسحها موضحاً أنه ضد فكرة‬ ‫تقنني الفن‪.‬‬

‫أحمد عبد املعطي حجازي‬

‫تكريم الشعراء المصريين‬ ‫الحاصلين على جوائز الدولة‬ ‫ك ّرم متحف أحمد شوقى التابع لقطاع الفنون التشكيلية‬ ‫يف احتفالية كربى مساء الثاين عرش من الشهر املايض‬ ‫الشعراء الحاصلني عىل جوائز الدولة لهذا العام‪ ،‬وهم‬ ‫محمد إبراهيم أبو سنة‪ ،‬حسن طلب‪ ،‬محمد منصور‪،‬‬ ‫ومحمد حسنى توفيق‪.‬‬ ‫تخلل الحفل قراءات للشعراء الفائزين‪ ،‬كام قدم عدد‬ ‫من الشعراء والنقاد مداخالت وشهادات حول الفائزين‪،‬‬ ‫وكان للشاعر أحمد عبد املعطي حجازي النصيب األكرب‬ ‫من الكالم‪ ،‬الذي اختار أن تكون شهادته عامة حول‬ ‫الشعراء الفائزين مؤكدا أن جميعهم يستحقون الجائزة‪،‬‬ ‫ولكنه اسقط من حسابه الشاعر األخري‪ ،‬وفرس األمر لكونه‬ ‫يكتب بالعامية‪ .‬وقال حجازي‪« :‬أنا الليلة مستمتع‪ ،‬معتز‬ ‫باالستامع للشعراء األربعة الذين يقدمون ليس فقط‬ ‫قصائد رائعة‪ ،‬ولكن تاريخا من الشعر»‪ .‬وأشار حجازي إىل‬ ‫أن أبو سنة يقدم لنا جيله أكمله‪( ،‬جيل الستينيات) الذي‬ ‫رسخ ماقدمه جيل الخمسينيات‪ ،‬و«حسن طلب» الذي‬ ‫ظهر يف السبعينيات يقاوم التيار‪ .‬وبعد أن هاجم قصيدة‬ ‫النرث‪ ،‬اعترب أن طلب مل يحافظ عىل اللغة التي ورثها من‬ ‫جيل الستينيات والخمسينيات فحسب‪ ،‬بل أضاف إليها‬ ‫وج ّملها‪ ،‬ومل يبتعد عن الواقع أيضا‪ ،‬ومل تأخذه الزينة‬ ‫لخارج الواقع‪ ،‬فشعره ال يتجمل ونجده يف كل حاالت‬ ‫التجمل‪ ،‬طبيعيا ال يتكلف وال يتصنع‪ .‬أما عن الشاعر‬ ‫محمد منصور‪ ،‬فقال حجازي‪« :‬مفاجأة ألن هذا الشاعر‬ ‫الذي ينتمي لهذا الجيل الذي كنا نرتاب أن يستطيع‬ ‫التواصل‪ ،‬ألن اللغة ترتاجع‪ ،‬وعالقتنا بها تتدهور‪ ،‬وألن‬ ‫مؤسسات التعليم مل تعد مؤسسات تعليم‪ ،‬وألن الشعراء‬ ‫مل يجدوا من يحتفي بهم قبل أن يسموا شعراء‪».‬‬

‫صالح حسن‬ ‫‪10‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫«جرش» الشعري‪ ..‬اختالف‬ ‫فانسحاب‬

‫شعراء عرب في اولمبياد الشعر‬ ‫بلندن‬ ‫عىل هامش األلعاب االولومبية (اوملبياد) التي تستضيفها‬ ‫العاصمة الربيطانية من ‪ 27‬يوليو املايض وحتى ‪ 12‬من‬ ‫اغسطس الحايل‪ ،‬شاركت كوكبة من الشعراء العرب يف‬ ‫اسبوع شعري اقيم يف االسبوع األول من الشهر املايض‪،‬‬ ‫ليمثل كافة الدول املتنافسة يف املسابقات الرياضية‪،‬‬ ‫ويعد اكرب تظاهرة شعرية دولية شهدتها بريطانيا‪ .‬ومن‬ ‫بني قامئة الشعراء العرب‪:‬قاسم حداد (البحرين)‪ ،‬امجد‬ ‫نارص (االردن)‪ ،‬خالد مطاوع (ليبيا)‪ ،‬سعدية مفرح‬ ‫(الكويت)‪،‬اشجان الهندي (السعودية) ‪،‬ظبية خميس‬ ‫(االمارات العربية املتحدة)‪،‬نبيلة الزبري (اليمن)‪،‬سعاد‬ ‫الكواري (قطر)‪ ،‬زاهر الغافري (عامن)‪،‬صادق الريض‬ ‫(السودان)‪،‬رفيف زيادة (فلسطني)‪ ،‬فينوس خوري غاتا‬ ‫(لبنان)‪ ،‬امينة سعيد (تونس)‪ ،‬واميان مرسال (مرص)‪.‬‬ ‫قرأ يف املهرجان قرابة ‪ 204‬من الشعراء الذين ميثلون‬ ‫كافة الدول املشاركة يف االلعاب الرياضية‪،‬وتليت فيه‬ ‫قصائد تطرقت لقضايا تهم الوضع البرشي الراهن بحوايل‬ ‫خمسني لغة مختلفة‪ .‬واعتمد املهرجان الطريقة ذاتها التي‬ ‫استخدمها مهرجان «مطر الشعر» ‪،‬الذي اقيم يف والية‬ ‫اريزونا االمريكية بكتابة قصائد الشعراء عىل قصاصات‬ ‫ورقية تلقيها طائرات من الجو‪.‬‬ ‫ومن الالفت ان قامئة الشعراء العرب املشاركني حظيت‬ ‫بقدر من النقاش حولها ألسباب عدة‪،‬منها طريقة‬ ‫اختيارهم‪،‬وشكك شعراء عرب يف معايري استنساب‬ ‫املشاركني‪ ،‬التي مل تخرج عن األساليب املعتادة يف‬ ‫املهرجانات العربية والدولية‪،‬والتي تعتمد عىل الشللية‬ ‫واملنافع املتبادلة‪.‬والحظ هؤالء ان مجموعة بعينها تشارك‬ ‫دامئا يف غالبية املهرجانات العربية الدولية‪،‬وهي ال تتغري‬ ‫إال يف حدود ضيقة‪،‬وخصوصا يف بريطانيا‪،‬التي تتم يف‬ ‫الدرجة األوىل بناء عىل ترشيحات جهة واحدة معتمدة‬ ‫لدى االوساط الربيطانية‬

‫أقام مركز سلطان بن زايد للثقافة‬ ‫واإلعالم يف مقره بأبوظبي ندوة‬ ‫للشاعر واملرتجم د‪ .‬شهاب غانم‬ ‫(اإلمارات) حملت العنوان «تجربتي‬ ‫يف ترجمة الشعر»‪ ،‬وقدمه اإلعالمي‬ ‫حامد املعشني‪.‬‬ ‫تناول د‪ .‬غانم يف الندوة بدايات‬ ‫ميله إىل ترجمة الشعر‪ ،‬معترباً نفسه‬ ‫أنه مايزال هاوياً ال محرتفاً يدفعه‬ ‫إىل ذلك حبه العميق إىل الرتجمة‪،‬‬ ‫حيث قال‪« :‬أحب أن أترجم ما‬ ‫أحب ولست محرتفاً‪ ،‬إذ أنني أحدد‬ ‫اختيارايت بنفيس»‪ .‬ثم ليقرأ مناذج‬ ‫من شعر إليزابيث براوننج ود‪ .‬هـ‪.‬‬

‫شهاب غانم‬

‫مل يخل مهرجان جرش للثقافة‬ ‫والفنون يف ش ّقه الشعري من‬ ‫خالفات وعتابات وصلت إىل ح ّد‬ ‫األخطاء التي من غري املمكن ألي‬ ‫إدارة مهام كانت حداثة عهدها‬ ‫بعملها أن تقوم بها‪ .‬فقد أعلن‬ ‫منسق الربنامج الشاعر والروايئ‬ ‫مؤ ّيد العتييل ّأن رابطة الكتاب‬ ‫ّ‬ ‫توخت من شعراء املهرجان التن ّوع‬ ‫والتمثيل ضمن معيار الكفاءة‬ ‫واإلبداع‪ ،‬مهتماّ ً بإبراز الشعراء‬ ‫املحليني والعرب يف توليفة الربنامج‪،‬‬ ‫غري أن ما حدث مل يرق للكثري‬ ‫من الشعراء األردنيني خاصة تلك‬ ‫األسامء التي مل يرق للجنة االختيار‬ ‫ضمها إىل قامئة املشاركني ألسباب‬ ‫ُيعتقد أنها غري فنية باملطلق‪.‬‬ ‫هذه الحساسية من االختيار انتقلت‬ ‫إىل مواقع التواصل االجتامعي‬ ‫وخاصة الفيسبوك‪ ،‬فتجادل عدد‬ ‫من الشعراء حول أسباب االستبعاد‪،‬‬ ‫وكذلك حول أسباب ذكر عدد من‬ ‫الشعراء بدون استشارتهم أو توجيه‬ ‫الدعوة إليهم‪ ،‬رغم أنهم يقيمون يف‬ ‫عماّ ن ما أدى إىل إعالن انسحابهم‬ ‫من املشاركة قبل أن تحدث‪ .‬األمر‬ ‫ذاته أيضاً ينطبق عىل الشعراء‬ ‫العرب املدعوين‪.‬‬

‫شهاب غانم وترجمة الشعر‬

‫لورنس وكاماال ثريا الذي قام برتجمته‪،‬‬ ‫ومام جاء يف ورقته‪« :‬ومع أنني كنت‬ ‫أسمع أن الشعر ال يرتجم فقد آمنت‬ ‫بإمكانية ترجمة بعض الشعر ترجمة‬ ‫شعرية جميلة لكن ترجامت الشاعر‬ ‫اإلنجليزي الفكتوري إدوارد فتزجرالد‬ ‫لرباعيات عمر الخيام‪ ،‬وهي ترجمة‬ ‫فاتنة‪ ،‬كانت السبب الرئييس النتشار‬ ‫ترجامت الخيام إىل لغات أوروبية‬ ‫عديدة»‪.‬‬

‫محمد اليف‬ ‫‪11‬‬


‫شعر وشعراء‬

‫مهرجان الشعر المغربي في‬ ‫شفشاون‬

‫محمد عفيفي مطر‪ ..‬ما زال‬ ‫الشاعر غائب ًا‬

‫صادف الثامن والعرشون من‬ ‫يونيو املايض الذكرى الثانية لرحيل‬ ‫الشاعر محمد عفيفي مطر‪ ،‬أحد‬ ‫أبرز الشعراء العرب منذ سبعينيات‬ ‫القرن املايض‪ .‬غري أن هذه الذكرى‬ ‫تزامنت مع أول استحقاق رئايس‬ ‫يف مرص‪ّ ،‬‬ ‫فظل عفيفي يف ذكراه من‬ ‫دون أن يتذكره أحد‪ ،‬كأنه مازال‬ ‫يدفع مثن معارضته النظام السابق‪.‬‬ ‫سجل شهادة شعرية غاضبة‪،‬‬ ‫لقد َّ‬ ‫يف ديوانه «احتفاليات املومياء‬ ‫املتوحشة»‪ ،‬عىل مواجهة القمع‬ ‫الذي يصنعه االختالف يف الرأي‬ ‫والتوجه‪ ،‬فألقت به حكومة مبارك‬ ‫إىل السجن‪ ،‬وأذاقته صنوف العذاب‬ ‫خالل اعتقاله‪ ،‬ليخرج من املعتقل‬ ‫بعالمة واضحة للتعذيب يف عظمة‬ ‫أنفه‪ ،‬الزمته خالل الفرتة الباقية من‬ ‫عمره‪ .‬وخرج أيضاً بديوان حشد فيه‬ ‫كل ما ملك من مقدرة شعرية‪ .‬ومل‬ ‫تكن تجربة السجن األخرية يف حياة‬ ‫عفيفي مطر إال تتويجاً لسنوات من‬ ‫االختالف مع السلطة‪.‬‬ ‫والحال‪ ،‬أن مطر كان دامئاً يغرد‬ ‫منفرداً‪ ،‬ولعل هذا التفرد هو ما‬ ‫ضاعف من فداحة الثمن العاجل‬ ‫الذي دفعه‪ ،‬غري أن املوت حسم‬ ‫األمر لصالح تفرده‪ .‬فعفيفي مطر‬ ‫الذي طبع معظم أعامله الشعرية‬ ‫خارج مرص مل يطبع فيها إال متأخرا‪ً،‬‬ ‫وتولت دور نرش خاصة هذا األمر‪،‬‬ ‫ما جعل الحصول عىل نسخة من‬ ‫أعامله حدثاً يستحق االلتفات‬ ‫والقراءة‪.‬‬ ‫‪12‬‬

‫بيت الشعر‬

‫نزار قباين‬

‫نزار قباني نجم مهرجانات‬ ‫بيبلوس اللبنانية‬

‫اختارت مهرجانات بيبلوس اللبنانية وسيلة ناجحة‬ ‫الجتذاب جامهري اضافية يف البلد‪ ،‬الذي يعاين عزوفا‬ ‫عن املهرجانات الصيفية بسب التوتر السيايس واالمني‪،‬‬ ‫واملشاكل الناجمة عن انقطاع التيار الكهربايئ‪ .‬ولجأت‬ ‫ادارة املهرجان إىل تسويق شعر الشاعر نزار قباين بعد‬ ‫‪ 13‬سنة عىل رحيله‪ ،‬من خالل صوت املطرب العراقي‬ ‫كاظم الساهر الذي سبق له ان غنى لقباين‪ ،‬وحصد نجاحا‬ ‫وشهرة‪ ،‬حني أدى يف بداياته الفنية قصائد شهرية لنزار مثل‬ ‫«زيديني عشقا زيديني»‪« ،‬اين خريتك فاختاري» و«علمني‬ ‫حبك سيديت أسوأ عادات»‪.‬‬ ‫ادارة مهرجانات بيبلوس الواقعة عىل مرفأ جبيل خصصت‬ ‫حفال خاصا لتكريم الشاعر‪ ،‬مستفيدة من استضافة كاظم‬ ‫الساهر‪ ،‬الذي وقع عىل تذكرة الدخول عبارة‪« :‬ألنني‬ ‫احبكم اغني نزار»‪ .‬والالفت ان الجمهور تجاوب مع‬ ‫الساهر رغم الظروف الصعبة‪ ،‬وتأخره يف الظهور عىل‬ ‫خشبة املرسح‪ .‬ولكن الساهر كان كرميا مع الجمهور الذي‬ ‫تجاوز عرشين الفا‪ ،‬حيث أضاف لسجله النزاري قصيدة‬ ‫جديدة لحنها وغناها للمناسبة تقول كلامتها «لو مل‬ ‫تكوين انت يف حيايت ‪..‬كنت اخرتعت امرأة مثلك ياحبيبتي‬ ‫‪..‬قامتها كالسيف ‪..‬وعينها صافية مثل سامء الصيف»‪.‬‬ ‫مل يغن أحد شعر نزار قباين كام كاظم الساهر‪ ،‬وكانت‬ ‫حفلة بيبلوس مساء الرابع عرش من يوليو املايض برهانا‬ ‫عىل قدرة الشعر عىل اسقاط الحواجز واعادة الناس اىل‬ ‫جوهر ثقافتهم ولغتهم‪ ،‬فالشاعر قباين سوري واملغني‬ ‫عراقي‪ ،‬والقصائد بالفصحى والجمهور خليط من عدة‬ ‫بلدان عربية‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫أقامت جمعية أصدقاء املعتمد الشهر‬ ‫املايض يف مدينة شفشاون (املغرب)‬ ‫الدورة ‪ 27‬للمهرجان الوطني للشعر‬ ‫املغريب الحديث‪ ،‬الذي تأسس منذ بداية‬ ‫الستينيات من القرن املايض‪ ،‬حيث‬ ‫اختري لهذه الدورة محور‪« :‬التجربة‬ ‫الشعرية عند محمد امليموين»‪ ،‬أحد رواد‬ ‫القصيدة املغربية‪.‬‬ ‫ولوحظ عىل هذه الدورة أن املهرجان‬ ‫يستضيف ألول مرة شعراء يكتبون‬ ‫باألمازيغية وينحدرون من الريف‬

‫عبد الكريم الط ّبال‬

‫الغريب‪ ،‬هذا إىل جانب استضافة جمعية‬ ‫أصدقاء املعتمد لشعراء مغاربيني من‬ ‫تونس والجزائر‪ ،‬كام أفردت مساحة‬ ‫مهمة للشعراء الشباب واألسامء‬ ‫الجديدة‪.‬‬ ‫من بني الشعراء الذين شاركوا يف‬ ‫املهرجان‪ :‬عبد الكريم الطبال‪ ،‬بوزيد‬ ‫حرز الله‪ ،‬محمد امليموين‪ ،‬وفاء العمراين‪،‬‬ ‫املهدي أخريف‪ ،‬حسن الوزاين‪ ،‬محمود‬ ‫عبدالغني‪ ،‬خالد الريسوين‪ ،‬صباح‬ ‫الديب‪ ،‬ادريس علوش‪ ،‬يحيى عامرة‪،‬‬ ‫عبدالرحيم فوزي‪ ،‬محمد عنيبة الحمري‪،‬‬ ‫أمينة املريني‪ ،‬فاطمة بنمحمود‪ ،‬أحمد‬ ‫بنميمون‪ ،‬ياسني عدنان‪ ،‬رجاء الطالبي‪،‬‬ ‫محمد بودويك‪ ،‬الزبري الخياط‪.‬‬


‫وليم بليك مقروء ًا في‬ ‫اإلسكندرية‬

‫سوزان عليوان‪ ..‬ديوان جديد‬ ‫ونشر إلكتروني‬

‫هل سيكون عامل النرش االفرتايض‬ ‫«اإلنرتنت‪ ،‬ومواقع النرش‬ ‫املتخصصة» بدي ًال للشعر عن‬ ‫النرش الورقي؟ هذا السؤال بات‬ ‫يرتدد كثرياً خاصة وأن شعراء لهم‬ ‫تجارب الفتة يف راهن الشعر العريب‬ ‫باتوا ينرشون أعاملهم يف مواقعهم‬ ‫اإللكرتونية قبل طباعتها ورقياً‪.‬‬ ‫ومناسبة هذا السؤال ما أقدمت‬ ‫عليه مؤخراً الشاعرة سوزان عليوان‬ ‫(لبنان) يف موقعها اإللكرتوين حيث‬ ‫أقدمت عىل نرش مس ّودة ديوانها‬ ‫الجديد «معطف ع ّلق حياته‬ ‫عليك» الذي هو قيد الطباعة‪،‬‬

‫أشعار سيد قطب‪ ..‬سجال‬ ‫سياسي‬

‫سوزان عليوان‬

‫وليم بليك‬

‫وسط توقعات بأن تثري إشكاليات وسجاالت سياسية‪ ،‬صدرت‬ ‫مؤخراً يف القاهرة عن «مركز األهرام للرتجمة والنرش»‪،‬‬ ‫األعامل الشعرية الكاملة لسيد قطب يف ‪ 450‬صفحة بتحقيق‬ ‫ وتقديم ‪ -‬الباحث عيل عبدالرحمن‪ .‬وقطب الذي أعدم يف‬‫العام ‪ 1966‬يعترب أحد أبرز رموز حركة اإلخوان املسلمني‪،‬‬ ‫واتسمت حياته بانتقادات حادة بدأت من الرهان عليه كناقد‬ ‫أديب واعد يتمثل بعباس محمود العقاد‪ ،‬لكنه انضم يف سنواته‬ ‫األخرية إىل الجامعة‪ .‬وتكشف أشعار قطب وجهاً آخر له عىل‬ ‫خالف وجوهه املعروفة يف النقد األديب والدراسات القرآنية‪،‬‬ ‫وهو وجه الشاعر الذي سعى إىل إبرازه يف بداياته‪.‬‬ ‫رمبا ألنها تو ّد أن تتيح أفقاً جديداً كانت غالبية القصائد نرشت يف دوريات أدبية مل يعد ملعظمها‬ ‫لقراء شعرها أمام القارئ‪ُ ،‬مرفق ًة‬ ‫وجود يف األرشيفات املرصية التي اضطرت إىل حذف كل‬ ‫املس ّودة بصور ل ّلوحات التي‬ ‫ارتباط بينها وبني قطب منذ إعدامه‪ .‬ويوثق الكتاب لقصائد‬ ‫سترُ افق القصائد يف الكتاب ا ُملرت َقب‪،‬‬ ‫بدأ قطب نرشها يف العام ‪ 1924‬نهاية بقصيدته «أخي»‬ ‫وتحت كل لوحة عنوان ‪ -‬جملة‬ ‫التي كتبها قبيل إعدامه وقد رتبها الباحث بحسب تواريخها‬ ‫أو صورة شعرية‪ ،‬مستقلة يف حد‬ ‫ذاتها‪ .‬ترفض الشاعرة طباعة ُكتبها ملعرفة األطوار الفكرية التي م ّر بها وقياس املسافة ما بني‬ ‫رص عىل كتاب «مهمة الشاعر يف الحياة» وكتابه اإلشكايل «معامل عىل‬ ‫يف دور النرش التقليدية‪ ،‬و ُت ّ‬ ‫الطباعة الخاصة والنرش اإللكرتوين الطريق»‪.‬‬ ‫عىل املوقع‪ ،‬معتزل ًة رْ‬ ‫نش أي جديد وتضم األعامل الشعرية ديوان «الشاطئ املجهول» الذي‬ ‫ً‬ ‫من قصائدها يف الصحف‪ ،‬معلنة‬ ‫صدر يف العام ‪ 1935‬ومل يطبع منذ ذلك الحني حتى صار‬ ‫القطيعة إال من التواصل الح ّر مع مجهوالً‪ ،‬وال يوجد منه بحسب مقدمة الكتاب سوى نسختني‪،‬‬ ‫ُق ّرائها‪ ،‬وبضغطة ز ّر بسيطة يمُ كن‬ ‫إحداهام يف الجامعة األمريكية يف القاهرة واألخرى يف جامعة‬ ‫أليٍّ كان أن يزور موقع سوزان‬ ‫لندن‪ ،‬كام تضم الطبعة الجديدة ‪ 35‬قصيدة مل تنرش من قبل‬ ‫عليوان‪ ،‬ومرسمها‪:‬‬ ‫‪ suzanne-alaywan.com‬يف أعامل قطب الشعرية‬

‫نظمت مكتبة اإلسكندرية جلستها‬ ‫الشهرية للقراءة الشعرية باللغة‬ ‫اإلنجليزية‪ ،‬حيث قام مشاركون بقراءة‬ ‫مختارات من الشعر الرومانيس للشاعر‬ ‫والرسام االنجليزي وليم بليك‪ ،‬الذي مل‬ ‫يكن معرتفاً به إىل حد كبري يف حياته‪،‬‬ ‫بليك يعترب اآلن الشخصية البارزة يف‬ ‫تاريخ كل من الشعر والفنون البرصية‬ ‫يف العرص الرومانيس‪.‬‬ ‫وبحسب إدارة املكتبة‪ ،‬فقد جاء تنظيم‬ ‫هذه القراءات بشكل دوري عقب‬ ‫النجاح الذي حققته جلسات القراءة‬ ‫املرسحية من ناحية‪ ،‬ومالحظة االهتامم‬ ‫املتزايد بالشعر من جانب الجمهور‬ ‫وزيادة استفساراته عن األنشطة األدبية‬ ‫من ناحية أخرى‪ .‬وتهدف تلك الفعاليات‬ ‫إىل تعريف الجمهور باألعامل األدبية‬ ‫والشعرية املهمة يف قالب اجتامعي‬ ‫مشوق‪.‬‬ ‫وتقوم جلسات قراءة الشعر بالرتكيز‬ ‫بشكل أكرب عىل اإللقاء‪ ،‬كام يتم تسليط‬ ‫الضوء عىل البيئة األدبية واالجتامعية‬ ‫التي نشأت فيها القصيدة‪.‬‬ ‫أقيمت الجلسة يف املكتبة الرئيسية‬ ‫بالطابق السفيل األول «‪ ،»B1‬وتم‬ ‫التسجيل للمشاركة يف القراءة مبكتب‬ ‫االستعالمات الرئييس الكائن مبدخل‬ ‫املكتبة الرئيسية‪.‬‬

‫‪13‬‬


‫شعر وشعراء‬

‫ما‬

‫جماليات االنشقاق والتصوف والنسيان‪..‬‬ ‫عن ‪ 3‬تجارب شعرية من تونس‬

‫الذي يراه الشاعر إذ ميارس دور ناقد؛ إذ يكون االثنان معا يف اآلن نفسه؟‪ ..‬بعني الشاعر املعروف محمد الغزّي هناك ثالث تجارب‬ ‫بحس‬ ‫شعرية من تونس‪ ،‬رمبا مل نقرأ أياً من نتاجاتها الشعرية من قبل‪ ،‬بل ورمبا مل نسمع بها أيضاً‪ ،‬هنا يقدمها الشاعر ‪ -‬الناقد ٍّ‬ ‫صحفي مهني خاص وراقٍ أيضاً‪ ،‬مبا يحقق هدفاً أساسياً هو واحد من األهداف التي نشأت من أجلها «بيت الشعر»‪ ،‬أي أن تكون بيتاً آمناً‬ ‫لتجارب مختلفة ومتعددة املشارب واالتجاهات‪ ،‬كام جاء يف افتتاحية عددها األول‪ ،‬وناشطة باتجاه تفعيل واستيعاب مختلف التجارب‬ ‫القادمة من هذا «املخترب الشعري» أو ذاك‪ ،‬هنا نو ّد أن نؤسس لتقليد جديد‪ ،‬مع الشاعر ‪ -‬الناقد محمد الغزّي‪ ،‬يتيح املامرسة الجادة‬ ‫والفعلية للنقد الشعري من دون انحياز‬ ‫تحديث التص ّوف‬

‫الكتاب‪ :‬كامن البيت وشمعدانه‬ ‫الكاتب‪ :‬حسني القهواجي‬ ‫النارش‪ :‬كونرتاست‬ ‫املتوسط‬ ‫عدد الصفحات‪ 64 :‬من القطع‬ ‫ّ‬

‫جماليّة االنشقاق‬

‫الكتاب‪ :‬انشقاق المريئ‬ ‫الشاعر‪ :‬املنذر العيني‬ ‫النارش‪ :‬دار الرباق للطباعة‬ ‫املتوسط‬ ‫عدد الصفحات‪ 114 :‬من القطع‬ ‫ّ‬

‫ضم مجموعة‬ ‫هذا الكتاب الشعري الذي ّ‬ ‫من قصائد النرث يع ّد امتداداً لكتب الشاعر‬ ‫السابقة‪ :‬فاتحة ملدار الريح ‪ 2006‬وظالل‬ ‫هذه هي املجموعة التاسعة للشاعر حسني القهواجي‪ ..‬وكام هو‬ ‫املسافة ‪ 2007‬وإيقاع الصدفة ‪ 2008‬وبيت املاء ‪ 2009‬فالشاعر ظلّ‬ ‫الحال بالنسبة إىل املجموعات السابقة تنهض هذه املجموعة عىل‬ ‫وف ّياً الستخدامه الصور السوريال ّية ّ‬ ‫يوظف إمكاناتها التخييل ّية الكبرية‪،‬‬ ‫اقتناص لحظات الوجود الهاربة يف شباك الكلامت مع ّولة عىل لغة‬ ‫وف ّياً لطريقته يف اسرتفاد قراءاته لفتح قصيدته عىل إمكانات تأويل ّية‬ ‫غنائ ّية‪ ،‬ش ّفافة‪ ،‬تذ ّكر‪ ،‬يف الكثري من األحيان‪ ،‬بلغة الهايكو الياباين‬ ‫الخاص من إيقاع النرث موظفا عنارص‬ ‫والقصائد الصوفية حيث متتزج التأ ّمالت الفكر ّية بالتباريح العاطفية‪ :‬جديدة‪ ،‬وف ّيا لتشكيل «إيقاعه»‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نغم ّية بعينها‪ ...‬لكنّ تواتر هذه الخيوط التي تنظم هذه الكتب ال‬ ‫«ورقات لوز الشام تطايرت أنج ًام‪ /‬ونديف ثلج بني السهول‪ /‬هكذا‬ ‫جاء رباب صداقة‪ /‬وأغنية تردّدها البنات‪ /‬وحادي عربات الفصول» يعني تشابهها وتجانسها‪ّ ...‬‬ ‫فلكل كتاب «حالته» الشعر ّية‪ ،‬وطقوسه‬ ‫اللغو ّية‪ ،‬ونربته الفارقة‪ّ ..‬‬ ‫أهم ما يش ّد االنتباه يف هذا الكتاب‬ ‫ولعل ّ‬ ‫فليس غريباً‪ ،‬يف هذا السياق‪ ،‬أن يحتفي الشاعر بعمر الخ ّيام‪ ،‬وأن‬ ‫ّ‬ ‫تضم أسئلة الكائن يف األخري‪« :‬انشقاق ال مريئ» تداخل معجمني متباعدين‪ ،‬ومتباينني‪:‬‬ ‫يقفو خطوه يف كتابة مجموعة من الرباع ّيات ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل العصور من غري أن املعجم السوريايل؛ ومعجم التفاصيل‪ .‬املعجم األ ّول سحب وراءه‬ ‫حفل الوجود‪ ...‬وهي األسئلة التي تردّدت يف ّ‬ ‫صوراً عجائب ّية‪ ،‬مغرقة يف عجائب ّيتها‪ ،‬وأما املعجم الثاين فسحب وراءه‬ ‫تهرم أو تكرب أو متوت‪.‬‬ ‫ً‬ ‫واليومي‪ .‬هذا اللقاء بني هذين الطرفني املتناقضني جعل‬ ‫املعيش‬ ‫لغة‬ ‫نمّ‬ ‫ّ‬ ‫لكنّ هذه املجموعة ال تحيل إىل الخيام فحسب وإ ا تحيل أيضا‬ ‫العيني أليفة وغريبة‪ ،‬قريبة وبعيدة‪ ،‬واضحة وغامضة‪،‬‬ ‫املنذر‬ ‫قصيدة‬ ‫ّي‬ ‫ت‬ ‫وجياكوم‬ ‫عىل هان شان حكيم شعراء الصني‪ ،‬وإىل فرجيل الشاعر‬ ‫ّ‬ ‫تتأرجح‪ ،‬إذا أخذنا بعبارة الشاعر‪ ،‬بني املعنى والالمعنى‪« :‬الزنقة‬ ‫النحات وفلورا حاضنة آل باديس أمراء البالط الصنهاجي ومحمود‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫درويش وخالد النجار ومحمد الرفرايف‪ ...‬فقصيدة القهواجي أمنوذج تلك‪ /‬الصادمة‪ /‬بنواياها آخربوصلة‪ /‬الخطو تلعق منه خطيفتي نباح‬ ‫للقصيدة املث ّقفة التي توظف مختلف التعبريات الثقافية وتح ّولها إىل السنوات الضوئ ّية‪ /‬لتعود إىل أوطانهابذاكرة طفل‪ ...‬عمري راح‪...‬يف‬ ‫عنرص مكني من عنارصها الشعر ّية الفاعلة‪.‬‬ ‫الغربة»‪.‬‬ ‫يف هذه املجموعة تتضافر جامل ّيتان لتحقيق شاعر ّية ّ‬ ‫العيني عن أبناء جيله حتّى وإن بدا هذا‬ ‫النص‪ :‬جامل ّية بهذه الطريقة ينشقّ املنذر‬ ‫ّ‬ ‫اإلخراج التي يوليها الشاعر ّ‬ ‫االنشقاق ال مرئ ّياً‬ ‫كل اهتاممه وشاعر ّية اللغة‪.‬‬ ‫‪14‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫شواغل الشعر اإلماراتي في كتاب جديد‬ ‫الكتاب‪ :‬الشعر اإلمارايت ‪ -‬قراءات يف املوضوع والفن‬ ‫الناقد‪ :‬يوسف حطيني (فلسطني)‬ ‫النارش‪ :‬دائرة الثقافة واإلعالم بالشارقة (اإلمارات)‬ ‫عدد الصفحات‪ 400 :‬من القطع املتوسط‬

‫االحتفاء باألرض‬

‫الكتاب‪ :‬عىل أرض ممكنة‬ ‫الشاعر‪ :‬حافظ محفوظ‬ ‫النارش‪ :‬األطلس ّية للنرش‬ ‫املتوسط‬ ‫القطع‬ ‫من‬ ‫عدد الصفحات‪123 :‬‬ ‫ّ‬

‫عمل الشاعر الحديث عىل اسرتفاد املايض مستدعياً نصوصه‬ ‫النص‬ ‫ورموزه وأقنعته محاوالً أن مي ّد األثر الحديث بق ّوة ّ‬ ‫وإبداعي‬ ‫القديم‪ ...‬فاستدعاء الرتاث استدعاء ملخزون فكريّ‬ ‫ّ‬ ‫ميت ّد بعيداً يف الزمن‪ ،‬استحضار لجملة من القيم مازالت إىل‬ ‫توجه حياتنا وتفكرينا‪ ...‬فالرتاث‪ ،‬بهذا املعنى‪ ،‬ليس ّ‬ ‫كل‬ ‫اليوم ّ‬ ‫ّ‬ ‫النسيانكل‬ ‫ما ترك األسالف وإنمّ اهو ما تب ّقى بعد أن طوى‬ ‫يشء‪ ...‬أي هوالثابت يف الداثر‪ ،‬واملستم ّر يف املتح ّول‪...‬‬ ‫وقارئ مجموعة حافظ محفوظ يلحظ حضور األسطورة‬ ‫والرموز الدين ّية والنصوص التاريخ ّية يف نصوصه حضورا‬ ‫الفتاً‪..‬فقد باتت جزءاً من نسيج النص الشعريّ ‪ ،‬أص ًال مكيناً‬ ‫من أصوله‪ ...‬لكنّ الشاعر مل يستعد الرتاث‪ ،‬مل يستنسخه‪،‬‬ ‫او يق ّلده‪ ،‬فذلك مماّ ين ّد عنه طبع الشعر وإنمّ ا تعامل معه‬ ‫بوصفه نواة معنو ّية ورمز ّية قابلة للتط ّور والتناسخ والتوالد‪،‬‬ ‫وهو يف هذا يختلف عن العديد من الشعراء املعارصين‬ ‫الذين تعاملوا مع الرتاث بوعي سكو ّين مكتفني باجتثاثه من‬ ‫سياقه القديم من غري أن يفتحوه عىل أفق دال ّيل جدي ًد‬ ‫محمد الغزّي‬

‫يف تقدميه القصري لكتابه‪ ،‬يكتب يوسف حطيني‪« :‬مل يق ّيض‬ ‫للحركة األدبية يف الخليج أن تلقى اهتامماً مبكراً من قبل‬ ‫الدارسني‪ ،‬ومل ينل شعراء هذه املنطقة حظاً وافراً من‬ ‫الدراسات كام الحال بالنسبة إىل شعراء مرشق الوطن العريب‬ ‫ومغربه»‪ .‬وير ّد حطيني ذلك لتأخر ظهور الصحافة ووسائل‬ ‫اإلعالم يف الخليج «عىل أن غياب االهتامم الكايف بالشعر‬ ‫ال يعني غياب الشعر نفسه» يقول حطيني‪ ،‬ويضيف‪« :‬إذ‬ ‫عرفت منطقة الخليج عدداً كبرياً من الشعراء الرواد الذين‬ ‫أسسوا لحركة الشعر الحديث وكانوا صلة الوصل بني شعراء‬ ‫الرتاث العريب وشعراء الحداثة الذين جاؤوا بعد هؤالء»‪.‬‬ ‫ويتبنى حطيني تحقيباً لالتجاهات الشعرية يف اإلمارات‪،‬‬ ‫فثمة الرعيل األول من أمثال سامل‬ ‫بن عيل العويس وخلفان بن مصبح‬ ‫وإبراهيم املدفع‪ ،‬ثم الرعيل املؤسس‬ ‫الذي رافق تأسيس الدولة من أمثال‬ ‫أحمد أمني املدين وهاشم املوسوي‬ ‫وحبيب الصايغ وصوالً إىل األسامء التي‬ ‫تجاوزت قصيدة التفعلية إىل قصيدة‬ ‫النرث مثل أحمد راشد ثاين وظبية خميس‬ ‫وعارف الخاجة ونجوم الغانم‪ ،‬وليس‬ ‫انتهاء باملوجة الشعرية التي تلت هؤالء‬ ‫من أمثال صالحة غابش وإبراهيم املال‬ ‫والهنوف محمد‪.‬‬ ‫يف الصفحة التاسعة والخمسني بعد املئة يكتب حطيني‬ ‫تحت عنوان‪« :‬الشعر واملامرسة النقدية»‪« :‬وإذا نظر الناقد‬ ‫بتمعن إىل اآلثار التي ينتجها املبدعون فإنه واجد ـ من دون‬ ‫شك ـ كثرياً من اآلراء النقدية التي تؤطر إبداعهم وقد يجد‬ ‫مقوالت نقدية أو فكرية يقوم املبدعون بنسخها وتظهريها‬ ‫يف إبداعاتهم» ويستعرض حطيني هنا النصوص الشعرية‬ ‫التي تناولت «صنعة الشعر» أو قاربت «عالقة الشعر‬ ‫باملتلقي»‬ ‫‪15‬‬


‫شعر وشعراء‬

‫قصيدة النثر‪ ..‬بعين شعرية‬

‫هكذا أو العكس‪ ..‬إعادة تركيب‬ ‫العناصر‬

‫الكتاب‪ :‬مدخل إىل قصيدة النرث‬ ‫املؤلف‪ :‬أنطون أيب زيد‬ ‫النارش‪ :‬دار النهضة ‪( -‬بريوت)‬

‫الكتاب‪ :‬هكذا أو العكس‬ ‫الشاعر‪ :‬مؤيد الشيباين (اإلمارات)‬ ‫النارش‪ :‬املؤسسة العربية للدراسات والنرش ‪ -‬بريوت‬

‫عدد الصفحات‪ 120 :‬من القطع املتوسط‬

‫عدد الصفحات‪ 160 :‬صفحة من القطع املتوسط‬

‫يتساءل أنطوان أبو زيد يف دراسته هذه‪ :‬هل يجب عىل الناقد أن‬ ‫يكون ناقداً حديثاً أو ألسنياً أو سيميولوجياً؟ أيستدعي الكشف عن‬ ‫آليات الصنعة اللغوية لدى الشاعر‪ ،‬ذي القصد البينّ يف اإلبداع‪،‬‬ ‫منهجية نقدية جديدة‪ ،‬تتجاوز التأريخ واألبعاد النفسية واالجتامعية‬ ‫واملرجعية‪ ،‬للنص الشعري‪ ،‬إىل استنهاض بنيانه من رميم املعجم‬ ‫والرتاكيب وتوليف النص‪ ،‬وتناص ّيتها‪ ،‬وتوقيع الصور البيانية‪ ،‬وإيقاعها؟‬ ‫ومن تساؤالته هذه‪ ،‬يفرتض أن الشاعر‪ ،‬يف كل زمان ومكان‪ ،‬قلام‬ ‫يتأمل يف صنيعه الشعري‪ ،‬هذا إن توفر عىل قدرة نقدية‪ ،‬تفيض عىل‬ ‫قدرته الخ ّالقة‪ .‬ويفرتض استتباعاً أن الناقد وحده ُأعطي النظر يف خلق‬ ‫الشاعر‪ .‬يعطي دلي ًال عىل كالمه‪ ،‬فيقول إن أحداً من الشعراء القدامى‪،‬‬ ‫مل يؤلف كتاباً يف تحليل شعره‪.‬‬ ‫ويالحظ قارئ «مدخل إىل قصيدة النرث» بدراساته الثالث أن مثة ذكاء‬ ‫ممزوجاً بحساسية نقدية سبق للقارئ أن وجدها يف قصائد أنطوان‬ ‫أبو زيد الخاضعة لتقشف لغوي وكثافة تصويرية تجعل من صاحبها‬ ‫ناقدها األول‪ .‬يقدم أبو زيد يف الدراسة األوىل مقاربة لقصيدة النرث‬ ‫لتجربتي بول شاوول وعباس بيضون‪ .‬ويف الدراسة الثانية التي تحمل‬ ‫عنوان‪« :‬إبداعية قصيدة النرث»‪ ،‬يخصص املؤلف بحثاً كام ًال لقراءة‬ ‫املستويات الداللية يف قصيدة «كفار باريس» لعباس بيضون‪ ،‬أما‬ ‫الدراسة األخرية فحملت العنوان‪« :‬املعجم واإليقاع وال ِبنَى يف أعامل‪:‬‬ ‫وديع سعادة‪ ،‬عبده وازن‪ ،‬بسام حجار»‬

‫صوت العاطفة‬

‫الكتاب‪ :‬حوارات مع ليوكو‬ ‫املؤلف‪ :‬تشيزري بافيزي‬ ‫املرتجم‪ :‬موىس الخمييس (العراق)‬ ‫النارش‪ :‬هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة ‪-‬‬ ‫مرشوع كلمة‬ ‫عدد الصفحات‪ 180 :‬من القطع املتوسط‬

‫‪16‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫الشعر‬

‫هنا نتاج مخيلة العزلة‪ ،‬بوصفها مكاناً يصلح للتذكر‪،‬‬ ‫فالشخص السارد يف القصيدة‪ ،‬غالباً ما يظهر يف صيغة‬ ‫املتكلم‪ ،‬يعيش ماضيه الخاص إذ يتأمل العامل من حوله‪ ،‬غري أنه عامل‬ ‫بسيط أثثه الشاعر بأشياء اللغة وفكرته عن األشياء فبدا حزيناً بلمسة‬ ‫شفافة من روح الشاعر‪ .‬أيضاً ّ‬ ‫يطل الشاعر عىل مكانه من عَلٍ ‪ ،‬ويراه‬ ‫كام ًال كام لو أنه لوحة أمامه يتأمل فيها وبوسعه أن يعيد تركيب‬ ‫عنارصها‪.‬‬ ‫أما الالفت يف مايض مؤيد الشيباين فهو أنه بال زمن أو تحقيب‪ ،‬بل يف‬ ‫بعض القصائد يبدو مطلقاً أو غري مكرتث بجريان الزمن وكأن العمر‬ ‫قد م ّر به دفقة واحدة‪ ،‬ليرتك الشاعر رهني العابر واليومي والزائل‬ ‫ورهني احتفائه بهذا املؤقت مثلام يسميه يف إحدى قصائد الكتاب‪:‬‬ ‫«يف املؤقت‪ /‬يبقى الغريب رهني حقائبه‪ ،‬ويؤجل نبضتَه القلب‪ /‬يف‬ ‫املؤقت‪ /‬مل يعرتض أحد من ضيوف املكان عىل ق ّلة امللح‪ /‬يف املؤقت‪/‬‬ ‫ال يشرتي العابرون كتاباً‪ /‬وال يحملون املزيد من الحاجيات‪ /‬وال‬ ‫يذهبون ألبع َد من أ ّول السوق‪ /‬خشية أن يذهب الوقت من دونهم‪/‬‬ ‫التوجس‬ ‫يف املؤقت‪ /‬باب الحقيقة نصف‪ /‬وإغامضة العني نصف‪ /‬ونار ّ‬ ‫ٌّ‬ ‫كل ونصف‪ /‬أيها الدائم املسرتيح هناك ُترى طعمك؟ كيف هو‬ ‫الصبح؟»‬ ‫أيضا‪ ،‬يشعر القارئ بصوت ذلك املايض‪ ،‬وكأن حنينا هو مصدر ذلك‬ ‫الصوت الذي يأيت خافتاً ويكاد يكون صمتاً‬

‫الشهر املايض أصدر مرشوع «كلمة للرتجمة» التابع لهيئة أبوظبي للسياحة‬ ‫والثقافة ترجمة جديدة بعنوان «حوارات مع ليوكو» نقله إىل العربية موىس‬ ‫الخمييس‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫هذا الكتاب الذي ُنرش ألول مرة عام ‪ ،1947‬ثم أعيد نرشه يف العديد‬ ‫من املناسبات‪ ،‬اعتربه صاحبه أهم عمل يغوص يف عمق األسطورة‪ّ ،‬‬ ‫ليفك‬ ‫رموزها الساحرة‪ .‬يتأ ّلف من خمسة وعرشين حواراً‪ ،‬اتسمت لغتها بالسالسة‬ ‫والوضوح‪ ،‬إنها حوارات متوهجة تأيت مبثابة الدعوة الشعرية ملناقشة العالقة‬ ‫بني اإلنسان والطبيعة‪ ،‬اإلنسان ومصريه‪.‬‬ ‫يعترب الشاعر والروايئ اإليطايل الراحل تشيزري بافيزي «‪ »1950 1908-‬أحد‬


‫مكتسبات طالئع شعرية‬

‫اقتفاء أثر شاعر‬

‫الكتاب‪ :‬انحتني يف الضوء ليك ال تصاب لغتي بالدوار‬ ‫الشاعر‪ :‬عبد القادر الجنايب (العراق)‬ ‫النارش‪ :‬دار الغاوون ‪ -‬بريوت‬

‫الكتاب‪ :‬شاعرة يف األندلس‬ ‫الشاعرة‪ :‬ناتايل حنظل‬ ‫النارش‪ :‬منشورات جامعة بيتسربغ‬

‫عدد الصفحات‪ 165 :‬من القطع املتوسط‬

‫عدد الصفحات‪ 144 :‬صفحة من القطع املتوسط‬

‫رمبا أن اإلفراط يف االنحياز لقصيدة النرث عىل نحو غري مسبوق هو‬ ‫ما طبع صورة خاصة لعبد القادر الجنايب يف املشهد الشعري عربياً؛‬ ‫كام هي الحال متاماً عند النظر إىل جملة مواقفه وآرائه‪ .‬ومع كل‬ ‫ديوان جديد يثري الجانبي من حوله عواصف كثرية‪ ،‬هو الذي عرف‬ ‫باالستفزاز واملواقف النافرة‪ .‬وهذه املرة يثري ديوانه الجديد الفضول‪،‬‬ ‫كونه توقف عن النرش منذ فرتة طويلة‪،‬األمر الذي عده البعض حالة‬ ‫من النضوب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫يبدو الجنايب يف هذا الديوان مطال عىل مكتسبات الطالئع الشعرية‬ ‫والفنية األوروبية ووارثاً لها‪ ،‬فمنذ وصوله إىل باريس عام ‪ 1972‬تقرب‬ ‫وتصادق مع أبرز وجوه الحركة السوريالية‪ .‬ورصف جهده الرئييس‬ ‫يف الرتويج للحركة السوريالية من خالل مجلتي «فراديس» و«الرغبة‬ ‫اإلباحية»‪ ،‬كام انه اشتغل عىل تقديم «قصيدة النرث األوروبية منذ‬ ‫بودلري» يف كتاب مرجعي مهم معزز برتجامت لكبار شعرائها‪ ،‬مثل‬ ‫بودلري وفالريي وشار‪.‬‬ ‫ويظهر الشاعر من خالل نصوصه الحديثة كام عرفناه دامئاً‪ ،‬أي إنساناً‬ ‫يسعى باستمرار إىل تجاوز نفسه ويستمد من الالنهايئ املفتوح أمامنا‬ ‫سبباً الندفاعه‪ ،‬مستعيناً يف ذلك مبخيل ٍة جامحة وأحالم ليله ونهاره‬ ‫وذاكرة صورية لألشياء‬ ‫أبرز الشعراء اإليطاليني املعارصين‪ ،‬لتأثريه البارز عىل حركة الشعر‬ ‫الحديث الذي يعده بعضهم خالصة لكافة الحركات التي سبقته‪،‬‬ ‫وطليعة متم ّيزة ملن أتوا بعده‪ ،‬فقد صيرّ بافيزي فكرة املوت‪ ،‬يف ّ‬ ‫كل‬ ‫نتاجاته الروائية والشعرية‪ ،‬معادالً للحياة‪ ،‬عاكساً من خاللها سؤال‬ ‫الوجود املؤرق لإلنسان‪.‬‬ ‫ا ّتسم شعر بافيزي بالغنائية الحزينة‪ ،‬التي تقوم عىل مزيج من‬ ‫اإليقاع‪ ،‬خارجي متم ّثل ببناء الحكاية وأسلوب عرضها‪ ،‬وداخيل‬ ‫ّ‬ ‫متجل يف صوت العاطفة املفجع‪ .‬كام تتّصف معظم قصائد الشاعر‬ ‫بالقصصية‬

‫يف هذا الديوان تقتفي الشاعرة‬ ‫التشيلية من أصل فلسطيني‪ ،‬ناتايل‬ ‫حنظل خطى الشاعر غارسيا لوركا‪،‬‬ ‫وإرث األندلسيني يف غنائيته وشفافيته‬ ‫ور ّقته‪ ،‬يف رحلة تبدأها من نيويورك‬ ‫باتجاه األندلس‪ ،‬وليس العكس كام‬ ‫فعل لوركا العام ‪ ،1929‬حني زار مدينة‬ ‫نيويورك ومكث فيها لتسعة أشهر‪،‬‬ ‫وكتب خاللها ديوانه الشهري «شاعر يف نيويورك»‪ ،‬الذي رأى النور بعد‬ ‫مقتله يف الحرب األهلية اإلسبانية‪.‬‬ ‫تأيت حنظل وتتلقف عنواناً مامث ًال لديوانها‪ ،‬وتنسج رحلة موازية‬ ‫لرحلة لوركا‪ ،‬يف محاكاة تكاملية أو موازية‪ ،‬لرؤيا الشاعر اإلسباين‪.‬‬ ‫ميكث لوركا يف مدينة مانهاتن بني عامي ‪ ،1930 1929-‬وينرش‬ ‫قصائده عن املدينة يف ديوانه الذي ُنرش عام ‪ .1940‬هنا‪ ،‬وبعد مرور‬ ‫أكرث من مثانني عاماً‪ ،‬تذهب الشاعرة حنظل من نيويورك إىل إسبانيا‪،‬‬ ‫يف رحلة عكسية‪ ،‬لتكتب قصائد ديوانها «شاعرة يف األندلس»‪ ،‬التي‬ ‫تحمل الكثري من رجع الصدى األندليس‪ ،‬أسلوباً ومجازاً ورؤى‪ ،‬كتلك‬ ‫التي ال نخطئها يف صوت لوركا وروحه‪ .‬وكام وصف لوركا شوارع‬ ‫نيويورك وضفاف نهر هدسون الذي يحيط بجزيرة مانهاتن كالسوار‪،‬‬ ‫ترسد الشاعرة تفاصيل رحلتها إىل األندلس‪ ،‬وتصف شوارع وتالل‬ ‫وقالع قرطبة وإشبيلية وغرناطة‪ ،‬وسواها من املدن والقرى والبلدات‪.‬‬ ‫وكام تشري الشاعرة األمريكية أليس ووكر يف كلمة لها تذ ّيل غالف‬ ‫الديوان فإن قصائد حنظل تحمل عمقاً وثق ًال ألن هاجسها هو الحنني‬ ‫األبدي لجنّتها املفقودة‪ .‬صو ُتها محيرّ ٌ ألنه مي ّثل إيقاع حياتها املتن ّقلة‬ ‫أبداً‪ ،‬وهو الصوت الكوزموبوليتي‪ ،‬العابر للتخوم‪ ،‬املنتمي إىل العائلة‬ ‫اإلنسانية‪ .‬وحنظل يف ديوانها تنجح يف استعادة تلك الروح اإلنسانية‬ ‫تغنى بها لوركا يف شعره‪ ،‬وترم ُز إليها األندلس بوصفها حاضناً‬ ‫التي ّ‬ ‫حضارياً فريداً ألكرث من ثقافة‪ ،‬ونقطة التقاء قصوى بني الغرب‬ ‫والرشق‬ ‫‪17‬‬


‫شعر وشعراء‬

‫القصيدة والن َ‬ ‫فس الدرامي‬

‫أدونيس إلى العبرية‬

‫الكتاب‪ :‬الذين ال تحبهم‬ ‫الشاعر‪ :‬عزيز أزغاي (املغرب)‬ ‫النارش‪ :‬منشورات فراند‬

‫عدد الصفحات‪ 96 :‬من القطع املتوسط‬

‫الكتاب‪ :‬فهرس ألعامل الريح‬ ‫الشاعر‪ :‬أدونيس‬ ‫النارش‪ :‬دار كشب للشعر ‪ -‬تل أبيب‬

‫عدد الصفحات‪ 90 :‬من القطع املتوسط‬

‫املتأمل يف الكتاب يالحظ حضور الذات الالفت عرب أفعال لها إحاالتها‬ ‫عىل اليومي والحميمي‪ ،‬الشخيص والخاص‪ ،‬فتبدو كل قصيدة مشهدا ً‬ ‫عىل صلة قوية بوقائعية الذات التي تسعى إىل ردم الهوة بني األنا‬ ‫الواقعية واملتخيلة‪ .‬يف هذا الصدد‪ ،‬تم تحرير النص الشعري من‬ ‫املناسبة واالحتفال‪ ،‬وغدا كمنديل خلفي ميتص اليومي والتفاصيل‪،‬‬ ‫ويوغل بها عرب طلقات الداخل يف الذات‪ .‬وباألخص هنا يف هذه‬ ‫املجموعة ـ قيد التناول ـ التأمل والغنائية املتشظية‪.‬‬ ‫النص الشعري يف هذه املجموعة‪ ،‬ال يسوق اليومي بشكل بارد خال‬ ‫من األعصاب «الشعرية»؛ بل تنطلق رضبات الداخل كتأمل وإحساس‬ ‫ورغبة ابتداء من الكلامت التي تتخذ حموالت أخرى؛ إىل الجملة‬ ‫التي ليست غاية يف حد ذاتها‪ ،‬بل وسيلة‪ ،‬لبناء الصورة‪ .‬وهذه األخرية‬ ‫تتوالد ضمن تراسل الحواس صعودا ً ونزوالً يف نفَس درامي‪.‬‬ ‫الوصف يف ديوان «الذين ال تحبهم» يأيت كصفات عىل قدر من‬ ‫االرتعاش‪ ،‬أي صفات ضمن حركة شعرية يف إطار‪ .‬وبالتايل فهو وصف‬ ‫ال يخدم نتائج معينة؛ بل يندمج مع رسد شعري منكرس خال من‬ ‫العلية ومنطق التابع الحكايئ‪ .‬وهو ما يثبت أن القصيدة يف هذه‬ ‫املجموعة تنطرح كحافة حادة عىل هوامش األشياء‪ ،‬هي حافة الذات‬ ‫التي تحيك سريتها‪ ،‬لتغدو مباحة أو كذات أخرى‪ .‬وبالتايل فكلام مرت‬ ‫يد الداخل عىل يشء أردته ذاتاً وجسدا ً‪:‬‬ ‫«ليس عىل ما يرام‪ /،‬دقات قلبه صارت تسبقه‪ /‬كل ليلة‪ /‬إىل ضاحية‬ ‫القلق‪ /.‬أصابعه مل تعد متلك‪ /‬الدربة الكافية‪ /‬عىل ترطيب الهواء‪ /،‬ويف‬ ‫كل خطوة‪ /‬صارت له كسور يف املمىش»‪.‬‬ ‫عزيز أزغاي واحد من الشعراء الجادين‪ ،‬راكم تجربة شعرية تحققت‬ ‫عرب مجاميعه‪ :‬ال أحد يف النافذة‪ ،‬كؤوس ال تشبه الهندسة‪ ،‬رصاص‬ ‫املوناليزا‪ ،‬يليه‪ ،‬أكرب من قميص‪ ،‬مجاميع لها رهاناتها الجاملية التي‬ ‫تهدف إىل خصوصية نوعية‪ ،‬بدت مالمحها اللغوية والتخييلية تظهر‬ ‫بوضوح‪ .‬وأكيد أن للشاعر عزيز ـ نظرا ً لحسه الجاميل الرفيع وقلقه‬ ‫املالزم ـ وعياً بجغرافيته الشعرية ضمن نغمة الفقد املتجددة‪ .‬وتلك‬ ‫هي بالغة شعراء األمل اإلنساين‬ ‫‪18‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫ترجم الكتاب الربوفيسور رؤوبني سنري عميد كلية اآلداب‬ ‫يف جامعة حيفا وهو أستاذ للغة العربية وآدابها الذي سبق‬ ‫ونرش دراسات عن أدونيس بلغات أخرى‪.‬‬ ‫مفصلة وواسعة عن حياة‬ ‫لقد أضاف سنري للكتاب مقدمة ّ‬ ‫أدونيس وأعامله تتط ّرق إىل مراحل حياته وتط ّور شعره منذ‬ ‫والدته عام ‪ 1930‬يف قرية قصابني قرب مدينة جبلة‪ ،‬من‬ ‫قصة لقائه وهو يف‬ ‫محافظة الالذقية عىل الساحل السوري‪ّ ،‬‬ ‫الثالثة عرشة من عمره بشكري القوتيل أول رئيس للجمهورية‬ ‫السورية يف عهد االستقالل والقصيدة الوطنية التي ألقاها‬ ‫أمامه‪ ،‬انتسابه اىل الحزب السوري القومي االجتامعي بقيادة‬ ‫أنطون سعادة‪ ،‬مسألة اتخاذه لقب أدونيس‪ ،‬صدور»قالت‬ ‫األرض» يف دمشق عام ‪ ،1954‬هجرته إىل بريوت‪ ‬واتصاله‬ ‫بالشاعر يوسف الخال وإصدار مجلة «شعر» عام ‪ 1956‬ثم‪ ‬‬ ‫إصدار «قصائد أوىل» (‪ )1957‬و «أوراق يف الريح» (‪)1957‬‬ ‫و«أغاين مهيار الدمشقي» (‪ )1961‬وإصدار مجلة «مواقف»‬ ‫بني ‪ 1994-1968‬ثم توالت مجموعات عديدة ومشاريع‬ ‫ثقافية أخرى إىل يومنا هذا‪ .‬وتتط ّرق املقدمة أيضا إىل موقف‬ ‫أدونيس من األحداث الدموية يف سوريا والنقد‪ ‬الواجب الذي‬ ‫تع ّرص له من العديد من املثقفني العرب وغري العرب‪.‬‬ ‫ويعترب كتاب «أبجدية ثانية» الصادر مطلع التسعينات عن‬ ‫دار توبقال يف املغرب واحداً من أبرز أعامل أدونيس عىل‬ ‫مستوى كتابته قصيدة النرث التي مل تخل منها دواوين سابقة‬ ‫له‪.‬‬ ‫ً‬ ‫يف هذا الكتاب انشغل أدونيس عميقا بلغة النرث واكتشاف‬ ‫الطاقة الكامنة فيه التي تعزز من مخيلة الصورة الشعرية‪.‬‬ ‫أما «فهرس ألعامل الريح»‪ ،‬فهو أول كتاب ألدونيس نرش‬ ‫كامال بالعربية‪ .‬لقد كتب أدونيس معظم الكتاب عامي‬ ‫‪ 1997-1996‬خالل مكوثه يف جامعة برينستون يف الواليات‬ ‫املتحدة‬


‫«أصدقاء الشعر» ‪ ..‬قصائد عن‬ ‫دمشق وستوكهولم‬

‫صدر‬

‫مؤخراً العدد األخري من مجلة لرييك فينن‬ ‫السويدية «‪ »Lyrik Vannen‬وتعني أصدقاء‬ ‫الشعر‪ ،‬األدبية املتخصصة بالشعر فقط‪ ،‬وتصدر مرة لكل شهرين‬ ‫وتتخذ يف كل عد ٍد لها ثيمة خاصة تحملها كل القصائد ومقاالت‬ ‫العدد‪ .‬هذا العدد حمل فكرة املدينة‪.‬‬ ‫تبدأ املجلة بافتتاحية للناقدة األدبية السويدية «آنا لينا برونيل» التي‬ ‫هي عضو هيئة تحرير املجلة‪ ،‬جاءت االفتتاحيةمبقدمة شعرية رأت‬ ‫فيها أن املدينة غرفة واسعة ُتقرأ بالجسد‪ ،‬وعل ّو البنايات فيها هو ما‬ ‫يحدد اتجاه النظر فيها‪ ،‬ثم بنص للشاعرة الهولندية «مرييام فان هي»‬ ‫بعنوان‪ :‬التاريخ‪ ،‬فمقال نقدي للشاعر السويدي «بيورنري تورسون»‬ ‫بعنوان‪ :‬الشعر يف حياة املدن‪.‬‬ ‫ولقد حرضت دمشق سويدياً‪ ،‬بنصوص شعرية مشرتكة بني شاعرين‬ ‫أحدهام فلسطيني‪ :‬غياث املدهون‪ ،‬وسويدية هي الشاعرة‪ :‬ماري‬ ‫سيليك باري‪ .‬حيث من املعروف أن غياث املدهون‪ ،‬شاعر فلسطيني‬ ‫من مواليد سوريا ويقيم يف ستوكهومل‪ ،‬وآخر أعامله الشعرية حمل‬ ‫العنوان‪« :‬طلب لجوء» باللغة السويدية عام ‪ ،2010‬وقام برفقة‬ ‫الشاعرة السويدية ماري سيليك باري الفيلم الشعري‪« :‬املدينة»‬ ‫أما الشاعرة والكاتبة واملرتجمة السويدية ماري سيليك باري فقدمت‬ ‫أيضاً أربع مقاطع شعرية عن مدينة دمشق تحت عنوان واحد‪:‬‬ ‫«مدينة دمشق»‪.‬‬ ‫وحرضت الشاعرة السويدية سارة هلسرتوم صحبة الشاعر واملرتجم‬ ‫الفرنيس « ِكنت كليمتس» يف العدد عرب حوار مشرتك بينهام عن‬ ‫املدينة بعنوان‪« :‬أن تكتب املدينة»‪ ،‬ثم نص للشاعر األمرييك «والت‬ ‫وايتامن» بعنوان‪« :‬مانهاتن»‪ ،‬وتحت عنوان‪« :‬ناطحات السحاب‬ ‫يف زجاج املرايا» كتب الشاعر االسرتايل «ل ِيس موريه» قصيدة‪،‬‬ ‫وأيضاً اشتمل العدد عىل قصيدة بعنوان‪« :‬مكان بال اسم» للشاعر‬ ‫والفيلسوف التشييل «هيكتور هرينانديز مونتي خينوس» الذي يعيش‬ ‫متنق ًال ما بني البريو واملكسيك‪.‬‬ ‫أما ألكساندرا بوري‪ ،‬وهي دكتورة يف علم األدب وتقدم برنامجاً‬ ‫يتعلق بالقراءة اإللكرتونية‪ ،‬فكتبت مقاالً مطوالً بعنوان‪« :‬مدينتي‬ ‫بيتي»‪ ،‬أو وطني‪ ،‬تستشهد فيه بقصيدة للشاعر «سيغ فريد سفريت»‪،‬‬

‫بينام الكاتب واملرتجم السويدي «بار سفنسون» وهو كاتب‬ ‫رواية ومرسح‪ ،‬الذي يكتب الشعر أيضاً‪ ،‬فقدم مقاطع شعرية‬ ‫بعنوان‪« :‬أشعار كوبنهاجن»‪ ،‬كام كتبت الشاعرة الفنلندية «سايال‬ ‫سوسيلوتو» خمسة مقاطع شعرية بعنوان‪« :‬كارمن»‪.‬‬ ‫يف حني ُنرش يف هذا العدد من «أصدقاء الشعر» قصائد مرتجمة‬ ‫للشاعرة الرومانية د ُوينا لوانيد‪ ،‬بينام الكاتب واملرتجم السويدي‬ ‫«السيه سودرباري»‪ ،‬الذي هو أيضاً محرر يف مجلة أخرى مختصة‬ ‫فكتب مقاالً نقدياً بعنوان‪« :‬دمغة‪ ،‬أو بصمة‪ ،‬املاء»‪ ،‬كام‬ ‫بالشعر‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫زمن مايض»‬ ‫من‬ ‫ايض‬ ‫ر‬ ‫«أ‬ ‫بعنوان‪:‬‬ ‫قصيدة‬ ‫عىل‬ ‫ا‬ ‫أيض‬ ‫العدد‬ ‫احتوى‬ ‫ٍ‬ ‫للشاعر التشييك إمييل خوليس‪ ،‬وهو أيضاً فنان تشكييل‪ ،‬وكان آخر‬ ‫أعامله مجموعة شعرية حملت العنوان‪« :‬تحت الجلد»‪ .‬كام تضمن‬ ‫العدد مقاالً نقدياً الفتاً للكاتب والناقد األديب السويدي «مالتي‬ ‫بارشون» املقيم حالياً يف برلني بعنوان‪« :‬شاعر وشعر»‪ ،‬واختتم‬ ‫العدد مبقالة للناقدة السويدية‪« :‬آن لينغي براند» مبقالة اختارت‬ ‫فيها أن تكتب عن الشاعرة اإليرانية يال مساعيد بعنوان‪« :‬لينغي‬ ‫براند تقرأ»‪.‬‬ ‫يذكر أن مجلة «لرييك فينن» من أقدم املجالت الشعرية املتخصصة‬ ‫يف السويد‪ ،‬وتصدر منذ العام ‪ ،1954‬ويكتب فيها عدد من الشعراء‬ ‫السويديني والعامليني املرتجمة أعاملهم إىل السويدية‪ ،‬ومنذ العام‬ ‫‪ 2007‬اشرتت ملكيتها دار «إلشرتوم» للنرش والتوزيع‪ ،‬التي تعترب‬ ‫واحدة من أهم دور النرش يف السويد والدول االسكندنافية‬

‫مهند صالحات‬ ‫‪19‬‬


‫شعر وشعراء‬

‫حمدة خميس‬

‫العالم بوصفه استعارة‬

‫إذ‬

‫يتأمل املرء يف النتاج الشعري للشاعرة حمدة‬ ‫خميس‪ ،‬كماّ ونوعا‪ ،‬فإن ما قد يخلص إليه هو‬ ‫أنها من أغزر الشاعرات العربيات إنتاجاً ومن أكرثهن وفاء‬ ‫للقصيدة املوزونة‪ ،‬أو قصيدة التفعيلة‪ ،‬وأكرث مي ًال إىل جعل‬ ‫القافية حارضة دامئاً‪ ،‬كام أنها مل ّ‬ ‫تتخل عن صوتها ‪ -‬الفرد‬ ‫الذي يف قصيدتها‪ ،‬رغم أنها تنتمي إىل تلك السبعينيات من‬ ‫القرن املايض املحتدمة برصاع اإليديولوجيات‪ ،‬وذلك لجهة‬ ‫التحقيب لألجيال الشعرية عىل ما هو متعارف عليه عربياً‪.‬‬ ‫رمبا هذا ما أخذ «الخطاب» الشعري لدى حمدة خميس إىل‬ ‫أن يكون خطابا تأمليا يف الذات‪ ،‬أي أنها جعلت منها مطرحاً‬ ‫للتأمل يف أحوالها وتحوالتها املختلفة عىل صعيديْ الروح‬ ‫والجسد‪ ،‬مبا يعنيه ذلك من مراقبة فكرة الزمن‪ ،‬أو املايض‪،‬‬ ‫فتعيش تلك الذات إحساساً كام ًال سواء مبرور العمر عىل‬ ‫أشياء العامل وما يرتكه هذا املرور عليها من أثر بحيث أن‬ ‫«العني» الشعرية التي ترى الصورة وتعيد رسمها عىل الورق‬ ‫هي التي ترصد إحساس الذات بأشياء العامل هذه‪.‬‬ ‫يف ديوانها «و ْقع خفيف»‪ ،‬الصادر هذا العام أيضاً عن‬ ‫منشورات إتحاد كتّاب وأدباء اإلمارات‪ ،‬تقول الشاعرة‬ ‫حمدة خميس‪« :‬هناك‪ /‬خلف النافذة‪ /‬زيتونة‪َ /‬حن َْت عىل‬ ‫غصنها‪ /‬أسيانة مثيل‪ /‬أم أسلمت أمرها‪ /‬لنسمة الخريف»‪،‬‬ ‫هنا يقوم الخطاب الشعري‪ ،‬غالباً‪ ،‬عىل جدل بني الذات‬ ‫وإن بدا أ َّنه‪ ،‬أيْ الخطاب‪ّ ،‬‬ ‫وأشياء العامل‪ ،‬حتى ْ‬ ‫مبتل بالحزن‬ ‫الفردي الشفيف بسبب أن الشاعرة قد جعلت من الشجرة‬ ‫ذاتاً أخرى تحاو ُرها الشخصية الساردة املؤنثة يف القصيدة‬ ‫بوصفها ذاتاً مؤنثة أخرى ون ّداً قامئاً بح ّد ذاته ميكن ملس‬ ‫حركته ومشاعره االنسانية الخالصة كام تصوره الشاعرة‪،‬‬ ‫‪20‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫فالشجرة هنا تحنو عىل الغصن كام األم عىل وليدها مثلام‬ ‫أنها تشعر باليأس أيضاً‪ ،‬ذلك اإلحساس الذي ال يعرفه من‬ ‫بني الكائنات الحية والجامدة سوى اإلنسان‪.‬‬ ‫بالتأكيد‪ ،‬ال يقوم الخطاب الشعري كله يف «وقع خفيف»‬ ‫عىل أنسنة الكائنات الحية األخرى‪ ،‬لكنّ حمدة خميس‬ ‫تستخدم هذا الخطاب بوصفه اسرتاتيجية شعرية‪ ،‬بهدف‬ ‫خلق بنية نصية خاصة بالقصيدة تقوم بشكل أسايس‬ ‫عىل البساطة من جهة واالستعارة من جهة أخرى‪ ،‬حيث‬ ‫االستعارة‪ ،‬إذ تقوم عىل حذف أحد طرفيَْ التشبيه‪ ،‬هي‬ ‫هنا مرك ّبة من نوعني‪ :‬الترصيحية‪ ،‬أي حذف املش ّبه به‪ ،‬ما‬ ‫يعني أن الزيتونة هنا هي عبارة عن ذات الشاعرة يف هيئة‬ ‫زيتونة تشبه ذاتها‪ ،‬أي ذات الشاعرة‪ ،‬ومتثيلية‪ ،‬أي إخراج‬ ‫الشجرة من طبيعتها التي هي عليها فتصبح كأنها اإلنسان‬ ‫يف أحاسيسه ومشاعره‪.‬‬ ‫وال يتوقف األمر عند الكائنات الح ّية وحدها بل تقوم‬ ‫حمدة خميس بإعادة صياغة املشاعر اإلنسانية بوصفها‬ ‫كائنات من ذلك النوع الذي يجدر بالرتويض‪ ،‬تقول يف‬ ‫قصيدتها «ذهول» من الديوان نفسه‪« :‬أمس مر ْر َت‪ُ /‬‬ ‫كنت‬ ‫أدجن الوحش َة‪ /‬وأنصت‪ /‬لخفق ظ ّل َك‪ /‬يف الشعاع»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يشعر املرء هنا أن الوحشة مل تعد إحساساً خاصاً فردياً‬ ‫باملطلق يخص املرء وحده وال يخص الباقني رغم أن من‬ ‫املمكن لهؤالء أن يشعروا بهذه الوحشة التي يعجز املرء عن‬ ‫توصيفها أحياناً‪ ،‬لكنها هنا يف مخيلة الشعر وخطابه أشبه‬ ‫بثور هائج ينبغي تدجينه والسيطرة عىل حركته وإعادته‬ ‫إىل الجهة التي أىت منها‪ ،‬ثم تربط الشاعرة مبارشة بني هذه‬ ‫للظل الذي يخص شخصاً‬ ‫الصورة وصورة «اإلنصات» ليس ّ‬


‫الكتاب‪ :‬طوق الغواية‬ ‫الشاعرة‪ :‬حمدة خميس (اإلمارات)‬ ‫النارش‪ :‬بيت الشعر ‪ -‬أبو ظبي‬ ‫«‪»2012‬‬ ‫عدد الصفحات‪ 154 :‬من القطع‬ ‫املتوسط‬

‫محبوباً ومرغوباً فيه اآلن وهنا بل لخفق هذا ّ‬ ‫الظل أيضاً‪.‬‬ ‫هذه الصورة وإن بدت مر ّكبة أو أكرث تعقيداً مام هي عليه‬ ‫يف القصيدة التي سبق الحديث عنها إال أنها تقوم عىل‬ ‫االسرتاتيجيا نفسها ذلك أن الصورة هنا حاجتها إىل التأويل‬ ‫التخيييل‪ ،‬أي أن يتخيلها املرء يف لحظة القراءة عىل نحو ما‬ ‫تصنعها الشاعرة أكرث من حاجتها إىل التأويل املنطقي الذي‬ ‫يفسرّ ويح ّلل وفقاً لقواعد منطقية قد متارس فعل القتل‬ ‫بحق صورة شعرية كهذه‪ .‬هكذا يبدو العامل كله مستعاراً‪ ،‬يف‬ ‫«وقع خفيف» وليس قامئاً سوى يف مخيلتي الكتابة والتلقي‪.‬‬ ‫أما يف «طوق الغواية» فاألمر مختلف متاماً‪ ،‬وكأن حمدة‬ ‫خميس تقطع فيه بالكامل مع «وقع خفيف» لتجعل من‬ ‫الذات استعارة لكائن برشي يعيش عزلته الخاصة‪ ،‬فالديوان‬ ‫يقوم عىل التأمل يف الذات من دون حاجة الشعر للمرور‬ ‫باالستعارة أو الكناية ليصري القول قوالً شعرياً‪.‬‬ ‫لجهة التوصيف‪ ،‬فالكتاب عبارة عن تأمل يف تجربتي العيش‬ ‫والكتابة‪ .‬ففي حني تتعانق التجربتان يف القصيدة الواحدة‬ ‫إال أنهام تفرتقان يف قصائد أخرى‪ .‬ما يعني أن التجربة‬ ‫املخيضة هي التي تصنع القصيدة ومن مختربها تخرج‬ ‫الصور يف هيئة تأمالت قد تثري الرغبة يف التأويل أحياناً لكنها‬ ‫تبتعد عن ذلك يف أحيان أخرى‪ ،‬لنتأمل هذه االقتطاعة من‬ ‫قصيدة «قرشة من يباس»‪« :‬آه من لغة‪ /‬تستكني ملعجمها‪/‬‬ ‫تبل الرتاب‪ /‬لغة‪ /‬ال جناح لها‪ /‬يك ّ‬ ‫مل تبلغ النهر‪ /‬ومل َّ‬ ‫ترف‬ ‫قلي ًال خارج الرسب‪ /‬أو تناجي السحاب‪ /‬لغة‪ /‬بعضها‪ /‬من‬ ‫هشيم األمم‪ /‬وبعض قوافيها من ضباب‪ /‬وبعض‪ /‬الذي‬ ‫بعضها‪ /‬قرشة من يباس»‪ُ .‬ترى عن أي «لغة» تتحدث‬ ‫الشاعرة هنا؟ عن لغتها هي يف الشعر والكتابة؟ أم عن‬

‫لغة أخرى هي ليست لغة بل جعلتها الشاعرة مجازاً ليشء‬ ‫آخر رمبا يكون أمة بأرسها‪ ،‬ودون إفراط يف التأويل‪ ،‬ورمبا ال‬ ‫تكون كذلك بل هي لغة رمبا جعلت الشاعرة تشعر أنها قد‬ ‫ج ّففت ينبوع شعرها‪.‬‬ ‫غري أن قصيدة «حكمة الجنون» هي بحق الفتة يف «طوق‬ ‫الغواية» الذي استعار اسمه من عنوان قصيدة أخرى ض ّمها‬ ‫الديوان‪« .‬حكمة الجنون» أشبه برشيط سيناميئ مكثف‬ ‫يختزل عالقة إنسانية مضاءة بجنونها الخاص؛ أي الجنون‬ ‫يخص تلك الذات الساردة يف القصيدة التي تتوجه‬ ‫الذي ّ‬ ‫بخطاب مؤنث باتجاه رجل‪ ،‬وهو خطاب بالفعل مؤنث‬ ‫لفرط ما هو رصيح وإنساين وراقٍ أيضاً‪ /...« :‬والجنون‪/‬‬ ‫جناح يشقّ الفضاء‪ /‬كام الربق شقّ ‪ /‬سكون السحاب‪ /‬ليهطل‬ ‫ٌ‬ ‫لك‪ /‬والجنون‪ /‬عصا املاء‪ /‬تشقّ عناد الجبال‪ /‬لينساب يف‬ ‫خفي‪ /‬ألقرأ يف‬ ‫فتنة الورد‪ /‬فيورق لك‪ /‬بعض هذا الجنون‪ّ /‬‬ ‫رس َمنْ أبدعك»‪.‬‬ ‫الرس‪َّ /‬‬ ‫ّ‬ ‫ال قلق من أي نوع يف قصائد أخرى لدى حمدة خميس يف‬ ‫الحب أيضاً‪ ،‬لكن هناك الحزن الشفيف‬ ‫«طوق الغواية» عن ّ‬ ‫الذي يخالط التأمل بحيث تبدو لوهلة أوىل بأنها تذ ِّكر‬ ‫ببعض قصائد «وقع خفيف»‪ ،‬إذ َّأن فكرة الزمن حارضة‬ ‫بإلحاح أحياناً كام يف قصيدة «كأنني والكون مفردة» وكذلك‬ ‫«أنثى السالالت» إمنا يحرض يف القصيدة ليس بوصفه‬ ‫فكرتها املركزية بل هي فكرة الزمن واحدة عنارص أخرى‬ ‫تتكئ عليها الشاعرة لتؤثث بها قصيدة ثم لتشيع يف أركان‬ ‫القصيدة حزنها الخاص‬

‫جهاد هديب‬ ‫‪21‬‬


‫شعر وشعراء‬

‫عن الحنين‬ ‫وأشياء أخرى كالماضي‬ ‫الكتاب‪ :‬عصيان الكالم وأشياء أخرى‬ ‫الشاعر‪ :‬جمعة عبد العليم (ليبيا)‬ ‫النارش‪ :‬منشورات مجلس الثقافة العام‬ ‫عدد الصفحات‪92 :‬‬

‫ميارس‬

‫جمعة عبد العليم يف هذا الديوان جنون‬ ‫الشاعر الذي يسعى مل ّد الجسور بني املوت‬ ‫والحياة؛ بني الوجود والعدم‪ ،‬يك يص ّور حالة اإلنسان وهو‬ ‫فتتضح تلك الذات بكل تجلياتها ح ّد البكاء‬ ‫يعانق اليومي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والضحك‪ ،‬والقلق‪ ،‬والرتدد والخوف‪« :‬حني تطبق كامشة‬ ‫الوحدة‪ /‬عىل دفء الرسير البارد‪ /‬أفتح نافذة الحنني‪/‬‬ ‫لفنجانك املمزوج‪ /‬بسحر حكاياك‪ /‬املعتق بهجرك الطويل‪/‬‬ ‫فأدخل باحة‪ /‬الرقص وأمتثلك متثاالً من الشمع‪ُ /‬يلتهم بنار‬ ‫ميتة‪ /‬ترسقني إليك»‪.‬‬ ‫ويف األصل‪ ،‬فإننا يف الكتابة نبحث عن بديل للواقع ا ُملعاش‬ ‫واليومي بتفاصيله املتنوعة ليكون بوسعنا تشكيل حياة‬ ‫أخرى وفقاً لجغرافيا جديدة‪ ،‬إن مل تكن بديلة أو متخ َّيلة‪،‬‬ ‫وأفكار وقيم جديدة‪ ،‬ومن وجهة النظر هذه‪ ،‬فإن نصوص‬ ‫الديوان مت ِّثل وقفة تأملية تجاه الحنني‪ ،‬والوحدة‪ ،‬والبوح‪،‬‬ ‫والشعر الذي يتمرد عىل الشاعر‪ ،‬والعمر الذي ال يريد‬ ‫عقد املصالحة‪ ،‬وخطى األيام البعيدة‪ّ ،‬‬ ‫وكل األصدقاء‬ ‫الذين مروا من هنا‪« :‬األصدقاء‪ /.‬القمر الذي ينأ مبتعداً‪/‬‬ ‫الكلامت التي تلتهمها الريح‪ /‬الحجرات املقفلة‪ /‬عىل مفازة‬ ‫التأويل‪ /‬الشوارع املهندمة‪ /‬بأعواد الكهرباء‪ /‬املدينة املزدانة‬ ‫بأكاذيبها‪ /‬وأعود‪ /...‬أتدلىَّ من جديد‪ /‬عىل حبال القصائد‪/‬‬ ‫أصادر الشمس‪ /‬لظالل صادقة»‪.‬‬ ‫يف واحدة من عباراته ذائعة الصيت‪ ،‬يقول الكاتب اإليطايل‬ ‫امربتو إيكو‪« :‬ال أؤمن بوجود يشء اسمه السعادة‪ ،‬أقول‬ ‫لكم الحقيقة‪ .‬أومن فقط بالقلق‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬ال أحس‬ ‫أبداً بسعادة كاملة‪ ،‬أنا دوماً يف حاجة إىل يشء آخر‪ .‬ثم إن‬ ‫السعادة الحقيقية هي أن تذهب إىل الصيد ال أن تقتل‬ ‫الطائر»‪.‬‬ ‫بهذا املعنى‪ ،‬فالشاعر جمعة عبد العليم يف «عصيان الكالم‬ ‫‪22‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫وأشياء أخرى» يؤمن بوجود كتابة مغايرة تسهم يف بلورة‬ ‫نص أكرث خصوصية لرسد دراما الحياة واملوت والعشق‬ ‫والطفولة‪ ،‬وكذلك إليجاد نوع من «الهدنة» بني «الذات»‬ ‫والشخص‪« :‬ال يشء‪ /...‬سوى أنني أشطب بالنوم‪ /‬حزن‬ ‫املساءات الرتيبة‪ /‬ثم أكتشف أن الكوابيس‪ /‬أكرث صحواً‪/‬‬ ‫فأقوم مغمض الخطى‪ /‬صوب أفق ميتص ما تبقى‪ /‬من‬ ‫شيخوخة النهار‪ /‬ال يشء‪ /...‬سوى أنني أحياناً‪ /‬أتجرع‬ ‫العبث»‪.‬‬ ‫تتحرك ذاكرة الشاعر‪ ،‬باتجاه املايض رمبا‪ ،‬لكنه هنا يتحدث‬ ‫عن صوره القدمية‪ ،‬وقد متنى أن تنطلق أمنياته نحو أفق‬ ‫أكرث رحابة‪« :‬مل يزل الليل مفتوحاً‪ /‬لكل االحتامالت‪ /‬وأنا‬ ‫متعب كحافلة عتيقة‪ /‬متعب رمبا أكرث‪ /‬من هؤالء الجنود‬ ‫املنهكني‪ /‬بعبء بنادقهم»‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫«عصيان الكالم وأشياء أخرى» يرصخ‬ ‫النص الشعري يف‬ ‫بـ «عايل الصوت» يك يقول لقارئه فيثبت له أن بوسعه‬ ‫أن مينحنا حالة هدوء‪ ،‬رشط أن نتأمله بقليل من الرأفة‬ ‫والكثري من الحب‪« :‬وأنا وحدي‪ /‬عىل قارعة السهر‪ /‬أتوسد‬ ‫أرقي‪ /‬محملقاً يف الاليشء‪ /‬أستدعي أزمنة ميتة‪ /‬وأذهل عن‬ ‫حارضي‪ /‬تلوكني ألسنة الذكريات‪ /‬ويصحو بأعامقي‪ /‬جرح‬ ‫قديم ملوث بالخيانة»‪.‬‬ ‫أحيانا نفتش يف تواريخنا عن أمكنة ألفناها لقراءةأعامرنا‬ ‫واملرور بتفاصيلها هناك‪ ،‬حيث ميكن لنا أن نتأمل الجامل‬ ‫هجرنا يف خضم قسوة الحياة والبحث عن لقمة‬ ‫الذي َ‬ ‫العيش‪« :‬العمر الذي‪ /...‬تلتهمه الساعة‪ /‬هل يكون كافيا‪ً/‬‬ ‫النتظار قصيدة‪ /...‬الكالم الذي يتساقط‪ /‬يف مفازة التأويل‪/‬‬ ‫هل يصل حد الدهشة‪ /‬هكذا هو‪ /...‬يتسول حرفاً ييضء‪/‬‬ ‫هذا الفضاء املعتم»‬

‫خلود الفالح‬


‫نزع حجة الغياب‬ ‫الكتاب‪ :‬ظل الوردة‬ ‫الشاعر‪ :‬حسن عبدالله «لبنان»‬ ‫النارش‪ :‬دار الساقي – بريوت ‪2012‬‬ ‫عدد الصفحات‪ 120 :‬من القطع املتوسط‬

‫هكذا‬

‫هو الشاعر حسن عبدالله غالبا ما ُيشعر‬ ‫قراؤه بأنه إستنكف عن كتابة الشعر نحو‬ ‫أنواع أخرى من الكتابة وعىل رأسها قصص األطفال‪ ،‬الكتابة‬ ‫التي إتقنها وإمتهنها يف النهاية‪ ،‬وحصل عنها عىل جائزة‬ ‫األدب من «مؤسسة الفكر العريب» يف العام املايض‪ .‬لكن‬ ‫غيابه املديد مل ينته مرة إىل استنكاف عن الكتابة الشعرية‬ ‫أو عن النرش‪ ،‬فبعد عرشين عاما عىل صدور قصيدة‬ ‫«الدردارة» الشهرية‪ ،‬قام بإصدار مجموعته «راعي الضباب»‬ ‫يف العام ‪ ،1999‬ثم اآلن بعد ‪ 13‬عاما‪ ،‬هو يصدر مجوعته‬ ‫الجديدة ّ‬ ‫«ظل الوردة» التي فاجأ بها الوسط الشعري يف‬ ‫بريوت واملتابعني والنقاد‪.‬‬ ‫وعن هذا األمر‪ ،‬أي عن غيابه الطويل وعودته كتب يف‬ ‫القصيدة الرقم ‪ 12‬من فصل «مرسح األشباح»‪« :‬ليس‬ ‫صحيحاً أنني توقفت لسنوات عن كتابة الشعر‪ /‬لقد م ّرت‬ ‫أيام مل أكتب فيها شعراً‪ /‬ثم م ّرت أيام أخرى‪ /‬وتبعت‬ ‫هذه األيام أيام وأ ّيام‪ /‬وإذا كانت هذه األيام قد تجم ّعت‪،‬‬ ‫وتح ّولت إىل سنوات‪ /‬فهذا ال يعني أنني توقفت لسنوات‬ ‫عن كتابة الشعر‪ /‬ال يمُ كن لشاعر طبيعي أن يفعل ذلك‪/‬‬ ‫لكن‪ ،‬يف هذه األمكنة‪ ،‬وبني هؤالء الناس‪ /‬كيف يمُ كن لشاعر‬ ‫طبيعي أن يكون شاعراً طبيعياً؟»‪.‬‬ ‫الرسالة هنا ال تكتفي بتفتيت الوقت لنزع حجة الغياب‬ ‫التي يطالب بها الذين تتوجه إليهم القصيدة‪ ،‬بل هي رسالة‬ ‫موجهة اىل هؤالء أنفسهم وبقسوة وعنف وبال رحمة‪ ،‬ألن‬ ‫بني هؤالء الناس ويف هذه األمكنة ال ميكن للشاعر أن يكون‬ ‫شاعرا طبيعيا‪ .‬إنهم سبب إستنكافه‪ ،‬وسبب تركه األيام‬ ‫تتواىل يوما بعد يوم لترتاكم عىل شاكلة سنوات‪.‬‬ ‫‪ 13‬عاما من غياب حسن عبدالله عن النرش الشعري هي‬ ‫مبثابة زمن كاف لربوز شعراء جدد شباب وغري شباب‪،‬‬

‫وتبدّل يف الهوى الشعري ويف لغته ويف مقاصده‪ ،‬ويف مقولة‬ ‫القصيدة وتوجهها‪ ،‬إنها عقد وزيادة من السنوات‪ ،‬تبدّل حال‬ ‫الشعر خاللها يف بريوت ويف سائر العامل العريب كثريا‪ ،‬وحسن‬ ‫عبدالله مل يكن غافال عن هذا األمر‪ .‬مل يبد يف مجموعته‬ ‫الجديدة وكأنه قادم من زمنه القديم أو من قصيدته األخرية‪،‬‬ ‫بل هو يلتقط نبض القصيدة الحديثة التي تكتب اليوم‪،‬‬ ‫ويف صوت قصيدة ّ‬ ‫«ظل الوردة» نبض شاب واضح‪« :‬هناك‬ ‫يشء تمُ سك به الحياة‪ /‬و ُتخفيه وراء ظهرها‪ /‬ولن أتوقف عن‬ ‫الكتابة‪ /‬حتى أعرف‪ :‬ما هو!»‪ ...‬هذه هي افتتاحية املجموعة‬ ‫الشعرية‪.‬‬ ‫برغم أن حسن عبدالله برز ضمن ما عرف بـ «شعراء‬ ‫الجنوب» الظاهرة التي عُ رفت يف السبعينات‪ ،‬واطلقت‬ ‫عددا من الشعراء يف اطار واحد‪ ،‬اال أن ما ميز عبدالله عن‬ ‫أقرانه هو كونه أشد التصاقا باألرض وحياة الطفولة يف بلدته‬ ‫الجنوبية‪ :‬الخيام‪ ،‬فشعر عبدالله مصنوع من طفولته بال شك‪.‬‬ ‫لكن يف «ظل الورد» ميكننا أن نعلن إنفراط عقد جامعة‬ ‫«شعراء الجنوب» أو لنقل أنسحاب عبدالله من الجامعة‪ ،‬إذ‬ ‫بات شعره أكرث مدينية‪ ،‬ولو من نظرة سلبية اىل املدينة‪ ،‬وأكرث‬ ‫تفاعال مع جمهور الناس «اآلخر» ومع الذات الجوانية القلقة‪،‬‬ ‫والتي تنسج قلقها من نفس املناخ املديني‪« :‬ال وضع ُمسيئاً‬ ‫للناس‪ /‬مثل وضعهم عندما يكونون ما ّرة عىل أرصفة املدن‪/‬‬ ‫فهم آنذاك ليسوا سوى أحجام‪ /‬نعمل عىل أال نصطدم بها»‪.‬‬ ‫(من فصل الطيار اآليل)‪.‬‬ ‫أو يف «املوت يروح ويجيء من حولنا‪ /‬بأقدام حافية ليك‬ ‫ال ُيحدث الجلبة‪ /‬التي توقظنا من حلم الحياة» قصيدة من‬ ‫فصل «حلم الحياة»‪ .‬يف املجموعة قصائد للمرأة والحب‪،‬‬ ‫وقصائد للحياة وعن الحياة‬

‫فيديل سبيتي‬ ‫‪23‬‬


‫شعر وشعراء‬

‫مساءلة الفعل الشعري‬ ‫الكتاب‪ :‬قد يكون الحرب ظ ًال‬ ‫الشاعر‪ :‬فيليب جاكوتيه «فرنسا‪ ،‬سويرسا»‬ ‫النارش‪ :‬دار غاليامر ‪2012‬‬

‫يبدو‬

‫ّأن العام ‪ 2012/2011‬هو عام الشاعر الكبري‬ ‫فيليب جاكوتيه يف فرنسا‪ ،‬فإىل جانب البعد‬ ‫الرمزي الذي ينطوي عليه إقرار ديوانه «يف ضوء الشتاء»‬ ‫ضمن الربنامج الدرايس لشهادة الثانوية العامة‪( ،‬كانت‬ ‫ترجمته لألوديسة قد اختريت لالمتحان ذاته عام ‪،)2010‬‬ ‫تستعد‪ ،‬يف هذه األثناء‪ ،‬دار النرش الباريسية ذائعة الصيت‬ ‫«غاليامر» إلصدار أعامله الكاملة ضمن سلسلتها املرموقة‬ ‫«البلياد»؛ ليكون بذلك أحد املبدعني القالئل الذين شهدوا‪،‬‬ ‫يف حياتهم‪ ،‬تكريس منجزهم وانضاممهم إىل مكتبة الخالدين‬ ‫إىل جانب بروست وبورخيس وشار وإيلوار وكونراد ومالرو‬ ‫وبريس وغريهم من كبار األدباء العامليينّ ‪.‬‬ ‫قبل هذا التتويج ملسرية الشاعر السويرسي الذي ُيعدّ‪ ،‬مع‬ ‫معارصه ايف بونفوا‪ ،‬أكرب شعراء الفرنسية األحياء‪ ،‬صدرت‬ ‫له عن الدار ذاتها قبل بضعة أشهر وضمن سلسة «شعر»‬ ‫مختارات شخص ّية بعتوان «قد يكون الحرب ظلاّ ً» ض ّمت‬ ‫قصائد ونصوصاً نرث ًية إضافة إىل مقتطفات من ك ّراسات‬ ‫يوم ّياته‪ .‬تستعيد هذه املختارات منجز جاكوتيه الشعري‬ ‫املمتد ملا يقرب من ‪ 60‬عاماً عرب نصوص تنتمي ألشكال‬ ‫شعرية مختلفة؛ حيث األوزان الكالسيكية يف شعر البدايات‪،‬‬ ‫ثم الشعر الحر‪ ،‬وأخرياً قصيدة النرث التي تذهب لديه‬ ‫من أقىص اإليجاز‪ ،‬كام هي الحال يف قصيدةالهايكو إىل‬ ‫أقىص‪ ‬االمتداد‪ ‬الذي يقتضيه أحياناً‪ ‬القول الرتاجيدي‪ .‬وأ ّياً‬ ‫يكن الشكل الذي يختاره الشاعر لتسجيل خواطره وأفكاره‬ ‫أثناء‪ ‬نزهة‪ ‬يف الطبيعة أو سفر بعيد‪ ،‬أو ليصوغ انفعاالته‬ ‫الخاطفة وتأمالته العميقة‪ ،‬فإ ّننا نجد لدى جاكوتيه دامئاً‬ ‫الهاجس ذاته‪ :‬التقاط ما هو جوهري يف هذا العامل‪ ،‬بني‬ ‫«فظاعة املوت ومداعبات املر ّيئ»‪.‬‬ ‫‪24‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫تتجلىّ عرب نصوص الكتاب املالمح الجوهرية لتجربة جاكوتيه‬ ‫اإلبداعية‪ :‬سعيه الدؤوب نحو شفافية القول الشعريّ ‪،‬‬ ‫وتش ّككه إزاء الصورة الشعرية والزخرفة البالغية‪ ،‬ورفضه‬ ‫أن تغدو اللغة حجاباً للعامل‪« :‬كنت وددت لو تكلمت‪ ‬بال‬ ‫مجاز‪ ،‬أن أدفع الباب فحسب‪ ...‬فنحن ال نعيش طوي ًال‬ ‫كالطيور يف وضوح السامء‪ .‬وما إن نسقط أرضاً حتى ال نعود‬ ‫نرى فيها سوى صور أو أحالم»‪.‬‬ ‫إن وفاءه عميق للمر ّيئ واملحسوس‪ ،‬حيث يتعزّز حضور‬ ‫الجبال واألنهار ّ‬ ‫والضوء واألزهار‪ ،‬وحيث عنارصه قد اكتسبت‬ ‫ُبعداً ميتافيزيقياً بغياب العنارص البيوغرافية التي تحيل إىل‬ ‫الشاعر الحريص عىل نربة الصوت الخفيضة وانسحاب الذات‬ ‫يحجب‬ ‫يمح الفجر حكايتي ّ‬ ‫الخاصة و ْل ُ‬ ‫إىل ح ّد اإلمنحاء‪« :‬ف ْل ُ‬ ‫معنى‪،‬‬ ‫بناره اسمي»‪ ،‬وأخرياً‪ ،‬مساءلة الفعل الشعري نفسه‪ً ،‬‬ ‫«سهل هو الكالم‪ ،‬وأن ّ‬ ‫ٌ‬ ‫تخط كلامت عىل‬ ‫وخياراً وجدوى‪:‬‬ ‫الورقة‪ ،‬عموماً‪ ،‬ليس باملجازفة الكربى‪ /‬إ ّنه صنع دانتيال‪،‬‬ ‫فكل الكلامت تكتب بالحرب‪ ‬ذاته‪/...‬وعبثا‪ً ‬‬ ‫محصن‪ ،‬آ ِمن‪ّ /...‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْإن أنا ك ّررت كلمة‪« :‬دم»‪ ،‬من أعىل الصفحة إىل أسفلها‪ /،‬ال‬ ‫أنا سأنزف وال الورقة ّ‬ ‫سيلطخها الدم»‪.‬‬ ‫أنجز جاكوتيه‪ ،‬باإلضافة إىل ما يزيد عن ثالثني كتاباً يف الشعر‬ ‫والنقد‪ ،‬عدداً كبرياً من الرتجامت املهمة‪:‬غوته‪ ،‬وهولدرلن‪،‬‬ ‫واونغاريتي‪ ،‬وريلكه‪ ،‬وموزيل‪ ،‬وتوماس مان‪ ،‬وليوباردي‪،‬‬ ‫وأوديسة هومريوس‪ .‬من أعامله الشعربة نذكر‪« :‬النزهة‬ ‫تحت األشجار» ‪ ،1957‬و«عنارص حلم»‪ ،1961‬و«يف ضوء‬ ‫الشتاء» ‪ ،1977‬و«أفكار تحت الغيم» ‪ ،1986‬و«دفاتر‬ ‫الخرضة» ‪2003‬‬

‫وليد السويريك‬


‫نصوص‬

‫حمدة خميس‬ ‫محمد الغزّي‬ ‫محمد عبداهلل البريكي‬ ‫حسام الدين محمد‬ ‫زينب الربيعي‬ ‫عياش يحياوي‬ ‫مريم شريف‬ ‫عبد الغني فوزي‬ ‫محمد الفي‬ ‫أحمد العرّامي‬ ‫علي الزهيري‬ ‫ياسر األطرش‬ ‫حبيب الزيودي‬ ‫‪25‬‬


‫نصوص‬

‫حمدة خميس‬ ‫طوق الغواية‬

‫جئنا سواسي ًة‬ ‫حاملني مشاعلنا‬ ‫ورغيف املسا ْء‬ ‫عىل خطونا‬ ‫غبار الطرائد‬ ‫ويف فمنا‬ ‫حقل ما ْء‬ ‫أكنا شظايا فج ّمعنا الظل‬ ‫وكنا رهاف الطبائع‬ ‫فحجرنا االشتها ْء‬ ‫ّ‬ ‫لندنوا كثريا إذن‬ ‫ونرخي للقلب‬ ‫طوق الغواي ِة‬ ‫حتى الندى‬ ‫ورنني البهاء‪.‬‬

‫أنثى السالالت‬

‫سأكتبك اآلن‬ ‫ِ‬ ‫قالت‬ ‫عىل فض ٍة من ضياء العصور‬ ‫ُ‬ ‫قلت‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫لست التي‬ ‫تكور صلصالها‬ ‫ورد ًة‬ ‫وتذ ّر األلق‬ ‫قالت‪:‬‬ ‫بىل‬ ‫أنت أنثى السالالت‬ ‫وبطنك‬ ‫ِ‬ ‫بذر الخالئق‬ ‫‪26‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫حني ارتجاج العويل‬ ‫وطبعك‬ ‫ِ‬ ‫ر ّقة الكائنات‬ ‫وسناك‬ ‫ِ‬ ‫اكتامل ُ‬ ‫الخلق‬ ‫ُ‬ ‫قلت‪:‬‬ ‫أثقلتني‬ ‫فامذا عىل الرافلني‬ ‫بهيبتهم‬ ‫وماذا لهم‬ ‫قالت ‪:‬‬ ‫لهم صولة املهرجان‬ ‫ولهم غفلة الخاشعني‬ ‫حني تضل البصرية‬ ‫قلت لكنني‬ ‫ورست ٌ‬ ‫نجمة من مرشق الكون‬ ‫حتى مغيب الشفق‬ ‫سحب‬ ‫ودنت ٌ‬ ‫وتراءى الشعاعُ‬ ‫شفيفا أليفا‬ ‫وأضاء األفق‬

‫قرشة من يباس‬

‫آه من لغة‬ ‫تستكني ملعجمها‬ ‫مل تبلغ النهر‬ ‫ومل تبل الرتاب‬ ‫لغة ال جناح لها‬ ‫يك ترف قليال‬ ‫خارج الرسب‬ ‫أو تناجي السحاب‬ ‫لغة بعضها من هشيم األمم‬ ‫وبعض قوافيها من ضباب‬ ‫وبعض الذي‬

‫بعضها‬ ‫قرشة من يباس‬ ‫تطوحها الريح حينا‬ ‫وحينا‬ ‫تلف بالغتها‬ ‫مثل حبل‬ ‫يحيط الرقاب‬ ‫لغة أثوابها رقع‬ ‫رقع‬ ‫قد تبدل ألوانها‬ ‫بني حني وحني‬ ‫ولكنها‬ ‫كام األفعوان‬ ‫تقطر نابا وناب‬


‫محمد الغزّي‬ ‫البيت‬

‫أَد ُْخ ُل َ‬ ‫البيت ‪:‬‬ ‫ّمثة خيط من ّ‬ ‫نرسب‬ ‫الضو ِء ُم ٌ‬ ‫وروائح َ‬ ‫غامض ٌة‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫هل ّ‬ ‫باب غرف ِتها ؟‬ ‫أدق عىل ِ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫هل أتق ّد ُم منها وأوقظها ؟‬ ‫ّ‬ ‫وتطل ْع ُت ‪:‬هذا الرسي ُر ‪،‬كام َ‬ ‫كان‪،‬‬ ‫أخْضرَ ُ ‪...‬‬ ‫واملا ُء أخْضرَ ُ‬ ‫والعشب ‪ ،‬منعقدًا يف النواف ِذ ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ْأخ ُ‬ ‫رض‬ ‫ُ‬ ‫مالبسها‪...‬ومشابك ّ‬ ‫فض ِتها‪..‬‬ ‫تلك ُ‬ ‫ ْ‬‫هل أتق ّد ُم ؟‬ ‫صاح يب ُ‬ ‫األهل‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫أعتم ُ‬ ‫ كال ‪...‬فق ْد ْ‬‫الليل‬ ‫آثرت بعدما َ‬ ‫الباب منْ خ ْلفها ‪...‬وتنا ْم‪.‬‬ ‫ْأن تغلقَ َ‬

‫الرحيل‬

‫ها هُ َو ميْض‬ ‫َث َّم ص ْو ٌت ٌ‬ ‫مع ُه منْ دو ِننَا‬ ‫يس ُ‬ ‫غامض ْ‬ ‫يشم ُه‬ ‫ّمث َة ِعط ٌر ُم ْب ٌ‬ ‫هم ُّ‬ ‫ّمث َة ض ْو ٌء آخ ٌر يرا ْه‬ ‫هاهُ َو ميْضيِ‬ ‫ُ‬ ‫نحن ال ن ْعرفها‬ ‫يف‬ ‫طريق ْ‬ ‫ٍ‬ ‫رصها‪..‬‬ ‫ويهتدي بضو ِء نا ٍر نحن ال ن ْب ُ‬ ‫فثم َص ْو ٌت ٌ‬ ‫غامض كان ُينادي ِه وال‬ ‫َّ‬ ‫مع ُه‬ ‫نس ُ‬ ‫ْ‬ ‫نشم ُه‬ ‫ّمثة عط ٌر ْ‬ ‫نحنُ ال ُّ‬ ‫ّمثة ضو ٌء َ‬ ‫خلف هذا الليلِ ال نراه ْ‪.‬‬

‫إىل وديع سعادة‬

‫«وديع « ُّ‬ ‫كل هذه‬ ‫ملاذا تنهم ُر يا‬ ‫ُ‬ ‫األمطا ِر عىل املدين ِة ؟‬ ‫أليس ْ‬ ‫العش ُب أ ْوىل بها من‬ ‫اإلسفلت؟‬ ‫واألشجا ُر من املنازلِ ؟ ‬ ‫اريب؟‬ ‫والطيو ُر من املز ِ‬ ‫الطرقات؟‬ ‫واألنها ُر منَ‬ ‫ِ‬ ‫والظال ُم منْ أعمدة ِ الضو ِء ؟‬ ‫ُ‬ ‫والجبال من مقاع ِد الحديق ِة ؟‬ ‫عسس الليلِ ؟‬ ‫والرعا ُة من ِ‬ ‫والجنادب من األرصف ِة ؟‬ ‫ُ‬ ‫هششنا يا وديع ُعىل ّ‬ ‫ماذا ل ْو ْ‬ ‫كل‬ ‫هذه الغيوم‬ ‫وتع ّقبناها غيمة‪...‬فغيمة‬ ‫حتّى خارج املدين ِة ؟‬ ‫ ‬

‫ّ‬ ‫سيظل‬

‫ّ‬ ‫سيظل ينو ُء ِبها‬ ‫الشمس‬ ‫م ْهام سفع ْت ُه‬ ‫ُ‬ ‫صقيع الليل‬ ‫وج ّمد ك ّف ْي ِه‬ ‫ُ‬ ‫سيبقى ‪َ ،‬‬ ‫الناس ‪ ،‬ينوء ُبها‬ ‫دون ِ‬ ‫َ‬ ‫ق ْد يتعثرّ ُ ‪َ ،‬‬ ‫قال ‪،‬‬ ‫وق ْد ْ‬ ‫تخذل ُه قدما ُه‬ ‫لكنْ لنْ يرت َكها‬ ‫لنْ ُيلق َيها عنْ كتف ْي ِه‬ ‫الطرقات الفظ ِة‬ ‫سي ْب َقى يف تلك‬ ‫ِ‬ ‫َي ْحم ُلها‬ ‫وهو يمُ نِّي ال ّن ْف َس َّ‬ ‫بأن الل ْي َل َتول‬

‫بح يكادْ ‬ ‫ّ‬ ‫والص َ‬

‫روما‬

‫‪.‬‬

‫ال ب ّد ل ُرو َما من ُش ّذا ٍذ َ‬ ‫وصعاليك َ‬ ‫وأ ّفاق ْني‬ ‫ال ب ّد لها من ك ّذاب َ‬ ‫ني وأ ّفاك ْني‬ ‫ال ب ّد لها من غربا ْء‬ ‫وأر ّقا َء وع ّيارينْ‬ ‫ال ب ّد لها من سفها ْء‬ ‫ودهاقنة مأجورينْ‬ ‫ال ب ّد لها من نسوة ليلٍ‬ ‫ولصوص وسامرس ٍة و ُمراب ْني‬ ‫ٍ‬ ‫ال ب ّد لروما منْ هذي غوغا ْء‬ ‫َ‬ ‫ليخاف أهاليها‬ ‫ويلو ُذوا‬ ‫بالقيرص مرتعدينْ‬ ‫ِ‬ ‫كالصبي ِة حني ي ُل َ‬ ‫وذون بأحضان‬ ‫ّ‬ ‫اآلباء‬

‫الفجر‬

‫الفج َر ْمييض ‬ ‫ال تدعْ هذا ْ‬ ‫تش ّب ْث به‬ ‫أص َ‬ ‫ابعك يف غيو ِم ِه‬ ‫أغر ْز َ‬ ‫ْ‬ ‫أمسك بضو ِئ ِه‬ ‫ش ّدهُ َ‬ ‫إليك‬ ‫األرض بعده ُ‬ ‫فهذه ُ‬ ‫محض صحرا َء‬ ‫موحش ٍة‬ ‫ُ‬ ‫محض ليلٍ بال نجوم‬

‫‪27‬‬


‫نصوص‬

‫محمد عبداهلل‬ ‫البريكي‬ ‫جدّيت وعصاي‬

‫وقدمت ُ إىل قريتي‪..‬‬ ‫ْ‬ ‫سألت جديت عن عصايَ‬ ‫غنم !‬ ‫‪.....‬أنا يف املدينة ليس لديَّ ْ‬ ‫هم رغيف ٍ‬ ‫أحتيس يف امليادين ِ َّ‬ ‫يشاطرين غربتي‬ ‫واملدينة ُ أغنية ٌ للمجانني ِ‬ ‫ُ‬ ‫اجيح‬ ‫سقت املر َ‬ ‫قبل وصو َيل‬ ‫أغنية َ البرئ ِ‬ ‫سطوة َ راع ٍ يهش ُّ عصا ُه‬ ‫وأغنامـَه ُ‬ ‫نشوة َ الحقل ِ‬ ‫أحمل ُـها بني ضلعي‪..‬‬ ‫وأحالمي َ البكر ِ ط ٌري‬ ‫يحط ُّ عىل الغصن‬ ‫والغصنُ قلبي الذي صار‬ ‫بعد اإلياب ورحلت ِه‬ ‫منكرس ‪..‬‬ ‫ْ‬ ‫لست إال َ‬ ‫أنا يا جديت ُ‬ ‫رسول الطموح‬ ‫الذي ف َّر من ذئب غرفتـِه ِ‬ ‫لفـضاء الوطنْ ‪..‬‬ ‫جئت ُ ‪..‬‬ ‫بني يديَّ عصايَ‬ ‫ومسبحة ٌ ُأهديـَـت من أيب‬ ‫طفت ُ يا جديت‬ ‫والشوارعُ ُ‬ ‫مثل املسامري‬ ‫أعب ُـ ُرها جرس َ توق ٍ‬ ‫إىل مدن األرغفهْ‪..‬‬ ‫طفت ُـها عاشقاً يخطب األمن َ‬ ‫‪28‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫َ‬ ‫صوت املدينة لن يسعف ْه‬ ‫لكنّ‬ ‫بعد هذا رجعت ُ إىل قريتي‬ ‫بقمييص الذي ق َّد من ‪...‬‬ ‫يا لهذا القميص الذي كلام ُ‬ ‫عدت‬ ‫ق َّد من الظه ِر‬ ‫ال لعصاي َ‬ ‫لدرب ِ الغواية ِ‬ ‫للموت ِ يف الوقت ِ‬ ‫عدت ُ وحيداً ‪...‬‬ ‫الحي‬ ‫وقفت ُ مبقربة ِ ِّ‬ ‫أتلو عىل قربك القص َة‬ ‫َ‬ ‫اآلن عدت ُ إىل قريتي‬ ‫مل أجد يف املدينة شيئاً‬ ‫الروح‬ ‫أهش ُّ به موطنَ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫عدت ألن املدين َة‬ ‫ليست‬ ‫الغنم‬ ‫ألهل ْ‬

‫حسام الدين محمد‬ ‫رأيت الشآم‬

‫اىل الحبيب الحمدوين وصحبه يف رابطة‬ ‫الكتاب التونسيني‬

‫يف الطريق لتونس‬ ‫َ‬ ‫قادتنا البجعات اىل ُرطب وغامم‘‬ ‫عربنا بباب البحر‬ ‫غدرنا بيأس قديم (عىل سنّة الشعراء)‬ ‫‪ ...‬أرقنا دماء الخجل‬ ‫يف الطريق اىل الحب‬ ‫اشتاق فينا الغريب اىل بيته يف‬ ‫الطريق‬ ‫للنوايس‬ ‫بكينا عىل طلل‬ ‫ّ‬ ‫فاستعرب الطلل‬ ‫يف الطريق‬ ‫رشبنا مدامة ذكر الحبيبة‬ ‫(من قبل ان تخلق الكرم)‬ ‫فانحنى عودنا تحت ثقل األمل‬ ‫يف الطريق لتونس‬ ‫انحرف ّ‬ ‫الخط يف نهج لينني‬ ‫فانهار هودجنا‬ ‫بحروب الجمل‬ ‫يف شارع بورقيبة‬ ‫ارشأ ّبت رقاب املها واستقام انتصاب‬ ‫الخيام‘‬ ‫ح ّملتنا الغزالة ضحكتها‬ ‫الحب‬ ‫فبكت أم كلثوم أهل ّ‬ ‫فقلنا‪:‬‬ ‫«أين مي ّر بنا – من جديد – الغرام»‬ ‫وأرقنا اختبال القبل‬ ‫يف الطريق لتونس‬


‫سمعنا حداء القدر‬ ‫وتالمحت اضوا ٌء لصنعاء‬ ‫بعد طول سفر‬ ‫ورأينا‪ ...‬الشآم‬ ‫رأينا تظاهرة الروح هابطة من اعايل‬ ‫التالل‬ ‫رأينا الصحارى تح ّيي القرى‬ ‫رأينا البيوت تغني وتهزج‬ ‫رأينا البطولة محفوفة بالحامم‘‬ ‫ملسنا املنام‘‬ ‫‪ ...‬فخلعنا قلوب مناديلنا‬ ‫وانهمرنا جميعا اىل سهلها والجبل‪.‬‬

‫طفالن‬

‫طفالن يف ثلج املالءة نامئان‬ ‫يف مهرجان الحلم‬ ‫يصعدان‬ ‫مفازة الفتيات والصبيان‬ ‫يداعبان مزاج اإلتكاء‪.‬‬ ‫طفالن يف مجرى الهواء الطلق‬ ‫وطراوة االهواء‬ ‫يف غفوة الخدر الطريّ‬ ‫وز ّر االشتهاء‪.‬‬ ‫طفالن من أمل غريب‬ ‫يتق ّلبان‪...‬‬ ‫أفتح برهة بحلمهام وأدخل‬ ‫أقلب النون عىل ميم منامهام‬ ‫املضاء‬ ‫بأقحوااااااااان شاهق‬ ‫طفالن يف مجرى الهواء الطلق‪...‬‬ ‫يؤرقان الروح‬ ‫طفالن يف مجرى الرصاص‬ ‫يودّعان الله واأللعاب واألشياء‬

‫زينب الربيعي‬ ‫سنجاب طفولتي‬

‫يف الصبح اللييل الغائم‬ ‫ضباب‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫مثل مار ٍد يدُ ه تطال زوايا الشارع‬ ‫أميش عىل الخطوط البيضاء‬ ‫وانعطف معها عند الد ّوار‬ ‫ُ‬ ‫األبواق تزعق وأنا سامدة‬ ‫ترت ّد عىل وجهي‬ ‫خصالت شعري الباردة‬ ‫أستفيق‬ ‫يف محاذاة العشب واليوكالبتوس‬ ‫يخرجون من الضباب‬ ‫ران عىل األشجار وجعلها كأشباح‬ ‫بأذرع دانية‬ ‫ّ‬ ‫أترق ّبهُم ‪ ...‬عل أحدَهم يت ّعرث‬ ‫فأمد يدي امللونة‬ ‫خمسة أظافر يك أم ّيزها عن‬ ‫أل ّون‬ ‫َ‬ ‫األخرى‬ ‫ال وقت يل‬ ‫أغسل شعري الطويل‬ ‫وأنرش ُه عىل حبل الغسيل‪.‬‬ ‫أماد طويلة م ّرت‬ ‫ْ‬ ‫غطت سطح بيت ِنا‬ ‫رسمت دوائر‬ ‫كسنجاب بري‬ ‫تنقلت بينها‬ ‫ٍ‬ ‫وانتهت طفولتي‪.‬‬

‫يوسف‬

‫أعشق كامل صفا ِتهم‬ ‫لكنّ يوسف أجم ُلهُم‬ ‫لن أراوده عن نفسه‬ ‫ولن ّ‬ ‫أقط َع يدي‬

‫بل أتبع ُه كظ ِّله‬ ‫ا ْب ِعدُ هُ‬ ‫َ‬ ‫يسقط يف البرئ‬ ‫يك ال‬ ‫ُ‬ ‫وأرحل معه‬ ‫لن تب ّي َّض عيناي‬ ‫فقميصه معي‪.‬‬

‫فيك‬ ‫ِ‬

‫عمق األشياء الجميلة تكمن‬ ‫يف ِ‬ ‫رائحة للون‬ ‫ولون للرائحة‬ ‫كيف يكمن فيك كالهام ؟‬

‫ذاكرة‬

‫رحلت يف ديسمرب‬ ‫مل أعد أذكر سوى ذلك‬ ‫عندما يأيت عام ‪1994‬‬ ‫قد أتذك ُر البقية ‪ ...‬وأخ ُربك‬

‫خوف‬

‫أخاف العبو َر ‪...‬‬ ‫إن كان الشارع أبيض والخطوط‬ ‫سوداء‬ ‫إن كان املوت يف اللوحة ُرسم‬ ‫بدم حقيقي‬ ‫إن تحقق حلمي ‪:‬‬ ‫أجلس يف رشفتي ‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫العرص بصحب ِتك‬ ‫وأرشب شاي‬ ‫ِ‬

‫ميدوزا‬

‫كانت ‪ُ ...‬ت َح ّج ُر َّ‬ ‫ْ‬ ‫كل من ينظر اليها‬ ‫اآلن ‪ ...‬كل أحبتي أصنام دون أن‬ ‫أنظر اليهم‬ ‫‪29‬‬


‫نصوص‬

‫وناس‬ ‫نرجس ْ‬ ‫ٌ‬ ‫عياش يحياوي‬ ‫يشم قمصاين‬ ‫يل نبأ ُّ‬ ‫وكوب ما ْء‬ ‫ويل ِوساد ٌة ُ‬ ‫مائال نحو النهايات ‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫مسقط‬ ‫مسقط يا‬ ‫وهران بايب‪..‬‬ ‫والحام ْم‬ ‫مدينة‬ ‫يا‬ ‫التاريخ والبخو ِر َ‬ ‫ِ‬ ‫رغبة الجنَّة يف اإلثم‬ ‫أال اقرئيِ عىل رأيس التعاوي َذ‬ ‫وإثم الطفل منشورا عىل حبل‬ ‫ْاجمعي رييش الذي يف البرَ ِّ‬ ‫الت َ​َّصايب‬ ‫غنِّي ألنا ْم‬ ‫يا لغول الوقت يحشو جسدي‬ ‫ال تسأليني عن يدي‬ ‫بالوجع السهران‬ ‫ُ‬ ‫مسقط‬ ‫للغريب يا‬ ‫ال ي َد‬ ‫ِ‬ ‫ُيرديني ويحييني عىل ميعادها‬ ‫تدب وآذتني الوجو ُه‬ ‫الصحب «شارعُ‬ ‫ُ‬ ‫ال َ‬ ‫صوت سوى‬ ‫هواجس النملِ ُّ‬ ‫ِ‬ ‫وهر َان‬ ‫املهيدي»‬ ‫يف دمي‬ ‫وهر ُان أيا وهر ُان‬ ‫الشارع يتجرون بالخمور‬ ‫صبي ُة‬ ‫ال تسأليني‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫يلتفت الفج ُر الذي مىض بعينني‬ ‫لو‬ ‫والحشيش‬ ‫ليس يف النهار يل نها ْر‬ ‫نعاس‬ ‫بال ْ‬ ‫يرشحن الغرام للحامم‬ ‫بنات الدرب ْ‬ ‫خييل التي ترينها‬ ‫الناس‬ ‫بكأسني تعاندان صحو ْ‬ ‫يشتعلنَ غاب ًة من هَ َر ٍج ويختفني‬ ‫ْ‬ ‫رسوم طفلٍ يف جدا ْر‬ ‫ليست سوى ِ‬ ‫أنا السكران والباعة واألسواق‬ ‫ني األمطار والوهرانيات املطر‬ ‫نجم واحدٌ‬ ‫آذ ْت ِن َ‬ ‫وليس يل يف الليل ٌ‬ ‫واملقهى الذي يف الركن خمري‬ ‫املخمور بالحن ْني‬ ‫يؤمن يب‬ ‫د ِّثريني بالشج ْر‬ ‫آذانيِ َ النهار يف وهران ساجدُ عىل‬ ‫وليس يل يف التيه ط ٌري واحدٌ‬ ‫أورا ِق ِه‬ ‫ُس ْكرين‬ ‫للطرب‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫قْ‬ ‫فاضح بال ِع ْش ِق‬ ‫ُس ْك ٌر ٌ‬ ‫جيبي الفق ْري‬ ‫تل َّميس وهران جبهتي أ ِف من مويت يل وطنٌ يف َ‬ ‫ْ‬ ‫الطويل‬ ‫ْ‬ ‫مفتون‬ ‫لهجس الجنِّ ُس ْك ٌر ساجدٌ‬ ‫يل غربة وصالة تصغي ْ‬ ‫أَ ُق ْل ُّ‬ ‫بيتي الصغري الساه ِر يف‬ ‫للس ْح ِب لو يا ُس ْحب تهطلني يف يف لييل‬ ‫هنا يف َ‬ ‫ْ‬ ‫الهطول‬ ‫قلبي ويزه ُر‬ ‫أبوظبي مقامي واملرايا ُ‬ ‫الالهوت‬ ‫ِ‬ ‫الخ ْرس‬ ‫أ ُق ْل لها ع َّي ُ‬ ‫اش ب ْر ُ‬ ‫وج ْم ُر‬ ‫دان َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫الدخان‬ ‫أمضغ‬ ‫الشمس صويت‬ ‫يف أثوابه‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫الخوف‬ ‫وطبول‬ ‫مرة يف الليل والليل دخان‬ ‫ٌّ‬ ‫قميص ُه األصفر ُمزرق من الرب ِد‬ ‫ُ‬ ‫بت أبيك فتك ّو ُ‬ ‫ج ّر ُ‬ ‫زا َد الق ِرب‬ ‫مت عىل بعيض‬ ‫الصاب يف أكوا ِب ِه‬ ‫وط ْع ُم‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫الرمال‬ ‫تاريخ‬ ‫أبك‬ ‫ومل ِ‬ ‫ْ‬ ‫أقل لها قويل لوهران ْاسأيل عنه‬ ‫ْ‬ ‫لو م ّر ًة كالريح يا وهر ُان تصفعني‬ ‫بالذهول‬ ‫وضاء وجهي‬ ‫وما ِب ِه‬ ‫ُ‬ ‫الناهب روحي بالسؤال‬ ‫مددت كفي للفراغ الس ِّي ِد‬ ‫ِ‬ ‫ْأس ُ‬ ‫ْ‬ ‫مسقط‬ ‫قط كالنيزك يف‬ ‫لو متسكني أ ْذ َين التي َغ َو ْت‬ ‫إسمي‬ ‫الجوع‬ ‫عىل وجهي أخاديدُ من‬ ‫اش‬ ‫ورص َاخ ال ُيتم مختوما عىل لحمي‬ ‫وتسمعينني وصايا ُم ْط ِر ِب الح َّر ِ‬ ‫ِ‬ ‫لوهر َان‬ ‫تالىش جسدي يف غرفتي مثل صدًى لو وهران تسألني‬ ‫َ‬ ‫مسقط َّ‬ ‫عن عشا َيئ البار ِد‬ ‫العشاقِ يل يف الدار يهذي‬ ‫ُترى يا‬ ‫‪30‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫ني املشتاق للصحون‬ ‫عن ِص ْح َ‬ ‫ضحى تنتب ُه الشوارعُ التي‬ ‫لو ذات ً‬ ‫تس َّك ُ‬ ‫عت لها‬ ‫ْ‬ ‫وأكون‬ ‫د َّرستُها كيف تكون‬ ‫ْ‬ ‫واملجون‬ ‫لو م ّرة يا جنَّة الصالة‬ ‫تجيئني مسا ًء‬ ‫تقفني يل بال ميعا ْد‬ ‫نيس األلعاب‬ ‫وتحضنني طفال َ‬ ‫واألوال ْد‬ ‫ُترى َترى «عيون الرتك» ما أرى؟‬ ‫أعمى أرى‬ ‫باللمس أوجاعَ الجبالِ‬ ‫ِ‬ ‫وجد السن ْني‬ ‫ني من ْ‬ ‫الشج َر املَ ْح َّ‬ ‫والرياح ما أرى‬ ‫الدمع‬ ‫أرى وميحو ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الثلوج السو ُد يف تابوتها‬ ‫وتصهل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يعصف يب ا ُمل ْحم ُّر يف مغربها األخ ِري‬ ‫يهمي فوق رأيس ُ‬ ‫عطش األنها ِر‬ ‫َود ُْق االنتظار ا ُمل ِّر يف حزين البص ْري‬ ‫أم ُّر يف الظالل ظ ًّال خافتا‬ ‫يسحبني إليه ُ‬ ‫صوت الغيمة البيضا ِء‬ ‫يطويني كام كتاب أهل الليل‬ ‫يسقي غبيش ينرشين للتيه أجر ًاسا‬ ‫ونايْ‬ ‫وهران هل يف «البِشرِ ِي» يل مقعدٌ‬ ‫وكاس‬ ‫ْ‬

‫وناس‬ ‫وضوضا ُء ْ‬ ‫يفجعني ُ‬ ‫البيت الذي ترك ُت ُه‬ ‫األشجا ُر يف الشتا ِء‬ ‫الباب بال َغ ْ‬ ‫ُّ‬ ‫زل‬ ‫دق ِ‬ ‫ووجهُها ُّ‬ ‫يطل باردًا وأن ُفها الغري ُر‬ ‫ُ‬ ‫والشال الذي ع ّلمني ما مل يعل ْمني‬ ‫ْ‬ ‫جبل‬ ‫ُترى سيأتيني املطا ْر‬ ‫الغريب‬ ‫يحتاجه‬ ‫بطائراته مح َّمال مبا‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫وجو ِه أهيل قريتي أعشا ِبها أغنا ِمها‬ ‫الطبيب‬ ‫هوا ِئها‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫الشوق نهارايت‬ ‫يفرتس‬ ‫ُ‬ ‫يغ ِّذيني انتظار ما‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫الخفافيش‬ ‫وتهذي يف خرابايت‬ ‫حاجات يدي‬ ‫يدي رما ُد‬ ‫ِ‬ ‫يف فدف ٍد أعدو وخلفي يركض املوىت‬ ‫يراين من يراين م ِّيتا ال ق َرب يل‬ ‫يحو ُم من حويل الدر ُ‬ ‫اويش‬ ‫هَ ال يا ط ُري ‪..‬‬ ‫يسمع جناحي الط ُري‬ ‫مل‬ ‫ْ‬ ‫ثوب الرث َّيا ‪..‬‬ ‫يا هَ ال ُس َه ْي ُل ها هنا ُ‬ ‫َّ‬ ‫الس ْح ُب ُس َه ْي ْل‬ ‫غط ِت ُّ‬ ‫يا سائق األضعان يا ابن الرمل يا‬ ‫عتيج‪..‬‬ ‫ُ‬

‫مل ْ‬ ‫عتيج ‪..‬‬ ‫يقف ْ‬ ‫تل َّفت َْت أظعانه ومل ْ‬ ‫عتيج‬ ‫يقف ُ‬ ‫ذئاب يا َغ َضا‬ ‫يا ُ‬ ‫ويا َم ْر َخ الدعاث ِري‬ ‫هسيس الجنِّ والنوق العصافري‬ ‫َ‬ ‫ذئب يف النجو ْم‬ ‫انتهى عوا ُء ٍ‬ ‫ْ‬ ‫يلتفت سوى الصدى‬ ‫مل‬ ‫ْ‬ ‫الظنون‬ ‫وظبي ٍة من‬ ‫تربق يف وجهي قليال ثم تنأى يف‬ ‫السديم‪..‬‬ ‫ْ‬ ‫ا ْبتع ْد ‪ ..‬منْ َ‬ ‫أنت؟‬ ‫تلمس ُترايب‬ ‫ال ْ‬ ‫ليس يل قافلة يف الشام ال وال عرا ٌر‬ ‫يف اليمن‬ ‫دمي ِفرايش‬ ‫ٌ‬ ‫سالالت‬ ‫الشجر الطالع يف وجهي‬ ‫الس ْح ِر‬ ‫من ِّ‬ ‫الحروب‬ ‫وذا سيفي نصيبي يف‬ ‫ْ‬ ‫ال أ ُفقٌ يأوي شتايت‬ ‫وأغيب‪..‬‬ ‫وأنا هنا بال قص ٍد أغنِّي‬ ‫ْ‬ ‫أرقص كالجنِّ ويف دمي مزامري‬ ‫السام ْء‬ ‫ُ‬ ‫تقرتب أكرث من‬ ‫قلت ا ْبت ِع ْد ‪ ..‬ال ْ‬ ‫شربين‬ ‫ِ‬ ‫اليوم‬ ‫بعد‬ ‫ان‬ ‫ر‬ ‫ال وه‬ ‫ِ‬ ‫ال ْمت ٌر وال ما ٌء وال ميعادُها يف‬ ‫الخلفي‬ ‫الشارع‬ ‫ِّ‬ ‫ال خ ْم ٌر بال وهر َان‪..‬‬ ‫َ‬ ‫األموات‬ ‫ضحك‬ ‫وحدي ُأ ِ‬ ‫أحشو سرَُّ يت بالرمل‬ ‫أدعو النمل للعشاء يف تيهي‬ ‫الثقاب للخفافيش‬ ‫وأقدح‬ ‫َ‬ ‫أس ِّمي َ‬ ‫الليل والبح َر وأرمي ورديت‬ ‫للشعرا ْء‬ ‫‪31‬‬


‫نصوص‬

‫مريم شريف‬ ‫ال أريدُ نسيان هذا الشتاء‬

‫ال أريدُ نسيان هذا الشتاء‬ ‫وال أريده أن ينتهي‬ ‫تذهب بذهاب ِه‪:‬‬ ‫أشيا ٌء كثري ٌة‬ ‫ُ‬ ‫صداقتي مع املدفأة‪،‬‬ ‫يرشح من الغيوم‬ ‫الضوء الذي ُ‬ ‫شحيحاً ومرتدّداً‪ ،‬بحيث ال يتناقض‬ ‫معي‬ ‫وال مع األرض‬ ‫اإلحساس بأبع ِد‬ ‫الرب ُد اللاّ زم ألستعي َد‬ ‫َ‬ ‫مسامات جسدي‬ ‫الشوارع الرماد ّية املاطرة حني‬ ‫يح إىل الخلف‬ ‫تسحبها ال ّر ُ‬ ‫أوهام‬ ‫ال أريد أن ينتهي الشتاء‪ّ ،‬مثة‬ ‫ٌ‬ ‫يخلقها الشتاء‬ ‫كام تختلقها الحاجة‪،‬وأنا ما ُ‬ ‫زلت يف‬ ‫ّ‬ ‫كل يوم‬ ‫أختلقُ السبب تلو السبب‬ ‫ملجيئ اليوم القادم‪،‬‬ ‫أقل األشياء التصاقاً‬ ‫زلت ُ‬ ‫أفعل ّ‬ ‫ما ُ‬ ‫مبعنى الفعل‬ ‫أترك مكاين للمكان األضيق‬ ‫ُ‬ ‫حيث يكون الفر ُاغ ّ‬ ‫أقل يف املساحة‬ ‫الصغرية‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫والدّقيقة ال تحتاج دقيقة أخرى‬ ‫للمرور من أمامي‪..‬‬

‫مثل صور ٍة قدمية‬

‫أحيا أمام ذاكريت‬ ‫ال أمام ما يحدث‬ ‫حني أموت‬ ‫‪32‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫ُ‬ ‫أموت مثل متثالٍ‬ ‫عاشت فيه مئات السنني‬ ‫وتهاوى من ثقل أعامقه الفارغة‬ ‫‪2‬‬ ‫الحجر الذي رمي ُت ُه‬ ‫يغوص يف البحر‬ ‫ما زال‬ ‫ُ‬ ‫مل يجد القاعَ بعد‬ ‫رمبا لن يجده يوماً‬ ‫برود ُته ما زالت فوق يدي ‪،‬منذ‬ ‫سنني‬ ‫وما زال عىل تلك الحالة من الغرق‪..‬‬ ‫‪3‬‬ ‫تهب منذ األزل‬ ‫الريح التي ّ‬ ‫وحتى آخر الكون‬ ‫ال تأيت من خلف الجبال‬ ‫تأيت من لحظ ٍة يف صوتك‪..‬‬ ‫الريح التي مت ّر من أمام عينيك‬ ‫تأيت لتلمسني‪..‬‬ ‫‪4‬‬ ‫ُ‬ ‫ذهبت إليه‬ ‫آخ ُر مكانٍ‬ ‫صار بعيداً‪..‬‬ ‫آخر كلم ٍة قلتها‬ ‫ُ‬ ‫خصصة‬ ‫تنزل مع صوتها األدر َاج ا ُمل ّ‬ ‫لصعود الزمن‬ ‫ّ‬ ‫كل ما هو تحت هذه الكلامت‪:‬‬ ‫الحب ‪،‬واألمل‪..‬والحامسة‬ ‫ّ‬ ‫يصبح قدمياً‬ ‫ُ‬ ‫ما أن يذهب ُ‬ ‫الليل بظلمت ِه‬ ‫الرحيمة‪ ‬‬ ‫ُ‬ ‫‪:‬الخرق الجديد يف‬ ‫ثم يأيت الغد‬ ‫ّ‬ ‫جدار الكون‬ ‫ويكون ع ّ‬ ‫ُ‬ ‫يل أن أختار املكان‬ ‫والكلمة‬ ‫أتص ّيد الحامسة والحب والشوارع‬

‫أريدُ أن أكتب عن يشء آخر‬

‫أخىش أن يبدو ُ‬ ‫الليل حزينا‬ ‫من كرث ِة ما ُ‬ ‫كتبت عنه‬ ‫أريد أن أكتب عن يشء أخر‬ ‫هل ّمثة ٌ‬ ‫منسوج بيدين حانيتني‬ ‫ليل‬ ‫ٌ‬ ‫يوضع‬ ‫موضوعاً يف مكان ِه بعناي ٍة كام‬ ‫ُ‬ ‫الضوء‬ ‫ومع هذا أريدُ أن أكتب بتلقائ ّية َمن‬ ‫يعو ُد من الوهم‪،‬‬ ‫تج ّو ُ‬ ‫لت يف الوجوه التي تعرفني‬ ‫مل تعرفني ح ّقاً‬ ‫أنا ُ‬ ‫عرفت أشيا َء قليل ًة عن املالمح‬ ‫واالبتسامات واالعتذار‬ ‫رمبا أكتب عن ذلك‬ ‫َ‬ ‫عن أصدقايئ ‪ُ :‬‬ ‫وأولئك الذين مل‬ ‫الليل‬ ‫أعرفهم بعد‬ ‫ُأو ّفرهم لقلبي غربا َء وط ّيبني‪..‬‬ ‫أريدُ أن أتحدّث عن رغبتي بالتاليش‬ ‫ليس أن أغيب‪ ،‬ولكن أن أمحو صوريت‬ ‫من ّ‬ ‫كل عني‬ ‫وصويت من ّ‬ ‫كل سمع‪،‬وظليّ يف أيّ‬ ‫قلب‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫كام أنظف الزجاج حتّى ال يبقى أثر‬ ‫وقعت عليه ٌ‬ ‫ْ‬ ‫كلمة‬ ‫األث ُر يتأ ّل ُم إذا‬ ‫ٌ‬ ‫فضفاضة‬ ‫بحيث يبدو صغرياً‬ ‫ويتأ ّل ُم حني ُيخدَش‪..‬‬ ‫ومع هذا ينبغي أن ال أقول ذلك‬ ‫يك ال تظنّوا أنني ال أبتسم‬ ‫أبتسم ح ّقاً‬ ‫أنا‬ ‫ُ‬ ‫والحيا ُة ال ُتحزنني كثرياً‪..‬‬


‫ُ‬ ‫سأعرف أ ّنها أنا‬

‫يف املطر‪،‬عرب املسافات‬ ‫ُ‬ ‫سمعت صوتك حزيناً‪،‬‬ ‫ومرتدّداً‬ ‫أستطيع تفسري حزن ِه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ونظرت إىل‬ ‫فتحت النافذة‬ ‫لو‬ ‫البعيد‬ ‫سأرى املرأ َة التي تس ُري يف الظلم ٍة‬ ‫تحت املطر‪،‬‬ ‫سأعرف أ ّنها أنا‬ ‫يف الطريق التي ال ُترى نهايتها‬ ‫يف املسافات التي ال ينهبها الوقت‬ ‫ُ‬ ‫سأعرف ّأن الحزن‬ ‫كان يف املطر ويف العتمة‬ ‫كان َ‬ ‫صوت املرأ ِة التي تنهبها‬ ‫الطريق‬ ‫ومل يكن يف صوتك‪..‬‬

‫بعد ْأن هدأت الريح‬

‫ْ‬ ‫هدأت الريح‬ ‫حتّى بعد أن‬ ‫ظ ّل ْت يداي باردتني‬ ‫ظ ّلت األشجا ُر تهت ّز‬ ‫واألوراق الجا ّفة تتساقط‬ ‫وكانت كثري ًة تدو ُر حويل‬

‫أو رمبا مل تكن األشجار تهت ّز‬ ‫ومل تكن األور ُاق تتساقط‬ ‫لكنّ يديّ ظ ّلتا باردتني‬ ‫هذا ما أعرفه‬ ‫ّ‬ ‫هذا ما يجعلني غري متأكد ٍة‬ ‫من يش ٍء آخر‪..‬‬

‫عبد الغني فوزي‬ ‫عىل سفر‬

‫من عنادك الضالع يف مائه‬ ‫أسقى‪..‬‬ ‫وأنترش عىل حبايل النافرة‬ ‫كأين هواء يرى‬ ‫من دق بايب‬ ‫يف آخر الليل‬ ‫غري حفيف ‪..‬‬ ‫مل تسعفه األيادي‬ ‫وأبقى هناك عالقا‬ ‫ببال غصة مسمرة عىل حلكتها‬ ‫أخيط األصداء املرتدة لهذه األصابع‬ ‫لعيل أستجمع بعض الغناء‬ ‫وأمتص لحن الفقد‬

‫عميقا يف دمي‬ ‫هكذا ‪..‬‬ ‫أعلم الحطب الساقط‬ ‫الحبو‬ ‫وأميش بكامل الظالل‬ ‫إىل حيث هي‬ ‫ويا ليتها لباسا يل‬ ‫من عنادك‪..‬‬ ‫أسقى‬ ‫وأقاد مأخوذا ـ يف سبك مجراك ـ‬ ‫بصمت العشب الحزين‬ ‫يف صدى القرار‬ ‫أرأيت ‪..‬؟؟‬ ‫الريح التي تتنادى يف أسفل‬ ‫باألسامء تحت سامء اليتم‬ ‫كلام عربت عىل الجثة‬ ‫طفح الصوت‬ ‫وتجلت أجزايئ ‪..‬‬ ‫كام اإلشارات الضاحكات من شنقها‬ ‫وارث طعنة الرداء أنا‬ ‫أخطو مبشيئتك‬ ‫بني خرابني‬ ‫أخطو‪..‬‬ ‫والباب عالق بعيني املغمضتني‬ ‫فلتستظلوا‬ ‫أو تستدلوا‬ ‫بألواح القفص‬ ‫يف انتظار‬ ‫عودة األصابع‬ ‫من القفل ‪،‬‬ ‫القفل الذي يطوي عىل األعناق‬ ‫امللتوية‬ ‫ويتنطع بكامل األفق املوصد‬ ‫‪33‬‬


‫نصوص‬

‫محمد الفي‬ ‫وصية‬ ‫ّ‬

‫(( إىل مراد السوداين))‬

‫هكذا باختصا ْر‬ ‫هل ُ‬ ‫سيرتك يل ُ‬ ‫املوت يف ساعة‬ ‫االحتضا ْر‬ ‫فسحة ألقول لكم ‪:‬‬ ‫َ‬ ‫أطلقوا خلف نعيش الصعاليك –‬ ‫الغريهم –‬ ‫أتقيايئ الصغا ْر‬ ‫من عىل حلمهم ركضوا خلف نجم‬ ‫املناشري ِ‬ ‫واصطدموا بالجدا ْر !‬

‫لوحات‬

‫ليل ّياً ُ‬ ‫تنبت فوق جدار الغرف ِة‬

‫أحمد الطرس‬ ‫العرامي‬

‫السحاب‬

‫السحاب‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫املواعيد‬ ‫ناشبة يف ضفرية هذا املساء‪،‬‬ ‫القصيدة‬ ‫تنزف أقامرها‬ ‫ُّ‬ ‫وتعض عىل شفة الربق‪،‬‬ ‫باب املتى‬ ‫ٌ‬ ‫حائط ٌ‬ ‫مائل‬ ‫‪34‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫ُ‬ ‫منذ زمنْ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫شطآن‪ ،‬و منار ٌ‬ ‫محيطات‪،‬‬ ‫ات‪ ،‬و‬ ‫وس ُفنْ‬ ‫ُ‬ ‫غابات ‪ ،‬وطيو ٌر ‪ ،‬وقطار ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ات ‪ ،‬و ُمدُ ْن‬ ‫و وجو ٌه أعر ُفها‪ ،‬أو ال أعر ُفها‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وطن ما‬ ‫رشفات‬ ‫ساقطة سهواً من ٍ‬ ‫ليل ّياً ُ‬ ‫منذ زمنْ‬ ‫ُ‬ ‫نفس اللوحات ولكنْ ‪ -‬أبداً–‬ ‫تتشكل ُ‬ ‫ّمث َة يف أقىص ٍّ‬ ‫كل منها‬ ‫يف الزاوي ِة اليمنى‪ُ ...‬‬ ‫نعش وكفنْ !‬

‫حرية‬

‫قطر ًة قطر ًة‬ ‫ُ‬ ‫الصمت أسئل ًة ووجوهاً‪،‬‬ ‫يرشح‬ ‫ُ‬ ‫رؤىً وطيو ْر‬ ‫ًرج الصائدينَ ‪ ،‬وأسألني‬ ‫تستدير إىل د ِ‬ ‫كلام عسكر ُ‬ ‫الليل فوق املدين ِة‪:‬‬ ‫أين أدو ْر ؟!‬

‫مط ٌر ٌ‬ ‫آيل للسقوط‬ ‫عوا ٌء تعرث بالريح‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ريش الحنني تطاير‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫سقف الغ ِد‬ ‫املتجم ِد‬ ‫ذاب‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫السحاب‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫كوة‬ ‫يف جدار السامء املريضة‪،‬‬ ‫باب الصدى املتواتر‪،‬‬ ‫جرح املدى‪،‬‬ ‫اية ٌ‬ ‫ر ٌ‬ ‫رثة‬

‫يف أعايل الهباء‪،‬‬ ‫اب الفتوحات‪،‬‬ ‫تر ُ‬ ‫ُ‬ ‫منديل أرمل ٍة‬ ‫جففته املرايث الكسولة ‪،‬‬ ‫َو ْق ُع‬ ‫التناص‬ ‫ِ‬ ‫عىل مدخل القرب‪،‬‬ ‫أحالم من رحلوا‬ ‫علقت خلفهم‬ ‫صدئت مثلهم‬ ‫فوق ِّ‬ ‫رف الغياب‪.‬‬ ‫حاب‪:‬‬ ‫الس ْ‬ ‫ّ‬


‫علي الزهيري‬ ‫عزف منفرد‬ ‫بذكــريات زما ِن ِه‬ ‫ــج‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫قلب َي ُع ُّ‬ ‫يح مــــن ريحا ِن ِه‬ ‫مييض‪َ ..‬ي ُل ُّم ال ِّر َ‬ ‫فيه الحقيق ُة أسـر َف ْت بظاللِها‬ ‫مت يف بركا ِن ِه‬ ‫واحت َّد‬ ‫الص ِ‬ ‫مــــوج َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الخريف عىل يدي ِه وما َس َعى‬ ‫َو َج َد‬ ‫يلقا ُه يك ُيشقــي ِح َ‬ ‫بال «كــام ِن ِه»‬ ‫حبل ِّ‬ ‫لكنَّ َ‬ ‫الحظ ُيشقـي ذا َت ُه‬ ‫ُّ‬ ‫ويغض َ‬ ‫الح ِّب عن ألحا ِن ِه‬ ‫صوت ُ‬ ‫ْ‬ ‫تجس َو ْق َع عُ يو ِن ِه‬ ‫كانت خطا ُه ُّ‬ ‫َ‬ ‫َـــصف الليلِ بني َبنا ِن ِه‬ ‫قيس ع ْ‬ ‫و َت ُ‬ ‫يخـــتا ُر دَرباً ثم يثنــي دَر َب ُه‬ ‫َ‬ ‫ليكون أ َّو َل مــن وىش مبكـــــا ِن ِه‬ ‫من أين يبدأ من أضاعَ ُضلو َع ُه‬ ‫َ‬ ‫وانهـال ُ‬ ‫امللح فوق ِطعا ِن ِه ؟؟‬ ‫سيل ِ‬ ‫ٌ‬ ‫حفنة من رماد األساطري باهتة‬ ‫شاعر‬ ‫(ضاع يف األفق خامته)‪،‬‬ ‫محن ُة االستعارة‬ ‫وهي ترتق جرح الفضاء بأمعائها‪،‬‬ ‫الكنايات‬ ‫منشورة يف حبال أفاعي الربوق‪،‬‬ ‫القصيدة‬ ‫مسكوبة حجراً يف إناء الخليل‬ ‫ومسفوحة‬ ‫كالرساب‪.‬‬ ‫السحاب‪:‬‬ ‫ّ‬

‫أ ِمنَ الهوا ِء ؟؟ من الفر ِاغ؟؟ من ا ُملنى ؟؟‬ ‫يا َ‬ ‫الحـــــــــلم يف إمكـــــــا ِن ِه‬ ‫ليت َّأن‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫وأســــــرفت‬ ‫املكــان عىل ُخطـــاه‬ ‫َخ َّر‬ ‫ريح َّ‬ ‫وب َظ ْهـــــ َر ِحصا ِن ِه‬ ‫الشـــــاملِ َت ُج ُ‬ ‫ُ‬ ‫ني جـــــــــ َّرد َ‬ ‫نبضــــهُ‬ ‫ما بني قافــــــيت ِ‬ ‫َّ‬ ‫ـــــــــح ِظل ُه ِب ِلســــا ِن ِه‬ ‫ميس‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫وانكـــــب َ‬ ‫وعــــــــواصفٌ‬ ‫يف راحـتي ِه َحمــــــا ِئ ٌم‬ ‫ِ‬ ‫ـــت مـــــن ِكتْام ِن ِه‬ ‫الص ْم ِ‬ ‫وح َّ‬ ‫يغـــزلنَ َب َ‬ ‫ْ‬ ‫فـاضت به أنخـــــــــابه وكــــؤوســــ ُه‬ ‫وانسل ُ‬ ‫َّ‬ ‫خيط الفــــج ِر مــــــن أحزا ِن ِه‬ ‫ُ‬ ‫أمســـهُ؟؟‬ ‫أيخــــون واقعـــــــه‬ ‫َ‬ ‫ليبرص َ‬ ‫َ‬ ‫املجهــول رَهْ نَ ِرها ِن ِه؟؟‬ ‫أم َي رْت ُ​ُك‬ ‫مل يعترَ ِ ْف يومـــاً لِ َمـــنْ عَبرَ وا املَــــدى‬ ‫َّأن املـــدى من دم ِعــ ِه ْم وحنا ِن ِه‬ ‫ُــــــم برحي ِل ِه‬ ‫ـــم مــــــن تعثرَّ وق ُته ْ‬ ‫هُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ـــــم عَصــــا ِح ْرما ِن ِه‬ ‫ف َرأى بعرث ِت ِه ْ‬ ‫ج َّرت ُه ُّ‬ ‫األغــــــــــــنيات ملــــــو ِت ِه‬ ‫كل‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫عزف « كام ِن ِه»‬ ‫وأىب‬ ‫ميــوت بغري ِ ِ‬

‫املتاهات‬ ‫موهومة بالتشكل‪،‬‬ ‫صحراء‬ ‫فوق عصا الريح‪،‬‬ ‫رقم وحيدٌ‬ ‫ٌ‬ ‫تك ّلس يف خانة األفق‪،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫ظل مىش وحده‬ ‫–تائها‪-‬‬ ‫بعد أن فارق األصل‪،‬‬ ‫رس ِه‬ ‫مرآ ُة ما ٍء تآكل يف ِّ‬ ‫تحت جلد النهارات‪،‬‬ ‫فوىض زفري الكالم‪،‬‬

‫ٌ‬ ‫خيول‬ ‫ترجل أصحابها‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫صيحة‬ ‫نسيت‬ ‫دربها‪،‬‬ ‫شاطئٌ‬ ‫ٌ‬ ‫مثل‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫موجة‬ ‫شـردت‪،‬‬ ‫وطن عاب ٌر‬ ‫م َّر‬ ‫ـحاب‬ ‫الـس ْ‬ ‫م َّر ّ‬ ‫‪35‬‬


‫نصوص‬

‫حبيب الزيودي‬ ‫عودي ناقص وترا‬

‫اىل تيسري السبول‪..‬‬

‫ياسر األطرش‬ ‫ُ‬ ‫وأدخل ‪ ..‬يف َر ُج ٍل من ضباب‬ ‫فر ٌ‬ ‫الوقت‬ ‫اش عىل جبهة‬ ‫ِ‬ ‫يخبو‬ ‫اب‬ ‫وصبح رس ْ‬ ‫ٌ‬ ‫أعدُّ الذين مضوا‬ ‫واسرتاحوا‬ ‫فيميض نها ٌر‬ ‫الروح‬ ‫ويعبق يف ِ‬ ‫أقرب –‬ ‫ َ‬‫الغياب ‪..‬‬ ‫ورد‬ ‫ْ‬ ‫يصيل انتظاري صالة املساف ِر‬ ‫ال ماء ينمو ‪،‬‬ ‫وال امرأ ٌة‬ ‫اب ‪..‬‬ ‫يف نشيج الرت ْ‬ ‫وأعدو‬ ‫أسابق ظليّ الفق َري‬

‫‪36‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫أدوس علي ِه‬ ‫فيبيك ‪،‬‬ ‫يسرتيح‬ ‫ويرفض أن‬ ‫َ‬ ‫فأبقى وحيداً‬ ‫ومييض وحيداً‬ ‫ذهاب ‪..‬‬ ‫كأين ٌ‬ ‫إياب ‪...‬‬ ‫وظيل ْ‬ ‫يغادر رشفة قلبي الحن ُني‬ ‫فتصف ُّر أوراق دمعي‬ ‫ُ‬ ‫وأسقط‬ ‫عيني‬ ‫عن غصن َّ‬ ‫فآب ‪..‬‬ ‫آباً ‪ْ ..‬‬ ‫أحاول أن أستعيد خطايَ‬ ‫الرجوم‬ ‫وأن أهتدي بالنجوم –‬ ‫ِ‬ ‫الوضوح‬ ‫أصوغ‬ ‫َ‬ ‫فأخرج مني‬ ‫وأدخل يف رجلٍ‬ ‫ضباب‬ ‫من ْ‬

‫أنا ابن األرض‬ ‫وابن الغيم‬ ‫نايي زائد ثقباً‬ ‫وعودي ناقص وترا‬ ‫حملت سفوحها يف السنديان عزفتها‬ ‫لحناَ عىل الوديان ثم نزفتها مطرا‬ ‫وا ّلفت القصائ َد ال كال َم وال هيا َم‬ ‫وامنا ا ّلفتها قمحا يفيض عىل السهول‬ ‫وصغتها سفحا يغيض عىل الوعول‬ ‫وكنت بينهام ّ‬ ‫أطل عىل سدوم‬ ‫أطل من ول ٍه‬ ‫يزيد صبابتي سهرا‬ ‫وا ّلفت القصائد ال حروف وال سيوف‬ ‫احتار ابراهيم اذ راوغته قمراَ‬ ‫ّ‬ ‫اطل عليه واسترتا‬ ‫ونايي زائد ثقبا‬ ‫وعودي ناقص وترا‬ ‫ذهبت اىل الشامل‬ ‫اىل ايب ّمتام أساله ‪:‬‬ ‫أكان (السيف اصدق)‬ ‫أم جمحت ؟‬ ‫فقال ‪ :‬أصدق ؟‬ ‫أنت توجعني‬ ‫فس ّد الباب واعتذرا‬ ‫فعدت اىل الجنوب ألنقل الخربا‬ ‫ملاذا خانت الدحنون حمرته‬ ‫اذا ما ّ‬ ‫انحل يف خديك حني نهبته نظرا‬ ‫انا ابن االرض والغزالن _ان اغواين‬


‫سفح الخدعها‬ ‫الصياد _يف ٍ‬ ‫وقد وردت عىل غفل ضفاف النبع‬ ‫وهو هناك يرصدها‬ ‫جفلت وزدتها حذرا‬ ‫فعاد يج ّر خيبته عىل عزيف‬ ‫ونايي زائد ثقبا‬ ‫وعودي ناقص وترا‬ ‫أنا ابن االرض‬ ‫ع ّلمني الغامم دروسه يف ّ‬ ‫الشعر‬ ‫وهو ين ّقح النعناع‬ ‫وهو يزحزح االيقاع‬ ‫وهو ّ‬ ‫يوضح االوجاع‬ ‫حني يسيل منهمرا‬ ‫ّ‬ ‫أسطر دفرتي مبزاج ح ّرات‬ ‫يسطر أرضه يف الفجر اثالما فيطلع‬ ‫دفرتي حكام ويطلع حرثه مثرا‬ ‫فيشمت يب اذا جمع الثامر ‪،‬‬

‫يرى عىل وجهي هزمية كل من‬ ‫أعطى وما انتظرا‬ ‫ويشمت يب وقد حمل السالل‬ ‫وكنت أعذره‬ ‫فكيف لذلك الحراث‬ ‫أن يتفهم اللذات‬ ‫تحت أصابع النحات ملّا ذ ّوب‬ ‫الحجرا‬ ‫فقلت له غدا إن جف ماء الغيم‬ ‫ُ‬ ‫فضت عىل القرى نهرا‬ ‫ونايي زائد ثقبا‬ ‫وعودي ناقص وترا وكنت وراء‬ ‫موىس ‪ ،‬اذ يناجي الله تحت النجم‬ ‫منكرسا‬ ‫تصدع قربه جبل فخر عىل تراب‬ ‫الطور واعتربا‬ ‫خشعت فسال دمعي‬

‫رهبة‬ ‫وعزفت ‪:‬‬ ‫نايي زائد ثقبا‬ ‫وقلبي ناقص وترا‬ ‫أذان الفجر أكملت القصيدة‬ ‫والصالة‬ ‫ّ‬ ‫أطل تيسري السبول وقال كيف‬ ‫تطيق هذا الليل‬ ‫خذها بغتة يف الرأس‬ ‫قلت طلعت رغم جحوده قمرا‬ ‫و أنت اخرتت بابا للحقيقة غري بايب‬ ‫حينام واجهت نزف الحرب منتحرا‬ ‫ولكني ذهبت اىل الحديقة إذ‬ ‫وجدت األرض عارية الكسو عريها‬ ‫شجرا‬ ‫ملاذا مل متت كالصقر‬ ‫قلت له رويدك أنت صقر وابن‬ ‫عائلة‬ ‫ولكني سليل القمح سوف أموت‬ ‫حني يجف عشب الحقل تحت‬ ‫الشمس‬ ‫حني أصوغ هذا الناي‬ ‫من فوضاي‬ ‫تنزيال عىل البيداء أو صورا‬ ‫ونايي زائد ثقبا‬ ‫وعودي ناقص وترا‬ ‫تبسم يل بوجه طيب‬ ‫فغرقت يف االيقاع‬ ‫وهو يعود للمجهول منبهرا‬

‫الرسومات ‪ :‬فاطمة عبد الله لوتاه‬

‫‪37‬‬


‫رأي الناقد‬

‫منسوب إبداعي‬ ‫وتفاوت فنّي‬ ‫قراءة في نصوص العدد الثاني من «بيت الشعر»‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫شعريا بين تفعيلة‬ ‫نصا‬ ‫احتوى العدد السابق من مجلة بيت الشعر «تموز – يوليو ‪ »2012‬على أربعة عشر‬ ‫ً‬ ‫سيما ّ‬ ‫وأنها حملت تواقيع مبدعين‬ ‫وإبداعي‪ ،‬ومن تفاوتات فنية‬ ‫ونثر‪ ،‬ال تخلو من منسوب شعري‬ ‫أيضا‪ّ ،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫ً‬ ‫جنبا إلى جنب مع شعراء ما زالوا في‬ ‫رسخوا أقالمهم وأسماءهم الشعرية على مدى سنوات من العطاء‬ ‫ّ‬

‫مقتبل العمر ومعارج التفرّ د الشعري‪ .‬ها هنا إشارات استطالعية سريعة أو اشتباكات قرائية عابرة مع هذه‬ ‫النصوص الشعرية حسب تسلسل ورودها في العدد‬

‫خلدون عبد اللطيف‬ ‫سامل أبو جمهور ‪« -‬مدار الحديث»‬

‫ينتاب القارئ شعو ٌر ّ‬ ‫بأن قصيدة «مدار‬ ‫الحديث» تسري نحو خامتة رومانسية‬ ‫ُ‬ ‫فالحديث الذي يدور عىل نفسه‬ ‫ومحتومة‪،‬‬ ‫وعن الحب يوحي بذلك‪ ،‬وهو ما يؤكده سامل‬ ‫أبو جمهور عرب قوله «يدور الحديث عىل‬ ‫نفسه» و «يدور الحديث عن الحب»‪ ،‬ناهيك‬ ‫عن قيام الشاعر بتكرار الزمة «يدور الحديث»‬ ‫مرات عدة يف سبيل تهيئة املنت الستيعاب التفاصيل‪ ،‬قبل‬ ‫أن يكرس حدة هذا اإلنثيال والتمهيد الذي احتل قريباً ثلثي‬ ‫القصيدة باالنتقال إىل الطرف اآلخر من املعادلة الحياتية‬ ‫الحب والسالم متاماً‪ ،‬وما هو أكرث‬ ‫والوجودية‪ ،‬إىل ما يناقض ّ‬ ‫اآلدمي‪ ،‬حتى‬ ‫التصاقاً بالواقع وقرباً إىل نزعة الشرّ التي تسكن‬ ‫َّ‬ ‫اآلدمي وجودها‬ ‫لو كانت تلك النزعة مج ّرد حلم أو أنكر ذلك‬ ‫ُّ‬ ‫فيه «يدور الحديث‪ /‬عن الحرب‪ /‬ميألنا الرصاص‪ /‬ويشحننا‬ ‫بالبنادق‪ /‬فيحلم ٌّ‬ ‫كل بقتل أخيه»‬

‫حسن املطرويش ‪« -‬تغريبة بني قامطني»‬

‫أتاحت تفعيلة بحر الرمل «فاعالتن» للشاعر حسن املطرويش‬

‫‪38‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫أن يح ّرر نصه بوعي وذكاء من رتابة البناء‬ ‫اإليقاعي التي تقع فيها غالبية شعراء‬ ‫التفعيلة بال وعي يف أحيان كثرية‪ ،‬فقصيدة‬ ‫«تغريبة بني قامطني»‪« :‬قامط الوالدة» و‬ ‫«قامط املوت»‪ ،‬فهو «الطالِ ُع مام َت ْر ُ‬ ‫فض‬ ‫ُ‬ ‫حروب ال ّز ْن ِج‪/‬‬ ‫األرض‪ /‬و ِمنْ ب ْر ِد األقايص‪ /‬من‬ ‫ِ‬ ‫اإلبادات‪ /‬ومن‬ ‫وتواريخ‬ ‫من َش ِّد املطايا‪/‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ني»‪ .‬هناك التقاطات دقيقة‬ ‫تغريب ٍة بني ِقامط ِ‬ ‫ّ‬ ‫للعاديِّ واليومي يف هوامش الحياة تكفل بها املطرويش‬ ‫ليقدم وجبة شعرية خالصة‪ ،‬لكن أخىش أن اإلفراط يف‬ ‫استحضار الرموز الرتاثية والدينية لالتكاء عليها‪ ،‬إضاف ًة إىل‬ ‫هيمنة النظرة الفلسفية ومحاولة عقلنة األشياء‪ ،‬هي أمو ٌر‬ ‫قد تفقدُ النص باملحصلة جزءاً كبرياً من شاعريته وهويته‬ ‫الواضحة‪.‬‬

‫جعفر العقييل ‪« -‬صهوة الرثثرة»‬

‫عرب هذا النّص‪ ،‬يقحمنا القاص والشاعر جعفر العقييل يف‬ ‫يتوسل رؤى وتأويالت‬ ‫لعبة البحث عن الجدوى‪ ،‬وكأنه ّ‬ ‫فلسفية خاصة‪ ،‬عرب تناول األصابع وخربشتها وارتجافها‪،‬‬


‫نصوص‬

‫سالم أبوجمهور‬ ‫حسن المطروشي‬ ‫جعفر العقيلي‬ ‫علي الشعالي‬ ‫صالحة غابش‬ ‫عبدالزهرة زكي‬ ‫ابراهيم الوافي‬ ‫بريهان الترك‬ ‫عبد اهلل أبو شميس‬ ‫جوالن حاجي‬ ‫عبيد عباس‬ ‫نور البواردي‬ ‫راسم المدهون‬ ‫محمد عنيبة الحمري‬

‫عيل الشعايل ‪« -‬أمواج وحرير»‬

‫يف نصه القصري نسبياً «أمواج وحرير»‪ ،‬ينشغل عيل الشعايل‬ ‫بارتعاشات العالقة الحميمة مع تلك التي لصوتها طعم‬ ‫«ناعم‪ /‬ماك ٌر‪ /‬كالرحيق املوشح باألمنيات»‪ .‬ومبا أن الغاية‬ ‫ٌ‬ ‫هي تصوير انعكاسات املشاعر التي خلفتها العالقة من‬ ‫خالل استنطاق الكوامن‪ ،‬فقد جاء االهتامم باللغة والظالل‬ ‫التي ميكن أن مت ّدها يف الدرجة الثانية‪ ،‬وتق ّدمت أولوية‬ ‫بتعويض جام ِّيل للوحشة «قويل سام ًء‬ ‫البحث واملطالبة‬ ‫ٍ‬ ‫إضافي ًة‪ /..‬قويل محيطاً وشمساً‪ /‬وقويل ولهْ»‪.‬‬

‫صالحة غابش ‪« -‬غريب»‬

‫نعرث يف قصائد العراقي عبد الزهرة‬ ‫زيك عىل درجات عالية من الشعرية‬ ‫والوعي ّ‬ ‫بالشكل الكتايب‪ ،‬كام أنها ال‬ ‫تفرض مساراً‬ ‫تنغلق عىل نفسها أو ُ‬ ‫قرائياً واحداً‪ .‬يف َ‬ ‫غريب‬ ‫«مثل ضو ٍء‬ ‫ٍ‬ ‫نس َي ُه النهار» محاورة شعرية من‬ ‫طرف واح ٍد‪ ،‬أو مونولوغ يتدفق من‬ ‫الخارج إىل الداخل وليس العكس‬ ‫كام هو مألوف‪ ،‬عرب التأمل ثم الغلبة‬ ‫لتلك التي «متيض‪ /‬إىل بي ِتها الال‬ ‫الكوكب الذي يدور»‪ .‬أما يف «نس َي ْت شفتَيها‬ ‫مريئ‪ /‬عىل‬ ‫ِ‬ ‫عىل الفنجان»‪ ،‬فنحن إزاء قصيدة ال تخلو من اقتناصات‬ ‫برصية أو باألحرى مشهدية درامية متصاعدة تصل ذروتها‬ ‫بانتصار الحياة‪ .‬هنا تعزيز االرتباط بالجوهريّ ‪ ،‬وتقط ٌري‬ ‫للحب من املرارة «فيام كانت شفتاها‪ /‬ذائبتني يف القهو ِة‪/‬‬ ‫ّ‬ ‫الحي‪ /‬للشجر ِة املنتصب ِة يف‬ ‫ر‬ ‫الجذ‬ ‫يف‬ ‫أخرى‪/‬‬ ‫ة‬ ‫بحيا‬ ‫تنبضان‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫الساحة»‪.‬‬ ‫لوحة للفنان ضياء العزاوي‬

‫ومن خالل االشتغال عىل اللغة‬ ‫اليومية‪ ،‬حيث ّ‬ ‫كل يشء داخلها‬ ‫ُّ‬ ‫يدل عىل نفسه «وحس ُبنا ْأن‬ ‫َ‬ ‫ننصت الرتجافها‪ /‬هي تبوح‪ /‬يك‬ ‫ال نبوح»‪ .‬العقييل‪ ،‬والحالة هذه‪،‬‬ ‫يقدم تعريفات شعرية وغري معقدة‬ ‫لألشياء وتش ّعباتها التي تتب ّدل تلقائياً‬ ‫لنصه‬ ‫مع تب ّدل الذات‪ ،‬كام ال يرتك ّ‬ ‫أن يبدو جامداً‪ ،‬بقدر ما يحركه من‬ ‫خالل السرّ د أو عرب تهيئته لرتجيعات‬ ‫برصية يف الغالب‪ ،‬مثل قوله‬ ‫«تخربش األصابع» أو «تتعربش يف‬ ‫الهواء»‪.‬‬

‫عبد الزهرة زيك ‪َ -‬‬ ‫«مثل‬ ‫غريب نس َي ُه النهار»‬ ‫ضو ٍء‬ ‫ٍ‬ ‫و «نس َي ْت شفتَيها عىل‬ ‫الفنجان»‬

‫ٌ‬ ‫ومسكون‬ ‫رومانيس‬ ‫نص «غريب» لصالحة غابش قص ٌري‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫بالشك الذي تولده كاف التشبيه منذ أول سطر «كأنه‬ ‫صوت أغنية»‪ ،‬مثلام ييش كذلك بالبحث عن االتحاد‬ ‫وحلولية ّ‬ ‫كل عاشق يف معشوقه عىل شاكلة االلتامس‬ ‫حلم أو أمنية هبهات تتحقق‪ ،‬ألن‬ ‫الصويف املعروف‪ ،‬لكنه ٌ‬ ‫ال َّرفض مصريها‪ ،‬فيكون التعويض عنها برفض فكرة الرفض‬ ‫من أساسها‪ ،‬وبالتايل إثبات تح ّقق ما استعىص «وإن مل يلتق‬ ‫النبضان يف نبض‪ /‬وإن رفضتهام أنشودة العشق‪ /‬ستبقى‬ ‫الرفض»‪.‬‬ ‫رحلة العشاق‪ /‬ترفض مبدأ‬ ‫ِ‬

‫‪25‬‬

‫ابراهيم الوايف ‪« -‬جنسية»‪« ،‬عمى» و «مرآة»‬

‫ثالث قصائد قصرية وتفعيلية إلبراهيم الوايف ال تخلو‬ ‫من انسجام وتصاعدية واهتامم بخلق التفاصيل‪ .‬يف‬ ‫قصيدة «جنسية» مكاشفة وحنني إىل «الرفاق القدامى»‬ ‫مينح التائهني‬ ‫وطن آخ ٍر ُ‬ ‫واملايض الذي مل يبق منه «سوى ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫الرجوعَ ‪ /‬ألسامئهم…!»‪ .‬قصيدة «عمى» ٌ‬ ‫ورغبة يف‬ ‫شغف‬ ‫تغيري منطق االحتامالت‪ ،‬ويف انتشال العامل من مستنقع‬ ‫الليل‪ ،‬بالفعل ال بالقول فقط «سوف أفت ُّش عن ض ّف ٍة‬ ‫للصباح‪ /...‬وأجمع للفقراء الصغا ِر غناء العصافري يف‪ /‬سدرة‬ ‫ْ‬ ‫املنتهى…!»‪ .‬أما قصيدة «مرآة»‪ ،‬فتستحرض للوهلة األوىل‬ ‫أسطورة نرسيس «تراءى عىل املاء وجهي‪ ،»..‬لكن رسعان ما‬ ‫يتبدد ذلك حني يحرض األب بقوة‬

‫‪39‬‬


‫رأي الناقد‬

‫عبيد عباس ‪« -‬رشفة قدمية»‬

‫هي رشفة قدمية لكنها «أقرب لل ِه من الناس»‪ ،‬وهذا‬ ‫قرب مجازيّ رصف ال مكا ّين‪ .‬الرشفة كذلك أرملة «فقدت‬ ‫ٌ‬ ‫سوسنها وربيع تحضرّ ها»‪ ،‬لكنه ليس فقداناً أبدياً‪ ،‬رغم أن‬ ‫عبيد عباس مل يشأ أن يح ّمل رشفته القدمية ما ال طاقة لها‬ ‫به‪ ،‬وإن كانت ممهّدات القصيدة تتطلب خامت ًة تصارع فيها‬ ‫الرشفة القدمية دمعة الحزن والجرح بالبهجة والربيع وغناء‬ ‫الورد الذي تك ّرر الطبيعة والدته مرة أخرى‪.‬‬

‫بريهان الرتك ‪« -‬نصوص»‬

‫متدفقة وزاخرة بالتوازيات والتناقضات وال ّرشقات النرثية‬ ‫العالية‪ ،‬لكنها ال تقوم بوظيفة نقل الصورة عىل حقيقتها‬ ‫بقدمي إىل جهنّم‪ /‬ال ألتباهى‬ ‫«ليأخذوين إىل جهنّم‪ /‬فألذهب‬ ‫ّ‬ ‫ألرتاح ُوأش َفى»‪ ،‬ناهيك عن امتالك جوالن لغة جارحة‬ ‫بل‬ ‫َ‬ ‫وخارجة عن مألوف الكتابة الشعرية السائدة بني أقرانه‪.‬‬

‫نور البواردي ‪« -‬عامئة يف الهواء»‬

‫كام هو حال نصوص بريهان الرتك التي أرشنا إليها آنفاً‪،‬‬ ‫تجيء قصيدة نور البواردي من حيث الشكل الهنديس عىل‬ ‫هيئة مقاطع قصرية ومر ّقمة من ‪ 1‬إىل ‪ ،10‬كام أن لكل‬ ‫مقطع استقالليته داخل إطار النص الجامع لها تحت عنوان‬ ‫ٌ‬ ‫عنوان يعدُّ متهيداً ومفتتحاً مبارشاً ملا‬ ‫«عامئة يف الهواء»‪ ،‬وهو‬ ‫أرادت الشاعرة قوله‪ .‬نربة املقاطع خافتة يف معظمها وقريبة‬ ‫إىل الهمس «يف أقىص قلبي‪ /‬فر ٌ‬ ‫اشة تغزل من ُح ُّب َك قصائد‬ ‫ُمل َّونة»‪.‬‬

‫ترتك الشاعرة األردنية الشابة بريهان الرتك لنصوصها أن‬ ‫تأخذ شكل مقاطع متفاوتة الطول والقرص‪ّ ،‬‬ ‫وكأن كل واحد‬ ‫منها قصيدة مستقلة بحد ذاتها‪ ،‬تتل ّبسها ٌ‬ ‫حالة أشبه بالحوار‬ ‫مع الذات أو مساءلتها «قافلة من الجياع تعوي يف دمي»‪،‬‬ ‫فيام يأخذ بعض النصوص شكل الومضة الصادمة واملكثفة‬ ‫عىل األرجح‪ ،‬كام يف قولها «الحرس أخرس‪ /‬إىل أن يقع يف‬ ‫راسم املدهون ‪« -‬بيتي»‬ ‫خفي‪،‬‬ ‫فمنا»‪ .‬نصوص بريهان مرتبطة فيام بينها بخيط ّ‬ ‫نص احتفا ّيل ومنساب كالحرير‪ ،‬وفوق هذا وذاك مؤثث‬ ‫وأقرب ما تكون إىل الفسيفساء‪.‬‬ ‫شفيف وجوهري هو «البيت» الذي‬ ‫بعناي ٍة ودربة‪ ،‬عرب رمز‬ ‫ٍ‬ ‫يجمع وال يف ّرق‪ ،‬ويغدو يف املحصلة بؤرة لتعالقات الذات‬ ‫عبد الله أبو شميس ‪« -‬يسمونه الحب»‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫وخالصة اغرتابها‪ ،‬مشكال مركزية الحدث الذي تدور باقي‬ ‫تجري قصيدة عبد الله أبو شميس بضمري املتكلم املؤنث‬ ‫منذ أول سطر «أنا امرأة حرة وسعيدة»‪ ،‬ما يذكرنا – عربياً العنارص يف فلكه بحيوية داخل القصيدة من أولها إىل آخرها‬ ‫«بيت يسكنني مرة‪ /‬فأسكنه ألف مرة»‪ .‬يف آخر سطرين‪،‬‬ ‫– بصنائع نزار قباين ومت ّرد املرأة يف قصائده‪ ،‬وهو التم ّرد‬ ‫ينجح املدهون يف خلق اإلدهاش واملفاجأة املتوهجة‪ ،‬بعيداً‬ ‫الذي يندلع يف قصيدة أبو شميس عىل لسان امرأة ال تني‬ ‫عن الشعارات الجاهزة وتقديم املواعظ «بيت يل‪ /‬يصعد‬ ‫تؤكد وجودها وحريتها وذاتها طوال القصيدة ويف خامتتها‬ ‫عىل ظهر ذاكريت‪ /‬ال ينام‪ /‬ولكنه ال يدعني أنام»‪.‬‬ ‫نص عبد الله أبو شميس غنايئ‬ ‫«أنا امرأة حرة وعنيدة»‪ّ .‬‬ ‫من ابتدائه لغاية ما يشبه منتهاه‪.‬‬

‫جوالن حاجي – «ثلج»‬

‫يحسب للسوري لجوالن حاجي عنايته باللغة وج ّدة‬ ‫تراكيبها‪ ،‬بحيث ميكن القول إنه ال يكف عن التجريب‬ ‫اللغوي سعياً وراء إيجاد قاموس شعري خاص به ومتفرد‪.‬‬ ‫يف نصه «ثلج» الذي يحتمل تأويالت عدة ويحفل‬ ‫بانزياحات متينة‪ ،‬يواصل التأكيد عىل اهتاممه الخاص‬ ‫برصد أدق التفاصيل الحياتية‪ ،‬واللجوء إىل أساليب رسدية‬ ‫‪40‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫محمد عنيبة الحمري ‪« -‬كون عام»‬

‫هذا النص ملحمد عنيبة الحمري مغسول مبكابدات العشق‪،‬‬ ‫وقدر الرحيل الذي هو قدر ّ‬ ‫كل باحث عن الحقيقة‬ ‫والبح ُر‪/‬‬ ‫واكتشاف أرسار الوجود ِ‬ ‫«سنْدباد أنا‪ /‬سامني ال ُّرب ْ‬ ‫ْ‬ ‫تهاوت‪ /‬إىل‬ ‫بنجوم‬ ‫أسرتيح إىل قد ِري‪/‬‬ ‫خسفا‪ /‬فرمت األث ْري‪/‬‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬ ‫ا ُملنتهى»‪ .‬االنتقال بني املقاطع من حالة إىل أخرى أسهم‬ ‫يف كرس ح ّدة الرتابة‪ ،‬لكنه مل يو ّلد مزيداً من الشاعرية أو‬ ‫التدفق الشعري‬


‫مل‬

‫ف‬

‫ُر مَّبا‬

‫ما ُ‬ ‫زلت ح ّياً يف‬ ‫مكان ما‪ ،‬وأَ ُ‬ ‫عرف‬ ‫ٍ‬ ‫ما ُأريدُ …‬ ‫سأص ُري يوماً ما‬ ‫ُأريدُ‬

‫يحكون‬

‫يف بالدنا‬ ‫يحكون يف شجن‬ ‫عن صاحبي الذي‬ ‫مىض‬ ‫و عاد يف كفن‬

‫محمود درويش‬

‫أثر الغائب‬ ‫‪41‬‬


‫تصوير‪ :‬نادر داوود ‪ -‬مرسح البلد (األردن)‬

‫‪42‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫استعادة درويش‬

‫صاحب الفرادة‬

‫‪................................................................................................................................‬‬

‫يف‬

‫الثامن من آب‪ /‬أغسطس الحالي تحل الذكرى السنوية الرابعة لرحيل الشاعر محمود‬ ‫درويش على إثر عملية جراحية في القلب أجراها في الواليات المتحدة‪ ،‬لم يكتب لها‬

‫النجاح‪ ،‬وكانت خاتمة لسباق طويل مع الموت ظل يتربص بالشاعر منذ أوائل الثمانينيات‪،‬‬ ‫حتى نال منه‪.‬‬ ‫نقل درويش المواجهة مع الموت على مدى ربع قرن إلى ساحة الشعر‪ ،‬وجعل من نصه‬ ‫الشعري أداة للبقاء على قيد الحياة والكتابة‪ ،‬وطيلة تلك المعركة غير المتكافئة لم يستسلم‬ ‫الشاعر وإن خانه القلب في نهاية المطاف‪ ،‬بل سجل انتصار النص على الموت‪ ،‬وترك‬ ‫القصيدة مفتوحة ال تنتهي‪.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫كبيرا يستحق التوقف أمامه مطوالً‪ ،‬فهو شاعر شديد الثراء‪ ،‬متعدد‬ ‫منجزا‬ ‫ترك درويش‬ ‫اآلفاق والمستويات‪ ،‬يتجاوز ذاته بين كل عمل وآخر‪ ،‬عبر اشتغال دؤوب وصارم على‬

‫ً‬ ‫مسلحا بثقافة واطالع واسعين‪ ،‬ومتابعة دائمة لإلبداع في الكتابة‬ ‫الشكل واللغة والصورة‪،‬‬

‫وطن‬ ‫ال‬ ‫ٌ‬ ‫وال منفى‬

‫هي الكلمات‪،‬‬ ‫بل ول ُ‬ ‫ع البياض‬ ‫بوصف زهر اللوز‬ ‫ال ثلجٌ‬ ‫وال ُقطنٌ‬ ‫تعاليه‬ ‫فما هو في‬ ‫ِ‬ ‫على األشياء واألسماء‬ ‫لو نجح المؤلف‬

‫والتشكيل والموسيقى والسينما‪ .‬وفي الوقت نفسه‪ ،‬فإن درويش الكائن الفلسطيني األمين‬

‫في كتابة مقطع‬

‫على رواية شعبه وأرضه المحتلة‪ ،‬لم يكف عن تأمل ذاته‪ ،‬ولم يترك لفتة أو مالحظة عابرة‬

‫في وصف زهر اللوز‬

‫ً‬ ‫إال صاغها سؤاالً‬ ‫مباغتا بجدته وطزاجته‪ ،‬وشكلت تجربته الحياتية وترحاله بين البلدان‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عينا ثالثة يرى بها ما التراه العين العادية‪.‬‬

‫في هذا الملف الذي أعدته مجلة «بيت الشعر» محاولة الستعادة الغائب ليس على سبيل‬

‫الضباب عن التالل‬ ‫النحسر‬ ‫ُ‬ ‫وقال شعب كامل‪:‬‬ ‫ه َو‬ ‫هذا ُ‬ ‫هذا كالمُ نشيدنا الوطنّي!‬

‫ً‬ ‫أساسيا في‬ ‫التأبين المتأخر‪ ،‬وإنما من أجل قراءة جديده لمنجزه الشعري‪ ،‬الذي يعد‬

‫الشعرية العربية منذ الستينيات‪ ،‬وشكل إضافة نوعية في حركة الشعر العربي الحديث‪،‬‬ ‫تركت بصماتها على أجيال منذ السبعينيات حتى اليوم‪.‬ويلقي الملف الضوء على ظالل‬ ‫في تجربة هذا الشاعر وتحوالته‪ ،‬من خالل حوارين مهمين مع الناقد صبحي حديدي‬ ‫والموسيقار مرسيل خليفة‪ ،‬باإلضافة إلى قراءات‪ ،‬آراء‪ ،‬ونظرات متقاطعة ألكثر من جيل‬ ‫وحساسية نقدية‪.‬‬ ‫درويش قامة مديدة في الشعر العربي‪ ،‬ولذا سيظل الشعر يقف عند فرادته وتأثيره في‬ ‫زمنه الشعري‬ ‫‪43‬‬


‫ملف‬

‫صبحي حديدي‬

‫درويش كتب قصيدة‬ ‫حفظت كرامة الشعر‬

‫‪................................................................................................................................‬‬ ‫ً‬ ‫اختيارا من‬ ‫لم يكن اختيار الناقد صبحي حديدي إلجراء حوار معه حول محمود درويش وصنيعه الشعري‬

‫منطلق نقدي فحسب‪ .‬صبحي حديدي الذي ّ‬ ‫قدم دراسات نقدية بحس جمالي رفيع حول شعر محمود درويش‪،‬‬ ‫قد جمعته إلى الشاعر الراحل صداقة عميقة أيضا‪ً.‬‬

‫حوار‪ :‬جهاد هديب‬

‫بدءاً‪ ،‬كيف تتأمل جامهريية الشعر‬ ‫باملعنى التاريخي للكلمة‪ ،‬وهل حقق‬ ‫الشاعر العريب يوماً نجومية ما يف عرصه؟‬ ‫خذ املتنبي مث ًال‪ ،‬رمبا ميكن القول بأنه‬ ‫شاعر زمانه‪ ،‬لكن هل كان نج ًام يف زمانه حقاً وبوصفه‬ ‫شاعراً أيضاً ال فارساً شاعراً؟ ماذا عن مقاربة هذا األمر بحالة‬ ‫محمود درويش؟‬ ‫ً‬ ‫مفهوم «الجامهريية» غائم الداللة وعائم الربهان‪ ،‬فضال عن‬ ‫أنه مشبع بالتباسات شتى‪ ،‬ولهذا أميل شخصياً إىل ترجيح‬ ‫الج ْمعية»‪ ،‬التي ميكن أن تتس ّيد حقبة‬ ‫مفهوم «الذائقة َ‬ ‫بعينها ألسباب متعددة‪ .‬طابعها الجامعي‪ ،‬ولع ّله يفيد معنى‬ ‫«الجامهريية» أيضاً‪ ،‬هو ّأن سطوتها تنهض عىل توحيد‬ ‫ذائقات فرعية إذا جاز التعبري‪ ،‬أضيق نطاقاً‪ ،‬وال تحظى دامئاً‬ ‫طاغ من اإلجامع‪ .‬األشكال‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬ميكن‬ ‫مبقدار ٍ‬ ‫كأن تجد جمهوراً عريضاً‬ ‫أن تتكفل بعملية التوحيد تلك‪ْ ،‬‬ ‫يتذ ّوق قصيدة العمود‪ ،‬ولكنه يتباين يف تثمني مناذجها عند‬ ‫أحمد شوقي أو خليل مطران أو محمد مهدي الجواهري أو‬ ‫بدوي الجبل أو سعيد عقل‪ ،‬ليك نبقى يف القرن العرشين‪.‬‬ ‫املوضوعات‪ ،‬كذلك‪ ،‬ميكن أن تطلق ما يشبه تحالفات‬ ‫الذائقة‪ْ ،‬‬ ‫الحب‪ ،‬أو القصيدة‬ ‫كأن يتح ّمس البعض لقصيدة ّ‬ ‫السياسية؛ أو ينحاز البعض إىل الحديث مقابل القديم‪،‬‬ ‫والتجريبي إزاء التقليدي‪ ،‬والراديكايل يف وجه املحافظ‪.‬‬ ‫ويف العموم‪ ،‬أظنّ ّأن الكثري من الشعر العظيم يبدأ أقلوياً‪،‬‬ ‫‪44‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫مبعنى أنه ال ّ‬ ‫يصل إال إىل نخبة أ ّوالً‪ ،‬لكنه يف نهاية املطاف‬ ‫لن ّ‬ ‫األعم‪ ،‬ولن تتمنّع عليه‬ ‫يضل طريقه إىل رشائح القراءة ّ‬ ‫الج ْمعية أياً كانت تحصيناتها املسبقة‪.‬‬ ‫الذائقة َ‬ ‫«النجومية»‪ ،‬من جانبها‪ ،‬ظ ّلت قرينة الشعر يف ّ‬ ‫كل العصور‬ ‫كام أعتقد‪ ،‬ويندر أن نعرث عىل حقبة مل يتسيدها شاعر‬ ‫نجم‪ ،‬أياً كانت االعتبارات وراء هذا‪ .‬هو موقع فريد‪،‬‬ ‫خاص‪ ،‬متتّع به كبار شعراء األمم‪ ،‬منذ األطوار‬ ‫بل نفوذ ّ‬ ‫بنبي األ ّمة‪،‬‬ ‫السحيقة الزدهار الشعر‪ ،‬حني كان الشاعر أشبه ّ‬ ‫والناطق املعبرّ عن كيانها‪ ،‬وع ّرافها الذي يستبرص أقدارها‬ ‫املاضية والحارضة‪ ،‬يف السم ّو واالنتصار كام يف االنكسار‬ ‫والهزمية‪ .‬ويف ثقافات األمم تكررت عىل الدوام تلك الربهة‬ ‫االستثنائية التي ُتلقى فيها عىل عاتق شاعر واحد مه ّمة‬ ‫الج ْمعي لأل ّمة‪ ،‬وبالتايل‬ ‫رؤيوية كربى‪ ،‬هي التقاط الوجدان َ‬ ‫الج ْمعية»‪ ،‬وتحويل الشعر إىل ق ّوة‬ ‫صناعة تلك «الذائقة َ‬ ‫وطنية وثقافية‪ ،‬روحية ومادية‪ ،‬جاملية ومعرفية‪ .‬املتنبي‬ ‫كان من طينة هؤالء‪ ،‬يف تقديري؛ وكذلك كان والت ويتامن‬ ‫يف أمريكا‪ ،‬وشارل بودلري يف فرنسا‪ ،‬وألكسندر بوشكني يف‬ ‫روسيا‪ ،‬والشريازي يف بالد فارس‪ .‬ويبقى‪ ،‬بالطبع‪ّ ،‬أن يف‬ ‫طليعة اشرتاطات النجومية الحقة أن يكون النجم مستعداً‬ ‫لالنخراط يف جامعة شعرية متعددة األجيال واألشكال‬ ‫يوحد‪ ،‬أو رمبا يف ّرق‪ ،‬من‬ ‫واملوضوعات‪ ،‬عىل نحو يتيح له أن ّ‬ ‫داخل املجموع ال من خارجه أو من فوقه‪.‬‬


‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬

‫درويش وحديدي‬

‫شعره صنع جمهوراً من الناس متعدد املشارب واالتجاهات‬ ‫قيثارة فلسطني‬ ‫الثقافية واملعرفية وقريب من الشعر يف الوقت نفسه‪ ،‬عرب‬ ‫محمود درويش شغل يف الوجدان العريب العريض‪ ،‬وأظنه‬ ‫أكرث من أربعني عاماً‪ ،‬وبرحيل هذا الشاعر بات التلقي أقلّ‬ ‫ما يزال يشغل‪ ،‬موقعاً معقداً يتجاوز صفة الشاعر‪ ،‬إلنه‬ ‫شيوعاً‪ ،‬خاصة يف متابعة األمسيات الشعرية؟‬ ‫صار «وغالباً صيرّ وه!» صوت فلسطني بوصفها فردوس‬ ‫لعلها رضورة الشعر‪ ،‬بادىء ذي بدء‪ ،‬عىل غرار تلك الزفرة‬ ‫العرب الضائع‪ ،‬وعاشق أرض فلسطني باعتبارها رمز األنثى‬ ‫التي أطلقها جان كوكتو ذات م ّرة‪« :‬الشعر رضورة‪ ،‬وآه لو‬ ‫العليا األسمى واألجمل‪ ،‬ولسان حال املقا ِوم الفلسطيني‬ ‫أعرف ملاذا!»‪ .‬اسمح يل أن أقارب األمر من زاوية شخصية‪،‬‬ ‫مقابل املهزوم العريب‪ ،‬والرمز املتح ّرك ىّأن كان ىّ‬ ‫وأن يكون‬ ‫إ ْذ شاء حسن طالعي أن أستمع ـ يف‬ ‫«يف يافا‪ ،‬يف القاهرة‪ ،‬يف بريوت‪،‬‬ ‫صفوف الجمهور‪ ،‬من داخل القاعة‬ ‫يف باريس‪ ،‬يف رام الله…»‪ .‬وإنه‬ ‫شغل درويش موقع ًا‬ ‫املعتمة‪ ،‬وليس عرب أيّ تسجيل‬ ‫قيثارة فلسطني التي تداوي حتى‬ ‫ً‬ ‫صفة‬ ‫يتجاوز‬ ‫ا‬ ‫معقد‬ ‫سمعي أو مريئ ـ إىل درويش يلقي‬ ‫حني تجرح‪ ،‬و ُتشجي حتى حني‬ ‫شعره يف مدن عديدة‪ :‬دمشق‪،‬‬ ‫ُتدمي‪ ،‬وتشحذ ق ّوة الروح حتى‬ ‫الشاعر في الوجدان‬ ‫وباريس‪ ،‬ولندن‪ ،‬وبرلني‪ ،‬وأمسرتدام‪،‬‬ ‫حني تقف عىل اندحار الروح‪،‬‬ ‫العربي العريض‪ ،‬لكنه‬ ‫وصنعاء‪ ،‬وعدن‪ ،‬وتونس‪ ،‬وعماّ ن‪،‬‬ ‫وتبدو واضحة حتى حني َت ْغ ُمض‪،‬‬ ‫تعرّض‪ ،‬مرار ًا‪ ،‬لـ«تهمة»‬ ‫والرباط‪ ،‬والقاهرة‪ ،‬وديب‪ ،‬وسواها‪.‬‬ ‫ومتفائلة حتى حني تتشاءم‪،‬‬ ‫وقد اعتدت أن أرسق نفيس من‬ ‫ورامزة إىل الجامعة حتى حني‬ ‫مفادها أنه شاعر‬ ‫سحر اإللقاء‪ ،‬ومهارات الراحل‬ ‫ترصح عن الفرد‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫محمل‬ ‫على‬ ‫جماهيري‬ ‫ً‬ ‫املشهود لها بالرباعة‪ ،‬ليك أسرتق‬ ‫هل يبدو دقيقا القول بأن‬ ‫النظر ميمنة وميرسة‪ ،‬متلصصا ـً‬ ‫والذم‬ ‫القدح‬ ‫حضور محمود درويش‪ ،‬لجهة‬ ‫ّ‬ ‫كام يتوجب القول‪ ،‬يف الواقع ـ عىل‬ ‫عالقته مبتلقي شعره عربياً‪ ،‬كان‬ ‫«رضورة شعرية»‪ ،‬مبعنى‪ ،‬أن‬ ‫متغريات ردود أفعال القاعة‪ ،‬إزاء‬ ‫‪45‬‬


‫ملف‬

‫يف صالح مرشوع درويش الشعري‪ ،‬وحدث أحياناً أخرى‬ ‫ّأن ضغط الرشوط املوضوعية ألزم الشاعر بدفع برنامجه‬ ‫ّ‬ ‫الصف الثاين والسامح للمهمة الوطنية باحتالل‬ ‫الجاميل إىل‬ ‫ّ‬ ‫الصف األول‪ .‬ولكنه يف الحالتني أثبت حساسية فائقة تجاه‬ ‫ً‬ ‫تطوير لغته وأدواته وموضوعاته‪ ،‬خصوصا يف العقدين‬ ‫األخريين من مسريته الشعرية حني استق ّرت كثرياً معادالتٌ‬ ‫أكرث هدوءاً للعالقة التبادلية بني تطوير جاملياته الشعرية‬ ‫وتط ّور نفوذه األخالقي والثقايف يف الوجدان العريب‪.‬‬ ‫صحيح ّأن عالقة درويش بالقاعة‪ ،‬وبـ«جامهري» الشعر‬ ‫عىل اختالف رشائحها وحساسياتها‪ ،‬كانت فريدة ورمبا‬ ‫استثنائية بسبب ذلك االجتامع املعقد لألسباب املوضوعية‬ ‫رسخوا قبله‬ ‫والذاتية‪ ،‬إال ّأن الكثري من الشعراء العرب ّ‬ ‫ومثله‪ ،‬ويواصلون ترسيخ‪ ،‬عالقات عميقة ومتميزة مع قاعة‬ ‫لعل جامهريهم ّ‬ ‫الشعر‪ ،‬ومع قارىء الشعر‪ّ .‬‬ ‫أقل عدداً رمبا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وأقل شيوعاً كام تقول‪ ،‬باملقارنة مع متابعي قصيدة درويش؛‬ ‫ولكن من اإلنصاف أن ُتلت َمس مقاييس التلقي يف معايريها‬ ‫الوسيطة‪ ،‬هنا‪ ،‬ال القصوى‪.‬‬

‫هذا املقطع أو ذاك‪ ،‬وبواعث تصاعد التفاعل أو مراوحته‬ ‫أو سكونه‪ .‬وأحسبني كنت‪ ،‬يف هذا‪ ،‬أسعى إىل الوقوف‬ ‫عىل طبائع استقبال املتلقي للنسخة الصوتية من القصيدة‪،‬‬ ‫وليس اقتفاء خصوصيات األداء وحده‪ ،‬من منطلق انحيازي‬ ‫القديم إىل التعاقد السوسيولوجي بني الفنّ والذائقة‬ ‫الج ْمعية‪ ،‬أو ذائقات الجموع إذا جاز يل القول‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ذلك يجعلني أعود إىل سمة محددة شدّتني عىل الدوام يف‬ ‫شخصية درويش الشعرية‪ ،‬وأعني عالقته بالقاعة خاصة‪،‬‬ ‫وبالجمهور بصفة عامة‪ .‬معروف أنه تع ّرض‪ ،‬مراراً‪ ،‬لـ«تهمة»‬ ‫عجيبة مفادها أنه شاعر جامهريي؛ وكانت هذه الصفة‬ ‫ُتساق ض ّده عىل محمل القدح والذ ّم‪ .‬لكنه‪ ،‬وهي السمة‬ ‫التي أعنيها‪ ،‬حرص دامئاً عىل الوفاء برشوط عالقة مزدوجة‬ ‫ّ‬ ‫الشاق»‪:‬‬ ‫مع الجمهور‪ ،‬سبق يل أن أسميتها «التعاقد الثنايئ‬ ‫‪ )1‬مع مرشوع شعري كبري مل ّ‬ ‫يكف عن التط ّور واالغتناء‬ ‫واالرتقاء‪ ،‬يف الشكل واملستويات الجاملية‪ ،‬كام يف املحتوى‬ ‫واملوضوعات؛ و‪ )2‬مع قارىء عنيد‪ ،‬مدمن عىل طراز قيايس‬ ‫من شعر درويش‪ ،‬تغ ّذيه الشعبية الطاغية لقصائد مثل‬ ‫«سج ْل أنا عريب» و«أحنّ إىل خبز أ ّمي» و«أحمد الزعرت»‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العايل»‪.‬‬ ‫الظل‬ ‫و«مديح‬ ‫و«بريوت»‬ ‫املطهر الشعري‬ ‫ويف جميع املدن التي ذكرتها‪ ،‬أو باألحرى من داخل جميع‬ ‫هل ترى أن ظاهرة محمود درويش الشعرية ستسمر؟‬ ‫هذه «الجامهري» الشعرية ـ ألنها مل تكن جمهوراً واحداً‬ ‫مبعنى هل سيتم إدخال تجربته إىل «مطهر» شعري ين ّقي‬ ‫ُ‬ ‫شهدت درويش‬ ‫يصح أن تكون يف األصل ـ‬ ‫متجانساً‪ ،‬وال ّ‬ ‫التجربة من كل ما هو غري شعري فيها بعد حدوث مسافة‬ ‫يعاند القاعة التي تطالب‬ ‫زمنية ما‪ ،‬كام هي الحال يف الثقافة‬ ‫بقصائد «جامهريية» مثل‬ ‫الغربية مث ًال؟ أتذ ّكر أن محمود‬ ‫الشعر‬ ‫من‬ ‫الكثير‬ ‫«بطاقة هوية» و«أحمد الزعرت»‬ ‫درويش كان ميارس هذا األمر عىل‬ ‫و«مديح ّ‬ ‫ّ‬ ‫الظل العايل»‪ ،‬فيختار‬ ‫شعره بطريقة شاقة‪ ،‬قال يل مرة‬ ‫العظيم يبدأ أقلوي ًا‪،‬‬ ‫بحسب ما أتذكر أنه ينجز مرشوعاً‬ ‫قصيدة جديدة بعد أخرى‪ ،‬وصرب‬ ‫ّ‬ ‫إال‬ ‫يصل‬ ‫ال‬ ‫أنه‬ ‫بمعنى‬ ‫الناس يكاد ينفد‪ ،‬حتى يبلغ‬ ‫شعرياً يف كتاب ثم يعرضه عىل أناس‬ ‫إلى نخبة أ ّو ً‬ ‫تلك الربهة الخاصة الفائقة‪،‬‬ ‫ال‪ ،‬لكنه‬ ‫من مستويات ثقافية واقتصادية‬ ‫حني ُت ْقبل القاعة أخرياً عىل‬ ‫مختلفة وبعد ذلك ينتزع هو ‪40‬‬ ‫في نهاية المطاف لن‬ ‫جديده‪ ،‬الصعب وغري املألوف‬ ‫باملئة من الكتاب ويبقي عىل ‪،60‬‬ ‫ّ‬ ‫لديها‪ ،‬وترحب به‪ ،‬وتتذوقه‪.‬‬ ‫يضل طريقه إلى شرائح هل كنت عىل علم بذلك؟ مباذا‬ ‫أسباب موضوعية‪ ،‬وأخرى ذاتية‪،‬‬ ‫تع ّلق عىل هذه املامرسة الصعبة‬ ‫األعم‬ ‫القراءة‬ ‫ّ‬ ‫وقفت وراء كيمياء هذا التعاقد‪،‬‬ ‫حيال الذات والقصيدة لدى‬ ‫وحدث أحياناً ّأن التفاعل بني‬ ‫درويش؟‬ ‫هذين النوعني من األسباب كان‬ ‫مل أفهم املقصود بعبارة «ين ّقي‬ ‫‪46‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬

‫درويش وإدوارد سعيد‬

‫التجربة من كل ما هو غري شعري فيها»‪ ،‬إ ْذ أرى ببساطة‬ ‫ّأن ّ‬ ‫كل ما كتبه درويش وع ّده شعراً‪ ،‬هو شعر من حيث‬ ‫ّ‬ ‫املبدأ‪ ،‬صادر عن معلم ماهر متم ّرس وفنّان‪ ،‬وبالتايل ال‬ ‫أستوعب أن ُين ّقى مام هو «غري شعري»؛ األمر الذي ال‬ ‫يلغي‪ ،‬البتة‪ ،‬الحقّ يف االتفاق أو االختالف حول جودة‬ ‫هذه القصيدة أو تلك‪ .‬يف ّ‬ ‫كل حال‪ ،‬أظن ّأن درويش كان‬ ‫املطهر األ ّول لشعره‪ ،‬بل كان املطهّر األش ّد رصامة وقسوة‬ ‫وحصافة أيضاً‪ ،‬ولهذا ّ‬ ‫فإن ما تركه لنا من منجز شعري هائل‬ ‫ينبغي أن يخدم يف تشغيل أجهزة نقدية ودراسية جبارة‪،‬‬ ‫تنكب عىل استكشاف مواطن اإلبداع الكثرية الخافية أو‬ ‫ال ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫غري املستكشفة بعد‪ ،‬فحسب؛ بل ألن هذه السريورة تسدي‬ ‫خدمة كربى للشعر العريب‪ ،‬حارضاً ومستقب ًال‪ ،‬بالنظر إىل ّأن‬ ‫شخصية درويش الشعرية كانت معقدة بدورها‪ ،‬وفريدة‬ ‫بهذا املعنى أيضاً‪ .‬لقد كان الشاعر املع ّلم‪ ،‬املاهر‪ ،‬املحبوب‪،‬‬ ‫َ‬ ‫املنتظر‪ ،‬املعشوق‪ ...‬ولكنه‪ ،‬أيضاً‪ ،‬كان الشاعر الذي ال‬ ‫تريده «الجامهري» أن يكون شاعراً أ ّوالً‪ ،‬أو شاعراً فقط‪ ،‬أو‬ ‫الشاعر ‪ tout court‬كام يعبرّ الفرنسيون‪ .‬رشائح واسعة من‬ ‫قرائه األوىف كانوا غري راضني عن إرصاره عىل مغادرة أدوار‬ ‫«شاعر املقاومة»‪ ،‬و«شاعر القضية»‪ ،‬و«ضمري فلسطني»‪،‬‬ ‫و«مجنون الرتاب»‪ ،‬و«عاشق األرض»‪ ،‬لهذا السبب الذايت‬ ‫أو لذاك السبب املوضوعي‪ ،‬أو دومنا أسباب عىل اإلطالق!‬

‫كان الشاعر الكبري املع ّلم‪ ،‬ولكنهم مل يك ّفوا عن إلزامه بأن‬ ‫يكون أكرث بكثري من شاعر كبري مع ّلم‪ .‬كان‪ ،‬من جانب أ ّول‪،‬‬ ‫ويوحد «حني يعيش‬ ‫الشاعر الذي يرى ويقول وين ّبه ويجمع ّ‬ ‫اآلخرون‪ ،‬فيصمتون أو يخدّرون أو يف ّرقون»؛ وكان‪ ،‬من‬ ‫جانب ثانٍ ‪ ،‬الشاعر الذي يكتب قصيدة تحفظ كرامة الشعر‬ ‫«يف مقابل نكوص معظم الشعر‪ ،‬واعتالل عالقته بالناس»‪.‬‬ ‫ذلك التعاقد هو املطهر الثاين يف ظني‪ ،‬وكان رهيباً ورشساً‬ ‫ومتط ّلباً ومفتوح النهايات! القصائد الجديدة‪ ،‬منذ عقد‬ ‫التسعينيات بخاصة‪ ،‬الحت يف معظم األحيان صعبة عىل‬ ‫ألن قارىء درويش ّ‬ ‫الذائقة املستق ّرة‪ّ ،‬‬ ‫ظل‪ ،‬بدرجة كبرية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫النص الدروييش الذي بني يديه‪ ،‬مؤمنا به‪،‬‬ ‫مدمناً عىل ّ‬ ‫مستمتعاً وسعيداً‪ ،‬إىل درجة الخشية من االنتقال إىل‬ ‫سواه‪ .‬املفارقة ّأن درويش بوصفه املطهر األول‪ ،‬من حيث‬ ‫إىل موهبته الرفيعة‪ ،‬وطاقته الهائلة عىل التجدّد‪ ،‬وذكاء‬ ‫إدراكه لطبيعة دوره يف املشهد الشعري العريب‪ ،‬وحيوية‬ ‫مامرسته لهذا الدور‪ ،‬وعناده يف تطوير برنامجه الجاميل…؛‬ ‫حظي مبساعدة كرمية من املطهر الثاين القارىء ذاته‪،‬‬ ‫لسبب مدهش هو أن ذلك القارىء كان يف اآلن ذاته رفيع‬ ‫االستجابة‪ ،‬متأه ّباً عىل حذر‪ ،‬ال يرتدد طوي ًال قبل أن ينخرط‬ ‫يف الطور الجديد من مسار درويش الشعري‪.‬‬ ‫يف الجانب اإلجرايئ‪ ،‬الذي تشري إليه‪ ،‬صحيح بالفعل أنه‬ ‫‪47‬‬


‫ملف‬

‫كان يعرض مناذج من قصائد مجموعة جديدة عىل ع ّينات‬ ‫مختلفة من ق ّراء يتع ّمد أن يكون بينهم أناس ال ُيعرف‬ ‫عنهم التخصص يف األدب أو النقد‪ ،‬أو الباع الطويل يف قراءة‬ ‫الشعر‪ .‬ولكن‪ ،‬يف حدود علمي‪ ،‬مل يعرض إال عىل ق ّلة قليلة‬ ‫للغاية مخطوطة كاملة جاهزة للنرش‪ ،‬ألنه كان يحرص‬ ‫عىل مسوداته حرصاً شديداً‪ .‬كان كثري التعديل‪ ،‬حتى بعد‬ ‫أن تذهب املخطوطة إىل النارش‪ ،‬وكان كثري الحذف ومثة‪،‬‬ ‫لألسف‪ ،‬القليل فقط من النصوص التي مل يعمد إىل إتالفها‬ ‫فوراً بعد استبعادها من النرش‪ .‬وكنت‪ ،‬وما أزال‪ ،‬أرى ّأن‬ ‫التصحيحات والتعديالت واملقاطع املحذوفة‪ ،‬لدى شعراء‬ ‫مهرة وفنّانني من طراز درويش‪ ،‬هي يف ح ّد ذاتها ميدان‬ ‫جدير بالدراسة والتأمل‪.‬‬

‫فن الشعر واملوت‬

‫نعود إىل فكرة املطهر‪ ،‬تدري أكرث مني أن الجدارية كانت‬ ‫األحب إىل قلبه‪ ،‬والتي أحسب أنه كان يع ّول‬ ‫التجربة‬ ‫ّ‬ ‫عليها لتكون سبباً يف «خلوده» الشعري‪ ،‬إذا جاز التوصيف‬ ‫هل هي‪ ،‬أي القصيدة‪ ،‬حقاً كذلك؟ بالطبع من عني الناقد‬ ‫وليس من عني الشخص اللصيق بالرجل ّ‬ ‫املطل عىل تجربة‬

‫الجدارية عىل األقل يف مرحلتها الباريسية وأقصد عندما كان‬ ‫يف املستشفى؟‬ ‫ّ‬ ‫األحب إىل قلبه‪،‬‬ ‫كانت‬ ‫«جدارية»‬ ‫أن‬ ‫أعرف‬ ‫من جانبي ال‬ ‫ّ‬ ‫ولعلها كانت بالفعل‪ ،‬واألرجح ّأن أياً من مجموعاته‬ ‫الشعرية‪ ،‬خاصة يف مرحلة ما بعد بريوت ‪ ،1982‬مل يخل‬ ‫من سمة منفردة‪ ،‬أو سلسلة مزايا‪ ،‬تجعل له حظوة خاصة‬ ‫يف نفس درويش‪ .‬كذلك ال أظنّ ‪ ،‬وفوق ّ‬ ‫كل ذي علم عليم‪،‬‬ ‫أنه رأى يف أيّ مجموعة امتيازاً استثنائياً يجعلها حماّ لة‬ ‫«خلود» شعري‪ ،‬بافرتاض ّأن الخلود بهذا املعنى راوده‬ ‫أص ًال‪ .‬خصوصية «جدارية» أنها كانت برهة تح ّد فائقة‬ ‫للغاية‪ ،‬أراد درويش فيها إدارة فضاءات اشتباك ـ طاحنة‪،‬‬ ‫كام أجيز لنفيس القول ـ بني فنّ الشعر واملوت‪ ،‬العافية‬ ‫واالعتالل‪ ،‬البقاء والفناء‪ ،‬والوجود والعدم‪ .‬والذين شهدوه‬ ‫ميوت رسيرياً‪ ،‬باملعنى الطبي والتقني املحض للتعبري‪ ،‬يف‬ ‫باريس سنة ‪ ،1998‬وكيف «قام»‪ ،‬وأنجز «انتفاضة» عىل‬ ‫جسده‪ ،‬كام عبرّ ج ّراحه الفرنيس‪ ...‬يدركون مقدار العنفوان‪،‬‬ ‫اإلبداعي واإلنساين‪ ،‬الذي هيمن عىل مزاجه وهو يكتب‬ ‫«جدارية»‪.‬‬ ‫خصوصية أخرى هي أنها كانت القصيدة األطول عىل امتداد‬

‫تعديالت اللحظة األخيرة‬ ‫هنا بعض األمثلة عىل تعديالت ربع‬ ‫الساعة األخري‪ ،‬إذا جاز التعبري‪ ،‬من‬ ‫مجموعة «رسير الغريبة»‪:1999 ،‬‬ ‫ـ «والناي يكمل عاداته‪ /‬يف الحنني إىل‬ ‫ما هو فيه»‪ ،‬صارت‪ ..« :‬إىل ما هو‬ ‫اآلن فيه»؛‬ ‫ـ العنوان «من تعاليم كاما سوطرا»‪،‬‬ ‫صار «من دروس كاما سوطرا»‪ ،‬وانتهى‬ ‫إىل «درس من كاما سوطرا»؛‬ ‫ـ «وقد ن ّور اللوز يف أثر العابرين»‪،‬‬ ‫صارت «وقد ن ّور اللوز بعد خطى‬ ‫‪48‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫العابرين»؛‬ ‫ّ‬ ‫ـ ُ«أ ُ‬ ‫مرت وعُ لمت‪ .‬ال شأن يل‪ /‬مبصريي‬ ‫ا ُملراق كامء عىل جلدها»‪ ،‬صارت «‪ ..‬ال‬ ‫شأن يل‪ /‬بوجودي…»؛‬ ‫ـ «فلم تبق حول الفرات ورود‬ ‫طبيعية»‪ ،‬صارت «‪ ..‬زهور طبيعية»؛‬ ‫ـ «‪ ..‬شالِك الليليك‪ ،‬رشائط فيديو‪،‬‬ ‫وعقداً من الياسمني عىل طحلب‬ ‫القلب»‪ ،‬صارت‪ ..« :‬رشائط فيديو عن‬ ‫الرقص بني الذئاب‪ ،‬وعقداً…»؛‬ ‫ـ «فال ب ّد يل‪ /‬من حصانٍ يالئم هذا‬


‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬

‫تجربته الشعرية‪ ،‬إ ْذ وقعت يف أكرث من ‪ 1000‬سطر شعري‪،‬‬ ‫وكان مق ّدراً لها أن ال تكون األخرية بني قصائده الطوال‪،‬‬ ‫إ ْذ ظ ّلت تتناهبه الرغبة يف إمتام قصيدة طويلة‪ ،‬ملحمية‬ ‫وآسيوية باملعنى التاريخي والثقايف األعمق‪ ،‬عابرة لألحقاب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وتستحث عليها‬ ‫السيرَ الشعبية الكربى كام د ّونتها‬ ‫تستقرىء ِ‬ ‫تراثات العرب واملغول والتتار والفرس والرتك‪ .‬كذلك انطوت‬ ‫صيغة «جدارية» عىل تحديات تعبريية وأسلوبية‪ ،‬فض ًال عن‬ ‫أخرى فنية وإيقاعية معامرية معقدة‪ ،‬تبدأ من خيارات‬ ‫تقسيم املوضوعات الفرعية بالقياس إىل املوضوعة املركزية‪،‬‬ ‫وال تنتهي عند تسخري عدد كبري من التفاعيل املختلفة‪.‬‬ ‫ولهذا ّ‬ ‫ظل إلقاء القصيدة كاملة‪ ،‬طيلة أكرث من ساعة أحياناً‪،‬‬ ‫مبثابة معضلة يف ح ّد ذاته؛ مثلام كان إلقاء مقاطع مختارة‬ ‫منها معضلة بدوره‪ ،‬ولكن من طراز آخر‪.‬‬ ‫وليك أتابع الفكرة السابقة‪ ،‬حول ولع درويش بالتعديل‬ ‫والشطب‪ ،‬أذكر ّأن خامتة القصيدة يف املس ّودة األوىل كانت‬ ‫تسري هكذا‪« :‬هذا البحر يل‪ /‬هذا الهواء الرطب يل‪ /‬واسمي‬ ‫ثم‬ ‫عىل التابوت يل‪ /‬إىل آخره‪ /‬إىل آخره‪ /‬إىل آخره…»‪ّ ،‬‬ ‫تبدّلت ثالث م ّرات‪ ،‬حتى انتهت إىل الصيغة التالية‪« :‬هذا‬ ‫البحر يل‪ /‬هذا الهواء الرطب يل‪ /‬واسمي‪ /‬ـ ْ‬ ‫ُ‬ ‫أخطأت‬ ‫وإن‬

‫امتألت‪ّ /‬‬ ‫ُ‬ ‫بكل‬ ‫لفظ اسمي عىل التابوت ـ‪ /‬يل‪ .‬أ ّما أنا ـ وقد‬ ‫ُ‬ ‫فلست يل‪ /.‬أنا ُ‬ ‫ُ‬ ‫لست يل‪ /‬أنا لست يل»‪.‬‬ ‫أسباب الرحيل ـ‪/‬‬

‫درويش ‪ -‬سعيد‪ ..‬أيّ منط من التواصل‬

‫أحسب أنك كنت شاهداً عىل عالقة محمود درويش بإدوارد‬ ‫سعيد‪ ،‬ولو نسبياً‪ ،‬ما الجوهر الذي جمع بني الرجلني يك‬ ‫ميوتا بفارق زمني ضئيل إمنا يف عمر واحد؟‬ ‫نعم‪ ،‬شهدتهام معاً يف باريس خالل مناسبات عامة وأخرى‬ ‫خاصة‪ ،‬كام كنت شاهداً عىل بعض أمناط التواصل بينهام‪،‬‬ ‫وما أستطيع الجزم به هو ّأن صداقتهام كانت أعمق من‬ ‫تلك املستويات التي يو ّفرها انتامؤهام معاً إىل فلسطني‪،‬‬ ‫وإىل الشطر الثقايف واإلبداعي من الشخصية الفلسطينية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ولعل بعض التنايئ املوضوعي‪ ،‬الذي نجم عن اضطرار‬ ‫درويش إىل قبول عضوية اللجنة التنفيذية ملنظمة التحرير‬ ‫الفلسطينية‪ ،‬وامتالك سعيد هامش الح ّرية يف التخفف من‬ ‫هذا العبء‪ ،‬حال يف البدء دون تالقيهام‪ .‬ولكني أظنّه صار‬ ‫يف رأس األسباب التي جعلتهام يتقاربان عىل النحو اإلنساين‬ ‫والثقايف األعمق الذي شهدته السنوات األخرية‪ ،‬وخاصة‬ ‫حني بلغا منطقة نقدية متقاربة إزاء اتفاقيات أوسلو‪ ،‬وحني‬

‫الزمان»‪ ،‬صارت «‪ ..‬يالئم هذا الزفاف»؛‬ ‫ـ «لوالك‪ ،‬لوال البالد التي تتألأل يف منش‬ ‫الضوء»‪ ،‬صارت «لوالك‪ ،‬لوال الرذاذ‬ ‫الذي يتألأل…»؛‬ ‫ـ أعيش حيايت كام هي‪ /‬يوماً فيوما‪ً،‬‬ ‫صارت «‪ ..‬خيطاً فخيطاً»‬

‫‪49‬‬


‫ملف‬

‫انخرط سعيد يف جهد حثيث ـ أكرب‪ ،‬وأوضح من ذي قبل كام عندما انتقل إىل الغرب‪ ،‬كيف ينظرون إليه كشاعر يف‬ ‫يتوجب القول ـ يف إعادة تقديم شعر درويش إىل األوساط األوساط الثقافية الغربية يف حدود ما تعلم؟ وماذا عن هذا‬ ‫الحضور الجامهريي الذي كان يحققه يف أمسياته الشعرية‬ ‫األكادميية األمريكية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫هناك بالقياس إىل الشعراء الغربيني أنفسهم؟‬ ‫ولعل االختزال األجمل لعالقة الراحلني‪ ،‬عىل امتداد ثالثة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كان قارئا نهام‪ ،‬وقارئا منهجيا أيضا‪ ،‬يف حقول قراءة شائكة‬ ‫عقود تقريبا‪ ،‬هو هذا املقطع من قصيدة «طباق»‪ ،‬التي‬ ‫ً‬ ‫كتبها درويش يف استذكار سعيد‪« :‬وقال‪ :‬إذا ُّ‬ ‫مثل نظرية األدب والفلسفة والتص ّوف‪ ،‬فضال عن الرتاث‬ ‫مت قبلك‪/‬‬ ‫أوصيك باملستحيل!‪ُ /‬‬ ‫النقدي العريب‪ ،‬األمر الذي تعزّز يف العقدَين األخريين حني‬ ‫سألت‪ :‬هل املستحيل بعدي؟‪ /‬فقال‪:‬‬ ‫سألت‪ْ :‬‬ ‫عىل ُبعد جيل‪ُ /‬‬ ‫وإن ُّ‬ ‫مال أكرث إىل القراءة باإلنكليزية‪ ،‬واسرت ّد بعض العربية‪ .‬ويف‬ ‫مت قبلك؟‪ /‬قال‪ :‬أعزّي جبال‬ ‫ّ‬ ‫خصوص اإلبداع كان يقرأ الرواية‪ ،‬العاملية والعربية‪ ،‬أكرث من‬ ‫الجليل‪ /‬وأكتب‪« :‬ليس الجاميل إال بلوغ‪ /‬املالئم»‪ .‬واآلن‪،‬‬ ‫ظل حريصاً‬ ‫الشعر يف الواقع‪ ،‬ولكن عىل نقيض ما شاع فإنه ّ‬ ‫ُ‬ ‫تنس‪ْ /:‬إن ُّ‬ ‫ولست أدري‬ ‫مت قبلك أوصيك باملستحيل»!‬ ‫ال َ‬ ‫عىل متابعة النتاج الشعري العريب الجديد‪ ،‬وخاصة قصيدة‬ ‫إذا كان اقتفاء ذلك املستحيل‪ ،‬عند الراح َلني معاً‪ ،‬هو املراد‬ ‫النرث‪ .‬ومستوى درويش الثقايف الرفيع يتم ّثل يف عرشات‬ ‫الذي جعل الجسد يبلغ ذروة التعب القصوى‪ ،‬يف سنّ‬ ‫املقاالت الالمعة التي نرشها عىل امتداد عقود‪ ،‬وخاصة‬ ‫متامثلة‪.‬‬ ‫تلك التي تتناول مسائل الشعر «أشري إىل عناوين مثل «هل‬ ‫النص الوجيز‪ ،‬الذي كتبه سعيد عن شعر‬ ‫كذلك أجد ّ‬ ‫درويش‪ ،‬أحد أعمق إطالالته عن الشعر‪ ،‬وهي نادرة وقليلة‪ :‬ما زال الشعر رضورياً؟»‪ ،‬و«الشعر بني املركز والهامش»‪،‬‬ ‫و«مهنة الشاعر»‪ ،‬و«الوالدة عىل دفعات»‪ ...‬وهذا العنوان‬ ‫الخاص والعا ّم يف عالقة قلقة دامئة‪،‬‬ ‫«عند درويش يدخل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األخري شكل وجهة نظر درويش العميقة حول ترجمة‬ ‫حيث تكون ق ّوة وجموح األ ّول غري متالمئة مع اختبارات‬ ‫الشعر»‪.‬‬ ‫الصواب السيايس‪ ،‬والسياسة التي يقتضيها الثاين‪ .‬وألنه‬ ‫هو مثقف‪ ،‬أيضاً‪ ،‬مبعنى تفانيه الشديد يف استكامل ما‬ ‫الكاتب الحريص واملع ّلم املاهر‪ ،‬فإن درويش شاعر أدايئ‬ ‫يتوجب القيام به من أبحاث متشعبة عندما يكون عىل عتبة‬ ‫من طراز رفيع‪ ،‬ومن منط ال نجد له يف الغرب سوى عدد‬ ‫كتابة قصيدة تقتيض الرجوع إىل مصادر تاريخية وثقافية‬ ‫محدود من النظائر «…» ودرويش‪ ،‬مثل أقرانه الغربيني‬ ‫وشعورية‪ ،‬أو حتى فنية تشكيلية أو سينامئية أو موسيقية‪.‬‬ ‫الق ّلة‪ ،‬فنّان تقني مدهش يستخدم الرتاث العرويض العريب‬ ‫املثال األبرز الذي يرتدد يف ذهني هو قصيدة «خطبة‬ ‫الفنّي والفريد بطرق تجديدية وجديدة عىل الدوام‪ .‬ذلك‬ ‫الهندي األحمر ـ ما قبل األخرية ـ‬ ‫يتيح له أن ينجز أمراً بالغ الندرة‬ ‫أمام الرجل األبيض»‪ ،‬التي ظهرت‬ ‫يف الشعر العريب الحديث‪ :‬براعة‬ ‫أثبت درويش في‬ ‫يف مجموعة «أحد عرش كوكبا»‪ً،‬‬ ‫أسلوبية فائقة وف ّذة‪ ،‬ممتزجة‬ ‫العقدين األخيرين‬ ‫‪ ،1992‬حني رصف درويش ساعات‬ ‫بحس بالعبارة الشعرية يجعلها‬ ‫ّ‬ ‫طويلة يف قراءة نصوص األقوام‬ ‫بسيطة‬ ‫بإزميل‪،‬‬ ‫باملنحوتة‬ ‫أشبه‬ ‫حساسية فائقة تجاه‬ ‫األصلية‪ ،‬وتفحص رسوماتهم‪ ،‬وشاهد‬ ‫يف نهاية األمر ألنها بالغة‬ ‫وأدواته‬ ‫لغته‬ ‫تطوير‬ ‫األفالم عنهم‪ ،‬واقتنى وسائط سمعية‬ ‫الصفاء»‪.‬‬ ‫وموضوعاته‪ ،‬في مقابل وبرصية تص ّور طقوسهم الغنائية‬ ‫واملوسيقية‪ ،‬وقرأ دراسات متنوعة‬ ‫الشعر رضور ًة‪ ..‬القارئ‬ ‫نكوص معظم الشعر‪،‬‬ ‫متعدداً‬ ‫عن وصول كريستوفر كولومبوس إىل‬ ‫بالناس‬ ‫عالقته‬ ‫واعتالل‬ ‫القارة‪ ،‬واملجازر‪ ،‬واملجاعات‪ ،‬وسقوط‬ ‫أحسب أيضاً أن محمود كان‬ ‫غرناطة‪ ،‬والصعود اإلمربيايل يف تلك‬ ‫شاعراً مثقفاً من طراز رفيع‬ ‫الحقبة‪.‬‬ ‫بالفعل‪ ،‬وتعمقت ثقافته أكرث‬ ‫‪50‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬

‫حروفية ألحمد عقل‬

‫أما من حيث عالقته بالجمهور الفرنيس‪ ،‬فحدث مراراً ّأن‬ ‫ترجامت أشعاره كانت بني األكرث مبيعاً‪ ،‬حتى باملقارنة مع‬ ‫شعراء فرنسيني‪ ،‬وحتى حني تكون مبيعات الشعر يف حال‬ ‫من الركود او الرتاجع‪ .‬وهنا أقصد الحديث عن مجموعاته‬ ‫ما بعد ‪ ،1990‬أي يف األطوار التي شهدت انشغاله بتطوير‬ ‫مرشوعاته جاملياً‪ ،‬وتخففه من ضغوطات املوضوع‬ ‫الفلسطيني‪ ،‬وتح ّرره أكرث فأكرث من اشرتاطات املايض البالغية‬ ‫واإليقاعية‪ .‬وبهذا املعنى ّ‬ ‫فإن القارىء الفرنيس كان ُيقبل‬ ‫عىل الشاعر بصفته هذه‪ ،‬وليس كام قيل عن ّأن القضية‬ ‫الفلسطينية مث ًال هي التي تحمل الشاعر وتصنع جمهوره‬ ‫العريض‪.‬‬

‫الطارئ االستثنايئ‬

‫رساً أنك كنت قريباً من محمود درويش بوصفك‬ ‫ليس ّ‬ ‫ً‬ ‫صديقاً وناقدا‪ ،‬مع ذلك مل تنرش ما كتبته عنه يف كتاب؟ هذا‬ ‫األمر يثري االستغراب والتساؤل‪ :‬ملاذا؟‪ ،‬وما رأيك بتناول النقد‬ ‫ملنجز درويش؟‬ ‫لقد نرشت الكثري عن شعر درويش‪ ،‬واعتدت عىل متابعة‬ ‫جديده منذ مطلع التسعينيات‪ ،‬حتى رصت ضحية اتهام‬ ‫زائف مفاده أنني ال أرى شاعراً عربياً سوى درويش‪،‬‬ ‫واملفارقة ّأن الراحل كان ميازحني بالقول إنني اآلن ّ‬ ‫منظر‬ ‫قصيدة النرث العربية! ج ْم ُع هذه الدراسات يف كتاب أمر‬

‫آخر‪ ،‬إ ْذ أنني مؤمن ّ‬ ‫بأن عىل أي كتاب أن يولد بصفته هذه‪،‬‬ ‫كمؤ َّلف جديد‪ ،‬منذ سطوره األوىل وحتى خامتته‪ ،‬وبالتايل ال‬ ‫أميل إىل جمع دراسات ُنرشت سابقاً‪ ،‬وأراها أشبه بتقديم‬ ‫وجبة بائتة‪ ،‬أو ّ‬ ‫مسخنة‪ ،‬للقارى!‬ ‫يف املقابل‪ ،‬أشتغل منذ سنوات عىل كتاب ضخم عن شعر‬ ‫درويش يف مرحلة ما بعد بريوت ‪ ،1982‬أسعى فيه إىل‬ ‫تل ّمس «أبجدية نقدية» لقراءة القصيدة الدرويشية عىل‬ ‫مستوى اللغة بصفة خاصة‪ ،‬يف حيثيات تفصيلية مثل‬ ‫جدل االتصال أو االنفصال بني القصائد الطوال والقصار‪،‬‬ ‫وحركة املعجم الشعري بني هذين الخيارين‪ ،‬وطبيعة ما‬ ‫يتع ّرض له املعجم من ضغوطات ناجمة عن املوضوعات‬ ‫العامة املألوفة‪ ،‬واملوضوعات ذات الخصوصية‪ ،‬وديناميات‬ ‫الصورة الشعرية «االستعارة بصفة خاصة»‪ ،‬واملهارات‬ ‫واأللعاب اللفظية‪ ،‬واإليقاعات ذات العالقة بالخيارات‬ ‫املعجمية‪ ،‬ومعادالت الغموض والوضوح‪ ،‬ومورفولوجيا‬ ‫الشحنة الداللية‪ ،‬وإمكانية كتابة «تواريخ أرشيفية» للمعجم‬ ‫الدروييش‪ ،‬ورمبا لعدد محدّد من مفردات بعينها‪ :‬كيف‬ ‫بدأت؟ كيف تط ّورت؟ كيف تغايرت دالالتها ووظائفها؟‬ ‫ملاذا؟ وما إىل ذلك‪.‬‬ ‫وأصدقك القول إنني كنت كلام هممت بإصدار الكتاب‪،‬‬ ‫خاصة ّ‬ ‫وأن فصوله أخذت تتالطم وصفحاته تتضخم‪ ،‬كان‬ ‫درويش يفاجئني بطارىء استثنايئ يف مجموعة جديدة‪،‬‬ ‫‪51‬‬


‫ملف‬

‫يجعلني أغوص يف املزيد‪ ،‬متكئاً دامئاً عىل مزيج من الفضول‬ ‫التحلييل‪ ،‬والتوق إىل االستكشاف‪ ،‬واالنشداد إىل ثراء‬ ‫التجربة‪ ،‬والوفاء الشخيص لصديق يحدث أنه شاعر كبري‬ ‫ال ّ‬ ‫يكف عن االرتقاء‪ .‬اآلن رحل هذا الصديق‪ ،‬ومل تعد يل‬ ‫ذريعة يف تأخري إصدار الكتاب‪ ،‬وسأفعل‪ ،‬ليس دون غصة‬ ‫كربى بالطبع‪ :‬أنه مل يقرأ سطراً واحداً من ذلك املجلد!‬ ‫يف ما يخص تناول النقد ملنجز درويش‪ ،‬أظنّ ّأن حاله يف هذا‬ ‫كانت شبيهة بحال الغالبية الساحقة من الشعراء العرب‪،‬‬ ‫من حيث ما تع ّرضوا له من قصور النقد أو تقصريه‪ .‬أرى‪،‬‬ ‫يف املقابل‪ّ ،‬أن إنصاف تجربة درويش‪ ،‬ورمبا أي شعر عظيم‪،‬‬ ‫يجب أن يبدأ من مساءلة ذلك الرتاث النقدي الذي صنع‬ ‫أو اصطنع جملة من الثوابت سواء أكانت مع ّمقة صائبة‪،‬‬ ‫أو سطحية خاطئة الضا ّرة طوراً‪ ،‬أسهمت وما تزال يف ما‬ ‫أس ّميه «تعويم» منجز درويش داخل الذائقة الجمعية‪.‬‬ ‫ومنذ األشهر األوىل بعد خروجه من األرض املحتلة إىل العامل‬ ‫العريب‪ ،‬حني أخذت سلطته األدبية تتعاظم وترتسخ‪ ،‬تن ّبه‬ ‫درويش إىل إشكالية موقع الشاعر الناطق باسم الوجدان‬ ‫الجمعي لأل ّمة‪ ،‬وأدرك أن سبيله األفضل للسري يف هذه‬ ‫العالقة الوعرة مع جمهوره يقتيض‪ ،‬أ ّوالً‪ ،‬تطوير املوضوعات‬ ‫واألدوات واألساليب التي تضمن للشعر أن يواصل الحياة‬ ‫تحت اسم وحيد هو الشعر‪ .‬ويقيني ّأن النقد كان قارصاً‪،‬‬ ‫عموماً‪ ،‬عن اقتفاء هذه الدينامية‪ ،‬وبالتايل مل يتخ ّلق من‬ ‫داخل املواكبة النقدية ذلك «املطهر» الثالث‪ ،‬الرضوري‬ ‫املطلوب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أخرياً‪ ،‬كنت حارضا دامئا يف مجلة الكرمل‪ ،‬وشاهدا عىل‬ ‫‪52‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫انتقاالتها العديدة بني املدن؟ كيف ترى إىل هذه التجربة‬ ‫اآلن؟ كيف تصف عالقتك مبحمود درويش رئيس التحرير‬ ‫آنذاك؟‬ ‫تلك كانت واحدة من أخصب مراحل حيايت كعامل ثقايف‬ ‫ودارس أدب وباحث ومرتجم‪ ،‬إ ْذ تع ّرفت‪ .‬كام فعل قبيل‬ ‫أصدقاء مثل الشاعر والروايئ سليم بركات‪ ،‬والشاعر والناقد‬ ‫العراقي كاظم جهاد‪ ،‬والروايئ والناقد الياس خوري ـ عىل‬ ‫شخصية محمود درويش رئيس التحرير‪ ،‬ومدير التحرير‪،‬‬ ‫وسكرتري التحرير‪ ،‬واملصحح اللغوي‪ ،‬واملدير الفنّي‪ ...‬يف آن‬ ‫معاً‪ .‬كان يتدخل يف ّ‬ ‫كل كبرية وصغرية‪ ،‬ابتداء من التخطيط‬ ‫للعدد‪ ،‬وحتى ذهابه إىل املطبعة‪ ،‬ليس من دون املرور‬ ‫باملتابعة الشاقة لوصول هذه املادّة أو ّ‬ ‫تأخر تلك‪ ،‬والتخطيط‬ ‫ّ‬ ‫مللف العدد القادم‪ ،‬واقرتاح مئوية متميزة هنا‪ ،‬أو استدراج‬ ‫سبق ثقايف أو فكري هناك‪.‬‬ ‫«الكرمل» كانت أكرث من فصلية‪ ،‬وأكرث من مرشوع ثقايف‬ ‫مفتوح‪ ،‬وأعمق من انتامء أصيل للحداثة يف الشعر والرسد‬ ‫ُ‬ ‫ولست أعرف مطبوعة استضافت‬ ‫والنقد والفكر والرتجمة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل هذا العدد الكبري من األسامء‪ ،‬يف كل هذه الحقول‪،‬‬ ‫عىل امتداد ثالثة عقود ونيف‪ ...‬وظ ّلت تعددية وعلامنية‬ ‫ودميقراطية‪.‬‬ ‫صديقنا الناقد الفلسطيني حسن خرض يتابع اليوم‪ ،‬بل‬ ‫األحرى القول إنه يصارع‪ ،‬الستئناف التجربة ال ّرثة والنفيسة‪،‬‬ ‫وعقله يتبصرّ يف «الكرمل الجديد»‪ّ .‬‬ ‫كل الوفاء لذكرى‬ ‫مؤسس «الكرمل»‪ّ ،‬‬ ‫وكل األمانة للرسالة التي حملتها‬


‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬

‫درويش وبيروت‬

‫مدينة أم قناع؟‬

‫‪................................................................................................................................‬‬ ‫عاش درويش في بيروت عشر سنوات‪،‬وغادرها بعد اجتياح سنة ‪.1982‬هي عتبة اساسية في حياته وشعره‪،‬ولكن‬

‫العالقة معها بقيت ملتبسة‬

‫بيروت ‪ -‬بيت الشعر‬

‫ح ّول‬

‫درويش املكان اىل حنان‪ ،‬والحنان كام كل‬ ‫العواطف يتالىش‪ .‬وهذا ما فعله تجاه بريوت‬ ‫التي أمىض فيها سنوات عرش‪ .‬كلام سئل عن رأيه ببريوت‬ ‫كان يجيب إجابة ضبابية غري واضحة وغري محددة‪ ،‬وكأنه ال‬ ‫يريد قول يشء‪ ،‬وهذا ما حرمنا نحن البريوتيني وكل متابعي‬ ‫سرية درويش واملتابعني التفصيليني لرأيه باألمكنة التي عاش‬ ‫فيها‪ ،‬وحرم أرشيفنا أيضا من رأي واضح مبكان كبريوت‪ ،‬كتب‬ ‫لها قصائد كثرية‪ ،‬بعض النقاد‪ ،‬ورمبا أغلبهم‪ ،‬عدّوها من أهم‬ ‫قصائده ومن أهم القصائد التي كتبت من أجل بريوت‪ ،‬بل‬ ‫من أفضل الشعر العاملي‪ ،‬من دون أن يعدّدوا األسباب التي‬ ‫دفعتهم اىل مثل هذا الرأي‪ ،‬سواء كان ذلك يف مديح الظل‬ ‫العايل‪ ،‬أو يف ملحمة احمد العريب او يف سقط القناع وغريها‬ ‫وغريها‪.‬‬ ‫يف "ذاكرة للنسيان" يقول محمود درويش‪" :‬أنا ال أعرف‬ ‫بريوت‪ .‬وال أعرف إن ُ‬ ‫كنت أحبها أم ال أحبها‪ ...‬للسيايس‬ ‫املهاجر كريس ال يتغري وال يتبدل‪ ...‬وللتاجر املهاجر فرصة‬ ‫التأكد من أن ريح الخمسينات التي وعدت فقراء العرب‬ ‫بيشء ما‪ ،‬لن متر من هنا‪ .‬وللكاتب الذي ضاقت به بالده‬ ‫او ضاق بالحرية يف أن يعتقد أنه حر‪ ...‬وللشاعر السابق‬ ‫امكانية الحصول عىل مسدس وحارس ومال‪ ،‬فيتحول إىل‬ ‫زعيم عصابة يغتال ناقداً ويرشو آخر‪ ...‬وللفتاة املحافظة‬ ‫القدرة عىل إخفاء الحجاب يف حقيبة يدها‪ ،‬واإلختفاء مع‬ ‫عشيقها يف فندق‪ ،‬وللمه ّرب أن يهرب‪ ،‬وللفقري أن يزداد‬ ‫فقرا‪ ...‬أَهي مدينة أم قناع؟ منفى أم نشيد؟"‪.‬‬ ‫هذا نوع من أنواع اإلجابة عن بريوت‪ .‬أما يف القصيدة‬

‫فلنأخذ مقطعا من "مديح الظل العايل"‪:‬‬

‫ٌ‬ ‫تفاحة للبحر‪ ،‬نرجسة الرخام‪ ،‬فر ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫حجرية بريوت‬ ‫اشة‬ ‫شكل الروح يف املرآة‬ ‫وصف املرأة األوىل ورائحة الغامم‬ ‫بريوت من تعب ومن ذهب‪ ،‬وأندلس وشام ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فضة‪ ،‬زبد‪ ،‬وصايا األرض يف ريش الحامم‪.‬‬ ‫وفاة سنبلة‪ّ ،‬‬ ‫ترشد نجمة بيني وبني حبيبتي بريوت ‪.‬‬ ‫مل أسمع دمي من قبل ينطق باسم عاشقة تنام عىل‬ ‫دمي‪ ...‬و تنام ‪...‬‬ ‫من مطر عىل البحر اكتشفنا اإلسم‪ ،‬من طعم الخريف‬ ‫وبرتقال‬ ‫القادمني من الجنوب‪ ،‬كأ ّننا أسالفنا نأيت إىل بريوت يك‬ ‫نأيت إىل بريوت ‪...‬‬

‫حني قرأت هذا املقطع عىل مسمع مجموعة من األطفال‬ ‫مل يتجاوزوا العارشة من عمرهم سألني أحدهم‪":‬ما معنى‬ ‫نرجسة الرخام"‪ .‬بالطبع أكملت القراءة كأنني مل أسمع‬ ‫سؤاله‪.‬‬

‫اىل بريوت‬

‫جاء محمود درويش إىل لبنان يف زمانني متنافرين‪ :‬الزمان‬ ‫األول حينام لجأ مع عائلته يف سنة‪ 1948 ،‬فقطع الطريق‬ ‫ماشياً من الربوة إىل رميش‪ ،‬ونام عند الربكة القذرة قرب‬ ‫الخنازير واألبقار‪ ،‬وقطف التوت يف صور‪ ،‬ثم إىل جزين‪ .‬ويف‬ ‫جزين رأى الثلج للمرة األوىل‪ ،‬ورأى الشالل للمرة األوىل‪،‬‬ ‫‪53‬‬


‫ملف‬

‫الوالدة واملوت والبقاء والرحيل‪ ،‬املخيم وحق العودة‪ ،‬البحر‬ ‫والبرّ ‪ ،‬كانت قلق الشاعر من املكان وحبه للمكان يف آن‬ ‫واحد‪":‬اعترب أن املرحلة البريوتية يف شعري ملتبسة بسبب‬ ‫ضغط الحرب األهلية أوال‪ ،‬وبسبب الشعور بأمل العاطفة‬ ‫ثانيا"‪.‬‬ ‫وعندما سئل درويش هل تحب بريوت‪ ،‬قال‪" :‬مل انتبه‪،‬‬ ‫فنادرا ما تحتاج اىل التأكيد من أنك يف بريوت‪ ،‬ألنك موجود‬ ‫فيها بال دليل‪ ،‬وهي موجودة فيك بال برهان‪ ،‬صوت‬ ‫الرصاص هو الذي يدل عىل بريوت‪ ،‬صوت الرصاص أو رصاخ‬ ‫الشعارات عىل الجدران"‪.‬‬

‫ورأى التفاح يتدىل من أغصان الشجر أول مرة‪ .‬ومن جزين‬ ‫إىل الدامور التي ال يتذكر منها إال البحر وبساتني املوز‪ .‬أما‬ ‫الزمان الثاين ففي سنة ‪ 1972‬حني جاء اىل بريوت شاعراً‬ ‫تسبقه أشعاره‪ ،‬وكان أول ما فعله بعد أن ع ّلق ثيابه يف‬ ‫الفندق هو أنه نزل إىل الشارع‪ ،‬وأوقف سيارة أجرة‪ ،‬وقال‬ ‫للسائق‪ :‬خذين إىل الدامور‪.‬‬ ‫منحته بريوت فضاء معرفياً مل يكن متاحاً يف القاهرة أو‬ ‫دمشق اللتني تنقل بينهام قبل وصوله إليها‪ .‬يف بريوت كانت‬ ‫املعارك ‪-‬املثرية للسخرية‪ -‬بني رواد قصيدة النرث واملدافعني‬ ‫عن قصيدة التفعيلة ما زالت قامئة‪ .‬وكانت بريوت تحتضن‬ ‫نزار قباين وبلند الحيدري ومحمد الفيتوري‪ ،‬وخليل حاوي‬ ‫وأنيس الحاج ويوسف الخال وشوقي أبو شقرا وأدونيس‪ ،...‬التأثري البريويت‬ ‫املتفجر‬ ‫ويف بريوت وتحت تأثري الخطاب الحداثوي‬ ‫ّ‬ ‫يف بريوت رأى املأساة الفلسطينية عارية عىل حقيقتها‪،‬‬ ‫وصداقاته الجديدة مع املثقفني والشعراء املقيمني يف‬ ‫بعدما كانت مخيلته ما زالت مرتحلة يف ذاك املكان الذي‬ ‫الكافيرتيا"‬ ‫مقاهيها كتب قصيدة "رسحان يرشب القهوة يف‬ ‫أمىض فيه طفولته أو يف الفكرة املتصورة عن ذاك املكان‬ ‫التي وضعت أقدامه بقوة عىل خط التجديد الشعري‪ .‬هذا (فلسطني)‪ .‬أما هنا فقد إنتقل اىل املعاناة األخرى‪ ،‬املصهورة‬ ‫رغم أنه كان قد بات معروفا بعد قصيدة ّ‬ ‫"سجل أنا عريب"‪ .‬صهرا واملجلوخة جلخا واملنتصبة هنا أمام ناظريه‪ ،‬معاناة‬ ‫لكن التأثري البريويت أخرجه ولو لفرتة قصرية من القصيدة‬ ‫فجة وم ّرة وواقعية‪،‬‬ ‫شعبه ‪-‬الذي يكتب له القصائد‪ّ -‬‬ ‫الخطابية الرنانة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فرأى الفقر يف املخيامت والقهر والذل‪ ،‬كام شاهد املذابح‬ ‫عاش محمود درويش يف بريوت عرش سنوات كاملة‪ ،‬يف‬ ‫والحرائق يف تل الزعرت ويف صربا ويف شاتيال‪ ،‬ولكنه شاهد‬ ‫الفرتة املمتدة من ‪ . 1982-1973‬خالل هذه الفرتة ترأس‬ ‫ايضا "السياسة" يف الفلسطيني "الثائر"‪ ،‬أي كيف يستخدم‬ ‫تحرير مجلة شؤون فلسطينية وأصبح مديرا ملركز أبحاث‬ ‫الفلسطيني قوة سالحه يف أرض يستوطنها للوصول اىل ارضه‬ ‫الكرمل‬ ‫منظمة التحرير الفلسطينية قبل أن يؤسس مجلة‬ ‫التي يريد أن يسكنها‪ ،‬وكان لدرويش مالحظات كثرية عىل‬ ‫عام ‪.1981‬‬ ‫الدور الفلسطيني يف األزمة اللبنانية وعىل طريقة إدارة‬ ‫مل يغادر املدينة مع املقاتلني‬ ‫الساسة الفلسطينيني لقضيتهم‬ ‫الفلسطينيني بعد اإلجتياح‬ ‫من لبنان‪ ،‬كان يرفض محاربة‬ ‫المأساة‬ ‫رأى‬ ‫بيروت‬ ‫في‬ ‫ولكنه‬ ‫اإلرسائييل يف سنة ‪،1982‬‬ ‫محتل األرض األصلية بإحتالل‬ ‫إضطر اىل الرحيل عنها بعدما‬ ‫الفلسطينية عارية على أرض اخرى‪ .‬ولكن حصار بريوت‬ ‫وصل الجيش اإلرسائييل اىل قلبها‪.‬‬ ‫يف العام ‪ ،1982‬أشاح نظر الجميع‬ ‫حقيقتها‪ ،‬بعدما كانت‬ ‫تجربة اإلجتياح والحصار والدمار‬ ‫عن املرحلة السابقة اىل املرحلة‬ ‫مترحلة‬ ‫زالت‬ ‫ما‬ ‫مخيلته‬ ‫الشامل الذي تعرضت له بريوت‬ ‫الجديدة أي املرتبطة بالصمود‬ ‫دفعته اىل كتابه "ذاكرة للنسيان"‪،‬‬ ‫واملذابح‪ ،‬وكان شاهدا عىل االنكسار‬ ‫في ذاك المكان الذي‬ ‫و"مديح الظل العايل"‪ .‬وكتب بعد‬ ‫وخروج الفلسطينيني الفاجع من‬ ‫أمضى فيه طفولته‬ ‫مذبحة مخيم تل الزعرت قصيدة‬ ‫بريوت (خيمتنا ونجمتنا)‪ .‬هكذا‬ ‫"أحمد الزعرت"‪ .‬كانت بريوت‬ ‫صارت قصيدته "األوىل" ضيقة عىل‬ ‫أكرث من مجرد مكان كانت‬ ‫إستيعاب ما تتلقفه عيناه‪ ،‬فامل‬ ‫‪54‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬

‫درويش وأدونيس يف شارع الحمرا‬

‫اىل املطوالت ذات النفس امللحمي (احمد الزعرت‪ .‬وقصيدة‬ ‫بريوت‪ .‬ومديح الظل العايل)‪.‬‬ ‫يف هذه املرحلة متيل قصائد محمود درويش اىل املرسحة‬ ‫واىل الدرامية القصصية فاملبنى صار قصصياً‪ ،‬كام مالت‬ ‫القصائد اىل كثري من التجريد واىل توالد الصور بحيث‬ ‫صارت قراءة القصيدة هي متابعة للصور التي فيها وتفكر‬ ‫بعالقات الصورة ورمزيتها‪ ،‬كام يقول "الياس خوري" يف كتابه‬ ‫"دراسات يف نقد الشعر"‪.‬‬

‫العودة اىل بريوت بعد املنفى البارييس‬

‫يقول كريم مروة أنه دعى محمود درويش حني جاء إىل‬ ‫دمشق بعد غياب طويل‪ ،‬للمجيء اىل بريوت واملشاركة يف‬ ‫إحياء ذكرى الجواهري‪ ،‬تردد بني أمرين‪ :‬بني أن يشارك يف‬ ‫تكريم كبري شعراء العرب عىل امتداد قرن بكامله‪ ،‬وبني أن‬ ‫يأيت اىل بريوت يف ما يشبه التسلل‪ ،‬بعد غياب دام طوي ًال‪.‬‬ ‫و"حسمت معه‪ ،‬يومذاك‪ ،‬تردده‪ .‬وفضلنا أن يأيت اىل بريوت‪،‬‬ ‫خيمته وخيمتنا‪ ،‬مبارشة‪ ،‬ومن دون واسطة"‪ .‬وكان يوم‬ ‫القدس ويوم بريوت املقاومة عنوان تلك الرحلة يف أواخر‬ ‫العام ‪ .1999‬فاستقبلته بريوت يف قرص األونيسكو حني قرأ‬ ‫قصائده الجديدة وبعض قصائده القدمية يرافقه مرسيل‬

‫خليفة عىل عوده‪.‬‬ ‫ثم تكررت زياراته اىل بريوت‪ .‬وكانت زيارته لها عام ‪،2002‬‬ ‫زيارة استثنائية بأهميتها‪ .‬اذ غصت ساحة ملعب املدينة‬ ‫الرياضية بآالف اللبنانيني والفلسطيني الذين اتوا من أنحاء‬ ‫لبنان لإلستامع اىل قصائد درويش‪ .‬كانت تلك حالة إستثنائية‬ ‫بكل تفاصيلها‪ ،‬فليس من املعتاد أن يقرا شاعر الشعر يف‬ ‫ملعب ريايض‪ ،‬وليس عاديا أن متتىلء مدرجات امللعب‬ ‫باملشاهدين‪ ،‬ال ملشاهدة مباراة كرة قدم‪ ،‬بل لإلستامع اىل‬ ‫الشعر‪ .‬وهذا بالطبع مل يكن ليحدث يف بلد عريب آخر غري‬ ‫لبنان‪.‬‬ ‫هذا ما يجعل من محمود درويش شاعرا فلسطينيا‪ -‬لبنانيا‪.‬‬ ‫فاألغاين التي غناها مرسيل خليفة لقصائده إنطلقت من‬ ‫بريوت اىل سائر أنحاء العامل العريب‪ ،‬وقد ساهمت مساهمة‬ ‫كبرية يف شهرتهام عىل املستوى الشعبي العام‪ .‬أي أن تتحول‬ ‫القصائد اىل كالم يردده حتى غري املعنيني بالشعر وأن يتح ّول‬ ‫الشاعر نفسه اىل نجم‪.‬‬ ‫أعطى محمود درويش لبريوت وهجا كبريا من مخيلته‬ ‫فح ّولها اىل مكان هو غري املكان الذي تشكله حقيقة‪،‬‬ ‫وأعطت بريوت كمكان لدرويش مالذا متخيال جعله كشاعر‬ ‫هو غريه الشاعر الذي هو فعال‬

‫‪55‬‬


‫ملف‬

‫درويش في عمان‬

‫طريق فلسطين‬ ‫القصيدة‬ ‫وخاتمة‬ ‫‪................................................................................................................................‬‬ ‫كان رحيل درويش من باريس إلى عمان‪ ،‬خطوة في طريق العودة إلى فلسطين‪ ،‬ولكنها كانت محطة للكتابة‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬حيث أنتج فيها أهم أعماله الشعرية‬

‫ّ‬ ‫عمان ‪ -‬محمد عريقات‬

‫محمود‬

‫درويش من أهم الشعراء العرب الكبار لصداقاته يف رام الله‪ ،‬ولبقية العواصم التي أقام فيها‪،‬‬ ‫ويف ذلك تأكيد عىل أن الشاعر اتخذ منها محطة للكتابة‬ ‫الذين اختاروا العاصمة عامن مكان‬ ‫والقراءة‪ ،‬ومل يكن ليتفاعل مع نشاطها الثقايف بشكل مفتوح‪،‬‬ ‫إقامتهم وسكنهم‪ ،‬وتأيت هذه األهمية قياساً باألثر الذي‬ ‫تركه الشاعر يف حراك هذه العاصمة الثقايف التي أقام بها ما فقد كان يختار املعارض التشكيلية‪ ،‬واألمسيات الشعرية‪،‬‬ ‫التي يحرضها بشكل دقيق ومقل‪ ،‬منها ما كان يقام يف‬ ‫يقارب ‪ 13‬عاماً‪ ،‬العاصمة التي منحته جواز سفر وجنسية‬ ‫دارة الفنون يف جبل اللويبدة‪ ،‬واملتحف الوطني‪ ،‬حيث قام‬ ‫كاملة‪ ،‬والتي افتتحت رابطة كتابها يف مقرها بيت عزاء‬ ‫بتقديم طاهر رياض بأمسية شعرية له يف املتحف‪ ،‬إضافة‬ ‫للشاعر الراحل‪ ،‬كام وتعمل جهات ثقافية منذ رحيله عىل‬ ‫إبقاء بيت الشاعر يف عامن ليكون متحفاً ومعل ًام ثقافياً‪ ،‬إال إىل مشاركاته العديدة يف مهرجان جرش‪.‬‬ ‫لكن األمر يختلف بالنسبة ملرسح البلد يف وسط عامن‬ ‫أن هذا األمر مل ينجز حتى اآلن‪.‬‬ ‫ً‬ ‫القدمية‪ ،‬حيث اختاره درويش مكانا لتوقيع كتبه ولقراءة‬ ‫تواجد درويش يف عامن‪ ،‬كان بالدرجة األوىل من أجل‬ ‫ُ‬ ‫شعره‪ ،‬وقد وقع فيه مجموعته «كزهر اللوز أو أبعد»‬ ‫الكتابة‪ ،‬فقد أنتج فيها أهم املجموعات الشعرية التي‬ ‫عام ‪« ،2005‬يف حرضة الغياب»‬ ‫شكلت نقلة نوعية عىل صعيد‬ ‫فع درويش ‪« ،2006‬أثر الفراشة» ‪ ،2008‬وهنا‬ ‫الشعرية‬ ‫تجربته الخاصة والحركة‬ ‫في عمان‪ ،‬تر ّ‬ ‫الفضل يعود ملرسح البلد ومديره‬ ‫العربية‪ ،‬األمر الذي أكده ورصح‬ ‫النزاعات‬ ‫من‬ ‫الكثير‬ ‫عن‬ ‫املرسحي رائد عصفور الذي أتاح‬ ‫به صديقه العماّ ين املحامي غانم‬ ‫بينه وبين شعراء ونقاد لجمهور درويش العريض يف األردن‬ ‫زريقات يف أكرث من لقاء صحايف‪،‬‬ ‫االلتقاء املبارش معه‪ ،‬وتوقيع كتبه‬ ‫ومن هذه املجموعات نذكر‪:‬‬ ‫كثر‪ ،‬لكن بعد وفاته‬ ‫ً‬ ‫منه شخصيا‪ ،‬كام أتاح للشعراء‬ ‫الجدارية‪ ،‬حالة حصار‪ ،‬ال تعتذر‬ ‫صعدت تلك النميمة‬ ‫ً‬ ‫الشباب‪ ،‬وكنت واحدا منهم‪ ،‬بإهداء‬ ‫عام فعلت‪ ،‬كزهر اللوز أو أبعد‪،‬‬ ‫الصفحات‬ ‫لتحتل‬ ‫الشاعر مجموعاتهم الشعرية األوىل‪،‬‬ ‫يف حرضة الغياب‪ ،‬وأثر الفراشة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وأذكر كم كان درويش مرحبا بهذه‬ ‫اقترصت صداقات درويش‬ ‫الثقافية‬ ‫التجارب‪ ،‬ومنسج ًام مع جمهوره‬ ‫يف حياته العامنية‪ ،‬عىل عدد‬ ‫قليل جداً من األصدقاء‪ ،‬خالفاً‬ ‫العريض الذي بقي معه حتى كاد‬

‫‪56‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬

‫درويش يف جرش مع امللكة نور‬

‫درويش أن يكون الشخص األخري الذي يغادر القاعة‪.‬‬ ‫ويف عامن‪ ،‬كام يف غريها‪ ،‬ترفع درويش عن الكثري من‬ ‫النزاعات بينه وبني شعراء ونقاد كرث‪ ،‬إال أن هذه النزاعات‬ ‫مل تظهر عىل السطح‪ ،‬وذلك لرتفع درويش عنها وعدم‬ ‫خوضه يف تصعيد خصومة أو عداوة‪ ،‬ويعود ذلك أيضاً‬ ‫لذكائه الحاد ونباهته ورسعة بديهته يف مواجهة وقطع حبال‬ ‫مثل هكذا قضايا‪ ،‬مام أبقى هذه الخصومات مجرد حمى‬ ‫منيمة يف جلسات خصومه الضيقة‪ ،‬لكن بعد وفاته اختلف‬ ‫الحال حيث صعدت تلك النميمة لتحتل صفحات املجالت‬ ‫واملالحق الثقافية‪.‬‬ ‫ورغم أن أصدقاءه أقل عدداً‪ ،‬من أعدائه‪ ،‬إال أن كفة األوىل‬ ‫ترجح مبحبة جمهوره العماّ ين الكبري له‪ ،‬فكلنا يتذكر انطالق‬ ‫جنازته وتأبينه يف العاصمة عامن‪ ،‬مبطار ماركا‪ ،‬وحجم‬ ‫املحبة والوداع الذي غادرها به عرب مروحية أقلته إىل رام‬ ‫الله‪ ،‬ونتذكر حينها‪ ،‬ترصيحات األصدقاء والنقاد يف الصحافة‬ ‫األردنية التي أضافت ملالحقها األسبوعية واليومية صفحات‬ ‫أخرى‪ ،‬أكدوا من خاللها عىل عالقة درويش الشاعر واإلنسان‬ ‫مع عامن وأثر كليهام يف اآلخر‪ ،‬نذكر منهم الشاعر طاهر‬ ‫رياض‪ ،‬والكاتب غانم زريقات‪ ،‬والقاصة بسمة النسور‪،‬‬ ‫والشاعر جريس ساموي‪ ،‬والشاعر زهري أبو شايب‪ ،‬والناقد‬ ‫فخري صالح‪ ،‬وفيصل دراج‪ ،‬واملرسحي رائد عصفور وغريهم‬ ‫من عائلة درويش العماَّ نية‪..‬‬ ‫أشاروا جميعهم فيام نرش عرب الصحافة ووسائل اإلعالم‬

‫يف األيام األوىل من رحيله‪ ،‬إىل أن الشاعر درويش اختار‬ ‫عامن ألنها املدينة األقرب إىل فلسطني‪ ،‬االختيار الذي قوبل‬ ‫بالرتحاب الشديد من الدولة األردنية‪ ،‬ولكونها أفضل مدينة‬ ‫ميكن أن يختيل فيها بكل هدوء ويكتب‪ ،‬وأن هذه املدينة‬ ‫وفرت له هذه امليزة‪ ،‬كام ارتبط مبجموعة عالقات منتقاة‬ ‫مع العديد من العماَّ نيني‪ ،‬الذين أحاطوه بكم هائل من‬ ‫الحب‪ .‬ارتاد مطاعمها‪ ،‬ومىش يف شوارعها‪ ،‬وتسوق من‬ ‫محالها محاطاً مبحبة الجميع‪.‬‬ ‫كام أكدوا عىل أن شقته العماَّ نية كانت أشبه مبنتدى‪ ،‬فدامئاً‬ ‫كان هناك من يزوره‪ ،‬ومل يكن منعزالً كام يتصور البعض‪،‬‬ ‫ولكن كانت تحركاته محدودة‪ ،‬أحياناً يذهب إىل مطعم أو‬ ‫أمسية أدبية ما أو معرض تشكييل‪ ،‬ومل يكن درويش يشعر‬ ‫بالغربة يف عامن‪ ،‬كون األصدقاء مل يرتكوه‪ ،‬فكان هناك‬ ‫لقاء يومي معه ما بني الخامسة والثامنة مساء‪ ،‬ولقاء آخر‬ ‫ألصدقاء آخرين بعد الثامنة وحتى الحادية عرشة لي ًال‪ ،‬أما‬ ‫يوم الجمعة فكان الغداء غالباً يف بيت عيل حليلة‪ ،‬والسبت‬ ‫يف بيت غانم‪.‬‬ ‫هكذا نلخص حياة الشاعر الراحل يف العاصمة عامن‪ ،‬من‬ ‫خالل تتبع أثره الثقايف فيها وفاعليته بأوساطها الثقافية‬ ‫وصداقاته مع كتابها وشعرائها‪ ،‬املدينة التي أحسنت‬ ‫ضيافته‪ ،‬وأحسن هو بدوره املقام فيها‪ ،‬بشعره وحضوره‪،‬‬ ‫ومحبته‪ ،‬وهو الذي لطاملا وصفها وأهلها بالطيبني‬ ‫‪57‬‬


‫ملف‬

‫درويش‬

‫الهوية وبدايات التراجيديا‬

‫‪................................................................................................................................‬‬

‫كثيرا ما ُيقرأ شعر درويش من الباب السياسي المحض‪ُ ،‬‬ ‫ويخضع أسلوبه لمحاكمة أوتوماتيكية مسبقة من باب‬

‫ُّ‬ ‫تفحص تطور الهوية في شعره من منظور الشاعر الشخصي‬ ‫واجب الشاعر النضالي‪ .‬ولهذا‪ ،‬تضيع فرصة‬

‫مازن معروف‬

‫يف‬

‫ديوان "أوراق الزيتون" (‪ )1964‬قدّم دوريش قصائد‬ ‫بلغة خاصة‪ ،‬تجاوزت مهمة التبشري باملقاومة‬ ‫الفلسطينية‪ .‬صحيح أن تلك القصائد يف مجملها‪ ،‬تضمنت‬ ‫شكال مبارشا يف الكالم الشعري وأحد أمناط الخطابيات‬ ‫السياسية الشعرية واإليديولوجية العاكسة ليسارية عميقة‪،‬‬ ‫كإبن لحزب "راكاح" الشيوعي اإلرسائييل‪ ،‬لكن درويش‬ ‫كان قد طرح يف تلك املجموعة‪ ،‬جزءا كبريا من ريش‬ ‫الشاعر الذي يكتب شعرا مقاوما فقط‪ .‬ش ّكل االغرتاب‪،‬‬ ‫السمة العامة التي غلفت قصائد درويش يف ذلك الديوان‪.‬‬ ‫وهذا االغرتاب‪ ،‬لوال معرفة القارئ بهوية محمود درويش‬ ‫كفلسطيني‪ ،‬مل يحمل سامت كبرية أو مبارشة رغم أن له‬ ‫"سجل أنا‬ ‫مصدر سيايس أو فلسطيني طاغي‪ ،‬إال يف قصيدة ِّ‬ ‫عريب"‪ .‬فهو اتخذ قالبا إنسانيا عاما‪ُ ،‬وأق ِر َن بأمل العاشق أو‬ ‫تجسد يف أَوجه مختلفة‪ ،‬ناورت كلها للوصول‬ ‫الغريب‪ ،‬كام َّ‬ ‫إىل املحطة النهائية‪ :‬الفلسطيني املدفوع إىل الخارج‪ ،‬إن‬ ‫مل يكن املطرود‪ .‬فهو اغرتاب يف الهوية وانفعال داخل‬ ‫مأزق االنتامء‪ ،‬كام هو اغرتاب عاطفي‪َ ،‬ف ْقد للحبيبة‪،‬‬ ‫وفيه استحضار بطبيعة الحال ملناخ هذا الحب وبيئته‪،‬‬ ‫أي املكان وظروف تشكل الذاكرة‪ :‬تفاصيل اللحظة‪ .‬لهذا‪،‬‬ ‫فإن درويش عكس ذاتا ثائرة‪ ،‬غنائية‪ ،‬غاضبة‪ ،‬متلهفة‪ ،‬كل‬ ‫هذا يف لغة تبوح وتستعرض حال اإلنسان البائسة‪ ،‬بدون‬ ‫أن تبالغ يف صنع جامليات شعرية فائقة‪ .‬فاألولوية لألمل‪،‬‬ ‫للقضية‪ ،‬ال للشعر‪ ،‬أي أن الكينونة األوىل هي الذات‪ ،‬وليس‬ ‫الفن الكتايب‪ .‬درويش مل يكتب إال وفقا للتفعيلة‪ ،‬والقافية‪،‬‬ ‫والغنائية املوسيقية واإليقاع الظاهر‪ ،‬وهي عنارص مل تكن‬

‫‪58‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫لتفيد القصيدة يف يشء لوال قدرة الشاعر الشاب آنذاك عىل‬ ‫تطويع اللغة الشعرية بعبارات سهلة ومن دون الغوص يف‬ ‫إبهامات جافة‪ .‬وضع القارئ أمام عالقة شائكة‪ :‬فالحبيبة‬ ‫من جهة‪ ،‬واألرض من جهة أخرى‪ ،‬وهام قطبان كالسيكيان‪،‬‬ ‫طغيا عىل قصائد العديد من الشعراء العرب الذين سبقوا‬ ‫درويش‪ .‬كانت األولوية بتظهري األوىل‪ ،‬فيام اقترصت الثانية‬ ‫عىل قيمة بوصفها ناتجا نهائيا ضخام وثقيال‪ ،‬ال بد وأن يلقي‬ ‫ظال ما عىل الحبيبة‪ ،‬ليشيحها او يذوبها كرمز من رمزياته‪.‬‬ ‫"أوراق الزيتون" قدَّمت محمود درويش كشاعر رومانيس‪،‬‬ ‫لكن بأمل مضاعف‪ .‬فهو مكسور بني الحب والبالد‪ ،‬الحضور‬ ‫واالغرتاب‪ ،‬الذاكرة والحارض‪ ،‬والنسيان والتمدد يف مكان‬ ‫متخيل‪ .‬لكن نربته رغم هذه األثقال‪ ،‬ظلت غنائية‪ ،‬فيام مل‬ ‫تستحوذ نصوص املجموعة عىل صياغات حد اإلذهال أو‬


‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬

‫املحصلة‪ ،‬أريد لها أن تحمل دالالت عىل أىس مضبوط‪ ،‬وأن‬ ‫املفاجأة‪ .‬العالمات املبكرة لشعريته تجلت يف قدرته عىل‬ ‫تطويع اللغة يف التفعيلة والتعبري بوضوح شديد أحيانا كثرية‪ ،‬ترد صوت الشاعر إليه بعد أن يجوب يف الوطن والحبيبة‬ ‫وإشكالية املكان‪ .‬ولعل املفتاح الرومانيس الذي لجأ إليه‬ ‫كام كيانيته كشاعر بعيدا عن القصيدة نفسها‪ ،‬بحيث أن‬ ‫درويش‪ ،‬جعل صوته يأيت ممزوجا بنربة الطبيعة‪ ،‬برموزها‪،‬‬ ‫احتكامه لقافية ال يعني انصياعه التام لها‪ ،‬كقاعدة نهائية‪،‬‬ ‫ومبا تستطيع هذه الطبيعة أن تحمله من ملحمية مخ ّففة‬ ‫إذ يختتم الكثري من قصائده عىل نحو مفاجئ وراديكايل‬ ‫كام يف قصيدته "صوت وسوط" والتي يبدأها بـ "لو كان يل‬ ‫يخرج عن تناغم األبيات السابقة موسيقيا‪ ،‬بل يبدو‪ ،‬إذا ما‬ ‫عُ ِز َل عن جسد القصيدة‪ ،‬وكأنه جملة عابرة ال تعني أكرث من برج‪ /‬حبست الربق يف جيبي‪ /‬وأطفأت السحاب" لينهيها‬ ‫بانفعال غنايئ أوضح "لكنّ صويت صاح يوما‪ /‬ال أهاب‪/‬‬ ‫وصف قصيص "ما زال يف موقدكم حطب‪ /‬وقهوة‪ ..‬وحزمة‬ ‫فلتجلدوه إذا استطعتم‪ /‬واركضوا خلف الصدى‪ /‬ما دام‬ ‫من اللهب"‪.‬‬ ‫يهتف‪ :‬ال أهاب!"‪ .‬ومن هنا‪ ،‬نشري إىل تكرار مفردات يف‬ ‫شعره كـ‪ :‬الدم‪ ،‬الربتقال‪ ،‬الريح‪ ،‬القيثارة‪ ،‬النار‪ ،‬الجئ‪ ،‬املطر‪،‬‬ ‫غربة الفرد‬ ‫العاصفة‪ ،‬الزيتون‪ ،‬الضوء‪ ،‬النبع‪ ،‬الغريب‪ ،‬األزهار‪ ،‬القمر‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫كانت قصيدته تتمدد نحو النفس املجهَّزة أصال بعذاب‬ ‫اللجوء‪ ،‬لتكشف عن عذابات يف العاطفة‪ ،‬والقلق الوجودي‪ ،‬الرغيف‪ ،‬الصليب‪ ،‬القمح‪ ،‬السنابل‪ ،‬الذئب‪ ،‬الغابة‪ ،‬العيون‬ ‫السود‪ ..‬إلخ‪ ،‬مشددا يف الغالب عىل صورة ُمغنّ يجوب‬ ‫وعطف األنا عىل األممية‪ ،‬ومبالغة يف استعراض األمل‪،‬‬ ‫كرضبة كف عىل وجه املاء‪ .‬ذلك أن بسيكولوجيا الشاعر يف الشوارع معذبا وباحثا وناثرا حبه‪.‬‬ ‫هذه املعالجات الرومانطيقية للوطن اتكأ فيها درويش عىل‬ ‫"أوراق الزيتون"‪ ،‬هي بسيكولوجيا غري عمالقة‪ ،‬وال رئيسة‪،‬‬ ‫استحداث مسافة نفسية أو سياسية‪ ،‬بينه وبني فلسطني‪.‬‬ ‫وال هي متثل املحور األول للقصيدة‪ ،‬وإمنا تأيت يف سياق‬ ‫مسافة‪ ،‬كانت رضورية له من الناحية الشعرية يك يعزل‬ ‫عمالين كأضحية‪ ،‬أو تأميل‪ ،‬أو تفصييل للفقد العام‪ ،‬أو‬ ‫الخسارة الكربى‪ .‬كان واضحا أن محمود درويش يف قصائده أوال الجوانب غري الالزمة التي تحيط بكل من النقطتني‬ ‫األساسيتني‪ :‬الفرد – الوطن‪.‬‬ ‫األوىل‪ ،‬استدار نحو غربته اوال كفرد مسحوق وعنيد‪ ،‬لكنه‬ ‫كانت عالقة درويش بالوطن عالقة التباس‪ ،‬مقامة عىل أسس‬ ‫أيضا فرع للهوية الفلسطينية‪ ،‬واستطاع رسم القصيدة‬ ‫عاطفية‪ ،‬ساذجة إىل حد ما‪ ،‬وانفعالية وثورية ووجودية‪،‬‬ ‫الرومانطيقية‪ ،‬اليسارية االتجاه عامة‪ .‬قصيدة تخرتق‬ ‫وحتى عدمية‪ .‬إال أن ذلك مل مينعه من أن يش َّيد منصته‬ ‫الخسارة وتنفذ إىل املوت كمصري سوداوي وشبه محتوم‪،‬‬ ‫الشعرية عىل أرضية سياسية لزجة‪ ،‬تتك َّون تربتها من خليط‬ ‫لكن ال بد منه‪ .‬لذلك‪ ،‬يكون التحدث عن املوت كوسيلة‬ ‫للتحرر‪ ،‬وإفداء األرض‪ ،‬العائلة‪ ،‬الحبيبة‪ ،‬القلب‪ ،‬الوطن‪ .‬ويف إشكاليات األنا واملواطنة والهوية واالنتامء والجذور‪.‬‬ ‫ديوانه األول‪ ،‬سيجمع العديد من النصوص الشعرية التي‬ ‫ليتمدد‬ ‫يغض فيها الطرف عن األنا‪ ،‬بوصفها السؤال األول‪،‬‬ ‫خراب مجازي‬ ‫هذا األمر نحو مساءلة الحبيبة‪ ،‬بوصفها الكائن املخاطب‪،‬‬ ‫إال أن هذه االنسالخات عن الهوية الفلسطينية‪ ،‬كانت‬ ‫وبالتايل العلة التي تربر كل شعرية العاشق املع َّذب‪ .‬وهو‬ ‫دوما الدليل إىل نوستالجية درويش وبكائياته حول الوطن‪،‬‬ ‫ألزم امرأته بهوية محددة‪ ،‬هوية اشرتطها الشاعر كام اشرتط يف أول مجموعتني شعريتني له‪ .‬وهي تشظيات مل ينتج عنها‬ ‫الظرف الذي ُيضيئها هو فيه‪ ،‬ليمددها أو يقلصها بحسب‬ ‫قبل قصيدة "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" (ديوان "آخر‬ ‫توتر النص‬ ‫"رأيتك أمس يف امليناء‪ /‬مسافر ًة بال أهل‪ ..‬بال زاد‪ /‬الليل" ‪ )1967‬ما هو خارج التزام املواطن البديهي ببالده‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ركضت إليك كاأليتام‪ /‬أسأل حكمة األجداد‪ /:‬ملاذا تسحب‬ ‫فالوطنية ظلت مسألة مادية‪ ،‬مسألة التزام‪ ،‬يفرضها ُبعد‬ ‫الب ّيارة الخرضاء‪ /‬إىل سجن‪ ،‬إىل منفى‪ ،‬إىل ميناء‪ /‬وتبقى رغم تربوي‪ ،‬ويعززها واقع نهايئ بوجود محتل‪ ،‬وهو واقع لشدة‬ ‫رحلتها‪ /‬ورغم روائح األمالح واألشواق‪ /‬تبقى دامئا خرضاء؟" قسوته‪ ،‬يكون بعيدا عن أي نقد فلسفي أو تاريخي أو‬ ‫اجتامعي‪ .‬لذلك‪ ،‬اقترصت صورة اإلنسان يف كتابيه األولني‪،‬‬ ‫("عاشق من فلسطني")‪ .‬قدم درويش قصيدة مقاومة يف‬ ‫‪59‬‬


‫ملف‬

‫عىل صورة الفلسطيني‪ ،‬صاحب البالد‪ ،‬واألصل‪ .‬وقد استبعد تشابك املالمح املكونة ملفهوم الضحية مع بعضها البعض‪.‬‬ ‫دوريش كل ملمح محتمل إلنسانية العدو‪ ،‬إذ كان عليه أن فالجندي‪ ،‬كالضحية‪ ،‬يحلم‪ ،‬يريد زنابق بيضاء‪ ،‬وال حاجة‬ ‫لضعفاء يقتلهم‪ .‬ولعل الشاعر قلص فكرة الوطن إىل حدود‬ ‫ميتثل لواقع أرض محتلة يتعاطف معها إنسانيا ويساريا‪،‬‬ ‫الفهم الفردي غري اإليديولوجي "ومل يفلسف حلمه مل يفهم‬ ‫تعاطف مير بتعاطفه مع ذاته كمحمود درويش الالجئ‪.‬‬ ‫لذلك‪ ،‬احتكرت الضحية املشهد‪ ،‬ومل يعط الفرصة ألي صوت األشياء إال كام يحسها"‪ .‬االنسان هنا "مينياميل"‪ ،‬غري خارق‪،‬‬ ‫خطابه يولد من التعب ويندرج يف البساطة‪ .‬إنه إنسان‬ ‫موسعا‪،‬‬ ‫بأن يختلط مع صوتها‪ .‬فكان عىل صوتها أن يجيء َّ‬ ‫املؤس َسة لحالة الرصاع‬ ‫ممددا يف الطبيعة والفضاء واملوت والحب والغضب‪ .‬ذلك‬ ‫مرتد عىل وظيفته‪ ،‬أي عىل الظروف ِ‬ ‫الفلسطيني – االرسائييل‪ ،‬وعىل الوحشية‪ ،‬وهو يف حاجة‬ ‫قبل أن يقدم درويش صورة مغايرة للعدو‪ ،‬وتحديدا من ِّفذ‬ ‫هذا العداء‪ ،‬أي الجندي اإلرسائييل‪ .‬فـ"جندي يحلم بالزنابق لركن يلجأ إليه‪ ،‬واللجوء هنا ليس سياسيا بل عاطفيا‪ .‬أما‬ ‫البيضاء" والتي يتحاور فيها الشاعر مع جندي سئم الحرب‪ ،‬األم‪ ،‬فتتواضع صورتها وتؤنسن‪ ،‬إذ هي ليست الوطن مجازا‪،‬‬ ‫بل الرحم الذي خرج منه هذا الجندي إىل العامل‪ .‬لتنتفي‬ ‫تبدأ بسؤال حول معنى الوطن "يح ُل ُم بالزنابق البيضا ْء‪/‬‬ ‫بذلك األوارص التي تشد الكائن إىل املكان‪ .‬ويتالىش ذلك‬ ‫يحلم‪ ،‬قال يل‪،‬‬ ‫بغصن زيتونِ ‪ /‬بصدرها املورق يف املساء‪ُ /‬‬ ‫االلتزام البديهي واألفقي بالوطن‪ .‬فالوطن ال يعدو أكرث من‬ ‫بطائر‪ /‬بزهر ليمون‪ /‬ومل يفلسف حلمه‪ ..‬مل يفهم األشياء‪/‬‬ ‫وجهة نظر‪ .‬وطن مفرغ من املعنى‪ ،‬محاط بالعبثية‪ ،‬وال‬ ‫يحسها‪ ..‬يش ّمها‪ /‬يفهم‪ ،‬قال يل‪ّ ،‬إن الوطنْ ‪ /‬أن‬ ‫إال كام ّ‬ ‫أحتيس قهوة أمي‪ /‬أن أعود يف املساء‪ /‬سألته‪ :‬واألرض؟‪ /‬قال‪ :‬يتجاوز يف معناه السؤال الوجودي املؤسس ملفهوم العالقة‬ ‫ال أعرفها‪ /‬وال أحس أنها جلدي ونبيض"‪ .‬هنا‪ ،‬ينزع درويش‪ ،‬بني الفرد والهوية‪ ،‬وماهية االنتامء‪ .‬يحيد درويش يف هذه‬ ‫القصيدة عن مفهوم الجغرافيا‪ ،‬ويحول األداة العسكرية إىل‬ ‫أو يؤجل بالحد األدىن‪ ،‬صورة الفلسطيني الثائر والعاشق‬ ‫الحزين‪ ،‬الذي ندخل إىل القصيدة عربه‪ ،‬فال نلمح أثرا لذلك ما يشبه محراثا يفلح به بسيكولوجيا الجندي وذاته القلقة‬ ‫الخراب الذي شدد عليه درويش يف بداياته سواء كان خرابا ويع ّرضها للهواء‪ .‬إال أن إرجاع مجمود درويش األرض إىل‬ ‫بسيكولوجيا أو بدنيا لالجئ‪ ،‬أو خرابا مجازيا متمثال بفوىض إطار اإلشكالية‪ ،‬مل يكن ليبلغ مراده دون إرجاعه "عدوه"‬ ‫إىل مظهره اإلنساين األول‪ ،‬إىل مكوناته العاطفية واإلنسانية‪،‬‬ ‫االنتامء واالرتباك اللذين يعانيهام سكان األرض املحتلة‪.‬‬ ‫وإىل التباسات العالقة مع الضحية‪ ،‬حيث يفرغ فعل القتل‬ ‫يف هذه القصيدة‪ ،‬يتحول الصوت من كونه صوت األنا إىل‬ ‫صوت اآلخر‪ .‬ويصبح الكائن ا ُملحتل هو املرجعية‪ ،‬وإن ببعد الفيزيولوجي من أي غاية ليصبح شبيها بالعدم‪ .‬عدم ناتج‬ ‫عاطفي‪ ،‬لتبيان العالقة الشاذة‪ ،‬أو غري السليمة‪ ،‬مع األرض‪ .‬عن رصاع دينامييك‪ ،‬يستعاض به عن ذلك العدم الذي‬ ‫تنتجه فكرة املوت‪.‬‬ ‫درويش أنحى جانبا املك ِّون الثوري لقصيدته‪ ،‬ليعتمد عىل‬ ‫وإذا كانت هذه القصيدة تشكل‬ ‫قراءة غري عالية النربة للواقع‬ ‫أول خطوة يف املسافة التي‬ ‫الفلسطيني‪ ،‬ومن عيني جندي‬ ‫كانت عالقة درويش‬ ‫سيقطعها درويش مبتعدا عن‬ ‫ارسائييل هذه املرة‪ .‬انتقال حاد‬ ‫التباس‪،‬‬ ‫عالقة‬ ‫بالوطن‬ ‫شعر البدايات املنربي واليساري‬ ‫من صيغة اإلنسان ‪ -‬الضحية‬ ‫الهوى‪ ،‬فإن قصيدة "قاع املدينة"‬ ‫إىل صيغة اإلنسان – الجندي‪،‬‬ ‫مقامة على أسس‬ ‫(العصافري متوت يف الجليل ‪)1969 -‬‬ ‫مل يكن منتسبا إىل خصوصية‬ ‫عاطفية‪ ،‬ساذجة إلى‬ ‫ستحمل أوىل سامت التجريب لدى‬ ‫فلسطني‪ ،‬بل آثر درويش أن‬ ‫وثورية‬ ‫وانفعالية‬ ‫ما‪،‬‬ ‫حد‬ ‫ابن الربوة‪ ،‬وإن يف الشكل عىل‬ ‫ميدد معنى الوطن يف رشوط‬ ‫ووجودية‪ ،‬وحتى عدمية األقل‪ .‬فقد أدخل الشاعر توزيعا‬ ‫إنسانية مجردة من جغرافيا‬ ‫صوتيا يف القصيدة‪ ،‬فتح له بابا‬ ‫املكان وداللته املعنوية ورمزيته‬ ‫لتوسيع سينوغرافيا رمزية املوت‬ ‫الخاصة الدينية‪ .‬يؤدي ذلك إىل‬ ‫‪60‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬

‫والنضال والثورة‪ .‬بذلك تخلص درويش من االلتزام بالصوت‬ ‫األحادي يف القصيدة‪ ،‬أو بالعمود الفقري الواحد‪ .‬وسيهيئ‬ ‫له هذا األمر ابتكار اسلوب شعري يجمع بني متتاليات‬ ‫حسية وبرصية من جهة‪ ،‬وأخرى رمزية‪ ،‬رابطا بينهام عن‬ ‫طريق وحدات لغوية أو مفردات‪ ،‬تعمل كمفاتيح رسية‬ ‫أو كأقفال‪" :‬تتفجرين اآلن برقوقا‪ /‬وأنفجر اعرتافا جارحا‬ ‫بالحب‪ :‬لوال املوت‪ /‬كنت حجارة سوداء‪ /‬كنت يدا محنّطة‬ ‫ّ‬ ‫نحيلة‪ /‬ال لون للجدران‪ /:‬لوال قطرة الدم‪ /‬ال مالمح للدروب‬ ‫املستطيلة‪( /‬والعائدون من الجنازة عانقوين‪ /‬كسرّ وا ضلعني‪/‬‬ ‫وانرصفوا‪ /‬ومن عاداتهم أن يسأموا‪ /‬لكنهم كانوا يريدون‬ ‫البقاء ‪/‬خرجت من جلدي‪ /‬وقابلت الطفولة"‪ .‬كانت هذه‬ ‫أوىل العالمات الدالة عىل قدرة درويش اللغوية من جهة‪،‬‬ ‫وامكاناته يف ابتكار جامليات يف دائرة الرتاجيديا نفسها‪ .‬وإن‬ ‫مل نجرؤ عىل القول بأن درويش بلغ حالة متحررة بالكامل‬ ‫من سلطة الرتاجيديا وإيقاعها الرتيب‪ ،‬فبإمكاننا القول بأنه‪،‬‬ ‫عىل األقل‪ ،‬وسع محور هذه الرتاجيديا شيئا فشيئا‪ ،‬ذلك أن‬ ‫درويش يتحرك وسط املوضوعات الثابتة نفسها (الحب‪،‬‬ ‫املوت‪ ،‬رمزية الجلجلة والصلب‪ ،‬الدم‪ ،‬األغاين) وقصيدة "قاع‬ ‫املدينة" ستكون يف مجملها منوذجا مصغرا جدا وخجوال رمبا‪،‬‬ ‫عام سيكتبه الشاعر عام ‪ ،1983‬ونعني قصيدة "مديح الظل‬ ‫العايل"‪.‬‬

‫تأمل املوت‬

‫ولعل املوت هو البؤرة الرسية يف قصيدة درويش‪.‬‬ ‫وهو املحور الذي ظل دوما يستفزه‪ ،‬ال بوصفه مفهوما‬ ‫ميتافيزيقيا‪ ،‬بل كحالة تضمه إىل املأساة اإلنسانية العامة‪.‬‬ ‫رمبا لتجاور الشاعر مع نسخ عديدة من املوت خالل‬ ‫حياته‪ ،‬سواء كان موتا بأسباب نضالية او سياسية أو حتى‬ ‫حيادية‪ .‬فدرويش يفتتح كتابه "العصافري متوت يف الجليل"‬ ‫بقصيدة "لوحة عىل جدار"‪ ،‬بحيث يتوزع املشهد خارج‬ ‫كادر الجغرافيا‪ ،‬مبتعدا عن خصوصية الحالة الفلسطينية‪،‬‬

‫فال يسميها‪ ،‬وال يبثها يف القصيدة‪ .‬الشعر هنا يكون عليه تجاوز‬ ‫املشهد املادي‪ ،‬التصويري‪ ،‬كام النضايل‪ .‬إنه محاولة لتأمل‬ ‫املوت‪ ،‬كهوية نهائية‪ .‬لذلك‪ ،‬يحرض املشهد مش َّذبا‪ ،‬مستقال عن‬ ‫األسباب السياسية التي تدفع إىل كتابة قصيدة‪ .‬مقابل متسك‬ ‫درويش بالرمزية أو اإلبقاء عليها قدر اإلمكان‪ ،‬كام فيه احتفاء‬ ‫ساخر باملوت والهزمية‪ .‬ما يشد صوت الشاعر إىل أقرانه البرش‪،‬‬ ‫ال يعود الحياة‪ ،‬بل املوت‪ .‬متاثل الجسد مع الجسد‪ ،‬خارج‬ ‫إطار الهوية‪ ،‬حال دخوله السكون النهايئ‪" :‬ونقول األن أشياء‬ ‫كثرية‪ /‬عن غروب الشمس يف األرض الصغرية‪ /‬وعىل الحائط‬ ‫تبيك هريوشيام‪ /‬ليلة متيض‪ ،‬وال نأخذ من عاملنا‪ /‬غري شكل‬ ‫املوت‪ /‬يف عز الظهرية"‪ .‬وهو إذ يكرر الجمل الثالث االخرية يف‬ ‫قصيدته‪ ،‬يبقي درويش عىل غنائية مقصودة‪ ،‬وهو عامل يضاف‬ ‫لتعزيز قوة جامليات أخرى تتمثل يف التزامه التفعيلة والقافية‬ ‫واإليقاع‪ .‬وهي عنارص قام عليها جسم القصيدة الحديثة‬ ‫(التفعيلة) وكان درويش ال يزال متمسكا بها‪ ،‬كقانون‪ .‬ضمنه‪،‬‬ ‫يعتمد تدوير املجاز والعودة من جديد إىل صورة املوت‪ ،‬كيقني‪،‬‬ ‫ما ميد القصيدة مبناخ هذياين نوعا ما‪ .‬وكأن الشاعر أراد إحالة‬ ‫املوت إىل نقطة البدء‪ ،‬ال النهاية‪ .‬إنه نفخ للصوت الفلسطيني‬ ‫يف املساحة اإلنسانية‪" :‬أي جسم ال يكون اآلن صوتا‪ /‬أي حزن‪/‬‬ ‫ال يضم الكرة األرضية اآلن‪ /‬إىل صدر املغني؟!"‪.‬‬ ‫أما يف قصيدة "مطر ناعم يف خريف بعيد"‪ ،‬فريتبط املوت‬ ‫بأسلوب الحياة نفسها‪ ،‬أو منطها املفروض عىل الفرد‪ .‬ويالحظ‬ ‫القارئ تحوال يف معالجات املوضوعات ذاتها (املوت‪ ،‬الوطن)‪.‬‬ ‫فالشاعر يرفض يف هذه القصيدة املوت ذا النمط الواحد‪ ،‬الذي‬ ‫يتقاسمه الجميع كمصري محتوم أسبابه محددة ومفهومة‪ .‬لكن‬ ‫ذلك يرتافق مع ارتداده عن أي التزام بالوطن كمحصلة كبرية‬ ‫ومطلقة‪ .‬إنه إعالن دروييش مزدوج ضد التعب‪ .‬فام بني حالة‬ ‫الوطن واملوت قنوات يرتدد فيها الصوت الفردي الفلسطيني إىل‬ ‫أجل غري مسمى‪" :‬ال تقويل أنا غيمة يف املطار‪ /‬فأنا ال أريد‪ /‬من‬ ‫بالدي التي سقطت من زجاج القطار‪ /‬غري منديل أمي‪ /‬وأسباب‬ ‫موت جديد"‪ .‬انعطف درويش يف هذه القصيدة بصورة الوطن‪.‬‬ ‫مل يعد الوطن الفلسطيني الذي ينبغي النضال من أجله‪ ،‬بل‬ ‫بات الوطن ‪ -‬اليشء‪ .‬إنه أي غرض قد يستفز الجانب االنساين‬ ‫من الفرد‪ .‬كان الشعر الفلسطيني بحاجة طارئة إىل إخراج‬ ‫الوطن من كونه مكتب وظيفة‪ ،‬إىل كونه عامال معنويا يستفز‬ ‫جامليات الفرد املخلوع من أرضه‬ ‫‪61‬‬


‫ملف‬

‫درويش‬

‫جماهيرية ال تهبط إلى «الشعبوية»‪،‬‬ ‫وخصوصية ال تستقر في العزلة‬ ‫‪................................................................................................................................‬‬ ‫مقاربة تجربة درويش في سياق مقارن بين نثره وشعره‪ ،‬وبين كونه شاعر القضية والشاعر المتخفف منها في‬

‫دواوينه األخيرة‬

‫فيديل سبيتي‬

‫أدى‬

‫الخروج من بريوت يف العام ‪ 1982‬إىل‬ ‫تخفيف اللغة النضالية يف شعر درويش‪،‬‬ ‫فربزت أعامل شعرية مكرسة للتأميل والتفصييل والعشقي‬ ‫كام يف «ورد اقل»‪ .‬كانت مرآة الشاعر املقعرة تنعكس إىل‬ ‫الداخل‪ ،‬نحو الذات‪ ،‬والسرية الذاتية وتأمل املوت‪ ،‬فخفتت‬ ‫الغنائية الفياضة وتراجع االيقاع لصالح الصوت الداخيل‬ ‫الخاص‪ .‬هكذا سنحت لنا التجربة الجديدة بالفوز بشعر‬ ‫الت ّربم املبكر‬ ‫ً‬ ‫و«ملاذا‬ ‫محمود درويش املختلف بدءاً من «رسير الغريبة»‬ ‫وكان محمود درويش قد انتبه مبكرا إىل متييز الشعر‬ ‫تركت الحصان وحيداً» و«كزهر اللوز أو أبعد» «وال تعتذر الفلسطيني املرتبط باملقاومة عن الشعر العريب ككل‪،‬‬ ‫عام فعلت»‪ ،‬ومن ّ‬ ‫ثم جاء بعدهام «أثر الفراشة» و«حرضة سواء بكونه شعر قضية أو بكونه يفرز لغة مستجدة عىل‬ ‫الغياب»‪.‬‬ ‫الشعر العريب حتى ذلك الحني‪ ،‬ورفض درويش تحويل شعر‬ ‫أن‬ ‫يحاول‬ ‫وكأنه‬ ‫درويش‬ ‫بدا‬ ‫القضية إىل مركز الشعر العريب يف‬ ‫يستل نفسه من الوقوع يف‬ ‫الستينيات‪ ،‬فكتب مقالته «أنقذونا‬ ‫تكمن جماهيرية‬ ‫النمطية‪ .‬فاندفع يف اتجاه تطوير‬ ‫من هذا الحب القايس» ونرشها يف‬ ‫درويش في أنه يعطي‬ ‫تجربته‪ ،‬واالنتفاض عىل طرائقه‬ ‫مجلة «الطليعة» يف العام ‪.1968‬‬ ‫النبض‬ ‫العام‬ ‫الجمهور‬ ‫عن‬ ‫التعبريية املستقرة‪ ،‬والبحث‬ ‫وجاء فيها‪« :‬مل يكن أدبنا خارق‬ ‫لتصبح‬ ‫إليه‬ ‫يحتاج‬ ‫الذي‬ ‫أساليب شعرية تكرس النمطية‪،‬‬ ‫املوهبة حني عرف كيف يختار‬ ‫ً‬ ‫وترود مناطق جديدة للتعبري‬ ‫القصيدة بيانا له‪ ،‬وهو‬ ‫مكانه يف حركة الرصاع‪ .‬إن املواجهة‬ ‫الشعري‪.‬‬ ‫الحادة واليومية كانت أعنف من أن‬ ‫يجبر متذوقي الشعر‬ ‫ً‬ ‫مفاصل‬ ‫من‬ ‫املفصل‬ ‫يف هذا‬ ‫تتيح لنا فرصة الوقوف طويال أمام‬ ‫على اكتناه اللغة‬ ‫تجربته متكن درويش من وضع‬ ‫أبواب املدارس الفكرية املختلفة»‪.‬‬ ‫الشعرية‬ ‫نفسه عىل خريطة الشعراء‬ ‫وحاول درويش يف تلك املرحلة أن‬ ‫العامليني أو لنقل اإلنسانيني بعد‬ ‫يعيد الشعر الفلسطيني املقاوم إىل‬

‫‪62‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫تركيزه عىل املشرتك اإلنساين وصوغه الشخيص والجامعي‬ ‫الفلسطيني بعيداً عن الشعائرية والبطولية و«اإلنتفاضية»‪.‬‬ ‫إذ أن يف الخروج من بريوت تجلىّ انسداد األفق‪ ،‬وتصاعد‬ ‫التعبري عن اإلرهاق وفقدان األمل واإلحساس بالرتاجيديا‬ ‫الفلسطينية‪.‬‬


‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬

‫«الديوان العريب»‪ ،‬أوالً ليجعله رافداً من روافد األدب العريب‬ ‫العام‪ ،‬ثانياً لينتشله من عزلته التي اريدت له عرب وصمه‬ ‫بأنه شعر القضية املركزية‪ ،‬ومن ثم تبجيله لهذا السبب‪.‬‬ ‫فكتب يف املقال نفسه املذكور آنفاً‪…«:‬وألن شعرنا صادر‬ ‫من لحم القضية الفلسطينية‪ ،‬فقد حظي بالقدر األكرب من‬ ‫االهتامم‪ ،‬ودفع حتى بعض الكتٌاب والنقاد إىل إجراء عملية‬ ‫مفاضلة بينه وبني مجموع الشعر العريب املعارص‪ ،‬إن الخطأ‬ ‫يكمن يف مجرد إجراء عملية املفاضلة‪ ،‬فليس من الرضوري‬ ‫وال ينبغي أن تكون القضية الفلسطينية‪ ،‬منذ نشأتها حتى‬ ‫حزيران‪ ،‬هي املحور األوحد الذي يدور حوله كل األدب‬ ‫العريب املعارص‪ .‬وإال‪ ،‬فإننا نصاب بأقىص أشكال ضيق النظر‪،‬‬ ‫ونعترب أن كل التطورات السياسية واالجتامعية يف العامل‬ ‫العريب منذ ما يزيد عىل عرشين سنة‪ ،‬غري جديرة بتعامل‬ ‫األديب معها‪ ،‬أو نعتربها رضباً من رضوب الكامليات ملجرد‬ ‫عدم التصاقها املبارش بقضية فلسطني‪ .‬لعلنا ال نختلف عىل‬ ‫اعتبار هذا املوقف تنكراً ملسرية التاريخ العريب‪.‬‬ ‫ومن هنا ال ميكن تقييم أعامل الشعراء العرب‬ ‫مبيزان مدى تفاعلهم مع قضية فلسطني»‪.‬‬ ‫هكذا راح الشاعر الفلسطيني العريب واألممي‬ ‫يجدل الوطني والقومي مبا هو إنساين لتصبح‬ ‫التجربة الفلسطينية وجهاً آخر من وجوه عذاب‬ ‫البرش عىل هذه األرض‪ .‬يف هذه املرحلة مل تعد‬ ‫عنارص التجربة الفلسطينية تحتل بؤرة شعر‬ ‫درويش وحدها‪ ،‬بل إن عنارص هذه التجربة‬ ‫أصبحت تتخايل عرب األساطري التي ينسجها‬ ‫الشاعر أو يعيد موضعة عنارصها التي يقوم‬ ‫ثم‬ ‫باستعارتها من حكايات اآلخرين‪ ،‬ومن ّ‬ ‫يجدلها بحكاية شعبه وحكايته الشخصية كذلك‪.‬‬ ‫إذا كان باإلمكان الوصول إىل خالصة هذه‬ ‫التجارب الشعرية منذ بداياتها‪ ،‬ميكننا القول إن‬ ‫درويش مل يكن صانعاً لثورة شعبه بقدر ما كان‬ ‫مرافقاً لها‪ ،‬ففي بداياتها كان ناق ًال آلالمها‪ ،‬وحني‬ ‫تصاعدت قوتها املسلحة صارت قصيدته تنبض‬ ‫بقوة السالح‪ ،‬ثم بدأ التخفف من هذا النبض‬ ‫مع الخروج من بريوت‪ ،‬وبعد بدء مفاوضات‬ ‫السالم‪ ،‬كان درويش قد انتقل إىل عامله الشعري‬

‫الذي يجعل من القضية الفلسطينية إحدى قضايا البرش‬ ‫وتقع يف خانة مثيالتها‪ ،‬قبل أن تختلط مبوقفه الشخيص من‬ ‫كل الحياة التي يعيشها هو نفسه أو التي يعيشها البرش‬ ‫اآلخرون فلسطينييون كانوا أم غري فلسطينيني‪.‬‬ ‫إذا كانت رحلة درويش تسري مبوازاة رحلة الثورة‬ ‫الفلسطينية‪ .‬فام يصيب تلك الثورة يصيب شعر درويش‪،‬‬ ‫صعوداً وهبوطاً‪ ،‬ضجيجاً وهدوءاً‪ ،‬دعوة إىل الحرب ودعوة‬ ‫إىل السلم‪.‬‬ ‫مي ّثل محمود درويش حالة غري مسبوقة يف التجاوز الذايت‬ ‫دفعه إىل حلم كتايب خاص‪ .‬ساهمت الظروف املتنوعة يف‬ ‫تنويعه إبداعياً‪ ،‬من حيث الشكل الشعري ولغة القصيدة‬ ‫وإيقاعها‪ ،‬ومن حيث املضمون يف املوضوعة املتخففة‬ ‫من «النضال»‪ .‬وال يخفى عىل أحد أن مجموعات محمود‬ ‫درويش الشعرية من أوالها إىل األخرية هي مبثابة سريته‬ ‫الذاتية أو ما أراده أن يكون سريته الذاتية‪.‬‬

‫‪63‬‬


‫ملف‬

‫توقيع كتاب «أثر الفراشة» يف مرسح البلد ‪ -‬عماّ ن‬

‫وهو رغم كل ما ميكن قوله حول جامهريية شعره التي‬ ‫تنتشل القصيدة من «نخبويتها»‪ ،‬أو ما ميكن قوله عن فصل‬ ‫بني قصائده األوىل واألخرية من حيث موضوعاتها وتناولها‬ ‫للقضايا العامة والشخصية‪ ،‬إال أن جامهريية درويش لها‬ ‫سببها الكامن يف التناقض ذاته‪ ،‬فهو يعطي الجمهور العام‬ ‫النبض الذي يحتاج إليه لتصبح القصيدة بياناً له‪ ،‬وهو يجرب‬ ‫متذوقي الشعر عىل اكتناه اللغة الشعرية الحاذقة والصور‬ ‫واألفكار والرتاكيب واملفردات التي تجعل من قصيدته رغم‬ ‫بيانيتها‪ ،‬قصيدة شعرية خاصة‪ .‬لهذا يرضخ يف هذه املنافسة‬ ‫مناويئ «جامهريية» شعر درويش‪ ،‬الجامهريية التي ال تهبط‬ ‫إىل «الشعبوية»‪ ،‬والخصوصية التي ال تستقر يف العزلة‬ ‫والتخفي‪ .‬هي خلطة االثنني بعد إزالة شوائبهام‪.‬‬ ‫هذه النظرة يرددها إدوار سعيد أيضاً يف مقالته «تالحم‬ ‫عسري للشعر وللذاكرة الجمعية»‪« :‬عند درويش يدخل‬ ‫الخاص والعا ّم يف عالقة قلقة دامئة‪ ،‬حيث تكون ق ّوة‬ ‫ّ‬ ‫وجموح األ ّول غري متالمئة مع اختبارات الصواب السيايس‪،‬‬ ‫والسياسة التي يقتضيها الثاين‪ .‬وألنه الكاتب الحريص‬ ‫واملع ّلم املاهر‪ ،‬فإن درويش شاعر أدايئ من طراز رفيع‪ ،‬ومن‬ ‫منط ال نجد له يف الغرب سوى عدد محدود من النظائر‪.‬‬ ‫وهو ميتلك أسلوباً نار ّياً‪ ،‬لكنّه أيضاً أسلوب أليف عىل نحو‬ ‫حي‪.‬‬ ‫غريب‪ ،‬مص ّمم إلحداث استجابة فورية عند جمهور ّ‬ ‫ق ّلة قليلة من الشعراء الغربيني ـ من أمثال ييتس ‪Yeats‬‬ ‫وولكوت ‪ Walcott‬وغنسربغ ‪ Ginsberg‬ـ امتلكوا ذلك‬ ‫املزيج النادر اآلرس الذي يجمع بني األسلوب السحري‬ ‫املوجه للجامعة‪ ،‬وبني املشاعر الذاتية العميقة‬ ‫التعويذي ّ‬ ‫‪64‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫املصاغة بلغة ّأخاذة ال ُتقاوم‪ .‬ودرويش‪ ،‬مثل أقرانه الغربيني‬ ‫الق ّلة‪ ،‬فنّان تقني مدهش يستخدم الرتاث العرويض العريب‬ ‫الفنّي والفريد بطرق تجديدية وجديدة عىل الدوام‪ .‬ذلك‬ ‫يتيح له أن ينجز أمراً بالغ النُدرة يف الشعر العريب الحديث‪:‬‬ ‫براعة أسلوبية فائقة وف ّذة‪ ،‬ممتزجة بإحساس بالعبارة‬ ‫الشعرية يجعلها أشبه باملنحوتة بإزميل‪ ،‬بسيطة يف نهاية‬ ‫األمر ألنها بالغة الصفاء»‪.‬‬

‫الجرح الدروييش‬

‫بعد هذا التصنيف والتقسيم لشاعرية درويش ال بد لقارئه‬ ‫أن يعي بأن التسمية التجريد ّية واالختزال ّية أي «القض ّية»‪،‬‬ ‫كان جرحاً أصي ًال يف الشعر «الدروييش»‪ .‬والجرح يعود إىل‬ ‫تلك الليلة التي اضط ّر فيها‪ ،‬قبل أن يبلغ سنّ العارشة‪ ،‬إىل‬ ‫الهرب من قريته بصحبة أهله‪ .‬وبحسب ما يروي يف غري‬ ‫مكان من روايته أو يف كتاباته حول سريته الذاتية فإنه فقد‬ ‫ُ‬ ‫«نجوت‬ ‫أثر أهله وإخوته يف الربية‪ ،‬وكتب يف «العب النرّ د»‪:‬‬ ‫مصادف ًة‪ُ :‬‬ ‫هدف عسكريّ ‪ .‬وأك َرب من نحل ٍة‬ ‫كنت أصغ َر من ٍ‬ ‫ّ‬ ‫السياج‪ .‬ومن حسن حظ َي ّأن الذئاب‬ ‫تتن ّقل بني زهور ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫اختفت من هناك‪ ،‬مصادفة‪ ،‬أو هروبا من الجيش…»‪ .‬كان‬ ‫ذلك الضياع يف برية الطرد من األرض والبيت «ثيمة» األمل‬ ‫األول أو الجرح الذي سيستعيص عىل االلتحام‪.‬‬ ‫يف «حرضة الغياب» سرية ذاتية يف سري‪ ،‬أو سري متجاورة‬ ‫يف سرية ذاتية‪ .‬ففي الكتاب شظايا من سرية طفل قروي‬ ‫ناحل‪ ،‬فتنه الطريان ومل يلتفت إىل يقظة الطائر‪ .‬ويف الكتاب‬ ‫سرية الفلسطيني الذي تو ّزع عىل الوطن واملنفى‪ ،‬فعرف‬


‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬

‫املنفى عيشاً والوطن كتابة‪ .‬ص ّعد محمود درويش يف كتابه‬ ‫«يف حرضة الغياب» هذا األسلوب يف الكتابة الذي ظهرت‬ ‫بشائره األوىل يف «ذاكرة للنسيان»‪« :‬املدن رائحة‪ :‬عكا رائح ُة‬ ‫اليود البحري والبهارات‪ .‬حيفا رائحة الصنوبر والرشاشف‬ ‫املجعلكة‪ .‬موسكو رائحة الفودكا عىل الثلج‪ .‬القاهرة رائحة‬ ‫املانجو والزنجبيل‪ .‬بريوت رائحة الشمس والبحر والدخان‬ ‫والليمون‪ .‬باريس رائحة الخبز الطازج واألجبان ومشتقات‬ ‫الفتنة‪ .‬دمشق رائحة الياسمني والفواكه املجففة‪ .‬تونس‬ ‫رائحة مسك الليل وامللح‪ .‬الرباط رائحة الحناء والبخور‬ ‫والعسل»‪ .‬وقد تكرر يف كتاب «يف حرضة الغياب»‪ ،‬حديث‬ ‫محمود درويش عن خروجه من حيفا‪ ،‬فيام يشبه إعادة‬ ‫النظر يف هذا الخروج‪« :‬وقلت‪ :‬ابتعدت قلي ًال ألقرتب‪،‬‬ ‫ندمت حقاً‬ ‫َ‬ ‫فقالوا‪ :‬هذه هي طريقة النادم يف الكالم‪ .‬فهل‬ ‫عىل هذا السفر؟ قلت‪ :‬ال أعرف ما دمت يف أول الطريق»‪.‬‬ ‫ويقول وهو باقٍ يف بريوت بينام خرجت املقاومة من هناك‬ ‫يف السفن‪« :‬وتعرتف بأنك أخطأت‪ :‬ملاذا ُ‬ ‫نزلت عن الكرمل‪،‬‬ ‫ومل أكمل رحلتي مع إخويت إىل البحر‪ ...‬إىل ما ال أعرف؟»‪.‬‬ ‫ويقول وهو عائد إىل الكرمل بعد أوسلو‪« :‬فامذا تفعل حني‬ ‫تصل إىل الكرمل غري أن تسأل‪ :‬ملاذا نزلت عن الكرمل؟ ويف‬ ‫نفسك األمارة بالحرية جواب مبهمبليك أتعلم امليش عىل‬ ‫طرق ال أعرفها»‪.‬‬ ‫يف كتابه «يوميات الحزن العادي» كانت صورة املعاناة ما‬ ‫زالت متوقدة يف ذهنه‪ .‬نص عىل شكل حوار يتضمن مقاطع‬ ‫من سريته الذاتية‪ ،‬من دون اقتصاد يف اللغة‪ ،‬إذ كان من‬ ‫واجبه أن يروي حكايته بتمهل وبتفصيل وإسهاب‪ ،‬ألنها‬ ‫حكاية طرده من أرضه وتجواله منفياً يف جنوب لبنان مع‬ ‫أهله ثم عودته تهريباً إىل بلدته التي مل تعد موجودة ثم‬ ‫تح ّوله إىل مواطن غريرشعي بحسب تصنيف محتليه‪ .‬هذه‬ ‫السرية األوىل ال تحتاج إىل لغة شعرية مقتضبة‪ ،‬وال يضري يف‬

‫فنّان تقني مدهش يستخدم‬ ‫التراث العروضي العربي‬ ‫الفنّي والفريد بطرق تجديدية‬ ‫وجديدة على الدوام‬

‫متعتها وجاملياتها السيالن النرثي بلغة شاعرية‪« :‬كنا ننتظر‬ ‫انتصار الجيوش العربية عىل الغزاة خالل أسابيع ونعود‬ ‫بعدها إىل الربوة‪ .‬مل نسكن مخي ًام‪ ،‬مررنا يف رميش‪ ،‬ثم بتنا‬ ‫ليلة يف بنت جبيل التي ازدحمت برصاخ املنفيني وكانت‬ ‫حظرية برشية‪ .‬كانت الليلة الثانية التي نبيتها خارج البيت‪.‬‬ ‫الليلة األوىل كانت يف أحد مضارب البدو يف الجليل حيث‬ ‫أكل عرشات من «الضيوف» بيضاً مقلياً من إناء واحد‪.‬‬ ‫ويف جزين – حيث أقمنا ‪ -‬رأيت السواقي التي تسكن‬ ‫البيوت‪ ،‬ورأيت الشالل‪ .‬وحني اشتد الربد هناك انتقلنا إىل‬ ‫الدامور وعربنا كروم املوز‪ ،‬ولعبنا عىل الشاطئ‪ ،‬وسبحنا‬ ‫يف البحر‪ .‬عربت الشارع الواسع يوماً قبل أخي الذي لحق‬ ‫يب‪ ،‬فرضبته سيارة مل تصبه بجروح ولكنها أصابته بذهول‬ ‫مل ينج منه إال بعد سنني»‪« .‬يوميات الحزن العادي»‪ .‬بينام‬ ‫«يف حرضة الغياب» قام بالتعبري عن النزوح إىل لبنان‪،‬‬ ‫بنرث يضاهي الشعر يف جاملياته‪« :‬تنتحي ركناً قصياً عىل‬ ‫صخرة مهجورة عىل البحر اللبناين‪ .‬تبيك كأمري صغري أنزلوه‬ ‫التدريجي‪،‬‬ ‫عن عرش الطفولة‪ ،‬قبل أن ُي َل ِّقنُوه ِف ْق َه ال ُر ْشد‬ ‫ّ‬ ‫ودرس الجغرافيا الرضوريّ ملعرفة املسافة بني «هنا» و‬ ‫«هناك»‪ .‬وحينام يتطلب األمر الدخول إىل حيز التفاصيل‪،‬‬ ‫فإن محمود درويش يعود إىل ما اعتاده يف كتاباته النرثية‬ ‫السابقة‪ ،‬وبالذات يف كتابه «يوميات الحزن العادي»‪ ،‬ليك‬ ‫يقدم مادة سياسية واضحة املرامي والغايات‪ ،‬متخففة من‬ ‫اللغة الشعرية‪ .‬لندخل يف عامل محمود درويش ويومياته‬ ‫وتفاصيلها‪ ،‬من كيفية تحضريه لفنجان القهوة إىل ما يشعره‬ ‫تجاه البوارج البحرية الراسية قبالة رشفة شقته‪ ،‬هناك يف‬ ‫جهة البحر التي كان قد قدم منها طف ًال‪ .‬نراه يف مختلف‬ ‫أوقات النهار‪ ،‬وإزاء كل منعطف من منعطفات ذلك اليوم‬ ‫الطويل يتعدد الرسد ويتمدد يف كل الجهات‪ .‬وتتخذ لغة‬ ‫الرسد لنفسها مستويات متعددة تبعاً للحالة املوصوفة وملا‬ ‫يلزمها من صياغات لغوية‪.‬‬ ‫إن اختيار الكالم عىل «يف حرضة الغياب» و«يوميات الحزن‬ ‫العادي» وقصيدة «ذاكرة للنسيان» يهدف إىل االستفادة من‬ ‫سرية درويش الذاتية وجرحه األصيل فيها‪ ،‬وكذلك إىل مقارنة‬ ‫املوضوعة نفسها يف طريقتني كتابيتني أي النرث والشعر‪ .‬ثم‬ ‫تذوق الكتابة املسرتسلة يف النرث التي يتقنها درويش كام‬ ‫يتقن اإلختصار واملبارشة يف الشعر‬ ‫‪65‬‬


‫ملف‬

‫درويش‬

‫التناص الداللي والمرجعية التاريخية‬ ‫‪................................................................................................................................‬‬

‫في هذه الدراسة يكشف الناقد مفيد نجم عن األصوات التاريخية المتعددة في شعر محمود درويش التي صنع‬ ‫منها الشاعر أقنعة أستعارها لخلق نوع من اإلسقاط التاريخي على الواقع الفلسطيني الراهن بإشكالياته العديدة‬

‫ومراحلة المتفاوتة بحس فردي ال يدير ظهره للجماعة‪ ،‬وال ُيسقط من حساباته ُ‬ ‫البعد التاريخي للصراع مع دولة‬

‫االحتالل الناشئة في فلسطين منذ العام ‪ ،1948‬بما في ذلك الكشف عن التباسات التاريخ ومكره‬

‫مفيد نجم‬

‫يحتل‬

‫التناص التاريخي موقعاً مه ًام يف قصيدة‬ ‫محمود درويش نظراً ملا ينطوي عليه‬ ‫الرصاع الفلسطيني مع املحتل اإلرسائييل لفلسطني‬ ‫من بعد تاريخي‪ ،‬يتجىل يف محاولة هذا املحتل تربير‬ ‫مرشوع اغتصابه لها بذرائع تاريخية واهية قامت عليها‬ ‫اإليديولوجية الصهيونية‪ ،‬ومتثلت يف القول بالحق التاريخي‬ ‫املقدس الذي منحهم إياه الله‪ ،‬والذي عىل أساسه أقاموا‬ ‫دولتهم اليهودية يف املايض‪ ،‬يف حني أن تلك الدولة التي مل‬ ‫تدم أكرث من مائتي عام‪ ،‬مل تكن إال كغريها‬ ‫من الغزوات التي تعرضت لها فلسطني ثم‬ ‫آلت إىل الزوال‪ ،‬يضاف إىل ذلك املكانة املهمة‬ ‫التي احتلتها فلسطني عىل مستوى الجغرافيا‬ ‫الروحية واالسرتاتيجية النابعة سواء من حيث‬ ‫موقعها الديني املهم عند أصحاب الديانات‬ ‫الساموية الثالث‪ ،‬أو من حيث موقعهاعىل‬ ‫سواحل املتوسط بني قاريت آسيا وأوروبا‪ .‬لقد‬ ‫استدعت محاوالت التضليل الصهيونية وتزوير‬ ‫وقائع التاريخ من الشاعر الذي ميثل ضمري‬ ‫الشعب يف دفاعه عن وجوده وحقه التاريخي‬ ‫يف وطنه املغتصب أن يستحرض ذلك التاريخ‬ ‫عرب رموزه ووقائعه ودالالته ليكشف عن‬ ‫عمق حضوره التاريخي والحضاري يف أرضه‬ ‫وامتداده العريب واإلسالمي تارة‪ ،‬وتارة أخرى‬

‫‪66‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫ليك يؤكد حتمية اندحار هذا املرشوع االحتاليل كام اندحرت‬ ‫من قبله كل الغزوات السابقة‪ .‬من هنا تأيت كثافة حضور‬ ‫رموز التاريخ بصورة مبارشة أو غري مبارشة‪ ،‬شخصيات‬ ‫وأمكنة ووقائع يف نصه الشعري‪ ،‬كام تظهر الصيغ واألساليب‬ ‫واآلليات املختلفة التي استخدمها الشاعر يف استدعاء‬ ‫وتوظيف تلك الرموز واألحداث بشكل مينح تلك التجربة‬ ‫غناها الداليل وبعدها الجاميل‪ ،‬السيام أن وظيفة استدعاء‬ ‫الشخصيات التاريخية ورموزه يف النص الشعري تتجاوز‬ ‫الوظيفة الداللية إىل الوظيفة الجاملية‪ ،‬من خالل‬ ‫اندماجها يف بنية النص الكلية وداخل سياق النص‬ ‫وتفاعلها معه‪.‬‬

‫رؤية شعرية‬

‫سواء أكان االستدعاء يف جزء من القصيدة‪ ،‬أم أنه‬ ‫يشكل محوراً لها‪ ،‬فإن أهمية التناص تنبع مام‬ ‫متثله تلك الشخصيات والرموز من قيمة تاريخية‬ ‫معروفة‪ ،‬ومن حضور خاص يف الوجدان الجمعي‪،‬‬ ‫تجعل املتلقي أكرث استيعاباً لها وتفاع ًال معها‪،‬‬ ‫إضافة إىل أنها تجعل الشاعر واملتلقي يلتقيان يف‬ ‫فضاء مشرتك هو فضاء املوروث الثقايف الجمعي‬ ‫الذي تنتمي إليه تلك الشخصيات والرموز‪.‬‬ ‫ولعل من الرضوري اإلشارة إىل أنه رغم أهمية‬ ‫تلك الرموز والشخصيات التاريخية املستدعاة‬


‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬

‫فإن هذا االستدعاء ليس مقصوداً لذاته‪ ،‬وبالتايل فإن‬ ‫تلك الرموز والشخصيات ال تحمل داللة مرجعية ثابتة‪،‬‬ ‫بل هي ت ّولد داللتها عرب تفاعلها مع السياق النيص الذي‬ ‫تندمج فيه‪ ،‬ما يجعلها تحمل داللة متحولة تعرب من‬ ‫خاللها عن الوعي الجمعي‪ ،‬ولهذا فإن إعادة توظيف تلك‬ ‫الرموز والشخصيات ترتبط بطبيعة الرؤية الشعرية التي‬ ‫تحكم بنية النص الشعري‪ ،‬ووحدة التجربة بنيوياً وداللياً‬ ‫وجاملياً‪ ،‬بصورة تعكس فيه وعي الشاعر الجديد وقدرته‬ ‫عىل استلهام التاريخ وإعادة بنائه داللياً وجاملياً وفق‬ ‫االحتياجات الداخلية لبنية النص وحركته‪ ،‬وطبيعة التجربة‬ ‫التي يقدمها هذا النص عىل مستوى الرؤية الكلية ملعاناة‬ ‫اإلنسان الفلسطيني وكينونته ووجوده وهويته التي يحاول‬ ‫املحتل طمسها‪ .‬إن الرموز التاريخية التي تستدعيها قصائد‬ ‫الشاعر تحتل درجة متقدمة يف‬ ‫املرجعيات التناصية التي تتفاعل‬ ‫تحتل الرموز التاريخية‬ ‫معها تجربة الشاعر‪ ،‬حيث تتنوع‬ ‫التي تستدعيها قصائد‬ ‫أشكال وصيغ وآليات استدعاء‬ ‫درويش درجة متقدمة‬ ‫تلك الرموز والوقائع‪ ،‬وتوظيفها‬ ‫للتعبري عن رؤاه‪ ،‬السيام عىل‬ ‫في المرجعيات‬ ‫صعيد العالقة بني املايض والحارض‬ ‫التناصية التي تتفاعل‬ ‫داخل السياق النيص لتلك‬ ‫التجربة‪ ،‬والتي تتجاوز إطار الرمز‬ ‫معها تجربة الشاعر‬ ‫والوقائع التاريخية إىل وظيفتها‬

‫وكيفية تحقيق تفاعلها مع بنية النص الكلية‪ ،‬مبا يعرب‬ ‫عن طبيعة الوعي الفكري والجاميل الذي يحكم التجربة‬ ‫ويشكل فضاءها الشعري‪ ،‬ويخلق الطابع الدرامي املتوتر‬ ‫الذي يعكس عمق اإلشكالية الكبرية التي يطرحها هذا‬ ‫التاريخ عىل مستوى التجربة الوجودية واإلنسانية للذات‬ ‫الفلسطينية والتي تتكثف معانيها وأسئلتها‪ ،‬سواء عىل‬ ‫مستوى الحب والعالقة مع اآلخر‪ /‬املرأة‪ ،‬أو عىل مستوى‬ ‫الوطن واالنتامء والهوية‪ ،‬خاصة وأن اآلخر‪ /‬املحتل يسعى‬ ‫من خالل مرشوعه االحتاليل إىل مصادرة الحارض واملستقبل‬ ‫باسم املايض املزعوم عىل خلفية عقيدية سلفية‪ ،‬بغية إضفاء‬ ‫الرشعية عىل سياسة االغتصاب التي ميارسها عىل أرض‬ ‫فلسطني‪.‬‬

‫بؤرة القصيدة‬

‫ش ّكل التاريخ أحد املرجعيات النصية‬ ‫املهمة يف تجربة الشاعر‪ ،‬والتي‬ ‫بلغت ذروتها يف نصوصه الشعرية‬ ‫التي نرشت يف الثامنينات‪ ،‬واستمرت‬ ‫يف أعامله التالية‪ ،‬من خالل استخدام‬ ‫آلية االستدعاء والتحويل التي‬ ‫كانت أكرث اآلليات ظهوراً يف قصائد‬ ‫تلك املرحلة‪ ،‬حيث برز استخدام‬ ‫تلك اآللية يف جزء من القصيدة‬ ‫‪67‬‬


‫ملف‬

‫موجهاً إىل تلك الشخصيات‪ ،‬يف حني يكون الحديث يف‬ ‫مستويات أخرى حديثاً عن الشخصية وموجهاً بالتايل إىل‬ ‫القارئ‪ ،‬فيكون املتكلم يف القصيدة هو أنا الشاعر‪ .‬ويف‬ ‫قصائد أخرى قد يستدعي الشاعر مع الشخصية وقائع‬ ‫وأحداثاً تاريخية متعددة‪ ،‬يجمع بينها عنرص موضوعي‬ ‫مشرتك‪ ،‬كام قد يستدعي معها أسامء أماكن تاريخية تنبع‬ ‫أهميتها من خالل معناها الرمزي الذي متثله تاريخياً‪ ،‬إال‬ ‫أن أهميتها تبقى يف وحدتها واندماجها مع بنية النص‪،‬‬ ‫ويف وظيفتها التي تقوم بها من حيث تفعيل وظيفتها‬ ‫وطاقتها اإليحائية والرمزية داخل بنية القصيدة‪ ،‬مبا يحقق‬ ‫تعميق وعي املتلقي بالشخصية املستدعاة وتحقيق تفاعله‬ ‫معها‪ ،‬إضافة إىل ما قد تقيمه من حوار بني املايض والواقع‬ ‫املعارص‪ ،‬الذي تسعى التجربة الشعرية للتعبري عنه‪.‬‬

‫عرب التكرار الجزيئ وعملية الدمج التي تقوم عىل إدخال‬ ‫هذا الجزء املستدعى يف بنية القصيدة العامة‪ .‬إن أول ما‬ ‫يلفت انتباه القارئ ملستويات التناص التاريخي وآليات‬ ‫استدعاء الشخصيات التاريخية واألساليب املستخدمة يف كل‬ ‫مستوى من مستويات استدعاء تلك الشخصيات والرموز‬ ‫هو أن عناوين القصائد التي يستدعي فيها الشاعر تلك‬ ‫الشخصيات تخلو من ظهور اسامء الشخصيات التاريخية‬ ‫فيها‪ ،‬باستثناء ثالثة عناوين‪ ،‬تألف العنوان األول منها من‬ ‫جملة اسمية هي «سنونو التتار» إذ يتم تعريف االسم‬ ‫الذي هو جواب ملبتدأ محذوف‪ ،‬تقديره هذا‪ ،‬أو هو‬ ‫باإلضافة إىل االسم التاريخي لقوم اشتهروا تاريخياً مبدى‬ ‫قسوتهم ووحشيتهم خالل غزواتهم املدمرة التي قضت عىل‬ ‫الحضارة العربية اإلسالمية يف بغداد وبالد الشام‪ .‬أما العنوان‬ ‫الثاين «يف القدس» فيتألف عىل مستوى بنيته النحوية من‬ ‫شبه جملة‪ ،‬ويحمل داللة مكانية ملدينة‪ ،‬تتمتع بقدمها‬ ‫آليات االستدعاء‬ ‫التاريخي وحضورها الخاص يف الوجدان الجمعي‪ ،‬بسبب‬ ‫يستخدم الشاعر إىل جانب آلية االستدعاء آلية التضمني يف‬ ‫جزء محصور من النص يكون فيه خطاب الشاعر موجهاً‬ ‫قداستها النابعة من كونها مركزاً روحياً للديانات الساموية‬ ‫الثالث اليهودية واملسيحية واإلسالم‪ .‬أما العنوان الثالث‬ ‫إىل القارئ عىل شكل مونولوغ يفتتحه باستخدام التكرار‬ ‫فهو «حوار شخيص يف سمرقند» ويحمل أيضاً داللة مكانية السم االستفهام‪ ،‬لكنه مونولوغ يسعى من خالله إىل إيقاظ‬ ‫تاريخية‪ ،‬دالة عىل الحضارة العربية اإلسالمية يف عرص قوتها الذاكرة الجمعية وانفتاحها عىل معاين التحول والتبدل‪،‬‬ ‫وانتشارها وازدهارها‪ .‬تتسم الرموز بالقدم والحضور الخاص التي تكشف عنها سريورة حركة التاريخ‪ ،‬لكنه يكرس هذا‬ ‫يف الوجدان واملخيال الجمعي‪ ،‬بل إن بعضها قد تحول يف‬ ‫السياق فجأة عندما يظهر صوت الجرنال الفرنيس غورو‬ ‫املخيال العام إىل رمز للفردوس املفقود‪ ،‬واملايض املجيد‬ ‫والذي يستدعيه من خالل مقولته الشهرية بعد أن دخل‬ ‫الضائع كام هو الحال بالنسبة إىل رمزية األندلس ودمشق‬ ‫دمشق محت ًال عام ‪ 1920‬وزار قرب صالح الدين األيويب الذي‬ ‫وسمرقند وقرطبة‪.‬‬ ‫هزم الصليبيني وانهى وجودهم يف‬ ‫يتم‬ ‫التي‬ ‫تنتمي األسامء‬ ‫بالد املرشق العريب «ها نحن عدنا يا‬ ‫تكمن أهمية‬ ‫استدعاؤها يف القصيدة إىل‬ ‫صالح الدين‪ .»..‬ويف حني يستدعي‬ ‫الشخصيات واألسماء‬ ‫زمن تاريخي واحد‪ ،‬أو إىل‬ ‫الشاعر شحصية غورو بالقول‪ ،‬فإنه‬ ‫يسهل‬ ‫أنه‬ ‫في‬ ‫التاريخية‬ ‫أزمنة وعصور تاريخية مختلفة‪،‬‬ ‫يستدعي معها شخصية صالح الدين‬ ‫يجمع بينها عنرص موضوعي‬ ‫على المتلقي معرفتها باسم العلم‪ ،‬بينام يتمثل العنرص‬ ‫واحد يتمثل يف املوقف الجامع‬ ‫املوضوعي الذي يربط بني هاتني‬ ‫والتفاعل معها بسبب‬ ‫فيام بينها‪ ،‬ويستخدم الشاعر‬ ‫الشخصيتني هو املوقف من التاريخ‪،‬‬ ‫الذاكرة‬ ‫في‬ ‫حضورها‬ ‫لذلك صيغاً وأساليب مختلفة‬ ‫ومحاولة الثأر من املايض والتأكيد‬ ‫يف استدعاء تلك الشخصية‪ ،‬أو‬ ‫عىل روح التحدي والقوة التي تتجىل‬ ‫والوجدان الجمعي‬ ‫الشخصيات مثل صيغة املنولوج‬ ‫يف خطاب القائد الغازي املوجه‬ ‫التي يكون فيها حديث الشاعر‬ ‫إىل ضمري األمة من خالل شخصية‬ ‫‪68‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬

‫القائد صالح الدين‪ ،‬وما متثله من معنى رمزي‪،‬‬ ‫مؤكداً عىل تلك العالقة من الرصاع بني الرشق‬ ‫والغرب‪:‬‬

‫هل تذكرون حصار قرطاج األخري‬ ‫هل تذكرون سقوط صور‪ ،‬وماملك اإلفرنج‬ ‫فوق‬ ‫الساحل السوري‪ ،‬واملوت الكبري‬ ‫يف نهر دجلة عندما فاض الرماد‪ ،‬عىل‬ ‫املدينة‬ ‫والعصور؟‬ ‫«ها نحن عدنا يا صالح الدين»‪ ...‬فابحث‬ ‫عن بنني‬

‫يظهر االستخدام املكثف لضامئر الغيبة عند استدعاء‬ ‫الشاعر ألسامء الشخصيات التاريخية املعروفة باسم العلم‪،‬‬ ‫مقرتنة يف الغالب مع الوقائع واألحداث التاريخية التي‬ ‫اشتهرت بها‪ ،‬إضافة إىل استخدام أفعال املايض «مل يحرموا‬ ‫– خلدوا – سافروا – استعادوا ‪ .»....‬لقد سعى الشاعر إىل‬ ‫تحقيق التوافق عىل مستوى بناء القصيدة‪ ،‬بني أدوات اللغة‬ ‫ومدلوالتها من أجل تحقيق حضور الشخصيات واألحداث‬ ‫والرموز املستدعاة يف القصيدة‪ ،‬النتزاعها من غيابها املتحقق‬ ‫عىل مستوى الواقع‪ ،‬ويك يوحي بالعالقة الجدلية القامئة‬ ‫بني املستويني‪ ،‬مستوى الواقع ومستوى القصيدة‪ ،‬فاستخدم‬ ‫لتحقيق هذه الغاية الحشد الرتاتبي القائم عىل استطراد‬ ‫التداعي الذي تستعيد فيه الشخصية الفلسطينية كينونتها‬ ‫وعمقها التاريخي والحضاري الكبري بوصفه جزءاً من تلك‬ ‫الهوية التي تعود معها وبها الذات إىل اكتشاف ذاتها‬ ‫الحافلة بهذا الرثاء الحضاري الذي تشكل معه وبه وجودها‬ ‫التاريخي عىل هذه األرض الذي متازجت فيه أهم حضارات‬ ‫العامل القديم‪ .‬يقول الشاعر‪:‬‬

‫عادوا إىل ما كان فيهم من منازل‪ ،‬واستعادوا‬ ‫ما ضاع من قاموسهم‪ :‬زيتون روما يف مخيلة الجنود‬ ‫توراة كنعان الدفينة تحت أنقاض الهياكل‪ ،‬بني‬ ‫صور وأورشليم‬

‫وطريق رائحة البخور إىل قريش‪ ،‬تهب من شام الورود‬ ‫وغزالة األبد التي زفت إىل النيل الشام ِّيل الصعود‬ ‫يف األجزاء املدمجة يف بنية القصيدة والتي يستدعي فيها‬

‫الشاعر رموزاً تاريخية مختلفة يجمع فيام بينها‬ ‫عنرص موضوعي واحد‪ ،‬هو انتامؤها إىل حضارات‬ ‫الرشق القديم‪ .‬ويأيت هذا االستدعاء املكثف‬ ‫للربهنة عىل العمق التاريخي للذات الفلسطينية‪،‬‬ ‫وعىل التامزج الحضاري الذي عرفه تاريخها‬ ‫يف املايض يف هذه املنطقة التي شهدت والدة‬ ‫حضارات العامل القديم األوىل‪ ،‬إضافة إىل التأكيد‬ ‫عىل فكرة صعود وانهيار تلك الحضارات عرب‬ ‫التاريخ‪:‬‬

‫أعرب بني العصور‪ ،‬كأ َين أعرب بني الغرف‬ ‫أرى َّيف محتويات الزمان األليفة‪:‬‬ ‫أمشاط شعر من العاج‬ ‫صحن الحساء اآلشوري‬ ‫يس‬ ‫سيف املدافع عن نوم س ّيده الفار ِّ‬ ‫وقفز الصقور املفاجئ من علم نحو آخر‬ ‫فوق صواري األساطيل‬

‫ويستدعي الشاعر يف جزء مدمج ومحصور من قصيدة‬ ‫أخرى شخصية امللك البابيل نبوخذ نرص باسم العلم مقرتنة‬ ‫بالحدث الذي ارتبط باسمه وعرف بالسبي البابيل األول‬ ‫بعد أن احتل مدينة القدس‪ ،‬وقيامه بالقضاء عىل الدولة‬ ‫اليهودية وسبي اليهود إىل بابل‪.‬‬

‫فليصقل الثور‪ ،‬ثور العراق املجنح‬ ‫قرنيه بالدهر والهيكل املتصدِّع‬ ‫يف فضة الفجر‪ ،‬وليحمل املوت آلته‬ ‫املعدنية‪ ،‬يف جوقة املنشدين القدامى‬ ‫لشمس نبوخذ نرص‪ .‬أما أنا املتحدّر‬ ‫من غري هذا الزمان‪ ،‬فال ب َّد يل‬ ‫من حصان يالئم هذا الزفاف‬

‫كام يستدعي الشاعر شخصية االسكندر بلقبها الذي‬ ‫استعارته من الثقافة الفرعونية والدال عىل القوة املطلقة‪،‬‬ ‫يستدعيها مقرتنة بالفكرة التي مل تستطع تحقيقها ولذلك‬ ‫يستخدم أداة الرشط غري الجازمة والتي تحمل معنى التمني‬ ‫واالحتامل‪:‬‬

‫لو كان ذو القرنني ذا قرن‪ ،‬وكان الكون أكرب‬ ‫لترشق الرشقي يف ألواحه‪ ...‬وتغرب الغريب أكرث‬ ‫لو كان قيرص فيلسوفاً كانت األرض الصغرية دار قيرص‬

‫‪69‬‬


‫ملف‬

‫درويش ‪ -‬االمارات‬

‫سيرة محبة واحتفاء‬ ‫‪................................................................................................................................‬‬ ‫حدث ذلك صيف العام ‪ ،1974‬عندما وصل محمود درويش إلى أبوظبي وأقام في فندق «زاخر»‪ ،‬وكانت قراءته‬

‫الشعرية‪ ،‬األولى في الخليج العربي وليس في دولة اإلمارات وحدها‪ ،‬ذات أمسية قائظة في دار سينما «الدورادو»‬

‫أبوظبي‪ -‬بيت الشعر‬

‫دار‬

‫فلسطينياً للمهرة املسافرة يف حقول األلغام التي زرعها‬ ‫سينام «الدورادو»‪ ،‬ال تزال يف قلب أبوظبي‪،‬‬ ‫وتقع عىل مقربة من تقاطع شارعني‪ :‬زايد األول اإلرسائييل عىل مداخل القرية التي مل يرتكها أهلها وبقوا‬ ‫متمسكني باألمل وشجرة لوز ويفء زيتونة يتيمة»‪ .‬وأضاف‪:‬‬ ‫والسالم‪ .‬بدأ محمود درويش قراءته تلك بقصيدة كانت‬ ‫«ملحمود درويش وجهه الحر‪ ،‬عينان أو غيمتان‪ ،‬وقصيدته‬ ‫«سجل أنا عريب» التي كتبها يف العام‬ ‫ذائعة الصيت آنذاك‪ّ :‬‬ ‫ال تحقق أغراضها يف الرثاء وال يف املديح‪ ،‬ولكنها ال تحقق‬ ‫‪« :1964‬سجل‪ /‬أنا عريب‪ /‬ورقم بطاقتي خمسون ألف‪/‬‬ ‫ً‬ ‫وأطفايل مثانية‪ /‬وتاسعهم سيأيت بعد صيف…»‪ .‬و َمنْ يعرف أغراضها أبدا»‪ .‬كانت األمسية بدعوة من إدارة معرض‬ ‫سرية درويش الذاتية ُيدرك متاماً أنه كان يتحدث عن عائلته أبوظبي الدويل للكتاب‪ ،‬وحرضها سمو الشيخ عبدالله بن‬ ‫زايد آل نهيان وزير الخارجية‪ ،‬الذي كانت تربطه عالقة‬ ‫الحاصة‪.‬‬ ‫صداقة خاصة بدرويش‪ ،‬وحرض أيضاً حفل تكريم محمود‬ ‫غص ْت بالحضور من الجمهور اإلمارايت‬ ‫كانت القاعة قد ّ‬ ‫ً‬ ‫والخليجي والعريب حديث الوفود إىل الدولة الناشئة‪ .‬كانت درويش وأدونيس عندما تم تكرميهام معا بجائزة مؤسسة‬ ‫سلطان بن عيل العويس‪ ،‬فض ًال عن عدد من الوزراء‬ ‫تلك السبعينيات يف نصفها األول من القرن املايض واعدة‬ ‫اإلماراتيني الذين كان من بينهم وزير الثقافة والشباب‬ ‫كثرياً ومليئة بأشواق عليا لشعب من الشعراء العرب‬ ‫والتنمية املجتمعية عبد الرحمن العويس‪ ،‬الذي زار رام الله‬ ‫وطموحات هائلة حملها مثقفون وأفراد‪.‬‬ ‫عقب الرحيل املتوقع‪ ،‬لكن الالذع‪ ،‬لدرويش حيث خاطبه‬ ‫انتهت تلك األمسية ومعها تلك القراءة الوحيدة لدرويش‬ ‫ً‬ ‫يف أربعينه‪« :‬حيرّ تنا يا رجل كيف نكرمك» وقال أيضا عنه‪:‬‬ ‫ليسجل بذلك أول زيارة‪ ،‬بدءاً من اإلمارات‪ ،‬إىل الخليج‬ ‫«منح وجهاً آخر لقضيته الوطنية‪،‬‬ ‫العريب حيث مل تنقطع بعد ذلك‬ ‫وانتشلها من ضيق املكان والزمان‪،‬‬ ‫زياراته لإلمارات حتى العام‬ ‫ما بين العامين ‪ 1974‬و‪2007‬‬ ‫وأطلقها عرب مراحله الشعرية‬ ‫‪ 2007‬عندما قرأ يف أبوظبي يف‬ ‫عن‬ ‫درويش‬ ‫ينقطع‬ ‫لم‬ ‫نحو الكونية بوجهها اإلنساين‬ ‫آخر أمسية له هنا‪ ،‬وقدمه خاللها‬ ‫اإلمارت دولة وجمهور ًا‪ ،‬فعاد كقضية تحرر وطني لشعب وأرض‬ ‫الشاعر حبيب الصايغ يف املرسح‬ ‫ومقدسات‪ ،‬فلم يرتك وجعاً إال‬ ‫الوطني مساء األول من أبريل‬ ‫إليها وإلى غير مدينة من‬ ‫ً‬ ‫وصريه شعرا»‪ .‬وما ينبغي ذكره يف‬ ‫من ذلك العام‪.‬‬ ‫أمسيات‬ ‫فيها‬ ‫وأقام‬ ‫مدنها‪،‬‬ ‫هذا السياق‪ ،‬هو أن جثامن درويش‬ ‫يف تلك األمسية األخرية‪،‬‬ ‫وصل من الواليات املتحدة إىل مطار‬ ‫درويش‬ ‫قدّم الصايغ صديقه‬ ‫شعرية‬ ‫ماركا العسكري يف العاصمة األردنية‬ ‫باحتفاء كبري‪« :‬كأنه يغني يف‬ ‫ً‬ ‫عامن عىل منت طائرة خاصة أمر بها‬ ‫فرح قصيدته‪ ،‬كأنه يرتل صوتا‬

‫‪70‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬

‫أمسية يف اإلمارات‬

‫رئيس دولة اإلمارات الشيخ خليفة بن زايد‪.‬‬ ‫ومل تقترص صلة درويش فقط عىل املثقفني والشعراء‬ ‫اإلماراتيني وحدهم‪ ،‬إمنا ارتبط أيضاً برجاالت الدولة من‬ ‫بينهم أحمد خليفة السويدي وزير خارجية دولة اإلمارات‬ ‫األسبق‪ ،‬ومستشار املغفور له بإذن الله تعاىل الشيخ زايد‬ ‫بن سلطان آل نهيان – رحمه الله‪ ،‬وسواه من السياسيني‬ ‫اإلماراتيني الذين تعرف بهم أثناء عمله السيايس‪.‬‬ ‫وما بني العامني ‪ 1974‬و‪ 2007‬مل ينقطع محمود درويش‬ ‫عن اإلمارت دولة وجمهوراً‪ ،‬فعاد إليها وإىل غري مدينة من‬ ‫مدنها‪ ،‬وأقام فيها أمسيات شعرية يف ديب والشارقة‪ ،‬التي قرأ‬ ‫فيها ألول مرة قصيدته «خطبة الهندي األحمر األخرية»‪.‬‬ ‫ويبقى املعلم البارز اآلخر يف سرية درويش اإلماراتية هو‬ ‫نيله جائزة سلطان بن عيل العويس الثقافية ‪ -‬فرع اإلنجاز‬ ‫الثقايف والعلمي باملوازاة‪ ،‬وليس بالتناصف‪ ،‬مع أدونيس‬ ‫يف الفرع ذاته‪ ،‬حيث ورد يف قرار مجلس أمناء الجائزة‬ ‫الذي ُت َ‬ ‫يل العام ‪ 2004‬بصدد منح الجائزة لدرويش ما‬ ‫ييل‪« :‬يرى املجلس أن الشاعر محمود درويش هو صورة‬ ‫الحقيقة الشعرية يف عاملنا العريب‪ ،‬ورسولها املكابد بقوة‬ ‫وشجاعة وإرصار إلعالء صدق التجربة الشعرية ووهج‬

‫واقعها املعاش بكل عذاباته وجاملياته معاً‪ ،‬فهو شاعر‬ ‫املقاومة‪ ،‬ال الفلسطينية وحدها وإن ش ّكل اليوم نبضها‬ ‫الحي‪ ،‬بل املقاومة اإلنسانية يف عمقها واتساع آفاقها‪،‬‬ ‫والتي تنشد السالم والعدل لبني البرش‪ ،‬كام يرى املجلس‬ ‫أن مكابدة درويش ليست نضالية فحسب‪ ،‬عىل الرغم‬ ‫من القيمة العظيمة ملنجزه الشعري يف هذا املجال‪ ،‬ذلك‬ ‫ألن درويش استعاد للمفردة بهاءها وحررها من وهن‬ ‫التكرار والعادة وبعث يف استحضارات املوروث نبضاً حياتياً‬ ‫متجدداً ومعارصاً‪ ،‬ورفد الحركة الشعريــة املعاصــرة‪ ،‬مبا‬ ‫تحتــاج إليه مـن عذوبــة الشعـر وقوتـه وموسيقاه وعمقه‬ ‫وحالوته‪ ،‬عالوة عىل دور هذا الشعر التغيريي واملحرض‬ ‫واملناهض لالحتالل‪ ،‬وكافة أشكال العدوان والظلم»‪.‬‬ ‫خالل األربعني سنة تلك احتفظ درويش بالعديد من‬ ‫األصدقاء من الشعراء واملثقفني اإلماراتيني‪ ،‬من بينهم َمنْ‬ ‫اختلفوا معه يف الرأي حول قضايا سياسية تفصيلية‪ ،‬ومنهم‬ ‫َمن كانت محبته لدرويش أكرب من السياسة وأكرث استيعاباً‬ ‫لتناقضاتها يف شخصية درويش‪ ،‬لكنهم اتفقوا جميعاً عىل‬ ‫استثنائيته الشعرية واإلنسانية والثقافية بحسب كل الذين‬ ‫ُقدِّر لهم واقرتبوا كثرياً من بوحه الخاص‬ ‫‪71‬‬


‫ملف‬

‫سجل أنا شاعر‬

‫يف أمسيته األوىل يف أبوظبي عاتب خليل عيلبوين درويش وهو يقوم بتقدميه‪ ،‬ذلك أن الشاعر اختار اللجوء عام ‪ 1970‬وسلك‬ ‫طريق القاهرة عرب موسكو‪.‬وأحرجه حني طلب منه قراءة قصيدة «سجل أنا عريب»‪ ،‬التي كان درويش قد بدأ ينأى عنها من‬ ‫الناحية الفنية‪ ،‬ولذا بدأ درويش قراءته تلك‪ ،‬بحسب تسجيل صويت تحتفظ «بيت الشعر» بنسخة منه‪ ،‬بالقول‪« :‬ما كان‬ ‫بودي يف هذه املناسبة‪ ،‬وهي أول لقاء يل مع جمهور الخليج العريب‪ ،‬أن أسمع نصف مرثيتي‪ .‬وإنني أجد صعوبة شديدة يف‬ ‫اختيار النامذج الشعرية التي نسمعها معاً هذا املساء‪ ..‬مثة جدل اعترب أنه رضب من رضوب الرتف الفني‪ ..‬أي القصائد أفضل‬ ‫ما قبل أو ما بعد‪ ..‬ومن املؤسف أيضاً أن يكون تغيري إقامة شاعر من مكان إىل مكان بهذا الحجم من األهمية»‪ .‬وذلك ردّا‬ ‫عىل جدل كان قامئا آنذاك حول مغادرته فلسطني املحتلة واختياره العيش يف املنفى‪.‬‬ ‫وأضاف‪« :‬صحيح أن بعض االهتامم يعود إىل تقدير ما يحمله الشاعر من قيمة تتعلق بنضال شعبه‪ ،‬ولكن مرور أربع‬ ‫سنوات عىل عملية تغيري اإلقامة أعتقد أنه عمر كاف لنتخلص من هذه املقارنة‪ .‬وال أريد يف هذا املساء أن أدافع عن نفيس‬ ‫ولكن ما دام بعض األخوة مرصاً عىل تفضيل الشعر القديم عىل الجديد‪ ،‬أجد نفيس مضطراً إىل تلبية هذه الرغبة باختيار‬ ‫قصائد متدرجة يف العمر الفني وليس بالجودة الفنية‪ ،‬فالحكم يف آخر األمر رمبا ال يكون يل‪ ..‬ورمبا ال يكون أيضاً لألخ‬ ‫خليل»‪.‬‬

‫كلمة الشاعر في عيد اإلمارات‬

‫يسعدين أن تتاح يل هذه الفرصة‪ ،‬وهي عيد جميل ملشاركة أبناء الشعب اإلمارايت األصيل النبيل‪ ،‬أحد أيام أفراحه الكربى‪.‬‬ ‫لستم يف حاجة إىل مرآة معنوية‪ ،‬لتشاهدوا ما فعلت أشجاركم‪ ،‬وهي إحدى أسامء أطفالكم‪ ،‬بالصحراء الخارجية والداخلية‪،‬‬ ‫التي ترتاجع‪ ،‬رويداً رويداً‪ ،‬عن البيوت والنفوس‪ .‬فإن عالقتكم بهويتكم‪ ،‬من جهة وبإيقاع الزمن الجديد من جهة ثانية‪،‬‬ ‫ما يجعل املصالحة بني األصالة واملعارصة ممكنة‪ .‬وما يحول صورة هذا الوطن الصغري واملوحد إىل أحد املشاهد اإلنسانية‬ ‫والعمرانية الجميلة يف حياتنا املحارصة بالجفاف‪ .‬فقد يتمكن العريب املعارص من االنفتاح عىل ذاته وعىل اآلخر إذا حقق‬ ‫الحد األدىن الرضوري من التوحيد بني املواقف ووعي املصالح املشرتكة‪ ،‬ووحدة الثقافة القومية‪ ،‬إزاء األسئلة الكربى التي‬ ‫يواجهها مصري مشرتك لن نكون فاعلني يف صياغته إال بإرادة جامعية‪.‬‬ ‫من هنا‪ ،‬يحظى خطاب دولة اإلمارات املتحدة السيايس‪ ،‬بقيادة رئيسها الحكيم الكريم الشيخ زايد‪ ،‬الداعي إىل املصارحة‬ ‫واملصالحة والتضامن والتعاون‪ ،‬باحرتام الجميع وتقديرهم‪.‬‬ ‫ويف هذا العيد نرفع إىل سيادته أعمق التهاين وأصدقها‪ ،‬بثقة شعبه املتجددة وباعتزاز أبناء أمته برسالته الدامئة يف خلق مناخ‬ ‫عريب جديد تتقدم فيه مصلحة األمة وروابطها املشرتكة عىل أنانية القبائل والطوائف‪.‬‬ ‫إن أبناء الشعب الفلسطيني يشعرون بامتنان خاص تجاه املكانة العاطفية والسياسية والروحية التي تتبوأها فلسطني‪،‬‬ ‫والقدس قلبها‪ ،‬ويف قلوبكم التي تصيل لتحريرها من االحتالل‪ ،‬ولتصبح القدس العاصمة الزمنية للفلسطينيني‪ .‬وإحدى‬ ‫العواصم الروحية لكل العرب واملؤمنني بتعايش الرساالت الساموية‪ .‬فعندئذ يكتمل االستقالل العريب الذي سيظل ناقصاً ما‬ ‫دام شرب من األرض محت ًال‪ ،‬وما دام املصري العريب أسرياً لرشوط التبعية‪ ،‬وما دام الحصار مرضوباً عىل خبز العراقيني وحليبهم‬ ‫وغدهم‪ .‬وما دام أفق املستقبل العريب ملبداً بالضباب ومقيداً بإرادات اآلخرين‪.‬‬ ‫ويف عيدكم هذا‪ ،‬يف حديقتكم الجميلة النظيفة هذه‪ ،‬ندعو ألشجاركم يف الطبيعة والطبائع‪ ،‬أن ترسو أكرث‪ .‬وأن تنترش أكرث‪،‬‬ ‫لتجعل الرمل أقل‪ .‬ومسافة الفرقة بني الذات وأختها أضيق‪ .‬ونتمنى لكل فرد منكم املزيد من التطور والرفاهية‪ .‬ونتمنى‬ ‫لرسالتكم يف االتحاد والوحدة‪ ،‬أن تصل إىل الجميع‪.‬‬ ‫وكل عام وأنتم بخري‪( ..‬ألقيت مبناسبة اليوم الوطني لدولة اإلمارات العربية املتحدة العام ‪)1996‬‬

‫‪72‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬

‫درويش‬

‫قراءة فلكية‬

‫‪................................................................................................................................‬‬

‫ً‬ ‫بدرا‪ ،‬ويفسر علم الفلك ذلك بوجود الشمس في قبالة القمر‪ ،‬وهو األمر الذي‬ ‫ولد درويش في ليلة كان القمر فيها‬ ‫ً‬ ‫أحيانا على قراءة الشخصية اإلنسانية‪ ،‬بأحاسيسها ومشاعرها وطرق تعبيرها‬ ‫يساعد‬

‫ياسين الزبيدي‬

‫متنحنا‬

‫خريطة امليالد (‪ )Natal Chart‬أو‬ ‫املشهد الساموي املتفرد لحظة ميالد‬ ‫اإلنسان وسيلة فعالة للتعرف عىل مزاياه وعيوبه‪ ،‬فكواكب‬ ‫املجموعة الشمسية تشكل لوحة تشكيلية تغري قارئ الفلك‬ ‫يف البحث عن خفاياها وأرسارها‪ ،‬وهي متنحنا فرصة التعرف‬ ‫عىل األركان األساسية لتلك الشخصية‪ ،‬وتفصح عن ما نحاول‬ ‫جميعنا إخفاءه من مكنونات ال نرغب يف كشفها عىل الغري‬ ‫سواء كانت يف عقلنا الواعي أو غري الواعي‪.‬‬ ‫واليوم نشد الرحال إىل الجليل وبالتحديد قرية الربوة يف‬ ‫يوم الثالث عرش من مارس ‪ 1941‬حيث ولد الشاعر محمود‬ ‫دوريش‪ ،‬وعرب أحد برمجيات الحاسبوب نقوم باستعادة‬ ‫شكل السامء يف لحظة ميالده‪ ،‬يف محاولة للبحث عن‬ ‫الجانب غري املنظور من شخصية محمود درويش‪ ،‬لرنى‬ ‫أسلوبه يف التفكري والتعامل مع الغري‪ ،‬ويف الحب وطبيعة‬ ‫التعبري عن الطاقات املكنونة‪ ،‬مستهدفني معرفة الشاعر يف‬ ‫جانبه النفيس‪ ،‬بعيداً عن تحليل أشعاره التي تعد منه ًال عذباً‬ ‫ملتذوقي الشعر‪ ،‬وأرضاً خصبة لألدب والنقد‪.‬‬

‫تدل عىل وجود رصاع فكري‪ ،‬منشؤه أن الشمس متثل‬ ‫العقل واالدراك الواعي‪ ،‬والقمر ميثل العاطفة والشعور‪،‬‬ ‫وملا كانا يف زاوية تعارض فهذا يؤدي إىل رصاع مستمر بني‬ ‫العقل والعاطفة‪ ،‬هذا الرصاع الذي عاىن منه درويش طيلة‬ ‫حياته‪ ،‬فتارة يكتب من وحي عاطفته وقلبه‪ ،‬وأخرى ينقلب‬ ‫عىل عواطفه ثائراً ويلجمها بلجام العقل واملنطق‪ ،‬وهذا‬ ‫الرصاع الفكري انعكس عىل حياته ليمثل أطواراً عديدة من‬ ‫التغري واالنقالب‪ .‬فقد رافقت فورة شبابه انتامؤه للحزب‬ ‫الشيوعي اإلرسائييل وعمله يف صحافة الحزب وذلك بعد أن‬ ‫أنهى تعليمه الثانوي‪ .‬بيد أن دوريش مل يخلق من أجل أن‬ ‫يسكت عىل الظلم‪ ،‬أو أن يحابيه لذا فقد اعتقل من قبل‬ ‫قوة العاطفة‬ ‫كان القمر بدراً يف يوم والدة محمود درويش‪ ،‬ورغم أن رؤية السلطات اإلرسائيلية مراراً بدءاً من العام ‪ 1961‬بتهم تتعلق‬ ‫بترصيحاته ونشاطه السيايس وذلك حتى عام ‪ .1972‬وظل‬ ‫البدر من أروع مشاهد السامء‪ ،‬التي تثري أخيلة الشعراء‬ ‫بعد ذلك متنق ًال بني االتحاد السوفييتي ولبنان والقاهرة‬ ‫وتبعث فيهم فيض الطاقة يك يحولوا اإلحساس إىل كلامت‬ ‫وأبيات شعر‪ ،‬إال أن هذا املشهد الساموي األخاذ له تفسري حتى التحق مبنظمة التحرير الفلسطينية‪ ،‬بيد أن رصاع‬ ‫آخر يف دنيا الفلك‪ ،‬فوجود الشمس يف زاوية مقابلة للقمر العقل والعاطفة مل يتوقف‪ ،‬ودرويش ال يصغي إال ملا يؤمن‬ ‫‪73‬‬


‫ملف‬

‫عزلتك؟ فأجابها (جداً‪ .‬عندما أضطر للخروج للعشاء أشعر‬ ‫أنه تم االيقاع يب يف عقوبة‪ .‬يف السنوات األخرية رصت أحب‬ ‫أن أكون وحدي‪ .‬أحتاج للبرش عندما أكون مضطراً لهم‪ .‬رمبا‬ ‫تعتقدين أنها أنانية‪ ،‬ولكن لديّ خمسة أو ستة أصدقاء‪ .‬هذا‬ ‫كثري‪ .‬لديّ آالف املعارف وهذا ال يساعدين)‪.‬‬

‫به‪ ،‬لذا قدم استقالته من اللجنة التنفيذية ملنظمة التحرير‪،‬‬ ‫معلناً عن عدم قناعته مبا جاء يف اتفاقية أوسلو‪ ،‬وهي أول‬ ‫اتفاقية سالم بيني إرسائيل والسلطة الفلسطينية املمثلة‬ ‫مبنظمة التحرير‪.‬‬ ‫وكام لعب الرصاع بني القلب واملنطق دوراً مه ًام يف حياة‬ ‫محمود درويش وانتقاالته‪ ،‬فقد كان له األثر األكرب يف‬ ‫تنوع تجربته مع الشعر‪ ،‬فهو قد ينغمس يف نوع معني من حب عذري‬ ‫الرتنيمة الشعرية‪ ،‬إال أنه تارة أخرى يستيقظ من نشوة‬ ‫عيون املرأة تفنت الشعراء وغري الشعراء‪ ،‬فقد يجلنب الهوى‬ ‫تلك املرحلة‪ ،‬ثائراً ناق ًام عىل ما كان عليه‪ ،‬ليقبل إىل لجة‬ ‫من حيث يدري املرء أو ال يدري‪ ،‬واملرأة حكاية تغنى بها‬ ‫أخرى وتجربة ثرية أخرى‪ ،‬ولهذا يشري ناهض زقوت إىل‬ ‫الهام للبيت وللقصيدة‪،‬‬ ‫البرش منذ البدء‪ ،‬وكانت مصدر ٍ‬ ‫أن التجربة الشعرية لدى محمود درويش مرت بسبع‬ ‫ولكن أين هي املرأة من محمود درويش؟ لإلجابة عن‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫مرو‬ ‫مراحل‪ ،‬بدءاً من الغنائية وانتها ًء باستبطان الذات‬ ‫هذا السؤال فإننا نحتاج إىل التعرف عىل موقعي كوكب‬ ‫بالتمرد وامللحمية‪ .‬فهو شاعر يصعب التنبؤ بخط سريه‪ ،‬وال املريخ وكوكب الزهرة‪ ،‬فاملريخ الذي ميثل رغبات اإلنسان‬ ‫يرىض مطلقاً عن ما وصل إليه بل يتطلع دوماً إىل األمام‪.‬‬ ‫ونشاطه كان متواجداً يف برج الجدي الرتايب‪ ،‬مام يشري إىل‬ ‫وعندما سأله عبده وازن عن شعوره تجاه أعامله الكاملة يف أن االهتامم االول لدرويش هو النجاح وتحقيق الذات‪ ،‬بينام‬ ‫طبعتها الثامنة عرشة يقول (إنني ال أنظر إىل ّ‬ ‫مايض برضا‪،‬‬ ‫يأيت االهتامم بالرغبات أو األمور األرسية وتكوين العائلة‬ ‫وأمتنى عندما أقرأ هذه األعامل‪ ،‬أال أكون قد نرشتها كلها‪،‬‬ ‫واالستقرار يف عش الزوجية يف املرتبة الثالثة أو الرابعة‪،‬‬ ‫أو أال أكون نرشت جزءاً كبرياً منها‪ .‬لكنّ هذه مسألة مل تعد ولذلك عندما سألته داليا كربيل عن العائلة قال لها (يذكر‬ ‫منوطة يب‪ ،‬إنها جزء من ترايث)‪.‬‬ ‫أصدقايئ من حني آلخر أنني تزوجت مرتني‪ .‬ولكنني ال أذكر‬ ‫الشمس تواجدت يف ساعة ميالد درويش يف برج الحوت‬ ‫هذا باملعنى العميق للكلمة)‪ .‬وإلكامل صورة املرأة يف حياة‬ ‫املايئ‪ ،‬لذا فهو يشرتك مع مواليد الحوت يف قوة العاطفة‬ ‫درويش يساعدنا كوكب الزهرة املتواجد يف برج الحوت‬ ‫واإلحساس الفني‪ ،‬مام جعل من درويش رجل األحالم‬ ‫املايئ‪ ،‬فوجوده يف هذا املوقع يشري إىل أن حبه للمرأة‬ ‫واإللهام والخياالت الخصبة‪ ،‬فهو دمث الخلق‪ ،‬يحسن‬ ‫يتحول من الجانب املادي امللموس إىل حب ساموي شفاف‬ ‫معاملة من حوله ويحاول أن‬ ‫يرقى به إىل عامل املالئكة‪« :‬كربنا‪،‬‬ ‫يقدم ما بوسعه خدمة لآلخرين‪.‬‬ ‫أنا وجميل بثينة‪ ،‬وكل عىل حدة يف‬ ‫يفسر‬ ‫عطارد‬ ‫موقع‬ ‫مييل إىل العزلة ويكره مخالطة‬ ‫زمانني مختلفني»‬ ‫اهتمامات درويش‬ ‫الناس غري املربرة‪ ،‬وأحياناً يتجنب‬ ‫عطارد كوكب التفكري والتواصل‬ ‫الحياة الواقعية ويخلق من خياله‬ ‫االجتامعي‪ ،‬ووجوده يف برج الدلو‬ ‫الفكرية وميوله‬ ‫ً‬ ‫الخصب عاملاً يتناسب مع فيض‬ ‫ينم كثريا عن طريقة تواصل درويش‬ ‫في‬ ‫ووجوده‬ ‫العقائدية‪،‬‬ ‫عاطفته وافق خياله‪ ،‬وقد متر به‬ ‫مع أفكاره ومع الناس‪ .‬فوجود‬ ‫أيام عدة من دون أن يغادر بيته‪،‬‬ ‫برج الدلو الهوائي جعل عطارد يف هذا املوقع يدل عىل‬ ‫فهو مييل إىل االنطواء عىل نفسه‬ ‫روح مرحة يف التعامل مع املعارف‬ ‫من درويش رج ً‬ ‫ال ذا فكر‬ ‫واألصحاب‪ ،‬كام يدل عىل نفس طيبة‬ ‫واإلصغاء إىل صمته الداخيل‪.‬‬ ‫منفتح‬ ‫متواضعة‪ ،‬فهو يعد القهوة بنفسه‬ ‫ففي حواره مع داليا كربيل الذي‬ ‫لضيوفه‪ ،‬وأحياناً يطبخ لهم‪ ،‬وعندما‬ ‫ترجمه نائل الطوخي‪ ،‬سألته‬ ‫يلعب الرند ‪ -‬زهر الطاولة ‪ -‬ينفعل‬ ‫الصحفية قائلة ً‪ :‬هل تحب‬ ‫‪74‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬

‫تخطيط فليك لشخصية درويش‬

‫ْ‬ ‫انترصت‬ ‫كطفل كام يحدثنا بذلك يحيى القييس يف لقائه مع األصدقاء ال ال ُق َّو ُة‬ ‫املقربني لدرويش‪ .‬وموقع عطارد يفرس اهتامماته الفكرية وال ال َعد ُْل الرشيدُ‬

‫وميوله العقائدية‪ ،‬ووجوده يف برج الدلو الهوايئ جعل من‬ ‫درويش رج ًال ذا فكر منفتح‪ ،‬يحب أن يطلع عىل تجارب‬ ‫اآلخرين وأفكارهم‪ ،‬ويسعده أن يتبادل معهم الرؤى وما‬ ‫يجول يف الخاطر‪ .‬ينجذب إىل كل فكر حر‪ ،‬ويبتعد عن كل‬ ‫متعصب ألفكاره وكل من قوقع نفسه بأفكار بالية قدمية‪.‬‬ ‫ودرويش يحمل بني جنبيه إحساساً شفافاً ووعياً شمولياً‬ ‫يتسع مداه للعامل أجمع‪ .‬إنه الباحث عن الحقيقة وعن‬ ‫كل فكرة جديدة ميكن أن تغرس بذرة خري وأمل يف نفوس‬ ‫املضطهدين يك يكونوا ما يستحقون ويعيشوا كام يجب‪،‬‬ ‫وهو يقول يف جداريته التي كتبها يف عام ‪:1999‬‬

‫سأَص ُري يوماً فكر ًة ‪ .‬ال َس ْي َف يحم ُلها‬ ‫كتاب …‬ ‫األرض‬ ‫اليباب ‪ ،‬وال َ‬ ‫إىل ِ‬ ‫ِ‬ ‫كأ َّنها َم َط ٌر عىل َج َبلٍ َت َصدَّعَ من‬ ‫َت َفتُّح عُ ْش َب ٍة ‪،‬‬

‫َ‬ ‫سأصري يوماً ما ُأريدُ‬

‫ورغم أن محمود درويش عاش حياته يف رصاع بني‬ ‫العقل والعاطفة‪ ،‬إال أن أشعاره وشخصيته جعلت منه‬ ‫رمزاً للمقاومة‪ ،‬وقد عل ّمنا أن املقاوم هو إنسان قبل كل‬ ‫يشء‪ ،‬يحب ويكره‪ ،‬ينترص وي ُـهزم‪ ،‬ويعيش كل املشاعر‬ ‫اإلنسانية إال أنه يبقى محتفظاً بروح املقاومة يف صدره نبضاً‬ ‫ورشياناً‪ .‬ومحمود درويش غدا أيقونة النضال يف منظار‬ ‫العامل أجمع‪ ،‬فمحبوه يعشقونه وأعداؤه يوقرونه‪ ،‬فرئيس‬ ‫السلطة الوطنية الفلسطينية يارس عرفات يقول بأن أجمل‬ ‫خطبة ألقاها كانت إعالن دولة فلسطني التي كتبها محمود‬ ‫درويش‪ .‬ورئيس وزراء إرسائيل شارون يعرتف بوصول‬ ‫صوت محمود درويش إىل أذنيه ويقول (أنا معجب بديوان‬ ‫«ملاذا تركت الحصان وحيداً؟» ألن هذا اإلعجاب قادين إىل‬ ‫اإلعجاب بتعلق الشعب الفلسطيني بقضيته وأرضه)‬ ‫‪75‬‬


‫ملف‬

‫درويش الدمشقي‬

‫مرآة العاشق المغترب‬ ‫‪................................................................................................................................‬‬ ‫لدمشق حظ وافر من شعر درويش‪ ،‬فهي من جهة «مرآة الروح»‪ ،‬ومن جهة أخرى «النداء حيث يبتدئ الزمن‬ ‫العربي»‪ .‬خصوصية لم تفسدها السياسة‪ ،‬وصانها الحب كقصيدة عشق‬

‫ديمة الشكر‬

‫يف‬

‫املب ّكر‪ ،‬وعاصمة الخالفة األم ّوية‪ ،‬مدينة الشعراء واألدباء‬ ‫والعلامء واملتصوفني‪ ،‬وهي كذلك املدينة التي «أرسلت»‬ ‫صورتها عرب املتوسط‪ ،‬فولدت منها األندلس أخت الجنّة‪ّ .‬‬ ‫كل‬ ‫خاصة‬ ‫هذا وكث ٌري غريه‪ ،‬حفظ للمدينة املز ّنرة باألخرض مكانة ّ‬ ‫تقرتب من املقدس من دون أن تكونه متاماً‪ ،‬لكأنها إحدى‬ ‫رساً ال عالن ّية‪.‬‬ ‫املدن املقدسة ّ‬

‫ٌ‬ ‫خفيف‬ ‫نهاية شهر أكتوبر عام ‪ ،1997‬رافق مط ٌر‬ ‫هبوط طائرة يف دمشق‪ .‬يتذكر الراكب االستثنايئ‬ ‫محمود درويش تلك اللحظة جيداً‪ ،‬يقول إنه تفاءل باملطر‬ ‫الخفيف‪ .‬لتلك الزيارة وأمسيتها الشعر ّية املميزة‪ٌ ،‬‬ ‫نكهة‬ ‫خاصة لدى كث ٍري من سكان هذه املدينة‪.‬كانوا يف غالبيتهم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫من الشباب‪ ،‬ولعلهم أظهروا لدرويش كيف يتجاوب‬ ‫الجمهور مع شعره بطريقة أث ّرت يف نفسه‪ ،‬ح ّد أ ّنه قال‬ ‫يف لقا ٍء صحفي وقتها‪« :‬أشع ُر بأنني ممتلئٌ برغبة يف كتابة طريق دمشق‬ ‫حب دمشق ّية‪ ،‬وأعدكم بتحقيق ذلك يف أقرب‬ ‫ّ‬ ‫قصيدة ّ‬ ‫التاريخي للمدينة‪ ،‬هو ما دفع درويش‬ ‫ولعل هذا ال ِثقل‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫وقت»‪ .‬وىف الشاعر بوعده وكتب قصيدة‪ ،‬تشعر السوريني‬ ‫وغريه من الشعراء العرب املعارصين‪ ،‬إىل «إدخال» دمشق‬ ‫فون‬ ‫ك ّلهم بالزهو والغبطة‪ ،‬يدركون من خاللها بأنهم ُم ْص َط‬ ‫تاريخي‪ .‬فامل ّرة األوىل‬ ‫باب‬ ‫ّ‬ ‫«أو الشام» إىل القصيدة عرب ٍ‬ ‫من بني غريهم من عشاق الشاعر اآلرس‪ .‬صحيح أنها‬ ‫التي ظهرت املدينة لدى درويش‪ ،‬تعود إىل العام ‪،1973‬‬ ‫ْ‬ ‫ليست املرة األوىل التي تدخل‬ ‫يف ديوانه «محاولة رقم ‪ .»7‬ففي‬ ‫دمشق عامل درويش الشعري‪،‬‬ ‫قصيدة «كأنيّ‬ ‫أحبك»‪ ،‬م ّرت املدينة‬ ‫ِ‬ ‫التي‬ ‫األولى‬ ‫ة‬ ‫ر‬ ‫الم‬ ‫لكن قصيدة «طوق الحاممة‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫دخلت إىل‬ ‫بصورة طفيفة‪« :‬حني‬ ‫الدمشقي» تبدو مفصلي ًة‬ ‫الجامع األموي تساءل ُ‬ ‫أهل دمشق‪/‬‬ ‫ظهرت دمشق لدى‬ ‫وحاسمة يف بلورة عالقة الشاعر‬ ‫املغرتب؟»‪ .‬تبينّ اإلشارة‬ ‫منْ العاشق‬ ‫ْ‬ ‫درويش‪ ،‬تعود إلى‬ ‫بدمشق‪ .‬فهذه املدينة تفيض عن‬ ‫إىل الرصح الديني الشهري‪ ،‬نظرة‬ ‫حدودها واقعاً؛ إذ تتنَزه باستمرار‬ ‫العام ‪ ،1973‬في ديوانه الشاعر إىل الجانب التاريخي يف شقهّ‬ ‫بني لفظني‪ :‬دمشق والشام‪.‬‬ ‫اإلسالمي من جهة‪ ،‬مثلام تبينّ أن‬ ‫«محاولة رقم ‪ »7‬في‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫وتفيض عن حدودها مجازا؛‬ ‫هاجس تع ّرف س ّكان املدينة عىل‬ ‫أحبك»‬ ‫قصيدة «كأنّي‬ ‫ِ‬ ‫مرص ٌع بلحظات‬ ‫إذ إن تاريخها ّ‬ ‫الشاعر ُيبطن رغبته يف ت ّوسيع حدود‬ ‫مضيئة‪ّ ،‬‬ ‫فهي‬ ‫عها؛‬ ‫و‬ ‫تن‬ ‫تشف عن ّ‬ ‫ه ّويته عرب ربط فلسطني مبحيطها‬ ‫حارضة الجاهل ّية‪ ،‬ومهد املسيح ّية‬ ‫العريب‪ .‬األم ُر الذي سنلمسه مجدداً‬ ‫‪76‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬

‫ونيف‪ ،‬ففي ديوان «وردٌ‬ ‫تظهر املدينة م ّرة أخرى بعد عق ٍد ٍ‬ ‫شام»‪.‬‬ ‫أقل» يك ّرس درويش قصيد ًة ثانية لها‪« ،‬ويف الشام ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وموجهة من الشاع ِر‬ ‫وبالحب‪،‬‬ ‫القصيد ُة مك ّل ٌلة بالعتاب‬ ‫ّ‬ ‫إىل «صاحبه»‪ .‬أك َرث من هذا‪ ،‬فالقصيد ُة التي ُك ْ‬ ‫تبت بعد‬ ‫االجتياح اإلرسائييل لبريوت – مكان إقامة الشاعر املؤقت‬ ‫السيايس لتع ّقد العالقة‬ ‫الجانب‬ ‫وقتها‪ُ ،‬تخفي بذكا ٍء ولباق ٍة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫– عىل ّ‬ ‫أقل تقدير‪ -‬بني فلسطني وسوريا‪« :‬أ ِمنْ َح ِّقي‪َ ،‬‬ ‫اآلن‪،‬‬ ‫الح ِّب أَ ْن أَ ْسألَ ْك‪ /‬لِماَ َذا ا َّت َك َ‬ ‫أت َعليَ​َّ ِخنْج ٍر‬ ‫وع منَ ُ‬ ‫َب ْع َد ال ُّر ُج ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫كيَْ َت َرانيِ ؟»‪ ،‬أو « َما أ ْج َمل َّ‬ ‫وحي»‪ .‬األم ُر الذي‬ ‫الشا َم‪ ،‬ل ْوال ُج ُر ِ‬ ‫يصيب مبارش ًة نظرة الشاعر الفلسطيني إىل هو ّيته أ ّوالً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫الحب‬ ‫وإىل انتامئها ملحيطها العريب ثانيا‪ .‬وهو ما سيتك ّفل ّ‬ ‫بإظهاره يف القصيدة‪َ « :‬ف َض ْع ِن ْص َف َق ْل ِب َك فيِ ِن ْص ِف َق ْل ِبي‪َ ،‬يا‬ ‫َص ِاح ِبي‪ /‬لِن َْصن َ​َع َق ْلباً َص ِحيحاً َف ِسيحاً لَهَا ليِ ‪َ ،‬ولَ ْك‪َ /‬ف ِفي َّ‬ ‫الشام‬ ‫َش ٌام‪ ،‬إِ َذا ِشئ َْت‪ ،‬فيِ َّ‬ ‫السيايس‬ ‫الجانب‬ ‫وحي»‪ .‬هذا‬ ‫ُ‬ ‫الش ِام م ْرآ ُة ُر ِ‬ ‫ّ‬ ‫«ضجة»‪ ،‬إذ‬ ‫إن جاز التعبري‪ ،‬سيم ّر خفيفاً من دون أن يث َري ّ‬ ‫إن درويش َ‬ ‫الحب‪ ،‬فض ًال عن أن ِنظرته السياس ّية‬ ‫أميل إىل ّ‬ ‫لألمور من حوله‪ ،‬مل ُيس ّلمها البتة لالنفعاالت اآلنية‪ .‬الشاعر‬ ‫الفطن ال تخدعه مظاهر «الخطاب الرسمي»‪ ،‬لذا ُ‬ ‫ينبذ اآلثار‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫املد ّمرة لتع ّقد العالقة إياه‪ ،‬متكئا عىل الجوهر والثابت بني‬ ‫هو ّيتني أختني‪ .‬املفارقة أن هذه القصيدة التي تبتعدُ عن‬ ‫تاريخ املدينة التليد‪ ،‬وتنظر إليها يف حارضها ويف «دورها‬ ‫يف الديوان نفسه‪ُ ،‬‬ ‫حيث ّ‬ ‫خص درويش املدينة‪ ،‬بأوىل قصائده املتبدّل»‪ ،‬سنتلقفها نحنُ السوريني باعتبارها أوىل قصائد‬ ‫املك ّرسة لها فقط‪ :‬قصيدة «طريق دمشق» تظه ُر أوضح من‬ ‫الحب بني درويش وبيننا‪ .‬قصيدة الشيفرة الرس ّية بيننا‬ ‫ّ‬ ‫قبل نظرة الشاعر إىل املدينة املمتلئة بالتاريخ‪ ،‬باعتبارها رمزاً‬ ‫وبينه‪ ،‬نحن الذين َ‬ ‫قال غري م ّرة عنّا‪« :‬بيني وبني الدمشقيني‬ ‫مستمراً للعرب يف أوجهم‪ .‬املدينة هي صورتها يف التاريخ‪،‬‬ ‫كيمياء شعور ّية»‪.‬‬ ‫ودورها يف الحارض‪ .‬ركيزة النرص األوىل‪ ،‬ومتكئ لص ّد الغزاة‪.‬‬ ‫صورة للتامهي املشتهى بني عريب وآخر‪« :‬اغتسيل يا دمشق‬ ‫غرفة للكالم‬ ‫بلوين‪ /‬ليول َد يف الزمن العريب نهار» أو «وتسألني الفتيات‬ ‫ْ‬ ‫والثابت‪ُ ،‬يبطنُ نظرته إىل‬ ‫استناد درويش إىل الجوهريّ‬ ‫الصغريات عن بلدي»‪ .‬املفارقة أن هذه القصيدة التي‬ ‫تحمل عنواناً ُيبطنُ الجانب املسيحي لدمشق‪ ،‬مل تتطرق إىل التاريخ املشرتك والجغرافيا املشرتكة أيضاً‪ ،‬سيبتعد درويش‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ك ّلام امتدّت قصائده وازدادت جامالً ورفع ًة‪ ،‬عن املبارشة‪،‬‬ ‫رمز ّية «طريق دمشق» الشهري بالطريق املستقيم‪ .‬وآثرت‬ ‫الفج‪ .‬إذ إن هذا الشاعر األثري‪ ،‬ماه ٌر بتعامله مع‬ ‫والقول ّ‬ ‫القومي الذي كان رائجاً وقتها‪.‬‬ ‫الهم‬ ‫أن تكون معبرّ ًة عن ّ‬ ‫ّ‬ ‫اللغة العرب ّية‪ ،‬طبعها ببصمة ال متحى مفرد ًة فأخرى‪ ،‬ح ّد‬ ‫فدمشق يف القصيدة هي «دمشق النداء‪ /‬دمشق الزمان‪/‬‬ ‫دمشق العرب»‪ ،‬حيث «يبتدئ الزمن العريب وينطفئ الزمن أن كثرياً من الشعراء يتجنبون استعامل مفردات استعملها‬ ‫هو‪ ،‬نظراً إىل ق ّوته يف التأثري عىل إلهام اآلخرين وصنيعهم‪.‬‬ ‫قومي واضح «كوين دمشق فال يعربون»‪.‬‬ ‫الهمجي»‪ ،‬ولها دو ٌر ّ‬ ‫‪77‬‬


‫ملف‬

‫فصل أثر تلك العنارص يف‬ ‫كذا متت ّد املدينة‪ ،‬تفيض عن حدودها التي يتناوبها لفظان‪ :‬فتعدّها ك ّلها شيئاً واحداً‪ ،‬بل و َت ِ‬ ‫الجانب‬ ‫دمشق والشام‪ ،‬لتظهر يف حيز جغرا ّيف ذي داللة‪ .‬ففي ديوان بلورة املعنى‪ .‬وفض ًال عن الشكل املبتكر‪ ،‬يظه ُر‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫التاريخي للمدين ٍة متألقاً‪ ،‬غري مفصولٍ عن حارضها‪ ،‬الذي‬ ‫ّ‬ ‫«ملاذا َ‬ ‫تركت الحصان وحيداً»‪ ،‬الذي مي ّثل سرية درويش‬ ‫تزيد من وقعه «يف دمشق»‪ ،‬عىل نح ٍو نجح فيه الشاعر‬ ‫وقصته‪،‬‬ ‫وقصتّه الشخص ّية التي ال تنفصل عن سرية مكانه ّ‬ ‫السيايس الذي ُيج ّرح الهو ّية ويوهنها‪ُ ،‬مفض ًال‬ ‫بإبعاد الجانب‬ ‫ّ‬ ‫بعيني الشاعر‪ ،‬يف القسم‬ ‫تحرض صورة من صور املدينة‬ ‫ّ‬ ‫الحب بأبهى صوره‪ .‬فعنوان القصيدة يذهب‬ ‫الذهاب نحو ّ‬ ‫املعن ّون «غرفة للكالم مع النفس»‪ ،‬القسم األكرث حميميةً‬ ‫نحو صدى أخت الجنة ؛«طوق الحاممة» كتاب األندليس‬ ‫وصفاء‪ ،‬حيث يكتب يف قصيدة «قال املسافر للمسافر‪:‬‬ ‫ابن حزم‪ ،‬هو األشهر واألجمل يف تراث العشق العريب‪.‬‬ ‫لن نعود كام»‪« :‬أنا ابن الساحل السوريّ ‪ /‬أسكنه رحي ًال أو‬ ‫مقاما»‪ ،‬موا اً بذلك بني التاريخ والجغرافيا املشرتكني لسوريا َتظه ُر دمشقُ مدين ًة ممتدّة يف الزمن‪ ،‬ففيها مفردات دالة‬ ‫ئمِ‬ ‫ّ‬ ‫عىل األمس والحارض واملستقبل (القيامة أو بعدها‪ ،‬فعل‬ ‫ً‬ ‫وفلسطني من جهة‪ ،‬ومص ّوبا الجانب املع ّقد يف هو ّيته‪،‬‬ ‫املضارع‪ ،‬األبد ّية‪ ،‬منيش إىل غدنا‪ ،‬يف أمسنا‪ ،‬ماضينا املشرتك»‪.‬‬ ‫ذاك الجانب الذي أساءت الس ّياسة إليه‪ ،‬وأرادت عربه‬ ‫وفيها مفردات ّ‬ ‫أقل دا ّلة عىل التاريخ «الجاهلية‪ ،‬األموية»‪،‬‬ ‫الخاص‪ ،‬ال‬ ‫احتكا َر رغب ِة الفلسطينيني يف أن يكونوا صوتهم‬ ‫ّ‬ ‫إذ إن درويش – وهو املحاور الذيك للتاريخ ‪ -‬تح ّرر من‬ ‫صورتهم املوزعة يف أوراق سياس ّية من ذاك النوع املريب‬ ‫وطأة أثر تاريخ املدينة يف ش ّد قصيدته نحو ما ال يريد‪،‬‬ ‫واملثري للشكوك‪ ...‬عىل ّ‬ ‫الحب كعادته‪،‬‬ ‫أقل تقدير‪ .‬يتك ّفل ّ‬ ‫مؤ ِثراً الرتكيز عىل الحميم والشخيص فيها‪َ .‬يظهر األ ّول من‬ ‫بنسج العالقة بني درويش وبيننا‪ ،‬إذ تظهر املدين ُة ثانيةً‬ ‫خالل انتباه درويش إىل تفاصيل صغرية‪ُ ،‬‬ ‫يدرك شيفرتها ُ‬ ‫أهل‬ ‫بالحب «مط ٌر فوق‬ ‫الخاص‬ ‫يف الديوان نفسه‪ ،‬ويف القسم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫برج الكنيسة»‪ .‬يكون نصيبنا‪ ،‬اليوم السابع من «أيام الحب املكان‪ ،‬كالحاممات التي تطري‪ ،‬والطرقات القدمية‪ ،‬وطقس‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحب‬ ‫السبعة»‪« :‬أمر باسمك إذ أخلو إىل َن َفيس‪ /‬كام مير دمشقي املدينة‬ ‫قصة ّ‬ ‫«تجف السحابة عرصاً»‪ .‬ومن خالل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التي توحي بأنها تنضح من ماء التجربة ال من بنات الخيال‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بأندلس»‪ .‬حيث تقرتن املدينة بصورتها يف األندلس؛ هي‬ ‫ِ‬ ‫حيث تظهر األنثى جميلة ومحا ِورة بالقدر نفسه‪ .‬وتحرض يف‬ ‫ً‬ ‫أخت تلك الجنّة التي انكرسنا فيها‪ ،‬ورحلنا قرسا عنها‪،‬‬ ‫القصيدة إشارات شبه دينية إن جاز التعبري «سدرة املنتهى‪،‬‬ ‫شقيقة الخسارة وقرينة الحنني‪.‬‬ ‫يوسف‪ ،‬إلهاتنا»‪ُ ،‬‬ ‫متنوع «إسالمي‪،‬‬ ‫تحيل عىل مقدّس‬ ‫ٍ‬ ‫مسيحي‪ ،‬وثني»‪ ،‬و ُت ُ‬ ‫الحب يف نفس درويش‪.‬‬ ‫حيل عىل أث ِر ّ‬ ‫طوق دمشق‬ ‫تبقى القصيدة عىل تخوم الحس ّية من دون أن تكونها‪،‬‬ ‫الحب لدمشق‪،‬‬ ‫احتفظ درويش بإحدى أجمل قصائد ّ‬ ‫الحب‪ ،‬التي يخترصها الشاعر‪:‬‬ ‫فالقصد هو الرتكيز عىل حالة ّ‬ ‫فقصيدته الشهرية «طوق الحاممة الدمشقي» تتم ّيز بأمور‬ ‫«يف دمشق‪ /‬أع ّرف نفيس عىل نفسها»‪ .‬وليست هذه‬ ‫خاص به‪ ،‬فهي‬ ‫شتّى؛ من أه ّمها ابتكاره لشكلٍ شعريّ ّ‬ ‫الجملة نافل ًة‪ ،‬بل هي متثل مفتاحاً رئيساً لفهم عامل درويش‬ ‫مؤلفة من اثنتني وعرشين ُم ّق َطع ًة‪ ،‬تبدأ ك ّلها بجملة «يف‬ ‫ّ‬ ‫الشعري‪ ،‬من إحدى جوانبه‪ ،‬جانبه القائم عىل العالقة‬ ‫دمشق»‪ ،‬وترتدّد أصداء قوافيها‬ ‫بني األنا وآخرها واآلخر‪ .‬درويش‬ ‫بني ّ‬ ‫املقطعات ويف داخلها‪ .‬األم ُر‬ ‫الخاصة يف استعامل‬ ‫درويش صاحب البصمة صاحب البصمة‬ ‫ّ‬ ‫الذي يؤدّي دوراً كبرياً يف إظهار‬ ‫الضامئر‪ ،‬قام من خالل هذه الجملة‬ ‫ق ّوة اإليقاع الدروييش الذي يش ّد‬ ‫الخاصة في استعمال‬ ‫ّ‬ ‫وعرب القصيدة ك ّلها بإعطاء دمشق‬ ‫بنيان قصيدته‪ ،‬ويهندس العالقة‬ ‫الضمائر‪ ،‬اعطى دمشق ح ّيزاً كبرياً يف قلبه‪ .‬فمن خالل لغته‬ ‫ليطيح‬ ‫بني الشكل واملعنى‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الشفيفة هذه‪ ،‬بدأ ينسج عالقة‬ ‫حيّز ًا كبير ًا في قلبه‬ ‫برضب ٍة واحد ٍة تلك املقوالت‬ ‫مم ّيزة مع املدينة وأهلها‪ ،‬عالقة‬ ‫التنظري ّية التي تخلط بني‬ ‫شخص ّية وإنسان ّية‪ .‬إذ إن هذه‬ ‫اإليقاع والوزن وشكل القصيدة‪،‬‬ ‫‪78‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬

‫الحميم ّية التي نجدها عند درويش تجاه دمشق ال تظهر‬ ‫فمرص تبقى مقيمة يف السياسة‬ ‫يف قصائده عن مدن أخرى‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫والتاريخ‪ .‬ويظهر العراق من خاللِ شعرائه «السياب‪ ،‬سعدي‬ ‫يوسف‪ ،‬رسكون بولص»‪ .‬أ ّما بريوت ‪ -‬مكان إقامته املؤقت‪،‬‬ ‫فتتخ ّذ صورة الضحية‪ ،‬ضحية الحرب واالجتياح اإلرسائييل‪،‬‬ ‫عىل نح ٍو يبقيها واقعة بني التاريخ املعارص والسياسة‪ ،‬وإن‬ ‫ذهب‬ ‫اقرتب ّ‬ ‫تعب ومن ٍ‬ ‫الحب منها‪ ،‬فهو للمفارقة يأيت‪« :‬من ٍ‬ ‫ويتضح أثر العالقات الشخصية واإلنسانية‬ ‫وأندلس وشام»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫والحميمة التي ربطت درويش بدمشق من خالل قصيدة‬ ‫رابعة عنها «يف الشام»‪ ،‬يف ديوانه «ال تعتذر عماّ فعلت»‪.‬‬ ‫فمطلع القصيدة يبدأ من انتفاء سؤال األنا وهواجسه‪« :‬يف‬ ‫الشام أَ ُ‬ ‫عرف َمنْ أنا وسط الزحام»‪ .‬وتبدأ الدالئل واحداً‬ ‫واحداً «قمر‪ ،‬حجر‪ ،‬بردى‪ ،‬شعر‪ ،‬ريحانة‪ ،‬شعراء‪ ..‬الخ» لكأن‬ ‫املطلع جواب نها ّيئ عىل السؤال القديم يف قصيدة «طريق‬ ‫دمشق»‪« :‬منْ العاشق املغرتب؟»‪ّ .‬‬ ‫فكل دليل يبطن قص ًة‬

‫شخصي ًة وعالق ًة حميم ًة‪ ،‬إىل أن يصيبنا الشاعر يف مقتلٍ‬ ‫إذ يقول‪« :‬هناك عند نهاية النفق الطويل ُم َحاصرَ ٌ ‪ /‬مثيل‬ ‫َس ُيو ِقدُ شمع ًة‪ ،‬من جرحه‪ ،‬لرتاهُ‪ُ /‬‬ ‫ينفض عن عبا َء ِت ِه الظال َم»‪،‬‬ ‫حيث ميزج بني السوريّ والفلسطيني‪ ،‬ليذوبا معاً يف صورة‬ ‫الضح ّية‪ .‬فالشاعر الش ّفاف املرهف‪ ،‬أدرك وأحس بالحصار‬ ‫الخانق ألهل املدينة التي يتنَزه اسمها بني دمشق والشام؛‬ ‫فأبع َد التاريخ‪َ ،‬‬ ‫تاريخ العظمة التي ْ‬ ‫مضت‪ ،‬وأبع َد السياسة‬ ‫التي باسمها‪ ،‬غدا السوريون والفلسطينيون «صور ًة» ال أكرث‪،‬‬ ‫لصمود وبطول ٍة تنقصهام الرباهني‪ .‬وآثر االنحياز إىل الضحية‬ ‫املحارصة‪ ،‬متبا ِدالً معها املرايا‪ ،‬ومتامهياً ح ّد أنه يطمنئ‬ ‫فيكتب‪« :‬يف الشام‪ /‬أميش نامئاً‪ ،‬وأنام يف ِح ْضن الغزال ِة‪/‬‬ ‫ماشياً»‪ ،‬من دون أن يغفل – وهو العارف بحصار أهلها ‪ -‬أن‬ ‫الح ْل ِم ٌ‬ ‫حصة‪« :‬هناك ُ‬ ‫عالية»‬ ‫أرض‪ُ /‬‬ ‫للحلم فيها ّ‬ ‫‪79‬‬


‫ملف‬

‫مرسيل خليفة‬

‫شعر درويش ُ‬ ‫كتب ألغنّيه‬ ‫‪................................................................................................................................‬‬ ‫محمود درويش ومرسيل خليفة عالقة الشعر والموسيقى‪،‬تناغم عميق بين القصيدة وهمس االيقاعات وأصوات‬

‫الكمنجات‪.‬منجز فني قل نظيره بين شاعر ومؤلف موسيقي‪ ،‬وصداقة على مدى أربعين سنة جعلت خليفة يبوح‬

‫عصي على النسيان‬ ‫للمرة األولى بما هو‬ ‫ُّ‬

‫حوار‪ :‬رنا زيد‬

‫هل ترى أنك حققت أسلوباً موسيقياً‬ ‫نهائياً يف قراءة قصائد درويش؟ كيف هي‬ ‫عالقتك الحالية به إنسانياً وموسيقياً؟‬ ‫األمر كام لو أنه جردة حياة‪ ،‬شاعر‪ ،‬موسيقا‪ ،‬تاريخ‪ ،‬أمكنة‪.‬‬ ‫هي حاجة ملحة إىل أن أقول كل يشء ألتخلص من ثقل‬ ‫أشياء عدّة ترمي بثقلها عىل الذاكرة‪ ،‬كام عىل الجسد‬ ‫سني الحياة تهرب ونحاول أن نلتقطها‪ ،‬أن‬ ‫والروح‪ .‬كأن ّ‬ ‫نستوقفها‪ ،‬نستدعي كل يشء مجدداً‪ .‬كل تلك السنوات‬ ‫التي عشتها مع شعر درويش‪ .‬لقد رغبت يف نقل األحداث‬ ‫والتواريخ واالنطباعات‪ .‬ورواية قصص تلك األيام عىل‬ ‫نحو مفتوح‪ .‬إنني ال أطمنئ وال أستقر‪ ،‬وأبحث كل يوم‪،‬‬ ‫عن جديد يف شعر درويش‪ .‬ال أحب أن تبقى األشياء عىل‬ ‫‪80‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫هيئتها‪ ،‬عشقت املغامرة‪ ،‬ال ُأجيد السباحة‪ ،‬ولكن غصت‬ ‫عميقاً يف التجارب معه‪ .‬مشحون بالتناقضات‪ .‬رقيق مع‬ ‫الريح التي تلوي أغصاين‪ .‬وحدها املوسيقا تحميني من‬ ‫عيص عىل اال ّمحاء‪ ،‬إذ إنه يستطيع أن‬ ‫القلق‪ .‬شعر درويش ّ‬ ‫يتجدد ويعيد تأليف نفسه مع املوسيقا‪ ،‬وتحويلها إىل أغنية‪.‬‬ ‫ال يكفي أن تكون قصيدة درويش ط ّيعة‪ ،‬وحسب‪ ،‬هل‬ ‫هناك من طريقة مع ّينة تخوضها مع القصيدة‪ ،‬لتعيد بناءها‬ ‫غنائياً؟‬ ‫أتذ ّكر ملياً مسار القطار الطويل الذي حملني إىل تلك املدن‬ ‫البعيدة‪« .‬يقصد املدن التي غنّى فيها قصائد درويش»‪ ،‬مل‬ ‫يكن عندي متسع للكتابة‪ .‬مل يكن ّمثة وقت زائد للتف ّرغ‬ ‫للحديث‪ .‬حاولت أن أر ّتب ذكريايت مع درويش‪ .‬وكام‬


‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬

‫تد ّفقت عىل الورق ذكريات ضائعة يبقى عطرها حتى بعد‬ ‫ذبولها‪ ،‬كانت موسيقاي لشعر درويش تنحو يف اتجاه الشكل‬ ‫الدرامي والتأليف الغنايئ الح ّر غري املسجون يف ضوابط‬ ‫محددة سلفاً‪ .‬وهكذا ال تقطع يف الطرب إمنا توازن بينه‬ ‫وبني االهتامم مبخاطبة وعي املتل ّقي‪ِّ ،‬‬ ‫مدشنة بذلك عالمة‬ ‫مبتكرة مع الجمهور‪ ،‬وهادفة إىل إعادة تشكيل الذوق‬ ‫السائد مع عامل صويت جديد معبرّ عن معطيات جديدة‪ ،‬هو‬ ‫بناء ُمقتصد وحريص عىل عدم الوقوع يف الوسائل التزيينية‬ ‫والزخرفية القامئة عىل إغراءات السهولة‪ .‬أي لحظة انتقال‬ ‫باألغنية العربية من عامل االنفعال السلبي إىل مجال العقل‬ ‫اإليجايب‪ .‬أعترب املوسيقا جزءاً من حيايت‪ ،‬منذ وعيت الحياة‪.‬‬ ‫املوسيقا تتم ّلكني‪ .‬لقد سلكت طريق املوسيقا خالل الشعر‪،‬‬ ‫ووصلت إىل حالة أن أقرأ القصيدة موسيقياً‪.‬‬ ‫لقد بحثت مع درويش عن أغنية تقودنا إىل املستحيل‪،‬‬ ‫رس الفرح‪ .‬ال أستطيع‬ ‫ُترشدنا إىل الدروب املجهولة لنبلغ ّ‬ ‫أن أرشح ما كتبت من موسيقا لقصائد وأغنيات‪ .‬نداء شعر‬ ‫درويش ّ‬ ‫ترشد يف أعامق قلبي الذي د ُّق بوحشية وال أعرف‬ ‫كيف أهدّئه‪ .‬أبحث وأحاول القبض عىل األغنية كيال تفلت‬ ‫مني‪ .‬إنها لعبة عبثية‪ .‬رصاع من أجل املستحيل‪ .‬ظل وراء‬ ‫االندهاش‪ ،‬بحث يف الظالم‪ ،‬يوماً بعد يوم تأيت القصيدة‬ ‫ألنسجها من ألحان جديدة‪ ،‬مثل تنهيدة‪ ،‬مثل همسة‪ .‬يف‬ ‫«سقوط القمر»‪ ،‬مث ًال‪ ،‬أحمل قصيدة درويش يف شفاه قلبي‪.‬‬ ‫أسدل بل ّذة وشاح الصباح الندي‪.‬‬ ‫هل تعني أن مجمل املعنى املوسيقي يف قصيدة درويش‬ ‫ا ُملغناة‪ ،‬هو نتاج رصاع مع الحياة‪ ،‬رصاع القصيدة واللحن‪،‬‬ ‫مع وجودهام الواقعي الالحق‪ ،‬ثم البحث عن درويش يف‬ ‫شعره؟‬ ‫ال سبيل لديّ إىل املعنى إال يف أن أغمره يف األغنية أكرث‬ ‫فأكرث‪ .‬أدخل يف األغنية إىل ما ال ينتهي‪ ،‬ألدافع عن الغامض‬ ‫السحري يف القصيدة‪ .‬ال بد من الرغبة والحرسة والقسوة‬ ‫والثورة والنداء والشعر والصمت والتذكر والنسيان والحب‪.‬‬ ‫أصابعي ع ّلقتها عىل مشارف الوتر يف «سقوط القمر»‬ ‫ور ّوضتها عىل الشهية‪ .‬وكتبت ملحمود جهراً بيان األغنيات‬ ‫هذه‪ .‬أبحث عنه يف األغنية ويف ّ‬ ‫كل ما لديّ من املوسيقا‬ ‫املعدة لتطرية األيام الصعبة‪ ،‬بعد جرعتني من جرار نبيذ‬ ‫الحب‪.‬‬

‫جردة حياة‬ ‫لحنه من شعر درويش‪،‬‬ ‫حني اقرتحت إجراء حوار مع خليفة عماّ ّ‬ ‫ً‬ ‫أجابني قبل أي يشء‪« :‬لن يكون موضوعاً متخصصا عن الشعر‬ ‫واملوسيقا‪ ،‬وإمنا انحناءة حب ملحمود‪ ،‬شخصية وخاصة‪ ،‬وليست‬ ‫دراسة تحليلية»‪ ،‬وتابع‪« :‬سأقص عني الربيق املبهر‪ ،‬وأدع وشاحي‬ ‫منسوجاً من تلك الخرب ّيات الناعمة‪ ،‬القديم جديد والجديد قديم‬ ‫أحمله بني ذراعي‪ ،‬وال أخجل مبعاودة رسده»‪ .‬بعدها م ّر وقت‪،‬‬ ‫وخليفة يستدعي‪ ،‬مبزاجه‪ ،‬ما سامه «جردة حياة» مع محمود‬ ‫درويش وشعره؛ لذا كانت إجاباته هنا كمثل‪« :‬بساطة الحياة التي‬ ‫تهرب‪ ،‬ونحاول أن نلتقطها شعراً وتواريخ وأمكن ًة»‪ ،‬إن خليفة يبوح‬ ‫كموسيقي بأنه ال يستطيع أن يرشح ما كتب من موسيقا لقصائد‬ ‫درويش‪ ،‬ولكنه حاول عىل مدى يومني أن ُيجيبني عن بعض ما‬ ‫لح‬ ‫ُي ّ‬

‫‪81‬‬


‫ملف‬

‫ماض وحارض جميل‪ّ ،‬‬ ‫شك ضائع يف بالد تنمو‬ ‫لع ّله يشء من ٍ‬ ‫خفية بالباطون‪ .‬أسهر عىل وقع حرب لحن األغنيات‪ ،‬يف‬ ‫العتمة أذرفه‪ .‬ما أحتاجه هو كوفية عربية أمسح بها دمعاً‬ ‫حارقاً كالصديد‪ .‬لقد تق ّرحت قلوبنا من عفن القتل والدمار‬ ‫ومن تعب أسئلة قاحلة‪ ،‬إنني أشتاق إىل قصيدة محمود‬ ‫املبللة بالندى‪ ،‬لعل املكان ينتبه ألغاين الحب التي ترددت‬ ‫يف األفق البعيد‪ .‬أغنية ّ‬ ‫يرشدها الغياب ويغسلها سحاب ليل‬ ‫ينام بني األمواج‪ ،‬تقطفه الخناجر وتطويه زغرودة االنتظار‪.‬‬ ‫األمل أ ّال تغني حني تغني‪ ،‬وأن تنتهي القصائد إىل أقفاص‪.‬‬ ‫لقد وهبت القصيدة الحياة ومل تتحول الحياة إىل قصيدة‪.‬‬ ‫إنه أيضاً‪ ،‬درب قطعه شاعرنا الكبري حني حرر من نفسه‬ ‫املطلق‪.‬‬ ‫قلت‪ :‬إنك تختلس لحظة صدور أسطوانة «سقوط القمر‪/‬‬ ‫لحنت فيها أخرياً مجموعة من قصائد درويش‪،‬‬ ‫‪ »2012‬التي ّ‬ ‫لتعلن تشابك اإلرادة والحرية والفكر يف ومضة موسيقية‪.‬‬ ‫كيف ُصغت الحب موسيقياً يف القصائد املغناة‪« :‬ونحن‬ ‫نحب الحياة»‪ ،‬و«اآلن يف املنفى»‪ ،‬و«رسير الغريبة»‪ ،‬و«آه‬ ‫ّ‬ ‫يا جرحي املكابر»‪..‬؟‬ ‫مل يولد «سقوط القمر» من نزوة طائشة‪ ،‬خرج عىل منوال‬ ‫إيقاع الحب من نار ال يوقدها حطب الرباري‪ ،‬من نقر عىل‬ ‫وتر القلب‪ ،‬من غفلة صوت مبحوح‪ ،‬من رششف ّ‬ ‫ترضج‬ ‫بالد ّم القاين‪ ،‬من دمعة شاهدة عىل الوالدة‪ .‬نحن نعبث‬

‫‪82‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫لينطلق املستحيل ونكتبه عىل ألواح الحياة‪ .‬نعبث لئال‬ ‫يضيع منا الجميل وينكرس‪ .‬نبحث من جديد عن املعنى‪.‬‬ ‫يطيب لنا الشعر كام يطيب النبيذ‪ .‬إن «سقوط القمر» هو‬ ‫وت ٌر يف العود ُتع ّذبه النغامت‪ ،‬يبحث عن بياض ليهتدي‬ ‫بلحظة عذبة كاألغنية‪ .‬وحده الحب يف هذا العامل كان‬ ‫يفهمنا‪ُ ،‬يقيم فينا‪ُ ،‬ينادينا‪ ،‬يبني ّ‬ ‫عشه تحت حواجبنا‪ ،‬يحمينا‬ ‫من فضول املساء ومن بخار النب يف الفنجان‪ .‬إنه جوع إىل‬ ‫ليل الشهوة والنشوة والجمرة والحرسة ولسعة الريح يف‬ ‫املساءات الشتوية‪ .‬نرى أوراق التوت تتساقط عن جسد‬ ‫العامل‪ .‬ومل نكن ّ‬ ‫نشك يف قمر الحب الذي سقط وغمر ليلنا‬ ‫الدامس بالفضة الرصيحة‪.‬‬ ‫«سقوط القمر» هذا ُيلمح إىل وفاة درويش‪ ،‬غيابه النهايئ‬ ‫بيولوجياً؟‬ ‫أياً كان القصد‪ ،‬لكن محمود ذهب إىل املستقبل الذي‬ ‫أراده وحلم به‪ ،‬عىل الرغم من محاوالت تعطيل خطواته‬ ‫وتفويت ذهابه الفاتن‪ .‬مت ّرده واضح عىل فساد أشياء العامل‪.‬‬ ‫كان سيمتلئ بربيع الشعوب ألن قصيدته تنفخ يف الروح‬ ‫هواء الحرية‪ .‬فهو شفيف كالضوء‪ ،‬يعرب الروح ويرتكها عىل‬ ‫دهشتها يف أسئلة جديدة‪ ،‬تحاور عميقاً األسئلة التي تشغل‬ ‫وضعنا‪ .‬شعره يزهّ ر وينتج كاألشجار أوكسجني الحياة‪ .‬مل أقل‬ ‫له الوداع ألنني كلام هممت بنطقها يف آخر مكاملة تلفونية‬ ‫كان يشدّين بصوته الواثق يك نتابع الحديث‪ .‬كان يف صوته‬


‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬

‫شهية كالم‪ ،‬وكان يف وداعي شهية صمت‪ .‬كان تلفوناً قصرياً‬ ‫حرب الـ‪ ،67‬بدأت أعي هذه القضية وأوليها كل اهتاممايت‪،‬‬ ‫بحارة‪ :‬رافقتك السالمة‪ ،‬كانت هذه عبارته األخرية‪.‬‬ ‫فدخلت يف معرتك النضال مع الشعب الفلسطيني واملقاومة‬ ‫كتحية ّ‬ ‫تصبحون عىل وطن‪.‬‬ ‫الفلسطينية‪.‬‬ ‫لحنت من شعر درويش ما ينطق بلسان هل القضية الفلسطينية وحدها هي التي أثرت يف موسيقاك‬ ‫كونك منذ البداية‪ّ ،‬‬ ‫القضية الفلسطينية‪ ،‬منذ «ريتا‪ ،‬وجواز سفر‪.»1976 /‬‬ ‫امللتزمة‪ ،‬ليبدأ اختيارك املتتايل لقصائد تخص النضال اإلنساين‬ ‫أتتلخص عالقتك املوسيقية بالقضية الفلسطينية يف جاملية‬ ‫عامة‪ ،‬والفلسطيني خاصة‪« ،‬يا عيل» لعباس بيضون‪« ،‬يا‬ ‫حادي العيس» لشوقي بزيع‪« ،‬نشيد املوىت»‪ ،..‬وصوالً‬ ‫قصائد درويش وعمقها‪ ،‬أم أن هناك رابطا آخر خف ّيا أكرث‬ ‫واقعية؟‬ ‫إىل غنائية مت ّثل إنساناً عربياً عابراً للزمن‪ ،‬مقهوراً وراهناً‪،‬‬ ‫يف مساء بعيد يف عام ‪ 1964‬دخلت آلة العود إىل بيتنا‬ ‫يف «أحمد العريب‪ ،»1984 /‬عن قصيدة «أحمد الزعرت»‬ ‫الصغري‪ ،‬بعد أن كانت آاليت املوسيقية محصورة بالطاوالت‬ ‫لدرويش؟‬ ‫والكرايس والطناجر وعُ َلب الحليب الفارغة وقصب الغزّار‬ ‫لقد تداخلت القضايا‪ :‬العمليات يف الجنوب‪ ،‬وإطالق‬ ‫اليابس‪ .‬كنت أرى العود يف الصور‪ ،‬وأحياناً قليلة يف‬ ‫الرصاص عىل مظاهرة عامل التبغ‪ ،‬واستشهاد املزارع حسن‬ ‫التلفزيون‪ ،‬أسمع صوته يف الراديو‪ ،‬ولكن أن يكون معي يف‬ ‫الحايك‪ ،‬غنيت بعدها من شعر شوقي بزيع «يا حادي‬ ‫البيت! كان عيداً حقيقياً يوم وصول هذه اآللة املوسيقية‬ ‫العيس» «املهداة للشهيد حسن الحايك»‪ .‬فلسطني‪ ،‬الجنوب‪،‬‬ ‫الساحرة‪ .‬ويف اليوم التايل ذهبت مع أمي إىل منزل حنّا‬ ‫هموم الناس‪ ،‬مظاهرات الطالب‪ ،‬اإلرضاب الكبري لعماّ ل‬ ‫كرم‪ ،‬ذلك الدريك املتقاعد الذي يعرف القليل من النوطة‬ ‫معمل غندور‪ ،..،‬إذ تطورت األمور وحدث صدام مع الدرك‬ ‫ّ‬ ‫املوسيقية وما حفظه من موسيقا الدرك‪ .‬تابعت تردّدي‬ ‫واستشهد العامل يوسف العطار‪ .‬قوات صهيونية تدخل‬ ‫إىل منزل األستاذ مرتني يف األسبوع‪ ،‬حيث تلقفت خالل‬ ‫العاصمة اللبنانية وتهاجم منازل القادة الفلسطينيني‪،‬‬ ‫ثالثة أشهر دروسه املوسيقية‪ ،‬وبعدها نصح أهيل بأن أتابع وتغتال أبا يوسف‪ ،‬كامل عدوان وكامل نارص‪ .‬عملية «بنك‬ ‫تحصييل املوسيقي يف الكونرسفاتوار الوطني يف بريوت‪،‬‬ ‫أوف أمريكا» إذ اقتحمت السلطة اللبنانية البنك واستشهد‬ ‫ً‬ ‫البعيدة جداً يف مقياس ذلك الزمن‪ ،‬عن ضيعتي عمشيت‪.‬‬ ‫عيل شعيب وجهاد أسعد ورفاقهام‪ .‬فغنيت الحقا قصيدة‬ ‫ودخلت صف األستاذ الكبري فريد غصن العائد للتو من‬ ‫عباس بيضون «يا عيل»‪ .‬ثم مظاهرة صيادي السمك يف‬ ‫هجرته املرصية ليد ّرس يف املعهد املوسيقي‪ .‬كنت يف‬ ‫صيدا‪ ،‬واستشهاد معروف سعد الذي كان مييش عىل رأس‬ ‫السادسة عرشة من عمري آتياً‬ ‫التظاهرة‪ ،‬فغنيت الحقاً «يا بحرية»‪.‬‬ ‫من عمشيت إىل بريوت مرتني‬ ‫كل هذا إضافة إىل العمل مع الناس‬ ‫يف األسبوع ألدرس املوسيقا إىل‬ ‫لم أقل له الوداع في يف األحياء‪ ،‬مع العامل‪ ،‬مع الفقراء‪،‬‬ ‫جانب الدروس العادية‪ .‬املهم‬ ‫مع الشباب‪ ،‬من خالل املوسيقا‬ ‫آخر مكالمة تلفونية‪.‬‬ ‫أنني‪ ،‬أرسد هذه البداية مع آلة‬ ‫واملرسح‪ ،‬أمسيات فنية أقمتها‪ ،‬عبرّ ت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كان تلفونا قصيرا‬ ‫العود يك أقول‪ :‬إنني يف طريقي‬ ‫فيها عن ح ّبي للقضية والشعب‬ ‫إىل بريوت‪ ،‬كنت أرى عىل‬ ‫والوطن‪ .‬وكان «نشيد املوىت» للشاعر‬ ‫حارة‪ :‬رافقتك‬ ‫كتحية ب ّ‬ ‫مداخل املدينة ويف ضواحيها‪،‬‬ ‫السوداين محمد الفيتوري الذي‬ ‫السالمة‪ ،‬كانت هذه‬ ‫املخيامت الفلسطينية وبيوت‬ ‫غنّيته وتردد عىل ألسنة الناس يف‬ ‫التنك‪ ،‬وحتى ذلك الحني ويف‬ ‫عبارته األخيرة‪ .‬تصبحون كل هذه األمايس‪ .‬مهرجان جبيل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الفتي‪ ،‬مل أكن أعرف‬ ‫أيضا‪ ،‬كان تجربة رائدة حيث‬ ‫ذلك العمر ّ‬ ‫على وطن‬ ‫شيئاً عن فلسطني‪ ،‬والسيام‬ ‫قدمت أوبريت «مرق الصيف»‬ ‫نحن أهل الجبل اللبناين‪ .‬بعد‬ ‫سنة ‪ .1971‬كام شاركت يف املباراة‬ ‫‪83‬‬


‫ملف‬

‫العربية السادسة لإلنتاج املوسيقي التي ّ‬ ‫نظمها املجمع‬ ‫العريب للموسيقا يف تونس ‪ .1973‬وكنت من املتخرجني األ ّول‬ ‫يف الكونرسفاتوار‪ .‬ومل مينع ذلك من أن تفوز مقطوعتي‬ ‫«سامعي بيايت» إىل جانب مقطوعتني من تأليف أستاذيّ ‪،‬‬ ‫«سامعي نهوند» لنجيب كالب و«برشف عشاق» لعبد‬ ‫الغني شعبان‪.‬‬ ‫يف عام ‪ 1974‬شاركت يف احتفاالت جامهريية للعيد‬ ‫الخمسني للحزب الشيوعي اللبناين إذ قدّمت قصيدة الشاعر‬ ‫حبيب صادق «أرض الجنوب»‪ ،‬وعشت أجواء شعر املقاومة‬ ‫الفلسطينية الذي أعطاك زخ ًام‪ ،‬وما لبث أن وجد طريقه‬ ‫إىل موسيقاك وغنائك‪ ،‬كل هذا كان متهيداً لتلحينك الالحق‬ ‫قصائ َد درويش‪ ،‬ما الذي جعلك تهتدي إليه‪ ،‬إىل قصيدته؟‬ ‫أعود بذاكريت فأتذكر يوم السبت ‪ 12‬نيسان يف عام ‪،1975‬‬ ‫حني خرجت من مرسح قرص األونيسكو يف بريوت فرحاً‬ ‫من عمل كركال الرائد «عجائب الغرائب»‪ ،‬وكنت قد كتبت‬ ‫املوسيقا لهذا االستعراض الكوريغرايف األول لعبد الحليم‬ ‫كركال‪ .‬ولكن الفرح مل يكتمل‪ ،‬يف اليوم الثاين‪ 13 ،‬نيسان‪،‬‬ ‫وبعد الحفلة‪ ،‬خرجنا من القاعة وكانت بريوت قد دخلت‬ ‫يف الظالم وأصيبت العروس يف االستعراض أمرية ماجد‪،‬‬ ‫الراقصة األوىل‪ ،‬برصاصة قنّاص اخرتقت ظهرها وأقعدتها‬ ‫مدى الحياة بعدما أضاءت يف الليلتني عوامل الفرح يف قرص‬ ‫األونيسكو‪ .‬عدت ليلتها إىل قريتي عمشيت منكرساً وحزينا‪ً.‬‬ ‫كل يشء كان قد ّ‬ ‫تعطل يف البلد وابتدأت الجوالت الحربية‬ ‫ثم بدأت مظاهر الحرب تكسو‬ ‫العسكرية الجديدة علينا‪ّ .‬‬ ‫قريتي الهادئة‪ .‬مسلحون يروحون ويجيئون‪ .‬انقطعت‬ ‫‪84‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫ُ‬ ‫وانحجزت يف منزيل‬ ‫الطرقات‪ ،‬وانقطعت عني أخبار بريوت‪،‬‬ ‫قرسياً ومل يكن معي يف خلويت هذه سوى العود وبعض‬ ‫ألحن القصائد‬ ‫دواوين محمود درويش‪ ،‬رحت خاللها ّ‬ ‫ثم بعد فرتة حزمت أمتعتي وأمري‬ ‫األوىل ملحمود درويش‪ّ .‬‬ ‫وذهبت إىل باريس هارباً من عمشيت مع كوكبة من‬ ‫ُ‬ ‫والتقيت‬ ‫األصدقاء إذ مل تتح ّمل املنطقة ميولنا اليسارية‪.‬‬ ‫غصت بهم املقاهي‪،‬‬ ‫يف باريس باألصدقاء الجدد الذين ّ‬ ‫وبحلقات من الشباب الوافدين حديثاً أو املقيمني بداعي‬ ‫الدراسة أو بداعي السياسة‪ .‬مجموع هذه اللقاءات ك ّون‬ ‫مناخاً اجتامعياً وفن ّياً وسياس ّياً حاراً تزيك طراوته األحداث‬ ‫املتسارعة التي كانت تجري يف لبنان‪ ،‬والتي كانت تأخذ‬ ‫طابعها الدراماتييك املعروف‪ .‬رحت بخجل وتردّد أعرض‬ ‫بعضاً من تجاريب املوسيقية الشعرية األوىل‪ .‬شاب متح ّمس‬ ‫أخرق يريد أن يجعل املوسيقا سبي ًال لتغيري العامل‪ ،‬أن يخفف‬ ‫األمل والبؤس والفقر والحروب‪ .‬أن يشعل ثورة مدعوماً بوتر‬ ‫ّ‬ ‫ليستدل عىل الحلم ويصل إىل‬ ‫العود والقصيدة الجديدة‬ ‫تحقيقه‪ .‬كان األصدقاء الجدد يسمعونني ويهزّون برؤوسهم‪.‬‬ ‫رمبا مل يدركوا يومها متاماً ما هو مرشوعي‪ .‬أو عىل األقل‬ ‫جدّية ما أحاول الخوض فيه‪ .‬وكان داخيل مشحوناً بالتم ّرد‬ ‫وكان الزمن مييش بطيئاً وكنت أستعجله ألكرب‪.‬‬ ‫هل استأذنت درويش قبيل تلحني قصائده؟ هل اتفقتام‬ ‫عىل طريقة للخروج بالقصيدة إىل عامة الجمهور؟‬ ‫يف صباح باكر من شهر آب من سنة ‪ 1976‬دخلت إحدى‬ ‫وسجلت «وعود من العاصفة»‬ ‫أستديوهات باريس الصغرية‪ّ ،‬‬ ‫أوىل أغنيايت لقصائد محمود درويش قبل أن أتع ّرف عليه‬


‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬

‫شخصياً‪ .‬وكنت أعتقد أن هذه القصائد ملكية عامة‪ ،‬وال‬ ‫ثنائية بني الشعر واملوسيقا‪ .‬كان السيل يأخذ من العيون‬ ‫رضورة إلعالم الشاعر بن ّية التلحني‪ .‬وبعد أخذ ور ّد مع‬ ‫اصة التي تنتظر دورها لتدخل‪ ،‬حدّق‬ ‫املط ّلة يف الصفوف املرت ّ‬ ‫العامل»‬ ‫مسؤويل رشكة األسطوانات الفرنسية «الغناء يف‬ ‫عيني بحنان قبل بدء األمسية وكأننا يف بريوت‬ ‫يف‬ ‫محمود‬ ‫ّ‬ ‫ظهرت األسطوانة األوىل يف احتفاالت جريدة «اإلنسانية»‪.‬‬ ‫نستعيد أيامنا هناك‪ .‬ولقد سمعت خفقان قلبي املفعم‬ ‫وكانت أول تظاهرة لهذا العمل عىل خشبة الجناح اللبناين‬ ‫بالحب واملستعيص عىل الوصف‪ .‬تال يومها قصيدة «سالم‬ ‫يف الـ«كورنوف» يف ضاحية باريس الشاملية بقرب من‬ ‫عليك وأنت تعدّين نار الصباح»‪ ،‬وتابعت بعده‪« :‬أحنّ إىل‬ ‫بسطة للح ّمص والفول والفالفل‪ .‬ولقد تض ّمنت هذه‬ ‫خبز صوتك‪ ،‬أحن إليك يا أمي»‪.‬‬ ‫األسطوانة أربع أغنيات من شعر محمود درويش هي‪:‬‬ ‫ما شكل عالقتكام اإلنسانية؟ وما شكل عالقته بأغنياتك‬ ‫«وعود من العاصفة»‪« ،‬إىل أمي»‪« ،‬ريتا»‪« ،‬جواز السفر»‪،‬‬ ‫امللحنة عن قصائده؟‬ ‫ّ‬ ‫وأغنية «جفرا» للشاعر ع ّز الدين املنارصة‪ .‬ولقد و ّقعت عىل لقاءات باريس االستثنائية كانت نسامت للصداقة واألمل‬ ‫ثم سبقتني‬ ‫والشعر واملوسيقا‪ ،‬وكان محمود قد انتقل إىل باريس للعيش‬ ‫أكرث من ‪ 500‬أسطوانة خالل يومي التظاهرة‪ّ ،‬‬ ‫ثم إىل ّ‬ ‫كل املطارح‪.‬‬ ‫فيها‪ .‬التقينا كثرياً هناك يف هذه املدينة الساحرة‪ .‬كان يحب‬ ‫األسطوانة واألغنيات إىل بريوت‪ ،‬ومن ّ‬ ‫ً‬ ‫ومل يخطر يف بايل أبداً أن هذا اللعب سيصبح جد ّيا إىل هذا األطفال ويتابع باهتامم دراسة ولديّ رامي وبشار املوسيقية‪،‬‬ ‫الحدّ‪.‬‬ ‫ولن أنىس كيف كان يحضنهام بكلتا يديه حني يعزفان له‬ ‫إذاً خضت تجربة التلحني من دون العودة إىل درويش‪ ،‬متى مقطوعات لشوبان وملوزار‪ .‬وكان يدور الطرب ويطلب منّي‬ ‫كان اللقاء معه؟‬ ‫دامئاً أن أسمعه «يف البال أغنية» وكان يحب هذه األغنية‬ ‫ً‬ ‫اللقاء األ ّول مع محمود درويش كان بعد عوديت من باريس كثريا‪ .‬أخربين مرة يف جلسة حميمية عن أ ّمه‪ ،‬إذ كان يعتقد‬ ‫وكان لقا ًء حميمياً‪ ،‬دخلنا يف حديث املوسيقا والشعر‪ ،‬وليس أ ّنها ال تح ّبه ألنها كانت تؤ ّنبه دامئاً وهو صغري‪ ،‬والسيام عىل‬ ‫هناك ما هو أكرث بداهة من الكالم عن املوسيقا أو الشعر يف شيطناته يف تلك الطفولة الزاهرة‪ .‬كانت ترغمه عىل أخذ‬ ‫حرضة محمود درويش‪.‬‬ ‫بحب أ ّمه‬ ‫أحس ّ‬ ‫ملعقة زيت الخروع ذات املذاق امل ّر‪ .‬ولقد ّ‬ ‫كيف تض ّمن بقاء القصيدة ضمن كينونتها اللغوية‬ ‫عندما ُسجن للمرة األوىل‪ .‬وكانت «حورية» تزوره وتحمل‬ ‫التقليدية مع تلحينها؟‬ ‫له السكاكر واألكل‪ .‬فكتب عىل علبة الدخان قصيدة «أ ّمي»‪.‬‬ ‫جدية‬ ‫محاولة‬ ‫كان‬ ‫درويش‬ ‫محمود‬ ‫ما فعلته يف قصائد‬ ‫متوجهاً يل‪« :‬قصيدة أمي التي ح ّولتها حرضتك‬ ‫ته‬ ‫ي‬ ‫خرب‬ ‫وأنهى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ألن تبقى املوسيقا أ ّوالً عنواناً‬ ‫إىل نشيد وطني يرتدّد عىل كل شفة‬ ‫ثم تصدر‬ ‫ولسان»‪.‬‬ ‫للمرشوع‪ ،‬ومن ّ‬ ‫عنه البطاقات األخرى‪ .‬كان‬ ‫ما مدى تنوع عالقتكام كشاعر‬ ‫اقتربت منه ومن‬ ‫محمود نبي ًال ومفع ًام بقلب‬ ‫وموسيقي‪ ،‬وكمتلقٍّ للشعر ومستمع‬ ‫روحه‪ ،‬واتسعت‬ ‫كبري‪ ،‬اقرتبت منه ومن روحه‪،‬‬ ‫للموسيقا؟‬ ‫موسيقاي لشعره‪.‬‬ ‫واتسعت موسيقاي لشعره‪ .‬تأيت‬ ‫يف أمسية قرطاج يف تونس أمام ألوف‬ ‫قصيدته بكامل سطوتها لتتح ّرك‬ ‫املستمعني ينشدون صامتني‪ .‬كان‬ ‫تأتي قصيدته بكامل‬ ‫مع إيقاعي ومتأل الفضاءات‪.‬‬ ‫محمود حارضاً يف األمسية املوسيقية‬ ‫ك‬ ‫ر‬ ‫لتتح‬ ‫سطوتها‬ ‫ّ‬ ‫بعد الخروج الفلسطيني من‬ ‫مع خمسة عرش ألف متف ّرج‪ .‬ويف‬ ‫بريوت يف عام ‪ ،1982‬يف ذكرى‬ ‫اليوم التايل من تلك الحفلة الشهرية‬ ‫مع إيقاعي وتمأل‬ ‫التضامن مع الشعب الفلسطيني‬ ‫حرضت أمسيته الشعرية‪ ،‬وكنت‬ ‫الفضاءات‬ ‫ً‬ ‫التقيت محمود درويش يف قاعة‬ ‫فرحب‬ ‫األمامي‬ ‫الصف‬ ‫يف‬ ‫ا‬ ‫جالس‬ ‫ّ‬ ‫األونيسكو يف باريس‪ .‬حفلة‬ ‫«نرحب بشاعر األغنية‬ ‫يب مع ّلقاً‪ّ :‬‬ ‫‪85‬‬


‫ملف‬

‫مرسيل خليفة»‪ ،‬وعال التصفيق يف الصالة‪ .‬ثم كان ذهابنا‬ ‫الفاتن إىل أسواق العاصمة القدمية‪ ،‬وتلك الدكاكني املكدّسة‬ ‫والفتاتها املزركشة وشعاراتها الفضفاضة‪ .‬رائحة الصابون‬ ‫املخلوطة بعفونة الحبوب‪ ،‬وتلك األوعية الزجاجية املألى‬ ‫بالسكاكر من جميع األلوان واألشكال‪ ،‬ومعها أكياس الخيش‬ ‫اململوءة بالسكر وامللح واألر ّز‪ ،‬ورائحة الحنّة الف ّواحة‬ ‫والطحني والزيت والزيتون‪ ،‬وتلك األبواب الخشبية املدعومة‬ ‫بقضبان الحديد الطويلة‪ ،‬والناس من ّ‬ ‫كل حدب وصوب‬ ‫يدعوننا للدخول إىل الدكاكني‪ ،‬يأخذون الصور التذكارية‪،‬‬ ‫وفرح عامر يسيطر عىل الوجوه‪.‬‬ ‫هل حدث أمر آخر‪ ،‬بعد ذلك النهار‪ ،‬ع ّمق اللقاء اإلنساين؟‬ ‫يف املساء دعانا أبو عماّ ر إىل مائدته‪ .‬كانت العاصمة‬ ‫اس‬ ‫التونسية نامئة ومغسولة باملاء والظالم والهمسات‪ُ .‬حر ّ‬ ‫كل منهم ّ‬ ‫وسيارات أمن يقرتبون منّا‪ ،‬ويف يد ّ‬ ‫بطارية ينري‬

‫بها الظالم‪ ،‬وال مت ّر سيارة إال بعد االطالع عىل ترصيح خاص‬ ‫يحمله سائقها‪ .‬دخلنا البيت‪ ،‬وأ ّول ما طالعنا وجه أيب‬ ‫عماّ ر وتلك االبتسامة التي تعطي االنطباع بالصرب‪ .‬أخذنا‬ ‫باألحضان كعادته وبالقبالت‪ .‬وكان املص ّور حارضاً فبدأ‬ ‫بأخذ الصور التذكارية‪ .‬ويف مثل هذه اللقاءات من الصعب‬ ‫أن يجد اإلنسان بسهولة نقطة البدء بالحديث عىل مائدة‬ ‫العشاء‪ .‬فالتقط محمود ذلك‪ .‬أبو عماّ ر يرشب املاء‪ ،‬ونحن‬ ‫بدورنا نرشب معه املاء‪ .‬وبدأ الكالم إذ رمى محمود حجراً‬ ‫يف املاء ورسم الدوائر يف ماء الكالم‪ .‬كان ملحمود قدرة عىل‬ ‫اجرتاح النكات‪ ،‬وقدرة عىل السخرية من كل يشء‪.‬‬ ‫هكذا وصلت معه إىل أقىص حاالت التواصل املمكنة‪ .‬ما‬ ‫العمل الذي ترى أنه كان مت ّوجاً لهذا الوفاق اإلبداعي؟‬ ‫بعد لقاءاتنا الباريسية يف مقهى «الديك» يف ساحة‬ ‫الرتوكاديرو‪ ،‬وحامسة محمود املطلقة إلنتاج غنائية «أحمد‬

‫من المغني إلى صاحبه‬

‫سأتبع أثر نجمة كي ألقاك‬

‫يف‬

‫هذا الحوار ما كتبه خليفة إىل درويش مبارشة‪ ،‬من دون حاجز‪ِ ،‬مني أنا «خليفة» إىل ضمري املخاطب أو الغائب‬ ‫لـ«درويش»‪ ،‬نورده كام هو‪:‬‬ ‫يا محمود!‬ ‫قمر ناعس يف ليل بعيد يتسلل إىل غرفتي وكان يلمع‪ .‬مل أك ّلمه‪ .‬اكتفيت بالنظر إليه‪ ،‬ومنت مع شوق االنتظار‪ .‬وعندما أفقت‬ ‫يف صباح الليل الطويل‪ ،‬مل يكن يف الغرفة غري أصوات العصافري‪ ،‬وشمس النهار تلهو عىل رشفة بحرية‪ .‬أميش ثقي ًال بارداً وكأن‬ ‫جسدي جبل‪ ،‬واملدينة املمتدة أمامي تعبق ألوانها‪ .‬أتصفح الطرقات أقلب األشجار‪ ،‬أحدق يف الالفتات‪ ،‬أدندن لحناً وأحلم‪ .‬أدخل‬ ‫يف حديقة الصنوبر العالية فيستقبلني عصفور عىل غصن يناغي‪ ،‬وخيط من النمل عىل الرتاب األحمر يبحث عن مؤونة الشتاء‬ ‫خفي إىل‬ ‫الطويل‪ .‬وحدي هنا يفتتني الغياب يف عبق هذا النهار‪ ،‬يف تيه لذة األزهار تحت رذاذ املطر النديّ ‪ .‬أتذكرك وحن ٌني ٌّ‬ ‫ميسني شغف حنون‪ .‬أعيد ترتيب الذكريات‪ ،‬أصعد إىل غرفتي يف الفندق‪ ،‬أوقد شمعة صغرية وأرشب‬ ‫رفقتك‪ ،‬يب ّللني الهواء‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫مهب الغياب أرصخ‪ ،‬ال صدى لصويت وال‬ ‫لرس الحياة أمام هذا النهار ألعطره مباء وردك‪ .‬ويف ّ‬ ‫كأسيَ نبيذ‪ ،‬أفتح كل النوافذ والستائر ّ‬ ‫أحد يسمعني‪ ،‬أوقظ جرحي املفتوح للمدينة ولزرقة السامء الصافية‪ .‬ربيع ينوء بأثقاله عىل الحقول املحيطة‪ ،‬والنسيم يعبث‬ ‫بالشجر املط ّوق باأللوان منذ سنني‪ .‬أجلس أمام التلفاز وال أعرث إال عىل شجن يعرصين‪ ،‬ولو أن للشجن صوت لكنت سمعته وقلبي‬ ‫يتدحرج يف صمت الغياب‪ .‬كلامت مبعرثة تخرج من خالل هذا الفقد الصاعق‪ .‬كيف سنشفي روحنا املكسورة‪ ،‬ولقد مات يشء‬ ‫فينا‪ .‬يوجعنا هذا املوت الشديد‪ ،‬وهذا الغياب املح ّلق يف املدى‪.‬‬ ‫أتنهد من أعامقي‪ ،‬واألرض تتسع وتدور وأدور معها كالغريب دونك‪ .‬كم مرة قطعناها معاً كطري الحامم يف يومني‪ .‬نتبادل الحنني‬ ‫الذي ال ُيفسرّ من خالل دمع العنب‪ ،‬نرشب حتى الثاملة‪ .‬ما أجملك وأنت تعلو بالشعر والحب وال تستكني وليس لك إال الريح‬ ‫تسكنها‪ُ ،‬تدمنها‪ ،‬تتنفسها!‪ .‬كنت كالثمر املتأللئ يف سامئك‪ .‬يف قلقك املت ّوج بقوس قزح‪ ،‬ويف العتمة التي أينعت يف عشب روحك‪.‬‬ ‫‪86‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬

‫الزعرت»‪ ،‬ولقد أطلقت عىل العمل الحقاً اسم أحمد العريب‪.‬‬ ‫أصدرت األسطوانة‪ ،‬وحقق العمل انتشاراً كبرياً‪ ،‬ونقلة نوعية‬ ‫يف عالقتي بقصيدة محمود درويش‪.‬‬ ‫هل فيام ح ّققته من مقاربة موسيقية حداثية يف نصوص‬ ‫لحنة‪ ،‬أوجهٌ من الصحة والخطأ؟‬ ‫درويش ا ُمل ّ‬ ‫‪ ‬عىل مسار تاريخ طويل من القصائد واألغنيات واملوسيقا‪،‬‬ ‫منذ وعود من العاصفة‪ ،‬مروراً بأعراس تصبحون عىل وطن‪،‬‬ ‫وأحمد العريب‪ ،‬وتقاسيم‪ ،‬إىل سقوط القمر‪ ،‬كان هذا التالحم‬ ‫الدافئ بني القصيدة واملوسيقا؛ ويف كل عمل كنت أتع ّلم‬ ‫كيف أحمي املوسيقا من الفضيحة والقصيدة من االبتذال؛‬ ‫ألننا خاطبنا يف الناس إرادة الحياة والعطاء‪ ،‬وحاولنا أن‬ ‫نسمو بالجامل إىل حيث يؤثث الناس وطناً بدي ًال منه‪،‬‬ ‫يعوضهم عن حرمان الوطن‪.‬‬ ‫إنه تجريب يستثري حاسة التأمل‪ ،‬بعد حوار بني املوسيقا‬

‫والقصيدة‪ ،‬وبني صور الحياة‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬التأليف‬ ‫املتنوع أنتج بساطة املوسيقا وعذوبة الشعر؛ يف كل عمل‬ ‫جديد كنت أبدأ من الصفر؛ كام لو أنني ال أعرف شيئاً؛‬ ‫وكل محاولة كانت قفزة يف الظالم‪ ،‬يف كل مرة كانت األغنية‬ ‫والقصيدة تخلقان الشك وتدعوان إىل مراجعة الذات‪ ،‬كانت‬ ‫مشاغبة غريبة‪ ،‬فاجرة وصادقة‪ ،‬وقيمتها يف مت ّردها‪ ،‬لقد‬ ‫ارتكبنا أخطاءنا الفاتنة‪ ،‬وكان ذلك من رشوط العملية‬ ‫اإلبداعية‪ .‬كنت دامئاً مع املوسيقا والقصيدة التي ش ّكلت‬ ‫فعل مشاغبة‪ ،‬عصياناً وجودياً‪ ،‬نزعة إىل اإلفالت من القطيع‪،‬‬ ‫ودعوة إىل املستمعني الرتكاب الشغب نفسه‪ ،‬رصخة جريئة‬ ‫من أجل الحرية لالشتباك مع هذا الدوران املدهش الذي‬ ‫يحدث يف العامل‪ ،‬ولقد انخرطنا فعلياً ومنذ زمن بعيد يف‬ ‫الشغب الذي ال ب ّد منه‪ ،‬ومت ّكنّا من املساهمة يف طرح‬ ‫األسئلة والتعبري عن الواقع‪،‬‬

‫أنظر نحوك‪ ،‬أميش يف اتجاهك‪ ،‬أطري إليك‪ ،‬أملّك من وحدتك يف مساء بعيد‪.‬‬ ‫سأتبع أثر نجمة يك ألقاك‪ ،‬أرغب يف قبضة ريح أحملها يف جناحي ألطري إىل جنتك‪ .‬كيف اخرتقت‬ ‫قلوبنا؟ سنحمل قمح روحك ونزرعه فينا‪ ،‬نشتهي بريق حضورك لنستعيد الدهشة األوىل‪ .‬أحن‬ ‫أحس باملطر يخرتق أعامقي‪ .‬هل تكون هذه الكلامت أصواتاً‬ ‫إىل صداقة تأخذنا إىل عذوبة الحب‪ّ .‬‬ ‫أستعيدها من زخات املطر؟ كيف تتحرك األمكنة والناس واألشياء والزمن؟ هل هذا هو ضوء‬ ‫الحياة؟ أو هل هذه هي النار املشتعلة؟ أو هل هذا هو الحب؟ أو هل هذا هو الوهم الذي صار‬ ‫كواكب‪ ،‬نجوماً؟ أم هي رغبة والدة‪ ،‬عزلة‪ ،‬تذ ّكر‪ ،‬نسيان ّ‬ ‫حل فينا وتجسد لنبحث عن‬ ‫حيا ًة‪ ،‬أرضاً‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫حب كثري يف فضاء واسع وسع األبد؟ هل هذا التذكر والتخ ّيل وهذه الكلامت تبني حياة نكون‬ ‫فيها ال قبالتها؟ نسرتد غبار الدروب األوىل التي علقت بأقدامنا‪ ،‬وشكل الحياة التي امتزجت بنسيم‬ ‫خفيف تح ّول كالطري عىل أرض مد ّورة يداعبها بغبار النجوم‪ ،‬ميأل نهاراتها بنور الكواكب من ماليني‬ ‫السنني الضوئية يف فضائها‪ ،‬ليصل إلينا‪ ،‬ليحيا فينا‪ ،‬وليأخذنا يف مترين يومي إىل الدخول يف مكمن‬ ‫الرسي‪.‬‬ ‫الحياة ّ‬ ‫يتوحد الكون فينا‪ .‬يف هذا الليل الحاين‪ ،‬يقودين‬ ‫نتوحد مع الكون بل ّ‬ ‫نداء يحتضن رصخة مبللة بامللح‪ ،‬وأرض ترتعرع يف القمح‪ ،‬ال ّ‬ ‫حلمي إليك‪ ،‬وأهرب من نعاس ألدوس عىل عشب السامء يك أصل إليك‪ .‬أشهد بأن صداقتك عششت يف كياين‪ ،‬أذرف دمع الكالم‬ ‫وأناجيك‪ ،‬ك ّلام تنهدت يف منامي خفق قلبي‪ .‬هل سأجد ما يكفي من األلحان ألغنّيك‪ ،‬ألعزفك؟ أمتىش عىل الشاطئ الالزوردي‬ ‫كحصان مندّى‪ .‬أغرق يف حنايا الشعر‬ ‫يم البحر نوطايت‪ ،‬ويسري الحلم فوق عيون املاء ّ‬ ‫عارياً إال من ظالل ضوء القمر‪ ،‬ألقيت يف ّ‬ ‫وأذوب يف طراوة املعنى كقمر مكتمل‪ ،‬كإرشاقة شمس‪ ،‬كموج هادر‪ ،‬كضوء متم ّوج‪ ،‬كليل ُمشتهى‪ ،‬كفجر زا ٍه‪ ،‬كحفنة نسيم‪ ،‬كحبة‬ ‫قمح‪ ،‬كمدينة ساحرة‪ ،‬كأرزة راسخة‪ ،‬كطيور عاصية‪ ،‬كأقاص زاخرة‪ ،‬كنبوءة حلم‪ .‬أعود طف ًال‪ ،‬أر ّنم يف ذلك الفجر الذي طلع ع ّ‬ ‫يل‬ ‫يف قريتي الساحلية‪ ،‬وحيث حملتني الفصول إىل مدن بعيدة‪ .‬يغمرين نورك‪ ،‬أناديك لحناً‪ ،‬همساً‪ ،‬ح ّباً‪ ،‬حل ًام‪ ،‬قصيد ًة‪ ،‬أغني ًة‪ ،‬فهل‬ ‫تسمعني؟ كم ضاق هذا العامل برحيلك!‬ ‫‪87‬‬


‫ملف‬

‫يف وداع درويش مبطار ماركا‬

‫وخلق الحوافز من أجل التغيري يف وعي حركة املجتمع‬ ‫والناس‪ ،‬وليس ارتباط القصيدة والناس ببيئتها وبالظروف‬ ‫االجتامعية الجديدة وبازدياد الوعي‪ ،‬هو ما ُيط ّورها‪ ،‬بل‬ ‫قدرتها عىل االغتناء من مجمل الفكر والتكنولوجيا‪ ،‬الذي‬ ‫تخلقه تقاليد أخرى مختلفة جداً‪ ،‬يف بعض األحيان‪.‬‬ ‫سنوات طويلة ارتبطت موسيقاك خاللها بشعر محمود‬ ‫درويش‪ ،‬إذ تآلفت أعاملك يف ذاكرة الناس‪ ،‬حتى صار اسم‬ ‫أحدكام إن ُذكر اسم اآلخر‪ ،‬لِ َم يف رأيك؟‬ ‫كل ّ‬ ‫ّ‬ ‫محطات مساري املوسيقي مملوءة باإلشارات إىل شعر‬ ‫درويش بدءاً بـ«وعود من العاصفة» ووصوالً إىل «سقوط‬ ‫القمر»‪ .‬أحسست بأن شعر درويش قد ُأنزل ع ّ‬ ‫يل ويل‪،‬‬ ‫فطعم خبز أ ّمه كطعم خبز أ ّمي‪ ،‬كذلك عينا ريتاه‪ ،‬ووجع‬ ‫يوسفه من طعنة إخوته‪ ،‬وجواز سفره الذي يحمل صوريت‬ ‫أنا‪ ،‬وزيتون كرمله‪ ،‬رمله وعصافريه‪ ،‬سالسله وجالدوه‪،‬‬ ‫محطاته وقطاراته‪ ،‬رعاة بقره وهنوده‪ ،‬ك ّلها ك ّلها سكناها‬ ‫يف أعامقي‪ .‬فال عجب إن آلفت موسيقاي أبياته عىل نحو‬ ‫طبيعي‪ ،‬دومنا عناء أو تك ّلف‪ .‬يقيني أن شعره ُكتب ألغنّيه‪،‬‬ ‫ألعزفه‪ ،‬ألص ّليه‪ ،‬أذرفه‪ ،‬أحكيه ببساطة عىل أوتار عودي‪.‬‬ ‫وكالطفلني اللذين ما زاال يف دواخلنا‪ ،‬ركض ٌّ‬ ‫كل من الغناء‬ ‫ّ‬ ‫املسطرة يف ورقة املوسيقا‪،‬‬ ‫والشعر عىل الدروب الخمسة‬ ‫مع العبث يف مخبأ النوطة‪ ،‬أو يف أرجوحة الكلمة‪ ،‬وراء‬ ‫الصوت‪ ،‬يف العشب والريح‪ ،‬يف الضحكة واأل ّنة‪ ،‬عىل حافة‬ ‫نفس‪ ،‬أو خلف لحظة قابعة يف سطوره ق ّلام ترتادها أقواس‬ ‫الكمنجات وهمس اإليقاعات‪ .‬أوكل للمساحة الصوتية‬ ‫مه ّمة قول التناغم العميق ما بني الشاعر واملوسيقي نابضةً‬ ‫دافئ ًة‪ ،‬واضحة‪ ،‬صوب ذرا النوى ّ‬ ‫وكل النهوند املتنظر‪.‬‬ ‫يشء كزهرة ه ّوة أتطاول إليها بيدي منذ زمن وال أتجارس‪.‬‬ ‫‪88‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫أعاميل مهداة إىل من تج ّرأ وقطف الزهرة‪ ،‬إىل محمود‬ ‫درويش‪ ،‬فامزال صدى تلك األيام العابرة يح ّلق يب وبه عىل‬ ‫غيمة بيضاء يف بريوت‪ ،‬يف النارصة‪ ،‬يف باريس‪ ،‬يف دمشق‪،‬‬ ‫يف الجزائر‪ ،‬يف تونس‪ ،‬يف الرباط‪ ،‬يف عامن‪ ،‬يف نيويورك ويف‬ ‫الطريق إىل القدس‪ ،..‬يف الزهرة الطالعة من جرح الصخرة‪،‬‬ ‫يف الجلسة‪ ،‬يف السهرة‪ ،‬يف الحفلة‪ ،‬يف الفندق‪ ،‬يف املقهى‪ ،‬يف‬ ‫الساحة‪ ،‬يف الطائرة‪ ،‬يف السيارة‪ ،‬يف كل يشء‪ ،‬كل يشء‪ ،‬كل‬ ‫يشء‪.‬‬ ‫َ‬ ‫حصلت عىل جائزة أكادميية «شارل كروس»‬ ‫يف العام ‪،2007‬‬ ‫ُ‬ ‫عن عمل «تقاسيم‪ »2007 /‬املهدى إىل محمود درويش‪،‬‬ ‫واملستوحى من أشعاره‪ ،‬أي إنها تحية عارمة أيضاً للشاعر‬ ‫قبيل وفاته‪ ،‬عىل مرسح راديو فرانس‪ ،‬ماذا تقاسمتام سوى‬ ‫ذلك إبداعياً؟‬ ‫يف الذكرى الخمسني لنكبة فلسطني جاء محمود إىل بريوت‬ ‫وقدّمنا أمسية مشرتكة يف قاعة األونيسكو‪ .‬ألقى جداريته‬ ‫وقدمت تقاسيم‪ .‬وكانت أمسية رائعة‪ .‬ويف اليوم التايل‬ ‫ذهبت مع محمود إىل مخيم صربا وشاتيال لوضع باقة من‬ ‫الورد عىل أرضحة الشهداء‪ .‬كام كان الحدث‪ ،‬يف عام ‪،2002‬‬ ‫بتكريم محمود درويش كأهم شاعر معارص يف العامل العريب‬ ‫بجائزة «لينون» األمريكية يف جامعة فيالدلفيا‪ .‬وقد دُعيت‬ ‫إىل املشاركة يف هذا االحتفال لدوري يف إيصال شعر محمود‬ ‫درويش إىل العامة وجعله يف متناولهم‪ ،‬وقد قدّم االحتفال‬ ‫املف ّكر الفلسطيني العريب إدوارد سعيد‪ ،‬ويف عام ‪2005‬‬ ‫ُمنحت لقب فنّان األونيسكو للسالم‪ ،‬وكان محمود‪ ‬إىل‬ ‫جانبي فرحاً بهذا اللقب‪.‬‬ ‫ماذا عن اليوم‪ ،‬بعد انفصاله املادي عنك‪ ،‬كيف تصنع‬ ‫العالقة من جديد؟‬ ‫البارحة‪ ،‬كانت الحفلة صاخبة يف تطوان‪ .‬كان عزفاً مبارشاً‬ ‫عىل الوتر‪ ،‬ألقيت نفيس يف غيم روحه‪ ،‬عىل صداقة أعىل‬ ‫من الشمس سطوعاً‪ .‬كان عزفاً مبارشاً عىل وتر النوى يف‬ ‫صدر العود وزنده‪ ،‬ريشة وأصابع تتحدان يف اآله ويف أريج‬ ‫الحب‪ .‬ويف مثل ذاك املساء العاصف بالناس واملوسيقا‪ ،‬يف‬ ‫ذاك املرسح املفتوح عىل السامء‪ ،‬وحيث كان علينا أن نكمل‬ ‫سهرتنا‪ ،‬وننتيش بأجمل حب وبقصيدة ال تنتهي برشفتني‪،‬‬ ‫ثم وحدي‪ ،‬آه يا وحدي عند سقوط القمر‬ ‫كنت وحدي ّ‬


‫محمود درويش ‪ ..‬أثر الغائب‬

‫درويش‬

‫شعر المقاومة ومقاومة الشعر‬

‫‪................................................................................................................................‬‬ ‫عبد هللا أبو بكر‬

‫مل‬

‫يسلم الشعر الفلسطيني الحديث من تهمة الخروج‬ ‫عن الواقع الذي تعايشه األرض‪ ،‬بعد أن تجاوز هذا‬ ‫الشعر جغرافيا الوصف املبارش الذي فرضته مرحلة االحتالل‬ ‫واملعاناة إىل التعبري الجاميل املوغل يف الشعرية الذي واكب‬ ‫تطور القصيدة العربية‪ ،‬بل وأسهم يف نقلها من حالة إىل‬ ‫أخرى‪ .‬ولعل تجربة درويش الشعرية أكرث من ُوضعت‬ ‫تحت مجهر هذه التهمة‪ ،‬وكانت عىل الدوام محل جدل بني‬ ‫قرائه ومتابعيه الذين رأوا يف نتاجه الشعري الجديد ابتعاداً‬ ‫لقصيدته عن قضيته بعد أن تقاطعت معها لعقود‪ ،‬منذ‬ ‫سجل يف دفرت الشعر «أنا عريب» التي واجهت محاوالت‬ ‫أن ّ‬ ‫شطب الهوية الفلسطينية‪ ،‬حتى قصائد بريوت التي تت ّبعت‬ ‫بنادق الثورة وسبقت رصاصات املقاومني إىل ميادين القتال‪.‬‬ ‫درويش الذي صعد عىل سلم الثورة الفلسطينية‪ ،‬ثم نزل‬ ‫عنها ليفلح ويزرع أرضه بالشعر ويحصد املعنى‪ ،‬مل يرد أن‬ ‫يظل شعره مجرد شعار سيايس يقوم عىل الخطابة والقول‬ ‫الصارخ‪ ،‬ومرآة جامدة للواقع من حوله‪ ،‬فقد أدرك يف‬ ‫املرحلة الثانية من عمر تجربته الشعرية أن بحوزته ما هو‬ ‫أكرث من ذلك‪ ،‬وأن الشعر بكل أشكاله ومضامينه إن كان‬ ‫جمي ًال‪ ،‬ال بد بالرضورة أن يكون حالة مقاومة وإن ابتعد‬ ‫عن املبارشة والشعارات املنربية‪ .‬وهذا ما قاده إىل القول‪:‬‬ ‫«كل شعر جميل مقاومة»‪ .‬هنا مينح درويش عبارته معنى‬ ‫آخر‪ ،‬يجره إىل ما هو أبعد وأعىل‪ ،‬وبهذه العبارة يعلن‬ ‫موقف الشاعر من قضية «شعر املقاومة»‪ ،‬ثم ينتقل لينجز‬ ‫بعد ذلك دواوين تجاوزت معه مساحات الوطن‪ ،‬إىل جميع‬ ‫جهات العامل‪ ،‬وليؤكد عىل أن الشعر ال ميكن له أن يوضع يف‬ ‫قفص‪ ،‬فالفكرة أكرث اتساعاً من الجغرافيا «املكان» والزمن‬ ‫«التاريخ»‪ .‬إنها الفكرة التي تولد ال لتموت بل لتتقافز‬ ‫وتعيش يف عني كل قارئ ومتابع‪ ،‬تقاوم وتنترص وتلتقط‬ ‫الوطن بعدسة الجامل‪ ،‬لتعكس جميع أبعاده‪.‬‬

‫يف التجربة الدرويشية كثرياً ما تساءلت‪ ..‬من‬ ‫تحمل األخرى القضية أم القصيدة ؟ وحني‬ ‫أعود لبدايات هذه التجربة‪ ،‬أدرك أن القضية‬ ‫هي من حملت القصيدة أوالً‪ ،‬ولكن القصيدة‬ ‫هي التي حملت القضية والوطن بجميع‬ ‫موازينه وأثقاله‪ ،‬حقوله ومدنه بعد ذلك‪،‬‬ ‫وهذا ما جعل من شاعر كدرويش رمزاً أدبياً‬ ‫ووطنياً معاً‪.‬‬ ‫هناك الكثري من الشعراء الفلسطينيني الذين‬ ‫كتبوا قصائدهم بحرب القضية‪ ،‬ولكنهم مل‬ ‫يتمكنوا من كتابة الشعر مباء الكالم وفضة‬ ‫املعنى كام فعل درويش وكام قال أيضاً‪:‬‬ ‫«سأصري يوماً شاعراً واملاء رهن بصرييت»‪ ،‬ومل‬ ‫يتمكنوا كذلك من رفع سقف العبارة‪ ،‬أفال‬ ‫يعني ذلك أن الشعر يف الحالة الدرويشية هو‬ ‫الذي انترص عىل الجغرافيا وعىل كل قيد؟ القيد الذي يريد أن‬ ‫يرسم شكل القصيدة قبل كتابتها‪ ،‬وأن يحدد مضامينها وأفكارها‬ ‫وأن مينحها البوصلة التي يريد‪ ،‬إرضاء لعاطفة أو لظرف ما‪.‬‬ ‫إن هذه الحقيقة ال ميكن أن نتخطاها‪ ،‬أو أن نعبث بها‪ ،‬فام‬ ‫كتبه درويش عرب دورة حياته الشعرية املتصاعدة‪ ،‬يبقى برهاناً‬ ‫عىل أن الشعر الجيد والجميل هو الذي ميسك بيد الوطن‬ ‫ليصل معه إىل حيث يشاء‪ ،‬وينقله من أرض إىل أخرى‪ ،‬ومن‬ ‫سامء إىل أخرى‪ ،‬فدرويش الذي حقق كل هذا الحضور‪ ،‬مل‬ ‫يحققه لنفسه فقط‪ ،‬بل ولكلمة «الفلسطيني» التي رافقته‬ ‫طوي ًال أينام ّ‬ ‫حل وارتحل‪.‬‬ ‫ترى هل تخىل درويش عن قضيته حقاً؟ أم أن الذائقة العربية‬ ‫الساكنة إن صح القول مل تستطع االنتقال والذهاب إىل كل‬ ‫نواحي الشعر‪ ،‬فشكلت ما يشبه مبقاومة للشعر‪ ،‬الشعر الذي‬ ‫يصعد أعىل من جدار هذه الذائقة؟‬ ‫‪89‬‬


‫خاج السرب‬

‫علي العندل‪..‬‬

‫شعرية قسوة‬ ‫في عام ‪ ،2004‬وعلى نحو لم يكن يتوقعه أحد‪ ،‬رحل الشاعر اإلماراتي علي العندل الذي‬ ‫ّ‬ ‫وخلف وراءه سيرة جارحة والعديد من القصائد‪،‬‬ ‫تخطى األربعين بعدد قليل من السنوات‪،‬‬

‫ً‬ ‫تأثيرا في أكثر من شاعر إماراتي من جيل التسعينيات‪.‬‬ ‫إنما الكثير من األفكار التي تركت‬

‫جهاد هديب‬

‫‪90‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫علي العندل ‪ ..‬شعرية قسوة‬

‫جلده ميلء بالكدمات وآثار العنف واالرتطام‬ ‫الهائل بالوجود‪ ،‬هذا الوجود الذي مل يتصالح معه‬ ‫عيل أبداً»‪ .‬هذا ما يكتبه الشاعر ابراهيم املال‬ ‫عن الراحل أحمد العندل يف مقدمة مجموعته‬ ‫الشعرية اليتيمة «سيف املاء» التي جمعها‬ ‫أصدقاء الشاعر الراحل وصدرت يف العام ‪ 2008‬عن دائرة‬ ‫الثقافة واإلعالم بالشارقة‪.‬‬ ‫من هذه الكلامت‪ّ ،‬‬ ‫لعل باإلمكان تخ ّيل أن عيل العندل من‬ ‫البدء مل يكن متصالحاً مع نفسه مثلام مع العامل واملحيط‬ ‫من حوله‪ ،‬أيضاً‪ .‬وإذا كان هذا الال تصالح هو موقف معريف‬ ‫من الوجود‪ ،‬فإن البحث عن الخالص‪ ،‬الذي يعززه َقدْر من‬ ‫اإلحساس بنوع من العبث العميق‪ ،‬سيكون خياراً فردياً‬ ‫متاماً‪ .‬وبالفعل فإن هذا ما كان‪.‬‬ ‫املالحظ‪ ،‬بحسب نصوص «سيف املاء»‪ ،‬أن الشعر كان‬ ‫إال أن َ‬ ‫ح ًال بالنسبة إىل أحمد العندل‪ ،‬ح ًال‪ ،‬أو نوعاً من ّ‬ ‫الحل‪ ،‬يف‬ ‫مواجهة هذا الوجود بل ويف مواجهة العبث والقلق وعدم‬ ‫الرضا‪ ،‬كام أنه نوع من ّ‬ ‫الحل لذلك التناقض بني الشاعر‬ ‫وذلك الشخص واإلنسان الذي فيه‪ ،‬أي أحمد العندل‪.‬‬ ‫أيضاً‪ ،‬رمبا يفسرّ ذلك الغموض الذي يسم املعنى يف شعره‪،‬‬ ‫هو الذي مل يكن يبحث عن املعنى‪ ،‬عىل األرجح‪ ،‬بل هو‬ ‫يبحث يف الشعر عن ٍّ‬ ‫«حل» لتناقض يحت ّد يف الذات‪ ،‬وكذلك‪،‬‬ ‫من الواضح متاماً أن الراحل مل ُيعن باللغة بوصفها تركيبة‬ ‫نحوية ورصفية بل تجرأ عليها كثرياً لجهة إدخال الدارجة‬ ‫اليومية مبا تسميه من أشياء وأمكنة‪.‬‬

‫الشعر‪ ،‬بالنسبة إليه‪ٌّ ،‬‬ ‫حل‪،‬‬ ‫في مواجهة الوجود بل وفي‬ ‫مواجهة العبث والقلق وعدم‬ ‫ّ‬ ‫الحل‬ ‫الرضى كما أنه نوع من‬ ‫لذلك التناقض بين الشاعر‬ ‫وذلك الشخص واإلنسان الذي‬ ‫فيه‪ ،‬أي أحمد العندل‬

‫هكذا‪ ،‬فإن الشعر بوصفه لغة وصورة صادمة وقادرة عىل‬ ‫اإلدهاش‪ ،‬ينبغي عىل قارئ «سيف املاء» أن يبحث عنها يف‬ ‫تلك االلتامعات التي تتوهج هنا وهناك يف النصوص‪ ،‬وإنها‪،‬‬ ‫أي هذه االلتامعات‪ ،‬لتثري يف نفس قارئها كآبة شفيفة مثلام‬ ‫تعكس ذلك الحجم الهائل من الخيبة ا ُمل ّرة التي كان يشعر‬ ‫بها أحمد العندل‪:‬‬

‫«ليت الدمعة تضحك»‪.‬‬

‫لكنه يقول يف نص آخر‪:‬‬

‫«يل يف الوسواس‪ /‬ألف شيطان‪ /‬وثالث تجاعيد»‪.‬‬

‫هي اللعنة التي رضبت عميقاً يف الروح‪ ،‬إنه ا ُملحال أيضاً‬ ‫يف الوصول إىل أي يقني أو أن االطمئنان ليس إال للشك‬ ‫فحسب‪ ،‬يتبدى هنا قبس من روح الشخصية املرسحية‬ ‫الشهرية‪ :‬فاوست يف املرسحية التي تحمل االسم نفسه‬ ‫لألملاين يوهان غوته‪ ،‬حيث كام لو أن أحمد العندل يعتاض‬ ‫عن القسوة ضد الواقع واملحيط والعامل بالعنف بالعنف‬ ‫ميارسه تجاه الذات‪ .‬وهو كذلك تعبري رصيح عن مأزق‬ ‫يخص أحداً سواه‪ ،‬إذ يتجىل املأزق يف‬ ‫وجودي فردي متاماً ال ّ‬ ‫غري نص من نصوص «سيف املاء»‪:‬‬

‫«كل القمصان ال تليق يب‪ /‬أريدُ غاب ًة بعيد ًة‪ُّ /‬‬ ‫كل‬ ‫أشجا ِرها أنا»‪.‬‬

‫األرجح أن هناك عزلة فردية تفيض عن النص لتخرج إىل‬ ‫القارئ‪ ،‬لكنها ليست عزلة ساكنة‪ ،‬بل هي عزلة يلوب يف‬ ‫موجه؛ رمبا أن الذات التي يتوجه نحوها‬ ‫عمقها عنف َّ‬ ‫الشخص السارد يف القصيدة هي استعارة عن عامل ال تتصالح‬ ‫معه هذه الذات لتختفي خلف إحساسها بتفرد من نوع ما‪:‬‬

‫«هو‪ /‬أنا‪ /‬أجتاح قلبي بالسكاكني»‪.‬‬

‫أيضاً يقول العندل يف مقطع آخر من القصيدة ذاتها‪:‬‬ ‫«تطاردين األواين» التي رمبا تكون واحدة من أنضج‬ ‫النصوص يف الكتاب‪:‬‬

‫«خراب وجودي‪ /‬كام رباط العنق‪ /‬حبل مشنقة»‬

‫الوجود ليس باملعنى الفلسفي بل باملعني الفيزيقي املحض‪،‬‬ ‫إذ مثة حديث عن فساد أمكنة وبرش وأفراد‪ ،‬إىل أن املرء‬ ‫يشعر كام لو أن الشاعر يود أن يقول‪ :‬أبعدوا يديَّ عن‬ ‫قلبي‪ ،‬فأبوح لكم‪:‬‬

‫«متيض‪ /‬ويف قلبك زنزانة»‬

‫‪91‬‬


‫خارج السرب‬

‫هذا اإلحساس بالغربة التي هي قرينة فجيعة ما ّ‬ ‫تظل تدفع‬ ‫بالفرد نحو «ال خيار» و«ال تواصل» مع املكان وما تأثث به‬ ‫هذا املكان والبرش الذين يسعون فيه إىل يومهم‪ ،‬األمر الذي‬ ‫ال يخصه فكام لو أن ذئباً يف داخله ّ‬ ‫يحضه دامئاً عىل الرحيل‬ ‫ويلومه باستمرار عىل عدم فعل ذلك‪:‬‬

‫«ال بيت لك‪ /‬ارحل إىل الصحراء كن سائباً كاألغنام‪../‬‬ ‫الفرار‪ ..‬الفرار‪ /‬قدمان‪ /‬رسقتهام األيام‪»..‬‬

‫لكنه يظل مدفوعاً بقوة غامضة نحو «تحوصل» عىل الذات‪،‬‬ ‫حتى أن هذه الحوصلة كام لو أنها قرشة سميكة تعزل الفرد‬ ‫عن محيطه‪ ،‬إمنا من غري رضا منه عن ذاته أو تصالح معها‬ ‫باستمرار‪:‬‬

‫«أمراضك‪ /‬تطرد الثعابني‪ /.‬أوكارها لك‪ /‬لك وحدك»‬

‫إنها الرغبة العميقة يف التخلص من التجربة الفردية مع هذا‬ ‫العامل وبالتايل العامل نفسه ما يجعل الشاعر بهذه القسوة‬ ‫املفرطة عىل الذات واآلخرين والعامل‪:‬‬

‫ُ‬ ‫سقطت من الزمان‪ /‬ومرآيت‪ /‬الصغرية يف يدي»‬ ‫«قد‬

‫وإذا كانت املرآة هي عالمة عىل رؤية التحوالت التي تطرأ‬ ‫عىل الذات وشكلها واألثر الذي يفعله «حضور» الفرد بني‬ ‫املجموع‪ ،‬فقد يصح القول إن تلك الروح الذئبية الهاربة‬ ‫ّ‬ ‫التي فيه هي ما يصنع ذلك التفرد للشاعر وهي التي ظلت‬ ‫تهرب به إىل أن غاب‪:‬‬

‫«ملاذا‪ /‬تجري هارباً منادياً‪ /‬ابعدوا عني‪ /..‬إنها اآلالم»‬

‫بالتأكيد إن هذه اآلالم ليست آالماً مادية أو فسيولوجية‪،‬‬ ‫مثلام أن هذه القسوة ليس بالرضورة أن يكون الشاعر قد‬

‫فردية العندل تفيض عن‬ ‫النص لتخرج إلى القارئ‪،‬‬ ‫لكنها ليست العزلة الساكنة‪،‬‬ ‫بل التي يلوب في عمقها‬ ‫موجه‬ ‫عنف‬ ‫َّ‬

‫‪92‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫مارسها عىل نفسه أيضاً‪ ،‬لكنّ شعرية هذه القسوة هي التي‬ ‫أنتجت الشعر الذي يحمل توقيع أحمد العندل‪ ،‬بكل ما‬ ‫يتوجه ضده إذ يستغرق‬ ‫فيها عنف يجعل القارئ أنه عنف ّ‬ ‫يف قراءة تلك االقتطاعات‪ ،‬أو يف أخذ صفة الشخص السارد‬ ‫فيها‪ ،‬هي التي تتناثر يف الكتاب كام يتناثر زهر بري يف‬ ‫الربيع‪.‬‬

‫والدة النص‬

‫كام أن األرجح‪ ،‬أن اإلحساس بالعدمية والالجدوى أو حتى‬ ‫االنحياز إليهام‪ ،‬يف البعض من مفاصل النص كام يف الحياة‪،‬‬ ‫قد جعال عل ّياً غري آب ٍه لتلك العالقة التي تربط نصه باملتلقي‬ ‫املتذوق البعيد عن الكتابة وسياقاتها وتعقيداتها‪ .‬يشعر‬ ‫القارئ أن هناك قصدية ما يف تحطيم بنية اللغة من حيث‬ ‫هي معنى قد تش َّكل من خالل صورة شعرية يحملها ملخيلة‬ ‫املتلقي ومقدرته عىل الفهم أو التأويل‪ .‬ال توجد عالمات‬ ‫ترقيم وال ضبط نحوي ألواخر الكلامت فض ًال عن ذلك‬ ‫الغموض الذي يصل إىل درجة اإلبهام‪ .‬وكأن الشاعر ما كتب‬ ‫قصائده إال تحت وطأة شحنة كاوية من ما يعتمل يف داخله‬ ‫من رصاعات‪ ،‬بالتايل فقد كان النص نتاج خربته الخاصة يف‬ ‫العراك مع األمل‪ ..‬أمل والدة النص؛ مثلام أنه‪ ،‬أي النص‪ ،‬نتاج‬ ‫حياة عيل العندل ذاتها وواقعه املحيط أيضاً‪.‬‬ ‫مل يقل عيل العندل الكثري‪ ،‬يحسب املرء أنه رأى وعرف أكرث‬ ‫مام كتب ود َّون‪ .‬مل ميهله املوت مبا يكفيه ليك ُيتِّم كلمته‬ ‫ويرحل‪ .‬أيضاً صوت عيل العندل يف قصائده خفيض‪ ،‬فال‬ ‫يشء آخر سوى تلك الرصخات الصامتة‪ ..‬ال يشء سوى بيت‬ ‫القصيدة‪ ،‬أي عزلة الشاعر‪ ،‬التي مل يؤثثها عيل العندل كام‬ ‫ينبغي‪ .‬كام لو أنه وضع كل ما قد يحتاج إليه يف هذا البيت‬ ‫ثم ذهب يف الغياب قبل أن ينجز ترتيبها وتأثيثها وفقاً‬


‫علي العندل ‪ ..‬شعرية قسوة‬

‫ملشيئته‪ :‬قد ْ‬ ‫سقط ُت من الزمان‪/‬‬ ‫ومرآيت‪ /‬الصغرية يف يدي‪.‬‬

‫رمبا يكون من الغنب التوقف عند‬ ‫عيل العندل بحسب ما هو يف‬ ‫الكتاب اليتيم‪« :‬سيف املاء» بل‬ ‫ينبغي تجاوز ذلك إىل تلك الصورة‬ ‫التي رسمها له الشعراء األصدقاء‬ ‫األكرث قرباً إليه واألكرث خربة يف‬ ‫معايشته الشخصية‪ ،‬أيضاً واألكرث‬ ‫محبة له وحفظاً لذكراه وتأثراً‬ ‫برحيله مثلام كانت كلامته مؤثرة‬ ‫يف حضوره‪.‬‬ ‫يف تلك الصور التي كتبها اآلخرون‬ ‫عن عيل العندل يبدو الرجل شاعراً‬ ‫نافراً غري مطمنئ إىل جهة أو طريق‪،‬‬ ‫ال يثق مبا يكتب بل كان يخجل عندما يصفه أحدهم بأنه‬ ‫«شاعر»‪ ،‬كام لو أن الشعر مسؤولية كبرية ومرتبة عالية‬ ‫تتطلب ثقافة رفيعة مل َي ُح ْز عليها بعد‪ ،‬كان يصف ما‬ ‫يكتب بأنه عبارة عن محاولة لوضع بعض أفكاره الفلسفية‬ ‫الخاصة يف نسق لغوي‪« ،‬أنتم تسمون ما أكتبه شعراً» كان‬ ‫يقول‪.‬‬ ‫أيضاً‪ ،‬كان الرجل ُيكرث من األسئلة‪ ،‬إذ يطرحها مبارشة عىل‬ ‫أصدقائه فتثري القلق لديهم وكان يتقصد إثارة القلق بوصفه‬ ‫عتبة البحث عن املعرفة‪ ،‬حيث من املمكن أن ال يعود‬ ‫املرء بإجابة لكنه عىل األقل سيكتسب خربة البحث‪ .‬وأغلب‬ ‫الظن أن الشعر بالنسبة لديه هو بحث معريف بل خالصة‬ ‫نفسه عفيفة‪ ،‬فال يقرتب‬ ‫هذا البحث وروحه‪ .‬يف ذاته كانت ُ‬ ‫من األضواء وال يبحث عن النجومية وال يأبه بأولئك الذين‬ ‫كان يدري أنهم يضيقون ذرعاً بأسئلته ونصه مثلام يضيقون‬ ‫ذرعاً بالقلق املعريف وهجر الطأمنينة إىل الشك والحرية‪.‬‬ ‫أملح إىل ذلك أكرث من صديق لعيل العندل ممن كتبوا عنه‬ ‫بعد رحيله‪ ،‬فقالوا إن البعض ممن كانوا يف أساس املشهد‬ ‫الشعري االمارايت قد تقصدّوا تجاهل الرجل‪.‬‬ ‫يف هذه األثناء كانت ساحة الشعر اإلماراتية قد شهدت‬ ‫وتشهد حراكاً شعرياً جديداً خاض غامره ما بات ُيعرف‬

‫بجيل التسعينيات‪ ،‬ذلك الجيل الذي‬ ‫نشأ وعيه وكذلك تبلورت أسئلته‬ ‫يف مدينة العني يف أروقة جامعة‬ ‫اإلمارات‪.‬‬ ‫كان العندل من نشطاء الطلبة‬ ‫مطلع الثامنينيات وميتلك كاريزما‬ ‫خاصة مؤثرة يف املحيطني به بحسب‬ ‫ما ذكر صديقه الراحل أحمد راشد‬ ‫ثاين الذي عرفه منذ تلك املرحلة‬ ‫عندما كتب عنه بعد رحيله املباغت‬ ‫ويتسم بحيوية فائقة وروح مبادرة‬ ‫ال تخلو من السخرية والدعابة‪،‬‬ ‫هو الطالب يف كلية اآلداب ‪ -‬قسم‬ ‫الفلسفة حينها‪ ،‬هذا الذي سوف‬ ‫يتخرج منه متسائ ًال ما الذي‬ ‫سيصنعه يف حياته اآلن إن عىل صعيد العمل والبحث عن‬ ‫أسباب الرزق أم عىل صعيد التساؤالت الشخصية امللحة‬ ‫معرفياً وفلسفياً‪.‬‬ ‫الجانب اآلخر الذي تربزه تلك الصور لعيل العندل‪ ،‬يتمثل‬ ‫يف عالقاته االجتامعية مع أصدقائه‪ ،‬يذكر هؤالء بأن الرجل‬ ‫طيب القلب وشديد النقاء رغم ميل شخصيته إىل النزق‪،‬‬ ‫هو الذي ميتلك جس ًام رياضياً طوي ًال بعضالت قوية‪ ،‬أيضاً‬ ‫كان صعلوكاً وفقاً للمعنى الجاهيل لكلمة الصعلكة‪ ،‬إذ كان‬ ‫خارجاً عىل السائد لكنه كريم النفس ومن ذلك النوع من‬ ‫الرجال الذين لديهم املقدرة عىل أن يوزعوا طيبة القلب‬ ‫عىل املحيطني بهم بأريحية غري منقوصة‪.‬‬ ‫بهذا‪ ،‬بالفعل كان يتمنى أن يكون‪« :‬غابة أشجارها أنا»‪.‬‬ ‫صبيحة الخامس من يونيو من العام ‪ ،2004‬آثر الشاعر عيل‬ ‫العندل ْأن ال يفيق من نومته‪.‬‬ ‫وأخرياً‪ ،‬مهام يكن من أمر‪ ،‬فام هو أكيد أن أحمد العندل‬ ‫ما كان إال واحداً من أبناء هذه الحياة وعشاقها الخاصني‬ ‫جداً‪ .‬إذ ّأن َّ‬ ‫كل ما حدث‪ ،‬وبحسب إحدى القصائد‪ ،‬هو أن‬ ‫«الحادي» قد تأخر قلي ًال خلف القافلة‪ ،‬لكنه َح ُلم فقط‬ ‫ومل ينم‪ ،‬يف حني أن القبيلة التي ظ ّل ْت متيش قد وصلت إىل‬ ‫الحضارة‪ّ ،‬‬ ‫وظل هو هناك يحلم‬

‫‪93‬‬


‫حائط أبيض‬

‫‪.‬‬

‫ّ‬ ‫الجراح‬ ‫نوري‬ ‫‪.............................................................................................................‬‬

‫الشاعر خارج المكان‬

‫رصف‬

‫العرب ونخبهم املثقفة القرن العرشين ك َّله يف تركيز جهدهم الفكري عىل تطوير نقاش سيايس‪ ،‬أساساً‪ ،‬يتصل مبسائل‬ ‫االستعامر والتحرر والتحرير‪ ،‬فرتاكمت من جراء ذلك خطابات يف الفكر غلب عىل ج ّلها التجريد‪ ،‬وعانت من رجحان أعامل‬ ‫التصور والتوهم بدالً من نحت تصورات وأفكار مستنبطة من التجربة‪ .‬وهو ما طبع الثقافة العربية‪ ،‬وطال اإلبداع األديب نفسه بل وتصوراتنا عنه‪.‬‬ ‫ومن دون أن نذهب بعيداً يف ما أنتجه هذا املنحى من خلل عام يف التفكري‪ ،‬نرجح أن يكون غياب االهتامم بالثقافة الجغرافية لدى العرب‬ ‫املعارصين‪ ،‬وضمناً الشعراء‪ ،‬أحد أبرز نتائج غلبة التجريد عىل الذهن العريب املفكر‪ ،‬وكذاعىل الثقافة الشعرية العربية‪ .‬إن القراءة املتمعنة يف‬ ‫اهتاممات الثقافة العربية الحديثة تكشف عن فقر مدقع يف امليول الجاملية والفكرية القامئة عىل املعرفة باألمكنة‪ ،‬وهذا يف حد ذاته انعكاس‬ ‫النرصاف ثقافتنا الحديثة عن التأمل يف املكان والحركة العابرة املكان‪.‬‬ ‫ولو حدث ودار جدل حول األمكنة‪ ،‬فإمنا يدور غالباً عىل صورها وتجلياتها يف أدب تبدو عالقته باملكان واهية من حيث هي وثيقة ومتينة مع‬ ‫األفكار والتصورات القامئة عىل شطح التفكري ومغامرات املخيلة‪ .‬ينطبق هذا عىل الرسديات كام ينطبق عىل الشعر‪ ،‬وعىل الفنون التشكيلية كام‬ ‫ينطبق عىل السينام التي تعترب يف معظم منتجها العريب أفكاراً نظمت يف قالب قصيص أكرث منها أعامالً سينامئية‪ ،‬وقصصاً عرثت لها‪ ،‬كيفام اتفق‪،‬‬ ‫عىل مسارح ألحداثها مل ترق إىل درجة األمكنة املنحوتة من مجموع الخربات العميقة املشتقة من املعرفة باملكان وحقائقه وجاملياته‪.‬‬ ‫وباملقدار نفسه تغيب املعرفة باآلخر‪ ،‬بعيداً وقريباً‪ ،‬ويحل محلها التوهم به‪.‬‬ ‫عىل رغم عالقته القوية بالسفر واألمكنة انرصف الشاعر العريب عموماً عن فكرة التأمل يف الجغرافيا يف وقت توفر التأمالت يف املكان‪ ،‬مبا هو بحث‬ ‫يف العامل وموجوداته واألرض وتضاريسها‪ ،‬والشعوب وأحوالها واختالفاتها‪ ،‬واملجتمعات ودرجات تطورها‪ ،‬والحضارات ومنجزاتها وأسئلتها‪ ،‬إلخ‪ ..‬توفر‬ ‫هذه الثقافة معرفة ملموسة بالعامل‪ ،‬باليابسة واملياه‪ ،‬بالظواهر الطبيعية والظواهر االجتامعية‪ ،‬باألبعاد واملسافات‪ ،‬وبالعادات والتقاليد واملميزات‬ ‫الخاصة بالناس وحضاراتهم‪ .‬ومن ثم بالحركة والتطلع اإلنسانيني عىل اختالفهام اختالف األمكنة‪ ،‬واختالف األزمان‪ .‬وهذه أساساً مادة الشاعر‪.‬‬ ‫ولعل األسباب نفسها التي رجحت عمل التجريد يف الفكر عىل الفكر القائم عىل التجارب ما تزال ماثلة يف الخلل الحاصل يف عالقة العريب املعارص‬ ‫باملكان‪ .‬فهو مكان ليستهلك ال ليعاش فيه‪ ،‬ومكان لتسرتيح فيه النفس املنهكة ال ليشهد مغامراتها يف البحث والقراءة ونيل متعة اكتشاف ما مل‬ ‫يكتشف‪ ،‬مكان للجوء‪.‬‬ ‫ً‬ ‫هل يكفي يف حالة كهذه أن نستنتج أن العريب غري حضاري؟ ال ينفع‪ .‬لكن ميكن القول أن العريب املعارص غري متمكن من ذاته أوال‪ ،‬غري حر كنفس‪،‬‬ ‫غري محرتم ككائن صاحب حق يف االختيار‪ ،‬وبالتايل غري مسيطر عىل ذاته‪ ،‬وغري مم َّك ٍن له يف األرض‪ .‬فهو مستهلك‪.‬‬ ‫لكن مل أعرتف بهذا؟‬ ‫عىل األرجح ألمتكن من اإلشارة إىل أن شعر الشعراء العرب املهاجرين هو يف معظمه شعر خارج املكان‪ ،‬وبالتايل خارج اإلمكانات املذهلة التي‬ ‫ميكن أن تولدها عالقة مبدعة مع املكان‪/‬املهجر بصفته أرض عالقة كبرية مع االشياء‪ ،‬أرض تحقق إنساين يومي حر ومفتوح عىل الشساعة اإلنسانية‪.‬‬ ‫الشاعر العريب املهاجر يعيش داخل كتاب ثقافته املغلق عىل ذات جريحة‪.‬‬ ‫وال أجد يف ذلك أي غرابة‪.‬‬ ‫يسافر العريب املعارص من بالده ليجد حريته كنفس بني نفوس أخرى غريبة ومختلفة‪ ،‬فتشغله ذاته الجائعة إىل الحياة عن أي يشء آخر‪ ،‬فال يدرك‬ ‫من االختالف إال درجاته الدنيا‪ .‬يهجر عاملاً مل يتمتع به‪ ،‬ومدنا ولد فيها ومل يكتشفها‪ ،‬وطبيعة ال عهد لها بجاملها‪ ،‬فلم تحفظ ذاكرته منها إال سطوح‬ ‫الصور‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فبأي لغة أو حواس أو استعداد سيقرأ العريب غدا‪ ،‬بينام هو يعرب من أرض اإلستبداد إىل فضاء الحرية‪ ،‬سطور الوجود اإلنساين يف عامل حل فيه‪ ،‬ومل‬ ‫يتوقف عن الحلم بتغيريه؟‬ ‫‪94‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫مختارات‬

‫الزيت‬ ‫أيتها العتم ُة‪ ،‬يا‬ ‫ُ‬ ‫بضياء المصابيح‬ ‫السخي‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬

‫الشعر الكوري‬

‫المعاصر‬

‫اختارها وترجمها عن اإلنكليزيّ ة‪ :‬تحسين الخطيب‬ ‫‪95‬‬


‫مختارات‬

‫ُتش ْو يوهان ‪)1980-1900( Chu Yohan‬‬

‫الصني واليابان‪ .‬كان كتابه‪ ،‬الفجر‬ ‫ولد يف كوريا الشاملية‪ .‬نال تعليمه يف ّ‬ ‫الجميل‪ ،‬الصادر يف ‪ ،1924‬واحدًا من عرشة كتب شعر ّية تنرش يف كوريا‬ ‫يف القرن العرشين‪ .‬عمل مح ّرراً ملجلة "إبداع"‪ ،‬أ ّول مجلة أدب ّية كور ّية‪.‬‬ ‫كام كان يف طليعة حركة األدب الجديد‪ .‬منحته الحكومة‪ ،‬بعد وفاته‪،‬‬ ‫أرفع أوسمتها—وسام "زهرة شارون"‪ :‬الزهرة األبد ّية‬

‫ألعاب نار ّية‬

‫آ ِه‪ّ ،‬إن النها َر ّميحقُ ‪ ،‬يف السام ِء الغربي ِة‪َ ،‬‬ ‫فوق النه ِر الوحي ِد‪ ،‬والوهَ ُج‬ ‫ال َقرنف ُّ‬ ‫الشمس‪ ،‬ح َ‬ ‫يل يتالىش ‪ . . .‬آ ِه‪ ،‬ح َ‬ ‫الشمس‪،‬‬ ‫تغرب‬ ‫تغرب‬ ‫ني ُ‬ ‫ني ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫سيعو ُد ُ‬ ‫سأنتحب وحيدًا َ‬ ‫أسفل شجر ِة‬ ‫الليل بال خرسانٍ ‪.‬‬ ‫املشمش‪ ،‬لكنّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫اليو َم ثامنُ‬ ‫يستطيع إخام َد‬ ‫بقدوم األعيا ِد‪َ ،‬ف ِل َم أنا الوحيدُ الذي ال‬ ‫وصوت الحش ِد الذي يغم ُر الجاد َة ينذ ُر‬ ‫نيسان‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫تتفج ُر يف قلبي؟‬ ‫الدموع التي ّ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫يرقص‪ .‬ناظرا من ب ّواب ِة القلع ِة الصامت ِة‪ ،‬عب ِري املا ِء‪ ،‬عب ِري ال ّرملِ ‪،‬‬ ‫يرقص‪ُ ،‬‬ ‫الدم األحم ُر‪ ،‬إ ّن ُه ُ‬ ‫يرقص‪ ،‬إ ّن ُه ُ‬ ‫آ ِه‪ ،‬إ ّن ُه ُ‬ ‫لهيب ِ‬ ‫ُ‬ ‫تعض َ‬ ‫تعض السام َء‪ ،‬كام لو أ ّنها ال تزال جائعة— ُّ‬ ‫الليل‪ُّ ،‬‬ ‫ني الشعل ُة— وهي ُّ‬ ‫ح َ‬ ‫متوحدٌ‬ ‫فتى ّ‬ ‫تعض لحمها ومتزّقهُ‪ً ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫األزرق يف النه ِر‪ ،‬ولكن‪ ،‬هل ستعلقُ‬ ‫األمواج القاسية ظله يف تد ّف ِق املا ِء؟ آ ٍه‪ ،‬ال‬ ‫حلم أمس ِه‬ ‫قلب‬ ‫أثق َل ُه ٌ‬ ‫ُ‬ ‫محزون‪ ،‬يرشقُ َ‬ ‫طفت‪ ،‬لكنّ فكر َة رحيلِ ح ّبي ُ‬ ‫زهر َة ظ ّل ْت َ‬ ‫ني ُق ْ‬ ‫دون ذبولٍ ح َ‬ ‫يتوجب فعلهُ‪،‬‬ ‫تقتل الحيا َة يف قلبي‪ .‬آ ٍه‪ ،‬حسناً‪ ،‬ما الذي ّ‬ ‫هل ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ذهبت‬ ‫ني‪،‬‬ ‫هيب؟‬ ‫أذبح هذا‬ ‫أحرق هذا َ‬ ‫القلب‪ ،‬هل ُ‬ ‫ِ‬ ‫باألمس‪ ،‬م ّر ًة أخرى‪ ،‬وأ ّنا أج ّر ّ‬ ‫الحزن بهذا ال ّل ِ‬ ‫قدمي املؤملت ِ‬ ‫الحب ثاني ًة؟ آ ِه‪،‬‬ ‫إىل قربها ألج َد األزها َر التي بدّدها الشتا ُء وقد‬ ‫ِ‬ ‫ربيع ِّ‬ ‫اعم محتجب ٍة‪ .‬هل يعو ُد ُ‬ ‫أفسحت الطريقَ لرب َ‬ ‫بقلبي ا ُملع ّرى رصاح ًة‪ ،‬هذ ِه ال ّليل ِة‪ ،‬يف هذا املا ِء ‪ . . .‬يشفقُ ع ّ‬ ‫يل أحدٌ ما ‪ . . .‬حينئ ٍذ‪ُ " :‬ت ْو ْن ْغ!"‪َ " ،‬تا ْن ْغ!"‪ ،‬الشموعُ‬ ‫ربمّ ا— َ‬ ‫اعم نار ّي ًة‪ ،‬لقد أفزعتني َف َرد َّْت عقيل إ ّيل‪ّ ،‬‬ ‫صخب النّاظرينَ يسخ ُر منّي‪ ،‬كأ ّنه ُيعنّفني‪.‬‬ ‫كأن‬ ‫َ‬ ‫الرومان ّي ُة تنفج ُر‪ ،‬تن ُّز بر َ‬ ‫آ ِه‪ّ ،‬‬ ‫العميق أريدُ أن أحيا‪ ،‬حتّى لَ ْو ُ‬ ‫ات االختناقِ بألسن ِة‬ ‫غف‬ ‫بالش ِ‬ ‫لهيب ُي ْو ْن‪ ،‬حتّى يف َس َكر ِ‬ ‫ِ‬ ‫غرقت يف الدّخانِ كألسن ِة ِ‬ ‫هيب‪ ،‬أريدُ حيا ًة محتدم ًة‪ ،‬وألاّ‬ ‫َ‬ ‫نشيج قلبي ‪. . .‬‬ ‫يكون ُ‬ ‫نشيج ِ‬ ‫ال ّل ِ‬ ‫القلب الفجا ُّيئ سوى ِ‬ ‫ُ‬ ‫ريح َ‬ ‫أبريل الدّافئ ُة ع َرب النه ِر‪ ،‬عال ًيا َ‬ ‫وح َ‬ ‫رب ق ّم ِة جبلِ ُمور َان‪،‬‬ ‫يتاميل حشدٌ‬ ‫برج ُت ْشو ْن ْغ ِن ُيو‪ُ ،‬ق َ‬ ‫ني تهرعُ ُ‬ ‫فوق ت ّل ِة ِ‬ ‫الس ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫غسقي‪ِّ ،‬‬ ‫األمواج ّ‬ ‫الخائف يف ال ّرمالِ ‪،‬‬ ‫مك‬ ‫هيب‬ ‫تحرتق‬ ‫رياح‬ ‫وبكل‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫بضحك مجنونٍ ‪ ،‬ويحتمي ّ‬ ‫ٌّ‬ ‫املخضب ُة بال ّل ِ‬ ‫عصف ٍ‬ ‫ً‬ ‫دائخ— ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ظالل َت ُ‬ ‫ضحك صاع ٍد‬ ‫رمش‪ ،‬رن ُني‬ ‫بإيقاع‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ب‬ ‫وذها‬ ‫ة‬ ‫جيئ‬ ‫‪،‬‬ ‫أشكال‬ ‫وتخب‬ ‫‪،‬‬ ‫فائن‬ ‫الس‬ ‫ّمات‬ ‫د‬ ‫مق‬ ‫األمواج‬ ‫تصفع‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ ِ‬ ‫ٍ ٍ‬ ‫ؤوس‪ِ " ،‬ك ْي َسا ْن ْغ" ٌ‬ ‫َ‬ ‫مصابيح مع ّلق ٍة َ‬ ‫تقدح ّ‬ ‫الشبقَ‬ ‫تصدح بأعىل صوتها‪،‬‬ ‫طفلة‬ ‫أسفل‬ ‫ُ‬ ‫األلعاب النار ّي ُة التي ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫فوق ال ّر ِ‬ ‫الفجا َّيئ قد م ّل ِت َ‬ ‫ثم أخرى‪ْ ،‬مل ُيع ِد الخم ُر األبديُّ ذا حفاو ٍة‪ ،‬مستلقياً‪ ،‬خام ًال‪ ،‬يف قع ِر‬ ‫كأس‪ّ ،‬‬ ‫كأس واحد ٌة‪ّ ،‬‬ ‫ثم ٌ‬ ‫اآلن‪ٌ ،‬‬ ‫قرع ّ‬ ‫ٌ‬ ‫الطبولِ املتواصلِ ‪ٌ ،‬‬ ‫َ‬ ‫عيني‪ ،‬منهك َ‬ ‫يقفزون من‬ ‫رجال بعيونٍ شهوان ّي ٍة‬ ‫القارب‬ ‫الوسخ‪ ،‬دموعٌ‬ ‫خاملة ُتح ّم ُر ّ‬ ‫ِ‬ ‫ني من ِ‬ ‫ِ‬ ‫ني ّ‬ ‫ْ‬ ‫الشموعُ املحترض ُة التي ُت ْ‬ ‫القارب‪ ،‬غري قادرينَ عىل احتاملِ شهوتهم الهائج ِة من جدي ٍد‪ ،‬ح َ‬ ‫نعست‬ ‫ركت خلفنا قد‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫يضغط بش ّد ٍة عىل قلبي‪.‬‬ ‫الصوت قد د َّ​َل عىل يش ٍء‪ ،‬ما ز َال‬ ‫القوارب‪ ،‬كام لَ ْو ّأن‬ ‫ر‬ ‫ورصي‬ ‫‪،‬‬ ‫ة‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫املج‬ ‫ري‬ ‫ّنان‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫هدب‬ ‫ِ ّ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫عىل ِ‬ ‫***‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الضح ُك الذي يضحك ُه النه ُر الجليديُّ وهو ينظ ُر عالياً إىل سام ِء‬ ‫تضحك‪،‬‬ ‫آ ٍه‪ّ ،‬إن ميا َه النه ِر‬ ‫تضحك ضحكا غريبا‪ ،‬هُ َو ّ‬ ‫‪96‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫الشعر الكوري المعاصر‬

‫يرص عن َد ّ‬ ‫يقرتب ‪. . .‬‬ ‫ريح‪،‬‬ ‫يقرتب‪ّ ،‬إن‬ ‫دامس‪ .‬آ ِه‪ّ ،‬إن‬ ‫القارب ُ‬ ‫ُ‬ ‫القارب ُ‬ ‫القارب ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫يقرتب‪ ،‬حزيناً‪ ،‬حزيناً ُّ‬ ‫عتم ٍ‬ ‫كل ه ّب ِة ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الطريق إىل جزير ِة ُن ْو ْن ْغنَا النامئ ِة‪َ ،‬‬ ‫هناك‪ ،‬يف املساف ِة‪ُ .‬شقَّ‬ ‫ات َتا ْيدُ ْو ْن َغ الخاطف ِة‪.‬‬ ‫ج ّذ ِف‬ ‫القارب‪ ،‬عىل طولِ‬ ‫عباب ت ّيار ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫قاربك نح َو الت ّلة متاماً‪ُ ،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫حيث ُ‬ ‫الريح البارد ِة التي تصعدُ يف يقظ ِة املا ِء؟ ماذا‬ ‫تقف‬ ‫أَ ِدر‬ ‫حبيتك حافية‪ ،‬تنتظ ُر‪ .‬ماذا ِ‬ ‫عن ِ‬ ‫الحب‪ ،‬ال ضيا َء َ‬ ‫دون ظاللٍ ‪.‬‬ ‫لفتى‬ ‫القلب‬ ‫الضحك‬ ‫عن َدوِيِّ‬ ‫محروم من ِّ‬ ‫ِ‬ ‫الغريب؟ وماذا— من أجلك— ِ‬ ‫املعتم ً‬ ‫عن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫عينيك‪،‬‬ ‫اوين‪،‬‬ ‫يقينك هذا‪ .‬آ ٍه‪ ،‬آه‪ ،‬أحرق‪ ،‬أحرق! يف هذه ال ّليل ِة! شعلت َ​َك الحمرا َء‪،‬‬ ‫آ ِه‪ ،‬ال تهجر نها َر‬ ‫شفتيك الحمر ِ‬ ‫َ‬ ‫ودموعك الحمراء ‪. . .‬‬

‫الحياة‪ ،‬املوت‬

‫شمس ٌ‬ ‫غارقة‪ ،‬بح ٌر‬ ‫الحيا ُة ٌ‬ ‫منَ الد ِّم‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫صاخبة‪.‬‬ ‫سام ٌء شديد ٌة‬ ‫ُ‬ ‫سديم‬ ‫املوت فج ٌر‪ٌ ،‬‬ ‫شاحب‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫الصباح‪.‬‬ ‫ببياض‬ ‫أنفاس نق ّي ٌة‪ ،‬مكس ّو ٌة ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫شمعة ر ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫امشة‪.‬‬ ‫الحيا ُة‬ ‫ماسة ٌ‬ ‫املوت ٌ‬ ‫ُ‬ ‫المعة‪.‬‬ ‫الحيا ُة كوميديا أحزانٍ ‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫جميلة‪.‬‬ ‫املوت تراجيديا‬ ‫َ‬ ‫ح َ‬ ‫األمواج الهائج ُة‬ ‫الجبل‬ ‫تبتلع‬ ‫ني ُ‬ ‫ُ‬ ‫تنتحب َ‬ ‫فوق الصاري ِة‪،‬‬ ‫الريح‬ ‫ُ‬ ‫مرث ّي ُة ِ‬ ‫صوت‬ ‫ثلوج ليلٍ تتكد ُّس بال ٍ‬ ‫يف ِ‬ ‫يش تطلقُ ضحكتها التّام َة‪.‬‬ ‫أشع ُة القم ِر املكس ِّو ُة بال ّر ِ‬ ‫املوت‪.‬‬ ‫صوب ِ‬ ‫الحيا ُة طريقٌ يتح ّد ُر َ‬ ‫ُ‬ ‫املوت فج ُر حيا ٍة جديد ٍة‪.‬‬ ‫آ ِه‪ُ ،‬‬ ‫بإحكام‬ ‫املوت املعقو ُد‬ ‫خيط ِ‬ ‫ٍ‬ ‫بريقٌ‬ ‫فيض الحيا ِة القاسية‪.‬‬ ‫قديس‬ ‫ٌ‬ ‫مطروح عىل ِ‬ ‫ٌّ‬

‫صوت املطر‬

‫املط ُر ينهم ُر‪.‬‬ ‫يفر ُد ُ‬ ‫الليل َ‬ ‫ريش ُه عىل مهل ِه‪،‬‬ ‫ويهمس املط ُر يف الباح ِة‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫كصيصان صغري ٍة تسقسقُ ُخفي ًة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫املحاق خيطاً رفيعاً‪،‬‬ ‫كان القم ُر‬ ‫َ‬ ‫نسيم دافئٌ يف األسفلِ‬ ‫وكان ٌ‬

‫كام لو َ‬ ‫وشك أن َ‬ ‫النجوم‪.‬‬ ‫يفيض من‬ ‫كان‬ ‫ُ‬ ‫الربيع عىل ِ‬ ‫ِ‬ ‫املعتم‪.‬‬ ‫لكنّ املط َر ينهم ُر اليو َم عىل هذا الليلِ‬ ‫ِ‬ ‫ّإن املط َر ينهم ُر‪.‬‬ ‫كضيف ودو ٍد‪ ،‬ينهم ُر املط ُر‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫أفتح النافذة يك أح ّيي ِه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الهمس‪ ،‬ينهم ُر املط ُر‪.‬‬ ‫لك ّن ُه مخبو ٌء يف‬ ‫ِ‬ ‫ّإن املط َر ينهم ُر‬ ‫طح‪.‬‬ ‫يف الباح ِة‪َ ،‬‬ ‫خارج النافذ ِة‪ ،‬عىل ّ‬ ‫الس ِ‬ ‫غارساً يف قلبي‬ ‫أخباراً سا ّر ًة ال أح َد يعرفها‪ّ ،‬إن املط َر ينهم ُر‬ ‫كيم سوول ‪)1934-1902( Kim Sowol‬‬ ‫اسمه الحقيقي كيم جونغ‪-‬سيك ‪.‬كتب شعره بأسلوب‬ ‫الشعبي الكوريّ التقليديّ ‪ ،‬فعرف بـ "شاعر‬ ‫يحايك الغناء‬ ‫ّ‬ ‫الشعبي"‪ .‬مل ينرش‪ ،‬يف حياته‪ ،‬سوى مجموعة‬ ‫الغناء‬ ‫ّ‬ ‫شعر ّية وحيدة‪ ،‬أضاليا‪ ،‬والتي كتبها يف سنّ املراهقة‪ .‬قيل‬ ‫إ ّنه قتل نفسه بجرعة زائدة من األفيون‬

‫أضاليا‬

‫ني تذهب َ‬ ‫ح َ‬ ‫ني بعيدًا‬ ‫ً‬ ‫ضجرة من رؤيتي‪،‬‬ ‫سأتركك تذهب َ‬ ‫كلامت‪.‬‬ ‫ني بال عن ٍَت‪ ،‬بال‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫من جبلِ َي ْ‬ ‫اك يف ُي ْو ْن ْغ َبا ْي ْونْ‬ ‫ُ‬ ‫ني‬ ‫سأقطف أزها َر أضاليا‪ ،‬مل َء ال ّذراع ِ‬ ‫طريقك‪.‬‬ ‫وأنرثها يف‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫خطو ًة خطوة بعيدًا‬ ‫أمامك‪،‬‬ ‫عىل األزها ِر املستلقي ِة‬ ‫ِ‬ ‫‪97‬‬


‫مختارات‬

‫ن ّقيل ُ‬ ‫الخطا رويدًا‪ ،‬عمي ًقا‪ ،‬واذهبي‪.‬‬ ‫ني تذهب َ‬ ‫ح َ‬ ‫ني بعيدًا‪،‬‬ ‫ضجر ًة من رؤيتي‪،‬‬ ‫أموت؛ كلاّ ‪ ،‬لن َ‬ ‫رغم إ ّنني ُ‬ ‫أذرف دمع ًة واحدة‪.‬‬ ‫َ‬

‫الذهبي‬ ‫املرج‬ ‫ّ‬

‫املرج‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫املرج‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الذهبي‪:‬‬ ‫املرج‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫تشتعل‪،‬‬ ‫عمي ًقا‪ ،‬عمي ًقا‪ ،‬يف الجبالِ نا ٌر‬ ‫الذهبي َ‬ ‫حول ق ِرب حبيبي‪.‬‬ ‫املرج‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫الربيع‬ ‫الربيع‪ ،‬جا َء ضيا ُء‬ ‫هَ ا قد جا َء‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫اف أغصانِ السرّ و ِة التي كالخيوطِ ‪.‬‬ ‫حتّى إىل أطر ِ‬ ‫الربيع‬ ‫الربيع جا َء‪ ،‬جا َء نها ُر‬ ‫ضيا ُء‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫عمي ًقا‪ ،‬عمي ًقا يف الجبالِ‬ ‫الذهبي‪.‬‬ ‫املرج‬ ‫ّ‬ ‫إىل ِ‬

‫أزهار الجبل‬

‫تتفت ُّح األزها ُر عىل الجبلِ ‪،‬‬ ‫ّإن األزها َر تتفت ُّح‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫والصيف يف ّ‬ ‫والربيع‬ ‫الخريف‬ ‫كل مكانٍ‬ ‫ُ‬ ‫ّإن األزها َر تتفت ُّح‪.‬‬ ‫عال ًيا َ‬ ‫فوق الجبلِ ‪،‬‬ ‫عال ًيا عىل الجبلِ‬ ‫تتفت ُّح األزها ُر‬ ‫قص ّي ًة‪ ،‬يف األقايص‪.‬‬ ‫عصفو ٌر صغ ٌري أوحدٌ‬ ‫يغنّي عالياً َ‬ ‫فوق الجبلِ ‪،‬‬ ‫صديقُ األزها ِر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يعيش عىل الجبلِ ‪.‬‬ ‫األزها ُر عىل الجبلِ‬ ‫تسقط‪ ،‬األزها ُر تسقط‪ُ.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫والصيف والشتا ُء يف ّ‬ ‫الربيع‬ ‫كل مكانٍ‬ ‫ُ‬ ‫األزها ُر تسقطُ‬ ‫‪98‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫هان يونغ ون ‪(1944- 1879) Han Yong’un‬‬ ‫عرف باسمه البوذيّ ‪ :‬مانهاي‪ .‬كان عض ًوا فاع ًال يف "جيوش‬ ‫الحقّ "‪ ،‬الذراع العسكر ّية لحركة املقاومة الشعب ّية التي‬ ‫حاربت االستعامر اليابا ّين‪ .‬و ّقع يف العام ‪ ،1919‬رفقة‬ ‫‪ 33‬آخرين‪ ،‬بصفتهم مم ّثلني للشعب الكوري‪ ،‬الوثيق َة‬ ‫التاريخ ّية التي أعلنت استقالل كوريا عن االستعامر‬ ‫اليابا ّين— فسجن‪ ،‬إثر ذلك‪ ،‬ثالث َة أعوام‪ .‬كتب يف السجن‬ ‫ثم كتب بالكورية سلسلة‬ ‫سلسلة قصائد بالصين ّية‪ّ .‬‬ ‫أخرى‪ ،‬بعد إطالق رساحه‪ ،‬نرشها تحت عنوان‪" :‬صمت‬ ‫الحب" يف العام ‪ .1926‬تعكس أبياته الشعرية وجمله‬ ‫الطويلة تأثره بشعر طاغور الذي نقله إىل الكورية‬ ‫الشاعر كيم أوك وآخرون‪ .‬ترت ّكز قصائده حول التأمل‬ ‫رس التجربة اإلنسان ّية‪.‬‬ ‫الفلسفي للطبيعة‪ ،‬و ّ‬ ‫ّ‬

‫فنّان‬

‫رس ٌام أخرق‪.‬‬ ‫أنا ّ‬ ‫فوق صدري يخطُّ‬ ‫مستلق ًيا يف الرسي ِر‪ ،‬يجافيني النّو ُم‪َ ،‬‬ ‫شفتيك‪ ،‬وحتّى‬ ‫أنفك‪،‬‬ ‫اصبعي‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫أرسم ِ‬ ‫وجنتيك‪.‬‬ ‫ني تطفرانِ يف‬ ‫ِ‬ ‫غماّ ِ‬ ‫زتيك ال ّلت ِ‬


‫الشعر الكوري المعاصر‬

‫أحاول َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ترفرف‬ ‫خط االبتسام ِة الواهي ِة التي‬ ‫ثم‪ ،‬وأنا‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ات‪.‬‬ ‫حول‬ ‫مئات امل ّر ِ‬ ‫أمسدها ِ‬ ‫ِ‬ ‫عينيك‪ّ ،‬‬ ‫لست ُمغنّياً ر ً‬ ‫ُ‬ ‫اسخا‪.‬‬ ‫جميع الجريانِ إىل بيوتهم وبكا ُء‬ ‫بع َد أن عا َد‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ات َسك ْت‪ُ ،‬‬ ‫كنت‬ ‫الحرش ِ‬ ‫وشك أن أغنّي األغني َة التي ع ّلم ِتنيها ح َ‬ ‫ني‬ ‫عىل ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّاعس‪ ،‬فلم أجرؤ؛‬ ‫خجلت من القط الن ِ‬ ‫الريح العابر ُة ورق َة‬ ‫هكذا‪ ،‬حني طيرّ ِت ُ‬ ‫الباب‪ُ ،‬‬ ‫دلفت إىل الدّاخلِ ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ال يبدو ّأن لديَّ مزايا شاع ٍر غنا ّيئ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫"الحب"‪:‬‬ ‫"الحزن"‪،‬‬ ‫"الفرح"‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫أكتب عن َ‬ ‫تلك األشيا ِء‪.‬‬ ‫ال أريدُ أن َ‬ ‫أكتب‬ ‫وجه ُِك‪ ،‬صو ُت ِك‪ ،‬عربت ُِك‪ ،‬أريدُ أن َ‬ ‫هي؛‬ ‫عن هذ ِه األشيا ِء كام َ‬ ‫عن‬ ‫بيتك‪،‬‬ ‫كام أريدُ أن َ‬ ‫ِ‬ ‫أكتب عن ِ‬ ‫رسيرك‪ ،‬حتّى ِ‬ ‫أزهارك‪.‬‬ ‫الحىص الصغ ِري يف حديق ِة‬ ‫ِ‬

‫الز ُ‬ ‫ّورق النهريّ واملسافر‬

‫أنا الز ُ‬ ‫ّورق النهريُّ‬ ‫وأنت املساف ُر‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ني ع َّ‬ ‫متش َ‬ ‫ني‪،‬‬ ‫ني موحلت ِ‬ ‫يل بقدم ِ‬ ‫أحضنك وأع ُرب املا َء‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ني أض ّم ِك‪ ،‬أع ُرب امليا َه العميق َة أ ِو ّ‬ ‫ح َ‬ ‫الضحل َة‬ ‫الساقطة‪.‬‬ ‫أو املنحدر ِ‬ ‫ات النهر ّي َة ّ‬

‫ني ال تأتنيَ‪ ،‬أنتظ ُر من املسا ِء حتّى الفج ِر‪ ،‬مزدرياً‬ ‫ح َ‬ ‫الريح البارد َة‪َ ،‬‬ ‫الثلج واملط ِر؛‬ ‫َ‬ ‫بلل ِ‬ ‫َآن تعربينَ املا َء َ‬ ‫دون أن تنظري‬ ‫إ ّيل‪.‬‬ ‫ليس‪ُ ،‬‬ ‫أعرف أ ّن ِك ستأتنيَ‪ ،‬عاجلاً أو آجلاً ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫يوم أهر ُم‪.‬‬ ‫وأنا يف‬ ‫ِ‬ ‫انتظارك‪ ،‬يو ًما بع َد ٍ‬ ‫أنا الز ُ‬ ‫ّورق النهريُّ‬ ‫وأنت املساف ُر‪.‬‬ ‫ِ‬

‫ملستك‬ ‫ِ‬

‫حبيبك أح ُّر من النا ِر التي َ‬ ‫تذيب الفوال َذ‪،‬‬ ‫فيام‬ ‫سوف ُ‬ ‫ِ‬ ‫ملستك بادر ٌة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫وفيام ُ‬ ‫قابلت أشيا َء بارد ًة يف هذا العاملِ‪ ،‬مل أقابل‬ ‫ملستك‪.‬‬ ‫أيَّ يش ٍء أبر َد من‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫وهي‬ ‫الخريف أبر َد من‬ ‫ريح‬ ‫ِ‬ ‫ليست ُ‬ ‫ِ‬ ‫ملستك َ‬ ‫تخشخش األور َ‬ ‫ُ‬ ‫الساقط َة عىل‬ ‫اق ّ‬ ‫ُ‬ ‫صقيعي ح َ‬ ‫األقحوان‪.‬‬ ‫ني يتفت ُّح‬ ‫صباح‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫لج املك ّو ُم عال ًيا َ‬ ‫فوق جلي ِد ليلِ شتا ٍء‬ ‫حتّى ال ّث ُ‬ ‫ني ُ‬ ‫ملستك‪ ،‬ح َ‬ ‫يكون القم ُر صغ ًريا‬ ‫ليس أبر َد من‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫رماح الضيا ِء‪.‬‬ ‫والنجو ُم ُ‬ ‫َ‬ ‫واملنعش كالنّدى‪،‬‬ ‫طقس الس ّي ِد‪ ،‬البار َد‬ ‫وال َ‬ ‫ملستك‪.‬‬ ‫أبر َد من‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫يحرتق‬ ‫هيب الذي‬ ‫ملستك‬ ‫وحدها‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫تستطيع اخام َد ال ّل ِ‬ ‫ني‪.‬‬ ‫يف َ‬ ‫قلبي املسك ِ‬

‫‪99‬‬


‫مختارات‬

‫يستطيع‬ ‫قلبي ميز ُان الحرار ِة الوحيدُ الذي‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ملستك‪.‬‬ ‫قياس حرار ِة‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫فيستطيع‬ ‫حبيبك أح ّر من النّا ِر‪ ،‬أش ّد حرار ًة‬ ‫وفيام‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫إحر َ‬ ‫اق‬ ‫جبلٍ من حنانٍ ‪ّ ،‬‬ ‫ني‪،‬‬ ‫ينش ُف بح ًرا من حن ٍ‬ ‫تقاس‪.‬‬ ‫ملست ُِك بارد ٌة ال ُ‬

‫ِي ُيوكسا ‪(1944- 1904) Yi Yuksa‬‬ ‫كان فاع ًال يف حركة املقاومة الوطن ّية الكور ّية أثناء‬ ‫االستعامر الكولونيا ّيل اليابا ّين‪ .‬اعتقل عدّة م ّرات‪ .‬مات يف‬ ‫سجن يابا ّين يف ب ّكني‪ .‬نرش كتابه الوحيد‪" ،‬قصائد يوكسا"‪،‬‬ ‫يف العام ‪1946‬‬

‫شفق‬

‫الحب‬ ‫أزيح ستائ َر غرفتي الخلف ّي ِة‬ ‫بواعث ّ‬ ‫ُ‬ ‫ليس عب ًثا أنيّ‬ ‫ألح ّيي ّ‬ ‫أحبك‪:‬‬ ‫الشفقَ‬ ‫مخلص‪.‬‬ ‫بقلب‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ني ال تعشقُ‬ ‫فح َ‬ ‫ني—‬ ‫األخريات سوى‬ ‫كنوارس املحيطِ البيضا َء‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫وجنتي املتو ّردت ِ‬ ‫ُ‬ ‫تعشق َ‬ ‫ني‬ ‫اإلنسان سوى مخلوقٍ وحيد‪.‬‬ ‫ما‬ ‫الشفقُ ‪ ،‬ذر َ‬ ‫افتح‪ ،‬أ ّيها ّ‬ ‫حتّى شعريَ األبيض‪.‬‬ ‫ني عىل ا ّتساعهام‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫اعيك ال ّرقيقت ِ‬ ‫ليس عب ًثا ُ‬ ‫َ‬ ‫إليك‪:‬‬ ‫إليك بحر ّي ٍة‪.‬‬ ‫أتوق ِ‬ ‫َ‬ ‫ني تصالن ِ‬ ‫لتجعل َّ‬ ‫شفتي املحرتقت ِ‬ ‫َ‬ ‫وإىل ّ‬ ‫ُ‬ ‫ني ال تعشقُ‬ ‫األخريات سوى ضحكتي— تعشق َ‬ ‫فح َ‬ ‫ني‬ ‫عناقك‬ ‫كل يش ٍء يف‬ ‫دعني ُ‬ ‫حتّى‬ ‫أرسل قباليت‪.‬‬ ‫دموعي‪.‬‬ ‫اإلثني عرش‪،‬‬ ‫إىل‬ ‫النجوم الوامض ِة لألبر ِاج ّ‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫إىل الهدو ِء ُ‬ ‫أنتظرك‪:‬‬ ‫ليس عب ًثا‬ ‫صامتة‪،‬‬ ‫اس‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫يركض عمي ًقا يف الغاب ِة‪ ،‬واألجر ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ني ال تعشقُ‬ ‫األخريات سوى عافيتي— تعشق َ‬ ‫فح َ‬ ‫اإلسمنت‪،‬‬ ‫كثريون هم عىل أرض ّي ِة‬ ‫ني‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ني حتّى إىل املساج ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫مويت‪.‬‬ ‫ارتعاشها‪،‬‬ ‫ترتعش‪ ،‬وال أح َد يشاركو َن ُه‬ ‫قلوبهم‬ ‫إىل القوافلِ التي تع ُرب صحرا َء ُغوْبيِ بالجاملِ ‪ ،‬أ ْو‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫نسبة معكوسة‬ ‫إىل الس ّكان األصل ّي َ‬ ‫السها َم يف أدغالِ إفريقيا‪،‬‬ ‫ني‬ ‫يقذفون ّ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫إ ّيها ّ‬ ‫"صمت"؟‬ ‫صوتك‬ ‫هل‬ ‫قيق‪،‬‬ ‫الشفقُ ‪ُ ،‬ردَّ‪ ،‬يف‬ ‫ِ‬ ‫عناقك ال ّر ِ‬ ‫َ‬ ‫ني ال تغ ّن َ‬ ‫ح َ‬ ‫أسمع لحنَ‬ ‫ني‪.‬‬ ‫ني أغني ًة ُ‬ ‫نصف ِ‬ ‫األرض إىل َّ‬ ‫شفتي املحرتقت ِ‬ ‫غرفتي الخلف ّي ُة يف أ ّيا َر ٌ‬ ‫واضحا!‬ ‫دافئة ح ًّقا‪.‬‬ ‫أغنيتك ً‬ ‫ِ‬ ‫ثاني ًة‪ ،‬أ ّيها ّ‬ ‫صوتك صمت‪.‬‬ ‫الشفقُ ‪ ،‬سرتاين أشقُّ هذي‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫"عتمة"؟‬ ‫وجهك‬ ‫هل‬ ‫الستار َة الزّرقا َء غدًا‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ح َ‬ ‫واضحا!‬ ‫عيني أرى‬ ‫ني‬ ‫متالش ًيا يف ُح ُج ٍب كقرقر ٍة الغدي ِر‪،‬‬ ‫وجهك ً‬ ‫ِ‬ ‫أغمض َّ‬ ‫َآن تربدُ‪ ،‬ال ُ‬ ‫أعرف َ‬ ‫وجهك عتمة‪.‬‬ ‫كيف أعو ُد ثاني ًة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫هل ظ ّل ِك َ‬ ‫"ضو ٌء"؟‬ ‫مطروح عىل النافذ ِة املعتم ِة بع َد ْأن‬ ‫ظ ّل ِك‬ ‫متن ّزه صغري‬ ‫ٌ‬ ‫غاب القم ُر!‬ ‫الشمس‬ ‫ظهري ٌة‪ ،‬أشع ُة‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ظ ّل ِك َضو ُء‬ ‫طاووس أبيض‪.‬‬ ‫تنترش عىل ذيلِ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫هديل الحامم ِة الق ِلقُ‬ ‫هناك‪ ،‬يف الوراء‪،‬‬ ‫َ‬ ‫املرتوك خل ًفا يف حقلِ الحنط ِة‪.‬‬ ‫الحب‬ ‫يفتقدُ َّ‬ ‫‪100‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫الشعر الكوري المعاصر‬

‫ٌ‬ ‫بلشون ُ‬ ‫أبيض‪ ،‬تحدّرت فت ّوت ُه إىل حا ّفة املا ِء‬ ‫منحن ًيا ينادي عىل املطر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الغطس بالكا ِد ُس ْ‬ ‫ات‬ ‫رش ُة املا ِء عند‬ ‫قطيع بط ٍ‬ ‫معت‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫بالبحث عن طريدتها‪.‬‬ ‫مشغول ٍة‬ ‫ِ‬ ‫وعىل الت ّل ِة العشب ّي ِة‪ ،‬صب ّيتانِ غريبتانِ تديرانِ‬ ‫مظ ّلتيهام‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫صعدت‬ ‫ني‪ ،‬والخدو ُد القرمز ّية‬ ‫تغن ّيانِ أغنية حن ٍ‬ ‫تشونغ تيش يونغ ‪ -1902( Chong Chiyong‬؟)‬ ‫عُ دّ‪ ،‬رفق َة ِي سانغ‪ ،‬شاعراً طليع ّياً حداث ّياً‪ .‬اختطف‪،‬‬ ‫يف بداية الحرب الكور ّية‪ ،‬من قبل الق ّوات الكور ّية‬ ‫الشامل ّية‪ .‬ال توجد معلومات محدّدة عن مكان موته‬ ‫أو زمنه‪ .‬ظ ّلت أشعاره محظورة يف الكور ّيتني حتّى‬ ‫مثانين ّيات القرن العرشين‬

‫زجاج النافذة‬

‫يلمع‪ ،‬باردًا وحزينًا‪.‬‬ ‫يش ٌء يف‬ ‫الزجاج ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫واهنًا هناك أقف‪ ،‬أنفايس ُت َغ ِّي ُمهُ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كان أليفا‪ً.‬‬ ‫يرفرف أجنحت ُه املتج ّمد َة كام لو َ‬ ‫إ ّنه‬ ‫ّ‬ ‫لعلني أفركهُ‪،‬‬ ‫ثم تعو ُد وتصطد ُم‪،‬‬ ‫السودا ُء‬ ‫ُ‬ ‫تندفع بعيدًا‪ّ ،‬‬ ‫فال ّليايل ّ‬ ‫نجوم ّ‬ ‫مخض ٌلة‪ ،‬كجواه َر تستق ُّر‪.‬‬ ‫تلمع ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫الزجاج وحيدًا يف الليايل‬ ‫وما فرك‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫إ ّال تأ ّم ًال جذال ووحيدًا‪،‬‬ ‫نات التي انت َ​َش ْت يف َ‬ ‫رئتيك‪.‬‬ ‫بالعروقِ الل ّي ِ‬ ‫آ ِه‪ ،‬لقد ح ّل َ‬ ‫قت بعيدًا كطائ ٍر بريّ ‪.‬‬

‫مطر‬

‫ُ‬ ‫الظالل‬ ‫ُ‬ ‫متأل األحجا َر؛‬ ‫نسائم ٌ‬ ‫عليلة‬ ‫ُ‬ ‫وتروح‪.‬‬ ‫تأيت‬ ‫ُ‬ ‫طيو ٌر جبل ّيةٌ‬ ‫مطفأ ٌة‪،‬‬

‫ٌ‬ ‫عالية يف الهوا ِء ذيو ُلهَا‪،‬‬ ‫دجاج يخطو‬ ‫ٌ‬ ‫متناو ًبا‪.‬‬ ‫ما ُء الجبلِ‬ ‫يجري‬ ‫يف غدر َان رفيع ٍة‪ ،‬بيضا َء‪،‬‬ ‫األصابع ُ‬ ‫ينترش‪.‬‬ ‫وبحجم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫قطر ُ‬ ‫هنيهات‪،‬‬ ‫ات املط ِر‪ ،‬املع ّلقة‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫تبدأ ثاني ًة‪،‬‬ ‫تتس ّلقُ صاخب ًة‬ ‫ّ‬ ‫كل ورق ٍة حمراء‬ ‫كيم يونغ نانغ ‪(1950- 1903) Kim Yongnang‬‬ ‫عاش قلي ًال‪ ،‬فقد مات بطلقة طائشة‪ ،‬يف بداية الحرب‬ ‫ثم تح ّول‪ ،‬اثناء االستعامر‬ ‫الكور ّية‪ .‬بدأ شاع ًرا غنائ ًيا‪ّ ،‬‬ ‫اليابا ّين الذي فرض حصا ًرا عىل الثقافة الكور ّية‪ ،‬إىل كتابة‬ ‫قصائد تستحرض‪ ،‬يف استعاراتها‪ ،‬تراث كوريا التقليد ّية‬

‫شخص ما يعرف قلبي‬

‫شخص ما‪ ،‬يف مكانٍ ما‪،‬‬ ‫لو ّمث َة ٌ‬ ‫ُ‬ ‫يعرف قلبي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫املتوح َد مثلام أعرفهُ‪،‬‬ ‫قلبي‬ ‫ّ‬ ‫يعرف َ‬ ‫الغبا َر الذي ُيغ ِّي ُم قلبي أحيا ًنا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يح‪،‬‬ ‫ات‬ ‫القطر ِ‬ ‫ّمع الصرّ ِ‬ ‫املترضع َة للد ِ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫لاّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫العطايا التي تتشكل رقيقة كالنّدى يف الليايل ال زورد ّي ِة‪:‬‬ ‫سأضعها مثل كنو ٍز دفين ٍة أمامهُ‪.‬‬ ‫آ ٍه‪َ ،‬‬ ‫ذلك الحننيُ‪.‬‬ ‫األحالم‬ ‫أستطيع النظ َر بعيدًا يف‬ ‫هل‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫املتوح َد مثلام أعرفهُ؟‬ ‫قلبي‬ ‫ّ‬ ‫ألرى الذي يعرف َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫هيب؛‬ ‫يف َي َش ٍب مض ّم ٍخ‪ ،‬حمرا َء ُ‬ ‫تلمع ألسنة الل ِ‬ ‫الحب ّ‬ ‫يا َ‬ ‫يضطر ُم‪،‬‬ ‫ليت َّ‬ ‫كمصباح يتطاي ُر من ُه الدّخان‪ُ،‬‬ ‫غائم‪،‬‬ ‫قلبي ٌ‬ ‫لكنّ َ‬ ‫ٍ‬ ‫ال ُ‬ ‫املتوحدُ‬ ‫قلبي‬ ‫ّ‬ ‫يعرف ح ّباً‪َ ،‬‬

‫‪101‬‬


‫مختارات‬

‫سو تشونغ جو ‪(2000- 1915) So Chongju‬‬ ‫كتب باالسم املستعار "ميدانغ" (حرف ّياً‪ :‬الذي مل يكرب‬ ‫بعد)‪ .‬يع ّد أفضل شاعر كوريّ يف القرن العرشين‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫رشح خمس م ّرات لجائزة نوبل يف اآلداب‪ .‬نرش نحو‬ ‫(تضم نحو ألف قصيدة)‪ ،‬منها‪ :‬الزهرة‬ ‫‪ 15‬كتاباً شعر ّيا ّ‬ ‫األفعى (‪)1941‬؛ سامء الشتاء (‪)1968‬؛ قصائد الج ّوال‬ ‫العجوز (‪)1994‬‬

‫مجذوم‬

‫حزينًا منَ ّ‬ ‫مس‬ ‫الش ِ‬ ‫وزرق ِة السام ِء‬ ‫َ‬ ‫مجذوم طف ًال‬ ‫أكل‬ ‫ٌ‬ ‫قرب حقولِ الحنط ِة‬ ‫طلوع القم ِر َ‬ ‫عن َد ِ‬ ‫َ‬ ‫كان ُ‬ ‫يرصخ يف ال ّليلِ‬ ‫حز ُنهُ‪ ،‬كزهر ٍة‪ ،‬أحم ُر‪.‬‬

‫أ ّيام زرقاء‬

‫أ ّي ٌام زرقا ُء باهر ٌة—‬ ‫ُ‬ ‫تعرف شوقنا إىل الذينَ نح ّبهم‪.‬‬ ‫الخريف‬ ‫الخرض ُة يف حديق ِة‬ ‫ِ‬ ‫تذوي أشكالاً خريف ّي ًة؛‬ ‫ُ‬ ‫الثلج‬ ‫يهبط ُ‬ ‫الربيع‪.‬‬ ‫خشي َة أن يعو َد‬ ‫ُ‬ ‫وماذا ْإن ُّ‬ ‫أنت؟‬ ‫مت‬ ‫وعشت ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫أو ِّ‬ ‫وعشت أنا؟‬ ‫مت؟‬ ‫يف أ ّي ٍام زرقا َء باهر ٍة ُ‬ ‫نعرف‬ ‫الش َ‬ ‫ّ‬ ‫وق إىل الذينَ نح ّبهم‪.‬‬

‫سامء الشتاء‬

‫ألف ليل ٍة‬ ‫بحلم ِ‬ ‫ِ‬ ‫غس ُ‬ ‫لت الجب َ‬ ‫ّاعم‬ ‫ني الن َ‬ ‫ّ‬ ‫لحبيب قلبي‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫غرسهُ‪ ،‬ثاني ًة‪،‬‬ ‫لأِ َ‬ ‫اموات‪.‬‬ ‫الس ِ‬ ‫يف ّ‬

‫‪102‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫طائ ًرا ضارياً‬ ‫ُ‬ ‫أقواس‬ ‫يعرف‪ ،‬ويف‬ ‫ٍ‬ ‫منتصف الشتا ِء‪.‬‬ ‫ُمق ّلد ٍة ع َرب سام ِء‬ ‫ِ‬

‫كال ّريح آتية من براعم ال ّلوتس‬

‫ُ‬ ‫ولست‬ ‫حزينٌ ‪،‬‬ ‫حزينًا ج ّداً‬ ‫َب ْل‬ ‫قلي ًال‬ ‫حزينْ‬ ‫راح ًال‪،‬‬ ‫ليس إىل األب ِد‬ ‫َ‬ ‫راح ًال‬ ‫كام لَ ْو أ ّننا سنلتقي‬ ‫يف حيا ٍة أخرى‬ ‫من جديد‬ ‫كريح بعيد ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫ْ‬ ‫صوب‬ ‫ليست َ‬ ‫وتس‬ ‫اعم ال ّل ِ‬ ‫بر ِ‬ ‫يح التي قابل ِتها‬ ‫ِ‬ ‫ليست ال ّر َ‬


‫الشعر الكوري المعاصر‬

‫َ‬ ‫ريح‬ ‫قبل بضع ِة أ ّي ٍام‪ ،‬بل َ‬ ‫ماض‬ ‫موسم ٍ‬ ‫ِ‬ ‫كثري‪.‬‬

‫لو رصت حج ًرا‬

‫لو ُ‬ ‫رصت‬ ‫حج ًرا‬ ‫لصا َر الحج ُر‬ ‫زهر َة لوتس‪،‬‬ ‫وزهر ُة ال ّلوتس‬ ‫بحري ْة‪.‬‬ ‫لو ُ‬ ‫رصت بحري ًة‬ ‫لصارت البحري ُة‬ ‫ِ‬ ‫زهر َة لوتس‪،‬‬ ‫وتس‬ ‫وزهر ُة ال ّل ِ‬ ‫حجراْ‬

‫)‪(1922‬‬ ‫كيم تشون سو ‪Kim Ch’unsu‬‬ ‫ولد يف كوريا الشاملية‪ .‬درس الفنّ يف اليابان‪ .‬كان‬ ‫له تأثري بالغ عىل املامرسة الشعر ّية يف حقبة ما‬ ‫بعد الحرب الكور ّية‪ ،‬عرب مقاالته النقد ّية وكتاباته‬ ‫الشعر ّية العديدة عىل ح ّد سواء‪.‬‬

‫زهرة‬

‫كنت‬ ‫ِ‬ ‫ال يش َء‪،‬‬ ‫ليس إ ّال‪،‬‬ ‫عالم ًة‪َ ،‬‬ ‫يتك‪.‬‬ ‫حتّى س ّم ِ‬ ‫ُ‬ ‫ولكنّي ح َ‬ ‫اسمك‬ ‫ناديت‬ ‫ني‬ ‫ِ‬ ‫جئت إ َّيل‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫رصت زهر ًة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫أريدُ ألح ٍد‪،‬‬ ‫مياثلني يف النّرب ِة وال ّرائح ِة‪،‬‬ ‫أن َ‬ ‫يلفظ اسمي‬

‫كام ُ‬ ‫اسمك‪.‬‬ ‫ألفظ‬ ‫ِ‬ ‫سأذهب إىل َ‬ ‫ذلك ّ‬ ‫خص‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الش ِ‬ ‫سأكون زهر َة َ‬ ‫ُ‬ ‫ذلك ّ‬ ‫الشخص‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ْأن َ‬ ‫العليا‪:‬‬ ‫هي الغاية اإلنسان ّية ُ‬ ‫نكون َ‬ ‫أجلك؛‬ ‫ِ‬ ‫أنت من أجيل‪ ،‬وأنا من ِ‬ ‫أن َ‬ ‫نكون شيئاً ذا معنى‪،‬‬ ‫عص ّياً عىل النس ّيانِ ‪.‬‬

‫بتالت ال ّليلك‬

‫ُ‬ ‫طفل يطار ُد فراش ًة‪.‬‬ ‫يدُ الطفلِ ‪ ،‬التي تطار ُد الفراش َة‬ ‫وال متسكها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫تشقُّ‬ ‫للسام ِء‪.‬‬ ‫األعامق الواضح َة ّ‬ ‫ُ‬ ‫الصباح‬ ‫شمس‬ ‫أش ّعة ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُت ّ‬ ‫يلك‪ ،‬تنقعها‬ ‫خض ُل ِ‬ ‫بتالت ال ّل ِ‬ ‫)‪(1927‬‬ ‫كيم نامجو ‪Kim Namjo‬‬ ‫ولدت يف سيئول‪ .‬تع ّد أ ّول شاعرة كور ّية تحصد كتبها‪،‬‬ ‫الشعبي‪ ،‬من حيث‬ ‫التي تربو عن الثالثني‪ ،‬النجاح‬ ‫ّ‬ ‫املبيعات‪ ،‬والنجاح النقديّ عىل ح ّد سواء‪ .‬تتناول‬ ‫الحب‪ ،‬بأبعادها اإلنسان ّية وال ّروحية‬ ‫قصائدها ثيمة ّ‬

‫ليل مضاء بالقمر‬

‫ح َ‬ ‫الباب‪،‬‬ ‫ني ُ‬ ‫أوارب َ‬ ‫تختلس النظ َر إىل الدّاخلِ َ‬ ‫دون تردّد؛‬ ‫ُ‬ ‫وح َ‬ ‫أوسع‪،‬‬ ‫ني ُ‬ ‫أوارب َ‬ ‫الباب َ‬ ‫بأس بها‬ ‫تحد ُّق يف الدّاخلِ بره ًة ال َ‬ ‫َ‬ ‫منضدتك ال ّرماديّ ‪.‬‬ ‫مبصباح‬ ‫ِ‬ ‫ني ُ‬ ‫وح َ‬ ‫ني عىل مرصاعيهام‪،‬‬ ‫ني مفتوح ِ‬ ‫أترك الباب ِ‬ ‫ُ‬ ‫تدخل؛‬ ‫ال‬ ‫تجلس عال ًيا يف كب ِد السام ِء‪،‬‬ ‫َبل ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫بثوبك الحريريَّ ‪.‬‬ ‫تحجب العامل‬ ‫ُ‬ ‫لقد َ‬ ‫شخص مع ٌني‬ ‫فعل ٌ‬ ‫زمن بعيد ‪. . .‬‬ ‫اليش َء ذا َتهُ‪ ،‬قبل ٍ‬ ‫‪103‬‬


‫مختارات‬

‫مل يزرين ُّ‬ ‫قط‪،‬‬ ‫دحرج بساطاً من حري ٍر نحوي‪.‬‬ ‫لكنّه‬ ‫َ‬

‫وعد املساء‬

‫ْ‬ ‫النجوم وال إىل القم ِر‬ ‫ليست إىل‬ ‫ِ‬ ‫تحنُّ هذي ّ‬ ‫الش ْجر ُة ا ُملورقة‪.‬‬ ‫وحتّى يف هذا ال ّليلِ البال قم ٍر تنتظ ُر‬ ‫اعم العتم َة‪.‬‬ ‫الشجر ُة الطافح ُة بالرب ِ‬ ‫وإذ ّ‬ ‫ّورس َ‬ ‫ريش ُه‬ ‫ينظ ُف الن ُ‬ ‫أمواج بح ِر‬ ‫يف ِ‬ ‫ال ّليلِ البارد ِة‪،‬‬ ‫تلمع الزّهر ُة يف العتم ِة‬ ‫ُ‬ ‫كاملصابيح‬ ‫بضيا ٍء‬ ‫ِ‬ ‫يف قري ٍة جبل ّي ٍة نائية‪.‬‬ ‫أ ّيتها العتم ُة‪،‬‬ ‫يا الز َ‬ ‫السخي‪:‬‬ ‫ّيت‬ ‫ّ‬ ‫ّإن هذي الزّهر َة ُ‬ ‫تعرف‬ ‫تعقب‬ ‫الهجع َة العذب َة التي ُ‬ ‫يف هدو ٍء وسال ْم‪.‬‬ ‫تبوس الزّهر َة‪،‬‬ ‫ال ّر ُ‬ ‫يح العابر ُة ُ‬ ‫ني يجنُّ ال ّل ُ‬ ‫وح َ‬ ‫يل تص ُري الزّهر ُة‬ ‫أك َرث نعم ًة‪.‬‬ ‫باح‪،‬‬ ‫منهك ًة عن َد َضو ِء ّ‬ ‫الص ِ‬ ‫كفراش ٍة‪ ،‬تفر ُد أجنحتها‬

‫‪104‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫باك تشيي سام ‪)1997-1933( Pak Chaesam‬‬ ‫ولد بطوكيو يف اليابان‪ .‬التحق بكلية اللغة واآلداب يف‬ ‫الجامعة الكور ّية‪ ،‬ولكنّه تركها الحقاً‪ .‬نرش كتابه األ ّول‪،‬‬ ‫عقل تشون هيانغ‪ ،‬يف العام ‪ .1962‬تبعه‪ ،‬يف العام ‪،1970‬‬ ‫ديوانه "أشعة ّ‬ ‫ثم‬ ‫الشمس"‪ ،‬و"ح ّبي"‪ ،‬يف العام ‪ّ ،1981‬‬ ‫"نهر خريف يف دموع تشتعل"‪ ،‬يف العام ‪ ،1985‬و" ِكفاف‬ ‫الشمس والقمر"‪ ،‬يف العام ‪ .1990‬نال عدّة جوائز أدب ّية‪،‬‬ ‫السالم يف العام ‪ ،1987‬وجائزة ُيون‪-‬‬ ‫منها‪ :‬جائزة أدب ّ‬ ‫ه ُيون يف األدب للعام ‪.1988‬‬

‫ال يشء‬

‫تهب‬ ‫أحيا ًنا ُّ‬ ‫الريح َ‬ ‫فوق أوراقِ مو ِز الج ّن ِة‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫حيث قطر ُ‬ ‫ات املا ِء‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫تأخذ شكلها ال ّرب َ‬ ‫وتسقط‪.‬‬ ‫اق‪،‬‬ ‫َ‬ ‫السكين ِة التا ّم ِة هذ ِه‬ ‫خلف لحظ ِة ّ‬ ‫ال يش َء تريدُ الحيا ُة‪.‬‬

‫يوم ماطر‬

‫َ‬ ‫ذات أصيلٍ يف أ ّيا َر‬ ‫مغنوليا بال أزها ٍر‬ ‫ٌ‬ ‫منقوعة يف املطر‪.‬‬ ‫مغنوليا ٌ‬ ‫عارية بأوراقٍ خرضا َء‪ ،‬وحيد ٌة‬ ‫ٌ‬ ‫منقوعة يف املطر‪.‬‬ ‫القلب املفطو ِر‪،‬‬ ‫شقيقتي‪ ،‬صاحب ُة ِ‬ ‫قلبها ممز ٌّق ك ّلهُ‪،‬‬ ‫م ّر ًة أخرى‬ ‫ُ‬ ‫تستقبل رسال ًة‬ ‫من الذي لن يجيء‪.‬‬ ‫آ ِه‪ّ ،‬إن الدموعَ املنهمر َة من السام ِء‬ ‫األرض‬ ‫ُت ّرب ُك عىل ِ‬ ‫يف هذا النها ِر املمط ِر‬


‫الشعر الكوري المعاصر‬

‫شني كيونغ نيم ‪)1936-( Shin Kyongnim‬‬ ‫ولد بكوريا الشاملية‪ .‬ح ّققت مجموعته الشعر ّية‬ ‫األوىل‪ ،‬رقصة املزارع‪ ،‬شهرة واسعة‪ ،‬آن نرشت‬ ‫يف العام ‪ .1973‬كام نالت ذات املجموعة جائزة‬ ‫َما ْنهَايْ األوىل‪ ،‬بعد تأسيسها‪ ،‬يف العام ‪،1974‬‬ ‫تخليداً لذكرى الشاعر مانهاي‪ .‬من كتبه األخرى‪:‬‬ ‫الحب املسكني‬ ‫جنوب نهر هان (‪)1987‬؛ أغنية ّ‬ ‫الساقطني (‪)1993‬؛ صور ظل ّية‬ ‫(‪)1988‬؛ أحالم ّ‬ ‫لجدّيت وأ ّمي (‪ ،)1998‬الذي نال جائزة ضاي سان‬ ‫األدب ّية ّ‬ ‫للشعر‪ ،‬يف العام ذاته‪.‬‬

‫هُ م‬

‫الريح أور َ‬ ‫اق األشجا ِر‬ ‫طيرّ ِت ُ‬ ‫أبواب أو نواف َذ‪،‬‬ ‫شارع بال ٍ‬ ‫عىل ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ينظرون‪ ،‬مختبئ َ‬ ‫ني‬ ‫اآلخرون‬ ‫كان‬ ‫الهاتف أ ِو األشجا ِر‪.‬‬ ‫ورا َء أعمد ِة‬ ‫ِ‬ ‫اسم‬ ‫مل يعرف أحدٌ َ‬ ‫الذي َ‬ ‫مات‪،‬‬ ‫يف َ‬ ‫املعتم‪،‬‬ ‫اليوم‬ ‫ذلك ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫حيث ال قم َر يصعدُ‬ ‫تشونغ هيون جونغ ‪)1939-( Chong Hyonjong‬‬ ‫ولد يف سيئول‪ ،‬وتخ ّرج من كل ّية الفلسفة بجامعة يونيس‪،‬‬ ‫حيث يد ّرس اآلن‪ .‬من أعامله‪ :‬حلم األشياء (‪)1972‬؛‬ ‫مهرجان املعاناة (‪)1974‬؛ ككر ٍة مرتدّة (‪)1984‬؛ ال وقت‬ ‫للحب لديّ (‪.)1989‬‬ ‫كث ًريا ّ‬

‫حفا ًة‬ ‫ذهبوا يف‬ ‫وابلِ املط ِر‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫محكمة قبضاتهم‬ ‫النحيل ُة‬ ‫ُ‬ ‫أياديهم ّ‬ ‫لسع املط ِر‪.‬‬ ‫زرقا َء من ِ‬ ‫نادا َين‬ ‫ٌ‬ ‫صوت حانقٌ ‪،‬‬ ‫بصقَ‬ ‫وجهي الجبانِ ‪.‬‬ ‫يف‬ ‫َ‬ ‫ثرّ‬ ‫تخ الد ُم‬ ‫َ‬ ‫أكتاف يف قمصانٍ بيضا َء‪.‬‬ ‫فوق ٍ‬ ‫لقد ركضوا‬ ‫الريح املندفعة‪.‬‬ ‫يف ِ‬

‫الربيع‬ ‫عشب‬ ‫خرضا َء‪ ،‬أور ُاق ِ‬ ‫ِ‬ ‫تدفع َ‬ ‫األرض إىل فوق‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫أعمدة تسندُ‬ ‫السام َء من الهبوطِ ‪،‬‬ ‫بيع‪.‬‬ ‫أور ُاق ِ‬ ‫عشب ال ّر ِ‬ ‫نابض ًة‬ ‫الربيع‪:‬‬ ‫نسيم‬ ‫ِ‬ ‫يف ِ‬ ‫ٌ‬ ‫امرأ ٌة الهثة‪ ،‬وضفادعُ ‪.‬‬ ‫عشب أغنيتي‬ ‫ال ُب ّد‬ ‫ِ‬ ‫لصوت ِ‬ ‫ّ‬ ‫قَ‬ ‫العشب‪.‬‬ ‫أن يتدف‬ ‫قرب أوراقِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬

‫ذلك اليوم‬

‫ترَْك شمس ّية يف مكان ما‬ ‫َك ِ‬

‫وحيد ًة‪ْ ،‬‬ ‫بكت صب ّي ٌة‪،‬‬ ‫تتبع الن َ‬ ‫ّعش‪،‬‬ ‫وهي ُ‬ ‫اس‬ ‫موكباً بال أجر ٍ‬ ‫مأتم‪.‬‬ ‫أو راي ِة ٍ‬ ‫طريق املسا ِء ا ُملك ّفن ِة ّ‬ ‫باب‪،‬‬ ‫عىل طولِ‬ ‫ِ‬ ‫بالض ِ‬ ‫ُ‬ ‫طيف‪.‬‬ ‫ظالل ٍ‬

‫خرضاء هي األرض‬

‫أستطيع‬ ‫وأل ّنني ال‬ ‫ُ‬ ‫ْأن َ‬ ‫أترك نفيس يف مكانٍ ما‬ ‫ترَْك شمس ّي ٍة يف مكانٍ ما‪،‬‬ ‫َك ِ‬ ‫فإ ّنني أعاين‪.‬‬ ‫أستطيع َ‬ ‫ترك نفيس ورايئ‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫لكان ّ‬ ‫َ‬ ‫كل يش ٍء سام ًء‬ ‫وح ّباً‬ ‫وحر ّية‬

‫‪105‬‬


‫ً‬ ‫نظريا‬

‫‪.‬‬

‫صبحي حديدي‬ ‫‪.............................................................................................................‬‬

‫تشابهات خافية‬

‫يف‬

‫مقالته البديعة "الصوت اآلخر"‪ ،‬يقول الشاعر املكسييك أوكتافيو باث‪" :‬الشعر صوت اآلخر‪ .‬وصوته آخر ألنه صوت املشاعر‬ ‫طوقي وإمياين‪،‬‬ ‫وصوت الرؤى‪ .‬إنه صوت العامل اآلخر وصوت العامل الراهن‪ ،‬صوت أ ّي ٍام عفا عليها الزمان مثل أ ّيام نعيشها اآلن‪ .‬هَ ْر ّ‬ ‫بريء ومنحرف‪ ،‬رائق و َع ِكر‪ ،‬فضا ّيئ وتحت ـ ّ‬ ‫يخص الصومعة مثل ركن الحانة‪ ،‬ويف متناول اليد لكنه دامئاً يف املنأى‪ .‬ويف برهة‬ ‫أريض‪ّ ،‬‬ ‫الشعر‪ ،‬طالت أم قرصت‪ّ ،‬‬ ‫فإن جميع الشعراء ـ إذا كانوا شعراء ـ يصغون إىل الصوت اآلخر‪ .‬إنه صوتهم‪ ،‬صوت سواهم‪ ،‬صوت ليس ألحد‬ ‫سواهم‪ ،‬صوت ليس ألحد‪ ،‬وصوت للجميع‪ .‬ال يشء مي ّيز الشعراء عن سواهم من البرش سوى تلك الربهة‪ ،‬النادرة ولكن املألوفة‪ ،‬حني‬ ‫يصبحون هم اآلخر َ‬ ‫آن يكونون هم أنفسهم"‪.‬‬ ‫نص ّ‬ ‫يلخص‪ ،‬عىل النحو التأ ّميل املع ّمق واملشبوب الذي م ّيز تنظريات باث ملسائل الشعر‪ ،‬جملة املعضالت العديدة التي تكتنف‬ ‫هذا ّ‬ ‫ً‬ ‫مسألة حضور اآلخر وصورة ذلك اآلخر يف آداب األمم عموما‪ ،‬ويف نتاجها الشعري بصفة خاصة‪ .‬ذلك ّ‬ ‫ألن اإلشكالية تتجاوز بكثري حدود‬ ‫ثم استخالص مؤثراته ومحاسنه ومساوئه‪ ،‬خصائصه ودينامياته‬ ‫النشاط الذي يكتفي برصد أو إحصاء ُص َور اآلخر يف موروث شعري ما‪ّ ،‬‬ ‫وتفاعالته وفاعليته‪ .‬هذه الرياضة النقدية‪ ،‬عىل طرافتها وأهميتها املدرسية‪ ،‬ال تنصف جوهر اإلشكالية يف أبعادها اإلبداعية والجاملية‬ ‫ثم يف أبعادها الثقافية والحضارية املقارنة من جهة ثانية‪.‬‬ ‫والفنّية من جانب أ ّول‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إنها‪ ،‬يف ّ‬ ‫ترض شاعرا كبريا ومنظرا للشعر رفيع الثقافة مثل أوكتافيو باث! فهو‪ ،‬يف مقاطع أخرى أكرث حرارة‪ ،‬يعترب ّأن فرادة‬ ‫كل حال‪ ،‬مل ِ‬ ‫الشعر الحديث ال تتأىت من أفكار الشاعر أو مواقفه‪ ،‬بل من صوته‪" :‬الشعر ذاكرة تنقلب إىل صورة‪ ،‬وصورة تنقلب إىل صوت‪ .‬الصوت‬ ‫اآلخر ليس الصوت املنبعث من القرب‪ ،‬بل هو صوت اإلنسان الراقد عميقاً يف قلب قلوب اإلنسانية"‪ .‬وبهذا املعنى ّ‬ ‫فإن حضور اآلخر يف‬ ‫الشعر يتصل مبارشة بوظيفة الشعر ذاتها‪ ،‬ورمبا مبعنى الشعر أيضاً‪ .‬فالشعر‪ ،‬حسب باث‪ ،‬يع ّلمنا إقرار الفوارق واكتشاف التشابهات‪،‬‬ ‫خصوصاً ّ‬ ‫حي من الصالت واملتضادات‪ ،‬والقصيدة درس عميل يف التناغم والتوافق‪ ،‬حتى حني يكون موضوعها غضبة‬ ‫وأن الكون "نسيج ّ‬ ‫البطل أو عزلة صب ّية مهجورة أو انغامس الروح يف املياه الساكنة للمرآة"‪.‬‬ ‫وهكذا ّ‬ ‫فإن مفهوم اآلخر‪ ،‬هنا‪ ،‬ليس منحرصاً يف صورة "الغريب" أو "األجنبي" أو "املختلف"؛ وهو‪ ،‬أيضاً‪ ،‬ليس مقترصاً عىل تناظرات‬ ‫واستقطابات وثنائيات من نوع "امرأة‪/‬رجل"‪" ،‬رشق‪/‬غرب"‪" ،‬نحن‪/‬هم"‪" ،‬متمدّن‪/‬همجي"‪" ،‬املركز‪/‬املحيط"‪" ،‬س ّيد‪/‬عبد"‪" ،‬مدنية‪/‬‬ ‫بربرية"‪ ...‬اآلخر هو ّ‬ ‫كل ما ينفصل عن الذات ليك يقع أمامها ويف مواجهتها‪ ،‬يكون شبيهاً بها أو عىل نقيض منها‪ ،‬وتنبثق دينامية وجوده‬ ‫ّ‬ ‫من الحاجة إليه يف تعريف فارق الذات عن سواها‪ .‬هي‪ ،‬باختصار شديد‪ ،‬عالقة "الذات‪/‬اآلخر" بكل ما تنطوي عليه من جوانب إبداعية‬ ‫وثقافية ومعرفية وسياسية وتاريخية وجغرافية وأنرثوبولوجية‪ ،‬فض ًال عن عنارصها األخرى الوجودية والجنسية والفلسفية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وألن هذا العدد من "بيت الشعر" يحتفي مبحمود درويش‪ ،‬فإنني أتوقف عند واحدة من أبرز قصائده التي تناولت عالقة الذات باآلخر‪،‬‬ ‫وأعني "خطبة الهندي األحمر ـ ما قبل األخرية ـ أمام الرجل األبيض"‪ .‬فمنذ السطور األوىل تفصح القصيدة عن جملة االسرتاتيجيات‬ ‫التي اعتمدها درويش لتحقيق َ‬ ‫غرضينْ حاسمني‪ :‬تقويض التنميط املس َبق للهندي األحمر‪ ،‬يف سياقاته الروحية والفلسفية والطبيعية؛‬ ‫ثم االنطالق من ذلك إىل استجالء فضاء املواجهة بني أهل األرض (أينام كانوا‪ ،‬ولكن يف املسيسيبي وفلسطني عىل وجه التخصيص)‪،‬‬ ‫واآلخر القادم‪ ،‬الذي اجتاح واستوطن‪ .‬الرتاجيدي هنا يلتحم يف أعرض فضاء متاح من املقدّس‪ ،‬بحيث تتح ّول الذاكرة املنتهَكة (بعنارصها‬ ‫جتاحة ومنفية ومهزومة رمبا‪ ،‬ولكنها‬ ‫وشعائرها وطقوسها وحركتها يف التاريخ) إىل إرث منتهَك تفقده ضحية فيزيائية ومجازية محدَّدة‪ُ ،‬م َ‬ ‫متجذرة يف األرض‪ ،‬وقامئة‪ ،‬ومقا ِومة‪.‬‬ ‫ويف العودة إىل باث‪ ،‬بعد استذكار درويش‪" :‬الخيال هو الطراز العمليايت للفكر الشعري‪ ،‬والخيال يتألف جوهرياً من القدرة عىل وضع‬ ‫كل األشكال الشعرية‪ّ ،‬‬ ‫فإن ّ‬ ‫الواقع املتناقض أو املتباين ضمن عالقة‪ .‬ولهذا ّ‬ ‫املحسنات اللغوية‪ ،‬تشرتك يف يشء واحد‪ :‬أنها تبحث عن‪،‬‬ ‫وكل ّ‬ ‫وتعرث غالباً عىل‪ ،‬التشابهات الخفية"‪ .‬الذات هنا‪ ،‬واآلخر هناك‪ ...‬سيان!‬ ‫‪106‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫زيارة‬

‫زيارة إلى قبر الشاعر‬

‫أنطونيو ماتشادو‬ ‫في األول من كانون الثاني‪ ،‬قلت سأذهب‬ ‫إليه فقد مضى زمن لم أزره فيه‪ .‬في عطلة‬

‫أعياد الميالد ونهاية السنة تقفر شوارع المدن‬

‫األوروبية‪ ،‬وطالما نصحني صديقي حسونة‬

‫المصباحي الذي خبر هذه الشوارع لما يزيد عن‬ ‫ً‬ ‫السفر‬ ‫العشرين‬ ‫عاما في مدينة مونيخ بعدم ّ‬ ‫إلى أوروبا في هذه الفترة‪ ،‬لكنني لسبب مازلت‬

‫أجهله أحب المدن عندما تقفر من العابرين‪،‬‬

‫أحب السماءات الغامضة والممطرة والباردة‬ ‫في شهري ديسمبر ويناير‪ ،‬فقد اخترت منذ أن‬ ‫ً‬ ‫السفر إلى ّ‬ ‫الضفة األخرى أن أذهب‬ ‫صار‬ ‫ممكنا ّ‬

‫ً‬ ‫هاربا إلى نفسي‬ ‫إلى أوروبا في هذه األسابيع‬

‫من الصخب العمومي والخيبات العربية‪.‬‬

‫نورالدين بالطيب‬

‫الفاتح‬

‫من كانون الثاين أخذت القطار العجوز‬ ‫من مدينة «جريونة» عىل الحدود‬ ‫اإلسبانية الفرنسية أو الكتالونية‪ ،‬كام يحب أصدقايئ‬ ‫ّ‬ ‫يف كتالونيا أن يؤكدوا دامئا‪ .‬كان الطقس بارداً‬ ‫ومحطة‬ ‫القطارات تكاد تكون مقفرة ونسامت برد خفيف‪ ،‬يف اتجاه‬ ‫«رسبريا»‪ ،‬قلت لبائعة التذاكر العجوز‪.‬‬ ‫امل ّرة األوىل التي ذهبت فيها إىل قرب الشاعر الكتالوين‪،‬‬ ‫أنطونيو ماتشادو كانت قبل ست سنوات عندما جئت‬ ‫إىل جريونة للم ّرة الثانية قادماً من روما يف ا ّتجاه برشلونة‬ ‫املتوسط»‪ ،‬أردت أن أقيض بعض‬ ‫لحضور ندوة عن «صحراء‬ ‫ّ‬

‫األ ّيام رفقة أصدقايئ يف مدينة جريونة التي هامت بها روحي‬ ‫منذ اللقاء األ ّول ‪.‬‬ ‫مل أكن أعرف أن قرب ماتشادو غري بعيد عن مدينة جريونة‪،‬‬ ‫بل ال يحتاج األمر لزيارة قربه يف قرية «كوليور» يف جنوب‬ ‫فرنسا التي تع ّد مدينة كتالونية يف فرنسا قبل أن تنهار‬ ‫مملكة كتالونيا املمتدّة األطراف وظهور إسبانيا بتقسيمها‬ ‫الحايل إال ساعتني فقط من جريونة يف اتجاه «رسبريا»‪ ،‬ومنها‬ ‫وبعد تغيري القطارإىل كوليورالتي لجأ إليها ماتشادو من‬ ‫جرائم الجرنال فرنكو حام ًال والدته العجوز املريضة عابراً‬ ‫بها الجبال واملمرات الصعبة يف ذلك الشتاء من سنة ‪1939‬‬

‫‪107‬‬


‫زيارة‬

‫لتموت من الربد ويلتحق بها بعد أ ّيام قليلة فقط‪:‬‬

‫«أ ّيها املسافر‬ ‫ما الدرب سوى‬ ‫آثار خطاك‪،‬‬ ‫أ ّيها املسافر‬ ‫ليس هناك طريق‬ ‫الطرق تصنعها‬ ‫األقدام أثناء املسري‬ ‫وحينام نسري‬ ‫نصنع دروبا‬ ‫وعندما ننظر‬ ‫إىل الوراء‬ ‫نرى الطريق‬ ‫الذي لن نسري فيه‬ ‫من جديد أبداً‪.‬‬ ‫أ ّيها املسافر‬ ‫ليس هناك طريق‬ ‫سوى خطوط‬ ‫فوق البحر»‬

‫كنت أقرأ من الرتجمة التي أعدّها عبدالهادي سعدون‬ ‫وميمونة ّ‬ ‫حشاد خبو وأرشفت عليها رجاء ياسني بحري‬ ‫والتي نرشت يف جزءين يف تونس عن مؤسسة بيت الحكمة‬ ‫عن األدب الناطق باألسبانية‪ ...‬أقرأ‬ ‫من شعر ماتشادو متأم ًال الطبيعة‬ ‫الساحرة وبيوت القرميد التي‬ ‫ّ‬ ‫تغط ّيها الثلوج مستحرضاً أصياف‬ ‫طفولتي يف الصحراء يف بدايات‬ ‫الصحراء الكربى هناك يف دوز‬ ‫«تونس» التي اكتشفت يف قيلوالتها‬ ‫القائظة األدب العريب والعاملي عرب‬ ‫املج ّالت القليلة التي كانت تصل‬ ‫مثل «املج ّلة» و«املوقف العريب»‬ ‫و«الدستور» وأتذ ّكر أنني عرفت‬ ‫لل ّمرة األوىل ماتشادو يف دراسة‬ ‫عن األدب اإلسباين نرشتها إحدى‬ ‫‪108‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫املج ّالت العربية التي كانت نافذيت عىل العامل‪.‬‬ ‫كانت الدراسة عن ثاليث الشعر اإلسباين ماتشادو وألربيت‬ ‫ولوركا القتيل‪.‬‬ ‫وإذا كنت اهتممت فيام بعد بلوركا شاعراً وكاتباً مرسحياً‬ ‫وبرفائيل ألربيت الذي كانت ذكريات صديقي ال ّراحل‬ ‫عبدالوهّ اب البيايت معه إحدى مواضيع سهراتنا يف تونس‬ ‫فقد سقط ماتشادو من ذاكريت قبل أن أستعيده يف زياريت‬ ‫األوىل إىل جريونة عندما حدّثتني عنها الصديقة الشاعرة‬ ‫الكتالونية كنصول فيدال‪ ،‬وقد ذهبنا إليه أنذاك مع‬ ‫الصديقة الكتالونية أيضاً مون باجويل‪ .‬ذهبنا ثالثتنا إىل قربه‬ ‫ّ‬ ‫املغطى بالزهور يف القرية الصغرية كوليورو التي ذ ّكرتني‬ ‫أزقتّها ودروبها العالية وأبوابها الزرقاء التي تغط ّيها باقات‬ ‫الزهور بسيدي بوسعيد (تونس)‪.‬‬ ‫إ ّنه ضوء املتوسط املبهر يف لحظات الصحو والصفاء قبل أن‬ ‫يغرق العامل يف كوابيس العنف السيايس والتكفري والظالم‬ ‫والتصحر‪:‬‬ ‫املؤذن بالخراب‬ ‫ّ‬

‫«كل يشء مييض‬ ‫وكل يشء يبقى‬ ‫ول ّكن قدرنا‬ ‫أن منيض‪ ،‬أن منيض»‬

‫نعم قدرنا «أن منيض» قلت لنفيس وأنا أتج ّول وحيداً قرب‬ ‫القلعة العسكرية مطلاّ ً عىل املتوسط بأمواجه الهادرة يف‬ ‫ذلك الصباح الشتايئ‪.‬‬ ‫يف املقهى الخايل من ر ّواده يف فصل‬ ‫الشتاء الذي تز ّينه صور العبني قدامى‬ ‫يف كرة القدم حاولت أستحضار‬ ‫أسامئهم بال جدوى ‪ -‬فقد مىض ذلك‬ ‫الزمن الذي كنت فيه مفتوناً بكرة‬ ‫القدم متتّبعاً ألخبار ال ّالعبني ونتائج‬ ‫املباريات ألغرق يف ح ّمى‪ ،‬وأصري مفتونا‬ ‫ّ‬ ‫بالشعر واألدب‪-‬عدت إىل سرية الشاعر‬ ‫أنطونيو ماتشادو الذي ولد يف مدينة‬ ‫أشبيلية عام ‪ 1875‬وأصدر ديوانه األ ّول‬ ‫«خلوات» عام ‪ 1903‬وقد كان أستاذاً‬ ‫للغة الفرنسية وع ّد كتابه تح ّوالً يف‬


‫قبر ماتشادو‬

‫جرنايكه ‪ -‬بيكاسو‬

‫يرى قابيل‬ ‫التجربة الشعرية اإلسبانية‪.‬‬ ‫مب ّكراً عرف ماتشادو الحب وخفق قلبه لألغاين العذبة‬ ‫هاربا‪ ،‬وهابيل م ّيتا‬ ‫وسافر إىل عاصمة األنوار «مدينة الجن واملالئكة» باريس‬ ‫حذو بقعة حمراء‬ ‫كام سماّ ها طه حسني رفقة زوجته ليونور أثكياردو‪ ،‬لكنّها‬ ‫بصوت عال ور ّنان‬ ‫رسيعاً ما غادرته بعد إصابتها مبرض ّ‬ ‫السل ليغرق الشاعر يف املع ّلم يزمجر‪ ،‬شيخ‬ ‫جحيم ال ّرحيل‪.‬‬ ‫بثوب بال‪ ،‬نحيف وهزيل‬ ‫ّ‬ ‫عاد إىل بالد ّ‬ ‫الشمس األندلس التي كرب يف أزقتها العربية‬ ‫يحمل كتاباً بيده‬ ‫ً‬ ‫ونهل صغرياً من جامل معامرها وفتنته حامال معه روح‬ ‫ومجموعة أطفال ينشدون الدّرس‬ ‫املرأة التي أح ّبها لتعيش يف قصائده مثل قصيدة «الطرقات» «ألف يف املائة‪ ،‬مائة ألف‪،‬‬ ‫يف ديوان «حقول قشتالة» و«كاستيليا» و«أغاين جديدة»‬ ‫ألف يف األلف‪ ،‬مليون»‪.‬‬

‫و«األغاين»‪.‬‬ ‫فجرها‬ ‫وكان من الطبيعي أن مت ّد الحرب األهل ّية التي ّ‬ ‫الجرنال فرانكو بظاللها عىل قصائده فجاءت قصائده تحدّياً‬ ‫للديكتاتورية خاصة بعد اغتيال صديقه لوركا الذي رثاه‬ ‫بقصيدة «الجرمية كانت يف غرناطة»‪.‬‬ ‫ويف أواخر ‪ 1939‬عندما أحكم فرانكو قبضته فهم ماتشادو‬ ‫أ ّنه مل يعد له مكان يف بالده فهرب إىل كوليور ذات الجذور‬ ‫الكتالونية ليموت هناك ويتح ّول قربه إىل مزار كتالوين‪.‬‬ ‫يف الدّرب الصغري املؤدي إىل املقربة وإىل البيت الذي عاش‬ ‫فيه أل ّيام قليلة بعد وصوله إىل القرية الفرنسية كنت‬ ‫أستحرض قصيدته «ذكرى من الطفولة»‪:‬‬

‫ذات مساء رمادي وبارد‬ ‫يف الشتاء‪ .‬التالميذ‬ ‫يدرسون‪ ،‬رتابة‬ ‫املطر خلف الزجاج‬ ‫يف الفصل‪ ،‬عىل روحة‬

‫وأنا أسلم نفيس لضوء املتوسط ولشمسه الدافئة تذ ّكرت‬ ‫السواد الذي ّ‬ ‫يغطي السامء يف البلدان التي رفعت أصواتها‬ ‫ض ّد الديكتاتورية كام رفعها ماتشادو لكنّها باتت تخىش‬ ‫الغرق يف الظالم ذلك ّأن أعداء الحرية كثرياً ما يكونون أ ّول‬ ‫املستفيدين منها لإلجهاز عليها وكتم أصوات البجع والحامم‬ ‫وقصف زهور الربيع‪.‬‬ ‫عرب زجاج نافذة القطار العجوز مضت روحي يف ا ّتجاه‬ ‫الصحراء متسائ ًال مع أنطونيو ما تشادو «إىل أين سيؤدّي‬ ‫الطريق»؟‪:‬‬

‫«أنا أحلم بدروب‬ ‫املساء‪ ،‬التالل‬ ‫الذهبية‪ ،‬أشجارالصنوبرالخرضاء‪،‬‬ ‫وأشجار الب ّلوط املغبرّ ة‪...‬‬ ‫ترى إىل أين سيؤدّي الطريق»‬ ‫نعم‪ ...‬إىل «أين سيؤدّي الطريق؟»‬

‫‪109‬‬


‫شعريات‬

‫الغابة والصحراء‬ ‫ثنائية القصيدة السودانية‬ ‫إذا كانت ثيمة الغابة ‪ -‬الصحراء قد ارتبطت في البداية بمجموعة بعينها من شعراء الستينيات مثل محمد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ورواجا‬ ‫قبوال‬ ‫عبدالحي ومحمد المكي إبراهيم والنور عثمان أبكر‪ ،‬فإن هذا التوصيف للثقافة السودانية قد وجد‬

‫ّ‬ ‫والكتاب‬ ‫بين أغلب المثقفين‬

‫الذاكرة‬

‫الرتاثية لإلنسان السوداين تلتقي‬ ‫عندها الثقافة العربية اإلسالمية‬ ‫بالثقافات اليونانية والنوبية‬ ‫واملسيحية ما أثرى مخيلة الشعراء يف السودان‪ ،‬وأدخل‬ ‫مظاهر الحياة السودانية يف أشعارهم وأعطى شك ًال فريداً‬ ‫ومميزاً للشعر السوداين‪.‬‬ ‫سألت إيزابيال سيمور مصطفى سعيد‪ ،‬بطل رواية «موسم‬ ‫الهجرة إىل الشامل» ما جنسك؟ هل أنت إفريقي أم‬ ‫آسيوي؟ فأجابها‪ :‬أنا مثل عطيل‪ ،‬عريب إفريقي‪ .‬فنظرت إىل‬ ‫وجهه وقالت‪ :‬نعم أنفك مثل أنوف العرب يف الصور‪ ،‬ولكن‬ ‫شعرك ليس فاح ًام مثل شعر العرب‪.‬‬ ‫وذات السؤال الذي تلقاه مصطفى سعيد يف الرواية واجهه‬ ‫واقع ًيا الشاعران املبدعان محمد امليك إبراهيم والنور‬ ‫عثامن أبكر يف أملانيا يف رحلتهام إليها يف الستينيات‪ ،‬حيث‬ ‫عبرّ النور عن حرية األوروبيني يف تصنيفه بقوله «إنه يرفض‬ ‫هويتي اإلفريقية حني أفكر‪ ،‬ويرفض هويتي العربية حني‬ ‫أكون»‪ .‬عبارة مرشقة والشك‬ ‫أنها تلخص يف أسلوب فلسفي‬ ‫مفهوم «الغابة ‪-‬‬ ‫رشيق ازدواجية الهوية الثقافية‬ ‫الصحراء» ال يتطابق‬ ‫واإلثنية لإلنسان السوداين‪ .‬أما‬ ‫محمد امليك إبراهيم فقد تألقت‬ ‫فقط مع توزيع المناخ‬ ‫قريحته شع ًرا يف توصيف الواقع الجغرافي في السودان‪،‬‬ ‫بقوله يف قصيدته الرائعة «بعض‬ ‫بل يكاد يتطابق مع‬ ‫الرحيق أنا والربتقالة أنت» والتي‬ ‫التوزيع الديمغرافي‬ ‫تعترب من عيون الشعر العريب‬ ‫الحديث‪:‬‬ ‫للسكان‬

‫‪110‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫الله يا خالسية‬ ‫يا بعض عربية‬ ‫وبعض زنجية‬ ‫وهكذا فقد تنبهت الطالئع املثقفة من السودانيني باكراً‬ ‫إىل الخصوصية الثقافية واإلثنية للذات السودانية‪ .‬وقد‬ ‫برز الوعي بهذه الخصوصية أكرث حدّة يف الخمسينيات‬ ‫والستينيات مع املد الثوري لحركات التحرر الوطني‬ ‫ودعوات القومية العربية واالتجاهات الزنجية يف إفريقيا‬ ‫وأمريكا الالتينية‪ .‬وفطن نفر من هؤالء املثقفني إىل أن‬ ‫السودان ميتاز بخصوصية فريدة ال تتوافر يف غريه من دول‬ ‫املنطقة‪ ،‬فهو يجمع بني االنتامء العريب واإلفريقي يف آن‬ ‫واحد‪ ،‬فتفتق وعيهم عن صبغة يصفون بها هذه الحال‬ ‫الفريدة‪ ،‬وحيث إن معظمهم كانوا شعراء‪ ،‬فقد هداهم‬ ‫حسهم الشعري إىل صيغة شعرية ذات داللة رمزية عميقة‬ ‫ّ‬ ‫وهي صيغة «الغابة والصحراء»‪ ،‬الغابة إشارة إىل العنرص‬ ‫اإلفريقي‪ ،‬والصحراء إشارة إىل العنرص العريب‪.‬‬

‫الدور الجغرايف‬

‫ولعل من دالئل التوفيق عىل حسن‬ ‫اختيار هذه الصيغة الرمزية أن‬ ‫تعبري «الغابة والصحراء» ال يتطابق‬ ‫فقط مع توزيع املناخ الجغرايف‬ ‫يف السودان‪ ،‬بل يكاد يتطابق‬ ‫مع التوزيع الدميغرايف للسكان‪.‬‬ ‫فاملعروف أن مناخ السودان يبدأ‬ ‫يف التدرج من مناخ صحراوي يف‬


‫الفنان ابراهيم الصلحي‬

‫الشامل‪ ،‬ليتحول إىل شبه صحراوي‪ ،‬ثم سافانا فقرية وأخرى‬ ‫غنية يف الوسط إىل أن ينتهي عند الغابات املدارية يف‬ ‫الجنوب‪ .‬وبالقدر ذاته نجد السكان يتوزعون عىل هذا‬ ‫النحو‪ ،‬إذ نجد العنرص العريب غالباً يف الشامل مع بعض‬ ‫األقليات‪ ،‬ثم يبدأ يف التقلص كلام اتجهنا جنوباً مع بعض‬ ‫االستثناءات‪ ،‬إىل أن ينتهي إىل غلبة العنرص اإلفريقي الزنجي‬ ‫يف الجنوب‪.‬‬ ‫ومثلام اهتدت تلك املجموعة إىل رمز «الغابة والصحراء»‬ ‫يجسد هذا التامزج العريب‬ ‫اهتدت أيضاً إىل منوذج تاريخي ّ‬ ‫اإلفريقي عىل أرض الواقع فكانت سنار عاصمة مملكة سنار‬ ‫أو سلطنة الفونج والتي عرفت ً‬ ‫أيضا بالسلطنة الزرقاء أي‬ ‫السوداء‪ .‬فالسودانيون يستعملون األزرق كمرادف لألسود‪.‬‬ ‫ومنه جاء اسم النيل األزرق أي األسود‪ .‬وذلك لشدة اعتكار‬ ‫مياهه من كرثة الطمي‪ .‬ويقولون رجل أزرق أسود‪ ،‬وكانت‬ ‫العرب تستعمل األخرض يف ذات املعنى‪ ،‬فتقول رجل أخرض‬ ‫أي أسمر أو أسود‪.‬‬ ‫يرجع اختيار مملكة سنار أو السلطنة الزرقاء «‪-1504‬‬ ‫‪1821‬م» كنموذج معا ِدل للهوية السودانية‪ ،‬إىل أنها أول‬ ‫مملكة سودانية تكونت بتحالف القبائل العربية والقبائل‬ ‫اإلفريقية‪.‬‬ ‫ولعل الفضل يف رواج مفهوم سنار كنموذج لهذا التامزج‬ ‫يعود إىل الشاعر املرهف د‪.‬محمد عبدالحي الذي يعترب أحد‬ ‫أبرز رموز الحداثة الشعرية يف العامل العريب وديوانه املشهور‬ ‫«العودة إىل سنار» خري دليل عىل ذلك‪.‬‬ ‫وإذا كانت صيغة الغابة والصحراء قد ارتبطت يف البداية‬

‫مبجموعة بعينها من شعراء الستينيات هم محمد عبدالحي‬ ‫ومحمد امليك إبراهيم والنور عثامن أبكر‪ ،‬فإن هذا‬ ‫التوصيف للثقافة السودانية قد وجد قبوالً‬ ‫ورواجا بني أغلب‬ ‫ً‬ ‫املثقفني والكتّاب يف تلك الفرتة‪ ،‬وتردد يف أشعار الكثريين‬ ‫منهم‪.‬‬ ‫رمبا يرجع نجاح مفهوم «األفروعربية» املطروح من خالل‬ ‫رمزية «الغابة والصحراء» آنذاك إىل الوعي القومي السوداين‬ ‫الذي أفرزته الظروف والتحوالت السياسية واالجتامعية التي‬ ‫قادت إىل ثورة أكتوبر ‪.1964‬‬

‫الهوية السودانية‬

‫الحقيقة أن جذور الوعي بالتوصيف «األفروعريب» للهوية‬ ‫السودانية‪ ،‬ترجع إىل عرشينيات القرن املايض حيث تكوين‬ ‫جمعية اللواء األبيض التي قادت ثورة ‪1924‬م‪ ،‬ضد اإلنجليز‬ ‫وإىل دعوة رائد التجديد حمزة امللك طمبل يف كتابه «األدب‬ ‫السوداين وما يجب أن يكون عليه»‪ ،‬حيث ناشد شعراء‬ ‫مدرسة األحياء الشعري السوداين من أمثال محمد سعيد‬ ‫العبايس عدم االكتفاء بتقليد الشعراء العرب القدامى‪،‬‬ ‫وااللتفات إىل البيئة السودانية املحلية وتصويرها يف‬ ‫أشعارهم‪ .‬وأسوة بأفكار حمزة امللك واصلت جامعة مجلة‬ ‫«الفجر» يف الثالثينيات‪ ،‬الدعوة إىل أدب قومي سوداين يعرب‬ ‫عن الذات السودانية ببعديها العريب واإلفريقي‪ .‬ومن أبرز‬ ‫من نحى هذا املنحى معاوية نور وعرفات محمد عبدالله‬ ‫ومحمد أحمد املحجوب رئيس الوزراء األسبق الذي كتب يف‬ ‫هذا السياق‪« :‬نحن إن نادينا بقيام األدب القومي للطبيعة‬ ‫‪111‬‬


‫شعريات‬

‫محمد الفيتوري‪ :‬شاعر افريقيا‬

‫املحلية‪ ،‬فإمنا ندعو إىل خلق شعب بكيانه يعبرّ عن مرئياته‬ ‫من سامء زرقاء أو ملبدة بالغيوم‪ ،‬ومن غابات وصحراوات‬ ‫قاحلة ومروج خرضاء ومن إميان بالكجور والسحر إىل إميان‬ ‫بالله وحده ال رشيك له»‪.‬‬ ‫ويف الخمسينيات أعاد الشاعر محمد املهدي املجذوب‬ ‫إحياء أفكار حمزة امللك وعمل عىل عكس مظاهر الحياة‬ ‫السودانية يف أشعاره‪ ،‬وأدخل إنسان الجنوب ألول مرة‬ ‫إىل معادلة الثقافة السودانية يف قصائده التي عرفت‬ ‫بالجنوبيات‪ .‬وعرب املجذوب يف هذه القصائد عن إنسان‬ ‫جنوب السودان‪ ،‬وأعلن رصاحة عن العرق الزنجي الذي فيه‬ ‫وهو الذي ينتمي إىل قبيلة شاملية تعد نفسها أكرث عرب‬ ‫السودان عروبة حيث يقول يف إحدى هذه القصائد‬ ‫وعندي من الزنج أعراق معاندة‬ ‫وإن تشدق يف أشعاري العرب‬ ‫والفيتوري من شعراء الحداثة الذين سبقوا شعراء «الغابة‬ ‫والصحراء» إىل االلتفات إىل الجانب اإلفريقي‪ ،‬فقد‬ ‫كرس الفيتوري دواوينه الشعرية األوىل للتغني بإفريقيا‬ ‫وأمجادها فكتب «عاشق من إفريقيا»‪ ،‬و«أغنيات إفريقيا»‪،‬‬ ‫و«اذكريني يا إفريقيا»‪.‬‬ ‫ورغم بداهة التوصيف الذي تطرحه صيغة «الغابة‬ ‫والصحراء»‪ ،‬ومن أن القول بأن السودان بلد عريب إفريقي‬ ‫ثقافياً وعرقياً هو من املسلامت التي ال ميكن املجادلة‬ ‫حولها‪ ،‬فإن أصحاب هذا االتجاه قد تعرضوا لحمالت من‬ ‫النقد‪ ،‬وصل يف بعض األحيان إىل حد التشويه املتع ّمد‬ ‫واالستنتاجات الخاطئة آلرائهم من بعض ذوي النزعات‬ ‫األيديولوجية‪.‬‬ ‫‪112‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫وللحقيقة التاريخية فإن شعراء «الغابة والصحراء» ليسوا‬ ‫جامعة تربطهم رابطة أدبية أو يجمع بينهم أي تنظيم أو‬ ‫حزب سيايس‪ ،‬وإمنا هم نفر من املبدعني التقت أفكارهم‬ ‫يف غري ما اتفاق حول رمزية الغابة والصحراء للداللة عىل‬ ‫خصوصية الهوية السودانية‪ .‬وهذا ما جعل عبدالحي ينفي‬ ‫أن تكون هناك مدرسة شعرية باسم الغابة والصحراء يف‬ ‫حوار أجري معه‪ ،‬ظنه البعض تراجعاً عن فكرة الغابة‬ ‫والصحراء‪.‬‬ ‫وعندما نادى دعاة األفروعربية بالعودة إىل «سنار» كرمز‬ ‫للتعبري عن واقع حال الهوية السودانية‪ ،‬مل يقصدوا بذلك‬ ‫العودة إىل منوذج الدولة الدينية الذي كان مطبقاً يف مملكة‬ ‫سنار‪ ،‬كام مل يقصدوا تجاهل الحضارات واملاملك السودانية‬ ‫السابقة عىل سنار‪ .‬وإمنا هدفوا ببساطة إىل تقديم منوذج‬ ‫من تاريخ السودان يرمز ويعبرّ عن التعايش والتامزج‬ ‫السلمي بني الثقافات السودانية املختلفة‪ .‬وقد رأوا يف سنار‬ ‫الخالصة التي تلتقي عندها كل حضارات السودان القدمية‬ ‫واملعارصة‪.‬‬ ‫ويف سبيل البحث عن صيغة أكرث شمولية الستيعاب‬ ‫الكل املركب الذي متوج به الساحة السودانية الثقافية‪،‬‬ ‫أوجد نفر من املثقفني يف الثامنينيات صيغة جديدة هي‬ ‫«السودانوية»‪ ،‬وهي ال تختلف يف طروحاتها ويف نظرتها‬ ‫عن «الغابة والصحراء»‪ ،‬إال أنها رأت يف هذه الصيغة‬ ‫الجديدة خروجاً عن ثنائية «األفروعربية»‪ ،‬ومن أبرز دعاة‬ ‫«السودانوية» الشاعر كامل الجزويل والدكتور نور الدين‬ ‫سايت والفنان التشكييل الربوفيسور أحمد الطيب زين‬ ‫العابدين‪.‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬هنالك َمن ال يتح ّمس لكل هذه الصيغ والنظم‬ ‫الجاملية ويفضل االكتفاء باسم السودان للداللة عىل الحال‬ ‫الثقافية التي ميثلها‪ ،‬ومن هؤالء د‪ .‬حيدر إبراهيم عيل‬ ‫وغريه كثرّ ‪ ،‬ومهام كانت الصيغ املطروحة‪ ،‬ومهام تبدلت‬ ‫الشعارات واملواقف ستظل «الغابة والصحراء» هي الناظم‬ ‫الجاميل األكرث جاذبية وشاعرية يف التعبري عن واقع الهوية‬ ‫السودانية‪ .‬فالصحراء موجودة والغابة موجودة وما بينهام‬ ‫السافانا كذلك‪ ،‬وهل انفصال السودان اآلن إال نتيجة اختالل‬ ‫يف املعادلة بني الغابة والصحراء؟‬ ‫إعداد فاضل أبو عاقلة‬


‫لغة اآلخر‬

‫الشعر الجزائري بالفرنسية‬ ‫هامش آخر لن ّوار اللوز‬ ‫«الفرنسية غنيمة حرب»‪ ،‬هكذا وصف كاتب ياسين اللغة الفرنسية‪ ،‬وهي أن شكلت منفى لبعض الكتاب الجزائريين‬

‫فإنها كانت أداة للنكاية‪ ،‬وساحة لتصفية حساب ثقافي‬

‫سعيد خطيبي‬

‫«سوف تقول‪ :‬عىل لسان «مالك» دوماً كلامت بالفرنسية‪.‬‬ ‫هذا غري مهم ألنه ميكن لكلمة الجزائر أن تنطق حتى‬ ‫بالصينية‪ .‬نعم يا آراغون هذه هي دراما اللغة‪ .‬لو كنت‬ ‫اتقن الغناء لغنيت بالعربية»‪ .‬هكذا كتب الشاعر مالك‬ ‫حداد (‪ ،)1978-1927‬يف مخاطبة الشاعر الفرنيس لويس‬ ‫آراغون‪ .‬معتذراً عن املسافة اللسانية التي فصلته عن أبناء‬ ‫وطنه‪ ،‬ومقراً برغبته يف التعبري بالعربية‪ .‬عىل غرار كثري‬ ‫من أبناء جيله من الشعراء الجزائريني‪ ،‬أمثال كاتب ياسني‬ ‫(‪ )1989-1929‬ومحمد ديب (‪ ،)2003-1920‬عاش صاحب‬ ‫«الشقاء يف خطر» يف غربة لغة «اآلخر»‪،‬‬ ‫متمسكاً طوال حياته بحميمية العودة إىل‬ ‫لغة «األم» واستعادة كلامت «الجدة» التي‬ ‫ترىب عليها يف قسنطينة‪ .‬روحه النضالية‬ ‫كانت سبباً يف توقفه عن كتابة الشعر بعد‬ ‫االستقالل (‪ ،)1962‬لكن ما تركه من األعامل‬ ‫يشهد عىل تجربة مهمة يف مسار الشعر‬ ‫الجزائري املكتوب بالفرنسية‪.‬‬

‫سؤال الهوية شكل موضوعاً مشرتكاً يف نصوص الشعر‬ ‫الجزائري املكتوب بالفرنسية‪ ،‬بدايات القرن املايض‪ .‬العيش‬ ‫الحس الوطني‪ ،‬اجتمعا‬ ‫تحت وطأة االستعامر‪ ،‬وبداية بروز ّ‬ ‫لتنمية الوعي السيايس لدى بعض الشعراء‪ ،‬والزج بهم‬ ‫يف أسئلة الواقع‪ .‬جاءت نصوص جون موهوب عمروش‬ ‫(‪« )1962-1906‬محملة بالتيه والحب والتأمل الكوين‪ ،‬بحثاً‬ ‫عن تناغم بني عنارص الحياة‪ ،‬ومحاولة التنقيب يف الهوية‬ ‫األمازيغية» يعلق الشاعر الطاهر جاووت (اغتيل عام‬ ‫‪ .)1993‬جون عمروش هو أول من أخرج الشعر الجزائري‪،‬‬ ‫من املحلية إىل الكونية‪ .‬عاش شاعراً وصحافياً‬ ‫وجد مقرب من األوساط األدبية بالجزائر‬ ‫العاصمة وباريس‪ .‬ولعب الشاعر نفسه‪ ،‬رفقة‬ ‫شقيقته الشاعرة والقاصة مارغريت عمروش‪،‬‬ ‫دوراً مه ًام يف الحفاظ عىل املوروث الشفوي‪ ،‬يف‬ ‫الثقافة االمازيغية‪ ،‬من اشعار وحكايات‪ .‬ففي‬ ‫مجموعته الشعرية االوىل «رفات» (‪)1934‬‬ ‫نلتمس مزاوجة بني تأثريات الحركة الشعرية‬

‫مالك حداد‪ :‬الشقاء يف خطر‬

‫‪113‬‬


‫لغة اآلخر‬

‫الفرنسية بداية القرن‪ ،‬وترسبات الثقافة‬ ‫الشفوية‪ .‬فقد رشعت «رفات» الباب‬ ‫واسعاً لبدايات الشعريات املكتوبة‬ ‫بالفرنسية يف الجزائر‪.‬‬

‫ال نجم بعدك اليوم‬

‫رفاقي الهالكني‪ »…«/‬وداعاً مرشدة باغتها‬ ‫الربد‪ /‬أنا مستعد للهالك‪ /‬برشط أن ال يهلك‪/‬‬ ‫رفاقي يف عزلة‪ /‬برشط أن تذكرين أمي‪ /‬وسط‬ ‫الحشد‪/‬برشط أن أحفظ ذكرى راسخة‪/‬‬ ‫عن موتك» يكتب يف «فراق جسد»‪ .‬عاش‬ ‫كاتب «متمرداً» عىل معايري األدب‪ ،‬ومركزية‬ ‫الثقافة يف الجزائر وفرنسا‪ .‬كرس كثرياً من‬ ‫املسلامت وأنشأ فضاء إبداعياً يخصه وحده‪.‬‬ ‫ففي سنوات السبعينيات والثامنينيات‪ ،‬ملا‬ ‫انخرط كثري من الشعراء يف حمى الغناء‬ ‫واإلشادة بالنهج االشرتايك‪ ،‬والتهليل ملكاسب الثورة الزراعية‬ ‫التي قادها الرئيس هواري بومدين‪ ،‬عىل غرار الشاعرين‬ ‫جامل عمراين ومولود عاشور‪ ،‬حافظ كاتب ياسني عىل‬ ‫مسافة فاصلة بينه وبني السلطة‪ ،‬وبقي «‪Persona no‬‬ ‫‪ »grata‬حتى آخر أيام حياته‪.‬‬

‫ملا نرش كاتب ياسني مجموعته الشعرية‬ ‫األوىل «مناجاة» (‪ ،)1946‬التي أمتها‬ ‫يف السجن االستعامري (بعد مشاركته‬ ‫يف مظاهرات ‪ 8‬مايو‪/‬ايار‪ ،)1945‬مل‬ ‫يكن يعلم أنه سيكون أصغر شاعر يف البالد‪ ،‬حيث مل‬ ‫يكن يتجاوز حينها سن السابعة عرشة‪ .‬كاتب الذي اشتهر‬ ‫برواية «نجمة» (‪ )1956‬بدأ حياته األدبية شاعراً‪ ،‬متأثراً‬ ‫مثل جون عمروش‪ ،‬بالثقافة الشفوية‪ ،‬مستمداً نصوصه‬ ‫من تقلبات الحياة اليومية‪ ،‬وانخراطه يف الحركة النضالية‬ ‫العاملية‪ .‬مل يكن يهتم كثرياً بالنرش‪ ،‬مكتفياً بنرش مجموعة‬ ‫يا يحيى خذ الشعر‪ ،‬وال تبال‬ ‫وحيدة‪ ،‬وظلت نصوصه‪ ،‬طيلة عقدين من الزمن‪ ،‬مشتتة‬ ‫عىل صفحات الجرائد واملجالت‪ ،‬وكادت أن تضيع لوال جهد جون سيناك «االبن الضال» للشعر الجزائري خاض كل‬ ‫املعارك‪ ،‬وفقد أقرب األصدقاء إليه‪ ،‬شكل جرساً بني جيل‬ ‫الناقدة الفرنسية جاكلني آرنو‪ ،‬التي جمعت كل نصوص‬ ‫املؤسسني وجيل ما بعد االستقالل‪ ،‬ورحل‪ ،‬يف األخري‪،‬‬ ‫كاتب ياسني «الشعرية‪ ،‬النرثية واملرسحية» يف كتاب واحد‬ ‫كالغريب‪ ،‬يف مغارة باردة‪ ،‬حتى ظن بعضهم أنه كان‬ ‫(‪« .)1986‬نجمة» املرأة األسطورية‪ ،‬بنت العم‪ ،‬العشيقة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫صعلوكا ال أكرث‪ ،‬وكتب جامل الدين بن الشيخ يف تأبينه‪:‬‬ ‫رمز الوطن الحر‪ ،‬وذاكرة األجداد‪ ،‬هي املعلم الثابت‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ومؤرش بوصلة تجربة كاتب ياسني الشعرية‪ .‬هي الحارض يف «العنف وحده من يضع حدا لحياة الشعراء»‪ .‬رغم أصوله‬ ‫اإلسبانية‪ ،‬فإن جون سيناك ارتبط بالجزائر وبخيار االستقالل‬ ‫نصوصه الشعرية‪ ،‬واملتجلية يف أكرث من صورة‪« .‬اعتقدت‬ ‫أكرث من بعض الجزائريني أنفسهم‪« .‬كان أكرث وطنية‬ ‫أنك خالدة مثل الريح‪ ،‬مثل املجهول‪ /‬ها أنت تضيعني‬ ‫من أولئك الذين يتحدثون اليوم عن الجزائر «‪ »..‬اغتيال‬ ‫وأضيع أنا وتستحي أن تطلب مني البكاء»‪ .‬يكتب يف نص‬ ‫سيناك قضية دولة تتحمل مسؤوليتها الجهات السياسية‬ ‫«نجمة أو الشعر أو السكني»‪ .‬كان كاتب ياسني يكتب‬ ‫الرسمية» يقول الشاعر حميد سكيف‪ .‬أسس جون سيناك‪،‬‬ ‫نصوصه الشعرية‪ ،‬عىل هامش الحياة العادية‪ ،‬يرتاسل مع‬ ‫مطلع األربعينيات من القرن‬ ‫عشيقته «املستحيلة» نجمة‬ ‫املايض‪ ،‬حلقة شعراء يف الجزائر‬ ‫ويتخاطب مع العامل ويجهر‬ ‫العاصمة واطلق‪ ،‬بإمكانياته الخاصة‬ ‫بسخطه عىل الساسة بقصائد‬ ‫لو كنت اتقن الغناء‬ ‫والبسيطة‪ ،‬مجلتي «شمس»‬ ‫ملونة بالحب والغضب‪« .‬رفاقي‬ ‫لغنيت بالعربية‬ ‫و«سطوح» األدبيتني‪ ،‬وأدار أول‬ ‫ليسوا بعيدين عني‪ /‬لكنك بقيت‬ ‫مالك حداد برنامج إذاعي متخصص يف الشعر‬ ‫هنا وأنا من سيسهر بجانبك‪/‬‬ ‫عام ‪ ،1948‬الذي ضم فريق عمله‬ ‫أنا تائه وأنت أيضاً‪ /‬تطلب مني‬ ‫أسامء مهمة‪ ،‬أمثال محمد ديب‪،‬‬ ‫الركض‪ /‬قبل سامع سقوط‪/‬‬ ‫‪114‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫الشعر الجزائري بالفرنسية‬

‫أوبرات سمرية‬

‫الجيل الجديد من الشعراء مل يتوقف عن الكتابة والنرش‪،‬‬ ‫كام مل ينكر العالقة التواصلية التي تجمعه مع جيل اآلباء‪.‬‬ ‫سمرية نقروش (‪ 33‬سنة)‪ ،‬واحدة من أكرث األسامء النسائية‬ ‫حضوراً يف الشعر الجزائري الحديث‪ .‬منذ باكورتها «الضعف‬ ‫ليس أن تقول‪ »2001« »..‬وصوالً إىل مجموعتها األخرية‬ ‫«جاز الزيتون» (‪ )2011‬مروراً بـ«األوبرا الكونية» (‪،)2005‬‬ ‫عربت الشاعرة عن صوت «االختالف»‪ ،‬عن رغبة التجديد‬ ‫واختالق لغة شعرية متحركة‪ ،‬ترفض التقيد بالقواعد‬ ‫الشاعرة سمرية نقروش‬ ‫ً‬ ‫واملعايري الزمنية‪ .‬تكن الشاعرة كثريا من االحرتام لتجربة‬ ‫الراحل جامل عمراين وتقول‪« :‬ما يربطني بالشعر هي رغبة‬ ‫مولود معمري وآلبري ميمي‪ .‬عام ‪ ،1954‬ملا نرش مجموعته‬ ‫االستمرار يف الكتابة‪ .‬أعرف شعراء اختاروا طريق الشعر‪،‬‬ ‫الشعرية األوىل «قصائد» عن دار غاليامر يف باريس‪ ،‬كتب‬ ‫الشاعر الفرنيس الشهري رينيه شار مقدمة برش فيها مبيالد‬ ‫نرشوا مجموعات شعرية‪ ،‬وما يزال يراودهم هم كتابة‬ ‫«جيل االنقالب» األديب يف الشعر املغاريب‪ .‬االنقالب يف حياة نص شعري أخري يخلدهم بعد رحيلهم»‪ .‬أصدرت نقروش‪،‬‬ ‫جون سيناك مل يتوقف عىل كتابة‬ ‫منذ أسابيع‪ ،‬أنطولوجيا جديدة‬ ‫الشعر‪ ،‬بل أيضاً عىل مستوى‬ ‫للشعر الجزائري الحديث‪ ،‬تحت‬ ‫العالقات مع اآلخرين‪ ،‬حيث‬ ‫أكتب بالفرنسية ألقول عنوان «حني يزهر اللوز مجدداً»‪،‬‬ ‫مع‬ ‫قطع عالقته بشكل علني‬ ‫جمعت فيها أحد عرش شاعراً‪ ،‬من‬ ‫للفرنسيين إني لست‬ ‫ألبري كامو‪ ،‬بسبب تأخر هذا‬ ‫جييل املخرضمني والشباب‪ ،‬أمثال‬ ‫فرنسي ًا‬ ‫األخري يف اتخاذ موقف مساند‬ ‫الحبيب طانغور‪ ،‬حميد تيبويش‪،‬‬ ‫للثورة التحريرية‪ ،‬قبل أن يسهم‬ ‫كاتب ياسين محمد سحابة‪ ،‬ميييل غبالو وأمني‬ ‫يف تأسيس نواة اتحاد الكتاب‬ ‫ايت الهادي‪ .‬أسامء ليست بالرضورة‬ ‫الجزائريني عام ‪ 1962‬ويلتقي‬ ‫تحرص كل تجارب الشعر الجزائري‪ ،‬لكنها تعكس تنوعاً‬ ‫يش غيفار ويطلق مجلة شعرية أخرى اسمها «نوفمرب»‪ .‬ثم‬ ‫جيليا وتعدداً يف الرؤى ويف العالقة مع الكتابة الشعرية‬ ‫يصدر أول أنطولوجيا للشعر الجزائري‪ ،‬املكتوب بالفرنسية‪،‬‬ ‫إجامالً‪.‬‬ ‫عام ‪ ،1971‬التي قدمت أسامء شابة حينها‪ ،‬ما تزال تكتب‬ ‫«أنا أكتب بالفرنسية ألقول للفرنسيني إين لست فرنسياً»‬ ‫وتؤثث املشهد الشعري الجزائري اليوم‪ ،‬عىل غرار حميد‬ ‫هكذا تحدث الشاعر كاتب ياسني‪ .‬الفرنسية مل تكن‬ ‫نارص خوجة‪ ،‬وأسامء أخرى رحلت منذ فرتة ليست بعيدة‪،‬‬ ‫«ملجأ» وال «معرباً» لبلوغ قارئ آخر‪ .‬هي حتمية فرضتها‬ ‫أمثال يوسف سبتي‪ .‬املميز يف تجربة سيناك إنه كان يوقع‬ ‫وقائع تاريخية أنجبت أجياالً متعاقبة من مثقفني وشعراء‬ ‫نصوصه بأسامء مستعارة‪ ،‬غالباً أسامء عربية مستمدة من‬ ‫كاتالوغ األهايل‪ ،‬أشهرها «يحيى» الذي اختاره املرتجم محمد جزائريني‪ ،‬يكتبون بلغة «املستعمر القديم»‪ ،‬انطالقاً من‬ ‫حياتهم وسط األهايل‪ ،‬ومن عالقتهم مبوروث شعبي‪ ،‬ومن‬ ‫بوطغان عنواناً لرتجمته ألعامل سيناك الشعرية‪« :‬شموس‬ ‫تواصلهم مع ماض متحول‪ ،‬يف جزائر مل تعرف استقراراً ثقافياً‬ ‫يحيى الوهراين»‪.‬‬ ‫وهوياتياً طوال القرون الثالثة املاضية‬ ‫‪115‬‬


‫بورتريه الظل‬ ‫ّ‬ ‫محمد القيسي‬ ‫الشاعر‬ ‫ّ‬

‫الرّصيف أجمل من البيت‬

‫تحل هذه األيام ذكرى رحيل الشاعر محمد القيسي‪ .‬شاعر من طينة الشعراء الجوالين‪ ،‬عاش حياته‬ ‫ً‬ ‫مخيما من حول نتاجه إلى اليوم‬ ‫بالكتابة والترحال‪ ،‬ثم رحل بصمت ظل‬

‫يوسف عبد العزيز‬

‫زمن‬

‫طويل م ّر عىل موت ّ‬ ‫الشاعر الج ّوال‬ ‫مح ّمد القييس! يا إلهي تسع سنوات‬ ‫كاملة م ّرت‪ ،‬ومل ي ُلح وجهه األسمر يف مقهى أو رصيف‪،‬‬ ‫الصعاليك كام أسامه‬ ‫لقد هدأت عواصفه إذن‪ ،‬وغاب أمري ّ‬ ‫الشاعر محمود درويش‪ ،‬غابت عائلة املشاة التي كان‬ ‫يقودها يف تخوم الشعر الغامضة‪ .‬ومبوته تشتّت شمل تلك‬ ‫العائلة‪ ،‬أ ّما هو فقد انتهى من تطوافه‪ ،‬لريقد يف تلك الحفرة‬ ‫الترّ ابية ّ‬ ‫الضئيلة‪ ،‬بجانب قرب أ ّمه حمدة‪ ،‬الواقع عىل أطراف‬ ‫ماّ‬ ‫بلدة ال ّرص ْيفة القريبة من ع ن‪.‬‬ ‫األمر الذي يغيظني وأنا أكتب هذه العجالة يف ذكرى وفاة‬ ‫واجه‬ ‫هذا الشاعر الكبري‪ ،‬هو ذلك ّ‬ ‫الصمت املطبق الذي ُت َ‬ ‫واملؤسسات الثقافية‬ ‫به تجربته‪ ،‬من ِق َبل املث ّقفني العرب‬ ‫ّ‬ ‫العربية عىل ح ٍّد سواء‪ .‬لقد ذرع القييس بخطواته ساحات‬ ‫العواصم العربية ّ‬ ‫بالطول والعرض‪،‬‬ ‫لقد ّ‬ ‫ظل متوهّ جاً حتى ال ّرمق األخري‬ ‫من حياته‪ ،‬وترك وراءه أكرث من‬ ‫أربعني عم ًال تو ّزعت ما بني الشعر‬ ‫والسرية الذاتية والنّصوص‬ ‫والرواية ّ‬ ‫املفتوحة‪ .‬ومنذ وفاته التي مت ّر‬ ‫ذكراها هذه األ ّيام‪ ،‬مل يقم أحد‬ ‫تقريباً أو جهة ثقافية ما بطباعة‬ ‫املخطوطات التي تركها‪ ،‬أو بإعادة‬ ‫نرش كتبه‪ ،‬أو حتى باستذكاره!‬ ‫يف مخ ّيم الجلزون القريب من‬

‫‪116‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫تم طرده‬ ‫مدينة رام الله نشأ محمد القييس‪ ،‬وذلك بعد أن ّ‬ ‫عام ‪ ،1948‬من مسقط رأسه «قرية كفر عانة» قضاء يافا‪.‬‬ ‫يف الرابعة من عمره كان‪ ،‬حني انتشلته أ ّمه تحت وابل‬ ‫القذائف الصهيونية‪ ،‬وف ّرت به وبأخواته إىل ما بات ُيع َرف‬ ‫ّ‬ ‫بالض ّفة الغربية‪ .‬كان أبوه قد تويف قبل ذلك بسنتني‪ .‬وهذا‬ ‫ما فاقم وضع األرسة‪ ،‬ودفع ّ‬ ‫بالشاعر ليواجه قسوة الحياة‪.‬‬ ‫يف الطفولة سوف يلتقي ّ‬ ‫بالشعر مصادفة‪ ،‬إذ ّإن حادثة‬ ‫بسيطة وقعت معه‪ ،‬وخلقت منه شاعراً‪ :‬يف إحدى جلساته‬ ‫مع أقرانه من أطفال املخ ّيم‪ ،‬الذين كانوا معجبني بثقافته‪،‬‬ ‫قال لهم القييس فجأة إ ّنه شاعر‪ .‬طلبوا منه أن يقرأ قصيدة‬ ‫من شعره‪ ،‬فقال لهم غداً تسمعونها‪ .‬مل يكن القييس قبل‬ ‫ذلك قد كتب ّ‬ ‫الشعر‪ ،‬وهكذا فقد عاد إىل البيت مب ّكراً يف‬ ‫ذلك اليوم‪ ،‬وسهر طوال الليل عىل تأليف قصيدته األوىل‪.‬‬ ‫الصباح التايل التقى القييس الطفل‬ ‫يف ّ‬ ‫بأصدقائه وفاجأهم بالقصيدة‪.‬‬ ‫دروب الشاعر‬ ‫يف اإلعدادية نرش أوىل قصائده يف‬ ‫ثم ما لبث‬ ‫جريدة املنار املقدسية‪ّ ،‬‬ ‫أن نرش قصائده بعد سنوات يف مج ّلة‬ ‫«األفق الجديد»‪ ،‬تلك املج ّلة األدبية‬ ‫ال ّرائدة التي كان مق ّرها يف مدينة‬ ‫القدس‪ ،‬ويرشف عىل تحريرها الشاعر‬ ‫أمني شنّار‪ ،‬والتي كانت منرباً ثقاف ّياً‬


‫محمد القيسي‬

‫محمد القيسي‬ ‫ّ‬

‫خماسية‬ ‫الموت والحياة‬

‫الصعيد العريب‪ ،‬فقد كانت تنرش‬ ‫عمر شبانة‪ ،‬باإلضافة إىل النّاقد األديب فخري‬ ‫متم ّيزاً عىل ّ‬ ‫صالح‪ .‬قريباً من هذه العائلة كان النّاقد‬ ‫ليس للشعراء الفلسطينيني واألردنيني فحسب‪،‬‬ ‫وإنمّ ا ألسامء عربية مه ّمة أيضاً مثل أدونيس‬ ‫حسان أبو غنيمة‪ ،‬الشاعر إبراهيم‬ ‫السيناميئ‬ ‫ّ‬ ‫أبو هشهش‪ ،‬القاص يوسف ضمرة‪ ،‬الشاعر‬ ‫وعبد الوهّ اب البيايت وخليل حاوي وصالح‬ ‫شعر‬ ‫الصبور وملك عبد العزيز وخليل خوري‬ ‫محمد شالل‪ ،‬وآخرون‪ .‬يف هذه الفرتة كنّا‬ ‫عبد ّ‬ ‫ّ‬ ‫وغريهم‪ .‬بعد ذلك انتقل القييس لينرش قصائده‬ ‫نلتقي بشكل شبه يومي‪ ،‬لنذرع الطرقات‪،‬‬ ‫ماّ‬ ‫ّ‬ ‫يف عدد من املجالت العربية املعروفة‪ ،‬مثل «اآلداب»‬ ‫ونذهب إىل مقهانا الخاص «الشهرزاد» وسط مدينة ع ن‪،‬‬ ‫السنوات يشري القييس‬ ‫فنبقى هناك إىل أن يحل الليل‪ .‬حينها نبدأ فص ًال جديداً من‬ ‫البريوتية و«شعر» املرص ّية‪ .‬عن تلك ّ‬ ‫إىل عالقته التي ّ‬ ‫ّ‬ ‫فنستقل مجموعة‬ ‫التّجوال‪ .‬أحياناً كنّا نضجر من املدينة‪،‬‬ ‫توطدت مع جامعة األفق الجديد‪ ،‬التي‬ ‫من العربات‪ ،‬وني ّمم شطر الغابات الواقعة إىل ّ‬ ‫الشامل من‬ ‫تضم ك ًال من‪ :‬الشاعر فايز ُص ّياغ‪ ،‬الشاعر عبد ال ّرحيم‬ ‫كانت ّ‬ ‫ماّ‬ ‫السواحري‪ ،‬القاص محمود شقري‪،‬‬ ‫ع ن‪ .‬أجمل هذه العربات كانت تلك العربة البيضاء التي‬ ‫عمر‪ ،‬القاص خليل ّ‬ ‫وآخرين‪ ،‬هذا باإلضافة إىل رئيس تحرير املج ّلة الشاعر أمني‬ ‫أطلقنا عليها اسم «مركبة كنعان»‪ ،‬والتي كانت تقودها‬ ‫شنّار‪ .‬الشاعر الذي كان أكرث قرباً إليه يف هذه الجامعة هو‬ ‫السنوات غن ّية‬ ‫نادية صديقة الشاعر عمر شبانة‪ .‬كانت تلك ّ‬ ‫نلم القصائد‬ ‫موىس رصداوي‪ ،‬الذي بات يش ّكل معه ثنائ ّياً شعر ّياً‪ ،‬والذي‬ ‫يف الكتابة‪ ،‬وقد ع ّلمنا القييس أثناءها كيف ّ‬ ‫من ّ‬ ‫الطرق! ال ّرصيف أجمل من بيت‪ ،‬كان يقول‪ ،‬ويضيف‪:‬‬ ‫سيهاجر معه بعد وقت قصري لإلقامة يف الكويت‪.‬‬ ‫منذ هجرته إىل الكويت عام ‪ ،1964‬انفتحت الدّروب‬ ‫ال ّرصيف حر ّية والبيت قيد‪.‬‬ ‫أمام ّ‬ ‫الشاعر الج ّوال‪ ،‬الذي أصبح ال يستق ّر به املقام يف‬ ‫عام ‪ ،1984‬ق ّرر ال ّذهاب إىل تونس‪ ،‬والعمل يف اإلعالم‬ ‫بلد‪ ،‬حتى يرتكه إىل بلد آخر‪ .‬يف العام ‪ ،1967‬ومع تصاعد‬ ‫الفلسطيني‪ .‬اإلقامة يف تونس و ّفرت له ج ّواً من العزلة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ومكنته من إنجاز عدد من الكتب‪ .‬يف ّ‬ ‫الشعر كان شتات‬ ‫وترية الكفاح املس ّلح الفلسطيني‪ ،‬جاء من الكويت إىل‬ ‫الواحد‪ّ ،‬‬ ‫كل ما هنالك‪ ،‬ويف النرث كان كتاب حمدة وعائلة‬ ‫األردن‪ ،‬ليلتحق بال ّثورة الفلسطينية‪ .‬سنوات قليلة وارتحل‬ ‫السعودية فليبيا حيث عمل يف‬ ‫املشاة‪ .‬اإلقامة يف تونس أيضاً م ّكنته من رؤية األندلس‬ ‫إىل سوريا فالعراق‪ّ ،‬‬ ‫ثم إىل ّ‬ ‫الصحافة والتّدريس‪ .‬يف العام ‪ 1977‬عاد إىل األردن وعمل يف واإلطاللة عىل املدن األندلسية املعروفة مثل غرناطة‪،‬‬ ‫تم فصله من‬ ‫إشبيلية‪ ،‬قرطبة‪ ،‬ملقة‪ ،‬ومدريد‪ ،‬هذا باإلضافة إىل زيارته‬ ‫ّ‬ ‫ثم يف التّلفزيون لفرتة قليلة‪ ،‬حيث ّ‬ ‫الصحافة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫الخاص‪،‬‬ ‫لبيت لوركا‪ .‬كل ذلك دفعه الكتشاف أندلسه‬ ‫السوداء‬ ‫ّ‬ ‫ّعسف‪ّ ،‬‬ ‫وتم وضع اسمه يف الالئحة ّ‬ ‫عمله مبنتهى الت ّ‬ ‫الغارق يف مياه روحه‪ ،‬وتف ّقد‬ ‫تضم عدداً كبرياً من‬ ‫التي كانت ّ‬ ‫ّ‬ ‫موجوداته املنذورة ّ‬ ‫الشخص ّيات الوطن ّية‪ ،‬التي كانت‬ ‫للضياع‪.‬‬ ‫األجمل‬ ‫السبع‬ ‫نوات‬ ‫الس‬ ‫ّ‬ ‫ممنوعة من دخول مبنى التلفزيون‪.‬‬ ‫أوائل التّسعين ّيات عاد إىل عماّ ن‪،‬‬ ‫في حياته‪ ،‬قضاها‬ ‫استق ّر القييس يف األردن حتى العام‬ ‫ثم‬ ‫ومكث فيها مدّة ثالث سنوات‪ّ ،‬‬ ‫ما لبث أن هاجر إىل لندن التي‬ ‫السبع التي‬ ‫السنوات ّ‬ ‫‪ .1984‬تلك ّ‬ ‫مع تلك الكتيبة من‬ ‫قضاها يف عماّ‬ ‫سيقيم فيها حتى العام ‪،2000‬‬ ‫هي‬ ‫كانت‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫ن‪،‬‬ ‫بمّ‬ ‫ّ‬ ‫عاليك‬ ‫الص‬ ‫عراء‬ ‫الش‬ ‫ّ‬ ‫السنوات األجمل يف حياته‪ ،‬وحياة‬ ‫يف لندن سيواصل حأمة الكتابة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫التي كان يقودها‪ ،‬أو‬ ‫تلك الكتيبة من ّ‬ ‫الصعاليك‬ ‫وسيذهب هذه امل ّرة إىل السرّ د‬ ‫الشعراء ّ‬ ‫التي كان يقودها‪ .‬كانت الكتيبة‬ ‫حيث سيكتب روايته «الحديقة‬ ‫عائلة المشاة كما كان‬ ‫الرسية»‪.‬‬ ‫له‬ ‫أو عائلة املشاة كام كان يحلو‬ ‫ّ‬ ‫يها‬ ‫يسم‬ ‫أن‬ ‫له‬ ‫يحلو‬ ‫ّ‬ ‫أن يس ّميها‪ ،‬مش ّكلة من الشعراء‪:‬‬ ‫بعد العام ‪ ،2000‬استق ّر يف‬ ‫يوسف عبد العزيز‪ ،‬يوسف أبو لوز‪،‬‬ ‫عماّ ن‪ ،‬وقام بعدد من الجوالت‬ ‫‪117‬‬


‫بورتريه الظل‬

‫من أعامل الفنانة سامية حلبي‬

‫وعليك أن متر عىل القييس هذا املساء‪ ،‬لتصطحبه معك‬ ‫يف فلسطني‪ ،‬فذهب إىل رام الله وغزّة‪ ،‬وعكف عىل كتابة‬ ‫ّ‬ ‫روايته التالية «رشفة يف قفص»‪ ،‬التي يدور فضاؤها يف كل‬ ‫يف العربة‪ ،‬وتجيئا إىل البيت‪ .‬وبالفعل‪ ،‬ففي ذلك املساء‬ ‫من عماّ ن ورام الله وغزّة ولندن‪ ،‬والتي سينرشها قبل وقت كنت أنا والقييس يف بيت عبدالله‪ ،‬وأجرينا الجزء األ ّول من‬ ‫قصري من وفاته‪.‬‬ ‫الحوار‪ .‬يف األ ّيام الثالثة التالية أكملت الحوار مع الشاعر‬ ‫محمد القييس يف مقهاه األثري الذي اعتاد الجلوس فيه يف‬ ‫ّ‬ ‫اللقاء مع املوت‬ ‫الشميساين‪ .‬يف اليومني التاليني انهمكت يف تفريغ الحوار‬ ‫ثم بعثت به إىل مج ّلة عماّ ن‪.‬‬ ‫يف ذلك اليوم األسود‪ ،‬يف التاسع من نيسان من العام ‪ ،2003‬وتحريره‪ّ ،‬‬ ‫جنّ جنون الشاعر محمد القييس‪ ،‬وهو يرى من خالل شاشة يف العرشين من شهر ّمتوز هاتفني الشاعر محمد القييس‪،‬‬ ‫التلفاز ال ّد ّبابات األمريكية‪ ،‬وهي تجوب شوارع بغداد‪،‬‬ ‫وشكرين عىل الحوار الذي رآه منشوراً يف مج ّلة عماّ ن‪ .‬قال‬ ‫وأحب أهلها ّ‬ ‫للسفر غداً‬ ‫الط ّيبني‪ .‬مل يحتمل القييس‬ ‫بغداد التي أح ّبها‬ ‫ّ‬ ‫يل‪ :‬متى سوف نلتقي؟ قلت له‪ :‬أنا مضطر ّ‬ ‫الكارثة التي وقعت‪ ،‬فانخرط يف نوبة حادّة من الصرّ اخ‪،‬‬ ‫صباحاً إىل حمص‪ ،‬فأنا مدع ّو للمشاركة يف أحد املهرجانات‬ ‫أطاحت به وأدخلته العناية ا ُملركزة يف أحد مستشفيات‬ ‫هناك‪ ،‬وفور عوديت أهاتفك‪ ،‬وداعاً‪ .‬يف حمص ا ّتصلت يب‬ ‫عماّ ن‪ .‬أ ّيام وخرج من املستشفى‪ ،‬وحني علمنا باألمر قمنا‬ ‫زوجتي لتبلغني بالكارثة‪ :‬صديقك القييس يف العناية ا ُملركزة‪،‬‬ ‫بزيارته يف البيت‪ ،‬أنا والقاص محمود الرمياوي والشاعر‬ ‫وتوجهت يف الحال إىل عماّ ن‪.‬‬ ‫فقطعت زياريت ّ‬ ‫ماّ‬ ‫القييس‬ ‫والقاص رسمي أبو عيل‪ ،‬والكاتب صالح حز ّين‪ .‬كان‬ ‫يف مستشفى األردن يف ع ن كان الشاعر محمد القييس‬ ‫يبدو بكامل بهائه‪ ،‬وكان قد أع ّد لنا مائدة طعام فيام يشبه ممدّداً عىل السرّ ير كمالك حائر‪ ،‬سقط فجأ ًة يف الشرّ ك‪.‬‬ ‫ثم إنيّ أنوي كان جسده املنهك موصوالً بعدد كبري من األنابيب التي‬ ‫العشاء األخري‪ .‬خذوا ما تريدون من الكتب قال‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫الفيض‬ ‫ومسدت شعره‬ ‫ال ّت ّربع مبكتبتي ألحد أندية املخ ّيامت الفلسطينية‪ .‬قال تلك كنت أجهل كنهها‪ .‬وقفت بجانبه‪ّ ،‬‬ ‫العبارة فالتفتنا إىل بعضنا بعضاً بنظرات ملؤها ال ّذهول!‬ ‫ثم ناديته‪ :‬قم يا صديقي مح ّمد‪ ،‬لنذهب إىل‬ ‫املسرتسل‪ّ ،‬‬ ‫أواسط شهر حزيران من العام ‪ ،2003‬ا ّتصل يب الصديق عبد املقهى‪ .‬مل يجب القييس ع ّ‬ ‫عيني‬ ‫يل‪ ،‬فأظلمت الدّنيا يف ّ‬ ‫ورصخت‪ :‬أرجوك ّ‬ ‫الله حمدان رئيس تحرير مج ّلة عماّ ن‪ ،‬وقال يل‪ :‬أريد منك‬ ‫كف عن هذا املزاح الثقيل معي‪ ،‬وانهض‪،‬‬ ‫أن تقوم عىل الفور بإجراء حوار مع ّ‬ ‫الشاعر محمد القييس‪ .‬لنذهب إىل املقهى‪ .‬عندها تقدّم منّي الطبيب‪ ،‬وأخذين‬ ‫ُ‬ ‫ثم ألقى ع ّ‬ ‫قلت له‪ :‬أرجوك‪ ،‬أ ّيها الصديق! وهل هذا وقت مناسب‬ ‫الصاعق‪ :‬صديقك يف‬ ‫يل بالخرب ّ‬ ‫خارج الغرفة‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫إلجراء الحوارات؟ أال ترى بغداد؟ ر ّد عيل عبد الله قائال‪:‬‬ ‫حالة غيبوبة كاملة‪ ،‬وقد ماتت قرشة الدّماغ لديه‪ ،‬أ ّما نسبة‬ ‫األمر خطري‪ ،‬هذا الصباح كنت قد قرأت القصائد الجديدة‬ ‫شفائه فهي ال تتعدّى خمسة باملائة!‬ ‫القييس‬ ‫التي أرسلها إ ّيل القييس‪ ،‬وشممت منها رائحة املوت‪،‬‬ ‫يف األ ّول من شهر آب من العام ‪ 2003‬مات القييس‪،‬‬ ‫يا يوسف يريث نفسه‪ ،‬وأضاف‪ :‬لقد هاتفته‪ ،‬وطرحت عليه‬ ‫وش ّيعناه إىل مقربة الرصيفة‪ ،‬لنضعه هناك بجوار قرب أ ّمه‬ ‫فكرة الحوار فوافق‪ ،‬واشرتط ع ّ‬ ‫يل أن تقوم أنت مبحاورته‪.‬‬ ‫حمدة‪ ،‬مثلام أوصانا ذات م ّرة‪ .‬يف ذلك اليوم انطفأ كوكب‬ ‫ّ‬ ‫الشعر يف سامء عماّ ن‪ ،‬وتيتّمنا متاماً‬ ‫قلت له‪ :‬سأقوم بإجراء الحوار‪ .‬قال‪ :‬لقد ر ّتبت كل يشء‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫‪118‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫حاشية‬

‫‪.‬‬

‫حسن نجمي‬ ‫‪.............................................................................................................‬‬

‫ال‬

‫جة‬ ‫يك ْ‬ ‫يت في ط ْن َ‬ ‫ِب ِ‬

‫أعرف ما إِذا كانت زيارة َص ْم ْ‬ ‫ويل ِبي ِك ْ‬ ‫يت إىل مدينة طنجة سنة ‪ 1978‬هي آخر زيارة له إىل املغرب‪ ،‬ولكنها زيارة ال ُتنْىس‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫بعض‬ ‫وسوف ال ُتنْىس أَبداً‪ .‬لقد تركت أث َر ْين عىل األقل‪ ،‬أولهام ما ك َت َبه من نصوص شعرية ذات نفس َشذري‪ ،‬من َو ْحي ِ‬ ‫فضاءات املدينة أو رمبا كان قد جاء إِليها ل َي َضع فيها بعضاً مام كان يف خاطره من شعر‪ .‬وثانيهام الصور الجميلة ا ُملد ِْه َشة‬ ‫الح َقه يف عد ِد من أَزقة طنجة ومنعرجاتها‪ ،‬وهو يتجول طوال الوقت‬ ‫التي التقطها له أَحد الفوتوغرافيني الفرنسيني ال َّبا َّبارا ْت ِزي الذي َ‬ ‫بلباس ِج ِّد ّ‬ ‫العب كرة قدم وقميص صيفي أزرق بنصف ُك ّم أو قميص ُبنّي‬ ‫برفقة زوجته‪ ،‬وغالباً ِ‬ ‫متقش ٍف (رسوال قصري جداً مثل ِ‬ ‫خفيف‪ ،‬ومحفظة من قامش‪ ،‬ونعال جلدية منْ ريح)‪.‬‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫قامة نحيلة جدا مثل ظل ضئيل من نحاس‪ ،‬ونظرات ذئب تتخفى خلف نظارات سوداء‪ .‬يتقدم زوجته غالبا‪ ،‬يف حركات ساهية‬ ‫تحتفي بالفراغ وال تحفل بالوجود واملوجودات من حوله‪ .‬وطنجة حواليه تحاول ْأن تواصل استثامر ذاكرتها الثقافية واألدبية‬ ‫الكونية الرثية وتضيف اسمه إىل سجالتها الرسية‪ .‬من هنا مر شعراء وكتاب وفنانون كبار ‪ :‬دوالكروا‪ ،‬موريس رافيل‪ ،‬ماتيس‪ ،‬روالن‬ ‫بارت‪ ،‬جان جونيه‪ ،‬تينييس وليمس‪ ،‬غينسبريغ‪ ،‬بوراوز‪ ،‬غريغوري كورسو‪ ،‬غايسن‪ ،‬ترومان كابوت‪ ،‬ماك جايغر‪ ،...‬وهنا استقر بول‬ ‫باولز وأسلم الروح‪ ،‬وهنا كان يرتدد عليه كتاب وصحافيون كبار‪.‬‬ ‫يف كتابه «لقاءات مع صمويل بيكيت»‪ ،‬يسجل الكاتب الفرنيس شارل جولييت لقاءاته االستثنائية مع اإليرلندي الكبري‪ ،‬لكن‬ ‫لقاءهام األول يظل األكرث وطأة يف النفس والذاكرة‪ .‬ينقر الفرنيس الشاب (لكان ذلك يف أكتوبر ‪ )1968‬عىل األنرتفون‪ .‬يدعوه‬ ‫بيكيت إىل الصعود‪ .‬وعندما يخرج من املصعد‪ ،‬يجد نفسه قبالته‪ ،‬تقريبا وجها لوجه‪ ،‬يف املمىش‪ .‬يدخالن الشقة‪ ،‬ثم إىل مكتب‬ ‫بيكيت‪ .‬يتخذ شارل مكانا له عىل أريكة صغرية أمام الطاولة التي يشتغل عليها اإليرلندي بينام جلس هذا األخري عىل مقعد دوار‬ ‫متحركا مينة ويرسة‪.‬‬ ‫كان بيكيت اتخذ الوضعة املعتادة لديه‪ ،‬وقد بقي جالسا بدون أن يفعل شيئاً ‪ :‬الساق عىل الساق‪ ،‬الذقن يف اليد‪ ،‬الظهر منحن‪،‬‬ ‫والعينان تحدقان يف أرضية الحجرة‪.‬‬ ‫يستقر الصمت‪ .‬يعرف الكاتب الشاب (الشاب آنذاك) أنه لن يكون سهال قطعه‪ .‬ويتذكر شارل جولييت فجأة‪ ،‬وليس دون قلق‪ ،‬أن‬ ‫موريس نادو سبق أن قال له إن بإمكان بيكيت أن يلتقي أحدا ويغادره بعد ساعة أو ساعتني من ذلك بدون أن يكون قد تبادل‬ ‫معه كلمة واحدة‪! ‬‬ ‫وأتذكر – أنا أيضا – بيكيت‪ ،‬يف طنجة‪ ،‬حني جاء إىل املدينة وقد انطفأت‪ .‬كانت قد انرصفت عنها أسطورتها‪ .‬هل جاء يقتفي‬ ‫آثاراً غامضة أو بحثاً عن صمت كان قد بدأ يفتقده يف باريس ؟ جاء إىل طنجة وقد تهدمت‪ ،‬ومسخت‪ ،‬وتخىل عنها زمنها‬ ‫الكوسموبوليتي‪ .‬رمبا بسبب ذلك جاء‪ ،‬فمثله من يدرك املعنى الذي توفره األمكنة املقفرة أو املدن التي يداهمها التصحر أو‬ ‫تعصف بها روح قيامية‪ .‬ولعل الفوتوغرايف كانت منتبها إىل الغور العميق لنظرة بيكيت‪ ،‬إذ ال نعرث لإليرلندي يف طنجة عىل صورة‬ ‫يف ساحة جميلة أوقرب واجهة أو بجوار معامر متميز أو خلفية تاريخية‪ .‬دامئا‪ ،‬يف كل صور الكتاب‪ ،‬نراه مبحاذاة جدار محفر‪ ،‬أو‬ ‫يف زقاق جانبي‪ ،‬أو قرب حانوت فقري‪ ،‬أو فوق سكة حديد‪.‬‬ ‫دامئا‪ ،‬يف خواء طنجة‪ .‬هناك حيث كان قد بدأ يتحدث عن الشيخوخة التي كان يتمنى أن تكون منصفة وحيوية‪ ،‬وال تقعد الجسد‬ ‫النحيل عن كثافة أدائه‪.‬‬ ‫يف كتابه «قصائد» (منشورات مينوي‪ ،‬باريس ‪ )1978/1999‬يذكر طنجة بخري‪ ،‬وإن كان ال يستحرض منها إال املقربة واملوت واملوىت‬ ‫والغائبني‪ .‬أراه مييش مرتدد الخطوة يف قصائده‪ ،‬يف شذراته املسرتسلة يف طنجة (أو من وحيها)‪ .‬مثة جنون‪ .‬وصمت‪ .‬وجامجم‪.‬‬ ‫وشخص بال صدغني‪ ،‬بال أسنان (لعله هو)‪ .‬ثم مثة كلب صغري أخرض‬ ‫‪119‬‬


‫حوار‬

‫عبدالعزيز المقالح‬

‫الحداثة برهان حقيقي‬ ‫على المستقبل‬

‫يحضر اسم الشاعر عبد العزيز المقالح على المستوى العربي‬

‫ضمن قائمة الرواد الكبار‪ ،‬الذين تحملوا مشقة التأسيس بدأب‬

‫لحداثة شعرية وخطاب نقدي متقدم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫بعدا يتجاوز الجانب اإلبداعي إلى الجانب الرمزي‬ ‫فيما يكتسب حضوره في اليمن‬

‫الذي يمثله شاعر ما في مخيلة مجتمعه‪ .‬إذ استطاع أن يجعل صورة الشاعر‬ ‫والمثقف تحظى في الذاكرة الثقافية المعاصرة بمكانة تعلي من قيمة الشعر‬

‫والشاعر في وعي الناس وفي مخيلة أجيال على مدى العقود األربعة الماضية‪ .‬أي‬ ‫األجيال التي تخرجت من جامعة صنعاء التي ترأسها لسنوات ومارس التدريس‬

‫فيها وال يزال حتى اآلن‪.‬‬

‫«بيت الشعر» التقته في صنعاء وأجرت معه هذا الحوار‬

‫حوار‪ :‬أحمد السالمي‬

‫‪120‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫عبد العزيز املقالح‬ ‫‪121‬‬


‫حوار‬

‫العامرة التي يسكنها وبدأ يبيع بعض االحتياجات اليومية‬ ‫يتداول القارئ العريب اسم عبدالعزيز املقالح كأيقونة‬ ‫شعرية من جنوب شبه الجزيرة العربية‪ .‬كأن صاحب االسم لسكان الحي‪ ،‬كربيت‪ ،‬سجائر‪ ،‬صابون‪ ،‬مرشوبات غازية‪ ،‬ومل‬ ‫مي ّر سوى وقت قصري عىل هذا الجار حتى كان قد اشرتى‬ ‫خلق ليك يكون ما هو عليه وما ميثله‪ ..‬متى اكتشفت أن‬ ‫عىل الشاعر أن يحرس جذوة الشعر ويحوطها بسياج يحمي البيت الذي يسكن فيه وبدأ يف تحويل الدكان الصغري إىل‬ ‫«سوبرماركت» كبرية وكثرياً ما ميازحني هذا الجار بقوله‪:‬‬ ‫دفء التجربة وال يعزلها؟‬ ‫َ‬ ‫ما الذي أفدت من القراءة والكتابة‪ ،‬فأقول‪ :‬ما ال تستطيع‬ ‫منذ بدأت أشعر بأهمية الشعر الحقيقي‪ ،‬واكتشف ما‬ ‫تصوره‪ .‬وكم هممت أن أرد عىل سؤاله مبقولة ذلك الصويف‬ ‫ينبض به عامل الكلمة وما يفيضه عىل الروح والوجدان من‬ ‫الذي قال‪ :‬لو عرف امللوك ما نتمتع به من طأمنينة وراحة‬ ‫إحساس‪ ،‬بأن يف إمكان اإلنسان أن ينحت من اللغة ما‬ ‫بال لقاتلونا عليهام بسيوفهم‪ .‬وكذلك هو حال الشعراء‬ ‫يجسد فيها وبها معنى جديداً وصوراً مل تكن موجودة يف‬ ‫الذين يغمرهم الشعر بلذائذه ودفء مجازاته‪.‬‬ ‫الواقع‪ ،‬وما كان لها لوال الشعر أن توجد عىل اإلطالق‪ .‬أما‬ ‫«ال بد من صنعاء» كان ديوانك األول الذي صدر عام‬ ‫متى فال أدري‪ ،‬لكن حاولت وقد أكون نجحت يف أن ال‬ ‫‪1971‬م‪ ،‬ويف أواخر التسعينيات منحت هذه املدينة عصارة‬ ‫أقطع صلتي بهذا اليشء الجميل املسمى بالشعر‪ ،‬وأن ال‬ ‫شعرية أخرى متثلت بـ»كتاب صنعاء»‪ .‬كام أنك مل تغادرها‬ ‫أترك مشاغل العمل الوظيفي وشواغل الحياة تبعدين عنه‪،‬‬ ‫عىل ما يبدو منذ عودتك إليها من القاهرة بعد انجاز‬ ‫بوصفه املعنى الكبري املتبقي من رحلة الحياة القصرية‬ ‫رسالة الدكتوراه‪ .‬كيف ترصد تحوالت شغفك بصنعاء؟ هل‬ ‫واملفعمة مبا يروق قلي ًال ومبا ال يروق كثرياً‪ ،‬وال أخفي أنني‬ ‫كنت‪ ،‬أحياناً وليس دامئاً‪ ،‬مع هذا املخلوق اللغوي الجميل‪ ،‬هي «جامليات املكان»‪ ،‬بحسب عنوان للمثقف الفرنيس‬ ‫«غاستون باشالر»‪ ،‬كانت حافزاً لحضور صنعاء يف شعرك‬ ‫أشعر بخدر لذيذ لحظة البدء يف الكتابة ولحظة االنتهاء‬ ‫وحضورك فيها؟ أم أن للمخيلة أمكنتها التي ال تشيخ وال‬ ‫منها‪ ،‬كام أنني مقتنع بأن الكتابة اإلبداعية ستبقى مصدر‬ ‫يكسوها غبار الزمن؟‬ ‫شعور باللذة التي ال تقاوم‪.‬‬ ‫صنعاء مدينة ال يختلف اثنان عىل أنها واحدة من أهم‬ ‫املدن يف العامل‪ ،‬ليس لعراقتها ومعامرها الفريد فحسب‪،‬‬ ‫البد من صنعاء‬ ‫ً‬ ‫وإمنا لطقسها أيضا‪ ،‬هذا الذي يجعلك من دون مبالغة‬ ‫هل مثة ما يخرسه املرء أو يضحي به عندما يهب حياته‬ ‫تعيش يف ربيع دائم فال تشعر بربودة‬ ‫للقصيدة؟ هل نقول إن الجوائز‬ ‫الشتاء وال بحرارة الصيف‪ ،‬شتاء دافئ‬ ‫التي يحصل عليها الشاعر‬ ‫أهم‬ ‫الثقافة‬ ‫حديث‬ ‫ومشمس‪ ،‬وصيف غائم وممطر‪.‬‬ ‫تعوضه عن بعض الخسارات‬ ‫ً‬ ‫وبعيدا عن الشعر والعاطفة‪ ،‬مدينة‬ ‫والتضحيات؟‬ ‫بكثير من تحديث‬ ‫صنعاء ساحرة ومسحورة لغري أبنائها‬ ‫أن تكتب قصيدة جيدة يف هذا‬ ‫المباني والطرقات‬ ‫هؤالء الذين ألفوا مبانيها وأزقتها‪،‬‬ ‫الزمن املوحش البد أن تعوضك‬ ‫ومل يعودوا يسمعون ما يتصاعد من‬ ‫واألثواب وأشكال‬ ‫عن كل ما ينالك يف الواقع من‬ ‫جدران البيوت العتيقة من موسيقى‬ ‫خسائر‪ ،‬فالكتابة عامة‪ ،‬وكتابة‬ ‫الطعام‪ ،‬وأي تغيير في‬ ‫التاريخ وأغانيه اآلرسة‪ ،‬وبالنسبة يل‬ ‫الشعر خاصة تحمل من املتعة‬ ‫الواقع يقتضي بالضرورة ال أنىس االنطباع األول الذي تك ّون‬ ‫والشعور بالرضا ما ال يقاس‬ ‫لدى طفل قروي يقرتب من هذه‬ ‫بيشء من متع الحياة‪ .‬وأتذكر‪،‬‬ ‫تغيير ًا مماث ً‬ ‫ال في دنيا‬ ‫املدينة وهو يف السادسة من عمره‪،‬‬ ‫باملناسبة‪ ،‬جاراً يل سكنت معه‬ ‫واإلبداع‬ ‫الثقافة‬ ‫ويدخلها يف منتصف النهار بعد أن‬ ‫يف الحي الذي نعيش فيه معاً‪،‬‬ ‫رآها من بعيد تلمع تحت أضواء‬ ‫وقد استأجر دكاناً صغرياً يف‬ ‫‪122‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫عبد العزيز المقالح‬

‫الشمس مبآذنها السامقة ومنازلها املطلية‬ ‫باللون األبيض وما تعكسه رشفاتها املنمنمة‬ ‫ونوافذها الزجاجية من بريق ّأخاذ‪ ،‬ذلك‬ ‫االنطباع ترسب يف ذهن ذلك الطفل الذي‬ ‫هو أنا‪ ،‬واستمر يتوهج يف الذاكرة حتى‬ ‫بعد أن رصت شاباً ورج ًال وكه ًال‪ .‬ومن ذلك‬ ‫االنطباع األول أغرتف تجاريب الشعرية عن هذه املدينة‬ ‫الجميلة‪ .‬وما أكرث الساعات التي كنت أمضيها عىل سطح‬ ‫بيتنا القديم ذي الطوابق الخمسة أتأمل مأخوذاً هذا‬ ‫التناسق العجيب بني البيت واملئذنة‪ .‬بني الجبال والسور‬ ‫الذي كان يحيط باملدينة من جميع الجهات‪.‬‬ ‫لقد زرت أغلب املدن العربية‪ ،‬وكثرياً من املدن األوروبية‪،‬‬ ‫ومل ترتك واحدة منها يف نفيس شيئاً من ذلك االنطباع الذي‬ ‫تركته صنعاء عندما رأيتها ألول مرة‪ ،‬وكنت أسأل نفيس‬ ‫هل كان من الرضوري أن أعود طف ًال ليك أحظى بيشء من‬ ‫ذلك االنطباع الذي منحتني إياه‬ ‫صنعاء‪ ،‬وسمعت الجواب الذي‬ ‫يقول «ال» من شقتي مبدينة‬ ‫اإلسكندرية التي دخلتها ألول‬ ‫مرة يف أواخر الخمسينيات‬ ‫من القرن املايض‪ ،‬وأنا يف‬ ‫ً‬ ‫العرشين من عمري تقريبا فقد‬ ‫استطاعت تلك‬

‫املدينة التاريخية العتيقة أن تعيد إىل وجداين‬ ‫بعضاً من ذلك االندهاش الجميل‪ ،‬وكأين سمعتها‬ ‫تقول يل إن العني ال تخطئ مواقع الجامل‬ ‫الفاتن واملثري‪.‬‬ ‫منذ صدور «كتاب صنعاء» اتجهت إىل الديوان‪/‬‬ ‫الكتاب‪ ،‬ومل يعد اشتغالك معنياً باملجموعة‬ ‫الشعرية التي تتعدد رؤاها وموضوعات نصوصها‪ .‬هل يف‬ ‫االنتقال عىل هذا النحو ما ميثل موقفاً نقدياً ميكنك اإلفصاح‬ ‫عنه؟‬ ‫ً‬ ‫مل يكن اللجوء إىل هذا العنوان فرارا من تعدد الرؤى‬ ‫واملوضوعات‪،‬وال عجزاً عن اخرتاع أو ابتكار عناوين تتامىش‬ ‫مع السائد وغري السائد يف الدواوين التي صدرت وتصدر‬ ‫تباعاً يف هذا البلد العريب أو ذاك‪ ،‬لكن ما دفعني إىل هذا‬ ‫االختيار هو ما لـ«الكتاب» من معنى مقدس وخفي يف‬ ‫النفوس‪ ،‬ورمبا يكون ذلك املعنى هو ما أوحى يل باالتجاه‬ ‫إىل هذه العنونة‪ .‬فض ًال عن الرغبة يف االتجاه إىل املوضوع‬ ‫الواحد بأبعاده املتعددة واملتنوعة‪ ،‬وبعد صدور «كتاب‬ ‫صنعاء» وكتاب «القرية» وكتاب «املدن» وكتاب «األم»‬ ‫وحالياً بني يدي كتاب «الحب» ويضم بعض القصائد‬ ‫العاطفية التي كتبتها يف مرص أثناء دراستي الجامعية‪،‬‬ ‫وال أدعي أنني الوحيد الذي اتجه نحو هذه العنونة فقد‬ ‫سبقني إليها شعراء كبار عرب وأجانب‪ ،‬ورمبا خرجت عن‬ ‫هذا التقليد كام حدث يف ديوان «بلقيس» وظهوره يتوسط‬ ‫كتا ْيب صنعاء والقرية‪ .‬وتبقى إشارة مهمة إىل أن العنوان يف‬ ‫األعامل الشعرية ال يهم كام يهم املحتوى‪ ،‬وأن االتجاه إىل‬ ‫تسمية الديوان بالكتاب أو حرص رؤيته يف موضوع واحد‪ ،‬ال‬ ‫يحمل أي موقف نقدي من أي نوع كان‪.‬‬ ‫بعد ‪ 15‬عم ًال شعرياً وما يربو عىل الثالثني كتاباً يف حقول‬ ‫النقد والدراسات األدبية والثقافية‪ ..‬ما الذي كنت تعول‬ ‫عىل هذا املنجز ان يحدثه إجامالً يف بيئة الشاعر والناقد؟‬ ‫هل ميكن اعتبار العالقة الوطيدة التي تربطك بالجامعة‬ ‫والتدريس مبثابة فضاء مالئم لقياس حصيلة هذا التعب‬ ‫اللذيذ؟‬ ‫ً‬ ‫ هنا‪ ،‬أتفق كثريا مع أولئك الذين يقولون إن الشاعر‬‫أو الكاتب آخر من ميكن له الحديث عن منجزه سلباً‬

‫‪123‬‬


‫حوار‬

‫وإيجاباً‪ ،‬وكل ما يستطيع قوله إنه حاول أن يتجاوز واقعه‬ ‫وأن يتغلب عىل قيود الوظيفة ليظل عىل صلة بالكتابة يف‬ ‫حقولها املختلفة انطالقاً من موقف وطني أوالً‪ ،‬ثم من رغبة‬ ‫يف اإلفضاء والحديث إىل قارئ موجود أو متخيل يف معظم‬ ‫األحيان قبل أن تبدأ الجامعات اليمنية الكثرية يف إعداد‬ ‫نوع جديد من القراء الذين د ّربتهم الدراسة عىل التذوق‬ ‫واإلقبال عىل الجديد‪ ،‬وال يزال يؤملني حتى هذه اللحظة‬ ‫أن العمل اإلداري يف رئاسة الجامعة قد رسق مني جزءاً ال‬ ‫بأس به من الوقت كنت أعده للكتابة‪ ،‬وعىل العكس من‬ ‫ذلك كان التدريس دامئاً هو الذي يفتح يل أبواباً جديدة‬ ‫إىل القراءة والكتابة حتى ال يسبقني طاليب مبعلوماتهم‬ ‫ومتابعاتهم‪.‬‬ ‫عىل اعتبار أن الجامعة مخترب مالئم ملثل هذا القياس‪،‬‬ ‫وانت كنت رئيساً لجامعة صنعاء بني ‪ 1982‬و‪2002‬م‪ ،‬وال‬ ‫تزال تحارض طالب الدراسات العليا يف كلية اآلداب‪ .‬هل‬ ‫من تح ُّول ميكن تلمسه يف املجتمع األكادميي‪ .‬عىل األقل‬ ‫من جهة انفتاح البحث األديب عىل النص الجديد وقضاياه‬ ‫العالقة‪ ،‬وبخاصة ان أعاملك النقدية ومحارضاتك ظلت‬ ‫تبرش دامئاً بالجديد؟‬ ‫من املحزن القول بأن السياسة مبعناها املتخلف قد عملت‬ ‫يف السنوات األخرية عىل تشويه كل يشء جميل ويف مجال‬ ‫التعليم العام والجامعي خاصة‪ .‬إذ تم بإرصار وتعمد إبعاد‬ ‫الجامعة عن دورها األسايس‪،‬‬ ‫وإبعاد األستاذ عن رسالته‬ ‫التنويرية‪ ،‬وإبعاد الطالب عن‬ ‫زرت أغلب المدن العربية‪،‬‬ ‫مهمته وهي االستزادة من‬ ‫وكثير ًا من المدن‬ ‫املعرفة واالستعداد لخوض‬ ‫األوروبية‪ ،‬ولم تترك‬ ‫معركة الحياة بعقل ناضج‬ ‫ووعي مكتمل‪ .‬جامعاتنا‬ ‫واحدة منها في نفسي‬ ‫اآلن‪ ،‬كمدارسنا الثانوية ورمبا‬ ‫شيئ ًا من ذلك االنطباع‪،‬‬ ‫اإلعدادية واالبتدائية باتت بؤراً‬ ‫للتسييس وليس للتعليم ولهذا‬ ‫الذي تركته صنعاء‬ ‫هبط املستوى كثرياً عام كان‬ ‫عندما رأيتها ألول مرة‬ ‫عليه‪ ،‬وهذا ال يعني أن ليس‬ ‫هناك أساتذة جادّون وطالب‬ ‫يرغبون يف أن تكون الجامعات‬

‫دوراً للعلم فقط لكن الغالبية تأىب ذلك‪ .‬وأنا يف هذه‬ ‫اإلشارات ال أدعو إىل أن تعتزل منابر التعلم عن االهتامم‬ ‫بالشأن العام وعن املشاركة يف االحتجاجات والتظاهر ضد‬ ‫الفساد السيايس والطغيان‪ ،‬ولكن يف حدود ولساعات أو أيام‬ ‫ال لشهور وأعوام كام حدث ويحدث‪.‬‬ ‫أنشأت جائزة باسمك متنح يف حقول الشعر والقصة‬ ‫والرواية‪ ،‬وهي اآلن يف دورتها الثانية‪ ..‬ما الذي تهدف إليه‬ ‫الجائزة؟‬ ‫الفضل يف هذه الجائزة املتواضعة يعود ملؤسسة العويس‬ ‫الثقافية التي منحتني جائزتها املالية فقمت بتقسيمها‬ ‫إىل نصفني‪ ،‬نصف ألبنايئ يف املنـزل‪ ،‬والنصف اآلخر ألبنايئ‬ ‫من الشباب والشابات املبدعات‪ ،‬وقد أحسن بعض الزمالء‬ ‫ظنهم بأنها سوف تتطور وتأخذ حج ًام أكرب مام هي عليه‪،‬‬ ‫لكنها ظهرت يف الوقت غري املناسب اقتصادياً وسياسياً ومع‬ ‫ذلك فقد عملت عىل أن تظل الجائزة يف مستواها املحدود‬ ‫تشجيعاً للمبدعني الشبان الذين يهمهم االعرتاف بتفوقهم‬ ‫أكرث مام يهمهم املكسب املادي‪ .‬وقد عرفت من خالل‬ ‫لجنة التحكيم أن النصوص املقدمة لنيل الجائزة يف مجال‬ ‫الشعر والرواية والقصة القصرية عىل درجة عالية من اإلتقان‬ ‫واإلبداع‪ ،‬وقد متنيت يف العام األول لهذه الجائزة املتواضعة‬ ‫لو كان يف مقدوري تقديم جوائز لكل املتقدمني فقد كانت‬ ‫أعاملهم كلها عىل درجة من الجودة والتميز‪.‬‬

‫‪124‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫فن الرسائل‬

‫يف مجلة «غيامن» الفصلية التي‬ ‫ترشف عليها‪ ،‬يلفت االنتباه باب‬ ‫الرسائل التي يبعثها لك أصدقاء من‬ ‫األسامء البارزة يف الساحة الثقافية‬ ‫واإلبداعية العربية‪ ،‬مثل كامل أبو‬ ‫ديب‪ ،‬ومينى العيد‪ ،‬وأدونيس‪ .‬عندما‬ ‫يطالعها أحدنا مجتمعة‪ ،‬يكتشف‬ ‫أنه أمام عمل استثنايئ‪ .‬هناك حضور‬ ‫للمسكوت عنه يف الثقافة العربية‪،‬‬ ‫بينام تصبح املقدمات الشخصية‬ ‫مجرد جرس العبور إىل منت يصب‬ ‫يف جوهر أزمات الثقافة والواقع‬


‫عبد العزيز المقالح‬

‫مع درويش يف صنعاء‬

‫العربيني‪ .‬هل بوسع القارئ توقع صدور تلك املراسالت يف‬ ‫كتاب؟ وماذا عن الرسائل التي مل تنرش بعد؟‬ ‫فن الرسائل قديم ومهم‪ ،‬لكنه مل يجد يف العرص الحديث ما‬ ‫يستحقه من اهتامم وتجديد‪ .‬وقد خطر يل عند إنشاء مجلة‬ ‫«غيامن» أن أقدم يف كل عدد رسالة من صديق إحيا ًء لهذا‬ ‫الفن املنيس‪ ،‬كام حاولت أن ال يقترص ما ينرش من الرسائل‬ ‫عىل املشاهري من األدباء واملفكرين ليك تتاح الفرصة للجيل‬ ‫الجديد املشاركة وطرح اآلراء بعيداً عن املجاملة والتحفظ‬ ‫املعروف‪ .‬ويف مكتبتي الكثري من هذه الرسائل التي جمعتها‬ ‫يف العقود الثالثة األخرية بعد أن فقدت الكثري واملهم منها‬ ‫وتم إبعادي عن مرص‬ ‫عندما صودرت شقتي يف القاهرة‪ّ ،‬‬ ‫بعد رحلة السادات إىل القدس‪ ،‬وكان يف الشقة الكثري من‬ ‫الرسائل ألصدقاء رحلوا عن الدنيا‪ .‬ومنها رسائل من زمالء يل‬ ‫يف عدد من األقطار العربية‪ .‬رسائل صديقي الكبري الشاعر‬ ‫عبدالله الربدوين التي كان يبعث بها إ ّيل يف القاهرة‪ ،‬وفيها‬ ‫كثري من املداعبات واألفكار الجادة‪ ،‬وكانت بخطوط عدد‬ ‫من أصدقائنا املشرتكني‪.‬‬ ‫لطاملا نوهت يف مرشوعك النقدي بتجارب شعراء من اليمن‬ ‫كانت لهم بدايات الفتة لالنتباه منذ السبعينيات‪ .‬لكن‬ ‫القارئ العريب مل يتعرف بشكل جيد إال إىل املقالح والربدوين‪.‬‬ ‫هل يتعلق غياب املشهد الشعري اليمني بإشكالية املركز‬ ‫واألطراف‪ ،‬أم أن ُمالبسات الواقع يف اليمن أقوى تأثرياً من‬

‫هذه اإلشكالية؟‬ ‫أعجبتني كلمة قالها منذ وقت طويل ناقد عريب يف إحدى‬ ‫الفضائيات عندما ُسئل عن األدب يف اليمن فقال‪،‬إن الربدوين‬ ‫واملقالح عنوان لكتاب ال تحجب عنونته موضوعاته األساسية‬ ‫عن املبدعني اليمنيني الكثار واملشهود لهم يف الكتابة‬ ‫الشعرية والروائية والقصصية والنقد األديب‪ .‬فاليمن غنية‬ ‫بأدبائها‪ .‬والعنوان يدل عىل ذلك ويدفع إىل املتابعة‪ .‬وأعتقد‬ ‫أن األمر اختلف اآلن كثرياً بعد أن متكن العرشات من األدباء‬ ‫املبدعني من حضور املؤمترات ومن نرش أعاملهم يف كربيات‬ ‫دور النرش العربية‪ .‬وألن استئثار املركز كان واضحاً وثقي ًال‬ ‫فقد حرصت منذ أوائل سبعينيات القرن املايض بعد أن‬ ‫رصت معروفاً إىل ح ٍد ما‪ ،‬عىل التعريف باملبدعني اليمنيني‬ ‫والكتابة عنهم مبحبة خالصة‪ ،‬وحتى ال يظل حديث األدب‬ ‫يف اليمن مرتبطاً بشخصني أو أكرث‪ ،‬وهو ما مل أكن أرتضيه‪،‬‬ ‫وال زمييل الراحل الكبري يرتضيه أيضاً‪.‬‬ ‫ال بد أن من يقرأ حواراً مع الشاعر عبدالعزيز املقالح يود‬ ‫أن يعرف رأيه يف املشهد الشعري الراهن يف اليمن‪ .‬ألن‬ ‫أحوال السياسة تظل دامئاً تقيص الوجه الثقايف لهذا البلد‪،‬‬ ‫ليربز فقط الوجه الذي يراه الناس عىل هيئة رشيط أخبار‬ ‫متحرك؟‪.‬‬ ‫انطالقاً من آخر إجابة يل يف هذا الحوار أرى أن املشهد‬ ‫اإلبداعي يف بالدنا يعاين من انعكاسات الواقع السيايس‪.‬‬

‫‪125‬‬


‫حوار‬

‫ومن حالة القلق التي ال تلف اليمن وحدها بل األقطار‬ ‫العربية بأكملها‪ ،‬ورغم ذلك فهناك مبدعون يثبتون أنهم‬ ‫مازالوا قادرين عىل التنفس يف مناخ األجواء املسممة بقنابل‬ ‫الغاز املسيلة للدموع‪ ،‬وال تفزعهم زخات الرصاص وأصوات‬ ‫املدافع التي مل تتوقف طوال عام كامل‪ .‬وأشعر باعتزاز‬ ‫عندما أقرأ عدداً من األعامل اإلبداعية املتميزة يف الشعر‬ ‫والرواية والقصة القصرية‪ .‬وإذا كان اتحاد األدباء والكتّاب‬ ‫اليمنيني‪ ،‬وهو االتحاد الذي قام يف أوائل السبعينيات من‬ ‫القرن املايض تحت شعار اليمن الواحد‪ ،‬يعاين من تشتت‬ ‫فرضته الحالة الراهنة ومجلة االتحاد «الحكمة اليامنية»‬ ‫موقوفة‪ ،‬والرصاع بني أعضاء االتحاد عىل أشده‪ ،‬فإن ذلك مل‬ ‫مينع العرشات من الكتابات الجادة‪ ،‬تأكيداً عىل أن اإلبداع‬ ‫نشاط فردي والسياسة نشاط جامعي وما تبعرثه السياسة‬ ‫يجمعه األدب يف مشهد يبعث عىل قدر كبري من األمل‬ ‫والرضا‪.‬‬

‫الشعر والتغيري‬

‫ماذا عن صحوة الجامهري يف الربيع العريب؟ هل تبرش‬ ‫مبقدمات لتحرير العقل من االستالب ملا يستبد بالوعي‬ ‫ويعطل طاقات اإلنسان؟‬ ‫كنت ومازلت يف طليعة املتفائلني بهذه الصحوة الجامهريية‬ ‫التي جاءت بعد انتظار طويل‪ .‬وقد حاولت أن ال آخذ‬ ‫موقف الشاهد عىل الحدث الكبري‪ ،‬بل حاولت أن أشارك‬ ‫فيه بالكلمة طبعاً‪ ،‬إذ مل يعد يف مقدور جيلنا أن يزاحم‬

‫يف املظاهرات‪ ،‬أو أن ينام يف الساحات ذلك شأن الشباب‬ ‫ودورهم‪ ،‬وليس من باب االدعاء القول بأن يل تجربة مع‬ ‫الثورة اليمنية «سبتمرب‪ ،‬أكتوبر»‪ ،‬لكننا اآلن أمام نص جديد‬ ‫يكتبه الشباب بدمائهم وصيحاتهم‪ ،‬وقد أحسست منذ‬ ‫البداية أن الثورات العربية رغم أنها مل تصدر عن خربة‬ ‫وتراكم أفكار‪ ،‬إ َّال أنها تجاوزت بأثرها الرسيع ما مل تستطعه‬ ‫ثورات سابقة‪ ،‬قامت بعد إعداد وتنظيم وإمكانات مل يكن‬ ‫لهؤالء الشباب يشء منها عىل اإلطالق‪.‬‬ ‫وما زلت رغم الحصار املرضوب عىل بعض هذه الثورات من‬ ‫داخلها أو من خارجها أؤمن بأن فكرة التغيري املريئ واملضمر‬ ‫قد وصلت إىل أكرب رشيحة يف الوطن العريب‪ ،‬وأعني بها‬ ‫الرشيحة الصامتة التي استغلتها األنظمة‪ ،‬ورضبت بها كل‬ ‫حلم ثوري‪ .‬وما حدث يف مشهد الربيع العريب مل يكن عابراً‬ ‫وإمنا عملية تأسيسية لزمن جديد قد يتعرث بعض الوقت‪،‬‬ ‫لكنه سوف يصل إىل مبتغاه‪ ،‬وسيظل يجري خطوة خطوة‬ ‫إىل أن يحقق ما هدف إليه‪ .‬لقد خرج الشعب من القمقم‬ ‫ويصعب عىل أية قوة أن تعيده إىل حيث كان‪.‬‬ ‫لكن الشعر العريب تبنى خطاب الحداثة من دون أن‬ ‫يسانده الواقع وبقية األنساق األخرى التي ظلت عصية عىل‬ ‫التحول؟‬ ‫ً‬ ‫تجدر اإلشارة هنا إىل أن الحداثة ليست تقليدا أو محاكاة أو‬ ‫رغبة فائضة عن الحاجة يف التعبري وإمنا هي برهان حقيقي‬ ‫عىل املستقبل‪ ،‬ليس يف مجال األدب فقط‪ ،‬وإمنا يف سائر‬ ‫مجاالت الحياة‪ .‬وتحديث الثقافة أهم بكثري من تحديث‬

‫أغنية للتغيير‬ ‫عبدالعزيز املقالح‬

‫هذا زمنُ التغي ِري‬ ‫تتغي تتعفنْ‬ ‫إذا مل رْ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫مواقيت الصحوة‬ ‫تتخطاك‬ ‫رس الكامن‬ ‫ال تدري ال َ‬ ‫يف أن َ‬ ‫األرض تدور‬ ‫‪126‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫من أعامل الفنان كامل أحمد املقرمي‬

‫ٌ‬ ‫إنسان‬ ‫وأنك‬ ‫من حقك أن تحيا ومتوت‬ ‫بأم ِر الله‬ ‫مليك أو سلطان‬ ‫وليس بأم ِر ٍ‬ ‫ومن حقك أن ال تدخل سجناً‬ ‫أو ُت ْقت َْل‪.‬‬ ‫أو يسلبك الجشعون بقايا اللقم ِة‬ ‫زمن‬ ‫من حقك أن تدري أنك يف ٍ‬


‫عبد العزيز المقالح‬

‫الربدوين‬

‫عيص‬ ‫املباين والطرقات واألثواب وأشكال الطعام‪ ،‬وال يشء ّ‬ ‫عىل التطور والتفاعل مع الحياة الجديدة التي بدأت تثبت‬ ‫وجودها يف الحياة عرب أكرث من وسيلة وطريق‪.‬‬ ‫هل ستمنح هذه التحوالت فرصة إضافية للشعر يك يعمق‬ ‫املسار الذي اختطه النص الشعري يف دروب التجديد‬ ‫والتحرر من خطابات املايض؟ أم أن االسرتاتيجيات التي‬ ‫تحكم انتقاالت الشعر مل تعد معنية بالتعاطي مع ما يحدث‬ ‫اليوم يف املجتمع؟‬ ‫هناك إجامع عىل أن أي تغيري يف الواقع يقتيض بالرضورة‬ ‫تغيرياً مامث ًال يف دنيا الثقافة واإلبداع‪ .‬وإذا كان الشباب‬ ‫الثائر قد كتب بدمائه وصيحات أبطاله النص الجديد يف‬ ‫الحياة السياسية‪ ،‬فإن النص اإلبداعي األديب قادم ال محالة‪.‬‬

‫ال يشبه يف املعنى واملبنى‬ ‫أيَّ زمانٍ آخر‪.‬‬ ‫يا عريب‪:‬‬ ‫اخرج من جلدك‬ ‫ْ‬ ‫هذا املدبوغ بزيت القهر‬ ‫وأسواط التعذيب‬ ‫َودَعْ روحك تستيقظ‬ ‫وتزور الساحات‬ ‫وتنقش أحالم الناس‬

‫وسوف نشهد تحوالً رسيعاً يف الكتابة الشعرية خاصة‪ ،‬ألن‬ ‫الشعر بطبيعته التلقائية رسيع االلتقاط ملعاين األحداث وما‬ ‫تطرحه من تشكالت غري مألوفة يف الواقع‪ .‬وميكن القول‬ ‫إن الثورات العربية األوىل كانت األساس ملجرى جديد من‬ ‫التفكري وألسلوب جديد يف الكتابة الشعرية‪.‬‬ ‫ماذا عن الفارق بني مآزق الحشود الغاضبة واملأزق الذي‬ ‫تستشعره النخب بوعي مختلف؟ أعني إىل متى سيبقى‬ ‫منظور النخبة لألمور يشكل سوء فهم بينها وبني الجمهور؟‬ ‫يبدو األمر كام تشري إليه متاماً فكام فاجأت الثورات العربية‬ ‫الح ّكام املحروسني باألمن والجيش‪ ،‬فقد فاجأت النخبة‬ ‫السياسية والفكرية أيضاً‪ ،‬وهي نخبة محروسة بأحالم عتيقة‬ ‫وتحمل يف كيانها املمزق موروثاً من الخالفات والضغائن‬ ‫واألحقاد‪ .‬وكان الخالف املسترشي بينها أكرث من الخالف‬ ‫القائم بينها وبني أنظمة الحكم‪ ،‬التي أحسنت االستفادة‬ ‫من هذه الخالفات ووظفتها لصالحها بنجاح تام‪ .‬ورمبا‬ ‫متكنت الحشود الغاضبة والدور الذي تولته يف التغيري أن‬ ‫تضع النخب السياسية العربية يف مكانها الصحيح وتجاه‬ ‫مسؤوليتها التاريخية‪.‬‬ ‫ما الذي تود قوله تعليقاً عىل صدور مجلة «بيت الشعر»؟‬ ‫ليس سوى تحية وأمل‪ ،‬تحية ملجلة «بيت الشعر» كصوت‬ ‫جديد يف دنيا اإلبداع العريب‪ ،‬وأمل يف أن تأخذ بيد الشعر‬ ‫لينهض ويسهم يف نهوض األمة أخالقياً وثقافياً ووطنياً‪ ،‬بعد‬ ‫أن وصلت إىل هذا املنحدر من التمزق والرصاعات الخالية‬ ‫من كل معنى إيجايب‬

‫إىل العدل‬ ‫أنفاس الحرية‬ ‫ودعها تتشمم َ‬ ‫ال يش َء يساوي الحرية‬ ‫ال يش َء يحل محل الحرية‪.‬‬ ‫يا عريب‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫سقطت أقنعة الجالدين‬ ‫ُ‬ ‫وأظهر زحف الشعب‬ ‫هشاش َة حكم السلطان‬ ‫وأعوان السلطان‬

‫فإياك إذا ما جئت‬ ‫إىل امليدان‬ ‫وصافحت بعينيكَ‬ ‫َ‬ ‫جامه َري الشعب الغاضب‬ ‫ُ‬ ‫التحصينات الكرتونية‬ ‫أن تهزمك‬ ‫أو يرسق ما َء شجاع ِتك القصوى‬ ‫ُ‬ ‫صوت زئيـ ِر الدبابات‬

‫‪127‬‬


‫في الشعر‬

‫ذلك الصفــاء الذي أضعنــاه‪..‬‬ ‫عبدالزهرة زكـي‬

‫بقيت‬

‫قبل أيام أتابع حتى ساعة متأخرة من الليل برنامجاً تلفزيونياً وقفت عنده باملصادفة حني كنت أنوي االنرصاف‬ ‫إىل النوم بعد إغالق الجهاز الذي نادراً ما أتابعه بانتظام منذ سنوات‪ .‬كان الربنامج للموسيقي نصري شمة‬ ‫وبرفقته ضيفان مغنيان‪ ،‬شابة وشاب‪ ،‬وكان موضوع الحلقة هو الشيخ زكريا إبراهيم‪ ،‬أبرز عباقرة اللحن العريب الكالسييك يف‬ ‫مطلع القرن العرشين والذي احتفظ بتسجيالت متنوعة ألغانيه دامئاً‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫فهمت أن فكرة الربنامج ترت ّكز عىل إعادة تأمل تجارب رواد يف املوسيقى العربية‪ ،‬انرصفت عنهم املوسيقى والغناء اآلن فيام‬ ‫اتجهت إليه من وسائل وأساليب ولغة وايقاعات‪ .‬وتكثفت هذه الفكرة أكرث حني أعلن شمة يف ختام حلقة الربنامج عن إنجازه‬ ‫لحناً يستعيد فيه األجواء الثالثينية واألربعينية كام تنعكس يف موسيقى تلك السنوات ويتامثل معها‪ .‬غنّى شيئاً من اللحن‪،‬‬ ‫وكان فع ًال قريباً مام يريد بلوغه‪ ،‬ذلك التطريب واالسرتخاء الرومانيس مع التخت الرشقي ورهافة استخدام املقامات وتطويعها‬ ‫صب فيها زكريا أحمد‪ ،‬باستثامر فذ للطاقات الصوتية التطريبية الساحرة ألم كلثوم‪ ،‬أكرث أعامل‬ ‫لتتامزج يف تلك الروح التي ّ‬ ‫الغناء العريب رق ًة و«سلطن ًة» وهياماً‪ .‬لكنني مل استطع منع نفيس‪ ،‬بعد أن انرصفت عن التلفزيون والربنامج‪ ،‬من إقامة حد بني‬ ‫ما كان قد فعله زكريا وزمالؤه وما يريد اآلن أن يفعله املوسيقي املعارص نصري شمة‪.‬‬ ‫لكن االلتفات إىل الوراء مل يعد حاجة املوسيقى والغناء حرصاً‪ .‬ففي الشعر والرسم وحتى الرواية كان االلتفات يتعاظم بني فرتة‬ ‫وأخرى‪ ،‬بني تجربة وسواها‪ .‬مثل هذا االلتفات ال يبغي االرتداد والرتاجع وإعالن التوبة‪ ،‬كام هو شأن شعراء مرحلة اإلحياء‬ ‫يف نهايات القرن التاسع عرش‪ .‬وهو ليس شك ًال من أشكال النوستالجيا التي تضع املايض‪ ،‬مكاناً أو زمناً‪ ،‬يف قداسة نفسية ميكن‬ ‫لها أن تكون مولِّداً إبداعياً‪ ،‬ال بأس‪ .‬يف الشعر ويف الفن تبدو الحياة متواصلة‪ ،‬حياة األنواع الشعرية والفنية‪ ،‬بخالف الحيوات‬ ‫املنقطعة للشعراء والفنانني املوىت عن َخ َلفهم الحي‪.‬‬ ‫لكننا‪ ،‬نحن األحياء‪ ،‬براغامتيون يف استخدام أفكارنا وتفكرينا‪ ،‬بخالف سلفنا امليت املستسلم يف كل يشء‪.‬‬ ‫كنا ننظر إىل املايض بوصفه متحفاً للموت وذلك حني كنا نريد االحتجاج عليه والتمرد عىل سلطة تركته املوروثة‪ .‬لكن ها نحن‬ ‫ننظر إليه اآلن‪ ،‬ونحن تحت وطأة أزماتنا‪ ،‬عىل أنه مخزن ألعضاء حية قابلة لالستخدام‪.‬‬ ‫التوسل إىل املايض من أجل النجدة‪ ..‬لكن املايض مل يكن بريئاً‬ ‫استطيع اآلن‪ ،‬مث ًال‪ ،‬أن أشري يف الشعر إىل تجربتني جرى فيهام ّ‬ ‫متاماً ليسلم القياد إىل شاعر معارص فيفعل يف ذلك املايض ما يشاء‪ .‬املايض ميتلك قدرة تدمريية هائلة‪ ،‬هي قدرة املوت‪ ..‬وإلاّ‬ ‫ما الذي فعلته محاولة شاعر مثل سليم بركات وهو يلفظ املايض كله ليأخذ من قواميسه‪ ،‬حرصاً‪ ،‬لغ ًة يريد بها‪ ،‬يف ما يبدو‬ ‫ظاهراً‪ ،‬ترميم لغتنا املرتهلة املوشكة عىل املوت؟ وما الذي فعلته تجربة شاعر آخر‪ ،‬من اتجاه شعري آخر‪ ،‬مثل حسب الشيخ‬ ‫جعفر‪ ،‬وهو يختفي يف لغة ميتة ليس اآلن وإمنا يف الزمن املايض نفسه الذي ُو ِضعت فيه أ ّمهات القواميس العربية ليكتب‬ ‫«كران البور» ديوانه الشعري الغريب بدءاً من عنوانه هذا ؟‬ ‫لقد بدت الكثري من محاوالت الحل‪ ،‬حل أزمات التحديث الشعري‪ ،‬تو ُّرطاً متنامياً يف تلك األزمات وتعميقاً لها‪ .‬كام‪ ،‬غالباً‪،‬‬ ‫ما تنتهي محاوالت تجريب «أجنحة» متعددة يف كل مرة يريد فيها شاع ٌر أن يح ِّلق يف فضاء حريته الشعرية إىل اإلخفاق يف‬ ‫‪128‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫الطريان الحر‪ .‬وال ميكن االستمرار بإلقاء تبعة هذا اإلخفاق عىل ق ّراء الشعر الذين عاد ًة ما ُينحى عليهم بالالمئة لعدم إدراكهم‬ ‫«عمق» تجربة الشاعر والشعر‪ .‬لقد بدأنا نفتقد يف الشعر ذلك الصفاء وتلك الروح التي تغري باالنسجام معها واالنسحار بها‬ ‫مقابل هيمنة اللعب‪ .‬اللعب بكل يشء‪ ،‬بدءاً من الهزء بالحاجة الحقيقية للشاعر نفسه واإلشاحة عنها‪ ،‬وليس انتها ًء بازدراء‬ ‫جوهر الطبيعة الشعرية‪ ،‬جوهر معاين الشعر ورفعته وتساميه عىل العبث والفوىض‪.‬‬ ‫ً‬ ‫نحن نستثمر حرياتنا مبا تقتضيه املصالح ال مبا تتطلبه طبيعة العالقة‪ .‬يحدث هذا يف مجال الرتبية أيضا‪ ،‬بني البنني واآلباء‪.‬‬ ‫فالعقوق يكون أشد وطأ ًة حني يتش ّب ُه بالوفاء‪ ،‬حني يستعري من الوفاء لغته مبقتىض املصلحة‪ ،‬مصلحة االبن العاق مع أبيه‬ ‫ورشاهته إىل الرتكة‪ ،‬إىل املرياث‪ ،‬إىل اللغة املستودَعة يف القواميس ونفض الغبار عنها و«استعارتها»‪.‬‬ ‫مثل هذه االستعارات كانت تحدث أيضاً يف ثقافات أخرى‪ ،‬يف الغرب‪ ،‬يف لحظات األزمات‪.‬األزمة يف األدب والفن أو األزمة يف‬ ‫الحياة التي تدفع إىل املايض‪ ،‬كام فعل اليوت مث ًال‪ .‬لكن العمل العضوي هو غري العمل الرتكيبي الذي يجري معه دمج عنارص‬ ‫متنافرة يف هجنة ال تستقيم‪.‬‬ ‫وحصل هذا يف التشكيل أيضاً‪ ،‬حني عمد أشهر فناين السوريالية سلفادور دايل إىل املواءمة بني متطلبات الترشيح الكالسييك‬ ‫وبني التداعي الحر للسوريالية‪ ،‬فتو َّفرنا من خالله عىل منوذج شعبوي للفن الرسيايل الذي بقي محدوداً‪ ،‬يف تداوله‪ ،‬بالنسبة‬ ‫لآلخرين من فناين السوريالية‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫استجابات ماهرة ملشاعر الخوف التي نتم َّلص معها من الحارض لنؤوب إىل املايض‪ .‬كانت محاولة حسب الشيخ‬ ‫لكنَّ الشع َر‬ ‫حارض والنفي‪،‬‬ ‫ميت وشاحب‪ ،‬تأيت يف سياق إجراءات نفسية للتح ّرر من‬ ‫ماض من اللغة ٍ‬ ‫جعفر‪ ،‬يف ما أفهمها‪ ،‬وهو ينقذف إىل ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫اختيارياً‪ ،‬يف ذلك املايض‪ ..‬لكن املايض كان أكرث وحشية‪ ،‬فحصل أن أطبق املوت‪ ،‬موت املايض وقاموسه ولغته‪ ،‬عىل هذا الوافد‬ ‫الشعري اآليت من حارض وحيش‪.‬‬ ‫كان القصد النفيس يف تجربة «كران البور» أكرب من أن يف ِّكر بآليات عضوية تسمح بالتعايش مع املايض‪ .‬مل يت َّربر املايض عضوياً‬ ‫يف «كران البور»‪ ،‬لقد بقي لغ ًة قدمي ًة طافي ًة عىل سطوح املعاين واألشكال والتقنيات املعارصة‪ ،‬فأثقل الوط َء عليها‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫مامثل‪ ،‬ولكن مبستوى آخر‪ ،‬يف تجربة نصري شمة الستعادة الروح الفني ملوسيقى مطالع القرن العرشين يف أغنية‬ ‫كان يش ٌء‬ ‫ُيراد لها أن تكون من أغاين مطالع القرن الحادي والعرشين‪ .‬لكن تلك املوسيقى كانت تتقدم كام لو أن فتا ًة تريد أن ترقص‬ ‫«الصلصة» عىل موسيقى رياض السنباطي‪ ،‬بطابعها الهادئ املسرتخي العميق‪.‬‬ ‫روح السنباطي إىل تحطيم األغنية والرقصة‬ ‫إرادة الفتاة وحدها ال تكفي إلذالل السنباطي وقرسه يف هذه الرقصة‪ ،‬لذلك ت ْع َمد ُ‬ ‫والفتاة‪ .‬تلك هي سلطة املوت وحصانته يف مواجهة سوء االستخدام‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ال ميكن اآلن ألحد مثيل أو سواي أن يقرتح عىل املوسيقي البارع نصري شمة طريقة ُمثىل إلحضار الشيخ زكريا أو السنباطي أو‬ ‫زج األغني َة‬ ‫املوجي‪ .‬نعم يحتاج الفن‪ ،‬فن الغناء العريب الراهن‪ ،‬إىل صدمات وإىل عمل جاد‪.‬ال بد من الخروج من املأزق الذي َّ‬ ‫به هذا التصاد ُم ّ‬ ‫الفظ بني ثقافة الصورة وثقافة الصوت‪ ،‬بني زحف الرقص واالستخدام الغرائزي السطحي للجسد‪ ،‬وتفاهات‬ ‫الفيديو كليب عىل األغنية التي باتت هي حاصل كل هذا الخليط‪ ،‬وبني رفعة املوسيقى والطرب‪ .‬رمبا يحاول بعض الفنانني‬ ‫اآلن إعاد َة تجريب التوزيع االوركسرتايل ألغنيات مدعومة بنصوص تتوافر عىل حدود مقبولة من القيمة الفنية‪ ،‬وبألحان ال‬ ‫تلتفت إىل الوراء‪ ،‬وإمنا ترت ّفع عىل االنحطاط الراهن‪ ،‬لكن نجاح هذه الجهود قد يصطدم بفساد التسويق ومشكالته الثقافية‬ ‫واألخالقية‪.‬‬ ‫يف مجال الشعر‪ ،‬ال ميكننا أيضا اقرتاح الحلول‪ ،‬حلول مشكلة التعامل بفائدة ايجابية مع خزين املايض‪ ،‬حني نكون أمام شاعر‬ ‫كبري مثل حسب الشيخ جعفر‪ ،‬لكننا منتلك القدرة عىل أن نكتشف الخلل يف هذه االستضافة‪ .‬يف الفن والشعر يستحيل وضع‬ ‫وصفات جاهزة‪ .‬كل عمل ي ِّربر حاله‪ ،‬وكل وصفة هي نتاج تالٍ للعمل والكيفية التي يظهر بها عضوياً مؤت ِلفاً وليس تركيبياً‬ ‫متعارضاً‪.‬إن األهداف والوسائل يف الشعر هي تسميات لحال واحد هو القصيدة‪ ،‬كيف تأيت وكيف تكون‬ ‫‪129‬‬


‫حوار‬

‫ميسون صقر‬ ‫يشغلني التصوف‬ ‫بوصفه مسلك ًا آخر للشعر‬ ‫موعد‬ ‫غيوم على الوجنتين‪ /‬بال‬ ‫مرارة‪ /‬بال‬ ‫"ألقني في حضنك دون‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬

‫ُ‬ ‫تتسع‬ ‫محدد‪ /‬أرجعني لجمالي في الصور‪ /‬ليقيني في المرآة‪ /‬ال‬ ‫ٌ‬ ‫نجمة في بياض السريرة"‪ .‬تلك هي‬ ‫عينك لرؤيتي‪ /‬ال تتوارى‬

‫القصيدة التي على اسمها جاءت المجموعة الشعرية األحدث‬

‫للشاعرة اإلماراتية ميسون صقر‪« ،‬جمالي في الصور»‬

‫حوار‪ -‬عزة حسين‬

‫الحظت أن الكثري من قصائد املجموعة‬ ‫مفرط يف إنسانيته وفنيته أيضاً‪ ،‬لكن انزلق‬ ‫بعضها فجأة إىل شرَ َك املبارشة‪.‬‬ ‫رمبا كانت املبارشة من نصيب بعض القصائد اآلنية التي‬ ‫كتبت بالضبط لحظة الحدث‪ ،‬حيث ال متلكني إال أن تهتزي‬ ‫فرحاً وانحيازاً‪ ،‬مثل قصيدة النظام يسقط‪ ،‬وألنها مرتبطة‬ ‫بحدث واقعي مل تجد فائضاً من املفاجأة يقلل املبارشة‬ ‫فجاءت هكذا‪ ،‬وبالطبع فكرت باستبعادها من الديوان‪ ،‬ثم‬ ‫قررت استبقاءها لتدعيم بقية القصائد‪ ،‬كأسو ٍد يف مقابل‬ ‫بياض القصائد األخرى‪ ،‬أو ألقل استبقيتها للتأريخ‪ ،‬أو‬ ‫الذكرى‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الشعر موضوع هذه املقابلة وخصوصا «جاميل يف الصور»‪،‬‬ ‫لكن بلمحة خاطفة ما الخيط بينه وبني كتابتك للرواية‬ ‫والتشكيل ومسلسالت السيت كوم؟‬ ‫بالضبط كالعالقة بني األواين املستطرقة‪ ،‬التي كلام دخلتها‬ ‫ماد ٌة ترسبت لبقية األواين‪ ،‬فحيثام امتلكت أدوات الفن‬ ‫التشكييل أستطيع أن أحول كل قصيد ٍة إىل لوح ٍة‪ ،‬ومن‬ ‫ثم إىل لقط ٍة تصويري ٍة والعكس‪ .‬ليست أزمة كبرية عندما‬ ‫يحل اللون يف اللوحة التشكيلية مكان الصورة الشعرية‪،‬‬ ‫والتكوين مكان الرتكيب الشعري‪ ،‬لذلك جاءت أكرث من‬ ‫تشكييل‪ :‬كديوان‬ ‫معرض‬ ‫مجموع ٍة شعري ٍة يل مرتافق ًة مع‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫‪130‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫«اآلخر يف عتمته» الذي اتكأ عىل فكرة املنت والهامش رسدياً‪،‬‬ ‫بينام جاءت اللوحات اتكا ًء عىل فكرة املركز‪ ،‬الهامش‪ ،‬ونثار‬ ‫التكوينات حولهام‪ .‬الرابط الفني والشعوري ٌ‬ ‫كفيل بعملية‬ ‫الوصل هذه‪.‬‬ ‫لكن إالم تنتمني أكرث بني تلك الفنون؟‬ ‫للشعر‪ .‬أحسه نقطة االنطالق والعودة‪ .‬تلمسني ذلك يف‬ ‫روايتي «ريحانة»‪ ،‬حيث لغة وحالة شعريتان متاماً‪ ،‬وتلك‬ ‫طبعاً معادلة صعبة ألنه ال بد للخضوع لعنارص بنى الرسد‬ ‫من أحداث وأمكنة وشخصيات وحبكة‪ُ ،‬تصهر جميعاً‬ ‫يف العجينة اللدنة للكتابة الشعرية‪ ،‬وفض ًال عن اللغة‬ ‫ُ‬ ‫منحت الشخوص نهايات شعرية أيضاً بل مفرطة يف‬ ‫فقد‬ ‫دراميتها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫لكن هل مثة أثرا مليالد وتفعيل الوسائط اإللكرتونية عىل‬ ‫خريطة وعادات الشاعر ومفرداته وانحيازاته كذلك؟ مبعنى‪،‬‬ ‫تولد قصيدتك عىل الورق أم عىل الكيبورد أم الهاتف‬ ‫النقال؟‬ ‫الوسائط الجديدة أفعل وأسهل يف حالة الرواية‪ .‬لكنني‬ ‫أفضل الورق لكتابة القصائد‪ ،‬بيد أن كل حال ٍة‪ ،‬وظرف كتابة‬ ‫يستدعيان أدواتهام‪ .‬فمث ًال وقت املرض كنت ال أستطيع‬ ‫استخدام الورقة والقلم‪ ،‬فاستعملت الهاتف املحمول‪،‬‬ ‫لذلك جمعت الديوان األخري من قصاصات ورقٍ ‪ ،‬ومفكرات‬


‫ميسون صقر‬

‫تفاعلت مع «ابن عريب» و«الحالج» وغريهام لكن حني‬ ‫املواعيد‪ ،‬والحاسوب‪ ،‬والهاتف النقال‪.‬‬ ‫كتبت متثلت فكرة التصوف لغوياً‪ ،‬مبعنى تصفية اللغة‬ ‫وهل مثة تأثري لذلك عىل شعرية الكتابة؟‬ ‫كوسيط شفاف بني الذات والكتابة‪ ،‬لذا مل أنقل الشعر‬ ‫اكتشفت ذلك‪ .‬فالقصائد التي خرجت عن الهاتف‬ ‫للتصوف‪ ،‬وإمنا استخدمت التصوف لصالح لغة الشعر‬ ‫والحاسوب كانت جرعة الغنائية فيها أقل‪ ،‬وكانت صارمة‬ ‫فنياً أكرث‪ ،‬فقصيدة مثل «النظام يسقط» كانت مكتوبة عىل والكتابة‪ ،‬جنباً إىل التصوف مبعناه الوجودي‪ ،‬وما استوعبته‬ ‫من تلك التجربة هو ما خرج يف قصائد «جاميل يف الصور»‪.‬‬ ‫الورق‪ ،‬بينام كتبت «مارلني مونرو» عىل املوبايل‪.‬‬ ‫يف ديوانك األخري مثة قصائد شديدة القرص وبال عناوين‪ ،‬هل الكتابة كلعبة؛ الكتابة كمضخة أمل؛ الكتابة كإمطار لألسئلة؛‬ ‫كمحاوالت لإلجابة‪ ،‬أيها أقرب إليك؟ وهل يختلف الباعث‬ ‫قررت منذ اللحظة األوىل أن ترتكيها هكذا أم حاولت البناء‬ ‫من مجموعة شعرية إىل أخرى؟‬ ‫عليها وفشلت؟‬ ‫نعم‪ .‬ورمبا يختلف من حالة إىل حالة داخل الديوان نفسه‪.‬‬ ‫مل أفكر بها وقت كتابتها‪ ،‬فقد جاء بعضها فرادى‪ ،‬وبعضها‬ ‫ً‬ ‫إذ أنه عندما أرسم لوحة أو أكتب قصيدة بالعامية املرصية‪،‬‬ ‫اآلخر متواتراً‪ ،‬ومثة قصائد أخرى انزلقت داخل قصائد‬ ‫أخرى طويلة‪ ،‬فاقتطعتها منها وركنتها بعيداً‪ ،‬وملا زاد عددها البهجة تغمرين كأنني ألعب وأفرح وكذلك عندما استثري‬ ‫مرصيتي‪ ،‬وأجرب أن أكون «بنت بلد» يف حار ٍة شعبية‪.‬‬ ‫وجدتها تخص سياقاً وطريق ًة ال بد أن أكتب بها‪ ،‬وعندما‬ ‫بينام ترتبط الكتابة بالفصحى لديّ بالخوف والرهبة‪ ،‬لذلك‬ ‫انتهيت منها بدأت بتصفيتها وأرشفتها داخل الديوان‪.‬‬ ‫أدخر الفصحى ملا هو حقيقي ومؤمل‪ ،‬ويخرج مبارش ًة من‬ ‫وبسببها تأخرت يف الطبع‪ ،‬ألنني ظللت متأرجح ًة يف قراري‬ ‫بشأنها ما بني اتسامها بعدم االكتامل‪ ،‬وعدم طواعيتها للبناء الروح‪ .‬وكم من مر ٍة بكيت وأنا أكتب بالفصحى‪ ،‬وكم من‬ ‫عليها‪ ،‬أو حتى تضمينها لقصائد أطول‪ ،‬إىل أن ظهرت وفقاً‬ ‫مر ٍة مل أستطع النوم‪ ،‬وتحولت الكتابة إىل هاجس‪ .‬رمبا‬ ‫الرتباط الشعر الفصيح بوالدي وتاريخ العائلة التي تكتب‬ ‫للحالة املوجودة فيها بالديوان‪.‬‬ ‫يعج الديوان خصوصاً القسم الثاين باألسئلة الوجودية وتعلو الشعر الفصيح‪ .‬أو رمبا ألنني أضع فيها كل رغبايت وأحالمي‬ ‫وأشواقي باالنفالت خارج هذا الواقع‪ ،‬ورمبا ألنها حريتي يف‬ ‫فيه حالة التصوف عرب املعنى واملفردات والحالة‪ ،‬حدثينا‬ ‫القول التي قد ال أضمنها إال شعراً‪.‬‬ ‫عن قصائد هذا القسم وإن صح ظروف كتابتها‪...‬‬ ‫ٌ‬ ‫مشغولة بفكرة التصوف‪ ،‬تقريباً منذ «الصور متحو مالمح الزمن‪ /‬تيش مبتغريات الجسد‪ /‬تفضح‬ ‫منذ عامني أو ثالثة وأنا‬ ‫وتخفي‪ /‬تظهر ومتحو‪ /‬الصورة غري الواقع‪ /‬جاملها منها‪ /‬ال‬ ‫ديوان «أرملة قاطع طريق» توقفني مفردات مثل الحلول‬ ‫والخلوص والتأمل‪ ،‬ويشغلني التصوف كمسلك آخر للشعر‪ ،‬مني»‪ ..‬الصور لديك فضفاضة وحاملة أوجه فهل تكتبني ويف‬ ‫خاص ًة يف ظل زيادة عدد املثقفني املرصيني والعرب املتوغلني مخيلتك كل تلك االحتامالت؟‬ ‫كل االحتامالت يف ذهني ومخيلتي معاً‪ .‬لذلك تعددت رؤى‬ ‫بحثاً عن مآرب أخرى للدين غري شكله الرصف‪.‬‬ ‫‪131‬‬


‫حوار‬

‫ومدلوالت الصور عرب أكرث من ديوان‪ ،‬بد ًءا من «تشكيل‬ ‫األذى» و«رجل مجنون ال يحبني» حيث تبادل الصور بني‬ ‫شخصني‪ ،‬وصوالً لصور الحاالت اإلنسانية املتعددة يف هذا‬ ‫الديوان‪ ،‬إذ متددت الصورة من كونها قضية أو جزءاً من‬ ‫حالة شعرية كلية لتصبح بأهمية ديوانٍ كاملٍ ‪ ،‬ظللت ألف‬ ‫وأدور حول ثيمة الصور به‪ ،‬سواء عرب معانٍ وحاالت مبارشة‪،‬‬ ‫أو عرب تحليل مفهوم الصورة نفسها‪ ،‬أو تربيرها‪ ،‬خاص ًة‬ ‫وأنا ابنة زمن للصورة الشعرية فيه أهمية كربى‪ ،‬يصعب‪،‬‬ ‫ني‪ ،‬التخلص منها من دون متهل‪ ،‬لذا استعملت‬ ‫ولو بعد ح ٍ‬ ‫كلمة الصورة كبديل لرتكيب الصورة الشعرية‪ ،‬ومن ثم‬ ‫الهرولة للحالة الشعرية بدالً من صورتها لتأكيد املفارقة بني‬ ‫الجامل يف الصور وصورته بالواقع كام يحدث يف مسابقات‬ ‫الفوتوغرافيا أن تفوز الصورة األكرث قسوة بالجائزة لجاملها‬ ‫بينام هي ألطفالٍ يأكلهم الجوع‪ ،‬أو ملوىت باسمني وغريها‪..‬‬ ‫«الصورة غري الواقع» «كوين ذرات وغيايب مجرة» «نزهتي يف‬ ‫الغياب» «نظرت……… وما رأيت شيئاً» ما رس التأسيس‬ ‫ملركزية الغياب واالحتفاء به؟‬ ‫ً‬ ‫الغياب أكرث شعري ًة من الحضور‪ .‬هو أيضا له جاملياته‪.‬‬ ‫وقد يكون االحتفاء به مرتبطاً لديّ بفقد العائلة‪ ،‬فأنا أنفي‬ ‫غيابهم عرب أثرهم الدائم يف روحي ووجودي‪ ،‬أعيش لحظتي‬ ‫بوجودهم فيها ال عرب الذكرى‪ .‬الغياب ليس محواً كام‬ ‫يظنون‪ ،‬هو الفكرة‪ ،‬والفكرة ال تزول‪ .‬كام أنه األكرث يقيناً‬

‫من الوجود‪ ،‬أضيفي إىل ذلك ارتباط الغياب بفكرة الحضور‬ ‫والحلول املوجودة يف الصوفية‪ ،‬ويف النهاية أظن كل هذه‬ ‫التأويالت مربرها الكتابة‪ ،‬أظنها وقود للحالة التي تفيض‬ ‫لشعري ٍة أطغى‪ ،‬مفردات لعب‪ ،‬كذب‪ ،‬وفضاءات لحري ٍة‪،‬‬ ‫قد تعود أدراجها إثر كامل حالة الكتابة‪ .‬أو رمبا هي األكرث‬ ‫حقيقية وحضوراً يف العقل الباطن أكرث مام نظن لذا تفرض‬ ‫نفسها عىل الورق!‪.‬‬ ‫وماذا عن فرادة األعضاء ومركزية الحواس كالقدم‪ ،‬النظرة‪،‬‬ ‫اليد داخل الديوان؟ وإىل أي مدى تظنني الجسد رشيكاً يف‬ ‫الكتابة وبالطبع يف الحياة؟‬ ‫للجسد أهميته الكربى يف الكتابة كام يف الحياة‪ ،‬هو وسيلتنا‪،‬‬ ‫أداتنا التي تؤسس الفكرة والشعور عىل الورق‪ ،‬والحواس‬ ‫أداة لتصفية هذا الجسد‪ ،‬ووسيلته لتشذيب ما هو بدايئ يف‬ ‫الرغبات‪.‬‬ ‫أما فرادة األعضاء‪ ،‬فرمبا تؤول إىل املرجعية الدينية مبعناها‬ ‫القصيص التي تقول إن كل عض ٍو سيشهد مبا اقرتف صاحبه‬ ‫يوم القيامة‪ ،‬اليد والعني والقدم واللسان‪ ،‬ورمبا تؤول بشكلٍ‬ ‫أخص إىل تجربة املرض‪ ،‬حيث طاملا تصادمت رغبتي يف‬ ‫الحركة مع قدريت‪ ،‬ورمبا رغبة قدمي إزاء الفعل نفسه‪ .‬حينها‬ ‫يدرك املرء أن ألطرافه إراد ًة تجعل منها‪ ،‬وهي اللصيقة به‪،‬‬ ‫َ‬ ‫آخ َر مشاكساً ورمبا صديقاً‪ .‬ورمبا يعود األمر برمته إىل فعل‬ ‫الكتابة وخيوطه وتساؤالته وتأويالته ومحفزاته كذلك‪.‬‬

‫شعرية العنوان‬ ‫ومفتوح عىل عدة دالالت واحتامالت أيضاً‪،‬‬ ‫مجموعة ميسون صقر األخرية «جاميل يف الصور» مشبع بالداللة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫متايزت واتضحت عرب أكرث من ِذك ٍر ملوضوع الصورة‪ /‬الصور داخل الديوان‪ .‬والعنوان منطقة أثرية لدى ميسون‬ ‫يف أغلب دواوينها‪ ،‬منذ «اآلخر يف عتمته»‪ ،‬و«تشكيل األذى» «رجل مجنون ال يحبني»‪ ،‬و«أرملة قاطع طريق»‪،‬‬ ‫وصوالً للديوان األخري‪ .‬هو اللقطة التي ال تلتفت إليها ميسون سوى يف لحظة أخرية‪ ،‬بعدما تعيد نبش ديوانها بعني سوى التي‬ ‫للشاعرة‪ ،‬بل لتك التي كتبت القصائد‪ ،‬فتختار الجملة األقرب إىل مجمل الحالة داخل الديوان‪ ،‬حتى لو كانت هذه الجملة ضمن‬ ‫منت قصيد ٍة أو عنوانها أو بني السطور‪« :‬ال أضع العنوان إال قبل دخول الكتاب للمطبعة‪ ،‬ورمبا أنسف يف تلك اللحظة عنواناً أو‬ ‫عناوين صاحبت مراحل الكتابة» تقول ميسون صقر‪ ،‬وتضيف‪« :‬مث ًال «رجل مجنون ال يحبني» كان اسمه «املعرفة الجارحة»‬ ‫اسم حتى قبيل النرش‪ ،‬و«ال مرارة بيننا» كان اسم الديوان األخري‪ ،‬حتى‬ ‫حتى اللحظة األخرية‪ ،‬وظل ديوان «اآلخر يف عتمته» بال ٍ‬ ‫قبل الطبع بأيام»‪.‬‬ ‫وتوضح ميسون صقر ذلك بالقول‪« :‬إن محدد هذا العنوان هو الحالة التي بإمكانها اإلملام بروح القصائد وروح الشاعر أيضا‪ً.‬‬

‫عنوان‬

‫‪132‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫ميسون صقر‬

‫جمعت الديوان من‬ ‫ورق ومفكرات‬ ‫قصاصات ٍ‬ ‫المواعيد‪ ،‬والحاسوب‬ ‫والهاتف‪ ،‬وقصائدي‬ ‫المكتوبة على الورق‬ ‫أكثر غنائية‬

‫يف الديوان‪ ،‬وفيام يشبه الفانتازيا‬ ‫تختلط الهلوسات باألمل كأمنا‬ ‫تفريغ كوابيس‪،‬هل أنت ممن‬ ‫يدونون أحالمهم ومن ثم‬ ‫كوابيسهم‪ ،‬أم هو تشكيل األمل يف كوابيس افرتاضية كام يف‬ ‫«جاءت الحية» و«ال أراه وأراها»؟‬ ‫رمبا الثانية‪ .‬ألنني يف الواقع ال أحلم كثرياً‪ ،‬وكوابييس نادرة‪.‬‬ ‫لكني أعترب الواقع أكرث بشاعة من سيناريوهات الكوابيس‪،‬‬ ‫الدم واملوت واألشالء املقطعة والجوع أكرث قسو ًة من‬ ‫احتامل الكوابيس‪ ،‬لذا رمبا هجرت تساؤاليت املبارشة إىل‬ ‫الكتابة عنها‪ .‬خاص ًة وأنني حني أكتب يصري نومي قلي ًال‬ ‫ومتقطعاً‪ ،‬بحيث يتخلل النوم الكتابة‪ ،‬إذ كنت أحياناً أكتب‬ ‫وأنام‪ ،‬ثم أصحو ألكتب وأنام عىل الورق‪ ،‬وعندما أستيقظ‬ ‫معنى‪.‬‬ ‫أفاجأ بأشياء غريبة‪ ،‬أحياناً جميلة‪ ،‬وأحيانا أخرى بال ً‬ ‫األمر نفسه يف الرسم أيضاً‪ .‬إذ أرسم وأفاجأ بأشياء مل‬ ‫أقصدها‪ ،‬تفزعني‪ ،‬وأتساءل من أي بؤر ٍة يف ذهني خرجت‬ ‫هذه القسوة كلها‪ ،‬وهذا العنف كله‪ .‬تتداخل أزمنة‬ ‫وحوادث وتصري املفاجأة أكرب ألنها تخرج يف هيئة صورة‬ ‫واضحة‪ ،‬ورمبا السبب أيضاً أنني أنام يف غرفة الرسم‪ ،‬فأفرغ‬ ‫كوابييس عىل اللوحة كام الورق‪.‬‬ ‫تعرضت لتأثري املخدر «الطبي»‪ ،‬ما الذي ميكن‬ ‫ألكرث من مرة‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫أن تضيفه تجربة كتلك للشعر؟ أظن قصائد مثل «الرس‬

‫عالق» و«صويت يف األمل» من إفرازات‬ ‫تلك التجربة‪.‬‬ ‫ال أظنها أضافت شيئاً سوى لسعة‬ ‫األمل بعد زوال مفعول املخدر‪ .‬ألنني‬ ‫كنت أخضع للتخدير الكيل فأغيب متاماً عن الوعي‪ ،‬وال‬ ‫يكون أحد أعرفه بجواري وقتها ليخربين عام حدث‪ ،‬كام‬ ‫إنني ال أتحدث بعدها‪ .‬هو فقط قهر األمل الجسدي‪ ،‬وتأ ُّكد‬ ‫الضعف اإلنساين الذي جعلني أقدر فكرة أمل الجسد كلام‬ ‫أصادفها مع آخرين‪.‬‬ ‫تبقى فكرة أخرى وهي الذاكرة‪ ،‬هذه اللعبة املرعبة‪،‬‬ ‫يفزعني أن تضيع مني بعد كل تجرب ٍة كهذه‪ ،‬ألنني رأيت‬ ‫مع والديت يف املستشفى‪ ،‬سيدة مريضة تعرضت للتخدير ومل‬ ‫تستعد ذاكرتها كامل ًة بعد ذلك‪.‬‬ ‫أخرياً‪ ،‬وبال عنوان أطلقت يف آخر صفح ٍة من املجموعة‬ ‫سي ًال من أسئلة البداهة‪« :‬كيف أصف؟‪‬/‬كيف نتلو؟‪‬/‬كيف‬ ‫نضحك؟‪‬/‬كيف نحيا؟‪‬/‬كيف نصف؟‪‬/‬كيف نقفز؟‪‬/‬كيف‬ ‫مند؟‪‬/‬كيف ُنغيرِّ ؟‪‬/‬كيف نغري؟»‪ .‬هل هذا انقالب عىل كل‬ ‫مارسدته يف األقسام الستة يف الديوان؟‬ ‫رمبا تكون انقالباً‪ .‬هي أسئلة أضيفت يف املطبعة‪ ،‬لتعكس‬ ‫بذاتها وظروف كتابتها ثم إضافتها يف الخامتة هواجيس تجاه‬ ‫الديوان‪ ،‬تلك التي حاولت اقتسامها مع اآلخر‪ .‬فأنا مل أقرتح‬ ‫شيئاً كام ًال‪ ،‬بل رمبا كتبت لتأكيد عدم اليقني هذا‬

‫ٌ‬ ‫«عيون تتبعني‬ ‫«جاميل يف الصور» هو أيضاً عنوان القسم السادس واألخري يف ديوان ميسون‪ ،‬بعد خمسة أقسام أخذت عناوين‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫و«عالقة يف الرف األخري من حالوة الروح» و«جاميل يف‬ ‫يف املنام»‪ ،‬و«العابرون إىل الرؤية»‪ ،‬و«الغياب جاء»‪ ،‬و«ال مرارة بيننا»‪،‬‬ ‫الصور»‪.‬‬ ‫وقوفاً عند القسم األول والذي استبقته ميسون بإهدا ٍء يف مفتتح الديوان للثورة املرصية‪ ،‬نصه‪« :‬للكنانة التي يف القلب‪ ..‬للقلب‬ ‫وسط الحشود»‪ ،‬تحرضه الثورة املرصية مبيدانها وشهدائها وقناصة العيون‪ ،‬واملوىت العابرين‪ ،‬والدم والخيول‪ ،‬وقصائد أخرى‬ ‫لسوريا التي تحت القصف‪ .‬وبني تلك القصائد وعىل تخوم الهتاف وامليدان‪ ،‬مل َتبدُ ميسون يف موقع املتفرج‪ ،‬أو مجرد املتعاطف‬ ‫مع أحداث يف بل ٍد غري التي هي وطنه‪ ،‬أتوقف معها عند تلك الروح واملوقف اللذين ُكتبت بهام تلك القصائد فتقول‪« :‬جسدياً‬ ‫كنت يف موقع املتفرج‪ ،‬إذ مل أنضم إىل جامهري امليدان سوى ليلة تنحي الرئيس السابق‪ .‬إمنا شعورياً كنت منذ اللحظة األوىل‬ ‫هناك‪ .‬انتميت كشاعرة وإنسانة لفكرة التغيري واالنتامء لخيارات الشعب املتطلع إىل الحرية‪ ،‬فمن منا ال يقبل اختياراته خاص ًة‬ ‫حني تتصادى هذه الخيارات الفردية مع األشواق العليا للجميع وقيم الحرية والعدل‪ ،‬لذلك جاءت الكتابة رديفاً لهذا الخيار»‬ ‫‪133‬‬


‫تحقيق‬

‫مصر‬

‫الشعر والثورة‬ ‫جدل اإلبداع والسياسة‬ ‫ً‬ ‫جدال بين الشعراء يصل إلى حد االنقسام في وجهات النظر‪ ،‬فهناك من يسقط‬ ‫سؤال الشعر والثورة في مصر يثير‬ ‫فعال ميدانياً‬ ‫ً‬ ‫عن الشعراء حق مواكبة الثورة‪ ،‬وبعضهم اآلخر يرى الشعر‬

‫القاهرة ‪ -‬حمزة قناوي‬

‫األعمال اإلبداعية‬ ‫التي تعبر عن‬ ‫الثورات ال تكتب‬ ‫أثناءها‪ ،‬وما كتب‬ ‫عن ثورة يناير يكشف‬ ‫سيطرة االنفعال‬ ‫على الشعر‬

‫رفعت سالم‬

‫يف سياق هذا الجدل الدائر‪ ،‬يرى الشاعر والناقد رفعت‬ ‫س َّالم الذي ترجم إىل العربية أعامل كثري من الشعراء‬ ‫الثوريني‪ ،‬من أشهرهم الشاعر الرويس ألكسندر بوشكني‪،‬‬ ‫والشاعر اليوناين يانيس روستوس‪ ،‬إن شعر الثورة مل ُيكتَب‬ ‫بعد‪ ،‬وما ُك ِتب مجرد تعبري حاميس عنها وليس شعراً باملعنى‬ ‫املفهوم‪ .‬ويضيف قائ ًال‪" :‬مازلنا يف انتظار أن يفيق الشعراء‬ ‫من مفاجأة الثورة ليستوعبوا ما جرى ويستجمعوا أنفسهم‬ ‫ويقدموا الشعر الحقيقي الالئق بالتعبري عن ثورة فريدة‬ ‫يف تاريخ الشعب املرصي والعرب "‪ .‬ويصف سالم ما ُك ِت َب‬ ‫حتى اآلن بأنه يكشف عن سيطرة االنفعال عىل الشعر‪،‬‬ ‫‪134‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫أما الشعر الحقيقي فيعرب‪ -‬عىل ح ِّد قوله‪ -‬عن سيطرة‬ ‫ويص ُّبه يف بنية شعرية‪ .‬ويرجع س َّالم‬ ‫الشاعر عىل االنفعال ُ‬ ‫هذا التأخر يف ظهور الشعر الثوري الحقيقي إىل أن األعامل‬ ‫اإلبداعية التي تعرب عن الثورات الكربى ال تكتب أثناءها‪،‬‬ ‫وال يف اليوم التايل لها‪ ،‬ولكنها تحتاج وقتاً مناسباً يخرج فيه‬ ‫الشعر من الحالة االنفعالية إىل حالة إبداعية تسيطر عىل‬ ‫االنفعال وتوجهه بشكل فني‪.‬‬ ‫ويرى س َّالم أنه إذا كان هناك بعض الشعراء قد لعبوا‬ ‫بأعاملهم اإلبداعية دور املحرضني الثوريني‪ ،‬فذلك يعود إىل‬ ‫كونهم "فلتات" ويرضب مث ًال عىل ذلك بـ بوشكني الذي ط َّو َر‬ ‫وأس َس بقدرا ِته الفنية ورؤيته وحساسيته التجاهات جديدة‬ ‫َّ‬ ‫يف الشعر‪.‬‬

‫عامد غزايل‬

‫ال يرفض الشاعر عامد غزايل ما ينعا ُه كثريون بإضفاء صفة‬ ‫املبارشة عىل معظم األعامل السياسية‪ ،‬ولك َّن ُه يختلف مع‬ ‫الرافضني لألعامل السياسية يف تعميمهم هذا الوصف عىل‬ ‫األعامل السياسية إجامالً‪ ،‬ألنه يرى أن هناك أعامالً سياسية‬ ‫جميلة جداً ُك ِت َبت مبارش ًة يف امليدان سيتم استدعاؤها بعد‬ ‫ذلك‪ ،‬وإن كانت حالة الغناء األكرث تصدُّ راً فيه‪ .‬ويؤكد غزايل‬ ‫أن الشعر ميثل أفضل حالة فنية للتعبريعن الثورة كلحظة‬ ‫حلم رومانيس وقفز إىل املجهول وتش ُّبث باملستحيل‪ ،‬كام أن‬ ‫القصائد السياسية التي انترشت يف املشهد الشعري يف مرص‬


‫الشعر والثورة‬

‫هناك قصائ َد‬ ‫سياسية مازلنا‬ ‫نستدعيها إلى‬ ‫فترات‬ ‫اليوم في‬ ‫ٍ‬ ‫ُمتوا ِترة‪ ،‬كقصائد‬ ‫أمل دنقل وصالح‬ ‫عبد الصبور‬

‫يف السنوات األخرية كانت انعكاساً طبيعياً إلحساس الشعراء‬ ‫بالحالة التي كانت متور فيها البالد يف الشهور األخرية قبل‬ ‫الثورة‪ ،‬كام ُتعبرِّ عن وجود مبدعني شعراء وسط الثوار ومتثل‬ ‫تن ُّبؤاً بالثورة كان أوضح يف الشعر من أجناس إبداعية أخرى‪.‬‬ ‫وحول ما يثار من بعض الشعراء والنقاد من تشكيك يف‬ ‫الطبيعة الشعرية لألعامل السياسية ودميومتها‪ ،‬يرى غزايل‬ ‫ات‬ ‫أن هناك قصائ َد سياسية مازلنا نستدعيها إىل اليوم يف فرت ٍ‬ ‫ُمتوا ِترة‪ ،‬كقصائد أمل دنقل وصالح عبد الصبور‪ .‬ويشري مع‬ ‫ذلك إىل أن هناك أهمية حتى للقصائد اليومية املبارشة‪-‬‬ ‫رغم لحظيتها ‪ -‬يف فرتات االعتقال الطويلة‪ ،‬حيث يحتاج‬ ‫املعتقلون إىل ترويح ودعم نفيس‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ال مجال للشك يف أن التاريخ األديب يعطي نوعا من‬ ‫املصداقية لحديث الشاعر عامد غزايل‪ ،‬فهو يعرف شعراء‬ ‫مرموقني ال ميكن حذف آثارهم الشعرية أو التغايض عنها‪،‬‬ ‫جمعوا بني اتقان الصنعة الفنية والثورية السياسية يف‬ ‫قصائدهم‪ ،‬ويف مواجهة النظرة الفردية للشعر ال يمُ ِكن إنكار‬ ‫أن التاريخ يزخر بالشعر والشعراء الثوريني‪ ،‬فهل ميكن ألح ٍد‬ ‫مث ًال أن ينكر عىل الشاعر الرويس الكبري ألكسندر بوشكني‬ ‫حداثة شعريته‪ ،‬وتجاوزه الجاميل ملا يسمى بـ «الشعر‬ ‫األورويب الحديث»؟ ففي حني وضع هذا األخري الخيال‬ ‫وتعم َد التشويه والتحريف واإللغاز واإلغراب‪،‬‬ ‫مكان الواقع َّ‬ ‫اتفق بوشكني معه يف رفض الكالسيكية ومفارقتها مبتعداً‬ ‫عن املديح والوصف والفخر واالنسجام مع الواقع والذاتية‬ ‫واالصطناع واالفتعال والتعايل والفخامة‪ ،‬لكنه اختلف عنه‬

‫ببساطة ودقة اللغة والتعبري الدرامي األخالقي والروح‬ ‫التبشريية‪ ،‬واإلميان بأن الحياة هي منبع األدب الحقيقي‪،‬‬ ‫ُمن َد ِفعاً وفق ذلك إىل خلق متطلبات التعبري الشعري عن‬ ‫أفكار الشعب وآرائه وأحاسيسه‪ ،‬وهو ما ش َّك َل رس قوته‬ ‫وأهميته الكربى يف تاريخ األدب الرويس كشاعر و ُم َمثِلٍ‬ ‫للوعي االجتامعي الذي أخذ يستيقظ لتوه يف عرصه‪ ،‬حتى‬ ‫ُس ِّم َي «أبو األدب الرويس»‪ .‬فهل ينتقص من مكانة بوشكني‬ ‫الفنية ونضارته الشعرية استخدام «الديسمربيني» لقصائده‬ ‫من أجل نرش آرائهم بصورة واسعة؟ هل ميكن ألحد أن‬ ‫ينكر حداثة وجامل َن ْظم شاعر التشييل العظيم بابلو نريودا‬ ‫الذي تغنت املاليني الجائعة بطول وعرض أمريكا الالتينية‬ ‫بقصائده يف عنفوان نضالها يف سبيل الكرامة والحرية؟‬ ‫هل ميكن ألحد أن ينظر إىل ملحمة كانتو جرنال الشعرية‬ ‫«النشيد الشامل» التي متثل أوج عطاء نريودا الشعري وقمة‬ ‫الشعر السيايس يف ذات الوقت عىل أنها تفتقر إىل الخيال‬ ‫أو املوسيقى أو أنها َتت َِّسم با ُمل َباشرَ َة والخطابية؟! ليس هذا‬ ‫فحسب‪ ،‬أمل يعرف التاريخ أيضاً ثوريني خلصاء نظموا الشعر‬ ‫عىل فرتات‪ ،‬لعل أشهرهم الزعيم الفيتنامي هويش منه‪،‬‬ ‫الذي نظم كثرياً من الشعر يف السجون‪ ،‬ليخرج بعد ذلك‬ ‫ديوانه الوحيد ورباعياته املجيدة «يوميات السجن»؟ أال‬ ‫تحيلنا الشواهد السابقة إىل ما قاله أحد النقاد يوماً من أن‬ ‫«الشاعر والبطل توأمان»؟ حتى الشعر العريب الحديث مل‬ ‫تغب عنه مناذج الشعر السيايس املتأججة جامالً ونضاالً‪.‬‬ ‫وأشهر منوذجني عىل ذلك الشاعران واملجددان العظيامن‬ ‫أبو القاسم الشايب ومحمد مهدي الجواهري‪ .‬واحتل الشعر‬ ‫السيايس مساح ًة كبري ًة من َن ْظ ِم الشايب‪ ،‬وكانت قصيدته‬ ‫«إرادة الحياة» نشيد الثوار يف تونس ومرص‪.‬إذا الشعب يوماً‬ ‫أراد الحياة‬ ‫فال بد أن يستجيب القدر وال بد لليل أن ينجيل‬ ‫وال بد للقيد أن ينكرس‬

‫حسن طلب‬

‫أما الشاعر حسن طلب الذي فاجأ الكثريين يف مرص يف‬ ‫عام ‪ 2005‬بقصيدته "مربوك مبارك" والتي اتسمت بالجرأة‬ ‫واملوقف السيايس الواضح‪ ،‬حتى وصفها كثريون بأنها أشبه‬ ‫بالنبوءة عندما أعادوا قراءتها بعد الثورة‪ ،‬فريى أنه بعد‬ ‫‪135‬‬


‫تحقيق‬

‫شعر الثورة لم‬ ‫يُكتَب بعد‪ ،‬وما‬ ‫ُ‬ ‫ك ِتب مجرد تعبير‬ ‫حماسي عنها‬ ‫وليس شعر ًا‬ ‫بالمعنى المفهوم‬

‫ٌ‬ ‫طغيان للسيايس عىل الفني‪ ،‬وهو ما‬ ‫ثورة يناير كان هناك‬ ‫بنفسه‪،‬‬ ‫نفسه ِ‬ ‫يعمل عىل مصادرة حق الفن يف أن ِّ‬ ‫يوجه َ‬ ‫أي حريته يف أن يعمل وفق قانونه الخاص‪ ،‬ليك يقوم‬ ‫السيايس بتوجيهه وتحديد ما يصح أن يقوله وما ال يصح‪،‬‬ ‫بل وتحديد الطريقة التي يقول بها ما يقول‪ .‬فاملطلوب‬ ‫من الفن يف هذه الحالة أن يظل خادماً يف ساحة السياسة‪.‬‬ ‫ويضيف ِطلب‪" :‬ال يحتاج الفن دامئاً إىل مرشوع سيايس‪،‬‬ ‫فيكفيه مرشوعه الخاص الذي ترسم حدوده الحرية وتنريه‬ ‫شموس الجامل‪ .‬نعم قد يتصادف أن يقوم الفن أحياناً‬ ‫بدور سيايس تحرييض‪ ،‬أو بدور اجتامعي مبارش‪ ،‬وقد يؤدي‬ ‫هذا الدور بنجاح منقطع النظري‪ ،‬ويف التاريخ شواهد عدة‬ ‫تؤكد هذه الحقيقة‪ ،‬غري أن ما يقوم به الفن من دور‬ ‫سيايس واجتامعي يشء‪ ،‬وما يجعله ذا قيمة جاملية باقية‬ ‫يشء آخر مختلف متاماً‪ ،‬ميكنك مث ًال أن تجد نشيداً أو أغنية‬ ‫حامسية أو مقطعاً شعرياً ساخناً‪ ،‬يحرك عرشات األلوف‬ ‫من الثوار يف ملح البرص‪ ،‬ولكن بعد أن ينقشع الغبار‪،‬‬ ‫سيحتاج هذا العمل إيل ما يربر بقا َءه فنياً‪ ،‬وإال فهو ميت‬ ‫ال محالة"‪.‬‬ ‫من هذا املنطلق يؤكد طلب اعتقاده باستقالل الظاهرة‬ ‫الجاملية ؛ من دون أن يؤخذ ذلك عىل أنه دعوة منه‬ ‫لفصل الفن عن الواقع أو عن املجتمع عامة‪ ،‬وليس عن‬ ‫السياسة وحدها؛ وهي الدعوة التي يؤكد أنه من أشد‬ ‫خصومها بصورتها الفجة؛ فمجرد اإلمساك بالقلم أو‬ ‫بالفرشاة أو باإلزميل‪ ،‬هو يف حد ذاته فعل سيايس باملعني‬ ‫العميق للكلمة عىل حد تعبريه‪ .‬ويضيف أنه‪" :‬مادمنا‬ ‫نقول إن اإلبداع الفني ال ميكن أن يتحقق أساساً إال‬ ‫‪136‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫انطالقاً من أرض الحرية‪ ،‬فنحن غري بعيدين عن السياسة‬ ‫مبعناها األشمل‪ ،‬إال أنه من الواجب هنا التفريق بني‬ ‫الفعل السيايس العام الذي يقوم يف جوهره عىل تأكيد‬ ‫قيم العدالة والحرية يف العالقات اإلنسانية املتشابكة‬ ‫بني أطياف املجتمع‪ ،‬وبني الفعل السيايس اليومي املرتبط‬ ‫مبشكالت تفصيلية وأحداث آنية وبرامج حزبية ضيقة غري‬ ‫قابلة للتغيري أو حتى للتطوير"‪.‬‬ ‫ويستطرد طلب قائلاِ ً‪ " :‬ال يتعرض الفن للخطر إال حني يقع‬ ‫يف فخ السياسة بهذا املعني املحدود‪ .‬وهذا هو األساس‬ ‫الفلسفي الذي جعل فيلسوفاً كبرياً مثل "كانط" يقرر أن‬ ‫الظاهرة الجاملية غائي ًة بال غاية‪ ،‬أي أن النشاط الفني‬ ‫الحقيقي منز ٌه عن الغرض‪ .‬وهو ما ط َّو َر ُه يف النصف‬ ‫األخري من القرن التاسع عرش بعض املفكرين واألدباء من‬ ‫مؤسيس مدرسة (الفن للفن)‪ .‬ومع هذا؛ ينبغي أال ننيس‬ ‫ما يؤكد القاعدة من استثناءات عرب التاريخ‪ ،‬حيث ينجح‬ ‫بش َبا ِك ِهم ليقنصوا‬ ‫عباقرة الفن امللهمون أحياناً يف أن ُيلقوا ِ‬ ‫الطائرين معاً‪ :‬طائر الجامل مع طائر السياسة‪ ،‬وإن ظل‬ ‫تغريد طائر الجامل هو األصل"‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ويختم ِط ِلب حديثه قائ ًال‪ " :‬الوقت اليزال مبكرا للحكم‬ ‫عىل ِشعر الثورة عندنا‪ ،‬ولكن يكفي أن نرصد التهافت‬ ‫بالشعر‪ ،‬من قبل بعض‬ ‫املفتعل من أجل غسيل الضامئر ِ‬ ‫شعراء العامية الذين كانوا يهنئون مبارك بعيد ميالده قبل‬ ‫الثورة بأشهر قالئل‪ ،‬وكانوا من أتباع وزير ثقافته مع غريهم‬ ‫من األتباع‪ ،‬فلام قامت الثورة هرولوا ليلحقوا بقطارها‪،‬‬ ‫فكتبوا لها (املانفستو) وبراءة األطفال يف عيونهم‪ ،‬وعىل‬ ‫جبينهم طهارة الثوريني الرشفاء! كام نرصد ظاهرة أخرى‬ ‫تخص بعض الشباب ممن أغواهم املشهد بحصد لقب‬ ‫"شاعر الثورة" يف الزحام‪ ،‬وهؤالء مساكني‪ ،‬فلم يدُ م لهم‬ ‫اللقب إال أشهراً‬ ‫معدودات‪ ،‬ثم تبخروا كفقاقيع الهواء! أما‬ ‫ٍ‬ ‫الشعراء الجادون ممن استلهموا الثورة يف قصائدهم؛ فال‬ ‫تصدقهم إذا ما قال قائلهم إنه مل يقصد إال مواكبة هذا‬ ‫الحدث التاريخي الجلل والتغني به؛ فام من شاعر حقيقي‬ ‫إال ويطمح إىل أن يجمع بني الحسنيني‪ ،‬فيحقق املعادلة‬ ‫الصعبة بني الجاميل والسيايس‪ ،‬وهي معادلة ال يفك‬ ‫طالس َمهَا إال العباقرة‪ ،‬وال يحلها إال ذو حظ عظيم"‬ ‫ِ‬


‫الشعر والثورة‬

‫ميدان التحرير‬

‫عبد املنعم رمضان‬

‫يجري الشاعر عبد املنعم رمضان محاكمة للشعر من أيام‬ ‫الثورة األوىل إىل اليوم قائ ًال‪« :‬من خالل مشاهدايت يف امليدان‬ ‫أو خارجه كان الشعر األكرث رداء ًة يف استجابته للثورة؛ فقد‬ ‫أعادوه إىل أشكال قدمية أكرث مناسب ًة للوجدان العام واآلذان‬ ‫والغرائز‪ ،‬متخلني عن الثورة الخاصة بالشعر‪ .‬وبالتايل أرى‬ ‫أن كل ما ُك ِتب لن نستعيده مر ًة ثانية‪ ،‬وسيتحول إىل ذكرى‬ ‫شعرية سيئة‪ ،‬األمر الذي حدث يف أحداث بورسعيد ‪،1956‬‬ ‫عندما ال نتذكر من الشعر الذي كتب عنها غري نشيد «الله‬ ‫أكرب»‪ ،‬حيث مل يكن ُم َ‬ ‫عظم ما ُك ِتب يف ذلك الوقت حول‬ ‫تلك األحداث سوى استجابة رسيعة لها عرب أشكال قدمية‪،‬‬ ‫كان الشعر يسري عليها قبل الثورة مبارشة»‪.‬‬ ‫يضيف رمضان‪« :‬إن الشعراء الشباب كانوا يحاربون من‬ ‫أجل قصيدة جديدة مثل قصيدة النرث‪ ،‬متثل قراءة ذاتية‬ ‫خاصة وليست منرباً خطابياً‪ .‬ويتساءل ُمستن ِكراً‪ :‬ماذا ُينت َ​َظر‬ ‫الشعر‬ ‫يف هذا الصدد من يشء أعاد سطوة الجمهور عىل ِ‬ ‫و َكت ََّل ُق َّرا َء ُه يف جمهور‪ ،‬مع أن طبيعة تلقي الشعر فردي ًة‬ ‫باألساس‪ ،‬ألن الشعر يسعى إىل «تفرد الفرد»‪ ،‬كل فرد يف‬ ‫ذاته‪ ،‬يف حني أن الجمهور ميثل كتلة‪ .‬ولذلك أرى أن شعر‬ ‫ٌ‬ ‫«نكبة ِشعرية» ألنها أدت إىل تراجع‬ ‫الثورة يف حد ذاته‬ ‫الشعراء لكتابة األناشيد ال القصائد»‪ .‬ويستطرد رمضان قائال‪ً:‬‬ ‫«الشعر يفهم الثورة بشكل آخر‪ ،‬الشعر يراهن عىل الثورة‬

‫شعر الثورة في‬ ‫حد ذاته «نكب ٌة‬ ‫شعرية» ألنها أدت‬ ‫ِ‬ ‫إلى تراجع الشعراء‬ ‫لكتابة األناشيد ال‬ ‫القصائد‬

‫إلحداث ثورة يف داخل الشعر وجوهره‪ .‬ولكنَّ الشعر يخيب‬ ‫خيبة الثورة التي انتهت إىل عودة النظام القديم كام ًال‪.‬‬ ‫وكذلك انتكس الشعر إىل شعر جامهريي‪ ،‬حيث مل يكن‬ ‫القارئ العام ينتظر غري ذلك»‪.‬‬ ‫ويرفض رمضان فكرة تأثر الشعر بالثورة‪ ،‬حيث يرى أن‬ ‫الشعر ال يكون أبداً رد فعل‪ ،‬ألنه رحلة يف أعامق اللغة‬ ‫والشكل واإلنسان‪ ،‬ليعود هذا األخري إىل طفول ِت ِه ويرى‬ ‫فالشع ُر‪ -‬عىل حد تعبريه ‪ُ -‬ي ِّ‬ ‫األشياء ألول مرة‪ِّ .‬‬ ‫نظف العني‬ ‫ُ‬ ‫لرتى األشياء مرة ثانية‪ ،‬أما الشعر الذي أن ِت َج خالل الثورة‬ ‫وحتى اآلن فيصفه بأنه «طبخة باردة ال تصلح لألكل ورمبا‬ ‫ميرض من يأكلها‪ ،‬ألنه مل يقدم إال رؤية مألوفة قامئة عىل‬ ‫رؤية املكرر واملعاد من دون أن يرى الثورة برؤية‬ ‫جديدة»‬ ‫‪137‬‬


‫شعر وخط‬ ‫أبت رقتي إال الذي يقتيض الهوى‪...‬وعزمي إال ما اقتىض الرأي والعقل‬

‫منير الشعراني‬

‫مهب‬ ‫الشعر في‬ ‫ّ‬ ‫الخط العربي‬

‫املتاهة‬

‫ّ‬ ‫الخطية التي يسلكها منري الشعراين‬ ‫يف كتابة عبارة شعرية‪ ،‬ال تقل غموضاً‬ ‫عن الصورة الشعرية‪ ،‬التي يختارها هذا ّ‬ ‫الخطاط السوري‬ ‫املتف ّرد‪ .‬العبارة هنا تحمل مدلوالً برصياً يعادل املعنى‬ ‫تخوم أبعد‪ ،‬ذلك أن االختزال‬ ‫الشعري‪ ،‬أو أنه يذهب به إىل ٍ‬ ‫يتط ّلب اكتفاء ذاتياً بالعبارة‪ ،‬وتجاهل ما قبلها وما بعدها‪،‬‬ ‫أو حسب ما يقول يوسف عبدليك‪« :‬يعمل منري الشعراين‬ ‫عىل أرس وفك التكوين يف آنٍ واحد‪ :‬يحرص عبارة يف مربع‬ ‫أو دائرة أو معني‪ ،‬ثم يكرس حدودها الخارجية‪ ،‬وكأنه يقبل‬ ‫تحدياً وضعه لنفسه يف إنجاز العبارة ضمن فضاء مغلق‬ ‫فيظهر لنا مهارته يف التعاطي مع هكذا اختبارات‪ ،‬ثم يعود‬ ‫إىل نزعته يف كرس ما هو ثابت‪ ،‬فيعمل عىل تحرير محيط‬ ‫التكوين باخرتاق حرف ما الجهة اليرسى من املربع‪ ،‬أو‬ ‫متزيق ألفات متطاولة لسقف الشكل األعىل‪ ،‬وهو بذلك‬ ‫يعيد فتح فضاء اللوحة املغلق عىل فضاء الورق األوسع»‪.‬‬

‫‪138‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫الصلة بين الشعر والخط العربي تتجاوز الحروفية‬

‫واللعبة الزخرفية الجمالية إلى العالقة بين الشعر‬ ‫ً‬ ‫والتشكيل‪،‬انطالقا من الطاقة البصرية التي يختزنها الخط‬

‫والموسيقى الداخلية الكامنة في الظاهر والباطن‬

‫خليل صويلح‬

‫مل يكتف حفيد الخطاط الدمشقي «بدوي» بتجاربه‬ ‫مقام آخر‪،‬‬ ‫الشخصية يف تطوير الخط العريب ووضعه يف ٍ‬ ‫خارج املدرسة العثامنية القدمية‪ ،‬بل ذهب أبعد من‬ ‫ذلك‪ ،‬نحو شطح يسعى إىل الكشف‪ ،‬ويسمو إىل التجريد‬ ‫واإلضافة «ولو بقدر يف ريّ شجرة الخط العريب الوارفة التي‬ ‫ما تزال تثمر جامالً عىل رغم ظالل الجمود وحجب الجهل‬ ‫والتخ ّلف»‪.‬‬

‫مقاربات شعرية‬

‫مل يجرؤ عىل وضع إمضائه عىل الخطوط التي كان يبتكرها‬ ‫إال بعد رحيل معلمه «البدوي»‪ .‬يقول متذ ّكراً معلمه الراحل‬ ‫«مكنني شيخي من التقليد واألصول‪ ،‬وخلاّ ين يف مقام الحرية‪،‬‬ ‫فرأيت «العلم املستقر كالجهل املستقر»‪ ،‬وأخذين الحال‬ ‫فأصبحت كلام ارتقيت مرتبة سموت إىل أبعد منها‪ ،‬وأمعنت‬ ‫يف طلب املعرفة فقادتني إىل حرضة الخيال فشطحت أطلب‬


‫منير الشعراني‬

‫ْ‬ ‫وكشفت حجاب حرييت‪،‬‬ ‫تجسيد املعاين‪ ،‬فتجلت يل يف املباين‪،‬‬ ‫فرصت عىل الربزخ بني السكون والحركة‪ ،‬أرجو تجاوزه إىل‬ ‫الحركة‪ ،‬والحركة حياة»‪.‬‬ ‫حني نتوقف أمام أعامله الخطية املبتكرة عىل جدران‬ ‫مشغله الجديد يف دمشق‪ ،‬سنستعيد عبارات مقتبسة من‬ ‫أيب حيان التوحيدي‪ ،‬واملتنبي‪ ،‬والن ّفري‪ .‬هؤالء هم ضالته‬ ‫يف استعادة بهاء الحرف العريب‪ ،‬ونفض الغبار عن فن أصيل‬ ‫وقع طوي ًال تحت سطوة التجويد عىل حساب املعنى واملتانة‬ ‫الغرافيكية عرب تكوينات جديدة ومتناغمة‪ ،‬أفقية وشاقولية‪،‬‬ ‫تؤسس لسؤال برصي يف صوفية مغايرة‪ .‬عىل املقلب اآلخر‬ ‫سنجد نفحة حداثية يف اختياراته‪ ،‬ومقاربات شعرية تختزل‬ ‫املسافة بني أشعار املتنبي وعباس بن األحنف‪ ،‬والنابغة‬ ‫الذبياين من جهة‪ ،‬وأشعار محمود درويش والس ّياب ومحمد‬ ‫املاغوط ‪ ،‬إىل وليد خازندار‪.‬‬ ‫خالل تجاربه املتواصلة‪ ،‬كان منري الشعراين يشعر أ ّنه ميأل‬ ‫فراغ سنوات طويلة‪ ،‬مل يغامر أحد خاللها يف اكتشاف رحابة‬ ‫مهب آخر بال ضفاف‪.‬‬ ‫هذا الفضاء الغرافييك‪ ،‬ووضعه يف ّ‬ ‫ينفي هذا ّ‬ ‫الخطاط األبعاد الصوفية للوحته‪ ،‬ويرى يف هذه‬ ‫النظرة قصوراً معرفياً يف اختزال خمسة قرون من تجليات‬ ‫الخط العريب واملوسيقى الداخلية التي ّ‬ ‫تنظم هندسة‬ ‫الفراغات والكتلة‪.‬‬ ‫هكذا خاض تجارب غري مسبوقة يف جامل األداء ورصامة‬ ‫البنية الزخرفية والتكوينات املتناغمة‪ ،‬وتعدّد الرؤى تجاه‬ ‫العبارة ذاتها‪ .‬لطاملا أعاد كتابة‬ ‫عبارة ما بحلول غرافيكية متعددة‪،‬‬ ‫وبعيدة عن النسخ والتكرار‪ ،‬وذلك‬ ‫بتأثيث الحرف جاملياً‪ ،‬انطالقاً من‬ ‫املعنى الكامن يف العبارة املختارة‪.‬‬ ‫وإذا باللوحة تذهب إىل مناطق‬ ‫بكر بلمسة مبتكرة يف التشجري‬ ‫والتوريق‪ ،‬من دون أن تعلن‬ ‫قطيعتها مع حفريات املعلمني‬ ‫الكبار‪ .‬الشغف بالعبارة يضع‬ ‫خطوطه يف احتامالت متعددة‬ ‫وابتكارات برصية ّأخاذة‪ .‬سنتوقف‬ ‫أمام عبارة محمود درويش «يف‬

‫الشام مرآة روحي» يف مقرتحني مختلفني‪ ،‬تحدد النقطة مركز‬ ‫الثقل بلونها املختلف عن املنت‪ ،‬فيام يتح ّكم برصامة التكوين‬ ‫وتطويعه يف آنٍ واحد‪.‬‬ ‫وهكذا نتتبع استقامة حرف األلف وانسياب ّيته‪ ،‬بوصفه دلي ًال‬ ‫رس الصنعة وجوهر‬ ‫عىل بقية األحرف‪ ،‬لنف ّكك عىل مهل ّ‬ ‫تجربته الحداثية التي ال تتوقف عن التجريب واملغامرة يف‬ ‫استنباط تأثريات برصية مشبعة بالتأويل‪ .‬ذلك أن «العارف‬ ‫صاحب تجريد» وفقاً ملحتوى لوحة مقتبسة من مأثورات‬ ‫ابن عريب‪ .‬هذه العبارة ستقابلنا مبجرد أن ندخل محرتفه‬ ‫الجديد‪ ،‬كأن منري الشعراين يرغب يف أن يختزل املسافة إىل‬ ‫لوحته من دون مقدمات‪ .‬الحداثة التي يعمل عليها غري‬ ‫منقطعة الجذور عن األصل‪ ،‬لكنها تأيت من موقع «التم ّرد‬ ‫عىل الفصل الجائر بني الخط العريب والتشكيل» وفقاً ملا‬ ‫يقوله يف توصيف تجاربه‪.‬‬ ‫يف محرتفه‪ ،‬تتكدس دواوين شعرية قدمية وحديثة‪ ،‬ستكون‬ ‫مدار بحث وتنقيب عن املادة التي ستجبل ببياض اللوحة‪.‬‬ ‫عدا نصوص ابن عريب واملتنبي وملحمة جلجامش واألقوال‬ ‫املأثورة‪ ،‬استعان منريالشعراين بنصوص حداثية جديدة‬ ‫وأدخلها يف مختربه‪ .‬لكنها لفرط الكثافة والتمحيص‪ ،‬اعتقد‬ ‫بعضهم أ ّنها نصوص مغرقة يف القدم‪ .‬لن نهتدي بسهولة‬ ‫إىل صاحب «الكالم رشك»‪ ،‬أو «الجهل عمود الطأمنينة»‪ ،‬أو‬ ‫«ال حقيقة يف الظل»‪ .‬سيخربنا باسم شاعر ال يخطر يف البال‬ ‫بسهولة‪ ،‬إنه وليد خازندار‪ ،‬شاعره وصديقه األثري‪.‬‬ ‫عدا وليد خازندار ينكب منري‬ ‫الشعراين يف لوحاته الجديدة عىل‬ ‫اختيار عبارات صارمة من أشعار‬ ‫الجواهري‪ ،‬ومحمود درويش‪،‬‬ ‫ومحمد املاغوط‪ ،‬وسليم بركات‪،‬‬ ‫ومحمد بنيس‪...‬‬

‫اعادة اعتبار للخط‬

‫تنطوي تجربة منري الشعراين يف‬ ‫ّ‬ ‫الخط العريب إذاً‪ ،‬عىل مغامرة‬ ‫حقيقية‪ ،‬تسعى من دون هوادة‬ ‫إىل تأصيل لوحة ّ‬ ‫خطية عربية‪،‬‬ ‫تعيد االعتبار إىل الخط بوصفه‬

‫هذي حروف اللفظ سطر واحد منها يؤلف للكالم بحار‬ ‫‪139‬‬


‫الشعراين يف محرتفه‬

‫فناً عريقاً‪ ،‬خارج الوظيفة النفعية من جهة‪ ،‬وبعيداً من‬ ‫الحروفية ذات البعد االسترشاقي من جهة أخرى‪ .‬لوحاته‬ ‫تقف عند املسافة الفاصلة بني موروث الخط العريب‪،‬‬ ‫والتطلعات الذاتية لتأثيث الحرف بإمكانات جاملية‬ ‫ووجدانية تنبثق من جوهره ومعناه‪ .‬كام تنأى عماّ هو‬ ‫مقدّس ويقيني‪ ،‬يف محاورة جدلية الستنباط أفكار جديدة‬ ‫ومبتكرة لوضع الخط العريب يف مقام تشكييل وبرصي‬ ‫ينافس اللوحة بكل أبعادها الجاملية‪ ،‬وذلك من وجهة نظر‬ ‫حداثية‪ ،‬ومن دون قطيعة معلنة مع املنجز القديم‪ .‬هكذا‪،‬‬ ‫تأيت تجاربه التقنية ترجيعاً لدراسة مع ّمقة إلمكانات الحرف‬ ‫العريب وأرساره يف التوريق والتشجري‪ ،‬وفهم التجريد الهنديس‬ ‫الدقيق لكل حرف عىل حدة‪ ،‬بنا ًء عىل حفريات آباء الخط‬ ‫العريب يف العامرة اإلسالمية‪.‬‬ ‫ال يأنس هذا الخطاط إىل خيار واحد يف شطحه الحرويف‪،‬‬ ‫سواء لجهة األسلوبية يف بناء اللوحة‪ ،‬أو يف أشكال الخطوط‪،‬‬ ‫إذ ّإن املسألة تحتمل وجوهاً عدة إلبراز هذا الحرف أو‬ ‫ذاك‪ ،‬تبعاً ملوقعه يف العبارة املختارة‪ .‬هكذا‪ ،‬تحيل لوحة‬ ‫مأخوذة من موروث ابن عريب أو النفري‪ ،‬مث ًال‪ ،‬إىل نفحة‬ ‫صوفية عالية‪ ،‬تتبدى بإرشاقات الحرف عرب منحى برصي‬ ‫وتطريبي‪ ،‬يستعيده الشعراين يف أكرث من مترين‪ ،‬وذلك‬ ‫باستخدام مقرتحات الخط الكويف عىل نحو خاص‪ .‬ال تنتهي‬ ‫أغراض اللوحة هنا عند حدود الخط‪ ،‬بل تتعداه إىل تأثريات‬ ‫‪140‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫برصية تعمل عىل ما وراء العبارة من قيم وأمثوالت وأقوال‬ ‫مأثورة‪ .‬فاللوحة لدى حفيد شيخ ّ‬ ‫الخطاطني الشوام بدوي‬ ‫الديراين تنهض عىل أكرث من سطح‪ :‬سطح أول ينشغل‬ ‫بإيصال الشحنة الجاملية والبرصية للحرف‪ ،‬وسطح ثانٍ‬ ‫للرس املخ ّبأ بني ثنايا العبارة‪ ،‬يف ما‬ ‫للغز املعنى‪ ،‬وثالث ّ‬ ‫يخص الظاهر والباطن‪ ،‬أو الخفي والجيل‪ ،‬ما يشحن اللوحة‬ ‫مبوسيقى تجريدية تتوحد يف روح الكالم‪« :‬املكان إذا مل يكن‬ ‫مكانه ال يع ّول عليه»‪ ،‬أو «العني رساج الجسد»‪ ،‬و«العلم‬ ‫يف العني حرية»‪ ،‬أو«السامع إذا مل يوجد يف اإليقاع ويف غري‬ ‫اإليقاع ال يع ّول عليه»‪ .‬هنا يتناهبنا الشغف بني جاملية‬ ‫التصميم الحرويف‪ ،‬وبني املعنى العميق للعبارة‪ .‬هناك إذا‪ً،‬‬ ‫بعد تحرييض لفحص واختبار الشحنة التي يبثها الخطاط‬ ‫يف لوحته‪.‬‬ ‫يف اشتغاله عىل بيت امرئ القيس «أال أيها الليل الطويل‬ ‫أال ا ْنجلِ »‪ ،‬يلجأ الشعراين إىل تأثيث هذا الشطر من البيت‬ ‫بأقواس متداخلة ومغلقة‪ ،‬عىل خلفية سوداء‪ .‬هكذا‪ ،‬تبدو‬ ‫العبارة كام لو أ ّنها متاهة‪ ،‬لوال استخدام النقاط التي تشع‬ ‫باألحمر وسط العتمة املطلقة‪ .‬لكنّه يف مقرتح آخر للعبارة‬ ‫عينها‪ ،‬يجد حلوالً برصية أخرى باستخدام انسيابية حريف‬ ‫األلف والالم واستطاالتهام‪ ،‬فتنشأ كتلة يف الفراغ تحيل إىل‬ ‫استغاثة ورمبا رصخة يف العراء للخروج من عتمة الليل‬ ‫الطويل‪.‬‬


‫منير الشعراني‬

‫سلم موسيقي‬

‫حرف األلف هو مرتكز أسايس يف اشتغاالت الشعراين‬ ‫الخطية‪ ،‬وذلك لقدرته عىل التف ّرد بني الحروف األخرى لجهة‬ ‫التجريد والتوريق‪ ،‬ثم تأيت الهمزة عىل شكل طائر ّ‬ ‫يحط عىل‬ ‫شجرة املعنى‪.‬‬ ‫يج ّرب الشعراين مختلف أنواع الخط العريب تبعاً لتناغم‬ ‫األحرف يف هذه العبارة أو تلك الختبار أبعادها التشكيلية‪،‬‬ ‫وقد يعود إىل العبارة يف نوع آخر من الخط‪ ،‬سواء أكان‬ ‫كوفياً أم ثلثاً أم ديوانياً‪ .‬كأن هذا ّ‬ ‫الخطاط ال يستقر يف‬ ‫مكان‪ ،‬فهو دائم البحث والتجريب‪ .‬صحيح أ ّنه امتداد‬ ‫لتجارب الخطاطني الكبار‪ ،‬لكنه يف املقابل يسعى إىل التجاوز‬ ‫واإلضافة لتأكيد توقيعه الشخيص بعيداً عن النص املقدس‬ ‫الذي ارتبطت به تجارب معظم الخطاطني القدامى‪ .‬إذ بقي‬ ‫نحو خمسة قرون حبيس هذا املنحى الديني‪ ،‬وخصوصاً يف‬ ‫فرتة الحكم العثامين للمنطقة العربية‪.‬‬ ‫هذا املأزق تجاوزه الشعراين عرب كرس القوالب التقليدية‬ ‫للخط العريب‪ ،‬واملزاوجة بني الجامليات الخاصة بهذا الخطّ‬ ‫وقيم التشكيل الحديث‪ ،‬ما فتح آفاقاً رحبة ومبتكرة‬ ‫أمام لوحته‪ .‬روحانية أعامل الشعراين ترقى إىل مستويات‬ ‫تجريدية عالية‪ ،‬ال تتّكئ عىل ما هو مألوف يف الزخرفة‬ ‫والحوايش والتوشيحات‪ ،‬بل تنبثق من الداخل بتطويع الخط‬ ‫غرافيكياً‪ ،‬وتكشف ما هو مسكوت عنه بفتنة برصية آرسة‪،‬‬ ‫فتتجاور األحرف املحبوكة بقوانني هندسية صارمة‪ ،‬عىل‬ ‫شكل س ّلم موسيقي مينحها رنيناً خاصاً‪ ،‬وتأويالت ال تحىص‪،‬‬ ‫عرب التناسب الدقيق بني الخط والنقطة والدائرة‪ ،‬والفصل‬ ‫والوصل‪ ،‬واالنحناء واالستقامة‪.‬‬ ‫بعيداً عن التقنية وتناغم الكتل والفراغات يف قاعدة اللوحة‬ ‫وعمقها الهنديس‪ ،‬يتفرد هذا الفنان بانحيازه إىل املوروث‬ ‫الرسدي العريب القديم‪ ،‬وبعض النصوص الشعرية املعارصة‪.‬‬ ‫وهو يف اختياراته هذه يعبرّ عن ذائقته الشخصية أوالً‪،‬‬ ‫كام يبث رسائل إىل املتل ّقي بإشارة أو تأويل‪ .‬وإذا بالنص‬ ‫يوجه مسار اللوحة ومقرتحها الرسدي‪ .‬هكذا‪ ،‬تتجاور‬ ‫املختار ّ‬ ‫نصوص ابن عريب مع أشعار املتنبي والنابغة الذبياين وعمر‬ ‫الخ ّيام وعباس بن األحنف‪ ،‬وح َكم اإلمام عيل بن أيب طالب‪،‬‬ ‫ومأثورات عربية يف الحكمة واملحبة والخري والجامل‪ ...‬كام‬ ‫يخوض هذا ّ‬ ‫الخطاط املتمرد تجربة مهمة يف مناوشة ملحمة‬

‫ان للقلوب اقباال وادبارا‬

‫«جلجامش» خطياً وبرصياً‪ ،‬حني ينطلق من عبارة مركزية‬ ‫يف امللحمة‪ ،‬ومن ثم يتوغل يف منت النص‪ .‬فعبارة مثل «التيه‬ ‫يبدأ منك»‪ ،‬الواردة عىل لسان جلجامش‪ ،‬تنطوي عىل‬ ‫حمولة فلسفية ومعرفية‪ ،‬رسعان ما تنفتح عىل بعد حكايئ‬ ‫ييضء رحلة جلجامش وأنكيدو يف البحث عن عشبة الخلود‪.‬‬ ‫خطياً‪ ،‬ستتوسط العبارة سطح اللوحة‪ ،‬ويقع ثقل الكتلة‬ ‫عىل حرف الكاف وحده‪ .‬هذا الحرف الذي يأخذ شكل‬ ‫الهرم بتوريق بسيط يف نهايته‪ .‬أما النص نفسه‪ ،‬فيبدأ دائرياً‬ ‫تبعاً لطواف جلجامش وأنكيدو‪ ،‬قبل أن يستقر عىل شكل‬ ‫مستطيل باألسود واألحمر‪ ،‬وتؤلف الكتلتان مالمح شخص‬ ‫يواجه مصرياً مجهوالً‪.‬‬ ‫إذا تأملنا مث ًال يف لوحة «إن املحب لتبدو منه أرسار» من‬ ‫أشعار عباس بن األحنف ‪ ،‬نالحظ كيف تتك ّون الكتلة عىل‬ ‫شكل قلب قي قاعدة اللوحة‪ ،‬بينام يظهر مطلع القصيدة‬ ‫مثل هالل يف أعالها‪ ،‬ثم يكتمل النص عىل شكل قمر‪.‬‬ ‫يف «مصنّفات» الشعراين‪ ،‬نحن إزاء «عقد فريد» من‬ ‫نوع آخر‪ ،‬إذ تتجاور مد ّونات تراثية وحداثية يف فضاء‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫واحد‪ ،‬وميلوديات متعددة‪ ،‬تبعا إليقاع العبارة‪ ،‬وشطحها‬ ‫املوسيقي‪ ،‬وتناوب حضورها أفقياً وعمودياً‪ .‬رنني واضح لكل‬ ‫حرف‪ ،‬ما يش ّكل يف نهاية املطاف‪ ،‬نغ ًام موسيقياً كطبقة‬ ‫ثالثة يف معامر اللوحة‪ :‬الخط واملعنى واإليقاع‬ ‫‪141‬‬


‫حوار‬

‫شهاب غانم‬

‫األدب العربي‬ ‫قديمه وحديثه‬ ‫جدير بالترجمة‬

‫منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي بدأ‬

‫الشاعر والمترجم شهاب غانم أولى تجاربه‬ ‫ً‬ ‫عاما‬ ‫في الترجمة الشعرية‪ .‬وطيلة ثالثين‬

‫لم يترجم سوى الشعر‪ ،‬في الصحف والمجالت من العربية‬

‫ّ‬ ‫وكون بذلك‬ ‫إلى االنجليزية‪ ،‬ثم من االنجليزية إلى العربية‪،‬‬ ‫حصيلة معرفية في هذا الحقل الصعب وكذلك خبرة ُ‬ ‫ودربة‬

‫قامت على وجهة نظر شعرية في مقاربة الترجمة‬ ‫«بيت الشعر» حاورت غانم حول هذه التجربة‪.‬‬

‫دبي ‪ -‬بيت الشعر‬

‫تبدو تجربتك يف ترجمة الشعر الهندي‪ ،‬سواء من الشعراء‬ ‫املقيمني هنا يف دولة اإلمارات أم من الذين يف بالدهم‪ ،‬الفتة‬ ‫بالفعل‪ ،‬كيف وصلت إىل هؤالء الشعراء هنا وما هي أصداء‬ ‫ترجمتك لهم‪ ،‬ثم هل يحمل هذا املرشوع آفاقاً أخرى مع‬ ‫شعراء آخرين من املمكن أن ترتجم لهم؟‬ ‫بدأت عالقتي بالشعراء الهنود عام ‪ 1996‬عندما قررت‬ ‫إحدى املؤسسات الهندية الثقافية يف اإلمارات تكرميي مع‬ ‫الشاعرة الشهرية كامال ثريا «كانت يف ذلك الوقت هندوسية‬ ‫تسمى كامال داس‪ ،‬واعتنقت اإلسالم عام ‪ ،»1999‬وكانت‬ ‫مرشحة لجائزة نوبل منذ ‪ .1984‬و ُك ِّرم معنا أيضاً شاعر أغاين‬ ‫األفالم الهندية الشهري يوسف عيل كترشي‪ .‬وكان تكرميي‬ ‫بسبب جهودي يف ترجمة الشعر العريب إىل اإلنكليزية ونرش‬ ‫الرتجامت يف الصحافة اإلنكليزية‪ .‬وقامت كامال بإهدايئ‬ ‫أحد دواوينها باللغة اإلنكليزية وبرتجمة قصيدة يل إىل لغة‬ ‫«املااليامل» عىل املنصة مبارشة‪ ،‬كام أشادت مبا يف شعري‬ ‫من معاين الحب‪ .‬وكان ذلك مشجعاً للشعراء الهنود يف‬ ‫‪142‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫اإلمارات للتواصل معي‪ .‬وجاء أول اتصال من الشاعر رام‬ ‫موهن وأحرض يل ديواناً مرتج ًام إىل اإلنكليزية من الشاعر‬ ‫الشهري ساتشيداناندان أمني عام أكادميية اآلداب يف الهند‬ ‫فيه إهداء يل بخط يد هو – أي ساتشيدانندان ‪ -‬الذي‬ ‫ترجمه بنفسه كام أهدى يل رام مهن ديواناً مشرتكاً له‬ ‫مع شعراء آخرين‪ ،‬وقد أدركت أهمية كامال داس «ثريا»‬ ‫وساتشيداناندان فقمت برتجمة بعض قصائدهام‪ ،‬ونرشت‬ ‫تلك الرتجامت يف الصحف واملجالت ووجدت أن تلك‬ ‫الرتجامت انتقلت برسعة إىل مواقع إلكرتونية‪ .‬وبدأ الشعراء‬ ‫الهنود وجلهم من كرياال يتصلون يب ويزورونني يف منزيل‬ ‫ويقدمون يل ترجامت لقصائدهم ومنهم سارجو شاتهانور‪،‬‬ ‫وشهاب الدين بويثمكادافو‪ ،‬وأنيل كامر‪ ،‬وأنوب شاندران‪،‬‬ ‫وقمر الدين أمايام‪ ،‬وآسمو بوثنشريا‪ ،‬وطبعا رام موهن‪ .‬ثم‬ ‫بدأ بعد ذلك يزورين عدد من مشاهري الشعراء من الهند‬ ‫ومنهم ساتشيداناندن الذي ترجمت له فيام بعد ديواناً‬ ‫من املختارات نرشته «كلمة» قبل أن يتم ترشيحه لجائزة‬


‫شهاب غانم‬

‫نوبل بعدة سنوات‪ .‬ومنهم شوليكاد وعدد من املشاهري‪،‬‬ ‫عنوان «قصائد من الهند»‪ .‬كام ُنشرِ يل يف مرشوع «كلمة»‬ ‫كام تعرفت عىل عدد منهم يف منزل القنصل العام الهندي‬ ‫إىل جانب مجموعة ساتشيدانادان ديوان «يا ألله» لكامال‬ ‫الذي أقام يل معهم عشاء‪ ،‬ومنهم الشاعرة الشهرية شجوثا‬ ‫ثريا تحت عنوان «رنني الرثيا» وفيه عرب أربعني قصيدة‬ ‫كامري التي استضيفت بعد ذلك يف معرض الشارقة‬ ‫تتحدث عن اكتشافها الله واعتناقها اإلسالم‪ ،‬وقد حصلت‬ ‫للكتاب‪ .‬وعندما حصل أتور فارما عىل جائزة أكادميية‬ ‫ترجمتي عىل أول جائزة الرتجمة من العويس لإلنجاز‬ ‫اآلداب يف كريال قررت األكادميية الخروج عىل العادة‪ ،‬وذلك‬ ‫العلمي يف أوائل هذا العام‪ .‬ومنذ عامني جرى تكرميي يف‬ ‫بتقديم الجائزة يف اإلمارات بدالً من كريال‪ ،‬وطلب مني أن‬ ‫أكادميية اآلداب بكريال‪ ،‬وكنت أول أديب عريب يكرم فيها‬ ‫أقدم الجائزة وكان ترشيفاً كبرياً يل‪ .‬وقد ترجمت مجموعة‬ ‫وكانت األكادميية مكتظة باألدباء والصحفيني وشهد الحفل‬ ‫ً‬ ‫تحوي ‪ 50‬قصيدة لثالثني شاعراً وشاعرة من املشاهري وأيضا األديب اإلمارايت د‪ .‬عبدالحكيم الزبيدي‪.‬‬ ‫من القاطنني يف الخليج ونرشتها الدائرة الثقافية يف الشارقة ويف هذا العام صدرت عن دار موتيفيت بديب ترجمتي‬ ‫تحت عنوان «قصائد من كريال»‪.‬‬ ‫ملجموعة جيتا شهابرا «أربعون قصيدة من الهند لإلمارات»‬ ‫وقد زارتني الشاعرة الدكتورة نرماال سوريش من مدراس‬ ‫وهو كتاب كبري الحجم «أو ما يسمى كتاب طاولة قهوة»‬ ‫يف تاميل نادو يف مكتبي بجبل عيل‪ ،‬وحدثتها مطوالً عن‬ ‫وهو خامس كتبي املتعلقة بالشعر الهندي‪ .‬وقد شاركت يف‬ ‫الشعر العريب القديم والحديث وأهديتها كتايب «ظالل‬ ‫عدد كبري من املؤمترات التي تتحدث عن العالقات الثقافية‬ ‫الحب»‪ ،‬وهو من شعري و «أصداف وآللئ» وهو ترجامت العربية الهندية ومن أهمها مؤمتر أقامته مجلة العريب يف‬ ‫لنامذج من شعر اإلمارات إىل اإلنكليزية‪ ،‬كام حصلت مني‬ ‫الكويت عام ‪ 2011‬ومؤمتر رعاه مركز سمو الشيخ سلطان‬ ‫عىل ترجاميت للشعر العريب إىل اإلنكليزية‪ ،‬ومن خالل هذه بن زايد يف أبوظبي عام ‪ 2011‬ومؤمتر عن كامال ثريا يف‬ ‫املواد وأيضاً من خالل ترجامت د‪ .‬غازي القصيبي ترجمت‬ ‫عامن عام ‪ 2011‬ومؤمتر يف معرض الكتاب بنيودلهي عام‬ ‫مناذج من الشعر العريب إىل لغة «التاميل»‪ ،‬ومن ضمنها‬ ‫‪.2012‬‬ ‫قصيدة لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد ومجموعة‬ ‫وقد استضافتني كثري من الجمعيات الهندية الثقافية‬ ‫من قصائدي‪ .‬كام أصدر ساتشيداناندان وبعض زمالئه‬ ‫كضيف رشف يف حفالت ثقافية كثرية‪ .‬ومؤخرا ترجم‬ ‫ديواناً من قصائدي مرتجمة إىل «املااليامل» ولعله أول‬ ‫الشاعر املعروف كيالش ماهر بعض قصائدي إىل األوردو‬ ‫ديوان لشاعر عريب بتلك اللغة‪.‬‬ ‫كام ترجمت يل أكرث من قصيدة إىل الهندية وهي رابع لغة‬ ‫وعندما استضاف معرض كتاب أبوظبي ساتشيداناندان‬ ‫هندية يرتجم إليها يشء من شعري بعد املااليامل والتاميلية‬ ‫عام ‪ 2005‬ثم كادامانيتا رام كريشنان يف عام‪ 2006 ،‬كنت‬ ‫واألوردو‪.‬‬ ‫أنا َمنْ ترجم أشعارهام إىل العربية‬ ‫مع صدور التقرير الشهري عن األمم‬ ‫وقدمهام شخصياً يف املعرض‪ .‬وقد‬ ‫املتحدة والذي أورد أن العرب‬ ‫عالقتي بالشعر‬ ‫رافقت األستاذ جمعة القبييس إىل‬ ‫ترجموا طيلة تاريخهم ما يعادل‬ ‫الهند قبل خمس سنوات ملحاورة‬ ‫الهندي تعود إلى أكثر ما ترتجمه إسبانيا يف عام‪ ،‬يف ضوء‬ ‫األدباء والنارشين الهنود لجذبهم‬ ‫ذلك كيف ترى هذه املقارنة أليست‬ ‫من ‪ 15‬عام ًا‪ ،‬ترجمت‬ ‫للمشاركة يف معرض كتاب أبوظبي‪.‬‬ ‫ظاملة ومجحفة عىل أقل تقدير؟‬ ‫وإثر ذلك قمت برتجمة مجموعة‬ ‫باملقابل كيف تنظر إىل تجربة‬ ‫خاللها كبار الشعراء‬ ‫تحوي ‪ 80‬قصيدة من الشعر‬ ‫الرتجمة العربية الحديثة وهل ال‬ ‫العربية‬ ‫إلى‬ ‫الهنود‬ ‫الهندي من ‪ 12‬لغة هندية رئيسية‬ ‫نزال ال نعلم الكثري عن ثقافات‬ ‫لثالثني شاعراً وشاعرة من املتميزين‬ ‫العامل مبا يف ذلك الثقافات املجاورة‬ ‫وقد نرشها املجمع الثقايف تحت‬ ‫وتلك التي تنتمي للقوس الحضاري‬ ‫‪143‬‬


‫حوار‬

‫والثقايف العريب واإلسالمي؟‬ ‫برأيي‪ّ ،‬أن فائدة ذلك التقرير أنه ينبه إىل تخلفنا الكبري يف‬ ‫مجال الرتجمة حتى ولو كان التقرير غري دقيق ومشكوك يف‬ ‫أرقامه‪ .‬نحن يف حاجة إىل ترجمة ما لدى الشعوب من علوم‬ ‫وآداب‪ ،‬مبا يف ذلك الهنود والصينيون‪ ،‬وما أسميتهم أنت‬ ‫بالقوس الحضاري والثقايف اإلسالمي‪ ،‬وأيضاً نحن يف حاجة‬ ‫لرتجمة أشعارنا وآدابنا إىل اللغات الحية‪ ،‬فام لدينا‪ ،‬نحن‬ ‫العرب‪ ،‬من ِشعر وأدب‪ ،‬بقدميه وحديثه‪ ،‬مهم ويستحق‬ ‫الرتجمة‪.‬‬ ‫قلت م ّرة أنه ال وجود لرتجمة نهائية‪ ،‬وأنها قد تختلف من‬‫شاعر إىل آخر يقوم بفعل الرتجمة بل عند الشاعر نفسه‬ ‫أيضاً‪ ،‬ما هو األساس املعريف الذي بنيت عليه وجهة نظرك‬ ‫هذه؟ أم أنها نتاج خربتك الشخصية يف الرتجمة؟‬ ‫لقد قلت ذلك عن ترجمة الشعر فقط‪ .‬يكفي‪ ،‬هنا‪ ،‬أن ننظر‬ ‫إىل ترجامت رباعيات عمر الخيام إىل العربية التي تبلغ نحو‬ ‫ثالثني وإىل االختالفات الكبرية بينها يف الشكل وإىل حد أقل‬ ‫يف املضمون لنصل إىل مثل ذلك الرأي‪ .‬وأنا أيضاً أبني مثل‬ ‫ذلك الرأي بناء عىل تجربتي الشخصية‪.‬‬ ‫قلت‪ ،‬أيضاً‪ ،‬أن الرتجمة الشعرية هي نقل لصورة ومعنى‪،‬‬ ‫وأن النرث قد يكون األكرث تعبرياً عن ذلك‪ ،‬هل يعني ذلك‬ ‫أن هناك شعراً من املحتمل نقله موزوناً وشعر آخر ليس‬ ‫باإلمكان فعل ذلك معه إال بالنرث؟‬ ‫الرتجمة‪ ،‬يف حقل الشعر‪ ،‬هي ترجمة للصور واملعاين‪ ،‬أما‬ ‫البالغة والجناس والبديع وسواها فيصعب نقلها وكذلك‬ ‫الوزن والقافية‪ .‬تستطيع أن ترتجم الشعر إىل شعر موزون‬ ‫ولكنه سيكون وزناً وإيقاعاً مختلفاً‪ .‬وستكون الرتجمة‬ ‫قصيدة موازية ورمبا ال تقل جامالً عن األصل أو تتفوق عليه‬ ‫‪144‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫يف بعض الحاالت النادرة‪ .‬الفيصل‪ ،‬يف هذا الشأن‪ ،‬هو تفاعل‬ ‫املرتجم الشاعر مع النص األصىل ومدى انسجامه معه‪ .‬ويف‬ ‫حاالت قليلة وجدت نفيس منفع ًال بحيث كتبت ترجمة‬ ‫شعرية موزونة لنص يف األصل موزون‪ .‬ولكن عادة أكتفي‬ ‫بتقديم ترجمة شاعرية اللغة للمعاين والصور وأحاول نقل‬ ‫املشاعر واالنفعاالت‪.‬‬ ‫ما املرشوع الذي تنشغل به اآلن‪ ،‬عىل صعيد الرتجمة‪ ،‬وما‬ ‫هو املوضوع الذي يقلقك؟‬ ‫سوف ُينرش يل هذا العام مجموعة من قصائدي ترجمتها‬ ‫إىل اإلنكليزية وتحوي نحو ربع ما كتبت من شعر‪ ،‬وقد‬ ‫قمت برتجمتها عرب سنوات طويلة‪ ،‬ومجموعة أخرى من‬ ‫الشعر األجنبي ترجمتها إىل العربية‪ ،‬وستصدر هذه األخرية‬ ‫يف أول هذا الشهر يف كتاب مستقل مع مجلة ديب الثقافية‪،‬‬ ‫التي كانت قد تكرمت فأصدرت يل عدة كتب مشابهة مثل‬ ‫«قصائد لشعراء جائزة نوبل» عام ‪ ،2009‬و«ليك ترسم صورة‬ ‫طائر وقصائد أخرى» عام ‪ .2010‬كام أعمل منذ أكرث من‬ ‫عرش سنوات «أو باالصح منذ أواخر القرن املايض!» عىل‬ ‫قاموس لألمثال اإلنكليزية وما يعادلها أو يقاربها يف العربية‬ ‫من حكم وأمثال وهو كتاب كبري وقد اقرتبت من االنتهاء‬ ‫منه بعون الله‪ .‬أيضاً أعمل عىل ترجمة مختارات من الشعر‬ ‫العريب الحديث ملشاهري الشعراء إىل اإلنكليزية‪ .‬ولكن يف‬ ‫نظري أهم ما أعمل عليه هو كتاب مشرتك أعمل عليه منذ‬ ‫سنوات مع ولدي املهندس وطالب الدكتوراه وضاح غانم‬ ‫عن سورة الفاتحة باللغة اإلنكليزية‪ .‬وهو كتاب متعمق‬ ‫وقد نرشنا منه عدة فصول يف مجالت متخصصة ولكن ما‬ ‫زال أمامنا نحو النصف‪ ،‬ونسأل الله العون يف هذا املجهود‬ ‫الهادف‬


‫شهاب غانم‬

‫مع الشاعرة كامال ثريا‬

‫قصيدتان‬ ‫للشاعر‪ :‬نايرندراناث شاكرافاريت‬ ‫ترجمة‪ :‬د‪ .‬شهاب غانم‬ ‫همالتا‬

‫همالتا‬ ‫بعض الكلامت تحوم يف الظالم يف بلدان أجنبية‬ ‫وبعضها تطري مع الرياح‬ ‫وبعضها تحتجز تحت األحجار‬ ‫وبعضها تطفو بعيداً مع النهر‬ ‫وبعض الكلامت تخلد للصمت وهي تحرتق‪.‬‬ ‫همالتا‬ ‫لقد أعطي ِتني كلمتك‪ ،‬أما أنا فلم أعطك كلمتي‪ ،‬ليس‬ ‫بعد‬ ‫ولكنني مل أفقد األمل‪،‬‬ ‫ليس بعد‬ ‫لقد توقفت عن جر شبكة أحالم العشق‬ ‫عرب الريح واملاء والنار واأليام والليايل‪،‬‬ ‫فلو أنني أجد تلك الكلامت ذوات القوايف‬ ‫سأقدمها لك‪.‬‬ ‫همالتا‪ ،‬ال تهدمي بيتنا‪ ،‬ليس بعد‪.‬‬ ‫كوين صبورة‪ ،‬أرجوك‪ ،‬تصدقي ع ّ‬ ‫يل بقليل من‬ ‫السنوات‪.‬‬

‫قطيعة‪ ،‬و‬

‫هناك طحلب تحت سطح املاء مبسافة قصرية‬ ‫ميكنك أن تراه لو ملت قلي ًال نحوه؛‬ ‫ولكنها ال تهتم بأن تراه‬ ‫إنها ترسل نظرتها بعيداً‬ ‫نحو الوردة الحمراء‪.‬‬ ‫وأنا أرقب من الفجر حتى الغروب‬ ‫أرقب كيف يتحرك الطحلب بدون توقف‬ ‫مثل الحب الذي أصابته القطيعة‪ ..‬والشوق‪.‬‬ ‫***‬ ‫أن الذي يخرتق قلبه عمود ذو خمس شعب‪،‬‬ ‫اسمه الحب‪.‬‬ ‫والذي ّ‬ ‫يزرق لونه كأمنا قد عضته كوبرا‪،‬‬ ‫اسمه الحب‪.‬‬ ‫كانت جديت تردد‪ :‬إن الذي ميزق الشمس‬ ‫لييضء مصباحاً يف كوخ حزين‪،‬‬ ‫اسمه الحب‬ ‫ولد شاكرافاريت يف البنغال وتخرج يف كلية سنت بول يف كلكتا وعمل‬ ‫يف الصحافة‪ .‬نرش نحو خمسني ديواناً شعرياً بالبنغالية منها ‪17‬‬ ‫لألطفال‪ .‬كام نرش ‪ 12‬رواية وخمس مجموعات من املقاالت وكتابني‬ ‫يف أدب الرحالت وسرية ذاتية‪ .‬وحصل عىل عدد من الجوائز األدبية‬ ‫منها جائزة أكادميية اآلداب الهندية‬

‫‪145‬‬


‫ندوة‬

‫في المنامة‬ ‫احتفاء خاص‬ ‫مجلة «بيت الشعر» كانت محل احتفاء في المنامة يومي ‪ 28‬و‪ 29‬من الشهر الماضي‪ ،‬خالل‬

‫ندوة أقامتها وزارة الثقافة في البحرين‪ ،‬في إطار فعاليات «المنامة عاصمة للثقافة العربية‬ ‫للعام ‪ .»2012‬تناولت الندوة في يومها األول الدوريات العربية المتخصصة في الشعر‪ ،‬غير‬ ‫أنها كانت بمثابة احتفالية من نوع ما بوالدة مطبوعة شهرية متخصصة في الشأن الشعري‬

‫فحسب‪ .‬وفي اليوم الثاني من الفعالية ذاتها استضافت الوزارة المشرف العام للمجلة‬ ‫ً‬ ‫مؤخرا عن منشورات‬ ‫الشاعر حبيب الصايغ لمناسبة صدور أعماله الشعرية في جزءين‬

‫اتحاد ّ‬ ‫كتاب وأدباء اإلمارات في أمسية شعرية خاصة قدمته خاللها الناقدة ديمة الشكر‬

‫المنامة ‪ -‬بيت الشعر‬

‫واالنتكاسات الثقافية والفكرية واأليديولوجية يف الوطن‬ ‫أدار الندوة الشاعر اللبناين عبده وازن مسؤول الصفحة‬ ‫ً‬ ‫العريب»‪ ،‬مؤكدا تفاؤله بصدور مجلة «بيت الشعر» يف سياق‬ ‫الثقافية اليومية يف جريدة الحياة اللندنية وشارك فيها‬ ‫التساؤل ذاته‪ .‬وذلك عىل اعتبار أن دفرت أحوال العريب هو‬ ‫الشاعران‪ :‬يوسف أبو لوز مسؤول القسم الثقايف يف يومية‬ ‫«دفرت انتصاراته وهزامئه‪ .‬إنه فن ذايت بامتياز‪ ،‬ولكنه يف‬ ‫الخليج وحسني درويش مسؤول القسم الثقايف يف يومية‬ ‫الوقت نفسه تعبري عام ينطوي عىل موقف ورأي»‪ .‬داعياً‬ ‫البيان‪.‬‬ ‫ً‬ ‫إىل «محاربة استسهال كتابة الشعر وعدم اتخاذه منصة إىل‬ ‫تحدث يف الندوة يوسف أبولوز‪ ،‬بدءا بالسؤال عن الحاجة‬ ‫أي أغراض غري غرضه اإلبداعي الجاميل»‪ ،‬وكذلك إىل رضورة‬ ‫إىل منرب جديد للشعر العريب‪ ،‬وقال‪« :‬املجلة املتخصصة‬ ‫متسك املجلة بتميزها املهني الخاص الذي ظهر مع عددها‬ ‫بفن الشعر هي يف العمق مرشوع ثقايف إبداعي فكري‬ ‫ّ‬ ‫األول‪ ،‬بوصف ذلك جانباً من جوانب مرشوعها الجاميل‪.‬‬ ‫ونقدي‪ ،‬فهي تتضمن بالرضورة الشعر والتفكري يف الشعر‪،‬‬ ‫من جهته‪ ،‬مهّد حسني درويش‬ ‫وتتضمن الشعر وجامليات‬ ‫لورقته بطرح مجموعة من‬ ‫الشعر‪ ،‬وتتضمن الشعر ونقد‬ ‫تمسك المجلة‬ ‫ضرورة‬ ‫التساؤالت بنى عليها رؤيته ملايض‬ ‫وسياسة‬ ‫الشعر‪ ،‬وتتضمن الشعر‬ ‫ّ‬ ‫بتميزها المهني الخاص املجالت الثقافية املتخصصة‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫الشعر»‪.‬‬ ‫«هناك مناخات سياسية تحكم‬ ‫وأضاف يف ورقته التي حملت‬ ‫الذي ظهر مع عددها‬ ‫مطبوعات النرش يف الوطن العريب‬ ‫العنوان‪« :‬دفرت أحوال العريب»‬ ‫األول‪ ،‬بوصف ذلك جانب ًا ويرتبط نشوء أية مطبوعة ثقافية‬ ‫أن «ظهور مجلة شعر متخصصة‬ ‫شعرية مبرشوع فكري عام وعلينا‬ ‫ال ب ّد أن يجري يف بيئات ثقافية‬ ‫من جوانب مشروعها‬ ‫مراعاة األجواء السياسية املحيطة‬ ‫وسياسية متفتحة وواعدة‬ ‫الجمالي‬ ‫بنشوء املطبوعة»‪.‬‬ ‫بالحرية‪ ،‬واعترب أن موت مجالت‬ ‫واعترب درويش َ‬ ‫نهوض مرشوع شعري‬ ‫الشعر يرتبط باألحوال السياسية‬ ‫‪146‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫بيت الشعر‬

‫وازن‬

‫درويش‬

‫أبو لوز‬

‫املشهد العام الذي يلتقي يف رحابه الشعراء «الغفريون»‪،‬‬ ‫يف مثل هذا الوقت والظرف العربيني مبثابة قيام مرشوع‬ ‫وتعيد قراءة النتاج الشعري املرتاكم واملقوالت الكبرية‬ ‫فكري‪ ،‬وأعطى مثاالً عىل ذلك مجلة اآلداب اللبنانية التي‬ ‫والصغرية والعناوين والظواهر التي مازالت تجتاح الشعر‬ ‫كان يرشف عليها الكاتب والروايئ سهيل إدريس «لبنان»‪،‬‬ ‫الفتاً االنتباه إىل أن هذا النموذج من النرش ترافق مع بروز العريب بدءاً من الستينيات‪ .‬غري ّأن الحركة الشعرية ال تفتقر‬ ‫فقط إىل مجلة تكون منرباً لها‪ ،‬مجرد منرب أو واجهة تلتقي‬ ‫حركات التحرر العربية يف الخمسينيات والستينيات من‬ ‫فيها األصوات والتجارب عىل اختالفها وتناقضها الصارخ‪ ،‬بل‬ ‫مرسمني‪،‬‬ ‫القرن املايض‪ ،‬وقال‪« :‬أصبح كتّاب هذه املجلة ّ‬ ‫إىل مجلة تكون أقرب إىل املوئل الشعري الذي تتفاعل فيه‬ ‫وترافق ذلك مع نضوج فكرة الحرية»‪.‬‬ ‫التجارب والنظريات ساعي ًة إىل ترسيخ مناخ شعري خاص أو‬ ‫أيضاً‪ ،‬تناول درويش منوذج مجلة شعر املرصية الصادرة‬ ‫اتجاه أو مدرسة»‪.‬‬ ‫يف العام ‪ ،1964‬وذلك يف سياق إشارته إىل ظاهرة توقف‬ ‫وبعد أن استعرض تاريخ مجالت الشعر العريب‪ ،‬قال وازن‪:‬‬ ‫أو عدم استمرارية صدور املجالت الثقافية‪ ،‬وأرجع ظاهرة‬ ‫«لعل ما يدعو إىل اسرتجاع «ذكرى» املجالت الشعرية هو‬ ‫التوقف هذه إىل ما سامه «غياب فكرة نجومية الفكر»‪،‬‬ ‫صدور مجلة جديدة هي «بيت الشعر» التي أطلقها أخرياً‬ ‫وسهولة الحصول عىل الشعر من العامل االفرتايض وتراجع‬ ‫بيت الشعر يف أبو ظبي‪ ،‬يف إرشاف‬ ‫دور املدرسة أدبياً‪ .‬وختم بالقول‪:‬‬ ‫الشاعر حبيب الصايغ ومعه لفيف‬ ‫«طرح مطبوعة شعرية ُيعد‬ ‫شعرية‬ ‫مطبوعة‬ ‫طرح‬ ‫من الشعراء الشباب يف مهمة‬ ‫مغامرة كبرية يف وقت ينرصف‬ ‫التحرير‪ ...‬ولعل ما يلفت بدءاً ّأن‬ ‫فيه‬ ‫فيه الناس عن الشعر وتتقدم‬ ‫يُعد مغامرة كبيرة في‬ ‫وقت ينصرف فيه الناس املجلة اختارت منذ انطالقتها فعل‬ ‫املرئيات»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫التحدّي مرتئية أن تكون شهرية‬ ‫ثم جاء التعليق من عبده وازن‪،‬‬ ‫فيه‬ ‫وتتقدم‬ ‫الشعر‬ ‫عن‬ ‫وليس فصلية مثل معظم املجالت‬ ‫فقدّم يف نهاية الندوة مداخلة‬ ‫الشعرية والسؤال الذي يرد‬ ‫الشعرية‬ ‫غنية‪« :‬ما أحوج الحركة‬ ‫المرئيات‬ ‫للوهلة األوىل هو‪ :‬هل ميكن توفري‬ ‫العربية الراهنة إىل مجلة شعرية‬ ‫مادّة شعرية جيدة شهراً تلو شهر؟‬ ‫تلم شتاتها وتبلور‬ ‫‪ -‬أو مجالت ‪ّ -‬‬

‫‪147‬‬


‫ندوة‬

‫أم ّأن املجلة ستضط ّر إىل نرش ما توافر ملئاً للفراغ الذي قد‬ ‫ينجم أحياناً؟ أ ّما ما يخفف من هذا الظنّ ّأن املجلة اختارت‬ ‫ما يشبه الصيغة «الصحافية» سواء يف طريقة التحرير‬ ‫واملتابعة الخربية أم يف منح مكافآت للشعراء والكتّاب الذين‬ ‫سجل فع ًال‪ ،‬فام من مجلة‬ ‫يسهمون فيها‪ .‬وهذه بادرة ُت ّ‬ ‫ّ‬ ‫شعرية رصف مكافأت كتّابها‪ ،‬ما خال قلة قليلة من مجالت‬ ‫األنظمة «التوتاليتارية»‪ .‬فالشعر مادّة كاسدة يف عامل النرش‬ ‫ومعظم الدُ ور تتلكأ عن نرشه بخاصة اليوم‪».‬‬ ‫وأضاف «مل تنطلق مجلة «بيت الشعر» من صفر عىل ما‬ ‫باحت به مقدّمتها‪ ،‬لكنها سعت إىل البحث عن الشعر‬ ‫وجاملياته ليس يف الحقل الشعري واللغوي فقط وإمنا يف‬

‫مجلة «بيت الشعر»‬ ‫اختارت منذ انطالقتها‬ ‫ً‬ ‫مرتئية أن‬ ‫فعل التح ّدي‬ ‫تكون شهرية وليست‬ ‫فصلية مثل معظم‬ ‫المجالت الشعرية‬

‫حبيب الصايغ‬ ‫الحداثة ورهاناتها‬

‫يف‬

‫تقدميها الشاعر حبيب الصايغ لجمهور الشعر يف املنامة‪ ،‬استعرضت الناقدة دمية الشكر عدداً من املحطات والتحوالت‬ ‫التي م ّرت بها تجربة الشاعر بدءاً من «هنا بار بني عبس‪ ،‬الدعوة عامة» حتى «أسمي الردى ولدي»‪.‬‬ ‫الورقة حملت عنوان‪« :‬حبيب الصايغ يواجه رهانات الحداثة»‪ ،‬وتحدثت عن تجربة الشاعر ضمن محاور حددت لها عناوين‬ ‫خاصة‪ :‬ن َفس غنايئ‪ ،‬وهواجس شعرية‪ ،‬وقالت‪« :‬الحداثة الشعر ّية لدى الصايغ تقوم بالضبط عىل االنطالق من اإلرث الشعريّ‬ ‫مبالغ فيه‪ ،‬بل من خالل نقده بصورة ُتظهر خصائصه املش ّعة والبناء عليها بعد ذلك‪،‬‬ ‫ني ٍ‬ ‫العريبّ‪ ،‬لكن من دون حن ٍ‬ ‫فائض أو ٍ‬ ‫مديح ٍ‬ ‫عىل نح ٍو مت ّكن فيه الشاعر من الربط بني املايض والحارض بعيداً من األفكار املسب ّقة التي راجت يف الحداثة الشعر ّية؛ كأن متيل‬ ‫القصيدة نحو التغريب والتأثر بالشعر األجنبي‪ ،‬أو أن متيل نحو املايض وتسكن فيه‪ .‬عىل العكس من ذلك تبدو قصيدة الصايغ‬ ‫مرتفع ًة عن لعبة الش ّد والجذب هذه‪ ،‬فهي ُ‬ ‫تأخذ من القديم جوهره‪ ،‬ومن الحديث تقنياته الفنية‪ ،‬متزج بينهام برباعة وأصالة‬ ‫يف آن معاً»‪.‬‬ ‫نفس غنايئ لكن شبه ملحمي‪ .‬تبطنُ قوام املعل ّقة ألنها تقرأ مبستويات‬ ‫ولفتت االنتباه إىل أن القصيدة لدى حبيب الصايغ ذات ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫متعددة‪ ،‬ولها أقنعة متعدّدة ؛ فهي تأخذ عنرتة بن شدّاد من زمنه الجاهيل‪ُ ،‬تسلمه لـ «املعلم أسد البحار» املالح الشهري ابن‬ ‫ماجد‪ ،‬ف ُينَزهه يف التاريخ يك يسأل عن العبودية والتح ّرر والوجود‪ ،‬عن الفرد‬ ‫ّ‬ ‫تمكن الصايغ من‬ ‫أنت إال الجنون املسافر‪ /‬يف رمح‬ ‫والجامعة‪ ،‬عن الحبيبة بني صورة عبلة «هل ِ‬ ‫عنرتة؟‪ /‬حر ّيتك اآلن تبدأ‪ /‬ثغرك فيه‪ /‬مالمح ّ‬ ‫كل السكاكني»‪ ،‬وصورة زبيبة «زبيبة الربط بين الماضي‬ ‫األسرية‪ /‬طفولة كبرية‪ /‬وبذرة مغلولة وغالية‪ /‬قد ربطت أفريقيا بآسيا»‪.‬‬ ‫والحاضر بعيد ًا من‬ ‫الشعر‪ ،‬مل َ‬ ‫ني من كتابة ّ‬ ‫يتخل الصايغ عن كتابة قصائد‬ ‫وقالت أيضاً‪« :‬عىل مدى سن ٍ‬ ‫ّ‬ ‫المسبقة التي‬ ‫األفكار‬ ‫طويلة ت ّؤلف ديواناً‪ ،‬منها‪ :‬ميارى‪ ،‬أس ّمي الردى ولدي‪ ،‬بل وك ّرس عربها مفهومه‬ ‫راجت في الحداثة‬ ‫للنص الشعريّ ‪ّ ،‬‬ ‫ونظر لها باعتبارها «رسداً شعر ّياً»‪ .‬والظنّ أنها أقرب إىل‬ ‫ّ‬ ‫الخاص ّ‬ ‫ّ‬ ‫خاصة وأنها مشبعة بالصور الشعر ّية واملعاين الكامنة التي ال‬ ‫الشعريّة‬ ‫تركيبة املعلقات‪ّ ،‬‬

‫‪148‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫بيت الشعر‬

‫حقول الفنون األخرى مثل الفن التشكييل والسينام واملرسح‬ ‫والتصوير واملوسيقى‪ ...‬ورهان املجلة‪ ،‬كام أفادت املقدمة‪،‬‬ ‫أن تكون موئ ًال للشعر يف عبوره األشكال التي طاملا أحيته‪،‬‬ ‫من العمودي إىل النرثي‪ ،‬ومن الرعوي إىل ما بعد الحدايث‪،‬‬ ‫وبعيداً عن حرص الخيارات الجاملية والتقنيات واألساليب‬ ‫أو قرصها عىل بعض من دون آخر‪ .‬ورمبا مل تخطئ املجلة يف‬ ‫خياراتها املتعددة هذه‪ ،‬فاملهم هو الشعر والشعر الحقيقي‬ ‫والجديد واملتف ّرد أياً يكن شكله أو انتامؤه‪ .‬لقد سقط اليوم‬ ‫االستبداد الشعري «النوعي» و«املدريس» وبات الفضاء‬

‫الشعري مفتوحاً عىل التجريب والحرية املطلقة»‪.‬‬ ‫وتوقف يف مداخلته أمام السؤال ماذا يعني إصدار مجلة‬ ‫شعرية يف زمن يدور الكالم فيه حول عزلة الشعر واحتضاره‬ ‫أو موته؟ ماذا يعني إصدار مجلة شعرية يف حقبة غري‬ ‫شعرية‪ ،‬ينحرس فيها قراء الشعر وتكاد تنتفي الحاجة إليه؟‬ ‫واختتم ‪«:‬العدد األول من مجلة «بيت الشعر» ال يكفي‬ ‫إلطالق حكم عليها‪ ،‬مع أ ّنه يفصح عماّ تحمل يف قرارها من‬ ‫أحالم ورغبات وآمال‪ ...‬األعداد املقبلة ستحمل حت ًام األجوبة‬ ‫الشافية»‬ ‫حبيب الصايغ ودمية الشكر‬

‫صح التعبري‪ ،‬وهي غن ّية بعواملها‬ ‫تتخللها أيّ اسرتاحات «رسد ّية» ّإن ّ‬ ‫الكثيفة التي تنقل القارئ من سامء إىل أخرى‪ ،‬ومن حال إىل أخرى‪،‬‬ ‫من دون أن تتف ّكك إىل مقاطع متفاوتة من ناحية الرتاكيب؛ ّ‬ ‫كأن‬ ‫تنتقل من الوصف إىل اإلخبار‪ ،‬أو من االستعارة نحو الرسد»‪.‬‬ ‫ويف صدد حضور املرأة يف شعر الصايغ قالت‪ :‬يلفت النظر حضور‬ ‫املرأة املتنوع يف شعر حبيب الصايغ‪ .‬وهي إذ حملها الغزل عىل‬ ‫راحة القصيدة‪ْ ،‬‬ ‫بدت مختلف ًة؛ بعيد ًة من وصف جاملها الخارجي‪،‬‬ ‫خاصة يف ديوان‬ ‫قريب ًة من وصف أحوالها‪ ،‬ومن أثرها يف عني‬ ‫ّ‬ ‫املحب‪ّ .‬‬ ‫«كرس يف الوزن»‪ .‬ففي قسمه الثالث املعنون «ساموات خمس»‪،‬‬ ‫تحرض األنثى وقد التبست باستعارة السامء‪ّ « :‬متنت عليه املكوث‬ ‫متسع‪ /‬لنعيد‬ ‫إىل صهوة الليل أو‪ /‬صحوة الخيل‪ :‬ما زال يف الوقت‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫الحكاية أو نستعيد‪ /‬الكتابة من أ ّولٍ وجديد‪ /‬كيف أصبح خارج ماء الصباح‪ /‬وهل ُيصبح الناس إال عىل شهقة ماء‪ /‬أو طيف‬ ‫ما ال يكون»‪ .‬ويلفت النظر يف هذا الديوان أيضاً اقرتان املرأة بالفكر وبالكتابة‪« :‬أم ّر عىل النون رس اكتامل العنارص‪ /‬فيكتبني‬ ‫رس ومعنى» أو‬ ‫حرفك النون يف نسم ٍة أو نشي ٍد‪ /‬عىل أفق من حري ْر‪ /‬ويدخلني معهد الطريان‪ /‬يقول عليك األمان‪ /‬فط ْر أنا لك ٌ‬ ‫«لو أين قرأتك قبل الكتاب املقدّس‪ /‬حتّى أم ّرن يف برصي عاد ّيات البرص»‪.‬‬ ‫ثم ختمت بالقول‪« :‬وإذ مال الغزل نحو الحس ّية الشفافة‪ ،‬جاءت األنثى يف قصيدة «كرس يف الوزن» كالن ّد تعرف ما تقول‪:‬‬ ‫«وقالت‪ ،‬أج ّرك حاالً إىل ليلتي»‪ ،‬ومن خالل لفظ الليل إذ ينوس بني الذكر واألنثى‪ ،‬يرسم الصايغ أجمل الصور الشعر ّية التي‬ ‫تفيض من داخله‪ .‬وداخله تتناهبه األفكار والنزوات‪« :‬ليلتي تتناولني من رسيري‪ /‬وتقذفني يف املحيط القريب‪ /‬ليلتي تتناول‬ ‫حر ّيتي‪ /‬وتؤ ّلفها بني خوفني‪ /:‬معشوشب وجديب»‪ ،‬وتقول إن العالقة بني اثنني ليست جسداً لجسد‪ ،‬بل فك ٌر لفكر‪ ،‬وإحساس‬ ‫تزجها‬ ‫إلحساس‪ .‬قصيد ٌة فيها من الغنائية عطرها‪ ،‬ومن الحس ّية وردها‪ .‬تأخذ من القديم رنني القوايف الخجولة واملفردات البه ّية‪ّ ،‬‬ ‫يف بحر الحداثة الشعر ّية العربية‪ ،‬فتطفو القصيدة كالحورية كلؤلؤ الخليج وكأجمل ما يكون»‪.‬‬ ‫ثم قرأ الشاعر حبيب الصايغ قصائد متفرقة من تجربته الشعرية‬

‫‪149‬‬


‫قصيد األسالف‬

‫من رسومات الواسطي‬

‫النقيضة أو المِ رآ ُة ِّ‬ ‫الض ّديَّة‬ ‫خالد بلقاسم‬

‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الفرزدق يف قصيد ٍة َي ْهجو بها جريراً‪:‬‬ ‫قال‬ ‫الســـــام َء َبنَـى لنَا‬ ‫َّإن الـــــذي َســ َم َك َّ‬ ‫ُ‬ ‫َب ْيتــاً َبنــا ُه لنَا املَ‬ ‫ــــليـك‪ ،‬ومــــــــــا َبنَى‬ ‫َـب ب ِفــــنا ِئــــــــــ ِه‬ ‫َب ْيتـــاً ُزرا َر ُة ُم ْحـــــت ٍ‬

‫َب ْيتاً دَعــــــائمِ ُــ ُه أعَــــــ ُّز ْ‬ ‫وأطــــــــــ َو ُل‬ ‫الســــــــام ِء فإ َّنــ ُه ال ُينْقـــــــلُ‬ ‫َح ُ‬ ‫كـم َّ‬ ‫ــــشلُ‬ ‫الفـــــوارس َن ْه َ‬ ‫ــــع وأبو‬ ‫َو ُم‬ ‫ِ‬ ‫ـــجاش ٌ‬ ‫ِ‬

‫َ‬ ‫بنقيض ٍة‪ ،‬جا َء فيها‪:‬‬ ‫و َر َّد عل ْي ِه جرير‬ ‫جاشعاً‬ ‫السام َء ُم ِ‬ ‫ْأخـــزَى الذي َســــــ َم َك َّ‬ ‫ُكــــم ب ِفنا ِئــــــــــــــ ِه‬ ‫َب ْيتاً ُي َح ِّم ُ‬ ‫ــم ق ْين ْ‬ ‫َولقـــ ْد َب َن ْي َ‬ ‫ـت ُي ْب َتنَــــــــى‬ ‫ـــس َب ْي ٍ‬ ‫ـت َأخ َّ‬ ‫‪150‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫الح‬ ‫األســــفلِ‬ ‫َو َبنَى بنا َء َك يف َ‬ ‫ِ‬ ‫ــــضيض ْ‬ ‫َ‬ ‫َد ِنســــاً َمقا ِعــدُ هُ‬ ‫خبيــث املَد َْخــــــلِ‬ ‫فـــ َه َد ْم ُ‬ ‫ـي َيذبُـــــــــلِ‬ ‫ــت َب ْيت ُ‬ ‫َــكم ِمبث َل ْ‬


‫النقيضة أو المِرآ ُة ِّ‬ ‫الضدّ يَّة‬

‫املمكن‬

‫التَّأوي ّ‬ ‫يل‪ ،‬الذي َتنْطوي عل ْي ِه ِّ‬ ‫الض ِّد َّية‬ ‫البانية لِلعالق ِة بينْ َ هذ ْين املَقط َعينْ‬ ‫ا ُمل ْجتزَأ ْين ِمنْ قصي َد َتينْ طويل َتينْ ‪ُ ،‬مخ َتبرَ ٌ إلعا َد ِة ِقرا َء ِة‬ ‫النقيض ِة يف قديم ِّ‬ ‫الش ْعر ال َع َريبّ‪ .‬ول ّع َّل املَتنْ َ ا ُمله َّيأ أك َرث ِمنْ‬ ‫ُ‬ ‫النقائض التي َج َم َع ْت بينْ َ‬ ‫غي ِه لِتأ ِمني هذه املَ َه ّمة هو‬ ‫رْ‬ ‫الفرزدق وجرير‪َ .‬ج َم ْ‬ ‫طاب‬ ‫عت َب ْي َنهُام ِمنْ داخل َتبادُلِ ِخ ٍ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫كان يمُ َ ِّجدُ ‪ ،‬عىل ا ُمل ْستَوى الظاهر‪ ،‬الف ْرقة واالن ِفصال‪ ،‬فيام هو‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يمُ َ ِّجدُ ‪ ،‬يف ُم ْستَوىً َب ِعي ٍد‪ْ ،‬‬ ‫األضدَا َد ب َو ْص ِفها َم ْو ِقعا َح َيو ّيا لِعالق ٍة‬ ‫توج‪ ،‬وب َو ْص ِفها أ ْيضاً َو ْحد ًة دينا ِم َّية‪ .‬فق ِد ْاستطاعَ الشا ِعران‬ ‫َن ٍ‬ ‫ْأن َي ْج َعال ِمنْ ِخطاب النقيض ِة ال ِف ْع ًال َع َر ِض ّياً‪ ،‬كام هي الحالُ‬ ‫ارب أخ َرى‪ْ ،‬‬ ‫بل مكاناً ِش ْعر ّياً لِلنّفا ِذ إىل ال ُب ْع ِد ِّ‬ ‫الضدّيِّ يف‬ ‫يف َت َج َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ال ُو ُجو ِد اإلنسا ّين‪ ،‬وإال لِ َم اقتَط َعا عُ قودا َز َم ِن َّية ِمنْ َحيا ِتهام‬ ‫َوفا ًء لِام هو ِضدّيّ ؟‬ ‫يسان لِ َشقِّ َمسالِ ِك إعا َد ِة ِقرا َء ِة النقيضة؛‬ ‫َّمثة َم ْن َفذان َر ِئ َ‬ ‫ونخ ُّص الثاين‪ ،‬لِام ُي ْض ِم ُرهُ ِش ْعر ّياً‬ ‫ُنش ُري إىل األ َّول باق ِتضاب‪ُ ،‬‬ ‫و ِمرآو ّياً‪ ،‬ب َت ْفصيلٍ أكبرَ ‪.‬‬

‫‪ .1‬املَ ْن َفذ األ َّو ُل‪َ ،‬يتَع َّلقُ ُمبت َ​َخ َّيلِ ْ‬ ‫األضداد‪ ،‬الذي ال َت ُك ُّف‬ ‫نصاً‬ ‫الن َ‬ ‫َّقيضة عَنْ إ ْرسا ِئ ِه و َتغ ِذي ِته‪ .‬وهو ما َي ْج َع ُل ِمنْها ّ‬ ‫ُم رْ َ‬ ‫قص َد ْ‬ ‫الكش ِف عَنْ ُجذور هذا‬ ‫شعاً عىل َ‬ ‫الح ْفر الثقا ّيف‪ْ ،‬‬ ‫ات َتش ّكال ِت ِه و َت َح ّوال ِته‪.‬‬ ‫ا ُملتخ َّيلِ ‪ ،‬وعَنْ َمسار ِ‬ ‫والسفول‪ ،‬يف َمقط َع ْي‬ ‫يف َض ْو ِء هذا املَنْف ِذ‪َ ،‬يت َ​َسنّى تأ ُّول ُ‬ ‫العل ّو ُّ‬ ‫يمي‪َ ،‬ي ْس َم ُح بانبثاقِ ِظ ِّل الثنائي ِة الثاوي ِة‬ ‫االف ِتتاح‪ ،‬مبَ ْع ً‬ ‫نى ِق ّ‬ ‫َناس ُل ُو ُجو ُه‬ ‫خل َفهُام‪ ،‬وهي ثنا ِئية ُ‬ ‫والسفالة‪ ،‬و ِمنْها َتت َ‬ ‫العال َّ‬ ‫ِض ِّد َّي ٍة ال َح َّد لها‪َ ،‬تتَجا َو ُز ا ُملتك ِّل َم وا ُمل َ‬ ‫خاط َب‪ ،‬يف الن َ‬ ‫ّقيضة‪،‬‬ ‫بأس ِس ُمتخ َّيل ثقا ّيف‪.‬‬ ‫لِرتْت ِب َط ُ‬ ‫قيمي َي ْس َت ِندُ إىل ُمت َ​َخ َّيلٍ عَن‬ ‫يف النقيض ِة‪َ ،‬ن ْع ُرث عىل ُس ّل ٍم ّ‬ ‫الج َس ِد‪ ،‬واملَرأ ِة‪ ،‬والن ََّسب‪ ،‬والذكو َرة‪ ،‬والضيافة‪ ،‬وا ُملقدّس‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫وغيها‪ُ .‬م َ‬ ‫تخ َّي ٌل تمَْتدُّ ُجذو ُرهُ إىل ما ق ْب َل‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫والح‬ ‫س‪،‬‬ ‫ن‬ ‫د‬ ‫مل‬ ‫وا‬ ‫رْ‬ ‫َْ‬ ‫بالحمولة اإلسالم َّية التي ْاس َت ْن َبتَها الدينُ‬ ‫اإلسالم‪ ،‬و َيتَل َّو ُن َ‬ ‫الجديد‪ .‬وهكذا‪َّ ،‬‬ ‫فإن ِّ‬ ‫الض ِّد ّية البانية لِ ُمتخ َّيلِ النقائض‬ ‫َأس ُس عىل ْأسنا ٍد ق َبل ّي ٍة ودين ّي ٍة وسياس َّية واج ِتام ِع َّية‪ .‬و ِمنْ‬ ‫َتت َّ‬ ‫ثم‪ُّ ،‬‬ ‫يظل هذا املَ ْن َفذ األ َّو ُل َمفتوحاً عىل ِّ‬ ‫الض ِّد َّي ِة ِمنْ َم ْو ِق ِع‬ ‫ّ‬ ‫ا ُملتخ َّيل الثقا ّيف‪.‬‬

‫‪ .2‬املَ ْن َفذ الثاين‪َ ،‬يتَع َّلقُ بإعا َد ِة تأ ُّولِ النقيض ِة ِمن َم ْو ِق ِع‬ ‫َ‬ ‫الخبي ِء يف العالق ِة ا ُمل َع ّقدَة التي َج َم َع ْت بينْ َ الشا ِع َر ْين؛‬ ‫وباس ِت ْجال ِء َم َح َّب ِتهام ِّ‬ ‫أس ما‬ ‫للش ْعر‪ْ ،‬‬ ‫بوص ِفها َّ‬ ‫الفرزدق وجرير‪ْ ،‬‬ ‫َج َم َعهُام‪ .‬ال ُب َّد ِمن اخترِ اقِ ُح ُجب الهجاء والفخر‪ ،‬يف النقيضة‪،‬‬ ‫اءات‬ ‫تحريرها ِمنَ ال ِقر ِ‬ ‫لوغ ما هو ْأخ َفى‪ .‬اِخْترِ ٌاق يقو ُم عىل ْ‬ ‫لِ ُب ِ‬ ‫املَ ْد َر ِس َّي ِة وفت ِْحها عىل ُم ْم ِكن التأويل ا ُملت َ​َجدِّد‪.‬‬ ‫النقيضة َن ٌّص َي ْح ِم ُل َد ْوماً ِظ َّل شا ِع ٍر َ‬ ‫غي الشا ِعر الذي‬ ‫آخر‪ ،‬رْ‬ ‫َ‬ ‫النقيض ِة إ ّال ا ْع ِتامداً عىل َت َص ُّو ٍر‬ ‫أ ْنت َ​َجهُ‪ .‬ال يمُْ ِكنُ التفكري يف‬ ‫َب ْي ِن ٍّي‪ ،‬أيْ بتَأ ُّم ِلها يف عالق ِتها ِّ‬ ‫بالط ْر ِس الذي فوق ُه ُت ْبنَى أو‬ ‫بالن َّْس ِخ الذي َينت َِظ ُرها ِمنَ ا ُمل َ‬ ‫خاطب فيها‪ .‬إ َّنها َن ٌّص ُمضاع ٌَف‪،‬‬ ‫ال أل َّن ُه ي ْنه َُض عىل َن ٍّص َ‬ ‫وحسب‪ ،‬وإنمّ ا أل َّنهُ‪ ،‬أيضاً‪،‬‬ ‫آخ َر ْ‬ ‫قي ِّ‬ ‫بالش ْعر‪َ ،‬وفقَ ُل ْع َب ٍة َت ْختا ُر‬ ‫َحصيلة َص ْو َتينْ ‪َ ،‬يتَـآ َزران لِل ّر ّ‬ ‫ال َّن ْق َض مكاناً للتآ ُزر ِّ‬ ‫َ‬ ‫فالنقيضة‪ ،‬يف َض ْو ِء هذا املَ ْعنَى‪،‬‬ ‫الش ْعريّ ‪.‬‬ ‫منطقة ِش ْعر َّية ُتؤ ِّمنُ َتنا ُوباً ف ّعاالً بينْ َ شا ِع َر ْين‪ .‬إ َّنها ُل ْع َبة‬ ‫تيح تأ ُّم َل ما َي ِص ُلها‪ ،‬يف ال َّز َمن الحديث‪،‬‬ ‫ِش ْعر َّية َ‬ ‫بص ْو َتينْ ‪ُ ،‬ت ُ‬ ‫ارب ا ْن َض َو ْت َت ْح َت ال ِكتا َبة ب َي َد ْين‪ِ ،‬منْ غ ْري ِن ْس َيانِ‬ ‫بت َ​َج َ‬ ‫َ‬ ‫داخل هذا ال َو ْصل‪ ،‬أو ِن ْس َيان تبا ُين السياقينْ ؛ القديم‬ ‫الفروقِ‬ ‫والحديث‪.‬‬ ‫َ‬ ‫النقيضة ِض َّد شا ِعر َو َح ْسب‪ ،‬بل ُت ْبنَى‪ ،‬كذلك‪َ ،‬م َعه‪.‬‬ ‫ال ُت ْبنَى‬ ‫النقيضة َت ْس َت ْهدي بن ٍَّص سابق‪َ .‬ت ْس َت ْهدي ب ِه لِ َه ْد ِم ِه ِمنْ ُ‬ ‫حيث‬ ‫املَ ْعنَى‪ ،‬ولِترَْسيخ ِه و َت ْقوي ِت ِه من الناحية ِّ‬ ‫الش ْعر َّية‪ .‬إ َّنها َت ْه ِد ُم ُه‬ ‫وه َي َت ْس َت ْهدي به‪ ،‬عىل َن ْح ٍو َي ْج َعلها ُم ْن ِت َجة لِ ِض ِّد َّي ٍة َخ َّالقة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ني ال َي ْب ُط ُل‬ ‫ْ‬ ‫االس ِت ْهدا ُء بغا َي ِة ال َهد ِْم َمشدودٌ إىل ميثاقٍ ِض ْم ٍّ‬ ‫النقيضة‪ ،‬وهو الثقة ا ُملتَبادَلة بينْ َّ‬ ‫َ‬ ‫الط َرفينْ ِش ْعر ّياً‪َ ،‬م ْهام‬ ‫يف‬ ‫َ‬ ‫الظاهر‪.‬‬ ‫اقتض ْت ُه ال ُّل ْع َبة ِمنْ ُنكرانٍ ُم َت َبادَل‪ ،‬عىل ُم ْستَوى ِ‬ ‫ذلك َّأن ُك ًّال ِم ْنهُام ْمل َي ُكنْ َي ُّ‬ ‫شك البتّة يف شا ِعر َّي ِة َ‬ ‫اآلخر‪ .‬كانا‬

‫َ‬ ‫شاعر‬ ‫ض َّد‬ ‫ال ت ُ ْبنَى‬ ‫ِ‬ ‫النقيضة ِ‬ ‫عه‪.‬‬ ‫َو َ‬ ‫سب‪ ،‬بل ت ُ ْبنَى‪ ،‬كذلك‪َ ،‬م َ‬ ‫ح ْ‬ ‫ص سابق‪.‬‬ ‫النقيضة ت َ ْ‬ ‫ست َ ْهدي بن َ ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫حيث‬ ‫ن‬ ‫به ِل َ‬ ‫ه ْد ِم ِه ِم ْ‬ ‫تَ ْ‬ ‫ست َ ْهدي ِ‬ ‫م ْعنَى‬ ‫ال َ‬ ‫‪151‬‬


‫قصيد األسالف‬

‫زهام‪ِ ،‬ضدِّياً‪.‬‬ ‫َمعاً عىل َو ْعي بأه ّمي ِة َت َضا ُفر َّ‬ ‫الص ْو َتينْ ‪ ،‬يف ُمن َْج ِ‬ ‫نى وا ُملتنا ِغ َمينْ ِش ْعراً‪َ ،‬ي ْحمي ُك ٌّل‬ ‫َّ‬ ‫بالص ْو َتينْ ا ُملتنا ِف َر ْين َم ْع ً‬ ‫ِم ْنهُام منطقة ِش ْعر َّية قائمِ َة عىل االخ ِتالف‪.‬‬ ‫الص ْو ُت ا ُملخت ِل ُف يف ُمن َْجز ُك ٍّل ِم ْنهُام ُيؤ ِّمنُ لل َّت َعدُّ ِد َت َح ّققهُ‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫فالش ْع ُر‪ ،‬كام ُت ْرسي ِه ل ْع َبة النقائض‪ ،‬ل ْيس نمَ َطا لل َّت ْعميم‪ ،‬أل ّن ُه‬ ‫ُ‬ ‫االختالف عىل ُمشترَ ٍَك ال‬ ‫َيت َ​َح َّد ُد باالخ ِتالف‪َ ،‬م ْهام ا ْن َبنَى هذا‬ ‫ْ‬ ‫َين ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫القائم‬ ‫االختالف‬ ‫النقيضة َشك ًال‪ .‬إ َّنه‬ ‫تتح َّد ُد‬ ‫ُ‬ ‫ْفك َيعودُ‪ ،‬وب ِه َ‬ ‫ُ‬ ‫تقتات ِم ْنهُام معاً‪.‬‬ ‫عىل َص ْو َتينْ ‪ ،‬يف َو ْح َد ٍة ش ْعر َّي ٍة‬ ‫وش ْعر‬ ‫بهذا املَ ْعنَى‪ ،‬نفه َُم ق ْو َل الفرزدق ُمقارناً بينْ َ ِش ْعر ِه ِ‬ ‫جرير‪ ،‬عندما قال‪" :‬ما ْأح َو َج ُه َم َع ِع َّف ِت ِه إىل َجزال ِة ِش ْعري‪.‬‬ ‫فجوري إىل ر ّق ِة ِش ْعره"‪ّ .‬مثة حاجة ِش ْعر َّية‬ ‫وما ْأح َو َجني َم َع ُ‬ ‫عب ل ْعب ٍة ِض ِّد َّية‪ ،‬هي ما ُيؤ ِّمنُ َتغ ِذية‬ ‫ُمتَبادَلة َ‬ ‫تتح ّققُ رْ‬ ‫غي التنا ُزل عَنْ‬ ‫الش ْع َر ْين‪ .‬حاجة َت ِ‬ ‫ُمتَبادَلة بينْ ِ‬ ‫كش ُف‪ِ ،‬منْ رْ‬ ‫َوات ال َهدْم‪ ،‬عنْ تقدي ٍر عالٍ ‪ .‬حاجة ِمنْ داخلِ التّضاد‪،‬‬ ‫أد َّق أد ِ‬ ‫الذات ِّ‬ ‫الذي َي ْج َع ُل ك ًّال ِم ْنهُام ِم ْرآ ًة َ‬ ‫لآلخر‪ِ .‬مرآ ٌة ُتري َ‬ ‫الض َّد‬ ‫الذي ب ِه َتغتَذي‪.‬‬ ‫هذا التقدي ُر‪ ،‬الذي َيت َب ْل َو ُر ِمنْ داخلِ حاج ٍة ُمتَبادَلة‪ ،‬هو‬ ‫الس ُم ّو بالق ْول‬ ‫ما َي ُأخذ صو َر َة َتبا ٍر بينْ َ الشا ِع َر ْين‪ ،‬بغاي ِة ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫الش ْعريّ ‪ ،‬و ْمتكي ِن ِه ِمن اخرتاقِ الزمن‪ .‬عن ذلك‪ ،‬يقول أبو‬ ‫رهام‪ ،‬فإذا‬ ‫عُ ب ْيدة َم ْعمر بنُ ا ُملثنّى‪ " :‬وكانا َي َت َبا َريان يف ِش ْع ِ‬ ‫قال هذا َب ْيتاً سا ِئراً َ‬ ‫َ‬ ‫قال هذا ِمث َلهُ"‪ .‬إ ّن ُه َتبا ٍر ال ُيف ِّر ُق أو ُيبا ِعدُ‬ ‫ْ‬ ‫وحدُ ‪ ،‬مادا َم ِّ‬ ‫الش ْع ُر ُم َو ِّج َههُ‪َ .‬و ْحد ٌة ْاختَا َر ْت من َْطقة‬ ‫بل ُي ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫الض ِّد َّية‪ِ .‬منّها ُي ْن ِت ُج الشا ِعران ما َي ْبقى‪.‬‬ ‫تمَ َ ُّس ُك َّ‬ ‫الشا ِع َر ْين ِّ‬ ‫بالض ِّد َّي ِة ووفا ُؤهُ ام لها َي ْج َع ُل منها َو ْحد ًة‬ ‫خاص يف‬ ‫لِ َمنْ ا ّت َخذها ِمرآ ًة للتضا ّد ال لالن ِعكاس‪ّ .‬مثة ما هو ّ‬ ‫الل ْعبة‪ ،‬وال يق َب ُل التعميم‪ .‬إ ّنه ال َو ْج ُه ِّ‬ ‫الش ْعريُّ الذي َت َت َب َّدى‬ ‫صو َر ُت ُه يف املِ ْرآة‪ .‬لِذلك انتصرَ َ جرير للفرزدق ملَّا َس َج َن ُه‬ ‫القسي‪َ ،‬و َر َ‬ ‫فض ْأن تمُ َ َّس ُح ّر َّية َمنْ َسماَّ ُه‬ ‫خالد بن عبد الله رْ‬ ‫وس ِّيدَها وابنَ َس ِّي ِدها‪َ .‬‬ ‫فقال له هشام‬ ‫جرير شا ِع َر مضرَ َ‬ ‫وقد ْاستَغ َر َب هذا ال َّرفض ‪" :‬يا َجري ُر‪ ،‬أما َيسرُُّ َك ْأن ُي ْخزَى‬ ‫الفرزدق؟ قال‪ :‬ال والله يا أم َري ا ُملؤمنني‪ ،‬إ ّال ْأن ُي ْخزَى ب ِلساين‪.‬‬ ‫أقول وال ُ‬ ‫ويقول لك؟ قال‪ :‬ما ُ‬ ‫ُ‬ ‫يقول إ ّال‬ ‫قال‪ :‬فأ ْينَ ما تقو ُل ُه‬ ‫الباطل"‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫كش ُف َّأن‬ ‫َي ْن َبغي أ ّال ُي ْخزَى‬ ‫الفرزدق إ ّال يف ِش ْعر جرير‪ ،‬مبا َي ِ‬ ‫‪152‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫تستقيم إ ّال ِمرآو ّياً‪ ،‬مبا َي ُ‬ ‫حفظ‬ ‫األ ْم َر ُل ْع َبة ِش ْعر َّية عالية‪ ،‬ال‬ ‫ُ‬ ‫لِ ُّل ْع َب ِة ماهو ذا ٌّيت فيها‪ْ ،‬‬ ‫وإن َأخذ صو َر ًة ِض ِّد َّية‪ .‬يف ه ِذ ِه‬ ‫الذات َ‬ ‫املِ ْرآة‪َ ،‬ت َرى ُ‬ ‫نح ٍو َي ْج َع ُل ْ‬ ‫"اإلخزاء" َمح ّبة‬ ‫آخ َرها‪ ،‬عىل ْ‬ ‫والالفت َّأن َّ‬ ‫ُ‬ ‫دال ْ‬ ‫اإلخزَاء اس ُت ْع ِم َل‪ ،‬كام ُيش ُري‬ ‫بعي َد ًة ال ُت َرى‪.‬‬ ‫الش ْعرالراقي‪ُ ،‬ي ُ‬ ‫لسان العرب‪ ،‬يف َو ْص ِف ِّ‬ ‫قال‪" :‬قصيدة ُمخزية‬ ‫الح ْسن"‪ .‬لذلك أصرَ َّ جرير‪َ ،‬ص ْوناً‪ِّ ،‬‬ ‫للش ْعر‪ ،‬أ ّال‬ ‫أي ِنهاية يف ُ‬ ‫ُ‬ ‫الفرزدق إ ّال يف ُل ْع َب ِتهام ِّ‬ ‫الش ْعر َّية وبها‪ .‬إخزا ٌء من أجل‬ ‫ُي ْخزَى‬ ‫فسوا ُه ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫باطل بتَعبري جرير‪ .‬ما ُي ْظ ِه ُر‬ ‫الش ْعر‪ ،‬دون ِسواه‪ِ .‬‬ ‫وجماَ ُل هذا‬ ‫َجماَ َل ِش ْعر جرير هو ِضدُّ هُ‪ ،‬أي ِش ْعر الفرزدق‪َ ،‬‬ ‫الض ّد َّ‬ ‫ِّ‬ ‫بش ْعر جرير‪ّ .‬مثة ِن ِّد َّية يف صو َر ٍة ِض ِّد َّية‪.‬‬ ‫يتكش ُف أيضاً ِ‬ ‫ّإن الحاجة ّ‬ ‫الشعر َّية‪ ،‬التي َع َرث ْت عىل تح ُّق ِقها يف ِّ‬ ‫الض ِّد ّية‪،‬‬ ‫هي ا ُمل َس ِّوغ البعيدُ لل َّن ْقض‪ ،‬الذي َخ َّص ُه الشا ِعران؛ الفرزدق‬ ‫َلع‬ ‫بح َيا ٍة كا ِملة‪ْ .‬مل َي َت َو ّقفا عَنْ َتغ ِذي ِت ِه ُم ِذ ا ْند َ‬ ‫وجرير‪َ ،‬‬ ‫هاجس تبادُل ِه‪ .‬عن ذلك‪ُ ،‬‬ ‫"فلم َيزَل‬ ‫ب ْي َنهُام‬ ‫يقول أبو عُ َب ْيدة‪ْ :‬‬ ‫ُ‬ ‫َهاجيان حتّى َ‬ ‫ُ‬ ‫هلك الفرزدق"‪ .‬عُ ْم ٌر كا ِملٌ‬ ‫وجرير َيت َ‬ ‫الفرزدق َ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫لِ َص ْون القرين الضدِّيّ ‪ ،‬وتأمني َح َيو َّي ِة الش ْعر‪ .‬هو ذا املنْسيُِّ‬ ‫يف تأويلِ النقيضة‪ ،‬وهو َأحدُ األ ْمك َن ِة ا ُمل َ‬ ‫رش َع ِة عىل إعا َد ِة‬ ‫القرا َءة‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫آخر الذات‪ ،‬بل لِ ُرؤية ِّ‬ ‫النقيضة ِمرآة لِ ُرؤي ِة ال َ‬ ‫الضدِّيِّ يف هذا‬ ‫اآلخر‪ِ .‬مرآ ٌة ُت ْبدي ُصو َر َة القرين ِّ‬ ‫َ‬ ‫فص ُح‬ ‫الضدِّيّ ‪ .‬هو ذا ما ُت ِ‬ ‫الحال التي بها تل ّقى جرير َن َبأ َم ْو ِت الفرزدق‪ ،‬إذ ملْ‬ ‫َع ْن ُه ُ‬ ‫َيترَ َدَّد يف َع ِّد هذا املَ ْوت فجي َعة تطو ُل ُه هو نفسه‪ .‬ال ُب َّد ِمنَ‬ ‫صات لِهذا التلقي الذي ْاس َتحْضرَ َ بأملٍ صو َر َة القرين‪.‬‬ ‫اإل ْن ِ‬ ‫َ‬ ‫كان جرير بينْ َ ق ْو ِم ِه عندما بلغ ُه النّبأ‪ ،‬ف َبىك‪ .‬فقال القو ُم‬ ‫السابق الذي َم َّر مع‬ ‫باس ِتغراب‪ ،‬ال يخت ِل ُف عن ْ‬ ‫ْ‬ ‫االس ِتغراب ّ‬ ‫"س ْب َ‬ ‫حان الله يا أبا َح ْز َرة! ما ُي ْبكيك؟ قال‪ُ :‬‬ ‫بكيت‬ ‫هشام‪ُ :‬‬ ‫قليل‪ .‬إ َّن ُه َّ‬ ‫لِنَفيس‪ ،،‬والله َّإن بقايئ ِخال َف ُه لَ ٌ‬ ‫قل ما َ‬ ‫كان اثنانِ‬

‫س ُه وهو‬ ‫كان جرير ي َ ْبكي ن َ ْف َ‬ ‫َ‬ ‫ت قري ِن ِه‬ ‫ي ْبكي الفرزدق‪ .‬ب َ‬ ‫م ْو ِ‬ ‫عر َ ب ِنهاي َ ِت ِه ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫الش ْعريَّ ِة‬ ‫ي‪ ،‬ش َ‬ ‫الض ّد ّ‬ ‫ح ْتميّة‬ ‫قبل نهاي َ ِت ِه ال َ‬


‫النقيضة أو المِرآ ُة ِّ‬ ‫الضدّ يَّة‬

‫فاإلصا ُر عىل الترَّْسيخ‪ ،‬ا ْع ِتامداً‬ ‫قرينان‪ ،‬أو ُم ْص َط ِحبان‪ ،‬أو َز ْو َجان إ ّال َ‬ ‫كان أ َمدُ َب ْي ِن ِهام قريباً‪.‬‬ ‫ثم‪ ،‬رْ‬ ‫عُ قوداً ِمنَ ال َّز َمن‪ .‬و ِمنْ ّ‬ ‫َ‬ ‫عىل الق ْول َّ‬ ‫الفرزدق يقول‪:‬‬ ‫ثم أنشأ َي ْريث‬ ‫الضا ِم ِن الخْترِ اقِ الزَّمن‪َ ،‬د ْع َو ٌة ِض ْمن َّية ِمنْ جرير‬ ‫َّ‬ ‫ماَّ‬ ‫غالب‬ ‫إىل إعاد ِة ِقرا َء ِة عالق ِت ِه بقري ِن ِه ِّ‬ ‫ُ‬ ‫بح لِ ال ِّد َي ِ‬ ‫ُف ِج ْعنا َ‬ ‫الضدّيّ ‪.‬‬ ‫والالفت يف ه ِذهِ‬ ‫ات ا ْب ِن ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫متيم ك ّلها وناط َقها البذاخ‬ ‫َّت‬ ‫اجم" املَ ْرثا ِة‪ ،‬التي َعد ِ‬ ‫يم ِع ْر ِضهَا وا ُملر ِ‬ ‫وحامي تمَ ٍ‬ ‫الفرزدق ِعام َد ٍ‬ ‫ما‬ ‫كاه؟‬ ‫ب‬ ‫فأ‬ ‫جرير‪،‬‬ ‫ة‬ ‫حيا‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ما الذي‪َ ،‬مب ْو ِت الفرزدق‪ْ ،‬اخت َّ​َل يف ِ‬ ‫ْ‬ ‫يف كل َمن ِْط ٍق بت ْعبري جرير‪ ،‬أ َّنها َت َض ّم ْ‬ ‫نت َو ْصفا للفرزدق‬ ‫السؤالينْ‬ ‫ال َف ْقد الذي َو َّل َدهُ هذا املَ ْوت؟ يف ْاس ِت ْدراج هذ ْين ُّ‬ ‫بالوفاء‪.‬‬ ‫اإلفصاح عَنْ ُم ْم ِك ِنهام التأوي ِّ‬ ‫َن ْح َو‬ ‫الصل ِة التي َج َم َعت‬ ‫ِ‬ ‫الصفة إىل ِّ‬ ‫يل‪ ،‬لنا ْأن َن ْنتَب َه إىل التشابي ِه و َمتى ْاجتَذ ْبنا ه ِذ ِه ِّ‬ ‫لحظ ِة ُبكا ِئ ِه‪ ،‬صو َر َة الفرزدق‪.‬‬ ‫الشا ِعر ْين‪َ ،‬ت َسنّى َص ْوغ التَّساؤل التايل‪ :‬ما الذي َ‬ ‫التي بها ْاس َتحْضرَ َ جرير‪ ،‬يف ْ‬ ‫كان‬ ‫كان وف ّياً‬ ‫لق ِد ْاس َتحْضرَ َ صو َر َت ُه ا ْن ِطالقاً ِمنَ القرين َّ‬ ‫والص ِ‬ ‫احب وال َّز ْوج‪ .‬الفرزد َُق َوف ّياً ل ُه يف َت ْجرب ِة النّقض ا ُملتَبادَل؟ لق ْد َ‬ ‫وهي د ُّ‬ ‫َوال ُت ُ‬ ‫حيل عىل املِ ْرآة‪ ،‬مادامت ُّ‬ ‫كل هذه الدّوال ُت ِت ُ‬ ‫يح لِ ِّ‬ ‫لض ِّد َّي ِة الخ ّالقة‪َ ،‬وف ّياً لِ ِندا ِء النقيض ِة‪ ،‬سواء بال َّد ْع َو ِة إليها أو‬ ‫آخ ِرها‪َ .‬‬ ‫الذات َن ْف َسها يف َ‬ ‫الذات بال َّر ِّد عليها‪ .‬كلماّ‬ ‫َاخ ُل ِ‬ ‫ُرؤية ِ‬ ‫َبس فيه د ِ‬ ‫انبثقت قصيد ُة جرير‪َ ،‬‬ ‫كان َو ْجهُها ِّ‬ ‫آخ ُر يلت ُ‬ ‫ْ‬ ‫الضدِّيُّ‬ ‫ُ‬ ‫الداخل َو ْجهاً َ‬ ‫آخ َر َوفقَ ن ْو ِع املِ ْرآة‪.‬‬ ‫بخارجها‪ ،‬أو َي ُأخذ في ِه‬ ‫يتخ َّلقُ لدَى الفرزدق‪ ،‬يف َو ْحد ٍة عَميقة‪ .‬إ َّنها الوحد ُة التي‬ ‫ثم َّ‬ ‫ترتيب‬ ‫فإن ه ِذهِ التشابيه‪ ،‬التي بها أعا َد جرير‬ ‫َ‬ ‫و ِمن ّ‬ ‫أخطأها َمن ْاستغ َر َب رْإصا َر جرير عىل َر ْف ِض َز َوغان ال ُّل ْع َبة‬ ‫عالق ِت ِه بالفرزدق‪ُ ،‬ت َك ُ‬ ‫ثف عُ قوداً ِمنَ ال َّز َمن؛ عُ قوداً ِمنَ ال َّن ْق ِض عَنْ سيا ِقها ِّ‬ ‫الشعري‪ ،‬وأخطأها َمن ْاستَغ َر َب أيضاً ُبكا َء‬ ‫الحامي للقرين‪َّ ،‬‬ ‫والصاقِلِ لِ َو ْجه ِه يف املِرآة‪ ،‬وا ُمل ِّ‬ ‫ؤج ِج لِ ِض ِّد َّي ِت ِه‪ ،‬الشا ِعر عىل ِّ‬ ‫داخ َل ذا ِته‪.‬‬ ‫الضدِّيِّ ِ‬ ‫ٌ‬ ‫تواطؤ بنّا ٌء ِش ْعر ّياً‪ ،‬ومبا هي‪ ،‬أيضاً‪ِ ،‬ن ِّد َّية َخ ِف ّية‪.‬‬ ‫هي‬ ‫كان ٌّ‬ ‫لقد َ‬ ‫كل ِم ْنهُام بالن ِّْس َب ِة إىل َ‬ ‫مبا َ‬ ‫اآلخر ِندا ًء داخل ّياً؛ ِندا ًء‬ ‫القرينُ يف حال ِة الشا ِعر ْين هو َ‬ ‫آخ ُر األنا ‪ ،Alter ego‬إ ّال ّأن‬ ‫ِش ْعر ّياً ال ُي َردّ‪ْ ،‬‬ ‫بل ُي ُ‬ ‫صان بوفاء‪ .‬الخ ِف ُّي يف الل ْعبة أ ْب َعدُ ِمنْ ْأن‬ ‫الضدّيّ ‪ٌّ .‬‬ ‫اآلخر َّي ِة صو َر َة ِّ‬ ‫لهذ ِه َ‬ ‫كل ِم ْنهُام قرينٌ ِضدِّيٌّ بالن ّْس َب ِة‬ ‫ظاه ُر النَّقض‪ .‬لذلك َع َّد جرير م ْو َت قري ِن ِه َم ْوتاً‬ ‫فص َح ع ْن ُه ِ‬ ‫ُي ِ‬ ‫اآلخر‪ ،‬قرينٌ ضا ِمنٌ للتَّوازن‪ ،‬إ ّال أ َّن ُه ٌ‬ ‫إىل َ‬ ‫توازن ِضدِّيٌّ ‪َ ،‬ت ْح ُ‬ ‫تاج ُه ذات ّياً وشيكاً‪.‬‬ ‫نح َو الت ََّح ّقق العايل ِّ‬ ‫ُ‬ ‫للش ْعر‪.‬‬ ‫ذات الشا ِعر يف َت َو ّقها ْ‬ ‫َف‪ ،‬الذي اقت َ​َس َم ُه الشا ِعران مبَ َح َّب ٍة‬ ‫يف َض ْو ِء هذا النّدا ِء ا ُملضاع ِ‬ ‫لِهذا َ‬ ‫كان جرير َي ْبيك َن ْف َس ُه وهو ي ْبيك الفرزدق‪َ .‬مب ْو ِت قري ِن ِه‬ ‫خاصة‪ ،‬أ ْر َس ْت ُ‬ ‫نقائضهُام ِمرآ ًة ِض ِّد َّية وا ِعد ًة بإعاد ِة القرا َء ِة‬ ‫َّ‬ ‫الضدّيّ ‪ ،‬ش َع َر ب ِنها َي ِت ِه ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫الحتْم ّية‪ُ .‬ركنٌ‬ ‫الش ْعر َّي ِة قبل نها َي ِت ِه َ‬ ‫ِمنْ خارج ما تك َّر َس يف ِقرا َء ِة القديم ّ‬ ‫الش ْعريّ ‪ .‬ومع ّأن‬ ‫ئيس ْاخت َّ​َل يف ال َّت َباري‪ ،‬الذي َي ْست رَْش ُف ما َ‬ ‫كان القدما ُء‬ ‫الضدّ" ِمنَ املَ‬ ‫َمفهو َم " ِمرآ ِة ِّ‬ ‫َر ٌ‬ ‫الصوفية‬ ‫ِ‬ ‫فهومات التي ق َّع َد لها ُّ‬ ‫شيع‪ّ .‬‬ ‫َ‬ ‫كأن جرير‬ ‫ُي َس ُّمو َن ُه‬ ‫فإن َّ‬ ‫السائرة‪ ،‬أي التي َت ْبقى و َت ُ‬ ‫قدمياً‪َّ ،‬‬ ‫األبيات َّ‬ ‫دوال اللغة العرب َّية ُت ْض ِم ُر ُم ْم ِك َن ُه ال َبعيد‪ .‬ف ِمنَ‬ ‫والصاحب‪ ،‬عىل ح ِّد‬ ‫يكون ُّ‬ ‫فق َد ُم َس ّوغ الحيا ِة َب ْع َد َم ْو ِت القرين َّ‬ ‫الال ِف ِت ْأن َ‬ ‫دال ّ‬ ‫"الضدّ"‪ ،‬الذي ا ْع َت َم َد ُه اللغو ُّيون يف‬ ‫التشابي ِه التي َّ‬ ‫توس َل بها يف ق ْولِ ِه َّ‬ ‫امت التي َت ْح ِم ُل تقا ُب ًال داخل ّياً أي تقا ُب ًال يف‬ ‫السابق‪ .‬لق ْد َبىك‪َ ،‬وفق هذا َو ْص ِف الك ِل ِ‬ ‫الش ْعري‪َّ ،‬‬ ‫فوت ِّ‬ ‫املَ ْعنَى‪ ،‬فاج َعة ُ‬ ‫الساهرين عىل‬ ‫ألن َأح َد‬ ‫األضداد‪ .‬ذلك أ ّنه َي ْعني ِخ َ‬ ‫الخ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الف ْ‬ ‫َم ْعناها‪ ،‬هو ذا ُت ُه ِمن ْ‬ ‫اليشء‪،‬‬ ‫الش ْعرية قضىَ ‪ .‬وهو ما َي ْج َع ُل املَ ْرثا َة َّ‬ ‫إذكا ِء الل ْعب ِة ِّ‬ ‫الشه َري َة‪،‬‬ ‫و َي ْعني امل َ‬ ‫ِثل يف آن‪ِّ .‬‬ ‫فالضدُّ هو ا ُملخالِ ُف وا ُملنايف‪ ،‬وهو‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الفرزدق‪َ ،‬ن ّصاً مفتوحاً عىل التأويل‪.‬‬ ‫التي َخ َّص بها جرير‬ ‫ْ‬ ‫أيضاً‪ ،‬النِّدُّ والنظ ُري والشبي ُه‬ ‫والكف ُء‪ .‬هذا التعضيدُ اللغويُّ‬ ‫نقصدُ املَ ْرثا َة التي فيها يقول‪:‬‬ ‫َ‬ ‫االح ِتامل‬ ‫الخ ُ‬ ‫صيب ُيق ّوي َر َ‬ ‫جاحة إعا َد ِة القرا َءة ِمنْ َم ْو ِقع ْ‬ ‫لَ َع ْمري لق ْد ْأش َجى تمَ ي ًام وهَ دَّها‬ ‫الضدّيّ يف َم ْعنى ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫الض ِّد َّية التي َو َّحد َْت‪ ،‬يف النَّقيضة‪ ،‬بينْ َ‬ ‫عىل َن ِ‬ ‫كبات الدَّهْ ر َم ْو ُت الفرزدق جرير والفرزدق‪ .‬وبهذه ال َّرجاحة‪ ،‬يحت ِف ُظ َمفهو ُم املِرآ ِة‬ ‫املَ ْرثا ُة ل ْي َس ْت ِمثل الدُّ موع التي ذ َرفتْها َع ْينا جرير أما َم الق ْو ِم‬ ‫ِّ‬ ‫الض ِّد َّي ِة بكفا َي ِت ِه اإلجرائ َّية يف ْاس ِت ْجال ِء ِن ٍّد َيح ِم ُل صو َر َة ِضدّ‪،‬‬ ‫ملّا َبلغ ُه النّبأ‪ .‬املَ ْرثا ُة َت ْر ٌ‬ ‫سيخ ِش ْعريّ لِعالق ٍة ِض ِّد َّي ٍة دا َم ْت‬ ‫وض ٍّد ُي ْخفي شبيهاً كبرياً‬ ‫ِ‬ ‫‪153‬‬


‫شعرية الكاميرا‬ ‫عدسة‪ :‬مظفر سلامن‬

‫‪154‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬


‫قضية‬

‫قصيدة النثر‬ ‫متهمة بالنمطية‬

‫أزمة شعر‬ ‫أم أزمة شعراء؟‬ ‫ثمة من يرى أن قصيدة النثر العربية تعاني من أزمة كبيرة ليس أبسط أعراضها النمطية والجمود‪ ،‬في حين أنها‬ ‫ً‬ ‫سؤاال على شعراء النثر والنقاد ومنابر النشر‪ .‬هنا وجهة نظر تشكل‬ ‫جاءت كثورة على النمطية‪ ،‬األمر الذي يطرح‬

‫فاتحة لحوار حول هذه المسألة‬

‫خلدون عبد اللطيف‬

‫ك َّلام‬

‫ُ‬ ‫لبعض من الشعراء العرب‪،‬‬ ‫قرأت قصائد نرث ٍ‬ ‫رش‬ ‫سابقني ومجايلني‪ ،‬أو خضت يف نقاش مبا ٍ‬ ‫حول قصيدة أو قصائد ن ٍرث مع أصحابها‪ ،‬ينتابني شعو ٌر‬ ‫الشكل األكرث حداثة وتطوراً‬ ‫متك ِّر ٌر َّ‬ ‫بأن الكتابة وفق هذا َّ‬ ‫ٌ‬ ‫اكتشاف‬ ‫عىل املستوى الزمني ال يزال ينظر إليها وكأنها‬ ‫يقل عن خارجها‪ ،‬هناك أيضاً‬ ‫وفتح عظيم‪ .‬مبا ال ُّ‬ ‫مدهش ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ومبالغ فيه عىل األغلب بقصيدة النرث من‬ ‫احتفا ٌء مركزيٌّ‬ ‫بعض من متثيالتها التي ال تخلو من‬ ‫داخلها الشعريِّ عرب ٍ‬ ‫ً‬ ‫وقت ليس بالقصري نسبيا عىل اقتحام‬ ‫مداورات‪ ،‬رغم مرور ٍ‬ ‫قصيدة النرث ألرض الكتابة الشعرية العربية‪ .‬مثة أطيافُ‬ ‫قرابني وأضحيات يقدمها شعراء النرث عىل مذبح القصيدة‬

‫نظري انتصارهم الستبداد هذا الشكل من أشكال الكتابة‬ ‫وانتشاره الخاطف‪ .‬يف مقابل هذا الغلو والحظوة املتنامية‪،‬‬ ‫ظلت قصيدة النرث يف حالة غليان ورصاع دائم‪ ،‬إذ وجدت‬ ‫وال تزال من يناكفها أو يرتدُّ عنها ويعتربها هجينة‪ .‬لكن‪،‬‬ ‫ومبا َّأن معظم النَّار من مستصغر الرشر‪ ،‬فقد أضحت قضية‬ ‫اكتساب قصيدة النرث لرشعيتها من عدمه م َّواالً قدمياً‪ ،‬سواء‬ ‫يف العامل العريب أو خارجه‪ ،‬وهي قضية ال يجد غضاضة يف‬ ‫حسمها مث ًال واحدٌ من أفضل كتَّاب وممثيل قصيدة النرث‬ ‫األمريكيني حالياً‪ ،‬راسل إدسن‪ ،‬حني أشار يف إحدى حواراته‬ ‫الصحفية قبل نحو عرش سنوات إىل أنه «برغم ما تحظى‬ ‫‪155‬‬


‫قضية‬

‫به قصيدة النرث اليوم من اهتامم عظيم‪ ،‬إال أنها مل تنل بعد‬ ‫رشعية الشعر التقليدي أو الشعر الحر»‪.‬‬

‫مخالفة النموذج‬

‫لن أتوقف طوي ًال بالتفصيل عند املظاهر العديدة واملتفاوتة‬ ‫يف تعقيداتها لذلك االحتفاء من داخل قصيدة النرث وما‬ ‫تولِّد ُه من مفارقات مل يسلم بعضها من طرافة‪ ،‬فيام أحسب‬ ‫متقصدة ومداورات يرتكبها‬ ‫أنها تنطوي عىل جملة اعتبارات َّ‬ ‫كتاب قصيدة النرث سواء مبحض الصدفة أو عن قص ٍد ال‬ ‫ليشء سوى مخالفة النموذج‪ ،‬وباتت تستهويهم من دون‬ ‫مس ِّوغ منطقي رغم أنها ممتثلة أساساً لسلطة الداخل أو‬ ‫نسقه املسبق يف درجة الوعي‪ ،‬ولعيل أوجز تلك املظاهر‬ ‫ضمن اإلطار املبارش لتداوالتها يف اآليت‪ ،‬مع إيراد متثيالت‬ ‫حيثام اقتضت الرضورة من قصائد بعض شعراء النرث ال‬ ‫تلجأ إىل هكذا ارتكابات‪ ،‬وذلك للماميزة مبنطق إيجايب عن‬ ‫مظاهر االحتفاء السلبية‪-:‬‬ ‫أوالً‪ :‬االرصار عىل إبدال كلم ٍة مح َّددة بأخرى يف نهاية‬ ‫السطر الشعري قد تكون ّ‬ ‫أقل وقعاً وتأثرياً‪ ،‬ال لغاية سوى‬ ‫ِّ‬ ‫شطب القافية‪ ،‬وال لسبب سوى َّأن أصل الكلمة املستبدلة‬ ‫سابق أو الحق‬ ‫مقفى عىل نسق كلمة أخرى يف نهاية‬ ‫مقطع ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ال يفصل بينهام سوى سط ٍر واحد أو أسطر قليلة‪ .‬لتجنب‬ ‫السطر أو املقطع الشعري بكلمة مقفاة‪ ،‬يلجأ بعض‬ ‫انتهاء َّ‬ ‫كتاب قصيدة النرث كذلك إىل إلحاق كلمة أخرى بها غري‬ ‫يتوسل دمج سط ٍر ينتهي‬ ‫مقفاة أو أكرث من كلمة‪ .‬هناك من َّ‬ ‫بقافية مع سط ٍر تالٍ له أو سابق عليه مبارشة ال ينتهي‬ ‫بقافية‪ ،‬ومبا قد ال يؤثر رمبا كثرياً يف املحصلة عىل وحدة‬

‫رغم ما تحظى به قصيدة النثر‬ ‫اليوم من اهتمام كبير‪ ،‬إال‬ ‫أنها لم تنل بعد شرعية الشعر‬ ‫التقليدي أو الشعر الحر‬

‫‪156‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫الداللة وروح املعنى‪ ،‬لكنه يهدر رشاقة القصيدة‪ ،‬ويسهم يف‬ ‫تشويه وبلبلة الجملة الشعرية التي أثقلها الحشو واملداورة‬ ‫وأفقدها مفاتنها وكثافتها‪ ،‬رغم اعتقادي َّ‬ ‫بأن حضور القافية‬ ‫ٌ‬ ‫ثقيل يف قصيدة النرث باملجمل‪ ،‬وبعدم وجود رضورة‬ ‫لتوظيف القافية يف قصيدة النرث جرياً وراء ميزتها اإليقاعية‪،‬‬ ‫وتعويضاً عن تغييب الوزن الخلييل‪ ،‬مع عدم إغفال التجربة‬ ‫التي خاض غامرها الشاعر شاكر لعيبي عرب تبنِّي كتابة‬ ‫قصيدة نرث مقفاة يف مجموعته «الحجر الصقييل»‪.‬‬ ‫كمثال إيجايب ملا نحن بصدده‪ ،‬يقول الشاعر العراقي عبود‬ ‫الجابري يف مقطع من قصيدة نرث بعنوان «ألبوم صور‬ ‫شخصية»‪:‬‬

‫وهو‪...‬‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫وإن كان مدينا لك بدمعة‬ ‫فاعمل عىل تذوق ماء عينيه دامئاً‬ ‫قبل أن تفرح بنعمة السداد‬ ‫واعلم أنه‬ ‫مل يكن يغسل عينيه‬ ‫من أثر الرماد‬

‫القافية املتكررة يف كلمتي «السداد» و«الرماد» مل تكن‬ ‫مقصودة‪ ،‬بقدر ما كانت رضورية فقط النبثاق الداللة‪،‬‬ ‫بل وأسهمت حقاً يف تعزيز اإليقاع الذي جاء عفو املوقف‬ ‫والحالة‪.‬‬ ‫ثانيأً‪ :‬كرس اإليقاع العرويض عامداً‬ ‫وبتعسف يف سط ٍر أو‬ ‫ُّ‬ ‫جملة من القصيدة تنتظمها تفعيلة متامثلة وموزونة‬ ‫بطبيعتها وتركيبتها الشعرية‪.‬‬ ‫يقول الشاعر السوري نوري الجراح يف قصيدة له بعنوان‬ ‫«كالم يف ممر»‪:‬‬

‫تلك كانت مزحة‬ ‫كلمة عابرة‬ ‫ومشيعني‬ ‫بحي‬ ‫رأفة املوىت ّ‬ ‫وردة أوىل‬ ‫قميصاً‬ ‫جيبه لوردة أخرى‬ ‫كالم يف ممر‬ ‫ٌ‬


‫قصيدة النثر متهمة بالنمطية‬

‫نوري الجراح‬

‫يالحظ هنا مث ًال َّأن السطر األول‪ ،‬الثاين‪ ،‬الرابع‪ ،‬الخامس‬ ‫والسادس ليست خلواً من صورة الوزن الخلييل‪ ،‬فقد‬ ‫انتظمتها تفعيلة بحر ال َّرمل «فاعالتن» وجوازاتها‪ ،‬كام‬ ‫َّأن السطر الثالث يحتوي عىل كلمة واحدة مسبوقة بواو‬ ‫العطف عىل وزن «متفاعالن» وهي من جوازات بحر‬ ‫الكامل‪ ،‬لكن الشاعر مل يلتفت كثرياً إىل ذلك‪ ،‬ومل يلجأ إىل‬ ‫كرس انتظام التفعيلة شعورياً أو ال شعورياً طاملا أن النَّص‬ ‫ٌ‬ ‫متخفف بطبيعته من اشرتاطات الوزن الخارجي‪ ،‬بقدر‬ ‫هم َّ‬ ‫الشاعر وجب ُة الكلامت املتعالقة وانتظامها يف‬ ‫ما كان ُّ‬ ‫جملته الشعرية‪ ،‬تاركاً للقصيدة حرية أن تنساب داخلياً‬ ‫اإليقاعي وبنيتها الداخلية‪ ،‬وأن «تنفصل عن‬ ‫وفق مخططها‬ ‫ِّ‬ ‫الصورة الوزنية واللغوية‪ ،‬عىل نحو ما‪ ،‬لتحدد الطريقة التي‬ ‫مبوجبها بنيت القصيدة» كام أشار كامل خري بك إىل ذلك‪.‬‬

‫االحتفاء األكرب‬

‫ثالثاً‪ :‬هناك احتفا ٌء من نوع آخر عرب تقصد واضح ورصيح‬ ‫إلبراز عنارص اإليقاع الداخيل كتعويض عن غياب الوزن‬ ‫وعنارص اإليقاع التقليدية يف القصيدة املوزونة‪ ،‬وذلك من‬ ‫خالل تك ُّلف الز َِّّج باملحسنات اللفظية كالجناس والسجع‬ ‫بال عفوية‪ ،‬وإقحام كلامت دخيلة ومصطنعة عىل جسد‬ ‫القصيدة ال ليشء سوى ميزتها اإليقاعية واشرتاكها مع سواها‬ ‫يف خلق موسيقى داخلية ناجمة عن املزاوجة بني الحروف‪،‬‬ ‫وتراصف وتوازي وتكرار الكلامت التي تتواءم بني بعضها يف‬ ‫الحركات والدالالت الصوتية‪ ،‬خالقة توتراً داخلياً وهندسية‬ ‫إيقاعية تقوم أساساً عىل جدلية الحركة الخفية لعنارص‬

‫أمجد نارص‬

‫النص من الداخل‪ ،‬والتي قد تبدو ظاهرياً كأنها ٌ‬ ‫شكل أو‬ ‫نوعٌ من أنواع الفوىض‪ ،‬إال أنها تتبع يف أعامقها نظاماً دقيقاً‬ ‫فلك ّ‬ ‫منظم‪ .‬هناك من يصطنع البياض واملساحات‬ ‫وتدور يف ٍ‬ ‫الفارغة من دون تعالقها مع املساحات املستغلة كتابياً‪،‬‬ ‫النص مشوهاً بدل أن مينح إيقاعاً برصياً‪ .‬الالعفوية‬ ‫فيخرج ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫إيقاع خاص يجردان النَّص‬ ‫هنا‬ ‫والتدخل املبارش بقصد خلق ٍ‬ ‫من حساسيته اإلشارية وخطفاته الشعرية‪ ،‬ناهيك أن تلك‬ ‫تضج بالزينات والزخارف اللغوية التي رسعان‬ ‫الكلامت ُّ‬ ‫ما تفقد وهجها وتصل حافة اليتم والقطيعة حني تضطلع‬ ‫شكل َّياً بدورها اإليقاعي عىل حساب ِّ‬ ‫الشعري والداليل‪.‬‬ ‫وعام‪ ،‬داخيل وخارجي‪ ،‬ميكن‬ ‫رابعاً‪ :‬وهو احتفا ٌء شمو ٌّيل ٌ‬ ‫وسمه بـ «االحتفاء األكرب» الذي يتو َّلد من اإلرصار عىل‬ ‫كتابة قصيدة نرث مستوفية الشرتاطاتها وقوانينها التأسيسية‬ ‫(الوحدة العضوية‪ ،‬املجانية واإليجاز) بطرا ٍز كرنفايل‪ ،‬ومن‬ ‫دون أي فسحة لالجتهاد أو كرس القوانني‪ .‬ال أدعو هنا‬ ‫إىل الخروج باملطلق عىل هذا الشكل من أشكال الكتابة‬ ‫واخرتاق ضوابطه النظرية بعض اليشء‪ ،‬فالشاعر ح ٌّر أوالً‬ ‫وأخرياً يف رسم خصوصيته وتنويع اشرتاطاته ومعايريه بني‬ ‫نص وآخر‪ ،‬بيد َّأن قولبة الشكل األوحد إىل درجة التقديس‬ ‫ٍّ‬ ‫األعمى وفق هذه الطريقة الديكورية لن تسمح بظهور‬ ‫متايزات وافرتاقات جوهرية‪ ،‬وسوف تؤدي – إن مل تكن‬ ‫أدت فع ًال – إىل جمود َّ‬ ‫الشكل الشعري وسكونيته‪ ،‬وصعوبة‬ ‫ً‬ ‫املقايسة واملفاضلة بني قصيدة ن ٍرث وأخرى استنادا إىل‬ ‫هامش كبري‬ ‫فروقات الدَّرجة ال النوع‪ ،‬وصوالً إىل سقوط‬ ‫ٍ‬ ‫من مناذج قصيدة النرث قي أرس التنميط واالتباعية‪ ،‬باستثناء‬

‫‪157‬‬


‫قضية‬

‫قلة قليلة متكنت من املحافظة عىل خصوصية لغتها وعمق‬ ‫نظرتها إىل العامل واألشياء والعالقات التي تحكم سريورة‬ ‫الحياة‪ .‬الكتابة وفق اشرتاطات سوزان برنار وقصيدة النرث‬ ‫األوروبية ليست اختباراً أو امتحاناً لحصد النجاحات‪ ،‬خاصة‬ ‫أن قصيدة النرث خرجت أص ًال عىل قوانني الوزن والقافية‪،‬‬ ‫فلامذا تتحرر من قيود لرتسف يف أخرى؟‬ ‫ً‬ ‫مستفيداً من تقنيات القصة القصرية جدا أو األقصوصة‪،‬‬ ‫يكرس الشاعر األردين أمجد نارص منطية الكتلة‪ ،‬ويفرض‬ ‫اشرتاطاته الخاصة عرب كتابة قصيدة نرث قصرية‪ ،‬محكمة‬ ‫البنية الداللية وال تخلو حكائيتها من مفارقة ودهشة‪ ،‬كام‬ ‫نصه املعنون «وديعة»‪:‬‬ ‫يف ِّ‬

‫مل أَ َر الذي اسرتدَّها‬ ‫سمعت خطواً خفيفاً‬ ‫ُ‬ ‫ولكنني‬ ‫ُ‬ ‫عىل حاشية الليل‪ ،‬ويف الصباح وجدت عىل بالط الرواق‬ ‫جل َد أفعى وريشة بيضاء‬

‫كرثة من النقاد والشعراء من داخل فرنسا وخارجها ذهبوا‬ ‫بعيداً يف معارضة سوزان برنار وتأطرياتها الجافة لقصيدة‬ ‫النرث‪ ،‬مبا يف ذلك الدعوة املفتوحة إىل التنويع عرب االستفادة‬ ‫القصوى من طاقات النرث وتقيص جاملياته الالمحدودة‪ ،‬وهو‬ ‫ما أمثر فعلياً عن ظهور تح ُّوالت مستم َّرة يف البنية الداخلية‬ ‫لقصيدة النرث وهيكليتها الخارجية‪ ،‬وبالتايل صعود وارتقاء‬ ‫مناذج عاملية لقصيدة النرث ال تقل شأنا وأهمية عام هي‬ ‫عليه يف مهادها الفرنيس‪ ،‬كام هو الحال مث ًال مع قصيدة‬

‫راسل إدسن‪ :‬إن «طرق الكتابة‬ ‫شأنها بشكل ما شأن صرعات‬ ‫األزياء‪ ،‬حيث أطوال الفساتين‬ ‫تزيد وتقل‪ .‬فالذي يكون‬ ‫بالخارج في عام ما يكون‬ ‫بالداخل في عام آخر»‬

‫‪158‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫النرث األمريكية ومبا يؤكده راسل إدسن يف الحوار الذي أرشنا‬ ‫رصح يف ذات الخصوص أن «طرق الكتابة‬ ‫إليه آنفاً‪ ،‬حيث َّ‬ ‫شأنها بشكل ما شأن رصعات األزياء‪ ،‬حيث أطوال الفساتني‬ ‫تزيد وتقل‪ .‬فالذي يكون بالخارج يف عام ما يكون بالداخل‬ ‫يف عام آخر»‪.‬‬

‫التأسيس والقطيعة‬

‫تواص ُل العزف عىل وتر أن قصيدة النرث هي قصيدة الحارض‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫واملستقبل فيه يشء من اإلجحاف‪ ،‬ومناقضة صارخة لحال‬ ‫الواقع الشعريِّ واألديب عموماً‪ ،‬عدا عن كونه تكراراً ملا‬ ‫واظب عىل إشاعته بعض كتاب قصيدة النرث املتحيزين‬ ‫لها بعامء‪ .‬يف مقدمة مجموعته «لن» ينتهي أنيس الحاج‬ ‫إىل الجزم بأن «قصيدة النرث خليقة هذا الزمن‪ ،‬حليفته‪،‬‬ ‫ومصريه»‪ .‬هذه النظرة التمجيدية يف مطلع ستينيات القرن‬ ‫املايض تدفع إىل افرتاض أن قصيدة النرث هي باملحصلة نهاية‬ ‫الشعر‪ .‬لكنَّ الحاج نفسه عاد يف مؤمتر قصيدة النرث العربية‬ ‫الذي أقيم يف بريوت عام ‪ 2006‬ليؤكد العالقة «التجاورية»‬ ‫ّ‬ ‫«ستظل األوزان‬ ‫بني قصيدة النرث وقصيدة الوزن قائ ًال‬ ‫مرغوبة وقبلة أسامع الكثريين‪ ،‬ورمبا األكرثية‪ ،‬مبن فيهم‬ ‫أحياناً العديد من شعراء النرث»‪.‬‬ ‫الشعر رغبة متواصلة يف الخلق‪ ،‬عطفاً عىل ما تراكمه‬ ‫يترسب من جهة أخرى إىل‬ ‫التجربة والتاريخ من جهة‪ ،‬وما َّ‬ ‫الشعر من أجناس أدبية كالنرث الذي مت َّكن من تذويب بالغة‬ ‫اللغة لصالح لغته التي تنأى بنفسها عن التعقيد والزخارف‪،‬‬ ‫ومن الحيلولة كذلك من دون أن تتحول إىل مجرد نرث‬ ‫عاديٍّ ‪ .‬من هذه القيمة املس َّلم بها‪ ،‬نحسب َّأن ّ‬ ‫جل الشعراء‬ ‫العرب من كتّاب قصيدة النرث مل يطلعوا يف حقيقة األمر عىل‬ ‫الدراسة التأسيسية لسوزان برنار‪ ،‬وبعضهم اآلخر مل يلتفت‬ ‫كثرياً إىل ما كتبه أدونيس يف مجلة شعر أو أنيس الحاج يف‬ ‫مقدمة «لن»‪ ،‬وإمنا كتبوها بوحي اللحظة التاريخية والظرف‬ ‫الزماين‪ .‬أضف إىل أن قس ًام كبرياً منهم مل يأتوا مبارشة من‬ ‫منطقة قصيدة التفعيلة أو العمود‪ ،‬بل كانت قصيدة النرث‬ ‫نقطة انطالقهم وملك أميانهم الشعرية‪ .‬هنا تتحقق اإلرادة‬ ‫الواعية بشكل الكتابة باعتبار أن قصيدة النرث «تفرتض إرادة‬ ‫واعية لالنتظام يف قصيدة» بتعبري سوزان برنار أو «الخلق‬


‫قصيدة النثر متهمة بالنمطية‬

‫بودلري‬ ‫رائد قصدة النرث الفرنسية‬

‫وعي ناقص عىل فشيئاً بال أث ٍر يذكر‪.‬‬ ‫اإلرادي» بتعبري ماكس جاكوب‪ ،‬لكن ذلك ٌ‬ ‫األغلب برغم تح ُّقق اإلرادة‪ ،‬حيث االقرتاب من قصيدة النرث ال تط ُّرفاً والمنافحة‪ ،‬لكن ما سلف التط ُّرق إليه من‬ ‫متقصدة يف كتابة قصيدة النرث هو يف تشخيصاته‬ ‫بهذا املعنى ال يتطلب االمتثال لقوانني واشرتاطات مسبقة‬ ‫احتفاءات َّ‬ ‫أو تجنب خرقها‪ ،‬وهو ما يعدُّ ميزة عظمى يف هذه الجزئية املبارشة حالة مرض ّية ينبغي التّصدي لها‪ ،‬ولعليِّ أحسب ُه‬ ‫خالفاً لسواها‪ ،‬إذ تصبح كل قصيدة نرث رشطاً قامئاً بحد ذاته «احتفا ًء» العفوياً بقصيدة النرث‪ ،‬يح ِّرك ُه ٌ‬ ‫خوف مست ٌرت من‬ ‫ال قانوناً دامئاً‪ ،‬أو مبعنى أدق عالمة مسجلة ألسلوبية كاتبها‪ .‬الحرية التي تولِّد جرعات زائدة من فرض الشاعر لسلطته‬ ‫ورقابته عىل النص‪ ،‬من دون منحه – أي النَّص ‪ -‬فرصة‬ ‫واقعي‪ ،‬ال يزال عمر قصيدة النرث قصرياً يف وطننا‬ ‫إىل ح ٍّد‬ ‫ِّ‬ ‫لالنوجاد الذايت‪ .‬كام أعتقد أنه يف جز ٍء من حقيقته تكف ٌري‬ ‫العريب بالقدر الذي أصبحت فيه اآلن رضورة شعرية أكرث‬ ‫إثم توهَّ َم الشاعر اقرتافه حني اعترب قصيدة النرث خياره‬ ‫مام كانت عليه من قبل‪ .‬ولهذا بات من الرضورة االعتامد‬ ‫عن ٍ‬ ‫الكتا ِّيب األوحد مرحلياً أو نهائياً‪ ،‬حتى بات يشعر بأنه متورط‬ ‫اليومي ومضاعفة االهتامم‬ ‫عىل أول َّيات الحياة وتفاصيل‬ ‫ِّ‬ ‫يف مؤامرة كربى‪ ،‬والزمه شعو ٌر بارتكاب خطيئة يف حق‬ ‫بهام‪ ،‬من دون إهاملٍ لحقيقة أن األشياء البسيطة تحتمل‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫كل ما هو ٌ‬ ‫فارق وغرائبي يف واحد ٍة أو أكرث من لحظاتها التي الشعر واملوروث‪ ،‬وخشية من نظر اآلخرين إليه باستهانة‪.‬‬ ‫داع أو مربر منطقي لهكذا مداورات هي يف‬ ‫تستحق القبض عليها وإسقاطها عىل خصوصية التجربة‪،‬‬ ‫ليس هناك أيُّ ٍ‬ ‫غالبيتها العظمى وهمية أو مصطنعة‪ .‬نعم‪ ،‬قصيدة النرث‬ ‫س َّيام وأن قصيدة النرث العربية مل تشهد تثويرات حقيقية‬ ‫من بنيتها الداخلية‪ ،‬أما بعض املحاوالت التي غازلت خارجها صعبة وال تنقاد بسهولة رغم ما توحيه عكس ذلك من‬ ‫خارجها‪ ،‬وهذا ما مييزها من دون مبالغة‪ ،‬ويجعل الخوض‬ ‫الشكيل فال ميكن عدُّ ها استثنا ًء قاطعاً‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يف كتابتها نوعا من التحدي واملثابرة اإليكاروسية‪ ،‬عطفا هنا‬ ‫عىل حقيقة تقهقر مكانة الشعر حول العامل والوطن العريب‬ ‫أوهام اإلثم‬ ‫وما يوازيه من قصور حاد وترهُّ ل يف تناول قصيدة النرث‬ ‫مبا َّأن قصيدة النرث نشأت «باألساس عىل مبدأ االستبعاد أو‬ ‫االطراح» حسب تعبري هرمني ريفاتري‪ ،‬فال َّ‬ ‫من دون التمكن من مجاراة منجزها باملقارنة مع حضورها‬ ‫شك أن تأثيثها‬ ‫باتزان معامري غري متكلف وال تغلب عليه الصنعة املبارشة الكثيف يف املدونة الشعرية العربية خالل العقود األخرية‪،‬‬ ‫خصوصاً أن الشعر ٌ‬ ‫شأن حيايت ومعييش‪ ،‬يتطور بتعاقب‬ ‫متعالق بالرضورة مع الشكل الشعري الرصف واإلرادة‬ ‫الزمن ويخضع للتحوالت من كافة أوجهه شك ًال ومضمونا‪ً،‬‬ ‫املسبقة التي انبثقت منه‪ .‬بخالف ذلك‪ ،‬يختنق الن َُّّص بغاز‬ ‫َّ‬ ‫وبأن الشاعر الحقيقي هو القادر فقط عىل توليد مشاعر‬ ‫سخ‬ ‫املداورات الواهية‪ ،‬ويتحول يف أحسن حاالته إىل َم ٍ‬ ‫وأحاسيس بالسريورة يف قصيدته‪ ،‬وعىل إيقاف الزمن كذلك‬ ‫فاق ٍد لعذرية وهلته األوىل‪ ،‬ورمبا يأخذ بالذوبان واالنعدام‬ ‫والتاليش تدريجياً‪ ،‬خارساً متاسكه وعالقاته البنائية شيئاً‬ ‫يف لحظة ما‬ ‫‪159‬‬


‫أخبار البيت‬

‫بيت الشعر في أبوظبي‬

‫بيت الشعر في أبوظبي‬

‫بيت الشعر في أبوظبي‬

‫محمد مهاوش‬

‫الشعر النبطي عربي النزعة والطابع‬

‫استضاف‬

‫بيت الشعر بأبوظبي التابع لنادي‬ ‫تراث اإلمارات يف التاسع عرش‬ ‫من حزيران‪ /‬يونيو املايض يف مقره مبركز زايد للبحوث‬ ‫والدراسات الشاعر والناقد السعودي محمد مهاوش يف‬ ‫أمسية بعنوان «الشعر النبطي ومقاييس اللغة»‪ .‬حرضها‬ ‫حشد من جمهور الشعر واملهتمني بالشعر النبطي‬ ‫أدار األمسية الباحث محمد نور الدين واستهلها مهاوش‬ ‫بالحديث عن دراسة الشعر النبطي وقال‪« :‬من يدرس‬ ‫الشعر النبطي ويتعرف عىل مباحثه الشعرية والفنية‪،‬‬ ‫ويقف عليه عن كثب يجد أنه شعر عريب النزعة والطابع‪،‬‬ ‫وأنه ميتاز بفصاحة املفردة رغم افتقاره ملظهر اإلعراب‬ ‫الذي يوضح أشكال الحركات اإلعرابية الطارئة عىل أواخر‬ ‫الكلامت‪ ،‬لكنه يف املقابل ال يفارق العرب فيام كانوا يقولون‬ ‫من كالم‪ ،‬ويضعون من قياسات وصيغ أسلوبية»‬ ‫وأشار إىل أن اللغويني العرب كاألصمعي وأيب عمر بن العالء‬ ‫واملربد وغريهم من علامء اللغة‪ ،‬كانوا يسمون اللهجة يف‬ ‫عرفنا الحايل باللغة‪ ،‬ويطلقون عىل ما نسميه نحن باللغة‬ ‫مصطلح اللسان‪.‬‬ ‫وأكد أن الشاعر النبطي كان يستخدم اللغة التي كان‬ ‫يتحدث بها العرب القدماء‪ ،‬وهذه الحال تكاد تكون واضحة‬ ‫وجلية كلام ابتعدنا يف التحرك بالزمن إىل الوراء‪ ،‬وذلك‬ ‫بسبب عدم اختالط ابن البادية العربية باألجانب واألغراب‪.‬‬ ‫ومن األمثلة التي عرضها مهاوش قول الشاعر محمد‬ ‫الدهامن يف مدح عبدالكريم الجربا‪:‬‬ ‫بيوت املحمد مدهل الضيف والجار‬ ‫وملجا ملن كرثت عليه البالوي‬ ‫الزم يجي بالبيت هاتش وخطار‬ ‫وخاليق ما ينعرف له لغاوي‬ ‫وأشار إىل أن «خاليق» ال تعرف لها لهجات‪ ،‬فهي كناية عن‬ ‫تزايد الضيوف والوافدين عىل مضيف الشيخ عبدالكريم‬

‫‪160‬‬

‫بيت الشعر‬

‫العدد (‪ - )3‬آب‪/‬أغسطس ‪2012/‬‬

‫محمد نور الدين ومحمد مهاوش‬

‫الجربا‪ ،‬وهذا االستخدام‪ ،‬وأضاف‪ ،‬غري أن الشاعر سند‬ ‫الحشار يدعم قول الدهامن بشكل أكرث توضيحاً‪ ،‬حيث‬ ‫يقول يف مدح قبيلته «الظفري»‪:‬‬ ‫من فعل طلقني اللغا باملالقاة‬ ‫اليل وقع بنحورهم للذالقي‬ ‫ويشري إىل أن «طلقني» أي عن الكالم واللهجة‪ .‬الفتاً إىل أن‬ ‫أبناء هذه القبيلة ال يخالط كالمهم كالم غريهم‪ ،‬وال يتداخل‬ ‫كالمهم مع كالم األعجام واألغراب‪ .‬وهو كناية عن صفاء‬ ‫اللهجة وعدم تداخلها مع لهجات اآلخرين‪.‬‬ ‫ورأى مهاوش أن هذا االستخدام الداليل لهذه املفردة نابع‬ ‫من أصولها العربية املوغلة يف التاريخ‪ ،‬متاماً كام هو الحال‬ ‫بالنسبة ملفردة «قرن» يف قول الشاعر الحشار «لعيون من‬ ‫قرنه عىل املنت تشقاه» وهي تدل عىل مدى ارتباط الشعر‬ ‫النبطي بالشعر العريب الفصيح‪ ،‬إذ أن هذه املفردة التي مل‬ ‫يعد يتداولها الناس وحلت محلها كلمة مرادفة لها باملعني‬ ‫«الجديلة»‪ .‬وقد استخدمها قيس بن امللوح بقوله «وهل‬ ‫ر ّفت عليك قرون ليىل»‪.‬‬ ‫وقال «لو تأملنا هؤالء الشعراء وحاولنا النظر إليهم بشكل‬ ‫جامعي لرأينا أنهم أشبه بفصحاء األعراب‬

‫بيت ال‬


‫لشعر في أبوظبي‬

‫بيت الشعر في أبوظبي‬

‫بيت الشعر في أبوظبي‬

‫بيت الشعر في أبوظبي‬

‫بيت الشعر في أبوظبي‬

‫في اختتام الموسم الشعري‬

‫إطالق ديوان «فتاة العرب» اإللكتروني‬

‫اختتم‬

‫بيت الشعر يف أبوظبي موسمه الشعري‬ ‫بإطالق ديوان الشاعرة عوشة بنت خليفة‬ ‫السويدي «فتاة العرب»‪ ،‬يف طبعته اإللكرتونية‪ ،‬وذلك يف‬ ‫مقر البيت مبركز زايد للبحوث والدراسات يوم الثالثاء‬ ‫‪3‬متوز‪ /‬يوليو‪ ،‬وبحضور حبيب الصايغ رئيس الهيئة اإلدارية‬ ‫لبيت الشعر‪ ،‬وحشد من جمهور الشعر واملهتمني بتوثيق‬ ‫الرتاث اإلمارايت‪.‬‬ ‫تحدثت الدكتورة رفيعة غباش التي قامت بإصدار هذا‬ ‫العمل عن رحلة العمل التي قضتها يف البحث عن أعامل‬ ‫الشاعرة عوشة‪ ،‬وقالت يف بداية حديثها «جميل أن نكون‬ ‫اليوم هنا يف بيت الشعر بأبوظبي الذي هو بالفعل بيت‬ ‫كل الشعراء»‪ ،‬مشرية إىل دور مركز سلطان بن زايد للثقافة‬ ‫واإلعالم يف تنشيط الحراك الثقايف ودعم املبدعني‪.‬‬ ‫ويف مستهل األمسية تم عرض فيلم قصري عن وقائع‬ ‫االحتفال بصدور النسخة األوىل من أعامل «فتاة العرب»‪.‬‬ ‫لتتحدث بعد ذلك د‪.‬غباش عن العمل الجديد وتشري إىل‬ ‫أنها يف العام ‪ 2006‬قامت باالتصال بالشاعرة عوشة لتقف‬ ‫عند بدايات تجربة الشاعرة التي حملت آخر قصائدها‬ ‫عنوان «الغفران»‪ ،‬حيث توقفت بعد ذلك عن كتابة الشعر‬ ‫يف العام ‪ .1996‬وأفادت د‪.‬غباش أن الشاعرة غوشة تعلمت‬ ‫الكتابة من خالل رسائل جدها التي كانت تطالعها ثم تأخذ‬ ‫الفحم لتكتب عىل الجدار‪ .‬وهذا ما أخربتها به عرب االتصال‬ ‫الهاتفي الذي استمر ‪ 20‬دقيقة‪ ،‬والذي أثار استغراب‬ ‫اآلخرين املحيطني بعوشة‪ ،‬حيث إنها يف تلك الفرتة مل تكن‬ ‫تتحدث مع أحد لكل هذا الوقت‪ ،‬وكانت تقاوم الشعر بعد‬ ‫أن توقفت عن كتابته‪.‬‬ ‫وتناولت د‪.‬غباش العديد من التفاصيل يف رحلتها حيث‬ ‫تحدثت عن زيارتها لبيت عوشة ولقائها بأرستها‪ ،‬وجمعها‬ ‫لقصائدها‪ ،‬وأكدت أن رحلتها يف البحث عن فتاة العرب‬ ‫كانت رحلة ممتعة‪ ،‬وتعرفت خاللها عىل العديد من أبناء‬

‫رفيعة غباش وعبد الله بن ظاهر‬

‫تصوير‪ :‬طارق البوريني‬

‫الثقافة واملجتمع‪ ،‬وخالل هذه الفرتة وصلتها رسالة عرب‬ ‫الربيد اإللكرتوين من شاب يريد نسخة «يب دي اف» عن‬ ‫العمل‪ ،‬ليقوم بنرشها وتعميمها عرب اإلنرتنت‪ ،‬واقرتح فكرة‬ ‫أن يكون هناك كتاب إلكرتوين‪ ،‬وصوالً إىل تحويل الكلامت‬ ‫إىل أصوات‪.‬‬ ‫ثم تحدث الشاب املكفوف عبدالله بن ظاهر عن رؤيته‬ ‫يف تصميم وإخراج نسخة إلكرتونية ومسموعة من العمل‪،‬‬ ‫حيث طرح عدة أفكار جديدة يف هذا املجال‪ ،‬ومتطورة‬ ‫قادت إىل إنتاجه بشكله النهايئ املتقدم‪ ،‬لتعني أيضاً فاقدي‬ ‫البرص عىل متابعة الشاعرة عوشة‪ ،‬وهو ما أثار إعجاب‬ ‫الرشكة املعنية يف متابعة هذا العمل‪.‬‬ ‫وقال إن هناك أشياء كثرية مل أكن أعرفها عن الشاعرة عوشة‪،‬‬ ‫التي أعتربها «خنساء» هذا العرص‪ .‬وأكد أن هذا العمل‬ ‫يخرج الشاعرة من منطقة جغرافية ضيقة إىل أخرى كبرية‪،‬‬ ‫كام يقدم صورة مرشقة عن املرأة وإبداعاتها يف منطقتنا‬ ‫الخليجية والعربية‬

‫‪161‬‬


‫أجنحة وأسوار‬

‫‪.‬‬

‫‪.............................................................................................................‬‬ ‫أجنحة وأسوار‬

‫طفل الذاكرة‬ ‫حبيب الصايغ‬

‫هذا الصباح‪ ،‬سأضع ذاكريت أمامي ال ورايئ ‪ .‬سوف أنهض وكأنني نهار مواز ‪ .‬سأسري إىل أجنحة‬ ‫الطيور وعيون الغزالن‪ .‬سأكتب املعنى عميقاً وبإشارات تتناثر يف القلوب كشظايا الحروب ‪ .‬سأبدأ‪،‬‬ ‫هذا الصباح‪ ،‬من حيث ال تبدأ البدايات أو تنتهي النهايات ‪ .‬سأسافر من دون أن أتحرك قيد أمنلة ‪.‬‬ ‫لقد نويت‪ ،‬يف هذا الصباح الخصويص‪ ،‬عىل الدخول يف الذات كام يجب ‪ .‬املشكلة أن النوافذ كثرية‪،‬‬ ‫واألبواب أكرث من النوافذ ‪ .‬املشكلة أن السامء هي السقف‪ ،‬وأن الغيم يتكدس يف الرأس وداخل‬ ‫الرأس‪ ،‬وأن قطرات املطر تختلط بقطرات الدم ‪ .‬املشكلة أنه ال مشكلة حقيقية‪ ،‬حتى يتوقف اإلنسان‬ ‫قلي ًال‪ ،‬ويقول للسيارات والشوارع واألنهار والبحار واألرشعة واألضواء واملوانئ والكتب والدفاتر‬ ‫والسنوات والقطارات‪ :‬قفي! ‪ . .‬قفي وإال ‪. .‬‬ ‫املواعيد أخذها السندباد معه‪ ،‬والوردة الحمراء األسطورية يف جيب املعطف ذهبت يف الذبول ‪ .‬الساعة تدق‬ ‫ساعة الصفر‪ .‬الدقيقة األوىل والثانية والثالثة والستون ‪ .‬الدقيقة الثالثة بعد األلف ‪ .‬الساعات تعرب عن لهاثها‬ ‫بالرنني‪ ،‬واأليام تستيقظ منذ الصباح الباكر‪ ،‬وتغسل وجهها‪ ،‬وتفرك أسنانها‪ ،‬ثم تدخل يف دفرت الدوام وكأنها‬ ‫دود األرض ‪.‬‬ ‫ماذا تبقى بعد ذلك من األمل أو الحنني؟‬ ‫هذا الصباح‪ ،‬قررت وضع األجوبة عىل الرف‪ ،‬واالكتفاء بالضجيج الذي ميأل الطريق ‪ .‬قلت منذ البداية إنه‬ ‫صباح خصويص‪ .‬ال تسألوين عن السبب‪ ،‬فليس من سبب معقول‪ ،‬وال سبب غري معقول ‪ .‬يتوارد بعض األفكار‬ ‫رسيعاً‪ ،‬ثم يلح عىل الذهن قلي ًال وكثرياً‪ ،‬وكل حقيقة غري مؤكدة‪ ،‬إال اإلنسان وهو ينهض‪ ،‬كل صباح‪ ،‬إىل مصريه‬ ‫ومصري الكون ‪.‬‬ ‫فامذا تبقى من األمل أو الحنني؟‬ ‫اإلنسان طفل الذاكرة‪ ،‬واألعامر يف امليادين والساحات ‪ .‬بني كل انطالقة وانطالقة والدة وموت‪ ،‬وحديث والدة‬ ‫وموت ‪ .‬اإلنسان طفل الذاكرة‪ ،‬لكنه يكرب‪ ،‬يومياً‪ ،‬وهاجسه أن يضع ذاكرته وراءه‪ ،‬لكن هيهات ‪.‬‬ ‫ذاكرة اإلنسان أمامه وكأنها متثال عقل أو كرة قدم‪ ،‬وهو يركلها بكل قوته نحو الوصول إىل املرمى ‪ .‬يصفق‬ ‫املتفرجون طوي ًال ‪ .‬يغنون ويرقصون ويعزفون أحزانهم عىل أوتارهم املمكنة واملستحيلة ‪ .‬يركل الناس كرات‬ ‫الذاكرة يف الطريق إىل الشباك ‪ .‬وعندما يصلون‪ ،‬أو يخيل إليهم أنهم وصلوا‪ ،‬ال يجدون أمامهم شباكاً وال‬ ‫متفرجني ‪.‬‬ ‫يكونون وحيدين يف صباحاتهم الوحيدة‪ ،‬وكأن كل صباح محاولة انتصار عىل سطوة الذاكرة وتعب القلب‬


‫حروفية‪ :‬تاج الرس حسن‬

‫‪163‬‬


‫من أعامل الفنانة اإلماراتية نجاة ميك‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.