العدد ( )3آب -أغسطس 2012
ميسون صقر
أنا ابنة زمن الصورة الشعرية جرير والفرزدق
المرآة الضدية I S S U E N O (3) A U G U S T 2 0 1 2
شهرية تصدر عن بيت الشعر يف أبوظبي
نادي تراث اإلمارات
عبد العزيز المقالح الشعر عالمي األول شعراء مصريون والثورة أناشيد ال قصائد شهاب غانم الترجمة والدة ثانية للنص
ُر مَّبا
ما ُ زلت ح ّياً يف مكان ما ،وأَ ُ عرف ٍ ما ُأريدُ … سأص ُري يوماً ما ُأريدُ
مختارات
الشعر الكوري المعاصر
حارس الذاكرة
الفنان خوان مريو
بيت الشعر
العدد ( )3آب/أغسطس 2012/
الشاعر والجنرال عمود حديدي بارتفاع أربعة أمتار عىل بعد خطوات قليلة من نهر السني يف باريس، يحمل لوحة زرقاء مكتوب عليها ساحة الشاعر محمود درويش .ليست عىل شاكلة ساحات باريس ،ال الصغرية وال الكبرية ،تبدو وكأنها اقتطعت من املكان عىل عجل، لتشبه إقامة الفلسطيني عىل أرض اآلخرين. ال يشبه املكان شعر الشاعر الذي كان صوته عىل سعة الفضاء ،ورحابة املدى ،وال رهافة روحه األنيقة الفياضة بينابيع امللحمة ،إنه مكان ال حيز فيه للتأمل أو االسرتخاء، كام هو الحال يف الساحات العامة ،هو كحال القبور التي تتكرم بها البلديات عىل املوىت الذين ال أهل لهم ،حني ال يأيت من يتربع بثمن قطعة األرض وتكاليف الدفن. مكان ال شعر فيه وال صفة له ،يليق بيتيم مات عىل أرض غريبة. ساحة ال يستطيع اإلنسان أن ميكث فيها أكرث من دقائق معدودة ،ألنها واقعة عىل الشارع العام الذي يفصلها عن نهر السني .شارع يضج بالسيارات الرسيعة ،وال يتيح فرصة للوقوف .إن كل من يصل إىل تلك النقطة ،ليس لديه سوى هاجس عبور الشارع نحو الطرف اآلخر ،لينزل إىل محاذاة نهر السني ،أو يتوجه إىل متحف اللوفر ،عرب جرس الفنون. أرادت بلدية باريس تكريم الشاعر الكبري ،وهي تستحق الشكر عىل ذلك ،ألن وراء الفكرة اعرتافاً رصيحاً بالقامة العالية لهذا الشاعر ،ليس فقط ألنه أمىض يف مدينة األنوار حوايل 15سنة ،وكتب فيها أجمل قصائده ،بل ألنه يستحق التكريم كشاعر ،وأن يخلد اسمه ولو عىل شرب من هذه املدينة ،التي مل تسبقها مدينة يف الكون إىل االعرتاف مبكانة الشعر والشعراء. رغم أن املكان يثري الحرية ،وال يوحي بالشعر ،ولكن االلتفاتة يف حد ذاتها تعترب ذات بعد رمزي كبري .فليس هناك ساحات كثرية يف باريس تحمل أسامء مشاهري من شعراء وفنانني وعلامء ،فالعادة درجت عىل تكريم هؤالء بإطالق أسامئهم عىل شوارع ،أو مدارس ومشايف ومسارح ...إلخ ،ومن هنا فإن متييز درويش ال يخلو من فطنة .وقد ربط البعض ذلك بقيام البلدية نفسها بإطالق اسم مؤسس دولة إرسائيل دافيد بن غوريون عىل ساحة يف باريس أكرث هدوءاً واتساعاً من ساحة درويش. قد يكون القصد هو املوازنة السياسية بني اإلرسائيليني والفلسطينيني ،ورمبا كانت بلدية باريس تريد ترضية الفلسطينيني بسبب احتفائها الكبري بجرنال حرب مسؤول عن النكبة الفلسطينية ،ولكنها مل تجد من بني الفلسطينيني من هو أجدر من درويش، صاحب الرواية املضادة ،التي حاول الكيان أن يبني رشعيته عىل تقويضها ،وقد كان املؤرخون من الطرف اآلخر يعرفون أن درويش حارس الذاكرة الفلسطينية ،الذي نفض عنها الغبار ،وأعاد لها بهاءها بشعره ونرثه. إنه فخر أن يقف الشاعر يف وجه الجرنال ،الذاكرة الفلسطينية يف مواجهة القاتل الكولونيايل. الذاكرة هي التي ستبقى ،لها حراسها من محمود درويش ،وحتى آخر طفل فلسطيني يولد من رحم النكبة
املحرر
تصدر كل أول شهر عن بيت الشعر يف أبوظبي نادي تراث اإلمارات
املرشف العام
حبيب الصايغ رئيس التحرير إبراهيم محمد إبراهيم مدير التحرير بشير البكر سكرتري التحرير عبد اهلل أبو بكر التحرير
جهاد هديب رنا زيد
املدير الفني فواز ناظم االخراج والتنفيذ ناصر بخيت
املراسلون
بيروت -فيديل سبيتي الرباط -حكيم عنكر باريس -محمد المزديوي القاهرة -حمزة قناوي روما -حذام الودغيري صنعاء -أحمد السالمي
الهيئة االستشارية:
علي جعفر العالق عارف الخاجة نوري الجراح سالم أبوجمهور حسن نجمي علي الشعالي
3
عبد العزيز المقالح :الشعر هو ما يتبقى لنا
120 20 25نصوص :طوق الغواية ،أنثى السالالت ،البيت ،الرحيل ،جديت وعصاي ،مائ ًال نحو حمدة خميس ..العامل كاستعارة
النهايات ،سنجاب طفولتي ،ميدوزا ،عىل سفر ،رأيت الشام ،طفالن ،ال أريد نسيان هذا الشتاء، وصية ،عودي ناقص وترا ،السحاب ،عزف منفرد ،وأدخل يف رجل من ضباب.
38 41الملف
رأي الناقد ..قراءة يف نصوص العدد الثاين «بيت الشعر»
90 94حائط أبيض ..نوري الجراح 95مختارات ..من الشعر الكوري املعارص 106نظري ًا ..صبحي حديدي 107زيارة :قرب ماتشادو علي العندل ..شعرية قسوة وأمل
107 املواد املنشورة تعرب عن رأي اصحابها وال تعرب بالرضورة عن رأي املجلة 4
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
www.poetryhouse-ad.ae
محمود درويش ..أثر الغائب صبحي حديدي ،جهاد هديب ،فيديل سبيتي ،محمد عريقات ،مازن معروف ،مفيد نجم ،ياسني الزبيدي ،دمية الشكر ،مرسيل خليفة ،عبد الله أبو بكر
الغالف:
ناصر بخيت :رسم بالفحم -لوغو بيت الشعر للفنانة الرا قبطان
عناوين املجلة االدارة والتحرير: االمارات العربية املتحدة-ابوظبي هاتف024916333 : امييلbashir@cmc.ae :
أبوظبي لإلعالم-توزيع الرقم املجاين 8002220 : فاكس +971 - 02-4145050 :
distribution@admedia.ae مسؤول التوزيع :زياد النجار
حقوق نرش الصور واملوضوعات الخاصة محفوظة للمجلة
المحتويات
90
116
110القصيدة السودانية.. ثنائية الغابة والصحراء
113 116بورتريه الظل ..محمد القييس 119حاشية ..حسن نجمي 120حوار
الشعر الجزائري بالفرنسية
عبد العزيز املقالح
128في الشعر عبد الزهرة زيك
130حوار ميسون صقر
سعر النسخة اإلمارات العربية املتحدة 10 :دراهم -اململكة العربية السعودية 10 رياالت -الكويت دينار واحد -سلطنة عامن 800بيسة -قطر 10رياالت مملكة البحرين دينار واحد -اليمن 200ريال -مرص 5جنيهات -السودان 250جنيهاً -لبنان 5000لرية -سورية 100لرية -اململكة األردنية الهاشمية ديناران -العراق 2500دينار -فلسطني ديناران - اململكة املغربية 20دره ًام -الجامهريية الليبية 4دنانري -الجمهورية التونسية ديناران -بريطانيا 3جنيهات -سويرسا 7فرنكات -دول االتحاد األورويب 4يورو -الواليات املتحدة األمريكية وكندا 5دوالرات. االشتراكات لألفراد داخل دولة اإلمارات 100 :درهم /لألفراد من خارج الدولة150 : دره ًام -للمؤسسات داخل الدولة 150 :دره ًام /للمؤسسات خارج الدولة
142
138 134تحقيق مرص :الشعر والثورة
138 142حوار
شعر وخط ..منري الشعراين
شهاب غانم
146ندوة بيت الشعر وتجربة حبيب الصايغ
150 155قضية ..قصيدة النرث متهمة بالنمطية 160البيت ..بيت الشعر يف أبوظبي
قصيد األسالف ..النقيضة يف الشعر
130
ميسون صقر:
حياتي في القصيدة
200درهم. 5
ُكتاب العدد
19
7
9
10
تخطيطات ُ الكتاب :نارص بخيت
17
21
15
11
.1محمد الغزي
• شاعر وناقد وكاتب قصص لألطفال من تونس، صدر له العديد من املجموعات الشعرية ،منها كتاب املاء كتاب الجمر ،ما أكرث ما أعطي ما اقل ما أخذت ،سليل املاء ،كالليل استيضء بنجومي.
.2مهند صالحات
• كاتب (قاص) وصحايف ومخرج سيناميئ فلسطيني يقيم يف ستوكهومل ،له عدة مجموعات قصصية وكتب العديد من السيناريوات ،واخرج العديد من االفالم التسجيلية.
.3خلود الفالح
• شاعرة وصحافية ليبية تقيم يف بنغازي.صدرت لها مجموعة شعرية بعنوان ينتظرونك.
.4وليد السويريك
• شاعر ومرتجم من فلسطني ،صدر له :أجنحة بيضاء لليأس ،طردت اسمك من بايل .ترجمة، أساتذة اليأس ،والنزعة العدمية يف األدب األورويب.
.5خلدون عبد اللطيف
• شاعر من األردن يقيم يف عامن ويعمل يف حقل الصحافة ،صدر له :بني املنزلتني.
.6محمد عريقات
صدر له :الكامريا ال تلتقط العصافري، ومالك عىل حبل الغسيل.
.8مفيد نجم
• شاعر من فلسطني ،صدر له :حيفا تطري إىل الشقيف ،نشيد الحجر، وطن يف املخيم ،دفاتر الغيم ،وذئب األربيعني.
• أستاذ جامعي من العراق يقيم يف دولة اإلمارات العربية املتحدة .درس كواكب املجموعة الشمسية وح ّلل مدى تأثريها عىل شخصية اإلنسان.
• شاعر وصحفي من اليمن ،يقيم ويعمل يف صنعاء ،ومن بني إصداراته: حياة بالباب ،ارتباك الغريب ،ودون أن ينتبه لذلك أحد.
.9ياسني الزبيدي
.10دميا الشكر
• ناقدة من سوريا تقيم يف دمشق.
.11تحسني الخطيب
• شاعر ومرتجم من فلسطني ،صدر له يف حقل الرتجمة :الجذور الثقافية لإلسالموية األمريكية ،والعامل ال ينتهي.
.12نور الدين بالطيب
• شاعر من فلسطني ،صدر له :هروبا من الشعر ،حني أمسك بالفرح ،وأرمل السكينة. • شاعر ومرتجم من فلسطني ،يقيم يف آيسالند،
• صحايف سوداين يقيم يف أبوظبي
6
بيت الشعر
• كاتب وصحايف جزائري ،صدر له: بعيدا عن نجمة ،أعراس النار -قصة الراي ،وعربت املساء حافياً.
• ناقد من سوريا ،يقيم يف أبو ظبي، أصدر العديد من الكتب يف حقل النقد من بينها :األفق والصدى ـ دراسات يف الشعر السوري املعارص، الربيع األسود ،أرض األبد ّية ،وطائر بأكرث من جناح.
• شاعر وصحفي من تونس ،يقيم ويعمل يف العاصمة التونسية.
.7مازن معروف
.14سعيد خطيبي
.13الفاضل أبو عاقلة
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
.15يوسف عبد العزيز
.16أحمد السالمي
.17عبد الزهرة زيك
• شاعر عراقي يقيم يف بغداد ،صدر له العديد من املجموعات الشعرية منها كتاب الفردوس ،رشيط صامت، وطغراء النور واملاء.
.18عزة حسني
• شاعرة وصحافية مرصية تقيم يف القاهرة.
.19خليل صويلح
• روايئ وصحايف سوري يقيم يف دمشق ،صدرت له عدة روايات، منها :وراق الحب ،دع عنك لومي،
وبريد عاجل.
.20خالد بلقاسم
ناقد من املغرب ،من بني ما صدر له يف حقل النقد :أدونيس والخطاب الصويف ،الكتابة والتصوف عند ابن عريب ،والكتابة وإعادة الكتابة يف الشعر املغريب املعارص.
وفي الشعر
-21حمدة خميس (اإلمارات) -22محمد الغزي (تونس) -23محمد الربييك (اإلمارات) -24ع ّياش يحياوي (الجزائر) -25زينب الربيعي (العراق) -26عبد الغني فوزي (املغرب) -27حسام الدين محمد (سوريا) -28مريم رشيف (فلسطني) -29محمد اليف (فلسطني) -30أحمد العرامي (اليمن) -31عيل الزهريي (األردن) -32يارس األطرش (سوريا) -33حبيب الزيودي (األردن)
االفتتاحية
اإلبداع وإدارة الحياة
يخرج
من بيته يف الصباح الباكر متجها إىل عمله ،سالكا أقرص الطرق يك ال يتأخر عن الدوام الرسمي ،لكن أقرص الطرق هذه ال تكون دامئا أكرث الطرق سالسة ،حيث أن الزحام الصباحي ولهاث السيارات وهي تنئ يف الشارع ُتلقي به يف خضم القلق واالحتقان النفيس ليصل يف النهاية إىل بوابة العمل مثقال مبشقة الطريق ومذعنا لعصا ساعته اليدوية التي تقول له :لقد تأخرت ربع ساعة هذا الصباح ،منتظرا صوت مسؤوله األجش الذي سوف يباغته بعد قليل بجملة تعب من سامعها كل يوم :ما هذا اإلهامل؟ يحدث كل ذلك قبل أن يبارش عمله ،حيث انعدام النظام وتفيش جميع الظواهر السلبية يف بيئة العمل الرشقية .يقيض يومه يف مامرسة الروتني البائس ليعود إىل بيته سالكا ذات الشارع القصري الطويل ،وجل ما يشغل باله :لقمة سائغة وساعتان يف الفراش نادرا ما تكونان كفيلتني بامتصاص ما يرشح من دماغه من قلق وتوتر ومن جسده من إرهاق وإجهاد .ثم يسأله الصحفي اللئيم بعد ذلك :ما رس قلة إنتاجك الشعري أيها الشاعر؟ أو ملاذا كل هذا التوتر والقلق املسيطر عىل جل قصائدك؟ أو ملاذا ال يحرص الشعراء عىل حضور الفعاليات الثقافية املقامة يف األندية والجمعيات الثقافية يف الفرتات املسائية؟ هذا هو حال الشاعر العريب وهذه هي حياته اليومية .ويتساءل صحفي آخر يف تحقيق حول ظاهرة انعدام الصف الثاين من الشعراء الصغار أو تقاعسهم عن اللحاق باملسرية الشعرية يف الوطن؟ لقد أصبحت الحياة قاسية عىل اإلنسان العادي املستسلم للبريوقراطية اليومية فكيف بالشاعر النزق املتمرد عىل املعتاد والرتيب والنمطي بطبيعته؟ وهذا ما يدفع الكثري من الشعراء إىل البعد عن الشعر الخالص واللجوء إىل ما يشبه ردات الفعل الشعرية انتقاما مام يعانونه ألنهم ال يجدون وسيلة أخرى للتنفيس أو الرتويح عن أنفسهم ليأيت ذلك كله عىل حساب الشعر وعىل حساب اإلبداع املرتجى .أما من استطاع من الشعراء التغلب عىل هذه املعاناة فهم قلة قليلة حباها الله قسطا أكرب من سعة الصدر والطاقة جعلتهم يقفزون عىل هذه املعاناة أو يحتالون عليها بوسائل محتلفة منها :املعالجة النفسية الذاتية عرب إقناع النفس بأن الشعر للحياة بينام العمل للعيش فقط والحياة أمثن من مجرد العيش .أو عن طريق استخدام السياسة يف التعامل مع بيئات العمل الصعبة وإدارة األزمات الخارجة عن إطار املنطق ،وذلك يحتاج إىل ثقافة من نوع جديد ليس لها عالقة بالشعر واألدب بل باإلدارة وعلم النفس اإلداري .الحياة الحديثة تحتاج إىل طاقة جبارة للتعايش معها أو التحايل عليها لضامن االستمرارية يف العمل واإلبداع يف آن واحد. فالشاعر الذي يضع نصب عينيه الشعر املتميز متجاهال باقي جوانب الحياة مبراراتها الكثرية يسقط يف امتحان الحياة حتام، والشاعر الذي يجعل همه مركزا يف العمل الروتيني من أجل لقمة العيش والحياة الكرمية فقط يسقط يف امتحان الشعر .لذا أرى أن الشاعر الناجح هو من ينال الحسنيني عن طريق استخدام قدراته اإلبداعية وليس الشعرية إلدارة الحياة والخروج بأجمل القصائد يف آن واحد
رئيس التحرير
7
كاريكاتير عنوان املجموعة الأخرية لل�شاعر ح�سن عبد اهلل «ظل الوردة»
8
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
شعر وشعراء
بدءا حبيب الصايغ
من
تكريم الشعراء املرصيني الفائزين بجائزة الدولة ،إىل االوملبياد الثقايف يف لندن ،واستعادة نزار قباين يف مهرجانات «بيبلوس للغناء» ،حراك شعري عريب يتواصل صيفا ،ويف اكرث من مكان .فالقاهرة التي ماتزال تعيش عىل وقع ثورة يناير مل تنس تكريم شعرائها محمد ابراهيم ابو سنة،حسن طلب ،محمد منصور ،ومحمد حسني توفيق .وعىل الضفة األخرى يف لندن كان للشعر العريب حضوراً الفتاً من خالل املشاركة يف «االوملبياد الثقايف» ،الذي اقيم عىل هامش االلعاب االولومبية .حضور مل يخل من النقد بسبب معايري اختيار املشاركني العرب ،الذين باتت وجوههم تتكرر يف غالبية املهرجانات العربية والدولية. نزار قباين الشاعر الذي رحل منذ 13سنة ،كان نج ًام يف مهرجانات «بيبلوس» اللبنانية من خالل صوت املطرب كاظم الساهر ،حيث لعبت ادارة املهرجان ورقة القصيدة املغناة ليك تستعيد الجمهور املعتكف ،ونجح رهانها. ويف االصدرارت الجديدة ،باقة كبرية من املجموعات والدراسات والرتجامت الشعرية .أدونيس بالعربية يف ترجمة كاملة ل «فهرس العامل الريح» باالضافة إىل دراسة مستفيظة حول شعره وحياته .ومجموعة جديدة للشاعرة االماراتية حمدة خميس. جمهور الشعر يف بريوت احتفل مؤخراً باصدار «ظل الوردة» للشاعر حسن عبد الله .وقد اعترب األمر حدثا ،فالشاعر الذي كان االبرز من بني شعراء الجنوب يف السبعينات والثامنينات ،اتجه منذ حوايل 15سنة للكتابة لالطفال فقط التحرير
تجربة حبيب الصايغ في بيت الشعر بالشارقة كان الشاعر حبيب الصايغ يف الشهر املايض محل احتفاء بيت الشعر يف الشارقة ،وذلك مبناسبة صدور األعامل الشعرية للصايغ ،حديثاً ،عن اتحاد كتاب وأدباء اإلمارات يف جزءين .قرأ الصايغ يف األمسية العديد من قصائده ،ثم تال ذلك حفل توقيع األعامل الشعرية .وجاءت الفعالية مسبوقة مبقاربة نقدية قدّمها د .هيثم الخواجة (سوريا) تحت عنوان« :الشاعر حبيب الصايغ :حداثة متجددة ورؤية شمولية» ،تلمس خاللها جامليات القصيدة لدى الصايغ شك ًال (العمودي والتفعيلة والنرث) ومضموناً ،فرصد أشكال االبتكار يف أطر ومضامني قصيدته ،مؤكداً أن الصايغ يقدم نصاً حداثياً يخاطب الحارض واملستقبل ،ويطرح أسئلته االستفزازية عرب مصداقية واضحة .أيضاً ،توقف الخواجة عند رؤية الصايغ الشعرية ،والبنيتني الداللية والفنية يف قصائده ،مس ّلطا الضوء عىل عالقة الشاعر باملكان ،خورفكان ،شجرة الروال ،واألصدقاء كالراحل أحمد راشد ثاين، مث ًال ال حرصاً. ويف نهاية محارضته ،أ ّكد أن الصايغ يستخدم ثنائيات ضدية ،وأخرى متجانسة ،مثل: الحياة -املوت ،الحب-الود ،الصدق -الوفاء ،ما مينح النص تو ّتراً دامئاً ،فض ًال عن الوعي الزمني الذي يبدو عىل نحو جيل من خالل استخدامات الجمل االسمية والفعلية ،مبا يتضمن أزمنة عدة ،هي زمان الكتابة ،وزمان النص ،وزمان القراءة.
ثقافة أبوظبي تصدر «المعلقات» يف إطار سلسلة أدبية جديدة تحمل العنوان« :ديوان العرب» ،بارشت هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة مؤخرا بإصدارات سالسل فرعية من الشعر تختص ّ كل منها مبجموعة من املجموعات الشعرية املشهورة ،كانت باكورتها سلسلة املعلقات حيث أصدرت معلقتي امرئ العريب الكالسييك ّ القيس وعنرتة بن شدّاد يف كتابني بالحجم الذي يعرف بحجم الجيب .وعن أسباب اختيار البدء باملعلقات تحديدا ،قال بيان صدر عن الهيئة: «نظراً ألهميتها ومكانتها ورمزيتها األدبية ال ّدالة عىل منزلة الشعر عند العرب» .وجاء يف تقديم دار الكتب الوطنية يف هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة :لقد ُشغفت العرب عرب تاريخها الطويل بالشعر ،الذي كان مصدراً للمعرفة ،ومورداً للثقافة ،ومستودعاً للفكر ،كام آمنت ّأن الشعر هو وعاء التجارب والحكمة ،وديوان املعارف والعلوم ،ولذا شاعت مقولة« :الشعر ديوان العرب». ومن املعروف منذ الدرس النقدي العريب القديم أن الشعر الجاهيل يص ّور حياة العرب يف الجاهلية أصدق تصوير ،ويعبرّ عن مكنونات نفوسهم وخلجاتهم ّ أدق تعبري ،ألنه شعر الفطرة البعيدة عن التكلف والتصنع .وال يزال هذا الشعر – عىل تقادم العهد بقائليه – ينبض بالحياة ،ويعود ّ غضا طر ّياً كلام ردّدته األلسن. 9
شعر وشعراء
شعر صالح حسن في جامعة تيلبيرخ
وليد القوتلي يُمسرح األيام السبعة
ابتداء من شهر أكتوبر القادم ستقوم جامعة تيلبريخ الهولندية العريقة بتدريس قصائد للشاعر العراقي صالح حسن املرتجم إىل الهولندية يف كلياتها .وأقام الشاعر يف هولندا أكرث من عقد من الزمن وصدرت له أربعة دواوين شعرية باللغة الهولندية ،كام فاز خالل هذه الفرتة بثالث جوائز شعرية، من بينها «جائزة دنيا» التي حصل عليها مرتني يف العامني 1996 و .1998وكان أول من استحق هذه الجائزة الشاعر اإلسباين روفائيل الربيت صاحب الغابة الحجرية. ً وكان الشاعر صالح حسن فاعال يف املشهد الثقايف طيلة فرتة إقامته يف هولندا ،وشارك يف أغلب املهرجانات الشعرية ،التي تقام هناك ،كام دعي إىل مهرجانات عاملية كثرية .للشاعر صالح حسن العديد من املؤلفات الشعرية واملرسحية يف ثالث لغات هي العربية والهولندية واإلسبانية، وقد فاز قبل فرتة قصرية بالجائزة األوىل ألدب الرحالت يف العراق ،يف مسابقة ناجي جواد الساعايت.
استضاف منتدى االثنني املرسحي الذي تنظمه إدارة املرسح بدائرة الثقافة واإلعالم بالشارقة «اإلمارات» الشهر املايض املخرج املرسحي وليد القوتيل (سوريا) يف حوار حول تجربته يف «مرسحة القصيدة» .واستهل قوتيل حديثه بالتعليق عىل عرض قصري عرب «الربوجكرت» ملرسحية «يف انتظار الربابرة» التي أخرجها ملهرجان القاهرة الدويل للمرسح التجريبي 2010عن نص للشاعر اليوناين كافافيس 1863ـ 1933 وعمد فيه إىل تكثيف البعد البرصي، حيث أوضح أنه توجه إىل الشعر عندما مل يجد نصاً مرسحياً يغريه باالشتغال، مشرياً إىل أن اختياراته من النصوص الشعرية استجابت دامئاً ألسئلة فنية وفكرية شغلته ،فهي رصينة من الناحية الجاملية ومؤثرة من الناحية الداللية. وكانت مرسحية «األيام السبعة للوقت» هي آخر األعامل التي أخرجها القوتيل جاءت عن قصيدة للشاعر نوري الجراح وقدمها يف إطار مهرجان «وطن يتفتح يف الحرية» الذي ُنظم مطلع الشهر املايض يف العاصمة القطرية .وعن هذه املرسحية قال« :كتب الجراح قصيدته خالل عام ،مرافقاً األحداث يف سوريا والقصيدة تصور ما يجري هناك بحس فني عال ومن دون وقوع يف الخطابية واملبارشة». ويؤكد القوتيل أن عىل كل فنان «أن يحدد موقفاً مام يحصل وأن يطرح رأيه برصاحة وبطريقته الخاصة» ،كام أشار إىل األبعاد الدرامية يف النصوص الشعرية التي ميرسحها موضحاً أنه ضد فكرة تقنني الفن.
أحمد عبد املعطي حجازي
تكريم الشعراء المصريين الحاصلين على جوائز الدولة ك ّرم متحف أحمد شوقى التابع لقطاع الفنون التشكيلية يف احتفالية كربى مساء الثاين عرش من الشهر املايض الشعراء الحاصلني عىل جوائز الدولة لهذا العام ،وهم محمد إبراهيم أبو سنة ،حسن طلب ،محمد منصور، ومحمد حسنى توفيق. تخلل الحفل قراءات للشعراء الفائزين ،كام قدم عدد من الشعراء والنقاد مداخالت وشهادات حول الفائزين، وكان للشاعر أحمد عبد املعطي حجازي النصيب األكرب من الكالم ،الذي اختار أن تكون شهادته عامة حول الشعراء الفائزين مؤكدا أن جميعهم يستحقون الجائزة، ولكنه اسقط من حسابه الشاعر األخري ،وفرس األمر لكونه يكتب بالعامية .وقال حجازي« :أنا الليلة مستمتع ،معتز باالستامع للشعراء األربعة الذين يقدمون ليس فقط قصائد رائعة ،ولكن تاريخا من الشعر» .وأشار حجازي إىل أن أبو سنة يقدم لنا جيله أكمله( ،جيل الستينيات) الذي رسخ ماقدمه جيل الخمسينيات ،و«حسن طلب» الذي ظهر يف السبعينيات يقاوم التيار .وبعد أن هاجم قصيدة النرث ،اعترب أن طلب مل يحافظ عىل اللغة التي ورثها من جيل الستينيات والخمسينيات فحسب ،بل أضاف إليها وج ّملها ،ومل يبتعد عن الواقع أيضا ،ومل تأخذه الزينة لخارج الواقع ،فشعره ال يتجمل ونجده يف كل حاالت التجمل ،طبيعيا ال يتكلف وال يتصنع .أما عن الشاعر محمد منصور ،فقال حجازي« :مفاجأة ألن هذا الشاعر الذي ينتمي لهذا الجيل الذي كنا نرتاب أن يستطيع التواصل ،ألن اللغة ترتاجع ،وعالقتنا بها تتدهور ،وألن مؤسسات التعليم مل تعد مؤسسات تعليم ،وألن الشعراء مل يجدوا من يحتفي بهم قبل أن يسموا شعراء».
صالح حسن 10
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
«جرش» الشعري ..اختالف فانسحاب
شعراء عرب في اولمبياد الشعر بلندن عىل هامش األلعاب االولومبية (اوملبياد) التي تستضيفها العاصمة الربيطانية من 27يوليو املايض وحتى 12من اغسطس الحايل ،شاركت كوكبة من الشعراء العرب يف اسبوع شعري اقيم يف االسبوع األول من الشهر املايض، ليمثل كافة الدول املتنافسة يف املسابقات الرياضية، ويعد اكرب تظاهرة شعرية دولية شهدتها بريطانيا .ومن بني قامئة الشعراء العرب:قاسم حداد (البحرين) ،امجد نارص (االردن) ،خالد مطاوع (ليبيا) ،سعدية مفرح (الكويت)،اشجان الهندي (السعودية) ،ظبية خميس (االمارات العربية املتحدة)،نبيلة الزبري (اليمن)،سعاد الكواري (قطر) ،زاهر الغافري (عامن)،صادق الريض (السودان)،رفيف زيادة (فلسطني) ،فينوس خوري غاتا (لبنان) ،امينة سعيد (تونس) ،واميان مرسال (مرص). قرأ يف املهرجان قرابة 204من الشعراء الذين ميثلون كافة الدول املشاركة يف االلعاب الرياضية،وتليت فيه قصائد تطرقت لقضايا تهم الوضع البرشي الراهن بحوايل خمسني لغة مختلفة .واعتمد املهرجان الطريقة ذاتها التي استخدمها مهرجان «مطر الشعر» ،الذي اقيم يف والية اريزونا االمريكية بكتابة قصائد الشعراء عىل قصاصات ورقية تلقيها طائرات من الجو. ومن الالفت ان قامئة الشعراء العرب املشاركني حظيت بقدر من النقاش حولها ألسباب عدة،منها طريقة اختيارهم،وشكك شعراء عرب يف معايري استنساب املشاركني ،التي مل تخرج عن األساليب املعتادة يف املهرجانات العربية والدولية،والتي تعتمد عىل الشللية واملنافع املتبادلة.والحظ هؤالء ان مجموعة بعينها تشارك دامئا يف غالبية املهرجانات العربية الدولية،وهي ال تتغري إال يف حدود ضيقة،وخصوصا يف بريطانيا،التي تتم يف الدرجة األوىل بناء عىل ترشيحات جهة واحدة معتمدة لدى االوساط الربيطانية
أقام مركز سلطان بن زايد للثقافة واإلعالم يف مقره بأبوظبي ندوة للشاعر واملرتجم د .شهاب غانم (اإلمارات) حملت العنوان «تجربتي يف ترجمة الشعر» ،وقدمه اإلعالمي حامد املعشني. تناول د .غانم يف الندوة بدايات ميله إىل ترجمة الشعر ،معترباً نفسه أنه مايزال هاوياً ال محرتفاً يدفعه إىل ذلك حبه العميق إىل الرتجمة، حيث قال« :أحب أن أترجم ما أحب ولست محرتفاً ،إذ أنني أحدد اختيارايت بنفيس» .ثم ليقرأ مناذج من شعر إليزابيث براوننج ود .هـ.
شهاب غانم
مل يخل مهرجان جرش للثقافة والفنون يف ش ّقه الشعري من خالفات وعتابات وصلت إىل ح ّد األخطاء التي من غري املمكن ألي إدارة مهام كانت حداثة عهدها بعملها أن تقوم بها .فقد أعلن منسق الربنامج الشاعر والروايئ مؤ ّيد العتييل ّأن رابطة الكتاب ّ توخت من شعراء املهرجان التن ّوع والتمثيل ضمن معيار الكفاءة واإلبداع ،مهتماّ ً بإبراز الشعراء املحليني والعرب يف توليفة الربنامج، غري أن ما حدث مل يرق للكثري من الشعراء األردنيني خاصة تلك األسامء التي مل يرق للجنة االختيار ضمها إىل قامئة املشاركني ألسباب ُيعتقد أنها غري فنية باملطلق. هذه الحساسية من االختيار انتقلت إىل مواقع التواصل االجتامعي وخاصة الفيسبوك ،فتجادل عدد من الشعراء حول أسباب االستبعاد، وكذلك حول أسباب ذكر عدد من الشعراء بدون استشارتهم أو توجيه الدعوة إليهم ،رغم أنهم يقيمون يف عماّ ن ما أدى إىل إعالن انسحابهم من املشاركة قبل أن تحدث .األمر ذاته أيضاً ينطبق عىل الشعراء العرب املدعوين.
شهاب غانم وترجمة الشعر
لورنس وكاماال ثريا الذي قام برتجمته، ومام جاء يف ورقته« :ومع أنني كنت أسمع أن الشعر ال يرتجم فقد آمنت بإمكانية ترجمة بعض الشعر ترجمة شعرية جميلة لكن ترجامت الشاعر اإلنجليزي الفكتوري إدوارد فتزجرالد لرباعيات عمر الخيام ،وهي ترجمة فاتنة ،كانت السبب الرئييس النتشار ترجامت الخيام إىل لغات أوروبية عديدة».
محمد اليف 11
شعر وشعراء
مهرجان الشعر المغربي في شفشاون
محمد عفيفي مطر ..ما زال الشاعر غائب ًا
صادف الثامن والعرشون من يونيو املايض الذكرى الثانية لرحيل الشاعر محمد عفيفي مطر ،أحد أبرز الشعراء العرب منذ سبعينيات القرن املايض .غري أن هذه الذكرى تزامنت مع أول استحقاق رئايس يف مرصّ ، فظل عفيفي يف ذكراه من دون أن يتذكره أحد ،كأنه مازال يدفع مثن معارضته النظام السابق. سجل شهادة شعرية غاضبة، لقد َّ يف ديوانه «احتفاليات املومياء املتوحشة» ،عىل مواجهة القمع الذي يصنعه االختالف يف الرأي والتوجه ،فألقت به حكومة مبارك إىل السجن ،وأذاقته صنوف العذاب خالل اعتقاله ،ليخرج من املعتقل بعالمة واضحة للتعذيب يف عظمة أنفه ،الزمته خالل الفرتة الباقية من عمره .وخرج أيضاً بديوان حشد فيه كل ما ملك من مقدرة شعرية .ومل تكن تجربة السجن األخرية يف حياة عفيفي مطر إال تتويجاً لسنوات من االختالف مع السلطة. والحال ،أن مطر كان دامئاً يغرد منفرداً ،ولعل هذا التفرد هو ما ضاعف من فداحة الثمن العاجل الذي دفعه ،غري أن املوت حسم األمر لصالح تفرده .فعفيفي مطر الذي طبع معظم أعامله الشعرية خارج مرص مل يطبع فيها إال متأخراً، وتولت دور نرش خاصة هذا األمر، ما جعل الحصول عىل نسخة من أعامله حدثاً يستحق االلتفات والقراءة. 12
بيت الشعر
نزار قباين
نزار قباني نجم مهرجانات بيبلوس اللبنانية
اختارت مهرجانات بيبلوس اللبنانية وسيلة ناجحة الجتذاب جامهري اضافية يف البلد ،الذي يعاين عزوفا عن املهرجانات الصيفية بسب التوتر السيايس واالمني، واملشاكل الناجمة عن انقطاع التيار الكهربايئ .ولجأت ادارة املهرجان إىل تسويق شعر الشاعر نزار قباين بعد 13سنة عىل رحيله ،من خالل صوت املطرب العراقي كاظم الساهر الذي سبق له ان غنى لقباين ،وحصد نجاحا وشهرة ،حني أدى يف بداياته الفنية قصائد شهرية لنزار مثل «زيديني عشقا زيديني»« ،اين خريتك فاختاري» و«علمني حبك سيديت أسوأ عادات». ادارة مهرجانات بيبلوس الواقعة عىل مرفأ جبيل خصصت حفال خاصا لتكريم الشاعر ،مستفيدة من استضافة كاظم الساهر ،الذي وقع عىل تذكرة الدخول عبارة« :ألنني احبكم اغني نزار» .والالفت ان الجمهور تجاوب مع الساهر رغم الظروف الصعبة ،وتأخره يف الظهور عىل خشبة املرسح .ولكن الساهر كان كرميا مع الجمهور الذي تجاوز عرشين الفا ،حيث أضاف لسجله النزاري قصيدة جديدة لحنها وغناها للمناسبة تقول كلامتها «لو مل تكوين انت يف حيايت ..كنت اخرتعت امرأة مثلك ياحبيبتي ..قامتها كالسيف ..وعينها صافية مثل سامء الصيف». مل يغن أحد شعر نزار قباين كام كاظم الساهر ،وكانت حفلة بيبلوس مساء الرابع عرش من يوليو املايض برهانا عىل قدرة الشعر عىل اسقاط الحواجز واعادة الناس اىل جوهر ثقافتهم ولغتهم ،فالشاعر قباين سوري واملغني عراقي ،والقصائد بالفصحى والجمهور خليط من عدة بلدان عربية
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
أقامت جمعية أصدقاء املعتمد الشهر املايض يف مدينة شفشاون (املغرب) الدورة 27للمهرجان الوطني للشعر املغريب الحديث ،الذي تأسس منذ بداية الستينيات من القرن املايض ،حيث اختري لهذه الدورة محور« :التجربة الشعرية عند محمد امليموين» ،أحد رواد القصيدة املغربية. ولوحظ عىل هذه الدورة أن املهرجان يستضيف ألول مرة شعراء يكتبون باألمازيغية وينحدرون من الريف
عبد الكريم الط ّبال
الغريب ،هذا إىل جانب استضافة جمعية أصدقاء املعتمد لشعراء مغاربيني من تونس والجزائر ،كام أفردت مساحة مهمة للشعراء الشباب واألسامء الجديدة. من بني الشعراء الذين شاركوا يف املهرجان :عبد الكريم الطبال ،بوزيد حرز الله ،محمد امليموين ،وفاء العمراين، املهدي أخريف ،حسن الوزاين ،محمود عبدالغني ،خالد الريسوين ،صباح الديب ،ادريس علوش ،يحيى عامرة، عبدالرحيم فوزي ،محمد عنيبة الحمري، أمينة املريني ،فاطمة بنمحمود ،أحمد بنميمون ،ياسني عدنان ،رجاء الطالبي، محمد بودويك ،الزبري الخياط.
وليم بليك مقروء ًا في اإلسكندرية
سوزان عليوان ..ديوان جديد ونشر إلكتروني
هل سيكون عامل النرش االفرتايض «اإلنرتنت ،ومواقع النرش املتخصصة» بدي ًال للشعر عن النرش الورقي؟ هذا السؤال بات يرتدد كثرياً خاصة وأن شعراء لهم تجارب الفتة يف راهن الشعر العريب باتوا ينرشون أعاملهم يف مواقعهم اإللكرتونية قبل طباعتها ورقياً. ومناسبة هذا السؤال ما أقدمت عليه مؤخراً الشاعرة سوزان عليوان (لبنان) يف موقعها اإللكرتوين حيث أقدمت عىل نرش مس ّودة ديوانها الجديد «معطف ع ّلق حياته عليك» الذي هو قيد الطباعة،
أشعار سيد قطب ..سجال سياسي
سوزان عليوان
وليم بليك
وسط توقعات بأن تثري إشكاليات وسجاالت سياسية ،صدرت مؤخراً يف القاهرة عن «مركز األهرام للرتجمة والنرش»، األعامل الشعرية الكاملة لسيد قطب يف 450صفحة بتحقيق وتقديم -الباحث عيل عبدالرحمن .وقطب الذي أعدم يفالعام 1966يعترب أحد أبرز رموز حركة اإلخوان املسلمني، واتسمت حياته بانتقادات حادة بدأت من الرهان عليه كناقد أديب واعد يتمثل بعباس محمود العقاد ،لكنه انضم يف سنواته األخرية إىل الجامعة .وتكشف أشعار قطب وجهاً آخر له عىل خالف وجوهه املعروفة يف النقد األديب والدراسات القرآنية، وهو وجه الشاعر الذي سعى إىل إبرازه يف بداياته. رمبا ألنها تو ّد أن تتيح أفقاً جديداً كانت غالبية القصائد نرشت يف دوريات أدبية مل يعد ملعظمها لقراء شعرها أمام القارئُ ،مرفق ًة وجود يف األرشيفات املرصية التي اضطرت إىل حذف كل املس ّودة بصور ل ّلوحات التي ارتباط بينها وبني قطب منذ إعدامه .ويوثق الكتاب لقصائد سترُ افق القصائد يف الكتاب ا ُملرت َقب، بدأ قطب نرشها يف العام 1924نهاية بقصيدته «أخي» وتحت كل لوحة عنوان -جملة التي كتبها قبيل إعدامه وقد رتبها الباحث بحسب تواريخها أو صورة شعرية ،مستقلة يف حد ذاتها .ترفض الشاعرة طباعة ُكتبها ملعرفة األطوار الفكرية التي م ّر بها وقياس املسافة ما بني رص عىل كتاب «مهمة الشاعر يف الحياة» وكتابه اإلشكايل «معامل عىل يف دور النرش التقليدية ،و ُت ّ الطباعة الخاصة والنرش اإللكرتوين الطريق». عىل املوقع ،معتزل ًة رْ نش أي جديد وتضم األعامل الشعرية ديوان «الشاطئ املجهول» الذي ً من قصائدها يف الصحف ،معلنة صدر يف العام 1935ومل يطبع منذ ذلك الحني حتى صار القطيعة إال من التواصل الح ّر مع مجهوالً ،وال يوجد منه بحسب مقدمة الكتاب سوى نسختني، ُق ّرائها ،وبضغطة ز ّر بسيطة يمُ كن إحداهام يف الجامعة األمريكية يف القاهرة واألخرى يف جامعة أليٍّ كان أن يزور موقع سوزان لندن ،كام تضم الطبعة الجديدة 35قصيدة مل تنرش من قبل عليوان ،ومرسمها: suzanne-alaywan.comيف أعامل قطب الشعرية
نظمت مكتبة اإلسكندرية جلستها الشهرية للقراءة الشعرية باللغة اإلنجليزية ،حيث قام مشاركون بقراءة مختارات من الشعر الرومانيس للشاعر والرسام االنجليزي وليم بليك ،الذي مل يكن معرتفاً به إىل حد كبري يف حياته، بليك يعترب اآلن الشخصية البارزة يف تاريخ كل من الشعر والفنون البرصية يف العرص الرومانيس. وبحسب إدارة املكتبة ،فقد جاء تنظيم هذه القراءات بشكل دوري عقب النجاح الذي حققته جلسات القراءة املرسحية من ناحية ،ومالحظة االهتامم املتزايد بالشعر من جانب الجمهور وزيادة استفساراته عن األنشطة األدبية من ناحية أخرى .وتهدف تلك الفعاليات إىل تعريف الجمهور باألعامل األدبية والشعرية املهمة يف قالب اجتامعي مشوق. وتقوم جلسات قراءة الشعر بالرتكيز بشكل أكرب عىل اإللقاء ،كام يتم تسليط الضوء عىل البيئة األدبية واالجتامعية التي نشأت فيها القصيدة. أقيمت الجلسة يف املكتبة الرئيسية بالطابق السفيل األول « ،»B1وتم التسجيل للمشاركة يف القراءة مبكتب االستعالمات الرئييس الكائن مبدخل املكتبة الرئيسية.
13
شعر وشعراء
ما
جماليات االنشقاق والتصوف والنسيان.. عن 3تجارب شعرية من تونس
الذي يراه الشاعر إذ ميارس دور ناقد؛ إذ يكون االثنان معا يف اآلن نفسه؟ ..بعني الشاعر املعروف محمد الغزّي هناك ثالث تجارب بحس شعرية من تونس ،رمبا مل نقرأ أياً من نتاجاتها الشعرية من قبل ،بل ورمبا مل نسمع بها أيضاً ،هنا يقدمها الشاعر -الناقد ٍّ صحفي مهني خاص وراقٍ أيضاً ،مبا يحقق هدفاً أساسياً هو واحد من األهداف التي نشأت من أجلها «بيت الشعر» ،أي أن تكون بيتاً آمناً لتجارب مختلفة ومتعددة املشارب واالتجاهات ،كام جاء يف افتتاحية عددها األول ،وناشطة باتجاه تفعيل واستيعاب مختلف التجارب القادمة من هذا «املخترب الشعري» أو ذاك ،هنا نو ّد أن نؤسس لتقليد جديد ،مع الشاعر -الناقد محمد الغزّي ،يتيح املامرسة الجادة والفعلية للنقد الشعري من دون انحياز تحديث التص ّوف
الكتاب :كامن البيت وشمعدانه الكاتب :حسني القهواجي النارش :كونرتاست املتوسط عدد الصفحات 64 :من القطع ّ
جماليّة االنشقاق
الكتاب :انشقاق المريئ الشاعر :املنذر العيني النارش :دار الرباق للطباعة املتوسط عدد الصفحات 114 :من القطع ّ
ضم مجموعة هذا الكتاب الشعري الذي ّ من قصائد النرث يع ّد امتداداً لكتب الشاعر السابقة :فاتحة ملدار الريح 2006وظالل هذه هي املجموعة التاسعة للشاعر حسني القهواجي ..وكام هو املسافة 2007وإيقاع الصدفة 2008وبيت املاء 2009فالشاعر ظلّ الحال بالنسبة إىل املجموعات السابقة تنهض هذه املجموعة عىل وف ّياً الستخدامه الصور السوريال ّية ّ يوظف إمكاناتها التخييل ّية الكبرية، اقتناص لحظات الوجود الهاربة يف شباك الكلامت مع ّولة عىل لغة وف ّياً لطريقته يف اسرتفاد قراءاته لفتح قصيدته عىل إمكانات تأويل ّية غنائ ّية ،ش ّفافة ،تذ ّكر ،يف الكثري من األحيان ،بلغة الهايكو الياباين الخاص من إيقاع النرث موظفا عنارص والقصائد الصوفية حيث متتزج التأ ّمالت الفكر ّية بالتباريح العاطفية :جديدة ،وف ّيا لتشكيل «إيقاعه» ّ ّ نغم ّية بعينها ...لكنّ تواتر هذه الخيوط التي تنظم هذه الكتب ال «ورقات لوز الشام تطايرت أنج ًام /ونديف ثلج بني السهول /هكذا جاء رباب صداقة /وأغنية تردّدها البنات /وحادي عربات الفصول» يعني تشابهها وتجانسهاّ ... فلكل كتاب «حالته» الشعر ّية ،وطقوسه اللغو ّية ،ونربته الفارقةّ .. أهم ما يش ّد االنتباه يف هذا الكتاب ولعل ّ فليس غريباً ،يف هذا السياق ،أن يحتفي الشاعر بعمر الخ ّيام ،وأن ّ تضم أسئلة الكائن يف األخري« :انشقاق ال مريئ» تداخل معجمني متباعدين ،ومتباينني: يقفو خطوه يف كتابة مجموعة من الرباع ّيات ّ ّ كل العصور من غري أن املعجم السوريايل؛ ومعجم التفاصيل .املعجم األ ّول سحب وراءه حفل الوجود ...وهي األسئلة التي تردّدت يف ّ صوراً عجائب ّية ،مغرقة يف عجائب ّيتها ،وأما املعجم الثاين فسحب وراءه تهرم أو تكرب أو متوت. ً واليومي .هذا اللقاء بني هذين الطرفني املتناقضني جعل املعيش لغة نمّ ّ لكنّ هذه املجموعة ال تحيل إىل الخيام فحسب وإ ا تحيل أيضا العيني أليفة وغريبة ،قريبة وبعيدة ،واضحة وغامضة، املنذر قصيدة ّي ت وجياكوم عىل هان شان حكيم شعراء الصني ،وإىل فرجيل الشاعر ّ تتأرجح ،إذا أخذنا بعبارة الشاعر ،بني املعنى والالمعنى« :الزنقة النحات وفلورا حاضنة آل باديس أمراء البالط الصنهاجي ومحمود ّ ّ درويش وخالد النجار ومحمد الرفرايف ...فقصيدة القهواجي أمنوذج تلك /الصادمة /بنواياها آخربوصلة /الخطو تلعق منه خطيفتي نباح للقصيدة املث ّقفة التي توظف مختلف التعبريات الثقافية وتح ّولها إىل السنوات الضوئ ّية /لتعود إىل أوطانهابذاكرة طفل ...عمري راح...يف عنرص مكني من عنارصها الشعر ّية الفاعلة. الغربة». يف هذه املجموعة تتضافر جامل ّيتان لتحقيق شاعر ّية ّ العيني عن أبناء جيله حتّى وإن بدا هذا النص :جامل ّية بهذه الطريقة ينشقّ املنذر ّ اإلخراج التي يوليها الشاعر ّ االنشقاق ال مرئ ّياً كل اهتاممه وشاعر ّية اللغة. 14
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
شواغل الشعر اإلماراتي في كتاب جديد الكتاب :الشعر اإلمارايت -قراءات يف املوضوع والفن الناقد :يوسف حطيني (فلسطني) النارش :دائرة الثقافة واإلعالم بالشارقة (اإلمارات) عدد الصفحات 400 :من القطع املتوسط
االحتفاء باألرض
الكتاب :عىل أرض ممكنة الشاعر :حافظ محفوظ النارش :األطلس ّية للنرش املتوسط القطع من عدد الصفحات123 : ّ
عمل الشاعر الحديث عىل اسرتفاد املايض مستدعياً نصوصه النص ورموزه وأقنعته محاوالً أن مي ّد األثر الحديث بق ّوة ّ وإبداعي القديم ...فاستدعاء الرتاث استدعاء ملخزون فكريّ ّ ميت ّد بعيداً يف الزمن ،استحضار لجملة من القيم مازالت إىل توجه حياتنا وتفكرينا ...فالرتاث ،بهذا املعنى ،ليس ّ كل اليوم ّ ّ النسيانكل ما ترك األسالف وإنمّ اهو ما تب ّقى بعد أن طوى يشء ...أي هوالثابت يف الداثر ،واملستم ّر يف املتح ّول... وقارئ مجموعة حافظ محفوظ يلحظ حضور األسطورة والرموز الدين ّية والنصوص التاريخ ّية يف نصوصه حضورا الفتاً..فقد باتت جزءاً من نسيج النص الشعريّ ،أص ًال مكيناً من أصوله ...لكنّ الشاعر مل يستعد الرتاث ،مل يستنسخه، او يق ّلده ،فذلك مماّ ين ّد عنه طبع الشعر وإنمّ ا تعامل معه بوصفه نواة معنو ّية ورمز ّية قابلة للتط ّور والتناسخ والتوالد، وهو يف هذا يختلف عن العديد من الشعراء املعارصين الذين تعاملوا مع الرتاث بوعي سكو ّين مكتفني باجتثاثه من سياقه القديم من غري أن يفتحوه عىل أفق دال ّيل جدي ًد محمد الغزّي
يف تقدميه القصري لكتابه ،يكتب يوسف حطيني« :مل يق ّيض للحركة األدبية يف الخليج أن تلقى اهتامماً مبكراً من قبل الدارسني ،ومل ينل شعراء هذه املنطقة حظاً وافراً من الدراسات كام الحال بالنسبة إىل شعراء مرشق الوطن العريب ومغربه» .وير ّد حطيني ذلك لتأخر ظهور الصحافة ووسائل اإلعالم يف الخليج «عىل أن غياب االهتامم الكايف بالشعر ال يعني غياب الشعر نفسه» يقول حطيني ،ويضيف« :إذ عرفت منطقة الخليج عدداً كبرياً من الشعراء الرواد الذين أسسوا لحركة الشعر الحديث وكانوا صلة الوصل بني شعراء الرتاث العريب وشعراء الحداثة الذين جاؤوا بعد هؤالء». ويتبنى حطيني تحقيباً لالتجاهات الشعرية يف اإلمارات، فثمة الرعيل األول من أمثال سامل بن عيل العويس وخلفان بن مصبح وإبراهيم املدفع ،ثم الرعيل املؤسس الذي رافق تأسيس الدولة من أمثال أحمد أمني املدين وهاشم املوسوي وحبيب الصايغ وصوالً إىل األسامء التي تجاوزت قصيدة التفعلية إىل قصيدة النرث مثل أحمد راشد ثاين وظبية خميس وعارف الخاجة ونجوم الغانم ،وليس انتهاء باملوجة الشعرية التي تلت هؤالء من أمثال صالحة غابش وإبراهيم املال والهنوف محمد. يف الصفحة التاسعة والخمسني بعد املئة يكتب حطيني تحت عنوان« :الشعر واملامرسة النقدية»« :وإذا نظر الناقد بتمعن إىل اآلثار التي ينتجها املبدعون فإنه واجد ـ من دون شك ـ كثرياً من اآلراء النقدية التي تؤطر إبداعهم وقد يجد مقوالت نقدية أو فكرية يقوم املبدعون بنسخها وتظهريها يف إبداعاتهم» ويستعرض حطيني هنا النصوص الشعرية التي تناولت «صنعة الشعر» أو قاربت «عالقة الشعر باملتلقي» 15
شعر وشعراء
قصيدة النثر ..بعين شعرية
هكذا أو العكس ..إعادة تركيب العناصر
الكتاب :مدخل إىل قصيدة النرث املؤلف :أنطون أيب زيد النارش :دار النهضة ( -بريوت)
الكتاب :هكذا أو العكس الشاعر :مؤيد الشيباين (اإلمارات) النارش :املؤسسة العربية للدراسات والنرش -بريوت
عدد الصفحات 120 :من القطع املتوسط
عدد الصفحات 160 :صفحة من القطع املتوسط
يتساءل أنطوان أبو زيد يف دراسته هذه :هل يجب عىل الناقد أن يكون ناقداً حديثاً أو ألسنياً أو سيميولوجياً؟ أيستدعي الكشف عن آليات الصنعة اللغوية لدى الشاعر ،ذي القصد البينّ يف اإلبداع، منهجية نقدية جديدة ،تتجاوز التأريخ واألبعاد النفسية واالجتامعية واملرجعية ،للنص الشعري ،إىل استنهاض بنيانه من رميم املعجم والرتاكيب وتوليف النص ،وتناص ّيتها ،وتوقيع الصور البيانية ،وإيقاعها؟ ومن تساؤالته هذه ،يفرتض أن الشاعر ،يف كل زمان ومكان ،قلام يتأمل يف صنيعه الشعري ،هذا إن توفر عىل قدرة نقدية ،تفيض عىل قدرته الخ ّالقة .ويفرتض استتباعاً أن الناقد وحده ُأعطي النظر يف خلق الشاعر .يعطي دلي ًال عىل كالمه ،فيقول إن أحداً من الشعراء القدامى، مل يؤلف كتاباً يف تحليل شعره. ويالحظ قارئ «مدخل إىل قصيدة النرث» بدراساته الثالث أن مثة ذكاء ممزوجاً بحساسية نقدية سبق للقارئ أن وجدها يف قصائد أنطوان أبو زيد الخاضعة لتقشف لغوي وكثافة تصويرية تجعل من صاحبها ناقدها األول .يقدم أبو زيد يف الدراسة األوىل مقاربة لقصيدة النرث لتجربتي بول شاوول وعباس بيضون .ويف الدراسة الثانية التي تحمل عنوان« :إبداعية قصيدة النرث» ،يخصص املؤلف بحثاً كام ًال لقراءة املستويات الداللية يف قصيدة «كفار باريس» لعباس بيضون ،أما الدراسة األخرية فحملت العنوان« :املعجم واإليقاع وال ِبنَى يف أعامل: وديع سعادة ،عبده وازن ،بسام حجار»
صوت العاطفة
الكتاب :حوارات مع ليوكو املؤلف :تشيزري بافيزي املرتجم :موىس الخمييس (العراق) النارش :هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة - مرشوع كلمة عدد الصفحات 180 :من القطع املتوسط
16
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
الشعر
هنا نتاج مخيلة العزلة ،بوصفها مكاناً يصلح للتذكر، فالشخص السارد يف القصيدة ،غالباً ما يظهر يف صيغة املتكلم ،يعيش ماضيه الخاص إذ يتأمل العامل من حوله ،غري أنه عامل بسيط أثثه الشاعر بأشياء اللغة وفكرته عن األشياء فبدا حزيناً بلمسة شفافة من روح الشاعر .أيضاً ّ يطل الشاعر عىل مكانه من عَلٍ ،ويراه كام ًال كام لو أنه لوحة أمامه يتأمل فيها وبوسعه أن يعيد تركيب عنارصها. أما الالفت يف مايض مؤيد الشيباين فهو أنه بال زمن أو تحقيب ،بل يف بعض القصائد يبدو مطلقاً أو غري مكرتث بجريان الزمن وكأن العمر قد م ّر به دفقة واحدة ،ليرتك الشاعر رهني العابر واليومي والزائل ورهني احتفائه بهذا املؤقت مثلام يسميه يف إحدى قصائد الكتاب: «يف املؤقت /يبقى الغريب رهني حقائبه ،ويؤجل نبضتَه القلب /يف املؤقت /مل يعرتض أحد من ضيوف املكان عىل ق ّلة امللح /يف املؤقت/ ال يشرتي العابرون كتاباً /وال يحملون املزيد من الحاجيات /وال يذهبون ألبع َد من أ ّول السوق /خشية أن يذهب الوقت من دونهم/ التوجس يف املؤقت /باب الحقيقة نصف /وإغامضة العني نصف /ونار ّ ٌّ كل ونصف /أيها الدائم املسرتيح هناك ُترى طعمك؟ كيف هو الصبح؟» أيضا ،يشعر القارئ بصوت ذلك املايض ،وكأن حنينا هو مصدر ذلك الصوت الذي يأيت خافتاً ويكاد يكون صمتاً
الشهر املايض أصدر مرشوع «كلمة للرتجمة» التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة ترجمة جديدة بعنوان «حوارات مع ليوكو» نقله إىل العربية موىس الخمييس. ُ ّ هذا الكتاب الذي ُنرش ألول مرة عام ،1947ثم أعيد نرشه يف العديد من املناسبات ،اعتربه صاحبه أهم عمل يغوص يف عمق األسطورةّ ، ليفك رموزها الساحرة .يتأ ّلف من خمسة وعرشين حواراً ،اتسمت لغتها بالسالسة والوضوح ،إنها حوارات متوهجة تأيت مبثابة الدعوة الشعرية ملناقشة العالقة بني اإلنسان والطبيعة ،اإلنسان ومصريه. يعترب الشاعر والروايئ اإليطايل الراحل تشيزري بافيزي « »1950 1908-أحد
مكتسبات طالئع شعرية
اقتفاء أثر شاعر
الكتاب :انحتني يف الضوء ليك ال تصاب لغتي بالدوار الشاعر :عبد القادر الجنايب (العراق) النارش :دار الغاوون -بريوت
الكتاب :شاعرة يف األندلس الشاعرة :ناتايل حنظل النارش :منشورات جامعة بيتسربغ
عدد الصفحات 165 :من القطع املتوسط
عدد الصفحات 144 :صفحة من القطع املتوسط
رمبا أن اإلفراط يف االنحياز لقصيدة النرث عىل نحو غري مسبوق هو ما طبع صورة خاصة لعبد القادر الجنايب يف املشهد الشعري عربياً؛ كام هي الحال متاماً عند النظر إىل جملة مواقفه وآرائه .ومع كل ديوان جديد يثري الجانبي من حوله عواصف كثرية ،هو الذي عرف باالستفزاز واملواقف النافرة .وهذه املرة يثري ديوانه الجديد الفضول، كونه توقف عن النرش منذ فرتة طويلة،األمر الذي عده البعض حالة من النضوب. ً يبدو الجنايب يف هذا الديوان مطال عىل مكتسبات الطالئع الشعرية والفنية األوروبية ووارثاً لها ،فمنذ وصوله إىل باريس عام 1972تقرب وتصادق مع أبرز وجوه الحركة السوريالية .ورصف جهده الرئييس يف الرتويج للحركة السوريالية من خالل مجلتي «فراديس» و«الرغبة اإلباحية» ،كام انه اشتغل عىل تقديم «قصيدة النرث األوروبية منذ بودلري» يف كتاب مرجعي مهم معزز برتجامت لكبار شعرائها ،مثل بودلري وفالريي وشار. ويظهر الشاعر من خالل نصوصه الحديثة كام عرفناه دامئاً ،أي إنساناً يسعى باستمرار إىل تجاوز نفسه ويستمد من الالنهايئ املفتوح أمامنا سبباً الندفاعه ،مستعيناً يف ذلك مبخيل ٍة جامحة وأحالم ليله ونهاره وذاكرة صورية لألشياء أبرز الشعراء اإليطاليني املعارصين ،لتأثريه البارز عىل حركة الشعر الحديث الذي يعده بعضهم خالصة لكافة الحركات التي سبقته، وطليعة متم ّيزة ملن أتوا بعده ،فقد صيرّ بافيزي فكرة املوت ،يف ّ كل نتاجاته الروائية والشعرية ،معادالً للحياة ،عاكساً من خاللها سؤال الوجود املؤرق لإلنسان. ا ّتسم شعر بافيزي بالغنائية الحزينة ،التي تقوم عىل مزيج من اإليقاع ،خارجي متم ّثل ببناء الحكاية وأسلوب عرضها ،وداخيل ّ متجل يف صوت العاطفة املفجع .كام تتّصف معظم قصائد الشاعر بالقصصية
يف هذا الديوان تقتفي الشاعرة التشيلية من أصل فلسطيني ،ناتايل حنظل خطى الشاعر غارسيا لوركا، وإرث األندلسيني يف غنائيته وشفافيته ور ّقته ،يف رحلة تبدأها من نيويورك باتجاه األندلس ،وليس العكس كام فعل لوركا العام ،1929حني زار مدينة نيويورك ومكث فيها لتسعة أشهر، وكتب خاللها ديوانه الشهري «شاعر يف نيويورك» ،الذي رأى النور بعد مقتله يف الحرب األهلية اإلسبانية. تأيت حنظل وتتلقف عنواناً مامث ًال لديوانها ،وتنسج رحلة موازية لرحلة لوركا ،يف محاكاة تكاملية أو موازية ،لرؤيا الشاعر اإلسباين. ميكث لوركا يف مدينة مانهاتن بني عامي ،1930 1929-وينرش قصائده عن املدينة يف ديوانه الذي ُنرش عام .1940هنا ،وبعد مرور أكرث من مثانني عاماً ،تذهب الشاعرة حنظل من نيويورك إىل إسبانيا، يف رحلة عكسية ،لتكتب قصائد ديوانها «شاعرة يف األندلس» ،التي تحمل الكثري من رجع الصدى األندليس ،أسلوباً ومجازاً ورؤى ،كتلك التي ال نخطئها يف صوت لوركا وروحه .وكام وصف لوركا شوارع نيويورك وضفاف نهر هدسون الذي يحيط بجزيرة مانهاتن كالسوار، ترسد الشاعرة تفاصيل رحلتها إىل األندلس ،وتصف شوارع وتالل وقالع قرطبة وإشبيلية وغرناطة ،وسواها من املدن والقرى والبلدات. وكام تشري الشاعرة األمريكية أليس ووكر يف كلمة لها تذ ّيل غالف الديوان فإن قصائد حنظل تحمل عمقاً وثق ًال ألن هاجسها هو الحنني األبدي لجنّتها املفقودة .صو ُتها محيرّ ٌ ألنه مي ّثل إيقاع حياتها املتن ّقلة أبداً ،وهو الصوت الكوزموبوليتي ،العابر للتخوم ،املنتمي إىل العائلة اإلنسانية .وحنظل يف ديوانها تنجح يف استعادة تلك الروح اإلنسانية تغنى بها لوركا يف شعره ،وترم ُز إليها األندلس بوصفها حاضناً التي ّ حضارياً فريداً ألكرث من ثقافة ،ونقطة التقاء قصوى بني الغرب والرشق 17
شعر وشعراء
القصيدة والن َ فس الدرامي
أدونيس إلى العبرية
الكتاب :الذين ال تحبهم الشاعر :عزيز أزغاي (املغرب) النارش :منشورات فراند
عدد الصفحات 96 :من القطع املتوسط
الكتاب :فهرس ألعامل الريح الشاعر :أدونيس النارش :دار كشب للشعر -تل أبيب
عدد الصفحات 90 :من القطع املتوسط
املتأمل يف الكتاب يالحظ حضور الذات الالفت عرب أفعال لها إحاالتها عىل اليومي والحميمي ،الشخيص والخاص ،فتبدو كل قصيدة مشهدا ً عىل صلة قوية بوقائعية الذات التي تسعى إىل ردم الهوة بني األنا الواقعية واملتخيلة .يف هذا الصدد ،تم تحرير النص الشعري من املناسبة واالحتفال ،وغدا كمنديل خلفي ميتص اليومي والتفاصيل، ويوغل بها عرب طلقات الداخل يف الذات .وباألخص هنا يف هذه املجموعة ـ قيد التناول ـ التأمل والغنائية املتشظية. النص الشعري يف هذه املجموعة ،ال يسوق اليومي بشكل بارد خال من األعصاب «الشعرية»؛ بل تنطلق رضبات الداخل كتأمل وإحساس ورغبة ابتداء من الكلامت التي تتخذ حموالت أخرى؛ إىل الجملة التي ليست غاية يف حد ذاتها ،بل وسيلة ،لبناء الصورة .وهذه األخرية تتوالد ضمن تراسل الحواس صعودا ً ونزوالً يف نفَس درامي. الوصف يف ديوان «الذين ال تحبهم» يأيت كصفات عىل قدر من االرتعاش ،أي صفات ضمن حركة شعرية يف إطار .وبالتايل فهو وصف ال يخدم نتائج معينة؛ بل يندمج مع رسد شعري منكرس خال من العلية ومنطق التابع الحكايئ .وهو ما يثبت أن القصيدة يف هذه املجموعة تنطرح كحافة حادة عىل هوامش األشياء ،هي حافة الذات التي تحيك سريتها ،لتغدو مباحة أو كذات أخرى .وبالتايل فكلام مرت يد الداخل عىل يشء أردته ذاتاً وجسدا ً: «ليس عىل ما يرام /،دقات قلبه صارت تسبقه /كل ليلة /إىل ضاحية القلق /.أصابعه مل تعد متلك /الدربة الكافية /عىل ترطيب الهواء /،ويف كل خطوة /صارت له كسور يف املمىش». عزيز أزغاي واحد من الشعراء الجادين ،راكم تجربة شعرية تحققت عرب مجاميعه :ال أحد يف النافذة ،كؤوس ال تشبه الهندسة ،رصاص املوناليزا ،يليه ،أكرب من قميص ،مجاميع لها رهاناتها الجاملية التي تهدف إىل خصوصية نوعية ،بدت مالمحها اللغوية والتخييلية تظهر بوضوح .وأكيد أن للشاعر عزيز ـ نظرا ً لحسه الجاميل الرفيع وقلقه املالزم ـ وعياً بجغرافيته الشعرية ضمن نغمة الفقد املتجددة .وتلك هي بالغة شعراء األمل اإلنساين 18
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
ترجم الكتاب الربوفيسور رؤوبني سنري عميد كلية اآلداب يف جامعة حيفا وهو أستاذ للغة العربية وآدابها الذي سبق ونرش دراسات عن أدونيس بلغات أخرى. مفصلة وواسعة عن حياة لقد أضاف سنري للكتاب مقدمة ّ أدونيس وأعامله تتط ّرق إىل مراحل حياته وتط ّور شعره منذ والدته عام 1930يف قرية قصابني قرب مدينة جبلة ،من قصة لقائه وهو يف محافظة الالذقية عىل الساحل السوريّ ، الثالثة عرشة من عمره بشكري القوتيل أول رئيس للجمهورية السورية يف عهد االستقالل والقصيدة الوطنية التي ألقاها أمامه ،انتسابه اىل الحزب السوري القومي االجتامعي بقيادة أنطون سعادة ،مسألة اتخاذه لقب أدونيس ،صدور»قالت األرض» يف دمشق عام ،1954هجرته إىل بريوت واتصاله بالشاعر يوسف الخال وإصدار مجلة «شعر» عام 1956ثم إصدار «قصائد أوىل» ( )1957و «أوراق يف الريح» ()1957 و«أغاين مهيار الدمشقي» ( )1961وإصدار مجلة «مواقف» بني 1994-1968ثم توالت مجموعات عديدة ومشاريع ثقافية أخرى إىل يومنا هذا .وتتط ّرق املقدمة أيضا إىل موقف أدونيس من األحداث الدموية يف سوريا والنقد الواجب الذي تع ّرص له من العديد من املثقفني العرب وغري العرب. ويعترب كتاب «أبجدية ثانية» الصادر مطلع التسعينات عن دار توبقال يف املغرب واحداً من أبرز أعامل أدونيس عىل مستوى كتابته قصيدة النرث التي مل تخل منها دواوين سابقة له. ً يف هذا الكتاب انشغل أدونيس عميقا بلغة النرث واكتشاف الطاقة الكامنة فيه التي تعزز من مخيلة الصورة الشعرية. أما «فهرس ألعامل الريح» ،فهو أول كتاب ألدونيس نرش كامال بالعربية .لقد كتب أدونيس معظم الكتاب عامي 1997-1996خالل مكوثه يف جامعة برينستون يف الواليات املتحدة
«أصدقاء الشعر» ..قصائد عن دمشق وستوكهولم
صدر
مؤخراً العدد األخري من مجلة لرييك فينن السويدية « »Lyrik Vannenوتعني أصدقاء الشعر ،األدبية املتخصصة بالشعر فقط ،وتصدر مرة لكل شهرين وتتخذ يف كل عد ٍد لها ثيمة خاصة تحملها كل القصائد ومقاالت العدد .هذا العدد حمل فكرة املدينة. تبدأ املجلة بافتتاحية للناقدة األدبية السويدية «آنا لينا برونيل» التي هي عضو هيئة تحرير املجلة ،جاءت االفتتاحيةمبقدمة شعرية رأت فيها أن املدينة غرفة واسعة ُتقرأ بالجسد ،وعل ّو البنايات فيها هو ما يحدد اتجاه النظر فيها ،ثم بنص للشاعرة الهولندية «مرييام فان هي» بعنوان :التاريخ ،فمقال نقدي للشاعر السويدي «بيورنري تورسون» بعنوان :الشعر يف حياة املدن. ولقد حرضت دمشق سويدياً ،بنصوص شعرية مشرتكة بني شاعرين أحدهام فلسطيني :غياث املدهون ،وسويدية هي الشاعرة :ماري سيليك باري .حيث من املعروف أن غياث املدهون ،شاعر فلسطيني من مواليد سوريا ويقيم يف ستوكهومل ،وآخر أعامله الشعرية حمل العنوان« :طلب لجوء» باللغة السويدية عام ،2010وقام برفقة الشاعرة السويدية ماري سيليك باري الفيلم الشعري« :املدينة» أما الشاعرة والكاتبة واملرتجمة السويدية ماري سيليك باري فقدمت أيضاً أربع مقاطع شعرية عن مدينة دمشق تحت عنوان واحد: «مدينة دمشق». وحرضت الشاعرة السويدية سارة هلسرتوم صحبة الشاعر واملرتجم الفرنيس « ِكنت كليمتس» يف العدد عرب حوار مشرتك بينهام عن املدينة بعنوان« :أن تكتب املدينة» ،ثم نص للشاعر األمرييك «والت وايتامن» بعنوان« :مانهاتن» ،وتحت عنوان« :ناطحات السحاب يف زجاج املرايا» كتب الشاعر االسرتايل «ل ِيس موريه» قصيدة، وأيضاً اشتمل العدد عىل قصيدة بعنوان« :مكان بال اسم» للشاعر والفيلسوف التشييل «هيكتور هرينانديز مونتي خينوس» الذي يعيش متنق ًال ما بني البريو واملكسيك. أما ألكساندرا بوري ،وهي دكتورة يف علم األدب وتقدم برنامجاً يتعلق بالقراءة اإللكرتونية ،فكتبت مقاالً مطوالً بعنوان« :مدينتي بيتي» ،أو وطني ،تستشهد فيه بقصيدة للشاعر «سيغ فريد سفريت»،
بينام الكاتب واملرتجم السويدي «بار سفنسون» وهو كاتب رواية ومرسح ،الذي يكتب الشعر أيضاً ،فقدم مقاطع شعرية بعنوان« :أشعار كوبنهاجن» ،كام كتبت الشاعرة الفنلندية «سايال سوسيلوتو» خمسة مقاطع شعرية بعنوان« :كارمن». يف حني ُنرش يف هذا العدد من «أصدقاء الشعر» قصائد مرتجمة للشاعرة الرومانية د ُوينا لوانيد ،بينام الكاتب واملرتجم السويدي «السيه سودرباري» ،الذي هو أيضاً محرر يف مجلة أخرى مختصة فكتب مقاالً نقدياً بعنوان« :دمغة ،أو بصمة ،املاء» ،كام بالشعر، َ ً زمن مايض» من ايض ر «أ بعنوان: قصيدة عىل ا أيض العدد احتوى ٍ للشاعر التشييك إمييل خوليس ،وهو أيضاً فنان تشكييل ،وكان آخر أعامله مجموعة شعرية حملت العنوان« :تحت الجلد» .كام تضمن العدد مقاالً نقدياً الفتاً للكاتب والناقد األديب السويدي «مالتي بارشون» املقيم حالياً يف برلني بعنوان« :شاعر وشعر» ،واختتم العدد مبقالة للناقدة السويدية« :آن لينغي براند» مبقالة اختارت فيها أن تكتب عن الشاعرة اإليرانية يال مساعيد بعنوان« :لينغي براند تقرأ». يذكر أن مجلة «لرييك فينن» من أقدم املجالت الشعرية املتخصصة يف السويد ،وتصدر منذ العام ،1954ويكتب فيها عدد من الشعراء السويديني والعامليني املرتجمة أعاملهم إىل السويدية ،ومنذ العام 2007اشرتت ملكيتها دار «إلشرتوم» للنرش والتوزيع ،التي تعترب واحدة من أهم دور النرش يف السويد والدول االسكندنافية
مهند صالحات 19
شعر وشعراء
حمدة خميس
العالم بوصفه استعارة
إذ
يتأمل املرء يف النتاج الشعري للشاعرة حمدة خميس ،كماّ ونوعا ،فإن ما قد يخلص إليه هو أنها من أغزر الشاعرات العربيات إنتاجاً ومن أكرثهن وفاء للقصيدة املوزونة ،أو قصيدة التفعيلة ،وأكرث مي ًال إىل جعل القافية حارضة دامئاً ،كام أنها مل ّ تتخل عن صوتها -الفرد الذي يف قصيدتها ،رغم أنها تنتمي إىل تلك السبعينيات من القرن املايض املحتدمة برصاع اإليديولوجيات ،وذلك لجهة التحقيب لألجيال الشعرية عىل ما هو متعارف عليه عربياً. رمبا هذا ما أخذ «الخطاب» الشعري لدى حمدة خميس إىل أن يكون خطابا تأمليا يف الذات ،أي أنها جعلت منها مطرحاً للتأمل يف أحوالها وتحوالتها املختلفة عىل صعيديْ الروح والجسد ،مبا يعنيه ذلك من مراقبة فكرة الزمن ،أو املايض، فتعيش تلك الذات إحساساً كام ًال سواء مبرور العمر عىل أشياء العامل وما يرتكه هذا املرور عليها من أثر بحيث أن «العني» الشعرية التي ترى الصورة وتعيد رسمها عىل الورق هي التي ترصد إحساس الذات بأشياء العامل هذه. يف ديوانها «و ْقع خفيف» ،الصادر هذا العام أيضاً عن منشورات إتحاد كتّاب وأدباء اإلمارات ،تقول الشاعرة حمدة خميس« :هناك /خلف النافذة /زيتونةَ /حن َْت عىل غصنها /أسيانة مثيل /أم أسلمت أمرها /لنسمة الخريف»، هنا يقوم الخطاب الشعري ،غالباً ،عىل جدل بني الذات وإن بدا أ َّنه ،أيْ الخطابّ ، وأشياء العامل ،حتى ْ مبتل بالحزن الفردي الشفيف بسبب أن الشاعرة قد جعلت من الشجرة ذاتاً أخرى تحاو ُرها الشخصية الساردة املؤنثة يف القصيدة بوصفها ذاتاً مؤنثة أخرى ون ّداً قامئاً بح ّد ذاته ميكن ملس حركته ومشاعره االنسانية الخالصة كام تصوره الشاعرة، 20
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
فالشجرة هنا تحنو عىل الغصن كام األم عىل وليدها مثلام أنها تشعر باليأس أيضاً ،ذلك اإلحساس الذي ال يعرفه من بني الكائنات الحية والجامدة سوى اإلنسان. بالتأكيد ،ال يقوم الخطاب الشعري كله يف «وقع خفيف» عىل أنسنة الكائنات الحية األخرى ،لكنّ حمدة خميس تستخدم هذا الخطاب بوصفه اسرتاتيجية شعرية ،بهدف خلق بنية نصية خاصة بالقصيدة تقوم بشكل أسايس عىل البساطة من جهة واالستعارة من جهة أخرى ،حيث االستعارة ،إذ تقوم عىل حذف أحد طرفيَْ التشبيه ،هي هنا مرك ّبة من نوعني :الترصيحية ،أي حذف املش ّبه به ،ما يعني أن الزيتونة هنا هي عبارة عن ذات الشاعرة يف هيئة زيتونة تشبه ذاتها ،أي ذات الشاعرة ،ومتثيلية ،أي إخراج الشجرة من طبيعتها التي هي عليها فتصبح كأنها اإلنسان يف أحاسيسه ومشاعره. وال يتوقف األمر عند الكائنات الح ّية وحدها بل تقوم حمدة خميس بإعادة صياغة املشاعر اإلنسانية بوصفها كائنات من ذلك النوع الذي يجدر بالرتويض ،تقول يف قصيدتها «ذهول» من الديوان نفسه« :أمس مر ْر َتُ / كنت أدجن الوحش َة /وأنصت /لخفق ظ ّل َك /يف الشعاع». ّ يشعر املرء هنا أن الوحشة مل تعد إحساساً خاصاً فردياً باملطلق يخص املرء وحده وال يخص الباقني رغم أن من املمكن لهؤالء أن يشعروا بهذه الوحشة التي يعجز املرء عن توصيفها أحياناً ،لكنها هنا يف مخيلة الشعر وخطابه أشبه بثور هائج ينبغي تدجينه والسيطرة عىل حركته وإعادته إىل الجهة التي أىت منها ،ثم تربط الشاعرة مبارشة بني هذه للظل الذي يخص شخصاً الصورة وصورة «اإلنصات» ليس ّ
الكتاب :طوق الغواية الشاعرة :حمدة خميس (اإلمارات) النارش :بيت الشعر -أبو ظبي «»2012 عدد الصفحات 154 :من القطع املتوسط
محبوباً ومرغوباً فيه اآلن وهنا بل لخفق هذا ّ الظل أيضاً. هذه الصورة وإن بدت مر ّكبة أو أكرث تعقيداً مام هي عليه يف القصيدة التي سبق الحديث عنها إال أنها تقوم عىل االسرتاتيجيا نفسها ذلك أن الصورة هنا حاجتها إىل التأويل التخيييل ،أي أن يتخيلها املرء يف لحظة القراءة عىل نحو ما تصنعها الشاعرة أكرث من حاجتها إىل التأويل املنطقي الذي يفسرّ ويح ّلل وفقاً لقواعد منطقية قد متارس فعل القتل بحق صورة شعرية كهذه .هكذا يبدو العامل كله مستعاراً ،يف «وقع خفيف» وليس قامئاً سوى يف مخيلتي الكتابة والتلقي. أما يف «طوق الغواية» فاألمر مختلف متاماً ،وكأن حمدة خميس تقطع فيه بالكامل مع «وقع خفيف» لتجعل من الذات استعارة لكائن برشي يعيش عزلته الخاصة ،فالديوان يقوم عىل التأمل يف الذات من دون حاجة الشعر للمرور باالستعارة أو الكناية ليصري القول قوالً شعرياً. لجهة التوصيف ،فالكتاب عبارة عن تأمل يف تجربتي العيش والكتابة .ففي حني تتعانق التجربتان يف القصيدة الواحدة إال أنهام تفرتقان يف قصائد أخرى .ما يعني أن التجربة املخيضة هي التي تصنع القصيدة ومن مختربها تخرج الصور يف هيئة تأمالت قد تثري الرغبة يف التأويل أحياناً لكنها تبتعد عن ذلك يف أحيان أخرى ،لنتأمل هذه االقتطاعة من قصيدة «قرشة من يباس»« :آه من لغة /تستكني ملعجمها/ تبل الرتاب /لغة /ال جناح لها /يك ّ مل تبلغ النهر /ومل َّ ترف قلي ًال خارج الرسب /أو تناجي السحاب /لغة /بعضها /من هشيم األمم /وبعض قوافيها من ضباب /وبعض /الذي بعضها /قرشة من يباس»ُ .ترى عن أي «لغة» تتحدث الشاعرة هنا؟ عن لغتها هي يف الشعر والكتابة؟ أم عن
لغة أخرى هي ليست لغة بل جعلتها الشاعرة مجازاً ليشء آخر رمبا يكون أمة بأرسها ،ودون إفراط يف التأويل ،ورمبا ال تكون كذلك بل هي لغة رمبا جعلت الشاعرة تشعر أنها قد ج ّففت ينبوع شعرها. غري أن قصيدة «حكمة الجنون» هي بحق الفتة يف «طوق الغواية» الذي استعار اسمه من عنوان قصيدة أخرى ض ّمها الديوان« .حكمة الجنون» أشبه برشيط سيناميئ مكثف يختزل عالقة إنسانية مضاءة بجنونها الخاص؛ أي الجنون يخص تلك الذات الساردة يف القصيدة التي تتوجه الذي ّ بخطاب مؤنث باتجاه رجل ،وهو خطاب بالفعل مؤنث لفرط ما هو رصيح وإنساين وراقٍ أيضاً /...« :والجنون/ جناح يشقّ الفضاء /كام الربق شقّ /سكون السحاب /ليهطل ٌ لك /والجنون /عصا املاء /تشقّ عناد الجبال /لينساب يف خفي /ألقرأ يف فتنة الورد /فيورق لك /بعض هذا الجنونّ / رس َمنْ أبدعك». الرسَّ / ّ ال قلق من أي نوع يف قصائد أخرى لدى حمدة خميس يف الحب أيضاً ،لكن هناك الحزن الشفيف «طوق الغواية» عن ّ الذي يخالط التأمل بحيث تبدو لوهلة أوىل بأنها تذ ِّكر ببعض قصائد «وقع خفيف» ،إذ َّأن فكرة الزمن حارضة بإلحاح أحياناً كام يف قصيدة «كأنني والكون مفردة» وكذلك «أنثى السالالت» إمنا يحرض يف القصيدة ليس بوصفه فكرتها املركزية بل هي فكرة الزمن واحدة عنارص أخرى تتكئ عليها الشاعرة لتؤثث بها قصيدة ثم لتشيع يف أركان القصيدة حزنها الخاص
جهاد هديب 21
شعر وشعراء
عن الحنين وأشياء أخرى كالماضي الكتاب :عصيان الكالم وأشياء أخرى الشاعر :جمعة عبد العليم (ليبيا) النارش :منشورات مجلس الثقافة العام عدد الصفحات92 :
ميارس
جمعة عبد العليم يف هذا الديوان جنون الشاعر الذي يسعى مل ّد الجسور بني املوت والحياة؛ بني الوجود والعدم ،يك يص ّور حالة اإلنسان وهو فتتضح تلك الذات بكل تجلياتها ح ّد البكاء يعانق اليومي، ّ والضحك ،والقلق ،والرتدد والخوف« :حني تطبق كامشة الوحدة /عىل دفء الرسير البارد /أفتح نافذة الحنني/ لفنجانك املمزوج /بسحر حكاياك /املعتق بهجرك الطويل/ فأدخل باحة /الرقص وأمتثلك متثاالً من الشمعُ /يلتهم بنار ميتة /ترسقني إليك». ويف األصل ،فإننا يف الكتابة نبحث عن بديل للواقع ا ُملعاش واليومي بتفاصيله املتنوعة ليكون بوسعنا تشكيل حياة أخرى وفقاً لجغرافيا جديدة ،إن مل تكن بديلة أو متخ َّيلة، وأفكار وقيم جديدة ،ومن وجهة النظر هذه ،فإن نصوص الديوان مت ِّثل وقفة تأملية تجاه الحنني ،والوحدة ،والبوح، والشعر الذي يتمرد عىل الشاعر ،والعمر الذي ال يريد عقد املصالحة ،وخطى األيام البعيدةّ ، وكل األصدقاء الذين مروا من هنا« :األصدقاء /.القمر الذي ينأ مبتعداً/ الكلامت التي تلتهمها الريح /الحجرات املقفلة /عىل مفازة التأويل /الشوارع املهندمة /بأعواد الكهرباء /املدينة املزدانة بأكاذيبها /وأعود /...أتدلىَّ من جديد /عىل حبال القصائد/ أصادر الشمس /لظالل صادقة». يف واحدة من عباراته ذائعة الصيت ،يقول الكاتب اإليطايل امربتو إيكو« :ال أؤمن بوجود يشء اسمه السعادة ،أقول لكم الحقيقة .أومن فقط بالقلق .بعبارة أخرى ،ال أحس أبداً بسعادة كاملة ،أنا دوماً يف حاجة إىل يشء آخر .ثم إن السعادة الحقيقية هي أن تذهب إىل الصيد ال أن تقتل الطائر». بهذا املعنى ،فالشاعر جمعة عبد العليم يف «عصيان الكالم 22
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
وأشياء أخرى» يؤمن بوجود كتابة مغايرة تسهم يف بلورة نص أكرث خصوصية لرسد دراما الحياة واملوت والعشق والطفولة ،وكذلك إليجاد نوع من «الهدنة» بني «الذات» والشخص« :ال يشء /...سوى أنني أشطب بالنوم /حزن املساءات الرتيبة /ثم أكتشف أن الكوابيس /أكرث صحواً/ فأقوم مغمض الخطى /صوب أفق ميتص ما تبقى /من شيخوخة النهار /ال يشء /...سوى أنني أحياناً /أتجرع العبث». تتحرك ذاكرة الشاعر ،باتجاه املايض رمبا ،لكنه هنا يتحدث عن صوره القدمية ،وقد متنى أن تنطلق أمنياته نحو أفق أكرث رحابة« :مل يزل الليل مفتوحاً /لكل االحتامالت /وأنا متعب كحافلة عتيقة /متعب رمبا أكرث /من هؤالء الجنود املنهكني /بعبء بنادقهم». ُ «عصيان الكالم وأشياء أخرى» يرصخ النص الشعري يف بـ «عايل الصوت» يك يقول لقارئه فيثبت له أن بوسعه أن مينحنا حالة هدوء ،رشط أن نتأمله بقليل من الرأفة والكثري من الحب« :وأنا وحدي /عىل قارعة السهر /أتوسد أرقي /محملقاً يف الاليشء /أستدعي أزمنة ميتة /وأذهل عن حارضي /تلوكني ألسنة الذكريات /ويصحو بأعامقي /جرح قديم ملوث بالخيانة». أحيانا نفتش يف تواريخنا عن أمكنة ألفناها لقراءةأعامرنا واملرور بتفاصيلها هناك ،حيث ميكن لنا أن نتأمل الجامل هجرنا يف خضم قسوة الحياة والبحث عن لقمة الذي َ العيش« :العمر الذي /...تلتهمه الساعة /هل يكون كافياً/ النتظار قصيدة /...الكالم الذي يتساقط /يف مفازة التأويل/ هل يصل حد الدهشة /هكذا هو /...يتسول حرفاً ييضء/ هذا الفضاء املعتم»
خلود الفالح
نزع حجة الغياب الكتاب :ظل الوردة الشاعر :حسن عبدالله «لبنان» النارش :دار الساقي – بريوت 2012 عدد الصفحات 120 :من القطع املتوسط
هكذا
هو الشاعر حسن عبدالله غالبا ما ُيشعر قراؤه بأنه إستنكف عن كتابة الشعر نحو أنواع أخرى من الكتابة وعىل رأسها قصص األطفال ،الكتابة التي إتقنها وإمتهنها يف النهاية ،وحصل عنها عىل جائزة األدب من «مؤسسة الفكر العريب» يف العام املايض .لكن غيابه املديد مل ينته مرة إىل استنكاف عن الكتابة الشعرية أو عن النرش ،فبعد عرشين عاما عىل صدور قصيدة «الدردارة» الشهرية ،قام بإصدار مجموعته «راعي الضباب» يف العام ،1999ثم اآلن بعد 13عاما ،هو يصدر مجوعته الجديدة ّ «ظل الوردة» التي فاجأ بها الوسط الشعري يف بريوت واملتابعني والنقاد. وعن هذا األمر ،أي عن غيابه الطويل وعودته كتب يف القصيدة الرقم 12من فصل «مرسح األشباح»« :ليس صحيحاً أنني توقفت لسنوات عن كتابة الشعر /لقد م ّرت أيام مل أكتب فيها شعراً /ثم م ّرت أيام أخرى /وتبعت هذه األيام أيام وأ ّيام /وإذا كانت هذه األيام قد تجم ّعت، وتح ّولت إىل سنوات /فهذا ال يعني أنني توقفت لسنوات عن كتابة الشعر /ال يمُ كن لشاعر طبيعي أن يفعل ذلك/ لكن ،يف هذه األمكنة ،وبني هؤالء الناس /كيف يمُ كن لشاعر طبيعي أن يكون شاعراً طبيعياً؟». الرسالة هنا ال تكتفي بتفتيت الوقت لنزع حجة الغياب التي يطالب بها الذين تتوجه إليهم القصيدة ،بل هي رسالة موجهة اىل هؤالء أنفسهم وبقسوة وعنف وبال رحمة ،ألن بني هؤالء الناس ويف هذه األمكنة ال ميكن للشاعر أن يكون شاعرا طبيعيا .إنهم سبب إستنكافه ،وسبب تركه األيام تتواىل يوما بعد يوم لترتاكم عىل شاكلة سنوات. 13عاما من غياب حسن عبدالله عن النرش الشعري هي مبثابة زمن كاف لربوز شعراء جدد شباب وغري شباب،
وتبدّل يف الهوى الشعري ويف لغته ويف مقاصده ،ويف مقولة القصيدة وتوجهها ،إنها عقد وزيادة من السنوات ،تبدّل حال الشعر خاللها يف بريوت ويف سائر العامل العريب كثريا ،وحسن عبدالله مل يكن غافال عن هذا األمر .مل يبد يف مجموعته الجديدة وكأنه قادم من زمنه القديم أو من قصيدته األخرية، بل هو يلتقط نبض القصيدة الحديثة التي تكتب اليوم، ويف صوت قصيدة ّ «ظل الوردة» نبض شاب واضح« :هناك يشء تمُ سك به الحياة /و ُتخفيه وراء ظهرها /ولن أتوقف عن الكتابة /حتى أعرف :ما هو!» ...هذه هي افتتاحية املجموعة الشعرية. برغم أن حسن عبدالله برز ضمن ما عرف بـ «شعراء الجنوب» الظاهرة التي عُ رفت يف السبعينات ،واطلقت عددا من الشعراء يف اطار واحد ،اال أن ما ميز عبدالله عن أقرانه هو كونه أشد التصاقا باألرض وحياة الطفولة يف بلدته الجنوبية :الخيام ،فشعر عبدالله مصنوع من طفولته بال شك. لكن يف «ظل الورد» ميكننا أن نعلن إنفراط عقد جامعة «شعراء الجنوب» أو لنقل أنسحاب عبدالله من الجامعة ،إذ بات شعره أكرث مدينية ،ولو من نظرة سلبية اىل املدينة ،وأكرث تفاعال مع جمهور الناس «اآلخر» ومع الذات الجوانية القلقة، والتي تنسج قلقها من نفس املناخ املديني« :ال وضع ُمسيئاً للناس /مثل وضعهم عندما يكونون ما ّرة عىل أرصفة املدن/ فهم آنذاك ليسوا سوى أحجام /نعمل عىل أال نصطدم بها». (من فصل الطيار اآليل). أو يف «املوت يروح ويجيء من حولنا /بأقدام حافية ليك ال ُيحدث الجلبة /التي توقظنا من حلم الحياة» قصيدة من فصل «حلم الحياة» .يف املجموعة قصائد للمرأة والحب، وقصائد للحياة وعن الحياة
فيديل سبيتي 23
شعر وشعراء
مساءلة الفعل الشعري الكتاب :قد يكون الحرب ظ ًال الشاعر :فيليب جاكوتيه «فرنسا ،سويرسا» النارش :دار غاليامر 2012
يبدو
ّأن العام 2012/2011هو عام الشاعر الكبري فيليب جاكوتيه يف فرنسا ،فإىل جانب البعد الرمزي الذي ينطوي عليه إقرار ديوانه «يف ضوء الشتاء» ضمن الربنامج الدرايس لشهادة الثانوية العامة( ،كانت ترجمته لألوديسة قد اختريت لالمتحان ذاته عام ،)2010 تستعد ،يف هذه األثناء ،دار النرش الباريسية ذائعة الصيت «غاليامر» إلصدار أعامله الكاملة ضمن سلسلتها املرموقة «البلياد»؛ ليكون بذلك أحد املبدعني القالئل الذين شهدوا، يف حياتهم ،تكريس منجزهم وانضاممهم إىل مكتبة الخالدين إىل جانب بروست وبورخيس وشار وإيلوار وكونراد ومالرو وبريس وغريهم من كبار األدباء العامليينّ . قبل هذا التتويج ملسرية الشاعر السويرسي الذي ُيعدّ ،مع معارصه ايف بونفوا ،أكرب شعراء الفرنسية األحياء ،صدرت له عن الدار ذاتها قبل بضعة أشهر وضمن سلسة «شعر» مختارات شخص ّية بعتوان «قد يكون الحرب ظلاّ ً» ض ّمت قصائد ونصوصاً نرث ًية إضافة إىل مقتطفات من ك ّراسات يوم ّياته .تستعيد هذه املختارات منجز جاكوتيه الشعري املمتد ملا يقرب من 60عاماً عرب نصوص تنتمي ألشكال شعرية مختلفة؛ حيث األوزان الكالسيكية يف شعر البدايات، ثم الشعر الحر ،وأخرياً قصيدة النرث التي تذهب لديه من أقىص اإليجاز ،كام هي الحال يف قصيدةالهايكو إىل أقىص االمتداد الذي يقتضيه أحياناً القول الرتاجيدي .وأ ّياً يكن الشكل الذي يختاره الشاعر لتسجيل خواطره وأفكاره أثناء نزهة يف الطبيعة أو سفر بعيد ،أو ليصوغ انفعاالته الخاطفة وتأمالته العميقة ،فإ ّننا نجد لدى جاكوتيه دامئاً الهاجس ذاته :التقاط ما هو جوهري يف هذا العامل ،بني «فظاعة املوت ومداعبات املر ّيئ». 24
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
تتجلىّ عرب نصوص الكتاب املالمح الجوهرية لتجربة جاكوتيه اإلبداعية :سعيه الدؤوب نحو شفافية القول الشعريّ ، وتش ّككه إزاء الصورة الشعرية والزخرفة البالغية ،ورفضه أن تغدو اللغة حجاباً للعامل« :كنت وددت لو تكلمت بال مجاز ،أن أدفع الباب فحسب ...فنحن ال نعيش طوي ًال كالطيور يف وضوح السامء .وما إن نسقط أرضاً حتى ال نعود نرى فيها سوى صور أو أحالم». إن وفاءه عميق للمر ّيئ واملحسوس ،حيث يتعزّز حضور الجبال واألنهار ّ والضوء واألزهار ،وحيث عنارصه قد اكتسبت ُبعداً ميتافيزيقياً بغياب العنارص البيوغرافية التي تحيل إىل الشاعر الحريص عىل نربة الصوت الخفيضة وانسحاب الذات يحجب يمح الفجر حكايتي ّ الخاصة و ْل ُ إىل ح ّد اإلمنحاء« :ف ْل ُ معنى، بناره اسمي» ،وأخرياً ،مساءلة الفعل الشعري نفسهً ، «سهل هو الكالم ،وأن ّ ٌ تخط كلامت عىل وخياراً وجدوى: الورقة ،عموماً ،ليس باملجازفة الكربى /إ ّنه صنع دانتيال، فكل الكلامت تكتب بالحرب ذاته/...وعبثاً محصن ،آ ِمنّ /... ّ ُ ْإن أنا ك ّررت كلمة« :دم» ،من أعىل الصفحة إىل أسفلها /،ال أنا سأنزف وال الورقة ّ سيلطخها الدم». أنجز جاكوتيه ،باإلضافة إىل ما يزيد عن ثالثني كتاباً يف الشعر والنقد ،عدداً كبرياً من الرتجامت املهمة:غوته ،وهولدرلن، واونغاريتي ،وريلكه ،وموزيل ،وتوماس مان ،وليوباردي، وأوديسة هومريوس .من أعامله الشعربة نذكر« :النزهة تحت األشجار» ،1957و«عنارص حلم» ،1961و«يف ضوء الشتاء» ،1977و«أفكار تحت الغيم» ،1986و«دفاتر الخرضة» 2003
وليد السويريك
نصوص
حمدة خميس محمد الغزّي محمد عبداهلل البريكي حسام الدين محمد زينب الربيعي عياش يحياوي مريم شريف عبد الغني فوزي محمد الفي أحمد العرّامي علي الزهيري ياسر األطرش حبيب الزيودي 25
نصوص
حمدة خميس طوق الغواية
جئنا سواسي ًة حاملني مشاعلنا ورغيف املسا ْء عىل خطونا غبار الطرائد ويف فمنا حقل ما ْء أكنا شظايا فج ّمعنا الظل وكنا رهاف الطبائع فحجرنا االشتها ْء ّ لندنوا كثريا إذن ونرخي للقلب طوق الغواي ِة حتى الندى ورنني البهاء.
أنثى السالالت
سأكتبك اآلن ِ قالت عىل فض ٍة من ضياء العصور ُ قلت: ُ لست التي تكور صلصالها ورد ًة وتذ ّر األلق قالت: بىل أنت أنثى السالالت وبطنك ِ بذر الخالئق 26
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
حني ارتجاج العويل وطبعك ِ ر ّقة الكائنات وسناك ِ اكتامل ُ الخلق ُ قلت: أثقلتني فامذا عىل الرافلني بهيبتهم وماذا لهم قالت : لهم صولة املهرجان ولهم غفلة الخاشعني حني تضل البصرية قلت لكنني ورست ٌ نجمة من مرشق الكون حتى مغيب الشفق سحب ودنت ٌ وتراءى الشعاعُ شفيفا أليفا وأضاء األفق
قرشة من يباس
آه من لغة تستكني ملعجمها مل تبلغ النهر ومل تبل الرتاب لغة ال جناح لها يك ترف قليال خارج الرسب أو تناجي السحاب لغة بعضها من هشيم األمم وبعض قوافيها من ضباب وبعض الذي
بعضها قرشة من يباس تطوحها الريح حينا وحينا تلف بالغتها مثل حبل يحيط الرقاب لغة أثوابها رقع رقع قد تبدل ألوانها بني حني وحني ولكنها كام األفعوان تقطر نابا وناب
محمد الغزّي البيت
أَد ُْخ ُل َ البيت : ّمثة خيط من ّ نرسب الضو ِء ُم ٌ وروائح َ غامض ٌة ُ ْ هل ّ باب غرف ِتها ؟ أدق عىل ِ ُ ْ هل أتق ّد ُم منها وأوقظها ؟ ّ وتطل ْع ُت :هذا الرسي ُر ،كام َ كان، أخْضرَ ُ ... واملا ُء أخْضرَ ُ والعشب ،منعقدًا يف النواف ِذ ، ُ ْأخ ُ رض ُ مالبسها...ومشابك ّ فض ِتها.. تلك ُ ْهل أتق ّد ُم ؟ صاح يب ُ األهل َ ّ أعتم ُ كال ...فق ْد ْالليل آثرت بعدما َ الباب منْ خ ْلفها ...وتنا ْم. ْأن تغلقَ َ
الرحيل
ها هُ َو ميْض َث َّم ص ْو ٌت ٌ مع ُه منْ دو ِننَا يس ُ غامض ْ يشم ُه ّمث َة ِعط ٌر ُم ْب ٌ هم ُّ ّمث َة ض ْو ٌء آخ ٌر يرا ْه هاهُ َو ميْضيِ ُ نحن ال ن ْعرفها يف طريق ْ ٍ رصها.. ويهتدي بضو ِء نا ٍر نحن ال ن ْب ُ فثم َص ْو ٌت ٌ غامض كان ُينادي ِه وال َّ مع ُه نس ُ ْ نشم ُه ّمثة عط ٌر ْ نحنُ ال ُّ ّمثة ضو ٌء َ خلف هذا الليلِ ال نراه ْ.
إىل وديع سعادة
«وديع « ُّ كل هذه ملاذا تنهم ُر يا ُ األمطا ِر عىل املدين ِة ؟ أليس ْ العش ُب أ ْوىل بها من اإلسفلت؟ واألشجا ُر من املنازلِ ؟ اريب؟ والطيو ُر من املز ِ الطرقات؟ واألنها ُر منَ ِ والظال ُم منْ أعمدة ِ الضو ِء ؟ ُ والجبال من مقاع ِد الحديق ِة ؟ عسس الليلِ ؟ والرعا ُة من ِ والجنادب من األرصف ِة ؟ ُ هششنا يا وديع ُعىل ّ ماذا ل ْو ْ كل هذه الغيوم وتع ّقبناها غيمة...فغيمة حتّى خارج املدين ِة ؟
ّ سيظل
ّ سيظل ينو ُء ِبها الشمس م ْهام سفع ْت ُه ُ صقيع الليل وج ّمد ك ّف ْي ِه ُ سيبقى َ ، الناس ،ينوء ُبها دون ِ َ ق ْد يتعثرّ ُ َ ، قال ، وق ْد ْ تخذل ُه قدما ُه لكنْ لنْ يرت َكها لنْ ُيلق َيها عنْ كتف ْي ِه الطرقات الفظ ِة سي ْب َقى يف تلك ِ َي ْحم ُلها وهو يمُ نِّي ال ّن ْف َس َّ بأن الل ْي َل َتول
بح يكادْ ّ والص َ
روما
.
ال ب ّد ل ُرو َما من ُش ّذا ٍذ َ وصعاليك َ وأ ّفاق ْني ال ب ّد لها من ك ّذاب َ ني وأ ّفاك ْني ال ب ّد لها من غربا ْء وأر ّقا َء وع ّيارينْ ال ب ّد لها من سفها ْء ودهاقنة مأجورينْ ال ب ّد لها من نسوة ليلٍ ولصوص وسامرس ٍة و ُمراب ْني ٍ ال ب ّد لروما منْ هذي غوغا ْء َ ليخاف أهاليها ويلو ُذوا بالقيرص مرتعدينْ ِ كالصبي ِة حني ي ُل َ وذون بأحضان ّ اآلباء
الفجر
الفج َر ْمييض ال تدعْ هذا ْ تش ّب ْث به أص َ ابعك يف غيو ِم ِه أغر ْز َ ْ أمسك بضو ِئ ِه ش ّدهُ َ إليك األرض بعده ُ فهذه ُ محض صحرا َء موحش ٍة ُ محض ليلٍ بال نجوم
27
نصوص
محمد عبداهلل البريكي جدّيت وعصاي
وقدمت ُ إىل قريتي.. ْ سألت جديت عن عصايَ غنم ! .....أنا يف املدينة ليس لديَّ ْ هم رغيف ٍ أحتيس يف امليادين ِ َّ يشاطرين غربتي واملدينة ُ أغنية ٌ للمجانني ِ ُ اجيح سقت املر َ قبل وصو َيل أغنية َ البرئ ِ سطوة َ راع ٍ يهش ُّ عصا ُه وأغنامـَه ُ نشوة َ الحقل ِ أحمل ُـها بني ضلعي.. وأحالمي َ البكر ِ ط ٌري يحط ُّ عىل الغصن والغصنُ قلبي الذي صار بعد اإلياب ورحلت ِه منكرس .. ْ لست إال َ أنا يا جديت ُ رسول الطموح الذي ف َّر من ذئب غرفتـِه ِ لفـضاء الوطنْ .. جئت ُ .. بني يديَّ عصايَ ومسبحة ٌ ُأهديـَـت من أيب طفت ُ يا جديت والشوارعُ ُ مثل املسامري أعب ُـ ُرها جرس َ توق ٍ إىل مدن األرغفهْ.. طفت ُـها عاشقاً يخطب األمن َ 28
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
َ صوت املدينة لن يسعف ْه لكنّ بعد هذا رجعت ُ إىل قريتي بقمييص الذي ق َّد من ... يا لهذا القميص الذي كلام ُ عدت ق َّد من الظه ِر ال لعصاي َ لدرب ِ الغواية ِ للموت ِ يف الوقت ِ عدت ُ وحيداً ... الحي وقفت ُ مبقربة ِ ِّ أتلو عىل قربك القص َة َ اآلن عدت ُ إىل قريتي مل أجد يف املدينة شيئاً الروح أهش ُّ به موطنَ ِ ُ عدت ألن املدين َة ليست الغنم ألهل ْ
حسام الدين محمد رأيت الشآم
اىل الحبيب الحمدوين وصحبه يف رابطة الكتاب التونسيني
يف الطريق لتونس َ قادتنا البجعات اىل ُرطب وغامم‘ عربنا بباب البحر غدرنا بيأس قديم (عىل سنّة الشعراء) ...أرقنا دماء الخجل يف الطريق اىل الحب اشتاق فينا الغريب اىل بيته يف الطريق للنوايس بكينا عىل طلل ّ فاستعرب الطلل يف الطريق رشبنا مدامة ذكر الحبيبة (من قبل ان تخلق الكرم) فانحنى عودنا تحت ثقل األمل يف الطريق لتونس انحرف ّ الخط يف نهج لينني فانهار هودجنا بحروب الجمل يف شارع بورقيبة ارشأ ّبت رقاب املها واستقام انتصاب الخيام‘ ح ّملتنا الغزالة ضحكتها الحب فبكت أم كلثوم أهل ّ فقلنا: «أين مي ّر بنا – من جديد – الغرام» وأرقنا اختبال القبل يف الطريق لتونس
سمعنا حداء القدر وتالمحت اضوا ٌء لصنعاء بعد طول سفر ورأينا ...الشآم رأينا تظاهرة الروح هابطة من اعايل التالل رأينا الصحارى تح ّيي القرى رأينا البيوت تغني وتهزج رأينا البطولة محفوفة بالحامم‘ ملسنا املنام‘ ...فخلعنا قلوب مناديلنا وانهمرنا جميعا اىل سهلها والجبل.
طفالن
طفالن يف ثلج املالءة نامئان يف مهرجان الحلم يصعدان مفازة الفتيات والصبيان يداعبان مزاج اإلتكاء. طفالن يف مجرى الهواء الطلق وطراوة االهواء يف غفوة الخدر الطريّ وز ّر االشتهاء. طفالن من أمل غريب يتق ّلبان... أفتح برهة بحلمهام وأدخل أقلب النون عىل ميم منامهام املضاء بأقحوااااااااان شاهق طفالن يف مجرى الهواء الطلق... يؤرقان الروح طفالن يف مجرى الرصاص يودّعان الله واأللعاب واألشياء
زينب الربيعي سنجاب طفولتي
يف الصبح اللييل الغائم ضباب ٌ ُ مثل مار ٍد يدُ ه تطال زوايا الشارع أميش عىل الخطوط البيضاء وانعطف معها عند الد ّوار ُ األبواق تزعق وأنا سامدة ترت ّد عىل وجهي خصالت شعري الباردة أستفيق يف محاذاة العشب واليوكالبتوس يخرجون من الضباب ران عىل األشجار وجعلها كأشباح بأذرع دانية ّ أترق ّبهُم ...عل أحدَهم يت ّعرث فأمد يدي امللونة خمسة أظافر يك أم ّيزها عن أل ّون َ األخرى ال وقت يل أغسل شعري الطويل وأنرش ُه عىل حبل الغسيل. أماد طويلة م ّرت ْ غطت سطح بيت ِنا رسمت دوائر كسنجاب بري تنقلت بينها ٍ وانتهت طفولتي.
يوسف
أعشق كامل صفا ِتهم لكنّ يوسف أجم ُلهُم لن أراوده عن نفسه ولن ّ أقط َع يدي
بل أتبع ُه كظ ِّله ا ْب ِعدُ هُ َ يسقط يف البرئ يك ال ُ وأرحل معه لن تب ّي َّض عيناي فقميصه معي.
فيك ِ
عمق األشياء الجميلة تكمن يف ِ رائحة للون ولون للرائحة كيف يكمن فيك كالهام ؟
ذاكرة
رحلت يف ديسمرب مل أعد أذكر سوى ذلك عندما يأيت عام 1994 قد أتذك ُر البقية ...وأخ ُربك
خوف
أخاف العبو َر ... إن كان الشارع أبيض والخطوط سوداء إن كان املوت يف اللوحة ُرسم بدم حقيقي إن تحقق حلمي : أجلس يف رشفتي .. ُ العرص بصحب ِتك وأرشب شاي ِ
ميدوزا
كانت ُ ...ت َح ّج ُر َّ ْ كل من ينظر اليها اآلن ...كل أحبتي أصنام دون أن أنظر اليهم 29
نصوص
وناس نرجس ْ ٌ عياش يحياوي يشم قمصاين يل نبأ ُّ وكوب ما ْء ويل ِوساد ٌة ُ مائال نحو النهايات .. ُ ُ مسقط مسقط يا وهران بايب.. والحام ْم مدينة يا التاريخ والبخو ِر َ ِ رغبة الجنَّة يف اإلثم أال اقرئيِ عىل رأيس التعاوي َذ وإثم الطفل منشورا عىل حبل ْاجمعي رييش الذي يف البرَ ِّ الت ََّصايب غنِّي ألنا ْم يا لغول الوقت يحشو جسدي ال تسأليني عن يدي بالوجع السهران ُ مسقط للغريب يا ال ي َد ِ ُيرديني ويحييني عىل ميعادها تدب وآذتني الوجو ُه الصحب «شارعُ ُ ال َ صوت سوى هواجس النملِ ُّ ِ وهر َان املهيدي» يف دمي وهر ُان أيا وهر ُان الشارع يتجرون بالخمور صبي ُة ال تسأليني.. ِ ُ يلتفت الفج ُر الذي مىض بعينني لو والحشيش ليس يف النهار يل نها ْر نعاس بال ْ يرشحن الغرام للحامم بنات الدرب ْ خييل التي ترينها الناس بكأسني تعاندان صحو ْ يشتعلنَ غاب ًة من هَ َر ٍج ويختفني ْ رسوم طفلٍ يف جدا ْر ليست سوى ِ أنا السكران والباعة واألسواق ني األمطار والوهرانيات املطر نجم واحدٌ آذ ْت ِن َ وليس يل يف الليل ٌ واملقهى الذي يف الركن خمري املخمور بالحن ْني يؤمن يب د ِّثريني بالشج ْر آذانيِ َ النهار يف وهران ساجدُ عىل وليس يل يف التيه ط ٌري واحدٌ أورا ِق ِه ُس ْكرين للطرب ِ ُ َ ُ قْ فاضح بال ِع ْش ِق ُس ْك ٌر ٌ جيبي الفق ْري تل َّميس وهران جبهتي أ ِف من مويت يل وطنٌ يف َ ْ الطويل ْ مفتون لهجس الجنِّ ُس ْك ٌر ساجدٌ يل غربة وصالة تصغي ْ أَ ُق ْل ُّ بيتي الصغري الساه ِر يف للس ْح ِب لو يا ُس ْحب تهطلني يف يف لييل هنا يف َ ْ الهطول قلبي ويزه ُر أبوظبي مقامي واملرايا ُ الالهوت ِ الخ ْرس أ ُق ْل لها ع َّي ُ اش ب ْر ُ وج ْم ُر دان َ ِ َ الدخان أمضغ الشمس صويت يف أثوابه َ ْ الخوف وطبول مرة يف الليل والليل دخان ٌّ قميص ُه األصفر ُمزرق من الرب ِد ُ بت أبيك فتك ّو ُ ج ّر ُ زا َد الق ِرب مت عىل بعيض الصاب يف أكوا ِب ِه وط ْع ُم ْ َ ِ الرمال تاريخ أبك ومل ِ ْ أقل لها قويل لوهران ْاسأيل عنه ْ لو م ّر ًة كالريح يا وهر ُان تصفعني بالذهول وضاء وجهي وما ِب ِه ُ الناهب روحي بالسؤال مددت كفي للفراغ الس ِّي ِد ِ ْأس ُ ْ مسقط قط كالنيزك يف لو متسكني أ ْذ َين التي َغ َو ْت إسمي الجوع عىل وجهي أخاديدُ من اش ورص َاخ ال ُيتم مختوما عىل لحمي وتسمعينني وصايا ُم ْط ِر ِب الح َّر ِ ِ لوهر َان تالىش جسدي يف غرفتي مثل صدًى لو وهران تسألني َ مسقط َّ عن عشا َيئ البار ِد العشاقِ يل يف الدار يهذي ُترى يا 30
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
ني املشتاق للصحون عن ِص ْح َ ضحى تنتب ُه الشوارعُ التي لو ذات ً تس َّك ُ عت لها ْ وأكون د َّرستُها كيف تكون ْ واملجون لو م ّرة يا جنَّة الصالة تجيئني مسا ًء تقفني يل بال ميعا ْد نيس األلعاب وتحضنني طفال َ واألوال ْد ُترى َترى «عيون الرتك» ما أرى؟ أعمى أرى باللمس أوجاعَ الجبالِ ِ وجد السن ْني ني من ْ الشج َر املَ ْح َّ والرياح ما أرى الدمع أرى وميحو ُ ُ ُ الثلوج السو ُد يف تابوتها وتصهل ُ ُ يعصف يب ا ُمل ْحم ُّر يف مغربها األخ ِري يهمي فوق رأيس ُ عطش األنها ِر َود ُْق االنتظار ا ُمل ِّر يف حزين البص ْري أم ُّر يف الظالل ظ ًّال خافتا يسحبني إليه ُ صوت الغيمة البيضا ِء يطويني كام كتاب أهل الليل يسقي غبيش ينرشين للتيه أجر ًاسا ونايْ وهران هل يف «البِشرِ ِي» يل مقعدٌ وكاس ْ
وناس وضوضا ُء ْ يفجعني ُ البيت الذي ترك ُت ُه األشجا ُر يف الشتا ِء الباب بال َغ ْ ُّ زل دق ِ ووجهُها ُّ يطل باردًا وأن ُفها الغري ُر ُ والشال الذي ع ّلمني ما مل يعل ْمني ْ جبل ُترى سيأتيني املطا ْر الغريب يحتاجه بطائراته مح َّمال مبا ْ ُ وجو ِه أهيل قريتي أعشا ِبها أغنا ِمها الطبيب هوا ِئها ْ ُ الشوق نهارايت يفرتس ُ يغ ِّذيني انتظار ما.. ُ الخفافيش وتهذي يف خرابايت حاجات يدي يدي رما ُد ِ يف فدف ٍد أعدو وخلفي يركض املوىت يراين من يراين م ِّيتا ال ق َرب يل يحو ُم من حويل الدر ُ اويش هَ ال يا ط ُري .. يسمع جناحي الط ُري مل ْ ثوب الرث َّيا .. يا هَ ال ُس َه ْي ُل ها هنا ُ َّ الس ْح ُب ُس َه ْي ْل غط ِت ُّ يا سائق األضعان يا ابن الرمل يا عتيج.. ُ
مل ْ عتيج .. يقف ْ تل َّفت َْت أظعانه ومل ْ عتيج يقف ُ ذئاب يا َغ َضا يا ُ ويا َم ْر َخ الدعاث ِري هسيس الجنِّ والنوق العصافري َ ذئب يف النجو ْم انتهى عوا ُء ٍ ْ يلتفت سوى الصدى مل ْ الظنون وظبي ٍة من تربق يف وجهي قليال ثم تنأى يف السديم.. ْ ا ْبتع ْد ..منْ َ أنت؟ تلمس ُترايب ال ْ ليس يل قافلة يف الشام ال وال عرا ٌر يف اليمن دمي ِفرايش ٌ سالالت الشجر الطالع يف وجهي الس ْح ِر من ِّ الحروب وذا سيفي نصيبي يف ْ ال أ ُفقٌ يأوي شتايت وأغيب.. وأنا هنا بال قص ٍد أغنِّي ْ أرقص كالجنِّ ويف دمي مزامري السام ْء ُ تقرتب أكرث من قلت ا ْبت ِع ْد ..ال ْ شربين ِ اليوم بعد ان ر ال وه ِ ال ْمت ٌر وال ما ٌء وال ميعادُها يف الخلفي الشارع ِّ ال خ ْم ٌر بال وهر َان.. َ األموات ضحك وحدي ُأ ِ أحشو سرَُّ يت بالرمل أدعو النمل للعشاء يف تيهي الثقاب للخفافيش وأقدح َ أس ِّمي َ الليل والبح َر وأرمي ورديت للشعرا ْء 31
نصوص
مريم شريف ال أريدُ نسيان هذا الشتاء
ال أريدُ نسيان هذا الشتاء وال أريده أن ينتهي تذهب بذهاب ِه: أشيا ٌء كثري ٌة ُ صداقتي مع املدفأة، يرشح من الغيوم الضوء الذي ُ شحيحاً ومرتدّداً ،بحيث ال يتناقض معي وال مع األرض اإلحساس بأبع ِد الرب ُد اللاّ زم ألستعي َد َ مسامات جسدي الشوارع الرماد ّية املاطرة حني يح إىل الخلف تسحبها ال ّر ُ أوهام ال أريد أن ينتهي الشتاءّ ،مثة ٌ يخلقها الشتاء كام تختلقها الحاجة،وأنا ما ُ زلت يف ّ كل يوم أختلقُ السبب تلو السبب ملجيئ اليوم القادم، أقل األشياء التصاقاً زلت ُ أفعل ّ ما ُ مبعنى الفعل أترك مكاين للمكان األضيق ُ حيث يكون الفر ُاغ ّ أقل يف املساحة الصغرية ُ ً والدّقيقة ال تحتاج دقيقة أخرى للمرور من أمامي..
مثل صور ٍة قدمية
أحيا أمام ذاكريت ال أمام ما يحدث حني أموت 32
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
ُ أموت مثل متثالٍ عاشت فيه مئات السنني وتهاوى من ثقل أعامقه الفارغة 2 الحجر الذي رمي ُت ُه يغوص يف البحر ما زال ُ مل يجد القاعَ بعد رمبا لن يجده يوماً برود ُته ما زالت فوق يدي ،منذ سنني وما زال عىل تلك الحالة من الغرق.. 3 تهب منذ األزل الريح التي ّ وحتى آخر الكون ال تأيت من خلف الجبال تأيت من لحظ ٍة يف صوتك.. الريح التي مت ّر من أمام عينيك تأيت لتلمسني.. 4 ُ ذهبت إليه آخ ُر مكانٍ صار بعيداً.. آخر كلم ٍة قلتها ُ خصصة تنزل مع صوتها األدر َاج ا ُمل ّ لصعود الزمن ّ كل ما هو تحت هذه الكلامت: الحب ،واألمل..والحامسة ّ يصبح قدمياً ُ ما أن يذهب ُ الليل بظلمت ِه الرحيمة ُ :الخرق الجديد يف ثم يأيت الغد ّ جدار الكون ويكون ع ّ ُ يل أن أختار املكان والكلمة أتص ّيد الحامسة والحب والشوارع
أريدُ أن أكتب عن يشء آخر
أخىش أن يبدو ُ الليل حزينا من كرث ِة ما ُ كتبت عنه أريد أن أكتب عن يشء أخر هل ّمثة ٌ منسوج بيدين حانيتني ليل ٌ يوضع موضوعاً يف مكان ِه بعناي ٍة كام ُ الضوء ومع هذا أريدُ أن أكتب بتلقائ ّية َمن يعو ُد من الوهم، تج ّو ُ لت يف الوجوه التي تعرفني مل تعرفني ح ّقاً أنا ُ عرفت أشيا َء قليل ًة عن املالمح واالبتسامات واالعتذار رمبا أكتب عن ذلك َ عن أصدقايئ ُ : وأولئك الذين مل الليل أعرفهم بعد ُأو ّفرهم لقلبي غربا َء وط ّيبني.. أريدُ أن أتحدّث عن رغبتي بالتاليش ليس أن أغيب ،ولكن أن أمحو صوريت من ّ كل عني وصويت من ّ كل سمع،وظليّ يف أيّ قلب ّ ُ كام أنظف الزجاج حتّى ال يبقى أثر وقعت عليه ٌ ْ كلمة األث ُر يتأ ّل ُم إذا ٌ فضفاضة بحيث يبدو صغرياً ويتأ ّل ُم حني ُيخدَش.. ومع هذا ينبغي أن ال أقول ذلك يك ال تظنّوا أنني ال أبتسم أبتسم ح ّقاً أنا ُ والحيا ُة ال ُتحزنني كثرياً..
ُ سأعرف أ ّنها أنا
يف املطر،عرب املسافات ُ سمعت صوتك حزيناً، ومرتدّداً أستطيع تفسري حزن ِه ُ ُ ُ ونظرت إىل فتحت النافذة لو البعيد سأرى املرأ َة التي تس ُري يف الظلم ٍة تحت املطر، سأعرف أ ّنها أنا يف الطريق التي ال ُترى نهايتها يف املسافات التي ال ينهبها الوقت ُ سأعرف ّأن الحزن كان يف املطر ويف العتمة كان َ صوت املرأ ِة التي تنهبها الطريق ومل يكن يف صوتك..
بعد ْأن هدأت الريح
ْ هدأت الريح حتّى بعد أن ظ ّل ْت يداي باردتني ظ ّلت األشجا ُر تهت ّز واألوراق الجا ّفة تتساقط وكانت كثري ًة تدو ُر حويل
أو رمبا مل تكن األشجار تهت ّز ومل تكن األور ُاق تتساقط لكنّ يديّ ظ ّلتا باردتني هذا ما أعرفه ّ هذا ما يجعلني غري متأكد ٍة من يش ٍء آخر..
عبد الغني فوزي عىل سفر
من عنادك الضالع يف مائه أسقى.. وأنترش عىل حبايل النافرة كأين هواء يرى من دق بايب يف آخر الليل غري حفيف .. مل تسعفه األيادي وأبقى هناك عالقا ببال غصة مسمرة عىل حلكتها أخيط األصداء املرتدة لهذه األصابع لعيل أستجمع بعض الغناء وأمتص لحن الفقد
عميقا يف دمي هكذا .. أعلم الحطب الساقط الحبو وأميش بكامل الظالل إىل حيث هي ويا ليتها لباسا يل من عنادك.. أسقى وأقاد مأخوذا ـ يف سبك مجراك ـ بصمت العشب الحزين يف صدى القرار أرأيت ..؟؟ الريح التي تتنادى يف أسفل باألسامء تحت سامء اليتم كلام عربت عىل الجثة طفح الصوت وتجلت أجزايئ .. كام اإلشارات الضاحكات من شنقها وارث طعنة الرداء أنا أخطو مبشيئتك بني خرابني أخطو.. والباب عالق بعيني املغمضتني فلتستظلوا أو تستدلوا بألواح القفص يف انتظار عودة األصابع من القفل ، القفل الذي يطوي عىل األعناق امللتوية ويتنطع بكامل األفق املوصد 33
نصوص
محمد الفي وصية ّ
(( إىل مراد السوداين))
هكذا باختصا ْر هل ُ سيرتك يل ُ املوت يف ساعة االحتضا ْر فسحة ألقول لكم : َ أطلقوا خلف نعيش الصعاليك – الغريهم – أتقيايئ الصغا ْر من عىل حلمهم ركضوا خلف نجم املناشري ِ واصطدموا بالجدا ْر !
لوحات
ليل ّياً ُ تنبت فوق جدار الغرف ِة
أحمد الطرس العرامي
السحاب
السحاب: ّ املواعيد ناشبة يف ضفرية هذا املساء، القصيدة تنزف أقامرها ُّ وتعض عىل شفة الربق، باب املتى ٌ حائط ٌ مائل 34
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
ُ منذ زمنْ ٌ ٌ شطآن ،و منار ٌ محيطات، ات ،و وس ُفنْ ُ غابات ،وطيو ٌر ،وقطار ٌ ٌ ات ،و ُمدُ ْن و وجو ٌه أعر ُفها ،أو ال أعر ُفها ٌ ٌ وطن ما رشفات ساقطة سهواً من ٍ ليل ّياً ُ منذ زمنْ ُ نفس اللوحات ولكنْ -أبداً– تتشكل ُ ّمث َة يف أقىص ٍّ كل منها يف الزاوي ِة اليمنىُ ... نعش وكفنْ !
حرية
قطر ًة قطر ًة ُ الصمت أسئل ًة ووجوهاً، يرشح ُ رؤىً وطيو ْر ًرج الصائدينَ ،وأسألني تستدير إىل د ِ كلام عسكر ُ الليل فوق املدين ِة: أين أدو ْر ؟!
مط ٌر ٌ آيل للسقوط عوا ٌء تعرث بالريح، ُ ريش الحنني تطاير، ُ سقف الغ ِد املتجم ِد ذاب. ْ السحاب: ّ كوة يف جدار السامء املريضة، باب الصدى املتواتر، جرح املدى، اية ٌ ر ٌ رثة
يف أعايل الهباء، اب الفتوحات، تر ُ ُ منديل أرمل ٍة جففته املرايث الكسولة ، َو ْق ُع التناص ِ عىل مدخل القرب، أحالم من رحلوا علقت خلفهم صدئت مثلهم فوق ِّ رف الغياب. حاب: الس ْ ّ
علي الزهيري عزف منفرد بذكــريات زما ِن ِه ــج ِ ٌ قلب َي ُع ُّ يح مــــن ريحا ِن ِه مييضَ ..ي ُل ُّم ال ِّر َ فيه الحقيق ُة أسـر َف ْت بظاللِها مت يف بركا ِن ِه واحت َّد الص ِ مــــوج َّ ُ َ الخريف عىل يدي ِه وما َس َعى َو َج َد يلقا ُه يك ُيشقــي ِح َ بال «كــام ِن ِه» حبل ِّ لكنَّ َ الحظ ُيشقـي ذا َت ُه ُّ ويغض َ الح ِّب عن ألحا ِن ِه صوت ُ ْ تجس َو ْق َع عُ يو ِن ِه كانت خطا ُه ُّ َ َـــصف الليلِ بني َبنا ِن ِه قيس ع ْ و َت ُ يخـــتا ُر دَرباً ثم يثنــي دَر َب ُه َ ليكون أ َّو َل مــن وىش مبكـــــا ِن ِه من أين يبدأ من أضاعَ ُضلو َع ُه َ وانهـال ُ امللح فوق ِطعا ِن ِه ؟؟ سيل ِ ٌ حفنة من رماد األساطري باهتة شاعر (ضاع يف األفق خامته)، محن ُة االستعارة وهي ترتق جرح الفضاء بأمعائها، الكنايات منشورة يف حبال أفاعي الربوق، القصيدة مسكوبة حجراً يف إناء الخليل ومسفوحة كالرساب. السحاب: ّ
أ ِمنَ الهوا ِء ؟؟ من الفر ِاغ؟؟ من ا ُملنى ؟؟ يا َ الحـــــــــلم يف إمكـــــــا ِن ِه ليت َّأن َ ُ ْ وأســــــرفت املكــان عىل ُخطـــاه َخ َّر ريح َّ وب َظ ْهـــــ َر ِحصا ِن ِه الشـــــاملِ َت ُج ُ ُ ني جـــــــــ َّرد َ نبضــــهُ ما بني قافــــــيت ِ َّ ـــــــــح ِظل ُه ِب ِلســــا ِن ِه ميس َّ ُ وانكـــــب َ وعــــــــواصفٌ يف راحـتي ِه َحمــــــا ِئ ٌم ِ ـــت مـــــن ِكتْام ِن ِه الص ْم ِ وح َّ يغـــزلنَ َب َ ْ فـاضت به أنخـــــــــابه وكــــؤوســــ ُه وانسل ُ َّ خيط الفــــج ِر مــــــن أحزا ِن ِه ُ أمســـهُ؟؟ أيخــــون واقعـــــــه َ ليبرص َ َ املجهــول رَهْ نَ ِرها ِن ِه؟؟ أم َي رْت ُُك مل يعترَ ِ ْف يومـــاً لِ َمـــنْ عَبرَ وا املَــــدى َّأن املـــدى من دم ِعــ ِه ْم وحنا ِن ِه ُــــــم برحي ِل ِه ـــم مــــــن تعثرَّ وق ُته ْ هُ ْ َ َ ـــــم عَصــــا ِح ْرما ِن ِه ف َرأى بعرث ِت ِه ْ ج َّرت ُه ُّ األغــــــــــــنيات ملــــــو ِت ِه كل ِ ُ عزف « كام ِن ِه» وأىب ميــوت بغري ِ ِ
املتاهات موهومة بالتشكل، صحراء فوق عصا الريح، رقم وحيدٌ ٌ تك ّلس يف خانة األفق، ٌّ ظل مىش وحده –تائها- بعد أن فارق األصل، رس ِه مرآ ُة ما ٍء تآكل يف ِّ تحت جلد النهارات، فوىض زفري الكالم،
ٌ خيول ترجل أصحابها، ٌ صيحة نسيت دربها، شاطئٌ ٌ مثل، ٌ موجة شـردت، وطن عاب ٌر م َّر ـحاب الـس ْ م َّر ّ 35
نصوص
حبيب الزيودي عودي ناقص وترا
اىل تيسري السبول..
ياسر األطرش ُ وأدخل ..يف َر ُج ٍل من ضباب فر ٌ الوقت اش عىل جبهة ِ يخبو اب وصبح رس ْ ٌ أعدُّ الذين مضوا واسرتاحوا فيميض نها ٌر الروح ويعبق يف ِ أقرب – َالغياب .. ورد ْ يصيل انتظاري صالة املساف ِر ال ماء ينمو ، وال امرأ ٌة اب .. يف نشيج الرت ْ وأعدو أسابق ظليّ الفق َري
36
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
أدوس علي ِه فيبيك ، يسرتيح ويرفض أن َ فأبقى وحيداً ومييض وحيداً ذهاب .. كأين ٌ إياب ... وظيل ْ يغادر رشفة قلبي الحن ُني فتصف ُّر أوراق دمعي ُ وأسقط عيني عن غصن َّ فآب .. آباً ْ .. أحاول أن أستعيد خطايَ الرجوم وأن أهتدي بالنجوم – ِ الوضوح أصوغ َ فأخرج مني وأدخل يف رجلٍ ضباب من ْ
أنا ابن األرض وابن الغيم نايي زائد ثقباً وعودي ناقص وترا حملت سفوحها يف السنديان عزفتها لحناَ عىل الوديان ثم نزفتها مطرا وا ّلفت القصائ َد ال كال َم وال هيا َم وامنا ا ّلفتها قمحا يفيض عىل السهول وصغتها سفحا يغيض عىل الوعول وكنت بينهام ّ أطل عىل سدوم أطل من ول ٍه يزيد صبابتي سهرا وا ّلفت القصائد ال حروف وال سيوف احتار ابراهيم اذ راوغته قمراَ ّ اطل عليه واسترتا ونايي زائد ثقبا وعودي ناقص وترا ذهبت اىل الشامل اىل ايب ّمتام أساله : أكان (السيف اصدق) أم جمحت ؟ فقال :أصدق ؟ أنت توجعني فس ّد الباب واعتذرا فعدت اىل الجنوب ألنقل الخربا ملاذا خانت الدحنون حمرته اذا ما ّ انحل يف خديك حني نهبته نظرا انا ابن االرض والغزالن _ان اغواين
سفح الخدعها الصياد _يف ٍ وقد وردت عىل غفل ضفاف النبع وهو هناك يرصدها جفلت وزدتها حذرا فعاد يج ّر خيبته عىل عزيف ونايي زائد ثقبا وعودي ناقص وترا أنا ابن االرض ع ّلمني الغامم دروسه يف ّ الشعر وهو ين ّقح النعناع وهو يزحزح االيقاع وهو ّ يوضح االوجاع حني يسيل منهمرا ّ أسطر دفرتي مبزاج ح ّرات يسطر أرضه يف الفجر اثالما فيطلع دفرتي حكام ويطلع حرثه مثرا فيشمت يب اذا جمع الثامر ،
يرى عىل وجهي هزمية كل من أعطى وما انتظرا ويشمت يب وقد حمل السالل وكنت أعذره فكيف لذلك الحراث أن يتفهم اللذات تحت أصابع النحات ملّا ذ ّوب الحجرا فقلت له غدا إن جف ماء الغيم ُ فضت عىل القرى نهرا ونايي زائد ثقبا وعودي ناقص وترا وكنت وراء موىس ،اذ يناجي الله تحت النجم منكرسا تصدع قربه جبل فخر عىل تراب الطور واعتربا خشعت فسال دمعي
رهبة وعزفت : نايي زائد ثقبا وقلبي ناقص وترا أذان الفجر أكملت القصيدة والصالة ّ أطل تيسري السبول وقال كيف تطيق هذا الليل خذها بغتة يف الرأس قلت طلعت رغم جحوده قمرا و أنت اخرتت بابا للحقيقة غري بايب حينام واجهت نزف الحرب منتحرا ولكني ذهبت اىل الحديقة إذ وجدت األرض عارية الكسو عريها شجرا ملاذا مل متت كالصقر قلت له رويدك أنت صقر وابن عائلة ولكني سليل القمح سوف أموت حني يجف عشب الحقل تحت الشمس حني أصوغ هذا الناي من فوضاي تنزيال عىل البيداء أو صورا ونايي زائد ثقبا وعودي ناقص وترا تبسم يل بوجه طيب فغرقت يف االيقاع وهو يعود للمجهول منبهرا
الرسومات :فاطمة عبد الله لوتاه
37
رأي الناقد
منسوب إبداعي وتفاوت فنّي قراءة في نصوص العدد الثاني من «بيت الشعر» ً ً شعريا بين تفعيلة نصا احتوى العدد السابق من مجلة بيت الشعر «تموز – يوليو »2012على أربعة عشر ً سيما ّ وأنها حملت تواقيع مبدعين وإبداعي ،ومن تفاوتات فنية ونثر ،ال تخلو من منسوب شعري أيضاّ ، ٍّ ً جنبا إلى جنب مع شعراء ما زالوا في رسخوا أقالمهم وأسماءهم الشعرية على مدى سنوات من العطاء ّ
مقتبل العمر ومعارج التفرّ د الشعري .ها هنا إشارات استطالعية سريعة أو اشتباكات قرائية عابرة مع هذه النصوص الشعرية حسب تسلسل ورودها في العدد
خلدون عبد اللطيف سامل أبو جمهور « -مدار الحديث»
ينتاب القارئ شعو ٌر ّ بأن قصيدة «مدار الحديث» تسري نحو خامتة رومانسية ُ فالحديث الذي يدور عىل نفسه ومحتومة، وعن الحب يوحي بذلك ،وهو ما يؤكده سامل أبو جمهور عرب قوله «يدور الحديث عىل نفسه» و «يدور الحديث عن الحب» ،ناهيك عن قيام الشاعر بتكرار الزمة «يدور الحديث» مرات عدة يف سبيل تهيئة املنت الستيعاب التفاصيل ،قبل أن يكرس حدة هذا اإلنثيال والتمهيد الذي احتل قريباً ثلثي القصيدة باالنتقال إىل الطرف اآلخر من املعادلة الحياتية الحب والسالم متاماً ،وما هو أكرث والوجودية ،إىل ما يناقض ّ اآلدمي ،حتى التصاقاً بالواقع وقرباً إىل نزعة الشرّ التي تسكن َّ اآلدمي وجودها لو كانت تلك النزعة مج ّرد حلم أو أنكر ذلك ُّ فيه «يدور الحديث /عن الحرب /ميألنا الرصاص /ويشحننا بالبنادق /فيحلم ٌّ كل بقتل أخيه»
حسن املطرويش « -تغريبة بني قامطني»
أتاحت تفعيلة بحر الرمل «فاعالتن» للشاعر حسن املطرويش
38
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
أن يح ّرر نصه بوعي وذكاء من رتابة البناء اإليقاعي التي تقع فيها غالبية شعراء التفعيلة بال وعي يف أحيان كثرية ،فقصيدة «تغريبة بني قامطني»« :قامط الوالدة» و «قامط املوت» ،فهو «الطالِ ُع مام َت ْر ُ فض ُ حروب ال ّز ْن ِج/ األرض /و ِمنْ ب ْر ِد األقايص /من ِ اإلبادات /ومن وتواريخ من َش ِّد املطايا/ ِ ِ ني» .هناك التقاطات دقيقة تغريب ٍة بني ِقامط ِ ّ للعاديِّ واليومي يف هوامش الحياة تكفل بها املطرويش ليقدم وجبة شعرية خالصة ،لكن أخىش أن اإلفراط يف استحضار الرموز الرتاثية والدينية لالتكاء عليها ،إضاف ًة إىل هيمنة النظرة الفلسفية ومحاولة عقلنة األشياء ،هي أمو ٌر قد تفقدُ النص باملحصلة جزءاً كبرياً من شاعريته وهويته الواضحة.
جعفر العقييل « -صهوة الرثثرة»
عرب هذا النّص ،يقحمنا القاص والشاعر جعفر العقييل يف يتوسل رؤى وتأويالت لعبة البحث عن الجدوى ،وكأنه ّ فلسفية خاصة ،عرب تناول األصابع وخربشتها وارتجافها،
نصوص
سالم أبوجمهور حسن المطروشي جعفر العقيلي علي الشعالي صالحة غابش عبدالزهرة زكي ابراهيم الوافي بريهان الترك عبد اهلل أبو شميس جوالن حاجي عبيد عباس نور البواردي راسم المدهون محمد عنيبة الحمري
عيل الشعايل « -أمواج وحرير»
يف نصه القصري نسبياً «أمواج وحرير» ،ينشغل عيل الشعايل بارتعاشات العالقة الحميمة مع تلك التي لصوتها طعم «ناعم /ماك ٌر /كالرحيق املوشح باألمنيات» .ومبا أن الغاية ٌ هي تصوير انعكاسات املشاعر التي خلفتها العالقة من خالل استنطاق الكوامن ،فقد جاء االهتامم باللغة والظالل التي ميكن أن مت ّدها يف الدرجة الثانية ،وتق ّدمت أولوية بتعويض جام ِّيل للوحشة «قويل سام ًء البحث واملطالبة ٍ إضافي ًة /..قويل محيطاً وشمساً /وقويل ولهْ».
صالحة غابش « -غريب»
نعرث يف قصائد العراقي عبد الزهرة زيك عىل درجات عالية من الشعرية والوعي ّ بالشكل الكتايب ،كام أنها ال تفرض مساراً تنغلق عىل نفسها أو ُ قرائياً واحداً .يف َ غريب «مثل ضو ٍء ٍ نس َي ُه النهار» محاورة شعرية من طرف واح ٍد ،أو مونولوغ يتدفق من الخارج إىل الداخل وليس العكس كام هو مألوف ،عرب التأمل ثم الغلبة لتلك التي «متيض /إىل بي ِتها الال الكوكب الذي يدور» .أما يف «نس َي ْت شفتَيها مريئ /عىل ِ عىل الفنجان» ،فنحن إزاء قصيدة ال تخلو من اقتناصات برصية أو باألحرى مشهدية درامية متصاعدة تصل ذروتها بانتصار الحياة .هنا تعزيز االرتباط بالجوهريّ ،وتقط ٌري للحب من املرارة «فيام كانت شفتاها /ذائبتني يف القهو ِة/ ّ الحي /للشجر ِة املنتصب ِة يف ر الجذ يف أخرى/ ة بحيا تنبضان ِ ٍ ِّ الساحة». لوحة للفنان ضياء العزاوي
ومن خالل االشتغال عىل اللغة اليومية ،حيث ّ كل يشء داخلها ُّ يدل عىل نفسه «وحس ُبنا ْأن َ ننصت الرتجافها /هي تبوح /يك ال نبوح» .العقييل ،والحالة هذه، يقدم تعريفات شعرية وغري معقدة لألشياء وتش ّعباتها التي تتب ّدل تلقائياً لنصه مع تب ّدل الذات ،كام ال يرتك ّ أن يبدو جامداً ،بقدر ما يحركه من خالل السرّ د أو عرب تهيئته لرتجيعات برصية يف الغالب ،مثل قوله «تخربش األصابع» أو «تتعربش يف الهواء».
عبد الزهرة زيك َ - «مثل غريب نس َي ُه النهار» ضو ٍء ٍ و «نس َي ْت شفتَيها عىل الفنجان»
ٌ ومسكون رومانيس نص «غريب» لصالحة غابش قص ٌري، ّ ّ َّ بالشك الذي تولده كاف التشبيه منذ أول سطر «كأنه صوت أغنية» ،مثلام ييش كذلك بالبحث عن االتحاد وحلولية ّ كل عاشق يف معشوقه عىل شاكلة االلتامس حلم أو أمنية هبهات تتحقق ،ألن الصويف املعروف ،لكنه ٌ ال َّرفض مصريها ،فيكون التعويض عنها برفض فكرة الرفض من أساسها ،وبالتايل إثبات تح ّقق ما استعىص «وإن مل يلتق النبضان يف نبض /وإن رفضتهام أنشودة العشق /ستبقى الرفض». رحلة العشاق /ترفض مبدأ ِ
25
ابراهيم الوايف « -جنسية»« ،عمى» و «مرآة»
ثالث قصائد قصرية وتفعيلية إلبراهيم الوايف ال تخلو من انسجام وتصاعدية واهتامم بخلق التفاصيل .يف قصيدة «جنسية» مكاشفة وحنني إىل «الرفاق القدامى» مينح التائهني وطن آخ ٍر ُ واملايض الذي مل يبق منه «سوى ٍ ٌ الرجوعَ /ألسامئهم…!» .قصيدة «عمى» ٌ ورغبة يف شغف تغيري منطق االحتامالت ،ويف انتشال العامل من مستنقع الليل ،بالفعل ال بالقول فقط «سوف أفت ُّش عن ض ّف ٍة للصباح /...وأجمع للفقراء الصغا ِر غناء العصافري يف /سدرة ْ املنتهى…!» .أما قصيدة «مرآة» ،فتستحرض للوهلة األوىل أسطورة نرسيس «تراءى عىل املاء وجهي ،»..لكن رسعان ما يتبدد ذلك حني يحرض األب بقوة
39
رأي الناقد
عبيد عباس « -رشفة قدمية»
هي رشفة قدمية لكنها «أقرب لل ِه من الناس» ،وهذا قرب مجازيّ رصف ال مكا ّين .الرشفة كذلك أرملة «فقدت ٌ سوسنها وربيع تحضرّ ها» ،لكنه ليس فقداناً أبدياً ،رغم أن عبيد عباس مل يشأ أن يح ّمل رشفته القدمية ما ال طاقة لها به ،وإن كانت ممهّدات القصيدة تتطلب خامت ًة تصارع فيها الرشفة القدمية دمعة الحزن والجرح بالبهجة والربيع وغناء الورد الذي تك ّرر الطبيعة والدته مرة أخرى.
بريهان الرتك « -نصوص»
متدفقة وزاخرة بالتوازيات والتناقضات وال ّرشقات النرثية العالية ،لكنها ال تقوم بوظيفة نقل الصورة عىل حقيقتها بقدمي إىل جهنّم /ال ألتباهى «ليأخذوين إىل جهنّم /فألذهب ّ ألرتاح ُوأش َفى» ،ناهيك عن امتالك جوالن لغة جارحة بل َ وخارجة عن مألوف الكتابة الشعرية السائدة بني أقرانه.
نور البواردي « -عامئة يف الهواء»
كام هو حال نصوص بريهان الرتك التي أرشنا إليها آنفاً، تجيء قصيدة نور البواردي من حيث الشكل الهنديس عىل هيئة مقاطع قصرية ومر ّقمة من 1إىل ،10كام أن لكل مقطع استقالليته داخل إطار النص الجامع لها تحت عنوان ٌ عنوان يعدُّ متهيداً ومفتتحاً مبارشاً ملا «عامئة يف الهواء» ،وهو أرادت الشاعرة قوله .نربة املقاطع خافتة يف معظمها وقريبة إىل الهمس «يف أقىص قلبي /فر ٌ اشة تغزل من ُح ُّب َك قصائد ُمل َّونة».
ترتك الشاعرة األردنية الشابة بريهان الرتك لنصوصها أن تأخذ شكل مقاطع متفاوتة الطول والقرصّ ، وكأن كل واحد منها قصيدة مستقلة بحد ذاتها ،تتل ّبسها ٌ حالة أشبه بالحوار مع الذات أو مساءلتها «قافلة من الجياع تعوي يف دمي»، فيام يأخذ بعض النصوص شكل الومضة الصادمة واملكثفة عىل األرجح ،كام يف قولها «الحرس أخرس /إىل أن يقع يف راسم املدهون « -بيتي» خفي، فمنا» .نصوص بريهان مرتبطة فيام بينها بخيط ّ نص احتفا ّيل ومنساب كالحرير ،وفوق هذا وذاك مؤثث وأقرب ما تكون إىل الفسيفساء. شفيف وجوهري هو «البيت» الذي بعناي ٍة ودربة ،عرب رمز ٍ يجمع وال يف ّرق ،ويغدو يف املحصلة بؤرة لتعالقات الذات عبد الله أبو شميس « -يسمونه الحب» ّ ً وخالصة اغرتابها ،مشكال مركزية الحدث الذي تدور باقي تجري قصيدة عبد الله أبو شميس بضمري املتكلم املؤنث منذ أول سطر «أنا امرأة حرة وسعيدة» ،ما يذكرنا – عربياً العنارص يف فلكه بحيوية داخل القصيدة من أولها إىل آخرها «بيت يسكنني مرة /فأسكنه ألف مرة» .يف آخر سطرين، – بصنائع نزار قباين ومت ّرد املرأة يف قصائده ،وهو التم ّرد ينجح املدهون يف خلق اإلدهاش واملفاجأة املتوهجة ،بعيداً الذي يندلع يف قصيدة أبو شميس عىل لسان امرأة ال تني عن الشعارات الجاهزة وتقديم املواعظ «بيت يل /يصعد تؤكد وجودها وحريتها وذاتها طوال القصيدة ويف خامتتها عىل ظهر ذاكريت /ال ينام /ولكنه ال يدعني أنام». نص عبد الله أبو شميس غنايئ «أنا امرأة حرة وعنيدة»ّ . من ابتدائه لغاية ما يشبه منتهاه.
جوالن حاجي – «ثلج»
يحسب للسوري لجوالن حاجي عنايته باللغة وج ّدة تراكيبها ،بحيث ميكن القول إنه ال يكف عن التجريب اللغوي سعياً وراء إيجاد قاموس شعري خاص به ومتفرد. يف نصه «ثلج» الذي يحتمل تأويالت عدة ويحفل بانزياحات متينة ،يواصل التأكيد عىل اهتاممه الخاص برصد أدق التفاصيل الحياتية ،واللجوء إىل أساليب رسدية 40
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
محمد عنيبة الحمري « -كون عام»
هذا النص ملحمد عنيبة الحمري مغسول مبكابدات العشق، وقدر الرحيل الذي هو قدر ّ كل باحث عن الحقيقة والبح ُر/ واكتشاف أرسار الوجود ِ «سنْدباد أنا /سامني ال ُّرب ْ ْ تهاوت /إىل بنجوم أسرتيح إىل قد ِري/ خسفا /فرمت األث ْري/ ُ ْ ٍ ا ُملنتهى» .االنتقال بني املقاطع من حالة إىل أخرى أسهم يف كرس ح ّدة الرتابة ،لكنه مل يو ّلد مزيداً من الشاعرية أو التدفق الشعري
مل
ف
ُر مَّبا
ما ُ زلت ح ّياً يف مكان ما ،وأَ ُ عرف ٍ ما ُأريدُ … سأص ُري يوماً ما ُأريدُ
يحكون
يف بالدنا يحكون يف شجن عن صاحبي الذي مىض و عاد يف كفن
محمود درويش
أثر الغائب 41
تصوير :نادر داوود -مرسح البلد (األردن)
42
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
استعادة درويش
صاحب الفرادة
................................................................................................................................
يف
الثامن من آب /أغسطس الحالي تحل الذكرى السنوية الرابعة لرحيل الشاعر محمود درويش على إثر عملية جراحية في القلب أجراها في الواليات المتحدة ،لم يكتب لها
النجاح ،وكانت خاتمة لسباق طويل مع الموت ظل يتربص بالشاعر منذ أوائل الثمانينيات، حتى نال منه. نقل درويش المواجهة مع الموت على مدى ربع قرن إلى ساحة الشعر ،وجعل من نصه الشعري أداة للبقاء على قيد الحياة والكتابة ،وطيلة تلك المعركة غير المتكافئة لم يستسلم الشاعر وإن خانه القلب في نهاية المطاف ،بل سجل انتصار النص على الموت ،وترك القصيدة مفتوحة ال تنتهي.
ً ً كبيرا يستحق التوقف أمامه مطوالً ،فهو شاعر شديد الثراء ،متعدد منجزا ترك درويش اآلفاق والمستويات ،يتجاوز ذاته بين كل عمل وآخر ،عبر اشتغال دؤوب وصارم على
ً مسلحا بثقافة واطالع واسعين ،ومتابعة دائمة لإلبداع في الكتابة الشكل واللغة والصورة،
وطن ال ٌ وال منفى
هي الكلمات، بل ول ُ ع البياض بوصف زهر اللوز ال ثلجٌ وال ُقطنٌ تعاليه فما هو في ِ على األشياء واألسماء لو نجح المؤلف
والتشكيل والموسيقى والسينما .وفي الوقت نفسه ،فإن درويش الكائن الفلسطيني األمين
في كتابة مقطع
على رواية شعبه وأرضه المحتلة ،لم يكف عن تأمل ذاته ،ولم يترك لفتة أو مالحظة عابرة
في وصف زهر اللوز
ً إال صاغها سؤاالً مباغتا بجدته وطزاجته ،وشكلت تجربته الحياتية وترحاله بين البلدان، ً عينا ثالثة يرى بها ما التراه العين العادية.
في هذا الملف الذي أعدته مجلة «بيت الشعر» محاولة الستعادة الغائب ليس على سبيل
الضباب عن التالل النحسر ُ وقال شعب كامل: ه َو هذا ُ هذا كالمُ نشيدنا الوطنّي!
ً أساسيا في التأبين المتأخر ،وإنما من أجل قراءة جديده لمنجزه الشعري ،الذي يعد
الشعرية العربية منذ الستينيات ،وشكل إضافة نوعية في حركة الشعر العربي الحديث، تركت بصماتها على أجيال منذ السبعينيات حتى اليوم.ويلقي الملف الضوء على ظالل في تجربة هذا الشاعر وتحوالته ،من خالل حوارين مهمين مع الناقد صبحي حديدي والموسيقار مرسيل خليفة ،باإلضافة إلى قراءات ،آراء ،ونظرات متقاطعة ألكثر من جيل وحساسية نقدية. درويش قامة مديدة في الشعر العربي ،ولذا سيظل الشعر يقف عند فرادته وتأثيره في زمنه الشعري 43
ملف
صبحي حديدي
درويش كتب قصيدة حفظت كرامة الشعر
................................................................................................................................ ً اختيارا من لم يكن اختيار الناقد صبحي حديدي إلجراء حوار معه حول محمود درويش وصنيعه الشعري
منطلق نقدي فحسب .صبحي حديدي الذي ّ قدم دراسات نقدية بحس جمالي رفيع حول شعر محمود درويش، قد جمعته إلى الشاعر الراحل صداقة عميقة أيضاً.
حوار :جهاد هديب
بدءاً ،كيف تتأمل جامهريية الشعر باملعنى التاريخي للكلمة ،وهل حقق الشاعر العريب يوماً نجومية ما يف عرصه؟ خذ املتنبي مث ًال ،رمبا ميكن القول بأنه شاعر زمانه ،لكن هل كان نج ًام يف زمانه حقاً وبوصفه شاعراً أيضاً ال فارساً شاعراً؟ ماذا عن مقاربة هذا األمر بحالة محمود درويش؟ ً مفهوم «الجامهريية» غائم الداللة وعائم الربهان ،فضال عن أنه مشبع بالتباسات شتى ،ولهذا أميل شخصياً إىل ترجيح الج ْمعية» ،التي ميكن أن تتس ّيد حقبة مفهوم «الذائقة َ بعينها ألسباب متعددة .طابعها الجامعي ،ولع ّله يفيد معنى «الجامهريية» أيضاً ،هو ّأن سطوتها تنهض عىل توحيد ذائقات فرعية إذا جاز التعبري ،أضيق نطاقاً ،وال تحظى دامئاً طاغ من اإلجامع .األشكال ،عىل سبيل املثال ،ميكن مبقدار ٍ كأن تجد جمهوراً عريضاً أن تتكفل بعملية التوحيد تلكْ ، يتذ ّوق قصيدة العمود ،ولكنه يتباين يف تثمني مناذجها عند أحمد شوقي أو خليل مطران أو محمد مهدي الجواهري أو بدوي الجبل أو سعيد عقل ،ليك نبقى يف القرن العرشين. املوضوعات ،كذلك ،ميكن أن تطلق ما يشبه تحالفات الذائقةْ ، الحب ،أو القصيدة كأن يتح ّمس البعض لقصيدة ّ السياسية؛ أو ينحاز البعض إىل الحديث مقابل القديم، والتجريبي إزاء التقليدي ،والراديكايل يف وجه املحافظ. ويف العموم ،أظنّ ّأن الكثري من الشعر العظيم يبدأ أقلوياً، 44
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
مبعنى أنه ال ّ يصل إال إىل نخبة أ ّوالً ،لكنه يف نهاية املطاف لن ّ األعم ،ولن تتمنّع عليه يضل طريقه إىل رشائح القراءة ّ الج ْمعية أياً كانت تحصيناتها املسبقة. الذائقة َ «النجومية» ،من جانبها ،ظ ّلت قرينة الشعر يف ّ كل العصور كام أعتقد ،ويندر أن نعرث عىل حقبة مل يتسيدها شاعر نجم ،أياً كانت االعتبارات وراء هذا .هو موقع فريد، خاص ،متتّع به كبار شعراء األمم ،منذ األطوار بل نفوذ ّ بنبي األ ّمة، السحيقة الزدهار الشعر ،حني كان الشاعر أشبه ّ والناطق املعبرّ عن كيانها ،وع ّرافها الذي يستبرص أقدارها املاضية والحارضة ،يف السم ّو واالنتصار كام يف االنكسار والهزمية .ويف ثقافات األمم تكررت عىل الدوام تلك الربهة االستثنائية التي ُتلقى فيها عىل عاتق شاعر واحد مه ّمة الج ْمعي لأل ّمة ،وبالتايل رؤيوية كربى ،هي التقاط الوجدان َ الج ْمعية» ،وتحويل الشعر إىل ق ّوة صناعة تلك «الذائقة َ وطنية وثقافية ،روحية ومادية ،جاملية ومعرفية .املتنبي كان من طينة هؤالء ،يف تقديري؛ وكذلك كان والت ويتامن يف أمريكا ،وشارل بودلري يف فرنسا ،وألكسندر بوشكني يف روسيا ،والشريازي يف بالد فارس .ويبقى ،بالطبعّ ،أن يف طليعة اشرتاطات النجومية الحقة أن يكون النجم مستعداً لالنخراط يف جامعة شعرية متعددة األجيال واألشكال يوحد ،أو رمبا يف ّرق ،من واملوضوعات ،عىل نحو يتيح له أن ّ داخل املجموع ال من خارجه أو من فوقه.
محمود درويش ..أثر الغائب
درويش وحديدي
شعره صنع جمهوراً من الناس متعدد املشارب واالتجاهات قيثارة فلسطني الثقافية واملعرفية وقريب من الشعر يف الوقت نفسه ،عرب محمود درويش شغل يف الوجدان العريب العريض ،وأظنه أكرث من أربعني عاماً ،وبرحيل هذا الشاعر بات التلقي أقلّ ما يزال يشغل ،موقعاً معقداً يتجاوز صفة الشاعر ،إلنه شيوعاً ،خاصة يف متابعة األمسيات الشعرية؟ صار «وغالباً صيرّ وه!» صوت فلسطني بوصفها فردوس لعلها رضورة الشعر ،بادىء ذي بدء ،عىل غرار تلك الزفرة العرب الضائع ،وعاشق أرض فلسطني باعتبارها رمز األنثى التي أطلقها جان كوكتو ذات م ّرة« :الشعر رضورة ،وآه لو العليا األسمى واألجمل ،ولسان حال املقا ِوم الفلسطيني أعرف ملاذا!» .اسمح يل أن أقارب األمر من زاوية شخصية، مقابل املهزوم العريب ،والرمز املتح ّرك ىّأن كان ىّ وأن يكون إ ْذ شاء حسن طالعي أن أستمع ـ يف «يف يافا ،يف القاهرة ،يف بريوت، صفوف الجمهور ،من داخل القاعة يف باريس ،يف رام الله…» .وإنه شغل درويش موقع ًا املعتمة ،وليس عرب أيّ تسجيل قيثارة فلسطني التي تداوي حتى ً صفة يتجاوز ا معقد سمعي أو مريئ ـ إىل درويش يلقي حني تجرح ،و ُتشجي حتى حني شعره يف مدن عديدة :دمشق، ُتدمي ،وتشحذ ق ّوة الروح حتى الشاعر في الوجدان وباريس ،ولندن ،وبرلني ،وأمسرتدام، حني تقف عىل اندحار الروح، العربي العريض ،لكنه وصنعاء ،وعدن ،وتونس ،وعماّ ن، وتبدو واضحة حتى حني َت ْغ ُمض، تعرّض ،مرار ًا ،لـ«تهمة» والرباط ،والقاهرة ،وديب ،وسواها. ومتفائلة حتى حني تتشاءم، وقد اعتدت أن أرسق نفيس من ورامزة إىل الجامعة حتى حني مفادها أنه شاعر سحر اإللقاء ،ومهارات الراحل ترصح عن الفرد. ّ محمل على جماهيري ً املشهود لها بالرباعة ،ليك أسرتق هل يبدو دقيقا القول بأن النظر ميمنة وميرسة ،متلصصا ـً والذم القدح حضور محمود درويش ،لجهة ّ كام يتوجب القول ،يف الواقع ـ عىل عالقته مبتلقي شعره عربياً ،كان «رضورة شعرية» ،مبعنى ،أن متغريات ردود أفعال القاعة ،إزاء 45
ملف
يف صالح مرشوع درويش الشعري ،وحدث أحياناً أخرى ّأن ضغط الرشوط املوضوعية ألزم الشاعر بدفع برنامجه ّ الصف الثاين والسامح للمهمة الوطنية باحتالل الجاميل إىل ّ الصف األول .ولكنه يف الحالتني أثبت حساسية فائقة تجاه ً تطوير لغته وأدواته وموضوعاته ،خصوصا يف العقدين األخريين من مسريته الشعرية حني استق ّرت كثرياً معادالتٌ أكرث هدوءاً للعالقة التبادلية بني تطوير جاملياته الشعرية وتط ّور نفوذه األخالقي والثقايف يف الوجدان العريب. صحيح ّأن عالقة درويش بالقاعة ،وبـ«جامهري» الشعر عىل اختالف رشائحها وحساسياتها ،كانت فريدة ورمبا استثنائية بسبب ذلك االجتامع املعقد لألسباب املوضوعية رسخوا قبله والذاتية ،إال ّأن الكثري من الشعراء العرب ّ ومثله ،ويواصلون ترسيخ ،عالقات عميقة ومتميزة مع قاعة لعل جامهريهم ّ الشعر ،ومع قارىء الشعرّ . أقل عدداً رمبا، ّ وأقل شيوعاً كام تقول ،باملقارنة مع متابعي قصيدة درويش؛ ولكن من اإلنصاف أن ُتلت َمس مقاييس التلقي يف معايريها الوسيطة ،هنا ،ال القصوى.
هذا املقطع أو ذاك ،وبواعث تصاعد التفاعل أو مراوحته أو سكونه .وأحسبني كنت ،يف هذا ،أسعى إىل الوقوف عىل طبائع استقبال املتلقي للنسخة الصوتية من القصيدة، وليس اقتفاء خصوصيات األداء وحده ،من منطلق انحيازي القديم إىل التعاقد السوسيولوجي بني الفنّ والذائقة الج ْمعية ،أو ذائقات الجموع إذا جاز يل القول. َ ذلك يجعلني أعود إىل سمة محددة شدّتني عىل الدوام يف شخصية درويش الشعرية ،وأعني عالقته بالقاعة خاصة، وبالجمهور بصفة عامة .معروف أنه تع ّرض ،مراراً ،لـ«تهمة» عجيبة مفادها أنه شاعر جامهريي؛ وكانت هذه الصفة ُتساق ض ّده عىل محمل القدح والذ ّم .لكنه ،وهي السمة التي أعنيها ،حرص دامئاً عىل الوفاء برشوط عالقة مزدوجة ّ الشاق»: مع الجمهور ،سبق يل أن أسميتها «التعاقد الثنايئ )1مع مرشوع شعري كبري مل ّ يكف عن التط ّور واالغتناء واالرتقاء ،يف الشكل واملستويات الجاملية ،كام يف املحتوى واملوضوعات؛ و )2مع قارىء عنيد ،مدمن عىل طراز قيايس من شعر درويش ،تغ ّذيه الشعبية الطاغية لقصائد مثل «سج ْل أنا عريب» و«أحنّ إىل خبز أ ّمي» و«أحمد الزعرت» ّ ّ العايل». الظل و«مديح و«بريوت» املطهر الشعري ويف جميع املدن التي ذكرتها ،أو باألحرى من داخل جميع هل ترى أن ظاهرة محمود درويش الشعرية ستسمر؟ هذه «الجامهري» الشعرية ـ ألنها مل تكن جمهوراً واحداً مبعنى هل سيتم إدخال تجربته إىل «مطهر» شعري ين ّقي ُ شهدت درويش يصح أن تكون يف األصل ـ متجانساً ،وال ّ التجربة من كل ما هو غري شعري فيها بعد حدوث مسافة يعاند القاعة التي تطالب زمنية ما ،كام هي الحال يف الثقافة بقصائد «جامهريية» مثل الغربية مث ًال؟ أتذ ّكر أن محمود الشعر من الكثير «بطاقة هوية» و«أحمد الزعرت» درويش كان ميارس هذا األمر عىل و«مديح ّ ّ الظل العايل» ،فيختار شعره بطريقة شاقة ،قال يل مرة العظيم يبدأ أقلوي ًا، بحسب ما أتذكر أنه ينجز مرشوعاً قصيدة جديدة بعد أخرى ،وصرب ّ إال يصل ال أنه بمعنى الناس يكاد ينفد ،حتى يبلغ شعرياً يف كتاب ثم يعرضه عىل أناس إلى نخبة أ ّو ً تلك الربهة الخاصة الفائقة، ال ،لكنه من مستويات ثقافية واقتصادية حني ُت ْقبل القاعة أخرياً عىل مختلفة وبعد ذلك ينتزع هو 40 في نهاية المطاف لن جديده ،الصعب وغري املألوف باملئة من الكتاب ويبقي عىل ،60 ّ لديها ،وترحب به ،وتتذوقه. يضل طريقه إلى شرائح هل كنت عىل علم بذلك؟ مباذا أسباب موضوعية ،وأخرى ذاتية، تع ّلق عىل هذه املامرسة الصعبة األعم القراءة ّ وقفت وراء كيمياء هذا التعاقد، حيال الذات والقصيدة لدى وحدث أحياناً ّأن التفاعل بني درويش؟ هذين النوعني من األسباب كان مل أفهم املقصود بعبارة «ين ّقي 46
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
محمود درويش ..أثر الغائب
درويش وإدوارد سعيد
التجربة من كل ما هو غري شعري فيها» ،إ ْذ أرى ببساطة ّأن ّ كل ما كتبه درويش وع ّده شعراً ،هو شعر من حيث ّ املبدأ ،صادر عن معلم ماهر متم ّرس وفنّان ،وبالتايل ال أستوعب أن ُين ّقى مام هو «غري شعري»؛ األمر الذي ال يلغي ،البتة ،الحقّ يف االتفاق أو االختالف حول جودة هذه القصيدة أو تلك .يف ّ كل حال ،أظن ّأن درويش كان املطهر األ ّول لشعره ،بل كان املطهّر األش ّد رصامة وقسوة وحصافة أيضاً ،ولهذا ّ فإن ما تركه لنا من منجز شعري هائل ينبغي أن يخدم يف تشغيل أجهزة نقدية ودراسية جبارة، تنكب عىل استكشاف مواطن اإلبداع الكثرية الخافية أو ال ّ َ ّ غري املستكشفة بعد ،فحسب؛ بل ألن هذه السريورة تسدي خدمة كربى للشعر العريب ،حارضاً ومستقب ًال ،بالنظر إىل ّأن شخصية درويش الشعرية كانت معقدة بدورها ،وفريدة بهذا املعنى أيضاً .لقد كان الشاعر املع ّلم ،املاهر ،املحبوب، َ املنتظر ،املعشوق ...ولكنه ،أيضاً ،كان الشاعر الذي ال تريده «الجامهري» أن يكون شاعراً أ ّوالً ،أو شاعراً فقط ،أو الشاعر tout courtكام يعبرّ الفرنسيون .رشائح واسعة من قرائه األوىف كانوا غري راضني عن إرصاره عىل مغادرة أدوار «شاعر املقاومة» ،و«شاعر القضية» ،و«ضمري فلسطني»، و«مجنون الرتاب» ،و«عاشق األرض» ،لهذا السبب الذايت أو لذاك السبب املوضوعي ،أو دومنا أسباب عىل اإلطالق!
كان الشاعر الكبري املع ّلم ،ولكنهم مل يك ّفوا عن إلزامه بأن يكون أكرث بكثري من شاعر كبري مع ّلم .كان ،من جانب أ ّول، ويوحد «حني يعيش الشاعر الذي يرى ويقول وين ّبه ويجمع ّ اآلخرون ،فيصمتون أو يخدّرون أو يف ّرقون»؛ وكان ،من جانب ثانٍ ،الشاعر الذي يكتب قصيدة تحفظ كرامة الشعر «يف مقابل نكوص معظم الشعر ،واعتالل عالقته بالناس». ذلك التعاقد هو املطهر الثاين يف ظني ،وكان رهيباً ورشساً ومتط ّلباً ومفتوح النهايات! القصائد الجديدة ،منذ عقد التسعينيات بخاصة ،الحت يف معظم األحيان صعبة عىل ألن قارىء درويش ّ الذائقة املستق ّرةّ ، ظل ،بدرجة كبرية، ً النص الدروييش الذي بني يديه ،مؤمنا به، مدمناً عىل ّ مستمتعاً وسعيداً ،إىل درجة الخشية من االنتقال إىل سواه .املفارقة ّأن درويش بوصفه املطهر األول ،من حيث إىل موهبته الرفيعة ،وطاقته الهائلة عىل التجدّد ،وذكاء إدراكه لطبيعة دوره يف املشهد الشعري العريب ،وحيوية مامرسته لهذا الدور ،وعناده يف تطوير برنامجه الجاميل…؛ حظي مبساعدة كرمية من املطهر الثاين القارىء ذاته، لسبب مدهش هو أن ذلك القارىء كان يف اآلن ذاته رفيع االستجابة ،متأه ّباً عىل حذر ،ال يرتدد طوي ًال قبل أن ينخرط يف الطور الجديد من مسار درويش الشعري. يف الجانب اإلجرايئ ،الذي تشري إليه ،صحيح بالفعل أنه 47
ملف
كان يعرض مناذج من قصائد مجموعة جديدة عىل ع ّينات مختلفة من ق ّراء يتع ّمد أن يكون بينهم أناس ال ُيعرف عنهم التخصص يف األدب أو النقد ،أو الباع الطويل يف قراءة الشعر .ولكن ،يف حدود علمي ،مل يعرض إال عىل ق ّلة قليلة للغاية مخطوطة كاملة جاهزة للنرش ،ألنه كان يحرص عىل مسوداته حرصاً شديداً .كان كثري التعديل ،حتى بعد أن تذهب املخطوطة إىل النارش ،وكان كثري الحذف ومثة، لألسف ،القليل فقط من النصوص التي مل يعمد إىل إتالفها فوراً بعد استبعادها من النرش .وكنت ،وما أزال ،أرى ّأن التصحيحات والتعديالت واملقاطع املحذوفة ،لدى شعراء مهرة وفنّانني من طراز درويش ،هي يف ح ّد ذاتها ميدان جدير بالدراسة والتأمل.
فن الشعر واملوت
نعود إىل فكرة املطهر ،تدري أكرث مني أن الجدارية كانت األحب إىل قلبه ،والتي أحسب أنه كان يع ّول التجربة ّ عليها لتكون سبباً يف «خلوده» الشعري ،إذا جاز التوصيف هل هي ،أي القصيدة ،حقاً كذلك؟ بالطبع من عني الناقد وليس من عني الشخص اللصيق بالرجل ّ املطل عىل تجربة
الجدارية عىل األقل يف مرحلتها الباريسية وأقصد عندما كان يف املستشفى؟ ّ األحب إىل قلبه، كانت «جدارية» أن أعرف من جانبي ال ّ ولعلها كانت بالفعل ،واألرجح ّأن أياً من مجموعاته الشعرية ،خاصة يف مرحلة ما بعد بريوت ،1982مل يخل من سمة منفردة ،أو سلسلة مزايا ،تجعل له حظوة خاصة يف نفس درويش .كذلك ال أظنّ ،وفوق ّ كل ذي علم عليم، أنه رأى يف أيّ مجموعة امتيازاً استثنائياً يجعلها حماّ لة «خلود» شعري ،بافرتاض ّأن الخلود بهذا املعنى راوده أص ًال .خصوصية «جدارية» أنها كانت برهة تح ّد فائقة للغاية ،أراد درويش فيها إدارة فضاءات اشتباك ـ طاحنة، كام أجيز لنفيس القول ـ بني فنّ الشعر واملوت ،العافية واالعتالل ،البقاء والفناء ،والوجود والعدم .والذين شهدوه ميوت رسيرياً ،باملعنى الطبي والتقني املحض للتعبري ،يف باريس سنة ،1998وكيف «قام» ،وأنجز «انتفاضة» عىل جسده ،كام عبرّ ج ّراحه الفرنيس ...يدركون مقدار العنفوان، اإلبداعي واإلنساين ،الذي هيمن عىل مزاجه وهو يكتب «جدارية». خصوصية أخرى هي أنها كانت القصيدة األطول عىل امتداد
تعديالت اللحظة األخيرة هنا بعض األمثلة عىل تعديالت ربع الساعة األخري ،إذا جاز التعبري ،من مجموعة «رسير الغريبة»:1999 ، ـ «والناي يكمل عاداته /يف الحنني إىل ما هو فيه» ،صارت ..« :إىل ما هو اآلن فيه»؛ ـ العنوان «من تعاليم كاما سوطرا»، صار «من دروس كاما سوطرا» ،وانتهى إىل «درس من كاما سوطرا»؛ ـ «وقد ن ّور اللوز يف أثر العابرين»، صارت «وقد ن ّور اللوز بعد خطى 48
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
العابرين»؛ ّ ـ ُ«أ ُ مرت وعُ لمت .ال شأن يل /مبصريي ا ُملراق كامء عىل جلدها» ،صارت « ..ال شأن يل /بوجودي…»؛ ـ «فلم تبق حول الفرات ورود طبيعية» ،صارت « ..زهور طبيعية»؛ ـ « ..شالِك الليليك ،رشائط فيديو، وعقداً من الياسمني عىل طحلب القلب» ،صارت ..« :رشائط فيديو عن الرقص بني الذئاب ،وعقداً…»؛ ـ «فال ب ّد يل /من حصانٍ يالئم هذا
محمود درويش ..أثر الغائب
تجربته الشعرية ،إ ْذ وقعت يف أكرث من 1000سطر شعري، وكان مق ّدراً لها أن ال تكون األخرية بني قصائده الطوال، إ ْذ ظ ّلت تتناهبه الرغبة يف إمتام قصيدة طويلة ،ملحمية وآسيوية باملعنى التاريخي والثقايف األعمق ،عابرة لألحقاب، ّ وتستحث عليها السيرَ الشعبية الكربى كام د ّونتها تستقرىء ِ تراثات العرب واملغول والتتار والفرس والرتك .كذلك انطوت صيغة «جدارية» عىل تحديات تعبريية وأسلوبية ،فض ًال عن أخرى فنية وإيقاعية معامرية معقدة ،تبدأ من خيارات تقسيم املوضوعات الفرعية بالقياس إىل املوضوعة املركزية، وال تنتهي عند تسخري عدد كبري من التفاعيل املختلفة. ولهذا ّ ظل إلقاء القصيدة كاملة ،طيلة أكرث من ساعة أحياناً، مبثابة معضلة يف ح ّد ذاته؛ مثلام كان إلقاء مقاطع مختارة منها معضلة بدوره ،ولكن من طراز آخر. وليك أتابع الفكرة السابقة ،حول ولع درويش بالتعديل والشطب ،أذكر ّأن خامتة القصيدة يف املس ّودة األوىل كانت تسري هكذا« :هذا البحر يل /هذا الهواء الرطب يل /واسمي ثم عىل التابوت يل /إىل آخره /إىل آخره /إىل آخره…»ّ ، تبدّلت ثالث م ّرات ،حتى انتهت إىل الصيغة التالية« :هذا البحر يل /هذا الهواء الرطب يل /واسمي /ـ ْ ُ أخطأت وإن
امتألتّ / ُ بكل لفظ اسمي عىل التابوت ـ /يل .أ ّما أنا ـ وقد ُ فلست يل /.أنا ُ ُ لست يل /أنا لست يل». أسباب الرحيل ـ/
درويش -سعيد ..أيّ منط من التواصل
أحسب أنك كنت شاهداً عىل عالقة محمود درويش بإدوارد سعيد ،ولو نسبياً ،ما الجوهر الذي جمع بني الرجلني يك ميوتا بفارق زمني ضئيل إمنا يف عمر واحد؟ نعم ،شهدتهام معاً يف باريس خالل مناسبات عامة وأخرى خاصة ،كام كنت شاهداً عىل بعض أمناط التواصل بينهام، وما أستطيع الجزم به هو ّأن صداقتهام كانت أعمق من تلك املستويات التي يو ّفرها انتامؤهام معاً إىل فلسطني، وإىل الشطر الثقايف واإلبداعي من الشخصية الفلسطينية. ّ ولعل بعض التنايئ املوضوعي ،الذي نجم عن اضطرار درويش إىل قبول عضوية اللجنة التنفيذية ملنظمة التحرير الفلسطينية ،وامتالك سعيد هامش الح ّرية يف التخفف من هذا العبء ،حال يف البدء دون تالقيهام .ولكني أظنّه صار يف رأس األسباب التي جعلتهام يتقاربان عىل النحو اإلنساين والثقايف األعمق الذي شهدته السنوات األخرية ،وخاصة حني بلغا منطقة نقدية متقاربة إزاء اتفاقيات أوسلو ،وحني
الزمان» ،صارت « ..يالئم هذا الزفاف»؛ ـ «لوالك ،لوال البالد التي تتألأل يف منش الضوء» ،صارت «لوالك ،لوال الرذاذ الذي يتألأل…»؛ ـ أعيش حيايت كام هي /يوماً فيوماً، صارت « ..خيطاً فخيطاً»
49
ملف
انخرط سعيد يف جهد حثيث ـ أكرب ،وأوضح من ذي قبل كام عندما انتقل إىل الغرب ،كيف ينظرون إليه كشاعر يف يتوجب القول ـ يف إعادة تقديم شعر درويش إىل األوساط األوساط الثقافية الغربية يف حدود ما تعلم؟ وماذا عن هذا الحضور الجامهريي الذي كان يحققه يف أمسياته الشعرية األكادميية األمريكية. ّ هناك بالقياس إىل الشعراء الغربيني أنفسهم؟ ولعل االختزال األجمل لعالقة الراحلني ،عىل امتداد ثالثة ً ً ً ً ً ً كان قارئا نهام ،وقارئا منهجيا أيضا ،يف حقول قراءة شائكة عقود تقريبا ،هو هذا املقطع من قصيدة «طباق» ،التي ً كتبها درويش يف استذكار سعيد« :وقال :إذا ُّ مثل نظرية األدب والفلسفة والتص ّوف ،فضال عن الرتاث مت قبلك/ أوصيك باملستحيل!ُ / النقدي العريب ،األمر الذي تعزّز يف العقدَين األخريين حني سألت :هل املستحيل بعدي؟ /فقال: سألتْ : عىل ُبعد جيلُ / وإن ُّ مال أكرث إىل القراءة باإلنكليزية ،واسرت ّد بعض العربية .ويف مت قبلك؟ /قال :أعزّي جبال ّ خصوص اإلبداع كان يقرأ الرواية ،العاملية والعربية ،أكرث من الجليل /وأكتب« :ليس الجاميل إال بلوغ /املالئم» .واآلن، ظل حريصاً الشعر يف الواقع ،ولكن عىل نقيض ما شاع فإنه ّ ُ تنسْ /:إن ُّ ولست أدري مت قبلك أوصيك باملستحيل»! ال َ عىل متابعة النتاج الشعري العريب الجديد ،وخاصة قصيدة إذا كان اقتفاء ذلك املستحيل ،عند الراح َلني معاً ،هو املراد النرث .ومستوى درويش الثقايف الرفيع يتم ّثل يف عرشات الذي جعل الجسد يبلغ ذروة التعب القصوى ،يف سنّ املقاالت الالمعة التي نرشها عىل امتداد عقود ،وخاصة متامثلة. تلك التي تتناول مسائل الشعر «أشري إىل عناوين مثل «هل النص الوجيز ،الذي كتبه سعيد عن شعر كذلك أجد ّ درويش ،أحد أعمق إطالالته عن الشعر ،وهي نادرة وقليلة :ما زال الشعر رضورياً؟» ،و«الشعر بني املركز والهامش»، و«مهنة الشاعر» ،و«الوالدة عىل دفعات» ...وهذا العنوان الخاص والعا ّم يف عالقة قلقة دامئة، «عند درويش يدخل ّ ّ األخري شكل وجهة نظر درويش العميقة حول ترجمة حيث تكون ق ّوة وجموح األ ّول غري متالمئة مع اختبارات الشعر». الصواب السيايس ،والسياسة التي يقتضيها الثاين .وألنه هو مثقف ،أيضاً ،مبعنى تفانيه الشديد يف استكامل ما الكاتب الحريص واملع ّلم املاهر ،فإن درويش شاعر أدايئ يتوجب القيام به من أبحاث متشعبة عندما يكون عىل عتبة من طراز رفيع ،ومن منط ال نجد له يف الغرب سوى عدد كتابة قصيدة تقتيض الرجوع إىل مصادر تاريخية وثقافية محدود من النظائر «…» ودرويش ،مثل أقرانه الغربيني وشعورية ،أو حتى فنية تشكيلية أو سينامئية أو موسيقية. الق ّلة ،فنّان تقني مدهش يستخدم الرتاث العرويض العريب املثال األبرز الذي يرتدد يف ذهني هو قصيدة «خطبة الفنّي والفريد بطرق تجديدية وجديدة عىل الدوام .ذلك الهندي األحمر ـ ما قبل األخرية ـ يتيح له أن ينجز أمراً بالغ الندرة أمام الرجل األبيض» ،التي ظهرت يف الشعر العريب الحديث :براعة أثبت درويش في يف مجموعة «أحد عرش كوكبا»ً، أسلوبية فائقة وف ّذة ،ممتزجة العقدين األخيرين ،1992حني رصف درويش ساعات بحس بالعبارة الشعرية يجعلها ّ طويلة يف قراءة نصوص األقوام بسيطة بإزميل، باملنحوتة أشبه حساسية فائقة تجاه األصلية ،وتفحص رسوماتهم ،وشاهد يف نهاية األمر ألنها بالغة وأدواته لغته تطوير األفالم عنهم ،واقتنى وسائط سمعية الصفاء». وموضوعاته ،في مقابل وبرصية تص ّور طقوسهم الغنائية واملوسيقية ،وقرأ دراسات متنوعة الشعر رضور ًة ..القارئ نكوص معظم الشعر، متعدداً عن وصول كريستوفر كولومبوس إىل بالناس عالقته واعتالل القارة ،واملجازر ،واملجاعات ،وسقوط أحسب أيضاً أن محمود كان غرناطة ،والصعود اإلمربيايل يف تلك شاعراً مثقفاً من طراز رفيع الحقبة. بالفعل ،وتعمقت ثقافته أكرث 50
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
محمود درويش ..أثر الغائب
حروفية ألحمد عقل
أما من حيث عالقته بالجمهور الفرنيس ،فحدث مراراً ّأن ترجامت أشعاره كانت بني األكرث مبيعاً ،حتى باملقارنة مع شعراء فرنسيني ،وحتى حني تكون مبيعات الشعر يف حال من الركود او الرتاجع .وهنا أقصد الحديث عن مجموعاته ما بعد ،1990أي يف األطوار التي شهدت انشغاله بتطوير مرشوعاته جاملياً ،وتخففه من ضغوطات املوضوع الفلسطيني ،وتح ّرره أكرث فأكرث من اشرتاطات املايض البالغية واإليقاعية .وبهذا املعنى ّ فإن القارىء الفرنيس كان ُيقبل عىل الشاعر بصفته هذه ،وليس كام قيل عن ّأن القضية الفلسطينية مث ًال هي التي تحمل الشاعر وتصنع جمهوره العريض.
الطارئ االستثنايئ
رساً أنك كنت قريباً من محمود درويش بوصفك ليس ّ ً صديقاً وناقدا ،مع ذلك مل تنرش ما كتبته عنه يف كتاب؟ هذا األمر يثري االستغراب والتساؤل :ملاذا؟ ،وما رأيك بتناول النقد ملنجز درويش؟ لقد نرشت الكثري عن شعر درويش ،واعتدت عىل متابعة جديده منذ مطلع التسعينيات ،حتى رصت ضحية اتهام زائف مفاده أنني ال أرى شاعراً عربياً سوى درويش، واملفارقة ّأن الراحل كان ميازحني بالقول إنني اآلن ّ منظر قصيدة النرث العربية! ج ْم ُع هذه الدراسات يف كتاب أمر
آخر ،إ ْذ أنني مؤمن ّ بأن عىل أي كتاب أن يولد بصفته هذه، كمؤ َّلف جديد ،منذ سطوره األوىل وحتى خامتته ،وبالتايل ال أميل إىل جمع دراسات ُنرشت سابقاً ،وأراها أشبه بتقديم وجبة بائتة ،أو ّ مسخنة ،للقارى! يف املقابل ،أشتغل منذ سنوات عىل كتاب ضخم عن شعر درويش يف مرحلة ما بعد بريوت ،1982أسعى فيه إىل تل ّمس «أبجدية نقدية» لقراءة القصيدة الدرويشية عىل مستوى اللغة بصفة خاصة ،يف حيثيات تفصيلية مثل جدل االتصال أو االنفصال بني القصائد الطوال والقصار، وحركة املعجم الشعري بني هذين الخيارين ،وطبيعة ما يتع ّرض له املعجم من ضغوطات ناجمة عن املوضوعات العامة املألوفة ،واملوضوعات ذات الخصوصية ،وديناميات الصورة الشعرية «االستعارة بصفة خاصة» ،واملهارات واأللعاب اللفظية ،واإليقاعات ذات العالقة بالخيارات املعجمية ،ومعادالت الغموض والوضوح ،ومورفولوجيا الشحنة الداللية ،وإمكانية كتابة «تواريخ أرشيفية» للمعجم الدروييش ،ورمبا لعدد محدّد من مفردات بعينها :كيف بدأت؟ كيف تط ّورت؟ كيف تغايرت دالالتها ووظائفها؟ ملاذا؟ وما إىل ذلك. وأصدقك القول إنني كنت كلام هممت بإصدار الكتاب، خاصة ّ وأن فصوله أخذت تتالطم وصفحاته تتضخم ،كان درويش يفاجئني بطارىء استثنايئ يف مجموعة جديدة، 51
ملف
يجعلني أغوص يف املزيد ،متكئاً دامئاً عىل مزيج من الفضول التحلييل ،والتوق إىل االستكشاف ،واالنشداد إىل ثراء التجربة ،والوفاء الشخيص لصديق يحدث أنه شاعر كبري ال ّ يكف عن االرتقاء .اآلن رحل هذا الصديق ،ومل تعد يل ذريعة يف تأخري إصدار الكتاب ،وسأفعل ،ليس دون غصة كربى بالطبع :أنه مل يقرأ سطراً واحداً من ذلك املجلد! يف ما يخص تناول النقد ملنجز درويش ،أظنّ ّأن حاله يف هذا كانت شبيهة بحال الغالبية الساحقة من الشعراء العرب، من حيث ما تع ّرضوا له من قصور النقد أو تقصريه .أرى، يف املقابلّ ،أن إنصاف تجربة درويش ،ورمبا أي شعر عظيم، يجب أن يبدأ من مساءلة ذلك الرتاث النقدي الذي صنع أو اصطنع جملة من الثوابت سواء أكانت مع ّمقة صائبة، أو سطحية خاطئة الضا ّرة طوراً ،أسهمت وما تزال يف ما أس ّميه «تعويم» منجز درويش داخل الذائقة الجمعية. ومنذ األشهر األوىل بعد خروجه من األرض املحتلة إىل العامل العريب ،حني أخذت سلطته األدبية تتعاظم وترتسخ ،تن ّبه درويش إىل إشكالية موقع الشاعر الناطق باسم الوجدان الجمعي لأل ّمة ،وأدرك أن سبيله األفضل للسري يف هذه العالقة الوعرة مع جمهوره يقتيض ،أ ّوالً ،تطوير املوضوعات واألدوات واألساليب التي تضمن للشعر أن يواصل الحياة تحت اسم وحيد هو الشعر .ويقيني ّأن النقد كان قارصاً، عموماً ،عن اقتفاء هذه الدينامية ،وبالتايل مل يتخ ّلق من داخل املواكبة النقدية ذلك «املطهر» الثالث ،الرضوري املطلوب. ً ً ً أخرياً ،كنت حارضا دامئا يف مجلة الكرمل ،وشاهدا عىل 52
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
انتقاالتها العديدة بني املدن؟ كيف ترى إىل هذه التجربة اآلن؟ كيف تصف عالقتك مبحمود درويش رئيس التحرير آنذاك؟ تلك كانت واحدة من أخصب مراحل حيايت كعامل ثقايف ودارس أدب وباحث ومرتجم ،إ ْذ تع ّرفت .كام فعل قبيل أصدقاء مثل الشاعر والروايئ سليم بركات ،والشاعر والناقد العراقي كاظم جهاد ،والروايئ والناقد الياس خوري ـ عىل شخصية محمود درويش رئيس التحرير ،ومدير التحرير، وسكرتري التحرير ،واملصحح اللغوي ،واملدير الفنّي ...يف آن معاً .كان يتدخل يف ّ كل كبرية وصغرية ،ابتداء من التخطيط للعدد ،وحتى ذهابه إىل املطبعة ،ليس من دون املرور باملتابعة الشاقة لوصول هذه املادّة أو ّ تأخر تلك ،والتخطيط ّ مللف العدد القادم ،واقرتاح مئوية متميزة هنا ،أو استدراج سبق ثقايف أو فكري هناك. «الكرمل» كانت أكرث من فصلية ،وأكرث من مرشوع ثقايف مفتوح ،وأعمق من انتامء أصيل للحداثة يف الشعر والرسد ُ ولست أعرف مطبوعة استضافت والنقد والفكر والرتجمة، ّ ّ كل هذا العدد الكبري من األسامء ،يف كل هذه الحقول، عىل امتداد ثالثة عقود ونيف ...وظ ّلت تعددية وعلامنية ودميقراطية. صديقنا الناقد الفلسطيني حسن خرض يتابع اليوم ،بل األحرى القول إنه يصارع ،الستئناف التجربة ال ّرثة والنفيسة، وعقله يتبصرّ يف «الكرمل الجديد»ّ . كل الوفاء لذكرى مؤسس «الكرمل»ّ ، وكل األمانة للرسالة التي حملتها
محمود درويش ..أثر الغائب
درويش وبيروت
مدينة أم قناع؟
................................................................................................................................ عاش درويش في بيروت عشر سنوات،وغادرها بعد اجتياح سنة .1982هي عتبة اساسية في حياته وشعره،ولكن
العالقة معها بقيت ملتبسة
بيروت -بيت الشعر
ح ّول
درويش املكان اىل حنان ،والحنان كام كل العواطف يتالىش .وهذا ما فعله تجاه بريوت التي أمىض فيها سنوات عرش .كلام سئل عن رأيه ببريوت كان يجيب إجابة ضبابية غري واضحة وغري محددة ،وكأنه ال يريد قول يشء ،وهذا ما حرمنا نحن البريوتيني وكل متابعي سرية درويش واملتابعني التفصيليني لرأيه باألمكنة التي عاش فيها ،وحرم أرشيفنا أيضا من رأي واضح مبكان كبريوت ،كتب لها قصائد كثرية ،بعض النقاد ،ورمبا أغلبهم ،عدّوها من أهم قصائده ومن أهم القصائد التي كتبت من أجل بريوت ،بل من أفضل الشعر العاملي ،من دون أن يعدّدوا األسباب التي دفعتهم اىل مثل هذا الرأي ،سواء كان ذلك يف مديح الظل العايل ،أو يف ملحمة احمد العريب او يف سقط القناع وغريها وغريها. يف "ذاكرة للنسيان" يقول محمود درويش" :أنا ال أعرف بريوت .وال أعرف إن ُ كنت أحبها أم ال أحبها ...للسيايس املهاجر كريس ال يتغري وال يتبدل ...وللتاجر املهاجر فرصة التأكد من أن ريح الخمسينات التي وعدت فقراء العرب بيشء ما ،لن متر من هنا .وللكاتب الذي ضاقت به بالده او ضاق بالحرية يف أن يعتقد أنه حر ...وللشاعر السابق امكانية الحصول عىل مسدس وحارس ومال ،فيتحول إىل زعيم عصابة يغتال ناقداً ويرشو آخر ...وللفتاة املحافظة القدرة عىل إخفاء الحجاب يف حقيبة يدها ،واإلختفاء مع عشيقها يف فندق ،وللمه ّرب أن يهرب ،وللفقري أن يزداد فقرا ...أَهي مدينة أم قناع؟ منفى أم نشيد؟". هذا نوع من أنواع اإلجابة عن بريوت .أما يف القصيدة
فلنأخذ مقطعا من "مديح الظل العايل":
ٌ تفاحة للبحر ،نرجسة الرخام ،فر ٌ ٌ حجرية بريوت اشة شكل الروح يف املرآة وصف املرأة األوىل ورائحة الغامم بريوت من تعب ومن ذهب ،وأندلس وشام . ّ فضة ،زبد ،وصايا األرض يف ريش الحامم. وفاة سنبلةّ ، ترشد نجمة بيني وبني حبيبتي بريوت . مل أسمع دمي من قبل ينطق باسم عاشقة تنام عىل دمي ...و تنام ... من مطر عىل البحر اكتشفنا اإلسم ،من طعم الخريف وبرتقال القادمني من الجنوب ،كأ ّننا أسالفنا نأيت إىل بريوت يك نأيت إىل بريوت ...
حني قرأت هذا املقطع عىل مسمع مجموعة من األطفال مل يتجاوزوا العارشة من عمرهم سألني أحدهم":ما معنى نرجسة الرخام" .بالطبع أكملت القراءة كأنني مل أسمع سؤاله.
اىل بريوت
جاء محمود درويش إىل لبنان يف زمانني متنافرين :الزمان األول حينام لجأ مع عائلته يف سنة 1948 ،فقطع الطريق ماشياً من الربوة إىل رميش ،ونام عند الربكة القذرة قرب الخنازير واألبقار ،وقطف التوت يف صور ،ثم إىل جزين .ويف جزين رأى الثلج للمرة األوىل ،ورأى الشالل للمرة األوىل، 53
ملف
الوالدة واملوت والبقاء والرحيل ،املخيم وحق العودة ،البحر والبرّ ،كانت قلق الشاعر من املكان وحبه للمكان يف آن واحد":اعترب أن املرحلة البريوتية يف شعري ملتبسة بسبب ضغط الحرب األهلية أوال ،وبسبب الشعور بأمل العاطفة ثانيا". وعندما سئل درويش هل تحب بريوت ،قال" :مل انتبه، فنادرا ما تحتاج اىل التأكيد من أنك يف بريوت ،ألنك موجود فيها بال دليل ،وهي موجودة فيك بال برهان ،صوت الرصاص هو الذي يدل عىل بريوت ،صوت الرصاص أو رصاخ الشعارات عىل الجدران".
ورأى التفاح يتدىل من أغصان الشجر أول مرة .ومن جزين إىل الدامور التي ال يتذكر منها إال البحر وبساتني املوز .أما الزمان الثاين ففي سنة 1972حني جاء اىل بريوت شاعراً تسبقه أشعاره ،وكان أول ما فعله بعد أن ع ّلق ثيابه يف الفندق هو أنه نزل إىل الشارع ،وأوقف سيارة أجرة ،وقال للسائق :خذين إىل الدامور. منحته بريوت فضاء معرفياً مل يكن متاحاً يف القاهرة أو دمشق اللتني تنقل بينهام قبل وصوله إليها .يف بريوت كانت املعارك -املثرية للسخرية -بني رواد قصيدة النرث واملدافعني عن قصيدة التفعيلة ما زالت قامئة .وكانت بريوت تحتضن نزار قباين وبلند الحيدري ومحمد الفيتوري ،وخليل حاوي وأنيس الحاج ويوسف الخال وشوقي أبو شقرا وأدونيس ،...التأثري البريويت املتفجر ويف بريوت وتحت تأثري الخطاب الحداثوي ّ يف بريوت رأى املأساة الفلسطينية عارية عىل حقيقتها، وصداقاته الجديدة مع املثقفني والشعراء املقيمني يف بعدما كانت مخيلته ما زالت مرتحلة يف ذاك املكان الذي الكافيرتيا" مقاهيها كتب قصيدة "رسحان يرشب القهوة يف أمىض فيه طفولته أو يف الفكرة املتصورة عن ذاك املكان التي وضعت أقدامه بقوة عىل خط التجديد الشعري .هذا (فلسطني) .أما هنا فقد إنتقل اىل املعاناة األخرى ،املصهورة رغم أنه كان قد بات معروفا بعد قصيدة ّ "سجل أنا عريب" .صهرا واملجلوخة جلخا واملنتصبة هنا أمام ناظريه ،معاناة لكن التأثري البريويت أخرجه ولو لفرتة قصرية من القصيدة فجة وم ّرة وواقعية، شعبه -الذي يكتب له القصائدّ - الخطابية الرنانة. ّ فرأى الفقر يف املخيامت والقهر والذل ،كام شاهد املذابح عاش محمود درويش يف بريوت عرش سنوات كاملة ،يف والحرائق يف تل الزعرت ويف صربا ويف شاتيال ،ولكنه شاهد الفرتة املمتدة من . 1982-1973خالل هذه الفرتة ترأس ايضا "السياسة" يف الفلسطيني "الثائر" ،أي كيف يستخدم تحرير مجلة شؤون فلسطينية وأصبح مديرا ملركز أبحاث الفلسطيني قوة سالحه يف أرض يستوطنها للوصول اىل ارضه الكرمل منظمة التحرير الفلسطينية قبل أن يؤسس مجلة التي يريد أن يسكنها ،وكان لدرويش مالحظات كثرية عىل عام .1981 الدور الفلسطيني يف األزمة اللبنانية وعىل طريقة إدارة مل يغادر املدينة مع املقاتلني الساسة الفلسطينيني لقضيتهم الفلسطينيني بعد اإلجتياح من لبنان ،كان يرفض محاربة المأساة رأى بيروت في ولكنه اإلرسائييل يف سنة ،1982 محتل األرض األصلية بإحتالل إضطر اىل الرحيل عنها بعدما الفلسطينية عارية على أرض اخرى .ولكن حصار بريوت وصل الجيش اإلرسائييل اىل قلبها. يف العام ،1982أشاح نظر الجميع حقيقتها ،بعدما كانت تجربة اإلجتياح والحصار والدمار عن املرحلة السابقة اىل املرحلة مترحلة زالت ما مخيلته الشامل الذي تعرضت له بريوت الجديدة أي املرتبطة بالصمود دفعته اىل كتابه "ذاكرة للنسيان"، واملذابح ،وكان شاهدا عىل االنكسار في ذاك المكان الذي و"مديح الظل العايل" .وكتب بعد وخروج الفلسطينيني الفاجع من أمضى فيه طفولته مذبحة مخيم تل الزعرت قصيدة بريوت (خيمتنا ونجمتنا) .هكذا "أحمد الزعرت" .كانت بريوت صارت قصيدته "األوىل" ضيقة عىل أكرث من مجرد مكان كانت إستيعاب ما تتلقفه عيناه ،فامل 54
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
محمود درويش ..أثر الغائب
درويش وأدونيس يف شارع الحمرا
اىل املطوالت ذات النفس امللحمي (احمد الزعرت .وقصيدة بريوت .ومديح الظل العايل). يف هذه املرحلة متيل قصائد محمود درويش اىل املرسحة واىل الدرامية القصصية فاملبنى صار قصصياً ،كام مالت القصائد اىل كثري من التجريد واىل توالد الصور بحيث صارت قراءة القصيدة هي متابعة للصور التي فيها وتفكر بعالقات الصورة ورمزيتها ،كام يقول "الياس خوري" يف كتابه "دراسات يف نقد الشعر".
العودة اىل بريوت بعد املنفى البارييس
يقول كريم مروة أنه دعى محمود درويش حني جاء إىل دمشق بعد غياب طويل ،للمجيء اىل بريوت واملشاركة يف إحياء ذكرى الجواهري ،تردد بني أمرين :بني أن يشارك يف تكريم كبري شعراء العرب عىل امتداد قرن بكامله ،وبني أن يأيت اىل بريوت يف ما يشبه التسلل ،بعد غياب دام طوي ًال. و"حسمت معه ،يومذاك ،تردده .وفضلنا أن يأيت اىل بريوت، خيمته وخيمتنا ،مبارشة ،ومن دون واسطة" .وكان يوم القدس ويوم بريوت املقاومة عنوان تلك الرحلة يف أواخر العام .1999فاستقبلته بريوت يف قرص األونيسكو حني قرأ قصائده الجديدة وبعض قصائده القدمية يرافقه مرسيل
خليفة عىل عوده. ثم تكررت زياراته اىل بريوت .وكانت زيارته لها عام ،2002 زيارة استثنائية بأهميتها .اذ غصت ساحة ملعب املدينة الرياضية بآالف اللبنانيني والفلسطيني الذين اتوا من أنحاء لبنان لإلستامع اىل قصائد درويش .كانت تلك حالة إستثنائية بكل تفاصيلها ،فليس من املعتاد أن يقرا شاعر الشعر يف ملعب ريايض ،وليس عاديا أن متتىلء مدرجات امللعب باملشاهدين ،ال ملشاهدة مباراة كرة قدم ،بل لإلستامع اىل الشعر .وهذا بالطبع مل يكن ليحدث يف بلد عريب آخر غري لبنان. هذا ما يجعل من محمود درويش شاعرا فلسطينيا -لبنانيا. فاألغاين التي غناها مرسيل خليفة لقصائده إنطلقت من بريوت اىل سائر أنحاء العامل العريب ،وقد ساهمت مساهمة كبرية يف شهرتهام عىل املستوى الشعبي العام .أي أن تتحول القصائد اىل كالم يردده حتى غري املعنيني بالشعر وأن يتح ّول الشاعر نفسه اىل نجم. أعطى محمود درويش لبريوت وهجا كبريا من مخيلته فح ّولها اىل مكان هو غري املكان الذي تشكله حقيقة، وأعطت بريوت كمكان لدرويش مالذا متخيال جعله كشاعر هو غريه الشاعر الذي هو فعال
55
ملف
درويش في عمان
طريق فلسطين القصيدة وخاتمة ................................................................................................................................ كان رحيل درويش من باريس إلى عمان ،خطوة في طريق العودة إلى فلسطين ،ولكنها كانت محطة للكتابة ً أيضا ،حيث أنتج فيها أهم أعماله الشعرية
ّ عمان -محمد عريقات
محمود
درويش من أهم الشعراء العرب الكبار لصداقاته يف رام الله ،ولبقية العواصم التي أقام فيها، ويف ذلك تأكيد عىل أن الشاعر اتخذ منها محطة للكتابة الذين اختاروا العاصمة عامن مكان والقراءة ،ومل يكن ليتفاعل مع نشاطها الثقايف بشكل مفتوح، إقامتهم وسكنهم ،وتأيت هذه األهمية قياساً باألثر الذي تركه الشاعر يف حراك هذه العاصمة الثقايف التي أقام بها ما فقد كان يختار املعارض التشكيلية ،واألمسيات الشعرية، التي يحرضها بشكل دقيق ومقل ،منها ما كان يقام يف يقارب 13عاماً ،العاصمة التي منحته جواز سفر وجنسية دارة الفنون يف جبل اللويبدة ،واملتحف الوطني ،حيث قام كاملة ،والتي افتتحت رابطة كتابها يف مقرها بيت عزاء بتقديم طاهر رياض بأمسية شعرية له يف املتحف ،إضافة للشاعر الراحل ،كام وتعمل جهات ثقافية منذ رحيله عىل إبقاء بيت الشاعر يف عامن ليكون متحفاً ومعل ًام ثقافياً ،إال إىل مشاركاته العديدة يف مهرجان جرش. لكن األمر يختلف بالنسبة ملرسح البلد يف وسط عامن أن هذا األمر مل ينجز حتى اآلن. ً القدمية ،حيث اختاره درويش مكانا لتوقيع كتبه ولقراءة تواجد درويش يف عامن ،كان بالدرجة األوىل من أجل ُ شعره ،وقد وقع فيه مجموعته «كزهر اللوز أو أبعد» الكتابة ،فقد أنتج فيها أهم املجموعات الشعرية التي عام « ،2005يف حرضة الغياب» شكلت نقلة نوعية عىل صعيد فع درويش « ،2006أثر الفراشة» ،2008وهنا الشعرية تجربته الخاصة والحركة في عمان ،تر ّ الفضل يعود ملرسح البلد ومديره العربية ،األمر الذي أكده ورصح النزاعات من الكثير عن املرسحي رائد عصفور الذي أتاح به صديقه العماّ ين املحامي غانم بينه وبين شعراء ونقاد لجمهور درويش العريض يف األردن زريقات يف أكرث من لقاء صحايف، االلتقاء املبارش معه ،وتوقيع كتبه ومن هذه املجموعات نذكر: كثر ،لكن بعد وفاته ً منه شخصيا ،كام أتاح للشعراء الجدارية ،حالة حصار ،ال تعتذر صعدت تلك النميمة ً الشباب ،وكنت واحدا منهم ،بإهداء عام فعلت ،كزهر اللوز أو أبعد، الصفحات لتحتل الشاعر مجموعاتهم الشعرية األوىل، يف حرضة الغياب ،وأثر الفراشة. ً وأذكر كم كان درويش مرحبا بهذه اقترصت صداقات درويش الثقافية التجارب ،ومنسج ًام مع جمهوره يف حياته العامنية ،عىل عدد قليل جداً من األصدقاء ،خالفاً العريض الذي بقي معه حتى كاد
56
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
محمود درويش ..أثر الغائب
درويش يف جرش مع امللكة نور
درويش أن يكون الشخص األخري الذي يغادر القاعة. ويف عامن ،كام يف غريها ،ترفع درويش عن الكثري من النزاعات بينه وبني شعراء ونقاد كرث ،إال أن هذه النزاعات مل تظهر عىل السطح ،وذلك لرتفع درويش عنها وعدم خوضه يف تصعيد خصومة أو عداوة ،ويعود ذلك أيضاً لذكائه الحاد ونباهته ورسعة بديهته يف مواجهة وقطع حبال مثل هكذا قضايا ،مام أبقى هذه الخصومات مجرد حمى منيمة يف جلسات خصومه الضيقة ،لكن بعد وفاته اختلف الحال حيث صعدت تلك النميمة لتحتل صفحات املجالت واملالحق الثقافية. ورغم أن أصدقاءه أقل عدداً ،من أعدائه ،إال أن كفة األوىل ترجح مبحبة جمهوره العماّ ين الكبري له ،فكلنا يتذكر انطالق جنازته وتأبينه يف العاصمة عامن ،مبطار ماركا ،وحجم املحبة والوداع الذي غادرها به عرب مروحية أقلته إىل رام الله ،ونتذكر حينها ،ترصيحات األصدقاء والنقاد يف الصحافة األردنية التي أضافت ملالحقها األسبوعية واليومية صفحات أخرى ،أكدوا من خاللها عىل عالقة درويش الشاعر واإلنسان مع عامن وأثر كليهام يف اآلخر ،نذكر منهم الشاعر طاهر رياض ،والكاتب غانم زريقات ،والقاصة بسمة النسور، والشاعر جريس ساموي ،والشاعر زهري أبو شايب ،والناقد فخري صالح ،وفيصل دراج ،واملرسحي رائد عصفور وغريهم من عائلة درويش العماَّ نية.. أشاروا جميعهم فيام نرش عرب الصحافة ووسائل اإلعالم
يف األيام األوىل من رحيله ،إىل أن الشاعر درويش اختار عامن ألنها املدينة األقرب إىل فلسطني ،االختيار الذي قوبل بالرتحاب الشديد من الدولة األردنية ،ولكونها أفضل مدينة ميكن أن يختيل فيها بكل هدوء ويكتب ،وأن هذه املدينة وفرت له هذه امليزة ،كام ارتبط مبجموعة عالقات منتقاة مع العديد من العماَّ نيني ،الذين أحاطوه بكم هائل من الحب .ارتاد مطاعمها ،ومىش يف شوارعها ،وتسوق من محالها محاطاً مبحبة الجميع. كام أكدوا عىل أن شقته العماَّ نية كانت أشبه مبنتدى ،فدامئاً كان هناك من يزوره ،ومل يكن منعزالً كام يتصور البعض، ولكن كانت تحركاته محدودة ،أحياناً يذهب إىل مطعم أو أمسية أدبية ما أو معرض تشكييل ،ومل يكن درويش يشعر بالغربة يف عامن ،كون األصدقاء مل يرتكوه ،فكان هناك لقاء يومي معه ما بني الخامسة والثامنة مساء ،ولقاء آخر ألصدقاء آخرين بعد الثامنة وحتى الحادية عرشة لي ًال ،أما يوم الجمعة فكان الغداء غالباً يف بيت عيل حليلة ،والسبت يف بيت غانم. هكذا نلخص حياة الشاعر الراحل يف العاصمة عامن ،من خالل تتبع أثره الثقايف فيها وفاعليته بأوساطها الثقافية وصداقاته مع كتابها وشعرائها ،املدينة التي أحسنت ضيافته ،وأحسن هو بدوره املقام فيها ،بشعره وحضوره، ومحبته ،وهو الذي لطاملا وصفها وأهلها بالطيبني 57
ملف
درويش
الهوية وبدايات التراجيديا
................................................................................................................................
كثيرا ما ُيقرأ شعر درويش من الباب السياسي المحضُ ، ويخضع أسلوبه لمحاكمة أوتوماتيكية مسبقة من باب
ُّ تفحص تطور الهوية في شعره من منظور الشاعر الشخصي واجب الشاعر النضالي .ولهذا ،تضيع فرصة
مازن معروف
يف
ديوان "أوراق الزيتون" ( )1964قدّم دوريش قصائد بلغة خاصة ،تجاوزت مهمة التبشري باملقاومة الفلسطينية .صحيح أن تلك القصائد يف مجملها ،تضمنت شكال مبارشا يف الكالم الشعري وأحد أمناط الخطابيات السياسية الشعرية واإليديولوجية العاكسة ليسارية عميقة، كإبن لحزب "راكاح" الشيوعي اإلرسائييل ،لكن درويش كان قد طرح يف تلك املجموعة ،جزءا كبريا من ريش الشاعر الذي يكتب شعرا مقاوما فقط .ش ّكل االغرتاب، السمة العامة التي غلفت قصائد درويش يف ذلك الديوان. وهذا االغرتاب ،لوال معرفة القارئ بهوية محمود درويش كفلسطيني ،مل يحمل سامت كبرية أو مبارشة رغم أن له "سجل أنا مصدر سيايس أو فلسطيني طاغي ،إال يف قصيدة ِّ عريب" .فهو اتخذ قالبا إنسانيا عاماُ ،وأق ِر َن بأمل العاشق أو تجسد يف أَوجه مختلفة ،ناورت كلها للوصول الغريب ،كام َّ إىل املحطة النهائية :الفلسطيني املدفوع إىل الخارج ،إن مل يكن املطرود .فهو اغرتاب يف الهوية وانفعال داخل مأزق االنتامء ،كام هو اغرتاب عاطفيَ ،ف ْقد للحبيبة، وفيه استحضار بطبيعة الحال ملناخ هذا الحب وبيئته، أي املكان وظروف تشكل الذاكرة :تفاصيل اللحظة .لهذا، فإن درويش عكس ذاتا ثائرة ،غنائية ،غاضبة ،متلهفة ،كل هذا يف لغة تبوح وتستعرض حال اإلنسان البائسة ،بدون أن تبالغ يف صنع جامليات شعرية فائقة .فاألولوية لألمل، للقضية ،ال للشعر ،أي أن الكينونة األوىل هي الذات ،وليس الفن الكتايب .درويش مل يكتب إال وفقا للتفعيلة ،والقافية، والغنائية املوسيقية واإليقاع الظاهر ،وهي عنارص مل تكن
58
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
لتفيد القصيدة يف يشء لوال قدرة الشاعر الشاب آنذاك عىل تطويع اللغة الشعرية بعبارات سهلة ومن دون الغوص يف إبهامات جافة .وضع القارئ أمام عالقة شائكة :فالحبيبة من جهة ،واألرض من جهة أخرى ،وهام قطبان كالسيكيان، طغيا عىل قصائد العديد من الشعراء العرب الذين سبقوا درويش .كانت األولوية بتظهري األوىل ،فيام اقترصت الثانية عىل قيمة بوصفها ناتجا نهائيا ضخام وثقيال ،ال بد وأن يلقي ظال ما عىل الحبيبة ،ليشيحها او يذوبها كرمز من رمزياته. "أوراق الزيتون" قدَّمت محمود درويش كشاعر رومانيس، لكن بأمل مضاعف .فهو مكسور بني الحب والبالد ،الحضور واالغرتاب ،الذاكرة والحارض ،والنسيان والتمدد يف مكان متخيل .لكن نربته رغم هذه األثقال ،ظلت غنائية ،فيام مل تستحوذ نصوص املجموعة عىل صياغات حد اإلذهال أو
محمود درويش ..أثر الغائب
املحصلة ،أريد لها أن تحمل دالالت عىل أىس مضبوط ،وأن املفاجأة .العالمات املبكرة لشعريته تجلت يف قدرته عىل تطويع اللغة يف التفعيلة والتعبري بوضوح شديد أحيانا كثرية ،ترد صوت الشاعر إليه بعد أن يجوب يف الوطن والحبيبة وإشكالية املكان .ولعل املفتاح الرومانيس الذي لجأ إليه كام كيانيته كشاعر بعيدا عن القصيدة نفسها ،بحيث أن درويش ،جعل صوته يأيت ممزوجا بنربة الطبيعة ،برموزها، احتكامه لقافية ال يعني انصياعه التام لها ،كقاعدة نهائية، ومبا تستطيع هذه الطبيعة أن تحمله من ملحمية مخ ّففة إذ يختتم الكثري من قصائده عىل نحو مفاجئ وراديكايل كام يف قصيدته "صوت وسوط" والتي يبدأها بـ "لو كان يل يخرج عن تناغم األبيات السابقة موسيقيا ،بل يبدو ،إذا ما عُ ِز َل عن جسد القصيدة ،وكأنه جملة عابرة ال تعني أكرث من برج /حبست الربق يف جيبي /وأطفأت السحاب" لينهيها بانفعال غنايئ أوضح "لكنّ صويت صاح يوما /ال أهاب/ وصف قصيص "ما زال يف موقدكم حطب /وقهوة ..وحزمة فلتجلدوه إذا استطعتم /واركضوا خلف الصدى /ما دام من اللهب". يهتف :ال أهاب!" .ومن هنا ،نشري إىل تكرار مفردات يف شعره كـ :الدم ،الربتقال ،الريح ،القيثارة ،النار ،الجئ ،املطر، غربة الفرد العاصفة ،الزيتون ،الضوء ،النبع ،الغريب ،األزهار ،القمر، ْ كانت قصيدته تتمدد نحو النفس املجهَّزة أصال بعذاب اللجوء ،لتكشف عن عذابات يف العاطفة ،والقلق الوجودي ،الرغيف ،الصليب ،القمح ،السنابل ،الذئب ،الغابة ،العيون السود ..إلخ ،مشددا يف الغالب عىل صورة ُمغنّ يجوب وعطف األنا عىل األممية ،ومبالغة يف استعراض األمل، كرضبة كف عىل وجه املاء .ذلك أن بسيكولوجيا الشاعر يف الشوارع معذبا وباحثا وناثرا حبه. هذه املعالجات الرومانطيقية للوطن اتكأ فيها درويش عىل "أوراق الزيتون" ،هي بسيكولوجيا غري عمالقة ،وال رئيسة، استحداث مسافة نفسية أو سياسية ،بينه وبني فلسطني. وال هي متثل املحور األول للقصيدة ،وإمنا تأيت يف سياق مسافة ،كانت رضورية له من الناحية الشعرية يك يعزل عمالين كأضحية ،أو تأميل ،أو تفصييل للفقد العام ،أو الخسارة الكربى .كان واضحا أن محمود درويش يف قصائده أوال الجوانب غري الالزمة التي تحيط بكل من النقطتني األساسيتني :الفرد – الوطن. األوىل ،استدار نحو غربته اوال كفرد مسحوق وعنيد ،لكنه كانت عالقة درويش بالوطن عالقة التباس ،مقامة عىل أسس أيضا فرع للهوية الفلسطينية ،واستطاع رسم القصيدة عاطفية ،ساذجة إىل حد ما ،وانفعالية وثورية ووجودية، الرومانطيقية ،اليسارية االتجاه عامة .قصيدة تخرتق وحتى عدمية .إال أن ذلك مل مينعه من أن يش َّيد منصته الخسارة وتنفذ إىل املوت كمصري سوداوي وشبه محتوم، الشعرية عىل أرضية سياسية لزجة ،تتك َّون تربتها من خليط لكن ال بد منه .لذلك ،يكون التحدث عن املوت كوسيلة للتحرر ،وإفداء األرض ،العائلة ،الحبيبة ،القلب ،الوطن .ويف إشكاليات األنا واملواطنة والهوية واالنتامء والجذور. ديوانه األول ،سيجمع العديد من النصوص الشعرية التي ليتمدد يغض فيها الطرف عن األنا ،بوصفها السؤال األول، خراب مجازي هذا األمر نحو مساءلة الحبيبة ،بوصفها الكائن املخاطب، إال أن هذه االنسالخات عن الهوية الفلسطينية ،كانت وبالتايل العلة التي تربر كل شعرية العاشق املع َّذب .وهو دوما الدليل إىل نوستالجية درويش وبكائياته حول الوطن، ألزم امرأته بهوية محددة ،هوية اشرتطها الشاعر كام اشرتط يف أول مجموعتني شعريتني له .وهي تشظيات مل ينتج عنها الظرف الذي ُيضيئها هو فيه ،ليمددها أو يقلصها بحسب قبل قصيدة "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" (ديوان "آخر توتر النص "رأيتك أمس يف امليناء /مسافر ًة بال أهل ..بال زاد /الليل" )1967ما هو خارج التزام املواطن البديهي ببالده. ِ ركضت إليك كاأليتام /أسأل حكمة األجداد /:ملاذا تسحب فالوطنية ظلت مسألة مادية ،مسألة التزام ،يفرضها ُبعد الب ّيارة الخرضاء /إىل سجن ،إىل منفى ،إىل ميناء /وتبقى رغم تربوي ،ويعززها واقع نهايئ بوجود محتل ،وهو واقع لشدة رحلتها /ورغم روائح األمالح واألشواق /تبقى دامئا خرضاء؟" قسوته ،يكون بعيدا عن أي نقد فلسفي أو تاريخي أو اجتامعي .لذلك ،اقترصت صورة اإلنسان يف كتابيه األولني، ("عاشق من فلسطني") .قدم درويش قصيدة مقاومة يف 59
ملف
عىل صورة الفلسطيني ،صاحب البالد ،واألصل .وقد استبعد تشابك املالمح املكونة ملفهوم الضحية مع بعضها البعض. دوريش كل ملمح محتمل إلنسانية العدو ،إذ كان عليه أن فالجندي ،كالضحية ،يحلم ،يريد زنابق بيضاء ،وال حاجة لضعفاء يقتلهم .ولعل الشاعر قلص فكرة الوطن إىل حدود ميتثل لواقع أرض محتلة يتعاطف معها إنسانيا ويساريا، الفهم الفردي غري اإليديولوجي "ومل يفلسف حلمه مل يفهم تعاطف مير بتعاطفه مع ذاته كمحمود درويش الالجئ. لذلك ،احتكرت الضحية املشهد ،ومل يعط الفرصة ألي صوت األشياء إال كام يحسها" .االنسان هنا "مينياميل" ،غري خارق، خطابه يولد من التعب ويندرج يف البساطة .إنه إنسان موسعا، بأن يختلط مع صوتها .فكان عىل صوتها أن يجيء َّ املؤس َسة لحالة الرصاع ممددا يف الطبيعة والفضاء واملوت والحب والغضب .ذلك مرتد عىل وظيفته ،أي عىل الظروف ِ الفلسطيني – االرسائييل ،وعىل الوحشية ،وهو يف حاجة قبل أن يقدم درويش صورة مغايرة للعدو ،وتحديدا من ِّفذ هذا العداء ،أي الجندي اإلرسائييل .فـ"جندي يحلم بالزنابق لركن يلجأ إليه ،واللجوء هنا ليس سياسيا بل عاطفيا .أما البيضاء" والتي يتحاور فيها الشاعر مع جندي سئم الحرب ،األم ،فتتواضع صورتها وتؤنسن ،إذ هي ليست الوطن مجازا، بل الرحم الذي خرج منه هذا الجندي إىل العامل .لتنتفي تبدأ بسؤال حول معنى الوطن "يح ُل ُم بالزنابق البيضا ْء/ بذلك األوارص التي تشد الكائن إىل املكان .ويتالىش ذلك يحلم ،قال يل، بغصن زيتونِ /بصدرها املورق يف املساءُ / االلتزام البديهي واألفقي بالوطن .فالوطن ال يعدو أكرث من بطائر /بزهر ليمون /ومل يفلسف حلمه ..مل يفهم األشياء/ وجهة نظر .وطن مفرغ من املعنى ،محاط بالعبثية ،وال يحسها ..يش ّمها /يفهم ،قال يلّ ،إن الوطنْ /أن إال كام ّ أحتيس قهوة أمي /أن أعود يف املساء /سألته :واألرض؟ /قال :يتجاوز يف معناه السؤال الوجودي املؤسس ملفهوم العالقة ال أعرفها /وال أحس أنها جلدي ونبيض" .هنا ،ينزع درويش ،بني الفرد والهوية ،وماهية االنتامء .يحيد درويش يف هذه القصيدة عن مفهوم الجغرافيا ،ويحول األداة العسكرية إىل أو يؤجل بالحد األدىن ،صورة الفلسطيني الثائر والعاشق الحزين ،الذي ندخل إىل القصيدة عربه ،فال نلمح أثرا لذلك ما يشبه محراثا يفلح به بسيكولوجيا الجندي وذاته القلقة الخراب الذي شدد عليه درويش يف بداياته سواء كان خرابا ويع ّرضها للهواء .إال أن إرجاع مجمود درويش األرض إىل بسيكولوجيا أو بدنيا لالجئ ،أو خرابا مجازيا متمثال بفوىض إطار اإلشكالية ،مل يكن ليبلغ مراده دون إرجاعه "عدوه" إىل مظهره اإلنساين األول ،إىل مكوناته العاطفية واإلنسانية، االنتامء واالرتباك اللذين يعانيهام سكان األرض املحتلة. وإىل التباسات العالقة مع الضحية ،حيث يفرغ فعل القتل يف هذه القصيدة ،يتحول الصوت من كونه صوت األنا إىل صوت اآلخر .ويصبح الكائن ا ُملحتل هو املرجعية ،وإن ببعد الفيزيولوجي من أي غاية ليصبح شبيها بالعدم .عدم ناتج عاطفي ،لتبيان العالقة الشاذة ،أو غري السليمة ،مع األرض .عن رصاع دينامييك ،يستعاض به عن ذلك العدم الذي تنتجه فكرة املوت. درويش أنحى جانبا املك ِّون الثوري لقصيدته ،ليعتمد عىل وإذا كانت هذه القصيدة تشكل قراءة غري عالية النربة للواقع أول خطوة يف املسافة التي الفلسطيني ،ومن عيني جندي كانت عالقة درويش سيقطعها درويش مبتعدا عن ارسائييل هذه املرة .انتقال حاد التباس، عالقة بالوطن شعر البدايات املنربي واليساري من صيغة اإلنسان -الضحية الهوى ،فإن قصيدة "قاع املدينة" إىل صيغة اإلنسان – الجندي، مقامة على أسس (العصافري متوت يف الجليل )1969 - مل يكن منتسبا إىل خصوصية عاطفية ،ساذجة إلى ستحمل أوىل سامت التجريب لدى فلسطني ،بل آثر درويش أن وثورية وانفعالية ما، حد ابن الربوة ،وإن يف الشكل عىل ميدد معنى الوطن يف رشوط ووجودية ،وحتى عدمية األقل .فقد أدخل الشاعر توزيعا إنسانية مجردة من جغرافيا صوتيا يف القصيدة ،فتح له بابا املكان وداللته املعنوية ورمزيته لتوسيع سينوغرافيا رمزية املوت الخاصة الدينية .يؤدي ذلك إىل 60
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
محمود درويش ..أثر الغائب
والنضال والثورة .بذلك تخلص درويش من االلتزام بالصوت األحادي يف القصيدة ،أو بالعمود الفقري الواحد .وسيهيئ له هذا األمر ابتكار اسلوب شعري يجمع بني متتاليات حسية وبرصية من جهة ،وأخرى رمزية ،رابطا بينهام عن طريق وحدات لغوية أو مفردات ،تعمل كمفاتيح رسية أو كأقفال" :تتفجرين اآلن برقوقا /وأنفجر اعرتافا جارحا بالحب :لوال املوت /كنت حجارة سوداء /كنت يدا محنّطة ّ نحيلة /ال لون للجدران /:لوال قطرة الدم /ال مالمح للدروب املستطيلة( /والعائدون من الجنازة عانقوين /كسرّ وا ضلعني/ وانرصفوا /ومن عاداتهم أن يسأموا /لكنهم كانوا يريدون البقاء /خرجت من جلدي /وقابلت الطفولة" .كانت هذه أوىل العالمات الدالة عىل قدرة درويش اللغوية من جهة، وامكاناته يف ابتكار جامليات يف دائرة الرتاجيديا نفسها .وإن مل نجرؤ عىل القول بأن درويش بلغ حالة متحررة بالكامل من سلطة الرتاجيديا وإيقاعها الرتيب ،فبإمكاننا القول بأنه، عىل األقل ،وسع محور هذه الرتاجيديا شيئا فشيئا ،ذلك أن درويش يتحرك وسط املوضوعات الثابتة نفسها (الحب، املوت ،رمزية الجلجلة والصلب ،الدم ،األغاين) وقصيدة "قاع املدينة" ستكون يف مجملها منوذجا مصغرا جدا وخجوال رمبا، عام سيكتبه الشاعر عام ،1983ونعني قصيدة "مديح الظل العايل".
تأمل املوت
ولعل املوت هو البؤرة الرسية يف قصيدة درويش. وهو املحور الذي ظل دوما يستفزه ،ال بوصفه مفهوما ميتافيزيقيا ،بل كحالة تضمه إىل املأساة اإلنسانية العامة. رمبا لتجاور الشاعر مع نسخ عديدة من املوت خالل حياته ،سواء كان موتا بأسباب نضالية او سياسية أو حتى حيادية .فدرويش يفتتح كتابه "العصافري متوت يف الجليل" بقصيدة "لوحة عىل جدار" ،بحيث يتوزع املشهد خارج كادر الجغرافيا ،مبتعدا عن خصوصية الحالة الفلسطينية،
فال يسميها ،وال يبثها يف القصيدة .الشعر هنا يكون عليه تجاوز املشهد املادي ،التصويري ،كام النضايل .إنه محاولة لتأمل املوت ،كهوية نهائية .لذلك ،يحرض املشهد مش َّذبا ،مستقال عن األسباب السياسية التي تدفع إىل كتابة قصيدة .مقابل متسك درويش بالرمزية أو اإلبقاء عليها قدر اإلمكان ،كام فيه احتفاء ساخر باملوت والهزمية .ما يشد صوت الشاعر إىل أقرانه البرش، ال يعود الحياة ،بل املوت .متاثل الجسد مع الجسد ،خارج إطار الهوية ،حال دخوله السكون النهايئ" :ونقول األن أشياء كثرية /عن غروب الشمس يف األرض الصغرية /وعىل الحائط تبيك هريوشيام /ليلة متيض ،وال نأخذ من عاملنا /غري شكل املوت /يف عز الظهرية" .وهو إذ يكرر الجمل الثالث االخرية يف قصيدته ،يبقي درويش عىل غنائية مقصودة ،وهو عامل يضاف لتعزيز قوة جامليات أخرى تتمثل يف التزامه التفعيلة والقافية واإليقاع .وهي عنارص قام عليها جسم القصيدة الحديثة (التفعيلة) وكان درويش ال يزال متمسكا بها ،كقانون .ضمنه، يعتمد تدوير املجاز والعودة من جديد إىل صورة املوت ،كيقني، ما ميد القصيدة مبناخ هذياين نوعا ما .وكأن الشاعر أراد إحالة املوت إىل نقطة البدء ،ال النهاية .إنه نفخ للصوت الفلسطيني يف املساحة اإلنسانية" :أي جسم ال يكون اآلن صوتا /أي حزن/ ال يضم الكرة األرضية اآلن /إىل صدر املغني؟!". أما يف قصيدة "مطر ناعم يف خريف بعيد" ،فريتبط املوت بأسلوب الحياة نفسها ،أو منطها املفروض عىل الفرد .ويالحظ القارئ تحوال يف معالجات املوضوعات ذاتها (املوت ،الوطن). فالشاعر يرفض يف هذه القصيدة املوت ذا النمط الواحد ،الذي يتقاسمه الجميع كمصري محتوم أسبابه محددة ومفهومة .لكن ذلك يرتافق مع ارتداده عن أي التزام بالوطن كمحصلة كبرية ومطلقة .إنه إعالن دروييش مزدوج ضد التعب .فام بني حالة الوطن واملوت قنوات يرتدد فيها الصوت الفردي الفلسطيني إىل أجل غري مسمى" :ال تقويل أنا غيمة يف املطار /فأنا ال أريد /من بالدي التي سقطت من زجاج القطار /غري منديل أمي /وأسباب موت جديد" .انعطف درويش يف هذه القصيدة بصورة الوطن. مل يعد الوطن الفلسطيني الذي ينبغي النضال من أجله ،بل بات الوطن -اليشء .إنه أي غرض قد يستفز الجانب االنساين من الفرد .كان الشعر الفلسطيني بحاجة طارئة إىل إخراج الوطن من كونه مكتب وظيفة ،إىل كونه عامال معنويا يستفز جامليات الفرد املخلوع من أرضه 61
ملف
درويش
جماهيرية ال تهبط إلى «الشعبوية»، وخصوصية ال تستقر في العزلة ................................................................................................................................ مقاربة تجربة درويش في سياق مقارن بين نثره وشعره ،وبين كونه شاعر القضية والشاعر المتخفف منها في
دواوينه األخيرة
فيديل سبيتي
أدى
الخروج من بريوت يف العام 1982إىل تخفيف اللغة النضالية يف شعر درويش، فربزت أعامل شعرية مكرسة للتأميل والتفصييل والعشقي كام يف «ورد اقل» .كانت مرآة الشاعر املقعرة تنعكس إىل الداخل ،نحو الذات ،والسرية الذاتية وتأمل املوت ،فخفتت الغنائية الفياضة وتراجع االيقاع لصالح الصوت الداخيل الخاص .هكذا سنحت لنا التجربة الجديدة بالفوز بشعر الت ّربم املبكر ً و«ملاذا محمود درويش املختلف بدءاً من «رسير الغريبة» وكان محمود درويش قد انتبه مبكرا إىل متييز الشعر تركت الحصان وحيداً» و«كزهر اللوز أو أبعد» «وال تعتذر الفلسطيني املرتبط باملقاومة عن الشعر العريب ككل، عام فعلت» ،ومن ّ ثم جاء بعدهام «أثر الفراشة» و«حرضة سواء بكونه شعر قضية أو بكونه يفرز لغة مستجدة عىل الغياب». الشعر العريب حتى ذلك الحني ،ورفض درويش تحويل شعر أن يحاول وكأنه درويش بدا القضية إىل مركز الشعر العريب يف يستل نفسه من الوقوع يف الستينيات ،فكتب مقالته «أنقذونا تكمن جماهيرية النمطية .فاندفع يف اتجاه تطوير من هذا الحب القايس» ونرشها يف درويش في أنه يعطي تجربته ،واالنتفاض عىل طرائقه مجلة «الطليعة» يف العام .1968 النبض العام الجمهور عن التعبريية املستقرة ،والبحث وجاء فيها« :مل يكن أدبنا خارق لتصبح إليه يحتاج الذي أساليب شعرية تكرس النمطية، املوهبة حني عرف كيف يختار ً وترود مناطق جديدة للتعبري القصيدة بيانا له ،وهو مكانه يف حركة الرصاع .إن املواجهة الشعري. الحادة واليومية كانت أعنف من أن يجبر متذوقي الشعر ً مفاصل من املفصل يف هذا تتيح لنا فرصة الوقوف طويال أمام على اكتناه اللغة تجربته متكن درويش من وضع أبواب املدارس الفكرية املختلفة». الشعرية نفسه عىل خريطة الشعراء وحاول درويش يف تلك املرحلة أن العامليني أو لنقل اإلنسانيني بعد يعيد الشعر الفلسطيني املقاوم إىل
62
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
تركيزه عىل املشرتك اإلنساين وصوغه الشخيص والجامعي الفلسطيني بعيداً عن الشعائرية والبطولية و«اإلنتفاضية». إذ أن يف الخروج من بريوت تجلىّ انسداد األفق ،وتصاعد التعبري عن اإلرهاق وفقدان األمل واإلحساس بالرتاجيديا الفلسطينية.
محمود درويش ..أثر الغائب
«الديوان العريب» ،أوالً ليجعله رافداً من روافد األدب العريب العام ،ثانياً لينتشله من عزلته التي اريدت له عرب وصمه بأنه شعر القضية املركزية ،ومن ثم تبجيله لهذا السبب. فكتب يف املقال نفسه املذكور آنفاً…«:وألن شعرنا صادر من لحم القضية الفلسطينية ،فقد حظي بالقدر األكرب من االهتامم ،ودفع حتى بعض الكتٌاب والنقاد إىل إجراء عملية مفاضلة بينه وبني مجموع الشعر العريب املعارص ،إن الخطأ يكمن يف مجرد إجراء عملية املفاضلة ،فليس من الرضوري وال ينبغي أن تكون القضية الفلسطينية ،منذ نشأتها حتى حزيران ،هي املحور األوحد الذي يدور حوله كل األدب العريب املعارص .وإال ،فإننا نصاب بأقىص أشكال ضيق النظر، ونعترب أن كل التطورات السياسية واالجتامعية يف العامل العريب منذ ما يزيد عىل عرشين سنة ،غري جديرة بتعامل األديب معها ،أو نعتربها رضباً من رضوب الكامليات ملجرد عدم التصاقها املبارش بقضية فلسطني .لعلنا ال نختلف عىل اعتبار هذا املوقف تنكراً ملسرية التاريخ العريب. ومن هنا ال ميكن تقييم أعامل الشعراء العرب مبيزان مدى تفاعلهم مع قضية فلسطني». هكذا راح الشاعر الفلسطيني العريب واألممي يجدل الوطني والقومي مبا هو إنساين لتصبح التجربة الفلسطينية وجهاً آخر من وجوه عذاب البرش عىل هذه األرض .يف هذه املرحلة مل تعد عنارص التجربة الفلسطينية تحتل بؤرة شعر درويش وحدها ،بل إن عنارص هذه التجربة أصبحت تتخايل عرب األساطري التي ينسجها الشاعر أو يعيد موضعة عنارصها التي يقوم ثم باستعارتها من حكايات اآلخرين ،ومن ّ يجدلها بحكاية شعبه وحكايته الشخصية كذلك. إذا كان باإلمكان الوصول إىل خالصة هذه التجارب الشعرية منذ بداياتها ،ميكننا القول إن درويش مل يكن صانعاً لثورة شعبه بقدر ما كان مرافقاً لها ،ففي بداياتها كان ناق ًال آلالمها ،وحني تصاعدت قوتها املسلحة صارت قصيدته تنبض بقوة السالح ،ثم بدأ التخفف من هذا النبض مع الخروج من بريوت ،وبعد بدء مفاوضات السالم ،كان درويش قد انتقل إىل عامله الشعري
الذي يجعل من القضية الفلسطينية إحدى قضايا البرش وتقع يف خانة مثيالتها ،قبل أن تختلط مبوقفه الشخيص من كل الحياة التي يعيشها هو نفسه أو التي يعيشها البرش اآلخرون فلسطينييون كانوا أم غري فلسطينيني. إذا كانت رحلة درويش تسري مبوازاة رحلة الثورة الفلسطينية .فام يصيب تلك الثورة يصيب شعر درويش، صعوداً وهبوطاً ،ضجيجاً وهدوءاً ،دعوة إىل الحرب ودعوة إىل السلم. مي ّثل محمود درويش حالة غري مسبوقة يف التجاوز الذايت دفعه إىل حلم كتايب خاص .ساهمت الظروف املتنوعة يف تنويعه إبداعياً ،من حيث الشكل الشعري ولغة القصيدة وإيقاعها ،ومن حيث املضمون يف املوضوعة املتخففة من «النضال» .وال يخفى عىل أحد أن مجموعات محمود درويش الشعرية من أوالها إىل األخرية هي مبثابة سريته الذاتية أو ما أراده أن يكون سريته الذاتية.
63
ملف
توقيع كتاب «أثر الفراشة» يف مرسح البلد -عماّ ن
وهو رغم كل ما ميكن قوله حول جامهريية شعره التي تنتشل القصيدة من «نخبويتها» ،أو ما ميكن قوله عن فصل بني قصائده األوىل واألخرية من حيث موضوعاتها وتناولها للقضايا العامة والشخصية ،إال أن جامهريية درويش لها سببها الكامن يف التناقض ذاته ،فهو يعطي الجمهور العام النبض الذي يحتاج إليه لتصبح القصيدة بياناً له ،وهو يجرب متذوقي الشعر عىل اكتناه اللغة الشعرية الحاذقة والصور واألفكار والرتاكيب واملفردات التي تجعل من قصيدته رغم بيانيتها ،قصيدة شعرية خاصة .لهذا يرضخ يف هذه املنافسة مناويئ «جامهريية» شعر درويش ،الجامهريية التي ال تهبط إىل «الشعبوية» ،والخصوصية التي ال تستقر يف العزلة والتخفي .هي خلطة االثنني بعد إزالة شوائبهام. هذه النظرة يرددها إدوار سعيد أيضاً يف مقالته «تالحم عسري للشعر وللذاكرة الجمعية»« :عند درويش يدخل الخاص والعا ّم يف عالقة قلقة دامئة ،حيث تكون ق ّوة ّ وجموح األ ّول غري متالمئة مع اختبارات الصواب السيايس، والسياسة التي يقتضيها الثاين .وألنه الكاتب الحريص واملع ّلم املاهر ،فإن درويش شاعر أدايئ من طراز رفيع ،ومن منط ال نجد له يف الغرب سوى عدد محدود من النظائر. وهو ميتلك أسلوباً نار ّياً ،لكنّه أيضاً أسلوب أليف عىل نحو حي. غريب ،مص ّمم إلحداث استجابة فورية عند جمهور ّ ق ّلة قليلة من الشعراء الغربيني ـ من أمثال ييتس Yeats وولكوت Walcottوغنسربغ Ginsbergـ امتلكوا ذلك املزيج النادر اآلرس الذي يجمع بني األسلوب السحري املوجه للجامعة ،وبني املشاعر الذاتية العميقة التعويذي ّ 64
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
املصاغة بلغة ّأخاذة ال ُتقاوم .ودرويش ،مثل أقرانه الغربيني الق ّلة ،فنّان تقني مدهش يستخدم الرتاث العرويض العريب الفنّي والفريد بطرق تجديدية وجديدة عىل الدوام .ذلك يتيح له أن ينجز أمراً بالغ النُدرة يف الشعر العريب الحديث: براعة أسلوبية فائقة وف ّذة ،ممتزجة بإحساس بالعبارة الشعرية يجعلها أشبه باملنحوتة بإزميل ،بسيطة يف نهاية األمر ألنها بالغة الصفاء».
الجرح الدروييش
بعد هذا التصنيف والتقسيم لشاعرية درويش ال بد لقارئه أن يعي بأن التسمية التجريد ّية واالختزال ّية أي «القض ّية»، كان جرحاً أصي ًال يف الشعر «الدروييش» .والجرح يعود إىل تلك الليلة التي اضط ّر فيها ،قبل أن يبلغ سنّ العارشة ،إىل الهرب من قريته بصحبة أهله .وبحسب ما يروي يف غري مكان من روايته أو يف كتاباته حول سريته الذاتية فإنه فقد ُ «نجوت أثر أهله وإخوته يف الربية ،وكتب يف «العب النرّ د»: مصادف ًةُ : هدف عسكريّ .وأك َرب من نحل ٍة كنت أصغ َر من ٍ ّ السياج .ومن حسن حظ َي ّأن الذئاب تتن ّقل بني زهور ّ ً ً ْ اختفت من هناك ،مصادفة ،أو هروبا من الجيش…» .كان ذلك الضياع يف برية الطرد من األرض والبيت «ثيمة» األمل األول أو الجرح الذي سيستعيص عىل االلتحام. يف «حرضة الغياب» سرية ذاتية يف سري ،أو سري متجاورة يف سرية ذاتية .ففي الكتاب شظايا من سرية طفل قروي ناحل ،فتنه الطريان ومل يلتفت إىل يقظة الطائر .ويف الكتاب سرية الفلسطيني الذي تو ّزع عىل الوطن واملنفى ،فعرف
محمود درويش ..أثر الغائب
املنفى عيشاً والوطن كتابة .ص ّعد محمود درويش يف كتابه «يف حرضة الغياب» هذا األسلوب يف الكتابة الذي ظهرت بشائره األوىل يف «ذاكرة للنسيان»« :املدن رائحة :عكا رائح ُة اليود البحري والبهارات .حيفا رائحة الصنوبر والرشاشف املجعلكة .موسكو رائحة الفودكا عىل الثلج .القاهرة رائحة املانجو والزنجبيل .بريوت رائحة الشمس والبحر والدخان والليمون .باريس رائحة الخبز الطازج واألجبان ومشتقات الفتنة .دمشق رائحة الياسمني والفواكه املجففة .تونس رائحة مسك الليل وامللح .الرباط رائحة الحناء والبخور والعسل» .وقد تكرر يف كتاب «يف حرضة الغياب» ،حديث محمود درويش عن خروجه من حيفا ،فيام يشبه إعادة النظر يف هذا الخروج« :وقلت :ابتعدت قلي ًال ألقرتب، ندمت حقاً َ فقالوا :هذه هي طريقة النادم يف الكالم .فهل عىل هذا السفر؟ قلت :ال أعرف ما دمت يف أول الطريق». ويقول وهو باقٍ يف بريوت بينام خرجت املقاومة من هناك يف السفن« :وتعرتف بأنك أخطأت :ملاذا ُ نزلت عن الكرمل، ومل أكمل رحلتي مع إخويت إىل البحر ...إىل ما ال أعرف؟». ويقول وهو عائد إىل الكرمل بعد أوسلو« :فامذا تفعل حني تصل إىل الكرمل غري أن تسأل :ملاذا نزلت عن الكرمل؟ ويف نفسك األمارة بالحرية جواب مبهمبليك أتعلم امليش عىل طرق ال أعرفها». يف كتابه «يوميات الحزن العادي» كانت صورة املعاناة ما زالت متوقدة يف ذهنه .نص عىل شكل حوار يتضمن مقاطع من سريته الذاتية ،من دون اقتصاد يف اللغة ،إذ كان من واجبه أن يروي حكايته بتمهل وبتفصيل وإسهاب ،ألنها حكاية طرده من أرضه وتجواله منفياً يف جنوب لبنان مع أهله ثم عودته تهريباً إىل بلدته التي مل تعد موجودة ثم تح ّوله إىل مواطن غريرشعي بحسب تصنيف محتليه .هذه السرية األوىل ال تحتاج إىل لغة شعرية مقتضبة ،وال يضري يف
فنّان تقني مدهش يستخدم التراث العروضي العربي الفنّي والفريد بطرق تجديدية وجديدة على الدوام
متعتها وجاملياتها السيالن النرثي بلغة شاعرية« :كنا ننتظر انتصار الجيوش العربية عىل الغزاة خالل أسابيع ونعود بعدها إىل الربوة .مل نسكن مخي ًام ،مررنا يف رميش ،ثم بتنا ليلة يف بنت جبيل التي ازدحمت برصاخ املنفيني وكانت حظرية برشية .كانت الليلة الثانية التي نبيتها خارج البيت. الليلة األوىل كانت يف أحد مضارب البدو يف الجليل حيث أكل عرشات من «الضيوف» بيضاً مقلياً من إناء واحد. ويف جزين – حيث أقمنا -رأيت السواقي التي تسكن البيوت ،ورأيت الشالل .وحني اشتد الربد هناك انتقلنا إىل الدامور وعربنا كروم املوز ،ولعبنا عىل الشاطئ ،وسبحنا يف البحر .عربت الشارع الواسع يوماً قبل أخي الذي لحق يب ،فرضبته سيارة مل تصبه بجروح ولكنها أصابته بذهول مل ينج منه إال بعد سنني»« .يوميات الحزن العادي» .بينام «يف حرضة الغياب» قام بالتعبري عن النزوح إىل لبنان، بنرث يضاهي الشعر يف جاملياته« :تنتحي ركناً قصياً عىل صخرة مهجورة عىل البحر اللبناين .تبيك كأمري صغري أنزلوه التدريجي، عن عرش الطفولة ،قبل أن ُي َل ِّقنُوه ِف ْق َه ال ُر ْشد ّ ودرس الجغرافيا الرضوريّ ملعرفة املسافة بني «هنا» و «هناك» .وحينام يتطلب األمر الدخول إىل حيز التفاصيل، فإن محمود درويش يعود إىل ما اعتاده يف كتاباته النرثية السابقة ،وبالذات يف كتابه «يوميات الحزن العادي» ،ليك يقدم مادة سياسية واضحة املرامي والغايات ،متخففة من اللغة الشعرية .لندخل يف عامل محمود درويش ويومياته وتفاصيلها ،من كيفية تحضريه لفنجان القهوة إىل ما يشعره تجاه البوارج البحرية الراسية قبالة رشفة شقته ،هناك يف جهة البحر التي كان قد قدم منها طف ًال .نراه يف مختلف أوقات النهار ،وإزاء كل منعطف من منعطفات ذلك اليوم الطويل يتعدد الرسد ويتمدد يف كل الجهات .وتتخذ لغة الرسد لنفسها مستويات متعددة تبعاً للحالة املوصوفة وملا يلزمها من صياغات لغوية. إن اختيار الكالم عىل «يف حرضة الغياب» و«يوميات الحزن العادي» وقصيدة «ذاكرة للنسيان» يهدف إىل االستفادة من سرية درويش الذاتية وجرحه األصيل فيها ،وكذلك إىل مقارنة املوضوعة نفسها يف طريقتني كتابيتني أي النرث والشعر .ثم تذوق الكتابة املسرتسلة يف النرث التي يتقنها درويش كام يتقن اإلختصار واملبارشة يف الشعر 65
ملف
درويش
التناص الداللي والمرجعية التاريخية ................................................................................................................................
في هذه الدراسة يكشف الناقد مفيد نجم عن األصوات التاريخية المتعددة في شعر محمود درويش التي صنع منها الشاعر أقنعة أستعارها لخلق نوع من اإلسقاط التاريخي على الواقع الفلسطيني الراهن بإشكالياته العديدة
ومراحلة المتفاوتة بحس فردي ال يدير ظهره للجماعة ،وال ُيسقط من حساباته ُ البعد التاريخي للصراع مع دولة
االحتالل الناشئة في فلسطين منذ العام ،1948بما في ذلك الكشف عن التباسات التاريخ ومكره
مفيد نجم
يحتل
التناص التاريخي موقعاً مه ًام يف قصيدة محمود درويش نظراً ملا ينطوي عليه الرصاع الفلسطيني مع املحتل اإلرسائييل لفلسطني من بعد تاريخي ،يتجىل يف محاولة هذا املحتل تربير مرشوع اغتصابه لها بذرائع تاريخية واهية قامت عليها اإليديولوجية الصهيونية ،ومتثلت يف القول بالحق التاريخي املقدس الذي منحهم إياه الله ،والذي عىل أساسه أقاموا دولتهم اليهودية يف املايض ،يف حني أن تلك الدولة التي مل تدم أكرث من مائتي عام ،مل تكن إال كغريها من الغزوات التي تعرضت لها فلسطني ثم آلت إىل الزوال ،يضاف إىل ذلك املكانة املهمة التي احتلتها فلسطني عىل مستوى الجغرافيا الروحية واالسرتاتيجية النابعة سواء من حيث موقعها الديني املهم عند أصحاب الديانات الساموية الثالث ،أو من حيث موقعهاعىل سواحل املتوسط بني قاريت آسيا وأوروبا .لقد استدعت محاوالت التضليل الصهيونية وتزوير وقائع التاريخ من الشاعر الذي ميثل ضمري الشعب يف دفاعه عن وجوده وحقه التاريخي يف وطنه املغتصب أن يستحرض ذلك التاريخ عرب رموزه ووقائعه ودالالته ليكشف عن عمق حضوره التاريخي والحضاري يف أرضه وامتداده العريب واإلسالمي تارة ،وتارة أخرى
66
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
ليك يؤكد حتمية اندحار هذا املرشوع االحتاليل كام اندحرت من قبله كل الغزوات السابقة .من هنا تأيت كثافة حضور رموز التاريخ بصورة مبارشة أو غري مبارشة ،شخصيات وأمكنة ووقائع يف نصه الشعري ،كام تظهر الصيغ واألساليب واآلليات املختلفة التي استخدمها الشاعر يف استدعاء وتوظيف تلك الرموز واألحداث بشكل مينح تلك التجربة غناها الداليل وبعدها الجاميل ،السيام أن وظيفة استدعاء الشخصيات التاريخية ورموزه يف النص الشعري تتجاوز الوظيفة الداللية إىل الوظيفة الجاملية ،من خالل اندماجها يف بنية النص الكلية وداخل سياق النص وتفاعلها معه.
رؤية شعرية
سواء أكان االستدعاء يف جزء من القصيدة ،أم أنه يشكل محوراً لها ،فإن أهمية التناص تنبع مام متثله تلك الشخصيات والرموز من قيمة تاريخية معروفة ،ومن حضور خاص يف الوجدان الجمعي، تجعل املتلقي أكرث استيعاباً لها وتفاع ًال معها، إضافة إىل أنها تجعل الشاعر واملتلقي يلتقيان يف فضاء مشرتك هو فضاء املوروث الثقايف الجمعي الذي تنتمي إليه تلك الشخصيات والرموز. ولعل من الرضوري اإلشارة إىل أنه رغم أهمية تلك الرموز والشخصيات التاريخية املستدعاة
محمود درويش ..أثر الغائب
فإن هذا االستدعاء ليس مقصوداً لذاته ،وبالتايل فإن تلك الرموز والشخصيات ال تحمل داللة مرجعية ثابتة، بل هي ت ّولد داللتها عرب تفاعلها مع السياق النيص الذي تندمج فيه ،ما يجعلها تحمل داللة متحولة تعرب من خاللها عن الوعي الجمعي ،ولهذا فإن إعادة توظيف تلك الرموز والشخصيات ترتبط بطبيعة الرؤية الشعرية التي تحكم بنية النص الشعري ،ووحدة التجربة بنيوياً وداللياً وجاملياً ،بصورة تعكس فيه وعي الشاعر الجديد وقدرته عىل استلهام التاريخ وإعادة بنائه داللياً وجاملياً وفق االحتياجات الداخلية لبنية النص وحركته ،وطبيعة التجربة التي يقدمها هذا النص عىل مستوى الرؤية الكلية ملعاناة اإلنسان الفلسطيني وكينونته ووجوده وهويته التي يحاول املحتل طمسها .إن الرموز التاريخية التي تستدعيها قصائد الشاعر تحتل درجة متقدمة يف املرجعيات التناصية التي تتفاعل تحتل الرموز التاريخية معها تجربة الشاعر ،حيث تتنوع التي تستدعيها قصائد أشكال وصيغ وآليات استدعاء درويش درجة متقدمة تلك الرموز والوقائع ،وتوظيفها للتعبري عن رؤاه ،السيام عىل في المرجعيات صعيد العالقة بني املايض والحارض التناصية التي تتفاعل داخل السياق النيص لتلك التجربة ،والتي تتجاوز إطار الرمز معها تجربة الشاعر والوقائع التاريخية إىل وظيفتها
وكيفية تحقيق تفاعلها مع بنية النص الكلية ،مبا يعرب عن طبيعة الوعي الفكري والجاميل الذي يحكم التجربة ويشكل فضاءها الشعري ،ويخلق الطابع الدرامي املتوتر الذي يعكس عمق اإلشكالية الكبرية التي يطرحها هذا التاريخ عىل مستوى التجربة الوجودية واإلنسانية للذات الفلسطينية والتي تتكثف معانيها وأسئلتها ،سواء عىل مستوى الحب والعالقة مع اآلخر /املرأة ،أو عىل مستوى الوطن واالنتامء والهوية ،خاصة وأن اآلخر /املحتل يسعى من خالل مرشوعه االحتاليل إىل مصادرة الحارض واملستقبل باسم املايض املزعوم عىل خلفية عقيدية سلفية ،بغية إضفاء الرشعية عىل سياسة االغتصاب التي ميارسها عىل أرض فلسطني.
بؤرة القصيدة
ش ّكل التاريخ أحد املرجعيات النصية املهمة يف تجربة الشاعر ،والتي بلغت ذروتها يف نصوصه الشعرية التي نرشت يف الثامنينات ،واستمرت يف أعامله التالية ،من خالل استخدام آلية االستدعاء والتحويل التي كانت أكرث اآلليات ظهوراً يف قصائد تلك املرحلة ،حيث برز استخدام تلك اآللية يف جزء من القصيدة 67
ملف
موجهاً إىل تلك الشخصيات ،يف حني يكون الحديث يف مستويات أخرى حديثاً عن الشخصية وموجهاً بالتايل إىل القارئ ،فيكون املتكلم يف القصيدة هو أنا الشاعر .ويف قصائد أخرى قد يستدعي الشاعر مع الشخصية وقائع وأحداثاً تاريخية متعددة ،يجمع بينها عنرص موضوعي مشرتك ،كام قد يستدعي معها أسامء أماكن تاريخية تنبع أهميتها من خالل معناها الرمزي الذي متثله تاريخياً ،إال أن أهميتها تبقى يف وحدتها واندماجها مع بنية النص، ويف وظيفتها التي تقوم بها من حيث تفعيل وظيفتها وطاقتها اإليحائية والرمزية داخل بنية القصيدة ،مبا يحقق تعميق وعي املتلقي بالشخصية املستدعاة وتحقيق تفاعله معها ،إضافة إىل ما قد تقيمه من حوار بني املايض والواقع املعارص ،الذي تسعى التجربة الشعرية للتعبري عنه.
عرب التكرار الجزيئ وعملية الدمج التي تقوم عىل إدخال هذا الجزء املستدعى يف بنية القصيدة العامة .إن أول ما يلفت انتباه القارئ ملستويات التناص التاريخي وآليات استدعاء الشخصيات التاريخية واألساليب املستخدمة يف كل مستوى من مستويات استدعاء تلك الشخصيات والرموز هو أن عناوين القصائد التي يستدعي فيها الشاعر تلك الشخصيات تخلو من ظهور اسامء الشخصيات التاريخية فيها ،باستثناء ثالثة عناوين ،تألف العنوان األول منها من جملة اسمية هي «سنونو التتار» إذ يتم تعريف االسم الذي هو جواب ملبتدأ محذوف ،تقديره هذا ،أو هو باإلضافة إىل االسم التاريخي لقوم اشتهروا تاريخياً مبدى قسوتهم ووحشيتهم خالل غزواتهم املدمرة التي قضت عىل الحضارة العربية اإلسالمية يف بغداد وبالد الشام .أما العنوان الثاين «يف القدس» فيتألف عىل مستوى بنيته النحوية من شبه جملة ،ويحمل داللة مكانية ملدينة ،تتمتع بقدمها آليات االستدعاء التاريخي وحضورها الخاص يف الوجدان الجمعي ،بسبب يستخدم الشاعر إىل جانب آلية االستدعاء آلية التضمني يف جزء محصور من النص يكون فيه خطاب الشاعر موجهاً قداستها النابعة من كونها مركزاً روحياً للديانات الساموية الثالث اليهودية واملسيحية واإلسالم .أما العنوان الثالث إىل القارئ عىل شكل مونولوغ يفتتحه باستخدام التكرار فهو «حوار شخيص يف سمرقند» ويحمل أيضاً داللة مكانية السم االستفهام ،لكنه مونولوغ يسعى من خالله إىل إيقاظ تاريخية ،دالة عىل الحضارة العربية اإلسالمية يف عرص قوتها الذاكرة الجمعية وانفتاحها عىل معاين التحول والتبدل، وانتشارها وازدهارها .تتسم الرموز بالقدم والحضور الخاص التي تكشف عنها سريورة حركة التاريخ ،لكنه يكرس هذا يف الوجدان واملخيال الجمعي ،بل إن بعضها قد تحول يف السياق فجأة عندما يظهر صوت الجرنال الفرنيس غورو املخيال العام إىل رمز للفردوس املفقود ،واملايض املجيد والذي يستدعيه من خالل مقولته الشهرية بعد أن دخل الضائع كام هو الحال بالنسبة إىل رمزية األندلس ودمشق دمشق محت ًال عام 1920وزار قرب صالح الدين األيويب الذي وسمرقند وقرطبة. هزم الصليبيني وانهى وجودهم يف يتم التي تنتمي األسامء بالد املرشق العريب «ها نحن عدنا يا تكمن أهمية استدعاؤها يف القصيدة إىل صالح الدين .»..ويف حني يستدعي الشخصيات واألسماء زمن تاريخي واحد ،أو إىل الشاعر شحصية غورو بالقول ،فإنه يسهل أنه في التاريخية أزمنة وعصور تاريخية مختلفة، يستدعي معها شخصية صالح الدين يجمع بينها عنرص موضوعي على المتلقي معرفتها باسم العلم ،بينام يتمثل العنرص واحد يتمثل يف املوقف الجامع املوضوعي الذي يربط بني هاتني والتفاعل معها بسبب فيام بينها ،ويستخدم الشاعر الشخصيتني هو املوقف من التاريخ، الذاكرة في حضورها لذلك صيغاً وأساليب مختلفة ومحاولة الثأر من املايض والتأكيد يف استدعاء تلك الشخصية ،أو عىل روح التحدي والقوة التي تتجىل والوجدان الجمعي الشخصيات مثل صيغة املنولوج يف خطاب القائد الغازي املوجه التي يكون فيها حديث الشاعر إىل ضمري األمة من خالل شخصية 68
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
محمود درويش ..أثر الغائب
القائد صالح الدين ،وما متثله من معنى رمزي، مؤكداً عىل تلك العالقة من الرصاع بني الرشق والغرب:
هل تذكرون حصار قرطاج األخري هل تذكرون سقوط صور ،وماملك اإلفرنج فوق الساحل السوري ،واملوت الكبري يف نهر دجلة عندما فاض الرماد ،عىل املدينة والعصور؟ «ها نحن عدنا يا صالح الدين» ...فابحث عن بنني
يظهر االستخدام املكثف لضامئر الغيبة عند استدعاء الشاعر ألسامء الشخصيات التاريخية املعروفة باسم العلم، مقرتنة يف الغالب مع الوقائع واألحداث التاريخية التي اشتهرت بها ،إضافة إىل استخدام أفعال املايض «مل يحرموا – خلدوا – سافروا – استعادوا .»....لقد سعى الشاعر إىل تحقيق التوافق عىل مستوى بناء القصيدة ،بني أدوات اللغة ومدلوالتها من أجل تحقيق حضور الشخصيات واألحداث والرموز املستدعاة يف القصيدة ،النتزاعها من غيابها املتحقق عىل مستوى الواقع ،ويك يوحي بالعالقة الجدلية القامئة بني املستويني ،مستوى الواقع ومستوى القصيدة ،فاستخدم لتحقيق هذه الغاية الحشد الرتاتبي القائم عىل استطراد التداعي الذي تستعيد فيه الشخصية الفلسطينية كينونتها وعمقها التاريخي والحضاري الكبري بوصفه جزءاً من تلك الهوية التي تعود معها وبها الذات إىل اكتشاف ذاتها الحافلة بهذا الرثاء الحضاري الذي تشكل معه وبه وجودها التاريخي عىل هذه األرض الذي متازجت فيه أهم حضارات العامل القديم .يقول الشاعر:
عادوا إىل ما كان فيهم من منازل ،واستعادوا ما ضاع من قاموسهم :زيتون روما يف مخيلة الجنود توراة كنعان الدفينة تحت أنقاض الهياكل ،بني صور وأورشليم
وطريق رائحة البخور إىل قريش ،تهب من شام الورود وغزالة األبد التي زفت إىل النيل الشام ِّيل الصعود يف األجزاء املدمجة يف بنية القصيدة والتي يستدعي فيها
الشاعر رموزاً تاريخية مختلفة يجمع فيام بينها عنرص موضوعي واحد ،هو انتامؤها إىل حضارات الرشق القديم .ويأيت هذا االستدعاء املكثف للربهنة عىل العمق التاريخي للذات الفلسطينية، وعىل التامزج الحضاري الذي عرفه تاريخها يف املايض يف هذه املنطقة التي شهدت والدة حضارات العامل القديم األوىل ،إضافة إىل التأكيد عىل فكرة صعود وانهيار تلك الحضارات عرب التاريخ:
أعرب بني العصور ،كأ َين أعرب بني الغرف أرى َّيف محتويات الزمان األليفة: أمشاط شعر من العاج صحن الحساء اآلشوري يس سيف املدافع عن نوم س ّيده الفار ِّ وقفز الصقور املفاجئ من علم نحو آخر فوق صواري األساطيل
ويستدعي الشاعر يف جزء مدمج ومحصور من قصيدة أخرى شخصية امللك البابيل نبوخذ نرص باسم العلم مقرتنة بالحدث الذي ارتبط باسمه وعرف بالسبي البابيل األول بعد أن احتل مدينة القدس ،وقيامه بالقضاء عىل الدولة اليهودية وسبي اليهود إىل بابل.
فليصقل الثور ،ثور العراق املجنح قرنيه بالدهر والهيكل املتصدِّع يف فضة الفجر ،وليحمل املوت آلته املعدنية ،يف جوقة املنشدين القدامى لشمس نبوخذ نرص .أما أنا املتحدّر من غري هذا الزمان ،فال ب َّد يل من حصان يالئم هذا الزفاف
كام يستدعي الشاعر شخصية االسكندر بلقبها الذي استعارته من الثقافة الفرعونية والدال عىل القوة املطلقة، يستدعيها مقرتنة بالفكرة التي مل تستطع تحقيقها ولذلك يستخدم أداة الرشط غري الجازمة والتي تحمل معنى التمني واالحتامل:
لو كان ذو القرنني ذا قرن ،وكان الكون أكرب لترشق الرشقي يف ألواحه ...وتغرب الغريب أكرث لو كان قيرص فيلسوفاً كانت األرض الصغرية دار قيرص
69
ملف
درويش -االمارات
سيرة محبة واحتفاء ................................................................................................................................ حدث ذلك صيف العام ،1974عندما وصل محمود درويش إلى أبوظبي وأقام في فندق «زاخر» ،وكانت قراءته
الشعرية ،األولى في الخليج العربي وليس في دولة اإلمارات وحدها ،ذات أمسية قائظة في دار سينما «الدورادو»
أبوظبي -بيت الشعر
دار
فلسطينياً للمهرة املسافرة يف حقول األلغام التي زرعها سينام «الدورادو» ،ال تزال يف قلب أبوظبي، وتقع عىل مقربة من تقاطع شارعني :زايد األول اإلرسائييل عىل مداخل القرية التي مل يرتكها أهلها وبقوا متمسكني باألمل وشجرة لوز ويفء زيتونة يتيمة» .وأضاف: والسالم .بدأ محمود درويش قراءته تلك بقصيدة كانت «ملحمود درويش وجهه الحر ،عينان أو غيمتان ،وقصيدته «سجل أنا عريب» التي كتبها يف العام ذائعة الصيت آنذاكّ : ال تحقق أغراضها يف الرثاء وال يف املديح ،ولكنها ال تحقق « :1964سجل /أنا عريب /ورقم بطاقتي خمسون ألف/ ً وأطفايل مثانية /وتاسعهم سيأيت بعد صيف…» .و َمنْ يعرف أغراضها أبدا» .كانت األمسية بدعوة من إدارة معرض سرية درويش الذاتية ُيدرك متاماً أنه كان يتحدث عن عائلته أبوظبي الدويل للكتاب ،وحرضها سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية ،الذي كانت تربطه عالقة الحاصة. صداقة خاصة بدرويش ،وحرض أيضاً حفل تكريم محمود غص ْت بالحضور من الجمهور اإلمارايت كانت القاعة قد ّ ً والخليجي والعريب حديث الوفود إىل الدولة الناشئة .كانت درويش وأدونيس عندما تم تكرميهام معا بجائزة مؤسسة سلطان بن عيل العويس ،فض ًال عن عدد من الوزراء تلك السبعينيات يف نصفها األول من القرن املايض واعدة اإلماراتيني الذين كان من بينهم وزير الثقافة والشباب كثرياً ومليئة بأشواق عليا لشعب من الشعراء العرب والتنمية املجتمعية عبد الرحمن العويس ،الذي زار رام الله وطموحات هائلة حملها مثقفون وأفراد. عقب الرحيل املتوقع ،لكن الالذع ،لدرويش حيث خاطبه انتهت تلك األمسية ومعها تلك القراءة الوحيدة لدرويش ً يف أربعينه« :حيرّ تنا يا رجل كيف نكرمك» وقال أيضا عنه: ليسجل بذلك أول زيارة ،بدءاً من اإلمارات ،إىل الخليج «منح وجهاً آخر لقضيته الوطنية، العريب حيث مل تنقطع بعد ذلك وانتشلها من ضيق املكان والزمان، زياراته لإلمارات حتى العام ما بين العامين 1974و2007 وأطلقها عرب مراحله الشعرية 2007عندما قرأ يف أبوظبي يف عن درويش ينقطع لم نحو الكونية بوجهها اإلنساين آخر أمسية له هنا ،وقدمه خاللها اإلمارت دولة وجمهور ًا ،فعاد كقضية تحرر وطني لشعب وأرض الشاعر حبيب الصايغ يف املرسح ومقدسات ،فلم يرتك وجعاً إال الوطني مساء األول من أبريل إليها وإلى غير مدينة من ً وصريه شعرا» .وما ينبغي ذكره يف من ذلك العام. أمسيات فيها وأقام مدنها، هذا السياق ،هو أن جثامن درويش يف تلك األمسية األخرية، وصل من الواليات املتحدة إىل مطار درويش قدّم الصايغ صديقه شعرية ماركا العسكري يف العاصمة األردنية باحتفاء كبري« :كأنه يغني يف ً عامن عىل منت طائرة خاصة أمر بها فرح قصيدته ،كأنه يرتل صوتا
70
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
محمود درويش ..أثر الغائب
أمسية يف اإلمارات
رئيس دولة اإلمارات الشيخ خليفة بن زايد. ومل تقترص صلة درويش فقط عىل املثقفني والشعراء اإلماراتيني وحدهم ،إمنا ارتبط أيضاً برجاالت الدولة من بينهم أحمد خليفة السويدي وزير خارجية دولة اإلمارات األسبق ،ومستشار املغفور له بإذن الله تعاىل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان – رحمه الله ،وسواه من السياسيني اإلماراتيني الذين تعرف بهم أثناء عمله السيايس. وما بني العامني 1974و 2007مل ينقطع محمود درويش عن اإلمارت دولة وجمهوراً ،فعاد إليها وإىل غري مدينة من مدنها ،وأقام فيها أمسيات شعرية يف ديب والشارقة ،التي قرأ فيها ألول مرة قصيدته «خطبة الهندي األحمر األخرية». ويبقى املعلم البارز اآلخر يف سرية درويش اإلماراتية هو نيله جائزة سلطان بن عيل العويس الثقافية -فرع اإلنجاز الثقايف والعلمي باملوازاة ،وليس بالتناصف ،مع أدونيس يف الفرع ذاته ،حيث ورد يف قرار مجلس أمناء الجائزة الذي ُت َ يل العام 2004بصدد منح الجائزة لدرويش ما ييل« :يرى املجلس أن الشاعر محمود درويش هو صورة الحقيقة الشعرية يف عاملنا العريب ،ورسولها املكابد بقوة وشجاعة وإرصار إلعالء صدق التجربة الشعرية ووهج
واقعها املعاش بكل عذاباته وجاملياته معاً ،فهو شاعر املقاومة ،ال الفلسطينية وحدها وإن ش ّكل اليوم نبضها الحي ،بل املقاومة اإلنسانية يف عمقها واتساع آفاقها، والتي تنشد السالم والعدل لبني البرش ،كام يرى املجلس أن مكابدة درويش ليست نضالية فحسب ،عىل الرغم من القيمة العظيمة ملنجزه الشعري يف هذا املجال ،ذلك ألن درويش استعاد للمفردة بهاءها وحررها من وهن التكرار والعادة وبعث يف استحضارات املوروث نبضاً حياتياً متجدداً ومعارصاً ،ورفد الحركة الشعريــة املعاصــرة ،مبا تحتــاج إليه مـن عذوبــة الشعـر وقوتـه وموسيقاه وعمقه وحالوته ،عالوة عىل دور هذا الشعر التغيريي واملحرض واملناهض لالحتالل ،وكافة أشكال العدوان والظلم». خالل األربعني سنة تلك احتفظ درويش بالعديد من األصدقاء من الشعراء واملثقفني اإلماراتيني ،من بينهم َمنْ اختلفوا معه يف الرأي حول قضايا سياسية تفصيلية ،ومنهم َمن كانت محبته لدرويش أكرب من السياسة وأكرث استيعاباً لتناقضاتها يف شخصية درويش ،لكنهم اتفقوا جميعاً عىل استثنائيته الشعرية واإلنسانية والثقافية بحسب كل الذين ُقدِّر لهم واقرتبوا كثرياً من بوحه الخاص 71
ملف
سجل أنا شاعر
يف أمسيته األوىل يف أبوظبي عاتب خليل عيلبوين درويش وهو يقوم بتقدميه ،ذلك أن الشاعر اختار اللجوء عام 1970وسلك طريق القاهرة عرب موسكو.وأحرجه حني طلب منه قراءة قصيدة «سجل أنا عريب» ،التي كان درويش قد بدأ ينأى عنها من الناحية الفنية ،ولذا بدأ درويش قراءته تلك ،بحسب تسجيل صويت تحتفظ «بيت الشعر» بنسخة منه ،بالقول« :ما كان بودي يف هذه املناسبة ،وهي أول لقاء يل مع جمهور الخليج العريب ،أن أسمع نصف مرثيتي .وإنني أجد صعوبة شديدة يف اختيار النامذج الشعرية التي نسمعها معاً هذا املساء ..مثة جدل اعترب أنه رضب من رضوب الرتف الفني ..أي القصائد أفضل ما قبل أو ما بعد ..ومن املؤسف أيضاً أن يكون تغيري إقامة شاعر من مكان إىل مكان بهذا الحجم من األهمية» .وذلك ردّا عىل جدل كان قامئا آنذاك حول مغادرته فلسطني املحتلة واختياره العيش يف املنفى. وأضاف« :صحيح أن بعض االهتامم يعود إىل تقدير ما يحمله الشاعر من قيمة تتعلق بنضال شعبه ،ولكن مرور أربع سنوات عىل عملية تغيري اإلقامة أعتقد أنه عمر كاف لنتخلص من هذه املقارنة .وال أريد يف هذا املساء أن أدافع عن نفيس ولكن ما دام بعض األخوة مرصاً عىل تفضيل الشعر القديم عىل الجديد ،أجد نفيس مضطراً إىل تلبية هذه الرغبة باختيار قصائد متدرجة يف العمر الفني وليس بالجودة الفنية ،فالحكم يف آخر األمر رمبا ال يكون يل ..ورمبا ال يكون أيضاً لألخ خليل».
كلمة الشاعر في عيد اإلمارات
يسعدين أن تتاح يل هذه الفرصة ،وهي عيد جميل ملشاركة أبناء الشعب اإلمارايت األصيل النبيل ،أحد أيام أفراحه الكربى. لستم يف حاجة إىل مرآة معنوية ،لتشاهدوا ما فعلت أشجاركم ،وهي إحدى أسامء أطفالكم ،بالصحراء الخارجية والداخلية، التي ترتاجع ،رويداً رويداً ،عن البيوت والنفوس .فإن عالقتكم بهويتكم ،من جهة وبإيقاع الزمن الجديد من جهة ثانية، ما يجعل املصالحة بني األصالة واملعارصة ممكنة .وما يحول صورة هذا الوطن الصغري واملوحد إىل أحد املشاهد اإلنسانية والعمرانية الجميلة يف حياتنا املحارصة بالجفاف .فقد يتمكن العريب املعارص من االنفتاح عىل ذاته وعىل اآلخر إذا حقق الحد األدىن الرضوري من التوحيد بني املواقف ووعي املصالح املشرتكة ،ووحدة الثقافة القومية ،إزاء األسئلة الكربى التي يواجهها مصري مشرتك لن نكون فاعلني يف صياغته إال بإرادة جامعية. من هنا ،يحظى خطاب دولة اإلمارات املتحدة السيايس ،بقيادة رئيسها الحكيم الكريم الشيخ زايد ،الداعي إىل املصارحة واملصالحة والتضامن والتعاون ،باحرتام الجميع وتقديرهم. ويف هذا العيد نرفع إىل سيادته أعمق التهاين وأصدقها ،بثقة شعبه املتجددة وباعتزاز أبناء أمته برسالته الدامئة يف خلق مناخ عريب جديد تتقدم فيه مصلحة األمة وروابطها املشرتكة عىل أنانية القبائل والطوائف. إن أبناء الشعب الفلسطيني يشعرون بامتنان خاص تجاه املكانة العاطفية والسياسية والروحية التي تتبوأها فلسطني، والقدس قلبها ،ويف قلوبكم التي تصيل لتحريرها من االحتالل ،ولتصبح القدس العاصمة الزمنية للفلسطينيني .وإحدى العواصم الروحية لكل العرب واملؤمنني بتعايش الرساالت الساموية .فعندئذ يكتمل االستقالل العريب الذي سيظل ناقصاً ما دام شرب من األرض محت ًال ،وما دام املصري العريب أسرياً لرشوط التبعية ،وما دام الحصار مرضوباً عىل خبز العراقيني وحليبهم وغدهم .وما دام أفق املستقبل العريب ملبداً بالضباب ومقيداً بإرادات اآلخرين. ويف عيدكم هذا ،يف حديقتكم الجميلة النظيفة هذه ،ندعو ألشجاركم يف الطبيعة والطبائع ،أن ترسو أكرث .وأن تنترش أكرث، لتجعل الرمل أقل .ومسافة الفرقة بني الذات وأختها أضيق .ونتمنى لكل فرد منكم املزيد من التطور والرفاهية .ونتمنى لرسالتكم يف االتحاد والوحدة ،أن تصل إىل الجميع. وكل عام وأنتم بخري( ..ألقيت مبناسبة اليوم الوطني لدولة اإلمارات العربية املتحدة العام )1996
72
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
محمود درويش ..أثر الغائب
درويش
قراءة فلكية
................................................................................................................................
ً بدرا ،ويفسر علم الفلك ذلك بوجود الشمس في قبالة القمر ،وهو األمر الذي ولد درويش في ليلة كان القمر فيها ً أحيانا على قراءة الشخصية اإلنسانية ،بأحاسيسها ومشاعرها وطرق تعبيرها يساعد
ياسين الزبيدي
متنحنا
خريطة امليالد ( )Natal Chartأو املشهد الساموي املتفرد لحظة ميالد اإلنسان وسيلة فعالة للتعرف عىل مزاياه وعيوبه ،فكواكب املجموعة الشمسية تشكل لوحة تشكيلية تغري قارئ الفلك يف البحث عن خفاياها وأرسارها ،وهي متنحنا فرصة التعرف عىل األركان األساسية لتلك الشخصية ،وتفصح عن ما نحاول جميعنا إخفاءه من مكنونات ال نرغب يف كشفها عىل الغري سواء كانت يف عقلنا الواعي أو غري الواعي. واليوم نشد الرحال إىل الجليل وبالتحديد قرية الربوة يف يوم الثالث عرش من مارس 1941حيث ولد الشاعر محمود دوريش ،وعرب أحد برمجيات الحاسبوب نقوم باستعادة شكل السامء يف لحظة ميالده ،يف محاولة للبحث عن الجانب غري املنظور من شخصية محمود درويش ،لرنى أسلوبه يف التفكري والتعامل مع الغري ،ويف الحب وطبيعة التعبري عن الطاقات املكنونة ،مستهدفني معرفة الشاعر يف جانبه النفيس ،بعيداً عن تحليل أشعاره التي تعد منه ًال عذباً ملتذوقي الشعر ،وأرضاً خصبة لألدب والنقد.
تدل عىل وجود رصاع فكري ،منشؤه أن الشمس متثل العقل واالدراك الواعي ،والقمر ميثل العاطفة والشعور، وملا كانا يف زاوية تعارض فهذا يؤدي إىل رصاع مستمر بني العقل والعاطفة ،هذا الرصاع الذي عاىن منه درويش طيلة حياته ،فتارة يكتب من وحي عاطفته وقلبه ،وأخرى ينقلب عىل عواطفه ثائراً ويلجمها بلجام العقل واملنطق ،وهذا الرصاع الفكري انعكس عىل حياته ليمثل أطواراً عديدة من التغري واالنقالب .فقد رافقت فورة شبابه انتامؤه للحزب الشيوعي اإلرسائييل وعمله يف صحافة الحزب وذلك بعد أن أنهى تعليمه الثانوي .بيد أن دوريش مل يخلق من أجل أن يسكت عىل الظلم ،أو أن يحابيه لذا فقد اعتقل من قبل قوة العاطفة كان القمر بدراً يف يوم والدة محمود درويش ،ورغم أن رؤية السلطات اإلرسائيلية مراراً بدءاً من العام 1961بتهم تتعلق بترصيحاته ونشاطه السيايس وذلك حتى عام .1972وظل البدر من أروع مشاهد السامء ،التي تثري أخيلة الشعراء بعد ذلك متنق ًال بني االتحاد السوفييتي ولبنان والقاهرة وتبعث فيهم فيض الطاقة يك يحولوا اإلحساس إىل كلامت وأبيات شعر ،إال أن هذا املشهد الساموي األخاذ له تفسري حتى التحق مبنظمة التحرير الفلسطينية ،بيد أن رصاع آخر يف دنيا الفلك ،فوجود الشمس يف زاوية مقابلة للقمر العقل والعاطفة مل يتوقف ،ودرويش ال يصغي إال ملا يؤمن 73
ملف
عزلتك؟ فأجابها (جداً .عندما أضطر للخروج للعشاء أشعر أنه تم االيقاع يب يف عقوبة .يف السنوات األخرية رصت أحب أن أكون وحدي .أحتاج للبرش عندما أكون مضطراً لهم .رمبا تعتقدين أنها أنانية ،ولكن لديّ خمسة أو ستة أصدقاء .هذا كثري .لديّ آالف املعارف وهذا ال يساعدين).
به ،لذا قدم استقالته من اللجنة التنفيذية ملنظمة التحرير، معلناً عن عدم قناعته مبا جاء يف اتفاقية أوسلو ،وهي أول اتفاقية سالم بيني إرسائيل والسلطة الفلسطينية املمثلة مبنظمة التحرير. وكام لعب الرصاع بني القلب واملنطق دوراً مه ًام يف حياة محمود درويش وانتقاالته ،فقد كان له األثر األكرب يف تنوع تجربته مع الشعر ،فهو قد ينغمس يف نوع معني من حب عذري الرتنيمة الشعرية ،إال أنه تارة أخرى يستيقظ من نشوة عيون املرأة تفنت الشعراء وغري الشعراء ،فقد يجلنب الهوى تلك املرحلة ،ثائراً ناق ًام عىل ما كان عليه ،ليقبل إىل لجة من حيث يدري املرء أو ال يدري ،واملرأة حكاية تغنى بها أخرى وتجربة ثرية أخرى ،ولهذا يشري ناهض زقوت إىل الهام للبيت وللقصيدة، البرش منذ البدء ،وكانت مصدر ٍ أن التجربة الشعرية لدى محمود درويش مرت بسبع ولكن أين هي املرأة من محمود درويش؟ لإلجابة عن ً ا ر مرو مراحل ،بدءاً من الغنائية وانتها ًء باستبطان الذات هذا السؤال فإننا نحتاج إىل التعرف عىل موقعي كوكب بالتمرد وامللحمية .فهو شاعر يصعب التنبؤ بخط سريه ،وال املريخ وكوكب الزهرة ،فاملريخ الذي ميثل رغبات اإلنسان يرىض مطلقاً عن ما وصل إليه بل يتطلع دوماً إىل األمام. ونشاطه كان متواجداً يف برج الجدي الرتايب ،مام يشري إىل وعندما سأله عبده وازن عن شعوره تجاه أعامله الكاملة يف أن االهتامم االول لدرويش هو النجاح وتحقيق الذات ،بينام طبعتها الثامنة عرشة يقول (إنني ال أنظر إىل ّ مايض برضا، يأيت االهتامم بالرغبات أو األمور األرسية وتكوين العائلة وأمتنى عندما أقرأ هذه األعامل ،أال أكون قد نرشتها كلها، واالستقرار يف عش الزوجية يف املرتبة الثالثة أو الرابعة، أو أال أكون نرشت جزءاً كبرياً منها .لكنّ هذه مسألة مل تعد ولذلك عندما سألته داليا كربيل عن العائلة قال لها (يذكر منوطة يب ،إنها جزء من ترايث). أصدقايئ من حني آلخر أنني تزوجت مرتني .ولكنني ال أذكر الشمس تواجدت يف ساعة ميالد درويش يف برج الحوت هذا باملعنى العميق للكلمة) .وإلكامل صورة املرأة يف حياة املايئ ،لذا فهو يشرتك مع مواليد الحوت يف قوة العاطفة درويش يساعدنا كوكب الزهرة املتواجد يف برج الحوت واإلحساس الفني ،مام جعل من درويش رجل األحالم املايئ ،فوجوده يف هذا املوقع يشري إىل أن حبه للمرأة واإللهام والخياالت الخصبة ،فهو دمث الخلق ،يحسن يتحول من الجانب املادي امللموس إىل حب ساموي شفاف معاملة من حوله ويحاول أن يرقى به إىل عامل املالئكة« :كربنا، يقدم ما بوسعه خدمة لآلخرين. أنا وجميل بثينة ،وكل عىل حدة يف يفسر عطارد موقع مييل إىل العزلة ويكره مخالطة زمانني مختلفني» اهتمامات درويش الناس غري املربرة ،وأحياناً يتجنب عطارد كوكب التفكري والتواصل الحياة الواقعية ويخلق من خياله االجتامعي ،ووجوده يف برج الدلو الفكرية وميوله ً الخصب عاملاً يتناسب مع فيض ينم كثريا عن طريقة تواصل درويش في ووجوده العقائدية، عاطفته وافق خياله ،وقد متر به مع أفكاره ومع الناس .فوجود أيام عدة من دون أن يغادر بيته، برج الدلو الهوائي جعل عطارد يف هذا املوقع يدل عىل فهو مييل إىل االنطواء عىل نفسه روح مرحة يف التعامل مع املعارف من درويش رج ً ال ذا فكر واألصحاب ،كام يدل عىل نفس طيبة واإلصغاء إىل صمته الداخيل. منفتح متواضعة ،فهو يعد القهوة بنفسه ففي حواره مع داليا كربيل الذي لضيوفه ،وأحياناً يطبخ لهم ،وعندما ترجمه نائل الطوخي ،سألته يلعب الرند -زهر الطاولة -ينفعل الصحفية قائلة ً :هل تحب 74
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
محمود درويش ..أثر الغائب
تخطيط فليك لشخصية درويش
ْ انترصت كطفل كام يحدثنا بذلك يحيى القييس يف لقائه مع األصدقاء ال ال ُق َّو ُة املقربني لدرويش .وموقع عطارد يفرس اهتامماته الفكرية وال ال َعد ُْل الرشيدُ
وميوله العقائدية ،ووجوده يف برج الدلو الهوايئ جعل من درويش رج ًال ذا فكر منفتح ،يحب أن يطلع عىل تجارب اآلخرين وأفكارهم ،ويسعده أن يتبادل معهم الرؤى وما يجول يف الخاطر .ينجذب إىل كل فكر حر ،ويبتعد عن كل متعصب ألفكاره وكل من قوقع نفسه بأفكار بالية قدمية. ودرويش يحمل بني جنبيه إحساساً شفافاً ووعياً شمولياً يتسع مداه للعامل أجمع .إنه الباحث عن الحقيقة وعن كل فكرة جديدة ميكن أن تغرس بذرة خري وأمل يف نفوس املضطهدين يك يكونوا ما يستحقون ويعيشوا كام يجب، وهو يقول يف جداريته التي كتبها يف عام :1999
سأَص ُري يوماً فكر ًة .ال َس ْي َف يحم ُلها كتاب … األرض اليباب ،وال َ إىل ِ ِ كأ َّنها َم َط ٌر عىل َج َبلٍ َت َصدَّعَ من َت َفتُّح عُ ْش َب ٍة ،
َ سأصري يوماً ما ُأريدُ
ورغم أن محمود درويش عاش حياته يف رصاع بني العقل والعاطفة ،إال أن أشعاره وشخصيته جعلت منه رمزاً للمقاومة ،وقد عل ّمنا أن املقاوم هو إنسان قبل كل يشء ،يحب ويكره ،ينترص وي ُـهزم ،ويعيش كل املشاعر اإلنسانية إال أنه يبقى محتفظاً بروح املقاومة يف صدره نبضاً ورشياناً .ومحمود درويش غدا أيقونة النضال يف منظار العامل أجمع ،فمحبوه يعشقونه وأعداؤه يوقرونه ،فرئيس السلطة الوطنية الفلسطينية يارس عرفات يقول بأن أجمل خطبة ألقاها كانت إعالن دولة فلسطني التي كتبها محمود درويش .ورئيس وزراء إرسائيل شارون يعرتف بوصول صوت محمود درويش إىل أذنيه ويقول (أنا معجب بديوان «ملاذا تركت الحصان وحيداً؟» ألن هذا اإلعجاب قادين إىل اإلعجاب بتعلق الشعب الفلسطيني بقضيته وأرضه) 75
ملف
درويش الدمشقي
مرآة العاشق المغترب ................................................................................................................................ لدمشق حظ وافر من شعر درويش ،فهي من جهة «مرآة الروح» ،ومن جهة أخرى «النداء حيث يبتدئ الزمن العربي» .خصوصية لم تفسدها السياسة ،وصانها الحب كقصيدة عشق
ديمة الشكر
يف
املب ّكر ،وعاصمة الخالفة األم ّوية ،مدينة الشعراء واألدباء والعلامء واملتصوفني ،وهي كذلك املدينة التي «أرسلت» صورتها عرب املتوسط ،فولدت منها األندلس أخت الجنّةّ . كل خاصة هذا وكث ٌري غريه ،حفظ للمدينة املز ّنرة باألخرض مكانة ّ تقرتب من املقدس من دون أن تكونه متاماً ،لكأنها إحدى رساً ال عالن ّية. املدن املقدسة ّ
ٌ خفيف نهاية شهر أكتوبر عام ،1997رافق مط ٌر هبوط طائرة يف دمشق .يتذكر الراكب االستثنايئ محمود درويش تلك اللحظة جيداً ،يقول إنه تفاءل باملطر الخفيف .لتلك الزيارة وأمسيتها الشعر ّية املميزةٌ ، نكهة خاصة لدى كث ٍري من سكان هذه املدينة.كانوا يف غالبيتهم ّ ّ من الشباب ،ولعلهم أظهروا لدرويش كيف يتجاوب الجمهور مع شعره بطريقة أث ّرت يف نفسه ،ح ّد أ ّنه قال يف لقا ٍء صحفي وقتها« :أشع ُر بأنني ممتلئٌ برغبة يف كتابة طريق دمشق حب دمشق ّية ،وأعدكم بتحقيق ذلك يف أقرب ّ قصيدة ّ التاريخي للمدينة ،هو ما دفع درويش ولعل هذا ال ِثقل ّ ً ُ وقت» .وىف الشاعر بوعده وكتب قصيدة ،تشعر السوريني وغريه من الشعراء العرب املعارصين ،إىل «إدخال» دمشق فون ك ّلهم بالزهو والغبطة ،يدركون من خاللها بأنهم ُم ْص َط تاريخي .فامل ّرة األوىل باب ّ «أو الشام» إىل القصيدة عرب ٍ من بني غريهم من عشاق الشاعر اآلرس .صحيح أنها التي ظهرت املدينة لدى درويش ،تعود إىل العام ،1973 ْ ليست املرة األوىل التي تدخل يف ديوانه «محاولة رقم .»7ففي دمشق عامل درويش الشعري، قصيدة «كأنيّ أحبك» ،م ّرت املدينة ِ التي األولى ة ر الم لكن قصيدة «طوق الحاممة ّ ُ دخلت إىل بصورة طفيفة« :حني الدمشقي» تبدو مفصلي ًة الجامع األموي تساءل ُ أهل دمشق/ ظهرت دمشق لدى وحاسمة يف بلورة عالقة الشاعر املغرتب؟» .تبينّ اإلشارة منْ العاشق ْ درويش ،تعود إلى بدمشق .فهذه املدينة تفيض عن إىل الرصح الديني الشهري ،نظرة حدودها واقعاً؛ إذ تتنَزه باستمرار العام ،1973في ديوانه الشاعر إىل الجانب التاريخي يف شقهّ بني لفظني :دمشق والشام. اإلسالمي من جهة ،مثلام تبينّ أن «محاولة رقم »7في ً ُ وتفيض عن حدودها مجازا؛ هاجس تع ّرف س ّكان املدينة عىل أحبك» قصيدة «كأنّي ِ مرص ٌع بلحظات إذ إن تاريخها ّ الشاعر ُيبطن رغبته يف ت ّوسيع حدود مضيئةّ ، فهي عها؛ و تن تشف عن ّ ه ّويته عرب ربط فلسطني مبحيطها حارضة الجاهل ّية ،ومهد املسيح ّية العريب .األم ُر الذي سنلمسه مجدداً 76
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
محمود درويش ..أثر الغائب
ونيف ،ففي ديوان «وردٌ تظهر املدينة م ّرة أخرى بعد عق ٍد ٍ شام». أقل» يك ّرس درويش قصيد ًة ثانية لها« ،ويف الشام ٌ ٌ وموجهة من الشاع ِر وبالحب، القصيد ُة مك ّل ٌلة بالعتاب ّ إىل «صاحبه» .أك َرث من هذا ،فالقصيد ُة التي ُك ْ تبت بعد االجتياح اإلرسائييل لبريوت – مكان إقامة الشاعر املؤقت السيايس لتع ّقد العالقة الجانب وقتهاُ ،تخفي بذكا ٍء ولباق ٍة، ّ ِ َ – عىل ّ أقل تقدير -بني فلسطني وسوريا« :أ ِمنْ َح ِّقيَ ، اآلن، الح ِّب أَ ْن أَ ْسألَ ْك /لِماَ َذا ا َّت َك َ أت َعليََّ ِخنْج ٍر وع منَ ُ َب ْع َد ال ُّر ُج ِ َ َ َ َ كيَْ َت َرانيِ ؟» ،أو « َما أ ْج َمل َّ وحي» .األم ُر الذي الشا َم ،ل ْوال ُج ُر ِ يصيب مبارش ًة نظرة الشاعر الفلسطيني إىل هو ّيته أ ّوالً، ُ ً الحب وإىل انتامئها ملحيطها العريب ثانيا .وهو ما سيتك ّفل ّ بإظهاره يف القصيدةَ « :ف َض ْع ِن ْص َف َق ْل ِب َك فيِ ِن ْص ِف َق ْل ِبيَ ،يا َص ِاح ِبي /لِن َْصن ََع َق ْلباً َص ِحيحاً َف ِسيحاً لَهَا ليِ َ ،ولَ ْكَ /ف ِفي َّ الشام َش ٌام ،إِ َذا ِشئ َْت ،فيِ َّ السيايس الجانب وحي» .هذا ُ الش ِام م ْرآ ُة ُر ِ ّ «ضجة» ،إذ إن جاز التعبري ،سيم ّر خفيفاً من دون أن يث َري ّ إن درويش َ الحب ،فض ًال عن أن ِنظرته السياس ّية أميل إىل ّ لألمور من حوله ،مل ُيس ّلمها البتة لالنفعاالت اآلنية .الشاعر الفطن ال تخدعه مظاهر «الخطاب الرسمي» ،لذا ُ ينبذ اآلثار ِ ً املد ّمرة لتع ّقد العالقة إياه ،متكئا عىل الجوهر والثابت بني هو ّيتني أختني .املفارقة أن هذه القصيدة التي تبتعدُ عن تاريخ املدينة التليد ،وتنظر إليها يف حارضها ويف «دورها يف الديوان نفسهُ ، حيث ّ خص درويش املدينة ،بأوىل قصائده املتبدّل» ،سنتلقفها نحنُ السوريني باعتبارها أوىل قصائد املك ّرسة لها فقط :قصيدة «طريق دمشق» تظه ُر أوضح من الحب بني درويش وبيننا .قصيدة الشيفرة الرس ّية بيننا ّ قبل نظرة الشاعر إىل املدينة املمتلئة بالتاريخ ،باعتبارها رمزاً وبينه ،نحن الذين َ قال غري م ّرة عنّا« :بيني وبني الدمشقيني مستمراً للعرب يف أوجهم .املدينة هي صورتها يف التاريخ، كيمياء شعور ّية». ودورها يف الحارض .ركيزة النرص األوىل ،ومتكئ لص ّد الغزاة. صورة للتامهي املشتهى بني عريب وآخر« :اغتسيل يا دمشق غرفة للكالم بلوين /ليول َد يف الزمن العريب نهار» أو «وتسألني الفتيات ْ والثابتُ ،يبطنُ نظرته إىل استناد درويش إىل الجوهريّ الصغريات عن بلدي» .املفارقة أن هذه القصيدة التي تحمل عنواناً ُيبطنُ الجانب املسيحي لدمشق ،مل تتطرق إىل التاريخ املشرتك والجغرافيا املشرتكة أيضاً ،سيبتعد درويش ّ ّ ك ّلام امتدّت قصائده وازدادت جامالً ورفع ًة ،عن املبارشة، رمز ّية «طريق دمشق» الشهري بالطريق املستقيم .وآثرت الفج .إذ إن هذا الشاعر األثري ،ماه ٌر بتعامله مع والقول ّ القومي الذي كان رائجاً وقتها. الهم أن تكون معبرّ ًة عن ّ ّ اللغة العرب ّية ،طبعها ببصمة ال متحى مفرد ًة فأخرى ،ح ّد فدمشق يف القصيدة هي «دمشق النداء /دمشق الزمان/ دمشق العرب» ،حيث «يبتدئ الزمن العريب وينطفئ الزمن أن كثرياً من الشعراء يتجنبون استعامل مفردات استعملها هو ،نظراً إىل ق ّوته يف التأثري عىل إلهام اآلخرين وصنيعهم. قومي واضح «كوين دمشق فال يعربون». الهمجي» ،ولها دو ٌر ّ 77
ملف
فصل أثر تلك العنارص يف كذا متت ّد املدينة ،تفيض عن حدودها التي يتناوبها لفظان :فتعدّها ك ّلها شيئاً واحداً ،بل و َت ِ الجانب دمشق والشام ،لتظهر يف حيز جغرا ّيف ذي داللة .ففي ديوان بلورة املعنى .وفض ًال عن الشكل املبتكر ،يظه ُر ُ ّ َ التاريخي للمدين ٍة متألقاً ،غري مفصولٍ عن حارضها ،الذي ّ «ملاذا َ تركت الحصان وحيداً» ،الذي مي ّثل سرية درويش تزيد من وقعه «يف دمشق» ،عىل نح ٍو نجح فيه الشاعر وقصته، وقصتّه الشخص ّية التي ال تنفصل عن سرية مكانه ّ السيايس الذي ُيج ّرح الهو ّية ويوهنهاُ ،مفض ًال بإبعاد الجانب ّ بعيني الشاعر ،يف القسم تحرض صورة من صور املدينة ّ الحب بأبهى صوره .فعنوان القصيدة يذهب الذهاب نحو ّ املعن ّون «غرفة للكالم مع النفس» ،القسم األكرث حميميةً نحو صدى أخت الجنة ؛«طوق الحاممة» كتاب األندليس وصفاء ،حيث يكتب يف قصيدة «قال املسافر للمسافر: ابن حزم ،هو األشهر واألجمل يف تراث العشق العريب. لن نعود كام»« :أنا ابن الساحل السوريّ /أسكنه رحي ًال أو مقاما» ،موا اً بذلك بني التاريخ والجغرافيا املشرتكني لسوريا َتظه ُر دمشقُ مدين ًة ممتدّة يف الزمن ،ففيها مفردات دالة ئمِ ّ عىل األمس والحارض واملستقبل (القيامة أو بعدها ،فعل ً وفلسطني من جهة ،ومص ّوبا الجانب املع ّقد يف هو ّيته، املضارع ،األبد ّية ،منيش إىل غدنا ،يف أمسنا ،ماضينا املشرتك». ذاك الجانب الذي أساءت الس ّياسة إليه ،وأرادت عربه وفيها مفردات ّ أقل دا ّلة عىل التاريخ «الجاهلية ،األموية»، الخاص ،ال احتكا َر رغب ِة الفلسطينيني يف أن يكونوا صوتهم ّ إذ إن درويش – وهو املحاور الذيك للتاريخ -تح ّرر من صورتهم املوزعة يف أوراق سياس ّية من ذاك النوع املريب وطأة أثر تاريخ املدينة يف ش ّد قصيدته نحو ما ال يريد، واملثري للشكوك ...عىل ّ الحب كعادته، أقل تقدير .يتك ّفل ّ مؤ ِثراً الرتكيز عىل الحميم والشخيص فيهاَ .يظهر األ ّول من بنسج العالقة بني درويش وبيننا ،إذ تظهر املدين ُة ثانيةً خالل انتباه درويش إىل تفاصيل صغريةُ ، يدرك شيفرتها ُ أهل بالحب «مط ٌر فوق الخاص يف الديوان نفسه ،ويف القسم ّ ّ برج الكنيسة» .يكون نصيبنا ،اليوم السابع من «أيام الحب املكان ،كالحاممات التي تطري ،والطرقات القدمية ،وطقس ّ ّ الحب السبعة»« :أمر باسمك إذ أخلو إىل َن َفيس /كام مير دمشقي املدينة قصة ّ «تجف السحابة عرصاً» .ومن خالل ّ ّ ّ ّ التي توحي بأنها تنضح من ماء التجربة ال من بنات الخيال، ُ بأندلس» .حيث تقرتن املدينة بصورتها يف األندلس؛ هي ِ حيث تظهر األنثى جميلة ومحا ِورة بالقدر نفسه .وتحرض يف ً أخت تلك الجنّة التي انكرسنا فيها ،ورحلنا قرسا عنها، القصيدة إشارات شبه دينية إن جاز التعبري «سدرة املنتهى، شقيقة الخسارة وقرينة الحنني. يوسف ،إلهاتنا»ُ ، متنوع «إسالمي، تحيل عىل مقدّس ٍ مسيحي ،وثني» ،و ُت ُ الحب يف نفس درويش. حيل عىل أث ِر ّ طوق دمشق تبقى القصيدة عىل تخوم الحس ّية من دون أن تكونها، الحب لدمشق، احتفظ درويش بإحدى أجمل قصائد ّ الحب ،التي يخترصها الشاعر: فالقصد هو الرتكيز عىل حالة ّ فقصيدته الشهرية «طوق الحاممة الدمشقي» تتم ّيز بأمور «يف دمشق /أع ّرف نفيس عىل نفسها» .وليست هذه خاص به ،فهي شتّى؛ من أه ّمها ابتكاره لشكلٍ شعريّ ّ الجملة نافل ًة ،بل هي متثل مفتاحاً رئيساً لفهم عامل درويش مؤلفة من اثنتني وعرشين ُم ّق َطع ًة ،تبدأ ك ّلها بجملة «يف ّ الشعري ،من إحدى جوانبه ،جانبه القائم عىل العالقة دمشق» ،وترتدّد أصداء قوافيها بني األنا وآخرها واآلخر .درويش بني ّ املقطعات ويف داخلها .األم ُر الخاصة يف استعامل درويش صاحب البصمة صاحب البصمة ّ الذي يؤدّي دوراً كبرياً يف إظهار الضامئر ،قام من خالل هذه الجملة ق ّوة اإليقاع الدروييش الذي يش ّد الخاصة في استعمال ّ وعرب القصيدة ك ّلها بإعطاء دمشق بنيان قصيدته ،ويهندس العالقة الضمائر ،اعطى دمشق ح ّيزاً كبرياً يف قلبه .فمن خالل لغته ليطيح بني الشكل واملعنى، َ الشفيفة هذه ،بدأ ينسج عالقة حيّز ًا كبير ًا في قلبه برضب ٍة واحد ٍة تلك املقوالت مم ّيزة مع املدينة وأهلها ،عالقة التنظري ّية التي تخلط بني شخص ّية وإنسان ّية .إذ إن هذه اإليقاع والوزن وشكل القصيدة، 78
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
محمود درويش ..أثر الغائب
الحميم ّية التي نجدها عند درويش تجاه دمشق ال تظهر فمرص تبقى مقيمة يف السياسة يف قصائده عن مدن أخرى، ُ والتاريخ .ويظهر العراق من خاللِ شعرائه «السياب ،سعدي يوسف ،رسكون بولص» .أ ّما بريوت -مكان إقامته املؤقت، فتتخ ّذ صورة الضحية ،ضحية الحرب واالجتياح اإلرسائييل، عىل نح ٍو يبقيها واقعة بني التاريخ املعارص والسياسة ،وإن ذهب اقرتب ّ تعب ومن ٍ الحب منها ،فهو للمفارقة يأيت« :من ٍ ويتضح أثر العالقات الشخصية واإلنسانية وأندلس وشام». ّ والحميمة التي ربطت درويش بدمشق من خالل قصيدة رابعة عنها «يف الشام» ،يف ديوانه «ال تعتذر عماّ فعلت». فمطلع القصيدة يبدأ من انتفاء سؤال األنا وهواجسه« :يف الشام أَ ُ عرف َمنْ أنا وسط الزحام» .وتبدأ الدالئل واحداً واحداً «قمر ،حجر ،بردى ،شعر ،ريحانة ،شعراء ..الخ» لكأن املطلع جواب نها ّيئ عىل السؤال القديم يف قصيدة «طريق دمشق»« :منْ العاشق املغرتب؟»ّ . فكل دليل يبطن قص ًة
شخصي ًة وعالق ًة حميم ًة ،إىل أن يصيبنا الشاعر يف مقتلٍ إذ يقول« :هناك عند نهاية النفق الطويل ُم َحاصرَ ٌ /مثيل َس ُيو ِقدُ شمع ًة ،من جرحه ،لرتاهُُ / ينفض عن عبا َء ِت ِه الظال َم»، حيث ميزج بني السوريّ والفلسطيني ،ليذوبا معاً يف صورة الضح ّية .فالشاعر الش ّفاف املرهف ،أدرك وأحس بالحصار الخانق ألهل املدينة التي يتنَزه اسمها بني دمشق والشام؛ فأبع َد التاريخَ ، تاريخ العظمة التي ْ مضت ،وأبع َد السياسة التي باسمها ،غدا السوريون والفلسطينيون «صور ًة» ال أكرث، لصمود وبطول ٍة تنقصهام الرباهني .وآثر االنحياز إىل الضحية املحارصة ،متبا ِدالً معها املرايا ،ومتامهياً ح ّد أنه يطمنئ فيكتب« :يف الشام /أميش نامئاً ،وأنام يف ِح ْضن الغزال ِة/ ماشياً» ،من دون أن يغفل – وهو العارف بحصار أهلها -أن الح ْل ِم ٌ حصة« :هناك ُ عالية» أرضُ / للحلم فيها ّ 79
ملف
مرسيل خليفة
شعر درويش ُ كتب ألغنّيه ................................................................................................................................ محمود درويش ومرسيل خليفة عالقة الشعر والموسيقى،تناغم عميق بين القصيدة وهمس االيقاعات وأصوات
الكمنجات.منجز فني قل نظيره بين شاعر ومؤلف موسيقي ،وصداقة على مدى أربعين سنة جعلت خليفة يبوح
عصي على النسيان للمرة األولى بما هو ُّ
حوار :رنا زيد
هل ترى أنك حققت أسلوباً موسيقياً نهائياً يف قراءة قصائد درويش؟ كيف هي عالقتك الحالية به إنسانياً وموسيقياً؟ األمر كام لو أنه جردة حياة ،شاعر ،موسيقا ،تاريخ ،أمكنة. هي حاجة ملحة إىل أن أقول كل يشء ألتخلص من ثقل أشياء عدّة ترمي بثقلها عىل الذاكرة ،كام عىل الجسد سني الحياة تهرب ونحاول أن نلتقطها ،أن والروح .كأن ّ نستوقفها ،نستدعي كل يشء مجدداً .كل تلك السنوات التي عشتها مع شعر درويش .لقد رغبت يف نقل األحداث والتواريخ واالنطباعات .ورواية قصص تلك األيام عىل نحو مفتوح .إنني ال أطمنئ وال أستقر ،وأبحث كل يوم، عن جديد يف شعر درويش .ال أحب أن تبقى األشياء عىل 80
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
هيئتها ،عشقت املغامرة ،ال ُأجيد السباحة ،ولكن غصت عميقاً يف التجارب معه .مشحون بالتناقضات .رقيق مع الريح التي تلوي أغصاين .وحدها املوسيقا تحميني من عيص عىل اال ّمحاء ،إذ إنه يستطيع أن القلق .شعر درويش ّ يتجدد ويعيد تأليف نفسه مع املوسيقا ،وتحويلها إىل أغنية. ال يكفي أن تكون قصيدة درويش ط ّيعة ،وحسب ،هل هناك من طريقة مع ّينة تخوضها مع القصيدة ،لتعيد بناءها غنائياً؟ أتذ ّكر ملياً مسار القطار الطويل الذي حملني إىل تلك املدن البعيدة« .يقصد املدن التي غنّى فيها قصائد درويش» ،مل يكن عندي متسع للكتابة .مل يكن ّمثة وقت زائد للتف ّرغ للحديث .حاولت أن أر ّتب ذكريايت مع درويش .وكام
محمود درويش ..أثر الغائب
تد ّفقت عىل الورق ذكريات ضائعة يبقى عطرها حتى بعد ذبولها ،كانت موسيقاي لشعر درويش تنحو يف اتجاه الشكل الدرامي والتأليف الغنايئ الح ّر غري املسجون يف ضوابط محددة سلفاً .وهكذا ال تقطع يف الطرب إمنا توازن بينه وبني االهتامم مبخاطبة وعي املتل ّقيِّ ، مدشنة بذلك عالمة مبتكرة مع الجمهور ،وهادفة إىل إعادة تشكيل الذوق السائد مع عامل صويت جديد معبرّ عن معطيات جديدة ،هو بناء ُمقتصد وحريص عىل عدم الوقوع يف الوسائل التزيينية والزخرفية القامئة عىل إغراءات السهولة .أي لحظة انتقال باألغنية العربية من عامل االنفعال السلبي إىل مجال العقل اإليجايب .أعترب املوسيقا جزءاً من حيايت ،منذ وعيت الحياة. املوسيقا تتم ّلكني .لقد سلكت طريق املوسيقا خالل الشعر، ووصلت إىل حالة أن أقرأ القصيدة موسيقياً. لقد بحثت مع درويش عن أغنية تقودنا إىل املستحيل، رس الفرح .ال أستطيع ُترشدنا إىل الدروب املجهولة لنبلغ ّ أن أرشح ما كتبت من موسيقا لقصائد وأغنيات .نداء شعر درويش ّ ترشد يف أعامق قلبي الذي د ُّق بوحشية وال أعرف كيف أهدّئه .أبحث وأحاول القبض عىل األغنية كيال تفلت مني .إنها لعبة عبثية .رصاع من أجل املستحيل .ظل وراء االندهاش ،بحث يف الظالم ،يوماً بعد يوم تأيت القصيدة ألنسجها من ألحان جديدة ،مثل تنهيدة ،مثل همسة .يف «سقوط القمر» ،مث ًال ،أحمل قصيدة درويش يف شفاه قلبي. أسدل بل ّذة وشاح الصباح الندي. هل تعني أن مجمل املعنى املوسيقي يف قصيدة درويش ا ُملغناة ،هو نتاج رصاع مع الحياة ،رصاع القصيدة واللحن، مع وجودهام الواقعي الالحق ،ثم البحث عن درويش يف شعره؟ ال سبيل لديّ إىل املعنى إال يف أن أغمره يف األغنية أكرث فأكرث .أدخل يف األغنية إىل ما ال ينتهي ،ألدافع عن الغامض السحري يف القصيدة .ال بد من الرغبة والحرسة والقسوة والثورة والنداء والشعر والصمت والتذكر والنسيان والحب. أصابعي ع ّلقتها عىل مشارف الوتر يف «سقوط القمر» ور ّوضتها عىل الشهية .وكتبت ملحمود جهراً بيان األغنيات هذه .أبحث عنه يف األغنية ويف ّ كل ما لديّ من املوسيقا املعدة لتطرية األيام الصعبة ،بعد جرعتني من جرار نبيذ الحب.
جردة حياة لحنه من شعر درويش، حني اقرتحت إجراء حوار مع خليفة عماّ ّ ً أجابني قبل أي يشء« :لن يكون موضوعاً متخصصا عن الشعر واملوسيقا ،وإمنا انحناءة حب ملحمود ،شخصية وخاصة ،وليست دراسة تحليلية» ،وتابع« :سأقص عني الربيق املبهر ،وأدع وشاحي منسوجاً من تلك الخرب ّيات الناعمة ،القديم جديد والجديد قديم أحمله بني ذراعي ،وال أخجل مبعاودة رسده» .بعدها م ّر وقت، وخليفة يستدعي ،مبزاجه ،ما سامه «جردة حياة» مع محمود درويش وشعره؛ لذا كانت إجاباته هنا كمثل« :بساطة الحياة التي تهرب ،ونحاول أن نلتقطها شعراً وتواريخ وأمكن ًة» ،إن خليفة يبوح كموسيقي بأنه ال يستطيع أن يرشح ما كتب من موسيقا لقصائد درويش ،ولكنه حاول عىل مدى يومني أن ُيجيبني عن بعض ما لح ُي ّ
81
ملف
ماض وحارض جميلّ ، شك ضائع يف بالد تنمو لع ّله يشء من ٍ خفية بالباطون .أسهر عىل وقع حرب لحن األغنيات ،يف العتمة أذرفه .ما أحتاجه هو كوفية عربية أمسح بها دمعاً حارقاً كالصديد .لقد تق ّرحت قلوبنا من عفن القتل والدمار ومن تعب أسئلة قاحلة ،إنني أشتاق إىل قصيدة محمود املبللة بالندى ،لعل املكان ينتبه ألغاين الحب التي ترددت يف األفق البعيد .أغنية ّ يرشدها الغياب ويغسلها سحاب ليل ينام بني األمواج ،تقطفه الخناجر وتطويه زغرودة االنتظار. األمل أ ّال تغني حني تغني ،وأن تنتهي القصائد إىل أقفاص. لقد وهبت القصيدة الحياة ومل تتحول الحياة إىل قصيدة. إنه أيضاً ،درب قطعه شاعرنا الكبري حني حرر من نفسه املطلق. قلت :إنك تختلس لحظة صدور أسطوانة «سقوط القمر/ لحنت فيها أخرياً مجموعة من قصائد درويش، »2012التي ّ لتعلن تشابك اإلرادة والحرية والفكر يف ومضة موسيقية. كيف ُصغت الحب موسيقياً يف القصائد املغناة« :ونحن نحب الحياة» ،و«اآلن يف املنفى» ،و«رسير الغريبة» ،و«آه ّ يا جرحي املكابر»..؟ مل يولد «سقوط القمر» من نزوة طائشة ،خرج عىل منوال إيقاع الحب من نار ال يوقدها حطب الرباري ،من نقر عىل وتر القلب ،من غفلة صوت مبحوح ،من رششف ّ ترضج بالد ّم القاين ،من دمعة شاهدة عىل الوالدة .نحن نعبث
82
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
لينطلق املستحيل ونكتبه عىل ألواح الحياة .نعبث لئال يضيع منا الجميل وينكرس .نبحث من جديد عن املعنى. يطيب لنا الشعر كام يطيب النبيذ .إن «سقوط القمر» هو وت ٌر يف العود ُتع ّذبه النغامت ،يبحث عن بياض ليهتدي بلحظة عذبة كاألغنية .وحده الحب يف هذا العامل كان يفهمناُ ،يقيم فيناُ ،ينادينا ،يبني ّ عشه تحت حواجبنا ،يحمينا من فضول املساء ومن بخار النب يف الفنجان .إنه جوع إىل ليل الشهوة والنشوة والجمرة والحرسة ولسعة الريح يف املساءات الشتوية .نرى أوراق التوت تتساقط عن جسد العامل .ومل نكن ّ نشك يف قمر الحب الذي سقط وغمر ليلنا الدامس بالفضة الرصيحة. «سقوط القمر» هذا ُيلمح إىل وفاة درويش ،غيابه النهايئ بيولوجياً؟ أياً كان القصد ،لكن محمود ذهب إىل املستقبل الذي أراده وحلم به ،عىل الرغم من محاوالت تعطيل خطواته وتفويت ذهابه الفاتن .مت ّرده واضح عىل فساد أشياء العامل. كان سيمتلئ بربيع الشعوب ألن قصيدته تنفخ يف الروح هواء الحرية .فهو شفيف كالضوء ،يعرب الروح ويرتكها عىل دهشتها يف أسئلة جديدة ،تحاور عميقاً األسئلة التي تشغل وضعنا .شعره يزهّ ر وينتج كاألشجار أوكسجني الحياة .مل أقل له الوداع ألنني كلام هممت بنطقها يف آخر مكاملة تلفونية كان يشدّين بصوته الواثق يك نتابع الحديث .كان يف صوته
محمود درويش ..أثر الغائب
شهية كالم ،وكان يف وداعي شهية صمت .كان تلفوناً قصرياً حرب الـ ،67بدأت أعي هذه القضية وأوليها كل اهتاممايت، بحارة :رافقتك السالمة ،كانت هذه عبارته األخرية. فدخلت يف معرتك النضال مع الشعب الفلسطيني واملقاومة كتحية ّ تصبحون عىل وطن. الفلسطينية. لحنت من شعر درويش ما ينطق بلسان هل القضية الفلسطينية وحدها هي التي أثرت يف موسيقاك كونك منذ البدايةّ ، القضية الفلسطينية ،منذ «ريتا ،وجواز سفر.»1976 / امللتزمة ،ليبدأ اختيارك املتتايل لقصائد تخص النضال اإلنساين أتتلخص عالقتك املوسيقية بالقضية الفلسطينية يف جاملية عامة ،والفلسطيني خاصة« ،يا عيل» لعباس بيضون« ،يا حادي العيس» لشوقي بزيع« ،نشيد املوىت» ،..وصوالً قصائد درويش وعمقها ،أم أن هناك رابطا آخر خف ّيا أكرث واقعية؟ إىل غنائية مت ّثل إنساناً عربياً عابراً للزمن ،مقهوراً وراهناً، يف مساء بعيد يف عام 1964دخلت آلة العود إىل بيتنا يف «أحمد العريب ،»1984 /عن قصيدة «أحمد الزعرت» الصغري ،بعد أن كانت آاليت املوسيقية محصورة بالطاوالت لدرويش؟ والكرايس والطناجر وعُ َلب الحليب الفارغة وقصب الغزّار لقد تداخلت القضايا :العمليات يف الجنوب ،وإطالق اليابس .كنت أرى العود يف الصور ،وأحياناً قليلة يف الرصاص عىل مظاهرة عامل التبغ ،واستشهاد املزارع حسن التلفزيون ،أسمع صوته يف الراديو ،ولكن أن يكون معي يف الحايك ،غنيت بعدها من شعر شوقي بزيع «يا حادي البيت! كان عيداً حقيقياً يوم وصول هذه اآللة املوسيقية العيس» «املهداة للشهيد حسن الحايك» .فلسطني ،الجنوب، الساحرة .ويف اليوم التايل ذهبت مع أمي إىل منزل حنّا هموم الناس ،مظاهرات الطالب ،اإلرضاب الكبري لعماّ ل كرم ،ذلك الدريك املتقاعد الذي يعرف القليل من النوطة معمل غندور ،..،إذ تطورت األمور وحدث صدام مع الدرك ّ املوسيقية وما حفظه من موسيقا الدرك .تابعت تردّدي واستشهد العامل يوسف العطار .قوات صهيونية تدخل إىل منزل األستاذ مرتني يف األسبوع ،حيث تلقفت خالل العاصمة اللبنانية وتهاجم منازل القادة الفلسطينيني، ثالثة أشهر دروسه املوسيقية ،وبعدها نصح أهيل بأن أتابع وتغتال أبا يوسف ،كامل عدوان وكامل نارص .عملية «بنك تحصييل املوسيقي يف الكونرسفاتوار الوطني يف بريوت، أوف أمريكا» إذ اقتحمت السلطة اللبنانية البنك واستشهد ً البعيدة جداً يف مقياس ذلك الزمن ،عن ضيعتي عمشيت. عيل شعيب وجهاد أسعد ورفاقهام .فغنيت الحقا قصيدة ودخلت صف األستاذ الكبري فريد غصن العائد للتو من عباس بيضون «يا عيل» .ثم مظاهرة صيادي السمك يف هجرته املرصية ليد ّرس يف املعهد املوسيقي .كنت يف صيدا ،واستشهاد معروف سعد الذي كان مييش عىل رأس السادسة عرشة من عمري آتياً التظاهرة ،فغنيت الحقاً «يا بحرية». من عمشيت إىل بريوت مرتني كل هذا إضافة إىل العمل مع الناس يف األسبوع ألدرس املوسيقا إىل لم أقل له الوداع في يف األحياء ،مع العامل ،مع الفقراء، جانب الدروس العادية .املهم مع الشباب ،من خالل املوسيقا آخر مكالمة تلفونية. أنني ،أرسد هذه البداية مع آلة واملرسح ،أمسيات فنية أقمتها ،عبرّ ت ً ً كان تلفونا قصيرا العود يك أقول :إنني يف طريقي فيها عن ح ّبي للقضية والشعب إىل بريوت ،كنت أرى عىل والوطن .وكان «نشيد املوىت» للشاعر حارة :رافقتك كتحية ب ّ مداخل املدينة ويف ضواحيها، السوداين محمد الفيتوري الذي السالمة ،كانت هذه املخيامت الفلسطينية وبيوت غنّيته وتردد عىل ألسنة الناس يف التنك ،وحتى ذلك الحني ويف عبارته األخيرة .تصبحون كل هذه األمايس .مهرجان جبيل، ً الفتي ،مل أكن أعرف أيضا ،كان تجربة رائدة حيث ذلك العمر ّ على وطن شيئاً عن فلسطني ،والسيام قدمت أوبريت «مرق الصيف» نحن أهل الجبل اللبناين .بعد سنة .1971كام شاركت يف املباراة 83
ملف
العربية السادسة لإلنتاج املوسيقي التي ّ نظمها املجمع العريب للموسيقا يف تونس .1973وكنت من املتخرجني األ ّول يف الكونرسفاتوار .ومل مينع ذلك من أن تفوز مقطوعتي «سامعي بيايت» إىل جانب مقطوعتني من تأليف أستاذيّ ، «سامعي نهوند» لنجيب كالب و«برشف عشاق» لعبد الغني شعبان. يف عام 1974شاركت يف احتفاالت جامهريية للعيد الخمسني للحزب الشيوعي اللبناين إذ قدّمت قصيدة الشاعر حبيب صادق «أرض الجنوب» ،وعشت أجواء شعر املقاومة الفلسطينية الذي أعطاك زخ ًام ،وما لبث أن وجد طريقه إىل موسيقاك وغنائك ،كل هذا كان متهيداً لتلحينك الالحق قصائ َد درويش ،ما الذي جعلك تهتدي إليه ،إىل قصيدته؟ أعود بذاكريت فأتذكر يوم السبت 12نيسان يف عام ،1975 حني خرجت من مرسح قرص األونيسكو يف بريوت فرحاً من عمل كركال الرائد «عجائب الغرائب» ،وكنت قد كتبت املوسيقا لهذا االستعراض الكوريغرايف األول لعبد الحليم كركال .ولكن الفرح مل يكتمل ،يف اليوم الثاين 13 ،نيسان، وبعد الحفلة ،خرجنا من القاعة وكانت بريوت قد دخلت يف الظالم وأصيبت العروس يف االستعراض أمرية ماجد، الراقصة األوىل ،برصاصة قنّاص اخرتقت ظهرها وأقعدتها مدى الحياة بعدما أضاءت يف الليلتني عوامل الفرح يف قرص األونيسكو .عدت ليلتها إىل قريتي عمشيت منكرساً وحزيناً. كل يشء كان قد ّ تعطل يف البلد وابتدأت الجوالت الحربية ثم بدأت مظاهر الحرب تكسو العسكرية الجديدة عليناّ . قريتي الهادئة .مسلحون يروحون ويجيئون .انقطعت 84
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
ُ وانحجزت يف منزيل الطرقات ،وانقطعت عني أخبار بريوت، قرسياً ومل يكن معي يف خلويت هذه سوى العود وبعض ألحن القصائد دواوين محمود درويش ،رحت خاللها ّ ثم بعد فرتة حزمت أمتعتي وأمري األوىل ملحمود درويشّ . وذهبت إىل باريس هارباً من عمشيت مع كوكبة من ُ والتقيت األصدقاء إذ مل تتح ّمل املنطقة ميولنا اليسارية. غصت بهم املقاهي، يف باريس باألصدقاء الجدد الذين ّ وبحلقات من الشباب الوافدين حديثاً أو املقيمني بداعي الدراسة أو بداعي السياسة .مجموع هذه اللقاءات ك ّون مناخاً اجتامعياً وفن ّياً وسياس ّياً حاراً تزيك طراوته األحداث املتسارعة التي كانت تجري يف لبنان ،والتي كانت تأخذ طابعها الدراماتييك املعروف .رحت بخجل وتردّد أعرض بعضاً من تجاريب املوسيقية الشعرية األوىل .شاب متح ّمس أخرق يريد أن يجعل املوسيقا سبي ًال لتغيري العامل ،أن يخفف األمل والبؤس والفقر والحروب .أن يشعل ثورة مدعوماً بوتر ّ ليستدل عىل الحلم ويصل إىل العود والقصيدة الجديدة تحقيقه .كان األصدقاء الجدد يسمعونني ويهزّون برؤوسهم. رمبا مل يدركوا يومها متاماً ما هو مرشوعي .أو عىل األقل جدّية ما أحاول الخوض فيه .وكان داخيل مشحوناً بالتم ّرد وكان الزمن مييش بطيئاً وكنت أستعجله ألكرب. هل استأذنت درويش قبيل تلحني قصائده؟ هل اتفقتام عىل طريقة للخروج بالقصيدة إىل عامة الجمهور؟ يف صباح باكر من شهر آب من سنة 1976دخلت إحدى وسجلت «وعود من العاصفة» أستديوهات باريس الصغريةّ ، أوىل أغنيايت لقصائد محمود درويش قبل أن أتع ّرف عليه
محمود درويش ..أثر الغائب
شخصياً .وكنت أعتقد أن هذه القصائد ملكية عامة ،وال ثنائية بني الشعر واملوسيقا .كان السيل يأخذ من العيون رضورة إلعالم الشاعر بن ّية التلحني .وبعد أخذ ور ّد مع اصة التي تنتظر دورها لتدخل ،حدّق املط ّلة يف الصفوف املرت ّ العامل» مسؤويل رشكة األسطوانات الفرنسية «الغناء يف عيني بحنان قبل بدء األمسية وكأننا يف بريوت يف محمود ّ ظهرت األسطوانة األوىل يف احتفاالت جريدة «اإلنسانية». نستعيد أيامنا هناك .ولقد سمعت خفقان قلبي املفعم وكانت أول تظاهرة لهذا العمل عىل خشبة الجناح اللبناين بالحب واملستعيص عىل الوصف .تال يومها قصيدة «سالم يف الـ«كورنوف» يف ضاحية باريس الشاملية بقرب من عليك وأنت تعدّين نار الصباح» ،وتابعت بعده« :أحنّ إىل بسطة للح ّمص والفول والفالفل .ولقد تض ّمنت هذه خبز صوتك ،أحن إليك يا أمي». األسطوانة أربع أغنيات من شعر محمود درويش هي: ما شكل عالقتكام اإلنسانية؟ وما شكل عالقته بأغنياتك «وعود من العاصفة»« ،إىل أمي»« ،ريتا»« ،جواز السفر»، امللحنة عن قصائده؟ ّ وأغنية «جفرا» للشاعر ع ّز الدين املنارصة .ولقد و ّقعت عىل لقاءات باريس االستثنائية كانت نسامت للصداقة واألمل ثم سبقتني والشعر واملوسيقا ،وكان محمود قد انتقل إىل باريس للعيش أكرث من 500أسطوانة خالل يومي التظاهرةّ ، ثم إىل ّ كل املطارح. فيها .التقينا كثرياً هناك يف هذه املدينة الساحرة .كان يحب األسطوانة واألغنيات إىل بريوت ،ومن ّ ً ومل يخطر يف بايل أبداً أن هذا اللعب سيصبح جد ّيا إىل هذا األطفال ويتابع باهتامم دراسة ولديّ رامي وبشار املوسيقية، الحدّ. ولن أنىس كيف كان يحضنهام بكلتا يديه حني يعزفان له إذاً خضت تجربة التلحني من دون العودة إىل درويش ،متى مقطوعات لشوبان وملوزار .وكان يدور الطرب ويطلب منّي كان اللقاء معه؟ دامئاً أن أسمعه «يف البال أغنية» وكان يحب هذه األغنية ً اللقاء األ ّول مع محمود درويش كان بعد عوديت من باريس كثريا .أخربين مرة يف جلسة حميمية عن أ ّمه ،إذ كان يعتقد وكان لقا ًء حميمياً ،دخلنا يف حديث املوسيقا والشعر ،وليس أ ّنها ال تح ّبه ألنها كانت تؤ ّنبه دامئاً وهو صغري ،والسيام عىل هناك ما هو أكرث بداهة من الكالم عن املوسيقا أو الشعر يف شيطناته يف تلك الطفولة الزاهرة .كانت ترغمه عىل أخذ حرضة محمود درويش. بحب أ ّمه أحس ّ ملعقة زيت الخروع ذات املذاق امل ّر .ولقد ّ كيف تض ّمن بقاء القصيدة ضمن كينونتها اللغوية عندما ُسجن للمرة األوىل .وكانت «حورية» تزوره وتحمل التقليدية مع تلحينها؟ له السكاكر واألكل .فكتب عىل علبة الدخان قصيدة «أ ّمي». جدية محاولة كان درويش محمود ما فعلته يف قصائد متوجهاً يل« :قصيدة أمي التي ح ّولتها حرضتك ته ي خرب وأنهى ّ ّ ألن تبقى املوسيقا أ ّوالً عنواناً إىل نشيد وطني يرتدّد عىل كل شفة ثم تصدر ولسان». للمرشوع ،ومن ّ عنه البطاقات األخرى .كان ما مدى تنوع عالقتكام كشاعر اقتربت منه ومن محمود نبي ًال ومفع ًام بقلب وموسيقي ،وكمتلقٍّ للشعر ومستمع روحه ،واتسعت كبري ،اقرتبت منه ومن روحه، للموسيقا؟ موسيقاي لشعره. واتسعت موسيقاي لشعره .تأيت يف أمسية قرطاج يف تونس أمام ألوف قصيدته بكامل سطوتها لتتح ّرك املستمعني ينشدون صامتني .كان تأتي قصيدته بكامل مع إيقاعي ومتأل الفضاءات. محمود حارضاً يف األمسية املوسيقية ك ر لتتح سطوتها ّ بعد الخروج الفلسطيني من مع خمسة عرش ألف متف ّرج .ويف بريوت يف عام ،1982يف ذكرى اليوم التايل من تلك الحفلة الشهرية مع إيقاعي وتمأل التضامن مع الشعب الفلسطيني حرضت أمسيته الشعرية ،وكنت الفضاءات ً التقيت محمود درويش يف قاعة فرحب األمامي الصف يف ا جالس ّ األونيسكو يف باريس .حفلة «نرحب بشاعر األغنية يب مع ّلقاًّ : 85
ملف
مرسيل خليفة» ،وعال التصفيق يف الصالة .ثم كان ذهابنا الفاتن إىل أسواق العاصمة القدمية ،وتلك الدكاكني املكدّسة والفتاتها املزركشة وشعاراتها الفضفاضة .رائحة الصابون املخلوطة بعفونة الحبوب ،وتلك األوعية الزجاجية املألى بالسكاكر من جميع األلوان واألشكال ،ومعها أكياس الخيش اململوءة بالسكر وامللح واألر ّز ،ورائحة الحنّة الف ّواحة والطحني والزيت والزيتون ،وتلك األبواب الخشبية املدعومة بقضبان الحديد الطويلة ،والناس من ّ كل حدب وصوب يدعوننا للدخول إىل الدكاكني ،يأخذون الصور التذكارية، وفرح عامر يسيطر عىل الوجوه. هل حدث أمر آخر ،بعد ذلك النهار ،ع ّمق اللقاء اإلنساين؟ يف املساء دعانا أبو عماّ ر إىل مائدته .كانت العاصمة اس التونسية نامئة ومغسولة باملاء والظالم والهمساتُ .حر ّ كل منهم ّ وسيارات أمن يقرتبون منّا ،ويف يد ّ بطارية ينري
بها الظالم ،وال مت ّر سيارة إال بعد االطالع عىل ترصيح خاص يحمله سائقها .دخلنا البيت ،وأ ّول ما طالعنا وجه أيب عماّ ر وتلك االبتسامة التي تعطي االنطباع بالصرب .أخذنا باألحضان كعادته وبالقبالت .وكان املص ّور حارضاً فبدأ بأخذ الصور التذكارية .ويف مثل هذه اللقاءات من الصعب أن يجد اإلنسان بسهولة نقطة البدء بالحديث عىل مائدة العشاء .فالتقط محمود ذلك .أبو عماّ ر يرشب املاء ،ونحن بدورنا نرشب معه املاء .وبدأ الكالم إذ رمى محمود حجراً يف املاء ورسم الدوائر يف ماء الكالم .كان ملحمود قدرة عىل اجرتاح النكات ،وقدرة عىل السخرية من كل يشء. هكذا وصلت معه إىل أقىص حاالت التواصل املمكنة .ما العمل الذي ترى أنه كان مت ّوجاً لهذا الوفاق اإلبداعي؟ بعد لقاءاتنا الباريسية يف مقهى «الديك» يف ساحة الرتوكاديرو ،وحامسة محمود املطلقة إلنتاج غنائية «أحمد
من المغني إلى صاحبه
سأتبع أثر نجمة كي ألقاك
يف
هذا الحوار ما كتبه خليفة إىل درويش مبارشة ،من دون حاجزِ ،مني أنا «خليفة» إىل ضمري املخاطب أو الغائب لـ«درويش» ،نورده كام هو: يا محمود! قمر ناعس يف ليل بعيد يتسلل إىل غرفتي وكان يلمع .مل أك ّلمه .اكتفيت بالنظر إليه ،ومنت مع شوق االنتظار .وعندما أفقت يف صباح الليل الطويل ،مل يكن يف الغرفة غري أصوات العصافري ،وشمس النهار تلهو عىل رشفة بحرية .أميش ثقي ًال بارداً وكأن جسدي جبل ،واملدينة املمتدة أمامي تعبق ألوانها .أتصفح الطرقات أقلب األشجار ،أحدق يف الالفتات ،أدندن لحناً وأحلم .أدخل يف حديقة الصنوبر العالية فيستقبلني عصفور عىل غصن يناغي ،وخيط من النمل عىل الرتاب األحمر يبحث عن مؤونة الشتاء خفي إىل الطويل .وحدي هنا يفتتني الغياب يف عبق هذا النهار ،يف تيه لذة األزهار تحت رذاذ املطر النديّ .أتذكرك وحن ٌني ٌّ ميسني شغف حنون .أعيد ترتيب الذكريات ،أصعد إىل غرفتي يف الفندق ،أوقد شمعة صغرية وأرشب رفقتك ،يب ّللني الهواءّ ، ّ مهب الغياب أرصخ ،ال صدى لصويت وال لرس الحياة أمام هذا النهار ألعطره مباء وردك .ويف ّ كأسيَ نبيذ ،أفتح كل النوافذ والستائر ّ أحد يسمعني ،أوقظ جرحي املفتوح للمدينة ولزرقة السامء الصافية .ربيع ينوء بأثقاله عىل الحقول املحيطة ،والنسيم يعبث بالشجر املط ّوق باأللوان منذ سنني .أجلس أمام التلفاز وال أعرث إال عىل شجن يعرصين ،ولو أن للشجن صوت لكنت سمعته وقلبي يتدحرج يف صمت الغياب .كلامت مبعرثة تخرج من خالل هذا الفقد الصاعق .كيف سنشفي روحنا املكسورة ،ولقد مات يشء فينا .يوجعنا هذا املوت الشديد ،وهذا الغياب املح ّلق يف املدى. أتنهد من أعامقي ،واألرض تتسع وتدور وأدور معها كالغريب دونك .كم مرة قطعناها معاً كطري الحامم يف يومني .نتبادل الحنني الذي ال ُيفسرّ من خالل دمع العنب ،نرشب حتى الثاملة .ما أجملك وأنت تعلو بالشعر والحب وال تستكني وليس لك إال الريح تسكنهاُ ،تدمنها ،تتنفسها! .كنت كالثمر املتأللئ يف سامئك .يف قلقك املت ّوج بقوس قزح ،ويف العتمة التي أينعت يف عشب روحك. 86
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
محمود درويش ..أثر الغائب
الزعرت» ،ولقد أطلقت عىل العمل الحقاً اسم أحمد العريب. أصدرت األسطوانة ،وحقق العمل انتشاراً كبرياً ،ونقلة نوعية يف عالقتي بقصيدة محمود درويش. هل فيام ح ّققته من مقاربة موسيقية حداثية يف نصوص لحنة ،أوجهٌ من الصحة والخطأ؟ درويش ا ُمل ّ عىل مسار تاريخ طويل من القصائد واألغنيات واملوسيقا، منذ وعود من العاصفة ،مروراً بأعراس تصبحون عىل وطن، وأحمد العريب ،وتقاسيم ،إىل سقوط القمر ،كان هذا التالحم الدافئ بني القصيدة واملوسيقا؛ ويف كل عمل كنت أتع ّلم كيف أحمي املوسيقا من الفضيحة والقصيدة من االبتذال؛ ألننا خاطبنا يف الناس إرادة الحياة والعطاء ،وحاولنا أن نسمو بالجامل إىل حيث يؤثث الناس وطناً بدي ًال منه، يعوضهم عن حرمان الوطن. إنه تجريب يستثري حاسة التأمل ،بعد حوار بني املوسيقا
والقصيدة ،وبني صور الحياة ،من جهة أخرى ،التأليف املتنوع أنتج بساطة املوسيقا وعذوبة الشعر؛ يف كل عمل جديد كنت أبدأ من الصفر؛ كام لو أنني ال أعرف شيئاً؛ وكل محاولة كانت قفزة يف الظالم ،يف كل مرة كانت األغنية والقصيدة تخلقان الشك وتدعوان إىل مراجعة الذات ،كانت مشاغبة غريبة ،فاجرة وصادقة ،وقيمتها يف مت ّردها ،لقد ارتكبنا أخطاءنا الفاتنة ،وكان ذلك من رشوط العملية اإلبداعية .كنت دامئاً مع املوسيقا والقصيدة التي ش ّكلت فعل مشاغبة ،عصياناً وجودياً ،نزعة إىل اإلفالت من القطيع، ودعوة إىل املستمعني الرتكاب الشغب نفسه ،رصخة جريئة من أجل الحرية لالشتباك مع هذا الدوران املدهش الذي يحدث يف العامل ،ولقد انخرطنا فعلياً ومنذ زمن بعيد يف الشغب الذي ال ب ّد منه ،ومت ّكنّا من املساهمة يف طرح األسئلة والتعبري عن الواقع،
أنظر نحوك ،أميش يف اتجاهك ،أطري إليك ،أملّك من وحدتك يف مساء بعيد. سأتبع أثر نجمة يك ألقاك ،أرغب يف قبضة ريح أحملها يف جناحي ألطري إىل جنتك .كيف اخرتقت قلوبنا؟ سنحمل قمح روحك ونزرعه فينا ،نشتهي بريق حضورك لنستعيد الدهشة األوىل .أحن أحس باملطر يخرتق أعامقي .هل تكون هذه الكلامت أصواتاً إىل صداقة تأخذنا إىل عذوبة الحبّ . أستعيدها من زخات املطر؟ كيف تتحرك األمكنة والناس واألشياء والزمن؟ هل هذا هو ضوء الحياة؟ أو هل هذه هي النار املشتعلة؟ أو هل هذا هو الحب؟ أو هل هذا هو الوهم الذي صار كواكب ،نجوماً؟ أم هي رغبة والدة ،عزلة ،تذ ّكر ،نسيان ّ حل فينا وتجسد لنبحث عن حيا ًة ،أرضاً، َ ّ حب كثري يف فضاء واسع وسع األبد؟ هل هذا التذكر والتخ ّيل وهذه الكلامت تبني حياة نكون فيها ال قبالتها؟ نسرتد غبار الدروب األوىل التي علقت بأقدامنا ،وشكل الحياة التي امتزجت بنسيم خفيف تح ّول كالطري عىل أرض مد ّورة يداعبها بغبار النجوم ،ميأل نهاراتها بنور الكواكب من ماليني السنني الضوئية يف فضائها ،ليصل إلينا ،ليحيا فينا ،وليأخذنا يف مترين يومي إىل الدخول يف مكمن الرسي. الحياة ّ يتوحد الكون فينا .يف هذا الليل الحاين ،يقودين نتوحد مع الكون بل ّ نداء يحتضن رصخة مبللة بامللح ،وأرض ترتعرع يف القمح ،ال ّ حلمي إليك ،وأهرب من نعاس ألدوس عىل عشب السامء يك أصل إليك .أشهد بأن صداقتك عششت يف كياين ،أذرف دمع الكالم وأناجيك ،ك ّلام تنهدت يف منامي خفق قلبي .هل سأجد ما يكفي من األلحان ألغنّيك ،ألعزفك؟ أمتىش عىل الشاطئ الالزوردي كحصان مندّى .أغرق يف حنايا الشعر يم البحر نوطايت ،ويسري الحلم فوق عيون املاء ّ عارياً إال من ظالل ضوء القمر ،ألقيت يف ّ وأذوب يف طراوة املعنى كقمر مكتمل ،كإرشاقة شمس ،كموج هادر ،كضوء متم ّوج ،كليل ُمشتهى ،كفجر زا ٍه ،كحفنة نسيم ،كحبة قمح ،كمدينة ساحرة ،كأرزة راسخة ،كطيور عاصية ،كأقاص زاخرة ،كنبوءة حلم .أعود طف ًال ،أر ّنم يف ذلك الفجر الذي طلع ع ّ يل يف قريتي الساحلية ،وحيث حملتني الفصول إىل مدن بعيدة .يغمرين نورك ،أناديك لحناً ،همساً ،ح ّباً ،حل ًام ،قصيد ًة ،أغني ًة ،فهل تسمعني؟ كم ضاق هذا العامل برحيلك! 87
ملف
يف وداع درويش مبطار ماركا
وخلق الحوافز من أجل التغيري يف وعي حركة املجتمع والناس ،وليس ارتباط القصيدة والناس ببيئتها وبالظروف االجتامعية الجديدة وبازدياد الوعي ،هو ما ُيط ّورها ،بل قدرتها عىل االغتناء من مجمل الفكر والتكنولوجيا ،الذي تخلقه تقاليد أخرى مختلفة جداً ،يف بعض األحيان. سنوات طويلة ارتبطت موسيقاك خاللها بشعر محمود درويش ،إذ تآلفت أعاملك يف ذاكرة الناس ،حتى صار اسم أحدكام إن ُذكر اسم اآلخر ،لِ َم يف رأيك؟ كل ّ ّ محطات مساري املوسيقي مملوءة باإلشارات إىل شعر درويش بدءاً بـ«وعود من العاصفة» ووصوالً إىل «سقوط القمر» .أحسست بأن شعر درويش قد ُأنزل ع ّ يل ويل، فطعم خبز أ ّمه كطعم خبز أ ّمي ،كذلك عينا ريتاه ،ووجع يوسفه من طعنة إخوته ،وجواز سفره الذي يحمل صوريت أنا ،وزيتون كرمله ،رمله وعصافريه ،سالسله وجالدوه، محطاته وقطاراته ،رعاة بقره وهنوده ،ك ّلها ك ّلها سكناها يف أعامقي .فال عجب إن آلفت موسيقاي أبياته عىل نحو طبيعي ،دومنا عناء أو تك ّلف .يقيني أن شعره ُكتب ألغنّيه، ألعزفه ،ألص ّليه ،أذرفه ،أحكيه ببساطة عىل أوتار عودي. وكالطفلني اللذين ما زاال يف دواخلنا ،ركض ٌّ كل من الغناء ّ املسطرة يف ورقة املوسيقا، والشعر عىل الدروب الخمسة مع العبث يف مخبأ النوطة ،أو يف أرجوحة الكلمة ،وراء الصوت ،يف العشب والريح ،يف الضحكة واأل ّنة ،عىل حافة نفس ،أو خلف لحظة قابعة يف سطوره ق ّلام ترتادها أقواس الكمنجات وهمس اإليقاعات .أوكل للمساحة الصوتية مه ّمة قول التناغم العميق ما بني الشاعر واملوسيقي نابضةً دافئ ًة ،واضحة ،صوب ذرا النوى ّ وكل النهوند املتنظر. يشء كزهرة ه ّوة أتطاول إليها بيدي منذ زمن وال أتجارس. 88
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
أعاميل مهداة إىل من تج ّرأ وقطف الزهرة ،إىل محمود درويش ،فامزال صدى تلك األيام العابرة يح ّلق يب وبه عىل غيمة بيضاء يف بريوت ،يف النارصة ،يف باريس ،يف دمشق، يف الجزائر ،يف تونس ،يف الرباط ،يف عامن ،يف نيويورك ويف الطريق إىل القدس ،..يف الزهرة الطالعة من جرح الصخرة، يف الجلسة ،يف السهرة ،يف الحفلة ،يف الفندق ،يف املقهى ،يف الساحة ،يف الطائرة ،يف السيارة ،يف كل يشء ،كل يشء ،كل يشء. َ حصلت عىل جائزة أكادميية «شارل كروس» يف العام ،2007 ُ عن عمل «تقاسيم »2007 /املهدى إىل محمود درويش، واملستوحى من أشعاره ،أي إنها تحية عارمة أيضاً للشاعر قبيل وفاته ،عىل مرسح راديو فرانس ،ماذا تقاسمتام سوى ذلك إبداعياً؟ يف الذكرى الخمسني لنكبة فلسطني جاء محمود إىل بريوت وقدّمنا أمسية مشرتكة يف قاعة األونيسكو .ألقى جداريته وقدمت تقاسيم .وكانت أمسية رائعة .ويف اليوم التايل ذهبت مع محمود إىل مخيم صربا وشاتيال لوضع باقة من الورد عىل أرضحة الشهداء .كام كان الحدث ،يف عام ،2002 بتكريم محمود درويش كأهم شاعر معارص يف العامل العريب بجائزة «لينون» األمريكية يف جامعة فيالدلفيا .وقد دُعيت إىل املشاركة يف هذا االحتفال لدوري يف إيصال شعر محمود درويش إىل العامة وجعله يف متناولهم ،وقد قدّم االحتفال املف ّكر الفلسطيني العريب إدوارد سعيد ،ويف عام 2005 ُمنحت لقب فنّان األونيسكو للسالم ،وكان محمود إىل جانبي فرحاً بهذا اللقب. ماذا عن اليوم ،بعد انفصاله املادي عنك ،كيف تصنع العالقة من جديد؟ البارحة ،كانت الحفلة صاخبة يف تطوان .كان عزفاً مبارشاً عىل الوتر ،ألقيت نفيس يف غيم روحه ،عىل صداقة أعىل من الشمس سطوعاً .كان عزفاً مبارشاً عىل وتر النوى يف صدر العود وزنده ،ريشة وأصابع تتحدان يف اآله ويف أريج الحب .ويف مثل ذاك املساء العاصف بالناس واملوسيقا ،يف ذاك املرسح املفتوح عىل السامء ،وحيث كان علينا أن نكمل سهرتنا ،وننتيش بأجمل حب وبقصيدة ال تنتهي برشفتني، ثم وحدي ،آه يا وحدي عند سقوط القمر كنت وحدي ّ
محمود درويش ..أثر الغائب
درويش
شعر المقاومة ومقاومة الشعر
................................................................................................................................ عبد هللا أبو بكر
مل
يسلم الشعر الفلسطيني الحديث من تهمة الخروج عن الواقع الذي تعايشه األرض ،بعد أن تجاوز هذا الشعر جغرافيا الوصف املبارش الذي فرضته مرحلة االحتالل واملعاناة إىل التعبري الجاميل املوغل يف الشعرية الذي واكب تطور القصيدة العربية ،بل وأسهم يف نقلها من حالة إىل أخرى .ولعل تجربة درويش الشعرية أكرث من ُوضعت تحت مجهر هذه التهمة ،وكانت عىل الدوام محل جدل بني قرائه ومتابعيه الذين رأوا يف نتاجه الشعري الجديد ابتعاداً لقصيدته عن قضيته بعد أن تقاطعت معها لعقود ،منذ سجل يف دفرت الشعر «أنا عريب» التي واجهت محاوالت أن ّ شطب الهوية الفلسطينية ،حتى قصائد بريوت التي تت ّبعت بنادق الثورة وسبقت رصاصات املقاومني إىل ميادين القتال. درويش الذي صعد عىل سلم الثورة الفلسطينية ،ثم نزل عنها ليفلح ويزرع أرضه بالشعر ويحصد املعنى ،مل يرد أن يظل شعره مجرد شعار سيايس يقوم عىل الخطابة والقول الصارخ ،ومرآة جامدة للواقع من حوله ،فقد أدرك يف املرحلة الثانية من عمر تجربته الشعرية أن بحوزته ما هو أكرث من ذلك ،وأن الشعر بكل أشكاله ومضامينه إن كان جمي ًال ،ال بد بالرضورة أن يكون حالة مقاومة وإن ابتعد عن املبارشة والشعارات املنربية .وهذا ما قاده إىل القول: «كل شعر جميل مقاومة» .هنا مينح درويش عبارته معنى آخر ،يجره إىل ما هو أبعد وأعىل ،وبهذه العبارة يعلن موقف الشاعر من قضية «شعر املقاومة» ،ثم ينتقل لينجز بعد ذلك دواوين تجاوزت معه مساحات الوطن ،إىل جميع جهات العامل ،وليؤكد عىل أن الشعر ال ميكن له أن يوضع يف قفص ،فالفكرة أكرث اتساعاً من الجغرافيا «املكان» والزمن «التاريخ» .إنها الفكرة التي تولد ال لتموت بل لتتقافز وتعيش يف عني كل قارئ ومتابع ،تقاوم وتنترص وتلتقط الوطن بعدسة الجامل ،لتعكس جميع أبعاده.
يف التجربة الدرويشية كثرياً ما تساءلت ..من تحمل األخرى القضية أم القصيدة ؟ وحني أعود لبدايات هذه التجربة ،أدرك أن القضية هي من حملت القصيدة أوالً ،ولكن القصيدة هي التي حملت القضية والوطن بجميع موازينه وأثقاله ،حقوله ومدنه بعد ذلك، وهذا ما جعل من شاعر كدرويش رمزاً أدبياً ووطنياً معاً. هناك الكثري من الشعراء الفلسطينيني الذين كتبوا قصائدهم بحرب القضية ،ولكنهم مل يتمكنوا من كتابة الشعر مباء الكالم وفضة املعنى كام فعل درويش وكام قال أيضاً: «سأصري يوماً شاعراً واملاء رهن بصرييت» ،ومل يتمكنوا كذلك من رفع سقف العبارة ،أفال يعني ذلك أن الشعر يف الحالة الدرويشية هو الذي انترص عىل الجغرافيا وعىل كل قيد؟ القيد الذي يريد أن يرسم شكل القصيدة قبل كتابتها ،وأن يحدد مضامينها وأفكارها وأن مينحها البوصلة التي يريد ،إرضاء لعاطفة أو لظرف ما. إن هذه الحقيقة ال ميكن أن نتخطاها ،أو أن نعبث بها ،فام كتبه درويش عرب دورة حياته الشعرية املتصاعدة ،يبقى برهاناً عىل أن الشعر الجيد والجميل هو الذي ميسك بيد الوطن ليصل معه إىل حيث يشاء ،وينقله من أرض إىل أخرى ،ومن سامء إىل أخرى ،فدرويش الذي حقق كل هذا الحضور ،مل يحققه لنفسه فقط ،بل ولكلمة «الفلسطيني» التي رافقته طوي ًال أينام ّ حل وارتحل. ترى هل تخىل درويش عن قضيته حقاً؟ أم أن الذائقة العربية الساكنة إن صح القول مل تستطع االنتقال والذهاب إىل كل نواحي الشعر ،فشكلت ما يشبه مبقاومة للشعر ،الشعر الذي يصعد أعىل من جدار هذه الذائقة؟ 89
خاج السرب
علي العندل..
شعرية قسوة في عام ،2004وعلى نحو لم يكن يتوقعه أحد ،رحل الشاعر اإلماراتي علي العندل الذي ّ وخلف وراءه سيرة جارحة والعديد من القصائد، تخطى األربعين بعدد قليل من السنوات،
ً تأثيرا في أكثر من شاعر إماراتي من جيل التسعينيات. إنما الكثير من األفكار التي تركت
جهاد هديب
90
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
علي العندل ..شعرية قسوة
جلده ميلء بالكدمات وآثار العنف واالرتطام الهائل بالوجود ،هذا الوجود الذي مل يتصالح معه عيل أبداً» .هذا ما يكتبه الشاعر ابراهيم املال عن الراحل أحمد العندل يف مقدمة مجموعته الشعرية اليتيمة «سيف املاء» التي جمعها أصدقاء الشاعر الراحل وصدرت يف العام 2008عن دائرة الثقافة واإلعالم بالشارقة. من هذه الكلامتّ ، لعل باإلمكان تخ ّيل أن عيل العندل من البدء مل يكن متصالحاً مع نفسه مثلام مع العامل واملحيط من حوله ،أيضاً .وإذا كان هذا الال تصالح هو موقف معريف من الوجود ،فإن البحث عن الخالص ،الذي يعززه َقدْر من اإلحساس بنوع من العبث العميق ،سيكون خياراً فردياً متاماً .وبالفعل فإن هذا ما كان. املالحظ ،بحسب نصوص «سيف املاء» ،أن الشعر كان إال أن َ ح ًال بالنسبة إىل أحمد العندل ،ح ًال ،أو نوعاً من ّ الحل ،يف مواجهة هذا الوجود بل ويف مواجهة العبث والقلق وعدم الرضا ،كام أنه نوع من ّ الحل لذلك التناقض بني الشاعر وذلك الشخص واإلنسان الذي فيه ،أي أحمد العندل. أيضاً ،رمبا يفسرّ ذلك الغموض الذي يسم املعنى يف شعره، هو الذي مل يكن يبحث عن املعنى ،عىل األرجح ،بل هو يبحث يف الشعر عن ٍّ «حل» لتناقض يحت ّد يف الذات ،وكذلك، من الواضح متاماً أن الراحل مل ُيعن باللغة بوصفها تركيبة نحوية ورصفية بل تجرأ عليها كثرياً لجهة إدخال الدارجة اليومية مبا تسميه من أشياء وأمكنة.
الشعر ،بالنسبة إليهٌّ ، حل، في مواجهة الوجود بل وفي مواجهة العبث والقلق وعدم ّ الحل الرضى كما أنه نوع من لذلك التناقض بين الشاعر وذلك الشخص واإلنسان الذي فيه ،أي أحمد العندل
هكذا ،فإن الشعر بوصفه لغة وصورة صادمة وقادرة عىل اإلدهاش ،ينبغي عىل قارئ «سيف املاء» أن يبحث عنها يف تلك االلتامعات التي تتوهج هنا وهناك يف النصوص ،وإنها، أي هذه االلتامعات ،لتثري يف نفس قارئها كآبة شفيفة مثلام تعكس ذلك الحجم الهائل من الخيبة ا ُمل ّرة التي كان يشعر بها أحمد العندل:
«ليت الدمعة تضحك».
لكنه يقول يف نص آخر:
«يل يف الوسواس /ألف شيطان /وثالث تجاعيد».
هي اللعنة التي رضبت عميقاً يف الروح ،إنه ا ُملحال أيضاً يف الوصول إىل أي يقني أو أن االطمئنان ليس إال للشك فحسب ،يتبدى هنا قبس من روح الشخصية املرسحية الشهرية :فاوست يف املرسحية التي تحمل االسم نفسه لألملاين يوهان غوته ،حيث كام لو أن أحمد العندل يعتاض عن القسوة ضد الواقع واملحيط والعامل بالعنف بالعنف ميارسه تجاه الذات .وهو كذلك تعبري رصيح عن مأزق يخص أحداً سواه ،إذ يتجىل املأزق يف وجودي فردي متاماً ال ّ غري نص من نصوص «سيف املاء»:
«كل القمصان ال تليق يب /أريدُ غاب ًة بعيد ًةُّ / كل أشجا ِرها أنا».
األرجح أن هناك عزلة فردية تفيض عن النص لتخرج إىل القارئ ،لكنها ليست عزلة ساكنة ،بل هي عزلة يلوب يف موجه؛ رمبا أن الذات التي يتوجه نحوها عمقها عنف َّ الشخص السارد يف القصيدة هي استعارة عن عامل ال تتصالح معه هذه الذات لتختفي خلف إحساسها بتفرد من نوع ما:
«هو /أنا /أجتاح قلبي بالسكاكني».
أيضاً يقول العندل يف مقطع آخر من القصيدة ذاتها: «تطاردين األواين» التي رمبا تكون واحدة من أنضج النصوص يف الكتاب:
«خراب وجودي /كام رباط العنق /حبل مشنقة»
الوجود ليس باملعنى الفلسفي بل باملعني الفيزيقي املحض، إذ مثة حديث عن فساد أمكنة وبرش وأفراد ،إىل أن املرء يشعر كام لو أن الشاعر يود أن يقول :أبعدوا يديَّ عن قلبي ،فأبوح لكم:
«متيض /ويف قلبك زنزانة»
91
خارج السرب
هذا اإلحساس بالغربة التي هي قرينة فجيعة ما ّ تظل تدفع بالفرد نحو «ال خيار» و«ال تواصل» مع املكان وما تأثث به هذا املكان والبرش الذين يسعون فيه إىل يومهم ،األمر الذي ال يخصه فكام لو أن ذئباً يف داخله ّ يحضه دامئاً عىل الرحيل ويلومه باستمرار عىل عدم فعل ذلك:
«ال بيت لك /ارحل إىل الصحراء كن سائباً كاألغنام../ الفرار ..الفرار /قدمان /رسقتهام األيام»..
لكنه يظل مدفوعاً بقوة غامضة نحو «تحوصل» عىل الذات، حتى أن هذه الحوصلة كام لو أنها قرشة سميكة تعزل الفرد عن محيطه ،إمنا من غري رضا منه عن ذاته أو تصالح معها باستمرار:
«أمراضك /تطرد الثعابني /.أوكارها لك /لك وحدك»
إنها الرغبة العميقة يف التخلص من التجربة الفردية مع هذا العامل وبالتايل العامل نفسه ما يجعل الشاعر بهذه القسوة املفرطة عىل الذات واآلخرين والعامل:
ُ سقطت من الزمان /ومرآيت /الصغرية يف يدي» «قد
وإذا كانت املرآة هي عالمة عىل رؤية التحوالت التي تطرأ عىل الذات وشكلها واألثر الذي يفعله «حضور» الفرد بني املجموع ،فقد يصح القول إن تلك الروح الذئبية الهاربة ّ التي فيه هي ما يصنع ذلك التفرد للشاعر وهي التي ظلت تهرب به إىل أن غاب:
«ملاذا /تجري هارباً منادياً /ابعدوا عني /..إنها اآلالم»
بالتأكيد إن هذه اآلالم ليست آالماً مادية أو فسيولوجية، مثلام أن هذه القسوة ليس بالرضورة أن يكون الشاعر قد
فردية العندل تفيض عن النص لتخرج إلى القارئ، لكنها ليست العزلة الساكنة، بل التي يلوب في عمقها موجه عنف َّ
92
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
مارسها عىل نفسه أيضاً ،لكنّ شعرية هذه القسوة هي التي أنتجت الشعر الذي يحمل توقيع أحمد العندل ،بكل ما يتوجه ضده إذ يستغرق فيها عنف يجعل القارئ أنه عنف ّ يف قراءة تلك االقتطاعات ،أو يف أخذ صفة الشخص السارد فيها ،هي التي تتناثر يف الكتاب كام يتناثر زهر بري يف الربيع.
والدة النص
كام أن األرجح ،أن اإلحساس بالعدمية والالجدوى أو حتى االنحياز إليهام ،يف البعض من مفاصل النص كام يف الحياة، قد جعال عل ّياً غري آب ٍه لتلك العالقة التي تربط نصه باملتلقي املتذوق البعيد عن الكتابة وسياقاتها وتعقيداتها .يشعر القارئ أن هناك قصدية ما يف تحطيم بنية اللغة من حيث هي معنى قد تش َّكل من خالل صورة شعرية يحملها ملخيلة املتلقي ومقدرته عىل الفهم أو التأويل .ال توجد عالمات ترقيم وال ضبط نحوي ألواخر الكلامت فض ًال عن ذلك الغموض الذي يصل إىل درجة اإلبهام .وكأن الشاعر ما كتب قصائده إال تحت وطأة شحنة كاوية من ما يعتمل يف داخله من رصاعات ،بالتايل فقد كان النص نتاج خربته الخاصة يف العراك مع األمل ..أمل والدة النص؛ مثلام أنه ،أي النص ،نتاج حياة عيل العندل ذاتها وواقعه املحيط أيضاً. مل يقل عيل العندل الكثري ،يحسب املرء أنه رأى وعرف أكرث مام كتب ود َّون .مل ميهله املوت مبا يكفيه ليك ُيتِّم كلمته ويرحل .أيضاً صوت عيل العندل يف قصائده خفيض ،فال يشء آخر سوى تلك الرصخات الصامتة ..ال يشء سوى بيت القصيدة ،أي عزلة الشاعر ،التي مل يؤثثها عيل العندل كام ينبغي .كام لو أنه وضع كل ما قد يحتاج إليه يف هذا البيت ثم ذهب يف الغياب قبل أن ينجز ترتيبها وتأثيثها وفقاً
علي العندل ..شعرية قسوة
ملشيئته :قد ْ سقط ُت من الزمان/ ومرآيت /الصغرية يف يدي.
رمبا يكون من الغنب التوقف عند عيل العندل بحسب ما هو يف الكتاب اليتيم« :سيف املاء» بل ينبغي تجاوز ذلك إىل تلك الصورة التي رسمها له الشعراء األصدقاء األكرث قرباً إليه واألكرث خربة يف معايشته الشخصية ،أيضاً واألكرث محبة له وحفظاً لذكراه وتأثراً برحيله مثلام كانت كلامته مؤثرة يف حضوره. يف تلك الصور التي كتبها اآلخرون عن عيل العندل يبدو الرجل شاعراً نافراً غري مطمنئ إىل جهة أو طريق، ال يثق مبا يكتب بل كان يخجل عندما يصفه أحدهم بأنه «شاعر» ،كام لو أن الشعر مسؤولية كبرية ومرتبة عالية تتطلب ثقافة رفيعة مل َي ُح ْز عليها بعد ،كان يصف ما يكتب بأنه عبارة عن محاولة لوضع بعض أفكاره الفلسفية الخاصة يف نسق لغوي« ،أنتم تسمون ما أكتبه شعراً» كان يقول. أيضاً ،كان الرجل ُيكرث من األسئلة ،إذ يطرحها مبارشة عىل أصدقائه فتثري القلق لديهم وكان يتقصد إثارة القلق بوصفه عتبة البحث عن املعرفة ،حيث من املمكن أن ال يعود املرء بإجابة لكنه عىل األقل سيكتسب خربة البحث .وأغلب الظن أن الشعر بالنسبة لديه هو بحث معريف بل خالصة نفسه عفيفة ،فال يقرتب هذا البحث وروحه .يف ذاته كانت ُ من األضواء وال يبحث عن النجومية وال يأبه بأولئك الذين كان يدري أنهم يضيقون ذرعاً بأسئلته ونصه مثلام يضيقون ذرعاً بالقلق املعريف وهجر الطأمنينة إىل الشك والحرية. أملح إىل ذلك أكرث من صديق لعيل العندل ممن كتبوا عنه بعد رحيله ،فقالوا إن البعض ممن كانوا يف أساس املشهد الشعري االمارايت قد تقصدّوا تجاهل الرجل. يف هذه األثناء كانت ساحة الشعر اإلماراتية قد شهدت وتشهد حراكاً شعرياً جديداً خاض غامره ما بات ُيعرف
بجيل التسعينيات ،ذلك الجيل الذي نشأ وعيه وكذلك تبلورت أسئلته يف مدينة العني يف أروقة جامعة اإلمارات. كان العندل من نشطاء الطلبة مطلع الثامنينيات وميتلك كاريزما خاصة مؤثرة يف املحيطني به بحسب ما ذكر صديقه الراحل أحمد راشد ثاين الذي عرفه منذ تلك املرحلة عندما كتب عنه بعد رحيله املباغت ويتسم بحيوية فائقة وروح مبادرة ال تخلو من السخرية والدعابة، هو الطالب يف كلية اآلداب -قسم الفلسفة حينها ،هذا الذي سوف يتخرج منه متسائ ًال ما الذي سيصنعه يف حياته اآلن إن عىل صعيد العمل والبحث عن أسباب الرزق أم عىل صعيد التساؤالت الشخصية امللحة معرفياً وفلسفياً. الجانب اآلخر الذي تربزه تلك الصور لعيل العندل ،يتمثل يف عالقاته االجتامعية مع أصدقائه ،يذكر هؤالء بأن الرجل طيب القلب وشديد النقاء رغم ميل شخصيته إىل النزق، هو الذي ميتلك جس ًام رياضياً طوي ًال بعضالت قوية ،أيضاً كان صعلوكاً وفقاً للمعنى الجاهيل لكلمة الصعلكة ،إذ كان خارجاً عىل السائد لكنه كريم النفس ومن ذلك النوع من الرجال الذين لديهم املقدرة عىل أن يوزعوا طيبة القلب عىل املحيطني بهم بأريحية غري منقوصة. بهذا ،بالفعل كان يتمنى أن يكون« :غابة أشجارها أنا». صبيحة الخامس من يونيو من العام ،2004آثر الشاعر عيل العندل ْأن ال يفيق من نومته. وأخرياً ،مهام يكن من أمر ،فام هو أكيد أن أحمد العندل ما كان إال واحداً من أبناء هذه الحياة وعشاقها الخاصني جداً .إذ ّأن َّ كل ما حدث ،وبحسب إحدى القصائد ،هو أن «الحادي» قد تأخر قلي ًال خلف القافلة ،لكنه َح ُلم فقط ومل ينم ،يف حني أن القبيلة التي ظ ّل ْت متيش قد وصلت إىل الحضارةّ ، وظل هو هناك يحلم
93
حائط أبيض
.
ّ الجراح نوري .............................................................................................................
الشاعر خارج المكان
رصف
العرب ونخبهم املثقفة القرن العرشين ك َّله يف تركيز جهدهم الفكري عىل تطوير نقاش سيايس ،أساساً ،يتصل مبسائل االستعامر والتحرر والتحرير ،فرتاكمت من جراء ذلك خطابات يف الفكر غلب عىل ج ّلها التجريد ،وعانت من رجحان أعامل التصور والتوهم بدالً من نحت تصورات وأفكار مستنبطة من التجربة .وهو ما طبع الثقافة العربية ،وطال اإلبداع األديب نفسه بل وتصوراتنا عنه. ومن دون أن نذهب بعيداً يف ما أنتجه هذا املنحى من خلل عام يف التفكري ،نرجح أن يكون غياب االهتامم بالثقافة الجغرافية لدى العرب املعارصين ،وضمناً الشعراء ،أحد أبرز نتائج غلبة التجريد عىل الذهن العريب املفكر ،وكذاعىل الثقافة الشعرية العربية .إن القراءة املتمعنة يف اهتاممات الثقافة العربية الحديثة تكشف عن فقر مدقع يف امليول الجاملية والفكرية القامئة عىل املعرفة باألمكنة ،وهذا يف حد ذاته انعكاس النرصاف ثقافتنا الحديثة عن التأمل يف املكان والحركة العابرة املكان. ولو حدث ودار جدل حول األمكنة ،فإمنا يدور غالباً عىل صورها وتجلياتها يف أدب تبدو عالقته باملكان واهية من حيث هي وثيقة ومتينة مع األفكار والتصورات القامئة عىل شطح التفكري ومغامرات املخيلة .ينطبق هذا عىل الرسديات كام ينطبق عىل الشعر ،وعىل الفنون التشكيلية كام ينطبق عىل السينام التي تعترب يف معظم منتجها العريب أفكاراً نظمت يف قالب قصيص أكرث منها أعامالً سينامئية ،وقصصاً عرثت لها ،كيفام اتفق، عىل مسارح ألحداثها مل ترق إىل درجة األمكنة املنحوتة من مجموع الخربات العميقة املشتقة من املعرفة باملكان وحقائقه وجاملياته. وباملقدار نفسه تغيب املعرفة باآلخر ،بعيداً وقريباً ،ويحل محلها التوهم به. عىل رغم عالقته القوية بالسفر واألمكنة انرصف الشاعر العريب عموماً عن فكرة التأمل يف الجغرافيا يف وقت توفر التأمالت يف املكان ،مبا هو بحث يف العامل وموجوداته واألرض وتضاريسها ،والشعوب وأحوالها واختالفاتها ،واملجتمعات ودرجات تطورها ،والحضارات ومنجزاتها وأسئلتها ،إلخ ..توفر هذه الثقافة معرفة ملموسة بالعامل ،باليابسة واملياه ،بالظواهر الطبيعية والظواهر االجتامعية ،باألبعاد واملسافات ،وبالعادات والتقاليد واملميزات الخاصة بالناس وحضاراتهم .ومن ثم بالحركة والتطلع اإلنسانيني عىل اختالفهام اختالف األمكنة ،واختالف األزمان .وهذه أساساً مادة الشاعر. ولعل األسباب نفسها التي رجحت عمل التجريد يف الفكر عىل الفكر القائم عىل التجارب ما تزال ماثلة يف الخلل الحاصل يف عالقة العريب املعارص باملكان .فهو مكان ليستهلك ال ليعاش فيه ،ومكان لتسرتيح فيه النفس املنهكة ال ليشهد مغامراتها يف البحث والقراءة ونيل متعة اكتشاف ما مل يكتشف ،مكان للجوء. ً هل يكفي يف حالة كهذه أن نستنتج أن العريب غري حضاري؟ ال ينفع .لكن ميكن القول أن العريب املعارص غري متمكن من ذاته أوال ،غري حر كنفس، غري محرتم ككائن صاحب حق يف االختيار ،وبالتايل غري مسيطر عىل ذاته ،وغري مم َّك ٍن له يف األرض .فهو مستهلك. لكن مل أعرتف بهذا؟ عىل األرجح ألمتكن من اإلشارة إىل أن شعر الشعراء العرب املهاجرين هو يف معظمه شعر خارج املكان ،وبالتايل خارج اإلمكانات املذهلة التي ميكن أن تولدها عالقة مبدعة مع املكان/املهجر بصفته أرض عالقة كبرية مع االشياء ،أرض تحقق إنساين يومي حر ومفتوح عىل الشساعة اإلنسانية. الشاعر العريب املهاجر يعيش داخل كتاب ثقافته املغلق عىل ذات جريحة. وال أجد يف ذلك أي غرابة. يسافر العريب املعارص من بالده ليجد حريته كنفس بني نفوس أخرى غريبة ومختلفة ،فتشغله ذاته الجائعة إىل الحياة عن أي يشء آخر ،فال يدرك من االختالف إال درجاته الدنيا .يهجر عاملاً مل يتمتع به ،ومدنا ولد فيها ومل يكتشفها ،وطبيعة ال عهد لها بجاملها ،فلم تحفظ ذاكرته منها إال سطوح الصور. ً فبأي لغة أو حواس أو استعداد سيقرأ العريب غدا ،بينام هو يعرب من أرض اإلستبداد إىل فضاء الحرية ،سطور الوجود اإلنساين يف عامل حل فيه ،ومل يتوقف عن الحلم بتغيريه؟ 94
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
مختارات
الزيت أيتها العتم ُة ،يا ُ بضياء المصابيح السخي ُّ ِ
الشعر الكوري
المعاصر
اختارها وترجمها عن اإلنكليزيّ ة :تحسين الخطيب 95
مختارات
ُتش ْو يوهان )1980-1900( Chu Yohan
الصني واليابان .كان كتابه ،الفجر ولد يف كوريا الشاملية .نال تعليمه يف ّ الجميل ،الصادر يف ،1924واحدًا من عرشة كتب شعر ّية تنرش يف كوريا يف القرن العرشين .عمل مح ّرراً ملجلة "إبداع" ،أ ّول مجلة أدب ّية كور ّية. كام كان يف طليعة حركة األدب الجديد .منحته الحكومة ،بعد وفاته، أرفع أوسمتها—وسام "زهرة شارون" :الزهرة األبد ّية
ألعاب نار ّية
آ ِهّ ،إن النها َر ّميحقُ ،يف السام ِء الغربي ِةَ ، فوق النه ِر الوحي ِد ،والوهَ ُج ال َقرنف ُّ الشمس ،ح َ يل يتالىش . . .آ ِه ،ح َ الشمس، تغرب تغرب ني ُ ني ُ ُ ُ سيعو ُد ُ سأنتحب وحيدًا َ أسفل شجر ِة الليل بال خرسانٍ . املشمش ،لكنّ ُ ِ َ ُ اليو َم ثامنُ يستطيع إخام َد بقدوم األعيا ِدَ ،ف ِل َم أنا الوحيدُ الذي ال وصوت الحش ِد الذي يغم ُر الجاد َة ينذ ُر نيسان، ُ ِ تتفج ُر يف قلبي؟ الدموع التي ّ ِ ً يرقص .ناظرا من ب ّواب ِة القلع ِة الصامت ِة ،عب ِري املا ِء ،عب ِري ال ّرملِ ، يرقصُ ، الدم األحم ُر ،إ ّن ُه ُ يرقص ،إ ّن ُه ُ آ ِه ،إ ّن ُه ُ لهيب ِ ُ تعض َ تعض السام َء ،كام لو أ ّنها ال تزال جائعة— ُّ الليلُّ ، ني الشعل ُة— وهي ُّ ح َ متوحدٌ فتى ّ تعض لحمها ومتزّقهًُ ، ُ ّ ّ َ ٌ األزرق يف النه ِر ،ولكن ،هل ستعلقُ األمواج القاسية ظله يف تد ّف ِق املا ِء؟ آ ٍه ،ال حلم أمس ِه قلب أثق َل ُه ٌ ُ محزون ،يرشقُ َ طفت ،لكنّ فكر َة رحيلِ ح ّبي ُ زهر َة ظ ّل ْت َ ني ُق ْ دون ذبولٍ ح َ يتوجب فعلهُ، تقتل الحيا َة يف قلبي .آ ٍه ،حسناً ،ما الذي ّ هل ُ َ ُ ذهبت ني، هيب؟ أذبح هذا أحرق هذا َ القلب ،هل ُ ِ باألمس ،م ّر ًة أخرى ،وأ ّنا أج ّر ّ الحزن بهذا ال ّل ِ قدمي املؤملت ِ الحب ثاني ًة؟ آ ِه، إىل قربها ألج َد األزها َر التي بدّدها الشتا ُء وقد ِ ربيع ِّ اعم محتجب ٍة .هل يعو ُد ُ أفسحت الطريقَ لرب َ بقلبي ا ُملع ّرى رصاح ًة ،هذ ِه ال ّليل ِة ،يف هذا املا ِء . . .يشفقُ ع ّ يل أحدٌ ما . . .حينئ ٍذُ " :ت ْو ْن ْغ!"َ " ،تا ْن ْغ!" ،الشموعُ ربمّ ا— َ اعم نار ّي ًة ،لقد أفزعتني َف َرد َّْت عقيل إ ّيلّ ، صخب النّاظرينَ يسخ ُر منّي ،كأ ّنه ُيعنّفني. كأن َ الرومان ّي ُة تنفج ُر ،تن ُّز بر َ آ ِهّ ، العميق أريدُ أن أحيا ،حتّى لَ ْو ُ ات االختناقِ بألسن ِة غف بالش ِ لهيب ُي ْو ْن ،حتّى يف َس َكر ِ ِ غرقت يف الدّخانِ كألسن ِة ِ هيب ،أريدُ حيا ًة محتدم ًة ،وألاّ َ نشيج قلبي . . . يكون ُ نشيج ِ ال ّل ِ القلب الفجا ُّيئ سوى ِ ُ ريح َ أبريل الدّافئ ُة ع َرب النه ِر ،عال ًيا َ وح َ رب ق ّم ِة جبلِ ُمور َان، يتاميل حشدٌ برج ُت ْشو ْن ْغ ِن ُيوُ ،ق َ ني تهرعُ ُ فوق ت ّل ِة ِ الس ُ ُ ُ غسقيِّ ، األمواج ّ الخائف يف ال ّرمالِ ، مك هيب تحرتق رياح وبكل ِ ُ ٍ بضحك مجنونٍ ،ويحتمي ّ ٌّ املخضب ُة بال ّل ِ عصف ٍ ً دائخ— ٌ ٌ ظالل َت ُ ضحك صاع ٍد رمش ،رن ُني بإيقاع ا، ب وذها ة جيئ ، أشكال وتخب ، فائن الس ّمات د مق األمواج تصفع ِ ً ُّ ُ ُ ٍ ّ ِ ٍ ٍ ؤوسِ " ،ك ْي َسا ْن ْغ" ٌ َ مصابيح مع ّلق ٍة َ تقدح ّ الشبقَ تصدح بأعىل صوتها، طفلة أسفل ُ األلعاب النار ّي ُة التي ُ ُ َ فوق ال ّر ِ الفجا َّيئ قد م ّل ِت َ ثم أخرىْ ،مل ُيع ِد الخم ُر األبديُّ ذا حفاو ٍة ،مستلقياً ،خام ًال ،يف قع ِر كأسّ ، كأس واحد ٌةّ ، ثم ٌ اآلنٌ ، قرع ّ ٌ الطبولِ املتواصلِ ٌ ، َ عيني ،منهك َ يقفزون من رجال بعيونٍ شهوان ّي ٍة القارب الوسخ ،دموعٌ خاملة ُتح ّم ُر ّ ِ ني من ِ ِ ني ّ ْ الشموعُ املحترض ُة التي ُت ْ القارب ،غري قادرينَ عىل احتاملِ شهوتهم الهائج ِة من جدي ٍد ،ح َ نعست ركت خلفنا قد ِ ُ َ يضغط بش ّد ٍة عىل قلبي. الصوت قد د ََّل عىل يش ٍء ،ما ز َال القوارب ،كام لَ ْو ّأن ر ورصي ، ة د ع املج ري ّنان ت ال هدب ِ ّ ِ ُ ِ عىل ِ *** ُ ُ الضح ُك الذي يضحك ُه النه ُر الجليديُّ وهو ينظ ُر عالياً إىل سام ِء تضحك، آ ٍهّ ،إن ميا َه النه ِر تضحك ضحكا غريبا ،هُ َو ّ 96
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
الشعر الكوري المعاصر
يرص عن َد ّ يقرتب . . . ريح، يقرتبّ ،إن دامس .آ ِهّ ،إن القارب ُ ُ القارب ُ القارب ُ َ َ يقرتب ،حزيناً ،حزيناً ُّ عتم ٍ كل ه ّب ِة ٍ ٍ الطريق إىل جزير ِة ُن ْو ْن ْغنَا النامئ ِةَ ، هناك ،يف املساف ِةُ .شقَّ ات َتا ْيدُ ْو ْن َغ الخاطف ِة. ج ّذ ِف القارب ،عىل طولِ عباب ت ّيار ِ َ َ ِ قاربك نح َو الت ّلة متاماًُ ، َ َ حيث ُ الريح البارد ِة التي تصعدُ يف يقظ ِة املا ِء؟ ماذا تقف أَ ِدر حبيتك حافية ،تنتظ ُر .ماذا ِ عن ِ الحب ،ال ضيا َء َ دون ظاللٍ . لفتى القلب الضحك عن َدوِيِّ محروم من ِّ ِ الغريب؟ وماذا— من أجلك— ِ املعتم ً عن ِ ِ ٍ ِ َ َ َ عينيك، اوين، يقينك هذا .آ ٍه ،آه ،أحرق ،أحرق! يف هذه ال ّليل ِة! شعلت ََك الحمرا َء، آ ِه ،ال تهجر نها َر شفتيك الحمر ِ َ ودموعك الحمراء . . .
الحياة ،املوت
شمس ٌ غارقة ،بح ٌر الحيا ُة ٌ منَ الد ِّم، ٌ صاخبة. سام ٌء شديد ٌة ُ سديم املوت فج ٌرٌ ، شاحب، ٌ الصباح. ببياض أنفاس نق ّي ٌة ،مكس ّو ٌة ِ ٌ ِ شمعة ر ٌ ٌ امشة. الحيا ُة ماسة ٌ املوت ٌ ُ المعة. الحيا ُة كوميديا أحزانٍ . ٌ ُ جميلة. املوت تراجيديا َ ح َ األمواج الهائج ُة الجبل تبتلع ني ُ ُ تنتحب َ فوق الصاري ِة، الريح ُ مرث ّي ُة ِ صوت ثلوج ليلٍ تتكد ُّس بال ٍ يف ِ يش تطلقُ ضحكتها التّام َة. أشع ُة القم ِر املكس ِّو ُة بال ّر ِ املوت. صوب ِ الحيا ُة طريقٌ يتح ّد ُر َ ُ املوت فج ُر حيا ٍة جديد ٍة. آ ِهُ ، بإحكام املوت املعقو ُد خيط ِ ٍ بريقٌ فيض الحيا ِة القاسية. قديس ٌ مطروح عىل ِ ٌّ
صوت املطر
املط ُر ينهم ُر. يفر ُد ُ الليل َ ريش ُه عىل مهل ِه، ويهمس املط ُر يف الباح ِة ُ َ كصيصان صغري ٍة تسقسقُ ُخفي ًة. ُ املحاق خيطاً رفيعاً، كان القم ُر َ نسيم دافئٌ يف األسفلِ وكان ٌ
كام لو َ وشك أن َ النجوم. يفيض من كان ُ الربيع عىل ِ ِ املعتم. لكنّ املط َر ينهم ُر اليو َم عىل هذا الليلِ ِ ّإن املط َر ينهم ُر. كضيف ودو ٍد ،ينهم ُر املط ُر. ٍ َ أفتح النافذة يك أح ّيي ِه، ُ الهمس ،ينهم ُر املط ُر. لك ّن ُه مخبو ٌء يف ِ ّإن املط َر ينهم ُر طح. يف الباح ِةَ ، خارج النافذ ِة ،عىل ّ الس ِ غارساً يف قلبي أخباراً سا ّر ًة ال أح َد يعرفهاّ ،إن املط َر ينهم ُر كيم سوول )1934-1902( Kim Sowol اسمه الحقيقي كيم جونغ-سيك .كتب شعره بأسلوب الشعبي الكوريّ التقليديّ ،فعرف بـ "شاعر يحايك الغناء ّ الشعبي" .مل ينرش ،يف حياته ،سوى مجموعة الغناء ّ شعر ّية وحيدة ،أضاليا ،والتي كتبها يف سنّ املراهقة .قيل إ ّنه قتل نفسه بجرعة زائدة من األفيون
أضاليا
ني تذهب َ ح َ ني بعيدًا ً ضجرة من رؤيتي، سأتركك تذهب َ كلامت. ني بال عن ٍَت ،بال ٍ ِ من جبلِ َي ْ اك يف ُي ْو ْن ْغ َبا ْي ْونْ ُ ني سأقطف أزها َر أضاليا ،مل َء ال ّذراع ِ طريقك. وأنرثها يف ِ ً خطو ًة خطوة بعيدًا أمامك، عىل األزها ِر املستلقي ِة ِ 97
مختارات
ن ّقيل ُ الخطا رويدًا ،عمي ًقا ،واذهبي. ني تذهب َ ح َ ني بعيدًا، ضجر ًة من رؤيتي، أموت؛ كلاّ ،لن َ رغم إ ّنني ُ أذرف دمع ًة واحدة. َ
الذهبي املرج ّ
املرج، ُ املرج، ُ الذهبي: املرج ُ ُّ ُ تشتعل، عمي ًقا ،عمي ًقا ،يف الجبالِ نا ٌر الذهبي َ حول ق ِرب حبيبي. املرج ُ ُّ الربيع الربيع ،جا َء ضيا ُء هَ ا قد جا َء ُ ِ اف أغصانِ السرّ و ِة التي كالخيوطِ . حتّى إىل أطر ِ الربيع الربيع جا َء ،جا َء نها ُر ضيا ُء ِ ِ عمي ًقا ،عمي ًقا يف الجبالِ الذهبي. املرج ّ إىل ِ
أزهار الجبل
تتفت ُّح األزها ُر عىل الجبلِ ، ّإن األزها َر تتفت ُّح. ُ ُ والصيف يف ّ والربيع الخريف كل مكانٍ ُ ّإن األزها َر تتفت ُّح. عال ًيا َ فوق الجبلِ ، عال ًيا عىل الجبلِ تتفت ُّح األزها ُر قص ّي ًة ،يف األقايص. عصفو ٌر صغ ٌري أوحدٌ يغنّي عالياً َ فوق الجبلِ ، صديقُ األزها ِر، ُ يعيش عىل الجبلِ . األزها ُر عىل الجبلِ تسقط ،األزها ُر تسقطُ. ُ ُ والصيف والشتا ُء يف ّ الربيع كل مكانٍ ُ األزها ُر تسقطُ 98
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
هان يونغ ون (1944- 1879) Han Yong’un عرف باسمه البوذيّ :مانهاي .كان عض ًوا فاع ًال يف "جيوش الحقّ " ،الذراع العسكر ّية لحركة املقاومة الشعب ّية التي حاربت االستعامر اليابا ّين .و ّقع يف العام ،1919رفقة 33آخرين ،بصفتهم مم ّثلني للشعب الكوري ،الوثيق َة التاريخ ّية التي أعلنت استقالل كوريا عن االستعامر اليابا ّين— فسجن ،إثر ذلك ،ثالث َة أعوام .كتب يف السجن ثم كتب بالكورية سلسلة سلسلة قصائد بالصين ّيةّ . أخرى ،بعد إطالق رساحه ،نرشها تحت عنوان" :صمت الحب" يف العام .1926تعكس أبياته الشعرية وجمله الطويلة تأثره بشعر طاغور الذي نقله إىل الكورية الشاعر كيم أوك وآخرون .ترت ّكز قصائده حول التأمل رس التجربة اإلنسان ّية. الفلسفي للطبيعة ،و ّ ّ
فنّان
رس ٌام أخرق. أنا ّ فوق صدري يخطُّ مستلق ًيا يف الرسي ِر ،يجافيني النّو ُمَ ، شفتيك ،وحتّى أنفك، اصبعيُ ، ِ أرسم ِ وجنتيك. ني تطفرانِ يف ِ غماّ ِ زتيك ال ّلت ِ
الشعر الكوري المعاصر
أحاول َّ ُ ُ ترفرف خط االبتسام ِة الواهي ِة التي ثم ،وأنا ّ َ ات. حول مئات امل ّر ِ أمسدها ِ ِ عينيكّ ، لست ُمغنّياً ر ً ُ اسخا. جميع الجريانِ إىل بيوتهم وبكا ُء بع َد أن عا َد ُ َ ات َسك ْتُ ، كنت الحرش ِ وشك أن أغنّي األغني َة التي ع ّلم ِتنيها ح َ ني عىل ِ ّ ُ ّاعس ،فلم أجرؤ؛ خجلت من القط الن ِ الريح العابر ُة ورق َة هكذا ،حني طيرّ ِت ُ البابُ ، دلفت إىل الدّاخلِ . ِ ال يبدو ّأن لديَّ مزايا شاع ٍر غنا ّيئ. ُ "الحب": "الحزن"، "الفرح"، ُّ ُ أكتب عن َ تلك األشيا ِء. ال أريدُ أن َ أكتب وجه ُِك ،صو ُت ِك ،عربت ُِك ،أريدُ أن َ هي؛ عن هذ ِه األشيا ِء كام َ عن بيتك، كام أريدُ أن َ ِ أكتب عن ِ رسيرك ،حتّى ِ أزهارك. الحىص الصغ ِري يف حديق ِة ِ
الز ُ ّورق النهريّ واملسافر
أنا الز ُ ّورق النهريُّ وأنت املساف ُر. ِ ني ع َّ متش َ ني، ني موحلت ِ يل بقدم ِ أحضنك وأع ُرب املا َء. ِ ني أض ّم ِك ،أع ُرب امليا َه العميق َة أ ِو ّ ح َ الضحل َة الساقطة. أو املنحدر ِ ات النهر ّي َة ّ
ني ال تأتنيَ ،أنتظ ُر من املسا ِء حتّى الفج ِر ،مزدرياً ح َ الريح البارد َةَ ، الثلج واملط ِر؛ َ بلل ِ َآن تعربينَ املا َء َ دون أن تنظري إ ّيل. ليسُ ، أعرف أ ّن ِك ستأتنيَ ،عاجلاً أو آجلاً ، َ يوم أهر ُم. وأنا يف ِ انتظارك ،يو ًما بع َد ٍ أنا الز ُ ّورق النهريُّ وأنت املساف ُر. ِ
ملستك ِ
حبيبك أح ُّر من النا ِر التي َ تذيب الفوال َذ، فيام سوف ُ ِ ملستك بادر ٌة. ِ وفيام ُ قابلت أشيا َء بارد ًة يف هذا العاملِ ،مل أقابل ملستك. أيَّ يش ٍء أبر َد من ِ ْ وهي الخريف أبر َد من ريح ِ ليست ُ ِ ملستك َ تخشخش األور َ ُ الساقط َة عىل اق ّ ُ صقيعي ح َ األقحوان. ني يتفت ُّح صباح ٍّ ٍ لج املك ّو ُم عال ًيا َ فوق جلي ِد ليلِ شتا ٍء حتّى ال ّث ُ ني ُ ملستك ،ح َ يكون القم ُر صغ ًريا ليس أبر َد من ِ َ رماح الضيا ِء. والنجو ُم ُ َ واملنعش كالنّدى، طقس الس ّي ِد ،البار َد وال َ ملستك. أبر َد من ِ ُ يحرتق هيب الذي ملستك وحدها ُ ِ تستطيع اخام َد ال ّل ِ ني. يف َ قلبي املسك ِ
99
مختارات
يستطيع قلبي ميز ُان الحرار ِة الوحيدُ الذي ُ َ ملستك. قياس حرار ِة ِ َ فيستطيع حبيبك أح ّر من النّا ِر ،أش ّد حرار ًة وفيام ُ ِ إحر َ اق جبلٍ من حنانٍ ّ ، ني، ينش ُف بح ًرا من حن ٍ تقاس. ملست ُِك بارد ٌة ال ُ
ِي ُيوكسا (1944- 1904) Yi Yuksa كان فاع ًال يف حركة املقاومة الوطن ّية الكور ّية أثناء االستعامر الكولونيا ّيل اليابا ّين .اعتقل عدّة م ّرات .مات يف سجن يابا ّين يف ب ّكني .نرش كتابه الوحيد" ،قصائد يوكسا"، يف العام 1946
شفق
الحب أزيح ستائ َر غرفتي الخلف ّي ِة بواعث ّ ُ ليس عب ًثا أنيّ ألح ّيي ّ أحبك: الشفقَ مخلص. بقلب ِ َ ٍ ٍ ُ ني ال تعشقُ فح َ ني— األخريات سوى كنوارس املحيطِ البيضا َء ِ ّ وجنتي املتو ّردت ِ ُ تعشق َ ني اإلنسان سوى مخلوقٍ وحيد. ما الشفقُ ،ذر َ افتح ،أ ّيها ّ حتّى شعريَ األبيض. ني عىل ا ّتساعهام، ْ اعيك ال ّرقيقت ِ ليس عب ًثا ُ َ إليك: إليك بحر ّي ٍة. أتوق ِ َ ني تصالن ِ لتجعل َّ شفتي املحرتقت ِ َ وإىل ّ ُ ني ال تعشقُ األخريات سوى ضحكتي— تعشق َ فح َ ني عناقك كل يش ٍء يف دعني ُ حتّى أرسل قباليت. دموعي. اإلثني عرش، إىل النجوم الوامض ِة لألبر ِاج ّ ِ ٌ إىل الهدو ِء ُ أنتظرك: ليس عب ًثا صامتة، اس ِ َ يركض عمي ًقا يف الغاب ِة ،واألجر ُ ُ َ ني ال تعشقُ األخريات سوى عافيتي— تعشق َ فح َ اإلسمنت، كثريون هم عىل أرض ّي ِة ني، ِ ني حتّى إىل املساج ِ ُ َ مويت. ارتعاشها، ترتعش ،وال أح َد يشاركو َن ُه قلوبهم إىل القوافلِ التي تع ُرب صحرا َء ُغوْبيِ بالجاملِ ،أ ْو ٌ َ نسبة معكوسة إىل الس ّكان األصل ّي َ السها َم يف أدغالِ إفريقيا، ني يقذفون ّ َ ٌ إ ّيها ّ "صمت"؟ صوتك هل قيق، الشفقُ ُ ،ردَّ ،يف ِ عناقك ال ّر ِ َ ني ال تغ ّن َ ح َ أسمع لحنَ ني. ني أغني ًة ُ نصف ِ األرض إىل َّ شفتي املحرتقت ِ غرفتي الخلف ّي ُة يف أ ّيا َر ٌ واضحا! دافئة ح ًّقا. أغنيتك ً ِ ثاني ًة ،أ ّيها ّ صوتك صمت. الشفقُ ،سرتاين أشقُّ هذي ِ ٌ "عتمة"؟ وجهك هل الستار َة الزّرقا َء غدًا. ِ ُ ح َ واضحا! عيني أرى ني متالش ًيا يف ُح ُج ٍب كقرقر ٍة الغدي ِر، وجهك ً ِ أغمض َّ َآن تربدُ ،ال ُ أعرف َ وجهك عتمة. كيف أعو ُد ثاني ًة. ِ هل ظ ّل ِك َ "ضو ٌء"؟ مطروح عىل النافذ ِة املعتم ِة بع َد ْأن ظ ّل ِك متن ّزه صغري ٌ غاب القم ُر! الشمس ظهري ٌة ،أشع ُة َ ِ ُ ظ ّل ِك َضو ُء طاووس أبيض. تنترش عىل ذيلِ ٍ َ ُ هديل الحامم ِة الق ِلقُ هناك ،يف الوراء، َ املرتوك خل ًفا يف حقلِ الحنط ِة. الحب يفتقدُ َّ 100
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
الشعر الكوري المعاصر
ٌ بلشون ُ أبيض ،تحدّرت فت ّوت ُه إىل حا ّفة املا ِء منحن ًيا ينادي عىل املطر. ّ ّ الغطس بالكا ِد ُس ْ ات رش ُة املا ِء عند قطيع بط ٍ معتُ ، ِ بالبحث عن طريدتها. مشغول ٍة ِ وعىل الت ّل ِة العشب ّي ِة ،صب ّيتانِ غريبتانِ تديرانِ مظ ّلتيهام، ُ َ ْ صعدت ني ،والخدو ُد القرمز ّية تغن ّيانِ أغنية حن ٍ تشونغ تيش يونغ -1902( Chong Chiyong؟) عُ دّ ،رفق َة ِي سانغ ،شاعراً طليع ّياً حداث ّياً .اختطف، يف بداية الحرب الكور ّية ،من قبل الق ّوات الكور ّية الشامل ّية .ال توجد معلومات محدّدة عن مكان موته أو زمنه .ظ ّلت أشعاره محظورة يف الكور ّيتني حتّى مثانين ّيات القرن العرشين
زجاج النافذة
يلمع ،باردًا وحزينًا. يش ٌء يف الزجاج ُ ِ َ ُ واهنًا هناك أقف ،أنفايس ُت َغ ِّي ُمهُ، ُ كان أليفاً. يرفرف أجنحت ُه املتج ّمد َة كام لو َ إ ّنه ّ لعلني أفركهُ، ثم تعو ُد وتصطد ُم، السودا ُء ُ تندفع بعيدًاّ ، فال ّليايل ّ نجوم ّ مخض ٌلة ،كجواه َر تستق ُّر. تلمع ٌ ُ ُ ّ الزجاج وحيدًا يف الليايل وما فرك ِ ً إ ّال تأ ّم ًال جذال ووحيدًا، نات التي انت ََش ْت يف َ رئتيك. بالعروقِ الل ّي ِ آ ِه ،لقد ح ّل َ قت بعيدًا كطائ ٍر بريّ .
مطر
ُ الظالل ُ متأل األحجا َر؛ نسائم ٌ عليلة ُ وتروح. تأيت ُ طيو ٌر جبل ّيةٌ مطفأ ٌة،
ٌ عالية يف الهوا ِء ذيو ُلهَا، دجاج يخطو ٌ متناو ًبا. ما ُء الجبلِ يجري يف غدر َان رفيع ٍة ،بيضا َء، األصابع ُ ينترش. وبحجم ِ ِ ُ قطر ُ هنيهات، ات املط ِر ،املع ّلقة ٍ ُ تبدأ ثاني ًة، تتس ّلقُ صاخب ًة ّ كل ورق ٍة حمراء كيم يونغ نانغ (1950- 1903) Kim Yongnang عاش قلي ًال ،فقد مات بطلقة طائشة ،يف بداية الحرب ثم تح ّول ،اثناء االستعامر الكور ّية .بدأ شاع ًرا غنائ ًياّ ، اليابا ّين الذي فرض حصا ًرا عىل الثقافة الكور ّية ،إىل كتابة قصائد تستحرض ،يف استعاراتها ،تراث كوريا التقليد ّية
شخص ما يعرف قلبي
شخص ما ،يف مكانٍ ما، لو ّمث َة ٌ ُ يعرف قلبي، ُ املتوح َد مثلام أعرفهُ، قلبي ّ يعرف َ الغبا َر الذي ُيغ ِّي ُم قلبي أحيا ًنا، ّ يح، ات القطر ِ ّمع الصرّ ِ املترضع َة للد ِ ّ ً لاّ ّ ُ العطايا التي تتشكل رقيقة كالنّدى يف الليايل ال زورد ّي ِة: سأضعها مثل كنو ٍز دفين ٍة أمامهُ. آ ٍهَ ، ذلك الحننيُ. األحالم أستطيع النظ َر بعيدًا يف هل ُ ِ ُ املتوح َد مثلام أعرفهُ؟ قلبي ّ ألرى الذي يعرف َ ُ ّ هيب؛ يف َي َش ٍب مض ّم ٍخ ،حمرا َء ُ تلمع ألسنة الل ِ الحب ّ يا َ يضطر ُم، ليت َّ كمصباح يتطاي ُر من ُه الدّخانُ، غائم، قلبي ٌ لكنّ َ ٍ ال ُ املتوحدُ قلبي ّ يعرف ح ّباًَ ،
101
مختارات
سو تشونغ جو (2000- 1915) So Chongju كتب باالسم املستعار "ميدانغ" (حرف ّياً :الذي مل يكرب بعد) .يع ّد أفضل شاعر كوريّ يف القرن العرشين. ّ رشح خمس م ّرات لجائزة نوبل يف اآلداب .نرش نحو (تضم نحو ألف قصيدة) ،منها :الزهرة 15كتاباً شعر ّيا ّ األفعى ()1941؛ سامء الشتاء ()1968؛ قصائد الج ّوال العجوز ()1994
مجذوم
حزينًا منَ ّ مس الش ِ وزرق ِة السام ِء َ مجذوم طف ًال أكل ٌ قرب حقولِ الحنط ِة طلوع القم ِر َ عن َد ِ َ كان ُ يرصخ يف ال ّليلِ حز ُنهُ ،كزهر ٍة ،أحم ُر.
أ ّيام زرقاء
أ ّي ٌام زرقا ُء باهر ٌة— ُ تعرف شوقنا إىل الذينَ نح ّبهم. الخريف الخرض ُة يف حديق ِة ِ تذوي أشكالاً خريف ّي ًة؛ ُ الثلج يهبط ُ الربيع. خشي َة أن يعو َد ُ وماذا ْإن ُّ أنت؟ مت وعشت ِ ِ ُ أو ِّ وعشت أنا؟ مت؟ يف أ ّي ٍام زرقا َء باهر ٍة ُ نعرف الش َ ّ وق إىل الذينَ نح ّبهم.
سامء الشتاء
ألف ليل ٍة بحلم ِ ِ غس ُ لت الجب َ ّاعم ني الن َ ّ لحبيب قلبي. ِ غرسهُ ،ثاني ًة، لأِ َ اموات. الس ِ يف ّ
102
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
طائ ًرا ضارياً ُ أقواس يعرف ،ويف ٍ منتصف الشتا ِء. ُمق ّلد ٍة ع َرب سام ِء ِ
كال ّريح آتية من براعم ال ّلوتس
ُ ولست حزينٌ ، حزينًا ج ّداً َب ْل قلي ًال حزينْ راح ًال، ليس إىل األب ِد َ راح ًال كام لَ ْو أ ّننا سنلتقي يف حيا ٍة أخرى من جديد كريح بعيد ٍة ٍ ْ صوب ليست َ وتس اعم ال ّل ِ بر ِ يح التي قابل ِتها ِ ليست ال ّر َ
الشعر الكوري المعاصر
َ ريح قبل بضع ِة أ ّي ٍام ،بل َ ماض موسم ٍ ِ كثري.
لو رصت حج ًرا
لو ُ رصت حج ًرا لصا َر الحج ُر زهر َة لوتس، وزهر ُة ال ّلوتس بحري ْة. لو ُ رصت بحري ًة لصارت البحري ُة ِ زهر َة لوتس، وتس وزهر ُة ال ّل ِ حجراْ
)(1922 كيم تشون سو Kim Ch’unsu ولد يف كوريا الشاملية .درس الفنّ يف اليابان .كان له تأثري بالغ عىل املامرسة الشعر ّية يف حقبة ما بعد الحرب الكور ّية ،عرب مقاالته النقد ّية وكتاباته الشعر ّية العديدة عىل ح ّد سواء.
زهرة
كنت ِ ال يش َء، ليس إ ّال، عالم ًةَ ، يتك. حتّى س ّم ِ ُ ولكنّي ح َ اسمك ناديت ني ِ جئت إ َّيل: ِ رصت زهر ًة. ِ أريدُ ألح ٍد، مياثلني يف النّرب ِة وال ّرائح ِة، أن َ يلفظ اسمي
كام ُ اسمك. ألفظ ِ سأذهب إىل َ ذلك ّ خص، ُ الش ِ سأكون زهر َة َ ُ ذلك ّ الشخص. ُ ْأن َ العليا: هي الغاية اإلنسان ّية ُ نكون َ أجلك؛ ِ أنت من أجيل ،وأنا من ِ أن َ نكون شيئاً ذا معنى، عص ّياً عىل النس ّيانِ .
بتالت ال ّليلك
ُ طفل يطار ُد فراش ًة. يدُ الطفلِ ،التي تطار ُد الفراش َة وال متسكها، َ تشقُّ للسام ِء. األعامق الواضح َة ّ ُ الصباح شمس أش ّعة ِ ِ ُت ّ يلك ،تنقعها خض ُل ِ بتالت ال ّل ِ )(1927 كيم نامجو Kim Namjo ولدت يف سيئول .تع ّد أ ّول شاعرة كور ّية تحصد كتبها، الشعبي ،من حيث التي تربو عن الثالثني ،النجاح ّ املبيعات ،والنجاح النقديّ عىل ح ّد سواء .تتناول الحب ،بأبعادها اإلنسان ّية وال ّروحية قصائدها ثيمة ّ
ليل مضاء بالقمر
ح َ الباب، ني ُ أوارب َ تختلس النظ َر إىل الدّاخلِ َ دون تردّد؛ ُ وح َ أوسع، ني ُ أوارب َ الباب َ بأس بها تحد ُّق يف الدّاخلِ بره ًة ال َ َ منضدتك ال ّرماديّ . مبصباح ِ ني ُ وح َ ني عىل مرصاعيهام، ني مفتوح ِ أترك الباب ِ ُ تدخل؛ ال تجلس عال ًيا يف كب ِد السام ِء، َبل ُ َ َ بثوبك الحريريَّ . تحجب العامل ُ لقد َ شخص مع ٌني فعل ٌ زمن بعيد . . . اليش َء ذا َتهُ ،قبل ٍ 103
مختارات
مل يزرين ُّ قط، دحرج بساطاً من حري ٍر نحوي. لكنّه َ
وعد املساء
ْ النجوم وال إىل القم ِر ليست إىل ِ تحنُّ هذي ّ الش ْجر ُة ا ُملورقة. وحتّى يف هذا ال ّليلِ البال قم ٍر تنتظ ُر اعم العتم َة. الشجر ُة الطافح ُة بالرب ِ وإذ ّ ّورس َ ريش ُه ينظ ُف الن ُ أمواج بح ِر يف ِ ال ّليلِ البارد ِة، تلمع الزّهر ُة يف العتم ِة ُ كاملصابيح بضيا ٍء ِ يف قري ٍة جبل ّي ٍة نائية. أ ّيتها العتم ُة، يا الز َ السخي: ّيت ّ ّإن هذي الزّهر َة ُ تعرف تعقب الهجع َة العذب َة التي ُ يف هدو ٍء وسال ْم. تبوس الزّهر َة، ال ّر ُ يح العابر ُة ُ ني يجنُّ ال ّل ُ وح َ يل تص ُري الزّهر ُة أك َرث نعم ًة. باح، منهك ًة عن َد َضو ِء ّ الص ِ كفراش ٍة ،تفر ُد أجنحتها
104
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
باك تشيي سام )1997-1933( Pak Chaesam ولد بطوكيو يف اليابان .التحق بكلية اللغة واآلداب يف الجامعة الكور ّية ،ولكنّه تركها الحقاً .نرش كتابه األ ّول، عقل تشون هيانغ ،يف العام .1962تبعه ،يف العام ،1970 ديوانه "أشعة ّ ثم الشمس" ،و"ح ّبي" ،يف العام ّ ،1981 "نهر خريف يف دموع تشتعل" ،يف العام ،1985و" ِكفاف الشمس والقمر" ،يف العام .1990نال عدّة جوائز أدب ّية، السالم يف العام ،1987وجائزة ُيون- منها :جائزة أدب ّ ه ُيون يف األدب للعام .1988
ال يشء
تهب أحيا ًنا ُّ الريح َ فوق أوراقِ مو ِز الج ّن ِة ُ ُ حيث قطر ُ ات املا ِء ُ ُ تأخذ شكلها ال ّرب َ وتسقط. اق، َ السكين ِة التا ّم ِة هذ ِه خلف لحظ ِة ّ ال يش َء تريدُ الحيا ُة.
يوم ماطر
َ ذات أصيلٍ يف أ ّيا َر مغنوليا بال أزها ٍر ٌ منقوعة يف املطر. مغنوليا ٌ عارية بأوراقٍ خرضا َء ،وحيد ٌة ٌ منقوعة يف املطر. القلب املفطو ِر، شقيقتي ،صاحب ُة ِ قلبها ممز ٌّق ك ّلهُ، م ّر ًة أخرى ُ تستقبل رسال ًة من الذي لن يجيء. آ ِهّ ،إن الدموعَ املنهمر َة من السام ِء األرض ُت ّرب ُك عىل ِ يف هذا النها ِر املمط ِر
الشعر الكوري المعاصر
شني كيونغ نيم )1936-( Shin Kyongnim ولد بكوريا الشاملية .ح ّققت مجموعته الشعر ّية األوىل ،رقصة املزارع ،شهرة واسعة ،آن نرشت يف العام .1973كام نالت ذات املجموعة جائزة َما ْنهَايْ األوىل ،بعد تأسيسها ،يف العام ،1974 تخليداً لذكرى الشاعر مانهاي .من كتبه األخرى: الحب املسكني جنوب نهر هان ()1987؛ أغنية ّ الساقطني ()1993؛ صور ظل ّية ()1988؛ أحالم ّ لجدّيت وأ ّمي ( ،)1998الذي نال جائزة ضاي سان األدب ّية ّ للشعر ،يف العام ذاته.
هُ م
الريح أور َ اق األشجا ِر طيرّ ِت ُ أبواب أو نواف َذ، شارع بال ٍ عىل ٍ َ َ َ ينظرون ،مختبئ َ ني اآلخرون كان الهاتف أ ِو األشجا ِر. ورا َء أعمد ِة ِ اسم مل يعرف أحدٌ َ الذي َ مات، يف َ املعتم، اليوم ذلك ِ ِ ُ حيث ال قم َر يصعدُ تشونغ هيون جونغ )1939-( Chong Hyonjong ولد يف سيئول ،وتخ ّرج من كل ّية الفلسفة بجامعة يونيس، حيث يد ّرس اآلن .من أعامله :حلم األشياء ()1972؛ مهرجان املعاناة ()1974؛ ككر ٍة مرتدّة ()1984؛ ال وقت للحب لديّ (.)1989 كث ًريا ّ
حفا ًة ذهبوا يف وابلِ املط ِر. ٌ محكمة قبضاتهم النحيل ُة ُ أياديهم ّ لسع املط ِر. زرقا َء من ِ نادا َين ٌ صوت حانقٌ ، بصقَ وجهي الجبانِ . يف َ ثرّ تخ الد ُم َ أكتاف يف قمصانٍ بيضا َء. فوق ٍ لقد ركضوا الريح املندفعة. يف ِ
الربيع عشب خرضا َء ،أور ُاق ِ ِ تدفع َ األرض إىل فوق، ُ ٌ أعمدة تسندُ السام َء من الهبوطِ ، بيع. أور ُاق ِ عشب ال ّر ِ نابض ًة الربيع: نسيم ِ يف ِ ٌ امرأ ٌة الهثة ،وضفادعُ . عشب أغنيتي ال ُب ّد ِ لصوت ِ ّ قَ العشب. أن يتدف قرب أوراقِ َ ِ
ذلك اليوم
ترَْك شمس ّية يف مكان ما َك ِ
وحيد ًةْ ، بكت صب ّي ٌة، تتبع الن َ ّعش، وهي ُ اس موكباً بال أجر ٍ مأتم. أو راي ِة ٍ طريق املسا ِء ا ُملك ّفن ِة ّ باب، عىل طولِ ِ بالض ِ ُ طيف. ظالل ٍ
خرضاء هي األرض
أستطيع وأل ّنني ال ُ ْأن َ أترك نفيس يف مكانٍ ما ترَْك شمس ّي ٍة يف مكانٍ ما، َك ِ فإ ّنني أعاين. أستطيع َ ترك نفيس ورايئ لو ُ لكان ّ َ كل يش ٍء سام ًء وح ّباً وحر ّية
105
ً نظريا
.
صبحي حديدي .............................................................................................................
تشابهات خافية
يف
مقالته البديعة "الصوت اآلخر" ،يقول الشاعر املكسييك أوكتافيو باث" :الشعر صوت اآلخر .وصوته آخر ألنه صوت املشاعر طوقي وإمياين، وصوت الرؤى .إنه صوت العامل اآلخر وصوت العامل الراهن ،صوت أ ّي ٍام عفا عليها الزمان مثل أ ّيام نعيشها اآلن .هَ ْر ّ بريء ومنحرف ،رائق و َع ِكر ،فضا ّيئ وتحت ـ ّ يخص الصومعة مثل ركن الحانة ،ويف متناول اليد لكنه دامئاً يف املنأى .ويف برهة أريضّ ، الشعر ،طالت أم قرصتّ ، فإن جميع الشعراء ـ إذا كانوا شعراء ـ يصغون إىل الصوت اآلخر .إنه صوتهم ،صوت سواهم ،صوت ليس ألحد سواهم ،صوت ليس ألحد ،وصوت للجميع .ال يشء مي ّيز الشعراء عن سواهم من البرش سوى تلك الربهة ،النادرة ولكن املألوفة ،حني يصبحون هم اآلخر َ آن يكونون هم أنفسهم". نص ّ يلخص ،عىل النحو التأ ّميل املع ّمق واملشبوب الذي م ّيز تنظريات باث ملسائل الشعر ،جملة املعضالت العديدة التي تكتنف هذا ّ ً مسألة حضور اآلخر وصورة ذلك اآلخر يف آداب األمم عموما ،ويف نتاجها الشعري بصفة خاصة .ذلك ّ ألن اإلشكالية تتجاوز بكثري حدود ثم استخالص مؤثراته ومحاسنه ومساوئه ،خصائصه ودينامياته النشاط الذي يكتفي برصد أو إحصاء ُص َور اآلخر يف موروث شعري ماّ ، وتفاعالته وفاعليته .هذه الرياضة النقدية ،عىل طرافتها وأهميتها املدرسية ،ال تنصف جوهر اإلشكالية يف أبعادها اإلبداعية والجاملية ثم يف أبعادها الثقافية والحضارية املقارنة من جهة ثانية. والفنّية من جانب أ ّولّ ، ّ ً ً ً إنها ،يف ّ ترض شاعرا كبريا ومنظرا للشعر رفيع الثقافة مثل أوكتافيو باث! فهو ،يف مقاطع أخرى أكرث حرارة ،يعترب ّأن فرادة كل حال ،مل ِ الشعر الحديث ال تتأىت من أفكار الشاعر أو مواقفه ،بل من صوته" :الشعر ذاكرة تنقلب إىل صورة ،وصورة تنقلب إىل صوت .الصوت اآلخر ليس الصوت املنبعث من القرب ،بل هو صوت اإلنسان الراقد عميقاً يف قلب قلوب اإلنسانية" .وبهذا املعنى ّ فإن حضور اآلخر يف الشعر يتصل مبارشة بوظيفة الشعر ذاتها ،ورمبا مبعنى الشعر أيضاً .فالشعر ،حسب باث ،يع ّلمنا إقرار الفوارق واكتشاف التشابهات، خصوصاً ّ حي من الصالت واملتضادات ،والقصيدة درس عميل يف التناغم والتوافق ،حتى حني يكون موضوعها غضبة وأن الكون "نسيج ّ البطل أو عزلة صب ّية مهجورة أو انغامس الروح يف املياه الساكنة للمرآة". وهكذا ّ فإن مفهوم اآلخر ،هنا ،ليس منحرصاً يف صورة "الغريب" أو "األجنبي" أو "املختلف"؛ وهو ،أيضاً ،ليس مقترصاً عىل تناظرات واستقطابات وثنائيات من نوع "امرأة/رجل"" ،رشق/غرب"" ،نحن/هم"" ،متمدّن/همجي"" ،املركز/املحيط"" ،س ّيد/عبد"" ،مدنية/ بربرية" ...اآلخر هو ّ كل ما ينفصل عن الذات ليك يقع أمامها ويف مواجهتها ،يكون شبيهاً بها أو عىل نقيض منها ،وتنبثق دينامية وجوده ّ من الحاجة إليه يف تعريف فارق الذات عن سواها .هي ،باختصار شديد ،عالقة "الذات/اآلخر" بكل ما تنطوي عليه من جوانب إبداعية وثقافية ومعرفية وسياسية وتاريخية وجغرافية وأنرثوبولوجية ،فض ًال عن عنارصها األخرى الوجودية والجنسية والفلسفية. ّ وألن هذا العدد من "بيت الشعر" يحتفي مبحمود درويش ،فإنني أتوقف عند واحدة من أبرز قصائده التي تناولت عالقة الذات باآلخر، وأعني "خطبة الهندي األحمر ـ ما قبل األخرية ـ أمام الرجل األبيض" .فمنذ السطور األوىل تفصح القصيدة عن جملة االسرتاتيجيات التي اعتمدها درويش لتحقيق َ غرضينْ حاسمني :تقويض التنميط املس َبق للهندي األحمر ،يف سياقاته الروحية والفلسفية والطبيعية؛ ثم االنطالق من ذلك إىل استجالء فضاء املواجهة بني أهل األرض (أينام كانوا ،ولكن يف املسيسيبي وفلسطني عىل وجه التخصيص)، واآلخر القادم ،الذي اجتاح واستوطن .الرتاجيدي هنا يلتحم يف أعرض فضاء متاح من املقدّس ،بحيث تتح ّول الذاكرة املنتهَكة (بعنارصها جتاحة ومنفية ومهزومة رمبا ،ولكنها وشعائرها وطقوسها وحركتها يف التاريخ) إىل إرث منتهَك تفقده ضحية فيزيائية ومجازية محدَّدةُ ،م َ متجذرة يف األرض ،وقامئة ،ومقا ِومة. ويف العودة إىل باث ،بعد استذكار درويش" :الخيال هو الطراز العمليايت للفكر الشعري ،والخيال يتألف جوهرياً من القدرة عىل وضع كل األشكال الشعريةّ ، فإن ّ الواقع املتناقض أو املتباين ضمن عالقة .ولهذا ّ املحسنات اللغوية ،تشرتك يف يشء واحد :أنها تبحث عن، وكل ّ وتعرث غالباً عىل ،التشابهات الخفية" .الذات هنا ،واآلخر هناك ...سيان! 106
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
زيارة
زيارة إلى قبر الشاعر
أنطونيو ماتشادو في األول من كانون الثاني ،قلت سأذهب إليه فقد مضى زمن لم أزره فيه .في عطلة
أعياد الميالد ونهاية السنة تقفر شوارع المدن
األوروبية ،وطالما نصحني صديقي حسونة
المصباحي الذي خبر هذه الشوارع لما يزيد عن ً السفر العشرين عاما في مدينة مونيخ بعدم ّ إلى أوروبا في هذه الفترة ،لكنني لسبب مازلت
أجهله أحب المدن عندما تقفر من العابرين،
أحب السماءات الغامضة والممطرة والباردة في شهري ديسمبر ويناير ،فقد اخترت منذ أن ً السفر إلى ّ الضفة األخرى أن أذهب صار ممكنا ّ
ً هاربا إلى نفسي إلى أوروبا في هذه األسابيع
من الصخب العمومي والخيبات العربية.
نورالدين بالطيب
الفاتح
من كانون الثاين أخذت القطار العجوز من مدينة «جريونة» عىل الحدود اإلسبانية الفرنسية أو الكتالونية ،كام يحب أصدقايئ ّ يف كتالونيا أن يؤكدوا دامئا .كان الطقس بارداً ومحطة القطارات تكاد تكون مقفرة ونسامت برد خفيف ،يف اتجاه «رسبريا» ،قلت لبائعة التذاكر العجوز. امل ّرة األوىل التي ذهبت فيها إىل قرب الشاعر الكتالوين، أنطونيو ماتشادو كانت قبل ست سنوات عندما جئت إىل جريونة للم ّرة الثانية قادماً من روما يف ا ّتجاه برشلونة املتوسط» ،أردت أن أقيض بعض لحضور ندوة عن «صحراء ّ
األ ّيام رفقة أصدقايئ يف مدينة جريونة التي هامت بها روحي منذ اللقاء األ ّول . مل أكن أعرف أن قرب ماتشادو غري بعيد عن مدينة جريونة، بل ال يحتاج األمر لزيارة قربه يف قرية «كوليور» يف جنوب فرنسا التي تع ّد مدينة كتالونية يف فرنسا قبل أن تنهار مملكة كتالونيا املمتدّة األطراف وظهور إسبانيا بتقسيمها الحايل إال ساعتني فقط من جريونة يف اتجاه «رسبريا» ،ومنها وبعد تغيري القطارإىل كوليورالتي لجأ إليها ماتشادو من جرائم الجرنال فرنكو حام ًال والدته العجوز املريضة عابراً بها الجبال واملمرات الصعبة يف ذلك الشتاء من سنة 1939
107
زيارة
لتموت من الربد ويلتحق بها بعد أ ّيام قليلة فقط:
«أ ّيها املسافر ما الدرب سوى آثار خطاك، أ ّيها املسافر ليس هناك طريق الطرق تصنعها األقدام أثناء املسري وحينام نسري نصنع دروبا وعندما ننظر إىل الوراء نرى الطريق الذي لن نسري فيه من جديد أبداً. أ ّيها املسافر ليس هناك طريق سوى خطوط فوق البحر»
كنت أقرأ من الرتجمة التي أعدّها عبدالهادي سعدون وميمونة ّ حشاد خبو وأرشفت عليها رجاء ياسني بحري والتي نرشت يف جزءين يف تونس عن مؤسسة بيت الحكمة عن األدب الناطق باألسبانية ...أقرأ من شعر ماتشادو متأم ًال الطبيعة الساحرة وبيوت القرميد التي ّ تغط ّيها الثلوج مستحرضاً أصياف طفولتي يف الصحراء يف بدايات الصحراء الكربى هناك يف دوز «تونس» التي اكتشفت يف قيلوالتها القائظة األدب العريب والعاملي عرب املج ّالت القليلة التي كانت تصل مثل «املج ّلة» و«املوقف العريب» و«الدستور» وأتذ ّكر أنني عرفت لل ّمرة األوىل ماتشادو يف دراسة عن األدب اإلسباين نرشتها إحدى 108
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
املج ّالت العربية التي كانت نافذيت عىل العامل. كانت الدراسة عن ثاليث الشعر اإلسباين ماتشادو وألربيت ولوركا القتيل. وإذا كنت اهتممت فيام بعد بلوركا شاعراً وكاتباً مرسحياً وبرفائيل ألربيت الذي كانت ذكريات صديقي ال ّراحل عبدالوهّ اب البيايت معه إحدى مواضيع سهراتنا يف تونس فقد سقط ماتشادو من ذاكريت قبل أن أستعيده يف زياريت األوىل إىل جريونة عندما حدّثتني عنها الصديقة الشاعرة الكتالونية كنصول فيدال ،وقد ذهبنا إليه أنذاك مع الصديقة الكتالونية أيضاً مون باجويل .ذهبنا ثالثتنا إىل قربه ّ املغطى بالزهور يف القرية الصغرية كوليورو التي ذ ّكرتني أزقتّها ودروبها العالية وأبوابها الزرقاء التي تغط ّيها باقات الزهور بسيدي بوسعيد (تونس). إ ّنه ضوء املتوسط املبهر يف لحظات الصحو والصفاء قبل أن يغرق العامل يف كوابيس العنف السيايس والتكفري والظالم والتصحر: املؤذن بالخراب ّ
«كل يشء مييض وكل يشء يبقى ول ّكن قدرنا أن منيض ،أن منيض»
نعم قدرنا «أن منيض» قلت لنفيس وأنا أتج ّول وحيداً قرب القلعة العسكرية مطلاّ ً عىل املتوسط بأمواجه الهادرة يف ذلك الصباح الشتايئ. يف املقهى الخايل من ر ّواده يف فصل الشتاء الذي تز ّينه صور العبني قدامى يف كرة القدم حاولت أستحضار أسامئهم بال جدوى -فقد مىض ذلك الزمن الذي كنت فيه مفتوناً بكرة القدم متتّبعاً ألخبار ال ّالعبني ونتائج املباريات ألغرق يف ح ّمى ،وأصري مفتونا ّ بالشعر واألدب-عدت إىل سرية الشاعر أنطونيو ماتشادو الذي ولد يف مدينة أشبيلية عام 1875وأصدر ديوانه األ ّول «خلوات» عام 1903وقد كان أستاذاً للغة الفرنسية وع ّد كتابه تح ّوالً يف
قبر ماتشادو
جرنايكه -بيكاسو
يرى قابيل التجربة الشعرية اإلسبانية. مب ّكراً عرف ماتشادو الحب وخفق قلبه لألغاين العذبة هاربا ،وهابيل م ّيتا وسافر إىل عاصمة األنوار «مدينة الجن واملالئكة» باريس حذو بقعة حمراء كام سماّ ها طه حسني رفقة زوجته ليونور أثكياردو ،لكنّها بصوت عال ور ّنان رسيعاً ما غادرته بعد إصابتها مبرض ّ السل ليغرق الشاعر يف املع ّلم يزمجر ،شيخ جحيم ال ّرحيل. بثوب بال ،نحيف وهزيل ّ عاد إىل بالد ّ الشمس األندلس التي كرب يف أزقتها العربية يحمل كتاباً بيده ً ونهل صغرياً من جامل معامرها وفتنته حامال معه روح ومجموعة أطفال ينشدون الدّرس املرأة التي أح ّبها لتعيش يف قصائده مثل قصيدة «الطرقات» «ألف يف املائة ،مائة ألف، يف ديوان «حقول قشتالة» و«كاستيليا» و«أغاين جديدة» ألف يف األلف ،مليون».
و«األغاين». فجرها وكان من الطبيعي أن مت ّد الحرب األهل ّية التي ّ الجرنال فرانكو بظاللها عىل قصائده فجاءت قصائده تحدّياً للديكتاتورية خاصة بعد اغتيال صديقه لوركا الذي رثاه بقصيدة «الجرمية كانت يف غرناطة». ويف أواخر 1939عندما أحكم فرانكو قبضته فهم ماتشادو أ ّنه مل يعد له مكان يف بالده فهرب إىل كوليور ذات الجذور الكتالونية ليموت هناك ويتح ّول قربه إىل مزار كتالوين. يف الدّرب الصغري املؤدي إىل املقربة وإىل البيت الذي عاش فيه أل ّيام قليلة بعد وصوله إىل القرية الفرنسية كنت أستحرض قصيدته «ذكرى من الطفولة»:
ذات مساء رمادي وبارد يف الشتاء .التالميذ يدرسون ،رتابة املطر خلف الزجاج يف الفصل ،عىل روحة
وأنا أسلم نفيس لضوء املتوسط ولشمسه الدافئة تذ ّكرت السواد الذي ّ يغطي السامء يف البلدان التي رفعت أصواتها ض ّد الديكتاتورية كام رفعها ماتشادو لكنّها باتت تخىش الغرق يف الظالم ذلك ّأن أعداء الحرية كثرياً ما يكونون أ ّول املستفيدين منها لإلجهاز عليها وكتم أصوات البجع والحامم وقصف زهور الربيع. عرب زجاج نافذة القطار العجوز مضت روحي يف ا ّتجاه الصحراء متسائ ًال مع أنطونيو ما تشادو «إىل أين سيؤدّي الطريق»؟:
«أنا أحلم بدروب املساء ،التالل الذهبية ،أشجارالصنوبرالخرضاء، وأشجار الب ّلوط املغبرّ ة... ترى إىل أين سيؤدّي الطريق» نعم ...إىل «أين سيؤدّي الطريق؟»
109
شعريات
الغابة والصحراء ثنائية القصيدة السودانية إذا كانت ثيمة الغابة -الصحراء قد ارتبطت في البداية بمجموعة بعينها من شعراء الستينيات مثل محمد ً ً ورواجا قبوال عبدالحي ومحمد المكي إبراهيم والنور عثمان أبكر ،فإن هذا التوصيف للثقافة السودانية قد وجد
ّ والكتاب بين أغلب المثقفين
الذاكرة
الرتاثية لإلنسان السوداين تلتقي عندها الثقافة العربية اإلسالمية بالثقافات اليونانية والنوبية واملسيحية ما أثرى مخيلة الشعراء يف السودان ،وأدخل مظاهر الحياة السودانية يف أشعارهم وأعطى شك ًال فريداً ومميزاً للشعر السوداين. سألت إيزابيال سيمور مصطفى سعيد ،بطل رواية «موسم الهجرة إىل الشامل» ما جنسك؟ هل أنت إفريقي أم آسيوي؟ فأجابها :أنا مثل عطيل ،عريب إفريقي .فنظرت إىل وجهه وقالت :نعم أنفك مثل أنوف العرب يف الصور ،ولكن شعرك ليس فاح ًام مثل شعر العرب. وذات السؤال الذي تلقاه مصطفى سعيد يف الرواية واجهه واقع ًيا الشاعران املبدعان محمد امليك إبراهيم والنور عثامن أبكر يف أملانيا يف رحلتهام إليها يف الستينيات ،حيث عبرّ النور عن حرية األوروبيني يف تصنيفه بقوله «إنه يرفض هويتي اإلفريقية حني أفكر ،ويرفض هويتي العربية حني أكون» .عبارة مرشقة والشك أنها تلخص يف أسلوب فلسفي مفهوم «الغابة - رشيق ازدواجية الهوية الثقافية الصحراء» ال يتطابق واإلثنية لإلنسان السوداين .أما محمد امليك إبراهيم فقد تألقت فقط مع توزيع المناخ قريحته شع ًرا يف توصيف الواقع الجغرافي في السودان، بقوله يف قصيدته الرائعة «بعض بل يكاد يتطابق مع الرحيق أنا والربتقالة أنت» والتي التوزيع الديمغرافي تعترب من عيون الشعر العريب الحديث: للسكان
110
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
الله يا خالسية يا بعض عربية وبعض زنجية وهكذا فقد تنبهت الطالئع املثقفة من السودانيني باكراً إىل الخصوصية الثقافية واإلثنية للذات السودانية .وقد برز الوعي بهذه الخصوصية أكرث حدّة يف الخمسينيات والستينيات مع املد الثوري لحركات التحرر الوطني ودعوات القومية العربية واالتجاهات الزنجية يف إفريقيا وأمريكا الالتينية .وفطن نفر من هؤالء املثقفني إىل أن السودان ميتاز بخصوصية فريدة ال تتوافر يف غريه من دول املنطقة ،فهو يجمع بني االنتامء العريب واإلفريقي يف آن واحد ،فتفتق وعيهم عن صبغة يصفون بها هذه الحال الفريدة ،وحيث إن معظمهم كانوا شعراء ،فقد هداهم حسهم الشعري إىل صيغة شعرية ذات داللة رمزية عميقة ّ وهي صيغة «الغابة والصحراء» ،الغابة إشارة إىل العنرص اإلفريقي ،والصحراء إشارة إىل العنرص العريب.
الدور الجغرايف
ولعل من دالئل التوفيق عىل حسن اختيار هذه الصيغة الرمزية أن تعبري «الغابة والصحراء» ال يتطابق فقط مع توزيع املناخ الجغرايف يف السودان ،بل يكاد يتطابق مع التوزيع الدميغرايف للسكان. فاملعروف أن مناخ السودان يبدأ يف التدرج من مناخ صحراوي يف
الفنان ابراهيم الصلحي
الشامل ،ليتحول إىل شبه صحراوي ،ثم سافانا فقرية وأخرى غنية يف الوسط إىل أن ينتهي عند الغابات املدارية يف الجنوب .وبالقدر ذاته نجد السكان يتوزعون عىل هذا النحو ،إذ نجد العنرص العريب غالباً يف الشامل مع بعض األقليات ،ثم يبدأ يف التقلص كلام اتجهنا جنوباً مع بعض االستثناءات ،إىل أن ينتهي إىل غلبة العنرص اإلفريقي الزنجي يف الجنوب. ومثلام اهتدت تلك املجموعة إىل رمز «الغابة والصحراء» يجسد هذا التامزج العريب اهتدت أيضاً إىل منوذج تاريخي ّ اإلفريقي عىل أرض الواقع فكانت سنار عاصمة مملكة سنار أو سلطنة الفونج والتي عرفت ً أيضا بالسلطنة الزرقاء أي السوداء .فالسودانيون يستعملون األزرق كمرادف لألسود. ومنه جاء اسم النيل األزرق أي األسود .وذلك لشدة اعتكار مياهه من كرثة الطمي .ويقولون رجل أزرق أسود ،وكانت العرب تستعمل األخرض يف ذات املعنى ،فتقول رجل أخرض أي أسمر أو أسود. يرجع اختيار مملكة سنار أو السلطنة الزرقاء «-1504 1821م» كنموذج معا ِدل للهوية السودانية ،إىل أنها أول مملكة سودانية تكونت بتحالف القبائل العربية والقبائل اإلفريقية. ولعل الفضل يف رواج مفهوم سنار كنموذج لهذا التامزج يعود إىل الشاعر املرهف د.محمد عبدالحي الذي يعترب أحد أبرز رموز الحداثة الشعرية يف العامل العريب وديوانه املشهور «العودة إىل سنار» خري دليل عىل ذلك. وإذا كانت صيغة الغابة والصحراء قد ارتبطت يف البداية
مبجموعة بعينها من شعراء الستينيات هم محمد عبدالحي ومحمد امليك إبراهيم والنور عثامن أبكر ،فإن هذا التوصيف للثقافة السودانية قد وجد قبوالً ورواجا بني أغلب ً املثقفني والكتّاب يف تلك الفرتة ،وتردد يف أشعار الكثريين منهم. رمبا يرجع نجاح مفهوم «األفروعربية» املطروح من خالل رمزية «الغابة والصحراء» آنذاك إىل الوعي القومي السوداين الذي أفرزته الظروف والتحوالت السياسية واالجتامعية التي قادت إىل ثورة أكتوبر .1964
الهوية السودانية
الحقيقة أن جذور الوعي بالتوصيف «األفروعريب» للهوية السودانية ،ترجع إىل عرشينيات القرن املايض حيث تكوين جمعية اللواء األبيض التي قادت ثورة 1924م ،ضد اإلنجليز وإىل دعوة رائد التجديد حمزة امللك طمبل يف كتابه «األدب السوداين وما يجب أن يكون عليه» ،حيث ناشد شعراء مدرسة األحياء الشعري السوداين من أمثال محمد سعيد العبايس عدم االكتفاء بتقليد الشعراء العرب القدامى، وااللتفات إىل البيئة السودانية املحلية وتصويرها يف أشعارهم .وأسوة بأفكار حمزة امللك واصلت جامعة مجلة «الفجر» يف الثالثينيات ،الدعوة إىل أدب قومي سوداين يعرب عن الذات السودانية ببعديها العريب واإلفريقي .ومن أبرز من نحى هذا املنحى معاوية نور وعرفات محمد عبدالله ومحمد أحمد املحجوب رئيس الوزراء األسبق الذي كتب يف هذا السياق« :نحن إن نادينا بقيام األدب القومي للطبيعة 111
شعريات
محمد الفيتوري :شاعر افريقيا
املحلية ،فإمنا ندعو إىل خلق شعب بكيانه يعبرّ عن مرئياته من سامء زرقاء أو ملبدة بالغيوم ،ومن غابات وصحراوات قاحلة ومروج خرضاء ومن إميان بالكجور والسحر إىل إميان بالله وحده ال رشيك له». ويف الخمسينيات أعاد الشاعر محمد املهدي املجذوب إحياء أفكار حمزة امللك وعمل عىل عكس مظاهر الحياة السودانية يف أشعاره ،وأدخل إنسان الجنوب ألول مرة إىل معادلة الثقافة السودانية يف قصائده التي عرفت بالجنوبيات .وعرب املجذوب يف هذه القصائد عن إنسان جنوب السودان ،وأعلن رصاحة عن العرق الزنجي الذي فيه وهو الذي ينتمي إىل قبيلة شاملية تعد نفسها أكرث عرب السودان عروبة حيث يقول يف إحدى هذه القصائد وعندي من الزنج أعراق معاندة وإن تشدق يف أشعاري العرب والفيتوري من شعراء الحداثة الذين سبقوا شعراء «الغابة والصحراء» إىل االلتفات إىل الجانب اإلفريقي ،فقد كرس الفيتوري دواوينه الشعرية األوىل للتغني بإفريقيا وأمجادها فكتب «عاشق من إفريقيا» ،و«أغنيات إفريقيا»، و«اذكريني يا إفريقيا». ورغم بداهة التوصيف الذي تطرحه صيغة «الغابة والصحراء» ،ومن أن القول بأن السودان بلد عريب إفريقي ثقافياً وعرقياً هو من املسلامت التي ال ميكن املجادلة حولها ،فإن أصحاب هذا االتجاه قد تعرضوا لحمالت من النقد ،وصل يف بعض األحيان إىل حد التشويه املتع ّمد واالستنتاجات الخاطئة آلرائهم من بعض ذوي النزعات األيديولوجية. 112
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
وللحقيقة التاريخية فإن شعراء «الغابة والصحراء» ليسوا جامعة تربطهم رابطة أدبية أو يجمع بينهم أي تنظيم أو حزب سيايس ،وإمنا هم نفر من املبدعني التقت أفكارهم يف غري ما اتفاق حول رمزية الغابة والصحراء للداللة عىل خصوصية الهوية السودانية .وهذا ما جعل عبدالحي ينفي أن تكون هناك مدرسة شعرية باسم الغابة والصحراء يف حوار أجري معه ،ظنه البعض تراجعاً عن فكرة الغابة والصحراء. وعندما نادى دعاة األفروعربية بالعودة إىل «سنار» كرمز للتعبري عن واقع حال الهوية السودانية ،مل يقصدوا بذلك العودة إىل منوذج الدولة الدينية الذي كان مطبقاً يف مملكة سنار ،كام مل يقصدوا تجاهل الحضارات واملاملك السودانية السابقة عىل سنار .وإمنا هدفوا ببساطة إىل تقديم منوذج من تاريخ السودان يرمز ويعبرّ عن التعايش والتامزج السلمي بني الثقافات السودانية املختلفة .وقد رأوا يف سنار الخالصة التي تلتقي عندها كل حضارات السودان القدمية واملعارصة. ويف سبيل البحث عن صيغة أكرث شمولية الستيعاب الكل املركب الذي متوج به الساحة السودانية الثقافية، أوجد نفر من املثقفني يف الثامنينيات صيغة جديدة هي «السودانوية» ،وهي ال تختلف يف طروحاتها ويف نظرتها عن «الغابة والصحراء» ،إال أنها رأت يف هذه الصيغة الجديدة خروجاً عن ثنائية «األفروعربية» ،ومن أبرز دعاة «السودانوية» الشاعر كامل الجزويل والدكتور نور الدين سايت والفنان التشكييل الربوفيسور أحمد الطيب زين العابدين. ومع ذلك ،هنالك َمن ال يتح ّمس لكل هذه الصيغ والنظم الجاملية ويفضل االكتفاء باسم السودان للداللة عىل الحال الثقافية التي ميثلها ،ومن هؤالء د .حيدر إبراهيم عيل وغريه كثرّ ،ومهام كانت الصيغ املطروحة ،ومهام تبدلت الشعارات واملواقف ستظل «الغابة والصحراء» هي الناظم الجاميل األكرث جاذبية وشاعرية يف التعبري عن واقع الهوية السودانية .فالصحراء موجودة والغابة موجودة وما بينهام السافانا كذلك ،وهل انفصال السودان اآلن إال نتيجة اختالل يف املعادلة بني الغابة والصحراء؟ إعداد فاضل أبو عاقلة
لغة اآلخر
الشعر الجزائري بالفرنسية هامش آخر لن ّوار اللوز «الفرنسية غنيمة حرب» ،هكذا وصف كاتب ياسين اللغة الفرنسية ،وهي أن شكلت منفى لبعض الكتاب الجزائريين
فإنها كانت أداة للنكاية ،وساحة لتصفية حساب ثقافي
سعيد خطيبي
«سوف تقول :عىل لسان «مالك» دوماً كلامت بالفرنسية. هذا غري مهم ألنه ميكن لكلمة الجزائر أن تنطق حتى بالصينية .نعم يا آراغون هذه هي دراما اللغة .لو كنت اتقن الغناء لغنيت بالعربية» .هكذا كتب الشاعر مالك حداد ( ،)1978-1927يف مخاطبة الشاعر الفرنيس لويس آراغون .معتذراً عن املسافة اللسانية التي فصلته عن أبناء وطنه ،ومقراً برغبته يف التعبري بالعربية .عىل غرار كثري من أبناء جيله من الشعراء الجزائريني ،أمثال كاتب ياسني ( )1989-1929ومحمد ديب ( ،)2003-1920عاش صاحب «الشقاء يف خطر» يف غربة لغة «اآلخر»، متمسكاً طوال حياته بحميمية العودة إىل لغة «األم» واستعادة كلامت «الجدة» التي ترىب عليها يف قسنطينة .روحه النضالية كانت سبباً يف توقفه عن كتابة الشعر بعد االستقالل ( ،)1962لكن ما تركه من األعامل يشهد عىل تجربة مهمة يف مسار الشعر الجزائري املكتوب بالفرنسية.
سؤال الهوية شكل موضوعاً مشرتكاً يف نصوص الشعر الجزائري املكتوب بالفرنسية ،بدايات القرن املايض .العيش الحس الوطني ،اجتمعا تحت وطأة االستعامر ،وبداية بروز ّ لتنمية الوعي السيايس لدى بعض الشعراء ،والزج بهم يف أسئلة الواقع .جاءت نصوص جون موهوب عمروش (« )1962-1906محملة بالتيه والحب والتأمل الكوين ،بحثاً عن تناغم بني عنارص الحياة ،ومحاولة التنقيب يف الهوية األمازيغية» يعلق الشاعر الطاهر جاووت (اغتيل عام .)1993جون عمروش هو أول من أخرج الشعر الجزائري، من املحلية إىل الكونية .عاش شاعراً وصحافياً وجد مقرب من األوساط األدبية بالجزائر العاصمة وباريس .ولعب الشاعر نفسه ،رفقة شقيقته الشاعرة والقاصة مارغريت عمروش، دوراً مه ًام يف الحفاظ عىل املوروث الشفوي ،يف الثقافة االمازيغية ،من اشعار وحكايات .ففي مجموعته الشعرية االوىل «رفات» ()1934 نلتمس مزاوجة بني تأثريات الحركة الشعرية
مالك حداد :الشقاء يف خطر
113
لغة اآلخر
الفرنسية بداية القرن ،وترسبات الثقافة الشفوية .فقد رشعت «رفات» الباب واسعاً لبدايات الشعريات املكتوبة بالفرنسية يف الجزائر.
ال نجم بعدك اليوم
رفاقي الهالكني »…«/وداعاً مرشدة باغتها الربد /أنا مستعد للهالك /برشط أن ال يهلك/ رفاقي يف عزلة /برشط أن تذكرين أمي /وسط الحشد/برشط أن أحفظ ذكرى راسخة/ عن موتك» يكتب يف «فراق جسد» .عاش كاتب «متمرداً» عىل معايري األدب ،ومركزية الثقافة يف الجزائر وفرنسا .كرس كثرياً من املسلامت وأنشأ فضاء إبداعياً يخصه وحده. ففي سنوات السبعينيات والثامنينيات ،ملا انخرط كثري من الشعراء يف حمى الغناء واإلشادة بالنهج االشرتايك ،والتهليل ملكاسب الثورة الزراعية التي قادها الرئيس هواري بومدين ،عىل غرار الشاعرين جامل عمراين ومولود عاشور ،حافظ كاتب ياسني عىل مسافة فاصلة بينه وبني السلطة ،وبقي «Persona no »grataحتى آخر أيام حياته.
ملا نرش كاتب ياسني مجموعته الشعرية األوىل «مناجاة» ( ،)1946التي أمتها يف السجن االستعامري (بعد مشاركته يف مظاهرات 8مايو/ايار ،)1945مل يكن يعلم أنه سيكون أصغر شاعر يف البالد ،حيث مل يكن يتجاوز حينها سن السابعة عرشة .كاتب الذي اشتهر برواية «نجمة» ( )1956بدأ حياته األدبية شاعراً ،متأثراً مثل جون عمروش ،بالثقافة الشفوية ،مستمداً نصوصه من تقلبات الحياة اليومية ،وانخراطه يف الحركة النضالية العاملية .مل يكن يهتم كثرياً بالنرش ،مكتفياً بنرش مجموعة يا يحيى خذ الشعر ،وال تبال وحيدة ،وظلت نصوصه ،طيلة عقدين من الزمن ،مشتتة عىل صفحات الجرائد واملجالت ،وكادت أن تضيع لوال جهد جون سيناك «االبن الضال» للشعر الجزائري خاض كل املعارك ،وفقد أقرب األصدقاء إليه ،شكل جرساً بني جيل الناقدة الفرنسية جاكلني آرنو ،التي جمعت كل نصوص املؤسسني وجيل ما بعد االستقالل ،ورحل ،يف األخري، كاتب ياسني «الشعرية ،النرثية واملرسحية» يف كتاب واحد كالغريب ،يف مغارة باردة ،حتى ظن بعضهم أنه كان (« .)1986نجمة» املرأة األسطورية ،بنت العم ،العشيقة، ً صعلوكا ال أكرث ،وكتب جامل الدين بن الشيخ يف تأبينه: رمز الوطن الحر ،وذاكرة األجداد ،هي املعلم الثابت، ً ومؤرش بوصلة تجربة كاتب ياسني الشعرية .هي الحارض يف «العنف وحده من يضع حدا لحياة الشعراء» .رغم أصوله اإلسبانية ،فإن جون سيناك ارتبط بالجزائر وبخيار االستقالل نصوصه الشعرية ،واملتجلية يف أكرث من صورة« .اعتقدت أكرث من بعض الجزائريني أنفسهم« .كان أكرث وطنية أنك خالدة مثل الريح ،مثل املجهول /ها أنت تضيعني من أولئك الذين يتحدثون اليوم عن الجزائر « »..اغتيال وأضيع أنا وتستحي أن تطلب مني البكاء» .يكتب يف نص سيناك قضية دولة تتحمل مسؤوليتها الجهات السياسية «نجمة أو الشعر أو السكني» .كان كاتب ياسني يكتب الرسمية» يقول الشاعر حميد سكيف .أسس جون سيناك، نصوصه الشعرية ،عىل هامش الحياة العادية ،يرتاسل مع مطلع األربعينيات من القرن عشيقته «املستحيلة» نجمة املايض ،حلقة شعراء يف الجزائر ويتخاطب مع العامل ويجهر العاصمة واطلق ،بإمكانياته الخاصة بسخطه عىل الساسة بقصائد لو كنت اتقن الغناء والبسيطة ،مجلتي «شمس» ملونة بالحب والغضب« .رفاقي لغنيت بالعربية و«سطوح» األدبيتني ،وأدار أول ليسوا بعيدين عني /لكنك بقيت مالك حداد برنامج إذاعي متخصص يف الشعر هنا وأنا من سيسهر بجانبك/ عام ،1948الذي ضم فريق عمله أنا تائه وأنت أيضاً /تطلب مني أسامء مهمة ،أمثال محمد ديب، الركض /قبل سامع سقوط/ 114
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
الشعر الجزائري بالفرنسية
أوبرات سمرية
الجيل الجديد من الشعراء مل يتوقف عن الكتابة والنرش، كام مل ينكر العالقة التواصلية التي تجمعه مع جيل اآلباء. سمرية نقروش ( 33سنة) ،واحدة من أكرث األسامء النسائية حضوراً يف الشعر الجزائري الحديث .منذ باكورتها «الضعف ليس أن تقول »2001« »..وصوالً إىل مجموعتها األخرية «جاز الزيتون» ( )2011مروراً بـ«األوبرا الكونية» (،)2005 عربت الشاعرة عن صوت «االختالف» ،عن رغبة التجديد واختالق لغة شعرية متحركة ،ترفض التقيد بالقواعد الشاعرة سمرية نقروش ً واملعايري الزمنية .تكن الشاعرة كثريا من االحرتام لتجربة الراحل جامل عمراين وتقول« :ما يربطني بالشعر هي رغبة مولود معمري وآلبري ميمي .عام ،1954ملا نرش مجموعته االستمرار يف الكتابة .أعرف شعراء اختاروا طريق الشعر، الشعرية األوىل «قصائد» عن دار غاليامر يف باريس ،كتب الشاعر الفرنيس الشهري رينيه شار مقدمة برش فيها مبيالد نرشوا مجموعات شعرية ،وما يزال يراودهم هم كتابة «جيل االنقالب» األديب يف الشعر املغاريب .االنقالب يف حياة نص شعري أخري يخلدهم بعد رحيلهم» .أصدرت نقروش، جون سيناك مل يتوقف عىل كتابة منذ أسابيع ،أنطولوجيا جديدة الشعر ،بل أيضاً عىل مستوى للشعر الجزائري الحديث ،تحت العالقات مع اآلخرين ،حيث أكتب بالفرنسية ألقول عنوان «حني يزهر اللوز مجدداً»، مع قطع عالقته بشكل علني جمعت فيها أحد عرش شاعراً ،من للفرنسيين إني لست ألبري كامو ،بسبب تأخر هذا جييل املخرضمني والشباب ،أمثال فرنسي ًا األخري يف اتخاذ موقف مساند الحبيب طانغور ،حميد تيبويش، للثورة التحريرية ،قبل أن يسهم كاتب ياسين محمد سحابة ،ميييل غبالو وأمني يف تأسيس نواة اتحاد الكتاب ايت الهادي .أسامء ليست بالرضورة الجزائريني عام 1962ويلتقي تحرص كل تجارب الشعر الجزائري ،لكنها تعكس تنوعاً يش غيفار ويطلق مجلة شعرية أخرى اسمها «نوفمرب» .ثم جيليا وتعدداً يف الرؤى ويف العالقة مع الكتابة الشعرية يصدر أول أنطولوجيا للشعر الجزائري ،املكتوب بالفرنسية، إجامالً. عام ،1971التي قدمت أسامء شابة حينها ،ما تزال تكتب «أنا أكتب بالفرنسية ألقول للفرنسيني إين لست فرنسياً» وتؤثث املشهد الشعري الجزائري اليوم ،عىل غرار حميد هكذا تحدث الشاعر كاتب ياسني .الفرنسية مل تكن نارص خوجة ،وأسامء أخرى رحلت منذ فرتة ليست بعيدة، «ملجأ» وال «معرباً» لبلوغ قارئ آخر .هي حتمية فرضتها أمثال يوسف سبتي .املميز يف تجربة سيناك إنه كان يوقع وقائع تاريخية أنجبت أجياالً متعاقبة من مثقفني وشعراء نصوصه بأسامء مستعارة ،غالباً أسامء عربية مستمدة من كاتالوغ األهايل ،أشهرها «يحيى» الذي اختاره املرتجم محمد جزائريني ،يكتبون بلغة «املستعمر القديم» ،انطالقاً من حياتهم وسط األهايل ،ومن عالقتهم مبوروث شعبي ،ومن بوطغان عنواناً لرتجمته ألعامل سيناك الشعرية« :شموس تواصلهم مع ماض متحول ،يف جزائر مل تعرف استقراراً ثقافياً يحيى الوهراين». وهوياتياً طوال القرون الثالثة املاضية 115
بورتريه الظل ّ محمد القيسي الشاعر ّ
الرّصيف أجمل من البيت
تحل هذه األيام ذكرى رحيل الشاعر محمد القيسي .شاعر من طينة الشعراء الجوالين ،عاش حياته ً مخيما من حول نتاجه إلى اليوم بالكتابة والترحال ،ثم رحل بصمت ظل
يوسف عبد العزيز
زمن
طويل م ّر عىل موت ّ الشاعر الج ّوال مح ّمد القييس! يا إلهي تسع سنوات كاملة م ّرت ،ومل ي ُلح وجهه األسمر يف مقهى أو رصيف، الصعاليك كام أسامه لقد هدأت عواصفه إذن ،وغاب أمري ّ الشاعر محمود درويش ،غابت عائلة املشاة التي كان يقودها يف تخوم الشعر الغامضة .ومبوته تشتّت شمل تلك العائلة ،أ ّما هو فقد انتهى من تطوافه ،لريقد يف تلك الحفرة الترّ ابية ّ الضئيلة ،بجانب قرب أ ّمه حمدة ،الواقع عىل أطراف ماّ بلدة ال ّرص ْيفة القريبة من ع ن. األمر الذي يغيظني وأنا أكتب هذه العجالة يف ذكرى وفاة واجه هذا الشاعر الكبري ،هو ذلك ّ الصمت املطبق الذي ُت َ واملؤسسات الثقافية به تجربته ،من ِق َبل املث ّقفني العرب ّ العربية عىل ح ٍّد سواء .لقد ذرع القييس بخطواته ساحات العواصم العربية ّ بالطول والعرض، لقد ّ ظل متوهّ جاً حتى ال ّرمق األخري من حياته ،وترك وراءه أكرث من أربعني عم ًال تو ّزعت ما بني الشعر والسرية الذاتية والنّصوص والرواية ّ املفتوحة .ومنذ وفاته التي مت ّر ذكراها هذه األ ّيام ،مل يقم أحد تقريباً أو جهة ثقافية ما بطباعة املخطوطات التي تركها ،أو بإعادة نرش كتبه ،أو حتى باستذكاره! يف مخ ّيم الجلزون القريب من
116
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
تم طرده مدينة رام الله نشأ محمد القييس ،وذلك بعد أن ّ عام ،1948من مسقط رأسه «قرية كفر عانة» قضاء يافا. يف الرابعة من عمره كان ،حني انتشلته أ ّمه تحت وابل القذائف الصهيونية ،وف ّرت به وبأخواته إىل ما بات ُيع َرف ّ بالض ّفة الغربية .كان أبوه قد تويف قبل ذلك بسنتني .وهذا ما فاقم وضع األرسة ،ودفع ّ بالشاعر ليواجه قسوة الحياة. يف الطفولة سوف يلتقي ّ بالشعر مصادفة ،إذ ّإن حادثة بسيطة وقعت معه ،وخلقت منه شاعراً :يف إحدى جلساته مع أقرانه من أطفال املخ ّيم ،الذين كانوا معجبني بثقافته، قال لهم القييس فجأة إ ّنه شاعر .طلبوا منه أن يقرأ قصيدة من شعره ،فقال لهم غداً تسمعونها .مل يكن القييس قبل ذلك قد كتب ّ الشعر ،وهكذا فقد عاد إىل البيت مب ّكراً يف ذلك اليوم ،وسهر طوال الليل عىل تأليف قصيدته األوىل. الصباح التايل التقى القييس الطفل يف ّ بأصدقائه وفاجأهم بالقصيدة. دروب الشاعر يف اإلعدادية نرش أوىل قصائده يف ثم ما لبث جريدة املنار املقدسيةّ ، أن نرش قصائده بعد سنوات يف مج ّلة «األفق الجديد» ،تلك املج ّلة األدبية ال ّرائدة التي كان مق ّرها يف مدينة القدس ،ويرشف عىل تحريرها الشاعر أمني شنّار ،والتي كانت منرباً ثقاف ّياً
محمد القيسي
محمد القيسي ّ
خماسية الموت والحياة
الصعيد العريب ،فقد كانت تنرش عمر شبانة ،باإلضافة إىل النّاقد األديب فخري متم ّيزاً عىل ّ صالح .قريباً من هذه العائلة كان النّاقد ليس للشعراء الفلسطينيني واألردنيني فحسب، وإنمّ ا ألسامء عربية مه ّمة أيضاً مثل أدونيس حسان أبو غنيمة ،الشاعر إبراهيم السيناميئ ّ أبو هشهش ،القاص يوسف ضمرة ،الشاعر وعبد الوهّ اب البيايت وخليل حاوي وصالح شعر الصبور وملك عبد العزيز وخليل خوري محمد شالل ،وآخرون .يف هذه الفرتة كنّا عبد ّ ّ وغريهم .بعد ذلك انتقل القييس لينرش قصائده نلتقي بشكل شبه يومي ،لنذرع الطرقات، ماّ ّ يف عدد من املجالت العربية املعروفة ،مثل «اآلداب» ونذهب إىل مقهانا الخاص «الشهرزاد» وسط مدينة ع ن، السنوات يشري القييس فنبقى هناك إىل أن يحل الليل .حينها نبدأ فص ًال جديداً من البريوتية و«شعر» املرص ّية .عن تلك ّ إىل عالقته التي ّ ّ فنستقل مجموعة التّجوال .أحياناً كنّا نضجر من املدينة، توطدت مع جامعة األفق الجديد ،التي من العربات ،وني ّمم شطر الغابات الواقعة إىل ّ الشامل من تضم ك ًال من :الشاعر فايز ُص ّياغ ،الشاعر عبد ال ّرحيم كانت ّ ماّ السواحري ،القاص محمود شقري، ع ن .أجمل هذه العربات كانت تلك العربة البيضاء التي عمر ،القاص خليل ّ وآخرين ،هذا باإلضافة إىل رئيس تحرير املج ّلة الشاعر أمني أطلقنا عليها اسم «مركبة كنعان» ،والتي كانت تقودها شنّار .الشاعر الذي كان أكرث قرباً إليه يف هذه الجامعة هو السنوات غن ّية نادية صديقة الشاعر عمر شبانة .كانت تلك ّ نلم القصائد موىس رصداوي ،الذي بات يش ّكل معه ثنائ ّياً شعر ّياً ،والذي يف الكتابة ،وقد ع ّلمنا القييس أثناءها كيف ّ من ّ الطرق! ال ّرصيف أجمل من بيت ،كان يقول ،ويضيف: سيهاجر معه بعد وقت قصري لإلقامة يف الكويت. منذ هجرته إىل الكويت عام ،1964انفتحت الدّروب ال ّرصيف حر ّية والبيت قيد. أمام ّ الشاعر الج ّوال ،الذي أصبح ال يستق ّر به املقام يف عام ،1984ق ّرر ال ّذهاب إىل تونس ،والعمل يف اإلعالم بلد ،حتى يرتكه إىل بلد آخر .يف العام ،1967ومع تصاعد الفلسطيني .اإلقامة يف تونس و ّفرت له ج ّواً من العزلة، ّ ومكنته من إنجاز عدد من الكتب .يف ّ الشعر كان شتات وترية الكفاح املس ّلح الفلسطيني ،جاء من الكويت إىل الواحدّ ، كل ما هنالك ،ويف النرث كان كتاب حمدة وعائلة األردن ،ليلتحق بال ّثورة الفلسطينية .سنوات قليلة وارتحل السعودية فليبيا حيث عمل يف املشاة .اإلقامة يف تونس أيضاً م ّكنته من رؤية األندلس إىل سوريا فالعراقّ ، ثم إىل ّ الصحافة والتّدريس .يف العام 1977عاد إىل األردن وعمل يف واإلطاللة عىل املدن األندلسية املعروفة مثل غرناطة، تم فصله من إشبيلية ،قرطبة ،ملقة ،ومدريد ،هذا باإلضافة إىل زيارته ّ ثم يف التّلفزيون لفرتة قليلة ،حيث ّ الصحافةّ ، ّ الخاص، لبيت لوركا .كل ذلك دفعه الكتشاف أندلسه السوداء ّ ّعسفّ ، وتم وضع اسمه يف الالئحة ّ عمله مبنتهى الت ّ الغارق يف مياه روحه ،وتف ّقد تضم عدداً كبرياً من التي كانت ّ ّ موجوداته املنذورة ّ الشخص ّيات الوطن ّية ،التي كانت للضياع. األجمل السبع نوات الس ّ ممنوعة من دخول مبنى التلفزيون. أوائل التّسعين ّيات عاد إىل عماّ ن، في حياته ،قضاها استق ّر القييس يف األردن حتى العام ثم ومكث فيها مدّة ثالث سنواتّ ، ما لبث أن هاجر إىل لندن التي السبع التي السنوات ّ .1984تلك ّ مع تلك الكتيبة من قضاها يف عماّ سيقيم فيها حتى العام ،2000 هي كانت ا ر ن، بمّ ّ عاليك الص عراء الش ّ السنوات األجمل يف حياته ،وحياة يف لندن سيواصل حأمة الكتابة، ّ التي كان يقودها ،أو تلك الكتيبة من ّ الصعاليك وسيذهب هذه امل ّرة إىل السرّ د الشعراء ّ التي كان يقودها .كانت الكتيبة حيث سيكتب روايته «الحديقة عائلة المشاة كما كان الرسية». له أو عائلة املشاة كام كان يحلو ّ يها يسم أن له يحلو ّ أن يس ّميها ،مش ّكلة من الشعراء: بعد العام ،2000استق ّر يف يوسف عبد العزيز ،يوسف أبو لوز، عماّ ن ،وقام بعدد من الجوالت 117
بورتريه الظل
من أعامل الفنانة سامية حلبي
وعليك أن متر عىل القييس هذا املساء ،لتصطحبه معك يف فلسطني ،فذهب إىل رام الله وغزّة ،وعكف عىل كتابة ّ روايته التالية «رشفة يف قفص» ،التي يدور فضاؤها يف كل يف العربة ،وتجيئا إىل البيت .وبالفعل ،ففي ذلك املساء من عماّ ن ورام الله وغزّة ولندن ،والتي سينرشها قبل وقت كنت أنا والقييس يف بيت عبدالله ،وأجرينا الجزء األ ّول من قصري من وفاته. الحوار .يف األ ّيام الثالثة التالية أكملت الحوار مع الشاعر محمد القييس يف مقهاه األثري الذي اعتاد الجلوس فيه يف ّ اللقاء مع املوت الشميساين .يف اليومني التاليني انهمكت يف تفريغ الحوار ثم بعثت به إىل مج ّلة عماّ ن. يف ذلك اليوم األسود ،يف التاسع من نيسان من العام ،2003وتحريرهّ ، جنّ جنون الشاعر محمد القييس ،وهو يرى من خالل شاشة يف العرشين من شهر ّمتوز هاتفني الشاعر محمد القييس، التلفاز ال ّد ّبابات األمريكية ،وهي تجوب شوارع بغداد، وشكرين عىل الحوار الذي رآه منشوراً يف مج ّلة عماّ ن .قال وأحب أهلها ّ للسفر غداً الط ّيبني .مل يحتمل القييس بغداد التي أح ّبها ّ يل :متى سوف نلتقي؟ قلت له :أنا مضطر ّ الكارثة التي وقعت ،فانخرط يف نوبة حادّة من الصرّ اخ، صباحاً إىل حمص ،فأنا مدع ّو للمشاركة يف أحد املهرجانات أطاحت به وأدخلته العناية ا ُملركزة يف أحد مستشفيات هناك ،وفور عوديت أهاتفك ،وداعاً .يف حمص ا ّتصلت يب عماّ ن .أ ّيام وخرج من املستشفى ،وحني علمنا باألمر قمنا زوجتي لتبلغني بالكارثة :صديقك القييس يف العناية ا ُملركزة، بزيارته يف البيت ،أنا والقاص محمود الرمياوي والشاعر وتوجهت يف الحال إىل عماّ ن. فقطعت زياريت ّ ماّ القييس والقاص رسمي أبو عيل ،والكاتب صالح حز ّين .كان يف مستشفى األردن يف ع ن كان الشاعر محمد القييس يبدو بكامل بهائه ،وكان قد أع ّد لنا مائدة طعام فيام يشبه ممدّداً عىل السرّ ير كمالك حائر ،سقط فجأ ًة يف الشرّ ك. ثم إنيّ أنوي كان جسده املنهك موصوالً بعدد كبري من األنابيب التي العشاء األخري .خذوا ما تريدون من الكتب قالّ ، ّ الفيض ومسدت شعره ال ّت ّربع مبكتبتي ألحد أندية املخ ّيامت الفلسطينية .قال تلك كنت أجهل كنهها .وقفت بجانبهّ ، العبارة فالتفتنا إىل بعضنا بعضاً بنظرات ملؤها ال ّذهول! ثم ناديته :قم يا صديقي مح ّمد ،لنذهب إىل املسرتسلّ ، أواسط شهر حزيران من العام ،2003ا ّتصل يب الصديق عبد املقهى .مل يجب القييس ع ّ عيني يل ،فأظلمت الدّنيا يف ّ ورصخت :أرجوك ّ الله حمدان رئيس تحرير مج ّلة عماّ ن ،وقال يل :أريد منك كف عن هذا املزاح الثقيل معي ،وانهض، أن تقوم عىل الفور بإجراء حوار مع ّ الشاعر محمد القييس .لنذهب إىل املقهى .عندها تقدّم منّي الطبيب ،وأخذين ُ ثم ألقى ع ّ قلت له :أرجوك ،أ ّيها الصديق! وهل هذا وقت مناسب الصاعق :صديقك يف يل بالخرب ّ خارج الغرفةّ ، ً ّ إلجراء الحوارات؟ أال ترى بغداد؟ ر ّد عيل عبد الله قائال: حالة غيبوبة كاملة ،وقد ماتت قرشة الدّماغ لديه ،أ ّما نسبة األمر خطري ،هذا الصباح كنت قد قرأت القصائد الجديدة شفائه فهي ال تتعدّى خمسة باملائة! القييس التي أرسلها إ ّيل القييس ،وشممت منها رائحة املوت، يف األ ّول من شهر آب من العام 2003مات القييس، يا يوسف يريث نفسه ،وأضاف :لقد هاتفته ،وطرحت عليه وش ّيعناه إىل مقربة الرصيفة ،لنضعه هناك بجوار قرب أ ّمه فكرة الحوار فوافق ،واشرتط ع ّ يل أن تقوم أنت مبحاورته. حمدة ،مثلام أوصانا ذات م ّرة .يف ذلك اليوم انطفأ كوكب ّ الشعر يف سامء عماّ ن ،وتيتّمنا متاماً قلت له :سأقوم بإجراء الحوار .قال :لقد ر ّتبت كل يشء، ّ 118
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
حاشية
.
حسن نجمي .............................................................................................................
ال
جة يك ْ يت في ط ْن َ ِب ِ
أعرف ما إِذا كانت زيارة َص ْم ْ ويل ِبي ِك ْ يت إىل مدينة طنجة سنة 1978هي آخر زيارة له إىل املغرب ،ولكنها زيارة ال ُتنْىس َ َ َ َ َ َ بعض وسوف ال ُتنْىس أَبداً .لقد تركت أث َر ْين عىل األقل ،أولهام ما ك َت َبه من نصوص شعرية ذات نفس َشذري ،من َو ْحي ِ فضاءات املدينة أو رمبا كان قد جاء إِليها ل َي َضع فيها بعضاً مام كان يف خاطره من شعر .وثانيهام الصور الجميلة ا ُملد ِْه َشة الح َقه يف عد ِد من أَزقة طنجة ومنعرجاتها ،وهو يتجول طوال الوقت التي التقطها له أَحد الفوتوغرافيني الفرنسيني ال َّبا َّبارا ْت ِزي الذي َ بلباس ِج ِّد ّ العب كرة قدم وقميص صيفي أزرق بنصف ُك ّم أو قميص ُبنّي برفقة زوجته ،وغالباً ِ متقش ٍف (رسوال قصري جداً مثل ِ خفيف ،ومحفظة من قامش ،ونعال جلدية منْ ريح). ً َّ قامة نحيلة جدا مثل ظل ضئيل من نحاس ،ونظرات ذئب تتخفى خلف نظارات سوداء .يتقدم زوجته غالبا ،يف حركات ساهية تحتفي بالفراغ وال تحفل بالوجود واملوجودات من حوله .وطنجة حواليه تحاول ْأن تواصل استثامر ذاكرتها الثقافية واألدبية الكونية الرثية وتضيف اسمه إىل سجالتها الرسية .من هنا مر شعراء وكتاب وفنانون كبار :دوالكروا ،موريس رافيل ،ماتيس ،روالن بارت ،جان جونيه ،تينييس وليمس ،غينسبريغ ،بوراوز ،غريغوري كورسو ،غايسن ،ترومان كابوت ،ماك جايغر ،...وهنا استقر بول باولز وأسلم الروح ،وهنا كان يرتدد عليه كتاب وصحافيون كبار. يف كتابه «لقاءات مع صمويل بيكيت» ،يسجل الكاتب الفرنيس شارل جولييت لقاءاته االستثنائية مع اإليرلندي الكبري ،لكن لقاءهام األول يظل األكرث وطأة يف النفس والذاكرة .ينقر الفرنيس الشاب (لكان ذلك يف أكتوبر )1968عىل األنرتفون .يدعوه بيكيت إىل الصعود .وعندما يخرج من املصعد ،يجد نفسه قبالته ،تقريبا وجها لوجه ،يف املمىش .يدخالن الشقة ،ثم إىل مكتب بيكيت .يتخذ شارل مكانا له عىل أريكة صغرية أمام الطاولة التي يشتغل عليها اإليرلندي بينام جلس هذا األخري عىل مقعد دوار متحركا مينة ويرسة. كان بيكيت اتخذ الوضعة املعتادة لديه ،وقد بقي جالسا بدون أن يفعل شيئاً :الساق عىل الساق ،الذقن يف اليد ،الظهر منحن، والعينان تحدقان يف أرضية الحجرة. يستقر الصمت .يعرف الكاتب الشاب (الشاب آنذاك) أنه لن يكون سهال قطعه .ويتذكر شارل جولييت فجأة ،وليس دون قلق ،أن موريس نادو سبق أن قال له إن بإمكان بيكيت أن يلتقي أحدا ويغادره بعد ساعة أو ساعتني من ذلك بدون أن يكون قد تبادل معه كلمة واحدة! وأتذكر – أنا أيضا – بيكيت ،يف طنجة ،حني جاء إىل املدينة وقد انطفأت .كانت قد انرصفت عنها أسطورتها .هل جاء يقتفي آثاراً غامضة أو بحثاً عن صمت كان قد بدأ يفتقده يف باريس ؟ جاء إىل طنجة وقد تهدمت ،ومسخت ،وتخىل عنها زمنها الكوسموبوليتي .رمبا بسبب ذلك جاء ،فمثله من يدرك املعنى الذي توفره األمكنة املقفرة أو املدن التي يداهمها التصحر أو تعصف بها روح قيامية .ولعل الفوتوغرايف كانت منتبها إىل الغور العميق لنظرة بيكيت ،إذ ال نعرث لإليرلندي يف طنجة عىل صورة يف ساحة جميلة أوقرب واجهة أو بجوار معامر متميز أو خلفية تاريخية .دامئا ،يف كل صور الكتاب ،نراه مبحاذاة جدار محفر ،أو يف زقاق جانبي ،أو قرب حانوت فقري ،أو فوق سكة حديد. دامئا ،يف خواء طنجة .هناك حيث كان قد بدأ يتحدث عن الشيخوخة التي كان يتمنى أن تكون منصفة وحيوية ،وال تقعد الجسد النحيل عن كثافة أدائه. يف كتابه «قصائد» (منشورات مينوي ،باريس )1978/1999يذكر طنجة بخري ،وإن كان ال يستحرض منها إال املقربة واملوت واملوىت والغائبني .أراه مييش مرتدد الخطوة يف قصائده ،يف شذراته املسرتسلة يف طنجة (أو من وحيها) .مثة جنون .وصمت .وجامجم. وشخص بال صدغني ،بال أسنان (لعله هو) .ثم مثة كلب صغري أخرض 119
حوار
عبدالعزيز المقالح
الحداثة برهان حقيقي على المستقبل
يحضر اسم الشاعر عبد العزيز المقالح على المستوى العربي
ضمن قائمة الرواد الكبار ،الذين تحملوا مشقة التأسيس بدأب
لحداثة شعرية وخطاب نقدي متقدم. ً بعدا يتجاوز الجانب اإلبداعي إلى الجانب الرمزي فيما يكتسب حضوره في اليمن
الذي يمثله شاعر ما في مخيلة مجتمعه .إذ استطاع أن يجعل صورة الشاعر والمثقف تحظى في الذاكرة الثقافية المعاصرة بمكانة تعلي من قيمة الشعر
والشاعر في وعي الناس وفي مخيلة أجيال على مدى العقود األربعة الماضية .أي األجيال التي تخرجت من جامعة صنعاء التي ترأسها لسنوات ومارس التدريس
فيها وال يزال حتى اآلن.
«بيت الشعر» التقته في صنعاء وأجرت معه هذا الحوار
حوار :أحمد السالمي
120
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
عبد العزيز املقالح 121
حوار
العامرة التي يسكنها وبدأ يبيع بعض االحتياجات اليومية يتداول القارئ العريب اسم عبدالعزيز املقالح كأيقونة شعرية من جنوب شبه الجزيرة العربية .كأن صاحب االسم لسكان الحي ،كربيت ،سجائر ،صابون ،مرشوبات غازية ،ومل مي ّر سوى وقت قصري عىل هذا الجار حتى كان قد اشرتى خلق ليك يكون ما هو عليه وما ميثله ..متى اكتشفت أن عىل الشاعر أن يحرس جذوة الشعر ويحوطها بسياج يحمي البيت الذي يسكن فيه وبدأ يف تحويل الدكان الصغري إىل «سوبرماركت» كبرية وكثرياً ما ميازحني هذا الجار بقوله: دفء التجربة وال يعزلها؟ َ ما الذي أفدت من القراءة والكتابة ،فأقول :ما ال تستطيع منذ بدأت أشعر بأهمية الشعر الحقيقي ،واكتشف ما تصوره .وكم هممت أن أرد عىل سؤاله مبقولة ذلك الصويف ينبض به عامل الكلمة وما يفيضه عىل الروح والوجدان من الذي قال :لو عرف امللوك ما نتمتع به من طأمنينة وراحة إحساس ،بأن يف إمكان اإلنسان أن ينحت من اللغة ما بال لقاتلونا عليهام بسيوفهم .وكذلك هو حال الشعراء يجسد فيها وبها معنى جديداً وصوراً مل تكن موجودة يف الذين يغمرهم الشعر بلذائذه ودفء مجازاته. الواقع ،وما كان لها لوال الشعر أن توجد عىل اإلطالق .أما «ال بد من صنعاء» كان ديوانك األول الذي صدر عام متى فال أدري ،لكن حاولت وقد أكون نجحت يف أن ال 1971م ،ويف أواخر التسعينيات منحت هذه املدينة عصارة أقطع صلتي بهذا اليشء الجميل املسمى بالشعر ،وأن ال شعرية أخرى متثلت بـ»كتاب صنعاء» .كام أنك مل تغادرها أترك مشاغل العمل الوظيفي وشواغل الحياة تبعدين عنه، عىل ما يبدو منذ عودتك إليها من القاهرة بعد انجاز بوصفه املعنى الكبري املتبقي من رحلة الحياة القصرية رسالة الدكتوراه .كيف ترصد تحوالت شغفك بصنعاء؟ هل واملفعمة مبا يروق قلي ًال ومبا ال يروق كثرياً ،وال أخفي أنني كنت ،أحياناً وليس دامئاً ،مع هذا املخلوق اللغوي الجميل ،هي «جامليات املكان» ،بحسب عنوان للمثقف الفرنيس «غاستون باشالر» ،كانت حافزاً لحضور صنعاء يف شعرك أشعر بخدر لذيذ لحظة البدء يف الكتابة ولحظة االنتهاء وحضورك فيها؟ أم أن للمخيلة أمكنتها التي ال تشيخ وال منها ،كام أنني مقتنع بأن الكتابة اإلبداعية ستبقى مصدر يكسوها غبار الزمن؟ شعور باللذة التي ال تقاوم. صنعاء مدينة ال يختلف اثنان عىل أنها واحدة من أهم املدن يف العامل ،ليس لعراقتها ومعامرها الفريد فحسب، البد من صنعاء ً وإمنا لطقسها أيضا ،هذا الذي يجعلك من دون مبالغة هل مثة ما يخرسه املرء أو يضحي به عندما يهب حياته تعيش يف ربيع دائم فال تشعر بربودة للقصيدة؟ هل نقول إن الجوائز الشتاء وال بحرارة الصيف ،شتاء دافئ التي يحصل عليها الشاعر أهم الثقافة حديث ومشمس ،وصيف غائم وممطر. تعوضه عن بعض الخسارات ً وبعيدا عن الشعر والعاطفة ،مدينة والتضحيات؟ بكثير من تحديث صنعاء ساحرة ومسحورة لغري أبنائها أن تكتب قصيدة جيدة يف هذا المباني والطرقات هؤالء الذين ألفوا مبانيها وأزقتها، الزمن املوحش البد أن تعوضك ومل يعودوا يسمعون ما يتصاعد من واألثواب وأشكال عن كل ما ينالك يف الواقع من جدران البيوت العتيقة من موسيقى خسائر ،فالكتابة عامة ،وكتابة الطعام ،وأي تغيير في التاريخ وأغانيه اآلرسة ،وبالنسبة يل الشعر خاصة تحمل من املتعة الواقع يقتضي بالضرورة ال أنىس االنطباع األول الذي تك ّون والشعور بالرضا ما ال يقاس لدى طفل قروي يقرتب من هذه بيشء من متع الحياة .وأتذكر، تغيير ًا مماث ً ال في دنيا املدينة وهو يف السادسة من عمره، باملناسبة ،جاراً يل سكنت معه واإلبداع الثقافة ويدخلها يف منتصف النهار بعد أن يف الحي الذي نعيش فيه معاً، رآها من بعيد تلمع تحت أضواء وقد استأجر دكاناً صغرياً يف 122
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
عبد العزيز المقالح
الشمس مبآذنها السامقة ومنازلها املطلية باللون األبيض وما تعكسه رشفاتها املنمنمة ونوافذها الزجاجية من بريق ّأخاذ ،ذلك االنطباع ترسب يف ذهن ذلك الطفل الذي هو أنا ،واستمر يتوهج يف الذاكرة حتى بعد أن رصت شاباً ورج ًال وكه ًال .ومن ذلك االنطباع األول أغرتف تجاريب الشعرية عن هذه املدينة الجميلة .وما أكرث الساعات التي كنت أمضيها عىل سطح بيتنا القديم ذي الطوابق الخمسة أتأمل مأخوذاً هذا التناسق العجيب بني البيت واملئذنة .بني الجبال والسور الذي كان يحيط باملدينة من جميع الجهات. لقد زرت أغلب املدن العربية ،وكثرياً من املدن األوروبية، ومل ترتك واحدة منها يف نفيس شيئاً من ذلك االنطباع الذي تركته صنعاء عندما رأيتها ألول مرة ،وكنت أسأل نفيس هل كان من الرضوري أن أعود طف ًال ليك أحظى بيشء من ذلك االنطباع الذي منحتني إياه صنعاء ،وسمعت الجواب الذي يقول «ال» من شقتي مبدينة اإلسكندرية التي دخلتها ألول مرة يف أواخر الخمسينيات من القرن املايض ،وأنا يف ً العرشين من عمري تقريبا فقد استطاعت تلك
املدينة التاريخية العتيقة أن تعيد إىل وجداين بعضاً من ذلك االندهاش الجميل ،وكأين سمعتها تقول يل إن العني ال تخطئ مواقع الجامل الفاتن واملثري. منذ صدور «كتاب صنعاء» اتجهت إىل الديوان/ الكتاب ،ومل يعد اشتغالك معنياً باملجموعة الشعرية التي تتعدد رؤاها وموضوعات نصوصها .هل يف االنتقال عىل هذا النحو ما ميثل موقفاً نقدياً ميكنك اإلفصاح عنه؟ ً مل يكن اللجوء إىل هذا العنوان فرارا من تعدد الرؤى واملوضوعات،وال عجزاً عن اخرتاع أو ابتكار عناوين تتامىش مع السائد وغري السائد يف الدواوين التي صدرت وتصدر تباعاً يف هذا البلد العريب أو ذاك ،لكن ما دفعني إىل هذا االختيار هو ما لـ«الكتاب» من معنى مقدس وخفي يف النفوس ،ورمبا يكون ذلك املعنى هو ما أوحى يل باالتجاه إىل هذه العنونة .فض ًال عن الرغبة يف االتجاه إىل املوضوع الواحد بأبعاده املتعددة واملتنوعة ،وبعد صدور «كتاب صنعاء» وكتاب «القرية» وكتاب «املدن» وكتاب «األم» وحالياً بني يدي كتاب «الحب» ويضم بعض القصائد العاطفية التي كتبتها يف مرص أثناء دراستي الجامعية، وال أدعي أنني الوحيد الذي اتجه نحو هذه العنونة فقد سبقني إليها شعراء كبار عرب وأجانب ،ورمبا خرجت عن هذا التقليد كام حدث يف ديوان «بلقيس» وظهوره يتوسط كتا ْيب صنعاء والقرية .وتبقى إشارة مهمة إىل أن العنوان يف األعامل الشعرية ال يهم كام يهم املحتوى ،وأن االتجاه إىل تسمية الديوان بالكتاب أو حرص رؤيته يف موضوع واحد ،ال يحمل أي موقف نقدي من أي نوع كان. بعد 15عم ًال شعرياً وما يربو عىل الثالثني كتاباً يف حقول النقد والدراسات األدبية والثقافية ..ما الذي كنت تعول عىل هذا املنجز ان يحدثه إجامالً يف بيئة الشاعر والناقد؟ هل ميكن اعتبار العالقة الوطيدة التي تربطك بالجامعة والتدريس مبثابة فضاء مالئم لقياس حصيلة هذا التعب اللذيذ؟ ً هنا ،أتفق كثريا مع أولئك الذين يقولون إن الشاعرأو الكاتب آخر من ميكن له الحديث عن منجزه سلباً
123
حوار
وإيجاباً ،وكل ما يستطيع قوله إنه حاول أن يتجاوز واقعه وأن يتغلب عىل قيود الوظيفة ليظل عىل صلة بالكتابة يف حقولها املختلفة انطالقاً من موقف وطني أوالً ،ثم من رغبة يف اإلفضاء والحديث إىل قارئ موجود أو متخيل يف معظم األحيان قبل أن تبدأ الجامعات اليمنية الكثرية يف إعداد نوع جديد من القراء الذين د ّربتهم الدراسة عىل التذوق واإلقبال عىل الجديد ،وال يزال يؤملني حتى هذه اللحظة أن العمل اإلداري يف رئاسة الجامعة قد رسق مني جزءاً ال بأس به من الوقت كنت أعده للكتابة ،وعىل العكس من ذلك كان التدريس دامئاً هو الذي يفتح يل أبواباً جديدة إىل القراءة والكتابة حتى ال يسبقني طاليب مبعلوماتهم ومتابعاتهم. عىل اعتبار أن الجامعة مخترب مالئم ملثل هذا القياس، وانت كنت رئيساً لجامعة صنعاء بني 1982و2002م ،وال تزال تحارض طالب الدراسات العليا يف كلية اآلداب .هل من تح ُّول ميكن تلمسه يف املجتمع األكادميي .عىل األقل من جهة انفتاح البحث األديب عىل النص الجديد وقضاياه العالقة ،وبخاصة ان أعاملك النقدية ومحارضاتك ظلت تبرش دامئاً بالجديد؟ من املحزن القول بأن السياسة مبعناها املتخلف قد عملت يف السنوات األخرية عىل تشويه كل يشء جميل ويف مجال التعليم العام والجامعي خاصة .إذ تم بإرصار وتعمد إبعاد الجامعة عن دورها األسايس، وإبعاد األستاذ عن رسالته التنويرية ،وإبعاد الطالب عن زرت أغلب المدن العربية، مهمته وهي االستزادة من وكثير ًا من المدن املعرفة واالستعداد لخوض األوروبية ،ولم تترك معركة الحياة بعقل ناضج ووعي مكتمل .جامعاتنا واحدة منها في نفسي اآلن ،كمدارسنا الثانوية ورمبا شيئ ًا من ذلك االنطباع، اإلعدادية واالبتدائية باتت بؤراً للتسييس وليس للتعليم ولهذا الذي تركته صنعاء هبط املستوى كثرياً عام كان عندما رأيتها ألول مرة عليه ،وهذا ال يعني أن ليس هناك أساتذة جادّون وطالب يرغبون يف أن تكون الجامعات
دوراً للعلم فقط لكن الغالبية تأىب ذلك .وأنا يف هذه اإلشارات ال أدعو إىل أن تعتزل منابر التعلم عن االهتامم بالشأن العام وعن املشاركة يف االحتجاجات والتظاهر ضد الفساد السيايس والطغيان ،ولكن يف حدود ولساعات أو أيام ال لشهور وأعوام كام حدث ويحدث. أنشأت جائزة باسمك متنح يف حقول الشعر والقصة والرواية ،وهي اآلن يف دورتها الثانية ..ما الذي تهدف إليه الجائزة؟ الفضل يف هذه الجائزة املتواضعة يعود ملؤسسة العويس الثقافية التي منحتني جائزتها املالية فقمت بتقسيمها إىل نصفني ،نصف ألبنايئ يف املنـزل ،والنصف اآلخر ألبنايئ من الشباب والشابات املبدعات ،وقد أحسن بعض الزمالء ظنهم بأنها سوف تتطور وتأخذ حج ًام أكرب مام هي عليه، لكنها ظهرت يف الوقت غري املناسب اقتصادياً وسياسياً ومع ذلك فقد عملت عىل أن تظل الجائزة يف مستواها املحدود تشجيعاً للمبدعني الشبان الذين يهمهم االعرتاف بتفوقهم أكرث مام يهمهم املكسب املادي .وقد عرفت من خالل لجنة التحكيم أن النصوص املقدمة لنيل الجائزة يف مجال الشعر والرواية والقصة القصرية عىل درجة عالية من اإلتقان واإلبداع ،وقد متنيت يف العام األول لهذه الجائزة املتواضعة لو كان يف مقدوري تقديم جوائز لكل املتقدمني فقد كانت أعاملهم كلها عىل درجة من الجودة والتميز.
124
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
فن الرسائل
يف مجلة «غيامن» الفصلية التي ترشف عليها ،يلفت االنتباه باب الرسائل التي يبعثها لك أصدقاء من األسامء البارزة يف الساحة الثقافية واإلبداعية العربية ،مثل كامل أبو ديب ،ومينى العيد ،وأدونيس .عندما يطالعها أحدنا مجتمعة ،يكتشف أنه أمام عمل استثنايئ .هناك حضور للمسكوت عنه يف الثقافة العربية، بينام تصبح املقدمات الشخصية مجرد جرس العبور إىل منت يصب يف جوهر أزمات الثقافة والواقع
عبد العزيز المقالح
مع درويش يف صنعاء
العربيني .هل بوسع القارئ توقع صدور تلك املراسالت يف كتاب؟ وماذا عن الرسائل التي مل تنرش بعد؟ فن الرسائل قديم ومهم ،لكنه مل يجد يف العرص الحديث ما يستحقه من اهتامم وتجديد .وقد خطر يل عند إنشاء مجلة «غيامن» أن أقدم يف كل عدد رسالة من صديق إحيا ًء لهذا الفن املنيس ،كام حاولت أن ال يقترص ما ينرش من الرسائل عىل املشاهري من األدباء واملفكرين ليك تتاح الفرصة للجيل الجديد املشاركة وطرح اآلراء بعيداً عن املجاملة والتحفظ املعروف .ويف مكتبتي الكثري من هذه الرسائل التي جمعتها يف العقود الثالثة األخرية بعد أن فقدت الكثري واملهم منها وتم إبعادي عن مرص عندما صودرت شقتي يف القاهرةّ ، بعد رحلة السادات إىل القدس ،وكان يف الشقة الكثري من الرسائل ألصدقاء رحلوا عن الدنيا .ومنها رسائل من زمالء يل يف عدد من األقطار العربية .رسائل صديقي الكبري الشاعر عبدالله الربدوين التي كان يبعث بها إ ّيل يف القاهرة ،وفيها كثري من املداعبات واألفكار الجادة ،وكانت بخطوط عدد من أصدقائنا املشرتكني. لطاملا نوهت يف مرشوعك النقدي بتجارب شعراء من اليمن كانت لهم بدايات الفتة لالنتباه منذ السبعينيات .لكن القارئ العريب مل يتعرف بشكل جيد إال إىل املقالح والربدوين. هل يتعلق غياب املشهد الشعري اليمني بإشكالية املركز واألطراف ،أم أن ُمالبسات الواقع يف اليمن أقوى تأثرياً من
هذه اإلشكالية؟ أعجبتني كلمة قالها منذ وقت طويل ناقد عريب يف إحدى الفضائيات عندما ُسئل عن األدب يف اليمن فقال،إن الربدوين واملقالح عنوان لكتاب ال تحجب عنونته موضوعاته األساسية عن املبدعني اليمنيني الكثار واملشهود لهم يف الكتابة الشعرية والروائية والقصصية والنقد األديب .فاليمن غنية بأدبائها .والعنوان يدل عىل ذلك ويدفع إىل املتابعة .وأعتقد أن األمر اختلف اآلن كثرياً بعد أن متكن العرشات من األدباء املبدعني من حضور املؤمترات ومن نرش أعاملهم يف كربيات دور النرش العربية .وألن استئثار املركز كان واضحاً وثقي ًال فقد حرصت منذ أوائل سبعينيات القرن املايض بعد أن رصت معروفاً إىل ح ٍد ما ،عىل التعريف باملبدعني اليمنيني والكتابة عنهم مبحبة خالصة ،وحتى ال يظل حديث األدب يف اليمن مرتبطاً بشخصني أو أكرث ،وهو ما مل أكن أرتضيه، وال زمييل الراحل الكبري يرتضيه أيضاً. ال بد أن من يقرأ حواراً مع الشاعر عبدالعزيز املقالح يود أن يعرف رأيه يف املشهد الشعري الراهن يف اليمن .ألن أحوال السياسة تظل دامئاً تقيص الوجه الثقايف لهذا البلد، ليربز فقط الوجه الذي يراه الناس عىل هيئة رشيط أخبار متحرك؟. انطالقاً من آخر إجابة يل يف هذا الحوار أرى أن املشهد اإلبداعي يف بالدنا يعاين من انعكاسات الواقع السيايس.
125
حوار
ومن حالة القلق التي ال تلف اليمن وحدها بل األقطار العربية بأكملها ،ورغم ذلك فهناك مبدعون يثبتون أنهم مازالوا قادرين عىل التنفس يف مناخ األجواء املسممة بقنابل الغاز املسيلة للدموع ،وال تفزعهم زخات الرصاص وأصوات املدافع التي مل تتوقف طوال عام كامل .وأشعر باعتزاز عندما أقرأ عدداً من األعامل اإلبداعية املتميزة يف الشعر والرواية والقصة القصرية .وإذا كان اتحاد األدباء والكتّاب اليمنيني ،وهو االتحاد الذي قام يف أوائل السبعينيات من القرن املايض تحت شعار اليمن الواحد ،يعاين من تشتت فرضته الحالة الراهنة ومجلة االتحاد «الحكمة اليامنية» موقوفة ،والرصاع بني أعضاء االتحاد عىل أشده ،فإن ذلك مل مينع العرشات من الكتابات الجادة ،تأكيداً عىل أن اإلبداع نشاط فردي والسياسة نشاط جامعي وما تبعرثه السياسة يجمعه األدب يف مشهد يبعث عىل قدر كبري من األمل والرضا.
الشعر والتغيري
ماذا عن صحوة الجامهري يف الربيع العريب؟ هل تبرش مبقدمات لتحرير العقل من االستالب ملا يستبد بالوعي ويعطل طاقات اإلنسان؟ كنت ومازلت يف طليعة املتفائلني بهذه الصحوة الجامهريية التي جاءت بعد انتظار طويل .وقد حاولت أن ال آخذ موقف الشاهد عىل الحدث الكبري ،بل حاولت أن أشارك فيه بالكلمة طبعاً ،إذ مل يعد يف مقدور جيلنا أن يزاحم
يف املظاهرات ،أو أن ينام يف الساحات ذلك شأن الشباب ودورهم ،وليس من باب االدعاء القول بأن يل تجربة مع الثورة اليمنية «سبتمرب ،أكتوبر» ،لكننا اآلن أمام نص جديد يكتبه الشباب بدمائهم وصيحاتهم ،وقد أحسست منذ البداية أن الثورات العربية رغم أنها مل تصدر عن خربة وتراكم أفكار ،إ َّال أنها تجاوزت بأثرها الرسيع ما مل تستطعه ثورات سابقة ،قامت بعد إعداد وتنظيم وإمكانات مل يكن لهؤالء الشباب يشء منها عىل اإلطالق. وما زلت رغم الحصار املرضوب عىل بعض هذه الثورات من داخلها أو من خارجها أؤمن بأن فكرة التغيري املريئ واملضمر قد وصلت إىل أكرب رشيحة يف الوطن العريب ،وأعني بها الرشيحة الصامتة التي استغلتها األنظمة ،ورضبت بها كل حلم ثوري .وما حدث يف مشهد الربيع العريب مل يكن عابراً وإمنا عملية تأسيسية لزمن جديد قد يتعرث بعض الوقت، لكنه سوف يصل إىل مبتغاه ،وسيظل يجري خطوة خطوة إىل أن يحقق ما هدف إليه .لقد خرج الشعب من القمقم ويصعب عىل أية قوة أن تعيده إىل حيث كان. لكن الشعر العريب تبنى خطاب الحداثة من دون أن يسانده الواقع وبقية األنساق األخرى التي ظلت عصية عىل التحول؟ ً تجدر اإلشارة هنا إىل أن الحداثة ليست تقليدا أو محاكاة أو رغبة فائضة عن الحاجة يف التعبري وإمنا هي برهان حقيقي عىل املستقبل ،ليس يف مجال األدب فقط ،وإمنا يف سائر مجاالت الحياة .وتحديث الثقافة أهم بكثري من تحديث
أغنية للتغيير عبدالعزيز املقالح
هذا زمنُ التغي ِري تتغي تتعفنْ إذا مل رْ ّ ُ مواقيت الصحوة تتخطاك رس الكامن ال تدري ال َ يف أن َ األرض تدور 126
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
من أعامل الفنان كامل أحمد املقرمي
ٌ إنسان وأنك من حقك أن تحيا ومتوت بأم ِر الله مليك أو سلطان وليس بأم ِر ٍ ومن حقك أن ال تدخل سجناً أو ُت ْقت َْل. أو يسلبك الجشعون بقايا اللقم ِة زمن من حقك أن تدري أنك يف ٍ
عبد العزيز المقالح
الربدوين
عيص املباين والطرقات واألثواب وأشكال الطعام ،وال يشء ّ عىل التطور والتفاعل مع الحياة الجديدة التي بدأت تثبت وجودها يف الحياة عرب أكرث من وسيلة وطريق. هل ستمنح هذه التحوالت فرصة إضافية للشعر يك يعمق املسار الذي اختطه النص الشعري يف دروب التجديد والتحرر من خطابات املايض؟ أم أن االسرتاتيجيات التي تحكم انتقاالت الشعر مل تعد معنية بالتعاطي مع ما يحدث اليوم يف املجتمع؟ هناك إجامع عىل أن أي تغيري يف الواقع يقتيض بالرضورة تغيرياً مامث ًال يف دنيا الثقافة واإلبداع .وإذا كان الشباب الثائر قد كتب بدمائه وصيحات أبطاله النص الجديد يف الحياة السياسية ،فإن النص اإلبداعي األديب قادم ال محالة.
ال يشبه يف املعنى واملبنى أيَّ زمانٍ آخر. يا عريب: اخرج من جلدك ْ هذا املدبوغ بزيت القهر وأسواط التعذيب َودَعْ روحك تستيقظ وتزور الساحات وتنقش أحالم الناس
وسوف نشهد تحوالً رسيعاً يف الكتابة الشعرية خاصة ،ألن الشعر بطبيعته التلقائية رسيع االلتقاط ملعاين األحداث وما تطرحه من تشكالت غري مألوفة يف الواقع .وميكن القول إن الثورات العربية األوىل كانت األساس ملجرى جديد من التفكري وألسلوب جديد يف الكتابة الشعرية. ماذا عن الفارق بني مآزق الحشود الغاضبة واملأزق الذي تستشعره النخب بوعي مختلف؟ أعني إىل متى سيبقى منظور النخبة لألمور يشكل سوء فهم بينها وبني الجمهور؟ يبدو األمر كام تشري إليه متاماً فكام فاجأت الثورات العربية الح ّكام املحروسني باألمن والجيش ،فقد فاجأت النخبة السياسية والفكرية أيضاً ،وهي نخبة محروسة بأحالم عتيقة وتحمل يف كيانها املمزق موروثاً من الخالفات والضغائن واألحقاد .وكان الخالف املسترشي بينها أكرث من الخالف القائم بينها وبني أنظمة الحكم ،التي أحسنت االستفادة من هذه الخالفات ووظفتها لصالحها بنجاح تام .ورمبا متكنت الحشود الغاضبة والدور الذي تولته يف التغيري أن تضع النخب السياسية العربية يف مكانها الصحيح وتجاه مسؤوليتها التاريخية. ما الذي تود قوله تعليقاً عىل صدور مجلة «بيت الشعر»؟ ليس سوى تحية وأمل ،تحية ملجلة «بيت الشعر» كصوت جديد يف دنيا اإلبداع العريب ،وأمل يف أن تأخذ بيد الشعر لينهض ويسهم يف نهوض األمة أخالقياً وثقافياً ووطنياً ،بعد أن وصلت إىل هذا املنحدر من التمزق والرصاعات الخالية من كل معنى إيجايب
إىل العدل أنفاس الحرية ودعها تتشمم َ ال يش َء يساوي الحرية ال يش َء يحل محل الحرية. يا عريب: ُ ّ ْ سقطت أقنعة الجالدين ُ وأظهر زحف الشعب هشاش َة حكم السلطان وأعوان السلطان
فإياك إذا ما جئت إىل امليدان وصافحت بعينيكَ َ جامه َري الشعب الغاضب ُ التحصينات الكرتونية أن تهزمك أو يرسق ما َء شجاع ِتك القصوى ُ صوت زئيـ ِر الدبابات
127
في الشعر
ذلك الصفــاء الذي أضعنــاه.. عبدالزهرة زكـي
بقيت
قبل أيام أتابع حتى ساعة متأخرة من الليل برنامجاً تلفزيونياً وقفت عنده باملصادفة حني كنت أنوي االنرصاف إىل النوم بعد إغالق الجهاز الذي نادراً ما أتابعه بانتظام منذ سنوات .كان الربنامج للموسيقي نصري شمة وبرفقته ضيفان مغنيان ،شابة وشاب ،وكان موضوع الحلقة هو الشيخ زكريا إبراهيم ،أبرز عباقرة اللحن العريب الكالسييك يف مطلع القرن العرشين والذي احتفظ بتسجيالت متنوعة ألغانيه دامئاً. ُ فهمت أن فكرة الربنامج ترت ّكز عىل إعادة تأمل تجارب رواد يف املوسيقى العربية ،انرصفت عنهم املوسيقى والغناء اآلن فيام اتجهت إليه من وسائل وأساليب ولغة وايقاعات .وتكثفت هذه الفكرة أكرث حني أعلن شمة يف ختام حلقة الربنامج عن إنجازه لحناً يستعيد فيه األجواء الثالثينية واألربعينية كام تنعكس يف موسيقى تلك السنوات ويتامثل معها .غنّى شيئاً من اللحن، وكان فع ًال قريباً مام يريد بلوغه ،ذلك التطريب واالسرتخاء الرومانيس مع التخت الرشقي ورهافة استخدام املقامات وتطويعها صب فيها زكريا أحمد ،باستثامر فذ للطاقات الصوتية التطريبية الساحرة ألم كلثوم ،أكرث أعامل لتتامزج يف تلك الروح التي ّ الغناء العريب رق ًة و«سلطن ًة» وهياماً .لكنني مل استطع منع نفيس ،بعد أن انرصفت عن التلفزيون والربنامج ،من إقامة حد بني ما كان قد فعله زكريا وزمالؤه وما يريد اآلن أن يفعله املوسيقي املعارص نصري شمة. لكن االلتفات إىل الوراء مل يعد حاجة املوسيقى والغناء حرصاً .ففي الشعر والرسم وحتى الرواية كان االلتفات يتعاظم بني فرتة وأخرى ،بني تجربة وسواها .مثل هذا االلتفات ال يبغي االرتداد والرتاجع وإعالن التوبة ،كام هو شأن شعراء مرحلة اإلحياء يف نهايات القرن التاسع عرش .وهو ليس شك ًال من أشكال النوستالجيا التي تضع املايض ،مكاناً أو زمناً ،يف قداسة نفسية ميكن لها أن تكون مولِّداً إبداعياً ،ال بأس .يف الشعر ويف الفن تبدو الحياة متواصلة ،حياة األنواع الشعرية والفنية ،بخالف الحيوات املنقطعة للشعراء والفنانني املوىت عن َخ َلفهم الحي. لكننا ،نحن األحياء ،براغامتيون يف استخدام أفكارنا وتفكرينا ،بخالف سلفنا امليت املستسلم يف كل يشء. كنا ننظر إىل املايض بوصفه متحفاً للموت وذلك حني كنا نريد االحتجاج عليه والتمرد عىل سلطة تركته املوروثة .لكن ها نحن ننظر إليه اآلن ،ونحن تحت وطأة أزماتنا ،عىل أنه مخزن ألعضاء حية قابلة لالستخدام. التوسل إىل املايض من أجل النجدة ..لكن املايض مل يكن بريئاً استطيع اآلن ،مث ًال ،أن أشري يف الشعر إىل تجربتني جرى فيهام ّ متاماً ليسلم القياد إىل شاعر معارص فيفعل يف ذلك املايض ما يشاء .املايض ميتلك قدرة تدمريية هائلة ،هي قدرة املوت ..وإلاّ ما الذي فعلته محاولة شاعر مثل سليم بركات وهو يلفظ املايض كله ليأخذ من قواميسه ،حرصاً ،لغ ًة يريد بها ،يف ما يبدو ظاهراً ،ترميم لغتنا املرتهلة املوشكة عىل املوت؟ وما الذي فعلته تجربة شاعر آخر ،من اتجاه شعري آخر ،مثل حسب الشيخ جعفر ،وهو يختفي يف لغة ميتة ليس اآلن وإمنا يف الزمن املايض نفسه الذي ُو ِضعت فيه أ ّمهات القواميس العربية ليكتب «كران البور» ديوانه الشعري الغريب بدءاً من عنوانه هذا ؟ لقد بدت الكثري من محاوالت الحل ،حل أزمات التحديث الشعري ،تو ُّرطاً متنامياً يف تلك األزمات وتعميقاً لها .كام ،غالباً، ما تنتهي محاوالت تجريب «أجنحة» متعددة يف كل مرة يريد فيها شاع ٌر أن يح ِّلق يف فضاء حريته الشعرية إىل اإلخفاق يف 128
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
الطريان الحر .وال ميكن االستمرار بإلقاء تبعة هذا اإلخفاق عىل ق ّراء الشعر الذين عاد ًة ما ُينحى عليهم بالالمئة لعدم إدراكهم «عمق» تجربة الشاعر والشعر .لقد بدأنا نفتقد يف الشعر ذلك الصفاء وتلك الروح التي تغري باالنسجام معها واالنسحار بها مقابل هيمنة اللعب .اللعب بكل يشء ،بدءاً من الهزء بالحاجة الحقيقية للشاعر نفسه واإلشاحة عنها ،وليس انتها ًء بازدراء جوهر الطبيعة الشعرية ،جوهر معاين الشعر ورفعته وتساميه عىل العبث والفوىض. ً نحن نستثمر حرياتنا مبا تقتضيه املصالح ال مبا تتطلبه طبيعة العالقة .يحدث هذا يف مجال الرتبية أيضا ،بني البنني واآلباء. فالعقوق يكون أشد وطأ ًة حني يتش ّب ُه بالوفاء ،حني يستعري من الوفاء لغته مبقتىض املصلحة ،مصلحة االبن العاق مع أبيه ورشاهته إىل الرتكة ،إىل املرياث ،إىل اللغة املستودَعة يف القواميس ونفض الغبار عنها و«استعارتها». مثل هذه االستعارات كانت تحدث أيضاً يف ثقافات أخرى ،يف الغرب ،يف لحظات األزمات.األزمة يف األدب والفن أو األزمة يف الحياة التي تدفع إىل املايض ،كام فعل اليوت مث ًال .لكن العمل العضوي هو غري العمل الرتكيبي الذي يجري معه دمج عنارص متنافرة يف هجنة ال تستقيم. وحصل هذا يف التشكيل أيضاً ،حني عمد أشهر فناين السوريالية سلفادور دايل إىل املواءمة بني متطلبات الترشيح الكالسييك وبني التداعي الحر للسوريالية ،فتو َّفرنا من خالله عىل منوذج شعبوي للفن الرسيايل الذي بقي محدوداً ،يف تداوله ،بالنسبة لآلخرين من فناين السوريالية. ٌ استجابات ماهرة ملشاعر الخوف التي نتم َّلص معها من الحارض لنؤوب إىل املايض .كانت محاولة حسب الشيخ لكنَّ الشع َر حارض والنفي، ميت وشاحب ،تأيت يف سياق إجراءات نفسية للتح ّرر من ماض من اللغة ٍ جعفر ،يف ما أفهمها ،وهو ينقذف إىل ٍ ٍ ً اختيارياً ،يف ذلك املايض ..لكن املايض كان أكرث وحشية ،فحصل أن أطبق املوت ،موت املايض وقاموسه ولغته ،عىل هذا الوافد الشعري اآليت من حارض وحيش. كان القصد النفيس يف تجربة «كران البور» أكرب من أن يف ِّكر بآليات عضوية تسمح بالتعايش مع املايض .مل يت َّربر املايض عضوياً يف «كران البور» ،لقد بقي لغ ًة قدمي ًة طافي ًة عىل سطوح املعاين واألشكال والتقنيات املعارصة ،فأثقل الوط َء عليها. ٌ مامثل ،ولكن مبستوى آخر ،يف تجربة نصري شمة الستعادة الروح الفني ملوسيقى مطالع القرن العرشين يف أغنية كان يش ٌء ُيراد لها أن تكون من أغاين مطالع القرن الحادي والعرشين .لكن تلك املوسيقى كانت تتقدم كام لو أن فتا ًة تريد أن ترقص «الصلصة» عىل موسيقى رياض السنباطي ،بطابعها الهادئ املسرتخي العميق. روح السنباطي إىل تحطيم األغنية والرقصة إرادة الفتاة وحدها ال تكفي إلذالل السنباطي وقرسه يف هذه الرقصة ،لذلك ت ْع َمد ُ والفتاة .تلك هي سلطة املوت وحصانته يف مواجهة سوء االستخدام. ً ال ميكن اآلن ألحد مثيل أو سواي أن يقرتح عىل املوسيقي البارع نصري شمة طريقة ُمثىل إلحضار الشيخ زكريا أو السنباطي أو زج األغني َة املوجي .نعم يحتاج الفن ،فن الغناء العريب الراهن ،إىل صدمات وإىل عمل جاد.ال بد من الخروج من املأزق الذي َّ به هذا التصاد ُم ّ الفظ بني ثقافة الصورة وثقافة الصوت ،بني زحف الرقص واالستخدام الغرائزي السطحي للجسد ،وتفاهات الفيديو كليب عىل األغنية التي باتت هي حاصل كل هذا الخليط ،وبني رفعة املوسيقى والطرب .رمبا يحاول بعض الفنانني اآلن إعاد َة تجريب التوزيع االوركسرتايل ألغنيات مدعومة بنصوص تتوافر عىل حدود مقبولة من القيمة الفنية ،وبألحان ال تلتفت إىل الوراء ،وإمنا ترت ّفع عىل االنحطاط الراهن ،لكن نجاح هذه الجهود قد يصطدم بفساد التسويق ومشكالته الثقافية واألخالقية. يف مجال الشعر ،ال ميكننا أيضا اقرتاح الحلول ،حلول مشكلة التعامل بفائدة ايجابية مع خزين املايض ،حني نكون أمام شاعر كبري مثل حسب الشيخ جعفر ،لكننا منتلك القدرة عىل أن نكتشف الخلل يف هذه االستضافة .يف الفن والشعر يستحيل وضع وصفات جاهزة .كل عمل ي ِّربر حاله ،وكل وصفة هي نتاج تالٍ للعمل والكيفية التي يظهر بها عضوياً مؤت ِلفاً وليس تركيبياً متعارضاً.إن األهداف والوسائل يف الشعر هي تسميات لحال واحد هو القصيدة ،كيف تأيت وكيف تكون 129
حوار
ميسون صقر يشغلني التصوف بوصفه مسلك ًا آخر للشعر موعد غيوم على الوجنتين /بال مرارة /بال "ألقني في حضنك دون ٍ ٍ ٍ
ُ تتسع محدد /أرجعني لجمالي في الصور /ليقيني في المرآة /ال ٌ نجمة في بياض السريرة" .تلك هي عينك لرؤيتي /ال تتوارى
القصيدة التي على اسمها جاءت المجموعة الشعرية األحدث
للشاعرة اإلماراتية ميسون صقر« ،جمالي في الصور»
حوار -عزة حسين
الحظت أن الكثري من قصائد املجموعة مفرط يف إنسانيته وفنيته أيضاً ،لكن انزلق بعضها فجأة إىل شرَ َك املبارشة. رمبا كانت املبارشة من نصيب بعض القصائد اآلنية التي كتبت بالضبط لحظة الحدث ،حيث ال متلكني إال أن تهتزي فرحاً وانحيازاً ،مثل قصيدة النظام يسقط ،وألنها مرتبطة بحدث واقعي مل تجد فائضاً من املفاجأة يقلل املبارشة فجاءت هكذا ،وبالطبع فكرت باستبعادها من الديوان ،ثم قررت استبقاءها لتدعيم بقية القصائد ،كأسو ٍد يف مقابل بياض القصائد األخرى ،أو ألقل استبقيتها للتأريخ ،أو الذكرى. ً الشعر موضوع هذه املقابلة وخصوصا «جاميل يف الصور»، لكن بلمحة خاطفة ما الخيط بينه وبني كتابتك للرواية والتشكيل ومسلسالت السيت كوم؟ بالضبط كالعالقة بني األواين املستطرقة ،التي كلام دخلتها ماد ٌة ترسبت لبقية األواين ،فحيثام امتلكت أدوات الفن التشكييل أستطيع أن أحول كل قصيد ٍة إىل لوح ٍة ،ومن ثم إىل لقط ٍة تصويري ٍة والعكس .ليست أزمة كبرية عندما يحل اللون يف اللوحة التشكيلية مكان الصورة الشعرية، والتكوين مكان الرتكيب الشعري ،لذلك جاءت أكرث من تشكييل :كديوان معرض مجموع ٍة شعري ٍة يل مرتافق ًة مع ٍ ٍ 130
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
«اآلخر يف عتمته» الذي اتكأ عىل فكرة املنت والهامش رسدياً، بينام جاءت اللوحات اتكا ًء عىل فكرة املركز ،الهامش ،ونثار التكوينات حولهام .الرابط الفني والشعوري ٌ كفيل بعملية الوصل هذه. لكن إالم تنتمني أكرث بني تلك الفنون؟ للشعر .أحسه نقطة االنطالق والعودة .تلمسني ذلك يف روايتي «ريحانة» ،حيث لغة وحالة شعريتان متاماً ،وتلك طبعاً معادلة صعبة ألنه ال بد للخضوع لعنارص بنى الرسد من أحداث وأمكنة وشخصيات وحبكةُ ،تصهر جميعاً يف العجينة اللدنة للكتابة الشعرية ،وفض ًال عن اللغة ُ منحت الشخوص نهايات شعرية أيضاً بل مفرطة يف فقد دراميتها. ً لكن هل مثة أثرا مليالد وتفعيل الوسائط اإللكرتونية عىل خريطة وعادات الشاعر ومفرداته وانحيازاته كذلك؟ مبعنى، تولد قصيدتك عىل الورق أم عىل الكيبورد أم الهاتف النقال؟ الوسائط الجديدة أفعل وأسهل يف حالة الرواية .لكنني أفضل الورق لكتابة القصائد ،بيد أن كل حال ٍة ،وظرف كتابة يستدعيان أدواتهام .فمث ًال وقت املرض كنت ال أستطيع استخدام الورقة والقلم ،فاستعملت الهاتف املحمول، لذلك جمعت الديوان األخري من قصاصات ورقٍ ،ومفكرات
ميسون صقر
تفاعلت مع «ابن عريب» و«الحالج» وغريهام لكن حني املواعيد ،والحاسوب ،والهاتف النقال. كتبت متثلت فكرة التصوف لغوياً ،مبعنى تصفية اللغة وهل مثة تأثري لذلك عىل شعرية الكتابة؟ كوسيط شفاف بني الذات والكتابة ،لذا مل أنقل الشعر اكتشفت ذلك .فالقصائد التي خرجت عن الهاتف للتصوف ،وإمنا استخدمت التصوف لصالح لغة الشعر والحاسوب كانت جرعة الغنائية فيها أقل ،وكانت صارمة فنياً أكرث ،فقصيدة مثل «النظام يسقط» كانت مكتوبة عىل والكتابة ،جنباً إىل التصوف مبعناه الوجودي ،وما استوعبته من تلك التجربة هو ما خرج يف قصائد «جاميل يف الصور». الورق ،بينام كتبت «مارلني مونرو» عىل املوبايل. يف ديوانك األخري مثة قصائد شديدة القرص وبال عناوين ،هل الكتابة كلعبة؛ الكتابة كمضخة أمل؛ الكتابة كإمطار لألسئلة؛ كمحاوالت لإلجابة ،أيها أقرب إليك؟ وهل يختلف الباعث قررت منذ اللحظة األوىل أن ترتكيها هكذا أم حاولت البناء من مجموعة شعرية إىل أخرى؟ عليها وفشلت؟ نعم .ورمبا يختلف من حالة إىل حالة داخل الديوان نفسه. مل أفكر بها وقت كتابتها ،فقد جاء بعضها فرادى ،وبعضها ً إذ أنه عندما أرسم لوحة أو أكتب قصيدة بالعامية املرصية، اآلخر متواتراً ،ومثة قصائد أخرى انزلقت داخل قصائد أخرى طويلة ،فاقتطعتها منها وركنتها بعيداً ،وملا زاد عددها البهجة تغمرين كأنني ألعب وأفرح وكذلك عندما استثري مرصيتي ،وأجرب أن أكون «بنت بلد» يف حار ٍة شعبية. وجدتها تخص سياقاً وطريق ًة ال بد أن أكتب بها ،وعندما بينام ترتبط الكتابة بالفصحى لديّ بالخوف والرهبة ،لذلك انتهيت منها بدأت بتصفيتها وأرشفتها داخل الديوان. أدخر الفصحى ملا هو حقيقي ومؤمل ،ويخرج مبارش ًة من وبسببها تأخرت يف الطبع ،ألنني ظللت متأرجح ًة يف قراري بشأنها ما بني اتسامها بعدم االكتامل ،وعدم طواعيتها للبناء الروح .وكم من مر ٍة بكيت وأنا أكتب بالفصحى ،وكم من عليها ،أو حتى تضمينها لقصائد أطول ،إىل أن ظهرت وفقاً مر ٍة مل أستطع النوم ،وتحولت الكتابة إىل هاجس .رمبا الرتباط الشعر الفصيح بوالدي وتاريخ العائلة التي تكتب للحالة املوجودة فيها بالديوان. يعج الديوان خصوصاً القسم الثاين باألسئلة الوجودية وتعلو الشعر الفصيح .أو رمبا ألنني أضع فيها كل رغبايت وأحالمي وأشواقي باالنفالت خارج هذا الواقع ،ورمبا ألنها حريتي يف فيه حالة التصوف عرب املعنى واملفردات والحالة ،حدثينا القول التي قد ال أضمنها إال شعراً. عن قصائد هذا القسم وإن صح ظروف كتابتها... ٌ مشغولة بفكرة التصوف ،تقريباً منذ «الصور متحو مالمح الزمن /تيش مبتغريات الجسد /تفضح منذ عامني أو ثالثة وأنا وتخفي /تظهر ومتحو /الصورة غري الواقع /جاملها منها /ال ديوان «أرملة قاطع طريق» توقفني مفردات مثل الحلول والخلوص والتأمل ،ويشغلني التصوف كمسلك آخر للشعر ،مني» ..الصور لديك فضفاضة وحاملة أوجه فهل تكتبني ويف خاص ًة يف ظل زيادة عدد املثقفني املرصيني والعرب املتوغلني مخيلتك كل تلك االحتامالت؟ كل االحتامالت يف ذهني ومخيلتي معاً .لذلك تعددت رؤى بحثاً عن مآرب أخرى للدين غري شكله الرصف. 131
حوار
ومدلوالت الصور عرب أكرث من ديوان ،بد ًءا من «تشكيل األذى» و«رجل مجنون ال يحبني» حيث تبادل الصور بني شخصني ،وصوالً لصور الحاالت اإلنسانية املتعددة يف هذا الديوان ،إذ متددت الصورة من كونها قضية أو جزءاً من حالة شعرية كلية لتصبح بأهمية ديوانٍ كاملٍ ،ظللت ألف وأدور حول ثيمة الصور به ،سواء عرب معانٍ وحاالت مبارشة، أو عرب تحليل مفهوم الصورة نفسها ،أو تربيرها ،خاص ًة وأنا ابنة زمن للصورة الشعرية فيه أهمية كربى ،يصعب، ني ،التخلص منها من دون متهل ،لذا استعملت ولو بعد ح ٍ كلمة الصورة كبديل لرتكيب الصورة الشعرية ،ومن ثم الهرولة للحالة الشعرية بدالً من صورتها لتأكيد املفارقة بني الجامل يف الصور وصورته بالواقع كام يحدث يف مسابقات الفوتوغرافيا أن تفوز الصورة األكرث قسوة بالجائزة لجاملها بينام هي ألطفالٍ يأكلهم الجوع ،أو ملوىت باسمني وغريها.. «الصورة غري الواقع» «كوين ذرات وغيايب مجرة» «نزهتي يف الغياب» «نظرت……… وما رأيت شيئاً» ما رس التأسيس ملركزية الغياب واالحتفاء به؟ ً الغياب أكرث شعري ًة من الحضور .هو أيضا له جاملياته. وقد يكون االحتفاء به مرتبطاً لديّ بفقد العائلة ،فأنا أنفي غيابهم عرب أثرهم الدائم يف روحي ووجودي ،أعيش لحظتي بوجودهم فيها ال عرب الذكرى .الغياب ليس محواً كام يظنون ،هو الفكرة ،والفكرة ال تزول .كام أنه األكرث يقيناً
من الوجود ،أضيفي إىل ذلك ارتباط الغياب بفكرة الحضور والحلول املوجودة يف الصوفية ،ويف النهاية أظن كل هذه التأويالت مربرها الكتابة ،أظنها وقود للحالة التي تفيض لشعري ٍة أطغى ،مفردات لعب ،كذب ،وفضاءات لحري ٍة، قد تعود أدراجها إثر كامل حالة الكتابة .أو رمبا هي األكرث حقيقية وحضوراً يف العقل الباطن أكرث مام نظن لذا تفرض نفسها عىل الورق!. وماذا عن فرادة األعضاء ومركزية الحواس كالقدم ،النظرة، اليد داخل الديوان؟ وإىل أي مدى تظنني الجسد رشيكاً يف الكتابة وبالطبع يف الحياة؟ للجسد أهميته الكربى يف الكتابة كام يف الحياة ،هو وسيلتنا، أداتنا التي تؤسس الفكرة والشعور عىل الورق ،والحواس أداة لتصفية هذا الجسد ،ووسيلته لتشذيب ما هو بدايئ يف الرغبات. أما فرادة األعضاء ،فرمبا تؤول إىل املرجعية الدينية مبعناها القصيص التي تقول إن كل عض ٍو سيشهد مبا اقرتف صاحبه يوم القيامة ،اليد والعني والقدم واللسان ،ورمبا تؤول بشكلٍ أخص إىل تجربة املرض ،حيث طاملا تصادمت رغبتي يف الحركة مع قدريت ،ورمبا رغبة قدمي إزاء الفعل نفسه .حينها يدرك املرء أن ألطرافه إراد ًة تجعل منها ،وهي اللصيقة به، َ آخ َر مشاكساً ورمبا صديقاً .ورمبا يعود األمر برمته إىل فعل الكتابة وخيوطه وتساؤالته وتأويالته ومحفزاته كذلك.
شعرية العنوان ومفتوح عىل عدة دالالت واحتامالت أيضاً، مجموعة ميسون صقر األخرية «جاميل يف الصور» مشبع بالداللة، ٌ متايزت واتضحت عرب أكرث من ِذك ٍر ملوضوع الصورة /الصور داخل الديوان .والعنوان منطقة أثرية لدى ميسون يف أغلب دواوينها ،منذ «اآلخر يف عتمته» ،و«تشكيل األذى» «رجل مجنون ال يحبني» ،و«أرملة قاطع طريق»، وصوالً للديوان األخري .هو اللقطة التي ال تلتفت إليها ميسون سوى يف لحظة أخرية ،بعدما تعيد نبش ديوانها بعني سوى التي للشاعرة ،بل لتك التي كتبت القصائد ،فتختار الجملة األقرب إىل مجمل الحالة داخل الديوان ،حتى لو كانت هذه الجملة ضمن منت قصيد ٍة أو عنوانها أو بني السطور« :ال أضع العنوان إال قبل دخول الكتاب للمطبعة ،ورمبا أنسف يف تلك اللحظة عنواناً أو عناوين صاحبت مراحل الكتابة» تقول ميسون صقر ،وتضيف« :مث ًال «رجل مجنون ال يحبني» كان اسمه «املعرفة الجارحة» اسم حتى قبيل النرش ،و«ال مرارة بيننا» كان اسم الديوان األخري ،حتى حتى اللحظة األخرية ،وظل ديوان «اآلخر يف عتمته» بال ٍ قبل الطبع بأيام». وتوضح ميسون صقر ذلك بالقول« :إن محدد هذا العنوان هو الحالة التي بإمكانها اإلملام بروح القصائد وروح الشاعر أيضاً.
عنوان
132
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
ميسون صقر
جمعت الديوان من ورق ومفكرات قصاصات ٍ المواعيد ،والحاسوب والهاتف ،وقصائدي المكتوبة على الورق أكثر غنائية
يف الديوان ،وفيام يشبه الفانتازيا تختلط الهلوسات باألمل كأمنا تفريغ كوابيس،هل أنت ممن يدونون أحالمهم ومن ثم كوابيسهم ،أم هو تشكيل األمل يف كوابيس افرتاضية كام يف «جاءت الحية» و«ال أراه وأراها»؟ رمبا الثانية .ألنني يف الواقع ال أحلم كثرياً ،وكوابييس نادرة. لكني أعترب الواقع أكرث بشاعة من سيناريوهات الكوابيس، الدم واملوت واألشالء املقطعة والجوع أكرث قسو ًة من احتامل الكوابيس ،لذا رمبا هجرت تساؤاليت املبارشة إىل الكتابة عنها .خاص ًة وأنني حني أكتب يصري نومي قلي ًال ومتقطعاً ،بحيث يتخلل النوم الكتابة ،إذ كنت أحياناً أكتب وأنام ،ثم أصحو ألكتب وأنام عىل الورق ،وعندما أستيقظ معنى. أفاجأ بأشياء غريبة ،أحياناً جميلة ،وأحيانا أخرى بال ً األمر نفسه يف الرسم أيضاً .إذ أرسم وأفاجأ بأشياء مل أقصدها ،تفزعني ،وأتساءل من أي بؤر ٍة يف ذهني خرجت هذه القسوة كلها ،وهذا العنف كله .تتداخل أزمنة وحوادث وتصري املفاجأة أكرب ألنها تخرج يف هيئة صورة واضحة ،ورمبا السبب أيضاً أنني أنام يف غرفة الرسم ،فأفرغ كوابييس عىل اللوحة كام الورق. تعرضت لتأثري املخدر «الطبي» ،ما الذي ميكن ألكرث من مرة ِ ً أن تضيفه تجربة كتلك للشعر؟ أظن قصائد مثل «الرس
عالق» و«صويت يف األمل» من إفرازات تلك التجربة. ال أظنها أضافت شيئاً سوى لسعة األمل بعد زوال مفعول املخدر .ألنني كنت أخضع للتخدير الكيل فأغيب متاماً عن الوعي ،وال يكون أحد أعرفه بجواري وقتها ليخربين عام حدث ،كام إنني ال أتحدث بعدها .هو فقط قهر األمل الجسدي ،وتأ ُّكد الضعف اإلنساين الذي جعلني أقدر فكرة أمل الجسد كلام أصادفها مع آخرين. تبقى فكرة أخرى وهي الذاكرة ،هذه اللعبة املرعبة، يفزعني أن تضيع مني بعد كل تجرب ٍة كهذه ،ألنني رأيت مع والديت يف املستشفى ،سيدة مريضة تعرضت للتخدير ومل تستعد ذاكرتها كامل ًة بعد ذلك. أخرياً ،وبال عنوان أطلقت يف آخر صفح ٍة من املجموعة سي ًال من أسئلة البداهة« :كيف أصف؟/كيف نتلو؟/كيف نضحك؟/كيف نحيا؟/كيف نصف؟/كيف نقفز؟/كيف مند؟/كيف ُنغيرِّ ؟/كيف نغري؟» .هل هذا انقالب عىل كل مارسدته يف األقسام الستة يف الديوان؟ رمبا تكون انقالباً .هي أسئلة أضيفت يف املطبعة ،لتعكس بذاتها وظروف كتابتها ثم إضافتها يف الخامتة هواجيس تجاه الديوان ،تلك التي حاولت اقتسامها مع اآلخر .فأنا مل أقرتح شيئاً كام ًال ،بل رمبا كتبت لتأكيد عدم اليقني هذا
ٌ «عيون تتبعني «جاميل يف الصور» هو أيضاً عنوان القسم السادس واألخري يف ديوان ميسون ،بعد خمسة أقسام أخذت عناوين: ٌ و«عالقة يف الرف األخري من حالوة الروح» و«جاميل يف يف املنام» ،و«العابرون إىل الرؤية» ،و«الغياب جاء» ،و«ال مرارة بيننا»، الصور». وقوفاً عند القسم األول والذي استبقته ميسون بإهدا ٍء يف مفتتح الديوان للثورة املرصية ،نصه« :للكنانة التي يف القلب ..للقلب وسط الحشود» ،تحرضه الثورة املرصية مبيدانها وشهدائها وقناصة العيون ،واملوىت العابرين ،والدم والخيول ،وقصائد أخرى لسوريا التي تحت القصف .وبني تلك القصائد وعىل تخوم الهتاف وامليدان ،مل َتبدُ ميسون يف موقع املتفرج ،أو مجرد املتعاطف مع أحداث يف بل ٍد غري التي هي وطنه ،أتوقف معها عند تلك الروح واملوقف اللذين ُكتبت بهام تلك القصائد فتقول« :جسدياً كنت يف موقع املتفرج ،إذ مل أنضم إىل جامهري امليدان سوى ليلة تنحي الرئيس السابق .إمنا شعورياً كنت منذ اللحظة األوىل هناك .انتميت كشاعرة وإنسانة لفكرة التغيري واالنتامء لخيارات الشعب املتطلع إىل الحرية ،فمن منا ال يقبل اختياراته خاص ًة حني تتصادى هذه الخيارات الفردية مع األشواق العليا للجميع وقيم الحرية والعدل ،لذلك جاءت الكتابة رديفاً لهذا الخيار» 133
تحقيق
مصر
الشعر والثورة جدل اإلبداع والسياسة ً جدال بين الشعراء يصل إلى حد االنقسام في وجهات النظر ،فهناك من يسقط سؤال الشعر والثورة في مصر يثير فعال ميدانياً ً عن الشعراء حق مواكبة الثورة ،وبعضهم اآلخر يرى الشعر
القاهرة -حمزة قناوي
األعمال اإلبداعية التي تعبر عن الثورات ال تكتب أثناءها ،وما كتب عن ثورة يناير يكشف سيطرة االنفعال على الشعر
رفعت سالم
يف سياق هذا الجدل الدائر ،يرى الشاعر والناقد رفعت س َّالم الذي ترجم إىل العربية أعامل كثري من الشعراء الثوريني ،من أشهرهم الشاعر الرويس ألكسندر بوشكني، والشاعر اليوناين يانيس روستوس ،إن شعر الثورة مل ُيكتَب بعد ،وما ُك ِتب مجرد تعبري حاميس عنها وليس شعراً باملعنى املفهوم .ويضيف قائ ًال" :مازلنا يف انتظار أن يفيق الشعراء من مفاجأة الثورة ليستوعبوا ما جرى ويستجمعوا أنفسهم ويقدموا الشعر الحقيقي الالئق بالتعبري عن ثورة فريدة يف تاريخ الشعب املرصي والعرب " .ويصف سالم ما ُك ِت َب حتى اآلن بأنه يكشف عن سيطرة االنفعال عىل الشعر، 134
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
أما الشعر الحقيقي فيعرب -عىل ح ِّد قوله -عن سيطرة ويص ُّبه يف بنية شعرية .ويرجع س َّالم الشاعر عىل االنفعال ُ هذا التأخر يف ظهور الشعر الثوري الحقيقي إىل أن األعامل اإلبداعية التي تعرب عن الثورات الكربى ال تكتب أثناءها، وال يف اليوم التايل لها ،ولكنها تحتاج وقتاً مناسباً يخرج فيه الشعر من الحالة االنفعالية إىل حالة إبداعية تسيطر عىل االنفعال وتوجهه بشكل فني. ويرى س َّالم أنه إذا كان هناك بعض الشعراء قد لعبوا بأعاملهم اإلبداعية دور املحرضني الثوريني ،فذلك يعود إىل كونهم "فلتات" ويرضب مث ًال عىل ذلك بـ بوشكني الذي ط َّو َر وأس َس بقدرا ِته الفنية ورؤيته وحساسيته التجاهات جديدة َّ يف الشعر.
عامد غزايل
ال يرفض الشاعر عامد غزايل ما ينعا ُه كثريون بإضفاء صفة املبارشة عىل معظم األعامل السياسية ،ولك َّن ُه يختلف مع الرافضني لألعامل السياسية يف تعميمهم هذا الوصف عىل األعامل السياسية إجامالً ،ألنه يرى أن هناك أعامالً سياسية جميلة جداً ُك ِت َبت مبارش ًة يف امليدان سيتم استدعاؤها بعد ذلك ،وإن كانت حالة الغناء األكرث تصدُّ راً فيه .ويؤكد غزايل أن الشعر ميثل أفضل حالة فنية للتعبريعن الثورة كلحظة حلم رومانيس وقفز إىل املجهول وتش ُّبث باملستحيل ،كام أن القصائد السياسية التي انترشت يف املشهد الشعري يف مرص
الشعر والثورة
هناك قصائ َد سياسية مازلنا نستدعيها إلى فترات اليوم في ٍ ُمتوا ِترة ،كقصائد أمل دنقل وصالح عبد الصبور
يف السنوات األخرية كانت انعكاساً طبيعياً إلحساس الشعراء بالحالة التي كانت متور فيها البالد يف الشهور األخرية قبل الثورة ،كام ُتعبرِّ عن وجود مبدعني شعراء وسط الثوار ومتثل تن ُّبؤاً بالثورة كان أوضح يف الشعر من أجناس إبداعية أخرى. وحول ما يثار من بعض الشعراء والنقاد من تشكيك يف الطبيعة الشعرية لألعامل السياسية ودميومتها ،يرى غزايل ات أن هناك قصائ َد سياسية مازلنا نستدعيها إىل اليوم يف فرت ٍ ُمتوا ِترة ،كقصائد أمل دنقل وصالح عبد الصبور .ويشري مع ذلك إىل أن هناك أهمية حتى للقصائد اليومية املبارشة- رغم لحظيتها -يف فرتات االعتقال الطويلة ،حيث يحتاج املعتقلون إىل ترويح ودعم نفيس. ً ال مجال للشك يف أن التاريخ األديب يعطي نوعا من املصداقية لحديث الشاعر عامد غزايل ،فهو يعرف شعراء مرموقني ال ميكن حذف آثارهم الشعرية أو التغايض عنها، جمعوا بني اتقان الصنعة الفنية والثورية السياسية يف قصائدهم ،ويف مواجهة النظرة الفردية للشعر ال يمُ ِكن إنكار أن التاريخ يزخر بالشعر والشعراء الثوريني ،فهل ميكن ألح ٍد مث ًال أن ينكر عىل الشاعر الرويس الكبري ألكسندر بوشكني حداثة شعريته ،وتجاوزه الجاميل ملا يسمى بـ «الشعر األورويب الحديث»؟ ففي حني وضع هذا األخري الخيال وتعم َد التشويه والتحريف واإللغاز واإلغراب، مكان الواقع َّ اتفق بوشكني معه يف رفض الكالسيكية ومفارقتها مبتعداً عن املديح والوصف والفخر واالنسجام مع الواقع والذاتية واالصطناع واالفتعال والتعايل والفخامة ،لكنه اختلف عنه
ببساطة ودقة اللغة والتعبري الدرامي األخالقي والروح التبشريية ،واإلميان بأن الحياة هي منبع األدب الحقيقي، ُمن َد ِفعاً وفق ذلك إىل خلق متطلبات التعبري الشعري عن أفكار الشعب وآرائه وأحاسيسه ،وهو ما ش َّك َل رس قوته وأهميته الكربى يف تاريخ األدب الرويس كشاعر و ُم َمثِلٍ للوعي االجتامعي الذي أخذ يستيقظ لتوه يف عرصه ،حتى ُس ِّم َي «أبو األدب الرويس» .فهل ينتقص من مكانة بوشكني الفنية ونضارته الشعرية استخدام «الديسمربيني» لقصائده من أجل نرش آرائهم بصورة واسعة؟ هل ميكن ألحد أن ينكر حداثة وجامل َن ْظم شاعر التشييل العظيم بابلو نريودا الذي تغنت املاليني الجائعة بطول وعرض أمريكا الالتينية بقصائده يف عنفوان نضالها يف سبيل الكرامة والحرية؟ هل ميكن ألحد أن ينظر إىل ملحمة كانتو جرنال الشعرية «النشيد الشامل» التي متثل أوج عطاء نريودا الشعري وقمة الشعر السيايس يف ذات الوقت عىل أنها تفتقر إىل الخيال أو املوسيقى أو أنها َتت َِّسم با ُمل َباشرَ َة والخطابية؟! ليس هذا فحسب ،أمل يعرف التاريخ أيضاً ثوريني خلصاء نظموا الشعر عىل فرتات ،لعل أشهرهم الزعيم الفيتنامي هويش منه، الذي نظم كثرياً من الشعر يف السجون ،ليخرج بعد ذلك ديوانه الوحيد ورباعياته املجيدة «يوميات السجن»؟ أال تحيلنا الشواهد السابقة إىل ما قاله أحد النقاد يوماً من أن «الشاعر والبطل توأمان»؟ حتى الشعر العريب الحديث مل تغب عنه مناذج الشعر السيايس املتأججة جامالً ونضاالً. وأشهر منوذجني عىل ذلك الشاعران واملجددان العظيامن أبو القاسم الشايب ومحمد مهدي الجواهري .واحتل الشعر السيايس مساح ًة كبري ًة من َن ْظ ِم الشايب ،وكانت قصيدته «إرادة الحياة» نشيد الثوار يف تونس ومرص.إذا الشعب يوماً أراد الحياة فال بد أن يستجيب القدر وال بد لليل أن ينجيل وال بد للقيد أن ينكرس
حسن طلب
أما الشاعر حسن طلب الذي فاجأ الكثريين يف مرص يف عام 2005بقصيدته "مربوك مبارك" والتي اتسمت بالجرأة واملوقف السيايس الواضح ،حتى وصفها كثريون بأنها أشبه بالنبوءة عندما أعادوا قراءتها بعد الثورة ،فريى أنه بعد 135
تحقيق
شعر الثورة لم يُكتَب بعد ،وما ُ ك ِتب مجرد تعبير حماسي عنها وليس شعر ًا بالمعنى المفهوم
ٌ طغيان للسيايس عىل الفني ،وهو ما ثورة يناير كان هناك بنفسه، نفسه ِ يعمل عىل مصادرة حق الفن يف أن ِّ يوجه َ أي حريته يف أن يعمل وفق قانونه الخاص ،ليك يقوم السيايس بتوجيهه وتحديد ما يصح أن يقوله وما ال يصح، بل وتحديد الطريقة التي يقول بها ما يقول .فاملطلوب من الفن يف هذه الحالة أن يظل خادماً يف ساحة السياسة. ويضيف ِطلب" :ال يحتاج الفن دامئاً إىل مرشوع سيايس، فيكفيه مرشوعه الخاص الذي ترسم حدوده الحرية وتنريه شموس الجامل .نعم قد يتصادف أن يقوم الفن أحياناً بدور سيايس تحرييض ،أو بدور اجتامعي مبارش ،وقد يؤدي هذا الدور بنجاح منقطع النظري ،ويف التاريخ شواهد عدة تؤكد هذه الحقيقة ،غري أن ما يقوم به الفن من دور سيايس واجتامعي يشء ،وما يجعله ذا قيمة جاملية باقية يشء آخر مختلف متاماً ،ميكنك مث ًال أن تجد نشيداً أو أغنية حامسية أو مقطعاً شعرياً ساخناً ،يحرك عرشات األلوف من الثوار يف ملح البرص ،ولكن بعد أن ينقشع الغبار، سيحتاج هذا العمل إيل ما يربر بقا َءه فنياً ،وإال فهو ميت ال محالة". من هذا املنطلق يؤكد طلب اعتقاده باستقالل الظاهرة الجاملية ؛ من دون أن يؤخذ ذلك عىل أنه دعوة منه لفصل الفن عن الواقع أو عن املجتمع عامة ،وليس عن السياسة وحدها؛ وهي الدعوة التي يؤكد أنه من أشد خصومها بصورتها الفجة؛ فمجرد اإلمساك بالقلم أو بالفرشاة أو باإلزميل ،هو يف حد ذاته فعل سيايس باملعني العميق للكلمة عىل حد تعبريه .ويضيف أنه" :مادمنا نقول إن اإلبداع الفني ال ميكن أن يتحقق أساساً إال 136
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
انطالقاً من أرض الحرية ،فنحن غري بعيدين عن السياسة مبعناها األشمل ،إال أنه من الواجب هنا التفريق بني الفعل السيايس العام الذي يقوم يف جوهره عىل تأكيد قيم العدالة والحرية يف العالقات اإلنسانية املتشابكة بني أطياف املجتمع ،وبني الفعل السيايس اليومي املرتبط مبشكالت تفصيلية وأحداث آنية وبرامج حزبية ضيقة غري قابلة للتغيري أو حتى للتطوير". ويستطرد طلب قائلاِ ً " :ال يتعرض الفن للخطر إال حني يقع يف فخ السياسة بهذا املعني املحدود .وهذا هو األساس الفلسفي الذي جعل فيلسوفاً كبرياً مثل "كانط" يقرر أن الظاهرة الجاملية غائي ًة بال غاية ،أي أن النشاط الفني الحقيقي منز ٌه عن الغرض .وهو ما ط َّو َر ُه يف النصف األخري من القرن التاسع عرش بعض املفكرين واألدباء من مؤسيس مدرسة (الفن للفن) .ومع هذا؛ ينبغي أال ننيس ما يؤكد القاعدة من استثناءات عرب التاريخ ،حيث ينجح بش َبا ِك ِهم ليقنصوا عباقرة الفن امللهمون أحياناً يف أن ُيلقوا ِ الطائرين معاً :طائر الجامل مع طائر السياسة ،وإن ظل تغريد طائر الجامل هو األصل". ً ويختم ِط ِلب حديثه قائ ًال " :الوقت اليزال مبكرا للحكم عىل ِشعر الثورة عندنا ،ولكن يكفي أن نرصد التهافت بالشعر ،من قبل بعض املفتعل من أجل غسيل الضامئر ِ شعراء العامية الذين كانوا يهنئون مبارك بعيد ميالده قبل الثورة بأشهر قالئل ،وكانوا من أتباع وزير ثقافته مع غريهم من األتباع ،فلام قامت الثورة هرولوا ليلحقوا بقطارها، فكتبوا لها (املانفستو) وبراءة األطفال يف عيونهم ،وعىل جبينهم طهارة الثوريني الرشفاء! كام نرصد ظاهرة أخرى تخص بعض الشباب ممن أغواهم املشهد بحصد لقب "شاعر الثورة" يف الزحام ،وهؤالء مساكني ،فلم يدُ م لهم اللقب إال أشهراً معدودات ،ثم تبخروا كفقاقيع الهواء! أما ٍ الشعراء الجادون ممن استلهموا الثورة يف قصائدهم؛ فال تصدقهم إذا ما قال قائلهم إنه مل يقصد إال مواكبة هذا الحدث التاريخي الجلل والتغني به؛ فام من شاعر حقيقي إال ويطمح إىل أن يجمع بني الحسنيني ،فيحقق املعادلة الصعبة بني الجاميل والسيايس ،وهي معادلة ال يفك طالس َمهَا إال العباقرة ،وال يحلها إال ذو حظ عظيم" ِ
الشعر والثورة
ميدان التحرير
عبد املنعم رمضان
يجري الشاعر عبد املنعم رمضان محاكمة للشعر من أيام الثورة األوىل إىل اليوم قائ ًال« :من خالل مشاهدايت يف امليدان أو خارجه كان الشعر األكرث رداء ًة يف استجابته للثورة؛ فقد أعادوه إىل أشكال قدمية أكرث مناسب ًة للوجدان العام واآلذان والغرائز ،متخلني عن الثورة الخاصة بالشعر .وبالتايل أرى أن كل ما ُك ِتب لن نستعيده مر ًة ثانية ،وسيتحول إىل ذكرى شعرية سيئة ،األمر الذي حدث يف أحداث بورسعيد ،1956 عندما ال نتذكر من الشعر الذي كتب عنها غري نشيد «الله أكرب» ،حيث مل يكن ُم َ عظم ما ُك ِتب يف ذلك الوقت حول تلك األحداث سوى استجابة رسيعة لها عرب أشكال قدمية، كان الشعر يسري عليها قبل الثورة مبارشة». يضيف رمضان« :إن الشعراء الشباب كانوا يحاربون من أجل قصيدة جديدة مثل قصيدة النرث ،متثل قراءة ذاتية خاصة وليست منرباً خطابياً .ويتساءل ُمستن ِكراً :ماذا ُينت ََظر الشعر يف هذا الصدد من يشء أعاد سطوة الجمهور عىل ِ و َكت ََّل ُق َّرا َء ُه يف جمهور ،مع أن طبيعة تلقي الشعر فردي ًة باألساس ،ألن الشعر يسعى إىل «تفرد الفرد» ،كل فرد يف ذاته ،يف حني أن الجمهور ميثل كتلة .ولذلك أرى أن شعر ٌ «نكبة ِشعرية» ألنها أدت إىل تراجع الثورة يف حد ذاته الشعراء لكتابة األناشيد ال القصائد» .ويستطرد رمضان قائالً: «الشعر يفهم الثورة بشكل آخر ،الشعر يراهن عىل الثورة
شعر الثورة في حد ذاته «نكب ٌة شعرية» ألنها أدت ِ إلى تراجع الشعراء لكتابة األناشيد ال القصائد
إلحداث ثورة يف داخل الشعر وجوهره .ولكنَّ الشعر يخيب خيبة الثورة التي انتهت إىل عودة النظام القديم كام ًال. وكذلك انتكس الشعر إىل شعر جامهريي ،حيث مل يكن القارئ العام ينتظر غري ذلك». ويرفض رمضان فكرة تأثر الشعر بالثورة ،حيث يرى أن الشعر ال يكون أبداً رد فعل ،ألنه رحلة يف أعامق اللغة والشكل واإلنسان ،ليعود هذا األخري إىل طفول ِت ِه ويرى فالشع ُر -عىل حد تعبريه ُ -ي ِّ األشياء ألول مرةِّ . نظف العني ُ لرتى األشياء مرة ثانية ،أما الشعر الذي أن ِت َج خالل الثورة وحتى اآلن فيصفه بأنه «طبخة باردة ال تصلح لألكل ورمبا ميرض من يأكلها ،ألنه مل يقدم إال رؤية مألوفة قامئة عىل رؤية املكرر واملعاد من دون أن يرى الثورة برؤية جديدة» 137
شعر وخط أبت رقتي إال الذي يقتيض الهوى...وعزمي إال ما اقتىض الرأي والعقل
منير الشعراني
مهب الشعر في ّ الخط العربي
املتاهة
ّ الخطية التي يسلكها منري الشعراين يف كتابة عبارة شعرية ،ال تقل غموضاً عن الصورة الشعرية ،التي يختارها هذا ّ الخطاط السوري املتف ّرد .العبارة هنا تحمل مدلوالً برصياً يعادل املعنى تخوم أبعد ،ذلك أن االختزال الشعري ،أو أنه يذهب به إىل ٍ يتط ّلب اكتفاء ذاتياً بالعبارة ،وتجاهل ما قبلها وما بعدها، أو حسب ما يقول يوسف عبدليك« :يعمل منري الشعراين عىل أرس وفك التكوين يف آنٍ واحد :يحرص عبارة يف مربع أو دائرة أو معني ،ثم يكرس حدودها الخارجية ،وكأنه يقبل تحدياً وضعه لنفسه يف إنجاز العبارة ضمن فضاء مغلق فيظهر لنا مهارته يف التعاطي مع هكذا اختبارات ،ثم يعود إىل نزعته يف كرس ما هو ثابت ،فيعمل عىل تحرير محيط التكوين باخرتاق حرف ما الجهة اليرسى من املربع ،أو متزيق ألفات متطاولة لسقف الشكل األعىل ،وهو بذلك يعيد فتح فضاء اللوحة املغلق عىل فضاء الورق األوسع».
138
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
الصلة بين الشعر والخط العربي تتجاوز الحروفية
واللعبة الزخرفية الجمالية إلى العالقة بين الشعر ً والتشكيل،انطالقا من الطاقة البصرية التي يختزنها الخط
والموسيقى الداخلية الكامنة في الظاهر والباطن
خليل صويلح
مل يكتف حفيد الخطاط الدمشقي «بدوي» بتجاربه مقام آخر، الشخصية يف تطوير الخط العريب ووضعه يف ٍ خارج املدرسة العثامنية القدمية ،بل ذهب أبعد من ذلك ،نحو شطح يسعى إىل الكشف ،ويسمو إىل التجريد واإلضافة «ولو بقدر يف ريّ شجرة الخط العريب الوارفة التي ما تزال تثمر جامالً عىل رغم ظالل الجمود وحجب الجهل والتخ ّلف».
مقاربات شعرية
مل يجرؤ عىل وضع إمضائه عىل الخطوط التي كان يبتكرها إال بعد رحيل معلمه «البدوي» .يقول متذ ّكراً معلمه الراحل «مكنني شيخي من التقليد واألصول ،وخلاّ ين يف مقام الحرية، فرأيت «العلم املستقر كالجهل املستقر» ،وأخذين الحال فأصبحت كلام ارتقيت مرتبة سموت إىل أبعد منها ،وأمعنت يف طلب املعرفة فقادتني إىل حرضة الخيال فشطحت أطلب
منير الشعراني
ْ وكشفت حجاب حرييت، تجسيد املعاين ،فتجلت يل يف املباين، فرصت عىل الربزخ بني السكون والحركة ،أرجو تجاوزه إىل الحركة ،والحركة حياة». حني نتوقف أمام أعامله الخطية املبتكرة عىل جدران مشغله الجديد يف دمشق ،سنستعيد عبارات مقتبسة من أيب حيان التوحيدي ،واملتنبي ،والن ّفري .هؤالء هم ضالته يف استعادة بهاء الحرف العريب ،ونفض الغبار عن فن أصيل وقع طوي ًال تحت سطوة التجويد عىل حساب املعنى واملتانة الغرافيكية عرب تكوينات جديدة ومتناغمة ،أفقية وشاقولية، تؤسس لسؤال برصي يف صوفية مغايرة .عىل املقلب اآلخر سنجد نفحة حداثية يف اختياراته ،ومقاربات شعرية تختزل املسافة بني أشعار املتنبي وعباس بن األحنف ،والنابغة الذبياين من جهة ،وأشعار محمود درويش والس ّياب ومحمد املاغوط ،إىل وليد خازندار. خالل تجاربه املتواصلة ،كان منري الشعراين يشعر أ ّنه ميأل فراغ سنوات طويلة ،مل يغامر أحد خاللها يف اكتشاف رحابة مهب آخر بال ضفاف. هذا الفضاء الغرافييك ،ووضعه يف ّ ينفي هذا ّ الخطاط األبعاد الصوفية للوحته ،ويرى يف هذه النظرة قصوراً معرفياً يف اختزال خمسة قرون من تجليات الخط العريب واملوسيقى الداخلية التي ّ تنظم هندسة الفراغات والكتلة. هكذا خاض تجارب غري مسبوقة يف جامل األداء ورصامة البنية الزخرفية والتكوينات املتناغمة ،وتعدّد الرؤى تجاه العبارة ذاتها .لطاملا أعاد كتابة عبارة ما بحلول غرافيكية متعددة، وبعيدة عن النسخ والتكرار ،وذلك بتأثيث الحرف جاملياً ،انطالقاً من املعنى الكامن يف العبارة املختارة. وإذا باللوحة تذهب إىل مناطق بكر بلمسة مبتكرة يف التشجري والتوريق ،من دون أن تعلن قطيعتها مع حفريات املعلمني الكبار .الشغف بالعبارة يضع خطوطه يف احتامالت متعددة وابتكارات برصية ّأخاذة .سنتوقف أمام عبارة محمود درويش «يف
الشام مرآة روحي» يف مقرتحني مختلفني ،تحدد النقطة مركز الثقل بلونها املختلف عن املنت ،فيام يتح ّكم برصامة التكوين وتطويعه يف آنٍ واحد. وهكذا نتتبع استقامة حرف األلف وانسياب ّيته ،بوصفه دلي ًال رس الصنعة وجوهر عىل بقية األحرف ،لنف ّكك عىل مهل ّ تجربته الحداثية التي ال تتوقف عن التجريب واملغامرة يف استنباط تأثريات برصية مشبعة بالتأويل .ذلك أن «العارف صاحب تجريد» وفقاً ملحتوى لوحة مقتبسة من مأثورات ابن عريب .هذه العبارة ستقابلنا مبجرد أن ندخل محرتفه الجديد ،كأن منري الشعراين يرغب يف أن يختزل املسافة إىل لوحته من دون مقدمات .الحداثة التي يعمل عليها غري منقطعة الجذور عن األصل ،لكنها تأيت من موقع «التم ّرد عىل الفصل الجائر بني الخط العريب والتشكيل» وفقاً ملا يقوله يف توصيف تجاربه. يف محرتفه ،تتكدس دواوين شعرية قدمية وحديثة ،ستكون مدار بحث وتنقيب عن املادة التي ستجبل ببياض اللوحة. عدا نصوص ابن عريب واملتنبي وملحمة جلجامش واألقوال املأثورة ،استعان منريالشعراين بنصوص حداثية جديدة وأدخلها يف مختربه .لكنها لفرط الكثافة والتمحيص ،اعتقد بعضهم أ ّنها نصوص مغرقة يف القدم .لن نهتدي بسهولة إىل صاحب «الكالم رشك» ،أو «الجهل عمود الطأمنينة» ،أو «ال حقيقة يف الظل» .سيخربنا باسم شاعر ال يخطر يف البال بسهولة ،إنه وليد خازندار ،شاعره وصديقه األثري. عدا وليد خازندار ينكب منري الشعراين يف لوحاته الجديدة عىل اختيار عبارات صارمة من أشعار الجواهري ،ومحمود درويش، ومحمد املاغوط ،وسليم بركات، ومحمد بنيس...
اعادة اعتبار للخط
تنطوي تجربة منري الشعراين يف ّ الخط العريب إذاً ،عىل مغامرة حقيقية ،تسعى من دون هوادة إىل تأصيل لوحة ّ خطية عربية، تعيد االعتبار إىل الخط بوصفه
هذي حروف اللفظ سطر واحد منها يؤلف للكالم بحار 139
الشعراين يف محرتفه
فناً عريقاً ،خارج الوظيفة النفعية من جهة ،وبعيداً من الحروفية ذات البعد االسترشاقي من جهة أخرى .لوحاته تقف عند املسافة الفاصلة بني موروث الخط العريب، والتطلعات الذاتية لتأثيث الحرف بإمكانات جاملية ووجدانية تنبثق من جوهره ومعناه .كام تنأى عماّ هو مقدّس ويقيني ،يف محاورة جدلية الستنباط أفكار جديدة ومبتكرة لوضع الخط العريب يف مقام تشكييل وبرصي ينافس اللوحة بكل أبعادها الجاملية ،وذلك من وجهة نظر حداثية ،ومن دون قطيعة معلنة مع املنجز القديم .هكذا، تأيت تجاربه التقنية ترجيعاً لدراسة مع ّمقة إلمكانات الحرف العريب وأرساره يف التوريق والتشجري ،وفهم التجريد الهنديس الدقيق لكل حرف عىل حدة ،بنا ًء عىل حفريات آباء الخط العريب يف العامرة اإلسالمية. ال يأنس هذا الخطاط إىل خيار واحد يف شطحه الحرويف، سواء لجهة األسلوبية يف بناء اللوحة ،أو يف أشكال الخطوط، إذ ّإن املسألة تحتمل وجوهاً عدة إلبراز هذا الحرف أو ذاك ،تبعاً ملوقعه يف العبارة املختارة .هكذا ،تحيل لوحة مأخوذة من موروث ابن عريب أو النفري ،مث ًال ،إىل نفحة صوفية عالية ،تتبدى بإرشاقات الحرف عرب منحى برصي وتطريبي ،يستعيده الشعراين يف أكرث من مترين ،وذلك باستخدام مقرتحات الخط الكويف عىل نحو خاص .ال تنتهي أغراض اللوحة هنا عند حدود الخط ،بل تتعداه إىل تأثريات 140
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
برصية تعمل عىل ما وراء العبارة من قيم وأمثوالت وأقوال مأثورة .فاللوحة لدى حفيد شيخ ّ الخطاطني الشوام بدوي الديراين تنهض عىل أكرث من سطح :سطح أول ينشغل بإيصال الشحنة الجاملية والبرصية للحرف ،وسطح ثانٍ للرس املخ ّبأ بني ثنايا العبارة ،يف ما للغز املعنى ،وثالث ّ يخص الظاهر والباطن ،أو الخفي والجيل ،ما يشحن اللوحة مبوسيقى تجريدية تتوحد يف روح الكالم« :املكان إذا مل يكن مكانه ال يع ّول عليه» ،أو «العني رساج الجسد» ،و«العلم يف العني حرية» ،أو«السامع إذا مل يوجد يف اإليقاع ويف غري اإليقاع ال يع ّول عليه» .هنا يتناهبنا الشغف بني جاملية التصميم الحرويف ،وبني املعنى العميق للعبارة .هناك إذاً، بعد تحرييض لفحص واختبار الشحنة التي يبثها الخطاط يف لوحته. يف اشتغاله عىل بيت امرئ القيس «أال أيها الليل الطويل أال ا ْنجلِ » ،يلجأ الشعراين إىل تأثيث هذا الشطر من البيت بأقواس متداخلة ومغلقة ،عىل خلفية سوداء .هكذا ،تبدو العبارة كام لو أ ّنها متاهة ،لوال استخدام النقاط التي تشع باألحمر وسط العتمة املطلقة .لكنّه يف مقرتح آخر للعبارة عينها ،يجد حلوالً برصية أخرى باستخدام انسيابية حريف األلف والالم واستطاالتهام ،فتنشأ كتلة يف الفراغ تحيل إىل استغاثة ورمبا رصخة يف العراء للخروج من عتمة الليل الطويل.
منير الشعراني
سلم موسيقي
حرف األلف هو مرتكز أسايس يف اشتغاالت الشعراين الخطية ،وذلك لقدرته عىل التف ّرد بني الحروف األخرى لجهة التجريد والتوريق ،ثم تأيت الهمزة عىل شكل طائر ّ يحط عىل شجرة املعنى. يج ّرب الشعراين مختلف أنواع الخط العريب تبعاً لتناغم األحرف يف هذه العبارة أو تلك الختبار أبعادها التشكيلية، وقد يعود إىل العبارة يف نوع آخر من الخط ،سواء أكان كوفياً أم ثلثاً أم ديوانياً .كأن هذا ّ الخطاط ال يستقر يف مكان ،فهو دائم البحث والتجريب .صحيح أ ّنه امتداد لتجارب الخطاطني الكبار ،لكنه يف املقابل يسعى إىل التجاوز واإلضافة لتأكيد توقيعه الشخيص بعيداً عن النص املقدس الذي ارتبطت به تجارب معظم الخطاطني القدامى .إذ بقي نحو خمسة قرون حبيس هذا املنحى الديني ،وخصوصاً يف فرتة الحكم العثامين للمنطقة العربية. هذا املأزق تجاوزه الشعراين عرب كرس القوالب التقليدية للخط العريب ،واملزاوجة بني الجامليات الخاصة بهذا الخطّ وقيم التشكيل الحديث ،ما فتح آفاقاً رحبة ومبتكرة أمام لوحته .روحانية أعامل الشعراين ترقى إىل مستويات تجريدية عالية ،ال تتّكئ عىل ما هو مألوف يف الزخرفة والحوايش والتوشيحات ،بل تنبثق من الداخل بتطويع الخط غرافيكياً ،وتكشف ما هو مسكوت عنه بفتنة برصية آرسة، فتتجاور األحرف املحبوكة بقوانني هندسية صارمة ،عىل شكل س ّلم موسيقي مينحها رنيناً خاصاً ،وتأويالت ال تحىص، عرب التناسب الدقيق بني الخط والنقطة والدائرة ،والفصل والوصل ،واالنحناء واالستقامة. بعيداً عن التقنية وتناغم الكتل والفراغات يف قاعدة اللوحة وعمقها الهنديس ،يتفرد هذا الفنان بانحيازه إىل املوروث الرسدي العريب القديم ،وبعض النصوص الشعرية املعارصة. وهو يف اختياراته هذه يعبرّ عن ذائقته الشخصية أوالً، كام يبث رسائل إىل املتل ّقي بإشارة أو تأويل .وإذا بالنص يوجه مسار اللوحة ومقرتحها الرسدي .هكذا ،تتجاور املختار ّ نصوص ابن عريب مع أشعار املتنبي والنابغة الذبياين وعمر الخ ّيام وعباس بن األحنف ،وح َكم اإلمام عيل بن أيب طالب، ومأثورات عربية يف الحكمة واملحبة والخري والجامل ...كام يخوض هذا ّ الخطاط املتمرد تجربة مهمة يف مناوشة ملحمة
ان للقلوب اقباال وادبارا
«جلجامش» خطياً وبرصياً ،حني ينطلق من عبارة مركزية يف امللحمة ،ومن ثم يتوغل يف منت النص .فعبارة مثل «التيه يبدأ منك» ،الواردة عىل لسان جلجامش ،تنطوي عىل حمولة فلسفية ومعرفية ،رسعان ما تنفتح عىل بعد حكايئ ييضء رحلة جلجامش وأنكيدو يف البحث عن عشبة الخلود. خطياً ،ستتوسط العبارة سطح اللوحة ،ويقع ثقل الكتلة عىل حرف الكاف وحده .هذا الحرف الذي يأخذ شكل الهرم بتوريق بسيط يف نهايته .أما النص نفسه ،فيبدأ دائرياً تبعاً لطواف جلجامش وأنكيدو ،قبل أن يستقر عىل شكل مستطيل باألسود واألحمر ،وتؤلف الكتلتان مالمح شخص يواجه مصرياً مجهوالً. إذا تأملنا مث ًال يف لوحة «إن املحب لتبدو منه أرسار» من أشعار عباس بن األحنف ،نالحظ كيف تتك ّون الكتلة عىل شكل قلب قي قاعدة اللوحة ،بينام يظهر مطلع القصيدة مثل هالل يف أعالها ،ثم يكتمل النص عىل شكل قمر. يف «مصنّفات» الشعراين ،نحن إزاء «عقد فريد» من نوع آخر ،إذ تتجاور مد ّونات تراثية وحداثية يف فضاء ٍ ً واحد ،وميلوديات متعددة ،تبعا إليقاع العبارة ،وشطحها املوسيقي ،وتناوب حضورها أفقياً وعمودياً .رنني واضح لكل حرف ،ما يش ّكل يف نهاية املطاف ،نغ ًام موسيقياً كطبقة ثالثة يف معامر اللوحة :الخط واملعنى واإليقاع 141
حوار
شهاب غانم
األدب العربي قديمه وحديثه جدير بالترجمة
منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي بدأ
الشاعر والمترجم شهاب غانم أولى تجاربه ً عاما في الترجمة الشعرية .وطيلة ثالثين
لم يترجم سوى الشعر ،في الصحف والمجالت من العربية
ّ وكون بذلك إلى االنجليزية ،ثم من االنجليزية إلى العربية، حصيلة معرفية في هذا الحقل الصعب وكذلك خبرة ُ ودربة
قامت على وجهة نظر شعرية في مقاربة الترجمة «بيت الشعر» حاورت غانم حول هذه التجربة.
دبي -بيت الشعر
تبدو تجربتك يف ترجمة الشعر الهندي ،سواء من الشعراء املقيمني هنا يف دولة اإلمارات أم من الذين يف بالدهم ،الفتة بالفعل ،كيف وصلت إىل هؤالء الشعراء هنا وما هي أصداء ترجمتك لهم ،ثم هل يحمل هذا املرشوع آفاقاً أخرى مع شعراء آخرين من املمكن أن ترتجم لهم؟ بدأت عالقتي بالشعراء الهنود عام 1996عندما قررت إحدى املؤسسات الهندية الثقافية يف اإلمارات تكرميي مع الشاعرة الشهرية كامال ثريا «كانت يف ذلك الوقت هندوسية تسمى كامال داس ،واعتنقت اإلسالم عام ،»1999وكانت مرشحة لجائزة نوبل منذ .1984و ُك ِّرم معنا أيضاً شاعر أغاين األفالم الهندية الشهري يوسف عيل كترشي .وكان تكرميي بسبب جهودي يف ترجمة الشعر العريب إىل اإلنكليزية ونرش الرتجامت يف الصحافة اإلنكليزية .وقامت كامال بإهدايئ أحد دواوينها باللغة اإلنكليزية وبرتجمة قصيدة يل إىل لغة «املااليامل» عىل املنصة مبارشة ،كام أشادت مبا يف شعري من معاين الحب .وكان ذلك مشجعاً للشعراء الهنود يف 142
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
اإلمارات للتواصل معي .وجاء أول اتصال من الشاعر رام موهن وأحرض يل ديواناً مرتج ًام إىل اإلنكليزية من الشاعر الشهري ساتشيداناندان أمني عام أكادميية اآلداب يف الهند فيه إهداء يل بخط يد هو – أي ساتشيدانندان -الذي ترجمه بنفسه كام أهدى يل رام مهن ديواناً مشرتكاً له مع شعراء آخرين ،وقد أدركت أهمية كامال داس «ثريا» وساتشيداناندان فقمت برتجمة بعض قصائدهام ،ونرشت تلك الرتجامت يف الصحف واملجالت ووجدت أن تلك الرتجامت انتقلت برسعة إىل مواقع إلكرتونية .وبدأ الشعراء الهنود وجلهم من كرياال يتصلون يب ويزورونني يف منزيل ويقدمون يل ترجامت لقصائدهم ومنهم سارجو شاتهانور، وشهاب الدين بويثمكادافو ،وأنيل كامر ،وأنوب شاندران، وقمر الدين أمايام ،وآسمو بوثنشريا ،وطبعا رام موهن .ثم بدأ بعد ذلك يزورين عدد من مشاهري الشعراء من الهند ومنهم ساتشيداناندن الذي ترجمت له فيام بعد ديواناً من املختارات نرشته «كلمة» قبل أن يتم ترشيحه لجائزة
شهاب غانم
نوبل بعدة سنوات .ومنهم شوليكاد وعدد من املشاهري، عنوان «قصائد من الهند» .كام ُنشرِ يل يف مرشوع «كلمة» كام تعرفت عىل عدد منهم يف منزل القنصل العام الهندي إىل جانب مجموعة ساتشيدانادان ديوان «يا ألله» لكامال الذي أقام يل معهم عشاء ،ومنهم الشاعرة الشهرية شجوثا ثريا تحت عنوان «رنني الرثيا» وفيه عرب أربعني قصيدة كامري التي استضيفت بعد ذلك يف معرض الشارقة تتحدث عن اكتشافها الله واعتناقها اإلسالم ،وقد حصلت للكتاب .وعندما حصل أتور فارما عىل جائزة أكادميية ترجمتي عىل أول جائزة الرتجمة من العويس لإلنجاز اآلداب يف كريال قررت األكادميية الخروج عىل العادة ،وذلك العلمي يف أوائل هذا العام .ومنذ عامني جرى تكرميي يف بتقديم الجائزة يف اإلمارات بدالً من كريال ،وطلب مني أن أكادميية اآلداب بكريال ،وكنت أول أديب عريب يكرم فيها أقدم الجائزة وكان ترشيفاً كبرياً يل .وقد ترجمت مجموعة وكانت األكادميية مكتظة باألدباء والصحفيني وشهد الحفل ً تحوي 50قصيدة لثالثني شاعراً وشاعرة من املشاهري وأيضا األديب اإلمارايت د .عبدالحكيم الزبيدي. من القاطنني يف الخليج ونرشتها الدائرة الثقافية يف الشارقة ويف هذا العام صدرت عن دار موتيفيت بديب ترجمتي تحت عنوان «قصائد من كريال». ملجموعة جيتا شهابرا «أربعون قصيدة من الهند لإلمارات» وقد زارتني الشاعرة الدكتورة نرماال سوريش من مدراس وهو كتاب كبري الحجم «أو ما يسمى كتاب طاولة قهوة» يف تاميل نادو يف مكتبي بجبل عيل ،وحدثتها مطوالً عن وهو خامس كتبي املتعلقة بالشعر الهندي .وقد شاركت يف الشعر العريب القديم والحديث وأهديتها كتايب «ظالل عدد كبري من املؤمترات التي تتحدث عن العالقات الثقافية الحب» ،وهو من شعري و «أصداف وآللئ» وهو ترجامت العربية الهندية ومن أهمها مؤمتر أقامته مجلة العريب يف لنامذج من شعر اإلمارات إىل اإلنكليزية ،كام حصلت مني الكويت عام 2011ومؤمتر رعاه مركز سمو الشيخ سلطان عىل ترجاميت للشعر العريب إىل اإلنكليزية ،ومن خالل هذه بن زايد يف أبوظبي عام 2011ومؤمتر عن كامال ثريا يف املواد وأيضاً من خالل ترجامت د .غازي القصيبي ترجمت عامن عام 2011ومؤمتر يف معرض الكتاب بنيودلهي عام مناذج من الشعر العريب إىل لغة «التاميل» ،ومن ضمنها .2012 قصيدة لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد ومجموعة وقد استضافتني كثري من الجمعيات الهندية الثقافية من قصائدي .كام أصدر ساتشيداناندان وبعض زمالئه كضيف رشف يف حفالت ثقافية كثرية .ومؤخرا ترجم ديواناً من قصائدي مرتجمة إىل «املااليامل» ولعله أول الشاعر املعروف كيالش ماهر بعض قصائدي إىل األوردو ديوان لشاعر عريب بتلك اللغة. كام ترجمت يل أكرث من قصيدة إىل الهندية وهي رابع لغة وعندما استضاف معرض كتاب أبوظبي ساتشيداناندان هندية يرتجم إليها يشء من شعري بعد املااليامل والتاميلية عام 2005ثم كادامانيتا رام كريشنان يف عام 2006 ،كنت واألوردو. أنا َمنْ ترجم أشعارهام إىل العربية مع صدور التقرير الشهري عن األمم وقدمهام شخصياً يف املعرض .وقد املتحدة والذي أورد أن العرب عالقتي بالشعر رافقت األستاذ جمعة القبييس إىل ترجموا طيلة تاريخهم ما يعادل الهند قبل خمس سنوات ملحاورة الهندي تعود إلى أكثر ما ترتجمه إسبانيا يف عام ،يف ضوء األدباء والنارشين الهنود لجذبهم ذلك كيف ترى هذه املقارنة أليست من 15عام ًا ،ترجمت للمشاركة يف معرض كتاب أبوظبي. ظاملة ومجحفة عىل أقل تقدير؟ وإثر ذلك قمت برتجمة مجموعة باملقابل كيف تنظر إىل تجربة خاللها كبار الشعراء تحوي 80قصيدة من الشعر الرتجمة العربية الحديثة وهل ال العربية إلى الهنود الهندي من 12لغة هندية رئيسية نزال ال نعلم الكثري عن ثقافات لثالثني شاعراً وشاعرة من املتميزين العامل مبا يف ذلك الثقافات املجاورة وقد نرشها املجمع الثقايف تحت وتلك التي تنتمي للقوس الحضاري 143
حوار
والثقايف العريب واإلسالمي؟ برأييّ ،أن فائدة ذلك التقرير أنه ينبه إىل تخلفنا الكبري يف مجال الرتجمة حتى ولو كان التقرير غري دقيق ومشكوك يف أرقامه .نحن يف حاجة إىل ترجمة ما لدى الشعوب من علوم وآداب ،مبا يف ذلك الهنود والصينيون ،وما أسميتهم أنت بالقوس الحضاري والثقايف اإلسالمي ،وأيضاً نحن يف حاجة لرتجمة أشعارنا وآدابنا إىل اللغات الحية ،فام لدينا ،نحن العرب ،من ِشعر وأدب ،بقدميه وحديثه ،مهم ويستحق الرتجمة. قلت م ّرة أنه ال وجود لرتجمة نهائية ،وأنها قد تختلف منشاعر إىل آخر يقوم بفعل الرتجمة بل عند الشاعر نفسه أيضاً ،ما هو األساس املعريف الذي بنيت عليه وجهة نظرك هذه؟ أم أنها نتاج خربتك الشخصية يف الرتجمة؟ لقد قلت ذلك عن ترجمة الشعر فقط .يكفي ،هنا ،أن ننظر إىل ترجامت رباعيات عمر الخيام إىل العربية التي تبلغ نحو ثالثني وإىل االختالفات الكبرية بينها يف الشكل وإىل حد أقل يف املضمون لنصل إىل مثل ذلك الرأي .وأنا أيضاً أبني مثل ذلك الرأي بناء عىل تجربتي الشخصية. قلت ،أيضاً ،أن الرتجمة الشعرية هي نقل لصورة ومعنى، وأن النرث قد يكون األكرث تعبرياً عن ذلك ،هل يعني ذلك أن هناك شعراً من املحتمل نقله موزوناً وشعر آخر ليس باإلمكان فعل ذلك معه إال بالنرث؟ الرتجمة ،يف حقل الشعر ،هي ترجمة للصور واملعاين ،أما البالغة والجناس والبديع وسواها فيصعب نقلها وكذلك الوزن والقافية .تستطيع أن ترتجم الشعر إىل شعر موزون ولكنه سيكون وزناً وإيقاعاً مختلفاً .وستكون الرتجمة قصيدة موازية ورمبا ال تقل جامالً عن األصل أو تتفوق عليه 144
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
يف بعض الحاالت النادرة .الفيصل ،يف هذا الشأن ،هو تفاعل املرتجم الشاعر مع النص األصىل ومدى انسجامه معه .ويف حاالت قليلة وجدت نفيس منفع ًال بحيث كتبت ترجمة شعرية موزونة لنص يف األصل موزون .ولكن عادة أكتفي بتقديم ترجمة شاعرية اللغة للمعاين والصور وأحاول نقل املشاعر واالنفعاالت. ما املرشوع الذي تنشغل به اآلن ،عىل صعيد الرتجمة ،وما هو املوضوع الذي يقلقك؟ سوف ُينرش يل هذا العام مجموعة من قصائدي ترجمتها إىل اإلنكليزية وتحوي نحو ربع ما كتبت من شعر ،وقد قمت برتجمتها عرب سنوات طويلة ،ومجموعة أخرى من الشعر األجنبي ترجمتها إىل العربية ،وستصدر هذه األخرية يف أول هذا الشهر يف كتاب مستقل مع مجلة ديب الثقافية، التي كانت قد تكرمت فأصدرت يل عدة كتب مشابهة مثل «قصائد لشعراء جائزة نوبل» عام ،2009و«ليك ترسم صورة طائر وقصائد أخرى» عام .2010كام أعمل منذ أكرث من عرش سنوات «أو باالصح منذ أواخر القرن املايض!» عىل قاموس لألمثال اإلنكليزية وما يعادلها أو يقاربها يف العربية من حكم وأمثال وهو كتاب كبري وقد اقرتبت من االنتهاء منه بعون الله .أيضاً أعمل عىل ترجمة مختارات من الشعر العريب الحديث ملشاهري الشعراء إىل اإلنكليزية .ولكن يف نظري أهم ما أعمل عليه هو كتاب مشرتك أعمل عليه منذ سنوات مع ولدي املهندس وطالب الدكتوراه وضاح غانم عن سورة الفاتحة باللغة اإلنكليزية .وهو كتاب متعمق وقد نرشنا منه عدة فصول يف مجالت متخصصة ولكن ما زال أمامنا نحو النصف ،ونسأل الله العون يف هذا املجهود الهادف
شهاب غانم
مع الشاعرة كامال ثريا
قصيدتان للشاعر :نايرندراناث شاكرافاريت ترجمة :د .شهاب غانم همالتا
همالتا بعض الكلامت تحوم يف الظالم يف بلدان أجنبية وبعضها تطري مع الرياح وبعضها تحتجز تحت األحجار وبعضها تطفو بعيداً مع النهر وبعض الكلامت تخلد للصمت وهي تحرتق. همالتا لقد أعطي ِتني كلمتك ،أما أنا فلم أعطك كلمتي ،ليس بعد ولكنني مل أفقد األمل، ليس بعد لقد توقفت عن جر شبكة أحالم العشق عرب الريح واملاء والنار واأليام والليايل، فلو أنني أجد تلك الكلامت ذوات القوايف سأقدمها لك. همالتا ،ال تهدمي بيتنا ،ليس بعد. كوين صبورة ،أرجوك ،تصدقي ع ّ يل بقليل من السنوات.
قطيعة ،و
هناك طحلب تحت سطح املاء مبسافة قصرية ميكنك أن تراه لو ملت قلي ًال نحوه؛ ولكنها ال تهتم بأن تراه إنها ترسل نظرتها بعيداً نحو الوردة الحمراء. وأنا أرقب من الفجر حتى الغروب أرقب كيف يتحرك الطحلب بدون توقف مثل الحب الذي أصابته القطيعة ..والشوق. *** أن الذي يخرتق قلبه عمود ذو خمس شعب، اسمه الحب. والذي ّ يزرق لونه كأمنا قد عضته كوبرا، اسمه الحب. كانت جديت تردد :إن الذي ميزق الشمس لييضء مصباحاً يف كوخ حزين، اسمه الحب ولد شاكرافاريت يف البنغال وتخرج يف كلية سنت بول يف كلكتا وعمل يف الصحافة .نرش نحو خمسني ديواناً شعرياً بالبنغالية منها 17 لألطفال .كام نرش 12رواية وخمس مجموعات من املقاالت وكتابني يف أدب الرحالت وسرية ذاتية .وحصل عىل عدد من الجوائز األدبية منها جائزة أكادميية اآلداب الهندية
145
ندوة
في المنامة احتفاء خاص مجلة «بيت الشعر» كانت محل احتفاء في المنامة يومي 28و 29من الشهر الماضي ،خالل
ندوة أقامتها وزارة الثقافة في البحرين ،في إطار فعاليات «المنامة عاصمة للثقافة العربية للعام .»2012تناولت الندوة في يومها األول الدوريات العربية المتخصصة في الشعر ،غير أنها كانت بمثابة احتفالية من نوع ما بوالدة مطبوعة شهرية متخصصة في الشأن الشعري
فحسب .وفي اليوم الثاني من الفعالية ذاتها استضافت الوزارة المشرف العام للمجلة ً مؤخرا عن منشورات الشاعر حبيب الصايغ لمناسبة صدور أعماله الشعرية في جزءين
اتحاد ّ كتاب وأدباء اإلمارات في أمسية شعرية خاصة قدمته خاللها الناقدة ديمة الشكر
المنامة -بيت الشعر
واالنتكاسات الثقافية والفكرية واأليديولوجية يف الوطن أدار الندوة الشاعر اللبناين عبده وازن مسؤول الصفحة ً العريب» ،مؤكدا تفاؤله بصدور مجلة «بيت الشعر» يف سياق الثقافية اليومية يف جريدة الحياة اللندنية وشارك فيها التساؤل ذاته .وذلك عىل اعتبار أن دفرت أحوال العريب هو الشاعران :يوسف أبو لوز مسؤول القسم الثقايف يف يومية «دفرت انتصاراته وهزامئه .إنه فن ذايت بامتياز ،ولكنه يف الخليج وحسني درويش مسؤول القسم الثقايف يف يومية الوقت نفسه تعبري عام ينطوي عىل موقف ورأي» .داعياً البيان. ً إىل «محاربة استسهال كتابة الشعر وعدم اتخاذه منصة إىل تحدث يف الندوة يوسف أبولوز ،بدءا بالسؤال عن الحاجة أي أغراض غري غرضه اإلبداعي الجاميل» ،وكذلك إىل رضورة إىل منرب جديد للشعر العريب ،وقال« :املجلة املتخصصة متسك املجلة بتميزها املهني الخاص الذي ظهر مع عددها بفن الشعر هي يف العمق مرشوع ثقايف إبداعي فكري ّ األول ،بوصف ذلك جانباً من جوانب مرشوعها الجاميل. ونقدي ،فهي تتضمن بالرضورة الشعر والتفكري يف الشعر، من جهته ،مهّد حسني درويش وتتضمن الشعر وجامليات لورقته بطرح مجموعة من الشعر ،وتتضمن الشعر ونقد تمسك المجلة ضرورة التساؤالت بنى عليها رؤيته ملايض وسياسة الشعر ،وتتضمن الشعر ّ بتميزها المهني الخاص املجالت الثقافية املتخصصة ،وقال: الشعر». «هناك مناخات سياسية تحكم وأضاف يف ورقته التي حملت الذي ظهر مع عددها مطبوعات النرش يف الوطن العريب العنوان« :دفرت أحوال العريب» األول ،بوصف ذلك جانب ًا ويرتبط نشوء أية مطبوعة ثقافية أن «ظهور مجلة شعر متخصصة شعرية مبرشوع فكري عام وعلينا ال ب ّد أن يجري يف بيئات ثقافية من جوانب مشروعها مراعاة األجواء السياسية املحيطة وسياسية متفتحة وواعدة الجمالي بنشوء املطبوعة». بالحرية ،واعترب أن موت مجالت واعترب درويش َ نهوض مرشوع شعري الشعر يرتبط باألحوال السياسية 146
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
بيت الشعر
وازن
درويش
أبو لوز
املشهد العام الذي يلتقي يف رحابه الشعراء «الغفريون»، يف مثل هذا الوقت والظرف العربيني مبثابة قيام مرشوع وتعيد قراءة النتاج الشعري املرتاكم واملقوالت الكبرية فكري ،وأعطى مثاالً عىل ذلك مجلة اآلداب اللبنانية التي والصغرية والعناوين والظواهر التي مازالت تجتاح الشعر كان يرشف عليها الكاتب والروايئ سهيل إدريس «لبنان»، الفتاً االنتباه إىل أن هذا النموذج من النرش ترافق مع بروز العريب بدءاً من الستينيات .غري ّأن الحركة الشعرية ال تفتقر فقط إىل مجلة تكون منرباً لها ،مجرد منرب أو واجهة تلتقي حركات التحرر العربية يف الخمسينيات والستينيات من فيها األصوات والتجارب عىل اختالفها وتناقضها الصارخ ،بل مرسمني، القرن املايض ،وقال« :أصبح كتّاب هذه املجلة ّ إىل مجلة تكون أقرب إىل املوئل الشعري الذي تتفاعل فيه وترافق ذلك مع نضوج فكرة الحرية». التجارب والنظريات ساعي ًة إىل ترسيخ مناخ شعري خاص أو أيضاً ،تناول درويش منوذج مجلة شعر املرصية الصادرة اتجاه أو مدرسة». يف العام ،1964وذلك يف سياق إشارته إىل ظاهرة توقف وبعد أن استعرض تاريخ مجالت الشعر العريب ،قال وازن: أو عدم استمرارية صدور املجالت الثقافية ،وأرجع ظاهرة «لعل ما يدعو إىل اسرتجاع «ذكرى» املجالت الشعرية هو التوقف هذه إىل ما سامه «غياب فكرة نجومية الفكر»، صدور مجلة جديدة هي «بيت الشعر» التي أطلقها أخرياً وسهولة الحصول عىل الشعر من العامل االفرتايض وتراجع بيت الشعر يف أبو ظبي ،يف إرشاف دور املدرسة أدبياً .وختم بالقول: الشاعر حبيب الصايغ ومعه لفيف «طرح مطبوعة شعرية ُيعد شعرية مطبوعة طرح من الشعراء الشباب يف مهمة مغامرة كبرية يف وقت ينرصف التحرير ...ولعل ما يلفت بدءاً ّأن فيه فيه الناس عن الشعر وتتقدم يُعد مغامرة كبيرة في وقت ينصرف فيه الناس املجلة اختارت منذ انطالقتها فعل املرئيات». ً التحدّي مرتئية أن تكون شهرية ثم جاء التعليق من عبده وازن، فيه وتتقدم الشعر عن وليس فصلية مثل معظم املجالت فقدّم يف نهاية الندوة مداخلة الشعرية والسؤال الذي يرد الشعرية غنية« :ما أحوج الحركة المرئيات للوهلة األوىل هو :هل ميكن توفري العربية الراهنة إىل مجلة شعرية مادّة شعرية جيدة شهراً تلو شهر؟ تلم شتاتها وتبلور -أو مجالت ّ -
147
ندوة
أم ّأن املجلة ستضط ّر إىل نرش ما توافر ملئاً للفراغ الذي قد ينجم أحياناً؟ أ ّما ما يخفف من هذا الظنّ ّأن املجلة اختارت ما يشبه الصيغة «الصحافية» سواء يف طريقة التحرير واملتابعة الخربية أم يف منح مكافآت للشعراء والكتّاب الذين سجل فع ًال ،فام من مجلة يسهمون فيها .وهذه بادرة ُت ّ ّ شعرية رصف مكافأت كتّابها ،ما خال قلة قليلة من مجالت األنظمة «التوتاليتارية» .فالشعر مادّة كاسدة يف عامل النرش ومعظم الدُ ور تتلكأ عن نرشه بخاصة اليوم». وأضاف «مل تنطلق مجلة «بيت الشعر» من صفر عىل ما باحت به مقدّمتها ،لكنها سعت إىل البحث عن الشعر وجاملياته ليس يف الحقل الشعري واللغوي فقط وإمنا يف
مجلة «بيت الشعر» اختارت منذ انطالقتها ً مرتئية أن فعل التح ّدي تكون شهرية وليست فصلية مثل معظم المجالت الشعرية
حبيب الصايغ الحداثة ورهاناتها
يف
تقدميها الشاعر حبيب الصايغ لجمهور الشعر يف املنامة ،استعرضت الناقدة دمية الشكر عدداً من املحطات والتحوالت التي م ّرت بها تجربة الشاعر بدءاً من «هنا بار بني عبس ،الدعوة عامة» حتى «أسمي الردى ولدي». الورقة حملت عنوان« :حبيب الصايغ يواجه رهانات الحداثة» ،وتحدثت عن تجربة الشاعر ضمن محاور حددت لها عناوين خاصة :ن َفس غنايئ ،وهواجس شعرية ،وقالت« :الحداثة الشعر ّية لدى الصايغ تقوم بالضبط عىل االنطالق من اإلرث الشعريّ مبالغ فيه ،بل من خالل نقده بصورة ُتظهر خصائصه املش ّعة والبناء عليها بعد ذلك، ني ٍ العريبّ ،لكن من دون حن ٍ فائض أو ٍ مديح ٍ عىل نح ٍو مت ّكن فيه الشاعر من الربط بني املايض والحارض بعيداً من األفكار املسب ّقة التي راجت يف الحداثة الشعر ّية؛ كأن متيل القصيدة نحو التغريب والتأثر بالشعر األجنبي ،أو أن متيل نحو املايض وتسكن فيه .عىل العكس من ذلك تبدو قصيدة الصايغ مرتفع ًة عن لعبة الش ّد والجذب هذه ،فهي ُ تأخذ من القديم جوهره ،ومن الحديث تقنياته الفنية ،متزج بينهام برباعة وأصالة يف آن معاً». نفس غنايئ لكن شبه ملحمي .تبطنُ قوام املعل ّقة ألنها تقرأ مبستويات ولفتت االنتباه إىل أن القصيدة لدى حبيب الصايغ ذات ٍ ّ ّ متعددة ،ولها أقنعة متعدّدة ؛ فهي تأخذ عنرتة بن شدّاد من زمنه الجاهيلُ ،تسلمه لـ «املعلم أسد البحار» املالح الشهري ابن ماجد ،ف ُينَزهه يف التاريخ يك يسأل عن العبودية والتح ّرر والوجود ،عن الفرد ّ تمكن الصايغ من أنت إال الجنون املسافر /يف رمح والجامعة ،عن الحبيبة بني صورة عبلة «هل ِ عنرتة؟ /حر ّيتك اآلن تبدأ /ثغرك فيه /مالمح ّ كل السكاكني» ،وصورة زبيبة «زبيبة الربط بين الماضي األسرية /طفولة كبرية /وبذرة مغلولة وغالية /قد ربطت أفريقيا بآسيا». والحاضر بعيد ًا من الشعر ،مل َ ني من كتابة ّ يتخل الصايغ عن كتابة قصائد وقالت أيضاً« :عىل مدى سن ٍ ّ المسبقة التي األفكار طويلة ت ّؤلف ديواناً ،منها :ميارى ،أس ّمي الردى ولدي ،بل وك ّرس عربها مفهومه راجت في الحداثة للنص الشعريّ ّ ، ونظر لها باعتبارها «رسداً شعر ّياً» .والظنّ أنها أقرب إىل ّ الخاص ّ ّ خاصة وأنها مشبعة بالصور الشعر ّية واملعاين الكامنة التي ال الشعريّة تركيبة املعلقاتّ ،
148
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
بيت الشعر
حقول الفنون األخرى مثل الفن التشكييل والسينام واملرسح والتصوير واملوسيقى ...ورهان املجلة ،كام أفادت املقدمة، أن تكون موئ ًال للشعر يف عبوره األشكال التي طاملا أحيته، من العمودي إىل النرثي ،ومن الرعوي إىل ما بعد الحدايث، وبعيداً عن حرص الخيارات الجاملية والتقنيات واألساليب أو قرصها عىل بعض من دون آخر .ورمبا مل تخطئ املجلة يف خياراتها املتعددة هذه ،فاملهم هو الشعر والشعر الحقيقي والجديد واملتف ّرد أياً يكن شكله أو انتامؤه .لقد سقط اليوم االستبداد الشعري «النوعي» و«املدريس» وبات الفضاء
الشعري مفتوحاً عىل التجريب والحرية املطلقة». وتوقف يف مداخلته أمام السؤال ماذا يعني إصدار مجلة شعرية يف زمن يدور الكالم فيه حول عزلة الشعر واحتضاره أو موته؟ ماذا يعني إصدار مجلة شعرية يف حقبة غري شعرية ،ينحرس فيها قراء الشعر وتكاد تنتفي الحاجة إليه؟ واختتم «:العدد األول من مجلة «بيت الشعر» ال يكفي إلطالق حكم عليها ،مع أ ّنه يفصح عماّ تحمل يف قرارها من أحالم ورغبات وآمال ...األعداد املقبلة ستحمل حت ًام األجوبة الشافية» حبيب الصايغ ودمية الشكر
صح التعبري ،وهي غن ّية بعواملها تتخللها أيّ اسرتاحات «رسد ّية» ّإن ّ الكثيفة التي تنقل القارئ من سامء إىل أخرى ،ومن حال إىل أخرى، من دون أن تتف ّكك إىل مقاطع متفاوتة من ناحية الرتاكيب؛ ّ كأن تنتقل من الوصف إىل اإلخبار ،أو من االستعارة نحو الرسد». ويف صدد حضور املرأة يف شعر الصايغ قالت :يلفت النظر حضور املرأة املتنوع يف شعر حبيب الصايغ .وهي إذ حملها الغزل عىل راحة القصيدةْ ، بدت مختلف ًة؛ بعيد ًة من وصف جاملها الخارجي، خاصة يف ديوان قريب ًة من وصف أحوالها ،ومن أثرها يف عني ّ املحبّ . «كرس يف الوزن» .ففي قسمه الثالث املعنون «ساموات خمس»، تحرض األنثى وقد التبست باستعارة السامءّ « :متنت عليه املكوث متسع /لنعيد إىل صهوة الليل أو /صحوة الخيل :ما زال يف الوقت ٌ ُ الحكاية أو نستعيد /الكتابة من أ ّولٍ وجديد /كيف أصبح خارج ماء الصباح /وهل ُيصبح الناس إال عىل شهقة ماء /أو طيف ما ال يكون» .ويلفت النظر يف هذا الديوان أيضاً اقرتان املرأة بالفكر وبالكتابة« :أم ّر عىل النون رس اكتامل العنارص /فيكتبني رس ومعنى» أو حرفك النون يف نسم ٍة أو نشي ٍد /عىل أفق من حري ْر /ويدخلني معهد الطريان /يقول عليك األمان /فط ْر أنا لك ٌ «لو أين قرأتك قبل الكتاب املقدّس /حتّى أم ّرن يف برصي عاد ّيات البرص». ثم ختمت بالقول« :وإذ مال الغزل نحو الحس ّية الشفافة ،جاءت األنثى يف قصيدة «كرس يف الوزن» كالن ّد تعرف ما تقول: «وقالت ،أج ّرك حاالً إىل ليلتي» ،ومن خالل لفظ الليل إذ ينوس بني الذكر واألنثى ،يرسم الصايغ أجمل الصور الشعر ّية التي تفيض من داخله .وداخله تتناهبه األفكار والنزوات« :ليلتي تتناولني من رسيري /وتقذفني يف املحيط القريب /ليلتي تتناول حر ّيتي /وتؤ ّلفها بني خوفني /:معشوشب وجديب» ،وتقول إن العالقة بني اثنني ليست جسداً لجسد ،بل فك ٌر لفكر ،وإحساس تزجها إلحساس .قصيد ٌة فيها من الغنائية عطرها ،ومن الحس ّية وردها .تأخذ من القديم رنني القوايف الخجولة واملفردات البه ّيةّ ، يف بحر الحداثة الشعر ّية العربية ،فتطفو القصيدة كالحورية كلؤلؤ الخليج وكأجمل ما يكون». ثم قرأ الشاعر حبيب الصايغ قصائد متفرقة من تجربته الشعرية
149
قصيد األسالف
من رسومات الواسطي
النقيضة أو المِ رآ ُة ِّ الض ّديَّة خالد بلقاسم
َ ُ الفرزدق يف قصيد ٍة َي ْهجو بها جريراً: قال الســـــام َء َبنَـى لنَا َّإن الـــــذي َســ َم َك َّ ُ َب ْيتــاً َبنــا ُه لنَا املَ ــــليـك ،ومــــــــــا َبنَى َـب ب ِفــــنا ِئــــــــــ ِه َب ْيتـــاً ُزرا َر ُة ُم ْحـــــت ٍ
َب ْيتاً دَعــــــائمِ ُــ ُه أعَــــــ ُّز ْ وأطــــــــــ َو ُل الســــــــام ِء فإ َّنــ ُه ال ُينْقـــــــلُ َح ُ كـم َّ ــــشلُ الفـــــوارس َن ْه َ ــــع وأبو َو ُم ِ ـــجاش ٌ ِ
َ بنقيض ٍة ،جا َء فيها: و َر َّد عل ْي ِه جرير جاشعاً السام َء ُم ِ ْأخـــزَى الذي َســــــ َم َك َّ ُكــــم ب ِفنا ِئــــــــــــــ ِه َب ْيتاً ُي َح ِّم ُ ــم ق ْين ْ َولقـــ ْد َب َن ْي َ ـت ُي ْب َتنَــــــــى ـــس َب ْي ٍ ـت َأخ َّ 150
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
الح األســــفلِ َو َبنَى بنا َء َك يف َ ِ ــــضيض ْ َ َد ِنســــاً َمقا ِعــدُ هُ خبيــث املَد َْخــــــلِ فـــ َه َد ْم ُ ـي َيذبُـــــــــلِ ــت َب ْيت ُ َــكم ِمبث َل ْ
النقيضة أو المِرآ ُة ِّ الضدّ يَّة
املمكن
التَّأوي ّ يل ،الذي َتنْطوي عل ْي ِه ِّ الض ِّد َّية البانية لِلعالق ِة بينْ َ هذ ْين املَقط َعينْ ا ُمل ْجتزَأ ْين ِمنْ قصي َد َتينْ طويل َتينْ ُ ،مخ َتبرَ ٌ إلعا َد ِة ِقرا َء ِة النقيض ِة يف قديم ِّ الش ْعر ال َع َريبّ .ول ّع َّل املَتنْ َ ا ُمله َّيأ أك َرث ِمنْ ُ النقائض التي َج َم َع ْت بينْ َ غي ِه لِتأ ِمني هذه املَ َه ّمة هو رْ الفرزدق وجريرَ .ج َم ْ طاب عت َب ْي َنهُام ِمنْ داخل َتبادُلِ ِخ ٍ ُ َ كان يمُ َ ِّجدُ ،عىل ا ُمل ْستَوى الظاهر ،الف ْرقة واالن ِفصال ،فيام هو ً ً يمُ َ ِّجدُ ،يف ُم ْستَوىً َب ِعي ٍدْ ، األضدَا َد ب َو ْص ِفها َم ْو ِقعا َح َيو ّيا لِعالق ٍة توج ،وب َو ْص ِفها أ ْيضاً َو ْحد ًة دينا ِم َّية .فق ِد ْاستطاعَ الشا ِعران َن ٍ ْأن َي ْج َعال ِمنْ ِخطاب النقيض ِة ال ِف ْع ًال َع َر ِض ّياً ،كام هي الحالُ ارب أخ َرىْ ، بل مكاناً ِش ْعر ّياً لِلنّفا ِذ إىل ال ُب ْع ِد ِّ الضدّيِّ يف يف َت َج َ َ ّ ً ال ُو ُجو ِد اإلنسا ّين ،وإال لِ َم اقتَط َعا عُ قودا َز َم ِن َّية ِمنْ َحيا ِتهام َوفا ًء لِام هو ِضدّيّ ؟ يسان لِ َشقِّ َمسالِ ِك إعا َد ِة ِقرا َء ِة النقيضة؛ َّمثة َم ْن َفذان َر ِئ َ ونخ ُّص الثاين ،لِام ُي ْض ِم ُرهُ ِش ْعر ّياً ُنش ُري إىل األ َّول باق ِتضابُ ، و ِمرآو ّياً ،ب َت ْفصيلٍ أكبرَ .
.1املَ ْن َفذ األ َّو ُلَ ،يتَع َّلقُ ُمبت ََخ َّيلِ ْ األضداد ،الذي ال َت ُك ُّف نصاً الن َ َّقيضة عَنْ إ ْرسا ِئ ِه و َتغ ِذي ِته .وهو ما َي ْج َع ُل ِمنْها ّ ُم رْ َ قص َد ْ الكش ِف عَنْ ُجذور هذا شعاً عىل َ الح ْفر الثقا ّيفْ ، ات َتش ّكال ِت ِه و َت َح ّوال ِته. ا ُملتخ َّيلِ ،وعَنْ َمسار ِ والسفول ،يف َمقط َع ْي يف َض ْو ِء هذا املَنْف ِذَ ،يت ََسنّى تأ ُّول ُ العل ّو ُّ يميَ ،ي ْس َم ُح بانبثاقِ ِظ ِّل الثنائي ِة الثاوي ِة االف ِتتاح ،مبَ ْع ً نى ِق ّ َناس ُل ُو ُجو ُه خل َفهُام ،وهي ثنا ِئية ُ والسفالة ،و ِمنْها َتت َ العال َّ ِض ِّد َّي ٍة ال َح َّد لهاَ ،تتَجا َو ُز ا ُملتك ِّل َم وا ُمل َ خاط َب ،يف الن َ ّقيضة، بأس ِس ُمتخ َّيل ثقا ّيف. لِرتْت ِب َط ُ قيمي َي ْس َت ِندُ إىل ُمت ََخ َّيلٍ عَن يف النقيض ِةَ ،ن ْع ُرث عىل ُس ّل ٍم ّ الج َس ِد ،واملَرأ ِة ،والن ََّسب ،والذكو َرة ،والضيافة ،وا ُملقدّس، َ ُ ّ وغيهاُ .م َ تخ َّي ٌل تمَْتدُّ ُجذو ُرهُ إىل ما ق ْب َل ب ر والح س، ن د مل وا رْ َْ بالحمولة اإلسالم َّية التي ْاس َت ْن َبتَها الدينُ اإلسالم ،و َيتَل َّو ُن َ الجديد .وهكذاَّ ، فإن ِّ الض ِّد ّية البانية لِ ُمتخ َّيلِ النقائض َأس ُس عىل ْأسنا ٍد ق َبل ّي ٍة ودين ّي ٍة وسياس َّية واج ِتام ِع َّية .و ِمنْ َتت َّ ثمُّ ، يظل هذا املَ ْن َفذ األ َّو ُل َمفتوحاً عىل ِّ الض ِّد َّي ِة ِمنْ َم ْو ِق ِع ّ ا ُملتخ َّيل الثقا ّيف.
.2املَ ْن َفذ الثاينَ ،يتَع َّلقُ بإعا َد ِة تأ ُّولِ النقيض ِة ِمن َم ْو ِق ِع َ الخبي ِء يف العالق ِة ا ُمل َع ّقدَة التي َج َم َع ْت بينْ َ الشا ِع َر ْين؛ وباس ِت ْجال ِء َم َح َّب ِتهام ِّ أس ما للش ْعرْ ، بوص ِفها َّ الفرزدق وجريرْ ، َج َم َعهُام .ال ُب َّد ِمن اخترِ اقِ ُح ُجب الهجاء والفخر ،يف النقيضة، اءات تحريرها ِمنَ ال ِقر ِ لوغ ما هو ْأخ َفى .اِخْترِ ٌاق يقو ُم عىل ْ لِ ُب ِ املَ ْد َر ِس َّي ِة وفت ِْحها عىل ُم ْم ِكن التأويل ا ُملت ََجدِّد. النقيضة َن ٌّص َي ْح ِم ُل َد ْوماً ِظ َّل شا ِع ٍر َ غي الشا ِعر الذي آخر ،رْ َ النقيض ِة إ ّال ا ْع ِتامداً عىل َت َص ُّو ٍر أ ْنت ََجهُ .ال يمُْ ِكنُ التفكري يف َب ْي ِن ٍّي ،أيْ بتَأ ُّم ِلها يف عالق ِتها ِّ بالط ْر ِس الذي فوق ُه ُت ْبنَى أو بالن َّْس ِخ الذي َينت َِظ ُرها ِمنَ ا ُمل َ خاطب فيها .إ َّنها َن ٌّص ُمضاع ٌَف، ال أل َّن ُه ي ْنه َُض عىل َن ٍّص َ وحسب ،وإنمّ ا أل َّنهُ ،أيضاً، آخ َر ْ قي ِّ بالش ْعرَ ،وفقَ ُل ْع َب ٍة َت ْختا ُر َحصيلة َص ْو َتينْ َ ،يتَـآ َزران لِل ّر ّ ال َّن ْق َض مكاناً للتآ ُزر ِّ َ فالنقيضة ،يف َض ْو ِء هذا املَ ْعنَى، الش ْعريّ . منطقة ِش ْعر َّية ُتؤ ِّمنُ َتنا ُوباً ف ّعاالً بينْ َ شا ِع َر ْين .إ َّنها ُل ْع َبة تيح تأ ُّم َل ما َي ِص ُلها ،يف ال َّز َمن الحديث، ِش ْعر َّية َ بص ْو َتينْ ُ ،ت ُ ارب ا ْن َض َو ْت َت ْح َت ال ِكتا َبة ب َي َد ْينِ ،منْ غ ْري ِن ْس َيانِ بت ََج َ َ داخل هذا ال َو ْصل ،أو ِن ْس َيان تبا ُين السياقينْ ؛ القديم الفروقِ والحديث. َ النقيضة ِض َّد شا ِعر َو َح ْسب ،بل ُت ْبنَى ،كذلكَ ،م َعه. ال ُت ْبنَى النقيضة َت ْس َت ْهدي بن ٍَّص سابقَ .ت ْس َت ْهدي ب ِه لِ َه ْد ِم ِه ِمنْ ُ حيث املَ ْعنَى ،ولِترَْسيخ ِه و َت ْقوي ِت ِه من الناحية ِّ الش ْعر َّية .إ َّنها َت ْه ِد ُم ُه وه َي َت ْس َت ْهدي به ،عىل َن ْح ٍو َي ْج َعلها ُم ْن ِت َجة لِ ِض ِّد َّي ٍة َخ َّالقة. ِ ني ال َي ْب ُط ُل ْ االس ِت ْهدا ُء بغا َي ِة ال َهد ِْم َمشدودٌ إىل ميثاقٍ ِض ْم ٍّ النقيضة ،وهو الثقة ا ُملتَبادَلة بينْ َّ َ الط َرفينْ ِش ْعر ّياًَ ،م ْهام يف َ الظاهر. اقتض ْت ُه ال ُّل ْع َبة ِمنْ ُنكرانٍ ُم َت َبادَل ،عىل ُم ْستَوى ِ ذلك َّأن ُك ًّال ِم ْنهُام ْمل َي ُكنْ َي ُّ شك البتّة يف شا ِعر َّي ِة َ اآلخر .كانا
َ شاعر ض َّد ال ت ُ ْبنَى ِ النقيضة ِ عه. َو َ سب ،بل ت ُ ْبنَى ،كذلكَ ،م َ ح ْ ص سابق. النقيضة ت َ ْ ست َ ْهدي بن َ ٍّ ُ حيث ن به ِل َ ه ْد ِم ِه ِم ْ تَ ْ ست َ ْهدي ِ م ْعنَى ال َ 151
قصيد األسالف
زهامِ ،ضدِّياً. َمعاً عىل َو ْعي بأه ّمي ِة َت َضا ُفر َّ الص ْو َتينْ ،يف ُمن َْج ِ نى وا ُملتنا ِغ َمينْ ِش ْعراًَ ،ي ْحمي ُك ٌّل َّ بالص ْو َتينْ ا ُملتنا ِف َر ْين َم ْع ً ِم ْنهُام منطقة ِش ْعر َّية قائمِ َة عىل االخ ِتالف. الص ْو ُت ا ُملخت ِل ُف يف ُمن َْجز ُك ٍّل ِم ْنهُام ُيؤ ِّمنُ لل َّت َعدُّ ِد َت َح ّققهُ. َّ ً ِّ فالش ْع ُر ،كام ُت ْرسي ِه ل ْع َبة النقائض ،ل ْيس نمَ َطا لل َّت ْعميم ،أل ّن ُه ُ االختالف عىل ُمشترَ ٍَك ال َيت ََح َّد ُد باالخ ِتالفَ ،م ْهام ا ْن َبنَى هذا ْ َين ُّ ُ َ القائم االختالف النقيضة َشك ًال .إ َّنه تتح َّد ُد ُ ْفك َيعودُ ،وب ِه َ ُ تقتات ِم ْنهُام معاً. عىل َص ْو َتينْ ،يف َو ْح َد ٍة ش ْعر َّي ٍة وش ْعر بهذا املَ ْعنَى ،نفه َُم ق ْو َل الفرزدق ُمقارناً بينْ َ ِش ْعر ِه ِ جرير ،عندما قال" :ما ْأح َو َج ُه َم َع ِع َّف ِت ِه إىل َجزال ِة ِش ْعري. فجوري إىل ر ّق ِة ِش ْعره"ّ .مثة حاجة ِش ْعر َّية وما ْأح َو َجني َم َع ُ عب ل ْعب ٍة ِض ِّد َّية ،هي ما ُيؤ ِّمنُ َتغ ِذية ُمتَبادَلة َ تتح ّققُ رْ غي التنا ُزل عَنْ الش ْع َر ْين .حاجة َت ِ ُمتَبادَلة بينْ ِ كش ُفِ ،منْ رْ َوات ال َهدْم ،عنْ تقدي ٍر عالٍ .حاجة ِمنْ داخلِ التّضاد، أد َّق أد ِ الذات ِّ الذي َي ْج َع ُل ك ًّال ِم ْنهُام ِم ْرآ ًة َ لآلخرِ .مرآ ٌة ُتري َ الض َّد الذي ب ِه َتغتَذي. هذا التقدي ُر ،الذي َيت َب ْل َو ُر ِمنْ داخلِ حاج ٍة ُمتَبادَلة ،هو الس ُم ّو بالق ْول ما َي ُأخذ صو َر َة َتبا ٍر بينْ َ الشا ِع َر ْين ،بغاي ِة ُّ ِّ الش ْعريّ ،و ْمتكي ِن ِه ِمن اخرتاقِ الزمن .عن ذلك ،يقول أبو رهام ،فإذا عُ ب ْيدة َم ْعمر بنُ ا ُملثنّى " :وكانا َي َت َبا َريان يف ِش ْع ِ قال هذا َب ْيتاً سا ِئراً َ َ قال هذا ِمث َلهُ" .إ ّن ُه َتبا ٍر ال ُيف ِّر ُق أو ُيبا ِعدُ ْ وحدُ ،مادا َم ِّ الش ْع ُر ُم َو ِّج َههَُ .و ْحد ٌة ْاختَا َر ْت من َْطقة بل ُي ِّ ِّ الض ِّد َّيةِ .منّها ُي ْن ِت ُج الشا ِعران ما َي ْبقى. تمَ َ ُّس ُك َّ الشا ِع َر ْين ِّ بالض ِّد َّي ِة ووفا ُؤهُ ام لها َي ْج َع ُل منها َو ْحد ًة خاص يف لِ َمنْ ا ّت َخذها ِمرآ ًة للتضا ّد ال لالن ِعكاسّ .مثة ما هو ّ الل ْعبة ،وال يق َب ُل التعميم .إ ّنه ال َو ْج ُه ِّ الش ْعريُّ الذي َت َت َب َّدى صو َر ُت ُه يف املِ ْرآة .لِذلك انتصرَ َ جرير للفرزدق ملَّا َس َج َن ُه القسيَ ،و َر َ فض ْأن تمُ َ َّس ُح ّر َّية َمنْ َسماَّ ُه خالد بن عبد الله رْ وس ِّيدَها وابنَ َس ِّي ِدهاَ . فقال له هشام جرير شا ِع َر مضرَ َ وقد ْاستَغ َر َب هذا ال َّرفض " :يا َجري ُر ،أما َيسرُُّ َك ْأن ُي ْخزَى الفرزدق؟ قال :ال والله يا أم َري ا ُملؤمنني ،إ ّال ْأن ُي ْخزَى ب ِلساين. أقول وال ُ ويقول لك؟ قال :ما ُ ُ يقول إ ّال قال :فأ ْينَ ما تقو ُل ُه الباطل". ُ كش ُف َّأن َي ْن َبغي أ ّال ُي ْخزَى الفرزدق إ ّال يف ِش ْعر جرير ،مبا َي ِ 152
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
تستقيم إ ّال ِمرآو ّياً ،مبا َي ُ حفظ األ ْم َر ُل ْع َبة ِش ْعر َّية عالية ،ال ُ لِ ُّل ْع َب ِة ماهو ذا ٌّيت فيهاْ ، وإن َأخذ صو َر ًة ِض ِّد َّية .يف ه ِذ ِه الذات َ املِ ْرآةَ ،ت َرى ُ نح ٍو َي ْج َع ُل ْ "اإلخزاء" َمح ّبة آخ َرها ،عىل ْ والالفت َّأن َّ ُ دال ْ اإلخزَاء اس ُت ْع ِم َل ،كام ُيش ُري بعي َد ًة ال ُت َرى. الش ْعرالراقيُ ،ي ُ لسان العرب ،يف َو ْص ِف ِّ قال" :قصيدة ُمخزية الح ْسن" .لذلك أصرَ َّ جريرَ ،ص ْوناًِّ ، للش ْعر ،أ ّال أي ِنهاية يف ُ ُ الفرزدق إ ّال يف ُل ْع َب ِتهام ِّ الش ْعر َّية وبها .إخزا ٌء من أجل ُي ْخزَى فسوا ُه ٌ ِّ باطل بتَعبري جرير .ما ُي ْظ ِه ُر الش ْعر ،دون ِسواهِ . وجماَ ُل هذا َجماَ َل ِش ْعر جرير هو ِضدُّ هُ ،أي ِش ْعر الفرزدقَ ، الض ّد َّ ِّ بش ْعر جريرّ .مثة ِن ِّد َّية يف صو َر ٍة ِض ِّد َّية. يتكش ُف أيضاً ِ ّإن الحاجة ّ الشعر َّية ،التي َع َرث ْت عىل تح ُّق ِقها يف ِّ الض ِّد ّية، هي ا ُمل َس ِّوغ البعيدُ لل َّن ْقض ،الذي َخ َّص ُه الشا ِعران؛ الفرزدق َلع بح َيا ٍة كا ِملةْ .مل َي َت َو ّقفا عَنْ َتغ ِذي ِت ِه ُم ِذ ا ْند َ وجريرَ ، هاجس تبادُل ِه .عن ذلكُ ، "فلم َيزَل ب ْي َنهُام يقول أبو عُ َب ْيدةْ : ُ َهاجيان حتّى َ ُ هلك الفرزدق" .عُ ْم ٌر كا ِملٌ وجرير َيت َ الفرزدق َ َ ِّ ِّ َ لِ َص ْون القرين الضدِّيّ ،وتأمني َح َيو َّي ِة الش ْعر .هو ذا املنْسيُِّ يف تأويلِ النقيضة ،وهو َأحدُ األ ْمك َن ِة ا ُمل َ رش َع ِة عىل إعا َد ِة القرا َءة. ٌ آخر الذات ،بل لِ ُرؤية ِّ النقيضة ِمرآة لِ ُرؤي ِة ال َ الضدِّيِّ يف هذا اآلخرِ .مرآ ٌة ُت ْبدي ُصو َر َة القرين ِّ َ فص ُح الضدِّيّ .هو ذا ما ُت ِ الحال التي بها تل ّقى جرير َن َبأ َم ْو ِت الفرزدق ،إذ ملْ َع ْن ُه ُ َيترَ َدَّد يف َع ِّد هذا املَ ْوت فجي َعة تطو ُل ُه هو نفسه .ال ُب َّد ِمنَ صات لِهذا التلقي الذي ْاس َتحْضرَ َ بأملٍ صو َر َة القرين. اإل ْن ِ َ كان جرير بينْ َ ق ْو ِم ِه عندما بلغ ُه النّبأ ،ف َبىك .فقال القو ُم السابق الذي َم َّر مع باس ِتغراب ،ال يخت ِل ُف عن ْ ْ االس ِتغراب ّ "س ْب َ حان الله يا أبا َح ْز َرة! ما ُي ْبكيك؟ قالُ : بكيت هشامُ : قليل .إ َّن ُه َّ لِنَفيس ،،والله َّإن بقايئ ِخال َف ُه لَ ٌ قل ما َ كان اثنانِ
س ُه وهو كان جرير ي َ ْبكي ن َ ْف َ َ ت قري ِن ِه ي ْبكي الفرزدق .ب َ م ْو ِ عر َ ب ِنهاي َ ِت ِه ِّ ِّ الش ْعريَّ ِة ي ،ش َ الض ّد ّ ح ْتميّة قبل نهاي َ ِت ِه ال َ
النقيضة أو المِرآ ُة ِّ الضدّ يَّة
فاإلصا ُر عىل الترَّْسيخ ،ا ْع ِتامداً قرينان ،أو ُم ْص َط ِحبان ،أو َز ْو َجان إ ّال َ كان أ َمدُ َب ْي ِن ِهام قريباً. ثم ،رْ عُ قوداً ِمنَ ال َّز َمن .و ِمنْ ّ َ عىل الق ْول َّ الفرزدق يقول: ثم أنشأ َي ْريث الضا ِم ِن الخْترِ اقِ الزَّمنَ ،د ْع َو ٌة ِض ْمن َّية ِمنْ جرير َّ ماَّ غالب إىل إعاد ِة ِقرا َء ِة عالق ِت ِه بقري ِن ِه ِّ ُ بح لِ ال ِّد َي ِ ُف ِج ْعنا َ الضدّيّ . والالفت يف ه ِذهِ ات ا ْب ِن ٍ َ َ متيم ك ّلها وناط َقها البذاخ َّت اجم" املَ ْرثا ِة ،التي َعد ِ يم ِع ْر ِضهَا وا ُملر ِ وحامي تمَ ٍ الفرزدق ِعام َد ٍ ما كاه؟ ب فأ جرير، ة حيا ً ِّ ما الذيَ ،مب ْو ِت الفرزدقْ ،اخت ََّل يف ِ ْ يف كل َمن ِْط ٍق بت ْعبري جرير ،أ َّنها َت َض ّم ْ نت َو ْصفا للفرزدق السؤالينْ ال َف ْقد الذي َو َّل َدهُ هذا املَ ْوت؟ يف ْاس ِت ْدراج هذ ْين ُّ بالوفاء. اإلفصاح عَنْ ُم ْم ِك ِنهام التأوي ِّ َن ْح َو الصل ِة التي َج َم َعت ِ الصفة إىل ِّ يل ،لنا ْأن َن ْنتَب َه إىل التشابي ِه و َمتى ْاجتَذ ْبنا ه ِذ ِه ِّ لحظ ِة ُبكا ِئ ِه ،صو َر َة الفرزدق. الشا ِعر ْينَ ،ت َسنّى َص ْوغ التَّساؤل التايل :ما الذي َ التي بها ْاس َتحْضرَ َ جرير ،يف ْ كان كان وف ّياً لق ِد ْاس َتحْضرَ َ صو َر َت ُه ا ْن ِطالقاً ِمنَ القرين َّ والص ِ احب وال َّز ْوج .الفرزد َُق َوف ّياً ل ُه يف َت ْجرب ِة النّقض ا ُملتَبادَل؟ لق ْد َ وهي د ُّ َوال ُت ُ حيل عىل املِ ْرآة ،مادامت ُّ كل هذه الدّوال ُت ِت ُ يح لِ ِّ لض ِّد َّي ِة الخ ّالقةَ ،وف ّياً لِ ِندا ِء النقيض ِة ،سواء بال َّد ْع َو ِة إليها أو آخ ِرهاَ . الذات َن ْف َسها يف َ الذات بال َّر ِّد عليها .كلماّ َاخ ُل ِ ُرؤية ِ َبس فيه د ِ انبثقت قصيد ُة جريرَ ، كان َو ْجهُها ِّ آخ ُر يلت ُ ْ الضدِّيُّ ُ الداخل َو ْجهاً َ آخ َر َوفقَ ن ْو ِع املِ ْرآة. بخارجها ،أو َي ُأخذ في ِه يتخ َّلقُ لدَى الفرزدق ،يف َو ْحد ٍة عَميقة .إ َّنها الوحد ُة التي ثم َّ ترتيب فإن ه ِذهِ التشابيه ،التي بها أعا َد جرير َ و ِمن ّ أخطأها َمن ْاستغ َر َب رْإصا َر جرير عىل َر ْف ِض َز َوغان ال ُّل ْع َبة عالق ِت ِه بالفرزدقُ ،ت َك ُ ثف عُ قوداً ِمنَ ال َّز َمن؛ عُ قوداً ِمنَ ال َّن ْق ِض عَنْ سيا ِقها ِّ الشعري ،وأخطأها َمن ْاستَغ َر َب أيضاً ُبكا َء الحامي للقرينَّ ، والصاقِلِ لِ َو ْجه ِه يف املِرآة ،وا ُمل ِّ ؤج ِج لِ ِض ِّد َّي ِت ِه ،الشا ِعر عىل ِّ داخ َل ذا ِته. الضدِّيِّ ِ ٌ تواطؤ بنّا ٌء ِش ْعر ّياً ،ومبا هي ،أيضاًِ ،ن ِّد َّية َخ ِف ّية. هي كان ٌّ لقد َ كل ِم ْنهُام بالن ِّْس َب ِة إىل َ مبا َ اآلخر ِندا ًء داخل ّياً؛ ِندا ًء القرينُ يف حال ِة الشا ِعر ْين هو َ آخ ُر األنا ،Alter egoإ ّال ّأن ِش ْعر ّياً ال ُي َردّْ ، بل ُي ُ صان بوفاء .الخ ِف ُّي يف الل ْعبة أ ْب َعدُ ِمنْ ْأن الضدّيّ ٌّ . اآلخر َّي ِة صو َر َة ِّ لهذ ِه َ كل ِم ْنهُام قرينٌ ِضدِّيٌّ بالن ّْس َب ِة ظاه ُر النَّقض .لذلك َع َّد جرير م ْو َت قري ِن ِه َم ْوتاً فص َح ع ْن ُه ِ ُي ِ اآلخر ،قرينٌ ضا ِمنٌ للتَّوازن ،إ ّال أ َّن ُه ٌ إىل َ توازن ِضدِّيٌّ َ ،ت ْح ُ تاج ُه ذات ّياً وشيكاً. نح َو الت ََّح ّقق العايل ِّ ُ للش ْعر. ذات الشا ِعر يف َت َو ّقها ْ َف ،الذي اقت ََس َم ُه الشا ِعران مبَ َح َّب ٍة يف َض ْو ِء هذا النّدا ِء ا ُملضاع ِ لِهذا َ كان جرير َي ْبيك َن ْف َس ُه وهو ي ْبيك الفرزدقَ .مب ْو ِت قري ِن ِه خاصة ،أ ْر َس ْت ُ نقائضهُام ِمرآ ًة ِض ِّد َّية وا ِعد ًة بإعاد ِة القرا َء ِة َّ الضدّيّ ،ش َع َر ب ِنها َي ِت ِه ِّ ِّ الحتْم ّيةُ .ركنٌ الش ْعر َّي ِة قبل نها َي ِت ِه َ ِمنْ خارج ما تك َّر َس يف ِقرا َء ِة القديم ّ الش ْعريّ .ومع ّأن ئيس ْاخت ََّل يف ال َّت َباري ،الذي َي ْست رَْش ُف ما َ كان القدما ُء الضدّ" ِمنَ املَ َمفهو َم " ِمرآ ِة ِّ َر ٌ الصوفية ِ فهومات التي ق َّع َد لها ُّ شيعّ . َ كأن جرير ُي َس ُّمو َن ُه فإن َّ السائرة ،أي التي َت ْبقى و َت ُ قدمياًَّ ، األبيات َّ دوال اللغة العرب َّية ُت ْض ِم ُر ُم ْم ِك َن ُه ال َبعيد .ف ِمنَ والصاحب ،عىل ح ِّد يكون ُّ فق َد ُم َس ّوغ الحيا ِة َب ْع َد َم ْو ِت القرين َّ الال ِف ِت ْأن َ دال ّ "الضدّ" ،الذي ا ْع َت َم َد ُه اللغو ُّيون يف التشابي ِه التي َّ توس َل بها يف ق ْولِ ِه َّ امت التي َت ْح ِم ُل تقا ُب ًال داخل ّياً أي تقا ُب ًال يف السابق .لق ْد َبىكَ ،وفق هذا َو ْص ِف الك ِل ِ الش ْعريَّ ، فوت ِّ املَ ْعنَى ،فاج َعة ُ الساهرين عىل ألن َأح َد األضداد .ذلك أ ّنه َي ْعني ِخ َ الخ ِ ِ الف ْ َم ْعناها ،هو ذا ُت ُه ِمن ْ اليشء، الش ْعرية قضىَ .وهو ما َي ْج َع ُل املَ ْرثا َة َّ إذكا ِء الل ْعب ِة ِّ الشه َري َة، و َي ْعني امل َ ِثل يف آنِّ . فالضدُّ هو ا ُملخالِ ُف وا ُملنايف ،وهو، َ الفرزدقَ ،ن ّصاً مفتوحاً عىل التأويل. التي َخ َّص بها جرير ْ أيضاً ،النِّدُّ والنظ ُري والشبي ُه والكف ُء .هذا التعضيدُ اللغويُّ نقصدُ املَ ْرثا َة التي فيها يقول: َ االح ِتامل الخ ُ صيب ُيق ّوي َر َ جاحة إعا َد ِة القرا َءة ِمنْ َم ْو ِقع ْ لَ َع ْمري لق ْد ْأش َجى تمَ ي ًام وهَ دَّها الضدّيّ يف َم ْعنى ِّ ِّ الض ِّد َّية التي َو َّحد َْت ،يف النَّقيضة ،بينْ َ عىل َن ِ كبات الدَّهْ ر َم ْو ُت الفرزدق جرير والفرزدق .وبهذه ال َّرجاحة ،يحت ِف ُظ َمفهو ُم املِرآ ِة املَ ْرثا ُة ل ْي َس ْت ِمثل الدُّ موع التي ذ َرفتْها َع ْينا جرير أما َم الق ْو ِم ِّ الض ِّد َّي ِة بكفا َي ِت ِه اإلجرائ َّية يف ْاس ِت ْجال ِء ِن ٍّد َيح ِم ُل صو َر َة ِضدّ، ملّا َبلغ ُه النّبأ .املَ ْرثا ُة َت ْر ٌ سيخ ِش ْعريّ لِعالق ٍة ِض ِّد َّي ٍة دا َم ْت وض ٍّد ُي ْخفي شبيهاً كبرياً ِ 153
شعرية الكاميرا عدسة :مظفر سلامن
154
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
قضية
قصيدة النثر متهمة بالنمطية
أزمة شعر أم أزمة شعراء؟ ثمة من يرى أن قصيدة النثر العربية تعاني من أزمة كبيرة ليس أبسط أعراضها النمطية والجمود ،في حين أنها ً سؤاال على شعراء النثر والنقاد ومنابر النشر .هنا وجهة نظر تشكل جاءت كثورة على النمطية ،األمر الذي يطرح
فاتحة لحوار حول هذه المسألة
خلدون عبد اللطيف
ك َّلام
ُ لبعض من الشعراء العرب، قرأت قصائد نرث ٍ رش سابقني ومجايلني ،أو خضت يف نقاش مبا ٍ حول قصيدة أو قصائد ن ٍرث مع أصحابها ،ينتابني شعو ٌر الشكل األكرث حداثة وتطوراً متك ِّر ٌر َّ بأن الكتابة وفق هذا َّ ٌ اكتشاف عىل املستوى الزمني ال يزال ينظر إليها وكأنها يقل عن خارجها ،هناك أيضاً وفتح عظيم .مبا ال ُّ مدهش ٌ ٌ ومبالغ فيه عىل األغلب بقصيدة النرث من احتفا ٌء مركزيٌّ بعض من متثيالتها التي ال تخلو من داخلها الشعريِّ عرب ٍ ً وقت ليس بالقصري نسبيا عىل اقتحام مداورات ،رغم مرور ٍ قصيدة النرث ألرض الكتابة الشعرية العربية .مثة أطيافُ قرابني وأضحيات يقدمها شعراء النرث عىل مذبح القصيدة
نظري انتصارهم الستبداد هذا الشكل من أشكال الكتابة وانتشاره الخاطف .يف مقابل هذا الغلو والحظوة املتنامية، ظلت قصيدة النرث يف حالة غليان ورصاع دائم ،إذ وجدت وال تزال من يناكفها أو يرتدُّ عنها ويعتربها هجينة .لكن، ومبا َّأن معظم النَّار من مستصغر الرشر ،فقد أضحت قضية اكتساب قصيدة النرث لرشعيتها من عدمه م َّواالً قدمياً ،سواء يف العامل العريب أو خارجه ،وهي قضية ال يجد غضاضة يف حسمها مث ًال واحدٌ من أفضل كتَّاب وممثيل قصيدة النرث األمريكيني حالياً ،راسل إدسن ،حني أشار يف إحدى حواراته الصحفية قبل نحو عرش سنوات إىل أنه «برغم ما تحظى 155
قضية
به قصيدة النرث اليوم من اهتامم عظيم ،إال أنها مل تنل بعد رشعية الشعر التقليدي أو الشعر الحر».
مخالفة النموذج
لن أتوقف طوي ًال بالتفصيل عند املظاهر العديدة واملتفاوتة يف تعقيداتها لذلك االحتفاء من داخل قصيدة النرث وما تولِّد ُه من مفارقات مل يسلم بعضها من طرافة ،فيام أحسب متقصدة ومداورات يرتكبها أنها تنطوي عىل جملة اعتبارات َّ كتاب قصيدة النرث سواء مبحض الصدفة أو عن قص ٍد ال ليشء سوى مخالفة النموذج ،وباتت تستهويهم من دون مس ِّوغ منطقي رغم أنها ممتثلة أساساً لسلطة الداخل أو نسقه املسبق يف درجة الوعي ،ولعيل أوجز تلك املظاهر ضمن اإلطار املبارش لتداوالتها يف اآليت ،مع إيراد متثيالت حيثام اقتضت الرضورة من قصائد بعض شعراء النرث ال تلجأ إىل هكذا ارتكابات ،وذلك للماميزة مبنطق إيجايب عن مظاهر االحتفاء السلبية-: أوالً :االرصار عىل إبدال كلم ٍة مح َّددة بأخرى يف نهاية السطر الشعري قد تكون ّ أقل وقعاً وتأثرياً ،ال لغاية سوى ِّ شطب القافية ،وال لسبب سوى َّأن أصل الكلمة املستبدلة سابق أو الحق مقفى عىل نسق كلمة أخرى يف نهاية مقطع ٍ ٍ ال يفصل بينهام سوى سط ٍر واحد أو أسطر قليلة .لتجنب السطر أو املقطع الشعري بكلمة مقفاة ،يلجأ بعض انتهاء َّ كتاب قصيدة النرث كذلك إىل إلحاق كلمة أخرى بها غري يتوسل دمج سط ٍر ينتهي مقفاة أو أكرث من كلمة .هناك من َّ بقافية مع سط ٍر تالٍ له أو سابق عليه مبارشة ال ينتهي بقافية ،ومبا قد ال يؤثر رمبا كثرياً يف املحصلة عىل وحدة
رغم ما تحظى به قصيدة النثر اليوم من اهتمام كبير ،إال أنها لم تنل بعد شرعية الشعر التقليدي أو الشعر الحر
156
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
الداللة وروح املعنى ،لكنه يهدر رشاقة القصيدة ،ويسهم يف تشويه وبلبلة الجملة الشعرية التي أثقلها الحشو واملداورة وأفقدها مفاتنها وكثافتها ،رغم اعتقادي َّ بأن حضور القافية ٌ ثقيل يف قصيدة النرث باملجمل ،وبعدم وجود رضورة لتوظيف القافية يف قصيدة النرث جرياً وراء ميزتها اإليقاعية، وتعويضاً عن تغييب الوزن الخلييل ،مع عدم إغفال التجربة التي خاض غامرها الشاعر شاكر لعيبي عرب تبنِّي كتابة قصيدة نرث مقفاة يف مجموعته «الحجر الصقييل». كمثال إيجايب ملا نحن بصدده ،يقول الشاعر العراقي عبود الجابري يف مقطع من قصيدة نرث بعنوان «ألبوم صور شخصية»:
وهو... َ ً َ وإن كان مدينا لك بدمعة فاعمل عىل تذوق ماء عينيه دامئاً قبل أن تفرح بنعمة السداد واعلم أنه مل يكن يغسل عينيه من أثر الرماد
القافية املتكررة يف كلمتي «السداد» و«الرماد» مل تكن مقصودة ،بقدر ما كانت رضورية فقط النبثاق الداللة، بل وأسهمت حقاً يف تعزيز اإليقاع الذي جاء عفو املوقف والحالة. ثانيأً :كرس اإليقاع العرويض عامداً وبتعسف يف سط ٍر أو ُّ جملة من القصيدة تنتظمها تفعيلة متامثلة وموزونة بطبيعتها وتركيبتها الشعرية. يقول الشاعر السوري نوري الجراح يف قصيدة له بعنوان «كالم يف ممر»:
تلك كانت مزحة كلمة عابرة ومشيعني بحي رأفة املوىت ّ وردة أوىل قميصاً جيبه لوردة أخرى كالم يف ممر ٌ
قصيدة النثر متهمة بالنمطية
نوري الجراح
يالحظ هنا مث ًال َّأن السطر األول ،الثاين ،الرابع ،الخامس والسادس ليست خلواً من صورة الوزن الخلييل ،فقد انتظمتها تفعيلة بحر ال َّرمل «فاعالتن» وجوازاتها ،كام َّأن السطر الثالث يحتوي عىل كلمة واحدة مسبوقة بواو العطف عىل وزن «متفاعالن» وهي من جوازات بحر الكامل ،لكن الشاعر مل يلتفت كثرياً إىل ذلك ،ومل يلجأ إىل كرس انتظام التفعيلة شعورياً أو ال شعورياً طاملا أن النَّص ٌ متخفف بطبيعته من اشرتاطات الوزن الخارجي ،بقدر هم َّ الشاعر وجب ُة الكلامت املتعالقة وانتظامها يف ما كان ُّ جملته الشعرية ،تاركاً للقصيدة حرية أن تنساب داخلياً اإليقاعي وبنيتها الداخلية ،وأن «تنفصل عن وفق مخططها ِّ الصورة الوزنية واللغوية ،عىل نحو ما ،لتحدد الطريقة التي مبوجبها بنيت القصيدة» كام أشار كامل خري بك إىل ذلك.
االحتفاء األكرب
ثالثاً :هناك احتفا ٌء من نوع آخر عرب تقصد واضح ورصيح إلبراز عنارص اإليقاع الداخيل كتعويض عن غياب الوزن وعنارص اإليقاع التقليدية يف القصيدة املوزونة ،وذلك من خالل تك ُّلف الز َِّّج باملحسنات اللفظية كالجناس والسجع بال عفوية ،وإقحام كلامت دخيلة ومصطنعة عىل جسد القصيدة ال ليشء سوى ميزتها اإليقاعية واشرتاكها مع سواها يف خلق موسيقى داخلية ناجمة عن املزاوجة بني الحروف، وتراصف وتوازي وتكرار الكلامت التي تتواءم بني بعضها يف الحركات والدالالت الصوتية ،خالقة توتراً داخلياً وهندسية إيقاعية تقوم أساساً عىل جدلية الحركة الخفية لعنارص
أمجد نارص
النص من الداخل ،والتي قد تبدو ظاهرياً كأنها ٌ شكل أو نوعٌ من أنواع الفوىض ،إال أنها تتبع يف أعامقها نظاماً دقيقاً فلك ّ منظم .هناك من يصطنع البياض واملساحات وتدور يف ٍ الفارغة من دون تعالقها مع املساحات املستغلة كتابياً، النص مشوهاً بدل أن مينح إيقاعاً برصياً .الالعفوية فيخرج ُّ ُّ إيقاع خاص يجردان النَّص هنا والتدخل املبارش بقصد خلق ٍ من حساسيته اإلشارية وخطفاته الشعرية ،ناهيك أن تلك تضج بالزينات والزخارف اللغوية التي رسعان الكلامت ُّ ما تفقد وهجها وتصل حافة اليتم والقطيعة حني تضطلع شكل َّياً بدورها اإليقاعي عىل حساب ِّ الشعري والداليل. وعام ،داخيل وخارجي ،ميكن رابعاً :وهو احتفا ٌء شمو ٌّيل ٌ وسمه بـ «االحتفاء األكرب» الذي يتو َّلد من اإلرصار عىل كتابة قصيدة نرث مستوفية الشرتاطاتها وقوانينها التأسيسية (الوحدة العضوية ،املجانية واإليجاز) بطرا ٍز كرنفايل ،ومن دون أي فسحة لالجتهاد أو كرس القوانني .ال أدعو هنا إىل الخروج باملطلق عىل هذا الشكل من أشكال الكتابة واخرتاق ضوابطه النظرية بعض اليشء ،فالشاعر ح ٌّر أوالً وأخرياً يف رسم خصوصيته وتنويع اشرتاطاته ومعايريه بني نص وآخر ،بيد َّأن قولبة الشكل األوحد إىل درجة التقديس ٍّ األعمى وفق هذه الطريقة الديكورية لن تسمح بظهور متايزات وافرتاقات جوهرية ،وسوف تؤدي – إن مل تكن أدت فع ًال – إىل جمود َّ الشكل الشعري وسكونيته ،وصعوبة ً املقايسة واملفاضلة بني قصيدة ن ٍرث وأخرى استنادا إىل هامش كبري فروقات الدَّرجة ال النوع ،وصوالً إىل سقوط ٍ من مناذج قصيدة النرث قي أرس التنميط واالتباعية ،باستثناء
157
قضية
قلة قليلة متكنت من املحافظة عىل خصوصية لغتها وعمق نظرتها إىل العامل واألشياء والعالقات التي تحكم سريورة الحياة .الكتابة وفق اشرتاطات سوزان برنار وقصيدة النرث األوروبية ليست اختباراً أو امتحاناً لحصد النجاحات ،خاصة أن قصيدة النرث خرجت أص ًال عىل قوانني الوزن والقافية، فلامذا تتحرر من قيود لرتسف يف أخرى؟ ً مستفيداً من تقنيات القصة القصرية جدا أو األقصوصة، يكرس الشاعر األردين أمجد نارص منطية الكتلة ،ويفرض اشرتاطاته الخاصة عرب كتابة قصيدة نرث قصرية ،محكمة البنية الداللية وال تخلو حكائيتها من مفارقة ودهشة ،كام نصه املعنون «وديعة»: يف ِّ
مل أَ َر الذي اسرتدَّها سمعت خطواً خفيفاً ُ ولكنني ُ عىل حاشية الليل ،ويف الصباح وجدت عىل بالط الرواق جل َد أفعى وريشة بيضاء
كرثة من النقاد والشعراء من داخل فرنسا وخارجها ذهبوا بعيداً يف معارضة سوزان برنار وتأطرياتها الجافة لقصيدة النرث ،مبا يف ذلك الدعوة املفتوحة إىل التنويع عرب االستفادة القصوى من طاقات النرث وتقيص جاملياته الالمحدودة ،وهو ما أمثر فعلياً عن ظهور تح ُّوالت مستم َّرة يف البنية الداخلية لقصيدة النرث وهيكليتها الخارجية ،وبالتايل صعود وارتقاء مناذج عاملية لقصيدة النرث ال تقل شأنا وأهمية عام هي عليه يف مهادها الفرنيس ،كام هو الحال مث ًال مع قصيدة
راسل إدسن :إن «طرق الكتابة شأنها بشكل ما شأن صرعات األزياء ،حيث أطوال الفساتين تزيد وتقل .فالذي يكون بالخارج في عام ما يكون بالداخل في عام آخر»
158
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
النرث األمريكية ومبا يؤكده راسل إدسن يف الحوار الذي أرشنا رصح يف ذات الخصوص أن «طرق الكتابة إليه آنفاً ،حيث َّ شأنها بشكل ما شأن رصعات األزياء ،حيث أطوال الفساتني تزيد وتقل .فالذي يكون بالخارج يف عام ما يكون بالداخل يف عام آخر».
التأسيس والقطيعة
تواص ُل العزف عىل وتر أن قصيدة النرث هي قصيدة الحارض ُ ٌ واملستقبل فيه يشء من اإلجحاف ،ومناقضة صارخة لحال الواقع الشعريِّ واألديب عموماً ،عدا عن كونه تكراراً ملا واظب عىل إشاعته بعض كتاب قصيدة النرث املتحيزين لها بعامء .يف مقدمة مجموعته «لن» ينتهي أنيس الحاج إىل الجزم بأن «قصيدة النرث خليقة هذا الزمن ،حليفته، ومصريه» .هذه النظرة التمجيدية يف مطلع ستينيات القرن املايض تدفع إىل افرتاض أن قصيدة النرث هي باملحصلة نهاية الشعر .لكنَّ الحاج نفسه عاد يف مؤمتر قصيدة النرث العربية الذي أقيم يف بريوت عام 2006ليؤكد العالقة «التجاورية» ّ «ستظل األوزان بني قصيدة النرث وقصيدة الوزن قائ ًال مرغوبة وقبلة أسامع الكثريين ،ورمبا األكرثية ،مبن فيهم أحياناً العديد من شعراء النرث». الشعر رغبة متواصلة يف الخلق ،عطفاً عىل ما تراكمه يترسب من جهة أخرى إىل التجربة والتاريخ من جهة ،وما َّ الشعر من أجناس أدبية كالنرث الذي مت َّكن من تذويب بالغة اللغة لصالح لغته التي تنأى بنفسها عن التعقيد والزخارف، ومن الحيلولة كذلك من دون أن تتحول إىل مجرد نرث عاديٍّ .من هذه القيمة املس َّلم بها ،نحسب َّأن ّ جل الشعراء العرب من كتّاب قصيدة النرث مل يطلعوا يف حقيقة األمر عىل الدراسة التأسيسية لسوزان برنار ،وبعضهم اآلخر مل يلتفت كثرياً إىل ما كتبه أدونيس يف مجلة شعر أو أنيس الحاج يف مقدمة «لن» ،وإمنا كتبوها بوحي اللحظة التاريخية والظرف الزماين .أضف إىل أن قس ًام كبرياً منهم مل يأتوا مبارشة من منطقة قصيدة التفعيلة أو العمود ،بل كانت قصيدة النرث نقطة انطالقهم وملك أميانهم الشعرية .هنا تتحقق اإلرادة الواعية بشكل الكتابة باعتبار أن قصيدة النرث «تفرتض إرادة واعية لالنتظام يف قصيدة» بتعبري سوزان برنار أو «الخلق
قصيدة النثر متهمة بالنمطية
بودلري رائد قصدة النرث الفرنسية
وعي ناقص عىل فشيئاً بال أث ٍر يذكر. اإلرادي» بتعبري ماكس جاكوب ،لكن ذلك ٌ األغلب برغم تح ُّقق اإلرادة ،حيث االقرتاب من قصيدة النرث ال تط ُّرفاً والمنافحة ،لكن ما سلف التط ُّرق إليه من متقصدة يف كتابة قصيدة النرث هو يف تشخيصاته بهذا املعنى ال يتطلب االمتثال لقوانني واشرتاطات مسبقة احتفاءات َّ أو تجنب خرقها ،وهو ما يعدُّ ميزة عظمى يف هذه الجزئية املبارشة حالة مرض ّية ينبغي التّصدي لها ،ولعليِّ أحسب ُه خالفاً لسواها ،إذ تصبح كل قصيدة نرث رشطاً قامئاً بحد ذاته «احتفا ًء» العفوياً بقصيدة النرث ،يح ِّرك ُه ٌ خوف مست ٌرت من ال قانوناً دامئاً ،أو مبعنى أدق عالمة مسجلة ألسلوبية كاتبها .الحرية التي تولِّد جرعات زائدة من فرض الشاعر لسلطته ورقابته عىل النص ،من دون منحه – أي النَّص -فرصة واقعي ،ال يزال عمر قصيدة النرث قصرياً يف وطننا إىل ح ٍّد ِّ لالنوجاد الذايت .كام أعتقد أنه يف جز ٍء من حقيقته تكف ٌري العريب بالقدر الذي أصبحت فيه اآلن رضورة شعرية أكرث إثم توهَّ َم الشاعر اقرتافه حني اعترب قصيدة النرث خياره مام كانت عليه من قبل .ولهذا بات من الرضورة االعتامد عن ٍ الكتا ِّيب األوحد مرحلياً أو نهائياً ،حتى بات يشعر بأنه متورط اليومي ومضاعفة االهتامم عىل أول َّيات الحياة وتفاصيل ِّ يف مؤامرة كربى ،والزمه شعو ٌر بارتكاب خطيئة يف حق بهام ،من دون إهاملٍ لحقيقة أن األشياء البسيطة تحتمل ٌ َّ كل ما هو ٌ فارق وغرائبي يف واحد ٍة أو أكرث من لحظاتها التي الشعر واملوروث ،وخشية من نظر اآلخرين إليه باستهانة. داع أو مربر منطقي لهكذا مداورات هي يف تستحق القبض عليها وإسقاطها عىل خصوصية التجربة، ليس هناك أيُّ ٍ غالبيتها العظمى وهمية أو مصطنعة .نعم ،قصيدة النرث س َّيام وأن قصيدة النرث العربية مل تشهد تثويرات حقيقية من بنيتها الداخلية ،أما بعض املحاوالت التي غازلت خارجها صعبة وال تنقاد بسهولة رغم ما توحيه عكس ذلك من خارجها ،وهذا ما مييزها من دون مبالغة ،ويجعل الخوض الشكيل فال ميكن عدُّ ها استثنا ًء قاطعاً. ً ً يف كتابتها نوعا من التحدي واملثابرة اإليكاروسية ،عطفا هنا عىل حقيقة تقهقر مكانة الشعر حول العامل والوطن العريب أوهام اإلثم وما يوازيه من قصور حاد وترهُّ ل يف تناول قصيدة النرث مبا َّأن قصيدة النرث نشأت «باألساس عىل مبدأ االستبعاد أو االطراح» حسب تعبري هرمني ريفاتري ،فال َّ من دون التمكن من مجاراة منجزها باملقارنة مع حضورها شك أن تأثيثها باتزان معامري غري متكلف وال تغلب عليه الصنعة املبارشة الكثيف يف املدونة الشعرية العربية خالل العقود األخرية، خصوصاً أن الشعر ٌ شأن حيايت ومعييش ،يتطور بتعاقب متعالق بالرضورة مع الشكل الشعري الرصف واإلرادة الزمن ويخضع للتحوالت من كافة أوجهه شك ًال ومضموناً، املسبقة التي انبثقت منه .بخالف ذلك ،يختنق الن َُّّص بغاز َّ وبأن الشاعر الحقيقي هو القادر فقط عىل توليد مشاعر سخ املداورات الواهية ،ويتحول يف أحسن حاالته إىل َم ٍ وأحاسيس بالسريورة يف قصيدته ،وعىل إيقاف الزمن كذلك فاق ٍد لعذرية وهلته األوىل ،ورمبا يأخذ بالذوبان واالنعدام والتاليش تدريجياً ،خارساً متاسكه وعالقاته البنائية شيئاً يف لحظة ما 159
أخبار البيت
بيت الشعر في أبوظبي
بيت الشعر في أبوظبي
بيت الشعر في أبوظبي
محمد مهاوش
الشعر النبطي عربي النزعة والطابع
استضاف
بيت الشعر بأبوظبي التابع لنادي تراث اإلمارات يف التاسع عرش من حزيران /يونيو املايض يف مقره مبركز زايد للبحوث والدراسات الشاعر والناقد السعودي محمد مهاوش يف أمسية بعنوان «الشعر النبطي ومقاييس اللغة» .حرضها حشد من جمهور الشعر واملهتمني بالشعر النبطي أدار األمسية الباحث محمد نور الدين واستهلها مهاوش بالحديث عن دراسة الشعر النبطي وقال« :من يدرس الشعر النبطي ويتعرف عىل مباحثه الشعرية والفنية، ويقف عليه عن كثب يجد أنه شعر عريب النزعة والطابع، وأنه ميتاز بفصاحة املفردة رغم افتقاره ملظهر اإلعراب الذي يوضح أشكال الحركات اإلعرابية الطارئة عىل أواخر الكلامت ،لكنه يف املقابل ال يفارق العرب فيام كانوا يقولون من كالم ،ويضعون من قياسات وصيغ أسلوبية» وأشار إىل أن اللغويني العرب كاألصمعي وأيب عمر بن العالء واملربد وغريهم من علامء اللغة ،كانوا يسمون اللهجة يف عرفنا الحايل باللغة ،ويطلقون عىل ما نسميه نحن باللغة مصطلح اللسان. وأكد أن الشاعر النبطي كان يستخدم اللغة التي كان يتحدث بها العرب القدماء ،وهذه الحال تكاد تكون واضحة وجلية كلام ابتعدنا يف التحرك بالزمن إىل الوراء ،وذلك بسبب عدم اختالط ابن البادية العربية باألجانب واألغراب. ومن األمثلة التي عرضها مهاوش قول الشاعر محمد الدهامن يف مدح عبدالكريم الجربا: بيوت املحمد مدهل الضيف والجار وملجا ملن كرثت عليه البالوي الزم يجي بالبيت هاتش وخطار وخاليق ما ينعرف له لغاوي وأشار إىل أن «خاليق» ال تعرف لها لهجات ،فهي كناية عن تزايد الضيوف والوافدين عىل مضيف الشيخ عبدالكريم
160
بيت الشعر
العدد ( - )3آب/أغسطس 2012/
محمد نور الدين ومحمد مهاوش
الجربا ،وهذا االستخدام ،وأضاف ،غري أن الشاعر سند الحشار يدعم قول الدهامن بشكل أكرث توضيحاً ،حيث يقول يف مدح قبيلته «الظفري»: من فعل طلقني اللغا باملالقاة اليل وقع بنحورهم للذالقي ويشري إىل أن «طلقني» أي عن الكالم واللهجة .الفتاً إىل أن أبناء هذه القبيلة ال يخالط كالمهم كالم غريهم ،وال يتداخل كالمهم مع كالم األعجام واألغراب .وهو كناية عن صفاء اللهجة وعدم تداخلها مع لهجات اآلخرين. ورأى مهاوش أن هذا االستخدام الداليل لهذه املفردة نابع من أصولها العربية املوغلة يف التاريخ ،متاماً كام هو الحال بالنسبة ملفردة «قرن» يف قول الشاعر الحشار «لعيون من قرنه عىل املنت تشقاه» وهي تدل عىل مدى ارتباط الشعر النبطي بالشعر العريب الفصيح ،إذ أن هذه املفردة التي مل يعد يتداولها الناس وحلت محلها كلمة مرادفة لها باملعني «الجديلة» .وقد استخدمها قيس بن امللوح بقوله «وهل ر ّفت عليك قرون ليىل». وقال «لو تأملنا هؤالء الشعراء وحاولنا النظر إليهم بشكل جامعي لرأينا أنهم أشبه بفصحاء األعراب
بيت ال
لشعر في أبوظبي
بيت الشعر في أبوظبي
بيت الشعر في أبوظبي
بيت الشعر في أبوظبي
بيت الشعر في أبوظبي
في اختتام الموسم الشعري
إطالق ديوان «فتاة العرب» اإللكتروني
اختتم
بيت الشعر يف أبوظبي موسمه الشعري بإطالق ديوان الشاعرة عوشة بنت خليفة السويدي «فتاة العرب» ،يف طبعته اإللكرتونية ،وذلك يف مقر البيت مبركز زايد للبحوث والدراسات يوم الثالثاء 3متوز /يوليو ،وبحضور حبيب الصايغ رئيس الهيئة اإلدارية لبيت الشعر ،وحشد من جمهور الشعر واملهتمني بتوثيق الرتاث اإلمارايت. تحدثت الدكتورة رفيعة غباش التي قامت بإصدار هذا العمل عن رحلة العمل التي قضتها يف البحث عن أعامل الشاعرة عوشة ،وقالت يف بداية حديثها «جميل أن نكون اليوم هنا يف بيت الشعر بأبوظبي الذي هو بالفعل بيت كل الشعراء» ،مشرية إىل دور مركز سلطان بن زايد للثقافة واإلعالم يف تنشيط الحراك الثقايف ودعم املبدعني. ويف مستهل األمسية تم عرض فيلم قصري عن وقائع االحتفال بصدور النسخة األوىل من أعامل «فتاة العرب». لتتحدث بعد ذلك د.غباش عن العمل الجديد وتشري إىل أنها يف العام 2006قامت باالتصال بالشاعرة عوشة لتقف عند بدايات تجربة الشاعرة التي حملت آخر قصائدها عنوان «الغفران» ،حيث توقفت بعد ذلك عن كتابة الشعر يف العام .1996وأفادت د.غباش أن الشاعرة غوشة تعلمت الكتابة من خالل رسائل جدها التي كانت تطالعها ثم تأخذ الفحم لتكتب عىل الجدار .وهذا ما أخربتها به عرب االتصال الهاتفي الذي استمر 20دقيقة ،والذي أثار استغراب اآلخرين املحيطني بعوشة ،حيث إنها يف تلك الفرتة مل تكن تتحدث مع أحد لكل هذا الوقت ،وكانت تقاوم الشعر بعد أن توقفت عن كتابته. وتناولت د.غباش العديد من التفاصيل يف رحلتها حيث تحدثت عن زيارتها لبيت عوشة ولقائها بأرستها ،وجمعها لقصائدها ،وأكدت أن رحلتها يف البحث عن فتاة العرب كانت رحلة ممتعة ،وتعرفت خاللها عىل العديد من أبناء
رفيعة غباش وعبد الله بن ظاهر
تصوير :طارق البوريني
الثقافة واملجتمع ،وخالل هذه الفرتة وصلتها رسالة عرب الربيد اإللكرتوين من شاب يريد نسخة «يب دي اف» عن العمل ،ليقوم بنرشها وتعميمها عرب اإلنرتنت ،واقرتح فكرة أن يكون هناك كتاب إلكرتوين ،وصوالً إىل تحويل الكلامت إىل أصوات. ثم تحدث الشاب املكفوف عبدالله بن ظاهر عن رؤيته يف تصميم وإخراج نسخة إلكرتونية ومسموعة من العمل، حيث طرح عدة أفكار جديدة يف هذا املجال ،ومتطورة قادت إىل إنتاجه بشكله النهايئ املتقدم ،لتعني أيضاً فاقدي البرص عىل متابعة الشاعرة عوشة ،وهو ما أثار إعجاب الرشكة املعنية يف متابعة هذا العمل. وقال إن هناك أشياء كثرية مل أكن أعرفها عن الشاعرة عوشة، التي أعتربها «خنساء» هذا العرص .وأكد أن هذا العمل يخرج الشاعرة من منطقة جغرافية ضيقة إىل أخرى كبرية، كام يقدم صورة مرشقة عن املرأة وإبداعاتها يف منطقتنا الخليجية والعربية
161
أجنحة وأسوار
.
............................................................................................................. أجنحة وأسوار
طفل الذاكرة حبيب الصايغ
هذا الصباح ،سأضع ذاكريت أمامي ال ورايئ .سوف أنهض وكأنني نهار مواز .سأسري إىل أجنحة الطيور وعيون الغزالن .سأكتب املعنى عميقاً وبإشارات تتناثر يف القلوب كشظايا الحروب .سأبدأ، هذا الصباح ،من حيث ال تبدأ البدايات أو تنتهي النهايات .سأسافر من دون أن أتحرك قيد أمنلة . لقد نويت ،يف هذا الصباح الخصويص ،عىل الدخول يف الذات كام يجب .املشكلة أن النوافذ كثرية، واألبواب أكرث من النوافذ .املشكلة أن السامء هي السقف ،وأن الغيم يتكدس يف الرأس وداخل الرأس ،وأن قطرات املطر تختلط بقطرات الدم .املشكلة أنه ال مشكلة حقيقية ،حتى يتوقف اإلنسان قلي ًال ،ويقول للسيارات والشوارع واألنهار والبحار واألرشعة واألضواء واملوانئ والكتب والدفاتر والسنوات والقطارات :قفي! . .قفي وإال . . املواعيد أخذها السندباد معه ،والوردة الحمراء األسطورية يف جيب املعطف ذهبت يف الذبول .الساعة تدق ساعة الصفر .الدقيقة األوىل والثانية والثالثة والستون .الدقيقة الثالثة بعد األلف .الساعات تعرب عن لهاثها بالرنني ،واأليام تستيقظ منذ الصباح الباكر ،وتغسل وجهها ،وتفرك أسنانها ،ثم تدخل يف دفرت الدوام وكأنها دود األرض . ماذا تبقى بعد ذلك من األمل أو الحنني؟ هذا الصباح ،قررت وضع األجوبة عىل الرف ،واالكتفاء بالضجيج الذي ميأل الطريق .قلت منذ البداية إنه صباح خصويص .ال تسألوين عن السبب ،فليس من سبب معقول ،وال سبب غري معقول .يتوارد بعض األفكار رسيعاً ،ثم يلح عىل الذهن قلي ًال وكثرياً ،وكل حقيقة غري مؤكدة ،إال اإلنسان وهو ينهض ،كل صباح ،إىل مصريه ومصري الكون . فامذا تبقى من األمل أو الحنني؟ اإلنسان طفل الذاكرة ،واألعامر يف امليادين والساحات .بني كل انطالقة وانطالقة والدة وموت ،وحديث والدة وموت .اإلنسان طفل الذاكرة ،لكنه يكرب ،يومياً ،وهاجسه أن يضع ذاكرته وراءه ،لكن هيهات . ذاكرة اإلنسان أمامه وكأنها متثال عقل أو كرة قدم ،وهو يركلها بكل قوته نحو الوصول إىل املرمى .يصفق املتفرجون طوي ًال .يغنون ويرقصون ويعزفون أحزانهم عىل أوتارهم املمكنة واملستحيلة .يركل الناس كرات الذاكرة يف الطريق إىل الشباك .وعندما يصلون ،أو يخيل إليهم أنهم وصلوا ،ال يجدون أمامهم شباكاً وال متفرجني . يكونون وحيدين يف صباحاتهم الوحيدة ،وكأن كل صباح محاولة انتصار عىل سطوة الذاكرة وتعب القلب
حروفية :تاج الرس حسن
163
من أعامل الفنانة اإلماراتية نجاة ميك